همّته في الحضيض لؤما ... وفرقه في السماك باسق
قد كسد الجهل في رباها ... جهلا لأن النفاق نافق
فكل بيت أجيد فيه ... يشهد أني بالشعر حاذق
فاستكثر الدرّ من كلامي ... فالعذر فيما ذكرت صادق
وكفاني محرسا، وحسبي مقحما ومؤنسا، أنني دخلت فكان ممدوحي ومقصودي من أهلها، ومعتمدي من أغيانها:
عليّ بن سلمان الأديب ومن يكن ... علي بن سلمان الأديب عتاده
فقد خاب مما يرتجيه وحرّمت ... عليه الليالي أن ينال مراده
فأولاني آلا، وأعاد ألفى دالا، وقراني عرضه المبذول، وكذبه المملول:
ولست براتع في عرض كلب ... وبئس الزاد أعراض الكلاب
فإن غرّت بشاشته مديحي ... فكم قد عاد صاد بالشراب
وما هان الهجاء عليّ حتى ... أدنّسه بأزواج القحاب
وأولاد الوزير وأنت أدرى ... سواسية كأسنان الدواب
فما عرفوا جميعهم بعرف ... ولا وصفوا بأفعال الصواب
ولا حفظوا للؤمهم ذماما ... ولا طبعوا على رعي الصحاب
فكيف وأنت أفطن للمعاني ... رعى منصورهم حق الغراب
ثم ذكر قوما لا حاجة لنا بذكرهم ولا أعرفهم. ثمّ رجعنا إلى حديث الكلبي بغير ياء، والاشتغال بذكره أولى، وتقطيع عرضه أحلى وأحرى. ومن أين للمسلمين عرض فيمزق، أو مجد فيهدّم، أو حسب فيوصم، ولكن ذم الزمان الذي قدم مثله وسوّده، وأباح جهله وروّجه:
كلّ يوم يأتي الزمان غريبا ... وبديعا من الفعال عجيبا
وقع السفلة ابن سلمان [ ... ] ... ومن الظلم أن يسمى أديبا
أي معنى فيه سوى الجهل والخر ... ق فيلفى إلى الأمير حبيبا
ناسب الدهر في الحماقة والخسّ ... ة فالدهر منه يدعى نسيبا(3/1395)
ولقد عرفنا أباه، سلمه الله، بريا من هذه البظرمة، عريّا من هذه العجرفة، سليم الصدر، نقي الجيب، ليّن الجانب، حلو الحركة، دمث التفصيل، لا يتعدىّ طوره، ولا يتجاوز حده:
يعلم أولاد الوزير ففخره ... إذا تاه فخرا أن يقال معلّم
فما بال هذا الجرو لادرّ درّه ... على نقصه مستأسدا يتبظرم
ومن أين وافته الوزارة فاغتدى ... بخسّته في عصرها يتحكّم
وهب أن منصورا دعاه بجهله ... وزير دعاء بالعظائم يرجم
أصار وزيرا أو يجوز لمثله ... يتيه على الأكفاء أو يتقدم
ولولا أن الري مسخت وأهلها، ونسخت وأعيانها، وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ، وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ
، وقيل لهم كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ*
(البقرة: 61) لما تصدر المعلّم في دسوتها، ولا ترأس في ملكها وملكوتها، وجمع بين ناسوت الرياسة ولا هوتها، ولا تحكم في أهلها، ولا تكلم في مجالسها، ولكان بحيث أنزل الله المعلمين، وجعل المؤدبين، أو أنه يرجع إلى مسكة من عقل، أو يعتصم بيسير من لبّ وحزم، أو يتعلق بقليل من تمييز، أو يعود إلى نزر من تحصيل، يعرف محله، ويلتزم حدّه، ولم يتعدّ طوره:
ولكن المعلم ذقن سرم ... خفيف الرأس ليس له دماغ
وقد دبغت رؤوسهم فأضحت ... نواشف قد تحيّفها الدباغ
وما إن كان فيها قط شيء ... فكيف تقول أدركها الفراغ
فما لعلوّ مثلهم مجار ... ولا لنفاق مثلهم مساغ
وقد صنعوا من الحمق المنقّى ... ففيهم كلّ فاحشة تصاغ
هذا، على أنه نشأ في الفقر والفاقة، وربي في البؤس والإضاقة، وولد في الهجرة، وقطعت سرّته في المصاطب، وكدّي عليه في المساجد، فإن شيخنا أباه- أبقاه الله- امتحن بالغربة في الرساتيق، وباع الشعر بالقراريط لا الدوانيق. وكانت(3/1396)
معه والدة هذا الرقيع من شقاع وشلاق، وحراب وسرماط [1] ، ولعلها حملت به في ليلة غير مزءودة طوعا، وعقد نطاقها محلول، والسّقاع لشهوتها مبلول، في محراب مسجد أو إسطبل قرية، أو خرق شحاذين، أو مسطبة مقيفين. وقد حكى لي الرئيس أبو الحسين علي بن الحسين بن الراحل، وكان صادق اللهجة صحيح الرواية متحريا فيما يورده، مستحرزا فيما يذكره ويسنده، وهو ترب شيخنا أبي عبد الله سلمان والد هذا الأحمق الرقيع، وأبي هذا الخسيس الوضيع: كنّا جميعا في خدمة الأمير حسام الدولة ابن أبي الشوال [فذكر] أن عبد الله الفتى النهرواني والد الشيخ سلمان كان شيخا اصطيلا يتطايب بين يدي حسام الدولة ويتمصفع مع أدب كان فيه وفضل، وجدّ من معرفة وهزل، وظرف مقول، ولطف مقبول، وكان موصوفا بطول الأير، وكان يدسّ عليه بعض الفراشين إذا سكر فيشد في إحليله خيطا، ويقوده في الدار قودة شوطا، فينشد وهو عريان سكران يضرب جنبيه بإبطيه:
أقام قيامتي ذكري ... وأعمى فيشتى بصري
قمد وافر حسن ... شديد اللمس كالحجر
فما يقوى عليه فتى ... ولا لمياء ذات حر
لو ان الفيل وهو الفيل ... يدخل رأسه لخري
وما يقوى عليه سوى ... عروسي ضرّة القمر
بنفسي أمّ سلمان ال ... ذي تعطيه في الدبر
وتأخذه بلا غضب ... ولا سخط ولا ضجر
وتخرجه بمدرعة ... وطرطور من القذر
ولولا أنها صفرا ... ء تحكي صبغة الصّفر
لقال الناس إذ وافى ... أتى القاضي أبو عمر
ثم ينخر ويضرط ويقول:
[إن] رأيت لها شبها فلا تدعني أبا جعل.
__________
[1] أظنه يستعمل لغة المكدين؛ فالسرماط عندهم هو الكتاب.(3/1397)
فمن أين جاءتك الرياسة والعلا ... وهذا أبوك الألمعي وجدكا
وأمك لا أغتابها أنت عالم ... بها فبماذا طال ويلك مجدكا
ولو كنت إنسانا يعود إلى حجى ... لحدّك عن هذا التبظرم جدّكا
تبظرم هذا الفتى الزائد، على لؤم عنصره شاهد، ومن أمّه أليست تلك الضروط، ووالدة ذلك الوالد، فكيف يتيه وأنّى له؟! مهلا مهلا أيها الفتى، علام وحتى متى، تعقد أنفك تيها، ولا ترى لك في الرياسة شبيها، وتجري في ميدان حمقك، وتتبع شيطان خرقك؟ كأنك لم تدر أن المعلمين أخسّ خلق الله أقدارا، وأوضعهم فخارا، وأقلّهم عقولا، وألأمهم فروعا وأصولا، وأن الإجماع منعقد، والقول متفق، والاتفاق واقع، على أن المعلمين- وإن رجعوا إلى أدب وعلوم، ومعرفة المنثور والمنظوم- لا عقول لهم ولا حلوم، ولا يذكرون في عير، ولا يعدّون في نفير:
وأن ألأم خلق الله كلهم ... من كان للفضل بالتعليم مشتغلا
الله صاغهم حمقى، وأوجدهم ... نوكى، وصيرهم دون الورى سفلا
شاعت حماقاتهم في الناس، فاشتهرت ... بين البرية حتى أصبحوا مثلا
هذا، أطال الله بقاء الشيخ الفقيه الأديب حالي، وصورة آمالي، فكيف ينطق لساني بمقال مرضيّ، أو يسمح خاطري بمعنى زكي:
لو أنّ ابن حجّاج رأى من رأيته ... وشاهد من شاهدته لم يقل شعرا
وعاصته أبكار المعاني وعونها ... فلم يستطع نظما بديعا ولا نثرا
وأمسك إمساك الغبيّ ولم يفه ... بحرف ولم يكتب إلى أحد سطرا
أنا فاعرفوني أشعر الناس كلهم ... علوت بأشعاري وقد سفلوا الشعرى
لأني أعاني ما ترون وخاطري ... يجيش فيبدي كل قافية بكرا
ولو أنهم ناس أجدت مديحهم ... ولم أقتنع بالدون في مدحهم ذكرا
ولكن على قدر العطاء وقدرهم ... أقول فلا أخشى عتابا ولا نكرا
نظمت لهم بعرا يشاكل لؤمهم ... ولو أنهم ناس نظمت لهم درّا(3/1398)
ولم أتعاط جيّد الشعر فيهم ... فأبقي لهم من بعد فوتهم فخرا
وأجهد نفسي ظالما في امتداحهم ... وسيان من ذمّ الليالي ومن أطرى
لقد ناكني دهري فشقق مبعري ... بأير كبير كدت من رهزه أخرا
فإن أك في نظمي ونثري مقصّرا ... فلا تعذلنّي سيدي واعذل الدهرا
فهذا، أطال الله بقاءه في نعمة كرويّته صافية، ورتبة كهمّته حالية، ودولة كأيره قائمة، وسعادة كظرفه لازمة دائمة، فرق ما بيني وبين الشعراء السابقين، والأدباء السالفين، وقد رضيت حكما مع شرّة التحكيم على بني هاشم بدفع كل ظالم:
بحياة رأسك أيها ال ... شيخ الفقيه وأنت تدري
أنصف أخاك ولا تمل ... ظلما عليه كمثل دهري
لو عاين الشعراء مم ... دوحيّ من أعيان عصري
نطقوا ببيت واحد ... حلو رشيق مثل شعري
أو أتعبوا أفكارهم ... للقول في نظم ونثر
وسبال من لم يفتني ... بالحقّ في ظلمات جحري
- 568-
سليمان بن عيسى الشنتمري النحوي
له تصانيف منها: كتاب شرح الشعراء الفحول الستة.
- 569-
سليمان بن الفياض الاسكندراني
أبو الربيع من أهل الاسكندرية: تلميذ الحكيم أبي الصلت أمية بن أبي الصلت المصري وعليه قرأ [وتوفي] سنة ست عشرة وخمسمائة. كان أحد الشعراء المجودين [وشعره] كالسحر يدخل الأذن بغير إذن، خرج من مصر ووافى العراق وخرج منها إلى بلاد خراسان ووصل إلى بلاد الهند وتوفي
__________
[568]- هذه الترجمة من المختصر.
[569]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر خريدة القصر (قسم مصر) 2: 200 والوافي 15: 419.(3/1399)
بها. ومن منثور كلامه إلى بعض فلاسفة الهند يستأذنه في المصير إليه: ماذا عسى يصف من شوقه مشتاق يقدم قدما ويؤخر أخرى بين أمر أمير الشوق ونهي نهى الهيبة، فإن رأيت أن تقلّه من علله بالاذن له فما أولاك به وأحوجه إليه. والله المسؤول في بلوغ المأمول بك ولك ومنك.
ومن شعره قصيدة يمدح بها الإمام القاضي البستي:
توجعت إذ رأتني ذاوي الغصن ... وكم أمالت صبا عهد الصّبا فنني
ماذا يريبك من نضو حليف نوى ... لسنّة البين مطروح على سنن
رمى به الغرب عن قوس النوى عرضا ... بالشرق أعيا علي المهريّة الهجن
أرض سحبت وأترابي تمائمنا ... طفلا وجررت فيها ما أشار سني
أنّى التفتّ فكم روض على نهر ... أو استمعت فكم داع على غصن
كم لي بظاهر ذاك الربع من فرج ... ولي بباطن ذاك القاع من حزن
ولي بألاف هاتيك المنازل من ... إلف وسكان تلك الدار من سكن
ما اخترت قط على عهدي بقربهم ... حظا ولا بعت يوما منه بالزمن
كأن أيام عيشي كنّ لي بهم ... جمعن من خلق القاضي أبي حسن
الفارج الكرب قد سدت مطالعه ... والكاشف الخطب قد أعيا بمن ومن
والموسع القول في فصل الخطاب إذا ... ضاق المجال على المهذارة اللسن
- 570-
سليمان بن محمد بن أحمد
أبو موسى المعروف بالحامض البغدادي: أحد ائمة النحاة الكوفيين، أخذ عن أبي العباس ثعلب وخلفه في مقامه وتصدّر بعده، وروى عنه أبو عمر الزاهد المعروف بغلام ثعلب وأبو جعفر الأصبهاني برزويه، وقرأ عليه أبو علي النقار «كتاب الادغام» للفرّاء، فقال له أبو علي: أراك يا أبا موسى
__________
[570]- ترجمة أبي موسى الحامض في الفهرست: 86- 87 وطبقات الزبيدي: 152 ومراتب النحويين: 87 وتاريخ بغداد 9: 61 والمنتظم 6: 145 ونزهة الألباء: 165 وإنباه الرواة 2: 21 وابن خلكان 2: 406 والنجوم الزاهرة 3: 193 والوافي 15: 426 وبغية الوعاة 1: 601.(3/1400)
تلخص البيان تلخيصا لا أجده في الكتب، فقال: هذا ثمرة صحبة أبي العباس ثعلب أربعين سنة.
وقال أبو الحسن ابن هارون: أبو موسى أوحد الناس في البيان والمعرفة بالعربية واللغة والشعر، وكان جامعا بين المذهبين الكوفي والبصري، وكان يتعصب للكوفيين، وكان شرس الأخلاق ولذا قيل له الحامض، مات في خلافة المقتدر لسبع وقيل لست بقين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثمائة، ووصى بدفاتره لابن فاتك المعتضدي ضنا بها أن تصير إلى أحد. وله من التصانيف: كتاب خلق الإنسان. كتاب السبق والنضال. كتاب المختصر في النحو. كتاب النبات. كتاب الوحوش. كتاب غريب الحديث. وغير ذلك [1] .
حدث الصولي [2] في «أخبار أبي نواس» قال: كنت يوما عند أبي سهل ابن نيبخت ومعنا أبو موسى الحامض فعاب أبا نواس وثلبه وأزرى على شعره، فقلت: ما الذي يستقبح من شعره وما الرديء منه، وأنا اقدّر أنه يأتي عليّ بشيء مما طعن به على أبي نواس فأحتجّ له عنه، فقال: تريد أردى وأقبح من أبياته:
ودار ندامى عطلوها وأدلجوا ... بها أثر منهم جديد ودارس
مساحب من جرّ الزقاق على الثرى ... وأضغاث ريحان طريّ ويابس
أقمنا بها يوما ويوما وليلة ... ويوما له يوم الترحل خامس
تدور علينا الراح في عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قرارتها كسرى وفي جنباتها ... مها تدّريها بالقسيّ الفوارس
فللخمر ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
فقلت: ويحك، هذا جيد شعره، بل خير أشعار الناس، قال: ما هو عندي كذلك، فقلت له: صدقت، وما يدريك ما علم الشعر، وهو مختل الذهن جدا.
__________
[1] نشر له د. ابراهيم السامرائي «ما يذكر وما يؤنث» ضمن (رسائل في اللغة) .
[2] من هنا زيادة من المختصر.(3/1401)
- 571-
سليمان بن محمد بن طراوة الشيباني المالقي النحوي
أبو الحسين: إمام عظيم في النحو، قرأ عليه أكثر أهل الأندلس، وكان نحوي الأندلس في عصره. قرأ على أبي الحجاج يوسف الأعلم، ومات سنة ثلاث وخمسمائة وعاش نيفا وتسعين سنة، وكان يعرف بالأستاذ، وذكروا أنه لا يلقب بالغرب بالاستاذ إلا النحوي الأديب؛ أنشد لأبزون بن مهيروز الكاتب:
وقالوا أفق من سكرة اللهو والصبا ... فقد لاح شيب في دجاك عجيب
فقلت أخلائي دعوني ولذتي ... فإن الكرى عند الصباح يطيب
فقال: هذا وهم، فإن هذين البيتين لأبي العباس، وأما التي لأبزون:
وقائلة خلّ الصبا لرجاله ... فإن الصبا بعد المشيب جنون
فقلت لها لا تعذليني فإنما ... ألذّ الكرى عند الصباح يكون
ومما هجاه به أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري:
ولابن طراوة نحو طري ... إذا شمّه الناس قالوا خري
- 572-
سليمان بن مسلم بن الوليد
الشاعر الضرير، وهو ابن مسلم بن الوليد المعروف بصريع الغواني الشاعر المشهور: كان كأبيه شاعرا مجيدا، وكان ملازما
__________
[571]- هذه الترجمة من الموجز؛ وانظر التكملة (مدريد) رقم 1979 والذيل والتكملة 4: 79 وتحفة القادم: 18 والمقتضب من تحفة القادم: 11 وبغية الملتمس رقم: 779 والمغرب 2: 208 وصفحات متفرقة من نفح الطيب (انظر الفهرس) وبغية الوعاة 1: 602 والخريدة (قسم المغرب) 3: 571 وله أخبار وشعر في معجم السفر للسلفي وأدباء مالقة وعيون التواريخ 12: 284. ونشر له د. الضامن رسالته في أخطاء الايضاح (بغداد 1990) .
[572]- الحيوان 4: 195 والوافي 15: 427 ونكت الهميان: 160، وقد عدّه الجاحظ في الحيوان 4: 195 والبيان (1: 31) أخا لمسلم بن الوليد.(3/1402)
لبشار بن برد يأخذ عنه ولذا كان متهما بدينه. مات سنة تسع وسبعين ومائة، ومن شعره [1] :
إنّ في ذا الجسم معتبرا ... لمريد العلم ملتمسه [2]
هيكل للروح ينطقه ... عرقه والصوت من نفسه
ربّ مغروس يعاش به ... عدمته كفّ مغترسه
وكذاك الدهر مأتمه ... أقرب الأشياء من عرسه
وقال:
جلدي عميرة فيه العار والحوب ... والعجز مطّرح والفحش مسبوب
وبالعراق نساء كالمها خطف ... بأرخص السّوم جذلات مناجيب
وما عميرة من ثدياء حالية ... كالعاج صفّرها الإكنان والطيب
وله:
تبارك الله ما أسخى بني مطر ... هم كما قيل في بعض الأقاويل
بيض المطابخ لا تشكو ولائدهم ... غسل القدور ولا غسل المناديل
وله شعر غير هذا اكتفينا بهذا المقدار منه.
- 573-
سليمان بن معبد، أبو داود السنجي المروزي
المحدث الحافظ النحوي:
دخل بغداد فأخذ عن الأصمعي والنضر بن شميل وغيرهما، ورحل إلى مصر والحجاز واليمن، وخرّج له مسلم بن الحجاج في «صحيحه» ، وكان ثقة ثبتا له معرفة تامة بالعربية واللغة. مات في ذي الحجة سنة سبع وخمسين ومائتين وقيل ثمان وخمسين ومائتين.
__________
[573]- ترجمته في الجرح والتعديل 4: 147 وتاريخ بغداد 9: 51 والوافي 15: 428 وبغية الوعاة 1: 603 وتهذيب التهذيب 4: 219.
[1] انظر الحيوان والبيان وعيون الأخبار 3: 61 والكامل 4: 95.
[2] الحيوان: لطلوب العلم مقتبسه.(3/1403)
- 574-
سليمان بن موسى
برهان الدين أبو الفضل بن شرف الدين المعروف بالشريف الكحال المصري: كان أديبا فاضلا بارعا في العربية وفنون الأدب عارفا بصناعة الكحل، خدم بها الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب وتقدم عنده وحظي لديه ونال عنده منزلة عالية وقبولا تاما، وكان بينه وبين القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني وبين شرف الدين محمد بن نصر المعروف بابن عنين الشاعر المشهور صحبة ومودة ومزاح ومداعبة، فأهدى الشريف الكحّال إلى ابن عنين خروفا وكان مهزولا، فكتب إليه ابن عنين يداعبه [1] :
أبو الفضل وابن الفضل أنت وأهله [2] ... فغير عجيب أن يكون لك الفضل
أتتني أياديك التي لا أعدها ... لكثرتها لا كفر نعمى ولا جهل
ولكنني أنبيك عنها بطرفة ... تروقك ما وافى لها قبلها مثل
أتاني خروف ما شككت بأنه ... حليف هوى قد شفّه الهجر والعذل
إذا قام في شمس الظهيرة خلته ... خيالا سرى في ظلمة ما له ظلّ
فناشدته ما تشتهي؟ قال قتّة ... وقاسمته ما شفّه؟ قال لي الأكل
فأحضرتها خضراء مجّاجة الثرى ... مسلّمة ما حصّ أوراقها الفتل
فظلّ يراعيها بعين ضعيفة ... وينشدها والدمع في العين منهلّ
«أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل»
وكتب إليه القاضي الفاضل يداعبه وكان قد كحله:
رجل توكّل بي وكحلني ... فدهيت في عيني وفي عيني
وخشيت تنقل نقط كحلته ... عينيّ من عين إلى غين
__________
[574]- ترجمة الشريف الكحال في عيون الانباء 2: 182- 183.
[1] عيون الانباء 2: 183 وديوان ابن عنين: 134 ونهاية الأرب 10: 131.
[2] الديوان: وتربه.(3/1404)
ومن شعر الشريف الكحال:
ومذ رمدت أجفانه لا مني العدا ... على حبّه يا ليت عيني لها فدا
فقلت لهم كفوا فإن لحاظه ... سيوف وشرط السيف أن يحمل الصدا
وقال:
كأن لحظ حبيبي في تناعسه ... وقد رماني بسقم في الهوى وكمد
من المجوس تراه كلما قدحت ... نيران وجنته أومى لها وسجد
توفي الشريف الكحال سنة تسعين وخمسمائة.
- 575-
سنان بن ثابت بن قرة أبو سعيد:
كان أديبا فاضلا مؤرخا عارفا بعلم الهيئة ماهرا بصناعة الطب، كان في خدمة المقتدر ثم القاهر والراضي، قال ابن النديم: ان القاهر بالله أراد سنان بن ثابت بن قرة على الإسلام فهرب ثم أسلم وخاف القاهر فمضى إلى خراسان ثم عاد، وتوفي ببغداد مسلما صبيحة يوم الجمعة مستهل ذي القعدة سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة.
وله من التصانيف: التاجي [1] في أخبار آل بويه ومفاخر الديلم وأنسابهم وألفه لعضد الدولة ابن بويه. رسالة في أخبار آبائه وأجداده وسلفه. إصلاح كتاب اقليدس في الأصول الهندسية. كتاب تاريخ ملوك السريان. الرسائل السلطانيات والاخوانيات. رسالة في شرح مذهب الصابئة. رسالة في الاشكال ذوات الخطوط المستقيمة التي تقع في الدائرة، صنفها لعضد الدولة. إصلاح كتب أبي سهل القوهي. رسالة في الفرق بين المترسل والشاعر. رسالة في الاستواء. رسالة في النجوم. رسالة في سهيل. رسالة في قسمة أيام الجمعة على الكواكب السبعة، الفها لأبي إسحاق الصابىء، وغير ذلك.
__________
[575]- ترجمة سنان بن ثابت في الفهرست: 359 وتاريخ الحكماء: 190 وعيون الانباء 1: 220 والوافي 15: 462. 15: 462 ولوالده كتاب الذخيرة في علم الطب، القاهرة 1928.
[1] التاجي أيضا من مؤلفات أبي إسحاق الصابي.(3/1405)
- 576-
سهل بن محمد بن عثمان بن القاسم أبو حاتم السجستاني البصري:
أصلهم من تستر، تجروا إلى سجستان وكرمان فأصابوا مالا ثم استوطنوا سجستان فرأسوا أهلها بالمال. وكان أبو حاتم يؤم الناس بمسجد الجامع بالبصرة ويقرأ الكتب على المنبر، وكان حسن الصوت جهيرا حافظا للقرآن والقراءات والعروض والتفسير. وكان جماعة للكتب حتى انه لم يكن بالبصرة مثل كتبه، وكان يعنى باللغة والأخبار، وتوفي على ما حققه ابن دريد سنة خمس وخمسين ومائتين وقد قارب التسعين بالبصرة.
وكان إماما في غريب القرآن واللغة والشعر، أخذ عن أبي زيد الأنصاري والأصمعي وأبي عبيدة وعمرو بن كركرة وروح بن عبادة، وقرأ كتاب سيبويه مرتين على الأخفش أبي الحسن سعيد بن مسعدة، وأخذ عنه المبرد وابن دريد وغيرهما.
[وكان] يقال: لأهل البصرة ثلاثة كتب يفتخرون بها على أهل الأرض: كتاب النحو لسيبويه وكتاب الحيوان للجاحظ وكتاب أبي حاتم في القراءات.
وقيل: خلف أبو أبي حاتم مائة ألف دينار عينا غير الضياع والمنازل، فأنفقها أبو حاتم في طلب العلم وعلى العلماء. ولما مات أبو حاتم بلغت قيمة كتبه أربعة عشر ألف دينار فوجه يعقوب بن الليث الخارجي بسجستان من اشتراها ونقلت إليه.
حدث أبو حاتم قال: كنت بمسجد الجامع بالبصرة في يوم جمعة وأنا إذ ذاك غلام، إذ دخل أبو نواس فجلس إليّ وجعل يعبث بي وينشدني، فقلت: اللهم خلصني منه، فدخل غلام ثقفي من أجمل الناس فلما بصر به دهش وتحلحل عن مكانه وأجلسه بينه وبيني وجعل يحادثه وينشده إلى أن أقيمت الصلاة، فالتفت إليّ
__________
[576]- ترجمة أبي حاتم السجستاني في الفهرست: 64 وأخبار النحويين البصريين: 93 ومراتب النحويين: 130 ونور القبس: 225 ونزهة الألباء: 129 وإنباه الرواة 2: 58 وطبقات الزبيدي: 94 وتاريخ أبي المحاسن: 73 وابن خلكان 2: 430 وطبقات ابن الجزري 1: 320 وعبر الذهبي 1: 455 وسير الذهبي 12: 268 والوافي 16: 14 ومرآة الجنان 2: 156 والبداية والنهاية 11: 2 وتهذيب التهذيب 4: 257 والنجوم الزاهرة 2: 332 والبلغة: 93 وبغية الوعاة 1: 606 والشذرات 2: 121 وطبقات الداودي 1: 210؛ وما ورد في م من هذه الترجمة مقتصر على الفقرة الثانية وعدّ بعض مؤلفاته، وما تبقى فهو مزيد من المختصر.(3/1406)
وقال:
أتيح لي يا صاح مستظرف ... تسحر عيني عينه السّاحره
ثم التفت إلى الغلام وقد قام ينظر إلى كفله فإذا هو راسح فقال:
ما شئت من دنيا ولكنه ... منافق ليست له آخره
قال فقلت له: سمعت بهذا الشعر فأنشدته الساعة؟ فحلف أنه ما سمعه وأنه ارتجله الساعة.
وقيل: كان أبو حاتم يميل إلى الأحداث ميلا كثيرا ويمازحهم ويفرط، وربما وضع يده يلمسهم، فعاتبه بعض البصريين وقال له: إنك لتفعل هذا وتقوم إلى الصلاة. وفي ذلك يقول:
نفسي فداؤك يا عبيد الله حل بك اعتصامي ... فارحم أخاك فانه
نزر الكرى بادي السقام ... وأنله ما دون الحرا
م فليس يطمع في الحرام
ومما يروي لأبي حاتم:
الدمع من عينيّ مرفضّ ... وللهوى في كبدي عضّ
أخلق وجهي شادن وجهه ... عندي جديد أبدا غضّ
أرعد أن أبصره مقبلا ... كأنما ترجف بي الأرض
وحضر يوما مجلسه غلام من بني هاشم أحسن الناس فقال أبو حاتم:
لا تظنن بي فجورا فما ... يزكى فجور بحاملي القرآن
أنا عفّ الضمير غير مريب ... غير أني متيم بالحسان
وله من المصنفات: كتاب ما تلحن فيه العامة. كتاب في النحو على مذهب سيبويه والأخفش. كتاب المذكر والمؤنث. كتاب الشجر والنبات. كتاب المقصور والممدود. كتاب المقاطع والمبادي. كتاب الفرق. كتاب القراءات. كتاب الفصاحة. كتاب النخلة. كتاب الاضداد. كتاب القسيّ والنبال. كتاب السيوف والرماح. كتاب الوحوش. كتاب الحرار. كتاب الهجاء. كتاب الزرع. كتاب خلق(3/1407)
الإنسان. كتاب الادغام. كتاب النحل والعسل. كتاب الإبل. كتاب الكرم. كتاب الشتاء والصيف. كتاب اللبأ واللبن والحليب. كتاب الشوق إلى الوطن. كتاب الخصب والقحط. كتاب اختلاف المصاحف. كتاب الجراد. كتاب الحر والبرد والقمر والليل والنهار. كتاب الفرق بين الآدميين وبين كل [ذي] روح. كتاب إعراب القرآن. كتاب الطير [1] .
- 577-
سهل بن محمد أبو داود النحوي
مؤدب سيف الدولة أبي الحسن علي بن حمدان: وله شعر حسن، وفضل ظاهر، منه:
يا لائمي كفّ الملام عن الذي ... أضناه طول سقامه وشقائه
إن كنت ناصحه فداو سقامه ... وأعنه ملتمسا لأمر شفائه
حتى يقال بأنك الخلّ الذي ... يرجى لشدة دهره ورخائه
أو لا فدعه فما به يكفيه من ... طول الملام فلست من نصحائه
نفسي الفداء لمن عصيت عواذلي ... في حبّه لم أخش من رقبائه
الشمس تطلع من أسرّة وجهه ... والبدر يطلع من خلال قبائه
فاستحسن سيف الدولة هذه الأبيات وأمر المتنبي بإجازتها، فقال:
عذل العواذل حول قلبي التائه [2]
له كتاب في المذكر والمؤنث كبير.
- 578-
سهل بن المرزبان، أبو نصر:
أصله من أصبهان، ومنشأه بقاين، ومستقره
__________
[577]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الوافي 16: 21 وبغية الوعاة 1: 607.
[578]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر دمية القصر: 964 والوافي 16: 21- 22.
[1] نشر له الدكتور إبراهيم السامرائي «كتاب النخل» (بيروت: 1985) وخليل إبراهيم العطية: كتاب «فعلت وأفعلت» (البصرة: 1979) .
[2] عجز البيت: وهوى الأحبة منه من سودائه. انظر ديوان المتنبي: 342.(3/1408)
نيسابور. قد جمع من الكتب الكثير، وله أشعار كثيرة النكت منها:
كم ليلة أحييتها ومؤانسي ... طرف الحديث وطيب حثّ الأكؤس
شبّهت بدر سمائها لما دنت ... منه الثريا في قميصي سندس
ملكا مهيبا قاعدا في روضة ... حيّاه بعض الزائرين بنرجس
وله من الكتب: كتاب أخبار أبي العيناء، كتاب أخبار ابن الرومي. كتاب جحظة البرمكي، كتاب ذكر الأحوال في شعبان ورمضان وشوال. كتاب آداب في الطعام والشراب.
- 579-
سهل بن هارون بن راهبون
أبو عمرو الفارسي الأصل الدستميساني: دخل البصرة واتصل بالمأمون فولّاه خزانة الحكمة. وكان أديبا كاتبا شاعرا حكيما شعوبيا يتعصب للعجم على العرب شديدا في ذلك، وكان الجاحظ كثيرا ما يحكي عنه ويصف براعته ويثني على فصاحته، وكان مشهورا بالبخل وله في ذلك أخبار كثيرة، وله رسالة في مدح البخل أرسلها إلى بني عمه من آل راهبون وأرسل نسخة منها إلى الوزير الحسن بن سهل فوقّع عليها الوزير: يا سهل لقد مدحت ما ذمّ الله، وحسّنت ما قبّح الله، وما يقوم صلاح لفظك بفساد معناك، وقد جعلنا ثواب عملك سماع قولك [1] فما نعطيك شيئا، وقد أورد هذه الرسالة الجاحظ في كتاب البخلاء وقد تجنبنا الاطالة بذكرها.
توفي سهل بن هارون سنة مائتين وخمس عشرة.
ومن شعره:
فوا حسرتا حتى متى القلب موجع ... بفقد حبيب أو تعذّر إفضال
__________
[579]- ترجمة سهل بن هارون في الفهرست: 133 واعتاب الكتاب: 85 والوافي 16: 18 والفوات 2: 84 وسرح العيون: 242 وشرح البسامة: 152 وله أخبار في كتب الأدب والتاريخ كالبيان والتبيين ومروج الذهب والعقد والتذكرة الحمدونية: وقطع الشعر في هذه الترجمة مزيدة من الموجز.
[1] ر: بقبح معناك وقد جعلنا جائزتك عليه الأخذ برأيك فيه.(3/1409)
وما الفضل إلا أن تجود بنائل ... والا لقاء الأخ ذي الخلق العالي
وله يعتذر:
إن كنت أخطأت أو أسأت ففي ... مثلك مأوى للعفو والمنن
أتيت ما أستحق من خطأ ... فعد بما تستحقّ من حسن
وله يمدح:
بذول تلاد المال فيما ينوبه ... منوع إذا ما منعه كان أحزما
مذلّل نفس قد أبت غير أن يرى ... مكارم ما يأتي من الحق مغنما
وكتب سهل بن هارون إلى المأمون رقعة مختصرة قال فيها: وكرهت أن يكثر الكلام فيتفرق فيه الذهن.
له من التصانيف: كتاب ديوان رسائله. كتاب ثعلة وعفراء. كتاب الهذلية [1] والمخزومي. كتاب النمر والثعلب [2] . كتاب الوامق والعذراء [3] . كتاب بدود لدود ردود. كتاب الضربين [4] . كتاب اسباسيوس في اتخاذ [5] الأخوان. كتاب الغزالين. كتاب أدب أسل بن أسل [6] ، وكتاب شجرة العقل. كتاب إلى عيسى بن أبان في القضاء. كتاب تدبير الملك والسياسة، وغير ذلك.
- 580-
سهم بن ابراهيم الوراق:
من شعراء القرن الثاني، ومن أدباء القيروان، قال في حصار أبي يزيد مخلد الخارجي لسوسة:
إنّ الخوارج صدّها عن سوسة ... منّا طعان السّمر والإقدام
وجلاد أسياف تطاير دونها ... في النقع دون المحصنات الهام
__________
[580]- معجم البلدان (سوسة) 3: 192.
[1] م: الهنبلية.
[2] نشره عبد القادر المهيري في حولية الجامعة التونسية، العدد الأول 1964.
[3] م: والعذار.
[4] الفهرست: كتاب الضرتين.
[5] م: اتحاد.
[6] الفهرست: أشك بن أشك.(3/1410)
حرف الشين
- 581-
شاهفور بن طاهر بن محمد الاسفرايني
أبو المظفر الفقيه الأصولي المفسّر: جامع بارع، صنف كتاب التفسير الكبير، كتاب في الأصول. مات سنة إحدى وسبعين وأربعمائة.
- 582-
شبل بن عبد الرحمن، الأديب النحوي النيسابوري:
سمع عبد الملك بن قريب الأصمعي.
- 583-
شبيب بن شبة الأخباري الأديب الشاعر:
صاحب خالد بن صفوان الذي تقدمت ترجمته في حرف الخاء [1] ، ولهما أخبار ومواقف مشهورة عند الخلفاء والأمراء.
وكان بين شبيب وأبي نخيلة الراجز الشاعر صحبة ومودة. حدّث الأصمعي قال: رأى أبو نخيلة على شبيب حلّة فأعجبته فسأله إياها فوعده فقال فيه:
يا قوم لا تسوّدوا شبيبا ... الخائن ابن الخائن الكذوبا
هل تلد الذئبة إلا ذيبا
__________
[581]- هذه الترجمة من المختصر.
[582]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر بغية الوعاة 2: 3 (وهو ينقل عن الحاكم) .
[583]- الأغاني 20: 362 وأخبار شبيب منثورة في كتب الأدب.
[1] انظر الترجمة رقم: 446.(3/1411)
فلما بلغ ذلك شبيبا بعث إليه بالحلة وكتب إليه:
إذا غدت سعد على شبيبها ... على فتاها وعلى خطيبها
من مطلع الشمس إلى مغيبها ... عجبت من كثرتها وطيبها
مات شبيب بعد المائتين.
- 584-
شبيب بن يزيد بن جمرة بن عوف بن أبي حارثة
المعروف بابن البرصاء المرّي: والبرصاء أمه، واسمها قرصافة بنت الحارث، وهو ابن خالة عقيل بن علّفة الآتية ترجمته في حرف العين [1] ، وهو شاعر مجيد من شعراء الدولة الأموية وكان بينه وبين ابن خالته عقيل منافرة ومهاجاة، وكان من سادات قومه وأشرافهم، وله أخبار وأشعار كثيرة ذكرها أبو الفرج في كتابه منها [2] :
وإني لسهل الوجه يعرف مجلسي ... إذا أحزن القاذورة المتعبّس
يضيء سنا جودي لمن يبتغي القرى ... وقد حال دون النّار ظلماء حندس
ألين لذي القربى مرارا وتلتوي ... بأعناق أعدائي حبال فتمرس
- 585-
شبيل بن عزرة الضبعي:
أعرابي راوية نسابة عالم بالغريب والشعر. وكان شاعرا، وكان يتشيع سبعين سنة، ثم صار بعد ذلك خارجيا. كنيته أبو عمرو. يروي عن أنس بن مالك، وروى عنه شعبة.
__________
[584]- ترجمة شبيب بن البرصاء في الأغاني 12: 273 وخزانة الأدب 1: 190 والوافي 16: 105 والبرصان والعرجان: 96 وطبقات ابن سلام: 709، 732 (وموضعه الصحيح هو معجم الشعراء) .
[585]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الفهرست: 51 والبيان والتبيين 1: 343 والاشتقاق 119، 318 والسمط: 194 والخزانة 1: 43 وديوان شعر الخوارج: 226.
[1] لم ترد لعقيل ترجمة لأن موضعه الصحيح معجم الشعراء.
[2] الأغاني 12: 283.(3/1412)
حدث شبيل الضبعي قال: سمعت أبا حمزة قال، قلت لابن عباس: أأقصر إلى الأبلّة؟ قال: تجيء من يومك؟ قلت: نعم. قال: لا تقصر.
وحدث شبيل قال: انطلقنا إلى أنس بن مالك ونحن أغيلمة فسمعته يحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: «مثل الجليس الصالح مثل العطار إن لم يعطك من طيبه أصبت من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل القين إن لم يحرقك أصابك من ريحه» .
حدث الأصمعي قال [1] : كنت في مجلس أبي عمرو بن العلاء فجاءه شبيل بن عزرة الضبعي فلما دخل عليه رفعه أبو عمرو، وألقى له لبد بغلته، فلما جلس قال:
ألا تعجبون لرؤبتكم هذا، يعني رؤبة بن العجّاج. سألته عن اشتقاق اسمه فلم يدر ما هو، فوثب يونس بن حبيب النحوي حتى جلس بين يدي شبيل، وكان يونس شديد التعصّب لرؤبة، فقال له: لعلك تظن أن معد بن عدنان كان أفصح من رؤبة، أنا غلام رؤبة، فما الروبة والروبة والروبة والروبة والرؤبة، الخامسة مهموزة فقط؟
فغضب شبيل بن عزرة وقام، فقال أبو عمرو ليونس: ما أردت بهذا رجل شريف قصدنا في مجلسنا فرددت عليه قوله وأحفظته، فقال يونس: ما تمالكت إذ ذكر رؤبة أن قلت ما قلت. ثم فسّر يونس فقال: الروبة الحاجة. والروبة جمام الفحل، يقال أعطني روبة فحلك، والروبة القطعة من الليل، والروبة القطعة من اللبن الحامض يروب به الحليب، والروبة النوم، وفلان لا يقوم بروبته أي بما هو فيه. الرؤبة بالهمزة القطعة من الخشب يربّ بها القعب، وبها سمّي الرجل.
وقد حكي أن رؤبة قال لشبيل: والله ما أدري لأيّها سماني، فهذا الذي عناه شبيل لم يدر ما اسمه.
وقد روي أن يونس قال لرؤبة: لم أسماك أبوك رؤبة، أبرؤبة الليل أم بروبة الفرس أم بروبة القدح أم روبة اللبن؟ فهذا يدل على صحة قول شبيل في رؤبة.
قرأت بخط أبي إسحاق ابراهيم بن محمد الطبري المعروف بتوزون ما يرفعه إلى شبيل الضبعي أنه أنشد للمتلمس، وكان عالما بالمتلمس لأنهما من ضبيعة:
__________
[1] نور القبس: 53- 54 والاشتقاق: 119 وأمالي القالي 1: 48.(3/1413)
إذا كنت في كلّ الأمور معاتبا ... صديقك لا تلقى الذي لا تعاتبه
فعش واحدا أوصل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
قال أبو عبيدة: فأنشدني بشار هذه الأبيات لنفسه في قصيدته التي يقول فيها:
رويدا تصاهل بالعراق جيادنا ... كأنك بالضحاك قد قام نادبه
فقلت لبشار: إن شبيلا أنشدني هذه الأبيات للمتلمس. فقال: كذب شبيل، هذه والله شعري، ولقد أعطاني ابن هبيرة عليه أربعين ألفا.
- 586-
شداد بن إبراهيم بن حسن
أبو النجيب الملقب بالطاهر الجزري: شاعر من شعراء عضد الدولة ابن بويه، ومدح الوزير المهلبي، كان دقيق الشعر لطيف الأسلوب مات سنة إحدى وأربعمائة، ومن شعره:
إذا المرء لم يرض ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أحسنه
فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوما ويبكي سنه
ومنه [1] :
أيا جيل التصوّف شرّ جيل ... لقد جئتم بأمر مستحيل [2]
__________
[586]- ترجمة شداد الجزري الملقب بالطاهر (أو الظاهر) في تتمة اليتيمة 1: 46 ودمية القصر 1: 126 والاكمال 5: 240 وبغية الطلب 8: 221 وابن خلكان 5: 265 (7: 341) والوافي 16: 125 وضبطه السلفي بالشين (شداد) وقيل اسمه سداد (ورجح ابن العديم ذلك) أو أبو السداد (بالمهملة) قال ابن العديم: وذكر لي أبو السعادات ابن المرحل أنه بالسين المهملة، وكذلك ذكره رفيقنا ابن النجار في حرف السين المهملة في التاريخ الذي ذيل به تاريخ أبي بكر الخطيب، وشاهدت اسمه بخط الحافظ السلفي مضبوطا بالشين المعجمة في بعض تعاليقه.
[1] بغية الطلب: 222. (وقد مرّا منسوبين للمعري في ترجمته) .
[2] روايتهما عند ابن العديم:
أرى جيل التصوف شرّ جيل ... فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عشقتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي(3/1414)
أفي القرآن قال لكم إلهي ... كلوا مثل البهائم وارقصوا لي
وقال:
قلت للقلب ما دهاك أبن لي ... قال لي بائع الفراني فراني
ناظراه فيما جنت ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
وقال:
بلاد الله واسعة فضاها ... ورزق الله في الدنيا فسيح
فقل للقاعدين على هوان ... إذا ضاقت بكم أرض فسيحوا
وقال [1] :
أفسدتم نظري عليّ فما أرى ... مذ غبتم حسنا إلى أن تقدموا
فدعوا غرامي ليس يمكن أن ترى ... عين الرضى والسخط أحسن منكم
- 587-
الشرقي بن القطامي الكلبي:
الشرقي والقطامي لقبان، وإنما ذكرناه في هذا الباب لشهرته بهذا الاسم، وهو الوليد بن الحصين بن حماد بن حبيب بن جابر بن فراس، وهو مالك بن عمرو بن امرىء القيس بن النعمان بن عامر بن عبد ود بن عوف بن كنانة بن عفيف بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.
كان علّامة نسّابة أخباريا إلا أنه كان ضعيفا في روايته، وكان من أهل الكوفة، وكنية شرقي أبو المثنى، وكان أعور، وكان لا يشرب من النبيذ إلا قدحا واحدا.
__________
[587]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر نور القبس: 275 والمعارف: 539 والفهرست: 102 وتاريخ بغداد 9: 278 ونزهة الألباء: 22 واللباب (القطامي) وميزان الاعتدال 2: 268 والمغني في الضعفاء 1: 297 ولسان الميزان 3: 142 والوافي 16: 132.
[1] بغية الطلب 8: 223.(3/1415)
حدث ابن دريد ما يرفعه إلى ابن الكلبي عن أبيه قال [1] : كنت يوما عند الشرقي ابن القطامي، فقال: من يعرف منكم أسد بن عبد مناف بن شيبة بن عمرو بن المغيرة بن زيد، وهو من أشرف الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ فقالوا: ما نعرفه. فقال: هو علي بن أبي طالب. كانت أمه سمته أسدا، وأبوه غائب لما ولدته، واسم أبي طالب عبد مناف، واسم عبد المطلب شيبة، واسم هاشم عمرو، واسم عبد مناف المغيرة، واسم قصي زيد.
قال الشرقي: دخلت على المنصور فقال لي: يا شرقي، علام يزار المرء؟
فقلت: يا أمير المؤمنين على خلال أربع: على معروف سلف أو مثله يؤتنف أو قديم شرف أو علم مطرف. قال غيره: فما وراء ذلك فولوع وكلف.
ومن مسند الشرقي [2] ما رواه عن ابن عباس أن عبد الله بن رواحة الأنصاري أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني أتيت جارية لي في بعض الليل وإن صاحبتي انتبهت، فأحسّت بذلك، فبكتتني، فجحدت ذلك. فقالت: إن كنت صادقا فاقرأ آيات من القرآن، فأنشأت أقول:
وفينا رسول الله يتلو كتابه ... كما لاح معروف من الصبح ساطع [3]
تراه يجافي جنبه عن فراشه ... إذا وطّئت بالمشركين المضاجع
أغرّ وهوب ماجد متكرّم ... رحيم حليم واضح اللون ناصع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا ... به موقنات أن ما قال واقع
وأعلم علما ليس بالظن أنني ... إلى الله محشور هناك وراجع
قال، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلم، حتى ردّ يده على فيه، ثم قال: لعمري هذا من معاريض الكلام، فما قالت لك؟ قال: قالت لي: أما إذ قرأت القرآن فإني أتهم بصري وأصدق كتاب الله. فقال رسول الله، صلّى الله عليه وسلم: لقد وجدتها ذات فقه في الدين.
حدث المرزباني بإسناد عن الشرقي قال: أرسل لي أمير المؤمنين المنصور
__________
[1] ورد في الوافي.
[2] انظر الاستيعاب: 900- 901 واستشهد بأبيات أخرى.
[3] ديوان عبد الله بن رواحة (قصاب) : 162 (ما عدا البيت الثالث) .(3/1416)
فأتيته، فدخلت عليه وهو قاعد في مشرفة في داره التي فيها مجلس الخضراء، فسلمت عليه بالخلافة فأدناني وقربني حتى كدت أن تمسّ ركبتي ركبته. وسألني عن جميع أحوالي في بدني ومعاشي وعيالي، ثم بسطني وأنّسني بالحديث ساعة، ثم قال: لو أتيت فتانا محمدا، يعني المهدي، فحدثته من طرائف ما عندك، وخبرته بشرف أهله في جاهليتهم وإسلامهم، وأيامهم وأنسابهم، ومن يقرب إليه من نسبه في قريش، وصهره من جميع العرب، وما يحتاج إليه من منازل أهله وأقاربه منه والأقرب فالأقرب منهم لم يضع ذلك لك عندي. فقلت: أفعل ذلك وأبالغ فيه واستجزل حظي في القربة من أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه في ذلك، ومن المهدي، أكرمه الله.
فحسن موقع قولي عنده، وسرّ به، وأمر لي بألفي دينار، وقال: اتخذها عقدة من معاش لك ولعقبك من بعدك، ولا تبسط يدك بالإسراف في إنفاقها، ولم يعلم أني أحوط لها منه، فقلت: نعم يا أمير المؤمنين، وأزيد على ذلك. قال: إذا أزيدك، وأعلمني كلّ وقت تصير فيه إلى محمد، وما يكون منك ومنه من إلقائك إليه وقبوله منك، ولا تخف عليّ من أمركما شيئا يبلغنيه غيرك، فقد وثقت بقولك واستنمت إلي كفايتك. فقلت: أفعل من ذلك ما يحسن لي به الموقع من قلب أمير المؤمنين.
وتبعني رسوله بالمال، فقبضته وغدوت على المهدي، فأعلمته بعثة أمير المؤمنين إليّ، وما أمر به. فأمرني بالملازمة، ولم أر له في ذلك النشاط لما ألقيت إليه، وأقبلت عليه بالحديث والكلام، فلم أره يهشّ لذلك، ولا يحسن له الاستماع، فغمني ذلك، وتخوفت أن أعلمه أباه فأغمّه، فلبثت منه على خطر عظيم، وأمسكت المال عندي مخافة أن يسترجعه إذا بلغه ذلك. فلم أحدث في شيء منه حدثا، وأقبلت آتيه، فلا يأذن لي إلا في الأيام، ثم يأمر أن لا أطيل في الجلوس، وأراه يميل إلى اللهو، وإلى الحديث المطرب الملهي، فعزمت على أن أسلك ذلك الطريق بقدر ما أقرب من قلبه، ثم أشرب ذلك ببعض ما أمرت به. فدخلت عليه يوما، فرأيته على الحالة التي كنت أراه عليها، وأجرى بعض من عنده حديثا من حديث بعض الملوك فنشط له وضحك. فقلت: أصلح الله الأمير، عندي ما هو أحسن من هذا وأطيب، فإن أذن الأمير حدثته، فاستوى على سريره جالسا ثم قال: هات ما عندك. فقلت:
إنه كان في الزمن الأول ملك من الملوك، وكان على بابه غسّال يغسل ثياب حشمه(3/1417)
فيعيش بأحسن حال حتى مات ذلك الملك وتفرّق حشمه فساءت حال الغسّال وافتقر فقال لامرأته: ويحك قد ترين ما قد أصبنا به من موت الملك، وقد رأيت رأيا فما ترين؟ قالت: ما هو؟ قال: نرتحل فنطلب باب ملك مثله، فإنه يحتاج إلى مثلي، فعسى الله أن يصنع لي ولك؛ قالت: نعم ما رأيت فافعل. فعمد الغسال إلى ما عنده من متاع وخزائن فباعه، وخرج وهو وامرأته قد حمل قرازمه في كساء على ظهره، والقرازم التي تدق بها الثياب وتسمى الكودينات، حتى أتيا بلدة فيها جبار على باب مدينته صنم على علم، لا يدخل مدينته أحد إلا نهارا، فمن دخلها من الناس فسجد لذلك الصنم لم يعرض له، ومن لم يسجد له قتل ولطّخ ذلك العلم بدمه بعد أن تقضى له ثلاث حوائج، ثم يقتل. فدخل الغسّال وامرأته، فلم يسجدا للصنم، وللملك منظرة في قصره يشرف منها على الصنم فيرى من يسجد ومن لا يسجد، فلما رآهما الملك لم يسجدا، دعا بهما ليقتلا، وقال لهما: ما منعكما أن تسجدا للصنم، وقد رأيتما الناس يسجدون له؟ قالا: لم نعلم أنه من أمر الملك فيأمر الملك أن نسجد له بقية يومنا. قال: ليس إلى ذلك سبيل، ولا بد من قتلكما بعد أن أقضي لكلّ واحد منكما ثلاث حوائج فاسألاها، فبكيا وتضرعا وسجدا له، فأبى إلا قتلهما. فلما يئسا من الحياة ومن عفوه، قال الرجل: يأمر لي الملك بعشرة آلاف درهم فأتوه بها. ثم قال: هات الثانية. قال: دار يسكنها ولدي من بعدي، فدفعت إليه دار. ثم قال:
هات الثالثة، فوضع كساءه على ظهره كهيئة المثقل، ثم أخرج أعظم قرزوم معه فأمسكه بيده، ومسحه بكمه. فقال الملك: هات حاجتك، قال: أضرب رأس الملك بهذا ثلاثا. قال فضحك المهدي حتى انقلب عن سريره، ثم قال: إيه.
قلت: فبقي الملك مكبّا مطرقا لا يدري ما يصنع، وعرض على الغسال من الأموال ما لا يحصى، فأبى وقال: ما ينفعني المال بعد موتي؟ فقال الملك لجلسائه: ما ترون؟ فقالوا: إما أن تقضي حاجته أو تبطل هذه السنة. فقال: ما إلى ابطالها سبيل. ودعا الملك بوسادة كبيرة، فوضعت على رأسه لتقيه من الضرب. فقال الغسال: ليس هذا شرطي أفتدعوني أتّقي من القتل كما تتقي من ضربي؟ قالوا:
صدق، فبقي الملك ساعة يفكر ثم قال: نحّوها، وقال له: اضرب، فضرب ضربة ألصقت رأس الملك بالأرض، وتصايح الناس والحشم، والملك مغشيّ عليه. قال:(3/1418)
فضحك المهدي أكثر من ضحكه الأول. ثم قال: إيه. قلت: والغسال قائم، وقرزومه بيده رافع له، وقد فلق رأس الملك والدم يسيل، وقد حضر العشاء وأفاق الملك والغسال بعينه، فلما رآه قائما بقرزومه تغاشى، فلم يزل كذلك، فلما طال به المكث، وحضر المساء، رفع رأسه إلى الغسّال فقال له: ويلك أيّ ضرباتك هذه؟
قال: هذه الهوينا. قال: فازداد المهدي ضحكا، واستزادني في الحديث. قلت:
فقال الملك في نفسه: هذه أهون ضرباته، فإن عاودني بأشدّ منها قتلني. فرفع رأسه متحاملا، وقال: قد رأيته حين سجد، ولكني أردت أن استخرجه وأعلم طاعته، اذهب يا غسّال فقد سوغتك ما وهبت لك، ولك عشرة آلاف درهم أخرى على أن لا تضربني الضربتين. فقال الغسال: لا والله لا أبطلها ما سجدت للصنم، فاما أن تبطله أو تقضي حاجتي. فقال الملك لجلسائه: ما ترون؟ قالوا: الرأي الوفاء. فلما علم الملك أن لا منجى له من الغسّال، قال لجلسائه قد كان أبي تقدم إلي وقال: إن رابك من أمر الصنم ريب فاكسره. فأمر بكسره وإبطال السنة. قال: والغسال قائم بقرزومه. فقال له: اخرج عني، ما قيامك؟ قال: العشرة آلاف الأخرى. قال:
اعطوه، لا بارك الله له فيها. قال: بلى والله، [ ... ] والمهدي يضحك ويتعجب، ويقول له إيه، فضرب الغسّال رأس الملك وكسر صنمه، وانصرف سالما؟! قلت:
نعم، أعز الله الأمير. قال: كم كان أمر لك أمير المؤمنين سمّ عداه ولا تسمّ حقه.
قال: قلت بألفين، قال: فأمر لي بألف دينار، وقال لي لولا أني أكره أن أبلغ عطية أمير المؤمنين فأساويه ما قصرت بك عنها إن سألك أمير المؤمنين ليكون أعذر لي عنده. قال: وأمر لي بكسوة وحملان، ثم قال: لا تغبّني يوما واحدا، قلت: أفعل أعز الله الأمير. فكنت إذا جئته بعد ذلك أكاد أن أحمل أنا ودابتي حتى ندخل، فقلت في نفسي: أنت هاهنا والله لأوسعنّك من هذا، ولأوسعنّ معاشي معك. قال:
فما خرجت من عنده يوما إلا بصلة أو تحفة من طيب ولطف وغيرهما. فكنت في خلال ذلك أشوبه ببعض ما أمرت به فيهشّ له قلبه، وانتفعت به وبالمنصور.(3/1419)
- 588-
شهفيروز بن سعد [1] بن عبد السيد أبو الهيجاء الأصبهاني:
كان أديبا فاضلا شاعرا مجيدا في النظم والنثر له مقامات أنشأها سنة تسعين وأربعمائة، وأخذ عن أبي جعفر محمد بن أحمد بن مسلمة وغيره، مات سنة ثلاثين وخمسمائة، ومن شعره:
لا أستلذّ العيش لم أدأب له ... طلبا وسعيا في الهواجر والغلس
وأرى حراما أن يواتيني الغنى ... حتى يحاول بالعناء ويلتمس
فاحبس نوالك عن أخيك موفّرا ... فالليث ليس يسيغ إلا ما افترس
وقال [2] :
وساق بتّ أشرب من يديه ... مشعشعة بلون كالنجيع
فحمرتها وحمرة وجنتيه ... ونور الكاس في نور الشموع
ضياء حارت الأبصار فيه ... بديع في بديع في بديع
- 589-
شمر بن حمدويه أبو عمرو الهروي اللغوي:
أحد الأثبات للغات الحفاظ للغريب وعلم العرب، كان عالما فاضلا ثقة نحويا لغويا راوية للأخبار والأشعار، رحل إلى العراق في شبيبته فأخذ عن جماعة من أصحاب أبي عمرو الشيباني وأبي زيد الأنصاري وأبي عبيدة والفراء، منهم: الرياشي وأبو حاتم السجستاني ومات سنة
__________
[588]- ترجمته في الوافي 16: 196 والفوات 2: 107 وعيون التواريخ 12: 323.
[589]- هذه الترجمة وردت في م؛ ولكنها في المختصر تمثل شكلا مختلفا بعض الشيء، وقد زاوجت بينهما، وانظر: إنباه الرواة 2: 77 وتهذيب اللغة 1: 21 ونزهة الألباء: 135 والوافي 16: 180- 181 والبلغة: 94 وبغية الوعاة 2: 4.(3/1420)
خمس وخمسين ومائتين في أيام المعتز أو المهتدي لأن في هذه السنة خلع المعتز وولي المهتدي. ثم رجع إلى خراسان وأخذ عن أصحاب النضر بن شميل والليث.
وصنف كتابا كبيرا رتّبه على حروف المعجم ابتدأ فيه بحرف الجيم وطوّله بالشواهد والروايات الجمة وأودعه تفسير القرآن وغريب الحديث شيئا لم يسبقه إلى مثله أحد تقدمه. ولما كمل الكتاب ضنّ به في حياته فلم يبارك الله له فيما فعله ولم ينسخه أحد حتى مضى لسبيله، واختزن بعد وفاته بعض أقاربه ذلك الكتاب وغرق في جملة ما غرق من [مال] ذلك الرجل فلم ينتفع به. قال أبو منصور الأزهري: أدركت من ذلك الكتاب تفاريق أجزاء فتصفحت أبوابها فوجدتها على غاية من الكمال، والله يغفر لنا ولأبي عمرو ويتغمد زلته، فإن الضن بالعلم غير محمود ولا مبارك فيه. وقيل اتصل أبو عمرو بيعقوب بن الليث الأمير فخرج معه إلى نواحي فارس وحمل معه كتاب الجيم، فطغى الماء من النهروان على معسكر يعقوب، فغرق الكتاب في ما غرق من المتاع.
قال أبو العباس ابن حمويه: سمعت شمر بن حمدويه يقول: دخلت على الياس بن أسد الساماني يوم ورد نعي عبد الله بن طاهر فقال لي: خذ يا شمر، الموت فوت الأبدان وموت الأقران.
ولأبي عمرو من التصانيف غير كتاب الجيم، كتاب غريب الحديث كبير جدا.
وكتاب السلاح. وكتاب الجبال والأودية، وغير ذلك.
- 590- شهيد بن الحسين البلخي أبو الحسين الوراق المتكلم: مات سنة خمس عشرة وثلاثمائة. وكان أبو زيد وأبو القاسم وشهيد البلخيون في عصر واحد، كلّ منهم كان إماما في العلوم الحكمية، وكان بينهم مودة وكيدة وعشرة حسنة، وماتوا في مدة قريبة، وكان شهيد هذا أسبقهم موتا، ثم تلاه أبو القاسم، ثم تلاه أبو زيد. وكان صحيح الحفظ مستظهرا فيما يكتبه حتى انه إذا اشتبهت عليه كلمة تتبعها في كثير من
__________
[590]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الفهرست: 357 وعيون الأنباء 1: 311 والوافي 16: 197.(3/1421)
النسخ والكتب، ويعلّم على تلك الكلمة علامات يشهرها بها، وقلما وقع شيء من خطه إلا بولغ في ثمنه وبيع بأوفر الأثمان بطريق ذلك. وكان مع غزارة علمه وجلالة قدره شكس الأخلاق محروما عن سعة الأرزاق. وكان يشكو الدهر ويزجي الأيام بالوراقة ويعاني مضض الفاقة.
وحكى شهيد قال: كنت ببغداد مرة في سنة ست وثلاثمائة، وكان بقرب الموضع الذي أنزله صوفي مليح، فكان يشتري الخرق فيتخذ منها المرقعات ويبيعها على الصوفية. فجاءه يوما صوفي يطلب منه مرقعة فقال له: ليس عندي غير هذه التي علي. قال: فبعنيها. فقال له: يا أحمق إذا باع الصياد شبكته كيف يصطاد.
وكان شهيد قد تغرب في البلاد كثيرا بطريق أنه هجا أحمد بن سهل فطلبه فهرب منه، ولم يعد إلى بلخ إلى أن هلك أحمد بن سهل، فعاد إلى بلخ.
وله أشعار كثيرة منها في أبي نصر أحمد بن أبي ربيعة وزير عمرو بن الليث:
كنا نرى أن التوسل بالأدب ... من أكرم الشفعاء عند ذوي الحسب
حتى استبان لنا ببابك أنه ... سخف وأن الأمر فيه قد انقلب
إن كان جدا فيه ما هو عندكم ... والعلم هزلا إن ذا لمن العجب
إني لأرجو أن أرى من يشتري ... ما تزدريه من الفوائد بالذهب
وكأنما العز الذي أوتيته ... يا أحمد بن أبي ربيعة قد ذهب
إن التي تزهو بها غرّارة ... فارمق بطرفك نحو سوء المنقلب
- 591-
شهدة بنت أحمد بن أبي الفرج بن عمر الدينوري
المعروف بابن الإبري، المدعوة فخر النساء، الكاتبة: امرأة من أولاد المحدثين متميزة فصيحة حسنة الخط، تكتب على طريقة الكاتبة بنت الأقرع، وما كان ببغداد في زمانها من يكتب مثل
__________
[591]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر المنتظم 10: 289 وانساب السمعاني واللباب (الابري) ومشيخة ابن الجوزي: 208 وابن خلكان 2: 477 وسير الذهبي 20: 542 وتاريخ ابن الأثير 11: 454 وعبر الذهبي 4: 220 ومرآة الزمان 8: 352 والوافي 16: 190 ومرآة الجنان 3: 400 ونزهة الجلساء: 61 والشذرات 4: 248.(3/1422)
خطها، وكانت مختصة بأمير المؤمنين المقتفي لأمر الله. سمّعها أبوها الكثير من المشايخ، وعمرت حتى حدثت وأخذ عنها الحديث، سمعت أباها أبا نصر أحمد والنقيب أبا الفوارس طراد بن محمد بن علي الزينبي وأبا الخطاب نصر بن أحمد بن عبد الله بن البطر القارىء، وأبا الحسن علي بن محمد بن علي بن العلاف المقرىء وغيرهم. ماتت في المحرم سنة أربع وسبعين وخمسمائة.
- 592-
شيبان بن عبد الرحمن، أبو معاوية التميمي
مولى بني تميم: كان من أكابر القراء والمحدثين والنحاة، كان مقيما بالكوفة فانتقل عنها إلى بغداد وأخذ عن الحسن البصري وحدث عنه وعن ابن أبي كثير، وحدّث عن شيبان الحافظ الثقة عبد الرحمن بن مهدي وغيره. وقرأ على عاصم بن أبي النجود وأبي إسحاق السبيعي وعطاء ابن أبي السائب وقرأ [هؤلاء] على أبي عبد الرحمن السلمي، وأبو عبد الرحمن قرأ على علي بن أبي طالب عليه السلام. وكان معلما لأولاد داود بن علي بن عبد الله بن عباس.
سئل ابن معين عن شيبان فوثقه وقال: ثقة في كل شيء، وسئل عنه أحمد بن حنبل وعن الدستوائي وحرب بن شداد فقال: شيبان أرفع عندي، شيبان صاحب كتاب صحيح. وقال ابن عمار: أبو معاوية شيبان النحوي ثقة ثبت.
توفي شيبان ببغداد سنة أربع وستين ومائة وقيل سنة سبعين ومائة في خلافة الهادي ودفن في مقابر قريش بباب التبن، قاله ابن سعد كاتب الواقدي في «طبقاته» [1] .
__________
[592]- ترجمته في طبقات ابن سعد 6: 262 (الطبعة الأوروبية) وطبقات خليفة: 850 والتاريخ الكبير للبخاري 4: 254 والجرح والتعديل 4: 355 وتاريخ بغداد 9: 271 ونزهة الألباء: 190 والأنساب واللباب (النحوي) وإنباه الرواة 2: 72 وميزان الاعتدال 2؛ 285 وعبر الذهبي 1: 243 وتذكرة الحفاظ: 218 وسير الذهبي 7: 406 والوافي 16: 200 وتهذيب التهذيب 4: 373 وطبقات ابن الجزري 1: 329 والشذرات 1: 259 وترجمته في المختصر موجزة.
[1] وقال ابن سعد إنه دفن بمقبرة الخيزران.(3/1423)
- 593-
شيث بن إبراهيم بن محمد بن حيدرة
ضياء الدين، المعروف بابن الحاج القناوي القفطي النحوي اللغوي العروضي أبو الحسن: أحد أكابر الأدباء المعاصرين، برع في العربية واللغة وفنون الأدب وتقدم فيها، وسمع من الحافظ أبي طاهر السلفي وغيره، وحدث ودرّس، وكان ذا هيبة ووقار، وله مقامات معروفة ومواقف بين يدي السلاطين والأمراء، وكانوا يحترمونه ويوقرونه.
ومن تصانيفه: كتاب الاشارة في تسهيل العبارة. والمعتصر من المختصر.
وتهذيب ذهن الواعي في إصلاح الرعية والراعي، صنفه للملك الناصر صلاح الدين يوسف. وحزّ الغلاصم وإفحام المخاصم. وتعاليق في الفقه على مذهب الامام مالك. واللؤلؤة المكنونة واليتيمة المصونة، وهي قصيدة في الأسماء المذكرة، أبياتها سبعون بيتا، منها:
وصفت الشعر من يفهم ... يخبّرني بما يعلم
يخبرني بألفاظ ... من الأعراب ما الدهثم
وما الإقليد والتقلي ... د والتهنيد والاهتم
وما النهاد والاهدا ... م والأسمال والعيهم
وما الالغاد والاخرا ... د والاقراد والاكدم [1]
وما الدقراس والمردا ... س والفداس والاعلم
وما الاوخاص والادرا ... ص والقراص والاثرم
وما اليعضيد واليعقي ... د والتدمين والارقم
__________
[593]- إنباه الرواة 2: 73 والوافي 16: 203 ونكت الهميان: 168 والفوات 2: 108 والطالع السعيد: 262 والديباج المذهب: 127 وبغية الوعاة 2: 6 وحسن المحاضرة 1: 214 والبلغة: 95 وقصيدته التي يورد ياقوت بعض أبياتها شديدة التصحيف في المصادر ولذا كان من العناء الباطل محاولة شرحها.
[1] الفوات: والمكدم.(3/1424)
وما الانكار والانكا ... ث والاعلام والاقضم
وما الأوغال والأوغا ... د والأوغاب والأقصم
ومضى على هذا النمط إلى أن قال:
ألا فاسمع لألفاظ ... جرت علما لمن يعلم
فقد أنبأت في شعري ... بألفاظي لمن يفحم
وعارضت السجستان ... يّ في قولي ولم أعلم
فضعّفت قوافيه ... على المثل الذي نظّم
فهذا الشعر لا يدري ... هـ إلا عالم همهم
توفي أبو الحسن ابن الحاج سنة ثمان وتسعين وخمسمائة وقيل سنة تسع وتسعين وخمسمائة ومن شعره:
اجهد لنفسك إن الحرص متعبة ... للقلب والجسم والايمان يمنعه
فإن رزقك مقسوم سترزقه ... وكلّ خلق تراه ليس يدفعه
فإن شككت بأن الله يقسمه ... فإن ذلك باب الكفر تقرعه(3/1425)
محتويات الجزء الثّالث
الموضوع الصفحة
[تتمة حرف الحاء] 803
337- الحسن بن علي بن المعمر الاسكافي 957
338- الحسن بن علي، ابن القطان المروزي 961
339- الحسن بن علي بن غسان، الشاكر البصري 971
340- الحسن بن عمر بن المراغي 972
341- الحسن بن عمرو الحلبي ابن دهن الحصى 972
342- الحسن بن القاسم الرازي 975
343- الحسن بن مالك، أبو العالية الشامي 975
344- الحسن بن محمد المهلبي الوزير 976
345- الحسن بن محمد بن وكيع التنيسي 993
346- الحسن بن محمد السهواجي 995
347- الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب 996
348- الحسن بن محمد بن علي، ابن الدهان اللغوي 997
349- الحسن بن محمد التميمي، ابن الربيب التاهرتي 998
350- الحسن بن محمد بن عزيز 999
351- الحسن بن القاسم بن علي الواسطي، غلام الهراس 999
352- الحسن بن محمد بن عبد الصمد، ابن أبي الشخباء 999
353- الحسن بن محمد بن الحسن، ابن حمدون أبو سعد 1012(3/1427)
الموضوع الصفحة
354- الحسن بن محمد الصغاني 1015
355- الحسن بن المظفر النيسابوري 1016
356- الحسن بن ميمون النصري 1018
357- الحسن بن وهب الكاتب 1019
358- الحسن بن وهب الموصلايا 1023
359- الحسن بن يسار البصري 1023
360- الحسن بن يحيى بن أبي منصور المنجم 1025
361- الحسن بن يعقوب بن أحمد 1027
362- الحسن بن أبي المعالي بن مسعود، ابن الباقلاني النحوي 1027
363- أبو الحسن البوراني 1028
364- الحسين بن ابراهيم بن أحمد النطنزي 1028
365- الحسين بن ابراهيم بن خطاب 1028
366- الحسين بن أحمد بن محمد السلامي 1029
367- الحسين بن أحمد بن خالويه 1030
368- الحسين بن أحمد، الهمداني (ترجمة ثالثة) 1037
369- الحسين بن أحمد الزوزني 1038
370- الحسين بن أحمد بن بطويه 1038
371- الحسين بن أحمد، ابن الحجاج الشاعر 1040
372- الحسين بن الحسن، الواساني الدمشقي 1049
373- الحسين بن سعد بن الحسين الآمدي 1062
374- الحسين بن الضحاك، الشاعر الخليع 1063
375- الحسين بن عبد الله، ابن سينا الفيلسوف 1070
376- الحسين بن عبد الله، ابن شبل البغدادي 1078
377- الحسين بن عبد الله، ابن رواحة 1087(3/1428)
الموضوع الصفحة
378- الحسين بن عبد الرحمن الغريبي 1091
379- الحسين بن علي الباقطائي 1091
380- الحسين بن علي، أبو عبد الله النمري 1092
381- الحسين بن علي، الوزير المغربي 1093
382- الحسين علي بن الحسين، ابن الخازن 1105
383- الحسين بن علي، ابن الحلاب 1106
384- الحسين بن علي بن داعي العلوي 1106
385- الحسين بن علي بن محمد، مؤيد الدين الطغرائي 1106
386- الحسين بن عبد الله، ابن أبي حصينة 1118
387- الحسين بن عبد الرحيم، ابن أبي الزلازل 1129
388- الحسين بن عبد السلام، الجمل المصري 1130
389- الحسين بن عقيل بن محمد الواسطي 1131
390- الحسين بن علي بن أحمد الطيبي 1132
391- الحسين بن علي بن محمد، ابن قم الزبيدي 1134
392- الحسين بن محمد بن أحمد التبرجيدي 1141
393- الحسين بن محمد، البارع البغدادي 1141
394- الحسين بن محمد بن جعفر الرافقي، الخالع 1146
395- الحسين بن محمد بن الحسين التجيبي القرطبي 1148
396- الحسين بن محمد بن الحسين القمي 1149
397- الحسين بن محمد السهواجي (ترجمة ثانية) [1] 1149
398- الحسين بن محمد، المعروف بالمستور 1151
399- الحسين بن محمد بن عبد الرحمن 1153
400- الحسين بن محمد بن الحسين بن سهلويه 1153
__________
[1] انظر رقم: 346.(3/1429)
الموضوع الصفحة
401- الحسين بن محمد بن الحسين الضراب الصوري 1156
402- الحسين بن محمد، الراغب الاصبهاني 1156
403- الحسين بن محمد بن الحسين الهروي 1157
404- الحسين بن مطير الأسدي 1157
405- الحسين بن هبة الله ابن زاهر الموصلي، دهن الحصى 1162
406- الحسين بن هداب بن محمد الديري النوري 1163
407- الحسين بن الوليد بن نصر، ابن العريف النحوي 1164
408- حرملة بن المنذر، أبو زبيد الطائي 1167
409- حسنون بن جعفر بن حسنون 1177
410- حصن بن ربيعة بن صعير، لسان الحمّرة 1177
411- حفص الأموي 1177
412- حفص بن سليمان بن المغيرة البزاز 1180
413- حفص بن عمر بن عبد العزيز، أبو عمر الدوري 1180
414- حفص بن عمر العنبري 1181
415- أبو حفص الزكرمي العروضي 1181
416- حفصة بنت الحاج الركوني 1182
417- حفصويه 1185
418- الحكم بن عبدل 1185
419- الحكم الخضري 1191
420- الحكم بن موسى السلولي 1193
421- أبو الحكم ابن غلندو الاشبيلي 1194
422- حكيم بن عياش، الأعور الكلبي 1195
423- حماد بن اسحاق بن ابراهيم الموصلي 1196
424- حماد بن عمر، حماد عجرد 1196(3/1430)
الموضوع الصفحة
425- حماد بن سلمة بن دينار 1198
426- حماد بن ميسرة، حماد الراوية 1201
427- حماس بن ثامل 1205
428- حمد بن محمد بن ابراهيم، أبو سليمان الخطابي (ترجمة ثانية) 1205
429- حمدان بن عبد الرحيم الأثاربي 1208
430- حمد بن الحسين وزير منوجهر 1211
431- حمدة (حمدونة) بنت زياد الوادياشية 1211
432- حمران بن أعين بن سنبس 1213
433- حمزة بن أسد بن علي، ابن القلانسي 1214
434- حمزة بن بيض الحنفي 1215
435- حمزة بن حبيب الزيات 1219
436- حمزة بن الحسن الاصفهاني 1220
437- حمزة بن علي بن العين زربي 1221
438- حميد بن ثور الهلالي 1222
439- حميد بن مالك الأرقط 1225
440- حميد بن مالك، ابن منقذ مكين الدولة 1226
441- حميدة بنت النعمان بن بشير 1227
442- حيان بن خلف، ابن حيان مؤرخ الأندلس 1229
443- حيدرة بن أبي الغنائم المعمر العلوي 1229
[تراجم حرف الخاء] 1230
444- خالد الزبيدي اليمني 1230
445- خالد بن خداش أبو الهيثم 1231
446- خالد بن صفوان التميمي 1231(3/1431)
الموضوع الصفحة
447- خالد بن طليق الخزاعي 1236
448- خالد بن كلثوم الراوية 1236
449- خالد بن يزيد المراري اللغوي 1237
450- خالد بن يزيد بن معاوية 1238
451- خالد بن يزيد، خالويه المكدي 1241
452- خالد بن يزيد الكاتب 1243
453- خداش بن بشر، البعيث الشاعر 1246
454- خراش بن اسماعيل الشيباني 1247
455- خرقة بن نباتة بن الرّبد الكلبي 1247
456- خزيمة بن محمد بن خزيمة الأسدي 1249
457- الخضر بن ثروان بن أحمد التوماثي 1249
458- الخضر بن هبة الله بن أبي الهمام الطائي 1250
459- خلاد بن يزيد الأرقط الباهلي 1252
460- خلف بن أحمد القيرواني 1254
461- خلف بن حيان بن محرز، خلف الأحمر 1254
462- خلف بن أحمد بن محمد، ملك سجستان 1258
463- خلف بن المختار الاطرابلسي 1259
464- خلف بن هشام بن ثعلب البزار 1259
465- الخليل بن أحمد الفراهيدي 1260
466- الخليل بن أحمد بن محمد السجزي 1271
467- خميس بن علي بن أحمد الحوزي 1274
468- خويلد بن خالد بن محرز، أبو ذؤيب الهذلي 1275
469- خيار بن أوفى الهندي 1278(3/1432)
الموضوع الصفحة
[تراجم حرف الدال] 1279
470- داود بن أحمد بن أبي دواد 1279
471- داود بن أحمد بن يحيى بن الخضر 1280
472- داود بن الجراح 1281
473- داود بن سلم 1282
474- داود بن الهيثم بن اسحاق بن البهلول 1283
475- دعبل بن علي الخزاعي 1284
476- دغفل النساب 1288
477- دعوان بن علي بن حماد الجبائي 1291
478- أبو الدقيس الأعرابي 1292
479- دكين بن رجاء الفقيمي 1292
480- دكين بن سعيد الدارمي الراجز 1294
[حرف الذال] 1296
481- ذو القرنين بن ناصر الدولة الحمداني 1296
[تراجم حرف الراء] 1298
482- راشد بن اسحاق، أبو حكيمة 1298
483- ربيعة بن عامر، مسكين الدارمي 1299
484- ربيعة بن يحيى، أعشى تغلب 1302
485- ربيعة بن ثابت، ربيعة الرقي 1303
486- رزق الله بن عبد الوهاب التميمي 1304
487- رزين بن زندورد العروضي 1304
488- رستة بن أبي الأبيض الأصبهاني 1306
489- رفيع بن سلمة، كاتب أبي عبيدة 1306
490- رمضان بن رستم، ابن الساعاتي 1308(3/1433)
الموضوع الصفحة
491- الرماح بن أبرد، ابن ميادة 1309
492- رؤبة بن العجاج 1311
493- روح بن عبد الأعلى 1312
[تراجم حرف الزاي] 1314
494- زاكي بن كامل بن علي، المهذب الهيتيّ 1314
495- زائدة بن نعمة، المجفجف القشيري 1315
496- زبان بن العلاء، أبو عمرو بن العلاء 1316
497- الزبير بن بكار 1322
498- زكريا بن أحمد بن محمد النسابة 1326
499- زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي 1326
500- زند بن الجون، أبو دلامة 1327
501- زهير بن ميمون الفرقبي 1328
502- زياد بن سلمى، زياد الأعجم 1329
503- زياد بن عبد العزيز بن أحمد الجذامي 1330
504- زيد بن الحسن بن زيد، تاج الدين الكندي 1330
505- زيد بن الحسن الأحاظي 1334
506- زيد بن الربيع بن سليمان الحجري 1335
507- زيد بن عبد الله بن رفاعة أبو الخير 1335
508- زيد بن عبد الوهاب بن محمد الأردستاني 1337
509- زيد بن علي بن عبد الله الفارسي 1337
510- زيد بن كثرة 1337
511- زيد بن مرزكة الموصلي 1338
[تراجم حرف السين] 1339
512- ساتكين بن أرسلان التركي 1339(3/1434)
الموضوع الصفحة
513- سالم بن أحمد بن سالم، أبو المرجى 1339
514- سالم أبو العلاء كاتب هشام 1340
515- السائب بن فروخ المكي 1341
516- سحيم بن حفص النسابة الأخباري 1342
517- سراج بن عبد الملك، أبو الحسين ابن سراج 1342
518- السريّ بن أحمد، السريّ الرفاء 1343
519- سعد الرابية بن شداد الكوفي 1345
520- سعدان بن المبارك الضرير 1346
521- سعد بن أحمد بن مكي النيلي 1347
522- سعد بن الحسن بن سليمان التوراني الحراني 1347
523- سعد بن الحسن، أبو عثمان الناجم 1348
524- سعد بن علي، الحظيري الوراق 1349
525- سعد بن محمد بن سعد، حيص بيص 1352
526- سعد بن محمد بن علي، الوحيد 1356
527- سعيد بن إبراهيم، ابن التستري 1358
528- سعيد بن أحمد بن محمد الميداني 1359
529- سعيد بن أوس بن ثابت، أبو زيد الأنصاري 1359
530- سعيد بن جبير 1363
531- أبو سعيد بن حرب القيرواني 1364
532- سعيد بن الحكم النسابة 1364
533- سعيد بن حميد الكاتب 1365
534- سعيد بن حميد بن البختكان 1366
535- سعيد بن سعيد الفارقي 1366
536- سعيد بن طلحة بن الحسن الصالحاني 1367(3/1435)
الموضوع الصفحة
537- أبو سعيد بن عبد الصمد المقري 1367
538- سعيد بن عبد الله بن دحيم 1367
539- سعيد بن عبد العزيز النيلي 1368
540- سعيد بن عثمان بن سعيد، ابن القزاز 1368
541- سعيد بن عيسى الأصفر 1369
542- سعيد بن الفرج الرشاش 1369
543- سعيد بن المبارك، ابن الدهان النحوي 1369
544- سعيد بن محمد بن جريج القيرواني 1372
545- سعيد بن محمد الغساني، ابن الحداد القيرواني 1373
546- سعيد بن محمد بن علي السلامي 1373
547- سعيد بن محمد المعافري القرطبي 1374
548- سعيد بن مسعدة، الأخفش الأوسط 1347
549- سعيد بن هارون، أبو عثمان الأشنانداني 1376
550- سعيد بن هاشم، أبو عثمان الخالدي 1377
550 ب- سعيد بن هريم الكاتب 1379
551- سكن بن سعيد الأندلسي 1379
552- أبو سفيان بن العلاء 1379
553- سلامة بن عبد الباقي بن سلامة الأنباري 1379
554- سلامة بن غياض بن أحمد الكفرطابي 1380
555- سلامة بن محمد الحلبي النحوي 1381
556- سلمان بن عبد الله بن محمد الحلواني النهرواني 1381
557- سلم بن عمرو، سلم الخاسر 1382
558- سلمويه بن صالح الليثي 1384
559- سلمة بن عاصم النحوي 1385(3/1436)
الموضوع الصفحة
560- سلمة بن عباس العامري 1385
561- سلمة بن عبد الله الهذلي 1386
562- سليمان بن أيوب بن محمد المديني 1386
563- سليمان بن بنين بن خلف 1386
564- سليمان بن خلف، أبو الوليد الباجي 1387
565- سليمان بن صالح الكتبي 1389
566- سليمان بن أبي شيخ 1390
567- سليمان بن أبي طالب الحلواني النهرواني 1390
568- سليمان بن عيسى الشنتمري 1399
569- سليمان بن الفياض الاسكندراني 1399
570- سليمان بن محمد بن أحمد، أبو موسى الحامض 1400
571- سليمان محمد بن طراوة المالقي 1402
572- سليمان بن مسلم بن الوليد 1402
573- سليمان بن معبد السنجي المروزي 1403
574- سليمان بن موسى، الشريف الكحال 1404
575- سنان بن ثابت بن قرة 1405
576- سهل بن محمد، أبو حاتم السجستاني 1406
577- سهل بن محمد مؤدب سيف الدولة 1408
578- سهل بن المرزبان 1408
579- سهل بن هارون 1409
580- سهم بن ابراهيم الوراق 1410
[تراجم حرف الشين] 1411
581- شاهفور بن طاهر الاسفرايني 1411
582- شبل بن عبد الرحمن النيسابوري 1411(3/1437)
الموضوع الصفحة
583- شبيب بن شبة الأخباري 1411
584- شبيب بن يزيد، شبيب ابن البرصاء 1412
585- شبيل بن عزرة الضبيعي 1412
586- شداد بن ابراهيم، الطاهر الجزري 1414
587- الشرقي بن القطامي الكلبي 1415
588- شهفيروز بن سعد بن عبد السيد الأصبهاني 1420
589- شمر بن حمدويه الهروي 1420
590- شهيد بن الحسين البلخي الوراق 1421
591- شهدة بنت أحمد، فخر النساء 1422
592- شيبان بن عبد الرحمن التميمي 1422
593- شيث بن ابراهيم، ابن الحاج القناوي 1424(3/1438)
[الجزء الرابع]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
حرف الصاد
[594] صاعد بن الحسن بن عيسى الربعي الموصليّ
الأصل البغداديّ اللغويّ الأديب أبو العلاء: دخل بغداد وأخذ عن السيرافي وأبي علي الفارسي والخطابي وغيرهم، وكان عارفا باللغة وفنون الأدب والأخبار، سريع الجواب حسن الشعر طيب المعاشرة ممتع المجالسة. دخل الأندلس في أيام هشام بن الحكم المؤيد وولاية المنصور أبي عامر محمد بن أبي عامر واتصل بالمنصور بن أبي عامر فأكرمه وأفرط في الاحسان إليه والإقبال عليه، ثم استوزره.
وكان محسنا للسؤال حاذقا في استخراج الأموال طبّا بلطائف الشكر. أخبر بعض المشايخ بالأندلس أن أبا العلاء دخل على المنصور أبي عامر يوما في مجلس أنس، وقد اتخذ قميصا من رقاع الخرائط التي وصلت إليه فيها صلاته، ولبسه تحت ثيابه، فلما خلا المجلس وجد فرصة لما أراد، وتجرّد وبقي في القميص المتخذ من الخرائط، فقال له: ما هذا؟ فقال: هذه رقاع صلات مولانا اتخذتها شعارا، وبكى وأتبع ذلك من الشكر بما استوفاه. فأعجب ذلك المنصور، وقال له: لك عندي مزيد، ونفق عليه.
__________
[594] ترجمة صاعد البغدادي في جذوة المقتبس: 223 (وبغية الملتمس رقم: 852) والصلة: 232 والذخيرة 4/1: 8 والمعجب: 75 وإنباء الرواة 2: 85 وابن خلكان 2: 488 وعبر الذهبي 3: 124 وميزان الاعتدال 2: 287 والوافي 16: 226 وبغية الوعاة 2: 7 والشذرات 3: 206 ونفح الطيب 3: 77 والتشبيهات من أشعار أهل الأندلس: 291 وبدائع البدائه: 354 وروضات الجنات 4: 130 واكثر هذه الترجمة مزيد من المختصر.(4/1439)
قال الحميدي: من عجائب الدنيا التي لا يكاد يتفق مثلها أن صاعد بن الحسن هذا أهدى إلى المنصور أبي عامر أيّلا وكتب معه أبياتا وهي:
يا حرز كلّ مخوّف وأمان كلّ مش ... رد ومعزّ كلّ مذلّل
جدواك إن تخصص به فلأهله ... وتعمّ بالإحسان كلّ مؤمّل
كالغيث طبّق فاستوى في وبله ... شعث البلاد مع المراد المبقل
الله عونك ما أبرّك بالهدى ... وأشدّ وقعك في الضلال المشغل
ما إن رأت عيني وعلمك شاهدي ... شروى علائك في معمّ مخول
أندى بمقربة كسرحان الغضا ... ركضا وأوغل في مثار القسطل
مولاي يؤنس غربتي بتخطفي ... من ظفر أيامي بممنع معقل
عبد نشلت بضبعه وغرسته ... في نعمة أهدى إليك بأيّل
سميته غرسيّة وبعثته ... في حبله ليتاح فيه تفؤّلي
فلئن قبلت فتلك أسنى نعمة ... أسدى بها ذو منحة وتطوّل
صبحتك غادية السرور وجلّلت ... أرجاء ربعك بالسحاب المخضل
فقضي في سابق علم الله، عز وجل، وتقديره أن غرسية بن شانجه من ملوك الروم، وهو أمنع من النجم، أسر في ذلك اليوم بعينه الذي بعث فيه صاعد بالأيل، وسماه غرسيه متفائلا بأسره، وهكذا فليكن الجدّ للصاحب والمصحوب.
قال ابن حيّان: وجمع أبو العلاء للمنصور أبي عامر كتابا سمّاه «الفصوص في الآداب والأشعار» على حكم «كتاب النوادر» لأبي علي القالي فأثابه عليه خمسة آلاف دينار في دفعة واحدة، وأمر أن يسمعه الناس في المسجد الجامع بالزاهرة، واحتشد له جماعة من أهل الأدب ووجوه الناس بسماعه في سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
واتفق لهذا الكتاب حادثة غريبة وهي أنّ أبا العلاء لما أتمه دفعه لغلام له يحمله بين يديه وعبر نهر قرطبة، فزلت قدم الغلام فسقط في النهر هو والكتاب، فقال في ذلك ابن العريف، وكان بينه وبين أبي العلاء شحناء ومناظرات:
قد غاص في البحر كتاب الفصوص ... وهكذا كلّ ثقيل يغوص(4/1440)
فضحك المنصور والحاضرون، فلم يرع ذلك صاعدا وقال على البديهة مجيبا لابن العريف:
عاد إلى معدنه إنماتوجد ... في قعر البحار الفصوص
وصنف له أيضا كتاب «الجواس بن قعطل المذحجي مع ابنة عمه عفراء» وهو كتاب لطيف ممتع جدا انخرم في الفتن التي كانت بالأندلس فسقطت منه أوراق لم توجد بعد، وكان المنصور كثير الشغف بهذا الكتاب حتى رتب له من يخرجه أمامه كل ليلة «1» وكان كتابا مليحا جدا وصنف له أيضا كتاب «الهجفجف بن غيدقان بن يثربي مع الخنّوت بنت مخرمة بن أنيف» وهو على طراز كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب الخزرجي.
ولم يحضر صاعد بعد موت المنصور مجلس أنس لأحد ممن ولي الأمر بعده من ولده، وإلى ذلك يشير في قصيدته التي قالها للمظفر بن المنصور الذي ولي بعد أبيه وأولها:
إليك حدوت ناجية الركاب ... محملة أماني كالهضاب
وبعت ملوك أهل الشرق طرا ... بواحدها وسيدها اللباب
وفيها يشير إلى مرض لحق بساقه فمنعه من حضور مجالسه، وهو وجع ادعاه وكان يمشي على عصا واعتذر به من التخلف والخدمة إلى أن ذهبت دولتهم فقال:
إلى الله الشكية من شكاة ... رمت ساقي فجلّ بها مصابي
وأقصتني عن الملك المرجّى ... وكنت أرمّ حالي باقترابي
ومنها:
حسبت المنعمين على البرايا ... فألفيت اسمه صدر الحساب
وما قدّمته إلا كأني ... أقدّم تاليا أمّ الكتاب
وأنشد هذه القصيدة بين يدي المظفر في عيد الفطر سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
ولصاعد مع المنصور أخبار ولطائف يطول ذكرها.(4/1441)
وحدّث السلفي عن أبي بكر يحيى بن محمد بن زيدان القرطبي قال: حضرت مجلس أبي الحسين سراج بن عبد الملك بن سراج اللغوي فقرىء عليه في الموطأ:
لا قطع في ثمر ولا كثر، فأنشد لصاعد بن الحسن الربعي:
ومهفهف أبهى من القمر ... قمر الفؤاد بفاتن النظر
خالسته تفاح وجنته ... فأخذتها منه على غرر
فأخافني قوم فقلت لهم ... لا قطع في ثمر ولا كثر
وخرج أبو العلاء في أيام الفتنة من الأندلس وقصد صقلية فمات بها في سنة سبع عشرة وأربعمائة عن سنّ عالية.
[595] صالح بن إبراهيم بن رشدين المخزومي يكنى أبا علي:
كان من أهل الأدب البارع والشعر الجيد، روى كثيرا من أخبار المصريين. مات في ذي القعدة سنة عشر وأربعمائة، وله أخ اسمه أبو الحسين محمد، مات قبله في سنة أربعمائة، أنشد لصالح بن يونس مولى بني تميم فيه، وكان يميل إليه في حداثته:
يا قاتلي علما بأن الحب مطّرح القصاص ... أمّا هواك فزائد
والصبر عنك ففي انتقاص ... قلبي رهين في يدي
ك فهل لقلبي من خلاص.
[596] صالح بن إسحاق أبو عمر الجرمي النحوي:
فهو مولى جرم بن زبان، وجرم
__________
[595] هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر يتيمة الدهر 1: 399 والمغرب (قسم مصر) : 253 والوافي 16: 246.
[596] ترجمة أبي عمر الجرمي في الفهرست: 62 ومراتب النحويين: 122 والجرح والتعديل 4: 394 وطبقات الزبيدي: 46 وأخبار النحويين البصريين: 39 ونور القبس: 214 وتاريخ أبي المحاسن: 72-(4/1442)
من قبائل اليمن، وقيل هو مولى بجيلة بن أنمار بن إراش بن الغوث، وإنما قيل له الجرمي لأنه كان ينزل فيهم. وقيل إنه مولى قريش. مات سنة خمس وعشرين ومائتين في أيام المعتصم، وكانت وفاته بأصبهان، وكان يلقب بالكلب النبّاح لأنه كان يذهب إلى أبي زيد الأنصاري فيناظره ويصايحه فلقب بذلك. وكان يلقب بالمهارش لأنه كان لا يرى إلا ناظرا أو مناظرا. وهو بصري قدم بغداد فأخذ عن يونس بن حبيب العربية وأخذ اللغة عن أبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري والأصمعي ومن في طبقتهم وقرأ كتاب سيبويه على أبي الحسن الأخفش سعيد بن مسعدة وكان رفيقا لأبي عثمان المازني، وأخذ منه المبرد والمازني وغيرهما وناظر الفراء، وانتهى إليه علم العربية في وقته فكان عالما بالعربية واللغة فقيها ورعا، وخولط في آخر عمره لأنه كان توأما ومن خولط في الرحم يصيبه شيء.
وقال الجرمي: أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه، فقيل له: وكيف ذاك؟ قال: أنا رجل مكثر من الحديث، وكتاب سيبويه يعلمني القياس، وأنا أقيس الحديث، وأفتي به.
قال أبو عمر الجرمي يوما في مجلسه: من سألني عن بيت من جميع ما قالته العرب لا أعرفه، فله عليّ سبق. فسأله بعض من حضر، فقال: كيف تروي (السائل: أبو عثمان المازني) :
من كان مسرورا بمقتل مالك ... فليأت نسوتنا بوجه نهار
يجد النساء حواسرا يندبنه ... قد قمن قبل تبلّج الأسحار
قد كنّ يخبأن الوجوه تستّرا ... فاليوم حين بدون للنظار
فقال: كيف تروي «بدأن» أو «بدين» ؟ فقال له: بدأن. فقال: أخطأت،
__________
- وتاريخ بغداد 9: 313 والأنساب واللباب (الجرمي) وأخبار أصبهان 1: 346 ونزهة الألباء: 143 وإنباء الرواة 2: 80 وابن خلكان 2: 485 وعبر الذهبي 1: 395 وسير الذهبي 10: 561 والوافي 16: 249 ومرآة الجنان 2: 90 والبلغة: 96 وطبقات ابن الجزري 1: 332 وبغية الوعاة 2: 8 والشذرات 2: 57 وروضات الجنات 4: 133؛ وترجمة الجرمي في م موجزة جدا، وقد أضيف إليها مادة غزيرة من المختصر.(4/1443)
ففكر، ثم قال: إنا لله، هذا عاقبة البغي. قال أبو القاسم الزجاجي: تعني هذه الأبيات أن العرب كانت لا تندب ميّتها، ولا تبكي عليه حتى يقتل قاتله، فإذا قتل بكت عليه النساء وناحت. يقول: من كان مسرورا بمصرع مالك فقد قتلنا قاتله، وهؤلاء نساؤنا يندبنه. والصواب أن يقال «بدون» ، ولا يقال: بدأن ولا بدين، لأنه من «بدا يبدو» إذا ظهر، وكذلك يقال: بدا الرجل يبدو إذا خرج إلى البدو.
وصنف كتبا كثيرة منها مختصره في النحو كان كلّما صنّف منه بابا صلى ركعتين بالمقام ودعا بأن ينتفع به. وله كتاب التثنية والجمع. وكتاب السير. وكتاب الأبنية.
وكتاب العروض، وكتاب القوافي، وكتاب الفرخ يعني فرخ كتاب سيبويه وغير ذلك.
[597] صالح بن جعفر بن عبد الوهاب «1» بن أحمد
بن جعفر بن أحمد بن محمد بن علي بن صالح بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي الصالحي الحلبي القاضي أبو طاهر: أحد أعيان أهل حلب المشهورين بالأدب والدين، روى عن ابن خالويه وتأدب به، وأخذ عنه أبو الفتح أحمد بن علي المدائني المعروف بالهائم. مات سنة خمس وتسعين وثلاثمائة، وكان يلقب بالمحبرة لأنه كان قصيرا، وكان أكثر لبسه السواد.
له من الكتب: كتاب الحنين إلى الأوطان. وكتاب الصبر والعزاء.
[598] صالح بن حسّان:
أحد رواة الأخبار العالمين بالآثار والأشعار، روى عنه من
__________
[597] هذه الترجمة من المختصر وانظر: مصورة ابن عساكر 8: 190 وتهذيبه 6: 369 وزبدة الحلب 1: 196 والوافي 16: 253.
[598] هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الشعر والشعراء: 305 والأغاني 3: 176 والوافي 16: 255- 256.(4/1444)
ذلك خلق كثير من أربابه كالهيثم بن عدي وابن الكلبي وغيرهما.
حدث الهيثم بن عدي قال، قال لي صالح بن حسّان: هل تعرف بيتا من الشعر نصفه أعرابي في شملة والنصف الآخر مخنث من أهل العقيق يتقصف تقصفا؟ قلت:
لا والله. قال: قد أجّلتك حولا قلت له: لو أجلتني حولين ما علمت ما سألتني عنه.
فقال: أفّ لك، قد كنت أحسبك أعود علما من ذلك. قلت: ما هو؟ قال لي: أما سمعت قول جميل:
ألا أيها النوّام ويحكم هبّوا
أعرابي والله يعتف في شملة ثم أدركه النسيب وصريح الحب وما يدرك العاشق، فقال: أسائلكم هل يقتل الرجل الحبّ؟ فكان والله من مخنثي العقيق، يتفكك، وبعد هذا البيت:
فقالوا: نعم، حتى تسلّ عظامه ... ويتركه حيران ليس له لبّ
[599] صالح بن شعيب القاري أبو بكر:
أحد أصحاب العربية المتقدمين، وقار هذه التي نسب إليها من قرى الري. قدم بغداد أيام ثعلب.
[600] صالح بن عبد القدوس بن عبد الله:
كان حكيما أديبا فاضلا شاعرا مجيدا، كان يجلس للوعظ في مسجد البصرة ويقصّ عليهم، وله أخبار يطول ذكرها، اتّهم بالزندقة فقتله المهدي بيده، ضربه بالسيف فشطره شطرين وعلّق بضعة أيام للناس ثم
__________
[599] هذه الترجمة من المختصر.
[600] ترجمة صالح بن عبد القدوس في طبقات ابن المعتز: 89 وتاريخ بغداد 9: 303 وتهذيب ابن عساكر 6: 376 وابن خلكان 2: 492 وميزان الاعتدال 2: 297 والوافي 16: 260 ونكت الهميان: 171 والفوات 2: 116 ولسان الميزان 3: 172 ولم ترد له ترجمة في ر.(4/1445)
دفن. وأشهر شعره قصيدته البائية التي مطلعها:
صرمت حبالك بعد وصلك زينب ... والدّهر فيه تصرّم وتقلّب
وكذاك ذكر الغانيات فإنه ... آل ببلقعة وبرق خلّب
فدع الصبا فلقد عداك زمانه ... واجهد فعمرك مرّ منه الأطيب
ومنها:
واحذر معاشرة الدنيّ فإنها ... تعدي كما يعدي الصحيح الأجرب
يلقاك يحلف أنّه بك واثق ... وإذا توارى عنك فهو العقرب
ومن شعره أيضا:
ليس من مات فاستراح بميت ... إنما الميت ميّت الأحياء
إنما الميت من يعيش كئيبا ... كاسفا باله قليل الرجاء
وقال:
إذا قلت قدّر أنّ قولك عرضة ... لبادرة أو حجّة لمخاصم
وان امرءا لم يخش قبل كلامه ... الجواب فينهى نفسه غير حازم
وقال:
لا أخون الخليل في السرّ حتى ... ينقل البحر في الغرابيل نقلا
أو تمور الجبال مور سحاب ... مثقلات وعت من الماء حملا
[601] صحار العبدي:
هو صحار بن العباس، كان خارجيا ناسبا خطيبا، وكان في أيام معاوية بن أبي سفيان، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديثين أو ثلاثة. له كتاب الأمثال.
__________
[601] هذه الترجمة من المختصر وانظر البيان والتبيين 1: 96، 97 والاصابة 3: 235.(4/1446)
[602] صدقة بن الحسن بن الحسين بن بختيار
أبو الفرج الحداد الناسخ البغدادي:
كان فقيها حنبليا، تفقّه على أبي الوفاء ابن عقيل، وسمع الحديث وحدّث، وأقرأ الناس الفقه والحساب وعلم الكلام، وكان قيما بجميع ذلك. مات سنة ثلاث وستين وخمسمائة، وكان صدقة مع سعة حلمه محدودا خاملا يسكن في المسجد الذي بباب البدرية، وكان يتردد إليه عالم من الطالبيين، فيقرأون عليه فنون العلم. وكان مع ذلك لا يتقوت إلا من أجرة نسخه، وكان لا يؤبه إليه، فلما كان آخر أيامه جرت بين يدي الوزير عضد الدولة أبي الفتوح محمد بن عبد الله بن هبة الله بن المظفر بن رئيس الرؤساء وزير الإمام المستضيء مسألة في العلم، وهل هو واحد أم أكثر، وكان عنده جماعة من أهل العلم كأبي الفرج ابن الجوزي وغيره، فسألهم عن ذلك فكلّ كتب خطه أن العلم واحد، فلما فرغوا قال: نرى ها هنا من هو قيّم بهذا العلم غير هؤلاء؟
فقال له بعض الحاضرين: هاهنا رجل يعرف بصدقة الناسخ يعرف هذا الفن معرفة لا مزيد عليها، فنفّذ [رقعة] وفيها خطوط الفقهاء، وقال له: انظر في هذه، وقل ما عندك، فلما وقف عليها فكر طويلا متعجبا من اتفاقهم على ما لا أصل له، ثم أخذ القلم وكتب: العلم علمان علم غريزي، وعلم مكتسب، فأما الغريزي فهو الذي يدرك على الفور من غير فكرة كقولنا واحد وواحد، فهذا يعلم ضرورة أنه اثنان. وعلم مكتسب وهو ما يدرك بالطلب والفكرة والبحث، أو كلاما هذا معناه لأنه حدث بذلك مفاوضة. وأنفذ الخط إلى الوزير، فلما وقف عليه أعجب به، وقال: أين يكون هذا الرجل؟ فعرف حاله وفقره، فاستدعاه إليه، وتلقاه بالبشر، وخلع عليه خلعة حسنة، وأعطاه أربعين دينارا، ففرح فرحا عظيما، وقال: يا مولاي، قد حضرني بيتان، فقال له أنشدهما، فقال:
__________
[602] هذه الترجمة من المختصر، وانظر المنتظم 10: 276 وذيل ابن رجب 1: 339 ومختصر ابن الدبيثي 2: 109 وميزان الاعتدال 2: 310 وسير الذهبي 21: 66 وتاريخ ابن الأثير 11: 449 والبداية والنهاية 12: 298 وذيل الروضتين: 12 والوافي 16: 292 والنجوم الزاهرة 6: 81 ولسان الميزان 3: 184 والشذرات 4: 245 (ووفاته عند الذهبي سنة 573) .(4/1447)
ومن العجائب والعجائب جمّة ... شكر بطيء عن ندى متسرّع
ولقد دعوت ندى سواك فلم يجب ... فلأشكرنّ ندى أجاب وما دعي
فاستحسن ذلك منه، وما زال يبرّه إلى أن مات.
وحدث عنه العدل أبو يعلى ابن الفراء قال: دخلت إليه يوما قبل أن يموت بيسير، وإلى جانبه طبق مغطى، فقال لي: اكشف ذلك الطبق، وكشفته وإذا فيه دجاج مطبوخ ألوان وسنبوسج وحلاوة وغير ذلك من الأطعمة الطيبة، فقال: ما أراد الله عز وجل أن يبعث لي هذا، وأنا أقدر على أكله في أيام شبابي، وإنما بعثه إليّ الآن لأبصره حسرة.
وكان سيّء الاعتقاد تارة يميل إلى مذهب الفلاسفة وتارة يعترض على القضاء والقدر.
وقال أيو يعلى: كتب صدقة كتاب «الشفاء» لابن سينا فتغيّر اعتقاده، قال يوما: والله ما أدري من أين جاءوا بنا، ولا إلى أي مطبق يريدون أن يحملونا.
وحكى عنه أبو يعلى قال: كنت عنده فسمع صوت الرعد فقال: فوق خباط وأسفل خباط. قال أبو يعلى، وقال أبياتا أخذتها منه:
نظرت بعين القلب ما صنع الدهر ... فألفيته غرا وليس له خبر
فنحن سدى فيه بغير سياسة ... نروح ونغدو قد تكنفنا الشر
فلا من يحل الزيج وهو منجم ... ولا من عليه الوحي ينزل والذكر
يحلّ لنا ما نحن فيه فنهتدي ... وهل يهتدي قوم أضلهم السكر
عمى في عمى في ظلمة فوق ظلمة ... تراكمها من دونه يعجز الصبر
[603] صفوان بن ادريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن
بن عيسى التجببي، أبو
__________
[603] ترجمة صفوان بن إدريس في التكملة: 768 والذيل والتكملة 4: 140 وتحفة القادم: 119 والمقتضب من تحفة القادم: 82 والمغرب 2: 260 ورايات المبرزين: 79 وشرح مقصورة حازم 1: 57-(4/1448)
بحر: كان أديبا كاتبا شاعرا سريع الخاطر، أخذ عن أبيه والقاضي ابن ادريس وابن غلبون وأبي الوليد ابن رشد، وهو أحد أفاضل الأدباء المعاصرين بالأندلس، ولد سنة ستين وخمسمائة وتوفي بمرسية سنة ثمان وتسعين وخمسمائة ولم يبلغ الأربعين. وله تصانيف منها كتاب زاد المسافر. ورحلته. وكتاب العجالة مجلدان يتضمنان طرفا من نثره ونظمه. وديوان شعر.
ومن شعره «1» :
قد كان لي قلب فلما فارقوا ... سوّى جناحا للغرام وطارا
وجرت سحاب للدموع فأوقدت ... بين الجوانح لوعة وأوارا
ومن العجائب أنّ فيض مدامعي ... ماء ويثمر في ضلوعي نارا
وقال في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
تحية الله وطيب السلام ... على رسول الله خير الانام
على الذي فتّح باب الهدى ... وقال للناس ادخلوا بالسلام
بدر الهدى سحب الندى والجدا ... وما عسى أن يتناهى الكلام
تحية تهزأ أنفاسها ... بالمسك لا أرضى بمسك الختام
تخصّه منّي ولا تنثني ... عن آله الصّيد السّراة الكرام
وقدرهم أرفع لكنني ... لم ألف أعلى لفظة من كرام
وقال «2» :
احمى الهوى قلبه وأوقد ... فهو على أن يموت أوقد
وقال عنه العذول سال ... قلّده الله ما تقلّد
__________
- والاحاطة 3: 349 وقلائد الجمان لابن الشعار 3: 177 والوافي 16: 321 والفوات 2: 117 وصفحات متفرقة من نفح الطيب، ومقدمة زاد المسافر (ط. بيروت 1970) .(4/1449)
وباللوى شادن عليه ... جيد غزال ووجه فرقد
أسكره ريقه بخمر ... حتى انثنى قدّه وعربد
لا تعجبوا لانهزام صبري ... فجيش أجفانه مؤيّد
أنا له كالذي تمنّى ... عبد نعم عبده وأزيد
له عليّ امتثال أمر ... ولي عليه الجفاء والصّد
إن سلّمت عينه لقتلي ... صلّى فؤادي على محمّد
وقال «1» :
يا قمرا مطلعه أضلعي ... له سواد القلب فيها غسق
وربما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لونها عن شفق
ملكتني بدولة من صبا ... وصدتني بشرك من حدق
عندي من حبّك ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق
وقال:
يقولون لي لمّا ركبت بطالتي ... ركوب فتى جمّ الغواية معتدي
أعندك ما ترجو الخلاص به غدا ... فقلت: نعم، عندي شفاعة أحمد(4/1450)
حرف الضاد
[604] الضحاك بن سلمان بن سالم بن دهاية
«1» أبو الأزهر المرئي- نسبة إلى امرىء القيس بن مالك- الألوسي «2» الأديب النحوي اللغوي الشاعر، أصله من قرية يقال لها الألوس من سقي الفرات بهيت، قدم نهر عيسى ونزل بغداد وسكن المحول ونظر في النحو واللغة والغريب وقال الشعر، فمما أورده له الكمال أبو البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري النحوي قوله «3» :
ما أنعم الله على عبده ... بنعمة أوفى من العافيه
وكلّ من عوفي في جسمه ... فإنه في عيشة راضية والمال حلو حسن جيّد
على الفتى لكنه عاريه ... وأسعد العالم بالمال من
أدّاه للآخرة الباقيه
__________
[604] ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 4/1: 120 ومختصر ابن الدبيثي 2: 118 ونزهة الالباء: 268 والوافي 16: 361 وبغية الوعاة 2: 12 والآلوسي نسبة إلى آلوس مدينة بالفرات تحت الحديثة؛ (وفي م: الضحاك بن سليمان، وأثبت ما في المصادر) وهذه الترجمة مزجت بين ما في م وما في المختصر.(4/1451)
ما أحسن الدنيا ولكنها ... مع حسنها غدّارة فانيه
مات الضحاك في سنة ثلاث وستين وخمسمائة.
[605] الضحاك بن مخلد بن مسلم
، أبو عاصم النبيل الشيباني البصري الحافظ الثبت النحوي اللغوي: كان إماما في الحديث سمع من جعفر الصادق وابن جريج والأوزاعي وابن أبي عروبة، وأخرج له البخاري في «صحيحه» وأجمعوا على توثيقه. قيل له يحيى بن سعيد يتكلم فيك فقال: لست بحيّ ولا ميت إذا لم أذكر.
مات أبو عاصم سنة اثنتي عشرة ومائتين.
[606] الضحاك بن مزاحم،
أبو القاسم البلخي المفسر المحدّث النحوي: كان يؤدب الأطفال فيقال كان في مكتبه ثلاثة آلاف صبي، وكان يطوف عليهم على حمار.
لقي الضحاك ابن عباس وأبا هريرة وأخذ عن سعيد بن جبير التفسير، وكان عبد الملك بن ميسرة يقول: لم يلق الضحاك ابن عباس وإنما لقي سعيد بن جبير بالريّ فأخذ عنه التفسير. وقال شعبة: قلت لمشاش هل سمع الضحاك من ابن عباس؟
__________
[605] ترجمته في طبقات ابن سعد 7/2: 49 وطبقات خليفة: 545 والتاريخ الكبير للبخاري 4: 336 والمعارف: 520 والجرح والتعديل 4: 463 وطبقات الزبيدي: 54 والأنساب واللباب (النبيل) وتذكرة الحفاظ: 366 وسير الذهبي 9: 480 وميزان الاعتدال 2: 324 وعبر الذهبي 1: 362 وإنباه الرواة 2: 91 والوافي 16: 359 ومرآة الجنان 2: 53 والبلغة: 98 وتهذيب التهذيب 4: 450 وبغية الوعاة 2: 12 والنجوم الزاهرة 2: 207 والشذرات 2: 28.
[606] ترجمة الضحاك بن مزاحم في طبقات ابن سعد 6: 210، 7/2: 102 والمحبر: 475 وطبقات خليفة: 797، 832 والتاريخ الكبير للبخاري 4: 332 والمعارف: 457 والجرح والتعديل 4: 458 وسير الذهبي 4: 598 وميزان الاعتدال 2: 325 وعبر الذهبي 1: 124 وتاريخ الاسلام 4: 125 والوافي 16: 359 ومرآة الجنان 1: 213 والبداية والنهاية 9: 223 وطبقات ابن الجزري 1: 337 وتهذيب التهذيب 4: 453 والشذرات 1: 124.(4/1452)
قال: ما رآه قط. ووثقه أحمد بن حنبل وابن معين وأبو زرعة وضعفه يحيى بن سعيد.
مات الضحاك سنة خمس ومائة وقيل سنة ست ومائة.
[607] أبو ضمضم النسابة البكري
أحد بني عمرو بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.
حدث المرزباني ما رفعه إلى رؤبة بن العجاج قال: أتينا النسابة البكري وكان نصرانيا، فقال: من أنت يا غلام؟ قلت: رؤبة بن العجاج. قال: قصّرت أو قال أقصرت وعرّفت، فما جاء بك؟ قلت: العلم. قال: لعلك كقوم عندي، إن حدثتهم لم يفهموا، وإن سكتّ لم يسألوا. قلت: أرجو ألا أكون منهم. قال: فما أعداء المرء؟ قلت: أخبرني. قال: بنو عمّ السّوء إن رأوا حسنا دفنوه، وإن رأوا قبيحا أذاعوه. قال: للعلم آفة ونكد وهجنة، فآفته نسيانه، ونكده الكذب، وهجنته نشره عند غير أهله. ثم ضرب بيده على صدره، ثم قال: [تاموري] هذا ما استودعته شيئا قط ففقدته.
حدث المرزباني فيما رفعه: النّسّاب أبو بكر وعمر بن الخطاب وأبوه وجدّه نفيل بن عبد العزى وإليه تنافر عبد المطلب وحرب بن أمية فنفّر عبد المطلب، ثم دغفل، ثم حنظلة وعميرة أبو ضمضم، وصبيح الحنفي، والكيس النمري، والنخار العذري، وابن القرية، وهؤلاء كلهم أميون.
وحدث المرزباني فيما رفعه إلى الأصمعي قال: قعد فتيان أحداث إلى أبي ضمضم فقال: ما جاء بكم يا خبثاء؟ قالوا: جئنا لنحدثك ونؤنسك. فقال: كلا، ولكن قلتم كبر الشيخ نتلعب به، عسى أن نأخذ عليه سقطا. قال فأنشد لمائة شاعر
__________
[607] هذه الترجمة من المختصر، وانظر الشعر والشعراء: 8 والفهرست: 101 ونور القبس: 348 والوافي 16: 369.(4/1453)
كلهم اسمه عمرو. قال الأصمعي: فقعدت أنا وخلف الأحمر فلم نقدر على أكثر من ثلاثين شاعرا.
وحدث المرزباني فيما رفعه إلى الأصمعي قال: قيل للنسابة البكريّ: إنك قد نسبت الجنّ والإنس، حتى لو قيل لك: انسب النمل نسبتهم، فقال: أجل، هم ثلاثة أبطن: فاذر «1» ، والذر وعقفان. قال: الذر النمل الصغار، وفاذر التي رأسها كبير ومؤخرها صغير، وعقفان الطوال القوائم.(4/1454)
حرف الطاء
[608] طالب بن عثمان بن محمد أبو أحمد
بن أبي غالب الأزدي النحوي البصري:
أخذ عن أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري، وكان بارعا في العربية عارفا باللغة وكفّ بصره في آخر عمره، ولد سنة تسع عشرة وثلاثمائة، توفي في خلافة القادر بالله سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
[609] طالب بن محمد بن نشيط «1» أبو أحمد المعروف
بابن السراج النحوي: كان عارفا بالعربية قيما بها أخذ عن أبي بكر ابن الأنباري. وله: مختصر في النحو.
وكتاب عيون الأخبار وفنون الأشعار. مات سنة إحدى وأربعمائة.
[610] طاهر بن أحمد بن بابشاذ بن داود
بن سليمان بن إبراهيم أبو الحسن المصري
__________
[608] تاريخ بغداد 9: 365 وإنباه الرواة 2: 92 والوافي 16: 387 وطبقات ابن الجزري 1: 338 وبغية الوعاة 2: 16.
[609] الوافي 16: 387 وبغية الوعاة 2: 16.
[610] المنتظم 8: 103 وإنباه الرواة 2: 95 وابن خلكان 2: 515 وعبر الذهبي 3: 271 وسير الذهبي 18: 439 والوافي 16: 390 ومرآة الجنان 3: 98 والبلغة: 100 وحسن المحاضرة 1: 254.(4/1455)
المعروف بابن بابشاذ النحوي اللغوي: أحد الأئمة في هذا الشأن والاعلام في علوم العربية وفصاحة اللسان. ورد العراق تاجرا في اللؤلؤ وأخذ عن علمائها ثم رجع إلى مصر وولي متأملا في ديوان الانشاء بالقاهرة يتأمل ما يصدر منه من السجلات والرسائل فيصلح ما فيها من خطأ، ورزق في كل شهر على ذلك خمسين دينارا. تزهد في آخر عمره فاستعفى من ذلك ولزم منارة الجامع- جامع عمرو بن العاص- بمصر.
وكان سبب تزهده أنه كان إذا جلس لأكل الطعام جاء سنّور فوقف بين يديه، فكان إذا ألقى إليه شيئا من الطعام لا يأكله بل يحمله ويمضي. وكثر ذلك منه فتبعه يوما لينظر أين يذهب بما يطعمه فإذا هو يذهب إلى موضع مظلم في داره وفيه سنور أخرى عمياء فيلقيه لها فتأكله، فعجب من ذلك فقال في نفسه: إن الذي سخّر هذا السنّور لذلك ليجيئه بقوته ولم يهمله لقادر على أن يغنيني عن هذا العالم. فلزم منارة الجامع- كما ذكرنا؛ ثم خرج في بعض الليالي لشيء عرض له والليل مقمر، وفي عينيه بقية من النوم، فسقط من المنارة إلى سطح الجامع فمات، رحمه الله، وذلك صبيحة اليوم الرابع من رجب سنة تسع وستين وأربعمائة.
وله من التصانيف: كتاب شرح الجمل للزجاجي. كتاب المحنة «1» ، مختصر في النحو. كتاب شرح المحنة. كتاب التعليق في النحو خمسة عشر مجلدا، سماه تلامذته من بعده تعليق الغرفة، وغير ذلك.
[611] طاهر بن أحمد بن محمد القزويني يعرف بالنجار
، ويكنى أبا محمد:
أديب فاضل متفنن، له تصانيف جمة في عدة فنون، وكان يغلب عليه علم الكلام.
مات سنة ثمانين وخمسمائة.
__________
- وبغية الوعاة 2: 16 والنجوم الزاهرة 5: 105 والشذرات 3: 333؛ وقد أضيف إلى هذه الترجمة إضافات من المختصر.
[611] هذه الترجمة من المختصر، وانظر طبقات ابن الجزري 1: 339 والوافي 16: 391.(4/1456)
[612] طاهر بن الحسين أبو الوفاء البندنيجي الهمذاني:
كان شاعرا مبرزا، له معرفة تامة بالنحو واللغة والعروض، لم يمدح أحدا ابتغاء جائزة «1» ، وكان يعد ذلك عارا. مات سنة ثمانين وأربعمائة.
[613] طراد بن علي بن عبد العزيز أبو فراس
السلمي الدمشقي المعروف بالبديع:
كان نحويا كاتبا أديبا بارعا في النظم والنثر، ومن شعره «2» :
قيل لي لم جلست في آخر القو ... م وأنت البديع رب القوافي
قلت آثرته لأن المنادي ... يل يرى طرزها على الأطراف
وقال:
يا صاح آنسني دهري وأوحشني ... منهم وأضحكني دهري وأبكاني
قد قلت أرض بأرض بعد فرقتهم ... فلا تقل لي جيران بجيران
وقال «3» :
يا نسيما هبّ مسكا عبقا ... هذه أنفاس ريّا جلّقا
كفّ عني ذا الهوا ما زادني ... برد أنفاسك إلا حرقا
__________
[612] هذه الترجمة من المختصر، وانظر المنتظم 9: 39 وتاريخ ابن الأثير 10: 163 والوافي 16: 393 (وأورد له الصفدي شعرا) وبغية الوعاة 2: 18.
[613] ترجمة طراد السلمي في الخريدة (قسم مصر) 2: 105 ومصورة ابن عساكر 8: 503 وتهذيب ابن عساكر 7: 54 والوافي 16: 420 والفوات 2: 131 وعيون التواريخ 12: 217 وبغية الوعاة 2: 19 والشذرات 4: 90.(4/1457)
ليت شعري نقضوا أحبابنا ... يا حبيب النفس ذاك الموثقا
يا رياح الشوق سوقي نحوهم ... عارضا من سحب دمعي غدقا
وانثري عقد دموع طالما ... كان منظوما بأيام اللّقا
وقال «1» :
هكذا في حبكم أستوجب ... كبدا حرّى وقلبا يجب
وجزا من سهرت أجفانه ... حجّة تمضي وأخرى تعقب
زفرات في الحشا محرقة ... وجفون دمعها ينسكب
قاتل الله عذولي ما درى ... أنّ في الأعين أسدا تثب
لا أرى لي عن حبيبي سلوة ... فدعوني وغرامي واذهبوا
وقال:
إذا كنت عني في العيان مغيّبا ... فما أنت عن سمعي وقلبي بغائب
إذا اشتاقت العينان منك لنظرة ... تمثلت لي في القلب من كل جانب
مات البديع الدمشقي سنة أربع وعشرين وخمسمائة.
[614] طريح بن إسماعيل بن عبيد بن أسيد
بن علاج بن أبي سلمة بن عبد العزى الثقفي، وأمه خزاعية بنت عبد الله بن سباع، أبو الصلت الشاعر المشهور: نشأ في دولة بني أمية واستنفد شعره في الوليد بن يزيد، وأدرك دولة بني العباس، ومات في
__________
[614] ترجمة طريح الثقفي في الشعر والشعراء: 568 والأغاني 4: 304 والسمط: 705 ومصورة ابن عساكر 8: 506 وتهذيب ابن عساكر 7: 56 ومختصر ابن منظور 11: 175 والوافي 16: 432 والاصابة 3: 300 (وهو يلحق بمعجم الشعراء) ومن اللافت للنظر أن الأشعار التي أوردها ياقوت له لم ترد في المصادر المذكورة، فهل هنا اضطراب في الأصل، وتكون الأشعار لغيره؟.(4/1458)
أيام المهدي سنة خمس وستين ومائة، ومن مختار شعره قوله:
ألم تر المرء نصبا للحوادث ما ... تنفكّ فيه سهام الدهر تنتضل
إن يعجل الموت يحمله على وضح ... لحب موارده مسلوكة ذلل
وان تحادث به الأيام في عمر ... يخلق كما رثّ بعد الجدّة الحلل
ويستمرّ إلى أن يستقلّ به ... ريب المنون ولو طالت به الطيل
والدهر ليس بناج من دوائره ... حيّ جبان ولا مستأسد بطل
ولا دفين غيابات له نفق ... تحت التراب ولا حوت ولا وعل
بل كلّ شيء سيبلي الدهر جدّته ... حتى يبيد ويبقى الله والعمل
وقال:
وترى المشيب بدا وأقبل زائرا ... بعد الشباب فنازل ومودّع
والشيب للحكماء من سفه الصّبا ... بدل تنال به الفضيلة مقنع
والشيب زين بني المروءة والحجى ... فيه لهم شرف ومجد يرفع
والبرّ تصحبه المروءة والتّقى ... تبدو بأشيب جسمه متضعضع
أشهى إليّ من الشباب مع المنى ... والغيّ يتبعه القويّ المهرع
إن الشباب عمى لأكثر أهله ... وتعرّض لمهالك تتوقّع
إن تغتبط في اليوم تصبح في غد ... ممّا جني لك واجما تتوجّع
وقال:
حلّ المشيب ففرق الرأس مشتعل ... وبان بالكره منّا اللهو والغزل
فحلّ هذا مقيما لا يريد لنا ... تركا وهذا الذي نهواه مرتحل
هذا له عندنا نور ورائحة ... كنشر روض سقاه عارض هطل
وجدّة وقبول لا يزال له ... من كلّ خلق هوى أو خلّة نفل
والشيب يطوي الفتى حتى معارفه ... نكر ومن كان يهواه به ملل
يبلى بلى البرد فيه بعد قوّته ... وهن وبعد تناهي خطوه رمل(4/1459)
[615] طلحة بن محمد النعماني أبو محمد
وقيل أحمد بن طلحة، من أهل النعمانية: [كان] فاضلا عارفا باللغة والأدب، حسن الشعر، ورد إلى بغداد، وخرج منها إلى خراسان وأقام ببلادها مدة.
سمعت أبا عمرو عثمان بن محمد البقال بخوارزم يقول: كنت أنا والشيخ أبو محمد طلحة نمشي ذات يوم في السوق، واستقبلنا عجلة عليها حمار ميّت يحمله الدبّاغون إلى الصحراء ليسلخوا جلده، فقلت مرتجلا:
يا حاملا صرت محمولا على عجله
فقال أبو محمد مجيبا:
وافاك موتك منتابا على عجله
ومضت على ذلك أيام قلائل، فلقيني السيد أبو القاسم الفخر بن محمد اليزيدي «1» العلوي، فحكيت له هذه القصة، ففكر سويعة وقال:
والموت لا تتخطى الحيّ رميته ... ولو تباطأ عنه الحيّ أزعج له
ومن شعر أبي محمد طلحة:
يا ملكا في أفق الدّست لاح ... فخاله الناظر ضوء الصباح
ليس على من رام نيل الغنى ... بالمدح من جودك يوما جناح
يا خاتم الحمد بأوصافه ... جد لي كما كان بك الافتتاح
ما بال حظي كلما رضته ... بالمدح أعياني بطول الجماح
__________
[615] ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 2: 3- 51 وإنباه الرواة 2: 93 ونزهة الألباء: 267 والوافي 16: 486 (وهو ينقل عن ابن النجار) والفوات 2: 135 وبغية الوعاة 2: 20 والنعماني نسبة إلى النعمانية وهي بلدة بين بغداد وواسط (والترجمة في م موجزة كثيرا، وما ها هنا اكثره من المختصر) .(4/1460)
وله يرثي:
فقلبي لا يأوي إلى ذكر سلوة ... وإنسان عيني بعد أدمعها يجري
ولم يحل إلّا ذكر علياه في فمي ... ولا راق إلا في مدائحه شعري
ولم أر بدرا قبله غاب في الثرى ... ولا زاخرا تيّاره غاص في قبر
تصاعد أنفاسي عليه كأنها ... شواظ ترامى عن ذكيّ من الجمر
وكاتبه الحريريّ صاحب «المقامات» وكان كثير الحفظ جيد الشعر سريع البديهة؛ مات سنة عشرين وخمسمائة. ومن شعره:
إذا نالك الدهر بالحادثات ... فكن رابط الجأش صعب الشكيمه
ولا تهن النفس عند الخطوب ... إذا كان عندك للنفس قيمه
فو الله ما لقي الشامتون ... بأحسن من صبر نفس كريمه
[616] طلحة بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل
بن إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبد الله التيمي الطلحي: من أهل البصرة. نادم الموفق الناصر لدين الله. وكان راوية أخباريا. مات سنة إحدى وتسعين ومائتين. له من المصنفات كتاب أخبار المتيمين. كتاب جواهر الأخبار.
__________
[616] هذه الترجمة من المختصر، وانظر الفهرست: 88 حيث قيد اسمه «الطلحي» ولم يرد عنه شيء هنالك.(4/1461)
حرف الظاء
[617] ظافر بن القاسم بن منصور بن عبد الله
بن خلف الجذامي الاسكندري المعروف بالحداد الشاعر الأديب: روى عنه الحافظ السلفي وطائفة من الأعيان، وتوفي بمصر في المحرم سنة تسع وعشرين وخمسمائة ومن شعره «1» :
حكم العيون على القلوب يجوز ... ودواؤها من دائهنّ عزيز
كم نظرة نالت بطرف ذابل ... ما لا ينال الذابل المهزوز
فحذار من تلك اللواحظ غيرة ... فالسحر بين جفونها مكنوز
وكتب إلى أبي الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي بعد أن توجه من مصر إلى المهدية يتشوق إليه «2» :
ألا هل لدائي من فراقك إفراق ... هو السمّ لكن لي لقاؤك درياق
فيا شمس فضل غرّبت ولضوئها ... على كلّ قطر بالمشارق إشراق
__________
[617] ترجمة ظافر الحداد في رسالة أبي الصلت (نوادر المخطوطات 1: 35) والخريدة (قسم مصر) 2: 1- 17 وابن خلكان 2: 540 وعبر الذهبي 4: 78 والنجوم الزاهرة: 376 وحسن المحاضرة 1: 269 والشذرات 4: 91 وانظر بدائع البدائه: 385 والمقفى 4: 39 وقد نشر ديوانه الدكتور حسين نصار (القاهرة: 1969) .(4/1462)
سقى العهد عهدا منك عمّر عهده ... بقلبي عهدا لا يضيع وميثاق
يجدّده ذكر يطيب كما شدت ... وريقاء كنّتها من الأيك أوراق
لك الخلق الجذل الرفيع طرازه ... وأكثر أخلاق الخليقة أخلاق
لقد ضاءلتني يا أبا الصلت مذ نأت ... ديارك عن داري هموم وأشواق
إذا عزّني إطفاؤها بمدامعي ... جرت ولها ما بين جفنيّ إحراق
سحائب يحدوها زفير يجرّه ... خلال التراقي والترائب تشهاق
وقد كان لي كنز من الصبر واسع ... ولي منه في صعب النوائب انفاق
وسيف إذا جرّدت بعض غراره ... لجيش خطوب صدّها منه إرهاق
إلى أن أبان البين أنّ غراره ... غرور وان الكنز فقر وإملاق
أخي سيدي مولاي دعوة من صفا ... وليس له من رقّ ودّك إعتاق
لئن بعدت ما بيننا شقّة النوى ... ومطّرد طامي الغوارب خفّاق
وبيد إذا كلّفتها العيس قصّرت ... طلائح أنضاها ذميل وإعناق
فعندي لك الودّ الملازم مثل ما ... يلازم أعناق الحمائم أطواق
وهي طويلة نحو ثلاثين بيتا:
ومن لطائفه وغرر قصائده أيضا قوله «1» :
لو كان بالصبر الجميل ملاذه ... ما سحّ وابل دمعه ورذاذه
ما زال جيش الحبّ يغزو قلبه ... حتى وهى وتقطعت أفلاذه
لم يبق فيه مع الغرام بقية ... إلا رسيس يحتويه جذاذه
من كان يرغب في السلامة فليكن ... أبدا من الحدق المراض عياذه
لا تخدعنّك بالفتور فإنه ... نظر يضرّ بقلبك استلذاذه
يا أيها الرشأ الذي من طرفه ... سهم إلى حبّ القلوب نفاذه(4/1463)
درّ يلوح بفيك من نظّامه ... خمر به قد جال من نبّاذه
وقناة ذاك القد كيف تقوّمت ... وسنان ذاك اللحظ ما فولاذه
هاروت يعجز عن مواقع سحره ... وهو الإمام فمن ترى استاذه
تالله ما علقت محاسنك آمرءا ... إلا وعزّ على الورى استنقاذه
أغريت حبّك بالقلوب فأذعنت ... طوعا وقد أودى بها استحواذه
وهي نحو عشرين بيتا كلّها غرر. ومن مقطعاته قوله في الأقحوان «1» :
انظر فقد أبدى الأقاحي مبسما ... يفترّ ضحكا فوق قدّ أملد
كفصوص درّ لطّفت أجرامه ... وتنظمت من حول شمسة عسجد
وقال في كرسي النسخ ويكتب عليه «2» :
انظر بعينك في بديع صنائعي ... وعجيب تركيبي وحكمة صانعي
فكأنني كفّا محبّ شبّكت ... يوم الفراق أصابعا بأصابعي
[618] ظالم بن عمر وأبو الأسود الدؤلي:
هو أبو الأسود ظالم بن عمرو بن سفيان بن
__________
[618] ترجمة أبي الأسود في طبقات ابن سعد 7/1: 70 وطبقات خليفة: 452 والمعارف: 192 والجرح والتعديل 4: 502 والتاريخ الكبير للبخاري 6: 334 ومراتب النحويين: 10 وتاريخ أبي المحاسن: 164 وأخبار النحويين البصريين: 13 والفهرست: 46 ونور القبس: 7 وطبقات الزبيدي: 21 والسمط: 66 ومصورة ابن عساكر 8: 604 وتهذيب ابن عساكر 7: 107 ونزهة الألباء 1: 8 والأغاني 12: 300- 339 والأنساب واللباب (الدؤلي) وأسد الغابة 3: 69 وابن خلكان 2: 535 وإنباه الرواة 1: 13 وتاريخ الإسلام 3: 94 وعبر الذهبي 1: 77 وسير الذهبي 4: 81 والوافي 16: 533 ومرآة الجنان 1: 144 وطبقات ابن الجزري 1: 345 والاصابة 3: 304 وتهذيب 2 لتهذيب 12: 10 والنجوم الزاهرة 1: 184 وبغية الوعاة 2: 22 وخزانة الأدب 1: 136؛ وهذه الترجمة من م والمختصر، وهي في الثاني مسهبة.(4/1464)
جندل بن يعمر بن حلس بن نفاثة بن عدي بن الدئل بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر، وأمه الطويلة من بني عبد الدار بن قصيّ. وأما نسبه فيقال فيه الدؤلي منسوب إلى الدئل بكسر الهمزة، وإنما فتحوها للنسبة كما نسبوا إلى تغلب تغلبي، وإلى يثرب يثربي، والدئل دابة بين ابن عرس والثعلب، واختلفوا في ذلك.
وفي بني ضبة «1» الدّئل، وفي الهون الدئل، وفي ربيعة الديل غير مهموز، وفي الأزد الديل، وفي تغلب الديل، وفي إياد الديل، وفي غيره الدول، وفي الرباب الدول، والنسبة إليهم الدول.
ولد أبو الأسود في الجاهلية، ومات في الطاعون الجارف سنة تسع وستين على الأصح في أيام ابن الزبير. وهو أحد سادات التابعين وفقهائهم ومحدثيهم، روى عن عمر وعثمان وعلي، عليهم السلام، والزبير، وأبي ذرّ وأبي موسى وابن عبّاس وغيرهم، وعنه أمية ويحيى بن يعمر واستعمله كل واحد منهم. وهو أول من تكلم في النحو، وهو من أهل البصرة. أسلم على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وقاتل مع علي يوم الجمل وشهد معه صفين. وكان من وجوه شيعة علي بن أبي طالب، استعمله على البصرة بعد ابن عباس.
قال الجاحظ «2» : أبو الأسود معدود في طبقات الناس، وهو في كلّها مقدم مأثور عنه في جميعها. كان معدودا في التابعين والفقهاء والمحدثين والشعراء والأشراف والفرسان والأمراء والدهاة والنحويين والحاضري الجواب والشيعة والبخلاء والصلع الأشراف والبخر الأشراف. وكان أول من وضع علم العربية، وأسس قواعده علي بن أبي طالب، عليه السلام، وأخذه عنه أبو الأسود.
حدث أبو عثمان المازني «3» ما رفعه إلى يحيى بن يعمر الليثي أن أبا الأسود الدئلي دخل على ابنته بالبصرة فقالت: يا أبه، ما أشدّ الحرّ، ورفعت أشد، فظنها(4/1465)
تسأله وتستفهم منه أي زمان الحر أشد؟ فقال لها: شهرا ناجر. فقالت: يا أبه إنما أخبرتك، ولم أسألك، فأتى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال: يا أمير المؤمنين، ذهبت لغة العرب لمّا خالطت العجم، ويوشك إن طال عليها زمان أن تضمحلّ. فقال له: وما ذاك؟ فأخبره خبر ابنته. فأمر فاشترى صحفا بدرهم وأملى عليه: الكلام كله لا يخرج عن اسم وفعل وحرف جاء لمعنى. وهذا القول هو أول كتاب سيبويه. ثم رسم أصول النحو كلها، فنقلها النحويون وفرعوها. فلما كان أيام زياد بن أبيه بالبصرة جاءه أبو الأسود فقال له: أصلح الله الأمير إني أرى العرب قد خالطت الحمراء فتغيرت ألسنتهم. وقد كان علي بن أبي طالب، عليه السلام، وضع شيئا يصلح به ألسنتهم، أفتأذن لي أن أظهره. فقال: لا. ثم جاء زيادا رجل فقال: أصلح الله الأمير، مات أبانا وخلّف بنون، فقال زياد كالمتعجب: مات أبانا وخلّف بنون! هذا ما ذكره أبو الأسود. ثم مرّ برجل يقرأ القرآن حتى بلغ إلى قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ
(التوبة: 3) ، بكسر اللام من رسوله، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. هذا والله الكفر. ردّوا إليّ أبا الأسود، فردوه إليه.
فقال له: ضع للناس ما كنت نهيتك عنه. فقال: ابغني كاتبا يفهم عني. فجيء برجل من عبد القيس فلم يرضه، فأتي برجل من قريش، فقال له: إذا رأيتني قد فتحت فمي بالحرف فانقط على أعلاه نقطة، وإذا ضممت فانقط بين يدي الحرف، وإذا كسرت فمي فاجعل النقطة تحت الحرف، فإن أتبعت ذلك شيئا من الغنّة فاجعل النقطة نقطتين ففعل. فكان هذا نقط أبي الأسود، وذكر أنه لم يضع إلا باب الفاعل والمفعول به فقط. فجاء بعده ميمون الأقرن فزاد عليه في حدود العربية. ثم زاد فيها عنبسة بن معدان الفيل وعبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي. فلما كان عيسى بن عمر وضع في النحو كتابين «1» ، ثم أبو عمرو بن العلاء، ثم الخليل بن أحمد ثم سيبويه.
وحدث آخرون «2» في سبب وضع النحو أن أبا الأسود دخل على عليّ، عليه السلام، فوجد في يده رقعة. قال أبو الأسود: فقلت: ما هذه يا أمير المؤمنين؟(4/1466)
فقال: إني تأملت كلام الناس فوجدته قد فسد بمخالطة هذه الحمراء، يعني الأعاجم، فأردت أن أضع لهم شيئا يرجعون إليه، ويعتمدون عليه، ثم ألقى إليّ الرقعة، وفيها مكتوب: الكلام كلّه اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبىء به، والحرف ما جاء لمعنى؛ وقال لي: انح هذا النحو، وأضف إليه ما وقع إليك. واعلم يا أبا الأسود أن الأسماء ثلاثة: ظاهر ومضمر واسم لا ظاهر ولا مضمر. أراد بذلك الاسم المبهم. قال أبو الأسود: فكان ما وقع إليّ إنّ وأخواتها، خلا لكن. فلما عرضتها على عليّ عليه السلام، قال لي: وأين لكن؟ فقلت: ما حسبتها منها. فقال: هي منها، فألحقتها، ثم قال: ما أحسن هذا النحو الذي نحوته. فلذلك سمي نحوا. ثم إن ابنته أخذت في يوم قائظ شديد الحر فقالت: يا أبت، ما أشدّ الحر، وهي تريد التعجب. فقال: القيظ، وما نحن فيه يا بنية، جوابا عن كلامها، لأنه استفهام عنده، فتحيّرت ابنته منه، فعلم أنها أرادت التعجب، فقال: قولي يا بنية ما أشدّ الحرّ. فعمل باب التعجب.
وكان أبو الأسود غاية في الفصاحة، جلس إليه غلام، فقال له أبو الأسود: ما فعل أبوك؟ قال: أخذته الحمّى ففضخته فضخا، وطبخته طبخا، وفتخته فتخا، فتركته فرخا. قال: فما فعلت امرأته التي كانت تشاره وتهارّه وتضارّه وتجاره وتزارّه؟ قال:
طلّقها فتزوجت غيره فرضيت وحظيت وبضيت. فقال أبو الأسود: وما بضيت يا بني؟
فقال الغلام: حرف من اللغة لم يبلغك. قال أبو الأسود: يا بني ما لم يبلغ عمك فاستره كما تستر الهرة خرءها.
وأخذ النحو عن أبي الأسود جماعة منهم عطاء بن أبي الأسود، ويحيى بن يعمر العدواني، ثم ميمون الأقرن، ثم عنبسة الفيل.
وزوج أبو الأسود بنتا له، فلما أراد إهداءها قالت له: أوصني. فقال: أكرمي عينيه وأنفه وأذنيه.
وقال أبو الأسود لولده «1» : يا بني، إني قد حفظتكم قبل أن تولدوا وبعد مولدكم. فحفظي إياكم قبل أن تولدوا أني لم أضعكم في أرحام تسبّون بها. وحفظي(4/1467)
إياكم بعد مولدكم أني لم أخلّف عليكم دينا. فإذا وسّع عليكم فوسّعوا، وإذا أمسك عنكم فاقتصدوا، ولا تجاودوا الله فإنه لا يجاود.
وساوم أبو الأسود ببرد فقال له صاحبه: اشتر حتى أقاربك. فقال له أبو الأسود: إن لم تقاربني تباعدت. قال: إني قد أعطيت به كذا وكذا. قال أبو الأسود: ما يزال أحدهم يحدث عن خير فاته.
وقال أبو الأسود «1» : ليس شيء أعز من العلم، لأن الملوك حكام على أهل الأرض، والعلماء حكام على الملوك.
دخل أبو الأسود على عبيد الله بن زياد فقال «2» : لقد أصبحت جميلا فلو علّقت معاذة. فعلم أنه يهزأ به، فقال «3» :
أفنى الشباب الذي أبليت جدّته ... مرّ الجديدين من آت ومنطلق
لم يبقيا لي في طول اختلافهما ... شيئا يخاف عليه لقعة الحدق
قال أبو الأسود لابنته «4» : إياك والغيرة فإنها مفتاح الطلاق، وعليك بالزينة، وأزين الزينة الكحل. وعليك بالطيب، وأطيب الطيب إسباغ الوضوء، وكوني كما قلت لأمك:
خذي العفو مني تستديمي مودتي ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فإني وجدت الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعا لم يلبث الحبّ يذهب
وقال أبو الأسود «5» : لو أطعنا المساكين في أموالنا كنّا أسوأ حالا منهم.
وقال «6» : لا تجاودوا الله فإنه أجود وأمجد. ولو شاء أن يوسّع على الناس كلهم لفعل، فلا تجهدوا أنفسكم في التوسع فتهلكوا هزلا.(4/1468)
وحدث المدائني قال «1» : كان أبو الأسود جالسا في دهليزه وبين يديه رطب، فجاز به رجل أعرابي فقال: السلام عليك. فقال أبو الأسود: كلمة مقولة. فقال:
أدخل؟ فقال: وراءك أوسع لك. قال: إن الرمضاء أحرقت رجلي. قال: بل عليها أو ائت الجبل يفئ عليك. قال: هل عندك شيء تطعمنيه؟ قال: نأكل ونطعم العيال فإن فضل شيء فأنت أحقّ من الكلب. فقال الأعرابي: ما رأيت الأم منك.
قال: بلى ولكنك قد أنسيت، قال: أنا ابن الحمامة. قال كن ابن الطاووس، وانصرف. قال: أسألك بالله إلا أطعمتني مما تأكل. فألقى إليه ثلاث رطبات، فوقعت إحداهن في التراب، فأخذ يمسحها بثوبه. فقال أبو الأسود: دعها، فإن الذي تمسحها منه أنظف من الذي تمسحها به. قال: إنما كرهت أن أدعها للشيطان.
فقال: لا والله، ولا تدعها لجبريل وميكائيل.
وحدث عنه أنه كان مبخلا، وأنه كان يوما على باب داره وبين يديه طبق فيه رطب تمر، فإنه ليأكل من ذلك التمر إذ وقف به أعرابي قد أوغل في البؤس، فسلّم عليه، ثم قال: أصلحك الله، شيخ همّ غابر ماضين ووافد محتاجين، أكله الفقر وأذله الدهر فأعن ضيفا ضعيفا. فمد أبو الأسود يده فناول الشيخ تمرة فرماها الشيخ في وجهه، وولّى وهو يقول: جعلها الله حظك من حظك، وألجأك إليّ كالجائي إليك ليبلوك بي كما بلاني بك.
كانت «2» له امرأة له منها ولد، فخاصمته إلى زياد بن أبيه، فقال أبو الأسود:
أصلح الله الأمير، أنا أحق بالولد منها. فقال زياد: ولم؟ فقال أبو الأسود: حملته قبل أن تحمله، ووضعته قبل أن تضعه. قالت: أصلح الله الأمير، وضعه شهوة ووضعته كرها، وحمله خفا وحملته ثقلا. قال زياد: صدقت، أنت أحق بالولد منه.
وحدث المدائني «3» عن أبي بكر الهذلي أن أبا الأسود كان يحدث معاوية يوما فتحرك فضرط، فقال لمعاوية: استرها عليّ. فقال: نعم. فلما خرج حدث بها(4/1469)
معاوية عمرو بن العاص ومروان بن الحكم، فلما غدا عليه أبو الأسود قال له عمرو:
ما فعلت ضرطتك يا أبا الأسود بالأمس؟ قال: ذهبت كما يذهب الريح من شيخ ألان الدهر أعصابه ولحمه عن إمساكها، وكل أجوف ضروط، ثم أقبل على معاوية وقال:
إن امرءا ضعفت أمانته ومروءته عن كتمان ضرطة لحقيق بأن لا يؤمن على أمور المسلمين.
وبالإسناد قال «1» : كان لأبي الأسود جار يؤذيه ويرميه بالحجارة، فشكا أبو الأسود ذلك إلى قومه وغيرهم، فكلموه ولاموه فقال: لم أرمه، وإنما يرميه الله لقطعه الرحم وسرعته إلى الظلم في بخله بماله، فقال أبو الأسود: ما أجاور رجلا يقطع رحمي ويكذب على الله ربي. فقيل له: وكيف يكذب على ربك؟ فقال: لأنه عز وجل، لو رماني ما أخطأني، وهذا فلا يصيبني. ثم باع داره، واشترى دارا في هذيل. فقيل لأبي الأسود: أبعت دارك؟ قال: ما بعت داري وإنما بعت جاري فأرسلها مثلا.
ومن شعر أبي الأسود «2» :
وإني ليثنيني عن الشتم والخنا ... وعن سبّ أقوام خلائق أربع
حياء وإسلام وبقيا وأنني ... كريم ومثلي قد يضر وينفع
فإن أعف يوما عن ذنوب أتيتها ... فإن العصا كانت لذي الجلم تقرع
وشتان ما بيني وبينك إنني ... على كل حال أستقيم وتظلع
وقال أبو الأسود لابنه أبي حرب وأمره بالسعي في التجارة فأبى وقال: إن كان لي رزق فسيأتيني. فقال «3» :
وما طلب المعيشة بالتمني ... ولكن ألق دلوك في الدلاء
تجيء بملئها طورا وطورا ... تجيء بحمأة وقليل ماء(4/1470)
ولا تقعد على كسل التمني ... تحيل على المقادر والقضاء
فإن مقادر الرحمن تجري ... بأرزاق الرجال من السماء
مقدرة بقبض أو ببسط ... وعجز المرء أسباب البلاء
وأهدى إليه المنذر بن الجارود العبدي ثيابا فقال أبو الأسود «1» :
كساك ولم تستكسه فحمدته ... أخ لك يعطيك الجزيل وناصر
وإنّ أحق الناس إن كنت حامدا ... بحمدك من أعطاك والعرض وافر
وحدث قال: خرج أبو الأسود إلى طلحة الطلحات وهو على سجستان فأقام ببابه أياما لا يصل إليه فلما طال عليه كتب إليه:
ورد السعاة العاطشون فأنهلوا ... ريّا وطاب لهم لديك المكرع
ووردت بحرك ظامئا متدفقا ... فرددت دلوي شنّها يتقعقع
وأراك تمطر جانبا عن جانب ... ومحلّ بيتي من سمائك بلقع
ويردني طمعا إلى ما ارتجي ... من قد وصلت فإن لبك مشبع
فأذن له فدخل وفي يد طلحة حجران يقلبهما فقال: يا أبا الأسود، اختر أحد هذين الحجرين أو عشرة آلاف درهم. فقال: أصلح الله الأمير، ما كنت لآخذ حجرا على عشرين ألف درهم. فأمر له بعشرين ألفا. فلما قبضها قال: أصلح الله الأمير وأكرمه، إن رأى أن يعطيني أحد هذين الحجرين فليفعل. فرمى إليه بالحجرين جميعا، فقدم بهما العراق فباعهما بمائة وخمسين ألف درهم.
وأنشد لمروان بن أبي حفصة «2» :
ثلاثة أحدثوا فينا بفطنتهم ... ما ليس يدفعه علم ولا أدب
أخو بني الديل دلتنا هدايته ... على إقامة ما قد قالت العرب
والشعر صاغ لنا ميزان قسمته ... ذهن الخليل فلا عيب ولا عتب
وللغناء بوزن الشعر تسوية ... كما تثقّف في عيدانها القضب
فقد أتانا بنقر الموصلى له ... إيقاع حذق به يستجمع الطرب(4/1471)
وعن الأصمعي قال «1» : كان أبو الأسود يكثر الركوب فقيل له: يا أبا الأسود، لو قعدت في منزلك كان أودع لبدنك وأروح. فقال أبو الأسود: صدقتم، ولكن الركوب أتفرج فيه وأستمع من الخبر ما لا أسمعه في منزلي، واستنشق الريح فترجع إليّ نفسي، وألاقي الإخوان. ولو جلست في منزلي اغتمّ بي أهلي، واستأنس بي الصبي، واجترأت عليّ الخادم، وكلمني من أهلي من يهاب أن يكلمني.
وقيل: أصاب أبا الأسود الفالج فكان يخرج إلى السوق يجر رجله وكان موسرا ذا عبيد، فقيل له: فقد أغناك الله عن السعي في حاجاتك، لو جلست في بيتك.
فقال: لا، ولكني أخرج، ثم ادخل، فيقول الخادم قد جاء، ويقول الصبي قد جاء، ولو جلست في البيت فبالت عليّ الشاة ما منعها أحد عني.
أراد علي بن أبي طالب «2» ، عليه السلام، أن يبعث بأبي الأسود حكما، فقال له معاوية بعد ذلك: ما كنت قائلا يا أبا الأسود لو بعثت حكما؟ فقال: لي الأمان على نفسي؟ قال: نعم. قال: وعلى صديقي وأهلي وولدي ومالي؟ قال: نعم. قال:
كنت قائلا: يا معشر المسلمين، المهاجرون الأولون أحقّ بها أم أولاد الطلقاء؟ قال له معاوية: اسكت.
دخل أبو الأسود على عبد الملك بن مروان فلما اطمأن به المجلس قال له: يا أبا الأسود، ما مالك؟ فقال: اعفني يا أمير المؤمنين، إنّ خبر القرشي عن ماله على إحدى منزلتين: إن كان فقيرا حقر، وإن كان غنيّا حسد. قال: أقسمت عليك إلا أخبرتني. قال: فأما إذ أبيت فإني أورث، وإرثي ما ورث حاتم طيء وارثه حيث يقول «3» :
متى ما يجىء يوما إلى المال وارثي ... يجد جمع كفّ غير ملء ولا صفر
يجد فرسا مثل العنان وصارما ... حساما إذا ما هز لم يرض بالهر
وأسمر خطيا كأنّ كعوبه ... نوى القسب قد أربى ذراعا على العشر(4/1472)
قال: فلا يفيدك مع هذا مال، قال إني إلى ذلك لمحتاج، فأمر له بعشرة آلاف درهم.
وقال «1» :
العلم زين وتشريف لصاحبه ... فاطلب هديت فنون العلم والأدبا
كم سيّد بطل آباؤه نجب ... كانوا رؤوسا فأضحى بعدهم ذنبا
ومقرف خامل الآباء ذي أدب ... نال المعالي بالآداب والرّتبا
العلم ذخر وكنز لا نفاد له ... نعم القرين ونعم الخدن إن صحبا
قد يجمع المال شخص ثم يحرمه ... عمّا قليل فيلقى الذلّ والحربا
وجامع العلم مغبوط به أبدا ... فلا يحاذر فيه الفوت والسّلبا
يا جامع العلم نعم الذخر تجمعه ... لا تعدلنّ به درّا ولا ذهبا
وقال «2» :
فلا تشعرنّ النفس يأسا فإنما ... يعيش بجدّ حازم وبليد
ولا تطمعن في مال جار لقربه ... فكلّ قريب لا ينال بعيد
وقال «3» :
تعوّدت مسّ الضّرّ حتى ألفته ... وأسلمني طول البلاء إلى الصبر
ووسّع صدري للأذى كثرة الأذى ... وكان قديما قد يضيق به صدري
إذا أنا لم أقبل من الدّهر كلّ ما ... ألاقيه منه طال عتبي على الدهر
وقال «4» :
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكلّ أمر منكر
وبقيت في خلف يزكّي بعضهم ... بعضا ليدفع معور عن معور
فطن لكلّ مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بعرضه لم يثر(4/1473)
حرف العين
[619] عاصم بن أبي النجود: المقرىء
أحد القراء السبعة، واسم أبي النجود بهدلة، وقيل بهدلة اسم أمه، وأبو النجود اسمه كنيته. حدث عن أبي وائل وأبي بردة وأبي صالح السمان وزر بن حبيش، والمسيب بن رافع، وأبي رزين وأبي الضحى. وروى عنه جماعة منهم سليمان الأعمش، وشعبة، وحمّاد بن زيد، وحمّاد بن سلمة والثوري، وشريك بن عبد الله، وسفيان بن عيينة، وأبو بكر ابن عياش. ووفد على عمر بن عبد العزيز.
قال أبو الحسين ابن فارس: قال لي علي بن إبراهيم القطان: عاصم بن أبي النّجود من أي شيء أخذ؟ قلت: لا أدري. فقال: من قال النّجود بفتح النون فهي الأتان، ومن قال النّجود بالضم فهو جمع نجد، وهو الطريق.
مات سنة تسع وعشرين ومائة؛ ومولده في حرّة بني سليم بن منصور، وهو مولى لبني جذيمة بن مالك بن نصر بن قعين ثم من بني أسد بن خزيمة بن مدركة. وهو من أهل الكوفة. قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، عليه السلام. قال عاصم: كنت أقرأ على أبي عبد الرحمن، فإذا رجعت
__________
[619] هذه الترجمة من المختصر وانظر: طبقات ابن سعد 6: 224 وطبقات خليفة 369 ومراتب النحويين: 24 والمعارف: 530 وتاريخ أبي المحاسن: 231 ومصورة ابن عساكر 8: 627 وتهذيبه 7: 122 ومختصر ابن منظور 11: 235 وابن خلكان 3: 9 وسير الذهبي 5: 256 وميزان الاعتدال 2: 357 وعبر الذهبي 1: 167 والوافي 16: 572 ومرآة الجنان 1: 271 وطبقات ابن الجزري 1: 346 وتهذيب التهذيب 5: 38 والشذرات 1: 175.(4/1474)
من عنده عرضت ذلك على زر بن حبيش. وكان زر قد قرأ على عبد الله بن مسعود.
وكان أبو عبد الرحمن السلمي جليل القدر، عظيم الخطر، أقام بالكوفة سنة أربعين يقرىء الناس في مسجدها الأعظم في أيام عثمان بن عفان، ثم عرضه على علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود وأبيّ بن كعب وزيد بن ثابت. وكان معلما للحسن والحسين، صلوات الله عليهما، وكذلك زر بن حبيش الأسدي فإنه كان قد جمع بين العلم والعمل، وكان عارفا بالنحو والغريب، عالما بالتأويل والتنزيل. قرأ على عثمان وعلى عبد الله بن مسعود. وكان فصيحا، وبلغ من السنّ عشرين ومائة سنة، وهو معدود في جلة التابعين.
ولما مات السلمي جلس عاصم مكانه في المسجد الجامع بالكوفة، وعاصم معدود في الطبقة الثالثة من التابعين بالكوفة. مات بأرض السّماوة يريد الشام. وكان عاصم صاحب همز ومدّ، وقراءة شديدة، وكان شديد التنطع.
[620] عالي بن عثمان بن جنّي
، أبو سعد البغدادي: كان نحويا أديبا حسن الخط، أخذ عن أبي الفتح ابن جنّي والوزير عيسى بن عليّ، وأخذ عنه الأمير أبو نصر ابن ماكولا وغيره. مات سنة سبع أو ثمان وخمسين وأربعمائة.
[621] عامر بن شراحيل بن مسعود بن قيس ذي لعوة الشعبي
منسوب إلى ذي
__________
[620] مصورة ابن عساكر 8: 670 وتهذيب ابن عساكر 7: 137 ومختصر ابن منظور 11: 245 وإنباه الرواة 2: 385 والوافي 16: 574 وبغية الوعاة 2: 24؛ وفي (ر) : وسكن عالي صور، وكان مثل أبيه نحويا أديبا حسن الخط جيد الضبط، كتب بخطه كثيرا من تصانيف أبيه، وكان له أخوان: علي والعلاء.
[621] هذه الترجمة من المختصر وانظر: طبقات ابن سعد 6: 171 وطبقات خليفة: 363 والمحير: 379، 475 والمعرفة والتاريخ 2: 592 والمعارف: 449 وقضاة وكيع 2: 413 ونور القبس: 237 وتاريخ بغداد 12: 227 وطبقات الشيرازي: 81 وحلية الأولياء 4: 310 وصفة الصفوة 3: 40 والسمط: 751-(4/1475)
الشعبين جبل باليمن، وهم من ولد حسان بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن عوف بن قطن بن غريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير.
كان الشعبي أعلم خلق الله بأشعار العرب وأنسابها وأيامها ووقائعها، وأما الفقه والأخبار النبوية، فكان فيه أوحد زمانه وفرد أوانه، وهو من أهل الكوفة، وولي القضاء بها، وكان يقول: ولدت عام جلولاء سنة تسع عشرة، لسبع سنين مضت من خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وكانت أمه من سبي جلولاء، ومات بالكوفة سنة أربع ومائة. وكان الشعبي كاتبا لعبد الله بن مطيع العدوي، وكتب أيضا لعبد الله بن يزيد الحطمي عامل ابن الزبير على الكوفة، وكان الشعبي في من خرج من القراء على الحجاج، وشهد دير الجماجم مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، وكان في من أفلت.
ولّي ابن هبيرة الشعبيّ القضاء وكلفه أن يسمر معه، فقال الشعبي: لا أستطيع هذا، أفردني بأحد الأمرين، لا أستطيع القضاء وسمر الليالي.
عامر بن مسلم قال: إني لجالس في مسجد الكوفة، ومعنا هذيل الأشعبيّ والشعبي جالس في مجلس القضاء إذ مرّت بنا أم جعفر بنت عيسى بن جراد، وكانت امرأة حسنة وعليها كساء خزّ إلى مجلس القضاء في خصومة لها، فذهبت إليه ثم رجعت، فقال لها هذيل: ما صنعت؟ فقالت: سألني البينة، ومن يسأل البيّنة فقد فلج، قال هذيل: عليّ بدواة وقرطاس، وكتب إلى الشعبي:
بنت عيسى بن جراد ... ظلم الخصم لديها
فتن الشعبيّ لمّا ... رفع الطرف إليها
فتنته بحديث ... وبياضي معصميها
ومشت مشيا رويدا ... ثم هزت كتفيها
__________
- ومصورة ابن عساكر 8: 638 وتهذيب ابن عساكر 7: 141 ومختصر ابن منظور 11: 249 وابن خلكان 3: 12 وسير الذهبي 4: 294 وتذكرة الحفاظ: 79 وعبر الذهبي 1: 127 وطبقات المعتزلة:
130، 139، والوافي 16: 587 وطبقات ابن الحزري 1: 350 وتهذيب التهذيب 5: 65 والشذرات 1: 126.(4/1476)
وقضى جورا على الخص ... م ولم يقض عليها
قال للجلواز قدّم ... ها وأحضر شاهديها
كيف لو أبصر منها ... نحرها أو ساعديها
لسعى حتى تراه ... ساجدا بين يديها
فلما قرأ الشعبي الأبيات قال: أرغم الله أنفه ما قضينا إلا بالحق. وفي رواية أن الشعبي قال: إن كنت كاذبا فأعمى الله بصرك، فعمي الرجل.
ومن طريف الأخبار قال ابن شاهين، ما رفعه إلى إسماعيل بن مسلم قال:
رأيت الشعبي قد قمر في الشطرنج، وقد أقيم في الشمس وفي لحيته ريشة.
وحدث الشعبي قال «1» : أرسلني عبد الملك بن مروان إلى ملك الروم فلما قدمت إليه ودفعت إليه كتابه جعل يسألني عن أشياء فأخبره بها فأقمت عنده أياما، ثم أخذت جواب كتابي، فلما انصرفت دفعت الكتب إلى عبد الملك فجعل يقرأها، ويتغير لونه ويصفر ويخضر، قال: يا شعبي: علمت ما كتب الطاغية؟ قلت: يا أمير المؤمنين كانت الكتب مختومة، ولو لم تكن مختومة لما قرأتها، وهي إليك. قال:
إنه كتب إليّ أنه لم يكن ينبغي للعرب أن تملّك عليها إلا من أرسلت به إليّ. قال:
فقلت: يا أمير المؤمنين، إنه لم يرك قال: فسرّي عنه ما كان به، وضحك.
قدم الشعبي من البصرة فقالوا له: كيف تركت إخواننا؟ قال: تركتهم وقد سادهم مولاهم، يعني الحسن البصري. وذلك أنه استغنى عنهم في دنياهم، فاحتاجوا إليه في دينهم.
وقال الشعبي: البس من الثياب ما لا يزدريك فيه السفهاء ولا يعيبه عليك العلماء.
وقيل: حضر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما والشعبي يورد المغازي فقال ابن عمر: إنه يحدث بأمر قد شهدناه وغاب فكأنه قد شهد وغبنا.
وحدث الأعمش قال، قال لي الشعبي: يا أعمش، إن أكرم الناس أسرعهم(4/1477)
مودة وأبطأهم عداوة مثل الكوز من الفضة بطيء الانكسار سريع الانجبار، وإن لئام الناس أبطأهم مودة، وأسرعهم عداوة مثل الكوز من الفخار يسرع الانكسار ويبطىء الانجبار.
وحدث داود بن أبي هند عن الشعبي قال: صاد رجل قنبرة، فلما صارت في يده قالت: ما تريد أن تصنع بي؟ قال: أريد أن أذبحك لآكلك. قالت: فإني لا أشفي من قرم، ولا أشبع من جوع، وإن تركتني علّمتك ثلاث كلمات هي خير لك من أكلي. أما الأولى فأعلمك وأنا في يدك، وأما الثانية فأعلمك وأنا على الشجرة، وأما الثالثة فأعلمك وأنا على الجبل. فقال: هات. قالت: لا تتلهفنّ على ما فاتك، ثم تركها، فصارت على الشجرة، ثم قالت: لا تصدق بما لا يكون حتى يكون، ثم قالت: يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درّتين هما خير كنز لك. فعض على شفته وتلهّف. ثم قال علميني الثالثة فقالت: [لقد علمتك] الاثنتين فكيف أعلمك الثالثة؟ ألم أقل لك: لا تتلهف على ما فاتك، ولا تصدق ما لا يكون أنه يكون. أما ريشي ولحمي وزن درهمين فكيف يكون في حوصلتي درتان؟ ثم طارت فذهبت.
قال الشعبي: كنت مع قتيبة بن مسلم بخراسان على مائدته فقال لي: يا شعبي، من أي شراب تريد أن أسقيك؟ قلت: أهونه موجودا وأعزه مفقودا، فقال: يا غلام:
اسقه الماء.
قال الشعبي لبعض أصحابه يوما: تعال حتى نفر من أصحاب الحديث قال:
فمضينا حتى أتينا الجبانة. قال: فلزم كوما من التراب ثم اتكأ عليها، فمر بنا شيخ من أهل الحيرة عبادي، فقال له الشعبي: يا عبادي ما صناعتك؟ قال له: رفّاء. قال:
عندنا دنّ مكسور ترفوه لنا؟ قال: إن هيأت لي سلوكا من رمل رفيت لك ذلك.
فضحك الشعبي حتى استلقى، ثم قال: هذا أحب إلينا من مجالسة أصحاب الحديث البغضاء.
وكان الشعبي ينشد «1» :(4/1478)
أرى أناسا بأدنى الدين قد قنعوا ... ولا أراهم رضوا بالعيش بالدون
فاستغن بالله عن دنيا الملوك كما اس ... تغنى الملوك بدنياهم عن الدين
قال خالد: تذاكرنا الشعر بحضرة الشعبي فأنشدنا «1» :
خليليّ مهلا طالما لم أقل مهلا ... وما سرفا مني أقول ولا جهلا
وإن صبا ابن الأربعين سفاهة ... فكيف مع اللاتي مثلن به مثلا
يقول لي المفي وهنّ عشية ... بمكة يسحبن المهدّبة السّحلا
تق الله لا تنظر إليهنّ يا فتى ... وما خلتني في الحج ملتمسا وصلا
منها:
فو الله لا أنسى وقد شطت النوى ... عرانينهن الشمّ والأعين النّجلا
ولا المسك من أعرافهن ولا البرى ... جواعل في أعناقها قصبا خدلا
خليليّ لو ما الله ما قلت مرحبا ... لأوّل شيبات طلعن ولا أهلا
خليليّ إن الشيب داء كرهته ... فما أحسن المرعى وما أقبح المحلا
[622] عامر بن عمران بن زياد أبو عكرمة الراوية الضبي السرمري
من أهل سرّ من رأى: كان نحويا لغويا أخباريا حدث عن العتبي وأخذ عن ابن الأعرابي وإسحاق بن إبراهيم الموصلي وعنه القاسم بن محمد بن بشار الأنباري. وكان أعلم الناس بأشعار العرب وأرواهم لها، وكان في أخلاقه شراسة. وصنف كتاب الخيل. وكتاب الابل والغنم. مات سنة خمسين ومائتين.
__________
[622] الوافي 16: 592 وبغية الوعاة 2: 24. وقد طبع كتابه في الأمثال بتحقيق د. رمضان عبد التواب، دمشق وله ترجمة في المختصر.(4/1479)
[623] عامر بن محمد بن كسنين أبو العلاء
رجل أديب عالم بالنحو واللغة وأخبار الناس. من شعره:
وفتيان صدق صباح الوجوه ... لا يجدون لشيء ألم
ولا ينظرون لذي نعمة ... إذا نظر الناس عند النعم
من آل المغيرة لا يشهدون ... عند المجازر لحم الوضم
فإما تريني عز [يز الرقاد] ... طويل السهاد كثير السقم
كثير التقلب فوق الفراش ... وما إن أقلّ لساق قدم
فذاك لفقدان أهل الوفاء ... وأهل السماح وأهل الكرم
[624] عبادة بن عبد الله بن ماء السماء أبو بكر:
من فحول شعراء الأندلس متقدم فيهم. مات سنة تسع عشرة وأربعمائة، وسبب موته أنه ضاعت منه مائة دينار فاغتمّ عليها غمّا كان سبب وفاته. ومن شعره يستأذن على الوزير أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم بديهة، ويسأله الوصول إليه:
يا قمرا ليلة إكماله ... ومغرقي في بحر أفضاله
عبد أياديك وإحسانها ... يسألك المنّ بإيصاله
فإن تفضلت فكم نعمة ... جدت بها لصلح أحواله
وإن يكن عذر فيكفيه أن ... عرّف مولاه بإقباله
له كتاب في أخبار شعراء الأندلس.
__________
[623] هذه الترجمة من المختصر.
[624] هذه الترجمة من المختصر، وانظر: الصلة: 426 وجذوة المقتبس: 274 (بغية الملتمس رقم: 1123) والمطمح: 84 والذخيرة 1: 468 وأدباء مالقة: 145 والمسالك والممالك 11: 397 والتشبيهات من أشعار أهل الأندلس: 293 وأزهار الرياض 2: 253 والنفح (صفحات متفرقة) والوافي 16: 621 والفوات 2: 149.(4/1480)
[625] العباس بن أحمد بن مطروح بن سراج بن محمد الأزدي أبو عيسى الأحمدي
الأديب: من أهل مصر. مات سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.
[626] العباس بن أحمد بن موسى بن أبي موسى أبو الفضل النحوي اللغوي:
من أصحاب أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي في طبقة أبي الفتح ابن جنّي. مات سنة إحدى وأربعمائة.
[627] العباس بن الأحنف بن الأسود بن طلحة، أبو الفضل الحنفي اليمامي:
شاعر مجيد رقيق الشعر من شعراء الدولة العباسية إلا أن كل شعره غزل لا مديح فيه ولا هجاء ولا شيئا من سائر ضروب الشعر، توفي سنة اثنتين وتسعين ومائة ببغداد، ومن شعره «1» :
لا بدّ للعاشق من وقفة ... تكون بين الصدّ «2» والصرم
__________
[625] هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 16: 651 وطبقات ابن الجزري 1: 352 وبغية الوعاة 2: 26.
[626] هذه الترجمة من المختصر، وانظر تاريخ بغداد 12: 161 والوافي 16: 651 وبغية الوعاة 2: 26.
[627] ترجمته في الشعر والشعراء: 707 وطبقات ابن المعتز: 269 والأغاني 8: 354 والسمط: 313، 497 والموشح: 290 وتاريخ بغداد 12: 127 وابن خلكان 3: 20 وعبر الذهبي 1: 312 وسير الذهبي 9: 98 والوافي 16: 638 والبداية والنهاية 10: 209 والشذرات 1: 334 ومعاهد التنصيص 1: 54 وليس له ترجمة في المختصر.(4/1481)
حتى إذا الهجر تمادى به ... راجع من يهوى على رغم
وقال «1» :
قلبي إلى ما ضرني داعي ... يكثر أشجاني وأوجاعي
كيف احتراسي من عدوي إذا ... كان عدوي بين أضلاعي
وقال «2» :
وإني ليرضيني قليل نوالكم ... وان كنت لا أرضى لكم بقليل
بحرمة ما قد كان بيني وبينكم ... من الودّ إلا عدتم بجميل
وقال «3» :
يا فوز يا منية عبّاس ... قلبي يفدي قلبك القاسي
أسأت إذ أحسنت ظني بكم ... والحزم سوء الظن بالناس
يقلقني الشوق فآتيكم ... والقلب مملوء من الياس
وقال «4» :
أبكي الذين أذاقوني مودّتهم ... حتى إذا أيقظوني في الهوى رقدوا
واستنهضوني فلما قمت منتصبا ... بثقل ما حملوني منهم قعدوا
وشعره كله غاية في الجودة والانسجام والرقة، وله ديوان لطيف يتداوله الناس وفي بعض نسخه اختلاف.(4/1482)
[628] العباس بن الفرج أبو الفضل الرياشي:
كان مولى لبني رياش، ورياش مولى عباسة زوجة محمد بن سليمان الهاشمي، وقيل إنما قيل له الرياشي لأن أباه كان عند رجل يقال له رياش فبقي عليه نسبه. كان من كبار النحاة وأهل اللغة راوية للشعر، أخذ عن الأصمعي وكان يحفظ كتبه وكتب أبي زيد، وقرأ على المازني النحو، وقرأ عليه المازني اللغة.
قال المبرد: سمعت المازني يقول: قرأ الرياشي عليّ «كتاب سيبويه» فاستفدت منه أكثر مما استفاد مني، يعني أنه أفاد منه لغته وشعره، وأفاده هو النحو.
وأخذ عنه أبو العباس المبرّد وأبو بكر محمد بن دريد. وكان الرياشي ثقة فيما يرويه وله تصانيف منها: كتاب الخيل. وكتاب الإبل. وكتاب ما اختلفت أسماؤه من كلام العرب، وغير ذلك. مات مقتولا في واقعة الزنج بالبصرة في خلافة المعتمد على الله سنة سبع وخمسين ومائتين.
حدث ابن دريد قال «1» : سألت الرياشي عن الوامق والعاشق، وكان شكسا لا سيما إذا سئل عن الشعر والغريب. فقال: أخبرنا الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال: نزل عثمان بن قيس مكة على أروى بنت كريز أم عثمان بن عفان، وأمها البيضاء بنت عبد المطلب وهي توأمة عبد الله أبي النبي، صلّى الله عليه وسلّم، فأكرمت مثواه، فرحل عنها وأنشأ يقول:
__________
[628]- ترجمة أبي الفضل الرياشي في الفهرست: 63 وأخبار النحويين البصريين: 89 ومراتب النحويين: 75 وطبقات الزبيدي: 97 ونور القبس: 228 والجرح والتعديل 6: 213 وتاريخ ابي المحاسن: 75 وتاريخ بغداد 12: 138 والأنساب واللباب (الرياشي) والمنتظم 5: 5 ونزهة الالباء: 136 وابن خلكان 3: 27 وإنباه الرواة 2: 367 وعبر الذهبي 2: 14 وسير الذهبي 12: 372 والوافي 16: 652 والبلغة: 102 والبداية والنهاية 11: 29 وتهذيب التهذيب 5: 124 وبغية الوعاة 2: 27 وطبقات الحفاظ: 502 والنجوم الزاهرة 3: 27 والشذرات 2: 136 واشارة التعيين: 158.(4/1483)
خلّف على أروى السلام فإنما ... جزاء الثّويّ أن يعفّ ويحمدا
سأرحل عنها وامقا غير عاشق ... جزى الله خيرا ما أعفّ وأمجدا
قال ابن دريد: ولم يزدني على هذا الجواب، فسألت أبا حاتم فقال: المقة محبة الوالد لولده والأخ لأخيه، والصاحب لصاحبه. والعشق عشق الرجل المرأة للحب والنكاح.
وحدث المبرد قال، قال الرياشي: خرجت يوما نصف النهار في يوم صائف بالبصرة فإذا أنا بحبشي متلفّف بكسائه فضربته برجلي فثار كما يثور البعير «1» ، قلت:
ما قرأ لي أحد خوف البين، (فقلت له) فهل قلت في ذلك شعرا؟ قال: نعم، وأنشدني:
نمّت بأسرار القلوب عيون ... ونفى ظنون ذوي الظنون يقين
وتحدثت فرق بأن فراقنا ... لا كان بعد تواصل سيكون
فبليت من ألم الفراق ولم تحن ... أسباب ذاك فكيف حين تحين
وأنشدوا للرياشي «2» :
أنكرت من بصري ما كنت أعرفه ... واسترجع الدهر ما قد كان يعطينا
أبعد سبعين قد ولّت وسابعة ... أبغي الذي كنت أبغيه ابن عشرينا
وكان الرياشي ديّنا. وكان لأبي حاتم إلى الأمير الفضل بن إسحاق حاجة وكان يرى أنه واجد عليه، فأتى أبو حاتم إلى الرياشي وقال له: لم آت أحدا غيرك، قال الرياشي: فكتبت عن أبي حاتم إلى الأمير:
أبت لك أن يخشى عدوّك صولة ... عليه إذا ما أمكنتك مقاتله
سما بك عفو من أبيك ورثته ... ومن حسن أخلاق الرجال شمائله «3»
قال الرياشي: وما جاءت إلا بتعب، ثم قال: وأستغفر الله منها.
فأما مقتله «4» فإن الزنج لما دخلوا البصرة دخلوا مسجده بأسيافهم، وكان(4/1484)
الرياشي قائما يصلي، فضربوه بالسيوف، وقالوا: هات المال، فجعل يقول: أي مال، أي مال؟ حتى مات. فلما دخلوا بعد سنتين دخلوا ذلك المسجد وهو ملقى مستقبل القبلة كأنما وجّه إليها، وجميع خلقه صحيح لم يتغير له حال، إلا أن جلده قد لصق بعظمه ويبس.
وقال الحسن بن عليل العنزي: ثم رأيته في النوم بعد قتله فقلت: ما صنع الله بك يا أبا الفضل؟ قال: غفر لي ورحمني وأدخلني جنته. فقلت له: أدخلك الجنة؟
فقال: إي والله، وأقعدني بين سفيان الثوري والأعمش.
حدث المبرد قال «1» : كان الرياشي والله أحمق، ومن حمقه أنه كان إذا صام لا يبلع ريقه.
[629] العباس بن محمد بن أبي محمد اليزيدي:
قد مرّ ذكر أبيه وجده، وذكر جماعة من أهل هذا البيت فإنه نسب معروف بالأدب. مات هذا العباس سنة إحدى وأربعين ومائتين.
[630] العباس بن محمد أبو الفضل:
يعرف بعرّام. كان رقيقا، له رسيلات تجري مجرى الطنز واللهو.
__________
[629] هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 16: 652 وطبقات ابن الجزري 1: 354.
[630] هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 16: 652 والفهرست: 94 وبغية الوعاة 2: 28 واضطرب فيه القفطي (2: 384) فذكر أنه عرام وأن اسمه المفضل بن العباس بن محمد.(4/1485)
[631] عبد الله بن إبراهيم بن عبد الله بن حكيم أبو حكيم الخبري
- بفتح المعجمة، وسكون الموحدة- المعلم، وخبر في بلاد فارس: كان يسكن درب الشاكرية، عارفا بالنحو والأدب واللغة والفرائض.
قال القاضي الأكرم أبقى الله مهجته في «أخبار النحاة» «1» : كان متمكنا من علم العربية ويكتب الخط الحسن، تفقه على الشيخ أبي إسحاق الشيرازي، وبرع في الفرائض والحساب وصنف فيهما، وشرح الحماسة وديوان البحتري وعدة دواوين، وسمع الحديث من أبي محمد الجوهري «2» وجماعة، وحدّث باليسير. وكان مرضيّ الطريقة ديّنا صدوقا. روى عنه سبطه أبو الفضل ابن ناصر أنه كان يكتب يوما وهو مستند فوضع القلم من يده وقال: إن هذا موت مهنّأ طيّب، ثم مات، وكان ذلك يوم الثلاثاء ثاني عشرين ذي الحجة سنة ست وسبعين وأربعمائة.
[632] أبو هفان عبد الله بن أحمد بن حرب بن خالد بن مهزم
بن العرد بن مهزم بن الجوين بن مخاشن بن الصيق بن مالك بن مرة بن عامر بن الحارث بن أنمار بن عمرو ابن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن حاشد بن
__________
[631]- ترجمة أبي حكيم الخبري في المنتظم 9: 99 وإنباه الرواة 2: 98 والوافي 17: 5 وطبقات الاسنوي 1: 471 وطبقات السبكي 5: 62 والبداية والنهاية 12: 153 والنجوم الزاهرة 5: 159 وبغية الوعاة 2: 29.
[632]- ترجمة أبي هفان موجزة كثيرا في م؛ ومعظم ما يرد هنا مأخوذ من المختصر، وانظر طبقات ابن المعتز: 409 والفهرست: 144 وتاريخ بغداد 9: 370 ونزهة الألباء: 204 والوافي 17: 27 ولسان الميزان 3: 249 وبغية الوعاة 2: 31 وله أخبار ونوادر في زهر الآداب وثمار القلوب وديوان المعاني والأمالي والكنايات ومحاضرات الأدباء والبصائر وغيرها؛ وقد نشر عبد الستار فراج له أخبار أبي نواس، القاهرة 1953.(4/1486)
ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، وهو جد أبي هفّان المهزمي لأمّه، وهو شاعر خطيب، كان على البصرة أيام المأمون، وهو القائل:
كريم له نفس تثبّى بلينها ... لتدفع عن سلطانها عظم القدر
إذا ما دعته نفسه عظم قدره ... دعاه إلى تسكينها عظم القدر «1»
أبو هفان نحوي لغوي أديب راوية من أهل البصرة، وكان مقترا عليه ضيق الحال متهتكا شرابا للنبيذ، روى عنه جماعة من أهل العلم منهم يموت بن المزرع وروى هو عن الأصمعي.
قيل: زار أبو هفان سعيد بن حميد إلى عمل قد كان تولاه فأقام عنده واشتغل عنه ابن حميد أياما بقوم من أهل عمله إلى منازلهم فأجابهم، فقال أبو هفان:
وأغرّ من ولد الملوك كأنه ... في عين حاسده الربيع المبقل «2»
قد كان أنزلني ففرّ من القرى ... وغدا على أهل القرى يتنزل
فأكرمه سعيد وأرضاه وأقام عنده مدة. ثم أنكر أبو هفان تغيرا من أنس كان منه، فانصرف عنه عاتبا عليه، وقال:
قل لابن كسرى سعيد في تتايهه ... ما كان كسرى على هذا من الصلف
سعيد يا ابن حميد كنت واسطة ... من جوهر العقد فاستأخرت في الطرف
قد كنت تسرف في ذكري وفي صفتي ... فاليوم صرت ترى ذكري من السّرف
أراك ذا كلف بالمال تجمعه ... وإنني بالمعالي دائم الكلف
فاذهب فما أنت من شكلي فتصحبني ... ولا تداني في نفس وفي سلف
حجبت عنك ولم أحسبك تحجبني ... عن حرمة ما حمي أنف من الأنف
تيه الفتى بالغنى لؤم ومفسدة ... للدين والعرض ماح آية الشرف
لقد عهدتك لي دهرا أخا ثقة ... تودّ أنك تفديني من التلف
فغيّرت ودّك الدنيا وزخرفها ... وكان ذاك بأدناها على نطف(4/1487)
ما زلت مذ كنت مسموم السهام وما ... قصّرت عن غرّة القرطاس في الهدف
إني أعيذك بي من مجتنى غضبي ... كما أعوذ بودّ منك مؤتنف
لي منك في كلّ من أحببته خلف ... وليس مني لو استخلفت من خلف
حدث أحمد بن أبي طاهر قال: لما قدم أبو هفان من البصرة اشتملنا عليه فلم يكن يفارقنا، وكنا إذا تمازحنا ذهب بنفسه وقال: أنا لا أمزح باليدين ولا الوالدين، فغاظنا ذلك منه، وكنا نجلّه لمكانه من الأدب والرواية، فلما كثر ذلك علينا من قوله شربنا معه يوما حتى عمل فينا النبيذ وفيه، وكنا نتهيّب الإقدام عليه، فلم نزل حتى صفعناه وصافعنا وترك ما كان عليه.
ومن شعر أبي هفان في إبراهيم بن المدّبر «1» :
يا ابن المدبّر أنت علّمت الورى ... بذل النوال وهم به بخلاء
لو كان مثلك في البرية آخر ... في الجود لم يك بينهم فقراء
ومن شعره من أبيات:
ألا يا عاشق الظبيات جهلا ... أترضى أن تكون أبا السّفول «2»
أترضى للهوى من ليس يرضى ... على ضيق الهوى ألفي خليل
ومن شعره «3» :
لعمري لئن بيّعت في دار غربة ... ثيابي لمّا أعوزتني المآكل
فما أنا إلا السيف يأكل جفنه ... له حلية من نفسه وهو عاطل
وله:
ومغن يورث الندمان ... بالبرد زكاما
لو تغنّى في حريق ... صار بردا وسلاما
وجدت «4» في بعض الكتب أن دعبل بن علي الخزاعي دعا أبا هفان في دعوة أطعمه ألوانا كثيرة من الحبوب، وسقاه نبيذا حلوا، وغمز الجواري أن لا يدللنه على(4/1488)
الخلاء، ثم تركه وتناوم فلما أجهده الأمر قال لبعض الجواري: أين الخلاء؟ فقالت لها الأخرى: ما يقول سيدي قالت: يقول غنوني:
خلا من آل عاتكة الديار ... فمثوى أهلها منها قفار
فغنت هذه وزمرت هذه وضربت هذه، وشربوا أقداحا وسقوه فقال: أحسنتم وجوّدتم غير أنكم لم تأتوا على ما في نفسي وسكت. فلما أجهده الأمر قال: لعلّ الجارية بغدادية، فالتفت إلى الأخرى فقال لها: فداك أبوك، اين المستراح؟ فقالت الأخرى: ما يقول سيدي، فقالت: يقول غني:
وأستريح إلى من لست آلفه ... كما استراح عليل من تشكّيه
فغنت هذه وضربت هذه وزمرت هذه وشربوا أقداحا وسقوه فقال: أحسنتم، غير أنكم لم تأتوا على ما في نفسي، ثم أجهده الأمر فقال: لعلّ الجارية بصرية لم تفهم ما قلت، فقال للأخرى: أين المتوضا؟ فقالت الأخرى: ما يقول سيدي؟ قالت:
يقول غنوني:
توضأ للصلاة وصلّ خمسا ... وباكر بالمدام على النديم
فضربت هذه وزمرت هذه وغنت هذه وشربوا أقداحا وسقوه فقال: أحسنتم وجودتم، غير أنكم لم تأتوا على ما في نفسي، ثم قال: لعلهن حجازيات، فقال لاحداهن: فداك أبوك أين الحشّ؟ فقالت الأخرى: ما يقول سيدي؟ فقالت: يقول غنوني:
وحاشاك أن أدعو عليك وإنما ... أردت بهذا القول أن تقبلي عذري
فغنت هذه وضربت هذه وزمرت هذه وشربوا أقداحا وسقوه فقال: أحسنتم وجودتم، غير أنكم لم تأتوا على ما في نفسي، ثم أجهده الأمر فقال: لعلهن كوفيات فقال: فداكن أبوكن، أين الكنيف؟ فقالت واحدة للأخرى، ما يقول؟ قالت: يقول غنوني:
تكنّفني الواشون من كلّ جانب ... ولو كان واش واحد لكفاني
فغنت هذه وضربت هذه وزمرت هذه وشربوا أقداحا، فما تمالك حتى وثب قائما(4/1489)
وحلّ سراويله وزرق على وجوههن، فتصارخن، فانتبه دعبل فقال: ما شأنك يا أبا هفان؟ فقال:
تكنّفني السّلاح وأضجروني ... على ما بي بنّيات الزواني
فلما قلّ عن حمل اصطباري ... رميت به على وجه الغواني
فقام دعبل فدلّه على الخلاء، فدخل واغتسل، وخلع عليه خلعا، وتضاحكوا مليا.
قال سعيد بن حميد لأبي هفان «1» : لئن ضرطت عليك ضرطة لا بلغنك إلى فيد، فقال له أبو هفان: بادرني بأخرى تبلغني إلى مكة فإني صرورة «2» .
[633] عبد الله بن أحمد بن علي بن هبة الله بن المأمون الهاشمي البغدادي
القاضي الأديب، [قوام الدين] :
«اجتمعت «3» به ببغداد سنة اثنتي عشرة وستمائة. وسمع كتاب الجمهرة لابن دريد عن أبي المعالي أحمد بن عبد الغني بن حنيفة الباجسري بروايته عن ثابت بن إبراهيم البقال عن ابن رزمة. وله أشعار حسنة فصيحة» [وكانت وفاته بمدينة السلام في المحرم سنة عشرين وستمائة] .
__________
[633]- هذه الترجمة لم ترد في المختصر كما لم ترد في م؛ ولكن المؤلف ذكره في ترجمة أبيه أحمد بن علي (رقم: 142) وقال: واجتمعت بولده قوام الدين أبي محمد عبد الله بن أحمد وقد أفردت له ترجمة في هذا الكتاب، وعن ياقوت ينقل ابن الفوطي 4/4/794 (وأوردت هنا ما نقله) وترجم له أيضا ابن الدبيثي وذكر أن مولده سنة 548 وأنه كان يتولى قضاء دجيل وعزل عنه وأعيد إليه، ولم يكن محمود الطريقة في شهادته وقضائه، وذكر الذهبي في تاريخه أنه توفي سنة 620.(4/1490)
[634] عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي أبو القاسم
البلخي المتكلم، المفسر، الأديب شيخ المعتزلة ورئيسهم في زمانه وراعيتهم، من نظراء أبي علي الجبائي، مات سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
وكان يكتب الانشاء لبعض الأمراء وهو أحمد بن سهل متولي نيسابور، فثار أحمد ورام الملك فلم يتم له، وأخذ الكعبي وسجن مدة ثم خلصه وزير بغداد علي بن عيسى، فقدم بغداد وناظر بها، وأقام بها مدة طويلة وانتشرت كتبه، ثم عاد إلى بلخ وأقام بها إلى حين وفاته.
وناهيك من فضله وتقدمته إجماع العالم على حسن تآليفه من الكتب الكلامية، وتصانيفه الحكمية التي بذت أكثر كتب الحكماء، وصارت ملاذا للبصراء، وعمدة للأدباء، ونزهة في مجالس الكبراء التي هي أشهر في ديار العراق منها في ديار خراسان. وأئمة الدنيا مولعون بها، مغرمون بفوائدها، حتى إنه لما دخل أبو الحسن علي بن محمد الحشّائي البلخي تلميذه، لما دخل مدينة السلام حاجا، جعل أهلها يقول بعضهم لبعض: قد جاء غلام الكعبيّ، فتعالوا ننظر إليه، فاحتوشه أهل الفضل، وعصابة الكلام، وجعلوا يتبركون بالنظر إليه، ويتعجبون منه، وينظرون إلى وجهه، ويسألونه عن الكعبي، ويسألونه عن خصاله وشمائله. وكان مدة مقامه بها كأنه نبي مرسل، بلغهم على لسانه وحي منزل.
__________
[634]- عبد الله بن أحمد بن محمود أبو القاسم الكعبي: ذكر ياقوت في ترجمة أحمد بن سهل البلخي (رقم: 90) أنه سيكتب أخبار أبي القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي في موضعها وقد سقطت ترجمته وثبت قسم كبير منها في المختصر وللكعبي ترجمة في الفهرست: 219 وتاريخ بغداد 9: 384 ومادة «الكعبي» في أنساب السمعاني ولسان الميزان لابن حجر 3: 255 والمنتظم 6: 238 وابن خلكان 3: 45 (وفيه أنه توفي سنة 317) وطبقات المعتزلة: 88 والوافي 17: 25 والشذرات 3: 281 والجواهر المضية 1: 271 وعبر الذهبي 2: 176 وسير الذهبي 14: 313 والفرق بين الفرق: 165 والفصل 4: 203 والملل والنحل 1: 76 والبداية والنهاية 11: 174 ومرآة الجنان 2: 278 والتبصير في الدين: 51 ومقالات الإسلاميين (انظر فهرست الكتاب) . وما أثبته هنا من ترجمته يعتمد على ما أورده المختصر، مع بعض زيادات من المصادر. وقد ضاع من هذه الترجمة ما نقله ياقوت عن كتاب جمع أخبار أبي زيد وأبي القاسم، حسبما وعد.(4/1491)
وكان الكعبي يذهب مذاهب المعتزلة لا يخفي ذلك، وكان صلحاء أهل بلخ ينالون منه لذلك، ويقدحون في دينه ومعتقده، ويرمونه بالزندقة.
لما صنف أبو زيد «كتاب السياسة» ليانس الخادم، وهو إذ ذاك والي بلخ، قال أبو القاسم الكعبي: قد جمع الله تعالى السياسة كلها في آية من القرآن، حيث يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ
(الأنفال: 45- 46) .
وذكر المرزباني قال «1» : كانت بيننا وبين أبي القاسم البلخي صداقة قديمة وكيدة، وكان إذا ورد مدينة السلام قصد أبي وكثر عنده، وإذا رجع إلى بلده لم تنقطع كتبه عنا.
وحضر البلخي «2» مجلس أبي أحمد يحيى بن علي الذي يحضره المتكلمون، وهم مجتمعون، فأعظموه ورفعوه، ولم يبق أحد إلا وامر إليه، ودخل يهودي، وقد تكلم بعضهم في نسخ الشرع فبلغوا إلى موضع حكموا فيه أبا القاسم، وكان الكلام على اليهودي، فقال أبو القاسم: الكلام عليك، فقال له اليهودي: وما يدريك ما هذا؟
فقال له أبو القاسم: انتظر يا هذا، أتعرف ببغداد مجلسا للكلام أجلّ من هذا؟ قال:
لا، قال: أفتعلم من المتكلمين أحدا لم يحضره؟ قال: لا، قال: فرأيت أحدا منهم لم يقم إليّ ويعظمني، فتراهم فعلوا ذلك وأنا فارغ؟!.
ومما أنشد أبو القاسم لمحمد بن عبد الله بن طاهر:
يا طالب النار في زناد ... وقادح النار بالزناد
دع عنك شكا وخذ يقينا ... واقتبس النار من فؤادي
وكان إذا أنشد شيئا من شعر أبي العباس عبد الله بن طاهر يقول: هذا شعر شريف بنفسه وبقائله.
وأنشد لمحمد بن يسير، وكان يستحسنه، في البرامكة:
وما الدهر إلا دولة بعد دولة ... تخوّل ذا نعمى وتعقب ذا بلوى(4/1492)
إذا أنزلت هذا منازل رفعة ... من الملك حطته إلى الغاية السفلى
على أنها ليست تدوم لأهلها ... ولو أنها دامت لكنتم بها أحرى
وله من المصنفات «1» :
كتاب تفسير القرآن على رسم لم يسبق إليه، اثنتا عشرة مجلدة. كتاب مفاخر خراسان ومحاسن آل طاهر. كتاب عيون المسائل تسع مجلدات. كتاب أوائل الأدلة. كتاب المقالات. كتاب جواب المسترشد في الإمامة. كتاب الآلاء والأحكام. كتاب نقض النقض على المجبرة. كتاب الجوابات. كتاب تحديد الجدل. كتاب نقض كتاب أبي علي الجبائي في الارادة. كتاب أدب الجدل. كتاب السنة والجماعة. كتاب الفتاوى الواردة من جرجان والعراق. كتاب انتقاد العلم الإلهي على محمد بن زكريا. كتاب تحفة الوزراء «2» . [كتاب الغرر والنوادر. كتاب الاستدلال بالشاهد على الغائب. كتاب في الرد على متنبىء خراسان. كتاب المجالس الكبير. كتاب المجالس الصغير. كتاب نقض كتاب الخليل على برغوث.
كتاب مسائل الخجندي فيما خالف فيه أبا علي. كتاب المضاهاة على برغوث. كتاب تأييد مقالة أبي الهذيل في الجزء. كتاب النهاية في الأصلح على أبي علي] .
[635] عبد الله بن أحمد بن جعفر بن خذيان بن حامس أبو محمد الفرغاني
، الأمير القائد، صاحب أبي جعفر الطبري: مات بمصر سنة اثنتين وستين وثلاثمائة. روي عن أبي جعفر الطبري وذيّل على تاريخ الطبري. وقدم دمشق، وحدث بها، وروى عنه جماعة من أهلها، وجده خذيان جلب من فرغانة إلى المعتصم فأسلم، ونزل عبد الله مصر، وحدث بها، وكان ثقة، وأرسله الراضي إلى مصر، وحمّله الخلع
__________
[635]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر مصورة ابن عساكر 8: 1004 وتهذيبه 7: 277 ومختصر ابن منظور 12: 15 وسير الذهبي 16: 132 والوافي 17: 30.(4/1493)
إلى أبي بكر محمد بن طغج الإخشيد، وتفسير طغج عبد الرحمن، وكان ابن طغج يحب الطيب حبا مفرطا حتى كانت خزانة طيبه على نيّف وخمسين جملا.
[636] عبد الله بن أحمد بن الحسين الساماني
الأديب أبو الحسين: مات في رجب سنة خمس وسبعين وأربعمائة، مشهور بالتأديب بنيسابور، وصنف كتاب شرح [ديوان] المتنبي. كتاب شرح الحماسة. كتاب مواد أمثال أبي عبيد.
[637] عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن عبد الله
بن نصر، أبو محمد بن الخشاب: قال القاضي الأكرم أيضا «1» : كان أعلم أهل زمانه بالنحو حتى يقال إنه كان في درجة أبي عليّ الفارسي، وكانت له معرفة بالحديث والتفسير واللغة والمنطق والفلسفة والحساب والهندسة، وما من علم من العلوم إلا وكانت له فيه يد حسنة. قرأ الأدب على أبي منصور موهوب الجواليقي وغيره، والحساب والهندسة على أبي بكر ابن عبد الباقي الأنصاري، والفرائض على أبي بكر المرزوقي، وسمع الحديث من أبي الغنائم النرسي وأبي القاسم ابن الحصين وأبي العز ابن كادش وجماعة. ولم يزل يقرأ حتى علا أقرانه، وقرأ العالي والنازل، وكان يكتب خطا مليحا، وجمع كتبا كثيرة جدا، وقرأ عليه الناس وانتفعوا به وتخرج به جماعة.
وروى كثيرا من الحديث: سمع منه الحافظ أبو سعد السمعاني وأبو أحمد ابن
__________
[636]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 17: 31 (وفيه الشاماني؛ وفي بعض أصوله الساماني) وبغية الوعاة 2: 32.
[637]- ترجمة ابن الخشاب في المنتظم 9: 238 وإنباه الرواة 2: 99 ومرآة الزمان 8: 288 وابن خلكان 3: 102 وسير الذهبي 20: 523 وعبر الذهبي 4: 196 والوافي 17: 14 ومختصر ابن الدبيثي 2: 127 والفوات 2: 156 ومرآة الجنان 3: 381 والبداية والنهاية 12: 269 والذيل على طبقات الحنابلة 1: 316 وتاريخ ابن الفرات 4: 189 وبغية الوعاة 2: 29 والشذرات 4: 220.(4/1494)
سكينة وأبو محمد ابن الأخضر، وكان ثقة في الحديث صدوقا نبيلا حجة، إلا أنه لم يكن في دينه بذاك، وكان بخيلا متبذّلا في ملبسه وعيشه، قليل المبالاة بحفظ ناموس العلم، يلعب بالشطرنج مع العوام على قارعة الطريق، ويقف في الشوارع على حلق المشعوذين واللاعبين بالقرود والدّباب، كثير المزاح واللعب طيب الأخلاق، سأله شخص وعنده جماعة من الحنابلة: أعندك كتاب الجبال؟ فقال له:
يا أبله أما تراهم حولي؟! وسأله آخر عن القفا يمد أو يقصر فقال له: يمد ثم يقصر.
وقرأ عليه بعض المعلّمين قول العجاج:
أطربا وأنت قنسريّ ... وإنما يأتي الصّبا الصبّيّ
فقال وإنما يأتي الصبيّ الصّبي، فقال له ابن الخشاب: هذا عندك في المكتب وأما عندنا فلا، فخجل المعلّم وقام.
وكان يتعمم بالعمامة فتبقى مدة على حالها حتى تسودّ مما يلي رأسها وتنقطع من الوسخ، وترمي عليها الطيور ذرقها. ولم يتزوّج قط ولا تسرّى. وكان إذا حضر سوق الكتب وأراد شراء كتاب غافل الناس وقطع منه ورقة وقال: إنه مقطوع ليأخذه بثمن بخس، وإذا استعار من أحد كتابا وطالبه به قال: دخل بين الكتب فلا أقدر عليه.
وصنف: شرح الجمل للزجاجي. وشرح اللمع لابن جنّي لم يتم. والردّ على ابن بابشاذ في شرح الجمل. والردّ على الخطيب التبريزي في «تهذيب إصلاح المنطق» . وشرح مقدمة الوزير ابن هبيرة في النحو، يقال إنه وصله عليها بألف دينار. والردّ على الحريري في مقاماته «1» .
توفي عشية يوم الجمعة ثالث رمضان سنة سبع وستين وخمسمائة، ووقف كتبه على أهل العلم، ورؤي بعد موته بمدة في النوم على هيئة حسنة فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قيل: ودخلت الجنة؟ قال: نعم إلا أن الله أعرض عني، قيل: أعرض عنك؟ قال: نعم، وعن كثير من العلماء ممن لا يعمل بعلمه.
ومن شعره:
لذّ خمولي وحلا مرّه ... إذ صانني عن كلّ مخلوق(4/1495)
نفسي معشوقي ولي غيرة ... تمنعني من بذل معشوقي
وقال ملغزا في كتاب «1» :
وذي أوجه لكنه غير بائح ... بسرّ وذو الوجهين للسرّ مظهر
يناجيك بالأسرار أسرار وجهه ... فتفهمها ما دمت بالعين تنظر
وله في شمعة «2» .
صفراء لا من سقم مسّها ... كيف وكانت أمها الشافيه
عريانة باطنها مكتس ... فاعجب لها كاسية عاريه
وقيل:
إذا عنّ أمر فاستشر فيه صاحبا ... وان كنت ذا رأي تشير على الصحب
فإني رأيت العين تجهل نفسها ... وتدرك ما قد حلّ في موضع الشهب
[637 ب] عبد الله بن أحمد بن أحمد بن أحمد بن الخشاب
النحوي: أوحد زمانه، وفريد أوانه. مولده ومنشأه بغداد: مولده سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة. مات سنة سبع وستين وخمسمائة، ودفن بباب حرب، خلف قبر بشر الحافي. وذكر جماعة من أهل الحديث منهم الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمد بن النجار أنهم قرأوا [عليه] جزءا من أمالي أبي الحسن محمد بن محمد بن مخلد البزار، وقد سمع على أبي القاسم علي بن الحسين الربعي، وقد سمعه في سنة سبع وتسعين وأربعمائة، وقد سمي فيه بأبي محمد بن أبي الكرم الكريدي الخشاب.
__________
(637 ب) - هذه الترجمة من المختصر، ولم أتمكن من ضمها إلى الترجمة السابقة للتباعد الكثير بين الترجمتين، ولهذا أفردتها هنا. وهي نموذج لمدى البون بين م وبين المختصر فالمشترك بينهما هنا قليل.(4/1496)
أما علمه فكان غاية في الذكاء والفهم، آية في علم العربية خاصة، وفي سائر العلوم عامة. ورأيت قوما من نحاة بغداد يفضلونه على أبي عليّ الفارسي- زعموا أنه كان يعرف جميع ما عرفه أبو علي الفارسي، وزاد عليه في علم الأدب وغيره، لتفننه في جميع العلوم. وقد سمع حديث النبي، صلّى الله عليه وسلّم وأكثر، وتفقّهه وعرف صحيحه من سقيمه، وبحث عن أحكامه، وتبحّر في علومه. ورأيت بخطه كثيرا من كتب الحكمة. وكان حسن السيرة، سالكا طريق الأوائل في هديه وسمته، لا يتكلّف في شيء من أمر ملبوسه وهيئته. وإذا سمعت كلامه ظننته عاميا لا يفقه شيئا. فمما يحكى عنه أنه كان له تلميذ يعرف بابن الزاهد، أرسله يوما إلى السوق ليشتري له نور كوش (؟) فقال له ابن الزاهد: تعرفه يا سيدي؟ فقال له: إلا بعرفه؟ أراد لفظة العامة، وترك التفاصح. وكان مع ما شاع من فضله مشتهرا بلعب الشطرنج، وكان رؤساء زمانه ووزراء وقته يودّون مجالسته، ويتمنّون محاضرته، فيتركهم ويمضي إلى حريف له زنجي قبيح الصورة سمج الألفاظ، يعرف بشبيل، فيجلس معه على قارعة الطريق في بعض الدكاكين، ويلاعبه ويسافهه، ويهزأ به، أو يمضي إلى الرحبة، أو إلى شاطىء دجلة فيقف على حلق أرباب الحكايات والشعبذة وما ناسبهم فكان إذا لاموه على ذلك يقول: إنه يندر منهم نوادر لا يكون أحسن منها ولا ألطف، في صحة قرائحهم وتصديهم لما هم بصدده، وتراح النفس لذلك. وكان مع ذلك لا يخلو كمه قطّ من الكتب وأنواع العلوم، وكان بينما هو يمشي في الطريق يخطر له قراءة شيء، فيجلس كيف اتفق، ويخرج الدفاتر، فيطلع فيها، وكان معدودا في القذري الملبس والزي. وسمعت عنه ممن لا أحصي أنه كان يعتمّ العمّة فتبقى أشهرا معتمة حتى تتسخ أطرافها من عرقه فتسودّ. وكان إذا رفعها عن رأسه ثم أراد لبسها تركها على رأسه كيف اتفق، فتارة تجيء عذبتها من تلقاء وجهه، وتارة عن يمينه، وتارة عن شماله فلا يغيرها، فإذا قيل له في ذلك، فيقول: ما استوت العمة على رأس عاقل. هذه كانت حجته. وكان يعجب بمناداة عامة بغداد على معايشهم، وتفننّهم فيها، وإتيانهم بالمعاني الغريبة. وكان يقول: كم خلف هذه الطرازدانات من الخواطر المظلومة لو اشتغلت بالعلوم برّزت على العلماء. وكان الوزير عون الدين بن هبيرة وزعيم الدين ابن جعفر، صاحب المخزن يعاتبانه على تبذله، ويلومانه على ما قدمنا ذكره، فلا(4/1497)
يلتفت إلى لومهما، ولا يترك سجيّته.
ومن نوادره أن بعض من كان يحضر مجلسه قال له يوما: القفا يقصر أو يمدّ؟
فقال: يمد ويقصر. ومنها أنه لما صنف الكمال عبد الرحمن بن الأنباري كتاب «الميزان» في النحو، وعرض على ابن الخشاب، قال: احملوا هذا الميزان إلى المحتسب، ففيه عيب.
وكان بينه وبين ابن الشجريّ العلوي النحوي مفاوضة، وصنّف في الردّ عليه كتبا. وكان يشنأ أصحابه، ويقع فيهم، وكان من أصحاب ابن الشجري محمد بن علي العتابي النحوي، فاتفق أن أهدى ملك كيس إلى بغداد هدايا في جملتها حمار عتابي، فجعل من حضر مجلسه يتفاوضون في [أمره] ويعجبون من حسنه، فقال يا قوم: لا تعجبوا من الحمار العتابي فهوذا عندنا عتابي حمار فلا تعجبون منه.
ومنها أنه كان يوما في داره في وقت القيلولة، والحرّ شديد وقد نام، إذ طرق الباب عليه طرقا مزعجا فانتبه وخرج مبادرا، وإذا رجلان من العامة، فقال: ما خطبكما؟ فقالا: نحن شاعران، وقد قال كل واحد منا قصيدة، وزعم أنها أجود من قصيدة صاحبه، وقد رضينا بحكمك. فقال: ليبدأ أحدكما. قال: فأنشد أحدهما قصيدته، وهو مصغ إليه، إلى أن فرغ منها، وهمّ الآخر بالإنشاد، فقال له ابن الخشاب: على رسلك، شعرك أجود، فقال: كيف خبرت شعري ولم تسمعه؟
فقال: لأنه لا يمكن أن يكون شيء أنحس من شعر هذا.
وجدت على ظهر كتاب بخط ابن الخشاب: أنشدني ابن الخازن الكاتب لابن الحجاج:
والسعيد الرشيد من شكر النا ... س له سعيه بمال الناس
فقلت في الحال هادما ومقابلا:
والشقيّ الشقي من ذمّه الناس ... على بخله بمال الناس
فأنشدته ذلك، فقال ابن الخازن: هذا والله خير من قول ابن الحجاج. وصدق هو خير منه، هكذا قال الشيخ عن شعر نفسه.
ومن شعره ملغزا في الكتابة:
وذي أوجه لكنه غير بائح
البيتان(4/1498)
ومما قيل: إن الإمام أبا شجاع عمر بن أبي الحسن البسطامي قال ببخارى: لما دخلت بغداد، قرأ عليّ أبو محمد ابن الخشاب كتاب «غريب الحديث» لأبي محمد القتبي قراءة ما سمعت قبلها مثلها في السرعة والصحة. وحضر جماعة من الفضلاء سماعها، وكانوا يريدون أن يأخذوا عليه فلتة لسان، فما قدروا على ذلك.
وسمعت جماعة كثيرة من أهل بغداد ينسبون إلى الشيخ أبي محمد ابن الخشاب هذه القصيدة في التصحيف والتحميض، وسمعت من يقول إنها منحولة إليه:
ما بال عينك يجري دمعها دررا ... لما علا الرأس شيب لاح كالقطن
تبكي وقد سلبتك الغانيات به ... عيشا رغيدا فأضحى القلب في رهن
تبكي الشباب وقد أخلقت جدّته ... ويهلك الدهر منك العظم بالوهن
كم قد تجرّعت من شرخ الصبا قدحا ... من خمر عانة ينفي طارق الوسن
فالآن قد قرعتك الحادثات وقد ... جرّبت فيها أعاجيبا من الزمن
جربت فيما خلا ما حنكتك به ... يد التجارب حتى العمر منك فني
فأصبح الشيب فاش في العذار وهل ... من بعد ذلك من أمر لذي فطن
سارت بقلبك أظعان هوادجها ... فيها حرائر لم تبذل ولم تهن
نواهد قاصرات الطرف إن طرقت ... وهنا عليك أزالت لذة الوسن
وربّ جارية فيها إذا انتسبت ... تعزى إلى خير بطن من بني الحسن
تسقيك من يدها في القحف صافية ... حمراء تنسيك طعم الخمر واللبن
قست عليك فأضحى قلبها حجرا ... فاخضع لتحرز حسن الوصل فامتتن
تشتمّ من ثغرها مسكا إذا فتقت ... نوافج المسك شابته ولم تزن
دع ذا وكن بالذي أوصيك محتفظا ... إن كنت حرا فخذ وصلا بلا ثمن
اصبر لطارق أيام نوازلها ... تزعزع الطّود من ثهلان أو حضن
وإن جرى قدر فيها بنازلة ... ساءت فعن قدر يأتيك بالحسن
لا تلو رأسك للأضياف إن طرقوا ... واخفض جناحك من ذلّ لهم ولن(4/1499)
واذكر إذا قمت يوم العرض منتفضا ... من التراب بلا قطن ولا كفن
وجيء بالنار قد مدوا السراط على ... حافاتها تتلظى فعل مضطغن
وتنشر الصحف فيها كلّ محتقب ... من المخازي وما قدمت من حسن
قد كنت تنسى وتلك الصحف محصية ... ما كنت تأتي ولم تظلم ولم تخن
احرز لسانك في استجلاب فائدة ... فالصامت البرّ خير من ذوي اللسن
هناك إن كنت قد قدّمت مدّخرا ... تسقى من الحوض ماء غير ذي أسن
عند الجزاء تعضّ الكفّ من ندم ... على تخطيك في سرّ وفي علن
بالبذل تعرف فابذل ما حويت تحز ... ذكرا جميلا فثق بالله واستعن
واستصف عمرك واحذر أن تكدّره ... تسلم بذلك من غبن ومن غبن
وإن أتى باسطا كفيه مختبطا ... لما وراءك من مال ومختزن
فجد فبالجود تعطى الحقّ في غرف ... فيها مقاعد صدق عند ذي المنن
لا تركننّ إلى الدنيا ففي جدث ... يكون دفنك بين الطين واللّبن
واستغن بالكفّ كالماضي وكن رجلا ... مبرءا من دواعي الغيّ والفتن
ودع مذاهب قوم أحدثت إثما ... فيها خلاف على الآثار والسنن
كل من جرابك واقنع بالذي قسم ... القسّام فالله ذو فضل وذو منن
لا تحسدنّ فما للحاسدين سوى ... عضّ الأنامل من غيظ ومن إحن
ومن شعرة قصيدة نظمها في زعيم الدين ابن جعفر صاحب المخزن، وكان قد ورد من مكة، يعتذر فيها عن تأخره عن قصده بطريق مرض عرض له في رجله:
لئن قعدت بي عن تلقّيك علّة ... غدوت بها حلسا لربعي من شهر
رمتني في رجلي بقيد تقاصرت ... خطاي له والقيد ما زال ذا قصر
إذا قلت قد أفرقت منها تجدّدت ... فأودى بها نهضي وهيض لها كسري
فما قعدت بي عن دعاء أفيضه ... ولا قصّرت بي عن ثناء وعن شكر
قدمت علينا مثل ما قدم الحيا ... على بلد ميت فقير إلى القطر(4/1500)
فأصبح مغبرّ البلاد مؤزّرا ... به زهر غضّ كأخلاقك الزّهر
وعدت وبالبيت الحرام صبابة ... إليك وبالركن المعظم والحجر
وللحجر المسودّ نحوك صبوة ... للثمك إياه بأبيض ذي نشر
وقد صحب الحجاج منك مباركا ... غزير الندى طلقا محيّاه ذا بشر
أخا كرم إن أخلف الغيث أخلفت ... يداه بمنهلّ من البيض والصّفر
فكلّهم مثن عليك وشاكر ... لنعماك مغمور بنائلك الغمر
خصصتك بالمدح الذي أنت أهله ... فجاءك من صدر امرىء ناحل الصدر
وأيسر ما أخفيه ما أنا مظهر ... فدع عنك شعري، جلّ قدرك عن شعري
ومن شعره في زعيم الدين المذكور، من أبيات وقد ورد كتابه من فيد «1» :
فإن تك محرما من ذات عرق ... فقد حرّمت غمضي بالعراق
فها فتوى أتتك فقل سريعا ... تبرّز سابقا يوم السباق
شمائلك الشّمول فكيف تقضي ... فروض الحج بالكأس الدهاق
وأنت الطيب إن صافحت كفا ... تحلل محرما بدم مراق
ولما جاءت البشرى بكتب ... فكانت كالقميص على الحداق
ضممت إلى الفؤاد كتاب فيد ... فضاعف برده حرّ اشتياقي
وقبلت المداد فخلت أني ... أقبّل ذا لمى حلو العناق
فخبّر بالسلامة ثم نبىء ... فإن الماء ضاق عن الرفاق
وكيف يضيق ماء عن حجيج ... وسحب يديك ماء ذو انبعاق
سلمت على الأنام ولي خصوص ... وحاطك رافع السبع الطباق
اجتمع جماعة من الحنابلة بمسجد ابن شافع الحنبلي برأس درب المطبخ يسمعون كتاب ابن مندة في فضائل أحمد بن حنبل ومحنته في القرآن، وما جرى له مع الخلفاء من بني العباس، فذموهم ولعنوهم، وذموا أبا حنيفة والأشعري، وكان(4/1501)
الكتاب يقرأ على ابن الخشاب، فأنكر عليهم إنسان دمشقي فقيه وقال: هذا لا يجوز. تلعنون أئمة المسلمين، وفقهاء الدين. فقاموا إليه وسبّوه، وهموا به.
ووصل الخبر إلى الخليفة، فتقدم إلى حاجب الباب بأخذهم وأخذ ابن الخشاب، وأن يركبوا بقرا ويشهّروا بالبلد. فقبض على جماعة منهم، وهرب ابن الخشاب، فلحق بالحلة إلى أن شفع فيه، فعاد، فقال ابن الخشاب في غيبته:
إذا دار السلام نبت بمثلي ... فجنّبت السلامة والسلاما
ولا جرت الصّبا إلا سموما ... بها وهمت سحائبها سماما
وكتب إلى الخليفة يستعطفه، وهو المستنجد بالله:
ألا قل لمستنجد بالإله ... بعدلك أصبحت مستنجدا
وما لي ذنب سوى أنني ... شأوت بني زمني أمردا
وإني وإن عدّت المشكلات ... كنت الهزار وكانوا الصدى
حدث الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود النجار في مجلس مفاوضة، قال: حدثني شيخنا مصدق بن شبيب الواسطي النحوي قال: قدمت من واسط إلى بغداد في طلب العلم والنحو، وكان الشيخ أبو محمد هو المشار إليه في الدنيا بهذا الشأن، فأحببت مكاثرته والأخذ عنه، ولم يكن له مجلس في وقت معلوم فأقصده إليه، وإنما كان على حسب أغراضه تارة يلعب بالشطرنج، وتارة يجلس إلى عطار في السوق، وتارة في دار الوزير والأكابر، فكنت له بالرصد، ليس همي إلا تتبعه. فقال لي يوما: يا هذا قد أبرمتني وآذيتني بكثرة اتباعك لي، وما مثلي ومثلك إلا رجل من أبناء الثروة والصلاح، وكان له ولد في غاية التخلف والإدبار، قد ألهم محبة القمار، وكان يفسد أموال أبيه، ولا يزال يجيئه عريان وقد قمر ثيابه وجميع ما عنده، ويسرق أمواله، ويفسدها في ذلك، فحضرت الشيخ الوفاة فاستدعى ولده، وقال له: يا بنيّ، يقال أنفك منك وإن كان أجدع، والله ما كنت أحبّ أن يكون لي ولد مثلك، ولكنّ أمر الله لا يرفع، وقد علمت أنك لا تترك هذه العادة السيئة بعد موتي إذ كنت لم تتركها في حياتي، ولكن أحب أن تطيعني في شيء واحد، وتقسم لي بالله وبأيمان البيعة أنك تعمل بها: إذا أنا مت وملكت مالي فلا تقامر إلا مع من يجمع الناس على(4/1502)
أنه أحذق الناس بالقمار وأعرفهم به، فهذا ما لا ضرر عليك فيه، وتكون قد بررتني بقبولك قولي. فحلف له الغلام على ذلك، وتوثق منه بجهده. ثم مات الشيخ، واستولى الغلام على أمواله، وحازها، وشرع فيما يحبّ، وجعل يسأل عن أحذق الناس به، فدلّ على رجل بالكرخ، فجاءه وسأله أن يلاعبه. فقال: ما بيني وبينك من المودة ما يقتضي هذا فما سبب اختيارك ملا عبتي من دون الناس؟ فخبره بوصية أبيه واليمين التي أخذها عليه. فقال له: إذا كان الأمر على هذا فلا يجوز لك اللعب معي، فإن أستاذي بواسط وهو أحذق مني، ومنه تعلمت فسر إليه. فانحدر إلى واسط فلقي كهلا من الرجال محارفا ضيّق المعيشة، فسأله الملاعبة فجرى الأمر معه كما جرى مع الأول. فقال له: لا يحلّ لك ملاعبتي، فإن أستاذي وأستاذ الناس كلهم بالبصرة، فامض إليه، وبرّ يمينك. فسار الغلام حتى دخل البصرة، وسأل عن الرجل فدلّ عليه فوجده يوقد في بعض أتاتين الحمامات، فسلّم عليه، وسأله الملاعبة، فقال: دعني حتى أتفرغ مما أنا بصدده، فجلس ينتظره حتى إذا تمّ أخذه ودخل إلى منزله، فوجده على غاية الحرفة والشّعث وسوء الحال، ومدّ يده فأخذ آلة القمار وهي في زاوية البيت قد علاها الغبار، ثم قال له: يا ولدي، أضاقت الدنيا عليك ما وجدت غيري يلاعبك؟ فأخبره بالقصة، فرمى الشيخ الفصّ من يده، وأفكر ساعة، ثم قال: يا ولدي أتدري ما أراد والدك بما أحلفك عليه؟ فقال: لا. قال:
إنه أراد أن يعرفك أن مثلي وهو أستاذ الدنيا في هذا الشأن يوقد في الأتون، ومنزله وحاله كما ترى. وإن عاقبة أمرك تصير إلى الوقيد في الحمام. فارتدع يا ولدي، وانظر فيما تصلح به أمر دنياك. قال فانتفع الغلام بذلك، وتاب إلى الله منه، وراجع التجارة في دكان أبيه وصلح حاله. وكذا يا مصدق أنا، وأنت تتبعني وتضجرني حتى تصير مثلي، وأنا بزعمك شيخ الدنيا، فأيش أعجبك من أحوالي واكتسابي:
أحشمي؟ أغلماني؟ أدوري أم عقاري؟ اعلم يا ولدي أنّ طلب النحو أكثر من إصلاح اللسان حرفة.
قال الشيخ أبو محمد: قصدت الغريّ في بعض الأعوام لزيارة مشهد أمير المؤمنين علي، عليه السلام، وكان خروجنا من الحلّة السيفية، وكان في الصحبة علويّ يعرف بابن الشوكية، وهو من سكان المشهد، وكان نعم المصاحب، فنزل بنا(4/1503)
ليلا على بطن من خفاجة ليستصحب معنا منهم خفيرا، فأكرموا نزلنا، وجاء منهم في الليل صبيّ ما أظنه بلغ سبعا، وعليه آثار مرض قد نهكه فسلّم علينا، فقال له العلوي: ما بك يا فلان وسمّى الصبيّ، فقال مجيبا له: بي أنّ لي كذا وكذا- وعدّ مدة- أجهد وأمعد. يريد بأجهد أفعل من قولك: رجل مجهود ومن جهد الحمى، وأمعد أي يصيبني وجع في المعدة. يقال: معد فهو ممعود، كما يقال كبد فهو مكبود إذا أصاب كبده مرض، وكذا فئد فهو مفؤود، وباقي الأعضاء على ذاك. وكذا يقال في من أصيب هذا العضو منه برمّته. يقال في الصيد: أميدّى أم مرجول أي أصيبت يده أم رجله، فتعجبت من فصاحة الصبي. وكان معنا في الرفقة شيخ من أهل المشهد، فسمعته، وقد أعيا من السير يقول لعبد له: يا مقبل فرّكنى، فقلت لبعض من معنا:
ما معنى قوله: فركني؟ فقال: يريد غمّزني ليزول تعبي. فقلت: لا إله إلا الله، خالق ذلك الصبيّ وهذا الشيخ واحد، فكم بين اللسانين والسنّين.
وكان الشيخ أبو محمد يؤدب أولاد المستنجد: المستضيء وأخاه الأمير أبا القاسم. وكان يشتدّ عليهما في التعليم. فلما أفضى الأمر إلى المستضيء رضي ابن الخشاب أن يخلص منه رأسا برأس، وذلك أنه كان يظهر منه تفضيل أخيه عليه، فلم يذكّره بنفسه. قال العدل مسعود بن يحيى بن النادر: وكنت يوما بين يدي المستضيء فقال: كلّ من نعرفه قد ذكّرنا بنفسه، ووصل إليه برّنا إلا ابن الخشاب.
فما خبره؟ فاعتذرت عنه بعذر اقتضاه الحال. ثم خرجت فعرّفت ابن الخشاب ذلك، فكتب إليه هذين البيتين:
ورد الورى سلسال جودك فارتوى ... ووقفت دون الورد وقفة حائم
ظمآن أطلب خفّة من زحمة ... والورد لا يزداد غير تزاحم
قال ابن النادر: فأخذتها منه، وعرضتها على المستضيء، فأمر له بمائتي دينار، فقال لو زادنا لزدناه.
وما أنشد لنفسه:
أفديه من متعجّب متجنب ... قد ضنّ ضنا بالخيال الطارق
ما زال يمطلني بوعد كاذب ... حتى تكشّف عن صدود صادق(4/1504)
وله:
أقطّع الليل بلا رقاد ... بل بسهاد دائما سهاد
لذا تراني أرقا أنادي ... قد أسر النوم فهل من فادي
كان أبو محمد ابن الخشاب كثير الكتب جدا، وكان له دار في باب المراتب، وكان عنده صفّة عظيمة ملأى جزازا ودفاتر، وقطّ ما استعار من أحد كتابا فردّه عليه، وكان إذا طلبه صاحبه منه يقول له: هو في هذا الجزاز، ومن يقدر على تخليصه منه؟
فيأيس صاحبه ويسكت.
وكان حادّ الخاطر جدا، جاءه يوما الشيخ مكي بن أبي القاسم الحافظ، وهو في مجلسه، وبين يديه جماعة يقرأون عليه، فقال: يا سيدي، بلغني أن للأصمعي كتابا سماه «الجبال» ، هل هو عندك؟ فقال له: أنت أعمى، أما ترى الجبال قدامي؟ أشار به إلى تلك الجماعة التي تقرأ عليه.
قرأت بخطّ النقيب قثم بن طلحة بن الأنفي، قال لي الصدر بن الزاهد: دخلت على الفخر بن المطلب يوما فقال لي: من أين جئت؟ فقلت: من العودة. فقال:
واجتزت بعقد المصطنع؟ قلت: نعم، فقال: من أي عقديها دخلت؟ فتوقفت، لأنه كان كثير الولع بالناس. فقال: من العقد الذي حزّوا فيه رأس الحسين بن علي، عليه السلام، وتكره الشيعة الدخول فيه أم العقد الآخر؟ فقلت: العقد الآخر.
قال: يا سبحان الله، أنا أذكر بناء هذين العقدين في أيام المستظهر بالله، وأعرف هذا الموضع، وليس به عقد أصلا، فما أعلم من أين أحدث الناس هذا الخبر، والحسين، عليه السلام، قتل قبل بناء بغداد بأعوام كثيرة. فقلت: حكى ابن الخشاب قال، قالت أمي: ما أراك تصلي صلاة الرغائب على عادة الناس. فقلت:
يا أمي، إنما أوثر من الصلوات ما ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو صحابته، وهذه الصلاة لم ترو عن النبي، صلّى الله عليه وسلّم، ولا عن أحد من أصحابه. فقالت: لا أسمع ذلك منك، فاسأل لي ابن عمتي- وكان الحافظ أبو الفضل محمد بن ناصر السلامي ابن عمتها- فاتفق أني لقيته، فقلت له: الوالدة تسلّم عليك، وتسألك عن صلاة الرغائب، هل وردت عن الرسول أو صحابته؟ فقال لي: فهلا أخبرتها بحقيقة ذلك؟ فقلت: قد أبت إلّا أن(4/1505)
أخبرها عنك. فقال: سلّم عليها، وقل لها، أنا أسنّ منها، فإنها أحدثت في زمني وعصري، وقد مضت برهة، ولا أرى أحدا يصليها، وإنما وردت من الشام، وتداولها الناس حتى أجروها مجرى ما ورد من الصلوات المأثورة.
كان بعض المعلمين يقرأ على الشيخ أبي محمد شيئا من الأدب فجاء فيه قول العجاج:
أطربا وأنت قنّسريّ ... وإنما يأتي الصبا الصبيّ
فقال المعلم: إنما يأتي الصبيّ الصبيّ. فقال له: هذا عندك في الكتاب، وفقك الله، وأما عندنا فلا. فاستحيا المعلم.
ومن تصانيفه: كتاب شرح اللمع إلى باب النداء في ثلاث مجلدات ضخمة رأيتها بخطه. كتاب شرح المقدمة التي ألفها الوزير ابن هبيرة. وبلغني أنه وصله بألف دينار حتى شرحها له. كتاب هادية الهادية في الرد على ابن بابشاذ في شرح الجمل.
كتاب الرد على أبي زكريا التبريزي في تهذيب «إصلاح المنطق» ، ردود على العنماء كثيرة، لم تتم إذا تأملها العالم عرف موضعه من العلم. كتاب ما غلط فيه أبو القاسم ابن الحريري في المقامات. كتاب المرتجل في شرح جمل عبد القاهر.
[638] عبد الله بن إسحاق بن سلام المكاري، أبو العباس:
كان جيد العلم بالغريب والأشعار والرواية والآثار، فقيها شاعرا صدوقا، مات سنة إحدى وسبعين ومائتين.
وكان يتشيع. وهجا المتوكل بقصيدة «1» ، فأمر بقتله، فعوجل بالحادث عليه،
__________
[638]- هذه الترجمة من المختصر وانظر الفهرست: 126، 127 وقد ترجم له الصفدي تحت اسم «عبيد الله» (انظر 17: 65) وعدّ له ابن النديم من الكتب: كتاب الأخبار والأنساب والسير؛ قال ابن النديم: رأيت بعضه ولم أره كاملا.(4/1506)
وأفلت. وهو القائل يرثي أبا الحسن بن يحيى عمر الطالبي:
فإن يك يا ابن المصطفى قبر سيد ... تعقّر خيل حوله ونجائب
فقبرك أولى أن تعقّر حوله ... رجال المعالي والنساء الكواعب
وله يهجو ابن أبي حكيم:
وتكيد ربّك في مغارس لحية ... الله يزرعها وكفّك تحصد
تأبى السجود لمن براك تمردا ... وترى الأيور المنعظات فتسجد
[639] عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله بن محمد
بن ميكال بن عبد الواحد بن جبريل بن القاسم بن بكر بن سور بن سور بن سور بن سور- أربعة من الملوك- بن فيروز بن يزدجرد بن بهرام جوبين. كنيته أبو محمد، وهو عم أبي الفضل عبد الله بن أحمد الميكالي: كان رئيس نيسابور، مات بمكة في ذي الحجة سنة تسع وسبعين وثلاثمائة وكان مذكورا بالأدب والكتابة، وحفظ دواوين العرب، ودرس الفقه على قاضي الحرمين وغيره. وكان أوحد زمانه في معرفة الشروط. أكره غير مرة على وزارة السلطان فامتنع وتضرع حتى أعفي، وكان يختم القرآن في ركعتين، ويعول المستورين ببلده سرا. تقلد الرياسة وبقي منفردا بها بلا مانع ولا منازع نيفا وعشرين سنة فلم ير شاك بجميع خراسان. وكان يفتح بابه بعد فراغه من صلاة الصبح إلى أن تصلّى العتمة، فلا يحجب عنه أحد.
عقد له مجلس الذكر في حياة إمامي المذهب أبي الوليد القرشي وأبي الحسين القاضي، وحضرا جميعا مجلسه. ثم تقلد الرياسة سنة ست وخمسين وثلاثمائة،
__________
[639]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر يتيمة الدهر 4: 417 والوافي 17: 73.
وليس ينفذ أمرا في رعيته ... حتى يشاور فيها بنت بقراط
وهو يعني قبيحة أم المعتز.(4/1507)
وكان قد حج سنة سبع وأربعين وثلاثمائة، ثم تأهب للخروج ثانيا سنة سبع وسبعين وثلاثمائة، واستصحب شيئا من مسموعاته من أبي حامد ابن الشرقي وأقرانه، وحدث بنيسابور والدامغان والري وهمذان وبغداد والكوفة ومكة. ودخل مكة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة، وقد حكم المنجمون أنه يموت وهو ابن أربع وسبعين فدعا بمكة في المشاعر الشريفة يقول: اللهم إن كنت قابضي بعد سنتين فاقبضني في حرمك، فاستجاب الله دعاءه وتوفي بمكة في آخر أيام الموسم. وحكي أنه نام على فراشه في الليلة التي مات فيها، وأن كلّ من كان في رحله ناموا وأصبحوا فوجدوه ميتا مستقبل القبلة، فغسلوه وكفنوه، وصلّى عليه أكثر من مائة ألف رجل، ودفن بالبطحاء بين سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض «1» :
قال الحاكم: قصدني أبو محمد الميكالي، وأنا بباب جنيد في دار لي جديدة، فقال: بلغني أنك هممت ببيع دارك بباب عزيز، فقلت: هو كما بلغ الشيخ الرئيس.
فقال: إني قصدتك لأمنعك من هذا، وأبيّن لك عوار ما هممت به: دار كان فيها سلفك، ثم ولدت فيها، ومجلس ختمت في محرابه ونسب إليك، ألم تسمع أبيات ابن الرومي «2» :
ولي وطن آليت الا أبيعه ... وأن لا أرى غيري له الدهر مالكا
عهدت به شرخ الشباب ونعمة ... كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا
فقد ألفته النفس حتى كأنه ... لها وطن إن فات غودرت هالكا
وحبّب أوطان الرجال إليهم ... مآرب قضاها الشباب هنالكا
إذا ذكرت أوطانهم ذكّرتهم ... عهود الصبا فيها فحنّوا لذلكا
ثم لم يفارقني، رحمه الله، حتى أخذ عهدي «3» على أن أرجع إلى الدار القديمة وأبيع تلك الحديثة، رضي الله عن ذلك الشيخ، وجزاه عن دينه وشفقته على إخوانه خيرا.(4/1508)
[640] عبد الله بن أسعد بن عيسى بن علي بن الدهان
الجزري ثم الموصلي الفقيه الشافعي الأديب الشاعر أبو الفرج: مات بحمص سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، فمما أنشدت من شعره:
كأن مقلته صاد وحاجبه ... نون وموضع تقبيلي له ميم
فصرت أعشق منه في الورى صنما ... وعاشق الصنم الإنسيّ محروم
وقيل إن هذين البيتين لرجل من أهل الأندلس يقال له ابن أسعد أيضا.
وحكي أنه دخل يوما على نور الدين محمود بن زنكي، فقال له: كيف أصبحت؟ فقال: كما لا يريد الله ولا رسوله ولا أنت ولا أنا ولا ابن عصرون، فقال له: كيف؟ فقال: لأن الله يريد مني الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، ولست كذلك. وأما رسوله فإنه يريد مني ما يريده الله مني، ولست كذلك. وأما أنت فإنك تريد مني أن لا أسألك شيئا من الدنيا، ولست كذلك. وأما أنا فإنني أريد من نفسي أن أكون أسعد الناس، وملك الدنيا بأجمعها، ولي الدنيا بأسرها، ولست كذلك. وأما ابن عصرون فإنه يريد مني أن أكون مقطّعا إربا إربا، ولست كذلك.
فكيف يكون من أصبح لا كما يريد الله ولا رسوله ولا سلطانه ولا نفسه، ولا صديقه ولا عدوّه. فضحك منه، وحباه حباء حسنا. ومن شعره «1» :
مولاي لا بتّ في ضرّي ولا سهري ... ولا لقيت الذي ألقى من الفكر
باتت لوعدك عيني غير ساجعة ... والليل حيّ الدياجي ميّت السحر
__________
[640]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر: خريدة القصر (قسم الشام) 2: 279 ومصورة ابن عساكر 8: 1038 وتهذيبه 7: 292 وإنباه الرواة 2: 103 وابن خلكان 3: 57 والروضتين 2: 67 وسير الذهبي 21: 176 وعبر الذهبي 4: 243 والوافي 17: 67 ومرآة الجنان 4: 35 وطبقات الأسنوي 2: 440 وطبقات السبكي 7: 120 والبداية والنهاية 12: 317 والشذرات 4: 270 وقد أطال الصفدي في ترجمته بإكثاره من الشعر ولعله تابع ياقوتا في ذلك، وانظر المقفى 4: 576.(4/1509)
أودّ من قمر في الأفق غيبته ... وأرقب الشمس من شوقي إلى القمر
هذا وقد بتّ من وعد على ثقة ... فكيف لو بتّ من هجر على خطر
[641] عبد الله بن برّي بن عبد الجبّار بن برّي
أبو محمد المقدسي الأصل المصري المولد والمنشأ، عرف بابن بري النحوي اللغوي الأديب: كان نحويا لغويا شائع الذكر، مشهورا بالعلم. قال القاضي الأكرم في «أخبار النحاة» شاع ذكره واشتهر ولم يكن للمصريين ممن تقدم أو تأخر مثله. مات بمصر سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة.
قرأ كتاب سيبويه على أبي بكر محمد بن عبد الملك الشنتريني المغربي النحوي، وتصدّر للإقراء بجامع عمرو بن العاص. وكانت عنايته تامة في تصحيح الكتب وكتب الحواشي عليها بأحمر، فإذا رأيت كتابا قد ملكه فهو الغاية في الصحة والإتقان. وله على كتاب «الصحاح» لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري حواش [له] أخذ عليه في بعضها وشرح في بعضها وزيادات فيما أخل به، ولو تمّت كان عجيبا «1» .
وكان مع علمه وغزارة فهمه ذا غفلة وسلامة صدر، وكان وسخ الثوب، زريّ الهيئة واللبسة. يحكي المصريون عنه حكايات عجيبة، منها أنه اشترى لحما وخبزا وبيضا وحطبا، وحمل الجميع في كمه، وجاء إلى منزله، فوجد أهله قد ذهبوا لبعض شأنهم والباب مغلقا، فتقدم إلى كوة هناك تقضي إلى داره، فجعل يلقي منها الشيء بعد الشيء، ولم يفكر في كسر البيض وأكل السنانير اللحم والخبز إذا خلت به.
__________
[641]- ترجمة ابن بري آخر ترجمة في الجزء الرابع من طبعة م وقد أشار المحقق إلى سقوط أوراق من المخطوطة ضاع بسببه تراجم كثيرة، وقد استوفيت هذه الترجمة من المختصر وانظر إنباه الرواة 2: 110 وابن خلكان 3: 108 وسير الذهبي 21: 176 وعبر الذهبي 4: 247 والوافي 17: 80 ومرآة الجنان 3: 424 وطبقات الاسنوي 1: 267 وطبقات السبكي 7: 121 والبداية والنهاية 12: 319 والنجوم الزاهرة 6: 103 وبغية الوعاة 2: 34 واشارة التعيين: 161 وحسن المحاضرة 1: 533 والشذرات 4: 273 والمقفى 4: 450 وقد طبعت حواشيه على الصحاح في جزءين.(4/1510)
وحدثني بعض المصريين قال: كنت يوما أسير مع الشيخ محمد بن برّي وقد اشترى عنبا، وجعله في كمه، فجعل يحادثني وهو يعبث بالعنب ويقبضه حتى جرى على رجليه، فقال لي: تحسّ المطر، فقلت: لا. فقال لي: فما هذا الذي ينقط على رجليّ؟ فتأملته فإذا هو ماء العنب. فأخبرته، فخجل واستحيا ومضى.
ويحكون عنه من الحذق وحسن الجواب عما يسأل عنه، ومواضع المسائل من كتب العلماء ما يتعجّب منه. فسبحان الجامع بين الأضداد. وله حواش انتصر فيها للحريري على ابن الخشاب «1» ، وكان له تصفح ديوان الانشاء فيما يكتبونه ليزيل الغلط واللحن فيه كما كان ابن بابشاذ.
وقرأ عليه جماعة منهم أبو العباس ابن الحطيئة، وكان ثقة، والجزولي من تلامذته، وأجاز لجميع من أدرك عصره من المسلمين.
[642] عبد الله بن جعفر بن درستويه بن المرزبان
أبو محمد الفارسي النحوي، من أهل فسا: أحد من اشتهر اسمه، وعلا قدره، وكثر علمه. جيد التصنيف، مليح التأليف، قرأ على المبرد وصحبه، ولقي ابن قتيبة، وأخذ عنه. مات سنة سبع وأربعين وثلاثمائة في خلافة المطيع.
قال أبو محمد ابن درستويه النحوي، قال البحتري، وقد اجتمعنا على خلوة عند المبرد، وسلكنا مسلكا في المذاكرة: أشعرت أنني سبقت الناس إلى قولي «2» :
__________
[642]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الفهرست: 68 وطبقات الزبيدي: 116 وتاريخ بغداد 9: 428 ونزهة الألباء: 197 والمنتظم 6: 388 وإنباه الرواة 2: 113 وابن خلكان 3: 44 وسير الذهبي 15: 531 وعبر الذهبي 2: 276 وميزان الاعتدال 2: 400 والوافي 17: 103 والبداية والنهاية 11: 233 ولسان الميزان 3. 267 وبغية الوعاة 2: 36 وطبقات الداودي 1: 223 والشذرات 2: 375 وإشارة التعيين: 162. ولعبد الله الجبوري دراسة عنه، بغداد 1974.(4/1511)
سقى الغيث أكناف الحمى من محلة ... إلى الخيف «1» من رمل اللوى والمعاهد
ولا زال مخضرّ من الأرض يانع ... عليه بمحمرّ من الأرض «2» جاسد
يذكّرنا ريّا الأحبة كلّما ... تنفّس في جنح من الليل بارد
شقائق يحملن الندى وكأنها ... دموع التصابي في خدود الخرائد
ومن لؤلؤ في الأقحوان منظّم ... على لمة «3» مصفرّة كالفرائد
كأن يد الفتح بن خاقان أقبلت ... إليها بتلك البارقات الرواعد
فاستحسن المبرّد ذلك استحسانا أسرف فيه [وقال] ما صيغت مثل هذه الألفاظ الرطبة، والعبارة العذبة لأحد تقدمك أو تأخر عنك، فاعترته أريحية جرّ بها رداء العجب، فكأنه أعجبني ما يعجب الناس من مراجعة القول. فقلت: يا أبا عبادة، لم تسبق إلى هذا، بل سبقك إلي قولك: «شقائق يحملن الندى» سعيد بن حميد الكاتب في قوله «4» :
عذب الفراق لنا قبيل وداعنا ... وكم اجترعناه كسمّ ناقع
فكأنما أثر الدموع بخدها ... طلّ سقيط فوق ورد ناصع
وشركك فيه صاحبنا أبو العباس الناشىء مما أنشدنيه آنفا «5» :
بكت للفراق وقد راعني ... بكاء الحبيب لبعد الديار
كأن الدموع على خدها ... بقية طلّ على جلنّار
وما أساء ابن الرومي بل أحسن في زيادته عليك حيث يقول «6» :
لو كنت يوم الفراق شاهدنا ... وهنّ يطفئن لوعة الوجد(4/1512)
لم تر إلا دموع باكية ... تسفح من مقلة على خد
كأن تلك الدموع قطر ندى ... يقطر من نرجس على ورد
وسبقك أبو تمام الطائي إلى الخروج فقال «1» :
من كل زاهرة ترقرق بالندى ... فكأنها عين عليه تحدّر
تبدو ويحجبها الجميم كأنها ... عذراء تبدو تارة وتخفّر
خلق أطل من الربيع كأنه ... خلق الإمام وهديه المستبشر
في الأرض من عدل الإمام وجوده ... ومن الربيع الغضّ سرج تزهر
فشق ذلك عليه وحلّ حبوته ونهض، وكان آخر عهدي بمؤانسته، وغلظ ذلك على المبرد وكدح في حالي عنده «2» .
[643] عبد الله بن الحسن بن محمد بن الحسن
بن الحسين بن عيسى بن يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، أبو الغنائم النسابة بن القاضي أبي محمد الزيدي: تصانيفه تدل على التشيع والاعتزال، وصنّف كتابا في النسب يزيد على عشر مجلدات، سماه «نزهة عيون المشتاقين إلى وصف السادة الغرّ
__________
[643]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر مصورة ابن عساكر 9: 137 وتهذيبه 7: 365 والوافي 17: 129.(4/1513)
الميامين» «1» .
لقي جماعة من النسابين، أخذ عنهم علم النسب، وسافر [في] البلاد، ولقي الأشراف والعلويين، واستقصى أنسابهم «2» . قال الشريف أبو الغنائم: أردت المسير إلى دمشق، فودّعت الشريف أبا يعلى حمزة بن الحسن بن العباس القاضي المعروف بفخر الدولة، وكان إذا ذاك بمصر، وقلت وقت توديعي:
استودع الله مولاي الشريف وما ... يحويه من نعم يبقى ويبليها
كأنني وقت توديعي لحضرته ... ودّعت من أجله الدنيا وما فيها
فلما سمع البيتين أقسم عليّ أن أقيم فأقمت، وأنعم عليّ.
[644] عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي،
صاحب التاريخ: تقلد عمالة بلد إسكاف، وكان من أهل العلم والأدب، وقد حفظ وسمع، وكان راوية لأشعار المحدثين، وكانوا يقصدونه لبره لهم وصلاته، فمما أنشدت من شعره:
جارية أذهلها اللعب ... عما يلاقي الهائم الصبّ
شكوت ما ألقاه من حبّها ... فأقبلت تسأل ما الحب
__________
[644]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الفهرست: 138 وعدّ له سوى كتاب التاريخ: كتاب فقر البلغاء.
كتاب المنطق، والوافي 17: 138 (وأورد الصفدي ما جاء هنا تماما، وزاد له ثلاث أبيات صنعها في عبدون بن مخلد النصراني لما جلس للمظالم بسرّ من رأى) .(4/1514)
[645] عبد الله بن الحسين بن عبد الله بن الحسين
أبو البقاء العكبري البغدادي الأزجي الحنبلي النحوي اللغوي الفرضي، محب الدين: شيخ زمانه، وفرد أوانه، منحة الدهر، وحسنة العصر، إمام في كل علم من النحو واللغة والفقه والفرائض والكلام، يقرىء ذلك كله وهو ضرير، أضرّ وهو في صباه بالجدري، إمام مسجد ابن حمدون ببغداد بالريحانيين ومتقدم الاقراء به، ولد سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة ومات في سنة ست عشرة وستمائة. أدرك ابن الخشاب وأخذ عنه، وقرأ الأدب على عبد الرحيم بن العصار. وقرأ الفقه على الشيخ أبي حكيم إبراهيم بن دينار النهاوندي وسمع في صباه من أبي الفتح ابن البطي وأبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي وأبي بكر عبد الله بن النقور وأبي العباس أحمد بن المبارك بن المرقعاني وغيرهم.
وكان الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي يفزع إليه فيما يشكل عليه من علم الأدب.
واستنشدته من شعره فقال: وقتي أعزّ من أن أفكر في قول شعر. ولا أعرف لي شعرا إلا أربعة أبيات أنسيت بيتا منها، فاستنشدته ذلك فأنشدني يمدح الوزير نصير الدين بن مهدي العلوي وزير الإمام الناصر لدين الله:
بك أضحى جيد الزمان محلّى ... بعد أن كان من حلاه مخلّى
لا يجاريك في نجاريك خلق ... أنت أعلى قدرا وأعلى محلا
دمت تحيي ما قد أميت من الفض ... ل وتنفي فقرا وتطرد محلا
__________
[645]- عبد الله بن الحسين أبو البقاء العكبري: وردت ترجمته في المختصر ونقل ابن الفوطي (5 رقم: 675) ترجمته عن ياقوت (انظر الضائع: 80 (رقم: 15) ومن هذين المصدرين تألف ما أثبته هنا. وترجم له ابن الدبيثي في تاريخه (المختصر 2: 140) والصفدي في الوافي 17: 139 ونكت الهميان: 178 وانظر أيضا إنباه الرواة 2: 116 والتكملة للمنذري 4: 378 وذيل الروضتين: 119 وابن خلكان 3: 100 ومرآة الجنان 4: 32 وسير الذهبي 22: 91 وعبر الذهبي 5: 61 والبداية والنهاية 13: 85 وذيل ابن رجب 2: 109 وبغية الوعاة 2: 38 والشذرات 5: 67 ومعجم البلدان 3: 705 وإشارة التعيين: 163 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 141 ومقدمة المحقق لكتاب التبيين.(4/1515)
وكان الشيخ أبو البقاء رحمه الله دينا ورعا صالحا حسن الخلق قليل الكلام فيما لا يجدي نفعا «1» . وكان رحمه الله رقيق القلب سريع الدمع. رأيته مرارا ينشد من أشعار المتأدبين الرقيقة وأدمعه تتحدر على شيبته، فما أذكر ذلك منه أبدا إلا ويخشع قلبي، وأترحّم عليه. وكان قد تفرّد في عصره بالعلوم خصوصا علم العربية والفرائض، وكان الناس يقصدونه من أقصى الشرق والغرب لأجلها.
وكان إذا أراد أن يصنف شيئا أحضرت إليه مصنفات ذلك الفن وقرئت عليه، فإذا حصل ما يريد في خاطره أملاه. فكان يقال: أبو البقاء تلميذ تلامذته.
وقال: جاء إلي جماعة من الشافعية وقالوا: انتقل إلى مذهبنا ونعطيك تدريس النحو واللغة بالنظامية، فقلت: لو أقمتموني وصببتم الذهب عليّ حتى واريتموني ما رجعت عن مذهبي.
وله من التصانيف: تفسير القرآن. إعراب القرآن «2» . إعراب الشواذ من القراءات، متشابه القرآن، عدد آي القرآن، إعراب الحديث «3» ، المرام في نهاية الأحكام في المذهب. الكلام على دليل التلازم. تعليق في الخلاف. الملقّح من الخطل في الجدل. شرح الهداية لأبي الخطّاب. الناهض في علم الفرائض، البلغة في الفرائض. التلخيص في الفرائض. الاستيعاب في أنواع الحساب. مقدّمة في الحساب. شرح الفصيح. المشوف المعلم في ترتيب كتاب إصلاح المنطق على حروف المعجم. شرح الحماسة. شرح المقامات الحريريّة. شرح الخطب النباتيّة.
المصباح في شرح الإيضاح والتكملة. المتّبع في شرح اللّمع. لباب الكتاب. شرح أبيات كتاب سيبويه. إعراب الحماسة. الإفصاح عن معاني أبيات الإيضاح. تلخيص أبيات الشعر لأبي عليّ. المحصّل في إيضاح المفصّل. نزهة الطرف في إيضاح قانون الصرف. الترصيف في علم التصريف. اللّباب في علل البناء والإعراب. الإشارة في(4/1516)
النحو- مختصر. مقدمة في النحو، أجوبة المسائل الحلبيّات. التلخيص في النحو.
التلقين في النحو. التهذيب في النحو. شرح شعر المتنبّي «1» . شرح بعض قصائد رؤبة. مسائل في الخلاف في النحو. تلخيص التنبيه لابن جنّي. العروض- معلّل.
العروض- مختصر. مختصر أصول ابن السرّاج. مسائل نحو مفردة. مسألة في قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما يرحم الله من عباده الرحماء» المنتخب من كتاب المحتسب. لغة الفقه «2» .
[646] عبد الله بن حمّود الزبيدي أبو محمد الأندلسي
: من مشاهير أصحاب أبي علي إسماعيل بن القاسم البغدادي. رحل إلى الشرق، ولم يعد إلى الأندلس. لازم ببغداد أبا سعيد السيرافي إلى أن توفي السيرافي فلازم أبا علي الفارسي، واتبعه إلى فارس. وكان إذا سمع كلام الجاحظ تخدّر وتسدّر عجبا به. وكان يقول: قد رضيت في الجنة بكتب الجاحظ عوضا من نعيمها. وكان من فرسان النحو والشعر واللغة «3» .
وأنشد لبعض شعراء المغرب بيتا ذكر فيه أشياء زعم أنه لا حقيقة لها، وهو «4» :
الجود والغول والعنقاء ثالثة ... أسماء في الناس لم تخلق ولم تكن
__________
[646]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر: التكملة: 439 وإنباه الرواة 2: 118 والوافي 17: 151 وبغية الوعاة 2: 41 وإشارة التعيين: 165 والبلغة: 109 ويذكره أبو علي الفارسي في مؤلفاته مشيرا إليه ب «الأندلسي» وكذلك يفعل أبو حيان، وابن جني؛ وكانت وفاة الأندلسي سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة.(4/1517)
وأنشد «1» :
وأحور إن كلمته فهو شاعر ... بيانا، وإن لا حظته فهو ساحر
على خدّه للياسمين غلائل ... عليها من الورد النضير ظهائر
حسام بجفنيه ونطع بخده ... وصبغ دم العشاق في النطع ظاهر
[647] عبد الله بن خليد أبو العميثل، مولى جعفر بن سليمان:
والعميثل من صفات الخيل، وهو السبط الذيال المتبختر في مشيته. وكان يؤدب ولد عبد الله بن طاهر. وأصله من الري. مات سنة أربعين ومائتين. كان يفخّم كلامه ويعربه ويتقعر فيه، ويجيد قول الشعر. فمن شعره، وقد حجب في باب عبد الله بن طاهر «2» :
سأترك هذا الباب مادام إذنه ... على ما أرى حتى يخفّ قليلا
إذا لم أجد يوما إلى الإذن سلّما ... وجدت إلى ترك اللقاء سبيلا
وهو القائل «3» :
أمّا والراقصات بذات عرق ... ومن صلّى بنعمان الأراك
لقد أضمرت حبّك في فؤادي ... وما أضمرت حبا من سواك
أطعت الآمرين بقطع حبلي ... مريهم في أحبتهم بذاك
فإن هم طاوعوك فطاوعيهم ... وإن عاصوك فاعصي من عصاك
__________
[647]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر البيان والتبيين 1: 280 وكتاب بغداد لابن أبي طاهر طيفور: 164 وطبقات ابن المعتز: 287 وأمالي القالي 1: 98 والفهرست: 48 والسمط 1: 308 وابن خلكان 3: 89 وإنباه الرواة 4: 143 والوافي 17: 160.(4/1518)
دخل أبو العميثل «1» يوما على عبد الله بن طاهر، فقبّل يده، فقال له ممازحا:
خدشت كفّي بخشونة شاربك. فقال له أبو العميثل: إن شوك القنفذ لا يؤلم كف الأسد. فأعجبه قوله، وأمر له بجائزة.
قال الصولي: ولأبي العميثل ديوان شعر في خمسمائة ورقة. ومصنفاته: كتاب البسالة، كتاب الأبيات السائرة، كتاب معاني الشعر، كتاب ما اتفق لفظه واختلف معناه.
[648] عبد الله بن ذكوان الفارسي، قرشي فهري:
وهو قارىء، مات سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة، وكان يصلي بالناس في الجامع الخمس، وكان متبسطا مرحا، ولم يكن في زمانه أقرأ منه.
[649] عبد الله بن رستم:
مستملي ابن السكيت.
[650] عبد الله بن الزبير وهو ابن المعتز،
قيل، واسم المعتز محمد بن جعفر بن المتوكل بن أبي إسحاق المعتصم بن هارون الرشيد بن محمد المهدي بن عبد الله
__________
[648]- هذه الترجمة من المختصر.
[649]- هذه الترجمة من المختصر.
[650]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر أشعار أولاد الخلفاء: 107 والأغاني 10: 286 والفهرست: 129 وتاريخ بغداد 10: 895 ونزهة الألباء: 160 والمنتظم 6: 84 وابن خلكان 3: 76 وعبر الذهبي 2: 104 والوافي 17: 447 (وأسهب في ترجمته) ومرآة الجنان 2: 225 والبداية والنهاية 11: 108 والفوات 2: 239 والشذرات 2: 221.(4/1519)
المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، ويكنى أبا العباس. مات في ربيع الآخر سنة ست وتسعين ومائتين مقتولا.
زعموا أن مولده في شعبان سنة سبع وأربعين ومائتين.
كان غزير الأدب وافر الفضل، نفيس النفس، حسن الأخلاق، وقد أخذ من كل فن من العلوم بنصيب. فأما شعره فهو الغاية في الأوصاف والتشبيهات، يقر له بذلك كل ذي فضل، وقد لقي طائفة من جلة العلماء كأبي العباس المبرد وثعلب، وتأدب عليهما، ولقي أبا علي الحسن بن عليل العنزي، وروى عنه. وروى عنه شعره جماعة منهم أبو بكر الصولي. فمن أشعاره ما كتبه إلى أبي العنبس بن أبي عبد الله بن حمدون المغني:
حتّام يا من أهوى مودته ... ينقطع الوصل حين يتصل
إذا التقينا فالهجر ناحية ... يضحك منا والوصل محتفل
فأجابه:
لم ينأ من لم تزل مودّته ... ولا افترقنا والحبل متصل
وليس ودّي مما يغيّره الد ... هر بأحداثه فينتقل
وكتب إلى أبي الطيب القاسم بن محمد النميري في يوم عيد، وكان النميري من أهل الأدب والعقل، مليح الشعر، رقيق الطبع، وكان له نعمة واسعة، وكان ابن المعتز يأنس به:
بأبي هل حلا بعينيك شيء ... هو أسلاك يا خليلي بعدي
كلّ شيء مرّ إذا لم تزرني ... وهو عذب إذا رأيتك عندي
فأجابه:
سيدي أنت لم تردني فماذا ... حيلتي إذ شقيت منك بصدّ
يعلم الله ما أعالج من شو ... قي ومن حسرتي وغمّي ببعدي
وكتب إليه أيضا ابن المعتز:
يا أبا العباس قد شم ... مّر شعبان إزاره(4/1520)
ومضى يسعى فما يل ... حق إنسان غباره
فاغد نشرب صفوة الكأ ... س ونسلبه وقاره
وإذا ذكر العذ ... ل شربنا بادكاره
قال ابن المعتز وقد تواترت أمطار كثيرة:
روينا فما نزداد يا ربّ من حيا ... وأنت على ما في النفوس شهيد
سقوف بيوتي صرن أرضا أدوسها ... وحيطان داري ركّع وسجود
حدث جعفر بن قدامة قال «1» : كنا يوما عند عبد الله بن المعتز، وكان له جارية اسمها مسرّة، وكان يحبّها ويهيم بها، فخرجت علينا من صدر البستان في زمن الربيع، وعليها غلالة معصفرة، وفي يدها حيّاني من باكورة باقلاء، فقالت له: يا سيدي، تلعب معي حياني؟ فالتفت إلينا، وقال على بديهته من غير توقف ولا تفكّر:
فديت من مرّ يمشي في معصفرة ... عشية فسقاني ثم حياني
وقال تلعب حياني فقلت له ... من جاد بالوصل لم يلعب بهجران
عن المبرد قال «2» : كان لعبد الله غلام اسمه نشوان، وكان يهواه ويحبه حبا مفرطا، وكان من أحسن الناس وجها وغناء، فجدر ثم عوفي. قال المبرد: فدخلت على ابن المعتزذات يوم، فقال لي: قد عوفي نشوان، وعاد إلى أحسن ما كان، وقد قلت فيه بيتين:
لي قمر جدّر لما استوى ... فزاده حسنا وزالت هموم
أظنه غنّى لشمس الضحى ... فنقّطته طربا بالنجوم
قال المبرد «3» : وغضب نشوان هذا عليه، فاجتهد في إصلاحه فأعياه فقال:
بأبي أنت قد تمادي ... ت في الهجر والغضب(4/1521)
واصطباري على صدو ... دك يوما من العجب
ليس لي إن فقدت وج ... هك في العيش من أرب
رحم الله من أعا ... ن على الصلح واحتسب
قال المبرد: فمضيت إلى الغلام فلم أزل أداريه وأرفق به حتى ترضّيته، وجئت به، فجلس يغني وغنّت ارياف جارية ابن المعتز في هذا الشعر ومرّ لنا يوم ما رأيت أحسن منه ولا أطيب.
وكانت «1» بنت الكراعة المغنية تألف ابن المعتز، ثم انقطعت عنه، فقال:
ليت شعري بمن تشاغلت عني ... فهو لا شكّ جاهل مغرور
هكذا كنت مثله في سرور ... وغدا بالهموم مثلي يصير
وحدث أبو منصور الثعالبي قال: لما ورد أبو حفص السهروردي على الصاحب ابن عباد، وقدمه إليه بعض كتابه فجاراه الصاحب في مسائل لم يحمد أثره فيها، وكان في بصره سوء، فقال الصاحب يداعبه:
وكاتب جاءنا بأعمى ... لم يحو علما ولا نفاذا
فقلت للحاضرين كفوا ... فقلب هذا كعين هذا
ثم استنشده فأنشده أبياتا:
دعوت على ثغره بالقلح ... وفي شعر طرته بالجلح
لعل غرامي به أن يقلّ ... فقد برّحت بي تلك الملح
فقال الصاحب: نسجت على منوال جميل في قوله:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى ... وفي الغرّ من أنيابها بالقوادح
وما أحسنت بعض إحسان ابن المعتز في قوله «2» :
يا ربّ إن لم يكن في وصله طمع ... وليس لي فرج من جور هجرته
فاشف السقام الذي في سحر مقلته ... واستر ملاحة خديه بلحيته(4/1522)
ولعبد الله بن المعتز في عبيد الله بن سليمان وزير المعتضد وولده القاسم أشعار كثيرة، منها في الوزير «1» :
عليم بأعقاب الأمور كأنه ... بمختلسات الظنّ يسمع أو يرى
إذا أخذ القرطاس ظلت يمينه ... تفتّح نورا أو تنظّم جوهرا
وله «2» :
لآل سليمان بن وهب صنائع ... إليّ ومعروف لديّ تقدّما
هم علّموا الأيام كيف تبرّني ... وهم غسلوا من ثوب والدتي الدما
ومن شعره:
إني غريب بدار لا أنيس بها ... كغربة الشعرة السوداء في الشّمط
ما أطلق العين في شيء أسرّ به ... فلست أبدي الرضى إلا على سخط
وله:
أليس من الحرمان حظّ سلبته ... وأحوجني منه البلاء إلى العذر
فصبرا فما هذا بأول حادث ... رمتني به الأيام من حيث لا أدري
وحدث ابن المعتز، قال: كانت جدتي أم المعتز بالله لما تعرضت للشعر تعيبه عندي وتقبّحه إلي، وأنشدتني «3» :
الكلب والشاعر في حالة ... يا ليت أني لم أكن شاعرا
هل هو إلا باسط كفّه ... يستمطر الوارد والصادرا
أول ما صنف في صنعة الشعر عبد الله بن المعتز كتابا صغيرا سماه كتاب البديع «4» . وذكر أن البديع اسم لفنون الشعر يذكرها الشعراء ونقاد المتأخرين منهم.
فأما العلماء باللغة والشعر القديم الجاهلي والمخضرمي والعربي، فلا يعرفون هذا(4/1523)
الاسم، ولا يدرون ما هو، قال: وما جمع فنون البديع غيري، وما سبقني إليه أحد.
ومن شعره «1» :
والريح تجذب أطراف الرداء كما ... أفضى الشفيق إلى تنبيه وسنان
ومن منثور كلامه «2» : الحكمة شجرة تنبت في القلب، وتثمر في اللسان.
النصح بين الملأ تقريع. المتواضع من العلماء أكثرهم علما، كما أن المنخفض من الأرض أكثر البقاع ماء. إذا زاد العقل نقص الكلام. الشفيع جناح الطالب. الدار الضيقة العمى الأصغر. المرض حبس البدن، والهم حبس الروح. المعرفة بالفضيلة عليك فضيلة منك. من لم يتعرض للنوائب تعرضت له. النار لا ينقصها ما أخذ منها، ولكن يخمدها أن لا تجد حطبا، وكذلك العلم لا يفنيه الاقتباس منه، ولكن فقد الحاملين سبب عدمه. المعروف غلّ لا يفكّه إلا شكر أو مكافأة. ما عفا عن الذنب من قرّع به. ما أدري ماذا أمرّ، موت الغنيّ أو حياة الفقير؟ كلما حسنت نعمة الجاهل ازداد قبحا فيها. العلماء غرباء لكثرة الجهال بينهم.
وكتب النميري إلى ابن المعتز في يوم خميس صامه:
أبا العباس يا خير الأنام ... تصوم وليس ذا وقت الصيام
فهل لك في ندام أخ ظريف ... يساعد في الحلال وفي الحرام
قال ابن المعتز: وكتب إليّ بعض أهلي من النساء:
فهبني مسيئا كالذي قلت ظالما ... فعفوا جميلا كي يكون لك الفضل
وهذا الشعر مقولها فأجبتها:
غفرت ولو كانت ذنوبك كالحصى ... وعندي إذا جربتني خلق سهل
وفي القلب مني شافع من هواكم ... وجيه فلا قول يعاب ولا فعل
قرأت بخط أبي علي بن أبي إسحاق الصابي لابن المعتز «3» :(4/1524)
دعوا الأسد تفرس في غابها ... ولا تدخلوا بين أنيابها
قتلنا أمية في دارها ... وكنا أحقّ بأسلابها
ورثنا ثياب نبيّ الهدى ... فلم تجذبون بأهدابها
لكم حقكم يا بني بنته ... ولكن بنو العم أولى بها
ولابن المعتز في أبي تمام «1» :
لست تنفكّ طالبا لوصال ... من حبيب أو راغبا في نوال
أيّ ماء لحرّ وجهك يبقى ... بين ذلّ الهوى وذل السؤال
وله:
أيا أسفا على ما فات مما ... أشاهد من خلائقك الكرام
وما في القرب منك من المعاني الل ... واتي قد فقدن من الأنام
ومن شعره:
كم تائه بولاية ... وبعزله يغدو البريد
سكر الولاية طيب ... وخماره صعب شديد
كان عبد الله بن المعتز يقول: لو لم تقل العرب إلا هذا البيت الواحد لكان لها الفضل على الناس:
أمستوحش أنت لما أسأت ... فأحسن متى شئت واستأنس
ولما قتل قال فيه ابن بسّام يرثيه «2» :
لله درك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لولا ولا ليت فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب
ومن شعره:
أشكو إلى الله أحداثا من الزمن ... برينني مثل بري الدرج بالسّفن
لم تبق في العيش لي إلا مرارته ... إذا تذوقته والحلو منه فني
يا نفس صرا وإلا فاهلكي جزعا ... إن الزمان على ما تكرهين بني(4/1525)
لا تحسبي نعما سرّتك صحبتها ... إلا مفاتيح أبواب من الحزن
ما المرء إلا كعنز السوء يضربه ... سوط الزمان ولا يمشي على سنن
قال بعض من كان يخدمه: إن عبد الله بن المعتز، خرج يوما يتنزه ومعه ندماؤه وقصد باب الحديد وبستان الناعورة، وكان ذلك آخر أيامه، فأخذ خزفة وكتب بالجص «1» :
سقيا لظل زماني ... ودهري المحمود
ولّى كليلة وصل ... قدّام يوم صدود
قال: وضرب الدهر ضربانه، ثم عدت بعد قتل ابن المعتز، فوجدت خطه خفيّا، وتحته مكتوب:
أف لظل زماني ... وعيشي المنكود
فارقت أهلي وإلفي ... وصاحبي وودودي
ومن هويت جفاني ... مطاوعا لحسود
يا رب موتا وإلا ... فراحة من صدود
ومصنفاته: كتاب الزهر والرياض. كتاب البديع في صناعة الشعر. كتاب مكاتبات الإخوان بالشعر. كتاب الجوارح والصيد. كتاب السرقات. كتاب أشعار الملوك.. كتاب الآداب. كتاب حلى الأخبار. كتاب التفات الشعراء المحدثين، كتاب الجامع في الغناء. كتاب أرجوزة في ذم الصبوح.
[651] عبد الله بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص
بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف أبو محمد: أحد الفضلاء العلماء، وكان من علماء الكوفيين. له من المصنفات: كتاب النوادر. كتاب رحل البعير.
__________
[651]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الفهرست: 54.(4/1526)
[652] عبد الله بن سعيد بن مهدي الخوافي، أبو منصور:
أديب شاعر فاضل لغوي مصنف في فنون من الأدب، فرضي حاسب من أتمّ الناس مروءة وأكثرهم نفعا.
دخل بغداد واستوطنها وسكنها، وحدث بها. وكان أكثر رواياته الكتب الأدبية.
قال الرئيس أبو منصور الخوافي: أنشدت لأبي فراس ابن حمدان:
لا عيب للطّرف إن زلّت قوائمه ... وليس ينقصه من عائب دنس
حملت حلما وبأسا فوقه وندى ... وليس يحمل هذا كله فرس
فعملت في معنى ذلك، وكتبت بها إلى العميد أبي الفتح المظفر بن محمد بن الحسين الكندري:
فدتك عميد الحضرتين نفوسنا ... من السوء إذ لم تأل فضلا وإنعاما
أإن عثر الطرف المعثر لمته ... ظلمت فهذا عذره منه قد قاما
ولم يستطع بحرا وبدرا وشاهدا ... وليثا وإنسانا وغيثا وصمصاما
ومن شعره:
بقاؤك لي يمن وأمن ونعمة ... وعزّ وتأييد وسعد وإقبال
فماذا من الأيام أرجو وأتقي ... وجاهك لي مال ووجهك لي فال
ومن مصنفاته: كتاب خلق الإنسان مرتبة على حروف المعجم. كتاب رجم العفريت ردّ فيه على أبي العلاء المعري في كتبه في الفصول والغايات ولزوم ما لا يلزم وغير ذلك.
[653] عبد الله بن السّيد البطليوسي وقيل عبد الله
بن محمد بن السّيد النحوي،
__________
[652]- هذه الترجمة من المختصر وانظر أنساب السمعاني (الخوافي) ونزهة الألباء: 246 وإنباه الرواة 2: 120 والوافي 17: 196 (وأورد له أشعارا لم ترد في المختصر) وبغية الوعاة 2: 43.
[653]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر قلائد العقيان: 708 والصلة: 282 وبغية الملتمس (رقم: 892) والمغرب 1: 385 ونفح الطيب 1: 643 وأزهار الرياض 3: 101 وإنباه الرواة 2: 141 وابن خلكان-(4/1527)
وبطليوس مدينة في جزيرة الأندلس: إمام في علم العربية، محقق في فنون الأدب، متقدم على أهل عصره في بلاده. مات سنة إحدى وعشرين وخمسمائة. من شعره:
أخو العلم حيّ خالد بعد موته ... وأوصاله تحت التراب رميم
وذو الجهل ميت وهو ماش على الثرى ... يظنّ من الأحياء وهو عديم
وكان بقرطبة «1» مقيما في أيام ابن الحاج صاحب قرطبة، وكان لابن الحاج بنون ثلاثة، يسمّى أحدهم عزون، والثاني رحمون، والثالث حسنون. وكانوا صغارا في حدّ الحلم، وكانوا من أجمل الناس صورة، وكانوا يقرأون القرآن على المقرىء، ويختلفون إليه في الجامع. وكان أبو محمد البطليوسي قد أولع بهم، ولم تمكنه صحبتهم إذ كان من غير صنفهم وشكلهم. وكان يجلس في الجامع تحت شجرة كانت في وسط الجامع، بكتاب يقرأ فيه يتحيّن وقت دخولهم وخروجهم من الجامع، ولم يكن له حظ منهم غير ذلك، فقال فيهم:
أخفيت سقمي حتى كاد يخفيني ... وهمت في حبّ عزون فعزّوني
ثم ارحموني برحمون فإن ظمئت ... نفسي إلى ريق حسنون فحسوني
ثم خاف على نفسه بسبب أبيهم، ففرّ من قرطبة، وخرج من حينه إلى بلنسية، فأقرأ بها، وألف تواليفه إلى أن مات.
وحكي عنه أنه قال: كان سبب طلبتي للعلم أن والدي كان رجلا من أهل القرى، وكان له ثروة، فسلّم إليّ مالا لأدخل به إلى الحاضرة للتجارة، فدخلت إلى [قرطبة] فاتفق أني اجتزت في السوق فوجدت حلقة تباع فيها الكتب، فوقفت عليها، واستحسنت الكتب، وشريت منها بمقدار مائتي دينار للتجارة، فلما خلوت بها جعلت أفتقدها وأقول: هذا جيد لا ينبغي أن يباع، وهذا جيد إلى أن اخترت
__________
- 3: 96 وسير الذهبي 19: 532 والوافي 17: 598 (عبد الله بن محمد بن السيد) ومرآة الجنان 3: 228 والبداية والنهاية 12: 198 والديباج المذهب 1: 441 وبغية الوعاة 2: 55 والشذرات 4: 64.(4/1528)
لنفسي أكثرها، ثم جعلت أطالعها فلا أفهم معانيها، فيضيق صدري. فسألت بعض الطلبة، وقلت له: أي العلوم أنفق؟ فقال: الناس في الأدب أرغب منهم في غيره.
قلت له: وأيّ الكتب أشهر من كتب الأدب؟ فقال: كتاب العين. فشرعت فيه على شيخ هناك. فلم تمض لي شهور حتى حفظته، ثم حفظت كتابا في النحو. ولذّ لي العلم، فلم تمض إلا مدة قليلة حتى صرت ممن يشار إليه. فاشتقت إلى أهلي بعد أن أنفقت جميع ما كان معي، فخرجت إليهم واجتمعت بوالدي، فسألني عن الحال، فأخبرته بقصتي، فلم ينكره عليّ بل سرّه، وقال: يا ولدي، هذه نعمة من الله في حقك حيث ألهمك بالعلم. وأمدني بشيء آخر من المال، ورجعت إلى المدينة، وطلبت المشايخ حتى بلغت إلى ما ترون.
وكان يقول: المتأدب أحوج إلى تأديب نفسه وخلقه منه إلى تأديب لسانه.
وكذلك: إنك تجد في العامة الذين لم ينظروا في شيء من الأدب من هو حسن اللقاء، جميل المعاملة، حلو الشمائل، مكرم لجليسه، وتجد في ذوي الأدب من أفنى دهره في القراءة والنظر، وهو مع ذلك قبيح اللقاء سيء المعاملة، جافي الشمائل، غليظ الطبع. والأدب نوعان: أدب خبرة، وأدب عشرة، قال الشاعر:
يا سائلي عن أدب الخبره ... أحسن منه أدب العشره
كم من فتى تكثر آدابه ... أخلاقه من علمه صفره
[654] عبد الله بن سليمان بن يخلف الصقلي
أبو القاسم الكلبي أحد الأدباء المجيدين، والشعراء المعدودين: وله تأليفات وكتب مصنفات في الرد على العلماء.
فمن مختار شعره قوله:
نعيمي أحلى بتلك الديار ... رواحي إلى لذة وابتكاري
فليت ليالي الصدود الطوال ... فداء ليالي الوصال القصار
__________
[654]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 17: 202 والفوات 2: 176 وأصل هذه الترجمة في المنتخل من الدرة الحظيرة لابن القطاع.(4/1529)
زمان أبيت طليق الرقاد ... وأغدو خليا خليع العذار
ولم يكن الهجر مما أخاف ... ولا العاذل الفظ ممن أداري
أسابق صبحي بصبح الدنان ... وأصرف ليلي بصرف الكبار
ألا ربّ يوم لنا بالمروج ... بخيل الضياء جواد القطار
كأن الشقيق بها وجنة ... بآخرها لمعة من عذار
كأن البنفسج في لونه ... اختلاط الظلام بضوء النهار
وسوسنها مثل بيض القباب ... بأوساطها عمد من نضار
ترى النرجس الغض فوق الغصون ... مثل المصابيح فوق المنار
ونارنجها كحقاق النضار ... تصفف أو كثديّ الجواري
أقمنا نسابق صرف الزمان ... بدارا إلى عيشنا المستعار
نجيب بصوت القناني القيان ... إذا ما أجابت غناء القماري
وتصبح عيداننا في اصطخاب ... يلذّ وأطيارنا في اشتجار
نشمّ الخدود شميم الرياض ... ونجني النهود اجتناء الثمار
ونسقى على النّور مثل النجوم ... ومثل البدور اعتلت للمدار
عقارا هي النار في نورها ... فلولا المزاج رمت بالشرار
إذا ما لقيت الليالي بها ... فأنت على صرفها بالخيار
نعمنا بها وكأن النجوم ... دراهم من فضة في نثار
وله من أخرى:
شربت على الرياض النّيرات ... وتغريد الحمام الساجعات
معتقة ألذّ من التصابي ... وأشرف في النفوس من الحياة
تسير إلى الهموم بلا ارتفاع ... كما سار الكميّ إلى الكماة
وتجري في النفوس شفاء داء ... مجاري الماء في أصل النبات
كأن حبابها شبك مقيم ... لصيد الألسن المتطايرات
لنا من لونها شفق العشايا ... ومن أقداحها قلق العداة(4/1530)
على روض يدلّه من رآه ... بأصناف المناظر واللغات
ويبكيه ابتسام الصبح فيه ... ويضحكه عبوس المدجنات
كأن الأقحوان فصوص تبر ... تركّب في اللجين موسطات
ونارنجا على الأغصان يحكي ... كؤوس الخمر في أيدي السّقاة
إذا ما لم تنعّمني حياتي ... فما فضل الحياة على الممات
شربت بسدفة كظلام جدّي ... وأحداث الزمان المبهمات
إلى أن بان فتق مثل لفظي ... وأخلاقي الحسان المشرقات
وله أيضا:
أرحت النفس من همّ براح ... وهان عليّ إلحاح اللواحي
وصاحبت المدام وصاحبتني ... على لذّاتها وعلى سماحي
فما يبقى على طرب مصون ... ولا أبقي على مال مباح
ثوت في دنّها ولها هدير ... هدير الفحل ما بين اللقاح
وصفّتها السنون ورقّقتها ... كما رقّ النسيم مع الرواح
إلى أن كشّفت عنها الليالي ... ونالتها يد القدر المتاح
فأبرزها بزال الدنّ صرفا ... كما انبعث النجيع من الجراح
[655] أبو عبد الله العروضي الصقلي:
أحد العلماء الرواة الحفاظ الثقات العالمين بجميع التواريخ والأخبار، وملح الآداب والأشعار. كان مسامر الملوك والأمراء، ومنادم السادات والوزراء، عالما بالغناء، أربى فيه على المتقدمين. وعلمه بالعروض والقوافي والأوزان كعلم الخليل، وله شعر منه من أبيات:
وسنان طرف يبيت في دعة ... وليس طرفي عنه بوسنان
كأنّ أجفان عينه حلفت ... أن لا تذوق الرقاد أجفاني
__________
[655]- هذه الترجمة من المختصر.(4/1531)
[ومنه] «1» :
لما نظرت إليّ من حدق المها ... وبسمت عن متفتّح النوّار
وحللت أطراف الخمار كأنه ... عن جنح ليل فاحم ونهار
وشددت بين قضيب بان ناعم ... وكثيب رمل عقدة الزنّار
عفّرت وجهي في الثرى لك ساجدا ... وعزمت فيك على دخول النار
[656] عبد الله بن عامر المقري:
يحصبيّ منسوب إلى يحصب: بن دهمان بن عامر بن حمير بن سبأ بن يشجب، ويقال يحصب بضم الصاد وكسرها. واختلف في كنيته، فقيل أبو نعيم. وهو أحد القراء السبعة. قيل إنه قرأ على عثمان بن عفان، رضي الله عنه، وقيل: إنه قرأ على أبي الدرداء. وقيل: على معاذ بن جبل.
وقيل: إن قراءة أهل الشام موقوفة على ابن عامر اليحصبي. وقيل: قرأ على معاوية بن أبي سفيان، وروى الحديث عن عثمان وأبي الدرداء وزيد بن ثابت، وكان شيخا كبيرا، وكان إماما عالما حافظا قيما بالعلوم، وشهرته تغني عن وصفه. روى القرآن «2» عن عبد الله بن ذكوان، وهشام بن عمار السلمي، والوليد بن عتبة الأشجعي وغيرهم. مات سنة ثماني عشرة ومائة وعمره تسع وتسعون سنة في أيام هشام بن عبد الملك، وهو من الطبقة الثانية من التابعين. وكان على بناء مسجد دمشق وكان رئيس المسجد لا يرى فيه بدعة إلا غيرها. وقيل: إنه كان راوية لعثمان بن عفان، رضي الله تعالى عنه.
__________
[656]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر تاريخ الاسلام للذهبي 4: 266 وطبقات ابن سعد 7: 449 وقضاة وكيع 3: 203 والفهرست: 31- 32 ومصورة ابن عساكر 9: 469 ومختصر ابن منظور 12: 291 وسير الذهبي 5: 292 وعبر الذهبي 1: 149 ومعرفة القراء الكبار 1: 67 وميزان الاعتدال 2: 449 والوافي 17 وطبقات ابن الجزري 1: 423 والشذرات 1: 156.(4/1532)
[657] عبد الله بن عبد الله الصفري، يكنى أبا العباس:
أديب فاضل أريب شاعر ناثر. لقي أعيان المشايخ وأخذ عنهم الأدب، منهم ابن خالويه، وأبو علي الفارسي [والزجاجي] وكان من شعراء سيف الدولة بن حمدان.
مرض أبو فراس ابن حمدان فلم يعده أبو العباس الصفري فكتب إليه أبو فراس يستبطئه عن عيادته «1» .
إني مرضت فلم يعدني عائد ... ممن قضيت حقوقه فيما مضى
إن الحقوق وإن تطاول عهدها ... دين يحلّ وواجبات تقتضى
لولا الجميل وحفظ ما أسلفتم ... يا ظالميّ لقلت لا بعد الرضى
يا تاركين عيادتي بتعمد ... إن تمرضوا لا تعدموا مني القضا
فأجابه أبو العباس الصفري:
شكوى الأمير لما شكاه مودع ... أحشاءنا وقلوبنا جمر الغضا
ما في السويّة أن نراه يشتكي ... ما العدل إلا أن تصحّ ونمرضا
عوّضت من ألم ألمّ سلامة ... إن السلامة خير شيء عوّضا
فانهض بمجد أنت محيي رسمه ... فالمجد ليس بناهض أو تنهضا
وحضر مجلس سيف الدولة، وعنده القاضي أبو حفص قاضي حلب وجرى ذكر هذين البيتين المشهورين:
وليس صرير النعش ما تسمعانه ... ولكنه أصلاب قوم تقصّف
وليس نسيم المسك ريّا حنوطه ... ولكنه ذاك الثناء المخلّف
__________
[657]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 17: 297 (وهو متابع لما أورده ياقوت دون إخلال بشيء) .(4/1533)
فاستحسنها الجماعة، وقال سيف الدولة هما لبعض المحدثين قد ذهب عني اسمه، فقال أبو حفص: هما للخنساء. فقال سيف الدولة للصفري: أتعرف لمن هما؟ قال: نعم، هما لأبي عبد الرحمن العطوي، قال: صدقت. وأمره بإجازتهما.
فقال ارتجالا، وذكر فيها أباه أبا الهيجاء:
لقد ضمّ منه قبره كلّ سؤدد ... وكلّ علاء حدّه ليس يوصف
وأضحى الندى مذ غاب عنّا خياله ... وأركانه من شدة الوجد تضعف
على أن صرف الدهر لا درّ درّه ... يسرّ أناسا بالحمام ويسعف
ألا يا أميرا عمّ ذا الخلق جوده ... وأضحى به شعري على الشعر يشرف
حسامك يجري من دم القرن حدّه ... ورمحك في يوم الكريهة يرعف
وأنت إذا عدّ الكرام مقدّم ... وغيرك إن عدّ الكرام مخلّف
[658] عبد الله بن عبد العزيز البكري أبو عبيد الأندلسي:
كان أميرا بساحل كورة لبلة، وصاحب جزيرة شلطيش، بلد صغير من قرى اشبيلية على البحر. وكان مقدما من مشيخة أولي البيوتات وأرباب النعم بالأندلس، فغلبه ابن عباد صاحب اشبيلية على سلطانه ببلده المذكور، فلاذ بقرطبة، ثم صار إلى محمد بن معن صاحب المرية، فاصطفاه لصحبته، وآثر مجالسته والأنس به، ووسّع راتبه.
قال ابن خاقان: رأيته وأنا غلام في مجلس ابن منظور وله شيبة يروق العيون إيماضها، ويفوق السواد بياضها، وقد بلغ سن ابن محلم «1» ، وهو يتكلم فيفوق كلّ
__________
[658]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الصلة 1: 277 والذخيرة 2: 232 وقلائد العقيان: 615 والحلة السيراء 2: 180 والمغرب 1: 347 والخريدة (قسم المغرب 3: 475) وسير الذهبي 19: 35 والوافي 17: 290. ومقدمة السمط والجغرافية والجغرافيون في الأندلس للدكتور حسين مؤنس.(4/1534)
متكلم. فجرى ذكر ابن مقلة وخطّه، وأفيض في رفعه وحطه، فقال:
خطّ ابن مقلة من أرعاه مقلته ... ودّت جوارحه لو أصبحت مقلا
وكان ملوك الأندلس تتهادى مصنفاته تهادي المقل للكرى، والآذان للقرى «1» .
ومن شعره:
أجدّ هوى لم يبل دهرا تجددا ... ووجدا إذا ما أتهم الوجد أنجدا
وما زال هذا الدهر يلحن في الورى ... فيرفع مجرورا ويخفض مبتدا
ومن لم يحط بالناس علما فإنني ... بلوتهم شتّى مسودا وسيّدا
وكان، رحمه الله، معاقرا للراح لا يصحو من خمارها، ولا يمحو رسم داره «2» من مضمارها، ولا يريح إلا على تعاطيها، ولا يستريح إلا إلى معاطيها، وقد اتخذ إدمانها هجيراه، فلما دخل رمضان طالبته نفسه بها، وخاف واشيا يشي به، فقال يخاطب نديمين له «3» :
خليلي إني قد طربت إلى الكاس ... وتقت إلى شمّ البنفسج والآس
فقوما بنا نلهو ونستمع الغنا ... ونسرق هذا اليوم سرّا من الناس
فإن فطنوا كنا نصارى ترهّبوا ... وإن غفلوا عدنا إليهم من الراس
وليس علينا في التعلّل ساعة ... وإن وقعت في عقب شعبان من باس
بيت «4» :
متى تخطىء الأيام فيّ بأن أرى ... بغيضا تنائي أو حبيبا تقرّب
فصل من كلامه يهنىء الوزير أبا بكر ابن زيدون بالوزارة: أسعد الله بوزارة سيدنا الدنيا والدين، وأجرى لها الطير الميامين، ووصل بها التأييد والتمكين، والحمد لله على أمل قد بلغه، وجذل قد سوّغه، وضمان حقّقه، ورجاء صدقه، وله المنّة في ظلام كان أعزه الله صبحه، ومستبهم غدا شرحه، وعطل نحر عاد حليه،(4/1535)
وضلال دهر صار هديه:
فقد عمر الله الوزارة باسمه ... وردّ إليها أهلها بعد إقصار
جمع كتابا في أعلام نبوّة نبيّنا، عليه السلام، أخذه الناس عنه إلى غير ذلك من تواليفه.
توفي في شوال سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
[659] عبد الله بن عبد الأعلى [النحوي] :
هو أحد أصحاب أبي علي الفارسي.
صحبه وخرج في صحبته إلى فارس وأصبهان. وكان عبد الأعلى أبوه من كبار أصحاب الحديث ببغداد. قال أبو الفضل الفسوي: حضرنا جنازة عبد الأعلى ببغداد، وحضر جنازته الكبير والصغير، وتقدم ابنه عبد الله، فصلّى عليه، وكبّر عليه خمسا. فلما انصرف من الصلاة عليه، قيل له: أظهرت اليوم خلاف مذهبك. فقال للناس:
اعلموا أنني لو تركت ورأيي لم أزل أكبّر عليه تكبيرة بعد أخرى، وأخصّه بأدعية بعد أدعية من نية صادقة، وطويّة صافية، فقد وقذني فراقه، ولذعني انطلاقه، ثم بكى وأفرط، وشهق شهقة، وأنشأ يقول:
صحبتك قبل الروح إذ أنا نطفة ... مصان فلا يبدو لخلق مصونها
فماذا بقاء الفرع من بعد أصله ... ستلقى الذي لاقى الأصول غصونها
[660] عبد الله بن عبد الرحمن الدينوري، أبو القاسم:
من رؤساء الأدباء، ورؤوس الكتاب، ووجوه العمال بخراسان، قيل إنه من أولاد العباس بن عبد المطلب.
__________
[659]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 17: 237 (وهو لا يزيد على ما ورد هنا) وبغية الوعاة 2: 46.
[660]- هذه الترجمة من المختصر وانظر يتيمة الدهر 4: 136 (ومنه يستمد ياقوت هذه الترجمة) والوافي 17: 343 والفوات 2: 178.(4/1536)
له مصنفات وأشعار، منها في وصف الخمر:
كأنّها في يد الساقي المدير لها ... عصارة الخدّ «1» في ظرف من الآل
لم تبق منها الليالي في تصرفها ... إلا كما أبقت الأيام من حالي
وله:
يا لعصر الخلاعة المحمود «2» ... ولظلّ الشبيبة الممدود
وللهوي ولذّتي وسروري ... ولسفكي دم ابنة العنقود
وارتشافي الرضاب من برد الثغ ... ر وشمي عليه ورد الخدود
وغدوّي إلى مجالس علم ... ورواحي إلى كواعب غيد
في قميص من السرور مذال ... ورداء من الشباب جديد
ولأيامي القصار اللواتي ... كنّ بيضا قد حلّيت بالسعود
غيّر الدهر حالها فاستحالت ... مظلمات من الليالي السود
وأتاني من المشيب نذير ... غضّ مني وفتّ في مجلودي
وتدانت له خطاي برغمي ... وتحانى لها خضوعا «3» عمودي
وتيقّنت أنني من مسيري ... إثر شرخ الشباب غير بعيد
وله:
شوقي إليك كشوق المدنف الحرض ... إلى الطبيب الذي يشفي من المرض
فإن يكن لك عني يا أخي عوض ... فلا وحقك ما لي عنك من عوض
وله من أبيات يسترجع بها كتابا معارا «4» :
أنا أشكو إليك فقد نديم ... قد فقدت السرور منذ تولّى
كان لي مؤنسا يسلّي همومي ... بأحاديث من منى النفس أحلى
فتفضّل به عليّ فإني ... لست إلا بمثله أتسلى(4/1537)
وله «1» :
أشكو إلى الله ضيق ذات يدي ... قد مات صبري وخانني جلدي
وقد جفاني الأنام قاطبة ... حتى عبيدي وعقّني ولدي
وله في ولده طاهر:
لو كنت أعلم أني والد ولدا ... يكون لا كان في عينيّ كالرّمد
فلا أسرّ على طول الحياة به ... جببت نفسي كي أبقى بلا ولد
وقد تمنيت لو أن المنى نفعت ... ولا مردّ لحكم الواحد الصمد
وقلت لو أن قولي كان ينفعني ... يا ليت أني لم أولد ولم ألد
وله في النارنج:
أما ترى شجر النارنج طالعة ... نجومها في غصون لدنة ميل
كأنها بين أوراق تحفّ بها ... زهر المصابيح في خضر القناديل
وله:
بأبي أنت وقد طب ... ت لنا ضمّا وشمّا
طاب فوك العذب و ... العين وشيء لا يسمّى
[661] عبد الله بن عطية بن عبد الله بن حبيب
أبو محمد المفسّر المقرىء المعدل. مات سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
قيل: إنه كان يحفظ خمسين ألف بيت من الشعر للاستشهاد على معاني القرآن
__________
[661]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر مختصر ابن منظور 13: 141 والوافي 17: 320 ومعرفة القراء الكبار 1: 271 وطبقات ابن الجزري 1: 433 وطبقات المفسرين: 15 وطبقات الداودي 1: 239 والدارس 2: 335.(4/1538)
وغيره. وكان ثقة، وقرأ القرآن على أبي الحسن الأخرم.
حدث عبد الله بن عطية قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن أحمد الزبيدي قال: سمعت أبي يقول، سمعت أحمد بن العبدي يقول: سمعت قنان الذراع يقول: الطلاق الثلاث له لازم إن لم يكن سمع أبا عبيدة معمر بن المثنى يقول:
الطلاق الثلاث لازم له، إن كانت العرب قالت أحكم من هذه الأبيات:
كن للمكاره بالعزا متلقيا ... فلعل يوما لا ترى ما تكره
ولربما استتر الفتى فتنافست ... فيه العيون، وإنه لمموّه
ولربما خزن البليغ لسانه ... حذر الجواب، وإنه لمنوّه
ولربما ابتسم الكريم مع الأذى ... وفؤاده من حرّه يتأوّه
وله:
احذر مودة ماذق ... مزج الحلاوة بالمراره
يحصي الذنوب عليك أيا ... م الصداقة للعداوة
وله من أبيات:
كنت الضنين بمن فجعت به ... فسلوت حين تقادم الأمر
ولخير حظك في المصيبة أن ... يلقاك عند نزولها الصبر
[662] عبد الله بن علي بن أحمد بن عبد الله المقرىء
أبو محمد ابن بنت الشيخ أبي منصور الخياط، إمام مسجد ابن جردة:
قرأ القرآن بروايات، وتخرج عليه جماعة كبيرة. وله معرفة بالنحو واللغة
__________
[662]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر المنتظم 10: 122 ونزهة الألباء: 282 ومرآة الزمان 8: 193 وإنباه الرواة 2: 122 وعبر الذهبي 4: 113 ومعرفة القراء الكبار 2: 403 وسير الذهبي 20: 130 وذيل ابن رجب 1: 209 والبداية والنهاية 12: 222 والوافي 17: 331 (وصرح الصفدي بأنه ينقل عن ياقوت) وطبقات ابن الجزري 1: 434.(4/1539)
يقرئهما الناس. مات سنة إحدى وأربعين وخمسمائة في أيام المقتفي.
كان متواضعا، حسن القراءة والتلاوة في المحراب، خصوصا في ليالي رمضان. وكان يحضر عنده الناس لاستماع قراءته، وتخرج عليه جماعات كثيرة ختموا كتاب الله. قرأ القرآن على جماعة منهم الشريف عبد القاهر بن عبد السلام العباسي المكي، وأبو الحسن ابن الفاعوس. وروى الحديث عن أبي الحسن ابن النقور واللالكائي. وكان يتعاطى قول الشعر. وصنف تصانيف في القرآن وعلومه وأغرب فيها وخولف في بعضها، وشنعوا عليه، ورجع عن ذلك. ومن مصنفاته: المبهج والكفاية والاختيار والإيجار «1» .
فمما أنشده السمعاني من شعره:
ومن لم تؤدّبه الليالي وصرفها ... فما ذاك إلا غائب العقل والحسّ
يظن بأن الأمر جار بحكمه ... وليس له علم أيصبح أم يمسي
ومنه:
تقول أميمة لما رأت ... بياضا أبهرجه بالخضاب
وقد صار شيبي بعد البياض ... محلولك اللون مثل الغراب
فهبك رددت سواد العذار ... فكيف تردّ زمان الشباب
ومنه:
أرى ظاهر الودّ الذي كان بيننا ... تقضّى وقد كانت به النفس تخدع
وغرّك ما غرّ السراب لذي الظما ... فلما أتاه خانه وهو يطمع
وهو شيخ شيخنا تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي ومخرّجه.
قال الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي، كان أبو محمد يقول: لو قلت إنه ليس بالعراق مقرىء إلا وقد قرأ عليّ أو على جدي، أو قرأ على من قرأ علي لظننت أنني صادق.
وأمّ بمسجد ابن جردة خمسا وخمسين سنة لم يسمع قط أطيب من صوته، ولا(4/1540)
أحسن على كبر سنّه. وكان لطيف الأخلاق، ظاهر الكيس والظرافة، حسن المعاشرة للعوام والخواص.
وقال الشيخ أبو الفرج: وقد رأيت جماعة من الأعيان ماتوا، فما رأيت أكثر جمعا من جنازته، وغلّقت الأسواق لأجله، ودفن عند جده أبي منصور الخياط بدكة الإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه.
ومن شعره:
أيها الزائرون بعد وفاتي ... جدثا ضمّني ولحدا عميقا
سترون الذي رأيت من المو ... ت عيانا وتسلكون الطريقا
وله أيضا:
أأنصحكم على أوفى يقيني ... وسوء الظن منكم يعتريني
إذا ما جئتكم لأداء نصح ... أتاني الغشّ منكم في الكمين
سأصبر ما حييت على أذاكم ... وأحفظ ودكم في كل حين
[663] عبد الله بن عيّاش المنتوف الهمداني الكوفي
كنيته أبو الجراح: حدث عن الشعبي وغيره، وروى عنه الهيثم بن عديّ فأوعب، وكان أحد أصحاب الأخبار ورواة الأنساب والأشعار مع دراية وفهم. وكان كيّسا مطبوعا صاحب نوادر. وكان ينتف لحيته، وكان أبرص. مات سنة ثمان وخمسين ومائة في السنة التي مات فيها أمير المؤمنين المنصور بالله.
كتب معن بن زائدة إلى المنتوف من اليمن: قد بعثت إليك بخمسمائة دينار، ومن ثياب اليمن بخمسين ثوبا أشتري بها دينك. فكتب إليه عبد الله: قد بعتك ديني كلّه ما خلا التوحيد لعلمي بقلّة رغبتك فيه؛ قال ابن عياش: فحدثت بها المنصور،
__________
[663]- هذه الترجمة من المختصر وانظر نور القبس: 264 وتاريخ الاسلام للذهبي 6: 214 وعبر الذهبي 1: 229 وميزان الاعتدال 2: 470 والوافي 17: 393 ولسان الميزان 3: 322 والشذرات 1: 243.(4/1541)
فما زال يضحك منها ويعجب لها.
قال ثعلب: كان ابن عيّاش المنتوف عالما بالمثالب والأنساب شاعرا هجاء، وكان يتقى لسانه، وكان ينتف لحيته كلما طالت. فقال المنصور له يوما: انظر إلى لحية عبد الله بن الربيع، ما أحسنها! فحلف ابن عياش أنه أحسن منه. فقال ابن الربيع: ما أجرأك على الله، أيها الشيخ. فقال: يا أمير المؤمنين: احلق لحيته، وأقمني إلى جنبه حتى ترى.
وقيل: إنه كان يطعن في الربيع الحاجب في نسبه طعنا قبيحا، ويقول له: فيك شبه من المسيح، يخدعه بذلك. فكان يكرمه لذلك، حتى أخبر المنصور بما قاله.
فقال له المنصور: إنه يريد أنه لا أب لك. فتنكّر له بعد ذلك.
وحدث ابن عياش أن رجلا أخذ من لحية عمر بن الخطاب، رضي الله عنه شيئا. فقال له: ليكن لسانك أطول من يديك.
قال رجل لابن عياش: لي إليك حاجة صغيرة؟ قال: اطلب لها صغيرا مثلها.
وحدث ابن شبرمة قال «1» : بكرت على أبي جعفر المنصور ذات يوم، وقد خرج عليه إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن فدخلت عليه في آخر الليل، فإذا ابن عياش المنتوف واقف، وهيلانة جاريته، فقال لها: يا لخناء، ما وراءك؟ قالت: يا أمير المؤمنين: إن هاتين العروستين اللتين جاء بهما إسحاق الأزرق من الكوفة:
الطلحية والتميمية، قد ساءت ظنونهما، وخبثت أنفسهما إذ لم يدعهما أمير المؤمنين فيبسط من آمالهما، وينظر في حوائجهما، فقال: أخسئي يا لخناء، لا والله، لا أطعم الطعام الطيب، ولا أشرب الشراب البارد حتى أعلم رأسي في يد إبراهيم، أو رأس إبراهيم في يدي. ثم التفت فلحظ ابن عياش يبتسم، فقال: ما هذا التبسّم، ويلك يا ابن عياش؟ فقال: يا أمير المؤمنين: ذكرت بيت الأخطل في عبد الملك بن مروان. قال: وما هو؟ قال: قوله «2» :(4/1542)
قوم إذا حاربوا شدّوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت بأطهار
قال: يا مسيّب، إذا خرج ابن عياش فادفع إليه درهمين.
وحدث ابن طاهر عن أبيه عن سلمان البرمكي قال: كان المنصور قد أخذ عهد عبد الله بن عياش بإعفاء لحيته، فلما كان اليوم الذي مات فيه المنصور جعل يصرخ عليه، وينتف لحيته، ويقول: وا أمير المؤمنيناه، حتى أتى عليها فهلبها.
قال المرزباني: لم يرو شيء من الشعر لابن عياش، بلى قوله في أخي أبي عمرو بن العلاء:
صحبت أبا سفيان ستين حجة ... خليلي صفاء ودّنا غير كاذب
فأمسيت لما حالت الأرض بيننا ... على قربه مني كمن لم أصاحب
وقيل: إن هذا الشعر لسلمة بن عياش القرشي البصري.
وحدث ابن عياش قال، قال لنا المنصور: أخبروني عن خليفة جبّار أول اسمه عين قتل ثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين. قال، فقلت له: عبد الملك بن مروان قتل عمرو بن سعيد بن العاص، وعبد الله بن الزبير، وعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث. قال: فخليفة أول أسمه عين فعل ذلك بثلاثة جبابرة أول أسمائهم عين، فقلت: أنت يا أمير المؤمنين، عبد الله بن محمد قتلت أبا مسلم، واسمه عبد الرحمن وقتلت عبد الجبار بن عبد الرحمن. قال: وأدركني ذهني، قلت:
وسقط البيت على عمك عبد الله بن علي فقتله. فضحك، وقال: ويلك، وما ذنبي إذا سقط البيت عليه فقتله «1» ؟ فسكت وكأني آنست منه لينا فقلت: أي والله، وهذا الآخر حائطه مائل عليه أريد عمده بشيء وإلّا خفت أن يسقط عليه البيت فيقتله أعني عيسى بن موسى عمّه «2» . فلما قلت: وحائطه مائل، تبسّم حتى كاد يغلبه الضحك، واستتر مني بكمّه، وتغافل كأنه لم يفهم ما قلت.(4/1543)
[664] عبد الله بن القاسم بن علي بن محمد بن عثمان
ابن صاحب المقامات المعروف بالحريري:
يكنى أبا القاسم، من أهل البصرة. سكن بغداد بباب المراتب. له حظ وافر من الأدب واللغة، مليح الخط، قليل الخطأ. مولده سنة تسعين وأربعمائة. مات [ ... ] «1» قال عبد الله بن القاسم: أنشدني والدي لنفسه:
لا تخطونّ إلى خطء ولا خطأ ... من بعد ما الشيب في فوديك قد وخطا
فأي عذر لمن شابت ذوائبه ... إذا جرى في ميادين الصّبا وخطا
[665] عبد الله بن كثير القارىء بن عمرو بن عبد الله
بن زاذان بن فيروزان بن هرمز: أحد القراء السبعة المشهورين. واختلفوا في كنيته، وأشهرها أبو معبد. مات بمكة سنة عشرين ومائة في أيام هشام بن عبد الملك. وكان واعظا يعظ الناس. وهو مولى عمرو بن علقمة الكناني، ويقال لابن كثير «الداري» ، لأنه كان عطارا، وقيل هو منسوب إلى بطن من لخم، منهم تميم الداري. والأول أصح.
واختلف العلماء في قراءة عبد الله بن كثير، فزعمت طائفه أنها موقوفة عليه لم يجاوزها إلى أحد، وقيل موقوفة على مجاهد بن جبر لم يجاوز بها أحدا فوقه، وقيل موقوفة على ابن عباس لم تتجاوزه، وقيل موقوفة على أبيّ بن كعب. وقيل: قرأ على
__________
[664]- هذه الترجمة من المختصر وانظر: إنباه الرواة 2: 126 والوافي 17: 406.
[665]- هذه الترجمة من المختصر وانظر تاريخ الإسلام للذهبي 4: 268 وسير الذهبي 5: 318 وعبر الذهبي 1: 152 ومعرفة القراء الكبار 1: 871 والفهرست: 31 وابن خلكان 3: 41 والوافي 17: 409 وتهذيب التهذيب 5: 367.
خلع نفسه من العهد ليجعل الخلافة بعده للمهدي، فامتنع عيسى فاعتقله في بيت من القصر ولا علم لي بذلك.(4/1544)
درباس عن ابن عباس، وأهل مكة تقول درباس خفيفة، وأهل الحديث يقولون:
درّباس، مشددة. وقيل: قرأ على درباس عن مجاهد عن ابن عباس عن أبيّ عن النبي، صلى الله عليه وسلّم. وقرأ أبو عمرو ابن العلاء وعيسى بن عمر والخليل بن أحمد وحماد بن سلمة وحماد بن زيد البصري على ابن كثير. وكان إمام أهل مكة وقارئهم، وكان يبيع العطر قديما، وأهل مكة يسمون العطار الداريّ. وقيل: سمي داريا نسبة إلى دارين. وقيل: سمّي داريا من الدراية، لأنه كان عالما. وقيل: سمّي داريا لمقامه في داره بجدّة وطاعة ربه «1» .
وقيل: إنه تصدق بماله مرارا.
وكان يؤم بالصلوات الخمس بالمسجد الحرام. وكان إذا أراد أن يقرىء أصحابه جمعهم ووعظهم، ثم أخذ عليهم بعد ذلك. وكان يقول: إنما أفعل ذلك حتى يقدموا على قراءة كتاب الله بقلوب خاشعة، وأنفس خاضعة، وأعين دامعة.
وقد نظم بعض الشعراء أسماء القراء السبعة:
يحلّي كتاب الله في الأرض سبعة ... مصابيح أنوار كرام سمادع
عليّ وعبد الله منهم وعاصم ... وحمزة وابن للعلاء ونافع
وقد جمعهم أيضا محمد بن الحسين البرياني، فقال:
ألا إن قرّاء الأئمة سبعة ... بهم يهتدي في الذكر كلّ كبير
عليّ أبو عمرو وحمزة عاصم ... ونافع عبد الله وابن كثير
أنشد عنه ما كان يقوله في ذم نفسه حين سأله أهل مكة أن يقرئهم القرآن:
بنيّ كثير كثير الذنوب ... ففي الحلّ والبلّ من كان سبّه
بنيّ كثير دهته اثنتان ... رياء وعجب يخالطن قلبه
بنيّ كثير أكول نؤوم ... وليس كذلك من خاف ربّه
بنيّ كثير تعلّم علما ... لقد أعوز الصوف من جزّ كلبه(4/1545)
[666] عبد الله بن أبي مالك القيسي الصقلي، أبو المصيب:
أحد رجال اللغة والعربية المطابيع في أجناس القريض، العالمين بالأوزان والأعاريض، فمنه قوله:
غلط الذي سمّى الحجارة جوهرا ... إن الكريم أحقّ باسم الجوهر
إن الجواهر قد علمت صوامت ... والمرء جوهره جميل المحضر
[667] عبد الله بن محمد بن هارون التوّزي:
ويقال التوجي، أبو محمد، مولى قريش. وإنما قيل له التوزي لنزوله في أصحاب التوزي بالبصرة. مات سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
أخذ عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد. وهو من أكابر أهل اللغة. قرأ على أبي عمر الجرمي كتاب سيبويه، وكان في طبقته في غير ذلك من العلوم. قال المبرد: كان التوزي أعلم من الرياشي والمازني.
حدث محمد بن يزيد المبرد، قال «1» : قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير بن الخطفى، وأبو محمد التوّزي حاضر، كلمة جرير التي أولها:
طرب الحمام بذي الأراك فشاقني ... لا زلت في فنن وأيك ناضر
__________
[666]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر معرفة القراء الكبار 1: 188 وعبر الذهبي 2: 134 والوافي 17: 417 وطبقات ابن الجزري 1: 445 والشذرات 2: 251 (وهذه الترجمة تطابق تماما ما أورده الصفدي) .
[667]- هذه الترجمة من المختصر وانظر أخبار النحويين البصريين (صفحات متفرقة) ومراتب النحويين: 69، 122 ونور القبس: 215 والفهرست: 63 وطبقات الزبيدي: 99 ونزهة الألباء: 119 وإنباه الرواة 2: 126 والوافي 17: 521 وبغية الوعاة 2: 61.(4/1546)
حتى صرت إلى قوله:
أما الفؤاد فلا يزال موكّلا ... بهوى حمامة أو بريّا العاقر
قال عمارة للتوّزي: ما يقول صاحبكم، يعني أبا عبيدة، في حمامة والعاقر؟
قال التوزي: يقول: إنهما امرأتان. فضحك عمارة، ثم قال: هما والله رملتان عن يمين بيتي وشماله. فقال لي التوزي: اكتب ما قال، قال: فتوقفت إجلالا لأبي عبيدة، فقال: اكتب، فإن أبا عبيدة لو حضر لأخذ هذا الضرب عنه [هذا بيت الرجل] «1» .
قال خالد النجاد يهجو التوجي:
يا من يزيد تمقّتا ... وتباغضا في كلّ لحظه
والله لو كنت الخلي ... ل لما كتبنا عنك لفظه
وحكى المبرد قال: سألت التوجي عن معنى قول العامة: تغافل واسطية، وتغافل كأنك واسطيّ، فقال: أصل ذلك أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان: إني قد بنيت لك مدينة في كرش، وكان يصابح الواحد إذا دخل البصرة بالرشا، فيتغافل ولا يلتفت.
وأنشد لفضل الرقاشي «2» :(4/1547)
[668] عبد الله بن محمد، أبو العبّاس الناشىء
الشاعر المتكلّم المعروف بابن شرشير: أصله من الأنبار وسكن مصر وبغداد، وهو معدود في طبقة البحتري وابن الرومي، وله قصيدة نحو من أربعة آلاف بيت فيها فنون من العلم وهي على رويّ واحد وقافية واحدة. (قال ياقوت في «معجم الأدباء» ) : وقد قرأت بعض كتبه فدلّتني على هوسه واختلاطه لأنّه أخذ نفسه بالخلاف على أهل المنطق والشعر والعروضيّين وغيرهم، ورام أن يحدث لنفسه أقوالا ينقض بها ما هم عليه، فسقط في بغداد فلجأ إلى مصر وأقام بها بقيّة عمره إلى أن مات سنة ثلاث وتسعين ومائتين. قيل إنّ سبب موته كان عجبا، وهو أنّه كان في جماعة على شراب فجرى ذكر القرآن وعجيب نظمه فقال ابن شرشير: كم تقولون؟! لو شئت ... وتكلّم بكلام عظيم فأنكروا عليه ذلك فقال: إيتوني بقرطاس ومحبرة فأحضر له ذلك فقام ودخل بيتا فانتظروه، فلمّا طال انتظاره قاموا ودخلوا إليه فإذا القرطاس مبسوطا وإذا الناشىء فوقه ممتدّا فحرّكوه فإذا هو ميّت.
وكان السبب في تلقّبه بالناشىء أنّه دخل مجلسا فيه أهل الجدل فتكلّم فأحسن على مذهب المعتزلة فجوّد وقطع من ناظره فقام شيخ منهم فقبّل رأسه وقال: لا أعدمنا الله مثل هذا الناشىء أن يكون فينا فينشأ في كلّ وقت لنا مثله، فاستحسن أبو العباس هذا الاسم وتلقّب به.
ومن شعره:
بكت للفراق وقد راعني ... بكاء الحبيب لبعد الديار
كأنّ الدموع على خدّها ... بقيّة طلّ على جلّنار
__________
[668]- صرح الصفدي (الوافي 17: 522) أنه ينقل في ترجمة الناشىء الأكبر عن ياقوت، وانظر مراتب النحويين: 85 والفهرست: 217 وتاريخ بغداد 10: 92 والمنتظم 6: 57 وإنباه الرواة 2: 128 وابن خلكان 3: 91 وعبر الذهبي 2: 95 وسير الذهبي 14: 40 والبداية والنهاية 11: 101 وطبقات المعتزلة: 92 ولسان الميزان 3: 334 والنجوم الزاهرة 3: 158 وحسن المحاضرة 1: 559 والشذرات 2: 214 والترجمة المثبتة هنا عن الوافي للصفدي.(4/1548)
وله في داود بن عليّ الظاهري «1» :
أقول كما قال الخليل بن أحمد ... وإن قست بين اللفظ واللفظ في الشعر
عذلت على ما لو علمت بقدره ... بسطت مكان اللوم والعذل من عذري
جهلت ولم تدر بأنّك جاهل ... فمن لي بأن تدري بأنك لا تدري
وقال:
أشدد يديك بمن تهوى فما أحد ... يمضي فيدرك حيّ بعده خلفا
واستعتب الحرّ إن أنكرت شيمته ... فالحرّ يستأنف العتبى إذا أنفا
من ذا الذي نال حظّا دون صاحبه ... يوما فأنصفه في الودّ وانتصفا
قال محمد بن خلف بن المرزبان: اجتمع عندي أحمد بن أبي طاهر والناشىء ومحمد بن عروس، فدعوت لهم مغنية فجاءت ومعها رقيبة لم ير الناس أحسن منها، فلمّا شربوا أخذ الناشىء رقعة وكتب فيها:
فديتك لو أنّهم أنصفوك ... لردّوا النواظر عن ناظريك
تردّين أعيننا عن سواك ... وهل تنظر العين إلا إليك
وهم جعلوك رقيبا علينا ... فمن ذا يكون رقيبا عليك
ألم يقرأوا ويحهم ما يرون ... من وحي حسنك في وجنتيك
وقال الناشىء يصف أصحابه:
ولو شهدت مقاماتي وأنديتي ... يوم الخصام وماء الموت مطّرد
في فتية لم يلاق الناس مذ وجدوا ... لهم شبيها ولا يلقون إن فقدوا
مجاور والفضل أفلاك العلا سبل الت ... قوى محلّ الهدى عمد النهى الوطد
كأنهم في صدور الناس أفئدة ... تحسّ ما أخطأوا فيها وما عمدوا
يبدون للناس ما تخفي ضمائرهم ... كأنهم وجدوا منها الذي وجدوا(4/1549)
دلّوا على باطن الدنيا بظاهرها ... وعلم ما غاب عنهم بالذي شهدوا
مطالع الحقّ ما من شبهة غسقت ... إلا ومنها لديهم كوكب يقد
ومن شعر الناشىء:
وشادن ما تولّى وصفه أحد ... إلا تلجلج في الوصف الذي وصفا
يلوح في خدّه ورد على زهر ... يعود من حسنه غضّا إذا قطفا
لا شيء أعجب من جفنيه إنهما ... لا يضعفان القوى إلا إذا ضعفا
[669] عبد الله بن محمد بن علي بن الحسن بن علي
الميانجي أبو المعالي، من أهل خراسان: يعرف بعين القضاة.
كان جدّه علي بن الحسن قاضي همذان واستشهد بها. وحفيده عين القضاة عبد الله كان له فضل وفقه فإنه كان بليغا شاعرا متكلما، تمالأ عليه أعداء له فقتل صبرا (كما ذكرنا في كتابنا أخبار الأدباء) سنة خمس وعشرين وخمسمائة.
وقال فيه ابن السمعاني: أحد فضلاء العصر ومن يضرب به المثل في الذكاء والفضل، وكان يميل إلى الصوفية ويحفظ من كلامهم وإشاراتهم ما لا يدخل تحت الوصف. صنف في فنون من العلم، وكان حسن الكلام والجمع فيها.
قال: وكان الناس يعتقدونه ويتبركون به، وظهر له القبول التام عند الخاص والعام حتى حسد وأصابته عين الكمال، وكان العزيز يعتقد فيه اعتقادا خارجا عن الحد ولا يخالفه فيما يشير به، وكانت بينه وبين أبي القاسم الوزير الدركزيني منافسة، فلما نكب العزيز قصده الوزير وكتب عليه محضرا والتقط من أثناء تصانيفه ألفاظا شنيعة تنبو عن الاسماع، ويحتاج في كشفها إلى المراجعة لقائلها، فكتب جماعة من العلماء
__________
[669]- عين القضاة الميانجي: ذكره ياقوت في مادة «ميانة» من معجم البلدان وأحال على كتابه «أخبار الأدباء- يعني هذا المعجم؛ وترجم له ابن الفوطي في تلخيص مجمع الآداب 4/2: 1130 والبيهقي في تاريخ الحكماء: 123 وطبقات السبكي 7: 128 ومرآة الجنان 3: 244 وطبقات الاسنوي 2: 405 والوافي 17: 541 ولسان الميزان 4: 411 والشذرات 4: 75 وهذه الترجمة من معجم البلدان ولسان الميزان.(4/1550)
خطوطهم بإباحة دمه، فقبض عليه أبو القاسم وحمل إلى بغداد مقيدا ثم ردّ إلى همذان وصلب بها في اليوم السابع من جمادى الآخرة من السنة المذكورة.
قال: وسمعت أبا القاسم محمود بن أحمد الروياني بأندرابه يقول: لما قرب قتل عين القضاة وقدم إلى الخشبة ليصلب قال: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وله رسالة كتبها من بغداد إلى أصحابه وإخوانه بهمذان، لو قرئت على الصخور لانصدعت من الرقة والسلاسة.
ومن شعر عين القضاة:
أقول لنفسي وهي طالبة العلا ... لك الله من طلابة للعلا نفسا
أجيبي المنايا إن دعتك إلى الردى ... إذا تركت للناس ألسنة خرسا
ومنه:
فما خدع الأجفان بعدك غفوة ... ولا وطىء الأجفان قبلك أدمع
ومن تصانيفه: الرسالة العلائية. وأمالي الاشتقاق. والبحث عن معنى البعث.
وكتاب زبدة الحقائق خلط فيه كلام الصوفية بكلام الحكماء. ومقدمة في الحساب الهندي. وغير ذلك.
[670] عبد الله بن محمد بن علي بن محمد
بن عبد الله أبو القاسم الملقب بالكامل: خوارزمي الأصل، وهو من أهل زاوطا في بلاد واسط، ولد بها وقرأ الأدب على أبيه وعلى أبي سعد أحمد بن علي بن الموصلية، وحدث بواسط سنة خمسمائة، وقدم بغداد سنة عشر وخمسمائة، وروى بها شيئا من شعره وتصانيفه. وكان معاصرا لأبي محمد الحريري صاحب المقامات، وكان عنده قوة في البلاغة فاخترع أن عمل
__________
[670]- ترجمة الكامل الخوارزمي في ابن الفوطي (5: 88 ط. لاهور) نقلا عن ياقوت، وانظر إنباه الرواة 2: 136 والوافي 17: 541 وتاريخ ابن الدبيثي وترجم له العماد في الخريدة وأورد مقتطفات كثيرة من رحله، ونقل الدكتور مصطفى جواد بعض ترجماته في الضائع: 44 (رقم: 14) وهذه الترجمة من ابن الفوطي.(4/1551)
كتابا سماه «الرحل» وهي ست عشرة رحلة، أهداها إلى هبة الله بن الفضل بن صاعد بن التلميذ في سنة اثنتين وخمسمائة، بنى كل رحلة منها على حادثة تمت ونادرة اتفقت له أو لوالده.
فمن رحله «1» :
«وصية لكل لبيب، متيقظ أريب، عالم أديب، يكره مواقف السقطات، ويتحفظ من مصادف الغلطات، ويتلطف من مخزيات الفرطات، أن يدّعي دون مقامه، ويقتصر من تمامه، ويغضّ من سهامه، ويظهر بعض شكيمته، ويساوم بأيسر قيمته، ويستر كثيرا من بضاعته، ويكتم دقيق صناعته، ولا يبلغ غاية استطاعته، وأن يعاشر الناس بصدق المناصحة، وجميل المسامحة، وأن لا يحمله الاعجاب بما يحسنه، على الازراء بمن يستقرنه، والافتراء على من يعترضه ويلسنه، ليكون خبره أكثر من خبره، ونظرته أروع من منظره، ويكون أقرب من الاعتذار، وأبعد من الخجلة والانكسار:
فليس الفتى من قال إني أنا الفتى ... ولكنه من قيل: أنت كذلكا
وكم مدّع ملكا بغير شهادة ... له خجلة إن قيل أن لست مالكا
ولقد نصرت بالاتضاع، على ذي نباهة وارتفاع، وذلك أني أصعدت في بعض الأعوام، مع جماعة من العوام، بين تاجر وزائر، إلى الغريّ والحائر، حتى انتهينا إلى قرية شارعة، آهلة زارعة، وما منا إلا من أملّته السميريّة فأغرضته، وأسقمته وأمرضته، وفترته فقبضته، وكثر منا الجؤار، واستولى علينا الدّوار، فخرجنا منها خروج المسجون، وقد تقوسنا تقوّس العرجون، فاسترحنا بالصعود، من طول القعود:
كأننا الطير من الأقفاص ... ناجية من أحبل القنّاص
طيّبة الأنفس بالخلاص ... منفّضات الريش والنواصي(4/1552)
فما استتمت الراحة، ولا استقرت بنا الساحة، حتى وقف علينا واقف، وهتف بنا هاتف: أيّكم الخوارزمي؟ فقالوا له: ذلك الغلام المنفرد، والشاب المستند، فأقبل إليّ، وسلّم عليّ، وقال: إن الناظر يستزيرك، فليعجل إليه مصيرك، فقمت معه، يتقدّمني وأتبعه، حتى انتهى بي إلى جلّة من الرجال، ذوي بهاء وجلال، وزينة وجمال، من أشراف الأمصار، وأعيان ذوي الأخطار، من أهل واسط وبغداد، والبصرة والسواد:
ترى كلّ مرهوب العمامة لاثما ... على وجه بدر تحته قلب ضيغم
فقام إليّ ذو المعرفة لاكرامه، وساعده الباقون على قيامه، وأطال في سؤاله وسلامه، وجذبوني إلى صدر المجلس فأبيت، ولزمت ذناباه واحتبيب، وأخذوا يستخبرونني عن الحال، والمعيشة والمال، وداعية الارتحال، وعن النية والمقصد، والأهل والولد، والجيران والبلد:
وما منهم إلا حفيّ مسائل ... وواصف أشواق ومثن بصالح
ومستشفع في أن أقيم لياليا ... أروح وأغدو عنده غير بارح
ثم قال قائلهم: هل لقيت عين الزمان وقلبه، ومالك الفضل وربّه، وقليب الأدب وغربه، إمام العراق، وشمس الآفاق؟ فقلت: ومن صاحب هذه الصفة المهولة، والكناية المجهولة؟
فقالوا: أو ما سمعت بكامل هيت، ذي الصوت والصيت؟
ذاك الذي لو عاش [قس] إلى ... زمانه ذا وابن صوحان
وابن دريد وأبو حاتم ... وسيبويه وابن سعدان
وعامر الشعبيّ وابن العلا ... وابن كريز وابن صفوان
قالوا محاب كلهم: إنه ... سيدنا. إذ قال: غلماني
فقلت لهم: قد قلّدتم المنّة، وهيجتم الحنّة، إلى لقاء هذا العالم المذكور، والسيد المشهور، وقد كانت الرياح تأتيني بنفحات هذا الطّيب، وهدر هذا الخطيب.
فالآن لا أثر بعد عين، سأصبح لأجله عن سرى القين، اغتناما للفائدة، والنعم(4/1553)
الباردة، ووجدانا للضالة الشاردة:
أين أمضي وما الذي أنا أبغي ... بعد إدراكي المنى والطّلابا
فإذا ما وجدت عندكم العلم ... قريبا فما أريد الثوابا
اذهبوا أنتم فزوروا عليا ... لأزور الهيتيّ والآدابا
لن أبالي إن قيل [إن] الخوارز ... ميّ أخطا [في] فعله أو أصابا
فقالت الجماعة: بل أصبت، ووجدت ما طلبت، وقديما كنّا ننشر أعلاقك، ونتمنى اتفاقك، ونتداول أوصافك، ونحبّ مضافك، ونكبر لديه ذكرك، ونعظّم لديه قدرك، فيتحرك منك ساكنه، وتتقلقل بك أماكنه، ونسأل الله- سبحانه- أن يجمع بينك وبينه بمحضرنا، وتلامح عينك عينه بمنظرنا، ويلتفّ غبارك بغباره، ويمتزج تيارك بتياره، ويختلط مضمارك بمضماره، فيعرف منكما السابق والسّكيت، والسّوذانق والكعيت، ويتبين من الذي يحوي القصب، فانكما كما قال الشاعر:
هما رمحان خطيّان كانا ... من السّمر المثقّفة الصعاد
تهال الأرض أن يطئا عليها ... بمثلهما نسالم أو نعادي
فقلت: لقد تنكبتم الانصاف، وأخطأتم الاعتراف، وأبعدتم القياس، وأوقعتم الالتباس، أين ابن ثلاثين إلى ابن ثمانين، وابن اللبون، من البازل الأمون؟ والرمح الرازح، من الجواد القارح؟ والكودن المبروض، من المجرّب المروض:
وابن اللّبون إذا ما لزّ في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس
كيف لربيب بطائح وسباخ، وساكن صرائف وأكواخ، بين يديه سوادية أنباط، وعلوج أشراط، ورعاع أخلاط، وسفل سقاط، في بلدة إن رأيت سورها، وعبرت جسورها، صحت واغربتاه، وإن رأيت وجها غريبا ناديت: وا أبتاه. لا أعرف غير النبطية كلاما، ولا ألفي سوى والدي إماما، في معشر ما عرفوا الترحال، ولا ركبوا السروج والرحال، ولا فارقوا الجدار والظلال:
أولئك معشر كبنات نعش ... خوالف لا تغور مع النجوم(4/1554)
بمصاولة رجل جوّال، رحّال حلال، بهيت وضع، وبالكوفة أرضع، وببغداد أثغر، وبواسط أحفر، وبالحجاز وتهامة فطامه، وبمصر والمغرب كان احتلامه، وبنجد والشام بقل عارضه، وباليمن وعمان قويت نواهضه، وبخراسان بلغ أشدّه، وببخارى وسمرقند تناهى جدّه، وبغزنة والهند شاب واكتهل، ومن سيحون وجيحون علّ ونهل، وبميسان والبصرة عوّد وقرح، وبالجبال جله وجلح، فهو يعدّ المازني إمامه، وابن جني غلامه، والمتنبي من رواته، والمعرّي حامل دواته، والصابي باري قلمه، والصاحب رافع علمه، وابن مقلة من ناقلي غاشيته، وابن أبي حفصة بعض حاشيته، وقد قرأ الكتب وتلاها، وحفظ العلوم ورواها، ودرس الآداب ووعاها، ودوّن الدواوين وألّفها، وأنشأ الحكم وصنفها، وفصّل المشكلات وشرحها، وارتجل الخطب ونقحها، فهو البحر المورود، والامام المقصود، والعلم المصمود، هذا بون بعيد ومرتقى شديد:
أتلقون بالأعزل الرامحا ... وبالأكشف الحاسر الدارعا
وبالكودن السابق السابحا ... وبالمنجل الصارم القاطعا
فما استتم كلامنا حتى أقبل، فإذا نحن به قد طلع مهرولا، وأقبل مستعجلا، فرأيت رجلا أجلح، أهتم أفلح، أفطح أردح، طويلا عنطنط، يحكي ذئبا أمعط، أخمع أخبط، فتلقوه معظمين، وله مفخمين، فقصد من المجلس صدره، وأسند إلى المخدة ظهره، فما استقر به المكان حتى قيل له: هذا فلان. فقبض من أنفه، ونظر إليّ بشطر من طرفه، وقال ببعض فيه: هلموا ما كنتم فيه، تعسا للشوهاء وجالبيها، والقرعاء وحالبيها.
قد جاء زيد مجرّرا رسنه ... فحل فلا تمنعنّه سننه
أحبه قومه على شوه ... إن القرنبى في عين امّها حسنه
[فقال] : كان لنا شيخ بالأنبار، كثير الأخبار، قد بلغ من العمر أملاه، ومن السنّ أعلاه، قرأت عليه جميع الكتاب، وعلم الأنساب، ومسائل ابن السرّاج، وديوان العجاج، وكتاب الاصلاح، وشروح الإيضاح، وشعر الطرماح، والعين للفرهودي، والجمهرة للأزدي. وأكثر من [ذكر] المصنفات، المجهولات(4/1555)
والمعروفات، ينفخ في شقاشقه، ويزبد في بقابقه، ويتعاظم في مخارقه. وجعل القوم يقسمون بيننا الألحاظ، ويحسبون الألفاظ، وما منهم إلا من اغتاظ لسكوتي وكلامه، وتأخري وإقدامه. ثم هذى الشيخ إذ وصف له رجل على الغيب ثم رآه، فاحتقره وازدراه، وأنشد متمثلا:
لعمر أبيك تسمع بالمعيدي ... بعيد الدار خير أن تراه
فقال: هذا المعيدي هو ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم بن مرّة بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. والمعيديّ تصغير معدي وهو الذي قالت فيه نادبته:
أنعى الكريم النهشلي المصطفى ... أكرم من خامر أو تخندفا
فقلت: ما بعد هذا المقال، وجه للاحتمال، وما يجب لي بعد هذه المواقحة، غير المكافحة، ولم يبق لي بعد المغالبة، من مراقبة.
ما علتي وأنا جلد نابل ... والقوس فيه وتر عنابل
تزلّ عن صفحته المعابل ... ما علّتي وأنا [رجل] جلد
والقوس فيه وتر عردّ ... مثل ذراع البكر أو أشدّ
فعطفت عليه عطف الثائر العاسف، والتفتّ إليه التفات الطائر الخاطف، فقلت له: يا أخا هيت، قد قلت ما شيت، فأجب الآن إذ دعيت، والزم مكانك، وغض عنانك، وقصّر لسانك، إنّ نادبة ضمرة خندفته، لما وصفته، وما سمعت في نسبتك إياه لخندف ذكرا، فأبن عن ذلك عذرا. فقال: إن خندف هي امرأة الياس بن مضر غلبت على بنيها، فنسبوا إليها، كطهيّة ومزينة، وبلعدوية وعرينة، والسلكة وجهينة، وندبة وأذينة، وكشبيب بن البرصاء، وابن الدّعماء. فقلت له: سئلت، فأجبت وأصبت، فأخبرني عن خندف هل هو اسم موضوع؟ فوقف عند ذلك حماره، وخمدت ناره، وركد جريانه، وسكن هذيانه، وفتر غليانه، وظهر حرانه، وذلّ وانقمع، وانطوى واجتمع، فاضطره الحياء، وألجأه الاستخذاء إلى أن قال وهو(4/1556)
يخفي لفظه، ويطرق لحظه: أظنّه لقبا. فقلت: هو كما ظننت فما معناه وما سببه؟
وكيف كان موجبه. فلم يجد بدا من أن يقول: لا أدري فقال وقد أذقته مرّ الاماتة، وأحسّ من القوم بتظاهر الشماتة:
وودّ بجدع الأنف لو أن صحبه ... تنادوا وقالوا في المناخ له قم
ثم أقبلوا إليّ، وعكفوا عليّ، بأوجه متهلّلة، وألسنة متوسلة، في شرح الحال، والقيام بجواب السؤال. فقلت: هذا بديع عجيب، أنا أسأل وأنا أجيب، إن إلياس بن مضر تزوج ليلى بنت ثعلبة بن حلوان بن الحاف بن قضاعة بن معدّ (في بعض النسب) ، فولد له منها: عمرو وعامر وعمير، ففقدهم ذات يوم، فألحى على ليلى باللوم، فقال: اخرجي في أثرهم، وأتيني بخبرهم، فأمعنت في طلبهم، وعادت بهم، فقالت: ما زلت أخندف في اتباعهم، حتى ظفرت بلقائهم، فقال لها إلياس: أنت خندف. والخندفة في الاتباع، تقارب الخطو في إسراع، وقال عمرو:
يا أبتي أنا أدركت الصيد فلويته. فقال له: أنت مدركة، إذ حويته، وقال عامر: أنا طبخته وشويته، فقال: أنت طابخة إذ شويته، فقال عمير: أنا انقمعت في الخباء، فقال له: أنت قمعة للاختباء، فلصقت بها وبهم هذه الألقاب، وجرت بها إليهم الأنساب. فقال حينئذ: هذا علم استفدته، وفضل استزدته، وقد قال الحكيم:
مذاكرة ذوي الألباب، نماء في الآداب، فقلت له متمثلا:
أقول له والرمح يأطر متنه ... تأمّل خفافا إنني أنا ذالكا
ثم لم يحتبس إلا قليلا، ولم يمسك طويلا، حتى عاد إلى هديره، وأخذ في تهذيره، طمعا بأن يأخذ بالثار، ويعود الفصّ له في القمار، فعدل عن العلوم النسبية، وجال في ميدان العربية، ولم يحسّ أن باعه فيها أقصر، وطرفه دون حقائقها أحسر، فقال: حضرت يوما حلبة من حلبات العلوم، وموسما من مواسم المنثور والمنظوم، وقد غصّ بكل خطيب مصقع، وحكم مقنع، وعالم مصدع، ومليء من كل عتيق صهّال، وفنيق صوّال، ومنطبق جوال، فأخذوا في فنون المعارضات، وصنوف المناقضات، وسلكوا في معاني القريض، كل طويل عريض، حتى أخذ السائل منهم بالمخنّق، بيت [الفرزدق] :(4/1557)
وعضّ زمان يا ابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلّف
فكثر فيه الجدال، وطال المقال، وما منهم أحد إلا أجاد القياس، وأصاب القرطاس، ووقع على الطريق وأتى بالتحقيق، فلما رأيتهم في غمرتهم ساهون، وفي ضلالتهم يعمهون، ناديتهم إليّ فأرعوا، ومنّي فاسمعوا، فإني أنا ابن بجدتها، وعالم ما تحت جلدتها، ثم إني أبديت لهم سراره، وأثقبت ناره، وحللت عقده، ومخضت زبده، وأطرت لبده، وبجست حجره، وأبثثتهم عجره وبجره، فقالوا: لله أبوك، فانك أسبقنا إلى غاية، وأكشفنا لغياية، وأجلانا لشبهة، وأضوأنا في بدهة، وما أعلم اليوم على ظهرها من يقوم بعلم ما فيه، ويطلع على خافيه. فأدركني الامتعاض، وأخذني الانتفاض، فأنشدته:
من ظن أن عقول الناس ناقصة ... وعقله زائد أزرى به الطمع
وقلت له: ادعيت، فوق ما وعيت، فأخبرني عن أول هذا البيت، يا مجري الكميت، وكيف ننشده: وعضّ، بالفتح أو: وعضّ، بالضمّ، فقال: كلاهما مرويّ. فقلت: نبتدىء بالفعل ثم نعود إلى الاسم يا ذا الاعجاب، تهيأ للسائل في الجواب، وأخبرني لم فتحت آخر الماضي؟ فأسرع من غير التغاضي، وقال: لأنه مبني عليه، لا يضاف سواه إليه. فقلت: هذا جواب نعلمه، ومن صبيان المكتب لا نعدمه، وإنما ألتمس منك الفائدة فيها، وأطلب كشف خافيها، فقال: ما جاء عن أئمة النحاة، وسائر الرواة في هذا غير ما شرحته، ولا زاد على ما أوضحته، فقلت: دع عنك هذا وأخبرني عن هذا البناء ألعلّة أم لغيرها؟ فأقبل يتردد ويتزحزح، ويتثاءب تارة ويتنحنح، فلما سدّ عليه من طريقه، وحصل في مضيقه، وغصّ بريقه، قال: لا أعلم. فقالت الجماعة: أعذر إليك من ألقى سلاحه، وغضّ جماحه، ومن أدبر بعد إقباله، عدل عن قتاله:
والحق أبلج لا يحدّ سبيله ... والحق يعرفه ذوو الألباب
والآن فقد فازت قداحك، وبانت غررك وأوضاحك، وأجدت النضال، وأدركت الخصال، فأوضح لنا عما سألت، وأرشدنا إلى ما دللت، لئلا يقال: هذا بهت، ومحال بحت، فقلت: حبا وكرامة، اسمع أنت يا طغامة، إن الفعل من(4/1558)
فاعله، كالولد من ناجله، لا يخلو الفعل من علامة الفاعل، في لفظ كل قائل، وهي الفتحة من ماضيه وواقعه، والزوائد في مستقبله ومضارعه، وبيان ذلك أن الفتحة من ماضيه لا تكون مع التاء والنون تقول: أخرج فتثبت الفتحة، ثم تقول: أخرجت وأخرجنا، فيسقط ما ذكرنا، وعلامتان لمعنى محال، لا يوجبهما الحال، فإن كانت النون التي مع الألف ضمير المفعول عادت الفتحة، فتقول: أخرجنا الأمير، فهذا بيّن منير. فصفقت الجماعة وشمحت، وحسّنت وبخبخت، وجعل الأديب يضطرب اضطراب العصفور، ويتقلب تقلب المصغور، متيقنا أنّ أسده صار جرذا، وبازيه عاد صردا، ودرره انقلبت مخشلبا، وزيتونه تحوّل غربا، وقناه تغيّر قصبا، وأن مستقيمه تعوّج، وجيده تبهرج، وصحيحه تدحرج، وجديده تكرّج، فقال منشدهم:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ... وتحت ثيابه أسد مزير
ويعجبك الطرير فتبتليه ... فيخلف ظنك الرجل الطرير
فما عظم الرجال لهم بفخر ... ولكن فخرهم كرم وخير
فأخذه الإبلاس، وضاقت به الأنفاس، وسكنت منه الحواس، ورفضه الناس، وجعل ينكت الأرض، ويواصل بكفّه العضّ، ويتشاءم ببومه، ويعود على نفسه بلومه، يمسح جبينه، ويكثر أنينه، فقمت فقامت معي الجماعة وتركته، واستهانت به وفركته، فلما بقي وحده، تمنّى لحده، وأسبل دمعته، وود أن الأرض بلعته:
وكان كمثل البوّ ما بين روّم ... تلوذ بحقويه السّراة الأكابر
فأصبح مثل الأجرب الجلد مفردا ... طريدا فما تدنو إليه الأباعر
فقام فتبعني، ووقف وودّعني، وأطال الاعتذار، وأظهر التوبة والاستغفار، وقال: مثلك من ستر الخلل، وأقال العثرة والزلل، فقد اغتررت من سنك بالحداثة، ومن أخلاقك بالدماثة. فقلت: كل ذلك مفهوم معلوم، وأنت فيه معذور لا ملوم، وما جرى بيننا فهو منسيّ غير مذكور، ومطوي غير منشور، ومخفيّ غير مشهور:
[وجدال] أهل العلم ليس بقادح ... ما بين غالبهم إلى المغلوب
ثم سكت فما أعاد، ونزلت وعاد، وكان ذلك أول عهد به وآخره، وباطن لقاء وظاهره، وكلّ اجتماع وسائره.(4/1559)
ومن شعره غير ما أودعه رحله:
أطاع الهوى فاستعبدته المطامع ... ومالت به له نحو الحبيب النوازع
وكان تمادي البعد أنساه وجده ... فهيج ذكراه الحمام السواجع
نوائح يبكي شجوها كلّ سامع ... لهن وإن لم تجر منها المدامع
كتمت الهوى ما اسطعت فازداد كثرة ... بقلبي حتى لم تسعه الأضالع
فواكبدي ما لي أحنّ إلى الصّبا ... وهيهات ما عهد الصّبا لي راجع
وإن أك قد ناهزت سبعين حجة ... فقلبي في طبع الصبابة يافع
يغيّر مرّ الدهر أجسام أهله ... وتبقى على حالاتهن الطبائع
وقوله:
رب ليل فريت فروته ... أحسبه وهو بارد بارد
على سناء سناء كلكلها ... عند الونى مثل ساعد ساعد
وما افتقرت المطيّ مفتقرا ... عمري وما كل واجد واجد
إن تنكري يا قتيل قتلك لي ... فلي على ذاك شاهد شاهد
تغيير لوني ولمتي شهدا ... أن الذي طلّ عامد عامد
أقول إذ زارني وودعني ... قل لي متى أنت عائد عائد
[671] عبد الله بن محمد بن الحسين بن ناقيا أبو القاسم
الأديب الشاعر اللغوي:
__________
[671]- يرد اسمه تارة عبد الله وتارة عبد الباقي وتارة عبد العزيز، وقال ياقوت في ترجمة علي بن سليمان من هذا المعجم: ومن مليح ما أسمعنيه أنه قال سألنا أبا القاسم عبد العزيز بن أحمد بن ناقيا البغدادي ... ثم علق على ذلك بقوله: «هكذا قال- عبد العزيز- وصوابه عبد الله- ذكرناه في بابه من هذا الكتاب» وهذا يقطع بأنه ترجم له؛ وقد وردت ترجمته في تاريخ ابن الدبيثي والوافي للصفدي (18: 16) وذكره في عبد الله 17: 472 والمنتظم 9: 68 وانباه الرواة 2: 133 وابن خلكان 3: 98 وميزان الاعتدال 2: 533 والجواهر المضية 1: 283 ولسان الميزان 3: 335 وتاج التراجم: 39 وبغية الوعاة 2: 67 وتاريخ الذهبي (وفيات: 485) وقد طبع من كتبه الجمان في تشبيهات القرآن بتحقيق عدنان زرزور ورضوان الداية الكويت 1968.(4/1560)
كان يعرف بالبندار وتوفي ليلة الأحد رابع محرم سنة خمس وثمانين وأربعمائة ببغداد ودفن في مقابر باب الشام، ومولده في ذي القعدة سنة عشر وأربعمائة.
وقد صنف عدة كتب منها ملح الممالحة. وأغاني المحدثين. وملح المكاتب.
وتفسير فصيح ثعلب. واختصار الأغاني. وشرح كتاب الوسيط شرحا متوسطا ممتعا، وله مقامات أدبية.
وكان مطعونا عليه في دينه وعقيدته، وكان كثير الهزل والمجون، كان يقول:
في السماء نهر من خمر ونهر من لبن ونهر من عسل لا ينقط منه شيء، وينقط هذا الذي يخرب البيوت ويهدم السقوف. وكانت بينه وبين ابن الشبل منافرة ومباعدة شائعة ظاهرة، قيل له ألم تكن قرأت على ابن الشبل؟ فقال: بلى وإلا من أين اكتسبت هذه البلادة التي فيّ.
وقال أبو الحسن علي بن أحمد الدهان: دخلت على ابن ناقيا بعد موته لأغسله فوجدت يده اليسرى مضمومة، فاجتهدت حتى فتحتها وفيها كتابة بعضها على بعض فتمهلت حتى قرأتها فإذا فيها مكتوب:
نزلت بجار لا يخيّب ضيفه ... أرجّى نجاتي من عذاب جهنم
وإني على خوفي من الله واثق ... بانعامه والله أكرم منعم
وله شعر سائر فمن شعره:
أخلاي ما صاحبت في العيش لذة ... ولا زال قلبي عن حنين التذكر
ولا طاب لي طعم الرقاد ولا اجتنت ... لحاظي مذ فارقتكم حسن منظر
ولا عبثت كفي بكأس مدامة ... يطوف بها ساق ولا جسّ مزهر «1»(4/1561)
[671 هـ] عبد الحميد بن عبد الله بن أسامة بن أحمد
، أبو علي ابن التقي الهاشمي العلوي الحسيني الزيدي الشريف النقيب: حدث النقيب شرف الدين يحيى بن أبي زيد نقيب البصرة أنه لم يكن تحت السماء أحد أعرف من ابن التقي بالأنساب وكان يحدث عن معرفته بالعجائب، وكان مع ذلك عارفا بالطب والنجوم وعلوم كثيرة من الفقه والشعر وغيره «1» .
[672] عبد الرحيم بن القاضي الأشرف بهاء الدين أبي المجد
ابن القاضي السعيد أبي محمد الحسن بن الحسن، المعروف بالقاضي الفاضل الملقب مجير الدين:
كان أوحد دهره وفريد عصره عقلا ونبلا وفصاحة وبيانا، لم يكن أحد يضاهيه في صناعة الانشاء، وكان هيوبا وقورا نزه المجلس على شراسة كانت في خلقه وتقلل في ملبسه، فإنه كان لا يزيد لباسه على النصفية البغدادية، والدنيا تدبّر برأيه وصلاح الدين سلطان البلاد لا يرد له أمرا. وكان يترفع عن التسمية بالوزارة ويعمل عملها سرا.
وتوفي في سابع عشر ربيع الآخر سنة ست وتسعين وخمسمائة، ومولده وأصله بعسقلان في جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين وخمسمائة، وذكروا أن الكتب التي
__________
[671] هـ- هذه الترجمة من الوافي للصفدي (18: 72- 73) وقد صرّح أنه ينقل عن ياقوت.
[672]- صرّح ابن الفوطي (4/3: 24) بأنه ينقل جانبا من ترجمة القاضي الفاضل عن معجم الأدباء؛ وفي ترجمته انظر أيضا: عبر الذهبي 4: 293 وابن خلكان 3: 158 والنجوم الزاهرة 6: 156 والوافي للصفدي 18: 335 (وفيه تصريح بالنقل عن ياقوت) والشذرات 4: 324 والكتب التاريخية التي تتحدث عن الفترة الصلاحية كابن الأثير وسيرة السلطان يوسف والروضتين ومفرج الكروب. وله مياومات ينقل عنها ابن العديم والمقريزي ورسائل في مجموعات متعددة، وديوانه في جزءين، طبع بتحقيق الدكتور أحمد أحمد بدوي، القاهرة 1961. وقد اكتفيت في ما أثبته هنا بما نقله ابن الفوطي والصفدي، وإلا فإني أقدر أن المؤلف أسهب كثيرا في ترجمته.(4/1562)
خلفها مائة ألف وعشرون ألف مجلدة، وزادت سيرته على عدة مجلدات «1» .
مولده «2» وأصله بعسقلان، وإنما قيل له البيساني لأن والده ولي القضاء ببيسان. قيل لما ولد أخذ طالعه القاضي ابن قريش، وكان خبيرا بعلم النجوم، فقال: هذه والله سعادة لا تسعها الدنيا فضلا عن عسقلان. كان السبب في تقدّمه أن أباه كان يتولّى بعسقلان بعد القضاء ببيسان، وكاتبه السلطان بمصر بالأخبار، فاتّفق أنّ والي عسقلان أطلق أسيرا له قيمة فتعلّل عليه المصريون كونه لم يخبر بخبره، فاستحضر إلى القاهرة وصودر حتى استصفي ماله ولم يبق له شيء، فأصابته فجعة فمات، وبقي الفاضل وأخت له وأخ على غاية من الاختلال وسوء الحال والفقر، فألجأه الحال إلى أن مشى راجلا إلى الإسكندرية، وقصد بها القاضي ابن حديد فالتجأ إليه وعرّفه بنفسه وشكا إليه فاقته، فتوجّع له وفرض له في كل شهر ثلاثة دنانير واستنابه في الكتابة عنه.
وفتحت الفرنج عسقلان وخرج أخوه وأخته حتى لحقا به وأقاما عنده، فاختبره القاضي فوجده على غاية من الفصاحة والبلاغة وحسن المقاصد، وكان إذا أراد مكاتبة ديوان مصر أمره بالكتابة عنه، وكانت كتبه ترد كالدرّ النظيم، فحسده الكتّاب الذين ترد كتبه عليه وخافوا منه على منزلتهم، فسعوا به إلى الظّافر بن الحافظ، فحدّث محمد بن محمد بن محمد بن بنان الأنباري كاتب الإنشاء يومئذ، قال: فأحضرني الظافر وأمرني أن أكتب إلى الوالي بالإسكندرية أن يتسلّم ابن البيساني من القاضي ابن حديد ويقطع يده ويسيّرها إلينا، قال: فما علمت السبب ولا عرفت ابن البيساني، ووددت لو كان هذا الكتاب بخط غيري، فأخذت الدواة والقلم والدّرج وكتبت:
«بسم الله الرّحمن الرّحيم، وبطّلت الكتابة، فنظر إليّ وقال: ما تنظر؟ قلت: عفو مولانا، قال: تعرف هذا الرجل؟ قلت: لا والله، قال: هذه رقعة وردت من(4/1563)
الديوان تخبر بسوء أدبه واستخفافه، وذاك أنه كتب كتابا وجعل بين السطر والسطر شبرا وهذا لا يكون إلّا من الفاضل إلى المفضول. وبلغني أيضا أنه يرى انتقاضنا وذهاب دولتنا دينا، فقلت: إن رأى استحضار المكتوب والوقوف عليه، فأحضر فرأيت أبلغ كتاب وأحسن عبارة فقلت: هذا كتاب معدوم المثال وكاتبه أوحد عصره، وما كتبوا في أمره بما كتبوا إلّا حسدا له، فإن رأى إحضار كاتبه وسماع لفظه والعمل بموجب المشاهدة رجوت أن يكون ثوابا وصوابا. فكتبت بتسييره مكرّما، فما كان إلّا مسافة الطريق حتى أحضر إلى مجلس الظافر وأنا حاضر، فرأيت شابا ظريفا بثياب قصار وأكمام لطيفة وطيلسان، فوقف بين يديّ الظافر، فقال الظافر: اختبره في شيء من الرسائل، فقلت له: مولانا يأمرك أن تكتب منشورا لأحد أولياء دولته يتضمّن توليته ما وراء بابه، فقال: السمع والطاعة، فقرّبت منه دواة فأخذ يكتب وهو قائم، وكان إذا أراد أن يستمدّ انكبّ إلى الدواة ثم وقف فكتب، فلما أن رأى الظافر جريان قلمه وثبات جنانه، أمر خادما أن يحمل له الدواة، ثم فرغ من الكتابة وهو قائم على رجله، فتناوله الخادم وعرضه على الظافر، فاستحسن خطّه وكان خطّا مليحا رائقا على طريقة ابن مقلة، وقال لي: اقرأه، فقلت: يا مولانا اسمعه من منشئه فهو أحسن، فقرأه بلسان حادّ وبيان صادق، فلما استتم قراءته أمر الظافر بقلع طيلسانه وأخذ عذبة عمامته وفتلها وتحنيكه بها، ففعل به ذلك. ولم يزل في الديوان مدّة أيام الظافر والفائز والعاضد.
فلما استعلى الضرغام على شاور وتولّى الوزارة، وهرب شاور إلى الشام وقبض على ولده الكامل وأودعه السجن خدمه الفاضل ومتّ إليه بخدمة قديمه. ثم إن الضّرغام تنكّر على الفاضل فمضى من فوره إلى ملهم أخي ضرغام واستجار به، وكان ملهم هو الكبير وكان ترفّع عن الولاية، فأمره بملازمة داره حتى يصلح أمره، فاتّفق أن قرن بالكامل بن شاور في محبسه وحبس معه وحصل له بذلك يد بيضاء عنده. ورجع شاور إلى الديار المصرية بصحبة شيركوه، وقتل الضرغام وأخوه ملهم وبنوه، وعادت الوزارة إلى شاور. وركب ابنه الكامل من دار ملهم ومعه القاضي الفاضل حتى دخلا على شاور وعرّف الكامل أباه شاور حقوق الفاضل عليه وحسن ولائه.(4/1564)
واختصّ الفاضل بالكامل اختصاصا كلّيّا، وكان أولا يدعى بالأسعد فغيّره ولقّبه بالفاضل، ولم يزل معهما على أحسن حال إلى أن عاد أسد الدين إلى مصر في المرّة الأخرى واستولى على الديار المصرية وتولّى الوزارة وقتل شاور وابنه الكامل وطلب الفاضل. وكان في نفسه منه أشياء نقمها عليه في مكاتباته عن شاور، وكان يغلظ القول فيها. ولجأ القاضي إلى القصر مستجيرا ومستخفيا، وطلبه شيركوه من العاضد فشفع فيه فلم يقبل الشفاعة وألحّ في طلبه، فاتفق أنّ العاضد أهدى إلى شيركوه هدايا نفيسة وقعت منه موقعا لطيفا، وسأله مع قبولها أمان الفاضل فأمّنه، فلما حضر أكرمه شيركوه وأمره بالجلوس في حضرته وقال: اكتب كتابا إلى نور الدين محمود بن زنكي عرّفه ما فعل الله بهذا الطاغية الفاسق، يعني شاورا، فكتب ولم يذكره إلّا بالخير فغضب أسد الدين وقال: ما لك لا تكتب بما آمرك به؟ فقال: ما يسعني ذلك أيها الوزير لحقوق له عليّ، فأغلظ له وتهدّده إن لم يكتب وحلف ليوقعنّ به، فوثب حتى صار بين يديه وقال: قد انبسط الآن عذري فيما كنت أكاتب به المولى فإنما أنا آلة أكتب حسبما أومر، فبسط عذره وأعجبه مخرجه من الحجّة وأنس به أنسا تاما.
فلما مات أسد الدين شيركوه ترشّح أكابر الدولة لمكانه وطمع فيها من هو أهل لذلك، ولم يكن صلاح الدين ممن تطمع نفسه في تلك الرتبة، واتفق أنه اجتمع بالفاضل في دار السلطان وجرى حديث من ترشّح للولاية، وبسط صلاح الدين الحديث في ذكرهم ولم يذكر نفسه، فجذبه الفاضل إليه وقال له سرا: هل عندك قوة لأن تلي هذا الأمر؟ فقال صلاح الدين: وأنّى لي بذلك وهنا مثل فلان وفلان وعدّد الأكابر، فقال له: لا عليك فإني أدبّر أمرك فاستعدّ لذلك. فبينا هما في الحديث، استدعي الفاضل إلى مجلس العاضد واستشير فيمن يولّى، ولم يكن شيركوه دفن بعد، لأن من عادتهم أنّ الذي يتولى يلبس في الجنازة أخضر دون كلّ من فيها وهي إمارة الولاية، فقال الفاضل: رأي أمير المؤمنين أعلى وهو أعرف، فقال العاضد: ما تقول في فلان فوهّى أمره وذكر شيئا صدفه عنه، إلى أن ذكر جماعة كلّهم كذلك، فقال للفاضل: فمن ترى أنت؟ قال: ما رأيت في الجماعة أحسن طريقة من يوسف ابن أيوب ابن أخي الميّت، فإني اختبرته ورأيته يرجع إلى دين وأمانة، فقال العاضد:(4/1565)
إني أخاف أن لا يرضى به القوم، فقال الفاضل: يا أمير المؤمنين أنت ألبسه وأجلسه وهو يبذل الأموال ويصلح حال الرجال، ففعل ذلك. وخرج الناس وعلى صلاح الدين الأخضر من دون الجماعة فعرفوا أنه صاحب الأمر، وساعدته السعادة فلم يقل أحد كلمة، وفرّق خزائن شيركوه، وعامل الناس بالإحسان، وبذل المال فأحبّوه، وتمّ أمره وصار القبض والبسط إلى الفاضل. وفوّض صلاح الدين إليه أمور دولته وصار لا يصدر إلّا عن رأيه، واستنابه في جميع أموره، ورعى له تلك الحال، فجرى في تصاريفه على أحسن قانون، وأحسن إلى أرباب البيوت، وجمع كتبا مشهورة بلغني أنها تكون سبعين ألف مجلد في فنون العلم وأنواعه. وأما ابن بنان الذي كان السبب فى خلاصه وعلوّ منزله فإنه اطّرح في دولة بني شادي حتى احتاج إلى الناس، فدخل يوما إلى الفاضل وقد انقادت الدولة لأمره ونهيه، فعدّد إحسانه إليه واشتماله في الدولة الذاهبة عليه، فاعترف الفاضل بذلك واستخلص له رزقا كان يقوم عليه إلى أن مات.
وكان القاضي الفاضل شابا مليحا من أظرف الرجال، فلما كانت وقعة الباب بين شيركوه وشاور بالصعيد، نفرت به فرسه فوقع على ظهره على قربوس السرج فأوهنه، فلما رجع إلى القاهرة عمل عليه وكان يمرّضه ويداويه وقد مدّ وانتفخ، فلما كان يوم جلوسه بين يدي أسد الدين وهو يكتب انفجرت عليه وهو بين يديه فما راعه إلّا والمدّة والدم يسيلان بين يديّ أسد الدين، فارتاع من ذلك وقال: احملوه ورقّ له وعولج وانفسدت إحدى خرزات ظهره ثم اندملت وكانت له حدبة، وفي ذلك يقول ابن عنين:
قد أصبح الملك ما له سبب ... في الناس إلّا البغاء والحدب
سلطاننا أعرج وكاتبه ... ذو عمش والوزير منحدب
معايب كلّها لو اجتمعت ... في فلك لم تحلّه الشّهب(4/1566)
[673] «1» عبد العزيز بن إبراهيم بن بيان بن داود
أبو الحسين المعروف با بن حاجب النعمان، وكان أبوه حاجب النعمان أبي عبد الله الكاتب؛ وكان عبد العزيز أبو الحسين أحد افراد الزمان في الفضل والنبل ومعرفة الكتابة بالدواوين، وكان إليه أيام معز الدولة ديوان السواد. وكانت وفاته يوم الجمعة لسبع بقين من شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة.
قال المحسن التنوخي «ولقد شاهدت مجلسا في شهر رمضان سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة كأنه من مجالس البرامكة، ما شهدت مثله قط، قبله ولا بعده، وذلك أن كاتب الوزير أبي محمد الحسن المهلبي على ديوان السواد أبا الحسين عبد العزيز بن إبراهيم المعروف بابن حاجب النعمان سقط من روشن «2» في دار أبي محمد على دجلة فمات في اليوم الثامن من السقطة، فجزع عليه أبو محمد وجاء من غد إلى أولاده لأنهم كانوا دفنوه عشيا، وكنت معه، فعزاهم بأعذب لسان، وأحسن بيان، ووعدهم الاحسان وقال: أنا أبوكم وما فقدتم من ماضيكم غير شخصه. ثم قال لابنه الأكبر أبي عبد الله: قد وليتك موضع أبيك ورددت إليك عمله؛ ووليت أخاك أبا الحسين- وكان هذا صبيا سنه عشر سنين أو نحوها كتبة ابن أبي الغنائم- وأجريت عليه كذا وكذا (رزقا كبيرا وقد ذهب عني) ، فليلزمه
__________
[673]- ذكره ياقوت في ترجمة ابنه علي بن عبد العزيز (رقم: 782) وقال: قد ذكرت معنى تسميتهم بحاجب النعمان في ترجمة أبيه، وكان أبوه يكتب لأبي محمد المهلبي وزير معز الدولة. وقد اعتمدت في هذه الترجمة على ابن النديم: 149 وتاريخ بغداد 10: 456 ونشوار المحاضرة 1: 69 وله ترجمة في المنتظم 7: 9 والوافي للصفدي 18: 465 (ونقل منه الدكتور مصطفى جواد، انظر الضائع: 88 (رقم: 18) .(4/1567)
فإن سنيهما متقاربة ليتعلم بتعلمه وينشأ بنشوئه فيجب حقه عليه. ثم قال لأبي العلاء صاعد بن ثابت خليفته على الوزارة: اكتب عهدا لأبي عبد الله واستدع كل من كان أبو الحسين- رحمه الله- مستأجرا منه شيئا فخاطبه في تجديد الاجارة للورثة، فانّ أكثر نعمه إنما كانت دخالات وإجارات ومزارعات قد انحلت الآن بموته، ومن امتنع فزده من مالي واسأله ولا تقنع إلا بتجديد العقد كيف جرت الحال. ثم قال لأبي المكارم ابن ورقاء- وكان سلف «1» الميت-: إن ذيل أبي الحسين طويل، وقد كنت أعلم أنه يجري على أخواته وأولادهنّ وأقاربه شيئا كثيرا في كلّ شهر، وهؤلاء الآن يهلكون بموته، ولا حصة لهم في إرثه، فقم إلى ابنة أبي محمد الماذرائي- يعني زوجة المتوفّى- فعزّها عني، واكتب عنها جريدة بأسماء جميع النساء اللواتي كان أبو الحسين يجري عليهنّ وغيرهن من الرجال وضعفاء حاشيته، وقال لأبي العلاء: إذا جاءك بالجريدة فأطلقها عاجلا لشهر، وتقدم باطلاقها على الادرار، فبلغت الجريدة ثلاثة آلاف وكسرا في الشهر، وعملت في المجلس وأطلق مثلها وامتثل جميع ما رسم به أبو محمد. فلم يبق أحد إلا بكى رقة واستحسانا لذلك ... وقلت أنا لأبي محمد في ذلك اليوم: لو كان الموت يستطاب في وقت من الأوقات لطاب لكلّ ذي ذيل طويل في أيام سيدنا الوزير، فإن هذا الفعل تاريخ الكرم، وبه يتحقق ما يروى عن الأسلاف من الأجواد، والماضين من الكرماء الأفراد، وغير ذلك مما حضر في الحال. ثم نهض أبو محمد- رحمه الله- فارتفعت الضجة من النساء والرجال وأهل الدار والشارع بالدعاء له والشكر.
قال ابن النديم: ولم يشاهد خزانة للكتب أحسن من خزانته لأنها كانت تحتوي على كل كتاب عين وديوان فرد بخطوط العلماء المنسوبة. وله من الكتب كتاب نشوة النهار في أخبار الجوار. كتاب الصبوة. كتاب أشعار الكتاب. كتاب أخبار النساء ويعرف بكتاب ابن الدكاني. كتاب الغرر ومنتهى الزهر. كتاب أنس ذوي الفضل في الولاية والعزل «2» .(4/1568)
[674] عبد الغافر بن إسماعيل بن عبد الغافر عين الدين
أبو الحسين الفارسي المحدث المؤرخ:
كان أديبا فاضلا لم ير بخراسان والعراق أجمع منه للفضائل وهو سبط أبي القاسم القشيري، مولده سنة إحدى وخمسين وأربعمائة وتوفي سنة تسع وعشرين وخمسمائة.
وقد خرج له الحفاظ الفوائد كالإمام أبي الفضل محمد بن أحمد الجارودي؛ وهو الذي صنف الذيل على تاريخ الحاكم منذ وفاة الحاكم سنة خمس وأربعمائة، وقرأ الكثير على المشايخ، وكتب عن الإمام أبي الحسن علي بن فضال المجاشعي، واختلف إلى إمام الحرمين الجويني، وخرج إلى النواحي ونسا، ودخل خوارزم وغزنة ومنها إلى لوهور، وقرأ عليه الناس تصانيف القشيري، وصنف كتبا منها: المفهم لصحيح مسلم وغير ذلك.
وله شعره حسن منه قوله:
من يبغ مالا في الورى فأنا إلى ... طلب المعالي رائح [أو] غادي
نفسي وإن فقدت أمانيها فقد ... أبت أن تلين لخدمة الأوغاد
[675] عبد الكافي الهاروني اليهودي:
صاحب الخط المليح إلى الغاية على طريقة ابن البواب؛ كان موجودا بعد الأربعمائة، وأنشدت من شعره:
__________
[674]- صرّح ابن الفوطي (4/2: 1133) بأنه ينقل ترجمة عبد الغافر الفارسي عن ياقوت؛ وأثبت هنا ما أورده. ولعبد الغافر ترجمة في ابن خلكان 3: 225 وطبقات السبكي 7: 171 وتذكرة الحفاظ: 1275 وعبر الذهبي 4: 79 والبداية والنهاية 12: 235 ومرآة الجنان 3: 259 والشذرات 4: 93 وكانت ولادة عبد الغافر سنة 451 ومن كتبه أيضا مجمع الغرائب في غريب الحديث؛ وقد تولى الخطابة فترة بنيسابور وكان محدثا لغويا فصيحا ماهرا وبنيسابور توفي. وكتابه السياق لتاريخ نيسابور بقي منه منتخبان نشرهما فراي مصورين فيما أسماه L) The Histories of Nishapur (LL وقد فرغ من كتابة السياق سنة 528.
[675]- صرح الصفدي أنه ينقل ترجمته عن ياقوت (انظر الضائع، 97 رقم: 20) .(4/1569)
قلبي معنّى عميد ... بين الهوى والهواء
هذا يقود زمامي ... وذا يصد هوائي
وله أيضا:
يا من يقرب وصلي منه موعده ... لولا عوائق من خلف تباعده
لا تحسبنّ دموعي البيض غير دمي ... وإنما نفسي الحامي يصعده
[676] عبد الكريم بن هوازن بن عبد الملك بن طلحة
بن محمد، أبو القاسم القشيري النيسابوري، شيخ خراسان وأستاذ الجماعة ومقدم الطائفة، توفي سادس عشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وستين وأربعمائة. مات أبوه وهو طفل فنشأ وقرأ الأدب والعربية، وكان يميل إلى أبناء الدنيا، فدخل على أبي علي الدقاق فأعجبه حاله فصحبه فجذبه من ذلك، أخذ طريق التصوف عن الأستاذ أبي علي وأخذ هو عن أبي القاسم الفيروز بادي، وأخذ هو عن الشبلي، عن الجنيد عن السري عن معروف الكرخي عن داود الطائي عن التابعين. وتفقه على أبي بكر محمد بن بكر الطوسي وأخذ علم الكلام عن ابن فورك، وكان يحب الصوفية وأهل الدين والطريقة، عظيما عند أهل نيسابور، يعظ ويتكلم بكلام الصوفية؛ وكان ثقة حسن الوعظ مليح الإشارة.
ودخل بغداد وعقد مجلس التذكير فروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله: السفر قطعة من العذاب، فقام إليه سائل فقال: لم سماه صلّى الله عليه وسلّم قطعة من العذاب؟ فأجاب بديها: لأنه
__________
[676]- ذكر الصفدي أنه ينقل ترجمة القشيري عن ياقوت (الضائع: 98 رقم: 21) وقد لخصت ما أثبته من الصفدي ومن ترجمته في مرآة الزمان (وفيات 465) واستخرجت شعره من الدمية. وله ترجمة في تاريخ بغداد 11: 83 والأنساب (القشيري) والمنتظم 8: 280 وابن خلكان 3: 205 وطبقات السبكي 5: 153 والنجوم الزاهرة 5: 81 والشذرات 3: 319 وتاريخ ابن الأثير 10: 88 وإنباه الرواة 2: 193 وطبقات المفسرين: 21 وعبر الذهبي 3: 259 وتبيين كذب المفتري: 271 ودمية القصر 2: 993 والبداية والنهاية 12: 107 وقد أورد له السبكي في طبقاته شعرا غير الذي أثبته عن دمية القصر؛ وينقل السبكي جانبا من ترجمته عن السياق لعبد الغافر.(4/1570)
سبب فراق الأحباب، فصاح الناس وماجوا ولم يقدر على إتمام المجلس.
وله من الكتب: كتاب آداب الصوفية. وكتاب بلغة الفاضل. وكتاب التحبير في علم التذكير، وله أيضا الرسالة في رجال الطريقة. والتفسير الكبير المسمّى التيسير في علم التفسير. وكتاب لطائف الإشارات. وكتاب الجواهر. وكتاب عيون الأجوبة. وكتاب أحكام السماع، وغير ذلك.
ومن شعره قوله:
يا من تشكى رمدا مسّه ... لا ترفع الشكوى إلى خالقك
موجب ما مسّك من عارض ... أنك لم تنظر إلى وامقك
وقوله:
الأرض أوسع رقعة ... من أن يضيق بك المكان
وإذا نبا بك منزل ... ويظل يلحقك الهوان
فاجعل سواه معرّسا ... ومن الزمان لك الأمان
وله أيضا:
قالوا بثينة لا تفي بعداتها ... روحي فداء عداتها ومطالها
إن كان نجز عداتها مستأخرا ... فلقد تسّوفنا بنقد مقالها.
[677] عبد اللطيف بن يوسف بن محمد بن علي
الموصلي البغدادي موفق الدين الأديب الحكيم المتكلم الفيلسوف أبو محمد، المعروف قديما بابن اللبان، ولقبه تاج
__________
[677]- ينقل ابن الفوطي (تلخيص معجم الألقاب الترجمة 198 من حرف الميم كما جاء في الضائع: 100 رقم: 22) جانبا من ترجمته عن ياقوت، كما ترجم له الصلاح الصفدي في الوافي مرتين (انظر الضائع) وعن هذين الكتابين أثبت ترجمته موجزة: ولكن له ترجمة ضافية في عيون الأنباء 2: 201- 213 كما ترجم له الدبيثي والمنذري (في وفيات 629 من كتاب التكملة) والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 173 وذيل مرآة الزمان 1: 180 والفوات 2: 385 وطبقات السبكي 8: 313 والاسنوي 1: 273 وإنباه الرواة 2: 193 وعبر الذهبي 5: 115 وحسن المحاضرة 1: 541 وبغية الوعاة 2: 106 والشذرات 5: 132 ومرآة الجنان 4: 68 والنجوم الزاهرة 6: 279 وانظر كتابه «مقالتان في(4/1571)
الدين الكندي بالجدي المطجن لرقة وجهه وتجعده ويبسه؛ ولد ببغداد سنة تسع وخمسين وخمسمائة؛ وأسمعه والداه الكثير في صباه من أبي الفتح ابن البطي وأبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، وقرأ العربية على ابن الانباري وصحب أبا النجيب الضرير النحوي، وبرع في النحو وتميز على أقرأنه، وقرأ الطب والحكمة، وكان يكتب خطا مليحا، وسافر إلى الشام ودخل مصر ولقي قبولا، وقرأ الناس عليه الأدب والطب، ودخل بلاد الروم وأقام بها مدة وكان يطبب ملكها، ولما توفي الملك عاد إلى حلب وحدث بها، وحجّ وأقام ببغداد مريضا بعلة الذرب.
لبس الخرقة من ضياء الدين أبي النجيب عبد القاهر السهروردي، وقرأ على الشيخ الحسن بن علي بن عبيدة الكرخي، وكان دميم الخلقة نحيلها قليل لحم الوجه.
وذكره الفاضل في رسالة كتبها إلى الوزير نجم الدين بن المجاور يقول فيها في حق الشيخ موفق الدين: أديب ملأ فنه الأسماع، وفاضل لا بأخبار الآحاد ولكن بتواطؤ الاجماع، عينه فراره، وفي لسانه من العبارة عياره، وفي قلبه من الذكاء ناره.
وله من التصانيف: كتاب غريب الحديث. وكتاب الواضحة في الفاتحة.
وشرح بانت سعاد. وذيل الفصيح. وخمس مسائل نحوية. وشرح مقدمة ابن بابشاذ. وشرح الخطب النباتية. وشرح سبعين حديثا. وشرح أربعين حديثا طبية.
والرد على فخر الدين الرازي في تفسير سورة الإخلاص. وكتاب شرح نقد الشعر لقدامة. وكتاب قوانين البلاغة. وكتاب الانصاف بين ابن بري وابن الخشاب في كلامهما على المقامات. وكتاب قبسة العجلان في النحو. وكتاب اختصار العمدة لابن رشيق. وكتاب أخبار مصر (الكبير) . وكتاب الافادة في أخبار مصر «1» . ومقالة في الرد على اليهود والنصارى. ومقالة في النفس. ومقالة في العطش. وكتابه في العلم
__________
- الحواس» (الكويت 1972) ففيه عدد من رسائله ودراسة له وتعريف به وبمؤلفاته وذكر عدد من الدراسات الحديثة عنه.(4/1572)
الإلهي. وكتاب الجامع الكبير في المنطق والطبيعي والإلهي. واختصار مادة البقاء للتميمي. وكتاب بلغة الحكيم. واختصار كتاب النبات. واختصار كتاب الحيوان لأرسطا طاليس، واختصر كتبا كثيرة في الطب، وله كتاب يتضمن سيرته، وغير ذلك كثير «1» .
[678] عبد الواحد بن محمد بن علي بن زكريا
أبو القاسم: قال ياقوت: وقفت على كتاب شرح فيه أشعار أبي الطيب المتنبي فأجاده وكبره، وهو من أهل أصبهان.
[679] عبيد الله بن أحمد بن خرداذبه
أبو القاسم الكاتب: كان جده خرداذبه مجوسيا فأسلم على يد البرامكة، وتولى عبيد الله هذا البريد والخبر بنواحي الجبل. ونادم المعتضد وخصّ به، وكان راوية للأخبار والآداب، ويأتي في تصانيفه بالغرائب حتى قال بعضهم في شيء نقله عنه: كذا زعم ابن خرداذبه وإن يكن كاذبا فعليه كذبه؛ وكان أبو الفرج الأصبهاني إذا أورد عنه شيئا في كتابه أرفقه بالوقيعة فيه والتنقص له بقوله إنه قليل التصحيح لما يرويه ويضمنه كتبه.
وفي كتاب أحمد بن أبي طالب الكاتب أنبأنا أبو عبد الله حمد بن أحمد بن إبراهيم الحكيمي، أنبأني عبيد الله بن أحمد بن خرداذبه قال حدثني أبي قال: كان
__________
[678]- هذه الترجمة مأخوذة عن الوافي للصفدي (الضائع: 111 رقم: 24) .
[679]- لابن خرداذبه ترجمة في الفهرست: 165 والوافي (الضائع: 111) وتاريخ ابن النجار (المصدر السابق) ويصرّح الصفدي بالنقل عن ياقوت؛ وما أثبته هنا ملخص من الكتب المذكورة؛ أما عبارة «قليل التصحيح لما يرويه ويضمنه كتبه «فمأخوذة عن الأغاني (دار الكتب 1: 36) وقد طبع من كتبه: كتاب المسالك، وكتاب اللهو والملاهي.(4/1573)
كسرى ابرويز قد قال له منجموه إنك تقتل، فقال: لأقتلن الذي يقتلني، فأمر بسم فخلط له في أدوية ثم كتب عليه: «دواء للجماع مجرب، من أخذ منه وزن كذا وكذا مرة.. وصيره في خزانة الطب، فلما قتله ابن شيرويه وفتش خزائنه مرّ به فقال في نفسه: أبهذا الدواء كان يقوى على شيرين؟ فأخذ منه فمات، فقتله أبوه وهو ميت.
ومما أنشده أبو بكر محمد بن خلف المرزبان لابن خرداذبة:
في مثل وجهك يحسن الشعر ... ويكون فيه لذي الهوى عذر
ما إن نظرت إلى محاسنه ... إلا تداخلني له كبر
تتزين الدنيا بطلعته ... ويكون بدرا حين لا بدر
وله من الكتب: كتاب أدب السماع. كتاب جمهرة أنساب الفرس والنواقل.
كتاب المسالك والممالك. كتاب الطبيخ. كتاب اللهو والملاهي. كتاب الشراب.
كتاب الأنوار. كتاب الندام والجلساء.
[680] عبيد الله بن أحمد بن محمد
، أبو الفتح النحوي المعروف بجخجخ (بجيم ثم خاء ثم جيم ثم خاء) : سمع البغوي وابن دريد، وكان ثقة صحيح الكتابة، وصنف: مجالسة العلماء، والعزلة والانفراد. وأخبار جحظة وغير ذلك. [ومولده سنة ست وثمانين ومائتين، وتوفي سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة] .
[681] عبيد الله بن عبد الرحيم أبو القاسم الأصبهاني:
أحد فضلاء أصبهان وأدبائها، له تصانيف منها كتاب أخبار أبي الطيب، وكتاب استدرك فيه على ابن جني في كتابه الصغير المسمى بالواضح؛ ولا أعرف من حاله شيئا إلا أنه كان حيا سنة إحدى وأربعمائة.
__________
[680]- عن بغية الوعاة 2: 126 وفيه تصريح بالنقل عن ياقوت؛ وانظر: إنباه الرواة 2: 152 ونزهة الألباء: 210.
[681]- ترجمته عن الوافي (الضائع: 114 رقم: 26) وفيه يصرح الصفدي بنقله عن ياقوت.(4/1574)
[682] عبيد الله بن أبي بردة أبو محمد القصري:
من قصر الزيت بالبصرة، قاضي فارس، نحوي لغوي معتزلي، ذكره أبو الفتح منصور بن المقدر «1» النحوي المعتزلي محتجا به وبأمثاله على أبي بكر الباقلاني لأنه قال: إن الكلابية «2» تقول إن النظر إذا قرن بإلى لم يحتمل إلا الرؤية، وان المعتزلة تبطل ذلك بقول الشاعر:
إني إليك لما وعدت لناظر ... نظر الفقير إلى الغنيّ الموسر
قال: هذا اعتراض باطل، لأن الشاعر قال إليك، والله قال: إِلى رَبِّها
(القيامة: 23) وأحدهما غير الآخر لأن أحدهما بالياء والآخر بالألف؛ قال: من يخاصم المعتزلة الذين هم ذوو اللسن والفصاحة بهذا الكلام لا يكون غبيا بل أنقص حالة من الأغبياء. وقد كان يحضر منهم في زمن أمراء المؤمنين المطيع والطائع والقادر نحو من مائة المجالس، كلّ منهم أو جمهورهم قد قرأ كتاب سيبويه وإليه انتهى، كعلي بن عيسى الرماني وأبي سعيد السيرافي، وذكر جماعة، ثم قال: وأبو محمد عبيد الله بن محمد بن أبي بردة القصري، من قصر الزيت بالبصرة، قاضي فارس، وله الانتصار لسيبويه على أبي العباس في كتاب الغلط، وله مسائل سألها الشيخ أبا عبد الله البصري «3» في إعجاز القرآن وغير ذلك.
__________
[682]- بغية الوعاة 2: 127.(4/1575)
[683] عبيد الله بن محمد بن أبي محمد اليزيدي
واسم أبي محمد يحيى بن المبارك بن المغيرة، وكنية عبيد الله أبو القاسم، يعرف بابن اليزيدي، ذكره الخطيب فقال: مات في سنة أربع وثمانين ومائتين قال: وسمع محمد بن منصور الطوسي وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي. وروى عن عمّه إبراهيم بن يحيى وأخيه أحمد بن محمد عن جده أبي محمد اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء حروفه في القرآن. حدث عنه ابن أخيه محمد بن العباس وأحمد بن عثمان الأدمي، وكان ثقة.
حدث عبيد الله عن عمه إبراهيم قال حدثني أبي قال: كنت مع أبي عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، فسأل عن رجل من أصحابه فقده، فقال لبعض من حضره: اذهب فسل عنه، فرجع فقال: تركته يريد أن يموت، قال: فضحك منه بعض القوم وقال:
في الدنيا إنسان يريد أن يموت؟! فقال إبراهيم: لقد ضحكتم منها عربية، إنّ يريد في معنى يكاد قال الله تعالى: جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ
(الكهف: 77) أي يكاد، قال فقال أبو عمرو: لا نزال بخير ما كان فينا مثلك.
قال أبو القاسم الزجاجي: أنشدني أبو عبد الله اليزيدي لعمه عبيد الله بن محمد «1» :
قد ضقت ذرعا بك مستصلحا ... وأنت مزورّ عن الواجب
من لي بأن تعقل حتى ترى ... كم لك في العالم من عائب
[684] عبيد الله بن محمد بن جعفر بن محمد
بن عبد الله الأزدي أبو القاسم
__________
[683]- تاريخ بغداد 10: 338 وطبقات ابن الجزري 1: 492 وانباه الرواة 2: 153.
[684]- تاريخ بغداد 10: 358.(4/1576)
النحوي: ذكره الخطيب فقال: مات في سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة في أيام المطيع، قال: وحدّث عن محمد بن الجهم السمري بكتاب «المعاني» للفراء وعن مسلم بن عيسى الصفار وأبي بكر ابن أبي الدنيا وابن قتيبة. روى عنه المعافى بن زكرياء الجريري وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري وغيرهما.
حدثنا عنه ابن رزقويه قال: وسألت أبا يعلى محمد بن الحسين السراج المقرىء عن الأزدي فقال ضعيف، وقال غير الخطيب: له كتاب الاختلاف. وكتاب النطق.
[685] عبيد الله بن محمد بن جر والاسدي
أبو القاسم النحوي العروضي المعتزلي: ذكره ابن المقدر في المعتزلة من أهل الموصل، قدم بغداد وقرأ على شيوخها، فأخذ علم الأدب عن أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي وغيرهما، وكان ذكيا حاذقا جيد الخط صحيح الضبط صنف كتبا، ومات فيما ذكره هلال بن المحسن في يوم الثلاثاء لأربع بقين من رجب سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وكان يقول الشعر، فوجدت له في بعض الكتب:
قطعت من السنين مدى طويلا ... ولم تعرف عدوّك من صديقك
فسرت على الغرور ولست تدري ... أماء أم سراب في طريقك
قرأت في كتاب «الموضح في العروض» من تصنيف ابن جرو هذا أخبارا أوردها عن نفسه فيه ومناظرات جرت له مع الشيوخ في العروض منها: قرأت على شيخنا أبي سعيد رحمه الله كتاب «الوقف والابتداء» عن الفراء روايته عن أبي بكر ابن مجاهد عن ابن الجهم عنه فمضى فيه بيت أنشده الفراء:
بابي امرؤ ألشام بيني وبينه ... أتتني ببشرى برده ورسائله
__________
[685]- ترجمة ابن جرو في إنباه الرواة 2: 154 وبغية الوعاة 2: 127 (وفيه تصريح بالنقل عن ياقوت) وطبقات المفسرين للسيوطي: 22 وانظر تاج العروس 10: 71.(4/1577)
فقلت: هذا البيت لا يستقيم، فقال أبو سعيد: كذا أنشده ابن مجاهد عن الفراء، وهو كما قال، أنشدناه غيره من شيوخنا عن أبي بكر وعن ابن بكير عن ابن الجهم وعن ابن الأنباري عن أحمد بن يحيى عن سلمة عن الفراء هكذا. فقال أبو سعيد: ما عندك فيه؟ فقلت: رأيت هذا البيت بخط أبي سهل النحوي في هذا الكتاب بأبوي امرؤ وقال: ردّ الأب إلى أصله لأنه في الأصل عند الكوفيين أبو على فعل مثل نحو وغزو، فقال لي أبو سعيد: لا ينبغي أن تلتفت إلى هذا لأنّ الرواة والناقلين أجمعوا على أنه مكتوب بأبي، وكذلك لفظوا به، ولكن إصلاحه أن يكون بأبي امرؤ فيكون بأبيم فعولن، وسكن كسرة الباء من أبي لأنه قدّره تقدير فخذ، وهذا لعمري تشبيه حسن لأنهم قد أجروا هذا في المنفصل مجرى المتصل فقالوا اشترلنا، جعل ترل بمنزلة فخذ، وأشدّ من هذا قراءة حمزة ومكر السّيّىء ولا، جعل سيوءا بمنزلة فخذ ثم اسكن كما يقال فخذ، والحركة في السيىء حركة إعراب، ففي هذا ضربان من التجوز جعله المنفصل بمنزلة المتصل وتشبيهه حركة الإعراب بحركة البناء.
وله من التصانيف كتاب الموضح في العروض جوّد في تصنيفه. وكتاب المفصح في القوافي. وكتاب الأمد في علوم القرآن، لا أدري هل تم أم لا، لأنه قال في كتاب الموضح في العروض «وقد شرعنا في كتاب الأمد في علوم القرآن» ثم وجدت في فوائد نقلت عن أبي القاسم المغربي أن كتابه في تفسير القرآن لم يتم وأنه ذكر في «بسم الله الرّحمن الرّحيم» مائة وعشرين وجها. قال: ومات قبل الأربعمائة.
ذكر الشيخ أبو محمد ابن الخشاب في بعض كتبه «1» في معرض كلام: وحكى بعض الأشياخ من أهل صناعة النحو أنّ عضد الدولة الديلمي التمس من أبي علي الفارسي إماما يصلّي به، واقترح عليه أن يكون جامعا إلى العلم بالقراءة العلم بالعربية، فقال: ما أعرف من قد اجتمعت فيه مطلوبات «2» الملك إلا ابن جرو، لأحد(4/1578)
أصحاب أبي علي، وهو أبو القاسم عبيد الله بن جرو الأسدي، فقال: ابعثه إلينا، فجاء به وصلّى بعضد الدولة، فلما كان الغد وافى أبو علي وسأل الملك عنه فقال: هو كما وصفت إلا أنه لا يقيم الراء، أي يجعلها غينا، كعادة البغداديين في الأغلب، فقال أبو علي لابن جرو ورآه كما قال عضد الدولة: لم لا تقيم الراء؟ فقال: هي عادة للساني لا أستطيع تغييرها، فقال له أبو علي: ضع ذبابة القلم تحت لسانك لترفعه به، وأكثر مع ذلك ترديد اللفظ بالراء، ففعل واستقام له إخراج الراء من مخرجها.
قال: هذا معنى الحكاية التي حكيت لي في هذا، فقلت للشيخ الحاكي لي رحمه الله، وأنا إذ ذاك حدث: ما أحسن ما تلطف أبو علي في طبّه هذا، فما الذي دلّه على هذه المعالجة؟ ومن أين استنبط هذه المداواة؟ وكيف احتال لهذا البرء؟
فقال: هذا الذي حكي لنا فما عندك فيه؟ فأجبت بما استحسنه الشيخ وحاضروه فقلت: لا شبهة بأنّ الغين حرف حلقي لا عمل للسان فيه، والراء حرف من حروف اللسان، وله فيه عمل، فمن نطق بالغين مكان الراء لم يكن للسان فيه عمل بل هو قارّ في فجوته، والحرف الحلقي منطوق به مع سكون اللسان واستقراره، فإذا رفعه بطرف القلم أو غيره مما يقوم مقامه في رفعه ولفظ بالحرف جعل له عملا في الحرف فبطل أن يكون حلقيا أي غينا، لأن حروف الحلق لا عمل للسان فيها، وإذا بطل أن يكون غينا كان راء وهو الحرف الذي تلفّط بالغين بدلا منه، فافهمه وداو به ما جرى هذا المجرى من الحروف، فلو كان واصل بن عطاء الغزال حاذقا حذق أبي علي رحمه الله فداوى رأرأته ولثغته بهذا الدواء لأراحه من تكلفه إخراج الراء من كلامه حتى شاع عنه من إبدال بعض الكلم ما شاع.
قال: وقد حكي أن الزجاج أبا إسحاق كان بهذه الصفة، أعني رأراء، وذلك فيما قرأته بخط ابن برهان النحوي.
[686] عبيد الله أبو بكر الخياط الأصبهاني:
ذكره حمزة فقال: هو واحد زمانه في
__________
[686]- بغية الوعاة 2: 130 (وهو ينقل عن ياقوت) .(4/1579)
علم النحو ورواية الشعر، أتقن «كتاب سيبويه» صغيرا ثم «كتاب مسائل الأخفش» ثم «كتاب حدود الفراء» وهو في الأخبار والأيام وسائر الآداب متقدم على كل من تفرد بفن «1» منها وله كتابان في النحو: أحدهما بسيط والآخر لطيف، لم يصنّف مثلهما في الزمان.
ولما مات أبو بكر الخياط رثته الشعراء، فمن ذلك قول أبي مسلم ابن جحا الكوفاني:
سآتي باكيا شطّ الفرات ... لعيني أستمدّ مدى حياتي
فأبكي ثم أبكي ثم أبكي ... على من قد توسّد جندلات
على قمر الزمان وزين علم ... عبيد الله كنز الفائدات
وله يرثيه «2» :
ودّعت بعد أبي بكر ودنياه ... ديوان شعر ونحوا ملك يمناه
طوى الثرى معه كلّ العلوم فلا ... نشر يرجّى له من بعد مثواه
من لي بمثل عبيد الله يوم ثوى ... رهن الحمام وهل في الناس شرواه
ومن كتاب الوزراء لهلال «3» بن المحسن: حدثني أبو السري الأصبهاني ابن أخت أبي بكر الخياط الأصبهاني قال: كان أبو بكر خالي يحفظ دواوين العرب ويقوم عليها قياما تاما، ويتصرف في كتاب سيبويه ومسائل الأخفش تصرفا قويا، فحدثني أن أبا الفضل ابن العميد كان يقرأ عليه «كتاب الطبائع» لأبي عثمان الجاحظ، فاتفق أن كان في بعض الأيام عنده وقد نزع نعله، فأخذه كلب زيني في الدار وأبعده عن موضعه، وأراد أبو بكر الطهارة فقام ولم يره، وطلبه فلم يجده، فتقدم أبو الفضل أن يقدّم إليه نعل نفسه، فاستسرف ذلك من فعله استسرافا بلغه، فقال: ألام على تعظيم رجل ما قرأت عليه شيئا من «الطبائع» إلّا عرف ديوان قائله وقرأ القصيدة من أولها(4/1580)
حتى ينتهي إليه؟! ولقد كنت وغيري نتهم أبا عثمان الجاحظ فيما يستشهد به من غريب الشعر حتى دلّنا على مواضعه وأنشد القصيدة حتى انتزع منها من حفظه، أفما يستحقّ من هذه الصفة صفته هذه الكرامة اليسيرة في جنب هذه الفضيلة الكبيرة؟! وذكر ابن العميد يوما أبا بكر الخياط النحوي فقال: أفادني في نقد الشعر ما لم يكن عندي، وذاك أنه جاءني يوما باختيارات له، فكنت أرى المقطوعة بعد المقطوعة لا تدخل في مرتضى الشعر، فأعجب من إيراده لها واختياره إياها، فسألته عنها فقال:
لم يقل في معناها غيرها فاخترتها لانفرادها في بابها.
[687] عبيد الله بن محمد بن علي بن شاهمردان
أبو محمد: لا أعرف من حاله شيئا إلا أنني وجدت له كتابا في اللغة في مجلّد سمّاه «حدائق الآداب» .
[688] عبيد بن سرية
، ويقال ابن سارية، ويقال ابن شرية الجرهمي: ذكره ابن عساكر في «تاريخ دمشق» وقال: وفد على معاوية، وقيل إنه لم يفد عليه وإنه لقيه بالحيرة لما توجّه معاوية إلى العراق، ثم حدث باسناد رفعه إلى أبي حاتم السجستاني قال: وعاش عبيد بن سارية الجرهمي ثلاثمائة سنة، وقال بعضهم مائتين وعشرين سنة، إلا أننا نظن أنه عاشها في الجاهلية وأدرك الإسلام فأسلم، وقدم على معاوية بن أبي سفيان فبلغنا أن معاوية قال له: كم أتى عليك؟ قال: مائتان وعشرون سنة، قال: ومن أين علمت ذاك؟ قال: من كتاب الله، قال: ومن أي كتاب الله؟ قال من قول الله سبحانه
__________
[687]- بغية الوعاة 2: 129 (وهو ينقل عن ياقوت) .
[688]- يعتمد ياقوت في هذه الترجمة على تاريخ ابن عساكر (المصورة 11: 17) ومختصر ابن منظور 16: 36 والفهرست لابن النديم: 102 والنص الذي يرفعه إلى أبي حاتم السجستاني ورد في «المعمرون والوصايا» : 50- 53 وله في مروج الذهب أخبار (انظر الفهرس) وينسب له أخبار عبيد بن شرية وقد نشر تاليا لكتاب التيجان (حيدر أباد الدكن 1347) .(4/1581)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ
(الإسراء: 12) الآية؛ فقال له معاوية: وما أدركت؟
قال: أدركت يوما في أثر يوم وليلة في أثر ليلة متشابها كتشابه الحذف يحدوان بقوم في ديار قوم يكدحون «1» ما يبيد عنهم، ولا يعتبرون بما مضى منهم، حيّهم يتلف، ومولودهم يخلف، في دهر يصرّف، أيامه تقلّب بأهلها كتقلبها دهرها، بينا أخوها في الرخاء إذ صار في البلاء، وبينا هو في الزيادة إذ أدركه النقصان، وبينا هو حرّ إذ أصبح قنّا لا يدوم على حال، من مسرور بمولود، ومحزون بمفقود، فلولا أن الحيّ يتلف لم يسعهم بلد، ولولا أن المولود يخلف لم يبق أحد. قال معاوية: أخبرني عن المال أيه أحسن في عينك؟ قال: أحسن المال في عيني وأنفعه غناء، وأقله عناء، وأجداه على العامة عين خرارة في أرض خوّارة، إذا استودعت أدّت، وإذا استحلبتها درّت وأفعمت، تعول ولا تعال. قال معاوية: ثم ماذا؟ قال: فرس في بطنها فرس تتبعها فرس قد ارتبطت منها فرسا. قال معاوية: فأيّ النعم أحبّ إليك؟ قال: النعم لغيرك يا أمير المؤمنين، قال: لمن؟ قال: لمن فلاها بيده وباشرها بنفسه. قال معاوية:
حدثني عن الذهب والفضة، قال: حجران إن أخرجتهما نفدا وإن خزنتهما لم يزيدا.
قال معاوية: فأخبرني عن قيامك وقعودك، وأكلك وشربك، ونومك وشهوتك للباءة، قال: أما قيامي فان قمت فإن السماء تبعد، وان قعدت فالأرض تقرب، وأما أكلي وشربي فان جعت كلبت، وإن شبعت بهرت، وأما نومي فإن حضرت مجلسا حالفني، وان خلوت أطلبه فارقني، وأما الباءة فإن بذل لي عجزت، وإن منعته غضبت. قال معاوية: فأخبرني عن أعجب شيء رأيته، قال: إني نزلت بحيّ من قضاعة فخرجوا بجنازة رجل من عذرة يقال له حريث بن جبلة، فخرجت معهم، حتى إذا واروه انتبذت جانبا عن القوم وعيناي تدمعان «2» ثم تمثلت بأبيات شعر كنت رويتها «3» قبل ذلك:
يا قلب إنك في أسماء مغرور ... اذكر وهل ينفعنك اليوم تذكير(4/1582)
قد بحت بالحبّ ما تخفيه من أحد ... حتى جرت بك أطلاقا محاضير «1»
تبغي أمورا فما تدري أعاجلها ... خير لنفسك أم ما فيه تأخير
فاستقدر الله خيرا وارضينّ به ... فبينما العسر إذ دارت مياسير
وبينما المرء في الأحياء مغتبطا ... إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير
حتى كأن لم يكن إلا تذكّره ... والدهر أيتما حال دهارير
يبكي الغريب عليه ليس يعرفه ... وذو قرابته في الحيّ مسرور
وذاك آخر عهد من أخيك إذا ... ما المرء ضمنه اللحد الخناسير
(الواحد خنسير والجمع الخناسير ويقال الخناسرة وهم الذين يتبعون الجنازة) «2» فقال رجل إلى جانبي يسمع ما أقول: يا عبد الله من قائل هذه الأبيات؟
قلت: والذي أحلف به ما أدري إلا أني «3» قد رويتها منذ زمان، قال: قائلها الذي دفنّاه آنفا، وأنا هذا ذو قرابته أسرّ الناس بموته، وانك للغريب الذي وصف تبكي عليه، قال: فعجبت لما ذكر في شعره والذي صار إليه من قوله، كأنه كان ينظر إلى موضع قبره، فقلت: إن البلاء موكل بالمنطق.
قال المؤلف: وذكره محمد بن إسحاق النديم في «كتاب الفهرست» فقال:
عبيد بن شرية الجرهمي أدرك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يسمع منه شيئا، ووفد على معاوية بن أبي سفيان فسأله عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم وسبب تبلبل الألسنة وأمر افتراق الناس في البلاد، وكان استحضره من صنعاء اليمن، فأجابه بما أمر به معاوية أن يدوّن وينسب إلى عبيد بن شرية، ثم عاش عبيد إلى أيام عبد الملك بن مروان. وله من الكتب: كتاب الأمثال. كتاب الملوك وأخبار الماضين.
وقال غير النديم: كان عبيد بن شرية يروي عن الكيس النمري وابنه زيد بن الكيس وعن الكسير الجرهمي وعبد ودّ الجرهمي.(4/1583)
[689] عبيد بن مسعدة
يعرف بابن أبي الجليد، قال المرزباني: أبو الجليد الفزاري المنظوري المدني اسمه مسعدة، وابنه ابن أبي الجليد نحويّ أهل البصرة «1» اسمه عبيد بن مسعدة، وكان أبو الجليد أعرابيا بدويا علامة، وكان الضحاك بن عثمان يروي عنه؛ وأبو الجليد هو القائل ورأى جارية سوداء غليظة الجسم:
إن لا يصبني أجلي فأخترم ... أشتر من مالي صناعا كالصّتم «2»
عريضة المعطس خشناء القدم ... تكون أمّ ولد وتختدم
إذا ابنها جاء بشرّ لم يلم ... يقتّل الناس ولا يوفي الذمم.
[690] عتاب بن ورقاء الشيباني:
نقلت من خط أبي سعد السمعاني: أنبأنا إبراهيم بن نبهان الغنوي، حدثنا أبو عبد الله الحميدي عن أبي العباس أحمد بن عمر العذري بالمغرب عن أبي البركات محمد بن عبد الواحد الزبيري بالأندلس عن أبي سعيد السيرافي عن أبي إسحاق الزجاج عن المبرد قال: لما وصل المأمون إلى بغداد وقرّ بها قال ليحيى بن أكثم: وددت لو أني وجدت رجلا مثل الأصمعيّ ممن عرف أخبار العرب وأيامها وأشعارها فيصحبني كما صحب الأصمعيّ الرشيد. فقال له يحيى: ها
__________
[689]- بغية الوعاة 2: 131 (وهو ينقل عن ياقوت) ويعتمد المؤلف على المرزباني، ولكن ترجمة ابن أبي الجليد لم ترد في نور القس.
[690]- لا يمكن أن يكون هو عتاب بن ورقاء الذي كان يعدّ أحد الثلاثة من أجواد أهل الكوفة (ذيل الأمالي: 20) والذي تتردد أخباره في الكتب الأدبية وينسب له من النوادر ظنه أنّ «كتب القتل والقتال علينا ... » من القرآن (البيان والتبيين 2: 235- 236) وله مواقف مع المهلب بن أبي صفرة، ذلك لأن عتابا هذا قتله شبيب الخارجي (الكامل 3: 382) والأبيات التي أنشدها للمأمون وردت في الأغاني (14: 100) منسوبة لمحمد بن حازم الباهلي حين أراده ابراهيم بن المهدي على الشرب.(4/1584)
هنا شيخ يعرف هذه الأخبار يقال له عتاب بن ورقاء من بني شيبان، قال: فابعث لنا فيه. فحضر فقال له يحيى: إن أمير المؤمنين يرغب في حضورك مجلسه ومحادثته، فقال: أنا شيخ كبير ولا طاقة لي لأنه ذهب مني الأطيبان، فقال له المأمون: لا بد من ذلك، فقال الشيخ، فاسمع ما حضرني، فقال اقتضابا:
أبعد ستين أصبو ... والشيب للمرء حرب
شيب وسنّ وإثم ... أمر لعمرك صعب
يا ابن الإمام فهلّا ... أيام عودي رطب
وإذ مشيبي قليل ... ومنهل العيش عذب
فالآن لما رأى بي ... عواذلي ما أحبوا
آليت أشرب راحا ... ما حجّ لله ركب
فقال المأمون: ينبغي أن تكتب بالذهب، وأعفى الشيخ وأمر له بجائزة.
[691] عثمان بن جني أبو الفتح النحوي:
وكان جني أبوه مملوكا روميا لسليمان بن فهد الأزدي الموصلي: من أحذق أهل الأدب وأعلمهم بالنحو والتصريف، وصنّف في ذلك كتبا أبرّ بها على المتقدمين وأعجز المتأخرين، ولم يكن في شيء من علومه أكمل منه في التصريف، ولم يتكلم أحد في التصريف أدقّ كلاما منه، ومات لليلتين بقيتا من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة، في خلافة القادر، ومولده قبل الثلاثين وثلاثمائة؛ وهو القائل:
__________
[691]- ترجمة ابن جني في اليتيمة 1: 124 وتاريخ بغداد 11: 311 ونزهة الالباء: 228 والفهرست: 95 ودمية القصر 3: 1481 والمنتظم 7: 220 وانباه الرواة 2: 335 وابن خلكان 3: 246 وسير الذهبي 17: 17 وعبر الذهبي 3: 53 ومرآة الجنان 2: 445 والبداية والنهاية 11: 331 وبغية الوعاة 2: 132 والنجوم الزاهرة 4: 205 والشذرات 3: 140 واشارة التعيين: 200 وروضات الجنات 5: 176 وحاشية البغدادي على شرح بانت سعاد 1: 199 وأشار الذهبي في السير إلى أن له ترجمة طويلة في «تاريخ الأدباء» لياقوت، وفي مادة «ابن جني» من الموسوعة الاسلامية (الطبعة الثانية) 3: 754 إشارة إلى بعض الدراسات عنه بغير العربية.(4/1585)
فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي
على أني أؤول إلى ... قروم سادة نجب
قياصرة إذا نطقوا ... أرمّ الدهر في الخطب
ألاك دعا النبيّ لهم ... كفى شرفا دعاء نبي
وحدث غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن قال: حدثني أبي قال: كان من كتّاب الانشاء في أيام عضد الدولة وبعدها في أيام صمصام الدولة ابنه كاتب يعرف بأبي الحسين القمي، قال: وشاهدته في ديوان الإنشاء يكتب بين يدي جدي أبي إسحاق لما ولاه صمصام الدولة، فاتفق أن حضر يوما عند جدي أبي إسحاق أبو الفتح عثمان بن جني النحوي في الديوان، وجلس يتحدث مع جدي تارة ومعي- إذا اشتغل جدي- أخرى، وكانت له عادة في حديثه بأن يميل بشفته ويشير بيده، فبقي أبو الحسين القميّ شاخصا ببصره يتعجّب منه، فقال له ابن جني: ما بك يا أبا الحسين تحدّق إليّ النظر «1» وتكثر مني التعجب؟ قال: شيء طريف، قال: ما هو؟
قال شبهت مولاي الشيخ وهو يتحدث ويقول ببوزه كذا وبيده كذا بقرد رأيته اليوم عند صعودي إلى دار المملكة وهو على شاطىء دجلة يفعل مثل ما يفعل مولاي الشيخ، فامتعض أبو الفتح وقال: ما هذا القول يا أبا الحسين أعزّك الله؟ ومتى رأيتني أمزح فتمزح معي أو أمجن فتمجن بي؟! فلما رآه أبو الحسين قد حرد واشتاط «2» وغضب قال: المعذرة أيها الشيخ إليك وإلى الله تعالى عن أن أشبهك بالقرد وإنما شبهت القرد بك، فضحك أبو الفتح وقال: ما أحسن ما اعتذرت!! وعلم أبو الفتح أنها نادرة تشيع فكان يتحدث بها هو دائما.
قال: واجتاز أبو الفتح يوما وأبو الحسين في الديوان وبين يديه كانون فيه نار، والبرد شديد، فقال له أبو الحسين: تعال أيها الشيخ إلى النير فقال: أعوذ بالله، والنير هو صماد البقر.
وذكره أبو الحسن علي بن الحسن الباخرزي في «دمية القصر» فقال: ليس(4/1586)
لأحد من أئمة الأدب في فتح المقفلات وشرح المشكلات ما له، ولا سيما في علم الاعراب، فقد وقع منها على «1» ثمرة الغراب «2» . ومن تأمّل مصنفاته، وقف على بعض صفاته، فو ربّي إنه كشف الغطاء عن شعره، وما كنت أعلم أنه ينظم القريض، أو يسيغ ذلك الجريض، حتى قرأت له مرثية في المتنبي أولها:
غاض القريض وأودت نضرة الأدب ... وصوّحت بعد ريّ دوحة الكتب
[منها] :
سلبت ثوب بهاء كنت تلبسه ... لمّا تخطّفت بالخطيّة السّلب
ما زلت تصحب في الجلى إذا انشعبت ... قلبا جميعا وعزما غير منشعب
وقد حلبت لعمري الدهر أشطره ... تمطو بهمة لا وان ولا نصب
من للهواجل يحيي ميت أرسمها ... بكلّ جائلة التصدير والحقب
قبّاء خوصاء محمود علالتها ... تنبو عريكتها بالجلس والقتب
أم من لبيض الظبا توكافهنّ دم ... أم من لسمر القنا والزّعف واليلب
أم للجحافل يذكي جمر جاحمها ... حتى يقرّبها من جاحم اللهب
أم للمحافل إذ تبدو لتعمرها ... بالنظم والنثر والأمثال والخطب
أم للصواهل محمرّا سرابلها ... من بعد ما غبرت «3» معروفة الشهب
أم للمناهل والظلماء عاكفة ... تواصل الكرّ بين الورد والقرب
أم للقساطل تعتمّ الحزون «4» بها ... أم من لضغم الهزبر الضيغم الحرب
أم للملوك تحلّيها وتلبسها ... حتى تمايس في أبرادها القشب(4/1587)
نابت وسادي أطراب تؤرّقني ... لما غدوت لقى «1» في قبضة النوب
عمرت خدن المساعي غير مضطهد ... كالنصل لم يدّنس يوما «2» ولم يعب
فاذهب عليك سلام المجد ما قلقت ... خوص الركائب بالأكوار والشعب
وحدث أبو الحسن الطرائفي قال: كان أبو الفتح عثمان بن جني يحضر بحلب عند المتنبي كثيرا ويناظره في شيء من النحو من غير أن قرأ عليه شيئا من شعره أنفة وإكبارا لنفسه، وكان المتنبي يقول في أبي الفتح: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس.
وسئل المتنبىء بشيراز عن قوله:
وكان ابنا عدوّ كاثراه ... له ياءي حروف أنيسيان
فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح حاضرا لفسّره.
وحدث أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري في «كتاب النورين» : وقال بعض أهل العصر وهو أبو الفتح عثمان بن جني النحوي «3» :
غزال غير وحشيّ ... حكى الوحشيّ مقلته
رآه الورد يجني الور ... د فاستكساه حلّته
وشمّ بأنفه الريحا ... ن فاستهداه زهرته
وذاقت ريحه «4» الصهبا ... ءفاختلسته نكهته
وكان أبو الفتح ابن جني ممتّعا باحدى عينيه، فلذلك يقول في صديق له «5» :
صدودك عنّي ولا ذنب لي ... دليل على نية فاسده
فقد وحياتك مما بكيت ... خشيت على عيني الواحده
ولولا مخافة أن لا أراك ... لما كان في تركها فائده(4/1588)
وحدثت «1» أنه صحب أبا علي الفارسي أربعين سنة، وكان السبب في صحبته له أن أبا علي اجتاز بالموصل، فمرّ بالجامع وأبو الفتح في حلقة يقرىء النحو وهو شابّ، فسأله أبو علي عن مسألة في التصريف فقصّر فيها، فقال له أبو علي: زبّبت قبل أن تحصرم، فسأل عنه فقيل له: هذا أبو علي الفارسي، فلزمه من يومئذ واعتنى بالتصريف، فما أحد أعلم منه به، ولا أقوم بأصوله وفروعه، ولا أحسن أحد إحسانه في تصنيفه. فلما مات أبو علي تصدر أبو الفتح في مجلسه ببغداد فأخذ عنه الثمانيني وعبد السلام البصري وأبو الحسن السمسمي.
وكان لابن جني من الولد عليّ وعال وعلاء، وكلهم أدباء فضلاء قد خرّجهم والدهم وحسّن خطوطهم، فهم معدودون في الصحيحي الضبط وحسن الخط.
ومن «كتاب سرّ السرور» لأبي الفتح ابن جني:
رأيت محاسن ضحك الربيع ... أطال عليها بكاء السحاب
وقد ضحك الشيب في لمتي ... فلم لا أبكّي ربيع الشباب
أأشرب في الكأس كلا وحاشا ... لأبصره في صفاء الشراب
وأنشد له:
تجبّب أو تدرّع أو تقبّا ... فلا والله لا أزداد حبّا «2»
أخذت ببعض حبك كلّ قلبي ... فان رمت المزيد فهات قلبا
قرأت بخط أبي علي ابن إبراهيم الصابىء: ولأبي نصر بشر بن هارون في ابن جني النحوي، وقد جرى بينه وبينه في معنى شيطان يقال إنه يظهر بالراية اسمه العدار، وإذا لقي إنسانا وطئه، فقال له ابن جني: بودك لو لقيك فإنه إن كان لأمنيتك، فقال أبو نصر:
زعمت أن العدار خدني ... وليس خدنا لي العدار
عفر من الجنّ أنت أولى ... به وفيهم لك افتخار(4/1589)
فالجنّ جنّ ونحن إنس ... شتان هذان يا حمار
ونحن من طينة خلقنا ... ما خلق الجن منه نار
العرّ والعار فيك تمّا ... والعور التام والعوار
ونقل من خط أبي الفتح ابن جني خطبة نكاح من إنشائه: الحمد لله فاطر السماء والأرض، ومالك الإبرام والنقض، ذي العزة والعلاء، والعظمة والكبرياء، مبتدع الخلق على غير مثال، والمشهود بحقيقته في كل حال، الذي ملأت حكمته القلوب نورا، فاستودع علم الأشياء كتابا مسطورا، وأشرق في غياهب الشبه خصائص نعوته، واغترقت «1» أرجاء الفكر بسطة ملكوته؛ أحمده حمد معترف بجزيل نعمه، وأخاطبه ملتبسا بسنيّ قسمه، وأعاطيه وأومن به في السرّ والعلن، واستدفع بقدرته ملمات الزمن، وأستعينه على نوازل الأمور، وادّارأه في نحر كلّ محذور، وأشهد شهادة تخضع لعلوها السموات وما أظلّت، وتعجز عن حملها الأرضون وما أقلّت، إنه مالك يوم البعث والمعاد، والقائم على كلّ نفس بالمرصاد، وأن لا معبود سواه، ولا إله إلّاه «2» ، وأنّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وبجّل وكرّم، عبده المنتخب، وحجته على العجم والعرب، ابتعثه بالحقّ إلى أوليائه ضياء لامعا، وعلى المرّاق من أعدائه شهابا ساطعا، فابتذل في ذات الله نفسه وجهدها «3» ، وانتحى مناهج الرشد وقصدها، مستسهلا ما يراه الأنام صعبا، ومستخصبا ما يرعونه بينهم جدبا. يغافس «4» أهل الكفر والنفاق، ويمارس البغاة وأولي الشقاق، بقلب غير مذهول، وعزم غير مفلول، يستنجز الله صادق وعده، ويسعى في خلود الحقّ من بعده، إلى أن وطد بواني الدين وأرساها، وشاد شرف الاسلام وأسماها، فصرّم مدته التي أوتيها في طاعة الله موفّقا حميدا، ثم انكفأ إلى خالقه مطمئنا به فقيدا، صلى الله عليه ما ومض في الظلام برق، أو نبض «5» في الأنام عرق، وعلى الخيرة المصطفين من آله، والمقتدين بشرف فعاله.(4/1590)
وإن مما أفرط الله تعالى به سابق حكمه، وأجرى بكونه قلم علمه، ليضمّ بوقوعه متباين الشمل، ويزمّ به شارد الفرع إلى الأصل، أن فلان بن فلان، وهو كما يعلم من حضر، من ذوي الستر وصدق المختبر، مسجوح الخليقة، مأمون الطريقة، متمسك «1» بعصام الدين، آخذ بسنّة المسلمين، خطب للأمر المحموم، والقدر المحتوم، من فلان بن فلان الظاهر العدالة والعفاف، أهل البرّ وحسن الكفالة والكفاف، عقيلته فلانة بنت فلان خيرة نسائها، وصفوة آبائها، في زكاء منصبها، وطيب مركّبها، وقد بذل لها من الصداق كذا وكذا فليشهد على ذلك أهل مجلسنا، وكفى بالله شهيدا (ثم تقريرهما) ثم يقال: لاءم الله على التقوى كلمتيكما، وأدم «2» بالحسنى بينكما، وخار لكما فيما قضى، ولا ابتزّكما صالح ما كسا. وهو حسبنا وكفى.
قرأت بخط الشيخ أبي منصور موهوب بن الخضر الجواليقي رحمه الله، أنشدنا الشيخ الامام أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي قال: أنشدنا عال بن عثمان بن جني، قال أنشدنا أبي لنفسه:
وحلو شمائل الأدب ... منيف مراتب الحسب
أخي فخر مفاخره ... عقائل عقلة الإرب
له كلف بما كلفت ... به العلماء م العرب
يبيت يفاتش الأنقا ... ب عن أسرارها الغيب
فمن جدد الى جلد ... الى صعد إلى صبب
ويسرب في مغابنها «3» ... بضيض رواشح الثّغب
ويفرع فكره الأبكا ... ر منها من حمى الحجب
فيبرزها «4» كأنّ بها ... وإن خفيت سنا لهب
يغازل من تأمّلها ... غزال الخرّد العرب(4/1591)
يجدّ بها وتحسبه ... للطف الفكر في لعب
سباطة مذهب سكبت «1» ... عليه ماءة الذهب
ورقّة مأخذ شهدت ... بغلظة كلّ منتجب
وطردا «2» للفروع على ... أصول وطّد رتب
إذا ما انحطّ غائرها ... سما فرعا على الرتب
قياسا مثل ما وقدت ... بليل برزة الشهب
وألفاظا مهدّبة ... الحواشي ثرّة السحب
فطورا من ذرى علم ... وطورا من ذرى طنب
إذا حازت لنا سلبا ... فعدّ عن القنا السّلب
تركت مساجلي أدبي ... طوال الدهر في تعب
إذا أجروا إلى أمد ... فقل في هافة لغب
وإن راموا مبادهتي ... سبقت وأوطأوا عقبي
وكيف يروم منزلتي ... نزيل أخابث «3» الترب
وهل يسمو لفارعتي ... خفيض الخدّ ذو حدب
وهل ينتاط بي سببا ... ضعيف معاقد السبب
أغرة وجه سابقها ... تقاس بشعلة الذنب
شكرت الله نعمته ... وما أولاه من أرب
زكت عندي صنائعه ... فوفقني وأحسن بي
تخوّلني وخوّلني ... ونوّلني ونوّه بي
وأخّر من يقادمني ... وأعلاني وأرغم بي
فيا بأبي منائحه ... وقلّ لهن يا بأبي(4/1592)
ضفون عليّ عطف علا ... برفل جدّ منسحب
فإن أصبح بلا نسب ... فعلمي في الورى نسبي
على أني أؤول إلى ... قروم سادة نجب
قياصرة إذا نطقوا ... أرمّ الدهر ذو الخطب
أولاك دعا النبيّ لهم ... كفى شرفا دعاء نبي
وإما فاتني نشب ... كفاني ذاك من نشب
وإن اركب مطا سفر ... مجدّ الورد والقرب
كأني «1» مخلد خلفا ... يضاوي الشمس من كثب
إذا لم يبق لي عقب ... أقامت خير ما عقب
موشحة مرشحة ... لنيل الغاي «2» من كثب
يصمّ صدى الحسود لها ... ويخرق أطرق الركب
إذا اهتزت كتائبها ... هفت خفاقة العذب
أزول وذكرها باق ... على الأيام والحقب
تناقلها الرواة لها ... على الأجفان من حدب
فيرتع «3» في أزاهرها ... ملوك العجم والعرب
فمن مغن الى مدن ... الى مثن الى طرب
كفاها أن يقول لها ... بهاء الدولة اقتربي
إلى الله المصير غدا ... وعند الله مطلبي
له ظهري ومعتملي ... ومتّجهي ومنقلبي
فقل للغامطي نعمي ... وما راعيت من قربي(4/1593)
وتثميري وتنشئتي ... ومحتالي ومضطربي
ونهضي عنك أطعن في ... نحور أوابد النوب
ورفعي من رذائلك اللواتي بعضها سببي ... ولولا أنت كان أديم مأثرتي بلا ندب
ألمّا أن أشرت وان ... نزت بك بطنة الكلب
وأكرمك الأكابر لي ... وخالطت الأماثل بي
ورفّعت الذلاذل عن ... معاطف تائه حرب
وأنسيت الأوائل بال ... أواخر نزقة العجب
وقلت أنا وأين أنا ... ومن مثلي وحسبك بي
وقال لي الوزير: هنا ... وأدناني ورحّب بي
وقدّمني ولقّمني ... ووسّطني وصدّر «1» بي
أسأت جوار عارفتي ... فثق بطوارق العقب
وحسبي أن ألم ببك ... ر مثلك جارحا حسبي
ولكن الدواء على ... كراهته شفا الوصب
حدث أبو الحسن الطرائفي ببغداد قال: كان أبو الفتح عثمان بن جني في حلب يحضر عند المتنبي الكثير ويناظره في شيء من النحو من غير أن قرأ عليه ديوان شعره إكبارا لنفسه عن ذلك، وكان المتنبي يعجب بأبي الفتح وذكائه وحذقه ويقول: هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس؛ وسئل أبو الطيب بشيراز عن قوله:
وكان ابنا عدو كاثراه ... له ياءي حروف أنيسيان
فقال: لو كان صديقنا أبو الفتح ابن جني حاضرا فسّره. قلت: وتفسيره أن لفظة إنسان خمسة أحرف إذا كانت مكبرة، فإذا صغر قيل أنيسيان، فزاد عدد حروفه وصغر معناه، فيقول للممدوح ان عدوك الذي له ابنان فيكاثرك بهما كانا زائدين في(4/1594)
عدده ناقصين من فضله وفخره لأنهما ساقطان خسيسان كياءي أنيسيان تزيدان في عدد الحروف وتنقصان من معناه.
قرأت بخط الشيخ ابي منصور ابن الجواليقي قال لنا أبو زكرياء «1» : رأيت بخط ابن جني، أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد القرميسيني عن أبي بكر محمد بن هارون الروياني عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني قال: قرأ عليّ أعرابي «طيبى لهم وحسن مآب» فقلت: «طوبى» ، فقال: «طيبى» فقلت ثانيا: «طوبى» ، فقال:
«طيبى» فلما طال عليّ قلت «طوطو» ، فقال: الأعرابي: «طي طي» ، أما ترى إلى هذه النحيزة ما أبقاها وأشد محافظة هذا البدوي عليها حتى إذا استكره على تركها فأبى إلا إخلادا إليها، ونحو ذلك قال عمار «2» الكلبي وقد أنشد بعض أهل الأدب بيتا قاله، وهو:
بانت نعيمة والدنيا مفرقة ... وحال من دونها غيران مزعوج
فقيل له: لا يقال مزعوج، إنما يقال مزعج، فجفا ذلك عليه وقال يهجو النحويين:
ماذا لقينا من المستعربين ومن ... قياس نحوهم هذا الذي ابتدعوا
إن قلت قافية بكرا يكون بها ... بيت خلاف الذي قاسوه أو ذرعوا
قالوا لحنت وهذا ليس منتصبا ... وذاك خفض وهذا ليس يرتفع
وحرّضوا بين عبد الله من حمق ... وبين زيد فطال الضرب والوجع
كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم ... وبين قوم على إعرابهم طبعوا
ما كلّ قولي مشروحا لكم فخذوا ... ما تعرفون وما لم تعرفوا فدعوا
لان أرضي أرض لا تشبّ بها ... نار المجوس ولا تبنى بها البيع
قال ابن جني «3» : وعلى نحو ذلك فحضرني قديما بالموصل أعرابي عقيلي جوثيّ تميمي يقال له محمد بن العساف الشجري، وقلّما رأيت بدويا أفصح منه،(4/1595)
فقلت له يوما، شغفا بفصاحته والتذاذا بمطاولته وجريا على العادة معه في إيقاظ طبعه واقتداح زند فطنته: كيف تقول: «أكرم أخوك أباك» . فقال كذاك، فقلت له:
أفتقول «أكرم أخوك أبوك» فقال: لا أقول «أبوك» أبدا؛ قلت فكيف تقول:
«أكرمني أبوك» فقال: كذاك، قلت ألست تزعم أنك لا تقول «أبوك» أبدا؟ فقال:
أيش هذا، اختلفت جهتا الكلام. فهل قوله «اختلفت جهتا الكلام» إلا كقولنا نحن «هو الآن فاعل وكان في الأول مفعولا» فانظر إلى قيام معاني هذا الأمر في أنفسهم وإن لم تطع به عبارتهم.
أخبرني أبو علي عن أبي بكر عن أبي العباس قال «1» : سمعت عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير يقرأ «ولا الليل سابق النهار» فقلت له: ما أردت؟ قال:
أردت «سابق النهار» . فقلت له: فهلا قلته؟ فقال: لو قلته لكان أوزن، أي أقوى وأفصح. ففي هذه الحكاية من فقه العربية ثلاثة أشياء: أحدها أنهم قد يراعون من معانيهم ما ننسبه إليهم ونحمله عليهم، والثاني أنهم قد ينطقون بالشيء وفي أنفسهم غيره، ألا ترى أنه لما نصّ أبو العباس عليه واستوضح ما عنده قال: «أردت كذا» وهو خلاف ما لفظ به، والثالث أنهم قد ينطقون بالشيء غيره أقوى منه استلانة وتخفيفا، ألا تراه كيف قال: لو قلته لكان أوزن، أي أقوى وأعرب.
قال ابن جني: وسألت الشجريّ صاحبنا هذا الذي قد مضى ذكره، قلت له:
كيف يا أبا عبد الله تقول: «اليوم كان زيد قائما» فقال: كذلك، فقلت: فكيف تقول «اليوم انّ زيدا قائم» فأباها البتة، وذلك أن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبلها لأنها إنما تأتي أبدا مستقبلة قاطعة لما قبلها عما بعدها وما بعدها عما قبلها.
قلت له يوما ولابن عم له يقال غصن، وكان أصغر منه سنّا وألين لسانا «2» : كيف تحقّران «حمراء» ؟ فقالا: «حميراء» ، قلت: «فصفراء» ؟ قالا: «صفيراء» قلت: «فسوداء» ؟ قالا «سويداء» ، واستمررت بهما في نحو هذا فلما استويا عليه دسست بين ذلك «علباء» فقلت «فعلباء» ؟ فأسرع ابن عمه على طريقته فقال(4/1596)
«عليباء» ، وكاد الشجريّ يقولها معه، فلما همّ بفتح الباء استرجع مستنكرا فقال: اه «عليبي» وأشمّ الضمة دائما للحركة في الوقف وتلك عادة له.
قال ابن جني: فسألته يوما يا أبا عبد الله كيف تجمع محرنجما؟ وكان غرضي من ذلك أن أعلم ما يقوله أيكسر فيقول حراجم أم يصحّح فيقول محرنجمات، فذهب هو مذهبا غير ذين فقال: وايش فرّقه حتى أجمعه، وصدق، وذلك أنّ المحرنجم هو المجتمع، يقولها مارا على شكيمته غير محسّ لما أريده منه، والجماعة معي على غاية الاستغراب لفصاحته، قلت له: فدع هذا، إذا أنت مررت بابل محرنجمة، وأخرى محرنجمة، وأخرى محرنجمة، تقول مررت بابل ماذا؟ فقال، وقد أحس الموضع: يا هذا هكذا أقول: مررت بابل محرنجمات، وأقام على الصحيح البتة استيحاشا من تكسير ذوات الأربعة لمصاقبتها ذوات الخمسة التي لا سبيل إلى تكسيرها لا سيما إذا كان فيها زيادة، والزيادة قد تعتدّ في كثير من المواضع اعتداد الأصول، حتى إنها لتلزم لزومها نحو كوكب وحوشب وضيون وهزنبران ودودرى وقرنفل، وهذا موضع يحتاج إلى إصغاء إليه وإرعاء عليه، والوقت لتلاحمه وتقارب أجزائه مانع منه، ويعين الله فيما يليه على المعتقد المنوي فيه بقدرته.
وسألته يوما كيف تجمع سرحانا؟ فقال سراحين، قلت: فدكانا، قال دكاكين، قلت: فقرطانا، قال: قراطين، قلت: فعثمان، قال: عثمانون، قلت: هلا قلت عثامين كما قلت سراحين وقراطين؟ فأباها البتة وقال: أيش ذا، أرأيت انسانا يتكلم بما ليس من لغته، والله لا أقولها أبدا، استوحش من تكسير العلم إكبارا له لا سيما وفيه الألف والنون اللتان بابهما فعلان الذي لا يجوز فيه فعالين نحو سكران وغضبان.
فهرست كتب ابن جنيّ:
كتب ابن جني إجازة بما صورته. بسم الله الرّحمن الرّحيم: قد أجزت للشيخ أبي عبد الله الحسين بن أحمد بن نصر- أدام الله عزه- أن يروي عني مصنفاتي وكتبي مما صححه وضبطه عليه أبو أحمد عبد السلام بن الحسين البصري- أيد الله عزه:
عنده منها كتابي الموسوم بالخصائص «1» وحجمه ألف ورقة. وكتابي التمام في تفسير(4/1597)
أشعار هذيل «1» مما أغفله أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري رحمه الله وحجمه خمسمائة ورقة بل يزيد على ذلك. وكتابي في سرّ الصناعة «2» وهو ستمائة ورقة.
وكتابي في تفسير تصريف أبي عثمان بكر بن محمد بن بقية المازني «3» وحجمه خمسمائة ورقة. وكتابي في شرح مستغلق أبيات الحماسة واشتقاق أسماء شعرائها «4» ومقداره خمسمائة ورقة. وكتابي في شرح المقصور والممدود عن يعقوب بن إسحاق السكيت وحجمه أربعمائة ورقة. وكتابي في تعاقب العربية وأطرف به وحجمه مائتا ورقة. وكتابي في تفسير ديوان المتنبي الكبير «5» وهو ألف ورقة ونيف. وكتابي في تفسير معاني هذا الديوان وحجمه مائة ورقة وخمسون ورقة. وكتابي اللمع في العربية وان كان لطيفا «6» . وكذلك كتابي مختصر التصريف على إجماعه. وكتابي مختصر العروض والقوافي «7» . وكتاب الألفاظ المهموزة «8» . وكتابي في اسم المفعول المعتل العين من الثلاثي على إعرابه في معناه وهو المقتضب. وما بدأت بعمله من كتاب تفسير المذكر والمؤنث ليعقبوب أيضا أعان الله على إتمامه. وكتاب ما خرّج عني من تأييد التذكرة عن الشيخ أبي علي أدام الله عزه. وكتابي في المحاسن في العربية وإن كان ما جرى أزال يدي عنه حتى شذ عنها ومقداره ستمائة ورقة. وكتابي النوادر الممتعة في العربية وحجمه ألف ورقة، وقد شذّ أيضا أصله عني فإن وقعا كلاهما أو شيء منهما فهو لا حق بما أجزت روايته هنا. وكتاب ما أحضرنيه الخاطر من المسائل المنثورة مما أمللته أو حصل في آخر تعاليقي عن نفسي وغير ذلك مما هذه حاله وصورته. فليرو-(4/1598)
أدام الله عزه- ذلك عني أجمع إذا صحّ عنده وأنس بتثقيفه وتسديده، وما صح عنده أيده الله من جميع رواياتي مما سمعته من شيوخي رحمهم الله وقرأته عليهم بالعراق والموصل والشام وغير هذه البلاد التي أتيتها وأقمت بها مباركا له فيه منفوعا به بإذن الله؛ وكتب عثمان بن جني بيده حامدا لله سبحانه في آخر جمادى الآخرة من سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
والحمد لله حق حمده عودا على بدء.
ومن كتبه ما لم تتضمنه هذه الاجازة: كتاب المحتسب في شرح الشواذ «1» .
وكتاب تفسير أرجوزة أبي نواس «2» . وكتاب تفسير العلويات وهي أربع قصائد للشريف الرضي كل واحدة في مجلد وهي: قصيدة رثى بها أبا طاهر إبراهيم بن ناصر الدولة أوّلها «3» :
ألقي الرماح ربيعة بن نزار ... أودى الردى بقريعك المغوار
ومنها قصيدته التي رثى بها الصاحب بن عباد وأولها «4» :
أكذا المنون تقنطر «5» الأبطالا ... أكذا الزمان يضعضع الأجبالا
وقصيدته التي رثى بها الصابىء وأولها «6» :
أعلمت من حملوا على الأعواد ... أرأيت كيف خبا زناد النادي
وكتاب البشرى والظفر صنعه «7» لعضد الدولة ومقداره خمسون ورقة في تفسير بيت واحد من شعر عضد الدولة:
أهلا وسهلا بذي البشرى ونوبتها ... وباشتمال سرايانا على الظفر(4/1599)
وكتاب رسالة في مدد الأصوات ومقادير المدات كتبها إلى أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري مقدارها ست عشرة ورقة بخط ولده عالي. كتاب المذكر والمؤنث. كتاب المنتصف. كتاب مقدمات أبواب التصريف. وكتاب النقض على ابن وكيع في شعر المتنبي وتخطئته. كتاب المغرب في شرح القوافي. كتاب الفصل بين الكلام الخاصّ والكلام العامّ. كتاب الوقف والابتداء. كتاب الفرق. كتاب المعاني المجرّدة. كتاب الفائق. كتاب الخطيب. كتاب مختار الأراجيز. وكتاب ذي القد في النحو. وكتاب شرح الفصيح. وكتاب شرح الكافي في القوافي «1» .
وجد على ظهر نسخة ذكر ناسخها أنه وجد بخط أبي الفتح عثمان بن جني، رحمه الله، على ظهر نسخة «كتاب المحتسب في علل شواذّ القراءات» : أخبرني بعض من يعتادني للقراءة عليّ والأخذ قال: رأيتك في منامي جالسا في مجلس لك على حال كذا وبصورة كذا، وذكر من الجلسة والشارة جملا «2» وإذا رجل له رواء ومنظر وظاهر نبل وقدر قد أتاك، فحين رأيته أعظمت مورده وأسرعت القيام له، فجلس في صدر مجلسك وقال لك: اجلس، فجلست، فقال كذا (شيئا ذكره) ثم قال لك: أتمم كتاب الشواذ الذي عملته فإنه كتاب يصل إلينا، ثم نهض، فلما ولّى سألت بعض من كان معه عنه فقال: علي بن أبي طالب عليه السلام، ذكر هذا الرائي لهذه الرؤيا لي، وقد بقيت من نواحي هذا الكتاب أميكنات تحتاج إلى معاودة نظر وأنا على الفراغ منها. وبعده ملحق في الحاشية بخطه أيضا: ثم عاودتها فصحّت بلطف الله ومشيئته. تمت الحكاية.
وقرأت بخط الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الرحيم السلمي، أنشدني الرئيس أبو منصور ابن دلال، قال أنشدنا أبو زكرياء يحيى بن علي التبريزي، قال أنشدني أبو العباس محمد بن الفضل بن محمد القصباني النحوي البصري بها لابن الزمكدم(4/1600)
الموصلي يهجو أبا الفتح ابن جني النحوي:
يا أبا الفتح قد أتيناك للتد ... ريس والعلم في فنائك رحب
فوجدنا فتاة بيتك أنحى ... منك والنحو مؤثر مستحب
قدماها مرفوعة وهي خفض ... فلم الأير فاعل وهو نصب
مذهب خالفت شيوخك فيه ... فهي تصبي به الحليم وتصبو.
[692] عثمان بن ربيعة الأندلسي:
ذكره الحميدي فقال: هو مؤلف «كتاب طبقات الشعراء بالأندلس» مات قريبا من سنة عشر وثلاثمائة.
[693] عثمان بن سعيد بن عدي بن غزوان
بن داود بن سابق المصري القبطي المعروف بورش المقرىء: وقيل هو عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو بن سليمان بن إبراهيم القرشي مولى لآل الزبير بن العوام، وقبط بلد بصعيد مصر، وأصله من القيروان، وقيل من ناحية أفريقية، والأول أشهر، وأما كنيته فقيل أبو سعيد وقيل أبو القاسم وقيل أبو عمرو، وأشهرها أبو سعيد. مات فيما نقلناه من كتاب الحافظ أبي العلاء الهمذاني عن أبي سعيد عبد الرحمن بن يونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري وأبي علي الحسن بن علي الأهوازي في سنة سبع وتسعين ومائة في أيام المأمون (الأهوازي خاصة) ، ومولده بمصر سنة عشر ومائة في أيام هشام بن عبد الملك، وقرأ على نافع في سنة خمس وخمسين ومائة في أيام المنصور، ومات وعمره سبع وثمانون سنة.
__________
[692]- جذوة المقتبس: 286 (وبغية الملتمس رقم: 1184) .
[693]- ترجمة ورش المقرىء في سير الذهبي 9: 295 وعبر الذهبي 1: 324 ومعرفة القراء 1: 126 وطبقات ابن الجزري 1: 502 والنجوم الزاهرة 2: 155 وحسن المحاضرة 1: 485 وتاج العروس 4: 364.(4/1601)
وأما تلقيبه بورش فقيل إنما لقّب به لأنه كان في حداثة سنّه رآسا «1» ثم إنه اشتغل بقراءة القرآن وتعلّم العربية ورحل إلى المدينة فقرأ بها على نافع القرآن، وكان أزرق أبيض اللون قصيرا ذا كدنة، وكان نافع يلقبه بالورشان وهو طائر معروف لأنه كان على قصره يلبس ثيابا قصارا فكان إذا مشى بدت رجلاه مع اختلاف ألوانه، وكان نافع يقول له: اقرأ يا ورشان وهات يا ورشان وأين الورشان، ثم خفّف فقيل ورش ولزمه ذلك حتى صار لا يعرف إلّا به؛ وقيل إن الورش شيء يصنع من اللبن لقّب به لبياضه.
وحدث الحافظ بإسناده ورفعه إلى محمد بن سلمة العثماني قال، قلت لأبي سلمة: أكان بينك وبين ورش مودة؟ قال: نعم. قلت: كيف كان يقرأ «2» ورش على نافع؟ قال قال لي ورش: خرجت من مصر إلى المدينة لأقرأ على نافع، فإذا هو لا تطاق القراءة عليه من كثرة أبناء المهاجرين والأنصار، وإنما يقرأ ثلاثين آية، فجلست خلف الحلقة فقلت لانسان: من أكبر الناس عند نافع؟ فقال: كبير الجعفريين، قال قلت: فكيف لي به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله، فقام الرجل معي حتى جاء إلى منزل الجعفري «3» ، فدقّ الباب، فخرج إلينا شيخ تامّ من الرجال، قال فقلت: أعزك الله أنا رجل من مصر جئت لأقرأ على نافع فلم أصل إليه، وأخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه، فقال: نعم وكرامة، وأخذ طيلسانه ومضى معنا إلى منزل نافع، وكان نافع له كنيتان: كان يكنى بأبي رويم وأبي عبد الله فبأيتهما نودي أجاب، فقال له الجعفري: إن هذا وسّلني إليك، جاءك من مصر ليقرأ عليك ليس معه تجارة ولا جاء لحجّ إنما جاء للقراءة خاصة، فقال نافع لصديقه الجعفري: هلّا «4» ترى ما ألقى من ولد المهاجرين والأنصار؟ قال فقال له صديقه:
تحتال له، فقال له نافع: يمكنك أن تبيت في المسجد؟ قال قلت: نعم إنما أنا إنسان غريب، قال: فبتّ في المسجد، فلما كان الفجر تقاطر الناس ثم قالوا: قد جاء نافع، فلما أن قعد قال: ما فعل الغريب؟ قال قلت: هذا أنا رحمك الله، قال قال: أبتّ في المسجد؟ قلت: نعم، قال: فأنت أولى بالقراءة، قال: وكنت مع(4/1602)
ذلك حسن الصوت مدّادا به، قال: فاستفتحت فملأ صوتي مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأت ثلاثين آية فقال لي بيده: أن اسكت، فسكتّ، فقام إليه شابّ من الحلقة فقال: يا معلم أعزك الله، نحن معك، وهذا رجل غريب، وإنما رحل للقراءة عليك وأنت تقرىء ثلاثين، وأنا أحبّ أعزك الله أن تجعل لي فيه نصيبا فقد وهبت له عشرا وأقتصر أنا على عشرين، وكان ذلك ابن كبير المهاجرين، فقال له: نعم وكرامة، ثم قال لي: اقرأ فقرأت عشرا ثم أوما إليّ بيده بالسكوت فسكتّ، فقام إليه فتى آخر فقال:
يا معلم أعزك الله إني أحبّ أن أهب لهذا الرجل الغريب عشرا وأقتصر على عشرين فقد تفضل عليه ابن كبير المهاجرين وأنت تعلم أني ابن كبير الأنصار فأحببت أن يكون لي أيضا مثل ما له من الثواب، قال لي: اقرأ، فلما أن قرأت خمسين آية قعدت حتى لم يبق أحد ممن له قراءة إلا قال لي: اقرأ، فأقرأني خمسين، فما زلت أقرأ عليه خمسين في خمسين حتى قرأت عليه ختمات قبل أن أخرج من المدينة.
[694] عثمان بن سعيد بن عثمان الأندلسي أبو عمرو
المقرىء يعرف بابن الصيرفيّ: ذكره الحميدي فقال: محدّث مكثر ومقرىء مقدّم، سمع بالأندلس محمد بن عبد الله بن أبي زمنين الالبيري وغيره، ورحل إلى المشرق قبل الأربعمائة فسمع خلقا وطلب علم القراءات وقرأ وسمع الكثير، وعاد إلى الأندلس فتصدر للقراءات، وألّف فيها تواليف معروفة ونظمها في أرجوزة مشهورة، ومات في شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة بدانية من بلاد الأندلس؛ ومن مذكور شعره:
قد قلت إذ ذكروا حال الزمان وما ... يجري على كلّ من يعزى إلى الأدب
لا شيء أبلغ من ذلّ يجرّعه ... أهل الخساسة أهل الدين والحسب
__________
[694]- ترجمة أبي عمرو الداني في جذوة المقتبس: 286 (وبغية الملتمس رقم: 1185) والصلة: 385 وطبقات ابن الجزري 1: 503 وتذكرة الحفاظ: 1120 وعبر الذهبي 3: 207 وسير الذهبي 18: 77 وانباه الرواة 2: 341 والديباج المذهب: 188 والشذرات 3: 272 ومرآة الجنان 3: 62 والنجوم الزاهرة 5: 53 ونفح الطيب 2: 135 وطبقات الداودي 1: 373 ومصنفاته تبلغ مائة وعشرين.(4/1603)
القائمين بما جاء الرسول به ... والمبغضين لأهل الزيغ والريب
وله كتب منها: كتاب التيسير في القراءات السبع وكتاب الاقتصاد في القراءات السبع «1» ..
[694 ب] عثمان بن سعيد بن عثمان أبو عمرو
الداني المقرىء: قرأت في فوائد أحمد بن سلفة المنقولة من خطه ما صورته: قرأت على أبي عبد الله محمد بن الحسن بن سعيد المقرىء الداني بالاسكندرية عن أبي داود سليمان بن نجاح المقرىء المؤيدي، قال: كتبت من خط أستاذي أبي عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان المقرىء بعد سؤالي عن مولده: يقول عثمان بن سعيد بن عثمان بن سعيد بن عمر الأموي القرطبي الصيرفي أخبرني أبي أني ولدت في سنة اثنتين وسبعين وثلاثمائة وابتدأت في طلب العلم سنة ست وثمانين وتوفي أبي في سنة ثلاث وتسعين في جمادى الأولى، فرحلت إلى المشرق في اليوم الثاني من المحرم يوم الأحد في سنة سبع وتسعين ومكثت بالقيروان أربعة أشهر، ولقيت جماعة وكتبت عنهم، ثم توجهت إلى مصر ودخلتها اليوم الثاني من الفطر من العام المؤرخ، ومكثت بها باقي العام والعام الثاني. وهو عام ثمانية [وتسعين] ، إلى حين خروج الناس إلى مكة، وقرأت بها القرآن وكتبت الحديث والفقه والقراءات وغير ذلك عن جماعة من المصريين والبغداديين والشاميين وغيرهم، ثم توجهت إلى مكة وحججت، وكتبت بها عن أبي العباس أحمد البخاري وعن أبي الحسن ابن فراس، ثم انصرفت إلى مصر ومكثت بها أشهرا، ثم انصرفت إلى المغرب ومكثت بالقيروان أشهرا، ووصلت إلى الأندلس أول الفتنة بعد قيام البرابر
__________
[694 ب]- أعطيت هذه الترجمة رقما مكررا لأنها هي الترجمة السابقة عينها.(4/1604)
على ابن عبد الجبار بستة أيام في ذي القعدة سنة تسع وتسعين، ومكثت بقرطبة إلى سنة ثلاث وأربعمائة، وخرجت منها إلى الثغر فسكنت سرقسطة سبعة أعوام، ثم خرجت منها إلى الوطة ودخلت دانية سنة تسع وأربعمائة، ومضيت منها إلى ميرقة في تلك السنة نفسها فسكنتها ثمانية أعوام، ثم انصرفت إلى دانية سنة سبع عشرة وأربعمائة. قال أبو داود: وتوفي رضي الله عنه يوم الاثنين للنصف من شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة ودفن بالمقبرة عند باب اندارة وقد بلغ اثنتين وسبعين سنة.
[695] عثمان بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد
أبو عمرو الطرسوسي الكاتب القاضي: كان من الأدباء الفضلاء، رأيت بخطه الكثير من كتب الأدب والشعر، وجمع شعر جماعة من أهل عصره منهم أبو العباس الصفري وأبو العباس الناشىء وغيرهما من شعراء سيف الدولة وابنه شريف، وصنف كتبا منها: كتاب في أخبار الحجّاب.
وكان متقن الخط سريع الكتابة، وولي القضاء بمعرة النعمان، وسمع الحديث الكثير ورواه، فسمع بدمشق أبا علي محمد بن أحمد بن آدم الفزاري وأبا هاشم عبد الجبار بن عبد الصمد السلمي، وبأطرابلس خيثمة بن سليمان، وبطرسوس أبا عبد الله محمد بن عيسى التميمي البغدادي المعروف بابن العلاف وأبا بكر محمد بن سعيد بن الشفق وأبا الحسن أحمد بن محمد بن سلام الطرسوسي والقاضيين: أبا عمران موسى بن القاسم الأشيب وأبا العباس أحمد بن أبي بكر الطبري المعروف بالقاص «1» وأبا الفرج أحمد بن القاسم البغدادي الخشاب الحافظ وجماعة غير هؤلاء كثيرة.
__________
[695]- لأبي عمرو الطرسوسي ترجمة في مصورة ابن عساكر 11: 125 ومختصر ابن منظور 16: 102 وقد عرف بكتابه سير الثغور وعنه ينقل ابن العديم في بغية الطلب كثيرا، انظر الجزء الأول من بغية الطلب وشذرات من كتب مفقودة 37- 48، 439- 459.(4/1605)
وسمع منه أبو حصين عبد الله بن محسن بن عبد الله بن محسن «1» بن عبد الله ابن عمرو المعرّي وعبد الرحمن «2» بن محمد بن الحسين الكفرطابي وأبو علي الأهوازي والقاضي أبو الفضل ابن السعدي.
قال أبو القاسم الدمشقي: قرأت على أبي القاسم نصر بن أحمد بن مقاتل عن سهل بن بشر قال: سمعت القاضي أبا الفضل محمد بن أحمد بن عيسى السعدي يقول: توفي شيخنا أبو الحسين ابن جميع في رجب سنة اثنتين وأربعمائة، وتوفي شيخنا عثمان الطرسوسي القاضي بكفر طاب قبله بسنة أو نحوها.
[696] عثمان بن علي بن عمر السرقوسي النحوي
الصقلي أبو عمرو: قال السلفي: كان من العلم بمكان، نحوا ولغة، وقرأ القرآن على ابن الفحام وابن بليمة «3» وغيرهما، وله تواليف في القراءات والنحو والعروض، وصارت له في جامع مصر حلقة للاقراء وانتفع به، ولازمني مدة مقامي بمصر، وقرأ عليّ كثيرا وعلى من كنت أقرأ عليه كأبي صادق وابن بركات والفراء الموصلي وآخرين؛ وأنشدني لنفسه «4» :
إنّ المشيب من الخطوب خطيب ... إلّا هوى بعد الشباب يطيب
أبيات غير جيدة.
قال أحمد بن سلفه «5» : كتبت إلى المقرىء أبي عمرو عثمان بن علي بن عمر
__________
[696]- ترجمته في انباه لرواة 2: 342 وبغية الوعاة 2: 134 واشارة التعيين: 202 ويعتمد ياقوت على معجم السفر للسلفي: 231- 232.(4/1606)
الصقلي الانصاري بالاسكندرية كتابا يشتمل على نظم ونثر من جملته:
ما وقعت عيني على مثله ... في فضله الوافي وفي نبله
وليس بدعا مثل أخلاقه ... منه وممن كان في شكله
فإنه من عنصر طيب ... ويرجع الفرع إلى أصله
فأجاب بهذه الورقة: وقفت على ما تفضّلت به حضرته، وانتهت إليه من الآداب همته، فمن نثر رأيت العلم مضمونه، والدرّ مكنونه، والحكمة قرينه، ومن نظم كانت الفصاحة يمينه، وفصل الخطاب عرينه، وودّ فصيح الكلام أن يكونه، وأحيا القلوب، وكشف لها المحجوب، من كل حكمة لم تكن لتصل إليه لولاه، وسحر بلاغة له منحه إياها الله، فقلت والخاطر لسفري خاطر، وماء مزني بعد شآبيبه قاطر:
توّجني مولاي من قوله ... تاجا علا التيجان من قبله
لأنها تبلى وهذا إذا ... مرّت به الأيام لم تبله
فنثره الإكليل في فرعه ... ونظمه الجوهر من أصله
وهو فقيه حافظ في الورى ... مهذّب يجري على رسله
كلّا وأما إن جرى فالورى ... عذر لهم ما جاب من سبله
فعلمه يشتقّ من لفظه ... ولفظه يشتقّ من فضله
تكاملت أوصافه كلّها ... ومثله من كان من مثله
وما أنا إلا كمهد إلى ... بغداد والبصرة من نخله
وأما ما ذكرت حرسها الله تعالى من كتاب الهدى لأولي النهى في المشهور من القراءات وما تضمن من الروايات:
فلو تفرغت إلى نقله ... أو كان عندي الأمّ من شكله
عذري إلى مولاي أني امرؤ ... مسافر والشغل من فعله
لكلّه من بعضه شاغل ... وبعضه المشغول من كله(4/1607)
وأما ما يتعلق ببيت الأحوص من كلام، وما قلت فيه من نثر ونظام، فأنا آتي إليها، وأتلوه لديها، والله يديم النعمة عليها.
[697] عثمان بن علي بن عمر الخزرجي الصقلي أبو عمرو النحوي:
روى عنه الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي وأبو محمد ابن بري النحوي وأبو البقا صالح بن عادي العذري الانماطي المصري نزيل قفط، وقال: أنشدني أبو عمرو عثمان بن علي الصقلي لنفسه:
هين عليها أن ترى الصبّا ... يتجرّع الأوصاب والكربا
من لم يصد بتكلّف قنصا ... وتعمّد للصيد لم يعبا
لا تعبثي يا هذه بفتى ... أخذت جفونك قلبه غصبا
أو ما علمت بأنه رجل ... لما دعاه هواكم لبّى
وقال في «مختصر العمدة» وقد ذكر قول الشماخ:
إذا بلّغتني وحملت رحلي
وما ناقضه به أبو نواس من قوله:
أقول لناقتي إذ بلّغتني ... لقد أصبحت مني باليمين
فلم أجعلك للغربان نحلا ... ولا قلت اشرقي بدم الوتين
وذكر غير ذلك من هذا الباب ثم قال: ولي قصيدة أولها:
رحلت فعلّمت الفؤاد رحيلا ... وبكت فصيرت الأسيل مسيلا
وحدا بها حاد حدا بي للنوى ... لكنّ منّا قاتلا وقتيلا
وإذا الحبيب أراد قتل محبه ... جعل الفراق إلى الممات سبيلا
__________
[697]- يعتمد ياقوت في هذه الترجمة على السلفي. ويتطابق الاسم والنسب والنسبة للمترجم هنا بالمترجم قبله؛ وليس في معجم السفر زيادة على ما ورد في الترجمة السابقة.(4/1608)
اذكر فيها خطابي الناقة، واحترست مما يؤخذ على الشماخ بأخذ من مذهب أبي نواس:
وإذا بلغت المرتضى فتسيبي ... إذ ليس يحوجني أسوم رحيلا
والمرتضى يحيى بن تميم بن المعز بن باديس.
وله كتاب مختصر في القوافي رواه عنه السلفي في سنة سبع عشرة وخمسمائة.
وله كتاب مخارج الحروف مختصر أيضا. وكتاب مختصر العمدة لابن رشيق. وكتاب شرح الايضاح.
وقال عثمان الصقلي في «مختصره للعمدة» وقد ذكر السرقات فقال: لي من قصيدة أولها (ونقلتها من خطه وقد أعلم عليه ع وهي علامة لنفسه) .
دمع رأى برق الحمى فتحدّرا ... وجوى ذكرت له الحمى فتسعّرا
لو لم يكن هجر لما عذب الهوى ... أنا أشتهي من هاجري أن يهجرا
بيني وبين الحبّ نسبة عنصر ... فمتى وصلت وصلت ذاك العنصرا
قال: ثم وجدت للموصلي:
إذا لم يكن في الحبّ سخط ولا رضى ... فأين حلاوات الرسائل والكتب
قال: ولله در القائل:
بني الحبّ على الجور فول ... أنصف المحبوب فيه لسمج
ليس يستحسن في دين الهوى ... عاشق يحسن تلفيق الحجج
ومما ذكره الصقلي لنفسه في هذا الكتاب أيضا، وقد ذكر المواردة قال: وهو ما ادّعي في شعر امرىء القيس وطرفة في كونهما لم يفرق بين بيتيهما إلا بالقافية، قال امرؤ القيس «تجمّل» وقال طرفة «تجلّد» قال الصقلي ومن أعجب من ذلك أني صنعت قصيدة أولها:
يهون عليها أن أبيت متيما ... وأصبح محزونا وأضحي مغرما
ومنها:
صلي مدنفا أو واعديه وأخلفي ... فقد يترجّى الآل من شفّه الظما(4/1609)
ضمان على عينيك قتلي وإنما ... ضمان على عينيّ أن تبكيا دما
ليفدك ما أسأرت مني فإنها ... حشاشة صبّ أزمعت أن تصرما
قال: ثم قرأت بعد ديوان البحتريّ فوجدت معظم هذه الألفاظ مبدّدة فيه.
قال: فإذا كانت أكثر المعاني يشترك فيها الناس حتى قطع ابن قتيبة ان قوله تعالى:
يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ
(الكهف: 77) لا يعبر عنه إلا بهذه العبارة ونحوها فغير مستنكر أن يشتركوا وتتفق ألفاظهم في العبارة عنها ولكن أبي المولدون إلا أنها سرقة.
قلت: لو قال في موضع «أضحي» من البيت الأول «أمسي» كان أجود ليقابل به «أصبح» ، ولو قال في البيت الثاني «وقد يشتفي بالآل من شفّه الظما» كان أحسن في الصنعة وأجود.
[698] عثمان بن عيسى بن منصور بن محمد البلطي،
أبو الفتح النحوي: هكذا ينسبونه وهو من بلد «1» التي تقارب الموصل. ذكره العماد في «كتاب الخريدة» فقال: انتقل إلى الشام وأقام بدمشق برهة يتردد إلى الزبداني للتعليم، فلما فتحت مصر انتقل إليها فحظي بها، ورتّب له صلاح الدين يوسف بن أيوب على جامع مصر جاريا يقرىء به النحو والقرآن حتى مات بها لعشر بقين من صفر سنة تسع وتسعين وخمسمائة، وهي آخر سني الغلاء الشديد بمصر، لأن أولها كان في أواخر سنة ست وأشدها في سنة سبع وأخفّها سنة تسع. وبقي البلطي في بيته ميتا ثلاثة أيام لا يعلم به أحد لاشتغالهم بأنفسهم عنه وعن غيره، وكان يحب الانفراد والوحدة، فلم يكن له من يخبر بوفاته، وكان قد أخذ النحو عن أبي نزار وأبي محمد سعيد بن المبارك بن الدهان.
قال المؤلف: لم يذكر العماد وفاته، وإنما أخبرني بوفاته وما بعده الشريف أبو
__________
[698]- ترجمة البلطي في الخريدة (قسم الشام) 2: 385 وانباه الرواة 2: 344 والفوات 2: 443 وبغية الوعاة 2: 135 (وهو ينقل عن ياقوت) ، وانظر معجم البلدان «بلط» .(4/1610)
جعفر محمد بن عبد العزيز بن أبي القاسم بن عمر بن سليمان بن الحسن بن إدريس بن يحيى العالي بن علي المعتلي- وهو الخارج بالمغرب والمستولي على بلاد الأندلس- ابن حمود بن ميمون بن أحمد بن عمر بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام. وأخبرني الشريف المذكور وكان من تلاميذه «1» قال: كان البلطي رجلا طوالا جسيما طويل اللحية واسع الجبهة أحمر اللون يعتمّ بعمة كبيرة جدّا ويتطلّس بطيلسان لا على زيّ المصريين، بل يلقيه على عمامته ويرسله من غير أن يديره على رقبته، وكان يلبس في الصيف المبطّنة والثياب الكثيرة حتى يرى كأنه عدل عظيم، وكان إذا دخل فصل الشتاء اختفى حتى لا يكاد يظهر، وكان يقال له أنت في الشتاء من حشرات الأرض، وكان إذا دخل الحمام يدخل إلى داخله وعلى رأسه مزدوجة مبطّنة بقطن، فإذا حصل عند الحوض الذي فيه الماء الحارّ كشف رأسه بيده الواحدة وصبّ على رأسه الماء الحارّ الشديد الحرارة بيده الأخرى، ثم يغطيه إلى أن يملأ السطل، ثم يكشفه ويصبّ عليه، ثم يغطيه، يفعل ذلك مرارا، فإذا قيل له في ذلك قال: أخاف من الهواء.
قال الإدريسي: هذه كانت حاله في هيئته وسمته، فأما علمه فكان عالما إماما نحويّا لغويّا أخباريّا مؤرخا شاعرا عروضيّا قلّ ما سئل عن شيء من العلوم الأدبية إلا وأحسن القيام بها، وكان يخلط «2» المذهبين في النحو ويحسن القيام بأصولهما وفروعهما، وكان مع ذلك خليعا ماجنا شرّيبا للخمر منهمكا على اللذّات.
قال الشريف الإدريسي: فحدثني الفقيه ابن أبي المالك قال: خرجت إلى بعض المتنزهات بضواحي مصر فلقيت البلطيّ مع جماعة من أهل الخلاعة، ومطرب يغنّيهم ببعض الملاهي، وهو ثمل يتمايل سكرا، فتقدمت إليه وقلت له، وكانت بيني وبينه مباسطة تقتضي ذلك، فقلت له: يا شيخ أما آن لك أن ترعوي وتقلع عن هذه الرذائل مع تقدمك في العلم وفضلك؟! فنظر إليّ شزرا ولم يكترث بقولي، وأنشدني بعد ما نتريده من يدي شعر أبي نواس «3» :(4/1611)
كفيت الصبا من لا يهشّ إلى الصبا ... وجمعت منه ما أضاع مضيع
لعمرك ما فرطت «1» في جنب لذة ... ولا قلت للخمار كيف تبيع
وحدثني الإدريسي قال: ومن نوادره ما أخبرني به صاحبنا الفقيه أبو الجود ندى بن عبد الغني الحنفي الأنصاري قال: حضر يوما عند البلطي بعض المطربين المحسنين فغناه صوتا أطربه به، فبكى البلطي فبكى المطرب، فقال له البلطي: أما أنا فأبكي «2» من استفزاز الطرب، أنت ما أبكاك؟ فقال له: تذكرت والدي فإنه كان إذا سمع هذا الصوت بكى، فقال له البلطي: فأنت والله إذن ابن أخي، وخرج فأشهد على نفسه جماعة من عدول مصر بأنه ابن أخيه ولا وارث له سواه، ولم يزل يعرف بابن أخي البلطي إلى أن فرق الدهر بينهما.
وللبلطي من التصانيف: كتاب العروض الكبير في نحو ثلاثمائة ورقة. كتاب العروض الصغير. كتاب العظات الموقظات. [كتاب النير في العربية. كتاب أخبار المتنبي. كتاب المستزاد على المستجاد من فعلات الأجواد] . كتاب علم أشكال الخط. كتاب التصحيف والتحريف. كتاب تعليل العبادات.
قال العماد في «كتاب الخريدة» : وللبلطي موشحة عملها في القاضي الفاضل بديعة مليحة سلك فيها طريق المغاربة وحافظ فيها على أحرف الغين والضاد والذال والظاء، وصرّع التوشيح، وهي:
ويلاه من روّاغ ... بجوره يقضي
ظبي بني يزداذ ... منه الجفا حظّي
قد زاد وسواسي ... مذ زاد في التيه
لم يلق في الناس ... ما أنا لاقيه
من قيّم قاسي ... بالهجر يغريه
أروم إيناسي ... به ويثنيه(4/1612)
إذا وصال ساغ ... بقربه يرضي
أبعده الأستاذ ... لا حيط بالحفظ
وكلّ ذا الوجد ... بطول إيراقه
مضرج الخدّ ... من دم عشّاقه
مصارع الأسد ... في لحظ أحداقه
لو كان ذا ودّ ... رقّ لعشاقه
شيطانه النزاغ «1» ... علّمه بغضي
واستحوذ استحواذ ... بقلبه الفظّ
دع ذكره واذكر ... خلاصة المجد
الفاضل الأشهر ... بالعلم والزهد
والطاهر المئزر ... والصادق الوعد
وكيف لا أشكر ... مولى له عندي
نعمى لها إسباغ ... صائنة عرضي
من كفّ كاس غاذ ... والدهر ذو عظّ «2»
منة مستبقي ... ضاق بها ذرعي
قد أفحمت نطقي ... واستنفدت وسعي
وملكت رقي ... لمكمل الصّنع
دافع عن رزقي ... في موطن الدفع
لما سعى إيتاغ ... دهري في دحضي «3»
أنقذني إنقاذ ... من همّه حفظي(4/1613)
ذو المنطق الصائب ... في حومة الفصل
ذكاؤه الثاقب ... يجلّ عن مثل
فهو الفتى الغالب ... كلّ ذوي النبل
من عمرو والصاحب ... ومن أبو الفضل «1»
لا يستوي الافراغ ... بواحد الأرض
أين من الآزاذ ... نفاية المظّ «2»
يا أيها الصدر ... فتّ الورى وصفا
قد مسني الضرّ ... والحال ما تخفى
وعبدك الدهر ... يسومني الخسفا
وليس لي عذر ... ما دمت لي كهفا
من صرف دهر طاغ ... أنّى له أغضي
من بك أمسى عاذ ... لم يخش من بهظ
قد كنت ذا إنفاق ... أيام ميسوري
فعيل لما ضاق ... رزقي تدبيري
والعسر بي قد حاق ... عقيب تبذيري
يا قاسم الأرزاق ... فارث لتقتيري
لا زلت كهف الباغ ... ودمت في خفض
أمرك للانفاذ ... والسعد في لظّ «3»
ومن جيد شعر البلطي «4» :
دعوه على ضعفي يجور ويشتطّ ... فما بيدي حلّ لذاك ولا ربط(4/1614)
ولا تعتبوه فالعتاب يزيده ... ملالا وإني لي اصطبار إذا يسطو
فما الوعظ فيه والعتاب بنافع ... وان يشرط الإحسان لا ينفع الشرط
ولما تولّى معرضا بجنابه ... وبان لنا منه الاساءة والسخط
بكيت دما لو كان ينفعني البكا ... ومزقت ثوب الصبر لو نفع العطّ
تنازعت الآرام والدرّ والمها ... لها شبها والغصن والبدر والسقط
فللرئم منه اللحظ واللون والطلى ... وللدرّ منه اللفظ والثغر والخطّ
وللغصن منه القدّ والبدر وجهه ... وعين المها عين بها أبدا يسطو
وللسقط منه ردفه فإذا مشى ... بدا خلفه كالموج يعلو وينحطّ
قال العماد الكاتب وأنشدني البلطي لنفسه «1» :
حكّمته ظالما في مهجتي فسطا ... وكان ذلك جهلا شبته بخطا
هلا تجنبته والظلم شيمته ... ولا أسام به خسفا ولا شططا
ومن أضلّ هدى ممن رأى لهبا ... فخاض فيه وألقى نفسه وسطا
ويلاه من تائه أفعاله صلف ... ملوّن كلّما أرضيته سخطا
أبثّه ولهي صدقا ويكذبني ... وعدا وأقسط عدلا كلما قسطا
وله في القاضي الفاضل وكان قد أسدى إليه معروفا من قصيدة «2» :
لله عبد رحيم ... يدعى بعبد الرحيم
على سراط سويّ ... من الهدى مستقيم
نسك ابن مريم عيسى ... وهدي موسى الكليم
رأى التهجد أنسا ... في جنح ليل بهيم
مسهّد الطرف يتلو ... آي القران العظيم(4/1615)
ومن أطبع ما قاله في طبيب، وكان ابن عمه «1» :
لي ابن عمّ حوى «2» الجهالة ... للحكمة أضحى يطبّ في البلد
قد اكتفى مذ نشا به ملك الم ... وت فما إن يبقي على أحد
تجسّ نبض المريض منه يد ... أسلم منها براثن الأسد
يقول لي الناس خلّه عضدا ... فقلت يا ليتني بلا عضد «3»
ومن شعره في غلام أعرج «4» :
أنا يا مشتكي القزل ... منك في قلبي الشّعل
أصبح الجسم ناحلا ... بك والقلب مشتغل
دلّني قد عدمت صب ... ري وضاقت بي الحيل
آن أن تجفو الجفا ... ء وان تملل الملل
وقال عثمان بن عيسى بن منصور البلطي، وسئل أن يعمل على وزن بيتي الحريري اللذين وصفهما فقال: «اسكتا كل نافث. وأمنا أن يعززا بثالث» ، وهو «5» :
سم سمة تحمد «6» آثارها ... واشكر لمن أعطى ولو سمسمه
فقال:
محلمة العاقل عن ذي الخنا ... توقظه إن كان في محلمه
مكلمة الخائض في جهله ... لقلب من يردعه مكلمه
مهدمة العمر لحرّ إذا ... أصبح بين الناس ذا مهدمه (الثياب الخلقة)
محرمة الملحف أولى به ... إياك ان ترعى له محرمه (أي حرمة)
مسلمة يمنعها غاصب ... حقّا فأمسى جوره مسلمه (أي خاذله)(4/1616)
مظلمة يفعلها عامدا ... تلقيه يوم الحشر في مظلمه (أراد قوله للظالم
ظلمات يوم القيامة)
أعلمه الحسن فيا ليت من ... أغراه [بالجفوة] بي أعلمه
(من العلامة)
من دمه أهدره الحبّ لا ... غرو إذا حلّت به مندمه
أسلمه الحبّ إلى هلكه ... فإن نجا منه فما أسلمه
أشأمه البين وقد أعرقوا ... أفّ لهذا البين ما أشأمه
مكتمة الأحزان في أدمعي ... يبدو نصول الشيب من مكتمه
(من الكتم الذي يصبغ به الشعر)
محرمة الدهر أفيقي ففي ... ذرى جمال الدين لي محرمه (الاحترام)
مقسمة الارزاق في كفّه ... أبلج زانت وجهه مقسمه
وهي خمسون بيتا هذا أنموذجها.
وقال على مثال أبيات الحريري التي أولها «1» :
أس أرملا إذا عرا ... وارع إذا المرء أسا «2»
فقال:
اسع لا بقاء سنا ... أنسأ قبّا لعسا
(السناء: الشرف وقصره ضرورة، انسأ: أخّر، القبّ الضوامر البطون، واللعس: العذبات الأرياق، أي أخر عنه محبة هذا الشرف هذه النسوة الموصوفات) .
اسخ بمولى عرد ... درعاء لوم بخسا
(المولى ابن العم)
أسد ندى عفّ نما ... منّ فعاد ندسا(4/1617)
(أسد: أعط، والندس: الجميل الأخلاق) .
اسمح بصدّ ناعم ... معاند صبح مسا
(يقول: إذا كان لك حبيب ناعم حسن وكان كثير الخلاف فلتسمح نفسك به وبالبعد عنه) :
اسمر تيّمك آس ... اياسا كميت رمسا
(يقول: بلغ من حالك أن تترك الأسمر، اذ لو كان غير الأسمر كنت معذورا كأنه يستقبح السمر أي آس منه إياسا وعدّه ميتا في رمسه، وسكن تيّمك ضرورة كقوله:
شكونا إليه خراب القرى ... فحرّم علينا لحوم البقر
وله أبيات يحسن في قوافيها الرفع والنصب والخفض «1» :
إني امرؤ لا يطبين ... ي الشادن الحسن القوام
(ما) رفع القوام بالحسن صفة مشبهة باسم الفاعل والتقدير الحسن قوامه كما تقول مررت بالرجل الحسن وجهه، ونصبه على الشبه بالمفعول به، وخفضه بالاضافة.
فارقت شرة عيشتى ... إذ فارقتني والعرام
(ما) رفع العرام لأنه عطف على الضمير في فارقتني، ونصبه عطفا على شرة، وخفضه عطفا على عيشتى.
لا أستلذ بقينة ... تشدو لديّ ولا غلام
(ما) رفعه عطفا على الضمير في تشدو، ونصبه بلا، وخفضه عطفا على قينة.
ذو الحزن ليس يسرّه ... طيب الأغاني والمدام
(ما) رفعه عطفا على طيب، ونصبه بأن يجعل الواو بمعنى مع، وخفضه عطفا على الأغاني.
أمسي بدمع سافح ... في الخد منسكب سجام
(ما)(4/1618)
رفعه باضمار هو، ونصبه باضمار فعل، وجرّه نعتا للدمع.
همّ أرى في بثّه ... ذلّا وملء فمي لجام
(ما) ملء فمي لجام مبتدأ وخبر، ونصبه باضمار أرى دلت عليه أرى الأولى، وجره بالاضافة.
قدر عليّ محتّم ... من فوق يأتي أو أمام
(ما) مبنيّ على الضم، ونصبه بجعله نكرة ويكون ظرفا، وجره بالإضافة.
لا يستفيق القلب من ... كمد يلاقي أو غرام
(ما) غرام خبر مبتدأ محذوف، والنصب جعله مفعولا ليلاقي، وخفضه على كمد
كم حاسدين معاندي ... ن غدوا عليّ وكم لئام
(ما) كم تنصب وتخفض، ورفعه كأنه قال: مرّ وغدا عليّ لئام
إني أرى العيش الخمو ... ل وصحبة الأشرار ذام
(ما) صحبة الأشرار مبتدأ وخبر، ويجوز نصبها عطفا على ما تقدم.
في غفلة أيقاظهم ... عن سؤدد بله النيام
(ما) بله لفظة معناها دع وتكون بمعنى كيف ويرتفع ما بعدها، وتكون كالمصدر فيخفض بها، والنصب لأنها بمعنى دع.
ربّ امرىء عاينته ... لهجا بسبّي مستهام
(ما) مستهام منصوب بعاينته، ورفعه على موضع ربّ لأن رب وما يدخل عليه في موضع رفع، وخفضه نعتا لامرىء.
عين العدو غدوت مض ... طرّا بصحبته اسام
(ما) أسامي أفاعل من المساماة، وأسام اتكلف من قوله سمته الخسف، وأساما أفاعل من المساماة أيضا.
مالي وللحمق الأثي ... يم الجاهل الفدم العبام
(ما)(4/1619)
رفعه باضمار مبتدأ، ونصبه باضمار اعني.
إنّ المموّه عند فد ... م الناس يعلو والطغام
(ما) رفعه عطفا على موضع إنّ، ونصبه عطفا على المموه، وخفضه عطفا على فدم.
وأعيش فيهم اذ بلو ... تهم وقد جهلوا الأنام
(ما) البدل من الواو في جهلوا ويكون فاعلا في لغة من قال أكلوني البراغيث، ونصبه على البدل «1» من الضمير في بلوتهم، وجره بدلا من الهاء في فيهم.
حتى متى شكوى أخي البثّ الكئيب المستضام (ما) رفعه بتقدير أن يشكو المستضام لأن شكوى مصدر وأخي البث في موضع رفع المستضام ورفع أخي البث على الموضع، ونصبه على أن يكون مشكوّا، وخفضه نعتا للكئيب.
ما من جوى الا تض ... منه فؤادي أو سقام
(ما) رفعه عطفا على موضع من جوى، وجره على لفظة جوى، ونصبه عطفا على الضمير في تضمنه.
ليس الحياة شهيّة ... لي في الشقاء ولا مرام
(ما) رفعه بلا ولا، ونصبه بلا أيضا، وجره على شهيّة بتقدير الباء كأنه قال بشهية كما أنشد سيبويه:
مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ... ولا ناعب إلا ببين غرابها
(اراد بمصلحين)
وكرهت في الدنيا البقا ... ء وقد تنكّد والمقام
(ما) رفعه على الضمير في تنكد، ونصبه عطفا على البقاء، وجره بالقسم.
ما في الورى من مكرم ... لذوي العلوم ولا كرام
(ما)(4/1620)
جره على لفظ مكرم
(بفتح الميم) .
إني وددت وقد سئمت ... العيش لو يدنو حمام
(ما) رفعه بالفاعل، ونصبه بوددت، وجره بالاضافة.
وقال أيضا أبياتا حصر قوافيها ومنع أن يزاد فيها:
بأبي من تهتكي فيه صون ... ربّ واف لغادر فيه خون
بين ذلّ المحبّ في طاعة الحبّ ... وعزّ الحبيب يا قوم بون
اين مضنى يحكي البهارة لونا ... من غرير له من الورد لون
لي حبيب ساجي اللواحظ أحوى ... مترف زانه جمال وصون
يلبس الوشي والقباطيّ جون ... فوق جون ولون حالي جون
إن رماني دهري فإن جمال ... الدين ركني وجوده لي عون
عنده للمسيء صفح وللأسرار ... مستودع وللمال هون
زانه نائل وحلم وعدل ... ووفاء جمّ ورفق وأون «1»
أنا في ربعه الخصيب مقيم ... لي من جوده لباس ومون
لا أزال الإله عنه نعيما ... وسرورا ما دام للخلق كون.
[699] عريب بن محمد بن مطرف بن عريب القرطبي،
أبو مروان: له سماع بالمشرق على أبي الحسن ابن جهضم بمكة، وكان من أهل الأدب والشعر، حسن الايراد «2» للأخبار، واستقضي في الفتنة على كورة بونه، وقتل خطأ على باب داره في ربيع الآخر سنة تسع وأربعمائة، ذكر وفاته ابن حيّان.
__________
[699]- ترجمة عريب في الصلة: 426 وقد وقعت في ك قبل ترجمة عبيد بن مسعدة.(4/1621)
[700] عزيز بن الفضل بن فضالة بن مخراق
بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن مخراق الهذلي، يعرف بابن الأشعث: أخباريّ راوية لغويّ نحويّ، ذكره محمد بن إسحاق، مات [ ... ] «1» وله من الكتب: كتاب صفات الجبال والأودية وأسمائها بمكة وما والاها «2» ، قال الأزهري في مقدمة كتابه: وله كتاب لغات هذيل.
[701] عسل بن ذكوان العسكري، من أهل عسكر مكرم، يكنى أبا علي:
روى عن المازني والرياشي ودماذ، ذكره محمد بن اسحاق وقال: كان في أيام المبرد مات [ ... ] . وله من الكتب: كتاب الجواب المسكت. كتاب أقسام العربية.
[702] عطاء [ ... ] الملط:
قرأت بخط أبي منصور الأزهري في «كتاب نظم الجمان» ، حدّثنا أبو جعفر محمد بن الفرج الغساني قال حدثنا أحمد بن عيسى مؤدّب ولد إسحاق بن إبراهيم قال: كان أستاذ الأصمعي وأبي عبيدة عطاء الملط، رجل من أهل البصرة، وكانوا يقعدون إليه ويتعلمون منه، فبلغه أن الأصمعي اتخذ حلقة واجتمعت إليه جماعة، فغاظه ذلك، فلما انصرف من حلقته استتبع أصحابه فقال:
__________
[700]- ترجمة ابن مخراق الهذلي في الفهرست: 127 (وكتب فيه: عزيز- بزاءين-) وبغية الوعاة 2: 137 وانظر تهذيب اللغة للأزهري 1: 33.
[701]- انظر في ترجمته الفهرست: 65 (وورد فيه: عبيد بن ذكوان خطأ) وانظر تهذيب الأزهري 1: 13 وبغية الوعاة 2: 137 (وأحال على ياقوت) .
[702]- بغية الوعاة 2: 137 (وقيل ان اسم أبيه مصعب) .(4/1622)
مرّوا بنا إلى ظاهر البصرة، فخرجنا حتى مررنا بشيخ معه أعنز يرعاهنّ، وعليه جبة صوف، فقال له: يا قريب فقال: لبيك قال: ما فعل الأصمعي ابنك؟ فقال: هو عندكم بالبصرة؛ فقال: هذا أبو الأصمعي، لا يقول غدا انه من بني هاشم.
[703] عطاء بن يعقوب بن ناكل:
أحد أعيان فضلاء غزنة، وهو من أولاد التنّاء، وكان ابن عمه الكوتوال «1» ، وهو مستحفظ القلعة، يلقب بهذا، وهو بالهندية، وإليه مصادر الأمور ومواردها عند غيبة سلطان البلاد.
قال صاحب «سر السرور» «2» : إذا اجتمع الأفاضل في مضمار التفاضل، واتزنوا بمعيار التساجل، كان هذا الشيخ هو الأبعد إحضارا، والأرجح مقدارا، أقرّ له بالتقديم رجالات الآفاق، واذعن له بالترجيح فضلاء خراسان والعراق، حتى أشرق شمسا وهم ما بين كوكب وشهاب، وأعذب بحرا وهم ما بين نهر وسراب؛ يجلو عليه الفضل نفسه في معرض الإحسان، ويناغيه أهل الفضل بلسان القصور والاذعان، وتشرئبّ إلى قلائده أجياد الأنام، وتتباهى برسائله مواقع الأقلام؛ ولم يزل منذ شبّ إلى أن اشتعل الشيب برأسه، ورسب قذى العمر في آخر كأسه، بين اقتباس يصطاد به وحوش الشوارد، وإقباس ينثر منه لآلىء القلائد، وإبداع صنعة في الشعر ما جمّش الأديب بأظرف من بدائعها. واختراع نادرة ما أتحف الفضل بأطرف من روائعها. وقد سافر كلامه من غزنة إلى العراق، ومن ثمّ إلى سائر الآفاق، حتى إني حدّثت أن ديوان شعره بمصر يشترى بمائين من الحمر، الراقصات على الظفر. والمشهور أن ديوان شعره العربي والفارسي يشترى بخراسان بأوفر الأثمان، وكيف لا وما من كلمة من كلماته إلا وحقّها أن تملك بالأنفس وتقتنى، وتباع بالأنفس وتشترى.(4/1623)
وهذا أنموذج من نثره، مردف بما وقع عليه الاختيار من شعره:
صدر كتاب صدر منه إلى بعض الصدور: أطال الله بقاء الشيخ في عزّ مرفوع كاسم كان وأخواتها- إلى فلك الأفلاك، منصوب كاسم إنّ وذواتها إلى سمك السّماك، موصوف بصفة النماء، موصول بصلة البقاء، مقصور على قضية المراد، ممدود إلى يوم التناد، معرفة به مضاف إليه، مفعول له موقوف عليه، صحيح سالم من حروف العلة، غير معتلّ ولا مهموز همز الذلة، يثّنى ويجمع دائما جمع السلامة والكثرة لا جمع التكسير والقلة، ساكن لا تغيره يد الحركة، مبنيّ على اليمن والبركة، مضاعف مكرّر على تناوب الأحوال، زائد غير ناقص على تعاقب الأحوال، مبتدأ به خبره الزيادة، فاعل مفعوله الكرامة، مستقبله خير من ماضيه حالا، وغده أكثر من يومه وأمسه جلالا، له الاسم المتمكن من إعراب الأماني، والفعل المضارع للسيف اليماني، لازم لربعه لا يتعدّى، ولا ينصرف عنه إلى العدى، ولا يدخله الكسر والتنوين أبدا. يقرأ باب التعجب من يراه، منصوبا على الحال إلى أعلى ذراه، متحركا بالدولة والتمكين، منصرفا إلى ربوة ذات قرار ومعين. وهذا دعاء دعوت له على لسان النحو، وأنا داع له بكلّ لسان على هذا النحو. ولولا الاحتراز العظيم، من أن يملّ الأستاذ الكريم، لسردت أفراده سردا، وجعلت أوراده وردا، وجمعت أعداده عقدا، ونظمت أبداده عقدا، ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب إنّ الله لا يهدي كيد الخائنين.
فصل من كتاب: منذ تورّدت هذه الناحية لم يرد عليّ سحاءة أروي بها كبدي الصادية، وأجلو حالي الصادية، وأستظهر بها على دهر يقصدني حيثما قصدت، ويضربني أينما ضربت، ولم أخلص بعد من ألسنة أبنائه في ذلك الحيّ، حتى ابتليت بأسنّة بناته في هذا الفي، وطلعت علينا عارضة داجية الجو، باكية النوّ، وأمطرتنا مطر السّو، بوفاة الظعينة المسكينة فتضاعف سقم برّح بي فلا يبرح، وترادف ألم ألحّ عليّ فلا يتلحلح «1» ، وما حال أفق أفل نهاره، وروض ذبلت أزهاره، وقلب زال قراره، وخلب «2» زاد أواره، وكثير فارق أعزّته، ثم فقد عزّته، والمصيبة في الغربة أقطع،(4/1624)
ونكء القرح بالقرح أوجع، وأكثر ما جرّ عليّ هذه الفادحة تطيّري بفلان، فإنه بكّر عليّ يوم النوروز متأبطا طومارا أطول من يوم الحشر، قد أربى ذراعا على العشر، يضيق عنه نطاق النشر، ملأه نظما ونثرا في مرثية جارية له قد ماتت منذ خمسين سنة ذكر فيه غرتها ونقرتها «1» ، وطرّتها ودرّتها، وعمرتها «2» وخمرتها، وسرّتها وصرّتها، فتشفعت إليه، وتضرعت بين يديه، وقلت له: أنشدك الله إلا طويته وأدرجته، وأدخلته من حيث أخرجته، فأبى إلا جماحا في المسحل «3» ، وسلّ مقولا كالمعول، وجعل يكيل من تلك الأهواس، إذا قرأ سطرا عاد إلى الراس، وحكى أساطير الأولين، ورفع العويل والأنين، وأرسل المخاط والذنين «4» ، كلّما قال لفظة سعل، وأخرج من قعر حلقه جعل، وأنا أنزوي كما تنزوي الجلدة في النار، وألتوي كما تلتوي الحية في الأوار «5» ، لا يمكنني أن أقرّ، ولا يتركني «6» حتى أفرّ، إلى نصف النهار، ولم ينصف بعد الطومار، وقمنا إلى المفروض وكما انفصلت من ذلك المكان، وصل كتاب التحويل إلى المولتان، وحمّت المسكينة في الحال، ووقعنا في الأوجال، والله نصيري على الزمان والاخوان وحسيبي، وقد قل منه ومنهم حظي ونصيبي.
فصل من كتاب: الصحبة نسبة في شرع الكرم، والمعرفة عند أهل النهى أوفى الذمم «7» ، والأخوّة لحمة دانية، والمصافاة قرابة ثانية، ولو كان ما بين ذات البين ما بين القطبين، لوجب أن يقطعا عرض السماء كالمجرة مواصلة، ويتصلا اتصال الكواكب مراسلة، ولكن الأقوام «8» في العقوق سواسية، والقلوب في رعاية الحقوق قاسية.(4/1625)
ومن شعره:
أأحلب من دنياي جدّاء ما بها ... على كثرة الإبساس درّ ولا جدى «1»
وأسبح في بحر السراب ضلالة ... وأترك صدّاء وبي حرق الصدى «2»
وله:
قريض تجلّى مثل ما ابتسمت أروى ... ترشفت من فيه الرضاب فما أروى
تجلى كأروى في حجال سطوره ... وأنزل من شمّ الجبال لنا أروى
كغصن الشباب الغضّ غاض بهاؤه ... وعهد اللوى ألوى به زمن ألوى
إذ الدهر غضّ ناضر العود ناظر ... إلينا بما يهوى ولم يلق في المهوى
قريض به زادت لقلبي غلة ... وغيري به يروي الغليل إذا يروى
وله:
يا ظبية سلّت ظبا من جفنها ... تفري بها أعناق آساد الورى
ما كنت أدري قبل جفنك أنّ ... أجفان الظباء تكون أجفان الظّبا
وله:
إذا ما نبا حدّ الأسنة والظّبا ... فما نابها في الحادثات بناب
تقصف رمح الخطّ وسط كتائب ... إذا هزّ رمح الخطّ وسط كتاب
وله:
وكم حلّ عقدا للحوادث عقده ... وكم فلّ نابا للنوائب نابه
كمخلب ليث الغاب حدّا وحدّة ... ومخلب ليث الفضل والعلم غابه
إذا صاد ليث العنكبوت ذبابة ... فهذا حسام صاد ليثا ذبابه
وله أيضا مما أورده ابن عبد الرحيم عن العميد أبي سعد عبد الغفار بن فاخر البستي:(4/1626)
أيا من إن رآه البد ... ر ظلّ لوجهه يسجد
ويا من غيم نائله ... يجود لنا ولا يرعد
ويا من فضله يدنو ... ولكن وصفه يبعد
ومن إن قام للجدوى ... فحاتم طيّء يقعد
أتذكرني إذا أخلو ... وما لي لا أرى الهدهد
وله:
الله جار عصابة ودّعتهم ... والدمع يهمي والفؤاد يهيم
قد كان دهري جنّة في ظلهم ... ساروا فأضحى الدهر وهو جحيم
كانوا غيوث سماحة وتكرّم ... فاليوم بعدهم الجفون غيوم
رحلوا على رغمي ولكن حبهم ... بين الفؤاد المستهام مقيم
قد خانهم صرف الزمان لأنهم ... كانوا كراما والزمان لئيم
طلّقت لذاتي ثلاثا بعدهم ... حتى يعود العقد وهو نظيم
الله حيث تحمّلوا جار لهم ... والأمن دار والسرور نديم
والعيش غضّ والمناهل عذبة ... والجوّ طلق والرياح نسيم.
[704] عكرمة مولى ابن عباس،
يكنى أبا عبد الله: سمع عبد الله بن عباس وأبا سعيد وعائشة وأبا هريرة وعبد الله بن عمر وروى عنه جماعة من التابعين منهم الشعبيّ وإبراهيم النّخعيّ ومحمد بن سيرين وجابر بن زيد، ومات فيما قرأت بخط الصولي من كتاب البلاذري سنة خمس ومائة وقيل ست ومائة، وهو ابن ثمانين سنة.
__________
[704]- ترجمته في طبقات ابن سعد 5: 287 وطبقات خليفة: 280 وطبقات الشيرازي: 70 وحلية الأولياء 3: 326 وابن خلكان 3: 265 وميزان الاعتدال 3: 93 وعبر الذهبي 1: 131 وسير الذهبي 5: 12 وتاريخ الذهبي 4: 156 والعقد الثمين 6: 123 وتهذيب التهذيب 7: 263 والشذرات 1: 130.(4/1627)
قال: وكان موته وموت كثّير عزة في يوم واحد فوضعا جميعا وصلي عليهما، وكان كثير شيعيا وعكرمة يرى رأي الخوارج.
ذكره الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع في «تاريخ نيسابور» وقال باسناده: كان جوّالا وفادا على الملوك، أتى خراسان فنزل مرو زمانا، وأتى اليمن ومات بالمدينة، وورد خراسان مع يزيد بن المهلب.
وحدث بإسناد رفعه إلى عبد الله بن أبي روّاد قال: رأيت عكرمة بنيسابور فقلت له: تركت الحرمين وجئت إلى خراسان؟! قال: جئت أسعى على بنيّاتي.
وحدث باسناد رفعه إلى أبي خالد عبد المؤمن بن خالد الحنفي قال: رأيت عكرمة يخرج من البيت وقد جاء الثلج فقال: اللهم أرحني من بلدة رزقها في عذابها.
قال الحاكم: وقد حدّث عكرمة بالحرمين ومصر واليمن والشام والعراق وخراسان.
وحدث باسناد رفعه إلى يزيد النحوي عن عكرمة قال، قال لي ابن عباس:
انطلق فأفت الناس [فأنا لك عون. قال قلت: لو أن هذا الناس مثلهم مرتين «1» لأفتيتهم. قال: انطلق فأفت الناس] فمن جاءك يسألك عما يعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عنك ثلثي مؤونة الناس.
وذكر القاضي أبو بكر محمد بن عمر الجعابي في «كتاب الموالي» عن ابن الكلبي قال: وعكرمة هلك بالمغرب، وكان قد دخل في رأي الحرورية الخوارج فخرج يدعوهم بالمغرب إلى الحرورية.
حدث أبو علي الأهوازي قال: لما توفي عبد الله بن عباس كان عكرمة عبدا مملوكا فباعه علي بن عبد الله بن عباس على خالد بن يزيد بن معاوية بأربعة آلاف دينار، فأتى عكرمة عليا فقال له: ما خير لك، أتبيع علم أبيك؟! فاستقال خالدا فأقاله وأعتقه. وكان يرى رأي الخوارج ويميل إلى استماع الغناء، وقيل عنه إنه كان يكذب على مولاه، والله أعلم.(4/1628)
وقال عبد الله بن الحارث: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة موثق على باب الكنيف فقلت: أتفعلون هذا بمولاكم؟! فقال: إنّ هذا يكذب على أبي. وقد قال ابن المسيب لمولاه لا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس.
وقال يزيد بن هارون: قدم عكرمة مولى ابن عباس البصرة فأتاه أيوب السختياني وسليمان التيمي ويونس بن عبيد، فبينا هو يحدثهم إذ سمع غناء، فقال عكرمة:
اسكتوا، فتسمّع ثم قال: قاتله الله فلقد أجاد، أو قال: ما أجود ما قال، فأما سليمان ويونس فلم يعودا إليه وعاد إليه أيوب، فقال يزيد بن هارون: لقد أحسن أيوب.
الرياشي عن الأصمعي عن نافع المدني قال: مات كثير الشاعر وعكرمة في يوم واحد، قال الرياشي، فحدثنا ابن سلام أن أكثر الناس كانوا في جنازة كثير لأن عكرمة كان يرى رأي الخوارج، وتطلّبه بعض الولاة فتغيب عند داود بن الحصين حتى مات عنده سنة سبع ومائة في أيام هشام بن عبد الملك وهو يومئذ ابن ثمانين سنة.
وعن أبي عبد الله المقدمي: كان عكرمة مولى ابن عباس يكنى أبا عبد الله، وكان لحصين بن أبي الحرّ العنبري جد عبيد الله بن الحسين العنبري قاضي البصرة، فوهبه لابن عباس حين جاء واليا على البصرة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام.
وقال أبو أحمد الحافظ: عكرمة مولى ابن عباس أصله بربري من أهل المغرب، احتج بحديثه عامّة الأئمة القدماء، لكنّ بعض المتأخرين أخرج حديثه من حيّز الصحاح.
وعن عكرمة قال: طلبت العلم أربعين سنة، وكنت أفتي بالباب وابن عباس في الدار.
وعن إسماعيل بن أبي خالد: سمعت الشعبي يقول: ما بقي أحد أعلم بكتاب الله من عكرمة.
وعن زيد بن الحباب: سمعت سفيان الثوري يقول بالكوفة: خذوا التفسير عن أربعة: سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك.
علي بن المدائني: لم يكن في موالي ابن عباس أغزر من عكرمة، كان عكرمة من أهل العلم.(4/1629)
وعن هشام بن عبد الله بن عكرمة المخزومي: سمعت ابن أبي ذئب يقول:
كان عكرمة مولى ابن عباس ثقة. وقال المروزي: قلت لأحمد بن حنبل: يحتجّ بحديث عكرمة؟ فقال: نعم يحتجّ به. عثمان بن سعيد الدارمي: قلت ليحيى بن معين، فعكرمة أحبّ إليك عن ابن عباس أو عبيد الله عن عبد الله؟ فقال: كلاهما ولم يختر، فقلت: وعكرمة أو سعيد بن جبير؟ فقال: ثقة وثقة ولم يختر. قال عثمان بن سعيد: عبيد الله أجلّ من عكرمة. قال: وسألته عن عكرمة بن خالد فقال: ثقة، قلت: هو أصحّ حديثا أو عكرمة مولى ابن عباس؟ فقال: كلاهما ثقتان. وعن يحيى بن معين: إذا رأيت إنسانا يقع في عكرمة وفي حماد بن سلمة فاتهمه على الاسلام.
حماد بن زائد: حدثنا عثمان بن مرة قلت للقاسم إن عكرمة مولى ابن عباس قال: حدثنا ابن عباس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن المزفّت والمقيّر والدباء والحنتم والجرار، فقال: يا ابن أخي إن عكرمة كذاب يحدّث غدوة حديثا يخالفه عشيا.
يحيى بن البكاء: سمعت ابن عمر يقول لنافع: اتق الله ويحك يا نافع ولا تكذب عليّ كما كذب عكرمة على ابن عباس، لما أحلّ الصرف وأسلم ابنه صيرفيا.
يزيد بن زياد قال: دخلت على علي بن عبد الله بن عباس وعكرمة مقيد على باب الحش قلت: ما لهذا كذا؟ قال: إنه يكذب على أبي.
[705] علاقة بن كرسم الكلابي، أحد بني عامر
بن كلاب: ذكره محمد بن إسحاق وقال: كان في أيام يزيد بن معاوية، وله علم بالأنساب والأخبار وأحاديث العرب القديمة، وقد أخذ عنه من ذلك شيء كثير، وكان يزيد بن معاوية قد أدخله في سمّاره. مات [ ... ] وله كتاب الأمثال في نحو خمسين ورقة. قال محمد بن إسحاق: رأيت هذا الكتاب.
__________
[705]- الفهرست: 102 (وفيه: كرشم) وعن علاقة ينقل البكري في مواضع من كتابه فصل المقال (ونسبته عنده الكلبي) وهو يروي عن عبيد بن شرية أيضا (انظر فهرسة فصل المقال) .(4/1630)
[706] علّان الورّاق الشعوبي:
ذكره محمد بن اسحاق فقال: أصله من الفرس وكان علّامة بالأنساب والمثالب والمنافرات منقطعا إلى البرامكة، وينسخ في بيت الحكمة للرشيد والمأمون والبرامكة، مات [ ... ] .
قال: وعمل «كتاب الميدان» في المثالب الذي هتك فيه العرب وأظهر مثالبها، وكان قد عمل كتابا لم يتمه سماه «الحلية» انقرض أثره. قال: كذا قال ابن شاهين الاخباري.
وله من الكتب: كتاب الميدان في المثالب يحتوي على جميع مثالب العرب ابتدأ ببني هاشم ثم قبيلة بعد قبيلة على الترتيب إلى آخر قبائل اليمن على ترتيب كتاب ابن الكلبي. وله أيضا: كتاب فضائل كنانة. كتاب النمر بن قاسط. كتاب نسب تغلب بن وائل. كتاب فضائل ربيعة. كتاب المنافرة. وذكر محمد بن أبي الأزهر:
كان في جوارنا بباب الشام فتى يعرف بالفيرزان، وكان يورّق في دكّان علّان الشعوبي، وأورد خبرا دلّ به على أن علانا كان ورّاقا له دكان يبيع فيه الكتب وينسخ.
وحدث أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري في «كتاب الوزراء والكتاب» من تصنيفه قال «1» : كان بعض أصحاب أحمد بن أبي خالد الأحول قد وصف له علانا الشعوبي الوراق، فأمر باحضاره وبأن يستكتب له، فأقام في داره، فدخلها أحمد بن أبي خالد يوما فقام إليه جميع من فيها غير علان الوراق فانه لم يقم له، فقال أحمد: ما أسوأ أدب هذا الوراق!! وسمعه علان فقال: كيف أنسب أنا إلى سوء الأدب ومنّي تعلّم الآداب وأنا معدنها؟! ولماذا أردت مني القيام لك ولم آتك مستميحا لك ولا راغبا إليك ولا طالبا منك وإنما رغبت إليّ في أن آتيك فأكتب عندك، فجئتك لحاجتي إلى ما آخذه من الأجرة، وقد كنت بغير هذا منك أولى، ثم حلف
__________
[706]- الفهرست: 118.(4/1631)
أيمانا مؤكدة ألّا يكتب بعد يومه حرفا في منزل أحد من خلق الله تعالى.
وجدت في بعض الكتب «1» : قال علان- وكان قبيحا-: مررت بمخنث يغزل على حائط فقال لي: من أين؟ قلت: من البصرة؟ قال: لا إله إلا الله تغير كلّ شيء حتى هذا، كانت القرود تجلب من مكة واليمن والآن تجيء من العراق.
قال المؤلف: هكذا وجدت هذا الخبر قال فيه «علان» ولم يقل «الشعوبي» فإن كان هو فهو المراد، وان كان غيره فقد مرت بك حكاية ممتعة فاله بها، وإن تحقق عندك أنه هو هو «2» فأصلحه مأجورا مثابا.
وذكره المرزباني في «المعجم» فقال: علان الوراق المعروف بعلان الشعوبي وكان شعوبيّا وله في المثالب كتاب سوء، وهو مأموني، لما قال عبد الله بن طاهر قصيدته التي أولها «3» :
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول
وفخر فيها بقتل أبيه طاهر محمدا الأمين فأجابه محمد بن يزيد الحصني بقصيدته التي أولها:
لا يرعك القال والقيل ... كلّ ما بلّغت تحميل
وردّ عليه فيها وهجاه هجاء قبيحا، قال علّان الشعوبي قصيدة ردّ فيها على المسلميّ وهجاه ومدح عبد الله بن طاهر، وفضل العجم على العرب يقول فيها:
أيها اللاطي بحفرته ... في قرار الأرض مجعول
قد تجاللت على دخل ... واستخفّتك التهاويل
وأبو العباس غادية ... لعزاليه أهاليل «4»
تمطر العقيان راحته ... وله بالجود تهطيل(4/1632)
رستميّ في ذرى شرف ... زانه تاج وإكليل
وعليه من جلالته ... كرم عدّ وتبجيل
إن لي فخرا مباءته ... في قرار النجم مأهول
ورجالا شربهم غدق ... هم لما حازوا مباذيل
كسرويات أبوتنا ... غرر زهر مناويل.
[707] العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا،
أبو سعد، من أهل الكرخ:
أحد الكتاب المعروفين ومن يضرب به المثل في الفصاحة وحسن العبارة، وكان نصرانيا فأسلم في زمان الوزير أبي شجاع وحسن إسلامه.
قال الهمذاني: في رابع عشر صفر سنة أربع وثمانين وأربعمائة خرج توقيع الخليفة بالزام أهل الذمة بلبس الغيار والتزام ما شرطه عليهم عمر بن الخطاب، فهربوا كلّ مهرب، وأسلم بعضهم، وأسلم أبو غالب ابن الأصباغي، وفي ثاني هذا اليوم أسلم الرئيسان أبو سعد العلاء بن حسن بن وهب بن الموصلايا صاحب ديوان الإنشاء وابن أخته أبو نصر صاحب الخبر «1» على يدي الخليفة بحيث يريانه ويسمعان كلامه.
وكان يتولّى ديوان الرسائل منذ أيام القائم بأمر الله، وناب في الوزارة، وأضرّ في آخر عمره. وكان ابتداء خدمته لدار الخلافة القائمية في سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة، فخدمها خمسا وستين سنة يزداد في كلّ يوم من أيامها جاها وحظوة،
__________
[707]- ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 1: 123- 132 والمنتظم 9: 141 وابن الأثير 10: 377 ومرآة الزمان: 11 وابن خلكان 3: 480 ونكت الهميان: 201 والنجوم الزاهرة 5: 189.(4/1633)
وناب عن الوزارة عدة نوب مع ذهاب بصره. وكان أبو نصر هبة الله بن الحسن ابن أخته يكتب الانهاءات عنه إذا حضر، وكان كثير الصدقة والخير. ورسائله وأشعاره مدوّنة يتداول بها ويرغب فيها. أخذ عنه الشيخ أبو منصور موهوب بن الخضر الجواليقي، وأنشد عنه «1» :
أحنّ إلى روض التصابي وأرتاح ... وأمتح من حوض التصافي وأمتاح
وأشتاق رئما كلّما رمت صيده ... تصدّ يدي عنه سيوف وأرماح
غزال إذا ما لاح أو فاح نشره ... تعذّب أرواح وتعذب أرواح
بنفسي وإن عزّت وأهلي أهلّة ... لها غرر في الحسن تبدو وأوضاح
نجوم أعاروا النور للبدر عندما ... أغاروا على سرب الملاحة واجتاحوا
فتتضح الأعذار فيهم إذا بدوا ... ويفتضح اللاحون فيهم إذا لاحوا
وكرخية عذراء يعذر حبها ... ومن زندها في الدهر تقدح أفراح
إذا جليت في الكأس والليل ما انجلى ... تقابل إصباح لديك ومصباح
يطوف بها ساق لسوق جماله ... نفاق لإفساد الهوى فيه إصلاح
به عجمة في اللفظ تغري بوصله ... وإن كان منه بالقطيعة إفصاح
وغرّته صبح وطرّته دجى ... ومبسمه درّ وريقته راح
أباح دمي مذ بحت في الحبّ باسمه ... وبالشجو من قبلي المحبون قد باحوا
وأوعدني بالسوء ظلما ولم يكن ... لإشكال ما يفضي إلى الضيم إيضاح
وكيف أخاف الضيم أو أحذر الردى ... وعوني على الأيّام أبلج وضاح
وظلّ نظام الملك للكسر جابر ... وللضرّ منّاع وللنفع منّاح
ومن شعره «2» :
يا خليليّ خلّياني ووجدي ... فملام المحبّ ما ليس يجدي(4/1634)
ودعاني فقد دعاني إلى الحك ... م غريم الغرام للدّين عندي
فعساه يرقّ إذ ملك الر ... قّ بنقد من عذله أو بوعد
ثم من ذا يجير منه إذا جا ... ر ومن لي على تعدّيه يعدي
ومات العلاء في ثاني عشرين جمادى الأولى سنة سبع وتسعين وأربعمائة ومولده سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ودفن في تربة الطائع.
قال أبو الفرج في «المنتظم» : نال أبو سعد ابن الموصلايا من الرفعة في الدنيا ما لم ينله أبناء جنسه، فانه ابتدأ في خدمة دار الخلافة في أيام القائم سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة فخدمها خمسا وستين سنة، وأسلم في سنة أربع وثمانين، وناب عن الوزارة في أيام المقتدي وأيام المستظهر نوبا كثيرة، وكان كثير الصدقة كريم الفعال حسن الفصاحة، ويدلّ على فصاحته وغزارة علمه ما كان ينشئه من كتابات الديوان والعهود.
وحكى بعض أصحابه قال: شتمت يوما غلاما لي فوبخني وقال: أنت قادر على تأديب الغلام أو صرفه، فأما الخنا والقذف فاياك والمعاودة له، فان الطبع يسرق من الطبع والصاحب يستدل [به] «1» على المصحوب. وكانت وفاته فجاءة.
وقال محمد بن عبد الملك الهمذاني: لما عزل المقتدي الوزير أبا شجاع خلع على الأجلّ أبي سعد ابن الموصلايا، وكانت الخلعة درّاعة وعمامة، وحمل على فرس بمركب ذهب، ووسم بنيابة الوزارة، وخلع على ابن أخته تاج الرؤساء أبي نصر هبة الله صاحب الخبر ابن الحسن بن عليّ جبة وعمامة وحمل على فرس.
ومدح الأديب أبو المظفر الأبيوردي الأجلّ أبا سعد، وقد لقبه الخليفة بأمين الدولة، بقصيدة منها «2» :
وزعزع الصبح سلك النجم فانتثرت ... منه كما تستطير النار بالشعل
قال: ومن علم السير علم أن الخليفة والملوك لم يثقوا بأحد ثقتهم بأمين الدولة ولا نصحهم أحد نصحه. وتولّى ديوان الإنشاء بعد سنة ثلاثين وأربعمائة، والناظر إذ(4/1635)
ذاك عميد الرؤساء أبو طالب ابن أيوب، وناب عن الوزارة المقتدية والمستظهرية.
ومن شعره «1» :
يا هند رقي لفتى مدنف ... يحسن فيه طلب الأجر
يرعى نجوم الليل حتى يرى ... حلّ عراها بيد الفجر
ضاق نطاق الصبر عن قلبه ... عند اتساع الخرق في الهجر
قال العماد- وقد ذكر هذه الأبيات الثلاثة-: قد راقتني «2» هذه الأبيات برقتها، وحلاوة الاستعارة في معناها مع دقتها، وقد ساعده التوفيق في هذا التطبيق، وما كلّ شاعر يتخلّص من هذا المضيق، وهكذا شعر الكتّاب يجمع إلى اللطافة ظرافة، وإلى الحلاوة طلاوة.
وله «3» :
وكأس كساها الحسن ثوب ملاحة ... فحازت ضياء يشبه الحسن والشمسا «4»
أضاءت على «5» كفّ المدير وما درى ... وقد دجت الظلماء أصبح أو أمسى
وله «6» :
أقول للائمي في حبّ ليلى ... وقد ساوى نهار منه ليلا
أقلّ فما أقلّت قطّ أرض ... محبّا جرّ في الهجران ذيلا
ولو ممن أحبّ ملأت عينا ... لكنت إلى هواه أشدّ ميلا(4/1636)
[708] أبو علقمة النحوي النميري:
وأراه من أهل واسط.
حدّث أحمد بن الحارث الخراز عن المدائني قال: أتى أبو علقمة الأعرابي أبا زلازل الحذاء فقال: يا حذّاء احذ لي هذه النعل، قال: وكيف تريد أن أحذوها؟
فقال «1» : خصّر نطاقها وغضّف معقّبها وأقبّ مقدّمها، وعرج ونية الذؤابة بحزم دون بلوغ الرصاف، وانحل مخازم خزامها وأوشك في العمل. فقام أبو زلازل فتأبط متاعه، فقال أبو علقمة: إلى أين؟ قال: إلى ابن القرّية ليفسّر لي ما خفي عليّ من كلامك.
وقال أبو أحمد ابن أبي خليفة الجمحي قال: سمعت أبي يحدث عن أبيه قال قال أبو علقمة لغلام له: خذ من غريمنا هذا كفيلا، ومن الكفيل أمينا، ومن الأمين زعيما، ومن الزعيم عزيما، فقال الغلام للغريم: مولاي كثير الكلام، فمعك شيء؟ فأرضاه وخلّاه، فلما انصرف قال: يا غلام ما فعل غريمنا؟ قال: سقع، قال: ويلك ما سقع؟ قال: بقع؟ قال: ويلك وما بقع؟ قال: استقلع، قال:
ويلك ما استقلع؟ قال: انقلع، قال: ويلك لم طوّلت عليّ؟ قال: منك تعلمت.
الهيثم بن عدي: ركب أبو علقمة النميري بغلا فوقف على أبي عبد الرحمن القرشي فقال: يا با علقمة ان لبغلك هذا منظرا فهل مع حسن هذا المنظر من خبر؟
قال: سبحان الله أوما بلغك خبره، قال: لا، قال: خرجت عليه مرة من مصر فقفز بي قفزة إلى فلسطين، والثانية إلى الأردن، والثالثة إلى دمشق، فقال له أبو عبد الرحمن: تقدم إلى أهلك يدفنوه معك في قبرك فلعله يقفز بك الصراط.
ذكر أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان في «كتاب الثقلاء» من تصنيفه، أخبرنا إسحاق بن محمد بن أبان الكوفي، حدثني بشر بن حجر قال: انقطع إلى أبي
__________
[708]- ترجمته في انباه الرواة 4: 146 وبغية الوعاة 2: 139 وترد نوادر تقعره في كتب الأدب كالبيان والتبيين والعقد وعيون الأخبار والبصائر ونثر الدر وغيرها.(4/1637)
علقمة النحوي غلام يخدمه، فأراد أبو علقمة الدخول في بعض حوائجه فقال له: يا غلام أصقعت العتاريف؟ فقال له الغلام: زقفيلم. قال أبو علقمة: وما زقفيلم؟ قال له: وما معنى صقعت العتاريف؟ قال قلت لك: أصاحت الديوك؟ قال: وأنا قلت لك لم يصح منها شيء.
قال محمد بن خلف حدثنا أبو بكر القرشي حدثني جعفر بن نصير قال «1» : بينما أبو علقمة النحوي في طريق من طرق البصرة إذ ثار به مرار «2» فسقط وظنّ من يراه أنه مجنون، وأقبل رجل يعضّ أصل أذنه ويؤذن فيها فأفاق، فنظر إلى الجماعة حوله فقال: ما لكم تكأكأتم عليّ كما تتكأكئون على ذي جنّة؟! افرنقعوا عني؛ قال فقال بعضهم لبعض: دعوه فإن شيطانه يتكلم بالهندية.
قال ابن المرزبان حدثني عبد الله بن مسلم «3» : دخل أبو علقمة النحوي على أعين الطبيب فقال له: أمتع الله بك إني أكلت من لحوم هذه الجوازل فطسئت طسأة فأصابني وجع بين الوابلة إلى دأية العنق، فلم يزل ينمي حتى خالط الخلب وألمت له الشراسيف، فهل عندك دواء؟ قال أعين: خذ حرقفا وسلقفا فزهزقه ورقرقه واغسله بماء روث واشربه بماء الماء، فقال أبو علقمة: أعد ويحك عليّ فإني لم أفهم عنك، قال له أعين: لعن الله أقلّنا إفهاما لصاحبه، ويحك وهل فهمت عنك شيئا مما قلت؟! قرأت في كتاب «النوادر الممتعة» جمع ابن جني عن محمد بن المرزبان قال:
حدثني عبد الله بن أحمد بن عبد الصمد، قال حدثني محمد بن معاذ البصري قال «4» : بينا أبو علقمة النحوي يسير على بغلة إذ نظر إلى عبدين أحدهما حبشي والآخر صقلبي، فإذا الحبشيّ قد ضرب بالصقلبيّ الأرض، وأدخل ركبتيه في بطنه، وأصابعه في عينيه، وعضّ أذنيه وضربه بعصا كانت معه فشجّه وأسال دمه، فجعل الصقلبي يستغيث فلا يغاث، فقال لأبي علقمة: اشهد لي، فقال: قدّمه إلى الأمير(4/1638)
حتى أشهد لك، فمضيا إلى الأمير، فقال الصقلبي: إن هذا ضربني وشجّني واعتدى عليّ، فجحد الحبشيّ، فقال الصقلبي: هذا يشهد لي، فنزل أبو علقمة عن بغلته وجلس بين يدي الأمير فقال له الأمير: بم تشهد يا أبا علقمة، فقال: أصلح الله الأمير، بينا أنا أسير على كودني هذا إذ مررت بهذين العبدين، فرأيت هذا الأسحم قد مال على هذا الأبقع فحطأه على فدفد ثم ضغطه برضفتيه في أحشائه حتى ظننت أنه تدمج جوفه، وجعل يلج بشناتره في جحمتيه يكاد يفقأهما، وقبض على صنّارتيه بمبرمه وكاد يجذهما جذّا، ثم علاه بمنسأة كانت معه فعفجه بها، وهذا أثر الجريال عليه بينا، وأنت أمير عادل. فقال الأمير: والله ما أفهم مما قلت شيئا، فقال أبو علقمة: قد فهّمناك إن فهمت، وعلّمناك إن علمت، وأديت إليك ما علمت، وما أقدر أن أتكلم بالفارسية؛ فجعل الأمير يجهد أن يكشف الكلام فلا يفعل حتى ضاق صدره، فقال للصقلبي: أعطني خنجرا، فأعطاه وهو يظن أنه يريد أن يستقيد له من الحبشي، فكشف الأمير رأسه وقال للصقلبي: شجّني خمسا وأعفني من شهادة هذا.
(الصنارتان: الأذنان بلغة حمير. الكودن: الغليظ من الدوابّ. وحطأه صرعه. والفدفد: الغليظ من الأرض. ورضفتاه: ركبتاه. وشناتره: أصابعه والجحمتان: العينان لغة يمانية. والمنسأة: العصا. عفجه: أي ضربه بها.
والجريال: الأحمر فاستعاره للدم) .
قال ابن جني: وأخبرنا عثمان بن محمد، حدثنا محمد بن القاسم، قال حدثني محمد بن المرزبان وأبو الحسين علي بن محمد المقرىء قال: تبيّغ بأبي علقمة الدم وهو في بعض القرى، فقال لابنه «1» جئني بحجام، فأتاه به فقال له: لا تعجل حتى أصف لك ولا تكن كامرىء خالف ما أمر به ومال إلى غيره، اشدد قصب المحاجم، وأرهف ظبة المشارط، وأسرع الوضع وعجّل النزع، وليكن شرطك وخزا ومصّك نهزا، لا تردّنّ آتيا ولا تكرهن آبيا؛ فوضع الحجام محاجمه في قفّته وقال:(4/1639)
كلامك يقطع الدم، وقام وانصرف. وفي رواية علي بن إبراهيم قال: فلما سمع الحجام الكلام قال: يا قوم هذا رجل قد ثار به المرار ولا ينبغي أن يخرج دمه في هذا الوقت وانصرف.
(قال أبو بكر: القصب: الموضع الذي يجتمع فيه الدم، وتبيغ: هاج وهو من البغي أصله تبغى فقدمت الياء وأخرت الغين) .
كان «1» أبو علقمة النحوي لا يدع الإعراب في كلامه، فقال للطبيب: أجد رسيسا في أسناخي وأحسّ وجعا فيما بين الوابلة إلى الأطرة من دأيات العنق، فقال له الطبيب: خذ خزانا وسلقفا وشربقا فزهزقه وزقزقه واغسله بماء روث واشربه، فقال له أبو علقمة: أعد فاني لم أفهم، فقال: أخزى الله أقلنا إفهاما لصاحبه.
وجمش امرأة كان يهواها فقال: يا خريدة قد كنت إخالك عروبا فإذا أنت نوار، مالي أمقك فتشنئيني؟ فقالت: يا رقيع ما رأيت أحدا يحبّ أحدا فيشتمه سواك.
وقال «2» لحجام حجمه: أشدد قصب الملازم، وأرهف ظبات المشارط، وأمرّ المسح واستنجل الرشح، وخفف الوطء وعجّل النزع، ولا تكرهنّ آبيّا ولا تمنعن آتيا.
ورأى رجل «3» أبا علقمة على بغل مصري حسن فقال له: إن كان مخبر هذا البغل كمنظره فقد كمل، فقال أبو علقمة: والله لقد خرجت عليه من مصر فتنكبت الطريق مخافة السرّاق وجور السلطان، فبينا أنا أسير في ليلة ظلماء قتماء طخياء مدلهمّة حندس داجية في ضحضح أملس واذا حسّ نبأة من صوت تعر أو طيران ضوع أو نقض سبد، فحاص عن الطريق متنكبا بعزة نفسه وفضل قوّته، فبعثته باللجام فعسل، وحركته بالركاب فنسل، وانتعل الطريق يغتاله معتزما، والتحف الليل لا يهابه مظلما، فو الله ما شبهته إلا بظبية نافرة تحفزها فتخاء شاغية، فقال الرجل: يا هذا ادع الله واسأله أن يحشر هذا البغل معك يوم القيامة، قال: ولم؟ قال ليجيزك الصراط بطفرة.(4/1640)
[709] علي بن إبراهيم بن هاشم القمي:
ذكره ابن النديم، وذكره أبو جعفر في مصنفي الامامية وقال: له كتب منها: كتاب التفسير. وكتاب الناسخ والمنسوخ.
وكتاب المغازي. وكتاب الشرائع. وكتاب الاسناد «1» . وكتاب المناقب. وكتاب اختيار القرآن ورواياته.
[710] علي بن إبراهيم بن محمد بن إسحاق الكاتب:
كان من أهل المعرفة، وله: كتاب في نسب بني عقيل جوّده، صنفه للأمير أبي حسان المقلد بن المسيب بن رافع العبادي في شهر رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
[711] علي بن إبراهيم بن محمد الدّهكي:
هكذا وجدته بخط عبد السلام مكسور الدال «2» ، والمحدّثون يفتحونها، وهي نسبة إلى قرية من قرى الري يقال لها دهك، ويكنى أبا القاسم: أحد رواة الأخبار وجماعي الأشعار.
وجدت بخط عبد السلام البصري «كتاب أشعار بني ربيعة الجوع» وقد قرأه عليه، وكان الدهكي قد كان قرأ على أبي الفرج علي بن الحسين الأصبهاني «كتاب الأغاني» وقعت لنا إجازة متصلة إليه عنه، وهي ما أخبرنا الشيخ ذو النسبتين بين دحية والحسين عليه السلام أبو الخطاب عمر بن الحسن المعروف بابن دحية المغربي
__________
[709]- الفهرست: 277 وفهرست الطوسي (كلكتا) : 209.
[710]- لم أجد له ترجمة.
[711]- لم أجد له ترجمة.(4/1641)
السبتي بمصر سنة اثنتي عشرة وستمائة إجازة، قال أخبرنا شيخي أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم بن عميرة المروزي، قال أخبرنا أبو الحسن يونس بن محمد بن مغيث ويعرف بابن الصفار، عن الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن بشير، عن أبي الوليد هشام بن عبد الرحمن الصابوني، عن أبي القاسم علي بن إبراهيم الدهكي، عن أبي الفرج الأصبهاني، وقد وقعت لنا بهذا الكتاب إجازة أحسن من هذه.
وكان أبوه أبو الفرج إبراهيم من أعيان الكتاب من أهل شيراز، وكان صهرا لأبي الفضل العباس بن الحسين الشيرازي وزير بختيار؛ قال إبراهيم بن هلال الصابىء:
خلع على أبي الفرج محمد بن العباس للوزارة لثلاث خلون من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وثلاثمائة وسلّم إليه أبو الفضل وجميع أصحابه وأسبابه، فاستصفى أموالهم، وجدّ في مطالبة كتّابه وأسبابه على ضروب من رفق وعسف حين حصلوا في يده، وتوفي منهم صهر كان لأبي الفضل من أهل شيراز يقال له أبو الفرج إبراهيم بن محمد الدهكي، وكان أبو الفضل يدّعي عليه أنه اعتمد قتله.
[712] علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطان القزويني
أبو الحسن: أديب فاضل ومحدث حافظ، لقي المبرد وثعلبا وابن أبي الدنيا، وهو شيخ أبي الحسين أحمد بن فارس القزويني، وكتبه محشوّة بالرواية عنه، وكان يصفه بالدراية.
وذكره أبو يعلى الخليل بن أحمد الخليلي في «كتاب الارشاد في طبقات البلاد» فقال: أبو الحسن علي بن إبراهيم بن سلمة بن بحر الفقيه، عالم بجميع العلوم:
التفسير والنحو واللغة والفقه القديم، لم يكن له نظير دينا وديانة وعبادة، سمع أبا حاتم الرازي، ارتحل اليه ثلاث سنين، ومحمد بن الفرج الأزرق والحارث بن أبي أسامة والقاسم بن محمد الدلال، وذكر جماعة، ثم قال: وخلقا من القزوينيين والرازيين
__________
[712]- ترجمة القطان القزويني في التدوين في أخبار قزوين 3: 318- 322 وتذكرة الحفاظ: 856 وعبر الذهبي 2: 267 وسير الذهبي 15: 463 وطبقات ابن الجزري 1: 516 والنجوم الزاهرة 3: 315 والشذرات 2: 370 وذكر الذهبي انه سمع من ابن ماجة سننه.(4/1642)
والبغداديين و [علماء] الكوفة ومكة وصنعاء اليمن وهمذان وحلوان ونهاوند. سمع منه من القدماء أبو الحسن «1» النحوي والزبير بن عبد الواحد الحافظ ثم عمّر حتى أدركه الأحداث، ولد سنة أربع وخمسين ومائتين ومات سنة خمس وأربعين وثلاثمائة.
سمعت جماعة من شيوخ قزوين يقولون: لم ير أبو الحسن مثله في القضاء والزهد، أدام الصيام ثلاثين سنة وكان يفطر على الخبز والملح، وفضائله أكثر من أن تعدّ، وكان له بنون ثلاثة: محمد أبو إبراهيم والحسن والحسين، سمعوا أبا علي الطوسيّ والقدماء وماتوا ولم يبلغوا الرواية. ولأبي إبراهيم ابنان سمعا جدهما ولم يسمع منهما وبقي له أسباط ليسوا من أهل العلم. وأما الحسن والحسين فقد انقطع نسلهما.
وقرأت في «أمالي ابن فارس» قال «2» : سمعت أبا الحسن القطان بعد ما علت سنّه وضعف يقول: كنت حين خرجت إلى الرحلة أحفظ مائة ألف حديث، وأنا اليوم لا أقوم على حفظ مائة حديث. قال: وسمعته يقول: أصبت ببصري وأظنّ أني عوقبت بكثرة بكاء أمي أيام فراقي لها في طلب الحديث والعلم.
قال ابن فارس: حدثني أبو الحسن علي بن ابراهيم بن سلمة القطان رحمه الله بقزوين في مسجدهم يوم الأحد منتصف رجب سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة، وذكر تمام الاسناد.
[713] علي بن إبراهيم بن سعيد بن يوسف الحوفي:
أصله من قرية تسمى شبرا اللنجة «3» من حوف بلبيس من الديار المصرية «4» أخذ عن أبي بكر محمد بن علي
__________
[713]- ترجمة الحوفي في الأنساب (الحوفي) وإنباه الرواة 2: 219 ومعجم البلدان (حوف) وابن خلكان 3: 300 وطبقات المفسرين: 25 وحسن المحاضرة 1: 532 وبغية الوعاة 2: 140 والشذرات 3: 247 والبلغة: 141- 142.(4/1643)
الأدفوي صاحب النحاس، وكان نحويا قارئا مات في مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين وأربعمائة. وله من التصانيف: كتاب الموضح في النحو وهو كتاب كبير حسن. وكتاب البرهان في تفسير القرآن بلغني أنه في ثلاثين مجلدا «1» بخط دقيق.
[714] علي بن أحمد العقيقي العلوي:
ذكره أبو جعفر الطوسي في مصنفي الامامية وقال: له من الكتب كتاب المدينة. كتاب بين المسجدين. كتاب المسجد. كتاب النسب.
[715] علي بن أحمد بن أبي دجانة المصري،
أبو الحسن الكاتب الوراق: جيد الخط كثير الضبط إلا أنه مع ذلك لا يخلو خطه من السقط وإن قلّ. وهو من أهل مصر ومقامه ببغداد وبها كتب ونسخ الكثير، وجدت بخطه زحر سور الذنب «2» ، وقد كتبه ببغداد سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
[716] علي بن أحمد الدريدي، يكنى أبا الحسن:
ذكره الزبيدي فقال: أصله من فارس وكان ورّاق ابن دريد وإليه صارت كتب ابن دريد بعد موته، مات [ ... ] .
__________
[714]- فهرست الطوسي (كلكتا) : 211 وذكر من كتبه أيضا: كتاب الرجال؛ وروى عن أحدهم أن في أحاديثه مناكير.
[715]- سقطت هذه الترجمة من ك.
[716]- طبقات الزبيدي: 185 وانباه الرواة 2: 222 وبغية الوعاة 2: 147.(4/1644)
[717] علي بن أحمد المهلبي اللغوي، أبو الحسن:
كان إماما في النحو واللغة ورواية الأخبار وتفسير الأشعار. أخذ عن أبي إسحاق إبراهيم النجيرمي وأخذ عنه أبو يعقوب يوسف بن يعقوب النجيرمي وابنه بهزاد وخلق كثير، ومات بمصر في سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. وذكر علي بن حمزة البصري النحوي في «كتاب الرد على ابن ولاد في المقصور والممدود» أن أبا الحسن المهلبي كان لقيطا وكان له اختصاص بالمتلقب بالمعز والعزيز المستوليين على الديار المصرية ومن جلسائهما الخواصّ، وأدرك دولة كافور الاخشيدي، وله مع أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي قصة حدّث بها أبو جعفر الجرجاني قال، قال أبو الحسن المهلبي النحوي: وقع بيني وبين المتنبي في قول العدوانيّ «1» :
يا عمرو إلّا تدع شتمي ومنقصتي ... أضربك حتى تقول الهامة اسقوني
وذلك أن المتنبي قال: إن الناس يغلطون في هذا البيت والصواب اشقوني من شقوت «2» رأسه بالمشقاة وهو المشط، قال المهلبي: فقلت له أخطأت في وجوه:
أحدها أنه لم يرو كذلك، والآخر أنه يقال شقأت بالهمزة، وأيضا فإني أظنك لا تعرف الخبر فيه وما كانت العرب تقوله في الهامة أنها إذا لم يثأر بصاحبها لا تزال تقول اسقوني، فإذا ثأروا به سكن كأنه شرب ذلك الدم. قال: وكان المهلبي من جلساء العزيز وخواصّه.
__________
[717]- إنباه الرواة 2: 222 وبغية الوعاة 2: 147 (وكنيته فيه أبو الحسين، وثبتت الكنيتان في انباه الرواة) ويبدو أنه ليس بأبي الحسين المهلبي صاحب كتاب العزيزي في الجغرافيا، وعنه ينقل ياقوت كثيرا في معجم البلدان، فذلك اسمه الحسن بن أحمد (أو الحسن بن محمد) ك: أبو الحسين.(4/1645)
[718] علي بن أحمد بن سلّك الفالي:
- بالفاء- وليس بأبي علي القالي بالقاف، ذلك آخر اسمه إسماعيل له ترجمة في بابه، وكنية هذا أبو الحسن، يعرف بالمؤدّب، من أهل بلدة فالة- موضع قريب من إيذج.
انتقل الى البصرة فأقام بها مدة وسمع بها من عمر بن عبد الواحد الهاشمي وغيره، وقدم بغداد فاستوطنها، وكان ثقة له معرفة بالأدب والشعر، ومات في ما ذكره الخطيب في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ودفن بمقبرة جامع المنصور.
وكان يقول الشعر ومنه:
تصدّر للتدريس كلّ مهوس ... بليد يسمّى بالفقيه المدرّس
فحقّ لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كلّ مجلس
«لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كلّ مفلس»
وكتب عنه الخطيب.
قال أبو زكرياء يحيى بن علي الخطيب التبريزي: أنشدنا أبو الحسن الفالي لنفسه:
لما تبدلت المنازل أوجها ... غير الذين عهدت من علمائها
ورأيتها محفوفة بسوى الألى ... كانوا ولاة صدورها وفنائها
أنشدت بيتا سائرا متقدما ... والعين قد شرقت بجاري مائها
«أما الخيام فانها كخيامهم ... وأرى نساء الحيّ غير نسائها»
وحدث أبو زكرياء التبريزي قال «1» : رأيت نسخة ب «كتاب الجمهرة» لابن دريد.
__________
[718] ترجمة الفالي في تاريخ بغداد 11: 334 ومعجم البلدان: (فاله) والمنتظم 8: 174 وعبر الذهبي 3: 216 وسير الذهبي 18: 54 والبداية والنهاية 12: 69 والنجوم الزاهرة 5: 60 والشذرات 3: 278 (وأخطأ فجعله القالي) .(4/1646)
باعها أبو الحسن الفالي بخمسة دنانير من القاضي أبي بكر ابن بديل التبريزي وحملها إلى تبريز، فنسخت أنا منها نسخة، فوجدت في بعض المجلدات رقعة بخط الفالي فيها:
أنست بها عشرين حولا وبعتها ... فقد طال شوقي بعدها وحنيني
وما كان ظنّي أنني سأبيعها ... ولو خلّدتني في السجون ديوني
ولكن لضعف وافتقار وصبية ... صغار عليهم تستهلّ شؤوني
فقلت ولم أملك سوابق عبرة ... مقالة مشويّ الفؤاد حزين
«وقد تخرج الحاجات يا أمّ مالك ... كرائم من ربّ بهنّ ضنين»
فأريت القاضي أبا بكر الرقعة والأبيات فتوجع وقال: لو رأيتها قبل هذا لرددتها عليه، وكان الفالي قد مات.
قال المؤلف: والبيت الأخير من هذه الأبيات تضمين قاله أعرابيّ في ما ذكره الزبير بن بكار عن يوسف بن عياش قال: ابتاع حمزة بن عبد الله بن الزبير جملا من أعرابي بخمسين دينارا ثم نقده ثمنه، فجعل الأعرابي ينظر إلى الجمل ويقول:
وقد تخرج الحاجات يا أم مالك ... كرائم من ربّ بهنّ ضنين «1»
فقال له حمزة: خذ جملك والدنانير لك، فانصرف بجمله وبالدنانير.
وله أرجوزة في عدد آي القرآن أولها:
قال عليّ مذ أتى من فاله ... قصيدة واضحة المقاله
وأنشد له السمعاني في «المذيل» باسناد له لأبي الحسن الفالي:
فرّحت صبياني ببستانكم ... فأكثروا التصفيق والرقصا
فقلت يا صبيان لا تفرحوا ... فبسرهم في نخلهم يحصى
لو قدم الليث على نخلهم ... لكان من ساعته يخصى
لو أن لي من نخلهم بسرة ... جعلتها في خاتمي فصّا(4/1647)
وأنشد أبو القاسم الدمشقي الحافظ باسناد له لأبي الحسن الفالي:
رمى رمضان شملنا بالتفرق ... فيا ليته عنّا تقضّى لنلتقي
لئن سرّ أهل الأرض طرّا قدومه ... فإنّ سروري بانسلاخ الذي بقي.
[719] علي بن أحمد بن سيده اللغوي الأندلسي
أبو الحسن الضرير وكان أبوه أيضا ضريرا، من أهل الأندلس.
هكذا قال الحميدي «علي بن أحمد» ، وفي كتاب ابن بشكوال «علي بن إسماعيل» ، وفي كتاب القاضي صاعد الجياني «علي بن محمد» في نسخة، وفي نسخة «علي بن إسماعيل» فاعتمدنا على ما ذكره الحميدي لان كتابه أشهر.
مات ابن سيده بالأندلس سنة ثمان وخمسين وأربعمائة عن ستين سنة أو نحوها.
قال القاضي الجياني: كان مع إتقانه لعلم الأدب والعربية متوفرا على علوم الحكمة وألف فيها تأليفات كثيرة، ولم يكن في زمانه أعلم منه بالنحو واللغة والأشعار وأيام العرب وما يتعلق بعلومها، وكان حافظا، وله في اللغة مصنفات منها: كتاب المحكم والمحيط الأعظم مرتب على حروف المعجم اثنا عشر مجلدا «1» . وكتاب المخصص مرتب على الأبواب كغريب المصنف «2» . وكتاب شرح إصلاح المنطق.
وكتاب الأنيق في شرح الحماسة عشرة أسفار. وكتاب العالم في اللغة على الأجناس
__________
[719]- ترجمة ابن سيده في جذوة المقتبس: 293 (بغية الملتمس رقم: 1205) وطبقات الأمم: 77 والصلة: 396 ومطمح الأنفس: 291 والمغرب 2: 259 وانباه الرواة 2: 225 وابن خلكان 3: 330 وعبر الذهبي 3: 243 وسير الذهبي 18: 144 والبداية والنهاية 12: 95 ومرآة الجنان 3: 83 ولسان الميزان 4: 205 ونكت الهميان: 204 وبغية الوعاة 2: 143 والشذرات 3: 305 والديباج المذهب: 204 ونفح الطيب 4: 27.(4/1648)
في غاية الإيعاب نحو مائة سفر بدأ بالفلك وختم بالذرّة «1» . وكتاب العالم والمتعلم على المسألة والجواب. وكتاب الوافي في علم أحكام القوافي. وكتاب شاذ اللغة في خمس مجلدات. وكتاب العويص في شرح إصلاح المنطق. وكتاب شرح كتاب الأخفش وغير ذلك.
قال الحميدي وابن بشكوال: روى ابن سيده عن أبيه وعن صاعد بن الحسن البغدادي. قال أبو عمر الطلمنكي: دخلت مرسية فتشبث بي أهلها ليسمعوا عليّ «غريب المصنف» فقلت لهم: انظروا من يقرأ لكم وأمسك كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده فقرأه عليّ من أوّله إلى آخره من حفظه فعجبت منه.
وقال الحميدي: كان ابن سيده منقطعا إلى الأمير أبي الجيش مجاهد بن عبد الله العامري ثم حدثت له نبوة بعد وفاته في أيام إقبال الدولة بن الموفق فهرب منه، ثم قال يستعطفه «2» :
ألا هل إلى تقبيل راحتك اليمنى ... سبيل فإن الأمن في ذاك واليمنا
ضحيت فهل في برد ظلك نومة ... لذي كبد حرّى وذي مقلة وسنى
ونضو هموم «3» طلّحته ظباته ... فلا غاربا أبقين منه ولا متنا
غريب نأى أهلوه عنه وشفّه ... هواهم فأمسى لا يقرّ ولا يهنا
فيا ملك الأملاك إني محلّأ ... عن الورد لا عنه أذاد ولا أدنى
تحيّفني دهري فأقبلت شاكيا ... لعمري أمأذون لعبدك أن يعنى «4»
فإن تتأكد في دمي لك نية ... بسفك «5» فإني لا أحبّ له حقنا»(4/1649)
إذا ما غدا من حرّ سيفك باردا ... فقدما غدا من برد نعمائكم سخنا
وهل هي إلّا ساعة ثم بعدها ... ستقرع ما عمّرت من ندم سنا
وما لي من دهري حياة ألذّها ... فتعتدّها نعمى عليّ وتمتنّا
إذا ميتة أرضتك منا فهاتها ... حبيب إلينا ما رضيت به عنّا
وهي طويلة، وقع عنه الرضى مع وصولها إليه فرجع.
[720] علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب
بن صالح بن خلف بن سفيان بن يزيد الفارسي مولى يزيد بن أبي سفيان بن حرب بن أمية بن عبد شمس، القرشي الأندلسي الإمام العلامة، يكنى أبا محمد، مات فيما ذكره صاعد بن أحمد الجياني في «كتاب أخبار الحكماء» في سلخ شعبان سنة ست وخمسين وأربعمائة. قال:
وكتب إليّ بخط يده أنه ولد بعد صلاة الصبح في آخر يوم من شهر رمضان سنة ثلاث
__________
[720]- ترجمة ابن حزم في جذوة المقتبس، 290 (بغية الملتمس رقم: 1204) والذخيرة 1/1: 167 وطبقات صاعد: 86 والصلة: 395 ومطمح الأنفس: 279 والمغرب 1: 354 والمعجب: 30 وتاريخ الحكماء: 156 وتذكرة الحفاظ: 1146 وعبر الذهبي 3: 239 وسير الذهبي 18: 184 والاحاطة والشذرات 3: 299 والنفح 2: 77، 3: 555 والنجوم الزاهرة 5: 75 ولسان الميزان 4: 198 وفي رسالته طوق الحمامة معلومات كثيرة عنه وعن نشأته وحياته بقرطبة، وانظر صفحات متفرقة من فهرسة ابن خير والعواصم من القواصم لابن العربي وقد استخرج الأستاذ سعيد الأفغاني ترجمته من سير الذهبي ونشرها على حدة، كما قام أبو عبد الرحمن ابن عقيل بجمع تراجمه وأخباره من المصادر القديمة معلقا على ما جاء في كل مصدر (انظر ابن حزم خال ألف عام 1- 4 دار الغرب الاسلامي، بيروت 1982) ؛ وكتبت عنه دراسات حديثة كثيرة منها: دارسة للدكتور عبد الكريم خليفة وأخرى للدكتور طه الحاجري وثالثة للدكتور زكريا إبراهيم ورابعة للدكتور حليم عويس وخامسة لمحمد أبو زهرة وسادسة لسالم يفوت ودراسات بغير العربية في صورة كتب (مثل كتاب أرنالديز) ، ونشر من كتبه عدد غير قليل، وأعيد نشر بعضها مرارا (كما في حال رسالته في الأخلاق؛ وانظر عددا من رسائله بتحقيقي ج 1- 4 (بيروت 1980- 1984) ومن أهم كتبه المطبوعة المحلى (في 11 جزءا) والأحكام في أصول الأحكام (في 8 أجزاء) والفصل (في 5 أجزاء) وحجة الوداع. والتقريب لحد المنطق (نشرته أولا سنة 1959 ثم عدت إلى نشره اعتمادا على نسخة أدق من الأولى، انظر الجزء الرابع من رسائل ابن حزم) والأصول والفروع. والنبذ في الفقه. ومراتب الاجماع. وجوامع السيرة، وغير ذلك.(4/1650)
وثمانين وثلاثمائة وهو ابن اثنتين وسبعين سنة إلا شهرا.
قال: وأصل آبائه من قرية منت ليشم من إقليم الزاوية من عمل أونبة من كورة لبلة من غرب الأندلس، وسكن هو وآباؤه قرطبة ونالوا فيها جاها عريضا. وكان أبو عمر أحمد بن سعيد بن حزم أحد العلماء من وزراء المنصور محمد بن أبي عامر ووزراء ابنه المظفر بعده والمدبرين لدولتيهما، وكان ابنه الفقيه أبو محمد وزيرا لعبد الرحمن المستظهر بالله بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر لدين الله ثم لهشام المعتد بالله بن محمد بن عبد الملك بن عبد الرحمن الناصر، ثم نبذ هذه الطريقة وأقبل على قراءة العلوم وتقييد الآثار والسنن فعني بعلم المنطق وألّف فيه كتابا سماه «كتاب التقريب لحدود المنطق» بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف، واستعمل فيه مثلا فقهية وجوامع شرعية، وخالف أرسطاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله مخالفة من لم يفهم غرضه ولا ارتاض في كتبه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط بيّن السقط، وأوغل بعد هذا في الاستكثار من علوم الشريعة حتى نال منها ما لم ينله أحد قطّ بالأندلس قبله، وصنّف فيه مصنفات كثيرة العدد شرعية المقصد معظمها في أصول الفقه وفروعه على مذهبه الذي ينتحله وطريقه الذي يسلكه، وهو مذهب داود بن علي بن خلف الأصبهاني ومن قال بقوله من أهل الظاهر ونفاة القياس والتعليل.
قال: ولقد أخبرني ابنه الفضل المكنيّ أبا رافع أن مبلغ تواليفه في الفقه والحديث والأصول والنّحل والملل وغير ذلك من التاريخ والنسب وكتب الأدب والردّ على المعارض نحو أربعمائة مجلد تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة، وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في دولة الإسلام قبله إلا لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفا، فذكر ما ذكرناه في ترجمة ابن جرير من أن أيام حياته حسبت وحسبت تصانيفه فكان لكلّ يوم أربع عشرة ورقة.
ثم قال: ولأبي محمد ابن حزم بعد هذا نصيب وافر من علم النحو واللغة، وقسم صالح من قرض الشعر وصناعة الخطابة.
ذكر أن ابن حزم اجتمع يوما مع الفقيه أبي الوليد سليمان بن خلف بن سعيد بن أيوب الباجي صاحب كتاب «المنتقى» و «الاستغناء» وغيرهما من التواليف، وجرت(4/1651)
بينهما مناظرة، فلما انقضت قال الفقيه أبو الوليد: تعذرني فإن أكثر مطالعتي كانت على سرج الحرّاس؛ قال ابن حزم: وتعذرني أيضا فإن أكثر مطالعتي كانت على منائر الذهب والفضة، أراد أن الغنى أمنع لطلب العلم من الفقر.
قرأت بخطّ أبي بكر محمد بن طرخان بن يلتكين بن بجكم، قال الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن محمد بن العربي الأندلسي: توفي الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بقريته، وهي من غرب الأندلس على خليج البحر الأعظم في شهر جمادى الأولى من سنة سبع وخمسين وأربعمائة، والقرية التي له على بعد نصف فرسخ من أونبه يقال له متليجم، وهي ملكه وملك سلفه من قبله.
قال: وقال لي أبو محمد ابن العربي: إن أبا محمد ابن حزم ولد بقرطبة، وجده سعيد ولد بأونبه ثم انتقل إلى قرطبة وولي فيها الوزارة [ابنه أحمد] ثم ابنه علي الإمام، وأقام في الوزارة من وقت بلوغه إلى انتهاء سنه ستا وعشرين سنة «1» وقال:
إنني بلغت إلى هذا السن وأنا لا أدري كيف أجبر صلاة من الصلوات.
قال: قال لي الوزير أبو محمد ابن العربي أخبرني الشيخ الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم أنّ سبب تعلّمه الفقه أنه شهد جنازة لرجل كبير من إخوان أبيه، فدخل المسجد قبل صلاة العصر والحفل فيه، فجلس ولم يركع، فقال له أستاذه- يعني الذي رباه- باشارة- أن قم فصلّ تحية المسجد فلم يفهم، فقال له بعض المجاورين له: أبلغت هذه السنّ ولا تعلم أن تحية المسجد واجبة؟! وكان قد بلغ حينئذ ستة وعشرين عاما، قال: فقمت وركعت وفهمت إذن إشارة الأستاذ إليّ بذلك؛ قال، فلما انصرفنا من الصلاة على الجنازة إلى المسجد مشاركة للأحياء من أقرباء الميت دخلت المسجد فبادرت بالركوع فقيل لي اجلس اجلس ليس هذا وقت صلاة، فانصرفت عن الميت وقد خزيت ولحقني ما هانت عليّ به نفسي، وقلت للأستاذ، دلني على دار الشيخ الفقيه المشاور أبي عبد الله ابن دحون، فدلّني فقصدته من ذلك المشهد وأعلمته بما جرى فيه، وسألته الابتداء بقراءة العلم واسترشدته فدلّني على «كتاب الموطأ» لمالك بن أنس رضي الله عنه، فبدأت به عليه(4/1652)
قراءة من اليوم التالي لذلك اليوم، ثم تتابعت قراءتي عليه وعلى غيره نحو ثلاثة أعوام وبدأت بالمناظرة.
قال: وقال لي الوزير الإمام أبو محمد ابن العربي: صحبت الشيخ الإمام أبا محمد علي بن حزم سبعة اعوام، وسمعت منه جميع مصنفاته حاشا المجلد الأخير من «كتاب الفصل» وهو يشتمل على ست مجلدات من الأصل الذي قرأنا منه، فيكون الفائت نحو السدس. وقرأنا من «كتاب الإيصال» أربع مجلدات من كتاب الإمام أبي محمد ابن حزم في سنة ست وخمسين وأربعمائة، ولم يفتني من تواليفه شيء سوى ما ذكرته من الناقص وما لم أقرأه من «كتاب الإيصال» ، وكان عند الإمام أبي محمد ابن حزم كتاب الإيصال في أربع وعشرين مجلدة بخطّ يده وكان في غاية الادماج.
قال: وقال لي الوزير أبو محمد ابن العربي: وربما كان للإمام أبي محمد ابن حزم شيء من تواليفه ألفه في عير بلده في المدة التي تجوّل فيها بشرق الأندلس فلم أسمعه، ولي بجميع مصنفاته ومسموعاته إجازة منه مرات عدة كثيرة؛ آخر ما كان بخط البجكمي رحمه الله.
وأورد له صاحب «المطمح» أشعارا منها:
وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول
أمن حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له أسرفت في اللوم فاتئد ... فعندي ردّ لو أشاء طويل
ألم تر أني ظاهريّ وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل
وأنشد له:
هل الدهر إلّا ما عرفنا وأدركنا ... فجائعه تبقى ولذاته تفنى
إذا أمكنت فيه مسرّة ساعة ... تولّت كمرّ الطرف واستخلفت حزنا
إلى تبعات في المعاد وموقف ... نودّ لديه أننا لم نكن كنا
حصلنا على همّ وإثم وحسرة ... وفات الذي كنّا نلذّ به عنا
حنين لما «1» ولّى وشغل بما أتى ... وغمّ لما يرجى فعيشك لا يهنا «2»(4/1653)
كأنّ الذي كنّا نسرّ بكونه ... إذا حققته «1» النفس لفظ بلا معنى
وله:
ولي نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصبّ
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب
هنالك تدري أن للبعد قصة ... وأنّ كساد العلم آفته القرب
وله:
لا تشمتن حاسدي إن نكبة عرضت ... فالدهر ليس على حال بمتّرك
ذو الفضل كالتبر طورا تحت ميقعة ... وتارة قد يرى تاجا على ملك
وله:
لئن أصبحت مرتحلا بشخصي ... فروحي عندكم أبدا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى ... له سأل المعاينة الكليم
ومن شعر أبي محمد ابن حزم:
أنا العلق الذي لا عيب فيه ... سوى بلدي وأني غير طاري
تقرّ لي العراق ومن يليها ... وأهل الأرض إلا أهل داري
طووا حسدا على أدب وفهم ... وعلم ما يشق له غباري
فمهما طار في الآفاق ذكري ... فما سطع الدخان بغير نار
قال «2» أبو مروان ابن حيان «3» : كان أبو محمد حامل فنون من حديث وفقه وجدل ونسب وما يتعلّق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة، وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة، غير أنه لم يخل فيها من غلط وسقط لجراءته في التسوّر على الفنون لا سيما المنطق فانهم زعموا أنه زلّ هنالك وضل في سلوك [تلك] المسالك «4» ، وخالف أرسطاطاليس واضعه مخالفة من لم يفهم(4/1654)
غرضه ولا ارتاض [في كتبه] . ومال أوّلا النظر به في الفقه إلى رأي محمد بن إدريس الشافعيّ رحمه الله، وناضل عن مذهبه وانحرف عن مذهب سواه حتى وسم به ونسب إليه، فاستهدف بذلك لكثير من الفقهاء وعيب بالشذوذ، ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر مذهب داود بن علي ومن اتبعه من فقهاء الأمصار، فنقّحه ونهجه وجادل عنه ووضع الكتب في بسطه وثبت عليه إلى أن مضى لسبيله، رحمه الله.
وكان يحمل علمه هذا ويجادل من خالفه فيه، على استرسال في طباعه ومذل بأسراره واستناد إلى العهد الذي أخذه الله على العلماء من عباده لتبيّننّه للنّاس ولا تكتمونه، لم يك يلطّف صدعه بما عنده بتعريض، ولا يزفّه بتدريج، بل يصكّ به معارضه صكّ الجندل، وينشقه متلقيه «1» إنشاق الخردل، فينفر «2» عنه القلوب، ويوقع به الندوب، حتى استهدف إلى فقهاء وقته فتمالأوا على بغضه وردّ أقواله «3» ، فأجمعوا على تضليله وشنعّوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته «4» ، ونهوا عوامّهم عن الدنّو إليه والأخذ عنه، وطفق الملوك يقصونه عن قربهم ويسيّرونه عن بلادهم إلى أن انتهوا به [إلى] منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة، وبها توفي رحمه الله سنة ست وخمسين وأربعمائة، وهو في ذلك غير مرتدع ولا راجع إلى ما أرادوا به، يبثّ علمه فيمن ينتابه من بادية بلده من عامة المقتبسين منهم من أصاغر الطلبة الذين لا يخشون فيه الملامة، يحدّثهم ويفقههم ويدار سهم ولا يدع المثابرة على العلم والمواظبة على التأليف والإكثار من التصنيف حتى كمل من مصنفاته في فنون من العلم وقر بعير لم يعد أكثرها عتبة باديته «5» لتزهيد الفقهاء طلاب العلم فيها حتى لأحرق بعضها باشبيلية ومزّقت علانية، لا يزيد مؤلفها في ذلك إلا بصيرة في نشرها وجدالا للمعاندة «6» فيها، إلى أن مضى لسبيله.(4/1655)
وأكثر معايبه- زعموا- عند المنصف له جهله بسياسة العلم التي هي أعوص من إتقانه «1» ، وتخلفه عن ذلك على قوة سبحه [في] غماره «2» ، وعلى ذلك كلّه فلم يكن بالسليم من اضطراب رأيه ومغيب شاهد علمه عنه عند لقائه إلى أن يحرّك بالسؤال فيفجر منه بحر علم لا تكدّره الدلاء ويقصّر عنه الرّشاء، له على كلّ ما ذكرنا دلائل ماثلة وأخبار مأثورة.
وكان مما يزيد في شنآنه تشيعه لأمراء بني أمية، ماضيهم وباقيهم، بالشرق والأندلس، واعتقاده لصحة إمامتهم وانحرافه عن سواهم من قريش حتى نسب إلى النّصب «3» لغيرهم.
وقد كان من غرائبه انتماؤه في فارس واتباع أهل بيته له في ذلك بعد حقبة من الدهر تولّى فيها أبوه الوزير المعقّل في زمانه الراجح في ميزانه أحمد بن سعيد بن حزم لبني أمية أولياء نعمته لا عن صحّة ولاية لهم عليه، فقد عهده الناس خامل الأبوة مولّد الأرومة من عجم لبلة جدّه الأدنى حديث الاسلام «4» لم يتقدم لسلفه نباهة، فأبوه أحمد على الحقيقة هو الذي بنى بيت نفسه في آخر الدهر برأس رابية، وعمّده بالخلال الفاضلة من الرجاحة والمعرفة والدهاء والرجولة والرأي، فاغتدى جرثومة سلف لمن نماهم أغنتهم عن الرسوخ في أول السابقة، فما من شرف إلا مسبوق «5» عن خارجية، ولم يكن إلا كلا ولا «6» حتى تخطى عليّ هذا رابية لبلة فارتقى قلعة إصطخر من أرض فارس، فالله أعلم كيف ترقاها إذ لم يكن يؤتى من خطل ولا جهالة، بل وصله بها وسع علم وشجنة «7» رحم معقومة بلّها بمستأخر الصلة، رحمه الله؛ فتناهت حاله مع فقهاء عصره إلى ما وصفته، وحسابه وحسابهم على الله(4/1656)
الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة، عزّ وجهه.
ولهذا الشيخ أبي محمد مع يهود لعنهم الله ومع غيرهم من أولي المذاهب المرفوضة من أهل الاسلام مجالس محفوظة وأخبار مكتوبة. وله مصنفات في ذلك معروفة من أشهرها في علم الجدل: كتابه المسمى كتاب الفصل بين أهل الآراء والنحل. كتاب الصادع والرادع على من كفّر أهل التأويل من فرق المسلمين والردّ على من قال بالتقليد. وله كتاب في شرح حديث الموطأ والكلام على مسائله. وله كتاب الجامع في صحيح الحديث باختصار الأسانيد والاقتصار على أصحّها واجتلاب أكمل ألفاظها وأصح معانيها. وكتاب التلخيص والتخليص في المسائل النظرية وفروعها التي لا نصّ «1» عليها في الكتاب ولا الحديث. وكتاب منتقى الاجماع وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف. وكتاب الامامة والسياسة في قسم سير الخلفاء ومراتبها والندب والواجب منها. وكتاب أخلاق النفس. وكتابه الكبير المعروف بالايصال إلى فهم كتاب الخصال. وكتاب كشف الالتباس ما بين أصحاب الظاهر وأصحاب القياس، إلى تواليف غيرها ورسائل في معان شتى كثير عددها.
ومن شعره يصف ما أحرق له من كتبه ابن عبّاد قوله:
وان تحرقوا القرطاس لا تحرقوا الذي ... تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلّت ركائبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
دعوني من إحراق رقّ وكاغد ... وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
وإلا فعودوا في المكاتب بدأة ... فكم دون ما تبغون لله من ستر
وله:
كأنك بالزوّار لي قد تبادروا «2» ... وقيل لهم أودى عليّ بن أحمد
فيا ربّ محزون هناك وضاحك ... وكم أدمع تذرى وخدّ مخدد
عفا الله عني يوم أرحل ظاعنا ... عن الأهل محمولا إلى ضيق ملحد
وأترك ما قد كنت مغتبطا به ... وألقى الذي آنست منه بمرصد(4/1657)
فوارا حتي إن كان زادي مقدّما ... ويا نصبي إن كنت لم أتزود
ويا لبدائع هذا الحبر، على وعورة ما أوضحنا «1» ، على كثرة الدافنين لها والطامسين لمحاسنها، وعلى ذلك فليس ببدع فيما أضيع منه، فأزهد الناس في عالم أهله وقبله أردى العلماء تبريزهم «2» على من يقصر عنهم، والحسد داء لا دواء له؛ (آخر كلام ابن حيان) .
ولأبي محمد قصيدة يخاطب بها قاضي الجماعة بقرطبة عبد الرحمن بن بشر «3» يفخر فيها بالعلم ويذكر أصناف ما علم، يقول فيها «4» :
أنا الشمس في جوّ السماء منيرة ... ولكنّ عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع ... لجدّ على ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصبّ
فإن ينزل الرحمن رحلي فيهم ... فحينئذ يبدو التأسّف والكرب
فكم قائل أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب
هنالك تدري أن للبعد قصة ... وأن كساد العلم آفته القرب
فواعجبا من غاب عنهم تشوقوا ... له ودنوّ المرء من دارهم ذنب
وإن مكانا ضاق عنّي لضيّق ... على أنه فيح مذاهبه سهب
وإن رجالا ضيعوني لضيّع ... وإن زمانا لم أنل خصبه جدب
ولكنّ لي في يوسف خير أسوة ... وليس على من بالنبيّ اتّسى ذنب
يقول مقال الحقّ والصدق «إنني ... حفيظ عليم» ما على صادق عتب
وله:
لا تشتمن حاسدي
..... البيتان(4/1658)
وله:
لئن أصبحت مرتحلا
.... البيتان وله مثله:
يقول أخي شجاك رحيل جسم ... وروحك ما له عنّا رحيل
فقلت له المعاين مطمئنّ ... لذا طلب المعاينة الخليل
قال الحميدي وأنشدته قول أبي نواس «1» :
عرّضن للذي تحبّ بحبّ ... ثم دعه يروضه إبليس
فقل «2» أنت في طريق التحقيق، فقال:
أبن قول وجه الحقّ في نفس سامع ... ودعه فنور الحقّ يسري ويشرق
سيؤنسه رفقا وينسى نفاره ... كما نسي القيد الموثّق مطلق.
[721] علي بن أحمد بن محمد بن علي الواحدي
، أبو الحسن: أصلهم من ساوة، وهم أولاد التجار، وكانا أخوين: علي هذا وعبد الرحمن، وكلّ قد روى العلم وحدث.
ذكرهما عبد الغافر بن إسماعيل في «السياق» قال: مات أبو الحسن عليّ الواحدي سنة ثمان وستين وأربعمائة، ومات أخوه عبد الرحمن سنة سبع وثمانين
__________
[721]- ترجمة الواحدي في إنباه الرواة 2: 223 وابن خلكان 3: 303 ودمية القصر 2: 1017 والبداية والنهاية 12: 114 وطبقات ابن الجزري 1: 523 ومرآة الجنان 2: 96 وبغية الوعاة 2: 145 وطبقات المفسرين: 23 والشذرات 3: 330 وطبقات السبكي 5: 240 والاسنوي 2: 538 وروضات الجنات 5: 244 والبلغة: 145 وعبر الذهبي 3: 267 وسير الذهبي 18: 339 والنجوم الزاهرة 5: 104 وكتاب السياق لعبد الغافر (المنتخب: 2) ص: 113 (من تواريخ نيسابور) . واشارة التعيين: 209.(4/1659)
وأربعمائة كلاهما بنيسابور.
قال عبد الغافر: فأما أبو الحسن فهو الامام المصنف المفسر النحوي أستاذ عصره وواحد دهره، أنفق صباه وأيام شبابه في التحصيل، فأتقن الأصول على الأئمة، وطاف على أعلام الأمة، فتلمذ لأبي الفضل العروضي الأديب، وقرأ النحو على أبي الحسن الضرير القهندزي، وسافر في طلب الفوائد، ولازم مجالس الثعالبي «1» في تحصيل التفسير، وأدرك الزيادي «2» وأكثر عن أصحاب الأصم. وأخذ في التصنيف فجمع كتاب الوجيز «3» . وكتاب الوسيط. وكتاب البسيط، كلّ في تفسير القرآن المجيد، وأحسن كل الاحسان في البحث والتنقير. وله كتاب أسباب النزول»
. وكتاب الدعوات والمحصول «5» . وكتاب المغازي. وكتاب شرح [ديوان] المتنبي «6» . وكتاب الإغراب في الاعراب في النحو. وكتاب تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم. وكتاب نفي التحريف عن القرآن الشريف.
وقعد للافادة والتدريس سنين، وتخرج به طائفة من الأئمة سمعوا منه وقرأوا عليه وبلغوا محلّ الافادة. وعاش سنين ملحوظا من النظام وأخيه بعين الاعزاز والاكرام، وكان حقيقا بكلّ احترام وإعظام، لولا ما كان فيه من غمزه وإزرائه على الأئمة المتقدمين، وبسطه اللسان فيهم بغير ما يليق بمناصبهم، عفا الله عنا وعنه. قال عبد الغافر: وأجاز لي جميع مسموعاته.
ذكره الحسن بن المظفر النيسابوري فقال: أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي النيسابوري هو الذي قيل فيه:
قد جمع العالم في واحد ... عالمنا المعروف بالواحدي(4/1660)
قال: ومن غرر شعره:
أيا قادما من طوس أهلا ومرحبا ... بقيت على الأيام ما هبّت الصّبا
لعمري لئن أحيا قدومك مدنفا ... بحبّك صبا في هواك معذبا
يظلّ أسير الوجد نهب صبابة ... ويمشي على جمر الغضا متقلبا
فكم زفرة قد هجتها لو زفرتها ... على سدّ ذي القرنين أمسى مذوّبا
وكم لوعة قاسيت يوم تركتني ... ألاحظ منك البدر حين تغيبا
وعاد النهار الطّلق أسود مظلما ... وعاد سنا الإصباح بعدك غيهبا
وأصبح حسن الصبر عنّي ظاعنا ... وحدّد نحوي البين نابا ومخلبا
فأقسم لو أبصرت طرفي باكيا ... لشاهدت دمعا بالدماء مخضبا
مسالك لهو سدّها الوجد والجوى ... وروض سرور عاد بعدك مجدبا
فداؤك روحي يا ابن أكرم والد ... ويا من فؤادي غير حبّيه قد أبى
وأنشد له:
تشوّهت الدنيا وأبدت عوارها ... وضاقت عليّ الأرض بالرّحب والسعه
وأظلم في عيني ضياء نهارها ... لتوديع من قد بان عني بأربعه
فؤادي وعيشي والمسرة والكرى ... فإن عاد عاد الكلّ والأنس والدعه
وقال أبو الحسن الواحدي في مقدمة «البسيط» : وأظنّني «1» لم آل جهدا في إحكام أصول هذا العلم على حسب ما يليق بزماننا هذا وتسعه سنو عمري على قلة أعدادها، فقد وفق الله وله الحمد حتى اقتبست كلّ ما احتجت إليه في هذا الباب من مظانّه، وأخذته من معادنه. أما اللغة فقد درستها على الشيخ أبي الفضل أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف العروضي رحمه الله، وكان قد خنّق التسعين في خدمة الأدب، وأدرك المشايخ الكبار وقرأ عليهم وروى عنهم، كأبي منصور الأزهري روى عنه «كتاب التهذيب» وغيره من الكتب، وأدرك أبا العباس العامري وأبا القاسم الأسدي(4/1661)
وأبا نصر طاهر بن محمد الوزيري وأبا الحسن الرخّجي، وهؤلاء كانوا فرسان البلاغة وأئمة اللغة، وسمع أبا العباس الأصمّ وروى عنه، واستخلفه الأستاذ أبو بكر الخوارزمي على درسه عند غيبته، وله المصنفات الكبار والاستدراكات على الفحول من العلماء باللغة والنحو، وكنت قد لازمته سنين أدخل عليه عند طلوع الشمس وأخرج لغروبها، أسمع وأقرأ وأعلّق وأحفظ وأبحث وأذاكر أصحابه ما بين طرفي النهار.
وقرأت عليه الكثير من الدواوين واللغة حتى عاتبني شيخي رحمه الله يوما وقال: إنك لم تبق ديوانا من الشعر إلا قضيت حقه، أما آن لك أن تتفرّغ لتفسير كتاب الله العزيز تقرأه على هذا الرجل الذي يأتيه البعداء من أقصى البلاد وتتركه أنت على قرب ما بيننا من الجوار- يعني الأستاذ الامام أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، فقلت: يا أبت إنما أتدرج بهذا إلى ذلك الذي تريد، وإذا لم أحكم الأدب بجدّ وتعب، لم أرم في غرض التفسير من كثب، ثم لم أغبّ زيارته يوما من الأيام، حتى حال بيننا قدر الحمام.
وأما النحو فإني لما كنت في ميعة صباي وشرخ شبيتي وقعت إلى الشيخ أبي الحسن علي بن محمد بن إبراهيم الضرير، وكان من أبرع أهل زمانه في لطائف النحو وغوامضه، وأعلمهم بمضايق طرق العربية وحقائقها، ولعله تفرّس فيّ وتوسّم الخير لديّ، فتجرّد لتخريجي، وصرف وكده إلى تأديبي، ولم يدّخر عني شيئا من مكنون ما عنده حتى استأثرني بأفلاذه، وسعدت به أفضل ما سعد تلميذ بأستاذه، وقرأت عليه جوامع النحو والتصريف والمعاني، وعلقت عنه قريبا من مائة جزء في المسائل المشكلة، وسمعت منه أكثر مصنفاته في النحو والعروض والعلل، وخصّني بكتابه الكبير في «علل القراءة المرتبة في كتاب الغاية» لابن مهران. ثم ورد علينا الشيخ أبو عمران المغربي المالكي، وكان واحد دهره وباقعة عصره في علم النحو، لم يلحق أحد ممن سمعنا شأوه في معرفة الاعراب، ولقد صحبته مدة في مقامه عندنا حتى استنزفت غرر ما عنده.
وأما القرآن وقراءات أهل الأمصار واختيارات الأئمة فإني اختلفت إلى الأستاذ أبي القاسم علي بن أحمد البستي رحمه الله، وقرأت عليه القرآن ختمات كثيرة لا تحصى، حتى قرأت عليه أكثر طريقة الأستاذ أبي بكر أحمد بن الحسين بن مهران،(4/1662)
ثم ذهبت إلى الامامين أبي عثمان سعيد بن محمد الحيري وأبي الحسن علي بن محمد الفارسي، وكانا قد انتهت إليهما الرياسة في هذا العلم وأشير إليهما بالأصابع في علوّ السن ورؤية المشايخ وكثرة التلامذة وغزارة العلوم وارتفاع الأسانيد والوثوق بها، فقرأت عليهما وأخذت من كلّ واحد منهما حظا وافرا بعون الله وحسن توفيقه. وقرأت على الأستاذ سعيد مصنفات ابن مهران، وروى لنا كتب أبي علي الفسوي عنه، وقرأت عليه بلفظي كتاب الزجاج بحقّ روايته عن ابن مقسم عنه، وسمع بقراءتي الخلق الكثير. ثم فرغت للأستاذ أبي إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي رحمه الله وكان حبر العلماء بل بحرهم، ونجم الفضلاء بل بدرهم، وزين الأئمة بل فخرهم، وأوحد الأمة بل صدرهم. وله التفسير الملقب ب «الكشف والبيان عن تفسير القرآن» الذي رفعت به المطايا في السهل والأوعار، وسارت به الفلك في البحار، وهبت هبوب الريح في الأقطار:
فسار مسير الشمس في كلّ بلدة ... وهبّ هبوب الريح في البرّ والبحر
وأصفقت عليه كافّة الأمة على اختلاف نحلهم، وأقرّوا له بالفضيلة في تصنيفه ما لم يسبق إلى مثله، فمن أدركه وصحبه علم أنه منقطع القرين، ومن لم يدركه فلينظر في مصنفاته ليستدلّ بها أنه كان بحرا لا ينزف، وغمرا لا يسبر. وقرأت عليه من مصنفاته أكثر من خمسمائة جزء منها تفسيره الكبير وكتابه المعنون ب «الكامل في علم القرآن» وغيرهما.
ولو أثبتّ المشايخ الذين أدركتهم واقتبست عنهم هذا العلم من مشايخ نيسابور وسائر البلاد التي وطئتها طال الخطب، وملّ الناظر. وقد استخرت الله العظيم في جمع كتاب أرجو أن يمدّني الله فيه بتوفيقه مشتمل على ما نقمت على غيري إهماله، ونعيت عليه إغفاله، لا يدع لمن تأمله حارّة في صدره حتى يخرجه عن ظلمة الريب والتخمين، إلى نور العلم واليقين، هذا بعد أن يكون المتأمل مرتاضا في صنعة الأدب والنحو، مهتديا بطرق الحجاج، قارحا في سلوك المنهاج، فأما الجذع المرخى من المقتبسين، والريّض الكزّ «1» من المبتدئين، فإنه مع هذا الكتاب كمزاول غلقا ضاع(4/1663)
عنه المفتاح، ومتخبط في ظلماء «1» ليل خانه المصباح:
يحاول فتق غيم وهو يأبى ... كعنّين يريد نكاح بكر
ثم قال بعد كلام: ثم إن هذا الكتاب عجالة الوقت، وقبسة العجلان، وتذكرة يستصحبها الرجل حيث حلّ وارتحل، وان أنسىء الأجل، وأرخي الطّول، وأنظرني الليل والنهار، حتى يتلفع بالمشيب العذار، أردفته بكتاب أنضجه بنار الرويّة، وأردّده على رواق الفكرة، وأضمنه عجائب ما كتبته ولطائف ما جمعته، وعلى الله المعوّل في تيسير «2» ما رمت، وله الحمد كلما قعدت أو قمت.
[722] علي بن أحمد الفنجكردي:
وفنجكرد قرية من قرى نيسابور على حدّ الدرب؛ كان أديبا فاضلا ذكره الميداني في خطبة «كتاب السامي» «3» وأثنى عليه، ومات سنة اثنتي عشرة وخمسمائة عن ثمانين سنة.
وذكره البيهقي في «الوشاح» فقال: الامام علي بن أحمد الفنجكردي الملقب بشيخ الأفاضل أعجوبة زمانه وآية أقرانه وشيخ الصناعة والممتطي غوارب البراعة.
وذكره عبد الغافر الفارسيّ فقال: علي بن أحمد الفنجكردي الأديب البارع صاحب النظم والنثر الجاريين في سلك السلاسة، قرأ اللغة على يعقوب بن أحمد الأديب وغيره وأحكمها وتخرج فيها، وأصابته علة لزمته في آخر عمره، ومات بنيسابور في ثالث عشر رمضان سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
قال البيهقي: وأنشدني لنفسه:
__________
[722]- ترجمة الفنجكردي في السياق (المنتخب الأول) : 71 والانساب (دمج) 9: 334 وبغية الوعاة 2: 148 وأورد له عبد الغافر مقطعات في مدح الحديث.(4/1664)
زماننا ذا زمان سوء ... لا خير فيه ولا صلاحا
هل يبصر الملبسون فيه ... لليل أحزانهم صباحا
وكلهم منه في عناء ... طوبى لمن مات فاستراحا
وله:
ولّى الشباب بحسنه وبهائه ... وأتى المشيب بنوره وضيائه
الشيب نور للفتى لكنه ... نور مهيب مؤذن بفنائه
فالهج بذكر الله وارض بحكمه ... لا روح للفقراء دون لقائه
وله:
الحكم لله ما للعبد منقلب ... إلا إليه ولا عن حكمه هرب
والمرء ما عاش في الدنيا أخو محن ... تصيبه الحادثات السود والنوب
فإن يساعده في أثنائها فرج ... تسارعت نحوه في إثره كرب
حتى إذا ملّ من دنياه فاجأه ... في أرضه كان أو في غيرها العطب.
[723] علي بن أحمد بن محمد بن الغزّال النيسابوري
أبو الحسن: ذكره عبد الغافر في «السياق» فقال: مات في شعبان سنة ست عشرة وخمسمائة ووصفه فقال: الامام المقرىء الزاهد العامل، من وجوه أئمة القراءة المشهورين بخراسان والعراق.
العارف بوجوه القراءات واختلاف الروايات، الامام في النحو وما يتعلق به من العلل، وإليه الفتوى فيه، عهدناه شابّا كثير الاجتهاد مقبلا على التحصيل ملازما لأستاذ أبي نصر الرامشي المقرىء حتى تخرج به فزاد عليه في الفقه والورع وقصر اليد عن الدنيا، ولزم طريق العبادة وطريق التصوف والزهد حتى كان يقصد من البلاد ويستفاد منه، وقلّ ما كان يخرج من بيته إلا في الجنائز ثم اختلّ بصره في آخر عمره، ثم
__________
[723]- ترجمة الغزال في السياق (المنتخب الأول) : 72 وبغية الوعاة 2: 146.(4/1665)
أصابه مرض طويل فبقي فيه مدة إلى أن سقطت قوته وضعف وأدركه قضاء الله عديم النظير فمات. وله تصانيف مفيدة في النحو والقراءات. سمع [من] الحفصي وأحمد بن منصور بن خلف المغربي.
[724] علي بن أحمد بن بكري- وقيل علي بن عمر
بن أحمد بن عبد الباقي بن بكري- أبو الحسن خازن دار الكتب بالنظامية: مات في ثامن عشري شهر رمضان سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ودفن في الوردية، ولم يعقب، وكان من أهل باب الأزج. له معرفة جيدة بالأدب، قرأ النحو على أبي السعادات ابن الشجري، وقرأ اللغة على أبي منصور الجواليقي وغيره، وكان فاضلا عارفا حسن الأمر مليح الخطّ جيد الضبط، قد كتب من كتب الأدب الكثير الذي يفوت الحصر.
[725] علي بن بريد أبو دعامة القيسي «1» أبو الحسن:
أحد الكبراء من الأدباء الرواة النبلاء، مات [ ... ] ذكره الأمير أبو نصر فقال: وعلي بن بريد أبو دعامة القيسي صاحب أدب، وهو بكنيته مشهور، وله أخبار كثيرة، روى عن أبي نواس وأبي العتاهية، روى عنه ابن أبي طاهر وعون بن محمد الكندي وغيرهما «2» .
__________
[724]- لم أجد له ترجمة.
[725]- الفهرست: 53 (وقال فيه: علامة راوية وأصله من البادية، أطال المقام بالحضر وانقطع إلى البرامكة، وله من الكتب: كتاب الشعر والشعراء) والاكمال لابن ماكولا 1: 229 وانباه الرواة 4: 117.(4/1666)
[726] علي بن بسام أبو الحسن:
من أهل الأندلس، له كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، يعني جزيرة الأندلس، في سبعة أسفار.
[727] علي بن ثروان بن الحسن الكندي أبو الحسن
، وهو ابن عم تاج الدين أبي اليمن زيد بن الحسن الكندي شيخنا. ذكره العماد في «الخريدة» قال: وأصله من الخابور، قال: ورأيته بدمشق مشهودا لفضله بالوفور، مشهورا بالمعرفة بين الجمهور، موثوقا بقوله، مصبوحا مغبوقا من نور الدين بطوله. وكان أديبا فاضلا، أريبا كاملا، قد أتقن اللغة وقرأ الأدب على أبي منصور ابن الجواليقي وغيره من معاصريه، وله شعر كثير. قال: ولم يقع إليّ ما أشدّ يد الانتقاد عليه. ومات بدمشق بعد سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان قد قصد الأمير حجي بن عبيد الله بالزبداني «1» فلم يجده وكتب على بابه هذين البيتين «2» :
حضر الكنديّ مغناكم فلم ... يركم من بعد كدّ وتعب
لو رآكم لتجلّى همّه ... وانثنى عنكم بحسن المنقلب
__________
[726]- لم تهتم كتب التراجم بإفراد ترجمة له، ما عدا المغرب لابن سعيد 1: 417، وتستفاد بعض المعلومات عنه من كتابه الذخيرة (وقد أتممت تحقيقه في ثمانية أجزاء 1975- 1980) فهو شنتريني هاجر من بلده على أثر فتنة، واستوطن اشبيلية، وبدأ يجمع مادة كتابه في حدود سنة 493 واستمر على ذلك سنوات، وكانت وفاته سنة 542، وفي الذخيرة نماذج من نثره وشعره. وللأستاذ علي بن محمد المدرس بجامعة الجزائر كتاب عنه بعنوان: ابن بسام الأندلسي وكتاب الذخيرة (الجزائر 1989) .
[727]- ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 1: 310- 312 وذيل تاريخ بغداد 17: 230 ومختصر ابن الدبيثي 3: 120 وانباه الرواة 2: 235 وذيل ابن رجب 1: 313 وبغية الوعاة 2: 152 وروضات الجنات 5: 253 والشذرات 4: 216.(4/1667)
وله من قصيدة:
هتك الدمع بصوب هتن «1» ... كلّ ما أضمرت من سرّ خفي
يا أخلائي على الخيف أما ... تتقون الله في حثّ المطي.
[728] علي بن جعفر الكاتب، أبو الحسن
الفارسي الكاتب النحوي الشاعر: قال الحاكم في «كتاب نيسابور» وكان من أعيان الأدباء، ومن أهل العلم، علّقت عنه من كلامه ولم أعرفه بالرؤية «2» ؛ سكن نيسابور.
قال الحاكم: سمعت أبا الحسن الفارسي يقول: إن اللئيم إذا لم يصطنع تجنّى كما أنشدونا لعلي بن الجهم «3» :
وخافوا أن يقال لهم خذلتم ... أخاكم فادّعوا قدم الجفاء
قال: سمعت أبا الحسن الكاتب يقول: كتب حميد بن مهران إلى أبي أيوب الهاشمي يستزيره:
أقيك الردى يا قريع الورى ... ومن حلّ من هاشم في الذرى
ويفديك من ودّه في المغيب ... إذا امتحن الودّ واهي القوى
وصالك يعدل صدق الرجاء ... وصفو المدام وطعم الكرى
فقد تاقت النفس من وامق ... إلى أن يراك فماذا ترى؟
__________
[728]- ترجمته في انباه الرواة 2: 239 وبغية الوعاة 2: 154.(4/1668)
[729] علي بن جعفر بن علي السعدي
، يعرف بابن القطّاع الصقلي، وكان مقيما بالقاهرة من مصر يعلّم ولد الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجمالي وزير المتلقب بالآمر بالله الذي كان بمصر متغلّبا. ومات ابن القطاع سنة أربع عشرة وخمسمائة بمصر ومولده سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة، وكان إمام وقته ببلده وبمصر في علم العربية وفنون الأدب. قرأ على أبي بكر محمد بن البر الصقلي، وكان مما روى عنه «كتاب الصحاح» لإسماعيل بن حماد الجوهري، ومن طريقه اشتهرت رواية هذا الكتاب في جميع الآفاق. ولابن القطاع عدة تصانيف منها: كتاب الدرّة الخطيرة في شعراء الجزيرة يعني جزيرة صقلية، اشتملت على مائة وسبعين شاعرا وعشرين ألف بيت شعر «1» . وكتاب الأسماء في اللغة جمع فيه أبنية الأسماء كلها. وكتاب الأفعال هذّب فيه أفعال ابن القوطية وأفعال ابن طريف وغيرهما في ثلاث مجلدات «2» . وله حواش على كتاب الصحاح نفيسة وعليها اعتمد أبو محمد ابن بريّ النحوي المصري في ما تكلم عليه من حواشي الصحاح. وكتاب فرائد الشذور وقلائد النحور في الأشعار.
وكتاب العروض والقوافي. وكتاب ذيل تاريخ صقلية. وكتاب الأبنية، أبنية الأسماء والأفعال. ولابن القطاع أشعار ليست على قدر علمه ومن أجودها قوله:
إياك أن تدنو من روضة ... بوجنتيه تنبت الوردا
واحذر على نفسك من قربها ... فإنّ فيها أسدا وردا
__________
[729] ترجمة ابن القطاع الصقلي في الخريدة (قسم المغرب) 1: 51 وانباه الرواة 2: 236 وابن خلكان 3: 322 ومرآة الجنان 2: 212 ومرآة الزمان 8: 56 وبغية الوعاة 2: 153- 154 وحسن المحاضرة 1: 532 والبلغة: 151 والشذرات 4: 45 وروضات الجنات 5: 248 ولسان الميزان 4: 209 وصفحات من المكتبة الصقلية؛ واشارة التعيين: 203.(4/1669)
ومنه:
ألا إنّ قلبي قد تضعضع للهجر ... وقلبي من طول الصدود على الجمر
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على دمعة تجري
ومنه:
يا ربّ قافية بكر نظمت بها ... في الجيد عقدا بدرّ المجد قد رصفا
يودّ سامعها لو كان يسمعها ... بكلّ أعضائه من حسنها شغفا.
[730] علي بن الحسن الأحمر صاحب الكسائي:
قال الجعابي، قال محمد بن يحيى الصولي: الأحمر أبو الحسن علي بن الحسن مؤدب الأمين لم يصر إلى أحد قطّ من التأديب ما صار إليه. وقال محمد بن داود: الأحمر اسمه علي بن المبارك. ومات الأحمر فيما ذكره الصولي عن أحمد بن فرج قال سمعت أبا سعيد الطوال يقول: مات الأحمر قبل الفرّاء بمدة، قال: أحسبه سنة أربع وتسعين ومائة ومات الفرّاء سنة أربع ومائتين.
وحدث المرزباني قال: روى عبد الله بن جعفر عن علي بن مهدي الكسروي عن ابن قادم صاحب الكسائي قال: كان الأحمر صاحب الكسائي رجلا من الجند من رجّالة النّوبة على باب الرشيد، وكان يحبّ علم العربية، ولا يقدر على مجالس الكسائي إلا في أيام غير نوبته، وكان يرصد مصير الكسائي إلى الرشيد ويعرض له في طريقه كلّ يوم، فإذا أقبل تلقاه وأخذ بركابه ثم أخذ بيده وماشاه إلى أن يبلغ الستر، وساءله في طريقه عن المسألة بعد المسألة، فإذا دخل الكسائي رجع إلى مكانه، فإذا خرج الكسائي من الدار تلقاه إلى الستر وأخذ بيده، وما شاه يسائله «1» حتى يركب
__________
[730]- ترجمة الأحمر صاحب الكسائي في نور القبس: 301 وانباه الرواة 2: 313 وتاريخ بغداد 12: 104 وطبقات الزبيدي: 134 وسير الذهبي 9: 92 وبغية الوعاة 2: 158 (وفيه نقل عن ياقوت) ويرد في معظم المصادر باسم: علي بن المبارك الأحمر.(4/1670)
ويجاوز المضارب، ثم ينصرف إلى الباب. فلم يزل كذلك يتعلم المسألة بعد المسألة حتى قوي وتمكن، وكان فطنا حريصا، فلما أصاب الكسائيّ الوضح في وجهه وبدنه كره الرشيد ملازمته أولاده، فأمر أن يرتاد لهم من ينوب عنه ممن يرتضي به وقال: إنك قد كبرت ونحن نحبّ أن نودّعك، ولسنا نقطع عنك جاريك، فجعل يدافع بذلك ويتوقّى أن يأتيهم برجل فيغلب على موضعه، إلى أن ضيّق عليه الأمر وشدّد، وقيل له إن لم تأتنا أنت من أصحابك برجل ارتدنا نحن لهم من يصلح، وكان قد بلغه أن سيبويه يريد الشخوص إلى بغداد والأخفش، فقلق لذلك، ثم عزم على أن يدخل إلى أولاد الرشيد من لا يخشى ناحيته، ومن ليس ممن اشتد من أصحابه، فقال للأحمر:
هل فيك خير؟ قال: نعم، قال: قد عزمت أن أستخلفك على أولاد الرشيد، فقال الأحمر: لعلي لا أفي بما يحتاجون إليه، فقال الكسائي: إنما يحتاجون في كلّ يوم إلى مسألتين في النحو وثنتين من معاني الشعر وأحرف من اللغة، وأنا ألقنك في كلّ يوم قبل أن تأتيهم ذلك فتتحفظه وتعلّمهم، فقال: نعم، فلما ألحّوا عليه قال: قد وجدت من أرضاه، وإنما أخّرت ذلك حتى وجدته، وأسماه لهم. فقالوا له: إنما اخترت لنا رجلا من رجال النّوبة ولم تأت بأحد متقدّم في العلم، فقال: ما أعرف أحدا في أصحابي مثله في الفهم والصيانة، ولست أرضى لكم غيره، فأدخل الأحمر إلى الدار وفرش له البيت الذي [يؤدّب] فيه بفرش حسن، وكان الخلفاء إذا أدخلوا مؤدّبا إلى أولادهم فجلس أول يوم أمروا بعد قيامه بحمل كلّ ما في المجلس إلى منزله مع ما يوصل به ويوهب له، فلما أراد الأحمر الانصراف إلى منزله دعي له بحمالين فحمل معه ذلك كله مع بزّ كثير، فقال الأحمر: والله ما يسع بيتي هذا، وما لنا إلا غرفة ضيقة، ليس فيها من يحفظه غيري، في بعض الخانات، وإنما يصلح مثل هذا لمن له دار وأهل وكلّ شيء يشاكله، فأمر بشراء دار له وجارية، وحمل على دابة، ووهب له غلام، وأقيم له جار ولمن عنده. فجعل يختلف إلى الكسائي كلّ عشية ويتلقّن ما يحتاج إليه أولاد الرشيد ويغدو عليهم فيلقّنهم، وكان الكسائي يأتيهم في الشهر مرة أو مرتين فيعرضون عليه بحضرة الرشيد ما علّمهم الأحمر، ويرضاه، فلم يزل الأحمر كذلك حتى صار نحويّا وجلّت حاله وعرف بالأدب حتى قدّم على سائر أصحاب الكسائي، ولم يكن له قبل ذلك ذكر ولا يعرف.(4/1671)
وحدث محمد بن الجهم السمري قال: كنا إذا أتينا الأحمر تلقانا الخدم فندخل قصرا من قصور الملوك فيه من فرش الشتاء في وقته ما لم يكن مثله إلا في دار أمير المؤمنين، ويدفع إلينا دفاتر الكاغد والجلود قد صقلت والمحابر المخروطة والأقلام والسكاكين، ويخرج إلينا وعليه ثياب الملوك تنفح منها رائحة المسك والبخور، فيلقانا بوجه منطلق وبشر حسن، حتى ننصرف ونصير إلى الفرّاء، فيخرج إلينا معبّسا قد اشتمل بكسائه، فيجلس لنا على بابه ونجلس في التراب بين يديه، فيكون أحلى في قلوبنا من الأحمر وجميل فعله.
وحدث سلمة قال: كان الأحمر قد أملى على الناس شواهد النحو، فأراد الفرّاء أن يتممها فلم يجتمع له أصحاب الكسائي كما اجتمعوا للأحمر، فقطع ولم يعرض له.
قال عبد الله بن جعفر: أخبرنا غير واحد عن سلمة بن عاصم صاحب الفرّاء قال: كان بين الفرّاء والأحمر تباعد وجفاء، فحجّ الأحمر فمات في طريق مكة، فقيل للفراء: إن الأحمر قد نعي إلى أهله، فاسترجع وتوجّع وترحّم عليه وجعل يقول: أما والله لقد علمته صدوقا سخيا ذكيّا عالما ذا مروءة ومودة، رضي الله عنه، فقيل له أين هذا مما كنت تقول فيه بالأمس؟ قال: والله ما يمنعني ما كان بيني وبينه أن أقول فيه الحقّ، وما تعديت فيه قط في قول ولا تحريت فيه إلا الصدق قبل وإلى الآن.
وأنشد إسحاق الموصلي قال: أنشدني الأحمر غلام الكسائي لنفسه:
وفتيان صدق دعوا للندى ... رياض السرور بأرض الطرب
وهي أربعة أبيات. قال: وقرأت له أيضا أبياتا يسيرة ضعيفة.
وقال أبو محمد اليزيدي يهجو الكسائي والأحمر:
أفسد النحو الكسائيّ ... وثنّى ابن غزاله
وأرى الأحمر تيسا ... فاعلفوا التيس النخاله
وقال ثعلب: كان الأحمر يحفظ الأربعين ألف بيت شاهد في النحو سوى ما كان يحفظ من القصائد، وكان مقدّما على الفرّاء في حياة الكسائي، وله من التصانيف:
كتاب التصريف. كتاب تفنن البلغاء.(4/1672)
[731] علي بن الحسن الهنائي
المعروف بكراع النمل: منسوب إلى هناءة بن مالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدثان بن عبد الله بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد، أبو الحسن اللغوي، مات [ ... ] . وجدت خطه على «المنضّد» من تصنيفه وقد كتبه في سنة سبع وثلاثمائة متقدم العصر في أيام ابن دريد.
ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من أهل مصر، وكان كوفيا وأخذ عن البصريين ويعرف بالرؤاسي «1» ، قبيلة من الأزد. وكتبه بمصر موجودة مرغوب فيها.
وقال غيره: له من التصانيف «كتاب المنضد» أورد فيه لغة كثيرة مستعملة وحوشية، ورتبه على حروف ألف باء تاء ثاء إلى آخر الحروف، ثم اختصره في كتاب المجرد، ثم اختصره في كتاب المنجد. وله كتاب أمثلة الغريب على أوزان الأفعال أورد فيه غريب اللغة. وكتاب المصحف. وكتاب المنظم.
[732] علي بن الحسن بن فضيل بن مروان:
فارسيّ الأصل، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من الكتب كتاب الأصنام وما كانت العرب والعجم تعبد من دون الله تعالى الله عزّ وجلّ.
__________
[731]- ترجمة كراع النمل في الفهرست: 91- 92 وإنباه الرواة 2: 240 وبغية الوعاة 2: 158 وإشارة التعيين: 215.
[732]- الفهرست: 138 واسمه أبو الحسن علي بن فضيل بن مروان (وفي ك: مزون) .(4/1673)
[733] علي بن الحسن بن عبد الرحمن المقرىء:
ذكره محمد بن جعفر التميمي المعروف بابن النجار في «تاريخ الكوفة» فقال: وانتهى تاريخ قراءة عاصم إلى الطبقة الثامنة، وهو علي بن الحسن بن عبد الرحمن المقرىء، وكان شيخا مباركا تلقّن عليه خلق عظيم، وحدثني أبو الحسن ابن سعيد قال: كان يحضر مجلسه فوق ألف نفس في كلّ يوم، وكان السبق من العصر يبيت الناس للسبق، وحفّظ خلقا عظيما القرآن.
وآخر من شاهدنا منهم أبو العباس محمد بن الحسن بن يونس الهذلي «1» . وكان عجيب المعنى لفاظا بالقرآن متمكّنا من اللسان، وقد قرأ بالسبعة من عدة وجوه، وقرأ بالشواذ وعليه قرأ بالشواذ أبو الحسين بن أبي بلال البندار، وهو ألّف قراءة علي بن حسن أحسن تأليف وصنّفها أتقن تصنيف. ومن رجال علي بن الحسن أبو العباس المعروف بابن المزرفي المخزومي الخراز، وكان أحد الأبدال الزهاد.
وختم عليه خلق عظيم منهم أبو الحسن ابن السمسماني المعدل.
[734] علي بن الحسن،
يلقب بابن الماشطة الكاتب، يكنى أبا الحسن: ذكره محمد بن إسحاق وقال: يلقب بابن الماشطة ظلما، كان في أيام المقتدر، وله صناعة في الخراج وتقدم في الحساب، وله من التصانيف: كتاب جواب المعنت. كتاب الخراج لطيف. كتاب تعليم نقض «2» المؤامرات.
__________
[733]- طبقات ابن الجزري 1: 530 (رقم 2189) .
[734]- الفهرست: 150 وفيه «ولقبه المظلوم بابن الماشطة» وفي تعليقات مرغوليوث أن «المظلوم» هو الخليفة المقتدر.(4/1674)
قال المرزباني: أبو الحسن علي بن الحسن بن الماشطة الكاتب أحد مشايخ الكتاب المتصرفين في أعمال السلطان، العالمين بأمور الكتبة والخراج، ورأيته شيخا كبيرا بعد العشر والثلاثمائة وجاوز التسعين، وقال:
إذا عمر الإنسان تسعين حجة ... فأبلغ به عمرا وأجدر به شكرا
لأنّ رسول الله قد قال معلنا ... ألا إنّ ربي واعد مثله غفرا
وقال وكان قد عزل عن عمل كان إليه وحبس:
قالوا حبست فقلت الحبس لا عجب ... حبس الكرامة لا حبس الجنايات
حبس العمالة بعد العزل عادتنا ... ريث التتبع أو رفع الجماعات
وله:
إذا ضاق صدري بالحديث أفضته ... إلى الأخ والإخوان كي أجد الرشدا
فان كتموه كان حزما مؤيدا ... وإن أظهروه لم أخن لهم عهدا
وقلت اشتركنا في الخطايا بذكره ... فألزمتها نفسي لأنّ لها المبدا
قال أبو علي التنوخي: حدثني أبو الحسين علي بن هشام، سمعت علي بن الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة، وهو صاحب الكتاب المعروف ب «جواب المعنت» في الكتابة، وعاش حتى بلغ مائة سنة، وكان قد تقلد مكان أبي في أيام حامد لما غلب عليّ بن عيسى على الأمور، قال: سمعت الفضل بن مروان وزير المنتصر بالله ابن المتوكل وذكر خبرا.
وقال في موضع آخر «1» : حدثني أبو الحسن الكاتب المعروف بابن الماشطة، وكان يتقلّد قديما العمالات، ثم صار من شيوخ الكتاب، وتقلد في أيام حامد بن عباس ديوان بيت المال.(4/1675)
[735] علي بن الحسن بن محمد بن يحيى:
يعرف بعلّان المصري، ذكره أبو بكر الزبيدي في كتابه فقال: كان نحويا من ذوي النظر والتدقيق في المعاني، وكان قليل الحفظ لأصول النحو، فإذا حفظ الأصل تكلّم عليه فأحسن وجوّد في التعليل ودقق القول ما شاء، مات في شوال سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.
[736] علي بن الحسن بن حبيب اللغوي، أبو الحسن الصقلي:
ذكره ابن القطاع فقال: أحد رجال اللغة المعدودين والعلماء بها المبرّزين، وممن تناول المدى البعيد بقرب فهم، وأوضح المبهمات بنور علم، وكان مضطلعا بنقد الشعر ومعانيه، ناهضا بأعباء الغريب ومبانيه، فمن شعره قوله:
أهاب الكأس أشربها وإني ... لأجرأ من أسامة في النزال
أراوغها مراوغة كأنّي ... ألاقي عند ذاك شبا العوالي.
[737] علي بن الحسن بن حسول، أبو القاسم:
من كلام ابن حسول رقعة كتبها إلى الصاحب ابن عباد يسترضيه في شيء وجده عليه: مولانا الصاحب الأجلّ كافي الكفاة كالبحر يتدفّق، والعارض يتألّق، فلا عتب على من لا يرويه سيب غواديه أن يستشرف للرائحات الرواعد من طوله فيشيم بوارقها ويستمطر سحابها، والله تعالى يديم إحياء الخلق بصوب حيائه، وديم أنوائه، والمنهلّة من فتوق سمائه، وكان غاية
__________
[735]- طبقات الزبيدي: 222 وبغية الوعاة 2: 157.
[736]- سمّاه القفطي في إنباه الرواة 2: 255 علي بن حبيب؛ وكنيته في بغية الوعاة 2: 155 أبو الفضل (مع أنه ينقل عن ياقوت) وقد وردت ترجمته نقلا عن الدرة الخطيرة في المنتخل من الدرة لأبي إسحاق ابن أغلب (الترجمة التاسعة عشرة) .
[737]- انظر ترجمة ابنه في تتمة اليتيمة 1: 107 «محمد بن علي بن الحسين» ففيها ذكر لأبي القاسم وبعض نثره.(4/1676)
ما رجّاه خادمه وتمنّاه أن يسلم على بلايا أحدقت به، ومنايا حدّقت إليه، وأجل نازل أمله، وسيف صقيل تلمّظ له، وحين كفاه مولانا من ذلك ما كفاه آخذا بيديه، وباسطا جناح رحمته عليه، طالبته نفسه بتوقيعه العالي، ليتوقّى به وقائع الليالي، فتصدق أدام الله تمكينه عليه بتوقيعين في مدة أسبوعين، وأنقذاه مغمورا، وأنشراه مقبورا، وقد أبطرته الآن النعمة، ونزت به البطنة، وأطمعته في توقيع ثالث فطمع وأصدر كتابه هذا وانتظر، فإن رأى مولانا أن يحقّق رجاءه، ويستغنم دعاءه، ودعاء من وراءه، فعل إن شاء الله عز وجل.
فوقّع الصاحب على ظهرها: سيدي أبو القاسم أيده الله قدّم حرمة وأتبع عثرة وأظهر إنابة فاستحقّ إقالة فعاد حقّه طريّا كأن لم يخلق، وظنّه قويا كأن لم يخفق، ولو حضر لأظهرت ميسم الرضى عليه، بما أصرفه من مزيد البسطة إليه، وإذ قد غبت فأنت لي يد حقّ ولسان صدق، فنب في ذلك منابا يمحو آثار السّخط حتى كأن لم تشهد، ويرحض أخبار العتب كأن لم تعهد؛ هذا وأحسب توقيعي كافيا فيما أمّله، ومغنيا فيما أناله أمله، إن شاء الله عزّ وجل.
[738] علي بن الحسن القهستاني، أبو بكر العميد:
أحد من أشرقت بنور الآداب شمسه، وتقدم- وإن تأخر زمانه- بالفضل يومه وأمسه، وسما بفضل أدبه كلّ أفاضل جنسه، مشهور في أهل خراسان مذكور معروف بينهم لا يجهل قدره، ولا يطمس بدره. وكان قد اتصل في أيام السلطان محمود بن سبكتكين بولده محمد بن محمود «1» في أيام أبيه لما قلده الخوزستان «2» ، وكان يميل إلى علوم الأوائل ويدمن النظر
__________
[738]- علي بن الحسن القهستاني: التقى به الباخرزي سنة 435 وهو على أشراف خراسان ومدحه (انظر الدمية 2: 778- 791) .(4/1677)
في الفلسفة، فقدح في دينه ومقت لذلك. وكان كريما جوادا ممدّحا، ولي الولايات الجليلة، وله أشعار فائقة ورسائل رائقة. وكان كثير المزاح راغبا في اللهو والمراح، له في ذلك خاطر وقّاد وحكايات متداولة، وقد دوّنت رسائله وشاعت فضائله، وكان يدمن المزاح حتى في مجلس نظره، وكان يعاتب على ذلك فلا يدعه لغلبة طبعه عليه، وكان قد تولّى العرض، فجرى يوما بين يديه في مجلس العرض ذكر المعمّى فقال: قد كان عندي البارحة جماعة- سماهم- من أهل الأدب فألقيت عليهم مثالا يصعب استخراج مثله فوقفوا فيه وهو:
مليحة القدّ والأعطاف قد جعلت ... في الحجر طفلا له رأسان في جسد
قد ضيقت منه أنفاس الخناق بلا ... جرم وتضربه ضربا بلا حرد
فتسمع الصوت منه حين تضربه ... كأنه خارج من ماضغ الأسد
ثم قال: لقد ساءني والله فلان- لرجل أسماه- إذ لم يفهم هذا القدر، فقال له غلام أمرد من أولاد الكتاب كان يتعلّم في ديوانه: قد عرفت- أطال الله بقاء الشيخ العميد- هذا المعمّى، وهو الطبل؛ فقال له مبادرا، كأنه كان قد أعدّ له ذلك:
عهدي بك تستدخل الأعور فكيف صرت تستخرج الأعمى؟! فخجل الغلام وضحك الحاضرون.
قال ابن عبد الرحيم: وحدثني أبو الفضل قال: بلغني أن القهستاني أنشد مرة بحضرة السلطان محمد بن محمود بيتا من المعمّى فلم يعرفه هو ولا ندماؤه وهو:
دقيقة الساق لا عروق لها ... تدوس رزق الورى بهامتها
فقال له محمد: ما نفهم هذا ولا نعرف شيئا يشبهه ففسّره. قال: هو مغرفة الباقلاني، يغرف بها الماء، ويهشم برأسها الخبز والثريد وهو رزق الورى. فاستبرده وثقل عليه عدم فهمه له، وهو لعمري مستبرد حقيقة.
قال: وحدثني أن هذا الرجل كان يتميز على أهل خراسان بحسن الأخلاق والسخاء، وكثرة المعروف والعطاء، وكان الشعراء يقصدونه دائما لما اشتهر من سماحته وفائض مروءته، فأنشده بعض الشعراء قصيدة باردة غير مرضيّة، فغفل عنه(4/1678)
وأخّر صلته، فكتب بيتين في رقعة وسأل الدواتي أن يتركها في دواته ففعل، وكان البيتان:
أبا بكر هجوتك لا لطبعي ... فطبعي عن هجاء الناس نابي
ولكنّي بلوت الطبع فيه ... فإن السيف يبلى في الكلاب
فوقعت بيد العميد بعد أيام، فلما وقف عليها استحسنها، وسأل الدواتي عن الرجل فعرّفه إياه، فأمر بطلبه، فقيل له إنه سافر، فأرسل خلفه من استعاده من عدّة فراسخ، فلما دخل إليه قام له وأكرمه وتلقاه بالاجلال وقال: لو كان مديحك كهجائك لقاسمتك نعمتي، فإني ما سمعت بأحسن من هذين البيتين، ووصله وأحسن جائزته، فاستجرأ الناس عليه وقالوا إنه لا يثيب إلا على الهجاء.
قال: وكان أبو بكر القهستاني لهجا بالغلمان شديد الميل إليهم، وكان لمحمد بن محمود سبعمائة غلام في خيله، فعلق العميد أحدهم وأحبه حبا مفرطا، ولم يستجريء أن يبدي ذلك لما فيه من سوء العاقبة، فاتفق أن عاد الغلمان يوما من بعض المتصيّدات، فلقيهم العميد في صحن الدار فسلّموا عليه، وقرب ذلك الغلام منه، وكان قد عرف ميله إليه، فقرص فخذه، وكان محمد مشرفا عليهم ينظر إلى ذلك، فنزل واستدعى الخدم وأمرهم بضربه فضربوه ضربا مسرفا، ثم أنفذه إلى العميد وقال له: قد وهبناه منك وصفحنا عن ذنبك، فلو لم يساعدك هذا الفاجر على ذلك لما أمكنك فعله، ولكن لا تعد إلى مثل هذا، فاستحيا العميد وقال: هذا أعظم من الضرب والأدب، وتأخر عن داره حياء، فأنفذ محمد واستدعاه وبسطه حتى زال انقباضه، وكان محمد لا رأي له في الغلمان ولا ميل عنده إليهم، وكان لمعرفته بمحبة العميد لهم لا يزال يهب منه واحدا بعد واحد. وشكا الخدم إلى محمد أن بعض الغلمان الدارية يمكّن باقي الغلمان من وطئه ولا يمتنع عليهم من الغشيان، فقال:
أيفعل هذا طبعا أم يستجعل عليه؟ فقالوا: بل يستجعل عليه، فتقدم باخراجه وإنفاذه الى العميد وقال: قولوا له هذا بك أشبه لا بنا فخذه مباركا لك فيه.
وقال أبو بكر العميد في الميمندي «1» وزير محمود:(4/1679)
ولقد سئمت من الوزير ومن ذويه زائده ... وغسلت من معروفهم
كلتا يديّ بواحده ... وضربتهم عرض الجدا
ر فليس فيهم فائدة
ومن مشهور قوله:
ومعقرب الأصداغ في ... خدّيه ورد ينتثر
لا عبته بالكعبتي ... ن مسامحا حتى قمر
فازداد حسنا وجهه ... لما رأى حسن الظفر
فنعرت نعرة عاشق ... قمر القمر قمر القمر
وله:
ومقرطق في صحن غرّة وجهه ... متصرف صرف الجمال وتحته
عاقرته أسكرته قبلته ... جدّلته فقّحته سرّحته
وله من أبيات كان يغنى بها في حضرة الأمير محمد بن محمود:
قم يا خليلي فاسقني ... كشعاع خدّك من شراب
فلقد يمرّ العيش من ... قرضا ولا مرّ السحاب
فانعم بعيشك ما استطع ... ت ولا تضع شرخ الشباب
فلكم أضعت من الشبا ... ب وما استفدت سوى اكتئاب
قال ابن عبد الرحيم: ثم ورد العميد إلى بغداد في أوائل سني نيف وعشرين وأربعمائة، ومدح أمير المؤمنين القادر بالله والأجلّ عميد الرؤساء أبا طالب ابن أيوب كاتبه، ثم خرج من بغداد وبلغني الآن في سنة خمس وثلاثين أنه اتصل بالملوك السلجوقية الغزّ المتملكين على خراسان وخوارزم والجبل، وأنهم عرضوا عليه الخدم الجليلة، فاختار منها ما يظنّ معه سلامة العاقبة والخلاص من التبعة.
ومن قصيدته في القادر:
ولم يرني ذو منة غير خالقي ... وغير أمير المؤمنين ببابه
غنيا بلا دنيا عن الخلق كلهم ... وان الغنى إلا عن الشيء لا به(4/1680)
ومما بلغني من شعره:
رأيت عمّارا ولو لم أره ... حاز لتلك الطلعة المنكره
لا أحمد الله على خلقه ... فلو أراد الحمد ما صوّره
وله يهجو ابن كثير العارض:
فلسنا نرجّي الخير من إبن واحد ... فكيف نرجّيه من ابن كثير
وله فيه:
وطول بلا طول وعرض بلا عرض
وهجاه بأبيات تصحف:
مالي وهذا العارض ابن كثير الشيخ العميد وما له يشناني
وهو الفؤاد بروحه وأحبّه ... ويتيه أين رأيته ورآني
ويغضّ من قدري ويخمل جاهدا ... ذكري ويخفي في الجنان جناني
يريد في الحتان ختاني.
[739] علي بن الحسن بن الوحشي النحوي الموصلي أبو الفتح:
قال السلفي:
أنشدني أبو الفرج هبة الله بن محمد بن المظفر بن الحداد الكاتب بثغر آمد، قال:
أنشدني ابن الوحشيّ النحوي لنفسه:
أبكي على الربع قد أقوى كأنّي من ... سكانه أو كأن ما زلت أعمره
لا تلحني في بكائيه فساكنه ... لم ألفه هاجري يوما فأهجره
__________
[739]- ترجمة ابن الوحشي الموصلي في إنباه الرواة 2: 247 وبغية الوعاة 2: 157 (وهو ينقل عن ياقوت) .(4/1681)
[740] علي بن الحسن بن علي بن أبي الطيب الباخرزي السبخي
أبو الحسن:
وقال أبو الحسن البيهقي: كنية الباخرزي أبو القاسم وهو الصحيح؛ وباخرز من نواحي نيسابور- ذكره العماد الكاتب في «الخريدة» فقال: وهو الذي صنّف «كتاب دمية القصر في شعراء العصر» . قال: وطالعت هذا الكتاب بأصفهان في دار الكتب التي لتاج الملك بجامعها وبعثني ذلك على تأليف كتابي هذا- يعني كتابه الذي نقلت هذا منه وسماه «خريدة القصر في شعراء العصر» . قال: ومات في سنة سبع وستين وأربعمائة قال: قتل في مجلس أنس بباخرز وذهب دمه هدرا. قال: وكان واحد دهره في فنه، وساحر زمانه في قريحته وذهنه، صاحب الشعر البديع، والمعنى الرفيع، وأثنى عليه قال: ولقد رأيت أبناء العصر بأصفهان مشغوفين بشعره، متيمين بسحره، وورد إلى بغداد مع الوزير الكندري «1» ، وأقام بالبصرة برهة، ثم شرع في الكتابة معه مدة، واختلف إلى ديوان الرسائل، وتنقّلت به الأحوال في المراتب والمنازل، وله ديوان كبير.
ومما أورده في «دمية القصر» لنفسه:
ولقد جذبت إليّ عقرب صدغها ... فوجدتها جرّارة مجروره
وكشفت ليلة خلوة «2» عن ساقها ... فرأيتها مكّارة ممكوره
__________
[740]- ترجمة الباخرزي في الأنساب 2: 17 واللباب (الباخرزي) وعبر الذهبي 3: 265 وسير الذهبي 18: 363 وذيل تايخ بغداد 17: 295 وابن خلكان 3: 387 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 185 وطبقات السبكي 5: 256 والأسنوي 1: 234 والشذرات 3: 327 والبداية والنهاية 12: 112 ومرآة الجنان 3: 95 والنجوم الزاهرة 5: 99؛ وقد نشر كتابه «دمية القصر» بتحقيق د. محمد التونجي، وحقق مرة أخرى بمصر ومرة ثالثة بالعراق، وللدكتور التونجي كتاب بعنوان: الباخرزي حياته وشعره.(4/1682)
قال ومما أنشدت من شعره قوله:
زكاة رؤوس الناس في عيد فطرهم ... بقول رسول الله صاع من البرّ
ورأسك أغلى قيمة فتصدّقي ... بفيك علينا فهو صاع من الدرّ
وقال في عذار غلام يكتب خطا مليحا:
قد قلت لما فاق خطّ عذاره ... في الحسن خطّ يمينه المستملحا
من يكتب الخطّ المليح لغيره ... فلنفسه لا شكّ يكتب أملحا
وله:
قالوا التحى ومحا الإله جماله ... وكساه ثوب مذلة ومحاق
كتب الزمان على محاسن خدّه ... هذا جزاء معذّب «1» العشاق
وله «2» :
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... نجح الأمور بقوة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليك وإنما ... يدعى الطبيب لكثرة الأوصاب
وله:
يروقك بشرا وهو جذلان مثلما ... تخاف شباه وهو غضبان محنق
كذا السيف في أطرافه الموت كامن ... وفي متنه ضوء يروق ورونق
وله:
قالت وقد ساءلت عنها كلّ من ... لا قيته من حاضر أو بادي
أنا في فؤادك فارم طرفك نحوه ... ترني فقلت لها وأين فؤادي
وقال يصف الشتاء والبرد:
لبس الشتاء من الجليد جلودا ... فالبس فقد برد الزمان برودا
كم مؤمن قرصته أظفار الشتا ... فغدا لأصحاب الجحيم حسودا(4/1683)
وترى طيور الماء في أرجائها ... تختار حرّ النار والسفّودا
فإذا رميت بسؤر كأسك في الهوا ... عادت عليك من العقيق عقودا
يا صاحب العودين لا تهملهما ... حرّق لنا عودا وحرّك عودا
ومن غير «كتاب الخريدة» مما روي له:
إنسان عيني قطّ ما يرتوي ... من ماء وجه ملحت عينه
كذلك الإنسان ما يرتوي ... من شرب ماء ملحت عينه
قال السمعاني: ولما ورد إلى بغداد مدح القائم بأمر الله بقصيدته التي صدّرها ديوانه، وهي:
عشنا إلى أن رأينا في الهوى عجبا ... كلّ الشهور، وفي الأمثال «عش رجبا»
أليس من عجب أني ضحى ارتحلوا ... أوقدت من ماء دمعي في الحشا لهبا
وأنّ أجفان عيني أمطرت ورقا ... وأن ساحة خدّي أنبتت ذهبا
وإن تلهّب برق من جوانبهم ... توقّد الشوق في جنبيّ والتهبا
قال: فاستهجن البغداديون شعره وقالوا: فيه برودة العجم، فانتقل إلى الكرخ وسكنها وخالط فضلاءها وسوقتها مدة، وتخلّق بأخلاقهم واقتبس من اصطلاحاتهم، ثم أنشأ قصيدته التي أولها:
هبّت عليّ صبا تكاد تقول ... إني إليك من الحبيب رسول
سكرى تجشّمت الربى لتزورني ... من علّتي وهبوبها تعليل
فاستحسنوها وقالوا: تغير شعره ورقّ طبعه.
ومن شعره:
حمل العصا للمبتلى ... بالشيب عنوان ابلى
وصف المسافر أنه ... ألقى العصا كي ينزلا
فعلى القياس سبيل من ... حمل العصا أنّ يرحلا
وذكر أبو الحسن ابن أبي القاسم زيد البيهقي في كتاب «مشارب التجارب» و «أخبار الوزير أبي نصر محمد بن منصور الكندري» - وكندر قرية من أعمال(4/1684)
طريثيث- قال «1» : كان الشيخ علي بن الحسن الباخرزي شريكه في مجلس الإفادة من الإمام الموفق النيسابوري في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة فهجاه الشيخ علي بن الحسن فقال مداعبا:
أقبل من كندر مسيخرة ... للنحس في وجهه علامات
يحضر دار الأمير وهو فتى ... موضع أمثاله الخرابات
فهو جحيم ودبره سعة ... كجنّة عرضها السّماوات
قال: وكان أول عمل الكندري حجبة الباب، ثم تمكن في مدة أيام السلطان طغر لبك وصار وزيرا محكّما، فورد عليه الشيخ علي بن الحسن وهو ببغداد في صدر الوزارة في ديوان السلطان، فلما رآه الوزير قال له: أنت صاحب «أقبل» ؟ فقال له:
نعم، فقال الوزير: مرحبا وأهلا فإني قد تفاءلت بقولك «أقبل» ، ثم خلع عليه قبل إنشاده وقال له: عد غدا وأنشد، فعاد في اليوم الثاني وأنشد هذه القصيدة «2» :
أقوت معاهدهم بشطّ الوادي ... فبقيت مقتولا وشطّ الوادي
وسكرت من خمر الفراق ورقّصت ... عيني الدموع على غناء الحادي
منها:
في ليلة من هجره «3» شتوية ... ممدودة مخضوبة بمداد
عقمت بميلاد الصباح وإنها ... في الإمتداد كليلة الميلاد
منها:
غرّ الأعادي منه رونق بشره ... وأفادهم بردا على الأكباد
هيهات لا يخدعهم إيماضه ... فالغيظ تحت تبسّم الآساد
فالبهو منه بالبهاء موشّح ... والسّرج منه مورق الأعواد
وإذا شياطين الضلال تمردوا ... خلّاهم قرناء في الاصفاد(4/1685)
فلما فرغ من إنشاد هذه القصيدة قال عميد الملك لأمراء العرب: لنا مثله في العجم فهل لكم مثله في العرب؟ ثم أمر له بألف دينار مغربية «1» .
قال: وكان السلطان طغرلبك قد بعث وزيره الكندري وكيلا في العقد على بنت خوارزمشاه، فوقع إرجاف، ورفع إلى السلطان أن عميد الملك زوّجها من نفسه وخان، وكان من أمرهما ما كان، فتغير رأي السلطان عليه فحلق عميد الملك لحيته وجبّ مذاكيره حتى سلم من سياسة السلطان، فمدحه الشيخ علي بن الحسن بهذا النقصان، وما سبقه بهذا المعنى أحد حيث قال «2» :
قالوا محا السلطان عنه بعدكم ... سمة الفحول وكان قرما صائلا
قلت اسكتوا فالآن زاد فحولة ... لما اغتدى عن أنثييه عاطلا
فالفحل يأنف أن يسمّى بعضه ... أنثى لذلك جذّه مستاصلا
ولما قتل السلطان الب ارسلان الوزير أبا نصر الكندري قال الباخرزي يخاطب السلطان «3» :
وعمّك أدناه وأعلى محلّه ... وبوّأه من ملكه كنفا رحبا
قضى كلّ مولى منكم حقّ عبده ... فخوّله الدنيا وخوّلته العقبى
قال المؤلف: وهذا معنى لطيف، ومقصد ظريف، فلله در الشعراء وقرائحهم، والأدباء ومنائحهم.
قال البيهقي: ومن العجائب أن آلات تناسل الكندري مدفونة بخوارزم، ودمه مصبوب بمرو الروذ، وجسده مقبور بقرية كندر من طريثيث، وجمجمته ودماغه مدفونان بنيسابور، وشواته محشوّة بالتبن وقد نقلت إلى كرمان فدفنت هناك.
وقال علي بن الحسن الباخرزي في ذلك:
مفترقا في الأرض أجزاؤه ... بين قرى شتى وبلدان(4/1686)
جبّ بخوارزم «1» مذاكيره ... طغرل ذاك الملك الفاني
ومصّ مرو الروذ من جيده ... معصفرا يخضبها قاني
والشخص في كندر مستبطن ... وراء أرماس وأكفان
ورأسه طار فلهفي على ... مجثمه في خير جثمان
خلّوا بنيسابور مضمونه ... وقحفه الخالي بكرمان
والحكم للجبار فيما مضى ... وكلّ يوم هو في شان
وقال من قصيدة له فائقة يمدح فيها الشريف السيد ذا المجدين أبا القاسم علي بن موسى بن إسحاق بن الحسين بن إسحاق بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام نقيب الطالبيين بمرو- وفيها ما يدل على أن كنية الباخرزي أبو القاسم- أولها:
حبا لك من تحت ذيل الحبى ... شعاع كحاشية المشرفي
يقول فيها:
وسقت الركائب حتى أنخن ... بسبط الأنامل سبط النبي
عليّ بن موسى مواسي العفاة ... أبي القاسم السيد الموسوي
ومنها:
نماه الفخار إلى جدّه ... عليّ ففاز بجدّ علي
ولا يتأشب عيص السريّ ... إذا هو لم يكن ابن السري
أبا قاسم يا قسيم السخاء ... إذا جفّ ضرع الغمام الحبي
وفدت إليك مع الوافدين ... وفود البشارة غبّ النعي
وزارك مني سميّ كنيّ ... فراع حقوق السمّي الكني
فهاك القصيدة بكرا تصلّ ... على نحرها حصيات الحلي(4/1687)
جعلت هداك «1» جهازا لها ... فجاءتك مائسة كالهدي
سحرت بها ألسن السامرين ... ولم أترك السحر للسامري
ولما نشرت أفاويقها ... طوى الناس ديباجة البحتري
وقرأت بخط أبي سعد لأبي القاسم الباخرزي وكنّاه أبا الحسن «2» :
يا فالق الصبح من لألاء غرّته ... وجاعل الليل من أصداغه سكنا
لاغرو أن أحرقت نار الهوى كبدي ... فالنار حقّ على من يعبد الوثنا
وأنشد له وكناه أبا القاسم:
كتبت وخطي حاش وجهك شاهد ... بأن بناني من أذى السقم مرتعش
ونفسي إن تأمر تعش في سلامة ... فأهد لها منك السلام ومرتعش.
[741] علي بن الحسن بن علي بن صدقة
، الوزير بن الوزير أبو الحسن بن أبي علي: لم يستقلّ بالوزارة إنما ناب عن أبيه، وكان أبوه وزير المسترشد، وكان في أبيه كفاية وشهامة، وهو أول من ولي الوزارة من بني صدقة، وكان أبوه يلقب جلال الدولة «3» ، وهو يلقب شرف الدولة. ولما مات جلال الدولة دخل ابن الأقفاصي الشاعر الموصلي إلى قبره وقال وهو يبكي:
نزورك في ثوبي خشوع وذلّة ... كأنك ترجى في الضريح وترهب
__________
[741]- ترجمة الوزير ابن صدقة في ذيل تاريخ بغداد 17: 304 وفيه أن وفاته كانت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة؛ وفي ترجمة الوزير أبيه الحسن بن علي بن صدقة انظر الفخري: 269- 271 (وكانت وفاته سنة 522) والمنتظم 10: 9 والشذرات 4: 66.(4/1688)
ونلثم تربا من رفيع محجّب ... كما يلثم البيت الرفيع المحجّب
وترثى بما قد كنت ممتدحا به ... فيحزننا منك الذي كان يطرب
ومات جلال الدولة في جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة.
وأما شرف الدولة فقال السمعاني في «تاريخه» : هو عزيز الفضل وافر العقل، له معرفة تامة باللغة، حسن الخط مليحه، ديّن خيّر مشغول بالعبادة والعزلة، سمع بقراءتي بمكة والمدينة وبغداد على المشايخ: سمع أبا القاسم الربعي، كتبت عنه وسألته عن مولده فقال: في محرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة.
قلت أنا: وهو الذي بنى الرباط المعروف برباط الدرجة على دجلة بالجانب الغربي واعتزل فيه مع جماعة من الفقراء وترك الولايات إلى أن مات، وهو صاحب الخط المليح المنسوب على طريقه علي بن هلال بن البواب ومات في سابع صفر سنة أربع وخمسين وخمسمائة.
[742] علي بن الحسن بن عنتر بن ثابت
المعروف بشميم الحلي، أبو الحسن النحوي اللغوي الشاعر: مات في ربيع الآخر سنة إحدى وستمائة، أخبرني به العماد بن الحدوس العدل، وبمنزله مات بالموصل عن سن عالية، وهو من أهل الحلة المزيديّة، قدم بغداد وبها تأدب، ثم توجه تلقاء الموصل والشام وديار بكر، وأظنه قرأ على أبي نزار ملك النحاة.
قال مؤلف الكتاب: وكنت قد وردت إلى آمد في شهور سنة أربع وتسعين وخمسمائة فرأيت أهلها مطبقين على وصف هذا الشيخ، فقصدته إلى مسجد الخضر
__________
[742]- ترجمة شميم الحلي في ذيل تاريخ بغداد 17: 311 وإنباه الرواة 2: 243 وابن خلكان 3: 339 والبدر السافر، الورقة: 13 والجامع المختصر: 157 وذيل الروضتين: 52 وعبر الذهبي 5: 2 والشذرات 5: 4 والنجوم الزاهرة 6: 188 وبغية الوعاة 2: 156 (وفيه نقل عن ياقوت) . وقد نقل القفطي حكاية رواها ياقوت نفسه عن شميم الحلي (إنباه 2: 244) لم ترد هنا.(4/1689)
ودخلت عليه فوجدته شيخا كبيرا قضيف الجسم في حجرة من المسجد، وبين يديه جامدان مملوء كتبا من تصانيفه فحسب، فسلمت عليه وجلست بين يديه، فأقبل عليّ وقال: من أين أنت؟ قلت: من بغداد. فهشّ بي وأقبل يسائلني عنها وأخبره، ثم قلت له: إنما جئت لأقتبس من علوم المولى شيئا، فقال لي: وأيّ علم تحبّ؟ قلت له: أحبّ علوم الأدب، فقال: إن تصانيفي في الأدب كثيرة، وذاك أن الأوائل جمعوا أقوال غيرهم وأشعارهم وبوّبوها، وأنا فكلّ ما عندي من نتائج أفكاري، وكنت كلما رأيت الناس مجمعين على استحسان كتاب في نوع من الآداب استعملت فكري وأنشأت من جنسه ما أدحض به المتقدم، فمن ذلك أن أبا تمام جمع أشعار العرب في حماسته وأنا فعملت حماسة من أشعاري وبنات أفكاري (ثم سبع أبا تمام وشتمه) ، ثم رأيت الناس مجمعين على تفضيل أبي نواس في وصف الخمر، فعملت كتاب الخمريات من شعري، لو عاش أبو نواس لاستحيى أن يذكر شعر نفسه لو سمعها.
ورأيت الناس مجمعين على تفضيل خطب ابن نباتة، فصنفت كتاب الخطب فليس للناس اليوم اشتغال إلا بخطبي. وجعل يزري على المتقدمين ويصف ويجهّل الأوائل ويخاطبهم بالكلب، فعجبت منه وقلت له: فأنشدني شيئا مما قلت، فابتدأ وقرأ عليّ خطبة كتاب الخمريات، فعلق بخاطري من الخطبة قوله: «ولما رأيت الحكميّ قد أبدع ولم يدع لأحد في اتباعه مطمعا، وسلك في إفشاء سرّ صفات الخمرة [مهيعا] آثرت أن أجعل لها نصيبا من عنايتي مع ما أنني علم الله لم ألمم لها بلثم ثغر إثم، مذ رضعت ثدي أمّ» أو كما قال. ثم أنشدني من هذا الكتاب.
امزج بمسبوك اللجين ... ذهبا حكته دموع عيني
لما نعى ناعي الفرا ... ق ببين من أهوى وبيني
كانت ولم يقدر لشي ... ء قبلها إيجاب كون
وأحالها التشبيه لما شبّهت بدم الحسين ... خفقت لنا شمسان من
لألائها في الخافقين ... وبدت لنا في كاسها
من لونها في حلّتين ... فاعجب هداك الله من
كون اتفاق الضرّتين(4/1690)
في ليلة بدأ السرو ... ر بها يطالبنا بدين
ومضى طليق الراح من ... قد كان مغلول اليدين
هي زينة الأحياء في ال ... دنيا وزينة كلّ زين
فاستحسنت ذلك، فغضب وقال لي: ويلك ما عندك غير الاستحسان؟! قلت له: فما أصنع يا مولانا؟ فقال لي: تصنع هكذا، ثم قام يرقص ويصفّق إلى أن تعب، ثم جلس وهو يقول: ما أصنع وقد ابتليت ببهائم لا يفرّقون بين الدر والبعر، والياقوت والحجر؟! فاعتذرت إليه وسألته أن ينشدني شيئا آخر، فقال لي: قد صنفت كتابا في التجنيس (سماه: أنيس الجليس في التجنيس) في مدح صلاح الدين لما رأيت استحسان الناس لقول البستي، فأنا أنشدك منه، ثم أنشدني لنفسه «1» :
ليت من طوّل بالش ... ام نواه وثوى به
جعل العود إلى الزو ... راء من بعض ثوابه
أترى يوطئني الده ... ر ثرى مسك ترابه
وأرى أي نور عيني ... موطنا لي وترى به
ثم أنشدني لنفسه في وصف ساق:
قل لي فدتك النفس قل لي ... ماذا تريد إذن بقتلي
أأدرت خمرا في كؤو ... سك هذه أم سمّ صلّ
وأنشدني غير ذلك مما ضاع مني أصله.
ثم سألته عمن تقدم من العلماء فلم يحسن الثناء على أحد منهم، فلما ذكرت له المعري نهرني وقال لي: ويلك كم تسيء الأدب بين يديّ؟! من ذلك الكلب الأعمى حتى يذكر بين يديّ في مجلسي؟! فقلت: يا مولانا ما أراك ترضى عن أحد ممن تقدّم، فقال: كيف أرضى عنهم وليس لهم ما يرضيني؟ قلت: فما فيهم قط أحد جاء بما يرضيك؟ فقال: لا أعلمه إلا أن يكون المتنبي في مديحه خاصة، وابن نباتة في(4/1691)
خطبه، وابن الحريري في مقاماته، فهؤلاء لم يقصّروا. قلت له: يا مولانا قد عجبت إذ لم تصنّف مقامات تدحض بها مقامات الحريري، فقال لي: يا بني اعلم أن الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي على الباطل، عملت مقامات مرتين فلم ترضني فغسلتها، وما أعلم أن الله خلقني إلا لأظهر فضل ابن الحريري. ثم شطح في الكلام وقال: ليس في الوجود إلا خالقان: واحد في السماء وواحد في الأرض، فالذي في السماء هو الله، والذي في الأرض أنا، ثم التفت إليّ وقال: هذا كلام لا يحتمله العامّة لكونهم لا يفهمونه، أنا لا أقدر على خلق شيء إلا خلق الكلام، فأنا أخلقه، ثم ذكر اشتقاق هذه اللفظة. فقلت له: أيا مولانا أنا رجل محدث، وإن لم يكن في المحدث جرأة مات بغصّته، وأحبّ أن أسأل مولانا عن شيء إن أذن لي، فتبسم وقال: ما أراك تسأل إلا عن معضلة، هات ما عندك. قلت: لم سميت بالشميم؟
فشتمني ثم ضحك وقال: اعلم أنني بقيت مدة من عمري- ذكرها هو وأنسيتها أنا- لا آكل في تلك المدة إلا الطين فحسب قصدا لتنشيف الرطوبة وحدّة الحفظ، وكنت أبقى أياما لا يجيئني الغائط فإذا جاء كان شبه البندقة من الطين، وكنت آخذه وأقول لمن أنبسط إليه: شمّه فإنه لا رائحة له، فكثر ذلك حتى لقّبت به، أرضيت يا ابن الفاعلة؟ هذا آخر ما جرى بيني وبينه.
ثم أنشدت له من حماسته:
لا تسرحنّ الطرف في بقر المها ... فمصارع الآجال في الآجال «1»
كم نظرة أردت وما أخذت يد ... الممصمي لمن قتلت أداة قتال
سنحت وما سمحت بتسليم و ... إغلال التحية فعلة المغتال «2»
أضللت قلبي عندهنّ ورحت ... أنشده بذات الضال ضلّ ضلالي
ألوي بألوية العقيق على الطلو ... ل مسائلا من لا يجيب سؤالي
تربت يدي في مقصدي من لا يدي ... قودي وأولى لي بها أولى لي «3»(4/1692)
يا قاتل الله الدّمى كم من دم ... أجرين حلّا كان غير حلال
أشلين ذلّ اليتم في الأشبال ... وفتكن بالآساد في الأغيال «1»
ونفرن حين نكرن إقبالي ولو ... أني نفرت لكان من إقبالي
لكن أبى رعيي ذمام الحبّ أن ... أولي الوفاء قطيعة من قالي
وأنشدني تقي الدين أبو عبد الله محمد بن علي بن أبي النجم المعروف بابن الحجاج، وأبو محمد هو الحجاج، من شرقي واسط قال، أنشدني أبو الحسن علي بن عنتر بن ثابت الحلّي «2» المعروف بشميم. وكان [أن] قلت: إني لا أراك تذمّ أحدا من أهل العصر، فقال لي: ليس لأحد منهم عندي قيمة فإنه لا يصلح للذمّ إلا من يصلح للمدح، أما سمعت قولي في الحماسة:
أصخ إنما مدح الفتى وهجاؤه ... لدى الطّبن النقريس ذا توأم لذا «3»
فحيث انتوى ملقي المديح عصا الثوى ... تراح بها من أينها قلص الهجا
ومن ليس أهلا للمديح ولا الهجا ... فعيناه في عين الرضا ظلمة العمى
ويزري بضرغام الغريف زئيره ... على ذيخ عثوا هرّ أو أغضف عوى «4»
وأنشدني أيضا له:
قالوا نراك بكلّ فنّ عالما ... فعلام حظّك من دناك خسيس
فأجبتهم لا تعجبوا وتفهموا ... كم ذاد نهزة ليث خيس خيس
حدثني ابن الحجاج تقي الدين قال: اجتمع جماعة من التجار الواسطيين بالموصل على زيارة شميم، وتوافقوا على أن لا يتكلموا بين يديه خوفا من زلل يكون منهم، فلما حصلوا بين يديه قال أحدهم: أدام الله أيامك، فالتفت إليّ وقال: أيش هؤلاء؟ فإني أرى عمائم كبارا ظننتها على آدميّين، فسكتوا، فلما قاموا قال له آخر(4/1693)
منهم: يا سيدي ادعو لنا بشمل الجمع، فغضب وقال: ايش هؤلاء وكيف خلقهم الله؟ ثم حلف بمحلوفه وقال: لو قدرت على خلقة مثل هؤلاء أنفت من خلق مثلهم.
قال المؤلف: حدثني محمد بن حامد بن محمد بن جبريل بن محمد بن منعة بن مالك الموصلي الفقيه فخر الدين بمرو في سنة خمس عشرة وستمائة في ربيع الأول منها قال: لما ورد شميم الحلي إلى الموصل بلغني فضله فقصدته لأقتبس من علومه، فدخلت عليه فجرى أمري معه على ما هو معروف به من قلة الاحتفال بكلّ أحد، وجرت خطوب ومذاكرات إلى أن قال: ومن العجائب استحسان الناس قول عمرو بن كلثوم:
مشعشعة كأن الحصّ فيها ... إذا ما الماء خالطها خزينا
- كذا قال تهكما- «1» ، ألا قال كما قلت:
وسالت نطاف الراح في الراح فاعتدى ال ... سماح إلى راحاتنا فسخينا
ثم أخرج رقعة من تحت مصلّاه وقال لي ما معنى قولي «قلب شطر أعاديك حظّ من كفر أياديك» فقلت: أكتبها وأفسرها، فقال: اكتب، فكتبتها وقلت: نعم شطر «أعاديك» «ديك» وقلبه «كيد» أردت أن الكيد حظّ من كفر أياديك، فقال:
أحسنت، وكان ذلك سبب إقباله عليّ بعد ما تقدم من إهماله إياي.
وأنشدني أبو حامد المذكور قال: أنشدني أبو الحسن علي بن الحسن بن عنتر الحلي لنفسه:
أقيلي عثرة الشاكي أقيلي ... فسولي في سماع نثار سولي
وإن لم تأذني بفكاك أسري ... فدليني على صبر جميل
حدثني الآمدي الفقيه قال: بلغني أنه لما قدم الحلي إلى الموصل انثال إليه الناس يزورونه، وأراد نقيب الموصل- وهو ذو الجلالة المشهورة بحيث لا يخفى أمره على أحد- زيارته، فقيل له: إنه لا يعبأ بأحد ولا يقوم من مجلسه لزائر أبدا، فجاءه رجل وعرّفه ما يجب من احترام النقيب لحسبه ونسبه وعلوّ منزلته من الملوك فلم يردّ(4/1694)
جوابا، وجاءه النقيب ودخل وجرى على عادته من ترك الاحتفال له ولم يقم عن مجلسه، فجلس النقيب ساعة ثم انصرف مغضبا، فعاتبه ذلك الرجل الذي كان أشار عليه باكرامه فلم يردّ عليه جوابا، فلما كان من الغد جاءه وفي يد الحلّيّ كسرة خبز يابسة وهو يعضّ من جنبها ويأكل، فلما دخل الرجل عليه قال له: بسم الله، فقال له: وأيّ شيء هاهنا حتى آكل؟ فقال له: يا رقيع من يقنع من الدنيا بهذه الكسرة اليابسة لأيّ معنى يذلّ للناس مع غناه عنهم واحتياجهم إليه؟! وحدثني الفقيه قال: بلغني أن الحلي قدم إلى أسعرت «1» فتسامع به أهلها فقصدوه من كلّ فوج، وكان فيهم رجل شاعر، فأنشده الرجل شعرا استجاده الحلي فقال لقائله، إني أرفع هذا الشعر عن طبقتك، فإن كنت في دعواك صادقا فقل في معناه الآن شيئا آخر، ففكر ساعة فقال:
وما كلّ وقت فيه يسمح خاطري ... بنظم قريض يقتضي لفظه معنى
ولم يبح الشرع المبين تيمّما ... بترب وبحر الأرض في ساحة معنا
فقال له الحلي: ويحك اسجد، ويلك اسجد، فإن هذا موضع من مواضع سجدات الشعر، وأنا أعرف الناس بها.
ومما سمعته من فلق فيه وهو من إنشاء خطبة له هي: الحمد لله فالق قمم حبّ الحصيد بحسام سحّ السحب، صابغ خدّ الأرض بقاني رشيق يانع العشب، نافخ روح الحياة في صور تصاويرها بسائح القراح العذب، محيي ميت الأرض باماتة كالح الجدب، لابتسام ثغر نسيم أنفاح الخصب، محيل جسم طبيعة الماء المبارك في أشكال الحب، والعنب والزيتون والقضب، جاعله للانام والأنعام ذات الحمل والحلب، محلّي جيد الأفلاك بقلائد دراريّ النجوم الشهب، ومخلّي جند الأملاك عن مباشرة التصرف والكسب، وللقيام بواجب واصل التسبيح والتقديس للرب، قابل التوبة من المذنب المنيب وغافر الذنب، الواحد المتفرد بوحدانيته عن ملاءمة أعداد قسمه الحساب والضرب، المستغني بصمديته عن مسيس الحاجة إلى دواعي الأكل والشرب، الشاهد على خلقه بما يفيضون فيه لا لاتصاف بعد ولا قرب، المهيمن على(4/1695)
سرّ اجتراح كلّ جارحة وخاطر خاطر وتقلّب قلب. أحمده على ما منح من موضح بيان بما الب في سويداء لب، وأشكره على ما جلا من مظلم ظلم جهل وكشف من كثيف ركام كرب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة سالمة من شوائب النفاق والخبّ، مؤمّنة قائلها يوم الفزع الأكبر من إيحاش الرّهب والرعب، وأشهد أن محمدا عبده المحبو بعقد حبا خاتم الأنبياء من جميع أصحاب الصحف والكتب، وصفيه المنتجب لنصر الدين وإقامة دعوة الاسلام بالبيض القضب والجرد القب والأسد الغلب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما سنحت الغزالة بأفق شرق وحجبت بغارب غرب، صلاة يفني تكرار عديدها صمّ الحصا الصلب، ويبيد أربد الترب.
عباد الله من اختلف عليه الآباد باد، ومن تمكنت يد المنون من عنقه انقاد، ومن تزود التقوى استفاد خير الزاد، ومن بدأ ببره وعاد للمعاد فاز بالإحماد يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ
(آل عمران: 30) اللهم نوّل آمالنا مناها، وكفّل أعمالنا تقاها، وخوّل أطماعنا رضاها، ولا تشرب قلوبنا هوى دنياها، فإن المعاطب في حبها، وشين المعايب مزر بها، فلا تجعل اللهم مهامّنا فيها المنى، وأمّنّا بأمننا من كيد أمّنا الدنا، برحمتك يا أرحم الراحمين، أستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين ولوالديّ ولمن علمني.
أسماء تصانيف الشيخ علي بن الحسن الشميم الحلي «1» :
كتاب النّكت المعجمات في شرح المقامات. وكتاب أري المشتار في القريض المختار. وكتاب الحماسة من نظمه مجلد. وكتاب مناح المنى في إيضاح الكنى أربع كراريس. وكتاب نزه التأميل في عيون المجالس والفصول مجلدان. وكتاب نتائج الاخلاص في الخطب مجلد. وكتاب أنيس الجليس في التجنيس مجلد. وكتاب أنواع الرقاع في الأسجاع. وكتاب التعازي والمرازي مجلد. وكتاب خطب نسق حروف المعجم كراسان. كتاب الأماني في التهاني مجلد. وكتاب المفاتيح في الوعظ كراسان. وكتاب معاياة العقل في معاناة النقل مجلد. كتاب الاشارات المعرّبّة(4/1696)
مجلد. وكتاب المرتجلات في المساجلات أربع كراريس. كتاب المخترع في شرح اللمع مجلد. وكتاب المحتسب في شرح الخطب مجلد. كتاب المهتصر في شرح المختصر، مجلد. وكتاب التحميض في التغميض، كراسان. كتاب بدائه الفكر في بدائع النظم والنثر، مجلدان. كتاب خلق الآدمي كراسان. وكتاب رسائل لزوم ما لا يلزم، كراسان. كتاب اللزوم مجلدان. وكتاب لهنة الضيف المصحر في الليل المسحر، كراسان. كتاب متنزه القلوب في التصحيف، كراس. وكتاب المنائح في المدائح، مجلدان. كتاب نزهة الراح في صفات الافراح، كراسان. كتاب الخطب المستضيّة. كتاب حرز النافث من عيث العائث. كتاب الخطب الناصرية. كتاب الرحوبات «1» ، مجلدان. كتاب شعر الصّبا، مجلد. كتاب القام الالحام في تفسير الأحلام. كتاب سمط الملك المفضل في مدح المليك الأفضل. كتاب مناقب الحكم في مثالب الأمم مجلدان. كتاب اللماسة في شرح الحماسة. كتاب الفصول الموكبية، يشتمل على أربعين «2» فصلا. وكتاب مجتنى ريحانة الهم في استئناف المدح والذم. كتاب المناجاة.
[743] علي بن الحسن بن عساكر الحافظ الدمشقي:
نقلت من جزء عمله ولده أبو محمد القاسم بن علي في أخبار والده فقال: هو أبو القاسم علي بن الحسن بن
__________
[743]- للحافظ ابن عساكر ترجمة في المنتظم 10: 261 وابن الأثير 12: 357 وابن خلكان 3: 309 ومرآة الزمان: 336 ومختصر ابن الدبيثي 3: 121 وتذكرة الحفاظ: 1328 وعبر الذهبي 4: 212 وسير الذهبي 20: 554 وطبقات السبكي 7: 215 وطبقات الاسنوي 2: 216 وخريدة القصر (قسم الشام) 1: 274 والبداية والنهاية 12: 294 والمستفاد: 186 وكتاب الروضتين 2: 261 والشذرات 4: 239 ومرآة الجنان 3: 393 والنجوم الزاهرة 6: 77 وطبقات الحفاظ: 474 والدارس 1: 100 ومقدمة الجزء الأول من التاريخ، والبحوث التي ألقيت في ذكراه وجمعت في كتاب (دمشق: 1979) ومقدمة المعجم المشتمل (1980) والموسوعة الاسلامية (الطبعة الثانية بالانجليزية) 3: 713.(4/1697)
هبة الله بن عبد الله بن الحسين أبو القاسم بن أبي محمد بن أبي الحسن بن أبي محمد بن أبي علي الشافعي الحافظ، أحد أئمة الحديث المشهورين والعلماء المذكورين، ولد في المحرم سنة تسع وتسعين وأربعمائة ومات في الحادي عشر من رجب سنة إحدى وسبعين وخمسمائة وقد بلغ من السن اثنتين وسبعين سنة وستة أشهر وعشرة أيام، وحضر جنازته بالميدان والصلاة عليه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب رحمه الله. قال العماد «1» : وكان الغيث قد احتبس في هذه السنة فدّر وسمح «2» عند ارتفاع نعشه، فكأنّ السماء بكت عليه بدمع وبله وطشّه. وسمّعه أخوه سنة خمس وخمسمائة، وسمع هو بنفسه من والده وأبي محمد الأكفاني، وذكر خلقا من شيوخ دمشق، ورحل إلى العراق في سنة عشرين وخمسمائة وأقام بها خمس سنين، وسمع ببغداد من أبي القاسم بن الحصين وغيره وحج في سنة إحدى وعشرين، وسمع بمكة ومنى والمدينة، وبالكوفة وأصبهان القديمة واليهودية ومرو الشاهجان ونيسابور وهراة وسرخس وأبيورد وطوس وبسطام والريّ وزنجان، وذكر بلادا كثيرة يطول عليّ ذكرها من العراق وخراسان والجزيرة والشام والحجاز. قال:
وعدّة شيوخه ألف وثلاثمائة شيخ، ومن النساء بضع وثمانون امرأة. وحدث ببغداد ومكة ونيسابور وأصبهان، وسمع منه جماعة من الحفاظ ممن هو أسنّ منه، وروى عنه أبو سعد ابن السمعاني فأكثر، وروى هو عنه. ولما دخل بغداد سمع الدرس بالنظامية مدة مقامه بها، وعلّق مسائل الخلاف على الشيخ أبي سعد إسماعيل بن أبي صالح الكرماني وانتفع بصحبة جده أبي الفضل في النحو والعربية.
وجمع وصنّف فمن ذلك: كتاب تاريخ مدينة دمشق وأخبارها وأخبار من حلّها أو وردها في خمسمائة وسبعين جزءا من تجزئة الأصل، والنسخة الجديدة ثمانمائة جزء. كتاب الموافقات على شيوخ الأئمة الثقات، اثنان وسبعون جزءا. كتاب الإشراف على معرفة الأطراف، ثمانية وأربعون جزءا. كتاب تهذيب الملتمس من(4/1698)
عوالي مالك بن أنس، أحد وثلاثون جزءا. كتاب التالي لحديث مالك العالي، تسعة عشر جزءا. كتاب مجموع الرغائب مما وقع من أحاديث مالك الغرائب، عشرة أجزاء. كتاب المعجم لمن سمع منه أو أجاز له، اثنا عشر جزءا. كتاب من سمع منه من النسوان، جزء واحد. كتاب معجم أسماء القرى والأمصار التي سمع بها، جزء واحد. كتاب مناقب الشبان، خمسة عشر جزءا. كتاب فضل أصحاب الحديث، أحد عشر جزءا. كتاب تبيين كذب المفتري على الأشعري، عشرة أجزاء. كتاب المسلسلات، عشرة أجزاء. كتاب تشريف يوم الجمعة، سبعة أجزاء. كتاب المستفيد في الأحاديث السّباعية الأسانيد، أربعة أجزاء. كتاب السداسيات، جزء واحد. كتاب الأحاديث الخماسيات وأخبار أبي الدنيا، جزء واحد. كتاب تقوية المنة على إنشاء دار السنة، ثلاثة أجزاء. كتاب الأحاديث المتخيرة في فضائل العشرة، جزءان. كتاب من وافقت كنيته كنية زوجته، أربعة أجزاء. كتاب الأربعين الطوال، ثلاثة أجزاء. كتاب أربعين حديثا عن أربعين شيخا من أربعين مدينة، جزءان. كتاب الأربعين في الجهاد، جزء واحد. كتاب الجواهر واللآلي في الأبدال العوالي، ثلاثة أجزاء. كتاب فضل عاشوراء والمحرم، ثلاثة أجزاء. كتاب الاعتزاز بالهجرة جزء واحد. كتاب المقالة الفاضحة للرسالة الواضحة، جزء واحد ضخم. كتاب رفع التخليط عن حديث الأطيط، جزء واحد. كتاب الجواب المبسوط لمن أنكر حديث الهبوط، جزء واحد. كتاب القول في جملة الأسانيد في حديث [يوم] المزيد، ثلاثة أجزاء.
كتاب طرق حديث عبد الله بن عمرو، جزء. كتاب من ما يكون مؤتمنا لا يكون مؤذنا، جزء واحد. كتاب ذكر البيان عن فضل كتابة القرآن، جزء واحد. كتاب دفع التثريب على من فسر معنى التثويب، جزء. كتاب فضل الكرم على أهل الحرم، جزء واحد. كتاب الاقتداء بالصادق في حفر الخندق، جزء واحد. كتاب الانذار بحدوث الزلازل، ثلاثة أجزاء. كتاب ثواب الصبر على المصاب بالولد، جزءان. كتاب معنى قول عثمان «ما تغنيت ولا تمنيت» ، جزء. كتاب مسلسل العيدين، جزء واحد. كتاب حلول المحنة بحصول الابنة، جزء واحد. كتاب ترتيب الصحابة في مسند أحمد، جزء واحد. كتاب ترتيب الصحابة الذي في مسند أبي يعلى، جزء.
كتاب معجم الشيوخ النبلاء، جزء واحد. كتاب أخبار أبي عمرو الأوزاعي وفضائله،(4/1699)
جزء. كتاب ما وقع للأوزاعي من العوالي، جزء. كتاب أخبار أبي محمد سعيد «1» بن عبد العزيز وعواليه، جزء. كتاب عوالي حديث سفيان الثوري وخبره، أربعة أجزاء.
كتاب إجابة السؤال في أحاديث شعبة، جزء واحد. كتاب روايات ساكني داريا، ستة أجزاء. كتاب من نزل المزة وحدّث بها، جزء واحد. كتاب أحاديث جماعة من كفر سوسية، جزء واحد. كتاب أحاديث صنعاء الشام، جزآن. كتاب أحاديث أبي الأشعث الصنعاني، ثلاثة أجزاء. كتاب أحاديث حنش والمطعم وحفص الصنعانيين، جزء. كتاب فضل الربوة والنيرب ومن حدث بها، جزء. كتاب حديث أهل قرية الحميريين «2» وقبيبة، جزء واحد. كتاب حديث أهل فذايا «3» وبيت أرانس «4» وبيت قوفا «5» جزء. كتاب حديث أهل قرية البلاط، جزء. كتاب حديث مسلمة بن علي الخشني «6» البلاطي، جزءان. ومن حديث يسرة بن صفوان «7» وابنه وابن ابنه جزء واحد. ومن حديث سعد بن عبادة جزء. ومن حديث أهل زبدين «8» وجسرين جزء واحد. ومن حديث أهل بيت سوا «9» جزء. ومن حديث دومة ومسرابا «10» والقصر جزء. ومن حديث جماعة من أهل حرستا جزء. ومن حديث أهل كفر بطنا جزء. ومن حديث أهل دقانية وجخراء وعين توما وجديا وطرميس «11» جزء واحد. ومن(4/1700)
حديث جماعة من أهل جوبر جزء واحد. ومن حديث جماعة من أهل بيت لهيا جزء واحد. ومن حديث يحيى بن حمزة البتلهي وعواليه جزء. ومجموع من حديث محمد بن يحيى بن حمزة الحضرمي البتلهي جزءان. وفضائل مقام إبراهيم. ومن حديث أهل برزة جزء. من حديث أبي بكر بن «1» محمد بن رزق الله المنيني المقرىء، جزء. ومجموع من أحاديث جماعة من أهل بعلبك «2» ، جزءان.
قال: وأملى رحمه الله أربعمائة مجلس وثمانية مجالس في فنّ واحد، وخرج لشيخه أبي غالب ابن البناء أحد عشر مشيخة، ومشيخة لشيخه أبي المعالي عبد الله بن أحمد الحلواني الأصولي في جزءين، وخرّج أربعين حديثا مساواة الإمام أبي عبد الله الفراوي في جزء. ومصافحة لأبي سعد السمعاني أربعين حديثا في جزء. وخرّج لشيخه الإمام أبي الحسن السلمي سبعة مجالس وتكلم عليها. وجزء آخر ما صنعه تكميل الانصاف والعدل بتعجيل الاسعاف بالعزل. وكتاب فيه ذكر ما وجدت في سماعي مما يلتحق بالجزء الرباعي. ووجدت في أصوله علامات له على مصنفات عدة منها: كتاب الابدال ولو تم كان مقداره مائتي جزء أو أكثر. وكتاب فضل الجهاد. ومسند مكحول وأبي حنيفة. وكتاب فضل مكة. وكتاب فضل المدينة.
وكتاب فضل البيت «3» المقدس. وكتاب فضل قريش وأهل البيت والأنصار والأشعريين وذم الرافضة. وكتاب كبير في الصفات، وأشياء غير ذلك تبلغ عدتها أربعين مصنفا.
ولما أملى رحمه الله في فضائل الصديق رضي الله عنه سبعة مجالس ثم قطعها باملاء مجالس في ذم اليهود وتخليدهم في النار فجاء إليه صديقنا أبو علي ابن رواحة وقال له: رأيت الصديق في النوم وهو راكب على راحلة فقلت: يا خليفة رسول الله قد أملى علينا الحافظ أبو القاسم سبعة مجالس في فضائلك، فأشار إليّ بأصابعه الأربع، فقال له والدي: قد بقي عندي مما خرجته ولم أمله أربعة مجالس، فأملاها، ثم أملى في كلّ واحد من الخلفاء أحد عشر مجلسا.
وكان رحمه الله مواظبا على صلاة الجماعة، ملازما لقراءة القرآن، وكان يختم(4/1701)
في رمضان والعشر كلّ يوم ختمة، ولم ير إلا في الاشتغال بعلم وعبادة يحاسب نفسه على لحظة. وكنت أسمع والدي يحكي أن أباه رأى في منامه رؤيا ووالدي حمل أنه يولد لك مولود يحيى الله به السنة.
ولما قدم إلى بغداد أعجب به البغداديون وقالوا: قدم علينا من دمشق ثلاثة ما رأينا مثلهم: الشيخ يوسف الدمشقي، والصائن أبو الحسين هبة الله بن الحسن، وأخوه أبو القاسم.
وحدثني أبي رحمه الله قال: كنت يوما أقرأ على شيخنا أبي الفتح المختار بن عبد الحميد وهو يتحدث مع جماعة بالعجمية فقال: قدم علينا الوزير أبو علي فقلنا ما رأينا مثله، ثم قدم علينا أبو سعد ابن السمعاني فقلنا ما رأينا مثله، حتى قدم علينا هذا فلم نر مثله.
وقال لنا صاحبه الحافظ أبو المواهب الحسن بن هبة الله بن صصرى، قال الحافظ أبو العلاء الحسن بن أحمد المقرىء الأديب اللغوي إمام همذان وتلك الديار- غير مدافع: أنا أعلم أنه لا يساجل الحافظ أبا القاسم في شأنه أحد، فلو خالط الناس ومازجهم كما أصنع إذن لا جتمع عليه المخالف والموالف. وقال لي يوما آخر: أيّ شيء فتح له وكيف برّ الناس له؟ فقلت: هو بعيد من هذا كله، لم يشتغل منذ أربعين سنة إلا بالجمع والتصنيف والمطالعة والتسميع حتى في نزهه وخلواته فقال:
الحمد الله، هذا ثمرة العلم، إلا أنّا قد فتح لنا ما حصّلنا به الدار والكتب وبناء المسجد ما يقرب من اثني عشر ألف دينار، هذا يدلّ على قلّة حظوظ العلماء في بلادكم. ثم قال لي: ما كنا نسمي الشيخ أبا القاسم ببغداد إلا شعلة نار من توقده وذكائه وحسن إدراكه.
قال، وقال لي والدي: لم أر بدمشق أفهم للحديث من أبي محمد ابن الأكفاني، ولا ببغداد مثل أبي الفضل محمد بن ناصر وأبي عامر العبدري، وكان العبدري أحفظهما، ولم أر بخراسان مثل أبي القاسم الشحامي، ولا بأصبهان مثل أبي القاسم التيمي الحافظ وأبي نصر البوياري «1» فقلت له: ما إخالك إلا أفضل منهما فسكت؛(4/1702)
هذا آخر ما نقلت من هذا الجزء الذي ألفه ابنه وتركت منه ما اختصرته.
وكان الحافظ ابو القاسم ابن عساكر يقول شعرا ليس بالقوي، وسمعه تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي النحوي اللغوي فقال: هذا شعر أضاع فيه صاحبه شيطانه.
قال السمعاني في «المذيّل» وأنشدني الحافظ أبو القاسم بالمزة من أرض دمشق «1» :
أيا نفس ويحك جاء المشيب ... فماذا التصابي وماذا الغزل
تولّى شبابي كأن لم يكن ... وجاء مشيبي كأن لم يزل
فيا ليت شعري ممن أكون ... وما قدّر الله لي في الأزل
قال السمعاني: وأنشدني لنفسه ببغداد «2» :
وصاحب خان ما استودعته وأتى ... ما لا يليق بأرباب الديانات
وأظهر السرّ مختارا بلا سبب ... وذاك والله من أوفى الجنايات
أما أتاه عن المختار في خبر ... أن المجالس تغشى بالأمانات
قال السمعاني: وأنشدني لنفسه بنيسابور:
لا قدّس الله نيسابور من بلد ... ما فيه من صاحب يسلي ولا سكن
لولا الجحيم الذي في القلب من حرق ... لفرقة الأهل والأحباب والوطن
لمت من شدة البرد الذي ظهرت ... آثار شدّته في ظاهر البدن
يا قوم دوموا على عهد الهوى وثقوا ... منّي على العهد لم أغدر ولم أخن
ولا تدبرت عيشي بعد بعدكم ... إلا تمثلت بيتا قيل من زمن
«فإن أعش فلعلّ الله يجمعنا ... وإن أمت فقتيل الهمّ والحزن»(4/1703)
[744] علي بن الحسن بن إسماعيل بن أحمد بن
جعفر بن محمد بن صالح بن حسان بن حصن بن معلى بن أسد بن عمرو بن مالك بن عامر بن معاوية بن عبد الله بن مالك بن عامر بن الحارث بن أنمار بن وديعة بن الكيد بن أفصى بن عبد القيس بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن لبد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان أبو الحسن العبدري، من أهل البصرة، يعرف بابن المعلمة «1» : هكذا أملى نسبه عليّ جماعة، وهو شيخ فاضل له معرفة بالأدب والعروض، وله كتب وتصانيف في ذلك، ويقول الشعر ويترسل. مات بالبصرة في رابع عشر شعبان سنة تسع وتسعين وخمسمائة ومولده سنة أربع وعشرين وخمسمائة؛ سمع بالبصرة أبا محمد جابر بن محمد الأنصاري وأبا العز طلحة بن علي بن عمر المالكي وأبا الحسن علي بن عبد الله بن عبد الملك الواعظ وأبا إسحاق إبراهيم بن عطية الشافعي إمام الجامع بالبصرة وغيرهم، وقرأ بها الأدب على أبي علي الأحمر وأبي العباس ابن الحريري وأبي العز ابن أبي الدنيا، وقدم بغداد مرارا وسمع بها من أبي الكرم المبارك بن الحسن الشهرزوري وأبي الفضل محمد بن ناصر السلامي وأبي بكر الزاغوني وغيرهم، وعاد إلى بلده، وخرّج لنفسه فوائد في عدة أجزاء عن شيوخه وحدّث بها، وأقرأ الناس الأدب. وكان متحققا بعلم العروض، ونعم الشيخ، كان محمود الطريقة.
قال أبو عبد الله: أنشدني أبو الحسن علي بن الحسن العبدري لنفسه:
شيمتي أن أغضّ طرفي في الدا ... ر إذا ما دخلتها لصديق
وأصون الحديث أودعه صو ... ني سرّي ولا أخون رفيقي
__________
[744]- سقطت هذه الترجمة من ك: وقد وردت ترجمة أبي الحسن العبدري في التكملة للمنذري 1: 462 وابن الساعي 9: 112 ومختصر ابن الدبيثي 3: 123 وانباه الرواة 2: 242 ومرآة الزمان 8: 516 وذيل الروضتين: 35 والوافي (خ) .(4/1704)
قال: وأنشدني أيضا لنفسه:
لا تسلك الطرق إذا أخطرت ... فإنها تفضي إلى المهلكه
قد أنزل الله تعالى «ولا ... تلقوا بأيديكم إلى التّهلكه» .
[745] علي بن الحسين بن علي المسعودي المؤرخ
أبو الحسن، من ولد عبد الله بن مسعود صاحب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من أهل المغرب، مات فيما بلغني في سنة ست وأربعين وثلاثمائة بمصر.
قال مؤلف الكتاب: وقول محمد بن إسحاق إنه من أهل المغرب غلط، لأن المسعودي ذكر في السفر الثاني من كتابه المعروف ب «مروج الذهب» وقد عدّد فضائل الأقاليم ووصف هواءها واعتدالها وانحرافها ثم قال «1» : «وأوسط الأقاليم إقليم بابل الذي مولدنا به، وإن كانت ريب الأيام أنأت «2» بيننا وبينه، وساحقت مسافتنا عنه، وولّدت في قلوبنا الحنين إليه، إذ كانت وطننا ومسقطنا، وقد كان هذا الأقليم عند ملوك الفرس جليلا «3» ، وكانوا يشتون بالعراق ويصيفون بالجبال «4» ، فقال أبو دلف العجلي:
إني امرؤ كسرويّ الفعال ... أصيف الجبال وأشتو العراقا
__________
[745]- ترجمة المسعودي المؤرخ في الفهرست: 171 وسير الذهبي 15: 569 وعبر الذهبي 2: 269 والفوات 3: 14 وطبقات الشافعية 3: 456 ولسان الميزان 4: 224 والنجوم الزاهرة 3: 315 والشذرات 2: 371 ورجال النجاشي: 178 وبروكلمان (الترجمة العربية) 3: 57 وكتاب الدكتور طريف الخالدي Muslim Historiography وكتاب أحمد شبول) Al Masudians and his World لندن 1979) .(4/1705)
وقد كانت الأوائل تشبهه بالقلب في الجسد لأن أرضه هي التي كشفت الآراء عن أهله بحكمة الأمور كما يرتفع ذلك عن القلب، ولذلك اعتدلت ألوان أهله وامتدت أجسامهم، فسلموا من شقرة الروم والصقالبة وسواد الحبشة وغلظ البربر، واجتمعت فيهم محاسن جميع الأقطار. وكما اعتدلوا في الخلقة لطفوا في الفطنة. وأشرف هذه الأقاليم مدينة السلام. وأعزز «1» عليّ بما أصارتني إليه الأقدار من فراق هذا المصر الذي عن بقعته فصلنا، لكنه الدهر الذي من شيمته التشتيت والزمن الذي من شرطته الآفات، ولقد أحسن أبو دلف في قوله:
أيا نكبة الدهر التي طوّحت بنا ... أيادي سبا في شرقها والمغارب
ومن علامة وفاء المرء دوام عهده وحنينه إلى إخوانه، وشوقه إلى أوطانه، ومن علامة الرشد أن تكون النفس إلى مولدها تائقة، وإلى مسقط رأسها شائقة» . فهذا يدلك على أن الرجل بغداديّ الأصل وإنما انتقل إلى ديار مصر فأقام فيها، وهو يحكي في كتبه كثيرا ويقول: رأيت أيام كوني بمصر كيت وكيت.
وله من الكتب: كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر في تحف الأشراف والملوك «2» . كتاب ذخائر العلوم وما كان في سالف الدهور. كتاب الرسائل. كتاب الاستذكار لما مرّ في سالف الأعصار. كتاب التاريخ في أخبار الأمم من العرب والعجم. كتاب التنبيه والاشراف «3» . كتاب خزائن الملك وسرّ العالمين. كتاب المقالات في أصول الديانات. كتاب أخبار الزمان ومن أباده الحدثان. وكتاب البيان في أسماء الأئمة. وكتاب أخبار الخوارج.(4/1706)
[746] علي بن الحسين بن محمد بن الهيثم
بن عبد الرحمن بن مروان بن عبد الله بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، أبو الفرج الأصبهاني العلامة النساب الأخباري الحفظة الجامع بين سعة الرواية والحذق في الدراية: لا أعلم لأحد أحسن من تصانيفه في فنّها وحسن استيعاب ما يتصدّى لجمعه، وكان مع ذلك شاعرا مجيدا، مات في رابع عشر ذي الحجة سنة ست وخمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع لله ومولده سنة أربع وثمانين ومائتين. روى عن أبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن الانباري والفضل بن الحباب الجمحي وعلي بن سليمان الأخفش وإبراهيم نفطويه.
وجدت على الهامش بخط المؤلف تجاه وفاته ما صورته: وفاته هذه فيها نظر وتفتقر إلى تأمّل لأنه ذكر في «كتاب أدب الغرباء» من تأليفه: حدثني صديق قال:
قرأت على قصر معزّ الدولة بالشماسية: يقول فلان بن فلان الهروي: حضرت هذا الموضع في سماط معز الدولة، والدنيا عليه مقبلة وهيبة الملك عليه مشتملة، ثم عدت إليه في سنة اثنتين وستين وثلاثمائة فرأيت ما يعتبر به اللبيب يعني من الخراب.
وذكر في موضع آخر من كتابه هذا قصة له مع صبيّ كان يحبه ذكرتها بعد هذا يذكر فيها موت معزّ الدولة وولاية ابنه بختيار، وكان ذلك في سنة ست وخمسين وثلاثمائة ويزعم في تلك الحكاية أنه كان في عصر شبابه، فلا أدري ما هذا الاختلاف. (آخر ما كان على الهامش) .
وقال الوزير أبو القاسم الحسين بن علي المغربي في مقدمة ما انتخبه من كتاب الأغاني الذي ألفه أبو الفرج الأصبهاني إن أبا الفرج أهدى كتاب الأغاني إلى
__________
[746]- ترجمة أبي الفرج الأصبهاني في الفهرست: 127- 128 وتاريخ بغداد 11: 398 واليتيمة 3: 114 وتاريخ أصبهان 2: 11 والمنتظم 7: 40 وإنباه الرواة 2: 251 وابن خلكان 3: 307 وابن الأثير 8: 581 وعبر الذهبي 2: 305 وميزان الاعتدال 3: 123 وسير الذهبي 16: 201 ومرآة الجنان 2: 359 والبداية والنهاية 11: 263 ولسان الميزان 4: 221 والنجوم الزاهرة 4: 15 والشذرات 3: 19؛ وقد طبع كتابه الأغاني عدة مرات كما طبع من كتبه، أدب الغرباء (المنسوب إليه) وما تبقى من كتاب الاماء الشواعر وكتاب مقاتل الطالبيين.(4/1707)
سيف الدولة ابن حمدان فأعطاه ألف دينار، وبلغ ذلك الصاحب أبا القاسم بن عباد فقال: لقد قصّر سيف الدولة وإنه يستأهل أضعافها، ووصف الكتاب فأطنب ثم قال:
ولقد اشتملت خزائني على مائتين وستة آلاف مجلد ما منها ما هو سميري غيره ولا راقني منها سواه.
قال: وقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف كاتب عضد الدولة: لم يكن كتاب الأغاني يفارق عضد الدولة في سفره ولا حضره، وانه كان جليسه الذي يأنس إليه وخدينه الذي يرتاح نحوه.
قال: وقال أبو محمد المهلبي: سألت أبا الفرج في كم جمعت هذا الكتاب؟
فقال في خمسين سنة، قال: وانه كتبه مرة واحدة في عمره، وهي النسخة التي أهداها إلى سيف الدولة.
قال المؤلف: ولعمري إن هذا الكتاب لجليل القدر شائع الذكر، جمّ الفوائد عظيم العلم، جامع بين الجد البحت والهزل النحت، وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به وطالعته مرارا وكتبت منه نسخة بخطّي في عشر مجلدات، ونقلت منه إلى كتابي الموسوم ب «أخبار الشعراء» فأكثرت، وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشيء ولا يفي به في غير موضع منه، كقوله في أخبار أبي العتاهية: «وقد طالت أخباره هاهنا وسنذكر خبره مع عتبة في موضع آخر» ولم يفعل. وقال في موضع آخر: «أخبار أبي نواس مع جنان إذ كانت سائر أخباره قد تقدّمت» ولم يتقدم شيء، إلى أشباه لذلك.
والأصوات المائة هي تسع وتسعون، وما أظنّ إلا أن الكتاب قد سقط منه شيء أو يكون النسيان غلب عليه والله أعلم.
قال المؤلف: وتصانيفه كثيرة، وهذا الذي يحضرني منها: كتاب الأغاني الكبير. كتاب مجرد الأغاني. كتاب التعديل والانتصاف في أخبار القبائل وأنسابها، لم أره وبودّي لو رأيته، ذكره هو في كتاب الأغاني. كتاب مقاتل الطالبيين. كتاب أخبار القيان. كتاب الاماء الشواعر. كتاب المماليك الشعراء. كتاب أدب الغرباء.
كتاب الديارات. كتاب تفضيل ذي الحجة. كتاب الأخبار والنوادر. كتاب أدب السماع. كتاب أخبار الطفيليين. كتاب مجموع الأخبار والآثار. كتاب الخمارين والخمارات. كتاب الفرق والمعيار في الأوغاد والأحرار، وهي رسالة عملها في(4/1708)
هارون بن المنجم. كتاب دعوة التجار. كتاب أخبار جحظة البرمكي. كتاب جمهرة النسب. كتاب نسب بني عبد شمس. كتاب نسب بني شيبان. كتاب نسب المهالبة. كتاب نسب بني تغلب. كتاب الغلمان المغنين. كتاب مناجيب الخصيان، عمله للوزير المهلبي في خصيين مغنيين كانا له. وله بعد تصانيف جياد فيما بلغني كان يصنفها ويرسلها إلى المستولين على بلاد المغرب من بني أمية وكانوا يحسنون جائزته لم يعد منها إلى الشرق إلا القليل، والله أعلم.
وحدث الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم بن هلال «1» الصابىء في الكتاب الذي ألفه في «أخبار الوزير أبي محمد المهلبي» واسمه الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن زيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وزير معز الدولة بن بويه الديلمي قال: وكان أبو الفرج الأصفهاني صاحب «كتاب الأغاني» من ندماء الوزير أبي محمد الخصّيصين به، وكان وسخا قذرا لم يغسل له ثوبا منذ فصّله إلى أن قطّعه، وكان المهلبي شديد التقشّف عظيم التنطّس، وكان يحتمل له ذلك لموضعه من العلم. فقال فيه: كان أبو الفرج علي بن الحسين الاصفهاني، وكان أمويّ النسب، غزير الأدب عالي الرواية حسن الدراية، وله تصنيفات منها «كتاب الأغاني» وقد أورد فيه ما دلّ به على اتساع علمه وكثرة حفظه، وله شعر جيد، إلا أنه في الهجاء أجود وإن كان في غيره غير متأخر. وكان الناس على ذلك العهد يحذرون لسانه ويتقون هجاءه، ويصبرون في مجالسته ومعاشرته ومواكلته ومشاربته على كلّ صعب من أمره، لأنه كان وسخا في نفسه ثم في ثوبه وفعله حتى إنه لم يكن ينزع دراعة يقطعها إلا بعد بلائها وتقطيعها، ولا يعرف لشيء من ثيابه غسلا، ولا يطلب منه في مدة بقائه عوضا؛ فحدثني جدي، وسمعت هذا الخبر من غيره، لأنه متفاوض متعاود، أن أبا الفرج كان جالسا في بعض الأيام على مائدة أبي محمد المهلبي، فقدّمت سكباجة وافقت من أبي الفرج سعلة، فبدرت من فمه قطعة من بلغم فسقطت وسط الغضارة، فتقدم أبو محمد برفعها وقال: هاتوا من هذا اللون في غير هذه الصحفة ولم يبن في وجهه إنكار ولا استكراه، ولا داخل أبا الفرج في هذه الحال استحياء ولا انقباض؛ هذا إلى ما يجري هذا المجرى على مضيّ الأيام. وكان(4/1709)
أبو محمد عزوف النفس بعيدا من الصبر على مثل هذه الأسباب، إلا أنه كان يتكلّف احتمالها لورودها من أبي الفرج، وكان من ظرفه في فعله ونظافته في مأكله أنه كان إذا أراد أكل شيء بملعقة كالأرز واللبن وأمثاله وقف من جانبه الأيمن غلام معه نحو ثلاثين ملعقة زجاجا مجرودا، وكان يستعمله كثيرا، فيأخذ منه ملعقة يأكل بها من ذلك اللون لقمة واحدة، ثم يدفعها إلى غلام آخر قائم من الجانب الأيسر، ثم يأخذ أخرى فيفعل بها فعل الأولى، حتى ينال الكفاية، لئلّا يعيد الملعقة إلى فيه دفعة ثانية، فلما كثر على المهلبي استمرار ما قدّمنا ذكره جعل له مائدتين إحداهما كبيرة عامّة وأخرى لطيفة خاصة وكان يواكله عليها من يدعوه إليها.
قال مؤلف الكتاب: وقد ذكر مثل هذا عن أبي رياش أحمد بن إبراهيم اللغوي وقد ذكرناه في بابه.
قال هلال: وعلى صنع أبي محمد بأبي الفرج ما كان يصنعه فما خلا من هجوه، قال فيه «1» :
أبعين مفتقر إليك رأيتني ... بعد الغنى فرميت بي من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني ... أمّلت للإحسان غير الخالق
قال ابن الصابىء: وحدثني جدي أيضا قال: قصدت أنا وأبو علي الأنباري وأبو العلاء صاعد دار أبي الفرج لقضاء حقه وتعرّف خبره من شيء وجده، وموقعها على دجلة في المكان المتوسط بين درب سليمان ودرب دجلة وملاصقة لدار أبي الفتح البريدي، وصعد بعض غلماننا لإيذانه بحضورنا، فدقّ الباب دقا عنيفا حتى ضجر من الدقّ وضجرنا من الصبر، قال: وكان له سنّور أبيض يسميه يققا ومن رسمه إذا قرع الباب قارع أن يخرج ويصيح إلى أن يتبعه غلام أبي الفرج لفتح الباب، أو هو نفسه، فلم نر السنور في ذلك اليوم، فأنكرنا الأمر وازددنا تشوّقا إلى معرفة الخبر، فلما كان بعد أمد طويل صاح صائح أن «نعم» ، ثم خرج أبو الفرج ويده متلوثة بما ظنناه شيئا كان يأكله، فقلنا له: عققناك بأن قطعناك عما كان أهمّ من قصدنا إياك، فقال: لا(4/1710)
والله يا ساداتي ما كنت على ما تظنون، وإنما لحق يققا- يعني سنوره- قولنج فاحتجت إلى حقنه، فأنا مشغول بذلك، فلما سمعنا قوله ورأينا الفعل في يده ورد علينا أعظم مورد من أمره، لتناهيه في التذارة إلى ما لا غاية بعده، وقلنا: ما يجوز أن نصعد إلى عندك فنعوقك عن استتمام ما أنت فيه، وإنما جئناك لتعرّف خبرك، وقد بلغنا ما أردناه، وانصرفنا.
قال: واختاره في كل شيء نديما «1» ، وكانت صحبته له قبل الوزارة وبعدها إلى أن فرقّ بينهما الموت.
وكتب أبو الفرج إلى المهلبي يشكو الفأر ويصف الهرّ:
يا لحدب الظهور قعص الرقاب ... لدقاق الأنياب والأذناب
خلقت للفساد مذ خلق الخل ... ق وللعيث والأذى والخراب
ناقبات في الأرض والسقف والحي ... طان نقبا أعيا على النّقّاب
آكلات كلّ المآكل لا تأ ... منها شاربات كلّ الشراب
آلفات قرض الثياب وقد يع ... دل قرض القلوب قرض الثياب
زال همي منهنّ أزرق ترك ... يّ السبالين أنمر الجلباب
ليث غاب خلقا وخلقا فمن لا ... ح لعينيه خاله ليث غاب
ناصب طرفه إزاء الزوايا ... وإزاء السقوف والأبواب
ينتضي الظفر حين يظفر للصي ... د وإلا فظفره في قراب
لا يري أخبثيه عينا ولا يع ... لم ما جنتّاه غير التراب
قرطقوه وشنّفوه وحلّو ... هـ أخيرا وأولا بالخضاب
فهو طورا يمشي بحلي عروس ... وهو طورا يخطو على عنّاب
حبذا ذاك صاحبا هو في الصح ... بة أوفى من أكثر الأصحاب
وحدث القاضي أبو علي المحسن بن علي التنوخي في «كتاب نشوار المحاضرة» قال «2» : ومن طريف أخبار العادات أني كنت أرى أبا الفرج علي بن(4/1711)
الحسين الأصفهاني الكاتب نديم أبي محمد المهلبي صاحب الكتب المصنفة في الأغاني والقيان وغير ذلك دائما إذا ثقل الطعام في معدته، وكان أكولا نهما، يتناول خمسة دراهم فلفلا مدقوقا فلا تؤذيه ولا تدمعه، وأراه يأكل حمّصة واحدة أو يصطبغ بمرقة قدر فيها حمص فيشرى «1» بدنه كله من ذلك، وبعد ساعة أو ساعتين يفصد، وربما فصد لذلك دفعتين، وأسأله عن سبب ذلك فلا يكون عنده علم منه. وقال لي غير مرة: إنه لم يدع طبيبا حاذقا على مرور السنين إلا سأله عن سببه فلا يجد عنده علما ولا دواء. فلما كان قبل فالجه بسنوات ذهبت عنه العادة في الحمص فصار يأكله فلا يضرّه وبقيت عليه عادة الفلفل.
ومن «كتاب الوزراء» لهلال بن المحسن «2» : وحدث أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني قال: سكر الوزير أبو محمد المهلبي ليلة ولم يبق بحضرته من ندمائه غيري فقال لي: يا أبا الفرج، أنا أعلم أنك تهجوني سرّا فاهجني الساعة جهرا، فقلت:
الله الله أيها الوزير فيّ، إن كنت قد مللتني انقطعت، وان كنت تؤثر قتلي فبالسيف إذا شئت. قال: دع ذا لا بدّ أن تهجوني. وكنت قد سكرت فقلت:
أير بغل بلولب
فقال في الحال مجيزا:
في حر ام المهلّبي
هات مصراعا آخر، فقلت: الطلاق لازم للأصفهاني إن زاد على هذا وان كان عنده زيادة.
قرأت بخط أبي علي المحسن بن هلال الصابىء صاحب الشامة لأبي الفرج الأصفهاني يهجو أبا الحسن طازاد النصراني الكاتب:
طازاد مشتقّ من الطيز ... فعدّ عن ذكر فتى الخوز
كأن رجليه إذا ما مشى ... مخنّث يلعب بالشيز
قرأت بخط هلال بن المظفر الكاتب الزنجاني، حدثني الأستاذ أبو المظفر(4/1712)
عبد الغفار بن غنيمة قال: كان أبو الفرج الكاتب الأصبهاني صاحب «كتاب الأغاني» كاتبا لركن الدولة حظيا عنده محتشما لديه، وكان يتوقع من الرئيس أبي الفضل ابن العميد أن يكرمه ويبجله ويتوفر عليه في دخوله وخروجه، وعدم ذلك منه فقال:
مالك موفور فما باله ... أكسبك التيه على المعدم
ولم إذا جئت نهضنا وإن ... جئنا تطاولت ولم تتمم
وإن خرجنا لم تقل مثل ما ... نقول: قدّم طرفه قدّم
إن كنت ذا علم فمن ذا الذي ... مثل الذي تعلم لم يعلم
ولست في الغارب من دولة ... ونحن من دونك في المنسم
وقد ولينا وعزلنا كما ... أنت فلم نصغر ولم تعظم
تكافأت أحوالنا كلّها ... فصل على الإنصاف أو فاصرم
وقد روى أبو حيان في «كتاب الوزيرين» «1» من تصنيفه من خبر هذه الأبيات غير هذا وقد ذكرناها في أخبار ابن العميد من هذا الكتاب.
قرأت في بعض المجاميع لأبي الفرج الأصبهاني:
حضرتكم دهرا وفي الكم تحفة ... فما أذن البواب لي في لقائكم
إذا كان هذا حالكم يوم أخذكم ... فما حالكم تالله يوم عطائكم
قال ابن عبد الرحيم: حدثني أبو نصر الزجاج قال: كنت جالسا مع أبي الفرج الأصبهاني في دكان في سوق الوراقين، وكان أبو الحسن علي بن يوسف بن البقال الشاعر جالسا عند أبي الفرج ابن الخراز الوراق وهو ينشد أبيات إبراهيم بن العباس الصولي التي يقول فيها:
رأى خلّتي من حيث يخفى مكانها ... فكانت قذى عينيه حتى تجلّت
فلما بلغ إليه استحسنه وكرره، ورآه أبو الفرج فقال لي: قم إليه فقل له قد(4/1713)
أسرفت في استحسان هذا البيت، وهو كذاك، فأين موضع الصنعة فيه؟ فقلت له ذاك، فقال: قوله «وكانت قذى عينيه» ، فعدت إليه وعرّفته، فقال: عد إليه فقل له: أخطأت، الصنعة في قوله «من حيث يخفى مكانها» .
قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: وقد أصاب كلّ واحد منهما حاقّة الغرض، فإن الموضعين معا غاية في الحسن، وان كان ما ذهب إليه أبو الفرج أحسن.
قال أبو الفرج في «كتاب الغرباء» «1» : وخرجت أنا وأبو الفتح أحمد بن إبراهيم بن علي بن عيسى رحمه الله ماضيين إلى دير الثعالب في يوم ذكر أنه من سنة خمس وخمسين وثلاثمائة للنزهة، ومشاهدة اجتماع النصارى هناك، والشرب على نهر يزدجرد الذي يجري على باب هذا الدير، ومعه جماعة من أولاد كتّاب النصارى من أحداثهم، وإذا بفتاة كأنها الدينار المنقوش تتمايل وتنثني كغصن الريحان في نسيم الشمال، فضربت بيدها إلى يد أبي الفتح وقالت: يا سيدي تعال اقرأ هذا الشعر المكتوب على حائط هذا الشاهد «2» فمضينا معها وبنا من السرور بها وبظرفها وملاحة منطقها ما الله به عليم، فلما دخلنا البيت كشفت عن ذراع كأنه الفضة وأومأت إلى الموضع فإذا فيه مكتوب:
خرجت يوم عيدها ... في ثياب الرواهب
فتنت «3» باختيالها ... كلّ جاء وذاهب
لشقائي رأيتها ... يوم دير الثعالب
تتهادى بنسوة ... كاعب في كواعب
هي فيهم كأنها ال ... بدر بين الكواكب
فقلت لها: أنت والله المقصودة بهذه الأبيات، ولم نشكّ أنها كتبت الأبيات، ولم نفارقها بقية يومنا، وقلت فيها «4» هذه الأبيات وأنشدتها إياها ففرحت:(4/1714)
مرّت بنا في الدير خمصانه ... ساحرة «1» الناظر فتّانه
أبرزها الذكران «2» من خدرها ... تعظّم الدير ورهبانه
مرت بنا تخطر في مشيها ... كأنما قامتها بانه
هبّت لنا ريح فمالت بها ... كما تثنّى غصن ريحانه
فتيمت قلبي وهاجت له ... أحزانه قدما وأشجانه
وحصلت بينها وبين أبي الفتح عشرة بعد ذلك، ثم خرج إلى الشام وتوفي بها ولا أعرف لها خبرا بعد ذلك.
قال أبو الفرج «3» : وكنت انحدرت إلى البصرة منذ سنيّات، فلما وردتها صعدت من الفيض إلى سكّة قريش أطلب منزلا أسكنه لأني كنت غريبا لا أعرف أحدا من أهلها إلا من كنت أسمع بذكره، فدلني رجل على خان فصرت إليه واستأجرت «4» فيه بيتا، وأقمت بالبصرة أياما، ثم خرجت عنها طالبا حصن مهديّ «5» ، وكتبت هذه الأبيات على حائط البيت الذي أسكنه:
الحمد لله على ما أرى ... من ضيعتي «6» من بين هذا الورى
أصارني الدهر إلى حالة ... يعدم فيها الضيف عندي القرى
بدّلت من بعد الغنى حاجة ... إلى كلاب يلبسون الفرا
أصبح أدم السوق لي مأكلا ... وصار خبز البيت خبز الشرا
وبعد ملكي منزلا مبهجا ... سكنت بيتا من بيوت الكرا
فكيف ألفى لاهيا ضاحكا ... وكيف أحظى بلذيذ الكرى
سبحان من يعلم ما خلفنا ... وبين أيدينا وتحت الثرى(4/1715)
والحمد لله على ما أرى ... وانقطع الخطب وزال المرا
قال أبو الفرج «1» : وكنت في أيام الشبيبة والصبا آلف فتى من أولاد الجند في السنة التي توفي فيها معز الدولة وولي بختيار، وكانت لأبيه حال كبيرة ومنزلة من الدولة ورتبة، وكان الفتى في نهاية حسن الوجه وسلاسة الخلق وكرم الطبع ممن يحبّ الأدب ويميل إلى أهله، ولم يترك قريحته «2» حتى عرف صدرا من العلم وجمع خزانة من الكتب حسنة، فمضت لي معه سير لو حفظت لكانت في كتاب مفرد من مكاتبات ومعاتبات وغير ذلك مما يطول شرحه؛ منها ما يشبه ما نحن فيه أنني جئته يوم جمعة غدوة فوجدته قد ركب إلى الحلبة، وكانت عادته أن يركب إليها في كلّ يوم ثلاثاء ويوم جمعة، فجلست على دكة على باب دار أبيه في موضع فسيح كان عمرها وفرشها، فكنا نجلس عليها للمحادثة إلى ارتفاع النهار ثم ندخل إذا أقمت عنده إلى حجرة لطيفة كانت مفردة له لنجتمع على الشراب والشطرنج وما أشبههما، فطال جلوسي في ذلك اليوم منتظرا له فأبطأ، وتصبّح من أجل رهان كان بين فرسين لبختيار، فعرض لي لقاء صديق فقمت لأمضي ثم أعود إليه، فهجس لي أن كتبت على الحائط الذي كنا نستند إليه هذه الأبيات:
يا من أظلّ بباب داره ... ويطول حبسي لانتظاره
وحياة طرفك واحوراره ... ومجال صدغك في مداره
لا حلت عمري عن هوا ... ك ولو صليت بحرّ ناره
وقمت، فلما عاد قرأ الأبيات وغضب من فعلي لئلا يقف عليه «3» من يحتشمه، وكان شديد الكتمان لما بيني وبينه ومطالبا بمثل ذلك، مراقبة لأبيه، إلا أن ظرفه ووكيد محبته لي وميله إليّ لم يدعه حتى أجاب عنها بما كتب تحتها، ورجعت من ساعتي فوجدته في دار أبيه، فاستأذنت عليه، فخرج إليّ خادم لهم فقال: يقول لك لا التقينا حتى تقف على الجواب عن الأبيات فانه تحتها، فصعدت الدكة فإذا تحت الأبيات(4/1716)
بخطه: ما هذه الشناعة، ومن فسح لك في هذه الإذاعة، وما أوجب خروجك عن الطاعة؟! ولكن أنا جنيت على نفسي وعليك، ملكتك فطغيت، وأطعتك فتعديت، وما أحتشم أن أقول: هذا تعرض للاعراض عنك والسلام. فعلمت أنني قد أخطأت، وسقطت- شهد الله- قوتي وحركتي «1» فأخذتني الندامة والحيرة، ثم أذن لي فدخلت فقبلت يده، فمنعني، وقلت: يا سيدي غلطة غلطتها وهفوة هفوتها فإن لم تتجاوز عنها وتعف هلكت، فقال لي: أنت في أوسع العذر بعد أن لا يكون لها أخت، وعاتبني على ذلك عتابا عرفت صحته، ولم تمض إلا مديدة حتى قبض على أبيه، وهرب، فاحتاج إلى الاستتار، فلم يأنس هو وأهله إلا بكونه عندي، فأنا على غفلة إذ دخل في خفّ وإزار، وكادت مرارتي تنفطر فرحا، فتلقيته «2» أقبّل رجليه وهو يضحك ويقول: يأتيها رزقها وهي نائمة، هذا يا حبيبي بخت من لا يصوم ولا يصلّي في الحقيقة، وكان أخفّ الناس روحا وأمتعهم «3» لنادرة، وبتنا في تلك الليلة عروسين لا نعقل سكرا، واصطبحنا وقلت هذه الأبيات:
بت وبات الحبيب ندماني ... من بعد نأي وطول هجران
نشرب قفصيّة معتّقة ... بحانة الشطّ منذ أزمان
وكلما دارت الكؤوس لنا ... ألثمني فاه ثم غناني
الحمد لله لا شريك له ... أطاعني الدهر بعد عصيان
ولم يزل مقيما عندي نحو الشهر حتى استقام أمر أبيه ثم عاد إلى داره.
وحدث الحسن بن الحسين النعال قال، قال أبو الفرج الأصبهاني: بلغ أبا الحسن جحظة أن مدرك بن محمد الشيباني الشاعر ذكره بسوء في مجلس كنت حاضره فكتب إليّ:
أبا فرج أهجى لديك ويعتدى ... عليّ فلا تحمى لذاك وتغضب
لعمرك ما أنصفتني في مودتي ... فكن معتبا إن الأكارم تعتب(4/1717)
قال أبو الفرج: فكتبت إليه:
عجبت لما بلّغت عنّي باطلا ... وظنّك بي فيه لعمرك أعجب
ثكلت إذن نفسي وعزّي وأسرتي ... بفقدي ولا أدركت ما كنت أطلب
فكيف بمن لا حظّ لي في لقائه ... وسيان عندي وصله والتجنب
فثق بأخ أصفاك محض مودة ... تشاكل منها ما بدا والتغيب
قال غرس النعمة: حدثني أبي قال، حدثني جدي قال: كان أبو القاسم الجهني القاضي- وأظنه من أهل البصرة وتقلّد الحسبة بها ومنها عرف أبا محمد المهلبي وصحبه- يشتمل على آداب يتميز بها، إلا أنه كان فاحش الكذب، يورد من الحكايات ما لا يعلق بقبول ولا يدخل في معقول، وكان أبو محمد قد ألف ذلك منه، وقد سلك مسلك الاحتمال، وكنا لا نخلو عند حديثه من التعجّب والاستطراف والاستبعاد، وكان ذلك لا يزيده إلا إغراقا في قوله وتماديا في فعله. فلما كان في بعض الأيام جرى حديث النعنع وإلى أيّ حدّ يطول، فقال الجهني: في البلد الفلاني نعنع يتشجّر حتى يعمل من خشبه السلاليم، فاغتاظ أبو الفرج الأصبهاني من ذاك وقال: نعم عجائب الدنيا كثيرة، ولا يدفع مثل هذا، وليس بمستبدع، وعندي ما هو أعجب من هذا وأغرب، وهو زوج حمام راعبيّ يبيض في نيّف وعشرين يوما بيضتين، فأنتزعهما من تحته وأضع مكانهما صنجة مائة وصنجة خمسين، فإذا انتهى مدة الحضان تفقست الصنجتان عن طست وإبريق أو سطل وكرنيب، فعمّنا الضحك، وفطن الجهنّي لما قصده أبو الفرج من الطنز، وانقبض عن كثير مما كان يحكيه ويتسمّح فيه، وإن لم يخل في الأيام من الشيء بعد الشيء منه.
ومن عجيب ما مرّ بي من الكذب حكاية أوردها غرس النعمة عقيب هذه، قال:
كان لوالدي تاجر يعرف بأبي طالب وكان معروفا بالكذب، فأذكر وقد حكى في مجلسه، والناس حضور عنده، أنه كان في معسكر محمود بن سبكتكين صاحب خراسان ببخارى معه، وقد جاء من البرد أمر عظيم جمد منه المري حتى قدّ وفري وعملت منه خفاف، وأن الناس كانوا ينزلون في المعسكر فلا يسمع لهم صوت ولا حديث ولا حركة حتى ضرب الطبل في أوقات الصلوات، فإذا أصبح الناس وطلعت(4/1718)
الشمس وحميت ذاب ذلك الكلام، فسمعت الأصوات الجامدة منذ أمس من أصوات الطبول والبوقات وحديث الناس وصهيل الخيل ونهيق الحمير ورغاء الابل.
قرأت على ظهر جزء من نسخة بكتاب الأغاني لأبي الفرج: حدث ابن عرس الموصلي- وكان المترسل بين عز الدولة وبين أبي تغلب ابن ناصر الدولة، وكان يخلف أبا تغلب بالحضرة- قال: كتب إليّ أبو تغلب يأمرني بابتياع «كتاب الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني، فابتعته له بعشرة آلاف درهم من صرف ثمانية عشر درهما بدينار، فلما حملته إليه ووقف عليه ورأى عظمه وجلالة ما حوى قال: لقد ظلم ورّاقه المسكين، وإنه ليساوي عندي عشرة آلاف دينار، ولو فقد لما قدرت عليه الملوك إلا بالرغائب، وأمر أن تكتب له نسخة أخرى ويخلّد عليها اسمه، فابتدىء بذلك، فما أدري أتمت النسخة أم لا.
قال أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد: اتصل بي أن مسوّدة «كتاب الأغاني» - وهي أصل أبي الفرج- أخرجت الى سوق الوراقين لتباع، فأنفذت إلى ابن قرابة وسألته إنفاذ صاحبها لأبتاعها منه لي، فجاءني وعرّفني أنها بيعت في النداء بأربعة آلاف درهم، وأن أكثرها في ظهور وبخطّ التعليق، وأنها اشتريت لأبي أحمد ابن محمد بن حفص، فراسلت أبا أحمد فأنكر أنه يعرف شيئا من هذا، فبحثت كلّ البحث فما قدرت عليها.
كان الراضي بالله في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة قد ولّى أبا عبد الله البريدي- وكان قد خرج عليه بنواحي البصرة- الوزارة، فتحدث الناس أنّ الراضي إنما قصد بتقليد أبي عبد الله الوزارة طمعا في إيقاع الحيلة عليه في تحصيله، فقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني في ذلك قصيدة طويلة تزيد على مائة بيت يهجو فيها أبا عبد الله ويؤنب الراضي في توليته وطمعه فيه، أولها «1» :
يا سماء اسقطي ويا أرض ميدي ... قد تولّى الوزارة ابن البريدي
جلّ خطب وحلّ أمر عضال ... وبلاء أشاب رأس الوليد(4/1719)
هدّ ركن الاسلام وانهتك المل ... ك ومحّت آثاره فهو مودي
أخلقت بهجة «1» الزمان كما أن ... هج طول اللباس وشي البرود
يقول فيها:
وتوهمت أن سيخدعه ذا ... ك فيغتاله اصطياد الصيود
هو أزنى مما تقدّر أمّا ... ليس ممن يصاد بالتقليد
وانتهت هذه القصيدة إلى أبي عبد الله البريدي، فلما بلغ الى البيت الأخير ضحك وضرب بيديه ورجليه وقال: لو عرف أبو الفرج ما في نفسي وأزال الوحشة وصار إليّ لبالغت في صلته والإفضال عليه من أجل هذا البيت.
قال الحميدي: وقد ذكر صاحب «كتاب النشوار» «2» أبو علي المحسن بن علي القاضي أنه حضر مجلس أبي الفرج الأصبهاني صاحب «كتاب الأغاني» فتذاكروا موت الفجاءة، فقال أبو الفرج: أخبرني شيوخنا أن جميع أحوال العالم قد اعترت من مات فجاءة إلّا أنني لم أسمع من مات على منبر؛ قال أبو علي المحسن: وكان معنا في مجلس أبي الفرج شيخ أندلسيّ قدم من هناك لطلب العلم ولزم أبا الفرج يقال له أبو زكريا يحيى بن مالك بن عائذ «3» ، وكنت أرى أبا الفرج يعظّمه ويكرمه ويذكر ثقته، فأخبرنا أبو زكريا أنه شاهد في مسجد الجامع ببلدة من الأندلس خطيب البلد وقد صعد يوم الجمعة ليخطب فلما بلغ يسيرا من خطبته خرّ ميتا فوق المنبر حتى أنزل به، وطلب في الحال من رقي المنبر فخطب وصلّى الجمعة بنا. إلّا أنّ أبا علي قلب نسبة أبي زكريا فقال: يحيى بن عائذ بن مالك الأندلسي، والصواب ما قلنا.
قال الثعالبي «4» : ومن قوله في المهلبي:(4/1720)
ولما انتجعنا عائذين «1» بظلّه ... أعان وما عنّى ومنّ وما منّا
وردنا عليه مقترين فراشنا ... وردنا نداه مجدبين فأخصبنا
وقوله من قصيدة يهنئه بمولود من سرّية رومية «2» :
اسعد بمولود أتاك مباركا ... كالبدر أشرق جنح ليل مقمر
سعد لوقت سعادة جاءت به ... أمّ حصان من بنات الأصفر
متبخبخ في ذروتي شرف العلى ... بين المهلّب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدجى ... حتى إذا اجتمعا أتت بالمشتري
وأنشد له فيه عيدية «3» :
إذا ما علا في الصدر للنهي «4» والأمر ... وبثّهما في النفع منه وفي الضرّ
وأجرى ظبا أقلامه وتدفقت ... بديهته كالمستمدّ من البحر
رأيت نظام الدرّ في نظم قوله ... ومنثوره الرقراق في ذلك النثر
ويقتضب المعنى «5» الكثير بلفظة ... ويأتي بما تحوي الطوامير في سطر
أيا غرة الدهر ائتنف غرّة الشهر ... وقابل هلال الفطر في ليلة الفطر
بأيمن إقبال وأسعد طائر ... وأفضل ما ترجوه من أفسح العمر
مضى عنك شهر الصوم يشهد صادقا ... بطهرك فيه واجتنابك للوزر
فأكرم بما خطّ الحفيظان منهما ... وأثنى به المثني وأطرى به المطري
وزكّتك أوراق المصاحف وانتهى ... إلى الله منها طول درسك والذكر
وقبضك كفّ البطش عن كلّ مجرم ... وبطشكها بالعرف والخير والبرّ
وقد جاء شوال فشالت نعامة ال ... صيام وأبدلنا النعيم من الضرّ(4/1721)
وضجت حبيس الدنّ من طول حبسها ... ولامت على طول التجنّب والهجر
وأبرزها من قعر أسود مظلم ... كاشراق بدر مشرق اللون كالبدر
إذا ضمّها والورد فوه وكفّه ... فلا فرق بين اللون والطعم والنشر
وتحسبه إذ سلسل الكأس ناظما ... على الكوكب الدرّيّ سمطا من الدرّ
وله فيه يهنئه بابلاله من مرض «1» :
أبا محمد المحمود يا حسن الاح ... سان والجود يا بحر الندى الطامي
حاشاك من عود عوّاد إليك ومن ... دواء داء ومن إلمام آلام
وله «2» :
يا فرجة الهمّ بعد اليأس من فرج «3» ... يا فرحة الأمن بعد الروع من وهل «4»
اسلم ودم وابق واملك وانم واسم وزد ... وأعط وامنع وضر وانفع وصل وصل
وله في القاضي الايذجي وكان التمس منه عكازة فلم يعطه إياها «5» :
اسمع حديثي تسمع قصة عجبا ... لا شيء أظرف منها «6» تبهر القصصا
طلبت عكّازة للوحل تحملني ... ورمتها عند من يخبا العصا فعصا
وكنت أحسبه يهوى عصا عصب ... ولم أكن خلته صبّا بكلّ عصا
وله من قصيدة يستميح المهلبي «7» :
رهنت ثيابي وحال القضاء ... دون القضاء وصدّ القدر
وهذا الشتاء كما قد ترى ... عسوف عليّ قبيح الأثر «8»(4/1722)
يغادي بصرّ من العاصفا ... ت أو دمق مثل وخز الابر «1»
وسكان دارك ممن أعو ... ل يلقّين من برده كلّ شرّ
فهذي تحنّ وهذي تئنّ ... وأدمع هاتيك تجري درر
إذا ما تململن تحت الظلام ... يعلّلن منك بحسن النظر
ولا حظن ربعك كالممحلين ... شاموا البروق رجاء المطر
يؤمّلن عودي بما ينتظرن ... كما يرتجى آيب من سفر.
[747] علي بن الحسين بن هندو أبو الفرج، الكاتب الأديب
المنشىء الشاعر: من أهل البراعة ومستخدمي اليراعة وأعيان أهل البلاغة، له رسائل مدوّنة وفضائل متعينة مختارة، يفضّله أهل بلده على كثير من أقرانه.
قال أبو عليّ التنوخي: كان أحد كتّاب الإنشاء في ديوان عضد الدولة، قال:
وشاهدت عدة كتب كتبها عنه بخطه.
وقال أبو الفضل البندنيجي الشاعر: هو من أهل الريّ، قال: وشاهدته بجرجان في سني بضع عشرة وأربعمائة كاتبا بها وأنه مشهور في تلك البلاد بجودة الشعر وكثرة الأدب والفضل.
قال أبو جعفر أحمد بن محمد بن سهل الهروي «2» كان أبو الفرج ابن هندو صاحب أبوة في بلده، ولسلفه نباهة بالنيابة «3» وخدمة السلطان هناك، وكان متفلسفا
__________
[747]- ترجمة ابن هندو في اليتيمة 3: 397 وتتمة اليتيمة 1: 134 وذيل تاريخ بغداد 17: 351 وابن أبي أصيبعة 1: 323 والفوات 3: 13 وتاريخ الحكماء للبيهقي: 93.
10(4/1723)
قرأ كتب الأوائل على أبي الحسن الوائلي بنيسابور ثم على أبي الخير ابن الخمار «1» وورد بغداد في أيام أبي غالب ابن خلف الوزير فخر الملك ومدحه، واتفق اجتماعي معه وأنسي به، وكان يلبس الدراعة على رسم الكتاب، وأنشدني لنفسه «2» :
لا يؤيسنّك من مجد تباعده ... فان للمجد تدريجا وترتيبا
إن القناة التي شاهدت رفعتها ... تنمي وتنبت أنبوبا فأنبوبا
قال أبو الفضل البندنيجي: سمعته ينشد لنفسه:
يا سيف إن تدرك بحاشية اللوى ... ثأرا أكن لمديح طبعك ناظما
اجعل قرابك فضة مسبوكة ... واصنع عليك من الزبرجد قائما
ما أرضعتك صياقلي ماء الردى ... إلا لترضعني الدماء سواجما
قال: وحضرت معه في مجلس أبي غانم القصري الناظر، كان، في الدواوين بجرجان على البريد، فعمل بديها ما دفعه إلى المغني فغنى فيه:
يا هاجرا لي بغير جرم ... مستبدل الوصل بالصدود
أضنيت جسمي فلم تغادر ... مني دليلا على الوجود
وله أيضا «3» :
كلّ مالي فهو رهن ما له ... من فكاك في مساء وابتكار
ففؤادي أبدا رهن هوى ... وردائي أبدا رهن عقار
فدع التفنيد يا صاح لنا ... إنما الربح لأصحاب الخسار
لو ترى ثوبي مصبوغا بها ... قلت ذمّيّ تبدّى في غيار
ولقد أمرح في شرخ الصبا ... مرح المهرة في ثني العذار(4/1724)
وله أيضا «1» :
ضعت بأهل الريّ في أهلها ... ضياع حرف الراء في اللثغه
صرت بها بعد بلوغ المنى ... أحمد أن تبلغ بي البلغه
وله أيضا:
إذا ما عقدنا نعمة عند جاحد ... ولم نره إلا جموحا عن الشكر
رجعنا فعفّينا الجميل بضده ... كذاك يجازى صاحب الشرّ بالشر
هذا عكس قول ابن الرومي «2» :
أحسن إليه إذا أساء فأنتما ... من ذي الجلال بسمع وبمنظر
وله أيضا:
وكافر بالمعاد أمسى ... يخلبني قوله الخلوب
قال اغتنم لذة الليالي ... وعدّ عن آجل يريب
ضلّ هواه وجاء يهذي ... طبّ لعينيك يا طبيب
أأخطأ العالمون طرّا ... وأنت من بينهم مصيب
وله أيضا:
كدأبك كلّ لا يرى غير نفسه ... فعش واحدا واضربهم بفراق
زمان تجافى أهله فكأنهم ... سيات قسيّ ما لهنّ تلاقي
وله أيضا «3» :
تعانقنا لتوديع عشاء ... وقد شرقت بمدمعها الحداق
وضيقنا العناق لفرط شوق ... فما ندري عناق أم خناق
وتحدث أبو الفضل البندنيجي الشاعر قال: كان بابن هندو ضرب من السوداء،(4/1725)
وكان قليل القدرة على شرب النبيذ لأجل ذلك، واتفق أنه كان يوما عند أبي الفتح بن أبي علي حمد كاتب قابوس بن وشمكير وأنا معه، على عادة كانت لنا في الاجتماع، فدخل أبو علي إلى الموضع ونظر إلى ما كان بأيدينا من الكتب وتناشد هو وابن هندو الشعر، وحضر الطعام فأكلنا، وانتقلنا إلى مجلس الشراب، ولم يطق ابن هندو المساعدة على ذلك، فكتب في رقعة كتبها إليه:
قد كفاني من المدام شميم ... صالحتني النّهى وثاب الغريم
هي جهد العقول سمّي راحا ... مثل ما قيل للّديغ سليم
إن تكن جنة النعيم ففيها ... من أذى السكر والخمار جحيم
فلما قرأها ضحك وأعفاه من الشرب.
وأنشد أبو الفضل له:
قالوا اشتغل عنهم يوما بغيرهم ... وخادع النفس إن النفس تنخدع
قد صيغ قلبي على مقدار حبهم ... فما لحبّ سواهم فيه متسع
وحدث أبو الفضل البندنيجي قال: أنشدت يوما أبا الفتح بن أبي علي حمد قول ابن المعتز «1» :
سعى إلى الدنّ بالمبزال يبقره ... ساق توشّح بالمنديل حين وثب
لما وجاها بدت صهباء «2» صافية ... كأنّما قدّ سيرا من أديم ذهب
ومثله قول ابن سكرة:
ثم وجاها بشبا مبزل ... فاستلّ منها وترا مذهبا
فقال قول ابن هندو أحسن «3» :
وساق تقلّد لما أتى ... حمائل زقّ ملاه شمولا
فلله درّك من فارس ... تقلّد سيفا يقدّ العقولا
قال: فجاريت ابن هندو من بعد، وقد اجتمعت معه، الأبيات، وقلت له: إن(4/1726)
قولك «حمائل الزق» فيه بشاعة، وما رأيت أحدا تقلد زقا، فقال: أهل العراق يصرفون الكلام ونحن نورده على أصله.
وحدث أبو الفضل البندنيجي قال: كان ابن هندو يشرب يوما عند أبي غانم القصري، واقتصر على أقداح يسيرة ثم أمسك، فسأله الزيادة فلم يفعل، وقال «1» :
أرى الخمر نارا والنفوس جواهرا ... فإن شربت أبدت طباع الجواهر
فلا تفضحنّ النفس يوما بشربها ... إذا لم تثق منها بحسن السرائر
وله أيضا:
تعرضت الدنيا بلذة مطعم ... وزخرف موشيّ من اللبس رائق
أرادت سفاها أن تموّه قبحها ... على فكر خاضت بحار الدقائق
فلا تخدعينا بالسراب فاننا ... قتلنا نهانا في طلاب الحقائق
وحدث البندنيجي قال: كان الناس يظنون بمنوجهر بن قابوس ما كان في أبيه من الأدب والفضل، ولم يكن كذلك، فلما انتقل الأمر إليه قصد بما يقصد به مثله، وكان لا يوصل إليه إلا القليل، ولا يتقبل ما يمدح به، ولا يهش لشيء من هذا الجنس لتباعده عنه، وكان مع هذه الحالة فروقة قليل البطش، فمدحه ابن هندو بقصيدة وتأنق فيها وأنشده إياها، فلم يفهمها ولم يثبه عليها، فقال:
يا ويح فضلي أما في الناس من رجل ... يحنو عليّ أما في الأرض من ملك
لأكرمنّك يا فضلي بتركهم ... وأستهيننّ بالأيام والفلك
فقيل لمنوجهر: إنه قد هجاك لأن لقبه كان فلك المعالي، فطلبه ليقتله فهرب إلى نيسابور وانفلت منه.
وله «2» :
حللت وقاري في شادن ... عيون الأنام به تعقد
غدا وجهه كعبة للجمال ... ولي قلبه «3» الحجر الأسود(4/1727)
[748] علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى
بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، نقيب العلويين، أبو القاسم الملقب بالمرتضى علم الهدى، السيد المشهور بالعلم المعروف بالفهم: ولد سنة خمس وخمسين وثلاثمائة ومات سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وهو أكبر من أخيه الرضي.
وقال أبو جعفر الطوسي: توحّد المرتضى في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل: علم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب والنحو والشعر ومعاني الشعر واللغة وغير ذلك، وله ديوان شعر يزيد على عشرة «1» آلاف بيت، وله من التصانيف ومسائل البلدان شيء كثير، يشتمل على ذلك فهرسته، غير أني أذكر أعيان كتبه وكبارها منها: كتاب الشافي في الامامة [وهو نقض] كتاب المغني لعبد الجبار بن أحمد وهو كتاب لم يصنف مثله في الامامة. كتاب الملخص في الأصول لم يتمه. كتاب الذخيرة في الأصول تامّ. وكتاب جمل العلم والعمل تام.
وكتاب الغرر [والدرر] وكتاب التنزيه. كتاب المسائل الموصلية الأولى. وكتاب المسائل الموصلية الثانية. كتاب المسائل الموصلية الثالثة. وكتاب المقنع في
__________
[748]- للشريف المرتضى ترجمة في تاريخ بغداد 11: 402 ودمية القصر 1: 299 والذخيرة (القسم الرابع) : 465 والمنتظم 8: 120 وإنباه الرواة 2: 249 وابن الأثير 9: 526 وتتمة اليتيمة 1: 53 وابن خلكان 3: 313 وسير الذهبي 17: 588 والعبر 3: 186 وميزان الاعتدال 3: 124 وعيون التواريخ 12: 204 ومرآة الجنان 3: 55 والبداية والنهاية 12: 53 ولسان الميزان 4: 223 والنجوم الزاهرة 5: 39 وبغية الوعاة 2: 162 (وفيه نقل عن ياقوت) وفهرست الطوسي: 97 (219) والشذرات 3: 256 وروضات الجنات والدرجات الرفيعة: 458 والذريعة 2: 401 ولعبد الرزاق محيي الدين كتاب بعنوان أدب المرتضى (بغداد: 1957) وانظر مقدمة أمالي المرتضى «غرر الفوائد ودرر القلائد» وديوانه في ثلاثة أجزاء (القاهرة: 1958) ومن كتبه المطبوعة أيضا: الشهاب في الشيب والشباب، وكتاب طيف الخيال (1962) وكتاب عصمة الأنبياء ومجموعة من الرسائل في ثلاثة أجزاء.(4/1728)
الغيبة. وكتاب مسائل الخلاف في الفقه لم يتم. كتاب الانتصار فيما انفردت به الامامية. كتاب مسائل مفردات في أصول الفقه. كتاب المصباح في الفقه لم يتم.
وكتاب المسائل الطرابلسية الأولى. وكتاب المسائل الأخيرة. وكتاب مسائل أهل مصر الأولى. وكتاب مسائلهم الأخيرة. وكتاب المسائل الحلبية الأولى. وكتاب المسائل الحلبية الأخيرة. كتاب المسائل الناصرية في الفقه. وكتاب المسائل الجرجانية.
وكتاب المسائل الطوسية لم يتم. وكتاب البرق. وكتاب طيف الخيال. وكتاب الشيب والشباب. كتاب تتبع أبيات المعاني للمتنبي التي تكلم عليها ابن جني. وكتاب النقض على ابن جني في الحكاية والمحكي. وكتاب نصر «1» الرواية وإبطال القول بالعدد. وكتاب الذريعة في أصول الفقه. وكتاب تفسير قصيدة السيد. وله مسائل مفردات نحو مائة مسألة في فنون شتى. وكتاب المسائل الصيداوية. قال أبو جعفر الطوسيّ: قرأت أكثر هذه الكتب عليه وسمعت سائرها.
ومن شعره المذكور في «تتمة اليتيمة» «2» :
يا خليليّ من ذؤابة بكر ... في التصابي رياضة الأخلاق
غنيّاني بذكرهم تطرباني ... واسقياني دمعي بكأس دهاق
وخذا النوم عن جفوني فإني ... قد خلعت الكرى على العشاق
وله في ذم المشيب «3» :
يقولون لا تجزع من الشيب ضلّة ... وأسهمه إياي دونهم تصمي
وما سرّني حلم يفيء إلى الردى ... كفاني ما قبل المشيب من الحلم
إذا كان ما يعطيني الحزم سالبا ... حياتي فقل لي كيف ينفعني حزمي
وقد جربت نفسي الغداة وقاره ... فما شدّ من وهني ولا سدّ من ثلمي
وإنّي مذ أضحى عذاري قراره ... أعاد بلا سقم وأجفى بلا جزم(4/1729)
وله في مرثية «1» :
كم ذا تطيش سهام الموت مخطئة ... عني وتصمي أخلائي وإخواني «2»
ولو فطنت وقد أردى الزمان أخي ... علمت أن الذي أصماه أصماني
سود وبيض من الأيام لونهما ... لا يستحيل وقد بدّلن ألواني
هيهات حكّم فينا أزلم جذع ... يفني الورى بين جذعان وقرحان
ذكر غرس النعمة أبو الحسن محمد بن هلال بن المحسن الصابىء في «كتاب الهفوات» قال «3» : اجتاز المرتضى أبو القاسم يوم جمعة على باب جامع المنصور بحيث تباع الغنم، فسمع المنادي يقول: نبيع هذا التيس العلويّ بدينار، فظنّ أنه قصده بذلك، فعاد إلى داره وتألم إلى الوزير مما جرى عليه، فكشف فوجد أن التيس إذا كان في رقبته حلمتان متدليتان سمّي علويا تشبيها بضفيرتي العلويّ المسبلتين على رقبته.
نقلت من خط الحافظ الامام أبي نصر عبد الرحيم بن النفيس بن وهبان وفقه الله، قال نقلت من خط الامام أبي بكر محمد بن منصور السمعاني رحمه الله، قال سمعت أبا الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي يقول، سمعت أبا القاسم ابن برهان يقول: دخلت على الشريف المرتضى أبي القاسم العلوي في مرضه الذي توفي فيه فإذا قد حوّل وجهه إلى الجدار، فسمعته يقول: أبو بكر وعمر وليا فعدلا واسترحما فرحما، وأنا أقول ارتدّا بعد أن أسلما؛ قال: فقمت وخرجت فما بلغت عتبة الباب حتى سمعت الزعقة عليه.
ومن شعره ما نقلته من خط تاج الاسلام في «المذيل» «4» :
وزارت وسادي في المنام خريدة ... أراها الكرى عيني ولست أراها
تمانع صبحا أن أراها بناظري ... وتبذل جنحا أن أقبّل فاها
ولما سرت لم تخش وهنا ضلالة ... ولا عرف العذّال كيف سراها(4/1730)
فماذا الذي من غير وعد أتى بها ... ومن ذا «1» على بعد المزار هداها
وقالوا عساها بعد زورة باطل ... تزور بلا ريب فقلت عساها
وأنشد له فيه «2» :
وطرقنني وهنا بأجواز الفلا ... وطروقهنّ على الفلا تخييل
في ليلة وافى بها متمنّع ... ودنت بعيدات وجاد بخيل
يا ليت زائرنا بفاحمة الدجى ... لم يأت إلا والصباح رسول
فقليله وضح الضحى مستكثر ... وكثيره غبش الظلام قليل
ما عابه، وبه السرور، زواله ... فجميع ما سرّ القلوب يزول
ومن خطه: سمعت أبا العلاء أحمد بن محمد بن الفضل الحافظ بأصبهان يقول: ذكر شيخنا أبو الفضل محمد بن طاهر [المقدسي] «3» الحافظ ونقلت من خطه: سمعت الكيا أبا الحسين يحيى بن الحسين العلوي الزيدي، وكان من نبلاء أهل البيت، ومن المحمودين في صناعة الحديث وغيره من الأصول والفروع، يقول وقد دخل عليه بعض الشعراء فمدحه بقصيدة، فلما خرج قال: يا أبا الفضل، الناس ينظرون إليّ وإلى المرتضى ولا يفرّقون بين الرجلين، المرتضى يدخل عليه من أملاكه كلّ سنة أربعة وعشرون ألف دينار، وأنا آكل من طاحونة لأختي ليس لي معيشة غيرها.
قال أبو الفضل المقدسي: وذكر بين يديه يوما الامامية فذكرهم بأقبح ذكر وقال:
لو كانوا من الدوابّ لكانوا الحمير، ولو كانوا من الطيور لكانوا الرخم، وأطنب في ذمهم. وبعد مدة دخلت على المرتضى، وجرى ذكر الزيدية والصالحية أيهما أفضل، فقال: يا أبا الفضل تقول أيهما خير ولا تقول أيهما شرّ، فتعجبت من إمامي الشيعة في وقتهما ومن قول كلّ واحد منهما في مذهب الآخر، فقلت: قد كفيتما أهل السنة الوقيعة فيكما.(4/1731)
قرأت بخط الشيخ أبي محمد ابن الخشاب، حدثني الشيخ الصالح أبو صالح قرطاس بن ألطنطاش الظفري الصوفي التركي من لفظه قال: سمعت ابن الرملي يقول وكان مسنّا: حضرت مجلس أبي القاسم المرتضى وأنا إذ ذاك صبيّ، فدخل عليه بعض أكابر الديلم، فتزحزح له وأجلسه معه على سريره، وأقبل عليه مسائلا، فسارّه الديلمي بشيء لم نعلم ما هو، فقال له متضجرا: نعم، وأخذ معه في كلام كأنه مدافعه، فنهض الديلمي، فقال المرتضى بعد نهوضه: أهؤلاء يريدون منا أن نزيل الجبال بالريش؟! وأقبل على من في مجلسه فقال: أتدرون ما قال هذا الديلمي؟
فقالوا: لا يا سيدي، فقال قال: بيّن لي هل صحّ إسلام أبي بكر وعمر؟
قلت أنا رضي الله عنهما.
قرأت في بعض كتب «1» الحسن بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل بخطّه:
حدثني الفصيحي النحوي قال: اطلع المرتضى من روشنه فرأى المطرز الشاعر وقد انقطع شراك نعله وهو يصلحه، فقال له: فديت ركائبك، وأشار إلى قصيدته التي أولها:
سرى مغرما بالعيس ينتجع الركبا ... يسائل عن بدر الدجى الشرق والغربا ع
لى عذبات الجزع من ماء تغلب ... غزال يرى ماء القلوب له شربا
إلى قوله:
إذا لم تبلّغني إليكم ركائبي ... فلا وردت ماء ولا رعت العشبا
فقال مسرعا: أتراها ما تشبه مجلسك وخلعك وشربك؟ أشار بذلك إلى أبياته التي أولها:
يا خليليّ من ذؤابة قيس
مذكورة في أول ترجمته قيل إنه لما خلع وهب النوم «2» .(4/1732)
وللمرتضى:
تجاف عن الأعداء بقيا فربما «1» ... كفيت فلم تجرح بناب ولا ظفر
ولا تبر منهم كلّ عود تخافه ... فإن الأعادي ينبتون مع الدهر.
[749] علي بن الحسين بن علي العبسي
، يعرف بابن كوجك الوراق: كان أديبا فاضلا يورّق، سمع بمصر من أبي مسلم محمد بن أحمد كاتب أبي الفضل ابن حنزابة الوزير. صنف كتبا منها كتاب الطنبوريين. كتاب أعز المطالب إلى أعلى المراتب في الزهد، كتب به إلى الشابشتي صاحب «كتاب الديارات» ومات في أيام الحاكم قرابة سنة أربع وتسعين وثلاثمائة وكان بالشام والساحل، ومدح سيف الدولة لما فتح الحدث فقال:
رام هدم الإسلام بالحدث المؤ ... ذن بنيانها بهدم الضلال
نكلت عنك منه نفس ضعيف ... سلبته القوى رؤوس العوالي
فتوقّى الحمام بالنفس والما ... ل وباع المقام بالارتحال
ترك الطير والوحوش سغابا ... بين تلك السهول والأجبال
ولكم وقعة قريت عفاة ال ... طير فيها جماجم الأبطال
وكان أبوه الحسين بن علي من أهل الأدب والشعر. قال الحافظ أبو القاسم الدمشقي: الحسين بن علي بن كوجك أبو القاسم الكوجكي حدث بطرابلس سنة تسع وخمسين وثلاثمائة عن أبي مسعود كاتب حسنون المصري وعن أبيه علي وأبي القاسم ابن المنتاب العراقي، كتب عنه بعض أهل الأدب. وأنشد له هذه الأبيات:
__________
[749]- لوالده الحسين بن علي ترجمة في مصورة ابن عساكر 5: 93 وتهذيبه 4: 346.(4/1733)
وما ذات بعل مات عنها فجاءة ... وقد وجدت حملا دوين الترائب
بأرض نأت عن والديها كليهما ... تعاورها الوراث من كلّ جانب
فلما استبان الحمل منها تنهنهوا ... قليلا وقد دبوا دبيب العقارب
فجاءت بمولود غلام فأحرزت ... تراث أبيه الميت دون الأقارب
فلما غدا للمال ربّا ونافست ... لإعجابها فيه عيون الكواعب
وكاد يطول الذّرع في القدّ جسمه ... وقارب أسباب النهى والتجارب
واصبح مأمولا يخاف ويرتجي ... جميل المحيا ذا عذار وشارب
أتيح له عبل الذراعين مخدر ... جريء على أقرانه غير هائب
فلم يبق منه غير عظم مجزّر ... وجمجمة ليست بذات ذوائب
بأوجع منى يوم ولّت حدوجهم ... يؤمّ بها الحادون وادي غباغب.
[750] علي بن الحسين بن بلبل العسقلاني
أبو الحسن:
من شعره في محبوب أزرق العينين:
قدّك كالذابل «1» حسنا وفي ... طرفك ما في طرف الذابل
أزرق كالأزرق يوم الوغى ... كلاهما يوصف بالقاتل
وله أيضا «2» :
__________
[750]- ترجمة ابن بلبل العسقلاني في الخريدة (قسم العسقلانيين الورقة 198 من نسخة باريس رقم:
3328) وكنيته أبو الحسين؛ وهو في إنباه الرواة 2: 254 أبو الحسن (وكلاهما ذكر أنه أستاذ كبير الشأن في علم العربية والنحو) وأخذ النحو عن علي بن عيسى بن فرج صاحب أبي علي الفارسي وتصدر للإقراء بعسقلان، فاستفاد منه الطلبة ونبغ له عدة أصحاب؛ وانظر أيضا بغية الوعاة 2: 160 (وقال: كذا ذكره الصفدي) .(4/1734)
شعر الذؤابة والعذار ... قاما بعذري واعتذاري
بأبي الذي في خدّه ... ماء الصبا ولهيب نار
سكرت لواحظه وقلبي ... ما يفيق من الخمار
عابوا امتهاني في هوا ... هـ كأنني أنا «1» باختيار
ومن الصواب وها عذا ... ري شائب خلع العذار
وله أيضا «2» :
تعرف في وجهه إذا ما ... رأيته نضرة النعيم
كأنما خدّه «3» حباب ... بتّ به ليلة السليم
ولي غريم لوى ديوني ... ليت غرامي على غريمي.
[751] علي بن الحسين الآمدي النحوي
أبو الحسن: ذكره محمد بن إسحاق النديم، وذكر أنه خرج إلى مصر فأقام بها، وكان منقطعا إلى أبي الفضل ابن حنزابة الوزير، وخطه صحيح مليح، ولم يثبت له مصنفا.
قلت أنا: وهو من مشايخ عبد السلام بن الحسين البصري اللغوي «4» وجدت
__________
[751]- هذا الآمدي الذي يترجم له ياقوت سمّاه ابن النديم في الفهرست: 89 محمد بن عبد الله بن صالح الآمدي (وهو في طبعة فلوجل: الأسدي) وقال فيه: خرج عن بغداد إلى مصر، وكان منقطعا إلى ابن حنزابة وخطه مليح صحيح؛ فلا أدري كيف وقع الاضطراب؛ قلت: والسيوطي في بغية الوعاة 2: 162 ينقل عن ياقوت، فلا خلاف.(4/1735)
بخطه وقد أنشد عنه بيتا لأبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي- وهو مذكور في بابه «1» - وقال: أنشدناه جماعة من مشايخنا منهم أبو الحسن علي بن الحسين الآمدي.
وحدث ابن نصر «2» قال، حدثني أبو الحسن المبدع، وكنت أعرفه قديما، ودخل إلى بغداد خضيبا وقصدني فأنكرته ثم عرفته، فجرى ذكر شعراء المصريين فقلت له: ما رأيت لهم شيئا ناصعا، فقال لي: كان الآمدي يتولى أرزاق الشعراء والمتعطلين والأشراف والكتّاب، وكان خضيبا، ولم يسمّه لي ولا كناه، ولا أعلم هل هو النحوي صاحب «كتاب الموازنة» أو غيره «3» إلا أني أذكر ما حكاه، قال: منع الحسين بن بشر الكاتب المصري أرزاقه فعمل فيه قطعة أولها:
إن طغى الآمديّ طغيان مثر ... راشه الدهر فالمريش يحصّ
أيها الآمديّ عقلك قدد ... لّ على أنّ آمد اليوم حمص
إن حرصا يدعو إلى قطعك الأر ... زاق فينا على هلاكك حرص
بسواد السماد تخضب يا شي ... خ فمن ذا سواده ما يبصّ
ألق فيه عفصا فإنك تحتا ... ج إلى العفص حين يعكس عفص
فقلت: تنشد هذا وأنت خضيب؟ فقال: الجيد يروى وإن كان على الراوي فيه دقّ الباب.
[752] علي بن الحسين بن علي الضرير الأصفهاني
النحوي، أبو الحسن الباقولي المعروف بالجامع: ذكره أبو الحسن البيهقي في «كتاب الوشاح» فقال: هو في النحو والاعراب كعبة لها أفاضل العصر سدنة، وللفضل فيه بعد خفائه أسوة حسنة، وقد
__________
[752]- بغية الوعاة 2: 160.(4/1736)
بعث إلى خراسان بيت الفرزدق المشهور في شهور سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وهو:
فليست خراسان التي كان خالد ... بها أسدا إذ كان سيفا أميرها
وكتب كلّ فاضل من فضلاء خراسان لهذا البيت شرحا. ثم قال: وهذا الإمام استدرك على أبي علي الفسوي وعبد القاهر وله هذه الرتبة، ومن نظر في تصانيفه علم أنه لا حق سبق السابقين.
وقيل من منظومه:
أحبب النحو من العلم فقد ... يدرك المرء به أعلى الشرف
إنما النحويّ في مجلسه ... كشهاب ثاقب بين السّدف
يخرج القرآن من فيه كما ... تخرج الدرة من جوف الصدف
قال البيهقي: وبعد ذلك تحقق أن هذه الأبيات من إنشاده لا من إنشائه.
له من التصانيف: كتاب شرح اللمع. وكتاب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات في علل القرآن.
قرأت في خاتمة «كتاب المشكلات» للجامع هذا ما صورته: «وقد أمللته بعد تصنيف كتاب الجوهر، وكتاب المجمل، وكتاب الأستدراك على أبي علي، وكتاب البيان في شواهد القرآن، وسأجمع لك كتابا أذكر فيه الأقاويل المجردة في معنى الآية دون الاعراب وما يتعلق بالصناعة منها» .
[753] علي بن حمزة الكسائي:
هو أبو الحسن علي بن حمزة بن عبد الله بن
__________
[753]- ترجمة الكسائي في المعارف: 545 ومراتب النحويين: 74 وطبقات الزبيدي: 138 والفهرست:
72 وتاريخ بغداد 11: 403 ونور القبس: 283 ونزهة الألباء: 67 وتاريخ أبي المحاسن: 190 وإنباه الرواة 2: 256 وابن خلكان 3: 295 وسير الذهبي 9: 131 وعبر الذهبي 1: 302 ومرآة الجنان 1: 421 والبداية والنهاية 11: 201 وتهذيب التهذيب 7: 313 وطبقات ابن الجزري 1: 535 وطبقات الدوادي 1: 399 والنجوم الزاهرة 2: 130 وبغية الوعاة 2: 162 والشذرات 1: 321 وإشارة التعيين: 217.(4/1737)
عثمان، من ولد بهمن بن فيروز، مولى بني أسد، النحوي أحد الأئمة في القراءة والنحو واللغة، وأحد السبعة القراء المشهورين، وهو من أهل الكوفة استوطن بغداد وروى الحديث وصنف الكتب، ومات بالريّ صحبة الرشيد- على ما نذكره فيما بعد- سنة اثنتين أو ثلاث وثمانين ومائة وقيل بعد ذلك في سنة تسع وثمانين، وقال مهدي بن سابق: في سنة اثنتين وتسعين ومائة هو ومحمد بن الحسن الفقيه صاحب أبي حنيفة، فقال الرشيد: اليوم دفنت الفقه والعربية، قال الخطيب «1» إن عمر الكسائي بلغ سبعين سنة.
وكان الكسائي مؤدّبا لولد الرشيد، وكان أثيرا عند الخليفة حتى أخرجه من طبقة المؤدبين إلى طبقة الجلساء والمؤانسين. وكان الكسائي قد قرأ على حمزة الزيات ثم اختار لنفسه قراءة، وسمع من سليمان بن أرقم وأبي بكر ابن عياش. (وفي القرّاء آخر يقال له الكسائي الصغير واسمه محمد بن يحيى روى عنه ابن مجاهد عن خلف بن هشام البزار) .
حدث الخطيب قال قال الفراء «2» : إنما تعلم الكسائي النحوي على كبر، وسببه أنه جاء إلى قوم من الهبّاريين، وقد أعيا، فقال لهم: قد عييت، فقالوا له: أتجالسنا وأنت تلحن؟ فقال: كيف لحنت؟ قالوا: إن كنت أردت من انقطاع الحيلة والتحير في الأمر فقل عييت مخفّفا، وإن كنت أردت من التعب فقل أعييت، فأنف من هذه الكلمة، ثم قام من فوره ذلك فسأل من يعلّم النحو، فأرشده إلى معاذ الهراء، فلزمه حتى أنفد ما عنده، ثم خرج إلى البصرة فلقي الخليل وجلس في حلقته، فقال له رجل من الأعراب: تركت أسد الكوفة وتميمها وعندها الفصاحة وجئت إلى البصرة؟! فقال للخليل: من أين أخذت علمك هذا؟ قال: من بوادي الحجاز ونجد وتهامة، فخرج ورجع وقد أنفد خمس عشرة قنينة حبرا في الكتابة عن العرب سوى ما حفظ، فلم يكن له هم غير البصرة والخليل، فوجد الخليل قد مات وجلس في موضعه يونس النحوي، فمرت بينهما مسائل أقرّ له يونس فيها وصدّره موضعه.(4/1738)
وحدث الخطيب أيضا بإسناد رفعه إلى عبد الرحيم بن موسى قال «1» : قلت للكسائي لم سمّيت الكسائي، قال: لأني أحرمت في كساء، قال وقيل فيه قول آخر، وذكر إسنادا رفعه إلى محمد بن يحيى المروزي قال: سألت خلف بن هشام لم سمّي الكسائي كسائيّا؟ فقال: دخل الكسائي الكوفة، فجاء إلى مسجد السّبيع، وكان حمزة بن حبيب الزيات يقرىء فيه، فتقدم الكسائي مع أذان الفجر فجلس وهو ملتفّ بكساء من البرّكان الأسود، فلما صلّى حمزة قال: من تقدم في الوقت يقرأ، قيل له الكسائي أول من تقدم- يعنون صاحب الكساء- فرمقه القوم بأبصارهم، فقال:
إن كان حائكا فسيقرأ سورة يوسف وإن كان ملاحا فسيقرأ سورة طه، فسمعهم فابتدأ بسورة يوسف، فلما بلغ إلى قصة الذئب قرأ فأكله الذّيب بغير همز، فقال له الزيات:
بالهمز، فقال له الكسائي: وكذلك أهمز الحوت في قوله تعالى فالتقمه الحؤت؟
قال: لا قال: فلم همزت الذئب ولم تهمز الحوت؟ وهذا فأكله الذئب وهذا فالتقمه الحوت، فرفع حمزة بصره إلى خلّاد الأحول، وكان أجمل غلمانه، فتقدم إليه في جماعة من أهل المجلس فناظروه فلم يصيبوا «2» شيئا، فقال: أفدنا رحمك الله، فقال لهم الكسائي: تفهموا عن الحائك: تقول إذا نسبت الرجل إلى الذئب قد استذأب الرجل، ولو قلت قد استذاب بغير همز لكنت إنما نسبته إلى الهزال، تقول:
استذاب الرجل إذا استذاب شحمه بغير همز، وإذا نسبته إلى الحوت تقول قد استحات الرجل أي كثر أكله لأن الحوت يأكل كثيرا لا يجوز فيه الهمز، فلتلك العلة همز الذئب ولم يهمز الحوت، وفيه معنى آخر: لا تسقط الهمزة من مفرده ولا من جمعه وأنشدهم:
أيها الذئب وابنه وأبوه ... أنت عندي من أذؤب ضاريات
قال: سمّي الكسائي من ذلك اليوم.
وحدث المرزباني فيما رفعه إلى ابن الأعرابي قال: كان الكسائي أعلم الناس على رهق فيه، كان يديم شرب النبيذ، ويجاهر باتخاذ الغلمان الرّوقة، إلا أنه كان(4/1739)
ضابطا قارئا عالما بالعربية صدوقا.
وحدث المرزباني «1» فيما رفعه إلى الكسائي قال: أحضرني الرشيد سنة اثنتين وثمانين ومائة في السنة الثالثة من خلافته فأخرج إليّ محمدا الأمين وعبد الله المأمون كأنهما بدران فقال: امتحنهما بشيء، فما سألتهما عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، فقال لي: كيف تراهما فقلت:
أرى قمري أفق وفرعي بشامة ... يزينهما عرق كريم ومحتد
يسدّان آفاق السماء بهمّة ... يؤيدها حزم ورأي وسؤدد
سليلي أمير المؤمنين وحائزي ... مواريث ما أبقى النبي محمد
حياة وخصب للوليّ ورحمة ... وحرب لأعداء وسيف مهند
ثم قلت: فرع زكا أصله، وطاب مغرسه، وتمكنت فروعه، وعذبت مشاربه، آواهما ملك أغرّ نافذ الأمر واسع العلم عظيم الحلم، أعلاهما فعلوا، وسما بهما فسموا، فهما يتطاولان بطوله، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، فأمتع الله أمير المؤمنين بهما، وبلّغه الأمل فيهما، فقال: تفقدهما، فكنت أختلف إليهما في الأسبوع طرفي نهارهما.
وحدث الخطيب باسناد رفعه إلى سلمة قال «2» : كان عند المهدي مؤدّب يؤدّب الرشيد، فدعاه المهديّ يوما وهو يستاك فقال له: كيف تأمر من السواك قال استك يا أمير المؤمنين، فقال المهدي: إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم قال: التمسوا لنا من هو أفهم من ذا، فقالوا: رجل يقال له علي بن حمزة الكسائي من أهل الكوفة قدم من البادية قريبا، فكتب بازعاجه من الكوفة، فساعة دخل عليه قال: يا علي بن حمزة، قال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: كيف تأمر من السواك، قال: سك يا أمير المؤمنين، قال: أحسنت وأصبت، وأمر له بعشرة آلاف درهم.
وحدث المرزباني عن عبد الله بن جعفر عن ابن قادم عن الكسائي قال:
حججت مع الرشيد، فقدّمت لبعض الصلوات فصليت فقرأت(4/1740)
ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ
(النساء: 9) فأملت ضعافا، فلما سلمت ضربوني بالنعال والأيدي وغير ذلك حتى غشي عليّ، واتصل الخبر بالرشيد فوجّه بمن استنقذني، فلما جئته قال لي: ما شأنك، فقلت له: قرأت لهم ببعض قراءة حمزة الرديئة ففعلوا بي ما بلغ أمير المؤمنين، فقال بئس ما صنعت، ثم ترك الكسائي كثيرا من قراءة حمزة.
وحدّث فيما رفعه إلى الأحمر النحوي قال «1» : دخل أبو يوسف القاضي (وقال عبد الله بن جعفر: محمد بن الحسن) على الرشيد وعنده الكسائي يحدثه، فقال:
يا أمير المؤمنين قد سعد بك هذا الكوفي وشغلك، فقال الرشيد: النحو يستفرغني لأنني أستدلّ به على القرآن والشعر، فقال محمد بن الحسن أو أبو يوسف: إن علم النحو إذا بلغ فيه الرجل الغاية صار معلّما، والفقه إذا عرف الرجل منه جملة صار قاضيا، فقال الكسائي: أنا أفضل منك لأني أحسن ما تحسن وأحسن ما لا تحسن، ثم التفت إلى الرشيد وقال: إن رأى أمير المؤمنين أن يأذن له في جوابي عن مسألة من الفقه، فضحك الرشيد وقال: أبلغت يا كسائي إلى هذا، ثم قال لأبي يوسف:
أجبه، فقال الكسائي: ما تقول لرجل قال لامرأته: أنت طالق إن دخلت الدار، فقال أبو يوسف: إن دخلت الدار طلقت، فقال الكسائي: خطأ، إذا فتحت أن فقد وجب الأمر، وإذا كسرت فإنه لم يقع الطلاق بعد، فنظر أبو يوسف بعد ذلك في النحو.
وحدث أيضا عمن سمع الكسائي يقول «2» : اجتمعت أنا وأبو يوسف القاضي عند هارون الرشيد، فجعل أبو يوسف يذمّ النحو ويقول: وما النحو؟ فقلت:
- وأردت أن أعلمه فضل النحو- ما تقول في رجل قال لرجل أنا قاتل غلامك، وقال له آخر أنا قاتل غلامك، أيهما كنت تأخذ به، قال: آخذهما جميعا، فقال له هارون:
أخطأت، وكان له علم بالعربية، فاستحيا وقال: كيف ذلك؟ قال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال أنا قاتل غلامك بالاضافة لأنه فعل ماض، وأما الذي قال أنا قاتل غلامك بالنصب فلا يؤخذ لأنه مستقبل لم يكن بعد، كما قال الله عز وجل: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ
(الكهف: 23) فلولا أنّ التنوين(4/1741)
مستقبل ما جاز فيه غدا، فكان أبو يوسف بعد ذلك يمدح العربية والنحو.
وحدث فيما رفعه إلى إبراهيم بن إسماعيل الكاتب قال «1» : سأل اليزيدي الكسائي بحضرة الرشيد قال: انظر في هذا الشعر عيب، وأنشده:
ما رأينا خربا ن ... فّر عنه البيض صقر
لا يكون العير مهرا ... لا يكون المهر مهر
فقال الكسائي: قد أقوى الشاعر، فقال له اليزيدي: انظر فيه، فقال: أقوى لا بدّ أن ينصب المهر الثاني على أنه خبر كان، قال: فضرب اليزيديّ بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمد، الشعر صواب، إنما ابتدأ فقال المهر مهر، فقال له يحيى بن خالد: أتتكنّى بحضرة أمير المؤمنين وتكشف رأسك؟! والله لخطأ الكسائي مع أدبه أحبّ إلينا من صوابك مع سوء فعلتك «2» ، فقال: لذة الغلب أنستني من هذا ما أحسن.
حدث المرزباني، حدث محمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الله بن أبي سعد الوراق، حدثنا النعمان بن هارون الشيباني قال: كان أبو نواس يختلف إلى محمد بن زبيدة، وكان الكسائي يعلّمه النحو، فقال أبو نواس: إني أريد أن أقبّل محمّدا قبلة، فقال له الكسائي: إن عليّ في هذا وصمة وأكره أن يبلغ هذا أمير المؤمنين، فقال أبو نواس: إنك إن تركتني أقبله وإلا قلت فيك أبياتا أرفعها إلى أمير المؤمنين، فأبى عليه الكسائي وظنّ أنه لا يفعل، فكتب أبو نواس رقعة:
قل للامام جزاك الله صالحة ... لا تجمع الدهر بين السخل والذيب
فالسخل غرّ وهمّ الذئب غفلته ... والذئب يعلم ما بالسخل من طيب
ودفعها إلى بعض الخدم ليوصلها إلى الرشيد، فجاء بها الخادم إلى الكسائي، فلما قرأها علم أنه شعر أبي نواس، فقال له ويحك: هذا أمر عظيم، سأتلطّف لك، فغب أياما ثم احضر وسلّم عليّ وعلى محمد فستبلغ حاجتك، فغاب وتحدث الكسائي أن أبا نواس غائب، ثم جاء فقام إليه الكسائي فسلّم عليه وعانقه، وسلم أبو(4/1742)
نواس على محمد وقبله، وقال أبو نواس:
قد أحدث الناس ظرفا ... يزهو على كلّ ظرف
كانوا إذا ما تلاقوا ... تصافحوا بالأكف
فأظهروا اليوم رشف ال ... خدود والرشف يشفي
فصرت تلثم من شئ ... ت من طريق التحفي
قال وقال ابن أبي طاهر: وهذا الحديث عندي باطل مصنوع من قبل من حدّث به ابن أبي سعد عنه لا منه، لأن أبناء الخلفاء كانوا في مثل حال المخلوع أجلّ مكانا من أن يعانقوا أحدا من الرعية، ومن قبل أن هذا الشعر الأخير أنشدنيه غير واحد لعبد الصمد بن المعذّل، حتى خبرني أبو علي الفضل بن جعفر بن الفضل بن يوسف المعروف بالبصير أنه له، وأنه قاله بالكوفة في حداثة من سنه، وكان بعيدا من الكذب في ادعاء مثل هذا من الشعر، والله أعلم.
حدث عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد عن المازني عن الأصمعي قال «1» :
كان الكسائي يأخذ اللغة من أعراب الحطمة «2» ينزلون بقطربّل وغيرها من قرى سواد بغداد، فلما ناظر الكسائي سيبويه استشهد بكلامهم واحتجّ بهم وبلغتهم على سيبويه، فقال أبو محمد اليزيدي:
كنا نقيس النحو في ما مضى
الأبيات في أخبار اليزيدي «3» .
ولليزيدي أشعار في الكسائي ذكرت في أخباره، ومن قول اليزيدي فيه «4» :
أفسد النحو الكسائ ... يّ وثنّى ابن غزاله
وأرى الأحمر تيسا ... فاعلفوا التيس النخاله(4/1743)
وحدث المرزباني عن عبد الله بن جعفر عن محمد بن يزيد عن المازني والرياشي عن أبي زيد قال: لما ورد نعي الكسائي من الريّ قال أبو زيد: لقد دفن بها علم كثير بالكسائي. ثم قال: قدم علينا الكسائيّ البصرة فلقي عيسى والخليل وغيرهما وأخذ منهم نحوا كثيرا ثم صار إلى بغداد فلقي أعراب الحطمة فأخذ عنهم الفساد من الخطأ واللحن فأفسد بذلك ما كان أخذه بالبصرة كله. قال عبد الله: وذلك أنّ الكسائي كان يسمع الشاذّ الذي لا يجوز من الخطأ واللحن وشعر غير أهل الفصاحة والضرورات فيجعل ذلك أصلا ويقيس عليه حتى أفسد النحو.
قال أبو عبد الله ابن مقلة حدثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال «1» اجتمع الكسائي والأصمعي عند الرشيد وكانا معه يقيمان بمقامه ويظعنان بظعنه، فأنشد الكسائي «2» :
أم كيف ينفع ما يعطي العلوق به ... رئمان أنف إذا ما ضنّ باللبن
فقال الأصمعي ريمان بالرفع، فقال له الكسائي: اسكت ما أنت وهذا، يجوز رئمان ورئمان ورئمان، ولم يكن الأصمعي بصاحب عربية، فسألت أبا العباس:
كيف جاز ذلك؛ فقال: إذا رفع رفع بينفع أي أم كيف ينفع رئمان أنف، وإذا نصب نصب بيعطي، وإذا خفض ردّه على الهاء في به. قال: والمعنى وما ينفعني إذا وعدتني بلسانك ثم لم تصدقه بفعلك؟ يقال ذلك للذي يبرّ ولا يكون منه نفع، كهذه الناقة التي تشمّ بأنفها مع تمنّع درتها، والعلوق التي قد علق قلبها بولدها، وذلك أنه نحر عنها ثم حشي جلده تبنا أو حشيشا وجعل بين يديها حتى تشمّه وتدرّ عليه، فهي تسكن إليه مرة ثم تنفر عنه ثانية، تشمّه بأنفها ثم تأباه مقلتها، فيقول: فما نفع هذا البوّ إذا تشممته ثم منعت درّتها.
قال أبو العباس: حدثني سلمة قال، قال الفرّاء: مات الكسائي وهو لا يحسن حدّ نعم وبئس ولا حدّ أن المفتوحة ولا حدّ الحكاية، قال فقلت لسلمة: فكيف لم يناظر في ذلك؟ فقال: قد سألته ذلك فقال: أشفقت أن أحادثه فيقول فيّ كلمة(4/1744)
تسقطني فأمسكت. قال الفرّاء ولم يكن الخليل يحسن النداء ولا كان سيبويه يدري حدّ التعجب.
وحدث المرزباني في ما رفعه إلى الفرّاء قال «1» : قدم سيبويه على البرامكة فعزم يحيى بن خالد أن يجمع بينه وبين الكسائي، وجعل لذلك يوما، فلما حضر تقدمت والأحمر، فدخل فإذا بمثال في صدر المجلس فقعد عليه يحيى وقعد إلى جانب المثال جعفر والفضل ومن حضر بحضورهم، وحضر سيبويه فأقبل عليه الأحمر فسأله عن مسألة، فأجابه فيها سيبويه، فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثانية فأجاب فقال له: أخطأت، ثم سأله عن ثالثة فأجابه فيها فقال له: أخطأت، فقال له سيبويه: هذا سوء أدب، قال الفرّاء: فأقبلت عليه فقلت: إن في هذا الرجل حدة وعجلة، ولكن ما تقول فيمن قال هؤلاء أبون ومررت بأبين، كيف تقول على مثال ذلك وأيت أو أويت؟ قال فقدر فأخطأ، فقلت له: أعد النظر، ثلاث مرات تجيب ولا تصيب، فلما كثر عليه ذلك قال: لست أكلمكما أو يحضر صاحبكما حتى أناظره، قال فحضر الكسائي فأقبل على سيبويه فقال: أتسألني أو أسألك؟ فقال: بل سلني أنت، فقال له الكسائي: كيف تقول قد كنت أظنّ أنّ العقرب أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها؟ فقال سيبويه: فإذا هو هي ولا يجوز النصب، فقال له الكسائي:
لحنت، ثم سأله عن مسائل من هذا النوع «خرجت فإذا عبد الله القائم» أو «القائم» فقال سيبويه في ذلك كلّه بالرفع دون النصب، فقال الكسائي: ليس هذا من كلام العرب، العرب ترفع في ذلك كلّه وتنصب، فدفع سيبويه قوله: فقال يحيى بن خالد: قد اختلفتما وأنتما رئيسا بلديكما فمن ذا يحكم بينكما؛ فقال له الكسائي:
هذه العرب في بابك قد جمعتهم من كل أوب، ووفدت عليك من كل صقع، وهم فصحاء الناس، وقد قنع بهم أهل المصرين، وسمع أهل الكوفة وأهل البصرة منهم، فيحضرون ويسألون، فقال يحيى وجعفر: قد أنصفت، فأمر باحضارهم فدخلوا فهم أبو فقعس وأبو دثار وأبو الجراح وأبو ثروان «2» ، فسئلوا عن المسائل التي جرت بين(4/1745)
الكسائي وسيبويه، فتابعوا الكسائي وقالوا بقوله: قال: فأقبل يحيى على سيبويه فقال له: قد تسمع أيها الرجل، فاستكان سيبويه، وأقبل الكسائي على يحيى فقال:
أصلح الله الوزير، إنه قد وفد عليك من بلده مؤملا فإن رأيت ألا تردّه خائبا، فأمر له بعشرة آلاف درهم، فخرج وصيّر وجهه نحو فارس، فأقام هناك حتى مات ولم يعد إلى البصرة. قال ثعلب: وإنما أدخل العماد في قوله «فإذا هو إياها» لأن فإذا مفاجأة أي «فوجدته ورأيته» ، ووجدت ورأيت ينصب شيئين ويكون معه خبر فلذلك نصبت العرب.
قال المؤلف: وقد ذكرنا هذا الخبر في باب سيبويه برواية أخرى، وذكرنا الاحتجاج للبصريين على تصويب قول سيبويه هناك إن شاء الله.
الزبير عن إسحاق الموصليّ قال: ما رأيت رجلا منسوبا إلى العلم أجهل بالشعر من الكسائي.
وبالاسناد قال: كان الكسائي من أشدّ خلق الله تسكّعا في تفسير شعر، وما رأيت أعلم بالنحو قطّ منه ولا أحسن تفسيرا ولا أحذق بالمسائل، والمسألة تشتقّ من المسألة والمسألة تدخل على المسألة.
وقرأت في «نوادر ابن الأعرابي» التي كتبها عنه ثعلب، سمعت الكسائي يقول: قلت لأبي زيد وآذاني باللزوم: يا هذا قد أمللتني كم تلزمني؟ فقال له أبو زيد: إنما ألزمك لأعلّمك، قال فقلت له: فاجلس في بيتك حتى آتيك. قال: وما جربت على الكسائي كذبة قط؛ قال أبو عبد الله ابن الأعرابي: ولئن كان أبو زيد قال هذا ما في الأرض أحد قط أخلّ عقلا منه. قال: وكان الكسائي أعلم من أبي زيد بكثير بالعربية واللغات والنوادر، ولو كان نظر في الأشعار ما سبقه أحد ولا أدركه أحد بعده.
وقال أبو الطيب اللغوي في «كتاب مراتب النحويين» «1» عن أبي حاتم قال: لم يكن لجميع الكوفيين عالم بالقرآن ولا كلام العرب، ولولا أنّ الكسائي دنا من الخلفاء(4/1746)
فرفعوا ذكره لم يكن شيئا، وعلمه مختلط بلا حجج ولا علل إلا حكايات الأعراب مطروحة لأنه كان يلقنهم ما يريد، وهو على ذلك أعلم الكوفيين بالعربية والقرآن، وهو قدوتهم وإليه يرجعون.
وحدث المرزباني في كتابه قال «1» : كتب الكسائي إلى الرشيد وهو يؤدّب محمدا الأمين:
قل للخليفة ما تقول لمن ... أمسى إليك بحرمة يدلي
ما زلت مذ صار الأمين معي ... عبدي يدي ومطيتي رجلي
وعلى فراشي ما ينبّهني ... من نومتي بقيامه قبلي
أسعى برجل منه ثالثة ... نقصت زيادتها من الرجل
فامنن عليّ بما يسكّنه ... عني وأهد الغمد للنصل
قال: فضحك الرشيد وأمر له ببرذون بسرجه ولجامه، وبجارية حسناء بآلتها، وخادم وعشرة آلاف درهم.
قيل للكسائي: قد أبحت علمك الناس، فقال: يعين الله عليهم بالنسيان.
من «مجالسات ثعلب» : وصف ابن الأعرابي الكسائي فقال: كان أعلم الناس على رهق فيه، يريد إتيان ما يكره لأنه كان يشرب الشراب ويأتي الغلمان.
قال: ومن شعر الكسائي «2» :
إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كلّ أمر ينتفع
فإذا ما أبصر «3» النحو الفتى ... مرّ في المنطق مرّا فاتّسع
فاتّقاه جلّ من جالسه ... من جليس ناطق أو مستمع
وإذا لم يبصر «4» النحو الفتى ... هاب أن ينطق جبنا فانقطع
فتراه يرفع النصب وما ... كان من خفض ومن نصب رفع(4/1747)
يقرأ القرآن لا يعرف ما ... صرّف الاعراب فيه وصنع
والذي يعرفه يقرأه ... فإذا ما شكّ في حرف رجع
ناظرا فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف اللحن صدع
كم وضيع رفع النحو وكم ... من شريف قد رأيناه وضع
فهما فيه سواء عندكم ... ليست السنة فينا كالبدع
وحدث هارون بن علي المنجم في «أماليه» عن أبي توبة قال «1» : سمعت الفراء يقول: مدحني رجل من النحويين فقال لي: ما اختلافك إلى الكسائي وأنت مثله في النحو؟ فأعجبتني نفسي فأتيته فناظرته مناظرة الأكفاء، فكأني كنت طائرا يغرف من البحر بمنقاره.
وحدث محمد بن إسحاق النديم قال «2» : قرأت بخط أبي الطيب ابن أخي الشافعي قال: أشرف الرشيد على الكسائي وهو لا يراه، فقام الكسائي ليلبس نعله لحاجة يريدها، فابتدرها الأمين والمأمون، وكان مؤدبهما، فوضعاها بين يديه، فقبل رؤوسهما وأيديهما ثم أقسم عليهما ألّا يعاودا، فلما جلس الرشيد مجلسه قال: أيّ الناس أكرم خدما؟ قال: أمير المؤمنين أعزه الله، قال: بل الكسائي يخدمه الأمين والمأمون، وحدثهم الحديث.
حدث السلامي قال: حضر مجلس الكسائي أعرابيّ وهم يتحاورون في النحو، فأعجبه ذلك، ثم تناظروا في التصريف فلم يهتد إلى ما يقولون، ففارقهم وأنشأ يقول:
ما زال أخذهم في النحو يعجبني ... حتى تعاطوا كلام الزنج والروم
بمفعل فعل لا طاب من كلم ... كأنه زجل الغربان والبوم
وقرأت بخط أبي سعيد عبد الرحمن بن علي اليزدادي اللغوي الكاتب في «كتاب جلاء المعرفة» من تصنيفه «3» : قيل اجتمع إبراهيم النظام وضرار بين يدي الرشيد فتناظرا في القدر حتى دقّت مناظرتهما فلم يفهمهما، فقال لبعض خدمه ومن يثق به(4/1748)
ويرضى برأيه: اذهب بهذين إلى الكسائي حتى يتناظرا بين يديه، ثم ليخبرك لمن الفلج منهما، فلما صار في بعض الطريق قال إبراهيم النظام لضرار: أنت تعلم أنّ الكسائي لا يحسن شيئا من النظر، وإنما معوّله على النحو والحساب، ولكن تهيء له مسألة نحو وأهيّء له مسألة حساب فنشغله بهما، لأنا لا نأمن أن يسمع منا ما لم يسمعه ولم يبلغه فهمه أن ينسبنا إلى الزندقة، فلما صارا إليه سلما عليه، ثم بدأ ضرار فقال:
أسألك أصلحك الله عن مسألة من النحو، قال: هاتها قال: ما حدّ الفاعل والمفعول به؟ قال الكسائي: حدّ الفاعل الرفع أبدا وحدّ المفعول به النصب أبدا، قال فكيف تقول: ضرب زيد؟ قال: ضرب زيد قال: فلم رفعت زيدا وقد شرطت أن المفعول به منصوب أبدا، قال: لأنه لم يسمّ فاعله، قال له: فقد أخطأت في العبارة إذ لم تقل إن من المفعولين من إذا لم يسمّ فاعله كان مرفوعا، ومن جعل لك الحكم بأن تجعل الرفع لمن لم يسمّ فاعله؟ قال: لأنا إذا لم نذكر الفاعل أقمنا المفعول به مقامه، لأنّ الفعل الواقع عليه غير مستحكم النقص، وعدم «1» النقص مطابق للرفع، فإذا ذكرنا من فعل به وأفصحنا بذلك نصبناه، قال له: فإن كان النصب مطابقا للنقص فمن لم يسمّ فاعله أولى به لأنا إذا قلنا ضرب زيد فقد يمكن أن يكون ضربه مائة رجل، وإذا قلنا ضرب عبد الله زيدا فلم يضربه إلا رجل واحد، فالذي أمكن أن يضربه مائة رجل أولى بالنصب والنقص ممن لم يضربه إلا رجل واحد، فوقف الكسائي فلم يدر ما يقول. ثم قال له إبراهيم: أسألك- أصلحك الله- عن مسألة من الحساب، قال:
قل، قال: كم جذر عشرة، قال: اجتمع الحسّاب على أنه لا جذر لعشرة، قال:
فهل علم الله جذرها؟ قال الله عالم كلّ شيء، قال: فما أنكرت أن يكون الله إذ علم كلّ شيء ألقاه إلى نبيّ من أنبيائه، ثم ألقاه ذلك النبي إلى صفيّ من أصفيائه، فلم يزل ذلك العلم ينمي حتى صار علم جذر عشرة عندي وأكون أعلم جذرها ولا تعلمه أنت وتكون مخطئا فيما قلت؟ فالتفت الكسائي إلى الغلام وقال: اذهب بهذين إلى أمير المؤمنين فقل: إنهما زنديقان كافران بالله العظيم، قال: وكان الخادم لبيبا حصيفا فأحسن العبارة عنهما وحسّن أمورهما فأمر لهما بجائزة سنية وصرفهما.(4/1749)
قال المؤلف: وهذه الحكاية عندي مصنوعة باردة وإنما كتبتها لكوني وجدتها بخط رجل عالم.
وحدث سلمة بن عاصم قال، قال الكسائي «1» : حلفت ألا أكلّم عاميّا إلا بما يوافقه ويشبه كلامه، وذلك أنني وقفت على نجار فقلت له: بكم ذانّك البابان؟ فقال بسلحتان، فحلفت ألا أكلم عاميّا إلا بما يصلحه.
وحدث الحزنبل قال: أنشدنا يعقوب بن السكيت لأبي الجراح العقيلي يمدح الكسائي:
ضحوك إذا زفّ الخوان وزوره ... يحيّا بأهلا مرحبا ثم يجلس
أبا حسن ما جئتكم قطّ مطفئا ... لظى الشوق إلا والزجاجة تقلس
قال يعقوب: يريد تمتلىء حتى تفيض، ونصب قوله يحيا بأهلا على الحكاية.
وحدث عبد الله بن جعفر عن عليّ بن مهدي عن أحمد بن الحارث الخراز قال «2» : كان الكسائي ممن وسم بالتعليم، وكان كسب به مالا إلا أنه حكي عنه أنه أقام غلاما ممن عنده في الكتّاب وقام يفسق به، وجاء بعض الكتاب ليسلّم عليه فرآه الكسائي ولم يره الغلام، فجلس الكسائي في مكانه وبقي الغلام قائما مبهوتا، فلما دخل الكاتب قال للكسائي: ما شأن هذا الغلام قائما؟ قال: وقع الفعل عليه فانتصب.
وحدث المرزباني فيما أسنده إلى سعدون القارىء قال: رأيت الكسائي وهو يسأل أبا الحسن المروزي وقد أقام أربعين سنة يختلف إلى الكسائي والمروزي يقول:
كيف تقول مررت بدجاجة تنقرك أو تنقرك، أو تنقرك، فقال له الكسائي: استحييت لك بعد أربعين سنة لا تعرف حروف النعت أنها تتبع الأسماء قل تنقرك من نعت الدجاجة. قال: والكسائي يهزأ به ويعبث وينقر أنفه.
وحدث أيضا باسناد رفعه إلى نصير الرازي النحوي- رجل كان بالري- قال:
قدم الكسائي مع هارون فاعتلّ علة منكرة، فأتاه هارون ماشيا متفرعا، فخرج من عنده وهو مغموم جدا فقال لأصحابه: ما أظن الكسائي إلا ميّتا، وجعل يسترجع، فجعل(4/1750)
القوم يعزّونه ويطيبون نفسه وهو يظهر حزنا فقالوا: يا أمير المؤمنين وما له قضيت عليه بهذا؟ قال: إنه حدثني أنه لقي رجلا من الأعراب عالما غزير العلم بموضع يقال له ذو النخيلة، قال الكسائي: فكنت أغدو عليه وأروح أمتاح ما عنده، فغدوت عليه غدوة من تلك الغدوات فإذا هو ثقيل ورأيت به علة منكرة، قال: فألقى نفسه وجعل يتنفس ويقول «1» :
قدر أحلّك ذا النخيل وقد ترى ... وأبيّ ما لك ذو النخيل بدار «2»
إلا كداركم بذي بقر الحمى ... هيهات ذو بقر من المزدار
قال الكسائي: فغدوت عليه صباحا فإذا هو لما به، قال: فدخلت الساعة على الكسائي فإذا هو ينشد هذين البيتين فغمّني ذلك غما شديدا، فكان كما قال، مات من يومه ودفن بمنزله في سكة حنظلة بن نصر بالري سنة اثنتين وثمانين ومائة. وفي غير هذه الرواية زيادة في الشعر:
قالت جمال وكلهنّ جميلة ... ما تأمرون بهؤلا السفّار
قالوا بنو سفر ولم نشعر بهم ... وهم الذين نريد غير تماري
لما اتكأن على الحشايا مضمضت ... بالنوم أعينهنّ بعد غرار
سقط الندى بجنوبهنّ كأنما ... سقط الندى بلطائم العطار
وكانت وفاته برنبويه «3» ، كورة من كور الري، هو ومحمد بن الحسن الفقيه في وقت واحد، وكانا خرجا مع الرشيد إليها، فقال الرشيد: دفنت الفقه والنحو برنبويه، فقال أبو محمد اليزيدي يرثيهما «4» :
تصرّمت الدنيا فليس خلود ... وما قد ترى من بهجة سيبيد
سيفنيك ما أفنى القرون التي مضت ... فكن مستعدّا فالفناء عتيد(4/1751)
أسيت على قاضي القضاة محمد ... فأذريت دمعي والفؤاد عميد
وقلت إذا ما الخطب أشكل من لنا ... بايضاحه يوما وأنت فقيد
وأوجعني موت الكسائيّ بعده ... وكادت بي الأرض الفضاء تميد
وأذهلني عن كلّ عيش ولذة ... وأرّق عيني والعيون هجود
هما عالمانا أوديا وتخرّما ... وما لهما في العالمين نديد
وقد روي أن وفاة الكسائي كانت بطوس لا الريّ.
ولما بلغت هذه الأبيات إلى الرشيد قال: يا يزيدي لئن كنت تسيء بالكسائيّ في حياته لقد أحسنت بعد موته. وقيل بل قال له: أحسنت يا بصري، لئن كنت تظلمه في حياته لقد أنصفته بعد موته.
ومات الكسائي وله من التصانيف: كتاب معاني القرآن. كتاب مختصر في النحو. كتاب القراءات. كتاب العدد. كتاب النوادر الكبير. كتاب النوادر الأوسط.
كتاب النوادر الأصغر. كتاب اختلاف العدد. كتاب الهجاء. كتاب مقطوع القرآن وموصوله. كتاب المصادر. وكتاب الحروف. كتاب أشعار المعاياة وطرائقها. كتاب الهاءات المكني بها في القرآن «1» .
قرأت بخط الأزهري في «كتاب نظم الجمان» للمنذري: أسمعني أبو بكر عن بعض مشايخه أن الكسائي كان يقوم في المحراب يؤمّ فيشتدّ عليه القراءة حتى لا يقوم بقراءة الحمد لله ربّ العالمين، ثم يتحرّف فيقبل عليهم فيملي القرآن حفظا ويفسّره بمعانيه وتفسيره.
[754] علي بن حمزة بن عمارة بن حمزة بن يسار
بن عثمان الأصبهاني، أبو
__________
[754]- ينسب ابن النديم (الفهرست: 182، 190) لمن اسمه علي بن حمزة الأصفهاني أنه عمل ديوان أبي نواس على الحروف وعمل ديوان أبي تمام على غير الحروف، بل على الأنواع، وأخشى أن يكون هنا خلط بين حمزة الأصفهاني ومن اسمه «علي بن حمزة» .(4/1752)
الحسن: وعثمان هذا الذي انتهت نسبة هذا إليه هو والد أبي مسلم الخراساني، ويسار أخوه، قال ذلك حمزة، وقال: كان اسم أبيه قبل أن يسلم بنداذ هرمز، فلما أسلم تسمّى بعثمان، قال: وأبو مسلم اسمه بهزادان بن بنداذ هرمز. وعلي بن حمزة هذا من أولاد أخيه يسار، وكان أحد أدباء أصبهان المشهورين بالعلم والشعر والفضل والتصنيف شائع ذلك ذائع عنه. وصنف كتبا منها: كتاب الشعر. وكتاب فقر البلغاء يشتمل على الاختيار من شعر عامة الشعراء. وكتاب قلائد الشرف في مفاخر أصبهان وأخبارها وغير ذلك.
قال حمزة في مقدمة كتابه: «وقد كان رجل من كبار أهل الأدب ببلدنا تعاطى عمل كتاب في هذا الفن، وهو أبو الحسن علي بن حمزة بن عمارة، وسمّاه «قلائد الشرف» فشحنه بأخبار الفرس في السير والأبيات، نبذ بينهما جملا من أخبار أصبهان تنقص عن السدس من كتابه، وحجمها يكون دون ثلاثين ورقة، وروى فيما بينها أخبارا كأنها من أحاديث الحكم» . ومن شعر علي بن حمزة يرثي أبا مسلم محمد بن بحر:
وقالوا ألا ترثي ابن بحر محمدا ... فقلت لهم ردّوا فؤادي واسمعوا
فلن يستطيع القول من طار قلبه ... جريحا طريحا بالمصائب يقرع
ومن بان عنه إلفه وخليله ... فليس له إلا إلى البعث مرجع
ومن كان أوفى الأوفياء لمخلص ... ومن حيز في سرباله الفضل أجمع
سجايا كماء المزن شيب به الجنى ... جنى الشهد في صفو المدام يشعشع
وغرب ذكاء واقد مثل جمرة ... وطبع به العضب المهنّد يطبع
ومن كان من بيت الكتابة في الذرى ... وذا منطق في الحفل لا يتتعتع
وله وكتبه إلى أبي نجيح أخي أبي سعد الشاعر:
قد عزمنا على الصّبوح فبادر ... قبل أن تضحي السماء المخيله
فلذا الدجن يا خليلي ذمام ... لم أزل مذ عقلت أمري خليله
وهو يوم أغرّ أبلج يهمي ... بحيا يستمدّ منه سيوله
ودعاني إليه أدهم داج ... قد رحمنا بكاءه وعويله(4/1753)
شبه ليل متى استضيف بليل ... لم يسكّن إلى الصباح صهيله
مطفح مهمر بلوع به يس ... تلب المدقع الضنين صليله
راكب نازل يغطمط وأب ... قد سئمنا ركوبه ونزوله
يطرد الجدب كلما جاش أعطى ... سائليه بضيعه ونشيله
ولدينا من المعسّل شيء ... يفثأ الدهر من فؤادي غليله
فتفضل بما سألت فقدما ... بؤت للخلّ بالأيادي الجليله
ولك الحكم أن تحكّم في الشر ... ب فلا تخف عن قلوب عليله
وفتوّ كأنهم قضب الهن ... د لهم ألسن سلاط طويله
قال المؤلف: ولعلي بن حمزة هذا مفاوضات طوال وجوابات لجماعة من شعراء أصبهان منهم أبو الحسن ابن طباطبا العلوي وغيره لم أذكر منها شيئا لطولها ولقلة فائدتها عندي، فشعره على هذا النمط لا طائل فيه، إلا أنه عند أهل أصبهان جليل نبيل.
[755] علي بن حمزة البصري اللغوي،
يكنى أبا النعيم «1» : كان أحد أعيان أهل اللغة الفضلاء المتحققين بها العارفين بصحيحها من سقيمها، وله ردود على جماعة من أئمة أهل اللغة كابن دريد والأصمعي وابن الأعرابي وغيرهم، ولما ورد المتنبي إلى بغداد كان بها وفي داره نزل.
قال أبو علي الحسن بن يحيى الفقيه الصقلي يعرف بابن الخزاز «2» في «تاريخ صقلية» من تصنيفه: وفي رمضان سنة خمس وسبعين وثلاثمائة مات علي بن حمزة
__________
[755]- ترجمة علي بن حمزة البصري في بغية الوعاة 2: 165.(4/1754)
اللغوي البصري راوية المتنبي بصقلية، وصلّى عليه القاضي إبراهيم بن مالك قاضي صقلية وكبر خمسا في الجامع.
وله من التصانيف: كتاب الردّ على أبي زياد الكلابي. كتاب الردّ على أبي عمرو الشيباني في «نوادره» . كتاب الردّ على أبي حنيفة الدينوري في «كتاب النبات» . كتاب الرد على أبي عبيد القاسم بن سلام في «المصنف» . كتاب الرد على ابن السكيت في «إصلاح المنطق» . كتاب الرد على ابن ولاد في «المقصور والممدود» . كتاب الردّ على الجاحظ في «الحيوان» . كتاب الرد على ثعلب في «الفصيح» . ورأيت هذه كلها بمصر «1» ..
[755 ب] ترجمة ثانية علي بن حمزة البصري اللغوي
أحد الأعلام الأئمة في الأدب، وله تصانيف وردود على أهل الأدب وفّق فيها، وقد روى عنه أبو الفتح ابن جني شيئا من أخبار المتنبي وغيرها لأنّ المتنبي لما ورد بغداد نزل عليه وكان ضيفه إلى أن رحل عنها.
فحدث أبو عبد الله محمد بن نصر الحميدي في «كتاب جذوة المقتبس في تاريخ الأندلس» في ترجمة ثابت بن محمد الجرجاني قال: أخبرني أبو محمد علي بن أحمد عن أبي الفتح ثابت بن محمد الجرجاني قال: أخبرني علي بن حمزة ضيف المتنبي قال- وعنده نزل المتنبي ببغداد- إنّ القصيدة التي أولها:
هذي برزت لنا فهجت رسيسا
قالها في محمد بن زريق الناظر في زواميل ابن الزيات صاحب طرسوس، وأنه وصله عليها بعشرة دراهم، فقيل له: إن شعره حسن، فقال: ما أدري أحسن هو أم قبيح، ولكن أزيده لقولك عشرة دراهم فكانت صلته عليها عشرين درهما.
__________
[755] ب- جذوة المقتبس: 173- 174 ولم ترد الترجمة في ك.(4/1755)
[756] علي بن حمزة الأديب أبو الحسن، مصنف
الرسالة الحمارية: قدم دمشق ومدح بها أبا الفتح صالح بن أسد الكاتب في سنة ثلاثين وأربعمائة، روى عنه أبو الحسن علي بن عبد السلام الصوري ومات بأطرابلس، ذكره ابن عساكر هكذا.
[757] علي بن حمزة بن علي بن طلحة بن علي
الرازي الأصل البغدادي المولد والدار، ويعرف بابن بقشلان: مات بمصر، أخبرني الحافظ أبو عبد الله محب الدين محمد بن النجار أن علي بن حمزة بن طلحة مات في غرة شعبان سنة تسع وتسعين وخمسمائة ومولده سنة خمس عشرة وخمسمائة، ويكنى أبا الحسين، ويلقب بعلم الدين: ولي حجبة الباب في أيام المستضيء بالله ثم نيابة المقام ببغداد فسافر إلى الشام، وتنقل إلى أن حصل بمصر فمات بها.
وعلم الدين هذا هو صاحب الخط المليح الغاية، على طريقة علي بن هلال بن البواب، خصوصا قلم المصاحف فإنه لم يكتبه أحد مثله فيمن تقدم وتأخر، ولذلك ذكرناه في هذا الكتاب.
ولما ولي حجبة الباب كان يتقعر في كلامه ويستعمل السجع وحوشيّ اللغة، فمن ذلك ما حدثني به جماعة من أهل بغداد إلا أنني كتبته من لفظ الصدر أبي محمد عبد الله بن الهروي الشاعر قال: لما ولي علم الدين حجبة باب النوبيّ حظر على العامة سماع الملاهي وشرب الخمر وارتكاب الفواحش، وتشدّد في ذلك تشددا عظيما، وأراد بعض العامة المثرين ختان ولد له فاستشفع إليه بمن يعزّ عليه في أن يمكّنه من إحضار بعض الملاهي لذلك، فأذن فيه ثم قال: جيئوني به أشرط عليه، فلما مثل بين يديه قال له: قد أذن لك في ختان ولدك على أن لا يكون عندك مزهر ولا مزمر ولا بربط ولا دف ولا طنبور، ولا عود ولا محظور، ولا الشيء الملقب بالشنك، ولا من
__________
[756]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 12: 73.
[757]- ترجمة والده حمزة بن علي في المنتظم 10: 202 ومرآة الزمان: 236- 237.(4/1756)
يجول الغناء له ببال ولا يخطر في خيال، فقال له العاميّ: فيأذن لي مولانا أن أحضر وريدة المخنث يلطم عندي دورين ثلاثة؟ قال: فغضب ابن طلحة وقال له: كأنك من الذين تشرئبّ نفوسهم إلى ما حرم الله، أيها العوام الجهلة، والوضعاء السفلة، يا أهالي الجهل والغواية، ويا أصحاب الضلالة والعماية، أما فيكم من له عقل يردّه، ولا دين يصدّه، فينبذ الآثام وراء ظهره، ويسعى إلى الخير بانشراح صدره، تتهافتون على الفواحش والمآثم، ولا تأخذكم في المعصية لومة لائم، بدّلني الله بكم غيركم، وكفاني شركم وخيركم، فقال الرجل: الله أكبر، يريد تكبيرة الصلاة، فقال ابن طلحة: وهذا أيضا من جهلك، وقلة معرفتك وعقلك، ارجع إلى الله بقلبك، واستغفر لذنبك، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان أبوه حمزة بن علي هو الملقب بكمال الدين، ويكنى أبا الفتوح، من الأعيان الأماثل، ولي حجبة الباب للمسترشد ووكله وكالة مطلقة، فلما استخلف المقتفي لأمر الله ولاه صدرية المخزن، وأكثر الحج وجاور بمكة، وهو الذي عمر المدرسة التي بباب العامة لأصحاب الشافعي، تعرف إلى الآن بالكمالية، ووقف على المتفقهين بها ثلث ملكه، ومات في صفر سنة ست وخمسين وخمسمائة ودفن بالحربية.
[758] علي بن خليفة بن علي النحوي،
يعرف بابن المنقّى، أبو الحسن، من أهل الموصل: كان إماما فاضلا تأدّب عليه أكثر أهل عصره من أهل بلده، ومات في ربيع الأول سنة اثنتين وستين وخمسمائة، وكان يجلس بالمسجد المعروف بمسجد النبي صلّى الله عليه وسلّم بالموصل. وصنف مقدمة في النحو سماها «المعونة» وكان زاهدا ورعا مقداما ذا سورة وغضب.
أنشدني أبو الفضل محمد بن أحمد بن خميس المغربي الوكيل بباب القاضي بحلب، وهو موصليّ المولد مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وعشرين وستمائة
__________
[758]- بغية الوعاة 2: 165.(4/1757)
قال: أنشدني ابن المنقى النحوي الموصلي لنفسه، ودخل إليه رجل فقال له: من أين جئت؟ فقال له: من عند علّامة الدنيا، يعني سعيد بن الدهان، فقال ارتجالا:
وقالوا الأعور الدهان حبر ... يفوق الناس في أدب وكيس
فقلت بحيس خير منه علما ... وإنّ الكلب خير من بحيس
وأنشدني، قال أنشدني ابن المنقى لنفسه، وقد طلب منه ملك النحاة حلاوة بعد كلام جرى بينهما في مجلس تاج الدين ابن الشهرزوري:
عندي للشيخ مليك النحاه ... ريح شناج «1» سكنت في خصاه
لا عسل عندي ولا سكّر ... فليعذر الشيخ ويأكل خراه
وأنشدني بزان بن سنقر الموصلي، قال أنشدني شيخنا أبو عبد الله الحسين بن علي بن خليفة النحوي الأديب، ومات بباشزّي «2» من قرى البقعاء في سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، قال أنشدني والدي علي بن خليفة بن المنقى رحمه الله لنفسه، وقد عتب عليه جمال الدين الأصفهاني الوزير في ترك التردد «3» إليه، ثم جاءه بعد ذلك فمنعه البواب من غير أن يعرفه:
إني أتيتك زائرا ومسلّما ... كيما أقوم ببعض حقّ الواجب
فإذا ببابك حاجب متبظرم ... فعمود دارك في حر امّ الحاجب
ولئن رأيتك راضيا بفعاله ... فجميع ذلك في حرّ امّ الصاحب
وأنشدني بزان، قال أنشدني الحسين بن علي، قال أنشدني «4» والدي لنفسه في بعض الشعراء وقد هجاه:
هجوت يا ابن اللئام فاستمع ال ... هجو بلا خيفة ولا ملل
فأنت من معشر إذا لحظوا ... تنحس منهم محاجر المقل(4/1758)
[759] علي بن دبيس النحوي الموصلي أبو الحسن «1» :
قرأ النحو على ابن وحشيّ «2» صاحب ابن جني وأخذ عنه زيد مرزكّة الموصلي، وهو مذكور في بابه.
ولعلي بن دبيس أشعار حسان منها في وصف قواد:
يسهّل كلّ ممتنع شديد ... ويأتي بالمراد على اقتصاد
فلو كلّفته تحصيل طيف ال ... خيال ضحى لزار بلا رقاد.
[760] علي بن زيد القاشاني النحوي:
أحد أصحاب أبي الفتح ابن جني: وجدت بخطه ما كتبه في سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وهو صاحب الخطّ الكثير الضبط المعقّد، سلك فيه طريقة شيخه أبي الفتح.
[761] علي بن زيد أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي:
مات في سنة خمس وستين
__________
[759]- إنباه الرواة 2: 275 وبغية الوعاة 2: 166.
[760]- بغية الوعاة 2: 167، وجاءت نسبته في ك «القاساني» بالسين المهملة، والنسبتان مستعملتان لبلدين مختلفين.
[761]- هو صاحب تتمة صوان الحكمة الذي نشر أيضا بعنوان «تاريخ حكماء الإسلام» وللكتاب ترجمة فارسية تمت حوالي 730 وقد تمّ نشر التتمة ومعها النص الفارسي بلاهور على يد محمد شفيع (1935) وكتابه تاريخ بيهق- بالفارسية- موجود بالمتحف البريطاني كما أن كتابه جوامع الأحكام موجود بمكتبة جامعة كيمبردج، انظر الموسوعة الإسلامية (ط/ 2) 1131- 1132 وبروكلمان، التاريخ 1: 324 والتكملة 1: 557 وترجمته هنا هي معتمد كل من ترجم له، فهي بقلمه ضمن كتابه مشارب التجارب.(4/1759)
وخمسمائة؛ قال هو في «كتاب مشارب التجارب» : أنا أبو الحسن علي بن الإمام أبي القاسم زيد بن الحاكم الامام أميرك محمد بن الحاكم أبي علي الحسين بن أبي سليمان الامام فندق ابن الامام أيوب بن الحسن بن أحمد بن عبد الرحمن بن عبيد الله بن عمر بن الحسن بن عثمان بن أيوب بن خزيمة بن عمرو بن خزيمة بن ثابت بن ذي الشهادتين صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ابن الفاكه بن ثعلبة بن ساعدة بن عامر بن عنان بن عامر بن خطمة بن جشم بن مالك بن الأوس، ورفع نسبه إلى آدم، وذلك يسير قد ذكرناه في عدة مواضع من كتبنا.
قال: ومولدي يوم السبت سابع عشرين شعبان سنة تسع وتسعين وأربعمائة في قصبة السابزوار من ناحية بيهق، وهي بلدة بناها ساسان بن ساسان بن بابك بن ساسان، فأسلمني أبي بها إلى الكتّاب، ثم رحلنا إلى ناحية ششتمذ من قرى تلك الناحية، ولوالدي بها ضياع، فحفظت في عهد الصبا «كتاب الهادي للشادي» تصنيف الميداني و «كتاب السامي في الأسامي» له و «كتاب المصادر» للقاضي الزوزني و «كتاب غريب القرآن» للعزيزي و «كتاب إصلاح المنطق» و «كتاب المنتحل» للميكالي وأشعار المتنبي والحماسة والسبعيات و «كتاب التلخيص» في النحو ثم بعد ذلك حفظت «كتاب المجمل في اللغة» . وحضرت في شهور سنة أربع عشرة وخمسمائة كتّاب أبي جعفر المقرىء إمام الجامع القديم بنيسابور مصنف «كتاب ينابيع اللغة» وغير ذلك، وحفظت في كتّابه «كتاب تاج المصادر» من تصنيفه وقرأت عليه نحو ابن فضال وفصولا من «كتاب المقتصد» و «الأمثال» لأبي عبيد و «الأمثال» للأمير أبي الفضل الميكالي، ثم حضرت درس الامام صدر الأفاضل أحمد بن محمد الميداني في محرم سنة ست عشرة وخمسمائة وصححت عليه «كتاب السامي في الأسامي» من تصنيفه و «كتاب المصادر» للقاضي و «كتاب المنتحل» و «كتاب غريب الحديث» لأبي عبيد و «كتاب إصلاح المنطق» و «مجمع الأمثال» من تصنيفه و «كتاب صحاح اللغة» للجوهري. وفي أثناء ذلك كنت أختلف إلى الامام إبراهيم الحرار المتكلم وأقتبس منه أنوار علوم الكلام، وإلى الأمام محمد الفراوي وسمعت منه «غريب الحديث» للخطابي وغيرهم. ثم مات والدي في سلخ جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وخمسمائة فانتقلت في ذي الحجة سنة ثمان عشرة إلى مرو، فقرأت(4/1760)
على تاج القضاة أبي سعد يحيى بن عبد الملك بن عبيد الله بن صاعد، وكان ملكا في صورة إنسان، وعلّقت من لفظه كتاب الزكاة والمسائل الخلافية ثم سائر المسائل على غير الترتيب، وخضت في المناظرة والمجادلة سنة جرداء حتى رضيت عن نفسي فيه ورضي عني أستاذي، وكنت أعقد مجلس الوعظ في تلك المدرسة وفي الجامع، ثم انصرفت عن مرو في ربيع الأول سنة إحدى وعشرين وخمسمائة واشتغلت بمرو بتزويج صدّني عن التحصيل صدّا، وعدت إلى نيسابور، ثم عدت إلى مسقط الرأس وزيارة الوالدة ببيهق، وأقمت بها ثلاثة أشهر، وذلك في سنة إحدى وعشرين، ورجعت إلى نيسابور ثم رجعت إلى بيهق، واتفقت بيني وبين الأجلّ شهاب الدين محمد بن مسعود المختار والي الري ثم مشرف المملكة مصاهرة، وصرت مشدودا بوثاق الأهل والأولاد سنين، وفوّض إليّ قضاء بيهق في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وخمسمائة، فبخلت بزماني وعمري على إنفاقه في مثل هذه الأمور التي قصاراها ما قال شريح القاضي «أصبحت ونصف الناس عليّ غضبان» ، فضقت ذرعا ولم أجد بدّا من الانتقال حتى يتقلّص عنّي ظلّ ذلك الأمر، فقصدت كورة الريّ ليلة العيد من شوال سنة ست وعشرين وخمسمائة، والوالي بها شهاب الدين صهري، فتلقاني أكابرها وقضاتها وسائر الأجلّاء، وأقمت بها إلى السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع وعشرين وخمسمائة، وكنت في تلك المدة أنظر في الحساب والجبر والمقابلة وطرفا من الأحكام، فلما رجعت إلى خراسان أتممت تلك الصناعة على الحكيم أستاذ خراسان عثمان بن جاذوكار «1» وحصّلت كتبا من الأحكام، وصرت في تلك الصناعة مشارا إليّ، وانتقلت إلى نيسابور في غرة ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وخمسمائة وكان علم الحكمة عندي غير نضج، وعدت إلى بيهق وفي العين قذى من نقصان الصناعة، فرأيت في المنام سنة ثلاثين قائلا يقول: عليك بقطب الدين محمد المروزي الملقب بالطّبسيّ والنصيري، فمضيت الى سرخس وأقمت عنده وأنفقت ما عندي من الدنانير والدراهم، وعالجت جروح الحرص بتلك المراهم، وعدت إلى نيسابور في السابع والعشرين من شوال سنة اثنتين وثلاثين وأقمت معه بنيسابور حتى أصابه الفلج وذلك في(4/1761)
رجب سنة ست وثلاثين، فعدت إلى بيهق في شعبانها فأزعجني عنها حسد الأقارب، فخرجت منها خائفا أترقب في رمضان سنة سبع وثلاثين إلى نيسابور، فأكرمني أكابرها، فكنت أعقد المجلس في يوم الجمعة بجامع نيسابور القديم، ويوم الأربعاء في مسجد المربّع، ويوم الاثنين في مسجد الحاج، وتفد عليّ وفود إكرام الوزير ملك الوزراء طاهر بن فخر الملك وإكرام أكابر الحضرة، فألقيت العصا بنيسابور، وأقمت بها إلى غرّة رجب سنة تسع وأربعين وخمسمائة، ثم ارتحلت عنها لزيارة والدتي، ومات ولدي أحمد ووالدتي في هذه السنة، وكانت حافظة للقرآن عالمة بوجوه تفاسيره.
وها أنا أذكر تصانيفي في هذه المدة: كتاب أسولة القرآن مع الأجوبة مجلدة.
كتاب إعجاز القرآن مجلدة. كتاب الإفادة في كلمة الشهادة مجلدة. كتاب المختصر من الفرائض مجلدة. كتاب الفرائض بالجدول مجلدة. كتاب أصول الفقه مجلدة.
كتاب قرائن آيات القرآن مجلدة. كتاب معارج نهج البلاغة، وهو شرح الكتاب، مجلدة. كتاب نهج الرشاد في الأصول مجلدة. كتاب كنز الحجج في الأصول مجلدة. كتاب جلاء صدأ الشك في الأصول. كتاب إيضاح البراهين في الأصول مجلدة. كتاب الافادة في إثبات الحشر والاعادة مجلدة. كتاب تحفة السادة مجلدة.
كتاب التحرير في التذكير مجلدتان. كتاب الوقيعة في منكر الشريعة مجلدة. كتاب تنبيه العلماء على تمويه المتشبهين بالعلماء. كتاب أزاهير الرياض المريعة وتفسير ألفاظ المحاورة والشريعة مجلدة. كتاب أشعاره مجلدة. كتاب درر السخاب ودرر السحاب في الرسائل مجلدة. كتاب ملح البلاغة مجلدة. كتاب البلاغة الخفية مجلدة. كتاب طرائق الوسائل إلى حدائق الرسائل مجلدة. كتاب الرسائل بالفارسي مجلدة. كتاب رسائله المتفرقة مجلدة. كتاب عقود اللآلىء مجلدة. كتاب غرر الأمثال مجلدتان. كتاب الانتصار من الأشرار مجلدة. كتاب الاعتبار بالاقبال والادبار مجلدة. كتاب وشاح دمية القصر مجلدة ضخمة. كتاب أسرار الاعتذار مجلدة.
كتاب شرح مشكلات المقامات الحريرية مجلدة. كتاب درة الوشاح، وهو تتمة كتاب الوشاح، مجلدة خفيفة. كتاب العروض مجلدة. كتاب أزهار أشجار الأشعار مجلدة. كتاب عقود المضاحك بالفارسيّ مجلدة. كتاب نصائح الكبراء بالفارسية(4/1762)
مجلدة. كتاب آداب السفر مجلدة. كتاب مجامع الأمثال وبدائع الأقوال أربع مجلدات. كتاب مشارب التجارب أربع مجلدات. كتاب ذخائر الحكم مجلدة.
كتاب شرح الموجز المعجز مجلدة. كتاب أسرار الحكم مجلدة. كتاب عرائس النفائس مجلدة. كتاب أطعمة المرضى مجلدة. كتاب المعالجات الاعتبارية مجلدة. كتاب تتمة صوان الحكمة مجلدة. كتاب السموم مجلدة. كتاب في الحساب مجلدة. كتاب خلاصة الزيجة مجلدة. كتاب أسامي الأدوية وخواصها ومنافعها مجلدة، وهو معنون بتفاسير العقاقير مجلدة ضخمة. كتاب جوامع الأحكام ثلاث مجلدات. كتاب أمثلة الأعمال النجومية مجلدة. كتاب في مؤامرات الأعمال النجومية مجلدة. كتاب غرر الأقيسة مجلدة. كتاب معرفة ذات الحلق والكرة والاصطرلاب مجلدة. كتاب أحكام القرانات مجلدة. كتاب ربيع العارفين مجلدة.
كتاب رياحين العقول مجلدة. كتاب الاراحة عن شدائد المساحة مجلدة. كتاب حصص الأصفياء في قصص الأنبياء على طريق البلغاء بالفارسية مجلدتان. كتاب المشتهر في نقض المعتبر الذي صنفه الحكيم أبو البركات مجلدة. كتاب بساتين الأنس ودساتين الحدس في براهين النفس مجلدة. كتاب مناهج الدرجات في شرح كتاب النجاة ثلاث مجلدات. كتاب الامارات في شرح الاشارات. كتاب قضايا التشبيهات على خفايا المختلطات بالجداول مجلدة. كتاب شرح رسالة الطر مجلدة.
كتاب شرح الحماسة مجلدة. كتاب الرسالة العطارة في مدح بني الزبارة «1» . كتاب تعليقات فصول بقراط. كتاب شرح شعر البحتري وأبي تمام مجلدة. كتاب شرح شهاب الأخبار مجلدة.
قال المؤلف: هذا ما ذكره في «كتاب مشارب التجارب» . ووجدت له كتاب تاريخ بيهق بالفارسية. وكتاب لباب الأنساب.
قال المؤلف: ووقفت بنيسابور عند أول ورودي إليها في ذي القعدة سنة ثلاث عشرة وستمائة على «كتاب وشاح الدمية» فقال فيه: إن أبا القاسم الباخرزي فرغ من(4/1763)
تصنيف «كتاب دمية القصر» في جمادى الآخرة سنة ست وستين وأربعمائة، وانه هو بدأ بتصنيف الوشاح في غرة جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وفرغ منه في رمضان سنة خمس وثلاثين. وأنشد لنفسه في «كتاب الوشاح» أشعارا، منها في مخلص الدين أبي الفضل محمد بن عاصم كاتب الإنشاء في ديوان السلطان سنجر، قال: وهو ابن أخت أبي إسماعيل الطغرائي «1» :
كريم على أوج النجوم علاه ... وأيقظ نوّام المديح نداه «2»
سرى واهتدى طبعي بنجم كماله ... وأحمد في وقت الصباح سراه
له روضة أبدت من الفضل نرجسا ... وغصنا من الإقبال طاب جناه
أعاد رضاع القلب في رحل ورده ... وغادر في قلبي ضواع هواه
تفرّق أشجان الأفاضل يمنة ... ويجمع كلّ الصيد جوف فراه
لقد زرت أشراف الزمان وإنما ... أبى الفضل إلّا أن أزور فناه
وذكره العماد الأصفهاني في «كتاب الخريدة» ووصفه بالرياسة والشرف وقال:
حدثني والدي أنه لما مضى إلى الري عقيب النكبة أصبح ذات يوم وشرف الدين البيهقي قد قصده في مركبه، وهو حينئذ والي الريّ، ونقله إلى منزله، وتكفل بتسديد خلله، وكان حينئذ يترشّح لوزارة السلطان، وهو كبير الشان، وما زالا بالريّ مقيمين متوانسين، حتى فرّق بينهما محتوم البين، وذلك في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
قال: وأظنه نكب في وقعة السلطان سنجر مع الكفار الخطائية، وكان والدي يثني عليه أبدا ويقول: إنه ما نظر إلى نظيره ولا مثلت لعينه عين مثله. صنف «كتاب وشاح الدمية» ذيّله على كتاب أبي الحسن الباخرزي، وهو موجود بخراسان، وأورد فيه لنفسه:
تراجعت الأمور على قفاها ... كما يتراجع البغل الرّموح
وتستبق الحوادث مقدمات ... كما يتقدّم الكبش النطوح(4/1764)
وقوله:
تشير بأطراف لطاف كأنها ... أنابيب مسك أو أساريع مندل
وتومي بلحظ فاتر الطرف فاتن ... بمرود سحر بابليّ مكحّل
ينمّ على ما بيننا من تجاذب ... نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
وله:
يا خالق العرش حملت الورى «1» ... لما طغى الماء على جاريه
وعبدك الآن طغى ماؤه ... في الصّلب فاحمله على جاريه
قال المؤلف: هكذا ذكر العماد في كتابه، وإذا عارضت قوله بما ذكره البيهقي عن نفسه في كتابه الذي نقلت لفظه منه من خطّه وجدت فيه اختلافا في التاريخ وغيره، والله أعلم.
ومن شعر أبي الحسن البيهقي الذي أورده لنفسه في «كتاب الوشاح» في عزيز الدين أبي الفتوح علي بن فضل الله المستوفي الطغرائي «2» ونقلته من خطه:
شموسي في أفق الحياة هلال ... وأمني من صرف الزمان محال
وأطلب والمطلوب عزّ وجوده ... وأرجو وتحقيق الرجاء محال
إلى كم أرجّي من زماني مسرّة ... وقد شاب من رأس [الزمان] قذال «3»
وبال على الطاووس ألوان ريشه ... وعلم الفتى حقا عليه وبال
وللدهر تفريق الأحبة عادة ... وللجهل داء في الطباع عضال
لقد ساد بالمال المصون معاشر ... وأخلاقهم للمخزيات عيال
وبينهم ذلّ المطامع عزة ... وعندهم كسب الحرام حلال
وله:
ضجيعي في ليلي جوى ونحيب ... وإلفي في نومي ضنا ولغوب(4/1765)
دجا ليل آمالي وأبطأ صبحه ... وللمنذرات السود فيه نعيب
وتلسعني الأيام فهي أراقم ... وتخدعني الآمال فهي كذوب
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... وباعي في ظلّ الوصال رحيب
خليلي لا تركن إلى الدهر آمنا ... فاحسانه بالسيئات مشوب
وكم جاهل قد قال لي أنت ناقص ... فهيّج ليث الحقد وهو غضوب
وعيّرني بالعلم والحلم والنهى ... قبائل من أهل الهوى وشعوب
فقلت لهم لا تعذلوني فانني ... لصفو زجاجات العلوم شروب
وما ضرّني أني عليم بمشكل ... وقد مسّ أهل الدهر منه لغوب
لئن عدّ علم المرء جرما لديكم ... فذلك جرم لست منه أتوب
كفى حزنا أني مقيم ببلدة ... بها صاحب العلم الرصين غريب
وذكر أيضا في هذا الكتاب قال: دخلت على الأمير يعقوب بن إسحاق المظفر بن نظام الملك فأكرمني وقابلني بالتعظيم والتفخيم، فقلت بديهة:
يعقوب يظهر دائما في لفظه ... عسلا لديه نظمه يعسوبه
وغدا بحمد الله صدرا مكرما ... يعلو نطاق المشتري عرقوبه
فسقى أنامله حدائق لفظه ... وجرى على نهج العلا يعبوبه
قد غاب يوسف خاطري عن مصره ... ويشمّ ريح قميصه يعقوبه
فأشار إليّ وقال: هل لك أن تنسج على منوالي في ما قلت، فأنشدني لنفسه:
أعاذل مهلا ليس عذلك ينفع ... وقولك فينا دائما ليس ينجع
وهل يصبر الصبّ المشوق على الجوى ... وفي الوصل مشتاق وفي الهجر مجزع
يقولون إن الهجر يشفي من الجوى ... وإنّ فؤاد الصبّ في القرب أجزع
بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا ... ألا إن قرب الدار أجدى وأنفع
تحنّ إلى ظلّ من العيش وارف ... وعهد مضى منه مصيف ومربع
فقلت: أيها الصدر ليس للخلّ حلاوة العسل، وللتكحّل طلاوة الكحل، ومن أين للسراج نور الشمس، وللكودن سبق الخيل الشّمس، ومن أين للضباب منفعة(4/1766)
السحاب. فقال: لا بد من ذلك، فجمعت العجالة والبداهة هنالك، وقلت في الحال في مقام الارتحال، وكتبت بقلم الارتجال على قرطاس الاستعجال:
سرى طيفه وهنا ولي فيه مطمع ... وبرق الأماني في دجى الهجر يلمع
ويأبى حقين الهجر عذرة طيفه ... فلم أدر في مهوى الهوى كيف أصنع
لقد يحمد القوم السّرى في صباحهم ... زمان تلاق عنده الشمل يجمع
وها أنا أسري في ظلامي وإنني ... أذمّ صباحي والخلائق هجّع
أقول لصبري أنت ذخري لدى النوى ... وذخر الفتى حقا شفيع مشفّع
وأسكن ماء العين ناري وإنما ... هواء الهوى من تربة الطيف أنقع
رأيت معيديّ الخيال فقال من ... جهينة أخبار المعيديّ تسمع
دعوت إلى حيس الهوى جندب الهوى ... فولّى وطرف العين في النوم يرتع «1»
وقال لنفسي لا تموتي صبابة ... لعلّ زمانا قد مضى لك يرجع
ولم يبق مني غير ما قلت منشدا ... «حشاشة نفس ودّعت يوم ودّعوا» «2»
فلاذ بشمس الدين يعقوب من له ... نجوم لها في مشرق المجد مطلع
أجلّك يا يعقوب عن كنه مدحتي ... لأنك عن مدحي أجلّ وأرفع
ثم قال: شرفني بعد ذلك بقصيدة أولها:
ألا أبلغ إلى سلمى السلاما
فأجبت، وقلت بعد الجواب علاوة للتصديع والابرام، على طريق أداء شكر النعم، اللائق بأحوال الخدم:
يا صاحبي كسدت أسواق أشواقي ... والتفّت الساق يوم الهجر بالساق(4/1767)
يا ليت شعري هل سعد يساعدني ... أم هل لداء الهوى في الناس من راق
أم هل سبيل إلى سلوان مكتئب ... أم هل طريق إلى إيناس مشتاق
يا نجل إسحاق يا من ثوب سؤدده ... قد جلّ في الدهر عن وهي وإسحاق
فما تمهلت في يومي وغى وندى ... إلا قضيت بآجال وأرزاق
وكلّ ذكر وإن طال الزمان به ... فان وذكرك في نادي الندى باق.
[762] علي بن سليمان الأديب البغدادي، أبو الحسن:
أحد الفضلاء المبرزين والظراف المشهورين. قرأت بخط أبي سعد قال: ذكر أبو المظفر محمد بن العباس الأبيوردي في «كتاب تعلّة المشتاق» من تصنيفه قال فيه: وقد صممت العزم على معاودة الحضرة الرضوية بخراسان لأنهي إليها ما قاسيته في التأخر عن الخدمة، وعلم الأديب أبو الحسن علي بن سليمان صرّيّ عزمي، فجشم إليّ قدمه، وجرى على عادته الرضية في رعاية جانبي تمهيدا لما استمرّ بيننا من أواصر المودة، ولعمر الفضل إني لم أجد في غربتي هذه فاضلا يباريه ولا ظريفا يجاريه، ومن وصف البغداديّ بالفضل والظرف فقد كساه الثناء المختصر، وحمل التمر إلى هجر. ومن مليح ما أسمعنيه أنه قال: سألنا أبا القاسم عبد العزيز بن أحمد بن ناقيا البغدادي (قلت:
هكذا قال عبد العزيز وصوابه عبد الله ذكرناه في بابه من هذا الكتاب) عن المتنبي وابن نباتة والرضي فقال: إن مثلهم عندي مثل رجل بنى أبنية شاهقة وقصورا عالية وهو المتنبي، فجاء آخر وضرب حولها سرادقات وخيما وهو ابن نباتة، ثم جاء الرضي ينزل تارة عند هذا وتارة عند ذاك، فأنشدني قال أنشدني أسبهدوست بن محمد بن أسفار الديلمي قال: أنشدني أبو الفرج الببغا لنفسه «1» :
أشقيتني فرضيت أن أشقى ... وملكتني فقتلتني عشقا
__________
[762]- لم أعثر على ترجمة له.(4/1768)
وزعمت أنك لا تكلّمني ... عشرا فمن لك أنني أبقى
ليس الذي تبغيه من تلفي ... متعذرا فاستعمل الرفقا
قال الأبيوردي: وبهذا الاسناد قال أنشدني ابن الحجاج لنفسه:
يا صروف الدهر حسبي ... أيّ ذنب كان ذنبي
علّة عمّت وخصّت ... لحبيب ومحبّ
أنا أشكو حرّ حبّ ... وهو يشكو حرّ حبّ
قال الأبيوردي: فقل في محبوب جرب وعاشق طرب.
[763] علي بن سليمان، يلقب حيدة اليمني النحوي التميمي:
كان من وجوه أهل اليمن وأعيانهم علما ونحوا وشعرا، وصنّف كتبا منها كتاب في النحو سماه «كشف المشكل» في مجلدين وقال فيه يمدحه:
صنفت للمتأدّبين مصنفا ... سميته بكتاب كشف المشكل
سبق الأوائل مع تأخّر عصره ... كم آخر أزرى بفضل الأوّل
قيّدت فيه كلّ ما قد أرسلوا ... ليس المقيد كالكلام المرسل
ومولده ببلاد بكيل من أعمال ذمار ومات سنة تسع وتسعين وخمسمائة، ومن شعره يحصر جمع التكسير:
سألت عن التكسير فاعلم بأنها ... ثمانية أوزان جمع المكسّر
فأربعة أوزان كلّ مقلّل ... وأربعة أوزان كلّ مكثّر
فعال وأفعال وفعل وأفعل ... وأفعلة منها وفعلان فانظر
ومنها فعول يا أخيّ وفعلة ... وتمثيلها إن كنت لما تصوّر
__________
[763]- قال ياقوت في مادة (بكيل) من معجم البلدان: وينسب إلى هذا المخلاف الأديب علي بن سليمان الملقب «بحيدرة» [كذا] له تصانيف في النحو والأدب، عصريّ، مات في سنة 599، وانظر ترجمته في بغية الوعاة 2: 168 وفيه لقبه «حيدة» (والنقل عن ياقوت) . ومن اللافت للنظر أن يكون يمنيا تميميا.(4/1769)
جمال وأفراس وأسد وأكبش ... وأكسية حمر لفتيان حمير
أتونا عشاء في ربوع لفتية ... من التغلبيين الكرام ويشكر
وكلّ خماسيّ إذا ما جمعته ... فآخره فاحذف ولا تتعثر
فتجمع قرطعبا قراطع سالكا ... به مسلك الجمع الرباعي المكثّر
قلت أنا: هذا عجب ممن صنّف كتابا كبيرا في النحو يقول: جمع المكثر أربعة أوزان وهي على نحو من خمسين وزنا.
[764] علي بن سليمان بن الفضل الأخفش أبو الحسن،
وهو الأخفش الصغير، وهناك الأخفش الأكبر وهو أبو الخطاب عبد الحميد، وقد ذكر، والأوسط وهو أبو الحسن سعيد بن مسعدة وقد مرّ في بابه، وهناك أخفش آخر وهو عبد العزيز بن أحمد المغربي الأندلسي، وقد ذكر في بابه أيضا «1» ، وغيرهم.
ومات علي بن سليمان هذا في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائة ودفن بمقبرة قنطرة البردان، ذكر ذلك المرزباني، قال المرزباني في «كتاب المقتبس» : ذكر جماعة لقيناهم من النحويين وأهل اللغة منهم علي بن سليمان بن الفضل الأخفش، ولم يكن بالمتسع في الرواية للأخبار والعلم بالنحو، وما علمته صنّف شيئا البتة ولا قال شعرا، وكان إذا سئل عن مسائل النحو ضجر وانتهر كثيرا ممن يواصل مساءلته ويتابعها، ثم ذكر وفاته كما تقدم قال: وشهدته يوما وصار إليه رجل من حلوان كان يلزمه فحين رأه قال له:
__________
[764]- ترجمة الأخفش الصغير في طبقات الزبيدي: 115 والفهرست: 91 ونور القبس: 341 وتاريخ أبي المحاسن: 45 وتاريخ بغداد 11: 433 وفهرسة ابن خير (صفحات متفرقة) ونزهة الألباء: 248 والمنتظم 6: 214 وإنباه الرواة 2: 276 وابن خلكان 3: 301 وسير الذهبي 14: 480 وعبر الذهبي 2: 162 ومرآة الجنان 2: 267 والبداية والنهاية 11: 157 والبلغة: 158 والنجوم الزاهرة 2: 167 والشذرات 2: 270 وبغية الوعاة 2: 167 واشارة التعيين: 219.(4/1770)
حياك ربّك أيها الحلواني ... وكفاك ما يأتي من الأزمان
ثم التفت إلينا وقال: ما نحسن من الشعر إلا هذا وما جرى مجراه، هكذا ذكر أبو عبيد الله وهو تلميذه وصاحبه.
وقال الجوهري: الأجلع الذي لا تنضمّ شفتاه على أسنانه، وكان الأخفش الأصغر النحويّ أجلع «1» .
ووجدت في «كتاب فهرست النديم» بخط مؤلفه، وذكر الأخفش هذا فقال: له من التصانيف كتاب الأنواء. وكتاب التثنية والجمع. وكتاب شرح سيبويه- حدثني الصاحب الوزير جلال الدين القاضي الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف القفطي أدام الله أيامه أنه ملكه في خمسة أجلاد- وكتاب تفسير رسالة كتاب سيبويه، رأيته في نحو خمس كراريس. وكتاب الحداد. ووجدت أهل مصر ينسبون إليه كتابا في النحو هذبه أحمد بن جعفر الدينوري وسمّاه «المهذب» .
وحدث أبو عبيد الله: حضرت يوما أبا الحسن الأخفش ودفع كتابا إلى بعض من كان في مجلسه ليكتب عليه اسمه فقال له أبو الحسن خفّش خفّش، يريد اكتب الأخفش، ثم قال: أنشدنا أبو العباس المبرد «2» :
لا تكرهن لقبا شهرت به ... فلربّ محظوظ من اللقب
قد كان لقّب مرّة رجل ... بالوائليّ فعدّ في العرب
قال الأخفش: دعاني سوّار بن أبي شراعة فتأخرت عنه فكتب إليّ:
مضى النور واستبهم الأغطش ... وأخلفني وعده الأخفش
وحال وحالت به شيمة ... كما حال عن لونه البرقش
أبا حسن كنت لي مألفا ... فما لك عن دعوتي تطرش
وكنت لأعدائك الشانئيك ... سماما كما نفث الأرقش
وكنت بقربك في روضة ... فها أنا والبلد المعطش(4/1771)
إذا قلت قرطست في صاحب ... نزعت كما ينزع المرعش
وسيّان عندي من عقّني ... عقوقك والحية الحربش «1»
أقول وما حلت عن عهده ... رأيتك كالناس إذ فتّشوا
وحدث [ ... ] قال: كان ابن الرومي كثير الهجاء للأخفش، وذاك أن ابن الرومي كان كثير الطيرة، وكان الأخفش كثير المزاح، وكان يباكره قبل كلّ أحد، فيطرق الباب على ابن الرومي فيقول: من بالباب؟ فيقول الأخفش: حرب بن مقاتل، وما أشبه ذلك، فقال ابن الرومي يهجوه ويتهدده «2» :
قولوا لنحويّنا أبي حسن ... إني حسام متى ضربت مضى
لا تحسبنّ الهجاء يحفل بال ... رفع ولا خفض خافض خفضا
كأنني بالشقيّ معتذرا ... إذا القوافي أذقنه مضضا
ينشدني العهد يوم ذاك ولل ... عهد خضاب أزاله فنضا
قال المرزباني: فحدثني المظفر بن يحيى قال حدثني أبو عبيد الله النحوي أن الأخفش قال يوما لابن الرومي: إنما كنت تدّعي هجاء مثقال، فلما مات مثقال انقطع هجاؤك، قال: فاختر عليّ قافية أهجوك، قال: على رويّ قصيدة دعبل الشينية، فقال قصيدته التي يهجوه فيها ويجوّد حتى لا يقدر أحد أن يدفعه عن ذلك ويفحش حتى يفرط، أولها «3» :
ألا قل لنحويّك الأخفش ... أنست فأقصر ولا توحش
وما كنت عن غيّة مقصرا ... وأشلاء أمك لم تنبش
قال فيها:
أما والقريض ونقاده ... ونجشك فيه مع النّجّش
ودعواك عرفان نقّاده ... بفضل النقيّ على الأنمش(4/1772)
لئن جئت ذا بشر حالك ... لقد جئت ذا نسب أبرش
وما واحد جاء من أمه ... بأعجب من ناقد أخفش
كأنّ سنا الشتم في عرضه ... سنا الفجر في السحر الأغبش
أقول وقد جاءني أنّه ... ينوش هجائي مع النوّش
إذا عكس الدهر أحكامه ... سطا أضعف القوم بالأبطش
وما كلّ من أفحشت أمه ... تعرّض للمقذع الأفحش
وهي قصيدة طويلة. ولما سار هجاؤه في الأخفش جمع الأخفش جماعة من الرؤساء، وكان كثير الصديق، فسألوا ابن الرومي أن يكفّ عنه فأجابهم إلى الصفح عنه، وسألوه أن يمدحه بما يزيل عنه عار هجائه فقال فيه «1» :
ذكر الأخفش القديم فقلنا ... إن للأخفش الحديث لفضلا
فإذا ما حكمت والروم قومي ... في كلام معرّب كان عدلا
أنا بين الخصوم فيه غريب ... لا أرى الزور للمحاباة أهلا
ومتى قلت باطلا لم ألقب ... فيلسوفا ولم أسمّ هرقلا
وذكر الزبيدي أن الأخفش كان يتحفّظ هجاء ابن الرومي له ويمليه في جملة ما يملي، فلما رأى ابن الرومي أنه لا يألم لهجائه ترك هجوه.
وكان الأخفش قد قرأ على ثعلب والمبرد وأبي العيناء واليزيدي.
وحدث الأخفش قال «2» : استهدى إبراهيم بن المدبر المبرد جليسا يجمع إلى تأديب ولده الاستمتاع بايناسه ومفاكهته، فندبني إليه وكتب معي: قد أنفذت إليك أعزك الله فلانا وجملة أمره:
إذا زرت الملوك فان حسبي ... شفيعا عندهم أن يخبروني
وقدم الأخفش هذا مصر في سنة سبع وثمانين ومائتين وخرج منها سنة ثلاثمائة إلى حلب مع علي بن أحمد بن بسطام صاحب الخراج فلم يعد إلى مصر.(4/1773)
وحدث الرئيس أبو الحسين هلال «1» بن المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابىء في كتابه «كتاب الوزراء» قال: حكى لي أبو الحسن ثابت بن سنان قال: كان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش يواصل المقام عند أبي علي ابن مقلة ويراعيه أبو علي ويبرّه، فشكا إليه في بعض الأيام الاضافة وسأله أن يكلم أبا الحسن علي بن عيسى، وهو يومئذ وزير، في أمره، وسأله إجراء رزق عليه في جملة من يرتزق من أمثاله، فخاطبه أبو علي في ذلك وعرّفه اختلال حاله وتعذر القوت عليه في أكثر أيامه، وسأل أن يجري عليه رزقا في جملة الفقهاء، فانتهره علي بن عيسى انتهارا شديدا وأجابه جوابا غليظا، وكان ذلك في مجلس حافل ومجمع كامل، فشقّ على أبي علي ما عامله به وقام من مجلسه وقد اسودت الدنيا في عينيه، وصار إلى منزله لائما لنفسه على سؤال علي بن عيسى ما سأله، وحلف أنه يجرد في السعي عليه، ووقف الأخفش على الصورة واغتمّ، وانتهت به الحال إلى أن أكل الشلجم النيّ، فقيل إنه قبض على قلبه فمات فجاءة، وكان موته في شعبان سنة خمس عشرة وثلاثمائة.
[765] علي بن سهل بن العباس، أبو الحسن النيسابوري:
المفسر العالم العابد الديّن، ذكره عبد الغافر في «السياق» وقال: مات في ثالث عشر ذي القعدة سنة إحدى وتسعين وأربعمائة، ووصفه فقال: نشأ في طلب العلم وتبحر في العربية، وكان من تلامذة أبي الحسن الواحدي.
[766] علي بن طاهر بن جعفر، أبو الحسن السلمي النحوي:
نقلت من خط ابن اللبان قال نقلت من خط السمعاني قال: أخبرني أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة
__________
[765]- بغية الوعاة 2: 169.
[766]- إنباه الرواة 2: 283 وبغية الوعاة 2: 170 وينقل ياقوت عن تاريخ دمشق، انظر المصورة 12: 434.(4/1774)
الله الحافظ الدمشقي أنه سمع أبا عبد الله بن سلوان وغيره، وكان ثقة ديّنا، وقل ما يكون النحويّ ديّنا. ذكر ابن الأكفاني أنه مات في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمسمائة.
وذكر الحافظ في «تاريخ دمشق» قال: علي بن طاهر بن جعفر بن عبد الله أبو الحسن القيسي السلمي النحوي، سمع أبا عبد الله ابن سلوان وأبا القاسم ابن الشميشاطي وأبا نصر أحمد بن علي بن الحسن الكفرطابي، وذكر جماعة، قال:
وروى عنه غيث بن علي، وحدثنا عنه الفقيه أبو الحسن السلمي وخالي القاضي أبو المعالي وجميل بن تمام وحفّاظ بن الحسين. وكان ثقة، وكانت له حلقة في الجامع وقف فيها خزانة فيها كتبه. وذكر أبو محمد ابن صابر أنه سأله عن مولده فقال: سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة. ذكر ابن الأكفاني أن أبا الحسن ابن طاهر النحوي مات يوم الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة خمسمائة «1» .
[767] علي بن طلحة بن كردان النحوي أبو القاسم:
قال أبو غالب ابن بشران:
كان ابن كردان يعرف بابن السحناتي «2» ، ولم يبع قطّ السحناة وإنما كان أعداؤه يلقّبونه بذلك فغلب عليه، قال: وهذا الشيخ أول الشيوخ الذين قرأت عليهم الأدب.
قال السلفي الحافظ: سألت خميس بن علي الحوزي عن ابن كردان فقال:
صحب أبا عليّ الفارسي وعلي بن عيسى الرماني، قرأ عليهما كتاب سيبويه، والواسطيون يفضلونه على ابن جني والربعي، صنف كتابا كبيرا في إعراب القرآن، قال لي شيخنا أبو الفتح «3» كان يقارب خمسة عشر مجلدا، ثم بدا له فيه فغسله قبل
__________
[767]- إنباه الرواة 2: 284 وبغية الوعاة 2: 170 وسؤالات الحافظ السلفي: 14 وسير الذهبي 17: 427، وكردان بضم الكاف.(4/1775)
موته، مات سنة أربع وعشرين وأربعمائة. وكان متنزها متصوّنا ركب إليه فخر الملك أبو غالب محمد بن علي بن خلف وزير بهاء الدولة، وهو سلطان الوقت، وبذل له فلم يقبل، وكان قد جرت بينه وبين القاضي أبي تغلب أحمد بن عبيد الله العاقولي صديق الوزير المغربي وخليفة السلطان والحكام على واسط في وقته، وكان معظما مفخما، خصومة، فقال له ابن كردان: إن صلت علينا بمالك صلنا عليك بقناعتنا.
وآخر من حدث عنه أبو المعالي محمد بن عبد السلام بن شانده.
وذكره أبو عبد الله محمد بن سعيد الدبيثي في «نحاة واسط» فقال: علي بن طلحة بن كردان النحوي أبو القاسم الواسطي المولد والدار أخذ النحو عن أبي علي الفارسي وأبي الحسن الرماني وأبي بكر ابن الجراح صاحب ابن الأنباري، قال ابن بشران: هو أول شيخ قرأت عليه، ووصفه بالفضل والمعرفة، وعنه أخذ النحو أبو الفتح محمد بن محمد بن مختار وغيره من الواسطيين. وكان شاعرا ومن شعره في ذم واسط:
سئم الأديب من المقام بواسط ... إنّ الأديب بواسط مهجور
يا بلدة فيها الغنيّ» مكرّم ... والعلم فيها ميّت مقبور
لا جادك الغيث الهطول ولا اختلى ... فيك الربيع ولا علاك حبور
شرّ البلاد أرى فعالك ساترا ... عني الجميل وشرّك المشهور
حدث أبو الجوائز الحسن بن علي بن باري الكاتب الواسطي قال: اجتمع معنا في حلقة شيخنا أبي القاسم علي بن كردان النحوي سيدوك الشاعر «2» ، ونحن في الجامع بواسط بعد صلاة الجمعة، وجرى في عرض المذاكرات ذكر من أحال على قلبه بالعشق، ومن أحال على ناظره به أيضا، ومضت أناشيد في ذلك، فقال أبو طاهر سيدوك: قد حضرني في هذا المعنى شيء وأنشدنا:(4/1776)
يا قلب من هذا حذرت عليكا ... ذق ما جنيت فكم نصحت إليكا
انضج بنارك لا أراحك حرّها ... فلطالما ضاع العتاب لديكا
لما أطعت الطرف ثم عصيتني ... علق الهوى يا قلب من طرفيكا
وسمعنا أذان العصر فقلت لشيخنا: أكتبها قبل إقامة الصلاة أو إذا صلينا؟ قال:
اكتبها ولو أن الإمام على المنبر، وأنشدنا حينئذ لنفسه:
أبصرت في المأتم مقدودة ... تقضي ذماما بتكاليفها
تشير باللطم إلى وجنة ... ضرّجها مبدع تأليفها
إذا تبدّى الصبح من وجهها ... جمّشه ليل تطاريفها
وحدث أبو غالب ابن بشران النحوي قال: أنشدني أبو القاسم علي بن طلحة بن كردان النحوي قال: أنشدني أبو طاهر سيدوك لنفسه، وكان يعرض عليّ شعره، وقد ابتكر معنى غريبا وإن كان اللفظ قريبا:
إن دائي الغداة أبرح داء ... وطبيبي سريرة ما تبوح
يحسبوني إذا تكلمت حيّا ... ربّما طار طائر مذبوح
قال ابن كردان وأنشدني سيدوك أيضا لنفسه «1» :
أستودع الله من بانوا فلا بصري ... مني ولا أذني عندي ولا بصري
عهدي بنا ورداء الوصل يشملنا ... والليل أطوله كاللمح بالبصر
والآن ليلي مذ غابوا فديتهم ... ليل الضرير وصبحي غير منتظر.
[768] علي بن ظافر بن الحسين الأزدي:
وكنية ظافر أبو منصور، وهو مصريّ وزر
__________
[768]- ترجمة ابن ظافر الأزدي في ابن الشعار 4: 404 والفوات 3: 26 والزركشي: 209، وانظر مقدمات كتبه المنشورة وهي: أخبار الدول المنقطعة وبدائع البدائه وغرائب التنبيهات على عجائب التشبيهات.(4/1777)
للملك الأشرف موسى بن الملك العادل أبي بكر ابن أيوب، وكان نعم الرجل، له علوم جمة وفضائل كثيرة، ثم ترك الوزارة وعاد إلى مصر فتوفي بها منتصف شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائة «1» عن ثمان وأربعين سنة، وله من التصانيف، كتاب بدائع البدائه في من قال شعرا على البديهة. وكتاب مكرمات الكتاب. وكتاب أخبار الشجعان. وكتاب من أصيب ممن «2» اسمه علي، وابتدأ بعلي بن أبي طالب عليه السلام. وكتاب الدول المنقطعة. وكتاب التشبيهات. وكتاب أساس السياسة.
وكتاب أخبار السلجوقية.
[769] علي بن العباس النوبختي أبو الحسن:
أحد مشايخ الكتاب وأهل الأدب المشاهير والمروءة، روى من أخبار البحتريّ وابن الرومي قطعة حسنة، ومات سنة تسع وعشرين وثلاثمائة بعد سنّ عالية، وهو القائل لابن عمه أبي سهل إسماعيل بن علي النوبختي وشرب دواء:
يا محيي العارفات والكرم ... وقاتل الحادثات والعدم
كيف رأيت الدواء أعقبك الل ... هـ شفاء به من السقم
لئن تخطت إليك نائبة ... حطّت بقلبي ثقلا من الألم
شربت فيها الدواء مرتجيا ... دفع أذى من عظامك العظم
فالدهر لا بدّ محدث طبعا ... في صفحتي كلّ صارم خذم
__________
[769]- ترجم صاحب الفهرست لعدد من بني نوبخت مثل اسماعيل بن علي والحسن بن موسى: 225 والفضل بن نوبخت: 333.(4/1778)
[770] علي بن عبد الله بن سنان الطوسي
، أبو الحسن التيمي: أحد أعيان علماء الكوفة، أخذ عن ابن الأعرابي، وكان عدوّا لابن السكيت لأنهما أخذا عن نصران الخراساني واختلفا في كتبه بعد موته، مات [ ... ] .
ذكره المرزباني فقال: حدثنا محمد بن يحيى عن إبراهيم بن المعلى الباهلي قال: أكثرت يوما سؤال الطوسي فقال متمثلا:
يسرّ ويعطي كلّ شيء سألته ... ومن يكثر التسآل لا بدّ يحرم
قال ووجه بإنسان في حاجة فقصر فقال:
بخلت وكلفناك ما لم تقم به ... وهل تحمل الفصلان أحمال بزّل
قال محمد بن إسحاق: كان الطوسي راوية لأخبار القبائل وأشعار الفحول، ولقي مشايخ البصريين والكوفيين، قال: ولا مصنّف له.
وكان شاعرا ذكر له المرزباني قوله:
هجم البرد والشتاء ولا أم ... لك إلا رواية العربيه
وقميصا لو هبّت الريح لم يب ... ق على عاتقيّ منه بقيه
ويقلّ الغناء عني فنون ال ... علم إن أعصفت شمال عريه
قال وقال أحمد بن أبي طاهر يرثي الطوسي الرواية بقصيدة طويلة منها:
من عاش لم يخل من همّ ومن حزن ... بين المصائب من دنياه والمحن
والموت قصر امرىء مدّ البقاء له ... فكيف يسكن من عيش إلى سكن
وإنما نحن في الدنيا على سفر ... فراحل خلّف الباقي على الظعن
ولا أرى زمنا أردى أبا حسن ... وخان فيه على حرّ بمؤتمن
__________
[770]- إنباه الرواة 2: 285 وبغية الوعاة 2: 172 والفهرست: 77 وطبقات الزبيدي: 205 ونزهة الألباء:
124 وينقل ياقوت عن المرزباني (المقتبس) ولكن مختصر الكتاب حذف ما يتعلق بالطوسي؛ وذكر القفطي أن الطوسي كان من أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام، وكان من أعلم أصحابه وأكثرهم أخذا عنه.(4/1779)
لقد هوى جبل للمجد لو وزنت ... به الجبال الرواسي الشمّ لم تزن
وأصبح الحبل حبل الدين منتشرا ... وأدرج العلم والطوسيّ في كفن
من لم يكن مثله في سالف الزمن ... ولم يكن مثله في غابر الزمن.
[771] علي بن عبد الله بن علي بن الحسين بن زيد
بن علي بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، أبو القاسم العلوي المعروف بابن الشبيه: سمع محمد بن المظفر، كتب عنه عليّ بن أحمد الحافظ وقال: كان ديّنا حسن الاعتقاد يورّق بأجرة ويأكل من كسب يده ويواسي الفقراء من كسبه. سألته عن مولده فقال: ولدت في ليلة عيد الأضحى سنة ستين وثلاثمائة، ومات في العشر الأول من رجب سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
قال الشريف أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن محمد العلوي العمري النسابة في «كتاب الشافي في النسب» من تصنيفه: ومنهم- يعني من ولد الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام- زيد النسابة الجليل صاحب «كتاب المبسوط» ويلقب الشبيه بن علي بن الحسين بن زيد الشهيد عليه السلام، فمن ولده ببغداد أبو الفضل الحسن صاحب العوجاء، وأخوه أبو القاسم علي الموضح الناسخ، له خط مليح، ابنا أبي محمد عبد الله بن أبي عبد الله الحسين النقيب بن علي بن الحسين بن زيد الشبيه، به يعرفون، له بقية.
وجدت على ظهر ديوان عروة بن الورد بخط ابن الشبيه، وكان الديوان كله بخطه:
ديوان عروة العبسيّ أوضحه ... خطّ امرىء زاده حسنا وتبيينا
نجل الأكارم من آل الشبيه فتى ... بجدّه ختم الله النبينا
صلّى الاله عليه ما دجا غسق ... ويرحم الله عبدا قال آمينا
__________
[771]- انظر عمدة الطالب: 227 وفيه زيد الشيبة (وهو خطأ) .(4/1780)
[772] علي بن عبد الله بن أحمد النيسابوري
المعروف بابن أبي الطيب: مولده بنيسابور، وموطنه قصبة سابزوار، وكان له معرفة تامة بالقرآن وبتفسيره، مات في ثامن شوال سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ودفن في مقبرة سابزوار «1» . وقد عمل أبو القاسم علي بن محمد بن الحسين بن عمرو من دهاقين وميمولان «2» مدرسة باسمه في محلة اسفريس في رمضان سنة عشر وأربعمائة وأثرها إلى الآن باق «3» ، وكان له تلاميذ كثيرة منهم أبو القاسم علي بن محمد بن الحسين «4» بن عمرو وغيره. وله عدة تصانيف في تفسير القرآن المجيد، منها: كتاب التفسير الكبير في ثلاثين مجلّدا. وكتاب التفسير الأوسط أحد عشر مجلّدا. وكتاب التفسير الصغير ثلاث مجلدات. وكان يملي ذلك من حفظه. ولما مات رحمه الله لم يوجد في خزانة كتبه إلا أربع مجلدات أحدها فقهي وآخر أدبي ومجلدان في التاريخ، ودفن في مقبرة سابزوار، وعنده دعوة مستجابة مجربة.
وحمل في سنة أربع عشرة وأربعمائة إلى السلطان محمود بن سبكتكين، فلما دخل عليه جلس بغير إذن، وشرع في رواية خبر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بغير أمر من السلطان، فقال السلطان لغلام: يا غلام ده رأسه، فلكمه على رأسه لكمة كانت سببا إلى قلة سمعه وطرشه، ثم عرف السلطان منزلته من الدين والعلم والنزاهة والورع فاعتذر إليه وأمر له بمال فلم يقبله وقال: لا حاجة لي في المال، فإن استطعت أن تردّ عليّ ما أخذته مني قبلته، وهو سمعي، فقال له السلطان: أيها الرجل إن للملك صولة وهو مفتقر إلى السياسة، ورأيتك قد تعديت الواجب فجرى مني ما جرى، والآن فأحبّ أن تجعلني في حلّ، فقال: الله بيني وبينك بالمرصاد. ثم قال له: إنما أحضرتني
__________
[772]- يعتمد ياقوت في هذه الترجمة على تاريخ بيهق؛ ولم أهتد إلى ترجمته في دمية القصر.(4/1781)
لسماع الوعظ وأخبار الرسول والخشوع لا لإقامة قوانين الملك واستعمال السياسة، فإن ذلك يتعلق بالملوك وأمثالهم لا بالعلماء، فخجل السلطان وجبذ برأسه إليه وعانقه.
ومن كلامه في خطبة كتاب التفسير: الزمان زمان سفهاء السفل، والقرآن قران انقلاب النّحل، والفضل في أبنائه فضول، وطلوع التمييز فيهم أفول، والدين دين، والدنيا عين. وان تحلّى أحدهم بالعلوم، وادعى أنه في الخصوص من العموم، فغايته أن يقرأ القرآن وهو غافل عن معانيه، ويتحلّى بالفضل وهو لا يدانيه، ويجمع الأحاديث والأخبار، وهو فيها مثل الحمار يحمل الأسفار.
وله ديوان شعر، ومن شعره في «دمية القصر» «1» :
فلك الأفاضل أرض نيسابور ... مرسى الأنام وليس مرسى بور
دعيت أبرشهر البلاد لأنها ... قطب وسائرها رسوم السور
هي قبة الإسلام نائرة الصّوى ... فكأنها الأقمار في الديجور
من تلق منهم تلقه بمهابة ... زفت عليه بفضله الموفور
لهم الأوامر والنواهي كلّها ... ومدى سواهم رتبة المأمور
نقلت جميع ذلك من «تاريخ بيهق» لأبي الحسن ابن أبي القاسم البيهقي مصنف كتاب «وشاح الدمية» .
[773] علي بن عبد الله بن محمد بن الهيصم الهروي
، الإمام صدر الإسلام:
مات [ ... ] ذكره أبو الحسن البيهقي في «كتاب الوشاح» فقال: قد بلغ من العلم أطوريه، فلا فضل إلا وهو منسوب إليه، ورست بالفصاحة قواعده، واشتدّ بالزهادة ساعده، وقد اختلفت مدة مديدة إليه، وقرأت ما شئت من دقائق العلوم
__________
[773]- هذه الترجمة من وشاح الدمية ولم يذكر تاريخ وفاته.(4/1782)
عليه، ووجدته حالا عقود المشكلات، فاتقا رتوق المعضلات، ولعمري إنه رحمه الله كشف عن العلوم نقابها، ورفع عن الحقائق حجابها، فلم يكن في عصره فاضل إلا وقد اغترف من بحاره، واقتبس من أنواره، وتصانيفه كثيرة وسعيه مشهور، وسعي الناظر فيه مشكور.
ومن تصانيفه: كتاب مفتاح البلاغة. كتاب البسملة. كتاب نهج الرشاد.
كتاب عقود الجواهر. كتاب لطائف النكت. كتاب تصفية القلوب. كتاب ديوان شعره.
ومن منظومه:
ضحك الربيع بعبرة الأنداء ... ومن العجائب ضاحك ببكاء
خرجت له نحو الشتاء كتيبة ... ذعرت مواكبه عن الصحراء
ركبت فوارسه الهواء فجردت ... سيفا جلا جيش الدجى بضياء
رقّ الربيع لها فأرسل نحوها ... بشرى بغيم في نسيم هواء
والغصن قرّط أذنه بدراهم ... مضروبة من فضة بيضاء
والروض ألبس حلّة موشيّة ... أحسن بها من صنعة الأنداء
قضبان نبل أخرجت ذهبا لنا ... أعجب بها من صيرف معطاء
وشقائق النعمان تشبه صارخا ... متظلما متشحطا بدماء
والزعفران كأنما فرشت به ... ديباجة نسجت من القمراء
ساءلتها هلّا برزت لناظر ... صبّ كئيب هائم بكّاء
فأبت وآلت لا يحلّ نقابها ... إلا مجير الدولة الغرّاء
وله:
هنيئا لك العيد المبارك يا صدر ... وساعدك الإقبال واليمن والنصر
إذا ما أعاد العيد للناس نضرة ... فقد ألبس الأعياد من وجهك البشر
وإن نشرت أعلام دين محمد ... فذكرك في أقصى البلاد له نشر
وإن أحرم الحجاج عن جلّ حالهم ... فأحرم عمن دونك الفضل والفخر(4/1783)
وإن كان لبّى للزيارة محرم ... فلبّى إلى أوصافك النظم والنثر
وإن جمعوا فرضين ثمّ وقصروا ... فللدين والدنيا بك الجمع والقصر
وإن طوّفوا بالبيت سبعا وأحرموا ... فما طاف إلا بابك الأنجم الزهر
وإن ضحّت الأقوام بالبدن سنّة ... فضحّ بمن عاداك ما انفلق الفجر.
[774] علي بن عبد الله بن وصيف الناشىء الحلّاء
ويكنى أبا الحسين:
قال ابن عبد الرحيم: حدثني أبو عبد الله الخالع قال، حدثني الناشىء قال:
كان جدي وصيف مملوكا، وكان عبد الله أبي عطارا في الخضرية بالجانب الشرقي، وكنت لما نشأت معه في دكانه كان ابن الرومي يجلس عندنا وأنا لا أعرفه، وكان يلبس الدراعة وثيابه وسخة، وانقطع عنا مدة فسألت عنه أبي وقلت: ما فعل ذلك الشيخ الوسخ الثياب الذي كان يجلس إلينا؟ فقال: ويحك ذاك ابن الرومي وقد مات، فندمت أن لم أكن أخذت عنه شيئا ولا عرفته في حال حضوره وتشاغلت بالصنعة عن طلب العلم، ثم لقيت ثعلبا ولم آخذ عنه إلا أبياتا وهي:
إن أخا الأخوان من يسعى معك ... ومن يضرّ نفسه لينفعك
قال الخالع: وكان الناشىء قليل البضاعة في الأدب، قؤوما بالكلام والجدل، يعتقد الامامة ويناظر عليها بأجود عبارة، فاستنفد عمره في مديح أهل البيت حتى عرف بهم، وأشعاره فيهم لا تحصى كثرة، ومدح مع ذلك الراضي بالله وله معه أخبار، وقصد كافورا الإخشيديّ بمصر وامتدحه، وامتدح ابن حنزابة وكان ينادمه، وطرأ إلى البريديين بالبصرة وإلى أبي الفضل ابن العميد بأرجان وعضد الدولة بفارس، وكان مولده على ما خبرني به سنة إحدى وسبعين ومائتين، ومات يوم الاثنين لخمس خلون من صفر سنة خمس وستين وثلاثمائة، وكنت حينئذ بالري فورد كتاب ابن بقية إلى ابن
__________
[774]- اليتيمة 1: 232 وفهرست الطوسي: 89 وابن خلكان 3: 369 وسير الذهبي 16: 222 ولسان الميزان 4: 238 وعيون التواريخ (نسخة الفاتح: 4441) الورقة: 6.(4/1784)
العميد بخبره، وقيل إنه تبع جنازته ماشيا وأهل الدولة كلهم، ودفن في مقابر قريش وقبره هناك معروف.
قال الخالع: ولم يخلّف عقبا، ولا علمت أنه تزوج قط، وكان يميل إلى الأحداث، ولا يشرب النبيذ، وله في المجون والولع طبقة عالية، وعنه أخذ مجّان باب الطاق كلّهم هذه الطريقة. وكان يخلط بجدله ومناظراته هزلا مستملحا ومجونا مستطابا يعتمد به إخجال خصمه وكسر حدّه، وله في ذلك أخبار مشهورة. وكانت له جارية سوداء تخدمه، فدخل يوما إلى دار أخته وأنا معه، فرأى صبيا صغيرا أسود فقال لها: من هذا؟ فسكتت، فألحّ عليها فقالت: ابن بشارة، فقال: ممن؟ فقالت:
من أجل هذا أمسكت، فاستدعى الجارية وقال لها: هذا الصبيّ من أبوه؟ فقالت: ما له أب، فالتفت إليّ فقال: سلّم إذن على المسيح عليه السلام.
قال ابن عبد الرحيم حدثني الخالع قال حدثني الناشىء قال: أدخلني ابن رائق على الراضي بالله، وكنت مدّاحا لابن رائق ونافقا عليه، فلما وصلت إلى الراضي قال لي: أنت الناشىء الرافضيّ؟ فقلت: خادم أمير المؤمنين الشيعي، فقال: من أيّ الشيعة؟ قلت: شيعة بني هاشم، فقال: هذا خبث حيلة، فقلت: مع طهارة مولد، فقال: هات ما معك، فأنشدته فأمر أن يخلع عليّ عشر قطع ثيابا وأعطى أربعة آلاف درهم، فأخرج إليّ ذلك وتسلمته، وعدت إلى حضرته فقبلت الأرض وشكرته وقلت: أنا ممن يلبس الطيلسان، فقال: ها هنا طيالس عدنية أعطوه منها طيلسانا وأضيفوا إليها عمامة خزّ ففعلوا، فقال: أنشدني من شعرك في بني هاشم فأنشدته:
بني العباس إن لكم دماء ... أراقتها أمية بالذحول
فليس بهاشميّ من يوالي ... أمية واللعين أبا زبيل
فقال: ما بينك وبين أبي زبيل؟ فقلت: أمير المؤمنين أعلم، فتبسم وقال:
انصرف.
قال الخالع: وشاهدت العمامة والطيلسان معه وبقيا عنده إلى أن مات.
قال وحدثني الخالع قال: كان أبو الحسين شيخا طويلا جسيما عظيم الخلقة عريض الألواح موفّر القوة جهوريّ الصوت، عمّر نيّفا وتسعين سنة، لم تضطرب أسنانه ولا قلع سنّا منها ولا من أضراسه، وكان يعمل الصّفر ويخرّمه، وله فيه صنعة(4/1785)
بديعة، قال: ومن عمله قنديل بالمشهد بمقابر قريش مربّع غاية في حسنه.
قال الخالع: ومن مجونه في المناظرات وغيرها أنه ناظر أبا الحسن علي بن عيسى الرماني في مسألة، فانقطع الرماني وقال: أعاود النظر وربما كان في أصحابي من هو أعلم مني بهذه المسألة، فإن ثبت الحقّ معك وافقتك عليه، فأخذ يندّد به، ودخل أبو الحسن علي بن كعب الأنصاري أحد المعتزلة فقال: في أيّ شيء أنتم يابا الحسن؟ فقال: في ثيابنا، فقال: دعنا من مجونك وأعد المسألة فلعلنا أن نقدح فيها، فقال: كيف تقدح وحرّاقك رطب؟ ومنه: حكايته المشهورة مع الأشعري الذي ناظره فصفعه فقال: ما هذا يا أبا الحسين؟ فقال: هذا فعل الله بك، فلم تغضب مني؟ فقال: ما فعله غيرك وهذا سوء أدب وخارج عن المناظرة، فقال: ناقضت، إن أقمت على مذهبك فهو من فعل الله، وإن انتقلت فخذ العوض، فانقطع المجلس بالضحك وصارت نادرة.
قال عبيد الله الفقير إليه تعالى مؤلف هذا الكتاب: لو كان الأشعريّ ماهرا لقام إليه وصفعه أشدّ من تلك ثم يقول له: صدقت تلك من فعل الله بي وهذه من فعل الله بك، فتصير النادرة عليه لا له.
قال الخالع فأنشدني يوما لنفسه من قصيدة:
تجاه الشظا جنب الحمى فالمشرف ... حيال الربى فالشاهق المتشرف
فقلت له: بم ارتفعت هذه الأسماء وهي ظروف؟ فقال بما يسوءك. وبعد هذا البيت:
طلول أطال الحزن لي حزن نهجها ... وألزمني وجدا عليها التأسّف
فإذا حمل ما قاله على أن يجعل تلك الظروف هي الطلول وهي ما شخص من الأرض وجعلت شخوصا جاز الرفع على هذا التأويل، وإن جعلت محالّ للطلول فليس إلا النصب.
ومن هذه القصيدة:
وقفت على أرجائها أسأل الربى ... عن الخرّد الأتراب والدار صفصف
وكيف يجيب السائلين مرابع ... عفتها شآبيب من المزن وكّف(4/1786)
ومنها في وصف الخمر:
دنان كرهبان عليها برانس ... من الخزّ دكن يوم فصح تصفّف
ينظّم منها المزج سلكا كأنه ... إذا ما بدا في الكأس درّ منصّف
ومن مجون الناشىء أنه ناظر بعض المجبرة، فحرك الجبريّ يده فقال للناشىء: هذه من حركها؟ فقال الناشىء: من أمه زانية، فغضب الرجل، فقال له:
ناقضت إذا كان المحرك غيرك لم تغضب.
قال عبيد الله الفقير إليه: وهذا أيضا كفر وبهت لأن المحرك لها على اعتقاد الناشىء مناظره فقد أساء العشرة مع جليسه، وعلى مذهب صاحبه الخالق فقد كفر، فعلى كلّ حال هو مسيء.
وسمع يوما رجلا ينادي على لحم البقر: أين من حلف ألّا يغبن؟ فقال له:
أيش تريد منه؟ تريد أن تحنثه؟
ولقب رجلا من باب الطاق بالأبعد ولقب آخر بالآخر، وهاتان لفظتان جامعتان لكل سبّ وقذف، لأن الناس مغرون بإلحاق كلّ قبيح فظيع بهما على سبيل الكناية والاستراحة في الكلام إليهما.
قال الخالع وحدثني الناشىء قال: لما وفدت على سيف الدولة وقع فيّ أبو العباس النامي وقال: هذا يكتب التعاويذ، فقلت لسيف الدولة: يتأمّل الأمير خطّي، فإن كان يصلح أن يكتب بمثله على المساجد بالديخ فالقول كما قال، فأنشدته قصيدة أولها:
الدهر أيّامه ماض ومرتقب
وقلت فيها:
فارحل إلى حلب فالخير منحلب ... من نيل كفك إن لا حت لنا حلب
فقال: يا أبا الحسين هذا بيت جيد لكنه كثير اللبن.
وأنشدته قصيدة أخرى أقول فيها:
كأن مشيبي إذ يلوح عقارب ... وأقتل ما أبصرت بيض العقارب
كأن الثريا عوذة في تميمة ... وقد حليت واستودعت حرز كاعب
12(4/1787)
وحدث الخالع قال حدثني أبو الحسين الناشىء قال: كنت بالكوفة في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة وأنا أملي شعري في المسجد الجامع بها والناس يكتبونه عني، وكان المتنبي إذ ذاك يحضر معهم، وهو بعد لم يعرف ولم يلقب بالمتنبي، فأمليت القصيدة التي أولها:
بآل محمد عرف الصواب ... وفي أبياتهم نزل الكتاب
وقلت فيها:
كأن سنان ذابله ضمير ... فليس عن القلوب له ذهاب
وصارمه كبيعته بخمّ ... مقاصدها من الخلق الرقاب
فلمحته يكتب هذين البيتين، ومنها أخذ ما أنشدتموني الآن من قوله «1» :
كأن الهام في الهيجا عيون ... وقد طبعت سيوفك من رقاد
وقد صغت الأسنة من هموم ... فما يخطرن إلا في فؤاد
قال الخالع وأصل هذا لأبي تمام «2» :
من كلّ أزرق نظّار بلا نظر ... إلى المقاتل ما في متنه أود
كانه كان ترب الحبّ مذ زمن ... فليس يعجزه قلب ولا كبد
وعليه وضع المتنبي، وسبق إلى ذلك ديك الجن أيضا في قوله «3» :
فتى ينصبّ في ثغر القوافي ... كما ينصبّ في المقل الرقاد
وأبيات المتنبي أمثل من الجميع إذا تركت العصبية.
قال ابن عبد الرحيم حدثني الخالع قال: كنت مع والدي في سنة ست وأربعين وثلاثمائة وأنا صبي في مجلس الّلبوديّ في المسجد الذي بين الورّاقين والصاغة وهو غاصّ بالناس، وإذا رجل قد وافى وعليه مرقّعة وفي يده سطيحة وركوة ومعه عكاز وهو شعث، فسلم على الجماعة بصوت يرفعه ثم قال: أنا رسول فاطمة الزهراء صلوات(4/1788)
الله عليها، فقالوا: مرحبا بك وأهلا ورفعوه، فقال: أتعرفون لي أحمد المزوق النائح؟ فقالوا: ها هو جالس، فقال: رأيت مولاتنا عليها السلام في النوم فقالت لي امض إلى بغداد واطلبه وقل له نح على ابني بشعر الناشىء الذي يقول فيه:
بني أحمد قلبي لكم يتقطّع ... بمثل مصابي فيكم ليس يسمع
وكان الناشىء حاضرا، فلطم لطما عظيما على وجهه وتبعه المزوق والناس كلّهم، وكان أشدّ الناس في ذلك الناشىء ثم المزوق، ثم ناحوا بهذه القصيدة في ذلك اليوم إلى أن صلّى الناس الظهر وتقوض المجلس وجهدوا بالرجل أن يقبل شيئا منهم فقال: والله لو أعطيت الدنيا ما أخذتها فإنني لا أرى أن أكون رسول مولاتي عليها السلام ثم آخذ عن ذلك عوضا، وانصرف ولم يقبل شيئا. قال: ومن هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتا:
عجبت لكم تفنون قتلا بسيفكم ... ويسطو عليكم من لكم كان يخضع
كأنّ رسول الله أوصى بقتلكم ... فأجسامكم في كلّ أرض توزّع
قال وحدثني الخالع قال: اجتزت بالناشىء يوما وهو جالس في السرّاجين فقال لي: قد عملت قصيدة وقد طلبت وأريد أن تكتبها بخطك حتى أخرجها فقلت: أمضي في حاجة وأعود، وقصدت المكان الذي أردته وجلست فيه فحملتني عيني فرأيت في منامي أبا القاسم عبد العزيز الشطرنجي النائح، فقال لي: أحبّ أن تقوم فتكتب قصيدة الناشىء البائيّة فانا قد نحنا بها البارحة في المشهد، وكان هذا الرجل قد توفي وهو عائد من الزيارة، فقمت ورجعت إليه وقلت: هات البائية حتى أكتبها، فقال:
من أين علمت أنها بائية وما ذاكرت بها أحدا؟! فحدثته بالمنام فبكى وقال: لا شك أن الوقت قد دنا، فكتبتها فكان أولها:
رجائي بعيد والممات قريب ... ويخطىء ظنّي والمنون تصيب
ومن شعر الناشىء:
وليل توارى النجم من طول مكثه ... كما ازورّ محبوب لخوف رقيبه
كأنّ الثريا فيه باقة نرجس ... يجيء بها ذو صبوة لحبيبه(4/1789)
وله:
وكأنّ عقرب صدغه وقفت ... لما دنت من نار وجنته
قرأت بخط البديع بن عبد الله الهمذاني في ما قرأه على ابن فارس اللغوي، سمعت أبا الحسين الناشىء علي بن عبد الله بن وصيف بمدينة السلام قال: حضرت مجلس أبي الحسن ابن المغلس الفقيه فانقلبت محبرة لبعض من حضر على ثيابي، فدخل أبو الحسن وحمل إليّ قميصا دبيقيا ورداء حسنا، قال: فأخذتهما ورجعت إلى بيتي وغسلت ثيابي ولبستها ورددت القميص والرداء إلى أبي الحسن، فلما رآهما غضب غضبا شديدا وقال: البسه، لولا أنك تتوشح بالأدب لجفوتك.
وهذه حكاية وجدتها بعد أخبار الناشىء بخطّ المصنف: قرأت في كتاب محمد بن أبي الأزهر في عقلاء المجانين، حدثني علي بن إبراهيم بن موسى الكاتب قال: كنت يوما جالسا في صحن داري إذا حجارة قد سقطت عليّ بالقرب مني فبادرت هاربا وأمرت الغلام بالصعود إلى السطوح والنظر من أين أتتنا الحجارة، فرجع إليّ وقال لي: يا مولاي امرأة من دار ابن الرومي الشاعر تقول الله الله فينا اسقونا ماء وإلا متنا عطشا، فإن الباب علينا مقفل منذ ثلاثة أيام بسبب تطيّر صاحبنا، فانه يلبس ثيابه في كلّ يوم ويتعوذ ويقرأ ثم يصير إلى الباب والمفتاح معه، فيضع عينه على خلل من الباب فتقع على جار له كان نازلا بازائه وكان أعور، فإذا بصر به رجع وخلع ثيابه وترك الباب على حاله سائر يومه وليلته، فدفع إليها ما طلبته. فلما كان من غد وجهت بخادم لي اسمه طاهر، وكان ابن الرومي يعرفه، وأمرته أن يجلس على بابه، وتقدمت إلى بعض الغلمان في المصير إلى الأعور برسالتي ومسألته المصير إليّ، فلما زال الرجل عن موضعه دقّ الخادم الباب على ابن الرومي وخاطبه وسأله المصير إليّ أيضا، قال الخادم: فخرج فوضع عينه على ذلك الموضع فوقعت عينه عليّ ولم ير جاره ففتح الباب وخرج لا تقلع عينه عن النظر إليّ ولا يصرف كلامه إلا إلى ناحيتي. قال علي بن إبراهيم: فإني لجالس أنتظره وقد انصرف الأعور إذ وافاني أبو خديجة الطرسوسيّ وكان في ناحية إسماعيل بن إسحاق القاضي، وقد دفع إليه المعتضد برذعة «1» ليوصله(4/1790)
إلى الحسن ابنه ليتولّى تسليمه إلى ابن راشد، فنحن نتحدث إذ دخل ابن الرومي مع الخادم علينا، فلما تخطا عتبة باب الصحن عثر فانقطع شسع نعله فأخذها بيده ودخل مذعورا، فقلت له: أيكون شيء يا أبا الحسن أحسن من خروجك من منزلك على وجه خادمي؟ فقال: قد لحقني ما رأيت من العثرة لأني أفكرت أنّ به عاهة، قلت: وما هي؟ قال: هو مجبوب، فقال برذعة الموسوس: وشيخنا يتطير؟ قلت: نعم ويفرط، قال: ومن هو؟ قلت: هذا علي بن الرومي الكاتب، قال: الشاعر؟
قلت: نعم، فأقبل عليه فقال:
ولما رأيت الدهر يؤذن صرفه ... بتفريق ما بيني وبين الحبائب
رجعت إلى نفسي فوطّنتها على ... ركوب جميل الصبر عند النوائب
ومن صحب الدنيا على جور حكمها ... فأيامه محفوفة بالمصائب
فخذ خلسة من كلّ يوم تعيشه ... وكن حذرا من كامنات العواقب
ودع عنك ذكر الفأل والزجر واطّرح ... تطيّر جار أو تفاؤل صاحب
فرأيت ابن الرومي شبيها بالباهت، ولم أدر أنه قد شغل قلبه بحفظ الأبيات، ثم نهض برذعة وأبو خديجة معه فقال له ابن الرومي: والله لا تطيرت بعد هذا، فأقام عندي وكتبت هذه الأبيات من حفظه وزالت عنه الطيرة.
[775] علي بن عبد الله بن موهب الجذاميّ أبو الحسن:
له تأليف عظيم في تفسير القرآن، روى عن ابن عبد البرّ وغيره، مات في جمادى الأولى سادس عشره سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ومولده سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
__________
[775]- هو من أهل المرية روى عن العذري وأبي بكر ابن صاحب الأحباس، وأجاز له أبو الوليد الباجي ما رواه (انظر الصلة: 405 وطبقات المفسرين للسيوطي: 24) .(4/1791)
[776] علي بن عبد الله بن محمد بن عبد الباقي
بن أبي جرادة العقيلي، أبو الحسن الأنطاكي من أهل حلب يسكن باب أنطاكية: غزير الفضل وافر العقل دمث الأخلاق حسن العشرة، له معرفة بالأدب واللغة والحساب والنجوم، ويكتب خطّا حسنا وله أصول حسنة. ورد بغداد سنة سبع عشرة وخمسمائة وسمع بها وبغيرها، وسمع بحلب أبا الفتح عبد الله بن إسماعيل بن أحمد بن أبي عيسى الحلبي وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الغنوي.
قال ابن السمعاني: قرأت عليه بحلب، وخرجت يوما من عنده فرآني بعض الصالحين فقال لي: أين كنت؟ قلت: عند أبي الحسن ابن أبي جرادة، قرأت عليه شيئا من الحديث فأنكر عليّ وقال: ذاك يقرأ عليه الحديث؟ قلت: ولم هل هو إلا متشيع يرى رأي الحلبيّين؟ فقال لي: ليته اقتصر على هذا، بل يقول بالنجوم ويرى رأي الأوائل، وسمعت بعض الحلبيّين يتهمه بذلك، وسألته عن مولده فقال في محرم سنة إحدى وستين وأربعمائة بحلب، وأنشدني لنفسه:
يا ظباء البان قولا بيّنا ... من لنا منكم بظبي ملّنا
يشبه البدر بعادا وسنا ... من نفى عن مقلتيّ الوسنا
فتكت ألحاظه في مهجتي ... فتك بيض الهند أو سمر القنا
يصرع الأبطال في نجدته ... إن رمى عن قوسه أو إن رنا
دان أهل الدلّ والحسن له ... مثل ما دانت لمولانا الدنا
قال: ومات سنة نيف وأربعين وخمسمائة.
قلت: وكان لأبي الحسن هذا ابن فاضل أديب شاعر مجيد اسمه الحسن وكنيته أبو علي، سافر إلى مصر في أيام ابن رزّيك ومدحه وحظي عنده، ثم مات بمصر سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وهو القائل:
__________
[776]- يتكرر ذكره كثيرا في بغية الطلب (انظر فهرس طبعة زكار) .(4/1792)
يا صاحبيّ أطيلا في مؤانستي ... وذاكراني بخلّان وعشاق
وحدثاني حديث الخيف إنّ به ... روحا لقلبي وتسهيلا لأخلاقي
ما ضرّ ريح الصّبا لو ناسمت حرقي ... واستنقذت مهجتي من أسر أشواقي
داء تقادم عندي من يعالجه ... ونفثة بلغت مني من الراقي
يفنى الزمان وآمالي مصرّمة ... ممن أحبّ على مطل وإملاق
واضيعة العمر لا الماضي انتفعت به ... ولا حصلت على أمر من الباقي.
[777] علي بن عبد الجبار بن سلامة بن عيذون الهذلي اللغوي
، أبو الحسن التونسي: ذكره السلفي فقال: أنشدني أبو محمد الشواذكي «1» القيرواني قال أنشدني أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن تميم الحصري لنفسه بالقيروان:
قالوا اطرح أبدا كاف الخطاب ففي ... خطّ الكتاب بها حطّ من الرتب
فقلت من كان في نفسي تصوّره ... فكيف أنزله في منزل الغيب
قال وسألته عن مولده فقال: سنة ثمان وعشرين وأربعمائة يوم عيد النحر بتونس، وتوفي رحمه الله في ذي الحجة سنة تسع عشرة وخمسمائة بالاسكندرية، وكان إماما في اللغة حافظا لها حتى إنه لو قيل لم يكن في زمانه ألغى منه لما استبعد، وكانت له قدرة على نظم الشعر، وله إليّ قصائد وقد أجبته عنها، ومن جملة شعره قصيدة في الردّ على المرتدّ البغدادي فيها أحد عشر ألف بيت على قافية واحدة، وعندي عنه فوائد أدبية. وسمعته يقول: رأيت أبا بكر محمد بن علي بن البر الغربي اللغوي بمدينة مازر من جزيرة صقلية، وكنت عزمت على أن أقرأ عليه لما اشتهر من
__________
[777]- ترجمة ابن عيذون في إنباه الرواة 2: 292 وبغية الوعاة 2: 173 (وفي حاشية الانبا ذكر لمصادر أخرى) ومعجم السفر للسلفي: 268- 269.(4/1793)
فضله وتبحره في اللغة، فاتصل بابن متكود صاحب البلد أنه يشرب، وكان يكرمه، فشقّ عليه وصار يكرهه، وأنفذ إليه وقال: المدينة «1» أكبر والشراب بها أكثر، فأحوجته الضرورة إلى الخروج منها ولم أقرأ عليه شيئا. وأما أبو علي الحسن بن رشيق الأزدي القيرواني فقد رأيته أيضا بمازر وأنشدني شيئا من شعره، ولم أر قطّ أحفظ للعربية واللغة من أبي القاسم ابن القطاع الصقلي، وقرأت عليه كثيرا.
[778] علي بن عبد الرحمن الخزاز السوسي،
أبو العلاء اللغوي: من سوس خوزستان من أهل الأدب واللغة، سمع المحاملي أبا عبد الله، روى عنه أبو نصر السجزي الحافظ، لا أعلم من حاله غير هذا.
[779] علي بن عبد الرحيم بن الحسن بن عبد الملك
بن إبراهيم السلمي، المعروف بابن العصار اللغوي: من أهل الرقة، ورد بغداد فقرأ بها العلم، وأقام بالمطبق من دار الخلافة المعظمة، ومات في ثالث المحرم سنة ست وسبعين وخمسمائة، ومولده في سنة ثمان وخمسمائة، انتهت إليه الرياسة في معرفة اللغة العربية، قرأ على أبي منصور ابن الجواليقي ولازمه حتى برع في فنه، وسمع الحديث من أبي العزّ أحمد بن عبيد الله بن كادش والقاضي أبي بكر محمد بن عبد الباقي قاضي البيمارستان وأبي الوقت السجزي وغيرهم، وتخرج به جماعة منهم الشيخ أبو
__________
[778]- بغية الوعاة 2: 174 (عن ياقوت) .
[779]- ترجمته في إنباه الرواة 2: 291 ومختصر ابن الدبيثي 3: 128 وعبر الذهبي 4: 229 وابن خلكان 3: 338 وبغية الوعاة 2: 174 ومرآة الجنان 3: 405 والشذرات 4: 257 وله ترجمة في الوافي للصفدي.(4/1794)
البقاء عبد الله بن الحسن العكبري الضرير. وكان تاجرا موسرا ضابطا ممسكا سافر الكثير إلى الديار المصرية وأخذ عن أهلها وروى عنهم، وخطه المرغوب فيه المتنافس في تحصيله فإنه كان مليح الخطّ جيد الضبط، ولا أعرف له مصنفا ولا سمعت له شعرا.
[780] علي بن عبد العزيز بن المرزبان بن سابور،
أبو الحسن البغوي الجوهري عمّ أبي القاسم البغوي نزيل مكة: صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، وروى عنه غريب الحديث وكتاب الحيض وكتاب الطهور وغير ذلك، وحدث عن أبي نعيم وحجاج بن المنهال ومحمد بن كبير العبدي وسلمة بن إبراهيم الأزدي والقعنبي وعاصم بن عليّ وغيرهم وصنّف المسند. حدث عنه ابن أخيه عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ودعلج السجزي وسليمان بن أحمد الطبراني، وحدث بالمسند عنه أبو علي حامد بن محمد الرفاء الهروي. سئل عنه الدارقطني فقال: ثقة مأمون. وقال ابن أبي حاتم: هو صدوق.
أبو بكر السني: سمعت أبا عبد الرحمن النسائي، وسئل عن علي بن عبد العزيز المكي فقال: قبح الله علي بن عبد العزيز ثلاثا، فقيل له يا أبا عبد الرحمن أتروي عنه؟ فقال: لا، فقيل له: أكان كذابا؟ فقال: لا ولكنّ قوما اجتمعوا ليقرأوا عليه وبرّوه بما سهل، وكان فيهم إنسان غريب فقير لم يكن في جملة من برّه، فأبى أن يقرأ عليهم وهو حاضر حتى يخرج أو يدفع كما دفعوا، فذكر الغريب أن ليس معه إلا قصيعة، فأمره باحضارها، فلما أحضرها حدّثهم.
وعن القاضي أبي نصر ابن الكسار: سمعت أبا بكر السني يقول: بلغني أن علي بن عبد العزيز كان يقرأ كتب أبي عبيد بمكة على الحاجّ بالأجر، فإذا عاتبوه على الأخذ قال: يا قوم أنا بين الأخشبين، إذا خرج الحاجّ نادى أبو قبيس قعيقان: من بقي؟ فيقول: بقي المجاورون، فيقول: أطبق.
__________
[780]- ترجمة علي بن عبد العزيز في الفهرست: 78 وطبقات الزبيدي: 207 (وموضعها بياض) وانباه الرواة 2: 292 (وأوجز في ترجمته كثيرا) وتاريخ أبي المحاسن (عرضا) : 199.(4/1795)
وقال أبو الحسين أحمد بن جعفر بن محمد بن عبيد الله بن المنادي في من مات في سنة سبع وثمانين ومائتين: وجاءنا الخبر بموت عليّ بن عبد العزيز صاحب أبي عبيد من مكة مع الحاجّ وأنه توفي قبل الموسم.
وحدث أبو سعد السمعاني باسناد رفعه إلى أبي الحسين محمد بن طالب النسفي قال: سمعت علي بن عبد العزيز بمكة في المسجد الحرام يقول: كنت عند مؤدبي الذي علّمني الخط، فجيء ببنيّة له صغيرة يقال لها وسناء، وعليها ثوب حرير فأجلسها في حجره وأنشأ يقول:
وما الوسناء إلا شبه درّ ... ولا سيما إذا لبست حريرا
فأحسن زيّها ثوب نظيف ... تكفّن فيه ثم أرى سريرا
تهادى بين أربعة عجال ... إلى قبر فتملأنا سرورا.
[781] علي بن عبد العزيز بن الحسن بن علي
بن إسماعيل الجرجاني أبو الحسن، قاضي الري في أيام الصاحب ابن عباد: وكان أديبا أريبا كاملا، مات بالريّ يوم الثلاثاء لست بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة «1» وهو قاضي القضاة بالري حينئذ. وذكره الحاكم في «تاريخ نيسابور» وقال: ورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة مع أخيه أبي بكر، وأخوه إذ ذاك فقيه مناظر، وأبو الحسن قد ناهز الحلم، فسمعا معا الحديث الكثير ولم يزل أبو الحسن يتقدم إلى أن ذكر في الدنيا.
__________
[781]- للقاضي الجرجاني ترجمة في اليتيمة 4: 3 وطبقات الشيرازي: 35 وطبقات العبادي: 111 وطبقات السبكي 3: 459 والبداية والنهاية 11: 331 والمنتظم 7: 221 وابن خلكان 3: 278 وطبقات الاسنوي 1: 348 وسير الذهبي 17: 19 وتاريخ جرجان: 277 ومرآة الجنان 2: 386 والنجوم الزاهرة 4: 205 والشذرات 3: 56؛ وقد كتبت عنه دراسات منها واحدة للدكتور أحمد أحمد بدوي وأخرى لأخي الدكتور محمود السمرة.(4/1796)
وحمل تابوته إلى جرجان فدفن بها وصلّى عليه القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد، وحضر جنازته الوزير الخطير أبو علي القاسم بن علي بن القاسم وزير مجد الدولة وأبو الفضل العارض راجلين، ووقع الاختيار بعد موته على أبي موسى عيسى بن أحمد الديلمي فاستدعي من قزوين وولي قضاء القضاة بالري.
وله يقول الصاحب ابن عباد وقد أنشأ عهدا للقاضي عبد الجبار على قضاء الريّ:
إذا نحن سلّمنا لك العلم كلّه ... فدعنا وهذي الكتب نحسن صدورها
فانهم لا يرتضون مجيئنا ... بجزع إذا نظّمت أنت شذورها
وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد قرأ عليه واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به وشمخ بأنفه بالانتماء إليه.
وطوّف في صباه البلاد وخالط العباد، واقتبس العلوم والآداب، ولقي مشايخ وقته وعلماء عصره، وله رسائل مدوّنة وأشعار مفننة، وكان جيد الخط مليحه يشبّه بخطّ ابن مقلة.
ومن شعره «1» :
أفدي الذي قال وفي كفّه ... مثل الذي أشرب من فيه
الورد قد أينع في وجنتي ... قلت فمي باللثم يجنيه
ومنه «2» :
يقولون لي فيك انقباض وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذلّ أحجما
أرى الناس من داناهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما زلت منحازا بعرضي جانبا ... من الذمّ أعتدّ الصيانة مغنما
إذا قيل هذا مشرب قلت قد أرى ... ولكنّ نفس الحرّ تحتمل الظما
وما كلّ برق لاح لي يستفزّني ... ولا كلّ أهل الأرض أرضاه منعما(4/1797)
ولم أقض حقّ العلم إن كان كلّما ... بدا طمع صيرته لي سلما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة ... إذن فابتياع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظّموه في النفوس تعظّما
ولكن أذا لوه جهارا ودنّسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
ومنه «1» :
وقالوا اضطرب في الأرض فالرزق واسع ... فقلت ولكن مطلب الرزق ضيّق
إذا لم يكن في الأرض حرّ يعينني ... ولم يك لي كسب فمن أين أرزق
ومنه:
أحبّ اسمه من أجله وسميّه ... ويتبعه في كلّ أخلاقه قلبي
ويجتاز بالقوم العدى فأحبهم ... وكلّهم طاوي الضمير على حربي
ومنه «2» :
قد برح الشوق بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقّه ... فانه خاتم عشاقك
وللقاضي عدة تصانيف منها: كتاب تفسير القرآن المجيد. كتاب تهذيب التاريخ. كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وفي هذا الكتاب يقول بعض أهل نيسابور «3» :
أيا قاضيا قد دنت كتبه ... وان أصبحت داره شاحطه
كتاب الوساطة في حسنه ... لعقد معاليك كالواسطه
ومن شعره:
ما تطعمت لذة العيش حتى ... صرت للبيت والكتاب جليسا(4/1798)
ليس شيء أعز عندي من الع ... لم فلم أبتغي سواه أنيسا
إنما الذلّ في مخالطة النا ... س فدعهم وعش عزيزا رئيسا
ومن سائر شعره قوله:
إذا شئت أن تستقرض المال منفقا ... على شهوات النفس في زمن العسر
فسل نفسك الإنفاق من كنز صبرها ... عليك وإنظارا إلى زمن اليسر
فإن فعلت كنت الغنيّ وان أبت ... فكلّ منوع بعدها واسع العذر
وحدث الثعالبي عن أبي نصر التهذيبي قال «1» : سمعت القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز يقول: انصرفت يوما من دار الصاحب، وذلك قبيل العيد، فجاءني رسوله بعطر الفطر، ومعه رقعة بخطه فيها هذان البيتان:
يا أيها القاضي الذي نفسي له ... مع قرب عهد لقائه مشتاقه
أهديت عطرا مثل طيب ثنائه ... فكأنما أهدي له أخلاقه
قال «2» : وسمعته يقول ان الصاحب يقسم لي من إقباله وإكرامه بجرجان أكثر مما يتلقاني به في سائر البلاد، وقد استعفيته يوما من فرط تحفيه بي وتواضعه لي فأنشدني:
أكرم أخاك بأرض مولده ... وأمدّه من فعلك الحسن
فالعزّ مطلوب وملتمس ... وأعزّه ما نيل في الوطن
ثم قال: قد فرغت من هذا المعنى في العينية، فقلت: لعل مولانا يريد قولي:
وشيدت مجدي بين قومي فلم أقل ... ألا ليت قومي يعلمون صنيعي
فقال: ما أردت غيره، والأصل فيه قوله تعالى يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ
(يس: 27) .
قال الثعالبي «3» : القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز حسنة جرجان، وفرد(4/1799)
الزمان، ونادرة الفلك، وإنسان حدقة العلم، ودرة تاج الأدب، وفارس عسكر الشعر، يجمع خطّ ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري، وينظم عقد الاتقان «1» والاحسان في كلّ ما يتعاطاه (وأنشد بيت الصاحب المقدّم ذكره) «2» وقد كان في صباه خلف الخضر في قطع عرض الأرض وتدويخ بلاد العراق والشام وغيرهما، واقتبس من أنواع العلوم والآداب ما صار به في العلماء علما وفي الكمال «3» عالما، ثم عرج على حضرة الصاحب فألقى بها عصا المسافر، فاشتد اختصاصه به وحلّ منه محلّا بعيدا في رفعته، قريبا في أثرته، وسيّر فيه قصائد أخلصت على قصد، وفرائد أتت من فرد، وما منها إلا صوب العقل، وذوب الفضل. وتقلّد قضاء جرجان من يده، ثم تصرفت به أحوال في حياة الصاحب وبعد وفاته من الولاية والعطلة، وترقّى «4» محلّه إلى قضاء القضاة بالري فلم يعزله إلا موته رحمه الله تعالى. وعرض عليّ أبو نصر المصعبي كتابا للصاحب بخطه إلى حسام الدولة أبي العباس تاش الحاجب في معنى القاضي أبي الحسن نسخته بعد التصدير والتسبيب: قد تقدم من وصفي للقاضي أبي الحسن علي بن عبد العزيز فيما سبق إلى حضرة الأمير الجليل صاحب الجيش، دام علوّه، من كتبي ما أعلم أني لم أؤدّ فيه بعض الحق، وإن كنت دللته على جملة تنطق بلسان الفضل وتكشف عن أنه من أفراد الدهر في كل قسم من أقسام الأدب والعلم، فأما موقعه مني فالموقع الذي تخطبه هذه المحاسن وتوجبه هذه المناقب، وعادته معي ألا يفارقني مقيما وظاعنا ومسافرا وقاطنا، وقد احتاج الآن إلى مطالعة جرجان بعد أن شرطت عليه تصيير المقام كالالمام، فطالبني مكانه بتعريف الأمير مصدره ومورده، فإن عنّ له ما يحتاج إلى عرضه وجد من شرف إسعافه ما هو المعتاد من فضله ليتعجل إنكفاؤه إليّ بما رسم، أدام الله أيامه، من مظاهرته على ما يقدم الرحيل ويفسح السبيل من بذرقة «5» إن احتاج إلى الاستظهار بها، ومخاطبة لبعض من في الطريق(4/1800)
يتعرف «1» النّجح فيها، فان رأى الأمير أن يجعل من حظوظي الجسيمة عنده تعهد القاضي أبي الحسن بما يعجّل ردّه، فإني ما غاب كالمضلّ الناشد وإذا عاد كالغانم الواجد، فعل إن شاء الله.
ولما عمل «2» الصاحب رسالته المعروفة في إظهار مساوىء المتنبىء عمل القاضي أبو الحسن «كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه» في شعره فأحسن وأبدع وأطال وأطاب، وأصاب شاكلة الصواب، واستولى على الأمد في فصل الخطاب، وأعرب عن تبحره في الأدب وعلم العرب، وتمكنه من جودة الحفظ وقوة النقد، فسار الكتاب مسير الرياح، وطار في البلاد بغير جناح، وقال فيه بعض النيسابوريين البيتين المقدم ذكرهما.
ومن شعره»
:
انثر على خدّيّ من وردك ... أو دع فمي يقطفه من خدّك
ارحم قضيب البان وارفق به ... قد خفت أن ينقدّ من قدك
وقل لعينيك بنفسي هما ... يخفّفان السقم عن عبدك
وله «4» :
وفارقت حتى ما أسرّ بمن دنا ... مخافة نأي أو حذار صدود
فقد جعلت نفسي تقول لمقلتي ... وقد قربوا خوف التباعد جودي
فليس قريبا من يخاف بعاده ... ولا من يرجّى قربه ببعيد
وله يستطرد «5» :
من عاذري من زمن ظالم ... ليس بمستحي ولا راحم
تفعل بالإخوان أحداثه ... فعل الهوى بالدنف الهائم(4/1801)
كأنما أصبح يرميهم ... عن جفن مولاي أبي القاسم
وقال يذكر بغداد ويتشوقها «1» :
يا نسيم الجنوب بالله بلّغ ... ما يقول المتيّم المستهام
قل لأحبابه فداكم فؤاد ... ليس يسلو ومقلة لا تنام
بنتم فالسهاد عندي رقاد ... مذ نأيتم والعيش عندي لهام «2»
فعلى الكرخ فالقطيعة فالش ... طّ فباب الشعير مني السلام
يا ديار السرور لا زال يبكي ... بك في مضحك الرياض غمام
ربّ عيش صحبته فيك غضّ ... وجفون الخطوب عني نيام
في ليال كأنهن أمان ... من زمان كأنه أحلام
وكأنّ الأوقات فيها كؤوس ... دائرات وأنسهنّ مدام
زمن مسعد وإلف وصول ... ومنى تستلذّها الأوهام
كلّ أنس ولذة وسرور ... بعد ما بنتم عليّ حرام
وله في ذلك «3» :
سقى جانبي بغداد أخلاف مزنة ... تحاكي دموعي صوبها وانحدارها
فلي منهما قلب شجاني اشتياقه ... ومهجة نفس ما أملّ ادّكارها
سأغفر للأيام كلّ عظيمة ... لئن قرّبت بعد البعاد مزارها
وله في ذلك «4» :
أراجعة تلك الليالي كعهدها ... إلى الوصل أم لا يرتجى لي رجوعها
وصحبة أحباب لبست لفقدهم ... ثياب حداد يستجدّ خليعها
إذا لاح لي من أرض «5» بغداد بارق ... تجافت جفوني واستطير هجوعها(4/1802)
وإن أخلفتها الغاديات وعودها «1» ... تكلّف تصديق الغمام دموعها
سقى جانبي بغداد كلّ غمامة ... يحاكي دموع المستهام هموعها
معاهد من غزلان إنس تحالفت ... لواحظها ألا يداوى صريعها
بها تسكن النفس النفور ويغتدي ... بآنس من قلب المقيم نزيعها
يحنّ إليها كلّ قلب كأنما ... تشاد بحبّات القلوب ربوعها
فكلّ ليالي عيشها زمن الصّبا ... وكلّ فصول الدهر فيها ربيعها
وله في ذلك «2» :
بجانب الكرخ من بغداد لي سكن ... لولا التجمل لم أنفكّ أندبه
وصاحب ما صحبت الصبر مذ بعدت ... دياره وأراني لست أصحبه
في كلّ يوم لعيني ما يؤرقها ... من ذكره ولقلبي ما يعذّبه
ما زال يبعدني عنه وأتبعه ... ويستمرّ على ظلمي وأعتبه
حتى أوت لي النوى من طول جفوته ... وسهّلت لي سبيلا كنت أرهبه
وما العباد دهاني بل خلائقه ... ولا الفراق شجاني بل تجنبه
وله في التخلص «3» :
أو ما انثنيت عن الوداع بلوعة ... ملأت حشاك صبابة وعليلا
ومدامع تجري فتحسب أن في ... آماقهنّ بنان إسماعيلا
وله من قصيدة في الأمير شمس المعالي قابوس بن وشمكير:
ولما تداعت للغروب شموسهم ... وقمنا لتوديع الفريق المغرّب
تلقّين أطراف السجوف بمشرق ... لهنّ وأعطاف الخدور «4» بمغرب
فما سرن إلا بين دمع مضيّع ... ولا قمن إلا بين قلب معذّب
كان فؤادي قرن قابوس راعه ... تلاعبه بالفيلق المتأشّب(4/1803)
وله في الصاحب من قصيدة «1» :
وما بال هذا الدهر يطوي جوانحي ... على نفس محزون وقلب كئيب
تقسّمني الأيام قسمة جائر ... على نضرة من حالها وشحوب
كأني في كفّ الوزير رغيبة ... تقسّم في جدوى أغرّ وهوب
وله من قصيدة في الصاحب «2» :
ولا ذنب للأفكار أنت تركتها ... إذا احتشدت لم ينتفع باحتشادها
سبقت بأفراد المعاني وألّفت ... خواطرك الألفاظ بعد شرادها
وان نحن حاولنا اختراع بديعة ... حصلنا على مسروقها ومعادها
وله في الصاحب من قصيدة يهنئه بالبرء من مرض «3» :
بك الدهر يندى ظلّه ويطيب ... ويقلع عمّا ساءنا ويتوب
ونحمد آثار الزمان وربما ... ظللنا وأوقات الزمان ذنوب
أفي كلّ يوم للمكارم روعة ... لها في قلوب المكرمات وجيب
تقسمت العلياء جسمك كلّه ... فمن أين فيه للسقام نصيب
إذا ألمت نفس الوزير تألمت ... لها أنفس تحيا بها وقلوب
وو الله لا لاحظت وجها أحبه ... حياتي وفي وجه الوزير شحوب
وليس شحوبا ما أراه بوجهه ... ولكنّه في المكرمات ندوب
فلا تجزعن تلك السماء تغيّمت ... وعما قليل تبتدي فتصوب
تهلل وجه المجد وابتسم الندى ... وأصبح غصن الفضل وهو رطيب
فلا زالت الدنيا بملكك طلقة ... ولا زال فيها من ظلالك طيب(4/1804)
وله «1» :
على مهجتي تجني الحوادث والدهر ... فأما اصطباري فهو ممتنع وعر
كأني ألاقي كلّ يوم ينوبني ... بذنب وما ذنبي سوى أنني حرّ
فإن لم يكن عند الزمان سوى الذي ... أضيق به ذرعا فعندي له الصبر
وقالوا توصّل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أنّ الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال بابان حرّما ... عليّ الغنى نفسي الأبيّة والدهر
إذا قيل هذا اليسر عاينت «2» دونه ... مواقف خير من وقوفي بها العسر
إذا قدّموا بالوفر قدّمت قبلهم ... بنفس فقير كلّ أخلاقه وفر
وماذا على مثلي إذا خضعت له ... مطامعه في كفّ من حصل التبر
وله:
سقى الغيث أو دمعي وقلّ كلاهما ... لها أربعا جور الهوى بينها عدل
بحيث استدقّ الدعص وانبسط النقا ... وحيث تناهى الحقف وانقطع الرمل
أكثّر من أوصافها وهي واحد ... ولكن أرى أسماءها في فمي تحلو
وفي ذلك الخدر المكلّل ظبية ... لكلّ فؤاد عند أجفانها ذحل
إذا خطرات الريح بين سجوفها ... أباحت لطرف العين ما حظر البخل
تلقت بأثناء النصيف لحاظنا ... وقالت لأخرى ما لمستهتر عقل
أفي مثل هذا اليوم يمرح طرفه ... وأعداؤنا حول وحسّادنا قبل
ومدّت لإسبال السجوف بنانها ... فغازلنا عنها الشمائل والشكل(4/1805)
[782] علي بن عبد العزيز بن إبراهيم بن بنان
«1» بن حاجب النعمان أبو الحسن:
قد ذكرت معنى تسميتهم بحاجب النعمان في ترجمة أبيه، وكان أبو الحسن هذا من الفصحاء البلغاء، وقد صنف كتبا وأنشأ رسائل وله ديوان شعر كبير الحجم، وكان أبوه يكتب لأبي محمد المهلبي وزير معز الدولة، وكتب أبو الحسن للطائع لله ثم للقادر بالله بعده في شوال سنة ست وثمانين وثلاثمائة وخوطب برئيس الرؤساء وخدم خليفتين أربعين سنة، ومولده سنة أربعين وثلاثمائة ومات في رجب سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة «2» وولي ابنه أبو الفضل مكانه فلم يسدّ مسدّه فعزل بعد شهور.
وحدث ابن نصر قال حدثني أبو الفتح أحمد بن عيسى الشاعر المعروف بحمدية قال: لما قبض القادر بالله على أبي الحسن ابن حاجب النعمان واستكتب أبا العلاء ابن تريك وهى النظر وقلّ رونقه، واتفق أن دخل يوما إلى الديوان فوجد على مخادّه قطعة من عذرة يابسة، فانخزل وتلاشى أمره، فقبض عليه، وأعيد أبو الحسن إلى رتبته. وكانت بيني وبين أبي العلاء من قبل مماظّة في بعض الأمور فامتدحت أبا الحسن بقصيدة أولها:
زمّت ركائبهم فاستشعر التلفا
حتى بلغت منها إلى قولي:
يا من إذا ما رآه الدهر سالمه ... وظلّ معتذرا مما جنى وهفا
قد رام غيرك هذا الطّرف يركبه ... فما استطاع له جريا بلى وقفا
لم يرجع الطرف عنه من تبظرمه ... حتى رأينا على دست له طرفا
__________
[782]- ترجمته في المنتظم 8: 51 وتاريخ بغداد 12: 31.(4/1806)
فدفع إليّ صورة عنقاء فضة مذهبة كانت بين يديه فيها طيب وقال: خذ هذه الطرفة فإنها أطرف من طرفتك.
وقرأت في «المفاوضة» : حدثني الوزير أبو العباس عيسى بن ماسرجيس قال:
كنت أخلف الوزارة ببغداد مشاركا لأبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان فدعاني يوما إلى داره ببركة زلزل وتجمل واحتشد، ودعا بكلّ من يشار إليه بحذق في الغناء من رجال وإماء مثل عليّة الخاقانية وغيرها من نظرائها في الوقت، وحضر القاضي أبو بكر ابن الأزرق نسيبه وانتقلنا من الطعام إلى مجلس الشراب فلما دارت الكأس أدوارا قال لي: ما أراك تحلف على القاضي ليشرب معنا ويساعدنا، وإن كان لا يشرب إلا قارصا، قلت: أنا غريب ومحتشم له وأمره بك أمسّ وأنت به أخصّ.
قال: فاستدعى غلاما وقال له: امض إلى إسحاق الواسطي واستدع منه قارصا وتولّ خدمة القاضي أيده الله، فمضى الغلام وغاب ساعة ثم أتى ومعه خماسية فيها من الشراب الصريفيني الذي بين أيدينا إلا أن على رأسها كاغدا وختما وسطرا فيه مكتوب «قارص من دكان إسحاق الواسطي» قال فتأمله القاضي وأبصر الخط والختم ثم أمر فسقي رطلا، فلما شربه واستوفاه قال للغلام: ويلك ما هذا؟ قال: يا سيدي هذا قارص قال: لا بل والله الخالص، ثم ثنّى له وثلّث، فاضطرب أمر القاضي علينا وأنشأ يقول:
ألا فاسقني الصهباء من حلب الكرم ... ولا تسقني خمرا بعلمك أو علمي
أليست لها أسماء شتّى كثيرة ... ألا فاسقنيها واكن عن ذلك الإسم
فكان كلما أتاه بالقدح سأله عنه فيقول تارة مدام وتارة خندريس وهو يشرب، فإذا قال له خمر حرد واستخف به، فيتوارى بالقدح ساعة ثم يعيده ويقول: هذه قهوة فيشربه، فلم يشرب القاضي إلا بمقدار ستة أسماء أو سبعة من أسماء الخمر حتى تبطّح في المجلس ولفّ في طيلسان أزرق عليه وحمل إلى داره.(4/1807)
[783] علي بن عبد الغني القروي الحصري الأندلسي:
قال صاحب «كتاب فرحة الأنفس» ، وهو محمد بن أيوب بن غالب الغرناطي: يكنى أبا الحسن، كان من أهل العلم بالنحو وشاعرا مشهورا وكان ضريرا طاف الأندلس ومدح ملوكها فمن ذلك قوله للمعتمد بن عباد عند موت أبيه المعتضد أبي عمرو عباد بن محمد «1» :
مات عباد ولكن ... بقي النجل الكريم
فكأنّ الميت حيّ ... غير أن الضاد ميم
ومدح بعض ملوك الأندلس فغفل عنه إلى أن حفزه الرحيل فدخل عليه وأنشده:
محبتي تقتضي ودادي ... وحالتي تقتضي الرحيلا
هذان خصمان لست أقضي ... بينهما خوف أن أميلا
ولا يزالان في اختصام ... حتى ترى رأيك الجميلا
ودخل على المعتصم محمد بن معن بن صمادح فأنشده قصيدة فلما انصرف تكلم المعتصم في أمره مع وزرائه وكتّابه ليرى رأيهم فيه، فنقل إليه عن الكاتب أبي الأصبغ ابن أرقم كلام أحفظه فانصرف ودخل على ابن صمادح وأنشده:
يا أيها السيد المعظم ... لا تطع الكاتب ابن أرقم
لأنه حية وتدري ... ما فعلت بأبيك آدم
__________
[783]- ترجمة الحصري في الجذوة: 296 (وبغية الملتمس رقم: 1229) والصلة: 410 والسلفي: 63، 110، 111 والذخيرة 4/1: 245 والخريدة 2: 186 وابن خلكان 3: 331 وعبر الذهبي 3: 321 وطبقات ابن الجزري 1: 550 ونكت الهميان: 213 والشذرات 3: 385 وقد ترجم له في المسالك ثلاث مرات 11: 375، 455، 468 والأخيرة منها خطأ باسم علي بن عبد العزيز، وله شعر في نفح الطيب والمطرب والحلة السيراء 2: 54 وذكر خبره في الحلة 2: 67 مع المعتمد (نقلا عن الذخيرة) وتكرر هذا الخبر في المعجب: 205، ومن الغريب ان صاحب أدباء مالقة حين ترجم له (ص 157) عده من أهل سبتة، وقد قام الأستاذان محمد المرزوقي والجيلاني بن الحاج بدراسة عنه مرفقة بما وجداه من رسائله وأشعاره مع ديوانه المعشرات واقتراح القريح.(4/1808)
وحكى أبو العباس البلنسي الأعمى أيضا عنه وكان من تلاميذه، وهذان البيتان متنازعان «1» بينهما لا أدري لمن هي منهما:
وقالوا قد عميت فقلت كلّا ... وإني اليوم أبصر من بصير
سواد العين زاد سواد قلبي ... ليجتمعا على فهم الأمور
وذكره الحميدي وقال: دخل الأندلس بعد الخمسين وأربعمائة، وأنشدني بعضهم له:
ولما تمايل من سكره ... ونام دببت لأعجازه
فقال ومن ذا فجاوبته ... عم يستدلّ بعكازه.
[784] علي بن أبي طالب أمير المؤمنين
صلوات الله عليه وسلامه، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب عامر وهو شيبة الحمد لقب له، ابن هاشم واسمه عمرو بن عبد مناف وهو المغيرة، ابن قصي واسمه زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف: أخباره عليه السلام كثيرة وفضائله شهيرة إن تصدينا لاستيعابها وانتخاب مستحسنها «2» كانت أكبر حجما من جميع كتابنا هذا. مات صلوات الله عليه يوم الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربعين للهجرة، وكانت خلافته أربع سنين وتسعة أشهر، ومدة عمره فيها خلاف على ما نذكره فيما بعد، ولا بد من ذكر جمل من أمره على سبيل التاريخ يستدل بها على مجاري أموره، ونتبعها بذكر ولده ومن أعقب منهم ومن لم يعقب، وذكر شيء مما صح من شعره وحكمه.
__________
[784]- ترجمة الإمام عليّ في المصادر القديمة والمراجع الحديثة لا تكاد تحصى، والمقصود هنا صلته بنشأة علم النحو، وذلك أيضا وارد بإيجاز أحيانا وبإسهاب أحيانا في تراجم النحويين.(4/1809)
وكان عليه السلام أول من وضع النحو وسن العربية، وذلك أنه مرّ برجل يقرأ إن الله بريء من المشركين ورسوله بكسر اللام، فوضع النحو وألقاه إلى أبي الأسود الدئلي، وقد استوفينا خبر ذلك في باب أبي الأسود.
قرأت بخط أبي منصور محمد بن أحمد الأزهري اللغوي في «كتاب التهذيب» له قال أبو عثمان المازني: لم يصحّ عندنا أن علي بن أبي طالب عليه السلام تكلم من الشعر بشيء غير هذين البيتين:
تلكم قريش تمنّاني لتقتلني ... فلا وجدك ما برّوا ولا ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمّتي لهم ... بذات روقين لا يعفو لها أثر
قال ويقال داهية ذات روقين وذات ودقين إذا كانت عظيمة.
كان قد بويع له يوم قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم كانت وقعة الجمل بعد ذلك بخمسة أشهر وأحد وعشرين يوما، وعدة من قتل في وقعة الجمل ثمانية آلاف، منهم من الأزد خاصّة أربعة آلاف، ومن ضبة الف ومائة، وباقيهم من سائر الناس، وقيل أقل من ذلك، ومن أصحاب علي صلوات الله عليه نحو الف، وكانت الوقعة لعشر خلون من جمادى الأولى سنة ست وثلاثين، وكان بين وقعة الجمل والتقائه مع معاوية بصفين سبعة أشهر وثلاثة عشر يوما، وكان أول يوم وقعت الحرب بينهم بصفين غرة صفر سنة سبع وثلاثين، واختلف في عدة أصحابهما فقيل كان علي في تسعين ألفا وكان معاوية في مائة وعشرين ألفا، وقيل كان معاوية في تسعين ألفا وعلي عليه السلام في مائة وعشرين ألفا، وهذا أولى بالصحة. وقتل بصفين سبعون ألفا من أصحاب علي عليه السلام: خمسة وعشرون ألفا منهم خمسة وعشرون من الصحابة، وقتل من أصحاب معاوية خمسة وأربعون ألفا، وقيل غير ذلك. وكان المقام بصفين مائة يوم وعشرة أيام، وكانت الوقائع تسعين وقعة. وبين وقعة صفين والتقاء الحكمين وهما أبو موسى الأشعري وعمرو بن العاص بدومة الجندل خمسة أشهر وأربعة وعشرون يوما، وبين التقائهما وخروج علي عليه السلام إلى الخوارج بنهروان وقتله إياهم سنة وشهران، وكان الخوارج أربعة آلاف عليهم عبد الله بن وهب الراسبي من الأزد، وليس براسب بن جرم بن زبان، وليس في العرب غيرهما. فلما نزل علي عليه السلام(4/1810)
تفرقوا فبقي منهم ألف وثمانمائة، وقيل ألف وخمسمائة، فقتلوا إلا نفرا يسيرا. وكان سبب تفرق الخوارج عنه أنهم تنازعوا عند الاحاطة بهم فقالوا: أسرعوا الروحة إلى الجنة، فقال عبد الله بن وهب: ولعلها إلى النار، فقال من فارقه: ترانا نقاتل مع رجل شاكّ؟! وبين خروجه إلى الخوارج وقتل ابن ملجم لعنه الله تعالى له سنة وخمسة أشهر وخمسة أيام.
واختلف في مدة عمره فقال قوم: إنه استشهد وله ثمان وستون سنة في قول من يذهب إلى أنه أسلم وله خمس عشرة سنة، وقيل ست وستون، وهو قول من يذهب إلى أنه أسلم وله ثلاث عشرة سنة، وقيل ثلاث وستون وهو قول من يرى أنه أسلم وله عشر سنين، وقيل ثمان وخمسون وهو قول من زعم أنه أسلم وله خمس سنين، وهذا أقل ما قيل في مقدار عمره.
واختلف في موضع قبره فقيل بالغري، وهو الموضع المشهور اليوم، وقيل بمسجد الكوفة، وقيل برحبة القصر بها، وقيل حمل إلى المدينة فدفن مع فاطمة صلوات الله عليهما وسلامه.
وكان أسمر عظيم البطن أصلع أبيض الرأس واللحية أدعج عظيم العينين، ليس بالطويل ولا القصير، تملأ لحيته صدره لا يغيّر شيبه، وكان له من البنين أحد عشر:
الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية، وأمه خولة بنت جعفر سبية، وعمر، أمه أم حبيب الصهباء بنت ربيعة تغلبية، والعباس، أمه أم البنين بنت حزام «1» بن خالد من بني عامر بن صعصعة، وعبد الله يكنى أبا بكر، وعثمان وجعفر ومحمد الأصغر، وقيل هو الذي يكنى أبا بكر، وعبيد الله ويحيى. المعقبون منهم خمسة: الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعمر والعباس عليهم السلام. وله من البنات ست عشرة منهن زينب وأم كلثوم التي تزوجها عمر بن الخطاب، وأمهما فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فالعقب للحسن بن علي عليهما السلام من زيد والحسن، والعقب لزيد من الحسن بن زيد، والعقب للحسن بن الحسن من جعفر وداود وعبد الله والحسن وإبراهيم، والعقب للحسين عليه السلام من علي الأصغر بن الحسين،(4/1811)
والعقب لعلي بن الحسين من محمد وعبد الله وعمر وزيد والحسين بني علي عليهم السلام. والعقب لمحمد بن الحنفية من جعفر وعلي وعون وإبراهيم، والعقب لجعفر بن محمد من عبد الله، ولعلي بن محمد من عون، ولعون بن محمد ولإبراهيم بن محمد. فأما أبو هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية، وهو أكبر ولده، فقد ظنّ قوم أنه أعقب وليس الأمر كذلك. والعقب لعمر بن علي بن أبي طالب من محمد بن عمر، والعقب لمحمد بن عمر لعمر ولعبد الله وجعفر. والعقب للعباس من عبيد الله بن العباس، والعقب لعبيد الله من الحسين وعبد الله عليهم الصلاة والسلام أجمعين.
ومما يروى أن معاوية كتب إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام:
إن لي فضائل، كان أبي سيدا في الجاهلية، وصرت ملكا في الإسلام، وأنا صهر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخال المؤمنين وكاتب الوحي. فقال أمير المؤمنين عليه السلام أبا الفضائل تفتخر عليّ يا ابن آكلة الأكباد؟! اكتب إليه يا غلام:
محمد النبيّ أخي وصهري ... وحمزة سيد الشهداء عمّي
وجعفر الذي يضحي ويمسي ... يطير مع الملائكة ابن أمي
وبنت محمد سكني وعرسي ... مشوب لحمها بدمي ولحمي
وسبطا أحمد ولداي منها ... فأيكم له سهم كسهمي
سبقتكم إلى الإسلام طرّا ... صغيرا ما بلغت أوان حلمي «1»
فقال معاوية: اخفوا هذا الكتاب لا يقرأه أهل الشام فيميلوا إلى ابن أبي طالب.
قرأت في «كتاب الأمالي» «2» لأبي القاسم الزجاجي قال حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري صاحب أبي عثمان المازني قال حدثنا أبو حاتم(4/1812)
السجستاني عن يعقوب بن إسحاق الحصرمي قال حدثنا سعيد بن سلم الباهلي قال حدثني أبي عن جدي عن أبي الأسود الدئلي، أو قال عن جدي عن ابن أبي الأسود الدئلي عن أبيه قال: دخلت على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فرأيته مطرقا مفكّرا فقلت: فيم تفكر يا أمير المؤمنين؟ قال: إني سمعت ببلدكم هذا لحنا فأردت أن أضع كتابا في أصول العربية، فقلت: إن فعلت هذا يا أمير المؤمنين أحييتنا وبقيت فينا هذه اللغة، ثم أتيته بعد أيام «1» فألقى إليّ صحيفة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم الكلام كله اسم وفعل وحرف، فالاسم ما أنبأ عن المسمى، والفعل ما أنبأ عن حركة المسمى، والحرف ما أنبأ عن معنى ليس باسم ولا فعل، ثم قال لي: تتبعه وزد فيه ما وقع لك، واعلم يا أبا الأسود أن الأشياء ثلاثة ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر «2» . قال: فجمعت منه أشياء وعرضتها عليه، وكان من ذلك حروف النصب فكان منها إنّ وأنّ وليت ولعل وكأنّ ولم أذكر لكن، فقال لي: لم تركتها؟
فقلت: لم أحسبها منها فقال: بل هي منها فزدها فيها.
قال أبو القاسم «3» قوله عليه السلام الأشياء ثلاثة ظاهر ومضمر وشيء ليس بظاهر ولا مضمر فالظاهر رجل وفرس وزيد وعمرو وما أشبهه، والمضمر نحو أنا وأنت والتاء في فعلت والياء في غلامي والكاف في ثوبك وما أشبه ذلك، وأما الشيء الذي ليس بظاهر ولا مضمر فالمبهم نحو هذا وهذه وهاتا وتا ومن وما والذي وأي وكم ومتى وأين وما أشبه ذلك.
[785] علي بن عبد الملك بن العباس القزويني
، أبو طالب النحوي: كان أبوه أبو علي عبد الملك من أهل العلم ورواية الحديث وسمع أبو طالب جماعة منهم مهرويه
__________
[785]- ترجمته في بغية الوعاة 2: 178.(4/1813)
وأبو الحسن علي بن إبراهيم القطان. قال الخليلي: وهو إمام في شأنه قرأنا عليه وأخذ عنه الخلق، ومات في آخر سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وخلف أولادا صغارا اشتغلوا بما لا يعنيهم فقتلوا، وأخوه علي أبو الحسن سمع الحديث لكنه كان كاتبا فلم يسمع منه، وأبو علي ابنه سمع الحديث وقرأ الفقه ثم اشتغل بالكتابة فمات في الغربة، وقد انقطع نسله.
[786] علي بن عبيدة الريحاني:
أحد البلغاء الفصحاء، من الناس من يفضله على الجاحظ في البلاغة وحسن التصنيف، مات «1» [ ... ] ، وكان له اختصاص بالمأمون ويسلك في تأليفاته وتصنيفاته طريقة الحكمة وكان يرمى بالزندقة. وله مع المأمون أخبار: منها أنه كان بحضرة المأمون فجمش غلاما، فرآهما المأمون فأحبّ أن يعلم هل علم عليّ أم لا، فقال له: أرأيت؟ فأشار عليّ بيده وفرق أصابعه أي خمسة، وتصحيف خمسة جمّشه، وغير ذلك من الأخبار المتعلقة بالفطنة والذكاء.
وقال جحظة في «أماليه» حدثني أبو حرملة قال قال علي بن عبيدة الريحاني:
حضرني ثلاثة تلاميذ لي فجرى لي كلام حسن، فقال أحدهم: حقّ هذا الكلام أن يكتب بالغوالي على خدود الغواني، وقال الآخر: بل حقه أن يكتب بأنامل الحور على النور، وقال الآخر: بل حقه أن يكتب بقلم الشكر في ورق النعم.
ومن مستحسن أخباره المطربة أنه قال: أتيت باب الحسن بن سهل فأقمت ببابه ثلاثة أشهر لا أحظى منه بطائل فكتبت إليه:
مدحت ابن سهل ذا الأيادي وما له ... بذاك يد عندي ولا قدم بعد
__________
[786]- ترجمة علي بن عبيدة في الفهرست: 133 وتاريخ بغداد 12: 18 والنجوم الزاهرة 2: 231 وله أخبار وأقوال في البصائر للتوحيدي، وقد نشرت ما اختاره الوزير المغربي من كتبه بمجلة الأبحاث (الجامعة الامريكية، 1981، السنة 29 ص 3- 31) وألحقت بها ما وجدته له مبثوثا في المصادر المتيسرة.(4/1814)
وما ذنبه والناس إلا أقلّهم ... عيال له إن كان لم يك لي جدّ
سأحمده للناس حتى إذا بدا ... له فيّ رأي عاد لي ذلك الحمد
فبعث إليّ: باب السلطان يحتاج إلى ثلاث خلال: مال وعقل وصبر. فقلت للواسطة: تؤدي عنّي، قلت تقول له: لو كان لي مال لأغناني عن الطلب منك، أو صبر لصبرت على الذلّ ببابك، أو عقل لاستدللت به على النزاهة عن رفدك، فأمر لي بثلاثين ألف درهم.
قرأت بخط أبي الفضل العباس بن علي بن برد الخيار أخبرني أبو الفضل أحمد بن طاهر قال «1» : كنت في مجلس بعض أصدقائي يوما وكان معي علي بن عبيدة الريحاني في المجلس، وفي المجلس جارية كان علي يحبها، فجاء وقت الظهر فقمنا إلى الصلاة وعلي والجارية في الحديث، فأطالا حتى كادت الصلاة تفوت، فقلت له: يا أبا الحسن قم إلى الصلاة، فأومأ بيده إلى الجارية وقال: حتى تغرب الشمس، أي حتى تقوم الجارية. قال: فجعلت أتعجب من حسن جوابه وسرعته وكنايته.
وله من الكتب «2» . كتاب المصون. كتاب التدرّج. كتاب رائد الود «3» . كتاب المخاطب. كتاب الطارف. كتاب الهاشمي. كتاب الناشىء. كتاب الموشح.
كتاب الجدّ. كتاب شمل الألفة. كتاب الزمام. كتاب المتحلي. كتاب الصبر.
كتاب سناوبها «4» . كتاب مهرازاد خشيش. كتاب صفة الدنيا. كتاب روشنائدل «5» .
كتاب سفر الجنة. كتاب الأنواع. كتاب الوشيج. كتاب العقل والجمال. كتاب أدب جوانشير. كتاب شرح الهوى. كتاب الطاوس «6» . كتاب المسجى. كتاب أخلاق(4/1815)
هارون. كتاب الأسنان. كتاب الخطب. كتاب الناجم. كتاب صفة الفرس. كتاب النبيه. كتاب المشاكل. كتاب فضائل إسحاق. كتاب صفة الموت. كتاب السمع والبصر. كتاب اليأس والرجاء. كتاب صفة العلماء. كتاب آيين الملك. كتاب المؤمّل والمهيب. كتاب ورود وودود الملكتين. كتاب النملة والبعوضة. كتاب المعاقبات. كتاب مدح النديم. كتاب الجمل. كتاب كتاب خطب المنابر. كتاب النكاح. كتاب الايقاع. كتاب الأوصاف. كتاب امتحان الدهر. كتاب الأجواد.
كتاب المجالسات. كتاب المنادمات.
قال: سأل المأمون يحيى بن أكثم وثمامة بن أشرس وعلي بن عبيدة الريحاني عن العشق ما هو فقال علي بن عبيدة «1» : العشق ارتياح في الخلقة، وفكرة تجول في الروح، وسرور منشأه الخواطر، له مستقر غامض ومحل لطيف المسالك يتصل بأجزاء القوى وينساب في الحركات. وقال يحيى: العشق سوانح تسنح للمرء فيهتم لها ويؤثرها. قال ثمامة يا يحيى إنما عليك أن تجيب في مسألة في الطلاق أو عن محرم يصطاد ظبيا، وأما هذه فمسألتنا، قال له المأمون: فما العشق يا ثمامة؟ قال: إذا تقادحت جواهر النفوس بوصل المشاكلة «2» أحدثت لمع برق ساطع تستضيء به نواظر العقول وتشرق له طبائع الحياة فيتولد من ذلك البرق نور خاص بالنفس متصل بجوهريتها يسمى عشقا، قال المأمون: يا ثمامة أحسنت، وأمر له بألف دينار.
[787] علي بن عبيد الله بن الدقاق
، أبو القاسم الدقيقي النحوي: أحد الأئمة العلماء في هذا الشأن، أخذ عن أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي وأبي الحسن
__________
[787]- ترجمة الدقيقي في بغية الوعاة 2: 178 (عن ياقوت) . وينقل ياقوت في هذه الترجمة عن تاريخ أبي المحاسن (تاريخ العلماء النحويين: 21- 22) .(4/1816)
الرماني، وكان مباركا في التعليم تخرج عليه خلق كثير لحسن خلقه وسجاحة سيرته، وكان مولده سنة خمس وأربعين وثلاثمائة، ومات فيما ذكره هلال بن المحسن في تاريخه في سنة خمس عشرة وأربعمائة وله تصانيف: منها كتاب شرح الإيضاح، رأيته منسوبا إليه وأنا أظنه شرح علي بن عبيد الله السمسمي لأنه محشوّ بقوله «قال السمسماني، قال السمسماني» ، وما أرى الدقاق ممن أخذ عن السمسماني وهو أكبر سنّا منه ومشايخهما ووفاتهما واحدة، ولكن اشتبه الاسم فنسب إلى هذا لشهرته بالنحو. وللدقيقي أيضا كتاب شرح الجرمي. كتاب العروض رأيته. كتاب المقدمات.
وذكر القاضي أبو المحاسن ابن مسعر قال: أبو القاسم علي بن عبيد الله الدقيقي صاحب أبي الحسن علي بن عيسى الرماني قرأ عليه كتاب سيبويه قراءة تفهم وأخذ بذلك خطه عليه وانتفع الناس به، وعنه أخذت وعلى روايته عوّلت.
[788] علي بن عبيد الله السمسمي
، أبو الحسن اللغوي النحوي: كان جيد المعرفة بفنون علم العربية صحيح الخط غاية في إتقان الضبط، قرأ على أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي وكان ثقة في روايته، مات في محرم سنة خمس عشرة وأربعمائة في خلافة القادر بالله.
حدث ابن نصر قال حدثني الشيخ أبو القاسم ابن برهان النحوي قال قال لنا أبو الحسن السمسمي، وقد سأله رجل مسألة من مسائل النوكى: حضر مجلس أبي عبيدة رجل فقال: رحمك الله أبا عبيدة ما العنجيد؟ قال: رحمك الله ما أعرف هذا، قال سبحان الله أين يذهب بك عن قول الأعشى:
يوم تبدي لنا قتيلة عن جي ... د تليع تزينه الأطواق
فقال: عافاك الله، عن حرف جاء لمعنى والجيد العنق. ثم قام آخر في
__________
[788]- ترجمة السمسمي في تاريخ بغداد 12: 10 وابن خلكان 3: 312 وبغية الوعاة 2: 178.(4/1817)
المجلس فقال: أبا عبيدة رحمك الله ما الأودع؟ قال: عافاك الله ما أعرفه، قال سبحان الله أين أنت عن قول العرب زاحم بعود أو دع فقال: ويحك هاتان كلمتان والمعنى أو اترك أو ذر، ثم استغفر الله وجعل يدرس، فقام رجل فقال: رحمك الله أخبرني عن كوفا أمن المهاجرين أم من الأنصار؟ قال: قد رويت أنساب الجميع وأسماءهم ولست أعرف فيهم كوفا. قال فأين أنت عن قوله تعالى والهدي معكوفا؟
قال: فأخذ أبو عبيدة نعليه واشتد ساعيا في مسجد البصرة يصيح بأعلى صوته: من أين حشرت البهائم عليّ اليوم.
ورأيت جماعة من أهل العلم يزعمون أن النسبة إلى السمسمي والسمسماني واحد يقال هذا ويقال هذا.
وكان أبو الحسن هذا مليح الخط صحيح الضبط حجة فيما يكتبه. ومن هذا البيت جماعة كتّاب مجيدون يذكر منهم في مواضعهم من يقع إلينا حسب الطاقة.
وحدث غرس النعمة ابن الصابىء في «كتاب الهفوات» قال «1» : كان أبو الحسن السمسماني متطيّرا فخرج يوم عيد من داره فلقيه بعض الناس فقال له مهنئا:
عرّف الله سيدنا الشيخ بركة شؤم هذا اليوم، فقال: وإياك يا سيدي، وعاد فأغلق بابه ولم يخرج يومه.
ووجدت في بعض الكتب هذه الأبيات منسوبة إلى أبي الحسن السمسمي:
دع مقلتي تبكي عليك بأربع ... إن البكاء شفاء قلب الموجع
ودع الدموع تكفّ جفني في الهوى ... من غاب عنه حبيبه لم يهجع
ولقد بكيت عليك حتى رقّ لي ... من كان فيك يلومني وبكى معي
ووجدت بخط أبي الحسن السمسماني على ظهر كتاب المزني صاحب الشافعي رحمهما الله: كان كثيرا ما يتمثل:
يصون الفتى أثوابه حذر البلى ... ونفسك أحرى يا فتى لو تصونها(4/1818)
فمن ذا الذي يرعاك بالغيب أو يرى ... لنفسك إكراما وأنت تهينها
قرأت بخط الشيخ أبي محمد ابن الخشاب النحوي، أنشدنا أبو بكر المزرفي الفرضي، أنشدنا أبو بكر الخطيب، أنشدنا علي بن عبيد الله السمسمي النحوي [اللغوي] :
أترى الجيرة الذين تنادوا ... بكرة للزيال قبل الزوال
علموا أنني مقيم وقلبي ... معهم واخد أمام الجمال
مثل صاع العزيز في أرحل القو ... م ولا يعلمون ما في الرحال.
[789] علي بن عساكر بن المرحّب
، أبو الحسن المقرىء النحوي المعروف بالبطائحي الضرير: كان يزعم أنه من عبد القيس، وهو من قرية من قرى البطائح تعرف بالمحمدية قريبة من الصليق. مات ببغداد في ثامن عشر شعبان سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة ومولده سنة تسع وأربعمائة، وكان قد قدم بغداد واستوظنها إلى حين وفاته، وقرأ القرآن على أبي العز القلانسي الواسطي وأبي عبد الله البارع ابن الدباس وأبي بكر ابن المزرفي وأبي محمد ابن بنت الشيخ، وقرأ النحو على البارع وغيره، وسمع الحديث من جماعة، وأقرأ الناس مدة وحدث بالكثير وكان ثقة مأمونا.
قال صدقة بن الحسين بن الحداد في «تاريخه» «1» : كان سبب وفاة البطائحي أنه ظهر به ناصور مما يلي تحت كتفه «2» فبقي به مدة طويلة ينز إلى خارج البدن ثم
__________
[789]- المنتظم 10: 267 وإنباه الرواة 2: 298 ومختصر ابن الدبيثي 3: 132 ونكت الهميان: 214 وطبقات ابن الجزري 1: 556 وعبر الذهبي 4: 215 وذيل ابن رجب 1: 335 والشذرات 4: 242 والنجوم الزاهرة 6: 80 وبغية الوعاة 2: 179 وله ترجمة في معرفة القراء الكبار؛ والمرحّب- بتثقيل الحاء كما ضبطه الذهبي في المشتبه.(4/1819)
انفتح إلى باطنه فهلك به، وأوصى لطغندي صاحبه الذي كان يقرأ عليه الحديث ويقربه من جهة النساء بثلث ماله، ووقف كتبه على مدرسة الشيخ عبد القادر الجيلي، وخلف مقدار أربعمائة دينار ودارا في دار الخلافة.
[790] علي بن علي أبو الحسن البرقي:
قال الحافظ أبو الحسن علي بن الفضل المقدسي: في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة مات علي بن علي أبو الحسن البرقي النحوي الشاعر، ولم يذكر غير ذلك.
[791] علي بن عرّاق الصنّاري، أبو الحسن الخوارزمي:
مات سنة تسع وثلاثين وخمسمائة بمذانة، قرية من قرى خوارزم، ذكر ذلك أبو محمد محمود بن محمد بن أرسلان في «تاريخ خوارزم» وقال: كان نحويّا لغويّا عروضيّا فقيها مفسّرا مذكرا، قرأ الأدب على الشيخ أبي علي الضرير النيسابوري، والفقه بخوارزم على الإمام أبي عبد الله الوبري، ثم ارتحل في الفقه الى بخارى فتفقه بها على مشايخها، ثم عاد الى جرجانية خوارزم فتكلم في مسائل مع أئمتها، ثم تحوّل إلى قرية مذانة وتوطنها، وكان يعظ في المسجد الجامع بها غداة الجمعة، وكان يحفظ اللغات الغريبة والأشعار العويصة وصنف «كتاب شماريخ الدرر» في تفسير القرآن ولما فرغ منه كتب في آخره:
فرغنا من كتابته عشيّا ... وكان الله في عوني وليّا
وقد أدرجته نكتا حسانا ... ومعنى يشبه الرّطب الجنيّا
قال: وقرأت بخط أبي عمرو البقال: كان من لطائف الصناري إذا نام واحد من
__________
[790]- ترجمة البرقي في بغية الوعاة 2: 180 (عن ياقوت) .
[791]- ترجمة الصناري في بغية الوعاة 2: 179 (عن ياقوت) .(4/1820)
أهل الرستاق في مجلسه ناداه من على المنبر بأعلى صوته يا أيها التيس المذانقي اترك المنام واسمع الكلام، ثم ينشد «1» :
وصاحب نبّهته لينهضا ... إذا الكرى في عينه تمضمضا
فقام عجلان وما تأرّضا ... يمسح بالكفين وجها أبيضا
ثم يقول: تمضمض من النعاس إذا دبّ في عينه، ومنه المضمضة في الوضوء سميت بذلك لأن الغاسل يمضمض الماء في فمه أي يدبّها ويجريها فيه.
[792] علي بن عيسى أبو الحسن الصائغ
النحوي غلام ابن شاهين الرامهرمزي: قال القاضي أبو علي التنوخي حدثني أبو عمر أحمد بن محمد بن حفص الخلال قال: كان أبو الحسن الصائغ النحوي الرامهرمزي واسع العلم والأدب مليح الشعر، وهو صاحب القصيدة التي أولها [ ... ] وفيها تجوّز كثير وأمر بخلاف الجميل قالها على طريق التخالع والتطايب، وكان صالحا معتقدا للحقّ لا عن اتساع في العلم- يعني علم الكلام- ولكنه كان واسع المعرفة بالنحو واللغة والأدب. وأبو الحسن الصائغ هذا هو أستاذ أبي هاشم ابن أبي علي الجبائي بعد أبي بكر المبرمان في النحو، قرأ عليه لما ورد البصرة واستفاد منه حتى بلغ أعلى مراتب النحو، حتى قال ابن درستويه:
اجتمعت مع أبي هاشم فألقى عليّ بمائتي مسألة من غريب النحو ما سمعت بها قط ولا كنت أحفظ جوابها، وقد ذكرت قصّته مع أبي هاشم بكمالها في ترجمة أبي هاشم عبد السلام «2» . وقال أبو عمر الخلال: أنفذني الصيدلاني أبو عبد الرحمن المعتزلي غلام أبي علي الجبائي إلى أبي الحسن الرامهرمزي وقال لي قل له إني قرأت البارحة في كتاب شيخنا أبي علي في تفسير القرآن في قوله تعالى:
__________
[792]- بغية الوعاة 2: 182.(4/1821)
وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا*
(الأنعام: 112) أي بيّنّا لكل نبي عدوّه فجعل [جعل] «1» بمعنى بيّن، ولست أعرف هذا في اللغة، فاحفظ جوابه وجئني به، قال: فجئت إلى أبي الحسن فأخبرته بذلك عن عبد الرحمن فقال: نعم هذا معروف في لغة العرب وقد قال الغريفي العنسي (بالنون) :
جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا ... على ثبت من أمرهم حيث يمّموا
قال فعدت إلى عبد الرحمن فعرفته ذلك.
قلت: هكذا وجدت هذا الخبر والكلمة المسؤول عنها غير مبينة فمن عرفها وكان من أهل العلم فله أن يصلحها.
وقال أبو محمد عبيد الله بن أبي القاسم عبد المجيد بن بشران «2» الخوزستاني:
وفي سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة مات أبو الحسن علي بن عيسى الصائغ الرامهرمزي الشاعر، وقد كان شخص إلى إبراهيم المسمعي ثم عدل إلى درك بسيراف، فخرج مع درك في هيج كان من العامة بها وقد رموه بالمقاليع، فأصاب علي بن عيسى حجر فهلك، وكان شاعرا عالما، فمن شعره:
سهادي غير مفقود ... ونومي غير موجود
وجري الدمع في الخدّ ... كنظم الدرّ في الجيد
لفعل الشيب في اللمّ ... ة لا للخرّد الغيد
لقد صار بي الشيب ... إلى لوم وتفنيد
وما المرء إذا شاب ... لديهنّ بمودود
وهي طويلة مدح فيها أهل البيت، وكان لهم مدّاحا.(4/1822)
[793] علي بن عيسى بن داود بن الجراح، أبو الحسن الوزير:
كانت «1» منزلته من الرياسة، ومعرفته بالعدل والسياسة، تجلّ عن وصفها، ومن حسن الصناعة والكفاية ما هو مشهور مذكور. وزر للمقتدر بالله دفعتين، ومات في ليلة اليوم الذي عبر معز الدولة في صبيحته إلى بغداد وهو يوم الجمعة انتصاف الليل من سلخ ذي الحجة سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة، ودفن في داره، وعمره تسع وثمانون سنة ونصف، وحمّ يوما واحدا، ومولده في جمادى الآخرة سنة خمس وأربعين ومائتين.
وله كتاب جامع الدعاء. كتاب معاني القرآن وتفسيره أعانه عليه أبو الحسين الواسطيّ وأبو بكر ابن مجاهد. كتاب رسائله.
كان تقلده للوزارة الأولى في محرم سنة احدى وثلاثمائة وبقي فيها أربع سنين غير شهر، والأخرى في صفر سنة خمس عشرة وثلاثمائة وبقي فيها سنة وأربعة أشهر ويومين.
وكان يستغل ضياعه في السنة سبعمائة ألف دينار يخرج منها في وجوه البر ستمائة ألف دينار وستين ألف دينار، وينفق أربعين ألف دينار على خاصته، وكانت غلّته عند عطلته ولزومه بيته نيفا وثمانين ألف دينار يخرج منها في وجوه البر نيفا وأربعين ألفا وينفق ثلاثين ألفا على نفسه، وكان يرتفع لابن الفرات وهو متعطل ألف ألف دينار.
قال الصولي «2» : ولا أعلم أنه وزر لبني العباس وزير يشبهه في زهده وعفته وحفظه للقرآن وعلمه بمعانيه، وكان يصوم نهاره ويقوم ليله.
__________
[793]- ترجمته في تاريخ بغداد 12: 14 والفهرست: 142 والمنتظم 6: 351 واعتاب الكتاب: 186 وسير الذهبي 15: 298 وعبر الذهبي 2: 238 ومرآة الجنان 2: 316 والبداية والنهاية 11: 217 والنجوم الزاهرة 3: 288 والشذرات 2: 336 وأخباره في الكتب التاريخية كابن الأثير والفخري ... الخ وراجع نشوار المحاضرة، وانظر كتاب، Bowen:the life and times of AliibnIsa كيمبردج ولندن 1928.(4/1823)
قال الصولي: ولا أعلم أنني خاطبت أحدا أعرف منه بالشعر وكان يوقّع بيده في جميع ما يحتاج إليه مما كان يوقّع فيه أصحاب الدواوين في وزارته من قبله، وكان يحضر مائدته وهو متولّ على ديوان المغرب جماعة من أهل العلم في كل ليلة. قال الصولي: ثم رأيتها وقد نقصت عند وزارته، فسألت أبا العباس أحمد بن طومار الهاشمي عن السبب فقال: قد اقتصر في نفقته وأجرى الفاضل على أولاد الصحابة بالمدينة. وجلس للمظالم فأنصف الناس فأخذ للضعيف من القوي، وتناصف الناس بينهم، ولم يروا أعفّ بطنا ولسانا وفرجا منه. ولما عزل في وزارته الثانية وولي ابن الفرات لم يقنع المحسن بن أبي الحسن ابن الفرات إلا بإخراجه عن بغداد فخرج إلى مكة فأقام بها مهاجرا، وقال في نكبته «1» :
ومن يك عني سائلا لشماتة ... لما نابني أو شامتا غير سائل
فقد أبرزت مني الخطوب ابن حرّة ... صبورا على أهوال تلك الزلازل
إذا سرّ لم يبطر وليس لنكبة ... إذا نزلت بالخاشع المتضائل
ولما حبس كان يلبس ثيابه ويتوضأ للصلاة ويقوم ليخرج لصلاة الجمعة فيردّه المتوكلون، فيرفع يده إلى السماء ويقول: اللهم إني أشهدك أنني أريد طاعتك ويمنعني هؤلاء. وأشار على المقتدر أن يقف المستغلّات ببغداد على الحرمين والثغور، وغلتها ثلاثة عشر ألف دينار في كل شهر، والضياع الموروثة بالسواد وارتفاعها نيف وثمانون الف دينار سوى اللغة، ففعل ذلك، وأشهد على نفسه الشهود، وأفرد لهذه الوقوف ديوانا سماه ديوان البرّ. ورأى آثار سعيه لآخرته في دنياه، فإنه سلم من جميع البلاء على كثرة من عاداه وقصده، ومنع حواشي المقتدر من المحالات، وحملهم على السيرة الجميلة فأفسدوا أمره حتى اعتقل ثمانية عشر شهرا ثم نفي إلى مكة واليمن ومصر، ثم عاد ووزر بعد ذلك. واحتاج إلى المشي في بعض أسفاره فجعل يتمثل:
قد علمت إخوتنا كلاب ... أنا على دقّتنا صلاب
وكان الديلم عند دخولهم إلى بغداد إذا اجتازوا على محلته تجنبوها ويقولون:(4/1824)
هاهنا دار الوزير الصالح، وكانت داره على دجلة وهي المعروفة بالستّيني واحتاجت مسنّاتها إلى مرمّة فقدروا لها صناعها ثلاثة آلاف دينار فلما أحضر الدنانير قال: صرفها في الصدقة أولى. وليس اليوم على دجلة بين البلد والمعزية غيرها وهي مشهورة ببغداد إلى يومنا هذا، قد عمل عليها عدة دواليب لسقي مزارع الزاهر.
ونزل يوما في طياره فاجتمع عليه قوم يسألونه توقيعا فقال: نعم وكرامة حتى أرجع وأوقع، ثم قال: ومن لي بأن أرجع، ووقع لهم قائما ثم قال: اقتديت بهذا الفعل بعمر بن عبد العزيز فإنه وقف على متظلم وأطال الوقوف حتى قضى حاجته وقال: إن الخير سريع الذهاب وخشيت أن أفوته بنفسي.
ولما ورد البريديّ إلى بغداد مستوليا عليها متغلبا خوّف منه وقيل: الصواب أن تهرب إلى الموصل، فقال: أيهرب مخلوق إلى مخلوق؟! اصرفوا ما أعددته لنفقة الطريق إلى الفقراء، فلما دخل البريدي لم يكرم أحدا غيره. وكثر الموتان ببغداد في أيام البريدي فكفّن علي بن عيسى من الغرباء والفقراء ما لا يحصى كثرة حتى نفد ما كان عنده فاستدان لذلك أموالا كثيرة. وكان يجري على خمسة وأربعين ألف إنسان جرايات تكفيهم، وخدم السلطان سبعين سنة لم يزل فيها نعمة عن أحد، وأحصي له في أيام وزارته نيف وثلاثون ألف توقيع من الكلام السديد، ولم يقتل أحدا ولا سعى في دمه، فبقيت عليه نعمته وعلى ولده بعد أن شحذت له المدى مرارا فدفع الله عنه وأهلك ظالمه، ولم يهتك حرمة قطّ لأحد فلم يهتك الله له حرمة مع كثرة نكباته.
وكان على خاتمه مكتوب:
لله صنع خفيّ ... في كلّ أمر يخاف
وكان له ابن يكنى أبا نصر واسمه ابراهيم وزر للمطيع في شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين ومات في جمادى الأولى سنة خمسين وثلاثمائة فجاءة، وبن يكنى أبا القاسم واسمه عيسى بن علي كتب للطائع لله.
ودخل علي بن عيسى على أبي نصر وأبي محمد ولدي القاضي أبي الحسن عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف يعزيهما بموت أبيهما، فلما أراد الانصراف التفت(4/1825)
إليهما وقال: مصيبة قد وجب أجرها خير من نعمة لا يؤدّى شكرها؛ وهذا عندي من حر الكلام وفصل الخطاب.
[794] علي بن عيسى بن علي بن عبد الله
الرمّاني أبو الحسن الوراق: كذا قال الزبيديّ، وقال التنوخي هو يعرف بالاخشيذي. قال التنوخي: وممن ذهب في زماننا إلى أن عليا عليه السلام أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المعتزلة أبو الحسن علي ابن عيسى النحوي المعروف بابن الرماني الاخشيذي.
قال المؤلف: أرى أنه كان تلميذ ابن الاخشيذ المتكلم أو على مذهبه لأنه كان متكلما على مذهب المعتزلة وله في ذلك تصانيف مأثورة.
وكان إماما في علم العربية علّامة في الأدب في طبقة أبي عليّ الفارسيّ وأبي سعيد السيرافي، وكان قد شهد عند أبي محمد ابن معروف. مات في حادي عشر جمادى الأولى سنة أربع وثمانين وثلاثمائة في خلافة القادر بالله، ومولده في سنة ست وسبعين ومائتين. أخذ عن ابن السراج وابن دريد والزجاج، وله تصانيف في جميع العلوم من النحو واللغة والنجوم والفقه والكلام على رأي المعتزلة، كما ذكرنا، وكان يمزج كلامه في النحو بالمنطق حتى قال أبو عليّ الفارسيّ: إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان النحو ما نقوله نحن فليس معه منه شيء.
وكان يقال: النحويون في زماننا ثلاثة: واحد لا يفهم كلامه وهو الرمانيّ، وواحد يفهم بعض كلامه وهو أبو علي الفارسيّ، وواحد يفهم جميع كلامه بلا أستاذ وهو السيرافيّ.
__________
[794]- ترجمة الرماني في الفهرست: 69 وطبقات الزبيدي: 86 وتاريخ بغداد 12: 16 والمنتظم 7: 176 وأنساب السمعاني 6: 160 ونزهة الألباء: 217 وإنباه الرواة 2: 294 وابن خلكان 3: 299 وسير الذهبي 16: 533 وعبر الذهبي 3: 25 وميزان الاعتدال 3: 149 والبداية والنهاية 11: 314 والبلغة: 159 ولسان الميزان 4: 248 والنجوم الزاهرة 4: 168 وبغية الوعاة 2: 180 وطبقات المفسرين للسيوطي: 24 وطبقات الداودي 1: 419 والشذرات 3: 109 وإشارة التعيين: 221 وللتوحيدي في الامتاع والمؤانسة والبصائر وغيرهما من مؤلفاته وقفات عنده، وقد طبع من مؤلفاته رسالة في إعجاز القرآن (ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن) .(4/1826)
وللرماني من التصانيف الأدبية: كتاب تفسير القرآن المجيد. وكتاب الحدود الأكبر. وكتاب الحدود الأصغر. وكتاب معاني الحروف. وكتاب شرح الصفات.
وكتاب شرح الموجز لابن السراج. وكتاب شرح الألف واللام للمازنيّ. كتاب شرح مختصر الجرميّ. كتاب إعجاز القرآن. كتاب شرح الأصول لابن السراج. وكتاب شرح سيبويه. وكتاب المسائل المفردات من كتاب سيبويه. كتاب شرح المدخل للمبرد. كتاب التصريف. كتاب الهجاء. كتاب الايجاز في النحو. كتاب الاشتقاق الكبير. كتاب الاشتقاق الصغير. كتاب الألفات في القرآن. كتاب شرح المقتضب.
كتاب شرح معاني الزجاج «1» .
قرأت بخط أبي حيان التوحيديّ في كتابه الذي ألفه في تقريظ الجاحظ وقد ذكر العلماء الذين كانوا يفضلون الجاحظ فقال: ومنهم علي بن عيسى الرماني فإنه لم ير مثله قطّ بلا تقيّة ولا تحاش ولا اشمئزاز ولا استيحاش علما بالنحو وغزارة في الكلام وبصرا بالمقالات واستخراجا للعويص وإيضاحا للمشكل، مع تأله وتنزه ودين ويقين وفصاحة وفقاهة وعفافة ونظافة.
وقرأت بخط أبي سعد، سمعت أبا طاهر السبخيّ سمعت أبا الكرام ابن الفاخر «2» النحوي، سمعت القاضي أبا القاسم علي بن المحسن التنوخي، سمعت شيخنا أبا الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي يقول، وقد سئل فقيل له لكل كتاب ترجمة فما ترجمة كتاب الله عز وجل فقال: هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ
(إبراهيم: 52) .
وقال أبو حيان: سمعت علي بن عيسى يقول لبعض أصحابه: لا تعادينّ أحدا وإن ظننت أنه لن ينفعك فإنك لا تدري متى تخاف عدوك أو تحتاج إليه، ومتى ترجو صديقك أو تستغني عنه. وإذا اعتذر إليك عدوك فاقبل عذره وليقلّ عيبه على لسانك.
قال أبو حيان: ورأيت في مجلس علي بن عيسى النحوي رجلا من مرو يسأله عن الفرق بين من وما وممن ومم، فأوسع له الكلام وبيّن وقسّم، وفرّق وحدّ، ومثّل وعلّق كلّ شيء منه بشرطه من غير أن فهم السائل أو تصوره، وسأل إعادته عليه وإبانته(4/1827)
له على ذلك مرارا من غير تصوّر حتى أضجره ومن حدّ الحلم أخرجه، فقال له: أيها الرجل يلزمني أن أبين للناس وأصوّر لمن ليس بناعس، وما عليّ أن أفهم البهم والشقر والدّهم؟! مثلك لا يتصور هذه المسألة بهذه العبارة وهذه الأمثلة، فإن أرحتنا ونفسك فذاك، وإلا فقد حصلنا معك على الهلاك، قم إلى مجلس آخر ووقت غير هذا، فأسمعه الرجل ما ساء الجماعة وعاد بالوهن والغضاضة، ووثب الناس إليه لضربه وسحبه فمنعهم من ذلك أشدّ منع بعد قيامه من صدر مجلسه ودفع الناس عنه، وأخرج صاغرا ذليلا مهينا، والتفت إلى أبي الحسن الدقاق وقال له: متى رأيت مثل هذا فلا يكوننّ منك إلا التؤدة والاحتمال، وإلا فتصير نظيرا لخصمك وتعدم في الوسط فضل التمييز، وأنشأ يقول «1» :
ولولا أن يقال هجا نميرا ... ولم نسمع لشاعرها جوابا
رغبنا عن هجاء بني كليب ... وكيف يشاتم الناس الكلابا.
[795] علي بن عيسى بن الفرج بن صالح الربعي
الزهيري أبو الحسن النحوي:
أحد أئمة النحويين وحذّاقهم الجيدي النظر الدقيقي الفهم والقياس، أخذ عن أبي سعيد السيرافي، وهاجر إلى شيراز فأخذ عن أبي علي الفارسي ولازمه عشرين سنة، فقال له أبو علي «2» : ما بقي شيء تحتاج إليه ولو سرت من الشرق إلى الغرب لم تجد أعرف منك بالنحو، ثم رجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات سنة عشرين وأربعمائة عن نيف وتسعين سنة.
__________
[795]- ترجمة الربعي في تاريخ بغداد 12: 17 والمنتظم 8: 46 ونزهة الألباء: 233 وإنباه الرواة 2: 297 وابن خلكان 3: 336 وسير الذهبي 17: 392 وعبر الذهبي 3: 138 والنجوم الزاهرة 4: 271 وبغية الوعاة 2: 181 (عن ياقوت) والشذرات 3: 216 وإشارة التعيين: 223. ومن كتبه المطبوعة نظام الغريب.(4/1828)
وصنف تصانيف منها: كتاب شرح الايضاح لأبي عليّ. وكتاب شرح مختصر الجرميّ. وكتاب البديع في النحو. وكتاب شرح البلغة. وكتاب ما جاء من المبنيّ على فعال. وكتاب التنبيه على خطأ ابن جني في فسر شعر المتنبي. وكتاب شرح سيبويه إلا أنه غسله، وذاك أن أحد بني رضوان التاجر نازعه في مسألة فقام مغضبا وأخذ شرح سيبويه وجعله في إجّانة وصبّ عليه الماء وغسله، وجعل يلطم به الحيطان ويقول: لا أجعل أولاد البقالين نحاة.
وكان مبتلى بقتل الكلاب وكسر بوقهم ويقول: ما الذي يمنعهم من نزول الشط؟ فقيل له: يمنعهم كلاب القصابين.
وسأل يوما أولاد الأكابر الذين يحضرون مجلسه أن يمضوا معه إلى كلواذى، فظنوا ذلك لحاجة عرضت له هناك، فركبوا خيولا وخرجوا وجعل هو يمشي بين أيديهم، وسألوه الركوب فأبى عليهم، فلما صار بخرابها وقفهم على ثلم، وأخذ كساء وعصا، وما زال يعدو إلى كلب هناك والكلب يثب عليه تارة ويهرب منه أخرى حتى أعياه، وعاونوه عليه حتى أمسكه، وعضّ على الكلب بأسنانه عضا شديدا والكلب يستغيث ويزعق فما تركه حتى اشتفى وقال: هذا غضّني منذ أيام وأريد أخالف قول الأول «1» :
شاتمني كلب بني مسمع ... فصنت عنه النفسا والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعضّ الكلب إن عضّا
وكان يوما يتمشى على شاطىء دجلة، والرضي والمرتضى العلويان في زبزب ومعهما أبو الفتح عثمان بن جني فقال لهما: من أعجب أحوال الشريفين أن يكون عثمان جالسا معهما في الزبزب، وعليّ يمشي على الشط بعيدا منهما.
وحدث أبو غالب محمد بن بشران النحوي الواسطي قال: قدم علينا علي بن عيسى الربعي النحوي إلى واسط ونزل في حجرة في جوار شيخنا أبي إسحاق الرفاعي، وكنت أتردد إليه أسائله، فقال لي أبو إسحاق يوما: قد انعكفت على هذا(4/1829)
المجنون، فقلت له: إنه يحكي النحو عن أبي علي كما أنزل، فقال: صدقت هو يحكي النحو عن أبي علي كما أنزل.
وحدث ابن بشكوال في «كتاب الصلة» في أخبار علماء الأندلس قال قال الربعي: كان عبد الله بن حمود الزبيدي الأندلسي قد قرأ يوما على أبي علي في «نوادر الأصمعي» أكأت الرجل إذا رددته عنك، فقال أبو علي: ألحق هذه الكلمة بباب أجأ فإني لم أجد لها نظيرا غيرها، فسارع من حوله إلى كتابتها، فقال الربعي:
فقلت أيها الشيخ ليس أكأت من أجأ في شيء، قال: وكيف ذلك؟ قال قلت: لأن إسحاق بن إبراهيم الموصلي وقطربا النحوي حكيا أنه يقال كيأ الرجل إذا جبن فخجل الشيخ وقال: إذا كان كذا فليس منه، فضرب كل واحد منهم على ما كتب.
قرأت بخط هلال بن المظفر الزنجاني في كتاب ألفه: ذكر غير واحد من أهل زنجان أن رجلا منها يعرف بجابر بن أحمد خرج إلى بغداد متأدبا، فحين دخل قصد علي بن عيسى النحوي بعد أن لبس ثيابا فاخرة عطرة وتجمل وتزين ودخل عليه وسلّم، فقال له علي بن عيسى: من أين الفتى؟ قال: من الزنجان بالألف واللام، فعلم الربعي أن الرجل خال من الفضل، فقال: متى وردت؟ قال: أمس، فقال:
جئت راجلا أم راكبا فقال: بل راكبا، قال: المركوب مكترى أم مشترى؟ قال: بل مكترى، فقال الشيخ: مرّ واسترجع الكريّ فإنه لم يحمل شيئا، ثم أنشد الشيخ:
وما المرء إلا الاصغران لسانه ... ومعقوله والجسم خلق مصوّر
فإن طرّة راقتك فاخبر فربما ... أمرّ مذاق العود والعود أخضر
قال علي بن عيسى الربعي: استدعاني عضد الدولة ليلة وبين يديه «الحماسة» فوضع يده على باب الأضياف وقال ما تقول في هذه الأبيات «1» :
ومستنبح بات الصدى يستتيهه ... إلى كلّ صوت وهو في الرحل جانح «2»
فقلت لأهلي ما بغام مطية ... وسار أضافته الكلاب النوابح(4/1830)
فقلت: هذا قول عتبة «1» بن بجير الحارثي، ومعناه: أن العرب كانت إذا ضلت في سفر وصارت بحيث تظن انها قريبة من حلة نبحت لتسمعها الكلاب فتجيبها فيعرفون به موضع القوم فيقصدونه ويستضيفون فيضافون، فقال: إن قوما يتشبهون بالكلاب حتى يضافوا لقوم أدنياء النفوس، فوجمت بين يديه وأنا واقف وهو ينظر إليّ، وكان من عادتنا أنه ما دام ينظر إلى أحدنا لم يزل واقفا بين يديه حتى يردّ طرفه، قال ثم فكر فقال: لا بل إن أقواما يستنبحون في هذا القفر والمكان الجدب فيستضيفون فيضافون مع الإقلال والعدم لقوم كرام، وأمر لي بجائزة، فدعوت له وانصرفت.
قرأت بخط أبي الكرم المبارك بن الفاخر بن محمد بن يعقوب: قال لنا الرئيس أبو البركات جبر بن علي بن عيسى الربعي، قال لي أبي: أخرج إليّ عضد الدولة بيده مجلدا بأدم مبطن بديباج أخضر في أنصاف الشيطاني مذهب مفصول بالذهب بخطّ حسن فيه شعر مدبر وحش ليس له معنى، فقال لي: كيف ترى هذا الشعر؟ فقلت:
شعر مدبر، والذي قاله خرب البيت مسود الوجه، ثم مضى على ذلك زمان ودخلت إليه فأومأ إلى خادم وقال له: امض إلى مرقدنا وجئنا بشعرنا، فمضى وجاء بالمجلد بعينه وهو هو، فأبلست، فقال: كيف تراه؟ وتلجلج لساني وربا في فمي فقلت: حسنا جيدا مليحا «2» ولم ير في «3» ذلك شيئا بتة.
قرأت بخط الشيخ أبي محمد ابن الخشاب: جاريت الشيخ أبا منصور موهوب بن الجواليقيّ ذكر أبي الحسن علي بن عيسى بن صالح بن الفرج «4» الربعي صاحب أبي علي الفارسيّ فأخذ في تقريظه وتفضيله وقال لي: كان يحفظ الكثير من أشعار العرب مما لم يكن غيره من نظرائه يقوم به، إلا أن جنونه لم يكن يدعه يتمكن منه أحد في الأخذ عنه والافادة منه. قال وقال لي الشيخ أبو زكرياء: سألت أبا القاسم ابن برهان فقلت له: يا سيدنا تترك الربعيّ والأخذ عنه مع إدراكك إياه وتأخذ عن أصحابه؟ فقال لي: كان مجنونا وأنا كما ترى، فما كنا نتفق. قال: ولقد مرّ يوما(4/1831)
بسكران ملقى على قارعة الطريق فحلّ سرواله، يعني سروال الربعي، وجلس على أنفه وجعل يضرط ويشمه السكران ويقول له:
تمتّع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار.
[796] علي بن عيسى بن حمزة بن وهاس أبي الطيب:
يعرف بابن وهاس من ولد سليمان بن حسن بن حسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.
وذكر العماد في موضع آخر عن دهمس «1» بن وهاس بن عتود «2» بن حازم بن وهاس الحسنيّ أن عليّ بن عيسى مات بمكة في سنة نيف وخمسين وخمسمائة وكان في عشر الثمانين، وكان أصله من اليمن من مخلاف ابن سليمان: كان شريفا جليلا تماما من أهل مكة وشرفائها وأمرائها وكان ذا فضل غزير، وله تصانيف مفيدة، وقريحة في النظم والنثر مجيدة، وقرأ على الزمخشري بمكة وبرز عليه، وصرفت أعنّة طلبة العلم إليه، وتوفي في أول ولاية الأمير عيسى بن فليتة أمير مكة «3» في سنة نيف وخمسين وخمسمائة. وكان الناس يقولون: ما جمع الله لنا بين ولاية عيسى وبقاء علي بن عيسى.
وله شعر، منه في مرثية الأمير قاسم جدّ الأمير عيسى «4» :
يا حادي العيس على بعدها ... وخّادة تسحب فضل النعال
رفّه عليهنّ فلا قاسما ... لها على الأين وفرط الكلال
غاض النمير العذب يا واردا ... وحال عن عهدك ذاك الزلال
__________
[796]- سقطت هذه الترجمة من النسخة «ك» . ولعلي هذا ترجمة في الخريدة (قسم الشام) 3: 38.(4/1832)
إن يمض لا يمض بطيء القرى ... أو يود لا يعود ذميم الفعال
وله مدح في الزمخشري ذكرته في ترجمته.
ومن شعره «1» :
صلي حبل الملامة أو فبتّي ... ولمي من عتابك أو أشتّي
هي الأنضاء عزمة ذي هموم ... فحسبك والملام ولا هبلت
إليك فلست ممن يطّبيه ... ملام أو يريع إذا أهبت
حلفت بها تواهق كالحنايا ... بقايا [رحلة] كثماد «2» قلت
سواهم كالحنايا زاحرات «3» ... تراكع من وجا وونّى وعنت «4»
جوازع بطن نخلة عابرات ... تؤمّ البيت من خمس وست
أزال أذيب أنضاء طلاحا ... بكلّ ملمع القفرات مرت
وأرغب عن محلّ فيه أضحت ... حبال المجد تضعف عند متي
أما جربت يا أيام منّي ... فروك تجمّع وحليف شتّ
أبيّ ما عجمت صفاه إلا ... وأثّر في نيوبك ما عجمت
وربّ أخ كريم المجد محض ... يراع لدعوتي كالسيف صلت
أبت نفسي فلم تسمح إليه ... بشكوى غير ما جلد وصمت
أقول لنفسي المشفاق مهلا ... أليس على الرزية ما نصرت
لئن فارقت خير عرى لأهل ... فخير بني أبيك به نزلت
وكتب إلى عمته وقد أرسلت إليه تقول له: كم هذا البعد عنا والتغرب «5» ؟
ومهدية عندي على نأي دارها ... رسائل مشتاق كريم وسائله(4/1833)
تقول إلى كم يا ابن عيسى تجنبا ... وبعدا وكم ذا عنك ركبا نسائله
فيوشك أن تؤدي وما من حفية ... عليك ولا بال بما أنت فاعله
فقلت لها في العيس والبعد راحة ... لذي الهمّ إن أعيت عليه مقاتله
وفي كاهل الليل الخداريّ مركب ... لذي الهمّ إن أعيت عليه مقاتله
وفي كاهل الليل الخداريّ مركب ... وكم مرة نجّى من الضيم كاهله
إذا لم تعادلك الليالي بصاحب ... ولا سمحت بالنصح عفوا أنامله
فلا خير في أن ترأم الضيم ثاويا ... وغيظا على طول الليالي تماطله
ذريني فلي نفس أبى أن يدرّها ... عصاب وقلب يشرب اليأس حاصله
إذا سيم وردا بعد خمس تشمرت ... عن الماء خوف المقذعات ذلاذله.
[797] علي بن فضال بن علي بن غالب بن جابر
بن عبد الرحمن بن محمد بن عمرو بن عيسى بن حسن بن زمعة بن هميم بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم (هكذا وجدته هميم والمعروف همام، وهو الفرزدق الشاعر، لأن ابن فضال يعرف بالفرزدقيّ) القيرواني النحوي أبو الحسن المجاشعي: هجر مسقط رأسه، ورفض مألوف نفسه، وطفق يدوّخ بسيط الأرض، ذات الطول والعرض، يشرّق مرة ويغرّب أخرى، ويركب القفار ويأوي إلى ظل الأمصار برهة، حتى ألمّ بغزنة فألقى عصاه بها ودرّت له أخلافها، فلقي وجه الأماني، وصنف عدة تصانيف بأسامي أكابر غزنة سارت في البلاد، ثم عاد إلى العراق وانخرط في سلك خدمة نظام الملك مع أفاضل العراق، ولم تطل أيامه حتى نزل به حمامه.
وكان إماما في النحو واللغة والتصريف والتفسير والسير، صنّف كتاب التفسير الكبير الذي سماه «البرهان العميدي» في عشرين مجلدة. وكتاب النكت في
__________
[797]- ترجمة ابن فضال في المنتظم 9: 33 ومرآة الجنان 3: 132 وإنباه الرواة 2: 299 وطبقات المفسرين للسيوطي: 24 وبغية الوعاة 2: 183 وطبقات الداودي 1: 421 والنجوم الزاهرة 5: 124 والشذرات 3: 363 والبداية والنهاية 12: 132.(4/1834)
القرآن. وكتاب شرح بسم الله الرحمن الرحيم وهو كتاب كبير. وكتاب إكسير الذهب في صناعة الأدب في النحو في خمس مجلدات. وكتاب العوامل والهوامل في الحروف خاصة. وكتاب الفصول في معرفة الأصول. وكتاب الإشارة في تحسين العبارة «1» . وكتاب شرح عنوان الاعراب. وكتاب المقدمة في النحو. وكتاب العروض. وكتاب شرح معاني الحروف. وكتاب الدول في التاريخ، رأيت في الوقف السلجوقيّ ببغداد منه ثلاثين مجلدا ويعوزه شيء آخر. وكتاب شجرة الذهب في معرفة أئمة الأدب. وقيل إنه صنف كتابا في تفسير القرآن في خمس وثلاثين مجلدة سماه «كتاب الاكسير وفي علم التفسير» وكتاب معارف الأدب كبير نحو ثمانية مجلدات.
وله غير ذلك من الكتب في فنون من العلم.
وأقام ببغداد مدة وأقرأ بها النحو واللغة وحدّث بها عن جماعة من شيوخ المغرب.
وذكر هبة الله السقطي أنه كتب عن ابن فضال أحاديث قال: فعرضتها على عبد الله بن سبعون القيرواني لمعرفته برجال الغرب فأنكرها وقال: أسانيدها واهية مركبة على متون موضوعة، واجتمع عبد الله بن سبعون في جماعة من المحدثين وأنكروا عليه فاعتذر وقال: إني وهمت فيها.
وذكره عبد الغافر الفارسي فقال: ورد نيسابور واختلفت إليه فوجدته بحرا في علمه، ما عهدت في البلديين ولا في الغرباء مثله في حفظه ومعرفته وتحقيقه، فأعرضت عن كلّ شيء وفارقت المكتب ولزمت بابه بكرة وعشية وكان على أوفاز «2» .
قال السمعانيّ: سمعت ابن ناصر يقول: مات ابن فضال في ثاني عشرين ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة ودفن بباب أبرز.
وقال شجاع الذهلي أنشدنا ابن فضال لنفسه:
لا عذر للصبّ إذا لم يكن ... يخلع في ذاك العذار العذار
كأنه في خدّه إذ بدا ... ليل تبدى طالعا من نهار(4/1835)
تخاله جنح ظلام وقد ... صاح به ضوء صباح فحار
وقال أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي: أنشدنا ابن فضال لنفسه:
كأن بهرام وقد عارضت ... فيه الثريّا نظر المبصر
ياقوتة يعرضها بائع ... في كفه والمشتري مشتري
ومن شعره:
خذ العلم عن راويه واجتلب الهدى ... وان كان راويه أخا عمل زاري
فإن رواة العلم كالنخل يانع ... كل التمر منه واترك العود للنار
قال عبد الغافر بن إسماعيل: وأنشدني ابن فضال لنفسه:
يا يوسفيّ الجمال عبدك لم ... تبق له حيلة من الحيل
إن قدّ فيه القميص من دبر ... قد قدّ فيه الفؤاد من قبل
وأنشد السمعاني باسناده لعلي بن فضال المجاشعي في ترجمة صاعد بن سيار الهروي:
وإخوان حسبتهم دروعا ... فكانوها ولكن للأعادي
وخلتهم سهاما صائبات ... فكانوها ولكن في فؤادي
وقالوا قد صفت منا قلوب ... لقد صدقوا ولكن من ودادي
وأنشد له صاحب «الوشاح» في نظام الملك:
دوارس آي ما تكاد تبين ... عفاهنّ دمع للسحاب هتون
وقفنا بها مستسلمين فلم يزل ... لسان البلى عن عجمهن يبين
وما خفت أن تبدي خفيّ سرائري ... مواثل أمثال الحمائم جون
على حين عاصيت الصبا وهو طائع ... وأرخصت علق اللهو وهو ثمين
أرى المزن يهوى رسم من قد هويته ... فلي وله دمع به وحنين
سقى الله حيث الظاعنون سحائبا ... فقلبي حيث الظاعنون رهين
فكم ضمّنت أحداجهم من جآذر ... أوانس ينصوها جآذر عين
وأقمار تمّ لم ير الناس قبلنا ... بدورا تثنّى تحتهن غصون(4/1836)
يجرّدن من ألحاظهن صوارما ... مهنّدة أجفانهن جفون
وأنشد له:
والله إن الله ربّ العباد ... وخالص النية والاعتقاد
ما زادني صدّك إلا هوى ... وسوء أفعالك إلا وداد
وإنني منك لفي لوعة ... أقلّ ما فيها يذيب الجماد
فكن كما شئت فأنت المنى ... واحكم كما شئت فأنت المراد
وما عسى تبلغه طاقتي ... وإنما بين ضلوعي فؤاد
ومما نقلته من السمعانيّ لا بن فضال:
فتنتني أمّ عمرو ... وكذاك الصبّ مفتون
قلت جودي لكئيب ... مستهام بك محزون
فلوت عني وقالت ... أترى ذا المرء مجنون
ما رأى الناس جميعا ... في كتاب الله يتلون
«لن تنالوا البرّ حتّى ... تنفقوا ممّا تحبّون»
في «كتاب سرّ السرور» لابن فضال:
ما هذه الألف التي قد زدتم ... فدعوتم الخوّان بالاخوان
وزادني الحافظ شمس الدين أبو نصر عبد الرحيم بن وهبان:
ما صحّ لي أحد فأجعله أخا ... في الله محضا أو ففي الشيطان
إما مولّ عن ودادي ما له ... وجه وإما من له وجهان
وحدث محمد بن طاهر المقدسيّ، وكان ما علمت وقّاعة في كل من انتسب إلى مذهب الشافعي لأنه كان حنبليا، سمعت إبراهيم بن عثمان الأديب الغزي بنيسابور يقول «1» : لما دخل أبو الحسن ابن فضال النحوي نيسابور واقترح عليه الأستاذ أبو المعالي ابن الجويني أن يصنّف باسمه كتابا في النحو وسماه الاكسير ووعده بأن يدفع(4/1837)
إليه ألف دينار، فلما صنّفه وفرغ منه ابتدأ بقراءته عليه، فلما فرغ من القراءة انتظره أياما أن يدفع إليه ما وعده أو بعضه فلم يدفع إليه شيئا، فأنفذ إليه يقول: إنك إن لم تف لي بما وعدتني هجوتك، فأنفذ إليه الأستاذ: عرضي فداؤك، ولم يدفع إليه حبة واحدة. قلت أنا: وبلغني أنه عقيب ذلك ورد بغداد وأقام بها ولم يتكلم بعد في النحو وصنّف كتابه في التاريخ.
ومن شعره الذي أورده السمعاني «1» :
أحبّ النبيّ وأصحابه ... وأبغض مبغض أزواجه
ومهما ذهبتم إلى مذهب ... فما لي سوى قصد منهاجه
قال السلفي، قال الرئيس أبو المظفّر الأبيورديّ، أنشدني أبو القاسم ابن ناقيا في ابن فضال المجاشعي المغربي قال: ودخلت دار العلم ببغداد وهو يدرّس شيئا من النحو في يوم بارد، فقلت:
اليوم يوم قرس بارد ... كأنه نحو ابن فضّال
لا تقرأوا النحو ولا شعره ... فيعتري الفالج في الحال.
[798] علي بن الفضل المزني أبو الحسن النحوي:
نقلت من خط أبي سعيد عبد الرحمن بن علي اليزداديّ في كتابه المسمى «جلاء المعرفة» تعرّض فيه للمآخذ على العلماء قال: وكان قرىء كتاب الكرماني في النحو على أبي الحسن المزني، وقرأه هو على أبيه، وأبوه على الكرماني، وفضل أبي الحسن في عصره على من كانت تضرب إليه آباط الابل في العراق لاقتباس العلم منه، وكان ابن جرير يحثّه أبدا على قصد العراق علما منه بأنه لو دخل بغداد لقبل فوق قبول غيره، ولكان الأستاذ
__________
[798]- ترجمته في بغية الوعاة 2: 183.(4/1838)
المقدم بها، وبلغ من فضل علمه أنه صنّف في بسم الله الرحمن الرحيم كتابا سماه «البسملة» ويقع في ثلاثمائة ورقة، وله في النحو والتصريف مصنفات لطيفة نافعة، وقد روى المزني عن إسحاق بن مسلم عن أبي سعيد الضرير.
[799] علي بن القاسم القاشاني الكاتب أبو الحسن:
ذكره الثعالبيّ فقال: بقية مشيخة الكتاب المتقدمين في البراعة، المالكين أزمة البلاغة، المتوقلين في هضبات المجد، المترقين في درجات الفضل و [صاحب] الرسائل «1» الجيدة والأشعار الرائقة.
ومن رسائله: كتابي أطال الله بقاء مولاي وأنا متردّد بين جذل لتجدّد برّه في خطابه، وبين خجل من قوارع زجره وعتابه، فإذا خلّيت عنان أنسي في رياض مبارّه فرتعت، جاذبنيه لاعج الاشفاق من سوء ظنه فنزعت، ولو كنت جانيا «2» لاعتذرت، أو كان سوء ظنه بي صادقا لاعترفت، ولعذت منه بحقوي كريم لا يبهظه «3» اغتفار الجرائر، ولا يتعاظمه الصفح عن الكبائر.
فصل: علّقت هذه المخاطبة والأشغال تكتنفني، وكدّ الخاطر بأسباب شتى يقتسمني، ووراء ذلك كلال الذهن بارتقاء السن، ونقصان الخواطر بزيادة الشواغل، واستمرار البلادة لمفارقة العادة، ومولاي- والله يعيذه من السوء- مقتبل الشباب، زائد الأسباب، مؤتنف المخائل، متجدد الفضائل، إلى علم لا يدرك مضماره، ولا يشقّ غباره، فإذا حملني على مساجلته فقد عرضني للتكشف، وإن عرضني على محنة التتبع «4» فقد سلبني ثوب التجمل.
__________
[799]- يتيمة الدهر 2: 330- 335 (والترجمة كلها عن هذا المصدر) ؛ وفي ك: القاساني (بالسين المهملة) .(4/1839)
فصل: وصل كتاب مولاي:
فكم فرحة أدّى وكم كربة «1» جلّى ... وكم بهجة أولى وكم غمة سلّى
وسألت الله واهب خصال الفضل له، وجامع خلال النبل فيه، وحائز جمال المروءة للزمان ببقائه، ومانح كمال المزية للاخوان بمكانه، أن يتولّى حفظ النعم النفيسة، ويديم حياطة هذه المنائح «2» الخطيرة، بصيانة تلك الشيم العلية، حتى تستوفي المكارم أعلى حظّها في أيامه، وتحوز «3» الفضائل أقصى غاياتها في مضماره:
فينجح ذو فضل ويكمد ناقص ... ويبهج ذو ودّ ويكبت حاسد
فصل: وما ارتضى نفسي لمخاطبة مولاي إلا إذا كنت منفيّ الشواغل، فارغ الخواطر، مخلّى الجوارح، مطلق الإسار، سليم الأفكار، فكيف بي مع كلال الحد، وانغلاق الفهم، واستبهام القريحة، واستعجام الطبيعة؟! والمعوّل على النية وهي لمولاي بظهر الغيب مكشوفة، والمرجع إلى العقيدة وهي بالولاء المحض معروفة، ولا مجال للعتب بين هذه الأحوال، كما لا مجاز «4» للعذر وراء هذه الخلال.
وكتب إلى الصاحب أبي القاسم ابن عباد قصيدة منها:
إذا الغيوم «5» ارجحنّ باسقها ... وحفّ أرجاءها بوارقها
وابتسمت فرحة لوامعها ... واحتفلت عبرة حمالقها
وقيل طوبى لبلدة نتجت ... بجوّ أكنافها بوارقها
فليسق غيث الندى أبا القاسم القرم وزير الأنام وادقها(4/1840)
وهي طويلة. ثم قال: هذه أطال الله بقاء مولاي تباريح أريحية أثارتها مخاطبات مولاي التي هي أنقع لغلّتي من برد الشراب، وأعجب إليّ من ردّ الشباب، فجاش الصدر بما أبرأ إليه من عهدته، وأسكنه ظلّ أمانته وذمته، ليسبل عليه ستر مودته، ويتأمّله بعين محبته، نعم وقد محا الزمان آثار إساءته إليّ، بما أسعفني به من إقبال مولاي عليّ، وتتابع برّه في مخاطباته لديّ، فكلّ ذنب لهذه النعمة مغفور، وكلّ جناية بهذا الاحسان مغمور.
فأجابه الصاحب بكتاب صدّره بأبيات منها:
بدت عذارى مدّت سرادقها ... وأقسم الحسن لا يفارقها
كواعب أخرست دمالجها ... عنّا وقد أنطقت مناطقها
أم روضة أبرزت محاسنها ... وما يني قطرها يعانقها
أم أشرقت فقرة بدائعها ... حديقة زانها طرائقها
لله حلف العلا أبو حسن ... وقد جرت للعلا سوابقها
لله تلك الألفاظ حاملة ... غرّ معان تعيي دقائقها
تكاد أعجازها تشككنا ... في سور أنها توافقها
وهي طويلة.
هذه أطال الله بقاء مولاي أبيات علّقتها، والرويّة لم تعتلقها، وأعنقت فيها والفكرة لم تعتنقها، لا ثقة بالنفس في وفائها، وسكونا إلى القريحة وصفائها، بل علما بأني وإن أعطيت الجهد عنانه، وفسحت للكدّ ميدانه، لم ادان ما ورد من ألفاظ أيسر ما أصفها به الامتناع على الوصف أن يتقصاها، والبعد عن الاطناب أن يبلغ مداها.
ولقد قرع سمعي منها ما أراني العجز يخطر بين أفكاري، والقصور يتبختر بين إقبالي وإدباري، إلى أن أفكرت في أن فضيلة المولى تشتمل عبده، وتخيّم وإن تصرفت عنده «1» . فثاب إلي «2» خاطر نظمت به ما إن طالعه صفحا رجوت أن يحظى بطائل(4/1841)
القبول، وإن تتّبعه نقدا تراجع على أعقاب الخمول، وهذا فلا عار على من سبقه سباق الأقران، المستولي على قصب الرهان.
ومن شعر القاشاني المشهور:
وإني وإن أقصرت عن غير بغضة ... لراع لأسباب المودة حافظ
وما زال يدعوني إلى الصدّ ما أرى ... فآبي وتثنيني إليك الحفائظ
وأنتظر العتبى وأغضي على القذى ... ألاين طورا في الهوى وأغالظ.
[800] علي بن القاسم السنجاني أبو الحسن،
وسنجان قصبة خواف. ذكره الباخرزي فقال: هو صاحب «كتاب مختصر العين» ومحلّه من الأدب محلّ العين من الانسان ومحلّ الانسان من العين، وقد سهّل طريق اللغة على طالبيها، وأدنى قطوفها من متناوليها باختصاره «كتاب العين» ، ولا تكاد ترى حجور المتأدبين منه خالية، وله شعر الزهاد، وقد جرى فيه على سمت العبّاد، ونسجه على منوال أولي الاجتهاد، فمما وقع إليّ منه قوله:
خليليّ قوما فاحملا لي رسالة ... وقولا لدنيانا التي تتصنّع
عرفناك يا خداعة الخلق فاغربي ... ألسنا نرى ما تصنعين ونسمع
فلا تتحلّي للعيون بزينة ... فانّا متى ما تسفري نتقنع
نغطي بثوب اليأس منّا «1» عيوننا ... إذا لاح يوما من مخازيك مطمع
وهل أنت الا متعة مستعارة ... وهل طاب يوم بالعواري يمتع
رتعنا وجلنا في مراعيك كلّها ... فلم يهننا مما رعيناه مرتع
فأنت خلوب كالغمامة كلّما ... رجاها مرجّي الغيث ظلّت تقشّع
__________
[800]- دمية القصر 3: 1494 وإنباه الرواة 2: 302 والأنساب واللباب (السنجاني) وبغية الوعاة 2: 184.(4/1842)
طلوع قبوع كالمغازلة التي ... تطلّع أحيانا وحينا تقبّع «1»
وله يرثي نفسه:
دبت إليّ بنات الأرض مسرعة ... حتى تمشّين في قلبي وفي كبدي
والعين مني فويق الخدّ سائلة ... وطالما كنت أحميها من الرمد.
[801] علي بن المبارك اللحياني
وقيل علي بن حازم، ويكنى أبا الحسن: أخذ عن الكسائي، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلام وله «كتاب النوادر» . ومات [ ... ] .
قال أبو الطيب اللغوي في «كتاب مراتب النحويين» : وممن أخذ عن الكسائي أبو الحسن علي بن حازم الختلي اللحياني من بني لحيان بن هذيل بن مدركة بن الياس بن مضر صاحب «كتاب النوادر» وقيل سمي اللحياني لعظم لحيته. حدثني أبو عمر الزاهد عن أبي عمرو ابن الطوسي عن أبيه عن اللحياني قال أبو عمرو:
سمعت ثعلبا يقول قال الأحمر: خرجت من عند الكسائي ذات يوم فإذا اللحياني جالس، فقال لي: أحبّ أن تدخل فتشفع لي إلى الكسائي لأقرأ عليه هذه النوادر، قال: فدخلت إلى الكسائي فقلت له، فقال: هو بغيض ثقيل الروح. قال الأحمر:
وكان اللحياني ورعا، قال فقلت له: أحب أن تفعل فأجابني، فخرجت إلى اللحياني فقلت له: قد قال لي كذا وكذا فلم لا تنبسط معه؟ فقال: دعني وإياه، قال اللحياني: فدخلت عليه وهو جالس على كرسيّ ملوكي وعليه مقدارية مشهرة، وعلى رأسه بطيخية، وبيده كسرة سميد وهو يفتها للحمام، قال ثعلب: وكان السلطان قد أفسده، قال فقال لي: ما تقول في النبيذ؟ قلت: أنا، قال: نعم، قلت: أحسوه
__________
[801]- ترجمة علي بن المبارك (أو علي بن حازم) النحوي في مراتب النحويين: 89 وتاريخ أبي المحاسن: 206 وتهذيب اللغة 1: 21 وطبقات الزبيدي: 195 وإنباه الرواة 2: 255 ونزهة الألباء: 121 وبغية الوعاة 2: 185.(4/1843)
ثم أفسوه قال: فضحك مني وقال: أنت ظريف فاكتم ما سمعت، واقرأ ما شئت، فقرأت عليه وخرجت، فإذا الحجارة تأخذ كعبي، فالتفتّ أقول: من ذا؟ فإذا هو من منظر له يقول: من كنت تقرأ عليه حتى صدّعته اليوم.
قال أبو الطيب: وقد أخذ اللحياني عن أبي زيد وأبي عمرو الشيباني وأبي عبيدة والأصمعي وعمدته على الكسائي، وكذلك أهل الكوفة كلهم يأخذون عن البصريين، وأهل البصرة يمتنعون من الأخذ عنهم لأنهم لا يرون الأعراب الذين يحكون عنهم حجة.
قال ابن جني في «الخصائص» : ذاكرت يوما أبا عليّ بنوادر اللحياني فقال كناسة، قال: وكان أبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم يقول: إن كتابه لا يصله به «1» رواية، وقدحا فيه وغضّا منه.
[802] علي بن المبارك أبي المعالي بن علي
بن المبارك بن عبد الباقي بن بانويه، أبو الحسن المعروف بابن الزاهدة النحوي صاحب ابن الخشاب وليس بابن الزاهد، فإن في أصحاب ابن الخشاب آخر يعرف بابن الزاهد بغير هاء، وهو أحمد بن هبة الله مذكور في بابه، والزاهدة هذه التي يعرف بها هي أمه، واسمها أمة الله «2» المباركة بنت إبراهيم بن علي بن أبي الحسن بن أبي الحريش، وكانت واعظة مشهورة روت الحديث.
مات ابن الزاهدة هذا في ثالث ذي الحجة سنة أربع وتسعين وخمسمائة ودفن عند والدته برباط لهم بدرب البقر بمحلة الظفرية، وكان أيضا يسكن بالظفرية في
__________
[802]- ترجمته في إنباه الرواة 2: 318 وتكملة المنذري 1: 310 ومختصر ابن الدبيثي 3: 140 وبغية الوعاة 2: 185 وله ترجمة في تاريخ الإسلام للذهبي والوافي للصفدي (خ) .(4/1844)
حياته، وكانت له معرفة جيدة بالنحو، قرأ على الشريف أبي السعادات ابن الشجري ثم على الشيخ أبي محمد ابن الخشاب، وأقرأ العربية مدة وسمع منه الطلبة، وأنشدت له:
إذا اسم بمعنى الوقت يبنى لأنه ... تضمّن معنى الشرط موضعه نصب
ويعمل فيه النصب معنى جوابه ... وما بعده في موضع الجرّ يا ندب
وله في «كتاب الخريدة» من قصيدة كتبها إلى صلاح الدين:
ألا حييا بالرقمتين المعالما ... وان كن قد أصبحن درسا طواسما
ومن مديحها:
إذا كانت الأعداء فعلا مضارعا ... أصار مواضيه الحروف الجوازما.
[803] علي بن المحسن أبو القاسم التنوخي
قال السمعاني في «كتاب النسب» :
هو أبو القاسم علي بن المحسن بن علي بن محمد بن أبي الفهم، واسم أبي الفهم داود بن إبراهيم بن تميم بن جابر بن هانىء بن زيد بن عبيد بن مالك بن مريط بن شرح بن نزار بن عمرو بن الحارث [بن صبيح بن عمرو بن الحارث] بن عمرو بن فهم بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن الحاف بن قضاعة.
سمع أبا الحسن علي بن أحمد بن كيسان النحوي وإسحاق بن سعد بن الحسن بن سفيان النسوي، وروى عنه الخطيب فأكثر، وكان قد قبلت شهادته عند الحكام في حداثته. مات فيما ذكره عبد الله بن علي بن الآبنوسي في سنة سبع وأربعين وأربعمائة في محرمها، قال الخطيب: وسألته عن مولده فقال: ولدت بالبصرة في النصف من شعبان سنة سبعين وثلاثمائة قال: وكان معتزليا، قال: وكان عنده «كتاب القدر» لجعفر الفريابي وكان أصحاب الحديث
__________
[803]- ترجمة التنوخي في الأنساب واللباب (التنوخي) وتاريخ بغداد 12: 115 والمنتظم 8: 168 وابن خلكان 4: 162 (في ترجمة والده المحسن) وسير الذهبي 17: 649 وعبر الذهبي 3: 214 والفوات 3: 60 والبداية والنهاية 12: 67 والنجوم الزاهرة 5: 58 والشذرات 3: 276.(4/1845)
يتحاشون من مطالبته باخراجه، فطالبته به وقرأته عليه وسمعوا، أو كما قال. قال: وكان التنوخي ساكتا لم يعترض على شيء من تلك الأحاديث، قال: وكان دخل التنوخي كل شهر من القضاء ودار الضرب وغيرهما ستين دينارا، فيمر الشهر وليس له شيء، وكان ينفق على أصحاب الحديث، وكان الخطيب والصوري وغيرهما يبيتون عنده، وكان ثقة في الحديث متحفظا في الشهادة محتاطا صدوقا في الحديث. وتقلد قضاء عدة نواح منها المدائن وأعمالها ودرزيجان والبردان وقرميسين.
وحدث الهمذاني في «تاريخه» بعد ذكر مولده ووفاته كما تقدم، ثم قال: وكان ظريفا نبيلا فاضلا جيد النادرة، قال القاضي أبو عبد الله ابن الدامغاني: دخلت على القاضي أبي القاسم التنوخي قبل موته بقليل وقد علت سنه، فأخرج إليّ ولده من جاريته فلما رآه بكى فقلت: تعيش إن شاء الله وتربّيه ويقرّ الله عينك به، فقال:
هيهات والله ما يتربى إلا يتيما، وأنشد:
أرى ولد الفتى كلّا عليه ... لقد سعد الذي أمسى عقيما
فإما أن يخلّفه عدوّا ... وإما أن يربّيه يتيما
ثم قال: أريد أن تزوجني من أمه فإنني قد أعتقتها على صداق عشرة دنانير ففعلت، وكان كما قال تربى يتيما، وهو أبو الحسن محمد بن علي بن المحسن، قيل:
القاضي أبو عبد الله شهادته، ثم مات سنة أربع وتسعين وأربعمائة وانقرض بيته.
قال «1» أبو الحسن بن أبي الحسين: ولد لأبي القسم التنوخي ولد في سنة نيف وأربعين وأربعمائة فقال له رئيس الرؤساء: أيها القاضي كنت منذ شهور قريبة قلت لي انك لا تعرف هذا الشان الذي يكون منه الأولاد منذ سنين، وإنه لا حاسة بقيت لك ولا شهوة ولا قدرة على هذا الفن، وأنت اليوم تقر عندي بولد رزقته، ففي أيّ القولين أنت كاذب أيها القاضي؟ فقال له: اللهم غفرا اللهم غفرا وخجل وقام.
قال واجتاز يوما في بعض الدروب فسمع امرأة تقول لأخرى: كم عمر بنتك يا أختي؟ فقالت لها: رزقتها يوم شهر القاضي التنوخي وضرب بالسياط، فرفع رأسه(4/1846)
إليها وقال: يا بظراء صار صفعي تاريخك ما وجدت تاريخا غيره؟!.
وكان أعمش العينين لا تهدأ جفونه من الانخفاض والارتفاع والتغميض والانفتاح، فقال فيه أبو القاسم ابن بابك الشاعر:
إذا التنوخيّ انتشى ... وغاص ثم انتعشا
أخفى عليه إن مشي ... ت وهو يخفى إن مشى
فلا أراه قلّة ... ولا يراني عمشا
وكان تولّى دار الضّرب فقال البصروي فيه:
وفي أنضّ الأعمال قاض ... ليس بأعمى ولا بصير
يقضم ما يجتبى اليه ... قضم البراذين للشعير
قال غرس النعمة «1» : حدثت أنه جاء رجل إلى التنوخي على الطريق وهو راكب حماره وأعطاه رقعة وبعد مسرعا، ففتحها وإذا فيها:
إنّ التنوخيّ به أبنة ... كأنه يسجد للفيش
له غلامان ينيكانه ... بعلّة الترويح في الخيش
فلما قرأها قال: ردوا ذاك زوج القحبة الذي أعطاني الرقعة، فعدوا وراءه فردوه، فقال: هذه الرقعة منك؟ فقال: لا أعطانيها بعض الناس وأمرني أن أوصلها إليك، قال قل له: يا كشخان يا قرنان يا زوج ألف قحبة هات زوجتك وأختك وأمك إلى داري وانظر ما يكون مني إليهم، واحكم ذلك الوقت بما قد حكمت به في رقعتك أو بضده، قفاه قفاه، فصفعوه وافترقا.
قال غرس النعمة: حدثني أبو سعد «2» الماندائي قال: دخلت يوما على القاضي أبي القاسم التنوخي وكانت عينه رمدة أتعرّف خبره منها، فقال لي: حدثني من رأيت وما رأيت في طريقك، فقلت: رأيت منسفا فيه نحو عشرين رطلا رطبا أزاذا لقاطا ما رأيت مثله، فقال لغلامه: يا أحمد عليّ بالمنسف الساعة، فمضى أحمد وابتاعه وجاء(4/1847)
به، فحلّ عينه وغسلها من الدواء الذي فيها وقال لي: كل حتى آكل فقلت: يا سيدي عينك رمدة، فكيف تأكل رطبا؟ فقال: كلّ فعيني تهدأ والرطب يفنى، فأكل والله منه حتى وقف.
قال وحدثني قال: كنت ليلة بائتا عنده، فهبت ريح شديدة فما زال طرف النطع الذي تحته يصعد وينزل ويصفق رأسه فقال: هذا سقوط الساعة ومصافعة، فقلت:
ممن يا سيدنا؟ فقال: فضولك، وضحكنا.
قال وحدثني قال، حدثني القاضي قال: كنت يوما في وقت القيلولة نائما فاجتاز واحد غثّ يصيح صياحا أزعجني وأيقظني: شرّاك النعال، شرّاك النعال، فقلت لأحمد الغلام: خذ كلّ نعل لي ولمن في داري وأخرجها إلى هذا الرجل ليرمها ويشتغل بها، ففعل ونمت إلى أن اكتفيت، ثم انتبهت وصليت العصر وأعطيته أجرته ومضى، فلما كان من غد في مثل ذلك الوقت جاء وأنا نائم فصاح وأنبهني، فقلت للغلام: أدخله فأدخله، فقلت: يا ماصّ كذا وكذا من أمه، أمس في هذا الوقت أصلحت كلّ نعل لنا، وعدت اليوم تصيح على بابنا، أبلغك أننا البارحة تصافعنا بالنعال وقطعناها وقد عدت اليوم لعملها وإصلاحها؟! قفاه، فقال: يا سيدنا القاضي أو أتوب ألا أدخل هذا الدرب؟ قلت: فما تتركني أنام ولا أهدأ ولا أستقر، فحلف أن لا يعود إلى الدرب، وأخرجته إلى لعنة الله.
قال: ورأيته يوما عند الرئيس الوالد رضي الله عنهما وهو يشكو اليه قبيح أبي القاسم ابن المسلمة رئيس الرؤساء وقصده له وغضّه منه، وتناشى «1» غضبه إلى أن أخذ الدواة من بين يدي الرئيس ورفعها إلى فوق رأسه وقال: والله لقد بال في حجري وعلى ثيابي بعدد الرمل والحصى والتراب، وحطّ الدواة فضرب بها الأرض فتكسّرت، فلما رأى ذلك قام وانصرف وقد استحيى، وبقينا متعجبين منه.
قال وحدثني أبو سعد الماندائي قال: كنت مع القاضي التنوخي وقد خرج يوما من دار الخلافة ليعبر إلى داره بالجانب الغربي، فلما بلغنا مشرعة نهر معلّى صاح به الملاحون: يا شيخ يا شيخ تعال هنا تعال هنا، فوقف وقال لهم: كل مردي معكم(4/1848)
ومجذاف في كذا وكذا من نسائكم، ما فيكم إلا من يعرفني ويعلم أنني القاضي التنوخي يا كذا وكذا، ثم نزل وهو يسبهم ويشتمهم، والملاحون وأنا قد متنا من الضحك.
وجاءه غلام قد تزوج وكتب كتابا بمهر يشهده فيه، فاستحيى الغلام من ذلك، فجذب طاقة من حصير القاضي وجعل يقطعها بيده لحياته وخجله، ولحظه القاضي فقال: يا هذا أنا أشهد لك في كتاب يقتضي أن يحمل به إليك القماش والجهاز اللذان يعمران بيتك ويجمّلان أمرك، وأنت مشغول بقطع حصيري وتخريب بيتي؟! وشقّ الكتاب قطعا ولم يشهد فيه، ورمى به إليه فأخذه وانصرف متعجبا.
قال وحدثني الرئيس أبو الحسين والدي قال: شهد القاضي أبو القاسم منذ سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وإلى أن توفي في المحرم سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان مولده يوم الثلاثاء النصف من شعبان سنة خمس وستين وثلاثمائة، نيفا وستين سنة ما وقف له على زلة ولا جرحة ولا غلطة؛ وأذكر له حكاية تذكر وهي أنه شهد مع جماعة من الشهود على زوجة أبي الحسن ابن أبي تمام الهاشمي نقيب النقباء في إقرار أقرّت له، فلما سمعوا إقرارها من وراء الستارة لم يقنعهم ذاك، وأرادوا من يشهد عندهم أن المقرّة هي المذكورة في الكتاب بعينها، أو أن يشاهدوها حتى يسلّم لهم ويصحّ أن يشهدوا عليها بالمعرفة، فلم يقدموا على ذلك وخطاب ابن أبي تمام فيه، فخرج ولده منها، فقام له التنوخي وأخذه في حجره وقبّل رأسه وقال له قليلا قليلا: من هذه التي تكلّمنا من وراء الستارة وتحدثنا وتشهدنا عليها؟ فقال له: ستّي، فالتفت إلى الجماعة وقال لهم: اشهدوا يا سادة فأنا أشهد عندكم أنّ المقرّة عندنا من وراء الستارة هي المذكورة في الكتاب بعينها، فشهدوا وشهد معهم، وقال من بعد: هذا صبيّ لا يعرف ما نحن فيه، ولو كان خلف الستارة غير ستّه لقال، ولما كانت هي بعينها قال هي ستي، ولعمري لقد كان أبو الحسن أجلّ من أن يفعل هذا معنا.
قال أبو الحسن: كان لنا غلام يعرف بجميلة فابتاع ألف سابل سرجينا من ملّاح يعرف بالدابة ليحمله إلى قراحنا المشجّر في نهر عيسى ويطرح في أصول الشجر، فلما ذكر جميلة ذلك للرئيس رضي الله عنه قال له: اكتب عليه خطا وأشهد عليه، يعني المعلم في الدار ومن يجري مجراه، فكتب جميلة على الملاح رقعة ومضى بها لا يلوي(4/1849)
على شيء إلى أن عاد التنوخيّ بين الصلاتين وهو جائع حاقن تعب، والزمان صائف، فقام إليه ودعا له وقال له: من أنت؟ قال: غلام فلان، قال: مالك؟ قال: شهادة، قال: له اقعد، ودخل فخلع ثيابه ودخل بيت الطهارة وأطال، والغلام يصيح: يا سيدنا أنا قاعد من ضحوة النهار إلى الساعة، فقال له: ويلك اصبر حتى أخرا، اصبر حتى أخرا، اصبر حتى أخرا، ثم توضأ ليصلّي فلم يهنّه، فقال: ادخل دخلت بطنك الشمس، فقد والله حيرتني وجننتني، فلما دخل أعطاه الرقعة فقرأها وقال: ويلك ما اسم هذا الملاح؟ فقال: الدابة يا سيدي، فقال: وأيّ شيء يقرّ به ويلك، فما أقف عليه أرى خمسة آلاف سابل ولا أدري ما بعده، فقال: يا سيدنا خمسة آلاف سابل سرقين، فقال له: وما السرقين؟ قال: خرا البقر والغنم، قال: يا ماصّ بظر أمه أنا شاهد الخرا؟! ونهض إليه وهو مغتاظ «1» ، فأخذ ينتف ذقنه «2» ويضرب رأسه وفكّه إلى أن جرى الدم من فيه وأخرجه، وجاء إلى الرئيس رحمه الله فحدثه بما جرى عليه، فقال له يا مدبر «3» الشهود يستشهدون في الخرا؟! أنت بالله أحمق. وجاءنا القاضي بعد العصر يشكو من جميلة ولزّه له وتوكّله به، ويعتذر مما جرّه جنونه عليه وما انتهى معه إليه، فضحكنا عليه ومرّت لنا ساعة طيبة بما أورده عليه.
قال «4» : وحدثني أبو الحسين رضي الله عنه قال: حضر عندي القاضي أبو القاسم التنوخي يوما وقد هرب الكافي أبو عبد الله القنائي ببغداد وخرج إلى الأنبار، ونظر أبو سعد محمد بن الحسين بن عبد الرحيم، وكان التنوخي مائلا إلى بني عبد الرحيم ونابيا عن أضدادهم، فبدأ بذكر القنائي وكان لي صديقا بقبيح وزاد وخشّن وخبط، فغمضت عيني واستلقيت على مخدتي لعله يكفّ ويقطع، فعلم ذاك منّي فقفز إلي يحركني ويقول: والله ما أنت نائم ولكنك ما تحب أن تسمع في القنائي قبيحا، فقلت: ما أحب أن أسمع في القنائي ولا في غيره قبيحا، وقد تناومت لتقطع فلم تفعل، ومضى. وبلغ القنائيّ المجلس بعينه، وعاد القنائيّ إلى بغداد ناظرا، ودخل التنوخي إليه مسلما وخادما، فقال له: يا قاضي ما فعلت بك قبيحا يقتضي(4/1850)
ذكرك لي وطعنك فيّ، فقال: يا مولانا أنا مجنون، فقال: إذا كنت مجنونا فالمارستان لمثلك عمل، وفي حملك إليه ومداواتك فيه ثواب ومصلحة وكفّ لك عن الناس وأذاهم بجنونك وخباطك، يا أنصاريّ (للعريف على بابه) احمله إلى المارستان واحبسه مع إخوانه المجانين، فأخذ وحمل إلى المارستان وحبس فيه، قال الرئيس: وعرفت القصة فركبت إلى القنائي، ولحقني المرتضى والرؤساء من الناس ولم نفارقه حتى أفرج عنه وأطلقه.
واجتاز القاضي «1» أبو القاسم يوما فرأى في طريقه كلبا رابضا فقال له: اخسأ اخسأ اخسأ، فلم يبرح، فقال: اخسأ وعاد عنه ومضى.
قال أبو الحسن «2» : ولقيته يوما بنت ابن العلاف زوجة أبي منصور ابن المرزع، وكانت عاهرة إلى الحدّ الذي تلبّس بلبس الجبة المضرّبة وتتعمّم بالمقياد وتأخذ السيف والدّرقة، وتخرج ليلا فتمشي مع العيارين وتشرب إلى أن تسكر وتعود سحرا إلى بيتها، وربما انتهى بها السكر إلى الحدّ الذي لا تملك أمرها معه، فيحملها العيارون إلى دار زوجها على تلك الحال، فقالت له: يا قاضي، ما معنى هذه التاء التي تكتبها على الدراهم، وكان إليه العيار في دار الضّرب، فقال لها: هذا شيء يعملونه كالعلامة أنّ التنوخي متولي العيار، فيأخذون التاء من أول نسبتي، فقالت: كذبت وأثمت أيها القاضي، تريد أن أقول لك معناها؟ فقال لها: قولي يا ستّ النساء، فقالت: معناها يا قاضي تنيكها يا قاضي، فضرب حماره ومضى وهو يقول لها: لحية زوجك في جحري، لحية زوجك في جحري.
قال: ولقيه إنسان ومعه كتاب في الطريق فأعطاه إياه وسأله أن يشهد عليه فيه فقال: هات دواة أو محبرة، فقال: ما معي فقال: ويحك ما صبرت أن أنزل إلى داري وأشهد عليك بدواتي بل اعترضتني في الطريق وليس معك ما تكتب منه، ويلك من يريد أن ينيك في الدهليز «3» يجب أن يكون أيره قائما مثل دستك «4» الهاون، وتركه ومضى.
14(4/1851)
[804] علي بن محمد بن عبد الله بن أبي سيف
المدائني، أبو الحسن، مولى سمرة ابن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف: بصري سكن المدائن، ثم انتقل عنها إلى بغداد فلم يزل بها إلى حين وفاته. روى عن الزبير بن بكار وأحمد بن أبي خيثمة وأحمد بن الحارث الخراز والحارث بن أبي أسامة وغيرهم.
حدث أبو قلابة قال «1» : حدثت أبا عاصم النبيل بحديث فقال: عمن فانه حسن، فقلت له: ليس له إسناد ولكن حدثنيه أبو الحسن المدائني، فقال لي:
سبحان الله أبو الحسن إسناد.
ولد المدائني سنة خمس وثلاثين ومائة ومات سنة خمس وعشرين ومائتين.
قال الحارث بن أبي أسامة «2» : سرد المدائني الصوم قبل موته بثلاثين سنة، وانه كان قد قارب المائة سنة، فقيل له في مرضه ما تشتهي؟ قال: أشتهي أن أعيش.
وكان مولده ومنشأه البصرة ثم صار إلى المدائن بعد حين، ثم صار إلى بغداد فلم يزل بها إلى أن مات. واتصل بإسحاق بن إبراهيم الموصلي فكان لا يفارق منزله، وفي منزله كانت وفاته، وكان ثقة إذا حدث عن الثقات.
نقلت من خط عمر بن محمد بن سيف الكاتب «3» البغدادي، حدثنا اليزيدي أبو عبد الله محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد قال، حدثني أحمد بن زهير بن حرب قال «4» : كان أبي ويحيى بن معين ومصعب الزبيري يجلسون بالعشيات على
__________
[804]- ترجمة المدائني في الفهرست: 113 وتاريخ بغداد 12: 54 ونور القبس: 182 والأنساب 7: 137 وميزان الاعتدال 3: 153 وسير الذهبي 10: 400 وعبر الذهبي 1: 391 والمغني في الضعفاء 2: 454 والوافي 22: 41 ومرآة الجنان 2: 83 والبداية والنهاية 10: 299 ولسان الميزان 4: 253 والنجوم الزاهرة 2: 259 والشذرات 2: 54.(4/1852)
باب مصعب، قال: فمرّ عشية من العشيات رجل على حمار فاره وبزّة حسنة فسلم وخصّ بمسائله يحيى بن معين، فقال له يحيى: إلى أين يا أبا الحسن؟ فقال: إلى هذا الكريم الذي يملأ كمي من أعلاه إلى أسفله دنانير ودراهم، فقال: ومن هذا يا أبا الحسن؟ قال: أبو محمد إسحاق بن إبراهيم الموصلي. قال: فلما ولّى قال يحيى بن معين ثقة ثقة ثقة، قال فسألت أبي فقلت: من هذا الرجل؟ فقال:
المدائني.
وحدث أبو أحمد العسكري في «كتاب التصحيف» له «1» عن أحمد بن عمار عن ابن أبي سعد الوراق قال العباس بن ميمون، قال قال لي ابن عائشة: جاءني أبو الحسن المدائني فتحدث بحديث خالد بن الوليد حين أراد أن يغير على طرف من أطراف الشام وقول الشاعر في دليله رافع:
لله درّ رافع أنّى اهتدى ... فوّز من قراقر إلى سوى
خمسا إذا ما سارها «الجبس» بكى
فقال الجيش، فقلت: لو كان الجيش لكان «بكوا» وعلمت أن علمه من الصحف. قال العسكري: أما قول ابن عائشة إن الرواية الجبس بكى فهو كما قال وهو صحيح، وأما قوله لو كان الجيش لكان بكوا فقد وهم في هذا، ويجوز للجيش بكى فيحمل على اللفظ، وقد قال طفيل الغنويّ أو أوس بن حجر «2» :
وان يك عارا بالقنان اتيته ... فراري فإن الجيش قد فرّ أجمع
وحدّث محمد بن إسحاق النديم «3» قال: قرأت بخط ابن الأخشيد: كان المدائني متكلما من غلمان معمر بن الأشعث قال: وحفص الفرد ومعمر وأبو شمر وأبو الحسن المدائني وأبو بكر الأصم وأبو عامر وعبد الكريم بن روح ستة «4» كانوا غلمان معمر بن الأشعث.
حدث المدائني قال «5» : أمر المأمون أحمد بن يوسف بادخالي عليه، فلما(4/1853)
دخلت ذكر علي بن أبي طالب عليه السلام، فحدثته فيه بأحاديث، إلى أن ذكر لعن بني أمية له فقلت: حدثني أبو سلمة المثنى بن عبد الله أخو محمد بن عبد الله الأنصاري قال قال لي رجل: كنت بالشام فجعلت لا أسمع أحدا يسمّى عليا ولا حسنا ولا حسينا وإنما أسمع معاوية ويزيد والوليد، قال: فمررت برجل جالس على باب داره وقد عطشت فاستسقيته فقال: يا حسن اسقه، فقلت له: أسميت حسنا؟ فقال:
أي والله إن لي أولادا أسماؤهم حسن وحسين وجعفر فإن أهل الشام يسمون أولادهم بأسماء خلفاء الله، ولا يزال أحدنا يلعن ولده ويشتمه، وإنما سميت أولادي بأسماء أعداء الله فإذا لعنت إنما ألعن أعداء الله، فقلت له: ظننتك خير أهل الشام، وإذا جهنم ليس فيها شرّ منك. فقال المأمون لا جرم قد ابتعث الله عليهم من يلعن أحياءهم وأمواتهم ويلعن من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، يعني الشيعة.
فهرست كتب المدائني نقلا من كتاب ابن النديم وذكر أنه نقله من خط ابن الكوفي:
كتبه في أخبار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: كتاب أمهات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب صفة النبيّ عليه السلام. كتاب أخبار المنافقين. كتاب عهود النبيّ عليه السلام. كتاب تسمية المنافقين ومن نزل فيه القرآن منهم ومن غيرهم. كتاب تسمية الذين يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتسمية المستهزئين. كتاب رسائل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب كتب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى الملوك.
كتاب آيات النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب إقطاع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب فتوح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب صلح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب خطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب عهود النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. آخر كتاب المغازي (وزعم أبو الحسن ابن الكوفي أنها عنده في ثمانية أجزاء جلود بخط عباس اليابس، وزعم تحت هذا الفصل وأخرى في جزءين تأليف أحمد بن الحارث الخراز) كتاب سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. كتاب الوفود يحتوي على وفود اليمن ووفود مضر ووفود ربيعة. كتاب دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب خبر الافك. كتاب أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب السرايا. كتاب عمال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على الصدقات. كتاب ما نهى عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. كتاب حجة أبي بكر رضي الله عنه. كتاب خطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «1» . كتاب أخبار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. كتاب الخاتم(4/1854)
والرسل. كتاب من كتب له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كتابا أو أمانا. كتاب أموال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وكتابه «1» ومن كان يرد عليه الصدقة من العرب «2» .
(أخبار قريش:) كتاب نسب قريش وأخبارها. كتاب العباس بن عبد المطلب عليه السلام.
كتاب أخبار أبي طالب وولده. كتاب خطب علي بن أبي طالب عليه السلام. كتاب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. كتاب علي بن عبد الله بن العباس. كتاب آل أبي العاص. كتاب [آل] أبي العيص. كتاب خبر الحكم بن أبي العاص «3» . كتاب عبد الرحمن بن سمرة. كتاب ابن أبي عتيق. كتاب عمرو بن الزبير. كتاب فضائل محمد بن الحنفية. كتاب فضائل جعفر بن أبي طالب. كتاب فضائل الحارث بن عبد المطلب. كتاب فضائل عبد الله بن جعفر. كتاب معاوية بن عبد الله بن جعفر.
كتاب عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر. كتاب أمر محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. كتاب العاص بن أمية. كتاب عبد الله بن عامر بن كريز. كتاب بشر بن مروان بن الحكم. كتاب عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي. كتاب هجاء حسان لقريش. كتاب فضائل قريش. كتاب عمرو بن سعيد بن العاص. كتاب يحيى بن عبد الله بن الحارث. كتاب أسماء من قتل من الطالبيين. كتاب أخبار زياد بن أبيه. كتاب مناكح زياد وولده ودعوته. كتاب الجوابات ويحتوي على جوابات قريش. جوابات مضر. جوابات ربيعة. جوابات الموالي. جوابات اليمن.
(كتبه في أخبار مناكح الأشراف وأخبار النساء:) كتاب الصداق. كتاب الولائم.
كتاب المناكح. كتاب النواكح «4» . كتاب المغتربات. كتاب المقينات. كتاب المتردّفات من قريش. كتاب من جمع بين أختين ومن تزوج ابنة امرأته ومن جمع أكثر من أربع ومن تزوج مجوسية. كتاب من كره مناكحته. كتاب من قتل عنها زوجها.
كتاب من نهيت عن تزويج رجل فتزوجته. كتاب من تزوج من الأشراف في كلب «5» .(4/1855)
كتاب من هجاها زوجها. كتاب من شكت زوجها أو شكاها. كتاب مناقضات الشعراء وأخبار النساء. كتاب من تزوج في ثقيف من قريش. كتاب الفاطميات. كتاب من وصف امرأة فأحسن. كتاب الكلبيات. كتاب العواتك «1» .
(كتبه في أخبار الخلفاء:) كتاب من تزوج من نساء الخلفاء «2» . كتاب تسمية الخلفاء وكناهم وأعمارهم. كتاب تاريخ أعمار الخلفاء. كتاب حلى الخلفاء. كتاب أخبار الخلفاء الكبير ابتدأه بأخبار أبي بكر الصديق رضي الله عنه وختمه بأخبار المعتصم «3» .
(كتبه في الأحداث «4» :) كتاب الردة. كتاب الجمل. كتاب الغارات. كتاب النهروان. كتاب الخوارج. كتاب خبر ضابىء بن الحارث البرجمي. كتاب توبة بن مضرس. كتاب بني ناجية «5» ومصقلة بن هبيرة. كتاب مختصر الخوارج. كتاب خطب علي كرم الله وجهه وكتبه إلى عماله. كتاب عبد الله بن عامر الحضرمي.
كتاب إسماعيل بن هبار. كتاب عمرو بن الزبير. كتاب مرج راهط. كتاب الربذة ومقتل حبيش. كتاب أخبار الحجاج ووفاته. كتاب عباد بن الحصين. كتاب حرة واقم. كتاب ابن الجارود بروستقباد. كتاب مقتل عمرو بن سعيد بن العاص. كتاب زياد بن عمرو بن الأشرف العتكي. كتاب خلاف عبد الجبار الأزدي ومقتله. كتاب سلم بن قتيبة وروح بن حاتم. كتاب المسور بن عمر بن عباد الحبطي وعمرو بن سهل. كتاب مقتل ابن هبيرة. كتاب يوم سنبيل. كتاب الدولة العباسية وهو كتاب كبير يشتمل على عدة كتب لم يذكره ابن النديم ووقع إلي بخط السكري بعضه وقد قرأه على الحارث بن أبي أسامة.
(كتبه في الفتوح:) كتاب فتوح الشام منذ أيام أبي بكر وإلى أيام عثمان رضي الله(4/1856)
عنهما. كتاب فتوح العراق منذ أيام أبي بكر وإلى آخر أيام عمر رضي الله عنهما.
كتاب خبر البصرة وفتوحها وفتوح ما يقاربها من دستميسان والأهواز وماسبذان وغير ذلك. كتاب فتوح خراسان وأخبار أمرائها كقتيبة ونصر بن سيار وغيرهما. كتاب نوادر قتيبة بن مسلم. كتاب ولاية أسد بن عبد الله القسري. كتاب ولاية نصر بن سيار.
كتاب ثغر الهند. كتاب أعمال «1» الهند. كتاب فتوح سجستان. كتاب فارس. كتاب فتح الابلة. كتاب أخبار أرمينية. كتاب كرمان. كتاب كابل وزابلستان. كتاب القلاع والأكراد. كتاب عمان. كتاب فتوح جبال طبرستان. كتاب طبرستان أيام الرشيد.
كتاب فتوح مصر. كتاب الريّ وأمر العلوي. كتاب أخبار الحسن بن زيد وما مدح به من الشعر وعماله. كتاب فتوح الجزيرة. كتاب فتوح البامي. كتاب فتوح الأهواز.
كتاب أمر البحرين. كتاب فتح شهرك. كتاب فتح برقة. كتاب فتح مكران. كتاب فتوح الحيرة. كتاب موادعة النوبة. كتاب خبر سارية بن زنيم. كتاب فتوح الري.
كتاب فتوح جرجان وطبرستان.
(كتبه في أخبار العرب:) كتاب البيوتات. كتاب الجيران. كتاب أشراف عبد القيس. كتاب أخبار ثقيف. كتاب من نسب إلى أمه. كتاب من سمي باسم أبيه.
كتاب الخيل والرهان. كتاب بناء الكعبة. كتاب خبر خزاعة. كتاب حمى المدينة وجبالها وأوديتها.
(كتبه في أخبار الشعراء وغيرهم:) كتاب أخبار الشعراء. كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء. كتاب العمائر. كتاب الشيوخ. كتاب الغرماء. كتاب من هادن أو غزا كتاب من افترض من الأعراب في الديوان فندم وقال شعرا. كتاب المتمثلين. كتاب من تمثل بشعر في مرضه. كتاب الأبيات التي جوابها كلام. كتاب النجاشي. كتاب من وقف على قبر فتمثل بشعر. كتاب من بلغه موت رجل فتمثل شعرا أو كلاما. كتاب من تشبه من النساء بالرجال. كتاب من فضل الأعرابيات على الحضريات. كتاب من قال شعرا على البديهة. كتاب من قال شعرا في الأوابد. كتاب الاستعداء على(4/1857)
الشعراء. كتاب من قال شعرا فسمي به. كتاب من قال في الحكومة من الشعراء.
كتاب تفضيل الشعراء بعضهم على بعض. كتاب من ندم على المديح ومن ندم على الهجاء. كتاب من قال شعرا فأجيب بكلام. كتاب أبي الأسود الدئلي. كتاب خالد بن صفوان. كتاب مهاجاة عبد الرحمن بن حسان للنجاشي. كتاب قصيدة خالد بن يزيد في الملوك والأحداث. كتاب أخبار الفرزدق. كتاب قصيدة عبد الله بن إسحاق بن الفضل بن عبد الرحمن. كتاب أخبار عمران بن حطان «1» .
(ومن كتبه المؤلفة:) كتاب الأوائل. كتاب المتيمين. كتاب التعازي. كتاب المنافرات. كتاب الأكلة. كتاب المسيرين. كتاب القيافة والفال والزجر. كتاب من حرد من الأشراف. كتاب المروءة. كتاب الحمقى. كتاب اللواطين. كتاب الجواهر. كتاب المقينين. كتاب المسمومين. كتاب كان يقال. كتاب ذم الحسد.
كتاب من وقف على قبر. كتاب الخيل. كتاب من استجيبت دعوته. كتاب قضاة أهل المدينة. كتاب قضاة أهل البصرة. كتاب أخبار رقبة بن مصقلة. كتاب مفاخرة العرب والعجم. كتاب مفاخرة أهل البصرة والكوفة. كتاب ضرب الدراهم والصرف. كتاب أخبار إياس بن معاوية. كتاب خبر أصحاب الكهف. كتاب خطبة واصل. كتاب إصلاح المال. كتاب آداب الاخوان. كتاب النخل. كتاب المقطعات المتخيرات.
كتاب أخبار ابن سيرين. كتاب الرسالة إلى ابن أبي دواد. كتاب النوادر. كتاب المدينة. كتاب مكة. كتاب المختضرين. كتاب المراعي والجراد ويحتوي على الكور والطساسيج وجباياتها.
[805] علي بن محمد بن وهب المسعري
صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام: روى
__________
[805]- إنباه الرواة 3: 263 (المسعدي) .(4/1858)
عن أبي عبيد أنه قال: هذا الكتاب- يعني «غريب الحديث المصنف» أحبّ إليّ من عشرة آلاف دينار، وعدد أبوابه على ما ذكره ألف باب، وفيه من شواهد الشعر ألف ومائتا بيت.
[806] علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسام
أبو الحسن العبرتائي الكاتب، وأمه أخت أحمد بن حمدون بن إسماعيل النديم لأبيه وأمه، وقال المرزباني: أمه بنت حمدون النديم، وله مع خاله أبي عبد الله ابن حمدون أخبار، وكان حسن البديهة شاعرا ماضيا أديبا لا يسلم على لسانه أحد، وهو معدود في العققة، وكان يصنع الشعر في الرؤساء وينحله ابن الرومي وغيره.
مات فيما ذكره ابن المرزباني بعد سنة ثلاثمائة بسنتين، وقال ثابت بن سنان:
مات علي بن محمد بن بسام في صفر سنة اثنتين وثلاثمائة عن نيف وسبعين سنة، واستفرغ شعره في هجاء والده محمد بن نصر والخلفاء والوزراء، وكان مع فصاحته وبيانه لا حظّ له في التطويل إنما يحسن مقطعاته وتندر أبياته. وهو من أهل بيت الكتابة، كان جده نصر بن منصور يتولى ديوان الخاتم والنفقات والأزمّة في أيام المعتصم. وهو كان السبب في نكبة الفضل بن مروان، وكان قد هجا الوزير علي بن عيسى بن داود بن الجراح لما نفي إلى مكة، فلما ردت إليه الوزارة جلس يوما للمظالم فمرت في جملة القصص رقعة فيها مكتوب:
وافى ابن عيسى وكنت أضغنه ... أشدّ شيء عليّ أهونه
__________
[806]- ترجمة ابن بسام في الفهرست: 167 ومعجم الشعراء: 154 والهدايا والتحف: 139 وتاريخ بغداد 12: 63 وابن خلكان 3: 363 واللباب (البسامي) واعتاب الكتاب: 188 والوافي 22: 149 والفوات 3: 92 وسير الذهبي 14: 112 ومرآة الجنان 2: 238 والبداية والنهاية 11: 125 والنجوم الزاهرة 3: 189 والموسوعة الإسلامية 3: 734 (الطبعة الثانية بالانجليزية) وراجع المصادر التاريخية مثل أخبار الراضي والمتقي للصولي وتاريخ الوزراء للصابي ومروج الذهب للمسعودي (الفقرة 3406- 3421) ، ومقالة ابن شيخ في مجلة Arbica العدد 3/20 (ص 261- 291) وله مقطعات في التشبيهات وخاص الخاص ومحاضرات الراغب وزهر الآداب والذخيرة.(4/1859)
ما قدّر الله ليس يدفعه ... وما سواه فليس يمكنه
فقال علي بن عيسى: صدق، هذا ابن بسام، والله لا ناله مني مكروه أبدا.
وكان الغالب على ابن بسام الشعر، ومن حقه أن يذكر مع الشعراء، وإنما حملنا على ذكره هاهنا رسائله وما له من التصانيف وهي: كتاب أخبار عمر بن أبي ربيعة جيد بالغ في معناه. (وجدت أخبار عمر بن أبي ربيعة تصنيف علي بن محمد بن نصر بن منصور بن بسام وقد روى فيه عن الزبير بن بكار وعمر بن شبة وحماد بن إسحاق ويعقوب بن أبي شيبة وأحمد بن الحارث الخراز ومحمد بن حبيب وسليمان بن أبي شيخ وخاله أحمد بن حمدون) «1» كتاب المعاقرين. كتاب ديوان رسائله. كتاب مناقضات الشعراء. كتاب أخبار الأحوص.
ومن شعره الذي قاله ونحله ابن الرومي قوله يخاطب عبيد الله بن سليمان الوزير وقد مات ابنه أبو محمد في سنة أربع وثمانين «2» :
قل لأبي القاسم المرجّى ... قابلك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشّين والمعايب
حياة هذا كفقد هذا ... فلست تخلو من المصائب
فبلغت الأبيات عبيد الله فساءته، فدعا البساميّ وقال: يا علي كيف قلت؟
فعلم البساميّ أنه مغضب فقال: قلت أيها الوزير:
قل لأبي القاسم المرجّى ... لن يدفع الموت كفّ غالب
لئن تولّى بمن تولى ... وفقده أعظم المصائب
لقد تخطّت لك المنايا ... عن حامل عنك للنوائب
يعني ابنه أبا الحسين، فسكت عبيد الله ولها عنه.
وذكر الصولي في «كتاب الوزراء» قال قال أبو الحارث النوفلي الشاعر: كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لكفره ولمكروه نالني منه، فلما قرأت شعر ابن المعتز(4/1860)
(وهو شعر رثى به الحسين أبا محمد مذكور في أخباره) وشعر ابن بسام وكان ابن بسام قد قال:
معاذ الله من كذب ومين ... لقد أبكت وفاتك كلّ عين
ولكن قد تنسّينا الرزايا ... ويعضدنا بقاء أبي الحسين
قلت على لسان ابن بسام وأشعتها عليه وأنفذتها إليه «قل لأبي القاسم المرجّى» ... الأبيات.
وحدث السلامي عن أبي القاسم المجمع بن محمد بن المجمع قال حدثني ابن حمدون النديم قال: كان المعتضد أمر بعمارة البحيرة واتخاذ رياض حواليها، وأنفق على الأبنية بها ستين ألف دينار، وكان يخلو فيها مع جواريه وفيهن جارية يقال لها دريرة، فقال البسامي «1» :
ترك الناس بحيره ... وتخلّى في البحيره
قاعدا يضرب بالطب ... ل على حرّ دريره
وبلغت الأبيات المعتضد فلم يظهر لأحد أنه سمعها «2» ، وأمر بتخريب ما استعمره من تلك العمارات والأبنية. قال أحمد بن حمدون «3» : فكنت ألاعب المعتضد بالشطرنج ذات يوم إذ دخل إليه القاسم بن عبيد الله وهو وزيره فاستأمره في شيء وانصرف، فلما ولى أنشد المعتضد قول البسامي في القاسم:
حياة هذا كموت هذا ... فلست تخلو من المصائب
وجعل يكرّر البيت، وعاد القاسم إليه في شغل والمعتضد مشغول باللعب ولم يعلم بحضوره، وهو يردّد البيت، فاحتلت حتى أعلمته حضوره، فرفع رأسه إليه واستحيى منه حتى تبيّن «4» ذلك في وجهه، ثم قال: يا أبا الحسين- وهو أول ما كناه للخجل الذي تداخله- لم لا تقطع لسان هذا الماجن وتدفع شره عنك؟ فانصرف القاسم مبادرا إلى مجلسه ومنتهزا للفرصة في ابن بسام وأمر بطلبه، قال ابن حمدون:(4/1861)
فدهشت وارتعشت يدي في اللعب خوفا مما يلحق ابن بسّام للقرابة التي بيني وبينه، فقال المعتضد: مالك؟ قلت: يا أمير المؤمنين القاسم بن عبيد الله لا يصطلى بناره، وكأني به وقد قطع لسان البسامي حنقا عليه، وهو أحد النبلاء الشعراء، فيكون ذلك سبة على أمير المؤمنين، فأمر باحضار القاسم وسأله عما فعله في أمر ابن بسام، فقال: قد تقدمت إلى مؤنس باحضاره لأقطع لسانه فقال: يا أبا الحسين إنما أمرناك أن تقطع لسانه بالبر والصلة والتكرمة ليعدل عن هجائك إلى مدحك، فقال: يا أمير المؤمنين لو عرفته حق المعرفة وعلمت ما قاله لاستجزت قطع رأسه- عرّض بما قاله في المعتضد ودريرة- فتبسم المعتضد وقال: يا أبا الحسين إنما أمرنا بتخريب البحيرة لذلك، فتقدم أنت باحضاره وأخرج إليه ثلاثمائة دينار فإن ذلك أولى وأحسن من غيره، قال فأحضره القاسم بعد ثالثة وخلع عليه وولّاه بريد الصيمرة وما والاها، فبقي في عمله إلى آخر أيام المعتضد، ثم جمح به طبعه إلى إعادة الاساءة فقال:
أبلغ وزير الإمام عني ... وناد يا ذا المصيبتين
يموت حلف الندى ويبقى ... حلف المخازي أبو الحسين
فأنت من ذا عميد قلب ... وأنت من ذا سخين عين
حياة هذا كموت هذا ... فالطم على الرأس باليدين
قال جحظة «1» : كان ابن بسام يفخر بقوله فيّ:
يا من هجوناه فغنانا ... أنت وحقّ الله أهجانا
فقلت: هذا معنى لم يسبق إليه خاطر ابن بسام، وإن كان قد أتى به مطبوعا، وإنما أخذه من قول ابن الرومي في هجائه شنطف «2» :
وفي قبحها كاف لنا من كيادها ... ولكنها في فعلها تتبرّد
ولو علمت ما كايدتنا لانها ... بانفاسها والوجه والطبل أكيد
وقال ابن بسام في الوزير الخاقاني:
وزير ما يفيق من الرقاعه ... يولّي ثم يعزل بعد ساعه(4/1862)
إذا أهل الرشا صاروا إليه ... فأحظى القوم أوفرهم بضاعه
فلا رحما تقرّب منه خلقا ... سوى الورق الصحاح ولا شفاعه
وليس بمنكر ذا الفعل منه ... لأن الشيخ أفلت من مجاعه
حدث أبو نصر أحمد بن العلاء الشيرازي الكاتب قال: لما تقلّد أبو الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات الوزارة كنت أجالسه وأوانسه، فحدثني يوما أن أباه حدثه قال: تقلدت مصر وكان بيني وبين أبي الحسين ابن بسام مودة ورضاع ونحن مختلطون، وأنا بمصر يوما فما شعرت إلا بابن بسام قد دخل إليّ متقلدا للبريد فافهمته أحوالي «1» ، وقاسمته أكثر مروءتي وأموالي، وتطلبت الخلاص من لسانه بكلّ شيء يمكن، وأوصيت حاجبي أن لا يحجبه عني ولو كنت مع زوجتي، فجاء يوما وأنا نائم فقال له الحاجب: ادخل، فدخل فوجدني نائما، فاستدعى دواة وكتب شيئا وتركه وانصرف، فلما انتبهت عرّفني حاجبي ذلك، فأخذت الرقعة فإذا فيها:
محتجب دون من يلمّ به ... وليس للخارجات حجّاب
لأنّ للخارجات منفعة ... تأتيه والداخلون طلّاب
قال فبعثت أعرف خبره لأعاتبه فإذا هو تحمّل وسار عن البلد، فكتبت إليه أداريه وألاطفه ليرجع فلم يجب.
قال التنوخي «2» حدثني ابن أبي قيراط علي بن هشام حدثني أبو علي ابن مقلة قال: كنت أقصد ابن بسام لهجائه إياي، فخوطب ابن الفرات في وزارته الأولى في تصريفه فاعترضت وقلت، إذا صرّف فلا يحتبس الناس على مجالسنا وقد افترقت فإذا لم يضره الوزير فلا أقلّ من أن لا ينفعه، فامتنع من تصريفه قضاء لحقي، فبلغ ذلك ابن بسام فجاءني وخضع لي ثم لازمني نحو سنة حتى صار يختصّ بي ويعاشرني على البريد، ومدحني فقال:
يا زينة الدين والدنيا وما جمعا ... والأمر والنهي والقرطاس والقلم
إن ينسىء الله في عمري فسوف ترى ... من خدمتي لك ما يغني عن الخدم(4/1863)
أبا عليّ لقد طوّقتني مننا ... طوق الحمامة لا تبلى على القدم
فاسلم فليس يزيل الله نعمته ... عمن يبثّ الأيادي في ذوي النعم
وحدّث محمد بن يحيى الصولي أنه سمع علي بن محمد بن بسام يقول «1» :
كنت أتعشّق خادما لخالي أحمد بن حمدون، فقمت ليلة لأدبّ إليه، فلما قربت منه لسعتني عقرب فصرخت، فقال خالي: ما تصنع ها هنا؟ فقلت: جئت لأبول، فقال: صدقت في است غلامي، فقلت لوقتي:
ولقد سريت مع الظلام لموعد ... حصّلته من غادر كذّاب
فإذا على ظهر الطريق مغذّة ... سوداء قد عرفت أوان ذهابي
لا بارك الرحمن فيها عقربا ... دبابة دبّت إلى دباب
فقال خالي: قبحك الله لو تركت المجون يوما لتركته في هذه الحال.
ولابن بسام في علي بن عيسى «2» الوزير:
رجوت لك الوزارة طول عمري ... فلما كان منها ما رجوت
تقدمني أناس لم يكونوا ... يرومون الكلام إذا دنوت
فأحببت الممات «3» وكلّ عيش ... يحبّ الموت فيه فهو موت
ومن شعر ابن بسام من خط السمعاني «4» :
أقصرت عن طلب البطالة والصبا ... لما علاني للمشيب قناع
لله إيام الشباب ولهوه ... لو أنّ أيام الشباب تباع
فدع الصبا يا قلب واسل عن الهوى ... ما فيك بعد مشيبك استمتاع
وانظر إلى الدنيا بعين مودّع ... فلقد دنا سفر وحان وداع
فالحادثات موكّلات بالفتى ... والناس بعد الحادثات سماع(4/1864)
ولما ولي حامد بن العباس وزارة المقتدر ورتّب معه علي بن عيسى يدبّر الأمو بين يديه قال ابن بسام:
يا ابن الفرات تعزّى ... قد صار أمرك آيه
لما عزلت حصلنا ... على وزير بدايه
وعلي بن بسام القائل يمدح النحو «1» :
رأيت لسان المرء وافد عقله ... وعنوانه فانظر بماذا تعنون
فلا تعد إصلاح اللسان فإنه ... يخبّر عما عنده ويبين
ويعجبني زيّ الفتى وجماله ... فيسقط من عينيّ ساعة يلحن
على أن للإعراب حدا وربما ... سمعت من الأعراب ما ليس يحسن
ولا خير في اللفظ الكريه استماعه ... ولا في قبيح اللحن والقصد أزين
ومن قصيدة له يهجو فيها الكتاب «2» :
وعبدون يحكم في المسلمين ... ومن مثله تؤخذ الجاليه
ودهقان طيّ تولّى العراق ... وسقي الفرات وزرفانيه
وحامد يا قوم لو أمره ... إليّ لألزمته الزاويه
نعم ولأرجعته صاغرا ... إلى بيع رمّان خسراويه
أيا ربّ قد ركب الأرذلون ... ورجلي من بينهم ماشيه
فإن كنت حاملها مثلهم ... وإلا فأرجل بني الزانيه
قال أبو الحسين علي بن هشام بن أبي قيراط: سمعت ابن بسام ينشد في وزارة ابن الفرات «3» :
إذا حكم النصارى في الفروج ... وباهوا بالبغال وبالسروج
فقل للأعور الدجّال هذا ... أوانك إن عزمت على الخروج(4/1865)
قال أبو الحسين ابن هشام، حدثني زنجي الكاتب، حدثني ابن بسام قال:
كنت أتقلد البريد بقمّ في أيام عبيد الله بن سليمان، والعامل بها أبو عيسى أحمد بن محمد بن خالد المعروف بأخي أبي صخرة، فأهدى إليّ في ليلة عيد الأضحى بقرة للأضحية، فاستقللتها ورددتها وكتبت إليه «1» :
كم من يد لي إليك سالفة ... وأنت بالحقّ غير معترف
نفسك أهديتها لأذبحها ... فصنتها عن مواقع التلف.
[807] علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الأسدي
المعروف بابن الكوفي: صاحب ثعلب والخصيص به، وهو من أسد قريش، وهو أسد بن عبد العزّى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب رهط الزبير بن العوام، وهو صاحب الخط المعروف بالصحة المشهور باتقان الضبط وحسن الشكل، فإذا قيل نقلت من خط ابن الكوفي فقد بالغ في الاحتياط، وكان من أجلّ أصحاب ثعلب. مات في ذي القعدة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة ومولده سنة أربع وخمسين ومائتين، وكان ثقة صادقا في الرواية وحسن الدراية.
وله من الكتب: كتاب الهمز رأيته أنا بخطه. كتاب معاني الشعر واختلاف العلماء فيه. كتاب الفرائد والقلائد في اللغة.
__________
[807]- ترجمته في الفهرست: 87 وتاريخ بغداد 12: 81 والمنتظم 6: 391 وإنباه الرواة 2: 305 وتذكرة الحفاظ: 869 وعبر الذهبي 2: 279 والوافي 22: 71 وبغية الوعاة 2: 195 (عن ياقوت) والشذرات 2: 379؛ وذكره في الفهرست: 7، 57، 64 وفي طبقات الزبيدي: 149 وقال إن ثعلبا أوصى إليه وتقدم إليه في دفع كتبه إلى القطربلي، وقال القفطي إن أباه كان من أهل اليسار، خلف له زائدا عن خمسين ألف دينار أنفقها في طلب العلم وتحصيل الكتب اشتراء واستنساخا وكتابة وإنفاقا على طلبة العلم.(4/1866)
قال مؤلف الكتاب: ورأيت بخطه عدة كتب فلم أر أحسن ضبطا وإتقانا للكتابة منه، فإنه يجعل الاعراب على الحرف بمقدار الحرف احتياطا، ويكتب على الكلمة المشكوك فيها عدة مرار صح صح صح، وكان من جمّاعي الكتب وأرباب الهوى فيها.
وذكره أبو الحسن محمد بن جعفر التميمي المعروف بابن النجار في «كتاب الكوفة» من تصنيفه قال: ومن أصحاب ثعلب أبو الحسن أحمد بن محمد الكوفي الأسدي الذي خطه اليوم يؤتدم به، وبيع جزازات كتبه ورقاع سؤالاته العلماء كل رقعة بدرهم، وأنفق على العلم ثلاثين ألف درهم على ثعلب وحده. هكذا قال «أحمد بن محمد» وأظنه سهوا منه فان ابن الكوفي المشهور بجودة الضبط اسمه بخطه على عدة من كتبه، وهو: علي بن محمد بن عبيد الكوفي الأسدي كما قدمنا، فإن صحت رواية ابن النجار فهو غير الذي نعرفه نحن، فإني لم أر لهذا المسمى ذكرا مع كثرة بحثي وتنقيري. ووجدت جزازة من إملاء أبي الهيذام كلاب بن حمزة العقيلي اللغوي- وله في هذا الكتاب ترجمة «1» - ما صورته: ولأبي الهيذام إلى أبي الحسن ابن الكوفي النحوي البغدادي رحمه الله:
أبا حسن أراك تمدّ حبلي ... لتقطعه وأرسله بجهدي
وأتبعه إذا قصر احتياطا ... وأنت تشدّ جذبك أيّ شد
أخيّ فكم يكون بقاء حبل ... يتلتل بين إرسال ومدّ
تعالى الله ما أجفى زمانا ... بقيت له وأنكد فيه جدي
أظنّ الدهر يقصدني لأمر ... يحاوله ويطلبني بحقد
إذا ذهبت بشكلي عن ودادي ... مذاهبه فكيف ألوم ضدي
سأصبر طائعا وأغضّ طرفي ... وأحفظ عهد مطّرح لعهدي
وأقصد أن أحصّل لي صديقا ... أعزّ به على خطأي وعمدي
فإن أظفر بذاك فأيّ كنز ... ونيل غنيمة وثقوب زند(4/1867)
وإلا كان حسن الصبر أحرى ... بحسن مثوبة وبناء مجد
ألا لله ما أصبحت فيه ... من الخلطاء من تعب وكدّ
لقاء بالجميل وحسن بشر ... وإنصاف يشاب بخلف وعد
وعلم لا يقاس إليه علم ... بكلّ طريقة وبكلّ حدّ
وإغفال لما أولي وأحجى ... تفقده بذي أدب وحشد
فيا لله يا للناس يا ... للعجائب بين تقربة وبعد
من الأخلاق إذ مزجت فصارت ... علاقمها مجدّحة بشهد
أراني بين منزلتين ما لي ... سوى إحداهما ثقة لقصد
فإن أرد الأنيس أعش ذليلا ... وان أرد التعزز أبق وحدي.
[808] علي بن محمد بن الشاه الطاهري
من ولد الشاه بن ميكال: وكان أديبا طيبا مفاكها في نهاية الظرف والنظافة يسلك مسلك أبي العنبس الصيمري في تصانيفه، مات [ ... ] ، وله من التصانيف: كتاب دعوة التجار. كتاب فخر المشط على المرآة. كتاب حرب الجبن على الزيتون «1» . كتاب الرؤيا. كتاب اللحم والسمك «2» . كتاب عجائب البحر «3» . كتاب البغاء. كتاب قصيدة وخيار يا مكانس.
ولما لم أجد له ما يكتب وجدت في «كتاب الرياض» للمرزباني أنشدني أحمد بن إبراهيم «4» بن الشاه الطاهري:
فؤادي عليل وجسمي نحيل ... وليلي طويل ونومي قليل
__________
[808]- ترجمته في الفهرست: 170 والوافي 22: 160.(4/1868)
بقلبي غليل ودائي دخيل ... وسقمي دليل على ما أقول
وطرفي كليل فما لي مقيل ... وأمري جليل فصبر جميل.
[809] علي بن محمد بن عبدوس الكوفي:
نحوي ذكره محمد بن إسحاق، وله من الكتب كتاب ميزان الشعر بالعروض. كتاب البرهان في علل النحو. كتاب معاني الشعر.
[810] علي بن محمد أبو القاسم الاسكافي
من أهل نيسابور: ذكره الثعالبي فقال:
هو لسان خراسان وعينها وواحدها في الكتابة والبلاغة وممن لم تخرج مثله في الصناعة والبراعة، وكان تأدب بنيسابور عند مؤدب بها يعرف بالحسن بن مهرجان من أعرف المؤدبين بأسرار التأديب والتدريس وأعلمهم بطريق التدريج إلى التخريج «1» ، ثم حرّر مديدة في بعض الدواوين فخرج منقطع القرين واسطة عقد الفضل ونادرة الزمان وبكر الفلك، كما قال فيه الهريميّ:
سبق الناس بيانا فغدا ... وهو بالاجماع بكر الفلك
أصبح الملك به متسقا ... لسليل الملك عبد الملك «2»
ووقع في ريعان أمره وعنفوان عمره إلى أبي علي الصاغاني واستأثر به وأستخلصه لنفسه وقلّده ديوان رسائله، فحسن خبره وسافر أثره، وكانت كتبه ترد على الحضرة في
__________
[809]- ترجمته في الفهرست: 94 وإنباه الرواة 2: 310 والوافي 22: 72 وبغية الوعاة 2: 194.
[810]- ترجمة الاسكافي في اليتيمة 4: 95 والبصائر والذخائر 3: 243 والوافي 22: 161.(4/1869)
نهاية الحسن والنضرة فتقع المنافسة فيه، ويكاتب أبو علي في إيثار الحضرة به، فيتعلل ويتسلل لواذا ولا يفرج عنه إلى أن كان من كشف أبي علي قناع العصيان، وانهزامه في وقعة خرجيك «1» إلى الصغانيان ما كان، وحصل أبو القاسم في جملة الأسرى من أصحاب أبي علي، فحبس في القهندز «2» وقيّد، مع حسن الرأي فيه وشدة الميل إليه. ثم إن الأمير الحميد نوح بن نصر أراد أن يستكشفه عن سره، ويقف على خبيئة صدره، فأمر أن تكتب إليه رقعة على لسان بعض المشايخ ويقال له فيها إن أبا العباس الصاغاني قد كتب إلى الحضرة يستوهبك من السلطان ويستدعيك إلى الشاش لتتولى له كتابة الكتب السلطانية فما رأيك في ذلك؟ فوقع في الرقعة: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ
(يوسف: 33) فلما عرض توقيعه على الحميد حسن موقعه منه وأعجب به وأمر باطلاقه والخلع عليه وإقعاده في ديوان الرسائل خليفة لأبي عبد الله الحسين بن العميد الملقب بكله، وهو والد أبي الفضل ابن العميد، وكان الاسم للعميد والعمل لأبي القاسم، وعند ذلك قال بعض مجان الحضرة «3» :
تبظرم الشيخ كلّه ... ولست أرضى ذاك له
كأنه لم ير من ... أقعد عنه بدله
والله إن دام على ... هذا الجنون والبله
فانه أول من ... تنتف منه السّبله
وكان أبو القاسم يهجوه فقال فيه، وكان يحضر الديوان في محفة لسوء أثر النقرس على قدمه «4» :
يا ذا الذي ركب المحف ... ة جامعا فيها جهازه
أترى الزمان يعيشني ... حتى يرينيها جنازه(4/1870)
فلم تطل الأيام حتى أدركت العميد منيته، وبلغ أبو القاسم أمنيته، وتولى العمل برأسه وعلا أمره وبعد صيته. وجمعت رسائله أقسام الحسن والجودة وازداد على الأيام تبحرا في الصناعة.
ويحكى أن «1» الحميد أمره ذات يوم بكتبة كتاب إلى بعض الأطراف، وركب متصيدا، واشتغل أبو القاسم عن ذلك لمجلس أنس عقده بين إخوان جمعهم عنده، فحين رجع الحميد من متصيده استدعى أبا القاسم وأمره باستصحاب الكتاب الذي رسم له كتبته لعرضه عليه، ولم يكن كتبه، فأجاب داعيه وقد نال منه الشراب ومعه طومار بياض أوهم أنه مكتوب فيه الكتاب المرسوم له، وقعد بالبعد عنه فقرأ عليه كتابا طويلا سديدا بليغا أنشأه في وقته وقرأه عن ظهر قلبه، وارتضاه الحميد وهو يحسب أنه قرأه من سواد مكتوبه وأمره بختمه، فرجع إلى منزله وحرر ما قرأه وأصدره على الرسم في أمثاله.
ومن عجيب «2» أمره أنه كان أكتب الناس في السلطانيات، فإذا تعاطى الاخوانيات كان قصير الباع، وكان يقال إذا استعمل أبو القاسم نون الكبرياء تكلم من السماء، وكان في علو الرتبة في النثر وانحطاطه في النظم كالجاحظ. ورسائله كثيرة مدونة سائرة في الآفاق.
قال «3» : ولما انتقل إلى جوار ربه أكمل ما كان شبابا وآدابا وغدت الكتابة لفراقه شعثاء، والبلاغة غبراء، أكبر فضلاء الحضرة رزيّته، وأكثروا مرثيته، فمن ذلك قول الهريمي الابيوردي من قصيدة:
ألم تر ديوان الرسائل عطّلت ... لفقدانه أقلامه ودفاتره
كثغر مضى حاميه ليس لسدّه ... سواه وكالكسر الذي عزّ جابره
ليبك عليه خطّه وبيانه ... فذا مات واشيه وذا مات ساحره(4/1871)
[811] علي بن محمد بن أبي الفهم بن داود
بن ابراهيم التنوخي أبو القاسم القاضي، قد تقدم نسبه في ترجمة حفيده علي بن المحسن، قال السمعاني: ولد أبو القاسم هذا بأنطاكية في ذي الحجة سنة ثمان وسبعين ومائتين وقدم بغداد في حداثته في سنة ست وثلاثمائة وتفقه بها على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث ورواه، وولي القضاء بالأهواز وكورها، وتقلد قضاء ايذج وجند حمص من قبل المطيع لله، ومات بالبصرة في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة ودفن بالمربد.
أعرف من التنوخيين هؤلاء ثلاثة ينبغي أن يذكروا في هذا الكتاب وهم:
أبو القاسم هذا وابنه أبو علي المحسن صاحب «كتاب نشوار المحاضرة» و «كتاب الفرج بعد الشدة» وحفيده أبو القاسم علي الأخير شيخ الخطيب وتلك الطبقة، وقد ذكرت كلّ واحد منهم.
وله تصانيف في الأدب منها: كتاب في العروض، قال الخالع: ما عمل في العروض أجود منه. وكتاب في علم القوافي، وكان بصيرا بعلم النجوم قرأه على البتّاني المنجم صاحب الزيج، ويقال إنه كان يقوم بعشرة علوم، وتقلّد القضاء بالأهواز وكورة واسط وأعمالها والكوفة وسقي الفرات وجند حمص وعدة نواح من الثغور الشامية وأرجان وكورة سابور مجتمعا ومفترقا، وأول ولايته القضاء رئاسة في أيام المقتدر بالله بعهد كتبه له أبو علي ابن مقلة الوزير وشهد الشهود عنده فيما حكم بين أهل عمله بالحضرة في سنة أربعين وثلاثمائة وشهدوا على إنفاذه، وكان المطيع لله قد عوّل على صرف أبي السائب عن قضاء القضاة وتقليده إياه، فأفسد ذلك بعض أعدائه، وكان ابن مقلة قلده المظالم بالأهواز والإشراف على العيار بها، وكان
__________
[811]- ترجمة علي بن محمد التنوخي أبي القاسم في: اليتيمة 2: 309 وتاريخ بغداد 12: 77 والأنساب واللباب (التنوخي) والمنتظم 6: 372 وابن خلكان 3: 366 وسير الذهبي 15: 499 وعبر الذهبي 2: 260 وميزان الاعتدال 3: 153 ومرآة الجنان 2: 334 والبداية والنهاية 11: 227 والجواهر المضية 1: 278 ولسان الميزان 4: 256 والنجوم الزاهرة 3: 310 والشذرات 2: 362 ويروي عنه ابنه في نشوار المحاضرة كثيرا.(4/1872)
أبو عبد الله البريدي قد استخلفه بواسط على بعض أمور النظر. ولم يزل نبيها متقدما يمدحه الشعراء ويجيزهم ويفضل على من قصده إفضالا أثر في حاله، وتوفي بالبصرة في سنة اثنتين وأربعين، وصلّى عليه الوزير أبو محمد المهلبي، وقضى ما كان عليه من الدين وهو خمسون ألف درهم.
قال أبو علي التنوخي «1» : كان أبي يحفظ للطائيين سبعمائة قصيدة ومقطوعة سوى ما يحفظه لغيرهم من المحدثين والمخضرمين «2» والجاهليين ولقد رأيت له دفترا بخطه هو عندي يحتوي على رؤوس ما يحفظه من القصائد مائتين «3» وثلاثين ورقة أثمان منصوري لطاف، وكان يحفظ من النحو واللغة شيئا عظيما مع ذلك، وكان الفقه والفرائض والشروط والمحاضر والسجلات رأس ماله، وكان يحفظ منه ما قد اشتهر به من الكلام والمنطق والهندسة، وكان في النجوم وحفظ الأحكام وعلى الهيئة قدوة وفي حفظ علم العروض، وله فيه وفي الفقه وغيرهما عدة كتب مصنفة، وكان مع ذلك يحفظ ويجيب في فوق «4» عشرين ألف حديث، وما رأيت أحدا أحفظ منه، ولولا أن حفظه افترق في جميع هذه العلوم لكان أمرا هائلا.
قال أبو منصور الثعالبي «5» : هو من أعيان أهل العلم والأدب، وأفراد الكرم وحسن الشيم، وكان كما قرأته في فصل للصاحب: إن أردت فإني سبحة ناسك، أو أحببت فإني تفاحة فاتك، او اقترحت فإني مدرعة راهب، أو آثرت فإني تحية شارب. وكان يتقلد قضاء البصرة والأهواز بضع سنين، وحين صرف عنه ورد حضرة سيف الدولة زائرا ومادحا فأكرم مثواه وأحسن قراه، وكتب في معناه إلى الحضرة ببغداد حتى أعيد إلى عمله وزيد في رزقه ورتبته، وكان المهلبي الوزير وغيره من رؤساء(4/1873)
العراق يميلون إليه جدا ويتعصبون له، ويعدونه ريحانة الندماء ونارنج «1» الظرفاء ويعاشرون منه من تطيب عشرته وتكرم أخلاقه وتحسن أخباره وتسير أشعاره، ناظما حاشيتي البرّ والبحر وناحيتي الشرق والغرب. وبلغني أنه كان له غلام يسمى نسيما في نهاية الملاحة واللباقة، وكان يؤثره على سائر غلمانه ويختصه بتقريبه واستخدامه، فكتب إليه بعض من يأنس به:
هل عليّ لامه مدغمة ... لاضطرار الشعر في ميم نسيم
فوقع تحته: نعم ولم لا.
قال «2» : ويحكى أنه كان من جملة القضاة الذين ينادمون الوزير المهلبي ويجتمعون عنده في الأسبوع ليلتين على اطراح الحشمة والتبسط في القصف والخلاعة، وهم ابن قريعة وابن معروف والقاضي الايذجي «3» وغيرهم، وما منهم إلا أبيض اللحية طويلها، وكذلك كان المهلبي، فإذا تكامل الأنس وطاب المجلس ولذّ السماع وأخذ الطرب منهم مأخذه وهبوا ثوب الوقار للعقار، وتقلبوا في أعطاف العيش بين الخفة والطيش، ووضع في يد كلّ منهم طاس ذهب من ألف مثقال مملوءا شرابا قطر بليا وعكبريا فيغمس لحيته فيه بل ينقعها حتى تتشرب أكثره ثم يرشّ بها بعضهم على بعض، ويرقصون بأجمعهم وعليهم المصبغات ومخانق البرم، ويقولون كلما نكبر شر هرهر «4» ، وإياهم عنى السريّ بقوله:
مجالس ترقص القضاة بها ... إذا انتشوا في مخانق البرم
وصاحب يخلط المجون لنا ... بشيمة حلوة من الشيم
تخضب بالراح شيبه عبثا ... أنامل مثل حمرة العنم
حتى تخال العيون شيبته ... شيبة عثمان ضرّجت بدم
فإذا أصبحوا عادوا إلى عاداتهم في التزمت والتوقر والتحفظ بأبهة القضاء وحشمة(4/1874)
المشايخ الكبراء. ومن شعر التنوخي هذا «1» :
وجاء لا جاء الدجى كأنه ... من طلعة الواشي ووجه المرتقب
وفعل الظلام بالضياء ما ... يفعله الحرف بأبناء الأدب
وله «2» :
وليلة مشتاق كأنّ نجومها ... قد اغتصبت عيني الكرى فهي نوّم
كأن عيون الساهرين لطولها ... إذا شخصت للأنجم الزهر أنجم
كأن سواد الليل والفجر ضاحك ... يلوح ويخفى أسود يتبسم
وله «3» :
عهدي بها وضياء الصبح يطفئها ... كالسّرج تطفأ أو كالأعين العور
أعجب به حين وافى وهي نيّرة ... وظلّ يطمس منها النور بالنور
وله «4» :
لم أنس دجلة والدجى متصوّب ... والبدر في أفق السماء مغرّب
فكأنها فيه بساط أزرق ... وكأنه فيها طراز مذهب
وله «5» :
كتبت وليلي بالسّهاد نهار ... وصدري لورّاد الهموم صدار
ولي أدمع غزر تفيض كأنها ... سحائب فاضت من يديك غزار
ولم أر مثل الدمع ماء إذا جرى ... تلهّب منه في المدامع نار
رحلت وزادي لوعة ومطيتي ... جوانح من حرّ الفراق حرار(4/1875)
مسير دعاه الناس سيرا توسعا ... ومعنى اسمه إن حققوه إسار
إذا رمت أن أنسى الأسى ذكّرت به ... ديار لها بين الضلوع ديار
لك الخير عن غير اختياري ترحّلي ... وهل بي على صرف الزمان خيار
وهذا كتابي والجفون كأنما ... تحكّم في أشفارهنّ شفار
وله:
فحم كيوم الفراق يشعله ... نار كنار الفراق في الكبد
أسود قد صار تحت حمرتها ... مثل العيون اكتحلن بالرمد
وله في محبوب جسيم «1» :
من أين أستر وجدي وهو منهتك ... ما للمتيم في فتك الهوى درك
قالوا عشقت عظيم الجسم قلت لهم ... الشمس أعظم جسم حازه الفلك
وله «2» :
رضاك شباب لا يليه مشيب ... وسخطك داء ليس منه طبيب
كأنك من كلّ القلوب مركّب ... فأنت إلى كلّ القلوب حبيب
قال ومما أنشدته له ولم أجده في ديوانه «3» :
قلت لأصحابي وقد مرّ بي ... منتقبا بعد الضيا بالظّلم
بالله يا أهل ودادي قفوا ... كي تبصروا كيف زوال النعم
وحدّث السلاميّ قال، حدثني اللحام قال: خرج أبو أحمد ابن ورقاء الشيباني في بعض الأسفار فكتب إليه أبو القاسم التنوخي الانطاكي يتشوق إليه ويجزع على فراقه «4» :
تسير وقلبي في ذراك أسير ... وحادي ركابي لوعة وزفير
ولي أدمع غزر تفيض كأنها ... جدى فاض في العافين منك غزير(4/1876)
وطرف طريف بالسهاد كأنه ... نداك وجيش الجود فيه يغير
أبا أحمد إنّ المكارم منهل ... لكم أول من ورده وأخير
سماح كمزن الجود فيه تسجّم ... وغاب لأسد الموت فيه زئير
شباب بني شيبان شيب إذا انتدوا ... وقلّهم يوم اللقاء كثير
وجوه كأكباد المحبين رقة ... على أنها يوم اللقاء صخور
وحدّث أبو سعد السمعاني ومن خطه نقلت باسناد رفعه إلى منصور الخالدي قال: كنت ليلة عند القاضي التنوخي في ضيافته فأغفى اغفاءة فخرجت منه ريح، فضحك بعض القوم، فانتبه لضحكه وقال: لعل ريحا، فسكتنا فمكث هنيهة ثم أنشأ يقول:
إذا نامت العينان من متيقظ ... تراخت بلا شك تشاريج «1» فقحته
فمن كان ذا عقل فيعذر نائما ... ومن كان ذا جهل ففي جوف لحيته
ومن خطّ السمعاني باسناده له وهي من مشهور شعره:
لم أنس شمس الضحى تطالعني ... ونحن من رقبة على فرق
وجفن عيني بدمعه شرق ... لمّا بدت في معصفر شرق
كأنه أدمعي ووجنتها ... لما رمتنا الوشاة بالحدق
ثم تغطّت بكمّها خجلا ... كالشمس غابت في حمرة الشفق
وله:
تخير إذا ما كنت في الأمر مرسلا ... فمبلغ آراء الرجال رسولها
وردّ وفكّر في الكتاب فإنما ... بأطراف أقلام الرجال عقولها
وحدّث أبو علي المحسن بن علي بن محمد التنوخي «2» : جرى في مجلس أبي رحمه الله يوما ذكر رجل كان صغيرا فارتفع، فقال بعض الحاضرين: من ذاك(4/1877)
الوضيع؟ أمس كنا نراه بمرقّعة يشحذ، فقال أبي: وما يضعه من أن الزمان عضه ثم ساعده؟! كل كبير إنما كان صغيرا أولا، والفقر ليس بعار إذا كان الإنسان فاضلا في نفسه، وأهل العلم خاصة لا يعيبهم ذلك، وأنا أعتقد أن من كان صغيرا فارتفع أو فقيرا فاستغنى أفضل ممن ولد في الغنى أو في الجلالة، لأن من ولد في ذلك إنما يحمل «1» على غيره فلا حمد له هو خاصة فيه، ومن لم يكن له فكان فكأنما بكدّه «2» وصل إلى ذلك، فهو أفضل ممن وصل إليه ميراثا أو بجد غيره وكدّ سواه.
حدّث أبو علي المحسن بن أبي القاسم علي بن محمد بن داود التنوخي، حدثني أبي قال «3» : سمعت أبي رحمه الله يوما ينشد، وسني إذ ذاك خمس عشرة سنة، بعض قصيدة دعبل بن علي الطويلة التي يفتخر فيها باليمن ويعدد مناقبهم ويرد على الكميت فيها فخره بنزار، وأولها:
أفيقي من ملامك يا ظعينا ... كفاك اللوم مرّ الأربعينا
وهي نحو ستمائة بيت، فاشتهيت حفظها لما فيها من مفاخر اليمن لأنهم أهلي، فقلت: يا سيدي تخرجها إليّ حتى أحفظها، فدافعني فألححت عليه فقال: كأني بك تأخذها فتحفظ منها خمسين بيتا أو مائة بيت ثم ترمي بالكتاب وتخلقه عليّ، فقلت:
ادفعها إليّ، فأخرجها وسلّمها إليّ، وقد كان كلامه أثر فيّ، فدخلت حجرة لي كانت برسمي من دار أبي «4» فخلوت فيها ولم أتشاغل يومي وليلتي بشيء غير حفظها، فلما كان السّحر كنت قد فرغت منها من جميعها وأتقنتها، فخرجت إليه غدوة على رسمي فجلست بين يديه فقال: هي، كم حفظت من القصيدة؟ فقلت قد حفظتها بأسرها، فغضب وقدّر أني قد كذبته وقال: هاتها فأخرجت الدفتر من كمي فأخذه وفتحه ونظر فيه وأنا أنشد إلى أن مضيت في أكثر من مائة بيت، فصفح منها عدة أوراق وقال: أنشد من هاهنا، فأنشدت مقدار مائة بيت آخر، فصفح إلى أن قارب آخرها(4/1878)
بمائة بيت وقال: أنشدني من هاهنا، فأنشدته من مائة بيت فيها إلى آخرها، فهاله ما رأى من حسن حفظي، فضمني إليه وقبّل رأسي وعيني وقال: بالله يا ابني لا تخبر بهذا أحدا فإني أخاف عليك من العين.
قال أبو علي قال لي أبي «1» : حفظني أبي وحفظت بعده من شعر أبي تمام والبحتري سوى ما كنت أحفظ لغيرهما من المحدثين من الشعراء مائتي قصيدة، قال:
وكان أبي وشيوخنا بالشام يقولون من حفظ للطائيين أربعين قصيدة ولم يقل الشعر فهو حمار في مسلاخ إنسان، فقلت الشعر، وبدأت بمقصورتي التي أولها:
لولا التناهي لم أطع نهي النهى ... أيّ مدى يطلب من جاز المدى
قال أبو علي المحسن: وحدت في كتب أبي كتابا من أبي محمد المهلبي إليه قبل تقلده الوزارة بسنين أوله: كتابي أطال الله بقاء سيدنا القاضي عن سلامة لا زالت له إلفا وعليه وقفا:
وحمد لمولى أستمدّ بحمده ... له الرتبة العلياء والعزّ دائما
وأن يسخط الأيام بالجمع بيننا ... وترضى المنى حتى يرينيك سالما
وصل كتابه أدام الله عزّه فقمت معظما له وقعدت مشتملا على السرور به:
وفضضته فوجدته ... ليلا على صفحات نور
مثل السوالف والخدو ... د البيض زينت بالشعور
بنظام لفظ كالثغو ... ر وكاللآلىء في النحور
أنزلته في القلب من ... زلة القلوب من الصدور
قال أبو علي في «النشوار» «2» حدثني أبو العلاء صاعد بن ثابت قال: كتب إليّ القاضي التنوخي جواب كتاب كتبته إليه: وصل كتابك:
فما شككت وقد جاء البشير به ... أنّ الشباب أتاني بعد ما ذهبا(4/1879)
وقلت نفسي تفدي نفس مرسله ... من كلّ سوء ومن أملى ومن كتبا
وكاد قلبي وقد قلّبته قرما ... إلى قراءته أن يخرق الحجبا
قال: والشعر له وأنشدنيه بعد ذلك لنفسه. قال أبو علي: ولست أعرف له ذلك ولا وجدته في كتبه منسوبا إليه، ويجوز أن يكون مما قاله ولم يثبته أو ضاع فيما ضاع من شعره فإنه أكثر مما حفظ.
ومن شعر أبي القاسم علي بن محمد التنوخي الأكبر:
يجود فيستحيي الحيا عند جوده ... ويخرس صرف الدهر حين يقول
عطايا تباري الريح وهي عواصف ... ويخجل منها المزن وهو هطول
أقام له سوقا بضائعها الندى ... سماح لأرسل السماح رسيل
له نسب لو كان للشمس ضوؤه ... لما غالها بعد الطلوع أفول
وله:
يا واحد الناس لا مستثنيا أحدا ... إذ كان دون الورى بالمجد منفردا
أما ترى الروض قد لاقاك مبتسما ... ومدّ نحو الندامى للسلام يدا
فأخضر ناضر في أبيض يقق ... وأصفر فاقع في أحمر نضدا
مثل الرقيب بدا للعاشقين ضحى ... فاحمرّ ذا خجلا واصفرّ ذا كمدا
وله:
الق العدوّ بوجه لا قطوب به ... يكاد يقطر من ماء البشاشات
فأحزم الناس من يلقى أعاديه ... في جسم حقد وثوب من مودات
الصبر خير وخير القول أصدقه ... وكثرة المزح مفتاح العداوات
وله في الناعورة:
باتت تئنّ وما بها وجدي ... وأحنّ من وجد إلى نجد
فدموعها تحيا الرياض بها ... ودموع عيني أقرحت خدي(4/1880)
وله:
فديت عينيك وإن كانتا ... لم تبقيا من جسدي شيا
إلا خيالا لو تأملته ... في الشمس لم تبصر له فيا
وكان عبد الله بن المعتز قد قال قصيدة يفتخر فيها ببني العباس على بني أبي طالب أولها:
أبى الله إلا ما ترون فما لكم ... غضابى علم الأقدار يا آل طالب
فأجابه أبو القاسم التنوخي بقصيدة نحلها بعض العلويين وهي مثبتة في ديوانه أولها:
من ابن رسول الله وابن وصيّه ... إلى مدغل في عقدة الدين ناصب
نشا بين طنبور وزقّ ومزهر ... وفي حجر شاد أو على صدر ضارب
ومن ظهر سكران إلى بطن قينة ... على شبه في ملكها وشوائب
يقول فيها:
وقلت بنو حرب كسوكم عمائما ... من الضرب في الهامات حمر الذوائب
صدقت منايانا السيوف وإنما ... تموتون فوق الفرش موت الكواعب
ونحن الألى لا يسرح الذمّ بيننا ... ولا تدّري أعراضنا بالمعايب
إذا ما انتدوا كانوا شموس نديّهم ... وإن ركبوا كانوا بدور الركائب
وإن عبسوا يوم الوغى ضحك الردى ... وإن ضحكوا بكّوا عيون النوائب
وما للغواني والوغى فتعوذوا ... بقرع المثاني من قراع الكتائب
ويوم حنين قلت حزنا فخاره ... ولو كان يدري عدّها في المثالب
أبوه مناد والوصيّ مضارب ... فقل في مناد صيّت ومضارب
وجئتم مع الأولاد تبغون إرثه ... فأبعد بمحجوب بحاجب حاجب
وقلتم نهضنا ثائرين شعارنا ... بثارات زيد الخير عند التحارب
فهلّا بابراهيم كان شعاركم ... فترجع دعواكم تحلّة خائب(4/1881)
وله في سيف الدولة «1» رحمه الله تعالى:
لله أيام مضين قطعتها ... وطوالها بالغانيات قصار
حين الصبا لدن المهزّ قضيبه ... غضّ وأنواء السرور غزار
أجلو النهار على النهار وأنثني ... والشمس لي دون الشعار شعار
حتى إذا ما الليل أقبل ضمّنا ... دون الإزار من العناق إزار
فعلى النحور من النحور قلائد ... وعلى الخدود من الخدود خمار
وبدت نجوم الليل من خلل الدجى ... تذكو كما يتفتّح النوار
أقبلن والمريخ في أوساطها ... مثل الدراهم وسطها دينار
والجوّ تجلوه النجوم على الدجى ... في قمص وشي ما لها أزرار
وكأنما الجوزا وشاح خريدة ... والنجم تاج والوشاح خمار
منها في المدح:
ملك تناجيه القلوب بما جنت ... وتخافه الأوهام والأفكار
فيد مؤيدة وقلب قلّب ... وشبا يشبّ وخاطر خطّار
حين العيون شواخص وكأنها ... للخوف لم تخلق لها أبصار
كلّ الورى أرض وأنت سماؤها ... وجميعهم ليل وأنت نهار
وله:
ما منهم إلا امرؤ غمر الندى ... سمح اليدين مؤمّل مرهوب
يغريه بالخلق الرفيع وبالندى ... والمكرمات العذل والتأنيب
فله رقيب من نداه على الورى ... وعليه من كرم الطباع رقيب
وله:
وقفنا نجيل الرأي في ساكني الغضا ... وجمر الغضا بين الضلوع يجول
نشيم بأرض الشام برقا كأنه ... عقود نضار ما لهنّ فصول(4/1882)
وله:
أما في جنايات النواظر ناظر ... ولا منصف إن جار منهنّ جائر
بنفسي من لم يبد قطّ لعاذل ... فيرجع إلا وهو لي فيه عاذر
ولا لحظت عيناه ناه عن الهوى ... فأصبح إلا وهو بالحبّ آمر
يؤثّر فيه ناظر الفكر بالمنى ... وتجرحه باللمس منها الضمائر
حدث أبو علي المحسن بن علي بن محمد التنوخي في «نشواره» «1» قصة لأبي معشر قد ذكرتها في «مجموع الاختطاف» عجيبة، ثم قال: وهذا بعيد جدا دقيق، ولكن فيما شاهدناه من صحة بعض أحكام النجوم كفاية، هذا أبي حوّل مولد نفسه في السنة التي مات فيها وقال لنا: هذه سنة قطع على مذهب المنجمين، وكتب بذلك إلى بغداد إلى أبي الحسن ابن البهلول القاضي صهره ينعى نفسه ويوصيه، فلما اعتلّ أدنى علة وقبل أن تستحكم علته أخرج التحويل ونظر فيه طويلا وأنا حاضر فبكى، ثم أطبقه واستدعى كاتبه وأملى عليه وصيته التي مات عنها وأشهد فيها من يومه، فجاء أبو القاسم غلام زحل المنجم «2» فأخذ يطيّب نفسه ويورد عليه شكوكا، فقال له يا أبا القاسم: لست ممن يخفى عليه فأنسبك إلى غلط، ولا أنا ممن يجوز عليه هذا فتستغفلني، وجلس فوافقه على الموضع الذي خافه وأنا حاضر، فقال له: دعني من هذا، بيننا شكّ في أنه إذا كان يوم الثلاثاء العصر لسبع بقين من الشهر فهو ساعة قطع عندهم، فأمسك أبو القاسم غلام زحل لأنه كان خادما لأبي وبكى طويلا وقال: يا غلام طستا، فجاؤوه به فغسل التحويل وقطعه، وودع أبا القاسم توديع مفارق، فلما كان في ذلك اليوم العصر [بعينه] مات كما قال.
قال المحسن وحدثني أبي قال «3» : لما كنت أتقلّد القضاء بالكرخ «4» كان بوّابي(4/1883)
بها رجل من أهل الكرخ وله ابن عمره حينئذ عشر سنين أو نحوها، وكان يدخل داري بلا إذن ويمزح مع غلماني وأهب له في الأوقات الدراهم والثياب كما يفعل الناس بأولاد غلمانهم، ثم خرجت عن الكرخ ورحلت عنها ولم أعرف للبوّاب ولا لابنه خبرا، ومضت السنون، وأنفذني أبو عبد الله البريدي من واسط برسالة إلى ابن رائق فلقيته بدير العاقول، ثم انحدرت أريد واسطا فقيل لي إن في الطريق لصا يعرف بالكرخي مستفحل الأمر، وكنت خرجت بطالع اخترته على موجب تحويل مولدي لتلك السنة، فلما عدت من دير العاقول خرج علينا اللصوص في سفن عدّة بسلاح شاك في نحو مائة رجل، وهم كالعسكر العظيم، وكان معي غلمان يرمون بالنشاب، فحلفت أنّ من رمى منهم سهما ضربته إذا رجعت إلى المدينة مائتي مقرعة «1» ، وذلك أنني خفت أن يقتل أحد منهم فلا يرضون إلا بقتلي، وبادرت فرميت بجميع ما كان معي ومع الغلمان من السلاح في دجلة واستسلمت طلبا لسلامة النفس، وجلست أفكر في الطالع الذي خرّجت «2» ، فإذا ليس مثله مما يوجب عندهم قطعا، والناس قد أدبروا إلى الشطّ وأنا في جملتهم، وجعلوا يفرغون السفن وينقلون جميع ما فيها من الأمتعة إلى الشاطىء وهم يضربون ويقطعون بالسيوف، فلما انتهى الأمر إليّ جعلت أعجب من حصولي في مثل ذلك وأرى الطالع لا يوجبه، فبينا أنا كذلك وإذا بسفينة رئيسهم قد دنت مني وطرح عليّ كما صنع في سائر السفن ليشرف على ما يؤخذ، فحين رآني زجر أصحابه عنّي ومنعهم من أخذ شيء من سفينتي، وصعد بمفرده إليّ وجعل يتأملني، ثم أكبّ على يديّ يقبّلهما وهو متلثم، فارتعت وقلت: يا هذا ما شأنك؟
فأسفر لثامه وقال: أما تعرفني يا سيدي؟ فتأملته فلجزعي لم أعرفه فقلت: لا والله، فقال: بلى أنا عبدك ابن فلان الكرخي بوّابك هناك، وأنا الصبيّ الذي تربيت في دارك، قال: فتأملته فعرفته إلا أن اللحية قد غيرته في عيني، فسكن روعي قليلا وقلت: يا هذا كيف بلغت إلى هذه الحال؟ فقال: يا سيدي نشأت فلم أتعلم غير معالجة السلاح، وجئت إلى بغداد أطلب الديوان فما قبلني أحد، وانضاف إليّ هؤلاء(4/1884)
الرجال فطلبت قطع الطريق، ولو كان أنصفني السلطان وأنزلني بحيث أستحقّ من الشجاعة وانتفع بخدمتي ما فعلت بنفسي هذا، قال: فأقبلت أعظه وأخوّفه الله ثم خشيت أن يشقّ ذلك عليه فيفسد رعايته لي فأقصرت، فقال لي: يا سيدي لا يكون بعض هؤلاء أخذ منك شيئا، فقلت: لا ما ذهب مني إلا سلاح رميته أنا إلى الماء، وشرحت له الصورة، فضحك وقال: قد والله أصاب القاضي فمن في الكار «1» ممن تعتني به؟ فقلت: كلهم عندي بمنزلة واحدة في الغمّ بهم فلو أفرجت عن الجميع فقال: والله لولا أن أصحابي قد تفرقوا بما أخذوه لفعلت ذلك، ولكنهم لا يطيعونني إلى رده، ولكن أمنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن مما لم يؤخذ بعد، فجزّيته الخير، فصعد إلى الشاطىء وأصعد جميع أصحابه ومنعهم عن أخذ شيء آخر مما في السفن مما لم يؤخذ وردّ على قوم أشياء كثيرة كانت أخذت منهم وأطلق الناس، وسار معي إلي حيث أمن عليّ وودعني وانصرف راجعا.
حدث أبو القاسم قال، حدثني أبي قال: كان أول شيء قلدته القضاء بعسكر مكرم وتستر وجنديسابور وأعمال ذلك من قبل القاضي أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول التنوخي، وكنت في السنة الثانية والثلاثين من عمري وذلك في شهور سنة عشر وثلاثمائة.
ومن مشهور شعره ما نقلته من ديوان شعره:
وراح من الشمس مخلوقة ... بدت لك في قدح من نهار
هواء ولكنه ساكن «2» ... وماء ولكنه غير جاري
إذا ما تأملته وهو فيه ... تأملت ماء محيطا بنار
فهذي النهاية في الإبيضاض ... وهذي النهاية في الإحمرار
وما كان في الحكم أن يوجدا ... لفرط التنافي وفرط النفار
ولكن تجاور سطحاهما ال ... بسيطان فاتفقا بالجوار
كأنّ المدير لها باليمين ... إذا مال للسقي أو باليسار(4/1885)
تدرّع ثوبا من الياسمين ... له فرد كم من الجلنار
قلت: وقد تنوزعت هذه الأبيات ورويت لغيره فقيل إنها لأبي النضر الأنطاكي النحوي وغيره.
[812] علي بن محمد بن الحسين بن محمد أبو الفتوح
ابن العميد الملقب بذي الكفايتين، كفاية السيف وكفاية القلم، وزير ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه بعد أبيه، وبذل مالا، ثم وزير ابنه مؤيد الدولة بويه بالري وأصفهان وتلك الأعمال، وورد إلى بغداد صحبة عضد الدولة بن ركن الدولة لنصرة عز الدولة بختيار. قتلى على ما يجيء شرحه إن شاء الله تعالى في سنة ست وستين وثلاثمائة ومولده في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، كذا ذكر ابن الصابىء.
كان أديبا فاضلا بليغا قد اقتدى بأبيه في علو الهمة وبعد الشأو في الكرم والفضل «1» :
إن السريّ إذا سرى فبنفسه ... وابن السريّ إذا سرى أسراهما
وكان أبوه قد أدّبه فأحسن تأديبه، وهذّبه أبو الحسين ابن فارس اللغوي وأحسن تهذيبه، ولما مات أبوه في الوقت الذي ذكرناه في ترجمته، وهو سنة ستين وثلاثمائة، وقال ابن الصابي في سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، قام مقامه في وزارة ركن الدولة وذلك قبل الاستكمال وبعد من الاكتهال، وعمره حينئذ اثنتان وعشرون سنة، فألقى ركن الدولة مقاليده إليه، وعوّل في تدبير السيف والقلم عليه، فلما جرى لعز الدولة
__________
[812] ترجمة أبي الفتح ابن العميد في اليتيمة 3: 185 والامتاع والمؤانسة 1: 66 وتكملة الهمذاني: 229 والوافي ونكت الهميان: 215 وسير الذهبي 16: 138 (في ترجمة والده) وابن خلكان 5: 110 (في ترجمة والده) وابن خلدون 4: 452 (وسائر الكتب التاريخية المعنية بالبويهيين وخاصة تجارب الأمم، وسقط منه خبر مقتله) وفي أخلاق الوزيرين معلومات هامة عنه.(4/1886)
بختيار بن معز الدولة ببغداد ما جرى مع غلامه سبكتكين وأرسل إلى عمه ركن الدولة يستعين به تقدّم إلى أبي الفتح بالمضيّ إلى شيراز والمسير في صحبة ولده عضد الدولة لانجاد عز الدولة، وورد إلى بغداد وجرى ما جرى من موت سبكتكين ومحاربة أصحابه حتى انجلوا عنها، وطمع عضد الدولة فيها ومكاتبة أبيه إياه بمفارقتها وتسليمها إلى عز الدولة، وكتب ركن الدولة إلى أبي الفتح بالقيام بذلك وبالتكفّل به حتى يفارق عضد الدولة بغداد في قصة هي مذكورة في التواريخ، فتشدّد ابن العميد على عضد الدولة في ذلك، وخاطبه فيه مخاطبات حقدها عضد الدولة عليه، فلما رجع عضد الدولة قال يوما لابن العميد: ما حظيت من ورودي إلى بغداد بفائدة، وقد أطلقت بسببها أموالا صامتة لا تحصى، فقال له أبو الفتح: ما سلم من الأعطيات سلطان، ولا خلا من النفقات مكان، ولو استقصيت بمقدار حالي ما فرقته لكنت مبذرا، فقال له عضد الدولة:
أما أنت فقد شرف قدرك وعلا ذكرك، كنّاك خليفة الله في أرضه ولقبك، فأنت ذو الكفايتين أبو الفتح، فأعظم بذلك من فخر يبقى بقاء النيرين ويدوم دوام العصرين.
وكان عضد الدولة يقول: خرجت من بغداد وأنا زريق الشارب- لأنّ سفلة الناس والعامة كانوا يذكرونه بذلك- وخرج ابن العميد مكّنى من الخليفة ملقّبا بذي الكفايتين. فلما مات «1» ركن الدولة، وقام مقامه بالري وتلك النواحي ابنه مؤيد الدولة بويه كان الصاحب ابن عباد وزيره، فخلع على أبي الفتح واستوزره والصاحب على جملته في الكتابة لمؤيد الدولة، فكره أبو الفتح موضعه، فبعث الجند على الشغب وهموا بقتل الصاحب، فأمره مؤيد الدولة بالعود إلى أصبهان، فأسرّ مؤيد الدولة ذلك في نفسه إلى أشياء كان ينبسط فيها يحمله عليها نزقة الشباب، وانضاف إلى ذلك تغير عضد الدولة عليه وكثرة ميل القواد والعساكر إليه، فخيفت منه غائلة، فكتب عضد الدولة إلى أخيه مؤيد الدولة يأمره بالقبض عليه واستصفاء أمواله وتعذيبه، فقبض عليه وحمله إلى بعض القلاع، وبدرت منه كلمات في حقّ عضد الدولة نمت إليه فزادت في استيحاشه منه، فأنهض من حضرته من تكفّل بتعذيبه واستخراج أمواله والتنكيل به، فأول ما عمل به أن سمل إحدى عينيه ثم نكل به وجزّ لحيته وجدع أنفه وعذب(4/1887)
بأنواع من العذاب، فقال:
بدّل من صورتي المنظر ... لكنه ما بدّل المخبر
وليس إشفاقا على هالك «1» ... لكن على من لي يستعبر
وواله القلب بما مسني ... مستخبر عني ولا يخبر
فقل لمن سرّ بما ساءني ... لا بد أن يسلك ذا المعبر
ووجد على حائط مجلسه بعد قتله:
ملك شدّ لي عرى الميثاق ... بأمان قد سار في الآفاق
لم يحل رأيه ولكنّ دهري ... حال عن رأيه فشدّ وثاقي
فقرى الوحش من عظامي ولحمي ... وسقى الأرض من دمي المهراق
فعلى من تركته من قريب ... أو حبيب تحية المشتاق
وفي بني العميد يقول بعضهم:
مررت على ديار بني العميد ... فألفيت السعادة في خمود
فقل للشامت الباغي رويدا ... فانك لم تبشّر بالخلود
قال: وكان أبو الفتح قد أغري قبل القبض عليه بانشاد هذين البيتين لا يجفّ لسانه عن ترديدهما «2» :
ملك الدنيا أناس قبلنا ... رحلوا عنها وخلّوها لنا
ونزلناها كما قد نزلوا ... ونخلّيها لقوم غيرنا «3»
فلما حصل في الاعتقال وأيقن أن القوم يريدون دمه وأنه لا ينجو منهم وإن بذل ماله مدّ يده إلى جيب جبّة عليها ففتقه عن رقعة فيها ثبت ما لا يحصى من ودائعه وكنوز أبيه وذخائره، فألقاها في كانون نار بين يديه وقال للموكل به: اصنع ما أنت صانع، فو الله لا يصل من أموالي المستورة إلى صاحبك دينار واحد، فما زال يعرضه على(4/1888)
العذاب إلى أن تلف، ولما أحسّ بالقتل قال:
راعوا قليلا فليس الدهر عبدكم ... كما تظنون والأيام تنتقل
وهذا شيء من خبره وشعره:
قال «1» كان أبو الفضل أبوه قد جعل جماعة من ثقات أبي الفتح في صباه يشرفون عليه في منزله ومكتبه وينهون إليه أنفاسه، فرفع إليه بعضهم أن أبا الفتح اشتغل ليلة بما يشتغل به الأحداث من عقد مجلس مسرة واحضار الندماء في خفية شديدة واحتياط من أبيه، وأنه كتب رقعة إلى من سمّاه يستهديه شرابا، فحمل إليه ما يصلحهم من الشراب والنقل والمشموم، فدسّ أبوه إلى ذلك الانسان من جاء بالرقعة الصادرة عن أبي الفتح فإذا فيها بخطه: بسم الله الرّحمن الرّحيم قد اغتنمت الليلة- أطال الله بقاء سيدي ومولاي- رقدة من عين الدهر، وانتهزت فيها فرصة من فرص العمر، وانتظمت مع أصحابي في سمط الثريا، فإن لم تحفظ علينا النظام باهداء المدام عدنا كبنات نعش والسلام. فاستطير أبوه فرحا وإعجابا بهذه الرقعة البديعة وقال: الآن ظهر لي أثر براعته ووثقت بجريه في طريقي ونيابته منابي، ووقع له بألفي دينار.
وحدث أبو الحسين ابن فارس قال «2» : جرى في بعض أيامنا ذكر أبيات استحسن أبو الفضل ابن العميد وزنها واستحلى رويّها، وأنشد جماعة من حضر ما حضرهم على ذلك الروي وهو قول القائل:
لئن كففت وإلا ... شققت منك ثيابي
فأصغى إليها أبو الفتح ثم أنشدني في الوقت:
يا مولعا بعذابي ... أما رحمت شبابي
تركت قلبا قريحا ... نهب الأسى والتصابي
إن كنت تنكر ما بي ... من ذلّتي واكتئابي
فارفع قليلا قليلا ... عن العظام ثيابي(4/1889)
قال: فتأمل هذه الطريقة وانظر إلى هذا الطبع فانه أتى بمثل ما أنشده في رشاقته وخفّته ولم يعد الجنس ولم يقصّر دونه، وبذلك يعرف قدر القادر على الخطابة والبلاغة.
ومن مستحسن شعره «1» :
عودي وماء شبيبتي في عودي ... لا تعمدي لمقاتل المعمود
وصليه ما دامت أصائل عيشه ... تؤويه في فيء لها ممدود
ما دام من ليل الصبا في فاحم ... رجل الذرى فينان كالعنقود
قبل الزمان فطارقات جنوده ... يبدلنه يققا بربد «2» سود
وله «3» :
إذا أنا بلّغت الذي كنت أشتهي ... وأضعافه ألفا فكلني إلى الخمر
وقل لنديمي قم إلى الدهر فاقترح ... عليه الذي تهوى ودعني مع الدهر
وله «4» :
أين لي من يفي بشكر الليالي ... إذا أضافت «5» خيالها وخيالي
لم يكن بي على الزمان اقتراح ... غيرها منية فجاد بها لي
قرأت في كتاب أبي الحسين هلال «6» بن المحسن، حدثني أبو اسحاق إبراهيم بن هلال جدي قال: لما سار عضد الدولة من بغداد عائدا إلى فارس أقام أبو الفتح ابن العميد بعده ووصل إلى حضرة الطائع لله حتى خلع عليه وحمله وكناه ولقبه ذا الكفايتين، وتنجّز منه خلعا ولقبا لفخر الدولة أبي الحسن، وأقطع من نواحي السواد ضياعا كثيرة رتّب فيها نائبا يستوفي ارتفاعها ويحمله إليه، ودعاه أبو طاهر ابن بقية عدة دعوات، وملأ عينه بالهدايا والملاطفات، وقال في بعض الأيام: لا بد أن أخلع على ابن العميد في مجلسي، ودعاه، فلما قعد وأكل وجلس على الشرب أخذ ابن بقية(4/1890)
بيده فرجية ورداء في غاية الحسن والجلالة ووافى بهما إلى ابن العميد وقال له: قد صرت أيها الأستاذ جامدارك، فانظر هل ترتضيني لخدمتك، وطرح الفرجية عليه وقدّم الرداء بين يديه فأخذه ولبسه.
ومن شعره في الحبس:
ما بال قومي يجفوني أكابرهم ... أإن أطاعتهم الأيام والدول
أإن تقاصر عني الحال تقطعني ... عراهم ساء ما شاءوا وما فعلوا
أغراهم أن هذا الدهر أسكتني ... عنهم وتنطق فيه الشاء والابل
قدما رميت فلم تبلغ سهامهم ... وأخطأ الناس من مرميّه زحل
وله:
يقول لي الواشون كيف تحبها ... فقلت لهم بين المقصر والغالي
ولولا حذاري منهم لصدقتهم ... وقلت هوى لم يهوه قطّ أمثالي
وكم من شفيق قال ما لك واجما ... فقلت أبي ما بي وتسألني مالي
قال أبو الحسين، وحدثني أبو الفتح منصور بن محمد بن المقدر الأصبهاني قال، حدث أحد أصحاب أبي الفضل ابن العميد المختصين به قال: كان أبو الفتح ابن أبي الفضل يباكر أباه في كلّ يوم ويدخل إليه قبل كلّ أحد، فاتفق أن دخل يوما وأنا جالس عنده، فلما رآه مقبلا في الصحن وشاهد عمته وكانت ديلمية، ومشيته وهو يختال فيها ويسرف في تلويها، عجب من ذاك وقال لي: أما ترى إلى هذه العمة وهذه المشية في مخالفتها لعادتنا ومفارقتها طريقتنا؟! فقلت: قد رأيت، وإن رسم الأستاذ أن أخاطبه فيها وأنهاه عنها فعلت، فقال: لا تفعل فانه قصير العمر وما أحبّ أن أدخل على قلبه همّا ولا أمنعه هوى. وقد روي أن أبا الفضل وجد له رقعة كتبها إلى بعض من ينبسط إليه وفيها «1» :
أديبنا المعروف بالكردي ... يولع بالغلمان والمرد
أدخلني يوما إلى داره ... فناكني والأير من عندي(4/1891)
فلما وقف ابن العميد أبوه على ذلك غضب وقال: أمثل ولدي يكتب مثل هذا الفحش والفجور؟! ثم قال: أما والله لولا ولولا ولولا ثم أمسك كأنه يشير إلى ما حكم له من سوء العاقبة وقصر العمر.
حكى أبو الحسين ابن فارس مما أورده أبو منصور في «اليتيمة» قال «1» : كنت عند الأستاذ أبي الفتح ابن العميد في يوم شديد الحرّ، فرمت الشمس بجمرات الهاجرة فقال لي: ما قول الشيخ في قلبه، فلم أحر جوابا لأني لم أفطن لما أراد، ولما كان بعد هنيهة أقبل رسول الأستاذ الرئيس يستدعيني إلى مجلسه، فقمت إليه، فلما مثلت بين يديه تبسم ضاحكا إلي وقال: ما قول الشيخ في قلبه؟ فبهتّ وسكت، وما زلت أفكر حتى انتبهت على أنه أراد الخيش، وكان من يشرف على أبي الفتح من جهة أبيه أتاه بتلك اللفظة في تلك الساعة، فدعاني لفرط اهتزازه لها ما اراد مجاراتي فيها، وقرأت صحيفة السرور من وجهه إعجابا بها، ثم أخذت أتحفه بنكت نثره وملح نظمه، فكان مما أعجب به وتعجب منه واستضحك له حكايتي رقعة وردت له عليّ وصدرها: وردت رقعة الشيخ أصغر من عنفقة بقة، وأقصر من أنملة نملة.
وقرأت في «تاريخ» أبي المعالي زين الكفاة الوزير أبي سعد منصور بن الحسين الآبي قال: كان عضد الدولة ينقم على أبي الفتح ابن العميد أشياء، وكان من أعظمها في نفسه حديثه ببغداد لما خرج لنجدة بختيار، فإنه جرّد القول والفعل في ردّ عضد الدولة عن بغداد، وأقام لنفسه بذلك ببغداد سوقا تقدم بها عند أهل البلد والخليفة حتى لقبه الخليفة ذا الكفايتين وكنّاه في كتابه بأبي الفتح. ولما انصرف عضد الدولة عن بغداد وقد ظهرت له مخايل الغدر من بختيار وقيام أهل بغداد عليه وتصريحهم بالشتم له ولقبوه زريقا الشارب، وذلك أن عضد الدولة تقدم باتخاذ مزمّلة في داره ليشرب منها الجند والعامة، ولم يكن عهد مثل ذلك في دور السلاطين قبل، وكان في نفسه أزرق العين فلقبوه بذلك، فكان يقول: خرجت من بغداد وأنا زريق الشارب، وابن العميد الوزير ذو الكفايتين أبو الفتح. فلما مات ركن الدولة في ست(4/1892)
وستين وثلاثمائة لأربع بقين من المحرم ضبط أبو الفتح ذو الكفايتين الأمر أحسن ضبط وسكّن العسكر وفرّق فيهم مال البيعة، وكان مطاعا في الديلم محببا إليهم كثير الإفضال عليهم، وبادر بالخبر إلى مؤيد الدولة وهو باصفهان، فورد الري ومعه وزيره الصاحب أبو القاسم إسماعيل بن عباد يوم السبت لثلاث خلون من صفر وجلس للتعزية ثم انتصب في مكان أبيه، وكانت له هيبة وسياسة وفيه سخاء وسماحة، وخلع على أبي الفتح ابن العميد ذي الكفايتين خلع الوزارة وفوّض إليه الأمر يوم الأربعاء لخمس خلون من شهر ربيع الأول، وكان الصاحب يرغب أن يقيم بالري ويخلفه فلم يأمن أبو الفتح جانبه وضرب الحجاب الشديد بينهما، وخوّفوه منه لمحلّه من الصناعة ولمكانه من قلب مؤيد الدولة، فأراد إبعاده عن الحضرة ليتمكن من الايقاع به إن أراد ذلك، وأشار على مؤيد الدولة بأن يردّه إلى أصفهان ليدبر أعمالها والمقام بها، فخلع عليه على رسم الوزارة القباء والسيف والمنطقة وما يجري مع ذلك، وخرج يوم الأحد لثمان خلون من شهر ربيع الأول سنة ست وستين وثلاثمائة، وأخذ مؤيد الدولة في التدبير على ابن العميد والاحتيال للقبض عليه، ولم يكن يقدم على ذلك لمحلّ الرجل في قلوب الديلم وانصبابهم بمودتهم إليه وإخلاصهم في الموالاة إليه، وكان ذلك أقوى الدواعي لمحنته وآكد أسباب نكبته، فإنه كان مقتبل الشباب قليل التجارب غير مفكر في العواقب قد ولد في النعمة الضخمة ونشأ فيها، وخلف أباه وله دون خمس عشرة سنة، وتولى الوزارة وله إحدى وعشرون سنة، واعتاد خدمة الأمراء والقواد ومثولهم بين يديه وتنافسهم في خدمته، وكان يركب إلى الصيد وإلى الميدان لضرب الصوالجة فيتبعه أكثر أكابر الحضرة فيترجلون له ويمشون بين يديه، ثم يضيف في أكثر أيامه جماعة منهم فيخلع عليه أنواع الخلع النفسية ويحملهم على الدوابّ الفره بالمراكب الثقيلة، وكان ركن الدولة يرخص له في ذلك ويعجبه منه، فإنه كان تربيته وابن من طالت له صحبته وخدمته، فلما انتقل الأمر إلى مؤيد الدولة لم يصبر عليه، وكانت الأمور أيضا بعد على غاية من الاضطراب فلم يسكن إليه، وذلك أنّ فخر الدولة كان مداجيا لأخويه، وكان أحبّ إلى الديلم منهما فلم يأمناه وكان عز الدولة مكاشفا بالخلاف وبينه وبين ابن العميد ما قدمنا ذكره من المصافاة فاسترابا به، واجتمع إلى هذه الأحوال ما ذكرناه من حنق عضد الدولة عليه مما قدّمه في حقه عند كونه ببغداد،(4/1893)
وامتدت العين إلى ضياعه وأمواله وخزائنه وأسبابه ودوره وعقاره وبساتينه، فإنه كان يملك من ذلك ما يملأ العين ويفوت الوهم، فراسل عضد الدولة أخاه مؤيد الدولة على لسان أبي نصر خواشاذه المجوسي، وكان من ثقاته وأماثل أصحابه، بالقبض عليه، بعد أن يوافق عليّ بن كامة على أمره، ليؤمن ناحية العسكر وثوبهم بمكانه، وجعلوا يجيلون الرأي أياما، ويركب خواشاذه إلى عليّ بن كامة ليلا ويجاريه في ذلك إلى أن اتفقوا يوم السبت سادس عشر شهر ربيع الآخر على القبض عليه عند بكوره من الغد إلى الدار، وكان عشية هذا اليوم خواشاذه عند علي بن كامة ولا بن العميد ضيافة قد اجتمع فيها جماعة من القوّاد، فارتاب مؤيد الدولة بالأمر وقدّر أنه قد أحسّ بالسرّ وجمع الديلم لتدبير عليه وامتناع منه، فلما عاد إلى عنده خواشاذه أمره أن يلم بابن العميد ليتفرّس فيه وفي المجتمعين عنده ما هو بصدده، فدخل عليه والرجل مشتغل بقصفه متوفر على طربه، فتأمله وعاد، وأراد أن يحبسه عنده فامتنع ورجع إلى الدار، فقال لمؤيد الدولة: الرجل غارّ غافل فلا يهمنك أمره. وبكّر ابن العميد سحرا إلى دار الامارة، وكان الرسم إذ ذاك أن يحضروها بالشموع والمشاعل قبل الصباح، فلما وصل إلى مؤيد الدولة تقدم إليه علي بن كامة وكلمه في حاجة له فوعده بها فقال: قد وعدتني بها غير مرة ولم تقضها، وأخذ بيده فجذبه من مكانه، وكان قد كمن له في الممرّ جماعة من خواصّ الديلم وثقات مؤيد الدولة، فعاونوه على إخراجه من ذلك البيت وإدخاله إلى حجرة هناك وتقييده، وذلك في يوم الأحد سابع شهر ربيع الآخر، وأدخلت عليه الشهود فشهدوا عليه ببيع أملاكه جميعها وضياعه ومستغلّاته من مؤيد الدولة، فلما حضر العدول أخرج إليهم كتابا كان كتبه بطلاق امرأته ابنة جستان وأشهدهم طائعا على نفسه بذلك، وقيل إنه إنما فعل ذلك خوفا من مؤيد الدولة أن يفضحه فيها، فأراد أن ينفصل منها وتبين منه لئلا يلزمه العار فيها، ولما حضروا للعقد بالبيع كشف للعدول عن قيده وأقرّ بالبيع، ثم اتفق أن أفرج عن محبوس كان في الدار، فعدا غلام له مستبشرا وقال: قد أفرج عن الأستاذ، يريد أستاذ نفسه، وصكّت الكلمة أسماع العامة فتباشروا وظنوا أنه قد أفرج عن أبي الفتح، وصارت البلدة صيحة واحدة، واجتمع من أهل البلد على باب السلطان وميدانه وفي داره ما غصّت به الأماكن وامتلأت منهم الشوارع والمساكن، وركب الديلم بأجمعهم(4/1894)
مستبشرين، وتلقوه على زعمهم في الخدمة فرحين، ورأى مؤيد الدولة من ذلك ما هاله وقدّر أنّ العسكر قد ركب لاستنقاذه، فلما عرف حقيقة الحال سكن وأمر بطرد العامة، وأركب الحجاب لطرد القواد والديلم، وأنفذ في تلك الليلة ابن العميد إلى قلعة استوناوند، وقتل فيها بعد أيام وردّ رأسه.
قال الوزير أبو سعد: وسمعت الصاحب كافي الكفاة رحمه الله يذكر أمره فقال في أثناء كلامه: إن مؤيد الدولة قال لي عند خروجي إلى أصبهان: إن ورد عليك كتاب بخطي أو جاءك أجلّ حجّابي وثقاتي للاستدعاء فلا تبرح من أصفهان ولا تفارقها إلى أن يجيئك فلان الركابي فإنه إن اتجهت لي حيلة على هذا الرجل وأمكنني الله من القبض عليه بادرت به إليك، وهو العلامة بيني وبينك، قال: فاستعظمت لحداثة سنّي وغرة الصبا وقلة التجربة ما حكاه الصاحب من قول مؤيد الدولة «ان اتجهت لي حيلة على هذا الرجل» وتعجبت منه، وأردت الغضّ من أبي الفتح والتقرب بذلك إلى الصاحب فقلت: وكأنّ لأبي الفتح من القدر أن يصعب حبسه أو يحتاج صاحبه إلى الاحتيال معه؛ فانتهرني الصاحب وقال: يا فلان أنت صبيّ تحسب أن القبض على الوزراء سهل، ففطنت أنه يريد الرفع من شأن الوزارة وتفخيم أمرها فعدلت عن كلامي الأوّل إلى غيره.
قال أبو حيان «1» حدثني أبو الطيب الكيمائي قال: قلت لأبي الفضل بعد أن سمّ الحاجب النيسابوري، وبعد أن خطب على حمد، ودسّ إلى ابن هند وغيرهم من أهل الكتابة والمروءة والنعم: لو كففت فقد أسرفت، فقال: يا أبا الطيب أنا مضطر، قال فقلت: وأي اضطرار هاهنا، والله إن مخادعتنا لأنفسنا في ضرّنا ونفعنا لأعجب من مكابرة غيرنا لنا في خيرنا وشرنا، وهذا والله رين القلوب وصدأ «2» العقل وفساد الاختيار وكدر النفس وسوء العادة وعدم التوفيق، فقال: يا أبا الطيب أنت تتكلم بالظاهر وأنا أحترق في الباطن، قال فقلت: إن كان عذرك في هذه السيرة المخالفة لأهل الديانة وأصحاب الحكمة قد بلغ هذا الوضوح والجلاء فإنك معذور عندنا،(4/1895)
ولعلك أيضا مأجور عند الله مالك الجزاء، وإن كنت تعلم حقيقة ما تراجعني عليه القول وتناقلني به الحجاج إنك من الخاسرين الذين باءوا بغضب من الله على مذاهب الناس أجمعين، فبكى فقلت له: البكاء لا ينفع إن كان الاقلاع ممكنا، والندم لا يجدي متى كان الإصرار قائما، هذا كله بسبب ابنك أبي الفتح، والله إن أيامه لا تطول، وإن عيشه لا يصفو، وإن حاله لا يستقيم، وله أعداء لا يتخلص منهم، وقد دلّ مولده على ذلك، وانك لا تدفع عنه قضاء الله وهو لا يغني عنك من الله شيئا، فعليك بخويّصة نفسك.
قال أبو حيان «1» وقد ذكر ابن عباد وأبا الفضل بن العميد ثم قال: وأما أبو الفتح ذو الكفايتين فإنه كان شابا ذكيا متحركا حسن الشعر مليح الكتابة كثير المحاسن ولم يظهر كل ما كان في نفسه «2» لقصر أيامه واشتعال دولته وطفئها بسرعة. ومن شعره:
إني متى أهزز قناتي تنتثر ... أوصالها أنبوبة أنبوبا
أدعو بعاليها العلا فتجيبني ... وأقي بحدّ سنانها المرهوبا «3»
وله «4» كلام كثير نظم ونثر، وله في صفة الفرس ما يوفي على كلّ منظوم، ولو أبقته الأيام لظهر منه كل فضل كبير. ودخل بغداد فتكلّف واحتفل، وعقد مجالس مختلفة للفقهاء يوما وللأدباء يوما وللمتكلمين يوما وللمتفلسفين يوما، وفرق أموالا خطيرة، وتفقد أبا سعيد السيرافي وعلي بن عيسى الرماني وغيرهما، وعرض عليهما المسير معه إلى الري ووعدهم ومنّاهم وأظهر المباهاة بهم، وكذلك خاطب أبا الحسن ابن كعب الأنصاري وأبا سليمان السجستاني المنطقي وابن البقال الشاعر وابن الأعرج النمري وغيرهم، ودخل شهر رمضان فاحتشد وبالغ ووصل ووهب، فجرت في هذه المجالس غرائب العلم وبدائع الحكمة، وخاصة ما جرى «5» مع أبي الحسن(4/1896)
العامري، ولولا طول الرسالة لرسمت ذلك كله في هذا المكان «1» ، فمن طريف ما جرى وفي سماعه فائدة واعتبار خبر أبي سعيد السيرافي مع أبي الحسن العامري (وقد ذكرته في أخبار السيرافي) .
قال أبو حيان «2» : وحضرت المجلس يوما آخر مع أبي سعيد وقد غصّ بأعلام الدنيا وببرد «3» الآفاق، فجرى حديث أبي إسحاق الصابىء فقال ذو الكفايتين: ذاك رجل له في كلّ طراز نسج وفي كل حومة «4» رهج وفي كل فلاة ركب، ومن كل غمامة سكب، الكتابة تدّعيه بأكثر مما يدعيها والبلاغة تتحلّى به بأحسن مما يتحلّى هو بها، وما أحلى قوله:
حمراء مصفرّة الأحشاء باعثة ... طيبا تخال به في البيت عطارا
كأن في وجهه تبرا يخلّصه ... قين يضرّم في أفنانه «5» النارا
وقوله:
ما زلت في سكري ألمع كفّها ... وذراعها بالقرص والإثآر
حتى تركت أديمها وكأنما ... غرس البنفسج منه في الجمار
وبلغ المجلس أبا اسحاق فحضر وشكر، وطوى ونشر، وأورد وأصدر، وكان كاتب زمانه لسانا وقلما وشمائل، وكان له مع ذلك يد طولى في العلم الرياضي، وسمعت أبا إسحاق يقول: هو ابن أبيه لله دره، وأخذ في تعظيم ابيه.
قال عبد الله الفقير إليه: وقد ذكر أبو حيان قصة أبي الفتح ابن العميد وسبب القبض عليه مبسوطة مشروحة، وقد نقلتها هاهنا عنه بكمالها فإني لم أجد أحدا ذكرها أكمل منه، قال «6» : لما مات ركن الدولة سنة ست وستين وثلاثمائة اجتمع ذو الكفايتين أبو الفتح وعلي بن كامة أحد أمراء الديلم والأعيان وتعاهدا وتواثقا وتحالفا، وبذل كلّ واحد منهما الاخلاص لصاحبه في المودة في السرّ والعلانية والذب والتوقير(4/1897)
عند الصغير والكبير، واجتهدا في الأيمان الغامسة والعقود الموثقة، ودبّرا أمر الجيش ووعدا الأولياء وردّا النافر وركبا الخطر الحاضر وعانقا الخطب العاقر، وباشر كلّ ذلك أبو الفتح خاصة بجدّ من نفسه وصريمة من رأيه وجودة فكره وصحة نيته وتوفيق ربه.
فلما ورد مؤيد الدولة الريّ من أصبهان وصادف الأمر متسقا ولحق كلّ فتق مرتتقا بما تقدّم من الحزم فيه ونفذ من الرأي الصائب عنده، أنكر الزيادة الموجبة للجند فكرهها ودمدم بذكرها، فقال له أبو الفتح: بها نظمت لك الملك وحفظت لك الدولة وصنت الحريم، فان خالفت هذه الزيادة هواك فأسقطها فاليد الطولى لك، وكان ابن عباد قد ورد وحطبه رطب وتنوره بارد وأمره «1» غير نافذ، هذا في الظاهر، فأما في الباطن فكان يخلو بصاحبه ويوثبه على أبي الفتح بما يجد السبيل إليه من الطعن والقدح، فأحسّ بذلك ابن العميد. فألّب الأولياء على ابن عباد حتى كثر الشغب وعظم الخطب وهمّ بقتله وقال للأمير: ليس من حق كفايتي في الدولة- وقد انتكث حبلها وقويت أطماع المفسدين فيها- أن أسام الخسف، والأحرار لا يصبرون على نظرات الذل وغمزات الهوان، فقال له في الجواب: كلامك مسموع ورضاك متبوع، فما الذي يبرّد فورتك عنه؟ قال: ينصرف إلى اصفهان موفورا، فو الله لو طالبته منصفا برفع الحساب لما نظر فيه ليعرقنّ جبينه، ولئن أحسّ الأولياء الذين أصطنعهم بمالي وأفضالي بكلامه في أمري وسعيه في فساد حالي ليكوننّ هلاكه على أيديهم أسرع من البرق إذا خطف ومن المزن إذا نطف، فقال له: لا مخالف لرأيك والنظر لك والزمام بيدك. وتلطف ابن عباد في خلال ذلك لأبي الفتح وقال له: أنا أتظلّم منك إليك، وأتحمّل بك عليك، وهذا الاستيحاش سهل الزوال إذا تألفت الشارد من حلمك وعطفت على الشائع من كرمك، ولّني ديوان الإنشاء واستخدمني فيه ورتبني بين يديك وأحضرني بين أمرك ونهيك، وسمني برضاك فاني صنيعة والدك، واتخذني بهذا صنيعة لك، وليس يجمل أن تكرّ على ما بنى ذلك الرئيس فتهدمه وتنقضه، ومتى أجبتني إلى هذا وآمنتني فإني أكون خادمك لحضرتك وكاتبا يطلب الزلفة عندك في صغير أمرك وكبيره، وفي هذا إطفاء النائرة التي قد ثارت بسوء ظنك وتصديقك أعدائي عليّ، فقال في الجواب:(4/1898)
والله لا تجاورني في بلد السرير وبحضرة التدبير وخلوة الأمير، ولا يكون لك إذن عليّ ولا عين عندي، وليس لك منّي رضى إلا بالعود إلى مكانك من أصبهان والسلوّ عما تحدّث به نفسك. فخرج ابن عباد من الرّيّ على صورة قبيحة متنكرا بالليل، وذلك أنه خاف الفتك والغيلة، وبلغ أصبهان وألقى عصاه بها ونفسه «1» تغلي وصدره يفور، والخوف شامل والوسواس غالب، وهمّ أبو الفتح بانفاذ من يطالبه ويؤذيه ويهينه ويعسفه فأحسّ هو بالأمر، فحدثني أبو النجم قال: عمل على ركوب المفازة إلى نيسابور لما ضاق عطنه واختلف على نفسه ظنّه، وإنه لفي هذا وما أشبهه حتى بلغهم أن خراسان قد أزمعت الدلوف إليهم وتشاورت في الاطلال عليهم، فقال الأمير لأبي الفتح، ما الرأي وقد نمي إلينا ما تعلم من طمع خراسان في هذه الدولة بعد موت ركن الدولة؟
فقال أبو الفتح: ليس الرأي إليّ ولا إليك ولا الهم عليّ ولا عليك، هاهنا من يقول لك: أنت خليفتي، ويقول لي: أنت كاتب خليفتي، يدبر هذا بالمال والرجال، وهو الملك عضد الدولة أخوك، قال: فاكتب إليه وأشعره وأشع ما قد منينا به وأشهره وسله يداوي هذا الداء، فكتب أبو الفتح وتلطف، فصدر في الجواب: إن هذا لأمر عجاب: رجل مات وخلف مالا وله ابن فلم يحمل إليه من ارثه شيء، زويا عنه واستئثارا دونه، ثم يخاطب بأن يغرم شيئا آخر من عنده قد كسبه بجهده وجمعه بسعيه وكدحه؟! هذا والله حديث لم نسمع بمثله، ولئن استفتي الفقهاء في هذا لم يكن عندهم منه بتة إلا التعجب والاستطراف ورحمة هذا الوارث المظلوم من وجهين:
أحدهما أنه حرم ماله بحقّ الارث، والآخر أنه يطالب باخراج ما ليس عليه، وإن شاء حاكمت كل من سام هذا إلى من يرضى به. فلما سمع مؤيد الدولة هذا قال لأبي الفتح: ما ترى؟ قال: قد قلت وليس لي قول سواه، هذا الرجل هو الملك والمدبر والمال كلّه ماله، والبلاد بلاده، والجند جنده، والكلّ له، والاسم والجلالة عنده، وليس هاهنا إرث قد زوي عنه، ولا مال استؤثر به دونه، والنادرة لا وجه لها في أمر الجدّ وفيما لا تعلق له باللعب، أما خراسان فكانت مذ عشرين سنة تطالبنا بالمال وتهددنا بالمسير والحرب، ونحن مرة نحارب ومرة نسالم، وفي خلال ذلك نفرق(4/1899)
المال بعد المال على وجوه مختلفة، فاحسب أن ركن الدولة حيّ باق هل كان له إلا أن يدبر بماله ورجاله وذخائره وكنوزه؟ أفليس هذا الحكم لازما لمن قام مقامه وجلس مجلسه وألقي إليه زمام الملك وأصدر عنه كل رأي؟ وهل علينا إلا الخدمة والنصرة والمناصحة بكلّ ما سهل وصعب كما كان عليه ذلك بالأمس من جهة الماضي؟ فقال مؤيد الدولة: إنّ الخطب في هذا أراه يطول والكلام يتردد والمناظرة تربو والفريضة تعول والفرصة تفوت والعدوّ يستمكن، وأرى في الوقت أن نذكر وجها للمال حتى نحتجّ به ثم نستمدّ في الثاني منه، ونرضي الجند في الحال، ونتحزم في الأمر ونظهر المرارة والشكيمة بالاهتمام والاستعداد حتى يطير الخبر إلى خراسان بجدنا واجتهادنا وحزمنا واعتمادنا، فيكون ذلك مكسرة لقلوبهم وحسما لأطماعهم وباعثا على تجديد القول في الصلح وردّ الحال إلى العادة المألوفة، فقال: نسأل الله بركة هذا الأمر فقد نشيت منه رائحة منكرة، ما أعرف للمال وجها، أما أنا فقد خرجت من جميع ما عندي مرة بما خدمت به الماضي تبرعا حدثان موت أبي، ومرة بما طالبني به سرّا وأوعدني بالعزل والاستخفاف من أجله، ومرة بما غرمت في المسير إلى العراق في نصرة الدولة، وهذه وجوه استنفدت قلّي وكثري وأتت على ظاهري وباطني، وقد غرمت إلى هذه الغاية ما إن ذكرته كنت كأني ممتنّ على أولياء نعمتي، وإن سكت كنت كالمتهم عند من يتوقّع عثرتي، فهذا هذا، وأما أموال النواحي فأحسن حالنا فيها أنا نرجئها في نواحيها مع النفقة الواسعة في الوظائف والمهمات التي تنوبنا، وأما العامة فلا أحوج الله إليها ولا كانت دولة لا تثبت إلا بها وبأوساخ أموالها، فقال مؤيد الدولة- وكان ملقنا-: هذا ابن كامة وهو صاحب الذخائر والكنوز والجبال والحصون، وبيده بلاد، وقد جمع هذا كله في دولتنا وحازه من مملكتنا وأيامنا وبدولتنا وهو جامّ ما شيك ومختوم ما فضّ مذ كان، ما تقول فيه؟ قال: ما لي فيه كلام فإن بيني وبينه عهدا ما أخيس به ولو ذهبت نفسي، فقال: اطلب منه القرض، قال: إنه يستوحش ويراه بابا من الغضاضة، وقدر القرض لا يبلغ قدر الحاجة، فان الحاجة ماسة إلى خمسمائة ألف دينار على التقريب، ونفسه أنفع لنا وأردّ علينا وأحصن لنا وإلينا من موقع ذلك المال، وبعد فرأيه وتدبيره واسمه وصيته فوق المطلوب منه. قال: وإذ ليس هاهنا وجه فليس بأس بأن يطالع الملك بهذا الرأي لتكون نتيجته من ثمّ، قال: أنا لا أكتب بهذا فإنه(4/1900)
غدر، قال: يا هذا فأنت كاتبي وصاحب سري والزمام في جمع أمري ولا سبيل إلى إخراج هذا الحديث إلى أحد من خلق الله، فإن أنت لم تتولّ حارّه وقارّه وغثّه وسمينه ومحبوبه ومكروهه فمن؟ قال: أيها الأمير لا تسمني الخيانة فإني قد أعطيته عهدا يذر الديار بلاقع، ومع اليوم غد، ولعن الله عاجلة تفسد الآجلة. فقال: إني لست أسومك أن تقبض عليه وأن تسيء إليه، أشر بهذا المعنى إلى الملك عضد الدولة وخلاك ذمّ، فإن رأى الصواب فيه تولّاه دونك، وإن أضرب عنه أعاضنا رأيا غير ما رأيناه، وأنت على حالك لا تنزل عنها ولا تبدّلها، وإنما الذي يجب عليك في هذا الوقت بين يديّ كتب حرفين: أنه لا وجه لهذا المال إلا من جهة فلان، ولست أتولى مخاطبته عليه ولا مطالبته به وفاء له بالعهد وثباتا على اليمين وجريا على الواجب، ولا أقل من أن تجيب إلى هذا القدر وليس فيه شيء مما يدلّ على النكث والخلاف والتبديل. وما زال هذا وشبهه يتردد بينهما حتى أخذ خطّه بهذا على أن يصدره إلى أخيه عضد الدولة بفارس، فلما حصل هذا الخط عنده وجنّ عليه الليل أحضر ابن كامة وقال له: أما عندك حديث هذا المخنّث فيما أشار به على الملك في بابك، وأورد عليه في حقّك وأمرك وإطماعه في مالك ونفسك وتكثيره عنده ما تحت يدك وناحيتك؟! فقال ابن كامة: هذا الفتى يرتفع عن هذا الحديث ولعلّ عدوّا قد كاده به، وبيني وبينه ما لا منفذ للسحر فيه ولا مساغ لظنّ سيء به، قال: ما قلت لك إلا بعد أن حققت ما قلت، ودع هذا كله في الريح، هذا كتابه إلى الملك بما عرّفتك، وخطّه بيده فيه، قال علي بن كامة: أنا لا أعرف الخطّ ولكن هاتوا كاتبي، فأحضر كاتبه الخثعمي فشهد أنّ الخط خطه، فحال علي بن كامة عن سجيته وخرج من مسكه وقال: ما ظننت بعد الأيمان المغلّظة التي بيننا أنه يستجيز مثل هذا، قال الأمير: أيها الرجل إنما أطلعك الملك على سرّ «1» هذا الغلام فيك لتعرف فساد ضميره لك وما هو عليه من هنات أخر وآفات هي أكبر، فانه هو الذي حرّك من بخراسان وكاتب صاحب جرجان وألقى إلى أخينا بهمذان- يعني فخر الدولة- أخبارنا، وهو عين لبختيار هاهنا، وقد اعتقد أنه يعمل في تحصيل هذه البلاد ويكون وزيرا بالعراق، فقد ذاق من بغداد ما لا يخرج من ضرسه إلا بنزع نفسه. وكان أبو نصر المجوسيّ قد قدم من عند الملك(4/1901)
عضد الدولة وهو يفتل الحبل ويبرم، ويهاب مرة ويقدم، وكان الحديث قد بيّت بليل واهتم به قبل وقته بزمان، فقال علي بن كامة: فما الرأي الآن؟ قال: لا أرى أمثل من طاعة الملك في القبض عليه، وقد كنّا على ذلك قادرين، ولكن كرهنا أن يظنّ بنا أنا هجمنا على ناصحنا ومرتّب نعمتنا وناشىء دولتنا فمهدنا عندك العذر وأوضحنا لك الأمر، قال فأنا أكفيكموه ثم قبض عليه وكان منه ما كان، واستدعى ابن عباد من أصفهان وولي الوزارة ودبّرها برأي وثيق وجدّ زنيق.
وذكر أبو علي مسكويه في بعض كتبه قال «1» : كان حسنويه بن الحسين الكردي قد قوي واستفحل أمره لما وقع من الشغل عنه بالفتوح الكبار، لأنه كان إذا وقع حرب بين الخراسانية وبين ركن الدولة أظهر عصبية الديلم وصار في جملتهم وخدم خدمة يستحقّ بها الاحسان، إلا أنه كان مع ما أقطع وأغضي عنه من الأعمال التي تبسّط فيها والاضافات التي يستولي عليها ربما تعرض لأطراف الجبل وطالب أصحاب الضياع وأرباب النعم بالخفارة والرسوم التي يبدعها، فيضطرّ الناس إلى إجابته، ولا يناقشه السلطان، فكان يزيد أمره على الأيام ويتشاغل الولاة عنه، إلى أن وقع بينه وبين سهلان بن مسافر خلاف ومشاحّة تلاجّا فيها، إلى أن قصده ابن مسافر فهزمه حسنويه، وكان يظنّ ابن مسافر أنه لا يكاشفه ولا تبلغ الحرب بينهما إلى ما بلغت إليه، فلم تقف الحرب بينهما حيث ظنّ وانتهى الأمر بينهما إلى أن اجتمع الديلم وأصحاب السلطان بعد الهزيمة إلى موضع شبيه بالحصار، ونزل الأكراد حواليهم ومنعوهم من الميرة وتفرقوا بازائهم، ثم زاد الأمر وبلغ إلى أن أمر حسنويه الأكراد أن يحمل كلّ فارس منهم على رأس رمحه ما أطاق من الشوك والعرفج ويقرب من معسكر سهلان ما استطاع ويطرحه هناك، ففعلوا ذلك وهم لا يدرون ما يريد بذلك، فلما اجتمع حول عسكر سهلان شيء كثير في أيام كثيرة تقدّم بطرح النار فيه من عدة مواضع فالتهب، وكان الوقت صيفا وحميت الشمس عليهم مع حرّ النار، فأخذ بكظمهم وأشرفوا على التلف، فصاحوا وطلبوا الأمان، فرفق بهم وأمسك عما همّ به، وبلغ ذلك ركن الدولة فلم يحتمل ذلك كلّه، وتقدم إلى وزيره أبي الفضل محمد بن الحسين العميد، وهو(4/1902)
الأستاذ الرئيس، بقصده واستئصال شأفته، وأمره بالاستقصاء والمبالغة، فانتخب الأستاذ الرئيس الرجال وخرج في عدة وزينة، وخرج ركن الدولة مشيعا له، وخلع على القواد، ووقف حتى اجتاز به العسكر وعاد إلى الريّ، وسار الوزير ومعه ابنه أبو الفتح، وكان شابا قد خلف أباه بحضرة ركن الدولة وعرف تدبير المملكة وسياسة الجند، فهو بذكائه وحدّة ذهنه وسرعة حركته قد نفق نفاقا شديدا على ركن الدولة، وهو مع ذلك لقلة حنكته ونزق شبابه وتهوّره في الأمور يقدم على ما لا يقدم عليه أبوه، ويحبّ أن يسير في خواصّ الديلم ويمشون بين يديه ويختلط بهم اختلاط من يستميل بقلوبهم، ويخلع عليهم خلعا كثيرة، ويحمل رؤساءهم وقوادهم على الخيول الفره بالمراكب الثقال، ويريد بجميع ذلك «1» أن يسلّموا له الرئاسة حتى لا يأنف أحد منهم من تقبيل الأرض بين يديه والمشي قدامه إذا ركب، وكان جميع ذلك مما لا يؤثره الأستاذ الرئيس ولا يرضاه لسيرته، وكان يعظه وينهاه عن هذه السيرة ويعلمه أن ذلك لو كان مما يترخّص فيه لكان هو بنفسه قد سبق إليه. قال مسكويه: ولقد سمعته في كثير من خلواته يشرح له صورة الديلم في الحسد والجشع وأنه ما ملكهم أحد قط إلا بترك الزينة وبذل ما لا يبطرهم ولا يخرجهم إلى التحاسد ولا يتكبر عليهم ولا يكون إلا في مرتبة أوسطهم حالا، وان من دعاهم واحتشد لهم وحمل على حاله فوق طاقته لم يمنعهم ذلك من حسده على نعمه والسعي في إزالتها وترقب أوقات الغرّة في آمن ما يكون الانسان على نفسه منهم فيفتكون به ذلك الوقت، وكان يورد عليه مثل هذا الكلام حتى يظنّ أنه قد ملأ قلبه رعبا وأنه سيكفّ عن السيرة التي شرع فيها، فما هو إلا أن يفارق مجلسه ذلك حتى يعاود سيرته تلك، فأشفق الأستاذ في سفرته هذه أن يتركه بحضرة صاحبه فيلجّ في هذه الأخلاق ويغترّ بما يراه من احتمال ركن الدولة حتى ينتهي إلى ما لا يتلافاه، فسيّره معه، واستخلف بحضرة ركن الدولة أبا علي محمد بن أحمد المعروف بابن البيع، وكان فاضلا أديبا ركينا حسن الصورة مقبول الجملة حسن المخبر خلقا وأدبا. فلما كان الرئيس في بعض الطريق- وكان يركب العماريات ولا يستقلّ على ظهور الدوابّ لإفراط علة النقرس وغيره عليه- التفت حوله فلم ير في موكبه أحدا(4/1903)
وسأل عن الخبر فلم يجد حاجبا يخبره ولا من جرت العادة بمسايرته غيري، فسألني عن الخبر فقلت له: إن الجماعة بأسرها مالت مع أبي الفتح إلى الصيد، فأمسك حتى نزل في معسكره ثم سأل عمن جرت العادة باستدعائه للطعام- وكان يحضره في كلّ يوم عشرة من القواد على مائدته التي تخصّه وعدة من القواد على أطباق توضع لهم وذلك على نوبة معروفة يسعى فيها نقباؤهم- فلما كان في ذلك اليوم لم يحضر أحد واستقصى في السؤال فقيل: إن أبا الفتح أضافهم في الصحراء، فاستشاط «1» من ذلك وساءه أن يجري مثل هذا ولا يستأذن فيه، وقد كان أنكر خلوّ موكبه وهو في وجه حرب، ولم يأمن أن يستمرّ هذا التشتت من العسكر فتتم عليه حيلة، فدعا أكبر حجابه ووصّاه أن يحجب عنه ابنه أبا الفتح وأن يوصي النقباء بمنع الديلم من مسايرته ومخالطته، وظنّ أن هذا المبلغ من الانكار سيغضّ منه وينهى العسكر عن اتباعه على هواه، فلم يؤثر كلامه هذا كبير أثر، وعاد الفتى إلى عادته واتّبعه العسكر ومالوا معه إلى اللعب والصيد والأكل والشرب، وكان لا يخليهم من الخلع والألطاف، فشقّ ذلك على الأستاذ الرئيس جدّا ولم يحبّ أن يخرق هيبة نفسه باظهار ما في قلبه ولا المبالغة في الانكار وهو في مثل هذا الوجه فيفسد عسكره ويطمع فيه عدوه، فدارى أمره وتجرّع غيظه وأدّاه ذلك إلى زيادة في مرضه حتى هلك بهمذان وهو يقول في خلواته:
ما يهلك آل العميد ولا يمحو آثارهم من الأرض إلا هذا الصبي، يعني ابنه، وهو يقول في مرضه: ما قتلني إلا جرع الغيظ التي تجرعتها منه. فلما حصل بهمذان اشتدت علته وتوفي بها رحمه الله في ليلة الخميس السادس من صفر سنة ستين وثلاثمائة وانتصب ابنه أبو الفتح مكان أبيه، وكان العسكر كما ذكرت مائلا إليه، فزاد في بسطهم وتأنيسهم ووعدهم ومنّاهم وبذل لهم طعامه ومنادمته وأكثر من الخلع عليهم، وراسل حسنويه وأرغبه وأرهبه وحضّه على الطاعة وأومأ إلى مصالحته على مال يحمله يقوم بما أنفق على العسكر وتوفّر بعد ذلك بقية على خزانة السلطان ويضمن إصلاح حاله إذا فعل ذلك مع ركن الدولة، وكان ذلك يشقّ على سهلان بن مسافر لما في نفسه من حسنويه لأنه كان يحبّ الانتقام منه والتشفي به، وكان أبو الفتح يرى مفارقة حسنويه(4/1904)
والعود إلى صاحبه بما به لم يثلم عسكره ولا خاطر بهم وأن يلحق بمكانه من الوزارة قبل أن يطمع فيه أولى وأشبه بالصواب. وقد كان أبو علي محمد بن أحمد بن البيع خليفة أبيه قد تمكن من ركن الدولة وقبل ذلك ما عرفه بالكفاية والسداد وأرجف له بالوزارة، فسفر المتوسطون بينه وبين حسنويه إلى أن تقرر أمره على خمسين ألف دينار، وجبى كورة الجبل وجمع من الدوابّ والبغال وسائر التحف ما بلغ مقداره مائة ألف دينار، ووردت عليه كتب ركن الدولة بما قوّى قلبه وشدّ منّته وأحمد جميع ما دبره وأمره بالعودة إلى الحضرة بالريّ.
قال «1» : وفي سنة احدى وستين تمكن أبو الفتح ابن العميد من الوزارة بعد أبيه، وفوض إليه ركن الدولة تدبير ممالكه، ومكنه من أعنّه الخيل، فصار وزيرا وصاحب جيش على رسم والده، إلا أن والده باشر هذه الأمور في كمال من أدواته وتمام من آلاته فدبره بالحزم والحنكة، وأما أبو الفتح فكان فيه مع رجاحته وفضله في أدب الكتابة وتيقظه وفراسته نزق الحداثة وسكر الشباب وجرأة القدرة، فأجرى أمره على ما تقدّم من إظهار الزينة الكثيرة واستخدام الديلم والأتراك والاحتشاد في المواكب والدعوات حتى خرج به عن حدّ القصد إلى الإسراف، فجلب ذلك عليه ضروب الحسد من ضروب السلاطين وأصحاب السيوف والأقلام. وكان صاحبه ركن الدولة قد شاخ وسئم ملابسة أمور الجند وأحبّ الراحة والدعة، ففوض إليه الأمور، ورآه شابا قد استقبل الدنيا استقبالا فهو يحبّ التعب الذي قاساه ركن الدولة ثم ملّه، ويستلذّ فيه الانتصاب للأمر والنهي ومخالطة الجند والركوب إلى الصيد ومشي خواصّ الديلم وكبار الجند بين يديه، ثم مشاربتهم ومؤانستهم والاحسان إليهم بالخلع والحملان، فأوّل من أنكر هذا الفعل عليه عضد الدولة ومؤيد الدولة ابنا ركن الدولة وكتّابهما ثم سائر مشايخ الدولة، ورأوه يركب في موكب عظيم ويغشى الدار، فإذا خرج تبعه الجميع وخلت دار الإمارة حتى لا يوجد فيها إلا المستخدمون من الاتباع والحاشية، ثم تراقى أمره في قيادة الجيش والتحقق به إلى أن ندب إلى الخروج إلى العراق في جيش كثيف من الريّ والاجتماع مع عضد الدولة لنصرة بختيار بن معز الدولة في(4/1905)
الخلاف الذي وقع بينه وبين الأتراك المستعصين عليه، فأقام هناك وواطأ بختيار في أمور خالف فيها عضد الدولة، وذاك أن عضد الدولة لما عاد من بغداد إلى فارس شرط على ابن العميد أن لا يقيم ببغداد بعده إلا ثلاثة أيام ثم يلحق بوالده بالريّ، فلما خرج عضد الدولة طابت لابن العميد بغداد، فاتبع هوى صباه وأحبّ الخلاعة والدخول مع بختيار في أفانين لهوه ولعبه، ووجد خلوّ ذرع من أشغاله وراحة من تدبير أمر صاحبه ركن الدولة مدة، وحصلت له زبازب ودور على الشط وستارات غناء محسنات، وتمكّن من اللذات، وعرف بختيار له ما صنع من الجميل في بابه لأنه كان قد جرّد الفعل والقول في ردّ عضد الدولة عن بغداد بعد أن نشبت فيها مخالبه وتملّكها وقبض على بختيار واستظهر عليه، فلخصه وأعاد ملكه عليه، وصرف عضد الدولة عن بغداد، فكان يراه بختيار بصورة من خلّصه من مخاليب الأسد بعد أن افترسه، وإن سعيه بين ركن الدولة وعضد الدولة هو الذي ردّ عليه ملكه، فبسطه وعرض عليه وزارته وتمكينه من ممالكه على رسمه وألا يعارضه في شيء يدبره ويراه، فلم يجبه إلى ذلك وقال: لي والدة وأهل وولد ونعمة قد رتبت منذ خمسين سنة، وهي كلها في يد ركن الدولة، ولا أستطيع مفارقته ولا يحسن بي أن يتحدث عني بمخالفته ولا يتم أيضا لك مع ما عاملك به من الجميل، ولكني أعاهدك إن قضى الله عز وجل على ركن الدولة ما هو قاض على جميع خلقه أن أصير إليك مع قطعة عظيمة من عسكره فإنهم لا يخالفوني، وركن الدولة مع ذلك هامة اليوم أو غد، وليس يتأخر أمره. واستقر بينهما ذلك سرّا لم يطلع عليه إلا محمد بن عمر العلوي فإنه توسّط بينهما وأخذ عهد كلّ واحد منهما على صاحبه، ولم يظهر ذلك لأحد حتى حدثني به محمد بن عمر بعد هلاك أبي الفتح. ولكن الغلط العظيم من أبي الفتح أنه كان أقام ببغداد مدة طويلة وحصل أملاكا اقتناها هناك وإقطاعات اكتتبها وأصولا أصّلها على العود إليها، ثم التمس لقبا من السلطان وخلعا وأحوالا لا تشبه ما فارقه عضد الدولة عليها، ثم استخلف ببغداد بعض أولاد التّناء بشيراز يعرف بأبي الحسن ابن أبي شجاع الأرّجانيّ من غير اختبار له ولا خلطة قديمة تكشف له أمره، فلما خرج كانت تلك الأسرار التي بينه وبين بختيار والتراجم بينهما تدور كلها على يده ويتوسطها ويهدي إلى عضد الدولة جميعها ويتقرب إليه بها، فلما عرف عضد الدولة حقيقة الأمر ومخالفة أبي الفتح ابن العميد له ودخوله(4/1906)
مع بختيار فيما دخل فيه مع اللقب السلطاني الذي حصله، وهو ذو الكفايتين، ولبسه الخلع وركوبه ببغداد مع ابن بقية في هذه الخلع عرف مكاشفته إياه بالعداوة وكتم ذلك في نفسه إلى أن تمكّن منه فأهلكه كما ذكرنا.
قال أبو سعد السمعانيّ «1» أنشدنا الحسن بن محمد الأصبهاني بها أنشدنا أبو زيد صعلوك «2» بن أميلويه بن أبي طاهر الجيليّ قدم علينا قال: أنشدت لعضد الدولة في ابن العميد ومودته:
ودادك لازم مكنون سرّي ... وحبك جنتي والعشق زادي
فإن واصلتني أزداد حبّا ... وان صارمتني زادت سهادي
وخالك في عذارك في الليالي ... سواد في سواد في سواد
فأجابه ابن العميد:
دعاني في انبلاج الليل صبح ... فنادى قم فحيّ على الفلاح
فقلت له ترفق يا منادي «3» ... أليس الليل مسود النواحي
فثغري والمدام وحسن وجهي ... صباح في صباح في صباح.
[813] علي بن محمد الشمشاطي العدوي أبو الحسن
، وشمشاط من بلاد أرمينية من الثغور: وكان معلم أبي تغلب ابن ناصر الدولة بن حمدان وأخيه ثم نادمهما، وهو شاعر مجيد ومصنف مفيد، كثير الحفظ واسع الرواية وفيه تزيد، وقال محمد بن إسحاق النديم: كذا كنت أعرفه قديما، وبلغني أنه قد ترك كثيرا من أخلاقه عند علو سنه، قال: وهو يحيا في عصرنا سنة سبع وسبعين وثلاثمائة.
__________
[813]- ترجمة الشمشاطي في الفهرست: 171 ورجال النجاشي: 201 والاكمال 5: 141 والأنساب 7: 386 ومعجم البلدان (شمشاط) والوافي 22: 158 ومقدمة كتاب الأنوار، وهو الكتاب الذي نشر من مؤلفاته (الكويت 1977) .(4/1907)
قال المؤلف: وهو الذي روى الخبر الذي جرى بين الزجاج وثعلب في حق سيبويه واستدراكه على ثعلب في «الفصيح» عدة مواضع، وقد ذكر ذلك في ترجمة الزجاج رحمه الله تعالى. وكان رافضيا دجالا «1» يأتي في كتبه بالأعاجيب من أحاديثهم.
ولأبي القاسم الرقيّ المنجم فيه يهجوه «2» :
حفّ خدّيك دلّ يا شمشاطي ... أنه دائما لغير لواط
وانبساط الغلام يعلمني أن ... ك تحت الغلام فوق البساط
وشروط صبرت كرها عليها ... لا لها بل للذة المشراط
قال محمد بن إسحاق: له كتاب النزه والابتهاج وهو مجموع يتضمن غرائب الأخبار ومحاسن الأشعار كالأمالي. كتاب الأنوار مبوب يجري مجرى الملح والتشبيهات والأوصاف عمله قديما ثم زاد فيه بعد ذلك. كتاب الديارات كبير «3» .
كتاب المثلث الصحيح. كتاب أخبار أبي تمام والمختار من شعره. كتاب القلم جيد. كتاب تفضيل أبي نواس على أبي تمام.
وحدث الشمشاطي في كتابه «كتاب النزه والابتهاج» قال «4» : كنا ليلة عند أبي تغلب ابن حمدان، وعنده جماعة بعضهم يلعب بالنرد، فطال الجلوس حتى مضى من الليل هزيع والسماء تهطل، فقال أبو البركات لفتح بن نظيف: يا فتح كم قد مضى من الليل؟ فقلت له: هذا نصف بيت شعر، فقال لبعض من في حضرته: أتمه فقال:
هذه قافية صعبة لا تطرد إلا أن نجعل بدل الياء واوا، فعملت في الوقت واستغلقت القافية حتى لا يزاد عليها بيت واحد إلا أن تكرر القافية بلفظ مؤتلف ومعنى مختلف مثل الغيل الذي يرضع المرأة وهي حامل، وقد أتينا بهذه اللفظة ومثلها لفظا ولم نأت به، الغيل: الساعد الريان، والغيل: ما جرى على وجه الأرض، والغيل: الشحم الملتف. ومثل القيل نصف النهار وقد أتينا به، والقيل الملك، ونحو ذلك فقلت:
يا فتح كم قد مضى من الليل ... قل وتجنّب مقال ذي الميل(4/1908)
فعارض النوم مسبل خمرا ... وعارض المزن مسبل الذيل
والليل في البدر كالنهار إذا ... أضحت وهذا السحاب كالليل
يسكب دمعا على الثرى فترى الم ... اء بكلّ الدروب كالسيل
والنرد تلهي عن المنام إذا ال ... فصوص جالت كجولة الخيل
إذا لذيذ الكرى تدافع عن ... وقت رقاد أضرّ بالحيل
إن أمير الهيجاء في مأزق ال ... حرب الهمام الجواد بالقيل
من حزبه السّعد طالع لهم ... وحزبه موقنون بالويل
نجيب أمّ لم تغذه سيء ال ... قسم ولا أرضعته من غيل
يحمل أعباء كلّ معضلة ... تجلّ أن تستقلّ بالشيل
أمواله والطعام قد بذلا ... لآمليه بالوزن والكيل
جاوز عمرا بأسا وقصّر عن ... جود يديه الضحيان ذو السيل
لا زال في نعمة مجددة ... يشرب صفو الغبوق والقيل
وحدث الشمشاطي في كتابه هذا أيضا قال: أخذت من بين يدي أبي عدنان محمد بن نصر بن حمدان رمانة فكسرتها ودفعت منها إلى من حضر من الشعراء والأدباء، وقلت «1» :
يا حسن رمانة تقاسمها ... كلّ أديب بالظرف منعوت
كأنها قبل كسرها كرة ... وبعد كسر حبات ياقوت.
[814] علي بن محمد بن الخلال أبو الحسن
الأديب الناسخ: صاحب الخط المليح والضبط الصحيح معروف بذلك مشهور. مات في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
__________
[814]- وقعت هذه الترجمة في ك قبل ترجمة الشمشاطي.(4/1909)
محتويات الجزء الرّابع
الموضوع الصفحة
[تراجم حرف الصاد]
594- صاعد بن الحسن بن عيسى الربعي 1439
595- صالح بن ابراهيم بن رشدين 1442
596- صالح بن اسحاق أبو عمر الجرمي 1442
597- صالح بن جعفر بن عبد الوهاب 1444
598- صالح بن حسان 1444
599- صالح بن شعيب القاري 1445
600- صالح بن عبد القدوس 1445
601- صحار العبدي 1146
602- صدقة بن الحسن بن الحسين الناسخ 1147
603- صفوان بن ادريس التجببي أبو البحر 1148
[تراجم حرف الضاد]
604- الضحاك بن سلمان بن سالم الألوسي 1451
605- الضحاك بن مخلد، أبو عاصم النبيل 1452
606- الضحاك بن مزاحم المفسّر 1452
607- أبو ضمضم النسابة البكري 1453
[تراجم حرف الطاء]
608- طالب بن عثمان بن محمد الأزدي 1455(4/1911)
609- طالب بن محمد بن نشيط، ابن السراج النحوي 1455
610- طاهر بن أحمد بن بابشاذ 1455
611- طاهر بن أحمد بن محمد القزويني النجار 1456
612- طاهر بن الحسين البندنيجي الهمذاني 1457
613- طراد بن علي بن عبد العزيز، المعروف بالبديع 1457
614- طريح بن اسماعيل الثقفي 1458
615- طلحة بن محمد بن طلحة النعماني 1460
616- طلحة بن محمد بن عبد الله الطلحي 1461
[تراجم حرف الظاء]
617- ظافر بن القاسم بن منصور الحداد 1462
618- ظالم بن عمرو، أبو الأسود الدؤلي 1463
[تراجم حرف العين] 1474
619- عاصم بن أبي النجود المقرىء 1474
620- عالي بن عثمان بن جني 1475
621- عامر بن شراحيل الشعبي 1475
622- عامر بن عمران، أبو عكرمة الضبي 1479
623- عامر بن محمد بن كسنين 1480
624- عبادة بن عبد الله بن ماء السماء 1480
625- العباس بن أحمد بن مطروح الأزدي 1481
626- العباس بن أحمد بن موسى النحوي 1481
627- العباس بن الأحنف 1481
628- العباس بن الفرج الرياشي أبو الفضل 1483
629- العباس بن محمد بن أبي محمد اليزيدي 1485
630- العباس بن محمد أبو الفضل يعرف بعرام 1485(4/1912)
631- عبد الله بن إبراهيم، أبو حكيم الخبري 1486
632- عبد الله بن أحمد بن حرب، أبو هفان 1486
633- عبد الله بن أحمد بن علي بن هبة الله الهاشمي 1490
634- عبد الله بن أحمد، أبو القاسم الكعبي البلخي 1491
635- عبد الله بن أحمد بن جعفر الفرغاني 1493
636- عبد الله بن أحمد بن الحسين الساماني 1494
637- عبد الله بن أحمد، أبو محمد ابن الخشاب 1494
637- عبد الله بن أحمد، ابن الخشاب (ترجمة ثانية) 1496
638- عبد الله بن إسحاق بن سلام المكاري 1506
639- عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله الميكالي 1507
640- عبد الله بن أسعد بن عيسى، ابن الدهان الجزري 1509
641- عبد الله بن بري النحوي 1510
642- عبد الله بن جعفر بن درستويه 1511
643- عبد الله بن الحسن بن محمد، أبو الغنائم النسابة 1513
644- عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي 1514
645- عبد الله بن الحسين، أبو البقاء العكبري 1515
646- عبد الله بن حمود الزبيدي الأندلسي 1517
647- عبد الله بن خليد، أبو العميثل 1518
648- عبد الله بن ذكوان الفارسي 1519
649- عبد الله بن رستم 1519
650- عبد الله بن الزبير، ابن المعتز 1519
651- عبد الله بن سعيد بن أبان الأموي 1526
652- عبد الله بن سعيد بن مهدي الخوافي 1527
653- عبد الله بن السيد البطليوسي 1527(4/1913)
654- عبد الله بن سليمان بن يخلف الصقلي 1529
655- أبو عبد الله العروضي الصقلي 1531
656- عبد الله بن عامر اليحصبي المقرىء 1532
657- عبد الله بن عبد الله الصفري 1533
658- عبد الله بن عبد العزيز البكري أبو عبيد 1534
659- عبد الله بن عبد الأعلى النحوي 1536
660- عبد الله بن عبد الرحمن الدينوري 1536
661- عبد الله بن عطية بن عبد الله المفسر 1538
662- عبد الله بن علي بن أحمد المقرىء 1539
663- عبد الله بن عياش المنتوف الهمداني 1541
664- عبد الله بن القاسم بن علي (ابن الحريري) 1544
665- عبد الله بن كثير، أحد القراء السبعة 1544
666- عبد الله بن أبي مالك القيسي الصقلي 1546
667- عبد الله بن محمد بن هارون التوزي 1549
668- عبد الله بن محمد، الناشىء الأكبر 1548
669- عبد الله بن محمد بن علي، عين القضاة الهمذاني 1550
670- عبد الله بن محمد بن علي، أبو القاسم الكامل 1551
671- عبد الله بن محمد بن الحسين بن ناقيا 1560
671 ب- عبد الله بن محمد الأيجي 1561
671 ج- عبد الله بن المقفع 1561
671 د- عبد الجبار بن أحمد الديناري 1561
671 هـ- عبد الحميد بن أسامة بن أحمد 1562
671 وعبد الحميد بن عبد المجيد، الأخفش الأكبر 1562
672- عبد الرحيم، القاضي الفاضل 1562
672 ب- عبد السلام الجباني، أبو هاشم 1567(4/1914)
673- عبد العزيز بن ابراهيم بن بيان 1567
673 ب- عبد العزيز بن أحمد المعربي الأخفش 1568
674- عبد الغافر بن اسماعيل الفارسي 1569
675- عبد الكافي الهاروني اليهودي 1569
676- عبد الكريم بن هوازن القشيري 1570
677- عبد اللطيف بن يوسف البغدادي 1571
678- عبد الواحد بن محمد بن علي 1573
679- عبد الله بن أحمد بن خرداذبه 1573
680- عبيد الله بن أحمد بن محمد، جخجخ النحوي 1574
681- عبيد الله بن عبد الرحيم الأصبهاني 1574
682- عبيد الله بن محمد بن أبي بردة القصري 1575
683- عبيد الله بن محمد بن أبي محمد اليزيدي 1576
684- عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي 1576
685- عبيد الله بن محمد بن جرو الأسدي 1577
686- عبيد الله أبو بكر الخياط الأصبهاني 1579
687- عبيد الله بن محمد بن علي بن شاهمردان 1581
688- عبيد بن سرية (أو شرية) الجرهمي 1581
689- عبيد بن مسعدة يعرف بابن أبي الجليد 1584
690- عتاب بن ورقاء الشيباني 1584
691- عثمان بن جني أبو الفتح النحوي 1585
692- عثمان بن ربيعة الأندلسي 1601
693- عثمان بن سعيد، ورش المقرىء 1601
694- عثمان بن سعيد الداني، أبو عمرو ابن الصيرفي المقرىء 1603
694 ب- عثمان بن سعيد الداني (ترجمة ثانية) 1604
695- عثمان بن عبد الله، أبو عمرو الطرسوسي 1605(4/1915)
696- عثمان بن علي بن عمر السرقوسي الصقلي 1606
697- عثمان بن علي بن عمر الخزرجي الصفلي 1608
698- عثمان بن عيسى بن منصور البلطي 1610
699- عريب بن محمد بن مطرف القرطبي 1621
700- عزيز بن الفضل بن فضالة الهذلي 1622
701- عسل بن ذكوان العسكري 1622
702- عطاء الملط 1622
703- عطاء بن يعقوب بن ناكل 1623
704- عكرمة مولى ابن عباس 1627
705- علاقة بن كرسم الكلابي 1630
706- علان الوراق الشعوبي 1631
707- العلاء بن الحسن بن وهب بن الموصلايا 1633
708- أبو علقمة النحوي النميري 1637
709- علي بن إبراهيم بن قاشم القمي 1641
710- علي بن ابراهيم بن محمد الكاتب 1641
711- علي بن ابراهيم بن محمد الدهكي 1641
712- علي بن ابراهيم بن سلمة القطان القزويني 1642
713- علي بن ابراهيم بن سعيد الحوفي 1643
714- علي بن أحمد العقيقي العلوي 1644
715- علي بن أحمد بن أبي دجانة المصري 1644
716- علي بن أحمد الدريدي 1644
717- علي بن أحمد المهلبي اللغوي 1645
718- علي بن أحمد بن سلك الفالي 1646
719- علي بن أحمد بن سيده الأندلسي 1648(4/1916)
720- علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري 1650
721- علي بن أحمد بن محمد الواحدي 1659
722- علي بن أحمد الفنجكردي 1664
723- علي بن أحمد بن محمد بن الغزال النيسابوري 1665
724- علي بن أحمد بن بكري، الخازن 1666
725- علي بن بريد أبو دعامة القيسي 1666
726- علي بن بسام أبو الحسن الأندلسي 1667
727- علي بن ثروان بن الحسن الكندي 1667
728- علي بن جعفر الكاتب، أبو الحسن الفارسي 1668
729- علي بن جعفر السعدي، ابن القطاع الصقلي 1669
730- علي بن الحسن الأحمر صاحب الكسائي 1670
731- علي بن الحسن الهنائي، كراع النمل 1673
732- علي بن الحسن بن فضيل بن مروان 1673
733- علي بن الحسن بن عبد الرحمن المقرىء 1674
734- علي بن الحسن، ابن الماشطة 1674
735- علي بن الحسن- علان المصري 1676
736- علي بن الحسن، أبو الحسن الصقلي 1676
737- علي بن الحسن بن حسول 1676
738- علي بن الحسن القهستاني العميد 1677
739- علي بن الحسن بن الوحشي 1681
740- علي بن الحسن، الباخرزي 1682
741- علي بن الحسن، ابن صدقة الوزير 1688
742- علي بن الحسن، شميم الحلي 1689
743- علي بن الحسن، ابن عساكر الحافظ 1697(4/1917)
744- علي بن الحسن، ابن المعلمة 1704
745- علي بن الحسين، المسعودي المؤرخ 1705
746- علي بن الحسين، أبو الفرج الأصفهاني 1707
747- علي بن الحسين، أبو الفرج ابن هندو 1723
748- علي بن الحسين، الشريف المرتضى 1728
749- علي بن الحسين، ابن كوجك الوراق 1733
750- علي بن الحسين بن بلبل العسقلاني 1734
751- علي بن الحسين الآمدي النحوي 1735
752- علي بن الحسين، أبو الحسن الباقولي 1736
753- علي بن حمزة الكسائي 1737
754- علي بن حمزة بن عمارة الأصبهاني 1752
755 ب- علي بن حمزة البصري اللغوي 1784
755- علي بن حمزة البصري (ترجمة ثانية) 1755
756- علي بن حمزة الأديب أبو الحسن 1756
757- علي بن حمزة بن علي الرازي، ابن بقشلان 1756
758- علي بن خليفة بن علي، ابن المنقى 1757
759- علي بن دبيس النحوي الموصلي 1759
760- علي بن زيد القاشاني 1759
761- علي بن زيد أبو الحسن البيهقي 1759
762- علي بن سليمان الأديب البغدادي 1768
763- علي بن سليمان، حيدة اليمني 1769
764- علي بن سليمان، الأخفش الصغير 1770
765- علي بن سهل بن العباس النيسابوري 1774
766- علي بن طاهر بن جعفر السلمي 1774(4/1918)
767- علي بن طلحة بن كردان النحوي 1775
768- علي بن ظافر بن الحسين الأزدي 1777
769- علي بن العباس النوبختي 1778
770- علي بن عبد الله بن سنان الطوسي 1779
771- علي بن عبد الله بن علي، ابن الشيبة 1780
772- علي بن عبد الله بن أحمد النيسابوري 1781
773- علي بن عبد الله بن محمد بن الهيصم الهروي 1782
774- علي بن عبد الله بن وصيف، الناشىء الأصغر 1784
775- علي بن عبد الله بن موهب الجذامي 1791
776- علي بن عبد الله بن محمد، ابن أبي جرادة العقيلي 1792
777- علي بن عبد الجبار بن سلامة بن عيذون الهذلي 1793
778- علي بن عبد الرحمن الخزاز السوسي 1794
779- علي بن عبد الرحيم بن الحسن، ابن العصار اللغوي 1794
780- علي بن عبد العزيز بن المرزبان، أبو الحسن البغوي 1795
781- علي بن عبد العزيز، القاضي الجرجاني 1796
782- علي بن عبد العزيز، ابن حاجب النعمان 1806
783- علي بن عبد الغني القروي الحصري 1808
784- علي بن أبي طالب، أمير المؤمنين 1809
785- علي بن عبد الملك بن العباس القزويني 1813
786- علي بن عبيدة الريحاني 1814
787- علي بن عبيد الله بن الدقاق، أبو القاسم الدقيقي 1816
788- علي بن عبيد الله السمسمي 1817
789- علي بن عساكر بن المرحب البطائحي 1819
790- علي بن علي أبو الحسن البرقي 1820(4/1919)
791- علي بن عراق الصناري 1820
792- علي بن عيسى الصائغ غلام ابن شاهين 1821
793- علي بن عيسى بن داود بن الجراح 1823
794- علي بن عيسى الرماني 1826
795- علي بن عيسى الربعي 1828
796- علي بن عيسى، ابن وهاس 1832
797- علي بن فضال بن علي المجاشعي 1834
798- علي بن الفضل المزني النحوي 1828
799- علي بن القاسم القاشاني 1839
800- علي بن القاسم السنجاني أبو الحسن 1842
801- علي بن المبارك اللحياني 1843
802- علي بن المبارك بن علي، ابن الزاهدة النحوي 1844
803- علي بن المحسن التنوخي أبو القاسم 1845
804- علي بن محمد المدائني أبو الحسن 1845
805- علي بن محمد بن وهب المبسعري 1852
806- علي بن محمد بن نصر البسامي 1859
807- علي بن محمد بن عبيد الأسدي، ابن الكوفي 1866
808- علي بن محمد بن الشاه الطاهري 1868
809- علي بن محمد بن عبدوس الكوفي 1869
810- علي بن محمد أبو القاسم الاسكافي 1869
811- علي بن محمد التنوخي 1872
812- علي بن محمد بن الحسين، ذو الكفايتين ابن العميد 1886
813- علي بن محمد الشمشاطي 1807
814- علي بن محمد الخلال 1909.(4/1920)
(بسم الله الرحمن الرحيم)
[الجزء الخامس]
[تتمة حرف العين]
[815]
علي بن محمد بن عمير النحوي الكناني
يكنى أبا الحسن: كان أحد الفضلاء من أصحاب أبي بكر محمد بن الحسن بن مقسم، روى عنه «أمالي ثعلب» في سنة ست عشرة وأربعمائة فسمعه منه الحسن بن أحمد بن الثلاج وأبو الفتح ابن المقدر.
[816]
علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار
الكاتب أبو الحسين: بصري الأصل واسطي المولد والمنشأ، قال الحافظ أبو طاهر السلفي: وسألته- يعني أبا الكرم خميس بن علي الحوزي- عن ابن دينار فقال: سمع أبا بكر ابن مقسم، ولقي المتنبي فسمع منه ديوانه ومدحه بقصيدة هي عندنا موجودة في ديوانه أوّلها:
ربّ القريض اليك الحلّ والرحل ... ضاقت إلى العلم إلا نحوك السبل
تضاءل الشعراء اليوم عند فتى ... صعاب كلّ قريض عنده ذلل
وكان شاعرا مجيدا شارك المتنبي في أكثر ممدوحيه كسيف الدولة بن حمدان وابن العميد وغيرهما، وكان حسن الخطّ يقال إنه على طريقة ابن مقلة. مات سنة تسع وأربعمائة، حمل الناس عنه الأدب فأكثروا بواسط وغيرها، وكان سهل الخلائق
__________
(815) - وقعت هذه الترجمة في ك قبل ترجمة الشمشاطي؛ ولابن عمير النحوي ترجمة في الوافي 22: 108 (عن ياقوت) وبغية الوعاة 2: 198..
(816) - لابن دينار الكاتب ترجمة في الوافي 22: 63 (باختصار عن ياقوت) وسؤالات السلفي: 23- 25.(5/1921)
جميل «1» الطريقة، سأله الناس بواسط بعد موت أبي محمد عبد الله العلوي أن يجلس لهم صدرا فيقرئهم فامتنع وقال: أنا أتعمم مدوّرة وكمّي ضيق وليست هذه حلية أهل القرآن، أظنني سمعت ذلك من أبي الحسن المغازليّ الشاهد، هذا آخر ما قاله خميس.
قلت: وقد سمع أبو غالب محمد بن بشران من ابن دينار كثيرا فروى عنه كتب الزجاج عن أبي الحسن علي بن الجصاص عن الزجاج، وروى عنه مصنفات ثعلب عن أبي بكر محمد بن الحسن بن مقسم عنه، وروى له كتب ابن الأعرابي عن ابن مقسم عن ثعلب عنه، وروى له كتب ابن السكيت جميعها ك «الاصلاح» و «الألفاظ» و «النبات» وغير ذلك عن ابن مقسم عن المعبدي عن ابن السكيت وروى له كتب ابن قتيبة: ك «كتاب غريب الحديث» و «كتاب أدب الكاتب» و «كتاب الأشربة» و «عيون الأخبار» وعدد كتبه كلها عن أبي القاسم الآمدي عن أبي جعفر أحمد ابن قتيبة عن أبيه، وروى له كتب الآمدي جميعها عنه، وروى له كتاب أبى الفرج علي بن الحسين الأصفهاني «الأغاني الكبير» وغيره عنه، وروى له «كتاب الجمهرة» لابن دريد عن أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي جخجخ عن ابن دريد، وغير ذلك مما يطول شرحه.
وأخذ ابن دينار عن أبي سعيد السيرافي وأبي علي الفارسي. ومولد ابن دينار سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة. وذكر أبو عبد الله الحميدي في «ثبته» قال: حدثني أبو غالب ابن بشران النحوي قال: حدثني أبو الحسين علي بن محمد بن عبد الرحيم بن دينار الكاتب قال: قرأت على أبي الفرج علي بن الحسين الأصفهاني جميع «كتاب الأغاني» .
[817]
علي بن محمد النهاوندي النحوي:
روى عن جنادة أبي أسامة وعن أبي يوسف أحمد بن الحسين «2» عن المبرد.
__________
(817) - ترجمته في بغية الوعاة 2: 205 (عن ياقوت) .(5/1922)
[818]
علي بن محمد بن الحسن الهروي:
والد أبي سهل محمد بن علي الهروي الذي يكتب «الصحاح» ، وقد ذكر في بابه: وكان أبو الحسن هذا عالما بالنحو إماما في الأدب جيد القياس صحيح القريحة حسن العناية بالآداب، وكان مقيما بالديار المصرية، وله تصانيف منها: كتاب الذخائر في النحو أربع مجلدات رأيته بمصر بخطه. وكتاب الأزهية شرح فيه العوامل والحروف «1» ، وهما كتابان جليلان أبان فيهما عن فضله.
[819]
علي بن محمد بن أبي الحسين الأندلسي،
أبو الحسن الكاتب: مشهور بالأدب والشعر وله كتاب في التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، كان في أيام الدولة العامرية وعاش الى أيام الفتنة، ذكره الحميدي.
[820]
علي بن محمد بن العباس أبو حيان التوحيدي:
شيرازي الأصل، وقيل نيسابوري، ووجدت بعض الفضلاء يقول له الواسطي، صوفي السمت والهيئة وكان
__________
(818) - ترجمته في إنباه الرواة 2: 311 والوافي 22: 163 وبغية الوعاة 2: 205.
(819) - جذوة المقتبس: 290 (بغية الملتمس رقم: 1194) والصلة: 392 وزاد ابن بشكوال أنه من أهل قرطبة، روى عن القاضي أبي أيوب بن عمرون وأحمد بن سيد وأبي سليمان عبد السلام بن السمح الزهراوي وصاعد اللغوي، وحدث عنه أبو بكر المصحفي.
(820) - ترجمة التوحيدي في: شدّ الازار: 53 وتهذيب الأسماء واللغات 2: 223 وابن خلكان 5: 112 وسير الذهبي 17: 119 وميزان الاعتدال 4: 518 وعيون التواريخ 12: 216 والوافي 22: 39 (وفيه نقل عن ياقوت) وطبقات السبكي 5: 286 وطبقات الاسنوي 1: 301 ولسان الميزان 7: 38 وبغية الوعاة 2: 190 وطبقات ابن هداية الله: 114 والبلغة: 162 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 196 (وزاد في نسبه «أحمد» قبل «العباس» وأورد له بيتين من الشعر) واشارة التعيين: 226 وقد كتبت عنه- كتب وبحوث كثيرة في العصر الحديث بالعربية وغيرها من اللغات، يضيق المجال هنا عن حصرها؛ وقد حاول محقق «المقابسات» حصر أسماء كتبه فخلطها بكتب أبي حيان أثير الدين الجياني الأندلسي.(5/1923)
يتأله والناس يقولون «1» في دينه، قدم بغداد فأقام بها مدة، ومضى إلى الريّ وصحب الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد وقبله أبا الفضل ابن العميد فلم يحمدهما، وعمل في مثالبهما كتابا، وكان متفننا في جميع العلوم من النحو واللغة والشعر والأدب والفقه والكلام على رأي المعتزلة، وكان جاحظيا يسلك في تصانيفه مسلكه ويشتهي أن ينتظم في سلكه، فهو شيخ في الصوفية، وفيلسوف الأدباء، وأديب الفلاسفة، ومحقق الكلام، ومتكلم المحققين، وإمام البلغاء، وعمدة لبني ساسان، سخيف اللسان، قليل الرضى عند الإساءة إليه والإحسان، الذمّ شانه والثلب دكانه، وهو مع ذلك فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة ومكنة، كثير التحصيل للعلوم في كلّ فن حفظه، واسع الدراية والرواية، وكان مع ذلك محدودا محارفا يتشكّى صرف زمانه، ويبكي في تصانيفه على حرمانه. ولم أر أحدا من أهل العلم ذكره في كتاب ولا دمجه في ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب، غير أن أبا حيان ذكر نفسه في «كتاب الصديق والصداقة» وهو كتاب حسن نفيس بما قال فيه «2» : كان سبب إنشاء هذا الكتاب «الرسالة في الصديق والصداقة» أني ذكرت منها شيئا لزيد بن رفاعة أبي الخير، فنماه إلى ابن سعدان أبي عبد الله سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة قبل تحمله عبء «3» الدولة وتدبيره أمر الوزارة، فقال لي ابن سعدان: قال لي عنك زيد كذا وكذا، قلت: قد كان ذاك، فقال لي: دوّن هذا الكلام وصله بصلاته مما يصح عندك لمن تقدم، فإن حديث الصديق حلو، ووصف الصاحب المساعد مطرب. فجمعت ما في هذه الرسالة وشغل عن ردّ القول فيها وبطؤت أنا عن تحريرها إلى أن كان من أمره(5/1924)
ما كان، فلما كان هذا الوقت وهو رجب سنة أربعمائة عثرت على المسودة وبيضتها (وهذا دليل على بقائه إلى بعد الأربعمائة) .
وفي «كتاب الهفوات» لابن الصابىء «1» : وحكى أبو حيان قال: حضرت مائدة الصاحب ابن عباد فقدّمت مضيرة فأمعنت فيها، فقال لي: يا أبا حيان إنها تضرّ بالمشايخ، فقلت: إن رأى الصاحب أن يدع التطبب على طعامه فعل، فكأني ألقمته حجرا وخجل واستحيا ولم ينطق إلى أن فرغنا.
ولأبي حيان تصانيف كثيرة منها: كتاب رسالة الصديق والصداقة. كتاب الردّ على ابن جني في شعر المتنبي. كتاب الامتاع والمؤانسة جزءان. كتاب الاشارات الآلهية جزءان. كتاب الزلفة جزء. كتاب المقابسة. كتاب رياض العارفين. كتاب تقريظ الجاحظ. كتاب ذم الوزيرين. كتاب الحج العقلي إذا ضاق الفضاء عن الحج الشرعي. كتاب الرسالة في صلات الفقهاء في المناظرة. كتاب الرسالة البغدادية.
كتاب الرسالة في أخبار الصوفية. كتاب الرسالة الصوفية أيضا. كتاب الرسالة في الحنين إلى الأوطان. كتاب البصائر وهو عشر مجلدات كلّ مجلد له فاتحة وخاتمة.
كتاب المحاضرات والمناظرات «2» .
قال أبو حيان في «كتاب المحاضرات» : كنت بحضرة أبي سعيد السيرافي فوجدت بخطه على ظهر «كتاب اللمع في شواذ التفسير» وكان بين يديه فأخذته ونظرت قال: ذم أعرابي رجلا فقال: ليس له أول يحمل عليه ولا آخر يرجع إليه ولا عقل يزكو به عاقل لديه، وأنشد:
حسبتك إنسانا على غير خبرة ... فكشّفت عن كلب أكبّ على عظم
لحا الله رأيا قاد نحوك همتي ... فأعقبني طول المقام على الذم(5/1925)
فقال لي: يا أبا حيان ما الذي كنت تكتب؟ قلت: الحكاية التي على ظهر هذا الكتاب، فأخذها وتأملها وقال: تأبى إلا الاشتغال بالقدح والذم وثلب الناس، فقلت: أدام الله الامتاع به شغل كلّ إنسان بما هو مبتلى به مدفوع إليه.
قال أبو حيان: وقصدت مع أبي زيد المروزي دار أبي الفتح ذي الكفايتين فمنعنا من الدخول عليه أشدّ منع، وذكر حاجبه أنه يأكل الخبز، فرجعنا بعد أن قال أبو زيد للحاجب: أجلسنا في الدهليز إلى أن يفرغ من الأكل، فلم يفعل، فلما انصرفنا خزايا أنشأ يقول متمثلا «1» :
على خبز إسماعيل واقية البخل ... فقد حلّ في دار الأمان من الأكل
وما خبزه إلّا كآوى يرى ابنه ... ولم ير آوى في الحزون ولا السهل
وما خبزه إلا كعنقاء مغرب ... تصوّر في بسط الملوك وفي المثل
يحدّث عنها الناس من غير رؤية ... سوى صورة ما إن تمرّ ولا تحلي
قال أبو حيان وأنشدنا أبو بكر القومسي الفيلسوف، وكان بحرا عجاجا وسراجا وهاجا، وكان من الضرّ والفاقة ومقاساة الشدة والاضاقة بمنزلة عظيمة، عظيم القدر عند ذوي الأخطار منحوس الحظّ منهم، متهما في دينه عند العوام مقصودا من جهتهم، فقال لي يوما: ما ظننت أن الدنيا ونكدها تبلغ من إنسان ما بلغ مني، إن قصدت دجلة لأغتسل منها نضب ماؤها، وإن خرجت إلى القفار لأتيمم بالصعيد عاد صلدا أملس، وكأنّ العطويّ ما أراد بقصيدته غيري وما عني بها سواي. ثم أنشدنا للعطوي:
من رماه الإله بالإقتار ... وطلاب الغنى من الأسفار
هو في حيرة وضنك وإفلاس ... وبؤس ومحنة «2» وصغار
يا أبا القاسم الذي أوضح الجود ... إليه مقاصد الأحرار
خذ حديثي فانّ وجهي مذ بارز ... «3» هذا الأنام في ثوب قار(5/1926)
وهو للسامعين أطيب من نفح ... نسيم الرياض غبّ القطار
هجم البرد مسرعا ويدى صف ... ر وجسمي عار بغير دثار
فتسترت منه طول التشارى ... ن إلى أن تهتكت أستاري
ونسجت الأطمار بالخيط والاب ... رة حتى عريت من أطماري
وسعى القمل في دروز قميصي ... من صغار ما بينهم وكبار
يتساعون من ثيابي إلى رأ ... سي قطارا يجول بعد قطار
ثم وافى كانون واسودّ وجهي ... وأتاني ما كان منه حذاري
لو تأملت صورتي ورجوعي ... حين أمسي إلى ربوع قفار
أنا وحدي فيه وهل فيه فضل ... لجلوس الأنيس والزوّار
والخلا لا يراد فيه فما لي ... أبدا حاجة إلى حفّار
بل يراد الخلا لمنحدر النج ... وو ما ذقت لقمة في الدار
وإذا لم تدر على المطعم الأف ... واه سدّت مثاعب الأجحار
وقلت له يوما: لو قصدت ابن العميد وابن عباد عسى تكون من جملة من ينفق عليهما ويحظى لديهما، فأجابني بكلام منه: معاناة الضرّ والبؤس أولى من مقاساة الجهال والتيوس، والصبر على الوخم الوبيل أولى من النظر إلى محيا كل ثقيل، ثم أنشأ يقول:
بيني وبين لئام الناس معتبة ... ما تنقضي وكرام الناس إخواني
إذا لقيت لئيم القوم عنّفني ... وإن لقيت كريم القوم حياني
وقلت له: هل تعرف في معنى قصيدة العطوي أخرى؟ قال: نعم قصيدة الحرّاني صاحب المأمون، فقلت: لو تفضلت بانشادها، فقال: خذ في حديث من أقبلت عليه دنياه وتمكن فيها من مناه، ودع حديث الحرف والعسر والشؤم والخسر تطيرا إن لم ترفضه تأدبا، فقلت له: ما أعرف لك شريكا فيما أنت عليه وتتقلّب فيه وتقاسيه سواي، ولقد استولى عليّ الحرف وتمكن مني نكد الزمان إلى الحدّ الذي لا أسترزق مع صحة نقلي وتقييد خطي وتزويق نسخي وسلامته من التصحيف والتحريف(5/1927)
بمثل ما يسترزق البليد الذي يمسخ النسخ ويفسخ الأصل والفرع. وقصدت ابن عباد بأمل فسيح وصدر رحيب، فقدّم إليّ رسائله في ثلاثين مجلدة على أن أنسخها له، فقلت: نسخ مثله يأتي على العمر والبصر، والوراقة كانت موجودة ببغداد، فأخذ في نفسه عليّ من ذلك، وما فزت بطائل من جهته. فقال: بلغني ذلك، فقلت له: ولو كان شيئا يرتفع من اليد بمدة قريبة لكنت لا أتعطّل وأتوفر عليه، ولو قرّر معي أجرة مثله لكنت أصبر عليه، فليس لمن وقع في شرّ الشباك وعين الهلاك إلا الصبر.
قال أبو حيان: ودخلت على الدلجي بشيراز وكنت قد تأخرت عنه أياما، وهذا الكتاب يعني «كتاب المحاضرات» جمعته له بعد ذلك ولأجله أتعبت نفسي، فقال لي: يا أبا حيان من أين؟ فقلت:
إذا شئت أن تقلى فزر متواترا ... وان شئت أن تزداد حبّا فزر غبا
وهذا لملال ظهر لي منه وقليل إعراض، أعرض عني في يوم، فقال لي: ما هذا البيت إلا بيت جيد يعرفه الخاص والعام، وهو موافق لما يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: زر غبا تزدد حبا، فلو كان لهذا البيت أخوات كان أحسن من أن يكون فردا، قلت: فله أخوات، قال: فأنشدني، قلت: لا أحفظها، قال: فأخرجها، قلت: لا أهتدي إليها، قال: فمن أين عرفتها؟ قلت: مرّت بي في جملة تعليقات، قال: فاطلبها لأقدّم رسمك، قلت: فقدمه الآن على شريطة أنه إذا جاء الوقت المعتاد إطلاقه فيه كلّ سنة أطلقته أيضا، قال: أفعل، قلت: فخدها الآن: سمعت العروضي أبا محمد يقول: دخل بعض الشعراء على عيسى بن موسى الرافقي وبين يديه جارية يقال لها خلوب، فقال لها: اقترحي عليه، فقالت:
إذا شئت أن تقلى فزر متواترا ... وإن شئت أن تزداد حبّا فزر غبا
أجزه بأبيات تليق به فأنشد:
بقيت بلا قلب فانّي هائم ... فهل من معير يا خلوب لكم قلبا
حلفت بربّ البيت أنّك منيتي ... فكوني لعيني ما نظرت بها نصبا
عسى الله يوما أن يرينيك خاليا ... فيزداد لحظي من محاسنكم عجبا
إذا شئت أن تقلى فزر متواترا ... وإن شئت أن تزداد حبا فزر غبا(5/1928)
فأنجز لي ما وعد، ووفى بما شرط، وكان ينفق عليه سوق العلم، مع جنون كان يعتريه ويتخبط في أكثر أوقاته فيه، وليت مع هذه الحالة خلّف لنفسه شكلا أو نرى له في وقتنا هذا مثلا، بارت البضائع وثارت «1» البدائع، وكسد سوق العلم، وخمد ذكر الكرم، وصار الناس عبيد الدرهم بعد الدرهم.
وكان أبو حيان قد أحرق كتبه في آخر عمره لقلة جدواها وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته، فكتب إليه القاضي أبو سهل على بن محمد يعذله على صنيعه، ويعرّفه قبح ما اعتمد من الفعل وشنيعه، فكتب إليه أبو حيان يعتذر من ذلك:
«حرسك الله أيها الشيخ من سوء ظني بمودتك وطول جفائك، وأعاذني من مكافأتك على ذلك، وأجارنا جميعا مما يسود وجه عهد إن رعيناه كنا مستأنسين به، وإن أهملناه كنا مستوحشين من أجله، فأدام الله نعمته عندك وجعلني على الحالات كلها فداك. وافاني كتابك غير محتسب ولا متوقّع، على ظماء برح منّي إليه، وشكرت الله تعالى على النعمة به عليّ، وسألته المزيد من أمثاله الذي وصفت فيه بعد ذكر الشوق إليّ والصبابة نحوي وما نال قلبك والتهب في صدرك من الخبر الذي نمي إليك فيما كان مني من إحراق كتبي النفيسة بالنار وغسلها بالماء، فعجبت من انزواء وجه العذر عنك في ذلك، كأنك لم تسمع قارئا يقرأ قوله جلّ وعز: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
(القصص: 88) وكأنك لم تأبه لقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ
(الرحمن: 26) وكأنك لم تعلم أنه لا ثبات لشيء من الدنيا وإن كان شريف الجوهر كريم العنصر ما دام مقلّبا بيد الليل والنهار، معروضا على أحداث الدهر وتعاور الأيام، ثم إني أقول: إن كان- أيدك الله- قد نقب خفّك ما سمعت فقد أدمى أظلّي ما فعلت، فليهن عليك ذلك فما انبريت له ولا اجترأت عليه حتى استخرت الله عز وجل فيه أياما وليالي، وحتى أوحى إليّ في المنام بما بعث راقد العزم، وأجدّ فاتر النية، وأحيا ميت الرأي، وحثّ على تنفيذ ما وقع في الرّوع وتريّع في الخاطر، وأنا أجود عليك الآن بالحجة في ذلك إن طالبت، أو بالعذر إن استوضحت، لتثق بي فيما كان مني، وتعرف صنع الله تعالى في ثنيه لي» .(5/1929)
«إن العلم حاطك الله يراد للعمل، كما أن العمل يراد للنجاة، فإذا كان العمل قاصرا عن العلم كان العلم كلّا على العالم، وأنا أعوذ بالله من علم عاد كلا وأورث ذلا وصار في رقبة صاحبه غلا، وهذا ضرب من الاحتجاج المخلوط بالاعتذار. ثم اعلم- علمك الله الخير- أن هذه الكتب حوت من أصناف العلم سرّه وعلانيته، فأما ما كان سرّا فلم أجد له من يتحلّى بحقيقته راغبا، وأما ما كان علانية فلم أصب من يحرص عليه طالبا، على أني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة «1» منهم، ولعقد الرياسة بينهم ولمدّ الجاه عندهم، فحرمت ذلك كله، ولا شكّ في حسن ما اختاره الله لي وناطه بناصيتي وربطه بأمري، وكرهت مع هذا وغيره أن تكون حجة عليّ لا لي. ومما شحذ العزم على ذلك ورفع الحجاب عنه أني فقدت ولدا نجيبا، وصديقا حبيبا، وصاحبا قريبا، وتابعا أديبا، ورئيسا مثيبا، فشق عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها ويدنّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشمتون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها، فإن قلت: ولم تسمهم بسوء الظن وتقرّع جماعتهم بهذا العيب؟
فجوابي لك أن عياني منهم في الحياة هو الذي يحقّق ظنّي بهم بعد الممات، وكيف أتركها لأناس جاورتهم عشرين سنة فما صحّ لي من أحدهم وداد ولا ظهر لي من إنسان منهم حفاظ، ولقد اضطررت بينهم بعد الشهرة والمعرفة في أوقات كثيرة إلى أكل الخضراوات في الصحراء، وإلى التكفف الفاضح عند الخاصة والعامة، وإلى بيع الدين والمروءة، وإلى تعاطي الرياء بالنفاق والسمعة، وإلى ما لا يحسن بالحرّ أن يرسمه بالقلم، ويطرح في قلب صاحبه الألم، وأحوال الزمان بادية لعينك، بارزة بين مسائك وصباحك، وليس ما قلته بخاف عليك مع معرفتك وفطنتك وشدة تتبعك وتفرغك. وما كان يجب أن ترتاب في صواب ما فعلته وأتيته، بما قدّمته ووصفته وبما أمسكت عنه وطويته، إما هربا من التطويل وإما خوفا من القال والقيل. وبعد فقد أصبحت هامة اليوم أو غد، فإني في عشر التسعين، وهل لي بعد الكبرة والعجز أمل في حياة لذيذة أو رجاء لحال جديدة، ألست من زمرة من قال القائل فيهم:
نروح ونغدو كلّ يوم وليلة ... وعما قليل لا نروح ولا نغدو(5/1930)
وكما قال الآخر:
تفوّقت درّات الصبا في ضلاله ... إلى أن أتاني بالفطام مشيب
وهذا البيت للورد الجعدي «1» ، وتمامه يضيق عنه هذا المكان» .
«والله يا سيدي لو لم أتعظ إلا بمن فقدته من الاخوان والأخدان، في هذا الصقع، من الغرباء والأدباء والأحبّاء لكفى، فكيف بمن كانت العين تقرّبهم والنفس تستنير بقربهم، فقدتهم بالعراق والحجاز والجبل والريّ وما والى هذه المواضع، وتواتر إليّ نعيهم واشتدّت الواعية بهم، فهل أنا إلا من عنصرهم؟ وهل لي محيد عن مصيرهم؟ أسأل الله تعالى ربّ الأولين أن يجعل اعترافي بما أعرفه موصولا بنزوعي عما أقترفه، إنه قريب مجيب» .
«وبعد فلي في إحراق هذه الكتب أسوة بأئمة يقتدى بهم ويؤخذ بهديهم ويعشى إلى نارهم، منهم أبو عمرو بن العلاء، وكان من كبار العلماء مع زهد ظاهر وورع معروف، دفن كتبه في بطن الأرض فلم يوجد لها أثر. وهذا داود الطائي، وكان من خيار عباد الله زهدا وفقها وعبادة، ويقال له تاج الأمة، طرح كتبه في البحر وقال يناجيها: نعم الدليل كنت، والوقوف مع الدليل بعد الوصول عناء وذهول وبلاء وخمول. وهذا يوسف بن أسباط، حمل كتبه إلى غار في جبل وطرحها فيه وسدّ بابه، فلما عوتب على ذلك قال: دلّنا العلم في الأول ثم كاد يضلّنا في الثاني، فهجرناه لوجه من وصلناه، وكرهناه من أجل من أردناه. وهذا أبو سليمان الداراني جمع كتبه في تنور وسجرها بالنار ثم قال: والله ما أحرقتك حتى كدت أحترق بك. وهذا سفيان الثوري مزّق ألف جزء وطيّرها في الريح وقال: ليت يدي قطعت من هاهنا بل من هاهنا ولم أكتب حرفا. وهذا شيخنا أبو سعيد السيرافي سيد العلماء قال لولده محمد: قد تركت لك هذه الكتب تكتسب بها خير الآجل، فإذا رأيتها تخونك فاجعلها طعمة للنار» .
«وماذا أقول بعد هذا، وبماذا تقابلني بعد ذلك، سوى أني أقول وسامعي يصدق: إن زمانا أحوج مثلي إلى ما بلغك لزمان تدمع له العين حزنا وأسى، ويتقطّع عليه القلب غيظا وجوى وضنى وشجى، وما نصنع بما كان وحدث وبان، إن احتجت(5/1931)
إلى العلم في خاصة نفسي فالقليل والله تعالى شاف كاف، وإن احتجت إليه للناس ففي الصدر منه ما يملأ القرطاس بعد القرطاس إلى أن تفنى الأنفاس بعد الأنفاس، وذلك من فضل الله تعالى عليّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ*
(الجاثية: 26) فلم تعنّى عيني- أيدك الله- بعد هذا بالحبر والورق والجلد والقراءة والمقابلة والتصحيح، وبالسواد والبياض؟ وهل أدرك السلف الصالح في الدين الدرجات العلى إلا بالعمل الصالح والاخلاص المعتقد والزهد الغالب في كلّ ما راق من الدنيا وخدع بالزبرج وهوى بصاحبه إلى الهبوط؟ وهل وصل الحكماء القدماء إلى السعادة العظمى إلا بالاقتصاد في السعي وإلا بالرضى بالميسور وإلا ببذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟ فأين يذهب بنا وعلي أيّ باب نحطّ رحالنا؟ وهل جامع الكتب إلا كجامع الفضة والذهب، وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا كمكاثرهما؟ هيهات!! الرحيل والله قريب والثواء قليل، والمضجع مقض والمقام ممضّ، والطريق مخوف والمعين ضعيف، والاغترار غالب، والله من وراء هذا كلّه طالب، نسأل الله تعالى رحمة يظلنا جناحها، ويسهل علينا في هذه العاجلة غدوها ورواحها، فالويل كل الويل لمن بعد عن رحمته بعد أن حصل تحت قدره، فهذا هذا» .
«ثم إني- أيدك الله- ما أردت أن أجيبك عن كتابك لطول جفائك وشدة التوائك عمن لم يزل على رأيك، مجتهدا في محبتك على قربك ونأيك، مع ما أجده من انكسار النشاط، وانطواء الانبساط، لتعاور العلل عليّ، وتخاذل الأعضاء مني، فقد كلّ البصر وانعقد اللسان، وجمد الخاطر وذهب البيان، وملك الوسواس، وغلب اليأس من جميع الناس، ولكني حرست منك ما أضعته مني، ووفيت لك بما لم تف به لي، ويعزّ عليّ أن يكون لي الفضل عليك أو أحرز المزية دونك، وما حداني على مكاتبتك إلا ما أتمثله من تشوقك إليّ وتحرقك عليّ، وأنّ الحديث الذي بلغك قد بدّد فكرك، وأعظم تعجبك، وحشد عليك جزعك، والأول يقول:
وقد يجزع المرء الجليد وتبتلي ... عزيمة رأي المرء نائبة الدهر
تعاوره الأيام فيما ينوبه ... فيقوى على أمر ويضعف عن أمر
على أنك لو علمت في أيّ حال غلب عليّ ما فعلته، وعند أي مرض، وعلى أية عسرة وفاقة، لعرفت من عذري أضعاف ما أبديته، واحتججت لي بأكثر ما نشرته(5/1932)
وطويته. وإذا أنعمت النظر تيقنت أن لله جلّ وعزّ في خلقه أحكاما لا يعاز عليها، ولا يغالب فيها، لأنه لا يبلغ كنهها، ولا ينال غيبها، ولا يعرف قابها ولا يقرع بابها، وهو تعالى أملك لنواصينا، وأطلع على أدانينا واقاصينا، له الخلق والأمر، وبيده الكسر والجبر، وعلينا الصمت والصبر، إلى أن يوارينا اللحد والقبر، والسلام» .
«إن سرّك- جعلني الله فداك- أن تواصلني بخبرك، وتعرفني مقرّ خطابي هذا من نفسك فافعل، فإني لا أدع جوابك إلى أن يقضي الله تعالى تلاقيا يسرّ النفس، ويذكّر حديثنا بالأمس، أو بفراق نصير به إلى الرمس، ونفقد معه رؤية هذه الشمس، والسلام عليك خاصا بحقّ الصفاء الذي بيني وبينك، وعلى جميع إخوانك عامّا بحقّ الوفاء الذي يجب عليّ وعليك والسلام» .
وكتب هذا الكتاب في شهر رمضان سنة أربعمائة.
قال أبو حيان في «كتاب أخلاق الوزيرين» «1» من تصنيفه: طلع ابن عباد عليّ يوما في داره وأنا قاعد في كسر إيوان أكتب شيئا قد كان كأدني به، فلما أبصرته قمت قائما، فصاح بحلق مشقوق، اقعد فالوراقون أخسّ من أن يقوموا لنا، فهممت بكلام، فقال لي الزعفراني الشاعر «2» : اسكت فالرجل رقيع، فغلب عليّ الضحك واستحال الغيظ تعجبا من خفته وسخفه، لأنه كان قد قال هذا وقد لوى شدقه وشنّج أنفه وأمال عنقه، واعترض في انتصابه، وانتصب في اعتراضه، وخرج في تفكك «3» مجنون قد أفلت من دير حنّون، والوصف لا يأتى على كنه هذه الحال لأن حقائقها لا تدرك إلا باللحظ ولا يؤتى عليها باللفظ، فهذا كلّه من شمائل الرؤساء وكلام الكبراء، وسيرة أهل العقل والرزانة؟!، لا والله وتربا لمن يقول غير هذا.
وحدّث أبو حيان قال «4» قال الصاحب يوما: فعل وأفعال قليل، وزعم النحويون أنه ما جاء إلا زند وأزناد، وفرخ وأفراخ، وفرد وأفراد، فقلت له: أنا أحفظ ثلاثين حرفا كلها فعل وأفعال، فقال: هات يا مدعي، فسردت الحروف ودللت على(5/1933)
مواضعها من الكتب ثم قلت: ليس للنحوي أن يلزم مثل هذا الحكم إلا بعد التبحر والسماع الواسع، وليس للتقليد وجه إذا كانت الرواية شائعة والقياس مطردا، وهذا كقولهم فعيل على عشرة أوجه، وقد وجدته أنا يزيد على أكثر من عشرين وجها وما انتهيت في التتبع إلى أقصاه، فقال: خروجك من دعواك في فعل يدلنا على قيامك في فعيل، ولكن لا نأذن لك في اقتصاصك، ولا نهب آذاننا لكلامك، ولم يف ما أتيت به بجرأتك في مجلسنا وتبسطك في حضرتنا، فهذا كما ترى.
قال أبو حيان «1» : وأما حديثي معه- يعني مع ابن عباد- فإنني حين وصلت اليه قال لي: أبو من؟ قلت: أبو حيان، فقال: بلغني أنك تتأدب، فقلت: تأدب أهل الزمان، فقال: أبو حيان ينصرف أو لا ينصرف؟ قلت: إن قبله مولانا لا ينصرف، فلما سمع هذا تنمر وكأنه لم يعجبه، وأقبل على واحد الى جانبه وقال له بالفارسية سفها على ما قيل لي، ثم قال: الزم دارنا وانسخ هذا الكتاب، فقلت: أنا سامع مطيع. ثم إني قلت لبعض الناس في الدار مسترسلا: إنما توجهت من العراق إلى هذا الباب، وزاحمت منتجعي هذا الربع لأتخلّص من حرفة الشؤم، فان الوراقة لم تكن ببغداد كاسدة، فمني اليه هذا أو بعضه أو على غير وجهه فزاده تنكرا.
قال أبو حيان «2» : وقال لي ابن عباد يوما يا أبا حيان من كنّاك بأبي حيان؟ قلت:
أجلّ الناس في زمانه وأكرمهم في وقته، قال: ومن هو ويلك؟ قلت: أنت، قال:
ومتى كان ذلك؟ قلت: حين قلت يا أبا حيان من كناك أبا حيان، فاضرب عن هذا الحديث وأخذ في غيره على كراهة ظهرت عليه.
قال وقال لي يوما آخر «3» ، وهو قائم في صحن داره والجماعة قيام منهم الزعفراني، وكان شيخا كثير الفضل جيد الشعر ممتع الحديث، والتميمي المعروف بسطل «4» وكان من مصر، والأقطع وصالح الوراق وابن ثابت وغيرهم من الكتاب والندماء: يا أبا حيان هل تعرف فيمن تقدم من يكنى بهذه الكنية؟ قلت: نعم من أقرب ذلك أبو حيان الدارميّ، حدثنا أبو بكر محمد بن محمد القاضي الدقاق، قال(5/1934)
حدثنا ابن الأنباريّ، قال حدثنا أبي، قال حدثنا ابن ناصح قال: دخل أبو الهذيل العلاف على الواثق فقال له الواثق: لمن تعرف هذا الشعر؟
سباك من هاشم سليل ... ليس إلى وصله سبيل
من يتعاط الصفات فيه ... فالقول في وصفه فضول
للحسن في وجهه هلال ... لأعين الخلق لا يزول
وطرّة ما يزال فيها ... لنور بدر الدجى مقيل
ما اختال في صحن قصر أوس ... الا تسجى «1» له قتيل
فإن يقف فالعيون نصب ... وإن تولّى فهن حول
فقال أبو الهذيل: يا أمير المؤمنين هذا لرجل من أهل البصرة يعرف بأبي حيان الدارميّ وكان يقول بإمامة المفضول، وله من كلمة يقول فيها:
أفضّله والله قدّمه على ... صحابته بعد النبّي المكرم
بلا بغضة والله مني لغيره ... ولكنه أولاهم بالتقدم
وجماعة من أصحابنا قالوا: أنشد أبو قلابة عبد الله «2» بن محمد الرقاشي لأبي حيان البصري «3» :
يا صاحبي دعا الملام وأقصرا ... ترك الهوى يا صاحبيّ خساره
كم لمت قلبي كي يفيق فقال لي ... لجّت يمين ما لها كفاره
ألّا أفيق ولا أفتّر لحظة ... إن أنت لم تعشق فأنت حجاره
الحبّ أول ما يكون بنظرة ... وكذا الحريق بداؤه بشراره
يا من أحبّ ولا أسمّي باسمها ... اياك اعني فاسمعي يا جاره
فلما وفيت الشعر ورويت الاسناد وريقي بليل، ولساني طلق، ووجهي متهلل، وقد تكلفت هذا وأنا في بقية من غرب الشباب وبعض ريعانه، وملأت الدار صياحا بالرواية والقافية، فحين انتهيت أنكرت طرفه وعلمت سوء موقع ما رويت عنده قال:(5/1935)
ومن تعرف أيضا؟ قلت: ابن الجعابي الحافظ «1» يكنى بأبي حيان، رجل صدق وهو يروي عن التابعين. قال: ومن تعرف أيضا؟ قلت: روى الصوليّ فيما حدّثنا عنه المرزباني أن معاوية لما احتضر أنشد يزيد عند رأسه متمثلا:
لو أن حيا نجا لفات أبو ... حيان لا عاجز ولا وكل
الحوّل القلّب الأريب وهل ... يدفع صرف المنية الحيل
قال الصوليّ: وهذا كان من المعمرين المعقلين «2» ، وانتهى الحديث من غير هشاشة ولا هزة ولا أريحية، بل على اكفهرار وجه ونبوّ طرف وقلة تقبل، وجرت أشياء أخر كان عقباها أني فارقت بابه سنة سبعين وثلاثمائة راجعا الى مدينة السلام بغير زاد ولا راحلة، ولم يعطني في مدة ثلاث سنين درهما واحدا ولا ما قيمته درهم واحد، احمل هذا على ما أردت. ولما نال مني هذا الحرمان الذي قصدني به، وأحفظني عليه، وجعلني من جميع غاشيته «3» فردا أخذت أتلافى «4» ذلك بصدق القول عنه وسوء الثناء عليه، والبادىء أظلم، وللأمور أسباب، وللأسباب أسرار، والغيب لا مطّلع عليه ولا قارع لبابه.
قال أبو حيان «5» قال لي الصاحب يوما وهو يحدّث عن رجل أعطاه شيئا فتلكأ في قبوله:
ولا بدّ من شيء يعين على الدهر
ثم قال: سألت جماعة عن صدر هذا البيت فما كان عندهم ذلك، فقلت: أنا أحفظ ذاك، فنظر بغضب، فقال: ما هو؟ قلت: نسيت، فقال: ما أسرع ذكرك من نسيانك، قلت: ذكرته والحال سليمة فلما استحالت عن السلامة نسيت، قال: وما حيلولتها؟ قلت: نظر الصاحب بغضب، فوجب في حسن الأدب ألا يقال ما يثير الغضب، قال: ومن تكون حتى نغضب عليك؟ دع هذا وهات، قلت قول الشاعر:(5/1936)
ألام على أخذ القليل وإنما ... أصادف أقواما أقلّ من الذرّ
فإن أنا لم آخذ قليلا حرمته ... ولا بدّ من شيء يعين على الدهر
فسكت.
قال أبو حيان عند قربه من فراغ كتابه في ثلب الوزيرين، وقد حكى عن ابن عباد حكايات وأسندها إلى من أخبره بها عنه، ثم قال «1» : فما ذنبي أكرمك الله إذا سألت عنه مشايخ الوقت وأعلام العصر فوصفوه بما جمعت لك في هذا المكان؟ على أني قد سترت شيئا كثيرا من مخازيه إما هربا من الاطالة، أو صيانة للقلم عن رسم الفواحش وبث الفضائح وذكر ما يسمج مسموعه ويكره التحدث به، هذا سوى ما فاتني من حديثه فإني فارقته سنة سبعين وثلاثمائة. وما ذنبي إن ذكرت عنه ما جرّعنيه من مرارة الخيبة بعد الأمل، وحملني عليه من الاخفاق بعد الطمع، مع الخدمة الطويلة، والوعد المتصل، والظنّ الحسن، حتى كأني خصصت بخساسته وحدي أو وجب أن أعامل به دون غيري. قدّم إليّ نجاح الخادم، وكان ينظر في خزانة كتبه، ثلاثين مجلدة من رسائله وقال: يقول لك مولانا: انسخ هذا فإنه قد طلب منه بخراسان، فقلت بعد ارتياع: هذا طويل، ولكن لو أذن لي لخرجت منه فقرا كالغرر، وشذورا كالدرر، تدور في المجالس كالشمامات والدستنبويات، لو رقي بها مجنون لأفاق أو نفث على ذي عاهة لبرأ، لا تملّ ولا تستغث ولا تعاب ولا تسترك، فرفع ذلك إليه وأنا لا أعلم فقال: طعن في رسائلي وعابها، ورغب عن نسخها وأزرى بها؟! والله لينكرنّ مني ما عرف، وليعرفنّ حظه إذا انصرف، حتى كأني طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بئر زمزم، أو قلت كان النظام مأبونا «2» ، أو مات أبو هاشم في بيت خمار، أو كان عباد معلم صبيان. وما ذنبي يا قوم إذا لم أستطع أن أنسخ ثلاثين مجلدة من هذا الذي يستحسن هذا التكليف «3» حتى أعذره في لومي على الامتناع؟ أينسخ إنسان هذا القدر وهو يرجو بعدها أن يمتّعه الله ببصره أو ينفعه ببدنه؟ ثم ما ذنبي إذا قال لي: من أين لك هذا الكلام المفوّف المشوف الذي تكتب به إليّ في الوقت بعد الوقت، فقلت: وكيف لا(5/1937)
يكون كما وصف وأنا أقطف ثمار رسائله، وأستقي من قليب علمه، وأشيم بارقة أدبه، وأرد ساحل بحره، وأستوكف قطر مزنه، فيقول: كذبت وفجرت لا أم لك، ومن أين في كلامي الكدية والشحذ والتضرع والاسترحام؟! كلامي في السماء وكلامك في السماد. هذا أيدك الله وإن كان دليلا على سوء جدي فإنه دليل أيضا على انخلاعه وخرقه وتسرّعه ولؤمه، وانظر كيف يستحيل معي عن مذهبه الذي كان هو عرقه النابض وسوسه الثابت وديدنه المألوف. وهلّا أجراني مجرى التاجر المصري والشاذباشي «1» وفلان وفلان؟ بل ما ذنبي إذا قال لي: هل وصلت إلى ابن العميد أبي الفتح؟ فأقول: نعم رأيته وحضرت مجلسه وشاهدت ما جرى له، وكان من حديثه فيما مدح به كذا وكذا، وفيما تقدم منه كذا وكذا، وفيما تكلّفه من تقديم أهل العلم واختصاص أرباب الأدب كذا وكذا، ووصل أبا سعيد السيرافي بكذا وكذا، ووهب لأبي سليمان المنطقي كذا وكذا، فيزوي وجهه وينكر حديثه وينجذب «2» إلى شيء آخر ليس مما شرع فيه ولا مما شرع فيه ولا مما حرك له، ثم يقول: أعلم أنك إنما انتجعته من العراق، فاقرأ عليّ رسالتك التي توسّلت إليه بها وأسهبت مقرظا له فيها فأتمانع، فيأمر ويشدّد، فأقرأها فيتغير «3» ويذهل، وأنا أكتبها لك ليكون زيادة في الفائدة:
بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم هيّء لي من أمري رشدا، ووفقني لمرضاتك أبدا، ولا تجعل الحرمان عليّ رصدا، أقول وخير القول ما انعقد بالصواب، وخير الصواب ما تضمّن الصدق، وخير الصدق ما جلب النفع، وخير النفع ما تعلّق بالمزيد، وخير المزيد ما بدأ عن الشكر، وخير الشكر ما بدأ عن إخلاص، وخير الإخلاص ما نشأ عن إيقان، وخير الايقان «4» ما صدر عن توفيق: لما رأيت شبابي هرما بالفقر، وفقري غنى بالقناعة، وقناعتي عجزا عند أهل التحصيل، عدلت إلى الزمان أطلب إليه مكاني فيه وموضعي منه، فرأيت طرفه عني نابيا، وعنانه عن رضاي منثنيا، وجانبه في مرادي «5» خشنا، وارتفاقي «6» في أسبابه نائيا، والشامت بي على(5/1938)
الحدثان متماديا، طمعت في السكوت تجلدا، وانتحلت القناعة رياضة، وتألفت شارد حرصي متوقفا، وطويت منشور أملي متنزها، وجمعت شتيت رجائي ساليا، وادّرعت الصبر مستمرا، ولبست العفاف محمودا «1» ، واتخذت الانقباض صناعة، وقمت بالعلاء مجتهدا، هذا بعد أن تصفحت الناس فوجدتهم أحد رجلين: رجلا إن نطق نطق عن غيظ ودمنة، وإن سكت سكت عن ضغن وإحنة، ورجلا إن بذل كدّر بامتنانه بذله، وإن منع حسّن باحتياله بخله، فلم يطل دهري في اثنائه متبرما «2» بطول الغربة، وشظف العيش، وكلب الزمان، وعجف المال، وجفاء الأهل، وسوء الحال، وعادية العدوّ، وكسوف البال، منحرفا «3» من الحنق على لئيم لا أجد مصرفا عنه، منقطعا من الشوق إلى كريم لا أجد سبيلا إليه، حتى لاحت لي غرة الأستاذ فقلت: حلّ بي الويل، وسال بي السيل، أين أنا عن ملك الدنيا، والفلك الدائر بالنعمى، أين أنا من مشرق الخير ومغرب الجميل؟ أين أنا عن بدر البدور وسعد السعود؟ أين أنا عمن يرى البخل كفرا صريحا والافضال دينا صحيحا؟ أين أنا عن سماء لا تفتر عن الهطلان، وعن بحر لا يقذف إلا باللؤلؤ والمرجان؟ أين أنا عن فضاء لا يشقّ غباره، وعن حرم لا يضام جاره؟ أين أنا عن منهل لا صدر لفراطه ولا منع لوراده؟ أين أنا عن ذوب لا شوب فيه، وعن صدد لا حدد دونه؟ بل أين أنا عمن أتى بنبوّة الكرم، وإمامة الافضال، وشريعة الجود، وخلافة البذل، وسياسة المجد بشيمة مشيمة البوارق، ونفس نفيسة الخلائق؟ أين أنا عن الباع الطويل، والأنف الأشم، والمشرب العذب، والطريق الأمم؟ لم لا أقصد بلاده؟ لم لا أقتدح زناده؟ لم لا أنتجع جنابه وأرعى مراده؟ لم لا أسكن ربعه؟ لم لا أستدعي نفعه؟ لم لا أخطب جوده وأعتصر عنقوده «4» ؟ لم لا أستمطر سحابه؟ لم لا أستسقي ربابه؟ لم لا أستميح نيله وأستسحب ذيله؟ ولا أحجّ كعبته وأستلم ركنه؟ لم لا أصلي إلى مقامه مؤتما بامامه؟ لم لا أسبح بثنائه «5» متقدسا، لم لا أحكّم في حال:
فتى صيغ من ماء البشاشة «6» وجهه ... فألفاظه جود وأنفاسه مجد(5/1939)
لم لا أقصد:
فتى الناس للجود في كفّه ... من البحر عينان نضاختان
لم لا أمتري معروف:
فتى لا يبالي أن يكون بجسمه ... إذا نال خلات الكرام شحوب
لم لا أمدح:
فتى يشتري حسن المقال «1» بروحه ... ويعلم أعقاب الأحاديث في غد
نعم، لم لا أنتهي في تقريظ فتى لو كان من الملائكة لكان من المقربين، ولو كان من الأنبياء لكان من المرسلين، ولو كان من الخلفاء لكان نعته: اللائذ بالله أو المنصف في الله أو المقتصد «2» بالله أو المنتصب لله أو الغاضب لله أو الغالب بالله أو المرضيّ لله أو الكافي بالله أو الطالب بحق الله أو المحيي لدين الله. أيها المنتجع قرن كلأه، المختبط ورق نعمته، ارع عريض البطان متفيئا بظله، ناعم البال متعوذا بعزه، وعش رخي البال «3» معتصما بحبله، ولذ بذراه آمن السّرب، وامحض وده بآنية القلب، وق نفسك من سطوته بحسن الحفاظ، وتخير له ألطف المدح تفز منه بأيمن قدح، ولا تحرم نفسك بقولك إني غريب المثوى نازح الدار بعيد النسب منسيّ المكان، فإنك قريب الدار بالأمل، داني النجح بالقصد، رحيب الساحة بالمنى، ملحوظ الحال بالحسد، مشهور الحديث بالدرك. واعلم علما يلتحم باليقين ويدرأ من الشك أنه معروف الفخر بالمفاخر، مأثور الأثر بالمآثر، قد أصبح واحد الأنام، تاريخ الأيام، أسد الغياض يوم الوغى، نور الرياض يوم الرضى، ان حرّك عند مكرمة حرك غصنا تحت بارح، وان دعي إلى اللقاء دعي ليثا فوق سابح، وقل إذا أتيته بلسان التحكم: أصلح أديمي فقد حلم، وجدّد شبابى فقد هرم، وأنطق لساني بمدحك فقد حصر، وافتح بصري بنعمتك فقد سدر، واتل سورة الاخلاص في اصطناعي فقد سردت صحائف النّجح عند انتجاعي، ورش عظمي فقد براه الزمان، واكس جلدي فقد عرّاه الحدثان، وإياك أن تقول يا ملك الدنيا جد لي ببعض الدنيا فإنه يحرمك، ولكن قل يا ملك الدنيا هب لي الدنيا. اللهم فأحي به بلادك، وانعش برحمته(5/1940)
عبادك، وبلّغه مرضاتك، وأسكنه فردوسك، وأدم له العزّ النامي، والكعب العالي، والمجد التليد، والجدّ السعيد، والحقّ الموروث، والخير المبثوث، والولي المنصور، والشانىء المبتور، والدعوة الشاملة، والسجية الفاضلة، والسرب المحروس، والربع المأنوس، والجناب الخصيب، والعدوّ الحريب، والمنهل القريب، واجعل أولياءه باذلين لطاعته، ناصرين لأعزته، ذابّين عن حرمه. [أيها الشمس المضيئة بالكرم] والقمر المنير بالجمال، والنجم الثاقب بالعلم، والكوكب الوقّاد بالجود، والبحر الفياض بالمواهب، سقط العشاء بعبدك على سرحك، فاقره من نعمتك بما يضاهي قدرك وقدرتك، وزوّج هيئته تربها من الغنى فطالما خطب كفأها من المنى.
ثم يقال لي من بعد: جنيت على نفسك حين ذكرت عدوّه عنده بخير، وبينت عنه، وجعلته سيد الناس، فأقول: كرهت أن يراني متدرئا «1» على عرض رجل عظيم الخطر غير مكترث بالوقيعة فيه والانحاء عليه، وقد كان يجوز أن أشعّث من ذلك شيئا، وأبري من أثلته جانبا، وأطيّر إلى جنبه شرارة، فيقال أيضا: جنيت على نفسك، وتركت الاحتياط في أمرك، فإنه مقتك وعافك، ورأى أنك في قولك عدوت طورك، وجهلت قدرك، ونسيت وزرك «2» وليس مثلك من هجم على ثلب من بلغ رتبة ذلك الرجل، وأنك متى جسرت على هذا دربت «3» به وجعلت غيره في قرنه، فإذا كانت هذه الحالات ملتبسة، وهذه العواقب مجهولة، فهل يدور العمل بعدها إلا على الاحسان الذي هو علّة المحبة، والمحبة التي هي علة الحمد، والاساءة التي هي علة البغض، والبغض الذي هو علة الذم، فهذا هذا.
قال «4» : وكان ابن عباد شديد الحسد لمن أحسن القول وأجاد اللفظ، وكان الصواب غالبا عليه، وله رفق في سرد حديث ونيقة في رواية، وله شمائل مخلوطة بالدماثة بين الاشارة والعبارة، وهذا شيء عام في البغداديين وكالخاصّ في غيرهم.
حدّثت ليلة بحديث فلم يملك نفسه حتى ضحك واستعاده، ثم قيل لي بعده إنه كان(5/1941)
يقول: قاتل الله أبا حيان فانه نكد وإنه وإنه وإنه، وأكره أن أروي ذمّي بقلمي، وكان ذلك كلّه حسدا [محضا] وغيظا بحتا، وأنا أروي لك الحديث فانه في نهاية الطيب، وفيه فكاهة ظاهرة وعيّ عجيب في معرض بلاغة ظريفة في ملبس فهاهة. حدثني القاضي أبو الحسن الجرّاحيّ قال: لحقتني مرة علة صعبة، فمن ظريف ما مرّ على رأسي [أنه] دخل في جملة من عادني شيخ الشونيزية «1» ودوارة الحمار والتوثة وفقيهها أبو الجعد الأنباري، وكان من كبار أصحاب البربهاري «2» ، فقال أول ما قعد: يقع لي فيما لا يقع إلا لغيري أو لمثلي فيمن كان كأنه مني أو كأنه كان على سني أو كان معروفا بما لا يعرف به إلاي أني أرى أنك لا تحتمي إلا حمية فوق ما يجب ودون ما لا يجب.
وبين فوق ما لا يجب، وبين دون ما لا يجب فرق، الله يعلم أنه لا يعلم أحد ممن يعلم أو لا يعلم الطب كله أن تحتمي حمية بين حميتين، حمية كلا حمية ولا حمية كحمية، وهذا هو الاعتدال والتعديل والتعادل والمعادلة، قال الله تعالى: وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً
(الفرقان: 67) وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: خير الأمور أوسطها وشرها أطرافها.
والعلة في الجملة والتفصيل إذا أدبرت لم تقبل، وإذا أقبلت لم تدبر، وأنت من إقبالها في خوف من إدبارها في التعجب، وما يصنع هذا كله؟ لا تنظر إلى اضطراب الحمية عليك، ولكن انظر إلى جهل هؤلاء الأطباء الألباء الذين يشقون الشّعر شقا، ويدقون البعر دقا، ويقولون ما يدرون وما لا يدرون زرقا وحمقا، وإلى قلة نصحهم مع جهلهم، ولو لم يجهلوا إذا لم ينصحوا كان أحسن عند الله والملائكة، ولو نصحوا إذا جهلوا كان أولى عند الناس وأشباه الناس، والله المستعان، وأنت في عافية، ولكن عدوك ينظر إليك بعين الاست فيقول: وجهه وجه من قد رجع من القبر بعد غد، وعلى كلّ حال فالرجوع من القبر خير من الرجوع إلى القبر، لعن الله القبر: لا خبّاز ولا بزاز ولا رزاز «3» ولا كواز، إنا لله وإنا إليه راجعون عن قريب إن شاء الله وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ
(لقمان: 34)(5/1942)
وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ
(فاطر: 43) وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ
(الشورى: 29) وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ
(فاطر: 27) تأمر بشيء؟ السنة في العيادة- خاصة عيادة الكبار والسادة- التخفيف والتطفيف، وأنا إن شاء الله عندك بالعشيّ. والحقّ والحق أقوام مما «1» يجب على مثلك لمثلي، كأن ليس لك مثل ولا مثلي أيضا مثل، هكذا إلى باب الشام وإلى قنطرة الشوك وإلى المندفة «2» ، أقول لك المستوي «3» لا أنا ولا أنت اليوم، كمثل كمثراتين إذا عتقتا «4» على رأس شجرة، وكدلوين إذا خلقا على رأس بئر، ودع ذا القارورة، اليوم لا إله إلا الله، وأمس كان سبحان الله، وغدا يكون شيئا آخر، وبعد غد ترى من ربك العجب، والموت والحياة بعون الله، ليس هذا مما يباع في السوق أو يوجد مطروحا في الطريق، وذاك أن الانسان- ولا قوة إلا بالله- طريف أعمى كأنه ما صحّ له منام قط، ولا خرج من السمّارية إلى الشط، وكأنه ما رأى قدرة الله في البط، إذا لفظ كيف يقول قط قط «5» ، والكلام في الانسان وعمى قلبه وسخنة عينه كثير؛ قل غفر له «6» ولا يسلم في هذه الدار إلا من عصر نفسه عصرة ينشقّ منها فيموت كأنه شهيد، وهذا صعب لا يكون إلا بتوفيق الله وبعض خذلانه الغريب، على الله توكلنا وإليه التفتنا ورضينا، به استجرنا إن شاء أخذ لنا «7» وإن شاء أطعمنا. قال القاضي: فكدت أموت من الضحك على ضعفي، وما زال كلامه بهذا إلى أن خرجت على الناس وكان مع هذا لا يعيا ولا يكل ولا يقف، وكان من عجائب الزمان. وختم أبو حيان كتابه «في أخلاق الوزيرين» بعد أن اعتذر عن فعله ثم قال «8» : اني لأحسد الذي يقول:(5/1943)
أعدّ خمسين حولا ما عليّ يد ... لأجنبيّ ولا فضل لذي رحم
الحمد لله شكرا قد قنعت فلا ... أشكو لئيما ولا أطري أخا كرم
لأني كنت أتمنى أن أكونه، ولكن العجز غالب لأنه مبذور في الطينة، ولقد أحسن الآخر حين قال:
ضيّق العذر في الضراعة أنا ... لو قنعنا بقسمنا لكفانا
ما لنا نعبد العباد إذا كا ... ن إلى الله فقرنا وغنانا
وأدعو هاهنا بما دعا به بعض النساك «1» : اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالاقتار، فنسترزق أهل رزقك، ونسأل شر خلقك، ونبتلى بحمد من أعطى وذم من منع، وأنت من دونهم وليّ الاعطاء، وبيدك خزائن الأرض والسماء، يا ذا الجلال والاكرام «2» .
ومن «كتاب المحاضرات» لأبي حيان قال: قصدت أنا والنصيبيّ رجلا من أبناء النعم والموصوفين بالكرم، لا يردّ سائليه ولا يخيّب آمليه، والألسن متفقة على جوده وتطوّله، والعيون شاخصة إلى عطاياه وفضله، له في السنة مبارّ كثيرة على أهل العلم وأهل البيوتات ومن قعد به الزمان وجفاه الاخوان، فلم نصادفه في منزله، وقصدناه ثانيا فمنعنا من الدخول إليه، وقصدناه ثالثا فذكر أنه ركب، وقصدناه رابعا فقيل هو في الحمام، وقصدناه خامسا فقيل هو نائم، وقصدناه سادسا فقيل عنده صاحب البريد وهو مشغول معه بمهم، وقصدناه سابعا فذكر أنه رسم أن لا يؤذن لأحد، وقصدناه ثامنا فذكر أنه يأكل ولا يجوز الدخول إليه بوجه ولا سبب، وقصدناه تاسعا فذكر أن أحد أولاده سقط من الدرجة وهو مشغول به عند رأسه ما يفارقه، وقصدناه العاشر فذكر أنه مستعد لشرب الدواء، وقصدناه الحادي عشر فذكر أنه تناول الدواء من يومين وما عمل(5/1944)
عملا وقد قوّاه اليوم بما يحرك الطبيعة، وقصدناه الثاني عشر فقيل إلى الآن كان جالسا ونهض في هذه الساعة ودخل إلى الحجرة، وقصدناه الثالث عشر فقيل دعي إلى الدار لمهم، وقصدناه الرابع عشر فألفيناه في الطريق يمضي إلى دار الامارة، وقصدناه الخامس عشر فسهّل لنا الاذن ودخلنا في غمار الناس، وإذا الناس على طبقاتهم جلوس، وجماعة قيام يرتبون الناس ويخدمونهم، وقد اتفق له عزاء وشغل بغيرنا، وبقينا في صورة من احتقان البول والجوع والعطش، وما أقمنا في جملة من يقام، فقال لي النصيبي: هذا اليوم الذي قد ظفرنا به وتمكنّا من دخول داره صار عظيم المصيبة علينا ليس لنا إلّا مهاجرة بابه والاعراض عنه وقمع النفس الدنية بالطمع في غيره، فقلت له: قد تعبنا وتبذلنا على بابه، والأسباب التي اتفقت فمنعت من رؤيته كان عذرا واضحا، ويتفق مثل هذا، فإذا انقضت أيام التعزية قصدناه، وربما نلنا من جهته ما نأمله، فقصدناه بعد ذلك أكثر من عشرين مرة وقلّما اتفق فيها رؤيته وخطابه، حتى ملّ النصيبي فقال: لو علمت أن داره الفردوس، والحصول عنده الخلود فيها، وكلامه رضى الله تعالى وفوز الأبد، لما قصدته بعد ذلك، وأنشأ يقول:
طلب الكريم ندى يد المنكود ... كالغيث يستسقى من الجلمود
فافزع إلى عزّ الفراغ ولذ به ... إن السؤال يريد وجه حديد
فأجبته أنا وعيناي بالدموع تترقرق، لما بان لي من حرفتي ونبوّ الدهر بي وضياع سعيي وخيبة أملي في كل من أرتجيه لملمّ أو مهم أو حادثة أو نائبة:
دنيا دنت من عاجز وتباعدت ... عن كلّ ذي لبّ له حجر
سلحت على أربابها حتى إذا ... وصلت إليّ أصابها الحصر
قال أبو حيان في «كتاب الوزيرين» «1» : جرى بيني وبين أبي علي مسكويه شيء، قال لي مرة: أما ترى إلى خطأ صاحبنا- وهو يعني ابن العميد- في إعطائه فلانا ألف دينار ضربة واحدة؟ لقد أضاع هذا المال الخطير في من لا يستحق. فقلت بعد ما أطال الحديث وتقطع بالأسف: أيها الشيخ أسألك عن شيء واحد فاصدق فإنه(5/1945)
لا مدبّ للكذب بيني وبينك «1» لو غلط صاحبك فيك بهذا العطاء وبأضعافه وأضعاف أضعافه أكنت تتخيله في نفسك مخطئا ومبذرا ومفسدا أو جاهلا بحقّ المال؟ أو كنت تقول ما أحسن ما فعل وليته أربى عليه؟ فإن كان الذي تسمع على حقيقته فاعلم أن الذي يرد بالك ويردّ مقالك «2» إنما هو الحسد أو شيء آخر من جنسه، وأنت تدعي الحكمة وتتكلف في الأخلاق وتزيّف الزائف وتختار منها المختار، فافطن لأمرك، واطلع على سرك وشرك «3»
[821]
علي بن محمد بن نصر أبو الحسن
الكاتب صاحب الرسائل: كان كاتب ديوان الرسائل في أيام جلال الدولة أبي طاهر بن بهاء الدولة بن عضد الدولة، ويتردد في الرسائل بينه وبين الملوك، وقرأ النحو على جماعة من أعيان أهل العلم كأبي الحسن الربعي وأبي الحسن الزعفراني البصري، ولقي جماعة من وجوه الشعراء كأبي الفرج الببغاء وأبي نصر ابن نباتة وأبي الحسن السلامي وأبي طاهر علي بن الحسن الحمامي. وكان ذكيا فطنا محببا الى الناس للطافة فهمه وسجاحة خلقه وحسن مداراته، وكان أبوه قاضيا على بعض الأرباع ببغداد والحكم من غير تسمية بالقضاء.
مات سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
ذكر في كتابه الذي صنفه وسماه «كتاب المفاوضة» حاكيا عن نفسه:
__________
(821) - هو أخو القاضي عبد الوهاب، انظر في ترجمته ابن خلكان 3: 222 والديباج المذهب 2: 29 والشذرات 3: 225 ومرّ ذكره في ترجمة أخيه في سير أعلام النبلاء 17: 432؛ (وهذه الترجمة من نسخة ك، وقد سقطت من المطبوعة، وهذا غريب لأن مرغوليوث اعتمد أيضا على نسخة ك) وأما كتابه «المفاوضة» فإنه من المصادر المعتمدة لدى ياقوت وابن العديم والقفطي، وانظر شذرات من كتب مفقودة: 287- 324.(5/1946)
ولقد قرأت في كتاب لأبي القاسم هبة الله بن عيسى كاتب مهذب الدولة «1» - يعني صاحب البطيحة- وكان رجلا جمّ العلم دقيق الفهم، وكان يكتب الكتب الطوال في الفتوح وغيرها، قرأت في فصل له إلى أبي الخطاب المنجم المستولي على دولة بهاء الدولة بن عضد الدولة: «وكنت واعدا نفسي إنجاز ما سبق من شريف مواعيد الحضرة البهية، لوفور حظّي من ملاحظة كرم الاهتمام» فقال لي الوزير أبو العباس عيسى بن ماسرجيس، وكنت أكتب له حينئذ، أنّى يفهم هذا الكلام اليوم؟! قلت: نجتهد، فتأمّلناه فوجدناه صحيحا، إلا أن طريقه كان وعرا.
قال: وكتب إليّ أبو عبد الله ابن ضبر القاضي صديقنا رحمه الله في كتاب، وقد اتصلت أسفاري بين البصرة وواسط والأهواز، مترددا عن السلطان في رسائل:
أصبو إليك مع البعاد صبابة ... أصلى بها كلهيب حرّ النار
وإذا تباعدت الديار فإنني ... أرضى وأقنع منك بالأخبار
وإذا الديار دنت بعدت فكيف لي ... بدنوّ قلب مع دنوّ الدار
وحدث ابن نصر في كتابه حاكيا عن نفسه قال: حدثني الأستاذ أبو عبد الله محمد بن شاذان بالبصرة، وهو إذ [ذاك] يكتب لظهير الدين، وقد خرجت إليه في رسالة، فلما أزمعت الانصراف حمل إليّ كسوة ونفقة إلى دار أبي عبد الله، وحضر أصحابه يتنجزون رسوما جرت العادة بها، وكثروا علي، فقال أبو عبد الله: حالنا هذه تشبه حال أبي أحمد النهرجوري، فإنه مدح أبا الفرج منصور بن سهل المجوسي عامل البصرة، فأعطاه صلة حاضرة هنية، والتفّ به الحواشي فطالبوه، فكتب رقعة ودفعها إلى بعض الداخلين إليه وقال له: سلّم هذه إلى الأستاذ، وفيها:(5/1947)
أجازني الأستاذ عن مدحتي ... جائزة كانت لأصحابه
ولم يكن حظّي منها سوى ... جهبذتي يوما على بابه
قال: فلما وصلت الرقعة خرج في الحال من صرف الحواشي عنه، وصار معه حتى دخل منزله.
وحدث ابن نصر قال: رأيت في المنام كأني أكتب إلى بعض أصدقائي، وقد وقع لي أنه سرق شيئا من كلامي: عمدت إلى شتائت ألفاظي وبدائد كلامي فغصبتنيها، فيا للصوص الكتابة، ويا لحزني عليه والكآبة، واستيقظت فعلّقت ذلك.
وحدث في كتابه قال: قال لي الشيخ أبو الحسن الربعي، وقد سألته عن «لعمرك» و «لعمري» والقسم بذلك، وأعلمته أني رأيت بخطّ بعض الناس فيه واوا، وقلت له: إن الواو لا مدخل لها هاهنا فإنها دخلت على «عمرو» للفرق بينه وبين عمر، وهذا قسم، ولذلك دخلت اللام فيه، فقال: أخطأ وأصبت، وتكلم في اللام الداخلة على «عمري» وقال: إنّ اللام في قولهم: لزيد قائم تفيد أمرين:
أحدهما التأكيد والآخر تقدير استقبال القسم، وهي من قولهم «لعمري» لا تفيد سوى التأكيد، لأن عمري قسم، والقسم لا يدخل على قسم، وتكلم في ذلك بما طال ثم قال لي: أعد، فأعدت ما قال بعينه، ونحن إذ ذاك في دار أبي غالب ابن الثلاج، وهو يقرأ عليه، فقال له: يا أبا غالب، هذا هو الذكاء الكبريتي، قال: وكيف يا سيدي؟ قال: هكذا ذكاء العراقيين، وحدثنا قال: كان يقرأ على أبي علي الفارسي فتى من أهل نسا، وكان بعيدا بليدا، وهو يقبل عليه ويصرف همته إليه، وأهل المدرسة يحيطون بدرسه دونه، وأبو علي يغتاظ من الترديد الذي يقصد به إفهامه، ويفهم غيره، فقال لنا يوما: الذكاء على أربع طبقات: فأولها الذكاء الكبريتي، وهو ذكاء العراقيين، فإنهم يفهمون سريعا وينسون ذريعا، وثانيها طبقات أهل العلم، وهم يفهمون على بطء ما ولا يكادون ينسون سريعا، وثالثها طبقات أهل [....] . وهم الذين يفهمون سريعا ولا ينسون، ورابعها طبقة هذا الفتى، وهو الذي لا يكاد يفهم إلا بعيدا وينسى قريبا، فاستحيى الفتى ولم يره في مجلسه بعدها.
قال ابن نصر: ورأيت كاتبا جالسا إلى جانبي وقد كتب كتابا افتتحه بأن قال:(5/1948)
«لم أقر لمولدي كتابا منذ كذا» ، فلما فرغ من الكتاب كلّه تأمله ثم طواه ولم يغير شيئا، فقلت له: لا يجوز «لم أقر» فإن هذه همزة، والهمزة حرف صحيح يجري بوجوه الاعراب، وعلامة الجزم فيه حذف حركته، فأعرض عني وأعطى الكتاب لغلامه وقال له: ألصق هذا وأنفذه، فأمسكت حينئذ.
وأذكر وقد حضرت مجلسا في الحداثة، فوصف رجل بالطرش، فقلت: هو أصلح- وصحّفت- وكان إلى جانبي أبو عبد الله الحسين الشاعر المعروف بالخالع فقال لي: صحّفت، هو أصلخ- بالخاء المعجمة- فقلت: جزى الله الشيخ خيرا وأفاده وأثابه، فجذبني إليه وقبلني وقال: هذا هو الفلاح.
قال ابن نصر: وحدثني أبو نصر العلاء بن الفيرزان الوزير- وكان هشّ المحادثة طيب المحاضرة كثير المزح، لولا شرّ كان كامنا فيه- وسمعته يقول: حفظت «كتاب بغداد» لابن أبي طاهر وقرأته عشرين دفعة من أوله إلى آخره، وقرأت «التاريخ» لأبي جعفر بالفارسية والعربية؛ واتفق أن اشتكت عيني فتأخرت عنه، وعلم بذاك فأنفذ إليّ غلاما ومعه صرّة فيها خمسمائة درهم، فتركها بين يديّ، ومعها من البياض قطعة مثل الزيق في طوله وعرضه، وانصرف ولم يخاطبني بلفظة، فلما فتحت عيني تأملت الكاغد وإذا فيه:
وخذ القليل من اللئيم وذمّه ... إن القليل من اللئيم كثير
وحملت إليه في ليلة نوروز دينارا روميا ودرهما خسروانيا وجزءا فيه أخبار منثورة من كل نوع، وكتبت إليه رقعة نسختها: أخّرني عن حضرة سيدنا السيد الأجل-[أطال] الله بقاءه- عذر يسقط معه العتب، ويغفر لأجله الذنب، ومن المعاذر ما تعزف النفس عن ذكره، وتشوّف إلى طيّه وستره، لا سيما عن الأقلام التي تحفظ أسطارها، وتبقى على الدهر آثارها، وقد أقمت سنّة الخدمة بجزء يصلح لخلوة الأنس، ويجمع أوطار النفس، ليس بجسيم يستجفى، ولا ضئيل يحتقر ويزدرى، قد يحتوي من الاعتدال بين اللاطىء والعال...... وتضل الأفهام في حروشته، اللفظة الواحدة من مضمونه، [تحوى] فقر الفضل وعيونه. ودينار ودرهم من ضرب كسرى وقيصر، فمن مثلي في ظرف هديتي، ومن يساجلني إذا جمّلني بقبولها وشرّفني- لا أخلاه الله من نعم(5/1949)
يفيضها عليه، ولا أعدمه تابعا يزدلف بالطرف إليه، بمنّه وطوله، وجوده وفضله، إنه على كل شيء قدير؛ قال: فأنفذ إليّ جزءا بخطّ أبي الحسن ابن هلال ودينارا مصنوعا فيه عشرون مثقالا ودرهما مثله، وكتب إليّ: ما رأيت مثل سيدنا- أطال الله بقاءه وجعلني فداءه- (وهكذا كانت عادته في مكاتبتي) يحسن ويعتذر فإنه قد أوجب بتأخره منّة، وكفاني ببعده مؤونة، وقد أنفذت جزءا لا أصفه، ودينارا ودرهما لا أنعته، وإذا تأمّل ما حملته إليه وحمله إليّ وجد قدر التفاوت بينهما قدر التفاوت بيني وبينه، والسلام.
قال: وكان مزّاحا مطرابا مؤثرا لهذا الفن، غير أنه كان يغلب عليه الشر، وكان تاب أن لا يضرب أحدا في يوم جمعة، ورأيته في وقت الصلاة يوم جمعة من الجمعات وقد أمر بضرب أبي الطيب ملول بن فضلان الصيرفي الجهبذ، فسألته وذكّرته العهد، فقال: إنما تبت أن أضرب بالمقارع، فقلت: هذا تأوّل طريف في اليمين.
وحدث ابن نصر قال: حمل إليّ الوزير أبو نصر العلاء بن الفيرزان- وهو إذ ذاك عامل البصرة- ثيابا في بعض الفضول، ولم تجر العادة بها، وآثر أن يكتمها عن القاسم أبي الصالح كيوس أمير البصرة حينئذ خصوصا، وعن الكافة عموما، وكان في جملتها درّاعة سقلاطون، وكتب يعتذر ويذكر أنه لم يجد ثوبا يشبهها، ووصفها وأطال، وكان أصلح ما وصفها به قوله: لم تبتذلها العيون في المجالس، ولا افترع جيبها جيد لابس، فأنفذتها بخاتم ربّها إلى مستحقها وتربها؛ وفي هذا بعض العهدة، ومن ينتقده من أهل الصنعة يعرفه. فكتبت إليه، واعتمدت كسره بذمّها:
وصلت تحفة سيدنا الأجلّ وقبلتها على تجعدي «1» من مثلها، ووجدته قد خصّ الدراعة منها بصفته، وأظهر فيها مكنون بلاغته، ولو أفرج لي عن ذلك لكان أحسن، وتركني وإياه لكان أشبه به وأزين، وبعد فلكلّ موصوف عائب، ولكلّ ممدوح ثالب، وأظنّه نسي أو تناسى أنه حكّم فيها شبا الحديد، فبضعها من القدم الى الوريد، حتى إذا جزّأها أجزاء، وجعلها مبدّدة أشلاء، عاد يصلح ما أفسد من حالها، ويجمع ما فرق من أوصالها، فكم من صورة مستحسنة قدحها وعابها، ودائرة مستقيمة قطعها(5/1950)
فشانها، فأصبحت بعد الجسم الممسّد، والاسم الرائق المفرد، ذات البنائق والأركان، وصاحبة الدّخارص والجربّان؛ هذا وكيف تكون بختامها وعنده من كبدها فلذة، وفي خزائنه من أعضائها فضلة، وعلى ذلك فالشكر عنها مبذول، وحبل الثناء بها موصول، والسلام.
قال: فلما كان من الغد التقينا في دار القسيم فقال: لعنك الله فإنك كافر للنعمة، ولعنني حيث تعرضت بك في الكتابة، وقد أنفذت إليك فضلة الثوب، لا بارك الله لك فيه ولا فيها.
قال ابن نصر: وهذا الخبر عكس ما لحقني مع أبي عمرو سعيد بن سهل العارض، فإنه دخل يوما إلى دار الوزارة بالبصرة وجلس ينتظر الاذن، فقلت لغلامي:
امض إلى أبي العباس الكوفي البزاز وخذ منه الثوب السقلاطون المعمّد الذي عزلته للدراعة، وأذن لأبي عمرو، فدخل وما ظننته تسمع عليّ، ومضى الغلام فلم يصادف البزاز، وانصرفت آخر النهار إلى داري وإذا فيها دراعة سقلاطون معمدة في نهاية الحسن، فسألت عنها فقيل: جاء رجل وقال أنا صاحب أبي عمرو العارض، خذوا هذه الدراعة، قلت: وكان معها رقعة؟ قيل: لا. فكتبت إليه من الغد: للفواضل- أطال الله بقاء الأستاذ الرئيس- فضائل تتميز بها وتستطيل بمكانها على أضرابها منها:
أن ترد بكرا لم يفترعها السّؤال، وتقطع عرضا لم تحتسبها الآمال، فتلك الشربة العذبة للظامي، وإصابة الشاكلة عند الرامي، كتحفته التي جاءت مسيّرة كالجداول، مذهّبة كالأصائل، معدّلة بحسن التقدير والتوفيق، منزّهة عن فحش السّعة والضيق، محلولة الجيب والجيوب مزرورة، مكشوفة الفرج والفروج مستورة، فهي من بدائع صورها، ووشائع حبرها، كالرياض الرائعة، والبروق اللامعة، سلكها دقيق، ومنظرها أنيق، كأنما عدّلت بمعيار، أو دبّر ذيلها على بركار، لابسها مختال، ومانحها مفضال، قد سيّرها بفضله المكتوم، وشهّرها بعرفه النموم، فطويتها طيّ المكرم الضنين، ونشرت الشكر عنها نشر الخاطب المبين، وأفردتها عن أشكالها وإن عزّ المشاكل، وجعلتها زينة للمواكب والمحافل، والله تعالى يزيده كرما وفضلا، ويجعله لادّخار كلّ منقبة أهلا، إنه على كل شيء قدير.
قال أبو الحسن علي بن محمد بن نصر حدثني أبو القاسم عبد الواحد بن محمد(5/1951)
المطرز الشاعر «1» أن صديقا له كتب رقعة مذ خمسين سنة مشتملة على غرض له بألفاظ ليس فيها حرف ينقط، وأنه استصعب ذاك، واقترح أن أكتب إليه رقعة على هذه الطريقة ليجيب عنها بشعر، قال: وكنت أسمّيه «الشيخ العالم» مزاحا، وكان المطرّز يغضب من هذا اللقب:
العالم الأوحد- أطال الله عمره وأدام سعده- محلّ العصمة ودارها، ومعرّس الحكمة ومدارها، وراحة كلّ صدر، وعدة كلّ حرّ، ومحطّ الرحال، ورأس مال الآمال، كلّ دهر أحال عهده مرّ، وكلّ صحو لا أراه معه سكر، حرس الله آلاءه، ولا أعدمه الطّول وإسداءه، معلوم ما حاوله رعاه الله ملاحاة، وسأله معاداة أو مصاداة، لأحسر لسؤاله، ولأسمو لدرك محاله، ولعمر الله وعمره كلّ كلام اطرح معه العادة المعلومة، وهدر له الحال المعهودة، وعر مسلكه، وعسر مطلعه، وصار لمادة السداد هادما أساسه، ومحللا مرره وأمراسه، لا محلّه محلّ المكرم، ولا رصّه رصّ المحكم، وهو سداد لعدم. ولو سواه حرسه الله سام ما سامه، ورام ما رامه، لما أدرك مرماه ولا أحمد مسعاه، ولا سمع دعاؤه طول الدهر، ولا ساعده ساعد ولو مدّ له العمر، والسلام قال: وغدا مهيار علينا فأنشدنا لنفسه في هذا المعنى «2» :
وعد لرملة كدّ الصدر ممطول ... دم الكرى معه ما سال مطلول
وصل هو الصدّ محمود موارده ... حلّ المحلا وصرم وهو محمول
أما صحا أو سلا إلا أعاد له ... عهد الأولى طلل كالسطر ممحول
محاه كلّ ولود الرعد حامله ... مدار ما حار هاد وهو مدلول
راحوا وحلّ وكاء الدمع عاصمه ... وطاح ما طاح دمع وهو محلول
ساروا وكم أمل سار وراءهم ... وكلّ ما وعد الأملاء مأمول
وطاول الدهر عمرا لا ملال له ... مع السرور وطول العمر مملول
وتأخر وعد المطرز بالشعر فكتب إليه الرئيس أبو الحسن ابن نصر في المعنى:(5/1952)
لم وعد أسعده الله المساعدة وعدل، وسهّل الحمل وما حمل، وكلامه روح الصدور وسرّها، وراح الأسماع وعطرها، ولم أهمل عادة إسعاده، وهدر معهود سماحه؟
الأمر عراه أم حاد حداه، ولم مطل وعده وصرح ردّه، وما عراه مراد، ولا حطّ له والحمد لله عماد، والسلام.
وعرف هذه الجملة والمفاوضة أبو الحسن ابن الحسين الغضائري، فكتب رقعة مشتملة على نظم ونثر في هذا المعنى منها: أمرك- حرسك الله وأطال عمرك- المطاع، ومرسومك لا مراد له ولا مراع، ولمرادك ما أسلك السماوة ولا علم، وأورد الآل المحال ولا مكرع، وأروع الآلة الوادعة والأداة الصالحة لأمر لا مرعاه ممرع ولا مورده مطمع، ولا مسرحه ممطور، ولا مراحه معمور، والكلام- أدام الله علاك- مسؤول، ومع الالحاح مملول، ومع الادامة صلد الصمم، ممرّ المرر، طوره أطوار، وحاله أحوال، حلّال رحّال، صرّام وصّال، وما أطاعك إلا عصاك، ولا والاك إلا عاداك، ما رام أحد سهله إلا وعّر، ولا أراد حلوه إلا مرّر، كم سامه الكامل وعاد مطرودا، وداسه العالم وآل مردودا، والعلم الكالّ عامل ما حدّ له، وساع لما رسم له، أصار الله سماء العلاء دارك، وسهم السعادة مطلعك، وأدام سموك، وأهلك عدوك، والسلام للرسول وأهله.
ومن النظم:
اسعد ودام لك الإمهال والعمر ... هل رمل رامة محمود له المطر
وهل أراك وأمواه لعارمه ... كالعهد لا الورد أعداه ولا الصدر
وهل أرود ودار الوصل آهلة ... دارا كدارك لولا روحها العطر
لله صدر وراه كلّ ساحرة ... كحلاء مرهاء ممدوح لها الحور
واها لعلوة لا وصل كواصلها ... ولا عطاؤك مسمول ولا أمر
صدّ ومطل وإدلال ومحرمة ... كما أعاد رسول الآكل السمر
لولا محمد لم أعط السلام ولا ... أمال سالم أمر اللمة الصور
دعا وطاوع ودّا لا مراء له ... مسارع الأمر لا لاو ولا صعر
كل هذا ولم يرد من المطرّز المتحدى في هذا المعنى شيء، فكتب إليه الرئيس(5/1953)
علي بن نصر يستبطئه ويقتضيه ويحثّه على المهادنة: ما سلك العالم الأوحد- حرس معهوده- العادة، ولا عمل عمل السادة، رام أمرا ما حصّله، وحكم حكما ما عدّله، ووعد وعدا لواه، وحدّ حدا عداه، وسدّى وما ألحم، وأورد وما أصدر، وسار مهملا أمره، وطار مسلما وكره، لا الكلام أسعده، ولا الكلال أمهله، هاله الأمر وراعه، وعصاه المرام وما أطاعه، محادّة له علم معها مآل الصورة، وعمل لها عمل الصرورة، هاك الساعة الموادعة حصّلها، وأحلّها صدرك واحرسها، وصرّها دهرك واعكمها، ودع المراماة وراءك، وسرح المصالحة أمامك، وهلّم السّلم، والسلام.
قال ابن نصر: كتب إليّ أبو طاهر علي بن الحسين عزّ الأستاذين من بعض أسفاره: من علامات المؤانسة، ودلالات المجالسة، التكاتب في السفر، والتزاور في الحضر، وأنت بهما حريّ، ومنهما عمر الله بريّ:
ولو كنت أدري أن ذا البين كائن ... لعاصيت عذالي وخالفت نصّاحي
وما كنت أعطي البين صفقة بائع ... ولو أن إدراك المنى بعض أرباحي
قضاء من الرحمن ما اسطعت ردّه ... وليس لأمر خطّه الله من ماح
قال أبو الحسن: كنت أكاثر أبا الفرج عبد الواحد بن نصر الببغا وأزوره دائما مع القاضي أبي محمد أخي رحمه الله، فتأخرنا عنه لشغل عرض لنا، وكتب إلينا:
ذخرت أبي نصرا لحظّ أناله ... فبلغني أقصى المنى ببني نصر
وجدتهم الذخر القديم ولم أكن ... عملت بأن الذخر يعزى إلى الدهر
واستمر بنا الابطاء عنه فكتب إلينا رقعة أولها:
بني علي بن نصر ... دعاء باسط عذر
أسرفتم في وصالي ... وليس يحسن هجري
إن رأيتما- جعلت فداءكما- أن تبرئا رمد طرفي بالنظر إليكما فعلتما، فحضرناه، وقلت له: يا سيدي، ذكرتني لعمرك هذه أبيات أبي فراس التي كتب بها من الأسر إلى ولدي سيف الدولة «1» :(5/1954)
يا سيديّ أراكما ... لا تذكران أخاكما
أوجدتما بدلا به ... يبني سماء علاكما
فقال لي: أحسنت، والله لقد كتبت الرقعة والأبيات في ذكري.
[822]
علي بن محمد بن حبيب الماوردي البصري
يكنى أبا الحسن ويلقب أقضى القضاه لقب به في سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وجرى من الفقهاء كأبي الطيب الطبري والصيمري إنكار لهذه التسمية وقالوا: لا يجوز أن يسمّى به أحد، هذا بعد أن كتبوا خطوطهم بجواز تلقيب جلال الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بملك الملوك الأعظم، فلم يلتفت إليهم واستمر له هذا «1» اللقب إلى أن مات، ثم تلقب به القضاة إلى أيامنا هذه، وشرط الملقب بهذا اللقب أن يكون دون منزلة من تلقب بقاضي القضاة على سبيل الاصطلاح، وإلا فالأولى أن يكون أقضى القضاة أعلى منزلة. ومات الماوردي «2» في سنة خمسين وأربعمائة، وكان عالما بارعا متفننا شافعيّا في الفروع ومعتزليا في الأصول على ما بلغني والله أعلم. وكان ذا منزلة من ملوك بني بويه يرسلونه في التوسطات بينهم وبين من يناوئهم، ويرتضون بوساطته، ويقنعون «3»
__________
(822) - ترجمة الماوردي في: طبقات الشيرازي: 131 وتاريخ بغداد 12: 102 والمنتظم 8: 199 والأنساب واللباب (الماوردي) وابن خلكان 3: 282 وسير الذهبي 18: 64 وعبر الذهبي 3: 223 وميزان الاعتدال 3: 155 ومرآة الجنان 3: 72 وطبقات السبكي 5: 267 وطبقات الأسنوي 2: 387 والبداية والنهاية 12: 80 ولسان الميزان 4: 260 والنجوم الزاهرة 5: 64 وطبقات المفسرين للسيوطي: 25 وطبقات الداودي 1: 423 وطبقات ابن هداية الله: 151 والشذرات 3: 285؛ (وقد وقعت ترجمة الماوردي في ك بعد عدة تراجم تالية) . وكتابه «الأحكام السلطانية» ، طبع مرّات. وكذلك كتاب قوانين الوزارة آخرها بتحقيق العالم الصديق الدكتور رضوان السيد، بيروت 1979، وأدب الدنيا والدين بعناية أستاذنا مصطفى السقا رحمه الله ط/ 4: 1978.(5/1955)
بتقريراته. قرأت في «كتاب سرّ السرور» لمحمود النيسابوري هذين البيتين منسوبين إلى الماوردي هذا:
وفي الجهل قبل الموت موت لأهله ... فأجسادهم دون القبور قبور
وإنّ امرءا لم يحي بالعلم صدره ... فليس له حتى النشور نشور
حدث محمد بن عبد الملك الهمذاني، حدثني أبي قال: سمعت الماوردي يقول: بسطت الفقه في أربعة آلاف ورقة، واختصرته في أربعين، يريد بالمبسوط «كتاب الحاوي» وبالمختصر «كتاب الاقناع» قال: وعلّق عليه، أي الحاوي «1» ودرس مكانه خمس سنين. قال: ولم أر أوقر منه، لم أسمع منه مضحكة قط، ولا رأيت ذراعه منذ صحبته إلى أن فارق الدنيا.
قلت: وله تصانيف حسان في كلّ فن منها: كتاب تفسير القرآن. وكتاب الأحكام السلطانية. وكتاب في النحو رأيته في حجم الايضاح أو أكبر. وكتاب قوانين الوزارة. وكتاب تعجيل النصر «2» وتسهيل الظفر.
قرأت في مجموع لبعض أهل البصرة: تقدم القادر بالله إلى أربعة من أئمة المسلمين في أيامه في المذاهب الأربعة أن يصنّف له كلّ واحد منهم مختصرا على مذهبه فصنف له الماوردي «كتاب الاقناع» ، وصنف له أبو الحسين القدوري مختصره المعروف على مذهب أبي حنيفة، وصنف له القاضي أبو محمد عبد الوهاب بن محمد بن نصر المالكي مختصرا آخر، ولا أدري من صنّف له على مذهب أحمد، وعرضت عليه فخرج الخادم إلى أقضى القضاة الماوردي وقال له: أمير المؤمنين يقول لك «3» حفظ الله عليك دينك كما حفظت علينا ديننا.
ومن هذا المجموع: كان أقضى القضاة رحمه الله قد سلك طريقة في ذوي الأرحام يورث القريب والبعيد بالسوية، وهو مذهب بعض المتقدمين، فجاءه يوما(5/1956)
السينيزي في أصحاب القماقم فصعد إليه المسجد وصلّى ركعتين والتفت إليه فقال له: أيها الشيخ اتبع ولا تبتدع، فقال: بل أجتهد ولا أقلد، فلبس نعله وانصرف.
[823]
علي بن محمد بن محمد بن الحسن بن دينار
الديناري النحوي، أبو الحسن: من ولد دينار بن عبد الله، قال ابن طاهر المقدسي: مات سنة ثلاث وستين وأربعمائة وأبوه أبو الفتح محمد من أهل العلم والحديث.
[824]
علي بن محمد أبو الحسن الأهوازي النحوي
الأديب: رأيت له كتابا في علل العروض نحو عشر كراريس ضيقة الخط جيدا في بابه غاية، ولا أعرف من حاله غير هذا.
[825]
علي بن محمد الوزان النحوي الحلبي أبو الحسن:
سمع منه أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، وأظنه كان في أيام سيف الدولة بن حمدان، وله كتاب في العروض.
[826]
علي بن محمد بن السيد النحوي البطليوسي
أبو الحسن، ويعرف بالخيطال، وهو أخو أبي محمد عبد الله بن السيد النحوي، روى عن أبي بكر ابن
__________
(823) - ترجمة الديناري في الأنساب 5: 453 والوافي 22: 132 وجعل وفاته: 473 وبغية الوعاة 2: 198.
(824) - الوافي 22: 164 (عن ياقوت) وبغية الوعاة 2: 203.
(825) - الوافي 22: 166 (عن ياقوت) وبغية الوعاة 2: 205.
(826) - الصلة: 400 والوافي 22: 164 عن ياقوت دون تصريح بذلك وإنباه الرواة 2: 307 وبغية الوعاة 2: 189.(5/1957)
الغراب وأبي عبد الله محمد بن يونس وغيرهما. أخذ عنه أخوه أبو محمد كثيرا من كتب الآداب وغيرها، وكان مقدما في علم اللغة وحفظها وضبطها، ومات بقلعة رباح معتقلا من قبل ابن عكاشة قائدها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
[827]
علي بن محمد الأخفش النحوي:
لم أجد ذكره إلا على «كتاب الفصيح» بخط علي بن عبد الله بن أخي الشبيه العلوي ما صورته: حذق عليّ هذا الكتاب وهو كتاب الفصيح أبو القاسم سليمان بن المبارك الخاصة الشرفي- أدام الله أيامه- من أوله إلى آخره قراءة فهم وتصحيح، وقرأت أنا على عليّ بن عميرة، رحمه الله، في محلة باب البصرة ببغداد عند المسجد الجامع الكبير، وقرأ هو على أبي بكر ابن مقسم النحوي عن أبي العباس ثعلب رحمه الله، وكتب علي بن محمد الأخفش النحوي سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة عربية «1» .
[828] علي بن محمد بن ابراهيم بن عبد الله القهندزي أبو الحسن الضرير النحوي الأديب النيسابوري: من أصحاب أبي عبد الله، شيخ فاضل من الأدباء، سمع الحديث من أبي العباس المناسكي المحاملي وغيره، وسمع منه الناس، وقرأ عليه الأئمة وتخرجوا به، قال ذلك عبد الغافر في «السياق» قرأ عليه أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي وعدّه في أعيان مشايخه، وقال الواحدي: وكان من أبرع أهل زمانه.
__________
(827) - الخريدة (قسم مصر) 1: 238 والوافي 22: 165 (عن ياقوت) وبغية الوعاة 2: 202.
(828) - بغية الوعاة 2: 186 والوافي (خ) ونكت الهميان: 215 ولم يرد في المنتخب من السياق.(5/1958)
[829] علي بن محمد السعيدي البياري الأستاذ الأديب أبو الحسن: رجل فاضل من أهل بيت الفضل والأدب، وأما سماع الحديث فقلما يخلو عنه أهل الفضل، قاله عبد الغافر.
[830] علي بن محمد بن علي بن منصور الحوزي «1» أبو الحسن الأديب بن الأديب السقاء: رجل فاضل شاعر كاتب، وسمع الحديث من متأخري الطبقة الثانية ثم من مشايخنا، ومات كهلا في الثاني من شهر ربيع الأول سنة سبع وتسعين وأربعمائة، قال ذلك عبد الغافر.
[831] علي بن محمد بن أرسلان بن محمد الكاتب أبو الحسن بن أبي علي المنتجب، من أهل مرو، كاتب مليح الخط فصيح العبارة، وله شعر وترسل وبلاغة في غاية الحسن. سافر إلى العراق وجال في بلاده، ولعله ما رأى مثل نفسه في فنه، سمع بمرو أبا علي إسماعيل بن أحمد بن الحسين البيهقي وغيره. قال أبو سعد:
اجتمعت معه ببغداد بالمقتدية وكتب لي شيئا من شعره، وكان حفظة يسمع أربعين بيتا فيحفظها، اجتمعت فيه أسباب المنادمة والكتابة وصحبة الملوك، له هذا البيت الفرد:
وأما الحشا منّي فاني امتحنتها ... وأدنيت منها الجمر فاحترق الجمر
__________
(829) - لم يرد في المنتخب من السياق.
(830) - ترجمة الحوزي في المنتخب من السياق 70 أ، 115 ب والوافي 22: 85 (عن ياقوت) .
(831) - تأخرت هذه الترجمة عن موضعها في ك فجاءت تالية لترجمة الفصيحي (رقم: 834) .(5/1959)
وله:
إذا المرء لم تغن العفاة صلاته ... ولم يرغم القوم العدى سطواته
ولم يرض في الدنيا صديقا ولم يكن ... شفيعا له في الحشر منه نجاته
فإن شاء فليهلك وإن شاء فليعش ... فسيّان عندي موته وحياته
قتل في الوقعة الخوارزمشاهية بمرو في ربيع الأول سنة ست وثلاثين وخمسمائة وله كتاب «تعلة المشتاق إلى ساكني العراق» .
وكان أبوه «1» محمد بن أرسلان أيضا من الفضلاء النبلاء، وله شعر ورسائل، ومدحه الزمخشري ورثاه، وكان يلقب منتجب الملك، فلا أدري أهذا تلقب بلقب أبيه أم يعرف بابن المنتجب. وذكر في «تاريخ خوارزم» أن منتجب الملك محمد بن أرسلان مات في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة أو قريبا منها، وذكر الزمخشري في «2» شرح مقاماته «3» أنشدني الكبير المنتجب أبو علي محمد بن أرسلان لنفسه بيتا لو وقع في شعر المتقدمين لسيرته الرواة وخلدته الأئمة في كتبهم، وكم من أخوات له ضيّعت بضياع الأدب وقلة النّقلة واتضاع الهمم وتراجع الأمور على أعقابها:
وبرداه مسجوران مثل هجيره ... كأن ليس فيه بكرة وأصيل
قال وما أظن البردين وقعا مثل هذا الموقع منذ نطق بهما واضع العربية. ومن شعر منتجب الملك محمد بن أرسلان:
قل للمليحة في الخمار الأحمر ... لا تجهري بدمائنا وتستري
مكّنت من حبّ القلوب ولاية ... فملكتها بتعسف وتجبر
إن تنصفي فلك القلوب رعية ... أو تمنعي حقا فمن ذا يجتري
سخّرتني وسحرتني بنوافث ... فترفّقي بمسخّر ومسحّر(5/1960)
[832]
علي بن محمد بن علي بن أحمد بن هارون «1»
العمراني الخوارزمي، أبو الحسن الأديب ابن الأديب «2» : يلقب حجة الأفاضل وفخر المشايخ مات فيما يقارب سنة ستين وخمسمائة، ذكره أبو محمد ابن أرسلان في «تاريخ خوارزم» ومن خطه نقلت فقال: العمراني حجة الأفاضل، سيد الأدباء، قدوة مشايخ الفضلاء، المحيط بأسرار الأدب، والمطلع على غوامض كلام العرب، قرأ الأدب على فخر خوارزم محمود بن عمر الزمخشري، فصار أكبر أصحابه، وأوفرهم حظا من غرائب آدابه، لا يشقّ غباره في حسن الخط واللفظ، ولا يمسح عذاره في كثرة السماع والحفظ، سمع الحديث من فخر خوارزم والامام عمر الترجماني «3» ولد الامام أبي الحسن علي بن أحمد المخي «4» والامام الحسن بن سليمان الخجندي والقاضي عبد الواحد الباقرحي وغيرهم. وكان ولوعا بالسماع كتوبا، وجعل في آخر عمره أيامه مقصورة وأوقاته موقوفة على نشر العلم وإفادته لطالبيه وإفاضته على الراغبين فيه، فحول العلماء يرجعون إليه ويقرأون عليه، ويفزعون في حلّ المشكلات وشرح المعضلات إليه، وهو مع العلم الغزير والفضل الكثير علم في الدين والصلاح المتين، وإنه في الزهادة والسداد وحسن الاعتقاد أطهر أقرانه ذيلا من العيوب، وأنقاهم جيبا عن اقتراف الذنوب، وكان يذهب مذهب الرأي والعدل، وله شعر حسن، فمن قوله في صباه في مدح رسول الله صلّى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يعارض قصيدة كعب بن زهير:
__________
(832) - ترجمة العمراني في الأنساب 9: 53 واللباب 2: 357 ومعجم الألقاب 3: 257 والجواهر المضية 1: 378 والوافي 22: 94 وبغية الوعاة 2: 195 وطبقات الداودي 1: 430.(5/1961)
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
قال: كتبتها من خطه «1»
أضاء برق وسجف الليل مسدول ... كما يهّز اليماني وهو مصقول
فهاج وجدي بسعدى وهي نائية ... عنّي وقلبي بالأشواق متبول
لم يبق لي مذ تولى الظعن باكرة ... صبر ولم يبق لي قلب ومعقول
مهما تذكرتها فاض الجمان على ... خدّي حتى نجاد السيف مبلول
ما أنس لا أنس إذ تجلو عوارضها ... والجفن بالاثمد الهنديّ مكحول
ظمأى الموشح ريان مخلخلها ... عبل مؤزّرها والمتن مجدول
كأنما هي إذ ترخي ذوائبها ... بدر عليها رواق الليل مسدول
كأنما ثغرها درّ إذا ابتسمت ... وريقها سحرا بالراح معلول
يا حبذا زمن فيه نسرّ بها ... والشعب ملتئم والحبل موصول
ومنها في مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم:
هدى إلى دين إبراهيم أمّته ... وكلهم بعقال الشرك معقول «2»
وكلّ أصحابه أهوى وأمنحهم ... ودّي ومبغضهم في الدين مدخول
وصاحب المصطفى في الغار يتبعه «3» ... وهو الذي ماله في الله مبذول
وتلوه عمر الفاروق أزهر إن ... رآه إبليس ولّى وهو مخذول
وأقتدي بابن عفّان الذي فريت ... أوداجه وهو بالقرآن مشغول
وبالوصيّ ابن عم المصطفى فله ... مناقب جمة في شرحها طول
وإنّ أقضاهم قد كان أفضلهم ... فانظر فذا عن رسول الله منقول
محبتي لهم ديني ومعتقدي ... فإن أزغ عنهم غالتني الغول(5/1962)
ولهذا الامام أشعار من هذا النمط، ترك الكاغد أبيض خير من تسويده بها.
وله تصانيف حسان منها: كتاب المواضع والبلدان. وكتاب في تفسير القرآن.
وكتاب اشتقاق الأسماء.
ومن شعره الذي أورده لنفسه في «كتاب البلدان» :
رأيتك تدّعي علم العروض ... كأنك لست منها في عروض
فكم تزري بشعر مستقيم ... صحيح في موازين العروض
كأنك لم تحط مذ كنت علما ... بمخبون الضروب ولا العروض
[833]
علي بن محمد أبو الحسن السخاوي:
وسخا قرية من قرى مصر، كان مبدأه الاشتغال بالفقه على مذهب مالك بمصر ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وسكن بمسجد بالقرافة يؤمّ فيه مدة طويلة، فلما وصل الشيخ أبو القاسم الشاطبي إلى تلك الديار واشتهر أمره لازمه مدة، وقرأ عليه القرآن بالروايات، وتلقف منه قصيدته المشهورة في القراءات، وكان يعلّم أولاد الأمير ابن موسك، وانتقل معه إلى دمشق، واشتهر بها بعلم القرآن، وعاود قراءة القرآن على تاج الدين أبي اليمن الكندي ولازمه، وقرأ عليه جملة وافرة من سماعاته في الأدب وغيره، وصار له حلقة بالجامع بدمشق، وتردّد إليه الناس للتأدّب، وشرع في التصنيف فله: كتاب الوحيد في شرح القصيد، يريد قصيدة الشاطبي، وبسط القول وطوّل «1» في مجلدتين. كتاب شرح المفصل. كتاب في تفسير القرآن. وكتبت هذه الترجمة في سنة تسع عشرة وستمائة وهو بدمشق كهل يحيا.
__________
(833) - ترجمته في معجم البلدان (ش) وانباه الرواة 2: 311 والبداية والنهاية 13: 170 وطبقات السبكي 8: 297 وتذكرة الحفاظ: 1432 وحسن المحاضرة 1: 412 ومرآة الزمان 8: 758 وابن خلكان 3: 27 (وفي حاشية طبقات السبكي ذكر لمصادر أخرى) .(5/1963)
[834]
علي بن محمد بن علي الفصيحي أبو الحسن
من أهل استراباذ، وهي مدينة من طبرستان ورأس قصبتها، قرأ النحو على عبد القاهر الجرجاني، وأخذ عنه أبو نزار النحوي والحيص بيص الشاعر، ومات فيما ذكره السلفي الحافظ يوم الأربعاء ثالث عشر ذي الحجة سنة ست عشرة وخمسمائة، وقدم بغداد واستوطنها إلى حين وفاته، ودرّس النحو بالنظامية بعد الشيخ أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي، ثم اتهم بالتشيع فقيل له في ذلك فقال: لا أجحد، أنا متشيع من الفرق إلى القدم، فأخرج من النظامية ورتّب مكانه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر الجواليقي، فكان المتعلمون يقصدون داره التي انتقل إليها للقراءة عليه، فقال لهم يوما: داري بكرى وخبزي بشرى، وقد جئتم تدحرجون إليّ، اذهبوا إلى من عزلنا به.
وسمي بالفصيحي لكثرة دراسته «كتاب الفصيح» لثعلب وصار له به أنس حتى انه دخل يوما على مريض يعوده فقال «شفاه» وسبق على لسانه: «وأرخيت الستر» لاعتياده كثرة إعادته «1» .
وقد روى الفصيحي عن أبي الحسن الخطيب الأقطع إنشادا، سمعه منه ابن سلفة الاصفهاني الحافظ ببغداد وقال: جالسته وسألته عن أحرف من العربية، وروى عنه في مشيخة بغداد، وهو الذي عرفنا أن اسم أبيه «2» محمد وإلا فلا يعرف إلا بعلي بن أبي زيد الفصيحي فقط.
__________
(834) - ترجمة الفصيحي في نزهة الألباء: 274 وإنباه الرواة 2: 306 وابن خلكان 3: 337 والوافي 22:
85 (وفيه اطلاع على معجم الأدباء ونقل عنه) وعيون التواريخ 12: 153 والبلغة: 163 وبغية الوعاة 2: 197 والشذرات 5: 70 وإشارة التعيين: 227.(5/1964)
قرأت في «كتاب سرعة الجواب ومداعبة الأحباب» تصنيف الحسن بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل بخطّه، أنشدني الشيخ الامام أبو الحسن علي بن أبي زيد الفصيحي وقد عاتبته على الوحدة فقال:
الله أحمد شاكرا ... فبلاؤه حسن جميل
أصبحت مستورا معا ... فى بين أنعمه أجول
خلوا من الأحزان خ ... فّ الظهر يقنعني القليل
حرا فلا منّ لمخ ... لوق عليّ ولا سبيل
لم يشقني حرص على ال ... دنيا ولا أمل طويل
سيان عندي ذو الغنى ال ... متلاف والرجل البخيل
ونفيت باليأس المنى ... عني فطاب «1» لي المقيل
والناس كلهم لمن ... خفّت مؤونته خليل
ومن كتابه أنشدنا الامام أبو الحسن علي بن أبي زيد في «المذاكرة» وقد رقي إليه كلام قبيح عن بعض أصدقائه، فقال مستشهدا:
إني إذا ما الخليل أحدث لي ... صرما وملّ الصفاء أو قطعا
لا أحتسي ماءه على رنق ... ولا يراني لبينه جزعا
أهجره ثم تنقضي غير ال ... هجران عنا ولم أقل قذعا
احذر وصال اللئيم إنّ له ... عضها إذا حبل ودّه انقطعا
وقرأت بخط الشيخ أبي محمد ابن الخشاب، قال الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد، وقد جرى ذكر الشيخ أبي الحسن بن أبي زيد الاستراباذي المعروف بالفصيحي صاحب عبد القاهر الجرجاني رحمهم الله، قال لي الشيخ أبو زكريا يحيى بن علي بن الخطيب التبريزي رحمه الله إنه حضر معه- أعني الفصيحي-(5/1965)
حلقة تباع فيها الكتب، فنودي «1» على كتاب فيه شيء من مصنفات أبي طالب المفضل بن سلمة بن عاصم ورّاق الفراء وعليه اسم المفضل منسوبا إلى النحو فقيل النحوي، فأخذه الفصيحي وناولنيه (يقوله أبو زكريا) وقال لي كالمستهزىء النحوي، أي قد نسبته «2» إلى النحو وهو عنده مقصر أي لا يستحق هذا الوصف قال فقلت:
تكون أنت نحويا ولا يكون المفضل منسوبا إلى النحو «3» ؟ قال الشيخ أبو محمد: لا شبهة في أن الذي حمل الفصيحيّ على الغضّ بهذا القول من المفضل أنه قد وقف على شيء من كلامه في بعض مصنفاته مما يتسمّح به أهل الكوفة مما يراه أهل البصرة خطأ أو كالخطأ، وذاك مما لا يحتمله الفصيحي ولا شيخه عبد القاهر ولا شيخه ابن عبد الوارث أبو الحسين فيغضوا عليه، لأن طريقتهم التي يسلكونها في الصناعة منحرفة عن طريقة المفضل ومن جرى في أسلوبه كلّ الانحراف.
قال الشيخ أبو محمد ابن الخشاب: وعلى أنني قرأت بخط المفضّل في كتابه الذي سماه «البارع» في الرد على كتاب العين في اللغة أشياء تدل على قصوره في الصناعة وضعفه «4» في قياسها، منها أنه ذكر الحروف التي جاءت لمعان بعد أن ذكر أبنية الكلام فقال: والحدّ الثالث من الكلام الأدوات «5» ، وهي التي يسميها أهل البصرة حروف المعاني، فمنها ما هو على ثلاثة أحرف نحو إنّ وليت وكيف وأين، فعدّ كما ترى كيف وأين في حروف المعاني، وذا سهل عندهم. ثم قال: ومنها ما هو على أربعة أحرف نحو حاشا ولولا، ومنها ما هو على خمسة أحرف نحو ما خلا وما عدا، وجعله الحرفين مع ما واحدا وعدّه لهما فيما بني من أصول الكلم على خمسة أحرف من أفحش الخطأ وأنزله، ولو وفق لذكر «لاكنّ» ومثّل بها فليس في حروف المعاني ما هو على خمسة أحرف سوى لاكنّ. ومرت بي فيما قرأته بخطه أشياء غير هذا تجري في التسمح مجراه.
قرأت بخط الشيخ أبي محمد ابن الخشاب: كان أبو الحسن علي بن أبي زيد(5/1966)
الاستراباذي المعروف بالفصيحي رحمه الله يقول في الشجة التي تعرف عندهم بالمنقلة، وهي التي تنقل منها العظام، إنها المنقلة بكسر القاف، ويرى كونها على صيغة الفاعل لا المفعول هو الوجه لا يجيز غيره، ويقول الشجاج كلّها إنما جاءت على صيغة الفاعل كالحارصة والدامية والدامعة والدامغة والباضعة والمتلاحمة والموضحة والمفرشة وأشباههن، قال وكذا ينبغي أن تكون المنقلة بكسر القاف، وكأنها عنده رواية عضدها قياس. قال: وكان شيخنا موهوب بن أحمد رضي الله عنه ينكر «1» ذلك عليه ويعده تصحيفا، ويضبط اللفظة بفتح القاف على أنها صيغة مفعول ويكتب فوق القاف ما هذه صورته (فتح) ويقول: أيّ قياس مع الرواية؟ هذا وهي تنقل منها العظام فيتعلق أيضا بالتفسير، ولعمري إن الأشهر فيها الفتح، وهكذا ذكره أبو عبيد وابن السكيت عن الأصمعي قال: ثم المنقلة وهي التي يخرج منها العظام «2» ؛ وكان شيخنا موهوب رحمه الله يرى الكسر في قاف المنقلة تصحيفا محضا لا وجه له، على أن أبا محمد ابن درستويه قد حكى عنه الكسر كما قال الفصيحي.
قال: وقرأت بخط العبدري وأخبرني به في كتابه قال: سمعت محمد بن العالي اللغوي يقول: رويت بالوجهين جميعا. وحكى العبدريّ الكسر عن ابن درستويه أيضا، ولست أدري هل تعلق الفصيحي فيما ذهب إليه بقول ابن درستويه أو غيره ممن لعله حكى الكسر أم لا، وهل رغب شيخنا موهوب عن الكسر بعد أن علم أنه قد حكي ولم يعتدّ بمكانة من حكاه أم لا، والأشبه أنه لا يكون بلغه فإنه قلّما كان يدفع قولا لمتقدم ولو ضعف. وأنا أقول إن النزاع في هذه اللفظة وشبهها المرجع فيه إلى محض الرواية عنهم، والمعوّل في ذاك على ما يضبطه الأثبات فيها، وقد قدمت من المشهور فيها الفتح كما قال شيخنا موهوب، ولا حجة له في أنهم فسروها بأنها تخرج منها العظام وتنقل فإنا لو خلّينا وهذا الحجاج ووكلنا في إثبات لغة الفتح إليه لكان للخصم أن يقول إن الشجة وهي الضربة التي أدت إلى نقل العظام فهي المنقلة لأنها حملت على النقل، ولا حجة لشيخنا الفصيحي أيضا مع اشتهار الفتح فيها في حمله(5/1967)
إياها على الفاعل من نظائرها لأنهم قالوا في الآمة المأمومة، كما قال يصف ضربة «1» :
يحجّ مأمومة في قعرها لجف ... فاست الطبيب قذاها كالمغاريد «2»
على أنه يمكن أن يتأول المأمومة على معنى يحجّ هامة مأمومة، وقد قالوا في المشجوج نفسه مأموم وأميم، والظاهر أنه أراد الشجة، وقد جاء في الشجاج ما ليس على صيغة فاعل ولا مفعول كالسمحاق، فهل هذه إلا محض رواية في التسمية، وإن كان منقولا فاعرف ما قال شيخانا رحمهما الله وقلناه ومن الله عز وجل نستمد التوفيق.
ومن خط ابن المتوكل: حدثني الشيخ الامام الفصيحي قال: رأيت بعض الموسومين في المارستان «3» وفي إبهامه أثر الحناء دون أصابعه فقلت له: ما معنى الحناء في الابهام دون سائر الأصابع؟ فأنشدني:
وخاضبة إبهامها دون غيره ... رأتني وقد أعيا عليّ تصبري
فقلت لها الابهام ما اسم خضابه ... فقالت يسمى عضّة المتفكر
[835]
علي بن محمد بن محمد بن علي بن السكون
الحلي أبو الحسن: من حلة بني مزيد بأرض بابل، كان عارفا بالنحو واللغة حسن الفهم جيد النقل حريصا على تصحيح الكتب، لم يضع قط في طرسه إلا ما وعاه قلبه وفهمه لبه، وكان يجيد قول الشعر. وحكى لي عنه الفصيح بن علي الشاعر أنه كان نصيريا قال لي: ومات في حدود سنة ستمائة، وله تصانيف.
__________
(835) - الجامع المختصر 9: 306 والوافي 22: 132 (وكنيته أبو الحسين) وبغية الوعاة 2: 199.(5/1968)
[836]
علي بن محمد بن يوسف بن خروف
«1» الأندلسي الرندي النحوي: مشهور في بلاده مذكور بالعلم والفهم. مات فيما أخبرني به الفقيه شمس الدين أبو إسحاق إبراهيم بن يوسف الغماري، قبيلة، في سنة ست وستمائة باشبيلية عن خمس وثمانين سنة وكان قد تغير عقله بأخرة «2» حتى مشى في الأسواق مكشوف الرأس «3» والعورة. وأخذ النحو عن الأستاذ أبي بكر ابن طاهر «4» المعروف بالخدبّ صاحب الحواشي على كتاب سيبويه بمدينة فاس «5» . وكان ابن خروف خياطا إذا اكتسب منها شيئا قسم ما يحصل له نصفين بينه وبين أستاذه، وكان في خلقه زعارة وسوء عشرة، ولم يتزوج قط، وكان يسكن الخانات. قال: وحدثني ببدء اشتغاله أبو القاسم عبد الرحمن بن يخلف السلاوي (مدينة بالعدوة من المغرب) قال إنه أول يوم دخل على ابن طاهر شكا إليه الفقر وقال إنك لتأخذ مني أكثر مما تأخذ من الأعيان فقال: شرّك أعظم من شرّهم عليّ في المجلس، وكان يأمرني بنقل الماء إلى المسجد إذا احتاج الى استعماله فأقول له في ذلك فيقول: لا أحب أن تجلس بغير شغل، ولم يتخذ بلدا موطنا بل كان ينتقل
__________
(836) - إنباه الرواة 4: 186 والتكملة رقم: 1884 وبرنامج شيوخ الرعيني: 81 وابن خلكان 3: 335 والذيل والتكملة 5: 319 (وفيه وفي برنامج الرعيني تفصيلات دقيقة) وصلة الصلة: 122 والبدر السافر:
28 ب وتذكرة الحفاظ: 1390 ومرآة الجنان 4: 21 والبداية والنهاية 13: 53 والبلغة: 164 ولسان الميزان 4: 257 ووفيات ابن قنفذ: 304 وحاشية على شرح بانت سعاد 1: 629؛ قلت: وقد خلطت بعض المصادر بين ابن خروف النحوي وابن خروف الشاعر الذي هاجر من الأندلس وسكن حلب واسم الشاعر علي بن محمد بن يوسف وعلى هذا يقتضي تغيير ما أورده ياقوت في نسب ابن خروف النحوي، فهو علي بن محمد بن علي بن محمد بن خروف الحضرمي، إلا أن مادة الترجمة التي أوردها ياقوت سليمة لا خلط فيها (ومن المصادر التي خلطت بينهما الفوات والوافي وبغية الوعاة وابن الساعي) وقد نبهت على ذلك في حاشية الفوات 3: 84، وكذلك في حاشية الذيل والتكملة، وانظر أيضا حاشية الوافي 22: 89) .(5/1969)
في البلاد في طلب التجارة. وله تصانيف منها كتاب شرح سيبويه «1» ، حمله إلى صاحب المغرب فأعطاه ألف دينار «2» ، وله كتاب شرح الجمل في مجلد «3» واحد.
[837]
علي بن معقل أبو الحسن:
ذكره الحبال في «كتاب الوفيات» فقال أبو الحسن ابن معقل الأديب الكاتب صاحب أبي علي الفارسي، ولم يذكر اسمه، فكتبته أنا كما ترى بالوهم إلى أن يصحّ، قال: مات في ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
[838]
علي بن المغيرة الأثرم أبو الحسن:
كان صاحب كتب مصححة قد لقي بها العلماء وضبط ما ضمنها، ولم يكن له حفظ، لقي أبا عبيدة والأصمعي وأخذ عنهما.
مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين وهي السنة التي مات فيها الواثق.
وله من الكتب: كتاب النوادر. كتاب غريب الحديث.
وحدث أبو مسحل عبد الوهاب قال: كان إسماعيل بن صبيح الكاتب قد أقدم أبا عبيدة من البصرة في أيام الرشيد إلى بغداد وأحضر الأثرم، وهو يومئذ وراق، وجعله في دار من دوره، وأغلق عليه الباب ودفع اليه كتب أبي عبيدة وأمره بنسخها، فكنت
__________
(837) - من الصعب العثور على ترجمة له، لأنّ اسمه محض تقدير من المؤلف.
(838) - ترجمة الأثرم في مراتب النحويين: 94 ونور القبس: 215 والفهرست: 62 وتاريخ بغداد 12: 107 والأنساب 1: 114 (واللباب 1: 28) ونزهة الألباء: 126 وإنباه الرواة 2: 319 والوافي 22: 214 والنجوم الزاهرة 2: 263 وبغية الوعاة 2: 206.(5/1970)
أنا وجماعة من أصحابنا نصير الى الأثرم فيدفع إلينا الكتاب والورق الأبيض من عنده ويسألنا نسخه وتعجيله، ويوافقنا على الوقت الذي نردّه إليه، فكنا نفعل ذلك، وكان الأثرم يقرأ على أبي عبيدة، وكان أبو عبيدة من أضنّ الناس بكتبه ولو علم ما فعله الأثرم لمنعه من ذلك.
وكان الأثرم يقول الشعر فمن قوله:
كبرت وجاء الشيب والضعف والبلى ... وكل امرىء يبلى إذا عاش ما عشت
أقول وقد جاوزت تسعين حجة ... كأن لم أكن فيها وليدا وقد كنت
وأنكرت لما أن مضى جلّ قوتي ... وتزداد ضعفا قوّتي كلما زدت
كأني إذا أسرعت في المشي واقف ... لقرب خطى ما مسّها قصرا وقت
وصرت أخاف الشيء كان يخافني ... أعدّ من الموتى لضعفي وما مت
وأسهر من برد الفراش ولينه ... وإن كنت بين القوم في مجلس نمت
[839]
علي بن منجب بن سليمان الصيرفي أبو القاسم:
أحد فضلاء المصريين وبلغائهم، مسلّم ذلك له غير منازع فيه، وكان أبوه صيرفيا، واشتهى هو الكتابة فمهر فيها. مات في أيام الصالح بن رزيك بعد خمس وخمسمائة، وقد اشتهر ذكره وعلا شأنه في البلاغة والشعر والخط، فإنه كتب خطا مليحا وسلك فيه طريقة غريبة، واشتغل بكتابة الجيش والخراج مدة، ثم استخدمه الأفضل بن أمير الجيوش وزير المصريين في ديوان المكاتبات ورفع من قدره وشهره، ثم إنه أراد أن يعزل الشيخ ابن أبي أسامة عن ديوان الانشاء ويفرد ابن الصيرفي به، واستشار في ذلك بعض خواصه ومن يأنس به فقال له: إن قدرت أن تفدي ابن أبي أسامة من الموت يوما واحدا بنصف مملكتك فافعل ذلك ولا تخل الدولة منه فإنه جمالها، فأضرب عن ابن الصيرفي، ومات
__________
(839) - ترجمة ابن منجب الصيرفي في أخبار مصر: 87 والمغرب (قسم القاهرة) : 252 والوافي 22: 228 وصبح الأعشى 1: 96 واتعاظ الحنفا 3: 185.(5/1971)
الأفضل وخدم الحافظ المسمى بالخلافة بمصر.
ولابن الصيرفي من التصانيف: كتاب الإشارة فيمن نال رتبة الوزارة «1» . كتاب عمدة المحادثة. كتاب عقائل الفضائل. كتاب استنزال الرحمة. كتاب منائح القرائح. كتاب رد المظالم. كتاب لمح الملح. كتاب في السكر «2» وله غير ذلك من التصانيف وله اختيارات كثيرة لدواوين الشعراء كديوان ابن السراج وأبي العلاء المعري وغيرهما «3» .
ومن شعره قوله:
لما غدوت مليك الأرض أفضل من ... جلّت مفاخره عن كلّ إطراء
تغايرت أدوات النطق فيك على ... ما يصنع الناس من نظم وإنشاء
وله:
لا يبلغ الغاية القصوى بهمته ... إلا أخو الحرب والجرد السلاهيب
يطوي حشاه إذا ما الليل عانقه ... على وشيج من الخطيّ مخضوب
وله:
هذي مناقب قد أغناه أيسرها ... عن الذي شرعت آباؤه الأول
قد جاوزت مطلع الجوزاء وارتفعت ... بحيث ينحطّ عنها الحوت والحمل
ولابن الصيرفي رسائل أنشأها عن ملوك مصر تزيد على أربع مجلدات.(5/1972)
[840]
علي بن منصور بن عبيد الله الخطيبي
المعروف بالأجل اللغوي، يكنى أبا علي، الأصبهاني الأصل بغدادي المولد والمنشأ: عالم فاضل لغوي فقيه كاتب مقيم بالنظامية، قرأ على ابن العصار وأبي البركات الأنباري وغيرهما، وتفقه على مذهب الشافعي بالنظامية، ولا أعلم له في زمانه نظيرا في علم اللغة، فإنه حدثني أنه كان في صباه يكتب كل يوم نصف جزء خمس قوائم من «كتاب مجمل اللغة» لابن فارس ويحفظه ويقرأه على علي بن عبد الرحيم السلمي المعروف بابن العصار، حتى أنهى الكتاب حفظا وكتابة، وحفظ «إصلاح المنطق» في أيسر مدة، وحفظ غير ذلك من كتب اللغة والفقه والنحو، وطالع أكثر كتب الأدب، وهو حفظة لكثير من الأشعار والأخبار ممتع المحاضرة، إلا أنه لا يتصدّى للاقراء، ولقد سألته في ذلك وخضعت إليه بكلّ وجه فلم ينقد لذلك، ولا يكاد أحد يراه جالسا، إنما هو في جميع أوقاته قائم على رجليه في النظامية، ولو جلس للاقراء لأحيا علوم الأدب ولضربت إليه آباط الإبل في الطلب. بلغني أن مولده سنة سبع وأربعين وخمسمائة. أنشدني أبو الحسن علي بن الحسين بن علي السنجاري يعرف بابن ذنابة، قال أنشدني الأجل علي بن منصور اللغوي لنفسه:
فؤاد معنّى بالعيون الفواتر ... وصبوة باد مغرم بالحواضر
سميران ذادا عن جفون متّيم ... كراها وباتا عنده شرّ سامر
وأنشدني قال أنشدني لنفسه:
لمن غزال بأعلى رامة سنحا ... فعاود القلب سكر كان منه صحا
مقسّم بين أضداد فطرّته ... جنح وغرّته في الجنح ضوء ضحى
__________
(840) - ترجمة الخطيبي في إنباه الرواة 2: 321 وطبقات الأسنوي 2: 369 والوافى 22: 235 (وينقل عن ياقوت) وبغية الوعاة 2: 207 وكانت وفاة الخطيبي سنة اثنتين وعشرين وستمائة.(5/1973)
[841]
علي بن منصور بن طالب الحلبي الملقب دوخلة
يعرف بابن القارح «1» :
يكنى أبا الحسن، قال ابن عبد الرحيم: هو شيخ من أهل الأدب شاهدناه ببغداد راوية للأخبار وحافظا لقطعة كبيرة من اللغة والأشعار قؤوما بالنحو، وكان ممن خدم أبا عليّ الفارسي في داره وهو صبي، ثم لازمه وقرأ عليه- على زعمه- جميع كتبه وسماعاته، وكانت معيشته من التعليم بالشام ومصر، وكان يحكي أنه كان مؤدبا لأبي القاسم المغربي الذي وزر ببغداد لقاه الله سيّء أفعاله كذا قال، وله فيه هجو كثير، وكان يذمّه ويعدّد معايبه. وشعره يجري مجرى شعر المعلمين قليل الحلاوة خاليا من الطلاوة، وكان آخر عهدي به بتكريت في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة «2» فإنا كنا مقيمين بها واجتاز بنا وأقام عندنا مدة، ثم توجه إلى الموصل وبلغتني وفاته من بعد، وكان يذكر أن مولده بحلب سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ولم يتزوج ولا أعقب، وجميع ما أورده من شعره مما أنشدنيه لنفسه، فمنه في الشمعة:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي طول ما ألقى وما أتوقّع
نحول وحرق في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع
ومنه في هجو المغربي:
لقبت بالكامل سترا على ... نقصك كالباني على الخصّ
فصرت كالكنف إذا شيدت ... بيّض أعلاهنّ بالجص
يا عرّة الدنيا بلا غرّة ... ويا طويس الشؤم والحرص
قتلت أهليك وأنهبت بي ... ت الله بالموصل تستعصي
__________
(841) - ترجمة ابن القارح في الوافي 22: 233 وبغية الوعاة 2: 207 ورسالته الى أبي العلاء التي أثارت «رسالة الغفران» منشورة قبل هذه الثانية (تحقيق الدكتورة بنت الشاطىء/ 1950) ص 17- 64؛ وانظر بغية الطلب لابن العديم 5: 18- 19، 9: 139.(5/1974)
وله في المداعبة:
أين من كان يوضع الأير إجلا ... لا على الرأس عنده ويباس
أين من كان عارفا بمقادي ... ر الأيور الكبار مات الناس
وله:
يا رمحها العسّال بل يا سيفها ال ... قصّال نارك ليس تخبو
يا عاقد المنن الرغاب ... على الرقاب لهن سحب
كفروك ما أوليتهم ... والربّ يشكر ما تربّ
وسئل أن يجيز قول الشاعر:
لعلّ الذي تخشاه يوما به تنجو ... ويأتيك ما ترجوه من حيث لا ترجو
فقال:
فثق بحكيم لا مردّ لحكمه ... فما لك في المقدور دخل ولا خرج
وكان بينه وبين الكسروي مهاترة ومهاجاة ومماظة فمن قوله فيه:
إذا الكسروي بدا مقبلا ... وفي يده ذيل دراعته
وقد لبس العجب مستنوكا ... يتيه ويختال في مشيته
فلا يمنعنّك بأواؤه ... ضراطا يقعقع في لحيته
وله:
الصيمريّ دقيق الفكر في اللقم ... يقول كم عندكم لون وكم وكم
يسعى إلى من يرى إكثاره وكذا ... يراه ذاك وما هذاك من عدم
يلقى الوعيد بما يلقى الحشوش به ... وذاك والله بخل ليس بالأمم
قال وحدثني قال: كنت أؤدب ولدي الحسين بن جوهر القائد بمصر وكانا مختصين بالحاكم وآنسين به، فعملت قصيدة وسألت المسمّى منهما جعفرا وكان من أحسن الناس وجها، ويقال إن الحاكم كان يميل إليه، أن يوصلها ففعل وعرضها عليه، فقال: من هذا؟ فقال: مؤدبي، قال: يعطى الف دينار، واتفق أن المعروف بابن مقشر الطبيب كان حاضرا، فقال لا تثقلوا على خزائن أمير المؤمنين يكفيه(5/1975)
النصف، فأعطيت خمسمائة دينار، وحدثني ابن جوهر بالحديث، وكانت القصيدة على وزن منهوكة أبي نواس أقول فيها:
إن الزمان قد نصر ... بالحاكم الملك الأغرّ
في كفّه عضب ذكر ... فقد غدا على القصر
من غرة على غرر «1» ... يمضي كما يمضي القدر
في سرعة الطرف نظر ... أو السحاب المنهمر
بادر إنفاق البدر ... بدر إذا لاح بهر
وهي طويلة، واتفق أن الطبيب المذكور لحقته بعد هذا بأيام شقفة، وهي التي تسمى التراقي، ويقال لها قملة النسر أيضا، فمات منها وكان نصرانيا فقلت:
لما غدا يستخفّ رضوى ... تيها وكبرا لجحد ربّه
أصماه صرف الردى بسهم ... عاجله قبل وقت نحبه
بشقفة بين منكبيه ... رشاؤها في قليب قلبه
قال عبد الله الفقير اليه مؤلف الكتاب: وعلي بن منصور هذا يعرف بابن القارح، وهو الذي كتب إلى أبي العلاء المعري الرسالة المعروفة برسالة ابن القارح، فأجابه أبو العلاء برسالة الغفران، وذكر اسمه فيها.
[842]
علي بن مهدي بن علي بن مهدي الكسروي
أبو الحسن الأصفهاني معلم ولد أبي السحن علي بن يحيى بن المنجم: أحد الرواة العلماء النحويين الشعراء، مات في أيام بدر المعتضدي على أصبهان. قال حمزة: علي بن مهدي الكسروي وهو ابن
__________
(842) - ترجمة الكسروي في معجم الشعراء: 149 ونور القبس: 338 والفهرست: 167 والوافي 22: 244 وبغية الوعاة 2: 208.(5/1976)
أخت علي بن عاصم بن الحريش، وكان متصلا ببدر المعتضدي، وفي أيامه مات، يعني أيامه على أصبهان، وكان قد ولي أصبهان سنة ثلاث وثمانين ومائتين أيام المعتضد إلى أن ولي ابنه المكتفي سنة تسع وثمانين ومائتين.
قال ابن أبي طاهر: وكان الكسروي أديبا ظريفا حافظا رواية شاعرا عالما ب «كتاب العين» خاصة، وكان يؤدب هارون بن علي بن يحيى النديم واتصل بأبي النجم المعتضدي مولى المعتضد وتوفي في خلافته.
وذكره المرزباني فقال: حدثني علي بن هارون عن أبيه وعمه قالا: كان أبو الحسن علي بن يحيى بن المنجم جالسا يوما وبحضرته من لا يخلو مجلسه منه من الشعراء كأحمد بن أبي طاهر وأحمد بن أبي فنن وأبي علي البصير وأبي هفان المهزمي والهدادي- وهو ابن عمه أي أبي هفان- وابن العلاف وأبي الطريف وأحمد بن أبي كامل خال ولد أبي الحسن وعلي بن مهدي الكسروي، وكان معلم ولده، فأنشد الجماعة بيتا ذكر أنه مر به مفردا فاستحسنه وأحبّ أن يضاف إليه بيت آخر يصل معناه ويزيد في الامتاع به وهو:
ليهنك أني لم أجد لك عائبا ... سوى حاسد والحاسدون كثير
فبدره علي بن مهدي من بين الجماعة وقال:
وأنك مثل الغيث أما وقوعه ... فخصب وأما ماؤه فطهور
فاستحسنه أبو الحسن وضمّه إلى البيت الأول، وكان أبو العنبس «1» ابن حمدون حاضرا فقال له: الصنعة فيهما عليك فطلب عودا وانفرد فصنع فيه رمله المشهور.
وحدث عن الصولي قال: كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي الأصبهاني:
وما نازح بالصين أدنى محلّه ... يقصّر عنه كلّ ماش وطائر
محا اليأس منه كلّ ذكر فلم تكد ... تصوّره للقلب أيدي الخواطر
بأبعد عندي من أناس وإن دنوا ... وما البعد إلا مثل طول التهاجر
ويشغل عني القصف والراح بعضهم ... مباكرها أو ممسيا كمباكر(5/1977)
إذا طار بين العود والناي طيرة ... فليس لإخوان الصفاء بذاكر
قال فأجابه علي بن مهدي:
أيا سيدي عفوا وحسن إقالة ... فلم يحو أقطار العلا مثل غافر
لعمري لو أنّ الصين أدنى محلّتي ... لما كنت إلا غائبا مثل حاضر
ثنائي لكم عمري ومحض مودتي ... تؤثر آثار الغيوث البواكر
وو الله ما استبهجت بعدك مجلسا ... ولا بقيت لذاته في ضمائري
ولست كمن يثنيه أهل صفائه ... سماع الحسان واصطخاب المزاهر
وكيف تناسي سيد لي ثناؤه ... منوط بأحشائي وسمعي وناظري
وحدث عن عبد الله بن يحيى العسكري عن أحمد بن سعيد الدمشقي قال:
كتب عبد الله بن المعتز إلى علي بن مهدي الكسروي «1» :
يا باخلا بكتابه ورسوله ... أأردت تجعل في الفراق فراقا
إن العهود تموت إن لم تحيها ... والنأي يحدث للفتى إخلاقا
قال فكتب إليه علي بن مهدي:
لا والذي أنت أسنى من أمجّده ... عندي وأوفاهم عهدا وميثاقا
ما حلت عن خير ما قد كنت تعهده ... ولا تبدلت بعد النأي أخلاقا
لكن عجزي عن نعماك أفحمني ... فانقدت للعجز مغلوبا ومشتاقا «2»
وحدث عن علي عن عبد الله بن المعتز قال: كتب إليّ علي بن مهدي الكسروي في يوم مهرجان:
نعمت بما تهوى ونلت الذي ترضى ... ولقّيت ما ترجو ووقّيت ما تخشى
ولست بما ألقى من الخير كلّه ... أسرّ وأحظى سيدي بالذي تلقى
ويعلم علّام الخفيّات أنني ... أعدّك ذخرا للممات وللمحيا
وأني لو أهدي على قدر نيتي ... لكان الذي أهديه حظي من الدنيا
وحدث عن العسكري عن ابن سعيد «3» الدمشقي قال: كتب عبد الله بن المعتز(5/1978)
إلى علي بن مهدي «1» :
أبا حسن أنت ابن مهديّ فارس ... فرفقا بنا لست ابن مهديّ هاشم
وأنت أخ في يوم لهو ولذة ... ولست أخا عند الأمور العظائم
فأجابه عليّ:
أيا سيدي إنّ ابن مهديّ فارس ... فداء ومن يهوى لمهديّ هاشم
بلوت أخا في كلّ أمر تحبّه ... ولم تبله عند الأمور العظائم
وانك لو نبّهته لملمة ... لأنساك صولات الأسود الضراغم
قال، وقال محمد بن داود: كان علي بن مهدي يؤدّب، وهو أحد الرواة للأخبار، وهو القائل «2» :
ولما أبي أن يستقيم وصلته ... على حالتيه مكرها غير طائع
حذارا عليه أن يميل بودّه ... فأبلى بقلب لست عنه بنازع
فأصبح كالظمآن يهريق ماءه ... كضوء سراب في المهامه لامع
فلا الماء أبقى للحياة ولا أتى ... على منهل يجدي عليه بنافع
وله:
ومودّع يوم الفراق بلحظه ... شرق من العبرات ما يتكلّم
متقلّب نحو الحبيب بطرفه ... لا يستطيع إشارة فيسلّم
نطق الضمير بما أرادا عنهما ... وكلاهما مما يعاين مفحم
وقال علي بن مهدي يصف العود «3» :
تجري أناملها على ... ذي منطق أعمى بصير
خرس أصمّ ونحن من ... نجواه في دهر قصير
فدم صموت ليس يع ... رف ما القبيل من الدبير(5/1979)
ميت ولكنّ الأك ... فّ تذيقه طعم النشور
وكأنه في حجرها «1» ... طفل تمهّد حجر ظير
تومي إليه بنانها ... فتريك ترجمة الضمير
فترى النفوس معلقات ... منه في بمّ وزير
فإذا لوت آذانه ... جاز الأنين إلى الزفير
قالت له قل مطربا ... «وعظتك واعظة القتير»
فأجابها من حجرها ... «وعلتك أبهة الكبير»
وذكره محمد بن اسحاق النديم فقال: كان مؤدب ولد هارون بن علي بن يحيى بن المنجم، واتصل بعد ذلك بأبي النجم بدر المعتضدي، وكان عارفا بكتاب العين خاصة «2» .
وله من الكتب: كتاب الخصال، وهو مجموع يشتمل على أخبار وحكم وأمثال وأشعار. كتاب مناقضات «3» من زعم أنه لا ينبغي أن يقتدي «4» القضاة في مطاعمهم بالأئمة الخلفاء، وقد عزي هذا الكتاب إلى الكسروي الكاتب والله أعلم «5» . كتاب الأعياد والنواريز. كتاب مراسلات الاخوان ومحاورات الخلان.
وقال الكسروي في ضرطة وهب بن سليمان «6» :
إن وهب بن سليم ... ان بن وهب بن سعيد
حمل الضرط الى الريّ ... على ظهر البريد
في مهمّات أمور ... منه بالركض الشديد
استه تنظق يوم ... الحفل بالأمر الرشيد
لم يجد في القول فاحتاج ... إلى دبر مجيد(5/1980)
ومن «كتاب أصبهان» :
قال هرون بن علي بن يحيى: اجتمعنا مع أبي الفضل أحمد بن أبي طاهر عند علي بن مهدي فلما أردنا الانصراف أنشأ أبو الفضل يقول «1» :
لولا عليّ بن مهديّ وخلّته ... لما اهتدينا إلى ظرف ولا أدب
إذا سقى مترع الكاسات أوهمنا ... بأن غلماننا خير من العرب «2»
[843]
علي بن نصر الجهضمي أبو عمرو النحوي
اللغوي أحد أصحاب الخليل، ذكره الزبيدي فقال، قال ابراهيم بن السري، يعني الزجاج، قال نصر بن علي بن نصر الجهضمي: لما أراد سيبويه أن يؤلف كتابه قال لأبي: تعال نحي علم الخليل،
__________
(843) - ترجمة علي بن نصر الجهضمي في تاريخ خليفة: 493 وطبقات الزبيدي: 75 ومراتب النحويين: 67 وأخبار النحويين البصريين: 49 ونور القبس: 72 والوافي 22: 271 وتهذيب 7: 390 وبغية الوعاة 2: 211 والشذرات 1: 316 وله ترجمة في إنباه الرواة باسم «نصر بن علي» وقد ترجم الذهبي في السير 12: 136 لنصر بن علي الجهضمي الكبير وهو الذي روى عن النضر بن شميل وعبد الله بن غالب الحدّاني، وروى عنه ابنه علي وهذا الثاني توفي سنة 187 أما الذي توفي سنة 250 فهو علي بن نصر بن علي بن نصر (انظر سير الذهبي 138- 140 وفي حواشيه تخريج كثير) .
وفي هذا الذي قاله الذهبي نظر، ذلك لأن النضر بن شميل توفي سنة 203 فلا يمكن أن يروي عنه الجهضمي الكبير، والأقرب أن يكون الراوي عنه هو الابن علي المتوفى سنة 187 (أي أنهما متعاصران) وخير من ذلك أن يكون الراوي عنه هو الذي توفي سنة 250 فذلك أقرب إلى علاقة التلميذ بالأستاذ من الناحية الزمنية. ومع ذلك فالاضطراب قائم في المصادر، وليس القطع فيه سهلا.(5/1981)
ومات [ ... ] .
قال نصر: وسمعت الأخفش يقول: نفذ من أصحاب الخليل أربعة: سيبويه والنضر بن شميل وعلي بن نصر الجهضمي ومؤرج السدوسي.
قال السمعاني: الجهضمي منسوب إلى الجهاضمة، وهي محلة بالبصرة، والمشهور منها أبو عمرو نصر بن علي «1» ، روى عن النضر بن شميل [و] الحداني البصري.
قال المؤلف: والحداني منسوب إلى حدان بن شمس بن عمرو بن غنم بن غالب بن عثمان بن نصر بن الأزد.
عدنا إلى قول السمعاني: قاضي البصرة، من العلماء المتقنين يروي عن ابن عيينة والمعتمر بن سليمان وحاتم بن وردان ونوح بن قيس ويحيى بن سعيد القطان وعبد الرحمن بن مهدي ويزيد بن زريع والأصمعي. روى عنه محمد بن إسماعيل البخاري ومسلم بن الحجاج بن مسلم وأبو عيسى الترمذي وأبو داود السجستاني «2» ، وذكر غير هؤلاء، ثم قال: وكان ثقة ثبتا حجة، وكان المستعين بالله بعث إلى علي بن نصر «3» يشخصه للقضاء، فدعاه عبد الملك أمير البصرة لذلك، فقال: أرجع فأستخير الله، فرجع إلي بيته نصف النهار فصلّى ركعتين وقال: اللهم إن كان لي عندك خير فاقبضني إليك، فنام فأنبهوه فإذا هو ميت، وذلك في جمادى الآخرة سنة خمسين ومائتين.
ووجدت في بعض الكتب أن نصر بن علي الجهضمي «4» قال كان لي جار طفيلي «5» .(5/1982)
[844] علي بن نصر النصراني يعرف بابن الطبيب أبو الحسن الكاتب: ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: كان أديبا مصنفا مات في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة وله عدة كتب. قال: وكان يذاكرني بها وأحسبه لم يتمم أكثرها فمن كتبه: كتاب البراعة. كتاب صحبة السلطان، أكثر من ألف ورقة. كتاب إصلاح الأخلاق نحو من ألف وخمسمائة ورقة يشتمل على حكم وأمثال.
[845]
علي بن نصر بن سليمان البرنيقي «1» اللغوي
أبو الحسن، أحد الأدباء:
رأيت بخطه كتبا أدبية لغوية ونحوية فوجدته حسن الخط متقن الضبط، وكان مقامه بمصر ولعله من أهلها، قرىء عليه كتاب الهمز لأبي زيد الأنصاري بجامع مصر في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة.
[846]
علي بن نصر بن سعد بن محمد الكاتب
أبو تراب: ولد بعكبرا ونشأ بها، ثم انحدر بعد أن بلغ إلى بغداد وقرأ الأدب والنحو على ابن برهان النحويّ، ثم انحدر إلى البصرة وصار كاتبا لنقيب الطالبيين بها وأقام هناك مدة، ثم رجع إلى بغداد في سنة تسعين وأربعمائة وأقام بالكرخ وولي الكتابة لنقيب الطالبيين إلى أن مات. وكان من أهل الأدب والفضل مولده في محرم سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وتوفي في جمادى
__________
(844) - ترجمة ابن الطبيب في الفهرست: 145 والوافي 22: 270 (عن ياقوت دون تصريح) .
(845) - ترجمة البرنيقي في معجم البلدان 1: 404 وإنباه الرواة 2: 323 والوافي 22: 270 (عن ياقوت) وبغية الوعاة 2: 211.
(846) - ترجمة أبي تراب الكاتب في الخريدة (قسم العراق) 4: 26 والوافي 22: 269.(5/1983)
الآخرة سنة ثمان عشرة وخمسمائة. وابنه علي بن علي بن نصر بن سعد أبو الحسن بن أبي تراب كان كاتب نقيب الطالبيين أيضا وكان شاعرا ولد بالبصرة سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.
ومن شعر أبي تراب هذا:
حالي بحمد الله حال جيده ... لكنه من كلّ خير عاطل
ما قلت للأيام قول معاتب ... والرزق يدفع راحتي ويماطل
إلا وقالت لي مقالة واعظ ... الرزق مقسوم وحرصك باطل
[847]
علي بن نصر بن محمد بن عبد الصمد الفندورجيّ «1»
أبو الحسن الاسفرائني، وفندورج «2» قرية بنواحي نيسابور، سكن اسفرائين، وكان يرجع إلى فضل وافر ومعرفة تامة باللغة والأدب وخط وبلاغة، وله شعر مليح رائق ويد باسطة في الكتابة والرسائل. ورد بغداد سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وأقام بها مدة واقتبس من فضلائها ورجع إلى خراسان وصار ينشىء الكتب عن ديوان الوزارة، عن طاهر بن نظام الملك والسلطان سنجر باللسانين العربي والفارسي «3» . وسئل عن مولده فقال ولدت سنة تسع وثمانين وأربعمائة بنيسابور. قال السمعانيّ: ومات في حدود سنة خمسين وخمسمائة، ومن شعره:
تحية مزن يتحف الروض سحرة ... بصوب الحيا في كلّ يوم عليكم
__________
(847) - للفندورجي ترجمة في الأنساب 9: 335 واللباب 2: 442 والتحبير 1: 595 والوافي 22: 269 (عن ياقوت. وفي ك: علي بن منصور) .(5/1984)
فجسمي معي لكنّ قلبي أكرموا ... بلطفكم مثواه فهو لديكم
قال السمعاني أنشدني الفندورجي لنفسه:
سقى الله في أرض اسفرائين عصبتي ... فما تنتهي العلياء إلّا اليهم
وجربت كلّ الناس بعد فراقهم ... فما زدت إلّا فرط ضنّ عليهم «1»
قال السمعاني وأنشدني لنفسه ببلخ إملاء ونقلته من خطه:
قد قصّ أجنحة الوفاء وطار من ... وكر الوداد المحض والإخلاص
والحرّ في شبك الجفاء وماله ... من أسر حادثة رجاء خلاص
كان في آخر جزء بخطّ السمعاني ما صورته: لكاتبه أبي الحسن الفندورجي:
حمّ الحبيب وآذاه السّقام ولم ... أمت كما شاء سلطان الهوى حزنا
بأيّ عين إذا ما الوصل يجمعنا ... بالطالع السعد ألقى وجهه الحسنا
والجفن مني دام لا يصافح إذ ... ناغى الكرى في الدجى جفن الورى الوسنا
وكاد عن بدني ينسلّ روحي إذ ... مسّ الأذى منه تلك الروح والبدنا
وله أيضا في المعنى نقلته من خطه «2» :
حمّ الحبيب وما حمّ انفصالي عن ... روح وعن بدن يحيا بذكراه
بأيّ وجه إذا ما الوصل يجمعنا ... ومقلة أتلقاه وألقاه
وقرأت بخط أبي سعد، سمعت علي بن نصر النيسابوري مذاكرة بمرو يقول:
كنت ببغداد فرأيت أهلها تستحسن هذه الأبيات التي لأبي إسماعيل المنشىء «3» :
ذكرتكم عند الزلال على الظما ... فلم أنتفع من برده ببلال
فانشأت قصيدة في نقيب النقباء أبي القاسم علي بن طراد الزينبي على هذا الروي أولها:(5/1985)
خليليّ زمّت «1» للرحيل جمالي ... فقد ضاق في أرض العراق مجالي
وقودا عتاقا كالأهلة إنما ... ديار الندى والمكرمات خوالي
وما أوجبت بغداد حقي وغادرت ... بلابل بعد الظاعنين ببالي
[848]
علي بن وصيف
الملقب بخشكنانجه الكاتب: من أهل بغداد، وكان أكثر مقامة بالرقة ثم انتقل إلى الموصل، وكان من البلغاء، وألف عدة كتب ونحلها عبدان صاحب الاسماعيلية. قال محمد بن اسحاق النديم: وكان لي صديقا وأنيسا، ومات بالموصل، وله من الكتب كتاب الافصاح والتثقيف في الخراج ورسومه.
[849]
علي بن هبة الله بن ماكولا:
هو علي بن هبة الله بن جعفر بن علّكان بن محمد بن دلف بن أبي دلف القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل بن عمرو بن شيخ بن معاوية بن خزاعي بن عبد العزيز بن دلف بن جشم بن قيس بن سعد بن عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، أبو نصر المعروف بابن ماكولا، وهو ابن الوزير أبي القاسم هبة الله بن ماكولا وزير جلال الدولة بن بويه،
__________
(848) - ترجمة في الفهرست: 154 وابن الأثير 7: 87 والوافي 22: 298 (عن ياقوت دون تصريح) .
(849) - ترجمة ابن ماكولا في المنتظم 9: 5، 79 ومصورة ابن عساكر 12: 558 وابن الأثير 8: 132، 169 وابن خلكان 3: 305 وتذكرة الحفاظ: 1201 وسير الذهبي 18: 569 وعبر الذهبي 3: 317 والفوات 3: 110 والوافي 22: 280 ومرآة الجنان 3: 143 والبداية والنهاية 12: 123 وعقود الجمان للزركشي: 234 والنجوم الزاهرة 5: 115 والشذرات 3: 381 والمستفاد: 201 ومقدمة محقق الاكمال.(5/1986)
وكان عمه أبو عبد الله الحسن بن جعفر قاضي القضاة ببغداد؛ الحافظ أصله من جرباذقان- بلدة بين همذان وأصفهان- يلقب بالأمير، من بيت الوزارة والقضاء والرئاسة القديمة، كان لبيبا عالما عارفا، ترشح للحفظ حتى كان يقال له الخطيب الثاني.
قال ابن الجوزي: سمعت شيخنا عبد الوهاب يقدح في دينه ويقول: العلم يحتاج إلى دين.
وصنف «كتاب المختلف والمؤتلف» جمع فيه بين كتب الدارقطني وعبد الغني والخطيب، وزاد عليهم زيادات كثيرة، وكان نحويا مجودا وشاعرا مبرزا جزل الشعر فصيح الكلام صحيح النقل، ما كان في البغداديين في زمانه مثله، سمع أبا طالب ابن غيلان وأبا بكر ابن بشران وأبا القاسم ابن شاهين وأبا الطيب الطبري، وسافر إلى الشام والسواحل وديار مصر والجزيرة والثغور والجبال ودخل بلاد خراسان وما وراء النهر وطاف في الدنيا وجوّل «1» في الآفاق.
قال محمد بن طاهر المقدسي: سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال المصري يمدح ابن ماكولا ويثني عليه ويقول: دخل مصر في زي الكتبة فلم نرفع به رأسا، فلما عرفناه كان من العلماء بهذا الشأن، ورجع إلى بغداد فأقام بها ثم خرج إلى خوزستان فقتل هناك، كان في صحبته جماعة من مماليكه الأتراك فغدروا به.
قال ابن ناصر: قتل أبو نصر ابن ماكولا بالأهواز من نواحي خوزستان إما في سنة ست أو سبع وقال ابن الجوزي في سنة خمس وثمانين وأربعمائة ومولده بعكبرا في شعبان من سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة.
ومن مستحسن شعره في التجنيس «2» :
ولما تفرقنا تباكت قلوبنا ... فممسك دمع عند ذاك كساكبه
فيا نفسي الحرّى البسي ثوب حسرة ... فراق الذي تهوينه قد كساك به(5/1987)
ومنه:
ترى زمني يدني سليمى فنلتقي ... ونرجع بالشكوى الحديث المناهبا
وهيهات ما بعد الذي قد طلبته ... ومن غابر الأيام كان المنى هبا
ومنه «1» :
فؤاد ما يفيق من التصابي ... أطاع غرامه وعصى النواهي
وقالوا لو تصبّر كان يسلو ... وهل صبر يساعد والنّوى هي
ومنه «2» :
أليس وقوفنا بديار هند ... وقد رحل القطين من الدواهي
وهند قد غدت داء لقلبي ... إذا صدت ولكن الدواهي
ومنه:
وهيّج أشواقي وما كنت ساليا ... بيبرين برق من ذرى الغور أومضا
ذكرت به عيش التصابي وطيبه ... ولست بناسيه وإن عاد أو مضى
ومن شعره «3» :
علّمتني بهجرها الصبر عنها ... فهي مشكورة على التقبيح
وأرادت بذاك قبح صنيع ... فعلته فكان عين المليح»
أنشدني أبو عبد الله محمد بن سعيد بن الدبيثي قال أنشدنا عمر بن طبرزد قال أنشدني أبو الحسن علي بن هبة الله بن عبد السلام قال أنشدنا الأمير أبو نصر علي بن هبة الله لنفسه:
قوّض خيامك عن أرض تهان بها ... وجانب الذلّ إن الذل يجتنب «5»
وارحل إذا كانت الأوطان منقصة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب «6»(5/1988)
قرأت بخط أبي سعد أخبرنا «1» أبو نصر يحيى بن خلف الخلقاني أخبرنا «2» أبو ثابت بنجير بن علي أنبأنا «3» أبو نصر ابن ماكولا الحافظ أنشدنا أبو الفرج هبة الله بن الحسن بن محمد العسقلاني بها أنشدنا أبو علي الحسن بن أحمد بن أبي الناس العسقلاني في صورتين كانتا على كنيسة تعرف بكنيسة ابن مريم على شرقي محملها، والكنيسة عند باب الصوارف بعسقلان:
طوباكما من دميتين تعانقا ... من غير علم منهما بعناق «4»
لو ذقتما طعم العناق لغافصت ... شخصيكما الدنيا بوشك فراق
لم تغفل الأيام حالكما بها ... عمدا لترفيه ولا إشفاق
بل للأمور نهاية عقلت بها ... حجزت أوامرها عن الطرّاق
فإذا انقضت أيامها عادت لها ... تلك الوقاحة أضيق الأطواق
وكأنني والدهر قد أجراكما ... كبنيه تفريقا بغير تلاقي
قال فما مضى لهذا الشعر إلا سنة أو نحوها حتى أمر الحاكم بهدم الكنائس فهدمت، وهدمت هذه الكنيسة وأزيل الشخصان، فأنشدني لنفسه أبياتا في ذلك يرثيهما بها:
طوباكما من دميتين تعانقا ... وتفرّقا من بعد طول عناق «5»
طال اعتناقهما فما نعما به ... وكذاك ما ألما لوشك فراق
أجرتهما الدنيا بها إذ مثلت ... بمثابة الأولاد في الاشفاق
صانتهما عن كلّ طارق حادث ... عند الغروب ومبتدا الإشراق
حتى إذا بلغا نهاية موعد ... فكّت عناقهما من الأعناق
ومحت رسومهما كأن لم تمثلا ... للناظرين مرامي الأحداق
حسبي من الأيام معرفتي بها ... وتصرّف الحدثان في الآفاق(5/1989)
قال شجاع بن فارس الذهلي أنشدني «1» الأمير أبو نصر علي بن هبة الله بن ماكولا الحافظ لنفسه:
ظالما طالما تجنى بحبي ... عاد عاد عن فنّه عن فيه
قال قال فاترك فأبرك هجر ... هجر حبّ خبّ نبيه بتيه
صاد صادا على علا ما احلا ... ما خلا من بلية من يليه
قال وأنشدني الأمير لنفسه في الشمعة:
أقول ومالي مسعد غير شمعة ... على طول ليلي ما تريد نزوعا
كلانا نحيل ذو اصفرار معذّب ... بنار أسالت من حشاه نجيعا
ألا ساعديني طول ليلك إننا ... سنفنى إذا جاء الصباح جميعا
قال أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الحميدي: ما راجعت أبا بكر الخطيب في شيء إلا وأحالني على الكتاب وقال حتى أبصره، وما راجعت الأمير أبا نصر علي بن هبة الله بن ماكولا في شيء إلا وأجابني حفظا كأنه يقرأ من كتاب.
قال: وبلغ أبا بكر الخطيب أن ابن ماكولا أخذ عليه في كتابه «المؤتنف» ، وصنّف في ذلك تصنيفا، وحضر عنده ابن ماكولا وسأله الخطيب عن ذلك فأنكره ولم يقرّ به وقال: ينسبني الناس إلى ما لست أحسنه من الصنعة، واجتهد الشيخ أبو بكر أن يعترف بذلك، وحكى له ما كان من عبد الغني بن سعيد في تتبعه أوهام الحاكم أبي عبد الله في «كتاب المدخل» وحكايات عدة من هذا المعنى وقال: أرني إياه فإن يكن صوابا استفدته منك ولا أذكره إلا عنك، فأصرّ على الانكار وقال: لم يخطر هذا ببالي قط، ولم أبلغ هذه الدرجة أو كما قال، فلما مات الخطيب أظهر كتابه وهو الذي سماه «كتاب تهذيب مستمر الأوهام على ذوي التمني والأحلام أبي الحسن الدارقطني وأبي بكر أحمد بن علي الخطيب» وهو في عشرة أجزاء لطاف. وله من التصانيف سوى ما ذكرنا كتاب الوزراء. كتاب الإكمال في المؤتلف والمختلف.(5/1990)
[850]
علي بن هارون بن نصر القرميسيني النحوي أبو الحسن:
أخذ عن علي بن سليمان الأخفش، وأخذ عنه عبد السلام البصري ومات في سنة احدى وسبعين وثلاثمائة في خلافة الطائع ومولده في سنة تسعين ومائتين.
[851]
علي بن هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور
المنجم أبو الحسن: قد ذكرنا أباه هارون وأجداده في مواضعهم من الكتاب، قال محمد بن إسحاق النديم:
رأيناه وسمعنا منه، وكان راوية شاعرا أديبا ظريفا متكلما خيّرا نادم جماعة من الخلفاء، وقال لي مولدي سنة سبع وسبعين ومائتين، وقال ثابت: مولده في صفر سنة ست وسبعين. ومات سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة عن ست وسبعين سنة، وله من الكتب: كتاب النوروز والمهرجان. كتاب الرد على الخليل في العروض. كتاب الرسالة في الفرق بين إبراهيم بن المهدي وإسحاق بن الموصلي في الغناء. كتاب ابتدأ فيه بنسب أهله عمله للمهلبي الوزير ولم يتم. كتاب اللفظ المحيط بنقض ما لفظ به اللقيط، عارض به كتاب أبي الفرج الأصبهاني «في الفرق والمعيار بين الأوغاد والأحرار» . كتاب القوافي عمله لعضد الدولة.
وحدث أبو القاسم إسماعيل بن عباد في «كتاب الروزنامجه» قال فيه «1» :
استدعاني الأستاذ أبو محمد المهلبي وابنا المنجم في مجلسه وقد أعدا «2» قصيدتين في مدحه، فمنعهما من النشيد لأحضره، فأنشدا وجودا بعد تشبيب كثير
__________
(850) - تاريخ بغداد 12: 120 ونزهة الألباء: 229 وإنباه الرواة 2: 324 والوافي 22: 276 وبغية الوعاة 2: 211.
(851) - الفهرست: 161 ومعجم الشعراء: 156 ويتيمة الدهر 3: 114 وتاريخ بغداد 12: 119 وابن خلكان 3: 275 والوافي 22: 276 ومرآة الجنان 2: 350.(5/1991)
وحديث طويل «1» . كان لأبي الحسن رسم، أخشى تكذيب سيدنا إن شرحته، وعتابه إن طويته، ولأن أحصل عنده في صورة متزيّد أحبّ إليّ من أن أحصل عنده في رتبة مقصر- يبتدىء فيقول ببحة عجيبة بعد إرسال دموعه وتردد الزفرات في حلقه، واستدعائه من جواذ «2» غلامه منديل عبراته: والله والله وإلا فأيمان البيعة تلزمه بحلّها وحرامها وطلاقها وعتاقها، وما ينقلب إليه حرام، وعبيده أحرار لوجه الله تعالى إن كان هذا الشعر في استطاعة أحد مثله أو اتفق من عهد أبي دواد الايادي إلى زمان ابن الرومي لأحد شكله، بل عيبه أن محاسنه تتابعت وبدائعه ترادفت، وقد كان في الحق أن يكون كلّ بيت منه في ديوان يحمله ويسود به شاعره، ثم ينشد، فإذا بلغ بيتا يعجب به ويتعجب منه قال: أيها الوزير من يستطيع هذا إلا عبدك علي بن هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور بن المنجم جليس الخلفاء وأنيس الوزراء، ثم ينشد الابن، والأدب يعوّذه ويهتزّ له ويقول: أبو عبد الله أستودعه الله ولي عهدي وخليفتي بعدي، ولو اشتجر اثنان من مصر وخراسان لما رضيت بفصل ما بينهما سواه، أمتعنا الله به ورعاه، وحديثه عجيب وإن استوفيته ضاع الغرض الذي قصدته، على أنه أيد الله مولانا من سعة النفس والخلق ووفور الأدب والفضل وتمام المروة والظرف بحال أعجز عن وصفها وأدلّ عن جملتها: إنه مع كثرة عياله واختلال أحواله طلب سيف الدولة جاريته المغنية بعشرين ألف درهم أحضرها صاحبه، فامتنع من بيعها وأعتقها وتزوجها.
ومن شعر علي بن هارون وكتب بها إلى أبي الحسن علي بن خلف بن طياب «3» .
بيني وبين الدهر فيك عتاب ... سيطول إن لم يمحه الإعتاب
يا غائبا بوصاله وكتابه ... هل يرتجى من غيبتيك إياب
لولا التعلل بالرجاء تقطّعت ... نفس عليك شعارها الأوصاب(5/1992)
لا يأس من روح الإله فربما ... يصل القطوع ويحضر الغياب
وإذا دنوت مواصلا فهو المنى ... سعد المحبّ وساعد الأحباب
وإذا نأيت فليس لي متعلّل ... إلا رسول بالرضى وكتاب
وحدث أبو علي المحسن بن علي التنوخي القاضي في «نشوار المحاضرة» «1» قال حدثني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن المنجم قال حدثني أبي قال: كنت وأنا صبيّ لا أقيم الراء في كلامي وأجعلها غينا، وكانت سنّي إذ ذاك أربع سنين أقل أو أكثر، فدخل أبو طالب المفضل بن سلمة أو أبو بكر الدمشقي- شك أبو الفتح- إلى أبي وأنا بحضرته، فتكلمت بشيء فيه راء فلثغت فيها، فقال له الرجل: يا سيدي لم تدع أبا الحسن يتكلم هكذا؟ فقال له: ما أصنع وهو ألثغ، فقال له، وأنا أسمع وأحصّل ما جرى وأضبطه: إن اللثغة لا تصحّ مع سلامة الجارحة، وإنما هي عادة سوء تسبق إلى الصبيّ أول ما يتكلم لجهله بتحقيق الألفاظ وسماعه شيئا يحتذيه، فإن ترك على ما يستصحبه من ذلك مرن عليه فصار له طبعا لا يمكنه التحول عنه، وإن أخذ بتركه في أول نشوه استقام لسانه وزال عنه، وأنا أزيل هذا عن أبي الحسن ولا أرضى فيه بتركك له عليه، ثم قال لي: أخرج لسانك، فأخرجته فتأمله وقال: الجارحة صحيحة، قل يا بني را واجعل لسانك في سقف حلقك، ففعلت ذلك فلم يستولي، فما زال يرفق بي مرة ويخشن بي أخرى وينقل لساني من موضع إلى موضع من فمي ويأمرني أن أقول الراء فيه فإذا لم يستو لي نقل لساني إلى موضع آخر دفعات كثيرة في زمان طويل حتى قلت راء صحيحة في بعض تلك المواضع، وطالبني وأوصى معلمي بالزامي ذلك حتى مرن لساني عليه وذهبت عنه اللثغة.
ومن «كتاب الروزنامجه» «2» : قال الصاحب: وتوفرت على عشرة فضلاء البلد، فأول من كاثرني أولاد المنجم لفضل أبي الحسن علي بن هارون وغزارته واستكثار من روايته وطيب سماعه ولذيذ عشرته، فسمعت منه أخبارا عجيبة وحكايات غريبة، ومن ستارته أصواتا نادرة مشنّفة مقرطقة، يقول في كلّ منها الشعر لفلان(5/1993)
والصنعة لفلان، أخذته هذه عن فلان أو فلانة حتى يتصل النسب باسحاق أو غيره من أبناء جنسه، وكان أكثر ما يعجب به مولاها أبيات له أولها:
ضلّ الفراق ولا اهتدى ... ونأت فلا دنت النوى
وهوى فلا وجد القرا ... ر معنّف أهل الهوى
فاتفق أن سألت أول ما سمعت اللحن فيه عن قائله، فغضب واستشاط وتنكر واستوفز ونفر وتنمر وقال: تقول لمن هذا؟ أما يدلّ على قائله؟ أما يعرب عن جوهره؟
أما ترى أثر بني المنجم على صفحته؟ أما:
تحميه لألاؤه أو لوذعيته ... من أن يذال بمن أو ممن الرجل
وذكره المرزباني في المعجم فقال وهو القائل «1» :
وإني لأثني النفس عما يريبها ... وأنزل من دار الهوان بمعزل
بهمّة نبل لا يرام مكانها ... تحلّ من العلياء أشرف منزل
ولي منطق إن لجلج القول صائب ... بتكشيف إلباس وتطبيق مفصل
وله يمدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام «2» :
وهل خصلة من سؤدد لم يكن لها ... أبو حسن من بينهم ناهضا قدما
فما فاتهم منها به سلّموا له ... وما شاركوه كان أوفرهم قسما
وفي كتاب أبي علي التنوخي «3» : كان أبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن بن جعفر الشيرازي الكاتب خصيصا بالوزير أبي علي ابن مقلة، وكان يعشق مغنية وكان ينفق عليها جميع ما يتحصل له، وله معها أخبار، وكانت هذه الجارية صفراء واسمها لهجة «4» ، فشرب معها ليلة وأصبح مخمورا، فآثر الجلوس معها وأراد الاعتذار إلى الوزير ابن مقلة من التأخر عن الخدمة وأن يخفي خبره عنه، فكتب رقعة يعتذر فيها(5/1994)
ويقول: إن الصفراء تحركت عليّ فتأخرت، فوقع على ظهر الرقعة بخطه: أنت تحركت على الصفراء ليس الصفراء تحركت عليك. قال: وهذا التوقيع يشبه ما أنشدنا علي بن هارون المنجم لنفسه في جاريته صفراء وقد شكا إلى الطبيب مرّة صفراء، ولا أدري أيهما أخذ من صاحبه «1» :
جسّ الطبيب يدي وقال مخبّرا ... هذا الفتى أودت به الصفراء «2»
فعجبت منه إذ أصاب وما درى ... قولا وظاهر ما أراد خطاء
قلت أنا: وقريب من هذا قول الوزير المهلبي:
وقالوا للطبيب أشر فانا ... نعدّك للعظيم من الأمور
فقال شفاؤه الرمّان مما ... تضمّنه حشاه من السعير
فقلت لهم أصاب بغير قصد ... ولكن ذاك رمان الصدور
وكان لعلي بن هارون ولد يقال له أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون المنجم كان أديبا فاضلا إلا أني لم أقف له على تصنيف فلم أفرده بترجمة «3» والمقصود ذكره، وقد ذكر هاهنا، روى عنه أبو علي التنوخي في «نشواره» فأكثر «4» وقال: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون لنفسه «5» :
ما أنس منها لا أنس موقفها ... وقلبها للفراق ينصدع
وقولها إذ بدا الصباح لها ... قول فزوع أظلّه الجزع
ما أطول الليل عند فرقتنا ... وأقصر الليل حين نجتمع
قال التنوخي وأنشدني أبو الفتح لنفسه، وكتب بها إلى أبي الفرج محمد بن(5/1995)
العباس [بن] فسانجس في وزارته وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز «1» :
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم «2»
[852]
علي بن هلال الكاتب
المعروف بابن البواب أبو الحسن، صاحب الخط المليح والاذهاب الفائق: وجدت بخط ابن الشبيه العلوي الكاتب صاحب الخط الفائق في آخر ديوان أبي الطمحان القيني بخطه ما صورته: وكتب في صفر سنة عشرين وأربعمائة من خط أبي الحسن علي بن هلال «3» الستري «4» مولى معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب الأموي وهذا قد كان بغير شك معاصره.
بلغني أنه كان في أول أمره مزوقا يصور الدور ثم صور الكتب ثم تعانى الكتابة ففاق فيها المتقدمين «5» وأعجز المتأخرين، وكان يعظ بجامع المنصور، ولما ورد فخر الملك أبو غالب محمد بن خلف الوزير واليا على العراق من قبل بهاء الدولة أبي نصر ابن عضد الدولة جعله من ندمائه، وفي الجملة انه لم يكن له في عصره ذاك النّفاق الذي له بعد وفاته، وذاك أنني وجدت رقعة بخطه قد كتبها إلى بعض الأعيان يسأله فيها مساعدة صاحبه ابن منصور وانجاز وعد وعده به لا يساوي دينارين، وقد بسط القول في ذلك، استطلتها فانها كانت نحو السبعين سطرا فألغيت اثباتها، وقد بيعت بسبعة
__________
(852) - ترجمة ابن البواب في المنتظم 8: 10 وابن خلكان 3: 342 وتذكرة الحفاظ: 1056 وسير الذهبي 17: 315 وعبر الذهبي 3: 113 والبداية والنهاية 12: 14 والوافي 22: 290 وصبح الأعشى 3: 13 والنجوم الزاهرة 4: 257 وتاريخ مختصر الدول: 180 ومعجم الألقاب 4: 734 والشذرات 3: 199.(5/1996)
عشر دينارا إمامية، وبلغني أنها بيعت مرة أخرى بخمسة وعشرين دينارا. مات فيما ذكره هلال بن المحسن بن الصابىء في جمادى الأولى سنة ثلاث عشرة وأربعمائة ودفن في جوار قبر أحمد بن حنبل، وذلك في خلافة القادر بالله، ورثاه المرتضى بشعر أذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وحدث في «كتاب المفاوضة» قال «1» : حدثني أبو الحسن علي بن هلال المعروف بابن البواب الكاتب قال: كنت أتصرف في خزانة الكتب لبهاء الدولة بن عضد الدولة بشيراز على اختياري وأراعيها له وأمرها مردود إليّ، فرأيت يوما في جملة أجزاء منبوذة جزءا مجلدا بأسود قد السكري، ففتحته وإذا هو جزء من ثلاثين جزءا من القرآن بخط أبي علي ابن مقلة فأعجبني وأفردته وجعلت وكدي التفتيش عن مثله «2» ، فلم أزل أظفر بجزء بعد جزء مختلط في جملة الكتب إلى أن اجتمع تسعة وعشرون جزءا، وبقي جزء واحد استغرقت تفتيش الخزانة في مدة طويلة فلم أظفر به، فعلمت أن المصحف ناقص فأفردته، ودخلت إلى بهاء الدولة وقلت: يا مولانا ها هنا رجل يسأل حاجة قريبة لا كلفة فيها وهي مخاطبة أبي علي الموفق الوزير على معونته في منازعة بينه وبين خصم له ومعه هدية ظريفة تصلح لمولانا، قال: أي شيء هي؟
قلت: مصحف بخط أبي علي ابن مقلة، فقال: هاته وأنا أتقدم بما يريد، فأحضرت الأجزاء، فأخذ منها واحدا وقال أذكر وكان في الخزانة ما يشبه هذا وقد ذهب عني.
قلت: هذا مصحفك، وقصصت عليه القصة في طلبتي له حتى جمعته، وقلت:
هكذا يطرح مصحف بخط أبي علي إلا أنه ينقص جزءا، فقال لي: فتممه لي، قلت: السمع والطاعة، ولكن على شريطة أنك إذا أبصرت الجزء الناقص منها ولا تعرفه أن تعطيني خلعة ومائة دينار، قال: أفعل؛ وأخذت المصحف من بين يديه وانصرفت إلى داري ودخلت الخزانة أقلب الكاغد العتيق وما يشابه كاغد المصحف، وكان فيها من أنواع الكاغد السمرقندي والصيني والعتيق كلّ ظريف عجيب، فأخذت من الكاغد ما وافقني، وكتبت الجزء وذهّبته وعتّقت ذهبه وقلعت جلدا من جزء من(5/1997)
الأجزاء فجلدته به، وجلّدت الذي قلعت منه الجلد وعتقته، ونسي بهاء الدولة المصحف، ومضى على ذلك نحو السنة، فلما كان ذات يوم جرى ذكر أبي علي ابن مقلة فقال لي: ما كتبت ذلك؟ قلت بلى، قال: فأعطنيه، فأحضرت المصحف كاملا فلم يزل يقلّبه جزءا جزءا وهو لا يقف على الجزء الذي بخطي ثم قال لي: أيّما هو الجزء الذي بخطك؟ قلت له: لما لا تعرفه فيفتر في عينك، هذا مصحف كامل بخط أبي علي ابن مقلة ونكتم سرنا؟ قال: أفعل، وتركه في ربعة عند رأسه ولم يعده إلى الخزانة، وأقمت مطالبا بالخلعة والدنانير وهو يمطلني ويعدني، فلما كان يوما قلت: يا مولانا في الخزانة بياض صيني وعتيق مقطوع وصحيح فتعطيني المقطوع منه كله دون الصحيح بالخلعة والدنانير؟ قال: مرّ خذه، فمضيت وأخذت جميع ما كان فيها من ذلك النوع فكتبت فيه سنين.
ووجدت في تاريخ أبي الفرج ابن الجوزي قال»
: اجتاز أبو الحسن البتي الكاتب وكان مزاحا- وله في هذا الكتاب باب- وعلي بن هلال جالس على باب الوزير فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف ينتظر الاذن، فقال له البتي: جلوس الأستاذ على العتب رعاية للنسب، فغضب ابن البواب وقال: لو أنّ إليّ أمرا «2» ما مكنتك من دخول هذه الدار، فقال البتي: لا يترك الأستاذ صنعة الوالد «3» بحال.
ولبعضهم يهجو ابن البواب:
من ذا رأيتم من النسّاخ متخذا ... سبال لصّ على عثنون محتال
هذا وأنت ابن بواب وذو عدم ... فكيف لو كنت ربّ الدار والمال
وكان ابن البواب يقول شعرا لينا منه- ونقلته من خط الجويني أيضا قال ونقلت من خطه أيضا في ضمن رسالة-:
ولو آني أهديت ما هو فرض ... للرئيس الأجلّ من أمثالي
لنظمت النجوم عقدا إذا ... رصّع غيري جواهرا بلآلي(5/1998)
ثم أهديتها إليه وأقرر ... ت بعجزي في القول والأفعال
غير أني رأيت قدرك يعلو ... عن نظير ومشبه ومثال
فتفاءلت في الهدية بالاق ... لام علما مني بصدق الفال
فاعتقدها مفاتح الشرق والغر ... ب سريعا والسهل والأجبال
فهي تستنّ إن جرين على القر ... طاس بين الأرزاق والآجال
فاختبرها موقعا برسوم ال ... برّ والمكرمات والإفضال
واحظ بالمهرجان وابل جديد ال ... دهر في نعمة بغير زوال
وابق للمجد صاعد الجدّ عزّا ... والرئيس الأجلّ نجم المعالي
في سرور وغبطة تدع الح ... اسد منها مقطّع الأوصال
عضدتها السعود واستوطن الإقب ... ال فيها وسالمتها الليالي
أيها الماجد الكريم الذي يب ... دأ بالعارفات قبل السؤال
إن آلاءك الجزيلة عندي ... شرعت لي طريقة في المقال
امنتني لديك من هجنة الر ... دّ وفرط الإضجار والإملال
وحقوق العبيد فرض على السا ... دة في كلّ موسم للمعالي
وحياة الثناء تبقى على الده ... ر إذا ما انقضت حياة المال
وكان تحت هذا الشعر بخط الجويني ما صورته: هذا شعر ابن البواب وهو عورة سترها ذلك الخط، ولولا أنّ الإجماع واقع في أنّ الرجل يفتن بشعره وولده لكان صاحب تلك الفضيلة يرتفع عن هذه النقيصة. وكتب تلميذه حسن بن علي الجويني.
ولقد عجبت ممن يزري على ذلك الشعر، وهو القائل ونقلته من خطه فقال:
كتبت إلى المولى القاضي الأجل شرف الدين السديد عبد الله بن عليّ أمتع الله الدنيا وأهلها ببقائه، وقد أبللت من مرضة صعبة:
عبد الاله السديد حقا ... بغير زور وغير مين
يا شرف الدين يا فريدا ... شرّف بالفضل دولتين
يا تاج فخري وكنز فقري ... ويا معيني ونور عيني(5/1999)
قد كدت أقضي نحبي وأمضي ... وكدت تبقى بلا جويني
وكتب حسن بن علي الجويني في ذي القعدة سنة ست وستين وخمسمائة بالديار المصرية عمرها الله تعالى بدوام العز.
وقال المعري وضرب علي بن هلال مثلا «1» :
طربن «2» لضوء البارق المتعالي ... ببغداد وهنا ما لهنّ وما لي
فيا برق ليس الكرخ داري وإنما ... رمى بي إليه الدهر منذ ليالي
فهل فيك من ماء المعرة نغبة ... تغيث بها ظمآن ليس بسالي
ولاح هلال مثل نون أجادها ... بماء «3» النضار الكاتب ابن هلال
منها «4» :
إذا لاح إيماض سترت وجوهها ... كأني عمرو والمطيّ سعالي
هذا بيت مشكل التفسير بعيد المرمى وذاك أن عمرو بن تميم بن مرّ بن أد بن طابخة ولد العنبر والهجيم ومازن، تقول العرب إن هؤلاء الاخوة الثلاثة أمهم السعلاة وهي الغولة، وأن عمرو بن تميم تزوجها فولدت له هؤلاء الثلاثة، ويقولون إن السعلاة إذا رأت البرق طلبته، وكان عمرو يحفظها من البرق إذا لاح فيغطّي وجهها، فغفل عنها مرة فلاح البرق فطلبته وقالت: يا عمرو أوصيك بولدك خيرا، ومضت ولم تعد إليه، فهذا معنى بيت المعري.
وقد ضربه بعض المتأخرين أيضا مثلا فقال يمدح رجلا يعرف بابن بدر بجودة الخط فقال:
يا ابن بدر علوت في الخطّ قدرا ... حين ما قايسوك بابن هلال
ذاك يحكي أباه في النقص لما ... جئت تحكي أباك عند الكمال(5/2000)
قرأت بخط سلامة بن غياض: رأيت بالري بخط علي بن هلال «كتاب من نسب من الشعراء إلى أمه» لأبي عبد الله ابن الأعرابي وهم خمسون شاعرا وعلى ظهره «كتبه علي بن هلال في شهر ربيع الأول سنة تسعين وثلاثمائة» وبعد البسملة «يرويه ابن عرفة عن ثعلب عن ابن الأعرابي» وفي آخره بخطه «نقلته من نسخة وجدت عليها بخط شيخنا أبي الفتح عثمان بن جني النحوي أيده الله: بلغ عثمان بن جني نسخا من أوله وعرضا» .
وكان لابن البواب يد باسطة في الكتابة، أعني الانشاء، وفصاحة وبراعة، ومن ذلك رسالة أنشأها في الكتابة، وكتبها إلى بعض الرؤساء، ونقلتها من خط الحسن بن علي الجويني الكاتب أولها: قد افتتحت خدمة سيدنا الأستاذ الجليل، أطال الله بقاءه وأدام تمكينه وقدرته وتمهيده، وكبت عدوه، المثال المقترن بهذه الرقعة افتتاحا يصحبه العذر إلى جليل حضرته من ظهور التقصير فيه والخلل البادي لمتأمليه، وقد كان من حقوق مجلسه الشريف أن يخدم بالغايات المرضية من كلّ صناعة تأديا لسؤدده وعلائه، وتصديا للفوز «1» بجميل رائه، ولم يعدني عن هذه «2» القضية جهل بها وقصور عن علمها، لكني هاجر لهذه الصناعة منذ زمن طويل هجرة قد أورثت يدي حبسة ووقفة حائلتين بينها وبين التصرف والافتنان، والوفاء بشرط الاجادة والاحسان، ولا خفاء عليه- أدام الله تأييده- بفضل الحاجة ممن تعاطى هذه الصناعة إلى فرط التوفر عليها، والانصراف بجملة العناية إليها، والكلف الشديد بها، والولوع الدائم بمزاولتها، فإنها شديدة النفار بطيئة الاستقرار، مطمعة الخداع وشيكة النزاع، عزيزة الوفاء، سريعة الغدر والجفاء، نوار قيدها الإعمال، شموس مهرها الوصال، لا تسمح ببعضها إلا لمن آثرها بجملته وأقبل عليها بكليته، ووقف على تألفها سائر زمنه، واعتاضها عن خلّه وسكنه، لا يؤيسه حيادها «3» ولا يغرّه انقيادها، يقارعها بالشهوة والنشاط ويوادعها عند الكلال والملال، حتى يبلغ منها الغاية القصيّة ويدرك المنزلة العلية، وتنقاد الأنامل لتفتيح أزهارها وجلاء أنوارها، وتظهر الحروف موصولة(5/2001)
ومفصولة ومعمّاة ومفتّحة في أحسن صيغها وأبهج خلقها «1» ، منخرطة المحاسن في سلك نظامها، متساوية الأجزاء في تجاورها والتيامها، لينة المعاطف والأرداف، متناسبة الأوساط والأطراف، ظاهرها وقور ساكن، ومفتّشها رهج فاتن، كأنما كاتبها وقد أرسل يده وحث بها قلمه، رجّع فيها فكره ورويّته، ووقف على تهذيبها قدرته وهمته، القلب بها في حجر ناظره، والمعنى بها مظلوم بلفظه، وما ذهبت في هذه القضية «2» مذهب المطرف المغرب بها ولا المعوّل على شوافعها، لكن نهجت بها سبيلا لأمثالها إقامة لرسم الخدمة المفروضة للسادة المنعمين على خدمهم وصنائعهم، فإن سعدت بنفاقها عليه وارتضائها لديه وإلا سلمت من وصمة التضجيع والإهمال وهجنة التقصير في شكر الإنعام والإفضال، ولسيدنا الأستاذ الجليل- أطال الله بقاءه- علوّ الرأي في الأمر بتسليم ما خدمت به وتصريفه بين عالي أمره ونهيه، إن شاء الله تعالى.
وحدث غرس النعمة محمد بن هلال «3» بن المحسن بن ابراهيم بن هلال الصابىء في «كتاب الهفوات» قال «4» : كان في الديوان كاتب يعرف بأبي نصر ابن مسعود فلقي يوما أبا الحسن علي بن هلال البواب الكاتب ذا الخط المليح في بعض الممرات فسلّم عليه وقبّل يده فقال له ابن البواب: الله الله يا سيدي ما أنا وهذا؟
فقال: لو قبلت الأرض بين يديك لكان قليلا، قال: ولم ذاك يا سيدي وما الذي أوجبه واقتضاه؟ قال: لأنك تفردت بأشياء ما في بغداد كلها «5» من يشاركك فيها، منها الخط الحسن وأنّه لم أر عمري كاتبا من طرف عمامته إلى طرف لحيته ذراعان ونصف غيرك، فضحك أبو الحسن منه وجزّاه خيرا وقال له: أسألك أن تكتم هذه الفضيلة عليّ ولا تكرمني لأجلها، قال له: ولم تكتم فضائلك ومناقبك؟ فقال له: أنا أسألك هذا، فبعد جهد ما أمسك، وكانت لحية ابن البواب طويلة جدا.(5/2002)
قال المؤلف: وأما الشعر الذي رثاه به المرتضى فهو «1» :
رديت يا ابن هلال والردى عرض ... لم يحم منه على سخط له البشر
ما ضرّ فقدك والأيام شاهدة ... بأنّ فضلك فيه الأنجم الزهر
أغنيت في الأرض والأقوام كلّهم ... من المحاسن ما لم يغنه المطر
فللقلوب التي أبهجتها حزن ... وللعيون التي أقررتها سهر
وما لعيش إذا ودعته أرج ... ولا لليل إذا فارقته سحر
وما لنا بعد أن أضحت مطالعنا ... مسلوبة منك أوضاح ولا غرر
[853]
علي بن الهيثم الكاتب «2» المعروف بجونقا:
كان من الكتاب المستخدمين في ديوان المأمون وغيره من الخلفاء، وكان فاضلا أديبا كثير الاستعمال للتقعير والقصد لعويص اللغة حتى قال المأمون فيما حدّث به الفضل بن محمد اليزيدي عن أبيه قال:
قال المأمون أنا أتكلم مع الناس أجمعين على سجيّتي إلا علي بن الهيثم فإني أتحفظ إذا كلمته لأنه يغرق في الإعراب.
ونقلت من خط الصولي في «أخبار شعراء مصر» قال: وممن دخل مصر خالد بن أبان الكاتب الأنباري أخو عبد الملك بن أبان، حدثني الحسين بن علي الباقطائي أنه شخص إلى مصر فبلغه اتساع حال علي بن الهيثم، وكانت بينهما حرمة وكيدة، فكتب إليه من مصر بشعر طويل منه وكتب بماء الذهب:
على الخالق الباري توكلت إنه ... يدوم إذا الدنيا أبادت قرونها
__________
(853) - ترجمة جونقا في إعتاب الكتاب: 212 وكتاب بغداد: 22 والوافي 22: 295 وبغية الوعاة 2: 212.(5/2003)
فداؤك نفسي يا عليّ بن هيثم ... إذا أكلت عجف السنين سمينها
رميتك من مصر بأمّ قلائدي ... تزفّ وقد أقسمت ألا تهينها
بأبيات شعر خطّ بالتبر وشيها ... إليك وقدما حال حولان دونها
ويذكر فيه خبره مع غرمائه والقاضي، فبعث إليه بسفتجة بألف دينار، وكتب إلى عامل مصر في استعماله فحسنت حاله.
وقال الجهشياري «1» : كان لخالد بن أبان الكاتب الأنباري الشاعر حرمة بعلي بن الهيثم وبأبيه أيام مقامهم بالأنبار، ثم شخص خالد بن أبان إلى مصر وتزوج بها وولد له، وأضاق واختلت حاله فاستدان من التجار ما أنفقه، فكثر غرماؤه وقدّموه إلى القاضي فحبسه ثم فلّسه وأطلقه «2» ، وأقام بمصر وساءت حاله، وبلغه أن عليا قد عظم قدره وتقلّد ديوان الخراج للفضل بن الربيع لما استوزره الرشيد بعد البرامكة، وارتفع مع المأمون بعد ذلك، فكتب إليه قصيدة نحوا من سبعين «3» بيتا في رقّ بالذهب وبعث بها إليه أولها: «على الخالق الباري» الأبيات المذكورة فوجه إليه بألف دينار.
قال أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان حدثنا أبو علي الحسن بن بشر حدثني أبي قال: دخل علي بن الهيثم إلى سوق الدواب فلقيه نخّاس فقال له: هل من حاجة؟ قال: نعم الحاجة أناختنا بعقوتك، أردت فرسا قد انتهى صدره، وتقلقلت عروقه، يشير بأذنيه، ويتعاهدني بطرف عينيه، ويتشوّف برأسه، ويعقد عنقه، ويخطر بذنبه، ويناقل برجليه، حسن القميص جيد الفصوص، وثيق القصب، تام العصب، كأنه موج لجة أو سيل حدور، فقال له النخاس: هكذا كان صلّى الله عليه وسلّم.
وقال المرزباني في «المعجم» «4» : علي بن الهيثم التغلبي كاتب الفضل بن الربيع: كان لسنا فصيحا شاعرا، عاتبه الفضل يوما على تأخره عنه وزاد عليه فقال:
وجدني الفضل رخيصا جدّا ... فعقني وازورّ عني صدّا(5/2004)
وظنّ والظنون قد تعدّى ... أني لا أصيب منه بدّا
أعدّ منه ألف بدّ عدّا
وانصرف فلم يعمل للسلطان عملا.
حدثنا محمد اليزيدي قال: شهدت المأمون وهو جالس على دكة الشماسية وعنده أحمد بن الجنيد الاسكافي وجماعة من الخاصة إذ دخل عليه علي بن الهيثم المعروف بجونقا فلما قرب منه قال: يا عدوّ الله يا فاسق يا لصّ يا خبيث، سرقت الأموال وانتهبتها، والله لأفرقنّ بين لحمك وعظمك ولأفعلن ولأفعلن، ثم سكن غضبه قليلا فقال أحمد بن الجنيد: نعم والله يا أمير المؤمنين إنه وإنه، ولم يدع شيئا من المكروه إلا قاله فيه، فقال له المأمون وقد هدأ غضبه: يا أحمد ومتى اجترأت عليّ هذه الجرأة؟ رأيتني وقد غضبت فأردت أن تزيد في غضبي؟! أما إني سأؤدبك وأؤدب بك غيرك، يا علي بن الهيثم قد صفحت عنك ووهبت لك كلّ ما كنت أقدر أن أطالبك به، ثم رفع رأسه إلى الحاجب وقال: لا يبرح ابن الجنيد الدار حتى يحمل إلى علي بن الهيثم مائة ألف درهم ليكون له بذلك عقل، فلم يبرح حتى حملها.
الجهشياري «1» : أمر المأمون أن يؤذن للناس إذنا عاما وأن يجلسوا على مراتبهم كانت قديما إلى أن تعرض عليه فيأمر فيها بأمره، ففعلوا ذلك، ودخل علي بن الهيثم فجلس في مجلس العرب وتغامز الكتاب عليه، وأقبل عبيد الله بن الحسن العلوي فقال إبراهيم بن إسماعيل بن داود الكاتب للكتاب: أطيعوني وقوموا معي، فمضوا بأجمعهم مستقبلين لعبيد الله بن الحسن، فسلموا عليه فردّ عليهم فقالوا: لنا حاجة، فقال: مقضيّة، قالوا: تجلس في مجلسنا فقال: سبحان الله ينكر ذلك أمير المؤمنين، قالوا: هي حاجة تقضيها لنا ونحتمل ما ينالك فيها، قال: أفعل لعلمي بموقع الكتاب من قلوب السلاطين وقدرتهم على إصلاح قلوبهم إذا فسدت وإفسادها إذا صلحت، ومال إلى ناحيتهم فجلس معهم، وكتب صاحب المراتب إلى المأمون، فلما وقف على الموضع الذي جلس فيه عبيد الله أنكره وبعث اليه: ما هذا المجلس الذي جلست فيه؟ فقال إبراهيم بن إسماعيل للرسول: تبلّغ أمير المؤمنين عنا السلام(5/2005)
وتقول له خدمك وعبيدك الكتاب يقولون: العدل والانصاف موجودان عندك وعند أهلك، أخذتم منا رجلا من وجوه النبط فأخذنا مكانه وجها من وجوه أهلك، ذلك علي بن الهيثم جالس مع العرب، فردّوا علينا رجلنا وخذوا رجلكم، فضحك جميع من في داره وتشوّر علي بن الهيثم، وضحك المأمون وقال: لقد مني علي بن الهيثم من إبراهيم بن إسماعيل ببلاء عظيم.
وكان أبو يعقوب إسحاق بن حسان الخريمي قد أغري بهجاء علي بن الهيثم الأنباري الكاتب، وكان السبب في ذلك أنه وقع لأبي يعقوب عنده ميراث فدافعه فهجاه، وكان علي بن الهيثم متشدقا متفيهقا يدعي العربية ويقول إنه تغلبي، وكان من قرية يقال لها أنقوريا، ففي ذلك يقول الخريمي «1» :
أنقوريا قرية مباركة ... تقلب فخّارها إلى الذهب
محمد بن علي العباسي عن أبيه: قال شهدت علي بن الهيثم جونقا وقد حضره منارة صاحب الرشيد فقال له: يا منارة استلبت لوطي، فقال: أصلحك الله ما ظننتك تتلقّاني بمثل هذا، شيخ مثلي يلعب بالصبيان، فضحك جميع من في المجلس (اللّوط الازار، كأنه أراد أنك لم تحسن عشرتي وأنك أخذت ثيابي) .
وذكر حماد بن إسحاق عن بشر المريسي قال: حضرت المأمون أنا وثمامة ومحمد بن أبي العباس الطوسي وعلي بن الهيثم فتناظروا في التشيع، فنصر محمد بن أبي العباس مذهب الامامية، ونصر علي بن الهيثم مذهب الزيدية، وشرق «2» الأمر بينهما إلى أن قال محمد بن أبي العباس لعلي بن الهيثم: يا نبطي ما أنت والكلام؟! فقال المأمون، وكان متكئا فجلس: الشتم عيّ والبذاء لؤم، وقد أبحنا الكلام وأظهرنا المقالات فمن قال بالحقّ حمدناه، ومن جهل وقفناه، ومن ذهب عن الأمر حكمنا فيه بما يجب، فاجعلا بينكما أصلا فإن الكلام الذي أنتم فيه من الفروع، فإذا افترعتما شيئا رجعتما إلى الأصول. ثم عادا إلى المناظرة فأعاد محمد بن أبي العباس لعلي بن الهيثم مثل مقالته الأولى فقال له عليّ: والله لولا جلالة المجلس وما وهب الله من(5/2006)
رأفة أمير المؤمنين وأنه قد نهانا لأعرقت جبينك، وحسبنا من جهلك غسلك المنبر بالمدينة، فاستشاط المأمون غضبا على محمد، وأمر باخراجه فعاذ بطاهر حتى شفع فيه فرضي عنه.
ميمون بن هارون بن مخلد بن أبان: حدثني أبي قال أدخلني أبي مخلد بن أبان مع القاسم بن أحمد بن الجنيد، وكان مخلد وأحمد متواخيين في شراء غلّات السواد، فأشرفنا على ربح عشرة آلاف ألف درهم، ثم اتضع السعر فحصل علينا وضيعة ستة آلاف ألف درهم، فطولبنا بها أشدّ مطالبة، واشتد كتاب المأمون علينا فيها، وكان المأمون يستاك في كل يوم ساعتين كاملتين، فدعاني المأمون يوما وهو يستاك وكلّمني بشيء ثم قال لي ما معنى قول الخريمي في علي بن الهيثم.
فدبنقا لذا الحديث دبنقا
«1» فقلت له: أنا أتكلم بالنبطية ولا أعلم ما معنى هذا، وأحمد بن الجنيد أرطن بها مني، فأومأ إليّ بمسواكه أن انصرف، فانصرفت فما بلغت الستر حتى لقيني أحمد بن الجنيد داخلا، وكان إذا خرج من الدار قبلي انتظرني وإذا خرجت قبله انتظرته، فوقفت منتظرا له فإذا به قد خرج فقلت له: ما كان خبرك؟ فأخرج إليّ توقيع المأمون بخطه بترك ما كنا نطالب به من الستة الآلاف ألف عن ابني وابنه وقال: قال لي ما معنى قول الخريمي: فدبنقا لذا الحديث دبنقا. فقلت: ضرطا لذا الحديث ضرطا فضحك وقال لي: إني سألت مخلدا عنها فلم يعرفها فاسأل حاجة فقلت: ابتاع ابني وابن مخلد غلات السواد وقدرنا الربح فخسرنا ستة آلاف ألف درهم ولا حيلة لنا فيها، وضيعتي بجلولا تساوي ثلاثة آلاف ألف درهم، فيأمر أمير المؤمنين بأخذها عن ابن مخلد وتسبيب ما على ابني على الاحالة أو الاقالة فقال: ويحك تبذل نفسك وضيعتك عن ابن مخلد، فقلت: نعم أنا غررته وأمّلت الربح ومنعته أن يعقده على التجار ويتعجّل فضله، وقد كانوا بذلوا لنا فيه ربحا كبيرا فقال، لي: أيّ نبطي أنت؟! هات الدواة فقدّمتها إليه، فوقع بابرائنا جميعا من المال وترك ضيعتي عليّ.(5/2007)
وقال المأمون يوما: ببابي رجلان أحدهما أريد أن أضعه وهو يرفع نفسه، وهو عليّ بن الهيثم، والآخر أريد أن أرفعه وهو يضع نفسه، وهو الفضل بن جعفر بن يحيى بن خالد بن برمك.
[854]
علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم، أبو الحسن:
كان أبوه يحيى أول من خدم من آل المنجم الخلفاء وإليه ينسبون، وهو المنجم، وأول من خدم المأمون، وقد ذكر في بابه، ونادم ابنه علي هذا المتوكل وكان من خواصه وندمائه والمتقدمين عنده، وخصّ به وبمن بعده من الخلفاء الى أيام المعتمد على الله، وكان شاعرا راوية علامة أخباريا. مات سنة خمس وسبعين ومائتين ودفن بسرّ من رأى في آخر أيام المعتمد. وأخذ أبو الحسن هذا عن جماعة من العلماء منهم إسحاق بن إبراهيم وشاهده، وكان يجلس بين يدي الخلفاء ويأمنونه على أسرارهم، وكان حسن المروءة ممدّحا، واتصل بمحمد بن اسحاق بن إبراهيم المصعبي ثم اتصل بالفتح بن خاقان وعمل له خزانة كتب حكمة نقل إليها من كتبه مما استكتبه للفتح بن خاقان أكثر ما اشتملت عليه خزانة حكمة قط. وله تصانيف منها: كتاب الشعراء القدماء والاسلاميين. وكتاب أخبار إسحاق بن إبراهيم. وكتاب الطبيخ.
قال عبيد الله بن أبي طاهر: كان أبو الحسن علي بن يحيى مشتهرا «1» بالأدب كله مائلا إلى أهله معتنيا بأمورهم، وكان منزله مألفا لهم، وكان يوصل كثيرا منهم إلى الخلفاء والأمراء ويستخرج لهم الصلات، وإن جرى على أحد منهم حرمان وصله من ماله، وكان يبلغ من عنايته بهم ورغبته في نفعهم أنه كان ربما أهدى الى الخلفاء والأمراء عنهم الهدايا الظريفة المليحة ليستخرج لهم بذلك ما يحبون.
قال: حدثني أبو أحمد يحيى بن علي بن يحيى قال: قدم على أبي إدريس بن
__________
(854) - تاريخ الطبري 3: 1637 ومعجم الشعراء: 141 ومروج الذهب 5: 53- 54 والفهرست: 160 وتاريخ بغداد 12: 121 وسمط اللآلي: 525 وسير الذهبي 13: 282 وعيون الأنباء 1: 205 وابن خلكان 3: 373 والوافي 22: 303 والنجوم الزاهرة 3: 73.(5/2008)
أبي حفصة في أيام المتوكل وتوسل إليه فأوصل شعره إليه وكلّمه فيه، فاستخرج له منه عشرة آلاف درهم، فقال إدريس بن أبي حفصة «1» :
أضحى علي بن يحيى وهو مشتهر ... بالصدق في الوعد والتصديق في الأمل
لو زيد بالجود في رزق وفي أجل ... لزاد جودك في رزقي وفي أجلي
ثم وصله من ماله لما عزم ادريس على الانصراف الى بلده بجملة جليلة «2» ، ولم يزل إدريس مقيما عنده في ضيافته إلى وقت ارتحاله، فقال إدريس عند وداعه إياه:
ما من دعوت فلبّاني بنائله ... كمن دعوت فلم يسمع ولم يجب
إني وجدت عليّا إذ نزلت به ... خيرا من الفضة البيضاء والذهب
وحدث علي بن هارون بن يحيى بن المنجم في «كتاب الأمالي» له قال:
حدثني عمي أبو أحمد يحيى بن علي حدثني أبي علي بن يحيى قال: وفد اليّ «3» عافية بن شبيب بن خاقان بن الأهتم السعدي من البصرة فأنزلته عليّ وأحسنت ضيافته ورعيت له حرمة الأدب الذي توسل به، فأقام معي مدة في كفاية وكرامة وحسن ضيافة وحملته على فرس، واستوصلت له جماعة من إخواني فأخذت له منهم ما تأثث به حاله وأصلح به شأنه، ثم ذكرته للمتوكل رحمة الله عليه ووصفت له أدبه وأنّ معه ظرفا يصلح به لمجالسته، فأمرني باحضاره، ودخل إليه فوصله وأجرى عليه رزقا وجالسه، فمكث مدة على ذلك، ثم انفرجت الحال بيني وبينه، وكفر ما كان من إحساني إليه وبسط لسانه يذكرني بما لم أستحقّه منه، وكان المتوكل يغريه بي لما رأى منه فيضحك المتوكل مما يجري ويجيئني بذلك فيه وهو لا يدري. قال أبو الحسن: فأهدى في يوم من أيام النواريز إلى المتوكل فرسا، فنظر إليه المتوكل فاستحسنه، ثم أقبل على الفتح بن خاقان فقال: أما ترى إلى هذا الفرس الذي أهداه عافية ما أحسنه وأعتقه، هذا خلاف ما يصفه به علي بن يحيى من صغر الهمة وضيق النفس والخساسة؛ من تبلغ همته إلى أن يهدي مثل هذا الفرس لا يوصف بالخساسة ولا بضيق النفس، وهو(5/2009)
في ذلك كله كان ينظر إليّ ويقصدني بالكلام ويريد العبث بي، فتركته حتى أطنب في هذا المعنى وبلغ منه ما أراد ثم قلت له: يا أمير المؤمنين أليس من أهدى مثل هذا الفرس عندك ذا همة وقدر؟ قال: بلى، قال قلت: فأبعد همة وأرفع قدرا من حمله عليه. قال: ومن حمله عليه؟ قال قلت: أنا حملته عليه. قال فقال: يا عافية ما يقول عليّ؟ قال فقال: صدق يا أمير المؤمنين هو حملني عليه، قال: فانكسر عني ثم أقبل على الفتح خجلا، وسربت الحال بيني وبين عافية حتى هجاه من كان يطيف به من الشعراء، فقال فيه أبو عبد الله أحمد بن أبي فنن، وكنت أدخلته على المتوكل وجالسه وشكر لي ذلك إذ كفره عافية:
ستعلم أنّ لؤم بني تميم ... سيظهر منه للناس الخفيّ
وما إن ذاك أنك من تميم ... ولكن ربما جرّ الدعيّ
وقال فيه أبو هفان:
لو كنت عافية لكنت محببا ... في العالمين كما تحبّ العافيه
وقال فيه أبو الحسن البلاذري:
من رآه فقد رأى ... عربيا مدلّسا
ليس يدري جليسه ... أفسا أم تنفّسا
وقال فيه أبو العنبس الصيمري:
أبا حسن بمنصبك الصميم ... أتأذن في السّلاح على التميمي
فو الرحمن لولا ألف سوط ... لفارق روحه روح النسيم
وهجاه أبو الحسن علي بن يحيى المنجم فقال:
أأهجو تميما أن تعرّض ملصق ... إليها دعيّ قد نفته قرومها
فآخذها طرّا بذنب دعيّها ... فأين نهى قومي وأين حلومها
وما في دعيّ القوم ثأر لثائر ... ولم يقترف ذنبا فيهجى صميمها
أعافي إنّ اللؤم منك سجية ... وشرّ خلال الأدعياء قديمها
قال أبو الحسن: وترقى به الأمر في منابذتي إلى أن ادّعى في يوم من الأيام بحضرة المتوكل أنه أحسن مروءة مني، فقال الفتح: فمحنة هذا سهلة، يوجّه أمير(5/2010)
المؤمنين إلى منزلهما من يحضر مما يجده من الطعام حاضرا، فدعا المتوكل بقائد من قواده وقال: امض إلى منزل علي بن يحيى فانظر ما تجد فيه من الطعام حاضرا فأحضره، وامنعهم من أن يشتروا شيئا أو يعملوه، وافعل مثل ذلك بمنزل عافية، فصار إلى منزل علي بن يحيى فوجد فيه طعاما عتيدا، فحمل جونة حسنة، وصار إلى منزل عافية فلم يجد فيه غير سفرة خلقة معلّقة في مجلسه، فأمر فأنزلت فوجد فيها كسرا من خبز خشكار وملحا من ملح السوق وقطعة جبن يابس وقطعة من سمك مالح وقصعة مكسورة فيها ذلك المالح وخرقة وسخة «1» منقطعة، فحمل السفرة بحالها وصار إلى المتوكل فعرض عليه الجونة فاستحسنها وقال للفتح: أما ترى ما أنظف هذا الطعام وأحسنه؟! وأحضر السفرة فقال: ما هذا؟ قال: هذا هو الذي وجدته في منزل عافية، قال: افتحوها ففتحت، فاستقذر ما رأى فيها وعجب منه وقال: يا فتح أظننت أن رجلا يجالسني وقد وصلته بعدة صلات فيكون هذا مقدار مروءته؟ فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما له عذر، فدعا بخادم من خدمه وقال: امض إلى عبيد الله بن يحيى فقل له: أخرج إليّ ما وصل إلى عافية من مالي من رزق وصلة منذ خدمني إلى هذا الوقت، فمضى الخادم فلم يكن بأسرع من أن وافى برقعة من عبيد الله وفيها مبلغ ما صار إلى عافية فإذا هو ثلاثمائة ألف درهم، فقال المتوكل: يا فتح أما كان يجب أن يتبين أثر النعمة على من وصل إليه هذا المال؟ ما في هذا خير ولا يصلح مثله لمجالستي، فأخرجه من المجالسة وأمر بنفيه إلى البصرة، وهي بلده، فلما حضر خروجه طالبته صاحبة المنزل بأجرته فدفع إليها ببقية ما لها عليه حبّا كان في الدار خلقا، واتصل الخبر بابن المنجم قال: فصرت إلى المتوكل فعرّفته ذلك فعجب منه، وأمر باحضار المرأة ومساءلتها عن الخبر فأخبرت به، فأمر لها بصلة، وتقدّم إلى عبيد الله في أخذ الحب وإنفاذه مع رسول قاصد خلف عافية يلحقه بالبصرة، وأمره أن يكتب إلى صاحب المعونة وصاحب الصدقة والخراج والقاضي وصاحب البريد بحضور الجامع والتقدم إلى وجوه أهل البصرة في الحضور وإحضار عافية وتسليم الحبّ إليه بحضرتهم وإشهادهم عليه وتعريفهم ما كان من خبره مع المرأة صاحبة داره، ففعل(5/2011)
ذلك وصار به عافية شهرة في بلده.
وحدث هارون عن عمه عن أبيه علي بن يحيى قال كنت أنادم المتوكل في ليلة من الليالي فغلب عليّ النبيذ، فأطرقت كالمهموم وأنا منتصب، قال: فدعا المتوكل بنصر [بن] سلهب وقال: امض الى منزل علي بن يحيى فانظر ما تجد فيه من الطعام فاحمله إليّ وأعجلهم غاية الاعجال ولا تدعهم يهيئون شيئا، قال: فمضى نصر فامتثل أمره وحمل جونة مملوءة من ضروب الطعام وجاء بها إلى المتوكل، ففتحت بين يديه ففاحت برائحة شوّقته إلى الطعام واستحسن ما رأى فيها فأكل منها والفتح معه ثم قال له: أما ترى ما أحسن هذا الطعام وأطيبه وأنظفه، ولو كان عليّ أعدّ هذا لمثل ما كان منا «1» ما زاد على حسن هذه الجونة وطيب ما فيها، قال فقال له الفتح: هذا يا أمير المؤمنين يدلّ على مروءته وإنه ليجب أن يعان عليها، قال: فصاح بي يا علي، فقمت قائما وقلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: تعال، فقربت منه فقال: انظر إلى هذه الجونة وما فيها، قال: فنظرت إليها فقال: كيف تراه؟ قلت أرى طعاما حسنا، قال: فتدري من أين هو؟ فقال قلت: لا يعلم الغيب إلا الله، قال: فإنها من منزلك وإني فعلت كذا وكذا وقصّ عليّ القصة وقال: قد والله سرّني ما رأيت من مروءتك وسروك، وكذا فليكن من خدم الملوك، ثم قال لي: ما تحبّ أن أهب لك؟ قال قلت: مائة ألف دينار، قال: أنت والله تستحقها وما هو أكثر منها، وما يمنعني من دفعها إليك إلا كراهة الشنعة وأن يقال وصل جليسا من جلسائه في ليلة بمائة ألف دينار، ولكني أوصلها إليك متفرقة وأضمّن فتحا إذكاري بذلك حتى تستوفيها، وقد وصلتك بمائة ألف درهم على غير صرف فانصرف بها معك، قال: وأمر باحضارها فأحضرت عشر بدر وحملت معي إلى منزلي، ثم لم يزل يتابع لي الصلات حتى وفّاني مائة ألف دينار. قال علي بن يحيى: وأحصيت ما وصل إليّ من أمير المؤمنين المتوكل من رزق وصلة فكان مبلغه ثلاثمائة ألف دينار.
قال: ولما مات علي بن يحيى قال ابن بسام يرثيه:
قد زرت قبرك يا عليّ مسلّما ... ولك الزيارة من أقلّ الواجب(5/2012)
ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عنّي حملت نوائبي
وفي «كتاب النورين» للحصري: وقال علي بن المنجم (فلا أدري أهو هذا أم علي بن هارون بن علي بن يحيى بن المنجم) :
ومن طاعتي إياه أمطر ناظري ... إذا هو أبدى من ثناياه لي برقا
كأنّ جفوني تبصر الوصل هاربا ... فمن أجل ذا تجري لتدركه سبقا
ولعلي هذا ابن يكنى أبا عيسى واسمه أحمد كان أديبا وهو مذكور في بابه. وقال علي بن يحيى يرثي المأمون ويمدح المعتصم:
من ذا على الدهر يعديني فقد كثرت ... عندي جنايته يا معشر الناس
أنحى على الملك المأمون كلكله ... فصار رهنا لأحجار وأرماس
قد كاد ينهدّ ركن الدين حين ثوى ... ويترك الناس كالفوضى بلا راس
حتى تداركهم بالله معتصم ... خير الخلائف من أولاد عباس
ودخل أبو علي البصير على علي بن يحيى وقد أصيب ببعض أهله، وكان قد بعث إليه ببرّ قبل ذلك، فقال له: بلغني مصابك ووصل إليّ ثوابك فأحسن الله جزاءك وعزاءك.
قال المرزباني وهو القائل في نفسه «1» :
عليّ بن يحيى جامع لمحاسن ... من العلم مشغوف بكسب المحامد
فلو قيل هاتوا فيكم اليوم مثله ... لعزّ عليكم أن تجيئوا بواحد
وله»
:
سيعلم دهري إذ تنكّر أنني ... صبور على نكرائه غير جازع
وأني أسوس النفس في حال عسرها ... سياسة راض بالمعيشة قانع
كما كنت في حال اليسار أسوسها ... سياسة عفّ في الغنى متواضع
وأمنعها الورد الذي لا يليق بي ... وإن كنت ظمآنا بعيد الشرائع «3»(5/2013)
وله «1» :
بأبي والله من طرقا ... كابتسام الصبح إذ خفقا
زادني شوقا برؤيته ... وحشا قلبي به حرقا
من لقلب هائم كلف ... كلما سكّنته قلقا
زارني طيف الحبيب فما ... زاد أن أغرى بي الأرقا
ولما مات علي بن يحيى قال علي بن سليمان أحد شعراء العسكر يرثيه «2» :
قد زرت قبرك يا عليّ مسلما ... ولك الزيارة من أقلّ الواجب
ولو استطعت حملت عنك ترابه ... فلطالما عني حملت نوائبي «3»
ودمي فلو أني علمت بأنه ... يروي ثراك سقاه صوب الصائب
لسفكته أسفا عليك وحسرة ... وجعلت ذاك مكان دمع ساكب
فلئن ذهبت بملء قبرك سؤددا ... لجميل ما أبقيت ليس بذاهب
وحدث أبو علي التنوخي في «نشواره» «4» : حدثني أبو الحسن بن أبي بكر الأزرق قال حدثني أبي قال: كان بكركر من نواحي القفض ضيعة نفيسة لعلي بن يحيى بن المنجم وقصر جليل فيه خزانة كتب عظيمة يسميها خزانة الحكمة يقصدها الناس من كلّ بلد فيقيمون فيها ويتعلمون منها صنوف العلم، والكتب مبذولة في ذلك لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى، فقدم أبو معشر المنجم من خراسان يريد الحج وهو إذ ذاك لا يحسن كبير شيء من النجوم، فوصفت له الخزانة فمضى ورآها فهاله أمرها، فأقام بها وأضرب عن الحج وتعلّم فيها علم النجوم وأغرق فيه حتى الحد، وكان ذلك آخر عهده بالحج وبالدين والاسلام أيضا.
وذكر جحظة في «أماليه» : حدثنا ابن حميد قال، قال المتوكل لعلي بن يحيى(5/2014)
المنجم: اهج مروان بن أبي الجنوب، فقال يا أمير المؤمنين: ومن مروان حتى أهجوه؟! قال: مروان مولى بني أمية ومولى القوم منهم، وبعد فإنهم بنو عمي وأتت العداوة بيننا، فأنت من أنت؟ قال: أنا مولاك يا أمير المؤمنين، قال: دعنا من هذا البرد، اهج الرجل وإلا أمرته أن يهجوك، فوقف ساعة متفكرا فاندفع مروان يقول:
ألا إن يحيى لا يقاس الى أبي ... وعرض عليّ لا يقاس إلى عرضي
أناس من الأنباط أكثر فخرهم ... إذا فخر الأشراف بعض على بعض
تنحّل أصلا في المجوس ودعوة ... إليهم نفاها من بحكمهم يقضي
أبى ذاك آذرباذ فيكم فأنتم ... من السّفل الأرذال والنبط المحض
حديثكم غثّ وقربكم أذى ... وآدابكم ممزوجة المقت بالبغض
تسوّقتم عند الامام بحبّه ... وسوقكم عند الروافض بالرفض
متى ما تعاطى المجد والفخر أهله ... فلستم من الإبرام فيه ولا النقض
إخال عليا من تكامل مقته ... يطا حرّ وجهي وهو يمشي على الأرض
قال أحمد بن أبي طاهر: كنت يوما عند أبي الحسن علي بن يحيى المنجم في أيام المعتمد فدخل عليه ابنه هارون فقال له: يا أبت رأيت في النوم أمير المؤمنين المعتمد وهو في داره على سريره، إذ بصر بي فقال: أقبل علي يا هارون، يزعم أبوك أنك تقول الشعر، فأنشدني طريد هذا البيت:
أسالت على الخدّين دمعا لو انه ... من الدرّ عقد كان ذخرا من الذخر
فلم أردّ عليه شيئا وانتبهت؛ قال: فزحف إليه علي بن يحيى غضبا وقال ويحك فلم لم تقل:
فلما دنا وقت الفراق وفي الحشا ... لفرقتها لذع أحرّ من الجمر
أسالت على الخدّين دمعا لو انه ... من الدّر عقد كان ذخرا من الذخر
قال ابن أبي طاهر: فانصرفنا متعجبين من حفظ هارون لما هجس في خاطره في النوم، ولمبادرة علي بن يحيى وسرعته في القول:
قال جحظة في «أماليه» : حدثت عن يزيد بن محمد المهلبي قال: كنت أرى(5/2015)
علي بن يحيى بن علي المنجم فأرى صورته وصغر خلقته ودقة وجهه وصغر عينيه وأسمع بمحله من الواثق والمتوكل فأعجب من ذلك وأقول، بأيّ سبب يستظرفه الخليفة؟ وبماذا حظي عنده، والقرد أملح منه قباحة؟! فلما جالست المتوكل رأيت علي بن يحيى قد دخل على المتوكل في غداة «1» من الغدوات التي قد سهر في ليلتها بالشرب وهو مخمور يفور حرارة مستثقل لكلّ أمر يخفّ دون ما يثقل، فوقف بين يديه وقال: يا مولاي أما ترى إقبال هذا اليوم وحسنه وإطباق الغيم على شمسه وخضرة هذا البستان ورونقه، وهو يوم تعظّمه الفرس وتشرب فيه لأنه هرمز روز، وتعظّمه غلمانك وأكرتك مثلي من الدهاقين، ووافق ذلك يا سيدي أن القمر مع الزهرة، فهو يوم شرب وسرور وتخلّ بالفرح، فهشّ اليه وقال: ويلك يا عليّ ما أقدر أن أفتح عينيّ خمارا، فقال: إن دعا سيدي بالسواك فاستعمله وغسل بماء الورد وجهه وشرب شربة من ربّ الحصرم أو من مبنّة مطيبة مبرّدا ذلك بالثلج انحلّ كلّ ما يجد، فأمر باحضار كل ما أشار به، فقال عليّ: يا سيدي وإلى أن تفعل ذاك تحضر عجلانيتان بين يديك مما يلائم الخمار ويفتق الشهوة ويعين على تخفيفه فقال: أحضروا عليّا كل ما يريد، فأحضرت العجلانيتان بين يديه وفراريج كسكر قد صففت على أطباق الخلاف وطبخ حماضية وحصرمية ومطجنة لها مريقة، فلما فاحت روائح القدور هشّ لها المتوكل، فقال له: يا عليّ أذقني فجعل يذيقه من كلّ قدر بحرف يشرّبه فيها، فهشّ إلى الطعام وأمر باحضاره، فالتفت عليّ الى صاحب الشراب فقال لهم: ينبغي أن يختار لأمير المؤمنين شراب ريحاني ويزاد في مزاجه إلى أن يدخل في الشرب فيهنئه الله إياه إن شاء الله. قال فلما أكل المتوكل وأكلنا نهضنا فغسلنا أيدينا وعدنا إلى مجالسنا وغنى المغنون فجعل عليّ يقول: هذا الصوت لفلان والشعر لفلان، وجعل يغني معهم وبعدهم غناء حسنا إلى أن قرب الزوال، فقال المتوكل: أين نحن من وقت الصلاة؟
فأخرج عليّ اصطرلابا من فضة في خفّه فقاس الشمس وأخبر عن الارتفاع وعن الطالع وعن الوقت، فلم يزل يعظم في عيني حتى صار كالجبل، وصار مقابح وجهه محاسن، فقلت: لأمر ما قدّمت، فيك ألفا خصلة: طيب مضحك، وأدب(5/2016)
جليس، وحذق طباخ، وتصرف مغن، وفكر منجم، وفطنة شاعر، ما تركت شيئا مما يحتاج إليه الملوك إلا ملكته.
قال جحظة: وحدثني رذاذ غلام المتوكل قال: شهدت عليّ بن يحيى المنجم وقد أمره المتوكل أن يغنيه، وكنت جالسا الى جانبه، فقال لي: قد وقعت وإن تمنّعت جدّ بي حتى أغني ثم لا يكون له موقع، والمبادرة إلى أمره وسرعة الطاعة له أصوب، اضرب عليّ، فضربت عليه وغنى:
زار من سلمى خيال موهنا ... حبذا ذاك الخيال الطارق
جاد في النوم بما ضنّت به ... ربما يغنى بذاك العاشق
فقال: زه أجدت والله يا عليّ، فقال له عليّ: قد فرّحتك يا سيدي ففرحني، فدعاه وحيّاه بمشمة عنبر كانت بين يديه في صينية ذهب عليها مكبة منها وأمر له بألف دينار وتخوت ثياب، فقال لي: يا أبا شريك أناصفك؟ فقلت: لا والله لا قبلت من ذلك لا الكلّ ولا النصف فبارك الله لك فيه.
قال جحظة وحدثني عليّ بن يحيى المنجم قال: قلت مرة وقد أخذ مني النبيذ بين يدي الواثق لمن كان يسقيني: ويلك أجهزت والله عليّ، سقيتني الكأس حية فالا قتلتها؟ فسمع الواثق فقال لم يعد بك قول حسان:
إن التي ناولتني فرددتها ... قتلت قتلت فهاتها لم تقتل
ألا تراه أنكر عليه مزجها؟ قلت: حسان أعرابي لا يحسن يشرب الخمر، وكان أيضا يشربها تغنما لبعد عهده بها، ولكن أردت من ساقيّ أن يأخذ بقول أفتى الخلق وأملحهم أدبا وأعلمهم بأدب الشرب، قال: ومن هو؟ قلت: أبو نواس، قال: حين يقول ماذا؟ قلت: حين يقول:
لا تجعل الماء لها قاهرا ... ولا تسلّطها على مائها
«1» فقيل لي لما حضرت من الغد، إنّ الواثق قال: لله دره ما أسرع جوابه وأحسن انتزاعه، لكنه أخرج عربدته كلّها على حسان بن ثابت، فلما حضرت بين يديه قال(5/2017)
لي: هيه يا عليّ سكرت أمس، فقلت: يا سيدي من شرب سكر، ومن كان أمره إلى نفسه في نبيذه رفق، ومن كان أمره الى غيره خرق. قال: فعربدت على حسان وثلبته وما يستحقّ ذلك وإنه لطبّ بشرب الكأس مدّاح لشاربيها، أليس هو الذي يصف ربيعة بن مكدم فبلغ من ذلك أحسن ما يكون الفتى عليه بقوله «1» :
نفرت قلوصي من حجارة حرّة ... بنيت على طلق اليدين وهوب
لا تنفري يا ناق منه فانه ... شرّيب خمر مسعر بحروب
وهو أيضا من المعدودين في وصّاف الخمر وشربها، أليس هو القائل «2» :
إذا ما الأشربات ذكرن يوما ... فهنّ لطيّب الراح الفداء
نولّيها الملامة إن ألمنا ... إذا ما كان مغث أو لحاء
ونشربها فتتركنا ملوكا ... وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
ويلك أليس هو الذي يقول «3» :
لا أخدش الخدش النديم ولا ... يخشى جليسي إذا انتشيت يدي
ومن يحسن ويلك يقول مثل قوله:
وممسك بصداع الرأس من سكر ... ناديته وهو مغلوب ففدّاني
لما صحا وتراخى العيش قلت له ... ان الحياة وإن الموت سيان
فاشرب من الخمر ما واتاك مشربه ... واعلم بأن كلّ عيش صالح فان
فقلت له: لو حضرك والله يا سيدي لأقرّ أنك أحفظ لعيون شعره منه، فالويل لجليسك بماذا يتنفّق عندك وروايتك هذه الرواية، فقال: ويحك يا عليّ بل الويل لجليسي إذا جالس من لا يعرف قدر ما يحسن.
قال أحمد بن أبي طاهر: اجتمعنا عند أبي الحسن عليّ بن يحيى أنا وأبو هفان عبد الله بن أحمد العبدي وأبو يوسف يعقوب بن يزيد التمار على نبيذ فقال أبو هفان:(5/2018)
وقائل إذ رأى عزفي عن الطلب ... أتهت أم نلت ما ترجو من النشب
قلت ابن يحيى عليّ قد تكفّل لي ... وصان عرضي كصون الدين للحسب
فقال التمار:
يذكي لزوّاره نارا منورة ... على يفاع ولا يذكي على صبب
من فارس الخير في أبيات مملكة ... وفي الذوائب من جرثومة الحسب
قال أحمد بن أبي طاهر فقلت:
له خلائق لم تطبع على طبع ... ونائل وصلت أسبابه سببي
كالغيث يعطيك بعد الريّ وابله ... وليس يعطيك ما يعطيك عن طلب
قال فوصلهم وخلع عليهم وحملهم.
قال عبيد الله حدثني أبو أحمد يحيى بن عليّ بن يحيى قال: اتصل أبي بأمير المؤمنين المتوكل على الله فغلب عليه وعلى الفتح بن خاقان بخدمته وأدبه وافتنانه وتصرفه في كلّ ما تشتهيه الملوك، وكان الفتح بن خاقان هو الذي وصفه للمتوكل، وكان بعد موت محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن مصعب لأن أبي كان متصلا به وشديد الاختصاص بخدمته، حتى لقد مات محمد بن إسحاق ويده في يده، فلما مات دخل على الفتح بن خاقان فأنشده يمدحه قصيدة أولها:
سأختار من حرّ الكلام قصيدة ... لفتح بن خاقان تفوق القصائدا
يلذّ بأفواه الرواة نشيدها ... ويشنا بها من كان للفتح حاسدا
لعمرك إن الفتح مذ كان يافعا ... ليسمو إلى أعلا ذرى المجد صاعدا
قريع الموالي ساد في خمس عشرة ... موالي بني العباس لم يبق واحدا
وبذّهم طرّا ندى وشجاعة ... فألقوا إليه مذعنين المقالدا
قال: فلم أر الفتح اهتز لشيء من الشعر اهتزازه لهذه القصيدة، ولا سرّ بأحد قدم عليه سروره بعلي بن يحيى، ثم قام الفتح من فوره فدخل على المتوكل فعرّفه مكانه، فأذن له واستجلسه وأمر أن يخلع عليه، فخلع عليه خلع المجالسة، فكان آنس خلق الله به وأغلبهم عليه وعلى الفتح، وتقدم الجلساء جميعا عنده، ووثق به حتى عزم على إدخاله معه إلى الحرم اذا جلس معهنّ، وذاك أنه شكا إلى الفتح أنه إذا(5/2019)
قعد مع الحرم لم يكن له من يستريح إليه ويأنس به وقال: قد عزمت أن أدخل علي بن يحيى فأستريح إليه، فقال له الفتح: ما يصلح لذلك غيره، فبلغ ذلك علي بن يحيى فقال للفتح: أنا قدّرت أن أتخلّص من هذا بك فوكدت عليّ الأمر فيه؟ ليس أفعل.
فقال له الفتح: إن هذا الذي ندبك إليه أمير المؤمنين منزلة ليس فوقها منزلة في الخصوص، فقال: قد علمت ذلك، وشكرت تفضّل أمير المؤمنين عليّ فيه، ولكن في الأمر شيء يسمعه أمير المؤمنين وتسمعه، ثم يتفضل بالاعفاء منه، قال: وما هو؟
قال: قد علمت أن أمير المؤمنين أشدّ الناس غيرة وأن النبيذ ربما أسرع إليّ، ولست آمن بعض هذه الأحوال وأن ينسى عند غلبة النبيذ ما كان منه فيقول: ما يصنع هذا معي عند حرمي؟ فيعجل عليّ بشيء لا يستدرك، وليس بيني وبين هذا عمل؛ قال فقال المتوكل: تخلّصت يا علي مني بألطف حيلة وأعفاه.
قال يحيى وحدثني أبي قال: قال أمير المؤمنين المتوكل يوما من الأيام: يا عليّ لك عندي ذنب- قال هذا ونحن بدمشق- قال: فأكبرت ذلك وقمت قائما بين يديه وقلت: أعوذ بالله من سخط أمير المؤمنين، ما الذنب يا أمير المؤمنين فلعله كذب كاشح أو بغي حاسد؟ فقال: لا، أخبرني من أثق به، قال فقلت: يتفضل عليّ أمير المؤمنين بتعريفي الذنب، فإن كان لي عذر اعتذرت وإلا اعترفت وعذت بعفو أمير المؤمنين، فقال: أتحتاج إلى شيء وتسأل غيري؟ فقلت: وما ذاك يا أمير المؤمنين؟
قال: أخبرني بختيشوع أنك وجهت إليه واستقرضت منه عشرين ألف درهم فلم فعلت ذلك وما منعك أن تسألني فأصلك؟ أتأنف من مسألتي؟ فقلت: يا أمير المؤمنين لا والله ما منعني ذلك، وإن صلات أمير المؤمنين متتابعة عندي من غير مسألة، ولكن بختيشوع ممن آنس به، فاستعرت منه هذه الدراهم على ثقة مني بأنّ تفضّل أمير المؤمنين غير متأخر عني فأردّها من ماله. قال فقال لي: قد عفوت لك عن هذا هذه المرة فلا تعد إلى مثلها، وإن احتجت فلا تسأل غيري أو تبذل وجهك إليه.
ثم خدم علي بن يحيى المنتصر بن المتوكل فغلب عليه أيضا، وقدّمه المنتصر على جماعة جلسائه وقلّده أعمال الحضرة كلها: العمارات والمستغلات والمرمات والحظائر وكل ما على شاطئ دجلة الى البطيحة من القرى، ثم خدم المستعين بالله فقدّمه وأحبه وأحلّه محله من الخلفاء ممن كان قبله، وأقرّه المستعين على ما تقلّده من(5/2020)
أعمال الحضرة، ثم حدثت الفتنة وانحدر مع المستعين الى مدينة السلام فلم يزل معه إلى أن خلع المستعين، فأقام علي بن يحيى يغدو ويروح إليه بعد الخلع إلى أن أحله من البيعة التي كانت في عنقه، ولم يكن المستعين قبل الخلع بسنة يأكل إلا ما يحمل إليه من منزل علي بن يحيى في الجون إلى دار أبي العباس محمد بن عبد الله بن طاهر فيفطر عليه وكان يصوم في تلك الأيام.
قال يحيى بن علي، قال لي أبي: صرت إلى المستعين لمّا صير به إلى قصر الرصافة فوجدت عنده قرب داية المعتز وعيسى بن فرخانشاه وهم يسألونه عن جوهر الخلافة، فقالت لي قرب: يا أبا الحسن بسّ ما كان لنا منك نصيب يا هذا كاتبنا الناس كلّهم غيرك، قال قلت: أما إن ذاك ليس لتقصير فيما يجب عليّ من حق أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله ومن حق ولديه، ولكن كان في عنقي طوق يحظر عليّ ذلك، قال فقالت: بارك الله فيك. قال: ثم خلص الأمر للمعتز فكان أول من طلبه للمنادمة علي بن يحيى فشخص إلى سرّ من رأى فتلقاه أمير المؤمنين المعتز حين قدم عليه أجمل لقاء وخلع عليه ووصله وقلّده الأسواق والعمارات وما كان يتقلده قبل خلافته، وخصّ به وغلب عليه حتى تقدم عنده على الناس كلهم. قال: فأخبرني أبي أنه حسب ما وصل إليه من المعتز من صلته ورزقه منذ خدمه إلى أن تصرمت أيامه فكان مبلغه ثلاثة وثلاثين ألف دينار وقلده المعتز القصر الكامل فبناه، ووصله عند فراغه منه بخمسة آلاف دينار وأقطعه ضيعة، وفي المعتز يقول علي بن يحيى:
بدا لابسا برد النبيّ محمد ... بأحسن مما أقبل البدر طالعا
سميّ النبي وابن وارثه الذي ... به استشفعوا أكرم بذلك شافعا
فلما علا الأعواد قام بخطبة ... تزيد هدى من كان للحق تابعا
وكلّ عزيز خشية منه خاشع ... وانت تراه خشية الله خاشعا
فأما المهتدي فإنه حقد عليه أشياء كانت تجري بينه وبينه في مجالس الخلفاء، فانحرف عنه المهتدي لميله إلى المتوكل، فكان المهتدي يقول: لست أدري كيف يسلم مني عليّ بن يحيى، إني لأهمّ به فكأني أصرف عنه، ووهب الله له السلامة من المهتدي إلى أن مضى لسبيله، وكانت أيامه قصيرة.(5/2021)
ثم أفضى الأمر إلى المعتمد على الله فحلّ منه محلّه ممن كان قبله من الخلفاء، وقدّمه على الناس جميعا ووصله، وقلده ما كان يتقلده من أعمال الحضرة، وقلّده بناء المعشوق فبنى له أكثره، وكان الموفق من محبته وتقديمه وجميل الذكر له في مجلسه إذا ذكر على أفضل ما يكون وليّ نعمة، وكان يذكره كثيرا في مجالسه ويصف أيامه مع أمير المؤمنين المتوكل وأحاديثه، ويحكيها لجلسائه ويعجبهم من ذكائه ومعرفته وفضله. وتوفي في آخر أيام المعتمد سنة خمس وسبعين ومائتين ودفن بسامرا. وشعره كثير مشهور، رأيت العلماء القدماء يكثرون العجب به وليس عندي كذلك، فلذلك أقللت من الاتيان به إلا ما كان في ضمن خبر. وله من الولد الذكور أحمد بن علي وكنيته أبو عيسى، وأبو القاسم عبد الله، وأبو أحمد يحيى، وأبو عبد الله هارون.
[855]
علي بن يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد بن موسى
بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن محمد بن ربيعة بن الحارث بن قريش بن أبي أوفى بن أبي عمرو بن عادية بن حيان بن معاوية بن تيم بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، أبو الحسن القفطي: يعرف بالقاضي الأكرم، أحد الكتّاب المشهورين المبرزين في النظم والنثر، وكان أبوه القاضي الأشرف كاتبا أيضا منشئا، وكانت أمه امرأة من بادية العرب من بليّ من قضاعة، وأمها جارية حبشية كانت لأخت أبي عزيز قتادة الحسني أمير مكة، تزوجها أحد بني عمها العلويين وجاءت منه بأولاد ثم مات عنها فتزوجها رجل من بليّ فجاءت منه ببنين وبنات منهم أمّ القاضي الأكرم- أدام الله علوّه. وكان والده الأشرف خرج يشتري فرسا من تلك البوادي وقد قاربوا أرض مضر
__________
(855) - ترجمة القفطي في معجم البلدان 4: 383 وعقود الجمان لابن الشعار 5: 1 والحوادث الجامعة: 237 ومفرج الكروب 4: 312 والطالع السعيد: 436 وعبر الذهبي 5: 191 وسير الذهبي 23: 227 والوافي 22: 338 والفوات 3: 117 ومرآة الجنان 4: 116 والزركشي: 234 والنجوم الزاهرة 6: 361 وتاريخ مختصر الدول: 272 وبغية الوعاة 2: 212 وحسن المحاضرة 1: 554 والشذرات 5: 236 وقد طبع من كتبه: إنباه الرواة، وتاريخ الحكماء، والمحمدون من الشعراء.(5/2022)
للنجعة فرآها فوقعت منه بموقع، فتزوجها ونقلها إلى أهله، وكانت ربما خرجت في الأحيان إلى البادية استرواحا على ما ألفته ونشأت عليه «1» ويخرج ابنها معها مدّة، قال:
وكانت امرأة صالحة مصلية حسنة «2» العبادة فصيحة اللهجة «3» وكانت اذا أردت سفرا اشتغلت بما يصلح أموري في السفر وهي تبكي وتقول «4» :
أجهّز زيدا للرحيل وإنني ... بتجهيز زيد للرحيل ضنين
وحدثني أطال الله بقاءه قال «5» : كنت وأنا صبي قد قدمت من مصر واستصحبت إلى قفط «6» سنورا أصبهانيا على ما تقتضيه الصبوة، واتفق أن ولدت عدة من الأولاد في دارنا، فنزل سنور ذكر فأكل بعض تلك الجراء، فغمّني ذلك وأقسمت أن لا بدّ لي من قتل الذي أكلها، فصنعت شركا ونصبته في علّية في دارنا وجلست، فإذا السنور «7» قد وقع في الحبالة، فصعدت إليه وبيدي عكّاز وفي عزمي هلاكه، وكان لنا جيرة وقد خرب الحائط بيننا وبينهم، ونصبوا فيه بارية إلى أن يحضر الصنّاع، وكان لربّ تلك الدار بنتان لم يكن فيما أظن أحسن منهما صورة وجمالا وشكلا ودلالا «8» وكانتا معروفتين بذلك في بلدنا، وكانتا بكرين، فلما هممت بقتله إذا قد انكشف جانب البارية، فوقعت عيني على ما بهر المشايخ فكيف الشبان حسنا وجمالا، وإذا هما تومئان إليّ بالأصابع تسألاني إطلاقه، قال: فأطلقته ونزلت وفي قلبي منهنّ ما فيه لكوني كنت أول بلوغي، والوالدة جالسة في الدار لمرض كان بها، فقالت لي: ما أراك قتلته كما كان عزمك، فقلت لها: ليس هو المطلوب إنما هو سنور غيره، فقالت: ما أظنّ الأمر على ذلك، ولكن بالله هل أومىء إليك بالأصابع حتى تركته؟(5/2023)
فقلت: ومن يومىء إليّ؟ لا أعرف معنى كلامك، فقالت: على ذلك يا ابني «1» اسمع مني ما أقول لك:
ثنتان لا أرضى انتهاكهما ... عرس الخليل وجارة الجنب
وكان مع هذا البيت بيت آخر أنسيته. قال: فو الله لكأنّ ماء وقع على نار فأطفأها، فما صعدت بعد ذلك إلى سطح ولا غرفة إلى أن فارقت البلاد، ولقد جاء الصيف فاحتملت حرّه ولم أصعد إلى سطح في تلك الصيفية. ثم وجدت هذا البيت في أبيات الأحوص بن محمد منها «2» :
قالت وقلت تحرجي وصلي ... حبل امرىء كلف بكم صبّ
صاحب إذن بعلي فقلت لها ... الغدر أمر ليس من شعبي
ثنتان لا أصبو لوصلهما ... عرس الخليل وجارة الجنب
أما الخليل فلست خائنه ... والجار أوصاني به ربي
الشوق أقتله برؤيتكم ... قتل الظما بالبارد العذب
قال لي: ولدت في أحد ربيعي سنة ثمان وستين وخمسمائة بمدينة قفط من الصعيد الأعلى «3» أحد الجزائر الخالدات حيث الأرض أربعة وعشرون في أوّل الأقليم الثاني وبها قبر قبط بن مصر بن سام بن نوح. ونشأ بالقاهرة المعزية، اجتمعت بخدمته في حلب فوجدته جمّ الفضل كثير النبل عظيم القدر سمح الكفّ طلق الوجه حلو البشاشة، وكنت ألازم منزله ويحضره أهل الفضل وأرباب العلم، فما رأيت أحدا فاتحه في فنّ من فنون العلم كالنحو واللغة والفقه والحديث وعلم القرآن والأصول والمنطق والرياضة والنجوم والهندسة والتاريخ والجرح والتعديل- وجميع فنون العلم على الاطلاق- إلا وقام به أحسن قيام، وانتظم في وسط عقدهم أحسن انتظام. وله(5/2024)
تصانيف أذكرها فيما بعد إن شاء الله تعالى «1» . أنشدني لنفسه بمنزله بحلب في جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة وستمائة.
ضدّان عندي قصّرا همتي ... وجه حييّ ولسان وقاح
إن رمت أمرا خانني ذو الحيا ... ومقولي يطمعني في النجاح
فأنثني في حيرة منهما ... لي مخلب ماض وما من جناح
شبه جبان فرّ من معرك ... خوفا وفي يمناه عضب الكفاح
وأنشدني أدام الله علوه في أعور لنفسه:
شيخ لنا يعزى إلى منذر ... مستقبح الأخلاق والعين
من عجب الدهر فحدّث به ... بفرد عين ولسانين
ومما أملاه عليّ أدام الله علوه من منثور كلامه:
فصل: وأما سؤاله عن سبب التأخر والتجمع، والتوقف عن التطاول في طلب الرياسة والتوسع، والتعجب من التزامي قعر البيت، وارتضائي بعد السبق بأن أكون السّكيت، فلا ينسبني في ذلك إلى تقصير، وكيف ولساني في اللّسن غير ألكن وبناني في البيان غير قصير، ولقد أعددت للرياسة أسبابها، ولبست لكفاح أهلها جلبابها، وملكت من موادّها نصابها، وتسلحت لأحلاسها وضاربت أضرابها، وباريتهم في ميدان الفضائل فكنت السابق وكانوا الفسكل، وقارعتهم في مجال المقال فأطلقت المشكل وحللت المشكل «2» ، وظننت أني قد حللت من الدولة أمكن مكانها، وأصبحت إنسان عينها وعين إنسانها، فإذا الظنون مخلفة، وشفار عيون الأعداء مرهفة، والفرقة المظنونة بالانصاف غير منصفة، وصار ما اعتمدته من أسباب التقريب مبعدا، ومن اعتقدته لي مساعدا غدا عليّ مسعدا، وأصبح «3» لمثالبي موردا من أعددته لمرادي موردا، وجست مقاصد المراشد فوجدتها بهم مقفلة، ومتى أظهرت فضيلة اعتمدوا فيها تعطيل المشبّهة وشبه المعطّلة، وإذا ركبت أشهب النهار لنيل مرام، ركبوا(5/2025)
أدهم الليل لنقض ذلك الإبرام، وإن سمعوا مني قولا أذاعوا، وإن لم يسمعوا اختلقوا من الكذب ما استطاعوا، وقد صرت كالمقيم وسط أفاع لا يأمن لسعها، وكالمجاور لنار يتّقي شررها ويستكفي لذعها، والله المسؤول توسيع الأمور إذا ضاقت مسالكها، وهو المرجوّ لإصلاح قلوب الملوك على مماليكهم إذ هو رب المملكة ومالكها، وها أنا جائم جثوم الليث في عرينه، وكامن كمون الكميّ في كمينه، وأعظم ما كانت النار لهبا إذا قلّ دخانها، وأشدّ ما كانت السفن جريا إذا سكن سكّانها، والجياد تراض ليوم السباق، والسهام تكنّ في كنائنها لإصابة الأحداق، والسيوف لا تنتضى من الأغماد إلا ساعة الجلاد، واللآلىء لا تظهر من الأسفاط الا للتعليق على الأجياد، وبينما أنا كالنهار الماتع طاب أبرداه، إذ تراني كالسيف القاطع خشن حداه «1» ، ولكلّ أقوام أقوال، ولكلّ مجال أبطال نزال، وسيكون نظري بمشيئة الله الدائم ونظرهم لمحة، وريحي في هذه الدولة المنصورة عاديّة وريحهم فيها نفحة، وها أنا مقيم تحت كنف إنعامها، راج وابل إكرامها من هاطل غمامها، منتظر لعدوّي وعدوها أنكأ سهامها من وبيل انتقامها.
وأملى عليّ قال: كتبت إلى أبي القاسم ابن أبي الحسن بن شيث وكان قد انصرف عن الملك الظاهر ثم رجع إليه بأمر من الملك الظاهر: مقدم سعد، مؤذن بسموّ ومجد، للمجلس الجماليّ لا زال غاديا في السعادة ورائحا، ممنوحا من الله بالنعم مانحا، ميسرا له أرجح الأعمال كما لم يزل على الأماثل راجحا، موضحا له قصد السبيل كوجهه الذي ما برح مسفرا واضحا، قد رد الله بأوبته ما نزح من السرور، وأعاد بعودته الجبر إلى القلب المكسور، ولأم بالمامه صدوعا في الصدور، والواجب التفاؤل بالعود إذ العود أحمد، وألا يخطر الطيرة بباله إذ نهى عن التطيّر أحمد، بل يقال انقلب إلى أهله مسرورا، وتوطّن من النعم «2» الظاهرية جنّة وحريرا، ودعا عدوه لعوده ثبورا، وصلي من نار حسده سعيرا، أسعد الله مصادره وموارده، ووفر مكارمه ومحامده، وأيّد ساعده ومساعده.(5/2026)
وأنشدني لنفسه أدام الله علوّه من قصيدة قالها في الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب صاحب حلب مطلعها:
لا مدح إلا لمليك الزمان ... من المنى في بابه والأمان
غياث دين الله في أرضه ... إن أخلف البرق وضنّ العنان
في كفّه ملحمة للندى ... مثل التي تعهد «1» يوم الطعان
فالعسر مصروع بساحاته ... واليسر سام في ظهور الرعان
وراحتاه راحة للورى ... على كريم الخلق مخلوقتان
فكفّه اليمنى لبسط الغنى ... وكفه اليسرى لقبض العنان
ومنها «2» :
تعرب في الهيجاء أسيافه ... عن حركات مثل لفظ اللسان
كسر وفتح ببلاد العدى ... وبعده ضمّ لمال مهان
ومنها في صفة ولديه:
بكران بل بدران «3» ما يكسفان ... روحان للملك وريحانتان
لؤلؤتا بحر وإن شئت قل ... ياقوتتا نحر وعقدا لبان
فرعان في دوحة عزّ سمت ... غيثان بل بحران بل رحمتان
سيملكان الأرض حتى يرى ... لي منهما حرّان والرّقتان
ومنها:
فاسلم على الدهر شديد القوى ... ذا مرّة ما شدّ كفّ بنان
واستوطن الشهباء في عزة ... واخسس بغمدان وقعبي «4» لبان(5/2027)
وأنشدني أدام الله علوّه لنفسه من قصيدة:
إذا أوجفت منك الخيول لغارة ... فلا مانع إلا الذي منع العهد
نزلت بأنطاكيّة غير حافل ... بقلّة جند إذ جميع الورى جند
فكم أهيف حازته هيف رماحكم ... وكم ناهد أودى بها فرس نهد
لئن حلّ فيها ثعلب الغدر لاون ... فسحقا له قد جاءه الأسد الورد
وكان قد اغترّ اللعين بلينكم ... وأعظم نار حيث لا لهب يبدو
جنى النحل مغترا وفي النحل آية ... فطورا له سمّ وطورا له شهد
تمدك أجناد الملوك تقربا ... وجند السخين العين جزر ولا مدّ
تهنّ بها بكرا خطبت ملاكها ... فأعطت يد المخطوب وانتظم العقد
فجيشك مهر والبنود حموله ... وأسهمكم نثر وسمر القنا نقد
وله من التصانيف: كتاب الضاد والظاء، وهو ما اشتبه في اللفظ واختلف في الخط. وكتاب الدرّ الثمين في أخبار المتيمين. وكتاب من ألوت الأيام عليه فرفعته ثم التوت عليه فوضعته. وكتاب أخبار المصنفين وما صنفوه. وكتاب أخبار النحويين كبير «1» . وكتاب تاريخ مصر من ابتدائها إلى ملك صلاح الدين إياها في ست مجلدات. وكتاب تاريخ المغرب ومن تولاها من بني تومرت. وكتاب تاريخ اليمن منذ اختطت وإلى الآن. وكتاب المجلّى في استيعاب وجوه كلّا. وكتاب الاصلاح لما وقع من الخلل في كتاب «الصحاح» للجوهري. وكتاب الكلام على «الموطأ» لم يتم الى الآن. كتاب الكلام على الصحيح للبخاري «2» لم يتم «3» . وكتاب تاريخ محمود بن سبكتكين وبنيه إلى حين انفصال الأمر عنهم. وكتاب تاريخ أخبار السلجوقية منذ ابتداء أمرهم إلى نهايته «4» . وكتاب الإيناس في أخبار آل مرداس. وكتاب الرد على النصارى وذكر مجامعهم. وكتاب مشيخة زيد بن الحسن الكندي. وكتاب نهزة(5/2028)
الخاطر ونزهة الناظر «1» في أحاسن ما نقل من على ظهور الكتب «2» .
وكان الأكرم القاضي المذكور جماعة للكتب حريصا عليها جدا لم أر في من لقيت «3» مع اشتمالي على الكتب وبيعي لها وتجارتي فيها أشدّ اهتماما منه بها ولا أكثر حرصا منه على اقتنائها، وحصل له منها ما لم يحصل لأحد، وكان مقيما بحلب، وذلك أنه نشأ بمصر وأخذ بها من كلّ علم بنصيب، ولي والده القاضي الأشرف النظر بالبيت المقدس من قبل الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين بن أيوب وصحبه القاضي الأكرم وذلك في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة وأقام بها مع والده مدة، فآنس ولاة البيت المقدس من القاضي الأكرم- أدام الله عزه- شرف نفس وعلوّ همة، فأحبوه واشتملوا عليه، وكانوا يسألونه أن يتسم بخدمة أحد منهم فلم يكن يفعل ذلك مستقلا وإنما كان يسام العمل ويعتمد على رأيه في تدبير الأحوال، وكان لا يدخل معهم إلا فيما لا يقوم غيره فيه مقامه، واتفق ما اتفق بين الملك العادل أبي بكر ابن أيوب وبين ابن أخيه الملك الأفضل علي بن صلاح الدين يوسف بن أيوب، والأكرم حينئذ بالبيت المقدّس، فاقتضت الحال لاتسامه بخدمة من في حيز الملك العزيز أن خرج من القدس فيمن خرج منها من العساكر في سنة ثمان وستمائة وصحب فارس الدين ميمونا القصريّ والي القدس ونابلس، فالتحقا بالملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيوب بحلب في قصة يطول شرحها، فلما حصل بحلب كان مع ميمون القصري على سبيل الصداقة والمودة لا على سبيل الخدمة والكتابة، واتفق أنّ كاتب ميمون ووزيره مات، فألزمه ميمون خدمته والاتسام بكتابته، ففعل ذلك على مضض واستحياء، ودبّر أموره أحسن تدبير، وساس جنده أحسن سياسة وتدبير، وفرّغ بال ميمون من كلّ ما يشغل به بال الأمراء، وأقطع الأجناد إقطاعات رضوا بها وانصرفوا شاكرين له، لم يعرف منذ تولي أمره إلى أن مات ميمون جنديّ اشتكى أو تألم، وكان وجيها عند ميمون المذكور يحترمه ويعظم شأنه ويتبرك بآرائه إلى أن مات ميمون في ليلة صبيحتها ثالث عشر(5/2029)
رمضان سنة عشر وستمائة، فاقر الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين جرايته «1» عليه وهو ملازم لبيته متشاغل بالعلم وتصنيف الكتب إلى أن احتاج ديوانه إليه فعوّل في إصلاحه عليه وهو مع ذلك متجنب غير راض.
وحدثني أدام الله علاه قال، حدثني والدي قال: قدمت مع والدي إلى مصر أول قدمة ولم نستصحب دوابّ «2» لأننا انحدرنا في السفن، وقلت لأبي: نأخذ معنا دواب «3» ، فقال: يعسر أمرها علينا فدعنا نمضي بالراحة في المراكب، وإذا وصلنا ما نعدم ما نركب، فلما وصلنا إلى مصر خرجنا نمشي إلى أن جاء بي إلى سوق وردان وهناك تلك الحمير التي هي أحسن من البغال، فقال لي والدي: اركب أيها شئت لنمضي إلى القاهرة، فامتنعت وقلت: والله لا ركبت حمارا قط، فقال: لا بدّ من المضيّ إلى القاهرة فما تصنع؟ قلت لأبي «4» : نؤخّر المضيّ اليوم حتى نشتري مركوبا إما فرسا وإما بغلة أركبها أنا واصنع انت بنفسك ما تشاء، فعذلني فلم أرعو، فاجتاز بنا رجل له هيئة وشارة، فتقدم والدي إليه وقال له: يا أخي تعرف القاضي الأشرف أبا الحجاج يوسف بن القاضي الأمجد أبي إسحاق إبراهيم الشيباني القفطي؟ فقال: لا أعرفه، قال: امض في أمان الله، ثم مرّ به آخر فسأله مثل ذلك السؤال حتى سأل جماعة فلم يكن منهم من يعرفه، فالتفت إليّ وقال لي: ويلك إذا كنت في مدينة لا يعرفك بها أحد فما تصنع بهذا التمخرق والترتيب في المركوب؟! اركب ودع عنك الكبرياء والعظمة التي لا تجدي ها هنا شيئا، قال: فركبت حينئذ ومضينا إلى القاهرة؛ وكان لهذا السبب يتفقد الخيول المشهورة بالجودة وكثرة الثمن، حتى لقد حدثني أنه سمع ابن دحية الحافظ وقد سئل عن القاضي الأشرف القفطي فقال: أليس هو صاحب الخيول المسوّمة والعبيد الرّوقة، فما أولاه إذن بقول عامر بن الطفيل «5» :
إني وإن كنت ابن سيد عامر ... وفارسها المشهور في كلّ موكب
فما سوّدتني عامر عن وراثة ... أبى الله أن أسمو بأمّ ولا أب(5/2030)
ولكنني أحمي حماها وأتقي ... أذاها وأرمي من رماها بمنكب
فصل: قال الأكرم من إنشائي من جملة كتاب أنشأته عن المقرّ الأشرف الملكي الظاهري عند رحيل عسكر الفرنج عن حصن الخوابي:
ولما وردت الوراثة الباطنية، صدرت في نجدتهم العساكر الظاهرية، تحت الألوية الامامية الناصرية، وسار في المقدمة ألف فارس من أنجاد «1» الأنجاد وأمثال الأطواد، وهم الذين لا يثنون عن الطعن عنانا، ولا يسألون عن الانتداب إلى الكريهة عما قيل برهانا «2» ولما التقى الجمعان وتراءى الفريقان قمع حزب الإنجيل حزب القرآن، وخفض صوت الناقوس صوت الأذان، وفلّ جيش ابن يوسف جمع بني إسحاق، وعلا علم الأحمر على بني الأصفر أهل الشقاق، وحركت الأهوية ألسن الألوية بأصوات النّجح، فقالت بلسان الحال [حيّ] على خير العمل من القتال، فقد جاء نصر الله والفتح، وما أودت من المناجزة قوة جانب ولا شدة محاجزة وإنما منع جبل وعر ضاق مسلكه، وتعذّر مجاله على الفرسان ومعتركه، وامتنعت منه أسباب النزال، وردّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال، ففكّت القلعة من خناقها، وأفلتت من يد القابض منها بساقها، واشتغل العدّو عنها بإعمال رأيه في الخلاص، وذلك لما تحققه من ترادف العساكر المنصورة ولات حين «3» مناص، ولما اجتمعوا للمشاورة تناقضت منهم الآراء عند المحاورة، وأوجب ذلك اختلافا من جميعهم قضى بافتراق جموعهم، وباتوا ليلة الاثنين ولهم ضوضاء، ثم أصبحوا وقد خلا منهم الفضاء، لم يلف منهم أحد، ولا وجد لمنزلهم إلا النؤي والوتد، وذلك لرأي أجمعوا عليه، لما تحققوا أن لا ملجأ من الهرب إلا إليه، وللوقت ندب مولانا السلطان- خلّد الله ملكه- جماعة من الصناع لإصلاح مختلّها، ورقع ما خرق من تلّها، وحمل إليها ما عدمته من الآلة عند القتال، وتقدم إلى رئيس الاسماعيلية بحمل ما يحتاج إليه من الذخائر والمال، وقد شرع والشروع ملزم بالاكمال.(5/2031)
وحدثني الصاحب الوزير الأكرم- أدام الله تمكينه- قال: خرجت يوم الجمعة خامس عشر ذي القعدة سنة ثمان عشرة وستمائة إلى ظاهر مدينة حلب على سبيل التسيير، فرأيت على جانب قويق عدة مشايخ بيض اللحى وقد سكروا من شرب الخمر، وهم عراة يصفّقون ويرقصون على صورة منكرة بشعة، فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم ورجعت مغموما بذلك، وبتّ تلك الليلة فلما أصبحت وركبت للطلوع إلى القلعة استقبلني رجل صعلوك فقال: انظر في حالي نظر الله إليك يوم ينظر إليه المتقون، فقلت له: ما خبرك؟ قال: أنا رجل صعلوك، وكان لي دويبة «1» أسترزق عليها للعائلة، فاتهمني الوالي بالحول «2» بسرقة ملح، فأخذ دابتي، ثم طالبني بجباية فقلت: خذ الدابة فقال: أخذتها وأريد جباية أخرى؛ فقلت له: أبشر بما يسرّك، وطلعت إلى صاحب الأمر يومئذ- وهو الأمير الكبير أتابك طغرل الظاهري- وقلت:
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: ثلاثة أشياء مباحة الناس مشتركون فيها، الكلأ والماء والملح، وقد جرى كيت وكيت، ولا يليق بمثلك وأنت عامة وقتك جالس على مصلّاك مستقبل القبلة والسبحة «3» في يدك أن تكون مثل هذه الأشياء في بلدك، فقال: اكتب الساعة إلى جميع النواحي برفع الجبايات ومحو اسمها أصلا، ومر الولاة أن يعملوا بكتاب الله وسنة رسوله، ومن وجب عليه حدّ من الحدود الشرعية يقام فيه على الفور ولا يلتمس منه شيء آخر، ومر الساعة بإراقة كلّ خمر في المدينة ورفع ضمانها، واكتب إلى جميع النواحي التي تحت حكمي بمثل ذلك، وأوعد من يخالف ذلك عقوبتنا في الدنيا عاجلا وعقوبة الخالق في الآخرة آجلا، فخرجت وجلست في الديوان وكتبت بيدي ولم أستعن بأحد من الكتاب في شيء من ذلك ثلاثة عشر كتابا إلى ولاة الأطراف، ثم أنشد:
ولا تكتب بكفك غير شيء ... يسرّك في القيامة أن تراه
وكان المحصول من ضمان ما أطلق ما مقداره مائتا ألف درهم في السنة، وإن أضيف إليه ما يستقبل في السنة الآتية من رخص الكروم وتعطّل ضماناتها وقلة دخلها(5/2032)
بهذا السبب ألف ألف درهم أو ما يقاربها.
وكان والده القاضي الأشرف أبو المحاسن يوسف بن إبراهيم من أهل الفضل البارع والبلاغة المشهورة، وكان ينوب بحضرة السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب عن القاضي الفاضل في جماعة من الكتاب، وكان حسن الخطّ على طريقة ابن مقلة، فاتفق أن طال مقامه بالشام في صحبة السلطان وأراد الرجوع إلى مصر طلبا للراحة ونظرا في مصالحه، فطلب من السلطان إذنا فقال: يحتاج في ذلك إلى إذن صاحبك، فكتب العماد إلى القاضي يلتمس غيره ليؤذن له فقد طاعت غيبته عن أهله، فكتب القاضي في الجواب كتابا يقول فيه: وأما التماس العوض عن الأشرف القفطي فكيف لي بغيره، وهو ذو لسان صهصلق منطيق، وخاطر ينفق في سعة كل مضيق؟
وكتب إلى القاضي الفاضل رقعة وضمّنها البيت المشهور:
نميل على جوانبه كأنا ... إذا ملنا نميل على أبينا
فكتب القاضي الجواب وضمنه:
فديتك من مائل كالغصون ... إذا ملن أدنين مني الثمارا
وتزهّد والده وترك العمل وأقام باليمن إلى أن مات بها في رجب سنة أربع وعشرين وستمائة.
وحدثني- أدام الله علوه- قال: حججت في موسم سنة ثمان وستمائة «1» ، وكان والدي في صحبتي، فصادفت بمكة جماعة من أهل بلدنا، وكنت بعيد العهد بلقاء أحد منهم، فرآني رجل فالتحق بي كما جرت العادة، ثم عاد إلى من في صحبته من بلدنا فأخبرهم بنا فجاءوا هم إلى منزلنا فقضوا حقّنا بالسلام والسؤال والحرمة، ثم انصرفوا إلى رحالهم فجاء كلّ واحد منهم بما حضره لم يحتفلوا له، وكان فيما جاؤونا به ظرف كبير مملوء عسلا وآخر سمنا على جمل وهو وقره، فألقاه في خيمتنا، فأمرت الغلمان أن يعملوا منه حيسا فيكثروا على عادة تلك البلاد، وأكلنا وأكثرنا زيادة على ما جرت به عادتنا، ثم طفنا بالبيت وعدنا إلى رحالنا ونمت، فرأيت في النوم كأني في الحرم أطوف وإذا رجل شديد الأدمة مشوّه الخلقة، فأخذ بيدي وأخرجني من الحرم(5/2033)
من باب إبراهيم فإذا به قد وقفني على الظرفين بعينهما لا أرتاب بهما فقال لي: أتعرف هذين؟ فقلت: نعم هذان ظرفان جاءنا بهما رجل على سبيل الهدية، أحدهما سمن والآخر عسل، فقال لي: ليس الأمر كذلك ثم حطّ يده على بطنهما وعصر، فخرج من فمهما نار أحسست بلفحها في وجهي، وجعلت أمسح فمي من شدة حرهما، وانزعجت من هول ما رأيت، وقمت من فراشي خائفا فما استطعت النوم إلى الغداة، واجتمعت بمهديهما وكان يعرف بابن أبي شجاع فقلت له: أخبرني عن هذين الظرفين ما خبرهما؟ فقال: اشتريتهما وجئت بهما، فقلت: يا هذا هل فيهما شبهة؟ فتحلّف أنهما من خالص ماله، فأخبرته بالحال فبكى حينئذ ومدّ يده فأخذ بيدي وعاهدني أن يخرج من عهدته وقال: والله ما أعرف أنّ في مالي شبهة إلا أنّ لي أختين «1» ما أنصفتهما في تركة أبيهما، وأنا أعاهد الله أنني أرجع من وجهي هذا وأعطيهما حتى أرضيهما؛ قال الصاحب- أدام الله علوّه: فعلمت أنها لي موعظة، فعاهدت الله أن لا آكل بعدها من طعام لا أعرف من أين وجهه، فكان لا يأكل لأحد طعاما ويقول: الناس لا يعرفون بواطن الأمور، ويظنونني أفعل «2» ذلك كبرا ومن أين لي بما يقوم بعذري عندهم؟! ثم كنت بعد ذلك في حضرته بمنزله المعمور وقد عاد من القلعة بحلب فقال لي: جرت اليوم طريفة، فقلت له: هات خبرها أدام الله إمتاعنا بك، فما زلت تأتي بالطرائف والطرف، فقال: حضرت اليوم في مجلس الملك الرحيم أتابك طغرل الظاهري وحضرت المائدة وفيها طعام الملوك: شواء وشرائح وسنبوسج وحلاوات وغيرها كما جرت العادة، فتأملته فنفرت نفسي منه ولم تقبله مع كوني قد قارب الظهر ولم أتغدّ، فلم أنبسط ولا مددت يدي إليه، فقال لي: مالك لا تأكل؟ وكان قد عرف عادتي فقلت له: إن نفسي لا تقبل هذا الطعام ولا تشتهيه، فقال لعلك شبعان، قلت: لا والله إلا أنني أجد في نفسي نفرة منه، فأشار إلى غلام فدخل داره وجاء بمائدة عليها عدة غضائر من الدجاج فلم تقبل نفسي إلا دجاجة واحدة معمولة بحبّ «3»(5/2034)
رمان، فمددت يدي إليها وتناولت منها قال: فرأيت أتابك وهو يتعجّب، فقلت له:
ما الخبر؟ فقال: اعلم انه ليس في هذا الطعام شيء أعلم من أين وجهه، وهو من عمل منزلي غير هذه الدجاجة، والباقي فجاءنا من جهة ما نفسي بها طيبة، وتشاركت أنا وهو في تلك الدجاجة مع بغضي لحبّ الرمان، وكان أتابك لا يأكل إلا من مال الجوالي فقط. فجعلت أعجب من ذلك، فقال- أدام الله علوّه: اعلم أنني لا أحسب هذا كرامة لي، ولكني أعدّه نعمة من الله في حقي، فإن امتناعي لم يكن عن شيء كرهته ولا ريب اطلعت عليه، ولكن كان انقباضا ونفرة لا أعرف سببها ولا الابانة عن معناها.
كان صفي الدين الأسود كاتب الملك الأشرف «1» عند نزول الملك الأشرف بحلب قد عرض كتابا له يعرف بالتذكرة لابن مسيلمة (وكان معروفا بالبغاء) أحد كتاب مصر يشتمل على قوانين الكتابة وآيين الدولة العلوية وأخبار ملوك مصر المتقدمين في اثني عشر مجلدا ودفع له فيه ما سمح ببيعه، وعرض على الصاحب الكبير العالم جمال الدين الأكرم- أدام الله علاه وكبت أعداءه- فأراد شراه، واتفق رحيل الملك الأشرف إلى نواحي «2» الجزيرة فأرسل إليه ثمنه وزيادة في مثله وافرة، فلما علم صفي الدين أن المشتري هو الوزير- أدام الله علوه- ضنّ بالكتاب واعتبط، واحتج وخلط، وزعم انه قدمه للخزانة الأشرفية، فكتب الصاحب الوزير إلى أبي علي القيلوي «3» - وكان وسيطه في شرى الكتاب المذكور- ما هذه نسخته. العزة لله وحده:
أتاني كتاب من حبيبي فشاقني ... إليه وزاد القلب وجدا إلى وجد
وكدت لما أضمرت من لاعج الهوى ... ووجدا على ما فات أقضي من الوجد
وقفت على الكتاب الكريم الصادر عن المجلس السامي القضائي العزي لا زالت سيادته تتجدد، وسعادته تتأكد، وفواضله تتردد، وفضائله عن مجلسه تصدر وفي المجالس تورد، وعلمت إشارته في التذكرة المسيلمية والنية في حملها إلى الخزانة(5/2035)
الأشرفية، ولقد زفّت إلى أجلّ خاطب، ورقت بعد انحطاطها إلى أسنى المراتب، فانها وإن كانت بكر فكر أكابر، فما هي إلا بنت عدّة آباء ولدت على فراش عواهر، كان عليه البغاء في العالمين علامة، أعني ابن مسيلمة ذا الداء وأسأل الله السلامة، فجاءت ذات غرام لا يشفي قطمها إلا السودان، وأردت أن أكون ناكحها الثاني لا تفاق الألوان، وأبى الله لها أن تهدى إلّا إلى المقرّ الأرفع، وأن تضع الابتناء بالبغي من الهمام الأروع، ولست يائسا على عدمها، ولا راج شفاء كلمي بكلمها:
تحمّل أهلها عنّي فبانوا ... على آثار من ذهب العفاء «1»
وكأني بساميه عرض هذا الكتاب على من لا أسميه، فقرن حاجبيه ولوى شفتيه ولمس عثنونه تعجبا وأمال عطفيه تطرفا وقال: أذكرتني سجع الكهان، وأسمعتني قعقعة صعصعة بن صوحان، والله المستعان على ما يصفون، وإنما هي نفثة صدرت عن صدر مصدور فاز «2» نافثها بصفقة المغبون. وأما سؤاله عما حصل من الكتب في غيبته:
فما هي إلا البحر جاد بدرّه ... ومكّنني من لجّه وسواحله
حصل من نفائسها أعلاق نفيسة، وأضحت على بعد المراحم عليها موقوفة حبيسة، لو امتدّت يد إليها لشلّت، ولو سعت إليها قدم لما أقلّت جثّتها ولا استقلت، لا ابن العديم يعدمها، ولا القيلوي يقللها ولا الصفي يصطفيها ولا المجد يختزلها:
خلا لك الجوّ فبيضي واصفري
وتعداد المجدد منها يقصر عنه الكتاب، ويقصّر دونه الخطاب، والله الموفق.
[856] أبو علي المنطقي: لم أظفر باسمه وهو مجيد؛ قال الخالع: هو من أهل البصرة
__________
(856) - ترجمته في الوافي 22: 360- 364 (عن ياقوت) وسقطت الترجمة من ك.(5/2036)
وتنقل عنها في البلاد، ومدح عضد الدولة وابن عباد، وانقطع مدة من الزمان إلى نصر بن هارون ثم إلى أبي القاسم العلاء بن الحسن الوزير. وكان جيد الطبقة في الشعر والأدب، عالما بالمنطق قوي الرتبة فيه، وجمع ديوانه وكان نحو ألفي بيت، ومولده سنة ست وثلاثين وثلاثمائة ومات بشيراز بعد سنة تسعين وثلاثمائة وكان ضعيف الحال محارفا «1» ضيق الرزق.
وجدت على حاشية الأصل ما هذا صورته «2» : إنا لله وإنا إليه راجعون، ما يحتاج مستدلّ على أن الأرزاق ليست بالاستحقاق بأقوى من هذا الرجل، فانه لو وفّي حقه لكان أعظم قدرا من المتنبي، لأنه ليس بدونه في الشعر جودة وصحة معنى ومتانة لفظ وحلاوة استعارة وسلاسة كلام، وكان مع ذلك مزاحا طيب العشرة حادّ النادرة، وأصيب بعينه في آخر عمره، وله في ذلك أشعار كثيرة. وهذا القدر حكى الخالع من خبره ولم يعرف غير ذلك.
ومن شعره «3» :
يا ريم وجدي فيك ليس يريم ... بين الضلوع وان رحلت مقيم
لا تحسبي قلبي كربعك خاليا ... فبه وإن عفت الرسوم رسوم
تبلى المنازل والهوى متجدّد ... وتبيد خيمات ويبقى الخيم
ومن شعره لما أصيب ببصره:
ما للهموم إذا ما هيمها وردت ... عليّ لم تفض من ورد إلى صدر
كأنما وافق الأعشاب رائدها ... لدى حماي فقد ألقى عصا السفر
ان يجرح الدهر مني غير جارحة ... ففي البصائر ما يغني عن البصر
وله في الخمر:
وقهوة مثل رقراق السراب غدا ... جيب المزاج عليها غير «4» مزرور(5/2037)
تختال إن بثّ فيها الماء لؤلؤه ... ما بين عقدين منظوم ومنثور
سللتها مثل سلّ الفجر صارمه ... وأحجم الليل في أثواب موتور
كأنها إذ بدت والكأس تحجبها ... روح من النار في جسم من النور
إذا تعاطيت محزونا أبارقها ... لم يعدني كلّ مفروح ومسرور
أمسي غنيا وقد أصبحت مفتقرا ... كأنما الملك بين الناي «1» والزير
وله في نصر بن هارون:
تنال علاه ما السها عنه عاجز «2» ... ويسقي نداه من تجاوزه القطر
ويصنع في الأعداء خوف انتقامه ... من القتل ما لا تصنع البيض والسمر
لأعطيت حتى استنزر الغيث فعله ... وأمّنت حتى قيل لم يخلق الذعر
وله فيه أيضا:
به تخضرّ أغصان الأماني ... ويجبر عنده الأمل الكسير
وتبسم نائبات الدهر عنه ... كما ابتسمت عن الشّنب الثغور
لقد سهلت بك الأيام حتى ... لقال الناس لم تكن الوعور
وكيف أخاف دهرا أنت بيني ... وبين صروفه أبدا سفير
وله من قصيدة في ابن معروف:
في البرق لي شاغل عن ملة البرق ... بدا وكان متى ما يبد لي يشق
منفرا سرب نومي عن مراتعه ... كأنما اشتقّ معناه من الأرق
أخو الثنايا التي بالقلب مذ ظعنت ... أضعاف ما بوشاحيها من القلق
ما كان يسرق من حرز الجفون كرى ... لو أنه من لماها غير مسترق
وله:
نوار وهي نوار من مساعفتي ... وهند وهي ببيض الهند تعتصم(5/2038)
تربان إن تك من جدواهما تربت ... يد المحبّ فوجدان الهوى عدم
غضّ المحيا إذا لاحظت وجنته ... كادت لحاظك في ديباجها تسم
وله يعاتب:
صافيت فضلك لا ما أنت باذله ... وعاشق الفضل يغرى كلما عذلا
إني أعيذك من قولي لسائله ... لقد «1» حدوت ولكن لم أجد جملا
وله في صمصام الدولة:
لا عضّني الدهر الخؤون فانه ... ما زال قبل رقاك صلّا أرقما
أنتم بحار جاريات بالندى ... لكنها في الروع جارية دما
وله:
ليث أبو شبلين لم يسلمهما ... كرم الجدود ولا سموّ جدود
للمجد سرّ لم يضيّع فيهما ... والراح سرّ في جنى العنقود
وله:
أكفكم تعطي ويمنعنا الحيا ... وأقلامكم تمضي وتنبو الصوارم
وإن أبا العباس إن يك للعلا ... جناحا فأنتم للجناح القوادم
مضى وبقيتم أبحرا وأهلة ... وزهر الربى يبقى وتمضي الغمائم
وله:
قولي يقصّر عن فعالك ... تقصير جدّك عن كمالك
والحمد ينبت كلّما ... هطلت سماء من نوالك
وله:
كأنّ دبيبها في كلّ عضو ... دبيب النوم في أجفان ساري
صدعت بها رداء الهمّ عني ... كما صدع الدجى وضح النهار(5/2039)
وله من قصيدة في عضد الدولة يذكر الصدق:
ما زلت تنصف في قضاياك العلا ... قل لي فما بال الضحى يتظلّم
أهديت رونقه إلى جنح الدجى ... فاعتنّ أشهب وهو طرف أدهم
حتى كأنّ الليل صبح مشرق ... وكأنّ ضوء الصبح ليل مظلم
هي ليلة لبست رضاك فأشرقت ... من بعد ما كانت بسخطك تظلم
ما كان في ظن امرىء من بعدها ... أن الملوك على الليالي تحكم
وله:
أنام جفون الحقد والحقد ساهر ... وأيقظ طرف المجد والمجد نائم
إذا أشكلت يوما لغات انتقامه ... على معشر فالمرهفات تراجم
ومن شاجر الأيام عن مأثراتها «1» ... فأمضى لسانيه القنا والصوارم
وله من قصيدة:
وقفنا بها والشوق يطوي قلوبنا ... لواعجه والصبر غير مطاوع
سقيت رجوع الظاعنين فاننا ... نجلّك عن سقيا الغمام الهوامع
فجعنا بأبكار المنى يوم خاطبت ... ربوعك أبكار الخطوب الفواجع
ومنها:
وخيل إذا كظّ «2» الطراد أراحها ... أصابت بحرّ الطعن برد الشرائع
تكاد ترى بالسمع حتى كأنما ... نواظرها مخلوقة في المسامع
إذا ما دجا ليل الكريهة أطلعت ... نجوم قنا يغربن بين الأضالع
وله:
على عجل ألمّ به الخيال ... فانّ كراه بعدكم محال
فبات معانقا والجيد وهم ... ومرتشفا وأحلى الريق آل(5/2040)
لدى ليل كأن النجم فيه ... على خدّ الظلام الجون خال
يضام الرمح ليس له مدار ... ويكبو الطرف ليس له مجال
طبعت على الوفاء المحض قدما ... كما طبعت على القطع النصال
ومنها:
توسمت القوابل فيه مجدا ... فقالت أول البدر الهلال
وأطرب ما يكون إلى العطايا ... إذا غنّى فأسمعه السؤال
مصاحب همة خفّت عليها ... من الأيام أعباء ثقال
كرمت فلو سألناك المساعي ... وهبت وغيرها تهب الرجال
وأكرم من قراك فتى عليه ... بنو الدنيا وأمهم عيال
وقال في الوزير ابن صالحان:
على الطيف أن يغشى العميد المتيما ... وليس عليه ردّ نوم «1» تصرّما
خيال سرى يبغي خيالا ومغرم ... بلبس قميص الليل يمّم مغرما
دنا والظلام الجون غضّ شبابه ... فأهدى إليه الشيب لما تبسما
أتلك اللآلى من «2» ثناياه ألّفت ... عليه عقودا أم تقلّد أنجما
أما والحمى إن الكرى لسميّه ... على مقلتي مذ أخلقت جدّة الحمى
لأشكل حتى ما يعود بنو الهوى ... معالمه الأنضاء إلا توهما
وليل أكلنا العيس تحت رواقه ... بأيدي سرى تثني الرواسم أرسما
بهيم نضونا برده وهو مخلق ... وكنا لبسناه قشيبا مسهّما
هداها إلى مغنى الوزير نسيمه ... ومن شرف الأخلاق أن تتنسما
يصوب على العافين مزن بنانه ... فيكبت حسادا وينبت أنعما(5/2041)
وله:
غيّ الهوى للصبّ غاية رشده ... فذريه من حلّ الملام وعقده
قرّبت مركب وعظه، ولجاجه ... في الحبّ ينتج قربه من بعده
والليل تكحل مقلتاه باثمد ... والأفق يزهر دره في عقده
فكأن زنجيا تبسّم ثغره ... إسفار ذاك اللون في مربدّه
تعب الفتى جسر إلى راحاته ... يفضي، ونهضة جده في جدّه
وإذا ابن عزم لم يقم متجردا ... للحادثات فصارم في غمده
فالسيف سمّي في النوائب عدّة ... لمضائه فيهنّ لا لفرنده
ومن المدح:
نثني عليه وان تكرّم غيره ... فتراه مشكورا بما لم يسده
علما بأنّ بني السماح تعلموا ... منه فكلّ صنيعة من عنده
وفي عضد الدولة:
أربع الصبا غالتك بعدي يد الصبا ... وصعّد طرف البين فيك وصوبّا
لئن رمقت عين النوى حور عينه ... فبنّ لقد غادرن قلبا معذبا
تأوّدن قضبانا ولحن أهلة ... وغازلن غزلانا ولا حظن ربربا
ومنها:
رددت شباب الملك نضرا ولم يزل ... بغيرك مغبرّ المفارق أشيبا
فلو كانت الأيام قبلك رحّبت ... بشخص لقالت إذ تراءيت مرحبا
وله قصيدة إلى أبي بكر العلاف يتشوقه:
كأن البين ترب الموت لكن ... توارى في الضنا لا في الثياب
ولولا أنّ فرط الشوق واش ... بحبك لاستزدتك ضعف ما بي
جمعت غرائب الآداب حتى ... إذا قرنت إلى النعم الرغاب
ظللت مناديا في كلّ أفق ... بصوت البذل حيّ على انتهاب(5/2042)
وله من قصيدة في العلاء بن الحسن الوزير:
أعاطي كؤوس اللهو كلّ غريرة ... إذا ما انثنت قدّت فؤادك بالقدّ
تلاحظ عن سحر وتحسر عن دجى ... وتسفر عن صبح وتبسم عن عقد
إذا نثرت أيدي الصبا درّ لفظها ... نظمن على الأحشاء عقدا من الوجد
كما نظمت كفا أبي القاسم العلا ... نظام لآلي السمط بالنثر للرفد
إذا اتصلت أقلامه بظباته ... تقطّع ما بين الطوائل والحقد
فلا يهنأ الأعداء أنّ مكانه ... خفيّ فقد تخفى الشرارة في الزند
وله:
نعم لو انّ الناس ورق حمائم ... لغدت لهم بدلا من الأطواق
ومواهب تمضي ويبقى ذكرها ... سمة على وجه الزمان الباقي
وله:
أراعك صدق الطيف أم كذب الحلم ... وكم من خيال وشك إلمامه لمم
سرى والدجى قد حال صبغ قميصه ... وفي ذيله نار من الصبح تضطرم
كأن نهوض الفجر في أخرياته ... بديء بياض الشيب في أسود اللمم
أمين على سرّ المعالي وسيفه ... على مهج الأعداء في الروع متهم
وله من قصيدة في الدلجي:
لأصبرنّ على ما سامني زمني ... صبر الكريم على الإقلال اكثار
مدحت قوما فان حاض اللسان بهم ... فسوف يعقب ذاك الحيض إطهار
إذا المعمّر ترب المجد ألثمني ... ركني يد ثمد ما تسديه تيار
يد هي الغيث أو فيها مواطنه ... فكلّ ما صافحته فهو نوّار
هناك أخطب والعليا منابرها ... منصوبة وجبين الدهر خرار
وله:
وأبناء حاجات أدارت عليهم ... يد السير كأس الأين والليل دامس(5/2043)
يميسون فوق الميس حتى كأنهم ... شروب تساقى والرحال المجالس
أصاخوا وقد غنيتهم باسم ماجد ... لأقلامه تعنو الرماح المداعس
ولما بلغناه تهلّل عارض ... سقى صوبه الدنيا ومثواه فارس
وقال في الوزير ابن صالحان:
هل البرق إلا زفرة تتضرّم ... وعبرة مشتاق تسحّ وتسجم
تبسّم حتى كاد يبكي وربما ... تراءى فأبكى البارق المتبسم
ولما ألم الطيف شكّك أينا ... لدقة شخصينا الخيال المسلّم
مزجت كؤوس الريق منه بأدمعي ... فبتّ أسقّى قهوة مزجها دم
فليت فؤادي ذاب في جفن مزنة ... بها رويت من دار ظمياء أرسم
وخرق رحيب الباع لو نيط طوله ... بعروة عمر لم تكد تتصرم
رميت فما أشويت ثغرة نحره ... وما كلّ ما ترمى به العيس أسهم
بلغنا بها مغناه وهي أهلة ... فلاحت لنا أخلاقه وهي أنجم
وله يمدح:
يصيخ إليّ الليل حتى كأنما ... سرى إبلي في مسمعيه سرار
وكم خامل أمطاه حارك رتبة ... حراك ويعلو الترب حين يثار
ويا ليت ان تقرر عيون ركائبي ... ولا غرو غايات السيول قرار
مددت إلى طعن الكماة عزائما ... طوال العوالي بينهن قصار
فما كرمت كرمان حتى افتككتها ... ولا أصحرت حتى ارتجتك صحار
إذا صدّ وجه البحر عنها تيقنت ... بأنك بدر في يديه بحار
وله:
جذل بما يعطيهم فكأنما ... أخذ المؤمل من نداه عطاء
عفو تسيل به الشعاب كأنما ... فيه الذنوب وقد طفون غثاء(5/2044)
وله:
ولما استرد الصبح عارية الدجى ... تولّى بطيئا والدموع عجال
ولم أر لابن الشوق كالليل سلّما ... إلى حاجة في الصبح ليس تنال
كريم تبقّت من سجاياه فضلة ... فأضحت على خديه وهي جمال
وله:
ودار وغى ثنتها مقربات ... براقعها شحوب أو سهوم
نزلت بعسكر للطير فيه ... عساكر حول حومتها تحوم
بحيث سرائر الأغماد تبلو ... وقلب النقع للساري كتوم
تصالحت الحتوف على الأعادي ... وبيضك للطلى منها خصوم
إذا أوردتها صدرت رواء ... وخلّت هام قوم وهي هيم
وله:
إن كتم الليل حدّث العبق ... عنها وبعض الحديث ينتشق
ردّي على العين فهي طامعة ... كأس رقاد أراقها الأرق
وله:
عليّ إذا غنّيت أن تطرب العلا ... فليت فؤادي للسرور منادم
ويجهل قولي فيك قوم ولم يكن ... ليفهم أيك ما تقول الحمائم
وله:
غداة صدقت فكذّبتني ... ولولا الشقاوة لم أصدق
وقد كنّ ماطلننا حقبة ... فليت المطال علينا بقي
وله:
دمن مرضن من البلى فكأنما ... تأتي الرياح طلولها عوّادا
من كلّ مدنفة الرسوم كأنها ... من قبل كانت للمحبّ فؤادا
إن لم يطر شرر السّرى مني فلا ... قدحت يدي للمكرمات زنادا(5/2045)
في كلّ ليل ثاكل لصباحه ... وكأنما كسي الظلام حدادا
داج إذا زرّت عليّ جيوبه ... كنت الحسام وكانت الاغمادا
أحسن بأخلاق الظلام وان خلا ... وجها تعوّض بالشحوب سوادا
جمل ولكن ما يلذّ ركوبه ... إلا امرؤ يجد المنى أقتادا
يلقاه نشوان الجفون وإنما ... باتت مدامة مقلتيه سوادا
وله:
منازل ذات الوقف إني لواقف ... عليك وماء القلب لا الدمع ذارف
بليت ولم يبل الجديد من الهوى ... وحلت وما حال الغرام المحالف
أنزفا جفوني والحيا عنك ممسك ... ويرفق وجدي والبلى بك عانف
وقالوا انتشى من غير كأس ولو سقوا ... هوى لدروا أن السّلاف السوالف
ضعائف كرات اللحاظ وإنما ... تبرّح بالجلد القويّ الضعائف
وله:
ليت النوى تركتنا في يد العذل ... فالسقم بؤس ولكن ليس كالأجل
صار الصدود لها أمنية معها ... ومن لذائق طعم الموت بالعلل
والقلب أول من شطّ الفراق به ... فأين مسرح هذا الخوف والوجل
وله في عضد الدولة:
لو أنّ بعض سماحها في مزنة ... يوما لأورق من نداها الجلمد
يا راقد الأسياف إلّا عن وغى ... جفن الورى في حومتيه مسهّد
ما بال خيلك ما تقات سوى السرى ... وظباك في غير الطّلى ما تغمد
عادات بيض الهند عندك أن ترى ... حمرا كما مسّ اللجين العسجد
وله:
ولم أر مثل الدهر مسدي نعمة ... يجود بها عفوا ويأخذها غصبا
إذا كنت عذر الدهر في سوء ما جنت ... يداه فذنب ان تعدّ له ذنبا(5/2046)
وله:
مضيء فرند القول ماضي شباته ... فلو لم يكن وشيا لقيل مهنّد
يفارق فاه وهو في الحسن جوهر ... ويلقى عداه وهو في الوقع جلمد
وله:
خرق تصول يد الزمان فيتّقى ... ويجود أقوام سواه فيشكر
معط على شكر الصنيع وكفره ... ما كلّ ما سقت الغمائم يثمر
دامت لك النعمى ودمت لآمل ... آرابه عن روض غيرك تذعر
وبقيت ما بقي القريض فانه ... علق على كرّ الخطوب معمّر
وله:
قرم بخدّ الحيا من جوده خجل ... كما بقلب الردى من بأسه وجل
في رأيه من غراري سيفه عوض ... وفي عطاياه من صوب الحيا بدل
وله:
ظلّت تعضّ لتوديعي أناملها ... فخلتها نظمت درّا على عنم
يا ربّ لائمة في الحبّ لو علمت ... أني ألذّ ملامي فيك لم تلم
وله:
إني إذا ما الخلّ خادعه ... عني الزمان فحال عن عهدي
جانبته ولو انه عمري ... وقطعته ولو انه زندي
وله:
أتيتك طوع الشوق أمس فردّني ... على عقبي عذر له المجد لائم
وقالوا ثنت أجفانه عنك غفوة ... ولا غرو قد تغفى الأسود الضراغم
ولكن نسيم الراح نمّ وربما ... أتتك بما لا ريب فيه النمائم
ولو لم يكن ظرف العلا عدت منشدا ... وانت إذا استيقظت أيضا لنائم(5/2047)
وله:
يد موسى تذمّ صحبة فيه ... هو يمحو سطور ما توليه
يبعث النائل الحليم فيقفو ... هـ بمنّ على العفاة سفيه
ليت أن المشيب مهديه موسى ... وهو مسترجع لما يهديه
كأخيه الزمان يأخذ ما يع ... طي وما ضلّ مقتد بأخيه
وله:
وما قلت إلا ما علمت ولم أكن ... كحامد ورد لم يذق طعم غبّه
وذنب زماني أهله غير أنني ... أراك له عذرا محا شطر ذنبه
[857]
علي بن يوسف يعرف بابن البقال
يكنى أبا الحسن: قال أبو عبد الله الخالع: هو من أهل بغداد وممن نادم المهلبي ونفق عليه، وكانت له محاضرة حسنة وبضاعة في الأدب صالحة، وطبقة في الشعر جيدة، يذهب مذهب النامي في التطبيق والتجنيس وطلب الصنعة، وكان بكثرة نوادره ومزاحه مستطابا متقبّلا، وكان حسن اليسار جميل الزيّ يلبس الدرّاعة، وخلّف لما مات ما يزيد على مائة ألف درهم، وكانت وفاته في أيام شرف الدولة بن عضد الدولة، ومنزله في سكة العجم من الزبيدية بالجانب الغربي من مدينة السلام، وخلّف ابنة وزوجة، فأحبت امرأته أحد بني المنجم وزوّجت ابنتها به فأنفقت المال عليه، وماتت الزوجة ولازمته أمها تخدمه كما تخدم المنقطعات.
قال: وكان ابن البقال بخيلا جشعا، وكان يلقاني في أيام عضد الدولة فيقول:
يا سيدي ما عندك من حديث الشعراء؟ فأقول: قد أمر لهم بمال ولك بجائزة سنية منها كذا وكذا ومنها كذا وكذا، وأكثر عليه فيقول:
منى إن تكن حقا تكن أحسن المنى ... وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا
__________
(857) - ترجمة ابن البقال في الوافي 22: 336 وذكره أبو حيان في أخلاق الوزيرين: 194، 410.(5/2048)
ولقيني مرة والسلاميّ معي فسألني عن مثل ذلك فأجبته بمثل الجواب المقدم ذكره، فقال له السلامي، يكذب، والله ما أمر إلا بقطع أيديهم وأرجلهم فقال:
«حوالينا الصدود ولا علينا» .
وأنشد الخالع لابن البقال يعاتب بعض أصدقائه:
وإني في استعطاف رأي محمد ... عليّ ومدّي نحو معروفه يدي
لكالمبتغي من بعد تسعين حجة ... تقمّصها رجع الشباب المجدد
سأشكو اعتداء منك لولاه ما درت ... صروف الليالي في الهوى كيف تعتدي
فلله قلبي حين أدعو إلى الهوى ... وأعلم حقا أنه غير مهتدي
وله «1» :
ولما وقفنا للوداع ودوننا ... عيون ترامى بالظنون ضميرها
أماطت عن الشمس المنيرة برقعا ... فغيّبنا عن أعين الناس نورها
وله:
يا مذنبا ويقول إني مذنب ... ما إن سمعت بظالم يتظلّم
لك صورة ذلّ الجمال لحسنها ... تقضي بجور في النفوس وتحكم
ومن العجائب أنّ طرفك مشعر ... سقما وأنت بسقمه لا تعلم
وله:
يا طرفها هب لطرفي لذة الوسن ... واستبق ما لا يقلّ الثوب من بدني
حاشاك فيّ من الشكوى وان ذهبت ... عيني من الدمع أو قلبي من الحزن
ولا أقول ولو أتلفتني أسفا ... يا ليت ما كان من حبيك لم يكن
وله:
لئن كان طرفي فاز منك بنظرة ... لقد عاد طرفي بالبلاء على قلبي
جعلت الهوى ذنبي فان كنت مذنبا ... به فاليك العذر من ذلك الذنب(5/2049)
ولما رأيت البعد منك مقربي ... تباعدت كي أحظى على البعد بالقرب
محمد لا تجمع إلى الهجر غدرة ... فحسبي الذي بي من فراقك يا حسبي
وله يمدح المهلبي:
أنوار أنت كما دعيت نوار ... لم تقض منك قضاءها الأوطار
يا لحظة لحظ الحمام معيدها ... ما كان منك لناظر إنظار
وإذا تساقطك الحديث تخاله ... كأسا عليك من العقار تدار
إني ذكرتك والغرام مواصل ... نفسا عليك يهيجه التذكار
متوقد منه الضمير كأنما ... نيرانه من وجنتيك تعار
هو في الجفون إذا مرته زفرة ... ماء يمور وفي الجوانح نار
ولربّ ليل من ذراك خماره ... للنجم فيه من الغمام خمار
قد قلت حين طلعت فيه ببدره ... أرأيت كيف تشابه الأقمار
يا صاحبيّ قفا بنجد عبرة ... حيث الدموع إذا ابتدرن بدار
في منزل لبست بما لبس البلى ... منّي المشيب غدائر وعذار
ولئن محتك يد الخطوب لما امّحى ... لهوى ديارك في الفؤاد ديار
ولربما اهتزت ربوعك بالندى ... وتنفست بنسيمك الأسحار
ومنها في المدح:
وإذا بدا يوم الكريهة ضاحكا ... فهناك تسكب دمعها الأعمار
حتى إذا بصروا بعقد لوائه ... عقدت مهابتها بها الأسرار
في شرب هيجاء إذا اصطبحوا القنا ... فالطعن سكر والحمام قمار
لهم من البيض الرقاق تحية ... في حوسها ومن الدماء عقار
نهضت بعبء الملك منك عزائم ... للدهر بين عثارهن عثار
لك هضبة في الملك قحطانية ... طرق الحوادث نحوها أوعار
كجبال أندية الوقار إذا احتبوا ... وليوث ملحمة الوغى إن ثاروا(5/2050)
عجبا لأبناء المهلب إنهم ... لم يعدلوا في المجد حتى جاروا
لم يطوهم دهر مضى إلا لهم ... بالجود في آثاره آثار
فعطاؤك الرزق المقسّم في الورى ... والدهر أنت وسيفك المقدار
وله أيضا في المهلبي:
لعينك إذ سار الخليط المغوّر ... على كلّ واد دمعة تتحدّر
نعم إن رسما بات تطوي به النوى ... محاسن كانت بالأوانس تنشر
أرى وانيا من عبرة كيف لا يني ... وعلّم طرفا راقدا كيف يسهر
وقفنا ومن ألحاظنا وقلوبنا ... لنا رائدا شوق مسرّ ومظهر
يحلي ربى آرامه ونحورنا ... جفون بسمطيها من الدمع جوهر
فمن بين معقود يبين فرنده ... علينا ومحلول عليهنّ ينثر
وسرب رمين النجم في أخرياته ... بسافرة من وجهها الشمس تسفر
بدت ويمين الصبح يبدو لثامه ... فلم يدر ليل أي صبحيه أنور
ومادت فقلنا الغصن جادت به النقا ... بما آد من مجرى الوشاح المؤزّر
أعاطل أجياد الأماني من التي ... بها الوفر إمّا استهلك العرض أوفر
لئن عدّ فخرا لبسك المجد من أب ... فلبس الفتى من نفسه المجد أفخر
وما ينفع الملتاح يورد موردا ... إذا كان ظمآنا عن الورد يصدر
آلا بادرا عون التواني بدلجة ... يذلّ لها خدّ من العيس أصعر
أما تريان الليل يحدو ظلامه ... بوجه القبيصيّ الصباح المنور
فتى يمتري سجلي نداه وبأسه ... لهاذم تدمي أو غمائم تمطر
وكالدهر لا يدري الذي هو رائم ... بخطب إذا ما أمّه كيف يحذر
ويوم رماه النقع منه بليلة ... كواكبها فيه الأسنّة تزهر
طبعن من الأحقاد في كلّ مأزق ... فلا حائن إلّا لها منه مضمر
دلفت كأن الموت كان مؤامرا ... سيوفك منه والنفوس تقطّر(5/2051)
بمجر له في كلّ فجّ طليعة ... وفي كلّ أرض منه ذيل يجرّر
سحبت رداء الموت فيه بوقعة ... رداء الفتى فيه من الطعن أقمر
وأضحكت منه الجوّ والنقع كاتم ... به الشمس عن شمس بها البيض تشهر
بحيث شفوف الأتحميّ مفاضة ... إذا زعزع الخطيّ والتاج مغفر
تفرق في تفريقها الهام والتقى ... على قدر فيها الحمام المقدر
عزائم يرمين الخطوب كأنما ... يقارع منها عسكر الدهر عسكر
وله في المهلبي أيضا:
عندي لذا الدهر إعقابي إساءته ... بالصفح إن أعقب الإصرار بالندم
أمست منازل من حيّت مصافحة ... أيدي النحول عليها أيدي القدم
ولو ملكت لها السقيا وهامدها ... تكفكف المحل عنه أدمع الرحم
لقلت للسحّ من أيدي الوزير إذا ... حللت ناحلة الأطلال لا ترم
اليعربيّ الذي خلّى الطريق له ... من يأخذ [الناس] رعبا منه باللقم
يزاحم الليل ليل من جحافله ... ويقذف الوهدات الجرد بالأكم
أطار منهم قذاة في عيونهم ... لو أنها في جفون الدهر لم ينم
أبقى له الخوف من أشغال يقظتهم ... ما بات يرسله ليلا إلى الحلم
عافت سيوفك في الهيجا لحومهم ... فهن يأكلن منها إكلة البشم
وله أيضا فيه:
روعة بالفراق قبل الفراق ... شرقت بالدموع منها المآقي
جدّ جدّ البكا فأهدين باقي ال ... دمع منها إلى كرى غير باق
فاض تندى به الخدود ولو غا ... ض لأمست منه الحشا في احتراق
وعذارى تريك من سربها العي ... ن رنوّ الأحداق للأحداق
مخطفات لو شئن من هيف الخ ... صر تبدّلن خاتما من نطاق(5/2052)
حاليات تبدي المعاصم والسو ... ق وتخفي الأجياد في الأطواق
لا تغرّنك غفلة الدهر فالعز ... مة إمضاؤها مع الإطراق
قد أرانا ابتسامه الدهر لما ... أطلع الجود شمسه بالعراق
بالمصفّى اللباب والأروع الب ... سّام بشرا والفاتق الرتاق
ومعير معاندي الملك حدّا ... قاضيا في شقاقهم والنفاق
حين حرّ الهوى بحران والبي ... ض لها من غمائم الهام ساق
بعد ما زعزع الجزيرة بالخ ... طيّ يكرعن في الدماء الرقاق
وأطارت بجوّ سنجار للمو ... ت ظباه نارا بلا إحراق
في غمام من العجاج ووبل ... يسم الأرض من حميم العتاق
حين والى بها شوازب يفضي ... ن إلى كلّ دارة من طراق
كالحات كأنما نفث الصا ... ب العوالي منهنّ في الأشداق
وكان ابن البقال يترفع عن الاختلاط بالشعراء ويتكبر عليهم، وكان الرؤساء يكرمونه ويقومون له إذا دخل إليهم، وكان ابن العميد يقدّمه على الناس كلهم ويعظمه، وأحضره المهلبي فأنشده بحضرة المتنبي قصيدة فيه؛ قال فحدثني الإمام الهاشمي قال قال لي المتنبي: ما رأيت ببغداد من يجوز أن يقطع عليه اسم شاعر إلا ابن البقال.
قال ابن عبد الرحيم: وحدثني الأستاذ أبو الحسين ابن محفوظ، وقد جرى ذكر ابن البقال، فقال: كان أقل ما فيه الشعر، فغلب عليه وعرف به، وانه كان يضطلع بعلوم كثيرة من جملتها الكلام، وكان قويا فيه مقدّما في المعرفة به، وكان يقول بتكافؤ الأدلة، وهو بئس المذهب.(5/2053)
[858]
عمارة بن حمزة الكاتب،
من ولد أبي لبابة، مولى عبد الله بن العباس رضي الله عنهما، مولى السفاح ثم مولى أبي جعفر المنصور: وكان تياها معجبا جوادا كريما معدودا في سراة الناس، وكان فصيحا بليغا، وكان أعور دميما، وكان المنصور والمهدي بعده يقدّمانه ويحتملان «1» أخلاقه لفضله وبلاغته وكفايته ووجوب حقه، وولي لهما أعمالا كبارا، ومات [ ... ] «2» .
وله تصانيف منها: كتاب رسالة الخميس التي تقرأ لبني العباس. وكتاب رسائله المجموعة. وكتاب الرسالة الماهانية معدودة في كتب الفصاحة الجيدة.
وكان يقال بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع وعمارة بن حمزة وخالد بن يزيد وحجر بن محمد بن محمد بن حجر وأنس بن أبي شيخ وسالم بن عبد الله ومسعدة والهزبر بن صريح وعبد الجبار بن عدي «3» وأحمد بن يوسف بن صبيح.
قال أبو عبد الله محمد بن عبدوس «4» : قلد أبو العباس السفاح عمارة بن حمزة بن ميمون من ولد أبي لبابة مولى عبد الله بن العباس ضياع مروان وآل مروان خلا ضياع لولد عمر بن عبد العزيز فانها لم تقبض وضياع من والاهم وساعدهم.
وقال الخطيب «5» : عمارة من ولد عكرمة مولى ابن عباس، جمع له بين ولاية
__________
(858) - ترجمة عمارة بن حمزة في الفهرست: 131 وتاريخ بغداد 12: 280 وسير الذهبي 8: 244 والنجوم الزاهرة 2: 164 وتاريخ الموصل: 209 وصفحات متفرقة من الجهشياري والبصائر والذخائر وتاريخ الطبري (انظر فهرسه) والوافي 22: 399.(5/2054)
البصرة وفارس والأهواز واليمامة والبحرين والعرض، وهذه الأعمال جمعت للمعلى بن طريف صاحب نهر المعلى ولمحمد بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس.
وكان «1» عمارة سخيا سريا جليل القدر رفيع النفس كثير المحاسن، وله أخبار حسان، وكان أبو العباس يعرف عمارة بالكبر وعلوّ القدر وشدّة التنزّه، فجرى بينه وبين أمّ سلمة بنت يعقوب بن سلمة المخزومية زوجته كلام فاخرته فيه بأهلها، فقال لها أبو العباس: أنا أحضرك الساعة على غير أهبة مولى من مواليّ ليس في أهلك مثله، ثم أمر باحضار عمارة على الحال التي يكون عليها، فأتاه الرسول في الحضور فاجتهد في تغيير زيه فلم يدعه، فجاء به إلى أبي العباس وأم سلمة خلف الستر، وإذا عمارة في ثياب ممسكة قد لطّخ لحيته بالغالية حتى قامت واستتر شعره فقال: يا أمير المؤمنين ما كنت أحبّ أن تراني على مثل هذه الحال، فرمى إليه بمدهن كان بين يديه فيه غالية فقال: يا أمير المؤمنين أترى لها في لحيتي موضعا؟ فأخرجت إليه أمّ سلمة عقدا كان له قيمة جليلة وقالت للخادم: أعلمه أنني أهديته إليه، فأخذه بيده وشكر أبا العباس ووضعه بين يديه ونهض، فقالت أم سلمة لأبي العباس، إنما أنسيه، فقال أبو العباس للخادم: الحقه به وقل له هذا لك فلم خلّفته؟ فاتبعه الخادم، فلما وصل إليه قال له: ما هو لي فاردده، فلما أدّى الرسالة قال له: إن كنت صادقا فهو لك، وانصرف الخادم بالعقد وعرّف أبا العباس ما جرى وامتنع من ردّه على أم سلمة وقال: قد وهبه لي، فاشترته منه بعشرين ألف دينار.
وكان عمارة يقول «2» : يخبز في داري ألفا رغيف في كلّ يوم يؤكل منها ألف وتسعمائة وتسعة وتسعون رغيفا حلالا وآكل منها رغيفا واحدا حراما وأستغفر الله.
وكان يقول: ما أعجب قول الناس فلان ربّ الدار إنما هو كلب الدار.
وكانت نخوة «3» عمارة وتيهه يتواصفان ويستسرفان، فأراد أبو جعفر أن يعبث به،(5/2055)
وخرج يوما من عنده فأمر بعض خدمه أن يقطع حمائل سيفه لينظر أيأخذه أم لا، ففعل ذلك وسقط السيف ومضى عمارة ولم يلتفت.
وحدث ميمون بن هارون «1» عمن يثق به أن عمارة بن حمزة كان من تيهه إذا أخطأ يمضي على خطائه ويتكبر عن الرجوع ويقول: نقض وإبرام في ساعة واحدة؟
الخطأ أهون من ذلك.
وكان عمارة بن حمزة يوما يماشي المهدي في أيام المنصور ويده في يده، فقال له رجل: من هذا أيها الأمير؟ فقال أخي وابن عمي عمارة بن حمزة، فلما ولّى الرجل ذكر المهدي ذلك لعمارة كالمازح، فقال عمارة: إنما انتظرت أن تقول مولاي عمارة فأنفض والله يدي من يدك، فضحك المهدي.
وحكي عن عمارة بن حمزة أنه قال: انصرفت يوما من دار أبي جعفر المنصور بعد أن بايع للمهدي بالعهد إلى منزلي، فلما صرت فيه صار إليّ المهدي فقال: قد بلغني أن أمير المؤمنين قد عزم على أن يبايع لأخي جعفر بالعهد بعدي، وأعطي الله عهدا لئن فعل لأقتلنه، قال: فمضيت من فوري إلى أمير المؤمنين فلما دخلت عليه قال: هيه يا عمارة ما جاء بك؟ قلت: أمر حدث أنا ذاكره لك، قال فانا أخبرك به قبل أن تخبرني، جاءك المهدي فقال لك كيت وكيت، قلت: والله يا أمير المؤمنين لكأنك كنت ثالثنا، قال قل له: نحن أشفق عليه من أن نعرضه لك يا أبا عبد الله.
وقال محمد بن يزداد «2» : قلّد المنصور عمارة بن حمزة الخراج بكور دجلة والأهواز وكور فارس وتوفي المنصور سنة ثمان وخمسين ومائة وعمارة يتقلد جميع هذه الكور.
وبلغ موسى «3» الهادي حال بنت لعمارة جميلة فراسلها فقالت لأبيها ذلك، فقال: ابعثي إليه في المصير إليك وأعلميه أنك تقدرين على إيصاله إليك في موضع(5/2056)
يخفى أثره، فأرسلت إليه بذلك، وحمل موسى نفسه على المصير إليها، فأدخلته حجرة قد فرشت وأعدّت له، فلما حصل فيها دخل عليه عمارة فقال له: السلام عليك أيها الأمير، ماذا تصنع ها هنا، أتخذناك وليّ عهد فينا أو فحلا لنسائنا؟ ثم أمر به فبطح في موضعه وضربه عشرين درّة خفيفة وردّه إلى منزله، فحقد الهادي ذلك عليه، فلما ولي الخلافة دسّ عليه رجلا يدّعي عليه أنه غصبه ضيعته المعروفة بالبيضاء بالكوفة وكان قيمتها ألف ألف درهم؛ فبينا الهادي ذات يوم قد جلس للمظالم وعمارة بن حمزة بحضرته إذ وثب الرجل فتظلّم منه «1» فقال له الهادي: قم فاجلس مع خصمك، وأراد إهانته، فقال: إن كانت الضيعة لي فهي له، وان كانت له فهي له، ولا أساوي هذا النذل في المجلس، ثم قام وانصرف مغضبا.
وقلّد المهدي عمارة بن حمزة الخراج بالبصرة، فكتب إليه يسأله أن يضمّ إليه الأحداث مع الخراج، ففعل ذلك وقلده الأحداث مضافة إلى الخراج.
وكان عمارة أعور دميما فقال فيه بعض أهل البصرة:
أراك وما ترى إلا بعين ... وعينك لا ترى إلا قليلا
وأنت إذا نظرت بملء عين ... فخذ من عينك الأخرى كفيلا
كأني قد رأيتك بعد شهر ... ببطن الكفّ تلتمس السبيلا
ومدحه سلمة بن عياش فقال:
بلوت وجربت الرجال بخبرة ... وعلم ولا ينبيك عنهم كخابر
فلم أر أحرى من عمارة فيهم ... بودّ ولا أوفى بجار مجاور
وأكرم عند النائبات بداهة ... إذا نزلت بالناس إحدى الدوائر
تمسّك بحبل من عمارة واعتصم ... بركن وفيّ عهده غير غادر
كأنّ الذي ينتابه عن جناية ... يمتّ بقربى عنده وأواصر(5/2057)
فنعم معاذ المستجير ومنزل الكريم ومثوى كلّ عان وزائر ولعمارة شعر منه ما أنشده الجهشياري «1» :
لا تشكون دهرا صححت به ... إن الغنى في صحة الجسم
هبك الأمام أكنت منتفعا ... بغضارة الدنيا مع السقم
وكرهه «2» أهل البصرة لتيهه وعجبه، فذكر الأرقط أنه رفع أهل البصرة على عمارة أنه اختان مالا كثيرا، فسأله المهدي عن ذلك فقال: والله يا أمير المؤمنين لو كانت هذه الأموال التي يذكرونها في جانب بيتي ما نظرت إليها، فقال: أشهد إنك لصادق، ولم يراجعه فيها.
ودخل صالح بن [عبد] الجليل «3» الناسك على المهديّ فوعظه وأبكاه طويلا، وذكر له سيرة العمرين، فأجابه المهدي بفساد الزمان وتغيّر أهله وما حدث لهم من العادات، وذكر له جماعة من أصحابه وما لهم من الأموال والنعمة، وذكر فيهم عمارة ابن حمزة وقال: بلغني أن له ألف دواج بوبر سوى ما لا وبر فيه وسوى غيرها من الأصناف التي يتدثر بها.
وكان الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك شديد الكبر عظيم التيه والعجب فعوتب في ذلك فقال «4» هيهات هذا شيء حملت عليه نفسي لما رأيته من عمارة بن حمزة، فإن أبي كان يضمن فارس من المهديّ فحلّ عليه ألف ألف درهم، فأخرج ذلك كاتب الديوان فأمر المهدي أبا عون عبد الله بن يزيد بمطالبته وقال له: إن أدّى إليك المال قبل أن تغرب الشمس من يومنا هذا وإلا فائتني برأسه، وكان متغضبا عليه، وكانت حيلته لا تبلغ عشر المال، فقال لي: يا بنيّ إن كانت لنا حيلة فليس إلا من قبل عمارة بن حمزة وإلا فأنا هالك، فامض إليه، فمضيت إليه فلم يعرني الطرف، ثم(5/2058)
تقدم من ساعته بحمل المال فحمل إلينا، فلما مضى له شهران جمعنا المال فقال أبي:
امض إلى الشريف الحرّ الكريم فأدّ إليه ماله، فلما عرّفته خبره غضب وقال: ويحك أكنت قسطارا لأبيك؟ فقلت: لا ولكنك أحييته ومننت عليه، وهذا المال قد استغنى عنه، فقال: هو لك، فعدت إلى أبي فقال: لا والله ما تطيب نفسي لك به، ولكن لك منه مائتا ألف درهم، فتشبهت به حتى صار خلقا لي لا أستطيع مفارقته.
وحدث «1» أبو الحسن علي بن عمر الدارقطني في كتاب له صنفه في السخاء، حدثنا القاضي الحسين بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن [أبي] سعد الوراق، حدثني هارون بن محمد بن إسماعيل القرشي قال، أخبرني عبد الله بن أبي أيوب المكي قال: بعث أبو أيوب المكي بعض ولده إلى عمارة بن حمزة فأدخله الحاجب، قال:
ثم أدناني إلى ستر مسبل فقال: ادخل، فدخلت فإذا هو مضطجع محوّل وجهه إلى الحائط، فقال لي الحاجب: سلّم، فسلمت ولم يردّ عليّ السلام، فقال الحاجب:
اذكر حاجتك، فقلت له: جعلني الله فداك أخوك أبو أيوب يقرئك السلام ويذكر دينا بهظه وستر وجهه ويقول: لو لاه لكنت مكان رسولي يسأل أمير المؤمنين قضاءه عني، فقال وكم دين أبيك؟ فقلت: ثلاثمائة ألف درهم فقال: وفي مثل هذا أكلّم أمير المؤمنين؟! يا غلام احملها معه، وما التفت إليّ ولا كلّمني غير هذا.
قال الدارقطني حدثنا حسين بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن أبي سعد «2» ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن سليمان «3» الهاشمي، حدثنا محمد بن سلام الجمحي، حدثني الفضل بن الربيع قال «4» : كان أبي يأمرني بملازمة عمارة بن حمزة، قال: فاعتلّ عمارة، وكان المهديّ سيء الرأي فيه، فقال له أبي يوما: يا أمير المؤمنين مولاك عمارة عليل وقد أفضى إلى بيع فرشه وكسوته. فقال:
غفلنا عنه، وما كنت أظنّ أنه بلغ إلى هذه الحالة، احمل إليه خمسمائة ألف درهم يا ربيع وأعلمه أنّ له عندي بعدها ما يحبّ، قال: فحملها أبي من ساعته وقال لي:(5/2059)
اذهب بها إلى عمك وقل له: أخوك يقرئك السلام ويقول: أذكرت أمير المؤمنين أمرك فاعتذر من غفلته عنك وأمر لك بهذه الدراهم وقال لك عندي بعدها ما تحبّ، قال: فأتيته ووجهه إلى الحائط فسلمت فقال لي: من أنت؟ فقلت له: ابن أخيك الفضل بن الربيع، فقال: مرحبا بك، وأبلغته الرسالة فقال: قد كان طال لزومك لنا وقد كنا نحبّ أن نكافئك على ذلك ولم يمكّنا قبل هذا الوقت، انصرف بها فهي لك، قال:
فهبته أن أردّ عليه، فتركت البغال على بابه وانصرفت إلى أبي فأعلمته الخبر، فقال لي: يا بنيّ خذها بارك الله لك فيها فليس عمارة ممن يراجع، فكان أولّ مال ملكته.
قال ابن عبدوس «1» : وكان الماء زائدا في أيام الرشيد، فركب يحيى بن خالد والقواد ليعرّفهم المواضع المخوفة من الماء ليحفظوها، ففرّق القواد وأمر باحكام المسنّيات، وسار إلى الدور فوقف ينظر إلى قوة الماء وكثرته فقال قوم: ما رأينا مثل هذا الماء، فقال يحيى: قد رأيت مثله في سنة من السنين، كان أبو العباس خالد- يعني أباه- وجهني فيها إلى عمارة بن حمزة في أمر رجل كان يعنى به من أهل جرجان «2» ، وكانت له ضياع بالريّ، فورد عليه كتابه يعلمه أن ضياعه تحيّفت فخربت، وأن نعمته قد نقصت وحاله قد تغيرت، وأن صلاح أمره في تأخيره بخراجه سنة، وكان مبلغه مائتي ألف درهم، ليتقوى به على عمارة ضيعته ويؤديه في السنة المستقبلة، فلما قرأ أبي كتابه غمّه وبلغ منه، وكان بعقب ما ألزمه إياه أبو جعفر من المال الذي خرج عليه، فخرج به عن ملكه واستعان بجميع إخوانه فيه، فقال: يا بنيّ من هاهنا نفزع إليه في أمر هذا الرجل؟ فقلت: لا أدري، فقال: بلى عمارة بن حمزة، فصر إليه وعرّفه حال الرجل، فصرت إليه وقد مدّت دجلة، وكان ينزل في الجانب الغربي، فدخلت إليه وهو مضطجع على فراشه فأعلمته ذلك، فقال لي:
قف غدا بباب الجسر، ولم يزد على ذلك، فنهضت ثقيل الرجلين، وعدت إلى أبي العباس والدي بالخبر، فقال لي: يا بني تلك سجيته، فإذا أصحبت فاغد لوعده، فغدوت إلى باب الجسر وقد جاءت دجلة في تلك الليلة بمدّ عظيم قطع الجسور،(5/2060)
وانتظم الناس من الجانبين جميعا ينظرون إلى زيادة الماء، فبينا أنا واقف إذا بزورق قد أقبل والموج يخفيه مرة ويظهره أخرى، والناس يقولون: غرق غرق، نجا نجا، حتى دنا من الشطّ «1» ، فإذا عمارة بن حمزة في الزورق بلا شيء معه، وقد خلّف دوابّه وغلمانه في الموضع الذي ركب منه، فلما رأيته نبل في عيني وملأ صدري، فنزلت وعدوت إليه فقلت: جعلت فداك، في مثل هذا اليوم؟! وأخذت بيده فقال: أكنت أعدك وأخلف يا ابن أخي؟ اطلب لي برذون كراء «2» ، قال فقلت: برذوني، فقال هات، فقدمت إليه برذوني فركب وركبت برذون غلامي وتوجه يريد أبا عبيد الله، وهو إذ ذاك على الخراج، والمهدي ببغداد خليفة للمنصور، والمنصور في بعض أسفاره؛ قال: فلما طلع على حاجب أبي عبيد الله دخل بين يديه إلى نصف الدار ودخلت معه، فلما رآه أبو عبيد الله قام عن مجلسه وأجلسه فيه وجلس بين يديه، فأعلمه عمارة حال الرجل وسأله إسقاط خراجه وهو مائتا ألف درهم وإسلافه من بيت المال مائتي ألف يردّها في العام المقبل، فقال له أبو عبيد الله: هذا لا يمكنني، ولكني أؤخره بخراجه إلى العام المقبل، فقال له: لست أقبل غير ما سألتك، فقال أبو عبيد الله: فاقنع بدون ذلك حتى توجدني السبيل إلى قضاء حاجة الرجل، فأبى عمارة، وتلوّم أبو عبيد الله قليلا، فنهض عمارة فأخذ أبو عبيد الله بكمه وقال: أنا أحتمل ذلك في مالي، فعاد إلى مجلسه وكتب أبو عبيد الله إلى عامل الخراج باسقاط خراج الرجل لسنته والاحتساب به على أبي عبيد الله وإسلافه مائتي ألف درهم ترتجع منه في العام المقبل. فأخذت الكتاب وخرجنا فقلت له: لو أقمت عند أخيك ولم تعبر في هذا المدّ، قال: لست أجد بدا من العبور، فصرت معه إلى الموضع ووقفت حتى عبر:
هذي المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
ودخل «3» عمارة يوما على المهدي فأعظمه، فلما قام قال له رجل من أهل المدينة من القرشيين: يا أمير المؤمنين من هذا الذي أعظمته هذا الاعظام كله؟!(5/2061)
فقال: هذا عمارة بن حمزة مولاي، فسمع عمارة كلامه فرجع إليه فقال: يا أمير المؤمنين جعلتني كبعض خبّازيك وفرّاشيك ألا قلت عمارة بن حمزة بن ميمون مولى عبد الله بن عباس ليعرف الناس مكاني؟!
[859]
عمر بن إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد
بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين ذي الدمعة ابن زيد الإمام الشهيد بن علي زين العابدين بن الحسين السبط بن علي بن أبي طالب عليهم السلام، يكنى أبا البركات، من أهل الكوفة: إمام من أئمة النحو واللغة والفقه والحديث، مات فيما ذكره السمعاني في شعبان سنة تسع وثلاثين وخمسمائة في أيام المقتفي، ودفن في المسبّلة التي للعلويين، وقدّر من صلى عليه بثلاثين ألفا، وكان مولده في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. أخذ النحو عن أبي القاسم زيد بن علي الفارسي عن أبي الحسين ابن عبد الوارث عن خاله أبي علي الفارسي، وأخذ عنه أبو السعادات ابن الشجري وأبو محمد ابن بنت الشيخ.
قال السمعاني: وكان خشن العيش صابرا على الفقر قانعا باليسير، سمعته يقول: أنا زيديّ المذهب، لكنّي أفتي على مذهب السلطان، يعني أبا حنيفة.
سمع ببغداد أبا بكر الخطيب وأبا الحسين ابن النقور، وبالكوفة أبا الفرج محمد بن علّان الخازن وغيره، ورحل إلى الشام وسمع من جماعة، وأقام بدمشق وحلب مدة، قال: وحضرت عنده وسمعت منه، وكان حسن الإصغاء سليم الحواس، ويكتب خطا مليحا سريعا على كبر سنّ، وكنت ألازمه طول مقامي بالكوفة في الكرّات
__________
(859) - أبو البركات عمر بن إبراهيم العلوي له ترجمة في الأنساب 6: 366 (واللباب 2: 86) ونزهة الألباء:
295 ومصورة ابن عساكر 12: 694 والمنتظم 10: 114 وإنباه الرواة 2: 324 وعبر الذهبي 4: 108 وسير الذهبي 20: 145 والمغني في الضعفاء: 462 وميزان الاعتدال 3: 181 والبداية والنهاية 12: 219 والوافي 22: 412 ولسان الميزان 4: 280 والنجوم الزاهرة 5: 276 وبغية الوعاة 2: 215 وطبقات المفسرين للسيوطي: 26 وطبقات الداودي 2: 1 والشذرات 4: 122.(5/2062)
الخمس، ما سمعت منه في طول ملازمتي له شيئا في الاعتقاد أنكرته عليه، غير أني كنت يوما قاعدا في باب داره، وأخرج لي شدّة من مسموعاته، وجعلت أفتقد فيها حديث الكوفيين، فوجدت فيها جزءا مترجما بتصحيح الأذان بحيّ على خير العمل، فأخذته لأطالعه فأخذه من يدي وقال: هذا لا يصلح لك، له طالب غيرك، ثم قال:
ينبغي للعالم أن يكون عنده كل شيء فإنّ لكلّ نوع طالبا.
وسمعت يوسف بن محمد بن مقلد يقول: كنت أقرأ على الشريف عمر جزءا فمرّ بي حديث فيه ذكر عائشة فقلت رضي الله عنها فقال لي الشريف: تدعو لعدوة علي أو تترضى على عدوة علي؟! فقلت: حاشا وكلّا ما كانت عدوة علي.
وسمعت أبا الغنائم ابن النرسي يقول: كان الشريف عمر جاروديّ المذهب لا يرى الغسل من الجنابة. وسمعته يقول: دخل أبو عبد الله الصوري الكوفة فكتب بها عن أربعمائة شيخ، وقدم علينا هبة الله بن المبارك السقطي فأفدته عن سبعين شيخا من الكوفيين وما بالكوفة اليوم أحد يروي الحديث غيري ثم ينشد:
إني دخلت اليمنا ... لم أر فيها حسنا
ففي حر امّ بلدة ... أحسن من فيها أنا
قال المؤلف: وحكي أن أعرابيين مرّا بالشريف عمر وهو يغرس فسيلا، فقال أحدهما للآخر: أيطمع هذا الشيخ مع كبره أن يأكل من جنى هذا الفسيل؟ فقال الشريف: يا بنيّ كم من كبش في المرعى وخروف في التنور، ففهم أحدهما ولم يفهم الآخر فقال الذي لم يفهم لصاحبه: أيش قال؟ قال إنه يقول: كم من ناب يسقى في جلد حوار، فعاش حتى أكل من ثمر ذلك الفسيل.
وللشريف تصانيف: منها كتاب شرح اللمع.
وكان إبراهيم بن محمد أبو الشيخ أبي البركات أيضا شاعرا أديبا ذا حظ من النحو واللغة وهو مذكور في بابه «1» .
قال تاج الإسلام: سمعت عمر بن إبراهيم بن محمد الزيدي يقول: لما خرجنا(5/2063)
من طرابلس الشام متوجهين إلى العراق خرج لوداعنا الشريف أبو البركات ابن عبيد الله العلوي الحسني، ودّع صديقا لنا يركب البحر إلى الإسكندرية، فرأيت خالك يتفكر فقلت له: أقبل على صديقك، فقال لي: قد عملت أبياتا اسمعها، فأنشدني في الحال:
قربوا للنوى القوارب كيما ... يقتلوني ببينهم والفراق
شرعوا في دمي بتشديد شرع ... تركوني من شدّها في وثاق
قلعوا حين أقلعوا لفؤادي ... ثم لم يلبثوا كقدر الفواق
ليتهم حين ودعوني وساروا ... رحموا عبرتي وطول اشتياقي
هذه وقفة الفراق فهل أح ... يا ليوم يكون فيه التلاقي
قال في «تاريخ الشام» : حكى أبو طالب ابن الهراس الدمشقي، وكان حج مع أبي البركات، أنه صرح له بالقول بالقدر وخلق القرآن، فاستعظم أبو طالب ذلك منه وقال: إن الأئمة على غير ذلك، فقال له: إن أهل الحق يعرفون بالحق ولا يعرف الحقّ بأهله، قال هذا معنى حكاية أبي طالب.
[860]
عمر بن بكير:
كان صاحب الحسن بن سهل خصيصا به ومكينا عنده يسائله عن مشكلات الأدب، وكان راوية ناسبا اخباريا نحويا، وله عمل الفراء «كتاب معاني القرآن» وذكر ذلك في أخبار الفراء.
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب كتاب الأيام يتضمن يوم الغول. يوم الظهر. يوم أرمام. يوم الكوفة. غزوة بني سعد بن زيد مناة. يوم مبايض.
حدث ميمون بن هارون قال حدثني أبو الحسن محمد بن عمر بن بكير قال «1» :
__________
(860) - ترجمته في الفهرست: 119- 120.(5/2064)
كان أبي بين يدي المنتصر وهو أمير وأحمد بن الخصيب كاتب المنتصر [فدخل الحاجب فقال: أيها الأمير، هذا الحسن بن سهل بالباب، فالتفت إليه أحمد] «1» فقال: دعنا من الرسوم الداثرة والعظام البالية، فوثب عمر بن بكير فقال:
أيها الأمير إن للحسن بن سهل عليّ نعما عظاما وله في عنقي منن جمة، فقال: ما هي يا عمر؟ قال: ملأ يا أيها الأمير منزلي ذهبا وفضة، وأدنى مجلسي حتى زال عن مجلسه، وخلع عليّ فألحقني برؤساء أهل العلم كأبي عبيدة والأصمعي ووهب بن جرير وغيرهم، وقد أقدرني الله بالأمير على مكافاته، وهذا من أوقاته، فإن رأى الأمير أن يسهل إذنه ويجعل ذلك على يدي وحبوة لي وذريعة إلى مكافاة الحسن، فعل.
فقال يا أبا حفص بارك الله عليك فمثلك يستودع المعروف، وعندك يتم البر، ومثلك يرغب الأشراف في اتخاذ الصنائع، وقد جعلت إذن الحسن إليك فأدخله في أيّ وقت حضر من ليل أو نهار، ولا سبيل لأحد من الحجاب عليه. فقبل أبي البساط، ووثب إلى الباب فأدخل الحسن وأتكأه على يده، فلما سلم على المنتصر أمره بالجلوس فجلس وقال له: قد صيرت إذنك إلى أبي حفص، ورفعت يد الحاجب عنك، فاحضر إذا شئت من غدوّ أو رواح، وارفع حوائجك، وتكلّم بكل ما في صدرك؛ فقال الحسن: أيها الأمير والله ما أحضر طلبا للدنيا ولا رغبة فيها ولا حصرا عليها، ولكن عبد يشتاق إلى سادته، وبلقائهم يشتد ظهره وينبسط أمله وتتجدد نعم الله عنده، وما أحضر لغير ذلك، وأحمد بن الخصيب يتقد غيظا «2» ، فقال له المنتصر:
فاحضر الآن أيّ وقت شئت، فأكبّ الحسن على البساط فقبله شكرا ونهض. قال أبي: ونهضت معه، فلما بعدنا عن عين المنتصر بلغني أن المنتصر قال: هكذا فليكن الشاكرون، وعلى أمثال هذا فلينعم المنعمون. وقال الحسن لعمر: يا أبا حفص، والله ما أدري بأيّ لسان أثني عليك، فقال: سبحان الله وأنا أولى بالشكر والثناء عليك والدعاء لك، خولتني الغنى، وألبستني النعمى في الزمان الصعب وفي الحال التي كان يجفوني فيها الحميم، فجزاك الله عنّي وعن ولدي أفضل الجزاء؛(5/2065)
فقال الحسن: والهفتا ألا يكون ذلك المعروف أضعاف ما كان، لا درّ درّ الفوت، وتعسا للندم وأحواله، ولله درّ الخريمي حيث يقول «1» :
ودون الندى في كلّ قلب ثنية ... لها مصعد حزن ومنحدر سهل
وودّ الفتى في كلّ نيل ينيله ... إذا ما انقضى لو أنّ نائله جزل
ثم قال لي أبي: يا محمد اخرج معه أعزه الله حتى تؤديه إلى منزله؛ قال أبو الحسن: فخرجت معه فلم أزل أحادثه حتى جرى ذكر رزين العروضي الشاعر، وكان قد امتدحه بقصيدة فمات رزين قبل أن يوصلها إلى الحسن، فقلت: أيد الله الأمير كان شاعرا من أهل العلم والأدب مدح الأمير بقصيدة وهي في العسكر مثل، ومات قبل ان يسمعها الأمير، قال: فأسمعنيها فأنشدته إياها وأولها «2» :
قرّبوا جمالهم للرحيل ... غدوة أحبتك الأقربوك
خلّفوك ثم مضوا مدلجين ... منفردا بهمّك ما ودعوك
وفيها:
من مبلغ الأمير أخي المكرمات ... مدحة محبرة في ألوك
تزدهي كواسطة في النظام ... فوق نحر جارية تستبيك
يا ابن سادة زهر كالنجوم ... أفلح الذين هم أنجبوك
إذ نعشت مدحهم بالفعال ... محييا سيادة ما أولوك
ذو الرئاستين أخوك النجيب ... فيه كلّ مكرمة وفيك
ذو الرئاستين وأنت اللذان ... يحييان سنّة غازي تبوك
لم تزالا حيا للبلاد ... والعباد ما لكما من شريك(5/2066)
أنتما إن أقحط العالمون ... منتهى الغياث ومأوى الضريك
يا ابن سهل الحسن المستغاث ... وفي الوغى إذا اضطرب الفكيك
ما لمن ألحّ عليه الزمان ... مفزع لغيرك يا ابن الملوك
لا ولا وراءك للراغبين ... مطلب سواك حاشا أخيك
والقصيدة غريبة العروض. قال أبو الحسن: وأنا والله أنشده وعيناه تهمي على خده فتقطر على نحره ثم قال: والله ما أبكي الا لقصور الأيام عما أريده لقاصدي، ثم جعل يتلهف ويقول: ما الذي منعه من اللقاء؟ تعذّر الحجاب أم قعود الأسباب؟
فقلت: اعتلّ- جعلني الله فداءك- علة توفي فيها، فجعل يترحم عليه ثم قال: والله لا أكون أعجز من علقمة بن علاثة حيث مات قبل وصول النابغة «1» إليه بالقصيدة التي رحل بها إليه حيث يقول:
فما كان بيني لو لقيتك سالما ... وبين الغنى إلا ليال قلائل
الأبيات ... فبلغت الأبيات علقمة فأوصى له بمثل نصيب ابن له، ولكن هل لهذا الشاعر وارث؟ قلت: نعم بنية، قال: تعرف مكانها؟ قلت: نعم، قال:
والله ما يتسع وقتي هذا لما أنويه، ولكن القليل والعذر يسعنا، ثم دعا غلاما وقال:
هات ما بقي من نفقة شهرنا، فأتى بألفي درهم في صرة، فدفعها إليّ وقال: يا أبا الحسن خذ ألفا وأعط الصبية ألفا، فأخذت الألفين وانصرفت وعملت بما أمرني به.
ومات الحسن بن سهل بسر من رأى في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائتين في أيام المتوكل.
قال المؤلف: ما نسب إلى علقمة في هذه الحكاية غلط لان الوارد عليه هو الحطيئة، وكان علقمة واليا على حوران، فلما قاربه مات علقمة، فقال الحطيئة الأبيات، لكن هكذا في هذه الحكاية ولا أدري كيف حالها.(5/2067)
[861]
عمر بن أحمد بن أبي جرادة
يعرف بابن العديم العقيلي يكنى أبا القاسم ويلقب كمال الدين، من أعيان أهل حلب وأفاضلهم، وهو عمر بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة صاحب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، واسم أبي جرادة عامر بن ربيعة بن خويلد بن عوف بن عامر بن
__________
(861) - ترجمة ابن العديم في قلائد الجمان لابن الشعار 5: 203 والصقاعي: 95 وذيل مرآة الزمان 1: 510، 2: 177 وعبر الذهبي 5: 261، والبدر السافر: 37 وعيون التواريخ: 421 والفوات 3: 126 والوافي 22: 421 ومرآة الجنان 4: 158 والبداية والنهاية 13: 236 والجواهر المضية 1: 386 والنجوم الزاهرة 7: 208 والشذرات 5: 303.(5/2068)
عقيل، أبي القبيلة، بن كعب بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وبيت أبي جرادة بيت مشهور من أهل حلب: أدباء شعراء فقهاء عباد زهاد قضاة يتوارثون الفضل كابرا عن كابر وتاليا عن غابر، وأنا أذكر قبل شروعي في ذكره شيئا من مآثر هذا البيت وجماعة من مشاهيرهم، ثم أتبعه بذكره ناقلا ذلك كلّه من كتاب ألفه كمال الدين، أطال الله بقاءه، وسماه «الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة» وقرأته عليه فأقرّ به.
سألته أولا لم سميتم ببني العديم؟ فقال: سألت جماعة من أهلي عن ذلك فلم يعرفوه، وقال: هو اسم محدث لم يكن آبائي القدماء يعرفون بهذا ولا أحسب إلا أن جدّ جدي القاضي أبا الفضل هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة- مع ثروة واسعة ونعمة شاملة- كان يكثر في شعره من ذكر العدم وشكوى الزمان فسمي بذلك، فإن لم يكن هذا سببه فلا أدري ما سببه.
حدثني كمال الدين أبو القاسم قال حدثني جمال الدين أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة عمي قال: لما ختمت القرآن قبّل والدي رحمه الله بين عينيّ وبكى وقال: الحمد لله يا ولدي هذا الذي كنت أرجوه فيك، حدثني جدّك عن أبيه عن سلفه أنه ما منا أحد إلى زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم إلّا من ختم القرآن.
قال المؤلف: وهذا منقبة جليلة لا أعرف لأحد من خلق الله شرواها، وسألت عنها قوما من أهل حلب فصدقوها. وقال لي زين الدين محمد بن عبد القاهر بن النصيبي: دع الماضي واستدلّ بالحاضر فإنني أعدّ لك كلّ من هو موجود في وقتنا هذا وهم خلق ليس فيهم أحد إلا وقد ختم القرآن، وجعل يتذكرهم واحدا واحدا فلم يخرم بواحد.
حدثني كمال الدين أطال الله بقاءه قال: وكان عقب بني أبي جرادة من ساكني البصرة في محلّة بني عقيل بها، فكان أول من انتقل منهم عنها موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر أبي جرادة إلى حلب بعد المائتين للهجرة وكان وردها تاجرا.(5/2069)
وحدثني قال حدثني عمي أبو غانم محمد بن هبة الله بن محمد بن أبي جرادة قال: سمعت والدي يذكر فيما يأثره عن سلفه أن جدنا قدم من البصرة في تجارة إلى الشام فاستوطن حلب. قال: وسمعت والدي يذكر أنه بلغه أنه وقع طاعون بالبصرة فخرج منها جماعة من بني عقيل وقدموا الشام فاستوطن جدنا حلب. قال: وكان لموسى من الولد محمد وهارون وعبد الله فأما محمد فله ولد اسمه عبد الله ولا أدري أعقب أم لا، وأما العقب الموجود الآن فلهارون وهو جدّنا، ولعبد الله وهم أعمامنا.
فمن ولد عبد الله القاضي أبو طاهر عبد القاهر بن علي بن عبد الباقي بن محمد ابن عبد الله بن موسى بن أبي جرادة، وهو من سادات هذا البيت وأعيانهم، ومات في جمادى الأولى من سنة ثلاث وستين وأربعمائة، فقال القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد بن أبي جرادة يرثيه، وكانت قد توفيت قبل وفاة والد القاضي أبي الفضل أخته بأيام قلائل فتوجع للماضين:
صبرت لا عن رضى مني وإيثار ... وهل يردّ بكائي حتم أقدار
أروم كفّ دموعي وهي في صبب ... وأبتغي برد قلبي وهو في نار
ما لليالي تعرّي جانبي أبدا ... من أسرتي وأخلائي وأوزاري
تلذّ طعم مصيباتي فأحسبها ... تظما فيروي صداها ماء أشفاري
محاسن جدت للأرض الفضاء بها ... وطالما صنتها عن لحظ أبصار
وواضح كسنا الاصباح أنقله ... من رأي عيني إلى سرّي واضماري
إن الردى اقصدتني غير طائشة ... سهامها في فتى كالكوكب الواري
رمته صائبة الأقدار من كثب ... وما رمت «1» عظم أقدار وأخطار
وهي قصيدة غراء طويلة.
ومنهم أبو المجد عبد الله بن محمد بن عبد الباقي بن محمد: شيخ فاضل أديب شاعر، له معرفة باللغة والعربية، سمع بحلب أستاذه أبا عبد الله الحسين بن عبد الواحد بن محمد بن عبد القادر القنسريني المقرىء مؤلف «كتاب التهذيب في اختلاف(5/2070)
القراء السبعة» وسمعه ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله، وله أشعار حسان منها:
توسوس عن علّتيّ الزمان ... ففي كلّ يوم له معضله
فلو جعلوا أمره ليلة ... إليّ لأصبح في سلسله
ومات الشيخ أبو المجد بحلب في حدود سنة ثمانين وأربعمائة.
ومنهم ولده الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة: صدر زمانه وفرد أوانه، ذو فنون من العلوم، وخطه مليح جدا على غاية من الرطوبة والحلاوة والصحة، وله شعر يكاد يختلط بالقلب ويسلب اللب لطافة ورقة، تصدّر بحلب لافادة العلوم الدينية والأدبية متفردا بذلك كله، ورتب «غريب الحديث» لأبي عبيد على حروف المعجم، رأيته بخطه، وشرع في شرح أبياته شروعا لم يقصر فيه، ظفرت منه بكراريس من مسوداته لأنه لم يتم. سمع بحلب والده أبا المجد وأبا الفتح عبد الله بن إسماعيل الحلي وأبا الفتيان محمد بن سلطان بن حيوس الشاعر وغيرهم، ورحل عن حلب قاصدا للحج في ثالث شعبان سنة ست عشرة وخمسمائة، ووصل إلى بغداد وسمع بها أبا محمد عبد الله بن علي المقرىء وغيره، ولم يتيسر للناس في هذا العام حجّ فعاد من بغداد إلى حلب، ثم سافر إلى الموصل بعد ذلك في سنة إحدى وثلاثين وسمع بها، وأدركه تاج الإسلام أبو سعد عبد الكريم بن محمد السمعاني فسمع منه بحلب هو وجماعة وافرة، وذكره السمعاني في «المذيل لتاريخ بغداد» .
قال المؤلف: وقد ذكرته في هذا الكتاب في موضعه «1» بما ذكره السمعاني به.
حدثني كمال الدين قال سمعت والدي رحمه الله يقول: كتب الشيخ أبو الحسن ابن أبي جرادة بخطه ثلاث خزائن من الكتب لنفسه، وخزانة لابنه أبي البركات، وخزانة لابنه أبي عبد الله، ومن شعره (أنبأنا به تاج الدين زيد بن الحسن الكندي) من قصيدة يصف فيها طول الليل:
فؤاد بالأحبّة مستطار ... وقلب لا يقرّ له قرار
وما أنفكّ من هجر وصدّ ... وعتب لا يقوم له اعتذار(5/2071)
وعين دمعها جمّ غزير ... ولكن نومها نزر غرار
كأن جفونها عند التلاقي ... تلاقيها الأسنة والشفار
وهذا حالها وهم حلول ... فكيف بها إذا خلت الديار
أبيت الليل مرتفقا كئيبا ... لهمّ في الضلوع له أوار
كأن كواكب الفلك اعتراها ... فتور أو تخوّنها المدار
منها:
فيا لك ليلة طالت ودامت ... فليس لصبحها عنها انسفار
أسائلها لأبلغ منتهاها ... لعلّ الهم يذهبه النهار
ومات الشيخ أبو الحسن في سنة ثمان وأربعين وخمسمائة عن ثماني وثمانين سنة.
ومنهم ولده أبو علي الحسن بن علي بن عبد الله بن محمد بن أبي جرادة: وكان فاضلا كاتبا شاعرا أديبا، يكتب النسخ طريقة أبي عبد الله ابن مقلة، والرقاع طريقة علي بن هلال، وخطه حلو جيد جدا خال من التكلف والتعسف، سمع أباه بحلب، وكتب عنه السمعاني عند قدومه حلب، وسار في حياة أبيه إلى الديار المصرية واتصل بالعادل أمير الجيوش وزير المصريين وأنس به، ثم نفق بعده على الصالح بن رزيك، وخدمه في ديوان الجيش، ولم يزل بمصر إلى ان مات بها في سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ومن شعره في صدر كتاب كتبه إلى أخيه عبد القاهر في سنة ست وأربعين وخمسمائة:
سرى من أقاصي الشام يسألني عنّي ... خيال إذا ما زار يسلبني منّي
تركت له قلبي وجسمي كليهما ... ولم يرض إلا أن يعرّس في جفني
وإني ليدنيني اشتياقي إليكم ... ووجدي بكم لو أنّ وجد الفتى يدني
وأبعث آمالي فترجع حسّرا ... وقوفا على ضنّ من الوصل أو ظن
فليت الصبا تسري بمكنون سرنا ... فتخبرني عنكم وتخبركم عني
وليت الليالي الخاليات عوائد ... علينا فنعتاض السرور من الحزن(5/2072)
ومن شعره:
ما ضرهم يوم جدّ البين لو وقفوا ... وزودوا كلفا أودى به الكلف
تخلفوا عن وداعي ثمّت ارتحلوا ... وأخلفوني وعودا ما لها خلف
وأوصلوني بهجر بعد ما وصلوا ... حبلي وما أنصفوني لكن انتصفوا
فليتهم عدلوا في الحكم إذ ملكوا ... وليتهم أسعفوا بالطيف من شعفوا
ما للمحبّ وللعذال ويحهم ... خانوا ومانوا ولما عنّفوا عنفوا
أستودع الله أحبابا ألفتهم ... لكن على تلفي يوم النوى ائتلفوا
عمري لئن نزحت بالبين دارهم ... عنّي فما نزحوا دمعي وما نزفوا
يا حبذا نظرة منهم على عجل ... تكاد تنكرني طورا وتعترف
سقت عهودهم غرّاء واكفة ... تهمي ولو أنها من أدمعي تكف
أحبابنا ذهلت ألبابنا ومحا ... عتابنا لكم الاشفاق والأسف
بعدتم فكأنّ الشمس واجبة ... من بعدكم وكأنّ البدر منخسف
يا ليت شعري هل يحظى برؤيتكم ... طرفي وهل يجمعن ما بيننا طرف
ومضمر في حشاه من محاسنكم ... لفظا هو الدرّ لا ما يضمر الصدف
كنا كغصنين حال الدهر بينهما ... أو لفظتين لمعنى ليس يختلف
فأقصدتنا صروف الدهر نابلة ... حتى كأنّ فؤادينا لها هدف
فهل تعود ليالي الوصل ثانية ... ويصبح الشمل منا وهو مؤتلف
ونلتقي بعد يأس من أحبتنا ... كمثل ما يتلاقى اللام والألف
وما كتبت على مقدار ما ضمنت ... مني الضلوع ولا ما يقتضي اللهف
فان أتيت بمكنوني فمن عجب ... وإن عجزت فان العذر منصرف
ومنهم أخوه أبو البركات عبد القاهر بن علي بن عبد الله بن أبي جرادة: كان ظريفا لطيفا أديبا شاعرا كاتبا له الخط الرائق والشعر الفائق والتهذيب الذي تبحّر في جودته ويلتحق بالنسبة إلى ابن البواب، والتأنق في الخط المحرر الذي يشهد بالتقدم في الفضل وان تأخر، سمع بحلب أباه أبا الحسن وغيره، وكتب عنه جماعة من(5/2073)
العلماء، وكان أمينا على خزائن الملك العادل نور الدين محمود زنكي وذا منزلة لطيفة منه. ومن شعره (وكتبه بليقة ذهب) :
ما اخترت الا أشرف الرتب ... خطا أخلّد منه في الكتب
والخطّ كالمرآة ننظرها ... فنرى محاسن صورة الأدب
هو وحده حسب يطال به ... إن لم يكن إلاه من حسب
ما زلت أنفق فيه من ذهب ... حتى جرى فكتبت بالذهب
وقال أيضا وهو بدمشق في سنة تسع وأربعين وخمسمائة:
أمتّ ببذلي خالصا من مودتي ... إلى من سواء عنده المنع والبذل
وتحسب نفسي والأمانيّ ضلّة ... بأني من شغل الذي هو لي شغل
ألا إن هذا الحبّ داء موافق ... وإنّ شفاء الداء ممتنع سهل
عفا الله عمن إن جنى فاحتملته ... تجنّى فعاد الذنب لي وله الفضل
ومن كلّما أجمعت عنه تسليا ... تبينت أن الرأي في غيره جهل
سأعرض إلا عن هواه فانه ... جميل بمثلي حبّ من ما له مثل
وألقي مقال الناصحين بمسمع ... ضربت عليه بالغواية من قبل
فعندي وان أخفيت ذاك عن العدى ... عزيمة همّ لا تكلّ ولا تألو
ولي في حواشي كلّ عذل تلفت ... إلى حبّ من في حبه قبح العذل
وإني لأدنى ما أكون من الهوى ... إذا أرجف الواشون بي أنني أسلو
هذا لعمري والله الغاية في الحسن والطلاوة والرونق والحلاوة.
وقال أيضا:
عاد قلبي إلى الهوى من قريب ... ما محبّ بمنته عن حبيب
طال يا همتي تماديك في الرش ... د خذي من غواية بنصيب
وإذا ما رأيت حسنا غريبا ... فاستعدّي له لوجد غريب
يا غزالا مالت به نشوة العج ... ب فهزّت عطفيه هزّ القضيب(5/2074)
بين ألحاظك المراض وبيني ... نسب لو رعيت حقّ النسيب
أنت أجريت أعين الدمع من عي ... ني وأوريت زند قلبي الكئيب
لا تقل ليس لي بذلك علم ... فعلى مقلتيك سيما مريب
ما تعدّيت في الذي أنت فيه ... إنّ حظي لديك حظّ أديب
ومات في سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
ومنهم ابن أخيه أبو الفتح عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي جرادة: وكان يجيد الكتابة، وجمع مجاميع حسنة، وجمع شعر والده أبي عبد الله الحسن وشعر عمه أبي البركات عبد القاهر، وله شعر لا بأس به منه:
من ذا مجيري من يدي شادن ... مهفهف القدّ مليح العذار
قد كتب الشعر على وجهه ... أسطر مسك طرسها جلّنار
فهؤلاء من بني عبد الله بن موسى بن عيسى.
وأما أخوه هارون بن موسى فهو أول من اشترى بحلب ملكا في قرية تعرف بأورم الكبرى، وكان له ولدان زهير وأحمد، والعقب لزهير، وهو الذي اشترى أكثر أملاك بني أبي جرادة مثل أورم الكبرى ويحمول وأقذار ولؤلؤة والسين، وهي قرى، ووقف وقفا على شرى فرس يجاهد به في سبيل الله، وتوفي في حدود سنة أربعين وثلاثمائة. فمن ولد زهير هذا أبو الفضل عبد الصمد بن زهير بن هارون بن موسى ولادته في حدود العشرين والثلاثمائة، سمع بحلب أبا بكر محمد بن الحسين الشيعي وغيره، وروى عنه ابن أخيه القاضي أبو الحسن أحمد ومشرق العابد وجماعة ولعله مات في حدود سنة تسعين وثلاثمائة، وليس له عقب.
ومنهم أبو جعفر يحيى بن زهير بن هارون بن موسى، وهو العديم إليه ينسبون، وقد ذكرنا أنهم لا يعرفون لم سموا ذلك.
ومنهم ولده القاضي أبو الحسن أحمد بن يحيى بن زهير: وهو أول من ولي القضاء بمدينة حلب من هذا البيت، وقد سمع الحديث ورواه، وقرأ الفقه على القاضي أبي جعفر محمد بن أحمد السمعاني، وكان السمعاني إذ ذاك قاضي حلب.(5/2075)
أنشدني كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن أبي جرادة، أنشدني والدي لجدّ أبيه القاضي هبة الله أحمد بن يحيى يذكر أباه ويفتخر به:
أنا ابن مستنبط القضايا ... وموضح المشكلات حلّا
وابن المحاريب لم تعطّل ... من الكتاب العزيز يتلى
وفارس المنبر استكانت ... عيدانه من حجاه ثقلا
توفي بعد سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله بن أحمد: كان كبير القدر جميل الأمر مبجلا عند آل مرداس، له شعر جزل فصيح ذو معان دقاق يترفع قدره عنه، وإنما يقول ببلاغته وبراعته، سمع الحديث من أبيه ولعله لقي أبا العلاء المعري وقرأ عليه شيئا، وولي القضاء بحلب وأعمالها في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة وبقي على ذلك إلى أن مات، وكانت ولايته للقضاء في أوائل دولة شرف الدولة أبي المكارم مسلم بن قريش بعد وفاة حميه القاضي كسرى بن عبد الكريم بن كسرى، وكتب تقليده من بغداد عن المقتدي بالله.
ومن شعره:
لي بالغوير لبانات ظفرت بها ... قد سدّ من دونها لي أوضح الطرق
وبالثنيّة بدر لاح في غصن ... أصمى فؤادي لها سهم من الملق
سرّاقة لقلوب الناظرين لها ... وما يقام عليها واجب السّرق
لا يفلت المرء من أشراك مقلتها ... وان تخلّص لم يفلت من العقق
وأبرزت من خلال السجف ذا شعل ... لولا بقا الليل قلنا غرّة الفلق
ولائم ودموع العين واكفة ... لا يستبين لها جفن من الغرق
يقول أفنيته والشمل مجتمع ... ولم تصنه لتوديع ومفترق
وله:
ربع لهند باللوى مصروم ... أقوى فها آريّه مرثوم
أخفاه إلحاح البلى فضللت في ... إنشاده لولا النسيم نموم(5/2076)
تضياف طرفي فيه دمع ساجم ... وقرى فؤادي في ذراه هموم
هل عاذر في الربع رائي عيسهم ... تحدى لها وخد بهم ورسيم
وهوى تبعّده الليالي والنوى ... إن قرّبته خواطر ورسوم
يا صاحبيّ خذا المطايا وحدها ... بدمي فما سفكته إلا الكوم
أمضين أحكام الهوى وأعنّه ... ومساعد المرء الظلوم ظلوم
وله:
وما عسى يطلب الرجال من رجل ... كاس من الفضل إن عرّي من المال
كالبارد العذب يوم الورد من ظمأ ... والصارم العضب في روع وأوجال
همومه في جسيمات الأمور فما ... يلفى مصاحب أطماح وآمال
ألذّ من ثروة تأتي بإذلال ... عزّ القناعة مع صون وإقلال
وما يضرّ امرءا أثرت مناقبه ... إن أكسبته الليالي رقة الحال
وقال أيضا يمدح أبا الفضائل سابق بن محمود بن نصر بن صالح بن مرداس صاحب حلب ويشكره إذ لم يسمع فيه قول حساد وشوا به إليه:
خلّها إن ظمئت تشكو الأواما ... لا تقلها الأين إن طال وداما
واجعل السرج إذا ما سغبت ... كلأ والمورد العذب اللجاما
أوتراها كالحنايا بالسرى ... وباسراع إلى المرمى سهاما
قصرت ظهرا ورسغا وعسيبا ... مثل ما طالت عنانا وحزاما
تنصب الأذنين حتى خيّلت ... بهما تبصر ما كان أماما
وإذا ما بارت الريح اغتدت ... خلفها النكباء حسرى والنّعامى
كم مقامي بين أحكام العدى ... أتبع القائد لا أعصي الزماما
أكلة الطاعم لا يرهب إثما ... أو أسير المنّ إن كفّ احتشاما
وإلام الحظّ لا ينصفني ... من زمان جار في قصدي إلاما
تعتلي أرؤسه أذنابه ... فترى الأرجل تعلو فيه هاما(5/2077)
أتمنى راحة تنقذني ... منهم عزّت ولو كانت حماما
منها:
كم رموني عامدا في هوّة ... نارها تعلو اشتعالا واضطراما
قاصدي حتفي فكانت بك لي ... نار إبراهيم بردا وسلاما
وله في المعنى من قصيدة:
هنّئت يا أرض العواصم دولة ... روّى ثراك بها أشمّ أروع
قد عاد في الأيام ماء شبابها ... وتسالمت حرق الأسى والأضلع
أشكو إليك عصابة نبذوا الحيا ... حسدا وشدّوا في أذاي وأوضعوا
راموا ابتزازي مورثي عن أسرتي ... وتآزروا في قبضه وتجمعوا
يتطلّبون لي الذنوب كأنني ... ممن عليه بالشنان يقعقع
لم أخش قهرهم ونصرك مصلت ... دوني ولي من حسن رأيك مرجع
وله:
وما الذلّ إلا أن تبيت مؤمّلا ... وقد سهرت عيناك وسنان هاجعا
أأخشى امرءا أو أشتكي منه جفوة ... إذا كنت بالميسور في الدهر قانعا
إذا ما رآني طالبا منه حاجة ... ففي حرج ان لم يكن لي مانعا
وكان المنجمون قد حكموا له أنه يموت في صدور الرجال، فاتفق أنه اعتقل بالقلعة مدة لتهمة اتهم بها بالممالأة لبعض الملوك ثم أطلق بعد مدة، فنزل راكبا وأصحابه حوله، فبينا هو سائر إذ وجد ألما فقال لأصحابه: أمسكوني أمسكوني، فأخذوه في صدورهم من على فرسه، فلما وصل إلى منزله بقي على صدورهم إلى أن مات بحلب في سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
ومنهم ولده القاضي أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد: وكان فقيها فاضلا زاهدا عفيفا سمع أباه وغيره، وولي قضاء حلب وأعمالها وخطابتها بعد موت أبيه في أيام تاج الدولة دبيس «1» في سنة ثمان وثمانين(5/2078)
وأربعمائة، ولم يزل قاضيا بها إلى أن عزله رضوان لما خطب للمصريين، وولى القضاء القاضي الزوزني العجمي في شوال من سنة تسعين وأربعمائة، ثم عاود الملك رضوان الخطبة لبني العباس فأعاد القاضي أبا غانم إلى ولايته، وجاءه التقليد من بغداد بالقضاء والحسبة عن القاضي علي بن الدامغاني بأمر المستظهر في صفر سنة ست وتسعين وأربعمائة، وكان مولد القاضي أبي غانم في رجب سنة ست وأربعين وأربعمائة، وهو الذي شرع في عمارة المسجد الذي بحلب يعرف ببني العديم، وأتمه ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله، وكان يتولى الخطابة في المسجد الجامع والامامة بحلب، وكان حنفيّ المذهب، وكان يؤمّ بالناس ثلاثين سنة وهو متكتف تحت ثيابه ويسبل أكمامه فارغة خوفا من الولاة في أيامه لأنهم كانوا إسماعيليين يرون رأي المصريين، وكانوا يفطرون قبل العيد بيوم ويجتمع أكابر حلب في يوم عيدهم يهنئونهم، فصعد القاضي أبو غانم للهناء في من صعد، وقدم للناس سكرا ولوزا، وأخذ القاضي أبو غانم لوزة ووضعها في فيه فقال له صاحب حلب: أيها القاضي لم لا تأكل من السكر؟ فقال: لأنه يذوب، وتبسم، فضحك الوالي وأعفاه من ذلك.
حدثني كمال الدين قال: حدثني عمي حدثني أبي قال: نزل جدّك القاضي أبو غانم في بعض الأيام يصلي بالجامع، وخلع نعليه قرب المنبر وكانا جديدين، فلما قضى صلاته قام للبسهما فوجد نعليه العتق مكانهما، فقال لغلامه: ألم أنزل إلى الجامع بالمداس الجديد فأين هو؟ فقال الغلام: بلى ولكن جاءنا الساعة رجل وطرق الباب وقال: القاضي يقول لكم أنفذوا إليه مداسه العتيق إلى الجامع فقد سرق مداسه الجديد، فضحك وقال: هذا والله لص شفيق جزاه الله خيرا وهو في حل منه.
والقاضي أبو غانم هذا هو الذي نهض من حلب في سنة ثمان عشرة وخمسمائة وقد حصرها الفرنج ودبيس بعد قتل بلك «1» على منبج حتى أقدم البرسقي من الموصل فاستنقذها من الحصار، وهربوا لما سمعوا بقدومه، وكان أهل حلب لقوا شدة وأكلوا الميتة ولم يكن عندهم أمير وإنما تولوا حفظ البلد بأنفسهم وأبلوا بلاء حسنا حسنت به العاقبة.(5/2079)
ومنهم ابنه القاضي أبو الفضل هبة الله سمّي باسم جده وكني بكنيته، وكان فقيها مرضيا ورعا زاهدا، سمع الحديث ورواه وولي القضاء بحلب وأعمالها بعد موت أبيه القاضي أبي غانم، وكتب له عهده من أتابك زنكي بن آقسنقر في سنة أربع وثلاثين وخمسمائة ثم جاء له العهد من بغداد من قاضي القضاة الزينبي وأمر المقتفي، وكان مولده في ذي القعدة سنة تسع وتسعين وأربعمائة، فلما قتل أتابك زنكي وولي ابنه نور الدين وولي القضاء كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري قضاء الشام، ورزق البسطة والتحكم في الدولة وقاوم الوزراء بل الملوك، التمس من القاضي أبي الفضل هذا أن يكتب في كتب سجلاته ذكر النيابة عنه، فامتنع القاضي أبو الفضل، ولجّ ابن الشهرزوري، وساعده مجد الدين ابن الداية، وهو والي حلب، لشيء كان في نفسه على القاضي أبي الفضل لأمور كان يخالفه فيها في أقضية يوفّر فيها جانب الحقّ على أغراضه، وتردد المراسلات بين نور الدين وبينه في قبول النيابة وهو يأبى إلى أن قال ابن الداية: هذا تحكّم منه في الدولة وفيك إذ تأمره بشيء ولا يمتثله، فاعزله وولّ محيي الدين بن كمال الدين، فقال نور الدين: [ ... ] «1»
يستناب له قاض حنفي، فعزل القاضي أبو الفضل وولي محيي الدين قضاء حلب، واستنيب له الكودري، وذلك في سنة سبع وخمسين وخمسمائة، وحج في تلك السنة.
وكتب أبو الحسين أحمد بن منير الطرابلسي للقاضي أبي الفضل هبة الله يلتمس منه «كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه» للقاضي علي بن عبد العزيز الجرجاني، وكان قد وعده بها ودافعه:
يا حائزا غاي كلّ فضل ... تضلّ في كنهه الإحاطه
ومن ترقّى إلى محلّ ... أحكم فوق السها مناطه
إلى متى أسعط التمني ... ولا ترى المنّ بالوساطه
ومات القاضي أبو الفضل لعشر بقين من ذي الحجة سنة اثنتين وستين وخمسمائة.(5/2080)
ومنهم ابن أخته أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أحمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن أبي جرادة: سمع بحلب ورحل إلى بغداد وسمع بها محمد بن ناصر السلامي وغيره، وحدثني كمال الدين أيده الله قال، قال لي شيخنا أبو اليمن زيد الكندي: كان أبو المكارم محمد بن عبد الملك بن أبي جرادة فسمع ببغداد الحديث معنا على، مشايخنا فسمعت بقراءته، وورد إلينا إلى دمشق بعد ذلك، وكنا نلقبه «القاضي بسعادتك» ، وذلك أن القلانسي دعاه في وليمة وكنت حاضرها فجعل لا يسأله عن شيء فيخبر عنه بما سر أو ساء إلا وقال في عقبه: بسعادتك، فإن قال له:
ما فعل فلان؟ قال: مات بسعادتك، وإن قال له: ما خبر الدار الفلانية؟ يقول:
خربت بسعادتك، فسميناه القاضي بسعادتك، وكان يقولها لاعتياده إياها لا لجهل كان فيه، وكان له أدب وفضل وفقه وشعر جيد، وقد روى الحديث. ولأبي المكارم شعر منه:
لئن تناءيتم عنّي ولم تركم ... عيني فأنتم بقلبي بعد سكان
لم أخل منكم ولم أسعد بقربكم ... فهل سمعتم بوصل فيه هجران
وله أشعار كثيرة ومات بحلب في سنة خمس وستين وخمسمائة أو سنة ست وستين.
ومنهم جمال الدين أبو غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسين يحيى: وهو عمّ كمال الدين، أحد الأولياء العباد وأرباب الرياضة والاجتهاد، عالم كثير الصوم والصلاة، وهو حي يرزق إلى وقتنا هذا، وكان قد تولى الخطابة بجامع حلب، وعرض عليه القضاء في أيام الملك الصالح إسماعيل بن محمود بن زنكي بعد القاضي ابن الشهرزوري فامتنع منه، فقلّد القضاء أخوه القاضي أبو الحسن والد كمال الدين أيده الله. وكتب جمال الدين هذا بخطه الكثير، وشغف بتصانيف أبي عبد الله محمد بن علي بن الحكيم الترمذي فجمع معظم تصانيفه عنده وكتب بعضها بخطه، وكتب من كتب الزهد والرقائق والمصاحف كثيرا، وكان خطه في صباه على طريقة ابن البواب القديمة، ووهب لأهله مصاحف كثيرة بخطه، وكان إذا اعتكف في شهر رمضان كتب مصحفا أو مصحفين وجمع براوات الأقلام فيكتب بها تعاويذ للحمى وعسر الولادة فتعرف بركتها. قال: وسألت عمي عن مولده فقال في سنة أربعين(5/2081)
وخمسمائة، وقد سمع أباه وعمه أبا المجد عبد الله وغيرهما، وروى الحديث، وتفقه على العلاء الغزنوي، واجتمع بجماعة من الأولياء، وكوشف بأشياء مشهورة، وهو الآن يحيا في محرم سنة عشرين وستمائة.
ومنهم القاضي أبو الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة: كل هؤلاء ولوا قضاء حلب، وهذا هو والد كمال الدين صاحب أصل هذه الترجمة، كان يخطب بالقلعة بحلب على أيام نور الدين محمود بن زنكي، ثم ولي الخزانة في أيام ولده الملك الصالح إسماعيل إلى أن عرض القضاء على أخيه كما ذكرنا فامتنع منه، فقلده القاضي هذا بحلب وأعمالها في سنة خمس وسبعين وخمسمائة، ولم يزل واليا للقضاء في أيام الملك الصالح ومن بعده في دولة عز الدين ثم عماد الدين بن قطب الدين مودود بن زنكي وصدرا من دولة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى أن عزل عن منزلتي الخطابة والقضاء ونقل إلى مذهب الشافعي، وكان عزله عن القضاء في سنة ثمان وسبعين وخمسمائة، ووليه القاضي محيي الدين محمد بن علي بن الزكي قاضي دمشق الشافعي، وكان صرف أخوه الأصغر أبو المعالي عبد الصمد عن الخطابة قبله، فعلم أن الأمر يؤول إلى عزله عن القضاء لأن الدولة شافعية، فاستأذن في الحج والإعفاء عن القضاء فصرف عن ذلك بعد مراجعات. وسمع الحديث من أبيه وأبي المظفر سعيد بن سهل الفلكي وغيرهما، ومولده سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ومات رحمه الله ليلة الجمعة السابع والعشرين من شعبان سنة ثلاث عشرة وستمائة.
هذا ما كتبته من الكتاب الذي ذكرته آنفا على سبيل الاختصار والايجاز وهو قليل من كثير من فضائلهم، وأنا الآن أذكر من أنا بصدده، وهو كمال الدين أبو القاسم عمر بن القاضي أبي الحسن أحمد بن القاضي أبي الفضل هبة الله بن القاضي أبي غانم محمد بن القاضي أبي سعيد هبة الله بن القاضي أبي الحسن أحمد بن أبي جرادة، كلّ هؤلاء من آبائه ولي قضاء حلب وأعمالها وهم حنفيون، وهو الذي نحن بصدده، وإلى معرفة حاله ركبنا سنن المقال وجدده، فانه من شروط هذا الكتاب، لكتابته التي فاقت ابن هلال، وبلغت الغاية في الجودة والاتقان، ولتصانيفه في الأدب التي تذكر آنفا إن شاء الله تعالى. فأما أوصافه بالفضل فكثيرة، وسماته بحسن الأثر(5/2082)
أثيرة، وإذ كان هذا الكتاب لا يتسع لأوصافه جميعا، وكان الوقت يذهب بحلاوة ذكر محاسنه سريعا، رأيت من المشقة والاتعاب، التصدي لجميع فضائله والاستيعاب، فاعتمدت على القول مجملا لا مفصّلا، وضربة لا مبوبا فأقول:
إن الله عز وجل عني بخلقته فأحسن خلقه وخلقه وعقله وذهنه وذكاءه، وجعل همته في العلوم ومعالي الأمور، فقرأ الأدب وأتقنه، ثم درس الفقه فأحسنه، ونظم القريض فجوده، وأنشأ النثر فزينه، وقرأ حديث الرسول وعرف علله ورجاله وتأويله وفروعه وأصوله، وهو مع ذلك قلق البنان، جواد بما تحوي اليدان، وهو كاسمه كمال في كلّ فضيلة، لم يعتن بشيء إلا وكان فيه بارزا، ولا تعاطى أمرا إلا وجاء فيه مبرّزا، مشهور ذلك عنه لا يخالف فيه صديق ولا يستطيع دفاعه عدو. وأما قراءته للحديث في سرعته وصحة إيراده وطيب صوته وفصاحته فهو الغاية التي أقرّ له بها كلّ من سمعها، فانه يقرأ الخطّ العقد كأنه يقرأ من حفظه، وأما خطه في التجويد والتحرير والضبط والتقييد فسواد مقلة لأبي عبد الله ابن مقلة، وبدر ذو كمال عند علي بن هلال:
خلال الفضل في الأمجاد فوضى ... ولكنّ الكمال لها كمال
وإذا كان التام من خصائص عالم الغيب، وكان الإنسان لا بد له من عيب، فعيبه لطالب العنت والشين، أنه يخاف عليه من إصابته العين، هذا مع العفاف والزمت، والوقار وحسن السمت، والجلال المشهور، عند الخاص والجمهور:
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة ... ولداته عن ذاك في أشغال
سألته أدام الله علوه عن مولده فقال لي: ولدت في ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وخمسمائة، قال: فلما بلغت سبعة أعوام حصلت إلى المكتب، فأقعدت بين يدي المعلم فأخذ يمثّل لي كما يمثّل للأطفال ويمد خطا ويرتب عليه ثلاث سينات، فأخذت القلم، وكنت قد رأيته وقد كتب «بسم» ومدّ مدته، ففعلت كما فعل، وجاء ما كتبته قريبا من خطه، فتعجب المعلم فقال لمن حوله: لئن عاش هذا الطفل لا يكون في العالم أكتب منه. وصحّت لعمري فراسة المعلم فيه فهو أكتب من كلّ من تقدمه بعد ابن البواب بلا شك.(5/2083)
وقال: وختمت القرآن ولي تسع سنين، وقرأت بالعشر ولي عشر سنين، وحبب إليّ الخط وجعل والدي يحضّني عليه؛ فحدثني الشيخ يوسف بن علي بن زيد الزهري المغربي الأديب معلم ولده بحضرة كمال الدين قال: حدثني والد هذا (وأشار إليه) قال: ولد لي عدة بنات وكبرن، ولم يولد لي غير ولد واحد ذكر، وكان غاية في الحسن والجمال والفطنة والذكاء، وحفظ من القرآن قدرا صالحا وعمره خمس سنين، واتفق أن كنت يوما جالسا في غرفة لنا مشرفة على الطريق، فمرت بنا جنازة فاطّلع ذلك الطفل ببصره نحوها ثم رفع رأسه إليّ وقال: يا أبت إذا أنا متّ بما تغشّي تابوتي؟
فزجرته، وأدركني في الوقت استشعار شديد عليه، فلم يمض إلا أيام حتى مرض ودرج إلى رحمة الله ولحق بربه، فأصابني عليه ما لم يصب والدا على ولد، وامتنعت من الطعام والشراب، وجلست في بيت مظلم، وتصبرت فلم أعط عليه صبرا، فحملني شدة الوله على قصد قبره، وتوليت حفره بنفسي، وأردت استخراجه والتشفي برؤيته، فلمشيئة الله ولطفه بالطفل أو بي لئلا أرى به ما أكره صادفت حجرا ضخما وعالجته فامتنع عليّ قلعه، مع قوة وأيد كنت معروفا بهما، فلما رأيت امتناع الحجر عليّ علمت أنه شفقة من الله على الطفل أو عليّ، فزجرت نفسي، ورجعت ولهان بعد أن أعدت قبره إلى حاله التي كان عليها، فرأيت بعد ذلك في النوم ذلك الطفل وهو يقول: يا أباه عرّف والدتي أني أريد أجيء إليكم، فانتبهت مرعوبا وعرّفت والدته ذلك، فبكينا وترحمنا واسترجعنا. ثم إني رأيت في النوم كأنّ نورا خرج من ذكري حتى أشرف على جميع دورنا ومحلتنا وعلا علوّا كبيرا، فانتبهت وأوّلت ذلك فقيل لي: أبشر بمولود يعلو قدره ويعظم أمره، ويشيع بين الأنام ذكره بمقدار ما رأيت من ذلك النور، فابتهلت إلى الله عز وجل ودعوت وشكرته وقويت نفسي بعد الإياس لأني كنت قد جاوزت الأربعين، فلم تمض إلا هنيهة حتى اشتملت والدة هذا ولدي (وأشار إلى كمال الدين أيده الله) على حمل، وجاءت به في التاريخ المقدم ذكره، فلم يكن بقلبي بحلاوة ذلك الأول لأنه كان نحيفا جدا، فجعل كلما كبر نبل جسما وقدرا، ودعوت له عدة دعوات، وسألت الله له عدة سؤالات، ورأيت فيه والحمد لله أكثرها. ولقد قال له رجل يوما بحضرتي كما يقول الناس: أراكه الله قاضيا كما كان آباؤه، فقال: ما أريد له ذلك، ولكني اشتهيته أن يكون مدرّسا، فبلغه الله ذلك بعد(5/2084)
موته، وسمع الحديث على جماعة من أهل حلب والواردين إليها، وأكثر السماع على الشيخ الشريف افتخار الدين عبد المطلب الهاشمي ورحل به أبوه إلى البيت المقدس مرتين في سنة ثلاث وستمائة وفي سنة ثمان وستمائة، ولقي بها مشايخ وبدمشق أيضا، وقرأ على تاج الدين أبي اليمن في النوبتين كثيرا من مسموعاته.
حدثني كمال الدين أدام الله معاليه قال، قال لي والدي: احفظ «اللمع» حتى أعطيك كذا وكذا، فحفظته وقرأته على شيخ حلب يومئذ وهو الضياء بن دهن الحصى ثم قال لي: احفظ «القدوري» حتى أهب لك كذا وكذا- لدراهم كثيرة أيضا، فحفظته في مدة يسيرة وأنا في خلال ذلك أجوّد، وكان والدي رحمه الله يحرّضني على ذلك ويتولّى صقل الكاغد لي بنفسه، فإني لأذكر مرة، وقد خرجنا إلى ضيعة لنا، فأمرني بالتجويد فقلت: ليس هاهنا كاغد جيد، فأخذ بنفسه كاغدا كان معنا رديا وتناول شربة اسفيذر، وكانت معنا، فجعل يصقل بها الكاغد بيده ويقول لي:
اكتب، ولم يكن خطه بالجيد وإنما كان يعرف أصول الخط، فكان يقول لي: هذا جيد وهذا رديء، وكان عنده خط ابن البواب، فكان يريني أصوله إلى أن أتقنت منه ما أردت، ولم أكتب على أحد مشهور، إلا أن تاج الدين محمد بن أحمد بن البرفطي البغدادي، ورد إلينا إلى حلب، فكتبت عليه أياما قلائل لم يحصل منه فيها طائل، ثم إن الوالد رحمه الله خطب لي وزوّجني بقوم من أعيان أهل حلب، وساق إليهم ما جرت العادة بتقدمته في مثل ذلك، ثم جرى بيننا وبينهم ما كرهته وضيّق صدري منهم، فوهب لهم الوالد جميع ما كان ساقه إليهم وطلقتهم، ثم إنه وصلني بابنة الشيخ الأجلّ بهاء الدين أبي القاسم عبد المجيد بن الحسن بن عبد الله المعروف بابن العجمي، وهو شيخ أصحاب الشافعي، وأعظم أهل حلب منزلة وقدرا ومالا وحالا وجاها، وساق إليهم المهر وبالغ في الإحسان، وكان والدي رحمه الله بارا بي لم يكن يلتذّ بشيء من الدنيا التذاذه بالنظر في مصالحي، وكان يقول: اشتهي أرى لك ولدا ذكرا يمشي، فولد أحمد ولدي ورآه، وبقي إلى أن كبر ومرض مرضة الموت، فيوم مات مشى الطفل حتى وقع في صدره، ثم مات والدي رحمه الله في الوقت الذي تقدم ذكره، وكان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين صاحب حلب رحمه الله كثير الإكرام لي وما حضرت مجلسه قطّ فما أقبل على أحد إقباله عليّ مع صغر السن،(5/2085)
واتفق أن مرضت في شهور سنة ثماني عشرة وستمائة مرضا أيس مني فيه، فكان يخطر ببالي وأنا مريض أن الله تعالى لا بدّ وأن يمنّ بالعافية لثقتي بصحة رؤيا الوالد، وكنت أقول: ما بلغت بعد مبلغا يكون تفسيرا لتلك الرؤيا إلا إن منّ الله بالعافية وله الحمد والمنة، فذهب عني ذلك الخيال، وليس يخطر منه في هذا الوقت ببالي شيء لأن نعم الله عليّ سابغة وأياديه في حقي شائعة.
قلت: ولما مات والده «1» بقي بعده مدة، ومات مدرس مدرسة شادبخت، وهي من أجل مدارس حلب وأعيانها، ولي التدريس بها في ذي الحجة سنة ست عشرة وستمائة، وعمره يومئذ ثمان عشرون سنة، هذا وحلب أعمر ما كانت بالعلماء والمشايخ والفضلاء الرواسخ إلا أنه رؤي أهلا لذلك دون غيره، وتصدّر وألقى الدرس بجنان قوي ولسان لوذعي فأبهر العالم وأعجب الناس. وصنف مع هذا السنّ كتبا منها: كتاب الدراري في ذكر الذراري جمعه للملك الظاهر وقدّمه إليه يوم ولد ولده الملك العزيز الذي هو اليوم سلطان حلب. كتاب ضوء الصباح في الحثّ على السماح، صنفه للملك الأشرف، وكان قد سيّر من حرّان يطلبه، فانه لما وقف على خطه اشتهى أن يراه، فقدم عليه فأحسن إليه وأكرمه وخلع عليه وشرفه. كتاب الأخبار المستفادة في ذكر بني أبي جرادة، وأنا سألته جمعه فجمعه لي، وكتبه في نحو أسبوع، وهو عشرة كراريس. كتاب في الخط وعلومه ووصف آدابه وأقلامه وطروسه وما جاء فيه من الحديث والحكم وهو إلى وقتي هذا لم يتم. كتاب تاريخ حلب في أخبار ملوكها وابتداء عمارتها ومن كان بها من العلماء ومن دخلها من أهل الحديث والرواية والدراية والملوك والأمراء والكتاب.
وشاع ذكره في البلاد، وعرف خطه بين الحاضر والباد، فتهاداه الملوك، وجعل مع اللآلىء في السلوك، وضربت به في حياته الأمثال، وجعل للناس في زمانه حذوا ومثالا، فمما رغب في خطه أنه اشترى وجهة واحدة بخطّ ابن البواب بأربعين درهما ونقلها إلى ورقة عتيقة ووهبها من حيدر الكتبي، فذهب بها وادّعى أنها بخط ابن البواب وباعها بستين درهما زيادة على الذي بخط ابن البواب بعشرين درهما، ونسخ لي هذه الرقعة بخطه فدفع فيها كتاب الوقت على انها بخطه دينارا مصريا ولم يطب(5/2086)
قلبي ببيعها، وكتب لي أيضا جزءا فيه ثلاث عشرة قائمة نقلها من خط ابن البواب فأعطيت فيها أربعين درهما ناصرية قيمتها أربعة دنانير ذهبا فلم أفعل، وانا أعرف أن ابن البواب لم يكن خطه في أيامه بهذا النفاق، ولا بلغ هذا المقدار من الثمن وقد ذكرت ما يدل على ذلك في ترجمة ابن البواب.
فممن كتب إليه يسترفده شيئا من خطه سعد الدين منوجهر الموصلي، ولقد سمعته مرارا يزعم أنه أكتب من ابن البواب، ويدعي أنه لا يقوم له أحد في الكتابة ويقرّ لهذا كمال الدين بالكمال، فوجه إليه على لسان القاضي أبي علي القيلوي، وهو المشهور بصحبة السلطان الأشرف، يسأله سؤاله في شيء من خطّه ولو قائمة أو وجهة، وكان اعتماده على أن ينقل له الوجهة المقدم ذكرها.
وممن كتب إليه يسترفده خطّه أمين الدين ياقوت المعروف بالعالم، وهو صهر أمين الدين ياقوت الكاتب الذي يضرب به المثل في جودة الخط وتخرّج به ألوف وتتلمذ له من لا يحصى- كتب إلى كمال الدين رقعة، وحموه حيّ يرزق، نسختها:
الذي حضّ الخادم على عمل هذه الأبيات، وإن لم يكن من أرباب الصناعات، أن الصدر الكبير الفاضل عز الدين- حرس الله مجده- لما وصل إلى الموصل- خلّد الله ملك مالكها- نشر من فضائل المجلس العالي العالمي الفاضلي كمال الدين- كمل الله سعادته، كما كمل سيادته، وبلغه في الدارين مناه وإرادته- ما يعجز البليغ عن فهمه فضلا عن أن يورده، لكن فضائل المجلس كانت تملي على لسانه وتشغله، فطرب الخادم من استنشاق رياها، واشتاق إلى رؤية حاويها عند اجتلاء محياها، فسمح عند ذلك الخاطر مع تبلده، بأبيات تخبر المجلس بمحبة الخادم له وتعبده، وهي:
حيا نداك كمال الدين أحيانا ... ونشر فضلك عن محياك حيّانا
وحسن أخلاقك اللائي خصصت بها ... أهدت إلى البعد لي روحا وريحانا
حويت يا عمر المحمود سيرته ... خلقا وخلقا وإفضالا وإحسانا
إن كان نجل هلال في صناعته ... ونجل مقلة عينا الدهر قد كانا
فأنت مولاي إنسان الزمان وقد ... غدوت في الخطّ للعينين إنسانا
قد بثّ فضلك عزّ الدين مقتصدا ... ونثّ شكرك إسرارا وإعلانا(5/2087)
فضاع نشرك في الحدباء واشتهرت ... آيات فضلك أرسالا ووحدانا
أثني عليك وآمالي معلقة ... بحسن عفوك ترجو منك غفرانا
وان تطفلت في صدق الوداد ولم ... يقض التلاقي لنا عفوا ولا حانا
فما ألام على شيء أتيت به ... «فالاذن تعشق قبل العين أحيانا»
يا أفضل الناس في علم وفي أدب ... وأرجح الخلق عند الله ميزانا
قد شرّف الله أرضا أنت ساكنها ... وشرف الناس إذ سواك انسانا
قد هجم الكلام على المجلس العالي بوجه وقاح، ولم يخش مع عفو المولى وصمة الافتضاح، فليلق عليها المولى ستر المعروف، فهو أليق بكرمه المألوف، والسلام.
فكتب إليه كمال الدين بخطه الدّريّ ولفظه السحري، وأنشدنيها لنفسه:
يا من أبحت حمى قلبي مودّته ... ومن جعلت له أحشاي أوطانا
أرسلت نحوي أبياتا طربت بها ... والفضل للمبتدي بالفضل إحسانا
فرحت أختال عجبا من محاسنها ... كشارب ظلّ بالصهباء نشوانا
رقّت وراقت فجاءت وهي لابسة ... من البلاغة والترصيع ألوانا
حكت بمنثورها والنظم إذ جمعا ... بأحرف حسنت روضا وبستانا
جرّت على جرول أثواب زينتها ... إذ أصبحت وهي تكسو الحسن حسّانا
أضحت تغبّر وجه العنبريّ فما ... بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
يمسي لها ابن هلال حين ينظرها ... يحكي أباه بما عاناه نقصانا
كذاك أيضا لها عبد الحميد غدا ... عبدا يجرّ من التقصير أردانا
أتت وعبدك مغمور بعلّته ... فغادرته صحيحا خير ما كانا
وكيف لا تدفع الأسقام عن جسدي ... وهي الصّبا حملت روحا وريحانا
فما على طيفها لو عاد يطرقنا ... فربما زار أحيانا وأحيانا
فاسلم وأنت أمين الدين أحسن من ... وشّى الطروس بمنظوم ومن زانا
ولا تخطّت إليك الحادثات ولا ... حلّت بربعك يا أعلى الورى شانا(5/2088)
وأنشدني كمال الدين أدام الله علاءه لنفسه في الغزل فاعتمد فيه معنى غريبا:
وأهيف معسول المراشف خلته ... وفي وجنتيه للمدامة عاصر
يسيل إلى فيه اللذيذ مدامه ... رحيقا وقد مرّت عليه الأعاصر
فيسكر منه عند ذاك قوامه ... فيهتزّ تيها والعيون فواتر
كأنّ أمير النوم يهوى جفونه ... إذا همّ رفعا خالفته المحاجر
خلوت به من بعد ما نام أهله ... وقد غارت الجوزاء والليل ساتر
فوسّدته كفّي وبات معانقي ... إلى أن بدا ضوء من الصبح سافر
فقام يجرّ البرد منه على تقى ... وقمت ولم تحلل لإثم مآزر
كذلك أحلى الحبّ ما كان فرجه ... عفيفا ووصل لم تشنه الجرائر
وأنشدني لنفسه بمنزله بحلب في ذي الحجة سنة تسع عشرة وستمائة وإملائه:
وساحرة الأجفان معسولة اللمى ... مراشفها تهدي الشفاء من الظما
حنت لي قوسي حاجبيها وفوّقت ... إلى كبدي من مقلة العين أسهما
فوا عجبا من ريقها وهو طاهر ... حلال وقد أضحى عليّ محرّما
فإن كان خمرا أين للخمر لونه ... ولذته مع أنني لم أذقهما
لها منزل في ربع قلبي محلّه ... مصون به مذ أوطنته لها حمى
جرى حبها مجرى حياتي فخالطت ... محبتها روحي ولحمي والدما
تقول إلى كم ترتضي العيش أنكدا ... وتقنع أن تضحي صحيحا مسلّما
فسر في بلاد الله واطّلب الغنى ... تفز منجدا إن شئت أو شئت متهما
فقلت لها إن الذي خلق الورى ... تكفّل لي بالرزق منّا وأنعما
وما ضرني أن كنت ربّ فضائل ... وعلم عزيز النفس حرا معظما
إذا عدمت كفّاي مالا وثروة ... وقد صنت نفسي أن أذل وأحرما
«ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي ... لأخدم من لاقيت لكن لأخدما»
لا يظن الناظر في هذه الأبيات أن قائلها فقير وقير، فإن الأمر بعكس ذلك،(5/2089)
لأنه- والله يحوطه- ربّ ضياع واسعة وأملاك جمة ونعمة كثيرة وعبيد كثيرة وإماء وخيل ودواب وملابس فاخرة وثياب، ومن ذلك أنه بعد موت أبيه اشترى دارا كانت لأجداده قديما بثلاثين ألف درهم، ولكن نفسه واسعة وهمته عالية والرغبات في الدنيا بالنسبة إلى الراغبين والشهوة لها على قدر الطالبين.
وأنشدني لنفسه بمنزله في التاريخ:
احذر من ابن العمّ فهو مصحّف ... ومن القريب فإنما هو أحرف
القاف من قبر غدا لك حافرا ... والراء منه ردى لنفسك يخطف
والياء ياس دائم من خيره ... والباء بغض منه لا يتكيف
فاقبل نصيحتي التي أهديتها ... إني بأبناء العمومة أعرف
وأنشدني أيضا لنفسه بمنزله سالكا طريق أهله في الافتخار:
سألزم نفسي الصفح عن كلّ ما جنى ... عليّ وأعفو حسبة وتكرما
وأجعل مالي دون عرضي وقاية ... ولو لم يغادر ذاك عندي درهما
وأسلك آثار الألى اكتسبوا العلا ... وحازوا خلال الخير ممن تقدما
أولئك قومي المنعمون ذوو النهى ... بنو عامر فاسأل بهم كي تعلّما
إذا ما دعوا عند النوائب إن دجت ... أناروا بكشف الخطب ما كان أظلما
وإن جلسوا في مجلس الحكم خلتهم ... بدور ظلام والخلائق أنجما
وإن هم ترقّوا منبرا لخطابة ... فأفصح من يوما بوعظ تكلما
وان أخذوا أقلامهم لكتابة ... فأحسن من وشّى الطروس ونمنما
بأقوالهم قد أوضح الدين «1» واغتدى ... بأحكامهم علم الشريعة محكما
دعاؤهم يجلو الشدائد إن عرت ... وينزل قطر الماء من أفق السما
وقائلة يا ابن العديم إلى متى ... تجود بما تحوي ستصبح معدما
فقلت لها عني إليك فإنني ... رأيت خيار الناس من كان منعما
أبى اللؤم لي أصل كريم وأسرة ... عقيلية سنّوا الندى والتكرما
وأنشدني لنفسه وقد رأى في عارضه شعرة بيضاء وعمره إحدى وثلاثون سنة:(5/2090)
أليس بياض الأفق في الليل مؤذنا ... بآخر عمر الليل إذ هو أسفرا
كذاك سواد النبت يقرب يبسه ... إذا ما بدا وسط الرياض منوّرا
ودخلت إلى كمال الدين المذكور يوما فقال لي: ألا ترى أنا في السنة الحادية والثلاثين من عمري وقد وجدت في لحيتي شعرات بيضا، فقلت أنا فيه:
هنيئا كمال الدين فضلا حبيته ... ونعماء لم يخصص بها أحد قبل
لداتك في شغل بداعية الصبا ... وأنت بتحصيل المعالي لك الشغل
بلغت لعشر من سنينك رتبة ... من المجد لا يسطيعها الكامل الكهل
ولما أتاك الحلم والفهم ناشئا ... أشابك طفلا كي يتمّ لك الفضل
[862]
عمر بن ثابت أبو القاسم الثمانيني النحوي الضرير:
إمام فاضل وأديب كامل، أخذ عن أبي الفتح ابن جني، وكان خواص الناس في ذلك الوقت يقرءون على أبي القاسم عبد الواحد بن برهان الأسدي، وعمومهم يقرءون على الثمانيني. مات الثمانيني في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في خلافة القائم بأمر الله، وهو منسوب إلى سوق ثمانين، بليد صغير بأرض جزيرة ابن عمر بأرض الموصل من ناحية قردى، يقال إنها أول مدينة بنيت بعد الطوفان، وسميت بذلك لأنهم زعموا أن الذين نجوا من السفينة كانوا ثمانين آدميا.
وله من التصانيف: كتاب شرح اللمع. كتاب المفيد «1» في النحو. كتاب شرح التصريف الملوكي.
وجدت في بعض الكتب أن أول قرية بنيت بعد الطوفان ثمانين، وإنما سميت
__________
(862) - ترجمة الثمانيني في نزهة الألباء: 256 والمنتظم 8: 146 ومعجم البلدان (ثمانين) وابن خلكان 3: 443 وعبر الذهبي 3: 200 والوافي 22: 443 ونكت الهميان: 220 ومرآة الجنان 3: 61 والبداية والنهاية 12: 62 والبلغة: 171 وبغية الوعاة 2: 217 والشذرات 3: 269 وإشارة التعيين: 238.(5/2091)
بهذا الاسم لأنّ ثمانين نفرا خرجوا من السفينة وبنوها، ولما خرجوا من السفينة نزلوا قردى وبازبدى بأرض الموصل، وهي قرية الثمانين، ثم وقع فيهم الوباء فماتوا إلا نوح وسام بن نوح وحام ويافث ونساؤهم وطبقت الدنيا منهم، فذلك قوله عز وجل وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ
(الصافات: 77) .
[863]
عمر بن جعفر بن محمد الزعفراني أبو القاسم:
يلقب دومى، أحد أعيان أهل الأدب المخصصين بمعرفة علم الشعر من القوافي والعروض وغير ذلك، ذكره محمد بن إسحاق النديم، وكان في عصره. وله كتاب العروض في خمس مجلدات ضخمة رأيتها بخطه في وقف جامع حلب. وله كتاب القوافي. كتاب اللغات (ذكرهما ابن النديم) .
[864]
عمر بن الحسين الخطاط غلام ابن حرنقا:
كان كاتبا مليح الخط محظوظا منه، وكان يكتب على طريقة علي بن هلال البواب ويجيد في ذلك، وخطه مشهور عند كتاب الآفاق معروف، مات في ما ذكره صدقة بن الحسين الحيار في حادي عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ودفن في داره بدرب الدواب، وكان له من آلة الكتابة ما لم يكن لأحد قبله، وذلك أنه حدثني محمد بن البرفطي الكاتب قال حدثني أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي أنه بيع له في تركته آلة الكتابة بتسعمائة دينار إمامية «1» ، من جملة ذلك دواة بازهر اشتراها بعض ولد زعيم الدين بن جعفر صاحب المخزن بسبعمائة «2» دينار، وبيع له بالباقي سكاكين وأقلام وبراكر وما شاكل ذلك.
__________
(863) - ترجمة الزعفراني في الفهرست: 92 والوافي 22: 445 وبغية الوعاة 2: 217.
(864) - ترجمة غلام ابن حرنقا في الوافي 22: 455.(5/2092)
[865]
عمر بن شبة بن عبيدة بن ريطة البصري
أبو زيد مولى بني نمير، واسم شبة زيد، وإنما سمي شبة لأنّ أمه ترقصه وتقول:
يا بأبي وشبّا ... وعاش حتى دبّا
شيخا كبيرا خبّا
مات لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وستين ومائتين بسامرا، وبلغ من السن تسعين سنة. وكان أبو زيد راوية للأخبار عالما بالآثار أديبا فقيها صدوقا. قال المرزباني: وهو القائل للحسن بن مخلد:
ضاعت لديك حقوق واستهنت بها ... والحرّ يألم من هذا ويمتعض
إني سأشكر نعمى منك سالفة ... وإن تخوّنها من حادث عرض
وله:
أصبحت كلا على أناس ... قد كنت عن مثلهم عزوفا
قال محمد بن إسحاق: وله من التصانيف كتاب الكوفة. كتاب البصرة. كتاب أمراء المدينة. كتاب أمراء مكة. كتاب السلطان. كتاب مقتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه. كتاب الكتاب. كتاب الشعر والشعراء. كتاب الأغاني. كتاب التاريخ.
كتاب أخبار المنصور. كتاب أخبار محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن حسن.
كتاب أشعار الشّراة. كتاب النسب. كتاب أخبار بني نمير. كتاب ما يستعجم الناس فيه من القرآن. كتاب الاستعانة بالشعر وما جاء في اللغات. كتاب الاستعظام. كتاب النحو ومن كان يلحن من النحويين. كتاب طبقات الشعراء.
وكان لأبي زيد ابن اسمه أبو طاهر أحمد، وكان شاعرا مجيدا، اعتبط قبل أن يبلغ مبلغ المشهورين، مات بعد أبيه بعشر سنين. ومن شعر عمر بن شبة:
__________
(865) - ترجمة ابن شبة في: نور القبس: 231 والفهرست: 125 وتاريخ بغداد 11: 208 والمنتظم 5: 41 والمعجم المشتمل: 201 وابن خلكان 3: 440 وتهذيب الأسماء واللغات 2: 16 وتذكرة الحفاظ: 516 وعبر الذهبي 2: 25 وسير الذهبي 12: 369 وغاية النهاية 1: 592 والوافي 22: 488 وتهذيب التهذيب 7: 460 وبغية الوعاة 2: 218 والشذرات 2: 146.(5/2093)
وقائلة لم يبق للناس سيد ... فقلت بلى عبد الرحيم بن جعفر
ومن شعر ابنه أبي طاهر أحمد:
نظرت فلم أر في العسكر ... كشؤمي وشؤم أبي جعفر
غدا الناس للعيد في زينة ... من اليوم في منظر أزهر
ونغدو عليهم بلا أهبة ... فرارا من المنزل المقفر
فنقعد للشؤم في عزلة ... من الناس ننظر في دفتر
[866]
عمر بن عثمان بن الحسين بن شعيب الجنزي
أبو حفص، من أهل ثغر جنزة:
ذكره عبد الكريم السمعاني فقال: هو أحد أئمة الأدب، وله باع طويل في الشعر والنحو، ورد بغداد وأقام بها مدة، وصحب الأئمة واقتبس منهم، وأكثر ما قرأ الأدب على أبي المظفر الأبيوردي، ثم رجع إلى بلده وعاد ثانيا إلى بغداد وذاكر الفضلاء بها وبالبصرة وخوزستان، وبرع في العلم حتى صار علّامة زمانه، وأوحد عصره وأوانه، وكان غزير الفضل وافر العقل حسن السيرة كثير العبادة متوددا سخي النفس، صنف التصانيف وجمع الجموع، وشرع في إملاء تفسير لو تم لم يوجد مثله. سمع بهمذان عبد الرحمن الدوني، كتبت عنه بمرو، وأنشدني لنفسه:
أحادي عيسي إن بلغت مقامي ... فبلّغ صحابي لا عدمت سلامي
وخبرهم عما أعاني من الجوى ... ومن لوعتي في هجرهم وسقامي
وقل لهم إني متى ما ذكرتكم ... غصصت لذكراكم بكلّ طعام
وان دموعي كلّما لاح كوكب ... ترقرق في خدّي كصوب غمام
وإن هبّ من أرض الحبيب نسيمة ... تقلقل أحشائي وهاج غرامي
__________
(866) - له ترجمة في الأنساب واللباب (الجنزي) ومعجم البلدان (جنزة) وإنباه الرواة 2: 329 وبغية الوعاة 2: 220 والوافي (خ) وثغر جنزة من قرى أذربيجان.(5/2094)
وان غرّدت وهنا حمامة أيكة ... أجبت «1» بنوحي لحن كلّ حمام
وله:
قالت وخطتك شيبة كالعين ... كم تذرف عيناك ذروف العين
قد قلت لها أيا سواد العين ... يزداد من الثلوج ماء العين
العين الأولى الطليعة.
ومات الجنزي في رابع عشر ربيع الآخر سنة خمسين وخمسمائة بمرو وقد جاوز السبعين.
وذكره أبو الحسن ابن أبي القاسم البيهقي في «كتاب الوشاح» فقال: هو إمام في النحو والأدب لا يشق فيهما غباره، ومع ذلك فقد تحلّى بالورع ونزاهة النفس، لكن الزمان عانده وما بسط في أسباب معاشه يده، جاس خلال الديار وقال: أدركت زمان الأشجّ، ورأيت مصلّاه في طنجة المغرب إلا أني لم أمكث حتى أراه. وأدّب بنيسابور أولاد الوزير فخر الملك، ثم ارتحل من نيسابور في شهور سنة خمس وأربعين وخمسمائة، ثم لم يعد إليها، وقضى نحبه بعد انتقاله من نيسابور بأيام قلائل، وأنشد له قصيدة واحدة في مدح الإمام محمد بن حمويه منها:
ألم تذكرا ربعا بعسفان عامرا ... وبيضا يودّعن الأحبة خرّدا
يشعّثن بالعنّاب ضغث بنفسج ... ويضربن بالأسروع خدّا موردا
كأن النوى لم تلق غير جوانحي ... ومقلتي العبرى مرادا وموردا
وتذري على الورد الجمان بنرجس ... حمته بنان تترك الصبّ مقصدا
وشابهتها إذ أعرضت في ثلاثة ... تزيد لها حسنا وتورثنا الردى
حكى خدّها دمعي وقلبي قلبها ... وحاجبها قدّي لما قد تأودا
وإن بخلت عيني وضنّت بمائها ... إذا جاد قلبي بالدماء وأنجدا
وأبدع منه أنّ حرّ أضالعي ... ولوعاتها تغلي الشراب «2» المبردا
وتصعد من صدري رياح بوارد ... إذا أنا أذكرت اللوى متنهدا(5/2095)
قرأت بخط أبي سعد: أنشدنا أبو حفص عمر بن عثمان الجنزي لنفسه يعزي الكمال المستوفي بزوجته:
إذا جلّ قدر المرء جل مصاب ... وكلّ جليل بالجليل يصاب
يروح الفتى في غفلة عن مآله ... ويشغله عنه هوى وشباب
ولم يتفكر أنّ من عاش ميت ... وأن الذي فوق التراب تراب
وان ثراء يقتنيه مشتّت ... وأنّ بناء يبتنيه خراب
ونعمة ذي الدنيا بلاء ومحنة ... وماذيّها سمّ يضرّ وصاب
وفرحتها عند الأكايس ترحة ... وسلسالها للأولياء سراب
فلا يخدعنّ المرء نعمى حلالها ... حساب عليه والحرام عقاب
وللدهر مستوف عليهم مناقش ... له مع أهل الخافقين خطاب
على كلّ نفس مشرفان لربه ... غدا لهما فيما أتته كتاب
وهي طويلة.
[867]
عمر بن عثمان بن خطاب بن بشير التميمي
أبو حفص النحوي: مغربي له كتاب الأمر والنهي ويعرف بكتاب المكتفي.
[868]
عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل
بن حماد بن
__________
(867) - ترجمته في بغية الوعاة 2: 221 (عن ياقوت) وكذلك الوافي (خ) .
(868) - لأبيه القاضي أبي عمر محمد بن يوسف ترجمة في تاريخ بغداد 3: 401 والمنتظم 6: 246 وسير الذهبي 14: 555 والوافي 5: 245 وكانت وفاة أبي عمر سنة عشرين وثلاثمائة، أما ابنه عمر أبو الحسين فله ترجمة في المنتظم 6: 307 (وكانت وفاته سنة 328) وانظر نشوار المحاضرة 1: 240 وبغية الوعاة 2: 226 (عن ياقوت) والوافي (خ) .(5/2096)
زيد بن درهم القاضي: حدث أبو القاسم التنوخي قال حدثني أبو الحسين بن عياش القاضي قال: لما قلّد المقتدر أبا الحسين ابن أبي عمر القاضي المدينة رئاسة في حياة أبيه أبي عمر خلع عليه، واجتمع الخلق من الأشراف والقضاة والشهود والجند والتجار وغيرهم على باب الخليفة، حتى خرج أبو الحسين وعليه الخلع، فساروا معه، قال: وكنت فيهم للصهر الذي كان بينه وبينهم ولأنه كان أحد شهودهم، فصار عمي وأنا معه في أخريات الناس والموكب خوفا من الزحام، ومعنا شيخ أسنّ أسماه أبو الحسين وأنسيته أنا، فكنا لا نجتاز بموضع إلا سمعنا ثلب الناس لأبي الحسين وتعجبهم من تقلده رئاسة، فقال عمي للشيخ: يا أبا فلان أما ترى كثرة تعجّب الناس من تقلّد هذا الصبي مع فضله ونفاسته وعلمه وجلالة سلفه؟! فقال: يا أبا محمد لا تعجب من هذا، فلعهدي وقد ركبت مع أبي عمر يوم خلع عليه بالحضرة، وقد اجتزنا بالناس- وهم معجبون من تقلده- أضعاف هذا العجب، حتى خفنا أن يثبوا علينا، وهذا أبو عمر الآن وقدره في الفضل والنبل [معروف] ، ولكن الناس يسرعون إلى العجب مما لم يألفوه.
وله من التصانيف: كتاب غريب الحديث كبير لم يتم. كتاب الفرج بعد الشدة لطيف وهو مما أحسب أول من صنف في ذلك «1» .
حدث ابن نصر والخطيب عن أبي الطيب ابن زنجي المؤدب قال: كان بين أبي أحمد ابن ورقاء وبين القاضي أبي عمر وولده أبي الحسين مودة وكيدة، فعنّ لأبي أحمد سفرة لم يودع فيها القاضيين، فلما عاد من سفرته لم يقصداه ولم يعرفا خبره، فكتب إليهما:
أأستجفي أبا عمر وأشكو ... أم استجفي فتاه أبا الحسين(5/2097)
بأيّ قضية وبأيّ حكم ... ألحّا «1» في قطيعة واصلين
فما جاءا ولا بعثا رسولا ... ولا كانا لحقّ قاضيين «2»
وان من المروءة أن يكونا ... لمن والاهما متواليين
فان نعتب فحقا غير أنا ... نجلّ على العتاب القاضيين
وأنفذ الرقعة إلى أبي عمر، فلما وقف عليها ألقاها إلى ولده أبي الحسين وقال:
أجبه فأنت أقوم بجواب هذا الكلام، فكتب إليه:
تجنّ واظلم فلست منتقلا ... عن خالص الودّ أيها الظالم
كتبت تشكو قطيعة سلفت ... وخلت أني لحبلكم صارم
تركت حقّ الوداع منصرفا ... وجئت تبغي زيارة القادم
كأنّ حقّي عليك مطّرح ... وحقّ ما تبتغيه لي لازم
أمران لم يذهبا على فطن ... وأنت بالحكم فيهما عالم
وبعد ذا فالعتاب من ثقة ... وصدره من حفيظة سالم
فلما وقف عليها ركب إليهما وعاد معهما إلى ما كان عليه من المصافاة.
[869]
عمر بن محمد النسفي الحافظ-
ونسف هي نخشب بما وراء النهر-: كنيته أبو حفص، وصنف كتبا منها «كتاب القند في علماء سمرقند» ذكر فيه وقال:
وموسى بن عبد الله الأغماتي قدم علينا سنة ست عشرة وخمسمائة، وهو شاب فاضل، وبقي عندي أياما وكتب عني الكثير، ولأجله جمعت كتابا سميته «عجالة النخشبيّ لضيفه المغربي» وفيه قلت:
__________
(869) - هو عمر بن محمد بن أحمد، وكتابه «القند في معرفة علماء سمرقند» ينقل عنه ابن العديم في بغية الطلب (انظر مثلا 1: 157) .(5/2098)
لقد طلع الشمس من غربها ... على خافقيها «1» وأوساطها
فقلنا القيامة قد أقبلت ... وقد جاء أول أشراطها
قال وأنشدني موسى الأغماتيّ لنفسه:
لعمر الهوى إني وإن شطّت النوى ... لذو كبد حرّى وذو مدمع سكب
فان كنت في أقصى خراسان نازحا ... فجسمي في شرق وقلبي في غرب
[870]
عمر بن مطرّف الكاتب
يكنى أبا الوزير، من عبد القيس: كان من أهل مرو، وكان يتقلد ديوان المشرق للمهدي، وهو ولي عهد، ثم كتب له في خلافته، والهادي والرشيد، وكان يكتب للمنصور وللمهدي، وقيل إنه مات في أيامه، والصحيح أنه مات في أيام الرشيد، فحزن عليه وصلّى هو عليه بنفسه، فلما فرغ من صلاته قال له «2» : رحمك الله ما عرض لك أمران أحدهما لله والآخر لك الا اخترت ما هو لله على هواك.
وله من الكتب: كتاب مفاخرة العرب ومنافرة القبائل في النسب. كتاب منازل العرب وحدودها وأين كانت محلة كل قوم وإلى أين انتقل منها. كتاب رسائله.
قال محمد بن عبدوس: وكان الرشيد أمر بابطال دواوين الأزمة في سنة سبعين ومائة، فأبطلت شهرين، ثم أعيدت ووليها أبو الوزير عمر بن المطرف بن محمد
__________
(870) - عمر بن مطرف الكاتب أبو الوزير: ورد ذكره عند الجهشياري: 166 (حيث احتجم يوم خميس فجعل المهدي الخميس عطلة للكتاب؛ وص: 265 حيث رثاه الرشيد، وهو ما نقله المؤلف هنا؛ وص 281- 288 حيث أورد قائمة خراج عملها للرشيد أيضا، ولكن سائر ما ينقله المؤلف عن الجهشياري لم يرد في المطبوع منه، ولم يستدركه ميخائيل عواد في «نصوص ضائعة» ) ؛ وانظر الفهرست: 141 والوافي (خ) .(5/2099)
العبدي، منسوب إلى عبد القيس لأنه كان مولاهم. وكان محمد بن مطرف «1» أحد كتّاب المهدي وتقلد له ديوان الخراج أيام مقامه بالري، وتوفي مطرف بن محمد سنة أربع وأربعين ومائة في قول، وقيل غير ذلك، وقد ذكرته بعد هذا «2» .
وكان أبو الوزير عفيفا متصونا، وكان يبخّل. وحكي أنه كلم عمر بن العلاء في رجل فوهب له مائة ألف درهم، فدخل أبو الوزير على الرشيد وقال له: يا أمير المؤمنين عمر خائن، كلّمته في رجل كانت همته ألفا درهم فوهب له مائة ألف درهم، فلم يضرّه ذلك عند الرشيد لعلمه ببخل أبي الوزير. ولما انصرف عمر بن العلاء إلى حضرة أبي الوزير أغلظ له وشدد معاتبته لأجل ما وهب للرجل وقال له: قد كان يجزيه إذا أسرفت أن تهب له خمسة آلاف درهم، قال له عمر بن العلاء: فاعمل على أني أعطيته بكتابك خمسة آلاف درهم، وأعطيته لنفسي خمسة وتسعين ألف درهم.
وفي أبي الوزير يقول بعض الشعراء:
لبس الرياء وراح في أثوابه ... نحو الخليفة كاسرا لم يطرف
يبدي خلاف ضميره ليغرّه ... لله در ريائك ابن مطرّف
وكان حج الرشيد في سنة ست وثمانين ومائة، وقد حج الرشيد بعد ذلك أيضا في سنة ثمان، ولا أدري في أية حجتيه هاتين مات أبو الوزير.
[871]
عمر وبن أبي عمرو إسحاق بن مرار الشيباني:
قد تقدم ذكر نسبه وولائه عند ذكر أبيه «3» ، وكان عمرو هذا قد أخذ علم أبيه وتصدر للقراءة عليه وأبوه حي. مات سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقال الأزهري: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائتين.
__________
(871) - ترجمته في تهذيب اللغة للأزهري 1: 10 وطبقات الزبيدي: 204 وإنباه الرواة 2: 360 وبغية الوعاة 2: 228 والوافي (خ) وقد سمع منه ثعلب كتاب «النوادر» لأبيه، وسمع منه أبو إسحاق الحربي ووثقه كل واحد منهما.(5/2100)
[872]
عمرو بن بحر بن محبوب
أبو عثمان الجاحظ مولى أبي القلمس عمرو بن قلع الكناني ثم الفقيمي أحد النسّاء. قال يموت بن المزرع: الجاحظ خال أمي. وكان جد الجاحظ أسود يقال له فزارة، وكان جمالا لعمرو بن قلع الكناني. وقال أبو القاسم البلخي: الجاحظ كناني من أهل البصرة. وكان الجاحظ من الذكاء وسرعة الخاطر والحفظ بحيث شاع ذكره وعلا قدره واستغنى عن الوصف.
قال المرزباني، حدث المازني «1» قال: حدثني من رأى الجاحظ يبيع الخبز والسمك بسيحان. قال الجاحظ: أنا أسن من أبي نواس بسنة، ولدت في أول سنة خمسين ومائة وولد في آخرها. مات الجاحظ سنة خمس وخمسين ومائتين في خلافة المعتز وقد جاوز التسعين «2» . سمع من أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وأخذ النحو عن الأخفش أبي الحسن وكان صديقه، وأخذ الكلام عن النظام، وتلقف الفصاحة من العرب شفاها بالمربد. وحدثت أن الجاحظ قال: نسيت كنيتي ثلاثة أيام حتى أتيت أهلي فقلت لهم: بم أكنى؟ فقالوا: بأبي عثمان. وحدث أبو هفان قال:
لم أر قط ولا سمعت من أحبّ الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ فانه لم يقع بيده كتاب قط إلا استوفى قراءته كائنا ما كان حتى إنه كان يكتري دكاكين الوراقين ويبيت فيها للنظر، والفتح بن خاقان فانه كان يحضر لمجالسة المتوكل فإذا أراد القيام لحاجة أخرج كتابا من كمه أو خفه وقرأه في مجلس المتوكل إلى حين عوده إليه حتى في
__________
(872) - ترجمة الجاحظ في الفهرست: 208 ونور القبس: 230 وتاريخ بغداد 12: 212 ونزهة الألباء: 132 وأمالي المرتضى 1: 194 وابن خلكان 3: 470 وسير الذهبي 11: 526 وعبر الذهبي 1: 456 وميزان الاعتدال 3: 247 والوافي بالوفيات (خ) وسرح العيون، 136 والبداية والنهاية 11: 19 ولسان الميزان 4: 355 وبغية الوعاة: 265 والشذرات 2: 121؛ وقد نشر عدد جم من كتبه ورسائله وصدرت عنه عدة كتب وبحوث بالعربية وبغيرها من اللغات، وما يزال «تقريظ الجاحظ» للتوحيدي من المصادر المهمة المحتجبة.(5/2101)
الخلاء، وإسماعيل بن إسحاق القاضي فإني ما دخلت إليه إلا رأيته ينظر في كتاب أو يقلّب كتبا أو ينفضها.
وقال المرزباني، قال أبو بكر أحمد بن عليّ: كان أبو عثمان الجاحظ من أصحاب النظام «1» وكان واسع العلم بالكلام كثير التبحّر فيه شديد الضبط لحدوده ومن أعلم الناس به وبغيره من علوم الدين والدنيا، وله كتب كثيرة مشهورة جليلة في نصرة الدين وفي حكاية مذهب المخالفين، والآداب والأخلاق، وفي ضروب من الجد والهزل، وقد تداولها الناس وقرأوها وعرفوا فضلها، وإذا تدبّر العاقل المميز أمر كتبه علم أنه ليس في تلقيح العقول وشحذ الأذهان ومعرفة أصول الكلام وجواهره وايصال خلاف الاسلام ومذاهب الاعتزال إلى القلوب كتب تشبهها. والجاحظ عظيم القدر في المعتزلة وغير المعتزلة من العلماء الذين يعرفون الرجال ويميزون الأمور.
قال المرزباني: وكان الجاحظ ملازما لمحمد بن عبد الملك خاصا به، وكان منحرفا عن أحمد بن أبي داود للعداوة بين أحمد ومحمد، ولما قبض على محمد هرب الجاحظ، فقيل له: لم هربت؟ فقال: خفت أن أكون ثاني اثنين إذ هما في التنور، يريد ما صنع بمحمد وإدخاله تنور حديد فيه مسامير كان هو صنعه ليعذّب الناس فيه فعذب هو فيه حتى مات، يعني محمد بن الزيات.
وحدث علي بن محمد الوراق قال: من كتاب الجاحظ الى ابن الزيات: لا والله ما عالج الناس داء قطّ أدوى من الغيظ، ولا رأيت شيئا هو أنفذ من شماتة الأعداء، ولا أعلم بابا أجمع لخصال المكروه من الذلّ، ولكنّ المظلوم ما دام يجد من يرجوه، والمبتلى ما دام يجد من يرثي له، فهو على سبب درك، وإن تطاولت به الأيام، فكم من كربة فادحة وضيقة مصمتة قد فتحت أقفالها وفكّكت أغلالها، ومهما(5/2102)
قصّرت فيه فلم أقصّر في المعرفة بفضلك وفي حسن النية بيني وبينك، لا مشتّت الهوى، ولا مقسّم الأمل، على تقصير قد احتملته، وتفريط قد اغتفرته، ولعلّ ذلك أن يكون من ديون الإدلال وجرائم الإغفال، ومهما كان من ذلك فلن أجمع بين الإساءة والإنكار، وإن كنت كما تصف من التقصير، وكما تعرف من التفريط، فإني من شاكري أهل هذا الزمان وحسن الحال متوسط المذهب، وأنا أحمد الله على أن كانت مرتبتك من المنعمين فوق مرتبتي في الشاكرين، وقد كانت عليّ بك نعمة أذاقتني طعم العز، وعودتني روح الكفاية، والموت هذا الدهر وجهد ... هذا قردا وخنزيرا ترك فيهما مشابه من الإنسان، ولما مسخ الله زماننا لم يترك فيه مشابه من الزمان.
وقال أبو عثمان: ليس جهد البلاء مدّ الأعناق وانتظار وقع السيف، لأن الوقت قصير، والحين مغمور، ولكن جهد البلاء أن تظهر الخلة، وتطول المدة، وتعجز الحيلة، ثم لا تعدم صديقا مؤنبا، وابن عمّ شامتا، وجارا حاسدا، ووليا قد تحول عدوا، وزوجة مختلعة، وجارية مسبعة، وعبدا يحقرك، وولدا ينتهرك.
وقال الجاحظ: إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح.
قال أبو حيان في «كتاب التقريظ» ومن خطه نقلت: وحدثنا أبو دلف الكاتب قال: صدّر الجاحظ في ديوان الرسائل أيام المأمون ثلاثة أيام، ثم إنه استعفى فأعفي، وكان سهل بن هارون يقول: إن ثبت الجاحظ في هذا الديوان أفل نجم الكتاب.
قال أبو عبد الله المرزباني، حدث إسحاق الموصلي وأبو العيناء قال «1» : كنت عند أحمد بن أبي دواد بعد قتل ابن الزيات، فجيء بالجاحظ مقيدا، وكان من أصحاب ابن الزيات وفي ناحيته، فلما نظر إليه قال: والله ما علمتك إلا متناسيا للنعمة كفورا للصنيعة معددا للمساوي، وما فتّني باستصلاحي لك، ولكنّ الأيام لا تصلح منك إلا لفساد طويتك ورداءة دخلتك وسوء اختيارك وتغالب طبعك، فقال له(5/2103)
الجاحظ: خفّض عليك- أيدك الله- فو الله لأن يكون لك الأمر عليّ خير من أن يكون لي عليك، ولأن أسيء وتحسن أحسن عنك من أن أحسن عنك من أن أحسن فتسيء، وأن تعفو عني في حال قدرتك أجمل من الانتقام مني، فقال له ابن أبي داود: قبحك الله، ما علمتك إلا كثير تزويق الكلام، وقد جعلت بيانك «1» أمام قلبك ثم اصطنعت «2» فيه النفاق والكفر، ما تأويل هذه الآية وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ
(هود: 102) قال تلاوتها تأويلها، أعز الله القاضي، فقال: جيئوا بحداد، فقال: أعز الله القاضي ليفكّ عني أو ليزيدني؟ فقال: بل ليفكّ عنك، فجيء بالحداد، فغمزه بعض أهل المجلس أن يعنف بساق الجاحظ ويطيل أمره قليلا، فلطمه الجاحظ وقال: اعمل عمل شهر في يوم، وعمل يوم في ساعة، وعمل ساعة في لحظة، فإن الضرر على ساقي وليس بجذع ولا ساجة، فضحك ابن أبي دواد وأهل المجلس منه. وقال ابن أبي داود لمحمد بن منصور وكان حاضرا: أنا أثق بظرفه ولا أثق بدينه، ثم قال: يا غلام صر به إلى الحمام وأمط عنه الأذى، واحمل إليه تخت ثياب وطويلة «3» وخفا، فلبس ذلك ثم أتاه فتصدر في مجلسه، ثم أقبل عليه وقال: هات الآن حديثك يا أبا عثمان.
ومن شعر الجاحظ في ابن أبي داود:
وعويص من الأمور بهيم ... غامض الشخص مظلم مستور
قد تسنمت ما توعّر منه ... بلسان يزينه التحبير
مثل وشي البرود هلهله النس ... ج وعند الحجاج درّ نثير
حسن الصمت والمقاطع إما ... نصت القوم والحديث يدور
ثم من بعد لحظة تورث اليس ... ر وعرض مهذّب موفور
وكتب الجاحظ إلى أحمد بن أبي دواد:
لا تراني وإن تطاولت عمدا ... بين صفيهم وأنت تسير(5/2104)
كلهم فاضل عليّ بمال ... ولساني يزينه التحبير
فإذا ضمّنا الحديث وبيت ... وكأني على الجميع أمير
ربّ خصم أرقّ من كل روح ... ولفرط الذكا يكاد يطير
فإذا رام غايتي فهو كاب ... وعلى البعد كوكب مبهور
وحدث أبو العيناء عن إبراهيم بن رباح قال «1» : أتاني جماعة من الشعراء، كلّ واحد منهم يدّعي أنه مدحني بهذه الأبيات وأجزيه عليها:
بدا حين أثرى باخوانه ... ففلّل عنهم شباة العدم
وذكره الدهر صرف الزمان ... فبادر قبل انتقال النّعم
فتى خصّه الله بالمكرمات ... فمازج منه الحيا بالكرم
ولا ينكت الأرض عند السؤال ... ليقطع زواره عن نعم
ويقال إن الجاحظ مدح بهذه الأبيات أحمد بن أبي دواد وإبراهيم بن رباح ومحمد بن الجهم. وحدث إبراهيم بن رباح قال: مدحني حمدان بن أبان اللاحقي، وذكر مثل ما مضى، وقال في آخره: فقال إن مادحك أعزك الله يجد مقالا، والجاحظ يملأ عينيه مني ولا يستحي «2» .
قال وحدث يموت بن المزرع قال: هجا خالي أبو عثمان الجاحظ الجماز بأبيات منها:
نسب الجماز مقصو ... ر إليه منتهاه
تنتهي الأحساب بالنا ... س ولا تعدو قفاه(5/2105)
فكتب إليه الجماز:
يا فتى نفسه إلى ال ... كفر بالله تائقه
لك في الفضل والتزه ... د والنسك سابقه
ومن هجاء الجماز للجاحظ قوله:
قال عمرو مفاخرا ... نحن قوم من العرب
قلت في طاعة لرب ... ك أبليت ذا النسب
وحدث أبو العيناء محمد بن القاسم قال: كان لي صديق فجاءني يوما فقال لي: أريد الخروج إلى فلان العامل وأحببت أن يكون معي إليه وسيلة، وقد سألت من صديقه فقيل لي أبو عثمان الجاحظ، وهو صديقك، وأحبّ أن تأخذ لي كتابه إليه بالعناية، قال: فصرت إلى الجاحظ فقلت له: جئتك مسلما وقاضيا للحقّ، ولي حاجة لبعض أصدقائي، وهي كذا وكذا، قال: لا تشغلنا الساعة عن المحادثة وتعرّف أخبارنا، إذا كان في غد وجهت إليك بالكتاب، فلما كان من غد وجّه إليّ بالكتاب فقلت لابني: وجّه هذا الكتاب إلى فلان ففيه حاجته، فقال لي: إن أبا عثمان بعيد الغور فينبغي أن نفضه وننظر ما فيه، ففعل فإذا في الكتاب: «هذا الكتاب مع من لا أعرفه، وقد كلمني فيه من لا أوجب حقه، فإن قضيت حاجته لم أحمدك، وإن رددته لم أذممك» فلما قرأت الكتاب مضيت إلى الجاحظ من فوري، فقال: يا أبا عبد الله، قد علمت أنك أنكرت ما في الكتاب، فقلت: أو ليس موضع نكرة؟
فقال: لا، هذه علامة بيني وبين الرجل في من أعتني به، فقلت: لا إله إلا الله، ما رأيت أحدا [أعرف] بطبعك ولا [بما] جبلت عليه من هذا الرجل، علمت أنه لما قرأ الكتاب قال: أمّ الجاحظ عشرة آلاف في عشرة آلاف قحبة، وأم من يسأله حاجة، فقلت له: ما هذا تشتم صديقنا؟! فقال: هذه علامتي فيمن أشكره، فضحك الجاحظ وحدّث الفتح بن خاقان وحدث الفتح المتوكل، فذلك كان سبب اتصالي به وإحضاري إلى مجلسه.
وحدث عبد الرحمن بن محمد الكاتب قال: كان الجاحظ يتقلّد خلافة إبراهيم بن العباس الصولي على ديوان الرسائل، فلما جاء إلى الديوان جاءه أبو(5/2106)
العيناء، فلما أراد الانصراف تقدم الجاحظ إلى حاجبه إذا وصل إلى الدهليز أن لا يدعه يخرج ولا يمكنه من الرجوع إليه، فخرج أبو العيناء ففعل به ذلك، فنادى بأعلى صوته يا أبا عثمان قد أريتنا قدرتك فأرنا عفوك.
ومن كلام الجاحظ: احذر من تأمن فإنك حذر ممن تخاف.
وقال: أجمع الناس على أربع: أنه ليس في الدنيا أثقل من أعمى، ولا أبغض من أعور، ولا أخف روحا من أحول، ولا أقود من أحدب.
قال المرزباني: وروى أصحابنا أن الجاحظ صار إلى منزل بعض إخوانه فاستأذن عليه، فخرج إليه غلام عجمي فقال: من أنت؟ قال الجاحظ: فدخل الغلام إلى صاحب الدار فقال: الجاحد على الباب، وسمعها الجاحظ، فقال صاحب الدار للغلام اخرج فانظر من الرجل، فخرج يستخبر عن اسمه فقال: أنا الحدقي، فدخل الغلام فقال: الحلقي، وسمعها الجاحظ فصاح به في الباب: «ردّنا إلى الأول» ، يريد أن قوله الجاحد مكان الجاحظ أسهل عليه من الحلقي مكان الحدقي، فعرفه الرجل فأوصله واعتذر إليه.
وقال الجاحظ: أربعة أشياء ممسوخة: أكل الأرز البارد، والنيك في الماء، والقبل على النقاب، والغناء من وراء ستارة.
وحدث قال الجاحظ مرة بحضرة السدري: إذا كانت المرأة عاقلة ظريفة كاملة كانت قحبة، فقال له السدري: وكيف؟ قال: لأنها تأخذ الدراهم، وتمتع بالناس والطيب، وتختار على عينها من تريد، والتوبة معروضة لها متى شاءت، فقال له السدري: فكيف عقل العجوز حفظها الله؟ قال: هي أحمق الناس وأقلّهم عقلا.
وحدث المبرد قال، قال الجاحظ: أتيت أبا الربيع الغنوي أنا ورجل من بني هاشم فاستأذنّا عليه فخرج إلينا وقال: خرج إليكم رجل كريم والله، فقلت له: من خير الخلق يا أبا الربيع؟ فقال: الناس والله، قلت: ومن خير الناس؟ قال: العرب والله، قلت: فمن خير العرب؟ قال: مضر والله، قلت: فمن خير مضر؟ قال:
قيس والله، قلت: ومن خير قيس؟ قال: أعصر والله، قلت: فمن خير أعصر؟
قال: غنّي والله. قلت: فمن خير غني؟ قال: أنا والله. قلت: فأنت خير(5/2107)