الخلق. قال: أي والله، قلت: أيسرك أن لو تزوجت بنت يزيد بن المهلب؟
قال: لا والله لا أدنس كرمي بلؤمها، قلت: على أنّ لك الجنة، ففكر ساعة ثم قال: على أن لا تلد مني، وأنشد:
تأبى لأعصر أعراق مهذّبة ... من أن تناسب قوما غير أكفاء
فإن يكن ذاك حتما لا مردّ له ... فاذكر حذيف فإني غير أبّاء
حذيفة بن بدر، وإنما ذكره من بين الأشراف لأنه أقربهم إليه نسبا، لأن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان وحذيفة بن بدر بن عمرو بن جوية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان.
قال المرزباني: وحدث أبو الحسن الأنصاري، حدثني الجاحظ قال: كان رجل من أهل السواد يتشيع، وكان ظريفا، فقال ابن عم له: بلغني أنك تبغض عليّا عليه السلام، وو الله لئن فعلت لتردنّ عليه الحوض يوم القيامة ولا يسقيك، قال:
والحوض في يده يوم القيامة؟ قال: نعم، قال: وما لهذا الرجل الفاضل يقتل الناس في الدنيا بالسيف وفي الآخرة بالعطش؟! فقيل له: أتقول هذا مع تشيعك ودينك؟
قال: والله لا تركت النادرة ولو قتلتني في الدنيا وأدخلتني النار في الآخرة.
وقال الجاحظ: ينبغي للكاتب أن يكون رقيق حواشي اللسان، عذب ينابيع البيان، إذا حاور سدّد سهم الصواب إلى غرض المعنى، لا يكلّم العامة بكلام الخاصة ولا الخاصة بكلام العامة.
وحدث المبرد قال: سمعت الجاحظ يقول: كلّ عشق يسمّى حبا، وليس كلّ حبّ يسمى عشقا، لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما قصر عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
وحدث ميمون بن هارون الكاتب عن الجاحظ قال: ذمّ رجل النبيذ فقال: من مثالبه أنّ صاحبه يتكرهه قبل شربه، ويكلح وجهه عند شمه، ويستنقص الساقي من قدره، ويعتبر عليه مكياله، ويمزجه بالماء الذي هو ضده ليخرجه عن معناه وحدّه، ثم(5/2108)
يكرعه على المبادرة ويعبه ويتجرعه ولا يكاد يسيغه ليقلّ مكثه في فيه ويسرع على اللهوات اجتيازه، ثم لا يستوفي كليته، ويرى أن يجعل عاقبة الشراب فضلة في قدحه، ويشاحّ الساقي في المناظرة على ما بقي منه عند رده، ليصرف عن نفسه عادية شربه ويذهب بساعته ويمنع من تهوعه كما يفعل بطبخ الغاريقون عند شربه وحبّ الاسطيخمول.
وكان الجاحظ يقول: إن تهيأ لك في الشاعر أن تبره وترضيه وإلا فاقتله.
وقال أبو العيناء أنشدني الجاحظ لنفسه:
يطيب العيش أن تلقى حليما ... غذاه العلم والرأي المصيب
ليكشف عنك حيلة كلّ ريب ... وفضل العلم يعرفه الأريب
سقام الحرص ليس له شفاء ... وداء البخل ليس له طبيب
وأنشد المبرد للجاحظ:
إن حال لون الرأس عن لونه ... ففي خضاب الرأس مستمتع
هب من له شيب له حيلة ... فما الذي يحتاله الأصلع
وحدث أبو العيناء قال، قال الجاحظ: كان الأصمعي منانيا، فقال له العباس ابن رستم: لا والله ولكن نذكر حين جلست إليه تسأله، فجعل يأخذ نعله بيده، وهي مخصوفة بحديد، ويقول: نعم قناع القدريّ، فعلمت أنه يعنيك فقمت.
وحدث يحيى بن علي بن المنجم قال «1» ، قلت للجاحظ: مثلك في علمك ومقدارك في الأدب يقول في «كتاب البيان والتبيين» ويكره للجارية أن تشبه بالرجال في فصاحتها، ألا ترى إلى قول مالك بن أسماء الفزاري «2» :
وحديث ألذّه هو مما ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا
فتراه من لحن الاعراب، وإنما وصفها بالظّرف والفطنة، وإنما تلحن أي تورّي(5/2109)
في لفظها عن أشياء وتتنكب ما قصدت له، فقال: فطنت لذلك، قلت: فغيّره، قال فكيف لي بما سارت به الركبان؟! فهو في كتابه على خطأه.
قال أبو محلم: أراد الفزاري بقوله هذا إن خير الحديث ما أومأت إليّ به وورّت عن الإفصاح به لئلا يعلمه غيرنا، ومثله قول الكلابي «1» :
ولقد لحنت لكم لكيما تفهموا ... ووحيت وحيا ليس بالمرتاب
ومنه قوله تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
(محمد: 30) أي فيما يتواحونه بينهم من النفاق والطعن.
قال المؤلف «2» : وقد انتصر أبو حيان لهذا القول الذي اعترف الجاحظ بخطأه فيه فقال: وعندي أن المسألة محتملة للكلام، لأن مقابل المنطق الصائب المنطق الملحون، واللحن من الغواني والفتيات غير منكر ولا مكروه، بل يستحبّ ذلك لأنه بالتأنيث أشبه، وللشهوة أدعى، ومع الغزل أجرى، والإعراب جدّ وليس الجدّ من التغزل والتعشّق والتشاجي في شيء. وعلى مذهب علي بن يحيى أن المنطق الصائب هو الكلام الصريح، وأن اللحن هو التعريض وانها تعرف هذا وهذا، فهب أنّ هذا المعنى مقبول لم ينبغي أن يكون المعنى الآخر لهوجا ومردودا؟ وقد يجوز أن يكون مراد الشاعر ذاك لأنّ الشاعر يشعر بهذا كما يشعر بهذا.
قال أبو العيناء: أنشدني الجاحظ لنفسه في ابراهيم بن رباح:
وعهدي به والله يصلح أمره ... رحيب مجال الرأي منبلج الصدر
فلا جعل الله الولاية سبّة ... عليه فإني بالولاية ذو خبر
فقد جهدوه بالسؤال وقد أبى ... به المجد إلا أن يلجّ ويستشري
قال أبو علي التنوخي، حدثني أبو الحسن أحمد بن محمد الأخباري، قال حدثني أبو الفرج الأصبهاني، قال أخبرني الحسن بن القاسم بن مهرويه، قال حدثني عبد الله بن جعفر الوكيل، قال: كنت يوما عند إبراهيم بن المدبر فرأيت بين يديه رقعة(5/2110)
يردّد النظر إليها، فقلت له: ما شأن هذه الرقعة؟ كأنه استعجم عليك شيء منه، فقال: هذه رقعة أبي عثمان الجاحظ، وكلامه يعجبني، وأنا أردده على نفسي لشدة إعجابي، فقلت: هل يجوز أن أقرأها؟ قال: نعم، وألقاها إليّ فإذا فيها: ما ضاء لي نهار ولا دجا ليل مذ فارقتك إلا وجدت الشوق إليك قد حزّ في كبدي، والأسف عليك قد أسقط في يدي، والنزاع نحوك قد خان جلدي، فأنا بين حشا خفاق، ودمع مهراق، ونفس قد ذبلت بما تجاهد، وجوانح قد أبليت بما تكابد، وذكرت وأنا على فراش الارتماض، ممنوع من لذة الاغماض قول بشار «1» :
إذا هتف القمريّ نازعني الهوى ... بشوق فلم أملك دموعي من الوجد
أبى الله إلا أن يفرق بيننا ... وكنا كماء المزن شيب مع الشهد
لقد كان ما بيني زمانا وبينها ... كما كان بين المسك والعنبر الورد
فانتظم وصف ما كنّا نتعاشر عليه، ونجري في مودتنا إليه في شعره هذا.
وذكرت أيضا ما رماني به الدهر من فرقة أعزائي من إخواني الذين أنت أعزهم، ويمتحنني بمن نأى من أحبائي وخلصاني الذين أنت أحبهم وأخلصهم، ويجرعنيه من مرارة نأيهم وبعد لقائهم، وسألت الله أن يقرن آيات سروري بالقرب منك، ولين عيشي بسرعة أوبتك، وقلت أبياتا تقصر عن صفة وجدي وكنه ما يتضمنه قلبي، وهي:
بخدّيّ من قطر الدموع ندوب ... وبالقلب مني مذ نأيت وجيب
ولي نفس حتى الدجى يصدع الحشا ... ورجع حنين للفؤاد مذيب
ولي شاهد من ضرّ نفسي وسقمه ... يخبّر عنّي إنني لكئيب
كأني لم أفجع بفرقة صاحب ... ولا غاب عن عيني سواك حبيب
فقلت لابن المدبر: هذه رقعة عاشق لا رقعة خادم، ورقعة غائب لا رقعة حاضر، فضحك وقال: نحن ننبسط مع أبي عثمان إلى ما هو أرق من هذا وألطف، فأما الغيبة فإننا نجتمع في كل ثلاثة أيام، وتأخر ذلك لشغل عرض لي فخاطبني(5/2111)
مخاطبة الغائب، وأقام انقطاع العادة مقام الغيبة.
قال الجاحظ: كان يأتيني رجل فصيح من العجم، قال فقلت له: هذه الفصاحة وهذا البيان، لو ادعيت في قبيلة من العرب لكنت لا تنازع فيها، قال:
فأجابني إلى ذلك، فجعلت أحفّظه نسبا حتى حفظه وهذّه هذا، فقلت له: الآن لا تته علينا، فقال: سبحان الله إن فعلت ذلك فأنا إذا دعيّ.
ومن كلام الجاحظ يصف البلاغة: ومتى شاكل أبقاك الله اللفظ معناه، وكان لذلك الحال وفقا، ولذلك القدر لفقا، وخرج من سماجة الاستكراه، وسلم من فساد التكلف، كان قمنا بحسن الموقع، وحقيقا بانتفاع المستمع، وجديرا أن يمنع جانبه من تأول الطاعنين، ويحمي عرضه من اعتراض العائبين، ولا تزال القلوب به معمورة، والصدور به مأهولة، ومتى كان اللفظ أيضا كريما في نفسه، متخيرا من جنسه، وكان سليما من الفضول، بريئا من التعقيد، حبّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشت له الأسماع، وارتاحت له القلوب، وخفّ على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة للعالم الرئيس، ورياضة للمتعلم الريّض. ومن أعاره من معرفته نصيبا، وأفرغ عليه من محبته ذنوبا، حبب إليه المعاني، وسلس له نظام اللفظ، وكان قد أغنى المستمع عن كدّ التكلف، وأراح قارىء الكتاب من علاج التفهم.
وقرأت بخط أبي حيان التوحيدي من كتابه الذي ألفه في «تقريظ الجاحظ» :
وحدثنا أبو سعيد السيرافي، وهمّك من رجل، وناهيك من عالم، وشرعك من صدوق قال: حدثنا جماعة من الصابئين الكتّاب أن ثابت بن قرة قال: ما أحسد هذه الأمة العربية إلا على ثلاثة أنفس فإنه:
عقم النساء فلا يلدن شبيهه ... إنّ النساء بمثله عقم
فقيل له: احص لنا هؤلاء الثلاثة، قال: أولهم عمر بن الخطاب في سياسته ويقظته، وحذره وتحفظه، ودينه وتقيته، وجزالته وبذالته، وصرامته وشهامته، وقيامته في صغير أمره وكبيره بنفسه، مع قريحة صافية، وعقل وافر، ولسان عضب، وقلب شديد، وطوية مأمونة، وعزيمة مأمومة، وصدر منشرح، وبال منفسح، وبديهة(5/2112)
نضوح، وروية لقوح، وسر طاهر، وتوفيق حاضر، ورأي مصيب، وأمر عجيب، وشأن غريب- دعم الدين وشيد بنيانه، وأحكم أساسه ورفع أركانه، وأوضح حجته وأنار برهانه، ملك في زي مسكين، ما جنح في أمر إلى ونا، ولا غضّ طرفه على خنا، ظهارته كالبطانة، وبطانته كالظهارة، جرح وأسا، ولان وقسا، ومنع وأعطى، واستخذى وسطا، كل ذلك في الله ولله، لقد كان من نوادر الرجال، قال:
والثاني الحسن بن أبي الحسن البصري، فلقد كان من دراري النجوم علما وتقوى، وزهدا وورعا، وعفة ورقة، وتألها وتنزها، وفقها ومعرفة، وفصاحة ونصاحة، مواعظه تصل إلى القلوب، وألفاظه تلتبس بالعقول، وما أعرف له ثانيا، لا قريبا ولا مدانيا، كان منظره وفق مخبره، وعلانيته في وزن سريرته، عاش سبعين سنة لم يقرف بمقالة شنعاء، ولم يزنّ بريبة ولا فحشاء، سليم الدين، نقيّ الأديم، محروس الحريم، يجمع مجلسه ضروب الناس وأصناف اللباس، لما يوسعهم من بيانه، ويفيض عليهم بافتنانه، هذا يأخذ عنه الحديث، وهذا يلقن منه التأويل، وهذا يسمع الحلال والحرام، وهذا يتبع في كلامه العربية، وهذا يجرّد له المقالة، وهذا يحكي الفتيا، وهذا يتعلم الحكم والقضاء، وهذا يسمع الموعظة، وهو في جميع هذا كالبحر العجّاج تدفقا، وكالسراج الوهّاج تألقا، ولا تنس مواقفه ومشاهده بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند الأمراء وأشباه الأمراء بالكلام الفصل، واللفظ الجزل، والصدر الرحب والوجه الصلب واللسان العضب، كالحجاج وفلان وفلان، مع شارة الدين، وبهجة العلم، ورحمة التقى، لا تثنيه لائمة في الله، ولا تذهله لائحة عن الله، يجلس تحت كرسيه قتادة صاحب التفسير، وعمرو وواصل صاحبا الكلام، وابن أبي إسحاق صاحب النحو، وفرقد السبخي صاحب الدقائق، وأشباه هؤلاء ونظراؤهم، فمن ذا مثله؟ ومن يجري مجراه؟ والثالث أبو عثمان الجاحظ خطيب المسلمين، وشيخ المتكلمين، ومدره المتقدمين والمتأخرين، إن تكلّم حكى سحبان في البلاغة، وإن ناظر ضارع النظّام في الجدال، وإن جدّ خرج في مسك عامر بن عبد قيس، وإن هزل زاد على مزبّد، حبيب القلوب، ومراح الأرواح، وشيخ الأدب، ولسان العرب، كتبه رياض زاهرة، ورسائله أفنان مثمرة، ما نازعه منازع إلا رشاه آنفا، ولا تعرّض له منقوص إلا قدم له التواضع استبقاء، الخلفاء تعرفه، والأمراء تصفه وتنادمه، والعلماء(5/2113)
تأخذ عنه، والخاصة تسلّم له، والعامة تحبه، جمع بين اللسان والقلم، وبين الفطنة والعلم، وبين الرأي والأدب، وبين النثر والنظم، وبين الذكاء والفهم، طال عمره وفشت حكمته، وظهرت خلته، ووطىء الرجال عقبه، وتهادوا أدبه، وافتخروا بالانتساب إليه، ونجحوا بالاقتداء به، لقد أوتي الحكمة وفصل الخطاب. هذا قول ثابت، وهو قول صابىء لا يرى للاسلام حرمة، ولا للمسلمين حقا، ولا يوجب لأحد منهم ذماما، قد انتقد هذا الانتقاد، ونظر هذا النظر، وحكم هذا الحكم، وأبصر الحقّ بعين لا غشاوة عليها من الحول، ونفس لا لطخ بها من التقليد، وعقل ما تخبّل بالعصبية. ولسنا نجهل مع ذلك فضل غير هؤلاء من السلف الطاهر والخلف الصالح، ولكنا عجبنا فضل عجب من رجل ليس منّا ولا من أهل ملتنا ولغتنا، ولعله ما خبر عمر بن الخطاب كلّ الخبرة، ولا استوعب كلّ ما للحسن من المنقبة، ولا وقف على جميع ما لأبي عثمان من البيان والحكمة، يقول هذا القول، ويتعجّب هذا العجب، ويحسد أمتنا بهم هذا الحسد، ويختم كلامه بأبي عثمان ويصفه بما يأبى الطاعن عليه أن يكون له شيء منه، ويغضب إذا ادعي ذلك له [وإنه] لموفر عليه، هل هذا إلا الجهل الذي يرحم المبتلى به.
قال أبو حيان: وحدثنا ابن مقسم [قيل لأبي هفان] وقد طال ذكر الجاحظ له:
لم لا تهجو الجاحظ، وقد ندّد بك، وأخذ بمخنّقك فقال: أمثلي يخدع عن عقله، والله لو وضع رسالة في أرنبة أنفي لما أمست إلا بالصين شهرة، ولو قلت فيه ألف بيت لما طنّ منها بيت في ألف سنة.
قال أبو حيان: سمعت أبا معمر الكاتب في ديوان بادوريا قال: كتب الفتح بن خاقان إلى الجاحظ كتابا يقول في فصل منه: إن أمير المؤمنين يجد بك ويهشّ عند ذكرك، ولولا عظمتك في نفسه لعلمك ومعرفتك لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول به ومتوّفر عليه، وقد كان ألقى إليّ من هذا عنوانه فزدتك في نفسه زيادة كفّ بها عن تجشيمك، فاعرف لي هذه الحال، واعتقد هذه المنة [واعكف] على «كتاب الردّ على النصارى» وافرغ منه وعجّل به إليّ، وكن ممن حدا به على نفسه لتنال مشاهرتك. وقد استطلقته لما مضى، واستسلفت(5/2114)
لك لسنة كاملة مستقبلة، وهذا مما لم تحتكم به نفسك. وقد قرأت رسالتك في بصيرة غنام ولولا أني أزيد في مخيلتك لعرّفتك ما يعتريني عند قراءتها، والسلام.
قال الجاحظ «1» : قلت للحزامي: قد رضيت بقول الناس فيك انك بخيل؟ قال:
لا أعدمني الله هذا الاسم، [قلت: وكيف؟] قال: لأنه لا يقال فلان بخيل إلا وهو ذو مال، فإذا سلم المال فادعني بأيّ اسم شئت؛ قلت: ولا يقال سخيّ إلا وهو ذو مال، فقد جمع هذا الاسم المال والحمد، وجمع ذاك الاسم المال والذم، قال: بينهما فرق، قلت: هاته، قال: في قولهم بخيل تثبيت لاقامة المال في ملكه، واسم البخيل اسم فيه حزم وذم، واسم السخاء فيه تضييع وحمد، والمال نافع مكرم لأهله معزّ، والحمد ريح وسخرية، واستماعه ضعف وفسولة، وما أقل والله غناء الحمد عنه إذا جاع بطنه وعري جسده وشمت عدوه.
قال أبو حيان «2» : ومن عجيب الحديث في كتبه ما حدثنا به علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح قال: سمعت ابن الاخشاد شيخنا أبا بكر يقول: ذكر أبو عثمان في أول «كتاب الحيوان» أسماء كتبه ليكون ذلك كالفهرست، ومرّ بي في جملتها «الفرق بين النبي والمتنبىء» و «كتاب دلائل النبوة» وقد ذكرهما هكذا على التفرقة وأعاد ذكر الفرق في الجزء الرابع لشيء دعاه إليه، فأحببت أن أرى الكتابين، ولم أقدر إلا على واحد منهما، وهو «كتاب دلائل النبوة» وربما لقب بالفرق خطأ، فهمّني ذلك وساءني في سوء ظفري به، فلما شخصت من مصر ودخلت مكة حرسها الله تعالى حاجّا أقمت مناديا بعرفات ينادي، والناس حضور من الآفاق على اختلاف بلدانهم وتنازح أوطانهم وتباين قبائلهم وأجناسهم من المشرق إلى المغرب ومن مهبّ الشمال إلى مهب الجنوب وهو المنظر الذي لا يشابهه منظر: «رحم الله من دلّنا على كتاب الفرق بين النبي والمتنبىء لأبي عثمان الجاحظ على أي وجه كان» . قال فطاف المنادي في ترابيع عرفات وعاد بالخيبة وقال: عجب «3» الناس مني ولم يعرفوا هذا الكتاب ولا اعترفوا به؛ قال ابن اخشاد: وإنما أردت بهذا أن أبلغ نفسي عذرها.(5/2115)
قال المؤلف: وحسبك بها فضيلة لأبي عثمان أن يكون مثل ابن الاخشاد، وهو هو في معرفة علوم الحكمة، وهو رأس عظيم من رؤوس المعتزلة، يستهام بكتب الجاحظ حتى ينادي عليها بعرفات والبيت الحرام، وهذا الكتاب موجود في أيدي الناس اليوم، لا تكاد تخلو خزانة منه، ولقد رأيت أنا منه نحو مائة نسخة أو أكثر.
ومن كتاب هلال: قال أبو الفضل ابن العميد: ثلاثة علوم الناس كلهم عيال فيها على ثلاثة أنفس: أما الفقه فعلى أبي حنيفة لأنه دوّن وخلّد ما جعل من يتكلم فيه بعده مشيرا إليه ومخبرا عنه، وأما الكلام فعلى أبي الهذيل، وأما البلاغة والفصاحة واللسن والعارضة فعلى أبي عثمان الجاحظ.
وحدث أبو القاسم السيرافي قال: حضرنا مجلس الأستاذ الرئيس أبي الفضل فقصّر رجل بالجاحظ وأزرى عليه، وحلم الأستاذ عنه، فلما خرج قلت له: سكتّ أيها الأستاذ عن هذا الجاهل في قوله، مع عادتك بالردّ على أمثاله فقال: لم أجد في مقابلته أبلغ من تركه على جهله، ولو واقفته وبينت له النظر في كتبه صار إنسانا، يا أبا القاسم كتب الجاحظ تعلّم العقل أولا والأدب ثانيا.
وحكى أبو علي القالي «1» عن أبي معاذ عبدان الخوئي «2» المتطبب قال: دخلنا يوما بسرّ من رأى على عمرو بن بحر الجاحظ نعوده وقد فلج، فلما أخذنا مجالسنا أتى رسول المتوكل إليه فقال: وما يصنع أمير المؤمنين بشق مائل ولعاب سائل؟! ثم أقبل علينا فقال: ما تقولون في رجل له شقان أحدهما لو غرز بالمسالّ ما أحس، والشق الآخر يمرّ به الذباب فيغوّث، وأكثر ما أشكوه الثمانون «3» .
حدث أبو عبد الله الحميدي في «الجذوة» «4» ، قرأت على الأمين بن أبي علي عن القاضي أبي القاسم البصري عن أبيه قال، حدثنا محمد بن عمر بن شجاع المتكلم، حدثنا أبو محمد الحسن بن عمرو النجيرمي قال: كنت بالأندلس، فقيل لي إن هاهنا تلميذا لأبي عثمان الجاحظ يعرف بسلّام بن زيد ويكنى أبا خلف، فأتيته(5/2116)
فرأيت شيخا هما، فسألته عن سبب اجتماعه مع أبي عثمان، ولم يقع أبو عثمان إلى الأندلس فقال: كان طالب العلم بالمشرق يشرف عند ملوكنا بلقاء أبي عثمان، فوقع إلينا «كتاب التربيع والتدوير» له فأشاروا إليه، ثم أردفه عندنا «كتاب البيان والتبيين» له فبلغ الرجل الصّكاك «1» بهذين الكتابين، قال: فخرجت لا أعرّج على شيء حتى قصدت بغداد، فسألت عنه فقيل هو بسرّ من رأى، فأصعدت إليها، فقيل لي قد انحدر إلى البصرة، فانحدرت إليها وسألت عن منزله فأرشدت، ودخلت إليه فإذا هو جالس وحواليه عشرون صبيا ليس فيهم ذو لحية غيره، فدهشت فقلت: أيكم أبو عثمان؟ فرفع يده وحرّكها في وجهي وقال: من أين؟ قلت: من الأندلس، فقال:
طينة حمقاء، فما الاسم؟ قلت: سلام، قال: اسم كلب القراد، ابن من؟ قلت:
ابن زيد «2» ، قال: بحقّ ما صرت، أبو من؟ قلت: أبو خلف، قال: كنية قرد زبيدة، ما جئت تطلب؟ قلت: العلم، قال: ارجع بوقت فانك لا تفلح، قلت له:
ما أنصفتني، فقد اشتملت على خصال أربع: جفاء البلدية، وبعد الشقة، وغرة الحداثة، ودهشة الداخل، قال: فترى حولي عشرين صبيا ليس فيهم ذو لحية غيري ما كان يجب أن تعرفني بها؟ قال: فأقمت عليه عشرين سنة.
وهذا فهرست كتب الجاحظ: كتاب الحيوان وهو سبعة أجزاء، وأضاف إليه كتابا آخر سماه كتاب النساء وهو الفرق فيما بين الذكر والأنثى، وكتابا آخر سماه كتاب البغل «3» ، قال ابن النديم: ورأيت أنا هذين الكتابين بخط زكرياء بن يحيى، ويكنى أبا يحيى، وراق الجاحظ، وقد أضيف إليه كتاب سموه كتاب الابل ليس من كلام الجاحظ ولا يقاربه.
وكتاب الحيوان ألفه باسم محمد بن عبد الملك الزيات، قال ميمون بن هارون: قلت للجاحظ: ألك بالبصرة ضيعة؟ فتبسم وقال: إنما أنا وجارية، وجارية تخدمها، وخادم وحمار، أهديت كتاب الحيوان إلى محمد بن عبد الملك فأعطاني(5/2117)
خمسة آلاف دينار، وأهديت كتاب البيان والتبيين إلى ابن أبي دواد فأعطاني خمسة آلاف دينار، وأهديت كتاب الزرع والنخل إلى إبراهيم بن العباس الصولي فأعطاني خمسة آلاف دينار، فانصرفت إلى البصرة ومعي ضيعة لا تحتاج إلى تجديد ولا تسميد.
وكتاب البيان والتبيين نسختان أولة وثانية، والثانية أصحّ وأجود. كتاب النبي والمتنبىء. كتاب المعرفة. كتاب جوابات كتاب المعرفة. كتاب مسائل كتاب المعرفة «1» . كتاب الردّ على أصحاب الإلهام. كتاب نظم القرآن ثلاث نسخ. كتاب مسائل القرآن. كتاب فضيلة المعتزلة. كتاب الرد على المشبهة. كتاب الإمامة على مذهب الشيعة. كتاب حكاية قول أصناف الزيدية. كتاب العثمانية «2» . كتاب الأخبار وكيف تصح. كتاب الردّ على النصارى. كتاب عصام المريد. كتاب الرد على العثمانية. كتاب إمامة معاوية. كتاب إمامة بني العباس. كتاب الفتيان. كتاب القواد «3» . كتاب اللصوص. كتاب ذكر ما بين الزيدية والرافضة. كتاب صياغة الكلام. كتاب المخاطبات في التوحيد. كتاب تصويب عليّ في تحكيم الحكمين.
كتاب وجوب الإمامة. كتاب الأصنام. كتاب الوكلاء والموكلين. كتاب الشارب والمشروب «4» . كتاب افتخار الشتاء والصيف. كتاب المعلمين «5» . كتاب الجواري. كتاب نوادر الحسن. كتاب البخلاء «6» . كتاب الفخر ما بين عبد شمس ومخزوم. كتاب العرجان والبرصان «7» . كتاب فخر القحطانية والعدنانية. كتاب(5/2118)
التربيع والتدوير «1» . كتاب الطفيليين. كتاب أخلاق الملوك «2» . كتاب الفتيا «3» .
كتاب مناقب جند الخلافة وفضائل الأتراك «4» . كتاب الحاسد والمحسود «5» . كتاب الردّ على اليهود. كتاب الصرحاء والهجناء. كتاب السودان والبيضان «6» . كتاب المعاد والمعاش «7» . كتاب النساء. كتاب التسوية بين العرب والعجم. كتاب السلطان وأخلاق أهله. كتاب الوعيد. كتاب البلدان «8» . كتاب الأخبار. كتاب الدلالة على أن الامامة فرض. كتاب الاستطاعة وخلق الأفعال. كتاب المقينين والغناء والصنعة. كتاب الهدايا (منحول) . كتاب الاخوان. كتاب الردّ على من ألحد في كتاب الله عز وجل. كتاب آي القرآن. كتاب الناشىء والمتلاشي. كتاب حانوت عطار. كتاب التمثيل. كتاب فضل العلم. كتاب المزاح والجد «9» . كتاب جمهرة الملوك. كتاب الصوالجة. كتاب ذمّ الزنا. كتاب التفكر والاعتبار «10» . كتاب الحجر والنبوة. كتاب آل «11» إبراهيم بن المدبر في المكاتبة. كتاب إحالة القدرة على الظلم. كتاب أمهات الأولاد. كتاب الاعتزال وفضله عن الفضيلة. كتاب الأخطار والمراتب والصناعات. كتاب أحدوثة العالم. كتاب الردّ على من زعم أن الانسان جزء لا يتجزأ. كتاب أبي النجم وجوابه. كتاب التفاح «12» . كتاب الأنس والسلوة.
كتاب الكبر المستحسن والمستقبح. كتاب نقض الطب. كتاب الحزم والعزم. كتاب عناصر الآداب. كتاب تحصين الأموال. كتاب الأمثال. كتاب فضل الفرس. كتاب(5/2119)
على «1» الهملاج. كتاب الرسالة إلى أبي الفرج ابن نجاح في امتحان عقول الأولياء.
كتاب رسالة أبي النجم في الخراج. كتاب رسالته في القلم. كتاب رسالته في فضل اتخاذ الكتب. كتاب رسالته في كتمان السر. كتاب رسالته في مدح النبيذ. كتاب رسالته في ذم النبيذ «2» . كتاب رسالته في العفو والصفح. كتاب رسالته في إثم السكر. كتاب رسالته في الآمل والمأمول «3» . كتاب رسالته في الحلية. كتاب رسالته في ذم الكتّاب «4» . كتاب رسالته في مدح الكتّاب. كتاب رسالته في مدح الوراق.
كتاب رسالته في ذم الوراق. كتاب رسالته في من يسمّى من الشعراء عمرا. كتاب رسالته اليتيمة. كتاب رسالته في فرط جهل يعقوب بن إسحاق الكندي. كتاب رسالته في الكرم إلى أبي الفرج ابن نجاح. كتاب رسالته في موت أبي حرب الصفار البصري. كتاب رسالته في الميراث. كتاب في الأسد والذئب. كتاب رسالته في كتاب الكيمياء. كتاب الاستبداد والمشاورة في الحرب. كتاب رسالته في القضاة والولاة. كتاب الملوك والأمم السالفة والباقية. كتاب رسالته في الرد على القولية.
كتاب العالم والجاهل. كتاب النرد والشطرنج. كتاب غش الصناعات. كتاب خصومة الحول والعور. كتاب ذوي العاهات. كتاب المغنين. كتاب أخلاق الشطار.
وحدث يموت بن المزرع عن خاله الجاحظ قال: يحبّ للرجل أن يكون سخيا لا يبلغ التبذير، شجاعا لا يبلغ الهوج، محترسا لا يبلغ الجبن، ماضيا لا يبلغ القحة، قوالا لا يبلغ الهذر، صموتا لا يبلغ العيّ، حليما لا يبلغ الذل، منتصرا لا يبلغ الظلم، وقورا لا يبلغ البلادة، ناقدا لا يبلغ الطيش، ثم وجدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد جمع ذلك في كلمة واحدة وهي قوله: خير الأمور أوساطها، فعلمنا أنه صلّى الله عليه وسلّم قد أوتي جوامع الكلم وعلم فصل الخطاب.(5/2120)
وقال أبو زيد البلخي: ما أحسن ما قال الجاحظ: عقل المنشىء مشغول، وعقل المتصفح فارغ.
وقال المرزباني باسناده عن المبرد، سمعت الجاحظ يقول لرجل آذاه: أنت والله أحوج إلى هوان، من كريم إلى إكرام، ومن علم إلى عمل، ومن قدرة إلى عفو، ومن نعمة إلى شكر.
وقال الجاحظ في أبي الفرج نجاح بن سلمة يسأله إطلاق رزقه من قصيدة:
أقام بدار الخفض راض بخفضه ... وذو الحزم يسري حين لا أحد يسري
يظنّ الرضى شيئا يسيرا مهوّنا ... ودون الرضى كأس أمرّ من الصبر
سواء على الأيام صاحب حنكة ... وآخر كاب لا يريش ولا يبري
خضعت لبعض القوم أرجو نواله ... وقد كنت لا أعطي الدنية بالقسر
فلما رأيت المرء يبذل بشره ... ويجعل حسن البشر واقية الوفر
ربعت على ظلعي وراجعت منزلي ... فصرت حليفا للدراسة والفكر
وشاورت إخواني فقال حليمهم ... عليك الفتى المريّ ذا الخلق الغمر
أعيذك بالرحمان من قول شامت ... «أبو الفرج المأمول يزهد في عمرو»
ولو كان فيه راغبا لرأيته ... كما كان دهرا في الرخاء وفي اليسر
أخاف عليك العين من كلّ حاسد ... وذو الودّ منخوب الفؤاد من الذعر
فإن ترع ودّي بالقبول فأهله ... ولا يعرف الأقدار غير ذوي القدر
وحدث يموت بن المزرع قال: وجه المتوكل في السنة التي قتل فيها أن يحمل إليه الجاحظ من البصرة، فقال لمن أراد حمله: وما يصنع أمير المؤمنين بامرئ ليس بطائل، ذي شق مائل، ولعاب سائل، وفرج بائل، وعقل حائل؟! وحدث المبرد قال:
دخلت على الجاحظ في آخر أيامه فقلت له: كيف أنت؟ فقال: كيف يكون من نصفه مفلوج لو حزّ بالمناشير ما شعر به، ونصفه الآخر منقرس لو طار الذباب بقربه لآلمه، وأشد من ذلك ست وتسعون سنة أنا فيها، ثم أنشدنا:
أترجو أن تكون وأنت شيخ ... كما قد كنت أيام الشباب(5/2121)
لقد كذبتك نفسك ليس ثوب ... دريس كالجديد من الثياب
وقال لمتطبب يشكو إليه علته: اصطلحت الأضداد على جسدي، إن أكلت باردا أخذ برجلي، وإن أكلت حارّا أخذ برأسي.
وحدث أحمد بن يزيد بن محمد المهلبي عن أبيه قال، قال لي المعتز بالله: يا ابن يزيد ورد الخبر بموت الجاحظ، فقلت لأمير المؤمنين طول البقاء ودوام النعماء، قال وذلك في سنة خمس وخمسين ومائتين.
وفيه يقول أبو شراعة القيسي:
في العلم للعلماء إن ... يتفهموه مواعظ
وإذا نسيت وقد جمع ... ت علا عليك الحافظ
ولقد رأيت الظّرف ده ... را ما حواه اللافظ
حتى أقام طريقه ... عمرو بن بحر الجاحظ
ثم انقضى أمد به ... وهو الرئيس الفائظ
[873] عمرو بن عثمان بن قنبر أبو بشر: ويقال أبو الحسن، وأبو بشر أشهر، مولى بني الحارث بن كعب ثم مولى آل الربيع بن زياد الحارثي. وسيبويه لقب ومعناه رائحة التفاح، يقال كانت أمه ترقّصه بذلك في صغره، ورأيت ابن خالويه قد اشتق له غير ذلك فقال: كان سيبويه لا يزال من يلقاه يشمّ منه رائحة الطيب فسمي سيبويه، ومعنى سي ثلاثون وبوي الرائحة، فكأنه رأى ثلاثين رائحة طيب، ولم أر أحدا قال ذلك غير
__________
(873) - المعارف: 544 والفهرست: 57 وطبقات الزبيدي: 66 وأخبار النحويين البصريين: 15 وتهذيب الأزهري 1: 19 ونور القبس: 95 ومراتب النحويين: 65 وتاريخ بغداد 12: 195 ونزهة الألباء: 71 وتاريخ أبي المحاسن: 90 وإنباه الرواة 2: 346 وابن خلكان 3: 463 وسير الذهبي 8: 311 وعبر الذهبي 1: 278 والشريشي 2: 17 وفهرسة ابن خير (صفحات متفرقة) ومرآة الجنان 1: 445 والبداية والنهاية 10: 176 والوافي (خ) والنجوم الزاهرة 2: 99 وبغية الوعاة 2: 229 ونفح الطيب 4: 79 والشذرات 1: 252 وروضات الجنات 5: 319 وإشارة التعيين: 242 ولكوركيس عواد:
سيبويه في آثار الدارسين، بغداد 1978.(5/2122)
ابن خالويه. وأصله من البيضاء من أرض فارس ومنشأه البصرة. مات فيما ذكره ابن قانع بالبصرة سنة احدى وستين ومائة «1» وقال المرزباني: مات بشيراز سنة ثمانين ومائة، وذكر الخطيب أن عمره كان اثنتين وثلاثين سنة، ويقال إنه نيف على الأربعين سنة، وهو الصحيح، لأنه قد روى عن عيسى بن عمر، وعيسى بن عمر مات سنة تسع وأربعين ومائة، فمن وفاة عيسى إلى وفاة سيبويه إحدى وثلاثون سنة، وما يكون قد أخذ عنه إلا وهو يعقل، ولا يعقل حتى يكون بالغا، والله أعلم.
وقال أحمد بن يحيى ثعلب في «أماليه» : قدم سيبويه العراق في أيام الرشيد وهو ابن نيف وثلاثين سنة، وتوفي وعمره نيف وأربعون سنة بفارس. قال الأصمعي:
قرأت على قبر سيبويه بشيراز هذه الأبيات، وهي لسليمان بن يزيد العدوي:
ذهب الأحبة بعد طول تزاور ... ونأى المزار فأسلموك وأقشعوا
تركوك أوحش ما تكون بقفرة ... لم يؤنسوك وكربة لم يدفعوا
قضي القضاء وصرت صاحب حفرة ... عنك الأحبة أعرضوا وتصدّعوا
وأخذ سيبويه النحو والأدب عن الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب وأبي الخطاب الأخفش وعيسى بن عمر.
نقلت من خط أبي سعد السمعاني مما انتخبه من «طبقات أهل فارس وشيراز» تأليف الحافظ أبي عبد الله محمد بن عبد العزيز الشيرازي القصّار: بشير بن سعيد، وقيل عمرو بن عثمان بن قنبر، يكنى أبا بشر سيبويه النحوي عن الخليل بن أحمد، وهو من الحارث بن كعب، مات وكان على مظالم فارس، وقبره في شيراز، لم يزد في ترجمته على هذا. وورد بغداد وناظر بها الكسائي وتعصبوا عليه وجعلوا للعرب جعلا حتى وافقوه على خلافه، ولذلك قصة ذكرت فيما بعد.
وكان سبب طلب سيبويه النحو ما ذكرناه في أخبار حماد بن سلمة. وحدث أبو عبيدة قال: لما مات سيبويه قيل ليونس بن حبيب إن سيبويه قد ألّف كتابا في ألف ورقة من علم الخليل، قال يونس: ومتى سمع سيبويه هذا كلّه من الخليل؟ جيئوني(5/2123)
بكتابه، فلما نظر فيه رأى كلّ ما حكى، فقال: يجب أن يكون هذا الرجل قد صدق عن الخليل في جميع ما حكاه كما صدق فيما حكاه عني.
وذكر صاعد بن أحمد الجياني من أهل الأندلس في كتابه «1» قال: لا أعرف كتابا ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب: أحدها المجسطي لبطلميوس في علم هيئة الأفلاك، والثاني كتاب ارسطا طاليس في علم المنطق، والثالث كتاب سيبويه البصري النحوي، فإن كلّ واحد من هذه [الكتب الثلاثة] لم يشذّ عنه من أصول فنه شيء إلا ما لا خطر له.
وكان «2» إذا أراد إنسان قراءة كتاب سيبويه على المبرد يقول له: أركبت البحر، تعظيما واستصعابا.
وحدث محمد بن سلام قال «3» : كان سيبويه جالسا في حلقته بالبصرة، فتذاكرنا شيئا من حديث قتادة، فذكر حديثا غريبا وقال: لم يرو هذا إلا سعيد بن أبي العروبة، فقال بعض ولد جعفر بن سليمان: ما هاتان الزائدتان يا أبا بشر؟ فقال: هكذا يقال لأن العروبة هي الجمعة، ومن قال ابن عروبة فقد أخطأ، قال ابن سلام: فذكرت ذلك ليونس فقال: أصاب لله دره.
وحدث ابن النطاح قال «4» : كنت عند الخليل بن أحمد فأقبل سيبويه فقال الخليل: مرحبا بزائر لا يمل قال [أبو عمر المخزومي] «5» وكان كثير المجالسة للخليل: وما سمعت الخليل يقولها لغيره. قال: وكان شابا جميلا نظيفا.
وحدث أحمد بن معاوية بن بكر العليمي قال: ذكر سيبويه عند أبي فقال:
عمرو بن عثمان، قد رأيته، وكان حدث السن، كنت أسمع في ذلك العصر أنه أثبت من حمل عن الخليل، وقد سمعته يتكلم ويناظر في النحو، وكانت في لسانه حبسة، ونظرت في كتابه فرأيت علمه أبلغ من لسانه.(5/2124)
وحدث أبو الحسن سعيد بن مسعدة والمبرد وثعلب وجمعت بين أقاويلهم وحذفت التكرار قالوا «1» : قدم سيبويه إلى العراق على يحيى بن خالد البرمكي فسأله عن خبره فقال: جئت لتجمع بيني وبين الكسائي فقال: لا تفعل فإنه شيخ مدينة السلام وقارئها ومؤدب ولد أمير المؤمنين وكلّ من في المصر له ومعه، فأبى إلا أن يجمع بينهما، فعرف الرشيد خبره فأمره بالجمع بينهما، فوعده بيوم، فلما كان ذلك اليوم غدا سيبويه وحده إلى دار الرشيد فوجد الفراء والأحمر وهشام بن معاوية ومحمد بن سعدان قد سبقوه، فسأله الأحمر عن مائة مسألة، فما أجابه عنها بجواب إلا قال: أخطأت يا بصري، فوجم سيبويه وقال: هذا سوء أدب، ووافى الكسائي وقد شقّ أمره عليه، ومعه خلق كثير من العرب، فلما جلس قال له: يا بصري كيف تقول خرجت وإذا زيد قائم، قال: خرجت وإذا زيد قائم، قال: فيجوز أن تقول خرجت فاذا زيد قائما؟ قال: لا، قال الكسائي: فكيف تقول قد كنت أظنّ أن العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها، فقال سيبويه: فإذا هو هي ولا يجوز النصب، فقال الكسائي: لحنت، وخطّأه الجميع. وقال الكسائي: العرب ترفع ذلك كله وتنصبه، ودفع سيبويه قوله، فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن يحكم بينكما؟ وهذا موضع مشكل، فقال الكسائي: هذه العرب ببابك قد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة والبصرة منهم، فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر: قد أنصفت، وأمر بإحضارهم، فدخلوا وفيهم أبو فقعس وأبو دثار وأبو ثروان فسئلوا عن المسائل التي جرت بينهما، فتابعوا الكسائي، فأقبل يحيى على سيبويه فقال: قد تسمع أيها الرجل، فانصرف المجلس على سيبويه، وأعطاه يحيى عشرة آلاف درهم وصرفه، فخرج وصرف وجهه تلقاء فارس وأقام هناك حتى مات غما بالذّرب، ولم يلبث إلا يسيرا ولم يعد إلى البصرة.
قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش «2» : وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم أن الجواب كما قال سيبويه وهو: فإذا هو هي، أي فإذا هو مثلها،(5/2125)
وهذا موضع رفع وليس بموضع نصب. فإن قال قائل: فأنت تقول خرجت فإذا زيد قائم وقائما، فتنصب قائما، فلم لم يجز فإذا هو إياها لأن إيّا للمنصوب وهي للمرفوع، والجواب في هذا أن قائما انتصب على الحال وهو نكرة، وإيا مع ما بعدها مما أضيفت اليه معرفة، والحال لا تكون إلا نكرة فبطل إياها ولم يكن إلا هي وهو خبر الابتداء، وخبر الابتداء يكون معرفة ونكرة، والحال لا يكون إلا نكرة، فكيف تقع إياها وهي معرفة في موضع ما لا يكون إلا نكرة وهذا موضع الرفع؟ وقد قال أصحاب سيبويه: الأعراب الذين شهدوا للكسائي من أعراب الحطمة الذين كان الكسائي يقوم بهم ويأخذ عنهم.
ولما مرض سيبويه مرضه الذي مات فيه جعل يجود بنفسه ويقول «1» :
يؤمل دنيا لتبقى له ... فمات المؤمل قبل الأمل
حثيثا يروّي أصول النخيل ... فعاش الفسيل ومات الرجل
قالوا «2» : ولما اعتلّ سيبويه وضع رأسه في حجر أخيه فبكى أخوه لما رآه لما به، فقطرت من عينه قطرة على وجه سيبويه، ففتح عينه فرآه يبكي فقال:
أخيين كنّا «3» فرّق الدهر بيننا ... إلى الأمد الأقصى ومن يأمن الدهرا
وحدث أبو الطيب اللغوي «4» عن أبي عمر الزاهد قال، قال ثعلب يوما في مجلسه: مات الفراء وتحت رأسه كتاب سيبويه، فعارضه أبو موسى الحامض بما قد كتبناه في أخباره «5» .
وحدث محمد بن عبد الملك التاريخي «6» فيما رواه عن ثعلب عن محمد بن سلام قال: حدثني الأخفش أنه قرأ كتاب سيبويه على الكسائي في جمعة فوهب له(5/2126)
سبعين دينارا، قال: وكان الكسائي يقول لي: هذا الحرف لم أسمعه فاكتبه لي، فأفعل. قال: وكان الأخفش يؤدّب ولد الكسائي؛ قال التاريخي: فكأن الجاحظ سمع هذا الخبر فقال، مما يعدده من فخر أهل البصرة على أهل الكوفة: وهؤلاء يأتونكم بفلان وفلان وبسيبويه الذي اعتمدتم على كتبه وجحدتم فضله.
وحدث التاريخي أيضا وهارون بن محمد بن عبد الملك الزيات، قال هارون:
دخل الجاحظ على أبي وقد افتصد فقال له: أدام الله صحتك، ووصل غبطتك، ولا سلبك نعمتك، قال: ما أهديت لي يا أبا عثمان؟ قال: أطرف شيء، كتاب سيبويه بخط الكسائي وعرض الفراء.
وقال التاريخي، قال الجاحظ «1» : أردت الخروج إلى محمد بن عبد الملك ففكرت في شيء أهديه له فلم أجد شيئا أشرف من كتاب سيبويه، وقلت له: أردت أن أهدي لك شيئا ففكرت فإذا كل شيء عندك، فلم أر أشرف من هذا الكتاب، وهذا كتاب اشتريته من ميراث الفراء، قال: والله ما أهديت إليّ شيئا أحبّ إليّ منه.
وحدث التاريخيّ عن المبرد عن الزراري أبي زيد قال: قال رجل لسماك بالبصرة: بكم هذه السمكة؟ قال: بدرهمان، فضحك الرجل، فقال السماك:
ويلك أنت أحمق، سمعت سيبويه يقول: ثمنها درهمان.
وحدث عن المبرد عن المازني عن الجرمي قال: في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتا سألت عنها فعرف ألف ولم تعرف خمسون.
وحدثت عن النظام أنه دخل على سيبويه في مرضه فقال له: كيف تجدك أبا بشر؟ قال: أجدني ترحل العافية عني بانتقال «2» ، وأجد الداء يخامرني بحلول، غير أني وجدت الراحة منذ البارحة. قلت: فما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أشتهي؛ فلما كان من بعد ذلك اليوم دخلت إليه وأخوه يبكي وقد قطرت من دموعه على خده، فقلت: كيف تجدك؟ فقال:
يسرّ الفتى ما كان قدّم من تقى ... إذا عرف الداء الذي هو قاتله(5/2127)
قال النظام: ثم مات من يومه.
وحدث أبو حاتم السجستاني قال: دخلت على الأصمعي في مرضه الذي مات فيه فسألته عن خبره ثم قلت: كم سنة مضى من عمرك؟ فقال: لا أدري، ولكني أحدثك، كنت شابا مقتبلا فتزوجت فولد لي وولد لأولادي وأنا حي، ثم أنشد:
إذا الرجال ولدت أولادها ... واضطربت من كبر أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها ... فهي زروع قد دنا حصادها
فقلت له: في نفسي شيء أريد أن أسألك عنه، قال: سل، فقلت: حدثني بما جرى بينك وبين سيبويه من المناظرة، فقال: والله لولا أني لا أرجو الحياة من مرضتي هذه ما حدثتك: إنه عرض عليّ شيء من الأبيات التي وضعها سيبويه في كتابه، ففسرتها على خلاف ما فسره، فبلغ ذلك سيبويه، فبلغني أنه قال: لا ناظرته إلا في المسجد الجامع، فصليت يوما في الجامع ثم خرجت فتلقاني في المسجد فقال لي: اجلس يا أبا سعيد، ما الذي أنكرت من بيت كذا وبيت كذا، ولم فسرت على خلاف ما يجب؟ فقلت له: ما فسرت إلا على ما يجب، والذي فسّرته أنت ووضعته خطأ، تسألني وأجيب. ورفعت صوتي فسمع العامة فصاحتي ونظروا إلى لكنته، فقالوا: غلب الأصمعيّ سيبويه، فسّرني ذلك فقال لي: إذا علمت أنت يا أصمعيّ ما نزل بك مني لم ألتفت إلى قول هؤلاء، ونفض يده في وجهي ومضى. ثم قال الأصمعي: يا بنيّ فو الله لقد نزل بي منه شيء وددت أني لم أتكلم في شيء من العلم.
وعن أبي عثمان المازني قال، حدثني الأخفش قال: حضرت مجلس الخليل، فجاءه سيبويه فسأله عن مسألة وفسّرها له الخليل فلم أفهم ما قالا، فقمت وجلست له في الطريق فقلت له: جعلني الله فداءك، سألت الخليل عن مسألة فلم أفهم ما ردّ عليك ففهمنيه، فأخبرني بها فلم تقع لي ولا فهمتها، فقلت له: لا تتوهم أني أسألك إعناتا فاني لم أفهمها ولم تقع لي، فقال لي: ويلك ومتى توهمت أنني أتوهم أنك تعنتني، ثم زجرني وتركني ومضى.
وحدث المازني قال، قال الأخفش: كنت عند يونس فقيل له: قد أقبل(5/2128)
سيبويه، فقال: أعوذ بالله منه. قال: فجاء فسأله فقال: كيف تقول مررت به المسكين؟ فقال جائز أن أجرّه على البدل من الهاء، قال فقال له: فمررت به المسكين على معنى المسكين مررت به، فقال: هذا خطأ لأنّ المضمر قبل الظاهر.
قال فقال له: إن الخليل أجاز ذلك وأنشد فيها أبياتا، فقال: هو خطأ، فغمّني ذلك، قال: فمررت به المسكين، فقال: جائز فقال: على أيّ شيء ينصب؟ فقال: على الحال، فقال سيبويه: أليس أنت أخبرتني أن الحال لا تكون بالألف واللام؟ فقال له: صدقت، ثم قال لسيبويه، فما قال صاحبك فيه، يعني الخليل؟ فقال سيبويه:
قال لي إنه ينصب على الترخيم، فقال: ما أحسن هذا، ورأيته مغموما بقوله نصبته على الحال.
[874] عمرو بن مسعدة بن سعد بن صول بن صول الصولي، كنيته أبو الفضل، من جلة كتاب المأمون وأهل الفضل والبراعة والشعر منهم. وذكر الجهشياري أن مسعدة كان مولى خالد بن عبد الله القسري وأنه كان يكتب لخالد، وكان بليغا كاتبا مات في سنة أربع عشرة ومائتين، وقيل في سنة سبع في أيام المأمون، وكان مسعدة من كتاب خالد بن برمك ثم كتب بعده لأبي أيوب وزير المنصور على ديوان الرسائل.
قال الصولي، قال أحمد بن عبد الله: كان لمسعدة أربعة بنين: مجاشع وهو الذي يقول فيه أبو العتاهية:
علمت يا مجاشع بن مسعده ... أن الشباب والفراغ والجده
مفسدة للمرء أيّ مفسده
ومسعود وعمرو ومحمد، وقد ذكر أن المنصور قال يوما لكتابه: اكتبوا لي تعظيم الاسلام، قال: فبدر مسعدة فكتب: الحمد لله الذي عظم الاسلام واختاره،
__________
(874) - ترجمة عمرو بن مسعدة في الجهشياري: 216 ومعجم المرزباني: 33 وتاريخ بغداد 12: 203 وابن خلكان 3: 475 وإعتاب الكتاب: 116 وسير الذهبي 10: 181 والوافي للصفدي (مخطوط) ؛ وهو ابن عم ابراهيم بن العباس الصولي، وله شهرة في إجادة التوقيعات.(5/2129)
وأوضحه وأناره، وأعزه وأنافه، وشرّفه وأكمله، وتممه وفضله، وأعزه ورفعه، وجعله دينه الذي أحبه واجتباه، واستخلصه وارتضاه، واختاره واصطفاه، وجعله الدين الذي تعتدّ به ملائكته، وأرسل بالدعاء عليه أنبياءه، وهدى له من أراد إكرامه وإسعاده من خلقه، فقال جلّ من قائل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ
(آل عمران: 19) وقال جل وعلا: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ
(آل عمران: 85) وقال: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ
(الحج: 78) فبهذا الإسلام والدخول فيه والعلم به وأداء شرائعه والقيام بمفروضاته وصلت ملائكته ورسله إلى رضوان الله ورحمته وجواره في جنته، وبه تحرزوا من غضبه وعقوبته، وأمنوا نكال عذابه وسطوته. فقال المنصور: حسبك يا مسعدة، اجعل هذا صدر الكتاب إلى أهل الجزيرة بالاعذار والانذار.
وأما عمرو بن مسعدة ففضله شائع ونبله ذائع أشهر من أن ينبّه عليه، أو يدلّ بالوصف إليه، قد ولي للمأمون الأعمال الجليلة، وألحق بذوي المراتب النبيلة، وسماه بعض الشعراء وزيرا لعظم منزلته لا لأنه كان وزيرا وهو قوله:
لقد أسعد الله الوزير ابن مسعده ... وبثّ له في الناس شكرا ومحمده
في أبيات.
فحدث إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي «1» قال: كان عمرو بن مسعدة أبيض أحمر الوجه، وهو من أولاد صول الأكبر جدّ محمد بن صول بن صول، وقد ذكرت أصلهم في أخبار إبراهيم بن العباس من هذا الكتاب «2» . وكان المأمون يسميه الرومي لبياض وجهه.
ووصف الفضل بن سهل بلاغة عمرو بن مسعدة فقال: هو أبلغ الناس، ومن بلاغته أن كلّ أحد إذا سمع كلامه ظنّ أنه يكتب مثله فإذا رامه بعد عليه، وهذا كما قيل لجعفر بن يحيى ما حدّ البلاغة؟ فقال: التي إذا سمعها الجاهل ظنّ أنه يقدر على مثلها فإذا رامها استصعبت عليه.(5/2130)
وحدث العباس بن رستم قال: كان لعمرو بن مسعدة فرس أدهم أغرّ لم يكن لأحد مثله فراهة وحسنا، فبلغ المأمون خبره، وبلغ عمرو بن مسعدة ذلك، فخاف أن يأمر بقوده إليه فلا يكون له فيه محمدة، فوجّه به إليه هدية وكتب معه «1» :
يا إماما لا يداني ... هـ إذا عدّ إمام
فضل الناس كما يف ... ضل نقصانا تمام
قد بعثنا بجواد ... مثله ليس يرام
فرس يزهى به لل ... حسن سرج ولجام
دونه الخيل كما دون ... ك «2» في الفضل الأنام
وجهه صبح ولكن ... سائر الجسم ظلام
والذي يصلح للمو ... لى على العبد حرام
وكتب عمرو بن مسعدة إلى الحسن بن سهل: أما بعد فإنك ممن إذا غرس سقى، وإذا أسّس بنى، ليستتم تشييد أسّه، ويجتني ثمار غرسه، وثناؤك عندي قد شارف الدروس، وغرسك مشف على اليبوس، فتدارك بناء ما أسست وسقي ما غرست، إن شاء الله تعالى.
وحدث الصولي قال «3» : لما مات عمرو بن مسعدة رفع إلى المأمون أنه خلف ثمانين ألف ألف درهم، فوقّع على الرقعة: هذا قليل لمن اتصل بنا وطالت خدمته لنا، فبارك الله لولده فيه. وعمرو القائل في رواية المرزباني «4» :
ومستعذب للهجر والوصل أعذب ... أكاتمه حبي فينأى وأقرب
إذا جدت مني بالرضا جاد بالجفا ... ويزعم أني مذنب وهو أذنب
تعلمت ألوان الرضى خوف هجره ... وعلّمه حبي له كيف يغضب
ولي غير وجه قد عرفت طريقه ... ولكن بلا قلب إلى أين أذهب(5/2131)
[875]
عمرو بن كركرة أبو مالك الاعرابي:
كان يعلم بالبادية، وورق في الحضرة، وهو مولى بني سعد وكان راوية أبي البيداء، يقال إنه كان يحفظ لغة العرب، وكان بصريّ المذهب، وكان أحد الطياب «1» ، قال الجاحظ: كان يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء، ويقول: إن فرعون عند الله أكرم من موسى، وكان يلتقم الحارّ الممتنع فلا يؤذيه، وصنف كتبا: منها كتاب خلق الانسان. كتاب الخيل.
وقال أبو الطيب اللغوي في «كتاب مراتب النحويين» «2» : كان ابن مناذر يقول: كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبو زيد يجيب في ثلثيها، وكان أبو مالك يجيب فيها كلها، وإنما عنى ابن مناذر توسعهم في الرواية والفتيا، لأن الأصمعي كان يضيّق ولا يجوّز إلا أصح اللغات ويلحّ في ذلك ويمحك، وكان مع ذلك لا يجيب في القرآن وحديث النبي صلّى الله عليه وسلّم، فعلى هذا يزيد بعضهم على بعض (له قصة في أخبار ابن مناذر في «كتاب الشعراء» من تصنيفنا) «3» .
[876]
عنبسة بن معدان الفيل:
أخذ النحو عن أبي الأسود الدؤلي، ولم يكن في من أخذ النحو أبرع منه، وأما معنى تسميته بمعدان الفيل- فحدث محمد بن عبد الملك
__________
(875) - ترجمته في الفهرست: 49 وطبقات الزبيدي: 157 وتاريخ أبي المحاسن: 216 وإنباه الرواة 2: 360 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 228.
(876) - ترجمة عنبسة في طبقات الزبيدي: 29- 30 ومراتب النحويين: 19 وأخبار النحويين البصريين:
23- 24 وتاريخ أبي المحاسن: 159 ونور القبس: 23 وإنباه الرواة 2: 381 ونزهة الألباء: 6- 7 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 233 وإشارة التعيين: 246.(5/2132)
التاريخي عن يوسف بن يعقوب بن السكيت قال: حدثني عبد الرحيم بن مالك عن الهيثم بن عديّ عن أشياخه، قال يوسف وحدثني مسلم بن محمد بن نوح عن هشام بن محمد عن رجل من قريش قال «1» : كانت لزياد بن أبيه فيلة ينفق عليها في كل يوم عشرة دراهم، فأقبل رجل من أهل ميسان يقال له معدان فقال: ادفعوها إليّ وأكفيكم المؤونة وأعطيكم عشرة دراهم في كلّ يوم، فدفعوها إليه، فأثرى وابتنى قصرا، ونشأ له ابن يقال له عنبسة، فروى الأشعار وظرف وفصح، وروى شعر جرير والفرزدق، وانتمى إلى بني أبي بكر ابن كلاب، فقيل للفرزدق: ها هنا رجل من بني أبي بكر ابن كلاب يروي شعر جرير ويفضّله عليك ووصفوه له، فقال: رجل من بني أبي بكر ابن كلاب على هذه الصفة لا أعرفه، فأروني داره، فأروه فقال: هذا ابن معدان الميساني ثم قصّ قصته وقال:
لقد كان في معدان والفيل زاجر ... لعنبسة الراوي عليّ القصائدا
فروي البيت بالبصرة.
ولقي عنبسة أبا عيينة ابن المهلب فقال له أبو عيينة: ما أراد الفرزدق بقوله:
لقد كان في معدان والفيل زاجر
فقال: إنما قال لقد كان في معدان واللؤم زاجر، فقال أبو عيينة: وأبيك إن شيئا فررت منه إلى اللؤم لعظيم. قال التاريخي: فحدثت بهذا الحديث أبا العباس أحمد بن يحيى ثعلبا فسرّ به وسألني أن أكتبه له، فكتبته له، والحديث على لفظ مسلم بن محمد بن نوح.
[877]
عوانة بن الحكم بن عوانة بن عياض
بن وزر بن عبد الحارث بن أبي
__________
(877) - ترجمة عوانة في الفهرست: 103 ونور القبس: 263 والوافي للصفدي (خ) ونكت الهميان 222- 223.(5/2133)
حصن بن ثعلبة بن جبير بن عامر بن النعمان: كان عالما بالأخبار والآثار ثقة، روى عنه الأصمعي والهيثم بن عدي وكثير من أعيان أهل العلم.
وقال أبو عبيدة في «كتاب المثالب» يقال في الحكم بن عوانة الكلبي إن أباه كان عبدا خياطا ادعي بعد ما احتلم، وكانت أمه أمة سوداء لآل أيمن بن خريم بن فاتك الأسدي، وله إخوة موال، قال في ذلك ذو الرمة «1» :
ألكني فإني مرسل برسالة ... إلى حكم من غير حبّ ولا قرب «2»
فلو كنت من كلب صميما هجوتها ... ولكن لعمري لا إخالك من كلب
ولكنما أخبرت أنك ملصق ... كما ألصقت من غيرها ثلمة القعب
تدهدى فخرّت ثلمة من صميمه ... فلزّ بأخرى بالغراء وبالشعب «3»
حدث أحمد بن يحيى قال: أنشدني ذو الرمة شعرا وعوانة بن الحكم حاضر، فعاب شيئا منه، فقال فيه هذه الأبيات المتقدمة.
قال وقال محمد بن أحمد الكاتب، وقال عياض بن وزر في ابنه عوانة «4» :
عجبا عجبت لمعشر لم يرشدوا ... جعلوا عوانة لي بغيب ابنما
إني إلى الرحمن أبرأ صادقا ... ما نكت أمك يا عوانة محرما
أنكرت منك جعودة في حوّة ... ومشافرا هدلا وأنفا أخثما
ما كان لي في آل حام والد ... عبدا فأصبح في كنانة أكشما
وكان يكنى أبا الحكم، وكان ضريرا، مات فيما ذكره المرزباني عن الصولي سنة سبع وأربعين ومائة في الشهر الذي مات فيه الأعمش.
قال المدائني: مات عوانة سنة ثمان وخمسين ومائة في السنة التي مات فيها المنصور.(5/2134)
حدث الهيثم بن عدي قال «1» : كنت عند عبد الله بن عياش الهمداني وعنده عوانة بن الحكم، فتذاكروا أمر النساء، فقلت: حدثني ابن الظلمة عن أمه أنها قالت: والله ما أبى «2» النساء مثل أعمى عفيف، فضرب عوانة بيده على فخذي وقال: حفظك الله يا أبا عبد الرحمن فإنك تحفظ غريب الحديث وحسنه، قال:
وكان عوانة ضريرا.
قال قال عبد الله بن جعفر: عوانة بن الحكم من علماء الكوفة بالأخبار خاصة والفتوح مع علم بالشعر والفصاحة، وله اخوة وأخبار ظريفة، وكان موثقا، وعامة أخبار المدائني عنه.
قال: وروى عبد الله بن المعتز عن الحسن بن عليل العنزي أن عوانة بن الحكم كان عثمانيا، وكان يضع أخبارا لبني أمية.
قال: وحدث أبو العيناء عن الأصمعي قال: أنشد عوانة بيتين فقيل له لمن هما؟ قال: أنا تركت الحديث بغضا منّي للاسناد، وليس أراكم تعفوني منه في الشعر.
وحدث هشام بن الكلبي عن عوانة قال: خطبنا عتبة بن النّهاس العجليّ فقال:
ما أحسن شيئا قاله الله عز وجل في كتابه:
ليس حيّ على المنون بباق ... غير وجه المسبّح الخلاق
فقمت إليه فقلت: أيها الرجل إن الله عز وجل لم يقل هذا، إنما قاله عديّ بن زيد [فقال: والله ما ظننته إلا من كتاب الله، ولنعم ما قال عدي بن زيد] ثم نزل عن المنبر. وأتي بامرأة من الخوارج فقال: يا عدوة الله ما خروجك على أمير المؤمنين؟
ألم تسمعي قول الله عز وجل:
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جرّ الذيول «3»
فحركت رأسها وقالت: يا عدوّ الله حملني على الخروج جهلكم بكتاب الله عز وجل.(5/2135)
وحدث الهيثم بن عدي قال: كنا عند عوانة فورد الخبر بأنّ محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب قد قتل بالمدينة، فترحم عليه عوانة وذكر فضله ثم قال: أخطأ الرأي في استهدافه لهم ومقابلته إياهم بالقرب منهم، ولو تباعد عنهم حتى يجتمع أمره ويرى رأيه لطالت مدته، فقيل له قد أشير عليه بذلك فلم يقبله، فتمثل عوانة بقول زهير «1» :
أضاعت فلم تغفر لها غفلاتها ... فلاقت بيانا عند آخر معهد «2»
دما حول شلو تحجل الطير حوله ... وبضع لحام في إهاب مقدّد «3»
قال ثم قال: هل علينا عين؟ قالوا: لا فقل ما شئت، فقال: محمد والله من الذين قال الله فيهم التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ
(التوبة: 112) .
وحدث التاريخي عن إسماعيل بن إسحاق عن نصر بن عليّ عن الأصمعي عن عوانة: قال كان ابن زياد يأكل بعد الشبع أربع جرادق أصبهانية وجبنة ورطلا عسلا.
وحدث عنه أحمد بن عبيد عن الأصمعي عن عوانة قال: لقي رجلا أعرابيا فقال ممن الرجل؟ قال: من قوم إذا نسي الناس علمهم حفظوه عليهم. قال فأنت إذن من كلب، قال: أجل.
وكان لعوانة أخ يقال له عياض «4» نحوي أديب أقام بأفريقية انتقل إليها من الكوفة فحدث المرزباني باسناده قال: كان عوانة بن الحكم يقول لأخ له يقال له عياض نحوي: لا تعمّق في النحو فإنه لم يتعمق فيه أحد إلا صار معلما، قال: فصار عياض بعد ذلك معلما بأفريقية لولد المعلّى «5» .(5/2136)
[878]
عوف بن محلم الخزاعي أبو المنهال:
أحد العلماء الأدباء، والرواة الفهماء، والندامى الظرفاء، والشعراء الفصحاء. وكان صاحب أخبار ونوادر، وله معرفة بأيام الناس. وكان طاهر بن الحسين بن مصعب قد اختصه لمنادمته، واختاره لمسامرته، وكان لا يخرج في سفر إلا أخرجه معه، وجعله زميله وأنيسه وعديله، وكان يعجب به.
قال محمد بن داود: ويقال إن سبب اتصاله بطاهر أنه نادى على الجسر بهذه الأبيات في أيام الفتنة ببغداد، وطاهر ينحدر في حراقة في دجلة، فسمعها منه فأدخله وأنشده إياها وهي «1» :
عجبت لحرّاقة ابن الحسي ... ن كيف تعوم ولا تغرق
وبحران من تحتها واحد ... وآخر من فوقها مطبق
وأعجب من ذاك عيدانها ... وقد مسّها كيف لا تورق
وأصله من حران، فبقى مع طاهر ثلاثين سنة لا يفارقه، وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه فلا يأذن له ولا يسمح به، فلما مات طاهر ظن أنه قد تخلص وأنه يلحق به ويرجع إلى وطنه، فقرّبه عبد الله بن طاهر من نفسه وأنزله منزلته من أبيه، وكان عبد الله أديبا فاضلا عالما بأخبار الناس، فلما وقف على أدب عوف وفضله تمسك به وأفضل عليه حتى كثر ماله وحسن حاله، وتلطف بجهده أن يأذن له عبد الله في العود إلى وطنه فلم يكن إلى ذلك سبيل، وحفزه الشوق إلى أهله وأهمه أمرهم، فاتفق ان خرج عبد الله من بغداد يريد خراسان، فصيّر عوفا عديله يستمتع
__________
(878) - ترجمة عوف بن محلم في طبقات ابن المعتز: 186- 193 وتاريخ بغداد 9: 486 (في ترجمة عبد الله بن طاهر) والوافي للصفدي (خ) ومعاهد التنصيص 1: 27، 127 والشذرات 2: 32 ومعجم البلدان (الري) (ميان) وشرح شواهد المغني: 278 والفوات 3: 162 وذكر صاحب الفهرست (188) أن ديوانه ثلاثون ورقة.(5/2137)
بمسامرته ويرتاح إلى محادثته إلى أن دنا من الري، فلما شارفها سمع صوت عندليب يغرّد بأحسن تغريد وأشجى صوت، فأعجب عبد الله بصوته والتفت إلى عوف بن محلم فقال له: يا ابن محلم هل سمعت قطّ أشجى من هذا الصوت وأطرب منه؟
فقال: لا والله أيها الأمير وإنه لحسن الصوت شجيّ النغمة مطرب التغريد، فقال عبد الله: قاتل الله أبا كبير حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح
أفق لا تنح من غير شيء فإنني ... بكيت زمانا والفؤاد صحيح
ولوعا فشطت غربة دار زينب ... فها أنا أبكي والفؤاد قريح
فقال عوف: أحسن والله أبو كبير وأجاد، ثم قال: أصلح الله الأمير «1» إنه كان في الهذليين مائة وثلاثون شاعرا ما فيهم إلا مفلق، وما كان فيهم مثل أبي كبير، فإنه كان يبدع في شعره ويفهم آخر قوله أوله، وما شيء أبلغ في الشعر من الابداع فيه، قال عبد الله: أقسمت عليك إلا أجزت شعر أبي كبير، قال عوف: أصلح الله الأمير قد كبر سني وفني ذهني وأنكرت كل ما كنت أعرفه، قال عبد الله: سألتك بحقّ طاهر إلا فعلت، وكان لا يسأل بحقّ طاهر شيئا إلا ابتدر إليه لما كان يوجبه له، فلما سمع عوف ذلك أنشأ يقول:
أفي كلّ عام غربة ونزوح ... أما للنوى من ونية فتريح
لقد طلّح البين المشتّ ركائبي ... فهل أرينّ البين وهو طليح
وأرقني بالريّ نوح حمامة ... فنحت وذو البثّ الغريب ينوح
على أنها ناحت ولم تذر دمعة ... ونحت وأسراب الدموع سفوح
وناحت وفرخاها بحيث تراهما ... ومن دون أفراخي مهامه فيح
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك ميّاد ففيم تنوح
عسى جود عبد الله أن يعكس النوى ... فتلقى عصا التطواف وهي طريح
فإن الغنى يدني الفتى من صديقه ... وعدم الغنى بالمقترين طروح(5/2138)
قال: فاستعبر عبد الله ورقّ له وجرت دموعه وقال له: والله إني لضنين بمفارقتك شحيح على الفائت من محاضرتك، ولكن والله لا أعملت معي خفّا ولا حافرا إلا راجعا إلى أهلك، ثم أمر له بثلاثين ألف درهم، فقال يمدح عبد الله وأباه:
يا ابن الذي دان له المشرقان ... وألبس الأمن به المغربان
إنّ الثمانين وبلّغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وأبدلتني بالشّطاط انحنا ... وكنت كالصّعدة تحت السنان
وعوّضتني من زماع الفتى ... وهمتي همّ الهجان الهدان
وقاربت منّي خطى لم تكن ... مقاربات وثنت من عنان
وأنشأت بيني وبين الورى ... عنانة من غير نسج العنان
ولم تدع فيّ لمستمتع ... إلا لساني وبحسبي لسان
أدعو به الله وأثني به ... على الأمير المصعبيّ الهجان
وهمت بالأوطان وجدا بها ... وبالغواني أين مني الغوان
فقرّباني بأبي أنتما ... من وطني قبل اصفرار البنان
وقبل منعاي إلى نسوة ... أوطانها حرّان والرّقّتان
سقى قصور الشاذياخ الحيا ... من بعد عهدي وقصور الميان
فكم وكم من دعوة لي بها ... أن تتخطاها صروف الزمان
وهذه قصور بخراسان بناحية نيسابور لآل طاهر.
ثم ودع عبد الله وسار راجعا إلى أهله فمات قبل أن يصل إليهم.
وقد روي في خبر هذه الأبيات أن عوف بن محلم دخل على عبد الله بن طاهر فسلّم عبد الله عليه فلم يسمع، فأعلم بذلك، فزعموا أنه أنحل هذه القصيدة.
وكان «1» قد ورد على عبد الله بن طاهر شاعر يقال له روح، وعرض على عوف شعره فمنعه من إنشاده عبد الله، وقال: إن عبد الله رجل عالم فاضل لا ينفق عليه من الشعر إلا أحسنه، فقال له: قد حسدتني، وتوصّل حتى أنشده عبد الله فاسترذله(5/2139)
واستبرده وردّه، فبلغ ذلك عوفا فقال:
أنشدني روح مديحا له ... فقلت شعرا قال لي فايش
فصرت لما أن بدا منشدا ... كأنني في قبّة الخيش
وقلت زدني وتفهمته «1» ... والثلج في الصيف من العيش
[879]
عون بن محمد الكندي الكاتب أبو مالك:
أحد أصحاب ابن الأعرابي، وأخذ عن سلمة بن عاصم صاحب الفراء، وروى عنه الصولي فأكثر.
حدث الصولي قال حدثني عون بن محمد الكندي قال: كنا في مجلس ابن الأعرابي فقدم قادم من سرّ من رأى فأخبر بنكبة سليمان بن وهب وأحمد بن الخصيب فأنشد ابن الأعرابي:
ربّ قوم رتعوا في نعمة ... زمنا والعيش ريان غدق
سكت الدهر طويلا عنهم ... ثم أبكاهم دما حين نطق
[880]
عيسى بن إبراهيم الربعي الوحاظي:
بلدة باليمن. لا أعرف حاله إلا أنه مصنّف كتاب «نظام الغريب» «2» في اللغة حذا فيه حذو «كفاية المتحفظ» «3» وأجاده، وأهل اليمن مشتغلون به.
__________
(879) - له ترجمة موجزة في الوافي للصفدي (خ) .
(880) - له ترجمة في الوافي للصفدي (خ) ونقل ما قاله ياقوت ولم يزد؛ وبغية الوعاة 2: 235 وهو ينقل عن الخزرجي والجندي، وذكر أن وفاته كانت ببلده سنة 480.(5/2140)
[881]
عيسى بن عمر الثقفي، أبو عمر مولى خالد بن الوليد:
نزل في ثقيف فنسب إليهم، عالم بالنحو والعربية والقراءة مشهور بذلك، أخذ عن عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. ومات عيسى بن عمر سنة تسع وأربعين ومائة في خلافة المنصور قبل أبي عمرو بن العلاء بخمس سنين أو ستّ.
حدث التاريخي محمد بن عبد الملك عن المبرد قال: أول من وضع العربية ونقط المصاحف أبو الأسود الدؤلي، ثم أخذ النحو عن أبي الأسود عنبسة بن معدان المهري الذي يقال له عنبسة الفيل، ثم أخذه عن عنبسة ميمون الأقرن، ثم أخذه عن ميمون: ابن أبي إسحاق الحضرمي ثم أخذه عن ابن أبي إسحاق: عيسى بن عمر [ثم أخذه عنه الخليل بن أحمد] ثم أخذه عن الخليل بن أحمد سيبويه، ثم أخذه عن سيبويه الأخفش واسمه سعيد بن مسعدة.
قال التاريخي: حدثنا المبرد مرة أخرى عن التوّزي عن أبي عبيدة قال: ووضع عيسى بن عمر كتابين في النحو سمّى أحدهما «الجامع» والآخر «المكمل» فقال الخليل بن أحمد:
بطل النحو جميعا كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
قال المؤلف: وهذان كتابان ما علمنا أحدا رآهما ولا عرفهما، غير أن أبا الطيب اللغوي ذكر في كتابه أنهما مبسوط ومختصر.
وذكر عن المبرد أنه قال: قرأت أوراقا من أخد كتابي عيسى بن عمر، وذكر أيضا أن عيسى بن عمر أخذ النحو عن أبي عمرو بن العلاء.
__________
(881) - ترجمة عيسى بن عمر في المعارف: 531 وطبقات الزبيدي: 40 والفهرست: 47 ومراتب النحويين: 32 وأخبار النحويين البصريين: 31 وتاريخ أبي المحاسن: 135 ونور القبس: 46، وإنباه الرواة 2: 374 وابن خلكان 3: 486 وسير الذهبي 7: 200 ونزهة الألباء: 12 والبداية والنهاية 10: 105 والوافي للصفدي (خ) وطبقات ابن الجزري 1: 613 وتهذيب التهذيب 8: 223 والنجوم الزاهرة 2: 11 وبغية الوعاة 2: 237 والشذارت 1: 224 وروضات الجنات 5: 338.(5/2141)
وحدث المرزباني فيما أسنده إلى الأصمعي قال: كان عيسى بن عمر صاحب تقعير «1» في كلامه، وكان عمر بن هبيرة قد اتهمه بوديعة لبعض العمال، فضربه مقطعا نحوا من ألف سوط، فجعل يقول: والله ما كانت إلا أثّيابا في أسيفاط قبضها عشاروك، فيقول له: إنك لخبيث.
قال: وكان دقيق الصوت، قال: فكان طول دهره يحمل في كمه خرقة فيها سكر العشر والاجاص اليابس، وربما رأيته واقفا أو سائرا أو عند بعض ولاة البصرة، فتصيبه نهكة في فؤاده فيخفق عليه حتى يكاد يغلب فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيها في فيه ثم يتمصصها، فإذا فعل ذلك سكن عليه، فسئل عن ذلك فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني عمر بن هبيرة فعالجته بكلّ شيء فما رأيت له أصلح من هذا.
وحدث التاريخي عن المبرد قال: سمعت يحيى بن معين يقول: عيسى بن عمر النحوي بصري، وعيسى بن عمر الكوفي همداني وهو صاحب الحروف.
وحدث عن يوسف بن يعقوب بن السكيت عن الجمّاز قال: عيسى بن عمر أخو حاجب بن عمر، ويكنى حاجب أبا خشينة، روي عنه الحديث، وهما موليان لبني مخزوم، وهما من ولد الحكم بن عبد الله بن الأعرج الذي روي عنه الحديث.
وحدث عن أحمد بن عبيد النحوي عن الأصمعي قال: حدثنا عيسى بن عمر قال: قدمت من سفر فدخل عليّ ذو الرمة، فعرضت أن لا أكون أعطيته شيئا، فقال:
لا، أنا وأنت نأخذ ولا نعطي.
قال الأصمعي: وحدثني عيسى بن عمر قال: لقد كنت أكتب بالليل حتى ينقطع سوئي أي وسطي.
وحدث عن أحمد بن عبيد عن الأصمعي عن عيسى بن عمر قال: اللهازم قيس بن ثعلبة وعجل وعنزة وتيم الله، قال عيسى بن عمر: أرى اللهازم تجمعوا كما تجمع لهازم الدابة قال: والرباب ثور وعكل [وتيم الله] وتيم عدي وضبة وأطحل كلهم إخوة، وإنما سموا الرباب لأنهم تجمعوا وتحالفوا، والرباعة جماعة القداح إذا ضمت، وجشم بن بكر وإخوتهم الأراقم، وليس بنسب، ولكن(5/2142)
شبهت عيونهم بعيون الأراقم من الحيات فبقي عليهم.
قال مؤلف الكتاب: أما قوله وأطحل فهو عجب من مثله لأن أطحل اسم جبل سكنه ثور فنسب إليه فقيل ثور أطحل، ولا يفرد في اسم القبيلة. وأما قوله إنهم تجمعوا مثل الربابة فأكثر أهل هذا الشأن يزعمون أنهم تجمعوا وغمسوا أيديهم في الربّ وتحالفوا على بني تميم. قال أبو العباس ثعلب: جمع الحسن بن قحطبة عند مقدمه مدينة السلام الكسائيّ والأصمعيّ وعيسى بن عمر، فألقى عيسى على الكسائي هذه المسألة: همّك ما أهمّك، فذهب الكسائي يقول يجوز كذا ويجوز كذا، فقال له عيسى: عافاك الله إنما أريد كلام العرب وليس هذا الذي تأتي به كلام العرب. قال أبو العباس: وليس يقدر أحد أن يخطىء في هذه المسألة لأنه كيف أعرب هذه الكلمة فهو مصيب، وإنما أراد عيسى بن عمر من الكسائي أن يأتيه باللفظة التي وقعت إليه.
[882]
عيسى بن مردان الكوفي أبو موسى:
ذكره محمد بن إسحاق النديم قال:
قرأت بخط ابن الكوفي أنه أخذ عن أبي طالب المفضل بن سلمة وروى عنه. وله من الكتب: كتاب القياس على أصول النحو.
[883]
عيسى بن المعلى بن مسلمة الرافقي أحد أدباء عصرنا:
أخمل من ذكره خمول قطره، كان مؤدبا بمدينة الرقة التي على الفرات، وله شعر كثير وفضائل جمة وعدة تصانيف، منها كتاب تبيين الغموض في علم العروض وجدته بخطه وقد كتبه في سنة تسعين وخمسمائة، وعاش بعد ذلك. وله كتاب في اللغة حسن في مجلدين ضخمين رأيته بخطه أيضا. كتاب ديوان شعره مجلدان.
__________
(882) - الفهرست: 77 والوافي للصفدي (خ) ونقل ما أورده ياقوت.
(883) - له ترجمة في الوافي للصفدي (خ) وذكر أنه يلقب حجة الدين وأنه مدح أكابر حلب وصفي الدين طارقا وجماعة من أمراء نور الدين وتوفي سنة 605، قال: وله مقدمة في النحو سماها المعونة وشرحها (ونقل أيضا ما ذكره ياقوت) .(5/2143)
[884]
عيسى بن مينا بن وردان بن عيسى بن عبد الصمد
بن عمرو بن عبد الله المدني المعروف بقالون القارىء، كنيته أبو موسى: صاحب نافع بن أبي نعيم، مات سنة خمس ومائتين في أيام المأمون، ومولده سنة عشرين ومائة في أيام هشام بن عبد الملك، وقرأ على نافع سنة خمسين ومائة في أيام المنصور. وكان قالون أصم لا يسمع البوق، وكان إذا قرأ عليه قارىء ألقم أذنه فاه ليسمع قراءته، وهو مولى الأنصار.
حدث أبو موسى قالون: كان نافع إذا قرأت عليه يعقد لي ثلاثين ويقول لي:
قالون، قالون، يعني جيد بالرومية، وإنما كان يكلمه بذلك لأن قالون أصله من الروم، جدّ جده عبد الله من سبي أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقدم به من أسره وباعه، فاشتراه بعض الأنصار فأعتقه، فهو مولى الأنصار.
[885]
عيسى بن يزيد بن دأب الليثي:
هو عيسى بن يزيد بن بكر بن كرز بن الحارث بن عبد الله بن أحمد بن يعمر الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، وفي نسبه اختلاف هذا أظهره، أبو الوليد، الراوية النسّاب من أهل الحجاز، وكان يضعّف في روايته، مات في سنة احدى وسبعين ومائة في أول خلافة الرشيد.
وحدث المرزباني قال، قال عبد الله بن جعفر: كان عيسى بن يزيد بن دأب يكنى أبا الوليد، وكان من رواة الأخبار والأشعار وحفاظهم، وكان معلما من علماء الحجاز.
وحدث فيما رفعه إلى رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة قال: أنشد ابن دأب:
__________
(884) - ترجمته في سير الذهبي 10: 326 وعبر الذهبي 1: 380 ومعرفة القراء الكبار 1: 128 وطبقات ابن الجزري 1: 615 والوافي للصفدي (خ) والنجوم الزاهرة 2: 235 والشذرات 2: 48 وقد ذكر الذهبي أنه توفي سنة 220.
(885) - ترجمته في الفهرست: 103 ونور القبس: 310 ومراتب النحويين: 99- 100 وتاريخ بغداد 11: 148 والوافي للصفدي (خ) .(5/2144)
وهم من ولدوا أشبوا ... بسرّ الأدب المحض
فبلغ ذلك أبا عمرو بن العلاء فقال: أخطأت استه الحفرة، إنما هو أشبؤوا أي كفوا، أما سمع قول الشاعر «1» :
وذو الرمحين أشباك ... من القوة والحزم
فبلغه عن ابن دأب شيء فقال: على نفسها تجني براقش «2» ، أما سمعتم قول الليثي:
ألا من مبلغ دأب بن كرز ... أبا الخنساء ذائدة الظليم
فلا تفخر بأحمر واطّرحه ... فما يخفى الأغرّ من البهيم
فعند الله سرّ من أبيه ... كراع زيد في عرض الأديم
وحدث فيما رفعه إلى جابر بن الصلت البرقي قال «3» : وعد المهدي ابن دأب جارية فوهبها له، فأنشد عبد الله بن مصعب الزبيري قول مضرّس الأسدي:
فلا تيأسن من صالح أن تناله ... وإن كان قدما بين أيد تبادره
فضحك المهدي وقال: ادفعوا إلى عبد الله فلانة لجارية أخرى، فقال عبد الله بن مصعب:
أنجز خير الناس قبل وعده ... أراح من مطل وطول كدّه
فقال ابن دأب: ما قلت شيئا، هلا قلت:
حلاوة الفضل بوعد منجز ... لا خير في العرف كنهب منهز
فضحك المهدي وقال: أحسن الوفاء ما تقدمه ضمان.
وحدث عن سعيد بن سلم قال «4» : ما شيء أجلّ من العلم، كان ابن دأب أحفظ الناس للأنساب والأخبار، وكان تيّاها، فكان ينادم الهادي ولا يتغدّى معه ولا(5/2145)
بين يديه فقيل له في ذلك فقال: أنا لا أتغدى في مكان لا أغسل يدي فيه، فقال له الهادي: فتغد، فكان الناس إذا تغدوا تنحّوا لغسل أيديهم وابن دأب يغسل يده بحضرة الهادي.
وحدث المرزباني عن الحسين بن علي عن أحمد بن سعيد عن الزبير بن بكار عن عمه مصعب عن موسى بن صالح قال «1» : كان عيسى بن دأب كثير الأدب عذب الألفاظ، وكان قد حظي عند الهادي حظوة لم تكن لأحد، وكان يدعو له بتكاء، ولم يكن يطمع أحد من الخلق في هذا في مجلسه ولا يفعل بغيره، وكان يقول له: ما استطلت بك يوما ولا ليلة، ولا غبت عن عيني إلا تمنيت ألّا ترى غيرك. وكان لذيذ المفاكهة طيّب المسامرة، كثير النادرة، جيد الشعر، حسن الانتزاع له، قال: فأمر له ليلة بثلاثين ألف دينار، فلما أصبح ابن دأب وجّه قهرمانه إلى باب موسى الهادي وقال له: انطلق إلى باب الحاجب فقل له: توجّه إلينا بالمال، فانطلق فأبلغ الحاجب رسالته، فتبسم وقال: ليس هذا إليّ، فانطلق إلى صاحب التوقيع ليخرج لك كتابا إلى الديوان فتديره هناك ثم تفعل به كذا وتفعل به كذا، فرجع الرسول إلى ابن دأب فأخبره، فقال: دعها فلا تعرض لها ولا تسأل عنها، قال: فبينما موسى في مستشرف له إذ نظر إلى ابن دأب قد أقبل وليس معه إلا غلام واحد، فقال لابراهيم بن ذكوان الحراني (وإليه ينسب طاق الحراني ببغداد بالكرخ) : أما ترى ابن دأب ما غيّر من حاله ولا تزيّا لنا، وقد بررناه بالأمس ليرى عليه أثرنا، فقال إبراهيم: إن أذن لي أمير المؤمنين عرّضت له بشيء من هذا، فقال: لا هو أعلم بأمره، ودخل ابن دأب فأخذ في حديثه إلى أن عرّض له الهادي بشيء من أمره فقال: أرى في ثوبك غسيلا وهذا الشتاء محتاج فيه إلى لبس الجديد واللين، فقال: يا أمير المؤمنين باعي قصير عمّا أحتاج إليه، فقال: وكيف ذاك وقد صرفنا إليك من برنا ما ظننا صلاح شأنك معه؟! فقال: ما وصل إليّ ولا قبضت منه شيئا، فدعا بصاحب بيت المال فقال له: عجل الآن بثلاثين ألف دينار، فحملت بين يديه.
وحدث بإسناد رفعه إلى أبي زهير قال: كان ابن دأب أحظى الناس عند(5/2146)
الهادي، فخرج الفضل بن الربيع يوما فقال: إنّ أمير المؤمنين يأمر من ببابه بالانصراف، فأما أنت يا ابن دأب فادخل، قال ابن دأب: فدخلت وهو منبطح على فراشه وأن عينيه لحمراوان من السهر وشرب الليل فقال لي: حدثني بحديث من حديث الشراب، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، خرج نفر من كنانة إلى الشام يجلبون الخمر فمات أحدهم فجلسوا على قبره يشربون، فقال أحدهم:
لا تصرّد هامة من شربها ... اسقه الخمر وإن كان قبر
اسق أوصالا وهاما وصدى ... ناشعا ينشع نشع المنبهر
كان حرّا فهوى فيمن هوى ... كلّ عود ذي هنون منكسر
قال: فدعا بدواة فكتبها، ثم كتب إلى الخزان بأربعين ألف درهم وقال: عشرة آلاف لك وثلاثون ألفا للثلاثة الأبيات، قال: فأتيت الخزّان فقالوا: صالحنا على عشرة آلاف أنك تحلف لنا ألا تذكرها لأمير المؤمنين، فحلفت ألا أذكرها حتى يبدأني، فمات ولم يذكرها.
وحدث قال: دخل ابن دأب على عيسى بن موسى عند منصرفه من فخّ فوجده واجما يلتمس عذرا لمن قتل، فقال له: أصلح الله الأمير، أنشدك شعرا كتب به يزيد بن معاوية يعتذر فيه إلى أهل المدينة من قتل الحسين بن علي عليهما السلام؟
قال: أنشدني فأنشده «1» :
يا أيها الراكب الغادي لطيّته ... على عذافرة في سيرها قحم
أبلغ قريشا على شحط المزار بها ... بيني وبين حسين الله والرّحم
وموقف بفناء البيت أنشده ... عهد الإله وما ترعى به الذمم
عنّفتم قومكم فخرا بأمكم ... أمّ حصان لعمري برّة كرم
هي التي لا يداني فضلها أحد ... بنت الرسول وخير الناس قد علموا
وفضلها لكم فضل وغركم ... من قومكم لهم في فضلها قسم
إني لأعلم أو ظنا كعالمه ... والظنّ يصدق أحيانا فينتظم(5/2147)
أن سوف يترككم ما تطلبون به ... قتلى تهاداكم العقبان والرّخم
يا قومنا لا تشهوا القوم إذ خمدت ... ومسّكوا بحبال السلم واعتصموا
قد جرّت الحرب من قد كان قبلكم ... من القرون وقد بادت بها الأمم
فأنصفوا قومكم لا تهلكوا بذخا ... فربّ ذي بذخ زلّت به القدم
قال: فسري عن عيسى بعض ما كان فيه.
قال ابن مناذر يهجو ابن دأب «1» :
ومن يبغ الوصاة فإنّ عندي ... وصاة للكهول وللشباب
خذوا عن مالك وعن ابن عون ... ولا ترووا أحاديث ابن داب
ترى الغاوين يتبعون منها ... ملاهي من أحاديث كذاب
إذا طلبت منافعها اضمحلّت ... كما ينجاب رقراق السراب
وحدث عن عمر بن أبي عبيدة النميري عن خاله ابن أبي شميلة قال: كان خلف الأحمر ينسب ابن دأب إلى الكذب، قال: فغدوت يوما أنا وخلف على ابن دأب، فأخذ في حديث ذي الخلصة حتى انقضى، فلما انصرفنا قلت لخلف: يا أبا محرز أتراه كذب؟ قال: لا أدري، والله لا أعرف مما حدث به قليلا ولا كثيرا.
قال عمر: ولخلف الأحمر في أبي العيناء محمد بن عبيد الله «2» :
لنا صاحب مولع بالمراء ... كثير الخطاء قليل الصواب «3»
أشدّ لجاجا من الخنفساء ... وأزهى إذا ما مشى من غراب
وليس من العلم في فقرة ... إذا حصل العلم غير التراب
أحاديث ألفها شوكر ... وأخرى مؤلفة لابن داب
قال المرزباني: وقوم يروون في هذه الأبيات زيادة، وأبيات خلف هي هذه،(5/2148)
والزيادة عليها فيما ذكر المقدّمي والكراني لأبان بن عبد الحميد اللاحقي. وروى عبد الله بن المعتز عن عمر بن شبة قال: شوكر شاعر بالبصرة يضع الأخبار والأشعار.
وحدث الرياشي قال، قال الأصمعي، قلت لخلف الأحمر: أما ترى ما جاء به ابن دأب؟ أين الحجاز والشوكري من الكوفة؟ فقال: إنما يروي لهؤلاء من يقول:
قالت ستي، ويدعو ربه من دفتر، ويسبح بالحصى، ويحلف محيت المصحف، ويدع حدثنا وأخبرنا، ويقول أكلنا وشربنا.
وزعم العنزي أنّ ابن دأب كان يتشيع ويضع أخبارا لبني هاشم، وكان عوانة بن الحكم عثمانيا ويضع أخبارا لبني أمية.
وحدث مصعب بن عبد الله الزبيري قال: شيطان الردهة شيء وضعه ابن دأب، وهو ذو الثدية فيما زعم، قال: جاءت أمه تستسقي ماء فوقع بها شيطان فحملته وحدث المرزباني فيما رفعه إلى مصعب الزبيري عن أبيه قال «1» : كنا جماعة نجالس الهادي، أنا وسعيد بن سلم الباهلي وابن دأب وعبد الله بن مسلم العزيزي وكان أجرأنا عليه، فخرج علينا مغيظا متغيرا، فسأله العزيزي عن خبره فقال: لم أر كصاحب الدنيا أكثر آفات ولا أدوم هموما، قد عرفتم موضع لبانة بنت جعفر بن أبي جعفر مني وأثرتها عندي، وإنها أغلظت لي بادلالها في شيء فلم أجد صبرا فنلتها بيدي فندمت عليه، فسكتنا خوفا من تعنيفه أو تصويب رأيه فيبلغها ذلك، فقال ابن دأب: وما في ذلك يا أمير المؤمنين؟ هذا الزبير بن العوام حواريّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وابن عمته ضرب امرأته أسماء بنت أبي بكر الصديق، وهي من أفضل نساء زمانها حتى كسر يدها، وكان ذلك سبب مفارقته إياها لأنه قال: أنت طالق إن حال عبد الله بيني وبينك، يعني ابنه عبد الله بن الزبير، فلم يخلّه وخلصها، وهذا عمر رضي الله عنه يقول: لا يسأل الرجل فيم يضرب امرأته، وهذا كعب بن مالك الأنصاري وهو أخو الزبير، آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينهما، عتب على امرأته، وهي من المهاجرات في شيء فضربها حتى حال بنوها بينهما فقال «2» :(5/2149)
لولا بنوها حولها لخبطتها ... إلى أن تداني الموت غير مذمّم
ولكنهم حالوا بمنعي دونها ... فلا تعدميهم بين ناه ومقسم
فمالت وفيها جائش من عبيطها ... كحاشية البرد اليماني المسهم
قال: فضحك الهادي وسرّي عنه، وأمر بالطعام، وأمر لابن دأب بخمسين ألف درهم وخمسين ثوبا، قال عبد الله بن مصعب: فتأسفت كيف سبقني إلى شيء أحفظه مثل حفظه.
وحدث أبو الطيب اللغوي في كتاب «مراتب النحويين» قال «1» : فأما مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلا نعلم بها إماما في العربية؛ حدث الأصمعي قال: أقمت بالمدينة زمانا مع جعفر بن سليمان الهاشمي واليها فما رأيت بالمدينة قصيدة واحدة صحيحة إلا مصحفة أو مصنوعة، وكان ابن دأب يضع الشعر وأحاديث السمر وكلاما ينسبه إلى العرب، فسقط وذهب علمه وخفيت روايته، قال: وكان شاعرا وعلمه بالأخبار أكثر، قال الأصمعي: وأتعجب لابن دأب حين يزعم أن أعشى همدان يقول «2» :
من رأى لي غزيّلي ... أربح الله تجارته
وخضاب بكفّه ... أسود اللون قارته
ثم قال الأصمعي: يا سبحان الله، يحذف الألف التي قبل الهاء في الله، ويسكن الهاء، ويرفع تجارته وهو منصوب، ويجوز هذا عنه، ويروي الناس عن مثله!! قال: ولقد سمعت خلفا الأحمر يقول: لقد طمع ابن دأب في الخلافة حين يجوز مثل هذا عنه.
[886]
عيينة بن عبد الرحمن المهلبي يكنى أبا المنهال:
ذكره الحاكم أبو عبد الله في
__________
(886) - ترجمته في الفهرست: 120 وإنباه الرواة 2: 384 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 239.(5/2150)
«تاريخ نيسابور» فقال: عيينة بن عبد الرحمن أبو المنهال اللغوي المهلبي صاحب العربية تلميذ الخليل بن أحمد مؤدب الأمير أبي العباس عبد الله بن طاهر بن الحسين، ورد معه نيسابور وتوفي بها، وروى عن داود بن أبي هند وسفيان بن عيينة وسعيد بن أبي عروبة ويحيى بن سليم «1» . ثم حدث بإسناد رفعه إلى المنهال أنه كان يقول: لا تتصدّ إلى تائق أو مائق. قال: قرأت بخط أبي عمر المستملي، سمعت أبا أحمد الفراء، سمعت عيينة المهلبي يقول، سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول: ما وصّى الله الناس بشيء ما وصاهم بأوطانهم.
قال عيينة: جاء رجل إلى جعفر بن محمد الصادق وهو يصلي فقال: إني مسترشد قال: اجلس، فجلس فلما قضى صلاته جاء إليه فقال: إن أبانا مات وتركني وأخا لي وهجينا، فقال جعفر: الملك بينكم أثلاث، فقال الأعرابي: الله الذي لا إله إلا هو أمر بهذا [قال: نعم] قال: رضيت رضيت رضيت.
له كتاب في النوادر وكتاب في الشعر.
قال أبو العباس: كان أبو المنهال مع إسحاق بن إبراهيم الطاهري، وكان آنسا به يحادثه ويجالسه ويقرأ عليه، وكان السبب في ذلك أن أبا المنهال كان مع عبد الله بن طاهر بن الحسين بخراسان، وكان يقدمه، وأحسن إليه ووصله بمائة ألف درهم، وكنا نجلس إليه، وقرأت عليه شيئا كثيرا، ومما قرأته عليه كتاب الأنصار وكتاب الأزد، وكان ينزل إلى القنطرة عند منازل العاصميين في موضع يقال له دار المهالبة، وكان أحد من لقي الناس وسمع، وكان حسن المعرفة بالاسناد والأخبار والأيام، وعمل كتابا لاسحاق في القرآن، وكان ابن الأعرابي لا يأتي إسحاق ولا يلقاه وكان يستأذنه في الانصراف إلى أهله ووطنه يوجّه إليه في كل سنة بدرج فيه من سماعه الاشارات الحسنة واللغة الفصيحة فإذا قرأه إسحاق وقّع إلى كاتبه: ادفع إليه ثلاثمائة دينار، فكان على ذلك إلى أن مات.(5/2151)
حرف الغين
[887]
غانم بن وليد المالقي أبو محمد المخزومي النحوي:
قال ابن خاقان: هو عالم متفرّس، وفقيه مدرّس، وأستاذ مجوّد، وإمام لأهل الأندلس مجرد، وأما الأدب فكان جلّ شرعته، وهو رأس بغيته، مع فضل وحسن طريقة، وجدّ في جميع أموره وحقيقة، وله:
صيّر فؤادك للمحبوب منزلة ... سمّ الخياط مجال للمحبّين
ولا تسامح بغيضا في معاشرة ... فقلّما تسع الدنيا بغيضين
لا أعرف من أمره «1» إلا ما ذكره ابن عساكر «2» في ترجمة علي بن أحمد بن طير قال: أنشدني غانم بن وليد النحوي لنفسه:
ثلاثة يجهل مقدارها ... الأمن والصحة والقوت
فلا تثق بالمال من غيرها ... لو أنه درّ وياقوت
قال وأنشدني غانم لبعض الشعراء:
__________
(887) - ترجمته في مطمح الأنفس: 293 (شوابكة) والجذوة: 306 وبغية الملتمس رقم: 1280 والصلة: 433 والذخيرة 1: 853- 870 والمغرب 1: 317 وأدباء مالقة: 179 والمطرب: 84 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 241 وصفحات متفرقة من نفح الطيب؛ وتوفي غانم سنة 470 وأورد له ابن بسام جملة من النثر أيضا.(5/2152)
يا أيها المبتغي أخا ثقة ... عدمت ما تبتغي فدع طمعك
داج المداجين ما لقيتهم ... وخادع النفس لامرىء خدعك
لا تكشف المرء عن سرائره ... ودعه تحت النفاق ما ودعك
أظهر له مثل قول ذي بله ... تريه إن ضرّ أنه نفعك
ولغانم أنشده ابن خاقان:
الصبر أولى بوقار الفتى ... من قلق يهتك ستر الوقار
من لزم الصبر على حاله ... كان على أيامه بالخيار(5/2153)
حرف الفاء
[888]
فاطمة بنت الأقرع الكاتبة:
وجدت بخطها رقعة هذه نسختها:
الأمة الكاتبة، بسم الله الرحمن الرحيم، ثقتي بالله وحده، خشعت لصولة عز المجلس العالي العادل المؤيدي المظفري المنصوري العزي السعدي الركني النصيري المجدي الشرفي الأميري، أعز الله أنصاره، وضاعف اقتداره، عقب الدهور، وانقادت لمشيئته تصاريف الأمور، وامتدّت إلى نواله آمال السؤال، وأناخت بفنائه رواحل الرجال، فما إنسان إلا موفور ببره، ولا لسان إلا مسبّح بشكره، ولا أمل إلا مصروف إليه، فأعطاه الله تعالى من الآمال في نفسه وذويه ما لا يرنو إليه طرف، ولا يأتي عليه وصف:
حتى تسير مسير الشمس رايته ... وتعتلي باسمه العالي على القمر
ويختم الأرض طرّا طين خاتمه ... ويغتدي أمره أمضى من القدر
ومن بعد، فقد ذهبت- أطال الله بقاء المجلس العالي وأعز سلطانه- في درج قد قرنته بهذه الرقعة، مذهب المطرف المعجب، وهو مما لم أسبق إلى مثله من مقدّمي أهل هذه الصناعة من الذكور دون الاناث، أظهرت فيه المعجز من عاجز، والكامل من ناقص، كما قال قابوس بن وشمكير: وقد يستعذب الشّريب من منبع
__________
(888) - ترجم لها الصفدي في الوافي (خ) وما أورده يتفق مع بعض ما جاء في ترجمتها الثانية رقم: (888 ب) وانظر سير الذهبي 18: 480 وعبر الذهبي 3: 296 والمنتظم 9: 40 وابن الأثير 10: 163 والبداية والنهاية 12: 134 والشذرات 3: 365.(5/2154)
الزّعاق، ويستطاب الصهيل من مخرج النهاق، جعلت في ذلك إقبال المجلس العالي- ضاعف الله اقتداره قائدا إلى طرق الرشاد، وعزّ سلطانه هاديا مبصّرا إلى سبل الإصابة والمراد- وأظهرت الحروف مفصولة وموصولة، ومعماة ومفتحة، في أحسن صيغها، وأبهج خلقها، منخرطة المحاسن في سلك نظامها، متساوية الأجزاء في تجاورها والبناء، فهي لينة المعاطف والارداف، متناسبة الأوساط والأطراف، ظاهرها وقور ساكن، ومفتّشها رهج مائن، وإن استخدمت إلى مهمّ يسنح أوفيت فيه على كل مرتسم في هذا الشأن قديما وحديثا وسالفا وآنفا، أؤمل بذلك الحظوة من إحماده وجميل رعايته، سمع الله سبحانه فيه كلّ دعاء مستجاب من الأمة الكاتبة ومن يتعلق عليها من وليدة ومولود، وشريف ومشروف، وعجوز داعية، وأمة خادمة، لما يوليها وينعم عليها ويعرف موضع خدمتها ومحلّ صنعتها، لا سلبها الله وسائر الخلق ظله بمنّه.
قد ترادف الأنعام عليها دفعة بعد أخرى وثانية بعد أولى على يد الشيخ الأجل السيد فخر الكفاة أبي الحسين، أدام الله تأييده وتولّى عني من غير حقّ عارفته ما لا تقوم بوسعه ألسنة القائلين. وشكر الشاكرين، فإذا أنعم على ما أصدرته من الخدم بلحظة، وأحسن إليه بلمحة، أدركت حظي، وحزت أملي، والرأي السامي في إجابتي إلى ما سألت وإثباتي في جملة المغمورين بالإحسان من الأدباء والحشم والعبيد والخدم، [دام] علوه وشرفه إن شاء الله تعالى.
[ترجمة ثانية] [888]
فاطمة بنت الحسن بن علي العطار أم الفضل
المعروفة ببنت الأقرع الكاتبة صاحبة الخط المليح المعروف: ماتت فيما ذكره تاج الإسلام ومن خطه نقلت: (قاله المؤلف عن أبي الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي الحافظ) في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من المحرم من شهور سنة ثمانين وأربعمائة. قال السمعاني:
وكان لها خط مليح حسن، وهي التي أهّلت لكتابة كتاب الهدنة إلى ملك الروم من الديوان العزيز، وسافرت إلى بلاد الجبل إلى العميد أبي نصر الكندري، وكتب الناس(5/2155)
على خطها، وكانت تكتب طريقة ابن البواب. سمعت أبا عمر عبد الواحد بن عبد الله بن مهدي الفارسي وغيره، سمع منها أبو القاسم مكي بن عبد الله الرميلي الحافظ، وروى لنا عنها أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر السمرقندي وأبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنماطي ببغداد وأبو سعد أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن البغدادي الحافظ بأصبهان وغيرهم. سمعت أبا بكر محمد بن عبد الباقي بن محمد البزاز العرضي يقول: سمعت الكاتبة بنت الأقرع تقول: كتبت ورقة لعميد الملك أبي نصر الكندري وأعطاني ألف دينار.
أخبرنا أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الحافظ بقراءتي عليه، أخبرتنا فاطمة بنت الحسن بن علي العطار المقرىء قالت، أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن محمد بن عبد الله بن مهدي الفارسي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل المحاملي، حدثنا أبو هشام الرفاعي، حدثنا ابن فضيل، حدثنا الأعمش عن عبد العزيز بن رفيع عن تميم بن طرفة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفّر عن يمينه.
أنشدنا أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر الحافظ الأشعبي، أنشدتنا الكاتبة أم الفضل فاطمة بنت الحسن بن علي المقرىء قالت: أنشدنا أبو القاسم المطرز في دارنا بقطيعة الربيع لنفسه:
سرى مغرما بالعيس ينتجع الركبا ... يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا
إذا ملأ البدر العيون فعنده ... لعينك بدر يملأ العين والقلبا
ولما هوى دمعي ليوم فراقه ... عقيقا تهاوى دمعه لؤلؤا رطبا
إذا لم تبلّغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا(5/2156)
[889]
الفتح بن خاقان بن أحمد القائد وقيل الفتح
بن خاقان بن غرطوج، كذا قال المرزباني في «كتاب المعجم» . قال محمد بن إسحاق النديم: كان في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب، وكان من أولاد الملوك، واتخذه المتوكل أخا، وكان يقدّمه على جميع أولاده، قتل مع المتوكل ليلة قتل بالسيوف لأربع خلون من شوال سنة سبع وأربعين ومائتين بالمتوكلية، وكانت له خزانة كتب جمعها له علي بن يحيى المنجم لم ير أعظم منها كثرة وحسنا، وكان يحضر داره فصحاء الأعراب وعلماء الكوفيين والبصريين، قال أبو هفان «1» : ثلاثة لم أر قطّ ولا سمعت بأكثر محبة للكتب والعلوم منهم: الجاحظ والفتح بن خاقان وإسماعيل بن إسحاق القاضي.
قال المؤلف: وباقي القصة في أخبار الجاحظ فكرهت التكرار.
وللفتح من التصانيف: كتاب البستان صنفه رجل يعرف بمحمد بن عبد ربه ويلقب برأس البغل ونسبه إليه. كتاب الصيد والجوارح.
وذكره أبو القاسم في «تاريخ الشام» فقال: الفتح بن خاقان بن غرطوج التركي أبو محمد، قدم الشام مع المتوكل معادله على جمازة، ثم نزل بالمزّة، فلما رحل المتوكل عن دمشق استخلف بها كلباتكين التركي. وكان على خاتم المتوكل وقتل معه، روى عنه أبو زكريا يحيى بن حكيم الأسلمي شيئا من شعره، وأبو العباس المبرد وأحمد بن يزيد المؤدب، ولم يذكره الخطيب في تاريخه «2» .
__________
(889) - أخباره في الكتب التاريخية كالطبري وابن الأثير ومروج الذهب وانظر معجم المرزباني: 190 والفهرست: 130 وتاريخ بغداد 12: 389 وسير الذهبي 12: 82 والوافي للصفدي (خ) والفوات 3: 177 والنجوم الزاهرة 2: 313 والشذرات 2: 114 وانظر كتاب «الترك في مؤلفات الجاحظ» للدكتور زكريا كتابجي؛ وياقوت ينقل أيضا عن تاريخ دمشق لابن عساكر (المصورة 14: 195) .(5/2157)
وعن محمد بن القاسم قال: دخل المعتصم يوما إلى خاقان بن غرطوج يعوده فرأى الفتح بن خاقان ابنه وهو صبي لم يتّغر فمازحه ثم قال: أيما أحسن داري أم داركم؟ فقال الفتح بن خاقان: يا سيدي دارنا إذا كنت فيها أحسن، فقال المعتصم:
لا أبرح والله حتى أنثر عليه مائة ألف درهم، وفعل ذلك.
وعن أبي العباس المبرد قال: أنشد الفتح بن خاقان «1» :
لست مني ولست منك فدعني ... وامض عني مصاحبا بسلام
وإذا ما شكوت ما بي قالت ... قد رأينا خلاف ذا في المنام
فزاد الفتح بن خاقان:
لم تجد علة تجنّى بها الذن ... ب فصارت تعتلّ بالأحلام
قال المبرد: وسمعت الفتح ينشد قبل أن يقتل بساعات هذا البيت وهو:
وقد يقتل الغتميّ مولاه غيلة ... وقد ينبح الكلب الفتى وهو غافل
وكان الفتح يتعشق خادما للمتوكل اسمه شاهك وله فيه أشعار منها:
أشاهك ليلي مذ هجرت طويل ... وعيني دما بعد الدموع تسيل
وبي منك والرحمن ما لا أطيقه ... وليس إلى شكوى إليك سبيل
أشاهك لو يجزى المحبّ بوده ... جزيت ولكنّ الوفاء قليل
قال ابن حمدون: كان الفتح بن خاقان يأنس بي ويطلعني على الخاص من سرّه، فقال لي مرة: شعرت يا أبا عبد الله أني انصرفت البارحة من مجلس أمير المؤمنين، فلما دخلت منزلي استقبلتني فلانة- يعني جاريته- فلم أتمالك أن قبلتها، فوجدت فيما بين شفتيها هواء لو رقد المخمور فيه لصحا، فكان هذا من مستحسن كلام الفتح، فكأن الوأواء الدمشقي سمع هذا حتى قال:
سقى الله ليلا طاب إذ زار طيفه ... فأفنيته حتى الصباح عناقا
يطيب نسيم منه يستجلب الكرى ... ولو رقد المخمور فيه أفاقا
تملّكني لما تملّك مهجتي ... وفارقني لما أمنت فراقا(5/2158)
ووجدت في بعض المجاميع للفتح بن خاقان يصف الورد:
أما ترى الورد يدعو الشاربين إلى ... حمراء صافية في لونها صبب
مداهن من يواقيت مركّبة ... على الزمرّد في أجفانها ذهب
خاف الملال إذا طالت إقامته ... فصار يظهر أحيانا ويحتجب
وكان أديبا فاضلا زكيّ النفس حسن العشرة لطيف الأخلاق متوددا محببا إلى كل من يكلمه، وكان غاية في الجود، وكان قد تنزل من المتوكل بمنزلة الروح من الجسد، وكان خدم قبله المعتصم والواثق؛ فذكر أبو العيناء قال: قال الفتح بن خاقان: غضب عليّ المعتصم ثم رضي عني وقال لي: ارفع حوائجك لتقضى، فقلت: يا أمير المؤمنين ليس شيء من عرض الدنيا وإن جلّ يفي برضى أمير المؤمنين وإن قلّ؛ قال: فأمر فحشي فمي جوهرا.
أخبرني أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار الحافظ قال: أخبرني أبو القاسم الثعلبي، حدثنا الفضل بن سهل، حدثنا الخطيب أبو بكر، أخبرنا محمد بن محمد بن المظفر السراج، حدثنا المرزباني، أخبرني محمد بن يحيى الصولي، حدثني أحمد بن عبد الرحمن، حدثني وهب بن وهب بن وهب، حدثني البحتري قال «1» : قال المتوكل: قل فيّ شعرا وفي الفتح فإني أحبّ أن يحيا معي ولا أفقده فيذهب عيشي ولا يفقدني فيذل، فقل في هذا المعنى فقلت أبياتي:
سيدي أنت كيف أخلفت وعدي ... وتثاقلت عن وفاء بعهدي
فقلت فيها:
لا أرتني الأيام فقدك يا فت ... ح ولا عرّفتك ما عشت فقدي
أعظم الرزء أن تقدّم قبلي ... ومن الرزء أن تؤخّر بعدي
حسدا أن تكون إلفا لغيري ... إذ تفردت بالهوى قبل وحدي
قال البحتري: فقتلا معا وكنت حاضرا وربحت هذه الضربة، وأومأ إلى ضربة(5/2159)
في ظهره؛ فقال: أحسنت والله يا بحتري وجئت بما في نفسي، وأمر لي بألف دينار. وقال غير وهب الراوي للخبر، قال البحتري: قد كنت عملت هذه الأبيات في غلام كنت أكلف به، فلما أمرني المتوكل بما أمر تنحيت فقلت الأبيات وأريته أنني عملتها في وقتي وما غيرت فيها إلا لفظة واحدة فإنني كنت قد قلت:
لا أرتني الأيام فقدك ما عشت
فجعلته يا فتح.
وتحدث الشمشاطي علي بن محمد، حدثني محمد بن عبد الله، حدثني أحمد بن الفضل الهاشمي، حدثنا علي بن الجهم القرشي قال: دخلت على المتوكل يوما وهو جالس وحده فسلمت عليه فردّ السلام وأجلسني، فحانت مني التفاتة فرأيت الفتح بن خاقان واقفا في غير رتبته التي كان يقوم فيها، متكئا على سيفه مطرقا، فأنكرت حاله، فكنت إذا نظرت إليه نظر إلى الخليفة فإذا صرفت وجهي نحو الخليفة أطرق، فقال: يا علي أأنكرت شيئا؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: ما هو؟
قلت: وقوف الفتح في غير رتبته التي كان يقوم فيها، قال: سوء اختياره أقامه ذلك المقام، قلت: ما السبب يا أمير المؤمنين؟ قال: خرجت من عند قبيحة آنفا فأسررت إليه سرا فما عداني السرّ أن عاد إليّ، قلت: لعلك أسررته إلى غيره يا أمير المؤمنين، قال: ما كان هذا، قلت: فلعل مستمعا استمع عليكما، قال: ولا هذا أيضا، قال: فأطرقت مليا ثم رفعت رأسي فقلت: يا أمير المؤمنين قد وجدت له مما هو فيه مخرجا، قال: ما هو؟ قلت: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين، حدثنا المستمرّ بن سليمان عن أبي الجوزاء قال: طلقت امرأتي في نفسي وأنا في المسجد ثم انصرفت إلى منزلي فقالت لي امرأتي: أطلقتني يا أبا الجوزاء؟ قلت: من أين لك هذا؟
قالت: خبرتني جارتي الأنصاريّة، قلت: ومن خبّرها بذلك؟ قالت: ذكرت أن زوجها خبرها بذلك، فغدوت على ابن عباس فقصصت عليه القصة فقال: علمت أن وسواس الرجل محدّث وسواس الرجل فمن ها هنا يفشو السر.
قال أبو نعيم: فكان في نفسي من هذا شيء حتى حدثني حمزة الزيات قال:
خرجت سنة من السنين أريد مكة، فلما جزت في بعض الطريق ضلّت راحلتي فخرجت أطلبها، فإذا باثنين قد قبضا عليّ أحسّ حسّهما وأسمع كلامهما ولا أرى(5/2160)
شخصهما، فأخذاني وجاءا بي إلى شيخ قاعد على تلعة من الأرض حسن الشيبة، فسلمت عليه فردّ عليّ السلام، فأفرخ روعي ثم قال: من أين، وإلى أين؟ فقلت:
من الكوفة أريد مكة، قال: ولم تخلفت عن أصحابك؟ فقلت: ضلت راحلتي فجئت أطلبها، فرفع رأسه إلى قوم على رأسه فقال: زاملة، فأنيخت بين يدي، ثم قال لي، أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم، قال: هاته فقرأت حم الأحقاف حتى انتهيت إلى هذه الآية: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
(الأحقاف/ 29) الآية فقال لي: على رسلك تدري كم كانوا؟ قلت: اللهم لا، قال: كنا أربعة وكنت المخاطب لهم عنه صلّى الله عليه وسلّم، فقلت: يا قوميا أجيبوا داعي الله. ثم قال لي: أتقول الشعر؟ قلت: اللهم لا. قال: أفترويه؟ قلت: نعم، قال: هاته، فأنشدته قصيدة:
أمن أم أوفى دمنة لم تكلّم ... بحومانة الدرّاج فالمتثلم
فقال: لمن هذه؟ فقلت: لزهير بن أبي سلمى، قال: الجني؟ قلت: بل الانسى مرارا، فرفع رأسه إلى قوم على رأسه فقال: زهير، فأتي بشيخ كأنه قطعة لحم فألقي بين يديه فقال له: يا زهير، قال: لبيك، قال: «أمن أم أوفى» لمن؟
قال: لي؛ قال: هذا حمزة الزيات يذكر أنها لزهير بن أبي سلمى الإنسي، قال:
صدق هو وصدقت أنت. قال: وكيف هذا؟ قال: هو إلفي من الإنس وأنا تابعه من الجن أقول الشيء فألقيه في وهمه ويقول الشيء فآخذه عنه، فأنا قائلها في الجن وهو قائلها في الإنس. قال أبو نعيم فصدّق عندي هذا الحديث حديث أبي الجوزاء أنّ وسواس الرجل يحدث وسواس الرجل فمن ها هنا يفشو السر، قال: فاستفرغ المتوكل ضحكا وقال: إليّ يا فتح، فصبّ عليه خلعا وحمل على شيء من الظهر وأمر له بمال وأمر لي بدون ما أمر له به، فانصرفت إلى منزلي وقد شاطرني الفتح ما أخذ فصار الأكثر إليّ والأقل عنده.
قال جحظة في «أماليه» حدثني المبرد قال أنشدني الفتح بن خاقان لنفسه «1» :
وإني وإياها لكالخمر والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد(5/2161)
إذا ازددت منها ازددت وجدا بقربها ... فكيف احتراس من هوى متجدد
قال فحدثني ابن حمدون قال: لما قال الفتح هذه الأبيات أنشدتها المتوكل فسألني عن قائلها فعرّفت أنه الفتح، فاستحسنها وقال لي: بأبي أنت من جامع محاسن الدنيا. وبلغ هذا الشعر أبا علي البصير الفضل بن جعفر فقال في الفتح:
سمعت بأشعار الملوك فكلّها ... إذا عضّ متنيه الثقاف تأودا
سوى ما رأينا لامرىء القيس إننا ... نراه إذا لم يشعر الفتح أوحدا
قال المرزباني: ومن شعر الفتح بن خاقان «1» :
بني الحبّ على الجور فلو ... أنصف المحبوب فيه لسمج
ليس يستملح في حكم الهوى ... عاشق يحسن تأليف الحجج
قال المؤلف وهذان البيتان يرويان لعلية بنت المهدي.
قال المرزباني: وللفتح بن خاقان «2» :
أيها العاشق المعذب صبرا ... فخطايا أخي الهوى مغفوره
زفرة في الهوى أحطّ لذنب ... من غزاة وحجّة مبروره
وقال عمران بن موسى: سمعت الفتح بن خاقان يقول لأحمد بن أبي فنن الشاعر: يا أحمد، قال: لبيك يا سيدي (وهذا في أول سنة سبع وأربعين ومائتين) [قال] : اعمل أبياتا حسانا تمدح بها سيدي أمير المؤمنين واذكر في آخرها أني شفيعك حتى آخذ لك منه ما يسدّ خلتك، فما أسرع فقدك لي، فبكى ابن أبي فنن وقال: يا سيدي على الدنيا بعدك لعنة الله، قال له: على الدنيا قبلي وبعدي لعنة الله فما صافت منحرفا عنها نابذا لها، ولا وفت لمتمسك بها راغب فيها.
أبو بكر محمد بن جعفر الخرائطي: حدثنا العباس بن الفضل الربعي، حدثنا علي بن الجهم قال: إني لعند المتوكل يوما والفتح بن خاقان حاضر إذ قيل له: فلان النخاس بالباب، فأذن له فدخل ومعه وصيفة، فقال له أمير المؤمنين: ما صناعة هذه(5/2162)
الوصيفة: قال تقرأ بالألحان، فقال الفتح: اقرئي لنا خمس آيات فاندفعت تقول:
قد جاء نصر الله والفتح ... وشقّ عنا الظلمة الصبح
خدين ملك ورجا دولة ... وهمه الاشفاق والنصح
الليث إلا أنه ماجد ... والغيث إلا أنه سحّ
وكلّ باب للندى مغلق ... فإنما مفتاحه الفتح
قال: فو الله لقد دخل المتوكل من السرور ما قام إلى الفتح فوقع عليه يقبله ووثب الفتح فقبل رجله، فأمره أمير المؤمنين بشرائها وأمر لها بجائزة وكسوة وبعث بها إلى الفتح فكانت أحظى جواريه عنده، فلما قتل الفتح رثته بهذه الأبيات:
قد قلت للموت حين نازله ... والموت مقدامة على البهم
ولو تبينت ما فعلت إذن ... قرعت سنا عليه من ندم
فاذهب بمن شئت إذ ذهبت به ... ما بعد فتح للموت من ألم
ولم تزل تبكي وتنوح عليه حتى ماتت.
[890]
الفتح بن محمد بن عبيد الله بن خاقان القيسي الاشبيلي:
وقيل هو من أهل أندلس «1» ، أديب فاضل شاعر بليغ فصيح بذيء اللسان قوي الجنان في هجاء الأعيان، وكان متهم الخلوة فيما بلغني، مات في حدود سنة ثلاث وخمسمائة «2» وقال العماد: سألت عنه بمصر فقيل إنه عاش بالمغرب إلى عهد شاور بمصر، فقد توفي بعد سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وقال لي بعض المغاربة إنه توفي قبل هذا التاريخ.
__________
(890) - ترجمته في الخريدة (قسم المغرب) 3: 538 ومعجم أصحاب الصدفي: 313 والمغرب 1: 259 وابن خلكان 4: 23 والإحاطة 4: 248 والنفح 7: 29 والشذرات 4: 107 وسير الذهبي 20: 107 والوافي للصفدي (خ) وانظر مقدمة مطمح الأنقس (تحقيق شوابكه) .(5/2163)
له من التصانيف كتاب قلائد العقيان. كتاب مطمح الأنفس ومسرح التأنس.
حدثني الصاحب الكبير العالم جمال الدين الأكرم، أدام الله علوه، قال: لما عزم ابن خاقان على تصنيف «كتاب قلائد العقيان» جعل يرسل إلى كلّ واحد من ملوك الأندلس ووزرائها وأعيانها من أهل الأدب والشعر والبلاغة ويعرّفه عزمه ويسأل إنفاذ شيء من شعره ونظمه ونثره ليذكره في كتابه، وكانوا يعرفون شرّه وثلبه، فكانوا يخافونه وينفذون إليه ذلك وصرر الدنانير، فكلّ من أرضته صلته أحسن في كتابه وصفه وصفته، وكلّ من تغافل عن برّه هجاه وثلبه، وكان ممن تصدّى له وأرسل إليه أبو بكر ابن باجة المعروف بابن الصائغ، وكان وزير ابن تيفلويت «1» صاحب المرية، وهو أحد الأعيان وأركان العلم والبيان، شديد العناية بعلم الأوائل، مستول على أصل الأشعار والرسائل، وكانوا يشبّهونه بالمغرب بابن سينا بالمشرق، وله تصانيف في المنطق وغيره، فلما وصلته رسالته تهاون بها ولم يعرها طرفه، ولا لوى نحوها عطفه، وذكر ابن خاقان بسوء بلغه، فجعله ختم كتابه، وصيّره مقطع خطابه، وقال «2» : أبو بكر ابن الصائغ: هو رمد جفن الدين، وكمد نفوس المهتدين، اشتهر سخفا وجنونا، وهجر مفروضا ومسنونا، وضلّ فيما يتسرع، ولا يأخذ في غير الأباطيل ولا يشرع، ولا يرد سوى الغمة ولا يكرع، ناهيك من رجل ما تطهّر من جنابة، ولا أظهر مخيلة إنابة، ولا استنجى من حدث، ولا أشجى فؤاده توار في جدث، ولا أقر ببارئه ومصوّره، ولا فرّ عن تباريه في ميدان تهوره، الاساءة إليه أجدى من الإحسان، والبهيمة عنده أهدى من الانسان، نظر في تلك التعاليم، وفكر في أجرام الأفلاك وحدود الأقاليم، ورفض كتاب الله العليّ العظيم، ونبذه وراء ظهره ثاني عطفه، وأراد إبطال ما لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، واقتصر على الهيئة، وأنكر أن يكون إلى الله الفيئة، وحكم للكواكب بالتدبير، فهو يعتقد أن الزمان دور، وأن الانسان نبات ونور، مع منشأ وخيم، ولؤم أصل وخيم، وصورة شوّهها الله وقبحها، وطلعة إذا أبصرها الكلب نبحها، وقذارة يوبىء البلاد نفسها. ووضارة يحكي الحدّاد دنسها. وله نظم أجاد فيه بعض الاجادة، وشارف الإحسان أو كاده.(5/2164)
مع كلام طويل وهجو وبيل، وبلغ ذلك ابن الصائغ فأنفذ له مالا استكفه به واستصلحه.
وصنف ابن خاقان كتابا آخر سماه «مطمح الأنفس ومسرح التأنس في ذيل شعراء الأندلس» «1» وصله بقلائد العقيان، افتتحه «2» بذكر ابن الصائغ وأثنى عليه فيه ثناء جميلا فقال: الوزير أبو بكر ابن الصائغ: هو بدر فهم ساطع، وبرهان علم لكلّ حجة قاطع، تفوّحت بعطره الأعصار، وتطيبت بذكره الأمصار، وقام به وزن المعارف واعتدل، ومال وتهدل، وعطّل بالبرهان التقليد، وتنفق بعد عدمه الاختراع والتوليد.
إذا قدح زند فهمه أورى بشرر للجهل محرق، وان طما بحر خاطره فهو لكلّ شيء مغرق، مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفساد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد الذي يخلق العمر وهو مستجد، وله أدب يودّ عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى [المشتري] ان يعرفه، ونظم تتمناه اللبّات والنحور، وتدعيه مع نفاسة جوهرها البحور، وقد أتيت بما تهوى الأعين النّجل أن يكون إثمدها، ويزيل من النفس حزنها وكمدها، فمن ذلك قوله يتغزل:
أسكان نعمان الأراك تيقنوا ... بأنكم في ربع قلبي سكّان
ودوموا على حفظ الوداد فطالما ... بلينا بأقوام إذا استحفظوا خانوا
سلوا الليل عنّي مذ تناءت دياركم ... هل اكتحلت لي فيه بالنوم أجفان
وهل جردّت أسياف برق دياركم ... فكانت لها إلا جفوني أجفان
وله:
اتأذن لي آتي العقيق اليمانيا ... أسائله ما للمغاني وماليا
وسل دارهم بالحزن أقفر إنني ... تركت الهوى يقتاد فضل زماميا
فيا مكرع الوادي أما فيك شربة ... لقد سال فيك الماء أزرق صافيا
ويا شجرات الجزع هل فيك وقفة ... فقد فاء فيك الفيء أخضر ضافيا
وقد جرى في هذا الميدان فأحسن كلّ الإحسان.(5/2165)
[891]
الفضل بن إسماعيل التميمي أبو عامر الجرجاني:
أديب أريب فاضل لبيب، أحد أصحاب عبد القاهر الجرجاني النحوي، وكان مليح الخط صحيح الضبط رائق النظم فصيح النثر جيد التصنيف حسن التأليف، ذكره محمد بن محمود في «كتاب سر السرور» فقال: رباع الفضل بتصانيفه عامرة، ورياض الأدب بكلماته ناضرة، فكأنّ الربيع فضلة من بدائعها، والزهر ضرّة لروائعها، وشعره يطرق السحر بين يديه، وتهتف الملح بحفافيه، تقرأ آيات الإحسان من أبياته، وتخفق عذبات الابداع من راياته، وله تصنيفات باسم الشيخ الأجل عبد الحميد أهداها إليه بغزنة فأشرقت بها أرجاؤها، وأغدقت أنواؤها. منها: كتاب البيان في علم القرآن. وكتاب عروق الذهب من أشعار العرب. وكتاب سلوة الغرباء وغيرها.
وقال عبد الغافر في «كتاب السياق» : الفضل بن إسماعيل التميمي الشيخ أبو عامر الجرجاني النحوي الكاتب الأديب الشاعر من أفاضل عصره، وأفراد دهره، حسن النظم والنثر، متين في الفضل، كتب مدة للشيخ الرئيس أبي المحاسن الجرجاني وغيره، وصحب الكتّاب والمشايخ، سمع الحديث من المشايخ الذين سمعنا منهم مثل الشيخ أبي سعد ابن رامش وأبي نصر ابن رامش المقرىء وأبي بكر أحمد بن علي بن خلف الشيرازي وأبي القاسم إسماعيل بن زاهر النوقاني، وسمع من الشيخ أبي بكر أحمد بن منصور بن خلف المغربي سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، وسمع من المشايخ الإسماعيلية وغيرهم في شبابه، ولم يذكر وفاته لكنه كان قد مات في حياة عبد الغافر.
وكان ورد نيسابور واجتمع به الأديب يعقوب بن أحمد المذكور في بابه وسأله أن يكتب له بخطه في كتابه الذي سماه «جونة الند» وهو مجموع جمع فيه يعقوب من
__________
(891) - ترجمة أبي عامر الجرجاني في دمية القصر 1: 568 (وعليه يعتمد الباخرزي في رواية كثير من الشعر الذي دونه في كتابه) ومختصر السياق الأول: 75 ب، والثاني 121 والوافي للصفدي (خ) (وفيه منتخبات لم يوردها ياقوت) وبغية الوعاة 2: 245 وطبقات المفسرين 2: 32 أما كتاب سر السرور فمنه نقول في بغية الطلب (انظر مثلا 4: 293، 6: 312، 314) .(5/2166)
أشعار نفسه وغيره من أهل عصره ومن تقدمه، وظفرت أنا بأصل يعقوب الذي بخطه وفيه بخط أبي عامر الذي لا أرتاب به ما نقلته بصورته بعد أن أسقطت بعض النظم، وأما النثر فلا، وهذا نسخة خطه: سألني الشيخ الجليل الأديب- أدام الله نعمته- أن أكتب له في هذا الدفتر شيئا من هاذوري، فترجحت بين صوارف تنهاني عن الاجابة سترا لعورتي، ودواع تحثني على امتثال رسمه إظهارا لطاعتي، وأنا على كلّ حال واثق بكرمه، ساكن إلى حسن شيمه، وعالم انه يحرص على إقالة عثرة الاخوان، وستر عيوبهم بقدر الإمكان، والله أسأل أن يجبر نقيصتنا بفضيلته، ويمحو إساءتنا بحسنته، فانه عليه قدير، وها هو الهاذور:
بالله يا حتفي أما تستحي ... حتى متى توردني حتفي
تحلف لي أنك في كفّي ... وعضّ كفي منك في كفي
وأنت يا قلبي إلى كم وكم ... تحيل بالذنب على طرفي
وأيضا:
خدّه الياسمين والخطّ فيه ... سنبل نابت على ياسمين
سمته قبلة فقال تحرّز ... بين صدغيّ عقدتا التنين
وأيضا:
إذا حفزتك نائبة لأمر ... فجئت إلى صغير أو كبير
فكاثره بهزّ بعد هزّ ... فإن الزبد بالمخض الكثير
وأيضا في الرئيس أبي الفضل أدام الله علوه:
تولّى الغانيات فليس عندي ... لهنّ سوى هوى أخفي وأبدي
رأين الشيب ألبسني قتيرا ... على حدّ البلى فنقضن عهدي
وسالمني الغيور فكلّ يوم ... يوازن بيننا ودّ بودّ
وقنعني الزمان فلست آسى ... على فوت الثراء وأنت عندي
وكلّ تعجبى طول الليالي ... لذلة ماجد يسعى لوغد
فشكرا للإله فقد كفاني ... تولّي غير عباس بن سعد(5/2167)
له قلبي وخالصتي وودي ... وفيه تردّدي وإليه قصدي
ومنه معيشتي وصلاح حالي ... ومعصوب «1» به غيّي ورشدي
وكلّ الناس يشرك في هواه ... وقد أفردته بهواي وحدي
فان أفزع فكهف علاه حرزي ... وان أعطش فبحر نداه وردي
فضلت الناس مأثرة وفخرا ... وطلتهم باحسان ومجد
ولما صرت عبدك صار يرضى ... أنو شروان لو أرضاه عبدي
أدلّ عليك إدلال الموالي ... فلا نكر لديك ولا تعدي
وتلك مزيّة لي ليس تخفى ... ورثت مكانها من ابي وجدي
فعش ألفا معي في خير حال ... وألفا بعدها ألفان بعدي
فكلّ الناس دونك آل قفر ... يغرّ بلمعة من غير رفد
وأنت الفرد مكرمة فكن لي ... تكن فردا بلا شكّ لفرد
وأيضا:
نشدّ على الموت مستبسلين ... غلاظ الرقاب غلاظ الكبود
ونفترع البيض سود القرون ... صفر الترائب حمر الخدود
وله أيضا:
عذيري من شاطر أغضبوه ... فجرّد لي مرهفا باتكا
يقول أنا لك يا ابن الوكيل ... وهل لي رجاء سوى ذلكا
أيضا:
إني بليت بشادن ... بلواه عندي تستحبّ
فإذا بلوت طباعه ... فالماء يشرب وهو عذب
وإذا نضوت ثيابه ... فاللوز يقشر وهو رطب
وقصار وصفي أنه ... فيما أحبّ كما أحبّ(5/2168)
وأيضا:
قد ضاق صدري من صدور زماننا ... فهم جماع الشرّ بالاجماع
يتضارطون فان شكوت ضراطهم ... شفعوا سماع الضّرط بالاسماع
هذا يفرقع في الضراط وذاكم ... يرمي بمثل حجارة المقلاع
ومن البلية أن تعاشر معشرا ... يتضارطون الدهر بالايقاع
وله:
مللت مكافحة الحادثات ... وكنت بها معجبا عاجبا
وحيرني الدهر حتى نشدت ... حماري وكنت له راكبا
وأيضا:
اصبحت مثل عطارد في طبعه «1» ... إذ صرت مثل الشمس في الإشراق
فلذاك ما ألقاك يوما واحدا ... إلا قضيت عليّ بالاحراق
الشيخ الجليل الأديب، أدام الله نعمته، وأنعم عليّ بقراءة ما علقه عن دفتري عليّ، والله يمتعه به وبفضله، ويقر عين العلم بحراسته، وسمع معه ابنه الشيخ الفاضل أبو بكر الحسن، والفقيه الفاضل العالم أبو المجد محمد بن أبي القاسم، أبقاهما الله، وكذلك سمعوا جميعا ما أبنته من هاذوري بخطي. وكتب الفضل بن إسماعيل أبو عامر الجرجاني ومن خطه نقلت: كتب إليّ الكيا الأجل أبو الفتح رحمه الله:
أبا عامر إن الرتائم إنما ... تذكّر بالأمر العبام المغمّرا
ولكنّ من عيناه درج فؤاده ... فليس بمحتاج إلى أن يذكّرا
وكتب أيضا إليّ الشيخ الإمام أبو بكر عبد القاهر «2» :
ما أبو عامر سوى اللطف شيء ... إنه جملة كما هو روح(5/2169)
كلّ ما لا يلوح من سرّ معنى ... عند تفكيره فليس يلوح
قال المؤلف: هذا آخر ما نقلته من خط أبي عامر رحمه الله.
وله من التصانيف: كتاب عروق الذهب في الشعر واختياره. كتاب قلائد الشرف في الشعر أيضا. كتاب البيان في علم القرآن. كتاب سلوة الغرباء.
ونقلت من خط الأديب يعقوب بن أحمد النيسابوري وتصنيفه رقعة كتبها الشيخ الفقيه الجليل أبو عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني، أدام الله تأييده، إلى الشيخ الرئيس الشهيد أبي المحاسن سعد رحمه الله، قال يعقوب: وكتبتها من خطه إبان مقدمه نيسابور في شعبان سنة ثمان وخمسين وأربعمائة: أنا في هذه السنة- أطال الله بقاء الشيخ- من الاختلال والتكشف، والاعتلال والتشعث، على صورة أستحيي من عرضها وآنف من شرحها، وقد رحل عامتها بما أشكر الله تعالى عليه، وأدّرع الصبر في كل ما يمتحن عباده به، وأعمل الحيلة من الآن في استقراض ما عسى أن يبلغني المحل، ولكن من يقرض أبا فرعون «1» بعد وقوفه بالأبواب مع العصا والجراب؟ وأسأل الله تعالى السلامة ثم أسأل سيدنا أن ينظر واحدة فيما أقول من قبل ان يعضل الداء فلا ينفع الدواء، ويعظم النقب فلا ينجع الهناء، وان يجعل عنوان بره أن لا يرى تعليق هذه الرقعة ضراعة أو رقاعة، فما في شرط الحكمة أن أكتم عنه متربة، وأتضوّر جوعا ومسغبة، ولولا مكاني من خدمته، ومكاني من شفقته، لكان استفاف الملّة أحبّ إليّ من اظهار الخلّة والسلام.
ومن «كتاب مرو» لأبي سعد السمعاني لأبي عامر الفضل بن إسماعيل الجرجاني التميمي يصف الهر:
إنّ لي هرة خضبت شواها ... دون ولدان منزلي بالرقون
ثم قلدتها لخوفي عليها ... ودعات تردّ شرّ العيون
كلّ يوم أعولها قبل أهلي ... بزلال صاف ولحم سمين
وهي تلعابة إذا ما رأتني ... عابس الوجه وارم العرنين
فتغنّي طورا وترقص طورا ... وتلهّى بكلّ ما يلهيني(5/2170)
لا أريد الصلاء ان ضاجعتني ... عند برد الشتاء في كانون
وإذا ما حككتها لحستني ... بلسان كالمبرد المسنون
وإذا ما جفوتها استعطفتني ... بأنين من صوتها ورنين
وإذا ما وترتها كشفت لي ... عن حراب ليست متاع العيون
أملح الخلق حين تلعب بالفا ... ر فتلقيه في العذاب المهين
وإذا مات حسّه أنشرته ... بشمال مكروبة أو يمين
وتصاديه بالغفول فان را ... م انجحارا علته كالشاهين
وإذا ما رجا السلامة منها ... عاجلته ببطشة «1» التنين
وكذاك الأقدار تفترس المر ... ء وتغتاله بقطع الوتين
بينما كان في نشاط وأنس ... إذ سقاه ساق بكاس المنون
ويروى له:
علّقتها بيضاء ظامئة الحشا ... تسبي القلوب بحسنها وبطيبها
مثل الشقائق في احمرار خدودها ... للناظرين وفي اسوداد قلوبها
وله:
وقد يستقيم المرء فيما ينوبه ... كما يستقيم العود في عرك أذنه
ويرجح من فضل الكلام إذا مشى ... كما يرجح الميزان من فضل وزنه
[892]
الفضل بن إبراهيم بن عبد الله الكوفي أبو العباس
النحوي المقرىء: أخذ القراءة عن أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، وقرأ الكسائي على عيسى بن عمر الهمداني عن حمزة الزيات، ولا أعرف من حاله أكثر من هذا، وله اختيار في أحرف يسيرة، وإنما ذكرته لأنه يعرف بالنحوي.
__________
(892) - بغية الوعاة 2: 244 (عن ياقوت) والوافي (خ) وطبقات ابن الجزري 2: 8.(5/2171)
[893]
الفضل بن الحباب بن محمد بن شعيب بن صخر
الجمحي: يكنى أبا خليفة من أهل البصرة.
قال أبو الطيب اللغوي «1» : هو ابن أخت محمد بن سلام الجمحي، من رواة الأخبار والأدب والأشعار والأنساب، مات في شهر ربيع الأول من سنة خمس وثلاثمائة بالبصرة، وكان قد ولي القضاء بالبصرة، وكان أعمى، روى عن خاله كتبه فأكثر وعن غيره، وروى له من الكتب كتاب طبقات شعراء الجاهلية. كتاب الفرسان. وكان شاعرا، فمن شعره ما أنشده محمد بن عمر بن عثمان البغدادي عنه:
قالوا نراك تطيل الصمت قلت لهم ... ما طول صمتي من عيّ ولا خرس
لكنه أحمد الأمرين عاقبة ... عندي وأبعده من منطق شكس
أأنشر البزّ فيمن ليس يعرفه ... أو أنثر الدرّ للعميان في الغلس
قالوا نراك أديبا لست ذا خطل ... فقلت هاتوا أروني وجه مقتبس
لو شئت قلت ولكن لا أرى أحدا ... يروي الكلام فأعطيه مدى النفس
وقد روي من جهة أخرى أن الأبيات لابن دريد، لما نزل سيراف سئل أن يجلس للقراءة عليه فأبى ذلك إذ لم يكن هناك من يساوي أن يجلس له، فكتب هذه الأبيات في قبلة مسجد سيراف وانصرف.
__________
(893) - ترجمة أبي خليفة في أخبار القضاة 2: 182 والفهرست: 126 وأخبار أصبهان 2: 151 وطبقات الزبيدي: 182 وتاريخ أبي المحاسن: 215 وطبقات الحنابلة 1: 249 وإنباه الرواة 3: 5 وتذكرة الحفاظ: 670 وعبر الذهبي 2: 130 وسير الذهبي 14: 7 وميزان الاعتدال 3: 350 والوافي للصفدي (خ) ونكت الهميان: 226 ومرآة الجنان 2: 246 وطبقات ابن الجزري 2: 8 والبداية والنهاية 11: 128 والبلغة: 183 ولسان الميزان 4: 438 وطبقات الحفاظ: 292 وبغية الوعاة 2: 245 والنجوم الزاهرة 3: 193 والشذرات 2: 246 وانظر مقدمة طبقات ابن سلام بتحقيق العلامة الكبير الصديق الأستاذ محمود محمد شاكر.(5/2172)
نقلت من خط أبي سعد السمعاني باسناد له قال: ألقيت رقعة إلى أبي خليفة الفضل بن الحباب القاضي فيها:
قل للحكيم أبي خليفه ... يا زين شيعة ابي حنيفه
إني قصدتك للذي ... كاتمت من حذر وخيفه
ماذا تقول لطفلة ... في الحسن منزلها شريفه
تصبو إلى زين الورى ... من غير ما بأس عفيفه
فقرأ الرقعة ثم كتب على ظهرها:
يا من تكامل ظرفها ... حال الهوى حال شريفه
إن كنت صادقة الذي ... كاتمت من حذر وخيفه
فلك السعادة والشها ... دة والجلالة يا شريفه
هذا النصاح بعينه ... وبه يقول أبو حنيفه
نقلت من خط الامام الحافظ حقا، صديقنا ومفيدنا أبي نصر عبد الرحيم بن النفيس بن وهبان من «كتاب الارشاد في معرفة علماء الحديث» تصنيف الخليل بن عبد الله بن أحمد الحافظ القاضي، أنشدني الصاحب إسماعيل بن عباد الوزير، أنشدني أبي، أنشدني أبو خليفة لنفسه:
شيبان والكبش حدثاني ... شيخان بالله عالمان
قالا إذا كنت فاطميا ... فاصبر على نكبة الزمان
قال: إني سألت أبا خليفة عن الكبش من هو، قال: أبو الوليد الطيالسي، وشيبان هو ابن فرّوخ الأبلّي. قال الخليل، قلت لعبد الله بن محمد: هذا يدل على أن أبا خليفة كان يميل إلى التشيع، فقال: نعم.
قرأت بخط أبي سعد أيضا باسناد له إلى أبي سهل هارون بن أحمد بن هارون الاستراباذي قال: أنشدنا الفضل بن الحباب الجمحي القاضي لنفسه:
ومتعب السّفر مرتاح إلى بلد ... والموت يرصده في ذلك البلد
وضاحك والمنايا فوق هامته ... لو كان يعلم غيبا مات من كمد(5/2173)
آماله فوق ظهر النجم شامخة ... والموت من تحت إطليه على الرصد
من كان لم يعط علما في بقاء غد ... ماذا تفكّره في الرزق بعد غد
قرأت في «كتاب هراة» للفامي قال: روي عن محمد بن إبراهيم بن عبدويه ابن سدوس بن علي أبي عبد الله المسندي أنه قال: كنا عند أبي خليفة القاضي بالبصرة فدخل عليه اللص داره، فصاح ابنه باللص، فخرج أبو خليفة إلى صحن الدار فقال: أيها اللص مالك ولنا؟ إن أردت المال فعليك بفلان وفلان، إنما عندنا قمطران: قمطر فيه أحاديث وقمطر فيه أخبار، إن أردت الحديث حدثناك عن أبي الوليد الطيالسي وأبي عمر الجوصي وابن كثير وهو محمد، وإن أردت الأخبار أخبرناك عن الرياشي عن الأصمعي ومحمد بن سلام، فصاح ابنه: إنما كان كلبا، فقال:
الحمد لله الذي مسخه كلبا وردّ عنا حربا.
وذكر التنوخي هذه الحكاية وقال في آخرها: فقال له غلامه: يا مولاي ليس إلا الخير إنما هو سنور، فقال أبو خليفة: الحمد لله الذي مسخه هرّا وكفانا شرّا.
قال المؤلف: ومثل هذه الحكاية تحكى عن أبي حية النميري، مشهورة عنه، وقال في آخرها: الحمد لله الذي مسخه كلبا وردنا حربا «1» .
وقرأت في كتاب أبي عليّ التنوخي «2» حدثني أبي رضي الله عنه أن صديقا لأبي خليفة القاضي اجتاز عليه راكبا وهو في مسجده فسأله أن ينزل عنده فيحادثه، فقال:
أمضي وأعود، فقال له أبو خليفة: إيحاشك فقد وإيناسك وعد.
قال «3» : وكان أبو خليفة كثير الاستعمال للسجع في كلامه. وكان بالبصرة رجل يتحامق ويتشبّه به يعرف بأبي الرطل، لا يتكلم إلا بالسجع هزلا كله، فقدمت هذا الرجل امرأته إلى أبي خليفة وهو يلي قضاء البصرة إذ ذاك، وادعت عليه الزوجية والطلاق، فأقر لها بهما، فقال له أبو خليفة: أعطها مهرها، فقال أبو الرطل: كيف أعطيها مهرها، ولم تقلع مسحاتي نهرها؟! فقال له أبو خليفة: فأعطها نصف(5/2174)
صداقها، فقال: لا أو أرفع بساقها، واضعه في طاقها. فأمر به أبو خليفة فصفع.
قال: وأخبرني غير واحد أن أبا الرطل هذا كان إذا سمع رجلا يقول لا تنكر لله قدرة قال هو: ولا للهندبا خضرة، ولا للزردج «1» صفرة، ولا للنخلة بسرة، ولا للعصفر حمرة، ولا للقفا نقرة.
حدث أبو علي التنوخي «2» ، حدثني أبو علي الحسن بن سهل بن عبد الله الايذجي، وكان يخلف أبي على القضاء بايذج وعلى رامهرمز ثم لم يزل على الحكم ونادم أبا محمد المهلبي في وزارته فغلب عليه وعلا محله عنده، وتخالع وتهتك فيما لا يجوز للقضاة، وكان يدعى بالقضاء ويخاطبه أبو محمد في الوزارة في كتبه بسيدي القاضي، وكان له محل مكين من الأدب، قال: وردت البصرة وأنا حديث السن لأكتب العلم وأتأدب، فلزمني أبو عبد الله المفجع «3» ، وكنت أقتصر عليه، فكتب إليّ يوما وقد قرص الهواء:
أيهذا الفتى وأنت فتى ال ... دهر إذا عزّ أن يقال فتى
طوبى لمن كان في الشتاء له ... كاس وكيس وكسوة وكسا
وكتب في الرقعة: وقد بقيت كاف أخرى لولا أني أحبّ تقليل المؤونة عليك لذكرتها- يعنى الكس- فبعث إليه بجميع ما التمسه.
قال التنوخي «4» : وحدثني قال: كان أبو خليفة القاضي صديقا لأبي وعمي أيام وفد إلى كور الأهواز في فتنة الزنج، فلما قدمت إلى البصرة قدمتها مع أبي، فأنزلنا أبو خليفة داره وأكرمنا، وأمكنني من كتبه، فكنت أقرأ عليه كلّ ما أريد وأسمع كيف شئت وأكتب وأنسخ لنفسي، وأصوله لي مبذولة، فإذا كان الليل جلسنا وتحادثنا فربما أحببت القراءة عليه فيجيبني، فإذا أضجرته يقول: يا بني روّحني، فأقطع القراءة، وإذا استراح أخرج من كمه دفترا من ورق أصفر فيقول: اقرأ عليّ منه فإنه خطي، وما(5/2175)
تقرأه عليّ فهو من خط غيري، فكنت أقرأ عليه منه، وكان فيه ديوان عمران بن حطان. فكان يبكي على مواضع منه، فأنشدته ليلة القصيدة التي فيها البيتان المشهوران «1» :
يا ضربة من تقيّ ما أراد بها ... إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبه ... أوفى البرية عند الله ميزانا
فبكى عليهما لما انتهيت إليهما حتى كاد يعمى، فاستطرفت ذلك وعجبت منه، فلما كان من الغد اجتمعت مع المفجّع فحدثته بذلك، واغتررت به للأدب واستكتمته إياه، فأشاعه وأذاعه وعمل:
أبو خليفة مطويّ على دخن ... للهاشميين في سرّ وإعلان
ما زلت أعرف ما يخفي وأنكره ... حتى اصطفى شعر عمران بن حطان
وأنشدنيها لنفسه وأنشدها غيري، فكتبها عنه بعض أهل الأدب في رقعة لطيفة وجعلها في مقلمته، وحضرنا عند أبي خليفة في مجلس عام، فنفض الرجل مقلمته وقد أنسي ما فيها فسقطت الرقعة، وانصرف الناس، ووجدها أبو خليفة وقرأها فاستشاط وقال: ابن الايذجي قبحه الله وترّحه أشاط بدمي، عليّ بأبي العباس الساعة، يعني والدي، فجاءه وحدثه الحديث، فوقعت في ورطة وكادت الحال أن تنفرج بيني وبين أبي، ومنعني أبو خليفة القراءة واحتشمني، فحملت إليه ثيابا لها قدر وأهديت إليه من مأكل الجند واعتذرت إليه فرجع إليّ وقبل عذري وعاود تدريسي ومكنني من القراءة عليه، فقرأت «كتاب الطبقات» وغيره مما كان عنده، وقال: لا أظهر الرضى عنك أو تكذب نفسك، ففعلت ذلك، وأعطيت المفجع ثوبا دبيقيا حتى كفّ عن إنشاد الأبيات، وجحدها واعتذر إلى أبي خليفة.
قال وقال أبي على عقيب هذا «2» : أكثر رواة العرب فيما بلغني عنهم إما خوارج وإما شعوبية، كأبي عبيدة معمر بن المثنى وأبي حاتم سهل السجستاني وفلان وفلان وعدد جماعة.(5/2176)
وقرأت بخطّ ابن مختار اللغوي المصري: أبو خليفة الفضل بن الحباب اشترى جارية فوجدها خشنة فقال: يا جارية هل من بزاق أو بصاق أو بساق- العرب تنقل السين صادا أو زايا فتقول أبو الصقر والزقر والسقر- فقالت: الحمد لله الذي ما أماتني حتى رأيت حري قد صار ابن الأعرابيّ تقرأ عليه غرائب اللغة «1» .
[894]
الفضل بن خالد أبو معاذ النحوي المروزي
مولى باهلة: روى عن عبد الله بن المبارك وعبيد بن سليم روى عنه محمد بن علي بن الحسن بن شقيق وأهل بلده، مات سنة إحدى عشرة ومائتين، ذكر ذلك الحاكم بن البيع في «تاريخ نيسابور» . قال الأزهري: ولأبي معاذ كتاب في القرآن حسن.
قلت: وقد روى عنه الأزهري في «كتاب التهذيب» فأكثر، وذكره محمد بن حبّان في «تاريخ الثقات» في الطبقة الرابعة بمثل ذلك سواء، ولعلّ الحاكم عنه نقل.
[895]
الفضل بن صالح العلوي الحسني النحوي أبو المعالي اليماني:
مات في سنة نيف وثمانين وأربعمائة قاله عبد الغافر، قال: وحضر نيسابور وسمع الحديث من مشايخنا الذين رأيناهم، ولا شك أنه سمع في أسفاره الكثير «2» .
__________
(894) - ترجمته في التهذيب للأزهري 1: 25 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 245.
(895) - ترجمته في الوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 246؛ والمؤلف ينقل عن السياق، انظر المنتخب (الثاني) الورقة: 122، ونسبته عند الصفدي «اليمامي» .(5/2177)
[896]
الفضل بن عمر بن منصور بن علي
أبو منصور: يعرف بابن الرائض الكاتب، من أهل باب الأزج، كان حافظا لكتاب الله، قرأ بالعشر على عليّ بن عساكر البطائحي، وخطه غاية في الجودة على طريقة ابن هلال بن البواب، ولذلك أوردناه في هذا الكتاب. بلغني أن مولده في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ومات في جمادى الآخرة سنة تسع وستمائة.
[897]
الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي:
يكنى أبا العباس، وقد ذكرنا نسبه ونسب أهله والسبب الذي لأجله سموا اليزيديين في باب جده أبي محمد يحيى بن المبارك. وكان الفضل أحد الرواة العلماء والنحاة النبلاء، أخذ عنه العلم الكثير ورواه من جهة الجم الغفير، ومات فيما ذكره ابن النديم سنة ثمان وسبعين ومائتين.
حدث المرزباني عن الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي قال قال إبراهيم بن المدبر: اجتمع عندي يوما الفضل اليزيدي والبحتري وأبو العيناء، فجلس الفضل يلقي على بعض فتياننا نحوا، فقال له أبو العيناء: هذا بابي وباب الوالدة حفظها الله «1» ، فغضب الفضل وانصرف. وخرج البحتري إلى سامرا من بغداد وكتب إليّ شعرا أوله «2» :
ذكرتنيك روحة للشمول
وهجا فيها الفضل فقال:
جلّ ما عنده التردد «3» في الفا ... عل من والديه والمفعول
__________
(896) - ترجمة ابن الرائض في الوافي للصفدي (خ) وتاريخ الذهبي (601- 610) ص: 306- 307.
(897) - ترجمة الفضل اليزيدي في الفهرست: 56 (وانظر ص: 158 أيضا) ومعجم المرزباني: 186 وطبقات الزبيدي: 86 وإنباه الرواة 3: 7 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 246.(5/2178)
قال إبراهيم: فأمرت أن يكتب جواب الكتاب ويوجه إليه بمائة دينار، ودخل أبو العيناء فأقرأته الشعر فقال: أعطني نصف المائة فانه هجاه والله بكلامي فأخذ خمسين، ووجهت إلى البحتري بخمسين وعرّفته الخبر، فكتب إليّ، صدق والله ما بنيت أبياتي إلا على معناه.
وحدث المرزباني في «كتاب المعجم» قال: كتب الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي إلى أبي صالح ابن يزداد، وكان يداعبه وجرت بينهما جفوة:
استحي من نفسك في هجري ... واعرف بنفسي أنت لي قدري
واذكر دخولي لك في كلّ ما ... يجمل أو يقبح من أمر
قد مرّ شهران ولم ألقكم ... لا صبر لي أكثر من شهر
وحدث ابن ناقيا في «كتاب ملح الممالحة» قال، قال الفضل بن محمد اليزيدي: كان محمد بن نصر بن منصور بن بسام الكاتب أسرى منزلا وآلة وطعاما وعبيدا، وكان ناقص الأدب، وكنت أختلف إلى ولده وولد عبد الله بن إسحاق بن إبراهيم ليقرءوا عليّ الأشعار، وكان عبد الله بن إسحاق سريا جاهلا، فدخلت يوما والستارة مضروبة ومحمد بن بسام وعبد الله بن إسحاق يشربان وأولادهما بين أيديهما وكانوا قد تأدبوا وفهموا، فغنّي بشعر جرير:
ألا حيّ الديار بسعد إني ... أحبّ لحبّ فاطمة الديارا
فقال عبد الله بن إسحاق: لولا جهل العرب ما كان ذكر لسعد هاهنا، فقال محمد بن بسام: لا تفعل يا أخي فانه يقوّي معدتهم ويصلح أسنانهم. قال الفضل اليزيدي فقال لي علي بن محمد بن نصر: بالله يا أستاذ اصفعهما وابدأ بأبي.
قال المؤلف: أراد بسعد هاهنا اسم موضع معروف.
وكتب الحمدوني إلى الفضل:
يا أبا العباس إنا ... في نعيم وسرور
ولدينا أسعد الأمّ ... ة في كلّ الأمور
ما لنا عيب سوى بع ... دك فامنن بحضور
فأجابه: سمعنا وأطعنا.(5/2179)
[898]
الفضل بن محمد بن علي بن الفضل القصباني،
أبو القاسم النحوي البصري: كان واسع العلم غزير الفضل اماما في علم العربية، وإليه كانت الرحلة في زمانه، وكان مقيما بالبصرة، مات في سنة أربع وأربعين وأربعمائة في أيام القائم، وأخذ عنه أبو زكرياء يحيى بن التبريزي وأبو محمد الحريري. وله تصانيف: منها كتاب في النحو. وكتاب في حواشي الصحاح. وكتاب الأمالي. وكتاب في أشعار العرب ومختارها كبير وسمه بالصفوة.
قال القاسم بن محمد بن الحريري صاحب المقامات: أنشدنا شيخنا أبو القاسم القصباني النحوي لنفسه:
في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مسّ باضرار
كالعود لا يطمع في ريحه ... إلا إذا أحرق بالنار
__________
(898) - ترجمته في إنباه الرواة 3: 9 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 246 والبلغة: 184.(5/2180)
حرف القاف
[899]
قابوس بن وشمكير بن زيار الديلمي
الملقب بشمس المعالي: من الملوك، وكان صاحب جرجان وطبرستان، وكان أبوه وشمكير وعمه مرداويج ملوك الري واصبهان وتلك النواحي، لأن أول من ملك من الديلم ليلى بن النعمان فاستولى على نيسابور في أيام نصر بن أحمد الساماني، وقام بعده أسفار بن شيرويه، وكان مرداويج بن زيار أحد قواده، فخرج عليه فحاربه فظفر به مرداويج فقتله وملك مكانه، وعمل لنفسه سريرا من ذهب فجلس عليه، واشترى عبيدا كثيرة من الأتراك، وجعل يقول: أنا سليمان وهؤلاء الشياطين، وكان فيه ظلم وجبروت فدخل عليه غلمانه الأتراك فقتلوه في الحمام. وكان بنو بويه من أتباعه فولاهم ولاية استظهروا بها عليه وحاربوه حتى ملكوا.
وأما هو فلما مات ولّت الديلم عليهم أخاه وشمكير، فاستولى على جرجان وطبرستان، ودامت الحرب بينه وبين ركن الدولة أبي علي ابن بويه نيفا وعشرين سنة، وركب في آخر أيامه فرسا له فعارضه خنزير فشبّ به الفرس وهو غافل عنه فسقط على دماغه فهلك. وكتب ابن العميد عن ركن الدولة كتابا يقول فيه: الحمد لله الذي أغنانا بالوحوش، عن الجيوش.
__________
(899) - ترجمة قابوس وأخباره في كتب التاريخ مثل ذيل تجارب الأمم وابن الأثير والعتبي وابن العبري وانظر المنتظم 7: 264 وابن خلكان 4: 79 ويتيمة الدهر 4: 59 والنجوم الزاهرة 4: 233 والوافي للصفدي (خ) . وانظر الحكاية رقم: 13 في الباب 44 ورقم 16 في الباب العشرين ورقم 38 في الباب الثاني والأربعين من كتاب قابوسنامه تأليف حفيده عنصر المعالي بن إسكندر بن قابوس.(5/2181)
وقام بعده ابنه أبو منصور بهستون بن وشمكير مقامه وتوفي سنة سبع وستين وثلاثمائة، وكان عضد الدولة أبو شجاع فناخسرو بن ركن الدولة أبي علي زوج ابنة بهستون، فنفذ معزّ الدولة إلى المطيع وسأله أن ينفذ إليه الخلع والعهد على جرجان وطبرستان ففعل ذلك ولقبه ظهير الدولة، ووصله ما نفذ إليه في جمادى الأولى سنة ستين وثلاثمائة، فزين بلاده للرسول ونزل عن سريره عند وصول الخلع إليه ونثر عليه النثار العظيم، ونفذ للمطيع لله في جواب اللقب ستين ألف دينار عينا وغير ذلك من الثياب والخيل.
ولما توفي خلف أخوه قابوس بن وشمكير، ونفذ إليه الطائع لله الخلع والعهد على طبرستان وجرجان، ولقبه شمس المعالي، وكان فاضلا أديبا مترسلا شاعرا ظريفا، وله رسائل بأيدي الناس يتداولونها، وكان بينه وبين الصاحب ابن عباد مكاتبة. مات سنة ثلاث وأربعمائة، وكان فيه عسف وشدة، فسئمه عسكره فتغيروا عليه وحسّنوا لابنه منوجهر حتى قبض على أبيه، وقالوا له: إن لم تقبض أنت عليه وإلا قتلناه، وإذا قتلناه فلا نأمنك على نفوسنا فنحتاج أن نلحقك به، فوثب عليه وقبض عليه وسجنه في القلعة ومنعه ما يتدثر به في شدة البرد، فجعل يصيح: أعطوني ولو جلّ دابة، حتى هلك، وكان حكم على نفسه في النجوم أن منيته على يد ولده، فأبعد ابنه دارا لما كان يراه من عقوقه، وقرّب ابنه منوجهر لما رأى من طاعته، وكانت منيته بسببه، ثم إن منوجهر قتل قتلته وكانوا ستة تواطأوا عليه، فقتل خمسة وهرب السادس إلى خراسان، فقبضه محمود بن سبكتكين وحمله إليه وقال له: إنما فعلت هذا لئلا يتجرأ أحد على قتل الملوك، فقتل الآخر.
ثم مات منوجهر سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة فقام ابنه انوشروان بن منوجهر مقامه، وتوفي انوشروان سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.
ثم ولي ابنه حسان بن أنوشروان.
ومن شعر قابوس بن وشمكير «1» :(5/2182)
خطرات ذكرك تستثير صبابتي «1» ... فأحسّ منها في الفؤاد دبيبا
لا عضو لي إلا وفيه صبابتي ... فكأنّ أعضائي خلقن قلوبا
ومن رسائله ما كتب به إلى بعض إخوانه: كتبت، أطال الله بقاء مولاي، وما في جسمي جارحة إلا وهي تودّ لو كانت يدا تكاتبه، ولسانا يخاطبه، وعينا تراقبه، وقريحة تعاتبه، بنفس ولهى، وبصيرة ورهى، وعين عبرى، وكبد حرّى، منازعة إلى ما يقرّب منه، وتمسكا بما يتصل عنه، ومثابرة على أمل هو غايته، وتعلقا بحبل عهد هو نهايته، وخاطري يميل نحوه، ونفسي تأمل دنوّه، وترجو وتقول أتراه، بل لعله وعساه، يرقّ لنفس قد تصاعد نفسها، ويرحم روحا قد فارقها روحها ومؤنسها، وكيف بقلبه لو عاين صورة هذه صورتها، وشاهد مهجة هذه جملتها، فليرفق جعلت فداه بمن عاند برحا عظيما، وكابد قرحا أليما، وليرقّ لكبد قذفها البعاد، وعين أرّقها السهاد، وأحشاء محرقة بنار الفراق، وأجفان مقروحة بدمعها المهراق، وقلب في أوصابه متقلّب، ولب في عذابه معذّب، فلو أني أسعدت فأعطيت الرضى، وخيرت فاخترت المنى، لتمنيت أن أتصوّر صورتك، وأطالع طلعتك، وأمثّل لها مثالي لتراه، فأخبرها بكنه حالي ومعناه، لترفق لازالة ما أزلّه الدهر إليّ، ولتتلطف لإماطة ما أماطه عليّ، وأشكو بعض ما نابني من نوائبه وغوائله، وأطلقني من أشراكه وحبائله.
وكان قد تمت عليه نكبة أخرجته من مقرّ عزه وموطن ملكه، فشتتته عن الأوطان وألحقته بخراسان، فأقام بها برهة من الزمان إلى أن أسفر صبحه، وفاز بعد الخيبة قدحه، وتحرج الزمان من جوره عليه، فردّ ملكه إليه، فقال في حال نكبته «2» :
قل للذي بصروف الدهر عيّرنا ... هل عاند الدهر إلا من له خطر
أما ترى البحر يطفو فوقه جيف ... ويستقرّ بأقصى قعره الدرر
فان تكن عبثت «3» أيدي الزمان بنا ... ونالنا من تأذي بؤسه ضرر(5/2183)
ففي السماء نجوم غير ذي عدد ... وليس يكسف إلا الشمس والقمر
أما البيت الثاني فأخذه من قول ابن الرومي «1» :
دهر علا قدر الوضيع به ... وغدا الشريف يحطّه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ... سفلا ويعلو فوقه جيفه
وقوله «وفي السماء نجوم» مأخوذ من قول أبي تمام «2» :
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت ... عيدان نخل «3» ولا يعبأن بالرتم
بنات نعش ونعش لا كسوف لها ... والشمس والبدر منها الدهر في الرقم «4»
وكتب شمس المعالي قابوس إلى عضد الدولة وقد أهدى له سبعة أقلام:
قد بعثنا إليك سبعة أقلا ... م لها في البهاء حظّ عظيم
مرهفات كأنها ألسن الحي ... ات قد جاز حدّها التقويم
وتفاءلت أن ستحوي الأقال ... يم بها كلّ واحد إقليم
وهذا يشبه قول ابن الصابىء وقد ذكر في بابه.
قال مؤلف الكتاب: وكنت في سنة سبع وستمائة قد توجهت إلى الشام وفي صحبتي كتب من كتب العلم أتجر فيها، وكان في جملتها «كتاب صور الأقاليم» للبلخي- نسخة رائقة مليحة الخط والتصوير، فقلت في نفسي: لو كانت هذه النسخة لمن يجتدي بها بعض الملوك ويكتب معها هذه الأبيات (وقلتها ارتجالا) لكان حسنا، والأبيات في معنى أبيات قابوس، ولم أكن شهد الله وقعت عليها ولا سمعتها، وهي:
ولما رأيت الدهر جار ولم أجد ... من الناس من يعدي على الدهر عدواكا
ركبت الفلا يحدو بي الأمل الذي ... يدنّي على بعد التنائف مثواكا(5/2184)
ورمت بأن أهدي إليك هدية ... فلم أر ما يهديه مثلي لشرواكا
فجئتك بالأرضين جمعا تفاؤلا ... لعلمي بأنّ الفال رائد عقباكا
فخذ هذه واستخدم الفلك الذي ... براه إلهي كي يدور ببغياكا
ثم إنني بعت النسخة من الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب صاحب حلب بتخيير المشتري من غير مكسب، وجرت لي فيها قصة طريفة أنزّه هذا السلطان عن ذكرها، فانه وإن كان الحظّ حرمني فانه جواد عند غيري.
وكان السبب في خروج قابوس عن دار ملكه ولحوقه بخراسان أنّ عضد الدولة أبا شجاع فنّا خسرو نقم على أخيه فخر الدولة أبي الحسن علي بن الحسن بن بويه أمرا خالفه فيه فخر الدولة، فقصده عضد الدولة إلى همذان، وكان مالكها وما والاها، فهرب منه حتى لحق بجبال طبرستان، فتلقاه قابوس وأكرم مثواه وأنزله عنده وآواه، فأنفذ عضد الدولة إلى أخيه الآخر الملقب بأمير الأمراء مؤيد الدولة [بالمسير] نحوهما، فانحازا عنه، وذلك سنة احدى وسبعين، وبعثا إلى أبي الحسن محمد بن إبراهيم بن سيمجور، وكان يتولى إمارة نيسابور وما دون جيحون من قبل السديد أبي صالح منصور بن نوح الساماني، يستجديانه ويستعينانه، فوعدهما وأبطأ عليهما لانحلال الأحوال بخراسان لاختلاف الأيدي بها، فسارا هاربين حتى وردا نيسابور ومنها إلى بخارى، فأرسل صاحب بخارى معهما جيشا صحبة تاش الحاجب وولّاه نيسابور، فلم يصنع معهما شيئا، وقال قابوس في تلك الحال:
لئن زال أملاكي وفات ذخائري ... وأصبح جمعي في ضمان التفرق
فقد بقيت لي همة ما وراءها ... منال لراج أو بلوغ لمرتقي
ولي نفس حرّ تأنف الضيم مركبا ... وتكره ورد المنهل المترنق «1»
فان تلفت نفسي فلله درّها ... وإن بلغت ما ترتجيه فأخلق
ومن لم يردني والمسالك جمة ... فأيّ طريق شاء فليتطرق(5/2185)
وله:
بالله لا تنهضي يا دولة السّفل ... وقصّري فضل ما أرخيت من طول
أسرفت فاقتصدي جاوزت فانصرفي ... عن التهوّر ثم امشي على مهل
مخدّمون ولم تخدم أوائلهم ... مخوّلون وكانوا أرذل الخول
فأما أبو الحسن علي بن بويه فإنه لما مات أخوه في سنة ثلاث وسبعين استدعاه ابن عباد وأقامه مقام أخيه، وأما قابوس فإنه لما تطاولت مدته ولم ير عند السامانية ناصرا قصد أطراف بلاده، فتجمعت إليه الجيوش وعاد إلى بلاده وقاتل المستولي عليها حتى عاد إلى سرير ملكه بعد ثماني عشرة سنة.
وذكر أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني في رسالة له سماها «التعلل بإجالة الوهم في معاني منظوم أولي الفضل» «1» قال: وكنت أستحسن من شمس المعالي قابوس إعراضه عن إنشاد مدائحه في وجهه وبين يديه، وكان يطلق للشعراء المجتمعين على بابه في النيروز والمهرجان مقدارا من البرّ، ويرسم لأبي الليث الطبري توزيعه عليهم بحسب رتبهم، فإنهم قوم مستميحون بما يتفاضلون فيه، لكني لا أستجيز سماع أكاذيبهم التي أعرف من نفسي خلافها وأتحرز بذلك من الاستغبان.
ولقابوس فصل يعزّي: حشو هذا الدهر- أطال الله بقاء مولاي- أحزان وهموم، وصفوه من غير كدر معدوم، فما أولاه- أيده الله- بأن يتأمل أحواله، ويستشفّ ضروبه وأحكامه، فإن وجد أحدا سلم من وجد أو عري من فقد لقي خلاف المعهود، وحقّ له التأسي على المفقود، وإن علم أن الخلق فيه شرع، وأن الباقي للماضي تبع، قدّم من السلوة والصبر، ما لا بدّ من المصير إليه آخر الأمر، ليحصل له الثواب والأجر، والسلام.
قال أبو حيان، قال لي البديهي: مدحت وشمكير بمدائح فاحت رياها شرقا وغربا وبعدا وقربا، فما أثابني عليها إلا بشيء يسير، وقصده بعض الأغتام من الجبال(5/2186)
فمدحه بقصيدة ركيكة غير موزونة تعلّقها بالهجاء أكثر من تعلقها بالمديح، فأعطاه ما أغناه وأعقابه بعده، فشكوت الى ابن ساسان ذلك فقال لي: إفراط العلم مضرّ بالجد، والجدّ والعلم قلما يجتمعان، والكدّ للعلم والجد للجهل، وأنشأ يقول:
إن المقادير إذا ساعدت ... ألحقت العاجز بالحازم
وللصاحب يهجو قابوس:
قد قبس القابسات قابوس ... ونجمه في السماء منحوس
وكيف يرجى الفلاح من رجل ... يكون في آخر اسمه بوس
فأجابه قابوس:
من رام أن يهجو أبا قاسم ... فقد هجا كلّ بني آدم
لأنه صوّر من مضغة ... تجمعت من نطف العالم
قال أبو سعد الآبي في «تاريخه» : في شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وأربعمائة كانت الأخبار تواترت بموت قابوس بن وشمكير، ثم ورد الخبر بأنه لم يمت ولكنه نكب وأزيل عن الملك، وذلك أنه كان قد أسرف في القتل وتجاوز الحد في سفك الدماء، ولم يكن يعرف حدّا في التأديب وإقامة السياسة غير ضرب الأعناق وإماتة الأنفس، وكان يأتي ذلك في الأقرب فالأقرب والأخصّ فالأخص من الجند والحاشية، حتى أفنى جميعهم وأتى على جلهم، وأذل الخيل وأصناف العسكر للرعية وجرأهم عليهم، ولم يتظلّم أحد من أهل البلد من واحد من أكابر عسكره إلا قتله وأتى على نفسه من غير أن يتفحص عن الشكوى أصحيحة أم باطلة، فتبرم به عسكره وحاشيته وخافوا سطوته ولم يأمنوا ناحيته، فمشى بعضهم إلى بعض وتمالأوا عليه وتعاهدوا وتحالفوا، وخفي الأمر لأنه كان خرج إلى حصن بناه وسماه شمراباذ، وعزم القوم أن يتسلقوا عليه ويغتالوه، وقد واطأهم على الأمر جميع من كان معه في الحصن، فتعذّر عليهم الصعود إليه والهجوم عليه، وعلموا أنهم لو قد أصبحوا وقد عرف الخبر لم ينج منهم أحد، فنعوه إلى الناس وذكروا أنه قد قضى نحبه، فانتهبت اصطبلاته وسيقت دوابه وبغاله، ولم يقدر هو على مفارقة الموضع لا عواز الظهور التي تحمل وتنقل عليها(5/2187)
خزائنه، وكان عنده وزيره أبو العباس الغانمي، فاتهمه بممالأة القوم فأوقع به وقتله.
وخاطب العسكر من ذلك الموضع ومن جرجان منوجهر، وكان إذ ذاك مقيما بطبرستان، فاستدعوه وكتبوا إليه بالحضور وأنه متى تأخر قدّموا غيره، فبادر إليهم فقلدوه الأمر، وبلغ ذلك قابوس وقد تفرق عنه من غدر به، فجمع أمراء الرستاق وفارق المكان، وصحبه طائفة من العرب وغيرهم من الجند، وخرج إلى بسطام مع خزائنه وأسبابه، وتبعه منوجهر ابنه مع العسكر فحصره، وامتنع هو عليه، ثم أمكن من نفسه عند الضرورة، فقبض عليه وحمل الى بعض القلاع. وتقرر أمر ابنه منوجهر ولقّب بفلك المعالي، وكان أبوه يلقب شمس المعالي، ثم ورد الخبر في جمادى الآخرة بصحة موت قابوس، وأقام التعزية في ممالكه عنه، وكان موته في مجلسه بقلعة جناشك. وذكر أنه اغتيل وحمل تابوته إلى جرجان ودفن في مشهد عظيم كان بناه لنفسه وأنفق عليه الأموال العظيمة وبالغ في تحصينه وتحسينه.
[900]
القاسم بن أحمد بن الموفق أبو محمد الأندلسي اللورقي:
يلقب علم الدين، مولده فيما أخبرني عن نفسه في حدود سنة إحدى وستين وخمسمائة، وهو إمام في العربية وعالم بالقرآن والقراءة، اشتغل بالأندلس في صباه، وأتعب نفسه حتى بلغ من العلم مناه، فصار عينا للزمان ينظر به إلى حقائق الفضائل، فما من علم إلا وقد أخذ منه بأوفر نصيب وحصل منه على أعلى ذروة، وكنت لقيته بمحروسة حلب في سنة ثماني عشرة وستمائة ففزت من لقائه بالأمنية، واقتضبت من فوائده كلّ فضيلة شهية، وحدثني أنه قرأ القرآن بمرسية من بلاد الأندلس على الشيخ أبي عبد الله
__________
(900) - ترجم له الصفدي في الوافي 2: 102 باسم محمد بن أحمد بن الموفق بن جعفر، وكنيته أبو القاسم، وأحال على هذه الترجمة في باب «القاسم بن أحمد» وهو باسم القاسم في بغية الوعاة 2: 250 وفي طبقات ابن الجزري 2: 15. (ويذكر الصفدي أنه توفي سنة احدى وستين وستمائة ودفن بمقابر باب توما بدمشق) وله أيضا ترجمة في ذيل الروضتين: 227 وكرر المقري ترجمته في النفح 2: 50، 137 (وفي الموضع الثاني نسب خطأ المريني وهو المرسي) وعقد الجمان (648- 666) ص:
368 والبداية والنهاية 13: 241.(5/2188)
محمد بن سعيد بن محمد المرادي المرسي وعلى أبي الحسن علي بن يوسف بن الشريك الداني بمرسية، وببلنسية على أبي عبد الله محمد بن أيوب بن محمد بن نوح الغافقي الفقيه وعلى الشيخ المقرىء أبي العباس أحمد بن علي بن محمد بن عون الله الأندلسي، وقرأ النحو على أبي الحسن علي بن الشريك المذكور وابن نوح المذكور.
ثم خرج الى مصر في سنة إحدى وستمائة، فقرأ بها القرآن على الشيخ أبي الجود غياث بن فارس بن مكي اللخمي، وبدمشق على الشيخ الامام تاج الدين أبي اليمن الكندي- قرأ عليه القرآن جميعه بكتاب «المهج» تصنيف أبي محمد المقرىء وكتاب سيبويه وكثيرا من كتب الأدب، وسمع منه أكثر سماعاته ك «تاريخ الخطيب» «والحجة» و «أدب الكاتب» وغير ذلك، وكان وروده إلى دمشق سنة ثلاث وستمائة، وببغداد على الشيخ أبي البقاء الحسين بن عبد الله العكبراوي، وسمع الحديث على جماعة منهم.
وأما معرفته بالفقه والأصول وعلوم الأوائل كالمنطق وغيره فهو الغاية فيه.
وله من التصانيف: كتاب شرح المفصل في عشر مجلدات. وكتاب في شرح قصيدة الشاطبي. وكتاب شرح مقدمة الجزولي مجلدان.
وأنشدني قال أنشدني تاج الدين أبو اليمن لنفسه رحمه الله:
تركت قيامي للصديق يزورني ... ولا عذر لي إلا الاطالة في عمري
ولو بلغوا من عشر تسعين نصفها ... تبيّن في تركي القيام لهم عذري
[901]
القاسم بن إسماعيل أبو ذكوان الرواية:
قال محمد بن إسحاق النديم: قال أبو سعيد يعني السيرافي: وقد كان في أيام المبرد جماعة نظروا في «كتاب سيبويه» ولم تكن لهم نباهته منهم أبو ذكوان القاسم بن إسماعيل. ولأبي ذكوان كتاب معاني
__________
(901) - ترجمة أبي ذكوان الرواية في أخبار النحويين البصريين: 80 والفهرست: 65 وإنباه الرواة 3: 10 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 251 وعنون الزبيدي له ترجمة (ص 183) ولم يترجم له.(5/2189)
الشعر رواه عنه ابن درستويه، ووقع أبو ذكوان إلى سيراف «1» أيام الزنج، وكان علامة أخباريا قد لقي جماعة من أهل العلم، وكان التوزي زوج أم أبي ذكوان.
[902]
قاسم بن أصبغ بن محمد بن يوسف بن ناصح
بن عطاء البياني أبو محمد، مولى الوليد بن عبد الملك: إمام من أئمة العلم حافظ مكثر مصنف، كان أصله من بيانه وسكن قرطبة وبها مات سنة أربعين وثلاثمائة عن سن عالية، ويقال إنه لم يسمع منه شيء قبل موته بسنتين.
ذكره الحميدي فقال: سمع محمد بن وضاح ومحمد بن عبد السلام الخشني وجماعة، ورحل فسمع إسماعيل بن إسحاق القاضي وأبا اسماعيل محمد بن إسماعيل الترمذي والحارث بن أبي أسامة وأبا قلابة الرقاشي وعبد الله بن مسلم بن قتيبة وأحمد بن زهير بن حرب وأبا بكر ابن أبي الدنيا وذكر جماعة ثم قال: وغيرهم.
وصنف كتبا منها: كتاب الحمر «2» ، وكتاب في أحكام القرآن على أبواب كتاب إسماعيل بن إسحاق القاضي. وكتاب المجتبى على أبواب كتاب ابن الجارود المنتقى- قال أبو محمد علي بن أحمد «3» : وهو خير منه انتقاء وأنقى حديثا وأعلى سندا وأكثر فائدة. وله كتاب في فضائل قريش. وكتاب في الناسخ والمنسوخ.
وكتاب في غرائب حديث مالك بن أنس مما ليس في الموطأ. وكتاب في الأنساب في
__________
(902) - ترجمة قاسم بن أصبغ في ابن الفرضي 1: 406 وجذوة المقتبس: 311 وبغية الملتمس رقم: 1298 وترتيب المدارك 5: 180 وتذكرة الحفاظ: 853 وعبر الذهبي 2: 254 وسير الذهبي 15: 472 ومرآة الجنان 2: 333 والديباج المذهب 2: 145 والوافي للصفدي (خ) ولسان الميزان 4: 458 وطبقات الحفاظ: 352 وبغية الوعاة 2: 251 والشذرات 2: 357.(5/2190)
غاية الحسن والايعاب. وكان من الثقة والجلالة بحيث اشتهر أمره وانتشر ذكره وروى عنه جماعة من أهل بلده وغيرهم.
[903]
قاسم بن ثابت السرقسطي:
ذكره الحميدي فقال: هو مؤلف كتاب غريب الحديث «1» رواه عنه ابنه ثابت وله فيه زيادات وهو كتاب حسن مشهور، وذكره أبو محمد علي بن أحمد وأثنى عليه وقال: ما شآه أبو عبيد إلا بتقدم العصر.
[904]
القاسم بن الحسين بن محمد أبو محمد الخوارزمي:
صدر الأفاضل حقا، وواحد الدهر في علم العربية صدقا، ذو الخاطر الوقاد، والطبع النقاد، والقريحة الحاذقة، والنحيزة الصادقة. برع في علم الأدب، وفاق في نظم الشعر ونثر الخطب، فهو إنسان عين الزمان، وغرة جبهة هذا الأوان.
سألته عن مولده فقال: مولدي في الليلة التاسعة من شعبان سنة خمس وخمسين وخمسمائة، وحضرت في منزله بخوارزم فرأيت منه صدرا يملأ الصدر ذا بهجة سنية، وأخلاق هنية، وبشر طلق، ولسان ذلق، فملأ قلبي وصدري، وأعجز وصفه نظمي ونثري، واستنشدته من قبله فأنشدني لنفسه بمنزله في خوارزم في سلخ ذي القعدة سنة ست عشرة وستمائة:
__________
(903) - ترجمته في ابن الفرضي 1: 402 وجذوة المقتبس: 312 (وبغية الملتمس رقم: 1300) وطبقات الزبيدي: 284 (في ترجمة أبيه ثابت) وإنباه الرواة 3: 12 وفهرسة ابن خير: 191- 194 والديباج المذهب 2: 141 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 252 وانظر أيضا رسائل ابن حزم 2: 180 وترجمة ثابت في سير الذهبي 14: 562 فقد ترجم له في درجها، وكذلك ترتيب المدارك 5: 249 (وكانت وفاته بسر قسطة سنة: 302) .
(904) - له ترجمة في الوافي للصفدي (خ) وفيه اعتماد على ياقوت؛ وانظر بغية الوعاة 2: 252- 253.(5/2191)
يا زمرة الشعراء دعوة ناصح ... لا تأملوا عند الكرام سماحا
إن الكرام بأسرهم قد أغلقوا ... باب السماح وضيّعوا المفتاحا
ورأيته شيخا بهيّ المنظر حسن الشيبة كبيرها سمينا بدينا عاجزا عن الحركة، وكان له في حلقه حوصلة كبيرة، وقلت له: ما مذهبك؟ فقال: حنفي، ولكن لست خوارزميا، لست خوارزميا، يكررها، إنما اشتغلت ببخارى فأرى رأي أهلها، نفى عن نفسه أن يكون معتزليا، رحمه الله.
قال: وسألني قاضي القضاة بخوارزم أن أنشىء له أبياتا يكتبها على جدران دار استحدث بناءها فقلت:
من كان يفخر بالبنيان والشّرف ... فليس فخري بغير المجد والشّرف
ما قيمة الدار لولا فضل ساكنها ... وأيّ وزن بدون الدرّ للصدف
إن كان يعجبني خشب مسنّدة ... فلست أكرم نجل من بني خلف
قد صحّ لي باتفاق الناس كلهم ... رواية العدل والانصاف عن سلفي
إني لمن معشر كانت معايشهم ... بالقصد أما عطاياهم فبالسرف
قوم متى طلعت ليلا مآثرهم ... رأيت بدر الدجى في زيّ منخسف
بدولة الملك الميمون طائره ... أنّى توجهت فالإقبال مكتنفي
وأنشدني لنفسه:
أيا سائلي عن كنه علياه إنه ... لأعطي ما لم يعطه الثقلان
فمن يره في منزل فكأنما ... رأى كلّ إنسان وكلّ مكان
وأنشدني لنفسه في أبناء شيخ الإسلام الرستاني، ورستان من قرى مرغينان، ومرغينان من بلاد فرغانة:
فديت إماما صيغ من عزة النفس ... أنامله والسحب نوعان من جنس
أشدّ ارتياحا نحو طلعة معتف ... من المفلس الخاوي اليدين إلى الفلس
وأفقه في تدريسه من محمد ... وأجود من كعب وأخطب من قس(5/2192)
مناقب لو أنّ الحرابيّ مرة ... بصرن بها استنكفن عن خدمة الشمس
ويغدو على طرف من الشقر كلما ... رأته إماء الحيّ وافته للقبس
على سابح من خلقة الوهم طالع ... وأهون شيء عنده درك الأمس
فتى ساومته خلقه وهو فاغم ... ولا فغمة المسك الخرائد للعرس
له الصفو من ودي وإخوته الألى ... غدوا من سهام الزيغ للدين كالترس
لفتيان صدق ما اقتنوا طول عمرهم ... سوى البحث والافتاء والوعظ والدرس
لأربعة شادوا الهدى بعد شيخهم ... فقد بني الاسلام منهم على خمس
بنور إلهيّ عليهم وزهدهم ... وعلمهم أضحوا ملائكة الانس
فعاشوا لترشيح الهدى ويراعهم ... بصائبة الاحكام يقطر في الطرس
وقال بعض الفضلاء الخراسانية في الامام صدر الأفاضل يمدحه:
إن للعالمين فخرا وزينا ... وجمالا يجلّ عن كلّ شين
بفتى وافر العلوم نقاب ... مثله ما رأيت قطّ بعيني
ليس ذاك الفتى المبرّز إلا ... أفضل الناس قاسم بن الحسين
وحدثني صدر الأفاضل [قال] ، قال بعض الفضلاء العراقية فيّ وهو من أصحابي:
يقولون إنّ الأصمعيّ لبارع ... وبالنحو والآداب والشعر عالم
كذا ابن دريد والخليل وجاحظ ... وكلّ لدرّ العلم والفضل ناظم
فقلت أجل قد جلّ في الناس شأنهم ... وأفضل منهم صدر خوارزم قاسم «1»
وأنشدني صدر الأفاضل لنفسه:
أتحمل منّي نحو ذيّالك الرّشا ... سلاما كصدغيه وحالي مشوّشا
وإني لوجدي أستضيء لدى الحمى ... بشعلة أنفاسي إذا الليل أغطشا
ويرحمني العذّال حتى يقول لي ... أموقد نار بين جنبيك أم حشا(5/2193)
وهل ترد الجرعاء مني بجنّة ... على طرفيها رونق العهد قد مشى
وإني قد كتّمت سرّي وإنما ... برغمي صوب المدمعين به فشا
كما أن صدر الشرق أخفى سخاءه ... ولكنه بشر الجبين به وشى
متى جحدت نعماه أنهض جوده ... شهودا من الإحسان لا تقبل الرشا
وإن هزّه الإطراء ثم تبجست ... أياديه لم يسكر له فقد انتشى
أيلحقه الوهم القطوف إذا سعى ... لإدراك غايات العلا متكمشا
لك المنهل المسكيّ ما زال نقعه ... يعلّل صلّا في يمينك أرقشا
فيلفظ في منسابه من لعابه ... حتوفا وأرزاقا على حسب ما تشا
وهي أطول من هذا.
وحدثني الإمام صدر الأفاضل قال: كتب إليّ الصوفي المعروف بالصواب يسألني عن بيت حسان بن ثابت وهو:
فمن يهجو رسول الله منكم ... ويمدحه وينصره سواء
وقولهم بأن فيه ثلاثة عشر مرفوعا فأجبته:
أفدي إماما وميض البرق منصرع ... من خلف خاطره الوقّاد حين خطا
يبغي الصواب لدينا من مباحثه ... أما درى أنّ ما يعدو الصواب خطا
الذي يحضرني في هذا البيت من المرفوعات اثنا عشر فمنها قوله فمن يهجو فيه ثلاثة مرفوعات المبتدأ والفعل المضارع والضمير المستكن، ومنها المبتدأ المقدر في قوله ويمدحه، المعنى ومن يمدحه فيكون هاهنا على حسب المثال الأول ثلاثة مرفوعات أيضا، ومنها المرفوعان في قوله وينصره أحدهما الفعل المضارع والثاني الضمير المستكن، ومنها المرفوعات الأربعة في قوله سواء، اثنان من حيث أنه في مقام الخبرين للمبتدأين واثنان آخران من حيث أن في كلّ واحد ضميرا راجعا إلى المبتدأ، فهذا يا سيدي جهد المقل، وغير مرجوّ قطع المدى من الكلّ، فليعذرني سيدي- قبل الله معاذيره- من المرفوع الثالث عشر، فإنه لعمري قد استكنّ واستتر(5/2194)
حتى لا أعرف له عينا، وكيف يعرف له وجار وقد صار أغرب من العنقاء، وأشد عوزا من الوفاء.
وأنشدني صدر الأفاضل لنفسه:
سرى ناشدا أنسي قضيب من الآس ... فناولني الصهباء والشهد في كاس
وأرشدني وهنا لتقبيل خاله ... وميض ثناياه وشعلة أنفاسي
ولو لم يكن يلقي على جمر خدّه ... من الطرّة السوداء ظلّة أنقاس
إذن لأضاء الليل حتى انجلت لنا ... هواجس تخفيهن أفئدة الناس
وكتب الإمام صدر الأفاضل إلى بعض أصدقائه: كتابي إلى المجلس الرفيع جمال الحرمين إمام الفريقين يديم الله رفعته ثم يديم، وينيم عنه طوارق الحدثان ثم ينيم، وأنا إليه كالصادي إلى قعقعة الحمد، وبجماله [مشغوف] كهو بجمال المجد، لا أروي إلا عن فضله وأفضاله، ولا أرتوي إلا من ورده وزلاله، ولا أتحسر إلا على ليال وشيتها بجواره، ثم طرزتها بحواره:
إذا ذكرتها النفس باتت كأنها ... على حدّ سيف بين جنبيّ ينتضى
تولّى الصبا والمالكية أعرضت ... وزال التصابي والشباب قد انقضى
رفع الله البين من البين، حتى أرى نضاره في قميص من اللجين.
ومن إنشائه إلى الدار العزيزة ببغداد حرسها الله تعالى: رايات مولانا الصوّام القوّام أمير المؤمنين وإمام المتقين وخليفة ربّ العالمين، الإمام الذي ليس للتابعين غيره إمام، ولا دون عتبته متمسك واعتصام، هي التي لم أزل أدعو الله أن يعقد بعذباتها النصر، ويجعل من أشياعها الذئب والنسر، تسايرها الآمال، وتحل حيثما رفعت الآجال، وتحتف بها الجدود، وترفرف عليها السعود، وهذا دعاء لو سكتّ كفيته، وأمل وإن لم أسأله فقد أوتيته، منى العبد أن يسعى إلى المواقف المقدسة مسعى القلم، يحبو على رأسه لا على القدم، ليشمّ بثراها الثريّ، لخلخة المسك الذكيّ، ويعفّر بها جبينه وأنفه، ويجيل في مسارح الحمد طرفه، ويستلم عتبة بها(5/2195)
التفّ الثقلان، ودانت لها الأيام بعد حران. لكن الحوادث قلما توافقه، والأيام تشاكسه في ذلك وتضايقه، وظني بأن الله سوف يديل «1» .
ولما ورد الرسم- اعلى نور الله به مشارق الأرض ومغاربها- تلقاه العبد بالتعظيم والاجلال، ووضعه على قمة الامتثال، وفضّ ختامه عن الدرّ المكنون، بل أناسيّ العيون، وعن مشمول من الروض مجنوب «2» ، وكلم على صفحات الدهر مكتوب، فما زالت أعضاؤه تودّ أن تكون شفاها تقبله، وخواطر تتأمله، تمنيا يلذّ به المستهام، ويحلو له الغرام. ثم استدعى الأرامل والأيامى فأعطاهم، واستحضر المساكين واليتامى فأغناهم، وأنحى على ما ملكت يمينه من العبيد والأسرى، فأعتقهم وأطلقهم شكرا، وسأل الله تعالى أن يديم أكناف العرصة الفيحاء، مرتعا للعزّة القعساء، إن شاء الله تعالى:
سنا جبينك مهما لاح في الظّلم ... بتنا نطالع منه نسخة الكرم
إن يزرع الناس في أخلاقهم كرما ... فالبذر من جودك الطنّان بالديم
تبدو على أشقر خضر حوافره ... بحرا يلاطم أمواجا على ضرم
تشمّ عندك صيد العجم لخلخة ... من الرغام بآناف من القمم
كادت لحبّك تأتي وهي ساعية ... على الرؤوس بدون الساق كالقلم
من ظنّ غير نظام الملك ذا كرم ... نادى به لؤمه «استسمنت ذا ورم» «3»
لما أنشدني هذا البيت قال لي: من نظام الملك؟ قلت: أنت حرسك الله قائل الشعر تسألني عن ممدوحك؟ فقال لي متبسما: لست تعرفه؟ قلت: لا والله؛ قال:
ولا أنا شهد الله أعرفه، لأني ما تعرضت لمدح أحد قط، ولا رغبت في جداه، ولا أعرف أحدا أفضل عليّ إلا مرة واحدة فإن الغربة أحوجتني إليه، فلعن الله الغربة.
قلت له: وكيف ذلك؟ قال: إني مضيت إلى بخارى طالبا للعلم وقاصدا للقراءة على الرضى، فاجتمع إليّ أولا صدرجهان وغيره، فقد أنسيت القصة، فلما حذقوا الأدب(5/2196)
برني بسبعين دينارا ركنية ووعدني بوعود جميلة، ولولا الحاجة والغربة ما قبلتها منه، ولقد عرض عليّ الشهاب الحوقي «1» ، وهو أحد صدور خوارزم المتقربين من السلطان، على أن ينصب لي منصبا ومجلسا بطراحة سوداء إلى جانبه ويعطيني كل شهر عشرة دنانير لأقرأ الأدب فلم أفعل، قلت: فمن أين مادة الحياة؟ قال لي:
خلّفت لي والدتي قدرا يسيرا لا يقنع بمثله إلا أصحاب الزوايا فأنا أنفقه بالميسور، وأتلذذ بالغنى عن الجمهور، وأنا أقول الشعر والنثر تطربا لا تكسبا، وأستعير اسما لا أعرفه:
أفديك ذا منظر بالبشر ملتحف ... عن اليمين وللإقبال مبتسم
يد الجلال وشت في لوح جبهته ... «والناس من خولي والدهر من خدمي»
ولو أناف على هام السها وطني ... لما لوت نحوه أجيادها هممي
على الندى وقفت أيامه وعلى ... نشر المحامد منه ألسن الامم
ما جئت أخدمه إلا وقد سحقت ... يد تلطفه عطرا من الشيم
زفّ الندى نحوه بكرا مخدرة ... لولاه زفّت إلى كفء «2» من العدم
يريه شعري نجوم الليل طالعة ... والنيرين معا من مشرق الكلم
لا زال مثل هلال العيد حضرته ... في الحسن واليمن والإقبال والشمم
وعاش للملك يحميه وينصره ... فالملك من دونه لحم على وضم
ودام كاليمّ للعافين ملتطما ... بنانه وهو مرشوف بكل فم
وله من التصانيف: كتاب المجمرة في شرح المفصل صغير. وكتاب السبيكة في شرحه أيضا وسط. وكتاب التجمير في شرح المفصل أيضا بسيط. كتاب شرح سقط الزند. كتاب التوضيح في شرح المقامات. كتاب لهجة الشرع في شرح ألفاظ الفقه. كتاب شرح المفرد والمؤلف. كتاب شرح الأنموذج. كتاب شرح الأحاجي لجار الله. كتاب خلوة الرياحين في المحاضرات. كتاب عجائب النحو. كتاب السر(5/2197)
في الاعراب. كتاب شرح الأبنية. كتاب الزوايا والخبايا في النحو. كتاب المحصل للمحصلة في البيان. كتاب عجالة السفر في الشعر. كتاب بدائع الملح. كتاب شرح اليميني للعتبي.
[905]
القاسم بن سلام أبو عبيد:
كان أبوه روميا مملوكا لرجل من أهل هراة، وكان أبو عبيد إمام أهل عصره في كلّ فن من العلم، وولي قضاء طرسوس أيام ثابت بن نصر بن مالك ولم يزل معه ومع ولده. ومات سنة ثلاث عشرين ومائتين أو أربع وعشرين أيام المعتصم بمكة، وكان قصدها مجاورا في سنة أربع عشرة ومائتين، وأقام بها حتى مات عن سبع وستين سنة. وأخذ أبو عبيد عن أبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة معمر بن المثنى والأصمعي وأبي محمد اليزيدي وغيرهم من البصريين، وأخذ عن ابن الأعرابي وأبي زياد الكلابي ويحيى بن سعيد الأموي وأبي عمرو الشيباني والفراء والكسائي من الكوفيين، وروى الناس من كتبه المصنفة نيفا وعشرين كتابا في القرآن والفقه واللغة والحديث.
وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في «كتاب مراتب النحويين» : وأما أبو عبيد القاسم بن سلام فإنه مصنّف حسن التأليف، إلا أنه قليل الرواية يقتطعه عن اللغة علوم افتنّ فيها، وأما كتابه المترجم بالغريب المصنف فإنه اعتمد فيه على كتاب عمله رجل من بني هاشم جمعه لنفسه، وأخذ كتب الأصمعي فبوّب ما فيها وأضاف إليه شيئا من علم أبي زيد الأنصاري وروايات عن الكوفيين؛ وأما كتابه في غريب
__________
(905) - ترجمة أبي عبيد في المعارف: 549 وطبقات ابن سعد 7: 355 ومراتب النحويين: 93 وطبقات الزبيدي: 217 والفهرست: 78 وتاريخ بغداد 12: 403 وطبقات الشيرازي: 26 وطبقات الحنابلة 1: 259 ونزهة الالباء: 93 وإنباه الرواة 3: 12 وابن خلكان 4: 60 وتذكرة الحفاظ: 417 وعبر الذهبي 1: 392 وسير الذهبي 10: 490 وميزان الاعتدال 3: 371 ومرآة الجنان 2: 83 وطبقات السبكي 2: 153 والبداية والنهاية 10: 291 والعقد الثمين 7: 23 والوافي للصفدي (خ) وطبقات ابن الجزري 2: 17 وتهذيب التهذيب 8: 315 وبغية الوعاة 2: 253 والشذرات 2: 54 واشارة التعيين: 61.(5/2198)
الحديث فإنه اعتمد فيه على كتاب أبي عبيدة في غريب الحديث، وكذلك كتابه في غريب القرآن منتزع من كتاب أبي عبيدة، وكان مع هذا ثقة ورعا لا بأس به ولا بعلمه، [ولعله] سمع من أبي زيد شيئا، وقد أخذت عليه مواضع في «غريب المصنف» . وكان ناقص العلم بالإعراب. وروي أنه قال: عملت كتاب «غريب المصنف» في ثلاثين سنة، وجئت به إلى عبد الله بن طاهر فأمر لي بألف دينار.
وذكره الجاحظ في «كتاب المعلمين» وقال: كان مؤدبا لم يكتب الناس أصحّ من كتبه ولا أكثر فائدة، وبلغنا أنه إذا ألف كتابا حمله إلى عبد الله بن طاهر فيعطيه مالا خطيرا، فلما صنف «غريب الحديث» أهداه إليه فقال: إن عقلا بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب لحقيق إلا يحوج إلى طلب معاش، وأجرى له في كل شهر عشرة آلاف درهم. وسمعه منه يحيى بن معين، وكان دينا ورعا جوادا. وسير أبو دلف القاسم بن عيسى إلى عبد الله بن طاهر يستهدي منه أبا عبيد مدة شهرين فأنفذه، فلما أراد الانصراف وصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم فلم يقبلها وقال: أنا في جنبة رجل لا يحوجني إلى غيره، فلما عاد أمر له ابن طاهر بثلاثين ألف دينار فاشترى بها سلاحا وجعله للثغر. وخرج إلى مكة مجاورا في سنة أربع عشرة ومائتين فأقام بها إلى أن مات في الوقت المقدم ذكره.
وقال إسحاق بن راهويه: يحب الله الحقّ، أبو عبيد أعلم مني ومن أحمد بن حنبل ومن محمد بن إدريس الشافعي. قال: ولم يكن عنده ذاك البيان إلا أنه إذا وضع وضّح «1» .
ولما قدم أبو عبيد مكة وقضى حجه أراد الانصراف، فاكترى إلى العراق ليخرج في صبيحة غد، قال أبو عبيد: فرأيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في النوم وهو جالس على فراشه وقوم يحجبونه والناس يدخلون إليه ويسلّمون عليه ويصافحونه، قال: فلما دنوت لأدخل مع الناس منعت، فقلت لهم: لم لا تخلّون بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ فقالوا: أي والله لا تدخل إليه ولا تسلم عليه وأنت خارج غدا إلى العراق، فقلت لهم: فإني لا أخرج إذن، فاخذوا عهدي «2» ثم خلّوا بيني وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدخلت وسلمت(5/2199)
وصافحت، فلما أصبح فاسخ كريّه وسكن مكة حتى مات بها ودفن في دور جعفر.
وقال عبد الله ابن طاهر: علماء الإسلام أربعة عبد الله بن عباس في زمانه، والشعبي في زمانه، والقاسم بن معن في زمانه، وأبو عبيد القاسم بن سلام في زمانه، ثم قال يرثيه:
يا طالب العلم قد مات ابن سلّام ... وكان فارس علم غير محجام
كان الذي كان فيكم ربع أربعة ... لم نلق مثلهم إستار أحكام
استار أي أربعة.
وحدث أبو بكر الزبيدي قال، قال علي بن عبد العزيز، قال عبد الرحمن اللحنة صاحب أبي عبيد قال: قيل لأبي عبيد وقد اجتاز على دار رجل من أهل الحديث كان يكتب عنه الناس وكان يزنّ بشرّ: إن صاحب هذه الدار يقول: أخطأ أبو عبيد في مائتي حرف من «المصنف» فقال أبو عبيد (ولم يقع في الرجل بشيء مما كان يعرف به) :
في «المصنف» مائة ألف حرف فلو لم أخطىء في كل ألف حرف إلا حرفين ما هذا بكثير مما استدرك علينا، ولعل صاحبنا هذا لو بدا لنا فناظرناه في هاتين المائتين بزعمه لوجدنا لها مخرجا.
وحدث عن عباس الخياط قال: كنت مع أبي عبيد فاجتاز بدار إسحاق الموصلي فقال: ما أكثر علمه بالحديث والفقه والشعر مع عنايته بالعلوم، فقلت له: إنه يذكرك بضدّ هذا، قال: وما ذاك؟ قلت: إنه يزعم أنك صحّفت في «المصنف» نيفا وعشرين حرفا، فقال: ما هذا بكثير، في الكتاب عشرة آلاف حرف مسموعة يغلط فيها بهذا اليسير، لعلّي لو ناظرت فيها لا حتججت عنها، ولم يذكر إسحاق إلا بخير.
قال الزبيدي: ولما اختلفت هاتان الروايتان في العدد امتحنت ذلك في المصنف فوجدت فيه سبعة عشر ألف حرف وتسعمائة وسبعين حرفا.
وحدث موسى بن نجيح السلمي قال: جاء رجل إلى أبي عبيد القاسم بن سلام فسأله عن الرباب فقال: هو الذي يتدلى دون السحاب، وأنشد لعبد الرحمن بن حسان:
كأنّ الرباب دوين السحاب ... نعام تعلّق بالأرجل(5/2200)
فقال: لم أرد هذا، فقال الرباب اسم امرأة، وأنشد:
إن الذي قسم الملاحة بيننا ... وكسا وجوه الغانيات جمالا
وهب الملاحة للرباب وزادها ... في الوجه من بعد الملاحة خالا
فقال: لم أرد هذا أيضا، فقال: عساك أردت قول الشاعر:
رباب ربّة البيت ... تصبّ الخلّ في الزيت
لها سبع دجاجات ... وديك حسن الصوت
فقال: هذا أردت، فقال: من أين أنت؟ قال: من البصرة، قال: على أيّ شيء جئت، على الظهر أو في الماء؟ قال: في الماء. قال: كم أعطيت الملاح؟
قال: أربعة دراهم، قال: اذهب استرجع منه ما أعطيته وقل: لم تحمل شيئا فعلام تأخذ مني الأجرة؟
قال محمد بن إسحاق النديم: ولأبي عبيد من التصانيف: كتاب غريب المصنف. كتاب غريب الحديث. كتاب غريب القرآن. كتاب معاني القرآن. كتاب الشعراء. كتاب المقصور والممدود. كتاب القراءات. كتاب المذكر والمؤنث.
كتاب الأموال. كتاب النسب. كتاب الأحداث. كتاب الأمثال السائرة. كتاب عدد آي القرآن. كتاب أدب القاضي. كتاب الناسخ والمنسوخ. كتاب الأيمان والنذور.
كتاب الحيض. كتاب فضائل القرآن. كتاب الحجر والتفليس. كتاب الطهارة، وله غير ذلك من الكتب الفقهية.
قال علي بن محمد بن وهب المسعريّ عن أبي عبيد القاسم بن سلام قال.
سمعته يقول: هذا الكتاب يعني «غريب المصنف» أحبّ إليّ من عشرة آلاف دينار، فاستفهمته ثلاث مرات فقال: نعم هو أحبّ إليّ من عشرة آلاف دينار.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قدم طاهر بن عبد الله بن طاهر من خراسان وهو حدث في حياة أبيه يريد الحج، فنزل في دار إسحاق بن إبراهيم، فوجّه إسحاق إلى العلماء فأحضرهم ليراهم طاهر ويقرأ عليهم، فحضر أصحاب الحديث والفقه، وأحضر ابن الأعرابي وأبو نصر صاحب الأصمعي، ووجه إلى أبي عبيد القاسم بن سلام في الحضور فأبى أن يحضر وقال: العلم يقصد، فغضب إسحاق من قوله(5/2201)
ورسالته. وكان عبد الله بن طاهر يجري له في الشهر ألفي درهم، فقطع إسحاق عنه الرزق وكتب إلى عبد الله بالخبر، فكتب إليه عبد الله: قد صدق أبو عبيد في قوله وقد أضعفت له الرزق من أجل فعله، فأعطه فائته وأدرّ عليه بعد ذلك ما يستحقه.
[906]
القاسم بن علي بن محمد بن عثمان بن الحريري،
أبو محمد البصري: من أهل بلد قريب من البصرة يسمى المشان، مولده ومنشؤه به، وسكن البصرة في محلة بني حرام، وقرأ الأدب على أبي القاسم الفضل بن محمد القصباني البصري بها، ومات ابن الحريري في سادس رجب سنة ست عشرة وخمسمائة ومولده في حدود سنة ست وأربعين وأربعمائة عن سبعين سنة في خلافة المسترشد، وبالبصرة كانت وفاته.
وكان غاية في الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة، وله تصانيف تشهد بفضله وتقرّ بنبله، وكفاه شاهدا «كتاب المقامات» التي أبرّ بها على الأوائل وأعجز الأواخر، وكان مع هذا الفضل قذرا في نفسه وصورته ولبسته وهيئته قصيرا دميما بخيلا مبتلى بنتف لحيته.
قال العماد في «كتاب الخريدة» «1» : لم يزل ابن الحريريّ صاحب الخبر بالبصرة في ديوان الخلافة، ووجدت هذا المنصب لأولاده إلى آخر العهد المقتفوي.
أخبرني عبد الخالق بن صالح بن علي بن زيدان المسكي المصري بها في سنة اثنتي عشرة وستمائة في صفر قال: حدثنا الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الرحمن بن محمد المسعودي البندهي- قال: وكان يكتب هو بخطه الفنجديهي،
__________
(906) - ترجمة الحريري في المنتظم 9: 241 والشريشي 1: 3 ونزهة الألباء: 262 وأنساب السمعاني واللباب (الحريري) وإنباه الرواة 3: 23 والخريدة (قسم العراق 4: 599) وابن خلكان 4: 63 وعبر الذهبي 4: 38 وسير الذهبي 19: 460 وتذكرة الحفاظ: 1257 ومرآة الجنان 3: 213 ومرآة الزمان: 67 والوافي للصفدي (خ) وطبقات السبكي 7: 266 والأسنوي 1: 429 والبداية والنهاية 2: 191 والنجوم الزاهرة 5: 235 وبغية الوعاة 2: 257 ومعاهد التنصيص 3: 270 والشذرات 4: 50.(5/2202)
قال: وهي قرية من قرى مرو الشاهجان- قال: سمعت الشيخ الثقة أبا بكر عبد الله بن محمد بن محمد بن أحمد النقور البزاز ببغداد يقول، سمعت الرئيس أبا محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري صاحب المقامات يقول: أبو زيد السروجي كان شيخا شحاذا بليغا ومكديا فصيحا، ورد علينا البصرة فوقف يوما في مسجد بني حرام فسلّم ثم سأل الناس، وكان بعض الولاة حاضرا والمسجد غاصّ بالفضلاء فأعجبتهم فصاحته وحسن صياغة كلامه وملاحته، وذكر أسر الروم ولده، كما ذكرناه في المقامة الحرامية وهي الثامنة والأربعون، قال: واجتمع عندي عشية ذلك اليوم جماعة من فضلاء البصرة وعلمائها، فحكيت لهم ما شاهدت من ذلك السائل وسمعت من لطافة عبارته في تحصيل مراده، وظرافة إشارته في تسهيل إيراده، فحكى كلّ واحد من جلسائه أنه شاهد من هذا السائل في مسجده مثل ما شاهدت، وأنه سمع منه في معنى آخر فصلا أحسن مما سمعت، وكان يغيّر في كلّ مسجد زيّه وشكله، ويظهر في فنون الحيلة فضله، فتعجبوا من جريانه في ميدانه، وتصرفه في تلونه وإحسانه، فأنشأت المقامة الحرامية ثم بنيت عليها سائر المقامات وكانت أول شيء صنعته.
قال المؤلف: وذكر ابن الجوزي في تاريخه مثل هذه الحكاية، وزاد فيها أنّ ابن الحريري عرض المقامة الحرامية على أنوشروان بن خالد «1» وزير السلطان فاستحسنها وأمره أن يضيف إليها ما يشاكلها فأتمها خمسين مقامة.
حدثني من أثق به أن الحريريّ لما صنع المقامة الحرامية وتعانى الكتابة فأتقنها وخالط الكتّاب أصعد إلى بغداد، فدخل يوما إلى ديوان السلطان وهو منغصّ بذوي الفضل والبلاغة محتفل بأهل الكفاية والبراعة، وقد بلغهم ورود ابن الحريري، إلا أنهم لم يعرفوا فضله، ولا اشتهر بينهم بلاغته ونبله، فقال له بعض الكتاب: أيّ شيء تتعانى من صناعة الكتابة حتى نباحثك فيه؟ فأخذ بيده قلما وقال: كلّ ما يتعلق بهذا، وأشار إلى القلم، فقيل له: هذه دعوى عظيمة، فقال: امتحنوا تخبروا،(5/2203)
فسأله كلّ واحد عما يعتقد في نفسه إتقانه من أنواع الكتابة، فأجاب عن الجميع أحسن جواب، وخاطبهم بأتمّ خطاب حتى بهرهم، فانتهى خبره إلى الوزير أنوشروان بن خالد فأدخله عليه، ومال بكلّيته إليه، وأكرمه وأدناه «1» ، فتحادثا يوما في مجلسه حتى انتهى الحديث إلى ذكر أبي زيد السروجي المقدّم ذكره، وأورد ابن الحريريّ المقامة الحرامية التي عملها فيه، فاستحسنها أنوشروان جدا وقال: ينبغي أن يضاف إلى هذه أمثالها، وينسج على منوالها عدة من أشكالها، فقال: أفعل ذلك مع رجوعي إلى البصرة وتجمّع خاطري بها، ثم انحدر إلى البصرة فصنع أربعين مقامة، ثم أصعد إلى بغداد وهي معه وعرضها على انوشروان فاستحسنها، وتداولها الناس، واتهمه من يحسده بأن قال: ليست هذه من عمله لأنها لا تناسب رسائله ولا تشاكل ألفاظه، وقالوا: هذا من صناعة رجل كان استضاف به ومات عنده فادّعاها لنفسه، وقال آخرون: بل العرب أخذت بعض القوافل، وكان مما أخذ جراب بعض المغاربة وباعه العرب بالبصرة، فاشتراه ابن الحريري وادعاه، فان كان صادقا في أنها من عمله فليصنع مقامة أخرى، فقال: نعم سأصنع، وجلس في منزله ببغداد أربعين يوما فلم يتهيأ له ترتيب كلمتين والجمع بين لفظتين، وسوّد كثيرا من الكاغد فلم يصنع شيئا، فعاد إلى البصرة والناس يقعون فيه ويعيطون «2» في قفاه كما تقول العامة، فما غاب عنهم إلا مديدة حتى عمل عشر مقامات وأضافها إلى تلك، وأصعد بها إلى بغداد، فحينئذ بان فضله وعلموا أنها من عمله.
وكان مبتلى بنتف لحيته، فلذلك قول ابن جكينا فيه:
شيخ لنا من ربيعة الفرس ... ينتف عثنونه من الهوس
أنطقه الله بالمشان وقد ... ألجمه في العراق بالخرس
وقرأت بخط صديقنا الكمال عمر بن أبي بكر الدباس رحمه الله، حدثني علي بن جابر بن هبة الله «3» بن علي حاكم ساقية سليمان قال: حدثني والدي جابر بن هبة الله أنه قرأ على القاسم بن علي الحريري المقامات في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائة، قال: وكنت أظن أن قوله:(5/2204)
يا أهل ذا المغنى وقيتم شرّا ... ولا لقيتم ما بقيتم ضرّا
قد دفع الليل الذي اكفهرّا ... إلى ذراكم شعثا مغبرّا
أنه «سغبا معترّا» فقرأت كما ظننت سغبا معترا، ففكر ساعة ثم قال: والله لقد أجدت في التصحيف فانه أجود، فربّ شعث مغبّر غير محتاج، والسغب المعتر موضع الحاجة، ولولا أنني قد كتبت خطي إلى هذا اليوم على سبعمائة نسخة قرئت عليّ لغيرت الشعث بالسغب والمغبر بالمعتر.
قال مؤلف الكتاب: ولقد وافق كتاب المقامات من السعد ما لم يوافق مثله كتاب ألبتّة «1» ، فانه جمع بين حقيقة الجودة والبلاغة، واتسعت له الألفاظ، وانقادت له وفود البراعة حتى أخذ بأزمّتها وملك ربقتها، فاختار ألفاظها وأحسن نسقها، حتى لو ادّعى بها الاعجاز لما وجد من يدفع في صدره ولا يردّ قوله ولا يأتي بما يقاربها فضلا عن أن يأتي بمثلها، ثم رزقت مع ذلك من الشهرة وبعد الصيت والاتفاق على استحسانها من الموافق والمخالف ما استحقت وأكثر.
ومن عجيب ما رأيته «2» وشاهدته أني وردت آمد في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وأنا في عنفوان الشباب وريعه، فبلغني أن بها علي بن الحسن بن عنتر المعروف بالشميم الحلي، وكان من العلم بمكان مكين، واعتلق من حباله بركن ركين، إلا أنه كان لا يقيم لأحد من أهل العلم المتقدمين ولا المتأخرين وزنا، ولا يعتقد لأحد فضيلة، ولا يقرّ لأحد باحسان في شيء من العلوم ولا حسن، فحضرت عنده وسمعت من لفظه إزراءه على أولي الفضل، وتنديده بالمعيب عليهم بالقول والفعل، فلما أبرمني وأضجر، وامتدّ في غيه وأصحر، قلت له: أما كان في من تقدم على كثرتهم وشغف الناس بهم عندك قطّ مجيد؟! فقال: لا أعلم إلا أن يكون ثلاثة رجال: المتنبي في مديحه خاصة ولو سلكت طريقه لما برز عليّ ولسقت فضيلته نحوي ونسبتها إليّ، والثاني ابن نباتة في خطبه وان كانت خطبي أحسن منها وأسير وأظهر عند الناس قاطبة واشهر، والثالث ابن الحريري في مقاماته؛ قلت: فما منعك(5/2205)
أن تسلك طريقته وتنشىء مقامات تخمد بها جمرته وتملك بها دولته؟ فقال: يا بني الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل، ولقد أنشأتها ثلاث مرات ثم أتأملها فأسترذلها، فأعمد إلى البركة فأغسلها، ثم قال: ما أظنّ الله خلقني إلا لاظهار فضل الحريري. وشرح مقاماته بشرح قرىء عليه وأخذ عنه.
وكتب ابن الحريري إلى سديد الدولة في صدر كتاب:
وما نومة بعد الضحى لمسهّد ... زوى همّه بالليل عن جفنه السّنه
بأحلى من البشرى بأنّ ركابكم ... ستسري إلى بغداد في هذه السنه
وقرأت في كتاب لبعض أدباء البصرة، قال الشيخ أبو محمد حرس الله نعمته معاياة:
ميم موسى من نون نصر ففسّر ... أيهذا الأديب ماذا عنيت
تفسيره ميم الرجل إذا أصابه الموم وهو البرسام، ويقال إنه أشد الجدريّ ونون نصر: حوت نصر، والنون السمكة، يعني أنه أكل سمكة نصر فأصابه الموم. وله في مثله:
باء بكر بلام ليلى فما ين ... فكّ منها إلا بعين وهاء
باء أي أقرّ، واللام الدرع، فلما أقر لليلى به ألزمته فلا ينفك منها إلا بعين أي بالدرع بعينه وها أي خذي.
حدثني أبو عبد الله الدبيثي، قال حدثني أبو الحسن علي بن جابر، حدثني أبي أبو الفضل جابر بن زهير قال: حضرنا مع ابن الحريري في دعوة لظهير الدين ابن الوجيه رئيس البصرة في ختان ابنه أبي الغنائم، وكان هناك مغنّ يعرف بمحمد المصري وكان غاية في امتداد الصوت وطيب النغمة فغنى:
بالذي ألهم تعذي ... بي ثناياك العذابا
ما الذي قالته عينا ... ك لقلبي فأجابا
فطرب الحاضرون وسألوا ابن الحريري أن يزيد فيها شيئا فقال:
قل لمن عذّب قلبي ... وهو محبوب محابى
والذي إن سمته ... الوصل تغالى وتغابى(5/2206)
ثم البيتان، فاستحسنها الجماعة وأقسموا على المغني أن لا يغنيهم غيرها، فمضى يومهم أجمع بهذه الأبيات. وأنشد أيضا للحريري:
لا تخطونّ إلى خط ولا خطأ ... من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا
وأيّ عذر لمن شابت ذوائبه ... إذا سعى في ميادين الصبا وخطا
ومن شعره:
خذ يا بنيّ بما أقول ولا تزغ ... ما عشت عنه تعش وأنت سليم
لا تغترر ببني الزمان ولا تقل ... عند الشدائد لي أخ ونديم
جربتهم فإذا المعاقر عاقر ... والآل آل والحميم حميم
ولابن الحريري من التصانيف: كتاب المقامات. كتاب درة الغواص في أوهام الخواص. كتاب ملحة الاعراب، وهي قصيدة في النحو. كتاب شرح ملحة الإعراب. كتاب رسائله المدونة. كتاب شعره.
حدثني أبو عبد الله محمد بن سعيد بن الدبيثي قال، سمعت القاضي أبا الحسن علي بن جابر بن زهير يقول، سمعت أبي أبا الفضل جابر بن زهير يقول: كنت عند أبي محمد القاسم بن الحريري البصري بالمشان أقرأ عليه المقامات، فبلغه أن صاحبه أبا زيد المطهر بن سلام البصري الذي عمل المقامات عنه قد شرب مسكرا، فكتب إليه وأنشدناه لنفسه:
أبا زيد اعلم أنّ من شرب الطلا ... تدنّس فافهم سرّ قولي المهذب
ومن قبل سميت المطهّر والفتى ... يصدّق بالأفعال تسمية الأب
فلا تحسها كيما تكون مطهرا ... والا فغيّر ذلك الاسم واشرب
قال: فلما بلغه الأبيات أقبل حافيا إلى الشيخ أبي محمد وبيده مصحف، فأقسم به ألا يعود إلى شرب مسكر، فقال له الشيخ: ولا تحاضر من يشرب.
حدثني ابن الدبيثي قال، وأنشدني ابن جابر قال، أنشدني أبو عبد الله محمد بن الحسن بن المنقبة الفقيه بالرحبة لنفسه يعارض أبا محمد ابن الحريري في بيتيه اللذين قال فيهما: أسكتا كل نافث وأمنا أن يعزّزا بثالث:(5/2207)
ملامة
الوكعاء بين الورى ... أحسن من حرّ أتى ملأمه
فمه اذا استجديت عن قول لا ... فالحرّ لا يملأ منها فمه
نقلت من خط أبي سعد السمعاني، أنشدنا أبو القاسم عبد الله بن القاسم بن علي بن الحريري، أنشدني والدي لنفسه، وهو مما كاتب به شيخ الشيوخ أبا البركات إسماعيل بن أبي سعد:
سلام كأزهار الربيع نضارة ... وحسنا على شيخ الشيوخ الذي صفا
ولو لم يعقني الدهر عن قصد ربعه ... سعيت كما يسعى الملبي الى الصفا
ولكن عداني عنه دهر مكدّر ... ومن ذا الذي واتاه من دهره الصفا
ومن خطه: أنشدني أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي الواسطي، أنشدنا القاسم بن علي الحريري لنفسه:
أخمد بحلمك ما يذكيه ذو سفه ... من نار غيظك واصفح إن جنى جاني
فالحلم أفضل ما ازدان اللبيب به ... والأخذ بالعفو أحلى ما جنى جاني
وكتب ابن الحريري الى سديد الدولة محمد بن عبد الكريم الأنباري كتابا على يد ولده قال فيه: كتب الخادم وعنده من تباريح الأشواق إلى الخدمة ما يصدع الأطواد، فكيف الفؤاد، ويوهي الجبال، فكيف البال، ولكنه يستدفع الخوف بسوف، ويبرد حر الأسى بعسى، وهو على جمعهم إذا يشاء قدير:
ألا ليت شعري والتمني خرافة ... وإن كان فيه راحة لأخي الكرب
أتدرون أني مذ تناءت دياركم ... وشطّ اقترابي من جنابكم الرحب
أكابد شوقا ما يزال أواره ... يقلّبني بالليل جنبا إلى جنب
وأسكب للبين المشتت مدمعا ... كأن عزاليها امترين من السحب
وأذكر أيام التلاقي فأنثني ... لتذكارها بادي الأسى ذاهب اللبّ
ولي حنّة في كلّ وقت إليكم ... ولا حنة الصادي إلى البارد العذب
فو الله إني لو كتمت هواكم ... لما كان مكتوما بشرق ولا غرب
ومما شجا قلبي المعنّى وشفّه ... رضاكم باهمال الاجابة عن كتبي(5/2208)
على أنني راض بما ترتضونه ... وأفخر بالإعتاب فيكم وبالعتب
ولما سرى الوفد العراقيّ نحوكم ... وأعوزني المسرى إليكم مع الركب
جعلت كتابي نائبا عن ضرورة ... ومن لم يجد ماء تيمم بالترب
وأنفذت أيضا بضعة من جوارحي ... تنبئكم مشروح حالي وتستنبي
وقلت له عند الوداع وقلبه ... شج وأبوه الشيخ مكتئب القلب
ألا ابشر بما تحظى به حين تجتلي ... محيا سديد الدولة الماجد الندب
ولست أرى إذكاركم بعد خبركم ... بمكرمة حسبي اهتزازكم حسبي
هذه على عاهتها بنت ساعتها، فإن حظيت منه بالقبول المأمول، فيا بشرى للحامل والمحمول، وإن لمحت لمحة المستثقل، فيا خيبة المرسل والمرسل، والسلام.
ومن رسائل ابن الحريري رسالة التزم في كلّ كلمة منها السين نظما، كتبها على لسان بعض أصدقائه يعاتب صديقا له أخلّ به في دعوة دعا غيره إليها، وكتب على رأسها «1» : باسم القدوس أستفتح، وباسعاده أستنجح، سجية سيدنا سيف السلطان سدة سيدنا الاسفهسلار السيد النفيس سيد الرؤساء حرست نفسه، واستنارت شمسه، وبسق غرسه، واتسق أنسه، استمالة الجليس، ومساهمة الأنيس، ومؤاساة السحيق والنسيب، ومساعدة الكسير والسليب، والسيادة تستدعي استدامة السنن، والاستحفاظ بالرسم الحسن، وسمعت بالأمس تدارس الألسن سلاسة خندريسه، وسلسال كؤوسه، ومحاسن مجلس مسرّته، وإحسان مسمعة ستارته، فاستسلفت الاستدعاء، وسوفت نفسي بالاحتساء «2» ، ومؤانسة الجلساء، وجلست أستقري السبل الاسراء، وتوسمت أستطلع الرسل، وأستطرف تناسي رسمي، وأسامر الوسواس لاستحالة وسمي:
وسيف السلاطين مستأثر ... بأنس السّماع وحسو الكؤوس(5/2209)
سلاني وليس لباس السلو ... يناسب حسن سمات النفيس
وسنّ تناسي جلّاسه ... وأسوا السجايا تناسي الجليس
وسرّ حسودي بطمس الرسوم ... وطمس الرسوم كرمس النفوس
وأسكرني حسرة واستعاض ... لقسوته سكرة الخندريس
وساقى الحسام بكاس السلاف ... وأسهمني بعبوس وبوس
سأكسوه لبسة مستعتب ... وألبس سربال سال يؤوس
وأسطر سيناته سيرة ... تسير أساطيرها كالبسوس
وحسبنا السلام رسول الاسلام.
وكتب إلى أبي [محمد] طلحة بن النعماني الشاعر لما قصده إلى البصرة يمدحه ويشكره ويتأسف على فراقه «1» : بإرشاد المنشىء أنشىء شغفي بالشيخ، شمس الشعراء، ريش معاشه، وفشا رياشه، وأشرق شهابه، واعشوشبت شعابه، يشاكل شغف المنتشي بالنشوة، والمرتشي بالرشوة، والشادن بشرخ الشباب، والعطشان بشم الشراب. وشكري لتجشمه ومشقته، وشواهد شفقته، يشابه شكر الناشد للمنشد، والمسترشد للمرشد، والمستشعر للمبشر، والمستجيش للجيش المشمر، وشعاري إنشاد شعره، وإشجاء المكاشر والمكاشح بنشره، وشغلي إشاعة وشائعه، وتشييد شوافعه، والإشادة بشذوره وشنوفه، والمشورة بتشييعه وتشريفه، وأشهد شهادة تشدد المقشر المكاشف والمشنع الكاشف لا نشاؤه ومشاهدته تدهش الشائب والناشي، وتلاشي شعر الناشي، ولمشافهته تباشير الرشد، واشتيار الشهد، ولمشاحنته تشقي المشاحن وتشين المشاين، ولمشاغبته تشظي الأشطان، وتشيط الشيطان، فشرفا للشيخ شرفا، وشغفا بشنشنته شغفا:
فأشعاره مشهورة ومشاعره ... وعشرته مشكورة وعشائره
شأى الشعراء المشمعلّين شعره ... فشانيه مشجوّ الحشا ومشاعره
وشوّه ترقيش المرقش شعره ... فأشياعه يشكونه ومعاشره(5/2210)
وشاق الشباب الشمّ والشيب وشيه ... فمنشوره بشرى المشوق وناشره
شكور ومشكور وحشو مشاشه ... شهامة شمّير يطيش مشاجره
شقاشقه مخشيّة وشباته ... شبا مشرفيّ جاش للشرّ شاهره
شفى بالأناشيد النشاوى وشفّهم ... فمشفيه مستشف وشاكيه شاكره
ويشدو فيهتشّ الشحيح لشدوه ... ويشعفه إنشاده فيشاطره
تجشّم غشياني فشرّد وحشتي ... وبشّر ممشاه ببشر أباشره
سأنشده شعرا تشرّق شمسه ... وأشكره شكرا تشيع بشائره
وأشهد شاهد الأشياء، ومشبع الأحشاء، ليشعلنّ شواظ اشتياقي شحطه، وليشعثنّ شمل نشاطي نشطه، فناشدت الشيخ أيشعر باستيحاشي لشسوعه، وإجهاشي لتشييعه، ووشايتي بنشيده الموشيّ، وتشكلي شخصه بالإشراق والعشي، حاشاه تعشيه شبهة وتغشاه، فليستشفّ شرح شجوي بشطونه، وليرشّحني لمشاركة شجونه، وليشغلني بتمشية شؤونه، وليشدّ جاشي، ويشارف انكماشي، عاش منتعش الحشاشة، مستشري البشاشة، مشحوذ الشفار، منتشر الشرار، شتاما للأشرار، شحّاذا بالأشعار، يشرخ ويحوش، ويقنفش «1» المنقوش، بمشية الشديد البطش، الشامخ العرش، وتشريفه لبشير البشر، وشفيع المحشر، اه.
وله من المقامات «2» :
وأحوى حوى رقيّ برقة لفظه ... وغادرني إلف السهاد بغدره
تصدّى لقتلي بالصدود وإنني ... لفي أسره مذ حاز قلبي بأسره
أصدّق منه الزور خوف ازوراره ... وأرضى استماع الهجر خشية هجره
وأستعذب التعذيب منه وكلّما ... أجدّ عذابي جدّ بي حبّ بره
تناسى ذمامي والتناسي مذمّة ... وأحفظ قلبي وهو حافظ سره
له منّي المدح الذي طاب نشره ... ولي منه طيّ الودّ من بعد نشره
وإني على تصريف أمري وأمره ... أرى المر حلوا في انقيادي لأمره(5/2211)
وقال الرئيس أبو الفتح هبة الله بن الفضل بن صاعد بن التلميذ الكاتب: كان الشيخ الأجل الامام الأوحد أبو محمد القاسم بن علي بن الحريري رضي الله عنه الامام المشهور الفضل من أعيان دهره وفريد عصره، وممن لحق طبقة الأوائل، وغبّر عليهم في الفضائل، وكانت بيني وبينه مكاتبة قديمة في سنة خمس وتسعين وأربعمائة عند ابتدائه حمل المقامات التي أنشأ، ولما وقع الاجتماع به في سنة أربع وخمسمائة ببغداد، وسماعها منه عدة دفعات، جاريته وسألته أن ينظم في النحو مختصرا يحفظه المبتدئون، فشرع في نظم هذه الأرجوزة، وأملى عليّ منها أبوابا يسيرة، وانحدر من غير إتمامها واستعاد مني ما أملاه ليحرره، فكاتبته دفعات أقتضيه بها وأذكره بانفاذها وإنفاذ كتابه «درة الغواص في أوهام الخواص» فكتب إليّ جوابين نسخة الأول منهما:
وصل من حضرة سيدنا- أطال الله بقاءه ومدّته وحرس عزه ونعمته، وضاعف سعادته وكبت حسدته- كتاب كريم، مودعه طول جسيم، وفي ضمنه در نظيم، فابتهجت بتناوله، وقررت عينا بتأمله، وتذكرت الأوقات التي أسعد الدهر فيها برؤيته، وأحظى باجتلاء فضله وروايته، وشكرت الله على ما يوليه من حسن صنعه، وسألته جلّت عظمته أن يجعل النعمة راهنة بربعه، والسعادة جاذبة أبدا بضبعه، وسررت بما بشرني به من نجابة السيد الرئيس الولد النفيس- أمتع الله ببقائه وأتاح لي تجدد الانس بلقائه- ولم أستبعد أن يقمر هلاله بل يبدر، ولا استبدعت أن يورق غصن دوحته الزكية ويثمر، والله تعالى يمليه أطول الأعمار، في رفاهة الأسرار، ومواتاة الأقدار، حتى يعاين أسباطه، ويضاعف باجتماعهم وتضاعفهم بحوزته اغتباطه. فأما الملحة إن أمكن تنفيذها مع أحد المترددين إلى هذا المكان لألحق بها الزيادة وأهذبها كما يطابق الارادة أوعز به. وأما «درّة الغوّاص في أوهام الخواص» فأرجو أن ينسأ «1» الاصعاد إلى بغداد لتصفحها من البدء وكأن قد، وإلى أن يسهل المأمول من الالتقاء، فما أولى همته الكريمة بإتحافي بالأنباء، وانهاضي بما يسنح من الأوطار والأهواء، ورأيه أعلى إن شاء الله.
نسخة الكتاب الثاني وهو المنفذ مع «الملحة» المذكورة:(5/2212)
لئن كانت الأيام أحسنّ مرة ... إليّ لقد عادت لهنّ ذنوب
إذا فكرت- أطال الله بقاء سيدنا وضاعف سعادته وكبت حسدته- فيما كان سمح به الزمان من تلك الملاقاة الحلوة، وإن كانت أقلّ من الحسوة، أعظمت قيمة حسناه، ووجدتها أحلى إسعاف وأسناه، ثم إذا فكرت فيما أعقب من الفرقة، وألهب في الصدر من الحرقة، وجدته كمن رجع في المنحة، وطمس الفرحة بالترحة، ولولا تعلّة القلب المشجوّ، بالتلاقي المرجوّ، لذاب من اتقاد الشوق، ولقال: «شبّ عمرو عن الطوق» . وفي لوامح تلك الألمعية، ما يغني عن تبيان تلك الطوية، وكان وصل من حضرته- أنّسها الله تعالى- ما أعرب فيه عن كريم عهده، وتباريح وجده، فلم أستبدع العذوبة من ورده، ولا استغربت ما تولى من بره وحسن عهده، وبمقتضى هذه الأوامر، والطّول المتناصر، انعكافي على الشكر، واعترافي بعوارفه الغرّ. فأما استطلاع «ملحة الاعراب» المشتبهة بالسراب، فقد آثرت خزائنه- عمرها الله تعالى- بمسودتها، على شعث «1» بنيتها وشوه خلقتها، ولو لم تعرض حادثة العرب، العائقة عن كل أرب، لزففتها كما تزفّ العروس المقيّنة، والخطب المزينة، غير أني أرجو أن ترزق حظوة القباح، وألا تجبه بالذمّ الصراح، ولكتبه- حرس الله نعمته- عندي موقع أنفس التحف، وشكري على التكرّم بها شكر من اتّشّح بها والتحف، وسيدنا أمين الدولة رئيس الحكماء، مخدوم بأفضل دعاء، وأطيب ثناء وسلام، ولرأيه- أدام الله نعمته- في الإيعاز بالوقوف على ما شرحته، وتمثل ما أوضحته، علوه إن شاء الله تعالى.
نسخة كتاب كتبه ابن الحريري إلى أبي الفتح ابن التلميذ قبل اللقاء:
جزى الله خيرا والجزاء بكفّه ... بني صاعد أهل السيادة والمجد
هم ذكروني والمهامه بيننا ... كما ارفضّ غيث من تهامة في نجد
لو أخذت في وصف شغفي بمناقب سيدنا- أطال الله بقاءه وأدام علاءه وحرس نعماءه وكبت حساده وأعداءه- وما أنا بصدده من مدح سؤدده، وشرح تطوّله وتودده، لكنت بمثابة المغترّين، في محاولة عدد رمل يبرين، لكنني راج أن أحظى من ألمعيته الثاقبة، وبصيرته الصائبة، بما يمثل له عقيدتي، ويطلعه على نخيلة مودتي،(5/2213)
وما أملك في مقابلة مفاتحته التي أخلصت له إيجاب الحق، وفضيلة السبق، إلا الثناء الذي أتلو صحائفه، والدعاء الذي أقيم في كلّ وقت وظائفه. والله سبحانه يحسن توفيقي لما يشيّد مباني المودة، التي أعتدها أفضل معاني «1» العدة. ثم إني لفرط اللهج باستملاء فضائله النيرة، واستطلاع محاسنه المسيّرة، أسائل عن خصائصه الركبان، وأطرب بسماعها ولا طرب النشوان.
ولما حضر الشيخ الأديب الرئيس أبو القاسم بن الموذ- أدام الله تمكينه- ألفيته مواليا مغاليا، وداعية إليه وداعيا، فازددت كلفا بما وعيته منه، وشغفا بما استوضحته عنه. واستدللت على كمال سيدنا باستخلاص شكر مثله، وتحققت وفور أفضاله وفضله، فافتتحت المكاتبة بتأدية هذه الشهادة، واستمداد سنّة المواصلة المعتادة، والتكرمة التي تقتضيها بواعث السيادة. ولرأيه في الوقوف على ما كتبته، والتطول فيه بما توجبه أريحيته، علوه، إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى سديد الدولة رسالة صدّرها بهذين البيتين:
عندي بشكرك ناطقان فواحد ... آثار طولك واللسان الثاني
ومجال منّتك التي أوليتني ... في الشكر أفصح من مجال لساني
وصدّر رسالة أخرى إليه بهذه الأبيات:
أهنّيك بل نفسي أهنّي بما سنّى ... لك الله من نيل المنى وبما أسنى
شكرت زماني بعد ما كنت عاتبا ... عليه لما أسدى إليك من الحسنى
وأيقنت إذ واتاك أن قد تيقظت ... لارضاء أهل الأرض مقلته الوسنى
ففخرا بما في عظم فخرك شبهه ... ولا لك شبه في الأنام إذا قسنا
جمال الورى ملّيت تشريفك الذي ... أفاض عليك الصيت والعزّ والحسنى
ومن عجب أني أهنيك بالذي ... أهنّى به لكن كذا سنّ من سنا
وكتب إلى المؤيد أبي إسماعيل الطغرائي يهنئه بولاية الطغرائي في سنة تسع وخمسمائة، فأجابه الطغرائي بجواب هذا نسخته «2» :(5/2214)
ما الروض أضحكت السحاب ثغوره ... وأفاح أنفاس الصبا منثوره
يوما بأبهج من كتاب نمنمت ... يمناك يا شرف الكفاة سطوره
وافى إليّ فتهت حين رأيته ... تيه المولّى إذ رأى منشوره
فلثمته عشرا ولو قبّلته ... ألفا وألفا لم أوفّ مهوره
وفضضته عن لؤلؤ ولو انه ... للسمط زان فصوله وشذوره
وأجلت منه الطّرف فيما راقه ... وأتاح للقلب الكئيب سروره
قسما لأنت الفرد في الفضل الذي ... لولاك أطفأت الجهالة نوره
منك امترى لما ارتضعت لبانه ... وبك ازدهى لما احتلبت شطوره
فاسلم له حتى تجدّد ما عفا ... منه وتجبر وهنه وكسوره
واعذر وليّك إن تقاصر سعيه ... واغفر له تقصيره وقصوره
وصل من المجلس السامي المؤيدي- ضاعف الله علوه، وأضعف عدوه، وأكمل سعوده، وأكمد حسوده- كتاب اتسم بالمكرمة الغراء، وابتسم عن التكرمة العذراء، فخلته كتاب الأمان من الزمان، وتلقيته كما يتلقى الانسان صحيفة الاحسان، وقابلت ما أودع من البر، والطّول المبرّ، بالشكر الذي هو جهد المقلّ، ونسك المستقلّ، ووجدت ما ألحف من التجميل، وأتحف من الجميل، ما كانت أطماعي تتوق إليه، وآمالي تحوم حواليه، إذ ما زلت مند استمليت وصف المناقب المؤيدية، ورويت خبرها عن الراوية الشريفة الشرفية، أبعث قلمي على أن يفاتح، وأن يكون الرائد لي والماتح، وهو ينكص نكوص الهيوبة، وينكل نكول الهام عن الضريبة، فأكابد لإحجامه الأسى، وأزجي الأيام بلعلّ وعسى، إلى أن بديت، وهديت وأريت، كيف يحيي الله من يميت، فلم يبق بعد أن أنشط العقال، واستدعي المقال، إلا أن أنقل الحشف إلى هجر، وأزفّ الهشيم إلى الشجر، فأصدرت هذه الخدمة المتشحة بالخجل، المرتعشة من الوجل، وأنا معترف بسالف التقصير، ومعتذر عنه باللسان القصير، فإن قرّبت عند الوصول، وقرنت بحظوة القبول، فذلك الذي كانت تتمنّى، وحق لي ولها أن تهنّى، وإن ألغيت إلغاء الحوار في الدية، وندّد بمفاضحها في الأندية، فما هضمت فيما قوبلت، ولا ظلمت إذ ما(5/2215)
قبلت، على أنّ لكلّ امرىء ما نوى، وأن تعفوا أقرب للتقوى. وإن كان وضح اجتهادي فيما وقف من الوطر، الذي تأكّد فيه اعتراض القدر، وانتقاص النظر، فيا بردها على الكبد، وبشرى خادمه المجتهد. ثم إن استخدمت بعد في خدمة واجتهدت، وانتهزت فرصة فريضتها ولو جاهدت، فللرأي الشريف في الإمام بتحسين ما يتأمل، وتحقيق ما يؤمل، مزيد السموّ، إن شاء الله تعالى.
[907]
القاسم بن فيره بن أبي القاسم أبو محمد
الرعيني ثم الشاطبي المقرىء: كان فاضلا في النحو والقراءة وعلم التفسير، له لحديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نظم قصيدة من خمسمائة بيت في كتاب التمهيد لابن عبد البر، وكان شعره عقدا صعبا لا يكاد يفهم، من ذلك قوله:
يلومونني إذ ما وجدت ملائما ... وما لي مليم حين سمت الأكارما
وقالوا تعلّم للعلوم نفاقها ... بسحر نفاق يستخفّ العزائما
وهي قصيدة طويلة.
وله:
بكى الناس قبلي لا كمثل مصائبي ... بدمع مطيع كالسحاب الصوائب
وكنا جميعا ثم شتت شملنا ... تفرّق أهواء عراض المواكب
وله قصيدة نظم فيها «المقنع» لأبي عمرو الداني في خط المصحف.
وكان رجلا صالحا صدوقا في القول مجدّا في الفعل، ظهرت عليه كرامات الصالحين كسماع الأذان بجامع مصر وقت الزوال من غير مؤذن ولا يسمع ذلك إلا عباد الله الصالحون. وكان يعذل أصحابه على أشياء لم يطلعوه عليها، وكان مولده في سنة
__________
(907) - ترجمة ابن فيره L) Ferro (LL الشاطبي في تكملة ابن الأبار وتكملة المنذري (رقم: 237) وذيل الروضتين: 7 وابن خلكان 4: 71 وعبر الذهبي 4: 273 وسير الذهبي 21: 261 والوافي للصفدي (خ) ونكت الهميان: 228 وطبقات السبكي 7: 270 والأسنوي 2: 113 والبداية والنهاية 13: 10 وطبقات الجزري 2: 20 وبغية الوعاة 2: 260 والنفح 1: 339 والشذرات 4: 301.(5/2216)
ثمان وثلاثين وخمسمائة. ومات رحمه الله يوم الأحد بعد صلاة العصر الثامن والعشرين من جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، ودفن في مقبرة البيساني بسارية مصر بعد أن أضر.
أخذ القراءة عن الشيخين الإمامين أبي الحسن علي بن هذيل وأبي عبد الله محمد بن أبي العاص النفري «1» .
قال الشيخ الإمام علم الدين أبو الحسن علي بن محمد السخاوي تلميذه وشارح قصيدته، وقد وصف دينه وورعه وصلاحه، ثم قال: وذكرت له يوما جامع مصر وقلت له: قد قيل إن الأذان يسمع فيه من غير المؤذنين ولا يدرى ما هو، فقال: قد سمعته مرارا لا أحصيها عند الزوال.
وقال لي يوما: جرت بيني وبين الشيطان مخاطبة فقال: فعلت كذا فسأهلكك، فقلت له: والله ما أبالي بك.
وقال لي يوما: كنت في طريق وتخلّف عني من كان معي وأنا على الدابة وأقبل اثنان فسبّني أحدهما سبّا قبيحا، فأقبلت على الاستعاذة، وبقي كذلك ما شاء الله، ثم قال له الآخر: دعه. وفي تلك الحال لحقني من كان معي فأخبرته بذلك فطلب يمينا وشمالا فلم يجد أحدا.
وكان رحمه الله يعذل أصحابه في السرّ على أشياء لا يعلمها منهم إلا الله عزوجل، وكان يجلس إليه من لا يعرفه فلا يرتاب به أنه يبصر لأنه لذكائه، لا يظهر منه ما يظهر من الأعمى في حركاته.
[908]
القاسم بن القاسم بن عمر بن منصور الواسطي
أبو محمد: مولده بواسط العراق في سنة خمسين وخمسمائة في ذي الحجة، ومات بحلب في يوم الخميس
__________
(908) - ترجمته في إنباه الرواة 3: 31 وابن الشعار 5: 573 والوافي للصفدي (خ) والفوات 3: 192 وبغية الوعاة 2: 260.(5/2217)
رابع ربيع الأول سنة ست وعشرين وستمائة، أديب نحوي لغوي فاضل أريب، له تصانيف حسان ومعرفة بهذا الشان.
قرأ النحو بواسط وبغداد على الشيخ مصدق بن شبيب، واللغة على عميد الرؤساء هبة الله بن أيوب، وقرأ القرآن على الشيخ أبي بكر الباقلاني بواسط، وعلى الشيخ علي بن هياب الجماجمي بواسط أيضا، وسمع كثيرا من كتب اللغة والنحو والحديث على جماعة يطول شرحهم عليّ: منهم أبو الفتح محمد بن أحمد بن بختيار الماندائي وأحمد بن الحسين بن المبارك بن نغوبا، سمع عليه المقامات عن الحريري، فانتقل من بغداد إلى حلب في سنة تسع وثمانين وخمسمائة فأقام بها يقرىء العلم ويفيد أهلها نحوا ولغة وفنون علوم الأدب.
وصنّف بها عدة تصانيف وهي على ما أملاه عليّ هو بباب داره من حاضر حلب في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة: كتاب شرح اللمع لابن جني. كتاب شرح التصريف الملوكي لابن جني أيضا. كتاب فعلت وأفعلت بمعنى على حروف المعجم. كتاب في اللغة لم يتم إلى هذه المدة. كتاب شرح المقامات على حروف المعجم ترتيب العزيزي. كتاب شرح المقامات آخر على ترتيب المقامات. كتاب شرح المقامات آخر على ترتيب آخر. كتاب خطب قليلة. كتاب رسالة فيما أخذ على ابن النابلسي الشاعر في قصيدة نظمها في الامام الناصر لدين الله أبي العباس صلوات الله عليه أولها: الحمد لله على نعمه المتظاهرة، والصلاة على خير خلقه محمد وعترته الطاهرة، وبعد فإنه لما أخرت الفضائل عن الرذائل، وقدمت الأواخر على الأوائل، ونبذ عهد القدماء، وجهل قدر العلماء، وصار عطاء الأموال باعتبار الأحوال لا باختيار الأقوال، وظهر عظيم الاجلال بالأسماء لا بالأفعال، علمت أن الأقدار هي التي تعطي وتمنع، وتخفض وترفع، فأخملت عند ذلك من ذكري وقدري، وأخفيت من نظمي ونثري. «ولأمر ما جدع قصير أنفه» «1» .
(ومن شعر نفسه) :
وما لي إلى العلياء ذنب علمته ... ولا أنا عن كسب المحامد قاعد(5/2218)
وقلت أصبر على كيد الزمان وكدّه، فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده:
فلو لم يعل إلا ذو محلّ ... تعالى الجيش وانحطّ القتام «1»
إلى أن بلغني ممن يعوّل عليه، ويرجع في القول إليه، عن بعض شعراء هذا الزمان، ممن يشار إليه بالبنان، أنه أنشد عنده بيت للوليد «2» ، يشهد له بالفصاحة والتجويد، وهو قوله:
إذا محاسني اللائي أدلّ بها ... صارت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
فقال مقال المفتري، كم قد خرينا على البحتري، فصبرت قلبي على أذاته، وأغضيت جفني على قذاته، حتى ابتدرني بالبادرة، التي يقصّر عنها لسان الحادرة.
فلو كان النابلسيّ، كابن هانىء الأندلسي، لزلزلت الأرض زلزالها، وأخرجت الأرض أثقالها. فيا لله العجب متى أشرفت الظلمة على الضياء، أو علت الأرض على السماء، وأين السها من القمر؟ وكيف يضاهى الغمر بالغمر؟ فإنّا لله وأفوض أمري إلى الله، أفي كل سحابة أراع برعد، وفي كل واد بنو سعد «3» :
وإني شقيّ باللئام ولا ترى ... شقيا بهم إلا كريم الشمائل
لقد تحككت العقرب بالأفعى، واستنّت الفصال حتى القرعى «4» .
وطاولت الأرض السماء سفاهة ... وفاخرت الشهب الحصى والجنادل «5»
وما ذلك التيه والصلف، والتجاوز للحدّ والسرف؟ إلّا لأنه كلما جرّ جريرا «6» ، اعتقد أنه قد جرّ جريرا، وكلما ركب الكميت، ظنّ أنه قد ارتكب الكميت، وكلما أعظم من غير عظم، وأكرم من غير كرم، شمخ بأنفه وطال، وتطاول إلى ما لن ينال، وزعم أنه قد بلّد لبيدا، وعبّد عبيدا، ولا والله ليس الأمر كما زعم، ولا الشعر كما نظم، ولكنها المكارم السلطانية الملكية الظاهرية التي نوّهت بذكره فسترها، ورفعت(5/2219)
من قدره فكفرها- بقوله ما أذكره إذا انتهيت إليه. ولما طلب العبد كراعا، فأعطي ذراعا «1» ، خرج على من يعرفه، وبهرج على من يكشفه، فقلت: لا مخبأ بعد بوس، ولا عطر بعد عروس «2» :
وما أنا بالغيران من دون جاره ... إذا أنا لم أصبح غيورا على العلم
وقصدت قصيدا من شعره، يزعم أنها من قلائد درّه، قد هذّبها في مدة سنين، ومدح بها أمير المؤمنين، وقال فيها: فانظر لنفسك أي درّ تنظم:
فكان لعمري ناظما غير أنه ... كحاطب ليل فاته منه طائل
«فواعجبا كم يدّعي الفضل ناقص ... ووا أسفا كم يظهر النقص فاضل» «3»
وتتبعت ما فيها من غلطاته، وأظهرت ما خفي فيها من سقطاته، ولبست له جلد النمر، واندفقت عليه كالسيل المنهمر، بعد أن كتبها بخطه، وزيّنها بإعرابه وضبطه:
وابن اللبون إذا مالزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس «4»
فوجدته قد أخطأ منها في واحد وعشرين مكانا، عدم فيها تمكنا من العلم وإمكانا، فمنها ستة عشر موضعا توضحها الكتابة والنظر، ومنها خمسة توضحها المجادلة والنظر، فهذا من جيّد مختاره، وما يظهر على اختياره، وان وقع إليّ شيء من مزوّق شعره، أو منوّق مستعاره، لأعصبنّه فيه عصب السّلمة، ولأعذّبنه تعذيب الظّلمة:
فان قلتم إنا ظلمنا فلم نكن ... بدأنا ولكنّا أسأنا التقاضيا
ولو أنه اقتصر على قصوره، وأنفق من ميسوره، وستر عواره، ولم يبد شواره، لطويته على غرّه، ولم أنبّه على عاره وعرّه، فان «من سلك الجدد أمن العثار» «5» وسلم من سالم النقع المثار، ولكن كان «كالباحث عن حتفه بظلفه» «6» فلحق(5/2220)
بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً
(الكهف: 103) وخطؤه في هذه القصيدة ينقسم قسمين: قسم فاته فيه أدب الدرس فيقسم أيضا قسمين قسم لفظي وقسم معنوي، فأما القسم اللفظي فانه ينقسم أيضا قسمين قسم لغويّ وقسم صناعي، فأما القسم اللغوي فانه كذا وكذا، لم يحتمل هذا المختصر ذكره.
وأنشدني لنفسه من قصيدة «1» :
ديباج وجهك بالعذار مطرّز ... برزت محاسنه وأنت مبرّز
وبدت على غصن الصبا لك روضة ... والغصن ينبت في الرياض ويغرز
وجنت على وجنات خدك حمرة ... خجل الشقيق بها وحار القرمز
لو كنت مدعيا نبوة يوسف ... لقضى القياس بأن حسنك معجز
وأنشدني لنفسه من قصيدة «2» :
زهر الحسن فوق زهر الرياض ... منه للغصن حمرة في بياض
قد حمى ورده ونرجسه الغ ... ضّ سيوف من الجفون مواضي
فإذا ما اجتنيت باللحظ فاحذر ... ما جنت صحة العيون المراض
فلها في القلوب فتكة باغ ... رويت عنه فتكة البرّاض
وإذا فوّقت سهاما من الهد ... ب رمين السهام بالأغراض
واغتنم بهجة الزمان وبادر ... شمس أيامه الطوال العراض
بشموس الكؤوس تحت نجوم ... في طلوع من أفقها وانقضاض
واجل من جوهر الدنان عروسا ... نطقت عن جواهر الأعراض
كلما أبرزت أرتك لها وج ... هـ انبساط يعطيك وجه انقباض
فعلى الأفق للغمام ملاء ... طرّزتها البروق بالايماض
وكأن الرعود إرزام نوق ... فصلت دونها بنات المخاض(5/2221)
أو صهيل الجياد للملك الظا ... هر تسري بالجحفل النهاض
وأنشدني لنفسه يهجو ابن النابلسي [الشاعر] «1» :
لا تعجبنّ لمدلوي ... هـ إذا بدا شبه المريض
قد ذاب من بخر بفي ... هـ بدا من الخلق البغيض
وتكسّرت أسنانه ... بالعضّ في جعس القريض
وتقطعت أنفاسه ... عرضا بتقطيع العروض
وأنشدني لنفسه يهجو ابن النابلسي المذكور «2» :
يا من تأمل مدلوي ... هـ وشكّ فيما يسقمه
انظر إلى بخر بفي ... هـ وما أظنّك تفهمه
لا تحسبنّ بأنه ... نفس يغيره فمه
لكنما أنفاسه ... نتنت بشعر ينظمه
وأنشدنا لنفسه في ذي الحجة سنة عشرين وستمائة بحلب»
:
أرى بغضي على الجهلاء داء ... يموت ببعضه القلب العليل
فهم موتى النفوس بغير دفن ... وأحياء عزيزهم ذليل
يغطّون السماء بكلّ كفّ ... لها في الطول تقصير طويل
ويبدون الطلاقة من وجوه ... كما يبدو لك الحجر الصقيل
إذا قاموا لمجد أقعدتهم ... مسالك ما لهم فيها سبيل
وإن طلبوا الصعود فمستحيل ... وان لزموا النزول فما يزول
كذاك السّجل في الدولاب يعلو ... صعودا والصعود له نزول
وأنشدنا لنفسه بالتاريخ «4» :
لنا صديق به انقباض ... ونحن بالبسط نستلذّ(5/2222)
لا يعرف الفتح في يديه ... إلا إذا ما أتاه أخذ
فكفه «كيف» حين يعطي ... شيئا وبعد العطاء «منذ»
وأنشدني لنفسه أيضا «1» :
لا ترد من خيار دهرك خيرا ... فبعيد من السراب الشراب
رونق كالحباب يعلو على الكا ... س ولكن تحت الحباب الحباب
عذبت في النفاق ألسنة القو ... م وفي الألسن العذاب العذاب
وأنشدني لنفسه أيضا موشحة على طريقة المغاربة «2» :
في زهرة وطيب ... بستاني من أوجه ملاح
أجلو على القضيب ... ريحاني والورد والاقاح
ما روضة الربيع ... في حلّة الكمال
تزهو على ربيع ... مرّت به الشمال
في الحسن كالبديع ... بالحسن والجمال
ناهيك من حبيب ... نشوان بالدلّ وهو صاح
إن قلت والهيبي ... حيّاني من ثغره براح
كم بتّ والكؤوس ... تجلى من الدنان
كأنها عروس ... زفّت من الجنان
تبدو لنا الشموس ... منها على البنان
لم أخش من رقيب ... ينهاني ألهو إلى الصباح
مع شادن ربيب ... فتان زندي له وشاح
خيل الصبا بركض ... تجري مع الغواه
في سنّتي وفرضي ... لا أبتغي سواه(5/2223)
وحجتي لعرضي ... ما تنقل الرواه
عن عاقل لبيب ... أفتاني أنّ الهوى مباح
والرشف من شنيب ... ريان ما فيه من جناح
وأنشدني لنفسه موشحة «1» :
أي عنبريه في غلائل الغلس ... من زبرجديه تنبه «2» النّفس
جادها الغمام ... فانتشى بها الزّهر
وابتدا الكمام ... أعينا بها سهر
وشدا الحمام ... حين صفّق النهر
وارتدت عشيّه كملابس العرس ... حللا سنيّه ما دنت من الدّنس
واملأ الكؤوسا ... فضة على الذهب
واجلها عروسا ... توّجت من الشهب
تطلع الشّموسا ... في سنا من اللهب
فلها مزيه في الدجى على القبس ... بحلى شهيّه كمحاسن الّلعس
يخبر سناها ... عن تطاير الشرر
فاز من جناها ... من قلائد الدّرر
فإذا تناهى ... في الخلائق الغرر
قلت ظهريه أظهرت لملتمس ... من علا أبيّه ما تنال بالخلس
وأنشدني لنفسه أيضا:
لا خير في أوجه صباح ... تسفر عن أنفس قباح
كالجرح يبنى على فساد ... بظاهر ظاهر الصلاح
فقل لمن ماله مصون ... أصبت في عرضك المباح(5/2224)
وأنشدني أيضا لنفسه:
جدّ الصبا في أباطيل الهوى لعب ... وراحة اللهو في حكم النهى تعب
وأقرب الناس من مجد يؤثله ... من أبعدته مرامي العزم والطلب
وقادها كظلام الليل حاملة ... أهلّة طلعت من بينها الشهب
منقضّة من سماء النقع في أفق ... شيطانه بغمام الدرع محتجب
واسودّ وجه الضحى مما أشار به ... وأشرق الأبيضان الوجه والنسب
في موقف يسلب الأرواح سالبها ... حيث المواضي قواض والقنا سلب
لا يرهب المرء ما لم تبد سطوته ... لولا السنان استوى الخطيّ والقصب
إن النهوض إلى العلياء مكرمة ... لها التذاذان مشهود ومرتقب
والملك صنفان: محصول وملتمس ... والمجد نوعان: موروث ومكتسب
والناس ضدان: مرزوق ومحترم ... تحت الخمول ومغصوب ومغتصب
والطاهر النفس لا ترضيه مرتبة ... في الأرض إلا إذا انحطت لها الرتب
والفضل كسب فمن يقعد به نسب ... ينهض به الأفضلان العلم والحسب
لله درّ المساعي ما استدرّ بها ... خلف السيادة إلا أمكن الحلب
وحبذا همة في العزم ما انتدبت ... لمبهم الخطب إلا زالت الحجب
وموطنا يستفاد العزّ منه كما ... أفادت العزّ من سلطانها حلب
ومنها:
مؤيد الرأي والرايات قد ألفت ... ذوائب القوم من راياتها العذب
إن نازلوه وقد حقّ النزال فمن ... أنصاره الخاذلان الجبن والرعب
أو كاتبوه فخيل من كتائبه ... تجيب لا المخبران الرسل والكتب
مغاور ينهب الأعمار ذابله ... في غارة الحرب والأموال تنتهب
في جحفل قابلوا شمس النهار على ... مثل البحار بمثل الموج يضطرب
حتى كأنّ شعاع الشمس بينهم ... فوق الدّروع على غدرانها لهب(5/2225)
ما أنكر الهام من أسيافه ظبة ... وإنما أنكرت أسيافه القرب
ما يدفع الخطب إلا كلّ مندفع ... في مدحه الأفصحان الشعر والخطب
ومن إذا ما انتمى في يوم مفتخر ... أطاعه العاصيان العجم والعرب
وأنشدني من قصيدة لنفسه أيضا:
أفي البان أن بان الخليط مخبّر ... عسى ما انطوى من عهد لمياء ينشر
نعم حركات في اعتدال سكونها ... أحاديث يرويها النسيم المعطر
يودّ ظلام الليل وهو ممسّك ... لذاذتها والصبح وهو مزعفر
أحاديث لو أن النجوم تمتعت ... بأسرارها لم تدر كيف تغوّر
يموت بها داء الهوى وهو قاتل ... ويحيا بها ميت الجوى وهو مقبر
فيا لنسيم صحّتي في اعتلاله ... وصحوي إذا ما مر بي وهو مسكر
كأن به مشمولة بابلية ... صفت وهي من غصن الشمائل تعصر
إذا نشأت مالت بلبك نشوة ... كما مال مهزوز يماح ويمطر
وقال يمدح الوزير جمال الدين القاضي الأكرم أبا الحسن علي بن يوسف بن ابراهيم الشيباني القفطي من صعيد مصر ويلتمس منه أن يرتبه في خدمة «1» :
يا سيدي قد رميت من زمني ... بحادث ضاق عنه محتملي
وأنت في رتبة إذا نظرت ... إليّ صار الزمان من قبلي
والنظم والنثر قد أجدتهما ... فيك فلا تترك الإجادة لي
فداك قوم إذا وقفت بهم ... رأيتني واقفا على طلل
تشغل أموالهم مساعيهم ... فهم عن المكرمات في شغل
تحمي حماها أعراضهم فإذا ... ماتت حماها سور من البخل
معاول الذمّ فيه عاملة ... إعمالها في مغائر الجبل(5/2226)
نعلك تاج إذا رفعتهم ... لرأس حاف منهم ومنتعل
فاسمع حديثي فلي مغازلة ... تبثّ شكوى في موضع الغزل
قد كنت في راحة مكمّلة ... أحيي المعالي بميّت الأمل
أرفل في عزة القناعة في ... ذيل على النائبات منسدل
فعندما طالت البطالة بي ... وصار لي حاجة إلى العمل
قال أناس نبّه لها عمرا ... فقلت حسبي رأي الوزير علي
يعني عمر بن الوبار أحد حجاب أتابك طغرل شهاب الدين الخادم المستولي في أيامنا على حلب وقلعتها:
قد بتّ من وعده على ثقة ... أمنت في حليها من العطل
فالأكرم ابن الكرام لو سبقت ... وعوده بالشباب لم يحل
يفرّ من وعده المطال كما ... تفرّ آراؤه من الزلل
أخلاقه حلوة المذاق فلو ... شبهتها ما ارتضيت بالعسل
بمنطق لو سرت فصاحته ... في اللّكن لا ستعصمت من الخطل
تمجّ أخلاقه إذا كتبت ... ماء المنى من أسنة الأسل
وان سطت في ملمة نسيت ... صفّين منها ووقعة الجمل
تنظم درّا على الطروس كما ... ينظم درّ الحليّ في الحلل
مبيّن علمه لسائله ... مسائلا أشكلت على الأول
لكلّ علم في بابه علم ... يهدي إلى قبلة من القبل
أيّ جمال ما فيه أجمله ... على وجوه التفصيل والجمل
جلّ الذي أظهرت بدائعه ... منه معاني الرجال في رجل(5/2227)
[909]
القاسم بن محمد بن بشار الأنباري أبو محمد والد أبي بكر
محمد بن الأنباري: كان محدثا أخباريا ثقة صاحب عربية، أخذ عن سلمة بن عاصم وأبي عكرمة الضبي؛ مات سنة أربع وثلاثمائة غرة ذي القعدة، وقال ثابت بن سنان: مات في صفر سنة خمس وثلاثمائة، ومن خطه نقلت.
قال محمد بن إسحاق: وله من التصانيف: كتاب خلق الإنسان. كتاب خلق الفرس. كتاب الأمثال. كتاب المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث. كتاب غريب الحديث. كتاب شرح السبع الطوال، رواها أبو غالب ابن بشران عن علي بن كردان عن أبي بكر أحمد بن محمد بن الجراح الخراز عن أبي بكر عن أبيه.
ومما يروى لابن الأنباري هذا:
إني بأحكام النجوم مكذّب ... ولمدعيها لائم ومؤنّب
الغيب يعلمه المهيمن وحده ... وعن الخلائق أجمعين مغيّب
الله يعطي وهو يمنع قادرا ... فمن المنجم ويحه والكوكب
قرأت في «كتاب الفهرست» الذي تممه الوزير الكامل أبو القاسم المغربي ولم أجد هذا في النسخة التي بخطّ المصنف أو قد ذهب عن ذكري قال: ذكر أبو عمر الزاهد قال، أخبرني أبو محمد الأنباري قال: قدمت الى بغداد، ومحمد صغير، وليس لي دار، فبعث بي ثعلب إلى قوم يقال لهم بنو بدر فأعطوني شيئا لا يكفيني وذكروا «كتاب العين» فقلت: عندي كتاب العين، فقالوا لي: بكم تبيعه؟ فقلت:
بخمسين دينارا، فقالوا لي: قد أخذناه بما قلت إن قال ثعلب إنه للخليل، قلت، فإن لم يقل إنه للخليل بكم تأخذونه؟ قالوا: بعشرين دينارا، فأتيت أبا العباس من فوري فقلت له: يا سيدي هب لي خمسين دينارا، فقال لي: أنت مجنون، وهذا تأكيد، فقلت له: لست أريد من مالك، وحدثته الحديث، قال: فأكذب؟ قلت:
__________
(909) - ترجمة ابن الأنباري أبي محمد في الفهرست: 81 وطبقات الزبيدي: 208 ومراتب النحويين: 97 وإنباه الرواة 3: 28 وتاريخ بغداد 12: 440 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 261.(5/2228)
حاشاك ولكن أنت أخبرتنا أن الخليل فرغ من باب العين ثم مات فاذا حضرنا بين يديك للحكومة ضع يدك على ما لا تشكّ فيه، فقال: تريد أن أنجش لك؟ قلت: نعم، قال: هاتهم فبكروا وسبقوني وحضرت فأخرجوا الكتاب وناولوه وقالوا: هذا للخليل أم لا؟ ففتح حتى توسّط باب العين وقال: هذا كلام الخليل ثلاثا، قال: فأخذت خمسين دينارا.
[910]
القاسم بن محمد الديمرتي أبو محمد الأصبهاني:
من قرية من قراها يقال لها ديمرت، روى عن إبراهيم بن متّويه الأصبهاني. وقال حمزة: أبو محمد القاسم الديمرتي لغوي نحوي عني في صغره بتصحيح كتب وقراءاتها ثم هو منتصب منذ أربعين سنة تقرأ عليه الكتب.
وحدث أبو نصر منصور بن أحمد بن محمد بن الشيرازي خازن كتب عضد الدولة ومعلم ولده صمصام الدولة وقاضي فارس وأعمالها قال: أنشدنا أبو محمد القاسم بن محمد الديمرتي لنفسه وقد سئل أن يجمع الشعراء العشرة:
الأصل أن تحكم شعر العشره ... أشعار قوم في زمان لم تره
أشعار بشر ولبيد وعدي ... نعم والاعشى وعبيد الأسدي
حتى إذا أحكمت شعر النابغة ... [............... ...............]
فابتد في شعر امرىء القيس ... فالفخر في ذاك وشعر أوس
وابتدر القوم وفيهم طرفه ... وكلّ ما قال زهير في صفه
قال المؤلف: وهذا شعر هذا العلامة كما ترى في غاية الركاكة والرداءة ولم يستطع تصريع البيت الذي فيه ذكر النابغة.
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب تقويم الألسنة. كتاب العارض في الكامل. كتاب تفسير الحماسة. كتاب غريب الحديث. كتاب الابانة.
__________
(910) - ترجمة الديمرتي في الفهرست: 94 وأخبار اصبهان 2: 163 وإنباه الرواة 3: 30 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 263.(5/2229)
قال حمزة: وله كتب كبار وصغار فمن كبار كتبه: كتاب الصفات. كتاب تفسير ضروب المنطق. كتاب سماه كتاب تهذيب الطبع يشتمل على قطعة كبيرة من نوادر اللغة.
ذكره أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» فقال: القاسم بن محمد الديمرتي الأديب أبو محمد روى عن إبراهيم بن متويه وإسحاق بن جميل ومحمد بن سهل بن الصباح.
[911]
القاسم بن محمد بن رمضان أبو الجود النحوي العجلاني:
كان في عصر أبي الفتح ابن جني وفي طبقته، وهو بصري. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب المختصر للمتعلمين. كتاب المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث. كتاب الفرق.
[912]
القاسم بن محمد بن مباشر الواسطي أبو نصر النحوي:
لقي ببغداد أصحاب أبي علي، وتنقّل في البلاد حتى نزل مصر فاستوطنها فقرأ عليه أهلها، وأخذ عنه أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ وبه تخرّج وزوجه من أخته، وكان ابن بابشاذ يخدمه وبه انتفع، ومات بمصر.
وله من الكتب: كتاب شرح اللمع. كتاب في النحو، رتبه على أبواب الجمل وشرح من كلّ باب مسألة.
[913]
القاسم بن معن المسعودي:
هو أبو عبد الله القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن غافل بن حبيب بن
__________
(911) - ترجمته في الفهرست: 92 وإنباه الرواة 3: 27 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 262.
(912) - ترجمته في الوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 262.
(913) - ترجمة القاسم المسعودي في طبقات ابن سعد 6: 267 وطبقات الزبيدي: 133 والفهرست: 76 ونور- القبس: 279 وإنباه الرواة 3: 30 وسير الذهبي 8: 170 وعبر الذهبي 1: 268 وتهذيب التهذيب 8: 338 والجواهر المضية 1: 412 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 263 والنجوم الزاهرة 2: 48 والشذرات 1: 286.(5/2230)
شمخ بن فار «1» بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، من أهل الكوفة، وكان فقيها على رأي أبي حنيفة ولقيه، وكان عالما ولي القضاء بالكوفة ومات سنة خمس وسبعين ومائة، خرج مع بعض أسباب الرشيد إلى الرّقة فمات في رأس عين.
وقال أحمد بن كامل القاضي: مات القاسم بن معن في سنة ثمان وثمانين ومائة.
قال المرزباني والأول أصحّ. وقال عبد الله بن جعفر: من علماء الكوفة بالعربية والفقه والشعر والأخبار والنسب القاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود الهذلي صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكان فقيها محدثا قاضيا، وله في اللغة: كتاب النوادر. كتاب غريب المصنف. وكتب في النحو ومذهب متروك. وكان الليث بن المظفر صاحب الخليل بن أحمد أحد من أخذ عنه النحو واللغة وروى عنه وأدخل في كتاب الخليل من علم القوم شيئا كثيرا فأفسد الكتاب بذلك، إلا أن القاسم من المحدّثين والفقهاء والزهاد والثقات، ولم يكن له بالكوفة في عصره نظير ولا أحد يخالفه في شيء يقوله، والفراء كثير الرواية عنه.
وحدث محمد بن سعد قال: القاسم بن معن يكنى أبا عبد الله، ولي قضاء الكوفة ولم يرزق عليه شيئا حتى مات، وكان عالما بالحديث والفقه والشعر والنسب وأيام الناس، وكان يقال له شعبيّ زمانه وكان ثقة سخيا.
وقال أحمد بن كامل: كان القاسم بن معن الهذلي قاضي الكوفة، وكان من أصحاب أبي حنيفة الأثبات في النقل، الرّفعاء في اللغة والفقه.
وحدث حماد بن إسحاق الموصلي قال: سمعت محمد بن كناسة قال، سمعت القاسم بن معن يقول: دخلت على عيسى بن موسى فقال لي: ما بعثت إليك إلا(5/2231)
لخير، قال: فهان والله في عيني حتى جلست واحتبيت في مجلسه، فقال لي:
تحتبي في مجلسي؟! يا غلام حلّ حبوته، قال قلت: لا عدمت تقويم الأمير، قال:
بعثت إليك لأولّيك القضاء، قلت: لا أفعل، قال: إن أبيت ضربتك خمسة وسابعين سوطا. قال قلت: لا يجيء من بعد إلا سابعين، قال قلت: وإن لم أفعل فعلت؟
قال: نعم، قال قلت، فذا إليّ.
وحدث الهيثم بن عدي قال: استقضى المنصور على الكوفة بعد عبد الرحمن بن أبي ليلى شريك بن عبد الله النخعي فلم يزل قاضيا حتى كانت خلافة الرشيد فاستقضى نوح بن دراج.
وحدث المرزباني عن علي بن صالح عن القاسم بن معن قال: عدت خشافا في مرضه الذي مات فيه فقال لي: يا أبا عبد الله ما أشوقني إليك، ولو كان لي نهوض خرجت إليك، ولولا أن بيتي قد آلى فأكرس لأحببت أن تدخله (يريد بالموالاة البعر بعر الشاء، وأكرس من الكرس وهو السرجين، قال العجاج:
يا صاح هل تعرف رسما مكرسا
) وكان خشاف من علماء أهل الكوفة باللغة. وحدث عن سليمان بن أبي شيخ قال، قال ابن حبيبات الكوفي للقاسم بن معن المسعودي القاضي «1» :
يا أيها العادل الموفّق وال ... قاسم بين الأرامل الصّدقه
ماذا ترى في عجائز رزح ... أمسين يشكون قلة النفقه
ما إن لهنّ الغداة من نشب ... يعرف الا قطيفة خلقه
بنات تسعين قد خرفن فما ... يفصلن بين الشواء والمرقه
فهنّ لولا انتظارهن دنا ... نيرك قطّعن بعد في السرقه
قال فقال القاسم: العجب أنه يوجب علينا دنانير ولا يوجب دراهم، قال:
وأعطاه ثلاثة دنانير.(5/2232)
[914]
قتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب:
وكان أكمه ولد أعمى، وكان أبوه أعرابيا ولد بالبادية، وأمه سرّية من مولّدات الأعراب، وكان يقول بشيء من القدر ثم رجع عنه، ويقال أيضا إنه كان ذا علم في القرآن والحديث والفقه.
قال الأصمعي: وقتادة حاطب ليل من الطبقة الثالثة من النابغين «1» بالبصرة؛ مات بالبصرة سنة سبع عشرة ومائة في أيام هشام بن عبد الملك وأخذ القراءة عن الحسن البصري وابن سيرين.
عن التوزي عن أبي عبيدة قال: ما كنا نفقد في كلّ أيام راكبا من ناحية بني أمية ينيخ على باب قتادة يسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وكان قتادة أجمع الناس.
ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي عن محمد بن سلام الجمحي عن عامر بن عبد الملك المسمعي قال: لقد كان الرجلان من بني مروان يختلفان في بيت شعر فيرسلان راكبا إلى قتادة يسأله، قال: ولقد قدم عليه رجل من عند بعض الخلفاء من بني مروان فقال لقتادة: من قتل عمرا وعامرا «2» ؟ فقال: قتلهما جحدر بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة. قال فشخص بها ثم عاد إليه فقال: أجل قتلهما جحدر ولكن كيف قتلهما جميعا؟ فقال: اعتوراه فطعن هذا بالسنان وهذا بالزجّ فعادى «3» بينهما.
__________
(914) - طبقات ابن سعد 7: 229 والمعارف: 462 والمعرفة والتاريخ 2: 227 ونور القبس (صفحات متفرقة) وطبقات الشيرازي: 89 وإنباه الرواة 3: 35 وأنساب السمعاني (السدوسي) وابن خلكان 4: 85 وتذكرة الحفاظ: 122 وسير الذهبي 5: 268 وميزان الاعتدال 3: 385 وعبر الذهبي 1: 146 والوافي للصفدي (خ) ونكت الهميان: 230 والبداية والنهاية 9: 313 وطبقات ابن الجزري 2: 25 ومرآة الجنان 1: 251 وتهذيب التهذيب 8: 351 والنجوم الزاهرة 1: 276 والشذرات 1: 153.(5/2233)
قال أبو يحيى الساجي حدثنا نصر بن علي الجهضمي مولاي عن خالد بن قيس قال، قال قتادة: ما نسيت شيئا قط، ثم قال: يا غلام ناولني نعلي، قال: نعلك في رجلك «1» .
[915]
قثم بن طلحة بن علي بن محمد بن علي
بن الحسن الزينبي أبو القاسم:
يعرف بابن الأتقى، وهو لقب أبيه طلحة. تولى قثم نقابة العباسيين مرتين: أولاهما في أيام المستضيء بأمر الله في سنة ست وستين وخمسمائة وعزل في ذي الحجة سنة ثمان وستين، والثانية في صفر سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة في أيام الناصر وعزل في سابع عشر ذي الحجة سنة تسعين، وولي بعد ذلك حجابة باب النوبي يوم الخميس خامس عشر ذي القعدة سنة ستمائة فوقعت فتنة ببغداد بين أهل باب الأزج والمأمونية، فركب ليسكّن الفتنة فلم تسكن فأخذ بيده حربة وحمل على إحدى الطائفتين ونادى يا لهاشم، وتداركه الشحنة حتى سكنت الفتنة، فعيب عليه وقيل أردت خرق الهيبة، لو ضربك أحد العوام فقتلك؟! فعزل عن حجبة الباب في ثالث عشر شهر رمضان سنة إحدى وستمائة ولم يستخدم بعد ذلك.
وكان فيه فضل وتميّز ومعرفة بالعلم وحرص عليه جدا خصوصا ما يتعلق بالأنساب والأخبار والأشعار، وجمع في ذلك جموعا بأيدي الناس، وكتب الكثير بخطه المليح، إلا أنّ خطّه لا يخلو من السقط مع ذلك. وسمع الحديث من أبي عبد الله الحسين بن عبد الرحمن الغزي وأبي بكر أحمد بن المقرب الكرخي وأبي الفتح محمد بن عبد الباقي بن سليمان وغيرهم، وسئل عن مولده فقال في سابع محرم سنة خمس وخمسين ومات في سادس رجب سنة سبع وستمائة.
__________
(915) - ترجمته في تكملة المنذري 2: 206 (وفيه تخريج) والوافي (خ) .(5/2234)
[916]
قدامة بن جعفر بن قدامة الكاتب
أبو الفرج: كان نصرانيا وأسلم على يد المكتفي بالله، وكان أحد البلغاء الفصحاء والفلاسفة الفضلاء وممن يشار إليه في علم المنطق، وكان أبوه جعفر ممن لا يفكّر فيه ولا علم عنده.
وذكر أبو الفرج ابن الجوزي في تاريخه: قدامة بن جعفر بن قدامة أبو الفرج الكاتب، له كتاب في الخراج وصناعة الكتابة، وقد سأل ثعلبا عن أشياء. مات في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة في أيام المطيع. وأنا لا أعتمد على ما تفرّد به ابن الجوزي لأنه عندي كثير التخليط، ولكنّ آخر ما علمنا من أمر قدامة أن أبا حيان ذكر أنه حضر مجلس الوزير الفضل بن جعفر بن الفرات وقت مناظرة أبي سعيد السيرافي ومتّى المنطقي في سنة عشرين وثلاثمائة «1» .
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب الخراج تسع منازل كان ثمانية منازل فأضاف إليه تاسعا «2» .
كتاب نقد الشعر «3» . كتاب صابون الغم. كتاب صرف الهم. كتاب جلاء الحزن. كتاب درياق الفكر. كتاب السياسة. كتاب الردّ على ابن المعتز فيما عاب به أبا تمام. كتاب حشو حشاء الجليس. كتاب صناعة الجدل. كتاب الرسالة في أبي علي ابن مقلة وتعرف بالنجم الثاقب. كتاب نزهة القلوب وزاد المسافر. كتاب زهر الربيع في الأخبار.
__________
(916) - ترجمة قدامة في الفهرست: 144 والمنتظم 6: 363 والنجوم الزاهرة 3: 297 والوافي (خ) .(5/2235)
وبلغني عن بعض متعاطي علم الأدب أنه شرح «كتاب المقامات الحريرية» فقال عند قوله: «ولو أوتي بلاغة قدامة» أن قدامة بن جعفر كان كاتبا لبني بويه، وجهل في هذا القول، فان قدامة كان أقدم عهدا، أدرك زمن ثعلب والمبرد وأبي سعيد السكري وابن قتيبة وطبقتهم، والأدب يومئذ طريء، فقرأ واجتهد وبرع في صناعتي البلاغة والحساب، وقرأ صدرا صالحا من المنطق، وهو لائح على ديباجة تصانيفه وإن كان المنطق في ذلك العصر لم يتحرر تحريره الآن، واشتهر في زمانه بالبلاغة ونقد الشعر، وصنّف في ذلك كتبا منها «كتاب نقد الشعر» له، وقد تعرض ابن بشر الآمدي إلى الردّ عليه فيه، وله كتاب في الخراج رتبه مراتب وأتى فيه بكلّ ما يحتاج الكاتب إليه وهو من الكتب الحسان، إلى غير ذلك من الكتب. ولم يزل يتردد في أوساط الخدم الديوانية بدار السلام إلى سنة سبع وتسعين ومائتين، فإن الوزير أبا الحسن ابن الفرات لما توفي أخوه أبو عبد الله جعفر بن محمد بن الفرات في يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة سبع وتسعين ومائتين وكان أسنّ من أخيه أبي الحسن ابن محمد الوزير بثلاث سنين ردّ ما كان إليه من الديوان المعروف بمجلس الجماعة إلى ولده أبي الفتح الفضل بن جعفر وإليه ديوان المشرق، ثم ظهر له بعد ذلك اختلال من النواب فولّاه لولده أبي أحمد المحسّن، واستخلف المحسن عليه القاسم بن ثابت، وجعل قدامة بن جعفر يتولّى مجلس الزمام في هذا الديوان، وبانت عند ذلك صناعة المحسّن، وأثار من جهة العمال أموالا جليلة.
[917]
قعنب بن المحرّر الباهلي أبو عمرو
الرواية: من أهل البصرة المكثرين، وكان أبو هفان يتردد إليه فأخذ عنه ثم وجد عليه فهجاه.
حدث قعنب قال: دخلت على سعيد بن سلم الباهلي وهو يضحك، فسألته عن سبب ذلك فقال: جاءتني جارية ليست عندي كغيرها فغمزتني فانتشرت فقلت:
ادعي لي فلانة لجارية كنت أهواها، فقالت: لا والله، فقلت: ولم؟ قالت: لأنك
__________
(917) - نور القبس: 219 (وفيه قعنب بن المحرز) .(5/2236)
تروي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من أحيا أرضا مواتا فهي له، وقد أحييت أنا هذا فهو لي، فواقعتها وما كنت فعلت ذلك قبل وقربت من قلبي.
وحدت أبو العيناء قال: كان قعنب الباهلي قد تعشّق فتى من فتيان المهالبة، واتصل بأبيه وبخادم له، ثم نذر به فدعاه الفتى وقد جمع له عدة من المهالبة ومواليهم إلى بستان له، فأكلوا وشربوا ثم حملهم على قعنب فهتكوا ستره، فقال أبو العالية الشاميّ:
نبئت أنّ المرء قعنب ... دمرت «1» عليه بنو المهلب
بأسنة تدع الكم ... يّ وأنفه دام مترّب
فتجلّت الغمّى وك ... لّ سلاحهم بدم مخضّب
قال أبو العيناء: فحدث بهذا الحديث الأصمعي بحضرتي، فذهبت أذبّ عن قعنب تقرّبا إلى الأصمعي للباهلية بينهما، فقال الأصمعي: اسكت يا بنيّ فقد بلغني أنه لقي بكمر ككيزان الفقّاع عندها إرزاز.
وقال عبد الصمد بن المعذل في قعنب «2» :
أراك الله يا ذلفاء ما قد ... لقيه قعنب يوم الهنيّه
غدا يبغي النكاح فعاد فيه ... أيور كالعصيّ مهلبيّه
تشقّق دبره ويقول هذا ... جزاء ذوي التلوّط بالنسيّه
وحدث عمر بن محمد الفقيه قال: سمعت محمد بن عثمان بن أبي شبيبة يقول: سمعت عمي القاسم بن أبي شبيبة يعاتب قعنب بن المحرر في شربه النبيذ ويقول له: قد كبرت وشخت فلو تركته، فقال له قعنب: يا أبا محمد لم تجد وقتا تعاتبني فيه إلا أيام الورد؟!(5/2237)
[918]
قنبل بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد
بن سعيد بن جرجة المكي: قال أبو علي الأهوازي، سمعت أبا عبد الله محمد بن أحمد العجلي المقرىء بالبصرة يقول:
هو أبو عمر قنبل بن عبد الرحمن، وقنبل لقب غلب عليه، وإنما سمّي بذلك لأنه كان يستعمل دواء يقال له قنبيل يسقى للبقر معروف عند العطارين لمرض كان به فسمي بذلك. وقيل بل هو من قوم يقال لهم القنابلة من أهل مكة، ولو كان كذلك لقيل له قنبلي. مات في سنة احدى وتسعين ومائتين في أيام المكتفي عن ست وتسعين سنة لأن مولده في سنة خمس وتسعين ومائة في أيام الأمين، وكان قد قطع الاقراء قبل موته بعشر سنين. قرأ على عبد الله بن كثير وكان من جلة أصحابه ومن جهته انتشرت قراءته، وكان قنبل يلي الشرطة بمكة وكان لا يليها إلا أهل العلم والفضل لتقوم بواجباتها، وكان ابن مجاهد يزعم أنه قرأ عليه، وكان ابن شنبوذ يدفع ذلك، وكان ابن مجاهد يقول: قرأت على قنبل ولا يقول قرأت القرآن من أوله إلى آخره عليه.
حدث ابن طرّادة الحلواني قال: سألت أبا الحسين ابن المنادي وقلت له: إن ابن مجاهد يزعم أنه قرأ على قنبل وابن شنبوذ في سنة واحدة، في سنة تسع وسبعين ومائتين [فقال: كنا] نحن على نية القراءة على قنبل فوجدناه قد اختل واضطرب وخلط في القراءات، فأما أنا فلم أقرأ عليه ولا حرفا واحدا، وأما ابن مجاهد فانه قرأ عليه بعض القرآن فخلّط عليه فترك القراءة، وأخرج له تعليق ابن عون الواسطي عنه وكان معه فقرأه عليه إلى آخره. وأما ابن شنبوذ فانه جاور سنتين بمكة وقرأ عليه ختمتين، فقول ابن مجاهد قرأت عليه يصدق، يعني بعض القرآن، وقول ابن شنبوذ لم يقرأ عليه يصدق، يعني القرآن كله لم يقرأه عليه.
__________
(918) - ترجم له ابن الجزري في طبقات القراء 2: 165 باسم «محمد بن عبد الرحمن المخزومي» وانظر الوافي للصفدي 3: 226 وسير الذهبي 14: 84 (وفيه تخريج) .(5/2238)
حرف الكاف
[919]
كامل بن الفتح بن ثابت بن سابور،
أبو تمام الضرير: من أهل بادرايا، سكن بغداد، وكان أديبا فاضلا ذكيا جدا، قرأ فنون العلم وحفظ الأشعار والأخبار وأخذ أهل الأدب ببغداد عنه علما كثيرا، وكان متهما في دينه. مات سنة ست وتسعين وخمسمائة وكان يسكن باب الأزج، وصاهر بني زهمويه الكتّاب، وله ترسل وشعر، وقد سمع شيئا من الحديث من أبي الفتح علي بن علي بن زهمويه، وقيل إنه كان يدخل على الناصر ويحاضره ويخلو معه وانه علّمه علم الأوائل وهوّن عليه علم الشرائع والله أعلم، ومن شعره:
وفي الأوانس من بغداد آنسة ... لها من القلب ما تهوى وتختار
ساومتها نفثة من ريقها بدمي ... وليس إلا خفيّ الطرف سمسار
عند العذول اعتراضات ولائمة ... وعند قلبي جوابات وأعذار
[920]
كلاب بن حمزة العقيلي أبو الهيذام اللغوي:
قال محمد بن إسحاق النديم:
هو من أهل حران أقام بالبادية، وقيل إنه كان معلما ودخل الحضرة أيام القاسم بن
__________
(919) - ترجمة أبي تمام الضرير في إنباه الرواة 3: 41 والوافي للصفدي (خ) ونكت الهميان: 231 والفوات 3: 217 وبغية الوعاة 2: 266.
(920) - ترجمته في الفهرست: 91 ومعجم المرزباني: 248 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 266.(5/2239)
عبيد الله بن سليمان ومدحه، وكان عالما بالشعر، وخطّه معروف، وخلط المذهبين، وكان أبو الحسين محمد بن محمد بن لنكك البصري الشاعر مولعا بهجوه، وكان أبو الهيذام قد ورد البصرة، فمن قول ابن لنكك فيه:
نفسي تقيك أبا الهيذام كلّ أذى ... إني بكلّ الذي ترضاه لي راضي
ما بال جعسك مركوما على ذكري ... يا أكرم الناس من باق ومن ماضي
ما كان أيري فقيها إذ ظفرت به ... فكيف ألبسته دنيّة القاضي
ووجدت بخط أبي أحمد عبد السلام بن الحسين البصري اللغوي ما صورته:
مسطح أصدر عكلا وله ... ضغث تشجذ قيظ بن فخز
هذا البيت لأبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي جمع فيه حروف المعجم فجعل ما لا ينقط في الصدر وما ينقط في العجز، أنشدنيه جماعة من أهل العلم منهم أبو الحسن علي بن الحسين الآمدي النحوي رحمه الله.
وذكره المرزباني في «كتاب المعجم» فقال: أبو الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي محدث، وهو القائل يرثي أبا أحمد يحيى بن علي المنجم ومات سنة ثلاثمائة من قصيدة:
لقد عاش يحيى وهو محمود عيشة ... ومات فقيدا «1» واحد العلم والجود
فان كان صرف الدهر خلّى كنوزه ... وأفقدنا منه بأنفس مفقود
فما زال حكم البيض والسود نافذا ... بحكم الردى في أنفس البيض والسود
فللثكل ترجي حملها كلّ حامل ... وللموت يغذو والد كلّ مولود
قال محمد بن إسحاق النديم: وله من الكتب: كتاب جامع النحو. كتاب الأراكة. كتاب ما يلحن فيه العامة.
وأنشد الخالدي في «كتاب الديرة» لأبي الهيذام:
سقيا لحران إنه بلد ... أصبح للهو وهو مضمار(5/2240)
بقيعة سجسج تخرّقها ... ومن حواشي الرياض أنهار
يشرع فيه من الصنوبر وال ... عرعر والزورفين أشجار «1»
في يوم باعوثهم وقد نشروا ال ... صلبان والمسلمون نظّار
فمن مهاة هناك هبّلة «2» ... ومن غزال عليه زنار
أزحم هذا وتلك تزحمني ... وفي الحشا والفواد إسعار
فعارضتني هناك شاطرة ... منهم بها في الذراع أسوار
تقول لي والدلال يصرعها ... أنحن يا مسلمون كفار
فقلت يا غايتي ويا أملي ... بل أنتم المؤمنون أخيار
أطلب منها بذاك تقربة ... والشعراء الخبّاث فجار
فرقّ لي قلبها وملت بها ... في دير زكى ونعمت الدار
تقول لي عند وقت منصرفي ... إنك من بعدها لغدار
حللت عقد الأمان منك لنا ... فما لعقد لديك إمرار
لا أنس يومي من الفتاة لدى ... الديرين والمشركون حضّار
فقلت قد كان ذاك عن خطأ ... لا قود عندنا ولا ثار
أستغفر الله ثم أسأله ال ... تّوب فلي بالذنوب إقرار
قرأت في جزازة عتيقة أملاها أبو الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي ما صورته: قال أبو الهيذام: كتبت إلى أبي الحسن محمد بن عبد الوهاب الزينبي الهاشمي بالبصرة بما توهّم أنه مديح له وهو:
اسلم على الدهر يا أبا حسن ... وعش على ما تودّ ألف سنه
فأنت عندي حليف ضدّ سوى ... غير حليف الشمائل الحسنه
وأنت سلم لحرب سلم عدى ... حرب عداة اللئام والخونه
يعجب منك الكرام أعجب ما ... يدعو به الله عاقل فتنه(5/2241)
فهو يرى فرقة الفراق لما ... يخشى من الخير غاية الأمنه
إذا بنور الهدى توسّم إع ... راض معاريض دهره الدّرنه
كم سائل عنك يا محمد لا ... يأذن خلق لجابتي اذنه
ألقيت في روعه جواب فتى ... لو غبن الدهر عاقلا غبنه
إن قلت شروى أبي حسن ... للعرض بالمال أصون الصّونه
سنته غرّة وناصية ... للزينبيين فاجتنب سننه
لا سيما وهو قلقل ذهن ... يهرب من رجم ذهنه الشطنه
قد كان بالأمس قال لي وجرى ... ذكر شقيّ حرمته وسنه
بعدا وسحقا لمن يشرّف بالم ... دح ولم يعط شاعرا ثمنه
وكيف تحتال فيه إن خزن الن ... ذل وأعطاك خازنا رسنه
فقلت أبدى بكلّ سيئة ... من مدحه في هجائه حسنه
لعل ربّ العباد يغفر بالع ... فو أباطيل مدحه اللحنه
كقاتل الصيد وهو في حرم الل ... هـ يجازي الحمار بالبدنه
والثور بالثور والغزالة بال ... شاة وجفرا بالأرنب الأرنه
أليس هذا الجزاء أثقل إذ ... أحضر للوزن والحساب زنه
ولا تطع في السماح متّهما ... أخلاقه بالسّفال ممتحنه
فأنت من أسرة مفضّلة ... على كرام الأخلاق مؤتمنه
والزينبيون معشر زهر ... لا سرّ يلفى وهم له خزنه
غير سوى ضدّ غير غيرهم ... أيديهم بالسماح مرتهنه
فلا تضع يا ابن خيرهم أملي ... فيك فعقبى الفعال مختزنه(5/2242)
[921]
بنت الكنيري:
حدث أبو نصر قال: ومن طريف ما شاهدته أنا أنه كان في الجانب الشرقيّ بمدينة السلام امرأة تعرف ببنت الكنيري، وكانت نهاية في الفضل ولها أخ غاية في الجهل، وكانت حسنة المعرفة بالنحو واللغة ولها تصانيف فيهما تعرف بها، واختصما في ميراث والدهما فطال التنازع بينهما وحضرا يوما مجلس والدي، وزاد الكلام بينهما ونقص، فاغتاظ والدي من تفيهقها وحوشيّ كلامها ومن سقطه وعاميته في مناقضتها، ففطنت لذلك فقالت: أغاظ سيدنا الشيخ، أيده الله، ما يرى مني ومن هذا الأخ أصلحه الله؟ قال: كلا إن شاء الله، ولكن جرّدي الدعوى فإنه أقرب للانجاز، فقالت: لي- أيد الله الشيخ- في ذمته اثنان وعشرون دينارا مطيعية سلامية، فقال له: ما الذي تقول؟ فقال: أما لها عندي اثنان، وسكت ورام أن يقول مثلما قالت فلم يقدر، فقال: بالله يا سيدي كيف قالت فقد والله صدعتنا، فقال له:
فضولك، قل كما تحسن، وضحك أهل المجلس وصار طنزا واندفعت الخصومة ذلك اليوم.
[922]
كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر:
قد ذكرنا أخباره مستوفاة في كتابنا «أخبار الشعراء» ، وأما نسبه فهو كلثوم بن عمرو بن أيوب بن عبيد بن حبيش بن أوس بن مسعود بن عبد الله بن عمرو الشاعر بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل، وعمرو بن كلثوم المذكور في أجداده هو شاعر السبع الطوال، وكنية العتابي أبو عمرو، وأصله من الشام من أرض
__________
(921) - لم أعثر على ترجمة لها.
(922) - ترجمة العتابي في الفهرست: 134- 135 وطبقات ابن المعتز: 261 والأغاني 13: 107 والشعر والشعراء: 740 وكتاب بغداد: 69، 87- 89 ومعجم المرزباني: 244 والوزراء والكتاب: 181 والموشح: 449 والبيان والتبيين 1: 51 وتاريخ بغداد 12: 488 ومروج الذهب 4: 216، 308- 310 واللباب 2: 118 وابن خلكان 4: 122 والوافي للصفدي (خ) والفوات 3: 219.(5/2243)
قنسرين، صحب البرامكة ثم صحب طاهر بن الحسين وعلي بن هشام القائدين.
وكان حسن الاعتذار في رسائله وشعره يشبّه في المحدثين بالنابغة في الجاهلية، فمن ذلك قوله في جعفر بن يحيى وقد كان بلغ الرشيد عنه ما أهدر به دمه فخلصه جعفر فقال فيه «1» :
ما زلت في غمرات الموت مطّرحا ... يضيق عني فسيح الرأي من حيلي
فلم تزل دائبا تسعى بلطفك لي ... حتى اختلست حياتي من يدي أجلي
قال محمد بن إسحاق النديم: وكان العتابي أديبا مصنفا وله من الكتب: كتاب المنطق. كتاب الآداب. كتاب فنون الحكم. كتاب الخيل لطيف. كتاب الألفاظ رواه أبو عمر الزاهد عن المبرد عنه.
قال العتابي «2» : وقفت بباب المأمون أنتظر من يستأذن لي عليه، فإذا أنا بيحيى بن أكثم، فقلت: استأذن لي على أمير المؤمنين، قال: لست بحاجب، قلت: صدقت ولكنك ذو فضل وذو الفضل معوان، قال: سلكت بي غير سبيلي، قلت: إن الله أتحفك بجاه وهو عليك مقبل بالزيادة إن شكرت وبالتغيير إن كفرت، وأنا لنفسك خير منك لها أدعوك إلى زيادة النعمة وبقائها عليك فتأباها، فدخل على المأمون وحكى له ما جرى بيني وبينه فاستحسنه وأذن لي.
قال جحظة في «أماليه» «3» : كلم العتابي يحيى بن خالد في حاجة له كلمات قليلة، فقال له يحيى: لقد نزر كلامك اليوم وقلّ، فقال له: وكيف لا يقلّ وقد تكنفني ذلّ المسألة وحيرة الطلب وخوف الرد، فقال له يحيى: لئن قلّ كلامك لقد كثرت فوائده.
وقال في «أماليه» قال العتابي: لو سكت من لا يعلم عما لا يعلم سقط الاختلاف.
ومن شعره «4» :
ولو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لعزة ملك أو علوّ مكان(5/2244)
لما أمر الله العباد بشكره ... فقال اشكروا لي أيها الثقلان
قال الحسن بن وهب: بلغ العتابيّ أن عمرو بن مسعدة ذكره عند المأمون بسوء فقال «1» :
قد كنت أرجو أن تكون نصيري ... وعلى الذي يبغي عليّ ظهيري
وطفقت آمل ما يرجّى سيبه ... حتى رأيت تعلقي بغرور
فحضرت قبرك ثم قلت دفنته ... ونفضت كفّي من ثرى المقبور
ورجعت مفتريا على الأمل الذي ... قد كان يشهد لي عليك بزور
فبلغ الشعر عمرا فركب من وقته إلى العتابي في موكبه حتى اعتذر إليه.
قال مالك بن طوق للعتابي «2» : أما ترى عشيرتك- يعني بني تغلب- كيف تدلّ عليّ وتستطيل وأنا أصبر؟ فقال العتابي: أيها الأمير إن عشيرتك من أحسن عشرتك، وانّ ابن عمّك من عمّك خيره، وإن قريبك من قرب منك نفعه، وإن أحبّ الناس إليك من كان أخفّهم ثقلا عليك، وأنشده:
إني بلوت الناس في حالاتهم ... وخبرت ما وصلوا من الأنساب
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا ... وإذا المودة أوكد الأسباب
وقيل للعتابي: لو تزوجت، فقال: إني وجدت مكابدة العفة خيرا من الاحتيال لمصلحة العيال.
وما أحسن قول العتابيّ وأحكمه «3» :
لوم يعيذك من سوء تقارفه ... أبقى لعرضك من قول يداجيكا
وقد رمى بك في تيهاء مهلكة ... من بات يكتمك العيب الذي فيكا
ومن منثور كلامه: أما بعد فإنه ما من مستخلص غضارة عيش إلا من خلال مكروه، ومن انتظر بمعاجلة الدّرك مواجلة الاستقصاء سلبته الأيام فرصتها.(5/2245)
وكتب إلى آخر: من اجتمع فيه من خلال الفضل ما اجتمع فيك، وانحاز إلى نواحيك، لم يخش المطنب في الثناء عليك أن يكون مفرطا كما لا يأمن أن يكون مفرّطا، فالاعتراف بالعجز عن بلوغ استحقاقك، من التقريظ أولى من الاطناب الذي غايته التقصير ومآله إلى الحشو.
[923]
كيسان بن المعرف النحوي أبو سليمان الهجيمي
قالوا: كان يخرج معنا إلى الأعراب فينشدونا، فيكتب في ألواحه غير ما «1» ينشدونا، وينقل من ألواحه إلى الدفاتر غير ما فيها، ثم يحفظ من الدفاتر غير ما نقله إليها، ثم يحدّث بغير ما حفظ.
وذكر أبو الطيب في «كتاب مراتب النحويين» عن الأصمعيّ قال: كيسان ثقة ليس بمتزيد، وقد أخذ عن الخليل.
وحدث أبو العيناء قال، قال كيسان لخلف الأحمر: يا أبا محرز المخبّل كان شاعرا أو من بني ضبة؟ فقال: يا مجنون صحّح المسألة حتى يصحّ الجواب.
وحدث أبو حاتم قال: قال أبو زيد يوما في مجلسه، وكانت العرب تقول: ليس لحاقن رأي، فقال كيسان: ولا لمنعظ، فقال أبو زيد: ما سمعناه ولكن اكتبوه فإنه حق.
وكان كيسان من الطياب المزاحين، قال أبو زيد: جاء صبي إلى كيسان يقرأ عليه شعرا حتى مرّ ببيت فيه ذكر العيس، قال: الابل البيض التي «2» يخلط بياضها حمرة، قال: وما الابل؟ قال: الجمال، قال: وما الجمال؟ فقام على أربع ورغا في المسجد وقال: الذي تراه طويل الرقبة وهو يقول بوع.
__________
(923) - ترجمته في مراتب النحويين: 139 وطبقات الزبيدي: 178 وإنباه الرواة 3: 38 (وقال ان اسمه معرف بن دهشم) والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 267 وإشارة التعيين: 271.(5/2246)
وحدث المبرد عن التوزي قال: حبس عيسى بن سليمان الهاشمي كيسان، وكان أحد الطيّاب، وكان أبو عبيدة يعبث به كثيرا، فشفع فيه أبو عبيدة إلى الأمير فأمر بإخراجه فقال للجلاوزة: من أخرجني؟ قالوا: تكلّم فيك شيخ مخضوب، فقال:
أمه زانية إن برح من الحبس، أحبيس ظلم وطليق ذلّ، لا يكون ذلك أبدا.
وقرأت في «كتاب التصحيف» لحمزة الأصبهاني، قال الرياشي «1» : سمعت كيسان يقول: كنت على باب أبي عمرو بن العلاء، فجاء أبو عبيدة فجعل ينشد شعرا لأبي شجرة، وهو قوله:
ضنّ علينا أبو عمرو بنائله ... وكلّ مختبط يوما له ورق
ما زلت يضربني حتى جذبت له ... وحال من دون بعض البغية الشفق
فقلت: جذبت جذبت، وضحكت، فغضب وقال: كيف هو؟ فقلت: إنما هو خذيت، فانخزل وما أحار جوابا (خذيت من قولك خذي البازي إذا ثبت على يد البازيار) .
قال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش، حدثني أبو العباس ثعلب: قرأ بعض أصحاب الأصمعي عليه شعر النابغة الجعدي حتى انتهى إلى قوله:
إنك أنت المحزون في أثر الح ... يّ فإن تنو نيّهم تقم
قال الأصمعي: معناه وإن تنو نيّهم تقم صدور الإبل وتظعن نحوهم، كما قال الآخر.
أقم لها صدورها يا بسبس
فقال كيسان: كذبت، أما إنك قد سمعت من أبي عمرو بن العلاء ولكن أنسيت، إنما أراد أنهم قد نووا فراقك فذهبوا وتركوك فإن تنو لهم مثل ما نووا فيك من القطيعة تقم في دارك ومكانك ولا ترحل نحوهم ولا تطلبهم كما قال الآخر:
إذا اختلجت عنك النوى ذا مودّة ... قربن بقطّاع من البين ذا شعب(5/2247)
أذاقتك مرّ العيش أو متّ حسرة ... كما مات مسقيّ الضّياح على ألب «1»
ألب يألب ولاب يلوب واحد. يقول: إذا باعدت بيني وبين من أحبّ قربن- يعني ابلي- قربت إلى منزلي ووطني ومياهي ولم أتبع من فارقني لأني صبور على الفراق جلد متعود لذلك، فقطّاع يعني نفسه هو القطاع لأني أقطع من قطعني، وأذاقتك من تحبّ وهي التي فارقتها فأنت وإن كنت كذا وعلى هذه الحال فأنت صبور قويّ على القطع. وكما قال الراعي «2» :
وإلف صبرت النفس عنه وقد أرى ... غداة فراق الحيّ ألا تلاقيا
وقد قادني الجيران حينا وقدتهم ... وفارقت حتى ما تحنّ جماليا
[924]
الكيّس النمريّ النسّاب:
الكيس لقب، واسمه زيد بن الحارث بن حارثة بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عوف بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعميّ بن جديلة؛ فعوف بن سعد بن الخزرج هو أخو عامر الضحيان، هذا قول الكلبي.
وقال غيره: اسم الكيس زيد بن حارثة بن زيد مناة بن تميم بن هلال بن ربيعة بن زيد مناة بن عامر الضحيان رهط نتلة بنت جناب بن كليب بن مالك بن عمرو بن عامر بن زيد مناة بن عامر الضحيان، ولدت لعبد المطلب العباس ومرار ابني عبد المطلب؛ قال مسكين الدارمي يخاطب عبد الرحمن بن حسان بن ثابت مفتخرا «3» :
__________
(924) - ذكره ابن النديم: 102 في من روى عنه عبيد بن شرية.(5/2248)
وحكّم دغفلا وارحل إليه ... ولا تدع المطيّ من الكلال
وعند الكيّس النمريّ علم ... ولو أمسى بمنخرق الشمال
وقيل مصعب بن الكيس هو النساب وكان يعدل بدغفل؛ قال الكميت «1» :
وما ابن الكيس النمري منكم ... وما أنتم هناك بدغفلينا
وقيل الكيس هو مالك بن شراحيل بن زيد بن الحارث بن حارثة بن هلال كلهم ينسب من عبيد إلى الكيس، يعني كلهم نسّاب يعلم النسب.(5/2249)
حرف اللام
[925]
لقيط بن بكير المحاربي:
قال ابن حبيب في «كتاب جمهرة النسب» التي رواها عن ابن الكلبي وغيره: ومنهم يعني بني محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان:
عائد بن سعيد بن جندب بن جابر بن زيد بن عبد بن الحارث بن بغيض بن شكم بن عبد بن عوف بن زيد بن بكر بن عميرة بن علي بن حرب بن محارب، وفد على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، من ولده لقيط الرواية وكان صدوقا، ابن بكير، وكان أيضا عالما صدوقا، ابن النضر بن سعيد بن عائد بن سعيد، وقد لقي هشام بن الكلبيّ لقيطا.
حدث المرزباني فيما أسنده إلى الخليل النوشجاني قال، قال لي الجهمي:
كان لقيط المحاربيّ من رواة الكوفة، وكان سيء الخلق. قال الصولي: ويكنى أبا هلال ومات في سنة تسعين ومائة في خلافة الرشيد.
وقال عبد الله بن جعفر: أخبرني ابن مهديّ والسكري قالا: للقيط كتاب مصنّف في الأخبار مبوّب في كلّ فنّ من الفنون كتاب مفرد، فمنها ومن أحسنها كتابه في النساء وهو عندي رواية عنهما عن العمري عنه. وله كتاب السمر. كتاب الخرّاب واللصوص. كتاب أخبار الجن. وأخذ العلم عن لقيط جماعة من أعيانهم، منهم ابن الأعرابيّ.
وحدث المرزباني فيما رفعه إلى لقيط بن بكير المحاربي قال: أمر المهدي الناس سنة ستين ومائة بصوم ثلاثة أيام لبطء المطر ليستسقي، فلما كان في اليوم الثالث من الليل طرق الناس ليلتهم كلّها ثلج ملأ الأرض، فقال لقيط:
__________
(925) - ترجمة لقيط في نور القبس: 291 والفهرست: 106 والوافي للصفدي (خ) .(5/2250)
يا إمام الهدى سقينا بك الغيث ... وزالت عنّا بك اللأواء
وهي أبيات طويلة.
وقال لقيط في ذلك أيضا:
لما استغاث بك العباد بجهدهم ... متوسّلين إلى إله الناس
أسقاهم بك مثلما أسقاهم ... صوب الغمام بجدّك العباس
فأتتهم لما دعوت سماؤهم ... منهلّة بالكواكف الرجّاس
العدل منه سقاهم وجميل ما ... توليه ذا الإيحاش والايناس
فإذا أمرت فبالانابة والهدى ... وإذا وزنت وزنت بالقسطاس
قال: ودخل لقيط على الرشيد وهو ولي عهد وقد اشتكى فأنشد:
ما بال نومك أمسى لا يؤاتيكا ... كأنّ في الجفن شوكا بات يقذيكا
من غير سقم ولا عشق أرقت له ... إلا لأن قيل أمسى الجود موعوكا
وقيل هارون أمسى شاكيا وصبا ... فقلت نفسي يا هارون تفديكا
ما كنت أحسب جودا يشتكي نهكا ... حتى رأيت وليّ العهد منهوكا
فبتّ مرتفقا أرعى النجوم إلى ... أن جاوب الديك فينا سحرة ديكا
فكم وكم لي من نذر سأنجزه ... إن كنت عوفيت قد أوجبته فيكا
حجّ وصوم وعتق لن أخيس به ... فما تركت لنفسي اليوم مملوكا
سعد عتيق وبنتاه وأمهما ... كانوا وأعجب بهم عندي مماليكا
توقّعوني كأني قد حذيتكم ... سود النعال وأهديت المساويكا
وحدّث فيما أسنده إلى إسحاق الموصلي قال: كان لقيط بن بكير في جراية المهدي، وكان الذي وصله به أبو عبيد الله وزير المهدي، وكان أبو عبيد الله مائلا إليه لعلمه بالشعر والأخبار، فلما مات المهدي لزم الكوفة؛ قال إسحاق فرأيته في سنة تسعين ومائة وهو ينشد قوما شعرا له في الزهد وهو قوله:
عزفت عن الغواية والملاهي ... وأخلصت المتاب إلى إلهي(5/2251)
وغرّتني ليال كنت فيها ... مطيعا للشباب به أباهي
أجاري الغيّ في ميدان لهوي ... وقلبي عن طريق الرشد لاهي
وألجمني المشيب لجام تقوى ... وركن الشيب بادي العيب واهي
ومن لم يكفه العذّال عزم ... فليس له على عذل تناهي
قال: وكان ذلك من آخر شعره وفي آخر زمانه، ثم توفي في هذه السنة.
وحدث مما رفعه إلى ابن المدوّر قال: سألت ابن الأعرابي عن لقيط بن بكير وموته فقال: مات في آخر أيام الرشيد وهو أزهد الناس، وكان من دعائه: اللهم اغفر لي فإن حسناتي لو كانت مثل حسنات جميع خلقك لعلمت أني لا أستحقّ الجنة إلا بفضلك، ولو كانت عليّ سيئاتهم جميعا ما يئست من عفوك.
[926]
لوط بن مخنف الأزدي:
هو لوط بن يحيى بن محنف بن سليمان بن الحارث بن عوف بن ثعلبة بن عامر بن ذهل بن مازن بن ذبيان بن ثعلبة بن سعد مناة بن غامد، واسم غامد عمر، ابن عبد الله بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، يكنى أبا مخنف، ومخنف بن سليمان من أصحاب علي بن أبي طالب عليه السلام، وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. مات لوط سنة سبع وخمسين ومائة، وكان راوية أخباريا صاحب تصانيف في الفتوح وحروب الاسلام. قال يحيى بن معين: هو كوفيّ وليس حديثه بشيء.
وجدت بخط أحمد بن الحارث الخراز، قال العلماء: أبو مخنف بأمر العراق وفتوحها وأخبارها يزيد على غيره، والمدائني بأمر خراسان والهند وفارس، والواقدي
__________
(926) - ترجمة أبي مخنف في الفهرست: 105 ومعجم الطوسي رقم: 575 والوافي للصفدي (خ) وميزان الاعتدال 3: 419- 420 ولسان الميزان 4: 492 والفوات 3: 225 ورجال النجاشي: 245 ومجمع الرجال 5: 80 وبروكلمان، التاريخ 1: 65 والتكملة عليه 1: 101 ولقلهاوزن دراسة عنه وانظر الموسوعة الإسلامية (بالإنجليزية) ط 2 (2: 140) .(5/2252)
بالحجاز والسير، وقد اشتركوا في فتوح الشام.
قال محمد بن إسحاق: ولأبي مخنف من الكتب: كتاب الردة. كتاب فتوح الشام. كتاب فتوح العراق. كتاب الجمل. كتاب صفين. كتاب النهروان. كتاب الغارات. كتاب الخرّيت بن راشد وبني ناجية. كتاب مقتل علي كرم الله وجهه.
كتاب مقتل حجر بن عدي. كتاب مقتل محمد بن أبي بكر والأشتر ومحمد بن أبي حذيفة. كتاب الشورى ومقتل عثمان رضي الله عنه. كتاب المستورد بن علّفة.
كتاب مقتل الحسين بن علي عليهما السلام. كتاب المختار بن أبي عبيد. كتاب وفاة معاوية وولاية ابنه ووقعة الحرة وعبد الله بن الزبير. كتاب سليمان بن صرد وعين الوردة. كتاب مرج راهط ومقتل الضحاك بن قيس الفهري. كتاب مصعب بن الزبير والعراق. كتاب مقتل عبد الله بن الزبير. كتاب مقتل عمرو بن سعيد بن العاص.
كتاب حديث باخمرا ومقتل ابن الأشعث. كتاب نجدة الحروريّ. كتاب الأزارقة.
كتاب حديث روستقباذ. كتاب شبيب الحروريّ وصالح بن المسرح. كتاب المطرف بن المغيرة. كتاب دير الجماجم وخلع ابن الأشعث. كتاب يزيد بن المهلب ومقتله بالعقر. كتاب خالد القسري ويوسف بن عمر وموت هشام وولاية الوليد. كتاب زيد بن علي. كتاب يحيى بن زيد. كتاب الضحاك الخارجي. كتاب الخوارج والمهلب بن أبي صفرة.
[927]
الليث بن المظفر:
كذا قال الأزهري في مقدمة كتابه «الليث بن المظفر» ، وقال ابن المعتز في «كتاب الشعراء» من تصنيفه: الليث بن رافع بن نصر بن سيار.
قال الأزهري: ومن المتقدمين الليث بن المظفر الذي نحل الخليل بن أحمد تأليف «كتاب العين» جملة لينفّق كتابه باسمه ويرغّب فيه من حوله، وأثبت لنا عن
__________
(927) - ترجمة الليث في مقدمة التهذيب للأزهري 1: 28 وطبقات ابن المعتز: 97 (في ترجمة الخليل بن أحمد) وسقط «رافع» من نسبه عنده وعند القفطي 3: 42 ومراتب النحويين: 31 ونور القبس: 59 (في ترجمة الخليل) وانظر ص: 279 (حيث سماه الليث بن المظفر) والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 270 والبلغة: 194.(5/2253)
إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه أنه قال: كان الليث رجلا صالحا ومات الخليل ولم يفرغ من «كتاب العين» فأحبّ الليث أن ينفّق الكتاب كلّه فسمّى لسانه الخليل فإذا رأيت في الكتاب «سألت الخليل» أو «أخبرني الخليل» فإنه يعني الخليل نفسه، قال: وإذا قال «قال الخليل» فإنه يعني لسان نفسه. قال: وإنما وقع الاضطراب فيه من خليل الليث. قال: وأخبرني المنذري أنه سأل ثعلبا عن «كتاب العين» فقال:
ذاك كتاب ملىء غدد، قال: وهذا لفظ أبي العباس وحقّه عند النحويين ملآن غددا ولكن كان أبو العباس يخاطب العامة على قدر فهمهم.
قلت: ليس هذا بعذر لأبي العباس فإنه لو قال: ملآن غددا لم يخف معنى الكلام على صغار العامة فكيف وفي مجلسه الأئمة من أهل العلم ثم سائله الذي أجابه ليس بتلك الصورة، وإنما عذره أنه كان لا يتكلّف الاعراب في المفاوضة وهي سنّة جلّة العلماء. وأراد في جراب العين «1» حروفا كثيرة قد أزيلت عن صورها ومعانيها بالتصحيف والتغيير فهي تضرّ حافظها كما تضرّ الغدد آكلها.
قال أبو الطيب اللغوي: مصنف «كتاب العين» الليث بن المظفر بن نصر بن سيار، روي ذلك عن أبي عمر الزاهد قال: حدثني فتى قدم علينا من خراسان وكان يقرأ عليّ «كتاب العين» قال أخبرني أبي عن إسحاق بن راهويه قال: كان الليث بن المظفر بن نصر بن سيار صاحب الخليل رجلا صالحا، وكان الخليل قد عمل من «كتاب العين» باب العين فأحبّ الليث أن ينفّق سوق الخليل ثم ذكر كما ذكر الأزهري.
وحدث عبد الله بن المعتز في «كتاب الشعراء» عن الحسن بن علي المهلبي قال «2» : كان الخليل منقطعا إلى الليث بن رافع بن نصر بن سيار، وكان الليث من أكتب الناس في زمانه، بارع الأدب بصيرا بالشعر والغريب والنحو، وكان كاتبا للبرامكة وكانوا معجبين به، فارتحل إليه الخليل وعاشره فوجده بحرا فأغناه وأحبّ الخليل أن يهدي إليه هدية تشبهه، فاجتهد الخليل في تصنيف «كتاب العين» فصنّفه(5/2254)
له وخصّه به دون الناس وحبّره وأهداه إليه، فوقع منه موقعا عظيما وسرّ به وعوّضه عنه مائة ألف درهم واعتذر إليه، وأقبل الليث ينظر فيه ليلا ونهارا لا يملّ النظر فيه حتى حفظ نصفه، وكانت ابنة عمه تحته، فاشترى الليث جارية نفيسة بمال جليل، فبلغها ذلك فغارت غيرة شديدة فقالت: والله لأغيظنّه ولا أبقي غاية فقالت: إن غظته في المال فذاك ما لا يبالي به، ولكني أراه مكبا ليله ونهاره على هذا الدفتر، والله لأفجعنّه به، فأخذت الكتاب وأضرمت نارا وألقته فيها، وأقبل الليث إلى منزله ودخل إلى البيت الذي كان فيه الكتاب، فصاح بخدمه وسألهم عن الكتاب فقالوا: أخذته الحرة، فبادر إليها وقد علم من أين أتي، فلما دخل عليها ضحك في وجهها وقال لها: ردّي الكتاب فقد وهبت لك الجارية وحرّمتها على نفسي، وكانت غضبى، فأخذت بيده وأدخلته [البيت الذي أحرقته فيه، وفيه] رماده، فسقط في يد الليث، فكتب نصفه من حفظه وجمع على الباقي أدباء زمانه وقال لهم: مثّلوا عليه واجتهدوا، فعملوا هذا النصف الذي بأيدي الناس، فهو ليس من تصنيف الخليل ولا يشقّ غباره، وكان الخليل قد مات.
وجدت على ظهر جزء من «كتاب التهذيب» لأبي منصور الأزهري:
ابن دريد بقره ... وفيه عجب وشره
ويدعي بجهله ... وضع كتاب الجمهره
وهو كتاب العين إ ... لا أنه قد غيره
... الأزهريّ وزغه ... وحمقه حمق دغه
ويدّعي بجهله ... كتاب تهذيب اللغة
وهو كتاب العين إ ... لّا أنه قد صبغه
... في الخارزنجي بله ... وفيه حمق ووله
ويدّعي بجهله ... وضع كتاب التكمله
وهو كتاب العين إ ... لّا أنه قد نقله
[حاشية: دغة بنت مغنج يضرب بها المثل في الحمق، زوجت وهي صغيرة في(5/2255)
بني العنبر فحملت، فلما ضربها المخاض ظنت أنها تحتاج إلى الخلاء فبرزت إلى بعض الغيطان ووضعت ذا بطنها، فاستهلّ الوليد فجاءت منصرفة وهي لا تظن إلا أنها أحدثت، فقالت لأمها: يا أمتاه وهل يفتح الجعر فاه؟ قالت: نعم ويدعو أباه، فسبّ بنو العنبر به وسموا بنو الجعراء، ولها حماقات كثيرة] «1» .
قرأت بخط أبي منصور الأزهري في «كتاب نظم الجمان» تصنيف أبي الفضل المنذري: نصر بن سيار كان والي خراسان، والليث بن المظفر بن نصر صاحب العربية وصاحب الخليل بن أحمد هو [ابن] ابنه، حدث عنه قتيبة بن سعيد، سمعت محمد بن إبراهيم العبدي يقول، سمعت قتيبة يقول: كنت عند ليث بن نصر بن سيار فقال: ما تركت شيئا من فنون العلم إلا نظرت فيه إلا هذا الفن وما عجزت إلا أني رأيت العلماء يكرهونه، يعني النجوم.
سمعت محمد بن سعيد القزاز قال: نصر بن سيار والي خراسان المحمول إليه رأس جهم، وكان نصر من تحت يدي هشام بن عبد الملك، وكان بمرو، وكان سلم بن أحوز والي بلخ والجوزجان من [تحت] يده، وهو الذي قتل يحيى بن زيد بن علي بن الحسين وجهم بن صفوان الذي ينسب إليه مذهب جهم ووجّه برأسيهما إلى مرو إلى نصر بن سيار، فنصبا على باب قهندز مرو، فكان سلم بن أحوز يقول: قتلت خير الناس وشر الناس.
قال المنذري: وسمعت محمد بن إبراهيم العبدي قال: سمعت أبا رجاء قتيبة يقول: دخل الليث بن نصر بن سيار على علي بن عيسى بن ماهان وعنده رجل يقال له حماد الخزربك، فجاءه رجل فقصّ رؤيا رآها لعلي بن عيسى، فهمّ حماد أن يعبرها فقال ليث: كفّ فلست هناك. فقال علي: يا أبا هشام وتعبرها؟ قال: نعم وأنا أعبر أهل خراسان. فكانت الرؤيا كأنّ علي بن عيسى مات وحمل على جنازة وأهل خراسان يتبعونه، ثم انقضّ غراب من السماء ليحمله فكسروا رجل الغراب. فقال(5/2256)
الليث: أما الموت فبقاء، وأما الجنازة فهو سرير وملك، وأما ما حملوك فهو ما علوتهم وكنت على رقابهم، وأما الغراب فهو رسول، قال الله تعالى فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ
(المائدة: 31) يقدم فلا ينفذ أمره. فما مكثوا إلا يومين أو ثلاثة حتى قدم رسول من عند الخليفة في حمل عليّ بن عيسى، فاجتمع قواد خراسان فأثنوا عليه خيرا ولم يتركوه يحمل وقالوا: يخشى انتقاض البلاد فبقي.
قال المنذري: هو الليث بن المظفر بن نصر بن سيار صاحب العربية وكان له ابن يقال له رافع؛ سمعت بعض أصحابي قال، سمعت محمد بن إسحاق السرّاج قال، سمعت إسحاق بن راهويه قال: سألت رافع بن الليث بن المظفر عن قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: كلّ مسكر حرام، أيقع على جميع المسكر، يعني جميع ما يسكر منه من قليله وكثيره أم على الشربة التي تسكرك؟ فقال: بل على جميع ما يسكر منه من قليله وكثيره إذا أسكر كثيره فقليله بمنزلته، ولو كان عنى الشربة التي تسكرك لقال: كل سكر حرام.
قال ابن المنذري: وبلغني أنّ المظفر بن نصر مرّ به عناق وابنه الليث قد حضره، فقال له وأراد أن يخبره: ما هذا؟ فقال: بز بالفارسية، فقال: لأسيرنّك إلى حيث لا تعرف بز، فسيره إلى البادية، فمكث فيها قريبا من عشر سنين أو أكثر، ففيها تأدّب ثم رجع، فعجب أهله من كثرة أدبه. هذا آخر ما كتبته من خط الأزهري وكتاب المنذري.
وحدث الحاكم أبو عبد الله بن البيّع في «كتاب نيسابور» عن العباس بن مصعب قال: سئل النضر بن شميل عن الكتاب الذي ينسب إلى الخليل بن أحمد ويقال له «كتاب العين» فأنكره، فقيل له: لعلّه ألفه بعدك فقال: أو خرجت من البصرة حتى دفنت الخليل بن أحمد.
وحدث أبو الحسن علي بن مهدي الكسروي، حدثني محمد بن منصور المعروف بالراح المحدث، قال قال الليث بن المظفر بن نصر بن سيار: كنت أصير إلى الخليل بن أحمد فقال لي يوما: لو أن إنسانا قصد وألّف حروف اب ت ث على ما أمثّله لاستوعب في ذلك جميع كلام العرب، وتهيأ له أصل لا يخرج منه شيء البتة،(5/2257)
فقلت له: وكيف يكون ذلك؟ قال يؤلفه على الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي فانه ليس يعرف في كلام العرب أكثر منه. قال الليث: فجعلت أستفهمه ويصف لي ولا أقف على ما يصف، فاختلفت إليه في هذا المعنى أياما ثم اعتلّ وحججت فما زلت مشفقا عليه وخشيت أن يموت في علته فيبطل ما كان يشرحه لي، فرجعت من الحج وصرت إليه فإذا هو قد ألف الحروف كلّها على ما هي في الكتاب وكان يملي عليّ ما يحفظ، وما شكّ فيه يقول لي سل عنه، فإذا صحّ فأثبته، إلى أن عملت الكتاب.(5/2258)
حرف الميم
[928]
المبارك بن الحسن بن أحمد بن علي بن فتحان
بن منصور الشهر زوري أبو الكرم المقرىء: إمام في القراءات عالم بها؛ مات فيما ذكره أبو سعد عن ابن حرز في الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة خمسين وخمسمائة، ودفن في دكة بشر الحافي بباب حرب ببغداد إلى جنب أبي بكر الخطيب، قال: وكتب عنه، وذكر أن مولده في سابع عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وستين وأربعمائة. قال: وكان يسكن دار الخلافة ببغداد مما يلي باب العامة شيخ صالح ديّن خيّر قيّم بكتاب الله عالم باختلاف الروايات والقراءات، وصنف فيها «كتاب المصباح في القراءات» وهو حسن السيرة جيّد الأخذ على الطلاب، له روايات عالية، سمع الحديث من أبي الفضل أحمد بن الحسن بن جيرون الأمين وغيره.
[929]
المبارك بن سعيد بن الحمامي المؤدب،
أبو الفرج المؤدب: كان يسكن قراح بني رزين من بغداد، وله به مكتب يعلّم فيه الصبيان، وكان أديبا فاضلا وشيخا صالحا تخرّج به خلق كثير، وكان محمود السيرة مشكورا عند الناس، وكان ذا هيبة «1»
__________
(928) - ترجمته في الأنساب 7: 420 والمنتظم 10: 164 ومعرفة القراء الكبار 2: 413 وتذكرة الحفاظ: 1292 وسير الذهبي 20: 289 وعبر الذهبي 4: 141 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 222 ومرآة الجنان 3: 296 وطبقات ابن الجزري 2: 38 والشذرات 4: 157.
(929) - لم أجد له ترجمة.(5/2259)
على الصبيان، وكان أولاد الأكابر يقصدون مكتبه من جميع بغداد لما شاع من خيره وصلاحه، أدركت زمانه ورأيت مكتبه وكان مكتبا حفيلا مزدحما إلا أنني لم ألفه «1» شيئا، وكان يكتب خطا حسنا معروفا عند الناس مرغوبا فيه. مات فيما بلغني في جمادى الآخر سنة ثمانين وخمسمائة، وكان له ابن على سيرته في الصلاح والدين والخير قام مقامه في مكتبه وخلفه بعده في مكتبه «2» ، وكان اسمه أيضا المبارك مات سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
[930]
المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوب
أبو الكرم النحوي، أخو أبي عبد الله الحسين بن محمد المعروف بالبارع الدباس لأمه: ولد سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ومات في ذي القعدة سنة خمسين وخمسمائة، ودفن بباب حرب. سمع الحديث من أبي الطيب الطبري والجوهري «3» وغيرهما، وكان قيما بالنحو عارفا باللغة، قال أبو الفرج: غير أن مشايخنا جرّحوه؛ كان أبو الفضل ابن ناصر سيء الرأي فيه يرميه بالكذب والتزوير قال: وكان يدّعي سماع ما لم يسمعه، ولما مات دفن بمقبرة باب حرب. وقرأ النحو على ابن برهان الأسدي. وله من الكتب: كتاب المعلم في النحو. كتاب نحو العرف. كتاب شرح خطبة أدب الكاتب.
وجدت بخط السمعاني مولده على ما تقدم، فان صحّ ذلك لا يصحّ أخذه النحو عن ابن برهان لأن ابن برهان مات سنة ست وخمسين وأربعمائة، بل إن كان سمع منه شيئا جاز ذلك، ثم لما وردت إلى مرو نظرت في «كتاب المذيل» للسمعاني وقد ألحق بخطّه في تضاعيف السطور بخط دقيق: قرأت بخطّ والدي رحمه الله: سألت
__________
(930) - ترجمة المبارك بن الفاخر في إنباه الرواة 3: 256 (وجعل وفاته سنة خمسمائة) والمنتظم 9: 154 (وفيات خمسمائة) ومرآة الجنان 3: 162 والنجوم الزاهرة 5: 195 وإشارة التعيين: 296.(5/2260)
المبارك بن الفاخر عن مولده فقال ولدت في سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، قلت: فإذا صحت هذه الرواية فقد صحّ أخذه عن ابن برهان. وكان والد السمعاني قد لقي ابن الفاخر وأخذ عنه، وحكى عنه شيئا من النحو واللغة.
رأيت بخط الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الخشاب رحمه الله: حكى لي محمد بن محمد بن قزما الاسكافي عن شيخنا أبي الكرم المبارك بن فاخر بن يعقوب النحوي المعروف بابن الدباس أنه كان يكرم المترددين إليه لطلب العلم بالقيام لهم في مجلسه، وكان الشيخ أبو زكريا يحيى بن علي يأبي ذلك وينكره عليه وعلى غيره ممن يعتمده، وينشد:
قصّر بالعلم وأزرى به ... من قام في الدرس لأصحابه
قال الشيخ أبو محمد: ولعمري إن حرمة العلم آكد من حرمة طالبه، وإعزاز العلم أبعث لطلبه، وبحسب الصبر على مرارة طلبه تحلو ثمرة مكتسبه. وكان الشيخ أبو الكرم ابن الدباس رحمه الله يجمع إلى هذا التساهل في الخطاب إذا أخذ خطه على ظهر كتاب، ويقصد بذلك اجتذاب الطلاب، لأن النفوس تميل إلى هذا الباب، وحال أبي علي رحمه الله في عكس هذه الحال معلومة متعارفة يأثرها أصحابه عنه، وكان أمره مع العالم في ذاك على حدّ سواء من ملك وسوقة وعالم ومتعلم، ونحن نسأل الله العون على زمن نحن فيه. آخر ما فيه من خطّ ابن الخشاب.
[931]
المبارك بن المبارك بن المبارك
أبو طالب الكرخي بن أبي البركات الفقيه الشافعي صاحب أبي الحسن ابن الخلّ: مات في ثامن ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائة، أدركت زمانه ولقيت ببغداد أوانه، إلا أنني لم أره لصغر السنّ حينئذ
__________
(931) - ترجمة أبي طالب الكرخي في تكملة المنذري (رقم: 89) وسير الذهبي 21: 224 (وينقل عن ابن النجار والموفق عبد اللطيف) وعبر الذهبي 4: 257 ومختصر ابن الدبيثي 3: 177 والوافي للصفدي (خ) وطبقات السبكي 7: 275 وطبقات الاسنوي 2: 353 والبداية والنهاية 12: 334 والنجوم الزاهرة 6: 110 والشذرات 4: 284 وإشارة التعيين: 282.(5/2261)
والاشتغال في ذلك الزمان بغير هذا الشان.
كان رحمه الله فاضلا زاهدا عابدا ورعا إماما أوحد زمانه في حسن الخط على طريقة علي بن هلال بن البوّاب. سمعت جماعة يحكون أنه لم يكتب أحد قبله ولا بعده مثله في قلم الثلث، حتى رأيت من يغالي فيه فيقول: إنه كتب خيرا من ابن البوّاب، وكان ضنينا بخطه جدّا فلذلك قلّ وجوده، كان إذا اجتمع عنده شيء من تجويداته يستدعي طستا ويغسله، فأما إذا استفتي فانه كان يكسر قلمه ويجهد في تغيير خطه، وكان أحد الشهود المعدّلين. تفقه على أبي الحسن ابن الخلّ ولازمه مدة حتى صار بارعا في الفقه وصارت له معرفة بالمذهب ولسان تام في الخلاف، شهد عند قاضي القضاة أبي القاسم الزينبي في تاسع جمادى الآخر سنة ثلاثين وخمسمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن عزل نفسه عن تحمل الشهادة وأدائها قبل موته بمدة مديدة، ولم يدع الطيلسان، وتولّى التدريس بمدرسة كمال الدين أبي الفتوح حمزة بن علي بن طلحة الرازي التي بباب العامة المحروس بعد وفاة شيخه أبي الحسن ابن الخل المدرّس كان بها، ثم تولّى تدريس النظامية وذكر الدرس بها في تاسع صفر سنة إحدى وثمانين وخمسمائة وأضيف إليه التقدم بالرباط الجديد المجاور لتربة الجهة الشريفة السلجوقية المعروف بالأخلاطية عند مشهد عون ومعين بالجانب الغربي، وانتقل إلى هناك وسكن الدار المجاورة للرباط المذكور، وكان يعبر إلى الجانب الشرقيّ ويذكر الدروس بالنظامية ويعود إلى منزله بالجانب الغربي، وكان له قبول عند الخاصّ والعامّ وجاه عند أرباب الولايات، وهو الذي تولّى خدمة الأمير أبي نصر محمد وأبي الحسن علي ابني مولانا الناصر لدين الله أمير المؤمنين خلّد الله سلطانه في تعليم الخط، وسمع الحديث من ابن الحصين وقاضي البيمارستان وشيخه ابن الحاج وغيرهم، وحدث عنهم، ثم خرج من منزله لصلاة العصر بالرباط الجديد المذكور، وكان يؤمّ فيه، فلما توجّه للصلاة عرضت له سعلة وتتابعت فوقع إلى الأرض وحمل إلى منزله فمات لوقته في الوقت المقدّم ذكره، وصلّي عليه في غده، واجتمع له خلق عظيم، ودفن بتربة الجهة السلجوقية المجاورة للرباط، وهو فيما يقال ابن اثنتين وثمانين سنة.(5/2262)
[932]
المبارك بن المبارك بن سعيد بن الدهان،
أبو بكر الضرير النحوي المعروف بالوجيه: من أهل واسط، قدم بغداد مع أبيه في صباه فأقام بها إلى أن مات في السادس عشر من شعبان سنة اثنتي عشرة وستمائة رحمه الله، ودفن بالوردية، ومولده في سنة اثنتين وخمسمائة، وهو شيخي الذي به تخرجت وعليه قرأت، وهو قرأ بواسط على أبي سعيد نصر بن محمد بن سلم المؤدب وغيره، وأدرك ببغداد ابن الخشّاب فأخذ عنه، ولازم الكمال أبا البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي وقرأ عليه وتلمذ له فهو أشهر شيوخه، وسمع تصانيفه، وسمع الحديث من طاهر بن محمد المقدسي، وتولّى تدريس النحو بالنظامية سنين فتخرج عليه جماعة كثيرة منهم الحسن بن الباقلاوي الحلّي والموفّق عبد اللطيف بن يوسف البغدادي والمنتجب سالم بن أبي الصقر العروضي وغيرهم. وكان رحمه الله قليل الحظّ من التلامذة يتخرجون عليه ولا ينسبون إليه، ولم يكن فيه عيب إلا أنه كان فيه كيس ولين، وكان إذا جلس للدرس يقطع أكثر وقته بالأخبار والحكايات وإنشاد الأشعار حتى يسأم الطالب وينصرف عنه وهو ضجر وينقم ذلك عليه، وكان يحسن بكلّ لغة من الفارسية والتركية والحبشية والرومية والأرمنية والزنجية، فكان إذا قرأ عليه عجميّ واستغلق عليه المعنى بالعربية فهّمه إياه بالعجمية على لسانه، وكان حسن التعليم طويل الروح كثير الاحتمال للتلامذة، وكان شاعرا مجيدا أنشدني لنفسه كثيرا من شعره، منه في التجنيس:
ولو وقعت في لجة البحر قطرة ... من المزن يوما ثم شاء لمازها
ولو ملك الدنيا فأضحى ملوكها ... عبيدا له في الشرق والغرب ما زها
__________
(932) - ترجمة ابن الدهان الضرير في إنباه الرواة 3: 254 ومرآة الزمان: 573 وقلائد الجمان لابن الشعار 6: 22 وتكملة المنذري (رقم 1421) وذيل الروضتين: 90 وابن خلكان 4: 152 وسير الذهبي 22: 86 وعبر الذهبي 5: 43 والوافي للصفدي (خ) ونكت الهميان: 233 وطبقات السبكي 5: 148 والبداية والنهاية 13: 69 وطبقات ابن الجزري 2: 41 والنجوم الزاهرة 6: 214 وبغية الوعاة 2: 273 والشذرات 5: 53.(5/2263)
وكان قد فوّض إلى عضد الدولة أبي الفتوح ابن الوزير عضد الدين ابن رئيس الرؤساء أمر المخزن المعمور والأعمال التي كانت مفوّضة قبله إلى ابن ناصر في عاشر شعبان سنة خمس وستمائة وخلع عليه في باب الحجرة الشريفة، وهو موضع لا يخلع فيه إلا على الوزراء، وركب منه والعالم بين يديه ليمضي إلى منزله، فعثرت به فرسه وسقط من عليها، ثم ركبها سالما من ساعته، فأكثر الناس القول في الطيرة من هذا، فقال الوجيه وأنشدنيه لنفسه:
لا تعذل الفرس التي عثرت ... بك أمس قبل سماعك العذرا
قالت مقالا لو علمت به ... لم تولها هجرا ولا هجرا
لما رأى الأملاك أنّ على ... سرجي فتى أعلى الورى قدرا
رفعت يدي حتى تقبلها ... شغفا بها فوهت يدي الأخرى
ثم لم يلبث المذكور إلا يسيرا حتى عزل وألزم بيته.
وأنشدني الوجيه أيضا لنفسه:
لست أستقبح اقتضاءك بالوعد ... وإن كنت سيد الكرماء
فإله السماء قد ضمن الرز ... ق عليه ويقتضى بالدعاء
وأنشدني الوجيه أيضا لنفسه في التجنيس:
لا راح مسترفدي جذلان من صفدي ... يوما ولا عزّ بي في مشهد جاري
إن لم تكبّ على الأذقان أوجههم ... سيوف قومي بسيل من دم جاري
وحدثني الوجيه رحمه الله قال: دخلت يوما إلى فخر الدين أبي علي الحسن ابن هبة الله بن الدوامي، وهو من علمت أدبا وفضلا وحسن بشر وكرم سجية، فجلسنا نتذاكر الشعراء إلى أن انتهى بنا الكلام إلى البحتري، فأنشد قوله في الفتح بن خاقان «1» :
هب الدار ردّت رجع ما أنت قائله ... وأبدى الجواب الربع عما تسائله(5/2264)
إلى قوله:
ولما حضرنا سدّة الإذن أخّرت ... رجال عن الباب الذي أنا داخله
بدا لي محمود السجية شمّرت ... سرابيله عنه وطالت حمائله
كما انتصب الرمح الردينيّ ثقّفت ... أنابيبه للطعن واهتزّ عامله
فكالبدر وافته لوقت سعوده ... وتمّ سناه واستهلت منازله
فسلمت واعتاقت جناني هيبة ... تنازعني القول الذي أنا قائله
فلما تأملت الطلاقة وانثنى ... إليّ ببشر أنّستني مخايله
دنوت فقبلت الندى من يد امرىء ... جميل محياه سباط أنامله
صفت مثل ما يصفو المدام خلاله ... ورقّت كما رقّ النسيم شمائله
فهشّ الجميع وأخذ كلّ منهم يصف حسن ألفاظها ورشاقة معانيها وجودة مقاصدها، وجعلوا يقولون هذا هو السهل الممتنع والفضل المتسع والديباج الخسرواني والزهر الأنيق، وأطنبوا في ذلك وحقّ لهم، فقلت ارتجالا:
لمن تنظم الأشعار والناس كلهم ... سواسية إلا امرؤ أنا جاهله
ولو علموا أن اللهى تفتح اللها ... دروا أنّ ذا الشعر ابن خاقان قائله
وكان الوجيه قد التزم سماحة الأخلاق وسعة الصدر فكان لا يغضب من شيء، ولم ير من أحد قطّ حردان، وشاع ذلك عنه وبلغ ذلك بعض الخلفاء «1» ، فقال: ليس له من يغضبه، ولو أغضب لغضب، وخاطروه على أن يغضبه فجاءه فسلّم عليه ثم سأله عن مسألة نحوية فأجابه الشيخ بأحسن جواب ودلّه على محجة الصواب فقال له:
أخطأت فأعاد الشيخ الجواب بألطف من ذلك الخطاب وسهّل طريقته وبيّن له حقيقته، فقال له: أخطأت أيها الشيخ، والعجب ممن يزعم أنك تعرف النحو ويهتدى بك في العلوم، وهذا مبلغ معرفتك، فلاطفه وقال له: يا بنيّ لعلك لم تفهم الجواب، وإن أحببت أن أعيد القول عليك بأبين من الأول فعلت، قال له: كذبت لقد فهمت ما قلت، ولكن لجهلك تحسب أنني لم أفهم، فقال له الشيخ وهو يضحك: قد عرفت(5/2265)
مرادك، ووقفت على مقصودك، وما أراك إلا وقد غلبت، فأدّ ما بايعت عليه فلست بالذي تغضبني أبدا، وبعد يا بنيّ فقد قيل إن بقّة جلست على ظهر فيل، فلما أرادت أن تطير قالت له: استمسك فإني أريد الطيران، فقال لها الفيل: والله يا هذه ما أحسست بك لما جلست فكيف أستمسك إذا أنت طرت؟! والله يا ولدي ما تحسن أن تسأل ولا تفهم الجواب فكيف أستفيد منك؟
وحدثني محب الدين محمد بن النجار قال: حضر الوجيه النحوي بدار الكتب التي برباط المأمونية، وخازنها يومئذ أبو المعالي أحمد بن هبة الله، فجرى حديث المعرّي، فذمّه الخازن وقال: كان عندي في الخزانة كتاب من تصانيفه فغسلته، فقال له الوجيه: وأيّ شيء كان هذا الكتاب؟ قال: كان كتاب نقض القرآن، فقال له: أخطأت في غسله، فعجب الجماعة منه وتغامزوا عليه، واستشاط ابن هبة الله وقال له: مثلك ينهى عن مثل هذا؟ قال: نعم لا يخلو أن يكون هذا الكتاب مثل القرآن أو خيرا منه أو دونه، فإن كان مثله أو خيرا منه وحاش لله أن يكون ذلك فلا يجب أن يفرّط في مثله، وإن كان دونه وذلك ما لا شكّ فيه فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه، فاستحسن الجماعة قوله ووافقه ابن هبة الله على الحقّ وسكت.
وكان الوجيه رحمه الله حنبليا ثم صار حنفيا، فلما درّس النحو بالنظامية صار شافعيا، فقال فيه المؤيد أبو البركات محمد بن أبي الفرج التكريتي ثم البغدادي، وكان أحد تلامذته، وسمعته من لفظه غير مرة:
ألا مبلغ عنّي الوجيه رسالة ... وإن كان لا تجدي إليه الرسائل
تمذهبت للنعمان بعد ابن حنبل ... وذلك لما أعوزتك المآكل
وما اخترت دين الشافعي تديّنا ... ولكنما تهوى الذي هو حاصل
وعما قليل أنت لا شكّ صائر ... إلى مالك فافطن لما أنا قائل
وأنشدني الوجيه لنفسه في التجنيس:
أطلت ملامي في اجتنابي لمعشر ... طغام لئام جودهم غير مرتجى
ترى بابهم لا بارك الله فيهم ... على طالب المعروف إن جاء مرتجا
حموا مالهم والدين والعرض منهم ... مباح فما يخشون من هجو من هجا(5/2266)
إذا شرع الأجواد في الجود منهجا ... لهم شرعوا في البخل سبعين منهجا
وأنشدني الوجيه النحوي لنفسه يمدح أبا الفضل مسعود بن جابر صاحب المخزن:
ما مرّ يوم ولا شهر ولا عيد ... فاخضرّ فيه لنا من وصلكم عود
عودوا تعد بكم الأيام مشرقة ... وإن أبيتم ففي الأسقام لي عودوا
كم ذا التجني وكم هذا الصدود صلوا ... من حظّه منكم همّ وتسهيد
لو تسألوا كيف حالي بعد بعدكم ... فالحال شاهدة والسقم مشهود
لولا التعلل بالآمال متّ أسى ... يفنى الزمان وما تفنى المواعيد
ولو شكوت الذي ألقى بحبكم ... إلى الجلاميد رقّت لي الجلاميد
يا هذه ما أنام الليل من ولهي ... كأنما حاجبي بالجفن معقود
قلّ اصطباري وزاد الوجد بي فأنا ... بك الشقيّ وغيري منك مسعود
تلذّ في حبك الأيام لي وأرى ... التعذيب عذبا به والقلب مجهود
كأنّك المجد أو بذل الندى وأنا ... في فرط حبّك فخر الدين مسعود
مولى إذا السحب ضنّت بالحيا فله ... في الخلق بحر عظيم الريّ مورود
وله مطلع قصيدة في ابن جابر أيضا:
يا من أقام قيامتي بقوامه ... وأطال تعذيبي بطول مطاله
أمط اللثام عن العذار تقم به ... عند العذول عليك عذر الواله
وارفق ببال في هواك معذّب ... بجفاك ما خطر السلوّ بباله
طبع الحبيب على الملال وليته ... يوما يميل إلى ملال ملاله
لو كنت تسمع ما أقول وقوله ... لعجبت من ذلّي له ودلاله
شدّ الرحال فحلّ عقد تصبري ... لما سرت أجماله بجماله
أنشدني الحافظ أبو عبد الله محمد بن النجار صديقنا حرسه الله قال، أنشدني شيخنا الوجيه النحوي لنفسه:
أرفع الصوت إن مررت بدار ... أنت فيها إذ ما إليك وصول(5/2267)
وأحيي من ليس عندي بأهل ... أن يحيّا كي تسمعي ما أقول
وكان ملازما لدار الوزير عضد الدين أبي الفرج ابن رئيس الرؤساء ويبيت ويصبح يقرىء أهله، ونال من جهته ثروة، فحدثني عز الدين أبو الحسن علي بن محمود بن محمد المعروف بالسرخسي النحوي قال، حدثني الوجيه قال: اقترحت عليّ بعض حظايا الوزير أن أعمل أبياتا تكتبها على قميص أصفر، فعملت:
انظر إلى لابسي وانظر إليّ وكن ... من مثل ما حلّ بي منه على خطر
هذا اصفراري يراه الناظرون وما ... في القلب من حبّه يخفى على البصر
أموت في خلعه بالليل لي كمدا ... لولا انتظار وصال منه في السحر
أقول عجبا إذا ما رام يلبسني ... ما كنت أطمع أن أعلو على القمر
ونقشتها على القميص، ورآه الوزير عليها فنلت منه بذلك السبب خيرا كثيرا.
[933]
المبارك بن محمد بن محمد بن عبد الكريم
بن عبد الواحد الشيباني أبو السعادت الملقب بمجد الدين المعروف بابن الأثير، والأثير هو أبو محمد:
محمد بن عبد الكريم من أهل جزيرة ابن عمر: مات فيما حدثني به أخوه عز الدين أبو الحسن علي بن محمد في يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة ست وستمائة؛ قال:
ومولده في أحد الربيعين سنة أربع وأربعين وخمسمائة بالجزيرة وانتقل إلى الموصل في سنة خمس وستين ولم يزل بها إلى أن مات.
قال المؤلف: وكان عالما فاضلا وسيدا كاملا قد جمع بين علم العربية والقرآن
__________
(933) - ترجمة أبي السعادات ابن الأثير في إنباه الرواة 3: 257 وقلائد الجمان لابن الشعار 6: 29 وتكملة المنذري (رقم: 1129) وذيل الروضتين: 69 والجامع المختصر 9: 299 وابن خلكان 4: 141 وتلخيص مجمع الآداب (رقم: 439) وسير الذهبي 21: 488 وعبر الذهبي 5: 19 وطبقات الأسنوي 1: 130 وطبقات السبكي 5: 153 والبداية والنهاية 13: 54 والوافي للصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 274 والشذرات 5: 22، وكتابه جامع الأصول مطبوع وكذلك غرائب الطوال، وكتاب المرصع (البنين والبنات والآباء والأمهات ... ) وكتاب النهاية في غريب الحديث.(5/2268)
والنحو واللغة والحديث وشيوخه وصحّته وسقمه والفقه، وكان شافعيا، وصنّف في كلّ ذلك تصانيف هي مشهورة بالموصل وغيرها.
حدثني أخوه أبو الحسن قال: قرأ أخي الأدب على ناصح الدين أبي محمد سعيد بن الدهان البغداديّ وأبي بكر يحيى بن سعدون المغربى القرطبي وأبي الحزم مكى بن الريان بن شبّة الماكسي النحوي الضرير، وسمع الحديث بالموصل من جماعة منهم الخطيب أبو الفضل ابن الطوسي وغيره، وقدم بغداد حاجا فسمع بها من أبي القاسم صاحب ابن الخلّ وعبد الوهاب بن سكيتة، وعاد إلى الموصل فروى بها وصنّف ووقف داره على الصوفية وجعلها رباطا.
وحدثني أخوه أبو الحسن قال: تولى أخي أبو السعادات الخزانة لسيف الدين الغاري بن مودود بن زنكي، ثم ولاه ديوان الجزيرة وأعمالها، تم عاد إلى الموصل فناب في الديوان عن الوزير جلال الدين أبي الحسن على بن جمال الدين محمد بن منصور الأصبهاني، ثم اتصل بمجاهد الدين قايماز بالموصل أيضا فنال عنده درجة رفيعة، فلما قبض على مجاهد الدين اتصل بخدمة أتابك عز الدين مسعود بن مودود إلى أن توفي عز الدين، فاتصل بخدمه ولده نور الدين أرسلان شاه فصار واحد دولته حقيقة بحيث إن السلطان كان يقصد منزله في مهام نفسه لأنه أقعد في آخر زمانه، فكانت الحركة تصعب عليه، فكان يحيئه بنفسه أو يرسل إليه بدر الدين لؤلؤ الذي هو اليوم أمير الموصل.
وحدثني أخوه المذكور قال. حدثني أخي أبو السعادات قال: لقد ألزمني نور الدين بالوزارة غير مرة وأنا أستعفيه حتى غضب منّي وأمر بالتوكيل بي، قال:
فجعلت أبكي، فبلغه ذلك فجاءني وأنا على تلك الحال فقال لي: أبلغ الأمر إلى هذا؟ ما علمت أنّ رجلا ممن خلق الله بكره ما كرهت، فقلت: أنا يا مولانا رجل كبير، وقد خدمت العلم عمري واشتهر ذلك عنّي في البلاد بأسرها، واعلم أنني لو اجتهدت في إقامة العدل بغاية جهدي ما قدرت أؤدي حقه، ولو طلم أكّار في ضيعة من أقصى أعمال السلطان لنسب ظلمه إليّ، ورجعت أنت وغيرك باللائمة عليّ، والملك لا يستقيم إلا بالتسمح في العسف وأخذ هذا الخلق بالشدة، وأنا لا أقدر على ذلك، فأعفاه، وجاءنا إلى دارنا فخبرنا بالحال، فأما والده وأخوه فلاماه على الامتناع فلم يؤثر(5/2269)
اللوم عنده سفا، وذكر ذلك في قصة طويلة بتفاصيلها إلا أن هذا الذى ذكرته هو معناها.
وحدثني عز الدين أبو الحسن قال: حدثني أخي أبو السعادات رحمه الله قال:
كنت أشتغل بعلم الأدب على الشيخ أبي محمد سعيد بن المبارك بن الدهان النحوي البغدادي بالموصل، وكان كثيرا ما يأمرني بقول الشعر وأنا أمتنع من ذلك، قال: فبينا أنا ذات ليلة نائم رأيت الشيخ في النوم وهو يأمرني بقول الشعر، فقلت له: ضع لي مثالا أعمل عليه فقال:
جب لفلا مدمنا إن فاتك الطفر ... وخدّ حدّ الثرى والليل معتكر
فقلت أنا:
فالعزّ في صهوات الخيل مركبه ... والمجد ينتجه الإسراء والسهر
فقال لي: أحسنت هكذا فقل، فاستيقظت فأتممت عليها نحو العشرين بيتا.
وحدثني عز الدين أبو الحسن قال: كتب أخي أبو السعادات إلى صديق له في صدر كتاب والشعر له.
وإني لمهد عن حنين مبرّح ... إليك على الأقصى من الدار والأدني
وإن كانت الاشواق تزداد كلما ... تناقص بعد الدار واقترب المغنى
سلاما كسر الروض باكره الحيا ... وهبّت عليه نسمة السّحر الأعلى
فحا بمسكيّ الهوا متحلّيا ... ببعض سحايا ذلك المجلس الأسمى
وأنشدني عز الدين قال، أنشدني أخي مجد الدين أبو السعادات لنفسه:
عليك سلام فاح من نشر طيبه ... نسيم تولى بثّه الرند والبان
وحاز على اطلال مي عشية ... وجاد عليه معدق الوبل هتّان
فحملته شوقا حوته ضمائري ... تميد له أعلام رضوى ولبنان
واستنشدته شيئا آخر من شعره فقال: كان أخي قليل الشعر لم يكن له به تلك العناية، وما أعرف الآن له غير هذا، فقلت له: فأملّ عليّ تصانيفه، فأملى عليّ:
كتاب البديع في النحو نحو الأربعين كراسة وقفني عليه فوجدته بديعا كاسمه سلك فيه(5/2270)
مسلكا عريبا وبوبّه تبويبا عجيبا. كتاب الباهر في الفروق في النحو أيضا. كتاب تهذيب فصول ابن الدهان. كتاب الإنصاف في تفسير القرآن أربع مجلدات. كتاب الشافي وهو شرح مسند الشافعي أبدع في تصنيفه فدكر أحكامه ولغته ونحوه ومعانيه نحو مائة كراسة. كتاب غريب الحديث على حروف المعجم اربع مجلدات كتاب جامع الأصول في أحاديث الرسول عشر مجلدات جمع فيه بين البخارى ومسلم والموطأ وسنن أبي داود وسنن النسائي والترمذي عمله على حروف المعجم، وشرح غريب الأحاديث ومعانيها وأحكامها ووصف رجالها ونبه على جميع ما يحتاج إليه منها قال المؤلف. أقطع قطعا أنه لم يصنّف مثله قط ولا يصنف وله رسائل في الحساب مجدولات. كتاب ديوان رسائله. وكتاب البنين والبنات والآباء والأمهات والأذواء والذوات مجلد. كتاب المختار في مناقب الأخيار أربع مجلدات، إلى غير ذلك.
[934]
مبشر بن فاتك أبو الوفاء الأمير
أحد أدباء مصر العارفين بالأخبار والتواريخ المصنفين فيها، وكان في أيام الدوله المصريه في ايام الظاهر والمستنصر. وله من التصانيف. كتاب سيرة المستصر ثلاث مجلدات، وله تواليف في علوم الأوائل، وملك من الكتب ما لا يحصى عدده كثرة.
[935]
مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني:
روى عن الشعبي فأكثر، وروى عنه الهيثم بن عدي، مات في سنة احدى وأربعين ومائة وكان رواية للأخبار والأنساب والأشعار، وهو عند أصحاب الحديث ضعيف.
__________
(934) - ترجمته في عيون الانباء 2: 98 وتاريخ الحكماء للقفطي: 269 والوافي للصفدي (خ) وانظر مقدمة «مختار الحكم» وذكر الصفدي أنه اشتغل بصناعة الطب ولازم ابن رضوان، وكتب بخطه تصانيف المتقدمين، وبعد وفاته عمدت زوجته إلى كتبه فألفتها في بركة وسط داره لأنه كان يشتغل بها عنها، ومن تلاميذه سلامة بن مبارك بن رحمون.
(935) - ترجمة مجالد في الوافي للصفدي (خ) وقال: روى له الأربعة وروى له مسلم مقرونا ونقل عن ياقوت أنه توفي سنة أربع وأربعين ومائة.(5/2271)
[936]
مجاهد بن جبر القارىء،
وقيل مجاهد بن جبير مولى عبد الله بن السائب، وقيل مولى قيس بن السائب المخزومي: من كبار التابعين يكنى أبا الحجاج، مات سنة أربع ومائة، وقيل سنة ثلاث عن ثلاث وثمانين سنة من عمره. سمع ابن عباس؟؟؟ وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وأبا ريحانة وعبد الله بن عمر وغيرهم. أحد القراءة عن عبد الله بن عباس وعن عبد الله بن أبي ليلى وقرأ على علي بن أبي طالب وأبي بن كعب رضي الله عنهم، روى عنه الأعمش والليث بن أبي سليم والحكم ومنصور بن نجيح وغيرهم.
وقال مجاهد: عرضت القرآن على ابن عباس ثلاثين عرضة. قال مجاهد.
وكنت أصحب ابن عمر في السفر فكنت إذا أردت أن أركب يأتيني فيمسك ركابي فإذا ركبت سوّى على ثيابي قال مجاهد: فجاءني مرة فكأني كرهت ذلك، فقال: يا مجاهد إنك ضيّق الخلق. نقلت ذلك كله من «كتاب الأمالي» لأبي بكر محمد بن منصور السمعاني.
وقرأت بخط أبي سعد باسناد رفعه إلى مجاهد أنه قال: انطلق علام من بني إسرائيل بفخّ فنصبه منتبذا عن الطريق، فجاء عصفور فوقع قريبا منه وانطق الله العصفور وأفهم الفخ، فقال العصفور. مالى أراك منتبدا عن الطريق؟ قال: اعتزلت شرور الناس، قال: فمالى أراك نحيفا؟ قال: أنهكتنى العبادة قال: فما هذه الحبة في فيك: قال: أرصد بها مسكينا أو ابن سبيل، قال فانا مسكين وابن سبيل، قال:؟؟؟ قال؟؟؟ العصفور فأخذ الحية، فوتب القح فوقع في عنقه، فجعل العصفور يقول عيق عيق، وعزة ربي لا غرّنى بعدها قارىء مراء ابدا قال مجاهد: وهذا مثل قرائين مرتين يكونون آخر الزمان.
__________
(936) - ترجمة مجاهد في طبقات ابن سعد 5: 406 والمعارف: 444 ولمعرفه والتاريخ 1: 711 وحلية لأولياء 3: 279 وطبقات الشيرازي 69 وتذكرة الحفاظ: 86 وسير الذهبي 4: 449 وعير الذهبي 1: 125 والبداية والنهاية 9: 224 والعقد التمين 7: 132 والوافي للصفدى (خ) وطبقات ابن الجزري (رقم. 2659) وتهذيب التهذيب 0: 42 وطبقات الحفاظ للسيوطي: 35 والشذرات 125.(5/2272)
وذكر ابن عفير قال: قدم عمرو بن العاص بعد فتحه مصر على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قدمتين استخلف في إحداهما زكريا بن الجهم العندري على الجند ومجاهد بن جبر مولى بني نوفل بن عبد مناف على الحراح (وهو جد معاذ بن موسى النفاط أبي إسحاق بن معاذ الشاعر) فسأله عمر من استخلفت؟ فذكر له مجاهد بن جبر، فقال له عمر مولى ابنه غزوان؟ قال: نعم إنه كاتب، فقال عمر: إن العلم ليرفع صاحبه (وبنت غزوان هي أخت عتبة بن غزوان، وقد شهد عتبة بدرا، وكان حليف بني نوفل بن عبد مناف) قال: وحطه مجاهد بن جبر دار صالح صاحب السوق.
[937]
مجاهد بن عبد الله العامري
أبو الجيش الموفق مولى عبد الرحمن الناصر بن المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس: مات بدانية في سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وأصله مملوك رومي من مماليك ابن أبي عامر. كان من أهل الأدب والشجاعة والمحبة للعلوم وأهلها. نشأ بقرطبه وكانت له همة وجلادة وجرأة، فلما جاءت أيام الفتنة وتغلبت العساكر على النواحي سار هو فى من تبعه الى الجزائر التي في شرق الأندلس وهي دانية ومنورقة (بالنون) ، ودانية هي ذات حصب وسعة، فغلب عليها وحماها، وقصد إلى سردانية في قصة ذكرتها في التاريخ الذي سميته «المبدأ» . وكان الكرماء على العلماء يبذل لهم الرغائب خصوصا على يقراء حتى صارت دانيه معدن القراء بالعرب. وهو الذي بذل لأبي غالب تمام بن غالب ألف دينار ليزيد اسمه في ديباجة كتابه كما ذكرنا فى باب تمام «1» ، وفيه يقول أبو العلاء صاعد بن
__________
(937) - ترجمة مجاهد العامري في حدوة المقبس (وبغية الملتمس رقم. 1379) وأعمال الاعلام: 217 والبيان المغرب 3: 155 والوافي للصفدي (خ) وتاريخ ابن خلدون 4: 164.(5/2273)
الحسن اللغوي وقد استماله بحريطة مال ومركب أهداهما إليه، قصيدة اولها:
أتتني الخريطة والمركب ... كما اقترن السعد والكوكب
وحطّ بمينائه قلعه ... كما وضعت حملها المقرب
على ساعة قام فيها النباء ... على هامة المشتري يحطب
مجاهد رضت إباء الشموس ... فأصحب ما لم يكن يصحب
فقل واحتكم لي فسمع الزمان ... مصيح إليك بما ترغب
وقد ألف مجاهد كتاب عروض يدلّ على قوته فيه، ومن أعظم فضائله تقديمه للوزير أبي العباس أحمد بن رشيق وتعويله عليه وبسط يده في العدل.
[938]
المحسن بن إبراهيم بن هلال بن زهرون
الصابىء أبو علي بن أبي إسحاق صاحب الرسائل، ووالد هلال بن المحسن صاحب التواريخ والرسائل: كان أديبا فاضلا بارعا قد لقي الأدباء والعلماء وأخذ عنهم كأبي سعيد السيرافى وأبي على الفارسي وأبي عبيد الله المرزباني. مات في تامن محرم سنة احدى وأربعمائة عن ابنه هلال، وله شعر حسن من مثله، وكان بوجهه شامة حمراء فكان يعرف بصاحب الشامة، وابنه هلال بن المحسن أعلى منزلة منه. ومات هذا على دين أبيه، وأما ابنه فأسلم على ما ذكرته في بابه. وكان لأبي اسحاق ابن آخر يقال له أبو سعيد سنان لبس بالنبيه وآخر كنيته أبو العلاء صاعد، ومات ابو سعيد سنان في حياة أبيه في رجب سنة ثمانين. ولما قبض على أبيه أبي إسحاق قبض معه على ولديه أبي عليّ هذا وأبي سعيد. فحدث أبو الحسين هلال قال حدثني أبو عليّ والدي قال: أمر عضد الدولة أبا القاسم المطهر بن عبد الله وزيره وقال له: أفرج عن [ابن] أبي إسحاق صاحب الشامة فان له قديم خدمة، فتقدم بذاك، فثقل على أبي سعيد أخى إطلاقي من دونه ودمدم على والدنا دمدمة قال له عندها: أيّ أمر لنا يا بني في نفوسنا أم أيّ ذنب لى
__________
(938) - ترجمة المحس الصابىء في الوافي للصفدي (خ) وعرضا في ترجمة أبيه في سير الذهبي 16: 524.(5/2274)
فيما لطف به لأخيك وحرمته؟ ثم عدل إلى مسألتي أن أخرج أسبوعا ويخرج أسبوعا ويقع بيننا مناوبة في ذاك، فامتنعت وأبيت ورفق بي رفقا استحييت معه وأجبت، فكتب أبو إسحاق إلى أبي القاسم المطهر:
ابناي عيناي كفّ الحبس لحظهما ... وعزّ حسّهما عن منظر النور
أطلقت لي منهما عينا وقد بقيت ... عين فصرت من الابنين كالعور
فسوّ بينهما في فكّ أسرهما ... مستوفرا منهما من أجر مأجور
يفديك بالأنفس اللاتي مننت بها ... أبوهما وهما من كلّ محذور
فقال المطهر: الأمر إلى الملك فهو الذي رسم لي إطلاق ولدك صاحب الشامة، ولو كنت مستطيعا للجمع بينهما لفعلت، بل لم أقنع حتى تكون أنت المطلق فعاوده وشكره وقال: إذا كان قد أخذ في تخلية واحد فيجوز أن يتناوبا في الخروج، وفسح المطهر في ذلك.
قال أبو علي: وكانت خدمتي التي رعاها الملك عضد الدولة أن أبا طاهر ابن بقية لما أفرج عن أبي إسحاق والدي بعد القبض عليه عقيب خروج عضد الدولة من مدينة السلام استحلفه على أن يعرّفه ما يرد عليه من كتبه ويسلّم إليه من يجيئه من رسله، فاتفق أن جاء أبو سعد المدبر إليه بكتاب من عضد الدولة وعمل على تسليمه، فاجتهدت به ألّا يفعل، فخاف وأشفق ولم يقبل، وحمله إلى ابن بقية فتقدم باعتقاله بعد أن ضربه وقرّره، وشقّ ذلك عليّ لما يراعى من عواقبه، وحملني الشباب ونزقه والاغترار وبواعثه على أن قمت ليلا وحملت معي خمسين درهما في صرّة وعشرين درهما في صرّة أخرى وجئت إلى الحبس متنكرا وعلى رأسي منشفة وقلت للسجّان:
هذه عشرون درهما خذها ومكنّي من الدخول على هذا الجاسوس وأجتمع معه وأخاطبه وأخرج، فاخذها وأدخلني، وجئت إلى أبي سعد وتوجعت له مما حصل فيه، ووعدته بما أستطيعه من المعاونة على خلاصه، ثم قلت له: وأنت غريب وربما احتجت إلى شيء وهذه خمسون درهما اصرفها في نفقتك واستعن بها على أمرك، فشكرني وانصرفت، وأظنّه ذكر ذلك لعضد الدولة عند خلاصه وعوده إليه، فحصل لي في نفسه ما كانت هذه الحال ثمرته.(5/2275)
قرأت بخط أبي علي المحسّن في مجموع جمعه لولده هلال ما هذا صورته:
لبعض المحدثين في عصرنا (وعلى الحاشية بخطّ ابنه هلال: هذه الأبيات لأبي، المحسن بن إبراهيم بن هلال رحمه الله) :
أأهجو مجوسيا لو أنّي أمرته ... بنيك امّه جهرا إذا ما تأثّما
إذا ذكرت يوما له ريع قلبه ... وأنعظ مشتاقا إليها متيما
يحنّ إليها حنّتين لأنه ... يكون لها بعلا وكان لها ابنما
قضاها رضاع الثدي منه بأيره ... ففرّ لها فرجا وفرّت له فما
فان طرّقت بالحمل يوما فانما ... يكون أخا وابنا له كلما انتمى
ينيك الأقاصي والأداني محللا ... بذلك ما كان الإله محرما
إذا ما ذوو الأديان صلّوا لربّهم ... تقدّم يهذي في الصلاة مزمزما
ويخرج مما كلّفوا من مشقّة ... ويحتسب اللذات أجرا ومغنما
وكتب أبو علي إلى أبيه في بعض نكباته:
لا نأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللهى عوض
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من طارف أو تالد عرض
فاجابه أبو إسحاق بأبيات ذكرتها في بابه فأغنى.
قرأت بخط أبي علي المحسن، أنشدني القاضي أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي رحمه الله.
الجود والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء أشياء لم تخلق ولم تكن
وأنشدني:
ألهى بني جشم «1» عن كل مكرمة ... قصيدة قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذ كان أولهم ... يا للرجال لفخر غير مسئوم
وأنشدني في المعنى:(5/2276)
كأن وجوه شمّاس بن لأي ... من السوءات ملبسة عصيما
إذا ذكروا الخطيئة لم يعدّوا ... حديثا بعد ذاك ولا قديما
وأنشدني:
أيا ابن صليبا أين طبك والذى ... به كنت تشفي من به مثل دائكا
أأنكرت مما قيل ما قد عرفته ... بغيرك أم آثرتهم بشفائكا
بل الموت ميقات النفوس متى يحن ... فداء الذي داويته في دوائكا
ومن خط أبي على المحسن قال: سألت القاضي أبا سعيد السيرافي رحمه الله عن الأخبار التي يرويها عن أبي بكر ابن دريد وكنت أقرأها عليه: أكان يمليها من حفظه؟ فقال: لا، كانت تجمع من كتبه وغيرها ثم تقرأ عليه. وسألت أبا عبد الله محمد بن عمران المرزباني رحمه الله عن ذلك فقال: لم يكن يمليها من كتاب ولا حفظ ولكن كان يكتبها ثم يخرجها إلينا بخطه فإذا كتبناها خرّق ما كانت فيه.
وقرأت بخط أبي علي المحسن: لأبي لحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي اليّ يتقاضاني دفترا أعطانيه:
كنت يا سيدي استعرت كتابا ... لي فيه قصائد للخليع
في الربيع الماضي وهذا ربيع ... فتفصّل بردّه يا ربيعي
تغتنم مدحتي وإن جدت أيضا ... لي بفلسين لم يكن ببديع
يا جميل الصنيع لم قد تغير ... ت وعاملتني بسوء الصنيع
من عذيرى يا آل زهرون منكم ... من تراه يطفي لهيت ضلوعي
لست في المنع بالملوم تعلم ... ت من السد الجليل الرفيع
كنت أعددتكم لنائبة الده ... ر وللحادث الملمّ الفظيع
ورجوت الغنى فخاب رجائي ... لم يخب فيك أنت بل في الجميع
واقريضي واخيبتي واعنائي ... واضنائي واذّلتي واحضوعي
واشبابي الذي تقضّى ضياعا ... واسهادي وافقد طيب هجوعى(5/2277)
واشقائي من ذلّ بختي عليكم ... من إليكم يا قوم كان شفيعي
كنت أبكي منكم فلما نكبتم ... قمت أبكي لكم فعزّت دموعي
قال أبو علي: وكنت مع أبي الحسن ابن سكرة على المائدة فحمل بعض الغلمان غضارة فيها مضيرة، فاضطربت يده وانقلب شيء منها على ثياب أبي الحسن، فادّعى عليه أنه ضرط وهجاه بأبيات لم يبق في حفظي منها غير بيتين وهما:
قليل الصواب كثير الغلط ... شديد العثار قبيح السّقط
جنى بالمضيرة ما قد جنى ... ولم يكفه ذاك حتى ضرط
[939]
المحسّن بن الحسين بن علي [بن] كوجك أبو القاسم
الأديب: من أهل الفضل، وكان الغالب عليه الوراقة، ويقول الشعر، وخطّه معروف مرغوب فيه يشبه خطّ الطبري.
قال أبو محمد أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الروذبارى في «تاريخه الذي ألّف بمصر» : وفي شوال سنة ست عشرة وأربعمائة مات أبو القاسم المحسن بن الحسين العبسي الأديب الوراق، سمع من أبي مسلم محمد بن أحمد كاتب ابن حنزابة، وسمع معه أخوه علي بن الحسين، وكان أبوه أيضا من أهل الفضل وله شعر ذكرته في ترجمة ابنه الآخر علي بن الحسين.
وقرأت في «كتاب الشام» : المحسن بن علي بن كوجك أبو عبد الله من أهل الأدب، أملى بصيدا حكايات مقطّعة بعضها عن ابن خالويه، روى عنه أبو نصر طلاب قال: أنبأنا عبد الله بن أحمد بن عمر، قال أخبرنا أبو نصر ابن الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب، قال أملى علينا الأستاذ أبو عبد الله المحسن بن علي بن كوجك بصيدا وقرأته عليه في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، أنشدنا لبعضهم:
__________
(939) - ترجمة ابن كوجك في إنباه الرواة 3: 273 والوافي للصفدي (خ) ومختصر ابن منظور 24: 110.(5/2278)
ودّعك الحسن فهو مرتحل ... وانصرفت عن حمالك المقل
ومتّ من بعد ما أمتّ و ... أحييت وكلّ الأمور تنتقل
كم قائل لي وقد رأى كلفي ... فيك ووجدي فقال مكتهل
يرحمك الله يا غلام إذا ... قال لك العاشقون يا رحل
قال ابن طلاب. وحضرنا معه يوما فى محرس عرق «1» بمدينة صيدا وفيه قبة فيها مكتوب أسماء من حضرها وأشعار من جملتها
رحم الله من دنا لأناس ... نزلوا هاهنا يريدون مصرا
فرّقت بينهم صروف الليالي ... فتحلّوا عن الأحبة قسرا
فقال له قائل من حماعتنا: إن المائدة لا تقعد على رجلين ولا تسقر إلا على ثلاثة، فأجز لنا هذين البيتين بثالث، فأطرق ساعة ثم قال: اكتبوا:
نزلوا والثياب بيض فلما ... أزف البين منهم صرن حمرا
قال ابن طلال: وكان بين الأستاذ وبين رجل كاتب لبني بزال «2» إحن وملاحاه «3» مستهجنة أوقعت بينهما العداوة بعد وكيد الصداقة، وكان هذا الرجل يقال له أبو المنتصر مبارك الكاتب، فهجاه الأستاذ بأشعار كثيرة وجمعها في جرء وكتب على ظهر هذا الجزء شعرا له وهو:
هذا جزاء صديق ... لم برع حقّ الصداقه
سعى على دم حرّ ... محرّم فأراقه
قال وأنشدنا لنفسه فيه أيضا:
مبارك بورك في الطول لك ... فأصبحت أطول من في الفلك
ولولا انحناؤك نلت السماء ... ولكنّ ربك ما عدّلك(5/2279)
[940]
المحسن بن علي بن محمد بن داود بن الفهم
التنوحى أبو علي القاضي، وقد مر ذكر أبيه علي بن محمد وابنه علي بن المحسن في مواضعهما. مات لحمس بقين من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ومولده سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بالبصرة، وكانت وفاته ببغداد، وله من التصانيف. كتاب الفرح بعد الشدة ثلاث مجلدات. كتاب نشوار المحاضرة اشترط فيه انه لا يضمنه شيئا نقله من كتاب، احد عشر مجلدا، كلّ مجلد له فاتحة بخطبة.
قال غرس النعمة: صنف أبو علي المحسن «كتاب نشوار المحاضرة» في عشرين سنة أولها سنة ستين وثلاثمائة. وذيله غرس النعمة بكتاب سماه «كتاب الربيع» قال: ابتدأته في سنة ثمان وستين وأربعمائة.
ولي لقضاء بعدة نواح، حكى عن نفسه أنه في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة كان متولي القضاء بواسط، وقال في موضع آخر من كتابه: حضرت أنا مجلس أبي العباس ابن أبي الشوزب قاضي القضاة إذ ذاك، وكنت حينئذ أكتب له على الحكم ولوقوف بمدينة السلام مضافا إلى ما كنت أخلفه عليه بتكريت ودقوقاء وخانيحار وقصر ابن هبيرة والجامعين وسوراء وبابل والايغارين وخطرنيه؛ وذكر قصة، وذكر في موضع آخر أنه [كان] يتقلد القضاء بعسكر مكرم في أيام المطيع لله وعز الدولة ابن بويه وقد ذكر أبو الفرج الشلجي أنه تقلد القضاء بالأهواز نيابة عن القاضي أبي بكر بن قريعة، وقد ذكرت ذلك في خبر الشلحي.
قال أبو الفرج: وحدثني أبو علي التنوخي القاضي قال: لما قلدني القاضي أبو بكر ابن قريعة قصاء الأهواز خلافة له كتب إلى المعروف بابن سركر الشاهد، وكان
__________
(940) - ترجمة المحسن التنوخى فى اليتيمة 2: 346 وتاريخ بغداد 13: 155 والمنتظم 7: 178 وابن خلكان 4: 59 وسير الذهبي 16: 524 وعبر الذهبي 3: 27 والوافي للصفدي (خ) والنجوم الزاهرة 4: 168 والجواهر المضية 3: 422 والشذرات 3: 112 وانظر مقدمة نشوار المحاضرة ومقدمة الفرج بعد الشدة.(5/2280)
حليفته على القضاء قبلي، كتابا على يدىّ وعنونه. إلى المخالف الشاقّ، السيء الاخلاق، الظاهر النفاق، محمد بن إسحاق.
وذكره النعالبي فقال «1» : هلال ذلك القمر، وغصن ذلك الشجر، الشاهد العدل لمحد أبيه وفصله، والفرع المشيد «2» لأصله، والنائب عنه في حياته، والقائم مقامه بعد وفاته، وفيه يقول أبو عبد الله الحسين بن الحجاج «3» .
إذا ذكر القضاة وهم شهود ... تخيرت الشباب على الشيوخ
ومن لم يرض لم أصفعه الّا ... بحضرة سيدي القاضي التنوخي
قال: وأخبرني أبو نصر سهل بن المرزبان أنه رأي ديوان شعره ببغداد أكبر حجما من ديوان شعر أبيه، ومما علق بحفظ أبي نصر من شعره قوله في معنى ظريف لم يسبق إليه «4» :
خرجنا لتسسقي بيمن دعائه ... وقد كاد هدب العيم أن يبلغ الأرضا
فلما ابتدا يدعو نقشّعت السما ... فما تمّ إلا والعمام قد انفضا
قال: وأنشدني غيره له، وأنا مرتاب به لفرط جودته وارتفاعه عن طبقته «5» .
أقول لها والحيّ قد فطنوا بنا ... وما لي عن أيدي المنون براح
لما ساءني أن وشّحتني سيوفهم ... وأنك لي دون الوشاح وشاح
وأنشد لنفسه في «كتاب الفرج بعد الشدة» «6» :
لئن أشمت الحساد صرفى ورحلتى ... فما صرفوا فصلي ولا ارتحل المجد(5/2281)
مقام وترحال وقبض وبسطة ... كذا عادة الدنيا وأخلاقها النّكد
قرأت في «كتاب الوزراء» لهلال بن المحسن «1» : حدث القاضي أبو علي قال: نزل الوزير أبو محمد المهلبي السوس فقصدته للسلام عليه وتحديد العهد بخدمته، فقال لي: بلغني أنك شهدت عند ابن سيار قاضي الأهواز، قلت: نعم، قال: ومن ابن سيار حتى تشهد عنده، وأنت ولدي وابن أبي القاسم التنوخي أستاذ ابن سيار؟ قلت: إلا أن في الشهادة عنده مع الحداثة جمالا (وكانت سنّي يومئذ عشرين سنة) ، قال: وجب أن تجيء إلى الحضرة لأتقدّم إلى أبي السائب قاضي القضاة بتقليدك عملا تقبل أنت فيه شهودا، قلت: ما فات ذاك إذا أنعم سيدنا الوزير به، وسبيلي إليه الآن مع قبول الشهادة أقرب، فضحك وقال لمن كان بين يديه: انظروا إلى ذكائه كيف اغتنمها. ثم قال لي اخرج معي إلى بغداد، فقبّلت يده ودعوت له، وسار من السوس إلى بغداد، ووردت إلى بغداد في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فتقدم إلى أبي السائب في أمري بما دعاه إلى أن قلّدني عملا بسقي الفرات، وكنت ألازم الوزير أبا محمد وأحضر طعامه ومجالس أنسه، واتفق أن جلس يوما مجلسا عاما وأنا بحضرته، وقيل له: أبو السائب في الدار، قال. يدخل، ثم أومأ إليّ بأن أتقدم إليه، فتقدمت ومدّ يده ليسارّني فقبلتها فمدّ يدي وقال: ليس بيننا سر، وإنما أردت أن يدخل أبو السائب فيراك تسارّني في مثل هذا المجلس الحافل، فلا يشكّ أنك معي في أمر من أمور الدولة، فيرهبك ويحشمك ويتوفر عليك ويكرمك، فإنه لا يحيء إلا بالرهبة، وهو يبغضك بزيادة عداوة كانت لأبيك، ولا يشتهي أن يكون له خلف مثلك، وأخذ يوصل معي في مثل هذا الفنّ من الحديث إلى أن دخل أبو السائب، فلما رآه في سرار وقف ولم يحبّ أن يجلس إلّا بعد مشاهدة الوزير له تقربا إليه وتلطفا في استمالة قلبه، فإنه كان إذ ذاك فاسد الرأي فيه، فقال الحاجب لأبي السائب:
يجلس قاضي القضاة، وسمعه الوزير فرفع رأسه وقال له: اجلس يا سيدي، وعاد إلى سراري وقال لي: هذه أشدّ من تلك، فامض إليه في عد فسترى ما يعاملك به، وقطع السرار وقال لي ظاهرا: قم فامض فيما أنفذتك فيه وعد إليّ الساعة بما تعمله،(5/2282)
فوهّم أبا السائب بذاك أننا في مهمّ، فقمت ومضيت إلى بعض الحجر وجلست إلى أن عرفت انصراف أبي السائب، ثم عدت إليه وقد قام عن ذلك المجلس وجئت من غد إلى أبي السائب فكاد يحملني على رأسه، وأخذ يجاذبني بضروب من المحادثة والمباسطة، وكان [على] ذلك دهرا طويلا.
قال القاضي أبو علي في «نشوار المحاضرة» «1» : حضر بين يديّ رجلان بالأهواز فادّعى أحدهما على الآخر حقّا فأنكره، فسأل غريمه إحلافه فقال له:
أتحلف؟ فقال: ليس له عليّ شيء فكيف أحلف؟ لو كان له عليّ شيء حلفت له وأكرمته.
حدث أبو علي قال: كنت جالسا بحضرة عضد الدولة في مجلس أنسه بنهاوند فغناه محمد بن كالة الطنبوري (شيخ كان يخدمه في جملة المغنين باق إلى الآن) :
ذد بماء المزن والعنب ... طارقات الهمّ والكرب
قهوة لو أنها نطقت ... ذكرت قحطان في العرب
وهي تكسو كفّ شاربها ... دستبانات من الذهب
فاستحسن الشعر والصنعة وسأل عنها فقال له ابن كالة: هذا شعر غنّت به مولانا سلمة بنت حسينة، فاستعاده منها استحسانا له فسرقته منها. قال التنوخي: فقلت له أما الشعر فللخباز البلدي «2» ، وأظن أبا الحسن ابن طرخان قال لي إن الصنعة فيه لأبيه، والمعنى حسن ولكنه مسروق، فقال: من أين؟ فقلت: أما البيت الثاني فمن قول أبي نواس «3» .
عتقت حتى لو انصلت ... بلسان صادق وفم
لا حتبت في القوم ماثلة ... ثم قصّت قصة الأمم
ووصفها بالعتق والقدم كثير في القوم بأبلغ من هذا البيت، ولكن التشبيه في(5/2283)
البيت الثالث هو الحسن، وقد سرقه مما أنشدناه أبو سهل ابن زياد القطان، قال أنشدنا يعقوب بن السكيت ولم يسمّ قائلا:
أقري الهموم إذا ضافت معتقة ... حمراء يحدث فيها الماء تفويفا
تكسو أصابع ساقيها إذا مزجت ... من الشعاع الذي فيها تطاريفا
وقد كشف أطال الله بقاء مولاي هذا المعنى من قال:
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا قام للسقي أو باليسار
تدرّع ثوبا من الياسمين ... له فرد كمّ من الجلّنار
وكان أبو علي أحمد بن علي المدائني المعروف بالهائم الرواية قائما في المجلس فقال: قد كشف معنى الأبيات الفائية سريّ الرفّاء حيث يقول في صفة الدنان «1» :
ومستسلمات هززنا لها ... مداري القيان لسفك الدماء
وقد نظم العلج «2» أجسامها ... مع الخدر نظم صفوف اللقاء
تمدّ إليها أكفّ الرحال ... فترجع مثل أكفّ النساء
وكشف المعني الثاني في الأبيات بقوله:
ازدد من الراح ورد ... فالغيّ في الراح رشد
يديرها و «3» غنّة ... أغيد «4» يثنيه الغيد
مدّ إليها يده ... فالتهبت إلى العضد
قال القاضي التنوخي: فقلت له فاين أنت عما هو خير من هذا، وهو قول ابن المعتز «5» :(5/2284)
تحسب الظبي إذا طاف بها ... قبل أن يسقيكها مختضبا
قال الهائم فقد قال بكارة الرّسعنيّ:
وبكر شربناها على الورد بكرة ... فكانت لنا وردا إلى صحوة الغد
إذا قام مبيضّ اللباس يديرها ... توهمته يسعى بكمّ مورد
وقول أبي النضر النحوي «1» :
فلو رآني إذا اتكأت وقد ... مددت كفّي للهو والطرب
يخالني لابسا مشهّرة ... من لازورد يشفّ عن ذهب
فبدأت أذكر شيئا فقال الهائم: اصبر اصبر فها هنا ما لا يلحقه شعر أحد كان في الدنيا قطّ حسنا وجودة، وهو قول مولانا الملك من أبيات:
وشرب الكأس من صهباء صرف ... يفيض على الشروب يد النضار
فقطعت المذاكرة، وأقبلت أعظّم البيت وأفخم أمره وأفرط في استحسانه والاعتراف بأنني لا أحفظ ما يقاربه في الحسن والجودة فأذاكر به.
قال التنوخي «2» : وكنت بحضرته في عشية من العشايا في مجلس الأنس، وكان هذا بعد خدمتي له في المؤانسة بشهور يسيرة، فغنّي له من وراء ستارته الخاصة صوت وهو:
نحن قوم من قريش ... ما هممنا بالفرار
وبعده أبيات بعضها ملحون وبعض جيد، فاستملح اللحن وقال: هو شعر ركيك جدّا فتعلمون لمن هو ولمن اللحن؟ فقال له أبو عبد الله ابن المنجم: بلغني أن الشعر للمطيع لله وأن اللحن له أيضا: فقال لي: اعمل أبياتا تنقل هذا اللحن إليها في وزنها وقافيتها، فحلست ناحية وعملت:
أيهذا القمر الطا ... لع من دار القمار
رائحا من خيلاء ال ... حسن في أبهى ازار(5/2285)
والذي يجني ولا يت ... بع ذنبا باعتذار
أنا من هجرك في بع ... د على قرب المزار
أوضح العذر عذارا ... ك على خلع العذار
وعدت وأنشدته إياها في الحال فارتضاها وقال: لولا قد هجس «1» في نفسي أن أعمل في معناها لأمرت بنقل اللحن إليها، ثم أنشدنا بعد أيام لنفسه:
نحن قوم نحفظ العه ... د على بعد المزار
ونمر السحب سحبا ... من أكفّ كالبحار
أبدا ننجز للضي ... ف قدورا من نضار
وأمر جواريه بالغناء فيه. وأما أبياتي [فاني] تممتها قصيدة ومدحته بها وهي مثبتة في ديوان شعري.
قال «2» : وجلس عضد الدولة وقد تحولت له سنة شمسية من يوم مولده على عادة له في ذلك، وكان عادته أنه إذا علم أنه قد بقي بينه وبين دخول السنة الجديدة ساعة أو أقل أو أكثر أن يأكل ويتبخر ويخرج في حال التحويل إلى مجلس عظيم قد عبي فيه آلات الذهب والفضة ليس فيه غيرهما، وفيها أنواع الفاكهة والرياحين، ويجلس في دست عظيم القيمة، ويجيء المنجم فيقبّل الأرض بين يديه ويهنئه بتحويل السنة، وقد حضر المغنون وأخذوا مواضعهم وجلسوا، وحضر الندماء وأخذوا مواقفهم قياما، ولم يكن أحد منهم يجلس بحضرته غيري وغير أبي على الفسوي «3» وأبي الحسن الصوفي المنجم وأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف صاحب ديوان الرسائل فانه كان يجلس ليوقّع بين يديه. ويستدعى له إذا نشط [نبيذ] فيجعل بين يديه ويشرب منه أقداحا «4» ، ومن قبل أن يشرب يوقّع بمال الصدقات فيخرج، والغناء يمصي، ثم يجيء المهنئون من أهل المجلس مثل رؤساء دولته ووجوه الكتّاب والعمال وكبار أهل البلد(5/2286)
من الأشراف وغيرهم فيدخلون إليه فيهنونه، والشعراء فيمدحونه. فلما جلس ذلك اليوم على هذه الصفة قيل له إن الناس قد اجتمعوا للخدمة، وفيهم أبو الحسن ابن أمّ شيبان وقد حضر، فعجب من هذا ثم قال: أبو الحسن رجل فاضل، وليس هذا من أيامه، وما حضر الا لفرط موالاته وانه ظن أنه يوم لا شرب فيه لنا، وإن حجبناه غضضنا منه، وان أوصلناه فلعله لا يحبّ ذلك لأجل العناء والنبيذ، ولكن اخرج إليه يا فلان (لبعض من كان قائما من الندماء) واشرح له صفة المجلس وما قلته من أمره، وأدّ الرسالة إليه ظاهرا ليسمعها الناس، فان أحبّ الدخول فأدخله قبلهم، وان أراد الانصراف فلينصرف، والناس يسمعون وقد علموا منزلته منا. فخرج الحاجب وأبلغ ذلك، فدعا وشكر وآثر الانصرف فانصرف وهم جلوس يسمعون، ثم قال لحاجب النوبة: اخرج وأدخل الناس، وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس وأخوه أبو محمد علي بن العباس يتقدمون الناس جميعهم لرئاستهم القديمة، حتى دخلوا وقبلوا الأرض على الرسم في ذلك وأعطوه الدينار والدرهم، ووقفوا وابتدأ الشعراء، فكان أول من ينشده من الشعراء السلاميّ أبو الحسن محمد بن عبيد الله، إلا أنه يريد منّي أن أنشده في الملأ شيئا، فانه كان يأمرني بذلك من الليل، فأحضر وابتدىء فأنشده، أو يحضر رجل علويّ ينشد شعرا لنفسه، فيجعل عقيبي، ثم ينشد السلامي أبو الحسن، ثم أبو القاسم علي بن الحسن التنوخي الشاميّ من أهل معرة النعمان يعرف بابن جلبات، ثم يتتابع الشعراء. فلما انصرف الناس وتوسّط الشرب جاءه الحاجب فقال: قد حضر أبو بكر ابن عبد الرحيم الفسوي، وكان هذا شيخا قد أقام بالبصرة وشهد عند القاضي بها، وقد وفد إلى باب عضد الدولة قبل ذلك وأقام، وكان حادما له فيما يخدم فيه التجار، يختصّه بعض الاختصاص، فأقبل وكان بين يدي الدست التمري الذى يوضع بين يديّ في كلّ يوم وفيه من الأشربة المحللة ما جرت عادتي بشرب اليسير منه بين يدي عضد الدولة على سبيل المنادمة والمؤانسة والمباسطة، وكان قد وسمني وألزمني ذلك بعد امتناعي منه شهورا حتى قد ردّني وأخافني، فقال لي: يا قاضي إن هذا الرجل الذي استؤذن له عاميّ جاهل بالعلم، وإنما استخدمته رعاية لحرمات له عليّ، ولأنه كان يخدم أمي في البزّ ويدخل إليها باذن ركن الدولة لتقاه وأمانته فلا نستتر عنه، وهذا قبل أن أولد، فلما ولدت كان يحملني على كتفه إلى(5/2287)
أن ترجّلت، ثم صار يشتري البزّ ويبعه عليّ، واستمرت خدمته لحرمته، وهو قاطن بالبصرة، ولعله يدخل فيرى ما بين يديك فيظنه خمرا، فيرجع إلى البصرة فيخبر قاضيها وشهودها بذلك فيقدح فيك، ومحله يوجب أن يكشف لك عذرك، ولكن أزح الدست الذي بين يديك حتى يصير بين يدي أبي عبد الله ابن المنجم (وكان أبو عبد الله بن إسحاق بن المنجم يجلس دوني بفسحة في المجلس) فإذا دخل رأى الدست بين يديه دونك، فلم يقدر على حكاية يطعن بها عليك، فقبّلت الأرض شكرا لهذا التطول في الإنعام، وباعدت الدست إلى أبي عبد الله، نم قال: أدخلوه، وشاهد المجلس وهنأ ودعا وأعطى دينارا ودرهما كبيرين فيهما عدة مناقيل وانصرف.
قال أبو على «1» . ويقرب من هذا ما عاملني به الوزير أبو محمد المهلبي، وذكر الحكاية التي سبق ذكرها آنفا مع قاضي القضاة أبى السائب، وحديث تقريبه منه ومسارّته إياه فى المحفل ليعظم بذلك قدره وتكبر منزلته في عين قاضي القضاة أبي السائب، ولله در القائل.
لولا ملاحظة الكبير صغيره ... ما كان يعرف في الأنام كبير
قال الرئيس أبو الحسن هلال «2» وفي شهر ربيع الاول سخط عضد الدولة على القاضي أبي علي المحسّن بن على التنوخي وألزم منزله وصرف عما كان يتقلده، وقسم ذلك على أبي بكر ابن أبي موسى وأبي بكر ابن المحاملي «3» وأبي محمد ابن عقبة وأبي تمام بن أبي حصين وأبي بكر ابن الأرزق «4» وأبي محمد ابن الجهرمي، وكان السبب في ذلك ما حدثني به أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال، حدثني القاضى أبو على والدى قال: كنت بهمذان مع الملك عضد الدولة، فاتفق أن مضيت يوما إلى أبي بكر ابن شاهويه «5» رسول القرامطة والمتوسط بين عضد الدوله وبينهم، وكان له صديقا، ومعي أبو علي الهائم، وجلسنا نتحدث، وقعد أبو علي [على](5/2288)
باب حركاه «1» كنّا فيه، وقدّم إليه ما يأكله فقال: اجعل لي أيها القاضي في نفسك المقام في هذه الشتوة في هذا البلد، فقلت: لم؟ فقال: إن الملك مدبّر في القبض على الصاحب أبي القاسم ابن عباد، وكان قد ورد إلى حضرته بهمذان، وإذا كان كذلك تشاغل بما تتطاول معه الأيام. وانصرفت من عنده فقال أبو علي الهائم: قد سمعت ما كنتما فيه، وهذا أمر ينبغي أن تطويه ولا تخرج به إلى أحد ولا سيما إلى أبي الفضل ابن أبي أحمد الشيرازي، فقلت: أفعل، ونزلت إلى خيمتي، وجاءني من كانت له عادة جارية بملازمتي ومواصلتي ومواكلتي ومشاربتي، وفيهم أبو الفضل ابن [أبى] أحمد الشيرازى، فقال لي أيها القاضي: أنت مشغول القلب فما الذي حدث؟ فاسترسلت على أنس كان بيننا وقلت: أما علمت أن الملك مقيم وقد عمل على كذا في أمر الصاحب، وهذا دليل على تطاول السنة؟ فلم يتمالك أن انصرف واستدعى ركابيا من ركابيتي وقال له: أين كنتم اليوم؟ فقال: عند أبي بكر ابن شاهويه، قال: وما صنعتم؟ قال: لا أدري إلا أن القاضي أطال عنده الحلوس، وانصرف إلى خيمته عنه ولم يمض إلى غيره، فكتب إلى عضد الدولة رقعة يقول فيها: كنت عند القاضي أبي علي التنوخي فقال كذا وكذا، وذكر أنه قد عرفه من حيث لا يشكّ فيه، وعرفت أنه كان عند أبي بكر ابن شاهويه، وربما كان لهذا الحديث أصل، وإذا شاع الخبر به وأظهر السرّ فيه فسد ما دبّر في معناه؛ فلما وقف عضد الدولة على الرفعة وجم وجوما شديدا، وقام من سماط كان قد عمله فى ذلك اليوم على منابت الزعفران للديلم مغيظا، واستدعاني وقال لي: بلغني أنك قلت كذا وكذا حاكيا عن أبي بكر ابن شاهويه فما الذي جرى بينكما في ذلك؟ قلت: لم أقل من ذلك شيئا، فجمع بيني وبين أبي الفضل بن أبي أحمد، وواقفنى وأنكرته، وراجعني وكذبته، وأحضر أبو بكر ابن شاهويه وسئل عن الحكاية فقال: ما أعرفها ولا جرى بيني وبين القاضي قول في معناها، ونقل على أبي بكر هذه المواقفة، وقال: ما نعامل الأضياف بهذه المعاملة، وسئل أبو علي الهائم عما سمعه فقال: كنت خارج الخركاه، وكنت مشغولا بالأكل وما وقفت على ما كانا فيه، فمدّ وضرب مائتي(5/2289)
مفرعة، وأقيم فنفض ثيابه «1» ، وحرج أبو عبد الله [ابن] سعدان «2» وكان لي محبا فقال لي: الملك يقول لك. ألم تكن صغيرا فكبّرناك، ومتأخرا فقدّمناك، وخاملا فنبّهنا عليك، ومقترا فأحسنّا إليك، فما بالك جحدت نعمتنا وسعيت في الفساد على دولتنا؟ قلت: أما اصطناع الملك لي فأنا معترف به، وأما الفساد على دولته فما علمت أنني فعلته، ومع ذلك فقد كنت مسورا فهتكني ومتصوّنا ففضحني وأدخلني من الشرب والمنادمة بما قدح فيّ، فقال أبو عبد الله: هذا قول لا أرى الاجابة به لئلا يتضاعف ما نحن محتاجون إلى الاعتذار والتخلص منه، ولكنني أقول عنك كذا وكذا، بجواب لطيف، فاعرفه حتى إن سئلت عنه وافقتني فيه، وتركني وانصرف، وجلست مكاني طويلا وعندي أنني مقبوض عليّ، ثم حملت نفسي على أن أقوم وأسبر الأمر، وقمت وخرجت من الخيمة، فدعا البوابون دابتي على العاده، ورجعت إلى خيمتي منكسر النفس منكسف البال، فصار الوقت الذي أدعى فيه للخدمة، فجاءني رسول ابن الحلاج على الرسم، وحضرت المجلس، فلم يرفع الملك إليّ طرفا ولا لوى إلىّ وجها، ولم يزل الحال على ذلك خمسة وأربعين يوما، ثم استدعاني وهو في خركاه، وبين يديه أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وعلى رأسه أبو الثناء شكر الخادم، فقال: ويلك اصدقني عما حكاه أبو الفضل ابن أبي أحمد، فقلت: كذب منه، ولو ذكرت لمولانا ما يقوله لما أقاله العثرة، فقال: أو من حقوقي عليكم أن تسيئوا غيبتي وتتشاغلوا بذكري؟ فقلت: أما حقوق النعمة فظاهرة، وأما حديثك فنحن نتفاوضه دائما، فالتفت إلى أبي القاسم وقال: اسمع ما يقول، فقال له بالفارسية- وعنده أنني لا أعرفها-: هؤلاء البغداديون مفتونون ومفسدون ومتسوقون، وقال شكر. [الأمر] كذلك، إلا أن التسوق «3» على القاضي لا منه، ثم قال لي عضد الدولة. عرّفنا ما قاله أبو الفضل، قلت: هو ما لا ينطلق لساني به، فقال:
هاته، وكان يحب أن تعاد الأحاديث والأقاويل على وجهها من غير كناية عنها ولا(5/2290)
احتشام فيها، فقلت: نعم انك عند وفاة والدك بشيراز أنفذت من كرمان وأخذت جاريته زرياب، وإن الخادم المخرج في ذاك وافى ليلة الشهر، فاجتهدت به أن يتركها تلك الليلة لتوفي أيام الحقّ فلم يفعل ولا رعى للماضي حقا ولا حرمة، فقال: والله لقد أنكرنا على الخادم إخراجه إياها على هذا الاعجال، ولو تركها يوما وأياما لجاز، وبعد فهذا ذنب الخادم ولا عمل لنا فيه ولا عيب علينا به، ثم ماذا؟ قلت: قال إن مولانا يعشق كنجك المغنية ويتهالك في أمرها، وربما نهض إلى الخلاء فاستدعاها إلى هناك وواقعها، فقال: إنا لله، لعنكما الله ولا بارك فيكما، ثم ماذا؟ فأوردت عليه أحاديث سمعتها من غير أبي الفضل ونسبتها إليه وقلت: لم أعلم أنني أقوم هذا المقام فأحفظ أقواله، وقد ذكر أيضا هذا الأستاذ- وأومأت إلى أبي القاسم وأبي الريان وجماعة الحواشي- فقال: ما قال في أبي القاسم؟ قلت: قال إنه ابتاع من ورثة ابن بقية ناحية الزاوية من راذان «1» بأربعة آلاف درهم بعد أن استأذنك استئذانا سلك فيه سبيل السخرية والمغالطة، واستغلّها في سنة واحدة نيفا على ثلاثين ألف درهم، وانه أعطى فلانا وفلانا ثمانية آلاف درهم على ظاهر البضاعة والتجارة فأعطاه نيفا وستين ألف درهم، فمات أبو القاسم عند سماعه ذلك، وأوردت ما أوردته منه مقابلة على ما ذكرني به. قلت: وقال في أبي الريان كذا وكذا، لأمور ذكرتها، وحضرت آخر النهار المجلس في ذلك اليوم على رسمي، فعاود التقريب لي والإقبال عليّ، واتفق أنه سكر في بعض الأيام وولع بكنجك ولعا قال لي فيه: وهذا من حديث أبي الفضل، وأشار إليه، فقلق أبو الفضل وقرب مني، وكنت أقعد ويقوم «2» وقال لي: ما الذي أومأ إليّ الملك فيه؟ قلت: لا أدري فسله أنت عنه، ثم رحلنا عائدين إلى بغداد، فرآني الملك في الطريق وعليّ ثياب حسنة وتحتي بغلة بمركب وجناغ «3» جواد «4» فقال لي:
من أين لك هذه البغلة؟ قلت: حملني عليها الصاحب أبو القاسم بمركبها وجناغها، وأعطاني عشرين قطعة ثيابا وسبعة آلاف درهم، فقال: هذا قليل لك منه مع ما(5/2291)
تستحقه عليه، فعلمت أنه اتهمني به وبأن خرجت بذلك الحديث إليه وما كنت حدنته به، ووردنا إلى بغداد فحكى لي أن الطائع لله متجاف عن النية المنقولة إليه، وأنه لم يقربها إلى تلك الغاية، فثقل ذلك عليه وقال لي: تمضي إلى الخليفة وتقول له عن والدة الصبية إنها مسزيدة لإقبال مولانا عليها وإدنانه إياها ويعود الأمر إلى ما يستقيم به الحال ويزول معه الانقباض، فقد كنت وسيط هذه المصاهرة، فقلت: السمع والطاعة، وعدت إلى داري لألبس ثياب دار الخلافة فاتفق أن زلقت ووثئت رجلي فأنفذت إلى الملك أعرفه عذري في تاحرى عن أمره فلم يقبله، وأنفذ إلىّ من يستعلم خبري، فرأى الرسول لى علمانا روقة وفرشا جميلا، فعاد إليه وقال له: هو متعالل وليس بعليل، وشاهدته على صورة كذا وكذا والناس يغشونه ويعودونه، فاغتاط غيطا مجددا حرّك ما في نفسه مني أولا، فراسلني بأن الزم بيتك ولا تخرج عنه ولا تأذن لأحد في الدخول عليك فيه، إلا نفر من أصدقاتي استأذنت فبهم فاستنبي بهم. ومضت الأيام، وأنفد إليّ أبو الريان فطالبني بعشرة آلاف درهم وكنت استسلفها من إقطاعي فأديتها إليه، واستمر على السخط والصرف عن الأعمال إلى حين وفاة عصد الدولة.
وذكر غرس النعمة بن هلال، حدثني بعض السادة الأصدقاء وأنسيته وأظنه أبا طاهر محمد بن محمد الكرخي قال: كانت بنت عضد الدولة لما زفّت إلى الطائع بقيت بحالها لا يقربها خوفا أن تحمل منه فستولي الديلم على الخلافة، وكان الطائع يحبّها حبا شديدا زائدا موفيا، ويقفل عليها باب حجرتها إذا شرب، ويقول للخدم:
خذوا المفتاح ولا تعطونيه إذا سكرت ورمت الدخول ليها ولو فعلت مهما فعلت، فأقسم بالله لئن مكّنت من ذلك لأقبلن الذي يمكّنني منه، فإذا سكر منعه السكر من التماسك، وحمله الحبّ والهوى على المضي إليها والدخول عليها، فيجي إلى بابها ويأمر بفتحه ويتهدّد ويتوعّد ولا يقبل منه ولا يقرّ له أحد بمعرفة المفتاح أين هو ولا من هو معه إلى أن ينصرف أو ينام، فذاك كان دأبه ودأبها. وتقدم عضد الدولة إلى أبي علي التنوخي في أواخر أيامه بأن يمضي إلى الطائع ويطارحه عن والدة الصبية في المعنى بما يستزيده فيه لها ويبعثه به عليها بأسباب يتوصّل إليها وأقوال يصفها ويومىء إلى الغرض فيها رتّبها عضد الدولة ولقّنه إياها وفهّمه، فقال: السمع والطاعة،(5/2292)
ومصى إلى بيته ولم يقدم على الطائع، وخاف عضد الدولة إن خالف ما رسمه له، فأظهر مرضا وعاده أصدقاؤه منه، واعتذر به إلى عضد الدولة فوقع لعضد الدولة باطن الأمر وأمر بعض الخدم الخواصّ بالمضي إلى التنوخي لعيادته وتعرف حبره وأن يخرج من عنده ويركب إلى أن يخرج من الدرب ثم يعود فيدخل عليه هاجما، فإن كان على حاله في فراشه لم يتغير له أمر أعطاه مائتي دينار أصحبه إياها لنفسه وأظهر أنه عاد لأجلها لأنه أنسيها معه، وإن وجده فاعدا أو قائما عن الفراش قال له. الملك يقول لك لا تخرج عن دارك إلينا ولا إلى غيرنا وانصرف. قال الخادم. فدخلت إليه وهو في فراشه وعليه دثاره وخاطبته عن الملك، فشكر وأعاد جوابا صعيفا لم أكد أفهمه، وخرجت ثم عدت على ما رسم الملك، فهجمت عليه فوجدته قائما يمشي حول البستان، فلما رآني اضطرب وتحير فقلت له: الملك يقول لك لا تبرح دارك لا إلينا ولا إلى غيرنا، وخرجت، فبقي على ذلك إلى أن مات عضد الدولة.
[941]
محمد بن آدم بن كمال أبو المظفر الهروي:
ذكره عبد الغافر بن اسماعيل الفارسي في «السياق» وقال: مات بغتة سنة أربع عشرة وأربعمائة، ودفن بمقبرة الحسين، وقبره ظاهر بقرب قبر أبي العباس السراج. ووصفه فقال: الأستاذ الكامل الامام في الأدب والمعالي، المبرر على أقرانه وعلى من تقدمه من الأئمة باستخراج المعاني وشرح الأبيات، وله أمتال وغرائب التفسير بحيث يضرب به المثل، ومن تأمل فوائده في كتاب شرح الحماسة وكتاب شرح الاصلاح وكتاب شرح أمثال أبي عبيد وكتاب شرح ديوان أبي الطيب وغيرها اعترف له بالفضل والانفراد. وتتلمذ للأستاذ أبي بكر الخوارزمي الطبري، وتفقه على القاضي أبي الهيثم ثم حدد الفقه على القاضي أبي العلاء صاعد، وكان يقعد للتدريس في النحو وشرح الدواوين والتفسير وغير ذلك، فأما الحديث فما أعلم أنه نقل عنه منه شيء لاستغاله بما سواه لا لعدم السماع له.
__________
(941) - ترجمته في الوافي 1: 333 والسياق (المنتخب 2 الورقة: 12) وبغية الوعاة 1: 7.(5/2293)
[942]
محمد بن أبان بن سيد بن أبان اللخمي، أبو عبد الله القرطبي:
كان عالما باللغة والعربية حافظا للأخبار والآثار والأيام والمشاهد والتواريخ أخذ عن أبي علي البغدادي وعن غيره، ولي أحكام الشرطة وكان مكينا عند المستنصر وألف له الكتب وكتب عنه، وتوفي سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
[943]
محمد بن ابراهيم بن حبيب بن سمرة بن جندب
بن هلال بن جربج بن مسرة بن حزن بن عمرو بن جابر بن ذي الرأسين، واسمه خشين، بن لأى بن عصيم بن شمخ بن فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، أبو عبد الله الفزاري: ولسمرة بن جندب صحبة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان عبيد الله بن زياد يستعمله على شرط البصرة إذا قدم الكوفة، وكان الفزاريّ هذا نحويا ضابطا جيد الخطّ، أخذ عن المازني، وحكي عنه أنه قال:
قرأت «كتاب الأمثال» للأصمعي على الأصمعي، ومن زعم أنه فرأه عليه غيري «1» فقد كذب.
قال المرزباني: كان محمد بن إبراهيم الفزاري الكوفي عالما بالنجوم، وهو الذي يقول فيه يحيى بن خالد البرمكي: أربعة لم يدرك مثلهم في فنونهم الخليل بن أحمد وابن المقفع وأبو حنيفة والفزاري.
__________
(942) - ترجمته في جذوة المقتبس: 381 (ابن سيد) وبغية الملتمس رقم: 1563 وفي الجذوة: 110 ترجمة لأحمد بن أبان بن سيد وكذلك في الصلة: 14 وبهذا الاسم ذكره ابن حرم انظر رسائله 2: 182 والوافي 1: 334 وبغية الوعاة 1: 7 (إلا أن وفاة أحمد كانت سنة 382 فلعلهما أخوان) .
(943) - ترجمته في إنباه الرواة 3: 63 وتاريخ الحكماء: 177 والفهرست: 188 والوافي 1: 336 وبغية الوعاة 1: 9 وانظر سيزكين 6: 122- 124.(5/2294)
وقال جعفر بن يحيى: لم ير أبدع في فنه من الكسائي في النحو، والأصمعي في الشعر، والفزاري في النجوم، وزلزل في ضرب العود.
وللفزاري القصيدة التي تقوم مقام ريجات المنجمين، وهي مزدوحة طويلة تدخل مع تفسيرها [في] عشرة أجلاد أولها:
الحمد لله العليّ الأعظم ... ذي الفضل والمجد الكبير الأكرم
الواحد الفرد الجواد المنعم ... الخالق السبع العلى طباقا
والشمس يجلو ضوؤها الأعساقا ... والبدر يملا نوره الافاقا
وهي هكذا ثلاثة أقفال، ثلاثة أقفال.
[944]
محمد بن ابراهيم العوامي:
قال ابن إسحاق: يعرف بالقاضي، وكان صديقي، وتوفي بعد الخمسين والثلاثمائة، وله كتاب الاصلاح والايضاح في النحو.
[945]
محمد بن إبراهيم بن عمران بن موسى الجوزي الأديب،
أبو بكر النحوي:
من جور فارس، وكان من الأدباء المنقّرين، علامة في معرفة الأنساب وعلوم القرآن، نزل نيسابور مدة وكثر الانتفاع به، وسمع حماد بن مدرك وجعفر بن درستويه الفارسيين وأبا بكر محمد بن دريد وأقرانهم. قال الحاكم: وجاءنا نعيه من فارس سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
__________
(944) - ترجمة العوامي في إنباه الرواة 3: 65 والفهرست: 94 وبغية الوعاة 1: 17.
(945) - ترجمته في الوافي 2: 7 وبغية الوعاة 1: 24.(5/2295)
[946]
محمد بن إبراهيم بن عبد الله، أبو سعيد الأديب
الرجل الصالح: درس الأدب على أبي حامد الخارزنجي وسمع أبا العباس ابن يعقوب وأبا بكر القطان وأبا عثمان البصري وخرّجت له الفوائد وحدّث. ومات يوم الجمعة النصف من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، ذكر ذلك كله الحاكم في «كتاب نيشابور»
[947]
محمد بن إبراهيم بن الحسين بن محمد بن دادا الجرباذقاني،
أبو جعفر.
ذكره أحمد بن صالح بن شافع في «تاريخه» «1» وقال. مات في حادي عشري دي الحجة سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ووصفه فقال: رفيقنا الفقيه المحدث النحوي الأديب اللغوي الفرضى الكاتب العفيف ذو المواتّ والخصائص، ولما مات صلّى عليه شيخنا أبو الفضل ابن ناصر ودفن في تربة استجدّها أبو النجيب بطاهر التوتة، وكنا نسمع معا، ولم أر له مثلا زهدا وعلما ونبلا، وصل الى بغداد سنة أربعين وخمسمائة واصطحتنا، وكان ميقظا زاهدا ورعا، وصنّف كتبا في الفرائض وغيرها، وكان شافعيّ المذهب، ولو عاش لكان صدر الآفاق، ولقد فتّ في عضدي فقده وأثّر عندي بعده، فعند الله يحتسب مصيبتنا فيه.
[948]
محمد بن ابراهيم بن خلف اللحمي الأديب أبو عبد الله،
يعرف بابن
__________
(946) - ترجمته في بغية الوعاة 1: 10.
(947) - سير الذهبي 20: 251 (وأورد بعض ما قاله ابن شافع فيه) والوافي 1: 347 وبغية الوعاة 1: 10 والشذرات 4: 154.
(948) - ترجمة ابن زروقة في إنباه الرواة 3: 62 والوافي 1: 356 وينقل المؤلف عن الصلة لابن بشكوال: 498 (وفيه ابن زرقة) .(5/2296)
زروقة. قال ابن بشكوال: كان من أهل الأدب معتنيا بطلبه قديما مشهورا فيه وممن يقول الشعر الحسن. له تأليفان «1» في الأدب والأخبار، قال ابن خزرج: قرأتهما عليه. ومن شيوخه أبو نصر النحوي وابن أبي الحباب وغيرهما، وتوفي في حدود سنة خمس وثلاثين وأربعمائة وهو ابن سبع وستين سنة.
[949]
محمد بن إبراهيم بن أحمد البيهقي، أبو سعيد:
قال عبد الغافر: هو رجل فاضل متدين حسن العقيدة صنف في اللغة كتبا منها. كتاب الهداية. كتاب العيبة.
وكان ماهرا في ذلك النوع، سمع الحديث من مشايخ نيسابور كالامام شيخ الاسلام الصابوني والامام ناصر المروزي.
[950]
محمد بن إبراهيم بن داود بن سليمان، أبو جعفر
الأردستاني (وأردستان من نواحي أصبهان، بليدة) . أديب فاضل، حدث عن أحمد بن عبد الله النهرديري وأحمد بن محمد بن العباس الاسقاطي البصري، وكتب عنه أحمد بن محمد الحداد «2» وغيره باصفهان، ذكره يحيى بن منده وقال: مات فى ذي القعدة سنة خمس عشرة وأربعمائة.
[951]
محمد بن أحمد بن عبد الله بن عبد الصمد
بن علي بن عبد الله بن
__________
(949) - ينقل ياقوت عن عبد الغافر الفارسى ولم أجد للبيهقي ترجمة فى المنتخب.
(950) - معجم البلدان (أردستان) .
(951) - ترجمة أبي العبر (محمد بن أحمد أو أحمد بن محمد) في الوافى 2: 41 والزركشي: 266 وتاريخ بغداد 5: 40 وأشعار أولاد الخلفاء: 323 والأغانى 23: 76 وطبقات ابن المعتز: 342 والفهرست: 169 والفوات 3: 298 وتاح العروس (عبر) وقد عقد له الآبي في الكتاب السابع من «نثر الدر» بابا في نوادره.(5/2297)
العباس بن عبد المطلب الهاشمي: وقال المرزباني: هو أحمد بن محمد قتل في سنة خمسين ومائتين، في خلافة المستعين بالله، وكنيته أبو العباس، ويلقب بأبي العبر.
قال جحظة: لم أر قطّ أحفظ منه لكلّ عين ولا أجود شعرا، ولم يكن في الدنيا صناعه إلّا وهو يعملها بيده حتى لقد رأيته يعجن ويخبز، وكان أبوه أحمد يلقب بالحامض، وكان حافظا أديبا في نهاية السنن، قتل بقصر ابن هبيرة وقد خرج لأخذ أرزاقه من هناك، سمعه قوم من الشيعة ينتقص عليّا عليه السلام فرموا به من فوق سطح كان بائتا عليه فمات في السنة المقدّم ذكرها.
وذكره أبو الفرج الأصبهاني في «كتاب الأغاني» فقال: كان أبوه أحمد يلقب حمدون الحامض، ولد لمضي خمس سنين من خلافه الرشيد، والرشيد بويع في سنة سبعين ومائة، وعاش إلى أيام المستعين بالله وكان في أول أمره يسلك في شعره الجد ثم عدل الى الهرل والحماقة فنفق بذلك نفاقا كثيرا وجمع به ما لم يجمعه أحد من شعراء عصره المجيدين، ومن سائر شعره قوله:
بأبي من زارني مكتئبا ... خائفا من كل حسّ جزعا
رصد الخلوة حتى أمكنت ... ورعى السامر حتى هجعا
قمر نمّ عليه حسنه ... كيف يخفي الليل بدرا طلعا
ركب الأهوال في زورته ... ثم ما سلّم حتى ودعا
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب جامع الحماقات وحاوي الرقاعات. كتاب المنادمة وأخلاق الرؤساء «1» .
حدث أبو علي الحسين بن أحمد البيهقي السلامي، حدثني أبو أحمد الهذلي، قال حدثنا أبو عبد الله الشعيري، وكان شاعرا من أهل بغداد قال: اجتمعت مع جماعة من الشعراء في مجلس نتناظر ونتناشد ونتساءل ونعدّ شعراء زماننا فمر بنا أبو العبرطر «2» فقلنا: هذا أيضا يعدّ نفسه في الشعراء، فمال إلينا وقال: والله أشعر منكم(5/2298)
وأعلم، فقلنا: قد اختلفنا في بيت فاشتبه علينا فهل نسألك عنه؟ فقال: نعم، فسألناه عن معنى هذا البيت:
عافت الماء في الشتاء فقلنا ... برّديه تصادفيه سخينا
كيف تصادفه سخينا إذا بردته؟ فقال: أخفي عليكم؟ قلنا: نعم، فقال: هو ليس من التبريد، وإنما هو حرف مدغم ومعناه بل رديه من الورد فأدغموا اللام في الراء كما قال الله تعالى: كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ
(المطففين/ 14) وقوله: وَقِيلَ مَنْ راقٍ
(القيامة/ 28) قال: فاستحسنا ما فسّره وأقررنا له بالفضل، فقال: إني أسألكم بيتا كما سألتموني، أما ترون الى قول دغفل:
إنّ على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
فقلنا: سل، فقال: ما معنى قول القائل:
يا من رأى رجلا واقفا ... أحرقه الحرّ من البرد
كيف يحرقه الحرّ من البرد؟ قال: فاضطربنا في معناه فلم نخرجه، فسألناه عنه، فقال: هذا قولي، وذلك أنني مررت بحدّاد يبرد حديدا، فمسست تلك البرادة فأحرقت يدي، وإنما البرد مصدر برد الحديد بردا وليس هو من الشيء البارد، قال:
فأقررنا بفضل معرفته، فأنشأ يقول:
أقر الشعراء أني ... ومروا في الحرمرم
انهم عندي جميعا ... ......... الغنمنم
فقطعت الرأس منهم ... ثم جلد القددمدم
فعملنا منه طبلا ... من طبول الخددمدم
فضربنا به دمدم ... ثم دمدم ثم دمدم
عجبا يا قوم مني ... كيف معكم كالململم
وقال المرزباني: أبو العبر أحمد بن محمد بن عبد الله بن عبد الصمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب. وقال محمد بن داود: اسمه محمد بن أحمد، وهو حمدون، بن عبد الله بن عبد الصمد، يكنى أبا العباس، صاحب(5/2299)
الشعر الأحمق والكلام المختلق، وهو أبرد الناس غير مدافع، وربما قال شعرا صالحا، وهو القائل وأنشدناه الأخفش:
لو يكون الهوى بجسم من الصخ ... ر على أنّ فيه قلب حديد
فعل الحبّ فيهما مثل ما يف ... عل شعر اللحى بورد الخدود
وله ورواه أبو الحسن علي بن العباس الرومي.
لو كنت من شيء خلافك لم تكن ... لتكون إلا مشجبا في مشجب
لو أن لي من جلد وجهك رفعة ... لجعلت منها حافرا للأشهب
قال: وكان يظهر الميل على العلويين والهحاء لهم، وجرت منيّته على يد رجل من أهل الكوفة من رماة الجلاهق، وخرج معه من بغداد إلى آجام الكوفة للرمي، فسمع الرامي منه كلاما استحل به دمه فقتله.
وهو القائل لموسى بن عبد الملك وكان دفع إليه توقيعا بصلة من المتوكل فدافعه موسى وماطله مدة، فوقف له يوما فلما ركب أنشده:
حتى متى يتبرد ... وكم وكم أتردد
موسى أدر لي كتابي ... بحقّ ربك الاسود
يعني محمد بن على بن موسى بن جعفر الصادق، وكان محمد من أمة سوداء فنحلته سوادها، فجزع موسى بن عبد الملك من قوله وسأله كتم الحال وقضى شغله.
وقال جحظة: اجتمعت أنا وجماعة من إخواننا مع أبي العبر في براح أراد أن يبنيه دارا، فأقبلنا نقدّر البيوت وأين مواقعها، فبينا نحن كذلك إذ ضرط بعض من كان معنا، فقال أبو العبر: مهما شككنا فيه فما نشكّ أنّ هذا الموضع الكنيف.
[952]
محمد بن أحمد بن محمد المغربي أبو الحسن راوية المتنبي:
أحد الأئمة الأدباء والأعيان الشعراء، خدم سيف الدولة ولقي المتنبي وصنف تصانيف حسنة، وله
__________
(952) - ترجمة المغربي راوية المتنبي في الوافي 2: 68.(5/2300)
ذكر في مصر والعراق والجبل وماوراء النهر والشاش، وجالس الصاحب ابن عباد ولقي أبا الفرج الأصبهاني وروى عنه وله معه أخبار.
ومن تصانيفه التي شاهدتها: كتاب الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي. كتاب النبيه المنبي عن رذائل المتنبي. كتاب تحفة الكتّاب في الرسائل (مبوب) . كتاب تذكرة النديم (مجموع حسن جيد ممتع) . كتاب الرسالة الممتعة. وغير ذلك من الرسائل والكتب. كتاب بقية الانتصار المكثر للاختصار.
قال: وأخذت قول المتنبي «1» :
كفى بجسمي نحولا أنني رجل ... لولا مخاطبتي إياك لم ترني
فزدت عليه فلم أدع لغيري فيه زيادة وقلت من قصيدة:
عدمت من النحول فلا بلمس ... يكيّفني الوجود ولا عيان
ولولا أنني أذكى البرايا ... لكنت خفيت عنّي لا أراني
قال: واختفائي عني أبدع من اختفائي عن غيري وأبلغ في المعنى.
وله إلى بعض جلة الكتاب يستهديه عمامة:
أريد عمامة حسناء عنها ... أعمّمك الجميل من الثناء
فوجّهها وقد نبلت [وجلّت] ... بلبسك في صباح أم مساء
معافى نشرها من كلّ عاب ... يولد لونه أيدي العناء
أدقّ من الذكاء إذا اجتلتها ... على مهل لواحظ ذي ذكاء
وأضوى لحمة وسدى ولونا ... من الشمس المنيرة في ضحاء
لو الغرقيء قاربها لأربت ... عليه في الصفاقة والصفاء
لبمّ «2» أو لنيسابور تعزى ... فتصلح للمصيف وللشتاء
كعرضك إنه عرض نقي ... عن الأدناس جمعا في غطاء
تتوّجني بهاء منه أكسى ... مدى لبسي لها حلل البهاء(5/2301)
إذا ما مست فيها معجبا لا ... أفكّر من أمامي أو ورائي
يقول المبصروها أيّ تاج ... به أصبحت فينا ذا رواء
وتعلم أن قول العرب حقّ ... بلا كذب يدوم ولا افتراء
عمائمنا لنا تيجان فخر ... سناها قد أضيف إلى سناء
قرأت في «كتاب مذاكرة النديم» من تصنيف محمد بن أحمد المغربي هذا:
قلت أصف رغيفا أمرني بوصفه الصاحب الجليل أبو القاسم إسماعيل بن عباد وأنا معه على مائدته، واقترح أن يكون وصفي له ارتجالا فقلت:
ورغيف كأنه الترس يحكي ... حمرة الشمس بالغدوّ احمراره
خفت أن يكتسي نهار مآق ... يّ به الليل مذ تبدّى نهاره
جمعته أناملي ثم خلّت ... هـ فسيّان طيّه وانتشاره
لم تقع منه قطعة لا ولا با ... ن للحظ شقيقه وانكساره
ناعم ليّن كمبسم من قا ... م بعذري عند البرايا عذاره
لست أنسى به تنعّم ضرسي ... إذ لجوعي وهج توقّد ناره
كان أحظى إذ ذاك عندي من الوف ... ر إذا قرّ في محلي قراره
يعلم الله أنني لست أنسا ... هـ وإن شطّ عن مزاري مزاره
فاستحسن الأبيات وتعجب من سرعة خاطري بها ثم قال لي مداعبا نفاسة أخلاق فيه: خذه صلة لك، فأخذته وتركته على رأسي إلى أن قمنا عن المائدة، ثم خرجت مارّا إلى منزلي، وكنت أنزل بعيدا من منزله، فعرف خروجي على تلك الحال فقال:
ردّوه، فرجعت فقال لي: عزمت أن تشقّ الأسواق والشوارع وهذا على رأسك؟
فقلت: نعم لأسأل فأقول: هذا صلة مولانا وأذكر الأبيات، فضحك ثم قال: بعناه، فقلت: قد بعته من مولانا بخمسمائة دينار، فقال: أنقصنا واجعلها دراهم، فقلت:
قد فعلت، فأمر لي بخمسمائة درهم وخلعة من ثياب جسده.
وقال في هذا الكتاب: ولي في وصف مضيرة وصفتها وأنا على مائدة أبي عبد الله ابن جيهان وزير صاحب خراسان:(5/2302)
نعم الغداء إذا ما أينع العشب ... وراقت العين أبراد له قشب
مضيرة كاللجين السبك يحكمها ... معقودة مصطفى للطبخ منتخب
تخالها أرض بلّور وما حملت ... من الدسومة نقشا حشوه ذهب
أبذنجها أكر سود ملبّسة ... قباطيا عن قريب سوف تستلب «1»
ولحمها حلل للزهر قد جعلت ... من أبيض الثلج فيما بينها حجب
توافق الشيخ والكهل اللذين هما ... من الرطوبة في حال هي العطب
وللأبازير نفح من دواخلها ... كالمسك لا بل إليها المسك ينتسب
يا حسنها وهي بالأيدي تقاد «2» بلا ... جرم أتته وبالألحاظ تنتهب
من حالفته فقد جلّت مواهبه ... ونال من دهره أضعاف ما يجب
[953]
محمد بن أحمد بن إسحاق بن يحيى الوشّاء أبو الطيب النحوي:
من أهل الأدب حسن التصنيف مليح التأليف أخباريّ.
قال أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في «تاريخه» : مات أبو الطيب الوشاء سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وله ابن يعرف بابن الوشاء؛ حدث الوشاء عن أحمد بن عبيد بن ناصح والحارث بن [أبي] أسامة وثعلب والمبرد.
قال الخطيب: روت عنه منية جارية خلافة «3» أم ولد المعتمد.
قال ابن النديم: وكان نحويا معلما لمكتب العامة وكان يعرف بالأعرابي. وله من الكتب: كتاب مختصر في النحو. كتاب الجامع في النحو. كتاب في المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث. كتاب الفرق. كتاب خلق الانسان. كتاب خلق
__________
(953) - ترجمة الوشاء النحوي في الفهرست: 93 وتاريخ بغداد 1: 253 والمنتظم 6: 290 وإنباه الرواة 3: 61 والوافي 2: 32 ونزهة الألباء: 207 والبداية والنهاية 1: 187 وبغية الوعاة 1: 53.(5/2303)
الفرس. كتاب المثلث. كتاب أخبار صاحب الزنج. كتاب الزاهر في الأنوار والزهر «1» . كتاب السلوان. كتاب المذهب. كتاب الموشح. كتاب سلسلة الذهب. كتاب أخبار المتظرفات. كتاب الحنين إلى الأوطان. كتاب حدود الطرف الكبير «2» . كتاب الموشّى «3» .
نقلت من خط أبي عمرو محمد بن أحمد النوقاتي أنشدني الشافعي أحمد بن محمد أنشدني أحمد بن محمد بن حفص، أنشدني أبو الطيب الوشاء لنفسه:
لا صبر لي عنك سوى أنني ... أرضى من الدهر بما يقدر
من كان ذا صبر فلا صبر لي ... مثلي عن مثلك لا يصبر
ومن خطّه وإسناده للوشاء:
يا من يقوم مقام الروح في الجسد ... لا تحسبنّي خليّ البال من سهد
حاشاك من أرقي حاشاك من قلقي ... حاشاك من طول ما ألقى من الكمد
حزني عليك جديد لا نفاد له ... أوهى فؤادي وأوهى عقدة الجلد
والصبر عنك قليل مضرم قلقا ... بين الضلوع كصبر الأم عن ولد
[954]
محمد بن أحمد بن الحسين بن الأصبغ
بن الحرون: ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو عالم فاضل «4» حسن التصنيف مليح التأليف كثير الأدب واسع الرواية «5» من أهل بغداد ومن أولاد الكتاب، وله من الكتب: كتاب المطابق
__________
(954) - الفهرست: 165.(5/2304)
والمجانس. كتاب الحقائق كبير. كتاب الشعر والشعراء. كتاب الآداب. كتاب الرياض. كتاب الكتاب. كتاب المحاسن. كتاب مجالسة الرؤساء.
[955]
محمد بن أحمد بن مروان بن سبرة أبو مسهر النحوي:
ذكره محمد بن اسحاق النديم ثم قال: وله من الكتب: كتاب الجامع في النحو. كتاب المختصر.
كتاب أخبار أبي عيينة محمد بن أبي عبينة.
[956]
محمد بن أحمد المزني أبو الحسن وزير نوح
بن منصور الساماني: أحد أصحاب البلاغة والرسائل، شاع ذكرها في الآفاق، وتناجت بحسنها الرفاق.
[957]
محمد بن أحمد بن عبد الحميد الكاتب:
ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال:
هو من أهل السير، وله من الكتب: كتاب أخبار خلفاء بني العباس، كبير.
[958]
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن قريش الحكيمي
أبو عبد الله: روى عن يموت بن المزرع ومحمد بن إسحاق الصاغاني وأحمد بن عبيد بن ناصح والحارث بن أبي أسامة، روى عنه أبو عبد الله المرزباني وغيره.
ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من الكتب: كتاب حلبة الأدباء يشتمل
__________
(955) - الفهرست: 93 وبغية الوعاة 1: 47.
(956) - توفي نوح بن منصور سنة 387 وهذا يقرّب معرفة زمن المزني.
(957) - الفهرست: 120 وكنيته أبو الفضل.
(958) - ترجمة الحكيمي في الفهرست: 168 والوافي 2: 40 ونشوار المحاضرة 8: 10- 11.(5/2305)
على أخبار ومحاسن وأشعار. كتاب سفط الجوهر. كتاب الشباب. كتاب الفكاهة والدعابة.
حدث أبو علي قال حدثني ابن أبي قيراط قال أقرأني أبو عبد الله محمد بن أحمد الحكيمي كتابا بخطّ علي بن عيسى الوزير، وأخبرني أنه كتبه إليه في وزارته الأخيرة وهو يتقلد له طساسيج طريق خراسان يحثّه فيه على حمل المال وضمّنه:
قد كنت أكرمك الله بعيدا عن التقصير، غنيّا عن التنبيه والتبصير، راغبا فيما خصّك بالجمال، وقدّمك على نظرائك من العمال. واتصلت بك ثقتي، وانصرفت إليك عنايتي، ورددت الجليل من العمل إليك، واعتمدت في المهمّ عليك، ثم وضح لي من أثرك، وصحّ عندي من خبرك، ما اقتضى استزادتك، وردفه ما استدعى استبطاءك ولائمتك، وأنت تعرف صورة الحال، وتطلّعي مع شدة الضرورة إلى ورود المال، وكان يجب أن تبعثك العناية، على الجدّ في الجباية، حتى تدرّ حمولك وتتوفر، ويتّصل ما يتوقّع وروده من جهتك ولا يتأخر. فنشدتك لما تجنبت مذاهب الإغفال والإهمال، وقرنت الجواب عن كتابي هذا بمال تثيره من سائر جهاته وتحصّله وتبادر به وتحمله، فإن العين إليه ممدودة، والساعات لوروده معدودة، والعذر في تأخيره ضيّق، وأنا عليك من سوء العاقبة مشفق، والسلام.
[959]
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان، أبو الحسن النحوي،
وكيسان لقب واسمه إبراهيم: مات فيما ذكره الخطيب لثماني خلون من ذي القعدة سنة مائتين وتسع وتسعين في خلافة المقتدر.
قال أبو بكر الزبيدي: وليس هذا بالقديم الذي له في العروض والمعمّى كتاب.
__________
(959) - ترجمة ابن كيسان في طبقات الزبيدي: 153 والفهرست: 89 ومراتب النحويين: 88 وتاريخ أبي المحاسن: 51 والمنتظم 6: 114 ونزهة الألباء: 162 وتاريخ بغداد 1: 335 وإنباه الرواة 3: 57 والبداية والنهاية 11: 117 ومرآة الجنان 2: 236 والوافي 2: 31 والشذرات 2: 232 والنجوم الزاهرة 3: 178 وبغية الوعاة 1: 18 وانظر نور القبس: 327.(5/2306)
وقال الخطيب: [ذكر] ابن برهان أنّ كيسان ليس باسم جده إنما هو لقب أبيه؛ وكان يحفظ المذهبين الكوفي والبصري في النحو لأنه أخذ عن المبرد وثعلب، وكان أبو بكر ابن مجاهد يقول: أبو الحسن ابن كيسان أنحى من الشيخين، يعني المبرد وثعلبا.
قال المؤلف: وكان كما قال يعرف المذهبين إلا انه كان إلى البصريين أميل.
وحدث أبو الطيب اللغوي في «كتاب مراتب النحويين» قال: كان ابن كيسان يسأل المبرد عن مسائل فيجيبه، فيعارضها بقول الكوفيين فيقول: في هذا على من يقوله كذا ويلزمه كذا، فإذا رضي قال له: قد بقي عليك شيء، لم لا تقول كذا؟
فقال له يوما وقد لزم قولا للكوفيين ولجّ فيه: أنت كما قال جرير «1» :
أسليك عن زيد لتسلي وقد أرى «2» ... بعينيك من زيد قذى غير بارح
إذا ذكرت زيدا ترقرق دمعها ... بمذروفة العينين شوساء طامح «3»
تبكّي على زيد ولم تر مثله ... براء من الحمىّ صحيح الجوانح
فان تقصدي فالقصد منك سجيّة «4» ... وإن تجمحي تلقي لجام الجوامح
وحدث أبو بكر محمد بن مبرمان قال: قصدت ابن كيسان لأقرأ عليه «كتاب سيبويه» فامتنع وقال: اذهب به إلى أهله، يعني الزجّاج وابن السراج.
وكان أبو بكر ابن الانباري يتعصّب عليه ويقول: خلط المذهبين فلم يضبط منهما شيئا، وكان يفضل الزجاج عليه جدّا.
وله من الكتب: كتاب المهذب في النحو. كتاب غلط أدب الكاتب. كتاب اللامات. كتاب الحقائق. كتاب البرهان. كتاب مصابيح الكتاب. كتاب الهجاء والخط. كتاب غريب الحديث نحو أربعمائة ورقة. كتاب الوقف والابتداء. كتاب القراءات. كتاب التصاريف. كتاب الشاذاني في النحو. كتاب المذكر والمؤنث.(5/2307)
كتاب المقصور والممدود. كتاب معاني القرآن. كتاب مختصر في النحو. كتاب المسائل على مذهب النحويين مما اختلف فيه الكوفيون والبصريون. كتاب الفاعل والمفعول به. كتاب المختار في علل النحو ثلاثة مجلدات أو أكثر.
قرأت بخط إبراهيم بن محمد بن بندار، قرأت بخط أبي جعفر السعال في آخر العروض: «إلى هاهنا أملى عليّ ابن كيسان وأنا كنت أستمليه وفرغنا من العروض لخمس بقين من شوال سنة ثمان وتسعين ومائتين» .
وقال أبو حيان التوحيدي: وما رأيت مجلسا أكثر فائدة وأجمع لأصناف العلوم، وخاصة ما يتعلق بالتحف والطرف والنتف، من مجلس ابن كيسان، فانه كان يبدأ بأخذ القرآن والقراءات ثم بأحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإذا قرىء خبر غريب أو لفظة شادة أبان عنها وتكلم عليها وسأل أصحابه عن معناها، وكان يقرأ عليه «مجالسات ثعلب» في طرفي النهار، وقد اجتمع على باب مسجده نحو مائة رأس من الدوابّ للرؤساء والكتاب والأشراف والأعيان الذين قصدوه، وكان مع ذلك إقباله على صاحب المرقّعة الممزقة والعباء الخلق والطّمر البالي كاقباله على صاحب القصب والوشي والديباج والدابة والمركب والحاشية والغاشية. ويوما من الأيام جرى في مجلسه ما امتعض منه وأنكره وقضى منه عجبا، وأنشد في تلك الحالة من غرر الشعر والمقطعات الحسنة وغيرها ما ملأ السمع وحيّر الألباب حتى قال الصابىء: هذا الرجل من الجن إلا انه في شكل إنسان، ومن جملة ما أنشد في تلك الحال:
ما لي أرى الدهر لا تفنى عجائبه ... أبقى لنا ذنبا واستؤصل الراس
إنّ الجديدين في طول اختلافهما ... لا ينقصان ولكن ينقص الناس
أبقى لنا كلّ محمول وفجّعنا ... بالحاملين فهم أثواء أرماس
يرون أن كرام الناس ان بذلوا ... حمقى وأنّ لئام الناس أكياس
وتمثل أيضا ببيتي أبي تمام:
قوم إذا خافوا عداوة حاسد ... سفكوا الدما بأسنة الأقلام
ولضربة من كاتب بمداده ... أمضى وأنفذ من رقيق حسام
قال المؤلف: هكذا حكى أبو حيان، ولا أرى أبا حيان أدرك ابن كيسان هذا،(5/2308)
إن صحّت وفاته التي ذكرها الخطيب، ولا يكون الصابىء أيضا أدركه لأنّ مولد الصابىء في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، والذي ذكره الخطيب لا شك سهو فاني وجدت في «تاريخ أبي غالب همام بن الفضل بن المهذب المعري» «1» ان [ابن] كيسان مات في سنة عشرين وثلاثمائة.
[960]
محمد بن أحمد بن منصور أبو بكر بن الخياط النحوي:
أصله من سمرقند وقدم بغداد، ومات فيما ذكره أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني في سنة عشرين وثلاثمائة. قال: وكان قد انحدر مع البريديين لما غلبوا على البصرة وبها مات، وجرت بينه وبين الزجاج ببغداد مناظرة، وكان يخلط المذهبين، وقد قرأ عليه أبو علي الفارسي وكتب عنه شيئا من علم العربية، رأيت ذلك بخطّ أبي علي. وله مع أصحاب الخياط قصة قد ذكرت في أخبار أبي علي. وأخذ عنه أبو القاسم الزجاجي أيضا، وكان ابن الخياط جميل الأخلاق طيب العشرة محبوب الخلقة. وله من الكتب: كتاب معاني القرآن. كتاب النحو الكبير. كتاب الموجز في النحو. كتاب المقنع في النحو.
وقال أبو علي الفارسي في ضمن رقعة كتبها إلى سيف الدولة جوابا عن رقعة وردت منه ذكرتها في أخبار أبي علي «2» : وأما قوله إني قلت إن ابن الخياط كان لا يعرف شيئا فغلط في الحكاية، كيف أستجيز ذلك وقد كلمت ابن الخياط في مجالس كثيرة؟ ولكني قلت: إنه لا لقاء له لأنه دخل إلى بغداد بعد موت محمد بن يزيد، وصادف أحمد بن يحيى وقد صمّ صمما شديدا لا يخرق الكلام سمعه، فلم يمكن
__________
(960) - ترجمته في إنباه الرواة 3: 54 ونزهة الألباء: 169 والوافي 2: 88 وطبقات الداودي 2: 84 وبغية الوعاة 1: 48 وانظر طبقات الزبيدي: 74.(5/2309)
تعلم النحو منه، وإنما كان يقوله فيما كان يؤخذ عنه على ما يمليه دون ما كان يقرأ عليه، وهذا أمر لا ينكره أهل هذا الشأن ومن يعرفهم.
[961]
محمد بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن يزيد
بن حاتم بن المهلب بن أبي صفرة المهلبي النحوي، أبو يعقوب: مات بمصر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة في خلافة المطيع، وكان عالما نحويا لغويا ذكره الزبيدي.
قال المؤلف: وعساه أن يكون أخا أبي الحسين علي بن أحمد المهلبي، والله أعلم.
[962]
محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم
طباطبا بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم:
شاعر مفلق وعالم محقق شائع الشعر نبيه الذكر، مولده بأصبهان وبها مات في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وله عقب كثير بأصفهان فيهم علماء وأدباء ونقباء ومشاهير، وكان مذكورا بالذكاء والفطنة وصفاء القريحة وصحة الذهن وجودة المقاصد معروفا بذلك مشهورا به. وهو مصنف كتاب عيار الشعر «1» . كتاب تهذيب الطبع. كتاب العروض لم يسبق إلى مثله. كتاب في المدخل في معرفة المعمى من الشعر. كتاب في تقريظ الدفاتر.
__________
(961) - بغية الوعاة 1: 34 وإنباه الرواة 3: 57 وتاريخ بغداد 1: 320 ونزهة الألباء: 199 ويقول المؤلف ان الزبيدي ذكره ولكني لم أجد له ذكرا.
(962) - ترجمة ابن طباطبا في الفهرست: 151 ومعجم المرزباني: 427 ويتيمة الدهر 3: 136 والمحمدون: 9- 10 ووفيات الأعيان 1: 130 والوافي 2: 79 ومعاهد التنصيص 2: 29.(5/2310)
ذكر أبو عبد الله حمزة بن الحسن الأصبهاني قال: سمعت جماعة من رواة الأشعار ببغداد يتحدثون عن عبد الله بن المعتز أنه كان لهجا بذكر أبي الحسن مقدّما له على سائر أهله ويقول: ما أشبهه في أوصافه إلا محمد بن يزيد بن مسلمة بن عبد الملك إلا أن أبا الحسن أكثر شعرا من المسلميّ، وليس في ولد الحسن من يشبهه، بل يقاربه علي بن محمد الأفوه.
قال: وحدثني أبو عبد الله ابن أبي عامر قال: كان أبو الحسن طول أيامه مشتاقا إلى عبد الله بن المعتز متمنيا أن يلقاه أو يرى شعره، فأما لقاؤه فلم يتفق له لأنه لم يفارق أصبهان قط، وأما ظفره بشعره فانه اتفق له في آخر أيامه، وله في ذلك قصة عجيبة: وذلك أنه دخل إلى دار معمر وقد حملت إليه من بغداد نسخة من [ديوان] عبد الله بن المعتز فاستعارها فسوّف بها فتمكّن عندهم من النظر فيها وخرج وعدل إليّ كالّا معييا كأنه ناهض بحمل ثقيل، فطلب محبرة وكاغدا وأخذ يكتب عن ظهر قلبه مقطّعات من الشعر، فسألته لمن هي فلم يجبني حتى فرغ من نسخها وملأ منها خمس ورقات من نصف المأموني، وأحصيت الأبيات فبلغ عددها مائة وسبعة وثمانين بيتا تحفّظها من شعر ابن المعتز في ذلك المجلس واختارها من بين سائرها.
وذكر عنه حكايات منها ما حدثني به أبو عبد الله ابن أبي عامر قال: من توسّع أبي الحسن في أتيّ القول وقهره لأبيّه أن أبا عبد الله فتى أبي الحسين محمد بن أحمد بن يحيى بن أبي البغل كانت به لكنة شديدة، حتى كان لا يجري على لسانه حرفان من حروف المعجم الراء والكاف، يكون مكان الراء غينا ومكان الكاف همزة، فكان إذا أراد أن يقول كركي يقول «أغ أي» وإذا أراد أن يقول كركرة يقول «أغ أغة» وينشد للأعشى:
قالت أغى غجلا في أفه أتف
يريد «قالت أرى رجلا في كفّه كتف» فعمل أبو الحسن قصيدة في مدح أبي الحسين حذف منها حرفي لكنة الحسين ولقّنه حتى رواها لأبيه أبي الحسين فجنّ عليها، وقال أبو الحسن والله أنا أقدر على أبيّ الكلام من واصل بن عطاء، والقصيدة:(5/2311)
يا سيدا دانت له السادات ... وتتابعت في فعله الحسنات
وتواصلت نعماؤه عندي فلي ... منه هبات خلفهن هبات
نعم ثنت عني الزمان وخطبه ... من بعد ما هيبت له غدوات
فأدلت من زمن منيت بغشمه ... أيام للأيام بي سطوات
فلميت آمالي لديه حياته ... ولحاسدي نعمى يديه ممات
أوليتني مننا تجلّ وتعتلي ... عن أن يحيط بوصفهن صفات
فإذا نثثن بمنطق من مادح ... فالمدح مني والثناء صمات
عجنا عن المدح التي استحققتها ... والله يعلم ما تعي النيات
يا ماجدا فعل المحامد دينه ... وسماحه صوم له وصلاة
فيبيت يشفع راجيا بتطوّع ... منه وقد غشي العيون سبات
فالجود مثل قيامه وسجوده ... إن قيس والتسبيح منه عدات
ما زال يلفى حائدا أو واعدا ... وعدا تضايق دونه الأوقات
ليمينه بالنّجح عند عفاته ... في ليل ظنهم البهيم ثبات
ذو همة علوية توفي على ال ... جوزاء تسقط دونها الهمات
تنأى عن الأوهام إلا أنها ... تدنو إذا نيطت بها الحاجات
وعزيمة مثل الحسام مصونة ... عن أن تفلّ به الزمان شباة
فإذا دها حطب مهمّ أيّد ... خلّى العداة وجمعهم أشتات
لأبي الحسين سماحة لو أنها ... للغيث لم تجدب عليه فلاة
وله مساع في العلا عدد الحصى ... في طيء من جلّها مسعاة
كحيا السحاب على البقاع سماته ... وله على عافي نداه سمات
يحيي بنائله نفوسا مثلما ... يحيا بجود الهاطلات نبات
شاد العلاء أبو الحسين وحازه ... عن سادة هم شائدون بناة
سبّاق غايات تقطع دونها ... سباقها إن مدّت الحلبات
فإذا سعوا نحو العلا وسعى لها ... متمهلا حيزت له القصبات(5/2312)
مستوفز عند السماح وإن تقس ... أحدا به في الحلم قلت حصاة
طود بلوذ به الزمان وعنده ... لجميع أحداث الزمان أداة
بيمينه قلم إذا ما هزّه ... في أوجه الأيام قلت قناة
في سنه بأس السنان وهيبة ال ... سيف الحسام وقد حوته دواة
سحبان عيّا وهو عيّا باقل ... عجل إلى النجوى وفيه أناة
وسنان إلا أنه متنبّه ... يقظان منه الزهو والإخبات
لم يخط في ظلمات ليل مداده ... إلا انجلت عنا به الظلمات
وأبو علي أحمد بن محمد ... قد نمّقت عنّي لديه هنات
فتقاعست دوني عوائد فضله ... وسعت سعاة بيننا وعداة
فافتله عن طول العقوق وهزّه ... فله لدى فعل العلا هزات
والله ما شاني المديح وبذله ... لمؤمّل ليمينه نفحات
إلا مجازاة لمن أضحت له ... عندي يد أغذى بها وأقات
والمسمعيّ له لديّ صنائع ... أيامهن لطيها ساعات
فاخالها عهد الشباب وحسنه ... إذ طار لي في ظله اللذات
خذها الغداة أبا الحسين قصيدة ... ضيمت بها الراءات والكافات
غيّبن عنها ختلة اخواتها ... عند النشيد فما لها اخوات
ولو انهن شهدن لازدوجت لها ... الغينات [والهمزات] والألفات
فاسعد أبا عبد الإله بها إذا ... شقيت بلثغة منشد أبيات
نقصت فتمّت في السماع وألغيت ... منها التي هي بينها آفات
صفّيتها مثل المدام له فما ... فيها لدى حسن السماع قذاة
معشوقة تسبي العقول بحسنها ... ياقوتة في اللين وهي صفاة
علوية حسنية مزهوّة ... تزهى بحسن نشيدها اللهوات
ميزانها عند الخليل معدّل ... متفاعلن متفاعلن فعلات
لو واصل بن عطاء الباني لها ... تليت توهّم أنها آيات(5/2313)
لولا اجتنابي أن يملّ سماعها ... لأطلتها ما خطّت التاءات
وقال أيضا في الفخر «1» :
حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال عندي حزينه
يلوم على أن رحت في العلم راغبا ... أجمّع من عند الرواة فنونه
وأملك أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أنّ العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه
إذا عدّ أغنى الناس لم أك دونه ... وكنت أرى الفخر المسوّد دونه
إذا ما رأى الراؤون نطقي وعيّه ... رأوا حركاتي قد هتكن سكونه
وما ثمّ ريب في حياتي وموته ... فأعجب بميت كيف لا يدفنونه
أبى الله لي من صنعه أن يكونني ... إذا ما ذكرنا فخرنا وأكونه
وجدت في «كتاب شعراء أصبهان» لحمزة الأصبهاني قال، وجدت بخط أبي الحسن رحمه الله يعني ابن طباطبا أن أبا علي يحيى بن علي بن المهلب وصف له دعوة لأبي الحسن أحمد بن محمد بن إبراهيم الكراريسي ذكر أنهم قربوا فيها مائدة عليها خيار وفي وسطها جامات عليها فطر بحسب «2» ، فسميتها مسيحية لأنها أدم النصارى، وأنهم قربوا بعد ذلك سكباجة بعظام عارية فسميتها شطرنجية، وأنهم قربوا بعدها مضيرة في غضائر بيض فسميتها معتدّة وكانت بلا دسم، والمعتدة لا تمسّ الدهن والطيب، وانهم قدموا بعدها زير باجة قليلة الزعفران فسميتها عابدة تشبيها بلون العباد في الصفرة، وأنهم قربوا بعدها لونا فسميتها قنّبية، وأنهم قربوا بعدها زبيبية سوداء فسميتها موكبية، وأنهم قربوا بعدها قليّة بعظام الأضلاع فسميتها حسكية، ثم قربوا بعدها فالوذجة بيضاء فسميتها صابونية، وأنه اعتلّ على الجماعة بأنه عليل،(5/2314)
فحوّلهم من منزله إلى باغ «1» قد طبّق بالكراث، فهيأ المجلس هناك، وأحضرهم جرة منثلمة وكانوا يمزجون شرابهم منها، فإذا أرادوا الغائط نقلوها معهم، فكانت مرة في المجلس ومرة في المخرج، وأن الباغبان «2» ربط بحذائهم عجلة كانت تخور عليهم خوارا مناسبا لقول القائل يا فاطمة، فقلت في ذلك:
يا دعوة مغبرّة قاتمه ... كأنها من سفر قادمه
قد قدّموا فيها مسيحية ... أضحت على أسلافها نادمه
نعم وشطرنجية لم تزل ... أيد وأيد حولها حائمه
فلم نزل في لعبها ساعة ... ثم نفضناها على قائمه
وبعدها معتدة أختها ... عابدة قائمة صائمه
في حجرها أطراف موءودة ... قد قتلتها أمّها ظالمه
والقنّبيات فلا تنسها ... فحيرتي في وصفها دائمه
أقنّب ما امتدّ في إصبعي ... أم حية في وسطها نائمه
والموكبيات بسلطانها ... قد تركت آنافنا راغمه
والحسكيّات فلا تنس في ... خندقها أوتادها القائمه
وجام صابونية بعدها ... فافخر بها إذ كانت الخاتمه
ظلّ الكراريسي مستعبرا ... من عصبة في داره طاعمه
وقال إنّ ابني عليل ولي ... قيامة من أجله قائمه
وولولت داياته حوله ... وليس إلا عبرة ساجمه
والقصيدة طويلة باردة نشبت في كتابتها فكتبت منها هذا.
وله:
لا تنكرن إهداءنا لك منطقا ... منك استفدنا حسنه ونظامه
فالله عز وجل يشكر فعل من ... يتلو عليه وحيه وكلامه(5/2315)
وقال وقد صادف على باب ابن رستم عثمانيين أسودين معتمين بعمامتين حمراوين، فامتحنهما فوجدهما من الأدب خاليين، فدخل إلى مجلس أبي علي وتناول الدواة والكاغد من بين يديه وكتب بديهة:
رأيت باب الدار أسودين ... ذوي عمامتين حمراوين
كجمرتين فوق فحمتين ... قد غادرا الرفض قرير العين
جدّكما عثمان ذو النورين ... فما له أنسل ظلمتين
يا قبح شين صادر عن زين ... حدائد تطبع من لجين
ما أنتما إلا غرابا بين ... طيرا فقد وقعتما للحين
زورا ذوي السنة في المصرين ... المظهرين الحبّ للشيخين
وخليّا الشيعة للسبطيين ... الحسن المرضيّ والحسين
لا تبرما إبرام ربّ الدين ... ستعطيان في مدى عامين
قال وقال لابن أبي عمر ابن عصام وكان ينتف لحيته:
يا من يزيل خلقة ال ... رحمن عما خلقت
تب وخف الله على ... ما [ ... ] اجترحت
هل لك عذر عنده ... إذا الوحوش حشرت
في لحية إن سئلت ... بأيّ ذنب قتلت
وقال:
ما أنس لا أنس حتى الحشر مائدة ... ظلنا لديك بها في أشغل الشّغل
إذ أقبل الجدي مكشوفا ترائبه ... كأنه متمطّ دائم الكسل
قد مدّ كلتا يديه لي فذكّرني ... بيتا تمثّله من أحسن المثل
«كأنه عاشق قد مدّ بسطته ... يوم الفراق إلى توديع مرتحل»
وقد تردّى بأطمار الرقاق لنا ... مثل الفقير إذا ما راح في سمل
وله:
لنا صديق نفسنا ... في مقته منهمكه(5/2316)
أبرد من سكونه ... وسط النديّ الحركه
وجدريّ وجهه ... يحكيه جلد السمكه
أو جلد أفعى سلخت ... أو قطعة من شبكه
أو حلق الدرع إذا ... أبصرتها مشتبكه
أو كدر الماء إذا ... ما الريح أبدت حبكه
أو سفن محبّب ... أو كرش منفركه
أو منخل أو عرض ... رقيقة منهتكه
أو حجر الحمّام كم ... من وسخ قد دلكه
أو كور زنبور إذا ... أفرخ فيه تركه
أو سلحة يابسة ... قد نقرتها الديكة
ومن محاسن ابن طباطبا في أبي علي الرستمي يهجوه بالدعوة والبرص:
أنت أعطيت من دلائل رسل ... الله آيا بها علوت الرؤوسا
جئت فردا بلا أب وبيمنا ... ك بياض فأنت عيسى وموسى
[963]
محمد بن أحمد بن نصر الجيهاني أبو عبد الله:
قال السلامي في «تاريخ خراسان» وفي سنة إحدى وثلاثمائة في جمادى الآخرة ولي أبو الحسن نصر بن
__________
(963) - ذكر ابن النديم (الفهرست: 401) الجيهاني محمد بن أحمد في المتكلمين الذين يظهرون الإسلام ويبطنون الزندقة، ولعله هو صاحب رسالة ذات نزعة شعوبية يحط فيها على العرب، انظر الامتاع والمؤانسة 1: 78 وما بعدها، وما أورده الصفدي في الوافي 2: 80- 81 إنما هو منقول عن ياقوت، وعلق الصفدي على ذلك بقوله: هكذا أثبته ياقوت وجاء في الأحمدين فقال أحمد بن محمد بن نصر الجيهاني وأظنه هذا؛ (وأحمد بن محمد بن نصر قد مرت ترجمته عند ياقوت رقم: 149 وكنيته أبو عبد الله وقد وزر لنصر بن أحمد بن نصر الساماني، وهناك ما يوهم اللبس بينهما، ولكن ابن النديم قد ميز بينهما في الفهرست، فالجيهاني محمد قد صرف عن الوزارة سنة 367 وأحمد وزر سنة 301) .(5/2317)
أحمد بن إسماعيل وهو ابن ثمان سنين، وتولى التدبير أبو عبد الله محمد بن أحمد الجيهاني فأجرى الأسباب على وجوهها، وكان حسن النظر لمن أمله وقصده، معينا لمن أمّه واعتمده، وكان مبتلى بالمذهب «1» فلم يكن يصافح أحدا إلا دون ثوب أو كاغد، ومرّ يوما بنخّاس يعالج دابّة فتأفّف وأبرز يده من كمه وعلّقها إلى أن نزل وصبّ عليها قماقم من الماء تقذرا مما فعله النخاس كأنه هو الذي تولّى ذلك، ولم يكن يأذن في إمساك السنانير في دوره فكان الفأر يتعابث فيها، وفيه يقول أبو الطيب الطاهري:
رأيت الوزير على بابة ... من المذهب الشائع المنتشر
يرى الفأر أنظف شيء يدبّ ... على ثوبه ويعاف البشر
يبيت حفيّا بها معجبا ... ويضحي عليها شديد الحذر
وإن سغبت فهو في جحرها ... يفتّ لها يابسات الكسر
فلم صار يستقذر المسلمين ... ويألف ما هو عين القذر
وله أيضا فيه:
ما فيه من حسن نثني عليه به ... إلا التصنع بالوسواس للناس
ليوهموا شغفا بالطهر منك فلا ... تعدّ فيمن يؤدّي جزية الراس
يا لهف نفسي على دنيا حظيت بها ... عفوا بلا طول إبساس وإيناس
وله أيضا فيه:
قل للوزير الذي عجائبه ... يضرب في سوقنا بها المثل
أنت إذا كنت طول دهرك بال ... مخرج عما سواه تشتغل
فأين ألقاك للحوائج أو ... في أي حين يهمّك العمل
وقال وكان هجّيرا الجيهاني يقول في أضعاف كلامه «بدواندرون» ، وهجيرا علي بن محمد العارض أن يقول «هزين» ، وفيهما يقول الطاهري:
وزيران أما بالمقدّم منهما ... فخبل وبالثاني يقال جنون(5/2318)
إذا نحن كلمناهما فجوابنا ... بدواندرون دائم وهزين
متى تلق ذا أو تلق ذاك لحادث ... تلاق مهينا لا يكاد يبين
ومعنى بدو اندرون «اعد إلى داخل» ومعنى هزين «الفرار» .
وللطاهري فيهما:
إنّ الأمور إذا أضحت يدبّرها ... طفل رضيع وسكران ومجنون
لمخبرات بأن لن يستقيم بها ... لمن توسّطها دنيا ولا دين
[964]
محمد بن أحمد أبو الندى الغندجاني اللغوي:
رجل واسع العلم راجح المعرفة باللغة وأخبار العرب وأشعارها، وما عرفت له شيخا ينسب إليه ولا تلميذا يعوّل عليه غير الحسن بن أحمد الأعرابي المعروف بالأسود صاحب التصانيف المشهورة التي تصدّى فيها للأخذ على أعيان العلماء، فإن روايته في كتبه كلّها عن أبي الندى هذا.
وأنا أرى أنّ هذا الرجل خرج إلى البادية واقتبس علومه من العرب الذين يسكنون الخيم، وقد وقع لي شيء من خبره في ذلك أنا أورده هاهنا ليستدل به على ما ذهبت إليه كما استدللت أنا به.
وجدت بخط صديقنا كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة الحلبي الفقيه المدرس الكاتب الأديب ما أسنده إلى ليث الطويل قال: سألت أبا الندى، وكان من أعلم من شاهدت بأخبار العرب: هل تعرف من شعر الذلفاء بنت الأبيض في ابن عمها نجدة بن الأسود؟ قال: نعم، كنت فيمن حضر جنازة نجدة حتى وضعناه في قبره وأهلنا عليه التراب، وصدرنا عنه غير بعيد، فأقبلن نسوة يتهادين فيهنّ امرأة قد فاقتهنّ طولا، كالغصن الرطب، وإذا هي الذلفاء، فأقبلت حتى أكبّت على القبر وبكت بكاء محرقا وأظهرت من وجدها ما خفن معه على نفسها، فقلن لها:
يا ذلفاء إنه قد مات السادات من قومك قبل نجدة، فهل رأيت نساءهم قتلن أنفسهنّ
__________
(964) - ترجم له القفطي في إنباه الرواة 4: 181 وانظر بغية الوعاة 1: 52 ومعجم البلدان (غند جان) وهي بفتح الغين، من كور الأهواز؛ وانظر ترجمة الحسن بن أحمد الأعرابي شيخ أبي الندي في ما تقدم رقم: 305.(5/2319)
عليهم؟ فلم يزلن بها حتى قامت فانصرفت عن القبر، فلما صارت منه غير بعيد عطفت بوجهها عليه وقالت:
سئمت حياتي حين فارقت قبره ... ورحت وماء العين ينهلّ هامله
وقالت نساء الحيّ قد مات قبله ... شريف فلم تهلك عليه حلائله
صدقن لقد مات الرجال ولم يمت ... كنجدة من إخوانه من يعادله
فتى لم يصق عن جسمه لحد قبره ... وقد وسع الأرض الفضاء فضائله
قال فقلت: أحسنت والله يا أبا الندى وأحسنت، فهل تعرف من شعرها شيئا آخر؟ قال: نعم، كنت ممن حضر قبر نجدة عند زيارتها إياه لتمام لحول فرأيتها أقبلت حتى أكبّت على القبر وبكت بكاء شديدا ثم أنشأت تقول:
يا قبر نجدة لم أهجرك مقلية ... ولا جفوتك من صبري ولا جلدي
لكن بكيتك حتى لم أجد مددا ... من الدموع ولا عونا من الكمد
وايستني جفوني من مدامعها ... فقلت للعين فيضي من دم الكبد
فلم أزل بدمي أبكيك جاهدة ... حتى بقيت بلا عين ولا جسد
ولله يعلم لولا الله ما رضيت ... نفسي عليك سوى قتل لها بيدي
قال فقلت: أحسنت والله يا أبا الندى وأحسنت، فهل تعرف من شعرها شيئا آخر؟ قال: نعم، حضرنا عيدا لنا في زمن الربيع، ونحن في رياض خضرة معشية فركب الفتيان وعقدوا العذب الصّفر في القنا الحمر وجعلوا يتجاولون، فلما أردنا الانصراف قال بعضنا لبعض: ألا تجعلون طريقكم على الذلفاء فلعلها إذا نظرت إليكم تسلّت بمن بقي عمن هلك؛ قال: فخرجنا نؤمّها فأصبناها بارزة من خبائها، وهي كالشمس الطالعة إلا أنه يعلوها كسوف الحزن، فسلّمنا عليها وقلنا: يا ذلفاء إلى كم يكون هذا الوجد على نجدة؟ أما آن لك أن تتسلّي بمن بقي من بني عمك عمن هلك؟ ها نحن سادات قومك وفتيانهم ونجومهم، وفينا السادة والذادة والبأس والنجدة، فأطرقت مليا ثم رفعت رأسها باكية تقول:
صدقتم إنكم لنجوم قومي ... ليوث عند مختلف العوالي(5/2320)
ولكن كان نجدة بدر قومي ... وكهفهم المنيف على الجبال
فما حسن السماء بلا نجوم ... وما حسن النجوم بلا هلال
ثم دخلت خباءها وأرسلت سترها فكان آخر العهد بها.
وقرأت بخط أبي سعد في «المذيل» : أنشدنا شافع بن علي الحمامى، أنشدنا إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي، أنشدني أبو حرب رزماشوب بن زياد الجيلي بشيراز، أنشدنا أبو محمد الحسن بن علي الغندجاني الأديب، أنشدنا أبو محمد الأسود الغندجاني الأديب، أنشدنا أبو الندى قال: سمعت أعرابيا بالبصرة يقال له الوليد بن عاصم ينشد لنفسه:
وما معزل بالعور غور تهامة ... بأودية صابت عليها عهودها
ترود الضحى افنان ضال وتتفي ... ويخرج من بين الأراكة جيدها
بأحسن من سلمى ولا ضوء درّة ... تسمّى إليها غائص يستجيدها
قرأت في «كتاب اللقائط» لأبي يعلى ابن الهبّارية، وقد ذكر أبا محمد الأعرابي، ووضع منه وانتصر للنمري الذي شرح «الحماسة» وغيره واستدلّ على صحة روايانهم وإتقان علمهم ومقالانهم ثم قال: فكيف نترك أمثال هذه الروايات لرواية مثل أبي الندى، ولم يذكر لي من لقيته من شيوخ بلاد فارس من فضل أبي الندى إلا أنه غاب عن أهله مدة، وأقام في البادية سنين عدة، وعاد يروي ويخبر، وكان له ابن فأخذ يطليه بالزيت ويقفه في شمس القيط بالغندجان، وهي حارة جدا، ولم يزل يفعل به ذلك ليكون أسمر اللون كالعرب حتى مات ذلك المسكين.
[965]
محمد بن أحمد الأزهر بن طلحة بن نوح بن الأزهر بن نوح
بن حاتم بن سعيد بن عبد الرحمن الأزهري أبو منصور اللغوي الأديب الشافعي المذهب الهروي:
__________
(965) - ترجمة الأزهري في مقدمة كتاب التهذيب له: 5- 2 ونزهة الأنباء: 221 وابن خلكان 4: 324 وعبر الذهبي 2: 356 وسير الذهبي 16: 356 والوافي 2: 45 ومرآة الجنان 2: 395 وطبقات السبكي 3: 63 والأسنوي 1: 49 والبلغة: 205 وبغية الوعاة 1: 19 وطبقات الداودي 2: 61 وطبقات ابن هداية الله: 94 والشذرات 3: 72 وإشارة التعيين: 294.(5/2321)
مات فيما ذكره أبو النصر عبد الرحمن بن عبد الجبار بن أبي سعيد الفامي في «تاريخ هراة» في سنة سبعين وثلاثمائة، ووافقه الحاكم أبو عبد الله الحسين بن محمد بن الحسين الكتبي الهروي في «كتاب الوفيات» له، وزاد في ربيع الآخر، قال الحاكم: ورأيت في «كتاب تاريخ السنين» تصنيف أبي يعقوب إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن الفرات الهروي الحافظ، وأصله عندي بخطه في عشرة أجزاء، أن مولد أبي منصور الأزهري في سنة اثنتين وثلاثمائة.
أخذ الأزهري عن أبي الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري عن ثعلب وغيره فأكثر، وعن أبي محمد المزني عن أبي خليفة الجمحي، وعن أبي محمد عبد الله بن عبد الوهاب البغوي عن الربيع بن سليمان عن الشافعي، وعن عبد الله بن محمد بن هاجك وأبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي.
ورد بغداد وأدرك ابن دريد فلم يرو عنه، قال: ودخلت داره ببغداد غير [مرة] فألفيته على كبر سن سكران لا يكاد يستمرّ لسانه على الكلام من سكره. وأخذ الأزهريّ ببغداد عن أبي عبد الله إبراهيم بن عرفة نفطويه وعن ابن السراج.
وصنف: كتاب التهذيب في اللغة «1» . كتاب معرفة الصبح. كتاب التقريب في التفسير. كتاب تفسير ألفاظ كتاب المزني. كتاب علل القراءات. كتاب في الروح وما جاء فيه من القرآن والسنة. كتاب تفسير أسماء الله عز وجل. كتاب معاني شواهد غريب الحديث. كتاب الردّ على الليث. كتاب تفسير شواهد غريب الحديث. كتاب تفسير إصلاح المنطق. كتاب تفسير السبع الطوال. كتاب تفسير شعر أبي تمام.
كتاب الأدوات.
وذكر في مقدمة كتابه قال «2» : وكنت امتحنت بالإسار سنة عارضت القرامطة الحاجّ بالهبير، وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عربا نشأوا بالبادية يتتبعون مساقط الغيث أيام النجع ويرجعون إلى أعداد المياه في محاضرهم زمن القيظ، ويرعون النعم(5/2322)
ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطباعهم البدوية وقرائحهم التي اعتادوها، ولا يكاد [يقع] في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في إسارهم دهرا طويلا، وكنا نتشتّى الدهناء ونتربع الصمّان ونتقيظ الستارين، واستفدت من مخاطباتهم ومحاورة بعضهم بعضا ألفاظا جمة ونوادر كثيرة أوقعت أكثرها في الكتاب، وستراها في مواضعها إذا أتت قراءتك عليها إن شاء الله تعالى.
وذكر في تضاعيف كتابه أنه أقام بالصمّان شتوتين، ورأى ببغداد أبا إسحاق الزجاج وأبا بكر ابن الأنباري ولم يذكر أنه أخذ عنهم شيئا.
قال المؤلف: كانت سنة الهبير هي سنة احدى عشرة وثلاثمائة وذكر بعضهم أنها كانت سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، عارضهم أبو طاهر الجنابي فقتل بعضهم واسترقّ بعضهم واستولى على جميع أموالهم، وذلك في أيام المقتدر بالله ابن المعتضد.
[966]
محمد بن أحمد بن طالب الأخباري:
قال الخطيب مات بعد سنة سبعين وثلاثمائة، ويكنى أبا الحسن، سكن الشام وحدث بطرابلس، أنشد أبو الحسن محمد بن أحمد البغدادي قال: أنشدني أبو علي الأعرابي لنفسه:
كنت دهرا أعلّل النفس بالوع ... د وأخلو مستأنسا بالأماني
فمضى الواعدون واقتطعتنا «1» ... عن فضول المنى صروف الزمان
[967]
محمد بن أحمد بن أيوب بن الصلت بن شنبوذ أبو الحسن المقرىء:
مات
__________
(966) - تاريخ بغداد 1: 310 وفيه أنه توفي سنة 370 لا بعدها ومصورة ابن عساكر 14: 692.
(967) - ترجمة ابن شنبوذ في تاريخ بغداد 1: 280 والفهرست: 34- 35 والمنتظم 6: 307 وابن خلكان 4: 299 وعبر الذهبي 2: 195 وسير الذهبي 15: 264 ومعرفة القراء 1: 221 والوافي 2: 37 ومرآة الجنان 2: 286 والبداية والنهاية 11: 194 وطبقات ابن الجزري 2: 52 والنجوم الزاهرة 3: 267 والشذرات 2: 313.(5/2323)
فيما ذكره الخطيب في سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة.
قال الخطيب: قد تخيّر لنفسه حروفا من شواذّ القراءات فقرأ بها فصنّف أبو بكر الأنباري وغيره كتبا في الرد عليه.
قرأت بخط أبي علي ابن أبي إسحاق الصابىء، قال القاضي أبو سعيد السيرافي رحمه الله: كان ابن شنبوذ- واسمه محمد بن أحمد بن أيوب- كثير اللحن قليل العلم، وكان دينا وفيه سلامة وحمق ثم ذكر توبته كما ذكرنا بعد.
حدث إسماعيل بن علي الخطبي في «كتاب التاريخ» قال: واشتهر ببغداد أمر رجل يعرف بابن شنبوذ يقرىء الناس ويقرأ في المحراب بحروف يخالف فيها المصحف فيما يروي عن عبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وغير هما مما كان يقرأ به قبل المصحف الذي جمعه عثمان، ويتتبع الشواذّ فيقرأ بها ويجادل حتى عظم أمره وفحش وأنكره الناس، فوجه السلطان وقبض عليه في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وحمل إلى دار الوزير محمد بن مقلة، وأحضر القضاة والفقهاء والقراء وناظره الوزير بحضرته، فأقام على ما ذكر عنه ونصره، واستنزله الوزير عن ذلك فأبى أن ينزل عنه أو يرجع عما يقرأ به من هذه الشواذ المنكرة التي تزيد على المصحف العثماني، فأنكر ذلك جميع من حضر المجلس وأشاروا بعقوبته ومعاملته بما يضطره الى الرجوع، فأمر بتجريده وإقامته بين الهنبازين، وأمر بضربه بالدرة على قفاه فضرب نحو العشرة ضربا شديدا فلم يصبر واستغاث وأذعن بالرجوع والتوبة، فخلّي عنه وأعيدت عليه ثيابه واستتيب، وكتب عليه كتاب توبته، وأخذ فيه خطه بالتوبة، فتقوّل أصحابه أنه دعا على ابن مقلة بقطع اليد فاستجيب له.
قال المؤلف «1» : وهذا من عجيب الاتفاق إن صحّ.
وذكره محمد بن اسحاق النديم فقال: كان ابن شنبوذ يناوىء أبا بكر ابن مجاهد ولا يعشره «2» وكان دينا فيه سلامة وحمق؛ قال لي الشيخ أبو محمد يوسف بن السيرافي:
إنه كان كثير اللحن قليل العلم، وقد روى قراءات كثيرة وله كتب مصنفة في ذلك.
وكان مما خالف فيه قراءة الجمهور (قال القاضي أبو يوسف: وسئل عنه بحضرة الوزير(5/2324)
أبي علي ابن مقلة فاعترف به ولم ينكره إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فامضوا إلى ذكر الله (الجمعة: 9) . وقرأ وكان أمامهم ملك يأخذ كلّ سفينة صالحة غصبا (الكهف: 79) . وقرأ كالصّوف المنفوش (القارعة: 5) . وقرأ تبّت يدا أبي لهب وقد تبّ ما أغنى (المسد: 1) . وقرأ أليوم ننجّيك بيديك لتكون لمن خلفك آية (يونس: 92) . وقرأ وتجعلون شكركم أنّكم تكذّبون (الواقعة: 12) . وقرأ واللّيل إذا يغشى والنّهار إذا تجلّى والذّكر والانثى (الليل: 1) . وقرأ وقد كذّب الكافرون فسوف يكون لزاما (الفرقان: 77) . وقرأ إلّا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد عريض (الأنفال: 73) إلى غير ذلك.
وله من التصانيف: كتاب ما خالف فيه ابن كثير أبا عمرو. كتاب قراءة علي عليه الصلاة والسلام. كتاب اختلاف القراء. كتاب شواذ القراءات. كتاب انفراداته.
وقرأت في كتاب ألفه القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني سماه «أفواج القراء» ، قال: كان ابن شنبوذ أحد القراء والمتنسكين، وكان يرجع إلى ورع ولكنه كان يميل إلى الشواذ ويقرأ بها وربما أعلن ببعضها في بعض صلواته التي يجهر فيها بالقراءة وسمع ذلك منه وأنكر عليه فلم ينته للانكار، فقام أبو بكر ابن مجاهد فيه حقّ القيام وأشهر أمره، ورفع حديثه إلى الوزير في ذلك الوقت وهو أبو علي ابن مقلة، فأخذ وضرب أسواطا زادت على العشرة ولم تبلغ العشرين، وحبس واستتيب فتاب وقال: إني قد رجعت عما كنت أقرأ به، ولا أخالف مصحف عثمان ولا أقرأ إلا بما فيه من القراءة المشهورة، وكتب عليه بذلك الوزير أبو علي محضرا بما سمع من لفظه، وأمره أن يكتب في آخره بخطه، وكان المحضر بخط أبي الحسين أحمد بن محمد بن ميمون. وكان أبو بكر ابن مجاهد تجرد في كشفه ومناظرته فانتهى أمره إلى أن خاف على نفسه من القتل، وقام أبو أيوب السمسار في إصلاح أمره، وسأل الوزير أبا علي أن يطلقه وأن ينفذه إلى داره مع أعوانه بالليل خيفة عليه لئلا يقتله العامة، ففعل ذلك، ووجه إلى المدائن سرّا مدة شهرين ثم دخل بيته ببغداد مستخفيا من العامة.
ونسخة المحضر المعمول على ابن شنبوذ بخط ابن ميمون: يقول محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ: قد كنت أقرأ حروفا تخالف ما في مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه المجمع عليه والذي اتفق أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم(5/2325)
ورضي عنهم على تلاوته، ثم بان لي أنّ ذلك خطأ، فأنا تائب وعنه مقلع وإلى الله عزوجل بريء، إذ كان مصحف عثمان هو الحقّ الذي لا يجوز خلافه ولا أن يقرأ بغير ما فيه.
نسخة خط ابن شنبوذ في هذا المحضر: يقول محمد بن أحمد بن أيوب بن شنبوذ: ما في هذه الرقعة صحيح وهو قولي واعتقادي، وأشهد الله عز وجل وسائر من حضر على نفسي بذلك، وكتب بخطه، فمتى خالفت ذلك أو بان مني غيره فأمير المؤمنين أطال الله بقاءه في حلّ وسعة من دمي، وذلك في يوم الأحد لسبع خلون من ربيع الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة في مجلس الوزير أبي علي محمد بن علي أدام الله توفيقه، وحسبي الله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله.
خط ابن مجاهد: اعترف ابن شنبوذ بما في هذه الرقعة، وكتب ابن مجاهد بيده وذكر التاريخ.
خط ابن أبي موسى: اعترف المعروف بابن شنبوذ بما في هذه الرقعة بحضوري طوعا، وكتب محمد بن أبي موسى الهاشمي، وذكر التاريخ.
شهادة أخرى: شهد محمد بن أحمد بن محمد على إقرار محمد بن أحمد بن أيوب المعروف بابن شنبوذ بجميع ما في هذا الكتاب، وذكر التاريخ.
وقال ابن شنبوذ في المجلس إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجماعة من أصحابه خالفوا بعض ما في هذا المصحف الذي في أيدينا، وكان اعترافه به طوعا، شهد بذلك محمد بن أبي موسى، وكتب بيده، وشهد أحمد بن موسى بن مجاهد، وكتب بيده.
قال القاضي أبو يوسف: كنت قد سمعت من مشايخنا بالري ثم ببغداد أن سبب الانكار على ابن شنبوذ أنه قرأ، أو قرى عليه، في آخر سورة المائدة عند حكاية قول عيسى إن تغفر لهم فإنك أنت الغفور الرّحيم من العزيز الحكيم.
[968]
محمد بن أحمد بن إبراهيم الشنبوذي أبو الفرج المقرىء،
يعرف بغلام ابن
__________
(968) - تاريخ بغداد 1: 271 وطبقات ابن الجزري 2: 50 والوافي 2: 39.(5/2326)
شنبوذ: مات سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وقيل سنة ثمان ومولده في سنة ثلاثمائة.
قال الخطيب: روى عن أبي الحسن محمد بن أحمد بن شنبوذ وغيره كتبا في القراءات، وتكلم الناس في رواياته، وسئل الدارقطني عنه فأساء القول فيه والثناء عليه. قال: وسمعت عبيد الله الصيرفي يذكر أبا الفرج الشنبوذي فعظم أمره ووصف علمه بالقرآن وحفظ التفسير وقال: سمعته يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر شواهد للقرآن.
وله من التصانيف: كتاب الشارة في تلطيف العبارة في علم القرآن. كتاب التفسير ولم يتم.
[969]
محمد بن أحمد المعمري أبو العباس النحوي:
أحد شيوخ النحاة ومشهوريهم، صحب الزجاج وأخذ عنه، وكان أبو الفتح المراغي تلميذه وصاحبه، وكان أكثر مقامه بالبصرة وبها توفي وأظنه من أهلها، وله شعر صالح متوسط من أشعار الأدباء، ومات فيما أحسب بين الخمسين والثلاثمائة، والثلاثمائة، قال ذلك ابن عبد الرحيم، قال: وأنشدني أبو القاسم التنوخي عن أبيه له من قصيدة مدح بها جدّه أبا القاسم أولها:
وجفون المضانيات «1» المراض ... والثنايا يلحن بالإيماض
والعهود التي تلوح بها الصح ... ف خلاف الصدود والاعراض
لبرتني الخطوب حتى نضتني ... حرضا باليا من الأحراض
وجدتني والدهر سلمي سليمى ... لم ينلني بنابه العضاض
بين برد من الشباب جديد ... ورداء من الصبا فضفاض
ومدير عرى الأمور برأي ... يقظ الحزم مبرم نقّاض
__________
(969) - بغية الوعاة 1: 50.(5/2327)
دقّ معنى وجل قدرا فجادت ... في معانيه نهية الاعماض
وأنشد أيضا له:
لو قد وجدت إلى شفائك منهجا ... جبت الصباح إليه أو حلك الدجى
لكن رأيتك لا يحيك العتب في ... ك ولا العتاب ولا المديح ولا الهجا
فاذهب سدى ما فيك شرّ يتّقى ... يوما وليس لديك خير يرتجى
وإذا امرؤ كانت خلائق نفسه ... هذي الخلائق فالنّجا منه النجا
قال وحدثني أبو علي محمد بن وشاح، قال حدثني أبي، قال حدثني القاضي أبو تمام الحسن بن محمد الزينبي رحمه الله قال: جاءتني في بعض البكر رسالة محمد بن أحمد المعمري النحوي بالبصرة، وكنت أغشى مجلسه دائما وآخذ عنه، أن أدركني، فبادرت إليه وتبعني جماعة من أصحابي، فلما صرت إليه عرّفني أن صبية مملوكة له مولدة قد كنت أشاهدها في ولده قد هربت منه وتناولت صدرا مما كان في منزله، وأنفذت أصحابي وبثثتهم في الجيران وبحيث يظنّ بها الحصول فيه، فما بعد أن أحضرت وما أخذت، فسرّ المعمري وطابت نفسه، فلما هممت بالانصراف أنشدني:
ما لأيري كبست عا ... دية الدهر عموده
كان حرباء فأضحى ... لشقاء البخت دوده
قال ابن وشاح: وحدثني أبي قال حدثني القاضي رحمه الله قال: كان رسم المعمريّ أن يجلس لأهل العلم في يوم الأربعاء، فبكرنا إليه في بعض الأيام فقال للجماعة: ليس لكم اليوم عندي فائدة ولا مني حظّ، فلما هممنا بالانصراف قال:
إذا كان يوم الاربعاء ولم أنك ... ولم أصطبح فالأربعاء مشوم
فإن نكت فيه واصطبحت ولمته ... فإني ليوم الأربعاء ظلوم
انصرفوا مأجورين، فانصرفنا.
قال: وكان شديد المحبة لشرب النبيذ، كثير التوفر عليه، قاطعا أكثر زمانه به.
ولما مات رثاه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي صاحب «كتاب الموازنة» بقوله:
يا عين أذري الدموع وانسكبي ... أصبح ترب العلوم في الترب(5/2328)
لقيت بالمعمريّ يوم ثوى ... أول رزء بآخر الأدب
كان على أعجميّ نسبته ... فضيلة من فضائل العرب
وكتب أبو القاسم الآمدي إلى المعمري جواب أبيات كتب بها إليه.
يا مهدي الشعر إلى من يرى ... أنك تستعلي عن الشعر
أنت الذي تحكم فيه إذا ... أعيا على الباقعة «1» الحبر
وتكشف الغامض حتى يرى ... أوضح أسبابا من الفجر
بنت عن المثل ومن ذا الذي ... إلى مدى تبلغه يجري
كلّ إلى علمك ذو حاجة ... كحاجة الأرض إلى القطر
[970]
محمد بن أحمد بن عبد الله بن زياد القطان
ويعرف بالمتوثي ويكنى أبا سهل: أحد الشيوخ الفضلاء المقدمين سمع الحديث ورواه، وكان ثقة جيد المعرفة بالعلوم، ومات سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، وسمع كثيرا من كتب الأدب عن بشر بن موسى الأسدي ومحمد بن يونس الكديمي وأبي العيناء وثعلب والمبرد وغيرهم، ولقي السكريّ أبا سعيد وسمع عليه «أشعار اللصوص» من صنعه، وسمعه منه الخالع أبو عبد الله الشاعر، وفلج في آخر عمره، وكان ينزل بدار القطن من غربى دار السلام بغداد، وله بقية حال حسنة.
قال الخالع: وحكى لنا أنه كان في ابتداء أمره يتوكل لعلي بن عيسى بن الجراح الوزير وأنه صحبه حين نفي من بغداد وعاد بعوده، وأنهم نزلوا في بعض طريقهم بأحد
__________
(970) - الوافي 2: 76 والمحمدون: 77 وقد ذكره المؤلف في معجم البلدان (4: 414) باسم أحمد بن محمد وكذلك هو في سير الذهبي 15: 521 وعبر الذهبي 2: 285 وتاريخ الخطيب 5: 45 والمنتظم 7: 3 والوافي 8: 34 والبداية والنهاية 11: 238 والنجوم الزاهرة 3: 328 والشذرات 3: 2.(5/2329)
أمراء الشام وأنه حمل على يده إلى علي بن عيسى سمكة فضة وزنها زيادة على خمسة آلاف درهم مبيتة للطيب، وعليها جوهر وياقوت قد رصّعت به، فامتنع من قبولها على عادته في ذلك، فرددتها إلى صاحبها فوهبها لي ولم أتجاسر على قبولها إلا بعد استئذانه فاستأذنته فأذن لي فكانت أصل حالي.
قال الخالع: وكانت بضاعة أبي سهل جيدة في العلم، فكان يحفظ القرآن ويعرف القراءات ويرويها، ويطلع على قطعة من اللغة، ويعرف النحو ويحفظ الشعر ويقوله، وكان يتشيع على مذهب الامامية ويظاهر به، إلا أنه كان في الأصول على رأي المجبرة، ولم يعقب ولدا ذكرا، وكانت له ابنة بقيت إلى سنة أربعين وباعت كتبه. وله أشعار كثيرة ركيكة باردة ومن أصلحها:
غضب الصوليّ لمّا ... كسر الضيف وسمّى
ثم عند المضغ منه ... كاد أن يتلف غمّا
قال للضيف ترفق ... شمّ ريح الخبز شمّا
واغتنم شكري فقال ال ... ضيف بل أكلا وذمّا
[971]
محمد بن أحمد بن يونس الفسوي أبو عبد الله،
يعرف بخاطف: صاحب أبي بكر ابن السراج وروى عن ابن دريد وغيره.
[972]
محمد بن أحمد أبو الريحان البيروني الخوارزمي،
وهذه النسبة معناها
__________
(971) - بغية الوعاة 1: 50 (عن ياقوت) .
(972) - ترجمة البيروني في الموسوعة الاسلامية (الطبعة الثانية) 1: 1236- 1238 وفيها ذكر لأهم الكتب والدراسات التي كتبت عنه؛ وتجد له ترجمة في عيون الأنباء 2: 20 ونزهة الأرواح 2: 85- 89 والبيهقي: 72 وبغية الوعاة 1: 50 ومن كتبه المطبوعة: الآثار الباقية وتحقيق ما للهند من مقولة، والتفهيم لأوائل صناعة التنجيم، ورسائل البيروني والقانون المسعودي وغيرها.(5/2330)
البراني، لأن بيرون بالفارسية معناه برّا، وسألت بعض الفضلاء عن ذلك فزعم أن مقامه بخوارزم كان قليلا، وأهل خوارزم يسمون الغريب بهذا الاسم، كأنه لما طالت غربته عنهم صار غريبا، وما أظنه يراد به إلا أنه من أهل الرستاق، يعني أنه من برّا البلد. ومات السلطان محمود بن سبكتكين في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة وأبو الريحان حيّ بغزنة، وجدت «كتاب تقاسيم الأقاليم» تصنيفه وخطّه وقد كتبه في هذا العام.
ذكره محمد بن محمود النيسابوري فقال «1» : له في الرياضيات السبق الذي لم يشقّ المحضرون غباره، ولم يلحق المضمّرون المجيدون مضماره، وقد جعل الله الأقسام الأربعة له أرضا خاشعة سخت «2» له لواقح مزنها واهتزّت به يوانع نبتها «3» فكم مجموع له [رفرف] على روض النجوم ظله، وترقرق «4» على كبد السماء طله.
وبلغني أنه لما صنف «القانون المسعودي» أجازه السلطان بحمل فيل من نقده الفضي «5» [إليه] فرده إلى الخزانة بعذر الاستغناء عنه، ورفض العادة في الاستغناء به، وكان رحمه الله مع الفسحة في التعمير، وجلالة الحال في عامة الأمور، مكبّا على تحصيل العلوم منصبّا إلى تصنيف الكتب، يفتح أبوابها، ويحيط شواكلها وأقرابها، ولا يكاد يفارق يده القلم وعينه النظر وقلبه الفكر إلا في يومي النيروز والمهرجان من السنة لإعداد ما تمسّ إليه الحاجة في المعاش، من بلغة الطعام وعلقة الرياش، ثم هجّيراه في سائر الأيام من السنة علم يسفر عن وجهه قناع الأشكال ويحسر عن ذراعيه كمام الاغلاق.
حدث القاضي كثير بن يعقوب البغدادي النحوي في الستور عن الفقيه أبي الحسن علي بن عيسى الولوالجي قال: دخلت على أبي الريحان وهو يجود بنفسه، قد حشرج نفسه وضاق به صدره، فقال لي في تلك الحال: كيف قلت لي يوما حساب(5/2331)
الجذرات «1» الفاسدة؟ فقلت له إشفاقا عليه: أفي هذه الحالة؟ قال لي: يا هذا أودّع الدنيا وأنا عالم بهذه المسألة، ألا يكون خيرا من أن أخلّيها وأنا جاهل بها؟ فأعدت ذلك عليه وحفظ وعلمني ما وعد، وخرجت من عنده وأنا في الطريق، فسمعت الصراخ.
وأما «2» نباهة قدره وجلالة خطره عند الملوك فقد بلغني من حظوته لديهم أن شمس المعالي قابوس بن وشمكير أراد أن يستخلصه لصحبته ويرتبطه في داره على أن تكون له الإمرة المطاعة في جميع ما يحويه ملكه، ويشتمل عليه ملكه، فأبي عليه ولم يطاوعه، ولما أسمحت قرونته بمثل ذلك لخوارزمشاه [آواه] في داره وأنزله معه في قصره، ودخل خوارزمشاه يوما وهو يشرب على ظهر الدابة فأمر باستدعائه من الحجرة فأبطأ قليلا فتصور الأمر على غير صورته، وثنى العنان نحوه ورام النزول فسبقه أبو الريحان إلى البروز وناشده الله ألا يفعل، فتمثل خوارزمشاه:
العلم من أشرف الولايات ... يأتيه كلّ الورى ولا ياتي
ثم قال: لولا الرسوم الدنياوية لما استدعيتك فالعلم يعلو ولا يعلى. وكأنه سمع هذا في أخبار المعتضد فانه كان يوما يطوف في البستان وهو آخذ بيد ثابت بن قرّة الحراني، إذ جذبها دفعة وخلّاها، فقال ثابت: ما بدا يا أمير المؤمنين؟ قال: كانت يدي فوق يدك والعلم يعلو ولا يعلى.
ولما استبقاه «3» السلطان الماضي لخاصّة أمره وحوجاء صدره كان يفاوضه فيما يسنح لخاطره من أمر السماء والنجوم، فيحكى أنه ورد عليه رسول من أقصى بلاد الترك، وحدّث بين يديه بما شاهد فيما وراء البحر نحو القطب الجنوبي من دور الشمس عليه ظاهرة في كلّ دورها فوق الأرض بحيث يبطل الليل، فتسارع على عادته في التشدد في الدين إلى نسبة الرجل إلى الالحاد والقرمطة، على براءة أولئك القوم عن هذه الآفات، حتى قال أبو نصر ابن مشكان: إن هذا لا يذكر ذلك عن رأي(5/2332)
يرتأيه، ولكن عن مشاهدة يحكيه، وتلا قوله عزوجل وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً
(الكهف: 90) فسأل أبا الريحان عنه فأخذ يصف له على وجه الاختصار ويقرّره على طريق الاقناع. وكان السلطان في بعض الأوقات يحسن الإصغاء ويبذل الإنصاف، فقبل ذلك، وانقطع الحديث بينه وبين السلطان وقتئذ.
وأما ابنه السلطان مسعود فقد كان فيه إقبال على علم النجوم ومحبة لحقائق العلوم، ففاوضه يوما في هذه المسألة وفي سبب اختلاف مقادير الليل والنهار في الأرض وأحبّ أن يتّضح له برهان ما لم يصحّ له من ذلك بعيان، فقال له أبو الريحان: أنت المنفرد اليوم بامتلاك الخافقين والمستحقّ بالحقيقة اسم ملك الأرض فأخلق بهذه المرتبة إيثار الاطلاع على مجاري الأمور وتصاريف أحوال الليل والنهار، ومقدارها في عامرها وغامرها، وصنّف له عند ذلك كتابا في اعتبار مقدار الليل والنهار بطريق تبعد عن مواضعات المنجمين وألقابهم، ويقرّب تصوّرهم من فهم من لم يرتض بها ولم يعتدها، وكان السلطان الشهيد قد مهر بالعربية فسهل وقوفه عليه وأجزل إحسانه إليه.
وكذلك صنّف كتابه «في لوازم الحركتين» بأمره، وهو كتاب جليل لا مزيد عليه مقتبس أكثر كلماته عن آيات من كتاب الله عزوجل. وكتابه المترجم «بالقانون المسعودي» يعفّي على أثر كلّ كتاب صنّف في تنجيم أو حساب. وكتابه الآخر المعنون بالدستور الذي صنفه باسم شهاب الدولة أبي الفتح مودود بن السلطان الشهيد مستوف أحاسن المحاسن.
قال مؤلف الكتاب: هذا ذكره محمد بن محمود، وإنما ذكرته أنا هاهنا لأن الرجل كان أديبا أريبا لغويا له تصانيف في ذلك رأيت أنا منها: كتاب شرح شعر أبي تمام رأيته بخطه لم يتمه. كتاب التعلل باجالة الوهم في معاني نظم أولي الفضل.
كتاب تاريخ أيام السلطان محمود وأخبار أبيه. كتاب المسامرة في أخبار خوارزم.
كتاب مختار الأشعار والآثار. وأما سائر كتبه في علوم النجوم والهيئة والمنطق والحكمة فانها تفوق الحصر، رأيت فهرستها في وقف الجامع بمرو في نحو الستين ورقة بخط مكتنز.
وحدثني بعض أهل الفضل أن السبب في مصيره إلى غزنة أن السلطان محمودا لما استولى على خوارزم قبض عليه وعلى أستاذه عبد الصمد أول بن عبد الصمد(5/2333)
الحكيم واتهمه بالقرمطة والكفر، فأذاقه الحمام، وهمّ أن يلحق به أبا الريحان فساعده فسحة الأمل بسبب خلّصه من القتل، وقيل له إنه إمام وقته في علم النجوم وإن الملوك لا يستغنون عن مثله، فأخذه معه، ودخل إلى بلاد الهند وأقام بينهم وتعلّم لغتهم واقتبس علومهم، ثم أقام بغزنة حتى مات بها أرى في حدود سنة ثلاث وأربعمائة عن سن عالية. وكان حسن المحاضرة طيّب العشرة خليعا في ألفاظه عفيفا في أفعاله، لم يأت الزمان بمثله علما وفهما، وكان يقول شعرا إن لم يكن في الطبقة العليا فانه من مثله حسن، منه في ذكر صحبة الملوك ويمدح أبا الفتح البستي، من «كتاب سر السرور» :
مضى أكثر الأيام في ظلّ نعمة ... على رتب فيها علوت كراسيا
فآل عراق قد غذوني بدرّهم ... ومنصور منهم قد تولّى غراسيا
وشمس المعالي كان يرتاد خدمتي ... على نفرة مني وقد كان قاسيا
وأولاد مأمون ومنهم عليّهم ... تبدّى بصنع صار للحال آسيا
وآخرهم مأمون رفّه حالتي ... ونوّه باسمي ثم رأس راسيا
ولم ينقبض محمود عني بنعمة ... فأغنى وأقنى مغضيا عن مكاسيا
عفا عن جهالاتي وأبدى تكرما ... وطرّى بجاه رونقي ولباسيا
عفاء على دنياي بعد فراقهم ... وواحزني أن لم أزر قبل آسي
اولما مضوا واعتضت منهم عصابة ... دعوا بالتناسي فاغتنمت التناسيا
وخلّفت في غزنين لحما كمضغة ... على وضم للطير للعلم ناسيا
فأبدلت أقواما وليسوا كمثلهم ... معاذ الهي أن يكونوا سواسيا
بجهد شأوت الجالبين أئمة ... فما اقتبسوا في العلم مثل اقتباسيا
فما بركوا للبحث عند معالم ... ولا احتبسوا في عقدة كاحتباسيا
فسائل بمقداري هنودا بمشرق ... وبالغرب من قد قاس قدر عماسيا
فلم يثنهم عن شكر جهدي نفاسة ... بل اعترفوا طرا وعافوا انتكاسيا
أبو الفتح في دنياي مالك ربقتي ... فهات بذكراه الحميدة كاسيا(5/2334)
فلا زال للدنيا وللدين عامرا ... ولا زال فيها للغواة مواسيا
ومن أقوم شعره قوله لشاعر اجتداه:
يا شاعرا جاءني يخرى على الأدب ... وافى ليمدحني والذمّ من أدبي
وجدته ضارطا في لحيتي سفها ... كلا فلحيته عثنونها ذنبي
وذاكرا في قوافي شعره حسبي ... ولست والله حقا عارفا نسبي
إذ لست أعرف جدّي حقّ معرفة ... وكيف أعرف جدي إذ جهلت أبي
إني أبو لهب شيخ بلا أدب ... نعم ووالدتي حمالة الحطب
المدح والذمّ عندي يا أبا حسن ... سيّان مثل استواء الجدّ واللعب
فأعفني عنهما لا تشتغل بهما ... بالله لا توقعن مفساك في تعب
وله:
ومن حام حول المجد غير مجاهد ... ثوى طاعما للمكرمات وكاسيا
وبات قرير العين في ظلّ راحة ... ولكنه عن حلة المجد عاريا
وله في التجنيس:
فلا يغررك مني لين مسّ ... تراه في دروس واقتباس
فأني أسرع الثقلين طرّا ... إلى خوض الردى في وقت باس
ومنه:
تنغص بالتباعد طيب عيشي ... فلا شيء أمرّ من الفراق
كتابك إذ هو الفرج المرجّى ... أطبّ لما ألمّ من الف راق
وله:
أتأذنون لصبّ في زيارتكم ... إن كان مجلسكم خلوا من الناس
فأنتم الناس لا أبغي بكم بدلا ... وأنتم الراس والانسان بالراس
وكدّكم لمعال تنهضون بها ... وغيركم طاعم مسترجع كاسي
فليس يعرف من أيام عيشته ... سوى التلهي بأير قام أو كاس
لدى المكايد إن راجت مكايده ... ينسى الإله وليس الله بالناسي(5/2335)
[973]-
محمد بن أحمد بن عبيد الله الكاتب
المعروف بالمفجع صاحب ثعلب: كذا وجدت نسبه بخط الطبري المعروف بمضراب اللبن من أهل البصرة، ويكنى أبا عبد الله، ذكره ابن النديم فقال: إنه لقي ثعلبا وأخذ عنه وعن غيره، وكان شاعرا شيعيا، وله قصيدة يسميها بالأشباه يمدح فيها عليا عليه السلام، وبينه وبين ابن دريد مهاجاة، وذكره أبو منصور الثعالبي في «كتاب اليتيمة» فقال: المفجع البصري صاحب ابن دريد والقائم مقامه في التأليف والاملاء، حدث ابن نصر قال حدثني بعض المشايخ البصريين قال: كان المفجع وشمال يتهاجيان، وكان شمال سنيا والمفجع:
شيعيا، فقال فيه المفجع:
دار شمال في بني أصمع
فقال شمال: كذا هو، فقال المفجع:
انظر إليها فهي في بلقع
قال شمال: أيّ شيء ذنبي إذا خربت المحلة؟ قال:
وهو خبيث النفس مستهتر ... بكلّ أير قائم أصلع
فقال شمال: هو شيعي وكان يجب أن ينزه ذكر القائم والأصلع عن لفظ الهجاء، قال:
وذا قبيح أن يرى شاعر ... يناك في السرم على أربع
قال شمال: وغير الشاعر أيضا قبيح أن يرى كذا.
ثم عمل فيه شمال يعرّض به:
رجل نازل بدرب سطيح ... أيّ شخص بالليل يركب سطحه
__________
(973) - ترجمة المفجع في إنباه الرواة 3: 312 (محمد بن محمد) والفهرست: 91 (المفجع بن محمد) واليتيمة 2: 363 ومعجم الشعراء: 429 والوافي 1: 129 وبغية الوعاة 1: 31 والمحمدون من الشعراء: 30 (وفيه وردت أكثر الأشعار التي ذكرها ياقوت) ومعجم الطوسي (كلكتا) : 270- 271 (رقم: 594) .(5/2336)
أخذ الله لابن عفان منه ... ولشيخيه والزبير وطلحه
فلما سمعت ربيعة بذلك قصدت دار المفجع فهرب منها.
ومن شعر المفجع «1» :
لي أير أراحني الله منه ... صار حزني به عريضا طويلا
نام إذ زارني الحبيب عنادا ... ولعهدي به ينيك الرسولا
حسبت زورة عليّ لحيني ... وافترقنا وما شفيت غليلا
ووجدت له أيضا فيما رواه الحميدي:
لنا صديق مليح الوجه مقتبل ... وليس في وده نفع ولا بركه
شبهته بنهار الصيف يوسعنا ... طولا ويمنع منّا النوم والحركه
وقد هجاه بعض الشعراء فقال «2» :
إنّ المفجع ويله ... شرّ الأوائل والأواخر
ومن النوادر أنه ... يملي على الناس النوادر
كأنه من قول أبي تمام:
وما لك بالغريب يد ولكن ... تعاطيك الغريب من الغريب
قال المرزباني: لقب بالمفجع ببيت قاله، وهو شاعر مكثر عالم أديب، مات قبل الثلاثين وثلاثمائة. قال: وهو القائل في أبي الحسن محمد بن عبد الوهاب الزينبي الهاشمي يمدحه «3» :
للزينبيّ على جلالة قدره ... خلق كطعم الماء غير مزنّد
وشهامة تقصي الليوث إذا سطا ... وندى يغرّق كلّ بحر مزبد
يحتلّ بيتا في ذؤابة هاشم ... طالت دعائمه محلّ الفرقد
حرّ يروح المستميح ويغتدي ... بمواهب منه تروح وتغتدي(5/2337)
فإذا تحيّف ماله إعطاؤه ... في يومه نهك البقية في غد
بضياء سنّته المكارم تهتدي ... وبجود راحته السحائب تقتدي
مقدار ما بيني وما بين الغنى ... مقدار ما بيني وبين المربد
وقال الثعالبي: وأما شعره فقليل كثير الحلاوة يكاد يقطر منه ماء الظّرف، وفيه يقول اللحام «1» :
إن المفجّع فالعنوه بزيت «2» ... نغل يدين ببغض أهل البيت
يهوى العلوق وإنما يهواهم ... بمؤخر حيّ وقلب ميت
ومن شعره ويروى لابن لنكك «3» :
لنا سراج نوره ظلمة ... ليس له ظلّ على الأرض
كأنه شخص الإمام الذي ... يبغي الهدى منه أولو الرفض
وللمفجع تصانيف منها: كتاب الترجمان في الشعر ومعانيه يشتمل على ثلاثة عشر حدا وهي: حدّ الاعراب. حدّ المديح. حد البخل. حد الحلم والرأي. حد الغزل. حد المال. حد الاغتراب. حد المطايا. حد الخطوب. حد النبات. حد الحيوان. حد الهجاء. حد اللغز، وهو آخر الكتاب. وله أيضا كتاب المنقذ في الإيمان، يشبه «كتاب الملاحن» لابن دريد إلا أنه أكبر منه وأجود وأتقن. كتاب أشعار الجواري لم يتم. كتاب عرائس المجالس. كتاب غريب شعر زيد الخيل الطائي. كتاب قصيدته في أهل البيت. ذكره أبو جعفر في مصنفي الإمامية.
ومما أنشده الثعالبي له في غلام يكنى أبا سعد «4» :
زفرات تعتادني عند ذكرا ... ك وذكراك ما تريم فؤادي
وسروري قد غاب عني مذ غب ... ت فهل كنتما على ميعاد
حاربتني الأيام فيك أبا سع ... د بسيف الهوى وسهم البعاد(5/2338)
ليس لي مفزع سوى عبرات ... من جفون مكحولة بالسهاد
في سهادي لطول أنسي بذكرا ... ك اعتياض من الكرى والرقاد
وبحسبي من المصائب أني ... في بلاد وأنتم في بلاد
وله «1» :
ألا يا جامع البصر ... ة لا خرّبك الله
وسقّى صحنك الغيث ... من المزن فروّاه
فكم من عاشق فيك ... يرى ما يتمناه
وكم ظبي من الانس ... مليح فيك مرعاه
نصبنا الفخّ بالعلم ... له فيك فصدناه
بقرآن قرأناه ... وتفسير رويناه
وكم من طالب للشع ... ر بالشعر طلبناه
فما زالت يد الأيام ... حتى لان متناه
وحتى ثبت السرج ... عليه وركبناه
ألا يا طالب الأمر ... د كذّب ما ذكرناه
فلا يغررك ما قلنا ... فما بالجدّ قلناه
ولو كان من البغض ... يزنّى حين يلقاه
فردّ الدرهم الضرب ... اليه يتلقاه
فبالدرهم يستنزل ... ما في الجو مأواه
وبالدرهم يستخرج ... ما في القفر مثواه
قال أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم عبد المجيد بن شيران بن إبراهيم بن العباس بن محمد بن العباس بن محمد بن جعفر في «تاريخه» قال «2» : وفيها يعني(5/2339)
في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة توفي أبو عبد الله محمد بن عبد الله المفجع الكاتب الشاعر، وكان شاعر البصرة وأديبها، وكان يجلس في الجامع بالبصرة فيكتب عنه ويقرأ عليه الشعر واللغة والمصنفات، وامتنع من الجلوس مدة لسبب لحقه من بعض من حضره، فخوطب في ذلك فقال: لو استطعت أن أنسيهم أسماءهم لفعلت.
وشعره مشهور، فمنه وقد دامت الأمطار وقطعت عن الحركة:
يا خالق الخلق أجمعينا ... وواهب المال والبنينا
ورافع السبع فوق سبع ... لم يستعن فيهما معينا
ومن إذا قال كن لشيء ... لم تقع النون أو يكونا
لا تسقنا العام صوب غيث ... أكثر من ذا فقد روينا
وله يخاطب أبا عبد الله البريدي وقد أعاد عليه ذكر سبب «1» :
قل لمن كان قد عفا ... عن ذنوب المفجّع
لا تعد ذكر ما مضى ... من عفا لم يقرّع
وله وقد سأل بعض أصدقائه أيضا رقعة وشعرا له يهنئه في مهرجان الى بعضهم فقصر حتى مضى المهرجان «2» :
إن الكتاب وان تضمّن طيه ... كنه البلاغة كالفصيح الأخرس
فإذا أعانته عناية حامل ... فجوابه يأتي بنجح منفس
وإذا الرسول ونى وقصّر عامدا ... كان الكتاب صحيفة المتلمس
قد فات يوم المهرجان فذكره ... في الشعر أبرد من سخاء المفلس
فسئل عن سخاء المفلس فقال: يعد في إفلاسه بما لا يفي به عند إمكانه.
قال «3» : دخل المفجع يوما إلى القاضي أبي القاسم علي بن محمد التنوخي فوجده [يقرأ] معاني الشعر على العبيسي فأنشد:(5/2340)
قد قدّم العجب «1» على الرّويس ... وشارف الوهد أبا قبيس
وطاول البقل فروع الميس ... وهبّت العنز لقرع التيس
وادّعت الروم أبا في قيس ... واختلط الناس اختلاط الحيس
إذ قرأ القاضي حليف الكيس ... معاني الشعر على العبيسي
وألقى ذلك الى التنوخي وانصرف.
وكان أبو عبد الله الأكفاني راويته وكتب لي بخطه من مليح شعره شيئا كثيرا.
قال: ومدح أبا القاسم التنوخي فرأى منه جفاء فكتب إليه «2» :
لو أعرض الناس كلهم وأبوا ... لم ينقصوا رزقي الذي قسما
كان وداد فزال وانصرما ... وكان عهد فبان وانهدما
وقد صحبنا في عصرنا أمما ... وقد فقدنا من قبلهم أمما
فما هلكنا هزلا ولا ساخت ال ... أرض ولم تقطر السماء دما
في الله من كلّ هالك خلف ... لا يرهب الدهر من به اعتصما
حرّ ظننّا به الجميل فما ... حقّق ظنّا ولا رعى الذمما
فكان ماذا ما كلّ معتمد ... عليه يرعى الوفاء والكرما
غلطت والناس يغلطون وهل ... تعرف خلقا من غلطة سلما
من ذا إذا أعطي السداد فلم ... يعرف بذنب ولم يزل قدما
شلّت يدي لم جلست عن تفه ... أكتب شجوي وأمتطي القلما
يا ليتني قبلها خرست فلم ... أعمل لسانا ولا فتحت فما
يا زلة ما أقلت عثرتها ... أبقت على القلب والحشا ألما
من راعه بالهوان صاحبه ... فعاد فيه فنفسه ظلما
وله «3» :(5/2341)
أظهرت للرئم بعض وجدي ... وانما الوجد ما سترته
وقلت حبّيك قد براني ... فقال دعه بذا أمرته
وله «1» قصيدته ذات الأشباه، وسميت بذات الأشباه لقصده فيما ذكره من الخبر الذي رواه عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو في محفل من أصحابه، إن تنظروا إلى آدم في علمه، ونوح في همه «2» ، وإبراهيم في خلقه، وموسى في مناجاته، وعيسى في سنه، ومحمد في هديه وحلمه، فانظروا إلى هذا المقبل، فتطاول الناس فإذا هو علي بن أبي طالب عليه السلام، فأورد المفجع ذلك في قصيدته، وفيها مناقب كثيرة، وأولها:
أيها اللائمي لحبي عليّا ... قم ذميما إلى الجحيم خزيّا
أبخير الأنام عرّضت لا زل ... ت مذودا عن الهدى مزويّا
أشبه الأنبياء كهلا وزولا ... وفطيما وراضعا وغذيّا
كان في علمه كآدم إذا علّ ... م شرح الأسماء والمكنيّا
وكنوح نجّى من الهلك من س ... يّر في الفلك إذ علا الجوديّا
وجفا في رضى الإله أباه ... واجتواه وعدّه أجنبيّا
كاعتزال الخليل آزر في اللّ ... هـ وهجرانه أباه مليّا
ودعا قومه فآمن لوط ... أقرب الناس منه رحما وريّا
وعليّ لما دعاه أخوه ... سبق الحاضرين والبدويّا
وله من أبيه ذي الأيد إسما ... عيل شبه ما كان عني خفيّا
إنّه عاون الخليل على الكع ... بة إذا شاد ركنها المبنيّا
ولقد عاون الوصيّ حبيب الل ... هـ إذ يغسلان منها الصفيّا
رام حمل النبي كي يقطع الأص ... نام من سطحها المثول الخبيّا
فحناه ثقل النبوّة حتى ... كاد ينآد تحته مثنيّا(5/2342)
فارتقى منكب النبيّ عليّ ... صنوه ما أجلّ ذا المرتقيّا
فأماط الأوثان عن ظاهر الكع ... بة ينفي الرجاس عنها نفيّا
ولو انّ الوصيّ حاول مسّ الن ... جم بالكفّ لم يجده قصيّا
أفهل تعرفون غير عليّ ... وابنه استرحل النبي مطيّا
وشعر أبي عبد الله المفجع كثير حسن.
وكان «1» يوما بالأهواز جالسا مع جماعة فاجتاز به غلام لموسى بن الطيب نديم أبي عبد الله البريدي يقال له طريف، وهو أمرد مليح، فسأل المفجع عنه فقيل: هذا غلام نديم البريدي فقال:
اجتاز بي اليوم في الطريق فتى ... يختال في مورق من البان
فقلت من ذا فقال لي خبر ... بالأمر هذا غلام صفعان
ولأبي «2» عبد الله في جماعة من كبار أهل الأهواز مدائح كثيرة وأهاج، وله قصيدة في أبي عبد الله ابن درستويه يرثيه فيها وهو حيّ يقول فيها ويلقبه بدهن الآجرّ:
مات دهن الآجرّ فاخضرّت الأر ... ض وكادت جبالها لا تزول
ويصف أشياء كثيرة فيها.
قال «3» : وكان المفجع يكثر عند والدي ويطيل المقام عنده، وكنت أراه عنده وأنا صبي بالأهواز، وله إليه مراسلات وله فيه مدائح كثيرة كنت جمعتها فضاعت أيام دخول ابن أبي ليلى الأهواز ونهبت روزناماتها «4» ، وكان منها قصيدة بخطّه عندي يقول فيها:
لو قيل للجود من مولاك قال نعم ... عبد المجيد المغيريّ بن شيران
وأذكر له من قصيدة أخرى:
يا من أطال يدي إذ هاضني زمني ... وصرت في المصر مجفوّا ومطّرحا(5/2343)
أنقذتني من أناس عند دينهم ... قتل الأديب إذا ما علمه اتضحا
قال: وكانت وفاته قبل وفاة والدي بأيام يسيرة، ومات والدي في يوم السبت لعشر خلون من شعبان سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، وفيها مات الحراوري الشاعر.
ومن ملحه «1» المشهورة قوله لانسان أهدى إليه طبقا فيه قصب السكر والاترنج والنارنج، وأراه أبا سعد غلامه:
إن شيطانك في الظّر ... ف لشيطان مريد
فلهذا أنت فيه ... تبتدي ثم تعيد
قد أتتنا تحفة من ... ك على الحسن تزيد
طبق فيه قدود ... ونهود وخدود
وأنشد الثعالبي له في غلام مغن جدّر فازداد حسنا وجمالا «2» :
يا قمرا جدّر حتى استوى ... فزاده حسنا وزادت هموم
كأنه غنّى لشمس الضحى ... فنقطته طربا بالنجوم
وأنشد له أيضا «3» :
فسا على قوم فقالوا له «4» ... إن لم تقم من بيننا قمنا
فقال لا عدت فقالوا له ... من نتن فيه ذا كما كنا
وأنشد له أيضا «5» :
أداروها ولليل اعتكار ... فخلت الليل فاجأه النهار
فقلت لصاحبي والليل داج ... ألاح الصبح أم بدت العقار
فقال هي العقار تداولوها ... مشعشعة يطير لها شرار
فلولا أنني أمتاح منها ... حلفت بأنها في الكاس نار(5/2344)
[974]
محمد بن أحمد بن سليمان بن أيوب بن غيثة النوقاتي
-: بالتاء قبل ياء النسبة- ونوقات محلة بسجستان يقال لها نوها فعربت؛ يكنى أبا عمر السجستاني، وهو والد عمر وعثمان، وصاحب التصانيف المشهورة، ذكره أبو سعد السمعاني في «كتاب تاريخ مرو» فقال: دخل إلى خراسان، وكتب بهراة ومرو وبلخ وما وراء النهر، وسمع الكثير من الشيوخ وأكثر، واشتغل بالتصنيف وبلغ فيها الغاية، وكان مرزوقا فيها محسنا، جمع من كلّ جنس وفنّ، وأحسن في كل التصانيف. سمع أبا عبد الله محمد بن إسحاق القرشي ثم ذكر خلقا كثيرا منهم الحاكم أبو عبد الله محمد ابن عبد الله بن البيّع الحافظ وأبو حاتم محمد بن حبّان البستي وأبو يعلى النسفي وأبو علي حامد بن محمد الرفّاء وأبو سليمان الخطابي. وروى عنه ابناه عمر وعثمان.
وله تصانيف كثيرة: منها كتاب آداب المسافرين. كتاب العتاب والاعتاب.
كتاب فضل الرياحين. كتاب العلم. كتاب الشيب. كتاب محنة الظراف في أخبار العشاق. كتاب معاشرة الأهلين. وأنشد لنفسه في «كتاب محنة الظراف» :
نمّت دموعي على سرّي وكتماني ... وشرّد النوم عن عينيّ أحزاني
وأقلقتني عما أستعين به ... على الهوى حسرات منك تغشاني
يا من جفاني وأقصاني وغادرني ... صبّا وأشمت بي من كان يلحاني
لا تنس أيام أنس قد مننت بها ... وداو غلّة قلب فيك أعياني
ومن «كتاب محنة الظراف» مما نسبه أبو عمر إلى نفسه ومن خطّه نقلت:
سأهجركم ما دمتم في حجابكم ... على الكره حتى تأمنوا الرقباء
مساعدة منّي لكم لا تصبرا ... ولم يصبر العطشان يبصر ماء
وأنشد أيضا لنفسه:
أصابك عين بعد فرطك في حبي ... أم اذنبت فاستحسنت يا سيدي ذنبي
__________
(974) - الوافي 2: 90.(5/2345)
أحين سلبت القلب مني صبابة ... وصيرتني عبدا تجافيت عن قربي
سأصبر حتى تعجبوا من تصبّري ... وأنتظر الحسنى على ذاك من ربي
وأنشد السمعاني باسناد له رفعه إلى النوقاتي عن الحسين بن أحمد عن الصولي عن ثعلب عن أبي العالية:
أرى بصري في كلّ يوم وليلة ... يكلّ وخطوي عن مدى الخطو يقصر
ومن يصحب الأيام ستين حجة ... يغيّرنه والدهر لا يتغير
لعمري لئن أمسيت أمشي مقيّدا ... لما كنت أمشي مطلق القيد أكثر
قال: وحدث أبو عمر ابن النوقاتي في رجب سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة فيكون وفاته بعد هذا الشهر.
[975]
محمد بن أحمد بن عمر الخلال أبو الغنائم اللغوي
: إمام عالم جيد الضبط صحيح الخط معتمد عليه معتبر، أخذ عن أبي سعيد السيرافي وأبي علي الفارسي وأبي الحسن الرماني وتلك الطبقة.
[976]
محمد بن أحمد بن طالب الفقيه الأديب الحلبي أبو الحسن
: سمع ببغداد أبا بكر ابن دريد وأبا بكر ابن الأنباري وأبا علي ابن الحسين بن أحمد الكاتب المعروف بالكوكبي وأبا عبد الله نفطويه وأبا عيسى محمد بن أحمد بن قطن السمسار، وبحلب أبا عبد الله أحمد بن جعفر بن أحمد بن ماست الحاضري الحلبي والقاضي أبا حصين.
ومات بعد سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، قرىء عليه كتابه في هذه السنة، وله «كتاب الشبان والشيب» أحسن فيه.
__________
(975) - بغية الوعاة 1: 37.
(976) - لم أجد له ترجمة.(5/2346)
[977]
محمد بن أحمد بن محمد بن أشرس أبو الفتح النحوي اللغوي
: أديب فاضل شاعر من أهل نيسابور، كان من تلاميذ أبي بكر محمد بن العباس الخوارزمي بنيسابور، وقدم بغداد فلقي بها جماعة من أصحاب أبي علي الفارسي كالربعي علي بن عيسى وأبي الحسن السمسمي وغيرهما، ذكره الباخرزي في كتابه فقال:
حدثني القاضي أبو جعفر البحاثي «1» قال، حدثني الحاكم أبو سعد ابن دوست قال:
كان أبو الفتح ابن أشرس من ناحية الرخّ «2» ، وكان يؤدب بنيسابور ويختلف إلى أبي بكر الخوارزمي، فلما نزف ما عنده ارتحل إلى مدينة السلام. قال: فرأيت كتابا بخطّ يده، وقد كتب به إلى بعض أصدقائه، وذكر في أثنائه أن ليس اليوم بخراسان من يقوم باختيار «3» «فصيح الكلام» لثعلب و «ألفاظ الكتبة» لعبد الرحمن بن عيسى. قال أبو سعد: وكان الخوارزمي يومئذ حيا يرزق، والألسنة بفضله تطلق، وهذان الكتابان من زغب فراخ الكتب، وأنكر معرفة أهل خراسان بهما، فما ظنّك بالقشاعم اللقمانية من أمهاتها؟! وأنشدني القاضي أبو جعفر، قال أنشدني الحاكم أبو سعد، قال أنشدني ابن الأشرس لنفسه في أبي الحسن الأهوازي يهجوه:
يا عجبا لشيخنا الأهوازي ... يزهى علينا وهو في هوّاز
قال الحاكم أبو سعد وأنشدني أيضا لنفسه:
كأنما الأغصان لما علا ... فروعها قطر الندى قطرا «4»
ولاحت الشمس عليها ضحى ... زبرجد قد أثمر الدرّا
نقد الحاكم أبو سعد على بيته فقال قوله: «قد أثمر الدر» لا يستقيم في النحو لأنه لا يقال أثمرت النخلة الثمر، وإنما يقال أثمرت ثمرا بغير الألف واللام.
__________
(977) - ترجمة ابن أشرس في الوافي 2: 117 وبغية الوعاة 1: 41 ودمية القصر 3: 1502 وإنباه الرواة 4: 148- 151.(5/2347)
وكتب ابن أشرس من بغداد إلى أبي الفتح الحداد بنيسابور:
ربّ غلام صار في ... بغداد إحدى الفتن
رقعت خرق ظهره ... برقعة من بدني
قال الحاكم: في هذين البيتين خلل لأنه لا يمكن أن يفسّر على وجه قبيح لأن لحيته أيضا من بدنه. قال القاضي البحّاثي: فقلت له وهذا التفسير أشبه لأن اللحية أشبه بالرقعة من الفعل، قال: نعم لأن اللحية ترقع وذاك يمزق؛ هذا آخر ما ذكره الباخرزي في كتابه.
قال القاضي أبو المحاسن ابن مسعر المعري «1» في كتابه «2» : وممن قرأت عليه أبو الفتح محمد بن أشرس النيسابوري؛ وكان ملازما دار الخلافة ويأتي يوم الثلاثاء إلى قطيعة الملحم «3» فكنت أصل إليه في هذا الموضع، وكان واسع العلم غزير الحفظ، وكان حيّا في سنة خمس عشرة وأربعمائة، ولم تتجاوز وفاته سنة عشرين وأربعمائة وما لقيت أحدا من البغداديين يحقق لي وقت وفاته فأثبته على الحقيقة.
[978]
محمد بن أحمد بن محمد، أبو سعد العميدي
: أديب نحوي لغوي مصنف سكن مصر.
قال أبو إسحاق الحبال: أبو سعد العميدي له أدبيات، مات يوم الجمعة لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وكان العميدي يتولّى ديوان الترتيب وعزل عنه كما ذكر الروذباري في سنة ثلاث عشرة في أيام الظاهر، ووليه ابن معشر، ثم تولى ديوان الانشاء بمصر في أيام المستنصر، استخدم فيه عوضا من ولي
__________
(978) - ترجمة العميدي في إنباه الرواة 3: 46 والوافي 2: 75 وبغية الوعاة 1: 47 والمقفي 5: 294. وله الابانة عن سرقات المتنبي (مصر 1961) .(5/2348)
الدولة ابن خيران الكاتب في صفر سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، وتولى الديوان بعده أبو الفرج الدهلي في جمادى الآخرة من سنة ست وثلاثين وأربعمائة.
وله تصانيف في الأدب، منها كتاب تنقيح البلاغة في عشر مجلدات، رأيته بدمشق في خزانة الملك المعظم، خلّد الله دولته، وعليه خطه وقد قرىء عليه في شعبان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. كتاب الارشاد إلى حل المنظوم والهداية إلى نظم المنثور. كتاب انتزاعات القرآن. كتاب العروض. كتاب القوافي كبير.
قال علي بن مشرف: أنشدنا أبو الحسين محمد بن محمود بن الدليل الصواف بمصر قال أنشدنا أبو سعد محمد بن أحمد العميدي لنفسه:
إذا ما ضاق صدري لم أجد لي ... مقرّ عبادة إلا القرافه
لئن لم يرحم المولى اجتهادي ... وقلّة ناصري لم ألق رافه
[979]
محمد بن أحمد بن محمد بن سلمان بن كامل بن عبد الله بن عامر بن سنان البخاري المعروف بالغنجار الحافظ، أبو عبد الله بن أبي بكر
: لم يكن من أهل الأدب فيجب ذكره، إنما ذكرته لأنه ألف كتاب «تاريخ بخارا» .
قال أبو سعد السمعاني: مات الغنجار البخاري سنة عشر وأربعمائة ومولده في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ودفن في مقبرة حوض الفدام ببخارا.
قال أحمد بن ماما الأصبهاني الحافظ فيما زاده على تاريخ غنجار، بعد ذكر نسب غنجار كما ذكرنا، قال: سمي غنجارا لتتبعه وجمعه في حال شبابه أحاديث أبي أحمد عيسى بن موسى غنجار البخاري، قال: وأول من كتب عنه الحديث كثير عن أبي بكر محمد بن أحمد بن حبيب، ومشايخه أكثرهم مذكورون في تصنيفه لتاريخ بخارا، سمعته يقول ولدت سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، ومات يوم الجمعة عند طلوع الشمس الثاني والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
__________
(979) - ترجمة الغنجار في أنساب السمعاني 9: 177 وتذكرة الحفاظ: 1052 وسير الذهبي 17: 304 والوافي 2: 60 وطبقات الحفاظ: 412 والشذرات 3: 196 (وجعل الذهبي وفاته سنة 412) .(5/2349)
[980]
محمد بن أحمد بن علي المعمري أبو بكر الأديب
: مات في محرم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة. قال عبد الغافر: الأديب المعمري مشهور ثقة حدث عن جماعة من الشيوخ، وكان يؤدب، وتخرج عليه جماعة من أولاد المشايخ، سمع أبا حفص محمد بن علي الفقيه إملاء، روى عنه أبو القاسم عبيد الله بن عبد الله الكريزي.
[981]
محمد بن أحمد بن سهل، يعرف بابن بشران
وبشران جده لأمه، ويعرف بابن الخالة أيضا، ويكنى أبا غالب: من أهل واسط أحد الأئمة المعروفين والعلماء المشهورين، تجمّع فيه أشتات العلوم، وقرن بين الرواية والدراية والفهم وشدة العناية، صاحب نحو ولغة وحديث وأخبار ودين وصلاح، وإليه كانت الرحلة في زمانه، وهو عين وقته وأوانه، وكان مع ذلك ثقة ضابطا محررا حافظا إلا انه كان مجدودا أخذ العلم عن خلق لا يحصون: منهم أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الرحمن بن دينار الكاتب صاحب أبي علي الفارسي.
وحدث أبو عبد الله الحميدي قال: كتب إليّ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد الجلّابي الواسطي صديقنا من واسط أن أبا غالب ابن بشران النحوي مات بواسط في خامس عشر رجب سنة اثنتين وستين وأربعمائة ومولده سنة ثمانين وثلاثمائة. قال الجلّابي: ودخلت إليه قبل موته، وجاءه من أخبره أن القاضي وجماعة معه قد ختموا على كتبه حراسة لها وخوفا عليها فقال:
لئن كان الزمان عليّ أنحى ... بأحداث غصصت لها بريقي
__________
(980) - انظر المنتخب الثاني من السياق، الورقة 11 ب- 12/أ.
(981) - ترجمة ابن بشران في إنباه الرواة 3: 44 والمحمدون: 89 والبداية والنهاية 12: 100 والجواهر المضية 2: 11 ولسان الميزان 5: 43 والمنتظم 8: 259 والوافي 2: 82 والنجوم الزاهرة 5: 85 والشذرات 3: 310 وبغية الوعاة 1: 26 والعبر 3: 250 وسير الذهبي 18: 235 وميزان الاعتدال 3: 459 ودمية القصر 1: 317، 349 وسؤالات الحافظ السلفي: 20.(5/2350)
فقد أسدى إليّ يدا بأني ... عرفت بها عدوّي من صديقي
قال: وهذا آخر ما قاله من الشعر.
قال الحميدي: وما أظن البيتين إلا لغيره.
قال: وأنشدنا وقد انقطع الناس عن عيادته والدخول إليه:
ما لي أرى الأبصار بي جافيه ... لم تلتفت منّي إلى ناحيه
لا ينظر الناس إلى الميت لا «1» ... وإنما الناس مع العافية
وله حظّ وافر من الشعر في قوله وعلمه، فمن شعره «2» :
لولا تعرّض ذكر من سكن الغضا ... ما كان قلبي للضنى متعرضا
لكن جفا جفني الكرى بجفائهم ... وحشا حشاي فراقهم جمر الغضا
ولو ان ما بي بالرياح لما جرت ... والبرق لو يمنى به ما أومضا
يا راكبا يطوي الدجنّة عيسه ... فتريه رضراض الحصى مترضرضا
بلّغ رعاك الله سكان الغضا ... عنّي التحية إن عرضت معرّضا
وقل انقضى عصر الشباب وودّنا ... باق على مرّ الليالي ما انقضى
إن كان قد حكم الزمان ببعدكم ... أبدا فتسليما لما حكم القضا
ونضا الشباب قناعه لما رأى ... سيف المشيب على المفارق منتضى
قد كنت ألقى الدهر أبيض ناضرا ... فاسودّ لما صار رأسي أبيضا
لولا اعترافي بالزمان وريبه ... ما كنت ممن يرتضي غير الرضى
وله «3» :
لا تغترر بهوى الملاح فربما ... ظهرت خلائق للملاح قباح
وكذا السيوف يروق حسن صقالها ... وبحدها تتخطّف الأرواح(5/2351)
وله:
هوى النفس سكر والسلوّ إفاقة ... ولن يستبين الرشد ذو الرشد أو يصحو
فدع نصح من أعماه عن رشده الهوى ... فإن سواء عنده الغشّ والنصح
وله «1» :
ولما أثاروا العيس للبين بيّنت ... غرامي لمن حولي دموع وأنفاس
فقلت لهم لا بأس بي فتعجبوا ... وقالوا الذي أبديته كلّه باس
تعوّض بأنس الصبر من وحشة الأسى ... فقد فارق الأحباب من قبلك الناس
وله:
توهمه قلبي فأوحى ضميره ... قبولا فأحكمنا الهوى بالسرائر
فلما التقينا شبّت الحرب بيننا ... على السلم منا مقلتاه وناظري
جرحت بلحظي وجنتيه فأقصدت ... لواحظه قلبي بأسهم ثائر
وله:
سقى الله ليلا بتّ فيه مغازلا ... غزالا حكى لي وجهه طلعة البدر
أصبت به من غرة الدهر فرصة ... فبادرتها علما بعاقبة الدهر
وله:
أفدي الذي عارضه خدّيه لم يدعا ... إذ أعرضا جوهرا مني ولا عرضا
ولم يزل ممرضي تمريض مقلته ... حتى ثناني على فرش الضنى حرضا
قال الوشاة إلى كم ذا الغرام به ... فقلت حتى أرى من حسنه عوضا
قالوا فقد كنت ذا صبر تعوذ به ... فقلت شرّده عني الهوى فمضى
وله «2» :
إن قدّم الحظّ قوما ما لهم قدم ... في فضل علم ولا حزم ولا جلد(5/2352)
فهكذا الفلك العلويّ أنجمه ... تقدّم الثور فيها رتبة الأسد
وله:
لما بدا يفتن الألباب رؤيته ... أبديت من حبه ما كنت أخفيه
وبان عذري لعذّالي فكلهم ... إليّ معتذر من عذله فيه
لكن سكرت براح من لواحظه ... فما أفقت بغير الراح من فيه
قال وقد سئل ابن بشران إجازة هذا البيت:
ليس يخفى عليك وجدي عليكا ... واشتكائي شوقي إليك إليكا
فقال:
ونزول المشيب قبل أوان الش ... يب في عارضيّ من عارضيكا
وحياتي لديك في قبضة الأس ... د فكن حافظا حياتي لديكا
وعليك اعتمدت في حفظ عهدي ... فارع لي حرمة اعتمادي عليكا
ناظري ناظر إلى جنة من ... ك وقلبي في النار من ناظريكا
نقلت من خط خميس الحوزي قال، قال قاضي القضاة أبو الفرج محمد بن عبيد الله بن الحسن قاضي البصرة، قال: اجتمعت مع أبي غالب ابن بشران في جمادى الأولى سنة ستين وأربعمائة بواسط، فسألته أولا عن سبب تجنبه الانتساب إلى ابن بشران وهو به مشهور فقال: هو جدّي لأمي، وهو ابن عم ابن بشران المحدث الذي كان ببغداد، فسألته عن مولده فقال: مولدي في سنة ثمانين وثلاثمائة.
قال الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة: وسألته- يعني خميس بن علي الحوزي أبا الكرم عن أبي غالب النحوي فقال: هو محمد بن أحمد بن سهل، يعرف بابن الخالة، أصله من نهر سابس، ينسب إلى خاله ابن بشران، وكان أحد الأعيان قدم واسط فجالس ابن الجلاب وابن دينار وتخصص بابن كروان وقرأ عليه «كتاب سيبويه» ولازم حلقة أبي إسحاق الرفاعي صاحب السيرافي. وكان يقول: قرأت عليه من أشعار العرب ألف ديوان. وكان مكثرا حسن المحاضرة مليح العارضة إلا انه لم ينتفع به أحد بواسط ولم يبرع به أحد في الأدب، وكان جيد الشعر مع ذلك، رأينا في(5/2353)
كتبه بعده خطوط أشياخ عدة بكتب كثيرة في الأدب وغيره إلا أنه كان معتزليّا، وشهد عند إسماعيل قاضي واسط في آخر شوطه وذكر وفاته كما تقدم.
ومن شعره في أمرد التحى:
قالوا التحى من قد براك صدوده ... وعمّا قليل سوف عنك يفرّج
فقلت لهم إني تعشقت روضة ... بها نرجس غضّ وورد مضرّج
وقد زاد فيها بعد ذاك بنفسج ... أأتركها إذ زاد فيها بنفسج
وله:
طلبت صديقا في البرية كلها ... فأعيا طلابي أن أصيب صديقا
بلى من تسمّى بالصديق مجازة ... ولم يك في حفظ الوداد صدوقا
وطلّقت ودّ العالمين صريمة ... وأصبحت من أسر الحفاظ طليقا
ومن مستحسن قوله في الشيب:
وقائلة إذ راعها شيب مفرقي ... وفوديّ ما هذا جعلت لك الفدا
تراه الذي خبّرت قدما بأنه ... يصيّر أهل الودّ في صورة العدا
لقد راعني حتى تخيلت أنه ... وحاشاك مما قلته حادث الردى
فقلت لها بل روضة غاض ماؤها ... ونبت أنيق حال إذ بلغ المدى
وإن عشت لاقيت الذي قد لقيته ... وأيقنت أني لم أكن فيه أوحدا
وكل امرىء ان عاش للشيب عرضة ... وان عفّ عنه اليوم جاز به غدا
قال: وكان لابن بشران كتب حسنة كثيرة وقفها على مشهد أبي بكر الصدّيق فذهبت على طول المدى.
وسئل ابن بشران عن مقدّمة العسكر ومقدمة الكتاب فقال: أما مقدمة العسكر فلا خلاف فيه أنه بكسر الدال وأما مقدّمة الكتاب فيحتمل الوجهين، والوجه حمله على مقدمة العسكر.
وله:
قل للوزير الذي ما في وزارته ... لمن يلوذ به ظلّ ولا شرف(5/2354)
حتام ويلي أنا وقف عليك ولي ... إلى سواك من الأمجاد منصرف
كأنني فرس الشطرنج ليس له ... في ظلّ صاحبه ماء ولا علف
[982]
محمد بن أحمد بن علي بن محمد بن يزيد
بن حاتم الباوردي النحوي أبو يعقوب: قال أحمد بن محمد بن مرزوق الأنماطي المصري: مات يوم الأربعاء لسبع وعشرين ليلة خلت من ربيع الآخر سنة تسع وأربعين وأربعمائة.
[983]
محمد بن أحمد بن محمد الصفار أبو بكر
الأديب الأصبهاني: ذكره يحيى بن عبد الوهاب بن منده فقال: كان يختلف إلى [حلق] الحديث إلى ان مات وكان يعظ الناس مدة ثم اشتغل بالعلم إلى أن مات، كان أديبا فاضلا بارعا في الأدب حسن الخلق مائلا الى الخيرات. مات في شهر ربيع الأول سنة سبعين وأربعمائة.
[984]
محمد بن أحمد المعموري البيهقي الأديب
الفيلسوف: مات مقتولا في شهور سنة خمس وثمانين وأربعمائة، كذا ذكر البيهقي في «كتاب الوشاح» وقال: كان من علية الحكماء والأئمة، وقد ألقت العلوم إليه أطراف الأزمة، واتفق أنه انتقل إلى اصبهان في خدمة تاج الملك الذي كان وزيرا بعد نظام الملك، وكان قد نظر في زايرجة طالعه فرأى من التسييرات إلى القواطع وشعاع النحوس ما يدل على الخوف
__________
(982) - بغية الوعاة 1: 36 (عن ياقوت) .
(983) - ترجمة الصفار في إنباه الرواة 3: 47.
(984) - الأرجح أنه هو محمد بن أحمد المعموري الذي وردت ترجمته في تاريخ حكماء الاسلام: 163، وأنه أخذ من مخبأه وأحرق حين جرى إحراق أصحاب الجبال والقلاع من الباطنية، وذكر تفصيلات حول ذلك الحادث؛ وانظر الوافي 2: 75 (وهو لا يعدو ما أورده ياقوت) .(5/2355)
والوجل، فأغلق باب داره عليه، فأخرج وقتل واحرق على سبيل الغلط، قضاء الله ليس له مردّ. ومن منظومه:
دعاك الربيع وأيامه ... ألا فاستمع قول داع نصوح
يقول اشرب الراح وردية ... ففي الراح يا صاح روح وروح
وغنّى البلابل عند الصباح ... لأهل الشراب: الصبوح الصبوح
قال ومن تصانيفه: كتاب في التصريف مجدول. كتاب في النحو. كتاب في المخروطات والهندسة وغير ذلك.
[985]
محمد بن أحمد بن عبد الباقي بن منصور
بن إبراهيم الدقاق أبو بكر المعروف بابن الخاضبة الحافظ العالم: مات فيما نقلت من «المذيل» بخط أبي سعد السمعاني في شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وأربعمائة ودفن بمقبرة الأجمة المتصلة بباب أبرز.
قال أبو سعد: وكان حافظا فهما درس القرآن وتفقه زمانا وقرأ الحديث فأكثر، وكان مفيد بغداد والمشار إليه في القراءة الصحيحة والنقل المستقيم، وكان مع ذلك صالحا ورعا دينا خيرا، سمع بمكة والشام والعراق، وأكثر ببغداد عن أبي بكر أحمد بن علي الخطيب وأصحاب أبي طاهر المخلص وأبي حفص الكتاني وعيسى بن علي الوزير وطبقتهم، وأدركته المنية قبل وقت الرواية. سمع منه جماعة من مشايخنا، وسمعوا بقراءته وإفادته الكثير، ورأيتهم مجمعين على الثناء عليه والمدح له:
والناس أكيس من أن يمدحوا رجلا ... حتى يروا عنده آثار إحسان
قال السمعاني: سمعت أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ، ذكر أبو
__________
(985) - ترجمة ابن الخاضبة في سؤالات الحافظ السلفي: 102 والمنتظم 9: 101 وعبر الذهبي 3: 325 وسير الذهبي 19: 109 وميزان الاعتدال 3: 465 وتذكرة الحفاظ 4: 1224 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 5 والوافي 2: 89 ولسان الميزان 5: 75 وطبقات الحفاظ: 448 والشذرات 3: 393.(5/2356)
الفضل محمد بن طاهر المقدسي، سمعت أبا بكر محمد بن أحمد بن عبد الباقي الدقاق المعروف بابن الخاضبة يقول: لما كانت سنة الغرق «1» وقعت داري على قماشي وكتبي، وكان لي عائلة الوالدة والزوجة والبنت، فكنت أورّق للناس وأنفق على الأهل، فأعرف أنني كتبت «صحيح مسلم» في تلك السنة سبع مرات، فلما كان ليلة من الليالي رأيت في المنام كأنّ القيامة قد قامت ومناد ينادي ابن الخاضبة، فأحضرت فقيل لي ادخل الجنة، فلما دخلت الباب وصرت من داخل استلقيت على قفاي ووضعت إحدى رجليّ على الأخرى وقلت: آه استرحت والله من النسخ.
قال السمعاني: وسمعت أبا المناقب محمد بن حمزة بن إسماعيل العلوي بهمذان مذاكرة يقول: ذكر أبو بكر ابن الخاضبة رحمه الله أنه كان ليلة من الليالي قاعدا ينسخ شيئا من الحديث بعد أن مضى قطعة من الليل، قال: وكنت ضيق اليد، فخرجت فأرة كبيرة وجعلت تعدو في البيت، وإذا بعد ساعة قد خرجت أخرى، وجعلا يلعبان بين يديّ ويتقافزان إلى أن دنوا من ضوء السراج، وتقدمت إحداهما إليّ وكانت بين يديّ طاسة فأكببتها عليها، فجاءت صاحبتها فدخل «2» سربه وإذا بعد ساعة قد خرج وفي فيه دينار صحيح وتركه بين يدي، فنظرت إليه وسكت واشتغلت بالنسخ، ومكث ساعة ينظر إليّ، فرجع وجاء بدينار آخر ومكث ساعة أخرى، وانا ساكت انظر وأنسخ، فكان يمضي ويجيء إلى أن جاء بأربعة دنانير أو خمسة، الشكّ مني، وقعد زمانا طويلا أطول من كلّ نوبة ورجع ودخل سربه وخرج، وإذا في فيه جليدة كانت فيها الدنانير وتركها فوق الدنانير، فعرفت أنه ما بقي معه شيء، فرفعت الطاسة فقفزا فدخلا البيت، وأخذت الدنانير وأنفقتها في مهمّ لي، وكان في كل دينار دينار وربع.
قال السمعاني: حكى أبو المناقب العلوي هذا أو معناه فاني كتبت من حفظي والعهدة عليه فيما حكى وروى. فإني ذاكرت بهذه الحكاية بعض أهل العلم بدمشق فنسبها إلى غير ابن الخاضبة، والله أعلم.
قال: وسمعت أبا الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السلامي يقول:(5/2357)
سمعت أبا بكر ابن الخاضبة يحكي هذه الحكاية عن مؤدبّه أبي طالب المعروف بابن الدلو كان يسكن بنهر طابق وكان رجلا صالحا، وحكى عنه حكايات أخر أيضا في إجابة الدعاء، ولم يحكها ابن الخاضبة عن نفسه، فذهب على أبي المناقب ولم يكن ضابطا، كان متساهلا في الرواية.
قال مؤلف هذا الكتاب: وهذه حكاية على ما يرى من الاستحالة، وقد أوردتها أنا لثقة موردها وتحريه في الرواية، فان صحّت فقد فزت بحظّ من العجب، والا فاجعلها كالسمر تستمتع به.
قال السمعاني: وأنشدني أبو صالح عبد الصمد بن عبد الرحمن الحنوي، أنشدنا محمد بن أحمد بن عبد الباقي الدقاق، أنشدنا أبو علي إسماعيل بن قلية ببيت المقدس:
كتبت إليك إليّ الكتاب ... وأودعته منك حسن الخطاب
لتقرأه أنت لا بل أنا ... وينفذ مني إليّ الجواب
قال مؤلف الكتاب: إنما ذكرت ابن الخاضبة في كتابي هذا وان لم يكن ممن اشتهر بالأدب لأشياء منها أنه كان قارئا ورّاقا، وله حكايات ممتعة، ولم يكن بالعاري من الأدب بالكلية.
[986]
محمد بن أحمد بن علي بن حامد الكركانجي
أبو نصر المروزي: من أهل مرو، صاحب أبي الحسين الدهان، مات فيما ذكره السمعاني في «المذيل» عن ابنه عبد الرحمن الكركانجي قال: توفي الإمام الوالد في ثاني عشر ذي الحجة سنة أربع وثمانين وأربعمائة، وهو ابن نيف وتسعين سنة. ومولده في حدود سنة تسعين وثلاثمائة بمرو.
__________
(986) - ترجمة الكركانجي في الأنساب 10: 398 والمنتظم 9: 60 ومعرفة القراء الكبار 1: 354 وعبر الذهبي 3: 305 وسير الذهبي 18: 600 والوافي 2: 88 والبداية والنهاية 12: 138 وطبقات ابن الجزري 2: 72 والنجوم الزاهرة 5: 133 والشذرات 3: 372 ومعجم البلدان (كركانج) .(5/2358)
قال: وكان إماما فاضلا في علوم القرآن، صاحب التصانيف الحسنة فيها مثل:
كتاب المعول. وكتاب التذكرة لأهل البصرة وغير ذلك. سافر الكثير إلى العراق والحجاز والجزيرة والشام والسواحل في طلب علم القرآن والقراءة على المشايخ إلى أن صار أوحد عصره وفريد دهره في فنه، وكان مع فضله زاهدا ورعا متدينا.
قال: حكى لي بعض المشايخ أن أبا نصر المقرىء المروزي قال: غرقت نوبة في البحر وانكسر المركب، فكنت أخوض في الماء وتلعب بي الأمواج، فنظرت إلى الشمس وقد زالت ودخل وقت الظهر، فغصت في الماء ونويت أداء فرض الظهر وأنا أنزل في الماء، وشرعت في الصلاة على حسب الوقت، فخلصني الله تعالى ببركة ذلك.
وقرأ القرآن على جماعة كثيرة: منهم بمرو على أستاذه أبي الحسين عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الدهان المقرىء، وبنيسابور على أبي عبد الله محمد بن علي الخبازي وأبي عثمان سعيد بن محمد المعدل، وببغداد على أبي الحسن علي بن أحمد بن عمر بن حفص بن الحمامي، وذكر غير هؤلاء.
قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الرزاق المقرىء بسرخس يقول:
سمعت أستاذي أبا نصر محمد بن أحمد بن علي المقرىء الكركانجي بجيرنج يسأل ويقول: أين في القرآن كلمة متصلة عشرة أحرف؟ فأفحمنا، فقال: ليستخلفنّكم في الأرض. ثم قال: فأين جاء في القرآن بين أربع كلمات ثمان نونات فلم نحر جوابا فقال إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ
(يوسف: 2) .
وذكر السمعاني باسناد آخر أن أبا نصر الكركانجي قال: نصف القرآن في قوله تعالى لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً
(الكهف: 74) النون والكاف من النصف الأول والراء والألف من النصف الثاني.
قال: وسمعت المقرىء أبا عبد الله محمد بن عبد الرزاق الحداد بسرخس يقول: سمعت المقرىء أبا نصر محمد بن أحمد الكركانجي بجيرنج يقول: أردت أن أقرأ القرآن على بعض القراء بالشام برواية وقعت له عالية، فامتنع عليّ، ثم قال لي:
تقرأ عليّ كلّ يوم عشرا وتدفع إليّ مثقالا من الفضة، فقبلت ذلك منه شئت أو أبيت؛ قال: فلما وصلت إلى المفصّل أذن لي كلّ يوم في قراءة سورة كاملة، وكنت أرسل(5/2359)
غلماني في التجارة إلى البلاد، وأقمت عنده سنة وخمسة أشهر أو سنة حتى ختمت، واتفق أن لم يردّ عليّ في هذه الرواية خلافا من جودة قراءتي، فلما قرب أن أختم الكتاب جمع أصحابه الذين قرؤوا عليه في البلاد القريبة منه وأمرهم أن يحمل إليّ كلّ واحد منهم شستكة «1» قيمتها دينار أحمر وفيها من دينارين إلى خمسة، وقال لهم المقرىء: اعلموا أنّ هذا الشاب قرأ عليّ الرواية الفلانية ولم أحتج أن أردّ عليه، ووزن في كلّ يوم مثقالا من الفضة، وأردت أن أعرف حرصه في القراءة مع الجودة.
وردّ عليّ ما كان أخذه مني، ودفع إليّ كلّ ما حمله أصحابه من الشساتك والذهب، فامتنعت، فأظهر الكراهية حتى أخذت ما أشار إليه وخرجت من تلك البلدة.
[987]
محمد بن أحمد الابيوردي الكوفني أحد قراء أبيورد:
هو أبو المظفر محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد بن أبي العباس أحمد بن إسحاق بن أبي العباس محمد الإمام بن إسحاق بن الحسن أبي الفتيان بن أبي مرفوعة منصور بن معاوية الأصغر بن محمد بن أبي العباس عثمان بن عنبسة [بن] عتبة بن عثمان بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف؛ نقلت هذا النسب من تاريخ جمعه منوجهر بن اسفرسيان بن منوجهر ابتدأه فيما ذكر لي في أوله من بعد ما ذكره الوزير أبو شجاع فقال فيه عند ذكر الأبيوردي: حكي أنه كان من أبيورد، ولم يعرف له هذا النسب، وانه كان ببغداد في خدمة مؤيد الملك ابن نظام الملك، فلما عادى مؤيد الملك عميد الدولة ابن جهير ألزمه أن يهجوه ففعل، فسعى عميد الدولة إلى الخليفة بأنه قد هجاك ومدح صاحب مصر، فأبيح دمه فهرب إلى همذان، واختلق هذا النسب حتى ذهب عنه ما قرف به من مدح صاحب مصر، وكان يكتب على كتبه
__________
(987) - ترجمة الأبيوردي في إنباه الرواة 3: 49 والمنتظم 9: 176 ومعجم البلدان (أبيورد) وابن خلكان 4: 444 وعبر الذهبي 4: 14 وسير الذهبي 19: 283 وتذكرة الحفاظ: 1241 والوافي 2: 91 ومرآة الزمان، 29 ومرآة الجنان 3: 196 وطبقات السبكي 6: 81 والبداية والنهاية 12: 176 والنجوم الزاهرة 5: 206 وبغية الوعاة 1: 40 والشذرات 4: 18.(5/2360)
«المعاويّ» ، وكان فاضلا في العربية والعلوم الأدبية نسابة ليس مثله، متكبرا عظيما، وسمع سنقر كفجك بخبره فأراد أن يجعله طغرائيّ الملك أحمد، فمات أحمد، فرجع إلى أصفهان بحال سيئة، وبقي سنين يعلم أولاد زين الملك برسق، ثم شرح سنقر الكفجك للسلطان محمد ذلك وأعطاه إشراف المملكة، وكان يدخل مع الخطير وأبي إسماعيل والمعين وشرف الدين، فتوفي فجأة بأصفهان يوم الخميس العشرين من شهر ربيع الأول سنة سبع وخمسمائة، وكذا ذكر ابن منده، ويقال: بل سقاه الخطير، ودفن بباب ديره «1» ، وكان كبير النفس عظيم الهمة لم يسأل أحدا شيئا قط مع الحاجة والمضايقة، وكان من دعائه في الصلاة: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها. ورثى الحسين عليه السلام بقصيدة قال فيها، ومن خطه نقلت «2» :
فجدّي وهو عنبسة بن صخر ... بريء من يزيد ومن زياد
قال السمعاني، قال شيرويه: سمع الأبيوردي إسماعيل بن مسعدة الجرجاني وعبد الوهاب [بن] محمد بن الشهيد وأبا بكر ابن خلف الشيرازي، حديثا واحدا، وأبا محمد الحسن بن أحمد السمرقندي وعبد القاهر الجرجاني النحوي.
قال ابن طاهر المقدسي: عنبسة الأصغر بن عتبة الاشرف بن عثمان بن عنبسة الأكبر بن أبي سفيان. قال: ومعاوية الأصغر هو الذي ينتسب إليه الأبيوردي، ومعاوية أول من تديّر كوفن، وهي قصبة بين نسا وأبيورد ونقله إليها حيان بن حكيم العبدي «3» .
وكتب مرة قصة إلى الخليفة، وكتب على رأسها الخادم المعاويّ يعني معاوية بن محمد بن عثمان لا معاوية بن أبي سفيان، فكره الخليفة النسبة إلى معاوية واستبشعها، فأمر بكشط الميم وردّ القصة فبقيت الخادم العاوي.
وحدث السمعاني عن أحمد بن سعد العجلي قال: كان السلطان نازلا على باب همذان فرأيت الأديب الأبيورديّ راجعا من عندهم، فقلت له: من أين؟ فأنشأ يقول ارتجالا «4» :(5/2361)
ركبت طرفي فأذرى دمعه أسفا ... عند انصرافي منهم مضمر الياس
وقال حتام تؤذيني فإن سنحت ... حوائج لك فاركبني إلى الناس
وحدث أبو سعد السمعاني عن أبي علي أحمد بن سعيد العجلي المعروف بالبديع قال: سمعت الأبيوردي يقول في دعائه: اللهم ملكني مشارق الأرض ومغاربها، فقلت له: أي شيء هذا الدعاء؟ فكتب إليّ بهذه الأبيات «1» :
يعيّرني أخو عجل إبائي ... على عدمي وتيهي واختيالي
ويعلم أنني فرط لحيّ ... حموا خطط المعالي بالعوالي
فلست لحاصن إن لم أزرها ... على نهل شبا الأسل الطوال
وإن بلغ الرجال مداي فيما ... أحاوله فلست من الرجال
قال أبو علي العجلي: وكنت يوما متكسرا فأردت أن أقوم فعضدني الأبيوردي وعاونني على القيام، ثم قال: أمويا يعضد عجليا، كفى بذلك شرفا.
وقد ولي الأبيوردي خزن خزانة دار الكتب بالنظامية التي ببغداد بعد القاضي أبي يوسف يعقوب بن سليمان الاسفرائني، وكانت وفاة الاسفرائني هذا في رمضان سنة ثمان وتسعين وأربعمائة وكان أبو يوسف الاسفرائني أيضا شاعرا أديبا، وهو القائل في بهاء الدولة منصور بن مزيد صاحب حلة بني مزيد:
أيا شجرات النيل من يضمن القرى ... إذا لم يكن جار الفرات ابن مزيد
إذا غاب منصور فلا النور ساطع ... ولا الصبح بسّام ولا النجم مهتدي
وحدث العماد محمد بن حامد الأصبهاني في «كتاب خريدة القصر» [أن] الأبيوردي تولى في آخر عمره إشراف مملكة السلطان محمد بن ملكشاه، فسقوه السم وهو واقف عند سرير السلطان، فخانته رجلاه فسقط وحمل إلى منزله، فقال «2» :
وقفنا بحيث العدل مدّ رواقه ... وخيّم في أرجائه الجود والباس(5/2362)
وفوق السرير ابن الملوك محمد ... تخرّ له من فرط هيبته الناس
فخامرني ما خانني قدمي له ... وإن ردّ عني نفرة الجأش إيناس
وذاك مقام لا نوفّيه حقّه ... إذا لم ينب فيه عن القدم الراس
لئن عثرت رجلي فليس لمقولي ... عثار وكم زلّت أفاضل اكياس
قال العماد الأصبهاني: وكان رحمه الله عفيف الذيل، غير طفيف الكيل، صائم النهار قائم الليل، متبحرا في الأدب، خبيرا بعلم النسب، وأورد له صاحب «وشاح الدمية» فيه «1» :
من أرتجي وإلى من ينتهي أربي ... ولم أطأ صهوات السبعة الشهب
يا دهر هبني لا أشكو إلى أحد ... ما ظلّ منتهسا شلوي «2» من النوب
تركتني بين أيدي النائبات لقى ... فلا على حسبي تبقي ولا نسبي
يريك وجهي بشاشات الرضى كرما ... والصدر مشتمل مني على الغضب
إن هزّني اليسر لم أنهض على مرح ... أو مسّني الضرّ لم أجثم على لغب «3»
حسب الفتى من غناه سدّ جوعته ... وكلّ ما يقتنيه نهزة العطب
وله «4» :
خليليّ إن الحبّ ما تعرفانه ... فلا تنكرا أنّ الحنين من الوجد
أحنّ وللانضاء بالغور حنّة ... إذا ذكرت أوطانها بربى نجد
وله «5» :
خطرت لذكرك يا أميمة خطرة ... بالقلب تجلب عبرة المشتاق
وتذود عن قلبي سواك كما أبى ... دمعي جواز النوم بالآماق(5/2363)
لم يبق منّي الحبّ غير حشاشة ... تشكو الصبابة فاذهبي بالباقي
أيبلّ من جلب السقام طبيبه ... ويفيق من سحرته عين الراقي
إن كان طرفك ذاق ريقك فالذي ... ألقى من المسقيّ فعل الساقي
نفسي فداؤك من ظلوم أعطيت ... رقّ القلوب وطاعة الأحداق
فلقلة الأشباه فيما أوتيت ... أضحت تدلّ بكثرة العشاق
وله «1» :
علاقة بفؤادي أعقبت كمدا ... لنظرة بمنى أرسلتها عرضا
وللحجيج ضجيج في جوانبه ... يقضون ما أوجب الرحمن وافترضا
فاستنفض «2» القلب رعبا ما جنى نظري ... كالصقر ندّاه طلّ الليل فانتفضا
وقد رمتني غداة الخيف غانية ... بناظر إن رمى لم يخطىء الغرضا
لما رأى صاحبي ما بي بكى جزعا ... ولم يجد بمنى عن خلّتي عوضا
وقال دع «3» يا فتى فهر فقلت له ... يا سعد أودع قلبي طرفها مرضا
فبتّ أشكو هواها وهو مرتفق ... يشوقه البرق نجديّا إذا ومضا
تبدو لوامعه كالسيف مختضبا ... شباه بالدم أو كالعرق إن نبضا
ولم يطق ما أعانيه فغادرني ... بين النقا والمصلّى عندها ومضى
وقرأت من خط تاج الاسلام اختلافا في نسبه وهو: محمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن الحسن بن منصور بن معاوية بن محمد بن عثمان بن عتبة بن عنبسة بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي العبشمي، أوحد عصره وفريد دهره في معرفة اللغة والأنساب وغير ذلك، وأليق ما وصف به بيت أبي العلاء المعري:
وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل
وله تصانيف كثيرة: منها كتاب تاريخ أبيورد ونسا. كتاب المختلف والمؤتلف.(5/2364)
كتاب قبسة العجلان في نسب آل أبي سفيان. كتاب نهزة الحافظ. كتاب المجتبى من المجتنى في رجال كتاب أبي عبد الرحمن النسائي في السنن المأثورة، وشرح غريبه. كتاب ما اختلف وائتلف في أنساب العرب. كتاب طبقات العلم في كل فن.
كتاب كبير في الأنساب. كتاب تعلّة المشتاق إلى ساكني العراق. كتاب كوكب المتأمل، يصف فيه الخيل. كتاب تعلّة المقرور في وصف البرد والنيران وهمذان.
كتاب الدرة الثمينة. كتاب صهلة القارح ردّ فيه على المعري «سقط الزند» . وله في اللغة مصنفات ما سبق إليها.
وكان حسن السيرة جميل الأمر منظرانيّا من الرجال، سمع الحديث فأكثر، ولقي عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني النحوي وأخذ عنه، وروى عنه جماعة غير محصورة.
وقال السمعاني: سمعت أبا الفتح محمد بن علي بن محمد بن إبراهيم النطنزي يقول: سمعت الأبيوردي يقول: كنت ببغداد عشرين سنة حتى أمرّن طبعي على العربية وبعد أنا أرتضخ لكنة.
قال: وقرأت بخط يحيى بن عبد الوهاب بن منده: سئل الأديب الأبيوردي عن أحاديث الصفات فقال نقرّ ونمرّ.
وأنشد السمعاني للأبيوردي بإسناد:
جدّي معاوية الأغرّ سمت به ... جرثومة من طينها خلق النبي
وورثته شرفا رفعت مناره ... فبنو أمية يفخرون به وبي
وأنشد له «1» :
كفّى أميمة غرب اللوم والعذل ... فليس عرضي على حال بمبتذل
إن مسّني العدم فاستبقي الحياء ولا ... تكلفيني سؤال العصبة السفل
فشعر مثلي وخير القول أصدقه ... ما كان يفترّ عن فخر وعن غزل
أما الهجاء فلا أرضى به خلقا ... والمدح إن قلته فالمجد يغضب لي(5/2365)
وكيف أمدح أقواما أوائلهم ... كانوا لأسلافي الماضين كالخول
وله أيضا في مدح الأئمة الخمسة «1» :
زاهر العود رطيبه ... ولياليه تشيبه
كلّ يوم من مكان ... يلبس الذلّ غريبه
وهو يسعى طالبا لل ... علم والهمّ يذيبه
وطوى برد صباه ... قبل أن يبلى قشيبه
واقتدى بالقوم يدعوه ... هواه فيجيبه
خمسة لا يجد الحاسد ... فيهم ما يعيبه
منهم الجعفيّ لا يع ... رف في العلم ضريبه
وإذا اعتلّ حديث ... فالقشيريّ طبيبه
وأخونا ابن شعيب ... حازم الرأي صليبه
وأبو داوود موفو ... ر من الفضل نصيبه
وأبو عيسى يرى الجه ... ميّ منه ما يريبه
جادهم ذو زجل يس ... تضحك الروض نحيبه
طار فيه البرق حتى ... خالط الماء لهيبه
وأنشد له «2» :
تنكّر لي دهري ولم يدر أنني ... أعزّ وأحداث الزمان تهون
فبات يريني الخطب كيف اعتداؤه ... وبتّ أريه الصبر كيف يكون
له في الغزل «3» :
أعصر الحمى عد فالمطايا مناخة ... بمنزلة جرداء ضاح مقيلها(5/2366)
لئن كانت الأيام فيك قصيرة ... فكم حنة لي بعدها أستطيلها
وله «1» :
رمتني غداة الخيف ليلى بنظرة ... على خفر والعيس صعر خدودها
شكت سقما ألحاظها وهي صحة ... فلست ترى إلا القلوب تعودها
وله «2» :
صلي يا ابنة الأشراف أروع ماجدا ... بعيد مناط الهمّ جمّ المسالك
ولا تتركيه بين شاك وشاكر ... ومطر ومغتاب وباك وضاحك
فقد ذلّ حتى كاد ترحمه العدى ... وما الحبّ يا ظبياء إلا كذلك
ووجدت بعد ذلك رسالة كتبها إلى أمير المؤمنين المستظهر بالله يعتذر، تدلّ على صحة ما نسب إليه من الهرب من بغداد، نسختها: إحسان المواقف المقدسة النبوية الامامية الطاهرة الزكية الممجدة العلية، زاد الله في إشراق أنوارها، وإعزاز أشياعها وأنصارها، وجعل أعداءها حصائد نقمها، ولا سلب أولياءها قلائد نعمها، شمل الأنام، وغمر الخاصّ والعام، وأحقّ خدمها بها من انتهج المذاهب الرشيدة في الولاء الناصع، والتزم الشاكلة الحميدة في الثناء المتتابع، ولا خفاء باعتلاق الخادم أهداب الاخلاص، واستيجابه مزايا الاجتباء والاختصاص، لما أسلفه من شوافع الخدم، ومهّده من أواصر الذمم، متوفرا على دعاء يصدره من خلوص اليقين، ويعدّ المواصلة به من مفترضات الدين، ولئن صدّت الموانع عن المثول بالسدّة المنيفة، والاستذراء بالجناب الأكرم في الخدمة الشريفة، فهو في حالتي دنوّه منها واقترابه، وتارتي انتزاحه عنها واغترابه، على السّنن القاصد في المشايعة مقيم، ولما يشمله من نفحات الأيام الزاهرة مستديم. وقد علم الله سبحانه، ولا يستشهده كاذبا، إلا من كان لرداء الغيّ جاذبا، أنه مطويّ الجنان على الولاء، منطلق اللسان بالشكر والدعاء، يتّشح بهما الصبح كاشرا عن نابه، ويدّرعهما الليل ناشرا سابغ جلبابه، وكان يغبّ(5/2367)
خدمه اتقاء لقوم يبغونه الغوائل، وينصبون له الحبائل، وتدعوهم العقائد المدخولة إلى تنفيره، ويرقّون عنه غير ما أجنّه في ضميره، ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذماما، ويزيدهم الاستدراج على الجرائم جرأة واقداما، حتى استشعر وجلا، فاتخذ الليل جملا، والتحف بناشئة الظلماء، والفرار مما لا يطاق من سنن الأنبياء، ولم يزل يستبطىء فيهم المقادير، والأيام ترمز بما يعقب التبديل والتغيير، فحاق بهم مكرهم، وانقضت شرتهم وشرهم:
عذرت الذرى لو خاطرتني قرومها ... فما بال أكارين فدع القوائم
وعاود الخادم المثابرة على الممادح الإمامية مطنبا ومطيلا، إذ وجد إلى مطالعة مقارّ العزّ والعظمة ومواقف الإمامة المكرمة بها سبيلا، وهذه فاتحة ما نظم، وانتهز فرصة الامكان فيه واغتنم «1» :
لك من غليل صبابتي ما أضمر ... وأسرّ من ألم الغرام وأظهر
وتذكّري زمن العذيب يشفّني ... والوجد ممنوّ به المتذكّر
إذ لمّتي سحماء مدّ على التقى ... أظلالها ورق الشباب الأخضر
ولداتك النشء الصغار وليس ما ... ألقاه فيك من الملاوم يصغر «2»
هو ملعب شرقت بنا أرجاؤه ... إذ نحن في حلل الشبيبة نخطر
فبحرّ أنفاسي وصوب مدامعي ... أضحت معالمه تراح وتمطر
وأجيل في تلك المعاهد ناظري ... فالقلب يعرفها وطرفي ينكر
وأردّ عبرتي الجموح لأنها ... بمقيل سرّك في الجوانح تخبر
فأبيت محتضر الجوى قلق الحشا ... وأظلّ أعذل «3» في هواك وأعذر
غضبت قريش إذ ملكت مقادتي ... غضبا يكاد السمّ منه يقطر
وتعاورت عذلي فما أرعيتها ... سمعا يقلّ به الملام ويكثر(5/2368)
ولقد يهون على العشيرة أنني ... أشكو الغرام فيرقدون وأسهر
وبمهجتي هيفاء يرفع جيدها ... رشأ ويخفض ناظريها جؤذر
طرقت وأجفان الوشاة على الكرى ... تطوى وأردية الغياهب تنشر
والشهب في غسق الدجى «1» كأسنّة ... زرق يصافحها العجاج الأكدر
فنجاد سيفي مسّ ثني وشاحها ... بمضاجع كرمت وعفّ المئزر
ثم افترقنا والرقيب يروع بي ... أسدا يودّعه غزال أحور
والدرّ ينظم حين تضحك عقده ... وإذا بكيت فمن جفوني ينثر
فوطئت خدّ الليل فوق مطهّم ... تسمو لغايته الرياح فتحسر «2»
طرب العنان كأنه في حضره ... نار بمعترك الجياد تسعّر
والعزّ يلحفني وشائع برده ... حلق الدلاص وصارمي والأشقر
وعلام أدّرع الهوان وموئلي ... خير الخلائق أحمد المستظهر
هو غرّة الزمن الكثير شياته ... زهي السرير به وتاه المنبر
وله كما اطّردت أنابيب القنا ... شرف وعرق بالنبوة يزخر
وعلا ترفّ على التقى وسماحة ... علق الرجاء بها وبأس يحذر
لا تنفع الصلوات من هو ساحب ... ذيل الضلال وعن هواه أزور
ولو استميلت عنه هامة مارق ... لدعا صوارمه إليها المغفر
والله يحرس بابن عمّ رسوله ... دين الهدى وبه يعان وينصر
فعفاته حيث الغنى يسع المنى ... وعداته حيث القنا يتكسر
وبسيبه وبسيفه أعمارهم ... في كلّ معضلة تطول وتقصر
وكأنه المنصور في عزماته ... ومحمد في المكرمات وجعفر
وإذا معدّ حصّلت أنسابها ... فهم الذرى والجوهر المتخيّر(5/2369)
ولهم وقائع في العدى مذكورة ... تروي الذئاب حديثها والأنسر
والسمر في اللبات راعفة دما ... والبيض يخضبها النجيع الأحمر
والقرن يركب ردعه سهل الخطا ... والأعوجيّة بالجماجم تعثر
ودجا النهار من العجاج وأشرقت ... فيه الصوارم فهو ليل مقمر
يا ابن الشفيع إلى الحيا ما لامرىء ... طامنت نخوته المحلّ الأكبر
أنا عبد نعمتك «1» التي لا تجتدى ... معها السحائب فهي منها أغزر
والنّجح يضمنه «2» لمن يرتادها ... منا الطلاقة والجبين الأزهر
ولقد عداني عن جنابك حادث ... أنحى عليّ به الزمان الأغبر «3»
وإن اقتربت أو اغتربت فإنني ... لهج بشكر عوارف لا تكفر
وعلاك لي في ظلّها ما أبتغي ... منها ومن كلمي لها ما يذخر
يسدي مديحك هاجسي وينيره ... فكري وحظّي في امتداحك أوفر
بغداد أيتها المطيّ فواصلي ... عنقا تئنّ له القلاص الضمّر
إني وحقّ المستجنّ بطيبة ... كلف بها وإلى ذراها أصور «4»
وكأنني مما تسوّله المنى ... والدار نازحة إليها أنظر
أرض تجرّ بها الخلافة ذيلها ... وبها الجباه من الملوك تعفّر
فكأنها جلبت «5» علينا جنة ... وكأن دجلة فاض فيها الكوثر
وهواؤها أرج النسيم وتربها ... مسك تهاداه الغدائر أذفر
يقوى الضعيف بها ويأمن خائف ... قلقت وسادته ويثري المقتر
فتركتها إذ صدّ عني معشري «6» ... وبغى عليّ من الأراذل معشر(5/2370)
من كلّ ملتحف بما يصم الفتى ... يؤذي ويظلم أو يجور ويغدر
فنفضت منه يدي مخافة كيده ... إنّ الكريم على الأذى لا يصبر
والأبيض المأثور يخطم بالردى ... من لا ينهنهه القطيع الأسمر
فارفضّ شملهم وكم من مورد ... للظالمين وليس عنه مصدر
وأبى لشعري أن أدنّسه بهم ... حسبي وحسب ذوي الخنا أن يحقروا
قابلت سيّء ما أتوا بجميل ما ... آتي فاني بالمكارم أجدر
وإلى أمير المؤمنين تطلعت ... مدح كما ابتسم الرياض تحبّر
ويقيم مائدهنّ ليل مظلم ... ويضمّ شاردهنّ صبح مسفر
فبمثل طاعته الهداية تبتغى ... وبفضل نائله الخصاصة تجبر
وله «1» :
ألا ليت شعري هل تخبّ مطيتي ... بحيث الكثيب الفرد والأجرع السهل
ألذّ به مسّ الثرى ويروقني ... حواشي ربى يغذو أزاهيرها الوبل
ولولا دواعي حبّ رملة لم أقل ... إذا زرت مغناها به سقي الرمل
فيا حبذا أثل العقيق ومن به ... وان رحلت عنه فلا حبّذا الأثل
ضعيفة رجع القول من ترف الصبا ... لها نظرة تنسيك ما يفعل النصل
وقد بعثت سرّا إليّ رسولها ... لأهجرها والهجر شيمة من يسلو
تخاف عليّ الحيّ إذ نذروا دمي ... سأرخصه فيها على أنه يغلو
أيمنعني خوف الردى أن أزورها ... وأروح من صبري على هجرها القتل
إذا رضيت عني فلا بات ليلة ... على غضب إلا العشيرة والأهل
وله «2» :
خطوب للقلوب بها وجيب ... تكاد لها مفارقنا تشيب(5/2371)
نرى الأقدار جارية بأمر ... يريب ذوي العقول بما يريب
فتنجح في مطالبها كلاب ... وأسد الغاب ضارية تخيب
وتقسم هذه الأرزاق فينا ... فما ندري أتخطىء أم تصيب
ونخضع راغمين لها اضطرارا ... وكيف يلاطم الإشفا لبيب
وله «1» :
وغادة لو رأتها الشمس ما طلعت ... والرئم أغضى وغصن البان لم يمس
عانقتها برداء الليل مشتملا ... حتى انتبهت ببرد الحلي في الغلس
فظلت أحميه خوفا أن ينبهها ... وأتقي أن أذيب العقد بالنفس
وله «2» :
ومتّشح باللؤم جاذبني العلا ... فقدّمه يسر وأخّرني عسر
وطوقت أعناق المقادير ما أتى ... به الدهر حتى ذلّ للعجز الصدر
ولو نيلت الأرزاق بالفضل والحجى ... لما كان يرجو أن يثوب له وفر
فيا نفس صبرا إنّ للهمّ فرجة ... فما لك الا العزّ عندي أو القبر
ولي حسب يستوعب الأرض ذكره ... على العدم والأحساب يدفنها الفقر
وله أيضا وهو من جيد شعره «3» :
وعليلة الألحاظ ترقد عن ... صبّ يصافح جفنه الأرق
وفؤاده كسوارها حرج ... ووساده كوشاحها قلق
عانقتها والشهب ناعسة ... والأفق بالظلماء منتطق
ولثمتها والليل من قصر ... قد كاد يلثم فجره الشفق
بمعانق «4» ألف العفاف به ... كرم بأذيال التقى علق(5/2372)
ثم افترقنا حين فاجأنا ... صبح تقاسم ضوءه الحدق
وبنحرها من أدمعي بلل ... وبراحتي من نشرها عبق
وله:
بيضاء إن نطقت في الحيّ أو نظرت ... تقاسم السحر أسماع وأبصار
والركب يسرون والظلماء عاكفة ... كأنهم في ضمير القلب أسرار
وله «1» :
وقصائد مثل الرياض أضعتها ... في باخل ضاعت به الأحساب
فإذا تناشدها الرواة وأبصروا ال ... ممدوح قالوا ساحر كذاب
وله «2» :
ما للجبان ألان الله ساحته «3» ... ظنّ الشجاعة مرقاة إلى الأجل
وكم حياة جنتها «4» النفس من تلف ... وربّ أمن حواه القلب من وجل
فقت الثناء فلم أبلغ مداك به ... حتى توهمت أن العجز من قبلي
والعيّ أن يصف الورقاء مادحها ... بالطّوق أو يمدح الأدماء بالكحل
وله «5» :
وقد سئمت مقامي بين شرذمة ... إذا نظرت اليهم قطّبت هممي
أراذل ملكوا الدنيا وأوجههم ... لم يكشف الفقر عنها بهجة النعم
وله:
ألام على نجد وأبكي صبابة ... رويدك يا دمعي ويا عاذلي رفقا
فلي بالحمى من لا أطيق فراقه ... به يسعد الواشي ولكّنني أشقى(5/2373)
وأكرم من جيرانه كلّ طارىء ... يودّ ودادا أنه من دمي يسقى
اذا لم يدع مني نواه وحبّه ... سوى رمق يا أهل نجد فكم يبقى
ولولا الهوى ما لان للدهر جانبي ... ولا رضيت مني قريش بما ألقى
قرأت بخط محمد بن عبيد الله الشاعر المعروف بابن التعاويذي قال، حدثني الشيخ أبو محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الخشاب قال، حدثني الشيخ أبو منصور ابن الجواليقي قال: كنت أقرأ على أبي زكريا شعر أبي دهبل الجمحي حتى وصلت إلى هذا البيت «1» :
يجول وشاحاها ويغرب حجلها ... ويشبع منها وقف عاج ودملج
قال فقلت له: وصفها بقوله يجول وشاحاها بأنها هضيمة الحشا، وبقوله ويشبع منها وقف عاج ودملج أنها عبلة الزند والعضد، فما معنى قوله ويغرب حجلها؛ فقال:
لا أدري، وكان الأبيوردي حاضرا، فلما قمت من عنده قال لي الأبيوردي: أتحبّ أن تعرف معنى هذا البيت؟ قلت: نعم، فقال: اتبعني، فمضيت معه إلى بيته فأجلسني وأخرج سلّة فيها جزاز فجعل يطوفها إلى أن أخرج ورقة فنظر فيها وقال لي:
إنه مدح امرأة من آل أبي سفيان وهم يوصفون بأنهم سته حمش، والحمش دقّة الساقين.
ومن افتخاراته قوله «2» :
يا من يساجلني وليس بمدرك ... شأوي وأين له جلالة منصبي
لا تتعبنّ فدون ما أمّلته ... خرط القتادة وامتطاء الكوكب
المجد يعلم أيّنا خير أبا ... فاسأله تعلم أيّ ذي حسب أبي
جدّي معاوية الأغرّ سمت به ... جرثومة من طينها خلق النبي
وورثته شرفا رفعت مناره ... فبنو أمية يفخرون به وبي
قال عبد الله بن علي التيمي: ولقد حصل للأبيوردي بعد ما تراه من شكوى(5/2374)
الزمان في أشعاره مما انتجعه بالشعر من ملوك خراسان ووزرائها وخلفاء العراق وأمرائها ما لم يحصل للمتنبي في عصره ولا ابن هانىء في مصره، فمن ذلك ما حدثنيه القاضي أبو سعد محمد بن عبد الملك بن الحسن النديم أن أفضل الدولة الأبيوردي لما قدم الحلة على سيف الدولة صدقة ممتدحا له، ولم يكن قبلها اجتمع به قط، خرج سيف الدولة لتلقيه. قال: وكنت فيمن خرج، فشاهدت الأبيوردي راكبا في جماعة كثيرة من أتباعه منهم من المماليك الترك ثلاثون غلاما، ووراءه سيف مرفوع، وبين يديه ثمان جنائب بالمراكب والسرفسارات «1» الذهب، وعددنا ثقله فكان على أحد وعشرين بغلا، وكان مهيبا محترما جليلا معظما لا يخاطب إلا بمولانا، فرحب به سيف الدولة، وأظهر له من البر والاكرام ما لم يعهد مثله في تلقّي أحد ممن كان يتلقاه، وأمر بانزاله وإكرامه والتوفر على القيام بمهامّه، وحمل إليه خمسمائة دينار وثلاثة حصن وثلاثة أعبد. وكان الأبيوردي قد عزم على إنشاد سيف الدولة قصيدته التي يقول فيها:
وفي أي عطفيك التفتّ تعطّفت ... عليك به الشمس المنيرة والبدر
في يوم عيّنه، ولم يكن سيف الدولة أعدّ له بحسب ما كان في نفسه أن يلقاه به ويجيزه على شعره، واعتذر إليه ووعده يوما غير ذلك اليوم ليعدّ ما يليق بمثله اجازته مما يحسن به بين الناس ذكره، ويبقى على ممرّ الأيام أثره، فاعتقد أفضل الدولة أنّ سيف الدولة قد دافعه عن سماعه منه استكبارا لما يريد أن يصله به ثانيا، فأمر الأبيوردي أصحابه أن يعبروا ثقله الفرات متفرقا في دفعات، وخرج من غير أن يعلم به أحد سوى ولد أبي طالب ابن حبش فانه سمعه ينشد على شاطىء الفرات حين عبوره:
أبابل لا واديك بالخير مفعم ... لراج ولا ناديك بالرفد آهل
لئن ضقت عني فالبلاد فسيحة ... وحسبك عارا أنني عنك راحل
فان كنت بالسحر الحرام مدلّة ... فعندي من السحر الحلال دلائل
قواف تعير الأعين النجل سحرها ... وكلّ مكان خيّمت فيه بابل
فبادر ولد أبي طالب إلى سيف الدولة فقال له: رأيت على شاطىء الفرات فارسا(5/2375)
يريد العبور إلى الشرق وهو ينشد هذه الأبيات، فقال سيف الدولة: وأبيك ما هو إلا الأبيوردي، فركب لوقته في قلّ من عسكره، فلحقه فاعتذر وسأله الرجوع وعرّفه عذره في امتناعه من سماع شعره وأمر بانزاله في داره معه، وحمل إليه ألف دينار ومن الخيل والثياب ما يزيد على ذلك قيمة.
قال عبيد الله التيمي أنشدني أبو إسحاق يحيى بن إسماعيل المنشىء الطغرائي قال: سمعت والدي ينشد لنفسه مرثية للأبيوردي:
إن ساغ بعدك لي ماء على ظمأ ... فلا تجرعت غير الصاب والصّبر
أو إن نظرت من الدنيا إلى حسن ... مذ غبت عنّي فلا متّعت بالنظر
صحبتني والشباب الغضّ ثم مضى ... كما مضيت فما في العيش من وطر
هبني بلغت من الأعمار أطولها ... أو انتهيت إلى آمالي الكبر
فكيف لي بشباب لا ارتجاع له ... أم أين أنت فما لي منك من خبر
سبقتماني ولو خيّرت بعدكما ... لكنت أول لحّاق على الأثر
[988]
محمد بن أحمد بن طاهر بن حمد
أبو منصور الخازن لدار الكتب القديمة:
من ساكني درب منصور بالكرخ، مات في ثالث عشر شعبان سنة عشر وخمسمائة، ذكر ذلك ابن الجوزي وقال: كان أديبا فاضلا نحويا، وخطه موجود بأيدي الناس كثير يرغب فيه ويعتمد غالبا عليه، وكان أبو السعادات ابن الشجري النحوي والنقيب حيدرة كثيرا ما يستكتبانه. سمع علي بن المحسن التنوخي وابن غيلان وغيرهما، وكان فقيها على مذهب الشيعة، ووجدت سماعه على كتاب بخطه في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
__________
(988) - أبو منصور الخازن عرفه أبو العلاء لما زار بغداد وأرسل إليه الرسالة التاسعة عشرة من المجموعة التي نشرها مرغوليوث، وله ترجمة في المنتظم 9: 189 وانظر الهفوات النادرة: 69 فقد أورد قصة تدل على غفلة هذا الخازن، والقصة التي أوردها ياقوت جاءت في الكتاب نفسه: 143.(5/2376)
وحدث غرس النعمة أبو الحسن محمد بن الصابىء في «كتاب الهفوات» قال:
كان بدار العلم التي وقفها سابور بن أردشير الوزير خازن يعرف بأبي منصور، واتفق بعد ذلك بسنين كثيرة من وفاة سابور أن آلت مراعاة الدار إلى المرتضى أبي القاسم علي بن الحسين الموسوي نقيب الطالبيين، فرتّب معه آخر يعرف بأبي عبد الله ابن حمد مشرفا عليه، وكان داهية، فصمد لأبي منصور «1» كيدا ومكرا، فصار يتلهى به دائما، فمن ذلك أنه قال له يوما، قد هلكت الكتب وذهب معظمها، فقال له وانزعج، بأي شيء؟ قال: بالبراغيث وعيثهم فيها وعبثهم بها، قال: فما نفعل في ذلك؟ قال: تقصد الأجلّ المرتضى وتطالعه بالحال وتسأله إخراج شيء من دوائهم المعدّ عنده لهم لننشره بين الورق ويؤمن الضرر. فمضى إلى المرتضى وخدمه وقال له بسكون ووقار ومن طريق النصح والاحتياط: يتقدم سيدنا إلى الخازن باخراج شيء من دواء البراغيث فقد أشرفت الكتب على الهلاك بهم لنتدارك أمرهم بتعجيل إخراج الدواء المانع لهم المبعد لضررهم، فقال المرتضى: البراغيث البراغيث، مكررا، لعن الله ابن حمد فأمره كله طنز وهزل، قم أيها الشيخ مصاحبا ولا تسمع لابن حمد نصيحة ولا قولا.
قال المؤلف: هكذا وجدت هذا الخبر، وقد وافق رواية ابن الجوزي في كون ابن حمد خازن الكتب بين السورين وفي مقاربة العصر وخالفه في الكنية، ولا أدري هل هو هذا أو غيره أو قد غلط أحدهما في الكنية، والله أعلم.
ثم وقفت على «المذيل» الذي للسمعاني بخطه على حاشية ملحقة أنّ محمد بن عطاف الموصلي سأل أبا منصور بن حمد الخازن عن مولده فقال سنة ثماني عشرة وأربعمائة، قال: وسأله غيري فقال سنة سبع عشرة وأربعمائة، وهذا يدل على أن هذه الحكاية ليست عنه لأن المرتضى مات سنة ست وثلاثين وأربعمائة فيكون حينئذ قد كان ابن حمد ابن اثنتي عشرة سنة فيستحيل أن تكون الحكاية عنه وعساها عن أبيه، والله عز وجل أعلم بالصواب.(5/2377)
محتويات الجزء الخامس
الموضوع الصفحة
[تتمة تراجم العين]
815- على بن محمد بن عمير النحوي الكناني 1921
816- علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار 1921
817- علي بن محمد النهاوندي 1922
818- علي بن محمد بن الحسن الهروي 1923
819- علي بن محمد بن أبي الحسين الأندلسي 1923
820- علي بن محمد بن العباس، أبو حيان التوحيدي 1923
821- علي بن محمد بن نصر الكاتب 1946
822- علي بن محمد بن حبيب الماوردي 1955
823- علي بن محمد بن محمد الديناري 1957
824- علي بن محمد أبو الحسن الأهوازي 1957
825- علي بن محمد الوزان النحوي 1957
826- علي بن محمد بن السيد البطليوسي 1957
827- علي بن محمد الأخفش النحوي 1958
828- علي بن محمد بن إبراهيم القهندزي 1958
829- علي بن محمد السعيدي البياري 1959
830- علي بن محمد بن علي الحوزي 1959(5/2379)
الموضوع الصفحة
831- علي بن محمد بن أرسلان المنتجب 1959
832- علي بن محمد بن علي العمراني 1961
833- علي بن محمد السخاوي أبو الحسن 1963
834- علي بن محمد بن علي الفصيحي 1964
835- علي بن محمد بن محمد الحلي 1968
836- علي بن محمد، ابن خروف الأندلسي النحوي 1969
837- علي بن معقل أبو الحسن 1970
838- علي بن المغيرة الأثرم أبو الحسن 1970
839- علي بن منجب بن سليمان الصيرفي 1971
840- علي بن منصور بن عبيد الله الخطيبي 1973
841- علي بن منصور الحلبي، ابن القارح 1974
842- علي بن مهدي بن علي الكسروي 1976
843- علي بن نصر الجهضمي 1981
844- علي بن نصر النصراني، ابن الطبيب 1983
845- علي بن نصر بن سليمان البرنيقي 1983
846- علي بن نصر بن سعد، أبو تراب الكاتب 1983
847- علي بن نصر بن محمد الفندروجي 1984
848- علي بن وصيف، خشكنانجة 1986
849- علي بن هبة الله، ابن ماكولا 1986
850- علي بن هارون بن نصر القرميسيني 1991
851- علي بن هارون بن علي، ابن المنجم 1991
852- علي بن هلال الكاتب، ابن البواب 1996
853- علي بن الهيثم، جونقا الكاتب 2003
854- علي بن يحيى بن منصور، ابن المنجم 2008(5/2380)
الموضوع الصفحة
855- علي بن يوسف بن إبراهيم، القاضي الأكرم 2022
856- أبو علي المنطقي 2036
857- علي بن يوسف، ابن البقال الخالع 2048
858- عمارة بن حمزة الكاتب 2054
859- عمر بن إبراهيم بن محمد، أبو البركات العلوي 2062
880- عمر بن بكير 2064
861- عمر بن أحمد بن أبي جرادة، كمال الدين ابن العديم 2068
862- عمر بن ثابت أبو القاسم الثمانيني 2091
863- عمر بن جعفر بن محمد الزعفراني 2092
864- عمر بن الحسين الخطاط غلام ابن حرنقا 2092
865- عمر بن شبة البصري 2093
866- عمر بن عثمان الجنزي 2094
867- عمر بن عثمان بن خطاب التميمي 2096
868- عمر بن محمد بن يوسف القاضي 2096
869- عمر بن محمد النسفي الحافظ 2098
870- عمر بن مطرف الكاتب 2099
871- عمرو بن إسحاق بن مرار الشيباني 2100
872- عمرو بن بحر بن محبوب الجاحظ 2101
873- عمرو بن عثمان، سيبويه 2122
874- عمرو بن مسعدة الكاتب 2129
875- عمرو بن كركرة الأعرابي 2132
876- عنبسة بن معدان الفيل 2132
877- عوانة بن الحكم 2133
878- عوف بن محلم الخزاعي 2137(5/2381)
الموضوع الصفحة
879- عون بن محمد بن الكندي الكاتب 2140
880- عيسى بن إبراهيم الوحاظي 2140
881- عيسى بن عمر الثقفي 2141
882- عيسى بن مردان الكوفي 2143
883- عيسى بن المعلى بن مسلمة الرافقي 2143
884- عيسى بن مينا بن وردان، قالون القارىء 2144
885- عيسى بن يزيد بن دأب الليثي 2144
886- عيينة بن عبد الرحمن المهلبي 2150
[حرف الغين]
887- غانم بن وليد المالقي 2152
[تراجم حرف الفاء]
888- فاطمة بنت الأقرع الكاتبة 2154
888 ب- فاطمة بنت الأقرع (ترجمة ثانية) 2155
889- الفتح بن خاقان بن غرطوج 2157
890- الفتح بن محمد بن عبيد الله، ابن خاقان الأشبيلي 2163
891- الفضل بن إسماعيل، أبو عامر الجرجاني 2166
892- الفضل بن إبراهيم بن عبد الله الكوفي 2171
893- الفضل بن الحباب، أبو خليفة الجمحي 2172
894- الفضل بن خالد، أبو معاذ النحوي 2177
895- الفضل بن صالح العلوي 2177
896- الفضل بن عمر بن منصور، ابن الرائض 2178
897- الفضل بن محمد بن أبي محمد اليزيدي 2178
898- الفضل بن محمد بن علي القصباني 2180(5/2382)
الموضوع الصفحة
[تراجم حرف القاف]
899- قابوس بن وشمكير الديلمي 2181
900- القاسم بن أحمد بن الموفق اللورقي 2188
901- القاسم بن إسماعيل أبو ذكوان 2189
902- قاسم بن أصبغ البياني 2190
903- قاسم بن ثابت السرقسطي 2191
904- القاسم بن الحسين بن محمد الخوارزمي 2191
905- القاسم بن سلام أبو عبيد 2198
906- القاسم بن علي بن محمد، الحريري 2202
907- القاسم بن فيرّه الشاطبي 2216
908- القاسم بن القاسم بن عمر الواسطي 2217
909- القاسم بن محمد بن بشار الأنباري 2228
910- القاسم بن محمد الديمرتي 2229
911- القاسم بن محمد بن رمضان العجلاني 2230
912- القاسم بن محمد بن مباشر الواسطي 2230
913- القاسم بن معن المسعودي 2230
914- قتادة بن دماعة السدوسي. 2233
915- قثم بن طلحة بن علي الزينبي 2234
916- قدامة بن جعفر الكاتب 2235
917- قعنب بن المحرر الباهلي 2236
918- قنبل بن عبد الرحمن المكي 2238
[تراجم حرف الكاف]
919- كامل بن الفتح بن ثابت بن سابور 2239
920- كلاب بن حمزة العقيلي أبو الهيذام 2239(5/2383)
الموضوع الصفحة
921- بنت الكنيري 2243
922- كلثوم بن عمرو العتابي 2243
923- كيسان بن المعرف النحوي 2246
924- الكيس النمري 2248
[تراجم حرف اللام]
925- لقيط بن بكير المحاربي 2250
926- لوط بن مخنف الأزدي 2252
927- الليث بن المظفر 2253
[تراجم حرف الميم]
928- المبارك بن الحسن الشهرزوري 2259
929- المبارك بن سعيد بن الحمامي 2259
930- المبارك بن الفاخر، أبو الكرم النحوي 2260
931- المبارك بن المبارك، أبو البركات الكرخي 2261
932- المبارك بن المبارك بن سعيد بن الدهان 2263
933- المبارك بن محمد، أبو السعادات ابن الأثير 2268
934- مبشر بن فاتك أبو الوفاء 2271
935- مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني 2271
936- مجاهد بن جبر القارىء 2272
937- مجاهد بن عبد الله العامري 2273
938- المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابىء 2274
939- المحسن بن الحسين بن علي كوجك 2278
940- المحسن بن علي بن محمد التنوخي القاضي 2280
941- محمد بن آدم بن كمال الهروي 2293(5/2384)
الموضوع الصفحة
942- محمد بن أبان بن سيد القرطبي 2294
943- محمد بن إبراهيم بن حبيب الفزاري 2294
944- محمد بن إبراهيم العوامي 2295
945- محمد بن إبراهيم بن عمران الجوزي 2295
946- محمد بن إبراهيم بن عبد الله الأديب 2296
947- محمد بن إبراهيم بن الحسين الجرباذقاني 2296
948- محمد بن إبراهيم بن خلف اللخمي 2296
949- محمد بن إبراهيم بن أحمد البيهقي 2297
950- محمد بن إبراهيم بن داود الأردستاني 2297
951- محمد بن أحمد بن عبد الله الهاشمي 2297
952- محمد بن أحمد بن محمد المغربي راوية المتنبي 2300
953- محمد بن أحمد بن إسحاق، أبو الطيب الوشاء 2303
954- محمد بن أحمد بن الحسين بن الأصبغ 2304
955- محمد بن أحمد بن مروان أبو مسهر النحوي 2305
956- محمد بن أحمد المزني 2305
957- محمد بن أحمد بن عبد الحميد الكاتب 2305
958- محمد بن أحمد بن إبراهيم الحكمي 2305
959- محمد بن أحمد بن إبراهيم بن كيسان 2306
960- محمد بن أحمد بن منصور بن الخياط 2309
961- محمد بن أحمد بن علي المهلبي 2310
962- محمد بن أحمد بن محمد، ابن طباطبا الشاعر 2310
963- محمد بن أحمد بن نصر الجيهاني 2317
964- محمد بن أحمد، أبو الندى الغندجاني 2319
965- محمد بن أحمد الأزهر، أبو منصور الأزهري 2321(5/2385)
الموضوع الصفحة
966- محمد بن أحمد بن طالب الأخباري 2323
967- محمد بن أحمد بن أيوب، ابن شنبوذ 2323
968- محمد بن أحمد بن إبراهيم الشنبوذي 2326
969- محمد بن أحمد المعمري 2327
970- محمد بن أحمد بن عبد الله القطان المتوثي 2329
971- محمد بن أحمد بن يونس الفسوي 2330
972- محمد بن أحمد، أبو الريحان البيروني 2330
973- محمد بن أحمد بن عبيد الله، المفجع 2336
974- محمد بن أحمد بن سليمان النوقاتي 2345
975- محمد بن أحمد بن عمر الخلال 2346
976- محمد بن أحمد بن طالب الحلبي 2346
977- محمد بن أحمد بن محمد بن أشرس 2347
978- محمد بن أحمد بن محمد، أبو سعد العميدي 2348
979- محمد بن أحمد بن محمد، غنجار الحافظ 2349
980- محمد بن أحمد بن علي المعمري 2350
981- محمد بن أحمد بن سهل، ابن بشران 2350
982- محمد بن أحمد بن علي الباوردي 2355
983- محمد بن أحمد بن محمد الصفار 2355
984- محمد بن أحمد المعموري البيهقي 2355
985- محمد بن أحمد بن عبد الباقي، ابن الخاضبة 2356
986- محمد بن أحمد بن علي الكركانجي 2358
987- محمد بن أحمد، أبو المظفر الأبيوردي 2360
988- محمد بن أحمد بن طاهر، أبو منصور الخازن 2376(5/2386)
الجزء السادس
[تكملة حرف الميم]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
[989] محمد بن أحمد بن جوامرد الشيرازي
، أبو بكر القطان النحوي: شيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الخشاب ومخرّجه ومؤدّبه وعنه أخذ النحو. قرأ ابن جوامرد على علي بن فضال المجاشعي القيرواني «1» وعلى غيره، وسمع الحديث ورواه، ومات بعد سنة عشر وخمسمائة. قال الشيخ أبو محمد ابن الخشاب فيما قرأته بخطه: كان في أبي علي الحسن بن علي المحوّلي شيخنا سلامة صدر، ولقد كان شيخنا أبو بكر محمد بن جوامرد الشيرازي المعروف بالقطان رحمه الله يولع به وبغيره كثيرا، فكان يقول معرّضا به وبغيره ممن هو أعلى منه منزلة وأرفع ذكرا وأبعد صيتا، فكان من قوله: ما عبّر عن البلادة والجمود بأحسن من قولهم هو ثقة. وله- أعني الشيخ أبا بكر- مع هذا المحولي نوادر وأقاصيص لا أطوّل بذكرها.
[990] محمد بن أحمد بن حمزة بن جيا أبو الفرج:
من أهل الحلّة المزيديّة، يلقّب شرف الكتّاب، كان نحويا لغويا فطنا شاعرا مترسلا، شعره ورسائله مدونة، قدم بغداد فقرأ على النقيب أبي السعادات هبة الله ابن الشجري النحوي وأخذ عنه،
__________
[989] ترجمة ابن جوامرد في إنباه الرواة 3: 52 وبغية الوعاة 1: 22.
[990] ترجمة ابن جيا في الوافي 2: 112.(6/2387)
ثم أخذ بعده عن أبي محمد ابن الخشاب، وسمع الحديث على القاضي أبي جعفر عبد الواحد بن أحمد بن الثقفي، وأصله ومولده من مطيراباذ، وصحب ابن هبيرة الوزير، وله رسائل مدونة عملها أجوبة لرسائل أبي محمد القاسم بن الحريري.
حدثني أبو علي القيلوي قال: أنا رأيته، ومات في سنة تسع وسبعين وخمسمائة وقد نيف على الثمانين.
أنشدني ابن الدبيثي قال، أنشدني أبو الثناء محمود بن عبد الله بن المفرج الحلي قال، أنشدني شرف الكتاب أبو الفرج محمد بن أحمد بن جيا لنفسه:
حتام أجري في ميادين الهوى ... لا سابق أبدا ولا مسبوق
ما هزّني طرب إلى أرض الحمى ... الا تعرّض أجرع وعقيق
شوق بأطراف البلاد مفرّق ... يحوي شتيت الشمل منه فريق
ومدامع كفلت بعارض مزنة ... لمعت لها بين الضلوع بروق
فكأن جفني بالدموع موكّل ... وكأن قلبي للجوى مخلوق
قدم الزمان فصار شوقي عادة ... فليتركنّ دلاله المعشوق
قد كان في الهجران ما يزع الهوى ... لو يستفيق من الغرام مشوق
لكنني آبى لعهدي أن يرى ... بعد الصفاء وورده مطروق
إن عادت الأيام لي بطويلع ... أو ضمني والنازحين طريق
لأنبّهنّ على الغرام بزفرتي ... ولتطربنّ بما أبثّ النوق
حدثني أبو علي القيلوي قال: سمعت شرف الكتاب يحدّث أنه كان يوما في مجلس الوزير عون الدين يحيى بن هبيرة، فجاءه فرّاش من دار الخلافة وحدّثه بمحضري شيئا كان يحب كتمانه من كلّ أحد، قال: واتفق خروج الفراش وقد اجتمع عنده الناس، فشغل بهم عني، وقمت أنا وخرجت ومضيت، فما وصلت باب العامة حتى جاءني من ردّني إلى حضرته، فلما وقفت بين يديه قلت: أحسن الله إلى مولانا الوزير وأدام أيامه، بيت الحماسة، فقال: نعم امض بارك الله فيك كذا الظنّ بمثلك؛ قال: وخرجت من عنده ولم يفهم أحد شيئا مما جرى بيننا، وإنما أردت قول(6/2388)
شاعر الحماسة «1» :
وفتيان صدق لست مطلع بعضهم ... على سرّ بعض غير أني جماعها
ومن شعره:
أما والعيون النجل تصمي نبالها ... ولمع الثنايا كالبروق تخالها
ومنعطف الوادي تأرّج نشره ... وقد زار في جنح الظلام خيالها
وقد كان في الهجران ما يزع الهوى ... ولكن شديد في الطباع انتقالها
ومنها:
أيا ابن الألى جادوا وقد بخل الحيا ... وقادوا المذاكي والدماء نعالها
ذد الدهر عنّي من رضاك بعزمة ... معوّدة ألا يفلّ رعالها
ووجدت بخط بعض بني معيّة العلويين الحسنيين: أنشدني الشيخ أبو الفتح ابن جيا الكاتب لنفسه:
قل لحادي عشر البروج أبي «2» العا ... شر منها ربّ القرآن «3» الثاني
يا ابن شكران ضلة لزمان ... صرت فيه تعدّ في الأعيان
ليس طبّي ذمّ الزمان ولكن ... أنت أغريتني بذمّ الزمان
ومن كلامه في جواب رسالة لابن الحريري كتبها إلى سديد الدولة ابن الأنباري يشكره: سيدنا الشيخ الإمام في توالي مبارّه والقصور مني في تأدية حقّه وإيفائه كمن يقرض غريما مع عسرته، ويتكثر بمن أفرده الزمان عن أهله وأسرته، فهلّا اقتصر بي من دينه على ما تقادم عهده، ولم يشفعه بطول أضعف قوى شكري وكان مستحكما عقده «4» :
أنت امرؤ أوليتني «5» مننا ... أوهت قوى شكري فقد ضعفا(6/2389)
فاليك بعد اليوم معذرتي ... لاقتك «1» بالتصريح منكشفا
لا تسدينّ «2» إليّ عارفة ... حتى أقوم بشكر ما سلفا
فأما ما يعزوه إليّ من البراعة وحسن الصناعة، ويقرّره من الإحسان كان الطيّ به أولى من الإذاعة، فتلك حال إن ثبت فيها الدعاوي، واتفق على صحة نقلها المخالف والموالي، فإنما جريت إليها بجياد هنّ التوالي لسوابقه، الصوادي إلى مناهل حقائقه، وأين الرذايا بعد ذلك من السابقات، والمقصّرة من اللاحقات، والمقرفة من كريمات المناسك، والمكدية مطالبها من نجيحات المكاسب:
سبقت إلى الآداب أبناء دهرنا ... فبؤت بعاديّ على الدهر أقدم
وليست كما أبقت ضبيعة أضجم ... وليست كما سادت قبائل جرهم
ولكنّ طودا لم يحلحل رسيّه ... وفارعة قعساء لم تتسنم
إذا ما بناء شاده الفضل والتقى ... تهدّمت الدنيا ولم يتهدّم
فالله تعالى يحرس عليه ما خوّله من هذه الخصائص النفيسة والمنح الشريفة، ولا تعدم القلوب الراحة بمحاضرته، كما لم يخله من النصر إذا أشرع رماح الجدل يوم مناظرته، بمنه وجوده؛ فأما اعتذاره عن إنفاذ ذلك التأليف، وانكاره للفراغ منه بعد التعريف، فما يخفى ما وراء ذلك من المغالطة، وما يقصده في كلّ وقت من قطع حبال المباسطة، ولولا أن المعاتبة إذا حقّت قلما يسلم معها وداد، ويجود في مطاويها من الصفاء عهاد:
لأرسلتها مقطوعة العقل تغتدي ... شوارد قد بالغن في الجولان
قوارص تبقى ما رأى الشمس ناظر ... وما سمعت من سامع أذنان
لكن المقصود ما عاد باجمام خاطره وصفاء مشاربه، والا أكون عليه عونا للدهر ونوائبه، لا سيّما وقد رأيت الصبر على فعاله، أيسر من الصبر على ترك وصاله، فأما الملحة فانني وجدتها عند الوصول كما سماها غريبة في لفظها ومعناها، عارية من لبسة التكلف، بعيدة عن التصنع، تقتاد القلوب بأزمتها. وما كان أولاه لو قرنها إلى(6/2390)
ذلك العقد المكنون والدر المصون، فكانت النعمى تكمل والمسرة تشمل، وها أنا أرتقب لذلك السمط أن تؤلف فرائده، وتجمع بدائده، وأنتظر لوصوله يوما تقلّ همومه وتكثر حواسده، فما ذاك بمتعذر عليه متى رامه، ولا بمعوزه ان سرح سوام الفكر فيه وشامه. ولرأيه في ذلك ومعرفته وانجاز الوعد جريا على كريم عادته مزيد من علاء لا يطرأ الأفول على أهلته، إن شاء الله تعالى وحده.
[991] محمد بن أحمد بن سليمان الزهري أبو عبد الله الأندلسي
: رجل فاضل وأديب كامل متقن، سمع الحديث الكثير ببغداد من ابن كليب وابن بوش وغيره فأكثر، وكتب بخطه الكثير وصنف، ولقيته ببغداد، وكان لي صديقا معاشرا حسن الصحبة عذريّ القلب جيّد الشعر، أنشدني كثيرا من شعره لم أثبته، ثم فارق بغداد وحصل في بلاد الجبال واستوطن بروجرد وتأهّل بها، وولد له، وصنف بها تصانيف في الأدب كثيرة منها «شرح الايضاح» .
[992] محمد بن أحمد بن محمد بن حمزة بن بريك
الأنصاري الدسكري المعروف بابن البرفطي، والدسكرة قرية من قرى نهر الملك سكن بها أجداده، وقرف وغلظ اسمه بالنسبة إلى برفطا، وهي أيضا قرية من قرى نهر الملك فغلب عليه هذا الاسم.
ولد ببغداد في شهر رمضان من شهور سنة ست وستين وخمسمائة. ومات رحمه الله في أول رجب سنة خمس وعشرين وستمائة، وخلّف خمسة وعشرين قطعة بخطّ ابن البواب لم تجتمع في زماننا عند كاتب، وكان يغالي في شرائها؛ وله شعر من جملته:
__________
[991] ترجمة ابن سليمان الزهري في الوافي 2: 104 وبغية الوعاة 1: 25 والصفدي لا ينقل هنا عن ياقوت، وقد ذكر أن الزهري ولد بمالقة ثم هاجر وسمع الحديث بمصر ودخل الشام والجزيرة ثم الى أصبهان وبلاد الجبل وسكن الكرج، ومن كتبه البيان والتبيين في أنساب المحدثين، والبيان فيما أبهم من الأسماء في القرآن، وأقسام البلاغة وأحكام الفصاحة، وهو شارح المقامات الحريرية واليميني للعتبي.
[992] لم يذكر ياقوت «برفطا» في معجم البلدان.(6/2391)
أبدا أميل إليك ميل تذلل ... وتصدّ صدّ تجنّب ودلال
حتف المتّيم منك يوم قطيعة ... وحياته في الحبّ يوم وصال
قد كدت أغرق في بحار مدامعي ... لولا التمسّك فيك بالآمال
عذبت مراشفه وصال بقدّه ... فحمى جنى المعسول بالعسال
عهدي وظلّ الوصل غير مقلّص ... عنا وعمر المطل غير مطال
وكأنما لبس الزمان سناء بد ... ر الدين ذي الإنعام والافضال
خضر الجناب فإن دجت في أزمة ... سود الخطوب فأبيض الافعال
منح ابتداء رافعا خبر الندى ... وكفى الوجوه مؤونة التسآل
كثرت صنائعه فقلّ نظيره ... وكذا البدور قليلة الأمثال
وحوت أزمة دجلة أعماله ... وكذا الجنان تحاز بالأعمال
حاط العلا فرماحه أقلامه ... حيث المداد لها رؤوس نصال
في ليل ذاك النّقس تطرقنا المنى ... فكأنه في الهدي طيف خيال
يحكي بياض الطرس تحت سواده ... أسرار صبح في صدور ليال
وابن البرفطي هذا أوحد عصرنا في حسن الخط والمشار إليه في التحرير، قد تخرج به خلق كثير، وسافر إلى دمشق وكتب عليه كتابها، وأقام بحلب مدة مديدة ثم عاد إلى بغداد، وهو صديقنا، أنشدني لنفسه أشعارا منها ما أثبتّه، وحفزه السفر في يوم الخميس ثامن المحرم سنة ثلاث عشرة وستمائة إلى تستر صحبة الأمير ابن أبي محمد الحسن وأبي عبد الله الحسين ابني الأمير الملك المعظم أبي الحسن علي بن سيدنا ومولانا الامام الناصر لدين الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين، لما ولا هما أرض خوزستان بعد موت أبيهما أبي الحسن علي تقدم إلى ابن البرفطي بالخروج في خدمتهما والكون في جملتهما ليكتبا عليه ويصلحا خطهما به ويكون معلما لهما، وهو دمث الأخلاق حسن العشرة لين الكلام، قصير من الرجال فيه دهاء. وكان في أول أمره معلّما فلما جاد خطه صار محرّرا، وكان يبالغ في أثمان خطوط ابن البواب، فحصل له منها ما لم يحصل لأحد غيره، وجدت عنده أكثر من عشرين قطعة بخطه(6/2392)
أرانيها. وحدثني قال: بلغني عن رجل معلّم في بعض محالّ بغداد أن عنده جزازا كثيرا ورثه عن أبيه، فخيل لي أنه لا يخلو من شيء من الخطوط المنسوبة، فمضيت إليه وقلت له: أحبّ أن تريني ما خلّف لك والدك عسى أن أشتري منه شيئا، فصعد بي إلى غرفة وجلست أفتّش حتى وقع بيدي ورقة بخطّ ابن البواب قلم الرقاع أرانيها أيضا، فضممت إليها شيئا آخر لا حاجة بي إليه وقلت له: بكم هذا؟ فقال لي: يا سيدي ما صلح لك في هذا كله شيء آخر؟ فقلت له: أنا الساعة مستعجل ولعلي أعود إليك مرة أخرى، فقال: هذا الذي اخترته لا قيمة له فخذه هبة مني، فقلت: لا أفعل وأعطيته قطعة قراضة مقدارها نصف دانق فاستكثرها وقال: يا سيدي ما أخذت شيئا يساوي هذا المقدار فخذ شيئا آخر، فقلت: لا حاجة لي في شيء آخر، ثم نزلت من غرفته فاستحييت وقلت: هذا مخادعة ولا شكّ أنه قد باعني ما جهله، وو الله لا جعلت حقّ خط ابن البواب أن يشترى بالمخادعة، فعدت إليه وقلت له: يا أخي هذه الورقة بخط ابن البواب، فقال: وإذا كانت بخط ابن البواب أيّ شيء أصنع؟
قلت له: قيمتها ثلاثة دنانير إمامية. فقال: يا سيدي لا تسخر بي ولعلك قد عزمت على ردها فخذها وحطّ الذهب. فقلت: بل أحضر ميزانا للذهب، فأحضرها فوزنت له ثلاثة دنانير وقلت له: بعتني هذا بهذا؟ فقال: بعتك، فأخذتها وانصرفت.
[993] محمد بن ادريس الشافعي الإمام:
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن
__________
[993] ترجمة الشافعي في حلية الأولياء 9: 63 والفهرست: 263 والانتقاء لابن عبد البر: 65 وتاريخ بغداد 2: 56 وطبقات الشيرازي: 48 وترتيب المدارك 3: 174 وصفة الصفوة 2: 95 وابن خلكان 4: 163 والمحمدون: 137 وتذكرة الحفاظ: 361 وسير الذهبي 10: 5 والوافي 2: 171 ومرآة الجنان 2: 13 والجزء الأول من طبقات السبكي والبداية والنهاية 10: 251 والديباج المذهب 2: 156 وطبقات ابن الجزري 2: 95 وتهذيب التهذيب 9: 25 والنجوم الزاهرة 2: 176 وطبقات الحفاظ: 152 وطبقات ابن هداية الله: 11 والشذرات 2: 9 وهناك كتب ألفت في مناقبه منها مناقب الشافعي للبيهقي، ومناقب الشافعي للرازي، وتوالي التأسيس بمعالي ابن ادريس، وأدب الشافعي لأبن أبي حاتم ومن العسير حصر مادة الأخبار عنه، وانظر مزيدا من التخريج في حاشية سير الذهبي.(6/2393)
عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد. وهاشم هذا الذي في نسب الشافعي ليس هو هاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم ذاك هاشم بن عبد مناف فهاشم هذا هو ابن أخي ذاك.
ولد فيما حكاه الشافعي عن نفسه أنه قال: ولدت بغزة سنة خمسين ومائة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين، قال: وكانت أمي من الأزد، وغزة من بيت المقدس على ثلاث مراحل.
وفي رواية أخرى عن الشافعي أنه قال: ولدت بعسقلان، وعسقلان من غزة على ثلاثة فراسخ، وكلاهما من فلسطين. وكان مولد الشافعي يوم مات أبو حنيفة، ولا اختلاف في أن وفاة أبي حنيفة كانت سنة خمسين ومائة، ومات الشافعي رحمة الله عليه في رجب سنة أربع ومائتين وهو ابن أربع وخمسين سنة، وكان قدومه مصر سنة ثمان وتسعين ومائة. وقد روى الزعفراني عن أبي عثمان ابن الشافعي أن الشافعي مات وهو ابن ثمان وخمسين سنة.
وفي رواية ان الشافعي قال: ولدت باليمن فخافت أمي عليّ الضيعة فحملتني إلى مكة وأنا يومئذ ابن عشر أو شبيه بذلك، وتأول بعضهم قوله باليمن بأرض أهلها وسكانها قبائل اليمن. وبلاد غزة وعسقلان كلها من قبائل اليمن وبطونها. قلت:
وهذا عندي تأويل حسن إن صحّت الرواية وإلا فلا شك أنه ولد بغزة وانتقل إلى عسقلان إلى أن ترعرع.
وأما طلبه للعلم فحدّث الزبير بن بكار عن عمه مصعب بن عبد الله بن الزبير أنه خرج إلى اليمن فلقي محمد بن إدريس الشافعي وهو مستحصف «1» في طلب الشعر والنحو والغريب، قال فقلت له: إلى كم هذا؟ لو طلبت الحديث والفقه كان أمثل بك، وانصرفت به معي إلى المدينة فذهبت به إلى مالك بن أنس وأوصيته به؛ قال: وكان فتى حلوا، قال: فما ترك عند مالك بن أنس إلا الأقل ولا عند شيخ من مشايخ المدينة إلا جمعه، ثم شخص إلى العراق فانقطع إلى محمد بن الحسن فحمل عنه، ثم جاء(6/2394)
إلى المدينة بعد سنين؛ قال: فخرجت به إلى مكة فكلمت له ابن داود وعرّفته حاله الذي صار إليه، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
حدث الآبري «1» وهو أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم بن عاصم الآبري السّجزي قال: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن محمد بن المولد الرقي يحكي عن زكريا بن يحيى البصري ويحيى بن زكريا بن حيويه النيسابوري، كلاهما عن الربيع بن سليمان، وبعضهم يزيد على بعض في الحكاية، قال الربيع، سمعت الشافعي يقول:
كنت أنا في الكتّاب أسمع المعلم يلقّن الصبيّ الآية فأحفظها أنا، ولقد كان [الصبيان] يكتبون أمليتهم «2» فإلى أن يفرغ المعلم من الإملاء عليهم، قد حفظت جميع ما أملى، فقال لي ذات يوم: ما يحلّ لي أن آخذ منك شيئا. قال: ثم لما خرجت من الكتّاب كنت أتلقط الخزف والرقوق «3» وكرب النخل وأكتاف الجمال أكتب فيها الحديث وأجيء إلى الدواوين فأستوهب منها الظهور فأكتب فيها حتى كانت لأمي حباب فملأتها أكتافا وخزفا وكربا مملوءة حديثا. ثم إني خرجت عن مكة «4» فلزمت هذيلا في البادية أتعلم كلامها وآخذ طبعها وكانت أفصح العرب. قال: فبقيت فيهم سبع عشرة سنة أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم، فلما رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فمرّ بي رجل من الزبيريين «5» من بني عمي فقال لي: يا أبا عبد الله عزّ عليّ ألا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه فتكون قد سدت أهل زمانك، فقلت: فمن بقي ممن يقصد «6» ؟ فقال لي:
مالك بن أنس سيد المسلمين يومئذ، قال: فوقع [ذلك] في قلبي فعمدت إلى «الموطأ» فاستعرته من رجل بمكة فحفظته في تسع ليال ظاهرا، قال: ثم دخلت إلى والي مكة وأخذت كتابه إلى والي المدينة وإلى مالك بن أنس، قال: فقدمت المدينة فأبلغت الكتاب إلى الوالي، فلما أن قرأ قال: يا فتى إن مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافيا راجلا أهون عليّ من المشي إلى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذلّ حتى أقف على بابه، فقلت: أصلح الله الأمير إن رأى الأمير يوجه إليه ليحضر،(6/2395)
قال: هيهات، ليت أني إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجتنا؛ قال: فواعدته العصر، وركبنا جميعا فوالله لكان كما قال، لقد أصابنا من تراب العقيق، قال: فتقدم رجل فقرع الباب فخرجت إلينا جارية سوداء فقال لها الأمير: قولي لمولاك إني بالباب، قال: فدخلت فأبطأت ثم خرجت فقالت: إن مولاي يقرئك السلام ويقول: إن كانت مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف، فقال لها: قولي له إن معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة، قال: فدخلت وخرجت وفي يدها كرسي فوضعته، ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة والوقار، وهو شيخ طويل مسنون اللحية، فجلس وهو متطلّس، فرفع إليه الوالي الكتاب فبلغ إلى هذا: «إن هذا رجل من أمره وحاله، فتحدثه وتفعل وتصنع» . فرمى بالكتاب من يده ثم قال: سبحان الله، وصار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل «1» ؟ قال: فرأيت الوالي وقد تهيّبه أن يكلمه، فتقدمت إليه وقلت: أصلحك الله، إني رجل مطّلبيّ ومن حالي وقصتي، فلما أن سمع كلامي نظر إليّ ساعة، وكانت لمالك فراسة فقال لي: ما اسمك؟
قلت: محمد، فقال لي: يا محمد اتق الله واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن من الشأن، ثم قال: نعم وكرامة، إذا كان غدا تجيء ويجيء من يقرأ لك، قال فقلت: أنا أقوم بالقراءة، قال: فغدوت عليه وابتدأت أن أقرأه ظاهرا والكتاب في يدي، فكلّما تهيبت مالكا وأردت أن أقطع أعجبه حسن قراءتي وإعرابي فيقول: يا فتى زد، حتى قرأته في أيام يسيرة، ثم أقمت بالمدينة حتى توفي مالك بن أنس، ثم خرجت إلى اليمن فارتفع لي بها الشأن، وكان بها وال من قبل الرشيد وكان ظلوما غشوما وكنت ربما آخذ على يديه وأمنعه من الظلم. قال: وكان باليمن تسعة من العلوية قد تحركوا [فكتب الوالي إلى الخليفة يقول إن ناسا من العلوية قد تحركوا] «2»
وإنى أخاف أن يخرجوا وإن هاهنا رجلا من ولد شافع المطلبيّ لا أمر لي معه ولا نهي. قال: فكتب إليه هارون أن احمل هؤلاء واحمل الشافعي معهم فقرنت معهم؛ قال: فلما قدمنا على هارون الرشيد أدخلنا عليه وعنده محمد بن الحسن، قال: فدعا(6/2396)
هارون بالنطع والسيف وضرب رقاب العلوية ثم التفت محمد بن الحسن فقال: يا أمير المؤمنين هذا المطلبي لا يغلبنك بفصاحته فإنه رجل لسن، فقلت: مهلا يا أمير المؤمنين فإنك الداعي وأنا المدعوّ، وأنت القادر على ما تريد مني ولست القادر على ما أريده منك، يا أمير المؤمنين ما تقول في رجلين أحدهما يراني أخاه والآخر يراني عبده أيهما أحبّ إليّ؟ قال: الذي يراك أخاه، قال قلت: فذاك أنت يا أمير المؤمنين، قال فقال لي: كيف ذاك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنكم ولد العباس وهم ولد علي، ونحن بنو المطلب، فأنتم ولد العباس ترونا اخوتكم وهم يرونا عبيدهم، قال: فسرّي ما كان به، فاستوى جالسا فقال «1» : يا ابن ادريس كيف علمك بالقرآن؟
قلت: عن أيّ علومه تسألني؟ عن حفظه فقد حفظته ووعيته بين جنبي وعرفت وقفه وابتداءه وناسخه ومنسوخه وليليّه ونهاريّه ووحشيّه وإنسيّه وما خوطب به العام يراد به الخاص وما خوطب به الخاص يراد به العام؛ فقال لي: والله يا ابن ادريس لقد ادّعيت علما فكيف علمك بالنجوم؟ فقلت: إني لأعرف منها البريّ من البحريّ والسهليّ والجبليّ والفيلق والمصبح وما تجب معرفته، قال: فكيف علمك بأنساب العرب؟ قال فقلت: إني لأعرف أنساب اللئام وأنساب الكرام ونسبي ونسب أمير المؤمنين، قال: لقد ادّعيت علما، فهل من موعظة تعظ بها أمير المؤمنين؟ قال:
فذكرت موعظة لطاوس اليماني «2» فوعظته بها فبكى وأمر لي بخمسين ألفا. وحملت على فرس، وركبت من بين يديه وخرجت، فما وصلت الباب حتى فرقت الخمسين ألفا على حجّاب أمير المؤمنين وبوابيه، قال: فلحقني هرثمة وكان صاحب هارون فقال: اقبل هذه مني، قال فقلت له: إني لا آخذ العطية ممّن هو دوني وإنما آخذها ممن هو فوقي، قال: فوجد في نفسه، قال: وخرجت كما أنا حتى جئت منزلي، فوجهت إلى كاتب محمد بن الحسن بمائة دينار وقلت: اجمع الوراقين الليلة على كتب محمد بن الحسن وانسخها لي ووجه بها إليّ، قال: فكتبت لي ووجّه بها إليّ.
قال: اجتمعنا أنا ومحمد بن الحسن على باب هارون، وكان يجلس فيه القضاة والأشراف ووجوه الناس إلى أن يؤذن لهم، قال: واجتمعنا في ذلك المكان، قال:(6/2397)
وفيه جماعة من بني هاشم وقريش والأنصار والخلق يعظمون محمد بن الحسن لقربه من أمير المؤمنين وتمكّنه، قال: فاندفع يعرّض بي ويذمّ أهل المدينة، فقال: من أهل المدينة؟ وأيّ شيء يحسن أهل المدينة؟ والله لقد وضعت كتابا على أهل المدينة كلها لا يخالفني فيه أحد، ولو علمت أن أحدا يخالفني في كتابي هذا تبلغني إليه آباط الابل لصرت حتى أردّ عليه، قال الشافعي: فقلت إن أنا سكتّ نكّست رؤوس من هاهنا من قريش، وإن أنا رددت عليه أسخطت عليّ السلطان، ثم إني استخرت الله في الردّ عليه، فتقدمت إليه فقلت: أصلحك الله، طعنك على أهل المدينة وذمك لأهل المدينة إن كنت أردت رجلا واحدا وهو مالك بن أنس فألّا ذكرت ذلك الرجل بعينه ولم تطعن على أهل حرم الله وحرم رسوله، وكلّهم على خلاف ما ادّعيته. وأما كتابك الذي ذكرت أنك وضعته على أهل المدينة فكتابك من بعد بسم الله الرحمن الرحيم خطأ إلى آخره: قلت في شهادة القابلة كذا وكذا وهو خطأ، وفي مسألة الحامل كذا وكذا وهو خطأ، وقلت في مسألة كذا وكذا كذا وهو خطأ، فاصفرّ محمد بن الحسن ولم يحر جوابا. وكتب أصحاب الأخبار إلى الرشيد بما كان، فضحك وقال:
ماذا ننكر لرجل من ولد المطّلب أن يقطع مثل محمد بن الحسن. قال فعارضني رجل من أهل المجلس من أصحابه فقال: ما تقول في رجل دخل منزل رجل فرأى بطة ففقأ عينها ماذا يجب عليه؟ قال قلت: ينظر إلى قيمتها وهي صحيحة وقيمتها وقد ذهبت عينها فيقوّم ما بين القيمتين. ولكن ما تقول أنت وصاحبك في رجل محرم نظر إلى فرج امرأة فأنزل؟ قال: ولم يكن لمحمد حذاقة بالمناسك، قال فصاح به محمد وقال له: ألم أقل لك لا تسأله؟ قال: ثم أدخلنا على الرشيد، فلما أن استوينا بين يديه قال لي يا أبا عبد الله تسأل أو اسأل؟ قال قلت: ذاك إليك، قال: فأخبرني عن صلاة الخوف أواجبة هي «1» ؟ قلت: نعم، فقال: ولم؟ فقلت: لقول الله عز وجل:
إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
(النساء: 102) فدل أنها واجبة. فقال: وما تنكر من قائل قال لك إنما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وهو فيهم، فلما زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت تلك الصلاة، فقلت: وكذلك قال الله عز وجل لنبيه(6/2398)
خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
(التوبة: 103) فلما أن زال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم زالت عنهم الصدقة. فقال: لا، قلت: وما الفرق بينهما والنبي صلى الله عليه وسلم هو المأمور بهما جميعا؟ قال: فسكت ثم قال: يا أهل المدينة ما أجرأكم على كتاب الله، فقلت:
الأجرأ على كتاب الله من خالفه، قال فقد قال الله عز وجل وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ
(الطلاق: 2) فقلتم أنتم: نقضي باليمين مع الشاهد، فقلت: لكنا نقول بما قال الله ونقضي بما قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنك أنت إذا خالفت قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خالفت كتاب الله. قال: وأين لكم ردّ اليمين؟ قال قلت: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأين؟ قلت: قصة حويصة ومحيصة وعبد الرحمن حين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصة القتيل تحلفون وتستحقون دم صاحبكم، قالوا: لم نشهد ولم نعاين؛ قال: فيحلف لكم يهود، فلما أن نكلوا ردّ اليمين إلى اليهود. قال فقال لي: إنما كان ذلك استفهاما من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقلت: يا أمير المؤمنين هذا بحضرتك يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفهم من اليهود، فقال الرشيد. ثكلتك أمك يا ابن الحسن، رسول الله صلى الله عليه وسلم يستفهم من اليهود؟ نطع وسيف، قال فلما رأيت الجدّ من أمير المؤمنين قلت: مهلا يا أمير المؤمنين فإن الخصمين إذا اجتمعا تكلّم كلّ واحد منهما بما لا يعتقده ليقطع به صاحبه وما أرى أن محمدا يرى نقصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فسريت عنه، قال: ثم ركبنا جميعا وخرجنا من الدار، قال فقال لي: يا أبا عبد الله فعلتها؟ قال: فقلت: فكيف رأيتها بعد ذلك؟
وللشافعي رضي الله عنه مع محمد بن الحسن مناظرات في عدة مواطن اقتصرنا على هذه قصدا للاختصار.
(مناظرة إسحاق بن راهويه «1» مع الشافعي رضي الله عنه:) نقلت من «تاريخ نيسابور» للحاكم ومن «كتاب مناقب الشافعي» للآبري وجمعت بين الخبرين قصدا للاختصار مع نسبة كلّ قول إلى قائله «2» : حدث الآبري(6/2399)
باسناده، قال إسحاق بن راهويه: كنا عند سفيان بن عيينة نكتب أحاديث عمرو بن دينار، فجاءني أحمد بن حنبل فقال لي: يا أبا يعقوب قم حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله، قال: فقمت فأتى بي فناء زمزم، فإذا هناك رجل عليه ثياب بيض، تعلو وجهه السمرة، حسن السمت حسن العقل، وأجلسني إلى جانبه، فقال له: يا أبا عبد الله هذا إسحاق بن راهويه الحنظلي فرحّب بي وحيّاني، فذاكرته وذاكرني فانفجر لي منه علم وأعجبه حفظي، قال: فلما أن طال مجلسنا قلت له: يا أبا عبد الله قم بنا إلى الرجل، قال: هذا هو الرجل، فقلت له: يا سبحان الله أقمنا من عند رجل يقول «حدثنا الزهري» فما توهمت إلا أن تأتي بنا إلى رجل مثل الزهري أو قريبا منه، فأتيت بنا إلى هذا الشاب (أو هذا الحدث) «1» . فقال لي: يا أبا يعقوب اقتبس من الرجل فانه ما رأت عيناي مثله. قال الآبري، قال إسحاق: فسألته عن سكنى بيوت مكة (أراد الكرى) فقال جائز. فقلت: أي يرحمك الله، وجعلت أذكر له الحديث عن عائشة وعبد الرحمن وعمر وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن كره كرى بيوت مكة، وهو ساكت يسمع، وأنا أسرد عليه، فلما فرغت سكت ساعة وقال: أي يرحمك الله، أما علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار، قال: فوالله ما فهمت عنه ما أراد بها ولا أرى أن أحدا فهمه. (قال الحاكم) فقال إسحاق: أتأذن لي في الكلام؟ فقال: نعم فقلت: حدثنا يزيد بن هارون عن هشام عن الحسن أنه لم يكن يرى ذلك، وأخبرنا أبو نعيم وغيره عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنه لن يكن يرى ذلك. (قال الحاكم) ولم يكن الشافعي عرف إسحاق فقال الشافعي لبعض من عرفه: من هذا؟ فقال: هذا إسحاق بن إبراهيم بن الحنظلي بن راهويه الخراساني، فقال له الشافعي: أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم؟ قال إسحاق: هكذا يزعمون، قال الشافعي: ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك فكنت آمر بعرك أذنيه.
وقال الحاكم في خبر آخر: قال له الشافعي لو قلت قولك احتجت إلى أن أسلسل، أنا أقول لك «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» وأنت تقول «عطاء وطاوس ومنصور(6/2400)
وإبراهيم والحسن وهؤلاء لا يرون ذلك» بل [ليس] لاحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة.
قال إسحاق لبعض من معه من المراوزة بلسانهم «مردك لا كمالانيست» «1» قرية عندهم بمرو يدّعون العلم وليس لهم علم واسع.
وقال الابري قال إسحاق لبعض من معه: الرجل مالكاني، ومالكان قرية من قرى مرو أهلها فيهم سلامة.
قال الحاكم في خبره، فلما سمع الشافعي تراطنه علم أنه قد نسبه إلى شيء فقال: تناظر؟ وكان إسحاق جريئا فقال: ما جئت إلا للمناظرة، فقال له الشافعي:
قال الله عز وجل لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ
الآية (الحشر: 8) نسب الدار إلى المالكين أو إلى غير المالكين؟ قال إسحاق: إلى المالكين، قال الشافعي: فقوله عز وجل أصدق الأقاويل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، أنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم الدار إلى مالك أو إلى غير مالك؟ قال إسحاق: إلى مالك، فقال الشافعي: وقد اشترى عمر بن الخطاب دار الحجّامين فأسكنها، وذكر له جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتروا دور مكة وجماعة باعوها، وقال إسحاق له: قال الله عز وجل سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ
(الحج: 25) فقال الشافعي: اقرأ أول الآية، قال وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ
(الحج: 25) قال الابري، قال الشافعي:
والعكوف يكون في المسجد، ألا ترى إلى قوله لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ
(البقرة: 125) والعاكفون يكونون في المساجد، ألا ترى إلى قوله جل وعز وأنتم عاكفون في المساجد فدل قوله عز وجل سواء العاكف فيه والباد في المسجد خاص، فأما من ملك شيئا فله أن يكري وأن يبيع. (قال الحاكم) وقال الشافعي: ولو كان كما تزعم لكان لا يجوز أن تنشد فيها ضالة، ولا ينحر فيها البدن، ولا تنثر فيه الأرواث، ولكن هذا في المسجد خاصة. قال: فسكت إسحاق ولم يتكلم.
وفي خبر الآبري: فلما تدبرت ما قال من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل ترك لنا عقيل من رباع أو دار علمت أنه قد فهم ما ذهب عنا؛ قال إسحاق: ولو كنت قد(6/2401)
أدركني هذا الفهم وأنا بحضرته لعرّفته ذاك، ثم نظرنا في كتبه فوجدنا الرجل من علماء هذه الأمة.
قال الآبري: وقرأت في بعض ما حكي عن أبي الحسن أنه كان يأخذ بلحيته في يده ويقول: واحيائي من محمد بن إدريس الشافعي، يعني في هذه المسألة.
ومن كتاب الحاكم: سمعت أبا بكر محمد بن علي بن إسماعيل الفقيه الأديب الشاشي أبا بكر القفال إمام عصره بما وراء النهر للشافعيين يقول: دخلت على أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة أول ما قدمت نيسابور، وتكلمت بين يديه وأنا شاب حدث السن، فقال لي: من أين أنت؟ فقلت: من أهل الشاش، قال لي: إلى من اختلفت؟ قلت: إلى أبي الليث، قال: وأبو الليث هذا أي مذهب يعتقد؟ قلت:
حنبلي، فقال: يا بني قل شافعي وهل كان أحمد بن حنبل إلا غلاما من غلمان الشافعي؟ قال: ومات أبو بكر القفال بالشاش في ذي الحجة سنة خمس وستين وثلاثمائة.
ومن كتاب الآبري: حدثني محمد بن عبد الله الرازي، حدثنا الحسن بن حبيب الدمشقي عن محمود المصري، وكان من أفصح الناس، قال: سمعت ابن هشام (قال محمود: وما رأيت بعيني ممن فهمت عنه مثل ابن هشام) قال محمود:
ورأيت الشافعيّ وأنا صغير، قال محمود، وسمعت ابن هشام يقول «1» : جالست الشافعيّ زمانا فما سمعته تكلم بكلمة إذا اعتبرها المعتبر لا يجد كلمة في العربية أحسن منها. قال «2» وسمعت ابن هشام يقول: الشافعي كلامه لغة يحتجّ بها.
وحدثت عن الحسن بن محمد الزعفراني قال: كان قوم من أهل العربية يختلفون إلى مجلس الشافعي معنا ويجلسون ناحية، قال فقلت لرجل من رؤسائهم:
إنكم لا تتعاطون العلم فلم تختلفون معنا؟ قالوا: نسمع لغة الشافعي؛ قال:
وسمعت أبا علي الحسين بن أحمد البيهقي الفقيه ببغداد قال: سمعت حسان بن محمد يحكي عن الأصمعي انه قال «3» : صححت أشعار هذيل على فتى من قريش(6/2402)
يقال له محمد بن إدريس الشافعي. قال «1» : وحكي لنا عن مصعب الزبيري قال:
كان أبي والشافعي يتناشدان، فأتى الشافعي على شعر هذيل حفظا وقال: لا تعلم بهذا أحدا من أهل الحديث فانهم لا يحتملون هذا.
قال الشافعي رضي الله عنه، قال: ما رأيت أحدا أعلم بهذا الشأن مني وقد كنت أحبّ أن أرى الخليل بن أحمد.
وحدث ابن خزيمة قال، سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: كان الشافعي إذا أخذ في العربية قلت: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الشعر وإنشاده قلت: هو بهذا أعلم، وإذا تكلم في الفقه قلت: هو بهذا أعلم.
وتحدث ابن عيينه «2» بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أقرّوا الطير في مكناتها، قال: وكان الشافعي إلى جنب ابن عيينة، فالتفت إليه سفيان فقال: يا أبا عبد الله ما معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم أقروا الطير على مكناتها، فقال الشافعي: ان علم العرب كان في زجر الطير والخط والاعتياف، كان أحدهم إذا غدا من منزله يريد أمرا نظر أول طير يراه فان سنح عن يساره فاجتاز عن يمينه قال هذا طير الأيامن فمضى في حاجته ورأى أنه يستنجحها، وإن سنح عن يمينه فمر عن يساره قال هذا طير الأشائم فرجع. وقال:
هذه حالة مشئومة، فيشبه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أقروا الطير على مكناتها أي لا تهيجوها فان تهييجها وما تعملون به من الطيرة لا يصنع شيئا وإنما يصنع فيما توجهون فيه قضاء الله عز وجل. قال وكان سفيان يفسره بعد ذلك على ما قال الشافعي.
وحدث الابري حدثني أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الرقي إملاء، قال حدثنا عبد الواحد بن سعيد عن صالح بن أحمد قال: جاء الشافعي يوما إلى أبي يعوده، وكان عليلا، فوثب أبي إليه فقبّل ما بين عينيه ثم أجلسه في مكانه، وجلس بين يديه، قال: فجعل يسائله ساعة، فلما وثب الشافعي ليركب قام أبي فأخذ بركابه ومشى معه، فبلغ يحيى بن معين، فوجّه إلى أبي يا أبا عبد الله يا سبحان الله اضطرّك الأمر إلى ان تمشي إلى جانب بغلة الشافعي؟! فقال له أبي: وأنت يا أبا زكريا لو مشيت من(6/2403)
الجانب الآخر لانتفعت به. قال ثم قال أبي: من أراد الفقه فليشمّ ذنب هذه البغلة.
وفي رواية أخرى عن أحمد بن حنبل أنه قال: قدم علينا نعيم بن حماد فحضنا على طلب المسند، فلما قدم الشافعي وضعنا على المحجة البيضاء.
ورواية أخرى عن حميد بن الربيع الخراز قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول:
ما أعلم أحدا أعظم منة على الإسلام في زمن الشافعي من الشافعي، واني لأدعو الله له في أدبار صلواتي فأقول: اللهم اغفر لي ولوالديّ ولمحمد بن إدريس الشافعي.
وحدث الحارث بن محمد الأموي عن أبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي قال:
كنت من أصحاب محمد بن الحسن، فلما قدم الشافعي علينا جئته إلى مجلسه شبه المستهزىء فسألته عن مسألة من الدور فلم يجبني وقال لي: كيف ترفع يديك في الصلاة؟ قلت: هكذا، قال لي: أخطأت، فقلت: كيف أصنع؟ فقال: حدثني ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه وإذا ركع وإذا رفع. قال أبو ثور: فوقع في قلبي من ذاك فجعلت أزيد في المجيء إلى الشافعي وأقصّر في الاختلاف إلى محمد بن الحسن، فقال لي ابن الحسن يوما: يا أبا ثور أحسب هذا الحجازيّ قد غلب عليك، قال قلت: أجل، الحقّ معه، قال:
وكيف ذاك؟ قال فقلت: كيف ترفع يديك في الصلاة؟ فأجابني على نحو ما أجبت الشافعي، فقلت: أخطأت، قال: كيف أصنع؟ قلت: حدثني الشافعي عن ابن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه حذو منكبيه وإذا ركع وإذا رفع. قال أبو ثور: فلما كان بعد شهر قال: يا أبا ثور خذ مسألتك في الدور فانما منعني أن أجيبك يومئذ لأنك كنت متعنّتا.
وحدث المزني وهو أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى قال: دخلت على الشافعي في مرضه الذي مات فيه فقلت: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت من الدنيا راحلا، وللاخوان مفارقا، ولكأس المنية شاربا، وعلى الله جل ذكره واردا، ولا والله ما أدري روحي تصير إلى الجنة أو إلى النار فأعزيها، ثم بكى وأنشأ يقول «1» :(6/2404)
فلما قسا قلبي وضاقت مذاهبي ... جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته ... بعفوك ربي كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل ... تجود وتعفو منة وتكرما
فلولاك لم يقدر بابليس عابد ... فكيف وقد أغوى صفيّك آدما
وحدث الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي رحمه الله يجلس في حلقته إذا صلى الصبح فيجيئه أهل القرآن، فإذا طلعت الشمس قاموا وجاء أهل الحديث فيسألونه تفسيره ومعانيه، فإذا ارتفعت الشمس قاموا فاستوت الحلقة للمذاكرة والنظر، فإذا ارتفع الضحى تفرقوا وجاء أهل العربية والعروض والنحو والشعر فلا يزالون إلى قرب انتصاف النهار ثم ينصرف رضي الله عنه.
وحدث يونس بن عبد الأعلى الصدفي قال، قال لي الشافعي رضي الله عنه: يا أبا موسى رضي الناس غاية لا تدرك، ما أقوله لك إلا نصحا ليس إلى السلامة من الناس سبيل، فانظر ما فيه صلاح نفسك فالزمه ودع الناس وما هم فيه.
وحدث الحسن بن محمد الزعفراني قال «1» : كنا نحضر مجلس بشر المريسي فكنا لا نقدر على مناظرته، فمشينا إلى أحمد بن حنبل فقلنا له: ائذن لنا في أن نحفظ «الجامع الصغير» الذي لأبي حنيفة نخوض معهم إذا خاضوا، فقال: اصبروا فالآن يقدم عليكم المطلبي الذي رأيته بمكة، قال: فقدم علينا الشافعي، فمشوا «2» إليه وسألناه شيئا من كتبه فأعطانا كتاب اليمين مع الشاهد، فدرسته في ليلتين ثم غدوت على بشر المريسي وتخطيت إليه، فلما رآني قال: ما جاء بك؟ لست «3» صاحب حديث، قال قلت: ذرني من هذا، أيش الدليل على إبطال اليمين مع الشاهد؟
فناظرته فقطعته، فقال: ليس هذا من كيسكم، هذا من كلام رجل رأيته بمكة معه نصف عقل أهل الدنيا.
وحدث الربيع بن سليمان قال «4» : كنا عند الشافعي إذ جاءه رجل برقعة فنظر(6/2405)
فيها وتبسم، ثم كتب فيها ودفعها إليه، قال فقلنا: يسأل الشافعي عن مسألة لا ننظر فيها وفي جوابها؟ فلحقنا الرجل وأخذنا الرقعة فقرأناها وإذا فيها:
سل المفتي المكيّ هل في تزاور ... وضمة مشتاق الفؤاد جناح
قال وإذا اجابة أسفل من ذلك:
أقول معاذ الله أن يذهب التقى ... تلاصق أكباد بهن جراح
قرأت في أمال أملاها أبو سليمان الخطابي على بعض تلامذته: قال الشيخ «1» : كان الشافعي رحمه الله يوما من أيام الجمع جالسا للنظر فجاءت امرأة فألقت إليه رقعة فيها:
عفا الله عن عبد أعان بدعوة ... خليلين كانا دائمين على الودّ
إلى أن مشى واشي الهوى بنميمة ... إلى ذاك من هذا فزالا عن العهد
قال: فبكى الشافعي رحمه الله وقال: ليس هذا يوم نظر، هذا يوم دعاء، ولم يزل يقول، اللهم اللهم حتى تفرق أصحابه.
ومثله ما بلغني أن رجلا جاءه برقعة فيها:
سل المفتي المكيّ من آل هاشم ... إذا اشتد وجد بامرىء كيف يصنع
قال فكتب الشافعي تحته:
يداوي هواه ثم يكتم وجده ... ويصبر في كلّ الأمور ويخضع
فأخذها صاحبها وذهب بها ثم جاءه وقد كتب تحت هذا البيت الذي هو الجواب:
فكيف يداوي والهوى قاتل الفتى ... وفي كلّ يوم غصّة يتجرّع
فكتب الشافعي رحمه الله:
فان هو لم يصبر على ما أصابه ... فليس له شيء سوى الموت أنفع(6/2406)
ويروى للشافعي رحمه الله «1» :
أأنثر درّا بين سارحة البهم ... وأنظم منثورا لراعية الغنم
لعمرى لئن ضيّعت في شرّ بلدة ... فلست مضيعا فيهم غرر الكلم
لئن سهّل الله العزيز بلطفه ... وصادفت أهلا للعلوم وللحكم
بثثت مفيدا واستفدت ودادهم ... والا فمكنون لديّ ومكتتم
ومن منح الجهال علما أضاعه ... ومن منع المستوجبين فقد ظلم
وله رضي الله عنه في تعزية «2» :
إني أعزّيك لا أني على طمع ... من الخلود ولكن سنّة الدين
فما المعزّي بباق بعد صاحبه ... ولا المعزّى وان عاشا إلى حين
وحدث باسناد رفعه إلى ابن عمر الشافعي قال: كان لأبي عبد الله الشافعي امرأة يحبها فقال «3» :
أليس شديدا أن تح ... بّ ولا يحبك من تحبّه
ويصدّ عنك بوجهه ... وتلجّ أنت فلا تغبّه
وحدث الآبري باسناد إلى المزني عن الشافعي قال: كنا في سفر بأرض اليمن، فوضعنا سفرتنا لنتعشى وحضرت صلاة المغرب، فقلنا: نصلي ثم نتعشى، فتركنا سفرتنا كما هي، وكان في السفرة دجاجتان، فجاء ثعلب فأخذ إحدى الدجاجتين، فلما قضينا صلاتنا أسفنا عليها وقلنا، حرمنا طعامنا، فبينا نحن كذلك إذ جاء الثعلب وفي فيه شيء كأنه الدجاجة فوضعه، فبادرنا إليه لنأخذه، ونحن نحسبه الدجاجة قد ردها، فلما قمنا لخلاصها فإذا هو قد جاء إلى الأخرى فأخذها من السفرة، وأصبنا الذي قمنا إليه لنأخذه ليفة قد هيأها مثل الدجاجة.
وحدث الحسن بن محمد الزعفراني قال: سئل الشافعي عن مسألة فأجاب فيها(6/2407)
ثم أنشأ يقول «1» :
إذا المشكلات تصدّين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
لسان كشقشقة الأرحبيّ ... أو كالحسام اليماني الذكر
ولست بإمّعة في الرجال ... أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدره الأصغرين جلّاب خير وفرّاج شر وحدث الربيع بن سليمان قال: لما دخل الشافعيّ مصر أول قدومه إليها جفاه الناس فلم يجلس إليه أحد، قال فقال له بعض من قدم معه: لو قلت شيئا يجتمع إليك الناس، قال فقال: إليك عني وأنشأ يقول:
أأنثر درّا بين سارحة النعم ... وأنظم منثورا لراعية الغنم
الأبيات التي مرت آنفا.
وجرى بين الشافعي وبين بعض من صحبه مجانة فقال «2» :
وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرءا لا أشاكله
أحامقه حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
وحدث الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعي يقول «3» :
يا راكبا قف بالمحصّب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حبّ آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
ومن كتاب الامام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي باسناده إلى الربيع بن سليمان قال: سمعت الشافعيّ، وسأله رجل عن مسألة، فقال «4» يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا وكذا، فقال له السائل: يا أبا عبد الله أتقول بهذا؟ فارتعد الشافعي واصفرّ(6/2408)
لونه وحال وتغير وقال: ويحك أي أرض تقلّني وأيّ سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم أقل به؟ نعم على الرأس والعينين.
قال «1» : وسمعت الشافعي يقول: ما من أحد إلا وتذهب عنه سنّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أصّلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي، وجعل يردد هذا الكلام.
وباسناده عن أحمد بن حنبل أنه قال لعبد الملك بن عبد الحميد الميموني «2» :
مالك لا تنظر في كتب الشافعي فما من أحد وضع الكتب حتى ظهرت أتبع للسنة من الشافعي رضي الله عنه.
وباسناده إلى أبي عثمان المازني قال «3» : سمعت الأصمعي يقول: قرأت شعر الشنفري على الشافعيّ بمكة، قال زكريا بن يحيى الساجي: فذكرت ذلك للرياشي فقال: ما أنكره، قرأتها على الأصمعي فقال: أنشدنيها رجل من قريش بمكة.
وباسناده إلى عبد الرحمن بن أخي الأصمعي قال «4» : قلت لعمي: يا عماه على من قرأت شعر هذيل؟ فقال على رجل من آل المطلب يقال له محمد بن إدريس.
وحدث الصولي عن المبرد انه قال «5» : كان الشافعي من اشعر الناس وآدب الناس وأعرفهم بالقراءات.
وباسناده «6» إلى عبد الملك بن هشام النحوي صاحب «كتاب المغازي» أنه قال: طالت مجالستنا [للشافعي] فما سمعت منه لحنة قط ولا كلمة غيرها أحسن منها.
وباسناده إلى جبير بن مطعم قال «7» : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذوي القربى(6/2409)
من خيبر على بني هاشم وبني المطلب مشيت أنا وعثمان بن عفان فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخوتنا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة، فقال:
إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد، ثم شبك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى، أخرجه البخاري في الصحيح. وهذا لأن عبد مناف كان له أربعة أولاد: هاشم والمطلب وعبد شمس جدّ بني أمية ونوفل، وكان جبير بن مطعم من بني نوفل وعثمان من بني عبد شمس وهما أخوا المطلب.
وباسناده «1» إلى الحارث بن سريج النقال قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول:
أنا أدعو الله للشافعي أخصه به.
وباسناده «2» : كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن ويجمع قبول الأخبار فيه وحجة الاجماع وبيان الناسخ والمنسوخ من القرآن والسنة فوضع له كتاب الرسالة. قال عبد الرحمن: ما أصلي صلاة إلا وأدعو للشافعي فيها.
وباسناده: قال أحمد بن حنبل: كان الفقه قفلا على أهله حتى فتحه الله بالشافعي.
وباسناده: قال إبراهيم الحربي: سئل أحمد بن حنبل عن مالك بن أنس فقال:
حديث صحيح ورأي صحيح، وسئل عن آخر فقال: لا رأي ولا حديث.
وباسناده «3» إلى محمد بن مسلم بن وارة قال: لما قدمت من مصر أتيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل أسلّم عليه، فقال لي: كتبت كتب الشافعي؟ فقلت: لا، فقال لي: فرّطت، ما عرفنا العموم من الخصوص وناسخ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من منسوخه حتى جالسنا الشافعي. قال ابن وارة: فحملني ذلك على أن رجعت إلى مصر فكتبتها.
وباسناده قال الزعفراني «4» : كنت مع يحيى بن معين في جنازة فقلت له: يا أبا(6/2410)
زكريا ما تقول في الشافعي؟ فقال: دعنا لو كان الكذب له مطلقا لكانت مروءته تمنعه أن يكذب.
وباسناده «1» إلى عبد الملك الميموني قال: كنت عند أحمد بن حنبل وجرى ذكر الشافعي، فرأيت أحمد يرفعه وقال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها، فكان عمر بن عبد العزيز في رأس المائة الأولى، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى.
وباسناده: قال الشيخ أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول: كنا في مجلس القاضي أبي العباس ابن سريج سنة ثلاث وثلاثمائة، فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال له: أبشر أيها القاضي فان الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها أمر دينها، وانه تعالى بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز وتوفي سنة ثلاث ومائة، وبعث على رأس المائتين أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي وتوفي سنة أربع ومائتين، وبعثك على رأس الثلاثمائة، ثم أنشأ يقول:
اثنان قد مضيا فبورك فيهما ... عمر الخليفة ثم حلف السؤدد
الشافعيّ الألمعيّ محمد ... إرث النبوة وابن عمّ محمد
أبشر أبا العباس إنك ثالث ... من بعدهم سقيا لنوبة أحمد
قال: فصاح القاضي وبكى وقال: إن هذا الرجل قد نعى إليّ نفسي. قال فمات القاضي أبو العباس في تلك السنة.
وذكر الخطيب في «تاريخه» أن ابن سريج مات سنة ست وثلاثمائة.
وباسناد البيهقي إلى داود بن علي الأصبهاني أنه قال «2» : اجتمع للشافعي من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، فأوّل ذلك شرف نفسه ومنصبه وأنه من رهط النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها صحة الدين وسلامة الاعتقاد من الأهواء والبدع، ومنها سخاوة النفس، ومنها معرفته بصحة الحديث وسقمه، ومنها معرفته بناسخ الحديث ومنسوخه، ومنها حفظه لكتاب الله وحفظه لأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفته بسير النبي صلى الله عليه وسلم وبسير خلفائه، ومنها(6/2411)
كشفه لتمويه مخالفيه، ومنها تأليف الكتب القديمة والجديدة، ومنها ما اتفق له من الأصحاب والتلامذة مثل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه وإقامته على السنة، ومثل سليمان بن داود الهاشمي وعبد الله بن الزبير الحميدي والحسين الفلّاس «1» وأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي وحرملة بن يحيى التجيبي والربيع بن سليمان المرادي وأبي الوليد موسى بن [أبي] الجارود والحارث بن سريج النقال وأحمد بن خالد الخلال وأبي عبيد القاسم بن سلام والقائم بمذهبه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني.
قال الشيخ أحمد البيهقي، إنما عدّد داود بن عليّ من أصحاب الشافعي جماعة يسيرة، وقد عدّ أبو الحسن الدارقطني من روى عنه أحاديثه وأخباره أو كلامه زيادة على مائة، هذا مع قصور سنه عن سن أمثاله من الأئمة، وإنما تكثر الرواة عن العالم إذا جاوز سنه الستين أو السبعين، والشافعي لم يبلغ في السنّ أكثر من أربع وخمسين.
ومن «كتاب مرو» مسندا إلى عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي قال «2» :
وقفت بمكة على حلقة عظيمة وفيها رجل، فسألت عنه فقيل هذا محمد بن إدريس الشافعي، فسمعته يقول: سلوني عما شئتم أخبركم بآية من كتاب الله وسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقول صحابي. فقلت في نفسي: إنّ هذا الرجل جريء، ثم قلت له: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور. فقال قال الله تعالى ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا
(الحشر: 7) وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي عن حذيفة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، وحدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب أن عمر رضي الله عنه أمر المحرم بقتل الزنبور.
وعن المزني سمعت الشافعي يقول: رأيت بالمدينة أربع عجائب، رأيت جدة لها إحدى وعشرون سنة، ورأيت رجلا فلّسه القاضي في مدّي نوى، ورأيت شيخا قد(6/2412)
أتى عليه تسعون سنة يدور نهاره حافيا راجلا على القيان يعلّمهن الغناء فإذا جاءت الصلاة صلّى قاعدا، وكان بالمدينة وال وكان رجلا صالحا فقال: مالي لا أرى الناس يجتمعون على بابي كما يجتمعون على أبواب الولاة؟ فقالوا: إنك لا تضرب أحدا ولا تؤذي الناس، فقال: أهكذا؟ عليّ بالإمام، فنصب بين العقابين وجعل يضرب والإمام يقول: أعز الله الأمير أيش جرمي؟ وهو يقول: جمّلنا بنفسك، حتى اجتمع الناس على بابه.
وعن خيثمة بن سليمان بن حيدرة قال «1» : جاء رجل إلى الشافعي فقال له:
أصلحك الله، صديقك فلان عليل، فقال الشافعي: والله لقد أحسنت إليّ وأيقظتني لمكرمة ودفعت عني اعتذارا يشوبه الكذب، ثم قال: يا غلام هات السبتية، ثم قال:
للمشي على الحفاء على علة الوجاء في حرّ الرمضاء من ذي طول أهون من اعتذار إلى صديق يشوبه الكذب، ثم أنشأ يقول:
أرى راحة للحقّ عند قضائه ... ويثقل يوما ان تركت على عمد
وحسبك حظّا أن ترى عذر كاذب ... وقولك لم أعلم وذاك من الجهد
ومن يقض حقّ الجار بعد ابن عمه ... وصاحبه الأدنى على القرب والبعد
يعش سيدا يستعذب «2» الناس ذكره ... وإن نابه حقّ أتوه على قصد
ومما يروى للشافعي رضي الله عنه «3» :
أصبحت مطّرحا في معشر جهلوا ... حقّ الاديب فباعوا الرأس بالذنب
والناس يجمعهم سمل وبينهم ... في العقل فرق وفي الآداب والحسب
كمثلما الذهب الابريز يشركه ... في لونه الصّفر والتفضيل للذهب
والعود لو لم تطب منه روائحه ... لم يفرق الناس بين العود والحطب
وعن أبي بكر ابن بنت الشافعي قال، قال الشافعي بمكة حين أراد الخروج إلى مصر «4» :(6/2413)
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ... ومن دونها قطع المهامه والقفر
فوالله ما أدري أللفوز والغنى ... أساق إليها أم أساق إلى القبر
قال: فخرج فقطع عليه الطريق، فدخل بعض المساجد وليس عليه إلا خرقة، فدخل الناس وخرجوا فلم يلتفت إليه أحد، فقال «1» :
عليّ ثياب لو يباع جميعها ... بفلس لكان الفلس منهنّ أكثرا
وفيهن نفس لو يقاس ببعضها ... نفوس الورى كانت أجلّ وأكبرا
وما ضرّ نصل السيف إخلاق غمده ... إذا كان عضبا أين وجّهته برى
قرأت في «كتاب خطط مصر» لأبي عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر بن علي القضاعي المصري صاحب «كتاب الشهاب» قال: محمد بن إدريس الشافعي المطلبي الفقيه يكنى أبا عبد الله، توفي في سلخ رجب سنة أربع ومائتين بمصر، ودفن غربي الخندق في مقابر قريش، وحوله جماعة من بني زهرة من ولد عبد الرحمن بن عوف الزهري وغيرهم، وقبره مشهور هناك مجمع على صحته ينقل الخلف عن السلف في كل عصر إلى وقتنا هذا، وهو البحري من القبور الثلاثة التي تجمعها مصطبة واحدة غربيّ الخندق، بينه وبين المشهد، والقبران الآخران اللذان إلى جنب قبر الشافعي أحدهما قبر عبد الله بن عبد الحكم بن أعين بن ليث بن رافع مولى قريش مات سنة أربع عشرة ومائتين، ودفن إلى جنب من الشافعي، وهو مما يلي القبلة، وهو القبر الأوسط من القبور الثلاثة، وكان من ذوي الجاه والمال والذبائح، وكان يزكي الشهود، ولم يشهد قطّ لدعوة سبقت فيهم، والقبر الثالث قبر ولده عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم مات في سنة سبع وخمسين ومائتين، وقبره مما يلي القبلة، وعبد الرحمن هذا هو صاحب «كتاب فتوح مصر» وكان عالما بالتواريخ.
يقال ان الشافعي رضي الله عنه قدم إلى مصر سنة تسع وتسعين ومائة في أول خلافة المأمون، وكان سبب قدومه إلى مصر أن العباس بن عبد الله بن العباس بن موسى بن عبد الله بن العباس استصحبه فصحبه، وكان العباس هذا خليفة لأبيه(6/2414)
عبد الله على مصر، ولم يزل الشافعي بمصر إلى أن ولي السري بن الحكم البلخي، من قوم يقال لهم الزطّ، مصر واستقامت له، وكان يكرم الشافعي ويقدّمه ولا يؤثر أحدا عليه، وكان الشافعي محببا إلى الخاص والعام لعلمه وفقهه وحسن كلامه وأدبه وحلمه، وكان بمصر رجل من أصحاب مالك بن أنس يقال له فتيان فيه حدة وطيش، وكان يناظر الشافعي كثيرا ويجتمع الناس عليهما، فتناظرا يوما في مسألة بيع الحر، وهو العبد المرهون إذا أعتقه الراهن ولا مال له غيره، فأجاب الشافعي بجواز بيعه على أحد أقواله، ومنع فتيان منه لأنه يمضي عتقه بكل وجه، وهو أحد أقوال الشافعي، فظهر عليه الشافعي في الحجاج، فضاق فتيان بذلك ذرعا فشتم الشافعيّ شتما قبيحا، فلم يردّ عليه الشافعيّ حرفا، ومضى في كلامه في المسألة، فرفع ذلك رافع إلى السري، فدعا الشافعي وسأله عن ذلك وعزم عليه فأخبره بما جرى، وشهد الشهود على فتيان بذلك، فقال السري: لو شهد آخر مثل الشافعي على فتيان لضربت عنقه، وأمر فتيان فضرب بالسياط وطيف به على جمل وبين يديه مناد ينادي هذا جزاء من سبّ آل رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم إن قوما تعصبوا لفتيان من سفهاء الناس وقصدوا حلقة الشافعي حتى خلت من أصحابه وبقي وحده، فهجموا عليه وضربوه، فحمل إلى منزله فلم يزل فيه عليلا حتى مات في الوقت المقدم ذكره.
قال ابن يونس: كان للشافعي ابن اسمه محمد قدم مع أبيه مصر، توفي بها في شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين. وقيل كان له ولد آخر اسمه محمد أيضا يروي عن سفيان بن عيينة ولي قضاء الجزيرة وتوفي بها بعد أربعين ومائتين.
هذا آخر ما ذكره القضاعي نقلته على وجهه.
ومن مشهور أصحاب الشافعي: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني «1» ، مات في سنة أربع وستين ومائتين.
والربيع بن سليمان وكان من أجلّ أصحاب الشافعي وأورعهم وأكثرهم تصنيفا.
ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم «2» يكنى أبا عبد الله، صحب الشافعي وقرأ(6/2415)
عليه ومات سنة ثمان وستين ومائتين، ودفن إلى جنب الشافعي مع قبر أخيه وأبيه المذكورين، وكان من أهل الدين والورع.
والربيع بن سليمان بن عبد الجبار المرادي «1» مولى لهم المؤذن الفقيه، يكنى أبا محمد، وهو صاحب الشافعي المشهور بصحبته ومات سنة سبعين ومائتين، وقبره غربي الخندق مما يلي الفقاعي، وهو آخر من روى بمصر عن الشافعي، وكان جليلا مصنفا حدث بكتب الشافعي كلها ونقلها الناس عنه ويقال انه أعان المزني على غسل الشافعي.
والربيع بن سليمان بن داود بن الأعرج الجيزي «2» مولى الأزد، وأظنه صحب الشافعي ومات في سنة ست وخمسين ومائتين وقبره بالجيزة.
وهذا فهرست كتب الشافعيّ رضي الله عنه: كتاب الطهارة. كتاب مسألة المني. كتاب استقبال القبلة. كتاب الإمامة. كتاب إيجاب الجمعة. كتاب صلاة العيدين. كتاب صلاة الكسوف. كتاب صلاة الاستسقاء. كتاب صلاة الجنائز.
كتاب الحكم في تارك الصلاة. كتاب الصلاة الواجبة والتطوع والصيام. كتاب الزكاة الكبير. كتاب زكاة الفطر. كتاب زكاة مال اليتيم. كتاب الصيام الكبير. كتاب المناسك الكبير. كتاب المناسك الأوسط. كتاب مختصر المناسك. كتاب الصيد والذبائح. كتاب البيوع الكبير. كتاب الصرف والتجارة. كتاب الرهن الكبير. كتاب الرهن الصغير. كتاب الرسالة. كتاب أحكام القرآن. كتاب اختلاف الحديث.
كتاب جماع العلم. كتاب اليمين مع الشاهد. كتاب الشهادات. كتاب الاجارات الكبير. كتاب كري الابل والرواحل. كتاب الاجارات إملاء. كتاب اختلاف الأجير والمستأجر. كتاب الدعوى والبينات. كتاب الاقرار والمواهب. كتاب ردّ المواريث.
كتاب بيان فرض الله عز وجل. كتاب صفة نهي النبي عليه السلام. كتاب النفقة على الأقارب. كتاب المزارعة. كتاب المساقاة. كتاب الوصايا الكبير. كتاب الوصايا بالعتق. كتاب الوصية للوارث. كتاب وصية الحامل. كتاب صدقة الحي عن(6/2416)
الميت. كتاب المكاتب. كتاب المدبّر. كتاب عتق أمهات الأولاد. كتاب الجناية على أم الولد. كتاب الولاء والحلف. كتاب التعريض بالخطبة. كتاب الصداق.
كتاب عشرة الصداق. كتاب تحريم ما يجمع من النساء. كتاب الشغار. كتاب إباحة الطلاق. كتاب العدة. كتاب الإيلاء. كتاب الخلع والنشوز. كتاب الرضاع. كتاب الظهار. كتاب اللعان. كتاب أدب القاضي. كتاب الشروط. كتاب اختلاف العراقيين. كتاب اختلاف علي وعبد الله. كتاب سير الأوزاعي. كتاب الغصب.
كتاب الاستحقاق. كتاب الأقضية. كتاب إقرار أحد الابنين بأخ. كتاب الصلح.
كتاب قتال أهل البغي. كتاب الأسارى والغلول. كتاب القسامة. كتاب الجزية.
كتاب القطع في السرقة. كتاب الحدود. كتاب المرتدّ الكبير. كتاب المرتدّ الصغير. كتاب الساحر والساحرة. كتاب القراض. كتاب الأيمان والنذور. كتاب الأشربة. كتاب الوديعة. كتاب العمري. كتاب بيع المصاحف. كتاب خطأ الطبيب. كتاب جناية معلم الكتّاب. كتاب جناية البيطار والحجام. كتاب اصطدام الفرسين والنفسين. كتاب بلوغ الرشد. كتاب اختلاف الزوجين في متاع البيت.
كتاب صفة النفي. كتاب فضائل قريش والأنصار. كتاب الوليمة. كتاب صول الفحل. كتاب الضحايا. كتاب البحيرة والسائبة. كتاب قسم الصدقات. كتاب الاعتكاف. كتاب الشفعة. كتاب السبق والرمي. كتاب الرجعة. كتاب اللقيط والمنبوذ. كتاب الحوالة والكفالة. كتاب كري الأرض. كتاب التفليس. كتاب اللقطة. كتاب فرض الصدقة. كتاب قسم الفيء. كتاب القرعة. كتاب صلاة الخوف. كتاب الديات. كتاب الجهاد. كتاب جراح العمد. كتاب الخرص. كتاب العتق. كتاب عمارة الأرضين. كتاب إبطال الاستحسان. كتاب العقول. كتاب الأولياء. كتاب الردّ على محمد بن الحسن. كتاب صاحب الرأي. كتاب سير الواقدي. كتاب حبل الحبلة. كتاب خلاف مالك والشافعي. كتاب قطاع الطريق.
قال: والذي لم يسمعه الربيع من الشافعي رضي الله عنه وأرضاه: كتاب الوصايا الكبير. كتاب اختلاف أهل العراق على علي وعبد الله. كتاب ديات الخطأ.
كتاب قتال المشركين. كتاب الاقرار بالحكم الظاهر. كتاب الأجناس. كتاب اتباع أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. كتاب مسألة الجنين. كتاب وصية الشافعي. كتاب ذبائح بني(6/2417)
إسرائيل. كتاب غسل الميت. كتاب ما ينجس الماء مما خالطه. كتاب الأمالي في الطلاق. كتاب مختصر البويطي، رواه الربيع عن الشافعي رضي الله عنه.
[994] محمد بن أزهر بن عيسى
: أحد الأخباريين المشهورين. قال محمد بن إسحاق النديم: مات سنة تسع وسبعين ومائتين، ومولده سنة [مائتين، وتوفي عن] تسع وسبعين، وكان قد سمع من ابن الأعرابيّ وغيره، وله من الكتب كتاب التاريخ، من خيار «1» الكتب.
[995] محمد بن إسحاق بن يسار:
صاحب «السيرة» كنيته أبو عبد الله وقيل أبو بكر، مولى عبد الله بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، ويسار من سبي عين التمر، وهو أول سبي دخل المدينة من العراق.
قال ابن أبي خيثمة: وموسى بن يسار أخو إسحاق بن يسار عم محمد بن إسحاق راوية أيضا علامة.
مات محمد بن إسحاق سنة خمسين أو إحدى أو اثنتين وخمسين ومائة، ودفن بمقابر الخيزران عند قبر أبي حنيفة.
قال المرزباني: ومحمد بن إسحاق أول من جمع مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم وألّفها، وكان يروي عن عاصم بن عمر بن قتادة ويزيد بن رومان ومحمد بن إبراهيم
__________
[994] ترجمة ابن أزهر في الفهرست: 126 وكنيته أبو جعفر، والوافي 2: 186.
[995] ترجمة محمد بن اسحاق في طبقات ابن سعد 7/321 والمعارف: 491 والمعرفة والتاريخ 2: 27 والفهرست: 105 وتاريخ بغداد 1: 214 وابن خلكان 4: 276 وتذكرة الحفاظ: 172 وميزان الاعتدال 3: 468 وسير الذهبي 7: 33 وعبر الذهبي 1: 216 والوافي 2: 188 وتهذيب التهذيب 9: 38 وطبقات الحفاظ: 75 والشذرات 1: 230.(6/2418)
وابن شهاب والأعمش، ويروي عن فاطمة بنت المنذر بن الزبير امرأة هشام بن عروة، فبلغ ذلك هشاما فقال: هو كان يدخل على امرأتي؟! كأنه أنكر ذلك، وخرج عن المدينة قديما فلم يرو عنه منهم أحد غير إبراهيم بن سعد. وكان محمد بن إسحاق مع العباس بن محمد بالجزيرة، وكان قصد أبا جعفر المنصور بالحيرة فكتب إليه المغازي، فسمع منه أهل الكوفة لذلك السبب، وسمع منه أهل الجزيرة حين كان مع العباس بن محمد، وأتى الريّ فسمع منه أهلها، فرواته من هذه البلدان أكثر ممن روى عنه من أهل المدينة، وأتى بغداد فأقام بها إلى أن مات بها، وكان كثير الحديث، وقد كتب عنه العلماء، ومنهم من يستضعفه، وكان له أخوان عمر وأبو بكر ابنا إسحاق وقد رويا الحديث.
وحدث باسناد رفعه إلى المفضل بن غسان الغلابي قال: سألت يحيى بن معين عن محمد بن إسحاق فقال قال عاصم بن عمر بن قتادة «1» : لا يزال في الناس علم ما عاش محمد بن إسحاق. قال يحيى: وابن إسحاق يسمع من عاصم فكان يقال.....
وحدث فيما رفعه إلى علي بن المديني قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان يقول: كان محمد بن إسحاق والحسن بن ضمرة وإبراهيم بن محمد كل هؤلاء يتشيعون ويقدّمون عليا على عثمان.
وقال الشاذكوني: كان محمد بن إسحاق بن يسار يتشيع وكان قدريا.
وقال أحمد بن يونس: أصحاب المغازي يتشيعون كابن إسحاق وأبي معشر ويحيى بن سعيد الأموي وغيرهم، وأصحاب التفسير السدي والكلبي وغيرهما.
وكان له انقطاع إلى عبد الله بن حسن بن حسن، وكان يأتيه بالشيء فيقول له:
أثبت هذا في علمك، فيثبته ويرويه عنه.
وحدث فيما أسنده الى الواقدي قال: كان محمد بن إسحاق يجلس قريبا من النساء في مؤخر المسجد، فيروى عنه أنه كان يسامر النساء، فرفع إلى هشام وهو أمير(6/2419)
المدينة، وكانت له شعرة حسنة، فرقق رأسه وضربه أسواطا ونهاه عن الجلوس هنالك، وكان حسن الوجه.
وحدث عبد الله بن إدريس قال: كنت عند مالك بن أنس فقال له رجل: إن محمد بن إسحاق يقول: اعرضوا عليّ علم مالك بن أنس فإني أنا بيطاره، فقال مالك: انظروا إلى دجال من الدجاجلة يقول اعرضوا عليّ علم مالك.
قال ابن ادريس: وما رأيت أحدا جمع الدجال قبله.
وحدث هارون بن عبد الله الزهري قال: سمعت ابن أبي خازم قال «1» : كان ابن إسحاق في حلقته، فاغفى ثم انتبه فقال: رأيت حمارا اقتيد بحبل حتى خرج من المسجد، فلم يبرح حتى أتته رسل الوالي فاقتادوه بحبل فأخرجوه من المسجد.
قال: محمد بن إسحاق كانت تعمل له الأشعار فيضعها في كتب المغازي، فصار بها فضيحة عند رواة الأخبار والأشعار، وأخطأ في كثير من النسب الذي أورده في كتابه، وكان يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم في كتبه أهل العلم الأول، وأصحاب الحديث يضعفونه ويتهمونه.
وله من الكتب: كتاب الخلفاء، رواه عنه الأموي. كتاب السير والمغازي.
كتاب المبدأ، رواه عنه إبراهيم بن سعد ومحمد بن عبد الله بن نمير النفيلي، ومات النفيلي بحران سنة أربع وثلاثين ومائتين وكان يكنى أبا عبد الرحمن.
[996] محمد بن إسحاق أبو العنبس الصيمري:
قال الخطيب في «تاريخه» :
محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي العنبس بن المغيرة بن ماهان، أبو العنبس
__________
[996] ترجمة أبي العنبس في الفهرست: 168 وتاريخ بغداد 1: 238، والأغاني 21: 53- 57 والوافي 2: 191 والورقة: 5 ومعجم المرزباني: 393 والمنتظم 5: 99 والمحمدون: 131 والنجوم الزاهرة 3: 74.(6/2420)
الصيمري الشاعر أحد الأدباء الملحاء، خبيث اللسان هجّاء، هجاء أكثر شعراء زمانه وقدم بغداد؛ مات سنة خمس وسبعين ومائتين، وحمل إلى الكوفة فدفن بها. ونادم المتوكل وهو القائل يهجو أحمد بن المدبر «1» :
أسل الذي عطف الموا ... كب [بالأعنة] نحو بابك
وأراك نفسك مالكا ... ما لم يكن لك في حسابك
وأذلّ موقفي العزي ... ز على وقوفي في رحابك
أن لا يطيل تجرعي ... غصص المنية من حجابك
وهو القائل «2» :
كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعوّاد
قد يصاد القطا فينجو سليما ... ويحلّ القضاء بالصيّاد
وذكره محمد بن إسحاق النديم في «الفهرست» فقال «3» : محمد بن إسحاق أبو العنبس الصيمري من أهل الفكاهات، وأصله من الكوفة، وكان قاضي الصيمرة، وكان مع استعماله للهزل شريفا عارفا بالنجوم، وله فيه كتاب يمدحه المنجمون، وأدخله المتوكل في ندمائه وخصّ به، وله مع البحتريّ خبر معروف بين يدي المتوكل، وعاش إلى أيام المعتمد ودخل في ندمائه، وله يهجو طباخ المعتمد:
يا طيب أيامي بمعشوق ... ونحن في بعد من السوق
إذا طلبت الخبز من فارس ... ينفخ لي صالح بالبوق
وله من الكتب: كتاب تأخير المعرفة. كتاب العاشق والمعشوق. كتاب الرد على المنجمين. كتاب الطبلبنب. كتاب كرزابلا «4» . كتاب طوال اللحى. كتاب الرد على المتطببين. كتاب عنقاء مغرب. كتاب الراحة ومنافع القيادة «5» . كتاب فضائل(6/2421)
حلق الرأس. كتاب هندسة العقل. كتاب الأحاديث الشاذة. كتاب فضائل الزو «1» .
كتاب الرد على أبي ميخائيل الصيدناني في الكيمياء. كتاب عجائب البحر. كتاب مساوي العوام وأخبار السفلة والأغتام. كتاب فضل السلّم على الدرجة. كتاب الفاس بن الحائك. كتاب الدولتين في تفضيل الخلافتين. كتاب تذكية العقول.
كتاب السّحاقات والبغائين. كتاب الخضخضة في جلد عميرة. كتاب أخبار أبي فرعون كندر بن جحدر. كتاب تفسير الرؤيا. كتاب الثقلاء. كتاب نوادر القواد.
كتاب دعوة العامة. كتاب الاخوان والأصدقاء. كتاب كنى الدوابّ. كتاب أحكام النجوم. كتاب المدخل في صناعة التنجيم. كتاب صاحب الزمان. كتاب الحلقتين «2» . كتاب استغاثة الجمل على ربه. كتاب فضل السرم على الفم.
وقال أبو العنبس الصيمري: قوام أمر الانسان بتسع دالات: دار ودينار ودرهم ودقيق ودابة ودبس ودن ودسم ودعوة.
وحدث الصولي قال حدثني ابن أبي العنبس، وكان قدم الينا بغداد من سر من رأى وكان متأدّبا قال: عرضت لأبي حاجة الى الحسن بن مخلد وزير المعتمد في إقطاع له فخاف معارضته، وذلك أيام تقلده ديوان الضياع، فقال «3» :
زارني بدر على غصن ... قابلا وصلي يقبلني
خلته في النوم من فرحي ... قد أعاد الروح في بدني «4»
ان لي عن مثله شغلا ... بمقال الشعر في الحسن
وأبيه مخلد فبه ... قد لبسنا سابغ المنن
كاتب قلّ النظير له ... فاضل في العلم واللّسن
قال: فأمضى له كل ما أراد ولم يعارضه في شيء.(6/2422)
وأنشد جحظة لأبي العنبس الصيمري:
لئن كنت عن أرض تقلّك نازحا ... فلم يحكني غير السليم المسهد
وعلّمت مذ حرّعتني صاب بينكم ... غريب البكا عين الحمام المغرد
وعن أبي الفرج «1» حدثني أحمد بن جعفر جحظة، قال حدثني أبو العنبس الصيمري قال: كنت عند المتوكل والبحتريّ ينشده:
عن أيّ ثغر تبتسم ... وبأيّ طرف تحتكم
حتى بلغ إلى قوله:
قل للخليفة جعفر ال ... متوكل بن المعتصم
والمجتدى ابن المجتدى ... والمنعم ابن المنتقم
اسلم لدين محمد ... وإذا سلمت فقد سلم
قال: وكان البحتري من أبغض الناس إنشادا، يتشدق ويتزاور في مشيه مرة جائيا ومرة القهقرى، ويهزّ رأسه مرة ومنكبه أخرى، ويشير بكمه ويقول: أحسنت والله، ثم يقبل على المستمعين فيقول: ما لكم لا تقولون أحسنت؟ هذا والله ما لا يحسن أحد أن يقول مثله، فضجر المتوكل من ذلك وأقبل عليّ فقال: أما تسمع يا صيمري ما يقول؟ فقلت: بلى يا سيدي فمر فيه بما أحببت، فقال: بحياتي اهجه على هذا الرويّ الذي أنشدنيه، فقلت:
أدخلت رأسك في الحرم «2» ... وعلمت أنك تنهزم
يا بحتريّ حذار وي ... لك من قضاقضة ضغم
فلقد أسلت لوالدي ... ك «3» من الهجا سيل العرم
والله حلفة صادق ... وبقبر أحمد والحرم(6/2423)
وبحقّ جعفر الاما ... م ابن الامام المعتصم
لأصيّرنّك شهرة ... بين المسيل إلى العلم
فبأيّ عرض تعتصم ... وبهتكه جفّ القلم
حيّ الطلول بذي سلم ... حيث الأراكة والخيم
يا ابن الثقيلة والثقي ... ل على قلوب ذوي النعم
وعلى الصغير مع الكب ... ير مع الموالي والحشم
في أيّ سلح تلتطم «1» ... وبأيّ كفّ تلتقم
يا ابن المباحة للورى ... أمن العفاف أو التهم
إذ رحل أختك للعجم ... وفراش أمك في الظلم
وبباب دارك حانة ... في بيته يؤتى الحكم
قال: وخرج البحتري مغضبا يعدو، وجعلت أصيح به خلفه:
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
والمتوكل يضحك ويصفق حتى غاب عنه. هذه رواية جحظة، والذي يتعارفه الناس أن أبا العنبس كان واقفا خلف السرير والبحتري ينشد قوله:
عن أيّ ثغر تبتسم ... وبأيّ طرف تحتكم
فقال أبو العنبس ارتجالا:
في أيّ سلح ترتطم ... وبأيّ كفّ تلتقم
أدخلت رأسك في الحرم ... وعلمت أنك تنهزم
فغضب البحتريّ وخرج، وضحك المتوكل حتى أكثر، وأمر لأبي العنبس الصيمري بعشرة آلاف درهم.(6/2424)
[997] محمد بن إسحاق بن أسباط الكندي أبو النضر المصري:
ذكره أبو بكر الزبيدي، قال الزبيدي: أخذ عن الزجاج، وله كتاب في النحو سماه «كتاب العيون والنكت» ذهب فيه إلى حدّ الاسم والفعل والحرف، وتلا ذلك بذكر شيء من أبواب الياء والواو ولم يصنع شيئا.
وقال ابن مسعر: نزل أبو النضر أنطاكية مدة ثم سار عنها إلى مصر، وله كتابان: كتاب التلقين. كتاب الموقظ. ورأيت أنا له كتاب المغني في النحو.
وذكره ابن عبد الرحيم فقال: نقلت من خطّ أبي الحسن ابن الخطيب حدثنا الببغا قال: كان يجتمع معنا في خدمة سيف الدولة شيخ من أهل الأدب والتقدم في النحو وعلم المنطق ممن درس على الزجاج وأخذ عنه، يكنى بأبي النضر، وذكر اسمه ونسبه، وحكى أنه كان حسن الشعر، وأخبرنا أن الأبيات التي ينسبها قوم إلى ابن المغيرة وآخرون إلى أبي نضلة (قلت أنا: ووجدتها أنا في ديوان أبي القاسم التنوخي معزوّة إلى أبي القاسم وتروى لغيرهم أيضا) أنها لأبي النضر من قديم شعره وأنشدها لنفسه، وهي «1» :
وكأس من الشمس مخلوقة ... تضمنها قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن ... وماء ولكنّه غير جار
فهذا النهاية في الإبيضاض ... وهذا النهاية في الإحمرار
وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط التنافي وفرط النفار
ولكن تجاور سطحاهما ال ... بسيطان فاجتمعا بالجوار
كأن المدير لها باليمين ... إذا طاف للسقي أو باليسار
__________
[997] ترجمة ابن اسباط الكندي في طبقات الزبيدي: 221 والمحمدون: 135 وإنباه الرواة 3: 68 والوافي 2: 195 وبغية الوعاة 1: 53.(6/2425)
تدرّع ثوبا من الياسمين ... له فرد كمّ من الجلنار
وقد أورد التنوخي هذه الحكاية في «كتاب النشوار» وحكى أن أبا النضر كان عالما بالهندسة قيما بعلوم الأوائل.
ولأبي النضر أيضا «1» :
هات اسقني بالكبير وانتخب ... نافية للهموم والكرب
فلو تراني إذا انتشيت وقد ... حركت كفّي بها من الطرب
لخلتني لا بسا مشهّرة ... من لازورد يشفّ عن ذهب
وقال أبو علي التنوخي: أنشدني أبو عمر ابن جعفر الخلال لأبي النضر المصري النحوي من قصيدة يذكر فيها رجلا مدحه قال: وكان متسعا في الشعر الجيد المستحسن:
ورأيت أحمدنا وسيدنا ... متصدرا للورد والصّدر
خلت النجوم خلقن دائرة ... موصولة الطرفين بالقمر
[998] محمد بن إسحاق أبو عبد الله الشابشتي:
صاحب خزانة كتب العزيز بن المعز بمصر والمتوالي عرضها، وكان من أهل الفضل والأدب، مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة للهجرة في أيام الحاكم بن العزيز وله عدة تصانيف منها: كتاب الديارات.
كتاب اليسر بعد العسر. كتاب مراتب الفقهاء. كتاب التوقيف والتخويف. كتاب مراسلات. كتاب ديوان شعره. كتاب في الزهد والمواعظ.
__________
[998] ترجمة الشابشتي صاحب الديارات في ابن خلكان 3: 319 والوافي 2: 194 ومراصد الاطلاع 1: 427 وانظر مقدمة المحقق على كتاب الديارات؛ والاختلاف في اسمه كثير، وهو عند ابن خلكان علي بن محمد.(6/2426)
وقد اختلف في اسمه فرأيت أنا «كتاب الديارات» من تصنيفه وهو مترجم محمد ابن إسحاق كما ترى، ونقل لي بمصر بعض من اختبرت صحة نقله أنه أبو الحسن علي بن أحمد، والله أعلم.
[999] محمد بن اسحاق النديم:
كنيته أبو الفرج، وكنية أبيه أبو يعقوب، مصنف «كتاب الفهرست» الذي جوّد فيه واستوعب استيعابا يدلّ على اطلاعه على فنون من العلم وتحققه لجميع الكتب، ولا أبعد أن يكون قد كان وراقا يبيع الكتب، وذكر في مقدمة هذا الكتاب أنه صنف في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة. وله من التصانيف:
فهرست الكتب. كتاب التشبيهات. وكان شيعيا معتزليا.
[1000] محمد بن إسحاق بن علي بن داود بن حامد
أبو جعفر القاضي الزوزني البحاثي: ذكره عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر الفارسي وأنه مات بغزنة سنة ثلاث وستين وأربعمائة وقال: هو أحد الفضلاء المعروفين والشعراء المفلقين، صاحب التصانيف العجيبة المفيدة جدا وهزلا، والفائق أهل «1» عصره ظرفا وفضلا، المتعصب لأهل السنة، المخصوص بخدمة البيت الموفقي، المحترم بين الأئمة والكبار لفضله مرة، وللتوقي من حمات لسانه وعقارب هجائه ثانية، ولقد رزق من الهجاء في النظم والنثر طريقة لم يسبق إليها، وما ترك أحدا من الكبراء والأئمة والفقهاء وسائر الأصناف من الناس «2» إلا هجاه ووقع فيه، فكان الكل يتترسون باحترامه وإيوائه، عن سهام هجائه.
__________
[999] ترجمة صاحب الفهرست في الوافي 2: 197 ولسان الميزان 5: 72.
[1000] ترجمة البحاثي في إنباه الرواة 3: 66 والمحمدون: 134 والوافي 2: 197 واللباب (البحاثي) وتتمة اليتيمة 2: 30- 32 وياقوت يعتمد على السياق لعبد الغافر الفارسي (انظر المنتخب الثاني، الورقة 12/أ) .(6/2427)
قال عبد الغافر: وكان صديق والدي من البائتين عنده «1» في الأحايين، والمقترحين عليه ما يشتهيه من الطبائخ والمطعومات. سمعته رحمه الله يحكي عن أحواله وتهتكه واشتغاله في جميع الأحوال بما لا يليق بالعلماء والأفاضل، ولكنه كان يحتمل عنه اتقاء لسانه. ومما حكاه لي رحمه الله قال: ما وقع بصري قطّ على شخص إلا تصوّر في قلبي هجاؤه قبل أن أكلّمه وأجربه أو أخبر أحواله. وحكى لي بعض من أثق به أنه قال: لم يفلت أحد من هجائي إلا القاضي الامام صاعد بن محمد رحمه الله، فإني كنت زورت في نفسي أن أهجوه، فحيث تأملت في حسن عبادته وكمال فضله ومرضيّ سيرته استحييت من الله تعالى وتركت ما أجلته في فكري، على أني سمعت فيما قرع سمعي تشبيبا منه بشيء من ذلك عفا الله عنه، ولقد خصّ طائفة من الأكابر والعلماء بوضع التصنيف فيهم ورميهم بما برأهم الله عز وجل عنه. وبالغ في الافحاش، وأغرق في قوس الايحاش، وأظهر النّسخ بين الناس، وأغرب في فنون الهجاء، وأتى بالعبارات الرشيقة والمعاني الصحيحة من حيث الصنعة، وإن كانت عن آخرها أوزارا وآثاما وكذبا وبهتانا. واتفق الأفاضل على أنه أهجى عصره من الفضلاء، وأفتقهم شتما قبيحا تعريضا وتصريحا، وكان يسكن مدرسة السيوري بباب عزرة ويخصّ جماعة سكانها من الأئمة في عصره بالهجاء، وله معهم ثارات وأحوال يطول ذكرها، ثم مع تبحره وانفراده بفنّ الهجاء كان له شعر في الطبقة العليا في المدح والثناء وسائر المعاني، قصائده الغرّ في السادة والأئمة مشهورة، ومقطعاته في الغزل مأثورة، وكان ينسخ كتب الأدب بخطّ مقروء صحيح أحسن النّسخ، ولقد رأيت نسخة من «كتاب يتيمة الدهر» لأبي منصور الثعالبي في خمس مجلدات بخطه المليح بيعت بثلاثين دينارا نيسابورية وكانت تساوي أكثر من ذلك، ولقد كتب نسخة من «غريب الحديث» لأبي سليمان الخطابي وقرأها على جدي الشيخ عبد الغافر بن محمد الفارسي قراءة سماع، وعلى الحاكم الامام أبي سعد ابن دوست قراءة تصحيح وإتقان، أقطع على الله تعالى أن لم يبق من ذلك الكتاب نسخة أبين ولا أملح منها، وهي الآن برسم خزانة الكتب الموضوعة في الجامع القديم موقوفة على المسلمين من(6/2428)
أراد صدقي في ادعائي فليطالعه منها. ولم أظفر من مسموعاته في الأحاديث بشيء يمكنني أن أودعه هذا الكتاب مع أني لا أشك في سماعه، ولقد ذكر الحافظ أنه روى عنه عن خاله أبي الحسن هارون الزوزني عن أبي حاتم ابن حبان ولم يقع إلي بعد.
ومن شعره في بعض الأكابر:
يرتاح للمجد مهتزّا كمطرد ... مثقّف من رماح الخطّ عسّال
فمرة باسم عن ثغر برق حيا ... وتارة كاشف عن ناب رئبال
فما أسامة مطرورا براثنه ... ضخم الجزارة يحمي خيس أشبال
يوما بأشجع منه حشو ملحمة ... والحرب تصدع أبطالا بأبطال
ولا خضارة صخابا غواربه ... تسمو أواذيّه حالا على حال
أندى وأسمح منه إذ يبشّره ... مبشّروه بروّاد ونزّال
إلى غير ذلك من أمثاله إلى تمام القصيدة. وله:
وذي شنب لو أنّ حمرة ظلمه ... أشبهها بالجمر خفت به ظلما
قبضت عليه خاليا واعتنقته ... فأوسعني شتما وأوسعته لثما
ومن شعره يصف البرد:
متناثر فوق الثرى حبّاته ... كثغور معسول الثنايا أشنب
برد تحدّر من ذرى صخّابة ... كالدرّ إلا أنه لم يثقب
قال عبد العافر: واقتصرت على هذا الأنموذج من كلامه مخافة الاملال ومن أراد يزيد عليه فديوان شعره هزلا وجدا موجود، والله يغفر له ويعفو عنه.
قال المؤلف: ولم أر من تصانيف البحاثي هذا شيئا إلا «شرح ديوان البحتري» ولعمري إن هذا شيء ابتكره، فإني ما رأيت هذا الديوان مشروحا ولا تعرّض له أحد من أهل العلم، ولا سمعت أحدا قال اني رأيت ديوان أبي عبادة البحتري مشروحا، وتأملته فرأيته قد ملىء علما وحشي فهما، وذاك أن شروح الدواوين المعروفة كأبي تمام والمتنبي وغيرهما تساعدت القرائح عليه وترافدت الهمم إليه، وما أرى له فيما اعتمده من شرح هذا الكتاب عمدة إلا أن يكون «كتاب عبث الوليد» للمعري(6/2429)
و «كتاب الموازنة» للآمدي لا غير.
وقد ذكر البحاثيّ هذا أبو منصور الثعالبي في «تتمة يتيمة الدهر» بما أنا ذاكره إن شاء الله، قال أبو منصور: أبو جعفر محمد بن إسحاق البحاثي زينة زوزن، وطرف الطرف، وريحان الروح، يقول في هجاء لحيته الطويلة:
يا لحية قد علّقت من عارضي ... لا أستطيع لقبحها تشبيها
طالت فلم تفلح ولم تك لحية ... لتطول إلا والحماقة فيها
إني لأظهر للبرية حبّها ... والله يعلم أنني أقليها
ويقول في ذم خال على وجه بعض من يهجوه:
أبو طاهر في الشؤم واللؤم غاية ... بعيد عن الاسلام والعقل والدين
على وجهه خال قريب من انفه ... كمثل ذباب واقع فوق سرقين
وله:
ينيكون غزلان الحسان ولا أرى ... غزالا من الغزلان فردا بساحتي
فمن يك قد لاقى من النيك راحة ... ففي راحتي أنسي ورفقي وراحتي
وله:
ولما رأيت الفقر ضربة لازب ... ولم يك لي في الكفّ عقد على نقد
ولا لي غلام قد يناك ولم يكن ... سبيل إلى التّرك المكحلة المرد
شريت قبيحا من بني الهند أسودا ... ونيك الهنود السود خير من الجلد
وله أيضا يهجو «1» :
فسوي وضرطي والخرا مائعا ... على الذي مقلوبه فسوي
من خلقه أقبح من خلقه ... وجحره أوسع من دلوي
وله:
تعوّد هتك الستر نسوان سكبر ... وجئن لباس الفسق من أحسن الكسا(6/2430)
وطرن سرورا حين لقبن سكبرا ... فسكبر إذ قلّبته صار رب كسا
وللبحاثي في صفة دعوة:
سألونا عن قراه ... فاختصرنا في الجواب
كان فيه كلّ شيء ... بارد غير الشراب
ومن خبيث شعره:
الحمد لله وشكرا على ... إنعامه الشامل في كلّ شي
إن الذي لاعبني في الصبا ... مات ومن قد نكته بعد حي
نقلت من خط أبي سعد السمعاني عن رجل عن أسعد بن محمد العتبي قال:
حكى أبو جعفر البحاثي أن أبا بكر الصبغي كان يختلف معنا إلى الحاكم أبي سعد ابن دوست، وكان من أنجب تلامذته نظما ونثرا، فاختطف في ريعان شبابه ونضارة عمره، فرأيته في المنام ليلة، قلت: ما وجدت من أشعارك شيئا يكون لي تذكرة، فقال: ليس لي شعر، فقلت ألست القائل:
باكر أبا بكر بكاس ... ما بين إبريق وطاس
فقال وأنا أقول:
حلّ الخطوب بساحتي ... لا كنت أيتها الخطوب
غادرتنا فغدرت إنّ الدهر خدّاع خلوب ... دنيا تقضّت لم يكن
لي في أطايبها نصيب
قال: فانتبهت وأشعلت السراج وكتبت عنه هذه الأبيات.
حكى يعقوب بن أحمد النيسابوري أن القاضي البحاثي دخل على أبي سعد ابن دوست فأنشده:
ليت شعري إذا خرجت من الدن ... يا فأصبحت ساكن الأجداث
هل يقولنّ إخوتي بعد موتي ... رحم الله ذلك البحاثي
فلما مات البحاثي قال فيه أبو سعد ابن دوست:(6/2431)
يا أبا جعفر بن إسحاق إني ... خانني فيك نازل الأحداث
من هوى من مصاعد العزّ قسرا ... يك تحت الرجام في الأجداث
فلك اليوم من قواف حسان ... سرن في المدح سيرها في المراثي
مع كتب جمعن في كلّ فنّ ... حين يروين ألف باك وراثي
قائل كلها بغير لسان ... رحم الله ذلك البحاثي
وذكر محمد بن محمود النيسابوري في «كتاب سر السرور» أن شعر البحاثي نيف على عشرين ألف بيت، وأنه وقف عليه في تسع مجلدات، فانتخبت من ذلك المنتخب في هذه الورقة:
بأبي من عند لثمي ... زاد في عشقي بشتمه
ومضى يبكي ويمحو ... أثر اللثم بكمّه
وله مثله:
بليت بطفل قلّ طائل نفعه ... سوى قبل يزري بها طول منعه
ويمسحها من عارضيه بكمّه ... ويغسلها عن وجنتيه بدمعه
يكاشفني إن لاح شخصي بعينه ... ويغتابني إن مرّ ذكري بسمعه
ولم أجد له في غير الهجاء السخيف شيئا استحسنته، قال يهجو:
ألا إن هذا البيهقيّ محدّث ... مسيلمة الكذاب في جنبه ملك
ففي وجهه قبح وفي قلبه عمى ... وفي نطقه كذب وفي دينه حلك
لو ابن معين كان حيّا لجاءه ... وبالسلح سلح الكلب لحيته دلك
فلا تعجبا إن مدّ في عمر مثله ... ويهلك أهل الفضل إذ خرف الفلك
وله:
مأتم الشيخ مأنس للكرام ... جئته قاضيا لحقّ الحمام
مع حزن يحكي حزين الأغاني ... وبكاء يحكي بكاء الحمام
كجهام الغمام جفنا ووجها ... مكدي الدمع واري الإبتسام(6/2432)
وكان البارع الزوزني عرضة لأهاجيه، وغرضا لطعان قوافيه، وكان يلقبه بالباعر، ويدّعي أنه افترسه ظبيا غريرا، وافترشه بدرا منيرا، فلما التحى أنكر صحبته، ونبذ وراء ظهره مودته، فمن ذلك:
كان البويعر بدرا في حداثته ... ما كان أحسنه وجها وأبهاه
والطيب أجمع فيما تحت مئزره ... والسحر ما بثه في الناس عيناه
ربيته وهو في حجري ألاعبه ... نهاره وفراشي كان مأواه
أفيده في جنايا العلم أحسنها ... وأستفيد لذيذا من جنى فاه
حتى إذا ما عسا جلد أسته وغدا ... مشعّرا ودجا واسودّ قطراه
وصار كلبا وخنزيرا وزوبعة ... وغول قفر يميت الإنس لقياه
أنشا يمزّق عرضي منكرا أدبي ... وليس يحسن إلا ما أفدناه
إن كان ينكر ما قدمت من أدبي ... فليس ينكر أيري شمّ مفساه
لو لم تغير صروف الدهر صورته ... لكان مغفورة عندي خطاياه
وله في السخف أبيات [....] «1»
وله:
إني لمرزوق من الناس إذ ... أصبحت من أحذق حذّاقهم
ما ذاك من فضل ولكنني ... أخالق الناس بأخلاقهم
[1001] محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد
بن ميكال أبو جعفر الميكالي: قد استوفينا هذا النسب في باب أبي الفضل عبد الله بن أحمد فأغنى. وكان أبو جعفر أديبا شاعرا لغويا فقيها، مات في صفر سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، وكان قد تفقه على
__________
[1001] ترجمة أبي جعفر الميكالي في الوافي 2: 216.(6/2433)
قاضي الحرمين أبي الحسين وعقد له مجلس الاملاء سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، سمع منه الحاكم أبو عبد الله ابن البيع الحافظ.
[1002] محمد بن إسماعيل النحوي أبو عبد الله
يعرف بالحكيم: من أهل قرطبة، سمع محمد بن وضاح ومحمد بن عبد السلام الخشني ومطرف بن قيس وعبد الله بن مسرة ومحمد بن عبد الله الغاز. وكان عالما بالنحو والحساب، دقيق النظر، مثيرا للمعاني الغامضة، مؤكدا لها، لا يتقدمه أحد في ذلك، وعمر إلى أن بلغ ثمانين عاما، وأدب الحكم المستنصر، وتوفي لعشر خلون من ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة ونسله انقرض.
[1003] محمد بن إسماعيل بن زنجي أبو عبد الله
الكاتب: له نباهة وذكر في أيام المعتضد وإلى آخر أيام الراضي، وكان من جلة الكتاب ومشايخهم، معروف بجودة الخط، وله تصانيف: منها كتاب الكتاب والصناعة. كتاب رسائله.
قال ابن شيران: مات محمد بن إسماعيل المعروف بزنجي الكاتب الأنباري في شوال سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة: وكان متقدما في كتاب الانشاء والرسائل والكلام حسن المجلس، وله أخبار كثيرة حسنة.
[1004] محمد بن بحر الرهني أبو الحسين الشيباني
، والرهني، بالراء المهملة والنون، منسوب إلى رهنة- قرية من قرى كرمان، وكان يسكن نرماسير من أرض
__________
[1002] ترجمة الحكيم النحوي في ابن الفرضي 2: 54 (وياقوت ينقل عنه) وطبقات الزبيدي: 276.
[1003] ترجمة ابن زنجي في تاريخ بغداد 2: 48 والوافي 2: 210.
[1004] ترجمة الرهني في الوافي 2: 243 ومعجم البلدان (رهن) .(6/2434)
كرمان، وهو يكنى أبا الحسين، شيباني الأصل معروف بالفضل والفقه.
قال ابن النحاس في كتابه: قال بعض أصحابنا إنه كان في مذهبه ارتفاع، وحديثه قريب من السلامة، ولا أدري من أين فيّل.
قال شيخنا رشيد الدين: كان لقنا حافظا يذاكر بثمانية آلاف حديث غير أنه كثر حفظه وتتبع الغرائب وعمّر، ومن طلب غرائب الحديث كذب. قال: ووقفت على كتابه «البدع» فما أنكرت فيه شيئا، وعند الله علمه. وكان عالما بالأنساب وأخبار الناس شيعي المذهب غاليا فيه، له تصانيف في أخبار الشيعة منها: كتاب سماه كتاب «نحل العرب» يذكر فيه تفرق العرب في البلاد في الإسلام ومن كان منهم شيعيا ومن كان منهم خارجيا أو سنيا، فيحسن قوله في الشيعة ويقع فيمن عداهم. وقفت على جزء من هذا الكتاب ذكر فيه نحل أهل المشرق خاصة من كرمان وسجستان وخراسان وطبرستان، وذكر فيه أن له تصنيفا آخر سماه «كتاب الدلائل على نحل القبائل» وذكر فيه أعني كتاب النحل: أخبرني ابن المحتسب ببغداد في درب عبدة بالحربية، قال أخبرنا أحمد بن الحارث الخراز، قال أخبرني المدائني علي بن محمد بن أبي سيف عن سلمة بن سليمان المغني وغيره، فذكر قصة الملبد بن يزيد بن عون بن حرملة بن بسطام بن قيس بن حارثة بن عمرو بن أبي ربيعة بن ذهل بن شيبان الخارج في أيام المنصور شاريا بالجزيرة حتى قتل.
وقال في موضع آخر: حدثني سعد بن عبد الله بن أبي خلف، قال حدثني أبو هاشم الجعفري، وقال فيه: حدثني النوفلي علي بن محمد بن سليمان بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن أبيه.
وقال فيه: سمعت أحمد بن محمد بن كيسان النحوي وأنا أقرأ عليه «كتاب سيبويه» يقول لم يجىء على فعّل إلا أربعة أسماء البقّم هي الخشبة التي يصبغ بها، وهي معروفة، وشلّم اسم بيت المقدس بالنبطية، وبذّر وهو اسم ماء من مياه العرب، قال كثير «1» :(6/2435)
سقى الله أمواها عرفت مكانها ... جرابا وملكوما وبذّر والغمرا
وخصّم اسم للعنبر بن عمرو بن تميم.
[1005] محمد بن بكر البسطامي:
لا أعرف من حاله إلّا ما ذكره حمزة الأصبهاني، وقد ذكر الخليل وغيره، ثم قال: وصنف بالأمس محمد بن بكر البسطامي كتابا على كتاب محمد بن الحسن بن دريد المسمى «الجمهرة» وقال: كان السبب لوضعي هذا الكتاب تطرفي «1» الكتاب المسمى «كتاب الياقوتة» وأن مصنفه حشا أكثر الكتاب مما [لم] ينطق به العرب وعزاه إلى ثعلب، وقد طلبنا ما ادعى من ذلك على العرب في المصنفات فلم نجده، ثم سألنا عنه أصحاب ثعلب فلم يعرفوه، والذي صنف هذه الكتب لم يقم على ما أودعه شاهدا ولا دليلا من القرآن أو الحديث أو المثل ولا نحا «2» فيما رواه إلا إلى: أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي، فتمت له رواية تلك الأباطيل بين قوم لم يطالبوه بدليل، وظنوا أنه فيها مصيب، ثم ذكر «كتاب العين» وأنه من تصنيف تلاميذ الخليل كما ذكرته في ترجمة الخليل.
[1006] محمد بن ثابت بن محمد بن سوار بن علوان
النميري الأصبهاني، أبو بكر:
إمام الجامع باصبهان في باب كوشك، ذكره يحيى بن منده فقال: كان سنيا فاضلا من الناس بارعا في الأدب شاعرا فصيحا كثير السماع قليل الرواية، مسكنه في درب البخاري. روى عن عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك وأبي بكر محمد بن
__________
[1005] ترجمة محمد بن بكر البسطامي في الوافي 2: 262 (عن ياقوت) .
[1006] ترجمة ابن علوان الاصبهاني في الوافي 2: 281 (والنقل عن ياقوت وإن لم يصرح بذلك) .(6/2436)
إبراهيم بن المقرىء وأحمد بن عبد الله النهرديري، كتب عنه عمي الامام وجماعة، رحمهم الله.
[1007] محمد بن تميم أبو المعالي «1» البرمكي
اللغوي: له كتاب كبير في اللغة سماه «المنتهى في اللغة» منقول من «كتاب الصحاح» للجوهري، وزاد فيه أشياء قليلة، وأغرب في ترتيبه، إلا أنه والجوهري كانا في عصر واحد، لأني وجدت كتاب الجوهري بخطه وقد فرغ منه في سنة ست وتسعين وثلاثمائة. وذكر البرمكي في مقدمة كتابه أنه صنفه في سنة سبع وتسعين وثلاثمائة، ولا شك أن أحد الكتابين منقول من الآخر نقلا، والذي أشك فيه أن البرمكي نقل «كتاب الصحاح» لأن أبا سهل محمد بن علي الهروي كان بمصر وحكى عن البرمكي، وقد روى الهروي «الصحاح» عن ابن عبدوس، ولعل الكتاب خرج عن الجوهري وهو حيّ وقدم به إلى مصر.
[1008] محمد بن بحر الأصفهاني
الكاتب، يكنى أبا مسلم: كان كاتبا مترسلا بليغا متكلما جدلا، مات فيما ذكره حمزة في «تاريخه» في آخر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة ومولده سنة أربع وخمسين ومائتين، وكان الوزير أبو الحسن علي بن عيسى بن داود بن الجراح يشتاقه ويصفه.
وقال أبو علي التنوخي، وقد ذكر محمد بن زيد الداعي فقال: وهو الذي كان أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني الكاتب المعتزلي العالم بالتفسير وبغيره من صنوف
__________
[1007] ترجمة أبي المعالي البرمكي في الوافي 2: 280.
[1008] ترجمة ابن بحر الأصفهاني في الوافي 2: 244 والفهرست: 151.(6/2437)
العلم مذ صار عامل أصبهان وعامل فارس للمقتدر يكتب له ويتولى أمره.
ذكره محمد بن إسحاق وقال. له من الكتب: كتاب جامع التأويل لمحكم التنزيل على مذهب المعتزلة أربعة عشر مجلدا. كتاب جامع رسائله «1» [وله في] كتاب حمزة: كتاب الناسخ والمنسوخ. كتاب في النحو، وسمى حمزة كتابه في القرآن شرح التأويل.
وكان ابن أبي البغل ولي في سنة ثلاثمائة ديوان الخراج والضياع بأصبهان وهو ببغداد فورد «2» كتاب على أبي مسلم ابن بحر بأن يخلفه على ديوان الضياع بها، ثم ورد ابن أبي البغل إلى أصبهان فأقره على خلافته، ثم مات أبو علي محمد بن أحمد بن رستم في سنة احدى وعشرين وثلاثمائة، فرتب مكانه أبو مسلم ابن بحر وذلك في شوال، ثم ورد علي بن بويه في خمسمائة فارس فهزم المظفر بن ياقوت في خمسة آلاف فارس ودخل ابن بويه أصبهان في منتصف ذي القعدة فعزل أبو مسلم.
نقلت من «كتاب أصفهان» قال: وقال أبو مسلم في أبيات بالفارسية لأبي الأشعث القمي:
يا للشباب وغصنه النّضر ... والعيش في أيامه الزّهر
لو دام لي عهد المتاع به ... وأمنت فيه حوادث الدهر
لكنه لي معقب هرما ... وهو النذير بآخر العمر
قال وقال في أبي المعمر «3» :
هل أنت مبلغ هذا القائد البطل ... عني مقالة طبّ غير ذي خطل
إن كنت أخطأت قرطاسا عمدت له ... فأنت في رمي قلبي من بني ثعل
قال: ودخل يوما إلى دار أخيه أحمد بن بحر فرأى معه دفترا على ظهره أبيات(6/2438)
نصر بن سيار، وذاك عندما بيّض ماكان بن كاكي الديلمي ووردت خيله قمّ، وأبيات نصر «1» :
أرى خلل الرماد وميض جمر ... ويوشك أن يكون له ضرام
وان النار بالزندين تورى ... وان الحرب يقدمها الكلام
أقول من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فكتب أبو مسلم تحتها «2» :
أرى نارا تشبّ بكلّ واد ... لها في كل منزلة شعاع
وقد رقدت بنو العباس عنها ... وأضحت وهي آمنة رتاع
كما رقدت أمية تم هبّت ... لتدفع حين ليس بها دفاع
ولما مات قال فيه علي بن حمزة بن عمارة الأصبهاني يرثيه:
وقالوا ألا ترثي ابن بحر محمدا ... فقلت لهم ردّوا فؤادي واسمعوا
فلن يستطيع القول من طار قلبه ... جريحا قريحا بالمصائب يقرع
ومن بان عنه إلفه وخليله ... فليس له إلا إلى البعث مرجع
ومن كان أوفى الأوفياء لمخلص ... ومن حيز في سرباله الفضل أجمع
سحابا كماء المزن شيب به الجنى ... جنى الشهد في صفو المدام يشعشع
وغرب ذكاء واقد مثل جمرة ... وطبع به العضب المهنّد يطبع
ومن كان من بيت الكتابة في الذرى ... وذا منطق في الحفل لا يتتعتع
وله «3» :(6/2439)
وقد كنت أرجو أنه حين يلتحي ... يفرّج عني أو يجدّد لي صبرا
فلما التحى واسودّ عارض وجهه ... تحوّل لي البلوى بواحدة عشرا
[1009] محمد بن بركات بن هلال بن عبد الواحد
بن عبد الله السعيدي الصوفي:
نقلت نسبه هذا من خط يده، يكنى أبا عبد الله مات في سنة عشرين وخمسمائة، وقيل إن مولده في سنة عشرين وأربعمائة، فيكون عمره على هذا مائة سنة. أحد فضلاء المصريين وأعيانهم المبرزين، أخذ النحو والأدب عن أبي الحسن ابن بابشاذ فأتقنه، وله أيضا معرفة حسنة بالأخبار والأشعار، وكان يقول الشعر فيجيد، ومن قوله «1» :
يا عنق الأبريق من فضة ... ويا قوام الغصن الرطب
هبك تجافيت وأقصيتني ... تقدر أن تخرج من قلبي
ومنه:
وإذا الصنيعة وافقت أهلا لها ... دلّت على توفيق مصطنع اليد
وله من الكتب: كتاب خطط مصر أجاد فيه. وله عدة تصانيف في النحو.
وكتاب الناسخ والمنسوخ، فيما بلغني، والله أعلم.
وقال محمد بن بركات السعيدي يخاطب أبا القاسم هبة الله [بن] علي بن مسعود بن ثابت البوصيري الأنصاري:
فله أوامر من حجاه حكيمة ... وله زواجر من نهاه [نواهي]
__________
[1009] ترجمة السعيدي الصوفي في الوافي 2: 247 والمغرب (قسم القاهرة) 311 وإنباه الرواة 3: 78 والمحمدون: 167 (والصفدي ينقل عن ياقوت وعن ابن سعيد المغربي) وانظر الخريدة (قسم مصر) 2: 42 وعبر الذهبي 4: 47 وبغية الوعاة 1: 59 والشذرات 4: 62 وحسن المحاضرة 1: 532 وإشارة التعيين: 300.(6/2440)
يقظان من فهم لكلّ فضيلة ... بنباهة جلّت عن الأشباه
علامة ما مشكل مستبهم ... خاف عن الأفهام من أنباه
[1010] محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب
، أبو جعفر الطبري المحدث الفقيه المقرىء المؤرخ المعروف المشهور: مات فيما ذكره أبو بكر الخطيب يوم السبت لأربع بقين من شوال سنة عشر وثلاثمائة ودفن يوم الأحد بالغداة في دار برحبة يعقوب، ولم يغير شيبه، وكان السواد في شعر رأسه ولحيته كثيرا. ومولده سنة أربع أو أوّل سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان أسمر الأدمة أعين نحيف الجسم مديد القامة فصيح اللسان.
قال غير الخطيب: ودفن ليلا خوفا من العامة لأنه يتهم بالتشيع، وأما الخطيب فإنه قال: ولم يؤذن به أحد، فاجتمع على جنازته من لا يحصي عددهم إلا الله، وصلي على قبره عدة شهور ليلا ونهارا، ورثاه خلق كثير من أهل الدين والأدب.
قال «1» : وسمع محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وأحمد بن منيع البغوي وأحمد «2» بن حميد الرازي وأبا همام الوليد بن شجاع وأبا كريب محمد بن العلاء، وعدّد خلقا كثيرا من أهل العراق والشام ومصر. وحدث عنه أحمد بن كامل القاضي وغيره، واستوطن بغداد وأقام بها إلى حين وفاته.
قال «3» : وكان أحد أئمة العلماء يحكم بقوله ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله،
__________
[1010] ترجمة الطبري في الفهرست: 291 وتاريخ بغداد 2: 162 وطبقات الشيرازي: 93 والمنتظم 6: 170 وانباه الرواة 3: 89 وابن خلكان 4: 191 وتذكرة الحفاظ: 710 وسير الذهبي 14: 267 وعبر الذهبي 2: 146 وميزان الاعتدال 3: 498 والوافي 2: 284 ومرآة الجنان 2: 260 وطبقات السبكي 3: 120 والبداية والنهاية 11: 145 وطبقات ابن الجزري 2: 106 ولسان الميزان 5: 100 والنجوم الزاهرة 3: 205 وطبقات المفسرين 30 وطبقات الداودي 2: 106 والشذرات 2: 260.
والمقفى 5: 481.(6/2441)
وكان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، وكان حافظا لكتاب الله عز وجل، عارفا بالقرآن بصيرا بالمعاني، فقيها بأحكام القرآن، عالما بالسنن وطرقها وصحيحها وسقيمها وناسخها ومنسوخها، عارفا بأقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المخالفين في الأحكام ومسائل الحلال والحرام، عارفا بأيام الناس وأخبارهم، وله الكتاب المشهور في تاريخ الأمم والملوك، وكتاب في تفسير القرآن لم يصنف أحد مثله، وكتاب سماه «تهذيب الآثار» «1» لم أر سواه في معناه، لم يتممه.
وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة واختيار من أقاويل الفقهاء وتفرد بمسائل حفظت عنه.
قال الخطيب: وسمعت علي بن عبيد الله اللغوي السمسمي «2» يحكي أن محمد بن جرير مكث أربعين سنة يكتب في كلّ يوم منها أربعين ورقة، قال: وقال أبو حامد الاسفرائني الفقيه: لو سافر رجل إلى الصين حتى يحصل كتاب تفسير محمد بن جرير لم يكن ذلك كثيرا أو كلاما هذا معناه.
وحدث «3» عن القاضي أبي عمر عبيد الله بن أحمد السمسار وأبي القاسم بن عقيل الوراق أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: أتنشطون لتفسير القرآن؟ قالوا: كم يكون قدره؟ قال: ثلاثون ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه، فاختصره في نحو ثلاثة آلاف ورقة. ثم قال: تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا هذا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحوا مما ذكره في التفسير، فأجابوه بمثل ذلك، فقال:
إنا لله ماتت الهمم، فاختصره في نحو مما اختصر التفسير.
وحدث «4» فيما أسنده الى أبي بكر ابن بالويه قال، قال لي أبو بكر محمد بن إسحاق، يعني ابن خزيمة: بلغني أنك كتبت التفسير عن محمد بن جرير، قلت:
نعم كتبنا التفسير عنه إملاء، قال: كله؟ قلت: نعم، قال: في أي سنة؟ قلت من سنة ثلاث وثمانين إلى سنة تسعين، قال: فاستعاره مني أبو بكر وردّه بعد سنين، ثم(6/2442)
قال: نظرت فيه من أوله إلى آخره، وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة؛ قال: وكانت الحنابلة تمنع [منه] ولا تترك أحدا يسمع عليه.
وأنشد محمد بن جرير «1» :
إذا أعسرت لم أعلم رفيقي ... وأستغني فيستغني صديقي
حيائي حافظ لي ماء وجهي ... ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي ... لكنت إلى الغنى سهل الطريق
وأنشد أيضا «2» :
خلقان لا أرضى طريقهما ... تيه الغنى ومذلّة الفقر
فإذا غنيت فلا تكن بطرا ... وإذا افتقرت فته على الدهر
وحدث فيما أسنده إلى محمد بن جرير قال: كتب إليّ أحمد بن عيسى العلوي من بلد «3» :
ألا إنّ إخوان الثقات قليل ... فهل لي الى ذاك القليل سبيل
سل الناس تعرف غثّهم من سمينهم ... فكلّ عليه شاهد ودليل
قال أبو جعفر فأجبته:
يسيء أميري الظنّ في جهد جاهد ... فهل لي بحسن الظنّ منه سبيل
تأمل أميري ما ظننت وقلته ... فإن جميل القول منك جميل
هذا آخر ما نقلته من تاريخ أبي بكر.
وحدث عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني في كتابه المعروف «كتاب الصلة» وهو كتاب وصل به تاريخ ابن جرير: أن قوما من تلاميذ ابن جرير حصلوا أيام حياته منذ بلغ الحلم الى أن توفي وهو ابن ست وثمانين، ثم قسموا عليها أوراق مصنفاته، فصار منها على كل يوم أربع عشرة ورقة، وهذا شيء لا يتهيأ لمخلوق إلا بحسن عناية الخالق. وفرغ من تصنيف كتاب التاريخ ومن عرضه عليه في يوم الأربعاء لثلاث بقين(6/2443)
من شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثمائة، وقطعه على آخر سنة اثنتين وثلاثمائة.
وجدت على جزء من «كتاب التفسير» لابن جرير بخط الفرغاني ما ذكر فيه قطعة من تصانيف ابن جرير فنقلته على صورته لذلك وهو: قد أجزت لك يا علي بن عمران وإبراهيم بن محمد ما سمعته من أبي جعفر الطبري رحمه الله من كتاب التفسير المسمى بجامع البيان عن تأويل آي القرآن. وكتاب تاريخ الرسل والأنبياء والملوك والخلفاء، والقطعين من الكتاب ولم أسمعه وإنما أخذته إجازة، وكتاب تاريخ الرجال المسمى بذيل المذيل، وكتاب القراءات وتنزيل القرآن، وكتاب لطيف القول وخفيفه في شرائع الاسلام، وما سمعته من كتاب التهذيب من مسند العشرة ومسند ابن عباس إلى حديث المعراج. وكتاب آداب القضاة والمحاضر والسجلات. وكتاب اختلاف علماء الأمصار فليرويا ذلك عني، وكتب عبد الله بن أحمد الفرغاني بخطه في شعبان سنة ست وثلاثين وثلاثمائة.
وحدث أبو علي الحسن بن علي الأهوازي المقرىء في «كتاب الاقناع» في إحدى عشرة قراءة قال: كان أبو جعفر الطبري عالما بالفقه والحديث والتفاسير والنحو واللغة والعروض، له في جميع ذلك تصانيف فاق بها على سائر المصنفين، وله في القراءات كتاب جليل كبير رأيته في ثماني عشرة مجلدة الا [أنه] كان بخطوط كبار ذكر فيه جميع القراءات من المشهور والشواذ، وعلل ذلك وشرحه، واختار منها قراءة لم يخرج بها عن المشهور ولم يكن منتصبا للاقراء ولا قرأ عليه أحد إلا آحاد من الناس كالصفار شيخ كان ببغداد من الجانب الشرقي يروي عنه رواية عبد الحميد بن بكار عن ابن عامر. وأما القراءة عليه باختياره فإني ما رأيت أحدا أقرأ به غير أبي الحسين الجبّي وكان ضنينا به، ولقد سألته زمانا حتى أخذ عليّ به وقال: ترددت إلى أبي جعفر نحوا من سنة أسأله ذلك زمانا حتى أجرمت عليه وسألته، وكنت قد سمعت منه صدرا من كتبه فأخذه عليّ على جهته وقال: لا تنسبها إليّ وأنا حي، فما أقرأت بها أحدا حتى مات رحمه الله في شوال سنة عشر وثلاثمائة. وقال أبو الحسين الجبي: ما قرأ عليه به إلا اثنان وأنت ثالثهم، ولا قرأ عليه أحد إلى أن مات سنة ثمانين وثلاثمائة.
وقرأت بخط أبي سعد بإسناده رقعة إلى أبي العباس البكري من ولد أبي بكر(6/2444)
الصديق قال «1» : جمعت الرحلة بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني بمصر فأرملوا وافتقروا ولم يبق عندهم ما يمونهم وأضرّ بهم الحال، فاجتمعوا ليلة في منزل كانوا يأوون إليه واتفقوا على أن يستهموا فمن خرجت عليه القرعة سأل الناس لأصحابه الطعام، فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة فقال لأصحابه: أمهلوني حتى أتوضأ وأصلي صلاة الخيرة، فاندفع بالصلاة فإذا هم بالشموع وخصيّ من قبل والي مصر يدقّ عليهم، فأجابوه وفتحوا له الباب، فقال: أيكم محمد بن نصر؟ فقيل هذا، وأشاروا إليه، فأخرج صرة فيها خمسون دينارا ودفعها إليه، وقال: أيكم محمد بن جرير؟ فأشاروا إليه فدفع إليه خمسين دينارا، ثم قال: أيكم محمد بن هارون؟ فقيل هذا، فدفع إليه مثلها، ثم قال: وأيكم محمد بن إسحاق بن خزيمة؟ فقيل هو ذا يصلي، فلما فرغ من صلاته دفع إليه صرة فيها خمسون دينارا ثم قال: إن الأمير كان قائلا فرأى في النوم خيالا أو طيفا يقول له: إن المحامد طووا كشحهم، فبعث بهذه الصرر، وهو يقسم عليكم إذا نفدت أن تبعثوا إليه ليزيدكم.
قال المؤلف: وقد ذكر أبو بكر الخطيب هذه الحكاية في ترجمة محمد بن حرب إلا أنني نقلتها من كتاب السمعاني.
وسأله يوما سائل عن نسبه فقال: محمد بن جرير، فقال السائل: زدنا في النسب فأنشده لرؤبة:
قد رفع العجّاج ذكري فادعني ... باسمي إذا الأنساب طالت يكفني
قال القاضي ابن كامل: كان مولده في آخر سنة أربع وعشرين ومائتين أو أول سنة خمس وعشرين ومائتين. قال ابن كامل: فقلت له كيف وقع لك الشك في ذلك؟
فقال: لأن أهل بلدنا يؤرخون بالأحداث دون السنين، فأرّخ مولدي بحدث كان في البلد، فلما نشأت سألت عن ذلك الحادث فاختلف المخبرون لي فقال بعضهم: كان ذلك في آخر سنة أربع، وقال آخرون: بل كان في أول سنة خمس وعشرين ومائتين، وكان مولده بآمل طبرستان وهي قصبة طبرستان.(6/2445)
قال أبو جعفر: جئت إلى أبي حاتم السجستاني، وكان عنده حديث عن الأصمعي عن أبي زائدة عن الشعبي في القياس، فسألته عنه فحدثني به، وقال لي أبو حاتم: من أيّ بلد أنت؟ فقلت: من طبرستان، فقال: ولم سميت طبرستان؟
فقلت: لا أدري، فقال: لما افتتحت وابتدئ ببنائها كانت أرضا ذات شجر، فالتمسوا ما يقطعون به الشجر، فجاءهم بهذا الطبر الذي يقطع به الشجر فسمي الموضع به.
وقال أبو بكر ابن كامل: جئت الى أبي جعفر قبل المغرب ومعي ابني أبو رفاعة وهو شديد العلة، فوجدت تحت مصلاه «كتاب فردوس الحكمة» لعلي بن ربن الطبري سماعا له، فمددت يدي لأنظره، فأخذه ودفعه إلى الجارية وقال لي: هذا [ابنك] ؟ فقال قلت: نعم، قال: ما اسمه؟ قلت: عبد الغني، قال: أغناه الله، وبأي شيء كنيته؟ قلت: بأبي رفاعة، قال: رفعه الله، أفلك غيره؟ قلت: نعم أصغر منه، قال: وما اسمه؟ قلت: عبد الوهاب أبو يعلى، قال: أعلاه الله، لقد اخترت الكنى والأسماء. ثم قال لي: كم لهذا سنة؟ قلت: تسع سنين، قال: لم لم تسمعه مني شيئا؟ قلت: كرهت صغره وقلة أدبه، فقال لي: حفظت القرآن ولي سبع سنين، وصليت بالناس وأنا ابن ثماني سنين، وكتبت الحديث وأنا ابن تسع سنين، ورأى لي أبي في النوم أنني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان معي مخلاة مملوءة حجارة وأنا أرمي بين يديه، فقال له المعبر: إنه إن كبر نصح في دينه وذبّ عن شريعته، فحرص أبي على معونتي على طلب العلم وأنا حينئذ صبي صغير.
قال ابن كامل: فأول ما كتب الحديث ببلده، ثم بالري وما جاورها، وأكثر من الشيوخ حتى حصل كثيرا من العلم، وأكثر من محمد بن حميد الرازي ومن المثنى بن إبراهيم الأبلي وغيرهما.
قال أبو جعفر: كنا نكتب عند محمد بن حميد الرازي فيخرج الينا في الليل مرات ويسأل عما كتبناه ويقرؤه علينا، قال: وكنا نمضي إلى أحمد بن حماد الدولابي، وكان في قرية من قرى الري بينها وبين الري قطعة، ثم نعدو كالمجانين حتى نصير الى ابن حميد فنلحق مجلسه. وكتب عن أحمد بن حماد «كتاب المبتدإ والمغازي» عن سلمة بن المفضل عن محمد بن إسحاق وعليه بنى تاريخه. ويقال إنه(6/2446)
كتب عن ابن حميد فوق مائة ألف حديث.
قال أبو جعفر: كان يقرأ علينا ابن حميد من التفسير، فإذا بلغ إلى قوله عز وجل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ
قال: أَوْ يُخْرِجُوكَ
(الأنفال: 30) ثم دخل أبو جعفر إلى مدينة السلام وكان في نفسه أن يسمع من أبي عبد الله أحمد بن حنبل فلم يتفق له ذلك لموته قبيل دخوله الينا، وقد كان أبو عبد الله قطع الحديث قبل ذلك بسنين، فأقام أبو جعفر بمدينة السلام وكتب عن شيوخها فأكثر، ثم انحدر إلى البصرة فسمع من كان بقي من شيوخها في وقته: كمحمد بن موسى الحرشي وعماد بن موسى القزاز ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني وبشر بن معاذ وأبي الأشعث ومحمد بن بشار بندار ومحمد بن المثنّى وغيرهم فأكثر، وكتب في طريقه عن شيوخه الواسطيين، ثم صار إلى الكوفة فكتب فيها عن أبي كريب محمد ابن العلاء الهمداني وهناد بن السري وإسماعيل بن موسى وغيرهم.
وكان أبو كريب شرس الخلق من كبار أصحاب الحديث، قال أبو جعفر: حضرت باب داره مع أصحاب الحديث، فاطّلع من باب خوخة له، وأصحاب الحديث يلتمسون الدخول ويضجّون، فقال: أيكم يحفظ ما كتب عني؟ فالتفت بعضهم إلى بعض ثم نظروا إلي وقالوا: أنت تحفظ ما كتبت عنه، قال قلت: نعم، فقالوا: هذا فسله، فقلت: حدثتنا في كذا بكذا وفي يوم كذا بكذا. قال: وأخذ أبو كريب في مسألة إلى أن عظم في نفسه فقال له: ادخل إليّ، فدخل إليه وعرف قدره على حداثته، ومكّنه من حديثه. وكان الناس يسمعون به فيقال إنه سمع من أبي كريب أكثر من مائة ألف حديث، ثم عاد إلى مدينة السلام فكتب بها ولزم المقام بها مدة وتفقه بها وأخذ في علوم القرآن.
وقال رجل لأبي جعفر: إن أصحاب الحديث يختارون، فقال: ما كنا نكتب هكذا، كتبت مسند يعقوب بن إبراهيم الدورقي وتركت شيئا منه، ولم أعلم ما كتبت عنه، ثم رجعت لأضع الحديث موضعه وأصنفه فبقي عليّ حديث كثير مما كتبته، وطال عليّ ما فاتني، وكتبت المسند كله ثانيا، والناس يختارون فربما فاتهم أكثر ما يحتاجون إليه، أو نحو هذا الكلام.(6/2447)
ثم غرّب فخرج إلى مصر وكتب في طريقه من المشايخ بأجناد الشام والسواحل والثغور وأكثر منها. ثم صار إلى الفسطاط في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان بها بقية من الشيوخ وأهل العلم، فأكثر عنهم الكتبة من علوم مالك والشافعي وابن وهب وغيرهم، ثم عاد إلى الشام، ثم رجع إلى مصر، وكان بمصر وقت دخوله إليها أبو الحسن علي بن سراج المصري، وكان متأدبا فاضلا في معناه، وكان من دخل الفسطاط من أهل العلم إذا ورد لقيه وتعرض له، فوافى أبو جعفر إلى مصر وبان فضله عند وروده إليها في القرآن والفقه والحديث واللغة والنحو والشعر، فلقيه أبو الحسن ابن سراج فوجده فاضلا في كلّ ما يذاكره به من العلم، ويجيب في كلّ ما يسأله عنه، حتى سأله عن الشعر فرآه فاضلا بارعا فيه، فسأله عن شعر الطرمّاح وكان من يقوم به مفقودا في البلد، فإذا [هو] يحفظه، فسئل أن يمليه حفظا بغريبه فعهدي به وهو يمليه عند بيت المال في الجامع. وكان قد لقي بمصر أبا إبراهيم إسماعيل بن إبراهيم المزني، فتكلما في أشياء منها الكلام في الاجماع، وكان أبو جعفر قد اختار من مذاهب الفقهاء قولا اجتهد فيه بعد أن كان ابتدأ بالفقه في مدينة السلام على مذهب الشافعي رضي الله عنه، وكتب كتابه عن الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني عنه، ودرسه في العراق على جماعة منهم أبو سعيد الاصطخري وغيره، وهو حدث قبل خروجه إلى الفسطاط.
وقال أبو بكر ابن كامل: خرج إلينا ليلة أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد ونحن نقرأ عليه كتاب قراءة أبي عمرو بن العلاء الكبير، فوجدنا نتناظر في بسم الله الرحمن الرحيم مع بعض إخواننا من الشافعيين، وهل هي من فاتحة الكتاب أم لا، وكان المجلس حفلا بجماعة من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأصحابنا، وكان يسميني في بعض الأوقات لقراءتي عليه الكسائي، فقال لي:
كسائي فيم أنتم؟ فعرّفته، فقال: وعلى مذهب من تتفقه؟ فقلت: على مذهب أبي جعفر الطبري، فقال: رحم الله أبا جعفر حدّثنا بحديث نوح بن أبي بلال عن سعيد المقبري عن أبي هريرة في بسم الله الرّحمن الرّحيم، ثم أخذ أبو بكر ابن مجاهد في مدح أبي جعفر الطبري وقال: بلغنا أنه التقى مع المزني فلا تسأل كيف استظهاره عليه والشافعيون حضور يسمعونه، ولم يذكر مما جرى بينهما شيئا.(6/2448)
قال أبو بكر ابن كامل: سألت أبا جعفر عن المسألة التي تناظر فيها هو والمزني فلم يذكرها لأنه كان أفضل من أن يرفع نفسه وأن يذكر [علوّه] على خصم في مسألة. وكان أبو جعفر يفضّل المزني فيطريه ويذكر دينه، وقال: جفا [عليّ] بعض أصحابه في مجلسه، فانقطعت عنه زمانا، ثم إنه لقيني فاعتذر إليّ كأنه قد جنى جناية ولم يزل في ترفّقه وكلامه حتى عدت إليه. وبلغنا أنه سئل بالفسطاط أن يردّ على مالك في شيء فردّ عليه في شيء كان الكلام فيه لابن عبد الحكم، وكانت أجزاء ولم تقع في أيدينا، ولعله مما منع الخصوم نشره.
وقال لنا أبو جعفر: لما وردت مصر في سنة ست وخمسين ومائتين نزلت على الربيع بن سليمان، فأمر من يأخذ لي دارا قريبة منه، وجاءني أصحابه فقالوا: تحتاج إلى قصرية وزير وحمارين وسدّة، فقلت: أما القصرية فأنا لا ولد لي وما حللت سراويلي على حرام ولا حلال قط، وأما الزير فمن الملاهي وليس هذا من شأني، وأما الحماران فإن أبي وهب لي بضاعة أنا أستعين بها في طلب العلم، فإن صرفتها في ثمن حمارين فبأي شيء أطلب العلم؟ قال: فتبسموا فقلت: إلى كم يحتاج هذا؟
فقالوا: يحتاج إلى درهمين وثلثين، فأخذوا ذلك مني، وعلمت أنها أشياء متفقة، وجاءوني باجانة وحبّ للماء وأربع خشبات قد شدوا وسطها بشريط وقالوا: الزير للماء، والقصرية للخبز، والحماران والسدة تنام عليها من البراغيث، فنفعني ذلك، وكثرت البراغيث فكنت إذا جئت نزعت ثيابي وعلقتها على حبل قد شددته واتزرت وصعدت إلى السدة خوفا منهم.
وقال هارون بن عبد العزيز، قال أبو جعفر: لما دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتحقق به، فجاءني يوما رجل فسألني عن شيء من العروض، ولم أكن نشطت له قبل ذلك، فقلت له: عليّ قول ألا أتكلم اليوم في شيء من العزوض، فإذا كان في غد فصر إليّ، وطلبت من صديق لي العروض للخليل بن أحمد فجاء به، فنظرت فيه ليلتي، فأمسيت غير عروضي وأصبحت عروضيا.
ثم رجع إلى مدينة السلام وكتب أيضا، ثم رجع إلى طبرستان وهي الدفعة الأولى ثم الثانية كانت في سنة تسعين ومائتين، ثم رجع إلى بغداد فنزل في قنطرة(6/2449)
البردان، واشتهر اسمه في العلم وشاع خبره بالفهم والتقدم.
قال عبد العزيز بن هارون: لما دخل أبو جعفر إلى الدينور ماضيا إلى طبرستان دعاه بعض أهل العلم بها، فلما اجتمعا قلت: يا أبا جعفر ما يحسن بنا أن نجتمع ولا نتذاكر، فقال عبد الله بن حمدان: قد ذاكرته فأغربت عليه خمسة وثمانين حديثا، وأغرب عليّ ثمانية عشر حديثا. قال عبد العزيز: ثم لقيت بعد ذلك أبا بكر ابن سهل الدينوري، وكان من العلماء والحفاظ للحديث، فحدثته بذلك فقال: كذب والله الذي لا إله إلا هو، لقد قدم إلينا أبو جعفر فدعاه المعروف بالكسائي، ودعا معه أهل العلم وكنت حاضرا ومعنا ابن حمدان، فقرأ على أبي جعفر كتاب الجنائز من «الاختلاف» فقال له أبو جعفر: ليس يصلح لنا أن نفترق من غير مذاكرة، وهذا كتاب الجنائز فنتذاكر بمسنده ومقطوعه وما اختلف فيه الصحابة والتابعون والعلماء، فقال ابن حمدان: أما المسند فأذاكر به وأما سواه فلا أذاكر به، فأغرب عليه ثلاثة وثمانين حديثا وأغرب عليه ابن حمدان ثمانية عشر حديثا. قال: وكان ابن حمدان فيما أغرب به على أبي جعفر أقبح مما أغرب به أبو جعفر لأنه كان إذا أغرب ابن حمدان بحديث قال له أبو جعفر هذا خطأ من جهة كذا ومثلي لا يذاكر به، فيخجل وينقطع. فلما قدم إلى بغداد من طبرستان بعد رجوعه إليها تعصب عليه أبو عبد الله الجصاص وجعفر بن عرفة والبياضي، وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يعدّ خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته روي عنه، ولا رأيت له أصحابا يعوّل عليهم، وأما حديث الجلوس على العرش فمحال، ثم أنشد:
سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس
فلما سمع ذلك الحنابلة منه وأصحاب الحديث وثبوا ورموه بمحابرهم، وقيل كانت ألوفا، فقام أبو جعفر بنفسه ودخل داره، فرموا داره بالحجارة حتى صار على بابه كالتلّ العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة في عشرات ألوف من الجند يمنع عنه العامة، ووقف على بابه يوما إلى الليل وأمر برفع الحجارة عنه، وكان قد كتب على بابه:
سبحان من ليس له أنيس ... ولا له في عرشه جليس(6/2450)
فأمر نازوك بمحو ذلك وكتب مكانه بعض أصحاب الحديث:
لأحمد منزل لا شكّ عال ... إذا وافى إلى الرحمن وافد
فيدنيه ويقعده كريما ... على رغم لهم في أنف حاسد
على عرش يغلّفه بطيب ... على الأكياد من باغ وعاند
[له] هذا المقام [لديه] حقا ... كذاك رواه ليث عن مجاهد
فخلا في داره وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، وذكر مذهبه واعتقاده، وجرّح من ظن فيه غير ذلك، وقرأ الكتاب عليهم، وفضل أحمد بن حنبل وذكر مذهبه وتصويب اعتقاده، ولم يزل في ذكره إلى أن مات، ولم يخرج كتابه في الاختلاف حتى مات، فوجدوه مدفونا في التراب، فأخرجوه ونسخوه، أعني «اختلاف الفقهاء» هكذا سمعت من جماعة منهم أبي رحمه الله.
وقال أبو محمد عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر من الفضل والعلم والذكاء والحفظ على ما لا يجهله أحد عرفه، لجمعه من علوم الإسلام ما لم نعلمه اجتمع لأحد من هذه الأمة، ولا ظهر من كتب المصنفين وانتشر من كتب المؤلفين ما انتشر له، وكان راجحا في علوم القرآن والقراءات، وعلم التاريخ من الرسل والخلفاء والملوك، واختلاف الفقهاء مع الرواية كذلك على ما في كتابه «البسيط» و «التهذيب» و «أحكام القراءات» من غير تعويل على المناولات والاجازات ولا على ما قيل في الأقوال، بل يذكر ذلك بالأسانيد المشهورة، وقد بان فضله في علم اللغة والنحو على ما ذكره في كتاب التفسير وكتاب التهذيب مخبرا عن حاله فيه، وقد كان له قدم في علم الجدل يدل على ذلك مناقضاته في كتبه على المعارضين لمعاني ما أتى به. وكان فيه من الزهد والورع والخشوع والأمانة وتصفية الأعمال وصدق النية وحقائق الأفعال ما دلّ عليه كتابه «في آداب النفوس» وكان يحفظ [من] الشعر للجاهلية والاسلام ما لا يجهله إلا جاهل به.
وقال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد سمعت ثعلبا يقول: قرأ عليّ أبو جعفر الطبري شعر الشعراء قبل أن يكثر الناس عندي بمدة طويلة.
وقال أبو بكر ابن المجاهد، قال أبو العباس يوما: من بقي عندكم- يعني في(6/2451)
الجانب الشرقي ببغداد- من النحويين؟ فقلت: ما بقي أحد، مات الشيوخ، فقال:
حتى خلا جانبكم؟ قلت: نعم إلا أن يكون الطبري الفقيه، فقال لي: ابن جرير؟
قلت: نعم، قال: ذاك من حذّاق الكوفيين. قال أبو بكر: وهذا من أبي العباس كثير، لأنه كان شديد النفس شرس الأخلاق، وكان قليل الشهادة لأحد بالحذق في علمه.
وقال عبد العزيز بن محمد: قنطرة البردان محظوظة من العلماء النحويين، كان فيها أبو عبيد القاسم بن سلام ومسجده وراء سويقة جعفر معروف به، وكان فيها علّان الأزدي ومسجده في هذا الموضع معروف به، وكان أبو بكر هشام بن معاوية الضرير النحوي وكان فاضلا مسجده عند مسجد أبي عبد الله الكسائي، وكان بها أبو عبيد الله محمد بن يحيى الكسائي وعنه انتشرت رواية أبي الحارث عن الكسائي وقرأ عليه كبار الناس، ونزلها أبو جعفر الطبري وكان أبو جعفر قد نظر في المنطق والحساب والجبر والمقابلة وكثير من فنون أبواب الحساب وفي الطب، وأخذ منه قسطا وافرا يدلّ عليه كلامه من الوصايا. وكان ظلفا «1» عن الدنيا تاركا لها ولأهلها يرفع نفسه عن التماسها، وكان كالقارىء الذي لا يعرف إلا القرآن، وكالمحدّث الذي لا يعرف إلا الحديث، وكالفقيه الذي لا يعرف إلا الفقه، وكالنحويّ الذي لا يعرف إلا النحو، وكالحاسب الذي لا يعرف إلا الحساب، وكان عاملا للعبادات جامعا للعلوم، وإذا جمعت بين كتبه وكتب غيره وجدت لكتبه فضلا على غيرها.
ومن كتبه: كتابه المسمى جامع البيان عن تأويل القرآن، قال أبو بكر ابن كامل: أملى علينا كتاب التفسير مائة وخمسين آية ثم خرج بعد ذلك إلى آخر القرآن فقرأه علينا وذلك في سنة سبعين ومائتين، واشتهر الكتاب وارتفع ذكره، وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وأبو العباس محمد بن يزيد المبرد يحييان، ولأهل الإعراب والمعاني معقلان، وكان أيضا في الوقت غيرهما مثل أبي جعفر الرستمي وأبي الحسن ابن كيسان والمفضل بن سلمة والجعد «2» وأبو إسحاق الزجاج وغيرهم من النحويين من فرسان هذا اللسان، وحمل هذا الكتاب مشرقا ومغربا وقرأه كل من كان في وقته من العلماء وكلّ فضّله وقدمه.(6/2452)
قال أبو جعفر: حدثتني به نفسي وأنا صبي.
قال عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو عمر الزاهد يعيش زمانا طويلا بمقابلة الكتب مع الناس، قال أبو عمر: فسألت أبا جعفر عن تفسير آية فقال: قابل بهذا الكتاب من أوله إلى آخره [قلت: فقابلت] فما وجدت فيه حرفا واحدا خطأ في نحو ولا لغة.
قال أبو جعفر: استخرت الله تعالى في عمل كتاب التفسير وسألته العون على ما نويته ثلاث سنين قبل أن أعمله فأعانني.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني: أخبرني شيخ من جسر ابن عفيف قال: رأيت في النوم كأني في مجلس أبي جعفر والناس يقرؤون عليه كتاب التفسير، فسمعت هاتفا بين السماء والأرض يقول: من أراد أن يسمع القرآن كما أنزل فليسمع هذا الكتاب.
وقال أبو بكر محمد بن مجاهد: سمعت أبا جعفر يقول: إني أعجب ممن قرأ القرآن ولم يعلم تأويله كيف يلتذ بقراءته.
وكتاب التفسير كتاب ابتدأه بخطبة ورسالة [في] التفسير تدل على ما خصّ الله به القرآن العزيز من البلاغة والاعجاز والفصاحة التي نافى بها سائر الكلام، ثم ذكر من مقدمات الكلام في التفسير، وفي وجوه تأويل القرآن وما يعلم تأويله، وما ورد في جواز تفسيره، وما حظر من ذلك، والكلام في قول النبي صلى الله عليه وسلم أنزل القرآن على سبعة أحرف، وبأي الألسنة نزل، والرد على من قال إن فيه أشياء من غير الكلام العربي، وتفسير أسماء القرآن والسور، وغير ذلك مما قدمه، ثم تلاه بتأويل القرآن حرفا حرفا، فذكر أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من تابعي التابعين وكلام أهل الإعراب من الكوفيين والبصريين، وجملا من القراءات، واختلاف القراءة فيما فيه من المصادر واللغات والجمع والتثنية، والكلام في ناسخه ومنسوخه، واحكام القرآن والخلاف فيه والردّ عليهم من كلام أهل النظر فيما تكلم فيه بعض أهل البدع، والرد عليهم على مذاهب أهل الإثبات ومبتغي السنن، إلى آخر القرآن، ثم اتبعه بتفسير أبي جاد وحروفها، وخلاف الناس فيها، وما اختاره من تأويلها بما لا يقدر أحد ان يزيد فيه، بل لا يراه مجموعا لا حد غيره، وذكر فيه من كتب التفاسير المصنفة عن ابن(6/2453)
عباس خمسة طرق، وعن سعيد بن جبير طريقين، وعن مجاهد بن جبر ثلاثة طرق، وربما كان عنه في مواضع أكثر من ذلك، وعن قتادة بن دعامة ثلاثة طرق، وعن الحسن البصري ثلاثة طرق، وعن عكرمة ثلاثة طرق، وعن الضحاك بن مزاحم طريقين، وعن عبد الله بن مسعود طريقا، وتفسير عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وتفسير ابن جريج وتفسير مقاتل بن حيان، سوى ما فيه من مشهور الحديث عن المفسرين وغيرهم، وفيه من المسند حسب حاجته إليه، ولم يتعرض لتفسير غير موثوق به فانه لم يدخل في كتابه شيئا عن كتاب محمد بن السائب الكلبي ولا مقاتل بن سليمان ولا محمد بن عمر الواقدي لأنهم عنده أظنّاء والله أعلم. وكان إذا رجع إلى التاريخ والسير وأخبار «1» العرب حكى عن محمد بن السائب الكلبي وعن ابنه هشام وعن محمد بن عمر الواقدي وغيرهم فيما يفتقر إليه ولا يؤخذ إلا عنهم، وذكر فيه مجموع الكلام والمعاني من كتاب علي بن حمزة الكسائي ومن كتاب يحيى بن زياد الفراء ومن كتاب أبي الحسن الأخفش ومن كتاب أبي علي قطرب وغيرهم مما يقتضيه الكلام عند حاجته إليه، إذ كانوا هؤلاء هم المتكلمون في المعاني وعنهم يؤخذ معانيه واعرابه، وربما لم يسمّهم إذا ذكر شيئا من كلامهم. وهذا كتاب يشتمل على عشرة آلاف ورقة أو دونها حسب سعة الخط أو ضيقه، قال عبد العزيز بن محمد الطبري:
وقد رأيت منه نسخة ببغداد تشتمل على أربعة آلاف ورقة.
ومن كتبه: كتاب الفصل بين القرأة، ذكر فيه اختلاف القراء في حروف القرآن، وهو من جيد الكتب، وفصل فيه أسماء القراء بالمدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام وغيرها، وفيه من الفصل بين كل قراءة، فيذكر وجهها وتأويلها والدلالة على ما ذهب إليه كل قارىء لها، واختياره الصواب منها، والبرهان على صحة ما اختاره، مستظهرا في ذلك بقوته على التفسير والاعراب الذي لم يشتمل على حفظ مثله أحد من القراء، وان كان لهم رحمهم الله من الفضل والسبق ما لا يدفع ذو بصيرة، بعد أن صدّره بخطبة تليق به، وكذلك كان يعمل في كتبه: أن يأتي بخطبته على معنى كتابه، فيأتي الكتاب منظوما على ما تقتضيه الخطبة، وكان أبو جعفر مجوّدا في القراءة موصوفا(6/2454)
بذلك يقصده القراء البعداء ومن الناس للصلاة خلفه يسمعون قراءته وتجويده.
وقال أبو بكر ابن كامل، قال لنا أبو بكر ابن مجاهد، وقد كان لا يجري ذكره إلا فضله: ما صنف في معنى كتابه مثله. وقال لنا: ما سمعت في المحراب أقرأ من أبي جعفر، أو كلاما هذا معناه. قال ابن كامل: وكان أبو جعفر يقرأ قديما لحمزة قبل أن يختار قراءته.
وقال أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني: قال لنا أبو جعفر: قرأت القرآن على سليمان بن عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وكان الطلحي قد قرأ على خلاد، وخلاد قرأ على سليم بن عيسى، وسليم قرأ على حمزة. ثم أخذها أبو جعفر عن يونس بن عبد الأعلى عن علي بن كيسة «1» عن سليم عن حمزة.
وقال ابن كامل، قال لنا أبو بكر ابن مجاهد، وقد ذكر فضل كتابه في القراءات وقال: إلا أني وجدت فيه غلطا، وذكره لي وعجبت من ذلك مع قراءته لحمزة وتجويده له ثم قال: والعلة في ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام لأنه بنى كتابه على كتاب أبي عبيد، فأغفل أبو عبيد هذا الحرف فنقله أبو جعفر على ذلك.
وقال أبو بكر ابن كامل، قال لنا أبو جعفر: وصف لي [قارىء] بسوق يحيى فجئت إليه، فتقدمت فقرأت عليه من أول القرآن حتى بلغت إلى قوله إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا
(البقرة: 26) فأعاد عليّ، فأعدته في كل قراءتي أبين فيه اليائين، وهو يردّ عليّ، إلى أن قلت له: تريد أكثر من تبيين اليائين بكسر الأولى؟
فلم يدر ما أقول، فقمت ولم أعد إليه.
قال: وكان عند أبي جعفر رواية ورش عن نافع عن يونس بن عبد الأعلى عنه، وكان يقصد فيها، فحرص على ما بلغني أبو بكر ابن مجاهد مع موضعه في نفسه وعند أبي جعفر أن يسمع منه هذه القراءة منفردا، فأبى إلا أن يسمعها مع الناس، فما أثر ذلك في نفس أبي بكر، وكان ذلك كرها من أبي جعفر أن يخصّ أحدا بشيء من العلم، وكان في أخلاقه ذلك، لأنه كان إذا قرأ عليه جماعة كتابا ولم يحضره أحدهم لا يأذن لبعضهم أن يقرأ دون بعض، وإذا سأله إنسان في قراءة كتاب وغاب، لم يقرئه(6/2455)
حتى يحضر، إلا كتاب الفتوى فانه كان أيّ وقت سئل عن شيء منه أجاب فيه. وكتابه في القراءات يشتمل على كتاب أبي عبيد القاسم بن سلام لأنه كان عنده عن أحمد بن يوسف الثعلبي عنه وعليه بنى كتابه.
ومنها كتابه كتاب التاريخ الكبير المسمى بتاريخ الرسل والملوك وأخبارهم ومن كان في زمن كل واحد منهم، بدأ فيه بالخطبة المشتملة على معانيه، ثم ذكر الزمان ما هو، ثم مدة الزمان على اختلاف أهل العلم من الصحابة وغيرهم، والامم المخالفة لنا في ذلك، والسنن الدالة على ما اختاره من ذلك، وهذا باب لا يحدّد «1» بوجود إلا له.
قال أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن محمد بن المغلس الفقيه، وكان أفضل من رأيناه فهما وعناية بالعلم ودرسا له، ولقد كان لعنايته بدرس العلم تعبى كتبه في جانب حارته «2» ثم يبتدىء فيدرس الأول فالأول منها إلى أن يفرغ منها، وهو ينقلها إلى الجانب الآخر، فإذا فرغ منها عاد في درسها ونقلها إلى حيث كانت، فقال يوما: ما عمل أحد في تاريخ الزمان وحصر الكلام فيه مثل ما عمله أبو جعفر؛ قال ولقد قال لي أبو الحسن ابن المغلس يوما وهو يذاكرنا شيئا من العلم وفضل العلماء فقال: والله إني لأظن أبا جعفر الطبري قد نسي مما حفظ إلى أن مات ما حفظه فلان طول عمره، وذكر رجلا كبيرا من أهل العلم.
ثم ذكر أبو جعفر في التاريخ الكلام في الدلالة على حدث الزمان: الأيام والليالي، وعلى أن محدثها الله عز وجل وحده، وذكر أول ما خلق وهو القلم وما بعد ذلك شيئا شيئا على ما وردت الآثار به واختلاف الناس في ذلك. ثم ذكر آدم وحواء واللعين ابليس وما كان من نزول آدم عليه السلام، وما كان بعده من أخبار نبي نبي ورسول رسول وملك وملك على اختصار منه لذلك إلى نبينا عليه السلام مع ملوك الطوائف وملوك الفرس والروم، ثم ذكر مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسبه وآباءه وأمهاته وأولاده وأزواجه ومبعثه ومغازيه وسراياه وحال أصحابه رضي الله عنهم، ثم ذكر الخلفاء الراشدين المهديين بعده، ثم ذكر ما كان من أخبار بني أمية وبني العباس في القطعين المنسوب أحدهما إلى قطع بني أمية والثاني إلى قطع بني العباس، وما شرحه(6/2456)
في كتاب التاريخ، وإنما خرج ذلك إلى الناس على سبيل الاجازة إلى سنة أربع وتسعين ومائتين، ووقف على الذي بعد ذلك لأنه كان في دولة المقتدر، وقد كان سئل شرح القطعين، فلما سئل ذلك شرحه وسماه القطعين، وهذا الكتاب من الأفراد في الدنيا فضلا ونباهة وهو يجمع كثيرا من علوم الدين والدنيا وهو في نحو خمسة آلاف ورقة.
ومنها كتابه المسمى بكتاب «ذيل المذيل» المشتمل على تاريخ من قتل أو مات من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعده على ترتيب الأقرب فالأقرب منه أو من قريش من القبائل، ثم ذكر موت من مات من التابعين والسلف بعدهم، ثم الخالفين إلى أن بلغ شيوخه الذين سمع منهم وجملا من أخبارهم ومذاهبهم، وتكلم في الذبّ عن ذوي الفضل منهم ممن رمي بمذهب هو بريء منه، كنحو الحسن البصري وقتادة وعكرمة وغيرهم، وذكر ضعف من نسب إلى ضعف من الناقلين ولينه، وفي آخره أبواب حسان من باب من حدث عنه الاخوة، أو الرجل وولده، ومن شهر بكنيته دون اسمه، أو باسمه دون كنيته، وهو من محاسن الكتب وأفاضلها يرغب فيه طلاب الحديث وأهل التواريخ وكان خرج إملاؤه بعد سنة ثلاثمائة وهو في نحو من ألف ورقة.
ومنها كتابه المشهور بالفضل شرقا وغربا المسمى بكتاب «اختلاف علماء الأمصار في أحكام شرائع الإسلام» قصد به إلى ذكر أقوال الفقهاء وهم: مالك بن أنس فقيه أهل المدينة بروايتين، وعبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي فقيه أهل الشام، ومن أهل الكوفة سفيان الثوري بروايتين، ثم محمد بن إدريس الشافعي ما حدّث به الربيع بن سليمان عنه، ثم من أهل الكوفة أبو حنيفة النعمان بن ثابت وأبو يوسف يعقوب بن محمد الأنصاري وأبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني مولى لهم ثم إبراهيم بن خالد أبو نصر الكلبي، وقد كان أولا ذكر في كتابه بعض أهل النظر وهو:
عبد الرحمن بن كيسان لأنه كان في الوقت الذي عمله ما كان يتفقه على مذهبه، فلما طال الزمان به وفقه أصحابه بسهو سقّطه من كتابه، وكان أول ما عمل هذا الكتاب (على ما سمعته يقول وقد سأله عن ذلك أبو عبد الله أحمد بن عيسى الرازي) إنما عمله ليتذكر به أقوال من يناظره ثم انتشر وطلب منه، فقرأه على أصحابه. وقد كان محمد بن داود الأصبهاني لما صنف كتابه المعروف ب «كتاب الوصول إلى معرفة(6/2457)
الأصول» ذكر في باب الاجماع عن أبي جعفر الطبري أن الاجماع عنده إجماع هؤلاء المقدّم ذكرهم الثمانية نفر دون غيرهم تقليدا منه لما قال أبو جعفر «اجمعوا وأجمعت الحجة على كذا» ثم قال في تصدير باب الخلاف «ثم اختلفوا فقال مالك وقال الاوزاعي كذا وقال فلان كذا» ان الذين حكى عنهم الاجماع هم الذين حكى عنهم الاختلاف، وهذا غلط من ابن داود ولو رجع إلى كتابه في «رسالة اللطيف» وفي «رسالة الاختلاف» وما أودعه كثيرا من كتبه من ان الاجماع هو نقل المتواترين لما أجمع عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الآثار دون أن يكون ذلك رأيا ومأخوذا جهة القياس لعلم ان ما ذهب إليه من ذلك غلط فاحش وخطأ بين.
وكان أبو جعفر يفضل «كتاب الاختلاف» وهو أول ما صنف من كتبه، وكان يقول كثيرا: لي كتابان لا يستغني عنهما فقيه: الاختلاف واللطيف.
وكتاب الاختلاف نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولم يستقص فيه اختياره لأجل أنه قد جوّد ذلك في «كتاب اللطيف» ولئلا يتكرر كلامه في ذلك. وقد كان جعل لكتاب الاختلاف رسالة بدأ بها ثم قطعها، ذكر فيها [لدى] الكلام في الاجماع وأخبار الآحاد العدول زيادات ليست في كتاب اللطيف وشيئا من الكلام في المراسيل والناسخ والمنسوخ.
وله كتاب الشروط المسمى أمثلة العدول، وهو من جيد كتبه التي يعوّل عليها أهل مدينة السلام؛ وكان أبو جعفر مقدما في علم الشروط قيما به.
ومن جياد كتبه: كتابه المسمى ب «كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام» وهو مجموع مذهبه الذي يعوّل عليه جميع أصحابه، وهو من أنفس كتبه وكتب الفقهاء وأفضل أمهات المذاهب وأسدّها تصنيفا، ومن قرأه وتدبره رأى ذلك إن شاء الله. وكان أبو بكر ابن راميك يقول: ما عمل كتاب في مذهب أجود من كتاب أبي جعفر «اللطيف» لمذهبه، وكان يعتذر في اختصاره كثيرا في أوله، وكتبه تزيد على كتاب الاختلاف في القدر، وثلاثة كتب: كتاب اللباس، كتاب أمهات الأولاد، كتاب الشرب. وهو من جيد الكتب وأحسنها، وهو كالمنفرد فيه. ولا يظن ظان أن قوله «كتاب اللطيف» إنما أراد به صغره وخفة محمل وزنه، وإنما أراد بذلك لطيف القول كدقة معانيه وكثرة ما فيه من النظر والتعليلات، وهو يكون نحو ألفين وخمسمائة ورقة.(6/2458)
وفيه كتاب جيد في الشروط يسمى بأمثلة العدول من اللطيف، ولهذا الكتاب رسالة فيها الكلام في أصول الفقه، والكلام في الاجماع، وأخبار الآحاد، والمراسيل، والناسخ والمنسوخ في الأحكام، والمجمل والمفسر من الأخبار والأوامر والنواهي، والكلام في أفعال الرسل، والخصوص والعموم، والاجتهاد، وفي إبطال الاستحسان، إلى غير ذلك مما تكلم فيه.
ومن جياد كتبه كتابه المعروف ب «كتاب الخفيف في أحكام شرائع الإسلام» وهو مختصر من كتاب اللطيف، وقد كان أبو أحمد العباس بن الحسن العزيزي أراد النظر في شيء من الأحكام فراسله في اختصار كتاب له، فعمل هذا الكتاب ليقرب متناوله، وهو نحو من الأربعمائة ورقة، وهو كتاب قريب على الناظر فيه، كثير المسائل، يصلح لتذكر العالم والمبتدىء المتعلم.
ومنها كتاب «تهذيب الآثار وتفضيل الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار» وهو كتاب يتعذر على العلماء عمل مثله ويصعب عليهم تتمته؛ قال أبو بكر ابن كامل: لم أر بعد أبي جعفر أجمع للعلم وكتب العلماء ومعرفة اختلاف الفقهاء وتمكنه من العلوم منه لأني أروض نفسي في عمل مسند عبد الله بن مسعود في حديث منه نظير ما عمله أبو جعفر فما أحسن عمله ولا يستوي لي.
ومن كتبه الفاضلة: كتابه المسمى ب «كتاب بسيط القول في أحكام شرائع الإسلام» وهذا الكتاب قدم له كتابا سماه «كتاب مراتب العلماء» حسنا في معناه، ذكر فيه خطبة الكتاب وحضّ فيه على طلب العلم والتفقه، وغمز فيه على من اقتصر من أصحابه على نقله دون التفقه بما فيه، ثم ذكر فيه العلماء ممن تفقه على مذهبه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أخذ عنهم ثم من أخذ عنهم ثم من أخذ عمن أخذ عنهم من فقهاء الأمصار: بدأ بالمدينة لأنها مهاجر النبيّ صلى الله عليه وسلم ومن خلفه أبو بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم، ثم بمكة لأنها الحرم الشريف، ثم العراقين: الكوفة والبصرة، ثم الشام وخراسان، ثم خرج إلى كتاب الصلاة بعد ذكر الطهارة، وذكر في هذا الكتاب اختلاف المختلفين واتفاقهم فيما تكلموا فيه على الاستقصاء والتبيين في ذلك، والدلالة لكل قائل منهم، والصواب من القول في ذلك، وخرّج منه نحو ألفي ورقة، وأخرج من هذا الكتاب «كتاب آداب القضاء» وهو أحد الكتب المعدودة له المشهورة(6/2459)
بالتجويد والتفصيل لأنه ذكر فيه بعد خطبة الكتاب الكلام في مدح القضاة وكتابهم، وما ينبغي للقاضي إذا ولي أن يعمل به، وتسليمه له ونظره فيه، ثم ما ينقض فيه أحكام من تقدمه، والكلام في السجلات والشهادات والدعاوي والبينات، وسيأتي ذكر ما يحتاج إليه الحاكم من جميع الفقه إلى أن فرغ منه، وهو في ألف ورقة. وكان يجتهد بأصحابه أن يأخذوا البسيط والتهذيب ويجدّوا في قراءتهما ويشتغلوا بهما دون غيرهما من الكتب.
ومن جياد كتبه كتابه المسمى ب «كتاب أدب النفوس الجيدة والأخلاق النفيسة» وربما سماه بأدب النفس الشريفة والأخلاق الحميدة، وربما زاد في ترجمته: المشتمل على علوم الدين والفضل والورع والاخلاص والشكر والكلام في الرياء والكبر والتخاضع والخشوع والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبدأ فيه بالكلام في الوسوسة وأعمال القلوب، ثم ذكر شيئا كثيرا من الدعاء وفضل القرآن وأوقات الإجابة ودلائلها، وما روي من السنن وأقوال الصحابة والتابعين في ذلك، وقطع الاملاء في بعض الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان ما خرّج نحو خمسمائة ورقة، وكان قد عمل أربعة أجزاء ولم يخرجها إلى الناس في الإملاء، ووقع ذلك إلى أبي سعيد عمر بن أحمد الدينوري الوراق، وخرج به إلى الشام فقطع عليه ولم يبق معه إلا جزءان فيهما الكلام في حقوق الله الواجبة على الإنسان في بصره والحقوق الواجبة في سمعه، وكان ابتدأ في سنة عشر وثلاثمائة، ومات بعد مديدة من قطعه الإملاء، وكان يقول: إن خرج هذا الكتاب كان فيه جمال، لأنه كان أراد أن يخرج بعد الكلام في الحقوق اللازمة للانسان إلى ما يعيذنا منه من أهوال القيامة وشروطها وأحوال الآخرة وما ورد فيها وذكر الجنة والنار.
ومما صنف وخرج «كتاب المسند المجرد» وقد كتب أصحاب الحديث الأكثر منه، وذكر فيه من حديثه عن الشيوخ ما قرأه على الناس.
ومنها كتابه المسمى ب «كتاب الرد على ذي الأسفار» يردّ فيه على داود بن علي الأصبهاني، وكان سبب تصنيف هذا الكتاب أن أبا جعفر كان قد لزم داود بن علي مدة وكتب من كتبه كثيرا، ووجدنا في ميراثه من كتبه ثمانين جزءا بخطه الدقيق، وكان فيها المسألة التي جرت بين داود بن علي وبين أبي المجالد الضرير المعتزلي بواسط عند(6/2460)
خروجهما إلى الموفق لما وقع التنازع في خلق القرآن، وكان داود بن علي قد أخذ من النظر ومن الحديث ومن الاختلاف ومن السنن حظا ليس بالمتسع، وكان بسيط اللسان حسن الكلام متمكنا من نفسه، وله أصحاب فيهم دعابة قد تمكنت منهم حتى صارت لبعضهم خلقا يستعمله في النظر لقطع مخالفيه، وكان ربما ناظر داود بن علي الأثبات في المسألة في الفقه فيراه مقصرا في الحديث فينقله إليه، أو يكلمه في الحديث فينقله إلى الفقه، أو إلى الجدل إذا كان خصمه مقصرا فيهما، وكان هو مقصرا في النحو واللغة وإن كان عارفا بقطعة منه، وكان أبو جعفر مليا بما نهض فيه من أيّ علم كان، وكان متوقفا عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، وكان يحبّ الجدّ في جميع أحواله، وجرت مسألة يوما بين داود بن علي وبين أبي جعفر، فوقف الكلام على داود بن علي، فشق ذلك على أصحابه وكلّم رجل من أصحاب داود بن علي أبا جعفر بكلمة مضة، فقام من المجلس وعمل هذا الكتاب، وأخرج منه شيئا بعد شيء إلى أن أخرج منه قطعة نحو مائة ورقة، وكان ابتدأ الكلام فيه بخطبة من غير إملاء، وهو من جيد ما عمله أبو جعفر ومن أحسنه كلاما فيه حملا على اللغط عليه، ثم قطع ذلك بعد ما مات داود بن علي فلم يحصل في أيدي أصحابه من ذلك إلا ما كتبه منه مقدمو أصحابه ولم ينقل. فممن كتب هذا الكتاب منه أبو إسحاق ابن الفضل بن حيان الحلواني، قال أبو بكر ابن كامل وسمعناه منه عنه، وأبو الطيب الجرجاني وأبو علي الحسن بن الحسين بن الصواف وأبو الفضل العباس بن محمد بن المحسن وغيرهم. وقال الرواسي، وكان من مقدمي أصحاب داود بن علي: إن داود قطع كلام ذلك الإنسان الذي كلم أبا جعفر سنة مجازاة له على ما جرى منه على أبي جعفر.
ثم تعرض محمد بن داود بن علي للردّ على أبي جعفر فيما ردّه على أبيه، فتعسّف الكلام على ثلاث مسائل خاصة، وأخذ في سبّ أبي جعفر، وهو كتابه المنسوب إلى الرد على أبي جعفر ابن جرير. قال أبو الحسن ابن المغلس، قال لي أبو بكر ابن داود بن علي: كان في نفسي مما تكلّم به ابن جرير على أبي، فدخلت يوما على أبي بكر ابن أبي حامد، وعنده أبو جعفر، فقال له أبو بكر: هذا أبو بكر محمد بن داود بن علي الأصبهاني، فلما رآني أبو جعفر وعرف مكاني رحّب بي وأخذ يثني على أبي ويمدحه ويصفني بما قطعني عن كلامه.(6/2461)
ومن كتب أبي جعفر رسالته المسماة ب «كتاب رسالة التبصير في معالم الدين» التي كتب بها إلى أهل طبرستان فيما وقع بينهم فيه من الخلف في الاسم والمسمى، وفي مذاهب أهل البدع، وهو نحو ثلاثين ورقة.
ومنها أيضا: رسالته المعروفة ب «كتاب صريح السنة» في أوراق ذكر فيها مذهبه وما يدين به ويعتقده. وكتاب فضائل علي بن أبي طالب رضي الله عنه تكلم في أوله بصحة الأخبار الواردة في غدير خمّ ثم تلاه بالفضائل ولم يتم. كتاب فضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولم يتمّ أيضا. كتاب فضائل العباس وانقطع أيضا بموته.
كتاب في عبارة الرؤيا جمع فيه أحاديث فمات ولم يعمله. وكتاب مختصر مناسك الحج. كتاب مختصر الفرائض. كتاب في الردّ على ابن عبد الحكم على مالك، ولم يقع إلى أصحابه. كتاب الموجز في الأصول، ابتدأ فيه برسالة الأخلاق ثم قطع ووعد بكتاب الآدر في الأصول ولم يخرج منه شيء، وأراد أن يعمل كتابا في القياس فلم يعمله.
قال أبو القاسم الحسين بن حبيش الوراق: كان قد التمس مني أبو جعفر أن أجمع له كتب الناس في القياس، فجمعت له نيّفا وثلاثين كتابا، فأقامت عنده مديدة، ثم كان من قطعه للحديث قبل موته بشهور ما كان، فردّها عليّ وفيها علامات له بحمرة قد علّم عليها.
قال عبد العزيز بن محمد: وقد وقع إليّ كتاب صغير في الرمي بالنشاب منسوب إليه، وما علمت أحدا قرأه عليه، ولا ضابطا ضبط عنه ولا ينسبه إليه، وأخاف أن يكون منحولا إليه.
وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: كان أبو جعفر يذهب في جل مذاهبه إلى ما عليه الجماعة من السلف وطريق أهل العلم المتمسكين بالسنن، شديدا عليه مخالفتهم، ماضيا على منهاجهم، لا تأخذه في ذلك ولا في شيء لومة لائم، وكان يذهب إلى مخالفة أهل الاعتزال في جميع ما خالفوا فيه الجماعة من القول بالقدر وخلق القرآن وإبطال رؤية الله في القيامة، وفي قولهم بتخليد أهل الكبائر في النار وإبطال شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي قولهم إن استطاعة الانسان قبل فعله. وكان(6/2462)
أبو جعفر يزعم أن ما في العالم من أفعال العباد فخلق الله، وان ما منّ الله به على أهل الإيمان من الاستطاعة التي وفقهم لها غير ما أعطاه لأهل الكفر من الدار والعقل، وان الله ختم على قلوب من كفر به مجازاة لهم على كفرهم.
قلت: وهذا الفصل رديء جدا، لأنه إن كان ختم قبل الكفر فقد ظلم، وإن كان بعده فقد ختم على مختوم، وهذا لم يقل به أحد من أهل السنة والجماعة إنما هو من أقوال الروافض والمعتزلة قبحهم الله.
وكان أبو جعفر يعتقد أن ما أخطأه ما كان ليصيبه، وأن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن جميع ما في العالم لا يكون إلا بمشيئة الله، وان الله جل وعز لم يزل موصوفا بصفاته التي هي علمه وقدرته، وكلامه غير محدث.
قال أبو علي: وهذا الفصل يدلّ على أن ما لم يكن من الصفات كالعلم والقدرة والكلام أنها محدثة مخلوقة، وهذا محض كلام المعتزلة والأشعرية. قال: وكان أبو جعفر يذهب في الإمامة إلى إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وما عليه أصحاب الحديث في التفضيل، وكان يكفّر من خالفه في كلّ مذهب، إذ كانت أدلّة العقول تدفع كالقول في القدر وقول من كفّر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الروافض والخوارج، ولا يقبل أخبارهم ولا شهاداتهم، وذكر ذلك في كتابه في الشهادات وفي الرسالة وفي أول «ذيل المذيل» وكان لا يورّث من الكفرة منهم، وذكر ذلك في «مسند أسامة بن زيد» عند كلامه في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يورث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ولا يتوارث أهل ملتين شتّى، وكان لا يورث متكافرين، لا يورث يعقوبيا من النصارى من ملكي، ولا ملكيا من نسطوريّ، ولا شمعتيّا من اليهود سامريا، ولا عنانيا من الشمعتي، ووافقه على هذا المذهب الأوزاعي، فإذا اختلفت الكنائس والبيع لم يورث بعضهم من بعض.
قال أبو بكر ابن كامل: حضرت أبا جعفر حين حضرته الوفاة، فسألته أن يجعل كلّ من عاداه في حلّ، وكنت سألته ذلك لأجل أبي الحسن ابن الحسين الصواف، لأني كنت قرأت عليه القرآن فقال: كلّ من عاداني وتكلم فيّ حلّ إلّا رجل رماني ببدعة، وكان الصواف من أصحاب أبي جعفر، وكانت فيه سلامة، ولم يكن فيه ضبط(6/2463)
دون الفصل، فلما أملى أبو جعفر «ذيل المذيل» ذكر أبا حنيفة وأطراه وقال: كان فقيها عالما ورعا، فتكلم الصواف في ذلك الوقت فيه لأجل مدحه لأبي حنيفة وانقطع عنه وبسط لسانه فيه. قال أبو بكر ابن كامل: من سبقك إلى إكفار أهل الأهواء؟ قال فقال: إماما عدل عبد الرحمن بن مهدي ويحيى بن سعيد القطان. وكان إذا عرف من إنسان بدعة أبعده واطرحه، وكان قد قال بعض الشيوخ ببغداد بتكذيب غدير خمّ وقال: إنّ علي بن أبي طالب كان باليمن في الوقت الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بغدير خمّ، وقال هذا الإنسان في قصيدة مزدوجة يصف فيها بلدا بلدا ومنزلا أبياتا يلوّح فيها إلى معنى حديث غدير خم فقال:
ثم مررنا بغدير خم ... كم قائل فيه بزور جم
على عليّ والنبيّ الأمي
وبلغ أبا جعفر ذلك، فابتدأ بالكلام في فضائل علي بن أبي طالب، وذكر طرق حديث خم، فكثر الناس لاستماع ذلك، واجتمع قوم من الروافض ممن بسط لسانه بما لا يصلح في الصحابة رضي الله عنهم، فابتدأ بفضائل أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثم سأله العباسيون في فضائل العباس، فابتدأ بخطبة حسنة وأملى بعضه، وقطع جميع الإملاء قبل موته وكان يظنّ أن فيه لجاجة؛ قال أبو بكر ابن كامل: ولم يكن فيه ذلك، وقد كان رجع إلى طبرستان فوجد الرفض قد ظهر، وسبّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أهلها قد انتشر، فأملى فضائل أبي بكر وعمر حتى خاف أن يجري عليه ما يكرهه، فخرج منها من أجل ذلك.
وقال عبد العزيز بن محمد الطبري: أخبرني غير واحد من أصحابنا أنه رأى عند أبي جعفر شيخا مسنّا، فقام له أبو جعفر وأكرمه، ثم قال أبو جعفر: إن هذا الرجل ناله فيّ ما قد صار له عليّ به الحقّ الكثير، وذلك أني دخلت إلى طبرستان، وقد شاع سبّ أبي بكر وعمر فيهما، فسألوني أن أملي فضائلهما ففعلت، وكان سلطان البلدة يكره ذلك، فاجتمع إليه من عرّفه ما أمليته، فوجّه إليّ، فبادر هذا وأرسل إليّ من أخبرني أني قد طلبت، فخرجت من وقتي عن البلد ولم يشعر بي، وحصل هذا في أيديهم فضرب بسببي ألفا.
قال: وكان شديد التوقي والحذر والنزاهة والورع، يدلّ على ذلك ما أودعه(6/2464)
«كتاب آداب النفوس» المنبه على دينه وفضله. ومع ما كان فيه من الاشتغال بالتصانيف والحديث والاملاء لا بد له مع ذلك من حزبه من القرآن، ويقال إنه كان يقرأ كلّ ليلة ربعا أو حظا وافرا.
قال عبد العزيز بن محمد: وكان أبو جعفر ظريفا في ظاهره، نظيفا في باطنه، حسن العشرة لمجالسيه، متفقدا لأحوال أصحابه، مهذبا في جميع أحواله، جميل الأدب في مأكله وملبسه وما يخصه في أحوال نفسه، منبسطا مع إخوانه حتى ربما داعبهم أحسن مداعبة، وربما جيء بين يديه بشيء من الفاكهة فيجري في ذلك المعنى ما لا يخرج من العلم والفقه والمسائل حتى يكون كأجدّ جدّ وأحسن علم.
وكان إذا أهدى إليه مهد هدية مما يمكنه المكافأة عليه قبله وكافأه، وإن كانت مما لا يمكنه المكافأة عليها ردها واعتذر إلى مهديها. ووجه إليه أبو الهيجاء ابن حمدان ثلاثة آلاف دينار، فلما نظر إليها عجب منها ثم قال: لا أقبل ما لا أقدر على المكافأة عنه، ومن أين لي ما أكافىء عن هذا؟ فقيل: ما لهذا مكافأة إنما أراد التقرب الى الله عزّ وجل بهذا، فأبى أن يقبله وردّه إليه.
وكان يختلف إليه أبو الفرج ابن أبي العباس الأصبهاني الكاتب يقرأ عليه كتبه، فالتمس أبو جعفر حصيرا لصفّة له صغيرة، فدخل أبو الفرج الأصفهاني وأخذ مقدار الصفّة واستعمل له الحصير متقربا بذلك له وجاءه به، وقد وقع موقعه، فلما خرج دعا ابنه ودفع إليه أربعة دنانير، فأبى أن يأخذها وأبى أبو جعفر أن يأخذ الحصير إلا بها.
وأهدى إليه أبو المحسن المحرر جاره فرخين فأهدى اليه ثوبا.
وقال أبو الطيب القاسم بن أحمد بن الشاعر [و] سليمان بن الخاقاني: أهدى أبو علي محمد بن عبيد الله الوزير إلى أبي جعفر محمد بن جرير برمّان فقبله وفرقه في جيرانه، فلما كان بعد أيام وجّه اليه بزنبيل فيه بدرة فيها عشرة آلاف درهم وكتب معها رقعة وسأله أن يقبلها. قال سليمان، قال لي الوزير: إن قبلها وإلا فسلوه أن يفرّقها في أصحابه ممن يستحق فصرت بالبدرة إليه، فدققت الباب، وكان يأنس إليّ، وكان أبو جعفر إذا دخل منزله بعد المجلس لا يكاد يدخل إليه أحد لتشاغله بالتصنيف إلا في أمر مهم، قال: فعرفته أني جئت برسالة الوزير، فأذن لي فدخلت وأوصلت إليه الرقعة،(6/2465)
فقال: يغفر الله لنا وله، اقرأ عليه السلام وقل له: ارددنا إلى الرمان، وامتنع من قبول الدراهم، فقلت له: فرّقها في أصحابك على من يحتاج إليها ولا تردّها، فقال:
هو أعرف بالناس إذا أراد ذلك. وأجاب عن الرقعة وانصرفت. قال أبو الطيب وسليمان: فلما كان بعد مدة قدم الحاجّ وكان يأتيه مال ضيعته معهم، فربما جيء إليه بالشيء فجعله بضاعة، فدعانا وإذا بين يديه شيء مشدود، فقال: امضيا بهذا إلى الوزير واقرءا عليه السلام وأوصلا إليه هذه الحزمة والرقعة، قالا: فصرنا إليه ولا نعرف ما فيها، فلما قرأ الرقعة وإذا فيها «إنه قد أنفذ اليه شيء من طبرستان فآثر إنفاذه إليه» قال فتقدم إلى من فتحه، فإذا فيه سمور حسن، فقوّم له ذلك أربعين دينارا، ولم يجد بدا من قبوله، وكان داعيا إلى امتناعه من الاهداء إليه.
قال: وقد كان يمضي إلى الدعوة يدعى إليها وإلى الوليمة يسأل فيها، ويكون ذلك يوما مشهودا من أجله وشريفا بحضوره، وكان يخرج مع بعضهم إلى الصحراء فيأكل معهم.
قال ابن كامل، قال لي أبو عليّ محمد بن إدريس الجمال، وكان من وجوه الشهود بمدينة السلام: حضرنا يوما مع أبي جعفر الطبري وليمة، فجلست معه على مائدة، فكان أجمل الجماعة أكلا وأظرفهم عشرة، قال: وحضر جماعة من الغلمان على رؤوسنا لسقي الماء والخدمة، قال: فرأيت بعض الغلمان قد مدّ عينه إلى بعض ما قدّم إلينا، فأخذت لقمة فناولتها الغلام، قال فزبرني أبو جعفر وقال: من أذن لك أن تأكل أو تطعم؟ قال: فأخجلني.
قال ابن كامل: ما رأيت أظرف أكلا من أبي جعفر، كان يدخل يده في الغضارة فيأخذ منها لقمة، فإذا عاد بأخرى كسح باللقمة ما التطخ من الغضارة باللقمة الأولى، فكان لا يلتطخ من الغضارة إلا جانب واحد. وكان إذا تناول اللقمة ليأكل سمّى ووضع يده اليسرى على لحيته ليوقيها من الزهومة، فإذا حصلت اللقمة في فيه أزال يده.
قال أبو بكر ابن كامل، قال لنا أبو بكر ابن مجاهد: كان أبو جعفر ربما خرج إلى الصحراء فنخرج معه، فدعانا يوما أبو الطيب ابن المغيرة الثلاج، وكان جارا لأبي جعفر، في محلة ببغداد، فجاء بنا الى قراح باقلّى فأكلنا وأكل أبو جعفر أكلا فيه إفراط، ورأينا من حسن عشرته وانبساطه أمرا عظيما، ثم انصرفنا، فصرت إليه(6/2466)
لأعرف خبره من تعبه وما أكله، فإذا بين يديه أدوية وجوارشنات يأكل منها ليدفع بها ضرر ما كان أكله. وكان إذا جلس لا يكاد يسمع له تنخم ولا تبصّق ولا يرى له نخامة، وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله ومسح جانبي فيه. قال أبو بكر ابن كامل: ولقد حرصت مرارا أن يستوي لي مثل ما يفعله ويتعذر عليّ اعتياده.
قال: وما سمعته قطّ لاحنا ولا حالفا بالله عز وجل.
قال: وكان لا يأكل الدسم، وإنما كان يأكل اللحم الأحمر الصرف، ولا يطبخه الا بالزبيب، وكان يقول: السمين يلطّخ المعدة؛ وكان يتجنب السمسم والشهد ويقول: إنهما يفسدان المعدة ويغيران النكهة، ويقول: إن التمر يلطخ المعدة ويضعف البصر ويفسد الأسنان ويفعل في اللحم كذا وكذا، فقال له أبو علي الصواف: أنا آكله طول عمري ولا أرى منه إلا خيرا، فقال أبو جعفر: وما بقي على التمر أن يعمل بك أكثر مما عمل. قال: وكان الصواف قد وقعت أسنانه، وضعف بصره، ونحف جسمه، وكثر اصفراره.
قال: وكان أبو جعفر كبير اللحية، حسن القيام على نفسه، لا يأكل من الخبز إلا السميد لأجل غسل القمح لأنّ من مذهبه أن الشمس والنار والريح لا تطهّر نجسا، وكان ربما أكل شيئا من العنب الرازقي والتين الوزيري والرطب، وربما أخذ له من اللبن الحليب من غنم ترعى فيصفّى ويجعل في قدر على النار حتى يذهب منه جزء ثم يثرد في الاناء ويصبّ عليه اللبن الحارّ ويدعه حتى يبرد ويطرح عليه الصعتر وحبة السوداء والزيت، وكان يكثر من الاسفيذباج والزيرباج، وكان ربما أكل بالحصرم في وقته، وكان لا يعدم في الصيف الحيس والريحان واللينوفر، فإذا أكل نام في الخيش في قميص قصير الأكمام مصبوغ بالصندل وماء الورد، ثم يقوم فيصلي الظهر في بيته، ويكتب في تصنيفه إلى العصر، ثم يخرج فيصلّي العصر ويجلس للناس يقرىء ويقرأ عليه إلى المغرب، ثم يجلس للفقه والدرس بين يديه إلى عشاء الآخرة، ثم يدخل منزله وقد قسم ليله ونهاره في مصلحة نفسه ودينه والخلق كما وفقه الله عز وجل.
وكان أبو الطيب الثلاج قد سأله أن يجعل شربه الماء من عنده، لأنه كان يكره الثلج، وكان له كراز يدفئه فيه. وكان أبو القاسم سليمان بن فهر الموصلي يهدي له(6/2467)
العسل ويقبله منه، فلما مات وجد عنده إحدى عشرة جرة عسلا ومنها ما قد نقص منه.
وكان قد كتب «فردوس الحكمة» لعلي بن ربن الطبري وأخذه عن علي بن ربن مصنفه سماعا؛ قال أبو بكر ابن كامل: ورأيته عنده في ستة أجزاء.
وقال أبو العباس ابن المغيرة الثلاج: لما اعتل ابني أبو الفرج، وكان حسن الأدب ويتفقه على مذهب أبي جعفر، قال لي أبو جعفر: تقبل مني ما أصفه لك؟
فقلت: نعم، وكنت أتبرك بقوله ورأيه، قال: احلق رأسه واعمل له جوذاية سمينة من رقاق وأكثر دسمها وقدّمها إليه وأطعمه منها حتى يمتلىء شبعا، ثم خذ ما بقي فاطرحه على دماغه واحرص أن ينام على حاله تلك، فإنه يصلح إن شاء الله تعالى، ففعلت فكان سبب برئه.
وأبو الفرج هذا مات قبل أبي جعفر بمديدة، وكان أبو الفرج هذا يتعسف في كلامه: تجاروا يوما عند أبي جعفر فذكر الطبيخ فقال أبو الفرج: لكني أكلت طباهقة، قال أبو جعفر: وما الطباهقة؟ قال الطباهجة، ألا ترى أن العرب تجعل الجيم قافا. فقال أبو جعفر: فأنت إذا أبو الفرق ابن الثلّاق، فصار يعرف بأبي الفرق بن الثلاق، ويمزح معه بذلك.
وكان أبو بكر ابن الجواليقي يأخذ لسانه بالإعراب ويكثر الإشارات فيه إلى حدّ البغض، فأخذ يوما في ذلك، فقال أبو جعفر: أنت بغيض، فسمي بغيض الطبري، قال: ورأيت أنا هذا الانسان يوما وقد ورد إلى باب الطاق وكان مهاجرا لبعض الوراقين، فوقف علينا فسلم ثم اعتذر من وقوفه بالمكان لأجل الوراق، فقال: لولا من ما كنت بالذي (يعني لولا من هاهنا ما كنت لأقف على حانوتك) .
وكان بأبي جعفر ذات الجنب تعتاده وتنتقض عليه، فوجه إليه عليّ بن عيسى طبيبا، فسأل الطبيب أبا جعفر عن حاله فعرّفه حاله وما استعمل وأخذ لعلته، وما انتهى إليه في يومه ذاك، وما كان رسمه أن يعالج به، وما عزم على أخذه من العلاج، فقال له الطبيب: ما عندي فوق ما وصفته لنفسك شيء، والله لو كنت في ملتنا لعددت من الحواريين، وفقك الله. ثم جاء إلى علي بن عيسى فعرفه ذلك فأعجبه.
قلت: أكثر هذه الأخبار عن عبد العزيز بن محمد الطبري من كتاب له أفرده في(6/2468)
سيرة أبي جعفر، ومن كتاب لأبي بكر ابن كامل في أخباره، والله ولي الخير.
قال أبو علي الأهوازي: مات ببغداد في سنة عشر وثلاثمائة، كذا وجدته بخط أبي سليمان ابن يزيد مكتوبا، ورأيت أيضا من يقول إنه مات في سنة إحدى عشرة وست عشرة، والله أعلم وأحكم، وهذه السنون كلها في أيام المقتدر بالله.
[1011] محمد بن جعفر الصيدلاني:
كان صهر أبي العباس المبرد على ابنته، ويلقب برمة، وكان أديبا شاعرا روى عن أبي هفان الشاعر أخبارا، وحدّث عنه أبو الفرج الأصفهاني وغيره. وأنشد الخطيب في «تاريخه» لمحمد بن جعفر الصيدلاني:
أما ترى الروض قد لاحت زخارفه ... ونشّرت في رباه الريط والحلل
واعتمّ بالأرجوان النبت منه فما ... يبدو لنا منه إلا مونق خضل
والنرجس الغضّ يرنو من محاجره ... إلى الورى مقل تحيا بها المقل
تبر حواه لجين فوق أعمدة ... من الزمرد فيها الزهر مكتهل
فعج بنا نصطبح يا صاح صافية ... صهباء في كأسها من لمعها شعل
فقد تجلّت لنا عن حسن بهجتها ... رياض قطربّل واللهو مشتمل
وعندنا شادن شدّت قراطقه ... على نقا وقضيب فهو معتدل
يدور بالكأس بين الشّرب آونة ... ما دام للشّرب منه العلّ والنهل
وقينة ان تشأ غنتك من طرب ... «ودّع هريرة إن الركب مرتحل»
وان أشرت إلى صوت تكرره ... «إنا محيّوك فاسلم أيها الطلل»
ليست بمظهرة تيها ولا صلفا ... وليس يغضبها التجميش والقبل
فنحن في تحف منها وفي غزل ... مما يغازلنا طرف لها غزل
__________
[1011] ترجمة الصيدلاني في تاريخ بغداد 2: 132 ومعجم المرزباني: 424 وانباه الرواة 3: 81 والمحمدون: 181 والوافي 2: 302 وبغية الوعاة 1: 71.(6/2469)
[1012] محمد بن جعفر بن ثوابة الكاتب
يكنى أبا الحسن، كاتب بليغ منشىء فاضل كان ينشىء في الديون أيام المقتدر بالله، ومات في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة.
قال الرئيس أبو الحسين: كان أبو الحسن هذا صاحب ديوان الرسائل في ديوان المقتدر.
وقال ثابت: في سنة أربع وثلاثمائة قبض على علي بن عيسى بن الجراح الوزير واستوزر أبو الحسن محمد بن الفرات فأقر أبا الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة على ديوان الرسائل والمعاون.
ومن كلامه رسالة كتبها عن المقتدر بالله أمير المؤمنين إلى البلدان في وزارة ابن الفرات الثانية: لما لم يجد أمير المؤمنين غنى عنه، ولا للملك بدّا منه، وكان كتّاب الدواوين على اختلاف اقتدارهم، وتفاوت ما بين أخطارهم، مقرّين برياسته، معترفين بكفايته، متحاكمين إليه إذا اختلفوا، واقفين عند غايته إذا استبقوا، مذعنين بأنه الحوّل القلّب، المحنّك المجرّب، العالم بدرّة المال كيف تحلب، ووجوهه كيف تطلب، انتضاه من غمده، فعاود ما عرف من حدّه، فنفّذ الأعمال كأن لم يغب عنها، ودبّر الأمور كأن لم يخل منها. ورأى أمير المؤمنين ألا يدع شيئا من أسباب التكرم كان قديما جعله له إلا وفّاه إياه، ولا نوعا من أنواع المثوبة والجزاء كان أخّره عنه إلا حباه به، فخاطبه بالتكنية.
ومما يستحسنه الكتاب من كلامه قوله لما أجاب خمارويه بن أحمد عن المعتضد عن الكتاب بانفاذ ابنته فقال في الفصل الذي احتاج فيه إلى ذكرها: وأما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك عناية بها وحياطة لرأيك فيها.
[1013] محمد بن جعفر بن محمد بن سهل
بن شاكر الخرائطي:
__________
[1012] ترجمة أبي الحسن ابن ثوابة في الوافي 2: 300 وجعل وفاته سنة 316.
[1013] ترجمة ابن شاكر الخرائطي في تاريخ بغداد 2: 139 والوافي 2: 296 والمقفى 5: 498.(6/2470)
قال أبو بكر الخطيب: كنيته أبو بكر، وهو من أهل سرّ من رأى، مات سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بعسقلان من بلاد الشام، وكان سمع عمر بن شبّة وغيره، وكان حسن الأخبار مليح التصانيف، سكن الشام وحدّث بها فحصل حديثه عند أهلها.
ومن مصنفاته «كتاب اعتلال القلوب في أخبار العشاق» وكان قدم دمشق في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة ثم مات بعد ذلك بعسقلان في الوقت المقدم ذكره.
وله من التصانيف: كتاب مكارم الأخلاق. كتاب مساوي الأخلاق. كتاب قمع الحرص بالقناعة. كتاب هواتف الجانّ وعجيب ما يحكى عن الكهان «1» . كتاب القبور.
[1014] محمد بن جعفر بن حاتم الواسطي
أبو جعفر غلام ثعلب: له شعر صالح، مات في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، ذكر ذلك كله أبو محمد عبد الله بن شيران في «تاريخه» .
[1015] محمد بن أبي جعفر المنذري
الهروي أبو الفضل: ذكره أبو النضر عبد الرحمن بن عبد الجبار بن أبي سعيد الفامي في «تاريخ هراة» وقال: مات في رجب سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
قال المؤلف: وهو نحوي لغوي مصنف في ذلك، وهو شيخ أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري الذي أملى «كتاب التهذيب» بالرواية عنه. وقدم بغداد لأنه قال «2» : سألت ثعلبا عن «كتاب العين» فقال: ذلك كتاب مليء غدد، قال: وهذا
__________
[1014] لم أجد له ترجمة.
[1015] ترجمة المنذري في بغية الوعاة 1: 72 (وياقوت ينقل عن مقدمة الأزهري لكتاب التهذيب) والوافي 2: 297.(6/2471)
لفظ أبي العباس، وحقه عند النحويين ملآن غددا، ولكن أبا العباس يخاطب العامة على قدر فهمهم.
وذكر الأزهري في مقدمة كتابه «1» ان أبا الفضل المنذري لازم أبا الهيثم الرازي سنين وعرض عليه الكتب وكتب عنه من أماليه وفوائده أكثر من مائتي جلد.
قال الأزهري: فما وقع في كتابي لأبي الهيثم فهو ما أفادنيه المنذري عنه في كتاب الشامل وكتاب الفاخر «2» . كتاب الزيادات التي زادها في معاني القرآن للفرّاء.
كتاب زيادات أمثال أبي عبيد. وكتاب ما زاد من المصنف وغريب الحديث.
وقال أبو النضر: صنف أبو الفضل المنذري كتاب نظم الجمان وكتاب الملتقط وذكر الفاخر والشامل.
قال الأزهري «3» : أخبرني أبو الفضل المنذري أن أبا الهيثم الرازي حثه على النهوض إلى أبي العباس، يعني ثعلبا، قال: فرحلت إلى العراق ودخلت مدينة السلام يوم الجمعة ومالي همة غيره، فأتيته وعرفته خبري وقصدي إياه، فاتخذ لي مجلسا في النوادر التي سمعها من ابن الأعرابي حتى سمعت الكتاب كلّه منه.
قال: وسألته عن حروف كانت أشكلت على أبي الهيثم فأجابني عنها.
قال الأزهري «4» : أخبرني المنذري انه اختلف إلى ثعلب سنة في سماع «كتاب النوادر» لابن الأعرابي لأنه كان في أذنه وقر، وكان يتولى قراءة ما يسمع منه. قال:
وكتبت عنه من أماليه في معاني القرآن وغيرها أجزاء كثيرة، فما عرّض ولا صرّح بشيء من أسباب الطمع قال: واختلفت إلى أبي العباس المبرد وانتخبت عليه أجزاء من كتابيه المعروفين ب «الروضة» و «الكامل» قال: وقاطعته من سماعها على شيء مسمى وانه لم يأذن لي في قراءة حكاية واحدة لم يكن وقع عليها الشرط.(6/2472)
[1016] محمد بن جعفر العطار النحوي
أبو جعفر، ويلقب فرتك، قال الخطيب:
هو من أهل المخرم، حدث عن الحسن بن عرفة، روى عنه الدارقطني ولم يزد الخطيب على هذا.
[1017] محمد بن جعفر بن محمد الهمذاني
ثم المراغي: ذكره محمد بن إسحاق فقال: كان يعلّم عز الدولة أبا منصور بختيار بن معز الدولة بن بويه.
قال الخطيب: يكنى أبا الفتح، سكن بغداد، وروى بها عن أبي جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، حدث عنه أبو الحسين المحاملي القاضي وروى عنه في سنه احدى وسبعين وثلاثمائة.
قال محمد بن إسحاق: وكان حافظا نحويا بليغا في نهاية السرو والحرية. وله من الكتب: كتاب البهجة «1» على مثال «الكامل» . كتاب الاستدراك لما أغفله الخليل.
وقال أبو حيان في «الامتاع» ووصف جماعة من النحويين: أبا سعيد السيرافي والرماني وأبا علي الفارسي ثم قال: وأما ابن المراغي فلا يلحق هؤلاء، مع براعة اللفظ وسعة الحفظ وقوة النفس وبلل الريق وغزارة النفث وكثرة الرواية، ومن نظر في كتاب البهجة له عرف ما أقول واعتقد فوق ما أصف ونحل أكثر ما أبذل.
ذكر أبو حيان في «كتاب المحاضرات» قال: ولما مات المراغي، وكان قدوة
__________
[1016] ترجمته في تاريخ بغداد 2: 138 وانباه الرواة 3: 82 (وكنيته أبو بكر ولقبه حرتك) والمنتظم (وفيات: 316) وبغية الوعاة 1: 71.
[1017] ترجمته في تاريخ بغداد 2: 152 والفهرست: 94 والامتاع والمؤانسة 1: 133 وإنباه الرواة 3: 83، 87 وبغية الوعاة 1: 70.(6/2473)
في النحو وعلما في الأدب كبيرا مع حداثة سنه ورقة حاله (وان قلت إني ما رأيت في الأحداث مثله كان كذلك) استرجع أبو سعيد السيرافي واستعبر وأنشد:
من عاش لم يخل من همّ ومن حزن ... بين المصائب من دنياه والمحن
وإنما نحن في الدنيا على سفر ... فراحل خلّف الباقي على الظعن
وكلّنا بالردى والموت مرتهن ... فما نرى فيهما فكّا لمرتهن
من الذي أمن الدنيا فلم تخن ... أو الذي اعتزّ بالدنيا فلم يهن
كلّ يقال له قد كان ثم مضى ... كأن ما كان في دنياه لم يكن
ثم قال: قوموا بنا لتجهيزه وتولية أمره، فتبعناه على ذلك، فلما أخرجت جنازته بكى وأنشد:
أساءت بنا الأيام ثمّت أحسنت ... وكلّ من الأيام غير بديع
وما زال صرف الدهر مذ كان مولعا ... بتأليف شتّى أو بشتّ جميع
[1018] محمد بن جعفر بن محمد بن هارون
بن فروة بن ناجية بن مالك أبو الحسن التميمي النحوي المعروف بابن النجار: من أهل الكوفة، ولد سنة ثلاث وثلاثمائة بالكوفة، وقدم بغداد وحدث بها عن ابن دريد ونفطويه والصولي وغيرهم.
قال الخطيب: وهو ثقة مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعمائة بالكوفة؛ نقلت ذلك من تاريخ ابن الجوزي ونقله هو من تاريخ الخطيب حرفا حرفا، ونقلت من زيادات الوزير المغربي في فهرست النديم انه ولد سنة احدى عشرة وثلاثمائة قال:
وكان من مجوّدي القراء أخذ عن النقار وغيره، وكان يقرىء لحمزة، والكسائي الغالب في أخذه، ولقي أحمد بن يونس، وروى قراءة عاصم عنه عن الأعمش عن أبي بكر ابن عياش عن عاصم، ولقي من المحدثين القدماء ابن الأشناني الكبير وابن الأشناني
__________
[1018] ترجمته في تاريخ بغداد 2: 158 والمنتظم (وفيات: 402) والبداية والنهاية 11: 347 وانباه الرواة 3: 83 والوافي 2: 305 وبغية الوعاة 1: 69 والشذرات 3: 164 وطبقات ابن الجزري 2: 111.(6/2474)
القاضي وابن مروان القطان وأبا عبيدة وغيرهم، قال: وكنا سمعنا منه: كتاب القراءات. وكتاب مختصر في النحو. كتاب الملح والنوادر. كتاب التحف والطرف. كتاب الملح والمسارّ. كتاب روضة الأخبار ونزهة الأبصار. كتاب تاريخ الكوفة، رأيته.
[1019] محمد بن جعفر بن محمد الغوري
، أبو سعيد: أحد أئمة اللغة المشهورين، والأعلام في علم هذا اللسان المذكورين، صنف «كتاب ديوان الأدب» في عشرة أجلد ضخمة، أخذ كتاب أبي إبراهيم إسحاق الفارابي المسمى بهذا الاسم وزاد في أبوابه، وأبرزه في أبهى أثوابه، فصار أولى به منه، لأنه هذّبه وانتقاه وزاد فيه ما زيّنه وحلّاه؛ لم أعرف شيئا من حاله فأذكره، إلا انه ذكر في أول كتابه بعد البسملة قال: محمد بن جعفر بن محمد المعروف جده بالغوري، ثم ذكر أنه هذب كتاب الفارابي، وختم الكلام بأن قال وأهديته- يعني الكتاب- إلى الدهقان الكبير أبي نصر منصور مولى أمير المؤمنين.
[1020] محمد بن جعفر القزاز القيرواني
أبو عبد الله التميمي: كان إماما علامة قيّما بعلوم العربية، ذكره الحسن بن رشيق في «كتاب الأنموذج» فقال: مات بالقيروان سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وقد قارب التسعين، وهو جامع «كتاب الجامع» في اللغة وهو كتاب كبير حسن متقن يقارب «كتاب التهذيب» لأبي منصور الأزهري رتبه على حروف المعجم؛ وكتاب ما يجوز للشاعر استعماله في ضرورة الشعر «1» .
__________
[1020] ترجمة القزاز في أنموذج الزمان: 365 وانباه الرواة 3: 84 والمحمدون: 185 وابن خلكان 4: 374 ومرآة الجنان 3: 27 والوافي 2: 304 وبغية الوعاة 1: 71 وإشارة التعيين: 301 والمقفى 5: 504. وللمنجي الكعبي كتاب: القزاز القيرواني، حياته وآثاره، تونس 1968.(6/2475)
قال ابن رشيق: وكان مهيبا عند الملوك والعلماء وخاصة الناس محبوبا عند العامة يملك لسانه ملكا شديدا، وقد مدحه الشعراء فقال فيه يعلى بن إبراهيم الأربسي «1» :
نسجت شعاعا بيننا فكأننا ... بتنا جميعا «2» تحت ثوب مذهب
فمزجتها من فيه ثم شربتها ... ولثمته برضاب ثغر أشنب
في ليلة للدهر كانت غرّة ... يرنو إليها الخطب كالمتعجب
فتّ الأنام بها كما فتّ الورى ... سبقا محمد بالفخار الأغلب
أبدا على طرف السؤال جوابه ... فكأنما هو دفعة من صيّب
يغدو مساجله بعزّة صافح ... ويروح معترفا بذلة مذنب
فالأبعد النائي عليه في الذي ... يفترّ كالداني إليه الأقرب
وكان القزاز معجبا بهذه الكلمة ويقول: ما مدحت بأحبّ إليّ منها. وقال الحسن بن رشيق في «العمدة» «3» : وحاجى شيخنا أبو عبد الله بعض تلاميذه فقال:
أحاجيك عباد كزينب في الورى ... ولم تؤت إلّا من صديق وصاحب
فأجابه التلميذ في الحال:
سأكتم حتى ما تحسّ جوارحي ... بما انهلّ منها في دموعي السواكب
فمعكوس عباد كزينب، سرّك ذائع. وسأكتم جواب على الظاهر حسن.
ومعكوسه: منك أتيت، وهو جواب لما حوجي به بديع مقابل ولم تؤت إلا من صديق وحبيب تفسير حسن بديع جدا.
وشعر أبي عبد الله جيد مطبوع مصنوع ومن شعره يتغزل «4» :
أما ومحلّ حبّك من فؤادي ... وقدر مكانه فيه المكين(6/2476)
لو انبسطت لي الآمال حتى ... تصيّر من عنانك في يميني
لصنتك في مكان سواد عيني ... وخطت عليك من حذر جفوني
فأبلغ منك غايات الأماني ... وآمن فيك آفات الظنون
فلي نفس تجرّع كلّ حين ... عليك بهنّ كاسات المنون
إذا أمنت قلوب الناس خافت ... عليك خفيّ ألحاظ العيون
فكيف وأنت دنياي ولولا ... عقاب الله فيك لقلت ديني
ومن شعره أيضا «1» :
إذا كان حظي منك لحظة ناظر ... على رقبة لا أستديم لها لحظا
رضيت بها في مدة الدهر مرة ... وأعظم بها من حسن وجهك لي حظا
وله أيضا «2» :
لو أنّ في حكم قلبي فيك أو بصري ... ما استمتعت لي عين منك بالنظر
أخشى وأحذر من عيني القريحة ما ... أخشى وأحذره من أعين البشر
ويلاه إن كان حظّي فيه مشتركا ... وكيف يشترك الحيان في عمر
يناله وادع لا يستعدّ له ... ولست أبلغ أولاه من الحذر
وله أيضا «3» :
أضمروا لي ودّا ولا تظهروه ... يهده منكم إليّ الضمير
ما أبالي إذا بلغت رضاكم ... في هواكم لأيّ حال أصير
وله أيضا «4» :
أحين علمت أنك نور عيني ... وأني لا أرى حتى أراكا
جعلت مغيب شخصك عن عياني ... يغيّب كلّ مخلوق سواكا(6/2477)
وله أيضا «1» :
وا حسرتا مات أحبابي وخلّاني ... وشيّب الدهر أترابي وأخداني
وغيرت غير الأيام خالصتي ... والمنتصى الحرّ من أهلي وإخواني
ومن تصانيف أبي عبد الله أيضا: كتاب أدب السلطان والتأدب له، عشر مجلدات. كتاب التعريض والتصريح، مجلد. كتاب إعراب الدريدية، مجلد.
كتاب شرح رسالة البلاغة، في عدة مجلدات. كتاب أبيات معان في شعر المتنبي.
كتاب ما أخذ على المتنبي من اللحن والغلط. كتاب الضاد والظاء، مجلد.
[1021] محمد بن الجهم بن هارون السمري، أبو عبد الله الكاتب:
مات سنة سبع وسبعين ومائتين عن تسع وثمانين سنة، ذكر ذلك أبو بكر ابن علي وقال: سمع يعلى بن عبيد الطنافسي وعبد الوهاب بن عطاء ويزيد بن هارون وآدم بن أبي إياس وروى عن الفراء تصانيفه. حدث عنه موسى بن هارون الحافظ والقاسم بن محمد الأنباري وأبو بكر ابن مجاهد المقرىء ونفطويه وإسماعيل بن محمد الصفار وغيرهم.
قال الدارقطني: هو ثقة صدوق.
قال المرزباني: محمد بن الجهم بن هارون السمري أبو عبد الله صاحب الفراء، وروى كتابه في معاني القرآن، وهو أحد الثقات من رواة المسند، وهو القائل يمدح الفراء ويصف مذهبه في النحو:
أكثر النحو يزعم الفرّاء ... من وجوه تأويلهنّ الجزاء
وهي أبيات يقول فيها:
__________
[1021] ترجمة ابن الجهم في انباه الرواة 3: 88 والمحمدون: 179 وتاريخ بغداد 2: 161 ومعجم المرزباني: 406 والمنتظم 5: 108 والوافي 2: 313.(6/2478)
نحوه أحسن النحوّ فما فيه معيب ولا به إزراء
ليس من صنعة الضعائف لكن ... فيه فقه وحكمة وضياء
وبيان تصغي القلوب إليه ... يجتبيه الملوك والحكماء «1»
حجة توضح «2» الصواب وما قا ... ل سواه فباطل وخطاء
ليس من قال بالصواب كمن قا ... ل بجهل والجهل داء عياء
وكأني أراه يملي علينا ... وله واجبا علينا الدعاء
«كيف نومي على الفراش ولما ... يشمل الشام غارة شعواء»
«تذهل المرء عن بنيه وتبدي ... عن خدام العقيلة العذراء»
هذان البيتان لعبد الله بن قيس الرقيات ضمنهما «3» .
[1022] محمد بن حارث الخشني الأندلسي صاحب التواريخ:
ذكره الحميدي في كتابه فقال: هو من أهل العلم والفضل، فقيه محدّث روى عن ابن وضاح ونحوه، وله من الكتب: كتاب أخبار القضاة بالأندلس. كتاب أخبار الفقهاء والمحدثين. كتاب الاتفاق والاختلاف لمالك بن أنس وأصحابه وغير ذلك. ومات في حدود الثلاثين والثلاثمائة «4» ذكره أبو عمر ابن عبد البر وأبو محمد علي بن أحمد، وأورد عنه أبو سعيد ابن يونس في تاريخه وفيات الجماعة من أهل الأندلس ممن مات قبل الثلاثمائة وبعدها بمدة، وقد أفصح أبو سعيد باسمه في موضعين من تاريخه في باب السين
__________
[1022] ترجمة الخشني في جذوة المقتبس: 49 (بغية الملتمس ص: 93) وابن الفرضي 2: 114 وقد طبع له قضاة قرطبة مجتمعا مع علماء افريقية ويقال إنه ألف للحكم المستنصر مائة كتاب.(6/2479)
وباب النون، وما أراه لقيه ولكنه عاصره وكان في زمانه. وإنما يقول فيما يورده عنه «ذكره الخشني في كتابه» .
وذكر الحميدي في باب محمد بن عبد السلام الخشني أن عبد الغني بن سعيد الحافظ غلط فيه فقال محمد بن عبد السلام الخشني صاحب التاريخ، وإنما هو محمد بن حارث فغلط، هذا تلخيص كلام الحميدي لا على وجهه.
[1023] محمد بن حبيب أبو جعفر:
ذكره المرزباني فقال: قال عبد الله بن جعفر:
من علماء بغداد باللغة والشعر والأخبار والأنساب الثقات محمد بن حبيب، ويكنى أبا جعفر، وكان مؤدّبا ولا يعرف أبوه، وإنما نسب إلى أمه، وهي حبيب. وهو ممن يروي كتب ابن الأعرابي وابن الكلبي وقطرب، وكتبه صحيحة، وله مصنفات في الأخبار منها كتاب المحبّر والموشّى وغيرهما. مات ابن حبيب بسامرا في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائتين في أيام المتوكل.
قال أبو الحسن بن أبي رؤبة، قال أبو رؤبة: عبرت الى ابن حبيب في مكتبه وكان يعلم ولد العباس بن محمد في شكوك شككت فيها.
وروى محمد بن موسى البريري عن ابن حبيب قال: إذا قلت للرجل ما صناعتك فقال: معلم، فاصفع، وأنشد ابن حبيب:
إنّ المعلم لا يزال معدّما ... لو كان علم آدم الأسماء
من علم الصبيان أصبوا عقله ... حتى بني الخلفاء والخلفاء
__________
[1023] ترجمة ابن حبيب في طبقات الزبيدي: 139، 198 والفهرست: 119 ومراتب النحويين: 157 وتاريخ بغداد 2: 277 وانباه الرواة 3: 119 وتحفة الأبيه: 108 والوافي 2: 325 والنجوم الزاهرة 2: 321 وبغية الوعاة 1: 73 وانظر نور القبس: 321؛ وقد طبع من كتبه المحبر (حيدر أباد الدكن 1942) والمنمق (حيدر أباد الدكن 1964) وأسماء المغتالين (نوادر المخطوطات رقم: 21 القاهرة 1972) وكنى الشعراء (نوادر المخطوطات) وألقاب الشعراء ومن يعرف منهم بأمه (نوادر المخطوطات) ومختلف القبائل ومؤتلفها (غوتا 1850 ثم ملحقا بكتاب الايناس للوزير المغربي، تحقيق الشيخ حمد الجاسر) .(6/2480)
ومحمد بن حبيب مولى لبني هاشم ثم مولى لمحمد بن العباس بن محمد الهاشمي وأمه مولاة لهم.
وقال ابن النديم: نقلت من خط أبي سعيد السكري قال: هو محمد بن حبيب بن أمية بن عمرو، وكان يروي عن هشام ابن الكلبي وابن الأعرابي وقطرب وأبي عبيدة وأبي اليقظان، وأكثر الأخذ عنه أبو سعيد السكري.
قال المرزباني: وكان محمد بن حبيب يغير على كتب الناس فيدّعيها ويسقط أسماءهم. فمن ذلك الكتاب الذي ألفه إسماعيل بن [أبي] عبيد الله واسم أبي عبيد الله معاوية وكنيته هي الغالبة على اسمه، فلم يذكرها لئلا يعرف، وابتدأ فساق كتاب الرجل من أوله إلى آخره فلم يخلطه بغيره ولم يغير منه حرفا ولا زاد فيه شيئا، فلما ختمه أتبع ذلك بذكر من لقب من الشعراء ببيت قاله؛ قال: وما علمت أن أحدا من العلماء صنع صنيعه هذا، ولا من استحسن أن يضع نفسه هذا الموضع القبيح، وأحسب أن الذي حمله على ذلك أن كتاب إسماعيل هذا لم تكثر روايته، ولا اتسع في أيدي الأدباء، فقدّر ابن حبيب أنّ أمره ينستر وأن إغارته عليه تميت ذكر صاحبه.
وحدث المرزباني عن أحمد بن محمد الكاتب عن علي بن عبد الله بن المسيب قال: كان علي بن العباس الرومي يختلف إلى محمد بن حبيب لأنّ محمدا كان صديقا لأبيه العباس بن جورجس، وكان يخصّ عليا لما يرى من ذكائه، فحدّث علي عنه أنه كان إذا مرّ به شيء يستغربه ويستجيده يقول لي: يا أبا الحسن ضع هذا في تامورك.
وحدث أبو بكر ابن علي قال، قال أبو طاهر القاضي: محمد بن حبيب، وهي أمه، وهو ولد ملاعنة. وحدث أيضا فيما أسنده إلى ثعلب قال: حضرت مجلس ابن حبيب فلم يمل فقلت ويحك أمل، مالك؟ فلم يفعل حتى قمت، وكان والله حافظا صدوقا، وكان يعقوب أعلم منه وكان هو أحفظ للأنساب والأخبار منه، وهو بغدادي.
وحدث أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الاشبيلي في كتابه قال، قال ثعلب:
أتيت ابن حبيب وقد بلغني أنه يملي شعر حسّان بن ثابت، فلما عرف موضعي قطع الاملاء، فانصرفت وعدت إليه وترفقت به فأملى، وكان لا يقعد في المسجد الجامع، فعذلته على ذلك حتى قعد جمعة من الجمع واجتمع إليه الناس، فسأله(6/2481)
سائل عن هذه الأبيات «1» :
أزحنة عني تطردين تبدّدت ... بلحمك طير طرن «2» كلّ مطير
قفي لا تزلّي زلة ليس بعدها ... جبور وزلات النساء كثير
وإني واياه كرجلي نعامة ... على كلّ حال من غنى وفقير
ففسر ما فيه من اللغة، فقيل له كيف قيل: «غنى وفقير» ولم يقل «من غنى وفقر» قال: فاضطرب، فقلت للسائل: هذا غريبة وأنا أنوب عنه وبينت العلة، وانصرف ثم لم يعد للقعود بعد ذلك وانقطعت عنه.
قوله «رجلي نعامة» إنما شبه به لأنه لا تنوب إحداهما عن الأخرى، لأنه لا مخّ فيها، وسائر الحيوان إذا أعيت إحدى رجليه استعان بالأخرى، فيقال هما رجلا نعامة، إي لا غنى لإحداهما عن الأخرى، والأسماء ترد على المصادر، والمصادر على الأسماء، لأنّ المصادر إنما ظهرت لظهور الأسماء وتمكن الأعراب منها.
قال محمد بن إسحاق: ولابن حبيب من الكتب: كتاب النسب. كتاب الأمثال على أفعل ويسمى المنمق «3» . كتاب السعود والعمود. كتاب العمائر والربائع. كتاب الموشح. كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء القبائل. كتاب المحبّر، وهو من جيد كتبه. كتاب المقتنى. كتاب غريب الحديث. كتاب الأنواء. كتاب المشجر. كتاب من استجيبت دعوته. كتاب الموشّى. كتاب المذهب في أخبار الشعراء وطبقاتهم.
كتاب نقائض جرير وعمر بن لجأ. كتاب نقائض جرير والفرزدق. كتاب المفوّف.
كتاب تاريخ الخلفاء. كتاب من سمّي ببيت قاله. كتاب مقاتل الفرسان. كتاب الشعراء وأنسابهم. كتاب العقل. كتاب كنى الشعراء. كتاب السمات. كتاب أيام جرير التي ذكرها في شعره. كتاب أمهات أعيان بني عبد المطلب. كتاب المقتبس.
كتاب أمهات السبعة من قريش. كتاب الخيل. كتاب النبات. كتاب ألقاب القبائل(6/2482)
كلها. كتاب الأرحام التي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه سوى العصبة. كتاب ألقاب اليمن ومضر وربيعة. كتاب القبائل الكبيرة والأيام، جمعه للفتح بن خاقان. قال محمد بن إسحاق: ورأيت أنا النسخة بعينها في طلحي نيفا وعشرين جزءا، وكانت تنقص ما يدلّ على أنها كانت نحوا من أربعين جزءا في كل جزء مائتا ورقة وأكثر، ولهذه النسخة فهرست لما يحتوي عليه من القبائل والأيام في طلحي نحو خمسة عشر ورقا. ومن صنعه في أشعار العرب: كتاب ديوان زفر بن الحارث. كتاب شعر الشماخ «1» . كتاب شعر الأقيشر. كتاب شعر الصمة. كتاب شعر لبيد العامري.
[1024] محمد بن حرب بن عبد الله النحوي
الحلبي، أبو المرجّى: أحد أعيان حلب والمشهورين منهم بعلم الأدب، مات بدمشق في سنة احدى وثمانين أو اثنتين وثمانين. وحدثني ابن الجبراني «2» قال: مات شيخنا بدمشق في سنة ثمانين وخمسمائة.
حدثني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة أدام الله أيامه قال، حدثني محمد بن عبد الواحد بن حرب الخطيب- خطيب قلعة حلب- إملاء من لفظه قال، حدثني أبو المرجّى محمد بن حرب أبو عبد الله النحوي قال: رأيت في النوم إنسانا ينشدني هذا البيت:
أروم عطا الأيام والدهر مهلكي ... بمرّ لها والدهر رهن عطاها
فأجزته بأبيات:
أيا طالب الدنيا الدنيّة إنها ... سترديك يوما إن علوت مطاها
صن النفس لا تركن إليها فان أبت ... فردّد عليها آي آخر طاها «3»
__________
[1024] ترجمة أبي المرجى الحلبي في بغية الوعاة 1: 75 والوافي 2: 327.(6/2483)
ودع روضة الآمال والحرص إنه ... إذا ردع النفس الهدى بسطاها
فلا بدّ يوما أن تلمّ ملمّة ... فتبسط منا عقدة نشطاها «1»
أنشدني الأخ أبو القاسم أحمد بن هبة الله بن سعد الجبراني النحوي الحلبي قال: أنشدني شيخي أبو المرجّى محمد بن حرب الأنابي- وأناب قرية من بلد أعزاز من نواحي حلب- لنفسه في صفة الرمّان:
ولما فضضت الختم عنهنّ لاح لي ... فصوص عقيق في بيوت من التبر
ودرّ ولكن لم يدنّسه غائص ... وماء ولكن في مخازن من خمر
وأنشدني قال أنشدني المذكور لنفسه:
لما بدا ليل عارضيه لنا ... يحكي سطورا كتبن بالمسك
تلا علينا العذار سورة والل ... يل وغنّى لنا «قفا نبك»
وأنشدني له:
تجلى سنا شمعة تشابهني ... وقدا ولونا وأدمعا وفنا
قال: وله أرجوزة في مخارج الحروف.
[1025] محمد بن حسان النملي، يكنى أبا حسان:
أحد الكتّاب الطيّاب والأدباء، وكان في أيام المتوكل وله معه أحاديث، وله كتاب برجان وحباحب- وهو كبير- في أخبار النساء والباه. كتاب آخر صغير في هذا المعنى. كتاب البغاء. كتاب السحق.
كتاب خطاب المكاري لجارية البقال.
__________
[1025] نقل ياقوت ترجمة النملي عن الفهرست: 169 وانظر الوافي 2: 331.(6/2484)
[1026] محمد بن حسان الضبي، أبو عبد الله:
كان نحويا فاضلا وأديبا شاعرا، وكان يؤدب العباس بن المأمون وغيره من ولده فماتوا فقال يرثيهم:
خلّ دمع العين ينهمل ... بان من أهواه فاحتملوا
كلّ دمع صانه كلف ... فهو يوم البين مبتذل
يا أخلائي الذين نأت ... بهم الطيات وانتقلوا
قد أبى أن ينثني بكم ... أوبة يحيا بها الأمل
وحدّث شبّاب العصفري قال: ولّى المأمون محمد بن حسان الضبي مظالم الجزيرة وقنسرين والعواصم والثغور سنة خمس عشرة ومائتين ثم زاده بعد ذلك مظالم الموصل وأرمينية.
قال: وولى المعتصم محمد بن حسان مظالم الرقة في سنة أربع وعشرين ومائتين إلى ان توفي المعتصم فأقره الواثق عليها.
وحدث المرزباني باسناده قال: قدم محمد بن حسان الضبي على أبي المغيث الرافقي فمدحه فوعده بثواب فتأخر عنه، فكتب إليه محمد:
عذّبت بالمطل وعدا رفّ مورقه ... حتى لقد جفّ منه الماء والعود
سقيا للفظك ما أحلى مخارجه ... لولا عقارب في أثنائه سود
فلما قرأها أبو المغيث تبسم وأجابه:
لا تعجلنّ على لومي فقد سبقت ... مني إليك بما تهوى المواعيد
فان صبرت أتاك النجح عن كثب ... وكلّ طالعه سعد ومسعود
وفي الكريم أناة ربما اتصلت ... إن لم يعامل بصبر أيبس العود
وعجل له صلته.
وقال أبو الحسن بن البراء: أنشدني محمد بن حسان الضبي لنفسه:
__________
[1026] ترجمة محمد بن حسان الضبي في الوافي 2: 331 وبغية الوعاة 1: 75.(6/2485)
كتمت الهوى حتى بدا السقم ظاهرا ... وحتى جرى دمعي يسيل بدارا
وأخفيت من أهوى وألقيت دونه ... من الحبّ أستارا فعدن جهارا
وله أيضا في رواية المرزباني:
ففيم أجنّ الصبر والبين حاضر ... وأمنع تذراف الدموع السواكب
وقد فرقت جمع الهوى طيّة النوى ... وغودرت فردا شاهدا مثل غائب
[1027] محمد بن الحسن بن أبي سارة الرؤاسي
، يكنى أبا جعفر: هو ابن أخي معاذ الهراء، وهم من موالي محمد بن كعب القرظي، قال «1» : وسمّي الرؤاسي لكبر رأسه، وكان ينزل النيل فقيل له النيلي، وكان أول من وضع من الكوفيين كتابا في النحو، ومات في أيام الرشيد.
قال أحمد بن يحيى ثعلب: كان الرؤاسيّ أستاذ علي بن حمزة الكسائي والفراء، قال الفراء: فلما خرج الكسائي إلى بغداد قال لي الرؤاسي: قد خرج الكسائي وأنت أسنّ منه، فجئت إلى بغداد فرأيت الكسائي فسألته عن مسائل الرؤاسي فأجابني بخلاف ما عندي، فغمزت عليه قوما كوفيين كانوا معي، فرآني فقال لي:
مالك قد أنكرت، لعلك من أهل الكوفة؟ قلت: نعم. قال الرؤاسي يقول كذا وكذا وليس صوابا، وسمعت العرب تقول كذا وكذا حتى أتى على مسائلي فلزمته.
قال: وكان الرؤاسي رجلا صالحا وقال: بعث الخليل إليّ يطلب كتابي فبعثت به إليه فقرأه، قال: وكلّ ما في كتاب سيبويه «وقال الكوفي كذا» فانما يعني الرؤاسيّ.
قال: وكتاب الرؤاسي يقال له «الفيصل» . وزعم ثعلب أن أول من وضع من
__________
[1027] ترجمة الرؤاسي في الفهرست: 71 ونور القبس: 279 ومراتب النحويين: 48 وطبقات الزبيدي: 125 ونزهة الألباء: 54 وتاريخ أبي المحاسن: 194 وانباه الرواة 4: 99 والوافي 2: 334 وبغية الوعاة 1: 82 وروضات الجنات 7: 263 وانظر رقم: 1083.(6/2486)
الكوفيين كتابا في النحو أبو جعفر الرؤاسي، وكان له كتاب معروف عندهم يقدمونه.
وقال سلمة: سئل الفراء عن الرؤاسي فأثنى عليه وقال: قد كان دخل البصرة دخلتين وقلّ مقامه بالكوفة فلذلك قلّ أخذ الناس عنه.
قال، وقال المبرد: ما عرف الرؤاسي بالبصرة، وقد زعم بعض الناس انه صنف كتابا في النحو فدخل البصرة ليعرضه على أصحابنا فلم يلتفت إليه، أو لم يجسر على إظهاره لما سمع كلامهم.
وقال ابن درستويه: وزعم جماعة من البصريين أن الكوفي الذي يذكره الأخفش في آخر «كتاب المسائل» ويردّ عليه هو الرؤاسي.
حدث محمد بن جعفر الأشعثي عن الرؤاسي قال: قلت لأبي جعفر محمد بن علي إن لي تجارة بالنيل، أفأشتري بالنيل دارا؟ فقال: اشتر ما ينفعك فربّ عزلة كانت داعية خير، وإياك وجميع ما يعنيك، فأما ما لا يعنيك فاياك واياه.
وحدث عبد الله بن جعفر عن علي بن المبارك الأحمر عن الكسائي قال: كان للرؤاسي امرأة من أهل النيل تزوجها بالكوفة وانتقلت إليه من النيل وشرطت عليه أنها تلمّ بأهلها في كلّ مدة، فكانت لا تقيم عنده إلا القليل ثم يحتاج إلى إخراجها وردّها، فملّ ذلك منها وفارقها وقال فيها:
بانت لمن تهوى حمول ... فأسفت في أثر الحمول
أتبعتهم عينا علي ... هم ما تفيق من الهمول
ثم ارعويت كما ارعوى ... عنها المسائل للطلول
لاحت مخايل خلفها ... وخلافها دون القبول
ملّت وأبدت جفوة ... لا تركننّ إلى ملول
ولأبي جعفر الرؤاسي قصيدة منها:
ألا يا نفس هل لك في صيام ... عن الدنيا لعلك تهتدينا
يكون الفطر وقت الموت منها ... لعلك عنده تستبشرينا
أجيبيني هديت وأسعفيني ... لعلك في الجنان تخلّدينا(6/2487)
وحدث أبو الطيب اللغوي في «كتاب المراتب» قال: وممن أخذ عن أبي عمرو بن العلاء من أهل الكوفة أبو جعفر الرؤاسي عالم أهل الكوفة، الا أنه ليس بنظير لمن ذكرنا ولا قريبا منهم، وكان ذكر يونس بن حبيب وعيسى بن عمر والخليل بن أحمد ونظائرهم، قال وقال أبو حاتم: كان بالكوفة نحويّ يقال له أبو جعفر الرؤاسي وهو مطروح العلم ليس بشيء.
وقال محمد بن إسحاق في الكتاب الذي ألفه في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة:
وللرؤاسي من الكتب: كتاب الفيصل رواه جماعة وهو يروى إلى اليوم. كتاب معاني القرآن. كتاب التصغير. كتاب الوقف والابتداء الكبير. كتاب الوقف والابتداء الصغير.
[1028] محمد بن الحسن بن دينار الأحول،
أبو العباس: كان غزير العلم واسع الفهم جيد الدراية حسن الرواية، روى عنه أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، وقرأ عليه ديوان عمرو بن الأهتم في سنة خمسين ومائتين.
قال أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي المعروف بنفطويه: جمع أبو العباس محمد بن الحسن بن دينار الأحول أشعار مائة شاعر وعشرين شاعرا، وعملت أنا خمسين شاعرا.
وذكره أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي وجعله في طبقة المبرّد وثعلب.
وحدث المرزباني أنه كان ورّاقا يورّق لحنين بن إسحاق المتطبب في منقولاته لعلوم الأوائل، وكان محدودا، أي قليل الحظّ من الناس. وحدّث عن علي بن سليمان الأخفش قال، حدثني محمد بن الحسن الأحول قال: اجتمعنا مع أبي العباس ثعلب في بيته [وحضر] ابن بوكران، رجل من أهل الأدب، فقال بعض أصحابنا: عرفوني ألقابكم، فقال ثعلب: أنا ثعلب، وقال الآخر: أنا كذا،
__________
[1028] ترجمة الاحول في تاريخ بغداد 2: 185 وطبقات الزبيدي: 208 والفهرست: 87 ونور القبس: 337 والوافي 2: 344 وبغية الوعاة 1: 81.(6/2488)
والآخر: أنا كذا، فلما بلغوا إليّ قالوا: وأنت ما لقبك؟ فقلت: منعت العاهة من اللقب.
وحدث المرزباني عن نفطويه قال: كان أبو العباس الأحول يقول «لم يزلوا» وكذا رد عليّ فقلت له «لم يزالوا» أراد أنه كان لحّانا.
وحدث عن أبي عبد الله اليزيدي قال: كان أبو العباس الأحول يكتب لي مائة ورقة بعشرين درهما.
وقال محمد بن إسحاق النديم: كان محمد بن الحسن الأحول ناسخا. وله من الكتب: كتاب الدواهي. كتاب السلاح. كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه. كتاب فعل وأفعل. كتاب الأشباه، وجمع كما تقدم دواوين مائة وعشرين شاعرا.
[1029] محمد بن الحسن بن دريد بن عتاهية بن حنتم
بن حمامي بن واسع بن وهب بن سلمة بن حنتم بن حاضر بن جشم بن ظالم بن أسد بن عدي بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهير، ويقال زهران بن كعب بن الحارث بن عبد الله بن مالك بن نضر بن الأزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان «1» ؛ مات يوم الأربعاء لثنتي عشرة ليلة
__________
[1029] ترجمة ابن دريد في طبقات الزبيدي: 201 ومعجم المرزباني: 425 ونور القبس: 342 وتهذيب اللغة 1: 31 والفهرست: 67 وتاريخ بغداد 2: 195 والأنساب 5: 305 والاكمال 3: 388 ونزهة الألباء: 175 والمحمدون: 279 وانباه الرواة 3: 92 والمنتظم 6: 261 وابن خلكان 4: 323 وسير الذهبي 15: 96 وعبر الذهبي 2: 187 وميزان الاعتدال 3: 520 والوافي 2: 339 ومرآة الجنان 2: 282 وطبقات السبكي 3: 138 والبداية والنهاية 11: 176 وطبقات ابن الجزري 2: 116 ولسان الميزان 5: 132 والنجوم الزاهرة 3: 240 وبغية الوعاة 1: 76 والشذرات 2: 289 (وانظر صفحات من فهرسة ابن خير) وطبقات المفسرين للداودي 2: 119 وخزانة الأدب 3: 118 وروضات الجنات 7: 303 وإشارة التعيين: 304. وللسيد مصطفى السنوسي دراسة عنه (الكويت: 1984) .(6/2489)
بقيت من رمضان سنة احدى وعشرين وثلاثمائة، وفي هذا اليوم مات أبو هاشم عبد السلام بن محمد الجبائي فقيل: مات علم اللغة والكلام ودفنا جميعا في مقبرة الخيزران.
وقال المرزباني: دفن بالعباسية من الجانب الشرقي في ظهر سوق السلاح من الشارع الأعظم.
وقال التنوخي ورجاله: دفن ابن دريد بظهر السوق الجديدة المعروفة بمقابر العباسية من الجانب الشرقي.
ومولده بالبصرة في سكة صالح في خلافة المعتصم سنة ثلاث وعشرين ومائتين، وبالبصرة تأدّب وعلم اللغة وأشعار العرب، وقرأ على علماء البصرة، ثم صار إلى عمان فأقام بها مدة، ثم صار إلى جزيرة ابن عمارة، ثم صار إلى فارس فسكنها مدة، ثم قدم بغداد فأقام بها إلى أن مات.
وحدث أبو بكر ابن علي قال: أبو بكر ابن دريد بصريّ المولد ونشأ بعمان وتنقل في جزائر البحر والبصرة وفارس، وطلب الأدب وعلم العربية، وكان أبوه من الرؤساء وذوي اليسار، وورد بغداد بعد أن أسنّ فأقام بها إلى آخر عمره. وروى عن عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي وأبي حاتم السجستاني وأبي الفضل الرياشي، وكان رأس أهل هذا العلم، وروى عنه خلق منهم أبو سعيد السيرافي وأبو عبيد الله المرزباني وأبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني. وله شعر كثير وروى [من] أخبار العرب وأشعارها [ما] لم يروه كثير من أهل العلم.
وقال أبو الطيب اللغوي في «كتاب مراتب النحويين» عند ذكر ابن دريد «1» : هو الذي انتهى إليه [علم] لغة البصريين، وكان أحفظ الناس وأوسعهم علما وأقدرهم على شعر، وما ازدحم العلم والشعر في صدر أحد ازدحامهما في صدر خلف الأحمر وابن دريد. وتصدّر ابن دريد في العلم ستين سنة. وأول شعر قاله «2» :
ثوب الشباب عليّ اليوم بهجته ... فسوف تنزعه عنّي يد الكبر(6/2490)
أنا ابن عشرين ما زادت ولا نقصت ... ابن ابن عشرين من شيب على خطر
وكان يقال ابن دريد أشعر العلماء وأعلم الشعراء.
قال الخطيب، وقال محمد بن دريد «1» : كان أول من أسلم من آبائي حمامي، وهو من السبعين راكبا الذين خرجوا مع عمرو بن العاص من عمان إلى المدينة لما بلغهم وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدوه، وفي ذلك يقول قائلهم:
وفينا لعمرو يوم عمرو كأنه ... طريد نفته مذحج والسكاسك
وحدث أبو علي التنوخي قال «2» : حدثني جماعة أن ابن دريد قال: كان أبو عثمان الأشنانداني معلمي، وكان عمي الحسين بن دريد يتولى تربيتي، فكان إذا أراد الأكل استدعى أبا عثمان يأكل معه، فدخل يوما عمي وأبو عثمان يروّيني قصيدة الحارث بن حلزة التي أولها: «آذنتنا ببينها أسماء» فقال لي عمي: إذا حفظت هذه القصيدة وهبت لك كذا وكذا، ثم دعا المعلم ليأكل معه، فدخل إليه فأكلا وتحدثا بعد الأكل ساعة، فالى أن رجع المعلم حفظت «ديوان الحارث بن حلزة» بأسره، فخرج المعلم فعرّفته ذلك فاستعظمه وأخذ يعتبره عليّ فوجدني قد حفظته، فدخل إلى عمي فأخبره فأعطاني ما كان وعدني به.
قال الخطيب «3» عن من رأى ابن دريد أنه قال: كان ابن دريد واسع الحفظ جدا ما رأيت أحفظ منه، وكانت تقرأ عليه دواوين العرب كلها أو أكثرها فيسابق إلى إتمامها وتحفظها، وما رأيته قط قرىء عليه ديوان شاعر إلا وهو يسابق إلى روايته لحفظه له.
قال «4» : وسئل عنه الدارقطني فقال: قد تكلموا فيه.
قال وقال أبو ذر عبد الله بن أحمد الهروي: سمعت ابن شاهين يقول «5» : كنا ندخل على ابن دريد ونستحي منه لما نرى من العيدان المعلّقة والشراب المصفّى(6/2491)
موضوع، وقد كان جاوز التسعين سنة، هذا كله من كتاب أبي بكر ابن علي.
وقال أبو منصور الأزهري في مقدمة «كتاب التهذيب» : وممن ألف في زماننا الكتب فرمي بافتعال العربية وتوليد الألفاظ وإدخال ما ليس من كلام العرب في كلامها أبو بكر محمد بن دريد صاحب «كتاب الجمهرة» و «كتاب اشتقاق الأسماء» و «كتاب الملاحن» ، وقد حضرته في داره ببغداد غير مرة فرأيته يروي عن أبي حاتم والرياشي وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي، وسألت إبراهيم بن محمد بن عرفة عنه فلم يعبأ به ولم يوثّقه في روايته، وألفيته أنا على كبر سنه سكران لا يكاد يستمرّ لسانه على الكلام من سكره. وقد تصفحت كتابه الذي أعاره اسم الجمهرة فلم أرد لا على معرفة ثاقبة ولا قريحة جيدة، وعثرت من هذا الكتاب على حروف كثيرة أنكرتها ولم أعرف مخارجها فأثبّتها في كتابي في مواقعها منه لأبحث أنا وغيري عنها.
وقال أبو ذر الهروي: سمعت أبا منصور الأزهري يقول: دخلت على ابن دريد فرأيته سكران فلم أعد إليه.
وقال غير أبي منصور: كان ابن دريد قد أملى «الجمهرة» في فارس، ثم أملاها بالبصرة وببغداد من حفظه، قال: فلذلك قلما تتفق النسخ وتراها كثيرة الزيادة والنقصان. ولما أملّه بفارس غلامه تعلّم من أول الكتاب، والنسخة التي عليها المعوّل هي الأخيرة، وآخر ما صحّ من النسخ نسخة أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي جخجخ لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه.
وحدث المرزباني قال، قال ابن دريد: خرجت أريد زهران بعد دخول البصرة، فمررت بدار كبيرة قد خربت فكتبت على حائطها «1» :
أصبحوا بعد جميع فرقا ... وكذا كلّ جميع مفترق
فمضيت ورجعت فاذا تحته مكتوب:
ضحكوا والدهر عنهم صامت ... ثم أبكاهم دما حين نطق
قال: وخرجنا نريد عمان في سفر لنا فنزلنا بقرية تحت نخل فإذا بفاختتين(6/2492)
تتزاقّان، فسنح لي أن قلت «1» :
أقول لورقاوين في فرع نخلة ... وقد طفّل الإمساء أو جنح العصر
وقد بسطت هاتا لتلك جناحها ... ومرّ على هاتيك من هذه النحر
ليهنكما أن لم تراعا بفرقة ... وما دبّ في تشتيت شملكما الدهر
فلم أر مثلي قطّع الشوق قلبه ... على أنه يحكي قساوته الصخر
قال «2» : وأخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال: سقطت من منزلي بفارس فانكسرت ترقوتي فسهرت ليلي، فلما كان في آخر الليل حملتني عيناي فرأيت في نومي رجلا طويلا أصفر الوجه كوسجا دخل عليّ وأخذ بعضادتي الباب وقال: أنشدني أحسن ما قلت في الخمر، فقلت: ما ترك أبو نواس شيئا، فقال: أنا أشعر منه، فقلت: ومن أنت؟ قال: أبو ناجية من أهل الشام، ثم أنشدني:
وحمراء قبل المزج صفراء بعده ... بدت بين ثوبي نرجس وشقائق
حكت وجنة المعشوق صرفا فسلطوا ... عليها مزاجا فاكتست لون عاشق
فقلت له: أسأت، قال: ولم؟ قلت: لأنك قلت «وحمراء» فقدمت الحمرة ثم قلت «بدت بين ثوبي نرجس وشقائق» فقدمت الصفرة، فالا قدمتها على الأخرى كما قدمتها على الأولى؟ فقال: وما هذا الاستقصاء في هذا الوقت يا بغيض.
وحدث قال: كتب ابن دريد الى أبي علي أحمد بن محمد بن رستم «3» :
حجابك صعب يجبه الحرّ دونه ... وقلبي إذا سيم المذلة أصعب
وما أزعجتني نحو بابك حاجة ... فأجشم نفسي رجعة حين أحجب
وحدث أيضا قال: وعد أبو بكر أبا الحسين عمر بن محمد بن يوسف القاضي أن يصير إليه فقطعه المطر، فكتب إليه أبو بكر «4» :(6/2493)
مناويك في بذل النوال وانه ... ليعجز عن أدنى مداك ويحسر
عداني عن حظّي الذي لا أبيعه ... بأنفس ما يحظى به المتخير
لم الغيث فاعذر من لقاؤك عنده ... يعادل نيل الخلد بل هو أكبر
فأجابه أبو الحسين:
على الرّسل في برّي فقد عظم الشكر ... ولم أك ذا شكر وان جلّ ما يعرو
مدائح مثل الغيث جادت عيونها ... سحاب توالى من جوانبها قطر
ومن شعر أبي بكر ابن دريد «1» :
عانقت منه وقد مال النعاس به ... والكأس تقسم سكرا بين جلّاسي
ريحانة ضمّخت بالمسك ناضرة ... تمجّ برد الندى في حرّ أنفاسي
وله يرثي عبد الله بن عمارة «2» :
بنفسي ثرى ضاجعت في بيته البلى ... لقد ضمّ منك الغيث والليث والبدرا
فلو أن حيا كان قبرا لميت ... لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا
ولو أن عمري كان طوع إرادتي ... وساعدني المقدار قاسمتك العمرا
وما خلت قبرا وهو أربع أذرع ... يضمّ ثقال المزن والطود والبحرا
وحدث الخطيب فيما أسنده إلى إسماعيل بن سويد أن سائلا جاء الى ابن دريد فلم يكن عنده غير دنّ نبيذ فوهبه له، فجاءه غلامه وأنكر عليه ذلك، فقال: أيش اعمل؟ لم يكن عندي غيره، ثم تلا قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ
(آل عمران: 92) فما تم اليوم حتى أهدي له عشرة دنان، فقال الغلام: تصدقنا بواحد وأخذنا عشرة.
وقال جحظة يرثيه:
فقدت بابن دريد كلّ منفعة ... لما غدا ثالث الأحجار والتّرب
وكنت أبكي لفقد الجود مجتهدا ... فصرت أبكي لفقد الجود والأدب(6/2494)
وقال محمد بن إسحاق: ولابن دريد من الكتب: كتاب الجمهرة في اللغة «1» .
كتاب المجتنى «2» . كتاب الأمالي. كتاب اشتقاق أسماء القبائل. كتاب الملاحن «3» . كتاب المقتبس. كتاب المقصور والممدود. كتاب الوشاح، على حذو المحبّر لابن حبيب. كتاب الخيل الكبير. كتاب الخيل الصغير. كتاب الأنواء.
كتاب السلاح. كتاب غريب القرآن، لم يتم. كتاب فعلت وأفعلت. كتاب أدب الكاتب. كتاب تقويم اللسان، على مثال كتاب ابن قتيبة ولم يجرده من المسودة فلم يخرج منه شيء يعوّل عليه. كتاب المطر «4» .
وقال أبو الحسن الدريدي: حضرت وقد قرأ أبو علي ابن مقلة وأبو حفص كتاب المفضل بن سلمة الذي يردّ فيه على الخليل بن أحمد، على أبي بكر ابن دريد، فكان يقول: صدق أبو طالب، في شيء إذا مر به، وكذب أبو طالب، في شيء آخر، ثم رأيت هذا الكلام وقد جمعه أبو حفص في نحو المائة ورقة وترجمه بالتوسط.
ومن شعر ابن دريد «5» :
وقد ألفت زهر النجوم رعايتي ... فإن غبت عنها فهي عني تسأل
يقابل بالتسليم منهنّ طالع ... ويومىء بالتوديع منهن آفل
وأما مقصورة ابن دريد المشهورة فإنه قالها يمدح بها الأمير أبا العباس إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال بن عبد الواحد بن جبريل بن القاسم بن بكر بن ديواستي، وهو سور بن سور بن سور بن سور- أربعة الملوك، ابن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور، قالها فيه وفي أبيه، وكان الأمير أبو العباس رئيس نيسابور ومتقدّمها.
وذكر أبو علي البيهقي المعروف بالسلامي في «كتاب النتف والطرف» أن ابن(6/2495)
دريد صنف «كتاب الجمهرة» للأمير أبي العباس إسماعيل بن عبد الله بن ميكال أيام مقامه بفارس، فأملاه عليه إملاء ثم قال: حدثني أبو العباس الميكالي قال: أملى عليّ أبو بكر الدريدي «كتاب الجمهرة» من أوله إلى آخره حفظا في سنة سبع وتسعين ومائتين فما رأيته استعان عليه بالنظر في شيء من الكتب إلا في باب الهمزة واللفيف فإنه طالع له بعض الكتب. قال: وكفاك بها فضيلة وعجيبة أن يتمكن الرجل من علمه كل التمكن ثم لا يسلم مع ذلك من الألسن حتى قيل فيه:
ابن دريد بقره ... وفيه عيّ وشره
ويدّعي من حمقه ... وضع كتاب الجمهره
وهو كتاب العين إ ... لا أنه قد غيره
وقد ذكرت هذه الحال في أخبار أبي العباس اسماعيل بن عبد الله «1» بأبسط من هذا.
وكتب ابن دريد إلى علي بن عيسى بن داود الجراح الوزير «2» :
أبا حسن والمرء يخلق صورة ... تخبّر عما ضمّنته الغرائز
إذا كنت لا ترجى لنفع معجّل ... وأمرك بين الشرق والغرب جائز
ولم تك يوم الحشر فينا مشفّعا ... فرأي الذي يرجوك للنفع عاجز
عليّ بن عيسى خير يوميك أن ترى ... وفضلك مأمول ووعدك ناجز
وإني لأخشى بعد هذا بأن ترى ... وبين الذي تهوى وبينك حاجز
قرأت بخط أبي سعد السمعاني من «المذيل» باسناد أن ابن دريد قال «3» :
ودّعته حين لا تودّعه ... روحي ولكنها تسير معه
ثم افترقنا وفي القلوب لنا ... ضيق مكان وفي الدموع سعه
قال أبو هلال، أخبرنا أبو أحمد قال: كنا في مجلس ابن دريد وكان يتضجر ممن يخطىء في قراءته، فحضر غلام وضيء فجعل يقرأ ويكثر الخطأ، وابن دريد(6/2496)
صابر عليه، فتعجب أهل المجلس، فقال رجل منهم: لا تعجبوا فإن في وجهه غفران ذنوبه، فسمعها ابن دريد، فلما أراد أن يقرأ قال له: هات يا من ليس في وجهه غفران ذنوبه فعجبوا من صحة سمعه مع علوّ سنه.
قال وقال بعضهم في مجلس ابن دريد:
من يكن للظباء طالب صيد ... فعليه بمجلس ابن دريد
إن فيه لأوجها قيّدتني ... عن طلاب العلا بأوثق قيد
قال الرصافي: حدثنا بعض أصحابنا قال: حضرت مجلس أبي بكر ابن دريد وقد سأله بعض الناس عن معنى قول الشاعر:
هجرتك لا قلى مني ولكن ... رأيت بقاء ودك في الصدود
كهجر الحائمات الورد لمّا ... رأت أنّ المنية في الورود
تفيض نفوسها ظمأ وتخشى ... حماما فهي تنظر من بعيد
فقال: الحائم الذي يدور حول الماء ولا يصل إليه، يقال حام يحوم حياما؛ ومعنى الشعر أن الايائل تأكل الأفاعي في الصيف فتحمى فتلتهب بحرارتها وتطلب الماء، فإذا وقعت عليه امتنعت من شربه وحامت حوله تنسّمه لأنها إن شربته في تلك الحال صادف الماء السمّ الذي في جوفها فتلفت، فلا تزال تدفع بشرب الماء حتى يطول بها الزمان فيسكن ثوران السم ثم تشربه فلا يضرها. ويقال: فاظ الميت وفاضت نفسه وفاظت نفسه أيضا جائز عند الجميع إلا الأصمعي فإنه يقول فاظ الميت فإذا ذكر النفس قال فاضت نفسه بالضاد ولم يجمع بين الظاء والنفس.
وحدث أبو علي المحسن، حدثني أبو القاسم الحسن بن علي بن إبراهيم بن خلاد الشاهد العكبري إمام الجامع فيها، حدثني أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: كنت بعمان مع الصلت بن مالك الشاري، وكانت الشراة تدعوه أمير المؤمنين، وكانت السنة كثيرة الأمطار ودامت على الناس فكادت المنازل أن تتهدم، فاجتمع الناس وصاروا إلى الصلت وسألوه أن يدعو لهم، فأجّل بهم أن يركب من الغد الى الصحراء ويدعو، فقال لي بكرة: لتخرج معي في غد، فبت مفكّرا كيف يدعو، فلما أصبحت خرجت معه، فصلّى بهم وخطب ودعا فقال: اللهم إنك أنعمت فأوفيت،(6/2497)
وسقيت فأرويت، فعلى القيعان ومنابت الشجر، وحيث النفع لا الضرر. فاستحسنت ذلك منه. وقال ابن دريد في النرجس «1» :
عيون ما يلمّ بها رقاد ... ولا يمحو محاسنها السهاد
إذا ما الليل صافحها استهلّت ... وتضحك حين ينحسر السواد
لها حدق من الذهب المصفّى ... صياغة من يدين له العباد
وأجفان من الدرّ استفادت ... ضياء مثله لا يستفاد
على قصب الزّبرجد في ذراها ... لأعين من يلاحظها مراد
قرأت في «كتاب التحبير» «2» وهو ما أخبرنا به الشريف افتخار الدين أبو هاشم عبد المطلب بن الفضل بن عبد المطلب الهاشمي إذنا، قال أبو سعد السمعاني إجازة إن لم يكن سماعا، قال: سمعت الأمير أبا نصر أحمد بن الحسين بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن الميكالي يقول: تذاكرنا المتنزهات يوما وابن دريد حاضر، فقال بعضهم: أنزه الأماكن غوطة دمشق، وقال آخرون: بل نهر الأبلّة، وقال آخرون: بل سغد سمرقند، وقال بعضهم: نهروان بغداد، وقال بعضهم: شعب بوّان بأرض فارس، وقال بعضهم: نوبهار بلخ. فقال: هذه متنزهات العيون فأين أنتم عن متنزهات القلوب. قلنا وما هي يا أبا بكر؟ قال «عيون الأخبار» للقتيبي و «الزهرة» لابن داود و «قلق المشتاق» لابن أبي طاهر، ثم أنشأ يقول «3» :
ومن تك نزهته قينة ... وكأس تحثّ وكأس تصب
فنزهتنا واستراحتنا ... تلاقي العيون ودرس الكتب
وقرأت في التاريخ الذي ألفه أبو محمد عبد الله بن أبي القاسم عبد المجيد بن شيران الأهوازي قال: وفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة مات أبو أحمد حجر بن أحمد الجويمي «4» ، وكان من أهل الفضل بجويم ونواحي فارس، وقد خلف القراء بها(6/2498)
فمدحه جماعة من الشعراء وقصده من انتفع به، ولأبي بكر ابن دريد فيه مدائح منها «1» :
نهنه بوادر دمعك المهراق ... أيّ ائتلاف لم يرع بفراق
حجر بن أحمد فارع الشرف الذي ... خضعت لعزته طلى الأعناق
قبّل أنامله فلسن أناملا ... لكنهنّ مفاتح الأرزاق
وانظر إلى النور الذي لو أنه ... للبدر لم يطبع برين محاق
[1030] محمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة الكاتب:
وشيلمة لقب لمحمد هذا، وأبوه الحسن بن سهل هو الوزير المعروف أخو الفضل بن سهل، مات محروقا. وكان شيلمة أولا مع العلويّ صاحب الزنج، ثم صار إلى بغداد وأومن ثم خلّط وسعى لبعض الخوارج فحرقه المعتضد حيّا وكان مصلوبا على عمود خيمة. ذكر ذلك محمد بن إسحاق وقال: له من الكتب المصنفة: كتاب أخبار صاحب الزنج.
كتاب رسائله.
حدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف بن الأزرق قال حدثني أبي قال: كنت أكتب لبدر اللاني في أيام الموفق وابنه المعتضد بالله وأدخل الدار معه، فرأيت محمد بن الحسن بن سهل المعروف بشيلمة، وقد جعله كردناكا «2» ، قال قلت له: وكيف كان ذلك وما كان سببه؟ فقال: إن رجلا من أولاد الواثق كان يسكن مدينة المنصور سعى في طلب الخلافة هو وشيلمة ليستوزره، وأخذ له البيعة على أكثر أهل الحضرة من الهاشميين والقضاة والقواد والجيش وأهل بغداد والأحداث وأهل العصبية، وقوي أمره
__________
[1030] ترجمة شيلمة في الفهرست: 141 والوافي 2: 350 وله أخبار كثيرة في تاريخ الطبري وغيره من الكتب التاريخية.(6/2499)
وانتشر خبره، وهمّ بالظهور في المدينة والاعتصام بها، حتى إذا أخذ المعتضد صار إلى دار الخلافة، فبلغ المعتضد الخبر على شرحه إلا اسم المستخلف، فكبس شيلمة وأخذ فوجد في داره جرائد بأسماء من بايع، وبلغ الخبر الهاشميّ فهرب، وأمر المعتضد بالجرائد فأحرقت ظاهرا ولم يقف على شيء منها لئلا يفسد قلوب الجيش بوقوفه عليها لما يعتقدون من فساد نيته عليهم، وأخذ يسائل شيلمة عن الخبر فصدقه عن جميع ما جرى إلا اسم الرجل الذي يستخلف، فرفق به ليصدقه عنه فلم يفعل، فطال الكلام بينهما، فقال له شيلمة: والله لو جعلتني كردناكا ما أخبرتك باسمه قطّ، فقال المعتضد للفراشين: هاتم أعمدة الخيم الكبار الثقال، وأمر أن يشدّ عليها شدّا وثيقا وأحضروا فحما عظيما، وفرش على الطوابيق بحضرته، وأجّجوا نارا وجعل الفراشون يقلّبون تلك النار وهو مشدود على الأعمدة إلى أن مات، وأخرج من بين يديه ليدفن فرأيته على هذه الصورة.
[1031] محمد بن الحسن بن رمضان النحوي:
له من الكتب فيما ذكره محمد بن اسحاق: كتاب أسماء الخمر وعصيرها. كتاب الديرة.
[1032] محمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون
بن جعفر بن سند النقاش الشعراني الدارقطني، أبو بكر المقرىء: مات فيما ذكره الخطيب يوم الثلاثاء لثلاث خلون من شوال سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة، ومولده سنة ست وستين ومائتين.
ودفن في داره بدارالقطن.
__________
[1031] ترجمة ابن رمضان النحوي في الفهرست: 92 وانباه الرواة 3: 112 وبغية الوعاة 1: 82.
[1032] ترجمة النقاش في الفهرست: 36 وتاريخ بغداد 2: 201 والمنتظم 7: 14 وابن خلكان 4: 298 وتذكرة الحفاظ: 908 ومعرفة القراء 1: 236 وسير الذهبي 15: 573 وعبر الذهبي 2: 292 وميزان الاعتدال 3: 520 والوافي 2: 345 ومرآة الجنان 2: 347 وطبقات السبكي 3: 145 والبداية والنهاية 11: 242 وطبقات ابن الجزري 2: 119 ولسان الميزان 5: 132 والشذرات 3: 8 والمقفى 5: 560.(6/2500)
قال أبو بكر «1» : وأصله من الموصل، ويقال: إنه مولى أبي دجانة سماك بن خرشة الأنصاري، وكان حافظا للتفسير، صنّف فيه كتابا سماه «شفاء الصدور» وله تصانيف في القراءات وغيرها من العلوم، وكان قد سافر الكثير شرقا وغربا، وكتب بالكوفة والبصرة ومكة ومصر والشام والجزيرة والموصل والجبال وبلاد خراسان وما وراء النهر، وحدّث عن خلق كثير، وروى عنه أبو بكر ابن مجاهد والدارقطني وأبو حفص ابن شاهين.
قال: وحدثنا عنه أبو الحسن ابن رزقويه وجماعة آخرهم أبو علي ابن شاذان، وفي حديثه مناكير بأسانيد مشهورة.
قال: حدثني عبيد الله بن أبي الفتح عن طلحة بن محمد بن جعفر أنه ذكر النقاش فقال: كان يكذب في الحديث والغالب عليه القصص. قال: وسألت البرقانيّ عنه فقال: كلّ حديثه منكر. قال: وحدثني من سمع أبا بكر البرقاني وذكر تفسير النقاش فقال: ليس فيه حديث صحيح. وقال هبة الله بن الحسن الطبري وذكر تفسير النقاش فقال: ذاك إشفا الصدور وليس شفاء الصدور.
هذا كله من تاريخ أبي بكر ابن علي.
وقال محمد بن اسحاق: له من الكتب: كتاب الإشارة في غريب القرآن.
كتاب الموضح في معاني القرآن. كتاب المناسك. كتاب فهم المناسك. كتاب أخبار القصاص. كتاب ذم الحسد. كتاب دلائل النبوة. كتاب الأبواب في القرآن.
كتاب إرم ذات العماد. كتاب المعجم الأوسط. كتاب المعجم الأصغر. كتاب المعجم الأكبر في أسماء القراء وقراءاتهم. كتاب السبعة الأوسط. كتاب السبعة الأصغر. كتاب التفسير الكبير، اثنا عشر ألف ورقة. كتاب العقل. كتاب ضد العقل.
حدث القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن زياد النقاش المقرىء قال: لقيت رقعة قد رفع فيها إلى القاضي أبي بكر أحمد بن موسى الأنطاكي:(6/2501)
أيّهذا القاضي الكبير المواتي «1» ... صانك الله عن مقام الدناة
أيكون القصاص في فتك لحظ ... من غزال مورّد الوجنات
أم يخاف العذاب من هو صبّ ... مبتلى بالزفير والحسرات
ليس إلا العفاف والصوم والنّس ... ك له زاجر عن الشبهات
فأخذ الرقعة وكتب على ظهرها:
يا ظريف الصنيع والآلات ... وعظيم الأشجان واللوعات
ان تكن عاشقا فلم تأت ذنبا ... بل ترقيت رفعة الدرجات
فلك الحقّ واجبا ان عرفنا ... من تعلّقته من الحجرات
ضأن أكون الرسول جهرا إليه ... إن تنكبت موبق الشبهات
ومتى أقض بالقصاص على لح ... ظ حبيب أخطىء طريق القضاة
[1033] محمد بن الحسن بن جمهور القمي الكاتب أبو علي:
قال أبو علي التنوخي: وكان من شيوخ أهل الأدب بالبصرة وكثير الملازمة لأبي، وحرّر لي خطي لما قويت على الكتابة لأنه كان جيد الخط حسن الترسّل كثير المصنفات لكتب الأدب، فكثرت ملازمتي له وكان يمدح أبي، فأنشدني لنفسه، وهو من مشهور شعره:
إذا تمنّع صبري ... وضاق بالهجر صدري
ناديت والليل داج ... وقد خلوت بفكري
يا ربّ هب لي منه ... وصال يوم بعمري
__________
[1033] ترجمة القمي في الوافي 2: 352 والقصة التي وردت هنا نقلها محقق النشوار 4: 109 (وسمّاه «العمّي» بالعين) وانظر الديارات: 266 وحكاية أبي القاسم البغدادي: 71- 75 ونشوار المحاضرة 3: 258 ووصفه بأنه صاحب ستارة مشهور بالأدب والشعر وتصنيف الكتب، وكان يكتب لغيلان بن اسماعيل وهو وال بأرجان.(6/2502)
وأنشدني أيضا لنفسه:
كثرت عندي أياديك ... فجلّ الوصف عنها
فأحاطت بجميع ال ... فهم حتى لم أبنها
فمتى ازددتك منها ... كنت كالناقص منها
قلت أنا: وهو صاحب النوادر مع زادمهر المغنية جارته المنصورية.
[1034] محمد بن الحسن بن يعقوب بن الحسن بن الحسين
بن محمد بن سليمان بن داود بن عبيد الله بن مقسم، أبو بكر العطار المقرىء: ولد سنة خمس وستين ومائتين، ومات لثمان خلون من ربيع الآخر سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، سمع أبا مسلم الكجي وثعلبا وإدريس بن عبد الكريم وغيرهم، روى عنه ابن رزقويه وابن شاذان وغيرهما، وكان ثقة من أعرف الناس بالقراءات وأحفظهم لنحو الكوفيين، وله في معاني القرآن كتاب سماه «الأنوار» وما رأيت مثله، وله عدة تصانيف، ولم يكن له عيب إلا أنه قرأ بحروف تخالف الإجماع واستخرج لها وجوها من اللغة والمعنى مثل ما ذكر في «كتاب الاحتجاج» للفراء في قوله تعالى: فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا
(يوسف: 80) [فقال لو قرىء خلصوا نجباء بالباء لكان جائزا] وهذا مع كونه يخالف الاجماع بعيد من المعنى، إذ لا وجه للنجابة عند يأسهم من أخيهم، إنما اجتمعوا يتناجون. وله من هذا الجنس- من تصحيف الكلمة واستخراج وجه بعيد لها مع كونها لم يقرأ بها أحد-[كثير] .
وحدث أبو بكر الخطيب قال: ومما طعن به على أبي بكر ابن مقسم أنه عمد إلى حروف من القرآن فخالف الاجماع فيها وقرأها على وجوه ذكر أنها تجوز في اللغة
__________
[1034] ترجمة ابن مقسم في الفهرست: 35 وتاريخ بغداد 2: 206 والمنتظم وتاريخ الاسلام للذهبي وعيون التواريخ (وفيها جميعا تحت وفيات عام 354) وطبقات ابن الجزري 2: 123 وانباه الرواة 3: 100 والبداية والنهاية 11: 259 وميزان الاعتدال 3: 519 ونزهة الألباء: 199 والنجوم الزاهرة 3: 343 والشذرات 3: 16 والوافي 2: 337 وبغية الوعاة 1: 89 ولسان الميزان 5: 130.(6/2503)
والعربية، وشاع ذلك عنه عند أهل العلم فأنكروه، وارتفع الأمر إلى السلطان فأحضره واستتابه بحضرة القراء والفقهاء، فأذعن بالتوبة وكتب محضرا بتوبته، وأثبت جماعة من حضر ذلك المجلس خطوطهم فيه بالشهادة عليه، وقيل إنه لم ينزع عن تلك الحروف، وكان يقرأ بها إلى حين وفاته.
قال الخطيب «1» : وقد ذكر حاله أبو طاهر ابن أبي هاشم المقرىء صاحب ابن مجاهد في كتابه الذي سماه «كتاب البيان» فقال: وقد نبغ نابغ في عصرنا هذا فزعم أنّ كل ما صحّ عنده وجه في العربية لحرف من القرآن يوافق خطّ المصحف فقراءته جائزة في الصلاة وغيرها، فابتدع بقيله ذلك بدعة ضلّ بها عن قصد السبيل، وأورط نفسه [في] مزلة عظمت بها جنايته على الإسلام وأهله، وحاول إلحاق كتاب الله من الباطل ما لا يأتيه من بين يديه ولا من خلفه، إذ جعل لأهل الالحاد في دين الله بسيّء رأيه طريقا من بين يدي «2» أهل الحق، بتخير القراءات من جهة البحث والاستخراج بالآراء دون الاعتصام والتمسك بالأثر المفترض، وقد كان أبو بكر «3» شيخنا- نضر الله وجهه- نشله «4» عن بدعته المضلّة باستتابته منها، وأشهد عليه الحكام والشهود المقبولين عند الحكام بترك ما أوقع نفسه فيه من الضلالة، بعد أن سئل البرهان على صحّة ما ذهب إليه فلم يأت بطائل ولم يكن له حجة قوية ولا ضعيفة، فاستوهب أبو بكر رضي الله عنه تأديبه من السلطان عند توبته وإظهاره الإقلاع عن بدعته، ثم عاود في وقتنا هذا إلى ما كان ابتدعه واستغوى من أصاغر المسلمين ممن هو في الغفلة والغباوة دونه ظنّا منه أن ذلك يكون للناس دينا، وأن يجعلوه فيما ابتدعه إماما، ولن يعدو ما ضلّ به مجلسه، لأن الله تعالى قد أعلمنا أنه حافظ لكتابه من لفظ الزائغين وشبهات الملحدين بقوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ
(الحجر: 9) وقد دخلت عليه شبهة لا تخيل بطولها وفسادها على ذي لبّ، وذلك انه قال: لما كان لخلف بن هشام وأبي عبيد وابن سعدان أن يختاروا، وكان ذلك مباحا لهم غير منكر، كان ذلك [لي] أيضا مباحا غير مستنكر، فلو كان حذا حذوهم وسلك طريقهم كان(6/2504)
لعمري له غير مستنكر، ولكنه سلك من الشذوذ ما لا يقول به إلا مبتدع.
قال الخطيب «1» : وذكر أبو طاهر كلاما كثيرا نقلنا منه هذا المقدار وهو في كتابه مستقصى.
وحدث فيما أسنده إلى أبي أحمد الفرضي قال «2» : رأيت في المنام كأني في المسجد الجامع أصلّي مع الناس، وكان ابن مقسم قد ولّى ظهره القبلة وهو يصلّي مستدبرها، فأوّلت ذلك مخالفته الأئمة فيما اختاره لنفسه من القراءات.
وذكره محمد بن إسحاق فقال مات في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وله من الكتب: كتاب الأنوار في تفسير القرآن. كتاب المدخل إلى علم الشعر. كتاب الاحتجاج في القراءات. كتاب في النحو كبير. كتاب المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث. كتاب الوقف والابتداء. كتاب المصاحف. كتاب عدد التمام.
كتاب أخبار نفسه. كتاب مجالسات ثعلب. كتاب مفرداته. كتاب الانتصار لقراء الأمصار. كتاب الموضح. كتاب شفاء الصدور. كتاب الأوسط. كتاب اللطائف في جمع هجاء المصاحف. كتاب في قوله تعالى ومن يقتل والرد على المعتزلة.
ولابن مقسم ابن يكنى أبا الحسن، وكان حفظة عالما له «كتاب عقلاء المجانين» .
[1035] محمد بن الحسن بن المظفر الحاتمي، أبو علي:
ذكره الخطيب في «تاريخه» فقال: روى عن أبي عمر وغيره «3» أخبارا في مجالس الأدب، قلت أنا:
__________
[1035] ترجمة الحاتمي في الامتاع والمؤانسة 1: 135 واليتيمة 3: 103 وتاريخ بغداد 2: 214 وأنساب السمعاني 4: 8 والمنتظم 7: 205 وانباه الرواة 3: 103 والمحمدون: 203 وابن خلكان 4: 362 وعبر الذهبي 3: 40 وسير الذهبي 16: 499 والوافي 2: 343 وبغية الوعاة 1: 87 والشذرات 3: 129 (وفي سير الذهبي أن والده يسمى «الحسين» ) .(6/2505)
وأدرك ابن دريد وأخذ عنه، وهو من حذّاق أهل اللغة والأدب شديد العارضة، وكان مبغّضا إلى أهل العلم، فهجاه ابن الحجاج وغيره بأهاج مرّة. ومات سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
وذكره الثعالبي في كتاب «يتيمة الدهر» فقال: محمد بن الحسن الحاتمي حسن التصرف في الشعر موف على كثير من شعراء العصر، وأبوه أيضا شاعر، وأبو علي شاعر كاتب يجمع بين البلاغة في النثر والبراعة في النظم، وله الرسالة المعروفة في وقعة الأدهم، قال: وليس يحضرني من شعره إلا بيتان:
لي حبيب لو قيل لي ما تمنّى ... ما تعديته ولو بالمنون
أشتهي أن أحلّ في كلّ جسم ... فأراه بلحظ تلك العيون
قال: ومما اخترته لأبيه قوله من قصيدة في القادر بالله أمير المؤمنين رحمه الله، أولها:
حيّ رسم الغميم تحي الغميما ... إن فقدت الهوى فحيّ الرسوما
وذكر قصيدة.
وذكره أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الحصري في «كتاب النورين» وذكر أشعارا في قصر الليل وطوله فقال: وقال بعض أهل العصر وهو أبو علي محمد بن الحسن الحاتمي:
يا ربّ يوم سرور خلته قصرا ... كعارض البرق في أفق الدجى برقا
قد كاد يعثر أولاه بآخره ... وكاد يسبق منه فجره الشفقا
كأنما طرفاه طرف اتفق ال ... جفنان منه على الإطراق وافترقا
قال: وقد ملح الحاتمي في وصف الثريا:
وليل أقمنا فيه نعمل كأسنا ... إلى أن بدا للصبح في الليل عسكر
ونجم الثريا في السماء كأنه ... على حلّة زرقاء جيب مدنّر
وللحاتمي تصانيف عدة منها: كتاب حلية المحاضرة في صناعة الشعر «1» .(6/2506)
كتاب الموضحة في مساوي المتنبىء «1» . كتاب الهلباجة في صنعة الشعر. كتاب سر الصناعة في الشعر أيضا. كتاب الحالي والعاطل في الشعر أيضا. كتاب المجاز في الشعر أيضا. كتاب الرسالة الناجية. كتاب مختصر العربية. كتاب في اللغة لم يتم.
كتاب عيون الكاتب. كتاب الشراب رسالة. كتاب منتزع الأخبار ومطبوع الأشعار.
كتاب البراعة. كتاب المعيار والموازنة لم يتم. كتاب المغسل وهي الرسالة الباهرة في خصال أبي الحسن البتّي.
قرأت في «كتاب الهلباجة» من تصنيفه، وهو كتاب صنفه للوزير أبي عبد الله ابن سعدان في رجل سبعه عنده وسمّى الرجل الهلباجة من غير أن يصرّح باسمه قال فيه: وقد خدمت سيف الدولة، تجاوز الله عن فرطاته، وأنا ابن تسع عشرة سنة، تميل بي سنة الصبا وتنقاد بي أريحية الشباب، بهذا العلم، وكان كلفا به علقا علاقة المغرم بأهله، منقّبا عن أسراره، ووزنت في مجلسه، تكرمة وإدناء وتسوية في الرتبة ولم تسفر خداي عن عذاريهما، بأبي علي الفارسي، وهو فارس العربية وحائز قصب السبق فيها منذ أربعين سنة، وبأبي عبد الله ابن خالويه وكان له السهم الفائز في علم العربية تصرفا في أنواعه، وتوسّعا في معرفة قواعده وأوضاعه، وبأبي الطيب اللغوي وكان كما قيل: حتف الكلمة الشرود حفظا وتيقظا، ونازعت العلماء ومدحت في مصنفاتهم، وعددت في الأفراد الذين منهم أبو سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني، وأبو سعيد المعلى وقدحه الأعلى، واتخذت بعضا ممن كان يقع الايماء إليه سخرة وأنا إذ ذاك غزير الغرارة تميد بي أسرار السرور، ويسري عليّ رخاء الاقبال، وأختال في ملاءة العز، في بلهنية من العيش وخفض من النعيم، وخطوب الدهر راقدة وأيامه مساعدة.
وأنشد لنفسه في هذا الكتاب يمدح سيف الدولة:
تأوبنى همّ من الليل وارد ... وعاودني من لاعج الوجد عائد
فبتّ قضيض الجنب مسترجف الحشا ... كأني سقتني سمّهنّ الأساود(6/2507)
كأنّ القنا فيه على القرن ضاغن ... وحدّ الحسام الهندوانيّ حاقد
فصمت به الاشراك وهو مقوّم ... وقومت دين المصطفى وهو مائد
فلا يشفق الاسلام من سوء عثرة ... وفي الروع من آل ابن حمدان ذائد
وأنشد لنفسه في هذا الكتاب أبياتا ضمنها أعجاز أبيات للنابغة وهي في «الحماسة» :
لا يهنأ الناس ما يرعون من كلأ ... وما يسوقون من أهل ومن مال
فقال الحاتمي:
وليلة ضلّ عنها الصبح داجية ... لبستها بمطول الجري هطّال
وقد رمى البين شعب الحيّ فاقتسموا ... أيدي سبا بين تقويض وترحال
فناسبت أنجم الآفاق عيسهم ... «وما يسوقون من أهل ومن مال»
ترى الهلال نحيلا من مطالعه ... «أمسى ببلدة لا عمّ ولا خال»
والجدي كالطرف يستنّ المراح به ... «إلى ذوات الذرى حمال أثقال»
والليل والصبح في غبراء مظلمة ... «هذا عليها وهذا تحتها بال»
وفي هذا الكتاب لنفسه في الهلباجة الذي صنف الكتاب لأجله:
لقد سخف الفعليّ لما تحذّفا ... فنكّر في تعريفه ما تعرفا
ويا ربّ وجه حذّفوه لزينة ... فأصبح من قبح لصاحبه قفا
وهذه مخاطبة جرت بين أبي الطيب المتنبي وبين أبي علي الحاتمي حكيتها كما وجدتها: قال أبو علي الحاتمي: كان أبو الطيب المتنبي عند وروده مدينة السلام التحف رداء الكبر، وأذال ذيول التيه، وصعّر خده، ونأى بجانبه، وكان لا يلقى أحدا إلا نافضا مذرويه، رافلا في التيه في برديه، يخيّل إليه أن العلم مقصور عليه، وأن الشعر بحر لم يغترف نمير مائه غيره، وروض لم يرع نواره سواه، فأدلّ بذلك مديدة أجرّته رسن الجهل فيها، فظلّ يمرح في ثنييه، حتى إذا تخيل أنه القريع الذي لا يقارع، والنزيع الذي لا يجارى ولا ينازع، وأنه ربّ الغلب ومالك القصب، وثقلت وطأته على أهل الأدب بمدينة السلام، فطأطأ كلّ منهم رأسه وخفض جناحه وطامن(6/2508)
على التسليم له جأشه، تخيل أبو محمد المهلبي أن أحدا لا يقدر على مساجلته ومجاراته، ولا يقوم لتتبعه بشيء من مطاعنه، وساء معزّ الدولة أن يرد عن حضرة عدوه رجل فلا يكون في مملكته أحد يماثله في صناعته ويساويه في منزلته، نهدت حينئذ متتبّعا عواره، ومتعقبا آثاره، ومطفيا ناره، ومهتكا أستاره، ومقلّما أظفاره، وناشرا مطاويه، وممزقا جلباب مساويه، متحينا أن نجتمع، وأجري وهو في مضمار يعرف فيه السابق من المسبوق، حتى إذا لم أجد ذلك قصدت موضعه الذي كان يحلّه في ربض حميد، فوافق مصيري إليه حضور جماعة تقرأ شيئا من شعره عليه، فحين أوذن بحضوري واستؤذن عليه لدخولي نهض عن مجلسه مسرعا، ووارى شخصه عني مستخفيا، فنزلت عن بغلة كانت تحتي ناجية وهو يراني نازلا عنها لانتهائي بها إلى أن حاذيته، فجلست في موضعه، وإذا تحته قطعة من زيلوبة مخلقة قد أكلتها الأيام وتعاورتها السنون فهي رسوم خافية وسلوك بادية، حتى إذا خرج إليّ نهضت إليه فوفيته حقّ السلام غير مشاح له في القيام، لأنه إنما اعتمد بنهوضه ألا ينهض لي عند موافاتي، وإذا هو قد لبس سبعة أقبية: كلّ قباء منها لون، وكان الوقت أحرّ أيام الصيف وأخلقها بتخفيف اللبس، فجلست وجلس، وأعرض عني ساعة لا يعيرني فيها طرفه ولا يسألني ما قصدت له، وقد كدت أتميّز غيظا، وأقبلت أسخّف رأيي في قصده، وأفنّد نفسي في التوجّه نحو مثله، ولوى عذاره عني مقبلا على تلك الزعنفة التي بين يديه: كلّ واحد يومىء إليه ويوحي بطرفه ويشير إلى مكاني بيده ويوقظه من سنة جهله، ويأبى إلا ازورارا ونفارا وجريا على شاكلة خلقه المشكلة، ثم رأى أن يثني رأسه إليّ، فوالله ما زادني على أن قال: أيش خبرك؟ قلت: أنا بخير لولا ما جنيت على نفسي من قصدك، وكلّفت قدمي في المصير إلى مثلك. ثم تحدرت عليه تحدر السيل إلى القرار وقلت له: أبن لي عافاك الله ممّ تيهك وخيلاؤك وعجبك؟ وما الذي يوجب ما أنت عليه من التجبّر والتنمّر؟ هل هاهنا نسب في الأبطح تبحبحت في بحبوحة الشرف وفرعت سماء المجد به؟ أم علم أصبحت علما يقع الايماء إليك فيه؟
هل أنت إلا وتد بقاع في شرّ البقاع وجفاء سيل بدفّاع؟ يا لله، استنّت الفصال حتى القرعى، وإني لأسمع جعجعة ولا أرى طحنا. فامتقع لونه عند سماع كلامي وعصب ريقه وجحظت عيناه وسقط في يده، وجعل يلين في الاعتذار لينا كاد يعطف عليه(6/2509)
عطف صفحي عنه، ثم قلت: يا هذا إن جاءك رجل شريف في نسبه تجاهلت نسبه، أو عظيم في أدبه صغّرت أدبه، أو متقدّم عند سلطانه لم تعرف موضعه، فهل العزّ تراث لك دون غيرك؟ كلا والله، لكنك مددت الكبر سترا على نقصك، وضربته رواقا دون جهلك. فعاد إلى الاعتذار، وأخذت الجماعة في تليين جانبي والرغبة إليّ في قبول عذره واعتماد مياسرته، وأنا آبى إلا استشراء واجتراء، وهو يؤكد الأقسام ويواصلها أنه لم يعرفني، فأقول: يا هذا ألم يستأذن لي عليك باسمي ونسبي؟ أما في هذه العصابة من يعرّفك بي لو كنت جهلتني؟ وهب أن ذلك كذلك، ألم ترني ممتطيا بغلة رائعة يعلوها مركب ثقيل، وبين يديّ عدة من الغلمان؟ أما شاهدت لباسي؟ أما شممت نشر عطري؟ أما راعك شيء من أمري أتميز به في نفسك من غيري؟ وهو في أثناء ما أكلمه يقول: خفّض عليك، ارفق، استأن، فأصحب جانبي بعض الإصحاب، ولان شماسي بعض الليان، وأقبل عليّ وأقبلت عليه ساعة ثم قلت:
أشياء تختلج في صدري من شعرك احبّ أن أراجعك فيها. قال: وما هي؟ قلت:
خبرني عن قولك:
فإن كان بعض الناس سيفا لدولة ... ففي الناس بوقات لها وطبول
أهكذا تمدح الملوك؟ وعن قولك:
ولا من في جنازتها تجار ... يكون وداعهم نفض النعال
أهكذا تؤبن أخوات الملوك [والله لو كان هذا في أدنى عبيدها لكان قبيحا] وأخبرني عن قولك:
خف الله واستر ذا الجمال ببرقع ... فإن لحت حاضت في الخدور العواتق
أهكذا تنسب بالمحبوبين؟ وعن قولك في هجاء ابن كيغلغ:
وإذا أشار محدثا فكأنه ... قرد يقهقه أو عجوز تلطم
أما كان لك في أفانين الهجاء التي تصرّفت فيها الشعراء مندوحة عن هذا الكلام الرذل الذي ينفر عنه كلّ طبع ويمجّه كل سمع؟ وعن قولك:
وضاقت الأرض حتى صار هاربهم ... إذا رأى غير شيء ظنّه رجلا(6/2510)
أفتعلم مرئيا يتناوله النظر لا يقع عليه اسم شيء؟ وما أراك نظرت إلا إلى قول جرير:
ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ... خيلا تكرّ عليهم ورجالا
فأحلت المعنى عن جهته وعبرت عنه بغير عبارته، وعن قولك:
أليس عجيبا أنّ وصفك معجز ... وأن ظنوني في معاليك تظلع
فاستعرت الظلع لظنونك، وهي استعارة قبيحة، وتعجبت من غير متعجب لأن من أعجز وصفه لم يستنكر قصور الظنون وتحيرها في معاليه، وإنما نقلته- وأفسدته- من قول أبي تمام:
ترقّت مناه طود عزّ لو ارتقت ... به الريح فترا لانثنت وهي ظالع
وعن قولك تمدح كافورا:
فإن نلت ما أملت منك فربما ... شربت بماء يعجز الطير ورده
إنها مدح أو ذم؟ قال: مدح، قلت: انك جعلته بخيلا لا يوصلك إلى خيره من جهته، وشبهت نفسك في وصولك إلى ما وصلت إليه منه بشربك من ماء يعجز الطير ورده لبعده وترامي موضعه.
وأخبرني أيضا عن قولك في صفة كلب وظبي:
فصار ما في جلده في المرجل ... فلم يضرنا معه فقد الأجدل
فأيّ شيء أعجبك من هذا الوصف: أعذوبة عبارته أم لطف معناه؟ أما قرأت رجز ابن هانىء وطرد ابن المعتز؟ أما كان هناك من المعاني التي ابتدعها هذان الشاعران وغرر المعاني التي اقتضباها ما تتشاغل به عن بنيّات صدرك هذه؟ وألا اقتصرت على ما في أرجوزتك هذه من الكلام السليم ولم تسفّ إلى هذه الألفاظ القلقة والأوصاف المختلقة.
فأقبل عليّ ثم قال: أين أنت من قولي:
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد(6/2511)
وأين أنت من قولي في صفة جيش:
في فيلق من حديد لو رميت به ... صرف الزمان لما دارت دوائره
وأين أنت من قولي:
لو تعقل الشجر التي قابلتها ... مدّت محيّية إليك الأغصنا
وأين أنت من قولي:
أينفع في الخيمة العذّل ... ويشمل من دهره يشمل
وما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل
وفيها أصف كتيبة:
وملمومة زرد ثوبها ... ولكنها بالقنا مخمل
وأين أنت عن قولي:
الناس ما لم يروك أشباه ... والدهر لفظ وأنت معناه
والجود عين وأنت ناظرها ... والبأس باع وفيك يمناه
أما يلهيك إحساني في هذه عن إساءتي في تلك؟ قلت: ما أعرف لك إحسانا في جميع ما ذكرته، إنما أنت سارق متبع وآخذ مقصر، وفي ما تقدم من هذه المعاني التي ابتكرها أصحابها مندوحة عن التشاغل بقولك. فأما قولك:
كأن الهام في الهيجا عيون ... (البيت) فهو منقول من بيت منصور النمري:
فكأنما وقع الحسام بهامه ... خدر المنية أو نعاس الهاجع
وأما قولك «في فيلق» ... (البيت) فنقلته نقلا لم تحسن فيه، من قول الناجم:
ولي في حامد أمل بعيد ... ومدح قد قدمت به طريف
مديح لو مدحت به الليالي ... لما دارت عليّ به صروف
والناجم إنما نظمه من قول ارسطاطاليس «قد تكلمت بكلام لو مدحت به الدهر لما دارت عليّ صروفه» . وأما قولك «لو تعقل الشجر التي قابلتها» ... (البيت) فهذا معنى متداول تساجلته الشعراء وأكثرت فيه، فمن ذلك قول الفرزدق:(6/2512)
يكاد يمسكه عرفان راحته ... ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
ثم تكرر في أفواه الشعراء إلى أن قال أبو تمام:
لو سعت بقعة لإعظام أخرى ... لسعى نحوها المكان الجديب
وأخذه البحتري فقال:
لو أن مشتاقا تكلّف غير ما ... في وسعه لمشى إليك المنبر
وأما قولك «وما اعتمد الله تقويضها» فقد نظرت فيه إلى قول رجل مدح بعض الأمراء بالموصل، وقد كان عزم على السير فاندق لواؤه فقال:
ما كان مندقّ اللواء لريبة ... تخشى ولا أمر يكون مزيّلا
لكن لأنّ العود ضعّف متنه ... صغر الولاية فاستقلّ الموصلا
وأما قولك «وملمومة زرد ثوبها» فمن قول أبي نواس:
أمام خميس أرجوان كأنه ... قميص محوك من قنا وجياد
وأما قولك «الناس ما لم يروك أشباه» فمن قول علي بن نصر بن بسام في عبيد الله بن سليمان يرثيه:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وصاح صرف الدهر أين الرجال
هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال
فقوله «قد استوى الناس ومات الكمال» هو قولك «الناس ما لم يروك أشباه» ، فقال بعض من حضر: ما أحسن قوله «قوموا انظروا كيف تزول الجبال» فقال أبو الطيب: اسكت ما فيه من حسن، ألم يسرقه من قول النابغة الذبياني:
يقولون حصن ثم تأبى نفوسهم ... وكيف بحصن والجبال جنوح
فقال الحاتمي: فقلت قد سرقه النابغة من أوس حين قال:
ألم تكسف الشمس شمس النها ... ر والبدر للقمر الواجب
لفقد فضالة لا تستوي ال ... فقود ولا خلّة الذاهب
قلت: والله لئن كان أخذه فقد أحسن وأخفى الأخذ. فقال الرجل: أجل، فقال المتنبي: يا محسّد، خذ بيده وأخرجه- يريد بمحسد ابنه- فوقفت إلى ان تركه.(6/2513)
ثم قلت له: وأما قولك «والدهر لفط وأنت معناه» فمنقول من قول الأخطل إن كان البيت له في عبد الملك بن مروان:
وان أمير المؤمنين وفعله ... لكالدهر لا عار بما فعل الدهر
وقد قال جرير حين قال له الفرزدق:
فإني أنا الموت الذي هو نازل ... بنفسك فانظر كيف أنت تجاوله
وقال جرير:
أنا الدهر يفني الموت والدهر خالد ... فجئني بمثل الدهر شيئا يطاوله
ثم قلت له: أترى أن جريرا أخذ قوله «يفني الموت» من أحد وان أحدا شركه في إفناء الموت؟ ففكر طويلا ثم قال: لا، قلت: بلى عمران بن حطان حيث يقول:
لن يعجز الموت شيء دون خالقه ... والموت فان إذا ما ناله الأجل
وكلّ كرب أمام الموت متضع ... بالموت والموت فيما بعده جلل
فأمات الموت وأحياه وما سبقه إلى ذلك أحد.
ثم قلت له: أترى أن البيت المتقدم الذي يقول فيه «لكالدهر لا عار بما فعل الدهر» مأخوذ من أحد؟ فأطرق هنيهة ثم قال: وما تصنع بهذا؟ قلت: يستدل على موضعك ومواضع أمثالك من سرقة الشعر. فقال: الله المستعان «أساء سمعا فأساء جابة» ما أردت ما ذهبت إليه، قلت: فانه أخذه من قول النابغة وهو أول من ابتكره:
وعيّرتني بنو ذبيان خشيته ... وما عليّ بأن أخشاك من عار
ثم أخذه أبو تمام فأحسن بقوله:
خشعوا لصولتك التي هي فيهم ... كالموت يأتي ليس فيه عار
قال: ومن أبو تمام؟ قلت: الذي سرقت شعره فأنشدته، قال: هذه خلائق السفهاء لا خلائق العلماء، قلت: أجل أنت سفهت رأيي ولم يكن سفيها، ألست القائل:
ذي المعالي فليعلون من تعالى ... هكذا هكذا وإلا فلا لا
شرف ينطح الثريا بروقي ... هـ وفخر يقلقل الأجبالا(6/2514)
قال: بلى، قلت: فإنك أخذت البيت الأول من بيت بكر بن النطاح:
يتلقى الندى بوجه حييّ ... وصدور القنا بوجه وقاح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجدّ غير طرق المزاح
وأخذت البيت الثاني فأفسدته من قول أبي تمام:
همة تنطح الثريا وجدّ ... آلف للحضيض فهو حضيض
قال: وبأيّ شيء أفسدته؟ قلت: بأن جعلت للشرف قرنا، قال: وأنى لك بذلك؟ قلت: ألم تقل «ينطح السماء بروقيه» والروقان القرنان. قال: أجل إنما هي استعارة، قلت: نعم هي استعارة خبيثة. قال: أقسمت غير محرج في قسمي أنني لم أقرأ شعرا قط لأبي تمامكم هذا، فقلت: هذه سوءة لو سترتها كان أولى، قال:
السوءة قراءة شعر مثله، أليس هو الذي يقول:
خشنت عليه أخت بني خشين ... وأنجح فيك قول العاذلين
والذي يقول:
لعمري لقد حرّرت يوم لقيته ... لو أن القضاء وحده لم يبرّد
والذي يقول:
تكاد عطاياه يجنّ جنونها ... إذا لم يعوّذها بنغمة طالب
والذي يقول:
تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين والعنب
والذي يقول:
ولّى ولم يظلم وهل ظلم امرؤ ... حثّ النجاء وخلفه التنين
والذي يقول:
فضربت الشتاء في أخدعيه ... ضربة غادرته عودا ركوبا
والذي يقول:
كانوا رداء زمانهم فتصدعوا ... فكأنما لبس الزمان الصوفا(6/2515)
والذي يقول:
أقول لقرحان من البين لم يضف ... رسيس الهوى بين الحشا والترائب
ما «قرحان البين» أخرس الله لسانه؟ فأحفظني ذلك وقلت: يا هذا من أدلّ الدليل على أنك قرأت شعر هذا الرجل تتبعك مساويه، فهل في الدلالة على اختلاقك إنكاره أوضح مما ذكرته؟ وهل يصم أبا تمام أو يسمه بميسم النقيصة ما عددته من سقطاته وتخونته من أبياته؟ وهو الذي يقول في النونية:
نوالك ردّ حسّادي فلولا ... وأصلح بين أيامي وبيني
فهلا اغتفرت الأول لهذا البيت الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله، وأما قوله:
تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت ... أعمارهم قبل نضج التين والعنب
فلهذا البيت خبر لو استقريت صحفه لأقصرت عمن تناولته بالطعن فيه. ثم قصصت الخبر وقلت: في هذه القصيدة ما لا يستطيع أحد من متقدمي الشعراء وأمراء الكلام وأرباب الصناعة أن يأتي بمثله. قال: وما هو؟ قلت: لو قال قائل إن أحدا لم يبتدىء بأوجز ولا أحسن ولا أخصر من قوله:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... في حدّه الحدّ بين الجد واللعب
لما عنف في ذلك. وفيها يقول:
رمى بك الله برجيها فهدّمها ... ولو رمى بك غير الله لم يصب
وفيها يقول:
لما رأى الحرب رأي العين توفلس ... والحرب مشتقة المعنى من الحرب
وفيها يقول:
فتح تفتّح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أبرادها القشب
وفيها يقول:
بكر فما افترعتها كفّ حادثة ... ولا ترقّت إليها همة النوب
وفيها يقول:
غادرت فيها بهيم الليل وهو ضحى ... يشلّه وسطها صبح من اللهب(6/2516)
حتى كأن جلابيب الدجى رغبت ... عن لونها وكأن الشمس لم تغب
وفيها يقول:
أجبته معلنا بالسيف منصلتا ... ولو أجبت بغير السيف لم تجب
وأما قوله «أقول لقرحان من البين» فانه يريد رجلا لم يقطعه أحبابه ولم يبينوا عنه قبل ذلك، وإذ كانت حاله كذلك كان موقع البين أشدّ عليه وأفتّ في عضده، والأصل في هذا أن القرحان الذي لم يجدر قط، وقد قال جرير:
وكنت من زفرات البين قرحانا
وفي هذه القصيدة من المعاني الرائعة والتشبيهات الواقعة والاستعارات البارعة ما يغتفر معه هذا البيت وأمثاله، على أنّا أبنّا عن صحة معناه وعن أمثاله، فمن ذلك:
إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد ... تقطّع ما بيني وبين النوائب
يرى أقبح الأشياء أوبة آمل ... كسته يد المأمول حلّة خائب
وأحسن من نور يفتّحه الندى ... بياض العطايا في سواد المطالب
وقد علم الأفشين وهو الذي به ... يصان رداء الملك عن كل جاذب
بأنك لما استحنك النصر واكتسى ... أهابي تسفى في وجوه التجارب
تجللته بالرأي حتى رأيته ... به ملء عينيه مكان العواقب
بأرشق إذ سالت عليهم غمامة ... جرت بالعوالي والعتاق الشوازب
ولو كان يفنى الشعر أفناه ما قرت ... حياضك منه في العصور الذواهب
ولكنه فيض العقول إذا انجلت ... سحائب جود أعقبت بسحائب
فبهره مما أوردته ما قصّر عنان عبارته، وحبس بنيات صدره، وعقل عن الإجابة لسانه، وكاد يشغب لولا ما تخوفه من عاقبة شغبه، وعرفه من مكاني في تلك الأيام، وأن ذلك لا يتم له، فما زاد على أن قال: قد أكثرت من أبي تمام لا قدس الله أبا تمام وذويه. قلت: ولا قدس السارق منه والواقع فيه.
ثم قلت له: ما الفرق في كلام العرب بين التقديس والقدّاس والقداس والقادس، فقال: وأيش غرضك في هذا؟ فقلت: المذاكرة، فقال: بل المهاترة،(6/2517)
ثم قال: التقديس التطهير في كلام العرب، ولذلك سمي القدس قدسا لأنه يشتمل على الذي به الطهور، وكل هذه الأحرف تؤول إليه، فقلت له: ما أحسبك أنعمت النظر في شيء من علوم العرب، ولو تقدمت منك مطالعة لها لما استجزت أن تجمع بين معاني هذه الكلمات مع تباينها، وذلك لأن القدّاس بتشديد الدال حجر يلقى في البئر ليعلم به غزارة مائها من قلته، حكى ذلك ابن الأعرابي، والقداس الجمان، حكى ذلك الخليل واستشهد بقوله [كنظم جمان سلكه متقطع. والقادس السفينة، قال الشاعر بصف ناقة:]
وتهفو بهاد لها متلع ... كما اقتحم القادس الأردمونا
فلما علوته بالكلام قال: يا هذا مسلّمة إليك اللغة. قلت: وكيف تسلمها وأنت أبو عذرتها، ومن نصابها وسرها، وأولى الناس بالتحقق بها والتوسع في اشتقاقها والكلام على أفانينها، وما أحد أولى بأن يسأل عن لغته منك. فشرعت الجماعة الحاضرة في إعفائه وقبول عذره والتوطيء له، وقال كل منهم: أنت أولى بالمراجعة والمياسرة لمثل هذا الرجل من كل أحد. وكنت قد بلغت شفاء نفسي، وعلمت أن الزيادة على الحدّ الذي انتهيت إليه ضرب من البغي لا أراه في مذهبي، ورأيت له حقّ القدمة في صناعته، فطأطأت له كتفي، واستأنفت جميلا من وصفه، ونهضت فنهض لي مشيّعا الى الباب حتى ركبت، وأقسمت عليه أن يعود إلى مكانه، وتشاغلت بقية يومي بشغل عنّ لي تأخرت معه عن حضرة المهلبي، وانتهى إليه الخبر وأتتني رسله ليلا فأتيته فأخبرته بالقصة على الحال، فكان من سروره وابتهاجه بما جرى ما بعثه على مباكرة معز الدولة، قال له: أعلمت ما كان من فلان والمتنبي؟ قال: نعم قد شفا منه صدورنا.
[1036] محمد بن الحسن الزبيدي الاشبيلي أبو بكر، النحوي اللغوي:
سكن
__________
[1036] ترجمة الزبيدي في ابن الفرضي 2: 89 وجذوة المقتبس: 43 (وبغية الملتمس رقم: 80) وانباه الرواة 3: 108 والمحمدون: 73 والمغرب 1: 250 وابن خلكان 4: 372 وعبر الذهبي 3: 12 وسير الذهبي 16: 417 والوافي 2: 351 ومرآة الجنان 2: 409 والبلغة: 218 وبغية الوعاة 1: 84 والشذرات 3: 94.(6/2518)
قرطبة من بلاد الأندلس وأخذ عن أبي [علي] إسماعيل القالي، واعتمد عليه الحكم ابن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس (والحكم هو المتغلب على بلاد الغرب المتلقب بالمستنصر) في تعليم ولده. مات الزبيدي باشبيلية في جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، كذا ذكر ابن بشكوال، وقال الحميدي: توفي قريبا من سنة ثمانين وثلاثمائة. وروى عنه غير واحد منهم ابنه أبو الوليد محمد وابراهيم بن محمد الافليلي النحوي وغيرهما.
والزبيدي نسبة إلى زبيد بن صعب بن سعد العشيرة، رهط عمرو بن معد يكرب الزبيدي. وقد ذكره الحميدي في كتابه في باب الحسن بن عبد الله بن مذحج بن محمد بن عبيد الله بن بشير بن أبي ضمرة بن ربيعة بن مذحج الزبيدي، سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى بن يحيى الليثي ومن غيره ورحل وسمع، وكانت وفاته بالأندلس قريبا من سنة عشرين وثلاثمائة، وقد سمعت من يقول إنه والد أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي مؤلف «كتاب الواضح» ويشبه أن يكون ذلك [كذلك] والله أعلم.
قال الحميدي: أبو بكر الزبيدي من الأئمة في اللغة والعربية ألف في النحو كتابا سماه كتاب الواضح. واختصر كتاب العين اختصارا حسنا. وله كتاب في أبنية سيبويه. وله كتاب ما يلحن فيه عوام الأندلس. وكتاب طبقات النحويين «1» .
قال المؤلف: وقد نقلت الى كتابي هذا ما نسبته اليه.
وبلغني أن أهل الغرب يتنافسون في كتبه خصوصا كتابه الذي اختصره من «كتاب العين» لأنه أتمه باختصاره وأوضح مشكله وزاد فيه ما عساه كان مفتقرا إليه.
وله غير ما ذكرناه من التصانيف في كل نوع من الأدب.
قال الحميدي: وكان شاعرا كثير الشعر، أخبرنا أبو عمر ابن عبد البر قال: كتب الزبيدي الى أبي مسلم ابن فهد:
أبا مسلم إنّ الفتى بجنانه ... ومقوله لا بالمراكب واللبس(6/2519)
وليس ثياب المرء تغني قلامة ... إذا كان مقصورا على قصر النفس
وليس يفيد العلم والحلم والحجى ... أبا مسلم طول القعود على الكرسي
قال، وقال أبو محمد علي بن أحمد: كتب الوزير أبو الحسن جعفر بن عثمان المصحفي إلى صاحب الشرطة أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي [كتابا فيه:
«فاضت نفسه» بالضاد، فجاوبه الزبيدي] بمنظوم بيّن له فيه الخطأ دون تصريح وهو:
قل للوزير السنيّ محتده ... لي ذمة منك أنت حافظها
عناية بالعلوم معجزة ... قد بهظ الأولين باهظها
يقرّ لي عمرها ومعمرها ... فيها ونظّامها وجاحظها
قد كان حقا قبول حرمتها ... لكنّ صرف الزمان لافظها
وفي خطوب الزمان لي عظة ... لو كان يثني النفوس واعظها
ان لم تحافظ عصابة نسبت ... إليك قدما فمن يحافظها
لا تدعن حاجتي مطرّحة ... فإن نفسي قد فاظ فائظها
فأجابه المصحفي:
خفّض فواقا فأنت أوحدها ... علما ونقّابها وحافظها
كيف تضيع العلوم في بلد ... أبناؤه كلّهم يحافظها
ألفاظهم كلّها معطلة ... ما لم يعوّل عليك لا فظها
من ذا يساويك ان نطقت وقد ... أقرّ بالعجز عنك جاحظها
علم ثنى العالمين عنك كما ... ثنى سنا الشمس من يلاحظها
فقد أتتني فديت شاغلة ... للنفس أن قلت فاظ فائظها
فأوضحنها نفز بنادرة ... قد بهظ الأولين باهظها
فأجابه الزبيدي وضمّن الشعر الشاهد على ذلك:
أتاني كتاب من كريم مكرّم ... فنفّس عن نفس تكاد تفيظ(6/2520)
فسرّ جميع الأولياء وروده ... وسيء رجال آخرون وغيظوا
لقد حفظ العهد الذي قد أضاعه ... لديّ سواه والكريم حفيظ
وباحث عن «فاظت» وقبلي قالها ... رجال لديهم في العلوم حظوظ
روى ذاك عن كيسان سهل وأنشدوا ... مقال أبي الغيّاظ وهو مغيظ
«فلا حفظ الرحمن روحك حية ... ولا هي في الأرواح حين تفيظ» «1»
قال الحميدي قال لي أبو محمد: وقد يقال فاضت نفسه بالضاد، ذكر ذلك يعقوب بن السكيت في «كتاب الألفاظ» له.
قال: وله وقد استأذن الحكم المستنصر في الرجوع إلى اشبيلية فلم يأذن له، فكتب إلى جارية له هناك تدعى سلمى:
ويحك يا سلم لا تراعى ... لا بد للبين من زماع
لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع
ما خلق الله من عذاب ... أشدّ من وقفة الوداع
ما بينها والحمام فرق ... لولا المناحات والنواعي
إن يفترق شملنا وشيكا ... من بعد ما كان ذا اجتماع
فكلّ شمل الى افتراق ... وكل شعب إلى انصداع
وكلّ قرب إلى بعاد ... وكل وصل الى انقطاع
قال المؤلف: هذا آخر ما كتبنا من كتاب الحميدي وهو الذي وجدناه فيه من خبره.
[1037] محمد بن الحسن المذحجي أبو عبد الله، يعرف بابن الكتاني:
ذكره
__________
[1037] ترجمة ابن الكتاني في جذوة المقتبس: 45 (بغية الملتمس رقم: 81) وطبقات صاعد: 82 وعيون الانباء 2: 45 والوافي 3: 16 (2: 348) والتكملة: 383 والذيل والتكملة 6: 160 والذخيرة 3/1: 112، 318- 320 ومقدمة كتاب التشبيهات له.(6/2521)
الحميدي في «تاريخ الأندلس» وقال: له مشاركة قوية في علم الأدب والشعر، وله تقدم في علوم الطب والمنطق والكلام في الحكم ورسائل في كل ذلك وكتب معروفة، مات بعد الأربعمائة، وله «كتاب محمد وسعدى» مليح في معناه. ومن شعره:
ألا قد هجرنا الهجر واتصل الوصل ... وبانت ليالي البين واشتمل الشمل
فسعدى نديمي والمدامة ريقها ... ووجنتها روضي وقبلتها النقل
ومنه أيضا:
نأيت عنكم بلا صبر ولا جلد ... وصحت واكبدي حتى مضت كبدي
أضحى الفراق رفيقا لي يواصلني ... بالبعد والشجو والأحزان والكمد
وبالوجوه التي تبدو فأنشدها ... وقد وضعت على قلبي يدي بيدي
إذا رأيت وجوه الطير قلت لها ... لا بارك الله في الغربان والصّرد
[1038] محمد بن الحسن الجبلي النحوي:
ذكره الحميدي في «تاريخه» أيضا، وهو أديب شاعر كثير القول كان يقرأ عليه الأدب؛ أنشدني لنفسه:
وما الإنس بالإنس الذي عهدتهم ... بأنس ولكن فقد أنسهم أنس
إذا سلمت نفسي وديني منهم ... فحسبي أن العرض مني لهم ترس
قال ابن ماكولا: قتل سنة خمس وأربعمائة، وقال لي الحميدي: تركته حيا.
[1039] محمد بن الحسن البرجي الأديب الأصفهاني:
قال ابن منده: مات في محرم سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
__________
[1038] ترجمة الجبلي في جدوة المقتبس: 47 (بغية الملتمس رقم: 85) والمحمدون: 211 وانباه الرواة 3: 110 وبغية الوعاة 1: 90.
[1039] لم أجد له ترجمة.(6/2522)
[1040] محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون
غرس الدولة أبو نصر المنشىء الأديب: من كتاب الانشاء ببغداد له ترسل وشعر، توفي سنة خمس وأربعين وخمسمائة، وهو أخو محمد بن الحسن صاحب التذكرة وذاك لقبه أبو المعالي وهذا لقبه أبو نصر. وكتب في الديوان في أوائل سنة ثلاث عشرة وخمسمائة إلى أن توفي.
وكان منفردا بالمهمات، ولم يثبت رسائله لأنها كانت تنثال عليه انثيالا ويكتبها ارتجالا، وله: كتاب رسائل: وتاريخ الحوادث.
[1041] محمد بن الحسين بن محمد بن الحسين بن
عبد الوارث، أبو الحسين الفارسي النحوي، ابن أخت أبي علي الفارسي: أخذ عن خاله علم العربية، وطوّف الآفاق ورجع إلى الوطن، وكان خاله أوفده على الصاحب ابن عباد إلى جهة الري فارتضاه وأكرم مثواه، ثم تقرب أبو الحسين ولقي الناس في انتقاله، وورد خراسان ونزل بنيسابور دفعات وأملى بها من الأدب والنحو ما سارت به الركبان، وآل أمره إلى أن وزر للأمير شاد غرسي ستان ثم اختصّ بالأمير اسماعيل بن سبكتكين بغزنة ووزر
__________
[1040] ذكره ياقوت في الترجمة رقم: 127 حين قال: «وبينه وبين محمد بن الحسن بن حمدون مكاتبات كتبناها في ترجمته؛ وفي ختام الجزء السادس من تجزئة مرغوليوث، وعد أن ما يجيء في الجزء التالي هو ترجمة غرس الدولة ابن حمدون، وهو مما استدركه مصطفى جواد؛ وغرس الدولة أخو صاحب التذكرة وله ترجمة في ابن خلكان 4: 382 والوافي 2: 358 والفوطي 4/2: 1161 ولقبه عنده «غرس الدين» . وما أثبته هنا منقول عن الوافي.
وكتب صاحب الأصل الموجود عندنا. تم المجلد الثالث من كتاب معجم أهل الأدب والحمد لله رب العالمين وصلاته على سيد المرسلين محمد النبي وآله الطاهرين وصحبه أجمعين. ويتلوه إن شاء الله تعالى في أول الرابع محمد بن الحسن بن محمد بن علي بن حمدون الملقب بغرس الدولة أبو نصر المنشىء صاحب الرسائل.
فرغ من نقله وما قبله من الأجزاء الفقير إلى عفو الله ومسامحته لؤلؤ بن عبد، عتيق السعيد الشهيد شرف الدين أبي الفضل محمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن محمد بن أحمد بن محمد الطاوس العلوي الحسني في أواخر صفر، ختم بالخير، من سنة تسع وسبعين وستمائة هلالية ببغداد.
[1041] ترجمة أبي الحسين الفارسي في انباه الرواة 3: 116 ونزهة الألباء: 235 والوافي 3: 9 وبغية الوعاة 1: 94 وأورد له الصفدي شعرا غير الذي ورد هنا.(6/2523)
له، ثم عاد إلى نيسابور، ثم توجه إلى مكة وجاور بها، ثم عاد إلى غزنة ورجع إلى نيسابور، ثم انتقل إلى اسفراين، ثم استوطن جرجان إلى أن مات، وقرأ عليه أهلها:
منهم عبد القاهر الجرجاني، وليس له أستاذ سواه. وللصاحب ابن عباد مكاتبات إليه مدونة، وله تصانيف منها كتاب الهجاء. وكتاب الشعر، مات سنة احدى وعشرين وأربعمائة، ومن شعره:
ولا غصن إلا ما حواه قباؤه ... ولا دعص إلا ما خبته مآزره
وأمضى من السيف المنوط بخصره ... إذا شيم سيف تنتضيه محاجره
[1042] محمد بن الحسين بن محمد الطبري النحوي
يعرف بابن نجدة: مشهور في أهل الأدب، وله خطّ مرغوب فيه قرأ على الفضل بن الحباب الجمحي أبي خليفة.
ومن شعره:
شفاء العمى حسن السؤال وانما ... يطيل العمى طول السكوت على الجهل
فكن سائلا عما عناك فانما ... خلقت أخا عقل لتسأل بالعقل
[1043] محمد بن حمد بن محمد بن عبد الله بن محمود
بن فورّجه- بضم الفاء وسكون الواو وتشديد الراء المفتوحة وفتح الجيم- البروجردي: أديب فاضل مصنّف، له كتاب الفتح على أبي الفتح، والتجني على ابن جني، يردّ فيه على أبي الفتح ابن جني في شرح شعر المتنبي، ومولده في ذي الحجة سنة ثلاثين وثلاثمائة، كان موجودا سنة خمس وخمسين وأربعمائة ومن شعره:
__________
[1042] ترجمة ابن نجدة في الوافي 2: 376 وبغية الوعاة 1: 94.
[1043] ترجمة ابن فورجة في تتمة اليتيمة 1: 123 والوافي 3: 24 والفوات 3: 344 وبغية الوعاة 1: 96 والبلغة: 74 وانباه الرواة 1: 334 (واسمه حمد بن محمد) وقد طبع له كتاب باسم الفتح على أبي الفتح تحقيق عبد الكريم الدجيلي (بغداد: 1974) .(6/2524)
أيها القاتلي بعينيه رفقا ... إنما يستحقّ ذا من قلاكا
أكثر اللائمون فيك عتابي ... أنا واللائمون فيك فداكا
إن لي غيرة عليك من اسمي ... إنه دائما يقبّل فاكا
[1044] محمد بن حيويه بن المؤمل الوكيل، أبو بكر
بن أبي روضة الكرجي النحوي: روى عن إبراهيم بن الحسين ومحمد بن المغيرة السكري من أهل همذان، وروى عنه كامل بن أحمد النحوي وأبو الحسن ابن الصباح وأبو سعد عبد الرحمن بن محمد الادريسي السمرقندي الحافظ وقال: لا أعتمد عليه وقد تكلّموا فيه وليس عندهم بذاك، وسئل عن سنه فقال: مائة واثنتا عشرة سنة، ومات سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة.
[1045] محمد بن خلصة أبو عبد الله الشذوني النحوي
نزيل دانية: كان كفيفا من كبار النحاة والشعراء، أخذ عن ابن سيده وبرع في اللغة والنحو، وشعره مدون، توفي سنة سبعين وأربعمائة أو ما قبلها ... ومن شعره:
تغرهم بك والآمال كاذبة ... ما جمعوا لك من خيل ومن خول
وما يصمم عظما كل ذي شطب ... ولا يقوم بخصل كلّ ذي خصل
مكنت حزمك من حيزوم مكرهم ... وقد تصاد أسود الغيل بالغيل
__________
[1044] ترجمة أبي بكر الكرجي في تاريخ بغداد 5: 233 والوافي 3: 34 (وجعل وفاته 374) وبغية الوعاة 1: 99.
[1045] ذكره الصفدي في الوافي 3: 42 وقال إن ياقوتا طوّل في ايراد ترسله وشعره في معجم الأدباء وأورد له مراسلات كتبها إلى وزراء الموصل ونقيبها؛ وانظر بغية الوعاة 1: 100 وترجمته في الذخيرة 3/1: 322 وجذوة المقتبس: 51 (وبغية الملتمس رقم: 111) والتكملة: 395 ونكت الهميان: 248 والمسالك 11: 45 ونفح الطيب 4: 100، 156 والمغرب 2: 393 والمحمدون: 309 والخريدة 2: 92 وانباه الرواة 3: 125؛ ولا بد من التمييز بين ابن خلصة هذا وبين ابن خلصة آخر اسمه محمد بن عبد الرحمن بن أحمد ووفاته سنة 521 (وما أوردته هنا من الوافي والجذوة) .(6/2525)
ومنه:
ملك إذا استبقت الأيام باقية ... ممن أبادته أو جادت بمعتقب
طوى الجناح على كسر به حسدا ... كسرى وعاد أبا كرب أبو كرب
ومنه:
بنفسي وقلّت ظعنهم مستقلة ... وللقلب إثر الواخدات بهم وخد
يحفّ سنا الأقمار فيهم سنا الظبا ... وشهد اللمى الماذيّ ماذية حصد
فمن غرب ثغر دونه غرب مرهف ... ومن ورد خدّ دونه أسد ورد
وذكر الحميدي أنه رآه بعد الأربعين بدانية، وأورد له من شعره:
أمدنف نفس ذو هوى أم جليدها ... غداة غدت في حلبة البين غيدها
وقد كنفت منهنّ أكناف منعج ... عباديد سادات الرّجال عبيدها
تبادرن أستار القباب كما بدت ... بدور ولكنّ البروج عقودها
تخدّ بألحاظ العيون خدودها ... وترهب أن تنقدّ لينا قدودها
فيا لدماء الأسد تسفكها الدّمى ... وللصّيد من عفر الظباء تصيدها
وفوق الحشايا كلّ مرهفة الحشا ... حشت كبدي نارا بطيئا خمودها
تحلّ لوى خبت وقلبي محلّها ... وتخلبني غدرا وقلبي وحيدها
لئن زعموا أنّى سلوت لقد بدت ... دلائل من شكواي عدل شهودها
نحول كرقراق السحاب وعبرة ... كما انهملت غرّ السحاب وسودها
تغيض ولوعات الفراق تمدّها ... وتنقص والشّجو الأليم يزيدها
لتفدك أكباد ظماء أجفّها ... هواك وأجفان جفاها هجودها
ومهجة صبّ لم تزل صبة بها ... يد الوجد حتّى عاد عدما وجودها
ضنا جسدي إن كان يرضيك برؤه ... وإتلاف نفسي في هواك خلودها
ولولا الهوى لم ترض نفس نفيسة ... هوانا ولكن حبّ نفس قؤودها(6/2526)
[1046] محمد بن داود بن علي الظاهري
الإمام ابن الإمام الأصفهاني البغدادي الفقيه الأديب صاحب «كتاب الزهرة» : من أذكياء العالم، جلس للفتيا وناظر ابن سريج. سئل عن حدّ السكر متى هو ومتى يكون الانسان سكران فقال: إذا عزبت عنه الهموم وباح بسره المكتوم. حفظ القرآن وله سبع سنين.
وله: كتاب الانذار والاعذار. مختار الأشعار. الايجاز في الفقه. البراعة.
الانتصار لأبيه من الناشىء المتكلم. الانتصار لأبيه من محمد بن جرير. التقصي في الفقه. الايجاز لم يكمل. الوصول إلى معرفة الأصول. اختلاف مسائل الصحابة.
الفرائض. المناسك.
توفي في شهر رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين وعمره اثنتان وأربعون سنة. كان يلقب بعصفور الشوك لنحافته وصفرة لونه.
قال محمد: ما انفككت من هوى قط منذ دخلت الكتّاب. [وقال] : بدأت بعمل الزهرة وأنا في الكتاب ونظر أبي في أكثره.
ودخل يوما على ثعلب النحوي فقال له ثعلب: اذكرك شيئا من صبوتك، فقال:
سقى الله أياما لنا ولياليا ... لهن بأكناف الشباب ملاعب
إذ العيش غضّ والزمان بغرة ... وشاهد أوقات المحبين غائب
فبكى ثعلب.
وقال القاضي محمد بن يوسف بن يعقوب: كنت يوما أساير أبا بكر ابن داود، فسمع جارية تغنّي بشعره وتقول:
أشكو غليل فؤاد أنت متلفه ... شكوى عليل إلى إلف يعلّله
سقمي يزيد على الأيام كثرته ... وأنت في عظم ما ألقى تقلله
__________
[1046] ترجمة ابن داود الظاهري في الفهرست: 272 وتاريخ بغداد 5: 256 والمنتظم 6: 93 وابن خلكان 4: 259 وسير الذهبي 13: 109 وعبر الذهبي 2: 108 والوافي 3: 58 والبداية والنهاية 11: 110 والشذرات 2: 226 وما أثبته هنا مأخوذ من الوافي وسير الذهبي (وكان المؤلف وعد بإيراد ترجمته) .(6/2527)
الله حرّم قتلي في الهوى سفها ... وأنت يا قاتلي ظلما تحلّله
فقال: يا أبا عمر، كيف السبيل إلى استرجاع مثل هذا؟ فقلت: هيهات سارت به الركبان.
ومن شعره:
أكرّر في روض المحاسن ناظري ... وأمنع نفسي أن تنال المحرما
رأيت الهوى دعوى من الناس كلّهم ... فما إن أرى حبا صحيحا مسلما
ومنه أيضا:
وإني لأدري أن في الصبر راحة ... ولكنّ إنفاقي عليّ من الصبر
فلا تطف نار الشوق بالشوق طالبا ... سلوا فإن الجمر يسعر بالجمر
وكان محمد يهوى فتى حدثا من أهل أصبهان يقال له محمد بن جامع، ويقال ابن زخرف، وكان طاهرا في عشقه عفيفا، وكان ابن جامع ينفق عليه، ولم ير معشوق ينفق على عاشق غيره، ولم يزل في حبه حتى قتله.
دخل ابن جامع يوما إلى الحمام وخرج فنظر في المرآة فأعجبه حسنه، فغطى وجهه بمنديل وجاء إلى محمد بن داود وهو على تلك الحالة، فقال: ما هذا: قال:
نظرت في المرآة فأعجبني حسني فما أحببت أن يراه أحد قبلك، فغشي عليه.
دخل على ابن داود ابراهيم بن محمد نفطويه وقد ضني على فراشه فقال له: يا أبا بكر ما هذا مع القدرة والمحبوب مساعد؟ فقال: أنا في آخر يوم من الدنيا، لا أنالني الله شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم إن كنت حللت سراويلي على حرام قط. حدثني أبي بإسناده إلى ابن عباس، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من عشق فكتم وعفّ فصبر ثم مات مات شهيدا وأدخله الله الجنة ...
ولما مات جلس ابن سريج في عزائه وبكى، وجلس على التراب وقال: ما آسى إلا على لسان أكله التراب من أبي بكر. ويحكى أنه لما بلغته وفاته كان يكتب شيئا، فألقى الكراسة من يده وقال: مات من كنت أحث نفسي وأجهدها على الاشتغال لمناظرته ومقاومته ...
واجتمع محمد يوما هو وابن سريج في مجلس الوزير ابن الجراح، فتناظرا في(6/2528)
الإيلاء فقال له ابن سريج: أنت بقولك: من كثرت لحظاته دامت حسراته، أبصر منك بالكلام في الإيلاء، فقال له أبو بكر: لئن قلت ذلك فإني أقول:
انزّه في روض المحاسن مقلتي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو انه ... يصبّ على الصخر الأصمّ تهدما
وينطق طرفي عن مترجم خاطري ... فلولا اختلاسي ردّه لتكلما
فقال له ابن سريج: وبم تفتخر عليّ، ولو شئت أنا أيضا لقلت:
ومساهر بالغنج من لحظاته ... قد بتّ أمنعه لذيذ سباته
ضنا بحسن حديثه وعتابه ... واكرّر اللحظات في وجناته
حتى إذا ما الصبح لاح عموده ... ولّى بخاتم ربه وبراته
فقال أبو بكر: يحفظ الوزير عليه ذلك، حتى يقيم عليه شاهدي عدل أنه ولّى بخاتم ربه وبراته، فقال ابن سريج: يلزمني في ذلك ما يلزمك في قولك: أنزّه في روض المحاسن مقلتي ... فضحك الوزير وقال: لقد جمعتما ظرفا ولطفا وفهما وعلما.
[ووردت هذه الحكاية برواية أخرى] قال أبو علي التنوخي: أخبرنا أحمد بن عبد الله بن البختري الدّاودي، حدّثني أبو الحسن ابن المغلّس الدّاودي، قال: كان محمد بن داود، وابن سريج إذا حضرا مجلس أبي عمر القاضي، لم يجر بين اثنين فيما يتفاوضانه أحسن مما يجري بينهما، فسأل أبا بكر عن العود الموجب لكفّارة الظّهار، فقال: إعادة القول ثانيا، وهو مذهبه، ومذهب أبيه، فطالبه بالدليل، فشرع فيه، فقال ابن سريج: يا أبا بكر هذا قول من من المسلمين [تقدمكم فيه] ؟ فغضب أبو بكر، وقال: أتظنّ أنّ من اعتقدت قولهم إجماعا في هذه المسألة عندي إجماع؟ أحسن أحوالهم أن أعدهم خلافا [وهيهات أن يكونوا كذلك] . فغضب ابن سريج، وقال: أنت بكتاب «الزّهرة» أمهر منك بهذه الطّريقة، قال: [وبكتاب «الزهرة» تعيرني؟] والله ما تحسن تستتمّ قراءته قراءة من يفهم، وإنه لمن أحد المناقب لي إذ أقول فيه:
أكرّر في روض المحاسن مقلتي
... الأبيات(6/2529)
فقال ابن سريج: فأنا الذي أقول:
ومشاهد بالغنج من لحظاته
... الأبيات فقال أبو بكر: أيّد الله القاضي، قد أخبر بحاله، ثمّ ادعى البراءة مما توجبه، فعليه البيّنة، فقال ابن سريج: [من] مذهبي أن المقرّ إذا أقرّ إقرارا ناطه بصفة، كان إقراره موكولا إلى صفته تلك.
[1047] محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي
أبو عبد الله: كان مولى لبني هاشم لأنه من موالي العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، وكان أبوه زياد عبدا سنديا، وكان من أكابر أئمة اللغة المشار إليهم في معرفتها، نحويا لم يكن للكوفيين أشبه برواية البصريين منه راوية لأشعار القبائل ناسبا، وكان ربيبا للمفضل الضبي: سمع منه الدواوين وصححها، وأخذ عن الكسائي «كتاب النوادر» وأخذ عن أبي معاوية الضرير والقاسم بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود القاضي، وأخذ عنه إبراهيم الحربي وأبو عكرمة الضبي وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب وابن السكيت، وكانت طريقته طريقة الفقهاء والعلماء، وكان أحفظ الناس للغات والأيام والأنساب.
وقال أبو العباس ثعلب: قال لي ابن الأعرابي أمليت قبل أن تجيئني يا أحمد حمل جمل.
وقال ثعلب: انتهى علم اللغة والحفظ إلى ابن الأعرابي. وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان قليلا ولا كثيرا.
__________
[1047] ترجمة ابن الأعرابي في مراتب النحويين: 149 والمعارف: 546 وتهذيب اللغة 1: 20 وتاريخ أبي المحاسن: 205 وطبقات الزبيدي: 135 والفهرست: 75 ونور القبس: 302 وتاريخ بغداد 5: 282 والأنساب 1: 310 ونزهة الألباء: 150 وانباه الرواة 3: 128 وابن خلكان 4: 306 وسير الذهبي 10: 687 وعبر الذهبي 1: 409 والوافي 3: 79 ومرآة الجنان 2: 106 والبداية والنهاية 10: 307 والنجوم الزاهرة 2: 264 وبغية الوعاة 1: 105 والشذرات 2: 70 وروضات الجنات 7: 270 وإشارة التعيين: 311.(6/2530)
وقال ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول في كلمة رواها الأصمعي: سمعت من ألف أعرابي خلاف ما قاله الأصمعي.
وقال: شاهدت ابن الأعرابي وكان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، كل يسأله أو يقرأ عليه ويجيب من غير كتاب. قال: ولزمته بضع عشرة سنة ما رأيت بيده كتابا قط، وما أشك في أنه أملى على الناس ما يحمل على أجمال، ولم ير أحد في علم الشعر واللغة أغزر منه.
وقال محمد بن الفضل الشعراني: كان للناس رؤساء: كان سفيان الثوري رأسا في الحديث، وأبو حنيفة رأسا في القياس، والكسائي رأسا في القرآن، فلم يبق الآن رأس في فن من الفنون أكبر من ابن الأعرابي فإنه رأس في كلام العرب، وكان ممن وسم بالتعليم فكان يأخذ كلّ شهر ألف درهم فينفقها على أهله وإخوانه، وتماسك في آخر أيامه بعد سوء حاله.
ويحكى أنه اجتمع أبو عبد الله الأعرابي وأبو زياد الكلابي على الجسر ببغداد، فسأل أبو زياد ابن الأعرابي عن قول النابغة «1» :
على ظهر مبناة [جديد سيورها]
فقال: النطع، بفتح النون وسكون الطاء، فقال أبو زياد: النطع بكسر النون وفتح الطاء، فقال أبو عبد الله: نعم، وإنما أنكر أبو زياد النطع بفتح النون وسكون الطاء لأنها لم تكن لغته.
ورأى ابن الأعرابي في مجلسه يوما رجلين يتحدثان فقال لأحدهما: من أين أنت؟ فقال: من اسفيجاب وقال: للآخر من أين أنت؟ فقال: من الأندلس، فعجب من ذلك وأنشد:
رفيقان شتّى ألّف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتّى فيأتلفان
ثم أملى على من حضر مجلسه بقية الأبيات الآتية «2» :
نزلنا على قيسية يمنية ... لها نسب في الصالحين هجان(6/2531)
فقالت وأرخت جانب الستر بيننا ... لأية أرض أم من الرجلان
فقلت لها أما رفيقي فقومه ... تميم وأما أسرتي فيماني
رفيقان شتّى ألّف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتّى فيأتلفان
وحكى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قال: اجتمع عندنا أبو نصر أحمد بن حاتم وابن الأعرابي، فتجاذبا الحديث إلى أن حكى أبو نصر أن أبا الأسود دخل على عبيد الله بن زياد وعليه ثياب رثة فكساه ثيابا جددا من غير أن يعرض له بسؤال، فخرج وهو يقول «1» :
كساك ولم تستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
فإن أحقّ الناس إن كنت مادحا ... بمدحك من أعطاك والعرض وافر
فأنشد أبو نصر قافية البيت الأول «وياصر» بالياء يريد و «يعطف» فقال له ابن الأعرابي: وناصر بالنون فقال: دعني يا هذا وياصري، وعليك بناصرك.
وحدث الصولي قال: غني في مجلس الواثق بشعر الأخطل «2» :
وشارب مربح بالكاس نادمني ... لا بالحصور ولا فيها بسوّار
فقيل بسوار وبسئّار، فوجه إلى ابن الأعرابي وهو يومئذ بسرّ من رأى فسئل عن ذلك فقال: بسوار يريد بوثاب، أي لا يثب على ندمائه، وبسئّار أي لا يفضل في القدح سؤره، وقد رويا جميعا، فأمر له الواثق بعشرة آلاف درهم. وحكي عن ابن الأعرابي أنه روى قول الشاعر «3» :
ولا عيب فينا غير عرق لمعشر ... كرام وأنا لا نحطّ على النمل
نحطّ بحاء مهملة وقال: معناه أنا لا نحط على بيوت النمل لنصيب ما جمعوه- وهذا تصحيف- وإنما الرواية لا نخط على النمل واحدتها نملة، وهي قرحة تخرج بالجنب تزعم المجوس أن ولد الرجل إذا كان من أخته ثم خط على النملة شفي صاحبها، ومعنى البيت إنا لسنا بمجوس ننكح الأخوات.(6/2532)
وعن أبي عمران قال: كنت عند أبي أيوب أحمد بن محمد بن شجاع فبعث غلامه إلى أبي عبد الله ابن الأعرابي يسأله المجيء إليه، فعاد إليه الغلام فقال: قد سألته ذلك فقال لي: عندي قوم من الأعراب فإذا قضيت أربي معهم أتيت، قال الغلام: وما رأيت عنده أحدا إلا أني رأيت بين يديه كتبا ينظر فيها، فينظر في هذا مرة وفي هذا مرة، ثم ما شعرنا حتى جاء، فقال له أبو أيوب: إنه ما رأى عندك أحدا وقد قلت له إنا مع قوم من الأعراب فإذا قضيت أربي معهم أتيت، فأنشد «1» :
لنا جلساء ما نملّ حديثهم ... ألبّاء مأمونون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم ما مضى ... وعقلا وتأديبا ورأيا مسدّدا
فلا فتنة نخشى ولا سوء عشرة ... ولا نتقي منهم لسانا ولا يدا
فإن قلت أموات فما أنت كاذب ... وإن قلت أحياء فلست مفنّدا
وقال محمد بن حبيب: سألت أبا عبد الله ابن الأعرابي في مجلس واحد عن بضع عشرة مسألة من شعر الطرماح يقول في كلها لا أدري، ولم أسمع، أفأحدث لك برأيي؟
وقال أبو العباس ثعلب: سمعت ابن الأعرابي يقول: من لا قبول عليه فلا حياة لأدبه. وقال: ما رأيت قوما أكذب على اللغة من قوم يزعمون أنّ القرآن مخلوق.
واغتاب رجل عنده بعض العلماء فقال له: لو لم تقل فينا ما قلت عندنا فلا تجلسنّ إلينا.
وله من التصانيف: كتاب النوادر وهو كبير. كتاب الأنواء. كتاب صفة النخل.
كتاب صفة الزرع. كتاب الخيل. كتاب النبت والبقل. كتاب نسب الخيل. كتاب تاريخ القبائل. كتاب تفسير الأمثال. كتاب النبات. كتاب معاني الشعر. كتاب صفة الدرع. كتاب الألفاظ. كتاب نوادر الزبيريين. كتاب نوادر بني فقعس. كتاب الذباب، وغير ذلك «2» .
قال أبو العباس ثعلب سمعت ابن الأعرابي يقول: ولدت في الليلة التي مات(6/2533)
فيها أبو حنيفة. وقال أبو غالب علي بن النضر: توفي ابن الاعرابي سنة ثلاثين ومائتين وقيل سنة إحدى وثلاثين وقيل سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وقد بلغ من العمر احدى وثمانين سنة وأربعة أشهر وثلاثة أيام، وكانت وفاته في خلافة الواثق بن المعتصم وصلى عليه قاضي القضاة أحمد بن أبي دواد الإيادي.
[1048] محمد بن زيد بن مسلمة،
أبو الحسن النحوي المعروف بابن أبي الشملين:
لا أعرف من حاله الا ما قرأته في «كتاب أدب المريض والعائد» لأبي شجاع البسطامي قال: كتب محمد بن علي بن ميمون النرسي الحافظ بخطه وأذن لنا في روايته عنه، أخبرنا محمد بن علي بن عبد الرحمن، أنشدنا أبو الحسن محمد بن زيد بن مسلمة النحوي، قال أنشدنا أبو علي الفارسي والسيرافي، قالا أنشدنا أبو بكر السراج، قال عدنا أبا الحسن ابن الرومي في مرضه فأنشدنا لنفسه «1» :
ولقد سئمت مآربي ... فكأنّ أطيبها خبيث
إلا الحديث فانه ... مثل اسمه أبدا حديث
[وقرأت بخط هلال بن المحسن وقد عدد مشايخه الذين رآهم وقرأ عليهم فقال: وأبو الحسن محمد بن زيد بن مسلمة المعروف بأبي الشملين] «2» .
[1049] محمد بن السري بن سهل،
أبو بكر ابن السراج البغدادي النحوي، قال
__________
[1048] ترجمة ابن أبي الشملين في الوافي 3: 82 (وفيه ابن مسلم) وبغية الوعاة 1: 107.
[1049] ترجمة ابن السراج في الفهرست: 67 وطبقات الزبيدي: 112 وأخبار النحويين البصريين: 108 ومراتب النحويين 135 ونور القبس: 342 وتاريخ بغداد 5: 319 وتاريخ أبي المحاسن: 40 ونزهة الألباء: 249 والمنتظم 6: 220 وانباه الرواة 3: 145 والمحمدون: 470 وابن خلكان 4: 339 وعبر(6/2534)
المرزباني: كان أحدث أصحاب أبي العباس المبرد، مع ذكاء وفطنة، قرأ عليه كتاب سيبويه، ثم اشتغل بالموسيقى، فسئل عن مسألة بحضرة الزجاج فأخطأ في جوابها فوبخه الزجاج وقال: مثلك يخطىء في مثل هذه المسألة؟ والله لو كنت في منزلي لضربتك ولكنّ المجلس لا يحتمل ذلك، فقال: قد ضربتني يا أبا إسحاق، وكان علم الموسيقى قد شغلني عن هذا الشأن. ثم رجع إلى كتاب سيبويه ونظر في دقائقه وعوّل على مسائل الأخفش والكوفيين وخالف أصول البصريين في مسائل كثيرة، ويقال: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. وكان أحد العلماء المذكورين وأئمة النحو المشهورين، واليه انتهت الرئاسة في النحو بعد المبرد. وأخذ عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي وأبو سعيد السيرافي وأبو علي الفارسي وعلي بن عيسى الرماني.
ويحكى انه اجتمع هو وأبو بكر ابن مجاهد وإسماعيل القاضي في بستان، وكان فيه دولاب، فعنّ لهم أن يعبثوا بادارتها فلم يقدروا على ذلك، فالتفت أحدهم وقال:
اما تستحيون، مقرىء البلد ونحويه وقاضيه لا يجيء منهم ثور.
وحكي «1» أن أبا بكر ابن السراج كان يهوى جارية فجفته، فاتفق وصول الامام المكتفي في تلك الأيام من الرقّة، فاجتمع الناس لرؤيته، فلما شاهد أبو بكر جمال المكتفي تذكّر جمال معشوقته وجفاءها له، فأنشد بحضرة أصحابه:
ميزت بين جمالها وفعالها ... فإذا الملاحة بالخيانة لا تفي
حلفت لنا أن لا تخون عهودنا ... فكأنما حلفت لنا أن لا تفي
والله لا كلّمتها ولو انها ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي
ثم إن أبا عبد الله محمد بن إسماعيل بن زنجي الكاتب أنشدها لأبي العباس ابن
__________
الذهبي 2: 165 وسير الذهبي 14: 483 والوافي 3: 86 ومرآة الجنان 2: 270 والبداية والنهاية 11: 157 والبلغة: 222 والنجوم الزاهرة 3: 222 وبغية الوعاة 1: 109 والشذرات 2: 273 وروضات الجنات 7: 299 وإشارة التعيين: 313.(6/2535)
الفرات وقال: هي لابن المعتز، وأنشدها أبو العباس للقاسم بن عبيد الله الوزير، فاجتمع الوزير بالمكتفي وأنشده أياها وقال للمكتفي: هي لعبيد الله بن عبد الله بن طاهر، فأمر له بألف دينار فوصلت إليه، فقال ابن زنجي ما أعجب هذه القصة: يعمل أبو بكر ابن السراج أبياتا تكون سببا لوصول الرزق إلى عبيد الله بن عبد الله بن طاهر.
قال أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي: توفي أبو بكر ابن السراج يوم الأحد لثلاث ليال بقين من ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر.
وله من المصنفات: كتاب الأصول، وهو أحسنها وأكبرها وإليه المرجع عند اضطراب النقل واختلافه، جمع فيه أصول علم العربية وأخذ مسائل سيبويه ورتبها أحسن ترتيب. وكتاب جمل الأصول، وهو الأصول الصغير. وشرح كتاب سيبويه.
والموجز «1» . كتاب الاشتقاق لم يتم. كتاب الرياح والهواء والنار. كتاب الشعر والشعراء. كتاب الجمل. كتاب احتجاج القراء. كتاب الخط. كتاب المواصلات والمذكرات. كتاب الهجاء، وغير ذلك.
وحكى الرماني «2» : ذكر كتاب الأصول بحضرته فقال قائل: هو أحسن من «المقتضب» فقال أبو بكر: لا تقل هكذا، وأنشد:
ولو قبل مبكاها بكيت صبابة ... بسعدى شفيت النفس قبل التندم
ولكن بكت قبلي فهيّج لي البكا ... بكاها فقلت الفضل للمتقدم
وقال أبو علي الفارسي: جئت لأسمع منه كتاب سيبويه وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر عليّ إتمامه، فانقطعت عنه لتمكني من مسائله، فقلت في نفسي بعد مدة: إذا عدت إلى فارس وسئلت عن إتمامه فان قلت: نعم كذبت، وان قلت لا بطلت الرواية، فدعتني الضرورة ان حملت إليه رزمة وأقبلت إليه، فلما أبصرني من بعيد أنشد «3» .(6/2536)
كم قد تجرعت من غيظ ومن حنق ... لكن تجدد وجدي هوّن الماضي
وكم غضبت ولم يلووا على غضبي ... فعدت طوعا بقلب ساخط راضي
[1050] محمد بن سعدان الضرير
أبو جعفر الكوفي النحوي المقرىء: ولد سنة احدى وستين ومائة، وروى عن عبد الله بن إدريس وأبي معاوية الضرير، وروى عنه محمد بن سعد كاتب الواقدي وعبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل وابن المرزبان، وكان ثقة، وكان يقرأ بقراءة حمزة ثم اختار لنفسه ففسد عليه الأصل والفرع، إلا أنه كان نحويا.
وقال بعضهم: أخذ ابن سعدان القراءات عن أهل مكة والمدينة والشام والكوفة والبصرة، ونظر في الاختلاف، وكان ذا علم بالعربية وصنّف كتابا في النحو، وكتابا في القراءات.
قال ابن عرفة: مات يوم عيد الأضحى سنة احدى وثلاثين ومائتين، وكان ذلك في خلافة الواثق بن المعتصم. وله ولد يقال له إبراهيم من أهل العلم.
وقال الداني في «طبقات القراء» : أخذ القراءة عراضا عن سليم بن عيسى عن حمزة وعن يحيى بن المبارك اليزيدي عن أبي محمد إسحاق بن محمد المسيبي عن نافع وعن معلى بن منصور عن أبي بكر ابن عاصم: وروى عنه القراءة محمد بن أحمد بن واصل، وهو من أجلّ أصحابه وأثبتهم له.
[1051] محمد بن سعد الرازي
الكاتب الأوحد: لم يكن بعد ابن البواب من كتب الثلث والمحقق مثله، (قال ياقوت) : ورأيت جماعة يفضلونه على جماعة من الكتاب حتى قيل إنه كتب ذلك أصفى من ابن البواب.
__________
[1050] ترجمة ابن سعدان في طبقات الزبيدي: 139 وتاريخ بغداد 5: 324 والفهرست: 76 وانباه الرواة 3: 140 وطبقات ابن الجزري 2: 143 والوافي 3: 92 وبغية الوعاة 1: 111 وإشارة التعيين: 314.
[1051] عن الصفدي 3: 90 وينقل عن ياقوت (وهو من مستدركات مصطفى جواد- انظر الضائع: 144) .(6/2537)
[1052] محمد بن سعد بن محمد بن محمد بن محمد
الديباجي المروزي النحوي ابن النحوي، أبو الفتح: (قال ياقوت) : شيخ جليل عالم حسن العشرة، أخذ النحو عن أبيه، ولقي الزمخشري وقرأ على تلميذه البقالي.
وله [المحصل في] شرح المفصل. شرح الأنموذج «1» . تهذيب مقدمة الأدب [للزمخشري] . القانون الصلاحي في أودية النواحي. فلك الأدب. منافع أعضاء الحيوان.
وكان ينظر في خزانة الكتب التي بالجامع الأكبر بمرو؛ ومولده في المحرم سنة سبع عشرة وخمسمائة، وعثر بعتبة بابه فسقط على وجهه، ووهن عظمه وهنا أداه إلى الموت، وذلك في يوم الأحد ثامن عشر صفر سنة تسع وستمائة.
قال جمال الدين ابن القفطي، قال لي ياقوت مولى عسكر الحموي: لما دخلت مرو حضرت الجامع فرأيت به خزانة كتب، وقفا يعرف بوقف الفقاعي، وفيها كتب جميلة، خازنها ختن هذا الرجل، فذاكرته بتصنيفه فقال: قد كان صنف شرحا للمفصل، فطلبته منه، فقال لي: لم يأت فيه بغريب، ولم يتكلم على عبارة المصنف وأنما أتى بنفس النحو، قال: فسألته أن يريني منه، فأراني كراسة بخط المصنف من مسوادته....
[1053] محمد بن سعد ويقال ابن سعيد الرباحي
- بالباء الموحدة- أبو عبد الله الأعرج الطليطلي الخطيب النحوي اللغوي: أصله من قلعة رباح من أعمال طليطلة
__________
[1052] عن بغية الوعاة 1: 111- 112 (وهو من مستدركات مصطفى جواد انظر الضائع: 145) وله ترجمة في الوافي 3: 89 وعند ابن الدبيثي، كما ذكره المنذري في التكملة (وفيات 609) وانظر انباه الرواة 3: 139.
[1053] ترجمة الرباحي في جذوة المقتبس: 54 (بغية الملتمس رقم: 129) .(6/2538)
بالأندلس، رحل إلى المشرق وسمع بمصر ابن الورد وابن السكن، وحدث وأفاد، مولده سنة تسع وثلاثمائة وتوفي في ربيع الآخر سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
[1054] محمد بن سعيد أبو جعفر
البصير الموصلي العروضي النحوي: كان أبو إسحاق الزجاج معجبا به، وكان في النحو ذا قدم ثابتة، اجتمع يوما مع أبي علي الفارسي عند أبي بكر ابن شقير فقال لأبي علي: في أيّ شيء تنظر يا فتى؟ فقال:
في التصريف، فجعل يلقي عليه من المسائل على مذهب البصريين والكوفيين حتى ضجر، فهرب أبو علي منه إلى النوم وقال: إني أريد النوم، فقال: هربت يا فتى، فقال: نعم هربت.
وكان ذكيا فهما له في الشعر رتبة عالية، اماما في استخراج المعمى والعروض، قال له الزجاج يوما، وقد سأله عن أشياء من العروض: يا أبا جعفر لو رآك الخليل لفرح بك. قرأ عليه عبيد الله بن جعفر الأسدي النحوي وغيره.
[1055] محمد بن سعيد بن يحيى بن علي
بن الحجاج بن محمد بن الحجاج الحافظ الكبير المؤرخ أبو عبد الله ابن أبي المعالي الدبيثي [بضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة والياء آخر الحروف ساكنة والثاء المثلثة] ثم الواسطي الشافعي العدل:
ولد في رجب سنة ثمان وخمسين وخمسمائة وسمع بواسط وقرأ الفقه والعربية، ورحل إلى بغداد في حدود الثمانين، وسمع من أبي شاتيل والقزاز وأبي العلاء ابن عقيل وخلق كثير ببغداد والحجاز والموصل، وعلق الأصول والخلاف وعني بالحديث ورجاله، وصنف تاريخا كبيرا لواسط، وذيل على الذيل للسمعاني ...
__________
[1054] ترجمة أبي جعفر البصير الموصلي في الوافي 3: 104 وبغية الوعاة 1: 114.
[1055] ترجمة ابن الدبيثي في الوافي 3: 102 (وعنه نقلت ما أثبته هنا) وابن خلكان 4: 394 وطبقات ابن الجزري 2: 145 وطبقات السبكي 8: 61 وسير الذهبي 23: 68 وعبر الذهبي 5: 154 والشذرات 5: 581 وابن الشعار 7: 129 وانظر مقدمة ذيل تاريخ مدينة السلام تحقيق الدكتور بشار عواد معروف.(6/2539)
[توفي سنة سبع وثلاثين وستمائة] .
[وقال ياقوت في معجم الأدباء] : شيخنا الذي استفدنا منه وعنه أخذنا. قلت له: هل تنسبون إلى قبيلة من قبائل العرب؟ فقال: الناس يقولون اننا من ولد الحجاج بن يوسف الثقفي وما عرفت أحدا من أهلنا يعرف ذلك. وتولى وقوف المدرسة النظامية سنة ستمائة، ومن شعره:
تمكن مني في الفؤاد وحله ... وأضعف وجدا عقد صبري وحلّه
وأيقن أني في هواه مدلّه ... فعاد وأبدى بالغرام ودلّه
بديع جمال فاق في الحسن أهله ... وسلّط إعناتا على القلب دلّه
وأسلمني للوجد حسن قوامه ... وطلّ دمي في حبه وأحلّه
وكنت طليقا لا أخاف من الهوى ... فأسكن قلبي شوقه وأحلّه
إذا رمت عنه الصبر عزّ تصبري ... وأنهل قلبي من هواه وعلّه
وان قلت كم ذا الوجد يا قلب فاتئد ... يقول مجيبا لي عساه وعلّه
فشكواي من وجدي به وبعاده ... وبلواي من صبري إذا ما استقلّه
وإني على الحالات منه لذو غنى ... وشوق عظيم القدر قلبي استقله
فمن مسعدي في الحب والحبّ ظالم ... ومن مرشد لي فيه قلبا أضله
كأني إذا ما غاب عني شخصه ... من الوجد ذو حزن بشيء أضله
[1056] محمد بن سلام بن عبد الله بن سالم الجمحي
البصري أبو عبد الله: كان
__________
[1056] ترجمة ابن سلام في الفهرست: 126 وتاريخ بغداد 5: 327 ونزهة الألباء: 109 وانباه الرواة 3: 143 ومراتب النحويين: 67 وطبقات الزبيدي: 197 وعبر الذهبي 1: 409 وسير الذهبي 10: 651 وميزان الاعتدال 3: 567 والبداية والنهاية 10: 308 والنجوم الزاهرة 2: 260 والشذرات 2: 71 والوافي 3: 114 وبغية الوعاة 1: 115 وطبقات المفسرين 2: 151 وانظر مقدمة طبقات فحول الشعراء ص: 34 وما بعدها؛ ومن كتبه التي لم يذكرها ياقوت: كتاب الفاضل في الأخبار ومحاسن الشعراء. كتاب نسب قريش وبيوتات العرب. الحلايب وإجراء الخيل.(6/2540)
من أعيان أهل الأدب، وألف كتابا في «طبقات الشعر» وله «غريب القرآن» وأخذ عن حماد بن سلمة ومبارك بن فضالة وجماعة، وروى عنه الامام أحمد بن حنبل وابنه عبد الله وأبو العباس ثعلب وأحمد بن علي الابار.
قال أبو خليفة: ابيضت لحية محمد بن سلام ورأسه وله سبع وعشرون سنة.
وقال محمد بن أحمد بن يعقوب بن شبة: حدثنا جدي قال: كان محمد بن سلام له علم بالشعر والأخبار وهما من جملة علوم الأدب.
وقال الحسين بن فهم: قدم علينا محمد بن سلام سنة اثنتين وعشرين ومائتين فاعتلّ علة شديدة فما تخلّف عنه أحد، وأهدى له الأجلاء أطباءهم، فكان ابن ماسويه من جملة من أهدي إليه، فلما جسه ونظر إليه قال له: لا أرى بك من العلة ما أرى بك من الجزع، فقال: والله ما ذاك على الدنيا مع اثنتين وسبعين سنة، ولكنّ الانسان في غفلة حتى يوقظ بعلّة، فقال ابن ماسويه: لا تجزع فقد رأيت في عرقك من الحرارة الغريزية ما إن سلمت من العوارض بلّغك عشر سنين. قال ابن فهم. فوافق كلامه قدرا، فعاش محمد بن سلام بعد ذلك عشر سنين وتوفي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وكان ذلك في السنة التي مات فيها الواثق وبويع المتوكل بن المعتصم، وقال موسى بن هارون: توفي سنة إحدى وثلاثين ومائتين.
[1057] محمد بن سليمان البغدادي
ابن قطرمش بن تركان شاه أبو نصر البغدادي المولد، السمرقندي الأصل، النحوي اللغوي الأديب: أحد أدباء عصرنا وأعيان أولي الفضل بمصرنا، تجمعت فيه أشتات الفضائل، وقد أخذ من كلّ فنّ من العلم بنصيب وافر، وهو من بيت الامارة، وكانت له اليد الباسطة في حلّ اقليدس وعلم الهندسة مع اختصاصه التام بالنحو واللغة وأخبار الأمم والأشعار. خلّف له والده أموالا كثيرة
__________
[1057] ترجمته في الوافي 3: 125 والفوات 3: 369 وبغية الوعاة 1: 115 وابن الشعار 6: 161 والشذرات 5: 93 (وكنيته أبو منصور وبعض المصادر تكتب اسم جده «قتلمش» ؛ وقد أورد له الصفدي مقطعات عديدة، وقال: صنف كتابا سماه التبر المسبوك والوشي المحبوك) .(6/2541)
فضيّعها في القمار واللعب بالنرد حتى احتاج إلى الوراقة فكان يورق بأجرة بخطّه المليح الصحيح المعتبر، فكتب كثيرا من الكتب، حتى ذكر للإمام الناصر فولاه حاجب الحجاب، فلم يزل بها إلى أن مات في ربيع الآخر سنة عشرين وستمائة، ومولده في ربيع الأول سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. وله شعر رائق فمن ذلك:
لا والذي سخّر قلبي لها ... عبدا كما سخّر لي قلبها
ما فرحي في حبّها غير أن ... زيّن عندي هجرها قلبها
[1058] محمد بن سهل المرزبان الكرجي الأشل الجهارعتي،
أبو منصور، ويلقب بالباحث عن معتاص العلم: هو من أهل الكرج، وهو أحد البلغاء الفصحاء. (قال ياقوت في معجم الأدباء) : لم تقع إلي وفاته ولا شيء من شأنه، غير أني وجدت في كتابه «المنتهى في الكمال» أنشدني ابن طباطبا العلوي، وابن طباطبا مات سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
قال محمد بن إسحاق، قال لي من رآه إنه أشل اليد، وله من الكتب المنتهى في الكمال يحوي على اثني عشر كتابا وهي. مدح الأدب. كتاب صفة البلاغة.
كتاب الدعاء والتحاميد. كتاب الشوق والفراق. كتاب الحنين إلى الأوطان. كتاب التهاني والتعازي. كتاب الآمل والمأمول. كتاب التنبيهات والطلب. كتاب الحمد والذم. كتاب الاعتذارات. كتاب الألفاظ. كتاب نفائس الحكم.
[1059] محمد بن طويس القصري أبو الطيب:
هو من النحويين المعتزلة، أحد
__________
[1085] ترجمة الكرجي الباحث في الوافي 3: 141 وعنه نقلت هنا (وهي من مستدركات مصطفى جواد- الضائع: 150) وانظر الفهرست: 152.
[1059] ترجمة القصري في الوافي 3: 176 (وفيه: ابن طوس) وبغية الوعاة 1: 122 وانباه الرواة 3: 154 (وفيه: ابن طوسي) .(6/2542)
تلاميذ أبي علي الفارسي، أملى عليه «المسائل القصريات» وبه سميت، وأظنه من قصر ابن هبيرة من نواحي الكوفة، وقرأت في «المفاوضة» انه لما كان حدثا كان أبو علي الفارسي يتعشقه ويخصه بالطرف ويحرص على الاملاء عليه والالتفات إليه، مات شابا.
[1060] محمد بن العباس أبو بكر الخوارزمي
الشاعر المشهور: يقال له الطبرخزي لأنه كانت أمه من خوارزم وأبوه من طبرستان، وكان ابن أخت محمد بن جرير الطبري «1» .
قال الحاكم في «تاريخه» كان أوحد عصره في حفظ اللغة والشعر، وكان يذاكرني بالأسماء والكنى حتى يحيرني من حفظه....
وقد أقام الخوارزمي بالشام مدة وسكن حلب وتوفي بنيسابور سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة ...
(قال ياقوت) : قرأت في آخر ديوانه له:
بآمل مولدي وبنو جرير ... فأخوالي ويحكي المرء خاله
فها أنا رافضي عن تراث ... وغيري رافضي عن كلاله
..... [وجرت بينه وبين البديع الهمذاني مناقضات ذكرها ياقوت في كتاب معجم الأدباء في ترجمتيهما] .
__________
[1060] ترجمة الخوارزمي في اليتيمة 4: 194 وتاريخ بغداد 3: 119 وابن خلكان 4: 400 واللباب (الطبرخزي) وتاريخ ابن الأثير 9: 101 ورسائل البديع: 28- 84 (مناظراتهما) والوافي 3: 191 (وعنه نقلت هذه الترجمة) وبغية الوعاة 1: 125 والشذرات 3: 105 وله ذكر في أخلاق الوزيرين للتوحيدي؛ وانظر سير الذهبي 16: 526 (ولا بد أن تكون الترجمة في أصل ياقوت طويلة ...
ولكني رأيت ألا أخلي موضعهاهنا من بعض ما أورده ياقوت وانظر الضائع: 151) .(6/2543)
[1061] محمد بن [عبد الله بن] حمدان الدلفي العجلي
أبو الحسن النحوي، من أصحاب أبي الحسن علي الرماني كان نحويا فاضلا بارعا شرح ديوان المتنبي، ومات بمصر سنة ستين وأربعمائة.
[1062] محمد بن عبد الله أبو الحسن الوراق النحوي:
مات سنة احدى وثمانين وثلاثمائة؛ كان في طبقة أبي طالب العبدي، وكان زوج بنت أبي سعيد السيرافي.
وله شرح مختصر الجرمي الأكبر سمّاه «الفصول في نكت الأصول» . شرح مختصر الجرمي الأصغر سماه «الهداية» . كتاب العلل في النحو.
(قال ياقوت) : بلغني أن كتاب الفصول أملاه عليه أبو سعيد السيرافي فنسبه هو إلى نفسه.
[1063] محمد بن عبد الله بن قادم أبو جعفر النحوي:
كان حسن النظر في علل النحو، وكان يؤدب ولد سعيد بن قتيبة الباهلي، وكان من أعيان أصحاب الفراء، وأخذ عنه ثعلب.
حكي عنه قال «1» وجه إليّ إسحاق بن إبراهيم المصعبي يوما فأحضرني ولم أدر
__________
[1061] كان في الأصل: محمد بن حمدان، (ولذلك استدركه مصطفى جواد لأنه عند الصفدي 3: 329 محمد بن عبد الله بن حمدان. ونقل الصفدي عن ياقوت قوله: ووجدت في موضع آخر أبو الحسن علي بن حمدان الدلفي والله أعلم؛ وفي بغية الوعاة 1: 128 نقل ما ورد هنا دون زيادة (الضائع: 154) .
[1062] ترجمته في الوافي 3: 329 وبغية الوعاة 1: 129 (وزاد في نسبه بعد عبد الله: ابن العباس) ، وأثبت ما أورده الصفدي (وانظر الضائع: 153) .
[1063] ترجمة ابن قادم في طبقات الزبيدي: 138 وانباه الرواة 3: 156 (وكنيته هنالك أبو عبد الله، وقيل اسمه أحمد) والوافي 3: 295 وبغية الوعاة 1: 140 وإشارة التعيين: 316.(6/2544)
ما السبب، فلما قربت من مجلسه تلقاني ميمون بن إبراهيم كاتبه على الرسائل وهو على غاية الهلع والجزع، فقال لي بصوت خفي: إنه إسحاق، ومرّ غير متلبث حتى رجع إلى مجلس إسحاق، فراعني ذلك، فلما مثلت بين يديه قال لي: كيف يقال وهذا المال مال أو هذا المال مالا؟ قال: فعلمت ما أراد ميمون، فقلت: الوجه مال ويجوز مالا، فأقبل إسحاق على ميمون يغلّطه «1» وقال: الزم الوجه في كتبك ودعنا من يجوز ويجوز، ورمى بكتاب كان في يده، فسألت عن الخبر فإذا ميمون قد كتب إلى المأمون وهو ببلاد الروم عن إسحاق وذكر مالا حمله إليه: «وهذا المال مالا» فخط المأمون على الموضع في الكتاب ووقع بخطه على الحاشية: تخاطبني بلحن؟ فقامت القيامة على إسحاق، فكان ميمون بعد ذلك يقول: لا أدري كيف [أشكر] ابن قادم، أبقى على روحي ونعمتي.
وحكى عن أحمد بن إسحاق بن بهلول «2» انه دخل هو وأخوه بغداد، فدار على الخلق يوم الجمعة، فوقف على رجل يتلهّب ذكاء ويجيب عن كلّ ما يسأل عنه من مسائل الأدب والقرآن، فقلنا: من هذا؟ قالوا: ثعلب، فبينا نحن كذلك إذ ورد شيخ يتوكأ على عصا فقال لأهل الحلقة: أفرجوا للشيخ، فأفرجوا له حتى جلس إلى جانبه، ثم إن سائلا سأل ثعلبا عن مسألة فقال: قال الرؤاسي فيها كذا، وقال الكسائي كذا، وقال الفراء كذا، وقال هشام كذا، وقلت أنا كذا، فقال له الشيخ: لا أراني أعتقد فيها إلا جوابك فالحمد لله الذي بلّغني فيك هذه المنزلة، فقلنا: من هذا الشيخ؟ فقيل أستاذه ابن قادم.
وكان ابن قادم «3» يعلم المعتز قبل الخلافة، فلما ولي بعث إليه فقيل له: أجب أمير المؤمنين، فقال: أليس هو ببغداد- يعني المستعين- فقالوا: لا وقد ولي المعتز، وكان قد حقد عليه بطريق تأديبه له، فخشي من بادرته، فقال لعياله: عليكم السلام، فخرج ولم يرجع إليهم وذلك في سنة احدى وخمسين ومائتين.
وله من الكتب الكافي في النحو. والمختصر فيه أيضا. وكتاب غرائب الحديث.(6/2545)
[1064] محمد بن عبد الله بن محمد بن أبي الفضل
أبو عبد الله المرسي السلمي شرف الدين، الأديب النحوي المفسر المحدث الفقيه: أحد أدباء عصرنا، أخذ من النحو والشعر بأوفر نصيب، وضرب فيه بالسهم المصيب، وخرج التخاريج، وتكلم على «المفصل» للزمخشري وأخذ عليه عدة مواضع، بلغني أنه سبعون موضعا أقام على خطأها البرهان، واستدل على سقمها ببيان. وله عدة تصانيف. خرج من بلاد المغرب سنة سبع وستمائة، ودخل مصر وسار إلى الحجاز ودخل مع قافلة الحجاج إلى بغداد وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنظامية، ورحل إلى خراسان بغداد وأقام بها يسمع ويقرأ الفقه والخلاف والأصلين بالنظامية، ورحل إلى خراسان ووصل إلى مرو الشاهجان وسمع بنيسابور وهراة ومرو ولقي المشايخ، وعاد إلى بغداد، وأقام بحلب ودمشق، ورأيته بالموصل، ثم حجّ ورجع إلى دمشق، ثم عاد إلى المدينة فأقام على الاقراء، ثم انتقل إلى مصر وأنا بها سنة أربع وعشرين وستمائة، ولزم النسك والعبادة والانقطاع.
أخبرني أن مولده بمرسية سنة سبعين وخمسمائة، وانه قرأ القرآن على ابن غلبون وغيره، والنحو على أبي الحسن علي بن يوسف بن شريك الداني والطيب بن محمد بن الطيب النحوي والشلوبيني وتاج الدين الكندي، والأصول على إبراهيم بن دقماق والعميدي، والخلاف على معين الدين الجاجرمي، وسمع الحديث الكثير بواسط من ابن عبد السميع، ومن ابن الماندائي مشيخته، وبهمذان من جماعة وبنيسابور «صحيح مسلم» من المؤيد الطوسي وجزءا من ابن نجيد ومن منصور بن عبد المنعم الفراوي وأم المؤيد زينب بنت الشعري، وبهراة من ابن روح الهروي،
__________
[1064] ترجمته في الوافي 3: 354 وبغية الوعاة 1: 144؛ ونقل الصفدي عن ياقوت قوله فيه: وكان عذري الهوى عامري الجوى له كل يوم حبيب؛ وهذا لم يرد في الترجمة؛ وأضاف الصفدي «وطوّل ياقوت ترجمته واستوفاها» قلت: سقوط العبارة التي نقلها الصفدي ثم الحكم على الترجمة بأنها ليست طويلة، كل ذلك يدلّ على أن الترجمة قد لحقها حذف وإيجاز، وانظر نفح الطيب 2: 241 (وهو ينقل عن ابن النجار) وقد توفي سنة 655 في طريقه من مصر إلى الشام. وقال الصفدي: خلف كتبا عظيمة كانت مودعة بدمشق فرسم السلطان ببيعها؛ وانظر أيضا طبقات السبكي 10: 125 إذ مرّ ذكره عرضا، ووردت ترجمته في 8: 69- 72 وفي المقفى 6: 121.(6/2546)
وبمكة من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي.
وكان نبيلا ضريرا يحلّ بعض مشكلات اقليدس، وحدث بكتاب «السنن الكبرى» للبيهقي عن منصور بن عبد المنعم الفراوي، وبكتاب «غريب الحديث» للخطابي.
صنف الضوابط النحوية في علم العربية. والاملاء على المفصل. وتفسير القرآن سماه «ري الظمآن في تفسير القرآن» كبير جدا قصد فيه ارتباط الآي بعضها ببعض. وكتابا في أصول الفقه والدين. وكتابا في البديع والبلاغة. وله تفسير القرآن الأوسط عشرة أجزاء. وتفسير القرآن الصغير ثلاثة أجزاء. ومختصر صحيح مسلم.
والكافي في النحو. وتعليق على الموطأ. وتعاليق أخرى.
وكان كثير الشيوخ والسماع، وحدث بالكثير بمصر والشام والعراق والحجاز، وكانت له كتب في البلاد التي يتنقل فيها بحيث لا يستصحب كتبا في سفره اكتفاء بما له من الكتب في البلد الذي يسافر إليه، وله النظم الرائق والنثر الفائق، فمن شعره قوله:
من كان يرغب في النجاة فما له ... غير اتّباع المصطفى فيما أتى
ذاك السبيل المستقيم وغيره ... سبل الغواية والضلالة والردى
فاتبع كتاب الله والسنن التي ... صحّت فذاك إذا اتبعت هو الهدى
ودع السؤال بكم وكيف فانه ... باب يجرّ ذوي البصيرة للعمى
الدين ما قال النبيّ وصحبه ... والتابعون ومن مناهجهم قفا
وقال أيضا:
قالوا فلان قد أزال بهاءه ... ذاك العذار وكان بدر تمام
فأجبتهم بل زاد نور بهائه ... ولذا تضاعف فيه فرط غرامي
استقصرت ألحاظه فتكاتها ... فأتى العذار يمدّها بسهام
وقال:
قالوا محمد قد كبرت وقد أتى ... داعي المنون وما اهتممت بزاد
قلت الكريم من القبيح لضيفه ... عند القدوم مجيئه بالزاد(6/2547)
[1065] محمد بن عبد الله بن محمد بن موسى
أبو عبد الله الكرماني النحوي الوراق: كان عالما فاضلا عارفا بالنحو واللغة، مليح الخطّ صحيح النقل يورّق بالأجرة. قرأ على ثعلب وخلط المذهبين، وله من الكتب: الموجز في النحو.
وكتاب آخر فيه لم يتم. والجامع في اللغة، ذكر فيه ما أغفله الخليل في «العين» وما ذكر أنه مهمل وهو مستعمل وقد أهمل، وكان بينه وبين ابن دريد مناقضة. مات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
[1066] محمد بن عبد الله أبو الخير
الضرير المروزي النحوي: كان فقيها فاضلا أديبا لغويا نحويا، تفقه على القفال المروزي فبرع في الفقه، واشتهر في النحو واللغة والأدب.
قال السمعاني: كان من أصحاب الرأي فصار من أصحاب الحديث بصحبة الامام أبي بكر القفال، سمع الحديث منه ومن أبي نصر المحمودي «1» ، وروى عنه القاضي الحافظ أبو منصور السمعاني «2» ، وكان إذا دخل في داره يقرأ عليه الفقهاء الأدب، والباب مردود، فإذا اجتاز به القفال راكبا وسمع صوت حافر فرسه على الأرض قام إلى داخل الدار لئلا يسمع الصوت القفال تعظيما للأستاذ. مات أبو الخير سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة.
والمروزي هذا هو المعروف بالمسعودي عند الشافعية، وقد يلقبونه بأبي
__________
[1065] ترجمة أبي عبد الله الكرماني في الفهرست: 87 وطبقات الزبيدي: 121 وانباه الرواة 3: 155 والوافي 3: 329 وبغية الوعاة 1: 144.
[1066] ترجمته في ابن خلكان 4: 213 والوافي 3: 328 وبغية الوعاة 1: 149 وطبقات السبكي 4: 171 وطبقات ابن هداية الله: 137.(6/2548)
عبد الله، وهو أحد ائمتهم، معدود من أقران شيخه القفال، وله شرح على «مختصر المزني» «1» عمدة في المذهب. ومن شعره:
تنافى المال والعقل ... فما بينهما شكل
هما كالورد والنرج ... س لا يحويهما فصل
فعقل حيث لا مال ... ومال حيث لا عقل
[1067] محمد بن عبد الله
خطيب القلعة الفخرية، أبو عبد الله المعروف بالخطيب الاسكافي: الأديب اللغوي صاحب التصانيف الحسنة، أحد أصحاب ابن عباد الصاحب، وكان من أهل أصبهان وخطيبا بالريّ.
قال ابن عباد: فاز بالعلم من أهل أصبهان ثلاثة: حائك وحلاج وإسكاف، فالحائك أبو علي المرزوقي، والحلاج أبو منصور [ابن] ماشدة، والاسكاف أبو عبد الله الخطيب.
وصنف كتاب غلط كتاب العين. والغرة تتضمن شيئا من غلط أهل الأدب.
ومبادىء اللغة. وشواهد كتاب سيبويه. ونقد الشعر. ودرة التنزيل وغرة التأويل في الآيات المتشابهة. وكتاب لطف التدبير في سياسات الملوك «2» . وغير ذلك. توفي سنة عشرين وأربعمائة.
[1068] محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مسعود بن أحمد
بن الحسين بن مسعود
__________
[1067] ترجمة الخطيب الاسكافي في الوافي 3: 337 وبغية الوعاة 1: 149.
[1068] ترجمة البنجديهي المسعودي في ابن خلكان 4: 390 وانباه الرواة 3: 166 والوافي 3: 233 ومرآة الجنان 3: 428 وبغية الوعاة 1: 158 ومعجم البلدان (بنجديه) والشذرات 4: 280 وعبر الذهبي 4: 253 ولسان الميزان 5: 256 وطبقات السبكي 6: 123 والأنساب 4: 243.(6/2549)
المسعودي، أبو سعيد البندهي: وكان يكتب بخطه البنجديهي، اللغوي الفقيه الشافعي، من أهل الفضل والأدب والدين والورع، ورد بغداد ثم الشام وحصل له سوق نافقة وقبول تام عند صلاح الدين ابن أيوب، وأقبلت عليه الدنيا فحصل كتبا لم تحصل لغيره ووقفها بخانقاه السميساطي، وأكثرها من خزانة كتب حلب التي أباح له السلطان صلاح الدين أن يأخذ منها ما شاء، وكان البنجديهي يعلم الملك الأفضل أبا الحسن علي بن صلاح الدين، وحدث وأملى بالشام، وصنف شرحا لمقامات الله يري في خمس مجلدات متوسطة استوعب وأحسن فيها ما شاء، ولد في وقت الغروب ليلة الثلاثاء غرة ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة، ومات بدمشق في ليلة السبت التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وكان كثيرا ما يتمثل بهذه الأبيات:
قالت عهدتك تبكي ... دما حذار التنائي
فلم تعوّضت عنا ... بعد الدماء بماء
فقلت ما ذاك منّي ... لسلوة أو عزاء
لكن دموعي شابت ... من طول عمر بكائي
[1069] محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أحمد
بن محمد بن جعفر أبو سعيد النيسابوري الكنجروذي الفقيه الأديب النحوي الطبيب الفارسي: شيخ مشهور، أدرك الأسانيد العالية في الحديث والأدب، وله شعر. توفي في صفر سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة، وكانت له يد في الطب والفروسية وأدب السلاح، وحدث سنين وسمع منه خلق كثير، وجرت بينه وبين أبي جعفر الزوزني البحاثي محاورات أدت إلى وحشة، فرماه بأشياء.
__________
[1069] ترجمة الكنجروذي سقطت من معجم الأدباء (وهي من مستدركات مصطفى جواد- الضائع: 154) وأحال المؤلف على كتابه هذا لدى ذكره جنزروذ في معجم البلدان. وراجع ترجمة الكنجروذي في الأنساب (المادة نفسها) وانباه الرواة 3: 165 والوافي 3: 231 وبغية الوعاة 1: 157 والشذرات 3: 292 (وما أثبته هنا عن الوافي) .(6/2550)
[1070] محمد بن عبد الغفار الخزاعي:
ذكر أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي أنه عمل كتاب الخيل، فعزاه الناس إلى أبي عبيدة فهو اليوم بأيديهم؛ (قال ياقوت في «معجم الأدباء» ) : الصواب أن مؤلف كتاب الخيل هو عبد الغفار أبوه.
[1071] محمد بن عبد الملك بن زهر بن عبد الملك بن محمد
بن مروان بن زهر الأندلسي الاشبيلي أبو بكر: ولد باشبيلية ونشأ بها وحفظ القرآن وسمع الحديث وأقبل على الأدب واللغة والعربية فبرع في ذلك كله، وعانى الشعر فبلغ الاجادة فيه، وكان يحفظ شعر ذي الرمة، وانفرد بالاجادة في نظم الموشحات التي فاق بها أهل المغرب على أهل المشرق، ولازم عبد الملك الباجيّ سبع سنين وقرأ عليه «المدونة» في مذهب مالك، وأخذ صناعة الطبّ عن أبيه أبي مروان عبد الملك، وباشر أعمالها ففاق فيها أهل زمانه وخدم بها دولة الملثمين في آخر عهدهم ثم خدم بها دولة الموحدين بني عبد المؤمن، ومات في أول دولة الناصر محمد. وكان حسن المعالجة جيد التدبير لا يماثله أحد في ذلك، وكان صحيح البنية قويّ الأعضاء، وبلغ الشيخوخة ولم يفقد قوة عضو من أعضائه إلا ثقل في السمع اعتراه في أواخر عمره.
حكى أبو مروان محمد بن أحمد الباجي أن أبا بكر ابن زهر كان شديد البأس يجذب قوسا مائة وخمسين رطلا بالاشبيلي، وهو ست عشرة أوقية، وكان يحسن اللعب بالشطرنج بارعا فيه. ولد سنة سبع وخمسمائة وتوفي بمراكش سنة خمس وتسعين وخمسمائة وقيل في أول سنة ست وتسعين، ودفن بمقابر الشيوخ وقد ناهز التسعين.
__________
[1070] ترجمة محمد بن عبد الغفار الخزاعي في الوافي 3: 265 وفيه إحالة على ياقوت، (وقد سقطت الترجمة منه وهي من مستدركات مصطفى جواد- الضائع: 156) ، وانظر مراتب النحويين: 86.
[1071] ترجمة ابن زهر الحفيد في المطرب: 204 والتكملة: 555 والذيل والتكملة 6: 398 وابن خلكان 4: 434 والمغرب 1: 266 وابن أبي أصيبعة 2: 67 ونفح الطيب 2: 247 وله موشحات في دار الطراز وجيش التوشيح: 196- 212.(6/2551)
ومن شعر الوزير أبي بكر ابن زهر قوله «1» :
إني نظرت إلى المرآة إذ جليت ... فأنكرت مقلتاي كلّ ما رأتا
رأيت فيها شييخا لست أعرفه ... وكنت أعهده من قبل ذاك فتى
فقلت أين الذي بالأمس كان هنا ... متى ترحّل عن هذا المكان متى
فاستجهلتني وقالت لي وما نطقت ... قد كان ذاك وهذا بعد ذاك أتى
كان الغواني يقلن يا أخي ولقد ... صار الغواني يقلن اليوم يا أبتا
وقال في كتاب «حيلة البرء» لجالينوس وأجاد «2» :
حيلة البرء صنّفت لعليل ... يترجّى الحياة أو لعليله
فإذا جاءت المنية قالت ... حيلة البرء ليس في البرء حيله
ومن موشحاته قوله «3» :
أيها الشاكي إليك المشتكى ... قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديم همت في غرّته ... وشربت الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته ... جذب الزقّ إليه واتكا
وسقاني أربعا في أربع ... غصن بان [مال] من حيث استوى
بات من يهواه من فرط الجوى ... خفق الأحشاء موهون القوى
كلما فكّر في البين بكى ... ماله يبكي لما لم يقع(6/2552)
ليس لي صبر ولا لي جلد ... يا لقومي هجروا واجتهدوا
أنكروا شكواي مما أجد ... مثل حالي «1» حقه أن يشتكى
كمد اليأس وذلّ الطمع ... ما لعيني عشيت بالنظر
أنكرت بعدك ضوء القمر ... واذا ما شئت فاسمع خبري
قرحت «2» عيني من طول البكا ... وبكى بعضي على بعضي معي
كبد حرّى ودمع يكف ... يعرف الذنب ولا يعترف
أيها المعرض عما أصف ... قد نمى حبّك عندي وزكا
لا يظنّ الحبّ أني مدعى
ومن موشحاته أيضا «3» :
شاب مسك الليل كافور الصباح ... ووشت بالروض أعراف الرياح
فاسقنيها قبل نور الفلق ... وغناء الورق بين الورق
كاحمرار الشمس عند الشفق ... نسج المزج عليها حين لاح
فلك اللهو وشمس الإصطباح ... وغزال سامني بالملق
وبرى جسمي وأذكى حرقي ... أهيف مذ سلّ سيف الحدق(6/2553)
قصّرت عنه مشاهير الصفاح ... وانثنت بالذعر أغصان الرماح
صار بالذلّ فؤادي كلفا ... وجفوني ساهرات وطفا
كلما قلت جوى الحبّ انطفا ... أمرض القلب بأجفان صحاح
وسبى العقل بجدّ ومزاح ... يوسفيّ الحسن عذب المبتسم
قمريّ الوجه ليليّ اللمم ... عنتريّ البأس عبسيّ الهمم
غصنيّ القدّ مهضوم الوشاح ... مادريّ الوصل طائيّ السماح
قدّ بالقد فؤادي هيفا ... وسبى عقلي لما انعطفا
ليته بالوصل أحيا دنفا ... مستطار العقل مقصوص الجناح
ما عليه في هواه من جناح ... يا عليّ أنت نور المقل
جد بوصل منك لي يا أملي ... كم أغنيك إذا ما لحت لي
«طرقت والليل ممدود الجناح ... مرحبا بالشمس من غير صباح»
وقال أيضا:
لله ما صنع الغرام بقلبه ... أودى به لما ألمّ بلبّه
لبّاه لما أن دعاه وهكذا ... من يدعه داعي الغرام يلبّه
بأبي الذي لا يستطيع لعجبه ... ردّ السلام وإن شككت فعج به
ظبي من الأعراب ما ترك الضنا ... في لحظه من سلوة لمحبه
إن كنت تنكر ما جنى بلحاظه ... في سلبه يوم الغوير فسل به(6/2554)
أو شئت أن تلقى غزالا أغيدا ... في سربه أسد العرين فسر به
يا ما أميلحه وأعذب ريقه ... وأعزّه وأذلّني في حبه
بل ما أليطف وردة في خده ... وأرقّها وأشدّ قسوة قلبه
كم من خمار دون خمرة ريقه ... وعذاب قلب دون رائق عذبه
نادى بنفسج عارضيه وقد بدا ... يا عاشقين تمتعوا من قربه
وقال أيضا «1» :
ما زلت أسقيهم وأشرب فضلهم ... حتى سكرت ونالهم ما نالني
والخمر تعلم حين تأخذ ثارها ... أني أملت إناءها فأمالني
وقال أيضا وأوصى أن يكتب على قبره:
تأمل بحقك يا واقفا ... ولاحظ مكانا دفعت إليه
فاني حذّرت منه الأنام ... وها أنا قد صرت رهنا لديه «2»
[1072] محمد بن عبد الملك أبو عبد الله الكلثومي النحوي:
من الفضلاء الكبراء، علامة في الاعراب واللغة والحساب ومعرفة الأيام والانساب والنجوم، دخل خوارزم مع عدة من الأدباء والشعراء حين ضاق بهم الحال بخراسان وأنشد بها:
تقول سعاد ما تغرّد طائر ... على فنن إلا وأنت كئيب
«أجارتنا إنا غريبان هاهنا ... وكلّ غريب للغريب نسيب»
أجارتنا إنّ الغريب وان غدت ... عليه غوادي الصالحات غريب
أجارتنا من يغترب يلق للأذى ... نوائب تقذي عينه فيشيب
__________
[1072] ترجمة الكلثومي في الوافي 4: 36 وبغية الوعاة 1: 163.(6/2555)
يحنّ إلى أوطانه وفؤاده ... له بين أحناء الضلوع وجيب
سقى الله ربعا بالعراق فإنه ... إليّ وان فارقته لحبيب
أحنّ إليه من خراسان نازعا ... وهيهات لو أنّ المزار قريب
وإن حنينا من خوارزم ينتهي ... إلى منتهى أرض العراق عجيب
[1073] محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم، أبو عمر الزاهد
المطرز الباوردي:
غلام ثعلب اللغوي من أئمة اللغة وأكابر أهلها وأحفظهم لها، قال أبو علي بن أبي علي التنوخي عن أبيه: ومن الرواة الذين لم ير قطّ أحفظ منهم أبو عمر الزاهد محمد بن عبد الواحد المعروف بغلام ثعلب، أملى من حفظه ثلاثين ألف ورقة في اللغة فيما بلغني، وكان لسعة حفظه يطعن عليه بعض أهل الأدب ولا يوثقونه في علم اللغة، حتى قال عبيد الله بن أبي الفتح «1» : لو طائر طار في الجو لقال أبو عمر الزاهد حدثنا ثعلب عن ابن الأعرابي، ويذكر في معنى ذلك شيئا، وكان المحدثون يوثقونه.
قال الخطيب البغدادي «2» : رأيت جميع شيوخنا يوثقونه ويصدقونه، وكان يسأل عن الشيء فيجيب عنه، ثم يسأل عنه بعد سنة فيجيب بذلك الجواب. ويروى أن جماعة من أهل بغداد اجتازوا على قنطرة الصراة وتذاكروا ما يرمى به من الكذب فقال أحدهم: أنا أصحّف له القنطرة وأسأله عن معناها فننظر ما يجيب، فلما دخلوا عليه قال له الرجل: أيها الشيخ ما الهرطنق عند العرب؟ فقال: كذا وكذا، وذكر شيئا،
__________
[1073] ترجمة أبي عمر الزاهد في طبقات الزبيدي: 229 والفهرست: 82 وتاريخ بغداد 2: 356 وطبقات الحنابلة 2: 67 ونزهة الالباء: 190 والمنتظم 6: 380 وانباه الرواة 3: 171 وابن خلكان 4: 329 وتذكرة الحافظ: 873 وعبر الذهبي 2: 268 وسير الذهبي 15: 508 والوافي 4: 72 ومرآة الجنان 2: 337 وطبقات السبكي 3: 189 والبداية والنهاية 11: 230 ولسان الميزان 5: 268 وبغية الوعاة 1: 164 والشذرات 2: 370 وإشارة التعيين: 326.(6/2556)
فتضاحك الجماعة وانصرفوا، فلما كان بعد شهر أرسلوا اليه شخصا آخر فسأله عن الهرطنق فقال: أليس قد سئلت عن هذه المسألة منذ كذا وكذا؟ ثم قال: هو كذا وكذا كما أجاب أولا، قال القوم: فما ندري من أيّ الأمرين نعجب، من حفظه إن كان علما، أم من ذكائه إن كان كذبا، فإن كان علما فهو اتساع عجيب، وإن كان كذبا فكيف تناول ذكاؤه المسألة وتذكر الوقت بعد أن مرّ عليه زمان فأجاب بذلك الجواب بعينه؟.
وحكي أن «1» معز الدولة بن بويه قلد شرطة بغداد غلاما تركيا من مماليكه اسمه خواجا فبلغ ذلك أبا عمر الزاهد وكان يملي كتابه «اليواقيت» في اللغة فقال للجماعة في مجلس الاملاء: اكتبوا ياقوتة خواجا، الخواج في أصل اللغة الجوع، ثم فرّع على هذا بابا وأملاه عليهم فاستعظموا كذبه وتتبعوه، فقال أبو علي الحاتمي- وكان من أصحابه- أخرجنا في «أمالي» الحامض عن ثعلب عن ابن الأعرابي الخوارج الجوع.
وحكى «2» رئيس الرؤساء أبو القاسم علي بن الحسن عن من حدثه أن أبا عمر الزاهد كان يؤدب ولد القاضي أبي عمر محمد بن يوسف، فأملى على الغلام نحوا من ثلاثين مسألة في النحو ذكر غريبها وختمها ببيتين من الشعر، وحضر أبو بكر ابن دريد وأبو بكر الأنباري وأبو بكر ابن مقسم العطار المقرىء عند القاضي أبي عمر، فعرض عليهم تلك المسائل فما عرفوا منها شيئا، وأنكروا الشعر، فقال لهم القاضي: ما تقولون فيها؟ فقال ابن الأنباري: أنا مشغول بتصنيف «مشكل القرآن» ولست أقول شيئا، وقال ابن مقسم مثل ذلك واعتذر باشتغاله بالقراءات، وقال ابن دريد: هذه المسائل من موضوعات أبي عمر الزاهد، ولا أصل لشيء منها في اللغة، وانصرفوا، فبلغ ذلك أبا عمر فاجتمع بالقاضي وسأله إحضار دواوين جماعة من قدماء الشعراء عينهم، ففتح القاضي خزانته وأخرج له تلك الدواوين، فلم يزل أبو عمر الزاهد يعمد إلى كلّ مسألة منها ويخرج لها شاهدا من تلك الدواوين ويعرضه على القاضي حتى استوفى جميع المسائل، ثم قال: وهذان البيتان أنشدهما ثعلب بحضرة القاضي(6/2557)
وكتبهما القاضي بخطه على ظهر الكتاب كما ذكر أبو عمر، وانتهت القصة إلى ابن دريد فلم يذكر أبا عمر الزاهد بلفظة إلى أن مات.
وقال رئيس الرؤساء أيضا «1» : رأيت أشياء كثيرة مما أنكر على أبي عمر ونسب فيها إلى الكذب فوجدتها مدونة في كتب اللغة وخاصة في «الغريب المصنف» لأبي عبيد.
وقال أبو القاسم عبد الواحد بن علي بن برهان الأسدي «2» : لم يتكلم في اللغة أحد من الأولين والآخرين بأحسن من كلام أبي عمر الزاهد، أخذ أبو عمر عن أبي العباس ثعلب وصحبه زمانا طويلا فنسب إليه وعرف بغلام ثعلب، وأخذ عنه أبو علي الحاتمي الأديب الكاتب اللغوي وأبو القاسم ابن برهان وغيرهما، وروى عنه أبو الحسن محمد بن رزقويه وأبو علي ابن شاذان وغيرهما.
وقال أبو الحسن المرزبان «3» : كان إبراهيم بن أيوب بن ماسي ينفذ إلى أبي عمر الزاهد كفايته وقتا بوقت، فقطع ذلك عنه مدة لعذر، ثم أنفذ إليه جملة ما كان انقطع عنه وكتب إليه رقعة يعتذر بها من تأخير رسمه، فردّه، وأمر بعض من كان عنده من أصحابه أن يكتب له على ظهر رقعته:
أكرمتنا فملكتنا ... وتركتنا فأرحتنا
وكانت صناعة أبي عمر الزاهد التطريز فنسب إليها، وكان جماعة من الأشراف والكتاب يحضرون مجلسه للسماع منه، وكان قد جمع جزءا في فضائل معاوية، فكان لا يمكّن أحدا من السماع منه حتى يبتدىء بقراءة ذلك الجزء.
وعن محمد بن العباس بن الفرات قال: كان مولد أبي عمر الزاهد سنة إحدى وستين ومائتين، وقال الخطيب البغدادي «4» : توفي يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وأربعين وثلاثمائة وذلك في خلافة المطيع لله، ودفن يوم الاثنين في الصفّة التي تقابل قبر معروف الكرخي، وبينهما عرض الطريق. وعن أبي(6/2558)
الحسن بن رزقويه توفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة والصحيح الأول.
ولأبي عمر من الكتب: شرح الفصيح لثعلب. وفائت الفصيح جزء لطيف.
واليواقيت في اللغة. والمرجان في اللغة. والكتاب الحضري في الكلمات. وغريب الحديث صنفه على مسند أحمد بن حنبل. وكتاب المكنون والمكتوم. وفائت المستحسن. وكتاب ما أنكره الأعراب على أبي عبيدة فيما رواه. والموشح.
والسريع. والتفاحة. وفائت الجمهرة. وفائت العين. وتفسير أسماء القراء.
والمداخل في اللغة. وحل المداخل. والنوادر. وكتاب العشرات. وكتاب البيوع.
وكتاب الشورى. والمستحسن في اللغة. وكتاب القبائل. وكتاب يوم وليلة. وكتاب الساعات. وغير ذلك «1» .
وأملى في آخر كتابه «اليواقيت» في اللغة قوله:
لما فرغنا من نظام الجوهره ... أعورت العين وفضّ الجمهره
ووقف الفصيح عند القنطره
وعن أبي علي الحاتمي «2» أنه اعتل فتأخر عن مجلس أبي عمر، فسأل عنه فقيل إنه كان عليلا، فجاءه من الغد يعوده، فاتفق أنه كان قد خرج إلى الحمام فكتب على باب داره بالاسفيداج:
وأعجب شيء سمعنا به ... عليل يعاد فلا يوجد
قال: وهو من شعره.
وحدث عباس بن محمد الكلوذاني قال: سمعت أبا عمر الزاهد يقول: ترك قضاء حقوق الاخوان مذلة وفي قضائها رفعة، فاحمدوا الله تعالى على ذلك وسارعوا في قضاء حوائجهم ومسارّهم تكافأوا عليه.
وحكى أبو الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي قال: أنشد أبو العباس اليشكري في مجلس أبي عمر الزاهد يمدحه «3» :(6/2559)
أبو عمر يسمو من العلم مرتقى ... يزلّ مساميه ويردى مطاوله
ولو أنني أقسمت ما كنت حانثا ... بأن لم ير الراؤون حبرا يعادله
هو الشخت جسما والسمين فضيلة ... فأعجب بمهزول سمان فضائله
تدفّق بحرا بالمسائل زاخرا ... تغيب على من لجّ فيه سواحله
إذا قلت شارفنا أواخر علمه ... تفجّر حتى قلت هذي أوائله
[1074] محمد بن عبيد الله بن الحسن بن الحسين
ابن أبي البقاء البصري قاضي البصرة، أبو الفرج النحوي: قدم بغداد وواسط وقرأ الأدب على أبي غالب ابن بشران وغيره، والفقه على القاضي أبي الطيب والشيخ أبي إسحاق الشيرازي والماوردي، وسمع بالأهواز من الحسين الخوزي وبالبصرة من الفضل القصباني وعبيد الله الرقي والحسن بن رجاء بن الدهان النحويين، وروى عن الماوردي كتبه كلها، وكان حافظا للفقه حسن المذاكرة كثير القراءة متحشما عن السلاطين.
وله تصانيف حسان منها: مقدمة في النحو. كتاب المتقعرين. توفي في تاسع عشر المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة، وسمع في مرضه يقول: ما أخشى أن الله يحاسبني أنني أخذت شيئا من وقف أو مال يتيم.
[1075] محمد بن عبيد الله أبو الفتح ابن التعاويذي
، ويعرف أيضا بسبط ابن التعاويذي، وكلاهما نسبة لجدّه لأمه أبي محمد المبارك بن المبارك بن علي السراج الجوهري المعروف بابن التعاويذي الزاهد: كان شاعر العراق في وقته، وكان كاتبا
__________
[1074] ترجمة ابن أبي البقاء في الوافي 4: 9 وبغية الوعاة 1: 170.
[1075] ترجمة ابن التعاويذي في التكملة للمنذري 1: 60 والروضتين 2: 123 وابن خلكان 4: 466 وعبر الذهبي 4: 253 وسير الذهبي 21: 175 والمختصر المحتاج إليه 1: 66 والوافي 4: 11 ونكت الهميان: 259 والبداية والنهاية 12: 329 والنجوم الزاهرة 6: 105 والشذرات 3: 281.(6/2560)
بديوان الاقطاع ببغداد، واجتمع به العماد الكاتب الأصفهاني لما كان بالعراق وصحبه مدة، فلما انتقل العماد إلى الشام واتصل بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب كان ابن التعاويذي يراسله، فكان بينهما مراسلات ذكر بعضها العماد في «الخريدة» .
وعمي أبو الفتح في آخر عمره سنة تسع وسبعين وخمسمائة، وله في ذلك أشعار كثيرة يندب بها بصره وزمان شبابه. ومدح السلطان صلاح الدين بثلاث قصائد أنفذها إليه من بغداد، إحداها عارض بها قصيدة أبي منصور علي بن الحسن المعروف بصرّدرّ التي أولها:
أكذا يجازى ودّ كلّ قرين
فقال ابن التعاويذي وأحسن ما شاء «1» :
إن كان دينك في الصبابة ديني ... فقف المطيّ برملتي يبرين
والثم ثرى لو شارفت بي هضبه ... أيدي المطيّ لثمته بجفوني
وانشد فؤادي في الظباء معرّضا ... فبغير غزلان الصريم جنوني
ونشيدتي بين الخيام وإنما ... غالطت عنها بالظباء العين
لولا العدى لم أكن عن ألحاظها ... وقدودها بجآذر وغصون
لله ما اشتملت عليه قبابهم ... يوم النوى من لؤلؤ مكنون
من كل تائهة على أترابها ... في الحسن غانية عن التحسين
خود ترى قمر السماء إذا بدت ... ما بين سالفة لها وجبين
غادين ما لمعت بروق ثغورهم ... إلا استهلّت بالدموع شؤوني
إن تنكروا نفس الصّبا فلأنها ... مرّت بزفرة قلبي المحزون
وإذا الركائب في المسير تلفّتت ... فحنينها لتلفّتي وحنيني
يا سلم إن ضاعت عهودي عندكم ... فأنا الذي استودعت غير أمين
أو عدت مغبونا فما أنا في الهوى ... لكم بأول عاشق مغبون(6/2561)
رفقا فقد عسف الفراق بمطلق ال ... عبرات في أسر الغرام رهين
ما لي ووصل الغانيات أرومه ... ولقد بخلن عليّ بالماعون
وعلام أشكو والعهود نقضنها ... بلحاظهنّ إذا لوين ديوني
هيهات ما للغيد في حبّ امرىء ... أرب وقد أربى على الخمسين
ومن البلية أن تكون مطالبي ... جدوى بخيل أو وفاء خؤون
ليت الضنين على المحبّ بوصله ... ألف السماحة عن صلاح الدين
ملك إذا علقت يد بذمامه ... علقت بحبل في الوفاء متين
قاد الجياد معاقلا وان اكتفى ... بمعاقل من رأيه وحصون
سهرت جفون عداه خيفة فاتح ... خلقت صوارمه بغير جفون
لو أنّ لليث الهزبر سطاه لم ... يلجا إلى غاب له وعرين
أضحت دمشق وقد حللت بجوها ... مأوى الضعيف وموئل المسكين
لك عفة في قدرة وتواضع ... في عزة وصرامة في لين
وأريتنا بجميل صنعك ما روى ال ... راوون عن أمم خلت وقرون
وضمنت أن تحيي لنا أيامهم ... بالمكرمات فكنت خير ضمين
كاد الأعادي أن يصيبك كيدها ... لو لم تكدك برأيها المأفون
تخفي عداوتها وراء بشاشة ... فتشفّ عن نظر لها مشفون
دفنت حبائل مكرها فرددتها ... تبلى بغيظ صدورها المدفون
وعلمت ما أخفوا كأنّ قلوبهم ... أفضت إليك بسرها المخزون
فهوت نجوم سعودهم وقضى لهم ... بالنحس طائر جدّك الميمون
وأما قصيدته الثانية فهي «1» :
حتّام أرضى في هواك وتغضب ... وإلى متى تجني عليّ وتعتب
ما كان لي لولا ملالك زلة ... لما مللت زعمت أني مذنب(6/2562)
خذ في أفانين الصدود فإن لي ... قلبا على العلّات لا يتقلب
أتظنني أضمرت يوما سلوة ... هيهات عطفك من سلوّي أقرب
لي فيك نار جوانح ما تنطفي ... شوقا وماء مدامع لا ينضب
أنسيت أياما لنا ولياليا ... للهو فيها والخلاعة ملعب
أيام لا الواشي يشي بتولّهي ... بك للرقيب ولا العذول يؤنب
قد كنت تنصفني المودة راكبا ... في الحبّ من أخطاره ما أركب
واليوم أقنع أن يمرّ بمضجعي ... في النوم طيف خيالك المتأوب
قالت وريعت من بياض مفارقي ... ونحول جسمي بان عنك الأطيب
إن تنقمي سقمي فخصرك ناحل ... أو تنكري شيبي فثغرك أشنب
يا طالبا بعد المشيب غضارة ... من عيشه ذهب الزمان المذهب
أتروم بعد الأربعين تعدّها ... وصل الدمى هيهات عزّ المطلب
لولا الهوى العذريّ يا دار الهوى ... ما هاج لي ذكراك برق خلّب
كلا ولا استسقيت للطلل الحيا ... وندى صلاح الدين هام صيّب
ثم مضى في المدح فأجاد وأحسن.
وأما الثالثة فنكتفي بإيراد أبيات من مديحها قال «1» :
فلا يضجرنك ازدحام الوفود ... عليك وكثرة ما تبذل
فإنك في زمن ليس فيه ... جواد سواك ولا مفضل
وقد قلّ في أهله المنعمون ... وقد كثر البائس المرمل
وما فيه غيرك من يستماح ... وما فيه إلّاك من يسأل
وقال من قصيدة يندب بصره «2» :
لقد رمتني رميت بالأذى ... بنكبة قاصمة الظهر(6/2563)
وأوترت في مقلة قلما ... علمتها باتت على وتر
جوهرة كنت ضنينا بها ... نفيسة القيمة والقدر
إن أنا لم أبك عليها دما ... فضلا عن الدمع فما عذري
ما لي لا أبكي على فقدها ... بكاء خنساء على صخر
وقال أيضا في ذلك من أبيات «1» :
حالان مستني الحوا ... دث منهما بفجيعتين
إظلام عين في ضيا ... ء من مشيب سرمدين
صبح وإمساء معا ... لا خلفة فاعجب لذين
قد رحت في الدنيا من ال ... سراء صفر الراحتين
أسوان لا حيّ ولا ... ميت كهمزة بين بين
وقال أيضا في ذلك من أبيات «2» :
فها أنا كالمقبور في كسر منزلي ... سواء صباحي عنده ومسائي
يرقّ ويبكي حاسدي لي رحمة ... وبعدا لها من رقة وبكاء
وقال في الشيخوخة «3» :
من شبه العمر بالكاس يرسو ... قذاه ويرسب في أسفله
فإني رأيت القذا طافيا ... على صفحة الكاس من أوله
وقال في الهرم أيضا «4» :
وعلوّ السنّ قد كسّ ... ر بالشيب نشاطي
كيف سمّوه علّوا ... وهو أخذ في انحطاط
وقال في ذلك أيضا «5» :(6/2564)
أسفت وقد نفت عنّي الليالي ... جديدا من شباب مستعار
وكان يقيم عذري في زمان ال ... صبا لون الشبيبة في عذاري
ولم أكره بياض الشيب الا ... لأن العيب يظهر في النهار
وقال أيضا «1» :
سقاك سار من الوسميّ هتّان ... ولا رقت للغوادي فيك أجفان
يا دار لهوي وأطرابي ومعهد أت ... رابي وللهو أوطار وأوطان
أعائد لي ماض من جديد هوى ... أبليته وشباب فيك فينان
إذ الرقيب لنا عين مساعدة ... والكاشحون لنا في الحبّ أعوان
وإذ جميلة توليني الجميل وعن ... د الغانيات وراء الحسن إحسان
ولي إلى البان من رمل الحمى طرب ... فاليوم لا الرمل يصبيني ولا البان
وما عسى يدرك المشتاق من وطر ... إذا بكى الربع والأحباب قد بانوا
إن المغاني معان والمنازل أم ... وات إذا لم يكن فيهنّ سكان
لله كم قمرت لبي بجوك أق ... مار وكم غازلتني فيك غزلان
وليلة بات يجلو الراح من يده ... فيها أغنّ خفيف الروح جذلان
خال من الهمّ في خلخاله حرج ... فقلبه فارغ والقلب ملآن
يذكي الجوى بارد من ريقه شبم ... ويوقد الظرف طرف منه وسنان
ان يمس ريان من ماء الشباب فلي ... قلب إلى ريقه المعسول ظمآن
بين السيوف وعينيه مشاركة ... من أجلها قيل للأغماد أجفان
فكيف أصحو غراما أو أفيق جوى ... وقدّه ثمل بالتيه نشوان
أفديه من غادر بالعهد غادرني ... صدوده ودموعي فيه غدران
في خدّه وثناياه ومقلته ... وفي عذاريه للعشّاق بستان
شقائق وأقاح نبته خضل ... ونرجس أنا منه الدهر سكران(6/2565)
وكان له راتب في الديوان فلما عمي طلب أن يجعل باسم أولاده، ثم كتب هذه القصيدة ورفعها إلى الخليفة الناصر التمس بها تجديد راتب مدة حياته «1» :
خليفة الله أنت بالدين وال ... دنيا وأمر الاسلام مضطلع
أنت لما سنّه الأئمة أع ... لام الهدى مقتف ومتبع
قد عدم العدم في زمانك وال ... جور معا والخلاف والبدع
فالناس في الشرع والسياسة وال ... إحسان والعدل كلهم شرع
يا ملكا يردع الحوادث وال ... أيام عن ظلمها فترتدع
ومن له أنعم مكرّرة ... لنا مصيف منها ومرتبع
أرضي قد أجدبت وليس لمن ... أجدب يوما سواك منتجع
ولي عيال لا درّ درّهم ... قد أكلوا دهرهم وما شبعوا
إذا رأوني ذا ثروة جلسوا ... حولي ومالوا إليّ واجتمعوا
وطالما قطّعوا حبالي اع ... راضا إذا لم تكن معي قطع
يمشون حولي شتّى كأنهم ... عقارب كلما سعوا لسعوا
فمنهم الطفل والمراهق وال ... رضيع يحبو والكهل واليفع
لا قارح منهم أؤمل أن ... ينالني خيره ولا جذع
لهم حلوق تفضي إلى معد ... تحمل في الأكل فوق ما تسع
من كل رحب المعاء أجوف نا ... ريّ الحشا لا يمسّه الشبع
لا يحسن المضغ فهو يترك في ... فيه بلا كلفة ويبتلع
ولي حديث يلهي ويعجب من ... يوسع لي خلقه ويستمع
نقلت رسمي جهلا إلى ولد ... لست بهم ما حييت أنتفع
نظرت في نفعهم وما أنا في اج ... تلاب نفع الأولاد مبتدع
وقلت هذا بعدي يكون لكم ... فما أطاعوا أمري ولا سمعوا(6/2566)
واختلسوه مني فما تركوا ... عيني عليه ولا يدي تقع
فبئس والله ما صنعت فأض ... ررت بنفسي وبئس ما صنعوا
فإن أردتم أمرا يزول به ال ... خصام من بيننا ويرتفع
فاستأنفوا لي رسما أعود على ... ضنك معاشي به فيتسع
وان زعمتم أني أتيت بها ... خديعة فالكريم ينخدع
حاشا لرسم الكريم ينسخ من ... نسخ دواوينكم فينقطع
فوقّعوا لي بما سألت فقد ... أطمعت نفسي واستحكم الطمع
ولا تطيلوا معي فلست ولو ... دفعتموني بالراح أندفع
وحلفوني أن لا تعود يدي ... ترفع في نقله ولا تضع
وكل شعر أبي الفتح غرر، وديوانه كبير يدخل في مجلدين جمعه بنفسه قبل أن يضر، وافتتحه بخطبة لطيفة، ورتبه على أربعة أبواب، وما حدث من شعره بعد العمى سماه الزيادات، وهي ملحقة ببعض نسخ ديوانه المتداولة، وبعض النسخ خلو منها، وله كتاب سماه «الحجبة والحجاب» في مجلد كبير، ونسخه قليلة.
ولد أبو الفتح ابن التعاويذي في اليوم العاشر من رجب سنة تسع عشرة وخمسمائة وتوفي في ثاني شوال سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة ببغداد ودفن في مقبرة باب أبرز.
[1076] محمد بن عبيد الله بن أحمد بن ادريس
المسبحي الحراني الأمير المختار عز الملك الكاتب المؤرخ المصري: (ذكره ياقوت في معجم الأدباء وقال) : كانت له عناية بالتواريخ تامة، وكتابه في ذلك من أحسن الكتب وأبسطها وأتقنها، وهو كتاب كبير نحو ثلاثين مجلدة، قال: ووقفت على شيء منه فاستحسنته وكتبت منه.
__________
[1076] ترجمة المسبحي في ابن خلكان 4: 377 واللباب (المسبحي) والمغرب (قسم مصر) 1: 264 وعبر الذهبي 3: 139 والوافي 4: 7 والنجوم الزاهرة 4: 271 والشذرات 3: 215 وحسن المحاضرة 1: 248 وتاج العروس (سبح) وتلخيص معجم الألقاب، الجزء الخامس، الترجمة رقم 928 وعنه أثبت ترجمته، وما بين معقفين زيادة من الوافي (وهو من مستدركات مصطفى جواد- الضائع: 159) .(6/2567)
وله كتاب السؤال والجواب. وكتاب السجن والسكن. وكتاب الراح والارتياح.
وكتاب سيرة الحاكم. [وكتاب التلويح والتصريح في الشعر، وهو مائة كراسة. ودرك البغية في وصف الأديان والعبادات في ثلاثة آلاف وخمسمائة ورقة. وأصناف الجماع، ألف ومائتا ورقة. والقضايا الصائبة في معاني أحكام النجوم، ثلاثة آلاف ورقة. وكتاب الغرق والشرق في ذكر من مات غرقا أو شرقا، مائتا ورقة. وكتاب الطعام والادام، ألف ورقة. وقصص الأنبياء عليهم السلام، ألف وخمسمائة ورقة.
وجونة الماشطة، يتضمن غرائب الأخبار والأشعار والنوادر التي لم يتكرر مرورها على الأسماع، ألف ومائة ورقة. ومختار الأغاني ومعانيها وغير ذلك.
ومن شعره:
ألا في سبيل الله قلب تقطعا ... وفادحة لم تبق للعين مدمعا
أصبرا وقد حلّ الثرى من أوده ... فلله همّ ما أشدّ وأوجعا
فيا ليتني للموت قدمت قبلها ... وإلا فليت الموت أذهبنا معا
وتولى القيس والبهنسا من الصعيد، ثم تولى ديوان الترتيب. وله مع الحاكم مجالس ومحاضرات يشهد بها تاريخه الكبير. ولد سنة ست وستين، وتوفي سنة عشرين وأربعمائة] .
[1077] محمد بن عبدوس الجهشياري:
هو أحد الكتاب الأخباريين المترسلين، وله من الكتب كتاب الوزراء والكتاب. كتاب ميزان الشعر والاشتمال على أنواع العروض؛ وكان فاضلا مداخلا للدول، مات في بغداد سنة احدى وثلاثين وثلاثمائة مستترا واستتر أولاده وحاشيته، وكان حاجبا بين يدي أبي الحسن علي بن عيسى بن داود الجراح.
__________
[1077] ترجمة الجهشياري في الفهرست: 141 والوافي 3: 205 (وعنهما أخذت ما أثبته هنا) والنجوم الزاهرة 3: 279 ومقدمة كتاب الوزراء والكتاب؛ وقد ذكره ياقوت في ترجمة أحمد بن أحمد المعروف بابن أخي الشافعي.. وقال: والجهشياري هذا ذكر في بابه أي أنه خصه بترجمة في معجم الأدباء (الضائع: 156) .(6/2568)
قال صاحب الفهرست: ابتدأ الجهشياري بتأليف كتاب اختار فيه الف سمر من أسمار العرب والعجم والروم وغيرهم، كل خبر قائم بذاته لا تعلق له بغيره، وأحضر المسامرين وأخذ عنهم أحسن ما يعرفون، واختار من الكتب المصنفة في الأسمار والخرافات ما يحلو بنفسه من تتمة ألف سمر، ورأيت من ذلك عدة أجزاء بخط أبي الطيب المعروف بابن أخي الشافعي ... أما نسبته الى جهشيار فإن أباه كان يخدم أبا الحسن علي بن جهشيار القائد حاجب الموفق، وكان خصيصا به فنسب إليه.
[1078] محمد بن عثمان بن بلبل أبو عبد الله:
لغويّ نحوي صحب السيرافي والفارسي وروى عنه كتابه «الحجة في القراءات» وسمعه منه ابن بشران النحوي، وقرأ على ابن خالويه، وبرع في الشعر والأدب، وتوفي يوم الجمعة لسبع بقين من رمضان سنة عشر وأربعمائة، ومن شعره يمدح الوزير سابور:
أضحى الرجاء لبرق جودك شائما ... وارتاد روض الحمد وهفا ناعما
سميت نفسي اذ رجوتك واثقا ... ودعوتها لك مذ خدمتك خادما
فمتى أقوم بشكر نعمتك التي ... عقدت عليّ من الخطوب تمائما
لا زال جدّك للعدوّ مزاحما ... يعلو وآناف البغاة رواغما
[1079] محمد بن عثمان بن مسبّح أبو بكر
المعروف بالجعد الشيباني النحوي: أحد أصحاب أبي الحسن ابن كيسان: كان من العقلاء الفضلاء، مقدما في النحو واللغة
__________
[1078] ترجمة ابن بلبل في الوافي 4: 84 وبغية الوعاة 1: 170.
[1079] ترجمة الجعد الشيباني في الفهرست: 90 وتاريخ بغداد 3: 47 والوافي 4: 82 وبغية الوعاة 1: 171 وإنباه الرواة 1: 269 (الجعد) .(6/2569)
والأدب، وله من الكتب: كتاب الألفات. والناسخ والمنسوخ. كتاب معاني القرآن.
كتاب القراءات. المختصر في النحو. كتاب الهجاء. كتاب المقصور والممدود.
كتاب المذكر والمؤنث. كتاب العروض. كتاب خلق الانسان. كتاب الفرق.
مات سنة نيف وعشرين وثلاثمائة.
[1080] محمد بن علي بن ابراهيم بن زبرج
أبو منصور بن أبي البقاء العتابي البغدادي: قرأ النحو على أبي السعادات هبة الله بن علي بن الشجري، واللغة على أبي منصور موهوب بن أحمد الجواليقي، وسمع الحديث من جده لأمه أبي العباس أحمد بن القاسم بن قريش وأبي القاسم هبة الله بن الحصين وأبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري. سمع منه القاضي أبو المحاسن عمر بن علي بن الخضر القرشي وأبو المفاخر محمد بن محفوظ الجرباذقاني وعبد الرحمن بن يعيش بن سعدان القواريري. كان إماما في النحو والعلوم العربية، وتصدر للاقراء، وكتب الخط المليح مع الصحة والضبط، وكان بينه وبين أبي محمد ابن الخشاب البغدادي النحوي منافرات ومناظرات، ولد في ربيع الأول سنة أربع وثمانين وأربعمائة ومات يوم الثلاثاء خامس عشر جمادى الأولى سنة ست وخمسين وخمسمائة.
[1081] محمد بن علي بن أحمد الأدفوي
المصري النحوي المفسر أبو بكر: أصله من أدفو، مدينة من مدن صعيد مصر في آخره قريب من أسوان؛ سكن مصر، وكان صالحا يرتزق من معيشته، وكان خشابا، وصحب أبا جعفر النحاس المصري وأخذ
__________
[1080] ترجمة ابن زبرج في ابن خلكان 4: 389 وإنباه الرواة 3: 188 ومختصر ابن الدبيثي 1: 88 والوافي 4: 152 وبغية الوعاة 1: 173.
[1081] ترجمة الأدفوي في إنباه الرواة 3: 186 والوافي 4: 117 وبغية الوعاة 1: 189 وطبقات ابن الجزري 2: 198 وطبقات المفسرين للسيوطي وطبقات الداودي 2: 535 وقد نقلت ما أوردته هنا عن إنباه الرواة موجزا؛ (والأدفوي من مستدركات مصطفى جواد، انظر الضائع: 159) وانظر المقفى 6: 249.(6/2570)
عنه وأكثر، وروى كل تصانيفه، وأخذ عن غيره من أهل العلم والقرآن والحديث والعربية. وكان سيد أهل عصره في مصره وغير مصره، وقرأ عليه الأجلاء، واعتاد على مجلسه الرؤساء والفضلاء، وصنف في التفسير كتبا مفيدة، منها كتابه «الاستغناء» وهو أكبر كتاب صنف في التفسير، جمع فيه من العلوم ما لم يجتمع بغيره ...
وكانت وفاته يوم الخميس لثمان بقين من ربيع الأول سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
[1082] محمد بن علي بن أحمد، أبو عبيد الله
الحلي المعروف بابن حميدة النحوي: كانت له معرفة جيدة بالنحو واللغة، قرأ على أبي محمد ابن الخشاب البغدادي ولازمه حتى برع في علم العربية، وصنف كتبا منها شرح أبيات الجمل لأبي بكر ابن السراج. شرح اللمع لابن جني. وشرح المقامات الحريرية. وكتاب التصريف. والروضة في النحو. والأدوات في النحو أيضا. وكتاب الفرق بين الضاد والظاء. ومولده سنة ست وثمانين وأربعمائة ومات سنة خمسين وخمسمائة. أنشدني أبو الحسن علي بن نصر بن هارون الحلي قال: أنشدني محمد بن علي بن حميدة الحلي لنفسه:
سلام على تلك المعاهد والربى ... وأهلا بأرباب القباب ومرحبا
وسقيا لربات الحجال وأهلها ... ورعيا لأرباب الخدور بيثربا
أحنّ لتياك الحجال وان غدت ... ربائبها تبدي إليّ التجنبا
وأصبو لربع العامرية كلّما ... تذكرت من جرعائها لي ملعبا
فلا همّ إلا دون همّي غدوة ... إذا جرت النكباء أو هبّت الصّبا
__________
[1082] ترجمة ابن حميدة النحوي في إنباه الرواة 3: 185 والوافي 4: 153 وبغية الوعاة 1: 173.(6/2571)
[1083] محمد بن أبي سارة علي، أبو جعفر الرؤاسي
ابن أخي معاذ الهراء: سمي الرؤاسي لعظم رأسه، كان إماما في النحو بارعا في العربية، وهو أستاذ أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي.
قال أبو محمد درستويه: زعم أبو العباس ابن يحيى ثعلب أن أول من وضع من الكوفيين كتابا في النحو أبو جعفر الرؤاسي، وكان يقول: كان الرؤاسي أستاذ الكسائي والفراء. وقال أبو زكريا يحيى بن زياد الفراء «1» : لما خرج الكسائي إلى بغداد قال لي الرؤاسي: قد خرج الكسائي إلى بغداد وأنت أميز منه، فجئت إلى بغداد فرأيت الكسائي، فسألته عن مسائل الرؤاسي فأجابني بخلاف ما عندي، فغمزت قوما من علماء الكوفيين كانوا معي فقال الكسائي: ما لك قد أنكرت؟ لعلك من أهل الكوفة؟
فقلت: نعم، فقال: الرؤاسي يقول كذا وكذا وليس صوابا، فقد سمعت العرب تقول كذا وكذا حتى أتى على مسائل فلزمته.
وحكي عن الرؤاسي أنه قال «2» : أرسل إلي الخليل بن أحمد يطلب كتابي فبعثته إليه فقرأه ووضع كتابه.
وكان أبو جعفر الرؤاسي رجلا صالحا ورعا، وله تصانيف كثيرة منها: كتاب معاني القرآن. كتاب الوقف والابتداء الكبير. كتاب الوقف والابتداء الصغير.
والفيصل في العربية. وكتاب التصغير، وغير ذلك.
[1084] محمد بن علي بن إسماعيل العسكري أبو بكر
المعروف بمبرمان النحوي:
__________
[1083] ترجمة الرؤاسي في بغية الوعاة 1: 109 (وسماه محمد بن سارة وفي موضع آخر محمد بن الحسن بن سارة) وقد مرت هذه الترجمة رقم 1027 واستكمل تخريجهاهنالك.
[1084] ترجمة مبرمان في طبقات الزبيدي: 114 والفهرست: 66 وإنباه الرواة 3: 189 والوافي 4: 108 وبغية الوعاة 1: 175 ومراتب النحويين: 35 وأخبار النحويين البصريين: 108 وعبر الذهبي 2: 209(6/2572)
أخذ عن المبرد وعن أبي إسحاق إبراهيم الزجاج وأكثر عنه، وأخذ عنه أبو سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي وأبو علي الفارسي، وكان إماما في النحو قيما به، وكان مع علمه وفضله سخيفا إذا أراد أن يمضي لمصلحة طرح نفسه في طبق حمّال وشدّه بحبل، وربما كان معه ما يتنقّل به نحو نبق وغيره، فيأكل ويرمي الناس بالنوى يتعمد رؤوسهم، وربما بال على رأس الحمال، فإذا قيل له في ذلك اعتذر. وقال بعض معاصريه يهجوه «1» :
صداع من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيان
مكابرة ومخرقة وبهت ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
وكان [ابن] المبرد يقول: تلاميذ أبي رجلان أحدهما الكلاباذي يقرأ على أبي ثم يقول قال المازني فيعلو، والآخر مبرمان يقرأ عليه ثم يقول قال الزجاج فيسفل.
وكان أبو بكر مبرمان ضنينا بالقراءة عليه لا يقرىء كتاب سيبويه إلا بمائة دينار، فقصده أبو هاشم الجبائي لقراءة الكتاب عليه، فقال له مبرمان: قد عرفت الرسم، فقال أبو هاشم: نعم ولكن أسألك النظرة وأحمل إليك شيئا يساوي أضعاف الرسم فأودعه عندك إلى أن يصل إليّ مال لي في بغداد فأحمله إليك واستردّ الوديعة، فتمنع قليلا ثم أجابه، فعمد أبو هاشم إلى زنفيلجة حسنة مغشّاة بالأدم محلاة فملأها حجارة وقفلها وختمها وحملها إلى مبرمان فوضعها بين يديه، فلما رأى منظرها وثقلها لم يشكّ في حقيقة ما ذكره، فوضعها عنده وأخذ عنه، فلما ختم الكتاب قال له المبرمان:
احمل إليّ ما لي قبلك، فقال: أنفذ معي غلامك حتى أدفع إليه الرسم، فأنفذ معه إلى منزله، فلما جاء أبو هاشم إلى بيته كتب إلى مبرمان رقعة يقول فيها: قد تأخر حضور المال وأرهقني السفر وقد أبحت لك التصرف في الزنفيلجة، وهذا خطي لك
__________
وإشارة التعيين: 330 ومرآة الجنان 2: 289 وتاريخ أبي المحاسن: 49 (ووفاته عند القفطي سنة 326 أو قريب منها) .(6/2573)
حجة بذلك، وخرج أبو هاشم لوقته إلى البصرة ومنها إلى بغداد، فلما وصلت الرقعة إلى مبرمان استدعى بالزنفيلجة وفتحها فإذا فيها حجارة، فقال: سخر منا أبو هاشم لا حيّاه الله واحتال عليّ بما لم يتمّ لغيره.
ولمبرمان من الكتب: شرح كتاب سيبويه لم يتم. وشرح شواهد سيبويه.
كتاب المجموع على العلل. والتلقين في النحو. والمجاري. كتاب صفة شكر المنعم. وشرح كتاب الأخفش، وغير ذلك. توفي سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
[1085] محمد بن علي بن الحسن بن مقلة الوزير أبو علي
صاحب الخط المنسوب: ولي بعض أعمال فارس وتنقلت به الأعمال والأحوال حتى وزر للمقتدر سنة ست عشرة، فقبض عليه بعد عامين وصادره ونفاه إلى فارس، ثم استوزره القاهر بالله ونكبه، ثم وزر للراضي قليلا وأمسكه سنة أربع وعشرين وضرب بالسياط وعلق وصودر وأخذ خطه بألف ألف دينار ثم تخلص. ثم ان ابن رائق لما تمكن احتاط على ضياعه وأملاكه فكتب ابن مقلة إلى الراضي أنه إن مكن من ابن رائق خلص منه ثلاثة آلاف ألف دينار فأجابه، فلما حضر إليه حبسه، واطلع ابن رائق على الخبر فقطع يده وحبسه، فندم الراضي وداواه، فكان ينوح على يده ويبكي ويقول: كتبت بها القرآن وخدمت بها الخلفاء تقطع مثل اللصوص؟! وكان يشد القلم على يده ويكتب، فأخذ يراسل الراضي ويطمعه في الأموال، فلما قرب بجكم أحد خواص ابن رائق من بغداد أمر ابن رائق بقطع لسان ابن مقلة، فقطع ولحقه ذرب ومات في السجن سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة اثنتين وسبعين ومائتين.
__________
[1085] ذكره ياقوت في ترجمة أخيه الحسن بن مقلة (رقم: 330) وقال: ولأخيه أبي علي محمد ترجمة في باب مفرد لما اشترطنا في ذكر أرباب الخطوط المنسوبة. وترجمة الوزير في ابن خلكان 5: 113 ويتيمة الدهر 3: 100 وابن أبي أصيبعة 1: 224 وله أخبار كثيرة في الكتب التاريخية كالمنتظم 6: 309 والكامل لابن الأثير 8: 183 وعبر الذهبي 2: 211 وسير الذهبي 15: 224 والوافي 4: 109 ومرآة الجنان 2: 291 والبداية والنهاية 11: 195 والنجوم الزاهرة 3: 268 والشذرات 2: 310 وتحفة أولي الألباب: 43 وثمار القلوب: 210 ورسالة في الكتابة للتوحيدي (وهذه الترجمة عن الوافي) وانظر الضائع: 161.(6/2574)
وقال أبو الحسن ثابت بن قرة الطبيب: كنت أدخل إليه السجن فيشكو إلي فأعزيه وأقول: هذا انتهاء المكروه وخاتمة القطوع، فينشدني:
إذا ما مات بعضك فابك بعضا ... فإن البعض من بعض قريب
ومن شعره في يده:
ما سئمت الحياة لكن توثّق ... ت بأيمانهم فبانت يميني
بعت ديني لهم بدنياي حتى ... حرموني دنياهم بعد ديني
ولقد حطت ما استطعت بجهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمين لذّة عيش ... يا حياتي بانت يميني فبيني
ومن شعره:
وإذا رأيت فتى بأعلى رتبة ... في شامخ من عزّه المتمنّع
قالت لي النفس العروف بقدرها ... ما كان أولاني بهذا الموضع
ومن شعره:
لست ذا ذلّة إذا عضّني الده ... ر ولا شامخا إذا واتاني
انا نار في مرتقى نفس الحا ... سد ماء جار مع الإخوان
وابن مقلة هذا أول من نقل هذه الطريقة من خطّ الكوفيين إلى هذه الصورة.
وممن مدحه من الشعراء ابن الرومي الشاعر وله فيه القصيدة التي منها:
كذا قضى الله للأقلام مذ بريت ... انّ السيوف لها مذ أرهفت خدم
وفيه قال الشاعر:
وقالوا العزل للوزراء حيض ... لحاه الله من حيض بغيض
ولكنّ الوزير أبا عليّ ... من اللائي يئسن من المحيض
ومن العجائب ان الوزير ابن مقلة تقلّد الوزارة ثلاث مرات وسافر في عمره ثلاث مرات واحدة إلى الموصل واثنتين في النفي إلى شيراز ودفن بعد موته ثلاث مرات في ثلاثة مواضع. ومن شعره:
أحببت شكوى العين من أجلها ... لأنّها تستر وجدي بها(6/2575)
كنت إذا أرسلت لي دمعة ... قال أناس ذاك من حبّها
فصرت أبكي الآن مسترسلا ... أحيل بالدمع على سكبها
وقال بعضهم يرثيه:
استشعر الكتّاب فقدك سالفا ... وقضت بصحّة ذلك الأيام
فلذاك سوّدت الدويّ كآبة ... أسفا عليك وشقّت الأقلام
ومات في السجن وله ستون سنة وباشر الأعمال وهو ابن ست عشرة سنة، وكان لا بدّ أن يشرب بعد صلاة الجمعة ويصطبح يوم السبت ويشترى له كلّ جمعة فاكهة بخمسمائة دينار «1» .
[1086] محمد بن علي بن الحسين بن عمر أبو الحسن
بن أبي الصقر الواسطي:
كان فقيها أديبا شاعرا، تفقه في بغداد على أبي إسحاق الشيرازي وعلق عنه تعليقات، وسمع منه ومن أبي بكر الخطيب وأبي سعد المتولي، وروى عنه أبو غالب الذهلي والحافظ محمد بن ناصر الدين وأبو منصور موهوب الجواليقي وغيرهم. وكان شديد التعصب لمذهب الإمام الشافعي وظهر ذلك في قصائده المعروفة بالشافعية، وغلب عليه الأدب والشعر فبرع فيهما، وجود الخط فبلغ فيه الغاية، وجمع ديوانه في مجلد، ومن شعره:
من عارض الله في مشيئته ... فما لديه من بطشه خبر
لا يقدر الخلق باجتهادهم ... إلا على ما جرى به القدر
وقال أيضا:
كلّ رزق ترجوه من مخلوق ... يعتريه ضرب من التعويق
__________
[1086] ترجمة ابن أبي الصقر الواسطي في المنتظم 9: 145 والوافي 4: 142 وابن خلكان 4: 450 والبدر السافر، الورقة: 132 وطبقات السبكي 4: 191 والنجوم الزاهرة 5: 191.(6/2576)
وأنا قائل وأستغفر الل ... هـ مقال المجاز لا التحقيق
لست أرضى من فعل إبليس شيئا ... غير ترك السجود للمخلوق
وقال:
من قال لي جاه ولي حشمة ... ولي قبول عند مولانا
ولم يعد ذاك بنفع على ... صديقه لا كان من كانا
وقال وقد طعن في السن وعجز عن المشي:
كل مرء إذا تفكرت فيه ... أو تأملته رأيت ظريفا
كنت أمشي على اثنتين قويا ... صرت أمشي على ثلاث ضعيفا
وحضر عزاء طفل وهو يرتعش من الكبر، فتغامز عليه الحاضرون يشيرون إلى موت الطفل وطول حياته مع هذه السن، ففطن لهم وقال:
إذا دخل الشيخ بين الشباب ... عزاء وقد مات طفل صغير
رأيت اعتراضا على الله إذ ... توفّي الصغير وعاش الكبير
فقل لابن شهر وقل لابن دهر ... وما بين ذلك هذا المصير
وقال أيضا:
علة سمّيت ثمانين عاما ... منعتني للاصدقاء القياما
فإذا عمّروا تمهّد عذري ... عندهم بالذي ذكرت وقاما
وقال:
ابن أبي الصقر افتكر ... وقال في حال الكبر
والله لولا بولة ... تحرقني وقت السحر
لما ذكرت أنّ لي ... ما بين فخذيّ ذكر
وقال:
وحرمة الودّ ما لي عندكم عوض ... لأنني ليس لي في غيركم غرض
أشتاقكم وبودي لو يواصلني ... لكم خيال ولكن لست أغتمض
وقد شرطت على صحب صحبتهم ... بأن قلبي لكم من دونهم فرضوا(6/2577)
ومن حديثي بكم قالوا به مرض ... فقلت لا زال عني ذلك المرض
وقال:
ولما إلى عشر تسعين صرت ... وما لي إليها أب قبل صارا
تيقنت أني مستبدل ... بداري دارا وبالجار جارا
فتبت إلى الله مما مضى ... ولن يدخل الله من تاب نارا
وكان مولد ابن أبي الصقر في ذي القعدة سنة تسع وأربعمائة وتوفي يوم الخميس رابع عشر جمادى الأولى سنة ثمان وستين وأربعمائة.
[1087] محمد بن علي بن عمر أبو منصور بن الجبّان:
أحد حسنات الريّ وعلمائها الأعيان، جيد المعرفة باللغة باقعة الوقت وفرد الدهر وبحر العلم وروضة الأدب، تصانيفه سائرة في الآفاق، كان من ندماء الصاحب ابن عباد ثم استوحش منه.
وصنف ابنية الأفعال. وشرح الفصيح «1» . والشامل في اللغة، قرىء عليه في سنة ست عشرة وأربعمائة.
قال ابن منده: قدم أصبهان فتكلم فيه من قبل مذهبه وقرىء عليه «مسند» الروياني بسماعه من جعفر بن فناكي، وابتلي بحبّ غلام يقال له البركاني، فاتفق أن الغلام حجّ فلم يجد بدا من مرافقته فلما أحرم قال: اللهم لبيك اللهم لبيك، والبركاني ساقني إليك. وابتلي بفراقه وبرّح به فكتب إليه:
يا وحشتي لفراقكم ... أترى يدوم عليّ هذا
الموت والأجل المتا ... ح وكان معضلة ولا ذا
ومن كلامه: قياسات النحو تتوقف ولا تطّرد كقميص له جربّانات فصاحبه كلّ ساعة يخرج رأسه من جربانه.
__________
[1087] ترجمة ابن الجبان في إنباه الرواة 3: 194 والوافي 4: 180 وبغية الوعاة 1: 185.(6/2578)
ومن تصانيفه أيضا كتاب سماه «انتهاز الفرص في تفسير المقلوب من كلام العرب» قرأه عليه عبد الواحد بن برهان.
ومن شعره يمدح الصاحب ابن عباد:
ليهنك الأهنآن الملك والعمر ... ما سيّر الأسيران: الشعر والسمر
وطال عمر سناك المستضاء به ... ما عمّر الأبقيان: الكتب والسير
يفدي الورى كلهم كافي الكفاة فقد ... صفا به الأفضلان: العدل والنظر
له مكارم لا تحصى محاسنها ... أيحسب الأكثران: الرمل والشجر
لكيده النصر من دون الحسام وان ... تمرد الأشجعان: الترك والخزر
ما سار موكبه إلا ويخدمه ... في سيره الأشبهان «1» : الفتح والظفر
وان أمرّ على طرس أنامله ... أغضى له الأبهجان: الوشي والزهر
دامت تقبّلها صيد الملوك كما ... يقبّل الأكرمان: الركن والحجر
[1088] محمد بن علي [بن محمد] أبو سهل الهروي
النحوي اللغوي: ولد في رمضان سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة، وأخذ عن صاحب الغريبين أبي عبيد أحمد بن محمد الهروي، وروى عنه وعن أبي يعقوب النجيرمي وأبي أسامة جنادة بن محمد النحوي رئيس المؤذنين بجامع عمرو.
وله من الكتب شرح الفصيح. ومختصره. وكتاب أسماء الأسد. كتاب أسماء السيف. مات بمصر يوم الأحد ثالث المحرم سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
__________
[1088] ترجمة أبي سهل الهروي في إنباه الرواة 3: 195 والوافي 4: 120 وبغية الوعاة 1: 190 وقال الصفدي: كان رئيس المؤذنين بجامع عمرو بن العاص بمصر، وشرحه للفصيح سماه الأسفار استوفى فيه واستقصى ثم اختصره وسماه التلويح في شرح الفصيح، أما كتابه أسماء الأسد فجزء ضخم في نحو ثلاثين كراسة، وانظر المقفى 6: 355.(6/2579)
[1089] محمد بن علي أبو بكر المراغي النحوي:
قرأ على أبي إسحاق إبراهيم الزجاج، وكان عالما أديبا أقام بالموصل زمنا طويلا. وله من الكتب المختصر في النحو. وشرح شواهد الكتاب (كتاب سيبويه) .
[1090] محمد بن علي أبو الحسن الدقيقي النحوي:
ولد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، أخذ عن أبي الحسن الرماني وغيره. وصنف المرشد في النحو. وكتاب المسموع من كلام العرب، وغير ذلك.
[1091] محمد بن علي بن أبي مروان الأموي
ابن أخي المستنصر بالله الحكم بن عبد الرحمن الخليفة المرواني بالأندلس: كان أديبا فاضلا شاعرا، ومن شعره:
كم تصاب أردفته بتصاب ... واصطباح وصلته باغتباق
وكؤوس أعطيتها بدر تم ... جلّ أن يعتريه نقص المحاق
وغصون جنيت منها ثمارا ... لم يشنها تساقط الأوراق
زمن لو بكيته حسب وجدي ... كنت أبكيه من دم الأحداق
وقال:
قد رضيت الهوى لنفسي خلّا ... ورأيت الممات في الحبّ سهلا
وتذللت للحبيب وعزّ ال ... صبّ في سنّة الهوى أن يذلا
__________
[1089] ترجمة المراغي في الفهرست: 94 وإنباه الرواة 3: 196 والوافي 4: 121 وبغية الوعاة 1: 196.
[1090] ترجمة الدقيقي في الوافي 4: 179 وبغية الوعاة 1: 179.
[1091] هذه ترجمة غريبة ولا أدري من أين جاء بها ياقوت، والأشعار التي أوردها لم أجدها في المصادر الأندلسية.(6/2580)
بأبي من أحلّ قتلي عمدا ... ومباح لسيدي ما استحلا
سوف أجزي الحبيب بالصدّ ودّا ... مستجدا وبالقطيعة وصلا
وإذا ما استزاد تيها وعجبا ... زدت طوعا له خضوعا وذلا
وقال:
تبدت بأكناف الحجاز ديارها ... فأوقد نار الوجد في القلب نارها
كأنّ بأنفاسي استمدت ضرامها ... وعن كبدي الحرّى تلظى استعارها
يحنّ إليها القلب حتى كأنما ... إليه تناهيها ومنه انتشارها
وقال:
لئن وعدتني وصلها وعد عاتب ... يجاحدني وعدي وينكرني حقّي
فأفضل صوب الغيث في الأرض دافق ... وأبلغه ما جاء بالرعد والبرق
فان مانعتني فضل إنجاز موعد ... فان الحيا الممنوع أشهى إلى الخلق
فلا كان لي في الأرض رزق أناله ... إذا لم يكن في نيل موعدها رزقي
وقال:
ومختطف للعين بتّ أشيمه ... مخالسة والليل حيران مطرق
سرى يخبط الظلماء حتى كأنه ... بوجدي يسري أو بقلبي يخفق
وقال:
غير مستنكر همول دموعي ... في التصابي وغير بدع خشوعي
ليس عزّي إلا فناء اعتزازي ... وارتقائي إلا بقاء خضوعي
وبحسبي أني ألاقي عذولي ... باصطبار عاص ودمع مطيع
وقال:
ولما حمى الشوق المبرح ناظري ... كراه حذارا أن يريني مثاله
شربت عقارا أفكرتني بريقه ... ونشوتها أهدت إليّ خياله
فيا نشوة كانت على الصبّ نعمة ... أنالت يدي ما لم أؤمل نواله(6/2581)
وقال:
راجعه شوقه فحنّا ... وشفّه شجوه فأنّا
وسال من دمعه مصون ... أظهر ما كان مستكنا
فعاد فيه الهوى يقينا ... وكان عند الرقيب ظنا
لو كان يلقى الذي ألاقي ... أوسعني رحمة وحنّا
وقال:
بين أجفانها وبين ضلوعي ... نازعتني الحياة أيدي المنون
لست أدري أعن مدى طرفها ... الفاتن موتي أم طرفي المفتون
وقال:
يا ربيعي ما كان ضرّك لو جد ... ت علينا كما يجود الربيع
ورده ذاهب ووردك باق ... وهو سمح به وأنت منوع
كن شفيعي إليك يا جنة الخل ... د فما لي غير الخضوع شفيع
[1092] محمد بن عمران بن موسى بن سعيد
بن عبد الله المرزباني أبو عبد الله «1» الراوية الاخباري الكاتب: كان راوية صادق اللهجة واسع المعرفة بالروايات كثير السماع، روى عن البغوي وطبقته، وأكثر روايته بالاجازة، لكنه يقول فيها أخبرنا، وكان ثقة صدوقا من خيار المعتزلة.
قال أبو القاسم الأزهري «2» : كان المرزباني يضع المحبرة وقنينة النبيذ، فلا
__________
[1092] ترجمة المرزباني في الفهرست: 146 وتاريخ بغداد 3: 135 والأنساب (المرزباني) والمنتظم 7: 177 وإنباه الرواة 3: 180 واللباب 3: 195 وابن خلكان 4: 354 وعبر الذهبي 3: 27 وسير الذهبي 16: 447 وميزان الاعتدال 3: 672 والوافي 4: 235 والبداية والنهاية 11: 314 ولسان الميزان 5: 326 والنجوم الزاهرة 4: 168 والشذرات 3: 111.(6/2582)
يزال يكتب ويشرب.
وقال القاضي الحسين بن علي الصيمري «1» : سمعت المرزباني يقول: كان في داري خمسون ما بين لحاف ودواج معدة لأهل العلم الذين يبيتون عندي.
وصنف كتبا كثيرة في أخبار الشعراء والأمم والرجال والنوادر، وكان حسن الترتيب لما يصنفه، يقال انه أحسن تصنيفا من الجاحظ.
ولد في جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين ومائتين وتوفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وقال الخطيب أربع وثمانين وثلاثمائة.
وله من التصانيف: أخبار الشعراء المشهورين والمكثرين من المحدثين وأنسابهم وأزمانهم أولهم بشار بن برد وآخرهم ابن المعتز عشرة آلاف ورقة. أخبار أبي تمام نحو مائة ورقة. أخبار أبي مسلم الخراساني صاحب الدعوة أكثر من مائة ورقة.
أخبار الأولاد والزوجات والأهل وما جاء فيهم من مدح وذم نحو مائتي ورقة. أخبار البرامكة من ابتداء أمرهم إلى انتهائه مشروحا نحو خمسمائة ورقة. أخبار عبد الصمد بن المعذل الشاعر. أخبار محمد بن حمزة العلاف نحو مائة ورقة. أشعار النساء نحو ستمائة ورقة «2» . أشعار الجن المتمثلين فيمن تمثل منهم بشعر أكثر من مائة ورقة. الأنوار والثمار فيما قيل في الورد والنرجس وجميع الأنوار من الأشعار وما جاء فيها من الآثار والأخبار ثم ذكر الثمار وجميع الفواكه وما جاء فيها من مستحسن النظم والنثر. تلقيح العقول، أكثر من مائة باب، وهو أكثر من ثلاثة آلاف ورقة. الرياض في أخبار المتيمين من الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين والمحدثين. شعر حاتم الطائي. كتاب الأزمنة ألف ورقة، ذكر فيه أحوال الفصول الأربعة والحرّ والغيوم والبروق والرياح والأمطار وأوصاف الربيع والخريف وطرفا من الفلك وأيام العرب والعجم وسنيهم وما يلحق بذلك من الأخبار والأشعار. كتاب الأوائل في أخبار الفرس القدماء وأهل العدل والتوحيد وشيء من مجالسهم نحو ألف ورقة. كتاب الدعاء نحو مائتي ورقة. كتاب ذم الحجاب نحو مائتي ورقة. كتاب ذم الدنيا نحو خمسمائة(6/2583)
ورقة. كتاب الشباب والشيب نحو ثلاثمائة ورقة. كتاب الزهد وأخبار الزهاد. كتاب الشعر وهو جامع لفضائله وذكر محاسنه وأوزانه وعيوبه وأجناسه وضروبه ومختاره وأدب قائليه ومنشديه وبيان منحوله ومسروقه وغير ذلك. كتاب الفرخ نحو مائة ورقة. كتاب العبادة نحو أربعمائة ورقة. كتاب المحتضرين نحو مائة ورقة. كتاب المراثي نحو خمسمائة ورقة. كتاب المغازي ثلاثمائة ورقة. كتاب نسخ العهود إلى القضاة نحو مائتي ورقة. كتاب الهدايا نحو ثلاثمائة ورقة. كتاب المديح في الولائم والدعوات نحو خمسمائة ورقة. المتوج في العدل وحسن السيرة أكثر من مائة ورقة. المرشد في أخبار المتكلمين نحو مائة ورقة. المستطرف في الحمقى والنوادر نحو ثلاثمائة ورقة.
المشرف في حكم النبي صلى الله عليه وسلم وآدابه ومواعظه ووصاياه. المفصل في البيان والفصاحة نحو ثلاثمائة ورقة. المزخرف في الإخوان والأصحاب أكثر من ثلاثمائة ورقة.
المعجم ذكر فيه الشعراء على حروف المعجم فيه نحو خمسة آلاف اسم، ألف ورقة «1» . المقتبس في أخبار النحويين البصريين، وأول من تكلم في النحو وأخبار القراء والرواة من أهل البصرة والكوفة، نحو ثمانين ورقة «2» . الموسع فيما أنكره العلماء على بعض الشعراء من كسر ولحن وعيوب الشعر ثلاثمائة ورقة. المنير في التوبة والعمل الصالح، نحو أربعمائة ورقة. المفيد في أخبار الشعراء وأحوالهم في الجاهلية والإسلام ودياناتهم ونحلهم، نيف وخمسة آلاف ورقة. المونق في أخبار الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين على طبقاتهم نيف وخمسة آلاف ورقة.
الواثق في وصف أحوال الغناء وأخبار المغنين والغناء والمغنيات الاماء والأحرار، وله غير ذلك «3» .(6/2584)
[1093] محمد بن عمران أبو جعفر الكوفي النحوي:
كان يؤدب عبد الله بن المعتز، وكان نحويا عارفا بالقراءة والعربية بعيد النظر في النوادر، روي أنه حين كان يؤدب ابن المعتز أقرأه يوما سورة والنازعات وقال له: إذا سألك أمير المؤمنين في أي سورة أنت فقل له أنا في السورة التي تلي سورة عبس، فلما سأله أبوه المعتز عن ذلك قال له: أنا في السورة التي تلي عبس، فقال له: من علمك هذا؟ فقال مؤدبي أبو جعفر، فأمر له بعشرة آلاف درهم، وكان أبو جعفر عالما بالحديث والأثر وثّقه الحافظ علي بن عمر وغيره.
[1094] محمد بن عمر بن الحسين فخر الدين
أبو عبد الله الرازي الفقيه الحكيم الأديب المتكلم المفسر العلّامة فريد دهره ونسيج وحده فخر الدين أبو عبد الله القرشي التيمي البكري الطبرستاني الأصل الرازي المولد ابن خطيب الريّ الشافعي الأشعري:
علّامة العلماء والبحر الذي ... لا ينتهي ولكلّ بحر ساحل
ما دار في الحنك اللسان وقلّبت ... قلما بأحسن من ثناه انامل
ولد سنة أربع وأربعين وخمسمائة واشتغل على والده الإمام ضياء الدين وكان من تلامذة محيي السنة أبي محمد البغوي، وكان إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة تلميذ فقهاء وغيرهم، وكان خوارزم شاه يأتي إليه. وكان شديد الحرص جدّا في
__________
[1093] ترجمة محمد بن عمران الكوفي في تاريخ بغداد 3: 132 وإنباه الرواة 3: 179 ونزهة الألباء: 141 والوافي 4: 235.
[1094] ترجمة الفخر الرازي في كامل ابن الأثير 12: 120 وتاريخ الحكماء: 291 ومرآة الزمان 8: 542 وقلائد الجمان لابن الشعار 6: 107 والتكملة للمنذري (رقم 1121) وذيل الروضتين: 68 وابن أبي أصيبعة 2: 23 والجامع المختصر 9: 306 وتاريخ ابن العبري: 240 وابن خلكان 4: 248 وسير الذهبي 21: 500 والوافي 4: 248 وطبقات السبكي 5: 33 والبداية والنهاية 13: 55 ولسان الميزان 4: 426 والنجوم الزاهرة 6: 197 (والترجمة المثبتة هنا من الوافي، وهي بعيدة عن طريقة ياقوت، وفيها اقتباس قليل منه، انظر الضائع: 163) .(6/2585)
العلوم الشرعية والحكمية، اجتمع له خمسة أشياء ما جمعها الله لغيره فيما علمته من امثاله وهي سعة العبارة في القدرة على الكلام وصحّة الذهن والاطلاع الذي ما عليه مزيد والحافظة المستوعبة والذاكرة التي تعينه على ما يريده في تقرير الأدلّة والبراهين، وكان فيه قوّة جدلية ونظر دقيق، وكان عارفا بالأدب له شعر بالعربي ليس في الطبقة العليا ولا السفلى وشعر بالفارسي لعلّه يكون فيه مجيدا. وكان عبل البدن ربع القامة كبير اللحية في صورته فخامة. كانوا يقصدونه من اطراف البلاد على اختلاف مقاصدهم في العلوم وتفنّنهم فكان كلّ منهم يجد عنده النهاية فيما يرومه منه. قرأ الحكمة على المجد الجيلي، والجيلي من كبار الحكماء وقرأ بعد والده على الكمال السمناني وقيل على الطبسي صاحب «الحائز في علم الروحاني» والله أعلم.
وله تصانيف ورزق الإمام فخر الدين السعادة العظمي في تصانيفه وانتشرت في الآفاق وأقبل الناس على الاشتغال بها ورفضوا كتب الأقدمين. وكان في الوعظ باللسانين مرتبة عليا وكان يلحقه الوجد حال وعظه ويحضر مجلسه ارباب المقالات والمذاهب ويسألونه. ورجع بسببه خلق كثير من الكرامية وغيرهم إلى مذهب السنّة وكان يلقّب بهراة شيخ الإسلام. يقال انه حفظ «الشامل في أصول الدين» لإمام الحرمين.
قصد خوارزم وقد تمهّر فجرى بينه وبين أهلها كلام فيما يرجع إلى العقيدة فأخرج من البلد، وقصد ما وراء النهر فجرى له أيضا ما جرى بخوارزم، فعاد إلى الريّ وكان بها طبيب حاذق له ثروة وله بنتان فزوّجهما بابني فخر الدين ومات الطبيب فاستولى على جميع نعمته ومن ثم كانت له النعمة. ولما وصل السلطان شهاب الدين الغوري صاحب غزنة بالغ في إكرامه وحصلت له اموال عظيمة منه. وعاد إلى خراسان واتصل بالسلطان خوارزم شاه محمد بن تكش وحظي عنده وأظنّه توجّه رسولا منه إلى الهند.
وهو أول من اخترع هذا الترتيب في كتبه وأتى فيها بما لم يسبق إليه لأنه يذكر المسألة ويفتح باب تقسيمها وقسمة فروع ذلك التقسيم ويستدلّ بأدلّة السبر والتقسيم فلا يشذّ منه عن تلك المسألة فرع لها به علاقة فانضبطت له القواعد وانحصرت معه المسائل، وكان ينال من الكرامية وينالون منه.
ويقال إن الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله كان يعظ الناس على عادة مشايخ العجم وأن الحنابلة كانوا يكتبون له قصا تتضمّن شتمه ولعنه وغير ذلك من(6/2586)
القبيح، فاتفق انهم رفعوا إليه يوما قصّة يقولون فيها ان ابنه يفسق ويزني وان امرأته كذلك، فلما قرأها قال: هذه القصّة تتضمّن أن ابني يفسق ويزني وذلك مظنّة الشباب فإنه شعبة من الجنون ونرجو من الله تعالى اصلاحه والتوبة، وأمّا امرأتي فهذا شأن النساء الا من عصمه الله وأنا شيخ ما فيّ للنساء مستمتع، هذا كلّه يمكن وقوعه، وأمّا انا فو الله لا قلت ان البارىء سبحانه وتعالى جسم ولا شبّهته بخلقه ولا حيّزته، انتهى.
ولما توفي الإمام فخر الدين بهراة في دار السلطنة يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة كان قد أملى رسالة على تلميذه ومصاحبه إبراهيم بن أبي بكر بن علي الأصبهاني تدلّ على حسن عقيدته وظنّه بكرم الله تعالى ومقصده بتصانيفه، والرسالة مشهورة ولولا خوف الإطالة لذكرتها ولكن منها: وأقول ديني متابعة سيّد المرسلين، وقائد الأولين والآخرين إلى حظائر قدس ربّ العالمين، وكتابي هو القرآن العظيم وتعويلي في طلب الدين عليهما، اللهمّ يا سامع الأصوات، ويا مجيب الدعوات، ويا مقيل العثرات، ويا راحم العبرات، ويا قيام المحدثات والممكنات، انا كنت حسن الظنّ بك، عظيم الرجاء في رحمتك، وأنت قلت: انا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي خيرا، وأنت قلت: أمّن يجيب المضطر اذا دعاه، وأنت قلت: وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب، فهب أنّي ما جئت بشيء فأنت الغنيّ الكريم، وأنا المحتاج اللئيم، وأعلم انه ليس لي أحد سواك، ولا أحد كريم سواك، ولا أحد محسن سواك، وأنا معترف بالزلّة والقصور، والعيب والفتور، فلا تخيّب رجائي، ولا تردّ دعائي، واجعلني آمنا من عذابك قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت، وسهّل عليّ سكرات الموت، وخفّض عنّي نزول الموت، ولا تضيّق عليّ سبب الآلام والأسقام فإنك أرحم الراحمين. ثم قال في آخرها: واحملوني إلى الجبل المصاقب لقرية مزداخان وادفنوني هناك، وإذا وضعتموني في اللحد فاقرأوا عليّ ما تقدرون من آيات القرآن العظيم ثم ردّوا عليّ التراب بالمساحي، وبعد إتمام ذلك قولوا مبتهلين إلى الله مستقبلين القبلة، على هيئة المساكين المحتاجين: يا كريم، يا كريم، يا عالما بحال هذا الفقير المحتاج، أحسن إليه، واعطف عليه، فأنت أكرم الأكرمين، وأنت أرحم الراحمين، وأنت الفعّال به وبغيره ما تشاء، فافعل به ما أنت أهله، فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة انتهى. قلت: ومن وقف على هذه الألفاظ علم ما كان عليه(6/2587)
هذا الإمام من صحّة الاعتقاد ويقين الدين واتّباع الشريعة المطهّرة:
صلاة وتسليم وروح وراحة ... عليه وممدود من الظلّ سجسج
وأكثر شناع عليه لخصومه انه أكثر من إيراد الشبه والأدلّة للخصوم ولم يجب عنها بطائل.
ولما مات الإمام فخر الدين خلف ثمانين ألف دينار سوى الدوابّ والعقار وغير ذلك، وخلف ولدين، الأكبر منهما تجنّد في حياة أبيه وخدم خوارزم شاه، والآخر اشتغل ولم نعلم له ترجمة وأظنّه الذي صنّف له «الأربعين في أصول الدين» لكنه قال: لأكبر أولادي محمد، والله أعلم. وكان له في أيامه صورة كبيرة وجلالة وافرة وعظمة زائدة. قال أبو المحاسن محمد بن نصر الله بن عنين: كنت بخراسان في مجلس الفخر الرازي إذ اقبلت حمامة يتبعها جارح فسقطت في حجر الرازي وعاذت به وهو على منبره فقمت وأنشدت بديها:
يا ابن الكرام المطعمين إذا شتوا ... في كلّ مسغبة وثلج خاشف
والعاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الراعف
من نبّأ الورقاء انّ محلّكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف
وافت اليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستانف
ولو انها تحبى بمال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
جاءت سليمان الزمان حمامة ... والموت يلمع من جناحي خاطف
فخلع عليه جبّة كانت عليه، قال: فكان هذا سببا لإقبال السعود عليّ وتسنّي الآمال لديّ، انتهى. واقترح الإمام عليه قصيدة في كلّ كلمة منها سين فنظمها ابن عنين وأولها:
مرسى السيادة سنّة سيفيّة ... محروسة مسعودة التأسيس
واقترح عليه قصيدة أخرى في كلّ كلمة منها حاء فنظمها أيضا وأولها:
حيّا محلّ الحاجبيّة بالحمى ... والسفح سيح مدلّح سحّاح
والقصيدتان مثبتتان في ديوانه.(6/2588)
ومن تصانيف الإمام فخر الدين: «التفسير» الذي له، وهو في ستة وعشرين مجلّدا ذكر تفسير الفاتحة منه في مجلّدة وهو على تجزئة الفاتحة في أكثر من ثلاثين مجلّدا، وأكمل التفسير على المنبر املاء. «تفسير سورة البقرة، على الوجه العقلي لا النقلي. أسرار التنزيل وأخبار التأويل. نهاية العقول في أصول الدين، يكون في أربع مجلّدات. المطالب العالية في الأصول أيضا في أربعة كبار. كتاب الأربعين في مجلّدة كبيرة. المحصّل مجلّدة. كتاب الخمسين صغير. المعالم في أصول الدين والفقه. الخلق والبعث، مجلّدة. تأسيس التقديس، مجلّدة. البيان والبرهان في الرد على أهل الزيغ والطغيان. المحصول في أصول الفقه في مجلّدين. المنتخب في أصول الفقه، مجلّدة. النهاية البهائية في المباحث القياسية. أجوبة المسائل النجارية. الطريقة العلائية في الخلاف، أربع مجلّدات. شرح أسماء الله الحسنى. إبطال القياس. الملل والنحل. المباحث العمادية في المطالب المعادية. تحصيل الحقّ. عيون المسائل.
إرشاد النظّار إلى لطائف الأسرار. فضائل الصحابة. القضاء والقدر. ذمّ الدنيا. نفثة المصدور. إحكام الأحكام. الرياض المؤنقة. عصمة الأنبياء. تعجيز الفلاسفة بالفارسي. الأخلاق. اللطائف الغياثية. الرسالة الكمالية في الحقائق الإلهية بالفارسي عرّبها تاج الدين الأرموي. رسالة الجوهر الفرد. الآيات البيّنات في المنطق. ترجيح مذهب الشافعي وأخباره. شرح أبيات الشافعي الأربعة التي أولها: وما شئت كان وإن لم أشأ، أظنّه كتاب القضاء والقدر. الزبدة. نهاية الإيجاز. اختصار دلائل الإعجاز. المحرّر في النحو. قطعة من شرح الوجيز. شرح المفصّل لم يتمّه. شرح ديوان المتنبّي. شرح سقط الزند. لباب الإشارات. شرح الإشارات. الإشارات. له أيضا شرح نهج البلاغة ولم يتمّ. الحكمة المشرقية، تكو في ثلاثة. المختصّ يكون في مجلّدين. شرح كليات القانون. الطبّ الكبير ولم يتمّ. عيون الحكمة. مصادرات أقليدس. التشريح ولم يتمّ. النبض. الاختيارات السماوية. السرّ المكتوم في علم الطلاسم والنجوم.
منتخب درج تنكلوشا، وقيل أنه شرحها. رسالة في النبوّات. رسالة في النفس. مباحث الوجود. مباحث الحدود. رسالة في التنبيه على الأسرار المودعة في بعض سور القرآن.
قال أبو علي الحسين الواسطي: سمعت فخر الدين بهراة ينشد على المنبر(6/2589)
عقيب كلام عاتب أهل البلد فيه:
المرء ما دام حيّا يستهان به ... ويعظم الرزء فيه حين يفتقد
ومن شعر الإمام فخر الدين:
فلو قنعت نفسي بميسور بلغة ... لما سبقت في المكرمات رجالها
ولو كانت الدنيا مناسبة لها ... لما استحقرت نقصانها وكمالها
ولا ارمق الدنيا بعين كرامة ... ولا اتوقّى سوءها واختلالها
وذاك لأني عارف بفنائها ... ومستيقن ترحالها وانحلالها
أروم أمورا يصغر الدهر عندها ... وتستعظم الأفلاك طرّا وصالها
ومنه:
أرواحنا ليس ندري أين مذهبها ... وفي التراب توارى هذه الجثث
كون يرى وفساد جاء يتبعه ... والله يعلم ما في خلقه عبث
ومنه:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا ردى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول دهرنا ... سوى ان جمعنا فيه قلت وقالوا
وكم قد رأينا من رجال ودولة ... فبادوا جميعا مسرعين وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... وعال فزالت والجبال جبال
وله قصيدة نونية طويلة سمّاها «الهادية للتقليد المؤدّية إلى التوحيد» أولها:
يا طالب التوحيد والإيمان ... أبشر بكلّ كرامة وأمان
واعلم بأنّ أجلّ أبواب الهدى ... تقرير دين الله بالبرهان
ورجمه الكرّامية يوما على المنبر وزرّقوا عليه من سقاه السمّ والله أعلم فمات من ذلك.(6/2590)
(قال ياقوت) : وجدت على ظهر كتاب من تصانيف فخر الدين الرازي ما صورته:
قال الأديب الأخسيكتي:
إنّ بالمشرق فينا ... جبل العلم ابن سينا
فدع المغرب يذكر ... ذرّة من طور سينا
فقال السراج:
اعلما علما يقينا ... أنّ ربّ العالمينا
لو قضى في عالميهم ... خدمة للعالمينا
خدم الرازيّ فخرا ... خدمة العبد ابن سينا
وقيل أيضا:
قد تركنا قد نسينا ... حكمة الشيخ ابن سينا
حين شاهدنا عيانا ... حكمة الرازيّ فينا
نحن قد بعنا حصاة ... واشترينا طور سينا
وقيل أيضا:
نحن بالجهل ابتلينا ... نحن بالحمق رمينا
نحن قضّينا زمانا ... في تصانيف ابن سينا
ثم صرنا آمنينا ... عن مقال الطاعنينا
حين طالعنا كلاما ... يشبه الدرّ الثمينا
صاغه الرازيّ فينا ... كاملا فخما مبينا
ربّ فاجعله بحال ... يشبه الروح الأمينا
(وقال ياقوت في «معجم الأدباء» ) : سألت ولده ضياء الله علي فقلت له:
على من قرأ والدك العلوم؟ فقال: ليس له شيخ مشهور إلا أنه رحل إلى أذربيجان وكان بها رجل يقال له مجد الدين الجيلي فقرأ عليه، ثم فتح الله عليه فتحا كبيرا وأخذ(6/2591)
من الكتب، ورحل إلى خوارزم ثم إلى ما وراء النهر ورجع إلى خراسان ومنها إلى باميان، وحصل له الجاه والمال بمجاورة ابن سام، فلما انتزع منه بلاده خوارزم شاه علاء الدين تكش فوض إليه صدارة هراة واستوطنها.
[1095] محمد بن عمر بن عبد العزيز بن إبراهيم
بن عيسى بن مزاحم، المعروف بابن القوطية، الاشبيلي الأصل القرطبي، أبو بكر اللغوي النحوي الأديب الشاعر:
كان أعلم أهل زمانه باللغة والعربية، إماما مقدما فيهما، وأروى أهل عصره للأشعار والأخبار، لا يشقّ في ذلك غباره ولا يلحق شأوه، وكان مع ذلك فقيها متمكنا حافظا للحديث والآثار، غير أنه لم يكن له في ذلك أصول يرجع إليها فلم يكن ضابطا للرواية، وكان ما يسمع منه من ذلك إنما يحمل على المعنى دون اللفظ، وكان كثيرا ما يقرأ عليه ما لا رواية له فيه على سبيل الضبط والتصحيح. وكان مضطلعا بأخبار الأندلس راوية لسير ملوكها وأمرائها وعلمائها وشعرائها حافظا لأخبارهم يملي ذلك عن ظهر قلبه، وكان أكثر ما يؤخذ عنه ويقرأ عليه كتب اللغة. ولما دخل أبو علي القالي الأندلس اجتمع به، وكان يبالغ في تقديمه وتعظيمه، حتى قال له الخليفة المستنصر الحكم بن عبد الرحمن: من أنبل من رأيته ببلدنا في اللغة؟ فقال: أبو بكر ابن القوطية. ومما كان يزين علمه وفضله اتصافه بالزهد والتقوى والنسك، وكان في أول أمره ينظم الشعر بالغا فيه حدّ الاجادة مع الاحسان في المطالع والمقاطع وتخير الألفاظ الرشيقة والمعاني الشريفة، ثم ترك ذلك وأقبل على النسك والانفراد.
__________
[1095] ترجمة ابن القوطية في تاريخ ابن الفرضي 2: 76 ويتيمة الدهر 2: 73 وجذوة المقتبس: 71 (وبغية الملتمس رقم: 223) وإنباه الرواة 3: 178 وابن خلكان 4: 368 وعبر الذهبي 2: 345 وسير الذهبي 16: 219 والوافي 4: 242 ومرآة الجنان 2: 389 والديباج المذهب 2: 217 ولسان الميزان 5: 324 وبغية الوعاة 1: 198 والنفح 3: 73 والشذرات 3: 62 وشجرة النور الزكية 1: 99.(6/2592)
قال الثعالبي: أخبرني أبو سعيد ابن دوست قال أخبرني الوليد بن بكر الفقيه ان أبا بكر يحيى بن هذيل الشاعر زار يوما ابن القوطية في ضيعة له بسفح جبل قرطبة كان منفردا فيها عن الناس، فألفاه خارجا منها، فلما رآه ابن القوطية استبشر به، فبادره يحيى بن هذيل ببيت حضره على البديهة فقال:
من أين أقبلت يا من لا شبيه له ... ومن هو الشمس والدنيا له فلك
فتبسم وأجابه مسرعا بقوله:
من منزل يعجب النساك خلوته ... وفيه ستر على الفتّاك إن فتكوا
قال ابن هذيل: فما تمالكت أن قبلت يده إذ كان شيخي وأستاذي. وكان الشعر أقلّ صنائعه لكثرة علومه وغرائبه.
سمع أبو بكر ابن القوطية من قاسم بن أصبغ وابن الأغبس وأبي الوليد الأعرج ومحمد بن عبد الوهاب بن مغيث، وسمع بقرطبة من طاهر بن عبد العزيز، وسمع باشبيلية من محمد بن عبد الله بن الفرق وسعيد بن جابر وحسن بن عبد الله الزبيدي وغيرهم، ولقي أكثر مشايخ عصره بالأندلس فأخذ عنهم وأكثر النقل من فوائدهم، وروى عنه الشيوخ والكهول، وطال عمره فسمع الناس منه طبقة بعد طبقة، ومن تصانيفه كتاب تصاريف الأفعال «1» ، وهو أول مصنف في ذلك. ثم تبعه ابن القطّاع السعدي فوضع كتابه على منواله. كتاب المقصور والممدود، جمع فيه فأوعى فأعجز من بعده عن أن يأتوا بمثله وفاق به من تقدمه. وله شرح أدب الكتاب. وتاريخ الأندلس «2» ، وغير ذلك.(6/2593)
مات ابن القوطية يوم الثلاثاء لسبع بقين من ربيع الأول سنة سبع وستين وثلاثمائة بمدينة قرطبة، ودفن يوم الأربعاء وقت صلاة العصر بمقبرة قريش.
والقوطية نسبة إلى القوط، وهم ينسبون إلى قوط بن حام بن نوح كانوا بالأندلس من أيام إبراهيم عليه السلام.
ومن شعر أبي بكر ابن القوطية:
ضحى أناخوا بوادي الطلح عيسهم ... فأوردوها عشاء أيّ إيراد
أكرم به واديا حلّ الحبيب به ... ما بين رند وخابور وفرصاد
يا واديا سار عنه الركب مرتحلا ... بالله قل أين سار الركب يا وادي
أبالغضا نزلوا أم للوى عدلوا ... أم عنك قد رحلوا خلفا لميعادي
بانوا وقد أورثوا جسمي الضنا وكأن ... كان النوى لهم أو لي بمرصاد
وقال «1» :
ضحك الثرى وبدا لك استبشاره ... واخضرّ شاربه وطرّ عذاره
ورنت حدائقه وآزر نبته ... وتبسمت أنواره وثماره
واهتز قدّ الغصن لما ان كسي ... ورقا كديباج يروق إزاره
وتعممت صلع الربى بنباتها ... وترنمت في لحنها أطياره(6/2594)
[1096] محمد [بن عمر] بن واقد الواقدي المدني
مولى الأسلميين: أحد أوعية العلم وصاحب التصانيف الكثيرة، سمع من مالك بن أنس والثوري ومعمر بن راشد وابن أبي ذئب وغيرهم، وروى عنه جماعة من الأعيان، وكاتبه محمد بن سعد الزهري، وكان عارفا برأيي مالك وسفيان الثوري.
وقال أبو داود الحافظ: بلغني أنّ ابن المديني قال: كان الواقدي يروي ثلاثين ألف حديث غريب. وكان إلى حفظه المنتهى في المغازي والسير والأخبار وأيام الناس والوقائع والفقه وغير ذلك. ولقي الواقدي ابن جريج وابن عجلان ومعمرا وثور بن يزيد.
وقال الإمام إبراهيم الحربي «1» : الواقدي أمين الناس على الاسلام.
وقال البخاري «2» : سكتوا عنه.
وقال محمد بن إسحاق «3» : والله لولا أنه عندي ثقة ما حدثت عنه.
وقال مصعب بن الزبير: والله ما رأينا مثل الواقدي. وقال أيضا: الواقدي ثقة مأمون.
وقال الإمام إبراهيم الحربي: من قال ان مسائل مالك وابن أبي ذئب تؤخذ من
__________
[1096] ترجمة الواقدي في طبقات ابن سعد 7: 334 وتاريخ خليفة: 472 والمعارف: 518 والفهرست:
111 وتاريخ بغداد 3: 3 والكامل لابن الأثير 6: 385 وابن خلكان 1: 506 وعبر الذهبي 1: 353 وسير الذهبي 9: 454 وميزان الاعتدال 3: 662 وتذكرة الحفاظ: 348 والوافي 4: 238 وتهذيب التهذيب 9: 363 والنجوم الزاهرة 2: 184 والشذرات 2: 18.(6/2595)
أوثق من الواقدي فلا تصدقه.
وقال الحافظ الدراوردي «1» : الواقدي أمير المؤمنين في الحديث.
وقال محمد بن سلام الجمحي «2» : الواقدي عالم دهره.
وقال جابر بن كردي: سمعت يزيد بن هارون يقول: الواقدي ثقة. ووثقه أيضا أبو عبيد القاسم بن سلام.
وقال الخطيب في تاريخه «3» : قدم الواقدي بغداد وولي قضاء الجانب الشرقي منها، وهو ممن طبق الأرض شرقها وغربها ذكره، ولم يخف على أحد عرف الأخبار أمره، وسارت الركبان بكتبه في فنون العلم من المغازي والسير والطبقات وأخبار النبي صلى الله عليه وسلم والأحداث الكائنة في وقته وبعد وفاته وكتب الفقه واختلاف الناس في الحديث وغير ذلك، وكان جوادا مشهورا بالسخاء (انتهى) .
وسئل معن القزاز عن الواقدي فقال: أنا أسأل عن الواقدي؟ الواقدي يسأل عني؛ يعني تحري الواقدي في معرفة الرجال.
قال المؤلف: وهو مع ذلك ضعّفه طائفة من المحدثين كابن معين وأبي حاتم والنسائي وابن عدي وابن راهويه والدارقطني. أما في أخبار الناس والسير والفقه وسائر الفنون فهو ثقة بإجماع. وكان الرشيد ولاه القضاء بشرقي بغداد ثم ولاه المأمون القضاء بعسكر المهدي، وكان يكرم جانبه ويبالغ في رعايته.
وكتب الواقدي «4» إلى المأمون مرة يشكو ضائقة ركبه بسببها دين، وعيّن مقداره، فوقع المأمون على قصته بخطّه: فيك خلتان سخاء وحياء، فالسخاء أطلق يديك بتبذير ما ملكت، والحياء حملك على أن ذكرت لنا بعض دينك، وقد أمرنا لك(6/2596)
بضعف ما سألت، وإن كنا قصرنا عن بلوغ حاجتك فبجنايتك على نفسك، وإن كنا بلغنا بغيتك فزد في بسطة يدك فإن خزائن الله مفتوحة ويده بالخير مبسوطة، وأنت حدثتني حين كنت على قضاء الرشيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير: يا زبير إن مفاتيح الرزق بإزاء العرش ينزل الله سبحانه للعباد أرزاقهم على قدر نفقاتهم فمن كثّر كثّر له ومن قلل قلل عليه، قال الواقدي: وكنت نسيت الحديث، وكان تذكيره لي به أعجب من صلته.
وعن ابن أبي الأزهر قال: حدثني أبو سهل الداري عمن حدثه عن الواقدي قال «1» : كان لي صديقان أحدهما هاشميّ، وكنا كنفس واحدة فنالتني ضيقة شديدة وحضر العيد، فقالت امرأتي: أما نحن في أنفسنا فنصبر على البؤس والشدة، وأما صبياننا هؤلاء فقد قطّعوا قلبي رحمة لهم لأنهم يرون صبيان الجيران قد تزينوا في عيدهم وأصلحوا ثيابهم وهم على هذه الحال من الثياب الرثة، فلو احتلت بشيء نصرفه في كسوتهم، قال: فكتبت إلى صديقي الهاشمي أسأله التوسعة عليّ بما حضر فوجّه إليّ كيسا مختوما ذكر أن فيه ألف درهم، فما استقر قراري إذ كتب إليّ الصديق الآخر يشكو مثل ما شكوت إلى صاحبي، فوجهت إليه الكيس بحاله، وخرجت إلى المسجد فأقمت فيه ليلي مستحييا من امرأتي، فلما دخلت عليها وأخبرتها بما فعلت استحسنت ما كان مني ولم تعنفني عليه، فبينا أنا كذلك إذ وافى صديقي الهاشمي ومعه الكيس كهيئته، فقال لي اصدقني عما فعلته فيما وجهت إليك، فعرفته الخبر على وجهه فقال: إنك وجهت إليّ وما أملك على الأرض إلا ما بعثت به إليك، وكتبت إلى صديقنا أسأله المواساة فوجّه إليّ كيسي بخاتمي، قال الواقدي: فتواسينا الكيس أثلاثا. ونمي الخبر إلى المأمون فدعاني فشرحت له الخبر فأمر لنا بسبعة آلاف دينار لكلّ واحد ألفا دينار، وللمرأة ألف دينار.
وروى ابن سعد عن الواقدي أنه قال «2» : ما من أحد إلا وكتبه أكثر من حفظه، وحفظي أكثر من كتبي.(6/2597)
وقال يعقوب بن شيبة «1» لما تحول الواقدي من الجانب الغربي يقال إنه حمل كتبه على عشرين ومائة وقر، وقيل كان له ستمائة قمطر كتب.
ولد سنة ثلاثين ومائة وتوفي عشية يوم الاثنين حادي عشر ذي الحجة سنة سبع ومائتين عن سبعة وسبعين عاما، ودفن في مقابر الخيزران.
وله من الكتب كتاب الاختلاف يحتوي على اختلاف أهل المدينة والكوفة في الشفعة والصدقة والعمرى والرقبى والوديعة وعلى كتب الفقه الباقية. كتاب غلط الحديث. كتاب السنة والجماعة وذمّ الهوى. كتاب ذكر القرآن. كتاب الآداب.
كتاب الترغيب في علم القرآن. التاريخ الكبير. كتاب التاريخ والمغازي والبعث.
أخبار مكة. كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. كتاب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. كتاب السقيفة وبيعة أبي بكر. كتاب سيرة أبي بكر ووفاته. كتاب الردة والدار. كتاب السيرة. كتاب أمر الحبشة والفيل. كتاب حرب الأوس والخزرج. كتاب المناكح. كتاب يوم الجمل.
كتاب صفين. كتاب مولد الحسن والحسين. كتاب مقتل الحسين. كتاب فتوح الشام. كتاب فتوح العراق. كتاب ضرب الدنانير والدراهم. كتاب مراعي قريش والأنصار في القطائع ووضع عمر الدواوين. كتاب الطبقات. تاريخ الفقهاء «2» .
[1097] محمد بن فتوح بن عبد الله بن حميد أبو عبد الله الأزدي
الحميدي الحافظ المؤرخ الأديب: أصله من قرطبة وولد بميورقة، جزيرة بالأندلس، قبل العشرين
__________
[1097] ترجمة الحميدي في الأنساب 4: 233 (واللباب 1: 392) وفهرست ابن خير (صفحات متفرقة) والصلة: 530 ومصورة ابن عساكر 15: 850 والمنتظم 9: 96 وبغية الملتمس (رقم: 257) والكامل لابن الأثير 10: 254 وعبر الذهبي 3: 323 وسير الذهبي 19: 120 وتذكرة الحفاظ: 1218 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 34 والوافي 4: 317 ومرآة الجنان 3: 149 والبداية والنهاية 12: 152 والنجوم الزاهرة 5: 156 والنفح 2: 112 والشذرات 3: 392 والمقفى 6: 504.(6/2598)
وأربعمائة، وكان يحمل على الكتف للسماع سنة خمس وعشرين وأربعمائة، وأول من سمع منه أبو القاسم [ابن] أصبغ، وتفقه بابن أبي زيد القيرواني وروى عنه رسالته و «مختصر المدونة» ، ورحل سنة ثمان وأربعين وأربعمائة إلى المشرق فحج وسمع بمكة، وقدم مصر فسمع بها من الضراب والقراعي وغيرهما، وكان سمع بالأندلس من الحافظ ابن عبد البر وأبي محمد ابن حزم الظاهري ولازمه وقرأ عليه أكثر مصنفاته وأكثر من الأخذ عنه وشهر بصحبته وكان على مذهبه إلا أنه لم يتظاهر بذلك، وسمع بأفريقية ودمشق، وأقام بواسط مدة ثم رجع إلى بغداد واستوطنها، وروى عن الخطيب البغدادي وكتب عنه أكثر مصنفاته، وروى الخطيب عنه أكثر مصنفاته، وروى عنه الأمير الحافظ الأديب أبو نصر علي بن ماكولا وقال: أخبرنا صديقنا أبو عبد الله الحميدي، وهو من أهل العلم والفضل والتيقظ، لم أر مثله في عفته ونزاهته وورعه وتشاغله بالعلم.
وقال بعض أكابر عصره ممن لقي الأئمة: لم تر عيناي مثل أبي عبد الله الحميدي في فضله ونبله ونزاهته وغزارة علمه وحرصه على نشر العلم وبثه في أهله، وكان ورعا ثقة إماما في علم الحديث وعلله ومعرفة متونه ورواته، محققا في علم الأصول على مذهب أصحاب الحديث، متبحرا في علم الأدب والعربية. وكان يقول: ثلاثة أشياء من علوم الحديث يجب تقديم الاهتمام بها: العلل وأحسن كتاب صنف فيها كتاب الدارقطني، ومعرفة المؤتلف والمختلف وأحسن كتاب وضع فيه كتاب الأمير أبي نصر ابن ماكولا، ووفيات الشيوخ وليس فيها كتاب، وقد كنت أردت أن أجمع في ذلك كتابا فقال لي الأمير ابن ماكولا: رتبه على حروف المعجم بعد أن رتبته على السنين، قال أبو بكر ابن طرخان: فشغله عنه الصحيحان إلى أن مات.
توفي ببغداد ليلة الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، وكان أوصى مظفرا ابن رئيس الرؤساء أن يدفنه عند قبر بشر الحافي، فخالف وصيته ودفنه في مقبرة باب أبرز، فلما مضت مدة رآه مظفر في النوم يعاتبه على مخالفته، فنقل في صفر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة إلى مقبرة باب حرب ودفن عند قبر بشر، ووجد كفنه حين نقل وبدنه طريا تفوح منه رائحة الطيب.(6/2599)
صنف الحميدي جذوة المقتبس «1» في أخبار علماء الأندلس، ألفه في بغداد، وذكر في خطبته أنه كتبه من حفظه. وتاريخ الاسلام. والأماني الصادقة. وتسهيل السبيل إلى علم الترسيل «2» . والجمع بين الصحيحين البخاري ومسلم. وكتاب ذم النميمة. والذهب المسبوك في وعظ الملوك. وكتاب ما جاء من النصوص والأخبار في حفظ الجار. ومخاطبات الأصدقاء في المكاتبات واللقاء. وكتاب من ادّعى الأمان من أهل الايمان.
ومن شعره:
كلام الله عزّ وجلّ قولي ... وما صحّت به الآثار ديني
وما اتفق الجميع عليه بدءا ... وعودا فهو عن حقّ مبين
فدع ما صدّ عن هذا وهذا ... تكن منها على عين اليقين
وقال:
ألفت النوى حتى أنست بوحشتي ... وصرت بها لا بالصبابة مولعا
فلم أحص كم رافقت فيها مرافقا ... ولم أحص كم يممت في الأرض موضعا
ومن بعد جوب الأرض شرقا ومغربا ... فلا بدّ لي من أن أوافي مصرعا
وقال:
لقاء الناس ليس يفيد شيئا ... سوى الهذيان من قيل وقال
فأقلل من لقاء الناس إلا ... لأخذ العلم أو إصلاح حال
[1098] محمد بن فرح أبو جعفر الغساني الكوفي النحوي:
أخذ عن سلمة بن
__________
[1098] ترجمة محمد بن فرح (بالحاء المهملة) في تاريخ بغداد 3: 165 وإنباه الرواة 3: 200 وبغية الوعاة 1: 209.(6/2600)
عاصم صاحب الفراء، وقال الداني: أخذ القراءة عن أبي عمرو الدوري، وله عنه نسخة، وروى عنه الحروف أحمد بن جعفر بن عبيد الله بن المنادي ومحمد بن الحسن النقاش وأبو مزاحم الخاقاني وغيرهم.
[1099] محمد بن فضلون بن أبي بكر بن الحسن
بن محمد بن شهاب الدين العقري: نسبة إلى العقر، وهي قلعة حصينة في جبال الموصل أهلها أكراد، النحوي اللغوي المتكلم الحكيم. سمع الحديث والأدب على جماعة من أهل العلم. (قال ياقوت في معجم البلدان) : كنت مرة معه أعارض إعراب شيخنا أبي البقاء لقصيدة الشنفرى اللامية إلى أن بلغنا إلى قوله:
واستفّ ترب الأرض كي لا يرى له ... عليّ من الطول امرؤ متطوّل
فأنشدني لنفسه في معناه:
مما يؤجج كربي أنني رجل ... سبقت فضلا ولم أحصل على السّبق
يموت بي حسدا مما خصصت به ... من لا يموت بداء الجهل والحمق
إذا سغبت سففت الترب في سغبي ... ولم أقل للئيم سدّ لي رمقي
وإن صديت وكان الصفو ممتنعا ... فالموت أنفع لي من مشرب رنق
وكم غرائب مال دونها رمق ... زهدت فيها ولم أقدر على الملق
وقد ألين وأجفو في محلهما ... فالحزن والسّهل مخلوقان في خلقي
(قال ياقوت) : فقلت له: قول الشنفرى أبلغ لأنه نزه نفسه عن ذي الطول وأنت نزهتها عن اللئيم، قال: صدقت، لأن الشنفرى كان يرى متطولا فينزه نفسه عنه وأنا لا أرى إلا اللئام فكيف أكذب؟! فخرج من اعتراضي إلى أحسن مخرج.
__________
[1099] ترجمة محمد بن فضلون في تلخيص معجم الألقاب 4: 336 والوافي 4: 328 ومعجم البلدان 3: 696؛ ولم يشر ياقوت إلى أنه ذكره في معجم الأدباء، ونقل صاحب تلخيص معجم الألقاب والصفدي في الوافي ما ورد في معجم البلدان (وانظر الضائع: 164) .(6/2601)
[1100] محمد بن القاسم
وقيل ابن خلاد بن ياسر بن سليمان، الهاشمي بالولاء، أبو عبد الله المعروف بأبي العيناء الاخباري الأديب الشاعر: روى عن أبي عاصم النبيل، وسمع من الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والعتبي وغيرهم، وحدث عنه الصولي وابن نجيح وأحمد بن كامل وآخرون. وكان فصيحا بليغا من ظرفاء العالم، آية في الذكاء واللّسن وسرعة الجواب. فمن لطائفه أنه شكا تأخر أرزاقه إلى عبيد الله بن سليمان فقال له: ألم نكن كتبنا لك إلى ابن المدبر، فما فعل في أمرك؟ قال: جرّني على شوك المطل، وحرمني ثمرة الوعد، فقال: أنت اخترته، فقال: وما علي وقد اختار موسى قومه سبعين رجلا فما كان منهم رشيد فأخذتهم الرّجفة، واختار النبي صلى الله عليه وسلم ابن أبي سرح كاتبا فلحق بالمشركين مرتدا، واختار علي بن أبي طالب أبا موسى الأشعري حكما فحكم عليه.
وحجبه بعض الأمراء ثم كتب اليه يعتذر منه، فقال: تجبهني مشافهة وتعتذر إليّ مكاتبة.
وقال: أخجلني ابن صغير لعبد الرحمن بن خاقان، قلت له: وددت أن لي ابنا مثلك، قال: هذا بيدك، قلت: كيف ذلك؟ قال: تحمل أبي على امرأتك فتلد لك ابنا مثلي.
وبلغه أن المتوكل قال «1» : لولا أنه ضرير لنادمناه، فقال: إن أعفاني من رؤية
__________
[1100] ترجمة أبي العيناء في طبقات ابن المعتز: 415 والفهرست: 138 وتاريخ بغداد 3: 170 والمنتظم 5: 156 وابن خلكان 4: 343 وميزان الاعتدال 4: 13 وعبر الذهبي 2: 69 وسير الذهبي 13: 308 والوافي 4: 341 والبداية والنهاية 11: 73 ولسان الميزان 5: 344 وشذرات الذهب 2: 180 ونوادره مبثوثة في كتب الأدب وخاصة في البصائر للتوحيدي وقد جمعها صاحب نثر الدر في موضع واحد من كتابه؛ (3: 195- 231) وفي أيامنا هذه قام بجمع أخباره ونوادره د. أبو سويلم (بجامعة مؤتة) كما جمعته د. ابتسام مرهون الصفار، بغداد 1988 ولمحمد بن ناصر العبودي كتاب في أخباره، دار اليمامة 1978.(6/2602)
الأهلة وقراءة نقش الفصوص صلحت للمنادمة.
ودخل على المتوكل «1» في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين فقال له: ما تقول في دارنا هذه؟ فقال: إن الناس بنوا الدور في الدنيا وأنت بنيت الدنيا في دارك، فاستحسن كلامه.
ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله وافتضح عند كثيره، فقال له: دع هذا عنك ونادمنا، فقال: أنا رجل مكفوف، وكلّ من في مجلسك يخدمك، وأنا محتاج أن أخدم، ولست آمن من أن تنظر إليّ بعين راض وقلبك عليّ غضبان أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت، فأختار العافية على التعرض للبلاء، فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك، فقال: يا أمير المؤمنين قد مدح الله تعالى وذمّ فقال: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ*
وقال عز وجل: هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ
(القلم: 11) . وقال الشاعر:
إذا أنا بالمعروف لم أثن صادقا ... ولم أشتم النكس اللئيم المذمّما
ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما
قال: فمن أين أنت؟ قال: من البصرة، قال: فما تقول فيها؟ قال: ماؤها أجاج، وحرها عذاب، وتطيب في الوقت الذي تطيب فيه جهنم.
قرأت في «تاريخ دمشق» قال: قرأت على زاهر بن طاهر عن أبي بكر البيهقي حدثنا أبو عبد الله الحافظ، قال سمعت عبد العزيز بن عبد الملك الأموي يقول:
سمعت إسماعيل بن محمد النحوي يقول: سمعت أبا العيناء يقول: أنا والحافظ وضعنا حديث فدك وأدخلناه على الشيوخ في بغداد فقبلوه إلا ابن شيبة العلوي قال لا يشبه آخر هذا الحديث أوله، فأبى أن يقبله، وكان أبو العيناء يحدث بهذا بعد ما كان.
وكان جد أبي العيناء الأكبر يلقى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأساء المخاطبة بينه وبينه، فدعا عليه بالعمى له ولولده من بعده، فكلّ من عمي من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم.(6/2603)
وقال المبرد: إنما صار أبو العيناء أعمى بعد أن نيف على الأربعين، وخرج من البصرة واعتلت عيناه فرمي فيهما بما رمي، والدليل على ذلك قول أبي علي البصير:
قد كنت خفت يد الزما ... ن عليك إذ ذهب البصر
ولم ادر أنّك بالعمى ... تغنى ويفتقر البشر
وقال أحمد بن أبي دواد لأبي العيناء: ما أشدّ ما أصابك في ذهاب بصرك؟
قال: أبدأ بالسلام وكنت أحبّ أن أكون أنا المبتدىء، وأحدّث من لا يقبل على حديثي ولو رأيته لم أقبل عليه، فقال له ابن أبي دواد: أما من بدأك بالسلام فقد كافأته بجميل نيتك له، ومن أعرض عن حديثك انما أكسب نفسه من سوء الأدب أكثر مما نالك من سوء الإعراض.
وقال محمد بن خلف بن المرزبان، قال لي أبو العيناء: أتعرف في شعراء المحدثين رشيدا الرياحي؟ قال: فقلت لا، قال بل هو القائل فيّ:
نسب لابن قاسم ما تراث ... فهو للخير صاحب وقرين
أحول العين والخلائق زين ... لا احولال بها ولا تلوين
ليس للمرء شائنا حول العي ... ن إذا كان فعله لا يشين
فقلت له: وكنت قبل العمى أحول؟ أمن السقم إلى البلى؟ فقال: هنا أظرف خبر تعرج به الملائكة إلى السماء اليوم، وقال: أيما اصلح من السقم إلى البلى أو حال العجوز أصلحها الله من القيادة إلى الزنا.
وحمله بعض الوزراء «1» على دابة فانتظر علفها، فلما أبطأ عليه قال: أيها الوزير هذه الدابة حملتني عليها أو حملتها عليّ؟
وقال له المتوكل «2» هل رأيت طالبيا حسن الوجه؟ قال: نعم، رأيت ببغداد منذ ثلاثين واحدا، قال: تجده كان مؤاجرا وكنت أنت تقود عليه، فقال: يا أمير المؤمنين أو يبلغ هذا من فراغي؟ أدع مواليّ مع كثرتهم وأقود على الغرباء؟ فقال المتوكل(6/2604)
للفتح: أردت أن أشتفي منهم فاشتفى لهم مني.
وقال له يوما «1» : إن سعيد بن عبد الملك يضحك منك، فقال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ
(المطففين: 29) .
وقال له ابن ثوابة يوما «2» : كتبت أنفاس الرجال، فقال حيث كانوا وراء ظهرك.
وقال له نجاح بن سلمة يوما «3» : ما ظهورك وقد خرج توقيع أمير المؤمنين في الزنادقة؟ فقال له: أستدفع الله عنك وعن أصهارك.
ودخل يوما «4» على عبيد الله بن عبد الله بن طاهر وهو يلعب بالشطرنج فقال:
في أيّ الحيزين أنت؟ فقال: في حيز الأمير أيده الله، وغلب عبيد الله فقال: يا أبا العيناء قد غلبنا، وقد أصابك خمسون رطل ثلج، فقام ومضى إلى ابن ثوابة وقال: إن الأمير يدعوك فلما دخلا قال: أيد الله الأمير قد جئتك بجبل همذان وماسبذان ثلجا فخذ منه ما شئت.
وكان بينه وبين محمد بن مكرم مداعبة، فسمع ابن مكرم أبا العيناء يقول في دعائه: يا رب سائلك، فقال: يا ابن الفاعلة ومن ليس سائله؟.
وقال له ابن مكرم «5» يوما يعرض به: كم عدد المكدّين بالبصرة؟ فقال له: مثل عدد البغائين ببغداد.
وقال له ابن مكرم ذات يوم «6» : هممت ان آمر غلامي أن يدوس بطنك، فقال:
الذي تخلفه على عيالك إذا ركبت أو الذي تحمله على ظهرك إذا نزلت؟.
وقال ابن مكرم يوما «7» : مذهبي الجمع بين الصلاتين، فقال له: صدقت تجمع بينهما بالتّرك.(6/2605)
وقيل له «1» : ما تقول في محمد بن مكرم والعباس بن رستم؟ فقال: هما الخمر والميسر إثمهما أكبر من نفعهما.
وقال ابن مكرم له يوما «2» : أحسبك لا تصوم شهر رمضان، فقال له: ويلك وتدعني امرأتك أصوم.
وبات ليلة «3» عند ابن مكرم، فجعل ابن مكرم يفسو عليه، فقام أبو العيناء وصعد السرير فارتفع اليه فساؤه، فصعد إلى السطح فبلغته رائحته، فقال: يا ابن الفاعلة ما فساؤك إلا دعوة مظلوم.
وقدم إليه «4» ابن مكرم يوما جنب شواء، فلما جسّه قال: ليس هذا جنبا هذا شريجة قصب.
ومر يوما «5» على دار عدوّ له فقال: ما خبر أبي محمد؟ فقالوا: كما تحبّ قال:
فما لي لا أسمع الرنة والصياح.
ووعده «6» ابن المدبر بدابة فلما طالبه قال: أخاف أن أحملك عليها فتقطعني ولا أراك، فقال: عدني أن تضمّ إليها حمارا لأواظب مقتضيا.
ووعده «7» يوما أن يعطيه بغلا فلقيه في الطريق فقال له: كيف أصبحت يا أبا العيناء؟ فقال: أصبحت بلا بغل، فضحك منه وبعث به اليه.
وقالت «8» له قينة: هب لي خاتمك وأذكرك به، فقال لها: اذكري أنك طلبته مني ومنعتك.
ولما استوزر صاعد «9» عقب إسلامه صار أبو العيناء إلى بابه، فقيل له يصلي، فعاد فقيل يصلي، فقال: معذور لكل جديد لذة.
وحضره «10» يوما ابن مكرم وأخذ يؤذيه ثم قال: الساعة والله أنصرف، فقال أبو(6/2606)
العيناء: ما رأيت من يتهدد بالعافية غيرك.
وقال له ابن الجماز المغني «1» : هل تذكر سالف معاشرتنا؟ فقال: اذ تغنّينا ونحن نستعفيك.
ودخل على أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير فقال له «2» : ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء؟ فقال: سرق حماري، فقال: وكيف سرق؟ قال: لم أكن مع اللص فأخبرك، قال: فهلا أتيتنا على غيره؟ قال: قعد بي عن الشراء قلة يساري، وكرهت ذلّ المكاري، ومنة العواري.
وقيل له «3» إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ فقال: ما دام المحسن يحسن والمسيء يسيء وأعوذ بالله أن أكون كالعقرب تلسب النبيّ والذمي.
ودخل على ابن ثوابة «4» عقب كلام جرى بينه وبين الوزير أبي الصقر ابن بلبل، وكان ابن ثوابة تطاول على الوزير، فقال له أبو العيناء: بلغني ما جرى بينك وبين الوزير، وما منعه من استقصاء الجواب إلا أنه لم يجد فيك عزا فيضعه ولا مجدا فينقصه، وبعد فإنه عاف لحمك أن يأكله وسهك «5» دمك أن يسفكه، فقال ابن ثوابة:
وما أنت والدخول بيني وبين هؤلاء يا مكدّي؟ فقال: لا تنكر على ابن ثمانين قد ذهب بصره وجفاه سلطانه أن يعوّل على إخوانه فيأخذ من أموالهم، ولكن أشدّ من هذا من يستنزل الماء من أصلاب الرجال فيستفرغه في جوفه فيقطع نسلهم ويعظّم أوزارهم، فقال ابن ثوابة: ما تسابّ اثنان الا غلب ألأمهما، فقال أبو العيناء: وبذا غلبت أبا الصقر بالأمس، فأفحمه.
وخاصم يوما علويا فقال له العلوي: تخاصمني وقد أمرت أن تقول اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد؟ فقال: لكني أقول الطيبين الطاهرين فتخرج أنت.
وقال له ابن الجهم يوما «6» : يا مخنث فقال: وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ
(يس: 78) .(6/2607)
ولما وكل موسى بن عبد الملك الأصبهاني «1» بنجاح بن سلمة ليستأديه ما عليه من الأموال عاقبه موسى فهلك ابن سلمة في المطالبة والعقاب، فلقي بعض الرؤساء أبا العيناء وقال له: ما عندك من خبر نجاح بن سلمة فقال أبو العيناء: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ
(القصص: 15) فبلغت كلمته موسى فلقيه وقال له: أبي تولع والله لأقومنك فقال له أبو العيناء: أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ
(القصص: 19) .
وقال له العباس بن رستم «2» يوما: أنا أكفر منك، فقال له: لأنك تكفر ومعك خفير مثل عبيد الله بن يحيى وابن أبي دواد وأنا أكفر بلا خفارة.
وقال أبو العيناء «3» : مررت يوما في درب بسرّ من رأى فقال لي غلامي: يا مولاي في الدرب حمل سمين، والدرب خال، فأمرته أن يأخذه وغطيته بطيلساني وصرت به إلى منزلي، فلما كان من الغد جاءتني رقعة من بعض رؤساء ذلك الدرب مكتوب فيها: جعلت فداك، ضاع لنا بالأمس حمل فأخبرني صبيان دربنا أنك أنت أخذته فأمر بردّه متفضلا، فكتبت إليه: يا سبحان الله ما أعجب هذا الأمر، مشايخ دربنا يزعمون أنك بغاء وأكذّبهم أنا ولا أصدقهم وتصدّق أنت صبيان دربك أني أخذت الحمل؟! قال: فسكت ولم يعاودني.
وقال له رجل «4» من بني هاشم: بلغني أنك بغاء، فقال: وما أنكرت من ذلك مع قول رسول الله صلى الله عليه وسلم مولى القوم منهم، فقال الهاشمي. إنك دعيّ فينا، قال:
بغائي صحح نسبي فيكم.
ولقيه «5» بعض الكتاب في السحر فقال متعجبا من بكوره: يا أبا عبد الله أتبكر في مثل هذا الوقت؟ فقال له أبو العيناء: أتشاركني في الفعل وتنفرد بالتعجب؟
ودعا أبو العيناء «6» سائلا ليعشيه فلم يدع شيئا الا أكله، فقال له: يا هذا دعوتك رحمة فاتركني رحمة.
ووقف عليه رجل من العامة، فلما أحس به قال: من هذا قال: رجل من بني(6/2608)
آدم، فقال أبو العيناء: مرحبا بك أطال الله بقاءك، كنت أظنّ أن هذا النسل قد انقطع.
وكتب «1» إلى بعض الرؤساء وقد وعده بشيء فلم ينجزه: ثقتي بك تمنعني من استبطائك، وعلمي بشغلك يدعوني إلى تذكيرك، ولست آمن- مع استحكام ثقتي بطولك، والمعرفة بعلو همتك- اخترام الأجل، فإن الآجال آفات الآمال، فسح الله في أجلك وبلغك منتهى أملك والسلام.
وغداه ابن مكرم «2» يوما فقدم إليه عراقا فلما جسه قال: قدركم هذه طبخت بالشطرنج.
وقدم يوما «3» إليه قدرا فوجدها كثيرة العظام فقال له: هذه قدر أم قبر؟
وأكل عنده «4» يوما فسقي على المائدة ثلاث شربات باردة، ثم استسقى فسقي شربة حارة، فقال: لعل مزملتكم تعتريها حمّى الرّبع.
ودخل «5» يوما على المتوكل فقدّم إليه طعام فغمس أبو العيناء لقمته في خلّ كان حاضرا وأكلها فتأذى بالحموضة، وفطن المتوكل له فجعل يضحك، فقال لا تلمني يا أمير المؤمنين فقد محت حلاوة الايمان من قلبي.
وأكل يوما عند بعض أصحابه طعاما وغسل يده عشر مرات فلم تنق فقال: كادت هذه القدر أن تكون نسبا وصهرا.
وقال له رجل «6» من ولد سعيد بن سلم: إن أبي يبغضك، فقال يا بني لي أسوة بآل محمد صلى الله عليه وسلم.
واعترضه يوما «7» أحمد بن سعيد فسلم عليه فقال له أبو العيناء: من أنت؟
قال: أنا أحمد بن سعيد، فقال: إني بك لعارف، ولكن عهدي بصوتك يرتفع إليّ(6/2609)
من أسفل فما له ينحدر عليّ من علو؟ قال: لأني راكب، فقال عهدي بك وأنت في طمرين لو أقسمت على الله في رغيف لأعضّك بما تكره.
ودق «1» إنسان عليه الباب فقال: من هذا؟ قال: أنا، فقال: أنا والدق سواء.
وذكر يوما «2» ولد موسى بن عيسى فقال: كأنّ أنوفهم قبور نصبت على غير قبلة.
وقيل له «3» : لم اتخذت خادمين أسودين؟ قال: أما أسودان فلئلا أتهم بهما، وأما خادمين فلئلا يتهما بي.
وقال يوما لابن ثوابة «4» : إذا شهدت على الناس ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون شهد عليك أنتن عضو فيك.
وقال له ابن ثوابة «5» يوما: أنا والله أحبك بكل جوارحي، فقال أبو العيناء الا بعضو واحد أيدك الله، فبلغ ذلك ابن أبي دواد فقال: قد وفق في التحديد عليه.
وسئل يوما «6» عن مالك بن طوق فقال: لو كان في بني إسرائيل حين نزلت آية البقرة ما ذبحوا غيره.
وقال أبو العيناء «7» : أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة، قال لي أبي: يا بني إن الله تعالى قرن طاعته بطاعتي فقال اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ
(لقمان: 14) فقلت له: يا ابة ان الله ائتمنني عليك ولم يأتمنك علي فقال تعالى وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ
(الاسراء: 31) .
وقال له عبيد الله بن سليمان: اعذرني فاني مشغول عنك، فقال له: إذا فرغت لم احتج اليك، يعني إذا عزل.
ووضع أبو العيناء كتابا «8» في ذم أحمد بن الخصيب حكى فيه ان جماعة من(6/2610)
الفضلاء اجتمعوا في مجلس وكلّ منهم يكره ابن الخصيب لما كان فيه من الفدامة والجهالة والتغفل، فتجاذبوا أطراف الملح في ذمه، فقال أحدهم: كان جهله غامرا لعقله وسفهه قاهرا لحلمه، وقال آخر: لو كان دابة لتقاعس في عنانه وحرن في ميدانه، وقال آخر: كنت إذا وقع لفظه في سمعي أحسست النقصان في عقلي، وقال بعض كتابه: كنت أرى قلم ابن الخصيب يكتب بما لا يصيب، ولو نطق لنطق بنوك عجيب. وقال إبراهيم بن المدبر: كنت يوما عنده فقدم الطعام وفيه هليون فأكبّ عليه، فقلت له: أراك راغبا في الهليون، فقال: إنه يزيد في الباه. وقال آخر: لو غابت عنه العافية لنسيها.
وقال أبو العيناء في آخر هذا التصنيف: كان ابن الخصيب إذا ناظر شغب، وربما رفس من ناظره إذا عجز عن الجواب وخفي عليه الصواب واستولت عليه البلادة وعري كلامه عن الافادة، وكان إن دنوت منه غرّك، وان بعدت عنه ضرّك، فحياته لا تنفع وموته لا يضرّ.
وقال الخطيب في تاريخه «1» اخبرنا الأزهري أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، أخبرنا الصولي عن أبي العيناء قال: كان سبب تحولي من البصرة أني رأيت غلاما ينادى عليه بثلاثين دينارا يساوي ثلاثمائة دينار، فاشتريته، وكنت أبني دارا فأعطيته عشرين دينارا لينفقها على الصناع، فأنفق عشرة واشترى بعشرة ملبوسا له، فقلت: ما هذا؟
فقال: لا تعجل فان أرباب المروءات لا يعيبون على غلمانهم هذا، فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعيّ ولم أدر. ثم أردت ان أتزوج امرأة سرا من بنت عمي فاستكتمته، ودفعت إليه دينارا يشتري به حوائج وسمك هازبى، فاشترى غيره فغاظني، فقال: رأيت بقراط يذم الهازبى، فقلت: يا ابن الفاعلة لم أعلم أني اشتريت جالينوس، فضربته عشر مقارع فأخذني وضربني سبعا وقال: يا مولاي الأدب ثلاث وإنما ضربتك سبعا قصاصا، قال: فرميته فشججته فذهب إلى بنت عمي وقال: الدين النصيحة ومن غشّنا فليس منا، إن مولاي قد تزوج واستكتمني فقلت:
لا بدّ من تعريف مولاتي الخبر فضربني وشجني، فمنعتني بنت عمي دخول الدار(6/2611)
وحالت ما بيني وبين ما فيها وما زالت كذلك حتى طلقت المرأة، وسمت بنت عمي الغلام الناصح فلم يمكني أن أكلمه، فقلت أعتق هذا وأستريح، فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك عليّ، ثم انه أراد الحجّ فزودته فغاب عشرين يوما ورجع وقال: قطع الطريق ورأيت حقك قد وجب، ثم أراد الغزو فجهزته، فلما غاب بعت مالي بالبصرة وخرجت منها خوفا ان يرجع.
ولد أبو العيناء بالأهواز سنة احدى وتسعين ومائة وتوفي ببغداد في جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين وقيل سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وقال ابنه أبو جعفر مات أبي لعشر ليال خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
ومن شعره:
إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور
قلب ذكيّ وعقل غير ذي خطل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور
وقال:
حمدت إلا هي إذ بلاني بحبها ... على حول يغني عن النّظر الشّزر
نظرت إليها والرقيب يظنني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر
وقال يهجو أسد بن جوهر:
تعس الزمان لقد أتى بعجاب ... ومحا رسوم الظرف والآداب
وافى بكتّاب لو انبسطت يدي ... فيهم رددتهم إلى الكتاب
جيل من الأنعام إلا أنهم ... من بينها خلقوا بلا أذناب
لا يعرفون إذا الجريدة جرّدت ... ما بين عيّاب إلى عتاب
أو ما ترى أسد بن جوهر قد غدا ... متشبّها بأجلّة الكتاب
فإذا أتاه مسائل في حاجة ... ردّ الجواب له بغير جواب
وسمعت من غثّ الكلام ورثه ... وقبيحه باللحن والاعراب
ثكلتك أمك هبك من بقر الفلا ... ما كنت تغلط مرة بصواب(6/2612)
وقال في الوزير أحمد بن الخصيب:
قل للخليفة يا ابن عمّ محمد ... اشكل وزيرك إنه ركّال
قد أحجم المتظلمون مخافة ... منه وقالوا ما نروم محال
ما دام مطلقة علينا رجله ... أو دام للنزق الجهول مقال
قد نال من أعراضنا بلسانه ... ولرجله بين الصدور مجال
امنعه من ركل الرجال وان ترد ... مالا فعند وزيرك الأموال
وقال:
الحمد لله ليس لي فرس ... ولا على باب منزلي حرس
ولا غلام إذا هتفت به ... بادر نحوي كأنه قبس
ابني غلامي وزوجتي أمتي ... ملّكنيها الملاك والعرس
غنيت باليأس واعتصمت به ... عن كلّ فرد بوجهه عبس
فما يراني ببابه أبدا ... طلق المحيا سمح ولا شرس
وقال:
من كان يملك درهمين تعلّمت ... شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدم الفصحاء فاستمعوا له ... ورأيته بين الورى مختالا
لولا دراهمه التي في كيسه ... لرأيته شرّ البرية حالا
إن الغني إذا تكلم كاذبا ... قالوا صدقت وما نطقت محالا
وإذا الفقير أصاب قالوا لم تصب ... وكذبت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في المواطن كلّها ... تكسو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن اراد قتالا
وقال:
تولت بهجة الدنيا ... فكلّ جديدها خلق
وخان الناس كلهم ... فما أدري بمن أثق(6/2613)
رأيت معالم الخيرا ... ت سدّت دونها الطرق
فلا حسب ولا أدب ... ولا دين ولا خلق
وقال:
ألم تعلمي يا عمرك الله أنني ... كريم على حين الكرام قليل
وأني لا أخزى إذا قيل مقتر ... جواد وأخزى أن يقال بخيل
وإلا يكن عظمي طويلا فإنني ... له بالخصال الصالحات وصول
إذا كنت في القوم الطوال فضلتهم ... بطولي لهم حتى يقال طويل
ولا خير في حسن الجسوم وطولها ... إذا لم يزن طول الجسوم عقول
وكائن رأينا من جسوم طويلة ... تموت إذا لم تحيهنّ أصول
ولم أر كالمعروف أما مذاقه ... فحلو وأما وجهه فجميل
وقال:
يا ويح هذي الأرض ما تصنع ... أكلّ حيّ فوقها تصرع
تزرعهم حتى إذا ما أتوا ... أشدّهم تحصد ما تزرع
[1101] محمد بن القاسم بن محمد بن بشار بن الحسين
بن بيان بن سماعة بن فروة بن قطن بن دعامة، أبو بكر ابن الانباري النحوي اللغوي الأديب: كان من أعلم الناس بنحو الكوفيين، وأكثرهم حفظا للغة، وكان صدوقا زاهدا متواضعا فاضلا أديبا
__________
[1101] ترجمة أبي بكر ابن الأنباري في أخبار الراضي والمتقي: 144. وطبقات الزبيدي: 153 والفهرست: 82 وتهذيب اللغة 1: 28 وتاريخ أبي المحاسن: 178 وتاريخ بغداد 3: 181 وطبقات الحنابلة 2: 69 والأنساب 1: 355 ونزهة الألباء: 181 والمنتظم 6: 311 وإنباه الرواة 3: 201 وابن خلكان 4: 341 وتذكرة الحفاظ: 842 ومعرفة القراء 1: 225 وعبر الذهبي 2: 214 وسير الذهبي 15: 274 والوافي 4: 344 ومرآة الجنان 2: 294 والبداية والنهاية 11: 196 وطبقات ابن الجزري 2: 230 والنجوم الزاهرة 3: 269 وبغية الوعاة 1: 212 والشذرات 2: 315 وطبقات الحفاظ للسيوطي: 349 وطبقات الداودي 2: 226 وإشارة التعيين: 335.(6/2614)
ثقة خيرا من أهل السنة حسن الطريقة، أخذ عن أبي العباس ثعلب وخلق، وروى عنه الدارقطني وجماعة، وكتب عنه وأبوه حي. وكان يملي في ناحية من المسجد وأبوه في ناحية أخرى. ومرض يوما «1» فعاده أصحابه فرأوا من انزعاج والده أمرا عظيما، فطيبوا نفسه فقال: كيف لا أنزعج وهو يحفظ جميع ما ترون، وأشار إلى خزانة مملوءة كتبا.
وقال أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي «2» : كان أبو بكر ابن الانباري يحفظ ثلاثمائة ألف بيت شاهدا في القرآن، وكان يحفظ مائة وعشرين تفسيرا بأسانيدها.
وقال له أبو الحسن العروضي: قد أكثر الناس في حفظك فكم تحفظ؟ فقال:
ثلاثة عشر صندوقا.
قال وسألته جارية الراضي «3» يوما عن تعبير رؤيا فقال: أنا حاقن، ثم مضى من يومه فحفظ كتاب الكرماني في التعبير، وجاء من الغد وقد صار معبرا للرؤيا.
وقال حمزة بن محمد بن طاهر الدقاق «4» : كان أبو بكر ابن الانباري يملي كتبه المصنفة ومجالسه المشتملة على الحديث والتفسير والأخبار والأشعار، كل ذلك من حفظه.
وقال محمد بن جعفر التميمي: أما أبو بكر ابن الانباري فما رأينا أحفظ منه ولا أغزر منه علما، وكان يحفظ ثلاثة عشر صندوقا، وهذا مما لم يحفظه أحد قبله ولا بعده.
وقال أبو العباس يونس النحوي: كان أبو بكر آية من آيات الله تعالى في الحفظ، وكان أحفظ الناس للغة والشعر.
وحكى أبو الحسن الدارقطني «5» أنه حضر مجلس إملائه في يوم جمعة، فصحّف اسما أورده في إسناد حديث، إما كان حبان فقال حيان، قال الدارقطني:
فأعظمت أن يحمل عن مثله في فضله وجلالته وهم، وهبت أن أوقفه على ذلك، فلما(6/2615)
فرغ من إملائه تقدمت إليه فذكرت له وهمه وعرفته صواب القول فيه وانصرفت، ثم حضرت الجمعة الثانية مجلسه فقال أبو بكر للمستملي: عرّف جماعة الحاضرين أنا صحفنا الاسم الفلاني لما أملينا حديث كذا في الجمعة الماضية، ونبهنا ذلك الشاب على الصواب، وهو كذا، وعرّف ذلك الشاب أنا رجعنا إلى الأصل فوجدناه كما قال.
وقال أحمد بن يوسف الأصبهاني «1» : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقلت: يا رسول الله عمن آخذ علم القرآن؟ فقال: عن أبي بكر ابن الانباري.
وقال أبو الحسن العروضي «2» : اجتمعت أنا وأبو بكر ابن الانباري عند الراضي بالله على الطعام، وكان الطباخ قد عرف ما يأكل أبو بكر، وشوى له قلّية يابسة، قال: فأكلنا نحن ألوان الطعام وأطايبه وهو يعالج تلك القلية، ثم فرغنا وأتينا بحلواء فلم يأكل منها، فقمنا ونمنا إلى الخيش، فنام بين يدي الخيش ونمنا نحن في خيشين ولم يشرب ماء إلى العصر، فلما كان بعد العصر قال: يا غلام، الوظيفة فجاءه بماء من الحب وترك الماء المزمّل بالثلج، فغاظني أمره وصحت: يا أمير المؤمنين، فأمر باحضاري وقال: ما قصتك؟ فأخبرته وقلت يا أمير المؤمنين يحتاج هذا إلى ان يحال بينه وبين تدبير نفسه لأنه يقتلها ولا يحسن عشرتها، فضحك وقال: له في هذا لذة، وقد جرت له به عادة، وصار آلفا لذلك فلن يضره. ثم قلت له: يا أبا بكر لم تفعل هذا بنفسك؟ فقال: أبقي على حفظي.
ويحكى «3» أنه كان يأخذ الرطب ويشمه ويقول: أما إنك طيّب، ولكن أطيب منك ما وهب الله لي من العلم وحفظه.
وحكي أنه «4» مرّ يوما بالنخاسين فرأى جارية تعرض حسنة الصورة كاملة الوصف، قال: فوقعت في قلبي ثم مضيت إلى دار أمير المؤمنين الراضي بالله فقال:
أين كنت إلى الساعة؟ فعرفته الأمر وأخبرته بالجارية، فأمر بشرائها وحملت إلى منزلي ولم أعلم، فجئت فوجدتها في المنزل، فقلت لها: اعتزلي إلى الاستبراء، وكنت(6/2616)
أطلب مسألة قد خفيت عليّ فاشتغل قلبي بالجارية فقلت للخادم: خذها وامض بها إلى النخاس فليس يبلغ قدرها ان يشغل قلبي عن علمي، فأخذها الغلام فقالت:
دعني حتى أكلمه، فقالت لي: انت رجل لك محلّ وعقل، فإذا أخرجتني ولم تبين ذنبي لم آمن أن يظن الناس بي ظنا قبيحا فعرفنيه قبل أن تخرجني، فقلت: مالك عندي ذنب غير أنك شغلتني عن علمي، فقالت: هذا سهل عندي، قال: فبلغ الراضي ما كان من أمري فقال: لا ينبغي أن يكون العلم في قلب أحد أحلى منه في قلب هذا الرجل.
ولا بن الانباري شعر لطيف فمن ذلك قوله:
إذا زيد شرا زاد صبرا كأنما ... هو المسك ما بين الصّلاية والفهر
فانّ فتيت المسك يزداد طيبه ... على السّحق والحرّ اصطبارا على الضرّ
ومن أماليه:
فهلا منعتم إذ منعتم كلامها ... خيالا يوافيني على النأي هاديا
سقى الله أطلالا بأكثبة الحمى ... وإن كنّ قد أبدين للناس ما بيا
منازل لو مرّت بهنّ جنازتي ... لقال الصدى يا صاحبيّ انزلا بيا
وأملى أيضا:
وبالهضبة البيضاء إن زرت أهلها ... مها مهملات ما عليهنّ سائس
خرجن لخوف الريب من غير ريبة ... عفائف باغي اللهو منهنّ آيس
ولأبي بكر ابن الأنباري من التصانيف: غريب الحديث قيل انه خمس وأربعون ألف ورقة أملاه من حفظه. ومما أملاه أيضا من مصنفاته كتاب الهاءات نحو ألف ورقة. وشرح الكافي نحو ألف ورقة. وكتاب الأضداد وما ألف في الاضداد أكبر منه «1» . وكتاب المذكر والمؤنث ما صنف أحد أتمّ منه «2» . ورسالة المشكل ردّ فيها على ابن قتيبة وأبي حاتم السجستاني. وكتاب المشكل في معاني القرآن بلغ فيه إلى طه(6/2617)
وأملاه سنين كثيرة ولم يتمه. وشرح الجاهليات سبعمائة ورقة «1» . وكتاب الوقف والابتداء «2» . والكافي في النحو. والزاهر «3» . وكتاب اللامات. وشرح المفضليات «4» . والامالي. وأدب الكاتب. والواضح في النحو. والموضح في النحو أيضا. وشرح شعر النابغة. وشرح شعر الأعشى. وشرح شعر زهير. وشعر الراعي.
والمقصور والممدود. وكتاب الالفات. وكتاب الهجاء. والمجالسات. وكتاب مسائل ابن شنبوذ. وكتاب الرد على من خالف مصحف عثمان. وغير ذلك.
وكانت ولادة أبي بكر ابن الانباري يوم الأحد لاحدى عشرة ليلة خلت من رجب سنة احدى وسبعين ومائتين، وتوفي ليلة عيد النحر سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وقيل سبع وعشرين وثلاثمائة.
[1102] محمد بن أبي القاسم بايجوك
أبو الفضل البقالي الخوارزمي الآدمي الملقب زين المشايخ، النحوي الأديب: كان إماما في الأدب، وحجة في لسان العرب، أخذ اللغة وعلم الإعراب عن أبي القاسم الزمخشري، وجلس بعده مكانه، وسمع الحديث منه ومن غيره، وكان جمّ الفوائد حسن الاعتقاد كريم النفس نزيه العرض غير خائض فيما لا يعنيه، له يد في الترسل ونقد الشعر.
وله من التصانيف: مفتاح التنزيل. وتقويم اللسان في النحو. والاعجاب في الاعراب. والبداية في المعاني والبيان. وكتاب منازل العرب. وشرح أسماء الله الحسنى، وغير ذلك.
مات في سلخ جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين وخمسمائة عن نيف وسبعين سنة.
__________
[1102] ترجمة ابن بايجوك في الوافي 4: 340 وبغية الوعاة 1: 215 وانظر التكملة لبروكلمان 1: 513(6/2618)
[1103] محمد بن محمد بن جعفر بن مختار
أبو الفتح الواسطي النحوي: كان نحويا فاضلا جالس ابن كردان وسمع منه، وجالس أبا الحسين ابن دينار وغيره، وكان حسن الايراد جيد المحفوظ متيقظا ولم يتصدر لاقراء النحو، بلغ تسعين سنة ومات سنة أربع وسبعين وخمسمائة.
[1104] محمد بن محمد بن جعفر
أبو الحسن المعروف بابن لنكك البصري النحوي الشاعر الأديب: كان فرد البصرة وصدر أدبائها في زمانه، أدركته حرفة الأدب فقصّر به جهده عن بلوغ الغاية التي كانت تسمو إليها نفسه إذ كان التقدم في زمنه لأبي الطيب المتنبي وأبي رياش اليمامي، فكسدت بضاعته بنفاق سوقهما، وانحط نجمه «1» عن مطلع سعادتهما، فولع بثلبهما والتشفّي بهجوهما وذمهما، فكان أكثر شعره في شكوى الزمان وأهله وهجاء شعراء عصره. وكان أبلغ شعره ما لم يتجاوز البيتين والثلاثة، وكان يروي قصيدة دعبل التي أولها «2» :
مدارس آيات خلت من تلاوة
يرويها عن أبي الحسين العباداني عن أخيه عن دعبل، ورواها عنه ابن جخجخ النحوي.
ومن شعره «3» :
نحن والله في زمان غشوم ... لو رأيناه في المنام فزعنا
__________
[1103] ترجمته في بغية الوعاة 1: 221.
[1104] ترجمة ابن لنكك في اليتيمة 2: 348 والوافي 1: 156 وبغية الوعاة 1: 219 وأكثر مقطعاته التي أوردها ياقوت ثابت في اليتيمة.(6/2619)
يصبح الناس فيه من سوء حال ... حقّ من مات منهم أن يهنّا
وقال «1» :
جار الزمان علينا في تصرفه ... وأيّ دهر على الأحرار لم يجر
عندي من الدهر ما لو أنّ أيسره ... يلقى على الفلك الدوّار لم يدر
وقال:
نحن من الدهر في أعاجيب ... فنسأل الله صبر أيوب
أقفرت الأرض من محاسنها ... فابك عليها بكاء يعقوب
وقال «2» :
زمان قد تفرغ للفضول ... وسوّد كلّ ذي حمق جهول
فان احببتم فيه ارتفاعا ... فكونوا جاهلين بلا عقول
وقال:
يعيب الناس كلّهم الزمانا ... وما لزماننا عيب سوانا
نعيب زماننا والعيب فينا ... ولو نطق الزمان إذا هجانا
ذئاب كلنا في زيّ ناس ... فسبحان الذي فيه برانا
يعاف الذئب يأكل لحم ذئب ... ويأكل بعضنا بعضا عيانا
وقال أيضا:
أقول لعصبة بالفقه صالت ... وقالت ما خلا ذا العلم باطل
أجل لا علم يوصلكم سواه ... إلى مال اليتامى والأرامل
أراكم تقلبون الحكم قلبا ... إذا ما صبّ زيت في القنادل
القنادل والقناديل بمعنى، وصبّ الزيت فيها كناية عن الرشوة.(6/2620)
وقال:
مضى الأحرار وانقرضوا وبادوا ... وخلفني الزمان على علوج
وقالوا قد لزمت البيت جدا ... فقلت لفقد فائدة الخروج
فمن ألقى إذا أبصرت فيهم ... قرودا راكبين على السروج
زمان عزّ فيه الجود حتى ... كأنّ الجود في أعلى البروج
وقال «1» :
يا زمانا ألبس الأح ... رار ذلا ومهانه
لست عندي بزمان ... إنما أنت زمانه
كيف نرجو منك خيرا ... والعلا فيك مهانه
أجنون ما نراه ... منك يبدو أم مجانه
وقال يهجو أبا رياش اليمامي الشاعر المشهور «2» :
نبئت أن أبا رياش قد حوى ... علم اللغات وفاق فيما يدّعي
من مخبري عنه فإني سائل ... من كان حنّكه بأير الأصمعي
وقال يهجو أبا الطيب المتنبي وكان يزعم أن أباه كان سقاء بالكوفة «3» :
قولا لأهل زمان لا خلاق لهم ... ضلّوا عن الرشد من جهل بهم وعموا
أعطيتم المتنبي فوق منيته ... فزوّجوه برغم أمهاتكم
لكنّ بغداد جاد الغيث ساكنها ... نعالهم في قفا السقاء تزدحم
وقال فيه أيضا «4» :
ما أوقح المتنبي ... فيما حكى وادّعاه
أبيح مالا عظيما ... حتى أباح قفاه
يا سائلي عن غناه ... من ذاك كان غناه(6/2621)
إن كان ذاك نبيا ... فالجاثليق إلاه
وقال فيه «1» :
متنبيكم ابن سقاء كوفا ... ن ويوحى من الكنيف إليه
كان من فيه يسلح الشعر حتى ... سلحت فقحة الزمان عليه
وقال في الرملي الشاعر «2» :
حلف الرمليّ فيما ... قصّ عني وحكاه
يدّعي يوم اصطلحنا ... أنني قبلت فاه
لم أقبل فاه لكن ... قبلت نعلي قفاه
وقال في مبرمان النحوي «3» :
صداع من كلامك يعترينا ... وما فيه لمستمع بيان
مكابرة ومخرقة وبهت ... لقد أبرمتنا يا مبرمان
وقال «4» :
تولى شباب كنت فيه منعما ... تروح وتغدو دائم الفرحات
فلست تلاقيه ولو سرت خلفه ... كما سار ذو القرنين في الظلمات
وقال «5» :
قد شربنا على شقائق روض ... شربت عبرة السحاب السكوب
صبغت من دم القلوب فما تب ... صر الا تعلقت بالقلوب
وقال أيضا وفيه الايماء إلى حديث: «امرؤ القيس قائد الشعراء إلى النار» «6» :
إذا خفق اللواء عليّ يوما ... وقد حمل امرؤ القيس اللواء
رجوت الله لا أرجو سواه ... لعلّ الله يرحم من أساء(6/2622)
[1105] محمد بن محمد بن حامد بن عبد الله بن علي
أبو عبد الله المعروف بالعماد الكاتب الأصبهاني: ولد بأصبهان يوم الاثنين [ثاني] جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وخمسمائة ونشأ بها، وقدم بغداد شابا وانتظم في سلك طلبة المدرسة النظامية فتفقه بها بأبي منصور سعيد بن محمد بن الرزاز، وسمع منه ومن أبي بكر الأشقر وأبي الحسن علي بن عبد السلام وأبي القاسم علي بن الصباغ وأبي منصور ابن خيرون وأبي المكارم المبارك بن علي السمرقندي وجماعة، وأجاز له أبو عبد الله الفراوي وأبو القاسم ابن الحصين، ثم عاد إلى أصبهان فتفقه بها أيضا على محمد بن عبد اللطيف الخجندي وأبي المعالي الوركاني، ثم رجع إلى بغداد واشتغل بصناعة الكتابة فبرع فيها ونبغ، فاتصل بالوزير عون الدين يحيى بن هبيرة فولاه النظر بالبصرة ثم بواسط، ولما توفي الوزير ابن هبيرة وتشتت شمل المنتسبين إليه أقام العماد مدة ببغداد منكّد العيش، فانتقل إلى دمشق ووصل إليها في شعبان سنة اثنتين وستين وخمسمائة، فأنزله قاضي القضاة كمال الدين أبو الفضل محمد بن الشهرزوري بالمدرسة النورية الشافعية المنسوبة إلى العماد الآن المعروفة بالعمادية، وإنما نسبت إليه لأن الملك العادل نور الدين ولاه إياها سنة سبع وستين وخمسمائة. وكان العماد له معرفة بنجم الدين أيوب والد السلطان صلاح الدين، عرفه بتكريت حين كان نجم الدين واليا عليها، فلما سمع نجم الدين بوصوله بادر لتبجيله والسلام عليه في منزله، ومدحه العماد إذ ذاك بقصيدة أولها:
يوم النوى ليس من عمري بمحسوب ... ولا الفراق إلى عيشي بمنسوب
ما اخترت بعدك لكنّ الزمان أتى ... كرها بما ليس يا محبوب محبوبي
__________
[1105] ترجمة العماد الأصفهاني في الكامل لابن الأثير 12: 71 ومرآة الزمان 8: 504 وتكملة المنذري (رقم: 605) والجامع لابن الساعي 9: 61 وابن خلكان 5: 147 وابن الفوطي 4 (رقم: 1240) وعبر الذهبي 4: 299 وسير الذهبي 21: 345 (وفي حاشيته ذكر لمصادر أخرى) ومختصر ابن الدبيثي 1: 122 والوافي 1: 132 وطبقات السبكي 6: 178 والبداية والنهاية 13: 30 ومقدمة الخريدة (القسم المصري والشامي والعراقي) .(6/2623)
أرجو إيابي إليكم غانما عجلا ... فقد ظفرت بنجم الدين أيوب
موفّق الرأي ماضي العزم مرتفع ... على الأعاجم مجدا والأعاريب
أحبّك الله إذ لازمت نصرته ... على جبين بتاج الملك معصوب
وهي طويلة، فشكره نجم الدين وأحسن إليه وأكرمه وقدّمه على الأعيان وميزه، وعرّف به ابنه صلاح الدين. وكان القاضي كمال الدين ابن الشهرزوري يحضر مجالس العماد ويذاكره بمسائل الخلاف في الفروع، فنوّه القاضي بذكر العماد عند السلطان نور الدين وذكر له تقدمه في العلم والكتابة، وأهّله لكتابة الانشاء، فتردد العماد في الدخول فيما لم يتقدم له اشتغال طويل به مع توفر موادّ هذه الصناعة عنده خوفا من التقصير فيما لم يمارسه، ثم أقدم بعد الاحجام فباشرها وأجاد فيها حتى زاحم القاضي الفاضل بمنكب ضخم. وكان ينشىء الرسائل بالفارسية أيضا فيجيد فيها إجادته بالعربية. وعلت منزلته عند نور الدين وصار صاحب سرّه، وفوّض إليه تدريس المدرسة العمادية كما تقدم، وولاه الإشراف على ديوان الانشاء. ولما توفي نور الدين وولي ابنه الملك الصالح إسماعيل اغراه بالعماد جماعة كانوا يحسدونه ويكرهونه، فخاف على نفسه وخرج من دمشق قاصدا بغداد، فوصل إلى الموصل ومرض بها، ولما أبلّ من مرضه بلغه خروج السلطان صلاح الدين من مصر قاصدا دمشق ليستولي عليها فعزم على الرجوع إلى الشام وخرج من الموصل سنة سبعين وخمسمائة فوصل إلى دمشق وسار منها إلى حلب، وصلاح الدين يومئذ نازل عليها، فلاقاه في حمص وقد استولى على قلعتها، فلزم بابه ومدحه بقصيدة طويلة كان نظمها قبلا في الشوق إلى دمشق والتأسف عليها، فجعل مدح صلاح الدين مخلصها، أولها «1» :
أجيران جيرون ما لي مجير ... سوى عدلكم «2» فاعدلوا أو فجوروا
وما لي سوى طيفكم زائر ... فلا تمنعوه إذا لم تزوروا
يعزّ عليّ بأنّ الفؤاد ... لديكم أسير وعنكم أسير(6/2624)
وما كنت أعلم أني أعي ... ش بعد الأحبة «1» أني صبور
وفت أدمعي غير أن الكرى ... وقلبي وصبري كلّ غدور
إلى ناس باناس لي صبوة ... لها الوجد داع وذكري مثير
يزيد اشتياقي وينمو كما ... يزيد يزيد وثورا يثور
ومن بردى حرّ قلبي المشوق ... فها أنا من حرّه أستجير «2»
وبالمرج مرجوّ عيشي الذي ... على ذكره العذب عيشي مرير
فقدتكم ففقدت الحياة ... ويوم اللقاء يكون النشور
تطاول لسؤلي عند القصير ... فعن نيله اليوم باعي قصير
وكن لي بريدا لباب البريد ... فأنت بأخبار شوقي خبير
ومنها:
ترى بالسلامة يوما يكون ... بباب السلامة مني عبور
وأن جوازي بباب الصغير ... لعمري لعمري «3» حظّ كبير
وما جنة الخلد إلا دمشق ... وفي القلب شوقا إليها سعير
وجامعها الرحب والقبة ال ... منيفة والفلك المستدير
وفي قبّة النسر لي سادة ... بهم للمكارم أفق منير
وباب الفراديس فردوسها ... وسكانها أحسن الناس حور
والارزة فالسهم فالنيربان ... فجنات مزّتها فالكفور
كأن الجواسق مأهولة ... بروج تطلّع منها البدور
بنيربها يستنير الفؤاد ... ويربو بربوتها لي السرور «4»(6/2625)
ومنها:
وأين تأملت فلك يدور ... وعين تفور ونهر يمور
وأين نظرت نسيم يرقّ ... وزهر يروق وروض نضير
ومنذ ثوى نور دين الالاه ... لم يبق للدين والشام نور
وللناس بالملك الناصر ال ... صلاح صلاح ونصر وخير
هو الشمس أنوارها بالبلاد ... ومطلعها سرجه والسرير
إذا ما سطا أو حبا واحتبى ... فما الليث أو حاتم أو ثبير
بيوسف مصر وأيامه ... تقرّ العيون وتشفى الصدور
وقد أطال نفسه في هذه القصيدة وكلها غرر، وقد اكتفينا بما أوردناه منها.
ثم لزم العماد من ذلك اليوم باب السلطان صلاح الدين ينزل لنزوله ويرحل لرحيله، ولم يزل يغشى مجالسه ملازما لخدمته حتى قرّبه واستكتبه واعتمد عليه، فتصدر وزاحم الوزراء وأعيان الدولة، وعلا قدره وطار صيته. وكان إذا انقطع القاضي الفاضل عن الديوان ناب عنه في النظر عليه، وألقى إليه السلطان مقاليده وركن إليه بأسراره، فتقدم الأعيان وأشير إليه بالبنان؛ وكان بينه وبين القاضي الفاضل مراسلات ومحاورات، فمن ذلك أنه لقي القاضي يوما وهو راكب على فرس فقال له: سر فلا كبا بك الفرس، فقال له الفاضل: دام علا العماد، وكلا القولين يقرأ عكسا وطردا.
واجتمعا يوما في موكب السلطان وقد ثار الغبار لكثرة الفرسان، وتعجب القاضي من ذلك فأنشد العماد:
أما الغبار فانه ... مما أثارته السنا بك
والجوّ منه مظلم ... لكن أنارته السنا بك
يا دهر لي عبد الرحي ... م فلست أخشى مسّ نابك
ولما توفي السلطان صلاح الدين رحمه الله اختلّت أحوال العماد ولزم بيته وأقبل على التصنيف والافادة، حتى توفي يوم الاثنين مستهل رمضان سنة سبع وتسعين وخمسمائة.(6/2626)
وله من المصنفات: خريدة القصر وجريدة العصر «1» ذيل به زينة الدهر لأبي المعالي سعد بن علي الحظيري الوراق، جمع العماد في هذا الكتاب تراجم شعراء الشام والعراق ومصر والجزيرة والمغرب وفارس ممن كان بعد المائة الخامسة إلى ما بعد سنة سبعين وخمسمائة، وهو يدخل في عشر مجلدات لطيفة. وله البرق الشامي «2» ، وهو تاريخ بدأ فيه بذكر نفسه ونشأته ورحلته من العراق إلى الشام وأخباره مع الملك العادل نور الدين والسلطان صلاح الدين وما جرى له في خدمتهما، وذكر فيه بعض الفتوحات بالشام وأطرافها، وهو بضعة مجلدات. وله الفتح القسي في الفتح القدسي «3» في مجلد كبير. وكتاب السيل على الذيل «4» جعله ذيلا على كتابه خريدة القصر. وله نصرة الفطرة وعصرة القطرة في أخبار الدولة السلجوقية «5» . وله رسالة سماها عتبى الزمان، وتسمى أيضا العتبى والعقبى. وكتاب سماه نحلة الرحلة ذكر فيها اختلال الأحوال وتغير الأمور بعد موت السلطان صلاح الدين، واختلاف أولاده وما وقع من الخلاف بين الأمراء والعمال. وله ديوان رسائل في مجلدات.
وديوان شعر «6» في مجلدين. وديوان دو بيت صغير وغير ذلك ومن إنشاء العماد الكتاب الكتاب الذي كتبه عن السلطان صلاح الدين إلى ديوان الخلافة ببغداد مبشرا بفتح بيت المقدس سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة افتتحه بقوله تعالى وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
(النور: 55) الآية ثم قال: الحمد لله الذي أنجز لعباده الصالحين وعد الاستخلاف، وقهر بأهل التوحيد أهل الشرك والخلاف، وخصّ سلطان الديوان العزيز بهذه الخلافة، ومكّن دينه المرتضى وبدّل بالأمان المخافة، وذخر هذا الفتح الأسنى،(6/2627)
والنصر الأهنى، للعصر الامامي النبوي الناصري على يد الخادم أخلص أوليائه، والمختصّ من الاعتزاز باعتزائه إليه وانتمائه؛ وهذا الفتح العظيم، والنجح الكريم، قد انقرضت الملوك الماضية، والقرون الخالية، على مسرة تمنيه، وحيرة ترجيه، ووحشة اليأس من تسنيه، وتقاصرت عنه طوال الهمم، وتخاذلت عن الانتصار له أملاك الأمم، فالحمد لله الذي أعاد القدس إلى القدس، وطهره من الرجس، وحقق من فتحه ما كان في النفس، وبدّل وحشة الكفر فيه من الإسلام بالأنس، وجعل عزّ يومه ماحيا ذلّ أمس، وأسكنه الفقهاء والعلماء بعد الجهال والضلال من بطرك وقس، وعبدة الصليب ومستقبلي الشمس. وقد أظهر الله على المشركين الضالين، جنوده المؤمنين العالمين، وقطع دابر القوم الظالمين، والحمد لله رب العالمين، فكأن الله شرّف هذه الأمة فقال لهم: اعزموا على اقتناء هذه الفضيلة التي بها فضّلكم، وحقّق في حقكم امتثال أمره الذي خالفه اليهود في قوله ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ
(المائدة: 21) وهذا الفتح قد أقدر الله على افتضاضه بالحرب العوان، وجعل ملائكته المسوّمة له من أعز الأنصار وأظهر الأعوان، واخرج من بيته المقدس يوم الجمعة أهل يوم الأحد، وقمع من كان يقول ان الله ثالث ثلاثة بمن يقول هو الله أحد. واعان الله بانزال الملائكة والروح، واتى بهذا النصر الممنوح، الذي هو فتح الفتوح، وقد تعالى ان يحيط به وصف البليغ نظما ونثرا، وعبد الله في البيت المقدّس سرا وجهرا، وملكت بلاد الاردنّ وفلسطين غورا ونجدا وبرا وبحرا، وملئت إسلاما وقد كانت ملئت كفرا، وتقاضى الخادم دين الدين الذي غلق رهنه دهرا، والحمد لله وشكرا، حمدا يجدّ للإسلام كلّ يوم نصرا، ويزيد وجوه أهله بشرى فتتوجّه بشرا.
والكتاب طويل ذكر فيه فصولا عن الوقائع التي تقدمت فتح القدس، فاكتفينا منه بما أوردناه.
وللعماد قصيدة من قصائده الطوال ضمنها فتح القدس وفلسطين، ومدح السلطان صلاح الدين اقتصرنا على إيراد طرف منها قال «1» :
أطيب بأنفاس تطيب لكم نفسا ... وتعتاض من ذكراكم وحشتي أنسا(6/2628)
وأسأل عنكم عافيات دوارس ... غدت بلسان الحال ناطقة خرسا
معاهدكم ما بالها كعهودكم ... وقد كرّرت من درس آثارها درسا
وقد كان في حدسي لكم كلّ طارف ... وما جئتم من هجركم خالف الحدسا
أرى حدثان الدهر ينسي حديثه ... وأما حديث الغدر منكم فلا ينسى
تزول الجبال الراسيات وثابت ... رسيس غرام في فؤادي لكم أرسى
حسبت حبيبي قاسي القلب وحده ... وقلب الذي يهوى بحمل الهوى أقسى
ومنها:
وإن نهاري صار ليلا لبعدكم ... فما أبصرت عيني صباحا ولا شمسا
بكيت على مستودعات خدوركم» ... كما قد بكت قدما على صخرها الخنسا
فلا تحبسوا عني الجميل فانني ... جعلت على حبي لكم مهجتي حبسا
ومنها:
رأيت صلاح الدين أفضل من غدا ... وأشرف من أضحى وأكرم من أمسى
وقيل لنا في الأرض سبعة أبحر ... ولسنا نرى إلا أنامله الخمسا
سجيته الحسنى وشيمته الرضى ... وبطشته الكبرى وعزته القعسا
فلا عدمت أيامنا منه مشرقا ... ينير بما يولي ليالينا الدمسا
جنودك أملاك السماء وظنّهم ... أعاديك جنا في المعارك أو إنسا «2»
سحبت على الأردنّ ردنا من القنا ... ردينية ملدا وخطّية ملسا
ونعم مجال الخيل حطين لم تكن ... معاركها للجرد ضرسا ولا دهسا
غداة أسود الحرب معتقلو القنا ... أساود تبغي من نحور العدا نهسا
أتوا شكس الأخلاق خشنا فليّنت ... حدود الرقاق الخشن أخلاقها الشّكسا
طردتهم في الملتقى وعكستهم ... مجيدا بحكم العزم طردك والعكسا(6/2629)
فكيف مكست المشركين رؤوسهم ... ورأيك «1» في الاحسان أن تطلق المكسا
كسرتهم إذ صحّ عزمك فيهم ... ونكّستهم من بعد أعلامهم نكسا
بواقعة رجّت بها أرض جيشهم ... ومارت كما بسّت جبالهم بسّا
بطون ذئاب البرّ صارت قبورهم ... ولم ترض أرض ان تكون لهم رمسا
وحامت «2» على نار المواضي فراشهم ... لتطفى فزادت من خمودهم قبسا
وقد خشعت أصوات أبطالها فما ... يعي السمع إلا من صليل الظبا همسا
تقاد بدأماء الدماء ملوكهم ... أسارى كسفن اليمّ نيطت بها القلسا
سبايا بلاد الله مملوءة بها ... وقد عرضت نخسا وقد شريت بخسا
يطاف بها الأسواق لا راغب لها ... لكثرتها كم كثرة توجب الوكسا
شكا يبسا رأس البرنس الذي به ... تندّى حسام حاسم ذلك اليبسا
حسا دمه ماضي الغرار لغدره ... وما كان لولا غدره دمه يحسى
ومنها:
ومن قبل فتح القدس كنت مقدسا ... فلا عدمت أخلاقك الطهر والقدسا
نزعت لباس الكفر عن قدس أرضها ... وألبستها الدين الذي كشف اللبسا
ومنها:
جرى بالذي تهوى القضاء وظاهرت ... ملائكة الرحمن أجنادك الحمسا
وكم لبني أيوب عبد كعنتر ... فان ذكروا بالبأس لم يذكروا عبسا
ومن غزلياته قوله «3» :
أفدي الذي خلبت قلبي لواحظه ... وخلّفت لذعات الوجد في كبدي
صفات ناظره سقم بلا ألم ... سكر بلا قدح جرح بلا قود
على محياه من نار الصّبا شعل ... وورد خديه من ماء الجمال ندي(6/2630)
ومن حكمياته «1» :
اقنع ولا تطمع فان الغنى ... كماله في عزّة النفس
فانما ينقص بدر الدجى ... لأخذه الضوء من الشمس
وقال «2» :
وما هذه الأيام الا صحائف ... يؤرّخ فيها ثم يمحى ويمحق
ولم أر في دهري كدائرة المنى ... توسّعها الآمال والعمر ضيق
[1106] محمد بن محمد بن عباد أبو عبد الله
البغدادي المقريء النحوي: كان مقدما في علم القراءات بارعا في النحو وعلوم العربية، قرأ النحو على أبي سعيد السيرافي النحوي، وأخذ عنه القراءة أبو العباس أحمد بن الفرج بن منصور بن محمد بن الحجاج بن هارون، وصنف «كتاب الوقف والابتداء» وأجاد فيه، وسمعه منه أبو العباس ابن هارون المذكور. توفي أبو عبد الله ابن عباد البغدادي يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
[1107] محمد بن محمد بن عبد الجليل بن عبد الملك
بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن يحيى بن مردويه بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، رشيد الدين المعروف بالوطواط الأديب الكاتب الشاعر: كان من
__________
[1106] ترجمته في الوافي 1: 162 وبغية الوعاة 1: 224 وإنباه الرواة 3: 212.
[1107] ترجمة رشيد الدين الوطواط في بغية الوعاة 1: 226 (عن ياقوت) .(6/2631)
نوادر الزمان وعجائبه، وأفراد الدهر وغرائبه، أفضل زمانه في النظم والنثر، وأعلم الناس بدقائق كلام العرب وأسرار النحو والأدب، طار في الآفاق صيته وسار في الأقاليم ذكره، وكان ينشىء في حالة واحدة بيتا بالعربية من بحر وبيتا بالفارسية من بحر آخر ويمليهما معا.
وله من التصانيف: حدائق السحر في دقائق الشعر باللغة الفارسية، ألّفه لأبي المظفر خوارزم شاه وعارض به كتاب «ترجمان البلاغة» لفرحي الشاعر الفارسي.
وللوطواط أيضا ديوان شعر وديوان رسائل عربي. وديوان رسائل فارسي. وتحفة الصديق من كلام أبي بكر الصديق. وفصل الخطاب من كلام عمر بن الخطاب.
وأنس اللهفان من كلام عثمان بن عفان. ومطلوب كلّ طالب من كلام علي بن أبي طالب، وغير ذلك.
مولده ببلخ ومات بخوارزم سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
ومن رسائله ما كتبه لأبي القاسم محمود بن عمر الزمخشري وهي «1» :
لقد حاز جار الله دام جماله ... فضائل فيها لا يشقّ غباره
تجدّد رسم الفضل بعد اندراسه ... بآثار جار الله فالله جاره
أنا منذ لفظتني الأقدار من أوطاني، ومعاهد أهلي وجيراني، إلى هذه الخطة التي هي اليوم بمكان جار الله أدام الله دولته جنّة للكرام، وجنّة من نكبات الأيام، كانت قصوى منيتي وقصارى بغيتي أن أكون أحد الملازمين لسدته الشريفة التي هي مخيم السيادة، ومقبّل أفواه السادة، من ألقى فيها عصاه حاز في الدارين مناه، ونال في المحلين مبتغاه، ولكنّ سوء التقصير أو مانع التقدير حرمني تلك الخدمة، وحرّم عليّ هذه النعمة، والآن أظنّ، وظن المؤمن لا يخطىء، أنّ آفل جدّي همّ بالاشراق، وذابل إقبالي أقبل على الإيراق، فقد أجد في نفسي نورا مجدّدا يهديني إلى جنته، ومن شوقي داعيا موفقا يدعوني إلى حضرته، ويقرع لسان الهيبة كلّ ساعة سمعي بنداء: اخلع نعلك، واطرح بالوادي المقدّس رحلك، ولا تحفل بقصد(6/2632)
قاصد، وحسد حاسد، فإن حضرة جار الله أوسع من أن تضيق على راغب في فوائده، وأكرم من أن تستثقل وطأة طالب لعوائده. ومع هذا أرجو إشارة تصدر من مجلسه المحروس، إما بخطه الشريف فإن في ذلك شرفا لي يدوم مدى الدهر والأيام، وفخرا يبقى على مرّ الشهور والأعوام، وإما على لسان من يوثق بصدق مقالته، ويعتمد على تبليغ رسالته، من المنخرطين في سلك خدمته، والراتعين في رياض نعمته، ورأيه في ذلك أعلى وأصوب.
ومن إنشائه أيضا تقليد حسبة صدر عن ديوان خوارزم وهو «1» : إن أولى الأمور بأن تصرف أعنّة العناية إلى ترتيب نظامه، وتقصر الهمم على مهمة إتمامه، أمر يتعلّق به ثبات الدين، ويتوقّف «2» عليه صلاح المسلمين، وهو أمر الاحتساب، فإن فيه تثقيف الزائغين عن الحقّ، وتأديب المنهمكين بالفسق، وتقوية أعضاد أرباب الشرع وسواعدها، وإجراء معاملات الدين على قوانينها وقواعدها. وينبغي أن يكون متقلد هذا الأمر موصوفا بالديانة، معروفا بالصيانة، معرضا عن مراصد الرّيب، بعيدا عن مواقف التهم والعيب، لا بسا مدارع السداد، سالكا مناهج الرشاد. والشيخ الامام فلان أدام الله فضله متحلّ بهذه الخصائص المذكورة، والفضائل المشهورة، ومستظهر في دولتنا للحقوق المرعية، ومستشعر للصفات المرضية، فقلدناه هذا الأمر الذي هو من مهمات الأعمال، ومعظّمات الأشغال، واعتمدنا في التقليد والتقلد على دينه المتين، وفضله المبين، وعقيدته الطاهرة، وأمانته الظاهرة، وأمرناه أولا أن يجعل التقوى شعاره، والزهد دثاره، والعلم معلمه والدين مناره، ثم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقيم حدود الشرع على وفق النصوص والأخبار، ومقتضى السنن والآثار، من غير أن يتسور الحيطان، ويتسلّق الجدران، ويرفع الحجب المسدولة، ويكسر الأبواب المقفولة «3» ، ويسلّط الأوباش على دور المسلمين وحرم المؤمنين، فيغيروا على أموالهم، ويمدوا الأيدي الى نسائهم وأطفالهم، ويظهروا ما أمر الله(6/2633)
تعالى بستره وإخفائه، ونهى عن إشاعته وإفشائه، فإن عبادة الأوثان خير من ذلك الاحتساب «1» ، والعقوبة أجدر بمباشر ذلك من الأجر والثواب. وأمرناه أن يبالغ في تعديل المكاييل والموازين، على وفق أحكام الشرع والدين، فإن وجد تفاوتا في شيء منها سوّاه وعدّله، وغيره وبدّله، وأدّب صاحبه على رؤوس الأشهاد، لينزجر عن مثله أهل الخيانة والفساد، وليعلم أنه في عهدة ما يطوي وينشر، وينهى ويأمر، يوم ينشر الديوان، وينصب الميزان، يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ
(الشعراء: 88) وسبيل الأئمة والعلماء وكافة الرعايا حاطهم الله أن يتوفروا على تعظيم قدره وتفخيم أمره، ويبالغوا فيما يرجع إلى تمهيد قواعد حرمته، وتشييد أركان حشمته، ولا يعترضوا عليه في شغل الاحتساب، فإن ذلك أمانة هو حاملها، ووديعة هو ضامنها، والسلام.
ولرشيد الدين شعر دون نثره جودة، فمن ذلك قصيدة أوردها ضمن كتاب إلى صدر الدين بن نظام الدين رئيس جرجان «2» :
جنابك صدر دين الله حصن ... لأهل الفضل من نوب الزمان
وصدرك في الخطوب إذا ألّمت ... محطّ رحال حفّاظ القران
وجودك دونه فيض الغوادي ... وعزمك دونه حدّ السنان
وبابك فيه مسكن كلّ عاف ... وعفوك فيه مأمن كلّ جان
غدوت قريع فرسان القوافي ... وحائز سبقها «3» يوم الرهان
لقد بلّغت قاصية المعالي ... كما ملّكت ناصية المعاني
وأعجزت الأفاضل في التحدي «4» ... بمعجزة الفصاحة والبيان
يشقّ سناك جلباب الليالي ... وجنح ظلامها ملقى الجران
بك الآداب آهلة المغاني «5» ... ودار المجد شاهقة «6» المباني(6/2634)
فما لك في فحول الفضل ندّ ... ولا لك في رجال العلم ثاني
مغانيك الرحاب رياض عزّ ... سقى صوب الحيا تلك المغاني
نمتك عصابة بيض هجان ... وهل تلد الهجان سوى الهجان
لقد أخرجت من أزكى نصاب ... وقد أرضعت من أصفى لبان
فأنت الغيث في وقت العطايا ... وأنت الليث في يوم الطعان
أتتني منك آيات «1» تحاكي ... بدائع نظمها عقد الجمان
بلفظ مثل أفراد اللآلي ... وخطّ مثل أصداغ الغواني
فألبسني كتابك بعد خوف ... من الحدثان أردية الأمان
وقد شاهدت في الدنيا عيانا ... بما أهديت روضات الجنان
بقيت مدى الزمان حليف أمن ... ويمن تجتني ثمر الأماني
وطاوعك الأسافل والأعالي ... وتابعك الأباعد والأداني
صديقك «2» ساحب ذيل المعالي ... وخصمك لابس ثوب الهوان
وقال:
ستّ بليت بها والمستعاذ بها ... من شرّها من إليه الخلق يبتهل
نفسي وإبليس والدنيا التي فتنت ... من قبلنا والهوى والحرص والأمل
إن لم تكن منك يا مولاي واقية ... من شرها الجمّ أعيت عبدك الحيل
وقال:
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت ... وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجري الليالي باجتماع وفرقة ... وتطلع فيها أنجم وتغور
فمن ظنّ أن الدهر باق سروره ... فقد ظنّ عجزا لا يدوم سرور(6/2635)
وقال:
إذا ما شئت أن تحيا سعيدا ... وتنجو في الحساب من الخصوم
فلا تصحب سوى الأخيار واصرف ... حياتك في مدارسة العلوم
[1108] محمد بن أبي سعيد محمد
المعروف بابن شرف الجذامي القيرواني الأديب الكاتب الشاعر أبو عبد الله: روى عن أبي الحسن القابسي وأبي عمران الفاسي، وقرأ النحو على أبي عبد الله محمد بن جعفر القزاز، وأخذ العلوم الأدبية عن أبي إسحاق إبراهيم الحصري وغيرهم، فبرع في الكتابة والشعر، وتقدم عند الأمير المعز بن باديس أمير أفريقية، وكانت القيروان في عهده وجهة العلماء والأدباء تشد اليها الرحال من كل فجّ لما يرونه من إقبال المعز على أهل العلم والأدب وعنايته بهم، وكان ابن شرف وابن رشيق صاحب «العمدة» متقدمين عنده على سائر من في حضرته من الأفاضل والأدباء، فكان يقرب هذا تارة ويدني ذاك تارة، فتنافسا وتنافرا ثم تهاجيا، ولكن لم يتغير أحدهما على الآخر بما جرى بينهما من المناقضات. ولم يزل ابن شرف ملازما لخدمة المعز الى أن هاجم عرب الصعيد القيروان واضطر المعزّ الى الخروج منها إلى المهدية سنة سبع وأربعين وأربعمائة فخرج ابن شرف وسائر الشعراء معه إليها واستقروا بها، فأقام ابن شرف مدة بالمهدية ملازما خدمة المعز وابنه تميم، ثم خرج منها قاصدا صقلية ولحق به رفيقه ابن رشيق، فاجتمعا بها ومكثا بها مدة، ثم
__________
[1108] لابن شرف ترجمة في الصلة: 545 والمطرب: 66 ومعالم الايمان 3: 193 والخريدة (قسم المغرب) 2: 224 والذخيرة 4/1: 169 والوافي 3: 97 والفوات 3: 359 والزركشي: 278 ومسالك الأبصار 11: 338 وبغية الوعاة 1: 114 وصفحات متفرقة من نفح الطيب (الجزءين 3، 4) وعنوان الأريب 1: 56 وقد جمع الأستاذ الميمني بعض شعره في النتف من شعر ابن رشيق وابن شرف (القاهرة: 1343) ؛ ونشرت له رسالة بعنوان أعلام الكلام (القاهرة 1926) وهي نفسها بعنوان مسائل الانتقاد في رسائل البلغاء مع مقدمة ابن شرف: 302- 343 (القاهرة 1946) ونشرها الأستاذ شارل بلا ومعها ترجمة فرنسية (الجزائر 1953) وذكر ابن دحية (المطرب: 96) أن شعره في خمس مجلدات.(6/2636)
استنهضه ابن شرف على دخول الأندلس فتردّد ابن رشيق وأنشد:
مما يزهّدني في أرض أندلس ... أسماء مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
فأجابه ابن شرف على الفور «1» :
إن ترمك الغربة في معشر ... قد جبل الطبع على بغضهم
فدارهم ما دمت في دارهم ... وأرضهم ما دمت في أرضهم
ثم شخص ابن شرف منفردا إلى الأندلس وتنقل في بلادها وسكن المرية بعد مقارعة أهوال ومقاومة خطوب، وتردد على ملوك الطوائف كآل عباد وغيرهم، وتوفي باشبيلية سنة ستين وأربعمائة.
ومن شعره «2» :
لك مجلس كملت دواعي لهونا ... فيه ولكن تحت ذاك حديث
غنّى الذباب فظلّ يزمر حوله ... فيه البعوض ويرقص البرغوث
وقال في وصف وادي عذراء بمدينة برجة من أعمال المرية «3» :
رياض غلائلها سندس ... توشّت معاطفها بالزّهر
مدامعها فوق خطّ الربى ... لها نظرة فتنت من نظر
وكلّ مكان بها جنّة ... وكل طريق إليها سقر
وقال في ليلة أنس باردة ممطرة «4» :
ولقد نعمت بليلة جمد الحيا ... في الأرض فيها والسماء تذوب(6/2637)
جمع العشاءين المصلّي وانزوى ... فيها الرقيب كأنه مرقوب
والكاس كاسية القميص يديرها ... ساق كخود كفّه مخصوب
هي وردة في خده وبكأسها ال ... دريّ منها عسجد مصبوب
مني إليه ومن يديه إلى يدي ... الشمس تطلع تارة وتغيب
وقال «1» :
قالوا تسابقت الحمي ... ر فقلت من عدم السوابق
خلت الدسوت من الرخا ... خ ففرزنت فيها البيادق
وقال «2» :
إذا صحب الفتى جدّ وسعد ... تحامته المكاره والخطوب
ووافاه الحبيب بغير وعد ... طفيليا وقاد له الرقيب
وعدّ الناس ضرطته غناء ... وقالوا إن فسا قد فاح طيب
وقال «3» :
ولقد يهوّن ان يخونك كاشح ... كون الخيانة من أخ وخدين
لقّى أخو يعقوب يعقوب الأذى ... وهما جميعا في ثياب جنين
ومضى عقيل عن عليّ خاذلا ... ورأى الأمين جناية المأمون
فعلى الوفاء سلام غير معاين ... شخصا له إلا عيان ظنون
وقال في الحر يخدم أصحابه «4» :
خادمنا خيرنا وأفضلنا ... نطرح أعباءنا ويحملها
فنحن يسرى اليدين تخدمها ... يمناهما الدهر وهي أفضلها(6/2638)
وقال في مليح اسمه عمر «1» :
يا أعدل الناس إسما كم تجور على ... فؤاد مضناك بالهجران والبين
اظنهم سلبوك القاف من قمر ... فأبدلوها بعين خيفة العين
وقال يمدح شيخه أبا الحسن علي بن أبي الرجال «2» :
جاور عليا ولا تحفل بحادثة ... إذا ادّرعت فلا تسأل عن الأسل
اسم حكاه المسمّى في الفعال وقد ... حاز العليّين من قول ومن عمل
فالماجد السيد الحرّ الكريم له ... كالنعت والعطف والتوكيد والبدل
زان العلا وسواه شانها وكذا ... تميز الشمس في الميزان والحمل
سل عنه وانطق به وانظر إليه تجد ... ملء المسامع والأفواه والمقل
وقال «3» :
كسيت قناع الشيب قبل أوانه ... وجسمي عليه للشباب وشاح
ويا ربّ وجه فيه للعين نزهة ... أمانع عيني منه وهو مباح
وقال من قصيدة فيما حل بالقيروان «4» :
ترى سيئات القيروان تعاظمت ... فجلّت عن الغفران والله غافر
تراها أصيبت بالكبائر وحدها ... ألم تك قدما في البلاد الكبائر
تكشفت الأستار عن أهلها وكم ... أقيمت ستور دونهم وستائر
وقال «5» :
احذر محاسن أوجه فقدت محا ... سن نفسها ولو انها أقمار
سرج تلوح إذا نظرت وإنها ... نور يضيء وإن مسست فنار(6/2639)
وقال»
:
وما بلوغ الأماني من مواعدها ... إلا كأشعب يرجو وعد عرقوب
وقد تخلّف مكتوب القضاء بها ... فكيف لي بقضاء غير مكتوب
ولابن شرف القيرواني من التصانيف: أبكار الأفكار جمع فيه ما اختاره من شعره ونثره. وأعلام الكلام مجموع فيه فوائد ولطائف وملح منتخبة. ورسالة الانتقاد «2» وهي على طرز مقامة نقد فيها شعر طائفة من شعراء الجاهلية والإسلام. وديوان شعر، وغير ذلك.
[1109] محمد بن محمد بن القاسم بن أحمد بن خديو الاخسيكاثي
، أبو الوفاء المعروف بابن أبي المناقب «3» كان إماما في اللغة أديبا فاضلا صالحا عارفا بالأدب والتاريخ حسن الشعر، مات في آخر ذي الحجة سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
ومن شعره:
إذا المرء أعطى نفسه كلّ ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كلّ باطل
وساقت إليه الإثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال:
ارحم أخىّ عباد الله كلّهم ... وانظر إليهم بعين اللطف والشفقه
وقّر كبيرهم وارحم صغيرهم ... وراع في كلّ خلق وجه من خلقه
__________
[1109] ترجمته في الوافي 1: 148 (وفيه الاخسيكثي) وبغية الوعاة 1: 233 وقال الصفدي (نقلا عن السلفي) كان أكثر شعره في الحكمة وصنف في التواريخ وأحوال الرجال.(6/2640)
[1110] محمد بن محمد بن أحمد بن هميماه الرامشي
أبو نصر النحوي النيسابوري:
كان مبرزا في القراءات وعلوم الحديث، ذا حظ وافر من العربية واللغة، وله شعر صالح، سمع الحديث من أصحاب الأصم وغيرهم، ورحل وتخرج به جماعة، وأملى بنيسابور وأخذ الأدب عن أبي العلاء المعري وغيره، ولد سنة أربع وأربعمائة ومات في جمادى الأولى سنة تسع وثمانين وأربعمائة. ومن شعره:
ولما برزنا للرحيل وقرّبت ... كرام المطايا والركاب تسير
وضعت على صدري يديّ مبادرا ... فقالوا محبّ للعناق يشير
فقلت ومن لي بالعناق وإنما ... تداركت قلبي حين كاد يطير
وقال:
وإذا لقيت صعوبة في حاجة ... فاحمل صعوبتها على الدينار
وابعثه فيما تشتهيه فانه ... حجر يليّن سائر الأحجار
[1111] محمد بن محمد بن مواهب بن محمد
أبو العز المعروف بابن الخراساني النحوي العروضي الشاعر الكاتب: كان عارفا بالأدب شديد العناية بالعروض، وله شعر كثير «1» ، سمع ابن نبهان وغيره، وقرأ على أبي منصور الجواليقي، وله مصنف في العروض وتصانيف أدبية وديوان شعر، وتغير ذهنه بأخرة. ولد سنة أربع وتسعين وأربعمائة ومات يوم الأحد مستهل رمضان سنة ست وسبعين وخمسمائة.
__________
[1110] ترجمته في الوافي 1: 124 وجعل وفاته سنة 490 ومصورة ابن عساكر 15: 896، وبغية الوعاة 1: 218.
[1111] ترجمته في إنباه الرواة 3: 213 والوافي 1: 150 والفوات 3: 238 وبغية الوعاة 1: 235 والشذرات 5: 275 والزركشي: 250.(6/2641)
ومن شعره «1» :
أنا راض منكم بأيسر شيء ... يرتضيه لعاشق معشوق
بسلام من الطريق إذا ما ... جمعتنا بالاتفاق طريق
ومدح شخصا بقصيدة منها «2» :
إذا عجفت آمالنا عند معشر ... غدا نجمها عند الزعيم خطائطا
فبلغت الحيص بيص الشاعر فقال: كل كلام في الدنيا يزداد لحنا، تكلمت بصادين فانقلبت الدنيا، وهذا ما يقول له أحد شيئا.
وديوان ابن الخراساني هذا كبير يدخل في عشر مجلدات لطيفة، ومن شعره أيضا «3» :
إن شئت أن لا تعدّ غمرا ... فخلّ زيدا وخلّ عمرا
واستعن الله في أمور ... ما زلن طول الزمان إمرا
ولا تخالف مدى الليالي ... لله حتى الممات أمرا
واقنع بما راج من طعام ... والبس إذا ما عريت طمرا
وقال:
قد قلت إذ لحظته عيني مرّة ... فاحمرّ من خجل وفرط تصلّف
عيني التي غرست بخدّك وردة ... من ذا يقول لغارس لا تقطف
يا سافكا دمي الحرام بطرفه ... أو ما تخاف الله يوم الموقف
أرويته عن عالم، أوجدته ... في مسند، أقرأته في مصحف(6/2642)
[1112] محمد بن محمد بن يحيى بن بحر
الشيخ تاج الدين أبو العلاء العلوي السندبيسي الواسطي الفقيه الشافعي النحوي: أخذ النحو عن أبي الفضل ابن جهور وغيره، وصحب الشيوخ وبرع في النحو وشرح الكلام، وكان فاضلا تصدّر في هذا الشان وأقرأ مدة، توفي بعد سنة أربعين وخمسمائة.
[1113] محمد بن أبي محمد بن محمد، حجة الدين
أبو جعفر، المعروف بابن ظفر الصقلي الأصل المكي النحوي اللغوي الأديب: مولده بصقلية ونشأ بمكة، ورحل إلى مصر وافريقية وأقام بالمهدية مدة وشهد الحروب بها وأخذت من المسلمين وهو هناك، ثم انتقل إلى صقلية، ثم عاد إلى مصر ورحل منها إلى حلب، وأقام فيها بمدرسة ابن أبي عصرون، ولما وقعت فيها الفتنة بين الشيعة وأهل السنة نهبت كتبه فيما نهب، وخرج منها إلى حماة فصادف فيها قبولا فسكن بها وأجري له راتب من ديوانها وكان دون الكفاف فلم يزل يكابد الفقر إلى أن مات بها سنة خمس وستين وخمسمائة.
وله من التصانيف: التفسير الكبير. وينبوع الحياة تفسير أيضا. وكتاب الاشتراك اللغوي. وكتاب الاستنباط المعنوي. وأنباء نجباء الأبناء «1» . وسلوان المطاع في عدوان الاتباع «2» . والقواعد والبيان في النحو. وحاشية على درّة الغواص للحريري رد فيها عليه. والمطول شرح مقامات الحريري. والمختصر شرحها أيضا.
__________
[1112] ترجمته في بغية الوعاة 1: 237 (عن ياقوت) .
[1113] لابن ظفر ترجمة في الخريدة (قسم الشام) 3: 49 وابن خلكان 4: 395 والوافي 1: 141 والعقد الثمين 2: 344 وبغية الوعاة 1: (وانظر صفحات متفرقة من المكتبة الصقلية ومادة ابن ظفر في الموسوعة الاسلامية 3: 970 وبروكلمان، التاريخ 1: 352 والتكملة 1: 595) .(6/2643)
والتنقيب على ما في المقامات من الغريب. وأساليب الغاية في أحكام آية. وخير البشر بخير البشر، ذكر فيه الارهاصات التي كانت بين يدي ظهور النبي صلى الله عليه وسلم. واكسير كيمياء التفسير. وأرجوزة في الفرائض. وملح اللغة، وهو فيما اتفق لفظه واختلف معناه. ومعاتبة الجريء على معاقبة البريء، وغير ذلك.
[1114] محمد بن محمود بن الحسن بن هبة الله بن محاسن
صاحبنا الإمام محبّ الدين بن النجار البغدادي الحافظ المؤرخ الأديب العلامة، أحد أفراد العصر الاعلام. ولد ببغداد في ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، وسمع من ابن كليب والحافظ أبي الفرج ابن الجوزي الواعظ وأصحاب ابن الحصين، ورحل إلى الشام ومصر والحجاز وخراسان وأصبهان ومرو وهراة ونيسابور، وسمع الكثير وحصل الأصول والمسانيد، واستمرت رحلته سبعا وعشرين سنة، واشتملت مشيخته على ثلاثة آلاف شيخ، وكان إماما حجة ثقة حافظا مقرئا أديبا عارفا بالتاريخ وعلوم الأدب حسن الالقاء والمحاضرة، وكان له شعر حسن.
وله التصانيف الممتعة منها: تاريخ بغداد «1» ذيّل به على تاريخ مدينة السلام للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي واستدرك فيه عليه، وهو تاريخ حافل دلّ على تبحره في التاريخ وسعة حفظه للتراجم والاخبار. وله المختلف والمؤتلف ذيّل به كتاب الأمير ابن ماكولا. والمتفق والمفترق في نسبة رجال الحديث
__________
[1114] ترجمة ابن النجار في قلائد الجمان لابن الشعار 6: 424 والحوادث الجامعة: 205 وتذكرة الحفاظ: 1428 وعبر الذهبي 5: 180 وسير الذهبي 23: 131 ومختصر ابن الدبيثي 1: 137 والوافي 5: 9 والفوات 4: 36 وطبقات السبكي 8: 98 وطبقات الأسنوي 2: 502 والبداية والنهاية 13: 169 والنجوم الزاهرة 6: 355 وطبقات الحفاظ للسيوطي: 499 والشذرات 5: 226 وكانت وفاة ابن النجار في خامس شعبان سنة 643 وانظر المقفى 7: 136.(6/2644)
إلى الآباء والبلدان. وجنة الناظرين في معرفة التابعين. والعقد الفائق في عيون أخبار الدنيا ومحاسن تواريخ الخلائق. وكتاب القمر المنير في المسند الكبير، ذكر فيه الصحابة الرواة وما لكلّ واحد من الحديث. والكمال في معرفة الرجال. ومعجم الشيوخ. ونزهة الورى في أخبار أم القرى. والدرة الثمينة في أخبار المدينة. ومناقب الإمام الشافعي. وروضة الأوليا في مسجد إيليا. والزهر في محاسن شعراء العصر.
والأزهار في أنواع الأشعار. ونزهة الطرف في أخبار أهل الظرف. وغرر الفوائد حافل في ست مجلدات. وسلوة الوحيد. وإخبار المشتاق بأخبار العشاق. ومجموع نحا فيه نحو «نشوار المحاضرة» للتنوخي التقطه من أفواه الرجال. والشافي في الطب. وغير ذلك.
وأنشدني لنفسه قال:
وقائل قال يوم العيد لي ورأى ... تململي ودموع العين تنهمر
ما لي أراك حزينا باكيا أسفا ... كأن قلبك فيه النار تستعر
فقلت إني بعيد الدار عن وطن ... ومملق الكفّ والأحباب قد هجروا
ونظر إلى غلام تركي حسن الصورة فرمد من يومه فقال:
وقائل قال قد نظرت إلى ... وجه مليح فاعتادك الرمد
فقلت إن الشمس المنيرة قد ... يعشى بها الناظر الذي يقد
وقال أيضا:
إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لا ينفع
أتنطق بالجهل في مجلس ... وعلمك في البيت مستودع
[1115] محمد بن المرزبان أبو العباس الديمرتي
«1» : كان فاضلا بليغا مؤرخا عالما
__________
[1115] الفهرست: 166 (وعدّ له كتبا أخرى) وبغية الوعاة 1: 241 (عن ياقوت) .(6/2645)
بمجاري اللغة تصدر عنه الكتب «1» الكبار، وكان أحد التراجمة ينقل الكتب الفارسية الى العربية، له أكثر من خمسين منقولا من كتب الفرس، وله بضعة عشر كتابا في الأوصاف منها: وصف الفارس والفرس. ووصف السيف. ووصف القلم. وله الحاوي في علوم القرآن سبعة وعشرون جزءا. وكتاب الحماسة. وأخبار عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وغير ذلك. أخذ ابن المرزبان عن الزبير بن بكار والرمادي وروى عنه أبو عمرو ابن حيوة وجماعة، وتوفي سنة تسع وثلاثمائة.
[1116] محمد بن المستنير بن أحمد أبو علي
المعروف بقطرب البصري النحوي اللغوي: سمي قطربا لأنه كان يبكر إلى سيبويه للأخذ عنه، فإذا خرج سيبويه سحرا رآه على بابه، فقال له يوما: ما أنت إلا قطرب ليل، والقطرب دويبة تدبّ ولا تفتر، فلقب بذلك. وهو أحد أئمة النحو واللغة، أخذ النحو عن سيبويه وأخذ عن عيسى بن عمر وجماعة من علماء البصرة، وأخذ عن النظام المتكلم إمام المعتزلة، وكان على مذهبه. ولما صنف كتابه في التفسير أراد أن يقرأه في الجامع فخاف من العامة وانكارهم عليه لأنه ذكر فيه مذهب أهل الاعتزال، فاستعان بجماعة من أصحاب السلطان ليتمكن من قراءته في الجامع. واتصل قطرب بأبي دلف العجلي وأدب ولده. وأخذ عنه ابن السكيت وقال: كتبت عنه قمطرا ثم تبينت أنه يكذب في اللغة فلم أذكر عنه شيئا.
توفي أبو علي ببغداد سنة ست ومائتين.
__________
[1116] ترجمة قطرب في أخبار النحويين البصريين: 49 وتاريخ بغداد 3: 298 والبداية والنهاية 10: 259 وتهذيب اللغة 1: 14 وطبقات الزبيدي: 99 وتاريخ أبي المحاسن: 82 والفهرست: 58 ومراتب النحويين: 108 ومرآة الجنان 2: 300 ونزهة الألباء: 91 وانباه الرواة 3: 219 وابن خلكان 4: 312 وعبر الذهبي 1: 350 ولسان الميزان 5: 378 وبغية الوعاة 1: 242 وطبقات الداودي 2: 254 والشذرات 2: 15 والوافي 5: 19 ونور القبس: 174 واشارة التعيين: 338.(6/2646)
وله من التصانيف: كتاب معاني القرآن. وغريب الحديث. وإعراب القرآن.
والمثلث في اللغة «1» . وكتاب الرد على الملحدين في متشابه القرآن. ومتشابه القرآن. وكتاب الفرق. وكتاب الاشتقاق. وكتاب الأضداد «2» . وكتاب فعل وأفعل.
وكتاب النوادر. وكتاب الأصوات. وكتاب الأزمنة. وكتاب القوافي. وكتاب خلق الانسان. وكتاب خلق الفرس. وكتاب الهمزة. وكتاب العلل في النحو. ومجاز القرآن. والمصنف الغريب في اللغة، وغير ذلك.
ومن شعره «3» :
إن كنت لست معي فالذكر منك معي ... يراك قلبي إذا ما غبت عن بصري
والعين تبصر من تهوى وتفقده ... وناظر القلب لا يخلو من النظر
وقال:
لقد غرّت الدنيا رجالا فأصبحوا ... بمنزلة ما بعدها متحوّل
فساخط عيش ما يبدّل غيره ... وراض بعيش غيره سيبدل
وبالغ أمر كان يأمل غيره ... ومصطلم من دون ما كان يأمل
[1117] محمد بن مسعود أبو بكر الخشني
الأندلسي الجياني المعروف بابن أبي الركب: نحوي عظيم من مفاخر الأندلس لغوي أديب شاعر، أخذ النحو عن ابن أبي العافية وروى عن أبي الحسين ابن سراج وأبي علي الصدفي وجماعة، وتصدر للاقراء. كان متقنا لمسائل سيبويه فرحل الناس إليه لقراءة «الكتاب» عليه، وانتقل بأخرة إلى غرناطة فأقرأ بها وولي الصلاة والخطبة بجامعها. وله شرح كتاب سيبويه.
__________
[1117] ترجمة ابن أبي الركب في التكملة: 469 ومعجم أصحاب الصدفي: 157 والوافي 5: 22 وبغية الوعاة 1: 244.(6/2647)
توفي في منتصف ربيع الأول سنة أربع وأربعين وخمسمائة.
ومن شعره:
بساط ذي الأرض سندسيّ ... وماؤها العذب لؤلؤيّ
كأنها البكر حين تجلى ... والزهر من فوقها الحليّ
[1118] محمد بن مسعود العشامي الأصبهاني
المعروف بالفخر النحوي: له تصانيف في الأدب مرغوب فيها وشعر متداول ورسائل مدونة فائقة في الفقه والفرائض والحساب والمساحة، توفي بعد الستين وخمسمائة.
[1119] محمد بن المعلى بن عبد الله أبو عبد الله الأسدي
(الأزدي) النحوي اللغوي: روى عن الفضل بن سهل وأبي كثير الأعرابي وابن لنكك الشاعر والصولي أبي إسحاق إبراهيم وابن دريد اللغوي إجازة وغيرهم. وله شرح ديوان تميم بن مقبل، وغير ذلك.
[1120] محمد بن مناذر مولى بني صبير بن يربوع بن حنظلة
بن مالك بن زيد مناة بن تميم أبو جعفر، وقيل أبو عبد الله، وقيل أبو ذريح، وذريح ابن له مات صغيرا. وهو شاعر فصيح متقدم في العلم باللغة إمام فيها، أخذ عنه كثير من اللغويين، وكان في أول أمره ناسكا يتأله، ثم ترك ذلك وهجا الناس وتهتك، فوعظته المعتزلة فلم يتّعظ
__________
[1118] ترجمة الفخر النحوي في تلخيص مجمع الآداب 4/3: 376 (وفيه القسّام) وكذلك الوافي 5: 23؛ وله ترجمة في بغية الوعاة 1: 244 وفي الخريدة للعماد الاصبهاني.
[1119] ترجمته في الوافي 5: 43 وبغية الوعاة 1: 247.
[1120] ترجمة ابن مناذر في الأغاني 18: 103 والوافي 5: 63 وبغية الوعاة 1: 249، وقد ذكر ياقوت في رقم: 875 ان ترجمة ابن مناذر تقع في كتابه «كتاب الشعراء» .(6/2648)
فزجروه فهجاهم وقذفهم حتى نفي عن البصرة الى الحجاز فمات هناك سنة ثمان وتسعين ومائة. وكان قارئا تروى عنه حروف يقرأ بها، وصحب الخليل بن أحمد وأبا عبيدة وأخذ عنهما الأدب واللغة، وله معرفة بالحديث. روى عن سفيان بن عيينة وسفيان الثوري وشعبة وجماعة. وذكر ليحيى بن معين فقال: لا يروي عنه من فيه خير، وذكر له مرة فقال: أعرفه كان يرسل العقارب في المسجد بالبصرة حتى تلسع الناس وكان يصبّ المداد بالليل في أماكن الوضوء حتى يسوّد وجوههم.
وقال أبو العتاهية يوما لابن مناذر «1» : كيف أنت في الشعر؟ فقال: أقول في الليلة عشرة أبيات إلى خمسة عشر، فقال أبو العتاهية: لو شئت أن أقول في الليلة ألف بيت لقلت، فقال: أجل والله، لأنك تقول:
ألا يا عتبة الساعه ... أموت الساعة الساعه
وتقول:
يا عتب مالي ولك ... يا ليتني لم أرك
وأنا أقول:
ستظلم بغداد ويجلو لنا الدجى ... بمكة ما عشنا ثلاثة أبحر
إذا وردوا بطحاء مكة أشرقت ... بيحيى وبالفضل بن يحيى وجعفر
فما خلقت إلا لجود أكفّهم ... وأرجلهم إلا لأعواد منبر
ولو أردت مثله لتعذر عليك الدهر، واني لا أعوّد نفسي مثل كلامك الساقط، فخجل أبو العتاهية.
وقال يوما ليونس النحوي، يعرض به: أينصرف جبّل أم لا؟ فقال له: قد عرفت ما أردت يا ابن الزانية، فانصرف وأعدّ شهودا ثم جاءه وأعاد السؤال، وعرف يونس ما أراد فقال: الجواب ما سمعته أمس.
قال الجاحظ «2» : كان ابن مناذر مولى سليمان القهرمان «3» وسليمان مولى(6/2649)
عبيد الله بن أبي بكرة، وعبيد الله مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مولى مولى مولى، ادعى أبو بكرة أنه ثقفي، وادعى سليمان أنه تميمي، وادعى ابن مناذر أنه من بني صبير بن يربوع فهو دعي مولى دعي مولى دعي، وهذا مما لم يجتمع في غيره.
وعن محمد بن يزيد النحوي «1» أن ابن مناذر كان إذا قيل له ابن مناذر- بفتح الميم- يغضب ثم يقول: أمناذر الصغرى أم مناذر الكبرى، وهما كورتان من كور لأهواز، إنما هو مناذر على وزن مفاعل من ناذر فهو مناذر.
ومما هدد به المعتزلة حين توعدوه ومنعوه من دخول المسجد قوله «2» :
أبلغ لديك بني تميم مألكا ... عني وعرّج في بني يربوع
أني أخ لكم بدار مضيعة ... بوم وغربان عليه وقوع
يا للقبائل من تميم ما لكم ... روبى ولحم أخيكم بمضيع
وإذا تحزبت القبائل صلتم ... بفتى «3» لكلّ ملمة وفظيع
هبّوا له فلقد أراه بنصركم ... يأوي الى جبل أشمّ منيع
إن أنتم لم توتروا لأخيكم ... حتى يباء بوتره المتبوع
فخذوا المغازل بالأكفّ وأيقنوا ... ما عشتم بمذلة وخضوع
إن كنتم حدبا «4» على أحسابكم ... سمعا فقد أسمعت كلّ سميع
أين الرياحيون «5» لم أر مثلهم ... في النائبات وأين رهط وكيع
وروى المبرد عن أبي واثلة قال: كان أبان اللاحقي يولع بابن مناذر ويقول له:
إنما أنت شاعر في المراثي فإذا متّ فلا ترثني، وكثر ذلك من أبان عليه حتى أغضبه فقال يهجوه:(6/2650)
غنج أبان ولين منطقه ... يخبّر الناس أنه حلقي
داء به تعرفون كلكم ... يا آل عبد الحميد في الأفق
حتى إذا ما المساء جلله ... كان أطباؤه على الطرق
ففرّجوا عنه بعض كربته ... بمستطير مطوّق العنق
وقال يرثي سفيان بن عيينة «1» :
يجني من الحكمة سفياننا ... ما تشتهي الأنفس ألوانا
يا واحد الأمة في علمه ... لقّيت من ذي العرش غفرانا
راحوا بسفيان على عرشه ... والعلم مكسوّين أكفانا
[1121] محمد بن منصور بن جميل أبو عبد الله [ابن أبي] العز الكاتب:
نحوي لغوي أديب من أفاضل العصر، قدم بغداد في صباه وقرأ الأدب ولازم مصدق بن شبيب النحوي حتى برع في النحو واللغة، وقرأ الفقه والفرائض والحساب، وقال الشعر ومدح الناصر فعرف واشتهر، ورتب كاتبا في ديوان التركات مدة، ثم ولي نظره، ثم ولي الصدرية بالمخزن، ثم عزل واعتقل وأفرج عنه بعد مدة ورتب وكيلا للأمير عدة الدين بن الناصر، وكان كاتبا بليغا مليح الخط غزير الفضل متواضعا مليح الصورة طيب الأخلاق، مات في شعبان سنة ست عشرة وستمائة.
[1122] محمد بن موسى بن عبد العزيز أبو بكر الكندي المصري،
وقيل أبو عمران
__________
[1121] ترجمة ابن جميل الكاتب في تلخيص مجمع الآداب 4/1: 544 والوافي 5: 68 وبغية الوعاة 1: 250.
[1122] ترجمة أبي بكر الكندي في الوافي 5: 90 والمشتبه: 92 وبغية الوعاة 1: 250.(6/2651)
ابن الصيرفي، ويعرف بابن الجبي، ويلقب بسيبويه: كان عارفا بالنحو والمعاني والقراءة والغريب والاعراب والأحكام وعلوم الحديث والرواية، واعتنى بالنحو والغريب حتى لقب بسيبويه لذلك، وله معرفة بأخبار الناس والنوادر والأشعار والفقه على مذهب الشافعي، جالس ابن الحداد الفقيه الشافعي وتتلمذ له، وسمع من أبي عبد الرحمن النسائي وأبي جعفر الطحاوي. وكان يتكلم في الزهد وأحوال الصالحين عفيفا متنسكا ويظهر الاعتزال، اجتمعت فيه أدوات الأدباء والفقهاء والصلحاء والعباد والمتأدبين وبلغ بذلك مبلغا جالس به الملوك، وكان يظهر الكلام في الاعتزال في الأسواق فيحتمل لما هو عليه من العلم، ولحقته السوداء فاختلط، ثم زادت عليه الوسوسة وواصلته السوداء الى أن مات في صفر سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة بمصر وولد سنة أربع وثمانين ومائتين. ومن شعره:
من لم يكن يومه الذي هو فيه ... أفضل من أمسه ودون غده
فالموت خير له وأروح من ... حياة سوء تفتّ في عضده
[1123] محمد بن موسى الحدادي البلخي النحوي الشاعر:
يقال أخرجت بلخ أربعة من الأفراد: أبا القاسم الكعبي في علم الكلام، وأبا زيد البلخي في البلاغة والتأليف، وسهل بن الحسن في الشعر الفارسي، ومحمد بن موسى الحدادي في العربية والشعر العربي. وكان الحدادي يكتب للحسين بن علي، وشعره سائر مدون، أكثره أمثال وحكم، منه:
يسرّني من حسد الناس لي ... أني فيهم غير محروم
وأنني من كرم لابس ... وأنني عار من اللوم
وقال:
إن كنت أشكو ما ير ... قّ عن الشكاية في القريض
__________
[1123] لم أجد له ترجمة.(6/2652)
فالفيل يضجر وهو أع ... ظم ما رأيت من البعوض
وقال:
ما بال فرقة شملنا لا تجمع ... وإلى متى يصل الزمان ويقطع
كم خلّفت تلك الركاب وراءها ... من منزل فيه لنا مستمتع
فالورد يلطم خدّه لمصابنا ... وعيون نرجسه علينا تدمع
[1124] محمد بن موسى بن أبي محمد بن مؤمن الكندي
أبو بكر النحوي: كتب الحديث والنحو وأكثر، وكان رجلا فاضلا صالحا، توفي في ربيع الأول سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وقد قارب الثمانين.
[1125] محمد بن ميمون الأندلسي القرطبي أبو بكر النحوي،
يعرف بمركوش:
كان بارعا في النحو مشهورا بالأدب، ومن شعره في غلام قصّ من شعره:
تبسّم عن مثل نور الأقاحي ... وأقصدنا بمراض صحاح
ومرّ يميس كما ماس غصن ... يلاعب عطفيه هوج الرياح
وقصّر من ليلة ساعة ... فأعقب ذلك ضوء الصباح
وإني وإن رغم العاذلون ... من خمر أجفانه غير صاح
ولأبي بكر ابن ميمون من التصانيف شرح الجمل في النحو. شرح مقامات الحريري، وغير ذلك.
__________
[1124] ترجمته في بغية الوعاة 1: 254 (عن ياقوت) .
[1125] ترجمة مركوش في جذوة المقتبس: 86 (بغية الملتمس رقم: 284) والوافي 5: 104 وبغية الوعاة 1: 254 (عن ياقوت) .(6/2653)
[1126] محمد بن نصر بن صغير بن داغر بن محمد بن خالد،
من ولد خالد بن الوليد الصحابي الجليل، شرف الدين المخزومي المعروف بابن القيسراني الحلبي الأديب الشاعر: كان شاعرا مجيدا وأديبا متفننا، كان وابن منير الطرابلسي شاعري الشام في عهد الملك العادل نور الدين بن زنكي، ولهما القصائد الطنانة في مدحه.
قرأ الأدب على توفيق بن محمد الدمشقي وابن الخياط الشاعر، وسمع بحلب من هاشم بن أحمد الحلبي وأبي طاهر الخطيب، وسمع منه أبو سعد السمعاني والحافظ ابن عساكر وأبو المعالي الحظيري الأديب الشاعر وغيرهم، وكان هو وابن منير يشبّهان بجرير والفرزدق للمناقضات والوقائع التي جرت بينهما، واتفق موتهما في سنة واحدة، فقد مات ابن منير في حلب في جمادى الآخرة، وفي ثاني عشر شعبان وصل الى دمشق ابن القيسراني باستدعاء الأمير مجير الدين فمات بعد وصوله بعشرة أيام وذلك ليلة الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان سنة ثمان وأربعين وخمسمائة، وكان ولادته سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
وله شعر كثير مدون أجاد في أكثره، فمن ذلك قصيدة مدح بها الملك العادل نور الدين حين أسر جوسلين «1» واستولى على بلاده بشمالي حلب سنة خمس وأربعين وخمسمائة قال «2» :
دعا ما ادّعى من غرّه النهي والأمر ... فما الملك الا ما حباك به الأمر
ومن ثنت الدنيا إليه عنانها ... تصرّف فيما شاء عن إذنه الدهر
ومن راهن الأقدار في صهوة العلا ... فلن تدرك الشّعرى مداه ولا الشعر
__________
[1126] ترجمة ابن القيسراني في ذيل ابن القلانسي: 322 والأنساب 10: 291 والتحبير 2: 242 والخريدة (قسم الشام) 1: 96 ومرآة الزمان 8: 133 والروضتين 1: 91 وابن خلكان 4: 458 وعبر الذهبي 4: 133 وسير الذهبي 20: 224 وتذكرة الحفاظ: 1313 والوافي 5: 112 ومرآة الجنان 3: 287 والبداية والنهاية 12: 231 والشذرات 4: 150 والنجوم الزاهرة 5: 302 والدارس 2: 388.(6/2654)
ولم لا يلي أسنى الممالك مالك ... زعيم جيوش من طلائعها النصر
ليهن دمشقا ان كرسيّ ملكها ... حبي منك صدرا ضاق عن همه الصدر
وأنك نور الدين مذ زرت أرضها ... سمت بك حتى انحطّ عن نسرها النسر
خطبت فلم يحجبك عنها وليّها ... وخطب العلا بالسيف ما دونه ستر
جلاها لك الإقبال حورية السنا ... عليها من الفردوس أردية خضر
خلوب أكنّت من هواك محبة ... نمت فانتمت جهرا وسرّ الهوى جهر
فان صافحت يمناك من بعد هجرها ... فأحلى التلاقي ما تقدّمه هجر
وهل هي إلا كالحصان تمنّعت ... دلالا وان عزّ الحيا وغلا المهر
ولكن إذا ما قستها بصداقها ... فليس له قدر وليس لها قدر
هي الثغر أمسى بالكراديس عابثا ... وأصبح عن باب الفراديس يفترّ
على أنها لو لم تجبك إنابة ... لأرهقها من بأسك الخوف والذعر
فلما وقفت الخيل ناقعة الصدى ... على بردى من فوقها الورق النضر
فمن بعد ما أوردتها حومة الوغى ... وأصدرتها والبيض من علق حمر
وجلّلتها نقعا أضاع شياتها ... فلا شهبها شهب ولا شقرها شقر
علا النهر لما كاثر الغضب القنا ... مكاثرة في كلّ نحر لها نحر
وقد شرقت أجرافه بدم العدى ... إلى أن جرى العاصي وضحضاحه غمر
صدعتهم صدع الزجاجة لا يد ... لجابرها ما كلّ كسر له جبر
فلا ينتحل من بعدها الفخر دائل ... فمن بارز الابرنز «1» كان له الفخر
ومن بزّ أنطاكية من مليكها ... أطاعته الالحاظ المؤللة الخزر
ومنها:
طغى وبغى عدوا على غلوائه ... فأوبقه الكفران عدواه والكفر
وألقت بأيديها إليك حصونه ... ولو لم تجىء طوعا لجاء بها القسر
فسر واملأ الدنيا ضياء وبهجة ... فبالأفق الداجي إلى ذا السنا فقر(6/2655)
كأني بهذا العزم لا فلّ حده ... وأقصاه بالأقصى وقد قضي الأمر
وقد أصبح البيت المقدّس طاهرا ... وليس سوى جاري الدماء له طهر
وقد أدّت البيض الحداد فروضها ... فلا عهدة في عنق سيف ولا نذر
وصلّت بمعراج النبيّ صوارم ... مساجدها شفع وساجدها وتر
وان تتيمم ساحل البحر مالكا ... فلا عجب ان يملك الساحل البحر
سللت سيوفا أثكلت كلّ بلدة ... بصاحبها حتى تخوّفك البدر
إذا سار نور الدين في عزماته ... فقولا لليل الفجر قد طلع الفجر
ولو لم يسر في عسكر من جنوده ... لكان له من نفسه عسكر مجر
مليك سمت شمّ المنابر باسمه ... كما قد زهت تيها به الأنجم الزهر
فيا كعبة ما زال في عرصاتها ... مواسم حجّ لا يروّعها النفر
خلعت على الأيام من حلل العلا ... ملابس من أعلامها الحمد والشكر
وتوّجت ثغر الشام منك جلالة ... تمنّت لها بغداد لو أنها ثغر
فلا تفتخر مصر علينا بنيلها ... فيمناك نيل كلّ مصر بها مصر
رددت الجهاد الصعب سهلا سبيله ... ويا طالما أمسى ومسلكه وعر
وقال يمدح أبا غانم سعد بن طارق:
خاطر بقلبك إما صبوة الغالي ... فيما أحبّ وإما سلوة السالي
من كلّ ذي هيف ترنو لواحظه ... إليك من لهذم في صدر عسال
كم ليلة بتّ من كأسي وريقته ... نشوان أمزج سلسالا بسلسال
وبات لا يحتمي عنّي مراشفه ... كأنما ثغره ثغر بلا والي
يا مطلقي ما بقي للسّقم من جسدي ... وفي يديهم فؤادي رهن اغلال
إن شئتم علم حالي بعد فرقتكم ... فأنصتوا للحمام العاطل الحالي
خذوا حديث غرامي عن مطوّقة ... تتلو ضلالي في فرع من الضال
لم تتركوا لي سوى نفس أجود بها ... والجود بالنفس غير الجود بالمال
إذا غضبتم وبات الوجد يشفع لي ... إلى رضاكم رأيت السقم أشفى لي(6/2656)
كأن عينيّ في فضل انسكابهما ... يدا أبي غانم جادت بافضال
غمر يصدّك عن تكذيب مادحه ... ما عند كفيه من تصديق آمال
يثري فلا يستقرّ المال في يده ... كأنه عذل في سمع مختال
متيّم ببنات الفكر وهي به ... مفتونة فهو لا شاك ولا سالي
يا من يزار فيلفى عنده كرم ... بلا حجاب ومجد بالعلا حالي
من كان من عرب أو كان من عجم ... فأنت يا سعد من يمن وإقبال
وقال يمدح القاضي كمال الدين الشهرزوري:
أيا عاذلي في الحبّ مالي وللعذل ... ويا هاجري هل من سبيل إلى الوصل
أحين استجارتك الملاحة في الهوى ... بخلت كأن الحسن في ذمة البخل
لي الله من صبّ تملّكه الجوى ... فأمسى أسيرا رهن حبل من الخبل
منيت بمثل البدر في مستقرّه ... يريك المنال الصعب في المنظر السهل
إذا ما التقينا جال طرفي وطرفه ... فأنظر من دمع وينظر من نصل
فيا ويح قلبي من بلاه بحبّه ... ومن دلّ الحاظي على ذلك الدل
ويا لي من ليل طويل كهجره ... وصبر ضعيف ضعف أجفانه النجل
ألفت قلاه واستطبت مطاله ... وأطيب ما جاء الوصال على مطل
وقالوا حباك الشيب بالحلم والنهى ... ومن لي بأيام الشبيبة والجهل
ليالي أجتاب الليالي صبوة ... ورامي غرامي لا يرى موقع النبل
متى ما خلا قلب المحبّ من الهوى ... فيا لك من ربع أقام بلا أهل
ألم تر أن الشيب بين جوانحي ... أقام مقام الفضل عند أبي الفضل
عقيد المعالي بين كفّيه والندى ... مواثيق عقد لا تروّع بالحلّ
ويبسم عن ثغر يبشّر بالجدا ... كما بشّر البرق اليمانيّ بالوبل
مناقبه بين الورى مستفيضة ... إذا رويت لم تعتبر صحة النقل
وما العلم إلا سيرة شهدت بها ... أسانيدها أو ردّ فرع إلى أصل
متى ارتجل الايجاز في صدر دسته ... رأيت الخطاب الفصل في ذلك الفصل(6/2657)
غريب العلا يفتنّ في مكرماته ... إذا ما انقضى شكل بدا بك في شكل
وجدنا ابن عبد الله أندى من الحيا ... وأعلى محلا منه في زمن المحل
فطورا يباريه الرجاء على النوى ... وطورا تناجيه المطالب في الرحل
إليك انتضى شوقي إليك عزيمة ... هي النصل تحت الليل أو سلّة النصل
على سابح يطوي المدى بسنابك ... لمسّتها فوق الصفا طاعة الرمل
إلى ماجد أمواله بيد الندى ... فليس عليها من وكيل سوى البذل
أبا الفضل كم لي في مساعيك نحلة ... ألذّ على الأفواه من ضرب النحل
فريدة لفظ في فريد محاسن ... فتلك بلا مثل وأنت بلا مثل
وقال «1» :
خذوا حديث غرامي عن ضنى بدني ... أغنى لسان الهوى عن دمعي اللّسن
وخبّروني عن قلبي ومالكه ... فربما أشكل المعنى على الفطن
من ذا الذي ترهب الأبطال صولته ... زيد الفوارس أم سيف بن ذي يزن
وما جفون إذا سلّت صوارمها ... تجاذبت مهج الأقران في قرن
هذا الذي سلب العشاق نومهم ... أما ترى عينه ملأى من الوسن
تفرّق الحسن إلا في محاسنه ... ويلاه في فتن جمّعن في فتن
أمسى غرامي بذاك القدّ يوهمني ... ان اعتلال الصّبا شوقا إلى الغصن
إذا الصبابة عاطتني مدامتها ... فما فؤادي على سرّ بمؤتمن
أعيا اللوائم سمعي غير لائمة ... للشيب مالت إلى عينيّ عن أذني
حتى إذا ما تناهى العذل في كلفي ... قامت إليّ بنات الدهر تعذلني
فما ثنت ناظري عن منظر حسن ... حتى أرتني مكاني من أبي الحسن
وقال:
مررنا في ديار بني عديّ ... يجاذب لوعتي شرق وغرب(6/2658)
يتيمني بأرض الشام حبّ ... ويعطفني على بغداد حبّ
غرام طارف وهوى تليد ... لكلّ صبابة في القلب شعب
فلا وأبيك ما هوّمت إلا ... سرى لهما خيال لا يغبّ
فكلّ هوى يطالبني بقلب ... وهل لي غير هذا القلب قلب
وقال «1» :
لا يغرّنّك في السيف المضاء ... فالظبا ما نظرت منها الظباء
مرهفات الحدّ أمضاها المها ... وقضاها للمحبين القضاء
حدق علّتها صحتها ... ربما كان من الداء الدواء
وقال «2» :
تظلمت من أجفانهنّ إلى النوى ... سفاها وهل يعدي البعاد على القرب
ولما دنا التوديع قلت لصاحبي ... حنانيك سر بي عن ملاحظة السرب
إذا كانت الأحداق نوعا من الظبا ... فلا شكّ ان اللحظ ضرب من الضرب
وقال:
رنا بطرف مريض الجفن منكسر ... فمن رأى جؤذرا يلهو بآساد
جفن روى عنه ما يرويه من سقم ... جسمي فصحّ به نقلي وإسنادي
وقال:
إذا ما تأملت القوام مهفهفا ... تأملت سيفا بين جفنيه مرهفا
وطرفا تخلّى عن سقامي سقامه ... فهلا شفى من بات منه على شفا
وقال:
بالسفح من لبنان لي ... قمر منازله القلوب
حملت تحيته الشما ... ل فردّها عني الجنوب(6/2659)
فرد الصفات غريبها ... والحسن في الدنيا غريب
لم أنس ليلة قال لي ... لما رأى جسدي يذوب
بالله قل لي يا فتى: ... ما تشتكي؟ قلت الطبيب
وقال «1» :
بين فتور المقلتين والكحل ... هوى له من كلّ قلب ما انتحل
توقّ من فتكتها لواحظا ... أما ترى تلك الظبا كيف تسلّ
ويلاه من نواظر سواحر ... ما عقل العقل بها الا اختبل
لو لم تكن أجفانها نوابلا ... لما برت أسهمها من المقل
يا راميا مسمومة نصاله ... عيناك للقارة قل لي أم ثعل
كم عاذل خوفني من لحظه ... إليك عني «سبق السيف العذل»
وله من قصيدة في الملك العادل نور الدين وأجاد «2» :
حصّن بلادك هيبة لا رهبة ... فالدرع من عدد الشجاع الحازم
هيهات يطمع في محلّك طامع ... طال البناء على يمين الهادم
كلّفت همتك السموّ فحلّقت ... فكأنما هي دعوة في ظالم
وأظنّ أنّ الناس لما لم يروا ... عدلا كعدلك أرجفوا بالقائم
وقال أيضا في قصيدة يهنئه بها باستيلائه على سنجار وأعمال الفرات»
:
في عسكر يخفي كواكب ليله ... نقع فيطلعها القنا الخطار
جرار أذيال العجاج وراءه ... وأمامه بك جحفل جرار
تدني لك الغايات همّتك التي ... كبرت كذا همم الملوك كبار
وملكت سنجارا وما من بلدة ... الا تمنت أنها سنجار
وبسطت بالأموال كفا طالما ... طالت بها الآمال وهي قصار
وثنى الفرات إلى يديك عنانه ... والبحر ما اتصلت به الأنهار(6/2660)
ومنها:
تدعو البلاد إليك ألسنة الظبا ... فتجيبك الأنجاد والأغوار
حتى عمدت الدين يا ابن عماده ... بقنا أسنتها عليه منار
ومنها:
أمضى السلاح على عدوك بغيه ... بالغدر يطعن في الوغى الغدار
فاحسم عناد ذوي العناد بجحفل ... كالليل فيه من الصّفاح نهار
جند على جرد أمام صدورها ... صدر عليه من اليقين صدار
قد بايع الاخلاص بيعة نصرة ... ولكلّ هادي أمة انصار
وإذا الملوك تثاقلت عن غاية ... فأرادها خفّت به الاقدار
[1127] محمد بن نصر الله [بن مكارم] بن الحسين بن عنين
الدمشقي الأنصاري:
أصله من الكوفة من الخطة المعروفة بمسجد بني النجار، وولد بدمشق يوم الاثنين تاسع شعبان سنة تسع وأربعين وخمسمائة، وهو من أفاضل العصر، لغوي أديب شاعر مجيد، نشأ بدمشق وأخذ عن الحافظ أبي القاسم ابن عساكر وغيره، وهو يستحضر «كتاب الجمهرة» لابن دريد، وبرع في الشعر وحلّ الألغاز، ورحل إلى العراق والجزيرة وخراسان وأذربيجان وخوارزم ودخل الهند ورحل إلى اليمن ومنها إلى الحجاز ثم إلى مصر ثم رجع الى دمشق. وهو مولع بالهجو، وله في ذلك قصيدة طويلة سماها «مقراض الأعراض» ويقال أنه يخلّ بالصلاة ويصل ابنة العنقود، ورماه أبو الفتح ابن الحاجب بالزندقة، والله أعلم بصحة ذلك. ولما كان بخوارزم حضر يوما درس الامام
__________
[1127] ترجمة ابن عنين في مرآة الزمان 8: 696 وقلائد الجمان لابن الشعار 6: 199 وتكملة المنذري 3 (رقم 2454) وابن خلكان 5: 14 والحوادث الجامعة: 52 وعبر الذهبي 5: 122 وسير الذهبي 22: 363 ومختصر ابن الدبيثي 1: 151 والوافي 5: 122 والبداية والنهاية 13: 137 ولسان الميزان 4: 405 والنجوم الزاهرة 6: 82 وشذرات الذهب 5: 140 والبدر السافر، الورقة: 170 ومقدمة ديوانه.(6/2661)
فخر الدين محمد بن عمر الرازي المعروف بابن خطيب الري، وكان يوما باردا سقط فيه الثلج، فبينما الشيخ يلقي الدروس إذ سقطت حمامة بالقرب منه ووراءها طير من الجوارح يطاردها، فلما صارت بين الناس خاف الجارح وطار، ولم تقدر الحمامة على النهوض مما لحقها من الخوف والبرد، فرقّ لها الامام فخر الدين وأخذها بيده وحنا عليها، فأنشده ابن عنين مرتجلا «1» :
يا ابن الكرام المطعمين إذا شتوا ... في يوم مسغبة وثلج خاشف
العاصمين إذا النفوس تطايرت ... بين الصوارم والوشيج الراعف
من نبّأ الورقاء أنّ محلكم ... حرم وأنك ملجأ للخائف
وفدت عليك وقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستانف
لو أنها تحبى بمال لا نثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف
جاءت سليمان الزمان بشكوها ... والموت يلمع من جناحي خاطف
قرم يطاردها فلما استأمنت ... بجنابه ولّى بقلب واجف «2»
وله من قصيدة كتب بها إلى العادل يشكو الغربة والشوق الى الشام «3» :
ماذا على طيف الأحبة لو سرى ... وعليهم لو سامحوني بالكرى
جنحوا إلى قول الوشاة وأعرضوا ... والله يعلم أنّ ذلك مفترى
يا معرضا عني بغير جناية ... الا لما نقل «4» العذول وزوّرا
هبني أسأت كما تقول وتفتري ... وأتيت في حبيك شيئا منكرا
ما بعد بعدك والصدود عقوبة ... يا هاجري ما آن لي أن تغفرا
لا تجمعنّ عليّ عتبك والنوى ... حسب المحبّ عقوبة أن يهجرا(6/2662)
عبء الصدود أخفّ من عبء النوى ... لو كان لي في الحبّ أن أتخيرا
فسقى دمشق ووادييها والحمى ... متواصل الأرهام منفصم العرى
حتى نرى وجه الرياض بعارض ... أحوى وفود الدّوح أبيض أزهرا
تلك المنازل لا ملاعب عالج ... ورمال كاظمة ولا وادي القرى
أرض إذا مرّت بها ريح الصّبا ... حملت على الأغصان مسكا أذفرا
فارقتها لا عن رضى وهجرتها ... لا عن قلى ورحلت لا متخيرا
أسعى لرزق في البلاد مشتّت ... ومن العجائب «1» أن يكون مقترا
وأصون وجه مدائحي متقنعا ... وأكفّ ذيل مطامعي متسترا
ومنها في الشكوى والدخول الى المديح:
أشكو اليك نوى تمادى عمرها ... حتى حسبت اليوم منها أشهرا
لا عيشتي تصفو ولا رسم الهوى ... يعفو ولا جفني يصافحه الكرى
أضحي عن الربع «2» المريع محوّلا ... وأبيت عن ورد «3» النمير منفرا
ومن العجائب أن يقيل «4» بظلكم ... كلّ الورى ونبذت وحدي بالعرا
وأول قصيدته المسماة مقراض الأعراض قوله «5» :
أضالع تنطوي على كرب ... ومقلة مستهلة الغرب
شوقا إلى ساكني دمشق فلا ... عدت رباها مواطر السحب
ومن ثم أخذ في الهجو بنفس طويل وتفنن بأساليب السب والثلب فأورد ما لا يحسن إيراده.
وقال أيضا في هجو أبيه «6» :(6/2663)
وجنّبني أن أفعل الخير والد ... ضئيل إذا ما عدّ أهل التناسب «1»
بعيد من الحسنى قريب من الخنا ... وضيع مساعي الخير جمّ المعايب
إذا رمت أن أسمو صعودا الى العلا ... غدا عرقه نحو الدنية جاذبي
وقال يهجو كحالا «2» :
لو أنّ طلاب المطالب عندهم ... علم بأنك للعيون تعوّر
لأتوا اليك بكلّ ما أملته ... منهم وكان لك الجزاء الأوفر
ودعوك بالصبّاغ لما ان رأوا ... يعشي العيون لديك ماء أصفر
وبكفّك الميل الذي يحكي عصا ... موسى وكم عين به تتفجر
وقال في العادل سيف الدين بن أيوب «3» :
إنّ سلطاننا الذي نرتجيه ... واسع المال ضيّق الإنفاق
هو سيف كما يقال ولكن ... قاطع للرسوم والأرزاق
وقال في المحدث الفاضل ابن دحية الكلبي وهو معاصر «4» .
دحية لم يعقب فلم تعتزي ... إليه بالبهتان والإفك
ما صحّ عند الناس شيء سوى ... أنّك من كلب بلا شك
وقال يمدح فخر الدين الرازي وسيرها إليه من نيسابور إلى هراة «5» :
ريح الشمال عساك أن تتحملي ... شوقي «6» الى الصدر الإمام الأفضل
وقفي بواديه المقدّس وانظري ... نور الهدى متألقا لا يأتلي
من دوحة فخرية عمريّة ... طابت مغارس مجدها المتأثل(6/2664)
مكية الأنساب زاك أصلها ... وفروعها فوق السماك الأعزل
واستمطري جدوى يديه فطالما ... خلف الحيا في كلّ عام ممحل
نعم سحائبها تعود كما بدت ... لا يعرف الوسميّ منها والولي
بحر تصدّر للعلوم ومن رأى ... بحرا تصدّر قبله في محفل
ومشمّر في الله يسحب للتقى ... والدين سربال العفاف المسبل
ماتت به بدع تمادى عمرها ... دهرا وكاد ظلامها لا ينجلي
فعلا به الاسلام أرفع هضبة ... ورسا سواه في الحضيض الأسفل
غلط امرؤ بأبي عليّ قاسه ... هيهات قصّر عن مداه أبو علي «1»
لو أن رسطاليس يسمع لفظة ... من لفظه لعرته هزّة أفكل
ويحار بطلميوس لو لاقاه من ... برهانه في كلّ شكل مشكل
فلو انهم جمعوا لديه تيقنوا ... أنّ الفضيلة لم تكن للأول
وبه يبيت الحلم معتصما إذا ... هزّت رياح الطيش ركني يذبل
يعفو عن الذنب العظيم تكرما ... ويجود مسؤولا وإن لم يسأل
أرضي الإلاه بفضله ودفاعه ... عن دينه وأقرّ عين المرسل
يا أيها المولى الذي درجاته ... ترنو الى فلك الثوابت من عل
ما منصب الا وقدرك فوقه ... فبمجدك السامي يهنّا ما تلي
فمتى أراد الله رفعة منصب ... أفضى إليك فنال أشرف منزل
لا زال ربعك للوفود مثابة ... أبدا وجودك كهف كلّ مؤمل
ولما كان بمصر أهدى اليه الشريف أبو الفضل سليمان الكحال خروفا هزيلا، فكتب إليه يشكره ويداعبه، فقال «2» :
أبو الفضل وابن الفضل أنت وأهله «3» ... فغير بديع أن يكون لك الفضل(6/2665)
أتتني أياديك التي لا أعدها ... لكثرتها لا كفر نعمى ولا جهل
ولكنني أنبيك عنها بطرفة ... تروقك ما وافى لها قبلها مثل
أتاني خروف ما شككت بأنه ... حليف هوى قد شفّه الهجر والعذل
إذا قام في شمس الظهيرة خلته ... خيالا سرى في ظلمة ما له ظل
فناشدته ما يشتهي قال حلبة «1» ... وقاسمته ما شاقه «2» قال لي الأكل
فأحضرتها خضراء مجاجة الثرى ... مسلّمة ما حصّ أوراقها الفتل
فظلّ يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدمع في العين «3» منهل
«أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل»
وقال «4» :
ألين لصعب الخلق قاس فؤاده ... وأعتبه لو يرعوي من أعاتب
من الترك مياس القوام منعم ... له الدرّ ثغر والزمرّد شارب
أسال عذارا في أسيل كأنه ... عبير على كافور خدّيه ذائب
وقال «5» :
ومهفهف رقّت حواشي حسنه ... فقلوبنا وجدا عليه رقاق
لم يكس عارضه السواد وإنما ... نفضت عليه صباغها الأحداق
وشعره غرر كله، وهو الآن حيّ مقيم في دمشق «6» .(6/2666)
[1128] محمد بن هانىء أبو القاسم الأزدي الأندلسي:
من ولد روح بن حاتم بن قبيصة بن المهلب، أديب شاعر مفلق، أشعر المتقدمين والمتأخرين من المغاربة، وهو عندهم كالمتنبي عند أهل المشرق؛ ولد باشبيلية ونشأ بها، ونال حظا واسعا من علوم الأدب وفنونه، وبرز في الشعر فلم يباره في حلبته مبار ولم يشقّ غباره لا حق، وكان متهما بالفلسفة يسلك في أقواله وأشعاره مسلك المعري «1» ، وما زال يغلو في ذلك حتى تعدّى الحقّ وخرج في غلوه إلى ما لا وجه له في التأويل، فأزعجه أهل الأندلس واضطروه إلى الخروج من وطنه، وأشار عليه صاحب إشبيلية بذلك درءا للفتنة، فخرج متنقلا في البلاد ووصل الى عدوة المغرب فلقي بها جوهرا القائد مولى المنصور فمدحه، ثم رحل إلى الزاب واتصل بجعفر ابن الأندلسية وأخيه يحيى، فانتجع بابهما ولزم رحابهما فأكرما وفادته وأحسنا إليه، ثم بلغ خبره المعزّ أبا تميم فاستقدمه وأحسن نزله وبالغ في اكرامه. ولما رحل المعز إلى الديار المصرية استأذنه في الرجوع إلى عياله ليأتي بهم ويلحق به، فأذن له، فخرج قاصدا بلده، فلما بلغ برقة نزل على أحد أعيانها للراحة فأضافه أياما، فخرج ليلة سكران من بيته، فلما أصبح الناس وجدوه ملقى في سانية من سواني البلد مخنوقا بتكة سراويله، ولم يعرف سبب ذلك ولا فاعله، وكانت وفاته كذلك يوم الأربعاء سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وقد جاوز الأربعين. ولما بلغ المعز خبر موته أسف عليه أسفا عظيما وقال: هذا الذي كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك.
ومن غرر شعره قصيدته الرائية المشهورة التي مدح بها المعز المذكور،
__________
[1128] ترجمة ابن هانىء في جذوة المقتبس: 89 (بغية الملتمس رقم: 301) والمطرب: 192 والتكملة: 103 وابن خلكان 4: 421 وعبر الذهبي 2: 328 وسير الذهبي 16: 131 والبداية والنهاية 11: 274 والاحاطة 2: 288 والنجوم الزاهرة 4: 67 والنفح (انظر فهرسته) والشذرات 3: 41؛ وقد نشر زاهد على ديوانه مشروحا، ثم طبع طبعة متواضعة بدار صادر (بيروت) . ولصديقنا د. محمد اليعلاوي دراسة عنه (دار الغرب الإسلامي 1985) وقبلها دراسة لمنيرناجي (بيروت 1962) . وهذه الترجمة وترجمة ابن القيسراني قبلها أليق بمعجم الشعراء.(6/2667)
وهي «1» :
فتقت لكم ريح الجلاد بعنبر ... وأمدّكم فلق الصباح المسفر
وجنيتم ثمر الوقائع يانعا ... بالنصر من ورق الحديد الأخضر
وضربتم هام الكماة ورعتم ... بيض الخدور بكلّ ليث مخدر
أبني العوالي السمهرية والسيو ... ف المشرفية والعديد الأكثر
من منكم الملك المطاع كأنه ... تحت السوابغ تبّع في حمير
القائدي الخيل العتاق شوازبا ... خزرا الى لحظ السنان الأخزر
شعث النواصي حشرة آذانها ... قبّ الأياطل داميات الأنسر «2»
تنبو سنابكهنّ عن عفر الثرى ... فيطأن في خدّ العزيز الأصعر
جيش تقدّمه الليوث وفوقه ... كالغيل من قصب الوشيج الأسمر
وكأنما سلب القشاعم ريشها ... مما يشقّ من العجاج الأكدر
وكأنما شملت قناه ببارق ... متألق أو عارض مثعنجر «3»
تمتدّ ألسنة الصواعق فوقه ... عن ظلّتي مزن عليه كنهور «4»
ويقوده الليث الغضنفر معلما ... من كلّ شثن اللبدتين غضنفر
نحر القبول من الدبور وسار في ... جيش الهرقل وعزمة الإسكندر
في فتية صدأ الدروع عبيرهم ... وخلوقهم علق النجيع الأحمر
لا يأكل السرحان شلو طعينهم ... مما عليه من القنا المتكسر
أنسوا بهجران الأنيس كأنهم ... في عبقريّ البيد جنّة عبقر
ومنها:(6/2668)
قوم يبيت على الحشايا غيرهم ... ومبيتهم فوق الجياد الضمّر
وتظلّ تسبح في الدماء قبابهم ... فكأنهنّ سفائن في أبحر
من كلّ أهرت كالح ذي لبدة ... أو كلّ أبيض واضح ذي مغفر
ومنها في ذكر الممدوح:
لي منهم سيف إذا جردته ... يوما ضربت به رقاب الأعصر
وفتكت بالزمن المدجّج فتكة ال ... براض يوم هجائن ابن المنذر «1»
صعب إذا نوب الزمان استصعبت ... متنمّر للحادث المتنمر
فإذا عفا لم تلق غير مملّك ... واذا سطا لم تلق غير مظفر
وكفاك من حبّ السماحة أنها ... منه بموضع مقلة من محجر
فغمامه من رحمة وعراصه ... من جنة ويمينه من كوثر
وقال أيضا يمدحه من قصيدة «2» :
ألؤلؤ دمع هذا الغيث أم نقط ... ما كان أحسنه لو كان يلتقط
بين السحاب وبين الريح ملحمة ... معامع وظبا في الجوّ تخترط
كأنه ساخط يرضى على عجل ... فما يدوم رضى منه ولا سخط
أهدى الربيع إلينا روضة أنفا ... كما تنفس عن كافوره السّفط
ومنها:
والريح تبعث أنفاسا معطّرة ... مثل العبير بماء الورد يختلط
كأنما هي أنفاس المعزّ سرت ... لا شبهة للندى فيها ولا غلط
تالله لو كانت الأنواء تشبهه ... ما مرّ بؤس على الدنيا ولا قنط
أبدى الزمان لنا من نور طلعته ... عن دولة ما بها وهن ولا سقط(6/2669)
حتى تسلّط منه في الورى ملك ... زينت بدولته الأملاك والسّلط
إمام عدل وفى في كلّ ناحية ... كما قضوا في الإمام العدل واشترطوا
قد بان بالفضل عن ماض ومؤتنف ... كالعقد عن طرفيه يفضل الوسط
وقال يمدح جعفر ابن الأندلسية «1» :
أليلتنا إذ أرسلت واردا وحفا ... وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا «2»
[وبات لنا ساق يقوم على الدجى ... بشمعة نجم لا تقط ولا تطفا] «3»
ولم يبق إرعاش المدام له يدا ... ولم يبق إعنات التثني له عطفا
نزيف ثناه السكر الا ارتجاجة ... إذا كلّ عنها الخصر حمّلها الردفا
يقولون حقف فوقه خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانة والحقفا
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدّت لنا الظلماء من جلدها لحفا
فمن كبد تدني إلى كبد هوى ... ومن شفة توحي إلى شفة رشفا
بعيشك نبه كأسه وجفونه ... فقد نبّه الابريق من بعد ما أغفى
وقد فكّت الظلماء بعض قيودها ... وقد قام جيش الليل للفجر «4» واصطفّا
ومنها في المديح:
كأن لواء الشمس غرّة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا
وقد جاشت الدأماء بيضا صوارما ... ومارنة سمرا وفضفاضة زغفا «5»
وجاءت عتاق الخيل تجري كأنما ... تخطّ له أقلام آذانها صحفا
هنالك تلقى جعفرا غير جعفر ... وقد بدّلت يمناه من رفقها عنفا
وكائن تراه في الكريهة جاعلا ... عزيمته برقا وصولته خطفا(6/2670)
وكائن تراه في المقامة جاعلا ... مشاهده فصلا وخطبته حرفا
وقد بلغ في هذه القصيدة غايات الاجادة، ولولا طولها لاوردتها بتمامها.
وقال يصف سيفا ليحيى أخي جعفر المذكور «1» :
لله أيّ شهاب حرب واقد ... صحب ابن ذي يزن وأدرك تبّعا
في كفّ يحيى منه أبيض مرهف ... عرف المعزّ بآله «2» فتشيعا
وجرى الفرند بصفحتيه كأنما ... ذكر القتيل بكربلاء فدمّعا
يكفيك مما شئت في الهيجاء أن ... تلقى العدى فتسلّ منه إصبعا
وقال أيضا يمدح المعز وهي أول قصيدة مدحه بها حين قدم عليه بالقيروان «3» :
هل من أعقّة عالج يبرين ... أم منهما بقر الحدوج العين «4»
ولمن ليال ما ذممنا عهدها ... مذ كنّ إلا أنهنّ شجون
المشرقات كأنهنّ كواكب ... والناعمات كأنهنّ غصون
بيض وما ضحك الصباح وإنها ... بالمسك من طرر الحسان لجون «5»
أدمى لها المرجان صفحة خدّه ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون
ومنها:
لأعطّشنّ الروض بعدهم ولا ... يرويه لي دمع عليه هتون
أأعير لحظ العين بهجة منظر ... وأخونهم إني إذن لخؤون
لا الجوّ جوّ مشرق ولو اكتسى ... زهرا ولا الماء المعين معين
ومنها:
عهدي بذاك الجوّ وهو أسنّة ... وكناس ذاك الخشف وهو عرين(6/2671)
هل يدنينّي منه أجرد سابح ... مرح وجائلة النّسوع أمون «1»
ومنها في المديح:
الروض ما قد قيل في أيامه ... لا أنه ورد ولا نسرين
والمسك ما لثم الثرى من ذكره ... لا أنّ كلّ قرارة دارين
ملك كما حدّثت عنه رأفة ... فالخمر ماء والشراسة لين
شيم لو ان اليمّ أعطي رفقها ... لم يلتقم ذا النون فيه النون
تالله لا ظلل الغمام معاقل ... تأبى عليه ولا النجوم حصون
ووراء حقّ ابن الرسول ضراغم ... أسد وشهباء السلاح منون
الطالبان المشرفية والقنا ... والمدركان النصر والتمكين
وصواهل لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا البيد الحزون حزون
حيث الحمام وما لهنّ قوادم ... وعلى الريود وما لهنّ وكون «2»
فكأنها تحت الغبار كواكب ... وكأنها تحت الحديد دجون
عرفت بساعة سبقها لا أنها ... علقت بها يوم الرهان عيون
وأجلّ علم البرق فيها أنها ... مرّت بجانحتيه وهي ظنون
ومنها:
انظر إلى الدنيا باشفاق فقد ... أرخصت هذا العلق وهو ثمين
لو يستطيع البحر لاستعدى على ... جدوى يديك وإنه لقمين
امدده أو فاصفح له عن نيله ... فلقد تخوّف أن يقال ضنين
واعذر أميّة أن تغصّ بريقها ... فالمهل ما سقيته والغسلين «3»
ألقت بأيدي الذلّ ملقى عمرها ... بالثوب إذ فغرت له صفين(6/2672)
وهذه القصيدة أطول قصائده، وهي نيف وثمانون بيتا، اقتصرنا منها على ما أوردناه.
وقال أيضا في مجلس أنس حضره عند الأمير جعفر «1» :
وثلاثة لم تجتمع في مجلس ... إلا لمثلك والأديب أريب
الورد في رامشنة من نرجس ... والياسمين وكلهن عجيب «2»
فاصفرّ ذا واحمرّ ذا وابيضّ ذا ... فأتت بدائع «3» أمرهنّ عجيب
فكأنّ هذا عاشق وكأن ذا ... ك معشّق وكأنّ ذاك رقيب «4»
وقال أيضا في شمعة «5» :
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي هول ما ألقى وما أتوقّع
نحول وحزن في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع
وقال أيضا «6» :
وليل بتّ أسقاها سلافا ... معتقة كلون الجلنار
كأنّ حبابها خرزات درّ ... علت ذهبا بأقداح النضار
بكفّ مقرطق يزهى بردف ... يضيق بحمله وسع الازار
أقمت لشربها عبثا وعندي ... بنات اللهو تعبث بالعقار
ونجم الليل يركض في الدياجي ... كأنّ الصبح يطلبه بثار(6/2673)
[1129] محمد بن هبيرة أبو سعيد
الأسدي النحوي المعروف بصعوداء: من أعيان أهل الكوفة وعلمائها، عارف بالنحو واللغة وفنون الأدب، قدم بغداد واختص بعبد الله بن المعتز وعمل له رسالة فيما انكرته العرب على أبي عبيد القاسم بن سلام ووافقته فيه، وأدّب أولاد محمد بن يزداد وزير المأمون، وله كتاب فيما يستعمله الكاتب، وغير ذلك.
[1130] محمد بن ولاد
هكذا اشتهر، وقيل هو ابن الوليد أبو الحسين التميمي النحوي: أخذ بمصر عن أبي علي الدينوري ختن ثعلب، ثم رحل إلى العراق وأخذ عن المبرد وثعلب. وكان جيّد الخط والضبط، وفيه عرج، وغلب عليه الشيب.
وتزوج الدينوري أمه. وله كتاب في النحو سماه «المنمّق» لم يصنع فيه شيئا. وكتاب المقصور والممدود، وغير ذلك. وكان المبرد لا يمكن أحدا من نسخ «كتاب سيبويه» من عنده، فكلم ابن الولاد المبرد في نسخه على شيء سماه له فأجابه، فأكمل نسخه وأبى أن يعطيه شيئا حتى يقرأه عليه، فغضب المبرد وسعى به إلى بعض خدم السلطان ليعاقبه على ذلك، فالتجأ ابن ولاد إلى صاحب الخراج ببغداد وكان يؤدب ولده، فأجابه، ثم ألحّ على المبرد حتى اقرأه الكتاب.
مات ابن ولاد سنة ثمان وتسعين ومائتين وقد بلغ الخمسين.
ومن شعره:
إذا ما طلبت أخا مخلصا ... فهيهات منك الذي تطلب
فكن بانفرادك ذا غبطة ... فما في زمانك من يصحب
__________
[1129] ترجمة صعوداء النحوي في الوافي 5: 160 وبغية الوعاة 1: 256 وقد ترجم القفطي لمن اسمه محمد بن هبيرة وكنيته أبو سعيد ولكنه غاضري ومن أهل سر من رأى.
[1130] ترجمة ابن ولاد في تاريخ بغداد 3: 332 وطبقات الزبيدي: 217 والوافي 5: 175 وبغية الوعاة 1: 259 واشارة التعيين: 339.(6/2674)
[1131] محمد بن يحيى بن علي بن مسلم بن موسى
بن عمران الحنفي الزبيدي، أبو عبد الله النحوي: كانت له معرفة بالنحو واللغة والأدب، صحب الوزير ابن هبيرة مدة وقرأ عليه، وكان صبورا على الفقر لا يشكو حاله.
قال ابن الجوزي: حدثني الوزير ابن هبيرة قال: جلست مع الزبيدي من بكرة إلى قريب الظهر وهو يلوك شيئا في فمه، فسألته فقال: لم يكن عندي شيء فأخذت نواة وجعلتها في فمي أتعلّل بها. وكان يحكى عنه أنه على مذهب السالمية ويقول:
إن الأموات يأكلون ويشربون في القبر وإن العاصي لا يلام لأنه بقدر الله تبارك وتعالى.
وكان يقول: قل الحق وان كان مرّا.
ودخل على الوزير الزينبي وعليه خلعة الوزارة، والناس يهنونه فقال: هذا يوم عزاء لا هناء، فقيل: لم؟ فقال: أيهنّأ على لبس الحرير؟
وحكي عنه قال: خرجت إلى المدينة على الوحدة، فآواني الليل إلى جبل فصعدت عليه وناديت: اللهم إني الليلة ضيفك، ثم نزلت فتواريت عند صخرة فسمعت مناديا ينادي: مرحبا يا ضيف الله، إنك مع طلوع الشمس تمرّ على قوم على بئر يأكلون خبزا وتمرا، فإذا دعوك فأجب فهذه ضيافتك، فلما كان من الغد سرت فلما كان وقت طلوع الشمس لاحت لي أهداف بئر، فوجدت عندها قوما يأكلون خبزا وتمرا، فدعوني إلى الأكل فأجبت.
وله من التصانيف: منار الاقتضاء ومنهاج الاقتفاء. وكتاب الرد على ابن الخشاب. وكتاب العروض. والمقدمة في النحو. وكتاب الحساب. وكتاب القوافي. وكتاب تعليل قراءة وَنَحْنُ عُصْبَةٌ*
(يوسف: 8 و 14) بالنصب. مات في ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وخمسمائة.
__________
[1131] ترجمة الزبيدي النحوي في المنتظم 10: 197 والوافي 5: 198 والجواهر المضية 2: 142 وبغية الوعاة 1: 263 والأنساب 6: 247 ومرآة الزمان 8: 144 والبداية والنهاية 12: 243 وتبصير المنتبه: 654 وسير الذهبي 20: 316.(6/2675)
[1132] محمد بن يحيى بن محمد
، أبو عبد الله ابن الحذاء التميمي الأندلسي: كان محدثا فقيها وخطيبا بليغا عارفا بفنون الأدب بارعا بها، له معرفة تامة بعلم التعبير.
أخذ عن ابن عون الله وابن بطال وابن زرب وغيرهم، وتفقه على ابن أبي زيد القيرواني وقرأ عليه تآليفه، ورحل إلى مصر فأخذ بها عن الحافظ عبد الغني والجوهري وغيرهما، ثم رجع إلى الأندلس فولي القضاء ببلنسية وغيرها، ثم رحل في فتنة البربر فاستوطن سرقسطة إلى أن مات بها سنة عشر وأربعمائة.
ومن تصانيفه كتاب الخطب والخطباء في مجلدين. والبشرى في تعبير الرؤيا، كبير يدخل في عشر مجلدات. والانباء بمعاني الأسماء، أسماء الله تعالى.
والاستنباط لمعاني السنن والأحكام، في عدة أسفار. والتعريف برجال الموطّأ، وغير ذلك.
[1133] محمد بن يحيى بن سعادة
أبو عبد الله المرسي: كان عالما بالتفسير والحديث والكلام خطيبا مصقعا عارفا بفنون الأدب، أخذ عن أبي علي الصدفي وأبي بكر ابن العربي وأبي الوليد ابن رشد وأبي بحر الأسدي وغيرهم، وولي القضاء والشورى بمرسية ثم بشاطبة فاستوطنها. ومولده بمرسية في رمضان سنة ست وتسعين
__________
[1132] ترجمة ابن الحذاء في بغية الملتمس (رقم: 319) وجعل وفاته سنة 416؛ أما في الصلة: 478- 480 فقد جعل وفاته كما ذكر ياقوت، وانظر ترتيب المدارك 8: 5 وشجرة النور 1: 112 وعبر الذهبي 3: 122 وسير الذهبي 17: 444 (ووفاته فيه 416) والوافي 5: 196 ومرآة الجنان 3: 29 وعيون التواريخ 12: 180 والديباج المذهب 2: 237 والنجوم الزاهرة 4: 264 والشذرات 3: 206.
[1133] محمد بن يحيى عند ياقوت وفي جميع المصادر الأخرى هو محمد بن يوسف: انظر بغية الملتمس (رقم: 308) والتكملة: 505 ومعجم أصحاب الصدفي: 183 وعبر الذهبي 4: 193 وسير الذهبي 20: 508 والوافي 5: 250 والديباج المذهب 4: 218 وبغية الوعاة 1: 277 ونفح الطيب 2: 158.(6/2676)
وأربعمائة، وتوفي بشاطبة في العشر الأخير من ذي الحجة سنة أربع وستين وخمسمائة.
ومن تصانيفه: شجرة الوهم المرقية إلى ذروة الفهم. وفهرسة أسماء الشيوخ.
[1134] محمد بن يحيى بن عبد الله بن العباس
بن محمد بن صول الكاتب المعروف بالصولي: كان جده ابن صول التركي أحد دعاة بني العباس. ولد أبو بكر ببغداد ونشأ بها، وأخذ عن ثعلب والمبرد وأبي داود السجستاني، وأخذ عنه أبو عبد الله المرزباني الكاتب الاخباري وغيره. وكان اخباريا أديبا كاتبا، وكان نديما للخلفاء متمكنا عندهم، نادم المكتفي ثم الراضي ثم المقتدر «1» ، وكان واحد عصره في لعب الشطرنج حتى قيل إنه هو الذي وضعه، وليس كذلك، وانما وضع الشطرنج صصه الهندي لشهرام ملك الفرس.
حكي ان الراضي بالله خرج إلى النزهة فأتى بستانا مونقا مزهرا فقال لمن حضر: هل رأيتم منظرا أحسن من هذا؟ فكلّ أثنى بما حضره ووصف محاسنه، فقال الراضي: لعب الصولي بالشطرنج أحسن من هذا ومما وصفتم.
وكان لأبي بكر الصولي خزانة أفردها لما جمع من الكتب المختلفة رتبها فيها أجمل ترتيب، وكان يقول لأصحابه: كلّ ما في هذه الخزانة سماعي، وإذا أراد مراجعة كتاب منها قال: يا غلام هات الكتاب الفلاني، فسمعه يوما أبو سعيد العقيلي يقول ذلك فأنشد:
__________
[1134] ترجمة الصولي في معجم الشعراء: 431 والفهرست: 167 وتاريخ بغداد 3: 427 والأنساب 8: 110 ونزهة الألباء: 188 والمنتظم 6: 359 وانباه الرواة 3: 233 وابن خلكان 4: 356 وعبر الذهبي 2: 241 وسير الذهبي 15: 301 والوافي 5: 190 ومرآة الجنان 2: 319 والبداية والنهاية 11: 219 ولسان الميزان 5: 427 والنجوم الزاهرة 3: 296 والشذرات 2: 339.(6/2677)
إنما الصوليّ شيخ ... أعلم الناس خزانه
إن سألناه بعلم ... نبتغي عنه الإبانه
قال يا غلمان هاتوا ... رزمة العلم فلانه
وللصولي من التصانيف: أخبار ابن هرمة الشاعر. وأخبار أبي تمام «1» . وأخبار أبي عمرو بن العلاء. وأخبار إسحاق الموصلي. وأخبار السيد الحميري الشاعر.
وأخبار القرامطة. وأدب الكاتب. وكتاب الأنواع. وكتاب العبادلة. وكتاب الغرر.
وكتاب الرقة. وكتاب الوزراء، وغير ذلك «2» .
وكان خرج من بغداد لضيق لحقه فنزل البصرة، وبها توفي سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة.
[1135] محمد بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير «3» بن غسان «4»
بن سليمان بن سعد بن عبد الله بن زيد بن مالك بن الحارث بن عامر بن عبد الله بن بلال بن عوف بن أسلم: وهو ثمالة، ثم ينتهي إلى الأسد بن الغوث، وهو الأزد، فهو الثمالي الأزدي البصري أبو العباس النحوي اللغوي الأديب.
__________
[1135] ترجمة المبرد في طبقات الزبيدي: 101 والفهرست: 64 وتاريخ بغداد 3: 380 والمنتظم 6: 9 وانباه الرواة 3: 241 وابن خلكان 4: 313 وعبر الذهبي 2: 74 وسير الذهبي 13: 576 والوافي 5: 216 والبداية والنهاية 11: 76 والبلغة: 250 وطبقات ابن الجزري 2: 280 ولسان الميزان 5: 430 والنجوم الزاهرة 3: 117 وبغية الوعاة 1: 269 وطبقات الداودي 2: 267 والشذرات 2: 190 واشارة التعيين: 342.(6/2678)
ولد بالبصرة يوم الاثنين غداة عيد الأضحى سنة عشر ومائتين، وأخذ عن أبي عمر الجرمي وأبي عثمان المازني، وقرأ عليهما «كتاب سيبويه» وأخذ عن أبي حاتم السجستاني، وأخذ عنه أبو بكر محمد بن يحيى الصولي ونفطويه وأبو علي الطوماري وغيرهم. وكان إمام العربية ببغداد، وإليه انتهى علمها بعد طبقة الجرمي والمازني، وكان حسن المحاضرة فصيحا بليغا مليح الأخبار ثقة فيما يرويه كثير النوادر فيه ظرافة ولباقة، وكان الإمام إسماعيل القاضي يقول: ما رأى محمد بن يزيد مثل نفسه.
وإنما لقّب بالمبرد «1» لأنه لما صنف المازنيّ «كتاب الألف واللام» سأله عن دقيقه وعويصه فأجابه بأحسن جواب، فقال له المازني: قم فأنت المبرّد- بكسر الراء- أي المثبت للحق، فحرّفه الكوفيون وفتحوا الراء.
وقال السيرافي: سمعت أبا بكر ابن مجاهد يقول: ما رأيت أحسن جوابا من المبرد في معاني القرآن فيما ليس فيه قول لمتقدم، ولقد فاتني منه علم كثير لقضاء ذمام ثعلب.
وقال السيرافي أيضا: سمعت نفطويه يقول: ما رأيت أحفظ للأخبار بغير أسانيد من المبرد وأبي العباس ابن الفرات.
وقال المفجع البصري «2» : كان المبرد لكثرة حفظه للغة وغريبها يتهم بالوضع فيها، فتواضعنا على مسألة نسأله عنها لا أصل لها لننظر ماذا يجيب، وكنا قبل ذلك تمارينا في عروض بيت الشاعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا ... حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض
فقال البعض: هو من البحر الفلاني، وقال آخرون: هو من البحر الفلاني وتردد على أفواهنا من تقطيعه «ق بعضا، ثم ذهبنا إلى المبرد فقلت له: أيدك الله تعالى، ما القبعض عند العرب؟ فقال: هو القطن، وفي ذلك يقول الشاعر:
كأنّ سنامها حشي القبعضا
قال فقلت لأصحابي: ترون الجواب والشاهد، فإن كان صحيحا فهو عجب،(6/2679)
وإن كان مختلقا على البديهة فهو أعجب.
وحكى ابن السراج قال: كان بين المبرد وثعلب ما يكون بين المتعاصرين من المنافرة، واشتهر ذلك حتى قال بعضهم:
كفى حزنا أنا جميعا ببلدة ... ويجمعنا في أرضها شرّ مشهد
وكلّ لكلّ مخلص الودّ وامق ... ولكنه في جانب عنه مفرد
نروح ونغدو لا تزاور بيننا ... وليس بمضروب لنا يوم موعد
فأبداننا في بلدة والتقاؤنا ... عسير كلقيا ثعلب والمبرد
وكان أهل التجميل يفضلون المبرد على ثعلب، وفي ذلك يقول أحمد بن عبد السلام:
رأيت محمد بن يزيد يسمو ... الى الخيرات في جاه وقدر
جليس خلائف وغذيّ ملك ... وأعلم من رأيت بكلّ أمر
وفتيانيّة الظرفاء فيه ... وأبّهة الكبير بغير كبر
فينثر إن أجال الفكر درّا ... وينثر لؤلؤا من غير فكر
وكان الشعر قد أودى فأحيا ... أبو العباس داثر كلّ شعر
وقالوا ثعلب رجل عليم ... وأين النجم من شمس وبدر
وقالوا ثعلب يفتي ويملي ... وأين الثّعلبان من الهزبر
وهذا في مقالك مستحيل ... تشبّه جدولا وشلا ببحر
وقال بعضهم في المبرد وثعلب:
أيا طالب العلم لا تجهلنّ ... وعذ بالمبرد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب
وقال أبو بكر ابن الأزهر «1» : حدثني أبو العباس المبرد قال، قال لي المازني:(6/2680)
بلغني أنك تنصرف من مجلسنا فتصير إلى مواضع المجانين والمعالجين فما معنى ذلك؟ فقلت: أعزك الله تعالى، إن لهم طرائف من الكلام، قال: فأخبرني بأعجب ما رأيت من المجانين، قال فقلت: صرت يوما إليهم فمررت على شيخ منهم وهو جالس على حصير قصب فجاوزته الى غيره، فقال: سبحان الله تعالى أين السلام؟
من المجنون أنا أو أنت؟ فاستحييت منه وقلت: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: لو كنت ابتدأت لأوجبت علينا حسن الرد، على أنا نصرف سوء أدبك إلى أحسن جهاته من العذر لأنه كان يقال إن للداخل على القوم دهشة، اجلس أعزك الله تعالى عندنا، وأومى إلى موضع من الحصير، فجلست إلى ناحية منه أسترعي مخاطبته، فقال لي وقد رأى معي محبرتي: أرى معك آلة رجلين أرجو أن لا تكون أحدهما: أصحاب الحديث الاغثاث أو الأدباء أصحاب النحو والشعر، قلت:
الأدباء، قال: أتعرف أبا عثمان المازني؟ قلت: نعم، قال: أتعرف الذي يقول فيه:
وفتى من مازن ... استاذ أهل البصره
امه معرفة ... وأبوه نكره
فقلت: لا أعرفه، فقال: أتعرف غلاما له قد نبغ في هذا العصر معه له ذهن وحفظ، وقد برز في النحو يعرف بالمبرد؟ فقلت: أنا والله الخبير به، قال: فهل أنشدك شيئا من شعره، قلت: لا أحسبه يحسن قول الشعر، فقال: يا سبحان الله أليس هو القائل:
حبذا ماء العناقي ... د بريق الغانيات
بهما ينبت لحمي ... ودمي أيّ نبات
أيها الطالب أشهى ... من لذيذ الشهوات
كل بماء المزن تفا ... ح خدود الفتيات
قلت: سمعته ينشد هذا في مجلس أنس، فقال: يا سبحان الله ألا يستحيي أن ينشد مثل هذا حول الكعبة؟ ثم قال: ألم تسمع ما يقولون في نسبه؟ قلت:
يقولون هو من الأزد، أزد شنوءة ثم من ثمالة، قال أتعرف القائل في ذلك:(6/2681)
سألنا عن ثمالة كلّ حيّ ... فقال القائلون ومن ثماله
فقلت محمد بن يزيد منهم ... فقالوا زدتنا بهم جهاله
فقال لي المبرد خلّ قومي ... فقومي معشر فيهم نذاله
فقلت: أعرفه، هذا عبد الصمد بن المعذل يقولها فيه، فقال: كذب فيما ادعاه، هذا كلام رجل لا نسب له يريد أن يثبت له بهذا الشعر نسبا، فقلت له: أنت أعلم، فقال: يا هذا قد غلبت خفة روحك على قلبي، وقد أخرت ما كان يجب تقديمه، ما الكنية أصلحك الله؟ فقلت: أبو العباس، قال: فما الاسم؟ قلت:
محمد، قال: فالأب، قلت: يزيد، قال: قبحك الله أحوجتني إلى الاعتذار ممّا قدمت ذكره، ثم وثب وبسط يده فصافحني، فرأيت القيد في رجله فأمنت غائلته، فقال: يا أبا العباس صن نفسك من الدخول في هذه المواضع، فليس يتهيأ في كلّ وقت أن تصادف مثلي على مثل حالتي، ثم قال: أنت المبرد، أنت المبرد، وجعل يصفق وانقلبت عيناه واحمرت وتغيرت حالته، فبادرت مسرعا خوف أن تبدر إليّ منه بادرة، وقبلت منه والله نصحه، ولم أعاود بعدها الى تلك المواضع أبدا.
وقال الزجاج: لما قدم المبرد بغداد جئت لأناظره، وكنت أقرأ على أبي العباس ثعلب، فعزمت على إعناته، فلما باحثته ألجمني بالحجة وطالبني بالعلة وألزمني الزامات لم أهتد إليها، فاستيقنت فضله واسترجحت عقله وأخذت في ملازمته.
وكان المبرد يحب الاجتماع بأبي العباس ثعلب للمناظرة وثعلب يكره ذلك، حكى أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، وكان صديقهما، قال: قلت لأبي عبد الله الدينوري ختن ثعلب: لم يأبى ثعلب الاجتماع بالمبرد؟ فقال: لأنّ المبرد حسن العبارة حلو الاشارة، فصيح اللسان ظاهر البيان، وثعلب مذهبه مذهب المعلمين، فاذا اجتمعا في محفل حكم للمبرد على الظاهر إلى أن يعرف بالباطن.
وحكي أن بعض الأكابر من بني طاهر سأل أبا العباس ثعلبا أن يكتب له مصحفا على مذهب أهل التحقيق، فكتب والضّحى بالياء، ومذهب الكوفيين أنه إذا كان كلمة من هذا النحو أولها ضمة أو كسرة كتبت بالياء، وإن كانت من ذوات الواو فالبصريون يكتبون بالألف، فنظر المبرد في ذلك المصحف فقال: ينبغي أن يكتب والضّحا بالألف لأنه من ذوات الواو، فجمع ابن طاهر بينهما فقال المبرد لثعلب: لم كتبت(6/2682)
والضّحى بالياء؟ فقال: لضمة أوله، فقال له: ولم إذ ضمّ أوله وهو من ذوات الواو تكتبه بالياء؟ فقال: لأن الضمة تشبه الواو وما أوله واو يكون آخره ياء فتوهموا أن أوله واو، فقال المبرد: أفلا يزول هذا التوهم إلى يوم القيامة.
ولبعضهم في مدح المبرد:
وإذا يقال من الفتى كلّ الفتى ... والشيخ والكهل الكريم العنصر
والمستضاء بعلمه وبرأيه ... وبعقله قلت ابن عبد الأكبر
ولآخر في مدحه أيضا:
وأنت الذي لا يبلغ المدح وصفه ... وإن أطنب المدّاح مع كلّ مطنب
رأيتك والفتح بن خاقان راكبا ... فأنت عديل الفتح في كلّ موكب
وكان أمير المؤمنين إذا رنا ... إليك يطيل الفكر بعد التعجب
وأوتيت علما لا يحيط بكنهه ... علوم بني الدنيا ولا علم ثعلب
يروح إليك الناس حتى كأنهم ... ببابك في أعلى منى والمحصّب
مات أبو العباس المبرد في شوال وقيل في ذي القعدة سنة خمس وثمانين ومائتين في خلافة المعتضد، وصلى عليه أبو محمد يوسف بن يعقوب القاضي، ودفن في دار في مقابر باب الكوفة. ولما مات قال فيه ثعلب هذه الأبيات، وقيل هي لأبي بكر ابن العلاف:
ذهب المبرد وانقضت أيامه ... وليذهبن إثر المبرد ثعلب
بيت من الآداب أضحى نصفه ... خربا وباقي النصف منه سيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطّنوا ... للدهر أنفسكم على ما يسلب
وتزودوا من ثعلب فبكاس ما ... شرب المبرد عن قريب يشرب
أوصيكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
ومن شعر المبرد وقد بلغه أنّ ثعلبا نال منه:
ربّ من يعنيه حالي ... وهو لا يجري ببالي
قلبه ملآن مني ... وفؤادي منه خالي(6/2683)
ولأبي العباس المبرد من التصانيف: الكامل في الأدب «1» وهو أشهر كتبه.
والمقتضب «2» في النحو وهو أكبر مصنفاته وأنفسها، إلا أنه لم ينتفع به أحد. قال أبو علي الفارسي: نظرت في «المقتضب» فما انتفعت منه بشيء إلا بمسألة واحدة وهي وقوع إذا جوابا للشرط في قوله تعالى: وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ
(الروم: 36) ويزعمون أن سبب عدم الانتفاع به أنّ هذا الكتاب أخذه ابن الراوندي الزنديق عن المبرد، وتناوله الناس من يد ابن الراوندي فكأنه عاد عليه شؤمه فلا يكاد ينتفع به. ومن تصانيفه أيضا الروضة. والمدخل في كتاب سيبويه. وكتاب الاشتقاق. وكتاب المقصور والممدود. وكتاب المذكر والمؤنث «3» . ومعاني القرآن ويعرف بالكتاب التام. وكتاب الخط والهجاء. وكتاب الأنواء والأزمنة. وكتاب احتجاج القراء وإعراب القرآن. وكتاب الحروف في معاني القرآن إلى سورة طه.
وكتاب صفات الله جل وعلا. وكتاب العبارة عن أسماء الله تعالى. وشرح شواهد كتاب سيبويه. وكتاب الردّ على سيبويه. ومعنى كتاب الأوسط للأخفش. وكتاب الزيادة المنتزعة من كتاب سيبويه. ومعنى كتاب سيبويه. وكتاب الحروف. والمدخل في النحو. وكتاب الإعراب. وكتاب التصريف. وكتاب العروض. وكتاب القوافي.
وكتاب البلاغة. والرسالة الكاملة. والجامع لم يتم. وقواعد الشعر. وكتاب ضرورة الشعر. وكتاب الفاضل والمفضول «4» . والرياض المونقة. وكتاب الوشي. وكتاب شرح كلام العرب وتخليص ألفاظها ومزاوجة كلامها وتقريب معانيها. وكتاب الحث على الأدب والصدق. وأدب الجليس. وكتاب الناطق. وكتاب الممادح والمقابح.
وكتاب أسماء الدواهي عند العرب. وكتاب ما اتفقت الفاظه واختلفت معانيه في القرآن. وكتاب التعازي «5» . وكتاب قحطان وعدنان «6» . وطبقات النحويين البصريين وأخبارهم؛ وغير ذلك.(6/2684)
[1136] محمد بن يوسف بن عمر بن علي بن منيرة الكفر طابي
أبو عبد الله النحوي، نزيل شيراز: سمع الحديث على أبي السمح الحنبلي، وصنف بحر النحو نقض فيه مسائل كثيرة من أصول النحويين. ونقد الشعر. وغريب القرآن. مات في رمضان سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
[1137] أبو محمد الترسابادي النحوي:
عرف كتاب سيبويه، وأحكم مسائل الأخفش، ثم خرج الى العراق فهابه علماء النحو وانقبضوا عن مناظرته، منهم الزجاج وابن كيسان، وحضر يوما مجلس النحويين ببغداد فسئل عن مسألة، وابن كيسان حاضر، فانقبض عن الاجابة إجلالا لابن كيسان، فقال له، يا أبا محمد أجب فو الله أنت أحقّنا بالانتصاب.
[1138] محمود بن جرير الضبي الأصبهاني
أبو مضر النحوي: كان يلقب فريد العصر، وكان وحيد دهره وأوانه في علم اللغة والنحو والطب، يضرب به المثل في أنواع الفضائل. أقام بخوارزم مدة وانتفع الناس بعلومه ومكارم أخلاقه وأخذوا عنه علما كثيرا وتخرج عليه جماعة من الأكابر في اللغة والنحو، منهم الزمخشري، وهو
__________
[1136] ترجمة أبي عبد الله الكفر طابي في الوافي 5: 247 وبغية الوعاة 1: 285، وورد لدى الصفدي أن وفاته كانت عام 553، وهذا أصوب لأنه هو شيخ محمود بن نعمة بن أرسلان الشيزري أحد شعراء الخريدة، وقد توفي سنة 556؛ وأورد الصفدي للكفر طابي مقطعات شعرية.
[1137] ترجمة الترسابادي في بغية الوعاة 1: 290 (عن ياقوت) .
[1138] ترجمة محمود بن جرير في الصفدي (خ) وذكر من تلامذته عدا الزمخشري: السيد إسماعيل بن الحسن بن محمد العلوي الحسيني الجرجاني صاحب التصانيف في الطب بالعربي والفارسي، وكان أهل خوارزم على مذهب واحد في الاعتزال فأدخل أبو مضر مذهب أبي الحسين البصري المعتزلي؛ وذكر انه توفي بعيد سنة 507، وانظر بغية الوعاة 2: 276.(6/2685)
الذي أدخل إلى خوارزم مذهب المعتزلة ونشره بها فاجتمع عليه الخلق لجلالته وتمذهبوا بمذهبه، منهم أبو القاسم الزمخشري، ولست أعرف له مع نباهة قدره وشيوع فكره مصنفا مذكورا ولا تأليفا مأثورا إلا كتابا يشتمل على نتف وأشعار وحكايات وأخبار سماه «زاد الراكب» مات بمرو سنة سبع وخمسمائة، ورثاه الزمخشري بقوله:
وقائلة ما هذه الدرر التي ... تساقطها عيناك سمطين سمطين
فقلت هو الدرّ الذي قد حشا به ... أبو مضر سمعي تساقط من عيني
[1139] محمود بن أبي الحسن بن الحسين
النيسابوري الغزنوي يلقب ببيان الحق: كان عالما بارعا مفسرا لغويا فقيها متفننا فصيحا له تصانيف ادعى فيها الاعجاز منها كتاب خلق الانسان. وجمل الغرائب في تفسير الحديث. وايجاز البيان في معاني القرآن وغير ذلك. ومن شعره.
فلا تحقرن خلقا من الناس عله ... وليّ اله العالمين ولا تدري
فذو القدر عند الله يخفى على الورى ... كما خفيت عن علمهم ليلة القدر
[1140] محمود بن حمزة بن نصر الكرماني النحوي:
هو تاج القراء وأحد العلماء الفقهاء النبلاء، صاحب التصانيف والفضل، كان عجبا في دقة الفهم وحسن الاستنباط، لم يفارق وطنه ولا رحل، وكان في حدود الخمسمائة وتوفي بعدها.
__________
[1139] ترجمة بيان الحق في الصفدي (خ) وعدّ له كتبا كثيرة أخرى منها: كتاب المقلدات في علم العربية يشتمل على قصائد مختارة من شعر العرب أعربها؛ وكتاب شوارد الشواهد وقلائد القصائد، يشتمل على أشعار مختارة من شعر المحدثين (وأورد فاتحة كتابه إيجاز البيان) وغير ذلك من كتب. وانظر بغية الوعاة 2: 277.
[1140] ترجمة محمود الكرماني في الصفدي (خ) وذكر من كتبه كتاب الغرائب والعجائب. ذكر فيه غرائب تفسير القرآن وعجائبه، وانظر بغية الوعاة 2: 278.(6/2686)
صنف لباب التفسير. والايجاز في النحو اختصره من الايضاح للفارسي. النظامي في النحو اختصره من اللمع لابن جني. الافادة في النحو. العنوان فيه أيضا. وله في مواضع الصرف:
فمعرفة وتأنيث ونعت ... ونون قبلها الف وجمع
وعجمة ثم تركيب وعدل ... ووزن الفعل والأسباب تسع
[1141] محمود بن عزيز العارضي أبو القاسم
الخوارزمي، الملقب شمس المشرق:
كان من أفضل الناس في عصره في علم اللغة والأدب، لكنه تخطّى إلى علم الفلسفة فصار مفتونا بها ممقوتا بين المسلمين، وكان سكونا سكوتا وقورا يطالع الفقه ويناظر في مسائل الخلاف أحيانا. سمع الحديث من أبي نصر القشيري وغيره، وأملى طرفا من الحديث وشرحه بلفظ حسن ومعان لا بأس بها، وكان الزمخشري يدعوه الجاحظ الثاني لكثرة حفظه وفصاحة لفظه. أقام مدة بخوارزم في خدمة خوارزم شاه مكرما، ثم ارتحل إلى مرو فذبح بها نفسه بيده في أوائل سنة احدى وعشرين وخمسمائة، ووجد بخطه رقعة فيها هذا ما عملته أيدينا فلا يؤاخذ به غيرنا.
[1142] محمود بن عمر بن أحمد أبو القاسم
الزمخشري جار الله: كان إماما في
__________
[1141] ترجمة العارضي في الصفدي (خ) وبغية الوعاة 2: 279.
[1142] ترجمة الزمخشري في الأنساب 6: 297 ونزهة الألباء: 274 والمنتظم 10: 112 وانباه الرواة 3: 265 (وهو ينقل عن وشاح الدمية وعن الخريدة) وابن خلكان 5: 168 والبدر السافر: 193 وميزان الاعتدال 4: 78 وعبر الذهبي 4: 106 وسير الذهبي 20: 151 وتذكرة الحفاظ: 1283 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 228 ومرآة الجنان 3: 269 والبداية والنهاية 12: 219 والجواهر المضية 2: 160 والعقد الثمين 7: 137 والنجوم الزاهرة 5: 274 وتاج التراجم: 71 وبغية الوعاة 2: 279 وطبقات المفسرين للسيوطي: 41 وطبقات الداودي 2: 314 وأزهار الرياض 3: 282 والشذرات 4: 118 واشارة التعيين: 345 وروضات الجنات. وللدكتور أحمد(6/2687)
التفسير والنحو واللغة والأدب، واسع العلم كبير الفضل متفننا في علوم شتى، معتزليّ المذهب متجاهرا بذلك.
قال ابن أخته أبو عمرو عامر بن الحسن السمسار: ولد خالي بزمخشر من أعمال خوارزم يوم الأربعاء السابع والعشرين من رجب سنة سبع وستين وأربعمائة، وأخذ الأدب عن أبي مضر محمود بن جرير الضبي الأصبهاني وأبي الحسن علي بن المظفر النيسابوري، وسمع من شيخ الإسلام أبي منصور نصر الحارثي، ومن أبي سعد الشفاني، وأصابه خراج في رجله فقطعها واتخذ رجلا من خشب، وقيل أصابه برد الثلج في بعض أسفاره بنواحي خوارزم فسقطت رجله، وحكي أن الدامغاني «1» المتكلم الفقيه سأله عن سبب قطع رجله فقال: دعاء الوالدة، وذلك أني أمسكت عصفورا وأنا صبيّ صغير وربطت برجله خيطا فأفلت من يدي ودخل خرقا فجذبته فانقطعت رجله، فتألمت له والدتي وقالت: قطع الله رجلك كما قطعت [رجله] ، فلما رحلت إلى بخارى في طلب العلم سقطت عن الدابة في أثناء الطريق فانكسرت رجلي واصابني من الالم ما أوجب قطعها.
ولما قدم الزمخشري إلى بغداد قاصدا الحج زاره الشريف أبو السعادات هبة الله بن الشجري مهنئا له بقدومه، فلما جلس إليه أنشده متمثلا:
كانت مساءلة الركبان تخبرني ... عن أحمد بن دواد أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت ... أذني بأحسن مما قد رأى بصري
وأنشد أيضا:
وأستكبر الأخبار قبل لقائه ... فلما التقينا صغّر الخبر الخبر
__________
الحوفي كتاب عنه، ولمصطفى الصاوي دراسة في منهجه في التفسير.
ومن كتبه المطبوعة: الكشاف والفائق والكلم النوابغ والمفصل في النحو والقسطاص في العروض والمستقصى في الأمثال وربيع الأبرار وشرح لامية العرب والمقامات وأساس البلاغة.(6/2688)
ثم أخذ يثني عليه، فلم ينطق الزمخشري حتى فرغ ابن الشجري من كلامه، فلما أتم كلامه شكر الشريف وعظّمه وتصاغر له ثم قال: إن زيد الخيل دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما بصر بالنبي صلى الله عليه وسلم رفع صوته بالشهادتين، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا زيد الخيل، كلّ رجل وصف لي وجدته دون الصفة إلا انت فانك فوق ما وصفت، وكذلك سيدنا الشريف، ثم دعا له وأثنى عليه.
توفي أبو القاسم الزمخشري بقصبة خوارزم ليلة عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة.
ومن شعره:
العلم للرحمن جلّ جلاله ... وسواه في جهلاته يتغمغم
ما للتراب وللعلوم وإنما ... يسعى ليعلم أنه لا يعلم
وقال أيضا:
كثر الشكّ والخلاف وكلّ ... يدّعي الفوز بالصراط السويّ
فاعتصامي بلا إله سواه ... ثم حبي لأحمد وعلي
فاز كلب بحبّ أصحاب كهف ... كيف أشقى بحبّ آل نبي
وله في مدح «تفسير الكشاف» :
إن التفاسير في الدنيا بلا عدد ... وليس فيها لعمري مثل كشّافي
إن كنت تبغي الهدى فالزم قراءته ... فالجهل كالداء والكشاف كالشافي
ومن كلامه ما استخرجته من كتابه «الأطواق» قال: استمسك بحبل مواخيك، ما استمسك بأواخيك، واصحبه ما صحب الحقّ وأذعن، وحل مع أهله وظعن، فان تنكرت أنحاؤه، ورشح بالباطل إناؤه، فتعوض عن صحبته وإن عوّضت الشّسع، وتصرّف بحبله ولو أعطيت النّسع. فصاحب الصدق أنفع من الترياق النافع، وقرين السوء أضرّ من السم الناقع.
وقال: الدعة من الضّعة مرة، لا تشره إليها نفس حرة.
وقال: الكريم إذا ريم على الضيم نبا، والسريّ متى سيم الخسف أبى. وقلما عرفت الأنفة والإباء، في غير من شرفت منه الآباء.(6/2689)
وقال: عزة النفس وبعد الهمة، الموت الأحمر والخطوب المدلهمة، ولكن من عرف منهل الذلّ فعافه، استعذب نقيع العزّ وذعافه.
وقال: أحمق من النعامة، من افتخر بالزعامة؛ لم أر أشقى من الزعيم، ولا أبعد منه من الفوز بالنعيم، هالك في الهوالك، خابط في الظلم الحوالك، على آثاره العفاء، أدركته بمجانيقها الضعفاء.
وقال: الدنيا أدوار، والناس أطوار، فالبس لكلّ يوم بحسب ما فيه من الطوارق، وجانس كلّ قوم بقدر ما لهم من الطرائق، فلن تجري الأيام على أمنيتك، ولن تنزل الأقوام على قضيتك.
وقال: ألا أحدثك عن بلد الشوم، ذلك بلد الوالي الغشوم، فاياك وبلد الجور وان كانت أعزّ من بيضة البلد، وأحظى أهله بالمال المثمر والولد، وتوقع أن تسقط فيه الطيور النواعق، وتأخذ أهله الرجفة والصواعق.
وقال: لا تقنع بالشرف التالد، فذلك الشرف للوالد، واضمم إلى التالد طريفا، حتى تكون بهما شريفا، ولا تدلّ بشرف أبيك، ما لم تدلّ عليه بشرف فيك.
وقال: كبّ الله على مناخره، من زكّى نفسه بمفاخره، على أن ربّ مساخر، يعدها الناس مفاخر.
وقال: ما لعلماء السوء جمعوا عزائم الشرع ودوّنوها، ثم رخصوا فيها لأمراء السوء وهوّنوها، إنما حفظوا وعلّقوا، وصفّفوا وحلّقوا، ليقمروا المال وييسروا، ويفقروا الأيتام ويوسروا، أكمام واسعة، فيها أصلال لاسعة، وأقلام، كأنها أزلام، وفتوى، يعمل بها الجاهل فيتوى.
ومن إنشائه ما كتب به إلى حافظ الاسكندرية أبي الطاهر السلفي جوابا عن كتاب كتبه إليه يستجيزه به وهو «1» : ما مثلي مع أعلام العلماء، إلا كمثل السّها مع مصابيح السّماء، والجهام الصّفر من الرّهام مع الغوادي الغامرة للقيعان والآكام، والسّكيت المخلّف عن خيل السباق، والبغاث مع الطير العتاق، وما التلقيب بالعلّامة، إلا شبه الرقم والعلامة، والعلم مدينة أحد بابيها الدراية، والثاني الرواية،(6/2690)
وأنا في كلا البابين ذو بضاعة مزجاة، ظلّي فيه أقلص من ظلّ حصاة، أما الرواية فحديثة الميلاد، قريبة الإسناد، لم تستند إلى علماء نحارير، ولا إلى أعلام مشاهير؛ وأما الدراية فثمد لا يبلغ أفواها، وبرض ما يبلّ شفاها.
إلى أن قال: ولا يغرنكم قول فلان وفلان..... فيّ، وذكر جماعة من العلماء والشعراء أثنوا عليه ومدحوه ثم قال: فان ذلك اغترار بالظاهر الممّوه، وجهل بالباطن المشوّه، ولعلّ الذي غرهم مني ما رأوا من حسن النصح للمسلمين، وبلوغ الشفقة على المستفيدين، وقطع المطامع، وإفاءة المبارّ والصنائع، وعزة النفس والربء بها عن السفاسف، والاقبال على خويّصتي، والاعراض عما لا يعنيني.
فجللت في عيونهم وغلطوا فيّ ونسبوني إلى ما لست منه في قبيل ولا دبير. الخ.
والكتاب طويل اقتصرت منه على ما أوردت.
ولأبي القاسم من التصانيف: الكشاف في تفسير القرآن. الفائق في غريب الحديث. نكت الاعراب في غريب الاعراب (في غريب اعراب القرآن) . كتاب متشابه أسماء الرواة. مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة، الأصل لأبي سعيد الرازي إسماعيل. الكلم النوابغ في المواعظ. أطواق الذهب في المواعظ. نصائح الكبار. نصائح الصغار. مقامات في المواعظ. نزهة المستأنس. الرسالة الناصحة.
رسالة المسأمة. الرائض في الفرائض. معجم الحدود. المنهاج في الأصول. ضالّة الناشد. كتاب عقل الكل. الأنموذج في النحو. المفصّل في النحو أيضا. المفرد والمؤلف فيه أيضا. صميم العربية. الأمالي في النحو. أساس البلاغة في اللغة.
جواهر اللغة. كتاب الأجناس. مقدمة الأدب في اللغة. كتاب الأسماء في اللغة.
القسطاس في العروض. حاشية على المفصل. شرح مقاماته. روح المسائل.
سوائر الأمثال. المستقصى في الأمثال. ربيع الأبرار في الأدب والمحاضرات. تسلية الضرير. رسالة الأسرار. أعجب العجب شرح لامية العرب. شرح المفصل. ديوان التمثيل. ديوان خطب. ديوان رسائل. ديوان شعر. شرح كتاب سيبويه. كتاب الجبال والأمكنة. شافي العي من كلام الشافعي. شقائق النعمان في حقائق النعمان في مناقب الإمام أبي حنيفة. المحاجاة ومتمم مهام أرباب الحاجات في الأحاجي والألغاز. المفرد والمركب في العربية، وغير ذلك.(6/2691)
[1143] محمود بن أبي المعالي
تاج الدين الحواري اللغوي الأديب الشاعر: أخذ الأدب عن سعيد بن أبي الفضل الميداني، وبرع في اللغة، وله النثر الفائق والشعر الرائق وكان واحد نيسابور علما وفضلا وأدبا، وصنف كتاب «ضالة الأديب» في الجمع بين «الصحاح» و «التهذيب» أخذ فيه على الجوهري في عدة مواضع. كان حيا سنة ثمانين وخمسمائة.
[1144] مدرك بن علي الشيباني:
أعرابيّ من بادية البصرة، دخل بغداد صغيرا ونشأ بها، فتفقه وحصّل العربية والأدب، وكان شاعرا أديبا فاضلا، وكان كثيرا ما يلمّ بدير الروم في الجانب الشرقيّ ببغداد، وكان بدير الروم غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو بن يوحنا، وكان من أحسن الناس صورة وأكملهم خلقا، وكان مدرك بن علي يهواه. وكان لمدرك مجلس تجتمع فيه الأحداث، فان حضر شيخ أو صاحب حرمة قال له مدرك: قبيح بك أن تختلط بالأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله، فيقوم، وكان عمرو يحضر مجلسه، فعشقه مدرك وهام به، فجاء عمرو يوما إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجره فإذا فيها:
بمجالس العلم التي ... بك تمّ حسن جموعها
إلّا رثيت لمقلة ... غرقت بفيض دموعها
بيني وبينك حرمة ... الله في تضييعها
فقرأ الأبيات ووقف عليها من كان في المجلس، فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه ولزم دير الروم وجعل يتبع عمرا حيث
__________
[1143] للحواري ترجمة في بغية الوعاة 2: 283 (وهو ينقل عن وشاح الدمية وعن ياقوت) .
[1144] مدرك هذا أدركه الجريري المعافي بن زكريا النهرواني وروى قصيدته وقصته، وقد توفي المعافى سنة 390؛ وانظر مصارع العشاق 2: 170 وتزيين الأسواق: 341 (وشرح ما فيها من مصطلحات نصرانية) .(6/2692)
سار، وقال فيه شعرا كثيرا.
قال الجريري: وقد رأيت عمرا أبيض الرأس واللحية.
ومن شعر مدرك فيه المزدوجة المشهورة وهي:
من عاشق ناء هواه داني ... ناطق دمع صامت اللسان
معذب بالصدّ والهجران ... موثق قلب مطلق اللسان
من غير ذنب كسبت يداه ... غير هوى نمّت به عيناه
شوقا إلى رؤية ما أشقاه ... كأنما عافاه من أضناه
يا ويحه من عاشق ما يلقى ... من أدمع منهلّة ما ترقا
ناطقة وما أجادت نطقا ... تخبر عن حبّ له استرقا
لم يبق منه غير طرف يبكي ... بأدمع مثل نظام السلك
تطفئها نار الهوى وتذكي ... كأنها قطر السماء تحكي
إلى غزال من بني النصارى ... عذار خديه سبى العذارى
وغادر الأسد به حيارى ... في ربقة الحبّ له أسارى
رئم بدار الروم رام قتلي ... بمقلة كحلاء لا من كحل
وطرّة بها استطار عقلي ... وحسن وجه وقبيح فعل
رئم به أيّ هزبر لم يصد ... يقتل باللحظ ولا يخشى القود
متى يقل ها قالت الالحاظ قد ... كأنها ناسوته حين اتحد
ما أبصر الناس جميعا بدرا ... ولا رأوا شمسا وغصنا نضرا
أحسن من عمرو فديت عمرا ... ظبي بعينيه سقاني خمرا
ها أنا ذا بقدّه مقدود ... والدمع في خدي له أخدود
ما ضرّ من فقري به موجود ... لو لم يقبّح فعله الصدود(6/2693)
إن كان ذنبي عنده الاسلام ... فقد سعت في نقصه الآثام
واختلّت الصلاة والصيام ... وجاز في الدين له الحرام
يا ليتني كنت له صليبا ... أكون منه أبدا قريبا
أبصر حسنا وأشمّ طيبا ... لا واشيا أخشى ولا رقيبا
يا ليتني كنت له قربانا ... ألثم منه الثغر والبنانا
أو جاثليقا كنت أو مطرانا ... كيما يرى الطاعة لي إيمانا
يا ليتني كنت لعمرو مصحفا ... يقرأ مني كلّ يوم أحرفا
أو قلما يكتب بي ما ألّفا ... من أدب مستحسن قد صنفا
يا ليتني كنت لعمرو عوده ... أو حلة يلبسها مقدوده
أو بركة باسمه معدوده ... أو بيعة بداره مشهوده
يا ليتني كنت له زنّارا ... يديرني في الخصر كيف دارا
حتى إذا الليل طوى النهارا ... صرت له حينئذ إزارا
قد والذي يبقيه لي أفناني ... وابتزّ عقلي والضنا كساني
ظبي على البعاد والتداني ... حلّ محلّ الروح من جثماني
وا كبدي من خدّه المضرج ... وا كبدي من ثغره المفلّج
لا شيء مثل الطرف منه الأدعج ... أذهب للنسك وللتحرج
إليك أشكو يا غزال الإنس ... ما بي من الوحشة بعد الأنس
يا من هلالي وجهه وشمسي ... لا تقتل النفس بغير النفس
جد لي كما جدت بحسن الودّ ... وارع كما أرعى قديم العهد
واصدد كصدّي عن طويل الصدّ ... فليس وجد بك مثل وجدي
ها أنا في بحر الهوى غريق ... سكران من حبك لا أفيق(6/2694)
محترق ما مسّني حريق ... يرثي لي العدوّ والصديق
فليت شعري فيك هل ترثي لي ... من سقم ومن ضنى طويل
أم هل إلى وصلك من سبيل ... لعاشق ذي جسد نحيل
في كلّ عضو منه سقم وألم ... ومقلة تبكي بدمع وبدم
شوقا إلى شمس وبدر وصنم ... منه إليه المشتكى إذا ظلم
أقول إذ قام بقلبي وقعد ... يا عمرو يا عامر قلبي بالكمد
أقسم بالله يمين المجتهد ... ان امرءا أسعدته لقد سعد
يا عمرو ناشدتك بالمسيح ... إلا سمعت القول من فصيح
يخبر عن قلب له جريح ... باح بما يلقى من التبريح
يا عمرو بالحقّ من اللاهوت ... والروح روح القدس والناسوت
ذاك الذي في مهده المنحوت ... عوّض بالنطق عن السكوت
بحقّ ناسوت ببطن مريم ... حلّ محلّ الريق منها في الفم
ثم استحال في قنوم الأقدم ... فكلّم الناس ولمّا يفطم
بحقّ من بعد الممات قمّصا ... ثوبا على مقداره ما قصّصا
وكان لله تقيا مخلصا ... يشفي ويبري أكمها وأبرصا
بحقّ محيي صورة الطيور ... وباعث الموتى من القبور
ومن إليه مرجع الأمور ... يعلم ما في البرّ والبحور
بحقّ من في شامخ الصوامع ... من ساجد لربّه وراكع
يبكي إذا ما نام كلّ هاجع ... خوفا من الله بدمع هامع
بحقّ قوم حلقوا الرؤوسا ... وعالجوا طول الحياة بوسا
وقرعوا في البيعة الناقوسا ... مشمعلين يعبدون عيسى(6/2695)
بحقّ ماري مريم وبولس ... وحق شمعون الصفا وبطرس
بحق دانيل بحقّ يونس ... بحق حزقيل وبيت المقدس
ونينوى إذ قام يدعو ربه ... مطهّرا من كلّ سوء قلبه
ومستقيلا فأقيل ذنبه ... ونال عند الله ما أحبه
بحقّ ما في قلّة الميرون ... من نافع للداء والجنون
بحقّ ما يؤثر عن شمعون ... من بركات الخوص والزيتون
بحقّ أعياد الصليب الزّهر ... وعيد أشموني وعيد الفطر
وبالشعانين العظيم القدر ... وعيد مرماري الرفيع الذكر
وعيد شعياء وبالهياكل ... والدّخن الآتي بكفّ الحامل
يشفي بها من خبل كلّ خابل ... ومن دخيل السّقم في المفاصل
بحقّ سبعين من العبّاد ... قاموا بدين الله في البلاد
وأرشدوا الناس إلى الرشاد ... حتى اهتدى من لم يكن بهاد
بحقّ ثنتي عشرة من الأمم ... ساروا إلى الأقطار يتلون الحكم
حتى إذا صبح الدجى جلا الظلم ... ساروا إلى الله ففازوا بالنعم
بحقّ ما في محكم الإنجيل ... من محكم التحريم والتحليل
وخبر ذي نبأ جليل ... يرويه جيل قد مضى عن جيل
بحق ما رعيد الشفيق الناصح ... بحقّ لوقا ذي الفعال الصالح
بحق تمليخا الحكيم الراجح ... والشهداء بالفلا الصحاصح
بحقّ معمودية الأرواح ... والمذبح المشهور في النواحي
ومن به من لابسي الأمساح ... وعابد باك ومن نواح
بحقّ تقريبك في الأعياد ... وشربك القهوة كالفرصاد(6/2696)
وطول تفتيتك للأكباد ... بما بعينيك من السواد
بحقّ ما قدّس شعيا فيه ... بالحمد لله وبالتنزيه
بحقّ نسطور وما يرويه ... عن كلّ ناموس له فقيه
شيخان كانا من شيوخ العلم ... وبعض أركان التقى والحلم
لم ينطقا قطّ بغير فهم ... موتهما كان حياة الخصم
بحرمة الأسقف والمطران ... والجاثليق العالم الرباني
والقسّ والشماس والديراني ... والبطرك الأكبر والرهبان
بحرمة المحبوس في أعلى الجبل ... ومار نقولا حين صلّى وابتهل
وبالكنيسات القديمات الأول ... وبالسليح المرتضى وما فعل
بحرمة الاسقوفيا والبيرم ... وما حوى مفرق رأس مريم
بحرمة الصوم الكبير الأعظم ... وحقّ كلّ كاهن مقدّم
بحق يوم الذبح ذي الإشراق ... وليلة الميلاد والتلاقي
والذهب الإبريز في الأوراق ... بالفصح يا مهذّب الأخلاق
بكلّ قدّاس على قدّاس ... قدّسه القسّ مع الشماس
وقربوا يوم الخميس الناسي ... وقدّموا الكاس لكلّ حاسي
إلا رغبت في رضا أديب ... باعده الحبّ عن الحبيب
فذاب من شوق إلى المذيب ... أعلى مناه أيسر التقريب
فانظر أميري في صلاح أمري ... محتسبا فيّ عظيم الأجر
مكتسبا فيّ جميل الشكر ... في نثر ألفاظ ونظم شعر
ثم إن مدركا وسوس وسلّ جسمه وذهب عقله وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش.
حكى حسان بن محمد بن عيسى قال: حضرته عائدا مع جماعة من أصحابه فقال:(6/2697)
ألست صاحبكم القديم العشرة لكم؟ أما منكم أحد يسعدني بنظرة إلى وجه عمرو؟
قال: فمضينا بأجمعنا إلى عمرو وقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل دينا فان إحياءه مروءة، قال: وما فعل؟ قلنا: قد صار إلى حال ما نحسبك تلحقه، قال: فلبس ثيابه ثم نهض معنا، فلما دخلنا عليه سلّم عليه عمرو وأخذ بيده فقال: كيف تجدك يا سيدي؟ فنظر إليه ثم أغمي عليه ثم أفاق وهو يقول:
أنا في عافية إ ... لا من الشوق اليكا
أيها العائد ما بي ... منك لا يخفى عليكا
لا تعد جسما وعد قل ... با رهينا في يديكا
كيف لا يهلك مرشو ... ق بسهمي مقلتيكا
ثم إنه شهق شهقة فارق فيها الدنيا فما برحنا حتى دفناه.
[1145] مرجّى بن كوثر أبو القاسم
المقرىء النحوي المؤدب: أديب نحوي، كان مقيما بحلب، وله المفيد في النحو. وكتاب الضاد والظاء؛ وكان بينه وبين أبي العلاء المعري مكاتبة.
[1146] مروان بن سعيد بن عباد بن حبيب بن المهلب
بن أبي صفرة المهلبي: أحد أصحاب الخليل بن أحمد المتقدمين في النحو المبرزين فيه، سمعت بعض النحويين ينسب إليه هذا البيت:
ألقى الصحيفة كي يخفف رحله ... والزاد حتى نعله ألقاها
ولا أعلم من أمره غير هذا.
__________
[1145] ترجمة مرجى بن كوثر في بغية الوعاة 2: 283 (عن ياقوت) .
[1146] ترجمة مروان المهلبي في بغية الوعاة 2: 284 (عن ياقوت) .(6/2698)
[1147] مسعود بن علي بن أحمد بن العباس الصواني البيهقي أبو المحاسن:
قال البيهقي في «الوشاح» : فخر الزمان وأوحد الأقران، ومن لا ينظر الأدب إلا بعينه، ولا يسمع الشعر إلا بأذنه، صنف تفسير القرآن. وشرح الحماسة. وصيقل الألباب في الأصول. والتوابع واللوامع في الأصول. والتذكرة أربع مجلدات. وأعلاق الملوين وأخلاق الاخوين مجلدان. والتنقيح في أصول الفقه. ونفثة المصدور ديوان أشعاره مجلد. مات في الثالث والعشرين من المحرم سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وله:
تكلّف المجد أقوام وقد سئموا ... منه وإنك مشغوف به كلف
كأنك الدرة الزهراء في صدف ... والناس حولك طرّا ذلك الصدف
[1148] مصدق بن شبيب بن الحسين أبو الخير الصّلحي النحوي:
صحب الشيخ صدقة الواعظ «1» وهو صبي وقرأ عليه القرآن وشيئا من النحو، وقدم بغداد فقرأ على ابن الخشاب وحبشي «2» وأبي الحسن ابن العطار «3» والكمال الانباري، وطلب الأدب حتى برز فيه، وسمع الحديث، وتخرج به جماعة من أهل الأدب، ولم يكن في العبارة بذاك، وإنما كان رجلا صالحا فكان تستفاد بركته. ولد سنة خمس وثلاثين وخمسمائة، ومات في ليلة الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الأول سنة خمس وستمائة.
__________
[1147] ترجمة مسعود البيهقي في بغية الوعاة 2: 284 (عن ياقوت وياقوت ينقل عن وشاح الدمية) .
[1148] ترجمة مصدق الصلحي في انباه الرواة 3: 274 والذيل على الروضتين: 66 ومعجم البلدان «فم الصلح» وبغية الوعاة 2: 287 (عن ياقوت) ؛ وقال القفطي: هو من قرية تعرف بدوران من قرى الصلح، والصلح معاملة من سواد شرقي واسط.(6/2699)
[1149] مظفر بن إبراهيم بن جماعة بن علي بن سامي
بن أحمد بن ناهض بن عبد الرزاق، موفق الدين أبو العز الأعمى العيلاني- بالعين المهملة- المصري: كان نحويا عروضيا أديبا شاعرا مجيدا، صنف في العروض مختصرا دلّ على حذقه فيه، وله ديوان شعر. ولد لخمس بقين من جمادى الآخرة سنة أربع وأربعين وخمسمائة، وهو اليوم بها في قيد الحياة. ومن شعره الذي وصل إلينا قوله «1» :
قبّلته فتلظّى ورد وجنته ... وفاح من عارضيه العنبر العبق
وجال بينهما ماء ومن عجب ... لا ينطفي ذا ولا ذا منه يحترق
وله:
يا نائما أسهرني حبّه ... وعائدا أمرضني طبّه
وخادعا رقّ لحبي له ... كلامه [لي] وقسا قلبه
قلنا على حسنك عيني جنت ... جثماني الناحل ما ذنبه
وله أيضا «2» :
وشادن كان زمان الصّبا ... بدولة المرد له صوله
قد كتب الشّعر على خدّه ... خفّض فهذا آخر الدوله
وله أيضا «3» :
قالوا عشقت وأنت أعمى ... ظبيا كحيل الطرف ألمى
وحلاه ما عاينتها ... فكأنها شغفتك «4» وهما
__________
[1149] ترجمة أبي العز الاعمى العيلاني في الوافي (خ) ونكت الهميان: 290 والنجوم الزاهرة في حلى حضرة القاهرة لابن سعيد: 348 والشذرات 5: 115 وبغية الوعاة 2: 289، قال الصفدي: وكانت وفاته سنة 623 ودفن بسفح المقطم؛ وأورد له مقطعات وأخبارا لم يوردها ياقوت.(6/2700)
وخياله بك في المنا ... م فما أطاف ولا ألمّا
من أين أرسل للفؤا ... د وأنت لم تبصره سهما
ومتى رأيت جماله ... حتى كساك هواه سقما
وبأيّ جارحة وصل ... ت لوصفه نثرا ونظما
والعين راعية الهوى ... وبها يتمّ إذا استتما
فأجبت إني موسو ... ي العشق إنصاتا وفهما
أهوى بجارحة السما ... ع ولا أرى ذات المسمّى
وقال في شمعة «1» :
جاءت بجسم لسانه ذرب ... تبكي وتشكو الهوى وتلتهب
كأنها في يمين حاملها ... رمح لجين سنانه ذهب
وله:
وروضات بنفسجها ... بصبغة صنعة الباري
كجرم لازورديّ ... على ألفات زنجار
وله:
هويت هلالا سرى في الدجى ... وهاروت من جند أجفانه
فلا تعجبوا إن بدا وجهه ... نهارا وعظمت من شانه
فإنّ الهلال يرى طالعا ... مع الشمس في بعض أحيانه
وله أيضا:
وزهرة لونها من العجب ... بيضاء فيها اصفرار مكتئب
كأنها درهم وقد جعلت ... في وسطه نقطة من الذهب(6/2701)
[1150] المعافي بن زكريا بن يحيى بن حماد بن داود النهرواني
الجريري- بفتح الجيم نسبة إلى ابن جرير الطبري- المعروف بابن طرارة: كان من أعلم الناس بفقه مذهب ابن جرير والنحو واللغة وفنون الأدب والأخبار والأشعار، وكان ثقة ثبتا، أخذ الأدب عن أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة المعروف بنفطويه وغيره، وروى عن أبي القاسم البغوي وأبي حامد محمد بن هارون الحضرمي وأبي بكر ابن داود وأبي سعيد العدوي ويحيى بن صاعد وغيرهم. وروى عنه جماعة منهم القاضي أبو الطيب الطبري وأبو القاسم الأزهري وأحمد بن علي التوّزي وأحمد بن عمر بن روح. وولي القضاء بباب الطاق نيابة عن القاضي ابن صير.
وصنف كتاب الجليس والأنيس في الأدب. والتفسير الكبير. ونصر مذهب ابن جرير الطبري ونوّه به وحامى عنه.
قال أبو حيان التوحيدي: رأيته في جامع الرصافة وقد نام مستدبر الشمس في يوم شات وبه من أثر الفقر والبؤس والضرّ أمر عظيم، مع غزارة علمه واتساع أدبه وفضله المشهور ومعرفته بصنوف العلم، سيما علم الأثر والأخبار وسير العرب وأيامها، فقلت له: مهلا أيها الشيخ وصبرا، فإنك بعين الله ومرأى منه ومسمع، وما جمع الله لأحد شرف العلم وعزّ المال، فقال: ما لا بدّ منه من الدنيا فليس منه بد ثم قال:
يا محنة الدهر كفّي ... إن لم تكفي فخفي
قد آن أن ترحمينا ... من طول هذا التشفي
__________
[1150] ترجمة المعافى النهرواني في الفهرست: 292 وتاريخ بغداد 13: 230 وطبقات الشيرازي: 93 ونزهة الألباء: 226 والمنتظم 7: 213 وإنباه الرواة 3: 296 وابن خلكان 5: 221 وتذكرة الحفاظ: 1010 وعبر الذهبي 3: 47 وسير الذهبي 16: 544 ومرآة الجنان 2: 42 والبداية والنهاية 11: 328 والبلغة: 259 وطبقات ابن الجزري 2: 302 والنجوم الزاهرة 4: 201 وطبقات الحفاظ: 400 وبغية الوعاة 2: 293 وطبقات الداودي 2: 223 والشذرات 3: 134 ومقدمة الجزء الأول من كتاب الجليس الصالح تحقيق الدكتور محمد مرسي الخولي؛ وقد طبع من كتابه هذا ثلاثة أجزاء وبقي الرابع.(6/2702)
طلبت جدا لنفسي ... فقيل لي قد توفي
فلا علومي تجدي ... ولا صناعة كفي
ثور ينال الثريا ... وعالم متخفي
وقال أحمد بن عمر بن روح «1» : إن المعافي بن زكريا حضر في دار بعض الرؤساء، وكان هناك جماعة من أهل العلم فقالوا له: في أي نوع من العلم نتذاكر؟
فقال المعافى للرئيس صاحب الدار: إنّ خزانتك جمعت أنواع العلوم وأصناف الأدب، فإن رأيت أن تبعث الغلام إليها يضرب بيده إلى أيّ كتاب منها فيحمله اليك، ثم نفتحه فننظر في أيّ علم هو، فنتذاكر ونتجارى فيه، قال ابن روح: وهذا يدل على أن المعافى كان له أنسة بسائر العلوم. وكان أبو محمد الباقي «2» يقول: إذا حضر المعافى فقد حضرت العلوم كلها، وكان يقول أيضا: لو أن رجلا أوصى بثلث ماله لأعلم الناس لوجب أن يدفع الى المعافى.
وكانت ولادته يوم الخميس لسبع خلون من رجب سنة خمس وثلاثمائة وقيل سنة ثلاث، وتوفي يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة تسعين وثلاثمائة.
ومن شعره:
خالق العالمين ضامن رزقي ... فلماذا أملّك الخلق رقّي
قد قضى لي بما عليّ وما لي ... خالقي جلّ ذكره قبل خلقي
أصحب البذل والندى في يساري ... ورفيقي في عسرتي حسن رفقي
فكما لا يردّ عجزي رزقي ... فكذا لا يجرّ رزقي حذقي
وذكر أنه عمل هذه الأبيات في معنى قول علي بن الجهم «3» :
لعمرك ما كلّ التعطل ضائر ... ولا كلّ شغل فيه للمرء منفعه
إذا كانت الأرزاق في القرب والنوى ... عليك سواء فاغتنم راحة الدعه
وقال أيضا «4» :(6/2703)
ألا قل لمن كان لي حاسدا ... أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في فعله ... لأنك لم ترض لي ما وهب
[1151] معاوية بن عمر بن أبي عقرب أبو نوفل الدؤلي:
كان فقيها نحويا، ذكر عن أبي عمرو بن العلاء قال: كنت آتي أبا نوفل أنا وشعبة بن الحجاج، فكان شعبة يسأله عن الآثار واسأله أنا عن النحو والشعر، فلم يعلم شعبة شيئا مما أسأله عنه، ولا أعلم أنا شيئا مما يسأل عنه شعبة.
[1152] معمر بن المثنى أبو عبيدة البصري مولى بني تيم
، تيم قريش لا تيم الرباب:
كان من أعلم الناس باللغة وأنساب العرب وأخبارها، وهو أول من صنف غريب الحديث. أخذ عن يونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء، وأسند الحديث إلى هشام بن عروة الامام الحجة.
قال يعقوب بن شيبة: سمعت ابن المديني يصحّح رواية أبي عبيدة.
وقال الدارقطني: لا بأس به إلا أنه يتّهم بشيء من رأي الخوارج «1» ويتّهم بالأحداث.
وأخذ عن أبي عبيدة: أبو عبيد القاسم بن سلام والأثرم علي بن المغيرة وأبو
__________
[1151] ترجمة أبي نوفل الدؤلي في بغية الوعاة 2: 294 (عن ياقوت) .
[1152] ترجمة أبي عبيدة في الفهرست: 58 وأخبار النحويين البصريين: 67 وتاريخ بغداد 13: 252 وعبر الذهبي 1: 359 وتذكرة الحفاظ: 338 وتهذيب التهذيب 10: 246 وابن خلكان 5: 235 ونور القبس: 109 وانباه الرواة 3: 276 والمعارف: 543 وطبقات الزبيدي: 175 ومراتب النحويين: 44 وتهذيب الأزهري 1: 14 ونزهة الألبا: 68 ومرآة الجنان 2: 44 والنجوم الزاهرة 2: 184 وبغية الوعاة 2: 294 وطبقات الداودي 2: 326 والشذرات 2: 24.(6/2704)
عثمان المازني وأبو حاتم السجستاني وعمر بن شبة النميري وغيرهم.
وقال أبو العباس المبرد: كان أبو عبيدة عالما بالشعر والغريب والأخبار والنسب، وكان الأصمعي أعلم منه بالنحو، وكان أعلم من الأصمعي وأبي زيد بالأنساب، وكان أبو نواس يتعلم منه ويمدحه ويذم الأصمعي: سئل عن الأصمعي فقال: بلبل في قفص، وسئل عن أبي عبيدة فقال: أديم طوي على علم.
وقال بعضهم: كان الطلبة إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدرّ في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الانشاء والزخرفة قليل الفائدة، وأبو عبيدة بضدّ ذلك.
وقال يزيد بن مرة «1» : كان أبو عبيدة ما يفتّش عن علم من العلوم إلا كان من يفتشه عنه يظنّ أنه لا يحسن غيره ولا يقوم بشيء أجود من قيامه به، قال أبو حاتم: وكان مع علمه إذا قرأ البيت لم يقم إعرابه وينشده مختلف العروض.
وقال ابن قتيبة: كان الغريب أغلب عليه وأيام العرب وأخبارها.
وقال الجاحظ «2» : لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة.
ويحكى أنه كان يرى رأي الخوارج الاباضية، وقيل كان شعوبيا يطعن في الأنساب. قال أبو العيناء: قال رجل لأبي عبيدة يا أبا عبيدة قد ذكرت الناس وطعنت في أنسابهم فبالله إلا ما عرفتني من أبوك وما أصله؟ فقال: حدثني أبي أن أباه كان يهوديا.
وحدث الصولي عن محمد بن سعيد عن عيسى بن إسماعيل قال: جلس أبان بن عبد الحميد اللاحقي ليلة في قوم فثلب أبا عبيدة فقال: يقدح في الأنساب ولا نسب له، فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه: لقد أغفل السلطان كلّ شيء حين أغفل أخذ الجزية من أبان اللاحقي، وهو وأهله يهود، وهذه منازلهم فيها أسفار التوراة وليس فيها مصحف، وأوضح دلالة على يهوديتهم أن أكثرهم يدّعي حفظ التوراة ولا يحفظ من القرآن ما يصلي به، فبلغ ذلك أبان فقال:(6/2705)
لا تنمّنّ عن صديق حديثا ... واستعذ من تسرّر النّمام
واخفض الصوت إن نطقت بليل ... والتفت بالنهار قبل الكلام
وحكى أبو الحسن الأسدي قال «1» : حدثنا حماد بن إسحاق الموصلي عن أبيه قال: أنشدت الفضل بن الربيع أبياتا كان الأصمعي أنشدنيها في صفة فرس وهي:
كأنه في الجلّ وهو سام ... مشتمل جاء من الحمّام
يسور بين السرج واللجام ... سور القطا خفّ «2» الى اليمام
قال: ودخل الأصمعي فسمعني أنشدها فقال: هات بقيتها، فقلت: ألم تقل إنه لم يبق منها شيء؟ فقال: ما بقي منها إلا عيونها، ثم أنشد بعدها ثلاثين بيتا فغاظني فعله، فلما خرج عرّفت الفضل بن الربيع قلة شكره لعارفة وبخله بما عنده، ووصفت له فضل أبي عبيدة معمر بن المثنى وعلمه ونزاهته وبذله ما عنده واشتماله على جميع علوم العرب، ورغّبته فيه حتى أنفذ إليه مالا جليلا واستقدمه، فكنت سبب مجيئه من البصرة.
قال أبو عبيدة «3» : أرسل إليّ الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج اليه سنة ثمان وثمانين ومائة فقدمت الى بغداد واستأذنت عليه فأذن لي، فدخلت عليه وهو في مجلس له طويل عريض فيه بساط واحد قد ملأه، وفي صدره فرش عالية لا يرتقى إليها إلا على كرسي، وهو جالس عليها، فسلمت عليه بالوزارة فردّ وضحك إليّ، واستدناني حتى جلست إليه على فرشه، ثم سألني وألطفني وباسطني وقال: أنشدني فأنشدته، فطرب وضحك وزاد نشاطه، ثم دخل رجل في زي الكتّاب له هيئة فأجلسه الى جانبي وقال له: أتعرف هذا؟ قال: لا، قال: هذا أبو عبيدة علّامة أهل البصرة أقدمناه لنستفيد من علمه، فدعا له الرجل وقرظه لفعله هذا وقال لي: إني كنت إليه مشتاقا، وقد سألت عن مسألة افتأذن لي أن أعرّفك إياها؟ فقلت: هات، قال قال الله عز وجل: طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ
(الصافات: 65) وإنما يقع الوعد(6/2706)
والايعاد بما عرف مثله، وهذا لم يعرف، فقلت: إنما كلم الله تعالى العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرىء القيس:
أيقتلني والمشرفيّ مضاجعي ... ومستنة زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنهم لما كان أمر الغول يهولهم أوعدوا به، فاستحسن الفضل ذلك واستحسنه السائل، وعزمت من ذلك اليوم أن أضع كتابا في القرآن في مثل هذا وأشباهه وما يحتاج اليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة عملت كتابي الذي سميته «المجاز» وسألت عن الرجل السائل فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه، وهو إبراهيم بن إسماعيل الكاتب.
قال سلمة «1» : سمعت الفراء يقول لرجل: لو حمل إليّ أبو عبيدة لضربته عشرين في «كتاب المجاز» .
وقال التوزي «2» : بلغ أبا عبيدة أنّ الأصمعي يعيب عليه تأليف «كتاب المجاز في القرآن» وانه قال: يفسر ذلك برأيه، فسأل عن مجلس الأصمعي في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم، ومرّ بحلقة الأصمعي فنزل عن حماره وسلّم عليه وجلس عنده وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد ما تقول في الخبز؟ قال: هو الذي تخبزه وتأكله، فقال له أبو عبيدة: فسرت كتاب الله برأيك، قال الله تعالى إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً
(يوسف: 36) قال الأصمعي هذا شيء بان لي فقلته ولم أفسره برأيي، فقال له أبو عبيدة: وهذا الذي تعيبه علينا كله شيء بان لي فقلناه ولم نفسره برأينا، ثم قام فركب حماره وانصرف.
وقال أبو عثمان المازني «3» : سمعت أبا عبيدة يقول: أدخلت على الرشيد فقال لي: يا معمر بلغني أن عندك كتابا حسنا في صفة الخيل أحبّ أن أسمعه منك، فقال الأصمعي: وما تصنع بالكتاب؟ يحضر فرس ونضع أيدينا على عضو عضو ونسميه ونذكر ما فيه، فقال الرشيد: يا غلام أحضر فرسي، فقام الأصمعي فوضع يده على(6/2707)
عضو عضو وجعل يقول هذا كذا، قال الشاعر فيه كذا، حتى انقضى قوله، فقال لي الرشيد: ما تقول فيما قال؟ فقلت: قد أصاب في بعض وأخطأ في بعض، والذي أصاب فيه شيء نعلمه والذي أخطأ فيه لا أدري من أين أتى به.
وكان الأصمعي «1» إذا أراد الدخول إلى المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك- يعني أبا عبيدة- خوفا من لسانه.
وكانت ولادة أبي عبيدة في رجب سنة عشر ومائة، وقال أبو موسى محمد بن المثنى: توفي أبو عبيدة سنة ثمان ومائتين، وقال الصولي سنة سبع، وقال المظفر بن يحيى سنه تسع وقيل سنة إحدى عشرة وقيل ثلاث عشرة وله ثمان وتسعون سنة، ولم يحضر جنازته احد لأنه لم يكن يسلم من لسانه أحد لا شريف ولا غيره.
ولأبي عبيدة من التصانيف: كتاب غريب القرآن. كتاب مجاز القرآن «2» .
كتاب غريب الحديث. كتاب فضائل الفرس. كتاب الحدود. كتاب التاج. كتاب الديباج. كتاب الانسان. كتاب الزرع. كتاب الجمع والتثنية. كتاب الفرس. كتاب اللجام. كتاب السرج. كتاب الابل. كتاب الرحل. كتاب البازي. كتاب الحمام.
كتاب الحيات. كتاب العقارب. كتاب الخيل «3» . كتاب السيف. كتاب حضر الخيل.
كتاب الخف. كتاب اللغات. كتاب الأضداد. كتاب الفرق. كتاب ما تلحن فيه العامة. كتاب الابدال. كتاب القرائن. كتاب أشعار القبائل. كتاب أسماء الخيل.
كتاب الأمثال السائرة. كتاب الدلو. كتاب البكرة. كتاب نقائض جرير والفرزدق «4» .
كتاب المعاتبات. كتاب الملاومات. كتاب من شكر من العمال وحمد. كتاب محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب. كتاب العفة «5» كتاب فعل وأفعل. كتاب الشوارد. كتاب أدعية العرب. كتاب بيوتات العرب. كتاب أيام بني مازن وأخبارهم. كتاب القبائل. كتاب إياد «6» الأزد. كتاب الضيفان. كتاب مقاتل الفرسان. كتاب مقاتل الأشراف. طبقات الفرسان. كتاب الغارات. كتاب(6/2708)
المنافرات. كتاب بيان باهلة. كتاب مآثر العرب. كتاب مثالب العرب. كتاب مآثر غطفان. كتاب النواكح. كتاب النواشز. كتاب لصوص العرب. كتاب الأيام الكبير. كتاب الأيام الصغير. كتاب الحمس من قريش. كتاب خبر البرّاض. كتاب قصة الكعبة. كتاب الأوس والخزرج. كتاب الموالي. كتاب الاحتلام. كتاب خلق الانسان. كتاب البله. فتوح الأهواز. كتاب خوارج البحرين واليمامة. كتاب السواد وفتحه. كتاب خراسان. كتاب مقتل عثمان. أخبار الحجاج. كتاب مرج راهط.
كتاب الأعيان. كتاب الجمل وصفين. كتاب مكة والحرم. كتاب فضائل الفرس.
كتاب قضاة البصرة، وغير ذلك، فقد قيل إن تصانيفه تقارب المائتين.
[1153] المفضل بن سلمة بن عاصم
أبو طالب اللغوي النحوي: كان لغويا نحويا كوفي المذهب، أخذ عن أبيه وعن أبي عبد الله ابن الاعرابي وأبي العباس ثعلب وابن السكيت وغيرهم، وخالف طريقة أبيه.
قال أبو الطيب اللغوي: وردّ أشياء من كتاب «العين» للخليل أكثرها غير مردود، واختار في اللغة والنحو اختيارات غيرها المختار، وكان منقطعا إلى الفتح بن خاقان.
وله كتب كثيرة منها: كتاب الخط والقلم. كتاب الاشتقاق. البارع في اللغة.
كتاب المقصور والممدود. ضياء القلوب في معاني القرآن نيف وعشرون جزءا.
المدخل إلى علم النحو. الفاخر فيما يلحن فيه العامة «1» . كتاب خلق الانسان.
كتاب جماهير القبائل. كتاب الردّ على الخليل وإصلاح ما في كتاب العين من الغلط والمحال. جلاء الشبهة. كتاب آلة الكاتب. كتاب الزرع والنبات والنخل وأنواع الشجر. كتاب المطيب. كتاب العود والملاهي. كتاب الطيف. كتاب الأنواء والبوارح.
__________
[1153] ترجمة المفضل بن سلمة في تاريخ بغداد 13: 124 والفهرست: 80 ومراتب النحويين: 97 وابن خلكان 4: 205 (في ترجمة ابنه محمد) وانباه الرواة 3: 305 وبغية الوعاة 2: 296 وذكر بعضهم أن وفاته كانت سنة 300 وقال غيره سنة 290.(6/2709)
[1154] المفضل بن محمد بن مسعر بن محمد
أبو المحاسن التنوخي: كان فقيها نحويا أديبا، وكان معتزليا شيعيا مبتدعا، أصله من المعرة، وقدم بغداد فأخذ عن علي بن عيسى الربعي وعلي بن عبد الله الدقيقي ومحمد بن أشرس النحوي، وسمع أبا عمر ابن مهدي، وأخذ الفقه عن أبي الحسين القدوري الحنفي، والصيمري، وحدّث بدمشق وناب في القضاء بها، وولي قضاء بعلبك، وحدّث عنه الشريف النسابة، وصنف: تاريخ النحاة. وكتاب الردّ على الشافعي وكان يضع منه. مات سنة اثنتين وقيل ثلاث وأربعين وأربعمائة.
[1155] المفضل بن محمد بن يعلى
أبو عبد الرحمن الضبي الراوية الأديب النحوي اللغوي: كان من أكابر علماء الكوفة، عالما بالأخبار والشعر والعربية، أخذ عنه أبو عبد الله ابن الأعرابي وأبو زيد الأنصاري وخلف الأحمر وغيرهم، وكان ثقة ثبتا.
قال ابن الأعرابي: سمعت المفضل الضبي يقول: قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا، فقيل له وكيف ذلك، أيخطىء في روايته أو يلحن؟ قال: ليته كان كذلك فان أهل العلم يردّون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فتختلط أشعار
__________
[1154] ترجمة المفضل التنوخي في بغية الوعاة 2: 297؛ وكتابه في النحاة هو الذي أرجع إليه باسم تاريخ أبي المحاسن.
[1155] ترجمة المفضل الضبي في طبقات الزبيدي: 193 والفهرست: 75 ومراتب النحويين: 116 ونزهة الألباء: 35 وتهذيب اللغة 1: 10 والمعارف: 545 ونور القبس: 272 وتاريخ بغداد 13: 121 والأنساب 8: 385 وتاريخ أبي المحاسن: 214 وطبقات ابن الجزري 2: 307 وانباه الرواة 3: 298 وبغية الوعاة 2: 297 واشارة التعيين: 352 ولسان الميزان 6: 81 والنجوم الزاهرة 2: 79 وانظر مقدمة كتاب أمثال العرب، بتحقيق احسان عباس (بيروت 1981) والمفضليات بشرح ابن الأنباري مطبوع في بيروت 1912.(6/2710)
القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد، وأين ذلك؟
وعن إبراهيم بن المهدي قال: حدثني السعيدي الراوية وأبو إياد المؤدب قالا:
كنا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباذ وقد اجتمع فيها عدة من الرواة والعلماء بأيام العرب وآدابها واشعارها ولغاتها، إذ خرج بعض أصحاب الحاجب فدعا المفضل الضبي الراوية فدخل، فمكث مليا ثم خرج إلينا ومعه حماد والمفضل جميعا، وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم وفي وجه المفضل السرور والنشاط، ثم خرج حسين الخادم فقال: يا معشر من حضر من أهل العلم إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد وصل حمادا الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره، وأبطل روايته لزيادته في أشعار الناس ما ليس منها، ووصل المفضل بخمسين ألفا لصدقه وصحة روايته، فمن أراد أن يسمع شعرا جيدا محدثا فليسمع من حماد، ومن أراد رواية صحيحة فليأخذها عن المفضل. فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال المفضل لما دعا به وحده: إني رأيت زهير بن أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال: دع ذا وعد القول في هرم، ولم يتقدم له قبل ذلك قول، فما أمر نفسه بتركه؟ فقال له المفضل: ما سمعت يا أمير المؤمنين في هذا شيئا إلا أني توهمته كان يفكر في قوله أو يروّي في أن يقول شعرا فعدل عنه إلى مدح هرم وقال: دع ذا، أو كان مفكرا في شيء من شأنه فتركه وقال:
دع ذا، فأمسك المهدي عنه، ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال: ليس هكذا قال زهير يا أمير المؤمنين، قال: فكيف قال؟ فأنشد:
لمن الديار بقنّة الحجر ... أقوين مذ حجج ومذ دهر
قفر بمندفع النجائب من ... ضفوى أولات الضال والسدر
دع ذا وعدّ القول في هرم ... خير البداة وسيد الحضر
قال: فأطرق المهدي ساعة ثم أقبل على حماد فقال له: قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بدّ من استحلافك عليه، ثم استحلفه بأيمان البيعة وكلّ يمين محرجة ليصدقنّه عن كل ما يسأله عنه، فحلف له بما توثق منه، فقال له: اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير، فأقرّ له حينئذ أنه قائلها، فأمر له وللمفضل بما أمر به من صلة وشهرة أمرهما وكشفه.(6/2711)
وللمفضل من التصانيف: كتاب الاختيارات. كتاب معاني الشعر. كتاب الأمثال. كتاب الألفاظ. كتاب العروض. المفضليات وهي أشعار مختارة جمعها للمهدي، وفي بعض نسخها زيادة ونقص، وأصحها التي رواها عنه أبو عبد الله ابن الأعرابي.
[1156] مكي بن أبي طالب
واسم أبي طالب محمد، ويقال حموش، ابن محمد بن مختار أبو محمد القيسي القيرواني الأصل القرطبي مسكنا، النحوي اللغوي المقرىء، كان إماما عالما بوجوه القراءات متبحرا في علوم القرآن والعربية فقيها أديبا متفننا، غلبت عليه علوم القرآن فكان من الراسخين فيها. ولد بالقيروان لسبع بقين من شعبان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة، ونشأ بها ورحل إلى مصر سنة سبع وستين وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فاختلف بها إلى ابن غلبون المقرىء وغيره من المؤدبين والعلماء، ثم رجع إلى القيروان سنة تسع وسبعين وقد حفظ القرآن واستظهر القراءات وغيرها من الآداب، ثم رجع إلى مصر لتلقي ما بقي عليه من القراءات سنة اثنتين وثمانين، ثم رجع إلى القيروان سنة ثلاث وثمانين وأقام بها يقرأ إلى سنة سبع وثمانين فأخذ عن محمد بن أبي زيد وأبي الحسن القابسي وغيرهما، ثم خرج إلى مكة سنة سبع وثمانين وأقام بها إلى آخر سنة تسعين فحج أربع حجج متوالية، وسمع بمكة من أكابر علمائها، ثم رجع من مكة فوصل إلى مصر سنة احدى وتسعين، ثم عاد إلى بلده القيروان سنة اثنتين وتسعين، وفي سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة رحل إلى الاندلس
__________
[1156] لمكي بن أبي طالب ترجمة في جذوة المقتبس: 329 (وبغية الملتمس رقم: 1367) وترتيب المدارك 8: 13 ونزهة الألباء: 238 والصلة: 631 وانباه الرواة 3: 313 وابن خلكان 5: 274 ومعالم الايمان 3: 213 وعبر الذهبي 3: 187 ومعرفة القراء الكبار 1: 316 وسير الذهبي 17: 591 وعيون التواريخ 12: 217 والوافي (خ) ومرآة الجنان 3: 57 والديباج المذهب 2: 342 وطبقات ابن الجزري 2: 309 وبغية الوعاة 2: 298 والشذرات 3: 260 وشجرة النور الزكية: 107 وللدكتور أحمد حسن فرحات: دراسة عنه بعنوان مكي بن أبي طالب وتفسير القرآن، عمان (الأردن) 1983.(6/2712)
فدخل قرطبة في رجب من السنة في أيام المظفر بن أبي زيد «1» ، ونزل في مسجد النخيلة بالرواقين عند باب العطارين، ثم نقله ابن ذكوان القاضي إلى المسجد الجامع، فجلس فيه للاقراء ونشر علمه، فعلا ذكره ورحل إليه، فلما انصرمت دولة آل عامر نقله محمد بن هشام المهديّ إلى المسجد الخارج بقرطبة فأقرأ عليه، وقلده أبو الحزم «2» ابن جهور الصلاة والخطبة بالمسجد الجامع، فأقام على ذلك إلى أن مات.
وروى عنه جماعة من الأئمة كأبي عبد الله ابن عتاب وأبي الوليد الباجي وغيرهما.
توفي بقرطبة يوم السبت لليلتين خلتا من المحرم سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وقد أناف على الثمانين، وصلى عليه ولده أبو طالب محمد، ودفن ضحوة يوم الأحد بالربض.
وله تصانيف كثيرة: أشهرها الهداية إلى بلوغ النهاية في التفسير. وله الهداية في الفقه. والبيان عن وجوه القراءات السبع «3» ، ألفه في أواخر عمره سنة أربع وعشرين وأربعمائة. ومنتخب الحجة في القراءات لأبي علي الفارسي، ثلاثون جزءا. وكتاب الاختلاف في عدد الأعشار. والرسالة إلى أصحاب الانطاكي في تصحيح المدّ لورش، ثلاثة أجزاء. تفسير القرآن، خمسة عشر مجلدا. اختصار أحكام القرآن، أربعة أجزاء. التبصرة في القراءات «4» ، خمسة أجزاء. الايجاز في ناسخ القرآن ومنسوخه. الإيضاح في الناسخ والمنسوخ «5» أيضا، ثلاثة أجزاء. التذكرة في اختلاف القراء. الإبانة عن معاني القراءة «6» . الموجز في(6/2713)
القراءات، جزاءان. الرعاية في تجويد القرآن وتحقيق لفظ التلاوة «1» ، أربعة أجزاء.
التنبيه في أصول قراءة نافع وذكر الاختلاف عنه، جزءان. الانتصاف في الردّ على أبي بكر الأدفوي فيما زعم من تغليطه في كتاب الأمالة، ثلاثة أجزاء. كتاب الامالة، ثلاثة أجزاء. إعراب القرآن. الزاهي في اللمع الدالة على مستعملات الإعراب، أربعة أجزاء. كتاب الوقف على كلا وبلى، جزءان. كتاب الياءات المشددة في القرآن. كتاب الحروف المدغمة، جزءان. كتاب هجاء المصاحف، جزءان. الهداية في الوقف على كلا. كتاب الادغام الكبير.
مشكل غريب القرآن، ثلاثة أجزاء. كتاب تسمية الأحزاب. كتاب المأثور عن مالك في أحكام القرآن وتفسيره. مشكل معاني القرآن. كتاب شرح التمام والوقف، أربعة أجزاء. كتاب دخول حروف الجر بعضها مكان بعض. كتاب فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا. كتاب إيجاب الجزاء على قاتل الصيد في الحرم خطأ في مذهب مالك والحجة على ذلك. كتاب بيان العمل في الحج أول الإحرام.
مناسك الحج. كتاب بيان الصغائر والكبائر. كتاب الاختلاف في الذبيح من هو.
كتاب تنزيه الملائكة من الذنوب وفضلهم على بني آدم. كتاب اختلاف العلماء في النفس والروح. منتخب كتاب الإخوان لابن وكيع، جزءان. المنتقى في الأخبار، أربعة أجزاء. الرياض مجموع في خمسة أجزاء، وغير ذلك «2» .
[1157] مكي بن ريان بن شبة بن صالح أبو الحرم الماكسيني الضرير
النحوي
__________
[1157] ترجمة أبي الحرم الماكسيني في الكامل لابن الأثير 12: 108 وانباه الرواة 3: 320 وتكملة المنذري رقم: 981 وذيل الروضتين: 58 والجامع المختصر 9: 216 وابن خلكان 5: 278 وعبر الذهبي(6/2714)
اللغوي الأديب: كان عالما فاضلا متفننا، والغالب عليه النحو والقراءات، قدم بغداد وقرأ على أبي محمد ابن الخشاب النحوي وعلى أبي الحسن ابن العطار وأبي البركات عبد الرحمن بن الأنباري، وقرأ بالموصل على أبي بكر يحيى بن سعدون القرطبي وغيره، وقرأ عليه أهل الموصل وتخرج به أعيان أهلها، ورحل إلى الشام «1» ثم عاد إلى الموصل. رأيته وكان شيخا طوالا على وجهه أثر الجدري، إلا أنني ما قرأت عليه شيئا. وكان حرا كريما صالحا صبورا على المشتغلين يجلس لهم من السحر إلى أن يصلي العشاء الآخرة. وكان من أحفظ الناس للقرآن ناقلا للسبع، نصب نفسه للاقراء فلم يتفرغ للتأليف، وكان يقرأ عليه الجماعة القرآن معا كلّ واحد منهم بحرف، وهو يسمع عليهم كلهم ويردّ على كلّ واحد منهم، وكان قد أخذ من كل علم طرفا، وسمع الحديث فأكثر. ومن شعره «2» :
إذا احتاج النوال الى شفيع ... فلا تقبله تضح قرير عين
إذا عيف النوال لفرد منّ ... فأولى أن يعاف لمنتين
وقال أيضا:
على الباب عبد يطلب الإذن قاصدا ... به أدبا لا أن نعماك تحجب
فإن كان إذن فهو كالخير داخل ... عليك وإلا فهو كالشرّ يذهب
وقال أيضا:
حيائي حافظ لي ماء وجهي ... ورفقي في مطالبتي رفيقي
ولو أني سمحت ببذل وجهي ... لكان إلى الغنى سهلا طريقي
__________
5: 8 وسير الذهبي 21: 425 ونكت الهميان: 296 والوافي (خ) وطبقات ابن الجزري 2: 309 وبغية الوعاة 2: 299 والشذرات 5: 11؛ وقال ابن القفطي ان أباه كان يعاني عمل الأديم الذي تصنع منه الانطاع الماكسينية؛ وماكسين بلدة على نهر الخابور بالجزيرة.(6/2715)
وكان يتعصب «1» لأبي العلاء المعري ويطرب إذا قرىء عليه شعره للجامع بينهما: الأدب والعمى لأنه أضرّ بالجدري صغيرا، وكان يعرف في ماكسين بمكيك تصغير مكي، فلما ارتحل عن ماكسين واشتغل وتميز اشتاق إلى وطنه فعاد إليها وتسامع به الناس ممن كان يعرفه من قبل، فزاروه وفرحوا بفضله، فبات تلك الليلة. فلما كان من الغد خرج إلى الحمام سحرا فسمع امرأة تقول من غرفتها لأخرى: أتدرين من جاء؟ قالت: لا، قالت: جاء مكيك ابن فلانة، فقال: والله لا أقمت في بلد أدعى فيه بمكيك، وسافر من يومه إلى الموصل بعد ما كان نوى الاقامة في وطنه، وتوفي بها يوم السبت سادس شوال سنة ثلاث وستمائة.
[1158] ممويه أبو ربيعة الأصبهاني النحوي:
كان متقدما في علم النحو بارعا فيه، صنف فيه كتبا كثيرة، منها «الجماهير» . وله الشعر الجيد. وخرج في صغره إلى الكرخ فتوطنها.
ومن شعره:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا ... يغنيك تشريفه عن النسب
لا شيء في الخافقين تكسبه ... أحمد عند الأنام من أدب
وله:
وأخ لي تكدّرت ... بعد صفو مشاربه
صاحبي حين لا يرى ... في الورى من يصاحبه
وإذا ما حظي به ... صدّ وازورّ جانبه
__________
[1158] ترجمة ممويه في بغية الوعاة 2: 300 (عن ياقوت وان لم يصرح بذلك) .(6/2716)
[1159] منداد بن عبد الحميد أبو عمر الكرجي
«1» المعروف بابن لرة «2» : كان لغويا أديبا، صنف كتاب معاني الشعر. وجامع اللغة. وشرح معاني الشعر للباهلي الأنصاري. وكتاب الوحوش، وما عرفت من أمره غير هذا.
[1160] منذر بن سعيد أبو الحكم البلوطي الأندلسي:
كان نحويا فاضلا وخطيبا مصقعا وشاعرا بليغا، ولد سنة خمس وستين ومائتين، ورحل فلقي جماعة من العلماء والأدباء، وجلب في رحلته «كتاب الأشراف في اختلاف العلماء» رواية عن مؤلفه ابن المنذر النيسابوري و «كتاب العين» للخليل رواية أبي العباس ابن ولاد. واتصل بعبد الرحمن الناصر فحظي عنده، ثم عند ابنه الحكم من بعده، وكان سبب اتصاله بالناصر ما ظهر من بلاغته يوم الاحتفال بدخول رسول قسطنطين بن ليون صاحب قسطنطينية على الناصر موفدا إليه مع وفود سائر ملوك الافرنجة، وذلك أن الناصر جلس للقاء الوفود بقصر قرطبة، فلما تكامل المجلس ودخل عليه الوفود ورحّب بهم أحبّ أن يقوم الخطباء والشعراء بين يديه للتنويه بفخامة الحفلة وذكر ما تهيأ من توطيد الخلافة في أيامه، وتقدم الى وليّ عهده الحكم باعداد من يقوم بذلك من الخطباء، فقدّم الحكم أبا علي القالي البغدادي، وكان إذ ذاك ضيف الناصر، فقام أبو علي وحمد
__________
[1159] سمّاه في بغية الوعاة 1: 476 (بندار) وكذلك هو في الفهرست: 91 (وفي أحد أصوله منداد، وهذا يعين بداية الاضطراب في اسمه) وانباه الرواة 1: 257 والاكمال 1: 79.
[1160] ترجمة منذر بن سعيد في طبقات الزبيدي: 295 وابن الفرضي 2: 144 وجذوة المقتبس: 326 (وبغية الملتمس رقم: 1357) وفهرسة ابن خير: 54 ومطمح الأنفس: 237 ومعجم البلدان (فحص البلوط) وانباه الرواة 3: 325 والكامل لابن الأثير 8: 674 واللباب 1: 176 وعبر الذهبي 2: 302 وسير الذهبي 16: 173 والبداية والنهاية 11: 288 والمرقبة العليا للنباهي: 66 والبلغة: 264 وبغية الوعاة 2: 301 والنفح 1: 372، 2: 16 وأزهار الرياض 2: 272 والشذرات 3: 17.(6/2717)
الله وأثنى عليه وصلّى على النبي صلى الله عليه وسلم، فأرتج عليه وانقطع وبهت، فلما رأى ذلك منذر بن سعيد، وكان حاضرا، قام من ذاته، ووصل افتتاح أبي علي بكلام بهر العقول، فخرج الناس يتحدثون ببلاغته وحسن بيانه وثبات جنانه، وكان الناصر أشدّهم تعجبا وإعجابا به، فسأل عنه ابنه الحكم، ولم يكن يعرفه، فقال له: هذا منذر بن سعيد البلوطي، فقال: والله لقد أحسن ما شاء، ثم قرّبه وولاه الصلاة والخطابة في المسجد الجامع بالزهراء، ثم ولاه قضاء الجماعة بقرطبة. ولما توفي الناصر وولي ابنه الحكم أقرّه على القضاء، واستعفى غير مرة فما أعفاه. وكان وقورا صليبا في الحكم مقدما على إقامة العدل والحق وإزهاق الجور والباطل آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر، له كتب في السنة والورع والردّ على أهل الأهواء والبدع. ومن مصنفاته المتداولة: أحكام القرآن. وكتاب الناسخ والمنسوخ. وله رسائل وخطب مجموعة وأشعار متفرقة مطبوعة. ومن خطبه الخطبة التي ألقاها بحضرة الناصر في الاحتفال الذي تقدم ذكره ونصّها «1» :
أما بعد حمد الله والثناء عليه والتعداد لآلائه والشكر لنعمائه، والصلاة والسلام على محمد صفيه وخاتم أنبيائه، فإن لكل حادثة مقاما، ولكل مقام مقال، وليس بعد الحقّ الا الضلال؛ وإني قد قمت في مقام كريم، بين يدي ملك عظيم، فاصغوا إليّ معشر الملأ بأسماعكم، وافقهوا عني بأفئدتكم. إن من الحقّ أن يقال للمحقّ صدقت، وللمبطل كذبت، وإن الجليل تعالى في سمائه، وتقدس بصفاته وأسمائه، أمر كليمه موسى صلى الله على نبينا وعليه وعلى جميع أنبيائه، أن يذكّر قومه بأيام الله جلّ وعز عندهم، وفيه وفي رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وإني أذكركم بأيام الله عندكم، وتلافيه لكم بخلافة أمير المؤمنين التي لمت شعثكم، وأمّنت سربكم، ورفعت قوتكم؛ كنتم قليلا فكثّركم، ومستضعفين فقوّاكم، ومستذلين فنصركم، ولّاه الله رعايتكم؛ وأسند إليه إمامتكم، أيام ضربت الفتنة سرادقها على الآفاق، وأحاطت بكم شعل النفاق، حتى صرتم في مثل حدقة البعير من ضيق الحال ونكد العيش، فاستبدلتم بخلافته من الشدة بالرخاء، وانتقلتم بيمن سياسته إلى تمهيد كنف العافية(6/2718)
بعد استيطان البلاء، أنشدكم الله معاشر الملأ ألم تكن الدماء مسفوكة فحقنها؟
والسبل مخوفة فأمنها؟ والأموال منتهبة فأحرزها وحصنها، ألم تكن البلاد خرابا فعمرها؟ وثغور المسلمين مهتضمة فحماها ونصرها؟ فاذكروا آلاء الله عليكم بخلافته، وتلافيه جمع كلمتكم بعد افتراقها بإمامته، حتى أذهب الله عنكم غيظكم، وشفى صدوركم، وصرتم يدا على عدوكم، بعد أن كان بأسكم بينكم، فأنشدكم الله ألم تكن خلافته قفل الفتنة بعد انطلاقها من عقالها؟ ألم يتلاف صلاح الأمور بنفسه بعد اضطراب أحوالها؟ ولم يكل ذلك إلى القوّاد والأجناد، حتى باشره بالقوة والمهجة والأولاد، واعتزل النسوان، وهجر الأوطان، ورفض الدعة وهي محبوبة، وترك الركون إلى الراحة وهي مطلوبة، بطوية صحيحة، وعزيمة صريحة، وبصيرة نافذة ثاقبة، وريح هابّة غالبة، ونصرة من الله واقعة واجبة، وسلطان قاهر، وجدّ ظاهر، وسيف منصور، تحت عدل مشهور، متحملا للنّصب، مستقلا لما ناله في جانب الله من التعب، حتى لانت الأحوال بعد شدتها، وانكسرت شوكة الفتنة بعد حدّتها، فلم يبق لها غارب إلا جبّه، ولا ظهر لأهلها قرن إلا جذّه، فأصبحتم بنعمة الله إخوانا، وبلمّ أمير المؤمنين لشعثكم على أعدائه أعوانا، حتى تواترت لديكم الفتوحات، وفتح الله عليكم بخلافته أبواب الخيرات والبركات، وصارت وفود الروم وافدة عليه وعليكم، وآمال الأقصين والأدنين مستحرمة «1» إليه وإليكم، يأتون من كلّ فجّ عميق، وبلد سحيق، للأخذ بحبل بينكم وبينه جملة وتفصيلا، ليقضي الله أمرا كان مفعولا، ولن يخلف الله وعده، ولهذا الأمر ما بعده. وتلك أسباب ظاهرة بادية، تدلّ على أمور باطنة خافية، دليلها قائم، وجفنها غير نائم وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
(النور/ 55) وليس في تصديق ما وعد الله ارتياب، ولكلّ نبأ مستقر ولكلّ أجل كتاب. فاحمدوا الله أيها الناس على آلائه، واسألوا المزيد من نعمائه، فقد أصبحتم بين خلافة أمير المؤمنين أيده الله بالسداد، وألهمه التوفيق إلى سبيل الرشاد، أحسن الناس حالا، وأنعمهم بالا، وأعزّهم قرارا، وأمنعهم دارا، وأكثفهم جمعا، وأجملهم صنعا، لا(6/2719)
تهاجون، ولا تذادون، وأنتم بحمد الله على أعدائكم ظاهرون، فاستعينوا على صلاح أحوالكم بالمناصحة لامامكم، والتزام الطاعة لخليفتكم وابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم، فإن من نزع يدا من الطاعة، وسعى في تفريق الجماعة، ومرق من الدين، فقد خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين. وقد علمتم أن في التعلق بعصمتها، والتمسك بعروتها، حفظ الأموال وحقن الدماء، وصلاح الخاصة والدهماء، وأنّ بقيام الطاعة تقام الحدود، وتوفّى العهود، وبها وصلت الأرحام، ووضحت الأحكام، وبها سدّ الله الخلل، وأمّن السبل، ووطّأ الأكناف، ورفع الاختلاف، وبها طاب لكم القرار، واطمأنت بكم الدار، فاعتصموا بما أمركم الله بالاعتصام به فإنه تبارك وتعالى يقول: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ
(النساء/ 59) وقد علمتم ما أحاط بكم في جزيرتكم هذه من ضروب المشركين، وصنوف الملحدين، الساعين في شقّ عصاكم، وتفريق ملأكم، الآخذين في مخاذلة دينكم، وهتك حريمكم، وتوهين دعوة نبيكم، صلوات الله وسلامه عليه وعلى جميع النبيين والمرسلين. أقول قولي هذا وأختم بالحمد لله ربّ العالمين، مستغفرا الله الغفور الرحيم فهو خير الغافرين.
وكان منذر بن سعيد شديدا في دينه لا يأخذه في الله لوم لائم، وكانت له مقامات بين يدي الخليفة الناصر يتناوله فيها بالعظات والزواجر غير هيّاب ولا محتشم؛ من ذلك أن الناصر «1» كان كلفا بعمارة الأرض وتخليد الآثار الدالّة على قوّة الملك وعزّة السلطان وعلوّ الهمة، فأفضى به الافراط في ذلك إلى أن ابتنى الزهراء البناء الشائع ذكره، واستفرغ جهده في إتقان قصورها وزخرفة دورها، حتى ترك شهود الجمعة بالمسجد الجامع ثلاث جمع متواليات، فأراد القاضي منذر تنبيهه بما يتناوله به من الموعظة، وتذكيره بالانابة والرجوع، فابتدأ خطبته في الجمعة الرابعة بقوله تعالى أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ
(الشعراء: 128) ثم وصله بقوله تعالى قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى
(النساء: 77) وهي دار القرار ومكان الجزاء، ومضى في ذم تشييد البناء وزخرفته، والإسراف في الانفاق عليه، بكلّ كلام جزل،(6/2720)
ثم أتى بما يناسب المقام من التخويف بالموت والدعاء إلى الزهد في الدنيا، والإقصار عن اللذات والشهوات واتباع الهوى، وأورد أحاديث وآثارا تشاكل ذلك، حتى خشي الناس وبكوا وأعلنوا بالتوبة والاستغفار، وأخذ الناصر من ذلك بأوفر حظ، وقد علم أنه المقصود بالموعظة فبكى وندم على ما أفرط وفرّط، إلا أنه وجد على منذر لما قرّعه به، فشكا ذلك لولده الحكم بعد انصراف منذر فقال: والله لقد تعمدني منذر بخطبته وما عنى بها غيري، فأسرف وأفرط في تقريعي، ثم أقسم أن لا يصلّي خلفه صلاة الجمعة خاصة، فكان يصلي بقرطبة وراء أحمد بن مطرف صاحب الصلاة، وترك الصلاة بالزهراء، فقال له الحكم: ما الذي يمنعك من عزل منذر عن الصلاة بك والاستبدال به إذ كرهته، فزجره وانتهره وقال له: أمثل منذر بن سعيد في فضله وخيره وعلمه لا أمّ لك يعزل لإرضاء نفس ناكبة عن الرشد سالكة غير القصد؟! هذا ما لا يكون، وإني لأستحيي من الله أن لا أجعل بيني وبينه في صلاة الجمعة شفيعا مثل منذر في ورعه وصدقه، ولكنه أحرجني فأقسمت، ولوددت أني أجد سبيلا إلى كفارة يميني بملكي، بل يصلّي بالناس حياته وحياتنا إن شاء الله تعالى، فما أظننا نعتاض منه أبدا.
وكان منذر على متانته وصلابته حسن الخلق كثير الدعابة، فربما ساء ظنّ من لا يعرفه به لدعابته، فإذا رأى ما يخلّ بالدين قدر شعرة ثار ثورة الأسد الضاري وتبدلت بشاشته عبوسا.
ومرّ في رحلته بمصر فحضر يوما مجلس أبي جعفر النحاس وهو يملي أخبار الشعراء، فأملى شعرا لقيس مجنون بني عامر، وهو قوله «1» :
خليليّ هل بالشام عين حزينة ... تبكّي على نجد لعلّي أعينها
قد اسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها
تجاوبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدنّيها من الأرض لينها
فقال له منذر، يا أبا جعفر ماذا باتا يصنعان، فقال له: وكيف تقول أنت يا اندلسي؟ فقلت له: بانت وبان قرينها، فسكت، قال منذر: وما زال يستثقلني بعد(6/2721)
ذلك حتى منعني «كتاب العين» وكنت ذهبت للاستنساخ من نسخته فلما يئست منه قيل لي أين أنت من أبي العباس ابن ولاد؟ فقصدته فلقيت رجلا كامل العلم حسن المروءة، فسألته الكتاب فأخرجه إليّ. ثم ندم أبو جعفر حين بلغه إباحة أبي العباس الكتاب لي، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه.
ومن شعر منذر بن سعيد ما كتب به إلى أبي علي القالي يستعير كتابا من الغريب «1» :
بحق ريم مهفهف ... وصدغه المتعطّف
ابعث إليّ بجزء ... من «الغريب المصنف»
فأرسل إليه الكتاب وأجابه بقوله:
وحقّ درّ مؤلف ... بفيك أيّ تألف
لأبعثنّ بما قد ... حوى الغريب المصنف
ولو بعثت بنفسي ... إليك ما كنت أسرف
وقال أيضا «2» :
مقالي كحدّ السيف وسط المحافل ... أميز به ما بين حقّ وباطل
بقلب ذكيّ قد توقّد نوره ... كبرق مضيء عند تسكاب وابل
فما زلقت رجلي ولا زلّ مقولي ... ولا طاش عقلي عند تلك الزلازل
وقد حدّقت حولي عيون إخالها ... كمثل سهام أثبتت في المقاتل
أخير إمام كان أو هو كائن ... بمقتبل أو في العصور الأوائل
وفود ملوك الروم حول فنائه ... مخافة بأس أو رجاء لنائل
فعش سالما أقصى حياة مؤمّلا ... فأنت رجاء الكلّ حاف وناعل
ستملكها ما بين شرق ومغرب ... إلى أرض قسطنطين أو أرض بابل
توفي منذر بن سعيد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.(6/2722)
[1161] منصور بن إسماعيل بن عمر
أبو الحسن التميمي المصري الضرير: كان إماما في فقه مذهبه، أديبا شاعرا مجيدا متفننا، له حظّ من كلّ علم، أصله من رأس العين المشهورة بالجزيرة، وقدم مصر وبها توفي، ولم يكن في زمانه مثله فيها، وكانت له منزلة جليلة عند أبي عبيد القاضي، وكان من خواصّه الذين يخلو بهم للمذاكرة والمحادثة، وكان بينهما مناظرات في الفروع أدّت إلى الخصام، فتعصب الأمير ذكا وجماعة من الجند لمنصور، وتعصب للقاضي أبي عبيد جماعة منهم ابن الربيع الجيزي، ثم شهد ابن الربيع على منصور بكلام زعم أنه سمعه منه فقال القاضي: إن شهد عليه آخر بمثل ما شهد به عليه ابن الربيع ضربت عنقه، فخاف على نفسه ومات، وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة ست وثلاثمائة. وله مصنفات في الفقه منها: كتاب الواجب. وكتاب المستعمل. وزاد المسافر، وغير ذلك.
ومن شعره:
من كان يخشى زحلا ... أو كان يرجو المشتري
فانني منه وإن ... كان أبي منه بري
وقال:
الناس بحر عميق ... والبعد عنهم سفينه
وقد نصحتك فانظر ... لنفسك المستكينه
وقال «1» :
__________
[1161] ترجمة منصور الفقيه في معجم الشعراء: 280 والفهرست: 265 وطبقات العمادي: 64 وطبقات الشيرازي: 107 والمنتظم 6: 152 وابن خلكان 5: 289 ومرآة الجنان 2: 248 وسير الذهبي 14: 238 والوافي (خ) ونكت الهميان: 297 وطبقات السبكي 3: 478 والمغرب (قسم الفسطاط) : 262 وطبقات الاسنوي 1: 299 والبداية والنهاية 11: 130 والشذرات 2: 249 وحسن المحاضرة 1: 400 وطبقات ابن هداية الله: 42 وقد جمع شعره من المصادر.(6/2723)
لي حيلة فيمن ين ... مّ وليس في الكذّاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتي فيه قليله
وقال:
إذا كنت تزعم أنّ النجوم ... تضرّ وتنفع من تحتها
فلا تنكرنّ على من يقول ... بأنك بالله أشركتها
وقال يمدح يموت بن المزرع ابن اخت الجاحظ:
أنت يحيى والذي يك ... ره أن تحيا يموت
أنت صنو النفس بل ان ... ت لروح النفس قوت
أنت للحكمة بيت ... لا خلت منك البيوت
وقال:
الكلب أحسن عشرة ... وهو النهاية في الخساسه
ممن ينازع في الريا ... سة قبل أوقات الرياسه
وقال «1» :
لولا بناتي وسيئاتي ... لطرت شوقا إلى الممات
لأنني في جوار قوم ... بغضني قربهم حياتي
وقال:
ليس للنجم إلى ض ... رّ ولا نفع سبيل
إنما النجم على الأو ... قات والسمت دليل
وقال:
سررت بهجرك لما علمت ... بأن لقلبك فيه سرورا
ولولا سرورك ما سرّني ... وما كنت يوما عليه صبورا
لأني أرى كلّ ما ساءني ... إذا كان يرضيك سهلا يسيرا(6/2724)
وقال:
لولا صدود الصديق عنّي ... ما نال واش مناه منّي
ولا أدمت البكاء حتى ... قرّح فيض الدموع جفني
وما جفاء الصديق إلا ... هجوم خوف عقيب أمن
وقال:
إذا رأيت امرءا في حال عشرته ... بادي الصداقة ما في ودّه دغل
فلا تمنّ له حالا يسرّ له ... فانه بانتقال الحال ينتقل
وقال «1» :
ليس هذا زمان قولك ما الحك ... م على من يقول أنت حرام
والحقي بائنا بأهلك أو ان ... ت عتيق محرّر يا غلام
أو من تنكح المصابة في العدّ ... ة عن شبهة وكيف الكلام
في حرام أصاب سنّ غزال ... فتولّى وللغزال بغام
إنما ذا زمان كدح إلى المو ... ت وقوت مبلّغ والسلام
وقال:
قد قلت إذ مدحوا الحياة فأكثروا ... للموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان لقائه بلقائه ... وفراق كلّ معاشر لا ينصف
وقال:
كلّ مذكور من النا ... س إذا ما فقدوه
صار في حكم حديث ... حفظوه فنسوه
وقال:
إذا تخلفت عن صديق ... ولم يعاتبك في التخلّف
فلا تعد بعدها إليه ... فانما ودّه تكلّف(6/2725)
وقال «1» :
من كفاه من مساعي ... هـ رغيف يغتذيه
وله بيت يواري ... هـ وثوب يكتسيه
فعلى ما يبذل الوج ... هـ لذي كبر وتيه؟
وعلى ما يبذل العر ... ض لمخلوق سفيه؟
وقال:
قد قلت لما أن شكت ... تركي زيارتها خلوب
إنّ التباعد لا يض ... رّ إذا تقاربت القلوب
وقال:
منذ ثلاث لم نرك ... فقل لنا ما أخّرك
أعلّة فنعذرك ... أم دهر سوء غيّرك
وقال في مرضه معرّضا بأبي عبيد القاضي «2» :
يا شامتا بي إذا هلكت ... لكلّ حيّ مدى ووقت
وانت في غفلة المنايا ... تخاف منها الذي أمنت
والكاس ملأى وعن قليل ... تشرب منها كما شربت
وأنشد عند موته معرّضا به أيضا «3» :
قضيت نحبي فسرّ قوم ... حمقى بهم غفلة ونوم
كأنّ يومي عليّ حتم ... وليس للشامتين يوم(6/2726)
[1162] منصور بن محمد بن عبد الله بن المقدر التميمي، أبو الفتح الأصبهاني:
كان نحويا أديبا متكلما كثير الرواية حريصا على العلم، قدم بغداد واستوطنها وقرأ بها العربية، وصحب الصاحب ابن عباد، وكان معتزليا متظاهرا بالاعتزال، وصنف كتاب ذم الأشاعرة، مات يوم السبت ثامن عشري جمادى الأولى سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة.
[1163] منصور بن القاضي أبي منصور محمد، أبو أحمد الأزدي الهروي
قاضي هراة: كان فقيها شاعرا مجيدا كثير الفضائل حسن الشمائل، تفقه على أبي حامد الإسفرائني ببغداد، وسمع أبا الفضل ابن حمدويه والعباس بن الفضل النضروي وغيرهما، وامتدح القادر بالله. مات سنة أربعين وأربعمائة.
ومن شعره قوله «1» :
قم يا غلام فهاتها حمراء ... كالنار يورث شربها السرّاء
فاليوم قد نشر الهواء بأرضنا ... من ثلجه ديباجة بيضاء
وقال «2» :
معتّقة أرقّ من التصابي ... ومن وصل أتى بعد التنائي
يطوف بها قضيب في كثيب ... تطلّع فوقه بدر السماء
__________
[1162] ترجمة منصور التميمي في بغية الوعاة 2: 302، وذكر عام وفاته وعقب على ذلك بقوله: قاله ياقوت والقفطي، (ولن ترجمته لم ترد عند القفطي) .
[1163] ترجمة منصور الهروي في اليتيمة 4: 348 ودمية القصر 2: 719 وسير الذهبي 17: 275 وطبقات السبكي 5: 346.(6/2727)
لواحظه تبثّ السحر فينا ... وفي شفتيه أسباب الشفاء
وقال «1» :
خشف من التّرك مثل البدر طلعته ... يحوز ضدّين من ليل وإصباح
كأنّ عينيه والتفتير كحلهما ... آثار ظفر بدت في صحن تفاح
وقال:
أدر المدامة يا غلام فإننا ... في مجلس بيد الربيع منضّد
والورد أصفره يلوح كأنّه ... أقداح تبر كفّتت بزبرجد
وقال «2» :
قرن الربيع إلى البنفسج نرجسا ... متبرجا في حلّة الإعجاب
كخدود عشّاق قد اصفرّت وقد ... نظرت إليها أعين الأحباب
وقال:
طلع البنفسج زائرا أهلا به ... من وافد سرّ القلوب وزائر
فكأنّما النقّاش صوّر وسطه ... في أزرق الديباج صورة طائر
وقال «3» :
روضة غضّة عليها ضباب ... قد تجلّت خلالها الأنوار
فهي تحكي مجامرا مذكيات ... قد علاها من البخور بخار
وقال «4» :
يا أيها العاذل المردود حجّته ... أقصر فعذري قد أبدته طلعته
ماذا بقلبي من بدر بليت به ... للّيث أخلاقه والخشف خلقته(6/2728)
وقال:
وشادن في الحسن فوق المثل ... أبصر مني بوجوه العمل
قبلت كفيه فقال انتقل ... إلى فمي فهو محلّ القبل
وقال «1» :
الله جار عصابة رحلوا ... عنّي وقلب الصبّ عندهم
ما الشان ويحك في رحيلهم ... الشان أني عشت بعدهم
وقال «2» :
أبا عبد الإلاه العلم روح ... وجدتك «3» دون كلّ الناس شخصه
لذلك كلّ أهل الفضل أضحوا ... كحلقة خاتم وغدوت فصّه
وقال:
بقيت مدى الزمان أبا علي ... رفيع الشان ذا جدّ عليّ
فأنت من المكارم والمعالي ... بمنزلة الوصيّ من النبي
[1164] منصور بن المسلم بن علي بن أبي الخرجين أبو نصر
الحلبي المؤدب، المعروف بابن أبي الدميك: كان أديبا فاضلا نحويا شاعرا، له تصانيف وردود على ابن جني منها: تتمة ما قصر فيه ابن جني في شرح أبيات الحماسة. وديوان شعر
__________
[1164] ترجمة ابن أبي الدميك في الخريدة (قسم الشام) 2: 169 (أبو منصور) وانباه الرواة 3: 326 وبغية الوعاة 2: 303 وكانت وفاته بدمشق سنة عشر وخمسمائة في قول القفطي وسنة نيف وعشرين وخمسمائة حسب قول العماد.(6/2729)
وقفت عليه بخطه الرائق فوجدته مشحونا بالفوائد النحوية، وقد شرح ألفاظه اللغوية واعتنى بإعرابه فدلّ على تبحره في علم العربية.
ومن شعره «1» :
أأحبابنا إن خلّف البين بعدكم ... قلوبا ففيها للتفرق نيران
رحلتم على أنّ القلوب دياركم ... وأنكم فيها على البعد «2» سكان
عسى مورد من سفح جوشن «3» ناقع ... فإني الى تلك الموارد ظمآن
وما كلّ ظنّ ظنه المرء كائن ... يقوم عليه للحقيقة برهان
وعيش الفتى طعمان حلو وعلقم ... كما حاله قسمان رزق وحرمان
وقال:
إن كتمت الهوى تزايد سقمي ... وأخاف العيون حين أبوح
لأبوحنّ بالذي في ضميري ... من هواه لعلني أستريح
وقال:
وإنّ اغتراب المرء من غير فاقة ... ولا حاجة يسمو لها لعجيب
فحسب الفتى بخسا وإن أدرك الغنى ... ونال ثراء أن يقال غريب
وقال:
أخي ما بال قلبك ليس ينقى ... كأنك لا تظنّ الموت حقا
ألا يا ابن الذين مضوا وبادوا ... أما والله ما ذهبوا لتبقى
وما لك غير تقوى الله زاد ... إذا جعلت الى اللهوات ترقى
وقال:
وقائل كيف تهاجرتما ... فقلت قولا فيه إنصاف
لم يك من شكلي فتاركته ... والناس أشكال وألّاف(6/2730)
[1165] منوجهر بن محمد بن تركان شاه بن محمد بن الفرج،
أبو الفضل ابن أبي الوفاء البغدادي الكاتب: كان كاتبا فاضلا أديبا حاذقا حسن الطريقة، سمع أباه وأبا بكر الحلواني، وسمع «المقامات» من مؤلفها الحريري ورواها عنه، وروى عنه أبو الفتوح ابن الخضري وابن الأخضر وغيرهما. مات سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
[1166] مؤرج بن عمرو بن الحارث بن منيع بن ثور بن سعد
بن حرملة بن علقمة بن عمرو بن سدوس السدوسي البصري النحوي الأخباري: هو من أعيان أصحاب الخليل عالم بالعربية والحديث والأنساب، أخذ عن أبي زيد الأنصاري وصحب الخليل بن أحمد وسمع الحديث من شعبة بن الحجاج وأبي عمرو بن العلاء وغيرهما، وأخذ عنه أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي وغيره، وكان قد رحل مع المأمون إلى خراسان فسكن مدينة مرو، وقدم نيسابور وأقام بها وكتب عنه مشايخها، ويقال إن الأصمعي كان يحفظ ثلث اللغة، وكان الخليل يحفظ ثلث اللغة، وكان مؤرج يحفظ الثلثين، وكان أبو مالك يحفظ اللغة كلها.
وقال أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي، أخبرني عمي قال، أخبرني مؤرج أنه قدم من البادية ولا معرفة له بالقياس في العربية، قال: فأول ما تعلمت القياس في حلقة أبي زيد الأنصاري بالبصرة.
وقال محمد بن العباس أيضا: أهدى أبو فيد مؤرج السدوسي إلى جدي محمد بن أبي محمد كساء، فقال جدي فيه:
سأشكر ما أولى ابن عمرو مؤرّج ... وأمنحه حسن الثناء مع الودّ
__________
[1165] ترجمة منوجهر في بغية الوعاة 2: 304.
[1166] ترجمة مؤرج في مراتب النحويين: 67 وطبقات الزبيدي: 178 والفهرست: 53 ونزهة الألباء: 89 وتاريخ أبي المحاسن: 89 ونور القبس: 104 وانباه الرواة 3: 327 وتاريخ بغداد 13: 258 وابن خلكان 5: 304 وبغية الوعاة 2: 305.(6/2731)
أغرّ سدوسيّ نماه إلى العلا ... أب كان صبّا بالمكارم والمجد
أتينا أبا فيد نؤمّل سيبه ... ونقدح زندا غير كاب ولا صلد
فأصدرنا بالفضل والبذل والغنى ... وما زال محمود المصادر والورد
كساني ولم أستكسه متبرعا ... وذلك أهنى ما يكون من الرفد
كساء جمال إن أردت جمالة ... وثوب شتاء إن خشيت من البرد
كسانيه فضفاضا إذا ما لبسته ... ترنحت مختالا وجرت عن القصد
ترى حبكا فيه كأنّ اطّرادها ... فرند حسام نصله سلّ من غمد
سأشكر ما عشت السدوسيّ برّه ... وأوصي بشكر للسدوسيّ من بعدي
وصنّف مؤرج: غريب القرآن. كتاب الأنواء. كتاب المعاني. كتاب جماهير القبائل. حذف [من] نسب قريش «1» ، وغير ذلك.
[1167] موسى بن بشار أبو محمد، مولى تيم بن مرة:
وقيل مولى بني سهم، القرشي بالولاء الملقب بشهوات، لقب بذلك لأنه كان سؤولا ملحفا إذا رأى شيئا أعجبه من متاع أو ثياب تباكى، فإذا قيل له مالك؟ قال: أشتهي هذا، فلقب شهوات، وقيل بل كان يجلب القند والسكر إلى البلد، فقالت امرأة من أهله: ما يزال موسى يجيئنا بالشهوات فغلب ذلك عليه.
وكان شاعرا مجيدا من شعراء الأمويين يستجدي خلفاءهم وأمراءهم، وكان يدخل على سليمان بن عبد الملك وينشده، ومن مشهور شعره قوله في الأمير سعيد بن خالد العثماني:
__________
[1167] ترجمة موسى شهوات في الشعر والشعراء: 481 والأغاني 3: 147 ومعجم المرزباني: 286 والخزانة 1: 144 والسمط: 807 ونسب قريش: 240 وله شعر كثير في جمهرة نسب قريش للزبير بن بكار؛ قلت: وموضع هذه الترجمة معجم الشعراء لا معجم الأدباء.(6/2732)
أبا خالد أعني سعيد بن خالد ... أخا العرف لا أعني ابن بنت سعيد
ولكنني أعني ابن عائشة الذي ... أبو أبو يه خالد بن أسيد
عقيد الندى ما عاش يرضى به الندى ... فإن مات لم يرض الندى بعقيد
دعوه دعوه إنكم قد رقدتم ... وما هو عن أحسابكم برقود
فدى للكريم العبشمي ابن خالد ... بنيّ ومالي طارفي وتليدي
على وجهه تلقى الأيامن باسمه ... وكان جواري طيره بسعود
أبان وما استغنى عن الثدي خيره ... أبان بن في المهد قبل قعود
ترى الجند والحجاب يغشون بابه ... بحاجاتهم من سيد ومسود
فيعطي ولا يعطى ويغشى ويجتدى ... وما بابه للمجتدي بسديد
قتلت أناسا هكذا في جلودهم ... من الغيظ لم تقتلهم بحديد
يعيشون ما عاشوا بغيظ وإن تحن ... مناياهم يوما تحن بحقود
فقل لبغاة العرف قد مات خالد ... ومات الندى إلا فضول سعيد
[1168] المؤمل بن أميل بن أسيد المحاربي، من محارب
بن خصفة بن قيس بن عيلان: كوفي من مخضرمي شعراء الدولتين الأموية والعباسية، وكان في دولة بني العباس أشهر لأنه كان من الجند المرتزقة معهم ومن أوليائهم وخواصّهم، وانقطع إلى المهديّ قبل خلافته وبعدها، وكان شاعرا مجيدا ودون طبقة الفحول.
قال ابن قدامة «1» : حدثني المؤمل بن أميل قال: قدمت على المهديّ وهو بالريّ وهو إذ ذاك وليّ عهد فامتدحته بأبيات فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى أبي جعفر المنصور وهو بمدينة السلام يخبره أن الأمير المهدي أمر
__________
[1168] ترجمة المؤمل في الأغاني 22: 254 والسمط: 524 والخزانة 3: 523 ونكت الهميان: 299.
(وهو شاعر لا أديب) .(6/2733)
لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب المنصور إلى ابنه المهدي يعذله ويلومه، وكتب إلى كاتب المهدي أن يوجّه إليه بي فطلبني ولم يظفر بي، فكتب إلى المنصور أنه توجه إلى مدينة السلام، فأجلس قائدا من قواده على جسر النهروان وأمره أن يتصفح الناس، حتى إذا علق بي حملني إليه، فلما مرّت به القافلة التي أنا فيها تصفحها فوقع بصره عليّ فسألني من أنت؟ قلت: أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار الأمير المهدي، فقال: إياك طلبت، فكاد قلبي أن يتصدع خوفا من الخليفة، فقبض عليّ وأسلمني إلى الربيع، فأدخلني إلى المنصور، فسلمت تسليم مروّع، فردّ السلام وقال: ليس لك هاهنا إلّا خير، أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم أصلح الله أمير المؤمنين، قال: أتيت غلاما غرا فخدعته حتى أعطاك من مال الله عشرين ألف درهم، قلت: نعم أصلح الله الأمير، أتيت غلاما غرا كريما فخدعته فانخدع، قال المؤمل: فكأنّ كلامي أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته:
هو المهديّ إلا أنّ فيه ... مشابه صورة القمر المنير
تشابه ذا وذا فهما إذا ما ... أنارا مشكلان على البصير
فهذا في الظلام سراج ليل ... وهذا في النهار ضياء نور
ولكن فضّل الرحمن هذا ... على ذا بالمنابر والسرير
وبالملك العزيز فذا أمير ... وماذا بالأمير ولا الوزير
ونقص الشهر ينقص ذا، وهذا ... منير عند نقصان الشهور
فيا ابن خليفة الله المصفّى ... به تعلو مفاخرة الفخور
لئن فتّ الملوك وقد توافوا ... إليك من السهولة والوعور
لقد سبق الملوك أبوك حتى ... غدوا ما بين كاب أو حسير
وجئت مصلّيا تجري حثيثا ... وما بك حين تجري من فتور
فقال الناس ما هذان إلا ... كما بين الخليق إلى الجدير
لئن سبق الكبير فأهل سبق ... له فضل الكبير على الصغير
وإن بلغ الصغير مدى كبير ... فقد خلق الصغير من الكبير(6/2734)
فقال المنصور: والله لقد أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، فأين المال؟ قلت: هو هذا، فقال: يا ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ الباقي، قال المؤمل: فوزن لي الربيع من المال أربعة آلاف درهم وأخذ الباقي، فلما ولي المهدي الخلافة رفعت إليه رقعة، فلما قرأها ضحك وأمر بردّ العشرين ألف درهم إليّ فردّت فأخذتها وانصرفت.
وأنشد نفطويه للمؤمل بن أميل:
لا تغضبنّ على قوم تحبهم ... فليس منك عليهم ينفع الغضب
ولا تخاصمهم يوما وإن ظلموا ... إن الولاة إذا ما خوصموا غلبوا
يا جائرين علينا في حكومتهم ... والجور أقبح ما يؤتى ويرتكب
لسنا إلى غيركم منكم نفرّ إذا ... جرتم ولكن إليكم منكم الهرب
وقال:
وكم من لئيم ودّ اني شتمته ... وإن كان شتمي فيه صاب وعلقم
وللكفّ عن شتم اللئيم تكرما ... أضرّ له من شتمه حين يشتم
مات المؤمل بن أميل في حدود تسعين ومائة.
[1169] موهوب بن أحمد بن الحسن بن الخضر الجواليقي
البغدادي: كان من كبار أهل اللغة إماما في فنون الأدب ثقة صدوقا، أخذ الأدب عن أبي زكريا يحيى الخطيب التبريزي ولازمه، وسمع الحديث من أبي القاسم ابن اليسري وأبي طاهر ابن أبي الصقر، وروى عنه الكندي وأبو الفرج ابن الجوزي، وأخذ عنه أبو البركات
__________
[1169] ترجمة ابن الجواليقي في الأنساب 3: 337 (واللباب 1: 301) ونزهة الألباء: 277 والمنتظم 10: 118 والكامل لابن الأثير 11: 106 وانباه الرواة 3: 335 وابن خلكان 5: 342 وتذكرة الحفاظ: 1286 وعبر الذهبي 4: 110 وسير الذهبي 20: 89 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 236 ومرآة الجنان 3: 271 والبداية والنهاية 12: 220 وذيل طبقات الحنابلة 1: 204 والنجوم الزاهرة 5: 277 وبغية الوعاة 2: 308 والشذرات 4: 127 وإشارة التعيين: 357.(6/2735)
عبد الرحمن بن محمد الأنباري، ودرّس الأدب في النظامية بعد شيخه التبريزي، واختص بإمامة المقتفي لأمر الله، وكان من أهل السنّة، طويل الصمت لا يقول شيئا إلا بعد التحقيق، ويكثر من قول لا أدري، وكان مليح الخطّ يتنافس الناس في تحصيله والمغالاة به، وكان يختار في بعض مسائل النحو مذاهب غريبة. قال ابن الأنباري «1» : كان يذهب إلى أن الاسم بعد لولا يرتفع بها على ما يذهب إليه الكوفيون، وإلى أن الألف واللام في نعم الرجل للعهد، خلاف ما ذهب إليه الجماعة من أنها للجنس، قال: وحضرت حلقته يوما وهو يقرأ عليه «كتاب الجمهرة» لابن دريد، وقد حكى عن بعض النحويين أنه قال: أصل ليس لا أيس، فقلت: هذا الكلام كأنه من كلام الصوفية، فكأن الشيخ أنكر عليّ ذلك ولم يقل في تلك الحال شيئا، فلما كان بعد أيام وقد حضرنا الدرس على العادة قال: أين ذلك الذي أنكر أن يكون أصل ليس لا أيس، أليس لا تكون بمعنى ليس؟ فقلت: ولم إذا كانت لا بمعنى ليس يكون أصل ليس لا أيس فلم يذكر شيئا وسكت. قال: وكان الشيخ رحمه الله في اللغة أمثل منه في النحو.
وحكى ولد الجواليقي أبو محمد إسماعيل قال «2» : كنت في حلقة والدي يوم الجمعة بعد الصلاة بجامع القصر والناس يقرؤون عليه، فوقف عليه شاب وقال: يا سيدي قد سمعت بيتين من الشعر ولم أفهم معناهما وأريد أن تسمعهما مني وتعرّفني معناهما فقال: قل، فأنشد:
وصل الحبيب جنان الخلد أسكنها ... وهجره النار يصليني به النارا
فالشمس بالقوس أمست وهي نازلة ... إن لم يزرني وبالجوزاء إن زارا
قال إسماعيل: فلما سمعهما والدي قال: يا بني هذا معنى من علم النجوم وسيرها لا من صنعة أهل الأدب، فانصرف الشاب من غير فائدة واستحيا والدي من أن يسأل عن شيء ليس عنده منه علم، فآلى على نفسه أن لا يجلس في حلقته حتى ينظر في علم النجوم ويعرف تسيير الشمس والقمر، فنظر في ذلك ثم جلس للناس. ومعنى(6/2736)
البيت أن الشمس إذا كانت في القوس كان الليل طويلا فجعل ليالي الهجر فيه، وإذا كانت في الجوزاء كان الليل قصيرا فجعل ليالي الوصل فيها.
وللجواليقي من التصانيف: شرح أدب الكاتب «1» . كتاب العروض. التكملة فيما يلحن فيه العامة، أكمل به «درّة الغواص» للحريري. المعرب من الكلام الأعجمي «2» ، وغير ذلك «3» .
وكانت ولادته سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي يوم الأحد خامس عشر المحرم سنة تسع وثلاثين وخمسمائة.
[1170] المؤيد بن عطاف بن محمد بن علي بن محمد أبو سعيد الآلوسي
الشاعر الأديب: ولد بآلوس سنة أربع وتسعين وأربعمائة، ونشأ بدجيل، واتصل بخدمة ملكشاه مسعود بن محمد السلجوقي فعلا ذكره وتقدم وأثرى، ودخل بغداد في أيام المسترشد فصار جاويشا، ولما صارت الخلافة إلى المقتفي تكلّم فيه وفي أصحابه بما لا يليق فقبض عليه وسجن، فلبث في السجن عشر سنين وأخرج منه في خلافة المستنجد.
ومن شعره:
رحلوا فأفنيت الدموع لبعدهم ... من بعدهم وعجبت إذ أنا باق
وعلمت أن العود يقطر ماؤه ... عند الوقود لفرقة الأوراق
وأبيت مأسورا وفرحة ذكركم ... عندي تعادل فرحة الاطلاق
لا تنكر البلوى سواد مفارقي ... فالحرق يحكم صنعة الحراق
__________
[1170] ترجمة المؤيد بن عطاف في الخريدة (قسم العراق) 2: 172 وابن خلكان 5: 346 واللباب (الألوسي) والفوات 2: 453 والشذرات 4: 185.(6/2737)
وقال في صفة القلم:
ومثقف يغني ويفني دائما ... في طوري الميعاد والايعاد
قلم يفلّ الجيش وهو عرمرم ... والبيض ما سلّت من الأغماد
وهبت به الآجام حين نشا بها ... كرم السيول وهيبة الآساد
توفي أبو سعيد بالموصل يوم الخميس الرابع والعشرين من رمضان سنة سبع وخمسين وخمسمائة عن ثلاث وستين سنة.
[1171] ميمون الأقرن:
هو الإمام المقدّم في العربية بعد أبي الأسود الدؤلي، أخذ عن أبي الأسود، وأخذ عنه عنبسة بن معدان الفيل في أصح الروايتين: حدث إسحاق بن إبراهيم الموصلي عن المدائني قال: أمر زياد أبا الأسود الدؤلي أن ينقط المصاحف فنقطها، ورسم من النحو رسوما، ثم جاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية، ثم زاد فيها بعده عنبسة بن معدان المهري.
وكان ميمون أحد أئمة العربية الخمسة الذين يرجع إليهم في المشكلات، حدث أبو عبيدة أن يونس النحوي سئل عن جرير والفرزدق والأخطل أيهم أشعر فقال:
أجمعت العلماء على الأخطل، قال أبو عبيدة: فقلت لرجل إلى جنبه سله من هؤلاء العلماء؟ فسأله فقال: هم ميمون الأقرن وعنبسة الفيل وابن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو بن العلاء وعيسى بن عمر الثقفي، هؤلاء طرّقوا الكلام وماثوه موثا لا كمن تحكون عنهم لا هم بدويون ولا نحويون.
وقال أبو عبيدة: أول من وضع العربية أبو الأسود الدؤلي ثم ميمون الأقرن ثم عنبسة الفيل ثم عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي ثم عيسى بن عمر الثقفي.
__________
[1171] ترجمة الأقرن في مراتب النحويين: 12 وطبقات الزبيدي: 30 والفهرست: 46 وانباه الرواة 3: 337 وبغية الوعاة 2: 307 ونزهة الألباء: 6.(6/2738)
[1172] ميمون بن جعفر أبو توبة النحوي:
كان لغويا نحويا أديبا، أخذ عن أبي الحسن الكسائي، وكان يؤدب عمرو بن سعيد بن سلم، فلما قدم الأصمعيّ من البصرة نزل على سعيد، فحضر يوما وأخذ سعيد يسأله فجعل أبو توبة إذا مرّ الأصمعي بشيء من الغريب بادر إليه فأتى بكل ما في الباب أو أكثره، فشق ذلك على الأصمعي فعدل بأبي توبة إلى المعاني، فقال سعيد: يا أبا توبة لا تتبعه في هذا الفن- يعني المعاني- فإنه صناعته، فقال أبو توبة: وماذا عليّ في ذلك؟ إن سألني عما أحسنه أجبته، وما لا أحسنه تعلمته منه واستفدته.
__________
[1172] ترجمة أبي توبة النحوي في انباه الرواة 3: 338 (وفيه ميمون بن حفص) وبغية الوعاة 2: 309.(6/2739)
حرف النون
[1173] ناصر بن أحمد بن بكر، أبو القاسم الخويّي
«1» النحوي الأديب: ولد في المحرم سنة ست وستين وأربعمائة، قرأ النحو على أبي طاهر الشيرازي والفقه على أبي إسحاق الشيرازي، وسمع أبا القاسم علي بن أحمد بن البسري «2» وأبا الحسين عاصم بن الحسين المعروف بابن النقور العاصمي وأبا زيد نظام الملك. وكان شيخ الأدب في أذربيجان غير مدافع، وولي القضاء بها مدة، ورحل إليه الناس من الأطراف، وصنف «شرح اللمع لابن جني» وتوفي في ربيع الآخر سنة سبع وخمسمائة.
ومن شعره:
عليك بإغباب الزيارة إنها ... تكون إذا دامت إلى الهجر مسلكا
فإني رأيت الغيث يسأم دائما ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
وقال «3» :
نصير ترابا كأن لم نكن ... وعاة العلوم رعاة الأمم
فتبا لعيش قصير الدوام ... ووجدان حظّ قرين «4» العدم
__________
[1173] ترجمة ناصر الخويي في انباه الرواة 3: 341 ومعجم السفر: 381 (وفي نسبه ابن بكران) وبغية الوعاة 2: 310 وإشارة التعيين: 361.(6/2740)
[1174] ناصر بن عبد السيد بن علي، أبو الفتح
المطرّزي الخوارزمي النحوي الأديب: ولد بخوارزم في رجب سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة في السنة والبلدة التي مات فيها الزمخشري، ولذلك قيل له خليفة الزمخشري سيما وقد كان على طريقته رأسا في الاعتزال داعيا إليه، وكان ينتحل في الفروع مذهب أبي حنيفة، وكان فقيها فاضلا بارعا في النحو واللغة وفنون الأدب، وله شعر حسن يتعمد فيه استعمال الجناس. قرأ ببلده على أبيه أبي المكارم عبد السيد، وعلى أبي المؤيد الموفق بن أحمد بن إسحاق المعروف بأخطب خوارزم وغيرهما، وسمع من أبي عبد الله محمد بن علي بن أبي سعيد التاجر وغيره، ودخل بغداد متوجها إلى الحج سنة إحدى وستمائة، وجرى له فيها مباحث مع جماعة من الفقهاء والأدباء، وأخذ أهل الأدب عنه.
وصنف: شرح المقامات للحريري. والمغرب في غريب ألفاظ الفقهاء «1» .
والمعرب في شرح المغرب. والاقناع في اللغة. والمقدمة المطرزية في النحو.
والمصباح في النحو أيضا مختصر. ومختصر إصلاح المنطق لابن السكيت، وغير ذلك.
مات بخوارزم يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة عشر وستمائة.
ومن شعره «2» :
وزند ندى فواضله وريّ ... ورند ربى خواضله نضير
__________
[1174] ترجمة المطرزي في انباه الرواة 3: 339 وتكملة المنذري رقم: 1300 وابن خلكان 5: 369 وسير الذهبي 22: 28 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 237 والجواهر المضية 2: 190 وبغية الوعاة 2: 311 وتاج التراجم: 79 والبلغة: 272 والفوائد البهية: 218.(6/2741)
ودرّ خلاله أبدا ثمين ... ودرّ نواله أبدا غزير
وقال «1» :
تعامى زماني عن حقوقي وإنه ... قبيح على الزرقاء تبدي تعاميا
فإن تنكروا فضلي فإن رغاءه ... كفى لذوي الأسماع منكم مناديا
وقال:
يا وحشة لجيرة مذ نأوا ... علوّ قدري في الهوى انحطّا
حكت دموعي البحر من بعدهم ... لما رأت منزلهم شطّا
[1175] نبا بن محمد بن محفوظ، أبو البيان القرشي الدمشقي
المعروف بابن الحوراني: شيخ الطريق البيانية بدمشق، كانت له معرفة تامة باللغة والأدب والفقه، وكان شاعرا فاضلا زاهدا عابدا. سمع أبا الحسن علي بن الموازيني وأبا الحسن علي بن أحمد بن قبيس المالكي، وسمع منه يوسف بن عبد الواحد بن وفاء السلمي والقاضي أسعد بن المنجا والفقيه أحمد العراقي وعبد الرحمن بن الحسين بن عبدان وغيرهم. وصحب الشيخ أرسلان الدمشقي الصوفي ولزمه وكان ينفرد به.
وله تصانيف مفيدة ومجاميع لطيفة وشعر كثير، ومن مصنفاته منظومة في الصاد والضاد. ومنظومة في تعزيز بيتي الحريري اللذين أولهما:
سم سمة تحمد آثارها
__________
[1175] ترجمة ابن الحوراني في ابن القلانسي: 512 ومرآة الزمان: 139 والمشتبه: 122 وعبر الذهبي 4: 144 وسير الذهبي 20: 326 ومرآة الجنان 3: 298 وطبقات السبكي 7: 318 وطبقات الاسنوي 1: 234 والبداية والنهاية 12: 235 وتبصير المنتبه 1: 221 وبغية الوعاة 2: 312 والشذرات 4: 160 وتاج العروس (بين، نبو) .(6/2742)
قال فيها:
بل سمه بالهجر عندي لمح ... مود يوالي سمّه بلسمه
توفي بدمشق يوم الثلاثاء غرة ربيع الأول سنة احدى وخمسين وخمسمائة.
[1176] نجم بن سراج العقيلي البغدادي الأصل الملقب بشمس الملك:
رحل مع أهله إلى مصر صغيرا وتوطّن بأسنا من بلاد الصعيد فنشأ بها، وهو أحد شعراء العصر بالمجيدين وأدبائه المبرزين، شائع الصيت سائر الذكر، تصرّف بفنون الأدب وتميز بالشعر فمدح الأكابر والأعيان، وكان منقطعا إلى الرئيس جعفر بن حسان بن علي الأسنائي أحد أكابر العصر وأدبائه، وله فيه مدائح كثيرة، وكان بينه وبين مجد الملك جعفر بن شمس الخلافة الأديب الشاعر صحبة ومودة ومطارحات. توفي سنة إحدى وستمائة.
ومن شعره في مدح الرئيس ابن حسان المذكور قوله:
قف الركب واسأل قبل حثّ الركائب ... لعلّ فؤادي بين تلك الحقائب
وماذا عسى يجدي السؤال وإنما ... أعلّل قلبا ذاهبا في المذاهب
فو الله لولا الشعر سنّة من خلا ... ونحلة قوم في العصور الذواهب
لنزّهت «1» نفسي عن سؤال معاشر ... يرون طلاب البرّ «2» أسنى المكاسب
وهبت لمن يأبى مديحي عرضه ... وإن كان للمعروف ليس بواهب
وأقسمت لا أرجو سوى رفد جعفر ... حليف الندى ربّ العلا والمناقب
__________
[1176] ترجمة نجم بن سراج في الطالع السعيد: 672 وقال: ذكره صاحب كتاب الأرج الشائق من الشعراء الذين مدحوا ابن حسان الاسنائي وأورد قصيدته البائية وغيرها.(6/2743)
أحقّ فتى يطرى ويرجى «1» ويتّقى ... كما تتّقى خوفا «2» شفار القواضب
إذا نحن قدّرنا «3» تقاعس مجده ... وجدناه بالتقصير «4» فوق الكواكب
وإن نحن رمنا وصف جدوى يمينه «5» ... رأينا نداه فوق سحّ «6» السحائب
أخو همم لم يسله اللوم همّه «7» ... وما همّه غير اتصال المواهب «8»
جواد تراه الدهر في البرّ دائبا «9» ... كأن عليه الجود ضربة لازب
رقبت باحسان ابن حسان منبرا ... فكنت به في الفضل أحسن خاطب «10»
وصلت على الأيام حتى لقد غدت ... من الرعب من بعد الجفاء صواحبي
ومن هذا رجع إلى الغزل وختم القصيدة به فقال بعده:
على أنني من وقع عادية النوى «11» ... دريئة رام للأسى والنوائب
وما الحبّ شيء يجهل المرء قدره ... وما فيه لا يخفى على ذي التجارب
خليليّ كفا واتركاني وخلّيا ... ملامي فذهني حاضر غير غائب
إذا كان ذنبي الحبّ والوجد والهوى «12» ... فتلك ذنوب لست منها بتائب
والقصيدة طويلة تركت باقيها للاختصار.(6/2744)
[1177] نشوان بن سعيد بن نشوان، أبو سعيد
الحميري اليمني الأمير العلامة: كان فقيها فاضلا عارفا باللغة والنحو والتاريخ وسائر فنون الأدب، فصيحا بليغا شاعرا مجيدا، استولى على قلاع وحصون، وقدّمه أهل جبل صبر حتى صار ملكا. وله تصانيف أجلها شمس العلوم وشفاء كلام العرب من الكلوم في اللغة، وله القصيدة المشهورة التي أولها:
الأمر جدّ وهو غير مزاح ... فاعمل لنفسك صالحا يا صاح
مات في ذي الحجة سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة.
[1178] نصر بن أحمد بن نصر بن المأمون
، أبو القاسم البصري المعروف بالخبزارزي: شاعر أميّ مجيد، كان لا يتهجّى ولا يكتب، وكان خبازا يخبز خبز الأرز بدكان له في مربد البصرة، فكان يخبز وهو ينشد ما يقوله من الشعر، فيجتمع الناس حوله ويزدحمون عليه لاستماع شعره وملحه، ويتعجبون من إجادته في مثل حاله وحرفته. وكان ممن يفضل الذكور على الإناث، فكان أحداث البصرة يلتفون حوله ويتنافسون بميله إليهم ويحفظون شعره لسهولته ورقته. وكان شاعر البصرة ابن لنكك مع علوّ قدره يجلس اليه ويتردد على دكانه وعني بجمع ديوان شعره.
ذكر الخطيب في «تاريخ مدينة السلام» «1» أن أبا محمد عبد الله بن محمد
__________
[1177] انباه الرواة 3: 342 وبغية الوعاة 2: 312 والبلغة: 273 وإشارة التعيين: 362 ومقدمة الحور العين ومقدمة شمس العلوم ومجلة المجمع العلمي العربي 26: 590 ولصديقنا القاضي اسماعيل الأكوع دراسة مستقلة عنه، نشرت في بيروت 1983.
[1178] ترجمة الخبزارزي في المنتظم 6: 329 وابن خلكان 5: 376 والنجوم الزاهرة 3: 276 (وفيات 330) ويتيمة الدهر 2: 366 وتاريخ بغداد 13: 296 واللباب 1: 343 ومرآة الجنان 2: 275 والشذرات 2: 276 وقد نشر ديوانه بمجلة المجمع العراقي بتحقيق الشيخ محمد حسن آل ياسين المجلد 40 (ج 1- 4) 41 (ج: 1) (ولعل الخبزأرزي لم يتجاوز حيّز الشعر) .(6/2745)
الأكفاني قال: خرجت مع عمي أبي عبد الله الأكفاني الشاعر وأبي الحسين ابن لنكك وأبي عبد الله المفجع وأبي الحسن السماك في بطالة العيد، وأنا يومئذ صبيّ أصحبهم، فانتهوا إلى نصر الخبزارزي وهو يخبز على طابقه، فجلسوا يهنّونه بالعيد وهو يوقد السعف تحت الطابق، فزاد في الوقود فدخنهم فنهضوا حين تزايد الدخان، فقال نصر لابن لنكك: متى أراك يا أبا الحسين؟ فقال له: إذا استخت ثيابي، ثم مضينا في سكة بني سمرة حتى انتهينا إلى دار أبي أحمد ابن المثنى «1» ، فجلس ابن لنكك وقال: إن نصرا لا يخلي المجلس الذي مضى لنا معه من شيء يقوله فيه ويجب أن نبدأه قبل أن يبدأنا، فاستدعى بدواة وكتب إليه «2» :
لنصر في فؤادي فرط حبّ ... أنيف به على كلّ الصحاب
أتيناه فبخّرنا بخورا ... من السّعف المدخّن بالتهاب
فقمت مبادرا وحسبت نصرا ... أراد بذاك طردي أو ذهابي
فقال متى أراك أبا حسين ... فقلت له إذا اتسخت ثيابي
فلما وصلت الرقعة إلى نصر أملى على من كتب له بظهرها الجواب، فلما وصل إلينا قرأناه فإذا هو فيه:
منحت أبا الحسين صميم ودّي ... فداعبني بألفاظ عذاب
أتى وثيابه كالشيب بيض «3» ... فعدن له كريعان الشباب
وبغضي للمشيب أعدّ عندي ... سوادا لونه لون الخضاب
ظننت جلوسه عندي لعرس ... فجدت له بتمسيك الثياب
وقلت متى أراك أبا حسين ... فجاوبني إذا اتسخت ثيابي
ولو كان التقزز فيه خير ... لما كني الوصيّ أبا تراب
ومن شعره أيضا «4» :(6/2746)
رأيت الهلال ووجه الحبيب ... فكانا هلالين عند النظر
فلم أدر من حيرتي فيهما ... هلال السما من هلال البشر
ولولا التورد في الوجنتين ... وما راعني من سواد الشعر
لكنت أظنّ الهلال الحبيب ... وكنت أظنّ الحبيب القمر
وقال «1» :
شاقني الأهل لم تشقني الديار ... والهوى صائر إلى حيث صاروا
جيرة فرقتهم غربة البي ... ن وبين القلوب ذاك الجوار
كم أناس رعوا لنا حين غابوا ... وأناس خانوا وهم حضّار
عرضوا ثم أعرضوا واستمالوا ... ثم مالوا وأنصفوا ثم جاروا
لا تلمهم على التجنّي فلو لم ... يتجنّوا لم يحسن الإعتذار
وقال:
فلا تمنّ بتنميق تكلّفه ... لصورة حسنها الأصليّ يكفيها
إن الدنانير لا تجلى وان عتقت ... ولا تزاد على الحسن الذي فيها
وقال:
إذا ما لسان المرء اكثر هذره ... فذاك لسان بالبلاء موكّل
إذا شئت أن تحيا عزيزا مسلّما ... فدبّر وميّز ما تقول وتفعل
توفي نصر بن أحمد الخبزارزي سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
[1179] نصر بن الحسن بن جوشن بن منصور بن حميد بن أثال
أبو المرهف
__________
[1179] ترجمة أبي المرهف العيلاني في الوافي (خ) ونكت الهميان: 300.(6/2747)
العيلاني النميري: كان قارئا أديبا شاعرا مجيدا، أضرّ بالجدري صغيرا، فحفظ القرآن المجيد، وقرأ الأدب على أبي منصور الجواليقي، وسمع من القاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي الأنصاري وأبي البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطي وأبي الفضل ابن ناصر، وبرع في الشعر فمدح الخلفاء والوزراء، وكان منقطعا إلى الوزير ابن هبيرة، وقد أدركته صغيرا ولم ألقه. توفي يوم الثلاثاء الثامن والعشرين من ربيع الآخر سنة ثمان وثمانين وخمسمائة.
ومن شعره «1» :
شمس الضحى يعشي العيون ضياؤها ... إلا إذا رمقت بعين واحده
ولذاك تاه العور واحتقروا الورى ... فاعرف فضيلتهم وخذها فائده
نقصان جارحة أعانت أختها ... فكأنما قويت بعين زائده
وله:
لها من الليل البهيم طرّة ... على جبين واضح نهاره
ومعصم يكاد يجري رقة ... وإنما يعصمه سواره
وقال «2» :
ترى يتألف الشمل الصديع ... وآمن من زماني ما يروع
وتؤنس بعد وحشتها بنجد ... منازلنا القديمة والربوع
ذكرت بأيمن العلمين عيشا ... مضى والشمل ملتئم جميع
فلم أملك لدمعي ردّ غرب ... وعند الشوق تعصيك الدموع
ينازعني إلى لمياء قلبي ... ودون لقائها بلد شسوع
وأخوف ما أخاف على فؤادي ... إذا ما أنجد البرق اللموع
فقد حمّلت من طول التنائي ... عن الأحباب ما لا أستطيع(6/2748)
وقال «1» :
ما في قبائل عامر ... من معلم الطّرفين غيري
خالي زعيم عبادة ... وأبي زعيم بني عمير
[1180] نصر بن عاصم الليثي النحوي:
كان فقيها عالما بالعربية من فقهاء التابعين:
وكان يسند إلى أبي الأسود الدؤلي في القرآن والنحو، وله كتاب في العربية، وقيل أخذ النحو عن يحيى بن يعمر العدواني، وأخذ عنه أبو عمرو بن العلاء، وكان يرى رأي الخوارج ثم ترك ذلك. وقال في تركه أبياتا وهي:
فارقت نجدة والذين تزرّقوا ... وابن الزبير وشيعة الكذّاب
وهوى النجاريّين قد فارقته ... وعطية المتجبر المرتاب
مات بالبصرة سنة تسع وثمانين وقيل سنة تسعين.
[1181] نصر بن علي بن محمد
أبو عبد الله الشيرازي الفارسي الفسوي، يعرف بابن أبي مريم النحوي: خطيب شيراز وعالمها وأديبها والمرجوع إليه في الأمور الشرعية والمشكلات الأدبية، أخذ عن محمود بن حمزة الكرماني، وصنف تفسير القرآن وشرح الايضاح للفارسي «2» قرىء عليه سنة خمس وستين وخمسمائة وتوفي بعدها.
__________
[1180] ترجمة نصر بن عاصم في أخبار النحويين البصريين: 20 وطبقات الزبيدي: 27 والفهرست 45، 47 وتاريخ أبي المحاسن: 157 ونور القبس: 23 ونزهة الألباء: 7 وانباه الرواة 2: 343 وطبقات ابن الجزري 2: 336 وتهذيب التهذيب 10: 427 وبغية الوعاة 2: 313 والبلغة: 273.
[1181] ترجم له في انباه الرواة 3: 344 وسمّاه نصر بن عبد الله، وانه يعرف بابن مريم (وفيه تخريج) وانظر بغية الوعاة 2: 314 (وسماه نصر الله) وقال القفطي إنه كان موجودا سنة 587.(6/2749)
[1182] نصر بن مزاحم أبو الفضل المنقري الكوفي:
كان عارفا بالتاريخ والأخبار، وهو شيعي من الغلاة جلد في ذلك. روى عنه أبو سعيد الأشج ونوح بن حبيب وغيرهما، وروى هو عن شعبة بن الحجاح، واتهمه جماعة من المحدّثين بالكذب، وضعّفه آخرون.
وصنف كتاب الغارات. وكتاب الجمل. وكتاب صفين. وكتاب مقتل حجر بن عدي. وكتاب مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، وغير ذلك. مات سنة اثنتي عشرة ومائتين.
[1183] نصر بن يوسف
صاحب أبي الحسن الكسائي: كان نحويا لغويا، له من الكتب: كتاب خلق الانسان. كتاب الابل؛ ذكره في الفهرست.
[1184] نصر الله بن إبراهيم بن أبي نصر بن الحسين
الدينوري ثم البغدادي الحمامي المؤدب: ولد سنة عشرين وخمسمائة، وكان حسن المعرفة بالنحو فاضلا أديبا، سمع أبا الحسن ابن عبد السلام وأبا محمد ابن الطراح وغيرهما، ولا أعرف من أمره غير هذا.
__________
[1182] ترجمة نصر بن مزاحم في الفهرست: 106 وتاريخ بغداد 13: 282 وميزان الاعتدال 4: 253 ولسان الميزان 6: 157 وقد طبع كتابه «صفين» بتحقيق عبد السلام هارون، القاهرة.
[1183] ترجمة نصر بن يوسف في الفهرست: 72 وبغية الوعاة 2: 315.
[1184] ترجمته في بغية الوعاة 2: 316 (وهو متابع لياقوت) .(6/2750)
[1185] نصر الله بن عبد الله بن مخلوف
بن علي بن عبد القوي بن قلاقس الاسكندري: كان أديبا فاضلا وشاعرا مجيدا، ولد بالاسكندرية في ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة، ونشأ بها وقرأ على أبي طاهر السلفي وسمع منه ومن غيره، ورحل إلى اليمن ودخل عدن سنة ثلاث وستين وخمسمائة وامتدح بها الوزير أبا الفرج ياسر بن بلال، وسافر إلى صقلية ودخلها سنة خمس وستين وامتدح بها القائد أبا القاسم ابن الحجر، فأكرم نزله وأحسن إليه، فصنف باسمه كتابا سماه «الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم» ثم فارق صقلية راجعا إلى مصر فتوفي بعيذاب سنة سبع وستين وخمسمائة.
ومن شعره «1» :
اشرب معتقة الطلا صرفا على ... رقص الغصون بروضة غنّاء
من كفّ وطفاء الجفون كأنما ... تسعى بنار أضرمت في ماء
في سحر مقلتها وخمرة ريقها ... شرك العقول وآفة الاعضاء
وقال «2» :
سدّدوها من القدود رماحا ... وانتضوها من الجفون صفاحا
يا لها حلة من السقم حالت ... واستحالت ولا كفاها كفاحا
صحّ إذ أذرت العيون دما أن ... هم أثخنوا القلوب جراحا
__________
[1185] ترجمة ابن قلاقس في الخريدة (قسم مصر) 1: 145 وكتاب الروضتين 1: 205 وابن خلكان 5: 385 وسير الذهبي 20: 546 ومرآة الجنان 3: 383 والبداية والنهاية 12: 269 وحسن المحاضرة 1: 564 وشذرات الذهب 4: 224 وقد طبع ديوانه قديما وهو ناقص كثيرا، ثم صدر منه الجزء الأول بتحقيق الدكتورة سهام الفريح ثم صدر كاملا بتحقيقها (الكويت 1988) كما نشر له سعد المانع كتابيه ترسل ابن قلاقس والزهر الباسم، وراجع عن زيارته لصقلية كتابي: العرب في صقلية.(6/2751)
وقال:
قرنت بواو الصدغ صاد المقبّل ... وأبديت لاما في عذار مسلسل
فان لم يكن وصل لديك لعاشق ... فماذا الذي أبديت للمتأمل
وقال من قصيدة:
عقدوا الشعور معاقد التيجان ... وتقلّدوا بصوارم الأجفان
ومشوا وقد هزّوا رماح قدودهم ... هزّ الكماة عوالي المران
وتدرّعوا زردا فخلت أراقما ... خلعت ملابسها على الغزلان
[1186] نصيب بن رباح مولى عبد العزيز بن مروان:
شاعر من فحول الشعراء الإسلاميين، كان عبدا لرجل من كنانة من أهل ودان، وكان فصيحا مقدما في النسيب والمديح مترفعا عن الهجاء كبير النفس عفيفا، قيل لم ينسب قط إلا بامرأته. وكان مقدما عند الملوك يجيد مديحهم ومراثيهم، وفي سبب اتصاله بعبد العزيز بن مروان وفكّ رقبته من الرق روايات شتى، منها أنه لما قال الشعر وهو شابّ جعل يأتي مشيخة القبيلة وينشدهم فاجتمعوا إلى مولاه وقالوا: ان عبدك هذا قد نبغ بقول الشعر، ونحن من بين شرّين: إما ان يهجونا فيهتك أعراضنا أو يمدحنا فيشبب بنسائنا، وليس لنا في شيء من الخلتين خيرة، فقال له مولاه: يا نصيب أنا بائعك لا محالة فاختر لنفسك، فسار إلى عبد العزيز بن مروان بمصر فدخل عليه وأنشده «1» :
لعبد العزيز على قومه ... وغيرهم منن غامره
__________
[1186] ترجمة نصيب في الشعر والشعراء: 322 والأغاني 1: 305 وطبقات ابن سلام: 675 والموشح:
189 والسمط: 291 والعيني 1: 537 والزركشي: 337 وفوات الوفيات 4: 197 وموضعه الصحيح معجم الشعراء.(6/2752)
فبابك أسهل أبوابهم ... ودارك مأهولة عامره
وكلبك أرأف بالزائرين ... من الأمّ بابنتها الزائره
وكفّك حين ترى المعتفين ... أندى من الليلة الماطره
فمنك العطاء ومنا الثناء ... بكلّ محبّرة سائره
فقال عبد العزيز: أعطوه أعطوه، فقال: أصلحك الله، إني عبد ومثلي لا يأخذ الجوائز، قال: فما شأنك؟ فأخبره بحاله، فدعا الحاجب فقال: اخرج به إلى باب الجامع فأبلغ في قيمته، فدعا المقومين فنادوا عليه من يعطي لعبد أسود جلد؟
قال رجل: هو عليّ بمائة دينار، فقال نصيب: قولوا على أن أبري القسيّ وأريش السهام واحتجر الاوتار، فقال الرجل: هو عليّ بمائتي دينار، قال قولوا على أن أرعى الابل وأمريها وأقضقضها وأصدرها وأوردها وأرعاها وأرعيها، قال رجل: هو عليّ بخمسمائة دينار، قال نصيب: على أني شاعر عربي لا يوطىء ولا يقوي ولا يساند، قال رجل: هو عليّ بألف دينار، فسار به الحاجب إلى عبد العزيز فأخبره بما تم، فقال: ادفعوا إليه ألف دينار فقبضها وافتكّ بها رقبته، ولم يزل في جملة عبد العزيز حتى احتضر، فأوصى به سليمان بن عبد الملك خيرا فصيره في جملة سمّاره.
حكي «1» أن نصيبا دخل على سليمان بن عبد الملك وعنده الفرزدق فقال سليمان للفرزدق: يا أبا فراس أنشدني، وإنما أراد أن ينشده مديحا فيه، فأنشده قوله يفتخر:
وركب كأنّ الريح تطلب عندهم ... لها ترة من جذبها بالعصائب
سروا يركبون الريح وهي تلفّهم ... إلى شعب الأكوار ذات الحقائب
إذا أبصروا نارا يقولون ليتها ... وقد خصرت أيديهم نار غالب
فتمعّر سليمان واربدّ لما ذكر للفرزدق غالبا وقال لنصيب: قم وأنشد مولاك ويحك، فقام نصيب وأنشده:
أقول لركب صادرين لقيتهم ... قفا ذات أوشال ومولاك قارب
قفوا خبروني عن سليمان إنني ... لمعروفه من أهل ودّان طالب(6/2753)
فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ... ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب
وقالوا عهدناه وكلّ عشية ... بأبوابه من طالبي العرف راكب
هو البدر والناس الكواكب حوله ... ولا تشبه البدر المضيء الكواكب
فقال سليمان للفرزدق: كيف ترى شعره؟ فقال: هو أشعر أهل جلدته، قال سليمان: وأهل جلدتك، يا غلام أعط نصيبا خمسمائة دينار وللفرزدق نار أبيه، فخرج الفرزدق وهو يقول:
وخير الشعر أشرفه رجالا ... وشرّ الشعر ما قال العبيد
وقال «1» :
ليس السواد بناقصي ما دام لي ... هذا اللسان إلى فؤاد ثابت
من كان ترفعه منابت أصله ... فبيوت أشعاري جعلن منابتي
كم بين أسود ناطق ببيانه ... ماضي الجنان وبين أبيض صامت
إني ليحسدني الرفيع بناؤه ... من فضل ذاك وليس بي من شامت
وقال:
كأن القلب ليلة قيل يغدى ... بليلى العامرية أو يراح
قطاة عزّها شرك فباتت ... تجاذبه وقد علق الجناح «2»
لها فرخان قد تركا بوكر ... فعشهما تصفّقه الرياح
إذا سمعا هبوب الريح نصّا ... وقد أودى به القدر المتاح
فلا في الليل نالت ما ترجّي ... ولا في الصبح كان لها براح
وقال «3» :
فان أك حالكا فالمسك أحوى ... وما لسواد جسمي من دواء
ولي كرم عن الفحشاء ناء ... كبعد الأرض من جوّ السماء(6/2754)
ومثلي في رجالكم قليل ... ومثلك ليس يعدم في النساء
فان ترضي فردّي قول راض ... وإن تأبي فنحن على السواء
وقال «1» :
ألا ليت شعري ما الذي تجدين بي ... غدا غربة النأي المفرق والبعد
لدى أمّ بكر حين تغترب النوى ... بنا ثم يخلو الكاشحون بها بعدي
أتصرمني عند الذين هم العدى ... فتشمتهم بي أم تدوم على العهد
وقال «2» :
ألام على ليلى ولو أستطيعها ... وحرمة ما بين البنيّة والحجر
لملت على ليلى بنفسي ميلة ... ولو كان في يوم التحالق والنحر
[1187] نصيب مولى المهدي:
أصله عبد من بادية اليمامة عرض على المهدي وهو إذ ذاك ولي عهد فاستنشده فأنشده فقال: والله ما هو بدون نصيب مولى بني مروان، فاشتراه، ولما ولي الخلافة أرسله إلى اليمن في شراء إبل مهرية، وكتب إلى عامل اليمن أن يعجّل له بعشرين ألف دينار لذلك، فأخذ نصيب ينفق من المال في الأكل والشرب واللهو وشراء الجواري، فكتب بذلك إلى المهدي، فأمر بحمله إليه موثقا بالحديد بعد أن حبس مدة باليمن، فلما أدخل على المهدي أنشده قصيدة طويلة يستعطفه بها أولها «3» :
__________
[1187] ترجمة نصيب مولى المهدي في الأغاني 22: 400 والوزراء والكتاب: 203 وطبقات ابن المعتز:
155 والسمط: 825 وأمالي المرتضى 1: 438 وفوات الوفيات 4: 201 والزركشي: 338 (وموضعه معجم الشعراء) .(6/2755)
تأوبني ثقل من القيد موجع ... فأرّق عيني والخليون هجّع
هموم توالت لو ألمّ يسيرها ... بعجزاء ظلّت صمة تتصدع
ومنها:
إليك أمير المؤمنين ولم أجد ... سواك مجيرا منك ينجي ويمنع
تلمست هل من شافع لي فلم أجد ... سوى رحمة أعطاكها الله تشفع
لئن لم تسعني يا ابن عمّ محمد ... فما عجزت عني وسائل أربع
طبعت عليها صبغة ثم لم تزل ... على صالح الأخلاق والدين تطبع
تغاضيك عن ذي الذنب ترجو صلاحه ... وأنت ترى ما كان يأتي ويصنع
وعفوك عمّن «1» لو تكون جزيته ... لطارت به في الجوّ نكباء زعزع
وأنك لا تنفكّ تنعش عاثرا ... ولم تعترضه حين يكبو ويخمع «2»
وحلمك عن ذي الجهل من بعد ما جرى ... به عنق من طائش الجهل أشنع
وقال يمدح الفضل بن يحيى «3» :
طرقتك مية والمزار شطيب ... ونأتك بالهجران وهي قريب
لله مية خلّة لو أنها ... تجزي الوداد بودّها وتثيب
ومنها:
إذ للشباب عليك من ورق الصّبا ... ظلّ واذ غصن الشباب رطيب
طرب الفؤاد ولات حين تطرّب ... إنّ الموكّل بالصبا لطروب
وتقول مية ما لمثلك والصّبا ... واللون أسود حالك غربيب
شاب الغراب وما أراك تشيب ... وطلابك البيض الحسان عجيب
ومنها في المديح:(6/2756)
والبرمكيّ وإن تقارب سنّه ... أو باعدته السنّ فهو نجيب
خرق العطاء إذا استهلّ عطاؤه ... لا متبع منّا ولا محسوب
يا آل برمك ما رأينا مثلكم ... ما منكم إلا أغرّ وهوب
وإذا بدا الفضل بن يحيى هبته ... لجلاله إن الجلال مهيب
ومنها:
شمنا لديك مخيلة لا خلّبا ... في الشيم إذ بعض البروق خلوب
إنّا على ثقة وظن صادق ... مما نؤمّله فليس نخيب
[1188] النضر بن أبي النضر أبو مالك التميمي:
أعرابي من أهل البادية لغوي شاعر، وفد على الرشيد ومدحه وخدمه، وانقطع إلى الفضل بن يحيى وتقدم عنده، وكان فصيحا جيد الشعر مليح النادرة، امتدح الخلفاء والأمراء وتقرب منهم. ومن شعره يرثي يزيد حوراء المدني المغني «1» :
لم يمتّع من الشباب يزيد ... صار في الترب وهو غضّ جديد
خانه دهره وقابله من ... هـ نحوس واستدبرته السعود
حين زفّت إليه دنياه تجلى ... وتدانى منها إليه البعيد
فكأن لم يكن يزيد ولم يش ... ج نديما يهزّه التغريد
__________
[1188] الأغاني 22: 265 وإشارة التعيين: 364.(6/2757)
[1189] النضر بن شميل بن خرشة بن يزيد بن كلثوم
التميمي المازني النحوي اللغوي الأديب: ولد بمرو ونشأ بالبصرة، وأخذ عن الخليل بن أحمد، وأقام بالبادية زمنا طويلا فأخذ عن فصحاء العرب كأبي خيرة الأعرابي وأبي الدقيش وغيرهما، وسمع من هشام بن عروة وحميد الطويل وإسماعيل بن أبي خالد وعبد الله بن عون وهشام بن غسان وغيرهم من صغار التابعين، وروى عنه يحيى بن معين وابن المديني، وهو ثقة حجة احتجوا به في الصحاح. ولما ضاقت عليه الأسباب في البصرة عزم على الخروج إلى خراسان، فشيعه من أهل البصرة نحو ثلاثة آلاف من المحدثين والفقهاء واللغويين والنحاة والأدباء، فجلس لوداعهم بالمربد وقال: يا أهل البصرة يعزّ عليّ والله فراقكم، ولو وجدت عندكم كلّ يوم كيلجة من الباقلاء ما فارقتكم «1» ، فلم يكن فيهم واحد يتكفّل له ذلك، فسار إلى مرو وأقام بها فأثرى وأفاد بها مالا عظيما، ذكر ذلك أبو عبيدة في «كتاب المثالب» .
وكان النضر من أهل السنة وهو أول من أظهرها بخراسان ومرو، وولي القضاء بمرو فأقام العدل وحمدت سيرته، وكان متقلّلا متقشفا.
قال الزبير بن بكار «2» ، حدثني النضر بن شميل قال: دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو وعليّ أطمار مترعبلة، فقال: يا نضر تدخل على أمير المؤمنين في مثل هذه الثياب؟! فقلت: ان حرّ مرو شديد لا يدفع إلا بمثل هذه الأخلاق، قال: بل أنت رجل متقشف، ثم تجارينا الحديث فأجرى ذكر النساء وقال: حدثني هشيم بن
__________
[1189] ترجمة النضر بن شميل في طبقات ابن سعد 7: 373 والمعارف: 542 والجرح والتعديل 8: 477 ومراتب النحويين: 66 وطبقات الزبيدي: 55 والفهرست: 57 وتاريخ أبي المحاسن: 89 وجمهرة الأنساب: 211 ونور القبس: 99 وانباه الرواة 3: 348 ونزهة الالباء: 57 وابن خلكان 5: 397 وعبر الذهبي 1: 342 وسير الذهبي 9: 328 وميزان الاعتدال 4: 258 وتذكرة الحفاظ: 314 والكاشف 3: 203 والبداية والنهاية 10: 255 وتهذيب التهذيب 10: 437 وطبقات الحفاظ: 131 والبلغة:
275 وبغية الوعاة 2: 316 والشذرات 2: 7.(6/2758)
بشير عن مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز- ففتح السين من سداد- فقلت: صدقوك يا أمير المؤمنين، وحدثني عوف بن أبي جميلة الأعرابي عن الحسن عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها كان فيه سداد من عوز- وكسرت السين- قال: وكان المأمون متكئا فاستوى جالسا وقال:
السّداد لحن عندك يا نضر؟ قلت: نعم هاهنا يا أمير المؤمنين، قال: أو تلحّنني؟
قلت: إنما لحن هشيم، وكان لحّانا، فتبع أمير المؤمنين لفظه، فقال: ما الفرق بينهما؟ قلت: السداد القصد في الدين والطريقة والأمر، والسداد البلغة، وكل ما سددت به شيئا فهو سداد، وقد قال العرجي «1» :
أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
قال: فأطرق المأمون مليا ثم قال: قبح الله ما لا أدب له، ثم قال: أنشدني يا نضر أخلب بيت للعرب، قلت: قول حمزة بن بيض:
تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يوما ولم أقم
أيّ الوجوه انتجعت قلت لها ... لأيّ وجه «2» إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا «3» سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت فيك مقتبلا ... هاك ادخلن ذاك واعطني «4» سلمي
فقال المأمون: لله درك كأنما شقّ لك عن قلبي، فأنشدني أنصف بيت للعرب، قلت: قول أبي عروة المدني «5» :
إني وإن كان ابن عمي غائبا «6» ... لمزاحم من خلفه وورائه(6/2759)
ومفيده نصري وإن كان امرءا ... متزعزعا في أرضه وسمائه
وأكون والي سرّه وأصونه ... حتى يجيء عليّ وقت أدائه
وإذا دعا باسمي ليركب مركبا ... صعبا قعدت له على سيسائه «1»
وإذا ارتدى ثوبا جميلا لم أقل ... يا ليت كان عليّ حسن ردائه «2»
فقال: أحسنت يا نضر، أنشدني اقنع بيت قالته العرب، قلت: قول ابن عبدل الأسدي:
إني امرؤ لم أزل وذاك من ال ... له قديما أعلّم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي ال ... دار وإن كنت نازحا طربا
لا اجتوي خلّة الصديق ولا ... أتبع نفسي شيئا إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من ال ... رّزق بنفسي وأجمل الطلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغّبته في صنيعة رغبا
والعبد لا يطلب العلاء ولا ... يعطيك شيئا إلا إذا رهبا
مثل الحمار السوء المخاتل «3» لا ... يحمل شيئا إلا إذا ضربا
قد يرزق الخافض المقيم ولا ... شدّ لعيس رحلا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية وال ... رحل ومن لا يزال مغتربا
فقال: أحسنت يا نضر، ثم أخذ القرطاس وأنا لا أدري ما يكتب، ثم قال:
كيف تقول إذا أمرت من يترّب الكتاب؟ قلت: أتربه، قال: فهو ماذا؟ قلت: فهو مترب، قال: فمن الطين؟ قلت: طنه، قال: فهو ماذا؟ قلت: فهو مطين، قال:
هذه أحسن من الأولى، ثم قال: يا غلام أتربه وطنه وابلغ معه إلى الفضل بن سهل،(6/2760)
قال: فلما قرأ الكتاب الفضل قال: يا نضر إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم فما كان السبب، فأخبرته الخبر، فقال: لحّنت أمير المؤمنين؟ قلت: كلّا إنما لحن هشيم بن بشير وكان لحانا فتبع أمير المؤمنين لفظه، فأمر لي الفضل بثلاثين ألف درهم، فأخذت ثمانين ألف درهم بحرف استفيد مني.
توفي النضر بن شميل في ذي الحجة سنة أربع ومائتين.
وله من التصانيف: كتاب الصفات في اللغة خمسة أجزاء. والمدخل الى كتاب العين. وكتاب غريب الحديث. وكتاب المعاني. وكتاب السلاح. وكتاب المصادر. وكتاب الأنواء. وكتاب خلق الفرس. وكتاب الجيم. وكتاب الشمس والقمر، وغير ذلك.
[1190] نهشل بن زيد، أبو خيرة الأعرابي البصري:
بدوي من بني عديّ دخل الحضرة وصنف كتاب الحشرات، ذكره في الفهرست.
__________
[1190] ترجمة نهشل في الفهرست: 51 وبغية الوعاة 2: 317.(6/2761)
حرف الهاء
[1191] هارون بن الحائك
النحوي الضرير من أعيان أصحاب ثعلب، وكان معدودا من طبقته: أصله يهودي من الحيرة، وكان الوزير عبيد الله بن سليمان أرسل إلى ثعلب ليختلف إلى ولده القاسم فأبى واعتذر بالشيخوخة والضعف، فقال له: أنفذ إليّ من ترتضيه من أصحابك، فأنفذ إليه هارون الضرير، فاستحضر الوزير عبيد الله أبا إسحاق الزجاج وجمع بينه وبين هارون، فسأله الزجاج كيف تقول ضربت زيدا ضربا، فقال: ضربت زيدا ضربا، فقال: كيف تكني عن زيد والضرب، فأفحم ولم يجب وحار في يده وانقطع انقطاعا قبيحا، فصرفه الوزير واختار الزجاج لتأديب ولده، فكان ذلك سبب منية هارون، وما كان هارون ممن يذهب عليه هذا فان جواب المسألة ضربته اياه، ذكر ذلك أبو بكر الزبيدي في الطبقات.
ولهارون من التصانيف: كتاب العلل في النحو. كتاب الغريب الهاشمي، وقيل الغريب الهاشمي لثعلب.
[1192] هارون بن زكريا الهجري أبو علي النحوي
صاحب «كتاب النوادر المفيدة» روى عنه ثابت بن حزم السرقسطي وغيره، ولا أعلم من أمره غير هذا.
__________
[1191] ترجمة هارون بن الحائك في طبقات الزبيدي: 151 والفهرست: 81 وانباه الرواة 3: 359 وبغية الوعاة 2: 319 ونكت الهميان: 302 (والوافي/ المخطوط) .
[1192] بغية الوعاة 2: 319 وقد طبع كتابه باسم «التعليقات والنوادر» ، بعناية د. حمود عبد الأمير الحمادي (بغداد: 1987) وقد عبث المحقق بهذا الكتاب النفيس كثيرا ودلّ على جهل شديد أصيل، وتعقبه شيخنا حمد الجاسر بمقالات تصحيحية كثيرة نشرها في مجلة العرب.(6/2762)
[1193] هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم البغدادي
أبو عبد الله:
كان أديبا شاعرا راوية نديما ظريفا، وهو أحد بني المنجم المشهورين بالأدب والفضل المنقطعين إلى الخلفاء لمنادمتهم والمقدمين عندهم؛ وكان هارون هذا من أكملهم أدبا وفضلا.
وصنف كتاب أخبار النساء. وكتاب أخبار الشعراء المولدين، أورد فيه ما اختاره من شعرهم، وسماه بالبارع قال في مقدمته: عملت كتابي هذا في أخبار الشعراء المولدين، ذكرت فيه ما اخترته من أشعارهم، وتحريت في ذلك الاختيار أقصى ما بلغته معرفتي وانتهى إليه علمي، والعلماء يقولون: يدلّ على العاقل اختياره، وقالوا: اختيار الرجل من وفور عقله. ثم ذكر أنه اختصره من كتاب مطوّل ألفه قبله.
ذكر في هذا الكتاب نيفا ومائة وستين شاعرا، وافتتحه بذكر بشار بن برد، وختمه بمحمد بن عبد الملك بن صالح.
توفي هارون بن علي سنة ثمان وثمانين ومائتين.
[1194] هارون بن موسى بن شريك
القارىء النحوي الدمشقي أبو عبد الله: يعرف بالأخفش، وهو آخر الأخافشة، ولد سنة إحدى ومائتين، وقرأ بقراءات كثيرة وروايات غريبة، وكان قيما بالقراءات السبع عارفا بالتفسير والنحو والمعاني والغريب والشعر، حسن الصوت والأداء، وعنه أخذت قراءة أهل الشام وبضبطه اشتهرت. قرأ على عبد الله بن ذكوان وغيره، وعليه أبو الحسن ابن الأخرم، وحدّث عن أبي مسهر الغساني، وعنه أبو بكر ابن فطيس وكان فاضلا أديبا صنف كتبا في القراءات والعربية مات سنة إحدى وتسعين ومائتين وقيل في السنة التي بعدها.
__________
[1193] ترجمة هارون ابن المنجم في الفهرست: 161 وابن خلكان 6: 78 وسير الذهبي 13: 404 ومعجم المرزباني: 464 ومرآة الجنان 2: 41 (وفيات 208 خطأ) وانظر حماسة ابن الشجري: 242- 243.
[1194] ترجمة الأخفش الدمشقي في انباه الرواة 3: 361 وسير الذهبي 13: 566 والبلغة: 277 وطبقات ابن الجزري 2: 347 والنجوم الزاهرة 3: 133 وطبقات الداودي 2: 347 والشذرات 2: 209.(6/2763)
[1195] هاشم بن أحمد بن عبد الواحد بن هاشم
بن محمد بن هاشم بن علي بن هاشم الحلبي الأسدي الخطيب: أصل آله من الرقة وانتقلوا إلى حلب، وكان حسن القراءة والعبادة والزهد.
صنف كتاب اللحن الخفي. وكتاب أفراد أبي عمرو بن العلاء، وغير ذلك.
وولي خطابة حلب، ولما خطب اعتنقه أبو عبد الله ابن القيسراني الشاعر وقال له:
شرح المنبر صدرا ... لتلقيك رحيبا
أترى ضمّ خطيبا ... منك أم ضمّخ طيبا
ولد سنة ست وستين وأربعمائة ومات في جمادى الآخرة سنة سبع وثلاثين وخمسمائة.
[1196] هبة الله بن حامد بن أحمد بن أيوب
بن علي بن أيوب أبو منصور: يعرف بعميد الرؤساء، أديب فاضل نحوي لغوي شاعر، شيخ وقته ومتصدر بلده، أخذ عنه أهل تلك البلاد الأدب، وأخذ هو عن أبي الحسن علي بن عبد الرحيم الرقي المعروف بابن العصار وغيره. وله نظم ونثر وكان يلقب بوجه الدويبة، وسمع المقامات من ابن النقور وروى عنه، مات سنة عشر وستمائة.
[1197] هبة الله القاضي السعيد بن القاضي
الرشيد جعفر بن سناء الملك محمد بن
__________
[1195] ترجمة هاشم الحلبي في انباه الرواة 3: 355 (ووفاته سنة 577) وبغية الوعاة 2: 321 (وسنة وفاته كما جاء في انباه الرواة) .
[1196] انباه الرواة 3: 357 وبغية الوعاة 2: 322 (عن ياقوت) .
[1197] ترجمة ابن سناء الملك في الخريدة (قسم مصر) 1: 64 وابن خلكان 6: 61 وتكملة المنذري رقم: 1209 وعبر الذهبي 5: 29 وسير الذهبي 21: 480 والبدر السافر، الورقة: 217 وقلائد(6/2764)
هبة الله بن محمد السعدي المصري المعروف بابن سناء الملك: أحد أدباء العصر وشعرائه المجيدين، ذاع صيته وسار ذكره، أخذ عن الحافظ أبي طاهر أحمد بن سلفة، واتصل بالقاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني فكانت له منزلة عنده، وكان في خدمته بدمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائة ثم عاد إلى القاهرة، وكان بينه وبين الفاضل ترسل، ومدحه بعدة قصائد.
وصنف كتاب روح الحيوان لخّص فيه كتاب الحيوان للجاحظ. وله ديوان موشحات سماه دار الطراز. وديوان شعر. وديوان رسائل.
مات يوم الأربعاء رابع شهر رمضان سنة ثمان وستمائة بالقاهرة.
ومن شعره قوله يمدح الملك المعظم توران شاه وأجاد ما شاء «1» :
تقنعت لكن بالحبيب المعمّم ... وفارقت لكن كلّ عيش مذمّم
وباتت يدي في طاعة الحبّ والهوى ... وشاحا لخصر أو سوارا لمعصم
وأثريت من دينار خدّ ملكته ... فأحسن وجه بعده مثل درهم
يزيد احمرارا كلما زدت صفرة ... كأنّ به ما كان بي زمن «2» الدم
توقد ذاك الخدّ واخضرّ نضرة ... فأبصرت منه جنة في جهنم
ومنها:
سعدت ببدر برجه «3» برج عقرب ... فكذّب عندي قول كلّ منجم
وأقسم ما وجه الصباح إذا بدا ... بأوضح منّي حجة عند لوّمي
ولا سيّما لما مررت بمنزل ... كفضلة صبر في فؤاد متيّم
وما بان لي إلا بعود أراكة ... تعلّق في أطرافه ضوء مبسم
__________
الجمان 9: 210 والنجوم الزاهرة 6: 204 والشذرات 5: 35. وديوانه الذي اعتمد عليه طبع بحيدر آباد الدكن 1958 (وهناك طبعة مصرية منه، القاهرة 1969) وكتابه دار الطراز طبع بعناية د. جودت الركابي (دمشق 1949) وأعيد طبعه بعد ذلك. وللدكتور عبد العزيز الأهواني دراسة عنه (القاهرة: 1962) .(6/2765)
ولا عجبا أن متّ فيه صبابة ... فما النفس إلا بعض مغرم مغرم «1»
بنفسي من قبلته ورشفته ... فقال الهوى فز بالحطيم وزمزم
فجردت قلبي من مخيط همومه ... وطاف به والقلب في زيّ محرم
ومنها:
ولم ير طرفي قطّ شملا مبددا ... فقابله إلا بدمع منظم
تبسّم ذاك الطرف عن ثغر دمعه ... وربّ قطوب كامن في التبسم
ولم يسل قلبي أو فمي عن غزالة ... وعن غزل الا بمدح المعظم
هذا والله السحر الحلال، والسهل الممتنع الذي لا ينال.
ومن شعره أيضا قوله يمدح القاضي الفاضل عبد الرحيم «2» :
عادني من هوى الأحبة عيد ... فلباسي فيه غرام جديد
ونحرت الجفون من بعد أن أش ... عرت قلبي بأن صبري بعيد
كلف عاد بعد شيبي وليدا ... وكذا البدر بعد شيب وليد
فغرامي بالبدر كالبدر لكن ... ينقص البدر والغرام يزيد
بأبي من أبى مرادي كمثل ال ... دهر عندي يريد ما لا أريد
صدّ عطفا وصاد طرفا فما ين ... فكّ هذا يصدّ أو ذا يصيد
كيف خلّدت في جهنم ذا الص ... دّ وديني في حبّه التوحيد
ومنها في المديح:
لي من راحتيه جنة مأوى ... وله بالثناء مني خلود
أنا عبد وخدمتي مدح مولى ... نجح القصد عنده والقصيد
هو قاض لا بل أمير إذا شئ ... ت لديه من المعالي جنود
وفقيه النوال يلقي على الخل ... ق عطاياه والغمام معيد(6/2766)
أوسعوا جوده ملاما وتفني ... دا فضاع الملام والتفنيد
ردّدوا عذلهم فردّ عليهم ... كلّ شيء مردّد مردود
ومن شعره الذي سارت به الركبان قصيدته الحماسية الغزلية وهي «1» :
سواي يخاف الدهر أو يرهب الردى ... وغيري يهوى أن يكون مخلدا
ولكنني لا أرهب الدهر إن سطا ... ولا أحذر الموت الزؤام إذا عدا
ولو مدّ نحوي حادث الدهر طرفه ... لحدثت نفسي أن أمدّ له يدا
توقّد عزم يترك الماء جمرة ... وحلية حلم تترك السيف مبردا
وفرط احتقار للأنام فانني ... أرى كلّ عار من حلى سؤددي سدى
وأظمأ إن أبدى لي الماء منّة ... ولو كان لي بحر المجرة موردا
ولو كان إدراك الهدى بتذلل ... رأيت الهدى أن لا أميل إلى الهدى
وقدما بغيري أصبح الدهر أشيبا ... وبي بل بفضلي أصبح الدهر أمردا
وإنك عبدي يا زمان وإنني ... على الكره مني أن أرى لك سيدا
وما أنا راض أنني واطىء الثرى ... ولي همة لا ترتضي الأفق مقعدا
ولو علمت زهر النجوم مكانتي ... لخرّت جميعا نحو وجهي سجّدا
ولي قلم في أنملي لو هززته ... فما ضرّني أن لا أهزّ المهندا
إذا جال فوق الطّرس وقع صريره ... فان صليل المشرفيّ له صدى
ومنها في التخلص إلى الغزل:
ومن كلّ شيء قد صحوت سوى هوى ... أقام عذولي بالملام وأقعدا
إذا وصل من أهواه لم يك مسعدي ... فليت عذولي كان بالصمت مسعدا
يحبّ حبيبي من يكون مفنّدا ... فيا ليتني كنت العذول المفنّدا
وقال لقد «آنست نارا» بخدّه ... فقلت وإني ما «2» «وجدت بها هدى»
والقصيدة طويلة، كل بيت منها فريدة في عقد، وشعره كثير واكثره جيد.(6/2767)
[1198] هبة الله بن الحسن أبو الحسن
المعروف بالحاجب، ذكره الكمال ابن الانباري في «طبقات النحويين» ، وكان من أفاضل أهل الأدب شاعرا مليح الشعر، فمن شعره «1» :
يا ليلة سلك الزما ... ن بطيبها بي كلّ مسلك
إذ أرتقي درج المس ... رة مدركا ما ليس يدرك
والبدر قد فضح الظلا ... م فستره عنه مهتّك
وكأنما زهر النجو ... م بلمعها شعل تحرّك
والغيم أحيانا يمو ... ج كأنّه ثوب ممسّك
وكأنّ نشر المسك ين ... فح في النسيم إذا تحرّك
والنور يبسم في الريا ... ض فان نظرت إليه سرّك
شارطت نفسي أن أقو ... م بحقها «والشرط أملك»
حتى تولّى الليل من ... هزما وجاء الصبح يضحك
واه الفتى لو أنه ... في ظلّ طيب العيش يترك
والمرء يحسب عمره ... فإذا أتاه الشيب فذلك
مات هبة الله الحاجب فجأة في آخر شهر رمضان سنة ثمان وعشرين وأربعمائة في بغداد في خلافة القائم بأمر الله بن القادر بالله.
[1199] هبة الله بن الحسين، أبو بكر ابن العلاف الشيرازي:
كان من أفراد الزمان
__________
[1198] ترجمة هبة الله الحاجب في انباه الرواة 3: 358 ونزهة الألباء: 239 وبغية الوعاة 2: 323.
[1199] ترجمة أبي بكر ابن العلاف في انباه الرواة 3: 358 (وفيه ابن الحسن) وبغية الوعاة 2: 323.(6/2768)
في عصره في أنواع العلوم نحويا إماما شاعرا فاضلا بارعا، ورد خراسان وما وراء النهر وسمع حماد بن مدرك وغيره، وسمع منه الحافظ أبو عبد الله ابن الحاكم وذكره في «تاريخ نيسابور» وأثنى عليه. مات بشيراز في رمضان سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وقد نيّف على التسعين ولم تبيضّ له شعرة، وقال في ذلك:
إلام وفيم يظلمني شبابي ... ويلبس لمتي حلك الغراب
وآمل شعرة بيضاء تبدو ... بدوّ البدر في خلل السحاب
وأدعى الشيخ ممتلئا شبابا ... كذي ظمأ يعلّل بالسراب
فيا مللي هنالك من مشيبي ... ويا خجلي هنالك من شبابي
[1200] هبة الله بن الحسين بن أحمد البغدادي
عرف بالبديع الاسطرلابي، كان أديبا فاضلا شاعرا بارعا حكيما عارفا بالطب والرياضي والهيئة والنجوم والرصد والزيج، متقنا عمل الآلات الفلكية سيّما الأسطرلاب فنسب إليه، وحصل له مال جزيل من عمله، ولم يخلفه في صناعته مثله، وقد أقام على صحة ما يعمله من الآلات الحجج الهندسية، وبرهن عليها بالقوانين الاقليديسية، وأتى فيها باختراعات أغفلها المتقدمون، فزاد في الكرة ذات الكرسيّ وكمل نقصها الذي مرت عليه الأعوام، وأكمل نقص الآلات الشاملة التي وضعها الخجندي وجعلها لعرض واحد، وأقام الدليل على أنه لا يمكن أن تكون لعروض متعددة، فلما وصلت إلى البديع تأملها واهتدى إلى طريق لعملها لعروض متعددة، واختبر ما زاد فيها بالقواعد الهندسية فصحّ عمله، وحمل ما صنع منها إلى الأكابر والأجلّاء من أهل هذا الفن فتلقوها بالقبول. وله في عمل الأسطرلاب والبركار والمساطر وغيرها من الآلات اليد الطولى،
__________
[1200] ترجمة البديع الاسطرلابي في أخبار الحكماء: 222 والخريدة (قسم العراق) 3/2: 137 وابن خلكان 6: 50 ومرآة الجنان 3: 261 ومرآة الزمان: 184 وابن أبي أصيبعة 1: 280 والنجوم الزاهرة 5: 275 وابن العبري: 363 وسير الذهبي 20: 52 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 245 والشذرات 4: 103.(6/2769)
وقد صار ما صنعه من ذلك من الذخائر التي يتغالى بها أهلها، وعانى عمل الطلاسم ورصد لها ما يوافقها من الأوقات السعيدة، وحملها إلى الملوك والأمراء والوزراء فجربوها فصحّت وحصل له منها ومن سائر صنائعه أموال جمة.
وصنف رسالة في الآلات الشاملة التي كملها. ورسالة في الكرة ذات الكرسي.
واختار ديوان ابن الحجاج وسماه «درة التاج من شعر ابن الحجاج» رتبه على مائة وأحد وأربعين بابا، جعل كلّ باب في فن من فنون شعره. وله ديوان شعر دوّنه وجمعه بنفسه.
مات ببغداد بعلة الفالج سنة أربع وثلاثين وخمسمائة.
ومن شعره الرائق الفائق قوله «1» :
وذو هيئة يزهو بخال مهندس ... أموت به في كل وقت وأبعث
محيط بأوصاف الملاحة وجهه ... كأنّ به إقليدسا يتحدث
فعارضه خطّ استواء وخاله ... به نقطة والخدّ شكل مثلث
وقال «2» :
أذاقني حمرة المنايا ... لما اكتسى خضرة العذار
وقد تبدّى السواد فيه ... وكارتي بعد في العيار «3»
وقال «4» :
قام إلى الشمس بآلاته ... لينظر السعد من النحس
فقلت أين الشمس قال الفتى ... في الثور قلت الثور في الشمس
وقال «5» :(6/2770)
يا صدور الزمان ليس بوفر ... ما رأيناه في نواحي العراق
إنما عمّ ظلمكم سائر الأر ... ض فشابت ذوائب الآفاق
الوفر: الثلج بلغة أهل العراق، قال ذلك في عام نزل فيه ببغداد ثلج كثير.
وقال «1» :
أهدي لمجلسك الشريف وإنما ... أهدي له ما حزت من نعمائه
كالبحر يمطره السحاب وما له ... فضل عليه لأنه من مائه
[1201] هبة الله بن سلامة بن نصر بن علي أبو القاسم
الضرير المقرىء المفسر النحوي البغدادي: كان من أحفظ الناس لتفسير القرآن والنحو والعربية، وكانت له حلقة في جامع المنصور ببغداد. سمع من أبي بكر ابن مالك القطيعي وغيره، وقرأ عليه أبو الحسن علي بن القاسم الطابثي.
وصنف: كتاب الناسخ والمنسوخ. والمسائل المنثورة في النحو والتفسير.
وأبو محمد رزق الله بن عبد الوهاب التميمي المحدث هو ابن بنت هذا.
مات هبة الله في رجب سنة عشر وأربعمائة.
[1202] هبة الله بن صاعد بن هبة الله بن إبراهيم
بن علي موفق الملك أمين الدولة أبو الحسن بن أبي العلاء المعروف بابن التلميذ البغدادي الطبيب الحكيم الأديب:
__________
[1201] ترجمته في طبقات ابن الجزري 2: 351 وبغية الوعاة 2: 323.
[1202] ترجمة ابن التلميذ في تاريخ الحكماء: 222 وابن أبي أصيبعة 1: 259 وابن خلكان 6: 69 (وينقل عن أنموذج الأعيان) وعبر الذهبي 4: 172 وسير الذهبي 20: 354 (والوافي/ خ) والبداية والنهاية 12: 250 والشذرات 4: 190 والخريدة (قسم العراق) 3/2: 123 وابن العبري: 363 وحكماء الإسلام: 144.(6/2771)
كان واحد عصره في صناعة الطب متفننا في علوم كثيرة، حكيما أديبا شاعرا مجيدا، وكان يكتب خطا منسوبا في نهاية الحسن، وكان عارفا بالفارسية واليونانية والسريانية متضلعا بالعربية، وله النظم والنثر الفائق، ونثره أجود من شعره، وكان ساعور البيمارستان العضدي، تولّاه إلى أن توفي، وكان حاذقا في المباشرة والمعالجة موفقا في صناعته، خدم الخلفاء من بني العباس وتقدم عندهم وعلت مكانته لديهم، وعمّر طويلا، نبيه الذكر جليل القدر معروف المكانة، وكان مقدّم النصارى في بغداد ورأسهم ورئيسهم وقسيسهم، وكان حسن العشرة كريم الأخلاق ذا مروءة وسخاء، حلو الشمائل كثير النادرة، وكان يميل إلى صناعة الموسيقى ويقرّب أهلها، وكانت دار القوارير.. بغداد من اقطاعه، فلما ولي يحيى بن هبيرة الوزارة حلّها وأخذها منه، فحضر ابن التلميذ يوما عند الخليفة المقتفي على عادته، فلما أراد الانصراف عجز عن القيام وكان قد ضعف من الكبر، فقال له المقتفي: كبرت يا حكيم، قال: نعم كبرت وتكسّرت قواريري، وهذا مثل يتماجن به أهل بغداد، فقال الخليفة رجل عمّر في خدمتنا وما تماجن قطّ بحضرتنا فلهذا التماجن سرّ ثم فكّر ساعة وسأل عن دار القوارير فقيل له: قد حلّها الوزير وأخذها منه، فأنكر عليه المقتفي أخذها إنكارا شديدا وردّها على ابن التلميذ وزاده إقطاعا آخر.
وكان ابن التلميذ هو وأوحد الزمان أبو البركات هبة الله المعروف بابن ملكا في خدمة المستضيء بأمر الله، وكان بينهما شنآن وعداوة، فأراد أوحد الزمان أن يوقع ابن التلميذ في تهلكة، فكتب رقعة يذكر فيها عن ابن التلميذ عظائم لا تصدر عن مثله، ووهب لبعض خدم القصر مالا ورغب إليه أن يلقي الرقعة في مجلس من مجالس الخليفة ففعل، فلما أخذ الخليفة الرقعة وقرأها همّ أن يوقع بأمين الدولة، فأشير عليه أن يتبصّر ويستقصي عن ذلك، فأخذ يقرّر من يتهمه من الخدم عن الرقعة فظهر الأمر، وعلم أن ذلك تدبير أوحد الزمان لإهلاك ابن التلميذ، فغضب وأباح أمين الدولة ابن التلميذ دم أوحد الزمان وماله وكتبه، فكان من كرم أخلاق أمين الدولة أنه لم يتعرض له بسوء وصفح عنه، غير أنه قال فيه «1» :(6/2772)
لنا صديق يهوديّ حماقته ... إذا تكلم تبدو فيه من فيه
يتيه والكلب أعلى منه منزلة ... كأنه بعد لم يخرج من التيه
وصنف ابن التلميذ حاشية على القانون لابن سينا. حاشية على المنهاج لابن جزلة. حاشية على كتاب المائة للمسيحي. شرح مسائل حنين بن إسحاق. شرح أحاديث نبوية تشتمل على مسائل طبية. مختصر الحاوي لأبي بكر الرازي. تتمة جوامع الاسكندرانيين لكتاب حيلة البرء. مختصر تفسير تقدمة المعرفة لا بقراط تفسير جالينوس. مختصر تفسير فصول أبقراط لجالينوس. مختصر كتاب الأشربة لمسكويه. مختار كتاب أبدال الأدوية لجالينوس. مختار كتاب المائة للمسيحي.
الكناش في الطب. المقالة الأمينية في الأدوية البيمارستانية. مقالة في الفصد.
الأقراباذين الكبير. الأقراباذين الصغير. ديوان رسائل مجلد ضخم. ديوان شعر مجلد صغير، وغير ذلك.
مات في اليوم الثامن والعشرين من ربيع الأول سنة ستين وخمسمائة وله أربع وتسعون سنة، وخلّف مالا عظيما ومتاعا حسنا كثيرا وكتبا كثيرة لا نظير لها.
ومن نثر أمين الدولة ما كتبه إلى ولده رضي الدولة أبي نصر من رسالة قال «1» :
الفت ذهنك عن هذه الترهات إلى تحصيل مفهوم تتميز به، وخذ نفسك من الطريقة بما كررت تنبيهك عليه وإرشادك إليه، واغتنم الإمكان واعرف قيمته، واشتغل بشكر الله تعالى عليه، وفز بحظّ نفيس من العلم تثق من نفسك بأنك عقلته وملكته لا قرأته ورويته، فإن بقية الحظوظ تتبع هذا الحظ وتلزم صاحبه، ومن طلبها بدونه فاما أن لا يجدها وإما أن لا يعتمد عليها إذا وجدها ولا يثق بدوامها. وأعوذ بالله أن ترضى لنفسك إلا بما يليق بمثلك أن يتسامى إليه بعلو همته وشدة أنفته وغيرته على نفسه.
ومما قد كررت عليك الوصاة به أن تحرص على أن لا تقول شيئا لا يكون مهذبا في لفظه ومعناه ويتعين عليك إيراده، وأن تصرف معظم حرصك إلى أن تسمع ما يفيدك لا ما يلهيك مما يلذ للاغمار وأهل الجهالة، رفعك الله عن طبقتهم، فإن الأمر كما قال أفلاطون: الفضائل مرّة الورد حلوة الصّدر، والرذائل حلوة الورد مرّة الصدر. وقد زاد(6/2773)
أرسطوطاليس في هذا المعنى فقال: إن الرذائل لا تكون حلوة الورود عند ذي فطرة سليمة، بل يؤذيه تصوّر قبحها إذ يفسد عليه ما يستلذّ من غيرها بها، وكذلك يكون صاحب الطبع السليم قادرا على معرفة ما يتوخّى وما يجتنب كالتامّ الصحة يكفي حسه تعريفه النافع والضارّ. فلا ترض لنفسك- حفظك الله- إلا بما تعلم أنه يناسب طبقة أمثالك، واغلب خطرات الهوى بعزائم الرجال الراشدين، واطمح بنفسك إلى المعالي بإطاعة عقلك فإنك تسرّ بنفسك وتراها في كل يوم مع الاعتماد على ذلك في رتبة علية ومرقاة من سموّ في السعادة، إن شاء الله تعالى.
ومن شعر أمين الدولة قوله «1» :
لو دان يحسن غصن البان مشيتها ... تأوّدا لحكاها غير محتشم
في صدرها كوكبا نور أقلّهما ... ركنان ما لمسا من كفّ مستلم
صانتهما في حرير من غلائلها ... فتلك في الحلّ والركنان في الحرم
وقال «2» :
أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبل ذا رآه
فقال لي لو عشقت هذا ... ما لامك الناس في هواه
قل لي إلى من عدلت عنه ... وليس أهل الهوى سواه
فظلّ من حيث ليس يدري ... يأمر بالعشق من نهاه
وقال «3» :
لا تعجبوا من حنين قلبي ... اليهم واعذروا غرامي
فالقوس مع كونها جمادا ... تئنّ من فرقة السهام
وقال «4» :
لولا حجاب أمام النفس يمنعها ... عن الحقيقة فيما كان في الأزل(6/2774)
لأدركت كلّ شيء عزّ مطلبه ... حتى الحقيقة في المعلول والعلل
وقال «1» :
العلم للرجل اللبيب زيادة ... ونقيصة للأحمق الطيّاش
مثل النهار يزيد أبصار الورى ... نورا ويعمي مقلة الخفّاش
[1203] هبة الله بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله
بن أبي الحسن بن عبد الله الأمين بن عبد الله بن الحسن بن جعفر بن الحسن بن علي بن أبي طالب، أبو السعادات المعروف بابن الشجري البغدادي، نسب إلى بيت الشجري من قبل أمه «2» : كان أوحد زمانه وفرد أوانه في علم العربية ومعرفة اللغة وأشعار العرب وأيامها وأحوالها متضلعا من الأدب كامل الفضل. قرأ على ابن فضال المجاشعي والخطيب أبي زكريا التبريزي وسعيد بن علي السلالي وأبي المعمر ابن طباطبا العلوي، وسمع الحديث من أبي الحسن المبارك بن عبد الجبار بن أحمد بن القاسم الصيرفي وأبي علي محمد بن سعيد الكاتب وغيرهما، وأقرأ النحو سبعين سنة، وأخذ عنه تاج الدين الكندي وخلق. وكان نقيب الطالبيين بالكرخ نيابة عن الطاهر، وكان ذا سمت حسن وقورا لا يكاد يتكلم في مجلسه بكلمة إلا وتتضمن أدب نفس أو أدب درس.
وصنّف الأمالي «3» ، وهو أكبر تصانيفه وأمتعها، أملاه في أربعة وثمانين
__________
[1203] نزهة الألباء: 283 والمنتظم 10: 130 وانباه الرواة 3: 356 وابن خلكان 6: 45 والبدر السافر: 219 وعبر الذهبي 4: 116 وسير الذهبي 20: 194 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 248 ومرآة الجنان 3: 275 والبداية والنهاية 12: 223 والنجوم الزاهرة 5: 281 وبغية الوعاة 2: 342 والشذرات 4: 132 واشارة التعيين: 370.(6/2775)
مجلسا. والانتصار على ابن الخشاب رد فيه عليه ما انتقده من الأمالي. وكتاب الحماسة ضاهى به حماسة أبي تمام «1» . وشرح التصريف الملوكي. وشرح اللمع لابن جني النحوي. وكتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه، وغير ذلك.
توفي يوم الخميس السادس والعشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
ومن شعره:
لا تمزحنّ فإن مزحت فلا يكن ... مزحا تضاف به إلى سوء الأدب
واحذر ممازحة تعود عداوة ... إنّ المزاح على مقدمة الغضب
وقال «2» :
هل الوجد خاف والدموع شهود ... وهل مكذب قول الوشاة جحود
وحتى متى تفني شؤونك بالبكا ... وقد حدّ حدا للبكاء لبيد «3»
وإني وإن لانت قناتي لضعفها ... لذو مرّة في النائبات شديد
وقال:
وتجنب الظلم الذي هلكت به ... أمم تودّ لو انها لم تظلم
إياك والدنيا الدنية إنها ... دار إذا سالمتها لم تسلم
[1204] هبة الله بن علي بن عرام، أبو محمد الربعي
الأسواني: كان أديبا فاضلا
__________
[1204] ترجمة عرام في الخريدة (قسم مصر) 2: 186 ومرآة الزمان: 226 والطالع السعيد: 701 (والوافي/ خ) والنجوم الزاهرة 5: 320.(6/2776)
وشاعرا مجيدا، وكان من خواصّ الوزير رضوان وجلسائه، ومدحه بعدة قصائد، وله ديوان شعر جمعه بنفسه ونقّحه وهذبه ورتبه على الحروف وهو في مجلد لطيف. مات سنة خمسين وخمسمائة.
ومن شعره «1» :
لا عزّ للمرء إلا في مواطنه ... والذلّ غاية ما يلقى من اغتربا
فاقنع بما كان من رزق تعيش به ... بحيث أنت وكن للبين مجتنبا
واعلم يقينا بأنّ الرزق يطلب من ... لم يطلب الرزق إيمانا كمن طلبا
وقال»
:
نميل مع الأميال وهي غرور ... ونصغي لدعواها «3» وذلك زور
وتخدعنا الدنيا القليل متاعها ... وللموت «4» فينا واعظ ونذير
ونزداد فيها كلّ يوم تنافسا ... وحرصا عليها والمتاع «5» حقير
ويطمع كلّ ان يؤخر يومه «6» ... وللموت منا أول وأخير
[1205] هشام بن إبراهيم الكرنباني الانصاري
أبو علي: جالس الأصمعي وأضرابه، وكان عالما باللغة وأيام العرب وأشعارها، روى عنه الفضل بن الحباب. وصنف كتاب الحشرات. وكتاب الوحوش. وكتاب النبات. وكتاب خلق الخيل.
__________
[1205] ترجمة الكرنباني في الفهرست: 77 وبغية الوعاة 2: 327 (عن ياقوت دون أن يصرح بذلك) .(6/2777)
وكان عبد الصمد بن المعذل الشاعر مولعا بهجوه وفيه يقول من أبيات:
ولم تر أبلغ من ناطق ... أتته البلاغة من كرنبا
[1206] هشام بن أحمد بن خالد بن سعيد
أبو الوليد الكناني المعروف بابن الوقشى الكاتب، من أهل طليطلة: كان من أعلم الناس بالعربية واللغة والشعر والخطابة والحديث والفقه والأحكام والكلام، وكان أديبا كاتبا شاعرا متوسعا في ضروب المعارف متحققا بالمنطق والهندسة، ولا يفضله عالم بالأنساب والأخبار والسير.
ولد سنة ثمان وأربعمائة. وأخذ عن أبي عمر الطلمنكي وأبي عمر ابن الحداد وغيرهما، وولي قضاء طلبيرة من أعمال طليطلة قاعدة الأمير المأمون يحيى بن الظافر بن ذي النون. وصنف كتاب نكت الكامل للمبرد وغيره. مات بدانية في جمادى الآخرة سنة تسع وثمانين وأربعمائة.
ومن شعره «1» :
قد أثبتت فيه الطبيعة أنها ... بدقيق أعمال المهندس ماهره
عنيت بعارضه فخطّت فوقه ... بالمسك خطا من محيط الدائره
وقال «2» :
برّح بي أنّ علوم الورى ... إثنان ما إن لهما من مزيد
حقيقة يعجز تحصيلها ... وباطل تحصيله لا يفيد
__________
[1206] ترجمة الوقشي في طبقات صاعد: 74 والصلة: 653 ومعجم البلدان (وقّش) والمطرب: 223 وسير الذهبي 19: 134 وبغية الوعاة 2: 327 ونفح الطيب (انظر فهرسه) .(6/2778)
[1207] هشام بن محمد بن السائب بن بشر بن عمر الكلبي
أبو المنذر، الأخباري النسابة العلامة: كان عالما بالنسب وأخبار العرب وأيامها ووقائعها ومثالبها، أخذ عن أبيه أبي النضر محمد المفسر وعن مجاهد ومحمد بن أبي السري البغدادي ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وأبي الأشعث أحمد بن المقدام وغيرهم، وحدّث عنه جماعة.
قال أحمد بن حنبل: كان صاحب سير ونسب ما ظننت أن أحدا يحدّث عنه.
قال البلاذري في تاريخه: حدث هشام بن الكلبي عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس في قوله تعالى وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً
(التحريم: 3) قال أسرّ إلى حفصة أن أبا بكر وليّ الأمر من بعده، وأن عمر وليّه من بعد أبي بكر، فأخبرت بذلك عائشة.
قال الدارقطني: هشام متروك، وقال غيره: ليس بثقة.
وذكر الخطيب «1» في تاريخ مدينة السلام أن هشاما كان يقول: حفظت ما لم يحفظه أحد، ونسيت ما لم ينسه أحد، كان لي عمّ يعاتبني على حفظ القرآن فدخلت بيتا وحلفت لا أخرج منه حتى أحفظ القرآن، فحفظته في ثلاثة أيام، ودخلت يوما أنظر في المرآة فقبضت على لحيتي لآخذ ما دون القبضة فأخذت ما فوق القبضة.
وقال إسحاق بن إبراهيم الموصلي «2» : رأيت ثلاثة كانوا إذا رأوا ثلاثة يذوبون:
علويه إذا رأى مخارقا، وأبا نواس إذا رأى أبا العتاهية، والزهري إذا رأى هشاما.
مات هشام سنة أربع ومائتين وقيل سنة ست.
وتصانيفه تزيد على مائة وخمسين مصنفا ذكر منها ابن النديم نقلا عن أبي
__________
[1207] ترجمة ابن الكلبي في طبقات خليفة: 167 وتاريخ خليفة: 423 والفهرست: 108 وتاريخ بغداد 14: 45 ونور القبس: 291 والأنساب 10: 454 ونزهة الألباء: 59 وابن خلكان 6: 82 وميزان الاعتدال 4: 304 وعبر الذهبي 1: 746 وسير الذهبي 10: 101 والمغني في الضعفاء 2: 711 ومرآة الجنان 2: 29 ولسان الميزان 6: 196.(6/2779)
الحسن ابن الكوفي ما يأتي: كتاب حلف عبد المطلب وخزاعة. كتاب حلف الفضول. كتاب حلف كلب وتميم. كتاب حلف أسلم وقريش. كتاب فضائل قيس عيلان. كتاب بيوتات ربيعة. كتاب أخبار العباس بن عبد المطلب. كتاب الموؤدات. كتاب خطبة علي رضي الله عنه. كتاب شرف قصي بن كلاب وولده في الجاهلية والإسلام. كتاب ألقاب قريش. كتاب ألقاب ربيعة. كتاب ألقاب قيس عيلان. كتاب ألقاب اليمن. كتاب ألقاب بني طابخة. كتاب المثالب. كتاب النواقل، فيه نواقل قريش وكنانة وأسد وتميم وقيس وإياد وربيعة. كتاب تسمية من نقل من عاد وثمود والعماليق وجرهم وبني إسرائيل من العرب. كتاب نواقل قضاعة. كتاب نواقل اليمن. كتاب دعاء معاوية زيادا. كتاب المناقلات. أخبار زياد بن أبيه. كتاب صنائع قريش. كتاب المشاجرات. كتاب المعاتبات. كتاب المشاغبات. كتاب ملوك الطوائف. كتاب ملوك كندة. كتاب ملوك اليمن من التبابعة. كتاب بيوتات اليمن. كتاب افتراق ولد نزار. كتاب تفرّق الأزد. كتاب طسم وجديس. كتاب حديث آدم وولده. كتاب من قال بيتا من الشعر فنسب إليه. كتاب المعرقات من النساء في قريش. كتاب عاد الأولى والآخرة. كتاب تفرّق عاد. كتاب أصحاب الكهف. كتاب الأوائل. كتاب رفع عيسى عليه السلام. كتاب أمثال حمير. كتاب المسوخ من بني إسرائيل. كتاب خبر «1» الضحاك. كتاب منطق الطير. كتاب غزية.
كتاب لغات القرآن. كتاب المعمرين. كتاب الأصنام «2» . كتاب القداح. كتاب أسنان الجزور. كتاب أديان العرب. كتاب حكّام العرب. كتاب وصايا العرب.
كتاب السيوف. كتاب الخيل «3» . كتاب الدفائن. كتاب أسماء فحول العرب. كتاب الفداء. كتاب الكهان. كتاب الجن. كتاب أخذ كسرى رهن العرب. كتاب ما كانت الجاهلية تفعله ويوافق حكم الإسلام. كتاب أبي عتاب إلى ربيع حين سأله عن العويص. كتاب عديّ بن زيد العبادي. كتاب الدوس. كتاب حديث بيهس وإخوته. كتاب مروان القرظ. كتاب اليمن وأمر سيف بن ذي يزن. كتاب مناكح(6/2780)
أزواج العرب. كتاب الوفود. كتاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. كتاب زيد بن حارثة. كتاب تسمية من قال بيتا أو قيل فيه. الديباج في أخبار الشعراء. كتاب من فخر بأخواله من قريش. كتاب من هاجر وأبوه. أخبار الجن «1» وأشعارهم. كتاب دخول جرير على الحجاج. أخبار عمرو بن معدي كرب. تاريخ أخبار الخلفاء. كتاب صفات الخلفاء. كتاب المصلين. كتاب البلدان الكبير. كتاب البلدان الصغير. كتاب تسمية من بالحجاز من أحياء العرب. كتاب قسمة الأرضين. كتاب الأنهار. كتاب الحيرة. كتاب منار اليمن. كتاب العجائب الأربعة. كتاب أسواق العرب. كتاب الأقاليم. كتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات. كتاب تسمية ما في شعر امرىء القيس من أسماء الرجال والنساء والجبال والمياه. كتاب داحس والغبراء. أخبار المنذر ملك العرب. كتاب أيام فزارة ووقائع بني شيبان. كتاب وقائع ضباب وفزارة.
كتاب يوم سنّيق. كتاب يوم السنابس. كتاب أيام بني حنيفة «2» . كتاب أيام قيس بن ثعلبة. أخبار مسيلمة الكذاب. كتاب الفتيان الأربعة. كتاب الأحاديث. كتاب المقطعات. كتاب حبيب العطار. عجائب البحر. المنزل وهو كتاب النسب الكبير.
كتاب أولاد الخلفاء. كتاب أمهات النبي صلى الله عليه وسلم. كتاب أمهات الخلفاء. كتاب العواقل. كتاب تسمية ولد عبد المطلب. كتاب كنى آباء الرسول صلى الله عليه وسلم. جمهرة الأنساب «3» ، رواها عنه ابن سعد كاتب الواقدي.
هذا ما ذكره ابن النديم من تصانيفه، ولهشام أيضا الفريد في الأنساب، صنفه للمأمون. والملوكي في الانساب أيضا صنفه لجعفر بن يحيى البرمكي. والموجز في النسب أيضا وغير ذلك.(6/2781)
[1208] هشام بن معاوية أبو عبد الله
الضرير الكوفي النحوي صاحب أبي الحسن الكسائي: كان مشهورا بصحبته وعنه أخذ النحو. وله من التصانيف مقالة في النحو تعزى إليه. وكتاب الحدود في العربية. وكتاب المختصر في النحو. وكتاب القياس فيه أيضا، وغير ذلك.
كان إسحاق بن إبراهيم بن مصعب قد كلّم المأمون يوما فلحن في كلامه، فنظر إليه المأمون ففطن لما أراد وخرج من عنده وجاء إلى هشام بن معاوية وقرأ النحو عليه.
مات هشام سنة تسع ومائتين.
[1209] هشام بن نهيس بن مسعود بن حارثة بن عمرو
بن ربيعة بن ملكان بن عدي العدوي أخو ذي الرمة الشاعر المشهور: كان هشام هذا شاعرا مجيدا، وكان بينه وبين أخيه ذي الرمة ملاحاة فقال له:
أغيلان إن ترجع قوى الودّ بيننا ... فكلّ الذي ولّى من العيش راجع
فكن مثل أقصى الناس عندي فانني ... بطول التنائي من أخي السوء قانع
وغيلان اسم ذي الرمة، فقال ذو الرمة له:
أغرّ هشاما من أخيه ابن أمه ... قوادم ضأن أقبلت وربيع
وهل تخلف الضأن الغزار أخا الندى ... إذا حلّ أمر في الصدور مريع
فأجابه هشام فقال:
إذا بان مالي من سوامك لم يكن ... إليك وربّ العالمين رجوع
__________
[1208] ترجمة صاحب الكسائي في طبقات الزبيدي: 134 ونور القبس: 302 والفهرست: 76 وتاريخ أبي المحاسن: 186 وابن خلكان 6: 85 ونزهة الألباء: 113 وانباه الرواة 3: 364 والوافي (خ) ونكت الهميان: 305 وبغية الوعاة 2: 328 والبلغة: 279 واشارة التعيين: 371.
[1209] انظر هذه الترجمة والشعر المتصل بها في الأغاني 17: 208- 209 فقد جاءت عرضا في ترجمة ذي الرمة. وهشام شاعر ومن حقه أن يذهب إلى معجم الشعراء.(6/2782)
فأنت الفتى ما اهتزّ في الزّهر الندى ... وأنت إذا اشتدّ الزمان منوع
وله:
ما يفعل المرء فهو أهله ... كل امرىء يشبهه فعله
ولا ترى أعجز من عاجز ... أسكتنا عن ذمّه بذله
[1210] هلال بن العلاء أبو عمرو الرقي:
كان من أهل العلم واللغة بالرقة مات سنة ثمانين ومائتين، ولا أعلم من أمره غير هذا.
[1211] هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال بن إبراهيم
بن زهرون بن حيون الصابىء الحراني أبو الحسن، وهو حفيد أبي إسحاق الصابىء الكاتب المشهور: كان هلال هذا أديبا كاتبا فاضلا له معرفة بالعربية واللغة، أخذ عن أبي علي الفارسي وأبي الحسن الرماني وأبي بكر أحمد بن محمد بن الجراح الخراز، وكان صابئا ثم أسلم في آخر عمره وحسن إسلامه. وكتب عنه الخطيب البغدادي وقال: كان ثقة صدوقا.
وصنف كتاب الأماثل والأعيان ومنتدى العواطف والاحسان، جمع فيه أخبارا وحكايات مستطرفة مما حكي عن الأعيان والأكابر، وهو كتاب ممتع.
ومما يستحسن من تلك الأخبار قال «1» حدث القاضي أبو الحسين عبيد الله بن عياش أن رجلا اتصلت عطلته وانقطعت مدته، فزوّر كتابا عن الوزير أبي الحسن ابن الفرات إلى أبي زنبور الماذرائي عامل مصر يتضمن الوصاية به والتأكيد في الاقبال عليه
__________
[1210] ترجمة هلال الرقي في بغية الوعاة 2: 329 (عن ياقوت) .
[1211] ترجمة هلال الصابىء في تاريخ بغداد 14: 76 والمنتظم 8: 176 وابن خلكان 6: 101.(6/2783)
والاحسان إليه، وخرج إلى مصر فلقيه به، فارتاب أبو زنبور في أمره لتغير الخطاب على ما جرت به العادة وكون الدعاء أكثر مما يقتضيه محله، فراعاه مراعاة قريبة ووصله بصلة قليلة واحتبسه عنده على وعد وعده به، وكتب إلى أبي الحسن ابن الفرات يذكر الكتاب الوارد عليه وأنفذه بعينه إليه واستثبته فيه، فوقف ابن الفرات على الكتاب المزوّر فوجد فيه ذكر الرجل وأنه من ذوي الحرمات والحقوق الواجبة عليه وما يقال في ذلك مما قد استوفى الخطاب فيه، فعرض ابن الفرات الكتاب على كتابه وعرّفهم الصورة فيه وعجب إليهم منها ومما أقدم عليه الرجل وقال لهم: ما الرأي في أمر هذا الرجل عندكم؟ فقال بعضهم: تأديبه أو حبسه، وقال آخر: قطع إبهامه لئلا يعاود مثل هذا ولئلا يقتدي به غيره فيما هو أكثر من هذا، وقال أحسنهم محضرا: يكشف لأبي زنبور قصته ويرسم له طرده وحرمانه، فقال ابن الفرات: ما أبعدكم عن الحرية والخيرية وأنفر طباعكم عنها، رجل توسّل بنا وتحمّل المشقة إلى مصر في تأميل الصلاح بجاهنا واستمداد صنع الله عز وجل بالانتساب إلينا ويكون أحسن أحواله عند أحسنكم محضرا تكذيب ظنّه وتخييب سعيه؟! والله لا كان هذا أبدا، ثم إنه أخذ القلم من دواته ووقّع على الكتاب المزوّر: هذا كتابي ولست أعلم لم أنكرت أمره واعترضتك شبهة فيه، وليس كلّ من خدمنا وأوجب حقا علينا تعرفه، وهذا رجل خدمني في أيام نكبتي، وما أعتقده في قضاء حقه أكثر مما كلّفتك في أمره من القيام به، فأحسن تفقّده ووفّر رفده، وصرّفه فيما يعود عليه نفعه ويصل إلينا بما يتحقق به ظنه ويتبين موقعه. وردّ الكتاب إلى أبي زنبور عامل مصر من يومه، فلما مضت على ذلك مدة طويلة دخل يوما على الوزير أبي الحسن ابن الفرات رجل ذو هيئة مقبولة، وبزّة جميلة، وأقبل يدعو له ويثني عليه ويبكي ويقبّل الأرض، فقال ابن الفرات: من أنت بارك الله فيك- وكانت هذه كلمته- فقال: أنا صاحب الكتاب المزوّر إلى أبي زنبور عامل مصر الذي صحّحه كرم الوزير وتفضّله فعل الله به وصنع، فضحك ابن الفرات وقال: كم وصل إليك منه؟ قال: وصل إليّ من ماله وتقسيط قسطه على عماله ومعامليه وعمل صرّفني فيه عشرون ألف دينار، فقال ابن الفرات: الحمد لله، الزمنا فانا نعرّضك لما يزداد به صلاح حالك، ثم اختبره فوجده كاتبا سديدا فاستخدمه وأكسبه مالا جزيلا؛ انتهى.(6/2784)
مات هلال بن المحسن ليلة الخميس سابع عشر رمضان سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وكان ولادته في شوال سنة تسع وخمسين وثلاثمائة.
[1212] همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية
بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم بن عوف بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مر التميمي، أبو فراس المعروف بالفرزدق الشاعر المشهور: كان جده صعصعة عظيم القدر في الجاهلية، وكان افتدى ثلاثمائة موءودة إلى أن جاء الله عز وجل بالإسلام، وكان أبوه غالب من سراة قومه ورئيسهم، وكان الفرزدق كثير التعظيم لقبر أبيه فما جاءه أحد واستجار به إلا نهض معه وساعده على بلوغ غرضه.
حدث أبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي قال «1» : سمعت يونس بن حبيب يقول: ما شهدت مشهدا قط ذكر فيه جرير والفرزدق وأجمع أهل المجلس على أحدهما، وكان يونس يقدم الفرزدق ويقول: ما كان بالبصرة مولّد مثله «2» .
ولما هرب الفرزدق «3» من زياد بن أبيه حين هجا بني نهشل، فاستعدوا زيادا عليه، قدم المدينة واستجار بسعيد بن العاص فأجاره، وكان الحطيئة وكعب بن جعيل
__________
[1217] ترجمة الفرزدق في الشعر والشعراء: 381 وطبقات ابن سلام: 299- 379 والأغاني 21: 298 (وراجع فهرسه) والموشح: 156 والسمط: 44 وابن خلكان 6: 86 والخزانة 1: 105 والشذرات 1: 141 والشريشي 1: 142 وشرح شواهد المغني: 4 وأمالي المرتضى 1: 43 ومرآة الجنان 1: 234 وعبر الذهبي 1: 236 وسير الذهبي 4: 590 ومعاهد التنصيص 1: 45 والنجوم الزاهرة 1: 268 وسرح العيون: 389، 464 والبداية والنهاية 9: 265 وأخباره منثورة في كتب الأدب والتاريخ ولصديقنا الدكتور شاكر الفحام دراسة مفيدة عنه، دمشق 1970؛ (وهذه الترجمة ليس موضعها معجم الأدباء) .(6/2785)
عند سعيد لما دخل الفرزدق عليه فأنشده الفرزدق:
ترى الغرّ الجحاجح من قريش ... إذا ما الأمر في الحدثان عالا
بني عمّ النبي ورهط عمرو ... وعثمان الألى غلبوا فعالا
قياما ينظرون إلى سعيد ... كأنهم يرون به هلالا
فقال الحطيئة: هذا والله الشعر أيها الأمير لا ما تعلّل به منذ اليوم، فقال كعب بن جعيل: فضّله على نفسك ولا تفضله على غيرك، فقال: بلى والله، أفضله على نفسي وعلى غيري، أدركت من قبلك وسبقت من بعدك. ثم قال له الحطيئة: يا غلام لئن بقيت لتبرزن علينا.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى «1» : كان الشعراء في الجاهلية من قيس وليس في الإسلام مثل حظ تميم في الشعر، وأشعر تميم جرير والفرزدق والاخطل، وكان المفضل الضبي يفضل الفرزدق، قيل له: الفرزدق أشعر أم جرير؟ قال الفرزدق:
فقيل له: ولم؟ قال: لأنه قال بيتا هجا فيه قبيلتين فقال:
عجبت لعجل إذ تهاجي عبيدها ... كما آل يربوع هجوا آل دارم
فقيل له قد قال جرير:
ان الفرزدق والبعيث وأمه ... وأبا البعيث لشرّ ما استار
فقال: وأيّ شيء أهون من أن يقول إنسان: فلان وفلان وفلان والناس كلهم بنو الفاعلة.
وحدث أبو حاتم السجستاني عن أبي عبيدة قال: سمعت يونس يقول: لولا شعر الفرزدق ذهب ثلث لغة العرب.
وقال آخر: الفرزدق مقدم على الشعراء الإسلاميين هو وجرير والأخطل، ومحلّه في الشعر أكبر من أن ينبّه عليه بقول أو يدلّ على مكانه بوصف، لأنّ الخاص والعام يعرفانه بالاسم ويعلمان تقدمه بالخبر الشائع علما يستغنى به عن الإطالة في الوصف.
وقد تكلم الناس في هذا قديما وحديثا وتعصبوا واحتجوا بما لا مزيد فيه. وبعد(6/2786)
إجماعهم على تقديم هؤلاء الثلاثة اختلفوا في أيهم أحقّ بالتقديم على الآخرين، فأما قدماء أهل العلم والرواة فلم يسوّوا بينهما وبين الأخطل لأنه لم يلحق شأوهما في الشعر ولا له مثل ما لهما من فنونه ولا تصرّف كتصرفهما في سائره، وقالوا: إن ربيعة أفرطت في الأخطل حين ألحقته بهما. وهم في الفرزدق وجرير قسمان: فمن كان يميل إلى جزالة الشعر وفخامته وشدّة أسره فيقدم الفرزدق، ومن كان يميل إلى الشعر المطبوع وإلى الكلام السمح السهل الغزل فيقدم جريرا.
وقال ابن سلام «1» : كان الفرزدق أكثرهم بيتا مقلدا (والمقلّد البيت المستغني بنفسه المشهور الذي يضرب به المثل) فمن ذلك قوله:
فيا عجبا حتى كليب تسبّني ... كأن أباها نهشل ومجاشع
وقوله:
ليس الكرام بمانحيك أباهم ... حتى تردّ إلى عطية تعتل
وقوله:
وكنا إذا الجبار صعّر خدّه ... ضربناه حتى تستقيم الأخادع
وقوله:
وكنت كذئب السوء لما رأى دما ... بصاحبه يوما أحال على الدم
وقوله:
وان تنج مني تنج من ذي عظيمة ... وإلا فاني لا إخالك ناجيا
وقوله:
ترى كلّ مظلوم إلينا فراره ... ويهرب منا جهده كلّ ظالم
وقوله:
أحلامنا تزن الجبال رزانة ... وتخالنا جنّا إذا ما نجهل
ومقلداته في شعره كثيرة وفيما اوردناه منها كفاية وبشهرته غنى عن إيراد طرف من شعره.(6/2787)
قال أبو اليقظان «1» : أسنّ الفرزدق حتى قارب المائة فأصابته الدبيلة وهو بالبادية، فقدم به إلى البصرة وأتي برجل متطبب من بني قيس فأشار بأن يكوى ويسقى النفط الأبيض، فقال: أتعجلون لي طعام أهل النار في الدنيا؟! وجعل يقول:
أروني من يقوم لكم مقامي ... إذا ما الأمر جلّ عن الخطاب
ومات في مرضه ذلك سنة عشر ومائة ومات جرير بعده بستة أشهر، ومات في هذه السنة الحسن البصري وابن سيرين، فقالت امرأة من أهل البصرة: كيف يفلح بلد مات فقيهاه وشاعراه في سنة؟
ولما نعي إلى جرير بكى ثم أنشأ يقول «2» :
فجعنا بحمّال الديات ابن غالب ... وحامي تميم كلّها والبراجم
بكيناك حدثان الفراق وإنما ... بكيناك شجوا للأمور العظائم
فلا حملت بعد ابن ليلى مهيرة ... ولا شدّ أنساع المطيّ الرواسم
ورثاه أبو ليلى المجاشعي بأبيات منها «3» :
لعمري لقد أشجى تميما وهدّها ... على نكبات الدهر موت الفرزدق
لقد غيّبوا في اللحد من كان ينتمي ... إلى كلّ بدر في السماء محلق
لتبك النساء المعولات ابن غالب ... لجان وعان في السلاسل موثق
[1213] الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن
بن زيد بن سيد بن جابر بن عدي أبو
__________
[1213] ترجمة الهيثم بن عدي في تاريخ خليفة: 472 والبيان والتبيين 1: 347، 361 والمعارف: 538 والفهرست: 112 وتاريخ بغداد 14: 50 ونور القبس: 293 وانباه الرواة 3: 365 وابن خلكان 6: 106 وميزان الاعتدال 4: 324 وعبر الذهبي 1: 353 وسير الذهبي 10: 103 ومرآة(6/2788)
عبد الرحمن الطائي الكوفي، أصله من منبج، وأمه من سبي منبج: ولد بالكوفة قبل سنة ثلاثين ومائة، وكان اخباريا علامة رواية، نقل من أخبار العرب وأشعارها ولغاتها شيئا كثيرا، وروى عن هشام بن عروة وعبد الله بن عياش المنتوف ومجالد.
قال البخاري ويحيى بن معين: ليس بثقة كان يكذب، وقال أبو داود مثل ذلك، وقال النسائي: متروك، وقال الحافظ ابن عدي: حديثه في المسند قليل، إنما هو صاحب أخبار.
وكانت جارية الهيثم بن عدي تقول «1» : كان مولاي يقوم عامة الليل يصلّي فإذا أصبح جلس يكذب.
وقال الجاحظ قال أبو يعقوب الخريمي «2» : ما رأيت كثلاثة رجال كانوا يأكلون الناس أكلا حتى إذا رأوا ثلاثة رجال ذابوا كما يذوب الرصاص على النار، كان هشام بن الكلبي علامة نسابة راوية للمثالب عيّابة فإذا رأى الهيثم بن عديّ ذاب كما يذوب الرصاص، وكان علي بن الهيثم حرّيفا مفقعا صاحب تقعّر، يستولي على كل كلام لا يحفل بخطيب ولا شاعر، فإذا رأى موسى الضبيّ ذاب كما يذوب الرصاص، وكان علويه واحد الناس في الغناء رواية وحكاية ودراية وصنعة وجودة ضرب وإطراب وحسن حلق، فإذا رأى مخارقا ذاب كما يذوب الرصاص على النار.
وكان «3» الهيثم بن عدي قد تزوج في بني الحارث بن كعب فلم يرتضوه فأذاعوا عنه انه ذكر العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه بشيء فحبس لذلك، ثم ركب محمد بن زياد بن عبد الله بن عبد المدان الحارثي ومعه جماعة من الحارثيين إلى هارون الرشيد فسألوه أن يفرّق بين الهيثم وبين التي تزوجها من بني الحارث، فقال الرشيد: أليس هو الذي يقول فيه الشاعر:
__________
الجنان 2: 32 ولسان الميزان 6: 209 والنجوم الزاهرة 2: 184 وطبقات الداودي 2: 354 وانظر مروج الذهب 3: 219.(6/2789)
إذا نسبت عديا في بني ثعل ... فقدّم الدال قبل العين في النسب
قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، قال: فهذا الشعر من قاله؟ قالوا: هو لرجل من أهل الكوفة من بني شيبان يقال له ذهل بن ثعلبة، فأمر الرشيد داود بن يزيد أن يفرّق بينهما، فأخذوا الهيثم وأدخلوه دارا وضربوه بالعصي حتى طلقها.
وقد ورد هذا البيت المنسوب إلى ذهل بن ثعلبة في أبيات لأبي نواس يهجو بها الهيثم، فما أدري أفي نسبته إلى ذهل وهم أم هو له، وورد في شعر أبي نواس على سبيل التضمين والاستشهاد.
وكان سبب «1» هجو أبي نواس للهيثم أنّ أبا نواس حضر مجلس الهيثم في حداثته والهيثم لا يعرفه، فلم يستدنه ولا قرّبه، فقام مغضبا، فسأل الهيثم عنه فعرّفوه به، فقال: إنا لله، هذه والله بلية لم أجنها على نفسي، قوموا بنا إليه لنعتذر، فساروا إليه ودق الهيثم عليه الباب وتسمّى له، فقال: ادخل فدخل فإذا هو قاعد يصفّي نبيذا له، وقد أصلح بيته بما يصلح به مثله، فقال الهيثم: المعذرة إلى الله تعالى ثم إليك فما عرفتك، وما الذنب إلا لك حيث لم تعرّفنا نفسك فنقضي حقك ونبلغ الواجب من برك، فأظهر له قبول المعذرة، فقال الهيثم: أستعهدك من قول سبق منك فيّ، فقال: ما قد مضى فلا حيلة فيه، ولك الأمان مما استأنف، فقال:
ما الذي مضى جعلت فداك؟ قال بيت مرّ وأنا فيما رأيت من الغضب، قال فأنشدنيه، فدافعه فألحّ عليه فأنشده:
يا هيثم بن عدي لست للعرب ... ولست من طيّء الا على شغب
إذا نسبت عديا في بني ثعل ... فقدّم الدال قبل العين في النسب
فقام الهيثم من عنده ثم بلغه بعد ذلك بقية الأبيات وهي:
لهيثم بن عدي في تلوّنه ... في كل يوم له رحل على خشب
فيما يزال أخا حلّ ومرتحل ... إلى الموالي وأحيانا إلى العرب
له لسان يزجّيه بجوهره ... كأنه لم يزل يغدو على قتب(6/2790)
كأنني بك فوق الجسر منتصبا ... على جواد قريب منك في الحسب
حتى نراك وقد درّعته قمصا ... من الصديد مكان الليف والكرب
لله أنت فما قربى تهمّ بها ... الا اجتلبت لها الأنساب من كثب
فعاد الهيثم إليه وقال: يا سبحان الله قد أمّنتني وجعلت لي عهدا ان لا تهجوني فقال: وإنهم يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ
(الشعراء: 226) وكان الهيثم مكروها لأنه كان يتعرض لأحوال الناس وأخبارهم فيرويها على وجهها ويشيع ما كتموا، فكرهوه ووشوا به إلى الولاة وأغروا الشعراء بهجوه.
حدث علي بن جبلة الشاعر المشهور المعروف بالعكوك قال «1» : جاءني أبو يعقوب الخريمي فقال: إن لي إليك حاجة، قلت: وما هي؟ قال: تهجو لي الهيثم بن عدي، فقلت: وما لك أنت لا تهجوه وأنت شاعر؟ فقال: قد فعلت فما جاءني شيء كما أريد، فقلت له: كيف أهجو رجلا لم يتقدم إليّ منه إساءة ولا له إليّ جرم يحفظني؟ فقال: تقرضني فاني مليّ بالوفاء والقضاء، قلت: نعم فأمهلني اليوم، فمضى وغدوت عليه فأنشدته:
للهيثم بن عديّ نسبة جمعت ... آباءه فأراحتنا من العدد
اعدد عديا فلو مدّ البقاء له ... ما عمّر الناس لم ينقص ولم يزد
نفسي فداء بني عبد المدان وقد ... تلّوه للوجه واستعلوه بالعمد
حتى أزالوه كرها عن كريمتهم ... وعرّفوه بذلّ أين أصل عدي
يا ابن الخبيثة من أهجو فأفضحه ... إذا هجوت وما تنمى إلى أحد
قوله: نفسي فداء بني عبد المدان والبيت الذي بعده: إشارة إلى الخبر الذي تقدم من قدوم محمد بن زياد بن عبد المدان على الرشيد واستظهاره به على تطليق فتاتهم الحارثية من الهيثم، وقد تقدمت القصة.
مات الهيثم بفم الصلح سنة تسع ومائتين وقيل سنة سبع وله ثلاث وتسعون سنة.
وله من المصنفات: كتاب هبوط آدم وافتراق العرب. كتاب نزول العرب(6/2791)
بخراسان والسواد. كتاب بيوتات العرب. كتاب بيوتات قريش. كتاب المثالب الكبير. كتاب المعمرين. كتاب نسب طيء. أخبار طيء ونزولها الجبلين وحلف ذهل وثعل. كتاب حلف كلب وتميم وذهل وطيء وأسد. كتاب المثالب الصغير.
كتاب مثالب ربيعة. كتاب النواقل. كتاب من تزوج من الموالي في العرب. أسماء بغايا قريش في الجاهلية وأسماء من ولدن. كتاب الدولة. تاريخ العجم وبني أمية.
تاريخ الأشراف الكبير. تاريخ الأشراف الصغير. كتاب مديح أهل الشام. كتاب مداعي أهل الشام. أخبار زياد بن أبيه. كتاب الجامع. كتاب الوفود. كتاب النشاب. كتاب ولاة الكوفة. كتاب خطط الكوفة. كتاب النكد. كتاب النساء.
كتاب فخر أهل الكوفة على أهل البصرة. كتاب قضاة الكوفة والبصرة. طبقات من روى عن النبي صلى الله عليه وسلّم من الصحابة. طبقات الفقهاء والمحدثين. كتاب تسمية الفقهاء والمحدثين. كتاب شرط الخلفاء. كتاب خواتيم الخلفاء. كتاب عمال الشرط لأمراء العراق. أخبار الحسن عليه السلام. التاريخ مرتب على السنين. كتاب خطب المضرس بمكة والمدينة. كتاب مقتل خالد بن عبد الله القسري والوليد بن يزيد.
كتاب الصوائف. كتاب الخوارج. كتاب المواسم. كتاب النوادر. مقطعات الأعراب. أخبار الفرس. المحبر. منتحل الجواهر. كتاب كنى الأشراف.(6/2792)
حرف الواو
[1214] واصل بن عطاء أبو حذيفة الغزّال مولى بني ضبة:
كان متكلما بليغا أديبا متفننا خطيبا، ولقب بالغزال لكثرة جلوسه في سوق الغزّالين إلى أبي عبد الله مولى قطن الهلالي. وكان بشار بن برد قبل أن يدين بالرجعة ويكفّر جميع الأمة كثير المديح لواصل بن عطاء وفضّله في الخطابة على خالد بن صفوان وشبيب بن شبة والفضل بن عيسى يوم خطبوا عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق، فقال في ذلك «1» :
أبا حذيفة قد أوتيت معجزة ... من خطبة بدهت من غير تقدير
وإن قولا يروق الخالدين معا ... لمسكت مخرس عن كلّ تحبير
وقال في ذلك أيضا «2» :
تكلّفوا القول والأقوام قد حفلوا ... وحبّروا خطبا ناهيك من خطب
فقام مرتجلا تغلي بداهته ... كمرجل القين لما حفّ باللهب
__________
[1214] ترجمة واصل في الفهرست: 202 وأمالي المرتضى 1: 163 وابن خلكان 6: 7 وميزان الاعتدال 4: 329 وسير الذهبي 5: 464 ومرآة الجنان 1: 274 ولسان الميزان 6: 214 والفرق بين الفرق: 117 والنجوم الزاهرة 1: 313 والشذرات 1: 182 وفي البيان والتبيين معلومات عنه، وخطبته التي جانب فيها الراء وردت في نوادر المخطوطات: 134 وانظر فرق وطبقات المعتزلة (تحقيق النشار وعصام الدين علي) : 41- 48 وخطط المقريزي 2: 345 ومروج الذهب 5: 22 ومقاتل الطالبيين: 293 ورغبة الآمل 7: 78، 114، 116.(6/2793)
وجانب الراء لم يشعر به أحد ... قبل التصفح والإغراق في الطلب
قوله: وجانب الراء إشارة إلى لثغة واصل، وكان واصل الثغ قبيح اللثغة في الراء، فكان يخلص كلامه من الراء ولا يفطن لذلك السامع لاقتداره على الكلام وسهولة ألفاظه، وفي ذلك يقول أبو الطروق الضبي «1» :
عليم بابدال الحروف وقامع ... لكلّ خطيب يغلب الحقّ باطله
ولما قال بشار بالرجعة»
وتتابع على واصل ما يشهد بالحاده قال واصل: أما لهذا الأعمى الملحد، أما لهذا المشنّف المكنّى بأبي معاذ من يقتله؟! أما والله لولا أن الغيلة سجية من سجايا الغالية لدسست إليه من يبعج بطنه في جوف منزله أو في حفله ثم لا يتولّى ذلك إلا عقيلي أو سدوسي، فقال: أبو معاذ، ولم يقل بشار، وقال المشنف ولم يقل المرعث، وكان بشار ينبز بالمرعث، وقال من سجايا الغالية ولم يقل الرافضة، وقال في منزله ولم يقل في داره، وقال يبعج ولم يقل يبقر، كلّ ذلك تخلصا من الراء. ولما بلغ بشارا إنكار واصل عليه وأنه يهتف به قال يهجوه «3» :
ما لي أشايع غزّالا له عنق ... كنقنق الدوّ إن ولّى وإن مثلا
عنق الزرافة ما بالي وبالكم ... أتكفرون رجالا أكفروا رجلا
وكان واصل في أول أمره يجلس إلى الحسن البصري، فلما ظهر الاختلاف وقالت الخوارج بتكفير مرتكب الكبائر وقال الجماعة بايمانهم خرج واصل عن الفريقين وقال بمنزلة بين المنزلتين، فطرده الحسن عن مجلسه، فاعتزل عنه، وتبعه عمرو بن عبيد، ومن ثمّ سمّوا وجماعتهم المعتزلة.
ومما قيل في لثغه بالراء قول بعضهم «4» :
ويجعل البرّ قمحا في تصرّفه ... وخالف الراء حتى احتال للشّعر
ولم يطق مطرا في القول يجعله ... فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر(6/2794)
وقال قطرب «1» : سألت عثمان البري: كيف كان يصنع واصل بالعدد بعشرة وعشرين وأربعين، وبالقمر وبالبدر ويوم الأربعاء والمحرم وصفر وربيع الأول والآخر وجمادى الآخرة فقال: ما لي فيه إلا قول صفوان بن إدريس:
ملقّن ملهم فيما يحاوله ... جمّ خواطره جوّاب آفاق
ولواصل بن عطاء خطب وحكم من الكلام ومناظرات ورسائل وأخبار يطول ذكرها، وله شعر أجاد فيه ومنه:
تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتهم ... ولا تلقهم بالعقل إن كنت ذا عقل
فإن الفتى ذا العقل يشقى بعقله ... كما كان قبل اليوم يشقى ذوو الجهل
وله من التصانيف: معاني القرآن. وكتاب التوبة. وكتاب الخطب في التوحيد. وكتاب المنزلة بين المنزلتين. وكتاب السبيل الى معرفة الحق. وكتاب ما جرى بينه وبين عمرو بن عبيد. وكتاب أصناف المرجئة. وكتاب خطبه التي أخرج منها الراء. وطبقات أهل العلم والجهل. وغير ذلك.
ولد واصل بالمدينة سنة ثمانين وتوفي سنة إحدى وثلاثين ومائة.
[1215] وثيمة بن موسى بن الفرات
أبو يزيد الفارسي الفسوي الوشاء المحدث الأديب الاخباري: كان يتّجر في الوشي، وهو نوع من الثياب المنسوجة من الابريسم. حدث عن سلمة بن فضل عن ابن سمعان عن الزهري بأحاديث موضوعة،
__________
[1215] ترجمة وثيمة في جذوة المقتبس: 340 (بغية الملتمس رقم: 1415) وابن الفرضي 2: 165 وابن خلكان 6: 12 وفوات الوفيات 2: 625 (الطبعة المصرية، وسقط من الطبعة التي صدرت بتحقيقي) ومرآة الجنان 2: 118 والشذرات 2: 89 وكتابه في الردة مصدر مهم لدى ابن حجر في الاصابة.
ولفظة «وثيمة» تعني الجماعة من الحشيش والطعام وتعني الصخرة.(6/2795)
وله عن مالك حديث منكر، وسمع منه أحمد بن إبراهيم بن ملحان، وحدث عنه ابنه أبو رفاعة عمارة بن وثيمة. وسافر وثيمة في أول أمره من بلده إلى البصرة ثم إلى مصر ومنها إلى الأندلس، ثم عاد إلى مصر وبها مات يوم الاثنين لعشر خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين ومائتين.
وصنف كتاب أخبار الردة، ذكر فيه القبائل التي ارتدت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم، وسرايا أبي بكر التي سيّرها لقتالهم وما جرى بينهم، ومن رجع منهم إلى الإسلام، وأخبار خالد بن الوليد مع مالك بن نويرة وقتله له، ومراثي متمم بن نويرة في أخيه، وغير ذلك.
[1216] الوليد بن عبيد الله بن يحيى
بن عبيد بن شملال بن جابر بن مسلمة بن مسهر بن الحارث بن جشم بن أبي حارثة بن جدي بن بدول بن بحتر، أبو عبادة وأبو الحسن، والأول أشهر، البحتري الطائي الشاعر المشهور: كان فاضلا أديبا فصيحا بليغا شاعرا مجيدا، وكان بعض أهل عصره يقدمونه على أبي تمام بادىء الرأي ويختمون به الشعراء، وروى عنه شعره أبو العباس المبرد وابن المرزبان محمد بن خلف وأبو بكر الصولي والمحاملي أبو عبد الله.
ولد بمنبج من أعمال حلب وبها نشأ وتنبل وقال الشعر، ثم صار إلى أبي تمام وهو بحمص فعرض عليه شعره، وكان يجلس للشعراء فيعرضون عليه أشعارهم، فلما سمع أبو تمام شعره أقبل عليه وقال له: أنت أشعر من أنشدني.
وللبحتري تصرف حسن في ضروب الشعر سوى الهجاء فإنه لم يحسنه، وأجود شعره ما كان في الأوصاف. وكان يتشبه بأبي تمام في شعره ويحذو حذوه وينحو نحوه في البديع الذي كان أبو تمام يستعمله ويراه إماما ويقدمه على نفسه ويقول في الفرق
__________
[1216] ترجمة البحتري في الأغاني 21: 39 والفهرست: 190 وتاريخ بغداد 13: 476 والمنتظم 6: 11 ومعجم البلدان (منبج) وابن خلكان 6: 21 وعبر الذهبي 2: 73 وسير الذهبي 13: 486 والبداية والنهاية 11: 76 والنجوم الزاهرة 3: 99 والشذرات 2: 186 وأخبار البحتري للصولي (دمشق 1958) والموازنة للآمدي، ويونس السامرائي: البحتري في سامراء (1- 2) بغداد: 1971 وخليفة الوقيان: شعر البحتري، بيروت: 1985.(6/2796)
بينهما قول منصف: إن جيد أبي تمام خير من جيدي ورديئي خير من رديئه.
وقال له الحسين بن إسحاق يوما: إن الناس يزعمون أنك أشعر من أبي تمام، فقال: والله ما ينفعني هذا القول ولا يضرّ أبا تمام، والله ما أكلت الخبز إلا به، ولوددت أن الأمر كما قالوا، ولكنّي والله تابع له لائذ به، نسيمي يركد عند هوائه، وأرضي تنخفض عند سمائه.
وحدث محمد بن علي الأنباري قال: سمعت البحتري يقول: أنشدني أبو تمام يوما لنفسه «1» :
وسابح هطل التعداء «2» هتان ... على الجراء أمين غير خوّان
فلو تراه مشيحا والحصى زيم «3» ... بين السنابك من مثنى ووحدان
أيقنت إن تتثبّت «4» أن حافره ... من صخر تدمر أو من وجه عثمان «5»
ثم قال لي: ما هذا الشعر؟ قلت: لا أدري، قال: هذا هو الاستطراد، قلت: وما معنى ذلك؟ قال: يريك أنه يريد وصف الفرس، وهو يريد هجاء عثمان.
قال المؤلف الفقير: وهذا هو الذي ذكره علماء البديع في تعريف الاستطراد.
وقد نحا البحتري نحو أبي تمام فوصف فرسا واستطرد إلى هجو حمدويه الأحول فقال «6» :
ما إن يعاف قذى ولو أوردته ... يوما خلائق حمدويه الأحول
وهو من قصيدة امتدح بها محمد بن علي القمي، وكان حمدويه عدوّا له فهجاه في عرض مدحه لمحمد القمي.(6/2797)
وكانت ولادة البحتري سنة ست ومائتين وتوفي بمنبج بمرض السكتة سنة أربع وثمانين ومائتين.
وله كتاب الحماسة على مثال حماسة أبي تمام. وكتاب معاني الشعر. وديوان في مجلدين جمعه أبو بكر الصولي ورتبه على الحروف، وجمعه أيضا علي بن حمزة الأصفهاني الأخباري ورتبه على الأنواع كما صنع بشعر أبي تمام.
ومن غرر شعره في المديح قصيدته الرائية التي مدح بها المتوكل على الله يهنئه بعيد الفطر ويذكر خروجه فيه للصلاة قال «1» :
الله مكّن للخليفة جعفر ... ملكا يجمّله الخليفة جعفر
نعمى من الله اصطفاه بفضلها ... والله يرزق من يشاء ويقدر
ومنها:
بالبرّ صمت وأنت أفضل صائم ... وبسنّة الله الرضية تفطر
فانعم بيوم الفطر عينا إنه ... يوم أغرّ من الزمان مشهّر
أظهرت عزّ الملك فيه بجحفل ... لجب يحاط الدين فيه وينصر
خلنا الجبال تسير فيه وقد غدت ... عددا يسير به العديد الأكثر
والخيل تصهل والفوارس تدّعي ... والبيض تلمع والأسنّة تزهر
ومنها:
حتى طلعت بضوء وجهك فانجلى ... ذاك الدجى وانجاب ذاك العثير
وافتنّ فيك الناظرون فاصبع ... يومى إليك بها وعين تنظر
يجدون رؤيتك التي فازوا بها ... من أنعم الله التي لا تكفر
ذكروا بطلعتك النبيّ فهللوا ... لما طلعت من الصفوف وكبروا
حتى انتهيت إلى المصلّى لابسا ... نور الهدى يبدو عليك ويظهر
ومشيت مشية خاشع متواضع ... لله لا يزهو ولا يتكبر(6/2798)
فلو ان مشتاقا تكلّف فوق ما ... في وسعه لسعى إليك المنبر
وله من قصيدة يمدح بها علي بن مر «1» :
لم يبق من جلّ هذا الناس باقية ... ينالها الفهم إلا هذه الصور
جهل وبخل وحسب المرء واحدة ... من تين حتى يعفّى خلفه الأثر
إذا محاسني اللاتي أدلّ بها ... كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
أهزّ بالشعر أقواما ذوي وسن ... في الجهل لو ضربوا بالسيف ما شعروا
عليّ نحت القوافي من مقاطعها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر
ومنها في المديح:
لولا علي بن مر لاستمرّ بنا ... خلف من العيش فيه الصاب والصّبر
عذنا بأروع أقصى نيله كثب ... على العفاة وأدنى سعيه سفر
ألحّ جودا ولم تضرر سحائبه ... وربما ضرّ في إلحاحه المطر
مواهب ما تجشمنا السؤال لها ... إنّ الغمام قليب ليس يحتفر
ومن غرر شعره في الأوصاف قوله يصف إيوان كسرى «2» :
حضرت رحلي الهموم فوجّه ... ت إلى أبيض المدائن عنسي
أتسلّى عن الحظوظ وآسى ... لمحلّ من آل ساسان درس
ذكرتنيهم الخطوب التوالي ... ولقد تذكر الخطوب وتنسي
وهم خافضون في ظلّ عال ... مشرف يحسر العيون ويخسي «3»
مغلق بابه على جبل القب ... ق إلى دارتي خلاط ومكس «4»
نقل الدهر عهدهنّ عن الج ... دّة حتى غدون أنضاء لبس(6/2799)
فكأنّ الجرماز من عدم الإن ... س واخلاله بنية رمس «1»
لو تراه علمت أن الليالي ... جعلت فيه مأتما بعد عرس
وهو ينبيك عن عجائب قوم ... لا يشاب البيان فيهم «2» بلبس
فإذا ما رأيت صورة أنطا ... كية ارتعت بين روم وفرس
والمنايا مواثل وأنوشر ... وان يزجي الصفوف تحت الدرفس «3»
في اخضرار من اللباس على أص ... فر يختال في صبيغة ورس
وعراك الرجال بين يديه ... في خفوت منهم وإغماض جرس
من مشيح يهوي بعامل رمح ... ومليح من السنان بترس
تصف العين أنهم جدّ أحيا ... ء لهم بينهم إشارة خرس
يغتلي فيهم ارتيابي حتى ... تتقراهم يداي بلمس
قد سقاني ولم يصرّد أبو الغو ... ث على العسكرين شربة خلس «4»
من مدام تخالها ضوء نجم ... نوّر الليل أو مجاجة شمس
وتراها إذا أجدّت سرورا ... وارتياحا للشارب المتحسي
أفرغت في الزجاج من كلّ قلب ... فهي محبوبة إلى كلّ نفس
حلم مطبق على الشكّ عيني ... أم أمان غيّرن ظنّي وحدسي
وكأنّ الإيوان من عجب الصن ... عة جون في جنب أرعن جلس «5»
يتظنّى «6» من الكآبة إذ يب ... دو لعيني مصبّح أو ممسّي
مزعجا بالفراق عن أنس إلف ... عزّ أو مرهقا بتطليق عرس
عكست حظّه الليالي وبات ال ... مشتري فيه وهو كوكب نحس(6/2800)
فهو يبدي تجلدا وعليه ... كلكل من كلاكل الدهر مرسي
لم يعبه أن بزّ من بسط الدي ... باج واستلّ من ستور الدمقس
مشمخرّ تعلو له شرفات ... رفعت في رؤوس رضوى وقدس
لابسات من البياض فما تب ... صر منها إلا غلائل برس «1»
ليس يدرى أصنع إنس لجنّ ... صنعوه أم صنع جنّ لإنس
غير أني أراه يشهد أن لم ... يك بانيه في الملوك بنكس «2»
وكأني أرى المواكب والقو ... م إذا ما بلغت آخر حسي
وكأن الوفود ضاحين حسرى ... من وقوف خلف الزحام وجلس
وكأن القيان وسط المقاصي ... ر يرجّعن بين حور ولعس
وكأن اللقاء أول من أم ... س ووشك الفراق أول أمس
وكأن الذي يريد اتباعا ... طامع في لقائهم بعد خمس
عمرت للسرور دهرا فصارت ... للتعزّي ربوعهم والتأسّي
فلها أن أعينها بدموع ... موقفات على الصبابة حبس
ذاك عندي وليست الدار داري ... باقترابي منها ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي ... غرسوا من رطابها «3» خير غرس
أيدوا ملكنا وشدّوا قواه ... بكماة تحت السنوّر حمس «4»
وأعانوا على كتائب أريا ... ط بطعن على النّحور ودعس «5»
وأراني من بعد أكلف بالأشرا ... ف طرّا من كلّ سنخ وأسّ «6»(6/2801)
[1217] وهب بن منبه أبو عبد الله اليماني الأخباري
صاحب القصص: كان من خيار التابعين ثقة صدوقا كثير النقل من الكتب القديمة المعروفة بالاسرائيليات.
قال ابن قتيبة: كان وهب بن منبه يقول: قرأت من كتب الله تعالى اثنين وسبعين كتابا.
صنف كتاب القدر ثم ندم على تصنيفه.
حدث سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: دخلت على وهب بن منبه داره بصنعاء فأطعمني من جوزة في داره فقلت له: وددت أنك لم تكن كتبت في القدر كتابا، قال: وأنا والله وددت ذلك.
وروى حماد بن سلمة عن أبي سنان قال: سمعت وهب بن منبه يقول: كنت أقول بالقدر حتى قرأت بضعة وسبعين كتابا من كتب الأنبياء في كلها: «من جعل لنفسه شيئا من المشيئة فقد كفر» فتركت قولي.
ولوهب أيضا كتاب الملوك المتوجة من حمير وأخبارهم وغير ذلك.
ومن كلامه: العلم خليل المؤمن، والحلم وزيره، والعقل دليله، والصبر جنوده، والرفق أبوه، واللين أخوه.
مات وهب وهو على قضاء صنعاء سنة أربع عشرة ومائة وقيل سنة عشر، والأول أصح.
[1218] وهب بن وهب بن كثير بن عبد الله بن زمعة
بن الأسود بن المطلب بن
__________
[1217] لوهب بن منبه ترجمة في طبقات ابن سعد 5: 543 والزهد لابن حنبل: 371 والمعارف: 459 وحلية الأولياء 4: 23 وطبقات الشيرازي: 74 وطبقات فقهاء اليمن: 57 وابن خلكان 6: 37 وتذكرة الحفاظ 1: 95 وعبر الذهبي 1: 143 وسير الذهبي 4: 544 والبداية والنهاية 9: 276 وتهذيب التهذيب 11: 166 وطبقات الخواص: 161 وطبقات الحفاظ للسيوطي: 41 والشذرات 1: 150.
[1218] للقاضي أبي البختري ترجمة في طبقات ابن سعد 7: 332 ونسب قريش: 222 والفهرست: 113 وتاريخ بغداد 13: 451 وابن خلكان 6: 37 وميزان الاعتدال 4: 353 (ولسان الميزان 6: 231) ومرآة الجنان 1: 463 وعبر الذهبي 1: 334 والشذرات 1: 360.(6/2802)
أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب، القاضي أبو البختري القرشي الأسدي المدني: كان فقيها أخباريا نسابا لكنه متّهم في الحديث، وكان جوادا ممدّحا يحبّ المدح ويثيب عليه. روى عن هشام بن عروة وجعفر بن محمد وعبيد الله بن عمر، وروى عنه الربيع بن ثعلب والمسيب بن واضح ورجاء بن سهل وجماعة. وسكن بغداد وولي قضاء عسكر المهدي ثم قضاء المدينة ثم ولي حربها وصلاتها. توفي في بغداد سنة مائتين.
وله من الكتب: كتاب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. وكتاب فضائل الأنصار. وكتاب الفضائل الكبير. وكتاب نسب ولد إسماعيل. وكتاب طسم وجديس. وكتاب الرايات.(6/2803)
حرف الياء
[1219] ياقوت بن عبد الله مهذب الدين أبو الدر الرومي:
أحد أدباء العصر وشعرائه المجيدين، نشأ ببغداد، وحفظ القرآن، وعني بالتحصيل في المدرسة النظامية فقرأ فيها العلوم العربية والأدبية على جماعة، وغلب عليه الشعر، وكان حسن الخط والضبط، وله ديوان شعر لطيف. بلغتنا وفاته في ربيع الآخر سنة اثنتين وعشرين وستمائة.
ومن شعره قوله:
لك منزل في القلب ليس يحلّه ... إلا هواك وعن سواك أجلّه
يا من إذا جليت محاسن وجهه ... علم العذول بأن ظلما عذله
الوجه بدر دجى عذارك ليله ... والقدّ غصن نقا وشعرك ظله
هذي جفونك أعربت عن سحرها ... وعذار خدّك كاد ينطق نمله
عار لمثلي أن يرى متسليا ... وجمال وجهك ليس يوجد مثله
هل في الورى حسن أهيم بحبه ... هيهات أضحى الحسن عندك كلّه
__________
[1219] ترجمة أبي الدر الرومي في ابن خلكان 6: 122 (وهو ينقل عن ابن النجار) وتكملة المنذري رقم: 2041 وتاريخ ابن الدبيثي ج 2 الورقة: 36 (من مخطوطة كيمبردج) والمختصر المحتاج إليه 2: 201 (تحت عبد الرحمن) رقم: 855 وسير الذهبي 22: 308 والنجوم الزاهرة 5: 283 ومرآة الجنان 4: 49 وقلائد الجمان: 9 الورقة 349 والبدر السافر الورقة: 221 والوافي (خ) والشذرات 5: 105.(6/2804)
وله من قصيدة «1» :
جسدي لبعدك يا مثير بلابلي ... دنف بحبّك ما أبلّ بلى بلي
يا من إذا ما لام فيه لوائمي ... أوضحت عذري بالعذار السائل
أأجيز قتلي في «الوجيز» لقاتلي ... أم حلّ في «التهذيب» أم في «الشامل»
أم في «المهذّب» أن يعذّب عاشق ... ذو مقلة عبرى ودمع هامل
[1220] ياقوت بن عبد الله الرومي الأصل
، نزيل الموصل، الكاتب الأديب النحوي: أخذ النحو والأدب عن ابن الدهان أبي محمد سعيد بن المبارك ولازمه، وكان واحد عصره في جودة الخطّ واتقانه على طريقة ابن البواب، فقصده الناس من البلاد، وكتب عليه خلق لا يحصون كثرة. اجتمعت به في الموصل سنة ثلاث عشرة وستمائة فرأيته على جانب عظيم من الأدب والفضل والنباهة والوقار وقد أسن وبلغ من الكبر الغاية، ورأيت كتبا كثيرة بخطه يتداولها الناس ويتغالون بأثمانها، بينها عدّة نسخ من «الصحاح» للجوهري «و «المقامات الحريرية» وتوفي في السنة التي عدت فيها من خوارزم الى الموصل سنة ثماني عشرة وستمائة عن سن عالية.
[1221] يحيى بن أحمد، أبو زكريا الفارابي:
أحد الأئمة المتّبعين في اللغة، تخرج به جماعة من أهل فاراب وما وراء النهر. روى الحديث عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عبيد الله بن شريح البخاري وعن الحسن بن منصور. وصنف كتاب المصادر في اللغة، مات سنة [ ... ] .
__________
[1220] ترجمة ياقوت الكاتب الرومي في ابن خلكان 6: 119 والنجوم الزاهرة 5: 283.
[1221] ترجمة أبي زكريا الفارابي في بغية الوعاة 2: 331 (عن ياقوت) .(6/2805)
[1222] يحيى بن أحمد، أبو بكر المعروف بابن الخياط الأندلسي:
كان أديبا شاعرا متقنا للحساب والهندسة بارعا في علم النجوم. أخذ عن أبي القاسم مسلمة بن أحمد المجريطي، وخدم بصناعة أحكام النجوم سليمان بن الحكم بن الناصر لدين الله أمير المؤمنين وغيره من الأمراء، وكانت له معرفة بصناعة الطب وحسن المعالجة، حسن السيرة والمذهب. توفي بطليطلة سنة سبع وأربعين وأربعمائة.
ومن شعره «1» :
لم يخل من نوب الزمان أديب ... كلا فشأن النائبات عجيب
وغضارة الأيام تأبى أن يرى ... فيها لأبناء الذكاء نصيب
وكذاك من صحب الليالي طالبا ... جدّا وفهما فاته المطلوب
وقال في بخيل:
لا تكوننّ مبرما وعسوفا ... سله أدما وخلّ عنك الرغيفا
أكرم الخبز بالصيانة حتى ... جعل الكعك للبنات شنوفا
[1223] يحيى بن حبش شهاب الدين أبو الفتوح السهروردي:
كان فقيها شافعيّ المذهب أصوليا أديبا شاعرا حكيما متفننا نظارا لم يناظره مناظر إلا خصمه وأفحمه، قرأ
__________
[1222] هذه الترجمة منقولة عن طبقات صاعد: 86 ولم أجد ليحيى هذا ذكرا فيما بين أيدينا من مؤلفات أندلسية أخرى.
[1223] ترجمة الشهاب السهروردي في ابن خلكان 6: 268 وابن أبي أصيبعة 2: 167 وعبر الذهبي 4: 290 وسير الذهبي 21: 207 ومرآة الجنان 3: 434 والنجوم الزاهرة 6: 14 ولسان الميزان 3: 156 والشذرات 4: 290.(6/2806)
بالمراغة على الشيخ الإمام مجد الدين الجيلي الفقيه الأصولي المتكلم ولازمه مدة، ثم تنقل في البلاد على قدم التجرد ولقي بماردين الشيخ فخر الدين المارديني وصحبه وكان يثني عليه كثيرا ويقول: لم أر في زماني أحدا مثله، ولكني أخشى عليه من شدة حدته وقلة تحفظه. ثم رحل أبو الفتوح إلى حلب فدخلها في زمن الظاهر غازي بن أيوب سنة تسع وسبعين وخمسمائة، ونزل في المدرسة الحلاوية، وحضر درس شيخها الشريف افتخار الدين، وبحث مع الفقهاء من تلاميذه وغيرهم وناظرهم في عدة مسائل فلم يجاره أحد منهم وظهر عليهم، وظهر فضله للشيخ افتخار الدين فقرّب مجلسه وأدناه وعرف مكانه في الناس، ومن ذلك الحين تألّب عليه الفقهاء وكثر تشنيعهم عليه، فاستحضره الملك الظاهر وعقد له مجلسا من الفقهاء والمتكلمين فباحثوه وناظروه فظهر عليهم بحججه وبراهينه وأدلّته، وظهر فضله للملك الظاهر فقرّبه وأقبل عليه وتخصص به، فازداد تغيّظ المناظرين عليه ورموه بالإلحاد والزندقة، وكتبوا بذلك إلى الملك الناصر صلاح الدين وحذّروه من فساد عقيدة ابنه الظاهر بصحبته للشهاب السهروردي وفساد عقائد الناس اذا أبقى عليه، فكتب صلاح الدين الى ابنه الظاهر يأمره بقتله وشدّد عليه بذلك وأكد، وأفتى فقهاء حلب بقتله، فبلغ ذلك الشهاب، فطلب من الظاهر أن يحبس في مكان ويمنع من الأكل والشرب إلى أن يموت، ففعل به ذلك، وقيل بل أمر الظاهر بخنقه في السجن فخنق سنة سبع وثمانين وخمسمائة وقد قارب الأربعين. ويروى أنّ الظاهر ندم على ما فعل بعد مدة ونقم على من أفتوا بقتله، فقبض عليهم واعتقلهم ونكبهم، وصادر جماعة منهم بأموال عظيمة.
ومن تصانيفه: التلويحات في الحكمة. والتنقيحات في أصول الفقه. وحكمة الاشراق. والغربة الغريبة في الحكمة. وهياكل النور في الحكمة أيضا. والألواح العمادية. والمعارج. واللمحة. والمطارحات. والمقاومات، وغير ذلك «1» .
وله شعر كثير، أشهره وأجوده قصيدته الحائية وهي «2» :
أبدا تحنّ إليكم الأرواح ... ووصالكم ريحانها والراح(6/2807)
وقلوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وإلى لذيذ لقائكم ترتاح
وارحمتا للعاشقين تكلّفوا ... ستر المحبة والهوى فضّاح
بالسرّ ان باحوا تباح دماؤهم ... وكذا دماء البائحين تباح
وإذا هم كتموا تحدّث عنهم ... عند الوشاة المدمع السحّاح
وبدت شواهد للسّقام عليهم ... فيها لمشكل أمرهم إيضاح
خفض الجناح لكم وليس عليكم ... للصبّ في خفض الجناح جناح
فإلى لقاكم نفسه مشتاقة ... والى رضاكم طرفه طمّاح
عودوا بنور الوصل في غسق الجفا ... فالهجر ليل والوصال صباح
صافاهم فصفوا له فقلوبهم ... في نورها المشكاة والمصباح
فتمتعوا والوقت طاب بقربهم ... راق الشراب ورقّت الأقداح
يا صاح ليس على المحبّ ملامة ... إن لاح في أفق الوصال صباح
لا ذنب للعشاق ان غلب الهوى ... كتمانهم فنمى الغرام فباحوا
سمحوا بأنفسهم وما بخلوا بها ... لما دروا أنّ السماح رباح
ودعاهم داعي الحقائق دعوة ... فغدوا بها مستأنسين وراحوا
ركبوا على سنن الوفا ودموعهم ... بحر وحادي شوقهم ملاح
والله ما طلبوا الوقوف ببابه ... حتى دعوا وأتاهم المفتاح
لا يطربون لغير ذكر حبيبهم ... أبدا فكلّ زمانهم أفراح
حضروا فغابوا عن شهود ذواتهم ... وتهتكوا لما رأوه وصاحوا
أفناهم عنهم وقد كشفت لهم ... حجب البقا فتلاشت الأرواح
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ... ان التشبّه بالكرام فلاح
قم يا نديم إلى المدام وهاتها ... فبحانها قد دارت الأقداح
من كرم إكرام بدنّ ديانة ... لا خمرة قد داسها الفلاح
وقال:
أقول لجارتي والدمع جار ... ولي عزم الرحيل عن الديار(6/2808)
ذريني أن أسير ولا تنوحي ... فإن الشهب أشرفها السواري
واني في الظلام رأيت ضوءا ... كأن الليل بدّل بالنهار
إلى كم أجعل الحيّات صحبي ... إلى كم أجعل التنّين جاري
وأرضى بالاقامة في فلاة ... وفي ظلم العناصر أين داري
ويبدو لي من الزوراء برق ... يذكّرني بها قرب المزار
إذا أبصرت ذاك النور أفنى ... فما أدري يميني من يساري
ومن كلامه: اعلم أنك ستعارض بأعمالك وأقوالك وأفكارك، وسيظهر عليك من كل حركة فعلية أو قولية أو فكرية صور جانية، فإن كانت تلك الحركة عقلية صارت تلك الصورة مادة لملك تلتذّ بمنادمته في دنياك وتهتدي بنوره في أخراك، وإن كانت تلك الحركة شهوية أو غضبية صارت تلك الصورة مادة لشيطان يؤذيك في حال حياتك ويحجبك عن ملاقاة النور بعد مماتك.
[1224] يحيى بن خالد بن برمك، أبو الفضل البرمكي
الوزير السّريّ الجواد: كان سيد بني برمك وأفضلهم جودا وحلما ورأيا، وكان من أكمل أهل زمانه أدبا وفصاحة وبلاغة، وأخباره في الكرم وشرف الخلال مشهورة، وإنما دخل في شرط كتابنا من جهة بلاغته وتقدمه على أكثر أهل عصره في الانشاء والكتابة وما صدر عنه من الحكم والأقوال التي تداولها الرواة وملئت بها الدفاتر، فأنا أورد منها جملة صالحة «1» . وأما أخباره فما يتّسع لها كتابنا وليست من شرطه.
__________
[1224] أخبار يحيى البرمكي في الكتب التاريخية كالطبري وابن الأثير ومروج الذهب وكتب الأدب كالأغاني والعقد و ... الخ وانظر تاريخ خليفة: 465 والمعارف: 381 وتاريخ بغداد 14: 128 ومعجم المرزباني: 488 وابن خلكان 6: 219 والبداية والنهاية 10: 204 ومرآة الجنان 1: 424 وعبر الذهبي 1: 306 وسير الذهبي 9: 89 وصفحات متفرقة من الوزراء والكتاب للجهشياري وشرح البسامة: 222 والشذرات 1: 288.(6/2809)
فمما روي عنه انه قال»
: ما رأيت رجلا إلا هبته حتى يتكلم فان كان فصيحا عظم في عيني وصدري وإن قصّر سقط من عيني.
وحدث محمد بن صالح الواقدي قال: دخلت على يحيى بن خالد البرمكي فقلت انّ هاهنا قوما جاءوا يشكرون لك معروفا، فقال: يا محمد هؤلاء جاءوا يشكرون معروفنا فكيف لنا شكر شكرهم.
وقال: مسألة الملوك عن حالها من سجية النوكى، فإذا أردت أن تقول كيف أصبح الأمير فقل: صبّح الله الأمير بالنعمة والكرامة، وإذا كان عليلا فأردت أن تسأله عن حاله فقل أنزل الله على الأمير الشفاء والرحمة، فان الملوك لا تسأل ولا تشمّت ولا تكيّف، وأنشد:
إن الملوك لا يخاطبونا ... ولا إذا ملوا يعاتبونا
وفي المقال لا ينازعونا ... وفي العطاس لا يشمتونا
وفي الخطاب لا يكيفونا ... يثنى عليهم ويبجلونا
وافهم وصاتي لا تكن مجنونا
وقيل له: أي الأشياء أقلّ؟ قال قناعة ذي الهمة البعيدة بالعيش الدون، وصديق كثير الآفات قليل الامتاع، وسكون النفس إلى المدح.
وقيل له: ما الكرم؟ فقال: ملك في زي مسكين، قيل له: فما اللؤم؟ قال:
مسكين في بطش عفريت، قيل فما الجود؟ قال: عفو بعد قدرة.
وقال: من ولي ولاية فتاه فيها فعذره دونها.
وقال: إذا فتحت بينك وبين أحد بابا من المعروف فاحذر أن تغلقه ولو بالكلمة الجميلة.
وقال: إذا أردت أن تنظر مروءة المرء فانظر إلى مائدته فان كانت حسنة فاحكم له بالشرف، وان رأيت تقصيرا فما وراءها خير.
وقال: أحسن جبلّة الولاة إصابة السياسة، ورأس إصابة السياسة العمل لطاعة الله، وفتح بابين للرعية أحدهما رأفة ورحمة وبذل وتحنن، والآخر غلظة ومباعدة(6/2810)
وإمساك ومنع.
وقال: العذر الصادق مع النية الحسنة يقومان مقام النجح.
وقال «1» : ما سقط غبار موكبي على أحد الا وجب عليّ حقه.
وقال الفضل له: يا أبت ما لنا نسدي إلى الناس المعروف فلا يتبيّن فيه كتبيّنه ببرّ غيرنا؟ قال: آمال الناس فينا أعظم من آمالهم في غيرنا، وإنما يسر الانسان ما بلّغه أمله.
وقال «2» : أنا مخير في الاحسان إلى من أحسن إليه ومرتهن بالاحسان إلى من أحسنت إليه، لأني إن وصلته فقد أتممته، وان قطعته فقد أهدرته.
وقال: الخطّ صورة روحها البيان، ويدها السرعة، وقدمها التسوية، وجوارحها معرفة الفصول.
وركب يوما مع الرشيد فرأى الرشيد في طريقه أحمالا فسأل عنها فقيل له: هذه هدايا خراسان بعث بها علي بن عيسى بن ماهان، وكان ابن ماهان وليها بعد الفضل بن يحيى، فقال الرشيد ليحيى: أين كانت هذه الأحمال في ولاية ابنك؟ فقال يحيى:
كانت في بيوت أصحابها، فأفحم الرشيد وسكت.
ولما كان الفضل بن يحيى «3» واليا على خراسان كتب صاحب البريد إلى الرشيد كتابا يذكر فيه أن الفضل تشاغل بالصيد واللذات عن النظر في أمور الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به ليحيى وقال له: يا أبت اقرأ هذا الكتاب واكتب إلى الفضل كتابا يردعه عن مثل هذا، فمد يحيى يده إلى دواة الرشيد وكتب إلى ابنه على ظهر الكتاب الذي ورد من صاحب البريد: حفظك الله يا بني وأمتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمور الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فانه من عاد إلى ما يزينه لم يعرفه أهل زمانه إلا به والسلام، وكتب تحته هذه الأبيات:(6/2811)
انصب نهارا في طلاب العلا ... واصبر على فقد لقاء الحبيب
حتى إذا الليل بدا مقبلا ... وغاب فيه عنك وجه الرقيب
فبادر الليل بما تشتهي ... فانما الليل نهار الأريب
كم من فتى تحسبه ناسكا ... يستقبل الليل بأمر عجيب
ألقى عليه الليل أستاره ... فبات في لهو وعيش خصيب
ولذة الأحمق مكشوفة ... يسعى بها كلّ عدوّ مريب
وكان يقول لولده: اكتبوا أحسن ما تسمعون، واحفظوا أحسن ما تكتبون، وتحدثوا بأحسن ما تحفظون.
وقال: أنفق من الدنيا وهي مقبلة فان الانفاق لا ينقص منها شيئا، وأنفق منها وهي مدبرة فان الامساك لا يبقي منها شيئا.
وقال «1» : الدنيا دول، والمال عارية، ولنا في من قبلنا أسوة، ونحن لمن بعدنا عبرة.
قال القاضي يحيى بن أكثم سمعت المأمون يقول: لم يكن كيحيى بن خالد وكولده أحد في البلاغة والكفاية والجود والشجاعة. وكان يحيى يجري على سفيان الثوري رضي الله عنه ألف درهم في كل شهر، فكان إذا صلى سفيان يقول في سجوده: اللهم ان يحيى كفاني أمر دنياي فاكفه أمر آخرته، فلما مات يحيى رؤي في المنام فقيل له، ما فعل الله بك؟ قال غفر لي بدعاء سفيان.
مات يحيى في سجن الرشيد في الرافقة في أوائل المحرم سنة تسعين ومائة.
[1225] يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور
بن مروان الأسلمي الديلمي الكوفي،
__________
[1225] ترجمة الفراء في مراتب النحويين: 86 وطبقات الزبيدي: 131 وأخبار النحويين البصريين: 51 والفهرست: 73 وتاريخ بغداد 14: 146 وتاريخ أبي المحاسن: 187 والمعارف: 545 وتهذيب(6/2812)
مولى بني أسد المعروف بالفراء أبو زكريا: أخذ عن أبي الحسن الكسائي، وروى عن قيس بن الربيع ومندل بن علي، وأخذ عنه سلمة بن عاصم ومحمد بن الجهم السمري «1» وغيرهما. كان هو والأحمر أشهر أصحاب الكسائي، وكانا أعلم الكوفيين بالنحو من بعده. وأخذ أيضا عن يونس بن حبيب البصري فاستكثر منه، والبصريون ينكرون ذلك حكى محمد بن الجهم قال، حدثنا الفراء، قال أنشدني يونس النحوي:
ربّ حلم أضاعه عدم الما ... ل وجهل غطّى عليه النعيم
وعن الفراء أيضا قال يونس: الآل من غدوة إلى ارتفاع النهار، ثم هو سراب سائر النهار، وإذا زالت الشمس فهو فيء، وفي غدوة ظلّ، وأنشد لأبي ذؤيب «2» :
لعمري لأنت البيت أكرم أهله ... واقعد في أفيائه بالأصائل
وله روايات كثيرة عن يونس لا نطيل بذكرها.
وكان أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب يقول «3» : لولا الفراء ما كانت اللغة لأنه حصّلها «4» وضبطها، ولولاه لسقطت العربية لأنها كانت تتنازع ويدّعيها كلّ من أراد ويتكلم الناس على مقادير عقولهم وقرائحهم فتذهب.
وكان الفراء فقيها عالما بالخلاف وبأيام العرب وأخبارها وأشعارها عارفا بالطب والنجوم متكلما يميل إلى الاعتزال، وكان يتفلسف في تصانيفه ويستعمل فيها ألفاظ الفلاسفة.
وحكى أبو العباس ثعلب عن ابن نجدة قال «5» : لما تصدى أبو زكريا يحيى بن زياد
__________
الأزهري 1: 18 وفهرسة ابن خير: 311، 312، 398 ونور القبس: 301 ونزهة الألباء: 65 والأنساب (دمج) 9: 247 (واللباب: الفراء) وانباه الرواة 4: 1- 17 وابن خلكان 6: 176 وتذكرة الحفاظ: 372 وسير الذهبي 10: 118 وعبر الذهبي 1: 354 ومرآة الجنان 2: 38 والبداية والنهاية 10: 261 وطبقات ابن الجزري 2: 371 وتهذيب التهذيب 11: 212 وبغية الوعاة 2: 333 والبلغة: 280 وروضات الجنات 4: 235 واشارة التعيين: 379 (واكثر ما أورده ياقوت موجود في نزهة الألباء) ولأحمد مكي الأنصاري دراسة عنه (القاهرة: 1964) .(6/2813)
الفراء للاتصال بالمأمون كان يتردّد إلى الباب، فلما كان ذات يوم بالباب جاء ثمامة بن الأشرس المتكلم المشهور، قال: فرأيت صورة أديب وأبهة أدب، فجلست إليه وفاتشته عن اللغة فوجدته بحرا، وعن النحو فشاهدته نسيج وحده، وعن الفقه فوجدته فقيها عارفا باختلاف القوم، وفي النجوم ماهرا، وبالطب خبيرا، وبأيام العرب وأخبارها وأشعارها حاذقا، فقلت له: من تكون وما أظنك إلا الفراء، فقال: أنا هو، قال: فدخلت فأعلمت أمير المؤمنين بمكانه، فاستحضره وكان سبب اتصاله به.
وقال أبو بريدة الوضاحي «1» : أمر أمير المؤمنين المأمون الفراء أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب، فأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار ووكل بها جواري وخدما للقيام بما يحتاج إليه حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوف نفسه إلى شيء، حتى إنهم كانوا يؤذنونه بأوقات الصلاة، وصير له الوراقين وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان الوراقون يكتبون حتى صنف «كتاب الحدود» وأمر المأمون بكتبه في الخزائن، وبعد أن فرغ من ذلك خرج إلى الناس وابتدأ يملي «كتاب المعاني» وكان وراقيه سلمة بن عاصم وأبو نصر ابن الجهم. قال أبو بريدة: فاردنا أن نعدّ الناس الذين اجتمعوا لإملاء «كتاب المعاني» فلم نضبط عددهم، ولما فرغ من إملائه خزنه الوراقون عن الناس ليتكسبوا به وقالوا: لا نخرجه لأحد إلا لمن أراد أن ننسخه له على أن يكون عن كل خمسة أوراق درهم، فشكا الناس إلى الفراء، فدعا الوراقين وكلمهم في ذلك وقال: قاربوا الناس تنفعوا وتنتفعوا، فأبوا عليه، فقال: سأريكم، وقال للناس: إني أريد ان أملي كتاب معان أتمّ شرحا وأبسط قولا من الذي أمليت قبلا وجلس يملي، فأملى في الحمد مائة ورقة، فجاء الوراقون إليه وقالوا: نحن نبلّغ الناس ما يحبون، فنسخوا كلّ عشرة أوراق بدرهم.
قال أبو بكر ابن الأنباري: لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس إذ انتهت العلوم إليهما.
وكان يقال الفراء أمير المؤمنين في النحو.
توفي أبو زكريا الفراء في طريق مكة سنة سبع ومائتين وقد بلغ ثلاثا وستين سنة.(6/2814)
ومن تصانيفه: كتاب اختلاف أهل الكوفة والبصرة والشام في المصاحف. معاني القرآن، أربعة أجزاء ألفه لعمر بن بكير «1» . البهيّ، ألفه للأمير عبد الله بن طاهر.
كتاب المصادر في القرآن. كتاب اللغات. كتاب الوقف والابتداء. كتاب الجمع والتثنية في القرآن. آلة الكتاب. الفاخر. كتاب النوادر. كتاب فعل وأفعل. كتاب المقصور والممدود «2» . كتاب المذكر والمؤنث. كتاب يافع ويافعة. كتاب ملازم.
كتاب الحدود ألفه بأمر المأمون. كتاب مشكل اللغة الكبير. كتاب المشكل الصغير.
كتاب الواو، وغير ذلك «3» .
[1226] يحيى بن سعدون بن تمام بن محمد
أبو بكر الأزدي القرطبي، الملقب سابق الدين: شيخ فاضل عارف بالنحو ووجوه القراءات، قرأ على أبي القاسم خلف بن إبراهيم الحصار بقرطبة، وسمع من أبي محمد ابن عتاب، وقدم العراق فقرأ ببغداد على الشيخ المقرىء أبي محمد عبد الله بن علي سبط أبي منصور الخياط وسمع عليه كتبا كثيرة، وسمع بها الحديث من أبي القاسم ابن الحصين وأبي بكر محمد بن عبد الباقي البزاز المعروف بقاضي المارستان وأبي عبد الله البارع وأبي العز ابن كادش وغيرهم، وسمع بمصر من أبي صادق مرشد بن يحيى بن القاسم المدني المصري، وبالاسكندرية من أبي الطاهر أحمد بن محمد السلفي الاصبهاني وأبي عبد الله
__________
[1226] ترجمة يحيى بن سعدون في ابن خلكان 6: 171 والمغرب 1: 135 وإنباه الرواة 4: 37 والانساب 10: 14 (واللباب 3: 26) وعبر الذهبي 4: 200 وسير الذهبي 20: 546 والتكملة لابن الأبار: 724 وكتاب الروضتين 1: 205 وصلة الصلة: 177 ومعرفة القراء الكبار 2: 429 ومرآة الجنان 3: 380 والبداية والنهاية 12: 270 وطبقات ابن الجزري 2: 372 والنجوم الزاهرة 6: 66 وبغية الوعاة 2: 334 ونفح الطيب 2: 116 والشذرات 4: 225 وإشارة التعيين: 380.(6/2815)
محمد بن أحمد بن إبراهيم الرازي، وسكن دمشق مدة وأقرأ بها القرآن والنحو، وانتفع به خلق كثير لحسن خلقه وتواضعه. ثم رحل إلى أصبهان وعاد منها إلى الموصل فسكنها وأخذ عنه شيوخها، منهم القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع المعروف بابن شداد وغيره، وكان ثقة صدوقا ثبتا ديّنا كثير الخير.
ولد بقرطبة سنة ست وثمانين وأربعمائة وقيل سنة سبع، ومات بالموصل يوم عيد الفطر سنة سبع وستين وخمسمائة.
[1227] يحيى بن سعيد بن المبارك بن علي بن عبد الله
بن سعيد بن محمد بن نصر بن عاصم، المعروف بابن الدهان البغدادي الأنصاري، أبو زكريا بن أبي محمد، النحوي ابن النحوي، الأديب الشاعر: ولد بالموصل في أوائل السنة التي مات أبوه في أواخرها سنة تسع وستين وخمسمائة فلما بشّر به والده قال وصدق في حدسه:
قيل لي جاءك نسل ... ولد شهم وسيم
قلت عزّوه بفقدي ... ولد الشيخ يتيم
ثم توفي والده وله بضعة أشهر.
أخذ أبو زكريا النحوي عن مكي بن ريان وانقطع إليه وتخرج به، فبرع في النحو واللغة والأدب، وهو أحد نحاة العصر وأدبائه المشاهير توفي قريبا سنة ست عشرة وستمائة بالموصل، ودفن عند أبيه بمقبرة المعافى بن عمران بباب الميدان، اجتمعت به لما كنت بالموصل سنة ثلاث عشرة وستمائة.
ومن شعره:
إن نبهت الخمول نبّهت أقوا ... ما نياما فسابقوني إليه
هو قد دلني على لذة العي ... ش فما لي أدلّ غيري عليه
__________
[1227] ترجمة ابن الدهان البغدادي في بغية الوعاة 2: 334 (وينقل عن تاريخ إربل) .(6/2816)
وله:
وعهدي بالصبا زمنا وقدّي ... حكى ألف ابن مقلة في انتصاب
وصرت الآن منحنيا كأني ... أفتّش في التراب على شبابي
[1228] يحيى بن سعيد بن هبة الله بن علي بن زبادة
الشيباني الواسطي ثم البغدادي: كان كاتبا أديبا شاعرا مشاركا في الفقه والكلام والرياضي، أخذ الأدب عن أبي منصور الجواليقي وغيره، وولي النظر في ديوان البصرة ثم بواسط والحلة، ثم قلد النظر في المظالم، ورتّب حاجبا بباب المتولي، ولما قتل الاستادار هبة الله ابن الصاحب «1» ولي الاستادارية مكانه، ثم عزل وقلد ديوان الانشاء والنظر في ديوان المقاطعات، فبقي على ذلك حتى مات.
وكانت وفاته في ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة، ومولده سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
ومن شعره:
إني لتعجبني الفتاة إذا رأت ... أنّ المروءة في الهوى سلطان
لا كالتي وصلت وأكبر همها ... في جذرها النقصان والرجحان
وكذاك شمس الأفق برج علوّها ... حمل وبرج هبوطها الميزان
وقال «2» :
إن كنت تسعى للسعادة فاستقم ... تنل المراد وتغد أول من سما
__________
[1228] ترجمة يحيى بن سعيد الواسطي في الكامل لابن الأثير 12: 58 وذيل الروضتين: 14 وتكملة المنذري رقم: 458 وابن خلكان 6: 244 وابن الفوطي (في معجم الألقاب) رقم: 3197 وعبر الذهبي 4: 284 وسير الذهبي 21: 336 والمشتبه: 343 والبداية والنهاية 13: 17 والشذرات 4: 381 والتاج (زبد) ..(6/2817)
ألف الكتابة وهو بعض حروفها ... لما استقام على الجميع تقدّما
وقال:
لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متّهم
نفسي بما أوتيت قد قنعت «1» ... وتمطت في العلا هممي
ولبست الصبر سابغة ... فهي من فرقي إلى قدمي
وقال «2» :
باضطراب الزمان ترتفع الأن ... ذال فيه حتى يعمّ البلاء
وكذا الماء ساكنا فإذا حرّ ... ك ثارت من قعره الأقذاء
[1229] يحيى بن سلامة بن الحسين المعروف بالخطيب الحصكفي:
كان فقيها نحويا كاتبا شاعرا نشأ بحصن كيفا، وقدم بغداد فأخذ بها الأدب عن الخطيب أبي زكريا التبريزي وغيره، وبرع في النظم والنثر وإنشاء الخطب، ثم رحل الى ميا فارقين فسكنها وولي بها الخطابة والافتاء. وله ديوان شعر. وديوان رسائل. ولد سنة تسع وخمسين وأربعمائة وتوفي سنة إحدى وخمسين وخمسمائة.
ومن شعره:
وإنسيّة زارت مع النوم مضجعي ... فعانقت غصن البان منها إلى الفجر
أسائلها أين الوشاح وقد سرت ... معطّلة منه معطّرة النشر
__________
[1229] ترجمة الحصكفي في الأنساب 4/154، 8: 256 (اللباب 1: 369، 2: 286) والخريدة (قسم الشام) 2: 471 والمنتظم 10: 183 وكامل ابن الأثير 11: 239 وإنباه الرواة 4: 36 ومرآة الزمان: 142 وابن خلكان 6: 205 وسير الذهبي 20: 320 والبدر السافر: 222 وطبقات السبكي 7: 330 وطبقات الاسنوي 1: 438 والبداية والنهاية 2: 238 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 255 (وجعل وفاته سنة 553) والنجوم الزاهرة 5: 328 والشذرات 4: 168.(6/2818)
فقالت وأومت للسوار نقلته ... إلى معصمي لما تقلقل في خصري
وقال «1» :
وخليع بتّ أعذله ... ويرى عذلي من العبث
قلت إنّ الخمر مخبثة ... قال حاشاها من الخبث
قلت فالإرفاث يتبعها ... قال طيب العيش في الرفث
قلت ثم القيء قال أجل ... شرفت عن مخرج الحدث
وسأجفوها فقلت متى ... قال عند الكون في الجدث
وقال:
لم يضحك الورد إلا حين أعجبه ... زهر الربيع وصوت الطائر الغرد
بدا فأبدى لنا البستان بهجته ... وراحت الراح في أثوابها الجدد
[1230] يحيى بن صاعد بن يحيى
معتمد الملك أبو الفرج ابن التلميذ: كان حكيما فاضلا حاذقا في صناعة الطب أديبا شاعرا، وكان مقيما بأصبهان مقربا عند الأمراء والأعيان، وقصده الشريف ابن الهبارية الأديب الشاعر فأكرمه وحباه، وحصل له بواسطته من الأمراء والأكابر مال عظيم فمدحه بعدة قصائد «2» .
توفي معتمد الملك ابن التلميذ سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
ومن شعره «3» :
__________
[1230] ترجمة أبي الفرج ابن التلميذ في ابن أبي أصيبعة 1: 276 وتاريخ الحكماء: 238 والخريدة (قسم العراق) 3/2: 119.(6/2819)