هو فوق ذلك، أو مثل ذلك وقريب منه، وعلى كلّ حال فليس يظهر لي أنه دونه، وأن ذلك سيستعلي عليه بوجه من وجوه الكلام أو بمرتبة من مراتب البلاغة. فلما سمع ابن عباد هذا فتر وخمد، وسكن عن حركته، وانخمص ورمه به وقال: ولا هكذا يا شيخ، كلامنا حسن وبليغ، وقد أخذ من الجزالة حظا وافرا، ومن البيان نصيبا ظاهرا، ولكن «1» القرآن له المزية التي لا تجهل، والشرف الذي لا يخمل، وأين ما خلقه الله على أتمّ حسن وبهاء مما يخلقه العبد بطلب وتكلف. هذا كله يقوله وقد خبا حميه، وتراجع مزاجه، وصارت ناره رمادا، مع إعجاب شديد قد شاع في أعطافه، وفرح غالب قد دبّ في أسارير وجهه، لأنه رأى كلامه شبهة لليهود وأهل الملل.
وقال «2» بعض الشعراء في ابن عباد يذم سجعه وخطه وعقله:
متلقّب «3» كافي الكفاة وإنما ... هو في الحقيقة كافر الكفار
السجع سجع مهوّس والخط خط منقرس والعقل عقل حمار وكان ذو الكفايتين ابن العميد يقول «4» : خرج ابن عباد من عندنا من الريّ متوجها إلى أصفهان ومنزله ورامين، وهي قرية كالمدينة، فجاوزها إلى قرية غامرة وماء ملح لا لشيء إلا ليكتب إلينا: «كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار» .
قال أبو حيان «5» : وكان ابن عباد يروي لأبي الفضل ابن العميد كلاما في رقعة إليه حين استكتبه لمؤيد الدولة وهو: بسم الله الرحمن الرحيم، مولاي وإن كان سيدا بهرتنا نفاسته، وابن صاحب تقدمت علينا رياسته، فإنه يعدّني سندا ووالدا، كما أعدّه ولدا وواحدا، ومن حقّ ذلك أن يعضد رأيي برأيه ليزداد استحكاما، ويتظاهر عقدا وابراما. وحضرت اليوم مجلس مولانا ركن الدين ففاوضني ما جرى بينه وبين مولاي طويلا ووصل به كلاما بسيطا وأطلعني على أنّ مولاي لا يزيد بعد الاستقصاء والاستيفاء(2/683)
على التقصي والاستعفاء وألزم عبده أن أكره مولاي إكراه المسألة وأجبره إجبار الطلبة، علما بأنه إن دافع المجلس المعمور طلبا للتحرز لم يردّ وساطتي أخذا بالتطول، وأقول بعد أن أقدّم مقدمة: مولاي غنيّ عن هذا العمل بتصوّنه وتظلّفه «1» وعزوفه بهمته عن التكثر بالمال وتحصيله، لكن العمل فقير إلى كفايته، محتاج إلى كفالته، وما أقول إن مرادي ما يعقد من حساب، وينشأ من كتاب، ويستظهر به من جمع، ويقدّر «2» من عطاء ومنع، فكل ذلك وإن كان مقصودا، وفي آلات الوزارة معدودا، ففي كتّاب مولاي من يفي به ويستوفيه، ويوفي عليه بأيسر مساعيه. ولكن وليّ النعمة يريده لتهذيب ولده ومن هو وليّ عهده من بعده، والمأمول ليومه وغده- أدام الله أيامه، وبلّغه فيه مرامه. ولا بدّ وإن كان الجوهر كريما، والسّنخ قويما، والمجد صميما، ومركب العقل سليما، من مناب من يعلم ما السياسة وما الرياسة، وكيف تدبير العامّة والخاصة، وبماذا تعقد المهابة، ومن أين تجلب الأصالة والاصابة، وكيف ترتّب المراتب، ويعالج الخطب إذا ضاقت المذاهب، وتعصى الشهوة لتحرس الحشمة، وتهجر اللذة لتحصّن الامرة. ولا بد من محتشم يقوم في وجه صاحبه فيرادّه إذا بدر منه الرأي المنقلب، ويراجعه إذا جمح به اللّجاج المرتكب، ويعاوده إذا ملكه الغضب الملتهب. فلم يكن السبب في أن فسدت ممالك جمة وبلدان عدة إلا أن خفّضت أقدار الوزارة، فانقبضت أطراف الامارة. وليس يفسد على ما أرى بقية الأرض إلا إذا استعين بأذناب على هذا الأمر. فلا يبخلنّ مولاي على وليّ نعمته بفضل معرفته، فمن هذه الدولة جرى ماء فضله، وفضل الشيخ الأمين من قبله، وإن كان مسموعا كلامي، وموثوقا باهتمامي، فلا يقعنّ انقباض عني، وإعراض عما سبق مني.
ومولاي محكّم [بعد] الاجابة إلى العمل فيما يقترحه، وغير مراجع فيما يشترطه، وهذا خطّي به وهو على وليّ النعمة حجّة لا يبقى معها شبهة، وسأتبع هذه المخاطبة بالمشافهة، إما بحضوري لديه، أو بتجشمه إلى هذا العليل الذي قد ألحّ النقرس عليه. وكان ابن عباد [يحفظ] هذه النسخة ويرويها ويفتخر بها.
قال أبو حيان: وقال لي أصحابنا بالريّ، منهم أبو غالب الكاتب الأعرج إن هذه(2/684)
المخاطبة من كلام ابن عباد افتعلها عن ابن العميد إلى نفسه تشبّعا «1» بها ونفاقا بذكرها.
قال «2» : وكان ابن عباد ورد الريّ سنة ثمان وخمسين مع مؤيد الدولة وحضر مجلس ابن العميد وجرى بينه وبين مسكويه كلام ووقع تجاذب، فقال مسكويه:
فدعني حتى أتكلم، ليس هذا نصفة، إذا أردت أن لا أتكلم فدع على فمي مخدة، فقال الصاحب: بل أدع فمك على المخدة، وطارت النادرة ولصقت وشاعت بين الناس وبقيت. قال «3» : ودخل الناس في مذهب ابن عباد وقالوا بقوله رغبة فيما لديه، واجتهد بالحسين «4» المتكلّم الكلّابي «5» أن ينتقل إلى مذهبه، فقال الحسين: دعني أيها الصاحب أكون مستحدّا «6» لك فما بقي غيري فإن دخلت في المذهب لم يبق بين يديك من تنثو عليه قبيحه وتبدي «7» للناس عواره، فضحك وقال: قد أعفيناك يا أبا عبد الله، وبعد فما نبخل عليك بنار جهنم، اصل بها كيف شئت. قال لنا الحسين بعد ذلك: أتراني أصلى بنار جهنم، وعقيدتي وسريرتي معروفتان، ويتبوأ هو الجنة مع قتل النفس المحرمة وركوب المحظورات العظيمة؟! إن ظنّه بنفسه لعجب، لحا الله الوقاح.
وقال يوما «8» ما صدر قول الشاعر «9» ؟
والمورد العذب كثير الزحام
فسكتت الجماعة فقال ابن الرازي «10» :(2/685)
يزدحم الناس على بابه
فأقبل عليه بغيظ وقال: ما عرفتك الا متعجرفا جاهلا، أما كان لك بالجماعة أسوة؟! قلت «1» لأبي السلم نجبة بن عليّ القحطاني الشاعر: أين ابن عباد من ابن العميد؟ فقال: زرتهما منتجعا ورزتهما جميعا، كان ابن العميد أعقل وكان يدّعي الكرم، وابن عباد أكرم ويدعي العقل، وهما في دعواهما كاذبان وعلى سجيتهما جاريان. أنشدت يوما على باب ذاك قول الشاعر:
إذا لم يكن للمرء في ظلّ دولة «2» ... جمال ولا مال تمنّى انتقالها
وما ذاك من بغض لها غير أنه ... يؤمّل أخرى فهو يرجو زوالها
فرفع إليه إنشادي فأخذني وأوعدني وقال: انج بنفسك، فإني إن رأيتك بعد هذا أو لغت الكلاب دمك. وكنت قاعدا على باب هذا منذ أيام فأنشدت البيتين على سهو، فرفع الحديث إليه فدعاني ووهب لي دريهمات وخريقات وقال: لا تتمنّ انتقال دولتنا بعد هذا.
قال: وأبو السلم هذا من أغزر «3» الناس في الشعر يحفظ الطّمّ والرّمّ.
وقال الخليلي «4» : الرجل مجنون- يعني ابن عباد- وفي طباع المعلمين، سمعته يقول للتميمي الشاعر: كيف تقول الشعر؟ وإن قلت كيف تجيد؟ وان أجدت فكيف تغزر؟ وان غزرت فكيف تروم غاية وأنت لا تعرف ما الزهلق وما الهبلع وما العثلط وما الجلعلع وما القهقب وما القهبلس وما الخيسفوج وما الخزعبلة وما القذعملة وما العمرّط وما الجرفاس وما اللووس وما النعثل وما الطربال «5» ، وما الفرق بين العذم(2/686)
والرذم «1» ، والحدم والحذم «2» ، والقضم والخضم «3» ، والنضح والرضح «4» ، والفصم والقصم «5» ، والقصع والفصع «6» ، وما العبنقس وما الفلنقس «7» ، وما الوكواك والزونك «8» ، وما الخيتعور واليستعور «9» ، وما الستعون «10» وما الحرذون وما الحلزون، وما القفندر وما الجمعليل «11» قال الشاعر:
جاءت بحفّ وحنين وزجل ... جاءت تمشّى وهي قدّام الابل
مشي الجمعليلة بالخرق النّقل
قال: ورأيت بعض الجهال يصحف ويقول: [بخفّ] وحنين ورخل «12» .
قلت للخليلي: من عنى بهذا؟ قال: ابن فارس معلم ابن العميد أبي الفتح. قال الخليلي: أفهذا الضرب من الكلام [مما] يجب أن يفتخر بمثله ويتدفّق به؟ إنك يا أبا حيان لو رأيته يمشي وهو يهذي بهذا وشبهه، ويتفيهق [فيه] ويلوي شدقيه عليه، ويقذف بالبصاق على أهل المجلس، لحمدت الله على العافية مما بلي هذا الرجل(2/687)
به. وبعد فما بين الشاعر وهذا الضرب؟ الشاعر يطلب لفظا حرّا، ومعنى بديعا، ونظما حلوا، وكلمة رشيقة، ومثلا سهلا، ووزنا مقبولا.
قال أبو حيان عندما قارب الفراغ من كتابه في أخلاق الوزيرين «1» : ولولا أنّ هذين الرجلين- أعني ابن عباد وابن العميد- كانا كبيري زمانهما، وإليهما انتهت الأمور، وعليهما طلعت شمس الفضل، وبهما ازدانت الدنيا، وكانا بحيث ينشر الحسن منهما نشرا، والقبيح يؤثر عنهما أثرا، لكنت لا أتسكّع في حديثهما هذا التسكع، ولا أنحي عليهما بهذا الحد، ولكنّ النقص ممن يدّعي التمام أشنع، والحرمان من السيد المأمول فاقرة، والجهل من العالم منكر، والكبيرة ممن يدّعي العصمة جائحة، والبخل ممن يتبرأ منه بدعواه عجيب، ولو أردت مع هذا كلّه أن تجد لهما ثالثا في جميع من كتب للجيل والديلم إلى وقتك هذا المؤرخ في الكتاب لم تجد.
قال «2» : وقال ابن عباد يوما: كان أبو الفضل- يعني ابن العميد- سيّدا ولكن لم يشقّ غبارنا، ولا أدرك شرارنا «3» ، ولا مسح «4» عذارنا، ولا عرف غرارنا، لا في علم الدين، ولا فيما يرجع إلى نفع المسلمين؛ فاما ابنه فقد عرفتم قدره في هذا وفي غيره، طيّاش قلاش «5» ، ليس عنده إلا قاش وقماش «6» ، مثل ابن عياش والهروي الحواش ... وولدت والشعرى في طالعي، ولولا دقيقة لأدركت النبوة، وقد أدركت النبوة إذ قمت بالذبّ عنها والنصرة لها فمن ذا يجارينا ويبارينا ويغارينا ويسارينا ويشارينا «7» .
قال «8» : وسمعته يقول لابن ثابت: جعلك الله ممن إذا خرىء شطّر، وإذا بال(2/688)
قطّر، وإذا فسا غبّر، وإذا ضرط كبّر، وإذا عفج عبّر. قال: وهذا سخف لا يليق بأصحاب الفرضة والذين اختلفوا إلى الخندق ودار بانوكة والزبيدية والرمادة والخلد.
قال «1» : وأنشد أبو دلف الخزرجي:
يا ابن عباد بن عباس ... بن عبد الله حرها
تنكر الجبر وقد ... أخرجت من دنياك كرها
قال «2» : على أن عطاء ابن عباد لا يزيد على مائة درهم وثوب، إلى خمسمائة، وما يبلغ إلى الألف نادر، وما يوفي على الألف بديع، بلى قد نال به ناس من عرض جاهه على السنين ما يزيد قدره على هذا بأضعاف، وعدد هؤلاء قليل جدّا، وذلك بابتذال النفس وهتك الستر.
قال «3» : ولقد بلغ من ركاكته أنه كان عنده أبو طالب العلوي، فكان إذا سمع منه كلاما يسجع فيه، وخبرا ينمّقه [ويرويه] يبلق «4» عينيه، وينشز «5» منخريه، ويري أنه قد لحقه غشي حتى يرشّ على وجهه ماء الورد، فإذا أفاق قيل: وما أصابك؟ ما عراك؟ ما الذي نالك وتغشّاك؟ فيقول: ما زال كلام مولاي يروقني ويؤنقني حتى فارقني لبي وزايلني عقلي «6» واسترخت «7» مفاصلي، وتخاذلت عرى قلبي، وذهل ذهني «8» ، وحيل بيني وبين رشدي، فيتهلّل وجه ابن عباد عند ذلك ويتنفّش ويضحك «9» عجبا وجهلا، ثم يأمر له بالحباء والتكرمة، ويقدّمه على جميع بني أبيه وعمه، ومن ينخدع هكذا فهو بالنساء الرّعن أشبه وبالصبيان الضعاف أمثل.(2/689)
وذكر الوزير أبو سعد منصور بن الحسين الآبي في «تاريخه» من جلالة قدر الصاحب وعظم قدره في النفوس وحشمته ما لم يذكر لوزير قبله ولا بعده مثله، وأنا ذاكر ما ذكر على ما نسقه، قال: توفيت أمّ كافي الكفاة بأصبهان، وورد عليه الخبر فجلس للتعزية يوم الخميس للنصف من محرم سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، وركب إليه سلطانه ووليّ نعمته فخر الدولة بن ركن الدولة معزيا، ونزل وجلس عنده طويلا يعزّيه ويسكّن منه، وبسط الكلام معه بالعربية، وكان يفصح بها، فسمعته يقول حين أراد القيام: أيها الصاحب هذا جرح لا يندمل، فأما سائر الأمراء والقواد مثل منوجهر بن قابوس ملك الجبل وفولاذ بن مانادر أحد ملوك الديلم وأبي العباس الفيروزان بن خالة فخر الدولة وغيرهم من الأكابر والأماثل فانهم كانوا يحضرون حفاة حسّرا، وكان كلّ واحد منهم إذا وقعت عينه على الصاحب قبّل الأرض، ثم يوالي بين ذلك إلى أن يقرب منه ويأمره بالجلوس فيجلس، وما كان يتحرك ولا يستوفز لأحد، بل كان جالسا على عادته في غير أيام التعزية، فلما أراد القيام من المعزّى بعد الثالث كان أول من أمر أن تقدّم إليه اللالكة «1» منوجهر بن قابوس، فإنه قال: يحمل إلى أبي منصور ما يلبسه، فقدم إليه ومنع من الخروج من الدار حافيا، ثم قدّم بعد ذلك الحجّاب والحاشية اللالكات «2» إلى الجماعة، فعتب فولاذ بن مانادر والفولاذريدية عليه ذلك وقالوا: ميز منوجهر من بين الجماعة، فاحتجّ الصاحب ببيته العظيم ورياسته القديمة.
قال: وخطب كافي الكفاة ابنة أبي الفضل ابن الداعي لسبطه عباد بن الحسين، ووقع الإملاك في داره يوم الخميس لأربع خلون من شهر ربيع الأول سنة أربع وثمانين وكان يوما عظيما احتفل فيه كافي الكفاة، ونثر من الدنانير والدراهم شيئا كثيرا، ولذلك أنفذ فخر الدولة له على يدي أحد حجابه الكبار إلى هناك من النثار ما زاد على مائة طبق عينا وورقا، وحضر الفولاذريدية بأسرهم، فإن الابنة المزوجة كانت ابنة ديكونه بنت الحسن بن الفيروزان خالة فخر الدولة، وكان القوم أخوالها، وأضافهم(2/690)
الصاحب، ونصبت مائدة عظيمة في بيت طوله يزيد على خمسين ذراعا، وكانت بطول البيت، وأجلس عليه ستة أنفس، وكان فولاذ بن مانادر وكبات بن بلقسم في الصدر، وبجنب فولاذ أبو جعفر ابن الثائر العلوي، وبجنبه الآخر أبو القاسم ابن القاضي العلوي، ودون أحد العلويين كاكي بن يشكرزاد، ودون الآخر مرداويج الكلاري، ووقف أبو العباس الفيروزان وعبد الملك بن ما كان للخدمة، ووقف كافي الكفاة أيضا ساعة، ووقف جميع أكابر الكتاب والحجاب مثل الرئيس أبي العباس أحمد بن إبراهيم الضبي وأبي الحسين العارض وأخيه أبي علي وابنه أبي الفضل وأبي عمران الحاجب وغيرهم إلى أن فرغ القوم من الأكل، ثم أكل هؤلاء مع الصاحب على مائدة مفردة.
وأما قاضي القضاة والأشراف والعدول فإنهم أطعموا على مائدة أخرى في بيت آخر.
قال: وكان نصر بن الحسن بن الفيروزان، وهو خال فخر الدولة، مقداما شجاعا قليل المبالاة، قد استعصى على فخر الدولة واقتطع قطعة من بلاده وتغلب عليها، واحتال على جماعة من عساكره فقتلهم بأنواع القتل، ثم كسر له عدة عساكر، إلى أن تكاثرت عساكر فخر الدولة فكسرته وشتتت جموعه، وهرب نحو خراسان حتى صار إلى إسفرايين، ثم بدا له أن سلك طريق المفازة فيها حتى ورد الريّ ليلة الجمعة لست بقين من شوال سنة أربع وثمانين، وقصد في الليل باب كافي الكفاة مستجيرا به ومستعطفا له، فلم يلن له وردّ إلى دار بعض حجاب فخر الدولة فحبس فيها.
قال الوزير أبو سعد: وكنت في هذه الليلة بحضرة كافي الكفاة، فأتاه الحاجب وقد مضى هزيع من الليل، فأخبره بوقوف نصر بن الحسن بن الفيروزان على الباب خاشعا متضرعا، فرأيته قد تحيّر في الأمر ساعة ثم راسله بأن السلطان الأعظم- يعني فخر الدولة- ساخط عليك، ولا يجوز لي أن آذن لك في دخول داري إلا بعد أن تترضاه وتستعطف قلبه، فإذا عفا عنك ورجع لك فالدار بين يديك وأنا معين لك. فعاد الحاجب إليه بذلك ورجع فقال: إنه امتنع من العود وقال: إنما جئت إلى الصاحب لائذا به ومنقطعا إليه، ولا أعرف غيره، وهو يحتاج أن يدبّر أمري ويجيرني ويحامي عليّ ويذبّ عنّي، فرأيت الصاحب وقد ميّل رأيه بين إحدى خصلتين: إما أن يستمرّ على المنع ولا يأذن له، وإما أن يأذن له ويجعل داره بما فيها من الخزائن له، وينتقل هو إلى دار كانت لحاجبه الراوندي وكان قد أضافها بعد موت هذا الحاجب إلى داره.(2/691)
ثم تقرر رأيه على صرفه، واستمرّ نصر على الالحاح في الخضوع والاجتهاد أن يأذن له في الدخول، وانتقل من الباب الكبير إلى باب الخاصة، وسأل واجتهد، إلى أن جاءه من قبل فخر الدولة علوسة الحاجب وحبسه وكان هذا الفعل من الصاحب مستهجنا تعجّب الناس منه، وتحدثوا به واستقبحوه مع ما اظهره نصر من الاستكانة والاستجارة به. وأظنّ أنه لم يفعل ذلك إلا لأنه جبن عن الاجتماع معه في دار واحدة مع العداوة المتأكدة بينهما والضغينة الراسخة في قلب كلّ واحد منهما.
ثم ذكر وفاة الصاحب في الوقت الذي ذكره غيره، وكما ذكرناه آنفا، ثم قال:
وتوفي فخر الدولة عشية يوم الثلاثاء عاشر شعبان، وكان مبلغ عمره أربعا وأربعين سنة وستة أشهر وأياما، ثم وصف أخلاقه وجيوشه وقلاعه وأمواله التي خلفها ثم قال: فاما أمر الوزارة في أيامه فكانت أشهر من أن يحتاج إلى ذكرها، فإن أوّل وزرائه كان كافي الكفاة، وأسنّة الأقلام وعذبات الألسنة تكلّ دون أيسر أوصافه وأدنى فضائله، ولولا ما آل إليه أمر الوزارة في هذه الأيام واعتقاد من لم يعلم حالها في ذلك الزمان بأن الأمر لم يزل على ما نراه أو قريبا منه وشبيها به لأمسكنا عن ذكره، ولكنا نذكر يسيرا من أحواله، فإن هؤلاء الذين ذكرناهم من أبناء الملوك والأمراء والقواد وسائر من ساواهم من الزعماء والكبار مثل أولاد مؤيد الدولة وابن عز الدولة ومنوجهر بن قابوس بن وشمكير وأبي الحجاج ابن ظهير الدولة وأسفهبذ بن أسفار وحسن بن وشمكير وفولاذ بن مانادر ونصر بن الحسن بن الفيروزان وحيدر بن وهسوذان وكيخسرو بن المرزبان بن السلار وجستان بن نوح بن وهسوذان وشيرزيل بن سلار بن شيرزيل، وكان في يد كلّ واحد من هؤلاء من الإقطاع ما يبلغ ارتفاعه خمسين الف دينار وما دونها إلى عشرين الف دينار، ومن اكابر القوّاد ما يطول تعدادهم يحضرون باب داره، فيقفون على دوابهم مطرقين لا يتكلم واحد منهم هيبة وإعظاما لموضعه، إلى أن يخرج أحد خلفاء حجابه، فيأذن لبعض أكابرهم ويصرفهم جملة، فكان من يؤذن له في الدخول يظنّ أنه قد بلغ الآمال ونال الفوز بالدنيا والآخرة، فرحا ومسرة وشرفا وتعظيما، فإذا حصل في الدار وأذن له في الدخول إلى مجلسه قبّل الأرض عند وقوع بصره عليه ثلاث مرات أو أربعا إلى أن يقرب منه فيجلس من كانت رتبته الجلوس، إلى أن يقضي كلّ واحد(2/692)
منهم وطره من خدمته، ثم ينصرف بعد أن يقبّل الأرض أيضا مرارا. ولم يكن يقوم لأحد من الناس، ولا يشير إلى القيام، ولا يطمع منه أحد في ذلك. ونزل بالصيمرة عند عوده من الأهواز، فدخل عليه شيخ من زهاد المعتزلة يعرف بعبد الله بن اسحاق، فقام له، فلما خرج التفت كافي الكفاة وقال: ما قمت لأحد مثل هذا القيام منذ عشرين سنة، وإنما فعل ذلك به لزهده، فإنه كان أحد أبدال دهره، فأما العلم فقد كان يرى من هو أعلم منه فلا يحفل به؛ وأما هيبته في الصدور، ومخافته في القلوب، وحشمته عند الصغير والكبير والبعيد والقريب، فقد بلغت إلى أن كان صاحبه فخر الدولة ينقبض عن كثير مما يريده بسببه، ويمسك عما تشره إليه نفسه لمكانه، وقد ظهر ذلك للناس بعد موته وانبساط فخر الدولة فيما لم يكن من عادته، فعلم أنه كان يزمّ نفسه لحشمته، ثم كان يحله محل الوالد إكراما وإعظاما، ويخاطبه بالصاحب شفاها وكتابا، فأما أكابر الدولة فكان الواحد إذا رأى أحد حجابه، بل أحد الأصاغر من حاشيته، فإن فرائصه كانت ترتعد، وجوانحه كانت تصطفق، إلى أن يعلم ما يريده منه ويخاطبه به. وتظلمت إليه امرأة من صاحب لفولاذ بن مانادر، وذكرت أنه ينازعها في حقّ لها، فما زاد على أن التفت إلى فولاذ، وكان في موكبه يسير خلفه، فبهت وتحير وارتعد، ووقف ولم يبرح إلى أن سار كافي الكفاة، ثم أرسل مع المرأة من أرضاها وأزال ظلامتها، ومثل هذا كثير يطول الكتاب ببعضه، فكيف أن نوضع «1» في كله. وأما أسبابه وحاشيته وهيبته ورتبته فإن من أيسرها كان له عدة من الحجاب منهم من على مربطه ثلاثمائة رأس من الدوابّ أو ما يقاربها، وكانت أحوال بلكا الحاجب تزيد على ذلك زيادة كثيرة، فإنه كان على مربط خليفة له يعرف بيزد مئة «2» من الخيل العتاق الموصوفة، وكان لا يستغني عنها لأنه كان موصوفا بحفظ الطرق وطلب الأكراد وأهل العيث وصيانة السابلة. وكان ما يخرج لكافي الكفاة في السنة في وجوه البرّ والصدقات والمبرّات وصلات الأشراف وأهل العلم والغرباء الزوّار ومن يجري مجرى ذلك مما يتكلفه ويريد به صيت الدنيا وأجر الآخرة يزيد على مائة الف دينار. وانتقلت الوزارة عنه إلى أبي العباس أحمد بن إبراهيم الضبي وأبي علي(2/693)
الحسن بن أحمد بن حمولة، والسياسة التي قد سنها هو باقية، وحشمة الوزارة ثابتة، والأمور على ما عهد في أيامه جارية. وكان لهما من الحشم والحاشية والتجمل والزينة مثل ما كان له بل كانا فوقه في الغنى والثروة، وان لم يلحقاه في الفضل والمكرمة.
قال غرس النعمة: حدث أبو إسحاق إبراهيم بن عيسى النصيبي قال: كان أبو الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد قد دبّر على الصاحب ابن عباد حتى أزاله عن كتبة الأمير مؤيد الدولة، وأبعده عن حضرته بالريّ إلى أصفهان، وانفرد هو بتدبير الأمور لمؤيد الدولة كما كان يدبرها لأبيه ركن الدولة، واستدعى يوما ندماءه وعبأ لهم مجلسا عظيما، وأظهر من الزينة وآلات الفضة والذهب والصيني وما شاكله ما يفوت الحصر، وشرب واستفزّه الطرب، وكان قد شرب يومه وليلته، فعمل شعرا غني به وهو:
دعوت المنى ودعوت العلا ... فلما أجابا دعوت القدح
وقلت لأيام شرخ الشباب ... ألا إنّ هذا أوان الفرح
إذا بلغ المرء آماله ... فليس له بعدها مقترح
فلما غني بالشعر استطابه وشرب عليه إلى أن سكر، وقال لغلمانه: غطوا المجلس ولا تسقطوا منه شيئا لأصطبح في غد عليه، وقال لندمائه: باكروني، وقام إلى بيت منامه، وانصرف عنه الندماء، فدعاه مؤيد الدولة في السحر فلم يشكّ أنه لمهمّ، فقبض عليه، وأنفذ إلى داره من استولى على جميع ما فيها وأعاد ابن عباد إلى وزارته، وتطاولت بابن العميد النكبة حتى مات فيها كما ذكرناه في ترجمته. ثم وزر ابن عباد بعد مؤيد الدولة لأخيه فخر الدولة أخي عضد الدولة، فبقي في الوزارة ثماني عشرة سنة وشهورا، وفتح خمسين قلعة سلّمها إلى فخر الدولة لم يجتمع عشر منها لأبيه ولا لأخيه.
وسمع الصاحب الحديث وأملى، فحدث أبو الحسن علي بن محمد الطبري الكيا قال: لما عزم الصاحب ابن عباد على الاملاء، وهو وزير، خرج يوما متطلّسا متحنكا بزيّ أهل العلم فقال: قد علمتم قدمي في العلم، فأقرّوا له بذلك فقال: وأنا متلبّس بهذا الأمر وجميع ما أنفقته من صغري إلى وقتي هذا من مال أبي وجدي، ومع(2/694)
هذا فلا أخلو من تبعات أشهد الله وأشهدكم أني تائب إلى الله من ذنب أذنبته. واتخذ لنفسه بيتا وسماه بيت التوبة، ولبث أسبوعا على ذلك، ثم أخذ خطوط الفقهاء بصحة توبته، ثم خرج فقعد للاملاء، وحضر الخلق الكثير، وكان المستملي الواحد ينضاف إليه ستة، كلّ يبلّغ صاحبه، فكتب الناس حتى القاضي عبد الجبار.
وأهدى إليه العميدي «1» قاضي قزوين كتبا وكتب معها:
العميدي «2» عبد كافي الكفاة ... وإن اعتدّ في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتب ... مفعمات من حسنها مترعات
فوقع الصاحب تحتها:
قد قبلنا من الجميع كتابا ... ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعي ... قول خذ ليس مذهبي قول هات
حدّث أبو الرجاء الضرير الشطرنجي العروضي الشاعر الأهوازي بالأهواز قال:
قدم علينا الصاحب ابن عباد في السنة التي جاء فيها فخر الدولة، ولقيه الناس ومدحه الشعراء، فمدحته بقصيدة قلت فيها:
إلى ابن عباد أبي القاسم الصاحب إسماعيل كافي الكفاه فقال: قد كنت والله أشتهي بأن تجتمع كنيتي واسمي ولقبي واسم أبي في بيت فلما انتهيت إلى قولي فيها:
ويشرب الجيش هنيئا بها فقال: يا أبا الرجاء أمسك فامسكت فقال:
ويشرب الجيش هنيئا بها ... من بعد ماء الريّ ماء الصّراه «3»
هكذا هو؟ قلت: نعم، قال: أحسنت، قلت: يا مولاي أحسنت أنت، عملت أنا هذا في ليلة وأنت عملته في لحظة.(2/695)
قال عبد الله الفقير إليه: وممن ذكر نسب الممدوح كاملا الحارث الدئلي في عاصم بن عمرو بن عثمان بن عفان:
إليك ابن عثمان بن عفان عاصم بن عمرو سرت عيسي فطال سراها ومن مستحسن شعر الصاحب:
دعتني عيناك نحو الصبا ... دعاء تكرّر في كلّ ساعه
فلولا وحقّك عذر المشيب ... لقلت لعينيك سمعا وطاعه
وحدث البديع الهمذاني قال «1» : كان بعض الفقهاء ويعرف بابن الحضيري يحضر مجلس الصاحب بالليالي فغلبته عينه ليلة فنام وخرجت منه ريح لها صوت، فخجل وانقطع عن المجلس، فقال الصاحب: أبلغوه عني:
يا ابن الحضيريّ لا تذهب على خجل ... لحادث كان مثل الناي في العود
فإنها الريح لا تسطيع تحبسها ... إذ لست أنت سليمان بن داود
ولأبي بكر الخوارزمي في ابن عباد:
لا تحمدنّ ابن عباد وان هطلت ... كفّاه يوما ولا تذممه إن حرما
فإنها خطرات من وساوسه ... يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما
فلما مات الخوارزمي بلغ الصاحب وفاته فقال:
أقول لركب من خراسان رائح ... أمات خوارزميّكم قيل لي نعم
فقلت اكتبوا بالجصّ من فوق قبره ... «ألا لعن الرحمن من كفر النّعم»
وحدث أبو الحسن ابن أبي القاسم البيهقي في «كتاب مشارب التجارب» وذكر الصاحب فقال: أبو القاسم إسماعيل بن عباد بن عباس الوزير ابن الوزير ابن الوزير، كما قال الرستمي فيه:
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالاسناد
يروي عن العباس عباد وزا ... رته وإسماعيل عن عباد(2/696)
قال: وولد بكورة فارس في ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة، ومدحه خمسمائة شاعر من أرباب الدواوين. وممن كان ببابه قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد الأسداباذي، وكان قد فوّض إليه قضاء همذان والجبال. واستقبل القاضي عبد الجبار الصاحب يوما فلم يترجل له، فقال: أيها الصاحب أريد أن أترجل للخدمة ولكن العلم يأبى ذلك. وكان يكتب في عنوان كتابه «إلى الصاحب: داعيه عبد الجبار بن أحمد» ثم كتب «وليه عبد الجبار بن أحمد» ثم كتب «عبد الجبار بن أحمد» فقال الصاحب لندمائه: أظنه يؤول أمره إلى أن يكتب الجبار.
وأنشد الصاحب لنفسه يرثي:
يقولون لي أودى كثير بن أحمد ... وذلك رزء ما علمت جليل
فقلت دعوني والعلا نبكه معا ... فمثل كثير في الرجال قليل
وذكر هلال بن المحسن عن أبي طاهر ابن الحمامي عن الانبراني الكاتب، قال: ورد إلى الصاحب رجل من أهل الشأم فكان فيما استخبره عنه: رسائل من تقرأ عندكم؟ فقال: رسائل ابن عبد كان، قال: ومن؟ قال: رسائل الصابىء، وغمزه أحد جلسائه ليقول رسائل الصاحب فلم يفطن، ورآه الصاحب فقال: تغمز حمارا لا يحسّ.
وكان صاحب خراسان الملك نوح بن منصور الساماني قد أرسل إلى الصاحب في السرّ يستدعيه إلى حضرته ويرغّبه في خدمته، وبذل البذول السنية، فكان من جملة اعتذاره أن قال: كيف يحسن بي مفارقة قوم بهم ارتفع قدري، وشاع بين الأنام ذكري، ثم كيف لي بحمل أموالي، مع كثرة أثقالي، وعندي من كتب العلم خاصة ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر.
قال أبو الحسن البيهقي: وأنا أقول: بيت الكتب الذي بالري على ذلك دليل بعد ما أحرقه السلطان محمود بن سبكتكين، فإني طالعت هذا البيت فوجدت فهرست تلك الكتب عشر مجلدات، فإن السلطان محمودا لما ورد إلى الريّ قيل له ان هذه الكتب كتب الروافض وأهل البدع، فاستخرج منها كلّ ما كان في علم الكلام وأمر بحرقه.(2/697)
وللصاحب من التصانيف: كتاب المحيط باللغة عشر مجلدات. كتاب ديوان رسائله عشر مجلدات. كتاب الكافي رسائل. كتاب الزيدية. كتاب الأعياد وفضائل النوروز. كتاب في تفضيل علي بن أبي طالب وتصحيح إمامة من تقدمه. كتاب الوزراء، لطيف. كتاب عنوان المعارف في التاريخ. كتاب الكشف عن مساوي المتنبىء. كتاب مختصر أسماء الله تعالى وصفاته. كتاب العروض الكافي. كتاب جوهرة الجمهرة. كتاب نهج السبيل في الأصول. كتاب أخبار أبي العيناء. كتاب نقض العروض. كتاب تاريخ الملك واختلاف الدول. كتاب الزيدين. كتاب ديوان شعره.
وقال «1» بعض ولد المنجم بعد وفاة الصاحب وقد استوزر أبو العباس الضبي ولقب بالرئيس وضمّ إليه أبو علي ولقب بالجليل:
والله والله لا أفلحتم أبدا ... بعد الوزير ابن عباد بن عباس
إن جاء منكم جليل فاقطعوا أجلي ... أو جاء منكم رئيس فاقطعوا راسي
ومن شعر الصاحب «2» :
وشادن جماله ... تقصر عنه صفتي
أهوى لتقبيل يدي ... فقلت لا بل شفتي
وله:
قال لي إنّ رقيبي ... سيّء الخلق فداره
قلت دعني وجهك الجن ... ة حفّت بالمكاره
وله أيضا:
أقول وقد رأيت له سحابا ... من الهجران مقبلة إلينا
وقد سحّت عزاليها بسكب ... حوالينا الصدود ولا علينا(2/698)
حدث الوزير أبو العلاء ابن حسول قال: كان دينار المجوسي صدرا في ديوان الري، وكان مدنّرا مدرهما مموّلا، فكتب رجل إلى الصاحب:
لم لا يفرّق في ديوان عسكره ... كافي كفاة الورى دينار دينار
فإن أيسر ما في قطع شأفته ... تطهير ديوانه من عابدي النار
فقبض عليه وصادره واستوفى منه مالا عظيما، والسبب في ذلك البيتان.
وحدث ابن بابك قال: سمعت الصاحب يقول: مدحت والعلم عند الله بمائة ألف قصيدة شعرا عربية وفارسية، وقد أنفقت أموالي على الشعراء والأدباء والزوار والقصاد، ما سررت بشعر ولا سرني شاعر كما سرني أبو سعيد الرستمي الأصفهاني بقوله:
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... مرفوعة الإسناد بالاسناد
يروي عن العباس عباد وزا ... رته وإسماعيل عن عباد
وقال أبو الحسن علي بن الحسين الحسني ختن الصاحب يرثيه:
ألا إنها يمنى المكارم شلّت ... ونفس المعالي إثر فقدك سلّت
حرام على الظلماء إن هي قوّضت ... وحجر على شمس الضحى إن تجلت
لتبك على كافي الكفاة مآثر ... تباهي النجوم الزهر في حيث حلّت
لقد فدحت فيه الرزايا وأوجعت ... كما عظمت فيه العطايا وجلّت
ألا هل أتى الآفاق أية غمة ... أطلّت ونعمى أيّ دهر تولت
وهل تعلم الغبراء ماذا تضمّنت ... وأعواد ذاك النعش ماذا أقلّت
فلا أبصرت عيني تهلّل بارق ... يحاكي ندى كفّيك إلا استهلّت
ولو قبلت أرواحنا عنك فدية ... لجدنا بها عند الفداء وقلّت
قال أبو حيان «1» : كان ابن عباد يأتي بالسجع في إثر كلامه مع روية طويلة، وأنفاس مديدة وحشرجة صدر، وانتفاخ منخريه، والتواء شدقيه، وتعويج عنقه،(2/699)
واللعب بشاربه وعنفقته، فلو رأيته يقرّر المسائل على هذه الأمثلة العجيبة والبيان الشافي، لرأيت عجبا من العجائب، وضربا من الغرائب.
وقال لي يوما الشاباشي، وقد خرجنا من مجلس الصاحب: كيف رأيت مولانا الصاحب اليوم مع هذا التقرير وإظهاره البلاغة الحسنة بين الناس؟ فقلت: السكوت عن مثله احدى الحسنيين وأحرى الحالتين، ولكن نعوذ بالله ممن يزين له الشيطان عمله ويزخرف له قوله. قال لي: كأنه لم يخلق هذا الرجل إلا غيظا لأكباد الأحرار وشفاء لسقم الأنذال، لحا الله دهرا آل بنا إليه، وأنزلنا عليه، وأحوجنا إلى مقاساته، وألجأنا إلى مجالسته، وأنشد يقول:
يا من تبرّمت الدنيا بطلعته ... كما تبرمت الأجفان بالرمد
يمشي على الأرض مجتازا فأحسبه ... من بغض طلعته يمشي على كبدي
لو كان في الأرض جزء من سماجته ... لم يقدم الموت إشفاقا على أحد
قال أبو حيان، قال لي الشاباشي: أهدى ابن عباد إلى صاحبه وقت ورودهما إلى الأهواز دينارا من ضربه وزنه ألف مثقال وكتابته «1» :
وأحمر يحكي الشمس شكلا وصورة ... فأوصافه مشتقة من صفاته
فإن قيل دينار فقد صدق اسمه ... وإن قيل الف كان بعض سماته
بديع فلم يطبع على الدهر مثله ... ولا ضربت أضرابه لسراته
وصار إلى شاهانشاه انتسابه ... على أنه مستصغر لعفاته
تفاءلت أن يبقى سنين كوزنه ... لتستمتع الدنيا بطول حياته
تأنّق فيه عبده وابن عبده ... وغرس أياديه وكافي كفاته
فقال أرأيت أكذب منه حيث قال: فلم يطبع على الدهر مثله؟ ما كان في الدنيا من خدم ملكا بألف دينار ثم قال: «وكافي كفاته» والله لو كتبت امرأة بمثله إلى زوجها لكان سمجا قبيحا، فكيف إلى فخر الدولة؟! ما أحسن ما كفاه أمر أبي العلاء(2/700)
النصراني حين هزمه بعدد قليل، بعد أن كان في جيش عرمرم ثقيل، ولكن الدنيا حمقاء خرقاء ولا تميل الا إلى مثلها، لو كتب المطهر أو نصر بن هارون أو أحد وزراء عضد الدولة إليه بشيء من ذلك لأحرقه بالنار والنفط.
ومن كتاب الروزنامجة: قال الصاحب: ما زال أحداث بغداد يذكرونني بابن شمعون المتصوف وكلامه على الناس في مكان الشبلي، فجمّعت يوما في المدينة وعليّ طيلسان ومصمتة، ووقفت عليه وقد لبس فوطة قصب وقعد على كرسيّ ساج، بوجه حسن ولفظ عذب، فرأيته يقطع مسائله بهوس يطيله ويسهب فيه، فقلت:
لا بد من أن أسأله عما أقطعه به، وابتدرت فقلت: يا شيخ ما تقول في قد سيكونيات العلم إذا وقعت قبل التوهم؟ فورد عليه ما لم يسمع به، فأطرق ساعة ثم رفع رأسه وقال: لم أؤخر إجابتك عجزا عن مسألتك بل لأعطشك إلى الجواب، وأخذ في ضرب من الهذيان، فلما سكت قلت: هذا بعد التوهم، وإنما سألتك قبله، إلى أن ضجر فانصرفت عنه.
قرأت بمصر في نسخة باليتيمة للثعالبي عليها خطّ يعقوب بن أحمد بن محمد بالقراءة عليه يرويها عن مؤلفها الثعالبي فوجدت فيها زوائد لا أعرفها في النسخ المشهورة بأيدي الناس منها «1» : حدثني عوف بن الحسين الهمذاني التميمي قال كنت يوما في خزانة الخلع للصاحب فرأيت في ثبت الحسبانات لكاتبها، وكان صديقي، مبلغ عمائم الخز التي صارت في تلك الشتوة في خلع العلويين والفقهاء والشعراء سوى ما صار منها في خلع الخدم والحاشية ثمانمائة وعشرون؛ قال: وكان يعجبه الخزّ ويأمر بالاستكثار منه في داره، فنظر أبو القاسم الزعفراني يوما إلى جميع ما فيها من الخدم والحاشية عليهم الخزوز الملوّنة الفاخرة فاعتزل ناحية وأخذ يكتب شيئا، فسأل الصاحب عنه فقيل له: إنه في مجلس كذا يكتب، فقال: عليّ به، فاستمهل الزعفراني ريثما يتم مكتوبه، فأعجله الصاحب وأمر أن يؤخذ ما في يده من الدرج، فقام الزعفراني إليه وقال: أيد الله الصاحب:(2/701)
اسمعه ممن قاله تزدد به ... عجبا فحسن الورد في أغصانه
فقال: هات يا أبا القاسم فأنشده أبياتا منها:
سواك يعدّ الغنى ما اقتنى ... ويأمره الحرص أن يخزنا
وأنت ابن عباد المرتجى ... تعدّ نوالك نيل المنى
وخيرك، من باسط كفّه ... وممن ثناها، قريب الجنى
غمرت الورى بصنوف الندى ... فأصغر ما ملكوه الغنى
وغادرت أشعرهم مفحما ... وأشكرهم عاجزا ألكنا
أيا من عطاياه تهدي الغنى ... إلى راحتي من نأى أو دنا
كسوت المقيمين والزائرين ... كسا لم نخل مثلها ممكنا
وحاشية الدار يمشون في ... ضروب من الخزّ إلا أنا
فقال الصاحب: قرأت في أخبار معن بن زائدة أن رجلا قال له: احملني فأمر له بفرس وبغلة وحمار وناقة وجارية ثم قال: لو علمت أن الله خلق مركوبا غيرها لحملتك عليه، وقد أمرنا لك من الخز بجبة وقميص وسراويل وعمامة ومنديل ومطرف ورداء وجورب، ولو علمنا لباسا آخر يتخذ من الخز لأعطيناكه، ثم أمر بادخاله إلى الخزانة وصيّرت تلك الخلع عليه، وسلّم ما فضل عن لبسه في الوقت إلى غلامه.
قال «1» وحدثني أبو عبد الله محمد بن حامد الحامدي قال: عهدي بأبي محمد [الخازن] ماثلا بين يدي الصاحب ينشده قصيدة أولها:
هذا فؤادك نهبى بين أهواء ... وذاك رأيك شورى بين آراء
هواك بين العيون النّجل مقتسم ... داء لعمرك ما أبلاه من داء
لا تستقرّ بأرض أو تسير إلى ... أخرى بشخص قريب عزمه ناء
يوما بحزوى ويوما بالعقيق ويو ... ما بالعذيب ويوما بالخليصاء
وتارة تنتحي نجدا وآونة ... شعب العقيق وطورا قصر تيماء(2/702)
قال: فرأيت الصاحب مقبلا عليه بمجامعه، حسن الإصغاء إلى إنشاده مستعيدا لاكثر أبياته، مظهرا من الاعجاب به والاهتزاز له ما يعجب الحاضرين، فلما بلغ إلى قوله:
أدعى بأسماء نبزا في قبائلها ... كأنّ أسماء أضحت بعض أسمائي
أطلعت شعري فألقت شعرها طربا ... فألّفا بين إصباح وامساء
زحف عن دسته طربا له، فلما بلغ إلى قوله في المدح:
لو أن سحبان باراه لأسحبه ... على خطابته أذيال فأفاء
أرى الأقاليم قد ألقت مقالدها ... إليه مستبقات أيّ إلقاء
فساس سبعتها منه بأربعة ... أمر ونهي وتثبيت وإمضاء
كذاك توحيده ألوى بأربعة ... كفر وجبر وتشبيه وإرجاء
فجعل يحرك رأسه ويقول: أحسنت أحسنت، فلما أنهى القصيدة أمر له بجائزة وخلع.
قال الأمير أبو الفضل الميكالي «1» : كتب عامل رقعة إلى الصاحب في التماس شغل وفي الرقعة. إن رأى مولانا أن يأمر بإشغالي ببعض أشغاله فعل، فوقع الصاحب تحتها: من كتب إشغالي لا يصلح لأشغالي.
وحدث هلال بن المحسن: ما رئي أحد وفّي من الإعظام والاكبار بعد موته ما وفّيه الصاحب، فإنه لما جهز ووضع في تابوته وأخرج على أكتاف حامليه للصلاة عليه قام الناس بأجمعهم فقبلوا الأرض بين يديه، وخرّقوا عند ذلك ثيابهم، ولطموا وجوههم، وبلغوا في البكاء والنحيب عليه جهدهم. وكان يلبس القباء في حياته تحققا بالوزارة وانتسابا معها إلى الجندية.
وحدث عن أبي الفتح ابن المقدر قال: كان أبو القاسم ابن أبي العلاء الشاعر من وجوه أهل أصبهان وأعيانهم ورؤسائهم، فحدثني أنه رأى في منامه قائلا يقول له: لو كاثرت الصاحب أبا القاسم ابن عباد مع فضلك وكثرة علمك وجودة شعرك فقلت:(2/703)
أفحمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بما أبدأ منها، وخفت أن أقصّر وقد ظنّ بي الاستيفاء لها، فقال: أجز ما أقوله، قلت: قل، فقال:
ثوى الجود والكافي معا في حفيرة ... فقلت: ليأنس كلّ منهما بأخيه
فقال: هما اصطحبا حيّين ثم تعانقا ... فقلت: ضجيعين في لحد بباب ذريه
فقال: إذا ارتحل الثاوون عن مستقرّهم ... فقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه
(باب ذريه: المحلة التي فيها تربته أو ما يستقبلك من اصفهان) . وحدث في كتاب الروزنامجه: وانتهيت إلى أبي سعيد السيرافي، وهو شيخ البلد، وفرد الأدب، حسن التصرف، وافر الحظ من علوم الأوائل، فسلمت عليه وقعدت إليه، وبعضهم يقرأ «الجمهرة» فقرأ ألمقت فقلت إنما هو لمقت، فدافعني الشيخ ساعة ثم رجع إلى الأصل فوجد حكايتي صحيحة، واستمرّ القارىء حتى أنشد وقد استشهد:
رسم دار وقفت في طلله ... كدت «أقضّي» الغداة من جلله «1»
فقلت: أيها الشيخ هذا لا يجوز والمصراعان على هذا النشيد يخرجان من بحرين لأن:
رسم دار وقفت في طلله ... فاعلاتن مفاعلن فعلن
كدت «أقضّي» الغداة من جلله ... مفتعلن فاعلاتن مفتعلن
فذاك من الخفيف وهذا من المنسرح، فقال: لم لا تقول الجميع من المنسرح والمصراع الأول مخزوم؟ فقلت: لا يدخل الخزم هذا البحر لأنه أوله مستفعلن(2/704)
مفاعلن، هذه مزاحفة عنه، وإذا حذفنا متحرّكا بقينا ساكنا، وليس في كلام العرب ابتداء به وانما هو:
كدت أقضي الغداة من جلله
بتخفيف الضاد فأمر بتغييره، ورفعني إلى جنبه، وابتدأ فقرىء عليه من «كتاب المقتضب» باب ما يجرى وما لا يجرى، إلى أن ذكر وسحر، وأنه لا ينصرف إذا كان لسحر بعينه، لأنه معدول عن الأول، فقلت: ما علامة العدل فيه؟ فقال: أنا قلنا السحر ثم قلنا سحر، فعلمنا أن الثاني معدول عن الأول، قلت: لو كان كذلك لوجب أن تطّرد العلة في عتمة، لأنك تقول العتمة، ثم تقول عتمة، فضجر واحتدّ وصاح واربدّ، وادعيت أنه ناقص والتمس التحاكم، فكتبت رسالة أخذت فيها خطوط أهل النظر، وقد أنفذت درج كتابي نسختها، وفيها خط أبي عبد الله بن رذامر عين مشايخهم، ورأيت الشيخ بعد ذلك عزيزا فاضلا متوسعا عالما فعلقت عليه، وأخذت عنه وحصلت تفسيره لكتاب سيبويه وقرأت صدرا منه. وهناك أبو بكر ابن مقسم، وما في أصحاب ثعلب أكثر دراية وما أصحّ رواية منه، وقد سمعت مجالسه وفيها غرائب ونكت، ومحاسن وطرف، من بين كلمة نادرة، ومسألة غامضة، وتفسير بيت مشكل، وحلّ عقد معضل. وله قيام بنحو الكوفيين وقراءتهم ورواياتهم ولغاتهم.
والقاضي أبو بكر ابن كامل بقية الدنيا في علوم شتى، يعرف الفقه والشروط والحديث، وما ليس من حديثنا، ويتوسع في النحو توسعا مستحسنا، وله في حفظ الشعر بضاعة واسعة، وفي جودة التصنيف قوة تامة، ومن كبار رواة المبرد وثعلب والبحتري وأبي العيناء وغيره، وقد سمعت صدرا صالحا مما عنده. وكنت أحبّ أن أسمع كلام أهل النظر بالعراق لما تتابع في حذقهم من الأوصاف، وذكر أبا زكرياء يحيى بن عدّي وغيره ومناظرات جرت هناك يطول شرحها.
وحدث عن أبي نصر ابن خواشاده أنه قال: ما غبطت أحدا على منزلة كما غبطت الصاحب أبا القاسم ابن عباد، فانا كنا مقيمين بظاهر جرجان مع مؤيد الدولة على حرب الخراسانية، فدخل الصاحب إلى داره في البلد آخر نهار يوم لحضور المجلس الذي يعقده لأهل العلم، وتحته دابّة رهواء وقد أرسل عنانه، فرأيت وجوه الديلم(2/705)
وأكابرهم من أولاد الأمراء يعدون بين يديه كما تعدو الركابية. وكان عضد الدولة يخاطب شيخنا خطابا لا يشرك معه فيه إلا أنه كان يقلّ مكاتبته، وكانت الكتب من عضد الدولة إنما ترد على لسان كاتبه أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف.
ولما وجدت الشعراء لبضائعها عند ابن عباد نفاقا وسوقا أهدوا نتائج أفكارهم إلى حضرته وساقوها نحوه سوقا. فذكر الثعالبي قال «1» : واحتفّ به من نجوم الأرض وأفراد العصر وأبناء الفضل وفرسان الشعر من يربي عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصّرون عنهم في الأخذ برقاب القوافي، وملك رقّ المعاني، فإنه لم يجتمع بباب أحد من الخلفاء والملوك مثل ما اجتمع بباب الرشيد من فحولة الشعراء المذكورين، كأبي نواس وأبي العتاهية والعتابي والنمري ومسلم بن الوليد وأبي شيص وابن أبي حفصة ومحمد بن مناذر، وجمعت حضرة الصاحب بأصبهان والري وجرجان مثل أبي الحسين السلامي وأبي سعيد الرستمي وأبي القاسم الزعفراني وأبي العباس الضبي والقاضي الجرجاني وأبي القاسم ابن أبي العلاء وأبي محمد الخازن وأبي هاشم العلوي وأبي الحسن الجوهري وبني المنجم وابن بابك وابن القاشاني والبديع الهمذاني وإسماعيل الشاشي وأبي العلاء الأسدي وأبي الحسن الغويري وأبي دلف الخزرجي وأبي حفص الشهرزوري وأبي معمر الاسماعيلي وأبي الفياض الطبري وغيرهم ممن لم يبلغني ذكره أو ذهب عني اسمه، ومدحه مكاتبة الرضيّ الموسوي وأبو إسحاق الصابىء وابن الحجاج وابن سكرة وابن نباتة وغيرهم ممن يطول ذكره.
وكتب أبو حفص الأصفهاني «2» الوراق إلى الصاحب رقعة نسختها: لولا أن الذكرى- أطال الله بقاء مولانا الصاحب الجليل- تنفع المؤمنين، وهزّ الصمصام يعين المصلتين، لما ذكّرت ذاكرا، ولا هززت ماضيا، ولكن ذا الحاجة يستعجل النّجح، ويكدّ الجواد السمح، وحال عبد مولانا في الحنطة متخلفة، وجرذان داره عنها منصرفة، فإن رأى أن يخلط عبده بمن أخصب رحله، فلم يشدّ رحله، فعل إن شاء الله تعالى. فوقع على رقعته: أحسنت يا أبا حفص قولا، وسنحسن فعلا، فبشر(2/706)
جرذان دارك بالخصب، وأمنها من الجدب، فالحنطة تأتيك في الأسبوع، ولست عن غيرها من النفقة بممنوع، ان شاء الله تعالى.
قال «1» : وحدثني أبو الحسن الدارمي «2» المصيصي قال: انتحل فلان- يعني بعض المتشاعرين- بحضرة الصاحب شعرا له، وبلغه ذلك فقال: أبلغوه عني:
سرقت شعري وغيري ... يضام فيه ويخدع
فسوف أجزيك صفعا ... يكدّ رأسا وأخدع
فسارق المال يقطع ... وسارق الشعر يصفع
قال: فاتخذ الليل جملا وهرب من الري.
وحدث عن عون بن الحسين الهمذاني قال «3» : سمعت أبا عيسى ابن المنجم يقول: سمعت الصاحب يقول: ما استأذنت على فخر الدولة وهو في مجلس الأنس إلا وانتقل الى مجلس الحشمة فأذن لي فيه، وما أذكر أنه تبذّل بين يديّ أو مازحني قط إلّا مرة واحدة، فإنه قال لي: بلغني أنك تقول إن المذهب مذهب الاعتزال، والنيك نيك الرجال، فأظهرت الكراهة لانبساطه وقلت: بنا من الجدّ ما لا نفرغ معه للهزل ونهضت كالمغاضب، فما زال يعتذر إليّ مراسلة حتى عاودت مجلسه، ولم يعد بعدها إلى ما يجري مجرى الهزل والمزح.
ولما أتت الصاحب «4» البشارة بسبطه عباد بن علي الحسني- ولم يكن للصاحب ولد غيرها، وكان قد زوّجها من أبي الحسن علي بن الحسين الحسني الهمذاني، وكان شاعرا أديبا بليغا، وله شعر منه هذان البيتان في دار لبعض الملوك بناها:
دار علت دار الملوك بهمة ... كعلوّ صاحبها على الأملاك
فكأنها من حسنها وبهائها ... بنيت قواعدها على الأفلاك(2/707)
أنشأ الصاحب يقول:
أحمد الله لبشرى ... أقبلت عند العشيّ
إذ حباني الله سبطا ... هو سبط للنبيّ
مرحبا ثمت أهلا ... بغلام هاشمي
نبويّ علويّ ... حسني صاحبي
ثم قال:
الحمد لله حمدا دائما أبدا ... قد صار سبط رسول الله لي ولدا
وقد ذكرت ذلك الشعراء في أشعارهم، فمن ذلك قول أبي الحسن الجوهري في قصيدة منها «1» :
وكان بعد رسول الله كافله ... فصار جدّ بنيه بعد كافله
هلمّ للخبر المأثور مسنده ... في الطالقان فقرّت عين ناقله
فذلك الكنز عباد وقد وضحت ... عنه الإمامة في أولى مخايله
لما روت الشيعة أن بالطالقان كنزا من ولد فاطمة يملأ الله الأرض به عدلا كما ملئت جورا، والصاحب من الطالقان من قرى أصفهان، فلما رزق سبطا فاطميا تأولوا له هذا الخبر وأنا بريء من العهدة.
هذا الذي ذكره الثعالبي أن طالقان من قرى أصفهان، والصواب ما تقدم.
قال «2» : وعرض عليّ أبو الحسن الشقيقي البلخي توقيع الصاحب إليه في رقعته:
من نظر لدينه نظرنا لدنياه، فإن آثرت العدل والتوحيد، بسطنا لك الفضل والتمهيد، وإن أقمت على الجبر، فليس لكسرك من جبر.
وهذه رسالة «3» كتبها الصاحب إلى أبي علي الحسين بن أحمد في شأن أبي عبد الله محمد بن حامد، قال الثعالبي: وسمعت الأمير أبا الفضل عبيد الله بن أحمد(2/708)
الميكالي يسردها فزادني جريها على لسانه وصدورها عن فمه إعجابا بها وهي: كتابي هذا يا سيدي صدر من سحنة «1» وقد أرخى الليل سدوله، وسحب الظلام ذيوله، ونحن على الرحيل غدا إن شاء الله إذا مدّ الصباح غرره قبل أن يسبغ حجوله، ولولا ذلك لأطلته كوقوف الحجيج على المشاعر، ولم أقتصر منه على زاد المسافر، فإن المتحمّل له وسيع الحقوق لديّ، حقيق أن أتعب له خاطري ويديّ، وهو أبو عبد الله الحامدي- كان وافى مع ذلك الشيخ الشهيد أبي سعيد الشبيبي السعيد، رفع الله منازله، وقتل قاتله، بكتب له فأنسنا بفضله، وآنسنا الخير من عقله، فلما فجع بتلك الصحبة، وبما كان له فيها من القربة، لم يرض غير بابي مشرعا، وغير جنابي مرتعا، وقطع إليّ الطريق الشاقّ مؤكّدا حقا لا يشقّ فيه غباره، ولا ينسى على الزمان ذماره، فكنت على جناح هذه النهضة التي بنا لم يستقرّ نواها، ولم تلق عصاها.
فإحراج الحرّ المبتدىء الأمر، القريب العهد بوطأة الدهر، تحامل عليه بالمركب الوعر، فرددته إليك يا سيدي لتسهّل عليه حجابك، وتمهّد له جنابك، وتترصد [له] عملا خفيف الثقل، نديّ الظل، فإذا اتفق عرضته عليه، ثم فوضته إليه. وهو إلى أن يتّسق ذلك ضيفي وعليك قراه، وعندك مربعه ومشتاه، ويريد اشتغالا بالعلم يزيده استقلالا، إلى أن يأتيه إن شاء الله خبرنا في الاستقرار، ثم له الخيار: إن شاء أقام على ما ولّيته، وإن شاء التحق بنا ناشرا ما أوليته. وقد وقعت له إلى فلان بما يعينه على بعض الانتظار، إلى أن تختار له كلّ الاختيار، فأوعز إليه بتعجيله، واكفني شغل القلب بهذا الحرّ الذي أفردني بتأميله، إن شاء الله تعالى وحده.
وكتب «2» إلى القاضي أبي بشر الفضل بن محمد الجرجاني عند وروده باب الري وافدا عليه:
تحدثت الركاب بسير أروى ... إلى بلد حططت به خيامي
فكدت أطير من شوق إليها ... بقادمة كقادمة الحمام(2/709)
أفحقّ ما قيل من أمر القادم؟ أم ظنّ كأمانيّ الحالم؟ لا والله بل هو درك العيان، وإنه ونيل المنى سيّان، فمرحبا أيها القاضي براحلتك ورحلك، بل أهلا بك وبكافة أهلك، ويا سرعة ما فاح نسيم مسراك، ووجدنا ريح يوسف من رياك، فحثّ المطيّ تزل غلّتي برؤياك، وتزح علتي بلقياك، ونصّ على يوم الوصول نجعله عيدا مشرّفا، ونتخذه موسما ومعرّفا «1» ، وردّ الغلام، أسرع من رجع الكلام، فقد أمرته أن يطير على جناح نسر، يترك الصّبا في عقال أسر:
سقى الله دارات مررت بأرضها ... فأدّتك نحوي يا زياد بن عامر
أصائل قرب أرتجي أن أنالها ... بلقياك قد زحزحن حرّ الهواجر
وقال «2» بعض ندماء الصاحب له يوما: أرى مولانا قد أغار في قوله:
لبسن برود الوشي لا لتجمل ... ولكن لصون الحسن بين برود
على المتنبي في قوله:
لبسن الوشي لا متجملات ... ولكن كي يصنّ به الجمالا
فقال: كما أغار هو في قوله:
ما بال هذي النجوم حائرة ... كأنها العمي ما لها قائد
على العباس بن الأحنف في قوله:
والنجم في كبد السماء كأنه ... أعمى تحيّر ما لديه قائد
وللصاحب أيضا «3» :
يقولون لي كم عهد عينك بالكرى ... فقلت لهم مذ غاب بدر دجاها
ولو تلتقي عين على غير دمعة ... لصارمتها حتى يقال نفاها(2/710)
من قول المهلبي الوزير:
تصارمت الأجفان منذ صرمتني ... فما تلتقي إلا على دمعة تجري
وللصاحب أيضا «1» :
ومهفهف حسن الشمائل أهيف ... يروي النفوس بفترتي عينيه
ما زال يبعدني ويؤثر هجرتي ... فجذبت قلبي من إسار يديه
قالوا تراجعه فقلت بديهة ... قولا أقيم مع الرويّ عليه
والله لا راجعته ولو انه ... كالبدر أو كالشمس أو كبويه
أخذه من قول ابن المعتز:
والله لا كلّمتها ولو انها ... كالبدر أو كالشمس أو كالمكتفي
قال المؤلف: هكذا ذكر الثعالبي، ونسب هذا البيت الى ابن المعتز، وهو لأبي بكر محمد بن السراج النحوي، وله قصة طريفة، وهي مذكورة في أخباره من هذا الكتاب.
ومما هجي به الصاحب قول أبي العلاء الأسدي:
إذا رأيت مسجّى في مرقعة ... يأوي المساجد حرّا ضرّه بادي
فاعلم بأن الفتى المسكين قد قذفت ... به الخطوب الى لؤم ابن عباد
وقال السلامي «2» :
يا ابن عباد بن عباس بن عبد الله حرها ... تنكر الجبر وأخرجت الى دنياك كرها
ومرّ أبو العباس الضبي بباب الصاحب بعد موته فقال «3» :
أيها الباب لم علاك اكتئاب ... أين ذاك الحجاب والحجّاب
أين من كان يفزع الدهر منه ... فهو الآن في التراب تراب(2/711)
ولأبي القاسم ابن أبي العلاء الأصفهاني يرثي الصاحب من قصيدة «1» :
ما متّ وحدك لكن مات من ولدت ... حوّاء طرّا بل الدنيا بل الدين
هذي نواعي العلا مذ متّ نادبة ... من بعد ما ندبتك الخرّد العين
تبكي عليك العطايا والصلات كما ... تبكي عليك الرعايا والسلاطين «2»
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... واستيقظوا بعد ما نام الملاعين
لا يعجب الناس منهم إن هم انتشروا ... مضى سليمان وانحلّ الشياطين
وكتب الصاحب الى أبي العلاء الأسدي من أجود أبياته «3» :
يقرّ بعيني أن يلمّ رسولها ... ببابي ويهدي بالعشيّ سلامها
ويذكر لي دون الرجال حديثها ... وينشر عندي نطقها وكلامها
ورد يا شيخي- أطال الله بقاءك- رسولك بكتاب سبق الأفكار والظنون، وحسدت عليه القلوب العيون، وترك الواصفين بين قاصر ومقصّر. ومثّل ليالينا بين اللوى فمحجّر، بكلام كالورق النضير تتأوّه منه الغصون، وكالنور المنير أفنانه فنون، فصادفني حليفا للشوق أو رهينا، وحنينا على الحنين وساء قرينا، وكيف لا وقد ألفنا القرب حولا حولنا رياض الأدب ترفّ، ودوننا رواحل الفضل تزفّ، نملك رقاب المنطق، ونتنازع أطراف الكلام المنمّق، ونقطع الليالي تناشدا وتذاكرا، وتحادثا وتسامرا، إلى أن يخلع الظلام ثيابه، ويحدر المصباح نقابه، هذا دأبنا كان إلى أن جاوزنا الشباب مراحل، ووردنا من المشيب مناهل «4» ، ثم حان الفراق فنحن حتى اليوم منه في جوّ كدر، ونجم منكدر، يقبضنا عن الموارد العذاب، ويعرضنا على لواعج العذاب، والله نسأل إعادة هاتيك الأحوال، وتلك الأيام الخضراء الظلال، وإن كان الله قد زادنا بعدك مناجح ومنائح، وأيادي غوادي وروائح، حتى فتحنا الفتوح، وذللنا القروح، ورتقنا الفتوق، ونسخنا الفروق، وأثرنا الآثار، ووطأنا الرقاب وطلبنا الثار، واصطنعنا الصنائع، وجعلنا ودائع النعم قطائع، وعقدنا في أعناق الأحرار مننا،(2/712)
وأحيينا من سبل الاحسان سننا، انا قد تحملنا مشاقّ مالت على القوة للضعف، وتحاملت على الأشدّ بالوهن، ودفعت الى معالجة خطوب تعجّب الدهر من صبرنا عليها فخار، وجبن الزمان عند شجاعتنا لها فحار، وها أنا أحوج ما كنت إلى أن أرفّه، ولا أستكره، وقد رميت بسهم الأربعين، وأرميت على شرف الخمسين، مدفوع الأشغال والأثقال إلى متاعب ومصاعب لو مني [بها] ابن ثلاثين قويا أزره طريّا حرصه، لقام عجزه وقعدت به نفسه، وأظنني كنت قديما قلت:
وقائلة لم عرتك الهموم ... وأمرك ممتثل في الأمم
فقلت دعيني وما قد عرا ... فان الهموم بقدر الهمم
وما على الراحة آسف بل على أن لا أكون مشغولا بأخرى أمهد لها وأكدح، وأدأب لنفسي وأنصح، اللهم وفّق وقدّر، وسهّل ويسّر، إنك على ما تشاء قدير.
والرسالة طويلة كتبت مقدمها.
ذكر محمد ما فعله الصاحب مع القاضي عبد الجبار بن أحمد من حسن العناية والتولية والتمويل، فلما مات الصاحب كان يقول «1» : أنا لا أترحّم عليه لأنه لم يظهر توبته، فطعن عليه في ذلك ونسب إلى قلّة الرعاية، لا جرم أنّ فخر الدولة قبض عليه بعد موت الصاحب، وصادره فيما قيل على ثلاثة آلاف ألف درهم، وعزله عن قضاء الري، وولّى مكانه القاضي أبا الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني العلامة صاحب التصانيف والفضائل الجمة، وقد ذكرته أنا في بابه «2» ، فقيل إن عبد الجبار باع ألف طيلسان مصري في مصادرته، وهو شيخ طائفتهم، يزعم أن المسلم يخلّد في النار على ربع دينار، وجميع هذا المال من قضاء الظلمة بل الكفرة عنده وعلى مذهبه، وإنما ذكرت هذا للاعتبار.
وقرأت في كتاب هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابىء قال: وكان الصاحب أبو القاسم يراعي من ببغداد والحرمين من أهل الشرف وذوي المآثر من السلف، وشيوخ الكتاب والشعراء، وأولاد الأدباء والزهاد والفقهاء، بما يحمله إليهم في كلّ(2/713)
سنة مع الحاجّ على مقاديرهم ومنازلهم، وكان يحمل إلى أبي إسحاق إبراهيم بن هلال جدي خمسمائة دينار وإليّ ألفي درهم جبلية مع جعفر بن شعيب، فأذكر وقد راسله بعد وفاة عضد الدولة بالاستدعاء إلى حضرته بالري، وبذل له النفقة الواسعة والمعونة الشاسعة عند شخوصه والإرغاب والاكثار عند حضوره، فكانت عقلة بالذيل الطويل والظهر الثقيل تمنعه من ترك موضعه ومفارقة موطنه، فمما كتبه إليه بالاعتذار عن التأخر:
نكصت على أعقابهنّ مطالبي ... وتقاعست عن شأوهنّ مآربي
وتبلّدت مني القريحة بعد ما ... كانت نفاذا كالشهاب الثاقب
وبكيت شرخ شبيبتي فدفنتها ... دفن الأعزّة في العذار الشائب
ومنها:
فلو ان لي ذاك الجناح لطار بي ... حتى أقبّل ظهر كفّ الصاحب
وأعيش في سقيا سحائبه التي ... ضمنت سعادة كلّ جد خائب
وأراجع العادات حول قبابه ... حتى السواد من الشباب الذاهب
وأعدّ من جلساء حضرته التي ... شحنت بكلّ مسائل ومحارب
فيقول من ذا سائل عني له ... مستثبت فيقول: هذا كاتبي
أترى أروم بهمتي ما فوق ذا ... أنّى وخدمته أجلّ مراتبي
ومنها يعتذر:
كثرت عوائقي التي تعتاقني ... من غيث راحته الملثّ الساكب
ولد لهم ولد وبطن ثالث ... هو رابعي وعشيرتي وأقاربي
والسنّ تسع بعدها خمسون قد ... شامت بوارق يومها المتقارب
فالجسم يضعف عن تجشّم راجل ... والحال يقصر عن ترفّه راكب
وعليّ للسلطان طاعة مالك ... كانت على المملوك ضربة لازب
وتعطلي مع شهوتي كتصرفي ... كلّ سواء في حساب الحاسب(2/714)
وهي طويلة فلما كانت سنة أربع وثمانين التي توفي فيها جدي أحسّ بانقضاء مدته، وحضور منيته، فكتب إلى الصاحب كتابا يسأله فيه إقرار هذا الرسم المذكور على ولده، واجراءه لهم من بعده، وقرن الكتاب بقصيدة أولها:
تحذّر منك النائبات فتحذر ... وتذكر للخطب الجسيم فيصغر
وتكسى بك الدنيا ثياب جمالها ... فيرجوك معروف ويخشاك منكر
يقول فيها:
أسيدنا إنّ المنية أعذرت ... إليّ بآيات تروع وتذعر
لها نذر قد آذنتني بهجمة ... على مورد ما عنه للمرء مصدر
وإني لأستحلي مرارة طعمه ... إذا كنت بالتقديم لي تتأخر
وحقّ لنفس كان منك معاشها ... إذا غمضت عينا وعينك تنظر
ومن ورّث الأولاد بعد وفاته ... حضانك طابت نفسه حين يقبر
تمرّد منك الجود حتى تمردت ... مطالبنا والماجد الحرّ يصبر
أأطلب منك الرفد عمري كله ... وأطلبه والجنب مني معفر
وليست بأولى بدعة لك في الندى ... لها موقف [في] الحمد [يطوى و] ينشر
وهي طويلة.
قال هلال بن المحسن: وأمرني بأن أنفذ ذلك فأنفذته، وكتبت عن نفسي كتابا في معناه، ووصل ونفذ من يحمل الرسم على العادة، ثم اتفق أن توفي الصاحب في أول سنة خمس وثمانين وثلاثمائة فوقف، وكانت بين وفاتهما شهور.
قال هلال: وسمعت محدثا يحدّث أبا إسحاق أنه سمع الصاحب يقول: ما بقي من أوطاري وأغراضي إلا أن أملك العراق، وأتصدّر ببغداد، وأستكتب أبا اسحاق الصابىء، ويكتب عني وأغيّر عليه، فقال جدي: ويغيّر علي وإن أصبت!! قال: وحدثني أبو إسحاق جدي قال: حضر الصاحب أبو القاسم ابن عباد دار الوزير المهلبي عند وروده إلى بغداد مع مؤيد الدولة، فحجب عنه لشغل كان فيه، وجلس طويلا، فلما تأخر الإذن كتب إليّ رقعة لطيفة فيها:(2/715)
وأترك محجوبا على الباب كالخصى ... ويدخل غيري كالأيور ويخرج
فأقرأتها الوزير المهلبيّ فأمر بإدخاله.
قال: وكان الصاحب عند دخوله إلى بغداد قصد القاضي أبا السائب عتبة بن عبيد لقضاء حقه، فتثاقل في القيام له، وتحفّز تحفزا أراه به ضعف حركته وقصور نهضته، فأخذ الصاحب بضبعه وأقامه، وقال: نعين القاضي على قضاء حقوق إخوانه، فخجل أبو السائب واعتذر إليه.
وذكر القاضي أبو علي التنوخي في كتاب نشوار المحاضرة «1» : حدثني أبو منصور عبد العزيز بن محمد بن عثمان المعروف بابن أبي عمرو الشرابي حاجب أمير المؤمنين المطيع لله قال: دخلت في حداثتي يوما على أبي السائب القاضي فتثاقل في القيام لي وأظهر لي ضعفا عنه للسنّ والعلل المتصلة به، قال: فتطاول فجذبت يده بيدي حتى أقمته القيام التامّ وقلت له: أعين قاضي القضاة أيده الله على إكمال البر وتوفية الإخوان حقوقهم، قال: وقد كنت عاتبا عليه في أشياء عاملني بها، وإنما جئته للخصومة، فبدأت لأخذ «2» الكلام، فحين رأى الشرّ في وجهي قال:
تتفضل لاستماع كلمتين ثم تقول ما شئت، فقلت له: قل فقال: روينا عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: فاصفح الصفح الجميل
(الحجر: 85) قال: عفو بلا تقريع، فإن رأيت أن تفعل ذلك فافعل، فاستحييت من الاستقصاء عليه وانصرفت.
قال المؤلف: والذي عندي أن الخبر إنما جرى بين هذا والقاضي، وبلغ أمره الصاحب فانتحله لنفسه، وحكاه في مجلس أنسه، فشاع عنه، وكان الصاحب رحمه الله ممن يحبّ الفخر وانتحال الفضائل التي ربما قصّر عنها.
ومن أشعار الصاحب «3» :
يا خاطرا يخطر في تيهه ... ذكرك موقوف على خاطري(2/716)
إن لم تكن آثر من ناظري ... عندي فلا متّعت بالناظر
وكتب إلى أبي الحسين «1» الطبيب «2» :
إنا دعوناك «3» على انبساط ... والجوع قد أثّر في الأخلاط
فإن عسى ملت إلى التباطي ... صفعت بالنعل قفا بقراط
وله «4» :
بعدت فطعم العيش بعدك علقم ... ووجه حياتي مذ تغيبت أرقم
فما لك قد أدغمت قربك في النوى ... وودّك في غير النداء مرخم
وقال لما حضرته الوفاة «5» :
وكم شامت بي عند موتي جهالة ... بظلم يسلّ السيف بعد وفاتي
ولو علم المسكين ماذا يناله ... من الذلّ بعدي مات قبل مماتي
وله أيضا «6» :
بدا لنا كالبدر في شروقه ... يشكو غزالا لجّ في عقوقه
يا عجبا والدهر في طروقه ... من عاشق أحسن من معشوقه
قال أبو بكر الخوارزمي «7» أنشدنا الصاحب هذه القوافي ليلة وقال: هل تعرفون نظيرا لمعناها في شعر المحدثين؟ فقلت لا أعرف إلا قول البحتري:
ومن عجب الدهر أنّ الأمير ... أصبح أكتب من كاتبه
قال فقال: جودت وأحسنت هكذا فليكن الحفظ.(2/717)
وله ويروى لغيره «1» :
رشأ غدا وجدي عليه كردفه ... وغدا اصطباري في هواه كخصره
وكأنّ يوم وصاله من وجهه ... وكأن ليلة هجره من شعره
إن ذقت خمرا خلتها من ريقه ... أو رمت مسكا نلته من نشره
وإذا تكبّر واستطال بحسنه ... فعذار عارضه يقوم بعذره
وله أيضا «2» :
دبّ العذار على ميدان وجنته ... حتى إذا كاد أن يسعى به وقفا
كأنه كاتب عزّ المداد له ... أراد يكتب لاما فابتدا ألفا
وله أيضا «3» :
وخطّ كأنّ الله قال لحسنه ... تشبّه بمن قد خطّك اليوم فائتمر
وهيهات أين الخطّ من حسن وجهه ... وأين ظلام الليل من صفحة القمر
وله أيضا «4» :
وشادن قلت له ما اسمكا ... فقال لي بالغنج عبّاث
فصرت من لثغته ألثغا ... فقلت أين الكاث والطاث
وله يصف الثلج «5» :
هات المدامة يا غلام مصيّرا ... نقلي عليها قبلة أو عضّه
أو ما ترى كانون ينثر ورده ... وكأنما الدنيا سبائك فضّه(2/718)
وله أيضا «1» :
وصفراء أو حمراء فهي مخيلة ... لرقّتها إلا على المتوهّم
تشكّكنا في الكرم أنّ انتماءه ... إلى الخمر أم هاتا إلى الكرم تنتمي
لك الوصف دون القصف مني فخيّمي ... بغير يدي وارضي بما قاله فمي
وكتب إلى أبي الفضل ابن شعيب «2» :
يا أبا الفضل لم تأخّرت عنّا ... فأسأنا بحسن عهدك ظنّا
كم تمنت نفسي صديقا صدوقا ... فإذا أنت ذلك المتمنّى
فبغصن الشباب لما تثنّى ... وبعهد الصّبا وإن بان منّا
كن جوابي إذا قرأت كتابي ... لا تقل للرسول كان وكنا
وله أيضا «3» :
يا ابن يعقوب يا نقيب البدور ... كن شفيعي إلى فتى مسرور
قل له إنّ للجمال زكاة ... فتصدّق بها على المهجور
وله يمدح عضد الدولة «4» :
سعود يحار المشتري في طريقها ... ولا تتأتّى في حساب المنجّم
وكم عالم أحييت من بعد عالم ... على حين صاروا كالهشيم المحطم
فو الله لولا الله قال لك الورى ... مقال النصارى في المسيح ابن مريم
محامد لو فضّت ففاضت على الورى ... لما أبصرت عيناك وجه مذمّم
وكلّا ولكن لو حظوا بزكاتها ... لما سمعت أذناك ذكر ملوّم
ولو قلت إن الله لم يخلق الورى ... لغيرك لم أحرج ولم أتأثم(2/719)
وله يهجو «1» :
سبط متّوي رقيع سفله ... أبدا يبذل فينا أسفله
اعتزلنا نيكه في دبره ... فلهذا يلعن المعتزله
وله في رجل كثير الشرب بطيء السكر «2» :
يقال لماذا ليس يسكر بعد ما ... توالت عليه من نداماه قرقف
فقلت سبيل الخمر أن تنقص الحجى ... فإن لم تجد شيئا فماذا تحيّف
وله أيضا «3» :
شرط الشروطيّ فتى أيّر ... وما سواه غير مشروط
أبغى من الإبرة لكنّه ... يوهم قوما أنه لوطي
وله أيضا «4» :
تصدّ أميمة لما رأت ... مشيبا على عارضي قد فرش
فقلت لها الشيب نقش الشباب ... فقالت ألا ليته ما نقش
وله أيضا «5» :
ولما تناءت بالأحبّة دارهم ... وصرنا جميعا من عيان إلى وهم
تمكن مني الشوق غير مسامح ... كمعتزليّ قد تمكن من خصم
حدث القاضي أبو عبد الله ابن الحسن بن علي السميري قال، حدث الصاحب قال «6» : لما عدت من أصبهان بعد القبض على أبي الفتح ابن العميد دعا مؤيد الدولة إلى طعامه وكنت عليه معه، فبينا الألوان توضع وترفع إذ قدمت بين يديّ طنبورية بمكبة، ثم شيلت المكبة فإذا بيد أبي الفتح ابن العميد وفي إصبعه خاتمه الذي أعرفه، فارتعت لذلك ووجمت منه، فقال لي مؤيد الدولة: إنما فعلت هذا لتسكن نفسك(2/720)
وتعلم إن الله قد كفاك عدوك، فدعوت له ولم أنتفع بنفسي أياما قلقا وانزعاجا. قال القاضي: وكانت والدة أبي الفتح في دار الصاحب على أتمّ حال مراعاة وحراسة فلم يعلمها ولا مكن من إعلامها بقتله حتى ماتت.
[243]
إسماعيل بن عبد الله بن محمد بن ميكال
، أبو العباس الميكالي، وقد ذكر هذا النسب في عدة مواضع: مات ليلة الاثنين الخامس عشر من صفر سنة اثنتين وستين وثلاثمائة بنيسابور وهو ابن اثنتين وتسعين سنة، ودفن بمقبرة باب معمر، وكان شيخ خراسان ووجهها وعينها في عصره. سمع بنيسابور أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وأبا العباس محمد بن إسحاق السراج وأبا العباس أحمد بن محمد الماسرجسي، وبكور الأهواز عبدان بن أحمد بن موسى الجواليقي الحافظ والحسين بن بهار وعليّ بن سعيد العسكري. سمع منه الحفاظ مثل أبي علي النيسابوري وأبي الحسين محمد بن محمد بن الحجاجي وأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن البيع الحافظ وذكره في «التاريخ» وقال: ولد أبو العباس بنيسابور، فلما قلد أمير المؤمنين المقتدر بالله أباه عبد الله بن محمد الأعمال بكور الأهواز حمل إلى حضرة أبيه، فاستدعى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد لتأديبه، فأجيب إليه إيجابا له، وبعث بأبي بكر الدريدي إليه فهو كان مؤدبه، وكان واحد عصره. وفي عبد الله بن محمد بن ميكال وابنه أبي العباس قال الدريدي قصيدته المشهورة «1» في الدنيا التي مدحهم بها.
ثم قال الحاكم: سمعت أبا العباس وسئل عن مقصورة الدريدي يقول:
__________
[243]- يتيمة الدهر 4: 354 وإنباه الرواة 1: 199 والوافي 9: 148 وسير الذهبي 16: 156 وعبر الذهبي 2: 327 والشذرات 3: 41.(2/721)
أنشدنيها مؤدبي أبو بكر الدريدي ثم قرأتها عليه مرارا، فسألناه أن ينشدناها فقال:
أنشدنا أبو بكر ابن دريد «1» :
إمّا تري رأسي حاكى لونه
إلى أن بلغ إلى الأبيات التي مدحهم الدريدي فيها، فقال: هذه الأبيات قد ذكرنا فيها، فلو أنشدها بعضكم، فقرأها عليه أبو منصور الفقيه وأقرّ بها وهي «2» :
إنّ العراق لم أفارق أهله ... عن شنآن صدّني ولا قلى
إلى أن بلغ قوله:
لا زال شكري لهما مواصلا ... دهري أو يعتاقني صرف المنى «3»
إلى ها هنا قرىء عليه، ثم أنشدنا لفظا إلى آخرها، وذلك في شهر رمضان سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
قال الحاكم: سمعت أبا بكر محمد «4» بن إبراهيم الجوري الأديب وهو يحدثنا عن أبي بكر ابن دريد، قلت له: أين كتبت عنه ولم تدخل العراق؟ قال: كتبت عنه بفارس لما قدم على عبد الله بن محمد بن ميكال لتأديب ولده أبي العباس، فقلت له: أبو العباس إذ ذاك صبي؟ فقال: لا والله إلا رجل إمام في الأدب والفروسية بحيث يشار إليه.
قال: وسمعت أبا عبد الله محمد بن الحسين الوضاحي يقول «5» : سمعت أبا العباس ابن ميكال يذكر صلة الدريدي في إنشائه المقصورة فيهم؛ قال الوضاحي:
فقلت له: وأيش الذي وصل إليه من خاصة الشيخ؟ فقال: لم تصل يدي إذ ذاك إلا إلى ثلاثمائة دينار صببتها في طبق كاغد ووضعتها بين يديه.
قال: وسمع الميكالي من عبدان الاهوازي، وسمع «الموطأ» لمالك بن أنس، وسمع لما عاد إلى نيسابور من أبي بكر محمد بن خزيمة وأبي العباس الثقفي(2/722)
والماسرجسي وأقرانهم وحدث بضع عشرة سنة إملاء وقراءة. وروى عنه أبو علي الحافظ في مصنفاته وأبو الحسين الحجاجي ومشايخنا رضي الله عنهم.
قال الحاكم: سمعت أبا محمد عبد الله بن إسماعيل يقول [قال أبي] : لما توفي أبي عبد الله بن ميكال أمر أمير المؤمنين أن أقلّد الأعمال التي كان يتقلّدها أبي، فأمر لي باللواء والخلعة، وأخرج في ذلك خادما من خواصّ الخدم، وكوتبت فيه فبكيت واستعفيت، والناس يتعجبون من ذلك، وقلت: لي بخراسان معاش أرجع إليه. فلما انصرفت إلى نيسابور جاءني أبو نصر ابن أبي حية غداة جمعة فقال: ينبغي ان تتأهب للركوب إلى الرئيس أبي عمرو الخفاف، فإنّ هذا رسم مشايخ البلد معه، فركبت معه إليه فلم يتحرك لي، فخرجت من عنده وأنا أبكي، فقال لي أبو نصر: ما الذي أبكاك؟ فقلت: سبحان الله، رددت على المقتدر الولاية بفارس وخوزستان وانصرفت إلى نيسابور حتى أزور أبا عمرو الخفاف فلا يتحرك لي؟ فقال لي: لا تغتمّ بهذا واعمل على الخروج إلى هراة فإن والي خراسان أحمد بن إسماعيل بها، وإذا رآك وضربك بالصولجان وعلم محلّك أجلسك على رقاب كلّ من بنيسابور. فتأهبت وأصلحت هدية له، وخرجت إلى هراة، فوصلت إلى خدمة السلطان ورضي خدمتي ودعاني إلى الصولجان ورضي مقامي، فلما استأذنت للانصراف عرض عليّ أعمالا جليلة فامتنعت عنها، فزوّدوني بجهاز وخلع، وكان الأمر على ما ذكره أبو نصر ابن أبي حية.
قال: وسمعت أبا عبد الله ابن أبي ذهل يقول: قال لي الوزير أبو جعفر أحمد بن الحسين العتبي: لما أجلسني الأمير الرشيد هذا المجلس نظرت إلى جميع أهل خراسان ممن يؤهل للجلوس معي في مجلس السلطان- أيده الله- فلم أجد فيهم أجلّ من أبي العباس ابن ميكال، فسألت السلطان استحضاره، فلما حضر امتنع من تقلّد العمل، فقلت له: ديوان الرسائل هو قضاء القضاة أمر منوط بالعلم والعلماء، فتقلد ديوان الرسائل، فصار جليسي في مجلس السلطان، وكان على كره من أبي العباس.
قال: وسمعت أبا يحيى حماد بن الحمادي يقول: لما قلد أبو العباس ابن ميكال أمر أن يغير زيه من التعمّم تحت الحنك والرداء وغير ذلك فلم يفعل، وراجع(2/723)
السلطان فيه حتى أذن فيه، فكان يجلس في الديوان متطلّسا متعمما تحت الحنكة.
قال: وسمعت قاضي القضاة أبا الحسن محمد بن صالح الهاشمي يذكر آثار الميكالية ببغداد، ويصف إنشاء ابن ميكال، فوصف له بعض أحوالهم بخراسان فقال: آثارهم عندنا بالعراق أكثر منها بخراسان لأنهم ناقلة من عندنا إلى خراسان.
[244]
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي ذؤيب السدّي الأعور
، وقيل عبد الرحمن بن أبي كريمة، مولى زينب بنت قيس بن مخرمة من بني عبد مناف: حجازي الأصل سكن الكوفة، مات سنة سبع وعشرين ومائة في أيام بني أمية في ولاية مروان بن محمد. روى عن أنس بن مالك وعبد خير «1» وأبي صالح «2» ورأى ابن عمر. وهو السدّي الكبير، وكان ثقة مأمونا. روى عنه الثوري وشعبة «3» وزائدة «4» وسماك بن حرب وإسماعيل بن أبي جذيمة وسليمان التيمي «5» . وكان ابن أبي خالد إسماعيل يقول: السديّ أعلم بالقرآن من الشعبي.
وقال أبو بكر ابن مردويه الحافظ: إسماعيل بن عبد الرحمن السدي يكنى أبا محمد، صاحب التفسير، إنما سمّي السدي لأنه نزل بالسدة، كان أبوه من كبار أهل أصبهان، أدرك جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم منهم: سعد بن أبي وقاص وأبو
__________
[244]- ترجمة السدّي الكبير في طبقات ابن سعد 6: 323 وتاريخ البخاري 1: 360 والجرح والتعديل 2؛ 184 وتاريخ الذهبي 5: 43 وسير الذهبي 5: 264 وتهذيب التهذيب 1: 313 وطبقات المفسرين 1: 109 والوافي 9: 142.(2/724)
سعيد الخدري وابن عمر وأبو هريرة وابن عباس. وقال غيره: نسب السدّي إلى بيع الخمر- يعني المقانع- في سدة الجامع- يعني باب الجامع. وقال الفلكي: إنما سمّي السدي لأنه كان يجلس بالمدينة في موضع يقال له السّدّ.
وكان شريك يقول: ما ندمت على رجل لقيته أن لا أكون كتبت كلّ شيء لفظ به الا السدّي. قال يحيى بن سعيد: ما سمعت أحدا يذكر السدّيّ إلا بخير.
ومحمد بن مروان بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الرحمن السدي «1» من أهل الكوفة، يروي عن الكلبي صاحب التفسير وداود بن أبي هند وهشام بن عروة، روى عنه ابنه علي ويوسف بن عديّ والعلاء بن عمرو وأبو إبراهيم الترجماني وغيرهم، وهو السدي الصغير. وكان يحيى بن معين يقول: السدي الصغير محمد بن مروان صاحب التفسير ليس بثقة. وقال البخاري: محمد بن مروان الكوفي صاحب الكلبيّ لا يكتب حديثه ألبتة. وسئل أبو علي صالح جزرة «2» عنه فقال: كان ضعيفا وكان يضع الحديث، وكلّ ضعّفه.
وذكر الحافظ أبو نعيم في «تاريخ أصبهان» «3» من تصنيفه قال: إسماعيل بن عبد الرحمن الأعور يعرف بالسدّي صاحب التفسير، كان أبوه عبد الرحمن يكنى أبا كريمة «4» من عظماء أهل أصبهان، توفي في ولاية مروان، وذكر كما تقدم «5» ، وكان عريض اللحية إذا جلس غطى لحيته صدره، قيل إنه رأى سعد بن أبي وقاص.
وقال أبو نعيم باسناده: إن السدّي قال: هذا التفسير أخذته عن ابن عباس، فإن كان صوابا فهو قاله، وان كان خطأ فهو قاله. قال أبو نعيم فيما رفعه إلى السدي أنه قال: رأيت نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم منهم: أبو سعيد الخدري وأبو هريرة وابن عمر، كانوا يرون أنه ليس أحد منهم على الحال التي فارق عليها محمدا إلا عبد الله بن عمر.(2/725)
[245]
إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن إسماعيل
بن إبراهيم بن عامر بن عابد، أبو عثمان الصابوني: مات في ثالث محرم سنة تسع وأربعين وأربعمائة. قال عبد الغافر: هو الاستاذ الإمام شيخ الاسلام أبو عثمان الصابوني الخطيب المفسر المحدث الواعظ، أوحد وقته في طريقته، وكان أكثر أهل العصر من المشايخ سماعا وحفظا ونشرا لمسموعاته وتصنيفاته وجمعا وتحريضا على السماع وإقامة لمجالس الحديث. سمع الحديث بنيسابور من أبي العباس البالوني «1» وأبي سعيد [محمد بن الحسين بن موسى] السمسار، وبهراة من أبي بكر أحمد بن إبراهيم القرّاب «2» وأبي معاذ شاه بن عبد الرحمن «3» وسمع بالشام والحجاز ودخل معرة النعمان فلقي بها أبا العلاء أحمد بن سليمان، وسمع بالجبال وغيرها من البلاد، وحدّث بنيسابور وخراسان إلى غزنة وبلاد الهند وجرجان وآمل وطبرستان وبالشام وبيت المقدس والحجاز. روى عنه أبو عبد الله القارىء وأبو صالح المؤذن.
ومن «تاريخ دمشق» ان الصابوني وعظ للناس ستين «4» سنة، قال: وله شعر منه «5» :
ما لي أرى الدهر لا يسخو بذي كرم ... ولا يجود بمعوان ومفضال
ولا أرى أحدا في الناس مشتريا ... حسن الثناء بانعام وإفضال
صاروا سواسية في لؤمهم شرعا ... كأنما نسجوا فيه بمنوال
__________
[245]- ترجمته في السياق (المنتخب 2) : 38 ومصورة ابن عساكر 2: 855 وتهذيبه 3: 30 والوافي 9: 143 (ويعتمد ياقوت على السياق وتاريخ دمشق) .(2/726)
وذكر من فضله كثيرا ثم قال: ومولده ببوشنج للنصف من جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، وذكر وفاته كما تقدم.
[246]
إسماعيل بن علي بن إسماعيل بن يحيى بن بنان الخطبي
أبو محمد: سمع الحارث بن أبي أسامة والكديمي «1» وعبد الله بن أحمد «2» وغيرهم. وروى عنه الدارقطني وابن شاهين وابن رزقويه، وكان ثقة فاضلا نبيلا فهما عارفا بأيام الناس وأخبار الخلفاء، وصنف تاريخا كبيرا على ترتيب السنين، وكان عالما بالأدب ركينا عاقلا ذا رأي ويتحرّى الصدق. ولد الخطبي في محرم سنة تسع وتسعين ومائتين ومات في جمادى الآخرة سنة خمسين وثلاثمائة في خلافة المطيع لله.
حدث الخطيب قال «3» : سمعت الأزهري يقول: جاء أبو بكر ابن مجاهد وإسماعيل الخطبي إلى منزل أبي عبد الصمد الهاشمي فقدم إسماعيل أبا بكر، فتأخر أبو بكر وقدّم إسماعيل، فلما استأذن إسماعيل أذن له فقال له: أدخل ومن أنا معه «4» ؟
وحدث عن [أبي] الحسن ابن رزقويه عن إسماعيل الخطبي قال: وجّه إليّ الراضي بالله ليلة عيد فطر فحملت إليه راكبا بغلة، فدخلت عليه وهو جالس في الشموع، فقال لي: يا إسماعيل إني قد عزمت في غد على الصلاة بالناس في المصلّى فما أقول إذا انتهيت في الخطبة إلى الدعاء لنفسي؟ قال: فأطرقت ثم قلت:
__________
[246]- ترجمة الخطبي في المنتظم 7: 3 وتاريخ بغداد 6: 304 (وفي نسبه: بيان بدل بنان) وطبقات الحنابلة 2: 118 والوافي 9: 160 وسير الذهبي 15: 522 والشذرات 3: 3 والنجوم الزاهرة 3: 328.(2/727)
يقول أمير المؤمنين: رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين
(النمل: 19) فقال:
حسبك، ثم أمرني بالانصراف وأتبعني بخادم فدفع إليّ خريطة فيها أربعمائة دينار وكانت الدنانير خمسمائة فأخذ الخادم منها لنفسه مائة، [أو] كما قال.
[247]
إسماعيل بن علي الحظيري
-[والحظيرة] من أعمال دجيل ثم من ناحية نهر تاب-: كان فاضلا متميزا لسنا ذا بلاغة وبراعة، وله في ذلك تصانيف معروفة متداولة، إلا أنّ الخمول كان عليه غالبا. قدم بغداد، وقرأ الأدب على أبي محمد إسماعيل بن أبي منصور موهوب بن الخضر الجواليقي وعلى أبي البركات عبد الرحمن بن الأنباري وعلى علي بن عبد الرحمن السلمي بن العصار، وأدرك ابن الخشاب أبا محمد وأخذ عنه علما جما، وقرأ على أبي الغنائم ابن حبشي، وكان ورعا زاهدا تقيا، رحل إلى الموصل وأقام بها في دار الحديث عدة سنين، ثم اشتاق إلى وطنه فرجع إلى بغداد فمات بها في صفر سنة ثلاث وستمائة. وله تصانيف ورسائل مدوّنة وخطب وديوان شعر وكتاب جيّد في علم القراءة، رأيته. ومن شعره:
لا عالم يبقى ولا جاهل ... ولا نبيه لا ولا خامل
على سبيل مهيع لاحب ... يودي أخو اليقظة والغافل
__________
[247]- ترجمته في الغصون اليانعة: 76 والوافي 9: 163 وبغية الوعاة 1: 452 وفي الجامع المختصر لابن الساعي: 209 أنه إسماعيل بن علي بن محمد بن مواهب (وسماه في الغصون: إسماعيل بن مواهب) .(2/728)
[248]
إسماعيل بن عيسى بن العطار أبو إسحاق:
من أهل السير، بغدادي روى عنه الحسن بن علويه. ذكره محمد بن اسحاق النديم وقال: له من الكتب كتاب المبتدأ
. [249]
اسماعيل بن القاسم بن عيذون بن هارون بن عيسى
بن محمد بن سليمان المعروف بالقالي، أبو علي البغدادي مولى عبد الملك بن مروان: ولد بمنازجرد «1» من ديار بكر، ودخل بغداد سنة ثلاث وثلاثمائة وأقام بها إلى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة، مات بقرطبة في ربيع الآخر سنة ست وخمسين وثلاثمائة ومولده في سنة ثمانين ومائتين، وفي أيام الحكم المستنصر كانت وفاته. سمع من أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي وأبي سعيد الحسين «2» بن علي بن زكرياء بن يحيى بن صالح بن عاصم بن زفر العدوي وأبي بكر عبد الله بن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني، وقرأ على أبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن السراج وأبي عبد الله نفطويه وأبي إسحاق الزجاج وأبي الحسن علي بن سليمان الأخفش وأبي عمر الزاهد، وقرأ كتاب سيبويه على ابن درستويه «3» وسأله عنه حرفا حرفا. وأما نسبته فإنه منسوب
__________
[248]- ذكره ابن النديم في الفهرست: 122 وذكر له كتبا أخرى هي كتاب حفر زمزم. كتاب الردة. كتاب الفتوح. كتاب الجمل. كتاب صفين. كتاب الألوية. كتاب الفتن.
[249]- ترجمة القالي في طبقات الزبيدي: 185- 186 وجذوة المقتبس: 155 (بغية الملتمس رقم: 547) .
وتاريخ ابن الفرضي 1: 83 وإنباه الرواة 1: 204 وابن خلكان 1: 226 وسير الذهبيّ 16: 45 والوافي 9: 190 وبغية الوعاة 1: 453 ونفح الطيب 3: 70 والشذرات 3: 18 ومرآة الجنان 2: 359 والمقفى 2: 107. وانظر مقدمة السمط، وفي فهرسة ابن خير: 395 ثبت بأسماء الكتب التي أدخلها الى الأندلس.(2/729)
إلى قالي قلا، بلد من أعمال أرمينية. قال القالي «1» . لما دخلت [بغداد] انتسبت إلى قالي قلا رجاء الانتفاع بذلك لأنها ثغر من ثغور المسلمين لا يزال بها المرابطون.
فلما تأدّب ببغداد ورأى أنه لا حظّ له بالعراق قصد بلاد الغرب، فوافاها في أيام المتلقب بالحكم المستنصر «2» بالله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف- قالوا: وهذا أول من دعي من هؤلاء بالغرب أمير المؤمنين «3» ، إنما كان المتولون قبله يدعون ببني الخلائف-. فوفد القالي إلى الغرب في سنة ثلاثين وثلاثمائة، فأكرمه صاحب الغرب وأفضل عليه إفضالا عمّه، وانقطع هناك بقية عمره، وهناك أملى كتبه أكثرها عن ظهر قلب: منها كتاب الأمالي، معروف بيد الناس كثير الفوائد غاية في معناه؛ قال أبو محمد ابن حزم: كتاب نوادر أبي علي مبار للكتاب «الكامل» الذي جمعه المبرد، ولئن كان كتاب أبي العباس أكثر نحوا وخبرا فإن كتاب أبي علي أكثر لغة وشعرا. وكتاب الممدود والمقصور رتّبه على التفعيل ومخارج الحروف من الحلق، مستقصى في بابه لا يشذّ منه شيء في معناه، لم يوضع مثله. وكتاب الإبل ونتاجها وما تصرف معها. وكتاب حلي الانسان والخيل وشياتها. وكتاب فعلت وأفعلت. كتاب مقاتل الفرسان. كتاب تفسير السبع الطوال. كتاب البارع في اللغة على حروف المعجم، جمع فيه كتب اللغة، يشتمل على ثلاثة آلاف ورقة، قال الزبيدي «4» : ولا نعلم أحدا من المتقدمين ألّف مثله. قرأت بخط أبي بكر محمد بن طرخان بن الحكم قال الشيخ الإمام أبو محمد [ابن] العربي: كتاب البارع لأبي علي القالي يحتوي على مائة مجلد لم يصنّف مثله في الإحاطة والاستيعاب؛ إلى كتب كثيرة ارتجلها وأملاها عن ظهر قلب كلها. قال الحميدي «5» : وممن روى عن القالي(2/730)
أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي صاحب كتاب «مختصر العين» و «أخبار النحويين» وكان حينئذ إماما في الأدب، ولكن عرف فضل أبي علي فمال إليه واختصّ به واستفاد منه وأقرّ له.
قال الحميدي «1» : وكان أقام ببغداد خمسا وعشرين سنة ثم خرج منها قاصدا إلى المغرب سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ووصل إلى الأندلس في سنة ثلاثين وثلاثمائة في أيام عبد الرحمن الناصر، وكان ابنه الأمير أبو العاص الحكم بن عبد الرحمن من أحبّ ملوك الأندلس للعلم وأكثرهم اشتغالا به وحرصا عليه، فتلقاه بالجميل وحظي عنده وقرب منه وبالغ في إكرامه، ويقال إنه هو الذي كتب إليه ورغّبه في الوفود عليه.
واستوطن قرطبة ونشر علمه بها.
قال «2» : وكان إماما في علم العربية متقدما فيها متقنا لها، فاستفاد الناس منه وعوّلوا عليه، واتخذوه حجة فيما نقلوه. وكانت كتبه على غاية التقييد والضبط والاتقان. وقد ألّف في علمه الذي اختصّ به تآليف مشهورة تدلّ على سعة علمه وروايته. وحدّث عنه جماعة منهم أبو محمد عبد الله بن الربيع بن عبد الله التميمي، ولعله آخر من حدث عنه، وأحمد بن أبان بن سيد، والزبيدي كما ذكرنا آنفا. قال:
وكان أعلم الناس بنحو البصريين وأرواهم للشعر مع اللغة.
قال الزبيدي «3» : وسألته لم قيل له القالي فقال: لما انحدرنا إلى بغداد كنّا في رفقة فيها أهل قالي قلا، وهي قرية من قرى منازجرد، وكانوا يكرمون لمكانهم من الثغر، فلما دخلت بغداد نسبت إليهم لكوني معهم، وثبت ذلك عليّ.
قال الحميدي «4» : وكان الحكم المستنصر قبل ولايته الأمور وبعد أن صارت إليه يبعثه على التأليف، وينشطه بواسع العطاء، ويشرح صدره بالإجزال في الإكرام.
... وكانوا يسمونه بالبغدادي لكثرة مقامه [بها] ووصوله إليهم منها.
قال السلفي بإسناد له: أخبرنا القاضي أبو الحكم منذر بن سعيد البلوطي قال:(2/731)
كتبت إلى أبي علي البغدادي القالي أستعير منه كتابا من «الغريب» وقلت:
بحقّ ريم مهفهف ... وصدغه المتعطّف
ابعث إليّ بجزء ... من «الغريب المصنّف»
قال فأجابني وقضى حاجتي:
وحقّ درّ تألّف ... بفيك أيّ تألّف
لأبعثن بما قد ... حوى الغريب المصنف
ولو بعثت بنفسي ... إليك ما كنت أسرف
[250]
إسماعيل بن محمد بن إسماعيل بن صالح بن عبد الرحمن
الصفار أبو علي: علامة بالنحو واللغة، مذكور بالثقة والأمانة، صحب المبرد صحبة اشتهر بها وروى عنه، وسمع الكثير وروى الكثير، أدركه الدارقطني وقال: هو ثقة، صام أربعة وثمانين رمضان، وكان متعصّبا للسنة، مات فيما ذكره الخطيب سنة إحدى وأربعين وثلاثمائة ومولده سنة تسع وأربعين ومائتين، ودفن مقابل «1» قبر معروف الكرخي، بينهما عرض الطريق، دون قبر أبي بكر الأدمي وأبي عمر الزاهد. قال أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني: أنشدني الصفار لنفسه:
إذا زرتكم لقّيت أهلا ومرحبا ... وإن غبت حولا لا أرى منكم رسلا
وإن جئت لم أعدم ألا قد جفوتنا ... وقد كنت زوّارا فما بالنا نقلى
أفي الحقّ أن أرضى بذلك منكم ... بل الضيم أن أرضى بذا منكم فعلا
ولكنّني أعطي صفاء مودّتي ... لمن لا يرى يوما عليّ له فضلا
__________
[250]- ترجمته في تاريخ بغداد 6: 302- 304 والمنتظم 6: 371 وإنباه الرواة 1: 211 ونزهة الألباء: 195 والبداية والنهاية 11: 226 وسير الذهبي 15: 440 وعبر الذهبي 1: 256 والوافي 9: 204 وبغية الوعاة 1: 454 والشذرات 2: 358 والنجوم الزاهرة 3: 309.(2/732)
واستعمل الانصاف في الناس كلهم ... فلا أصل الجافي ولا أقطع الحبلا
وأخضع لله الذي هو خالقي ... ولن أعطي المخلوق من نفسي الذلّا
[251]
إسماعيل بن محمد بن أحمد الوثّابي أبو طاهر:
من أهل أصبهان، له معرفة تامّة بالأدب وطبع جواد بالشعر مات في سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
قال السمعاني- ومن خطّه نقلت: ما رأيت بأصفهان في صنعة الشعر والترسّل أفضل منه، أضرّ في آخر عمره وافتقر، وظهر الخلل في أحواله حتى كاد أن يختلط.
دخلت عليه داره بأصفهان، وما رأيت أسرع بديهة منه في النظم والنثر، اقترحت عليه رسالة فقال لي: خذ القلم واكتب، وأملى عليّ في الحال بلا تروّ ولا تفكّر كأحسن ما يكون، إلّا أني سمعت الناس يقولون إنه يخل بالصلوات المفروضة، والله أعلم بحاله.
وأنشد عنه السمعاني أشعارا له منها:
أشاعوا فقالوا وقفة ووداع ... وزمّت مطايا للرحيل سراع
فقلت وداع لا أطيق عيانه ... كفاني من البين المشتّ سماع
ولم يملك الكتمان قلب ملكته ... وعند النوى سرّ الكتوم مذاع
وأنشد عنه له:
فو الله لا أنسى مدى الدهر قولها ... ونحن على حدّ الوداع وقوف
وللنار من تحت الضلوع تلهّب ... وللماء من فوق الخدود وكيف
ألا قاتل الله الصروف فإنما ... تفرّق بين الصاحبين صروف
وأنشد له عنه أيضا:
طابت لعمري على الهجران ذكراها ... كأنّ نفسي ترى الحرمان إكراها «1»
__________
[251]- ترجمة الوثابي في الوافي 9: 205.(2/733)
تحيا بيأس وتفنيها طماعية ... هل مهجة برد يأس الوصل أحياها
قامت لها دون دعوى الحبّ بيّنة ... بشاهدين أبانا صدق دعواها
إرسال شكوى وإجراء الدموع معا ... وإن تحققت مجراها ومرساها
وأنشد عنه له من قصيدة:
فعج صاح بالعوج الطّلاح إلى الحمى ... وزر أثلات القاع طال بها العهد
تعوّض عينا بعد عين أوانسا ... وتوحش أحشاء تضمّنها الوجد
وما ساءني وجد ولا ضرّني هوى ... كما ساءني هجر تعقّبه صدّ
تبصّر خليلي من ثنيّة بارق ... بريقا كسقط النار عالجه الزند
يدقّ وأحيانا يرقّ ويرتقي ... ويخفى كرأي الغمر امضاؤه ردّ
فتقضى بها من ذكر حزوى لبانة ... ويطفى بها من نار وجد بها وقد
وإن كان عهد الوصل أضحى نسيئة ... فهاك دليل البرق أن عهده نقد
وشم لي نسيم الريح من أفق الحمى ... فقد عبق الوادي وفاح بها الرند
[252]
إسماعيل بن محمد بن عبدوس الدهان، أبو محمد النيسابوري
: أنفق ماله على الأدب فتقدّم فيه، وبرع في علم اللغة والنحو العروض، وأخذ عن إسماعيل بن حماد الجوهري فاستكثر منه، وحصّل كتابه «كتاب الصحاح» في اللغة بخطّه، واختص بالأمير أبي الفضل الميكالي ومدحه وأباه بشعر كثير ثم آثر «1» الزهد والإعراض عن أعراض الدنيا، وقال لما أزمع الحج والزيارة:
أتيتك راجلا «2» ووددت أني ... ملكت سواد عيني أمتطيه
وما لي لا أسير على المآقي ... إلى قبر رسول الله فيه
__________
[252]- ترجمته في الوافي 9: 206.(2/734)
وله أيضا:
أيا خير مبعوث إلى [خير] أمة ... نصحت وبلّغت الرسالة والوحيا
فلو كان في الإمكان سعي بمقلتي ... إليك رسول الله أفنيتها سعيا
وله أيضا:
عبد عصى ربّه ولكن ... « [ليس] سوى واحد» يقول
إن لم يكن فعله جميلا ... فإنما ظنّه جميل
وقال لصديق له:
نصحتك يا أبا إسحاق فاقبل ... فإني ناصح لك ذو صداقه
تعلّم ما بدا لك من علوم ... فما الإدبار إلّا في الوراقه
قال: وسألني أن أورد شيئا من أشعاره في الغزل والمديح في كتابي هذا، فانتهيت في ذلك إلى رواية [ ... ] «1» .
[253]
إسماعيل بن محمد القمي النحوي:
ذكره ابن النديم فقال: له من التصانيف كتاب الهمز. كتاب العلل.
[254]
إسماعيل بن محمد بن عامر بن حبيب أبو الوليد «2»
الكاتب باشبيلية: له ولأبيه قدم في الأدب وله شعر كثير يقوله بفضل أدبه، وله كتاب في فصل الربيع. مات
__________
[253]- الفهرست: 93 والوافي 9: 207.
[254]- ترجمته في جذوة المقتبس: 152 (بغية الملتمس رقم: 534) والذخيرة 2/1: 124 والتكملة:
180 والمغرب 1: 245 والنفح 3: 427 ومسالك الأبصار 11: 215 والوافي 9: 209 وكتابه «البديع في فصل الربيع» نشره هنري بيريس في الرباط: 1940.(2/735)
أبو الوليد ابن محمد بن عامر قريبا من سنة أربعين وأربعمائة با شبيلية؛ ومن شعره في الربيع:
أبشر فقد سفر الثرى عن بشره ... وأتاك ينشر ما طوى من نشره
متحصّنا من حسنه في معقل ... عقل العيون على رعاية زهره
فضّ الربيع ختامه فبدا لنا ... ما كان من سرّائه في سرّه
من بعد ما سحب السحاب ذيوله ... فيه ودرّ عليه أنفس درّه
[فاشكر لآذار بدائع ما ترى ... من حسن منظره النضير وخبره]
شهر كأنّ الحاجب ابن محمد ... ألقى عليه مسحة من بشره
[255]
إسماعيل بن مجمع الأخباري
: ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو أحد أصحاب السير والأخبار، ومعروف بصحبة الواقديّ المختصّ به، مات سنة سبع وعشرين ومائتين. له من التصنيف كتاب أخبار النبي صلى الله عليه وسلّم ومغازيه وسراياه.
[256]
إسماعيل بن موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر بن الجواليقي
: يكنى أبا محمد، كان إمام أهل الأدب بعد أبيه أبي منصور بالعراق، واختص بتأديب ولد الخلفاء، مات في شوال سنة خمس وسبعين وخمسمائة، وكان مليح الخطّ جيّد الضبط، يشبه خطّه خطّ والده، وكانت له معرفة حسنة باللغة والأدب، وكانت له حلقة بجامع القصر يقرىء فيها الأدب كلّ جمعة. سمع منه ابن الأخضر وابن حمدون
__________
[255]- الفهرست: 112 والوافي 9: 195.
[256) - ترجمة ابن الجواليقي في إنباه الرواة 1: 210 وذيل طبقات الحنابلة 1: 346 وتاريخ الدبيثي: 250 والوافي 9: 230 وبغية الوعاة 1: 457 والشذرات 4: 249.(2/736)
الحسن تاج الدين «1» وغيرهما، ومولده في شعبان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة، وكان بينه وبين أخيه إسحاق في المولد سنة ونصف وفي الوفاة ثلاثة أشهر.
حدثت أن أبا الحسن جعفر بن محمد بن فطيرا ناظر واسط والبصرة وما بينهما من تلك النواحي دخل يوما إلى بعض الوزراء في أيام المستضيء بالله- سقى الله عهوده صوب الرضوان- فرأى في مجلسه الذي كان يجلسه رجلا لم يعرفه فهابه، وجلس بين يدي الوزير، وكان ابن فطيرا معروفا بالمزاح والنادرة، فتقدم حتى قال للوزير مسارّا:
يا مولانا من هذا الذي قد جلس في مجلسي؟ فقال: هذا الشيخ الإمام أبو محمد ابن الجواليقي. فقال: وأيّ أرباب المناصب هو؟ قال: ليس هو من أرباب المناصب، هذا هو الإمام الذي يصلّي بأمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه؛ قال: فقام مبادرا وأخذ بيده وأزاحه عن موضعه وجلس في منصبه وقال له: أيها الشيخ أنت ينبغي أن تتشامخ أمام الوزير «2» ومن دونه فتجلس فوقهم، لأنك أعلى منه منزلة، فأما عليّ أنا، وأنا ناظر واسط والبصرة وما بينهما فلا، قال: فما تمالك أهل المجلس من الضحك أن يمسكوه.
[257]
إسماعيل بن أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي
: نذكر نسبه وولادته في ترجمة أبيه يحيى «3» إن شاء الله تعالى وحده؛ وكان إسماعيل أحد الأدباء الرواة الفضلاء من ولد أبيه، وكان شاعرا مصنفا صنّف «كتاب طبقات الشعراء» . فنقلت من خطّ عمر بن محمد بن سيف الكاتب، أنشدنا اليزيدي أبو عبد الله يعني محمد بن العباس بن محمد بن أبي محمد بعد فراغه من «كتاب الوحوش» لعم أبيه إسماعيل بن
__________
[257]- ترجمته في تاريخ بغداد 6: 283 وإنباه الرواة 1: 213 وأنساب السمعاني (اليزيدي) والوافي 9: 240 وانظر شعر اليزيديين: 149- 153.(2/737)
أبي محمد اليزيدي:
كلّما رابني من الدهر ريب ... فاتكالي عليك يا ربّ فيه
إنّ من كان ليس يدري أفي ... المحبوب صنع له أو المكروه
لحريّ بأن يفوّض ما يعجز ... عنه إلى الذي يكفيه
الإله البرّ الذي هو في الرأفة ... أحنى من أمّه وأبيه
قعدت بي الذنوب أستغفر الله ... لها مخلصا وأستوفيه «1»
كم يوالي لنا الكرامة و ... النعمة من فضله وكم نعصيه
ومن شعره عن المرزباني:
أتت ثمانون فاستمرّت ... بالنقص من قوتي وعزمي
فرقّ جلدي ودقّ عظمي ... واختلّ بعد التمام جسمي
يا ليت أني صحبت دهري ... صحبة ذي تهمة وحزم
من لم يكن عاملا «2» بعلم ... رواه لم ينتفع بعلم
وقال يرثي علي بن يحيى المنجم ومات علي في سنة خمس وسبعين وثلاثمائة:
مات السماح ومات الجود والكرم ... إذ ضمّ شخص عليّ ذلك الرجم «3»
سقّيت من جدث أنبل «4» بساكنه ... غيثا ملثّا توالي صوبه الديم
عادت لنا بعدك الأيام مظلمة ... وكنت ضوءا لها تجلى به الظلم
كان الزمان فتيا مشرقا نضرا «5» ... فاليوم أخلقه من بعدك الهرم
قد كنت للخلق في حاجاتهم علما ... يفرّج الهمّ عنهم ذلك العلم(2/738)
[258]
الأغر أبو الحسن
: ذكره أبو بكر الزبيدي في نحاة مصر وقال: أخذ عن أبي الحسن علي بن حمزة الكسائي، ولقيه قوم من أهل الأندلس وحملوا عنه في سنة سبع وعشرين ومائتين.
[259]
أمان بن الصمصامة بن الطرماح بن حكيم بن الحكم
بن نفر بن قيس بن جحدر بن ثعلبة بن عبد رضا بن مالك بن أمان بن عمرو بن ربيعة بن جرول بن ثعل بن عمرو بن الغوث أبي طيء، والطرماح الشاعر المشهور، ويكنى أمان هذا أبا مالك، واطّرحه ابن الأغلب إذ صار إليه الأمر لهجاء جدّه الطرماح بني تميم.
قال أبو الوليد المهري «1» : أبطأت على أبي مالك وكان مريضا فكتب إليّ:
أبلغ المهريّ عني مألكا ... أن دائي قد أصار المخّ ريرا
كنت في المرضى مريضا مطلقا ... ولقد أصبحت في المرضى أسيرا
فإذا ما متّ فانعم سالما ... وتملّ العيش في الدنيا كثيرا
وأخذ عنه المهري جزءا من النحو واللغة والشعر.
__________
[258]- طبقات الزبيدي: 213 (وكتب فيه الأعزّ) ؛ وقال الصفدي (الوافي 9: 294) إن الأعز النحوي اسمه يحيى؛ وترك السيوطي (بغية الوعاة 2: 346) موضع ترجمته بياضا، فكأنه لم يجد له ترجمة.
[259]- ترجمته في طبقات الزبيدي: 225 والوافي 9: 380.(2/739)
[260]
أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت، أبو الصلت
: من أهل الأندلس كان أديبا فاضلا حكيما منجما، مات في سنة تسع وعشرين وخمسمائة في المحرم بالمهدية من بلاد القيروان، وهو صاحب فصاحة بارعة وعلم بالنجوم والطب، وكان قد ورد إلى مصر في أيام المسمّى بالآمر من ملوك مصر، واتصل بوزيره ومدبّر دولته الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر، واشتمل عليه رجل من خواصّ الأفضل يعرف بمختار ويلقب بتاج المعالي، وكانت منزلته عند الأفضل عالية، ومكانته منه بالسعد حالية، فيحسنت حال أمية عنده، وقرب من قلبه وخدمه بصناعتي الطب والنجوم، وأنس تاج المعالي منه بالفضل الذي لا يشاركه فيه أحد من أهل عصره، فوصفه بحضرة الأفضل وأثنى عليه، وذكر ما سمعه من أعيان أهل العلم وإجماعهم على تقدمه في الفضل وتميزه عن كتّاب وقته. وكان كاتب حضرة الأفضل يومئذ رجل قد حمى هذا الباب، ومنع من أن يمرّ بمجلسه ذكر أحد من أهل العلم بالأدب، إلا أنه لم يتمكن من معارضة قول تاج المعالي، فأغضى على قذى، وأضمر لأبي الصلت المكروه، وتتابعت من تاج المعالي سقطات «1» أفضت إلى تغيّر الأفضل والقبض عليه والاعتقال، فوجد حينئذ السبيل إلى أبي الصلت بما اختلق له من المحال، فحبسه الأفضل في سجن المعونة بمصر مدة ثلاث سنين وشهر واحد على ما أخبرني به الثقة عنه «2» ، ثم أطلق فقصد المرتضى أبا طاهر يحيى بن تميم بن المعز بن باديس صاحب القيروان، فحظي عنده وحسن حاله معه. وقد ذكر ذلك في رسالة له يذمّ فيها مصر ويصف
__________
[260]- ترجمة أمية في تحفة القادم (دار الغرب الإسلامي) 9- 13 والمغرب 1: 256 وخريدة القصر (قسم المغرب) 1: 223- 343 وتاريخ الحكماء: 80 وعيون الانباء 2: 52- 62 وابن خلكان 1: 243 والوافي 9: 402 ونفح الطيب 2: 105 والمقفى 2: 297. وقد أفرد ديوانه بالجمع الأستاذ محمد المرزوقي، تونس 1974.(2/740)
حاله، ويثني على ابن باديس، واستشهد فيها بهذه الأبيات في وصف ابن باديس «1» :
فلم أستسغ إلا نداه ولم يكن ... ليعدل عندي ذا الجناب جناب
فما كلّ إنعام يخفّ احتماله ... وإن هملت منه عليّ سحاب
ولكن أجلّ الصنع ما جلّ ربّه ... ولم يأت باب دونه وحجاب
«وما شئت إلا أن أدلّ عواذلي ... على أن رأيي في هواك صواب»
«وأعلم قوما خالفوني وشرّقوا ... وغرّبت أني قد ظفرت وخابوا»
ومن شعره أيضا «2» :
لا غرو أن لحقت لهاك مدائحي ... فتدفقت نعماك ملء إنائها
يكسى القضيب ولم يحن إبّانه ... وتطوّق الورقاء قبل غنائها
ومنه يرثي «3» :
قد كنت جارك والأيام ترهبني ... ولست أرهب غير الله من أحد
فنافستني الليالي فيك ظالمة ... وما حسبت الليالي من ذوي الحسد
ولأبي الصلت من التصانيف: كتاب الأدوية المفردة. كتاب تقويم الذهن في المنطق. كتاب الرسالة المصرية. كتاب ديوان شعره كبير. كتاب رسالة عمل بالاسطرلاب. كتاب الديباجة في مفاخر صنهاجة. كتاب ديوان رسائل. كتاب الحديقة في مختار من أشعار المحدثين.
ومن شعر أمية منقولا من «كتاب سر السرور» «4» :
حسبي فقد بعدت في الغيّ أشواطي ... وطال في اللهو إيغالي وإفراطي
أنفقت في اللهو عمري غير متّعظ ... وجدت فيه بوفري غير محتاط(2/741)
فكيف أخلص من بحر الذنوب وقد ... غرقت فيه على بعد من الشاطي
يا ربّ ما لي لا أرجو رضاك به ... إلا اعترافي بأني المذنب الخاطي
ومنه أيضا «1» :
لله يومي ببركة الحبش ... والصبح بين الضياء والغبش
والنيل تحت الرياح مضطرب ... كقائم في يمين مرتعش «2»
ونحن في روضة مفوّفة ... دبّج بالنور عطفها ووشي
قد نسجتها يد الربيع لنا ... فنحن من نسجها على فرش
وأثقل الناس كلّهم رجل ... دعاه داعي الهوى فلم يطش
فعاطني الراح إنّ تاركها ... من سورة الهمّ غير منتعش
وسقّني بالكبار مترعة ... فهنّ أشفى لشدة العطش
قال محمد بن محمود: حدثني طلحة أن أبا الصلت اجتمع في بعض متنزهات مصر مع وجوه أفاضلها، ومعهم صبيّ «3» صبيح الوجه عديم الشبه، قد نقّط نون صدغه على صفحة خدّه، فاستوصفوه إياه، فقال «4» :
منفرد بالحسن والظّرف ... بحت لديه بالذي أخفي
لهفي بشكر وهو من تيهه ... في غفلة عني وعن لهفي
قد عوقبت أجفانه بالضنا ... لأنها أضنت ولم تشف
قد أزهر الورد على خدّه ... لكنه ممتنع القطف
كأنما الخال به نقطة ... قد قطرت من كحل الطّرف
قال: وحدثني أبو عبد الله الشامي، وكان قد درس عليه واقتبس ما لديه، أن الأفضل كان قد تغير عليه وحبسه بالاسكندرية في دار كتب الحكيم أرسطاطاليس،(2/742)
قال: وكنت أختلف إليه إذ ذاك، فدخلت إليه يوما فصادفته مطرقا، فلم يرفع رأسه إليّ على العادة، فسألته فلم يردّ الجواب، ثم قال بعد ساعة: اكتب، وأنشدني «1» :
قد كان لي سبب قد كنت أحسب أن ... أحظى به فإذا دائي من السبب
فما مقلّم أظفاري سوى قلمي ... ولا كتائب أعدائي سوى كتبي
فكتبت، وسألته عن ذلك فقال: إن فلانا تلميذي قد طعن فيّ عند الأمير الأفضل، ثم رفع رأسه إلى السماء واغرورقت عيناه دمعا ودعا عليه، فلم يحل الحول حتى استجيب له.
وأنشدني الشيخ سليمان بن الفياض الاسكندراني، وكان ممن درس عليه واختلف إليه، في صفة فرس «2» :
صفراء إلّا حجول مؤخرها ... فهي مدام ورسغها زبد
تعطيك مجهودها فراهتها ... في الحضر والحضر عندها وتد
وأنشدني له يهجو وما هو من صناعته «3» :
صاف ومولاته وسيّده ... حدود شكل القياس مجموعه
فالشيخ فوق الاثنين مرتفع ... والستّ تحت الاثنين موضوعه
والشيخ محمول ذي وحامل ذا ... بحشمة في الجميع مصنوعه
شكل قياس كانت نتيجته ... قرينة في دمشق مطبوعه
وقرأت في «الرسالة المصرية» زيادة على البيتين المتقدم ذكرهما قبل:
وكم تمنيت أن ألقى بها أحدا ... يسلي من الهمّ أو يعدي على النّوب
فما وجدت سوى قوم إذا صدقوا ... كانت مواعيدهم كالآل في الكذب(2/743)
حرف الباء
[261]
بزرج بن محمد أبو محمد العروضي
: مولى بجيلة، وقال الصولي: أظنه من موالي كندة، وقال ابن درستويه: ومن علماء الكوفة بزرج بن محمد العروضي، وهو الذي صنف كتابا في العروض ينقض فيه العروض في زعمه على الخليل، ويبطل الدوائر والألقاب والعلل التي وضعها الخليل للأوزان في كتابه، واستشهد على ذلك بأشعار رواها مولدة، وضعها «1» ، ونسبها إلى قبائل العرب، وكان كذابا.
وحدث الصولي، حدّث جبلة بن محمد قال: سمعت أبي يقول: كان الناس قد أكبوا «2» على أبي محمد بزرج بن محمد العروضي لكثرة حفظه، فساء ذلك حمّادا وجنادا «3» فدسا إليه من يسقطه، فإذا هو يحدث بالحديث عن رجل فعل شيئا، ثم يحدث به عن رجل آخر بعد ذلك، ثم حدث به عن آخر، فتركه الناس حتى كان يجلس وحده.
وحدث صعودا قال: سمعت سلمة يقول: كان يونس النحوي يقول: إن لم
__________
[261]- ورد في م والوافي 10: 112 «برزخ» وضبطه ابن حجر في لسان الميزان 2: 11 بضم أوله والزاي المنقوطة بعدها راء غير منقوطة ساكنة ثم جيم (أي بزرج) وكذلك هو في إنباه الرواة 1: 241 وكتب في الفهرست: 78 «نزرّح» (وفي طبعة فلوجل برزخ) غير أن محقق الطبعة الثانية من الفهرست أدرج اسمه في مسرد الأعلام «بزرج» .(2/744)
يكن بزرج أروى الناس فهو أكذب الناس. قال سلمة: وصدق يونس، يقول إن كان ما أتى به حقا وإلا فقد كذب لأنه حدث عن أقوام لا يعرفهم الناس.
وحدث ابن قادم قال: سئل الفرّاء عن بزرج فأنشد قول زهير «1» :
أضاعت فلم تغفر لها غفلاتها ... فلاقت بيانا عند آخر معهد
يريد أن الناس اجتنبوه لشيء استبانوه منه.
وحدّث المازني قال: روى بزرج شعرا لامرىء القيس، فقال له جناد: عمّن رويت هذا؟ قال: عنّي وحسبك بي، فقال له جناد: من هذا أتيت يا غافل.
وحدث الصولي عن أبي عبد الله أحمد بن الحسن السكوني قال: كنا نروي لبزرج أشعارا منها:
ليس بيني وبين قومي إلّا ... أنني فاضل لهم في الذكاء
حسدوني فزخرفوا فيّ قولا ... تتلقّاه ألسن البغضاء
كنت أرجو العلاء فيهم بعلمي ... فأتاني من الرجاء بلائي
شدة إستفدتها من رخاء ... وانتقاص جنيته من وفاء
وحدث الحارث بن أبي أسامة قال: أنشدني عثمان بن محمد لأبي حنش واسمه خضير بن قيس يقوله في بزرج:
بزرج فقدت كلّك «2» من ثقيل ... فظلّك حين يوزن وزن فيل
تحبّب بالتبغّض يا مقيت ... وتختار القبيح على الجميل
فما تنفكّ إنسانا تماري ... «3» جليسك منه في هم طويل
وبالأشعار علمك حين تقضي ... علينا بالقضاء المستحيل
يكون كعلم «4» سنّور إذا ما ... أجاعوه بأكل الزنجبيل(2/745)
ولبزرج من التصانيف: كتاب العروض. كتاب بناء الكلام، قال محمد بن إسحاق النديم: رأيته في جلود. وكتاب معاني العروض على حروف المعجم. كتاب النقض على الخليل وتغليطه في العروض. كتاب الأوسط في العروض. كتاب تفسير الغريب.
[262]
بشر بن يحيى بن علي القيني النصيبي، أبو ضياء
: من أهل نصيبين، شاعر قليل الشعر وأديب كثير الأدب، وله من الكتب فيما ذكره محمد بن إسحاق: كتاب سرقات البحتري عن أبي تمام. كتاب الجواهر. كتاب الآداب. كتاب السرقات الكبير، لم يتم.
[263]
بقي بن مخلد الأندلسي أبو عبد الرحمن
: ذكره الحميدي وقال: مات بالأندلس سنة ست وسبعين ومائتين في قول أبي سعيد ابن يونس، وقال الدارقطني:
مات سنة ثلاث وسبعين والأول أصح.
قال الحميدي: وبقيّ من حفاظ المحدثين، وأئمة الدين، والزهاد الصالحين، رحل إلى المشرق فروى عن الأئمة وأعلام السنة، منهم الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل وأبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة وأحمد بن إبراهيم الدورقي
__________
[262]- الفهرست: 166.
[263]- ترجمة بقي في جذوة المقتبس: 167 (وبغية الملتمس رقم: 584) وتاريخ ابن الفرضي 1: 107 والصلة 1: 116 والمرقبة العليا: 18 ومصورة ابن عساكر 3: 405 وتهذيبه 3: 280 والمنتظم 5: 100 وتذكرة الحفاظ: 629 وعبر الذهبي 2: 56 وسير الذهبي 13: 285 وطبقات المفسرين:
9 وطبقات الحفاظ: 277 وطبقات الحنابلة 1: 120 والنفح 2: 518 والشذرات 2: 169 والبداية والنهاية 11: 56 والنجوم الزاهرة 3: 75 والوافي 10: 182 ويستفاد من المختصر أن المؤلف ترجم لبقي بن مخلد مرتين بعنوانين ولذلك علق الكاتب على الثانية منهما بقوله: قال كاتبه أظنه الأول لأنه ذكر وفاته في تاريخ وفاة الأول.(2/746)
وخليفة بن خياط «1» وجماعة «2» أعلام يزيدون على المائتين، وكتب المصنّفات الكبار والمنثور الكثير، وبالغ في الجمع والرواية، ورجع إلى الأندلس فملأها علما جما، وألف كتبا حسانا تدلّ على احتفاله واستكثاره؛ قال لنا أبو محمد علي بن أحمد «3» :
فمن مصنّفات بقي بن مخلد «كتاب تفسير القرآن» وهو الكتاب الذي أقطع قطعا لا أستثني فيه أنه لم يؤلّف في الاسلام مثله، ولا تصنيف محمد بن جرير الطبري ولا غيره؛ ومنها في الحديث كتاب مصنفه الكبير الذي رتّبه على أسماء الصحابة، فروى فيه عن ألف وثلاثمائة صاحب ونيف، ثم رتّب حديث كلّ صاحب على أسماء الفقه وأبواب الأحكام، فهو مصنف ومسند «4» ، وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه واحتفاله فيه في الحديث وجودة شيوخه، فإنه روى عن مائة «5» رجل وأربعة وثمانين رجلا ليس فيهم عشرة ضعفاء وسائرهم أعلام مشاهير؛ ومنها كتاب في فتاوى الصحابة والتابعين ومن دونهم الذي أربى فيه على مصنّف أبي بكر ابن أبي شيبة وغيره، فصارت تصانيفه قواعد الاسلام لا نظير لها، وكان متخيرا لا يقلّد أحدا، وكان خاصّا بأحمد بن حنبل وجاريا في مضمار البخاري ومسلم- كلّ هذا من كتاب الحميدي. وإنما ذكرته لتصنيفه كتابا في تفسير القرآن.
وذكر له ترجمة أخرى فقال فيها: ولد بقي بن مخلد الأندلسي في رمضان سنة إحدى وثمانين وتوفي ليلة الثلاثاء لتسع وعشرين ليلة مضت من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين ومائتين، ودفن في المقبرة المنسوبة إلى بني العباس، وكانت له رحلتان: أقام في إحداهما نحو العشرين عاما، وفي الثانية نحو الأربعة عشر عاما، فأخبرني أبي أنه كان يطوف في الأمصار على أهل الحديث، فإذا أتى وقت الحج أتى(2/747)
إلى مكة فحج، هذا كان فعله كلّ عام في رحلتيه جميعا. وكان يلتزم صيام الدهر، فإذا أتى يوم جمعة أفطر، وكانت له عبادات كثيرة من قراءة القرآن وغيرها من الصلوات ونشر العلم.
قال: مشايخه الذين سمع منهم فكانوا مائتي رجل وأربعة وثمانين رجلا (هكذا ذكر في هذه الترجمة فما أدري أيهما الصحيح) أخبرني أسلم بن عبد العزيز، أخبرني أبو عبد الرحمن بقي بن مخلد قال: لما وضعت مسندي أتاني عبيد الله بن يحيى [بن يحيى] ومعه أخوه إسحاق فقالا لي: بلغنا أنك وضعت مسندا قدّمت فيه أبا مصعب وابن بكير وأخّرت أبانا، فقال بقي: أما تقديمي لأبي مصعب فإني قدمته لقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «قدّموا قريشا ولا تقدّموها» «1» ، وأما ابن بكير فإني قدمته لسنّه، وقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كبّر كبّر» «2» ، مع أنه سمع «الموطأ» من مالك سبع عشرة مرة ولم يسمع أبو كما إلا مرة واحدة؛ قال بقي: فخرجا عنّي ولم يعودا إليّ بعد ذلك، وخرجا إلى حد العداوة.
حدثنا قاسم بن أصبغ قال: خرجت من الأندلس ولم أرو عن بقي شيئا، فلما دخلت العراق وغيره من البلدان سمعت من فضائله وتعظيمه ما أندمني على ترك الرواية عنه وقلت: إذا رجعت لزمته حتى أروي جميع ما عنده، فأتانا نعيه ونحن بأطرابلس.
وحدثنا قاسم بن أصبغ قال: سمعت أحمد بن أبي خيثمة يقول، وذكر بقيّ بن مخلد، فقال: ما كنا نسميه إلا المكنسة، وهل احتاج بلد [فيه] بقيّ أن يأتي إلى هاهنا منه أحد؟ فقلنا له: ولا أنت تحدثنا عن رجال ابن أبي شيبة؟ فقال: ولا أنا.
وذكر بقيّ أنه أدرك جماعة من أصحاب سفيان الثوري فلم يرو عنهم، وروى عن رجلين عن سفيان الثوري.
قال: وحدثت عن بقيّ أنه قال يوما لطلبته: أنتم تطلبون العلم، أهكذا يطلب العلم؟ إنما أحدكم إذا لم يكن عليه شغل يقول: أمضي أسمع العلم، إني لأعرف(2/748)
رجلا تمضي عليه الأيام في وقت طلبه للعلم لا يكون له عيش إلا من ورق الكرنب الذي يلقيه الناس، وإني لأعرف رجلا باع سراويله غير مرة في شرى كاغد حتى يسوق الله عليه من حيث يخلفها.
قال الحميدي «1» : أخبرنا أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري في إجازة وصلت إليه، وذكر إسنادا، وقال: جاءت امرأة إلى بقي بن مخلد فقالت: إن ابني قد أسره الروم ولا أقدر على مال أكثر من دويرة، ولا أقدر على بيعها، فلو أشرت إلى من يفديه بشيء فإنه ليس لي ليل ولا نهار ولا نوم ولا قرار، فقال: نعم انصرفي حتى أنظر في أمره إن شاء الله، وأطرق الشيخ وحرّك شفتيه، قال: ولبثنا مدة فجاءت المرأة ومعها ابنها، فأخذت تدعو له وتقول: قد رجع سالما، وله حديث يحدّثك به، فقال الشاب: كنت في يدي بعض ملوك الروم مع جماعة من الأسارى، وكان له إنسان يستخدمنا كلّ يوم، يخرجنا إلى الصحراء للخدمة ثم يردّنا وعلينا قيودنا، فبينا نحن نجيء من العمل مع صاحبه الذي كان يحفظنا إذ انفتح القيد من رجليّ ووقع على الأرض، ووصف اليوم والساعة، فوافق الوقت الذي جاءت المرأة ودعا الشيخ، قال: فنهض إليّ الذي كان يحفظني وصاح عليّ وقال: كسرت القيد فقلت: لا إلا أنه سقط من رجلي، قال: فتحير وأخبر صاحبه وأحضر الحداد وقيدوني فلما مشيت خطوات سقط القيد من رجلي «2» فتحيّروا في أمري ودعوا رهبانهم فقالوا لي: ألك والدة؟ قلت لهم: نعم، فقالوا: وافق دعاؤها الإجابة، وقالوا: أطلقك الله ولا يمكننا تقييدك، فزودوني وأصحبوني إلى ناحية المسلمين.(2/749)
[264]
بكر بن حبيب السهمي والد عبد الله بن بكر المحدث
: ذكره الزبيدي وغيره في النحويين، أخذ عن ابن أبي إسحاق، وقال ابن أبي إسحاق لبكر بن حبيب: ما ألحن في شيء؟ قال: تفعل، فقال له: فخذ عليّ كلمة، قال: هذه واحدة، قل كلمة. وقربت منه سنورة فقال لها: اخسي، فقال له: أخطأت إنما هو اخسأي.
وحدث أبو أحمد الحسين بن عبد الله العسكري في «كتاب التصحيف» «1» له عن أبيه عن عسل بن ذكوان عن الرياشي قال: توفي ابن لبعض المهالبة، فأتاه شبيب بن شيبة المنقري يعزّيه وعنده بكر بن حبيب السهمي، فقال شبيب: بلغنا أن الطفل لا يزال محبنطئا على باب الجنة يشفع لأبويه، فقال بكر بن حبيب: إنما هو محبنطيا غير مهموز، فقال له شبيب: أتقول لي هذا وما بين لابتيها أفصح مني؟! فقال بكر: وهذا خطأ ثان، ما للبصرة وللّوب؟! لعلك غرّك قولهم «ما بين لابتي المدينة» يريدون الحرة. قال أبو أحمد: والحرة أرض تركبها حجارة سود، وهي اللابة وجمعها لابات، فإذا كثرت فهي اللوب واللاب، وللمدينة لابتان من جانبيها وليس للبصرة لابة ولا حرة.
قال أبو عبيدة المحبنطي بغير همز هو المنتصب «2» المستبطىء للشيء، والمحبنطىء بالهمز العظيم البطن المنتفخ.
وقال أبو عبد الله المرزباني في «كتاب المعجم» : بكر بن حبيب السهمي من باهلة أحد مشايخ المحدثين قال ابنه عبد الله بن بكر: كان أبي يقول البيتين والثلاثة، وهو القائل:
سير النواعج في بلاد مضلّة ... يمشي الدليل «3» بها على ملمال «4»
__________
[264]- ترجمته في طبقات الزبيدي: 46 وإنباه الرواة 1: 244 والوافي 10: 203 وبغية الوعاة 1: 462.(2/750)
خير من الطمع الدنيء ومجلس ... بفناء لا طلق ولا مفضال
فاقصد لحاجتك المليك فإنه ... يغنيك عن مترفّع مختال
وحدث التاريخي عن أبي خالد يزيد بن محمد المهلبي عن البجلي عن قتب بن بشر قال: كنت مع بكر بن حبيب السهمي بموضع يقال له قصر زربي ونحن مشرفون على المربد، إذ مرّ بنا يونس بن حبيب النحوي، فقال: أمرّ بكم الأمير؟ قال بكر:
نعم مرّ بنا عاصبا فوه، فرمى يونس بعنانه على عنق حماره ثم قال: أف أف، فقال له بكر: انظر حسنا، ثم قال: نعم وإنما ظنّ يونس بن حبيب النحوي أنه قد لحن، وأنه كان يجب أن يقول عاصبا فاه، فلما تبين أنه أراد عصب الفم صدّقه.
قال: ومرّ بكر بن حبيب بدار فسمع جلبة فقال: ما هذه الجلبة، أعرس أم خرس أم إعذار أم توكير؟ فقال له قوم: قد عرفنا العرس فأخبرنا ما سوى ذاك، قال:
الخرس الطعام على الولادة، والاعذار الختان، والتوكير أن يبني الرجل القبّة أو يحدث القدر الجماع فيقال: وكّر لنا طعاما. قال: والقدر الجماع الكبيرة، وقال ثعلب: الوكيرة مأخوذ من الوكر، وهي الوليمة التي يصنعها الرجل عند بناء المنزل.
[265]
أبو بكر ابن عياش بن سالم الكوفي الحنّاط
مولى واصل بن حيان الأسدي الأحدب: واختلف في اسمه فقيل: اسمه كنيته، وقيل شعبة، وقيل عبد الله، وقيل محمد، وقيل مطرف، وقيل سالم، وقيل عنترة، وقيل أحمد، وقيل عتيق، وقيل رؤبة، وقيل حماد، وقيل حسين، وقيل قاسم، وقيل لا يعرف له اسم، وأظهر ذلك شعبة ومطرف. قال الهيثم بن عدي: اسم أبي بكر مطرف بن النهشلي، ومات ابن عياش في سنة ثلاث وتسعين ومائة في السنة التي مات فيها الرشيد بن المهدي قبله
__________
[265]- ترجمته في تاريخ البخاري الكبير 9: 14 وتاريخ خليفة: 466 وطبقات خليفة: 170 وحلية الأولياء 7: 303 وسير الذهبي 8: 435 وميزان الاعتدال 4: 494 وعبر الذهبي 1: 304 وتهذيب التهذيب 12: 34 والوافي 10: 241 والشذرات 1: 334.(2/751)
بشهر، وفيها مات غندر وعبد الله بن إدريس. وروي أن ابن عياش مات في سنة اثنتين وتسعين والأول أظهر، ومولده سنة سبع وتسعين في أيام سليمان بن عبد الملك، وروي سنة أربع وتسعين وروي سنة خمس وتسعين وكان ابن عياش يقول:
أنا نصف الإسلام.
وقال الحسين بن فهم، وقد ذكر جماعة لا تعرف أسماؤهم: منهم أبو بكر بن أبي مريم وأبو بكر بن أبي سبرة وأبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم وأبو بكر بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عياش وأبو بكر بن أبي العرامس.
وقال أبو الحسن الأهوازي المقرىء في كتابه: وإنما وقع هذا الاختلاف في اسم أبي بكر لأنه كان رجلا هيوبا، فكانوا يهابونه أن يسألوه، فروى كلّ واحد على ما وقع له.
قلت: وقد روى المرزباني في كتابه أن جماعة من أهل العلم سألوه عن اسمه واختلفت أقوالهم على ما تقدم، ولولا كراهة الإطالة لذكرته.
وكان ابن عياش معظما عند العلماء، وقد لقي الفرزدق وذا الرمة وروى عنهما شيئا من شعرهما.
حدث المرزباني، حدثنا أحمد بن عيسى عن أحمد بن أبي خيثمة، حدثنا محمد بن يزيد قال: سمعت أبا بكر ابن عياش يقول «1» : كان أبو بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في القرآن، قال الله عزّ وجلّ: للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم
إلى قوله: أولئك هم الصادقون
(الحشر: 8) فهؤلاء سموه خليفة رسول الله وهؤلاء لا يكذبون.
وحدث المرزباني بإسناده إلى زكرياء بن يحيى الطائي قال: سمعت أبا بكر ابن عياش يقول: إني أريد أتكلم اليوم بكلام لا يخالفني فيه أحد إلا هجرته ثلاثا، قالوا: قل يا أبا بكر، قال: ما ولد لآدم عليه السلام مولود بعد النبيين والمرسلين أفضل من أبي بكر الصدّيق، قالوا: صدقت يا أبا بكر، ولا يوشع بن نون وصيّ موسى عليه السلام. قال: ولا يوشع بن نون إلا أن يكون نبيا. ثم فسره فقال: قال(2/752)
الله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس
(آل عمران: 110) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
«خير هذه الأمة أبو بكر» .
قال زكرياء بن يحيى وسمعت ابن عياش يقول: لو أتاني أبو بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم في حاجة لبدأت بحاجة عليّ قبل حاجة أبي بكر وعمر لقرابته برسول الله، ولأن أخرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليّ من أن أقدّمه عليهما. وكان يقدم عليا على عثمان ولا يغلو ولا يقول إلا خيرا.
وحدث المرزباني بإسناده عن أبي بكر ابن عياش عن ذر عن عبد الله قال: إن الله عزّ وجلّ نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلّم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه وابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلبه فوجد قلوب أصحابه خير القلوب بعد قلبه، فجعلهم وزراء نبيه صلى الله عليه وسلّم يقاتلون عن دينه، فما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون سيئا فهو عند الله سيّء؛ قال أبو بكر ابن عياش: وأنا أقول: إنهم رأوا أن يولوا أبا بكر بعد النبي صلى الله عليه وسلّم.
وحدث المرزباني، حدثنا محمد بن مخلد العطار، حدثنا أبو عمر العطاردي قال: بعث أبو بكر ابن عياش إلى أبي يوسف الأعشى، فمضيت مع أبي يوسف ومع عبد الوهاب بن عمر والعباس بن عمير، فدخلنا إليه وهو في علية له، فقال لأبي يوسف: قد قرأت عليّ القرآن مرتين، وقد نقلت عني القرآن، فاقرأ عليّ آخر الأنفال، واقرأ عليّ من رأس المائة من براءة، واقرأ عليّ كذا واقرأ كذا، فقال له أبو يوسف: يا أبا بكر هذا القرآن والحديث والفقه وأكثر الأشياء قد أفدتها بعد ما كبرت أو لم تزل فيه مذ كنت؟ ففكر هنيهة ثم قال: بلغت وأنا ابن ست عشرة سنة، فكنت فيما يكون فيه الشبان مما يعرف وينكر سنتين، ثم وعظت نفسي وزجرتها، وأقبلت على الخير وقراءة القرآن، فكنت أختلف إلى عاصم في كلّ يوم، وربما مطرنا ليلا فأنزع سراويلي وأخوض الماء إلى حقويّ، فقال له أبو يوسف: ومن أين هذا الماء كله؟ قال: كنا إذا مطرنا جاء ماء الحيرة إلينا حتى يدخل الكوفة. وكنت إذا قرأت على عاصم أتيت الكلبيّ فسألته عن تفسيره. وأخبرني أبو بكر أن عاصما أخبره أنه كان يأتي زرّ بن حبيش فيقرئه خمس آيات لا يزيد عليها شيئا، ثم يأتي أبا عبد الرحمن السلمي فيعرضها عليه، فكانت توافق قراءة زرّ قراءة أبي عبد الرحمن، وكان أبو(2/753)
عبد الرحمن قرأ على عليّ عليه السلام، وكان زرّ بن حبيش الشكرمي العطاردي «1» قرأ على عبد الله بن مسعود القرآن كلّه في كلّ يوم آية واحدة لا يزيده عليها شيئا، فإذا كانت آية قصيرة استقلها زرّ من عبد الله، فيقول عبد الله: خذها، فو الذي نفسي بيده لهي خير من الدنيا وما فيها؛ ثم يقول أبو بكر: وصدق والله، ونحن نقول كما قال أبو بكر ابن عياش إذا حدثنا عن عاصم عن زر عن عبد الله، قال: هذا- والله الذي لا إله إلا هو- حقّ كما أنكم عندي جلوس، والله ما كذبت، والله ما كذب عاصم بن أبي النجود، والله ما كذب زر، والله ما كذب عبد الله بن مسعود، وإن هذا لحقّ كما أنكم عندي جلوس.
وحدث عمن أسنده إلى أحمد بن عبد الله بن يونس قال: ذكر النبيذ عند العباس بن موسى فقال: إن ابن إدريس يحرمها، فقال أبو بكر ابن عياش: إن كان النبيذ حراما فالناس كلّهم أهل ردّة.
وحدث المرزباني قال: قال عبد الله بن عياش: كنت أنا وسفيان الثوري وشريك نتماشى بين الحيرة والكوفة، فرأينا شيخا أبيض الرأس واللحية حسن السمت والهيئة، فظننا أنّ عنده شيئا من الحديث وأنه قد أدرك الناس، وكان سفيان أطلبنا للحديث وأشدّنا بحثا عنه، فتقدم إليه وقال: يا هذا عندك شيء من الحديث؟ فقال:
أما حديث فلا، ولكن عندي عتيق سنتين، فنظرنا فإذا هو خمّار.
وحدث أبو بكر ابن عياش [قال] : رأيت الفرزدق بالكوفة ينعى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، فقال:
كم من شريعة عدل قد سننت لهم ... كانت أميتت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف اللاهفين معي ... على العدول التي تغتالها الحفر
وحدث بإسناده عن ابن كناسة قال، حدثني أبو بكر ابن عياش قال: كنت إذ أنا شابّ إذا أصابتني مصيبة تصبّرت ورددت البكاء، فكان ذلك يوجعني ويزيدني ألما، حتى رأيت بالكناسة أعرابيا واقفا وقد اجتمع الناس حوله (فأنشد) «2» :(2/754)
خليليّ عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى وابكيا في المنازل
لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفي نجيّ البلابل
فسألت عنه فقيل: ذو الرمة، قال: فأصابتني بعد ذلك مصائب فكنت أبكي فأجد راحة، فقلت في نفسي: قاتل الله الأعرابي ما كان أبصره وأعلمه.
وحدث المرزباني عن الحسن النحوي عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال:
سمعت عمّي القاسم بن محمد يقول: حدثني يحيى بن آدم قال: لما قدم هارون الرشيد الكوفة نزل الحيرة ثم بعث الى أبي بكر ابن عياش، فحملناه إليه، وكنت أنا أقتاده بعد ذهاب بصره، فلما انتهينا إلى باب الخليفة ذهب الحجّاب يأخذون أبا بكر مني، فأمسك أبو بكر بيدي وقال: هذا قائدي لا يفارقني، فقالوا: ادخل أنت وقائدك يا أبا بكر، قال يحيى: فدخلت به وإذا هارون جالسا وحده، فلما دنا منه أنذرته فسلّم عليه بالخلافة، فأحسن هارون الردّ، فأجلسته حيث أمرت، ثم خرجت فقعدت في مكان أراهما وأسمع كلامهما، قال: فجعلت أنظر إلى هارون يتلمح أبا بكر، قال:
وكان أبو بكر رجلا قد كبر وضعفت رقبته، فإنما ذقنه على صدره، فسكت هارون عنه ساعة ثم قال له: يا أبا بكر، فقال: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: إني سائلك عن أمر، فأسألك بالله لما صدقتني عنه، قال: إن كان علمه عندي، قال: إنك قد أدركت أمر بني أمية وأمرنا، فأسألك بالله أيهما كان أقرب إلى الحقّ؟ قال يحيى:
فقلت في نفسي اللهم وفّقه وثبّته، قال: فأطال أبو بكر في الجواب ثم قال له: يا أمير المؤمنين أمّا بنو أمية فكانوا أنفع للناس منكم وأنتم أقوم بالصلاة منهم. قال: فجعل هارون يشير بيده ويقول: إن في الصلاة، إن في الصلاة؛ قال: ثم خرج فتبعه الفضل بن الربيع فقال: يا أبا بكرّ إن أمير المؤمنين قد أمر لك بثلاثين ألفا، فقال أبو بكر: فما لقائدي؟ فضحك الفضل وقال: لقائدك خمسة آلاف، قال يحيى:
فأخذت الخمسة آلاف قبل أن يأخذ أبو بكر الثلاثين.
وحدث بإسناد رفعه إلى أبي بكر ابن عياش قال: دخلت على هارون أمير المؤمنين فسلّمت وجلست، فدخل فتى من أحسن الناس وجها فسلّم وجلس، فقال لي هارون: يا أبا بكر أتعرف هذا؟ قلت: لا، قال: هذا ابني محمد، ادع الله له، فقلت: يا أمير المؤمنين جعله الله أهلا لما جعلته له أهلا، فسكت ثم قال: يا أبا بكر(2/755)
ألا تحدثني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إن الله فاتح عليكم مشارق الأرض ومغاربها، وإن عمّال ذلك الزمان في النار، إلا من اتّقى الله وأدّى الأمانة» ، فانتفض وتغيّر وقال: يا مسرور اكتب؛ ثم سكت ساعة وقال: يا أبا بكر ألا تحدثني؟ فقلت: يا أمير المؤمنين حدثنا هشام بن حسان عن الحسن قال: «أتدري ما قال عمر بن الخطاب للهرمزان» «1» قال: وما قال له؟ قلت: قال له ما منعك «2» من حبّ المال وأنت كافر القلب طويل الأمل؟ قال: لأني قد علمت أن الذي لي سوف يأتيني، والذي أخلّفه بعدي يكون وباله عليّ؛ ثم قال: يا مسرور اكتب ويحك. قال: ألك حاجة يا أبا بكر؟ قلت: تردّني كما جئت بي، قال: ليست هذه حاجة، سل غيرها، قلت: يا أمير المؤمنين لي بنات أخت ضعاف، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لهنّ بشيء، قال: قدّر لهن، قلت: يقول غيري قال: لا يقول غيرك، قلت: عشرة آلاف، قال: لهن عشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف وعشرة آلاف، يا فضل اكتب بها إلى الكوفة وألا تحبس عليه، ثم قال: انصرف ولا تنسنا من دعائك.
وحدث بإسناده عن العباس بن بنان قال: كنا عند أبي بكر ابن عياش يقرأ علينا كتاب مغيرة فغمض عينيه، فحرّكه جمهور وقال له: تنام يا أبا بكر؟ فقال: لا ولكن مرّ ثقيل فغمضت عيني حتى عبر «3» .
وحدث أبو هاشم الدلال قال: رأيت أبا بكر ابن عياش مهموما فقلت له: ما لي أراك مهموما؟ قال: سيف كسرى لا أدري الى من صار.
وقال محمد بن كناسة يذكر أصحاب أبي بكر ابن عياش:
لله مشيخة فجعت بهم ... كانت تريغ إلى أبي بكر
سرج لقوم يهتدون بها ... وفضائل تنمي ولا تحري «4»(2/756)
وحدث المدائني قال: كان أبو بكر ابن عياش أبرص، وكان رجل من قريش يرمى بشرب الخمر، فقال له أبو بكر ابن عياش يداعبه: زعموا أن نبيا قد بعث بحلّ الخمرة، فقال له القرشي: إذا لا أومن به حتى يبرىء الأكمه والأبرص.
أنشد أبو بكر ابن عياش المحدّث، ويقال إنهما له:
إن الكريم الذي تبقى مودته ... ويكتم السرّ ان صافى وإن صرما
ليس الكريم الذي إن زلّ صاحبه ... أفشى الذي كان من أسراره «1» علما
[266]
بكر بن محمد بن بقية المازني أبو عثمان النحوي
: وقيل هو بكر بن محمد بن عدي بن حبيب، أحد بني مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب «2» بن علي بن بكر بن وائل.
قال الزبيدي، قال الخشني: المازني مولى بني سدوس نزل في بني مازن بن شيبان فنسب إليهم.
وهو من أهل البصرة، وهو أستاذ المبرّد، روى عن أبي عبيدة والأصمعي وأبي زيد الأنصاري، وروى عنه الفضل بن محمد اليزيدي والمبرّد وعبد الله بن [أبي] سعد الورّاق.
وكان إماميا يرى رأي ابن ميثم ويقول بالإرجاء، وكان لا يناظره أحد إلا قطعه لقدرته على الكلام، وكان المبرد يقول: لم يكن بعد سيبويه أعلم من أبي عثمان
__________
[266]- ترجمة المازني في أخبار النحويين البصريين: 74 وطبقات الزبيدي: 87 ومراتب النحويين 77 ونور القبس: 220 وتاريخ بغداد 7: 93 وإنباه الرواة 1: 246 ونزهة الألباء: 182 وابن خلكان 1: 283 وطبقات ابن الجزري 1: 179 وسير الذهبي 12: 270 وعبر الذهبي 1: 448 والبداية والنهاية 10: 352 والوافي 10: 211 ولسان الميزان 2: 57 والنجوم الزاهرة 2: 329 والشذرات 2: 113 وإشارة التعيين: 61 (ويعتمد ياقوت على طبقات الزبيدي وتاريخ بغداد والفهرست والأغاني) ولرشيد العبيدي دراسة عنه (بغداد: 1969) .(2/757)
بالنحو، وقد ناظر الأخفش في أشياء كثيرة فقطعه، وهو أخذ عن الأخفش، وقال حمزة: لم يقرأ على الأخفش، إنما قرأ على الجرمي، ثم اختلف إلى الأخفش وقد برع، وكان يناظره ويقدمه الأخفش وهو حيّ. وكان أبو عبيدة يسميه بالتّدرج والنقّار.
مات أبو عثمان فيما ذكره الخطيب في سنة تسع وأربعين ومائتين أو ثمان وأربعين ومائتين وذكر ابن واضح أنه مات سنة ثلاثين ومائتين.
حدث المبرد عن المازني قال: كنت عند أبي عبيدة فسأله رجل فقال له: كيف تقول عنيت بالأمر، قال: كما قلت «عنيت بالأمر» قال: فكيف الأمر منه؟ قال:
فغلط وقال اعن بالأمر، فأومأت إلى الرجل ليس كما قال، فرآني أبو عبيدة فأمهلني قليلا فقال: ما تصنع عندي؟ قلت: ما يصنع غيري، قال: لست كغيرك، لا تجلس إليّ، قلت: ولم؟ قال: لأني رأيتك مع إنسان خوزي سرق مني قطيفة، قال: فانصرفت وتحمّلت عليه بأخوانه، فلما جئته قال لي: أدّب نفسك أوّلا ثم تعلّم الأدب.
قال المبرد: الأمر من هذا باللام لا يجوز غيره لأنك تأمر غير من بحضرتك كأنّه ليفعل هذا.
وقال الجماز يهجو المازني:
كادني المازنيّ عند أبي العباس والفضل ما علمت كريم
يا شبيه النساء في كل فنّ ... إن كيد النساء كيد عظيم
جمع المازنيّ خمس خصال ... ليس يقوى بحملهنّ حليم
هو بالشعر والعروض و ... بالنحو وغمز الأيور طبّ عليم
ليس ذنبي إليك يا بكر إلا ... أنّ أيري عليك ليس يقوم
وكفاني ما قال يوسف في ذا ... إنّ ربّي بكيدكنّ عليم
وحدّث المبرد قال: عزّى المازني بعض الهاشميين ونحن معه فقال:
إني أعزّيك لا أني على ثقة ... من الحياة ولكن سنة الدين
ليس المعزّي بباق بعد ميّته ... ولا المعزّى وإن عاشا الى حين(2/758)
وقد روي عن المبرد أن يهوديّا بذل للمازني مائة دينار ليقرئه «كتاب سيبويه» فامتنع من ذلك، فقيل له: لم امتنعت مع حاجتك وعائلتك؟ فقال: إن في «كتاب سيبويه» كذا وكذا آية من كتاب الله، فكرهت أن أقرىء كتاب الله للذمّة، فلم يمض على ذلك إلا مديدة حتى أرسل الواثق في طلبه وأخلف الله عليه أضعاف ما تركه لله، كما حدث أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في «كتاب الأغاني» «1» بإسناد رفعه الى أبي عثمان المازني قال: كان سبب طلب الواثق لي أن مخارقا غناه في شعر الحارث بن خالد المخزومي:
أظليم أن مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحية ظلم
فلحّنه قوم وصوّبه آخرون، فسأل الواثق عمن بقي من رؤساء النحويين فذكرت له، فأمر بحملي وإزاحة عللي. فلما وصلت إليه قال لي: ممن الرجل؟ قلت: من بني مازن، قال: من مازن تميم أم مازن قيس أم مازن ربيعة أم مازن اليمن؟ قلت:
من مازن ربيعة، قال لي: با اسمك- يريد ما اسمك، وهي لغة كثيرة في قومنا، فقلت على القياس: اسمي مكر- وفي رواية فقلت: اسمي بكر- فضحك وأعجبه ذلك، وفطن لما قصدت أنني لم أستجرىء أن أواجهه بالمكر وضحك، وقال:
اجلس فاطبئن أي فاطمئن، فجلست فسألني عن البيت فقلت: صوابه إنّ مصابكم رجلا، قال: فأين خبر إنّ؟ قلت: ظلم، وهو الحرف في آخر البيت، والبيت كله متعلق به لا معنى له حتى يتمّ بقوله ظلم، ألا ترى أنه لو قال أظليم إنّ مصابكم رجلا أهدى السلام تحية فكأنّه لم يفد شيئا حتى يقول ظلم، ولو قال أظليم إن مصابكم رجل أهدى السلام تحية لما احتاج إلى ظلم ولا كان له معنى إلا أن تجعل التحية بالسلام ظلما، وذلك محال، ويجب حينئذ أظليم إن مصابكم رجل أهدى السلام تحية ظلما ولا معنى لذلك، ولا هو لو كان له وجه مراد الشاعر فقال: صدقت، ألك ولد؟ قلت:
بنية لا غير، قال: فما قالت لك حين ودّعتها؟ قلت: أنشدتني قول الأعشى:
تقول ابنتي حين جدّ الرحيل ... أرانا سواء ومن قد يتم(2/759)
أبانا فلا رمت من عندنا ... فانا بخير إذا لم ترم
أرانا إذا أضمرتك البلاد ... نجفى وتقطع منا الرّحم
فقال الواثق: كأني بك وقد قلت لها قول الأعشى أيضا:
تقول بنتي وقد قرّبت مرتحلا ... يا ربّ جنّب أبي الأوصاب والوجعا
عليك مثل الذي صلّيت فاعتصمي ... يوما فإن لجنب المرء مضطجعا
فقلت: صدق أمير المؤمنين، قلت لها ذلك وزدتها قول جرير:
ثقي بالله ليس له شريك ... ومن عند الخليفة بالنجاح
فقال: ثق بالنجاح إن شاء الله تعالى، إن ها هنا قوما يختلفون إلى أولادنا فامتحنهم، فمن كان عالما ينتفع به ألزمناهم إياه، ومن كان بغير هذه الصفة قطعناه عنهم، قال: فامتحنتهم فما وجدت فيهم طائلا، وحذروا ناحيتي، فقلت: لا بأس على أحد منكم، فلما رجعت إليه قال: كيف رأيتهم؟ فقلت: يفضل بعضهم بعضا في علوم ويفضل الباقون في غيرها وكلّ يحتاج إليه، فقال الواثق: إني خاطبت منهم رجلا فكان في نهاية الجهل في خطابه ونظره، فقلت: يا أمير المؤمنين أكثر من تقدم فهم بهذه الصفة، وقد أنشدت فيهم:
إن المعلم لا يزال مضعّفا ... ولو ابتنى فوق السماء سماء «1»
من علّم الصبيان أصبوا «2» عقله ... مما يلاقي بكرة وعشاء
قال فقال لي: لله درّك كيف لي بك؟ فقلت: يا أمير المؤمنين ان الغنم لفي قربك والأمن والفوز لديك والنظر إليك، ولكني ألفت الوحدة وأنست بالانفراد، ولي أهل يوحشني البعد عنهم ويضرّ بهم ذلك، ومطالبة العادة أشدّ من مطالبة الطباع، فقال لي: فلا تقطعنا وان لم نطلبك، فقلت: السمع والطاعة، وأمر لي بألف دينار (وفي رواية بخمسمائة دينار) وأجرى عليّ في كلّ شهر مائة دينار.(2/760)
وزاد الزبيدي قال «1» : وكنت بحضرته يوما فقلت لابن قادم أو ابن سعدان وقد كابرني: كيف تقول نفقتك دينارا أصلح من درهم فقال: دينار بالرفع، قلت: فكيف تقول ضربك زيدا خير لك فنصب زيدا، فطالبته بالفرق بينهما فانقطع، وكان ابن السكيت حاضرا فقال الواثق «2» سله عن مسألة، فقلت له: ما وزن نكتل من الفعل؟
فقال: نفعل، فقال الواثق، غلطت، ثم قال لي: فسّره، فقلت: نكتل تقديره نفتعل، وأصله نكتيل فانقلبت الياء ألفا لفتحة ما قبلها فصار لفظها نكتال، فأسكنت اللام للجزم لأنه جواب الأمر، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، فقال الواثق: هذا الجواب لا جوابك يا يعقوب. فلما خرجنا قال لي يعقوب: ما حملك على هذا وبيني وبينك المودة الخالصة؟ فقلت: والله ما قصدت تخطئتك ولم أظنّ أنه يعزب عنك ذلك؛ ولهذا البيت قصة أخرى في أخبار ابن السكيت.
قال المبرّد: سألت المازني عن قول الأعشى:
هذا النهار بدا لها من همها ... ما بالها بالليل زال زوالها
فقال: نصب النهار على تقدير هذا الصدود بدا لها النهار واليوم والليلة، والعرب تقول زال وأزال بمعنى، فتقول زال زوالها.
وحدث الزبيدي قال، قال المازني «3» : وحضرت يوما عند الواثق، وعنده نحاة الكوفة، فقال لي الواثق: يا مازني هات مسألة، فقلت: ما تقولون في قوله تعالى وما كانت أمك بغيا
(مريم: 28) لم لم يقل بغيّة وهي صفة لمؤنث؟ فأجابوا بجوابات غير مرضية، فقال الواثق: هات ما عندك، فقلت: لو كانت بغيّ على تقدير فعيل بمعنى فاعلة لحقتها الهاء مثل كريمة وظريفة، وإنما تحذف الهاء إذا كانت في معنى مفعولة، نحو المرأة قتيل وكفّ خضيب، وبغيّ ها هنا ليس بفعيل إنما هو فعول، وفعول لا تلحقه الهاء في وصف التأنيث، نحو امرأة شكور وبئر شطون إذا كانت بعيدة الرشاء، وتقدير بغيّ بغوي قلبت الواو ياء ثم ادغمت في الياء فصارت ياء(2/761)
ثقيلة نحو سيّد وميّت، فاستحسن الجواب.
قال المازني «1» : ثم انصرفت إلى البصرة فكان الوالي يجري عليّ المائة دينار في كل شهر حتى مات الواثق فقطعت عني. ثم ذكرت للمتوكل فأشخصني، فلما دخلت إليه رأيت من العدد والسلاح والأتراك ما راعني، والفتح بن خاقان بين يديه، وخشيت أن سئلت عن مسألة ألّا أجيب فيها. فلما مثلت بين يديه وسلمت قلت: يا أمير المؤمنين أقول كما قال الأعرابي «2» :
لا تقلواها وادلواها دلوا ... إنّ مع اليوم أخاه غدوا
قال أبو عثمان: فلم يفهم عني ما أردت واستبردت فأخرجت (والقلو: أرفع السير، والدلو أدناه) ثم دعاني بعد ذلك فقال: أنشدني أحسن مرثية للعرب «3» فأنشدته قول أبي ذؤيب:
أمن المنون وريبها تتوجّع
وقصيدة متمم بن نويرة:
لعمري وما دهري بتأبين هالك
وقول كعب الغنوي:
تقول سليمى ما بجسمك شاحبا
وقصيدة محمد بن مناذر:
كل حيّ لاقي الحمام فمودي
فكان كلما أنشدته قصيدة يقول: ليست بشيء، ثم قال: من شاعركم اليوم بالبصرة؟ قلت: عبد الصمد بن المعذل، قال: فأنشدني له، فأنشدته أبياتا قالها في قاضينا ابن رياح «4» :(2/762)
أيا قاضية البصرة ... قومي فارقصي قطره
ومرّي برواشنك ... فماذا البرد والفتره
أراك قد تثيرين ... عجاج القصف يا حرّه
بتحذيفك خدّيك ... وتجعيدك للطّرّه
قال: فاستحسنها واستطار لها وأمر لي بجائزة؛ قال فكنت أتعمّل له أن أحفظ أمثالها فأنشده إذا وصلت إليه فيصلني، وكان المازني يفضل الواثق.
وللمازني شعر قليل منه ذكره المرزباني:
شيئان يعجز ذو الرياضة عنهما ... رأي النساء وإمرة الصبيان
أما النساء فانهن عواهر ... وأخو الصبا يجري بكلّ عنان
ولما مات المازني اجتازت جنازته على أبي الفضل الرياشي فقال متمثلا:
لا يبعد الله أقواما رزئتهم ... أفناهم حدثان الدهر والأبد
نمدّهم كلّ يوم من بقيتنا ... ولا يؤوب إلينا منهم أحد
قال محمد بن إسحاق «1» : وللمازني من الكتب: كتاب في القرآن كبير. كتاب علل النحو صغير. كتاب تفاسير كتاب سيبويه. كتاب ما يلحن فيه العامة. كتاب الألف واللام. كتاب التصريف. كتاب العروض. كتاب القوافي. كتاب الديباج في جوامع كتاب سيبويه.
قرأت بخط الازهري أبي منصور في كتاب «نظم الجمان» تصنيف المنذري قال: سئل المازني عن أهل العلم فقال: أصحاب القرآن فيهم تخليط وضعف، وأهل الحديث فيهم حشو ورقاعة، والشعراء فيهم هوج، وأصحاب النحو فيهم ثقل، وفي رواية الأخبار الظّرف كلّه، والعلم هو الفقه.
وتصانيف المازني كلها لطاف، فإنه كان يقول: من أراد أن يصنّف كتابا كبيرا في النحو بعد «كتاب سيبويه» فليستح. وتخرّق كتاب سيبويه في كمّه عدّة نوب.
حدث «2» محمد بن رستم الطبري قال، أنبأنا ابو عثمان المازني قال: كنت عند(2/763)
سعيد بن مسعدة الأخفش انا وأبو الفضل الرياشي، فقال الأخفش: إن «منذ» إذا رفع بها فهي اسم مبتدأ وما بعدها خبرها كقولك ما رأيته منذ يومان، فإذا خفض بها فهي حرف معنى ليس باسم كقولك ما رأيته منذ اليوم، فقال له الرياشي: فلم لا تكون في الموضعين اسما، فقد نرى الأسماء تخفض وتنصب كقولك هذا ضارب زيدا غدا وضارب زيد أمس، فلم لا تكون بهذه المنزلة؟ فلم يأت الأخفش بمقنع. قال أبو عثمان: فقلت له لا تشبه «منذ» ما ذكرت، لأنا لم نر الأسماء هكذا تلزم موضعا إلا إذا ضارعت حروف المعاني، نحو أين وكيف، فكذلك «منذ» هي مضارعة لحروف المعاني فلزمت موضعا واحدا؛ قال الطبري، فقال ابن أبي زرعة للمازني: أفرأيت حروف المعاني تعمل عملين مختلفين متضادّين؟ قال: نعم كقولك قام القوم حاشا زيد وحاشا زيدا، وعلى زيد ثوب وعلا زيد الفرس، فتكون مرة حرفا ومرة فعلا بلفظ واحد.
وحدث المبرد قال: سمعت المازني يقول معنى قولهم «إذا لم تستح فاصنع ما شئت» أي إذا صنعت ما لا يستحى من مثله فاصنع منه ما شئت وليس على ما يذهب العوام إليه، قلت: وهذا تأويل حسن جدا.
قال أبو القاسم الزجاجي، أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال: حضرت مجلس ابي عثمان المازني وقد قيل له: لم قلّت روايتك عن الأصمعي؟ قال: رميت عنده بالقدر والميل إلى مذاهب أهل الاعتزال، فجئته يوما وهو في مجلسه فقال لي: ما تقول في قول الله عز وجل إنا كل شيء خلقناه بقدر
(القمر: 49) قلت: سيبويه يذهب إلى أنّ الرفع فيه أقوى من النصب في العربية لاستعمال الفعل المضمر، وأنه ليس ها هنا شيء هو بالفعل أولى، ولكن أبت عامّة القراء الا النصب، ونحن نقرؤها كذلك اتباعا لأنّ القراءة سنة، فقال لي: فما الفرق بين الرفع والنصب في المعنى؟ فعلمت مراده فخشيت أن يغري بي العامة، فقلت:
الرفع بالابتداء والنصب باضمار فعل وتعاميت عليه، فقال: حدثني جماعة من أصحابنا أن الفرزدق قال يوما لأصحابه: قوموا بنا إلى مجلس الحسن البصري، فإني أريد أن أطلّق النوار وأشهده على نفسي، فقالوا له: لا تفعل فلعلّ نفسك تتبعها وتندم، فقال: لا بد من ذلك، فمضوا معه، فلما وقف على الحسن قال له: يا أبا سعيد(2/764)
تعلّمن ان النوار طالق ثلاثا، قال: قد سمعت فتتبعتها نفسه بعد ذلك وندم وأنشأ يقول «1» :
ندمت ندامة الكسعيّ لما ... غدت منّي مطلقة نوار
وكانت جنّتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضّرار
ولو أني ملكت يدي ونفسي ... لكان عليّ للقدر الخيار
ثم قال: والعرب تقول: لو خيّرت لاخترت، تحيل على القدر، وينشدون:
هي المقادير فلمني أو فذر ... إن كنت أخطأت فلم يخط القدر
ثم أطبق نعليه وقال: نعم القناع للقدري، فأقللت غشيانه بعد ذلك.
قال المبرد حدثني المازني قال: مررت ببني عقيل فإذا رجل أسود قصير أعور أبرص أكشف قائم على تلّ سماد، وهو يملأ جواليق معه من ذلك السماد، وهو يغنّي بأعلى صوته:
فإن تصرمي حبلي وتستكرهي وصلي ... فمثلك موجود ولن تجدي مثلي
فقلت: صدقت والله، ومتى تجد ويحها مثلك؟! فقال: بارك الله عليك، وسهّل خيرا، ثم اندفع ينشد:
يا ربة المطرف والخلخال ... ما أنت من همّي ومن أشكالي
مثلك موجود ومثلي غالي
[267]
بندار بن عبد الحميد الكرخي الأصبهاني
يعرف بابن لره: ذكره محمد بن إسحاق في «الفهرست» فقال: أخذ عن أبي عبيد القاسم بن سلام وأخذ عنه ابن كيسان.
__________
[267]- طبقات الزبيدي: 208 والفهرست: 91 وإنباه الرواة 1: 256 والوافي 10: 291 وبغية الوعاة 1: 476 وإشارة التعيين: 63 وروضات الجنات 2: 143 (ويعتمد ياقوت على الفهرست وكتاب أصبهان لحمزة) .(2/765)
وقال ابن الانباري عن أبيه القاسم: كان بندار يحفظ سبعمائة قصيدة أول كل قصيدة بانت سعاد.
قال المؤلف: وبلغني عن الشيخ الامام أبي محمد الخشاب أنه قال: أنعمت «1» التفتيش والتنقير فلم أقع على أكثر من ستين قصيدة أولها بانت سعاد.
وفي «كتاب أصبهان» : كان بندار بن لره متقدما في علم اللغة ورواية الشعر، وكان ممن استوطن الكرج، ثم خرج منها إلى العراق فظهر هناك فضله، وكان الطوسيّ صاحب ابن الأعرابي يوصي أصحابه بالأخذ عن بندار ويقول: هو أعلم مني ومن غيري فخذوا عنه.
قال: وحدث أبو بكر ابن الأنباريّ في أماليه ببغداد قال: سمعت أبا العباس الأموي يقول: كان بندار بن لره الأصبهاني أحفظ أهل زمانه للشعر، وأعلمهم به، أنشدني من حفظه ثمانين قصيدة أول كل قصيدة منها بانت سعاد.
قال حمزة: وحدثني النوشجان بن عبد المسيح، قال سمعت المبرد يقول:
كان سبب غناي بندار بن لره الأصبهاني، وذلك أني حين فارقت البصرة وأصعدت إلى سامرّا وردتها في أيام المتوكل، فآخيت بها بندار بن لره، وكان واحد زمانه في رواية دواوين شعر العرب، حتى كان لا يشذّ عن حفظه من شعر شعراء الجاهلية والاسلام إلا القليل، وأصح الناس معرفة باللغة، وكان له كلّ أسبوع دخلة على المتوكل، فجمع بيني وبين النحويين، فمرّت ليلة في داره مجالس، فرفع حديثي إلى الفتح بن خاقان، ثم توصل إلى أن وصفني للمتوكل، فأمر بإحضاري مجلسه، وكان المتوكل يعجبه الأخبار والأنساب، ويروي صدرا منها يمتحن من يراه بما يقع فيها من غريب اللغة، فلما دنوت من طرف بساطه استدناني حتى صرت إلى جانب بندار، فأقبل علينا وقال: يا ابن لره ويا ابن يزيد ما معنى هذه الأحرف التي جاءت في هذا الخبر «ركبت «2» الدجوجيّ وأمامي قبيله، فنزلت ثم سريت الصباح فمررت وليس أمامي إلا نجيم فرقصت أمامي فمنحت النحوص والمسحل والتدمرية، ثم عطفت ورائي قلّوب فلم أزل به حتى أذقته الحمام، ثم رجعت إلى ورائي فلم أزل أمارس الأغضف في(2/766)
قتله، فحمل عليّ وحملت عليه حتى خرّ صريعا» قال المبرد: فبقيت متحيّرا، فبدر بندار وقال: يا أمير المؤمنين في هذا نظر ورويّة، فقال: قد أجّلتكما بياض يومي، فانصرفا وباكراني غدا، فخرجنا من عنده وأقبل بندار عليّ وقال: إن ساعدك الجد ظفرت بهذا الخبر، فاطلب فإني طالبه، فانقلبت إلى منزلي وقلبت الدفاتر ظهرا لبطن حتى وقفت على هذا الخبر في أثناء أخبار الأعراب، فتحفظته وباكرت بندار فأنهضته معي وصبّحناه، وبدأت فرويت الخبر، ثم فسرت ألفاظه فالتفت إلى بندار وقال: ابن يزيد فوق ما وصفتم، ثم قال يا غلام: عليّ بالخازن، فحضر فقال له: أخرج إلى ابن يزيد ألفي دينار وقل للحاجب يسهّل إذنه عليّ، فصار ذلك أصل مالي، وكان بندار رحمه الله أصله وسببه.
قرأت بخط عبد السلام البصري في «كتاب عقلاء المجانين» لأبي بكر ابن محمد الأزهري حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال: كنت يوما في مجلس بندار بن لره الكرخي بحضرة منزله في درب عبد الرحيم الرزامي بدكان الأبناء، وعنده جماعة من أصحابه، إذ هجم علينا المسجد برذعة الموسوس، ومعه مخلاة فيها دفاتر وجزازات، وقد تبعه الصبيان، فجلس إلى جانب بندار، وكأنّ بندارا فرق منه، فقال: اطرد ويلك هؤلاء الصبيان عنّي، فقال لنا: اطردوهم عنه، فوثبت أنا من بين أهل المجلس فصحت عليهم وطردتهم، فجلس ساعة ثم وثب فنظر هل يرى منهم أحدا، فلما لم يرهم رجع فجلس ساعة ثم قال: اكتبوا: حدثني محمد بن أحمد بن عسكر بن عبد الرزاق عن معمر قال: سئل الشعبي ما اسم امرأة ابليس فقال: هذا عرس لم أشهد إملاكه. ثم أقبل على بندار فقال: يا شيخ ما معنى قول الشاعر:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت ... فقد رابني منها الغداة سفورها
فقال لنا بندار: أجيبوه، فقال: يا مجنون أسألك ويجيب غيرك؟! فقال بندار:
يقول إنه لما رآها فعلت ما فعلته من سفورها، ولم تكن تعهد به، علم أنها قد حذرته من بحضرتها ليحجم عن كلامها وانبساطه إليها؛ فضحك ومسح يده على رأس بندار وقال: أحسنت يا كيّس، وكان بندار قد قارب في ذلك الوقت تسعين سنة «1» .(2/767)
[268]
بهزاد بن أبي يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاد
النجيرمي: راوية نحوي في طبقة أبيه، مات قبل أبيه بما يقارب الثلاثة شهور بمصر، وذلك لسبع خلون من شوال سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة. قال السمعاني في «كتاب الأنساب» «1» نجيرم:
محلة بالبصرة إليها ينسب النجيرميون.
__________
[268]- الوافي 10: 308 وبغية الوعاة 1: 477.(2/768)
حرف التاء
[269]
تمام بن غالب بن عمرو يعرف بابن التياني
أبو غالب المرسي الأندلسي:
بخط ابن حلم «1» ، قال سعد الخير: مرسية بلدة حسنة من بلاد الأندلس، كثيرة التين يجلب منها إلى سائر البلدان فلعلّه نسب إليه لبيع التين.
ذكره الحميدي فقال: كان إماما في اللغة وثقة في إيرادها، مذكورا بالديانة والورع، مات بالمرية في جمادى سنة ست وثلاثين وأربعمائة. وله «كتاب تلقيح العين» في اللغة «2» ، لم يؤلف مثله اختصارا وإكثارا، وله فيه قصة تدلّ على فضله «3» ، وذلك أن الأمير أبا الجيش مجاهد بن عبد الله العامري- وهو أحد المتغلبين على تلك النواحي- وجه إلى أبي غالب هذا أيام غلبته على مرسية، وأبو غالب ساكن بها، ألف دينار أندلسية على أن يزيد في ترجمة هذا الكتاب «مما ألفه تمام بن غالب لأبي الجيش مجاهد» فردّ الدنانير ولم يفعل وقال: والله لو بذل لي ملء الدنيا ما فعلت ولا استجزت الكذب، فإني لم أجمعه له خاصة لكن لكلّ طالب عامة. قال الحميدي: فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوّها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها «4» .
__________
[269]- ترجمته في جذوة المقتبس: 172 (وبغية الملتمس رقم: 600) والصلة: 479 وإنباه الرواة 1: 259 وابن خلكان 1: 300 والوافي 10: 398 وبغية الوعاة 1: 478 وإشارة التعيين: 67 وروضات الجنات 2: 161 (ويعتمد ياقوت على الجذوة والصلة) .(2/769)
وقال أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الأنصاري الأندلسي في «كتاب الصلة» من تصنيفه، وهو كتاب وصل به كتاب ابن الفرضي في تاريخ الأندلسيين، قال ابن حيان: وله كتاب جامع في اللغة سماه «تلقيح العين» جم الافادة، وكان بقية شيوخ اللغة الضابطين لحروفها، الحاذقين بمقاييسها، وكان ثقة صدوقا عفيفا، وذكر وفاته كما تقدم.
[270]
توفيق بن محمد بن الحسين بن عبيد الله بن محمد بن زريق
، أبو محمد الأطرابلسي النحوي: كان جده محمد بن زريق يتولى أمر الثغور من قبل الطائع لله، وانتقل ابنه عبيد الله إلى الشام، وولد توفيق باطرابلس، وسكن دمشق، وكان أديبا فاضلا شاعرا، وكان يتهم بقلة الدين والميل إلى مذاهب الأوائل، ومن شعره:
وجلّنار كأعراف الديوك على ... خضر تميس كأذناب الطواويس
مثل العروس تجلّت يوم زينتها ... حمراء تجلى «1» على خضر الملابيس
في مجلس لعبت أيدي السرور به ... لدى عريش يحاكي عرش بلقيس
سقى الحيا أربعا تحيا النفوس بها ... ما بين مقرى «2» إلى باب الفراديس
مات في صفر سنة عشر وخمسمائة، ودفن بمقبرة باب الفراديس.
__________
[270]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 3: 555 وتهذيبه 3: 363 وإنباه الرواة 1: 258 وتاريخ الحكماء: 74 والوافي 10: 448 والفوات 1: 265 وبغية الوعاة 1: 479 (ويعتمد ياقوت على ابن عساكر) .(2/770)
حرف الثاء
[271]
ثابت بن الحسين بن شراعة أبو طالب التميمي الأديب
: ذكره شيرويه فقال: روى عن ابن سلمة وابن عيسى وأبي الفضل محمد بن عبد الله الرشيدي ومنصور بن رامش والريحاني وغيرهم، سمعت منه وكان صدوقا، توفي في العشر الأخير من صفر سنة تسع وستين وأربعمائة.
[272]
ثابت بن أبي ثابت علي بن عبد الله الكوفي
: قال الزبيدي: كان من أمثل أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام، وقيل اسم أبي ثابت سعيد، وقال النديم قال السكري: اسم أبي ثابت محمد، لغوي لقي فصحاء الأعراب وأخذ عنهم، وهو من كبار الكوفيين. قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب خلق الإنسان. كتاب الفرق. كتاب الزجر والدعاء. كتاب خلق الفرس. كتاب الوحوش. كتاب مختصر العربية. كتاب العروض.
__________
[271]- الوافي 10: 467.
[272]- طبقات الزبيدي: 205 (ولم يورد ما قاله ياقوت) والفهرست: 76 وإنباه الرواة 1: 261 والوافي 10: 467 وطبقات ابن الجزري 1: 188 وبغية الوعاة 1: 481 (ويعتمد ياقوت على طبقات الزبيدي والفهرست) ونشر الضامن كتاب الفرق (بيروت 1985) ومن قبله نشره الأستاذ محمود الطناحي.(2/771)
[273]
ثابت بن أبي ثابت عبد العزيز اللغوي الذي له
كتاب «خلق الانسان» من علماء اللغة: يروي عن أبي عبيد القاسم بن سلام وأبي الحسن علي بن المغيرة الأثرم واللحياني وأبي نصر أحمد بن حاتم وسلمة بن عاصم التميمي وأبي عبد الله محمد بن زياد وآخرين. روى عنه أبو الفوارس داود بن محمد بن صالح المروزي النحوي المعروف بصاحب ابن السكيت وابنه عبد العزيز بن ثابت.
واسم أبي ثابت أبيه عبد العزيز، من أهل العراق، جليل القدر موثوق به مقبول القول في اللغة يعرف بورّاق أبي عبيد.
[274]
ثابت بن عمرو بن حبيب
مولى عليّ بن رائطة، روى عن أبي عبيد القاسم بن سلام.
[275]
ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة بن مروان الصابىء
أبو الحسن الطبيب المؤرخ: مات فيما ذكره هلال بن المحسن لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وستين وثلاثمائة، وكان قد ذكر في تاريخه إلى آخر سنة ستين، ووصل هلال بن المحسن من أول سنة إحدى وستين وثلاثمائة. وكان أبو الحسن طبيبا حاذقا وأديبا بارعا وله «كتاب التاريخ» الذي ابتدأ به من أول أيام المقتدر. وله كتاب مفرد
__________
[273]- بغية الوعاة 1: 481 وروضات الجنات 2: 167 وهذه التفرقة بين هذا المترجم والذي قبله ربما لم تكن دقيقة، فكلاهما تتلمذ على أبي عبيد القاسم بن سلام وكلاهما ألف كتاب «خلق الانسان» (وهو كتاب قد نشر) .
[274]- هذه الترجمة وردت في (ر) ولم ترد في المطبوع (مرغوليوث) .
[275]- ابن جلجل: 80 وتاريخ الحكماء: 109 وطبقات صاعد: 37 وعيون الأنباء 1: 224 والوافي 10: 463.(2/772)
في أخبار الشام ومصر مجلد واحد. وقال أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابىء يرثي خاله أبا الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة:
أسامع أنت يا من ضمّه الجدف ... نشيج باك حزين دمعه يكف
وزفرة من صميم القلب صاعدة ... يكاد منها حجاب الصدر ينكشف
أثابت بن سنان دعوة شهدت ... لربها أنه ذو غلّة أسف
ما بال طبّك ما يشفي وكنت به ... تشفي العليل إذا ما شفّه الدنف
غالتك غول المنايا فاستكنت لها ... وكنت ذائدها والروح تختطف
فارقتني كفراق الكفّ صاحبها ... أطنّها ضارب من زندها ثقف
فتتّ في عضدي يا من غنيت به ... أفتّ في عضد الباغي وأنتصف
ثوى بمغناك في لحد سكنت به ... الدين والعقل والعلياء والشرف
لهفي عليك كريما في عشيرته ... ممهدا جسمه من نعمة ترف
قد أسلموه إلى غبراء يشمله ... فيها التراب فمنها الفرش واللحف
[276]
ثابت بن محمد الجرجاني أبو الفتوح
: ذكره الحميدي في كتاب الأندلسيين فقال: دخل إلى الأندلس وجال في أقطارها «1» وبلغ إلى ثغورها واجتمع بملوكها، وكان إماما في العربية متمكنا في علم العرب.
قال ابن بشكوال: قتل في محرم سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، قتله باديس بن
__________
[276]- ترجمته في الذخيرة 4/1: 124 والجذوة: 173 (وبغية الملتمس رقم: 602) والصلة: 125 وإنباه الرواة 1: 263 وخبر محنته ورد بتفصيل في الإحاطة 1: 462 نقلا عن تاريخ ابن حيان، وبغية الوعاة 1: 482 وقد درس عليه ابن حزم المنطق، ووصفه بالإلحاد في الفصل 1: 17، وانظر فهرسة ابن خير: 315، 387.(2/773)
حبوس أمير صنهاجة لتهمة لحقته عنده في القيام عليه مع ابن عمه يدّير بن حباسة.
ومولده سنة خمسين وثلاثمائة. وكان مع تحققه بالأدب قيما بعلم المنطق، ودخل بغداد وأقام بها طالبا، وأملى بالأندلس كتاب «شرح الجمل» للزجاجي. روى ببغداد عن ابن جني وعلي بن عيسى الربعي وعبد السلام بن الحسين البصريّ، وروى كثيرا من علم الأدب.
وحدث الحميدي عن أبي محمد علي بن أحمد عن البراء بن عبد الملك الباجي قال: لما ورد أبو الفتوح الجرجاني الأندلس كان أول من لقي من ملوكها الأمير الموفق أبا الجيش مجاهدا العامري، فأكرمه وبالغ في إكرامه، فسأله يوما عن رفيقه: من هذا معك؟ فقال:
رفيقان شتّى ألّف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتّى فيأتلفان
قال أبو محمد: ثم لقيت بعد ذلك أبا الفتوح فأخبرني عن بعض شيوخه أن ابن الأعرابي رأى في مجلسه رجلين يتحادثان، فقال لأحدهما: من أين أنت؟ فقال: من أسبيجاب؟ وقال للآخر: من أين أنت؟ فقال: من الأندلس، فعجب ابن الأعرابي وأنشد البيت المتقدم ثم أنشدني تمامها «1» :
نزلنا على قيسيّة يمنية ... لها نسب في الصالحين هجان
فقالت وأرخت جانب الستر دوننا ... لأيّة أرض أم من الرجلان
فقلت لها أما رفيقي فقومه ... تميم وأما أسرتي فيماني
رفيقان شتّى ألّف الدهر بيننا ... وقد يلتقي الشتّى فيأتلفان(2/774)
[277]
أبو ثروان العكلي
: أحد بني عكل، وعكل اسم امرأة حضنت ولد عوف بن وائل بن قيس بن عوف بن عبد مناة «1» بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وهي أمة لهم، وأمهم بنت ذي اللحية بن حمير، كان ثطّا فسمّي بضدّ صفته، وبنو عوف بن وائل: الحارث وجشم وسعد وعلي وقيس، درج ولا عقب له، فكلّ من ولده واحد من هؤلاء كان عكليا.
وكان أبو ثروان أعرابيا بدويا تعلم في البادية، كذا ذكر يعقوب بن السكيت ووجد بخطّه، وكان فصيحا.
قال محمد بن إسحاق: وله من الكتب: كتاب خلق الفرس. كتاب معاني الشعر.
__________
[277]- الفهرست: 52 وإنباه الرواة 4: 66 والوافي 11: 7.(2/775)
حرف الجيم
[278]
جبر بن علي بن عيسى بن الفرج بن صالح
: أبو البركات الربعي الزهيري «1» ، ووالده أبو الحسن علي بن عيسى هو النحوي المشهور صاحب أبي علي الفارسيّ. وكان أبو البركات هذا أحد الأدباء البلغاء الفصحاء.
قال محمد بن عبد الملك الهمذاني: كان ينوب عن الوزراء ببغداد، وله اليد الطولى في الكتابة، وجنّ في شبيبته فكان يتعمم بحبل البئر، وادعى النبوة في ذلك الوقت، وعولج حتى برأ. وللبصروي وغيره فيه مدائح، ومات في سنة تسع وأربعين وأربعمائة «2» .
[279]
جعفر بن أحمد المروزي، أبو العباس
: ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو أحد جمّاعي ومؤلّفي الكتب في أنواع من العلم، وكتبه كثيرة «3» جدا، وهو أول من ألّف كتابا في المسالك والممالك ولم يتمّ. مات بالأهواز، وحملت كتبه إلى
__________
[278]- ترجمته في الوافي 11: 44.
[279]- الفهرست: 167 والوافي 11: 96 وأورد له في (ر) القصيدة التائية الآتية في رقم: 281.(2/776)
بغداد وبيعت في طاق الحراني سنة أربع وسبعين ومائتين. فمن كتبه: كتاب المسالك والممالك. كتاب الآداب الكبير. كتاب الآداب الصغير. كتاب الناجم. كتاب تاريخ [آي] القرآن لتأييد كتب السلطان. كتاب البلاغة والخطابة.
[280]
جعفر بن أحمد بن عبد الملك بن مروان اللغوي
، أبو مروان الاشبيلي، يعرف بابن الغاسلة: روى عن القاضي أبي بكر ابن زرب وأبي عون ابنه والمعيطي والزبيدي، وكان بارعا في الأدب واللغة ومعاني الشعر والخبر ذا حظ من علم السنّة، توفي سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة ومولده سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
[281]
جعفر بن أحمد بن الحسين بن أحمد بن جعفر
السراج أبو محمد القارىء البغدادي: سمع أبا عليّ ابن شاذان وأبا القاسم ابن شاهين وأبا محمد الخلال وأبا الفتح ابن شيطا وأبا الحسين النوري وأبا القاسم التنوخي.
قال ابن عساكر «1» : قرأت [بخطّ] غيث بن علي الصوري: جعفر بن أحمد بن الحسين ذو طريقة جميلة، ومحبة للعلم والأدب، وله شعر لا بأس به، وخرّج له شيخنا الخطيب فوائد. وتكلّم عليها في خمسة أجزاء، وكان يسافر إلى مصر وغيرها، وتردّد إلى صور عدة دفعات، ثم قطن بها زمانا، وعاد إلى بغداد وأقام بها إلى أن
__________
[280]- الصلة 1: 127 والوافي 11: 98 وبغية الوعاة 1: 485.
[281]- المنتظم 9: 151 والخريدة (قسم العراق) 3/1: 283 وابن خلكان 1: 357 وعبر الذهبي 3: 355 والذيل على طبقات الحنابلة 1: 100 والوافي 11: 92 والنجوم الزاهرة 5: 194 وبغية الوعاة 1: 485 والشذرات 3: 411 والبداية والنهاية 12: 168 والتاج المكلل: 15 وإشارة التعيين: 75 وسير الذهبي 19: 228 والمستفاد: 93.(2/777)
توفي. كتب عنه، ولم يكن به بأس، وله تصانيف منها: مصارع العشاق. كتاب مناقب السودان «1» . ونظم أشعارا كثيرة في الزهد والفقه وغير ذلك؛ قال الصوري قال لي: ولدت سنة تسع عشرة وأربعمائة وسمعت الحديث ولي خمس سنين.
وقرأت بخط أبي المعمّر الأنصاري «2» : توفي جعفر السراج في حادي عشر صفر سنة خمسمائة ودفن بمقبرة باب أبرز وكان ثقة؛ وقال السمعاني: مولده سنة سبع عشرة أو ست عشرة، ومن شعره:
أفلح عبد عصى هواه ... وفاق في دينه وكاسا
ولم يرح مدمنا لخمر ... ينهل طاسا يعلّ كاسا
ومن شعره:
يا من إذا ما رضيته حكما ... جار علينا في حكمه وسطا
قد مدح الله أمة جعلت ... في محكم الذكر أمّة وسطا
وقال جعفر بن أحمد السراج (نقلا من كتاب الخريدة) «3» :
قضت وطرا من أرض نجد وأمّت ... عقيق الحمى مرخى لها في الأزمّة
وخبّرها الروّاد أنّ بحاجر ... حيا نوّرت منه الرياض فحنّت
ولاح لها برق من الغور موهنا ... كشعلة نار للطوارق شبّت
فميّلن بالأعناق «4» عند وميضه ... تراقص في أرسانها واستمرّت
وغنّى لها الحادي فأذكرها الحمى «5» ... وأيامها فيه وساعات «6» وجرة
وقد شركتني في الحنين ركائبي ... وزدن علينا رنة بعد رنّة(2/778)
أقول لركب مجهشين تطوحوا «1» ... وعزّ بهم ماء ردوا ماء عبرتي
ألا ليت شعري هل تعود رواجعا ... ليالي الصبا من بعد ما قد تولّت
قرأت بخط الحسن بن جعفر بن عبد الصمد بن المتوكل في كتابه: حدثني الشيخ أبو الفضائل ابن الخاضبة قال: دخل الشيخ أبو سعد ابن أبي عمامة الواعظ إلى المسجد المعلّق، مقابل دار الخلافة، وكان فيه الشيخ أبو محمد ابن السراج ليسلّم عليه، فالتقاه الشيخ أبو محمد «2» بالرحب والسعة، وتعانقا وجلسا يتذاكران، فجاء الشيخ أبو نصر الأصبهاني فصعد إليهما، وقد كان في الحمام، فكشف رأسه وقعد يستريح من كرب الحمام، فقال له الشيخ أبو محمد: غطّ رأسك لا ينالك الهوا فتتأذّى، فقال الشيخ أبو سعد: لعله يجد فيه راحة.
أنبأنا أبو محمد عبد العزيز بن الأخضر شيخنا رحمه الله قال، سمعت أبا الكرم المبارك بن الحسن الشهرزوري المقرىء يقول: كنت أقرأ على أبي محمد جعفر ابن أحمد السراج وأسمع منه، فضاق صدري منه لحاله، فانقطعت عنه ثم ندمت وقلت: يفوتني منه بانقطاعي عنه فوائد كثيرة، فقصدته في مسجده المعلّق المحاذي لباب النوبي، فلما وقع نظره عليّ رحّب بي وأنشدني لنفسه:
وعدت بأن تزوري بعد شهر ... فزوري قد تقضّى الشهر زوري
وموعد بيننا نهر المعلّى ... إلى البلد المسمى شهرزور
فأشهر صدّك المحتوم حقّ ... ولكن شهر وصلك شهر زور
ومن شعره:
دع الدمع بالوكف يبلي «3» الخدودا ... فإن الأحبّة أضحوا خمودا
دعا بهم هاتف الحادثات ... فبدّلهم بالقصور اللحودا
دنت منهم نوب للردى ... فأفنت ضعيفهم والشديدا(2/779)
دموع يكفكفهنّ الأسى ... عليهم غزارا تروّي الصعيدا
دجاهم وصبحهم واحد ... وقد مزق الدود منهم جلودا
وجعل «كتاب مصارع العشاق» أجزاء، وكتب على كلّ جزء أبياتا من قوله، فكان على الجزء الأول:
هذا كتاب مصارع العشاق «1» ... صرعتهم أيدي نوى وفراق
تصنيف من لدغ الفراق فؤاده ... وتطلّب الراقي فعزّ الراقي
وأنشد [له] السمعاني في «المذيل» «2» :
حبذا طيف سليمى إذ طوى ... حذر الواشي السّرى من ذي طوى
وأتى الحيّ طوقا وهم ... بين أجراع زرود فاللوى
بتّ أشكو ما ألاقيه إلى ... طيفها الطارق من مسّ الجوى «3»
أشكر الأحلام لما جمعت ... بيننا وهنا على رغم النوى «4»
أيها العاذل دعني والهوى ... ليس مشغول وخال بالسّوا
وأنشد له «5» :
حبذا نجد بلادا لم نجد ... راحة للقلب في أرض سواها
فإذا ما لاح منها بارق ... هاج أشواقي أو هبّت صباها
لست أنسى إذ سليمى جارة ... تبذل الودّ وتصفينا هواها
ثم لما شطّت الدار بها ... ورماها البين من حيث رماها
أرسلت طيف كرى لكنه ... زارنا والعين قد زال كراها
ومن شعره أيضا:
وقفنا وقد شطّت بأحبابنا النوى ... على الدار نبكيها سقى ربعها المزن(2/780)
وزادت دموع الواقفين برسمها ... فلو أرسلت سفن بها جرت السفن
ولم يبق صبر يستعان على النوى ... به بعد توديع الخليط ولا جفن
سألنا الصبا لما رأينا غرامنا ... يزيد بسكّان الحمى والهوى يدنو
أفيك لحمل الشوق يا ريح موضع ... فقد ضعفت عن حمل أشواقنا البدن
[282]
جعفر بن إسماعيل بن القاسم القالي
: هو ولد أبي علي القالي الذي تقدم ذكره، وأبو علي والده هو صاحب «الأمالي» وغيرها من التصانيف المشهورة، وكان جعفر هذا أيضا أديبا فاضلا أريبا، وهو القائل في المنصور محمد بن أبي عامر أمير الأندلس يمدحه:
وكتيبة للشيب جاءت تبتغي ... قتل الشباب ففرّ كالمذعور
فكأنّ هذا جيش كلّ مثلّث ... وكأنّ تلك كتيبة المنصور
[283]
جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد بن موسى
بن الحسن بن الفرات، أبو الفضل المعروف بابن حنزابة، وحنزابة اسم أمهم، كانت جارية، وكانت حنزابة حماة المحسّن بن الفرات بمصر: كان وزيرا فاضلا بارعا كاملا، وزر بمصر لأنوجور بن أبي بكر الأخشيد ثم لأخيه أبي الحسن علي ثم لكافور إلى أن انقضت دولة الاخشيدية، وإليه رحل أبو الحسن الدارقطني حتى صنّف له ما صنف في مصر. مات في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة ومولده سنة ثمان وثلاثمائة.
__________
[282]- جذوة المقتبس: 175 (وبغية الملتمس رقم: 611) والوافي 11: 98.
[283]- ترجمة ابن حنزابة في تاريخ بغداد 7: 234 والمنتظم 7: 215 وابن خلكان 1: 346 والمغرب (قسم مصر) : 251 والوافي 11: 118 والفوات 1: 203 وعبر الذهبي 3: 49 وسير الذهبي 16: 484 وتذكرة الحفاظ: 212 ومرآة الجنان 2: 239 والنجوم الزاهرة 4: 203 وحسن المحاضرة 1: 164 والشذرات 3: 135 وسقطت ترجمته من ابن عساكر فقد قال ابن خلكان: وذكره الحافظ ابن عساكر في تاريخ دمشق، وانظر المقفى 3: 41.(2/781)
وفي تاريخ أبي محمد أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الروذباري «1» أن ابن حنزابة مات في ثالث عشر صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة في أيام الحاكم، وفي سنة تسع وتسعين قتل الحاكم ابنه أبا الحسين ابن جعفر بن الفضل بن الفرات، وكان يلقب بسيدوك، وفي سنة خمس وأربعمائة ولي وزارة الحاكم أبو العباس الفضل بن جعفر بن الفضل بن الفرات ابنه الآخر، وضمن ما لم يعرفه فقتل بعد خمسة أيام من ولايته. ويروى لأبي الفضل جعفر هذان البيتان، ولا يعرف له شعر غيرهما «2» :
من أخمل النفس أحياها وروّحها ... ولم يبت طاويا منها على ضجر
إنّ الرياح إذا اشتدّت عواصفها ... فليس تردي سوى العالي من الشجر
قال يحيى بن منده: قدم أبو الفضل ابن حنزابة أصفهان، وسمع من عبد الله بن محمد بن عبد الكريم ومحمد بن عمارة بن حمزة «3» والحسن بن محمد «4» الداركي، وسمع ببغداد من محمد بن هارون الحضرمي «5» ومن في طبقته. وهو أحد الحفاظ، حسن العقل كثير السماع مائل إلى أهل العلم والفضل، نزل مصر وتقلّد الوزارة لأميرها كافور، وكان أبوه وزير المقتدر بالله، وبلغني أنه كان يذكر أنه سمع من عبد الله بن محمد البغوي مجلسا، ولم يكن عنده، وكان يقول: من جاءني به أغنيته، وكان يملي الحديث بمصر، وإليه خرج أبو الحسن الدارقطني إلى هناك، فإنه [كان] يريد أن يصنف مسندا، فخرج الدارقطني إليه وأقام عنده مدة فصنّف له المسند، وحصل له من جهته مال كثير، وروى عنه الدارقطني في «كتاب المدبّج» .
قال ابن منده «6» : سمعت أبا القاسم إسماعيل بن مسعدة الجرجاني قال، قال(2/782)
حمزة بن يوسف السهمي: سألت أبا الحسن علي بن عمر الحافظ الدارقطني عن محمد بن محمد بن سليمان الباغندي، فحكى عن الوزير أبي الفضل ابن الفرات المعروف بابن حنزابة حكاية، قال الشيخ حمزة: ثم دخلت مصر وسألت الوزير أبا الفضل جعفر بن الفضل عن الباغندي، وحكيت له ما كنت سمعته من الدارقطني، فقال لي الوزير: لحقت الباغندي محمد بن محمد بن سليمان وأنا ابن خمس سنين، ولم أكن سمعت منه شيئا، وكان للوزير الماضي رحمه الله [يعني أباه] حجرتان إحداهما للباغندي يجيئه يوما ويقرأ له والأخرى لليزيدي. قال أبو الفضل، سمعت أبي رحمه الله يقول: كنت يوما مع الباغندي في الحجرة يقرأ لي كتب أبي بكر ابن أبي شيبة، فقام الباغندي إلى الطهارة، فمددت يدي إلى جزء معه من حديث أبي بكر، فإذا على ظهره مكتوب «مربع» والباقي محكوك، فرجع الباغندي فرأى الجزء في يدي فتغير وجهه، وسألته وقلت: أيش هذا مربع؟ فغير ذلك ولم أفطن له، لأني أول ما كنت دخلت في كتبة «1» الحديث، ثم سألت عنه فإذا الكتاب لمحمد بن إبراهيم مربع «2» سمعه من أبي بكر ابن أبي شيبة.
قرأت في تاريخ لابن زولاق الحسن بن إبراهيم في «أخبار سيبويه الموسوس» «3» قال: ورأى سيبويه جعفر بن الفضل بن الفرات بعد موت كافور، وقد ركب في موكب عظيم، فقال: ما بال أبي الفضل قد جمع كتّابه، ولفق أصحابه، وحشد بين يديه حجابه، وأشمّ «4» أنفه، وساق العساكر خلفه؟! أبلغه أن الإسلام طرق، أو أن ركن الكعبة سرق [فخرج لهذا الأمر ينكره] ؟ فقال له رجل: هو اليوم صاحب الأمر ومدبر الدولة، فقال: يا عجبا أليس بالأمس نهب الأتراك داره، ودكدكوا آثاره «5» ، وأظهروا عواره، وهم اليوم يدعونه وزيرا، ثم صيّروه أميرا، ما عجبي منهم(2/783)
كيف نصبوه، بل عجبي [منه] كيف تولّى أمرهم وأمن غدرهم «1» .
قال الحافظ أبو القاسم: ذكر بعض أهل العلم، وأظنه محمد بن أبي نصر الحميدي، أن الوزير أبا الفضل ابن حنزابة حدث بمصر سنة سبع وثمانين وثلاثمائة مجالس إملاء خرّجها الدارقطني وعبد الغني بن سعيد، وكانا كاتبيه ومخرّجيه، وكان كثير الحديث جمّ السماع، مكرما لأهل العلم مطعما لأهل الحديث، استجلب الدارقطني من بغداد وبرّ إليه وخرّج له المسند، وقد رأيت عند أبي إسحاق الحبّال «2» من الأجزاء التي خرّجت له جملة كثيرة جدا، في بعضها الموفي ألفا من مسند كذا، والموفي خمسمائة من مسند كذا، وهكذا هي سائر المسندات. وقد أعطى الدارقطني مالا كثيرا، وأنفق عليه نفقة واسعة، ولم يزل في أيام عمره يصنع أشياء من المعروف عظيمة، وينفق نفقات كثيرة على أهل الحرمين من أصناف الأشراف وغيرهم إلى أن تم له أن اشترى بالمدينة دارا إلى جانب المسجد من أقرب الدور إلى القبر، ليس بينها وبين القبر إلا حائط وطريق في المسجد، وأوصى أن يدفن فيها، وقرر عند الأشراف ذلك فسمحوا له بذلك وأجابوه اليه، فلما مات حمل تابوته من مصر إلى الحرمين، فخرجت الأشراف من مكة والمدينة لتلقيه والنيابة في حمله، إلى أن حجّوا به وطافوا ووقفوا بعرفة، ثم ردوه إلى المدينة ودفنوه في الدار التي أعدها لذلك.
قرأت بخط الشريف النسابة محمد بن أسعد بن علي الجواني المعروف بابن النحوي: كان الوزير جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة يهوى النظر الى الحشرات من الأفاعي والحيّات والعقارب وأم أربعة وأربعين وما يجري هذا المجرى، وكان في داره التي تقابل دار الشنتكاني «3» ومسجد ورش، وكانت للماذرائي قبل ذلك قاعة لطيفة مرخّمة «4» فيها سلل الحيات «5» ، ولها قيّم فراش حاو «6»(2/784)
من الحواة، ومعه مستخدمون برسم الخدمة ونقل السلل وحطّها، وكان كل حاو في مصر وأعمالها يصيد له ما يقدر عليه من الحيات، ويتباهون في ذوات العجب من أجناسها وفي الكبار وفي الغريبة المنظر، وكان الوزير يثيبهم في ذلك أوفى الثواب ويبذل لهم الجزيل حتى يجتهدوا في تحصيلها، وكان له وقت يجلس فيه على دكة مرتفعة ويدخل المستخدمون والحواة، فيخرجون ما في السلل، ويطرحونه في ذلك الرخام، ويحرشون بين الهوام، وهو يتعجب من ذلك ويستحسنه، فلما كان ذات يوم أنفذ رقعة إلى الشيخ الجليل ابن المدبر «1» الكاتب، وكان من أعيان كتّاب أيامه «2» ودولته، وكان عزيزا عنده، وكان يسكن في جوار دار ابن الفرات، يقول له فيها:
نشعر الشيخ الجليل- أدام الله سلامته- أنه لما كان البارحة وعرض علينا الحواة الحشرات، الجاري بها العادات، انسابت الى داره منها الحية البتراء وذات القرنين الكبرى والعقربان الكبير وأبو صوفة، وما حصلوا لنا بعد عناء ومشقة، وبجعلة بذلناها للحواة، ونحن نأمر الشيخ- وفقه الله تعالى- بالتقدم إلى حاشيته وصبيته بصون ما وجد منها إلى أن ننفذ الحواة لأخذها وردها إلى سللها. فلما وقف ابن المدبر على الرقعة قلبها وكتب في ذيلها: أتاني أمر سيدنا الوزير- أدام الله نعمته وحرس مدته- بما أشار إليه في أمر الحشرات، والذي يعتمد عليه في ذلك أن الطلاق يلزمه ثلاثا إن بات هو أو واحد من أهله في الدار، والسلام.
أنشدني أبو بكر ابن البر القيرواني «3» التميمي لصالح بن مؤنس المصري يمدح بعض آل الفرات:
قد مرّ عيد وعيد ... ما اخضرّ لي فيه عود
وكيف يخضرّ عود ... والماء منه بعيد
يا من له عدد المجد كلّها والعديد(2/785)
آل الفرات نداهم ... على الفرات يزيد
وأنت فضلك فيهم ... عليك منه شهود
وكلّ يوم لغيري ... من راحتيك مديد
هل لي إلى الرزق ذنب ... فكان منه صدود
ما الناس إلا شقيّ ... في دهرنا وسعيد
قال ابن الأكفاني: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن الحسين بن النحاس، حدثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن نصر من لفظه قال: حضرت عند أبي الحسين المهلبي في داره بالقاهرة فقال لي: كنت منذ أيام حاضرا دار الوزير- يعني أبا الفرج ابن كلس- فدخل عليه أبو العباس الفضل بن أبي الفضل الوزير ابن حنزابة، وكان قد زوّجه ابنته وأكرمه وأجله، فقال له: يا أبا العباس يا سيدي ما أنا بأرجل «1» من أبيك ولا بأعلم ولا بأفضل، وزاد في وصفه وإكرامه، ثم قال: أتدري ما أقعد أباك خلف الباب «2» ؟
شيل أنفه [بأبيه] وأخرج يده فعلا بها رأسه، وشال أنفه إلى فوق وقال له: بالله يا أبا العباس لا تشل أنفك [بأبيك] تدري ما الإقبال؟ نشاط وتواضع، تدري ما الإدبار؟
كسل وترافع.
قرأت فيما جمعه أبو علي صالح بن رشدين «3» قال: كان أبو الفضل جعفر بن الفضل الوزير قد خرج إلى بستانه بالمقس، فكتب إليه أبو نصر ابن كشاجم على تفاحة بماء الذهب، وأنفذها إليه:
إذا الوزير تخلّى ... للنيل في الأوقات
فقد أتاه سميّا ... هـ جعفر بن الفرات
قال محمد بن طاهر المقدسي: سمعت أبا اسحاق الحبال يقول: لما قصد(2/786)
هؤلاء «1» مصر ونزلوا قريبا منها لم يبق أحد من الدولة العباسية إلا خرج للاستقبال والخدمة، غير الوزير أبي الفضل ابن حنزابة، فإنه لم يخرج، فلما كان في الليلة التي صبيحتها الدخول اجتمع إليه مشايخ البلد وعاتبوه في فعله، وقيل له: إنك تغري بدماء أهل السنة، ويجعلون تأخرك عنهم سببا للانتقام، قال: الآن أخرج، فخرج للسلام، فلما دخل عليه أكرمه وبجّله وأجلسه وفي قلبه منه شيء، وكان إلى جنبه ابنه وولي عهده، وغفل الوزير عن التسليم عليه، فأراد أن يمتحنه بسبب يكون إلى الوقيعة به، فقال له: حجّ الشيخ؟ فقال: نعم يا أمير المؤمنين، قال: وزرت الشيخين؟
فقال: شغلت بالنبي صلى الله عليه وسلّم عنهما، كما شغلت بأمير المؤمنين عن ولي عهده، السلام عليك يا وليّ عهد المسلمين ورحمة الله وبركاته، فأعجب من فطنته وتداركه ما أغفله، وعرض عليه الوزارة فامتنع، فقال: إذا لم تل لنا شغلا فيجب أن لا تخرج عن بلادنا فإنّا لا نستغني أن يكون في دولتنا مثلك، فأقام بها ولم يرجع إلى بغداد.
قال وسمعت أبا إسحاق الحبال «2» يقول: كان يستعمل للوزير أبي الفضل الكاغد بسمرقند، ويحمل إليه إلى مصر في كل سنة، وكان في خزانته عدة من الوراقين، فاستعفى بعضهم فأمر بأن يحاسب ويصرف، فكمل عليه مائة دينار، فعاد إلى الوراقة وترك ما كان عزم عليه من الاستعفاء.
قال: وسمعت أبا إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال يقول «3» : خرج أبو نصر السجزي الحافظ على أكثر من مائة شيخ لم يبق منهم غيري، وكان قد خرج له عشرين جزءا في وقت الطلب، وكتبها في كاغد عتيق، فسألت الحبال عن الكاغد فقال: هذا من الكاغد الذي كان يحمل للوزير من سمرقند، وقعت إليّ من كتبه قطعة، فكنت إذا رأيت فيها ورقة بيضاء قطعتها إلى أن اجتمع هذا، فكتبت فيه هذه الفوائد.(2/787)
[284]
جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب أبو القاسم
: ذكره الخطيب فقال: هو أحد مشايخ الكتّاب وعلمائهم، وكان وافر الأدب حسن المعرفة، وله مصنفات في صنعة الكتابة وغيرها، حدث عن أبي العيناء الضرير وحماد بن إسحاق الموصليّ والمبرد ومحمد بن عبد الله بن مالك الخزاعي ونحوهم، روى عنه أبو الفرج الأصفهاني.
ونقلت من خط أبي سعيد معن بن خلف البستي مستوفي بيت الزرد والفرش السلطاني الملكشاهي بتولية نظام الملك، قال قال جعفر بن قدامة الكاتب:
استمع بالله يا ابن الملك والنجدة منّي يومنا في الحسن والبهجة قد جاز التمنّي فأزرني نفسك الحسرّة أو لا فاستزرني ومن خطه، قال: نقلت من خط عبد الرحمن بن عيسى الوزير لجعفر بن قدامة:
كيف يخفى وإن أتاني نهارا ... كسف الشمس بالجمال البهيّ
وإذا زار في الدجى طلع البد ... ر علينا من الجبين المضي
فكلا حالتيه يفضح سرّي ... وينادي بكلّ أمر خفي
بأبي أحسن الأنام جميعا ... تاه عقلي به وحقّ النبي
وقال أبو محمد عبيد الله بن أبي القاسم عبد المجيد بن بشران الأهوازي في «تاريخه» : مات أبو القاسم جعفر بن قدامة بن زياد يوم الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة تسع عشرة وثلاثمائة. قال ابن بشران: وفي سنة عشر وثلاثمائة أخرج علي بن عيسى الوزير إلى اليمن منفيا، فقال أبو القاسم جعفر بن قدامة الكاتب في ذلك:
__________
[284]- ترجمته في الفهرست: 194 (وذكر ان شعره يقع في مائة ورقة) وتاريخ بغداد 7: 205 والوافي 11: 124 والفوات 1: 289 والزركشي: 85 (ويعتمد ياقوت على تاريخ بغداد وينقل عن المحاضرات للتوحيدي) .(2/788)
أصبح الملك واهي الأرجاء ... وأمور الورى بغير استواء
منذ عادت نوى عليّ بن عيسى ... واستمرّت به إلى صنعاء
فوحقّ الذي يميت ويحيي ... وهو الله مالك الأشياء
لقد اختلّ بعده كلّ أمر ... واستبانت كآبة الأعداء
ثم صاروا بعد العداوة و ... الله جميعا في صورة الأولياء
يتألّون كلّهم في عليّ ... أنه قد خلا من النظراء
ومن شعره أيضا:
تسمّع- متّ قبلك- بعض قولي ... ولا تتسلّلن منّي لواذا
نعم أسقمت بالهجران جسمي ... ومتّ بغصتي فيكون ماذا؟
ومن «كتاب الوزراء» «1» لهلال بن محسن: ولجعفر بن قدامة يمدح ابن الفرات:
يا ابن الفرات ويا ... كريم الخيم محمود الفعال
ضيّعت بعدك واطّرحت ... وبان للناس اختلالي
وتغيّرت مذ غيّرت ... أحوالك الأيام حالي
لهفا أبا حسن على ... أيامك الغرّ الحوالي
لهفا عليها إنها ... بليت بأحوال بوالي
قرأت في «كتاب المحاضرات» لأبي حيان «2» : قلت وقلت للعروضي أراك منخرطا في سلك ابن قدامة ومنصبّا إليه ومتوفّرا عليه، وكيف يتفق بينكما وكيف تأتلفان ولا تختلفان؟ فقال: اعلم أن الزمان وقت الاعتدال، والرجل كما تعرف على غاية البرد والغثاثة وجباسة الطبع، وأنا كما تعرفني وتثبتني، فاعتدلنا إلى أن يتغير الزمان، ثم نفترق ونختلف ولا نتفق، وأنشأ يقول:(2/789)
وصاحب أصبح من برده ... كالماء في كانون أو في شباط
ندمانه من ضيق أخلاقه ... كأنّه في مثل سمّ الخياط
نادمته يوما فألفيته ... متصل الصمت قليل النشاط
حتى لقد أوهمني أنه ... بعض التماثيل التي في البساط
[285]
جعفر بن محمد بن أحمد بن حدار الكاتب
، أبو القاسم: ذكره الصولي في «كتاب أخبار شعراء مصر» قال: لم يكن بمصر مثله في وقته، كثير الشعر حسن البلاغة عالم له ديوان شعر ومكاتبات كثيرة حسنة.
قال: وكان العباس بن أحمد بن طولون قد خرج على أبيه في نواحي برقة عند غيبة أبيه بالشام، وتابعه أكثر الناس، ثم غدر به قوم وخرج عليه آخرون من نواحي القيروان فظفر به أبوه، وكان جعفر بن حدار وزير العباس وصاحب أمره.
قال ابن زولاق مؤرخ مصر: قبض على العباس بنواحي الاسكندرية وأدخل إلى الفسطاط على قتب على بغل مقيدا في سنة سبع وستين ومائتين ونصب لكتّابه ومن خرج بهم إلى ما خرج إليه دكة عظيمة رفيعة السّمك في يوم الأربعاء، لا أعرف موقعه من الشهر، وجلس أحمد بن طولون في علو يوازيها، وشرع من ذلك العلو إليها طريقا، وكان العباس قائما بين يدي أبيه في خفتان ملحم وعمامة وخفّ، وبيده سيف مشهور، فضرب ابن حدار ثلاثمائة سوط، وتقدم إليه العباس فقطع يديه ورجليه من خلاف، وألقي من الدكة إلى الأرض، وفعل مثل ذلك بالمنتوف وبأبي معشر، واقتصر بغيرهم على ضرب السوط فلم تمض أيام حتى ماتوا.
وقال الصولي: مثّل أحمد بن طولون بابن حدار لما قتله، يروى أنه تولّى قطع يديه ورجليه بيده. ومن شعر ابن حدار إلى صديق له من أبيات:
__________
[285]- ترجمته في المغرب (قسم مصر) : 251 والوافي 11: 141 والمقفى 3: 59 وفي سيرة ابن طولون للبلوي أخبار متفرقة، وخاصة عن دوره في ثورة العباس بن أحمد بن طولون، وأورد في زهر الآداب، 433 قطعة في وصف القلم لمن اسمه أحمد بن جدار فلعله جد جعفر هذا. (واسمه يتردد بين حدار وجدار وحذار) .(2/790)
يا كسرويا في القديم ... وهاشميا في الولاء
يا ابن المقفّع في البيا ... ن ويا إياسا في الذكاء
يا ناظرا في المشكلا ... ت المعضلات ويا ضيائي
إيها جعلت فداك فيم ... طويتني طيّ الرداء
وتركتني بين الحجاب ... أعوم في بحر الجفاء
ورغبت عما كنت تر ... غب فيه من لطف الإخاء
من بعد اني كنت عندك ... وابن أمك بالسواء
فوحقّ كفك إنها ... كفّ كأخلاق السماء
لأخلّينّك والهوى ... ولأصبرنّ عن اللقاء
ولأشكونّك ما استطعت ... إلى حفاظك والوفاء
ولأصبرنّ على رقيّك ... في ذرى درج العلاء
فهناك أجني ما غرست ... إليك من ثمر الرجاء
ومن شعره أيضا:
جاءت بوجه كأنه قمر ... على قوام كأنه غصن
ترنو بعينين من يعاينها ... من وسن في جفونها وسن
حتى إذا ما استوت بمجلسها ... وصار فيه من حسنها وثن
غنّت فلم تبق فيّ جارحة ... إلا تمنيت أنها أذن
ومن شعره أيضا:
زارني زور ثكلتهم ... وأصيبوا حيث ما سلكوا
أكلوا حتى إذا شبعوا ... حملوا الفضل الذي تركوا(2/791)
[286]
جعفر بن محمد بن الأزهر بن عيسى الأخباري
: أحد أصحاب السير ومن عني بجمع الأخبار والتواريخ، مات سنة تسع وسبعين ومائتين، ومولده سنة مائتين، سمع من ابن الأعرابي وطبقته، وله من الكتب كتاب التاريخ على السنين، وهو من جيد الكتب، ذكر ذلك محمد بن إسحاق «1» .
[287]
جعفر بن محمد بن خالد بن ثوابة، أبو الحسين
الكاتب: أحد البلغاء الفصحاء. قال أبو علي حدثني أبو الحسين ابن قيراط، قال حدثني أبو الحسن الإيادي الكاتب صديق الكرخيين، قال أبو محمد عبد الوهاب بن الحسن بن عبيد الله بن سليمان بن وهب، وعبيد الله وسليمان هما الوزيران، قال: كان إلى والدي الحسن بن عبيد الله ديوان الرسائل وديوان المعاون وجملة الدواوين التي كانت إليه في أيام وزارة أبيه للمعتضد، فأمر عبيد الله ابنه أن يستخلف أبا الحسين ابن ثوابة على ديوان الرسائل وديوان المعاون، فصار كالمتقلّد له من قبل الوزير لكثرة استخدامه له فيه، ثم مات أبي فأقره جدّي الوزير عبيد الله على الديوان رئاسة، وبقي عليهم يتوارثونه مرة رئاسة ومرة خلافة إلى أن تسلمه الصابىء أبو إسحاق من ابن ابنه أحمد.
وكتب جعفر بن محمد هذا رقعة إلى عبيد الله بن سليمان الوزير في نسختها:
قد فتحت للمظلوم بابك، ورفعت عنه حجابك، فانا أحاكم الأيام إلى عدلك، وأشكو صروفها إلى عطفك، وأستجير من لؤم غلبتها بكرم قدرتك، فإنها تؤخّرني إذا قدّمت، وتحرمني إذا قسمت، فإن أعطت أعطت يسيرا، وإن ارتجعت ارتجعت
__________
[286]- الفهرست: 126 وتاريخ بغداد 7: 197 والوافي 11: 142 (وذكر الخطيب أنه توفي سنة 299) .
[287]- ترجمته في الوافي 11: 137.(2/792)
كثيرا، ولم أشكها إلى أحد قبلك، ولا أعددت للإنصاف منها إلا فضلك؛ ودفع ذمام المسألة وحقّ الظلامة حقّ التأميل وقدم صدق الموالاة والمحبة. والذي يملأ يدي من النصفة ويسبغ العدل عليّ حتى تكون إليّ محسنا وأكون بك للأيام معديا أن تخلطني بخواصّ خدمك الذين نقلتهم من حال الفراغ إلى الشغل، ومن الخمول إلى النباهة والذكر، فإن رأيت أن تعديني فقد استعديت، وتجيرني فقد عذت بك، وتوسع عليّ كنفك فقد أويت إليه، وتشملني بإحسانك فقد عوّلت عليه، وتستعمل يدي ولساني فيما يصلحان لخدمتك فيه فقد درست كتب أسلافك، وهم الأئمة في البيان، واستضأت برأيهم، واقتفيت آثارهم اقتفاء حصلني بين وحشيّ كلام وأنيسه، ووقفني منه على جادة متوسطة يرجع إليها الغالي ويسمو نحوها المقصر، فعلت، إن شاء الله تعالى.
فكانت هذه الرقعة سبب استخلافه لأبي.
[288]
جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي، أبو القاسم
الفقيه الشافعي: ذكره محمد بن إسحاق فقال: هو حسن التأليف، عجيب التصنيف، شاعر أديب، فاضل ناقد للشعر كثير الرواية، مات سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، ومولده سنة أربعين ومائتين، له عدة كتب في الفقه على مذهب الشافعي، فأما كتبه في الأدب فهي:
كتاب الباهر في أشعار المحدثين «1» عارض به «الروضة» للمبرد «2» . كتاب الشعر والشعراء لم يتمّ ولو تمّ لكان غاية في معناه. كتاب السرقات لم يتمّ أيضا، وهو كتاب جيد في معناه «3» . كتاب محاسن أشعار المحدثين، لطيف.
__________
[288]- ترجمته في الفهرست: 166 وطبقات الأسنوي 2: 430 والوافي 11: 138.(2/793)
قال أبو عبد الله الخالع: كان أبو القاسم جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي ممن عمّر طويلا، وكانت بينه وبين البحتري مراسلة «1» ، ورثاه بعد وفاته، ومدح القاسم بن عبيد الله وأدرك أبا العباس النامي وتكاتبا بالشعر.
وقال أبو علي ابن الزمكدم: كان ابن حمدان كبير المحلّ من أهل الرياسات بالموصل، ولم يكن بها في وقته من ينظر إليه ويفضّل في العلوم سواه، متقدما في الفقه معروفا به، قويا في النحو فيما يكتبه، عارفا بالكلام والجدل مبرزا فيه، حافظا لكتب اللغة، راوية للأخبار، بصيرا بالنجوم، عالما مطلعا على علوم الأوائل عالي الطبقة فيها، وكان صديقا لكل من وزراء عصره مدّاحا لهم، آنسا بالمبرد وثعلب وأمثالهما من علماء الوقت مفضّلا عندهم. وكانت له ببلده دار علم قد جعل فيها خزانة كتب من جميع العلوم وقفا على كلّ طالب لعلم، لا يمنع أحد من دخولها إذا جاءها غريب يطلب الأدب، وإن كان معسرا «2» أعطاه ورقا وورقا، تفتح في كلّ يوم ويجلس فيها إذا عاد من ركوبه، ويجتمع إليه الناس فيملي «3» عليهم من شعره وشعر غيره ومصنفاته، مثل الباهر وغيره من مصنفاته الحسان، ثم يملي من حفظه من الحكايات المستطابة وشيئا من النوادر المؤلفة وطرفا من الفقه وما يتعلق به. وكان جماعة من أهل الموصل حسدوه على محلّه وجاهه عند الخلفاء والوزراء والعلماء، وكان قد جحد بعض أولاده وزعم أنه ليس منه، فعاندوه بسببه وزعموا أنه نفاه ظلما واجتهدوا أن يلحقوه به فما تمّ لهم، فاجتمعوا وكتبوا فيه محضرا وشهدوا عليه فيه بكلّ قبيح عظيم «4» ، ونفوه عن الموصل فانحدر هاربا منهم إلى مدينة السلام، ومدح المعتضد بقصيدة يشكو فيها ما ناله منهم، ويصف ما يحسنه من العلوم ويستشهد بثعلب والمبرد وغيرهما، أولها:
أجدّك ما ينفكّ طيفك ساريا ... مع الليل مجتابا إلينا الفيافيا(2/794)
يذكّرنا عهد الحمى وزماننا ... بنعمان والأيام تعطي الأمانيا
ليالي مغنى آل ليلى على الحمى ... ونعمان غاد بالأوانس غانيا
وعهد الصبا منهنّ فينان مورق ... ظليل الضحى من حائط اللهو دانيا
قريب المدى نائي الجوى داني الهوى ... على ما يشاء المستهام مؤاتيا
حلفت بأخياف المخيّم من منى ... ومن حلّ جمعا والرعان المتاليا
وبالركب يأتمّون بطحاء مكة ... على أركب تحكي الحنيّ حوافيا
طواهنّ طيّ البيد في غلس الدجى ... ونشر الفيافي والفيافي كما هيا
ولو أنني أبثثت ما بي من الجوى ... شماريخ رضوى أو شمام رثى ليا
وإن أطو ما تطوي الجوانح من هوى ... عن الناس تخبرهم بحالي حاليا
أأدخل تحت الضيم والبيد والسرى ... وأيدي المطايا الناعجات عتاديا
سأخرج من جلباب كلّ ملمة ... خروج المعلّى والمنيح ورائيا
إذا أنا قابلت الإمام مناجيا ... له بالذي من ريب دهري عنانيا
رميت بآمالي إلى الملك الذي ... أذلّت مساعيه الأسود الضواريا
وما هي إلا روحة وادّلاجة ... تنيل الأماني أو تقيم البواكيا
ولي في أمير المؤمنين مدائح ... ملأت بها الآفاق حسن ثنائيا
وأمّت بي الآمال لا طالبا جدى ... ولا شاكيا إنفاض حالي وماليا
ولكنني أشكو عدوّا مسلّطا ... عليّ عداني بغيه عن مجاليا
أيا ابن الولاة الوارثين محمدا ... خلافته دون الموالي مواليا
إذا ما اعتزمت الأمر أبرمت فتله ... ولم تك عن إمضائك العزم وانيا
فلا تك للمظلوم ناداك في الدجى ... لغربته والدفع للظلم ناسيا
[وعش سالم الأيام للملك راعيا ... ودم عالي الأحوال تعلي المعاليا]
وهي مائة وخمسون بيتا، فيها بعد المدح ما يحسنه من العلوم الدينية والأدبية، ويتبجح بمعرفته أقليدس وأشكاله، وزيادات زادها في أعماله.
وله في صفة الليل:(2/795)
ربّ ليل كالبحر هولا وكالدهر امتدادا وكالمداد سوادا
خضته والنجوم يوقدن حتى ... أطفأ الفجر ذلك الإيقادا
قال ابن عبد الرحيم: ونقلت من خط جعفر بن محمد الموصليّ من قصيدة في أبي سليمان داود بن حمدان:
أعيجي بنا قبل انبتات حبالك ... جمالك إن الشوق شوق جمالك
قفي وقفة تبلل عليك أوامها ... جوانح لا تروى بغير نوالك
فقد طلعت شمس الندى بأوارها ... على مستظلات بفيء ظلالك
ومنها:
بأبناء حمدان الذين كأنهم ... مصابيح لاحت في ليال حوالك
لهم نعم لا أستقلّ بشكرها ... وإن كنت قد سيّرته في المسالك
وخلّفت فيه من قريض بدائعا ... ترى خلفا من كلّ باق وهالك
وله من قصيدة في القاسم بن عبيد الله:
ما شأن دارك يا ليلى نناجيها ... فما تجيب ولا ترعي لداعيها
إنّا عشية عجنا بالمطيّ بها ... كنّا نحييك فيها لا نحييها
لا ترسلي الطيف ان الطرف في شغل ... عن الكرى بدموع بات يجريها
لأضربنّ بآمالي إلى ملك ... تقلّ في قدره الدنيا بما فيها
يا ابن الوزارة والمأمول بعد لها ... وسائر الأرض دانيها وقاصيها
ما بال ما اجتاب عرض الأرض من مدحي ... إليك يسري مع الركبان ساريها
لم يأتني نبأ عنها ولا خبر ... واليوم كالحول لي مما أراعيها
وله أيضا:
وما الموت قبل الموت عندي غير أن ... يرى ضرعا بالعسر يوما لذي اليسر
فدع قولهم ليس الثراء من العلا ... فما الفخر إلا أن يقال هو المثري
إذا أنت لم تبل الصديق فلا تكن ... له آمنا فيما يجنّ من الأمر
فإن سترت حال امرىء لؤم أصله ... أبى اللؤم ألا أن يبين مع الستر(2/796)
وله أيضا:
على الخيف من أكناف برقة أطلال ... دوارس عفّتها ببرقة أحوال
ومبنى خيام من فريق تفرّقوا ... أيادي سبا والبين للشمل مغتال
وهنّ نجوم للنجوم ضرائر ... وهنّ لأقمار الحنادس أقتال
ألا إن آجال الظباء سوانحا ... لمن عالج الوجد المبرّح آجال
إلى ابن أبي العباس جاذبنا المنى ... ومن دونه بيد يخبّ بها الآل
وما زالت الأيام تضحك عنهم ... وتشرق عنهم بالمكارم أفعال
أولئك أرباب العلا وبنو الندى ... وقوّال فضل يوم مجد وفعّال
هم ورّثوه الجود والبذل والندى ... فزاد على ما ورّثوه ولم يال «1»
وله يرثى البحتري:
تعوّلت البدائع والقصيد ... وأودى الشعر مذ أودى الوليد
وأظلم جانب الدنيا وعادت ... وجوه المكرمات وهنّ سود
فقل للدهر يجهد في الرزايا ... فليس وراء فجعته مزيد
وله من قصيدة:
تمكّن حبّ علوة في فؤادي ... وملّك «2» أمر غيّي والرشاد
فوالى بين دمعي والمآقي ... وعادى بين جفني والرقاد
وقد طلب السلامة في سليمى ... زمانا والسعادة في سعاد
فلا هاتيك أحمدها وصالا ... ولا هذي ارتضاها في الوداد
وله أيضا:
أيها القرم الذي ... أعوزنا فيه الندود «3»(2/797)
وأعانته على المجد ... مساع وجدود
عجّل النّجح فإنّ ... المطل بالوعد وعيد
قال عبيد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: هذا معنى عنّ لي من قبل أن أقف على هذه الأبيات، وكنت أعجب كيف فات الأوائل اشتماله على مطابقة التجنيس وحسن المعنى مدة، حتى وقفت على ما ها هنا فعلمت أن أكثر ما ينسب إلى الشعراء من السرقات إنما هو توارد خواطر «1» ووقوع حافر على حافر؛ وأما أبياتي فهي:
يا سيدا بذّ من يمشي على قدم ... علما وحلما وآباء وأجدادا
ماذا دعاك إلى وعد تصيّره ... بالخلف والمطل والتسويف إيعادا
لا تعجلنّ بوعد ثم تخلفه ... فيثمر المطل بعد الودّ أحقادا
فالوعد بذر ولطف القول منبته ... وليس يجدي إذا لم يلق حصّادا
[289]
جعفر بن موسى، يعرف بابن الحداد
، أبو الفضل النحوي: كتب الناس عنه شيئا من اللغة وغريب الحديث وما كان من كتب أبي عبيد ما سمعه من أحمد بن يوسف التغلبي وغير ذلك، [وكان] «2» من ثقات المسلمين وخيارهم «3» . مات لثلاث خلون من شعبان سنة تسع وثمانين ومائتين، ودفن بقرب منزله ظهر قنطرة البردان.
[290]
جعفر بن هارون بن إبراهيم النحوي الدينوري
أبو محمد: روى عنه ابن
__________
[289]- تاريخ بغداد 7: 192 والمنتظم 6: 36 وإنباه الرواة 1: 268 والوافي 11: 155 وبغية الوعاة 1: 487.
[290]- تاريخ بغداد 7: 225 وإنباه الرواة 1: 269 ونزهة الألباء: 190 وبغية الوعاة 1: 487 وقد ذكر القفطي أنه نزل بغداد مؤدبا لأولاد ابن عبد العزيز الهاشمي وسمع عليه الحديث سنة 344.(2/798)
شاذان «1» كان علامة بأيام العرب وأخبارها وأشعارها عارفا بأنسابها، كان «2» في شوال سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
[291]
جلد بن جمل الراوية
: ما رأيت أحدا من أهل التصنيف والرواية والتأليف ذكره في كتاب ترجمة إلا أن الإسناد إليه كثير، والرواية عنه ظاهر شهير، وكان فيما تدل عليه الأخبار التي يرويها علّامة بأخبار العرب وأشعارها، عارفا بأيامها وأنسابها.
[292]
جنّاد بن واصل الكوفي
: أبو محمد، ويقال أبو واصل، مولى بني غاضرة «3» : من رواة الأخبار والأشعار، لا علم له بالعربية، وكان يصحّف ويكسر الشعر ولا يميز بين الأعاريض المختلفة فيخلط بعضها ببعض، وهو من علماء الكوفيين القدماء، وكان كثير الحفظ في قياس «4» حماد الراوية.
وحدث المرزباني قال «5» قال عبد الله بن جعفر: أخبرنا أبو عمرو أحمد بن عليّ الطوسيّ عن أبيه قال: ما كانوا يشكّون بالكوفة في شعر ولا يعزب عنهم اسم شاعر إلا سألوا عنه جنادا فوجدوه لذلك حافظا وبه عارفا، على لحن كان فيه. وكان كثير اللحن جدّا فوق لحن حماد، وربما قال من الشعر البيت والبيتين.
وقال التوّزي: اتكل أهل الكوفة على حماد وجناد، ففسدت رواياتهم، من رجلين كانا يرويان لا يدريان، كثرت رواياتهما وقلّ علمهما.
__________
[291]- لم أجد له ذكرا في ما راجعته من مصادر.
[292]- الفهرست: 104 ونور القبس: 272 والوافي: 189 ولسان الميزان 2: 140.(2/799)
وحدث عبد الله بن جعفر عن جبلة بن محمد الكوفي عن أبيه قال: مررت بجنّاد مولى الغاضريين «1» وهو ينشد:
اعلم بأنّ الحقّ مركبه ... إلا على أهل التقى مستصعب
فاقدر بذرعك في الأمور فإنما ... رزق السلامة من لها يتسبب
فقلت: أبرقت يا جناد قال: وأنى ذلك؟ قلت: في هذين البيتين، قال: فلم يستبن ذلك، فتركته وانصرفت.
قال عبد الله: وإنما أنكر عليه أن البيت الأول ينقص من عروضه وتد والثاني تامّ، فكسره ولم يعلم، والعرب لا تغلط بمثل هذا، وإنما يغلطون بأن يدخلوا عروضين في ضرب واحد من الشعر لتشابههما، فاما هذا فالصواب فيه ان يقول:
اعلم بأن الحقّ مركب ظهره ... إلّا على أهل التقى مستصعب
ومعنى قوله «ابرقت» خلطت بيتا مكسورا ببيت صحيح، فصار كالحبل الأبرق على لونين، والبرقاء من الأرض والحجارة: ذات لونين سواد وبياض.
[293]
جنادة بن محمد بن الحسين الهروي
، أبو أسامة اللغوي النحوي: عظيم القدر شائع الذكر عارف باللغة، أخذ عن أبي منصور الأزهري وروى عنه كتبه، وروى عن أبي أحمد العسكري ثم قدم مصر فأقام بها إلى أن قتله الحاكم من الملوك المصرية المنتسبة إلى العلويين في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، ذكر ذلك أبو محمد أحمد بن الحسين بن أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الروذباري في تاريخه الذي ألفه في حوادث مصر. وأخذ عنه بمصر أبو سهل الهروي وغيره من أهل مصر وغيرهم وكان مجلسه بمصر في جامع المقياس «2» ، وهو الذي فيه العمود الذي يعتبرون به زيادة النيل
__________
[293]- ابن خلكان 1: 372 والوافي 11: 192 وبغية الوعاة 1: 488 والمقفى 3: 73.(2/800)
من نقصه؛ واتفق في بعض السنين أنّ النيل لم يزد زيادة تامة، فقيل للحاكم حينئذ إن جنادة رجل ميشوم «1» يقعد في المقياس ويلقي النحو ويعزم على النيل فلذلك لم يزد، وكان من حدّة الحاكم وتهوّره وما عرف من سوء سيرته لا يتثبت فيما يفعله ولا يبحث عن صحة ما يبلغه، فأمر من ساعته بقتله فقتل رحمه الله. سمعت هذا الحديث في مصر مفاوضة، حكوه عن الأثير ابن البيساني أخي القاضي الفاضل وغيره، واللفظ يزيد وينقص، والله أعلم.
[294]
جهم بن خلف المازني الأعرابي، من مازن تميم
: له اتصال في النسب بأبي عمرو بن العلاء المازني المقرىء، وكان جهم راوية علّامة بالغريب والشعر، وكان في عصر خلف الأحمر والأصمعي، وكانوا ثلاثتهم متقاربين في معرفة الشعر، ولجهم شعر مشهور في الحشرات والجوارح من الطير، وقيل ان ابن مناذر قال يمدح جهما «2» :
سمّيتم آل العلاء لأنكم ... أهل العلاء ومعدن العلم
ولقد بنى آل العلاء لمازن ... بيتا أحلّوه مع النجم
وجهم القائل في رواية المازني يصف الحمامة:
مطوّقة كساها الله ... طوقا لم يكن ذهبا
جمود العين، مبكاها ... يزيد أخا الهوى نصبا
مفجّعة بكت شجوا ... فبتّ بشجوها وصبا
على غصن تميل به ... جنوب مرة وصبا
__________
[294]- الفهرست: 52 وإنباه الرواة 1: 271 والوافي 11: 209 وبغية الوعاة 1: 289 وكتب اسمه في (ر) جعفر (في العنوان) .(2/801)
ترنّ عليه إمّا ما ... ل من شوق أو انتصبا
وما فغرت فما وبكت ... بلا دمع لها انسكبا
قال وله يخاطب المفضل الضبي [حين] قدم البصرة:
أنت كوفيّ ولا ... يحفظ كوفيّ صديقا
لم يكن وجهك يا كو ... فيّ للخير خليقا
[295]
جودي بن عثمان مولى لآل يزيد بن طلحة
العنبسيين «1» : من أهل مورور من بلاد الغرب، ذكره الحميدي والزبيدي، رحل إلى المشرق فلقي الكسائي والفراء وغيرهما وهو أوّل من أدخل كتاب الكسائي إلى الغرب، وسكن قرطبة بعد قدومه من المشرق، وفي حلقته أنكر على عباس بن ناصح قوله:
يشهد بالإخلاص نوتيّها ... لله فيها وهو نصراني
فلحّن حيث لم يشدّد ياء النسب، وكان بالحضرة رجل من أصحاب عباس بن ناصح، فساءه ذلك فقصد عباسا، وكان مسكنه بالجزيرة، فلما طلع على عباس قال له: ما أقدمك- أعزك الله- في هذا الأوان؟ قال: أقدمني لحنك، قال له عباس: وأي لحن؟ فأعلمه، فقال له ألا أنشدتهم قول عمران بن حطان:
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وان لقيت معدّيا فعدناني
فلما سمع البيت كرّ راجعا، فقال له عباس: لو نزلت فأقمت عندنا، فقال:
ما بي إلى ذلك من حاجة، ثم قدم قرطبة واجتمع بجوديّ وأصحابه فأعلمهم ما قال ووافقوه؛ ومات سنة ثلاث وتسعين ومائة.
__________
[295]- ترجمة جودي لم ترد لدى الحميدي كما يقول ياقوت وإنما وردت في طبقات الزبيدي: 256 والتكملة لابن الأبار: 249 وانظر أيضا إنباه الرواة 1: 271 وبغية الوعاة 1: 490 وإشارة التعيين: 77 (وكانت وفاة جودي سنة 198) .(2/802)
حرف الحاء
[296]
الحارث بن أبي العلاء عمّار بن العريان أبو سفيان
أخو أبي عمرو ابن العلاء.
[297]
حبشي بن محمد بن شعيب الشيباني، أبو الغنائم النحوي الضرير
: من أهل واسط، من ناحية تعرف بالأفشولية، مات في ذي القعدة سنة خمس وستين وخمسمائة، وكان قد ورد واسط وقرأ بها القرآن وشيئا من النحو، ثم قدم بغداد وأقام بها وقرأ النحو على ابن الشجري العلوي «1» ، واللغة على الشيخ أبي منصور الجواليقي، وسمع منهما ومن قاضي المارستان. وكان عارفا بالنحو واللغة والعربية، تخرج به جماعة من أهل الأدب كمصدق بن شبيب، وكان يحسن الثناء عليه ويقول:
__________
[296]- أرجح أن ياقوتا أورد بعد هذا ترجمة:
الحارث بن علي أبو القاسم الوراق البغدادي، كان من رؤساء المعتزلة في زمانه، وله مصنفات جيدة وردود على ابن الريوندي، وله مع أبي علي الجبائي مناظرات، وكان وراقا يبيع الكتب ويورق للناس وقد روى عنه أبو علي الكوكبي الاخباري، وذكره البلخي في «كتاب المحاسن» فقال: كان من أهل الدين والورع والتقى، قليل النظير في زمانه.
(الوافي 12: 260) .
[297]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 337 والوافي 12: 286 ونكت الهميان: 133 وبغية الوعاة 1: 492.(2/803)
به تخرجنا لأنّ الشيخ ابن الخشاب كان مشغولا عنّا وكان يضنّ علينا بعلمه، فكان انعكافنا على حبشي. وكان مع هذا العلم إذا خرج إلى الطريق بغير قائد لا يهتدي كما يهتدي العميان حتى سوق الكتب الذي كان يأتيه في كل ليلة عشرين سنة ولم يكن بعيدا عن منزله «1» .
[298]
حبيش بن عبد الرحمن، وقيل حبيش بن منقذ أبو
قلابة الجرمي: كان أحد الرواة الفهمة، وكان بينه وبين الأصمعي مماظّة لأجل المذهب لأن الأصمعي رحمه الله كان سنّيّا حسن الاعتقاد وكان أبو قلابة شيعيّا رافضيّا، ولما بلغه وفاة الأصمعي شمت به وقال:
أقول لما جاءني نعيه ... بعدا وسحقا لك من هالك
يا شرّ ميت خرجت نفسه ... وشرّ مدفوع «2» إلى مالك
وله أيضا فيه:
لعن الله أعظما حملوها ... نحو دار البلى على خشبات
أعظما تبغض النبيّ وأهل ... البيت والطّيبين والطيّبات
وكان أبو قلابة صديقا لعبد الصمد بن المعذّل وبينهما مجالسة وممازحة وله معه أخبار. حدث المرزباني قال: قال عبد الصمد بن المعذل أنشدت أبا قلابة قولي فيه:
يا ربّ إن كان أبو قلابه ... يشتم في خلوته الصحابه
__________
[298]- نور القبس: 213 والوافي 12: 287 ولسان الميزان 2: 175.(2/804)
فابعث عليه عقربا دبّابه ... تلسعه في طرف السبابه
واقرن إليه حيّة منسابه ... وابعث على جوخانه «1» سحابه
قال وأبو قلابة ساكت، فلما قلت: «وابعث على جوخانه سحابه» قال: الله الله ليس مع ذهاب الخير عمل.
حدث المبرد في «الروضة» حدثني عبد الصمد بن المعذل قال: جئت أبا قلابة الجرمي، وهو أحد الرواة الفهمة، ومعه الأرجوزة التي تنسب إلى الأصمعي وهي:
تهزأ منّي أخت آل طيسله ... قالت أراه مملقا لا شيء له
قال فسألته أن يدفعها إليّ فأبى، فعملت أرجوزتي التي أولها:
تهزأ منّي وهي رؤد طلّه ... أن رأت الأحناء مقفعلّه
قالت أرى شيب القذال احتلّه ... والورد من ماء اليرنّا حلّه
قال: ودفعتها إليه على أنها لبعض الأعراب وأخذت منه تلك، ثم مضى أبو قلابة إلى الأصمعي يسأله عن غريبها، فقال له: لمن هذه؟ قال: لبعض الأعراب، فقال له: ويحك هذه لبعض الدجالين دلّسها عليك، أما ترى فيها كيت وكيت وكيت، قال فخزي أبو قلابة واستحيى.
[299]
حبيش بن موسى الصيني «2»
: صاحب «كتاب الأغاني» ألفه للمتوكل، وذكر في هذا الكتاب أشياء لم يذكرها إسحاق ولا عمرو بن بانة، وذكر من أسماء المغنين والمغنّيات في الجاهلية والاسلام كلّ ظريف غريب. وله: كتاب الأغاني على حروف المعجم. كتاب مجردات المغنيات «3» .
__________
[299]- الفهرست: 162 والوافي 12: 288.(2/805)
[300]
حسان بن مالك بن أبي عبدة اللغوي الأندلسي
«1» ، كنيته أبو عبدة، الوزير: من أئمّة اللغة والأدب وأهل بيت جلالة ووزارة، مات عن سن عالية قبل عشرين وأربعمائة «2» . له كتاب على مثال كتاب أبي السري سهل بن أبي غالب الذي ألفه في أيام الرشيد وسماه «كتاب ربيعة وعقيل» وهو من أحسن ما ألف في هذا المعنى، وفيه من أشعاره ثلاثمائة بيت، وذاك أنه دخل على المنصور بن أبي عامر وبين يديه كتاب السري وهو معجب به، فخرج من عنده وعمل هذا الكتاب، وفرغ منه تأليفا ونسخا «3» وجاء به في مثل ذلك اليوم من الجمعة الأخرى، وأراه إياه فسرّ به ووصله عليه.
وكتب أبو عبدة إلى المستظهر عبد الرحمن بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر «4» المسمّى بالخلافة أيام الفتنة وكان استوزره:
إذا غبت لم أحضر وإن جئت لم أسل ... فسيان مني مشهد ومغيب
فأصبحت تيميّا وما كنت قبلها ... لتيم ولكنّ الشبيه نسيب
أشار في هذا البيت إلى قول الشاعر:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأذنون وهم شهود
قال ابن خاقان «5» : وكان لأبي عبدة أيام الفتنة حين أدجت الفتنة ليلها، وأزجت
__________
[300]- الجذوة 183 (وبغية الملتمس رقم: 662) والصلة 1: 153 ومطمح الأنفس (شوابكه) : 211 والوافي 12: 361 وبغية الوعاة 1: 544 (ويعتمد ياقوت على مطمح الأنفس إلى جانب اعتماده على الجذوة) .(2/806)
إبلها وخيلها، اغتراب كاغتراب الحارث بن مضاض «1» ، واضطراب بين العوالي والمواضي كالحيّة النضناض، ثم اشتهر بعد، وافترّ له السّعد، وفي تلك المدة يقول يتشوق إلى أهله:
سقى بلدا أهلي به وأقاربي ... غواد بأثقال الحيا وروائح
وهبّت عليهم بالعشيّ وبالضحى ... نواسم من برد الظلال فوائح
تذكرتهم والنأي قد حال دونهم ... ولم أنس لكن أوقد القلب لافح
وممّا شجاني هاتف فوق أيكة ... ينوح ولم يعلم بما هو نائح
فقلت اتّئد يكفيك أني نازح ... وأنّ الذي أهواه عنّي نازح
ولي صبية مثل الفراخ بقفرة ... مضى حاضناها فاطّحتها الطوائح
إذا عصفت ريح أقامت رؤوسها ... فلم تلقها إلا طيور بوارح
[301]
الحسن بن إبراهيم بن زولاق أبو محمد
: هو الحسن بن إبراهيم بن الحسين بن الحسن «2» بن علي بن خلف بن راشد بن عبد الله بن سليمان بن زولاق المصري الليثي، من أعيان علماء أهل مصر ووجوه أهل العلم فيهم، وله عدة تصانيف في التواريخ المصرية. مات يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة سنة ست وثمانين وثلاثمائة في أيام المتلقب بالعزيز بالله، وقيل إنه مات في ذي القعدة سنة
__________
[301]- ترجمة ابن زولاق في وفيات الأعيان 2: 91 وسير الذهبي 16: 462 والبداية والنهاية 11: 321 وتاريخ ابن الوردي 1: 351 والوافي 12: 370 ولسان الميزان 2: 191 وحسن المحاضرة 1: 553 وله كتاب أخبار سيبويه المصري (وفيه حكايات له معه) واحتفظ ابن سعيد في المغرب (قسم مصر) بقطعة وافرة من كتابه «سيرة الأخشيد» وذكر ابن خلكان ان له كتاب قضاة مصر وصل به كتاب الكندي وابتدأه بذكر القاضي بكار بن قتيبة، واختتمه بذكر محمد بن النعمان (حتى سنة 386) وصرّح الصفدي بأن ابن عساكر لم يورد له ترجمة، وانظر المقفى 3: 284.(2/807)
سبع وثمانين وثلاثمائة في أيام الحاكم، والأول أظهر. وكان لمحبته للتواريخ والحرص على جمعها وكتبها كثيرا ما ينشد:
ما زلت تكتب في التاريخ مجتهدا ... حتى رأيتك في التاريخ مكتوبا
وله من الكتب: كتاب سيرة محمد بن طغج الأخشيد. كتاب سيرة جوهر.
كتاب سيرة الماذرائيين. كتاب التاريخ الكبير على السنين. كتاب فضائل مصر.
كتاب سيرة كافور. كتاب سيرة المعز. كتاب سيرة العزيز، وغير ذلك.
وكان قد سمع الحديث ورواه، فسمع منه عبد الله بن وهبان بن أيوب بن صدقة وغيره.
وحدث ابن زولاق في «كتاب سيرة العزيز» المتغلّب على مصر، المنتسب إلى العلويين، من تصنيفه حاكيا عن نفسه قال: لما خلع على الوزير يعقوب بن كلس وكان يهوديا فأسلم، وكان مكينا من العزيز، فلما أسلم قلّده وخلع عليه، قال ابن زولاق: وكنت حاضرا مجلسه فقلت: أيها الوزير روى الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود أنه قال: حدثني الصادق رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنّ الشقيّ من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه، وهذا علوّ سماوي. فقال الوزير: ليس الأمر كذلك، وإنما أفعالي وتوفيراتي وكفايتي ونيابتي ونيّتي وحرصي الذي كان يهجّن ويعاب، وقد مات قوم ممن كان وبقي قوم، وكان هذا القول بحضرة القوم الذين حضروا قراءة السجلّ الذي خرج من العزيز في ذكر تشريفه؛ قال ابن زولاق:
فأمسكت وقلت: وفّق الله الوزير، إنما رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم حديثا صحيحا، وقمت وخرجت وهو ينظر إليّ، وانصرف الوزير إلى داره بما حباه العزيز به، قال:
فحدثني أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسيني الزينبي: عاتبت الوزير على ما تكلّم به وقلت: إنما روى حديثا صحيحا بجميع طرقه وما أراد إلا الخير، فقال لي، وخفي عنك؟ إنما هذا مثل قول المتنبي «1» :
ولله سرّ في علاك وإنما ... كلام العدى ضرب من الهذيان(2/808)
وأجمع الناس على أن ذلك هجو في كافور لأنه أعلمه أنه تقدّم بغير سبب، وابن زولاق هجاني على لسان صاحب الشريعة صلى الله عليه وسلّم فما أمكنني السكوت، وكان في نفسي شيء فجعلت كلامه سببا.
قال أبو عبد الله الزينبي: فأشهد أن الوزير لم ينقض يومه حتى تكلّم بمثل كلامي الذي أوردته عن النبي صلى الله عليه وسلّم وذلك أن رجلا عرض عليه رقعة فقال: كم رقاع؟
كم حرص؟ هو ذا الرجل يطوف البلدان، ويتقلّب في الدول ويسافر فلا ينجح، وآخر يأتيه أمله عفوا، قد فرغ الله من الأرزاق والآجال والمراتب ومن الشقاوة والسعادة، ثم التفت إليّ وضحك وقطع كلامه.
قال ابن زولاق: وكنت هنّأت ابن رشيق بهذه التهنئة في مجلس عظيم حفل حين جاءته الخلع من بغداد والتقليد وألبسوه، ورويت له هذا الخبر فبكى وشكر، وحسدني على ذلك أكثر الحاضرين، وكافأني عليه أحسن مكافأة.
[302]
الحسن بن أحمد بن يعقوب، يعرف بابن الحائك الهمداني
، من
__________
[302]- رفع القفطي (إنباه 1: 279) في نسبه وأفاض في ترجمته، وقال إن تلقيبه بابن الحائك مأخوذ من حوك الشعر، كما يعرف بالنسابة وبابن ذي الدمينة (أحد اجداده) ، كان آباؤه ينزلون المواشي من بلاد بكيل ثم انتقل داود بن سليمان بن ذي الدمينة إلى الرحبة من نواحي صنعاء، ثم إلى صنعاء وبها ولد الحسن ونبغ في علوم كثيرة فهو منجم طبيب نسّابة شاعر فقيه عارف بالأحجار، وأقام زمانا في ريدة، وفترة أخرى في صعدة، وتجوّل كثيرا في البلدان؛ وسجن لأسباب سياسية فيما يبدو، ومن كتبه التي لم يذكرها ياقوت: كتاب السير والأخبار، وكتاب اليعسوب في فقه الصيد وحلاله وحرامه، وكتاب سرائر الحكمة وقد نشره الأستاذ محمد علي الأكوع؛ وانظر في ترجمته أخبار الحكماء: 113 وطبقات صاعد: 58 وبغية الوعاة 1: 498 وأعاد ترجمته 1: 531 (باسم الحسين) ومجلة المجمع العلمي العربي 25: 62 حيث أثبت الشيخ حمد الجاسر أنه لم يمت في سجن صنعاء وإنما توفي بعد خروجه من السجن؛ وفي سنة 1981 عقدت جامعة صنعاء مؤتمرا في ذكرى الهمداني، وألقيت في المؤتمر بحوث قيمة (وحتى الآن لم تظهر مجموعة) ؛ وانظر أيضا مقدمة الجزء الأول من الأكليل في ترجمته.(2/809)
مفاخرها: له «كتاب الإكليل «1» في مفاخر «2» قحطان. وذكر اليمن» وله قصيدة سماها «الدامغة في فضل قحطان» «3» أولها:
ألا يا دار لولا تنطقينا ... فانّا سائلوك فخبرينا
وله كتاب جزيرة العرب وأسماء بلادها وأوديتها ومن يسكنها «4» .
وقرأت بخطّ الأمير عبد الكريم بن علي البيساني أخي الفاضل عبد الرحيم في فهرست كتبه وذكر خبرا من كتاب الاكليل في أنساب حمير وأخبارها تصنيف الحسن بن أحمد بن يعقوب الهمداني وكان في سنة احدى وثلاثين وثلاثمائة «5» .
[303]
الحسن بن أحمد بن يعقوب بن يوسف بن داود
بن سليمان الشاعر المعروف بابن الدمينة «6» ، بن عمرو بن الحارث بن أبي حبش بن منقذ بن الوليد بن الأزهر بن عمرو بن طارق بن أدهم بن قيس بن قيس «7» بن ديبع «8» بن عبد بن عليان بن أرحب ابن الذعّام بن مالك بن ربيعة «9» بن صعب بن دويثان «10» بن جشم بن خيوان بن سرف «11» بن همدان: وكان آباؤه ينزلون المواشي من بلاد بكيل، ثم انتقل داود بن
__________
[303]- هذه هي الترجمة السابقة، وقد وردت في المختصر، كما وردت السابقة، فهما من أصل الكتاب.(2/810)
سليمان ذي الدمينة إلى الرحبة من نواحي صنعاء، وكان رجلا عرّيضا محسّدا في أهل بلدته، وارتفع له صيت عظيم، وكان قد صحب أعلام أهل زمانه «1» .
[304]
الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن سليمان الفارسي
: أبو علي الفارسي، المشهور في العالم اسمه، المعروف تصنيفه ورسمه، أوحد زمانه في علم العربية، كان كثير من تلامذته يقول: هو فوق المبرد.
قال أبو الحسن علي بن عيسى الربعي: هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار بن محمد بن سليمان بن أبان الفارسي، وأمه سدوسية من سدوس شيبان من ربيعة الفرس، مات ببغداد سنة سبع وسبعين وثلاثمائة في أيام الطائع لله عن نيف وتسعين سنة، أخذ النحو عن جماعة من أعيان أهل هذا الشأن كأبي إسحاق الزجاج وأبي بكر ابن السراج وأبي بكر مبرمان وأبي بكر الخياط، وطوّف كثيرا من بلاد الشأم، ومضى إلى طرابلس فأقام بحلب مدة، وخدم سيف الدولة ابن حمدان، ثم رجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات.
حدث الخطيب «2» قال، قال التنوخي: ولد أبو علي الفارسي بفسا، وقدم
__________
[304]- ترجمة أبي علي الفارسي في الفهرست: 69 وطبقات الزبيدي: 120 (وهي شديدة الايجاز) ونزهة الألباء: 315 والمنتظم 7: 138 وتاريخ بغداد 7: 275 وإنباه الرواة 1: 273 وبغية الطلب 4:
الورقة 145 وابن خلكان 2: 80 وسير الذهبي 16: 379 وعبر الذهبي 3: 4 والوافي 11: 376 ومرآة الجنان 2: 406 والبداية والنهاية 11: 306 وطبقات ابن الجزري 1: 206 والنجوم الزاهرة 4: 151 ولسان الميزان 2: 195 وبغية الوعاة 1: 496 والشذرات 3: 88 واشارة التعيين: 83 وروضات الجنات 3: 76 وقد أورد أبو حيان في الامتاع 1: 129 بعض المعلومات عنه وتعد مؤلفات ابن جني مصدرا هاما لحياته وآرائه، وكتب دراسة عنه الأستاذ عبد الفتاح شلبي (وياقوت يعتمد تاريخ الخطيب وغيره) وقد نشر من كتبه في الأيام الاخيرة عدد غير قليل، ومما نشر المسائل العضديات، تحقيق شيخ الراشد، دمشق 1986؛ وفي مقدمات كتبه دراسات عنه لمحققي تلك الكتب.(2/811)
بغداد واستوطنها، وعلت منزلته في النحو حتى قال قوم من تلامذته: هو فوق المبرد وأعلم منه، وصنف كتبا عجيبة حسنة لم يسبق إلى مثلها، واشتهر ذكره في الآفاق، وبرع له غلمان حذّاق مثل عثمان بن جني وعلي بن عيسى الربعي، وخدم الملوك ونفق عليهم، وتقدّم عند عضد الدولة، فكان عضد الدولة يقول: أنا غلام أبي علي النحوي في النحو وغلام أبي الحسين الرازي الصوفي في النجوم. وكان متهما بالاعتزال.
وذكر أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ النحوي في «كتاب شرح الجمل» للزجاجي في باب التصريف منه يحكي عن أبي علي الفارسي أنه حضر يوما مجلس أبي بكر الخياط، فأقبل أصحابه على أبي بكر يكثرون عليه المسائل، وهو يجيبهم ويقيم عليها الدلائل، فلما أنفدوا أقبل على أكبرهم سنا وأكبرهم عقلا وأوسعهم علما عند نفسه فقال له: كيف تبني من سفرجل مثل عنكبوت، فأجابه مسرعا سفرروت، فحين سمعها قام من مجلسه وصفق بيديه وخرج وهو يقول سفرروت، فأقبل أبو بكر على أصحابه وقال: لا بارك الله فيكم ولا أحسن جزاءكم، خجلا مما جرى واستحياء من أبي علي.
ومما يشهد بصفاء ذهنه وخلوص فهمه أنه سئل قبل أن ينظر في العروض عن خرم متفاعلن، فتفكر وانتزع الجواب فيه من النحو، فقال: لا يجوز لأن متفاعلن ينقل إلى مستفعلن إذا خبن، فلو خرم لتعرض للابتداء بالساكن لا يجوز له (الخرم حذف الحرف الأول من البيت والخبن تسكين ثانيه) .
ولما خرج «1» عضد الدولة لقتال ابن عمه عز الدولة بختيار بن معز الدولة دخل عليه أبو علي الفارسي فقال له: ما رأيك في صحبتنا؟ فقال له: أنا من رجال الدعاء لا من رجال اللقاء، فخار الله للملك في عزيمته، وأنجح قصده في نهضته، وجعل العافية زاده والظفر تجاهه والملائكة أنصاره، ثم أنشده:
ودّعته حيث لا تودّعه ... نفسي ولكنّها تسير معه
ثم تولّى وفي الفؤاد له ... ضيق محلّ وفي الدموع سعه
فقال له عضد الدولة: بارك الله فيك، فإني واثق بطاعتك وأتيقّن صفاء(2/812)
طويتك، وقد أنشدنا بعض أشياخنا بفارس:
قالوا له إذ سار أحبابه ... فبدّلوه البعد بالقرب
والله ما شطّت نوى ظاعن ... سار من العين إلى القلب
فدعا له أبو علي وقال: أيأذن مولانا في نقل هذين البيتين؟ فأذن فاستملاهما منه.
وكان «1» مع عضد الدولة يوما في الميدان فسأله بماذا ينتصب الاسم المستثنى في نحو قام القوم إلا زيدا، فقال أبو علي: ينتصب بتقدير أستثني زيدا، فقال له عضد الدولة: لم قدّرت «أستثني زيدا» فنصبت؟ هلّا قدرت «امتنع زيد» فرفعت؟
فقال أبو علي: هذا الذي ذكرته جواب ميدانيّ فإذا رجعت قلت لك الجواب الصحيح. وقد ذكر أبو علي في «كتاب الإيضاح» أنه انتصب بالفعل المتقدم بتقوية إلّا.
قالوا: ولما صنف أبو علي «كتاب الإيضاح» وحمله إلى عضد الدولة استقصره عضد الدولة وقال له: ما زدت على ما أعرف شيئا، وإنما يصلح هذا للصبيان، فمضى أبو علي وصنّف «التكملة» «2» وحملها إليه، فلما وقف عليها عضد الدولة قال: غضب الشيخ وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو.
وحكى ابن جني عن أبي علي الفارسي: قرأ عليّ علي بن عيسى الرماني «كتاب الجمل» و «كتاب الموجز» لابن السراج في حياة ابن السراج. وكان أبو طالب العبدي يقول: لم يكن بين أبي علي وبين سيبويه أحد أبصر بالنحو من أبي علي.
قرأت بخط سلامة بن عياض النحوي ما صورته: وقفت على نسخة من «كتاب الحجة» لأبي علي الفارسي في صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة بالري في دار كتبها التي وقفها الصاحب ابن عباد رحمه الله، وعلى ظهرها بخط أبي علي ما حكايته: هذا- أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل- أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه- كتابي في قراء الأمصار الذين بينت قراءتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى المعروف بكتاب السبعة، فما تضمّن من أثر وقراءة ولغة فهو عن المشايخ الذين(2/813)
أخذت ذلك عنهم وأسندته إليهم، فمتى آثر سيدنا الصاحب الجليل- أدام الله عزه ونصره وتأييده وتمكينه- حكاية شيء منه عنهم أو عني لهذه المكاتبة فعل، وكتب الحسن بن أحمد الفارسي بخطه.
ولأبي علي من التصانيف: كتاب الحجة «1» . كتاب التذكرة، قد ذكرت حاله في ترجمة محمد بن طويس القصري. كتاب أبيات الإعراب. كتاب الإيضاح الشعري «2» . كتاب الإيضاح النحوي. كتاب مختصر عوامل الإعراب. كتاب المسائل الحلبية. كتاب المسائل البغدادية. كتاب المسائل الشيرازية. كتاب المسائل القصرية. كتاب الاغفال، وهو مسائل أصلحها على الزجاج. كتاب المقصور والممدود. كتاب نقض الهاذور. كتاب الترجمة. كتاب المسائل المنثورة «3» . كتاب المسائل الدمشقية. كتاب أبيات المعاني. كتاب التتبع لكلام أبي علي الجبائي في التفسير نحو مائة ورقة. كتاب تفسير قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة
(المائدة: 6) كتاب المسائل البصرية. كتاب المسائل العسكرية «4» . كتاب المسائل المصلحة من كتاب ابن السراج. كتاب المسائل المشكلة. كتاب المسائل الكرمانية.
ذكر المعرّيّ في «رسالة الغفران» «5» أن أبا علي الفارسي كان يذكر أن أبا بكر ابن السراج عمل من «الموجز» النصف الأول لرجل بزّاز ثم تقدم إلى أبي علي الفارسي بإتمامه، قال: وهذا لا يقال إنه من إنشاء أبي علي لأن الموضوع في الموجز هو منقول من كلام ابن السراج في «الأصول» وفي «الجمل» ، فكأن أبا علي جاء به على سبيل النسخ لا أنه ابتدع شيئا من عنده.
نقلت من خطّ الشيخ أبي سعيد معن بن خلف البستي مستوفي بيتي الزرد والفرس الملكشاهي بتولية نظام الملك من كتاب ألّفه بخطه، وكان عالما فاضلا(2/814)
حاسبا، قال الأستاذ أبو العلاء الحسين بن محمد بن مهرويه في كتابه الذي سماه «أجناس الجواهر» : كنت بمدينة السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي النحوي رحمه الله، وكان السلطان رسم له أن ينتصب لي كلّ أسبوع يومين لتصحيح «كتاب التذكرة» لخزانة كافي الكفاة، فكنا إذا قرأنا أوراقا منه تجارينا في فنون الآداب، واجتنينا من فوائد ثمار الألباب، ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه، والتقطنا الدرّ المنثور من سقاط فيه. فأجرى يوما بعض الحاضرين ذكر الأصمعي، وأسرف في الثناء عليه وفضّله على أعيان العلماء في أيامه، فرأيته رحمه الله كالمنكر لما كان يورده، وكان فيما ذكر من محاسنه ونشر من فضائله أن قال: من ذا الذي يجسر أن يخطّىء الفحول من الشعراء غيره؟ فقال أبو علي: وما الذي ردّ عليهم؟ فقال الرجل: أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها، وفضل معرفته بأغراضها ومراميها، وانه سلك نهج الأوائل في وصف المفاوز إذا لعب السراب فيها، ورقص الآل في نواحيها، ونعت الحرباء وقد سبح على جذله، والظليم وكيف ينفر من ظله، وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام، حتى كأنهم صرعتهم كؤوس المدام، فطبّق مفصل الإصابة في كلّ باب، وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة، وجارى القروم البزل من أصحاب البلاغة، فقال له الشيخ أبو علي: وما الذي أنكر على ذي الرمة؟ فقال قوله:
وقفنا فقلنا إيه عن أمّ سالم
لأنه كان يجب أن ينوّنه، فقال: أما هذا فالأصمعي مخطىء فيه وذو الرمة مصيب، والعجب أن يعقوب بن السكيت قد وقع عليه هذا السهو في بعض ما أنشده، فقلت: إن رأى الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطأ تفضّل به. فأملى علينا، أنشد ابن السكيت لأعرابي من بني أسد:
وقائلة أسيت فقلت جير ... أسيّ إنني من ذاك إنّه
أصابهم الحمى وهم عواف ... وكنّ عليهم نحسا لعنّه
فجئت قبورهم بدءا ولمّا ... فناديت القبور فلم يجبنه
وكيف يجيب أصداء وهام ... وأبدان بدرن وما نخرنه(2/815)
قال يعقوب: هو جير أي حقا وهي مخفوضة غير منوّنة، فاحتاج إلى التنوين.
قال أبو علي: هذا سهو منه لأنّ هذا يجري مجرى الأصوات، وباب الأصوات كلها والمبنيات بأسرها إلا ما خصّ منها لعلة الفرقان فيها بين نكرتها ومعرفتها بالتنوين، فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين فإذا نكرته نوّنته، من ذلك أنك تقول في الأمر صه ومه تريد: السكوت يا فتى، فإذا نكرت قلت: صه ومه تريد سكوتا، وكذلك قول الغراب غاق أي صوتا، وكذلك إيه يا رجل تريد الحديث وإيه تريد حديثا، وزعم الأصمعي أن ذا الرمة أخطأ في قوله: «وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم» وكان يجب أن ينوّنه ويقول إيه وهذا من أوابد الأصمعي التي يقدم عليها من غير علم، فقوله جير بغير تنوين في موضع قوله الحق وتجعله نكرة في موضع آخر فتنونه، فيكون معناه قلت حقا، ولا مدخل للضرورة في ذلك إنما التنوين للمعنى المذكور، وبالله التوفيق. وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير.
قال يعقوب: قوله أصابهم الحمى يريد الحمام، وقوله: بدرن أي طعنّ في بوادرهم بالموت، والبادرة النحر، وقوله: فجئت قبورهم بدءا أي سيدا، وبدء القوم سيدهم وبدء الجزور خير أنصبائها، وقوله ولما أي ولم أكن سيدا إلا حين ماتوا فإني سدت بعدهم.
قرأت في «معجم السّفر» «1» للسلفي: أنشدني أبو جعفر أحمد بن محمد بن كوثر المحاربي الغرناطي بديار مصر قال، أنشدنا أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف النحوي لنفسه بالأندلس في «كتاب الإيضاح» لأبي علي الفارسي النحوي:
أضع الكرى لتحفّظ الإيضاح ... وصل الغدوّ لفهمه برواح
هو بغية المتعلّمين ومن بغى ... حمل الكتاب يلجه بالمفتاح
لأبي عليّ في الكتاب إمامة ... شهد الرواة لها بفوز قداح
يفضي إلى أسراره بنوافذ ... من علمه بهرت قوى الأمداح(2/816)
فيخاطب المتعلمين بلفظه ... ويحلّ مشكله بومضة واحى
مضت العصور فكلّ نحو ظلمة ... وأتى فكان النحو ضوء صباح
أوصى ذوي الاعراب أن يتذاكروا ... بحروفه في الصّحف والألواح
فإذا هم سمعوا النصيحة أنجحوا ... إن النصيحة غبّها لنجاح
وكتب الصاحب إلى أبي علي في الحال المقدم ذكرها: كتابي- أطال الله بقاء الشيخ، وأدام جمال العلم والأدب بحراسة مهجته وتنفيس مهلته- وأنا سالم ولله حامد، وإليه في الصلاة على النبي وآله راغب، ولبرّ الشيخ أيده الله بكتابه الوارد شاكر. وأما أخونا أبو الحسين قريبه- أعزه الله- فقد ألزمني بإخراجه إليّ أعظم منة، وأتحفني من قربه بعلق مضنّة، لولا أنه قلّل المقام، واختصر الأيام، ومن هذا الذي لا يشتاق ذلك المجلس، وأنا أحوج من كلّ حاضريه إليه، وأحقّ منهم بالمثابرة عليه، ولكنّ الأمور مقدّرة، وبحسب المصالح ميسرة، غير أنا ننتسب إليه على البعد ونقتبس فوائده عن قرب، وسيشرح هذا الأخ هذه الجملة حقّ الشرح بإذن الله، والشيخ- أدام الله عزه- يبرّد غليل شوقي إلى مشاهدته، بعمارة ما افتتح من البرّ بمكاتبته، ويقتصر على الخطاب الوسط دون الخروج في إعطاء الرتب إلى الشطّ، كما يخاطب الشيخ المستفاد منه التلميذ الآخذ عنه، ويبسط إليّ في حاجاته، فإنني أظنني أجدر إخوانه بقضاء مهماته، إن شاء الله تعالى. قد اعتمدت على صاحبي أبي العلاء أيده الله لاستنساخ «التذكرة» وللشيخ- أدام الله عزه- رأيه الموفّق في التمكين من الأصل، والإذن بعد النسخ في العرض، بإذن الله تعالى.
قال حدثني علم الدين أبو محمد القاسم بن أحمد الأندلسي- أيده الله تعالى- قال «1» : وجدت في مسائل نحوية تنسب إلى ابن جني قال: لم أسمع لأبي علي شعرا قطّ إلى أن دخل إليه في بعض الأيام رجل من الشعراء، فجرى ذكر الشعر فقال أبو علي: إني لأغبطكم على قول هذا الشعر، فإن خاطري لا يواتيني على قوله، مع تحقّقي للعلوم التي هي من موارده، فقال له ذلك الرجل: فما قلت قطّ شيئا منه البتة؟(2/817)
فقال: ما أعهد لي شعرا إلا ثلاثة أبيات قلتها في الشيب، وهي قولي:
خضبت الشيب لما كان عيبا ... وخضب الشيب أولى أن يعابا
ولم أخضب مخافة هجر خلّ ... ولا عيبا خشيت ولا عتابا
ولكنّ المشيب بدا ذميما ... فصيرت الخضاب له عقابا
فاستحسناها وكتبناها عنه، أو كما قال، لأني كتبتها في المفاوضة ولم أنقل ألفاظها.
أخبركم أبو الحسن علي بن عمر الفرّاء عن أبي الحسين نصر بن أحمد بن نوح المقرىء، قال: أنبأنا أبو الحسن علي بن عبيد الله السمسمي اللغوي ببغداد، أنبأنا أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي قال: جئت إلى أبي بكر السراج لأسمع منه الكتاب، وحملت إليه ما حملت، فلما انتصف الكتاب عسر عليه في تمامه، فقطعت عنه لتمكني من الكتاب، فقلت لنفسي بعد مدة: إن سرت إلى فارس وسئلت عن تمامه، فإن قلت: نعم كذبت، وإن قلت لا سقطت الرواية والرحلة، ودعتني الضرورة فحملت إليه رزمة، فلما أبصرني من بعيد أنشد «1» :
وكم تجرعت من غيظ ومن حزن ... إذا تجدّد حزن هوّن الماضي
وكم غضبت فما باليتم غضبي ... حتى رجعت بقلب ساخط راضي
قرأت بخط الشيخ أبي محمد الخشاب: كان شيخنا- يعني أبا منصور موهوب بن الخضر الجواليقي- قلّ ما ينبل عنده ممارس للصناعة النحوية ولو طال فيها باعه، ما لم يتمكن من علم الرواية وما تشتمل عليه من ضروبها، ولا سيما رواية الأشعار العربية وما يتعلق بمعرفتها من لغة وقصة، ولهذا كان مقدّما لأبي سعيد السيرافي على أبي علي الفارسي رحمهما الله، وأبو علي أبو عليّ في نحوه، وطريقة أبي سعيد في النحو معلومة، ويقول: أبو سعيد أروى من أبي علي، وأكثر تحققا بالرواية، وأثرى منه فيها، وقد قال لي غير مرة: لعلّ أبا علي لم يكن يرى ما يراه أبو سعيد من معرفة هذه الاخباريّات والأنساب وما جرى في هذا الأسلوب كبير أمر؛(2/818)
قال الشيخ أبو محمد: ولعمري إنه قد حكي عنه- أعني أبا علي- أنه كان يقول: لأن أخطىء في خمسين مسألة مما بابه الرواية أحبّ إليّ من أن أخطىء في مسألة واحدة قياسية، هذا كلامه أو معناه، على أنه كان يقول: قد سمعت الكثير في أول الأمر وكنت أستحي أن أقول أثبتوا اسمي.
قال الشيخ أبو محمد: وكثيرا ما تبنى السقطات على الحذاق من أهل الصناعة النحوية لتقصيرهم في هذا الباب فمنه يذهبون ومن جهته يؤتون- تمام هذا الكلام في أخبار ابن الخشاب.
وقرأت «1» في تاريخ أبي غالب ابن مهذب المعري قال، حدثني الشيخ أبو العلاء أن أبا علي مضى إلى العراق وصار له جاه عظيم عند الملك فناخسرو، فوقعت لبعض أهل المعرة «2» حاجة في العراق احتاج فيها إلى كتاب من القاضي أبي الحسن سليمان إلى أبي علي، فلما وقف على الكتاب قال: إني قد نسيت الشام وأهله ولم يعره طرفه.
قال عثمان بن جني رحمه الله: وإن وجدت فسحة وأمكن الوقت عملت بإذن الله كتابا أذكر فيه جميع المعتلّات في كلام العرب، وأميّز ذوات الهمزة من ذوات الواو والياء، وأعطي كلّ جزء منها حظّه من القول مستقصى، إن شاء الله تعالى. وذكر شيخنا أبو علي أن بعض إخوانه سأله بفارس إملاء شيء من ذلك، فأملى عليه صدرا كثيرا وتقصّى القول فيه، وأنه هلك في جملة ما فقده وأصيب به من كتبه. وحدثني أيضا أنه وقع حريق بمدينة السلام فذهب به جميع علم البصريين قال: وكنت قد كتبت ذلك كلّه بخطي وقرأته على أصحابنا فلم أجد من الصندوق الذي احترق شيئا البتة إلا نصف كتاب الطلاق عن محمد بن الحسن، وسألته عن سلوته وعزائه فنظر إليّ معجبا ثم قال: بقيت شهرين لا أكلّم أحدا حزنا وهمّا، وانحدرت إلى البصرة لغلبة الفكر عليّ وأقمت مدة ذاهلا متحيرا. انقضى كلامه في هذا الفصل.
قرأت في «المسائل الحلبية» نسخة كتاب كتبه أبو علي إلى سيف الدولة جوابا(2/819)
عن كتاب ورد عليه منه يردّ فيه على ابن خالويه في أشياء أبلغها سيف الدولة عن أبي علي، نسخته: قرأ- أطال الله بقاء سيدنا الأمير سيف الدولة- عبد سيدنا الرقعة النافذة من حضرة سيدنا، فوجد كثيرا منها شيئا لم تجر عادة عبده به، لا سيما من صاحب الرقعة، إلا أنه يذكر من ذلك ما يدلّ على قلة تحفّظ هذا الرجل فيما يقوله، وهو قوله: «ولو بقي عمر نوح ما صلح أن يقرأ على السيرافي» مع علمه بأن ابن بهزاد السيرافي يقرأ عليه الصبيان، هذا ما لا خفاء به، كيف وهو قد خلّط فيما حكاه عني، وأني قلت إن السيرافي قد قرأ عليّ، ولم أقل هذا إنما قلت «تعلّم مني» أو «أخذ عني» هو وغيره ممن ينظر اليوم في شيء من هذا العلم، وليس قول القائل: «تعلم مني» مثل «قرأ عليّ» لأنه قد يقرأ عليه من لا يتعلم منه وقد يتعلم منه من لا يقرأ عليه. وتعلّم ابن بهزاد منّي في أيام محمد بن السريّ وبعده لا يخفى على من كان يعرفني ويعرفه كعليّ بن عيسى الوراق ومحمد بن أحمد بن يونس ومن كان يطلب هذا الشأن من بني الأزرق الكتّاب وغيرهم، وكذلك كثير من الفرس الذين كانوا يرونه يغشاني في صفّ شونيز كعبد الله بن جعفر بن درستويه النحوي، لأنه كان جاري بيت بيت قبل أن يموت الحسن بن جعفر أخوه فينتقل إلى داره التي ورثها عنه في درب الزعفراني. وأما قوله: «إني قلت إنّ ابن الخياط كان لا يعرف شيئا» فغلط في الحكاية، كيف أستجيز هذا وقد كلمت ابن الخياط في مجالس كثيرة؟ ولكني قلت:
إنه لا لقاء له لأنه دخل إلى بغداد بعد موت محمد بن يزيد وصادف أحمد بن يحيى وقد صم صمما شديدا لا يخرق الكلام معه سمعه، فلم يمكن تعلم النحو منه، وإنما كان يعوّل فيما كان يؤخذ عنه على ما يملّه دون ما كان يقرأ عليه، وهذا الأمر لا ينكره أهل هذا الشأن ومن يعرفهم. وأما قوله: «قد أخطأ البارحة في أكثر ما قاله» فاعتراف بما إن استغفر الله منه كان حسنا. والرقعة طويلة فيها جواب عن مسائل أخذت عليه كانت النسخة غير مرضية فتركتها إلى أن يقع علي ما أرتضيه، وأكثر النسخ بالحلبيات لا توجد هذه الرقعة فيها.
قرأت بخطّ أبي الفتح عثمان بن جني الذي لا أرتاب به قال: وسألته- يعني أبا علي- فقلت: أقرأت أنت على أبي بكر؟ فقال: نعم قرأت عليه وقرأ أبو بكر على أبي سعيد السكري، قال: وكان أبو بكر قد كتب من كتب أبي سعيد كثيرا وكتب أبي(2/820)
زيد. قال: وذاكرته بكتب أبي بكر وقلت: لو عاش لظهر من جهته علم كثير، وكلاما هذا نحوه، فقال: نعم إلا أنه كان يطوّل كتبه، وضرب لذلك مثلا قد ذهب عني، أظنه، بارك الله لأبي يحيى في كتبه أو شيئا نحو ذلك. قال: وفارقت أبا بكر قبل وفاته وهو يشغل بالعلة التي توفي فيها، وراجعت البلد فارس ثم عدت وتوفي.
ورأيت في آخر كتابه في «معاني الشعر» خطّي الذي كان يملّه عليّ لأكتبه فيه «فعلمت أنه لم يزد فيه شيئا. قال: وكان الأصمعي يتّهم في تلك الأخبار التي يرويها، فقلت له: كيف هذا وفيه من التورع ما دعاه إلى ترك تفسير القرآن ونحو ذلك؟ فقال: كان يفعل ذلك رياء وعنادا لأبي عبيدة لأنه سبقه إلى عمل كتاب في القرآن، فجنح الأصمعي إلى ذلك.
[305]
الحسن بن أحمد أبو محمد الأعرابي
المعروف بالأسود الغندجاني اللغوي النسابة: وغندجان بلد قليل الماء لا يخرج منه إلا أديب أو حامل سلاح، وكان الأسود صاحب دنيا وثروة، وكان علّامة نسّابة عارفا بأيام العرب وأشعارها، قيّما بمعرفة أحوالها، وكان مستنده فيما يرويه عن محمد بن أحمد أبي الندى «1» ، وهذا رجل مجهول لا معرفة لنا به، وكان أبو يعلي ابن الهبارية الشاعر يعيره بذلك ويقول: ليت شعري من هذا الأسود الذي قد وطّن «2» نفسه على الرد على العلماء، وتصدّى للأخذ على الأئمة القدماء، بماذا نصحّح قوله ونبطل قول الأوائل، ولا تعويل له فيما يرويه إلا على أبي الندى، ومن أبو الندى في العالم؟ لا شيخ مشهور ولا ذو علم مذكور.
__________
[305]- ترجمته في الوافي 11: 380 ولسان الميزان 2: 194 وبغية الوعاة 1: 498 وخزانة الأدب 1: 21 وانظر بحثا عنه في مجلة العرب للشيخ حمد الجاسر (السنة التاسعة) ؛ وقد طبع من كتبه فرحة الأديب وأسماء خيل العرب واصلاح ما غلط فيه النمري بتحقيق الدكتور محمد علي سلطاني (دمشق) وغندجان بأرض فارس.(2/821)
قال المؤلف: ولعمري إنّ الأمر لكما قال أبو يعلى، هذا رجل يقول: أخطأ ابن الأعرابي في أن هذا الشعر لفلان، إنما هو لفلان بغير حجّة واضحة، ولا أدلة لائحة، أكثر من أن يكون ابن الاعرابي الذي كان يقاوم الأصمعي وقد أدرك صدرا من العرب الذين عنهم أخذ هذا العلم ومنهم استمد أولو الفهم. وكان الأسود لا يقنعه أن يرد على أئمة العلم ردّا جميلا حتى يجعله من باب السخرية والتهكم وضرب الأمثال والطنز.
والحكاية عنه مستفاضة في أنه كان يتعاطى تسويد لونه وأنه كان يدّهن بالقطران ويقعد في الشمس ليحقّق لنفسه التلقيب بالأعرابي. وكان قد رزق في أيامه سعادة وذاك أنه كان في كنف الوزير العادل أبي منصور بهرام بن مافنّه وزير الملك أبي كاليجار بن سلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عضد الدولة بن بويه صاحب شيراز، قد خطب له ببغداد بالسلطنة، فكان الأسود إذا صنّف كتابا جعله باسمه، فكان يفضل عليه إفضالا جما، فأثرى من جهته، ومات أبو منصور الوزير في سنة ثلاث وثلاثين وأربعمائة.
وقرأت في بعض تصانيفه أنه صنّف في شهور سنة اثنتي عشرة وأربعمائة وقرىء عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
وللأسود من التصانيف: كتاب السلّ والسرقة. كتاب فرحة الأديب في الردّ على يوسف بن أبي سعيد السيرافي في شرح أبيات سيبويه. كتاب ضالّة الأديب في الردّ على ابن الأعرابي في النوادر التي رواها ثعلب. كتاب قيد الأوابد في الردّ على ابن السيرافي أيضا في شرح أبيات إصلاح المنطق. كتاب الردّ على النمريّ في «شرح مشكل أبيات الحماسة» . كتاب نزهة الأديب في الردّ على أبي علي في «التذكرة» .
كتاب الخيل مرتّب على حروف المعجم. كتاب في أسماء الأماكن.(2/822)
[306]
الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء
، أبو علي المقرىء المحدث الحنبلي: ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة، وقرأ القرآن على أبي الحسن الحمامي وغيره، وسمع الحديث من ابن بشران [وهلال الحفار] وغيرهما، وتفقه على القاضي أبي يعلى ابن الفراء ومات في خامس رجب سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، وصنف في كلّ فنّ حتى بلغت تصانيفه مائة وخمسين مصنفا، منها كتاب «شرح الإيضاح» لأبي عليّ الفارسيّ في النحو، رأيته. وكان له حلقة بجامع القصر يفتي فيها ويقرأ الحديث وحلقة بجامع المنصور.
وحدث السمعاني قال «1» : سمعت أبا القاسم ابن السمرقندي يقول: كان واحد من أصحاب الحديث اسمه الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري، وكان سمع الكثير، وكان ابن البنّاء يكشط من التسميع «بوري» ويمدّ السين، وقد صار الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء، قال: كذا قيل إنه كان يفعل؛ قال أبو الفرج «2» : وهذا القول بعيد من الصحة [لثلاثة أوجه، أحدها] أنه قال: «كذا قيل» ولم يحك عن علمه بذلك فلا يثبت هذا، والثاني أن الرجل مكثر لا يحتاج إلى الاستزادة لما يسمع، ومتديّن ولا يحسن أن يظنّ بالمتدين الكذب، والثالث أنه قد اشتهرت كثرة رواية أبي علي ابن البناء، فأين هذا الرجل الذي يقال له الحسن بن أحمد بن عبد الله النيسابوري ومن ذكره ومن يعرفه؟ ومعلوم أنّ من اشتهر سماعه لا يخفى.
وقال السمعاني، ونقلته من خطه: الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء المقرىء الحافظ أبو علي أحد الأعيان، والمشار إليهم في الزمان، له في علوم القرآن
__________
[306]- ترجمته في المنتظم 8: 319 وإنباه الرواة 1: 276 وتاريخ ابن الاثير 10: 112 وسير الذهبي 18: 380 وعبر الذهبي 3: 275 ومرآة الجنان 3: 100 والوافي 11: 381 وذيل طبقات الحنابلة 1: 32 وطبقات ابن الجزري 1: 206 ولسان الميزان 2: 195 والنجوم الزاهرة 5: 107 وبغية الوعاة 1: 495 والشذرات 3: 338.(2/823)
والحديث والفقه والأصول والفروع عدة مصنفات، حكى بعض أصحاب الحديث عنه أنه قال: صنف خمسمائة مصنف، وكان حلو العبارة.
قال السمعاني: وقرأت بخط الامام والدي: سمعت أبا جعفر محمد بن أبي علي الهمذاني بها يقول: سمعت أبا علي ابن البناء ببغداد وقال «1» : ذكرني أبو بكر الخطيب في التاريخ بالصدق أو بالكذب؟ فقالوا: ما ذكرك في التاريخ أصلا، فقال ليته ذكرني في الكذابين.
قال السمعاني أنبأنا أبو عثمان العصائدي أنبأنا أبو علي ابن البناء قال: كتب إليّ بعض إخواني من أهل الأدب كتابا وضمنه قول الخليل بن أحمد «2» :
إن كنت لست معي فالذكر «3» منك معي ... يراك قلبي وإن غيّبت عن بصري
العين تبصر ما تهوى وتفقده ... وباطن القلب لا يخلو من النظر
فكتب إليه أبو علي لنفسه «4» :
إذا غيّبت أشباحنا كان بيننا ... رسائل صدق في الضمير تراسل
وأرواحنا في كلّ شرق ومغرب ... تلاقى بإخلاص الوداد تواصل
وثمّ أمور لو تحققت بعضها ... لكنت لنا بالعذر فيها تقابل
وكم غائب والصدر منه مسلّم «5» ... وكم زائر في القلب منه بلابل
فلا تجزعن يوما إذا غاب صاحب ... أمين فما غاب الصديق المجامل(2/824)
[307]
الحسن بن أحمد الاستراباذي، أبو علي
: النحوي اللغوي الأديب الفاضل حسنة طبرستان وأوحد ذلك الزمان، وله من التصانيف: شرح الفصيح. كتاب شرح الحماسة.
[308]
الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن سهل
بن سلمة بن عثكل بن حنبل بن إسحاق العطار الحافظ، أبو العلاء الهمذاني المقرىء: من أهل همذان، مات في تاسع عشر جمادى الأولى سنة تسع وستين وخمسمائة، وذكره بعض الثقات من أهل العلم فذكر له مناقب كثيرة، وذكر نسبه وولادته فقال: هو أبو العلاء الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد بن سهل بن سلمة بن عثكل بن إسحاق العطار الهمذاني، وكان عثكل من العرب. وأما ولادته فإنها كانت يوم السبت قبل طلوع الشمس الرابع عشر من ذي الحجة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة بهمذان، وذكر من مناقبه: سمعته رحمه الله يقول: سلّمت في صغري إلى رجل معلم- قال:
سمّاه ونسيت اسمه- قال: وكنت أحفظ عليه القرآن، فحفظت عليه إلى سورة يوسف، ثم أجرى الله لساني بحفظ الباقي من القرآن دفعة واحدة من غير تحفظ وتكرار فضلا منه جل جلاله. وسار في ليلة واحدة في طلب الحديث من جرباذقان الى أصفهان، وسمعته يقول: لما حججت كنت أمشي في البادية راجلا قدّام القافلة أحيانا مع الدليل، وأحيانا أخلّف الدليل، حتى عرفني الدليل واستأنس بي ومال إليّ وهو
__________
[307]- الوافي 11: 383 وبغية الوعاة 1: 499.
[308]- المنتظم 10: 248 وابن الفوطي 2: 626 ومختصر ابن الدبيثي: 276 وعبر الذهبي 4: 206 وسير الذهبي 21: 40 وتذكرة الحفاظ: 1324 والوافي 11: 384 وطبقات ابن الجزري 1: 204 ومرآة الجنان 3: 289 والنجوم الزاهرة 6: 72 وبغية الوعاة 1: 494 والشذرات 10: 248 ويقول الصفدي إنّ بعضهم جمع كتابا في أخباره وأحواله وكراماته وما مدح به من الشعر، وهذا يفسّر الاستفاضة في هذه الترجمة عند ياقوت، فهو ينقل من كتاب جمعه محمد بن محمود بن إبراهيم بن الفرج في مناقب الشيخ رحمه الله.(2/825)
يسير على ناقة له تكاد تردّ الريح، وكنت أرى الدليل يتعجّب من قوّتي على السير، وكان أحيانا يضرب ناقته ويمعن في السير، وكنت لا أخلّي الناقة تسبقني، فقال لي الدليل يوما: تقدر أن تسابق ناقتي هذه؟ فقلت: نعم، فضربها وعدوت معها فسبقتها.
قال: وكان كثير الحفظ للعلوم، كثير المجاهدة في تحصيلها، فسمعته يقول رحمه الله: حفظت «كتاب الجمل» في النحو لعبد القاهر الجرجاني في يوم واحد من الغداة الى وقت العصر. قال: وسمعت الشيخ أبا حفص عمر بن الحسين الوشاء المقرىء يقول: سمعت الإمام الحافظ رحمه الله يقول: حفظت يوما ثلاثين ورقة من القراءة. قال: وسمعت الإمام الحافظ أبا بكر محمد بن شيخ الاسلام الحافظ أبي العلاء قال: سمعت الشيخ الصالح إبراهيم المرجي قال: سمعت الشيخ رحمه الله يقول: لو أن أحدا أتاني بحديث واحد من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم لم يبلغني لملأت فاه ذهبا. قال: وكان الشيخ رحمه الله حفظ «كتاب الجمهرة» لأبي بكر ابن دريد و «كتاب المجمل» لابن فارس و «كتاب النسب» للزبير بن بكار. قال: وبلغني عن الثقة أنّ الحافظ أبا جعفر رحمه الله كان يقول: لو أن الله تعالى يقول لي يوم القيامة:
ماذا أتيتني به؟ أقول ربي وسيدي أتيتك بأبي العلاء العطار.
قال: وكان الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن الفضل الجوزي، رحمه الله، يملي يوما في الجامع بأصفهان، وعنده جماعة من المحدثين، إذ دخل الشيخ الحافظ أبو العلاء، رحمه الله، من باب الجامع، فلما نظر الحافظ أبو القاسم إليه أمسك من الاملاء، ونظر إلى أصحابه وقال: أيها القوم إنّ الله عز وجل يبعث لهذه الأمة على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها، وهذا الرجل المقبل من جملتهم، قوموا نسلّم عليه، فقاموا واستقبلوه وسلّموا عليه واعتنقوه.
قال: وكان يقرأ على الشيخ أبي العز المقرىء «1» القلانسي الواسطي رحمه الله، وكان يفضله على أصحابه، فشقّ ذلك عليهم، فاجتمع بعضهم يوما وفيهم الشيخ أبو العلاء رحمه الله، فسألهم الشيخ أبو العزّ عن اختلاف القرّاء في قوله(2/826)
تعالى: كوكب دري يوقد
(النور: 35) وأقاويل الأئمة فيها، فسقط في أيديهم وتاهوا في شرحها، وما أجابوا بطائل، ثم أقبل الشيخ أبو العز على الشيخ رحمه الله وقال: تكلم أنت فيها يا أبا العلاء، فشرع فيها الشيخ وعدّ بضعة عشر قولا، وأدّى فيها حقّها بأحسن إشارة وأبلغ عبارة، فلما فرغ نظر الشيخ أبو العز إلى أصحابه الحاضرين وقال: بهذا أفضّله عليكم، لو أمهلتكم مدة لما قدرتم على الذي ذكر هو بديهة من غير عزيمة سابقة ورويّة سالفة.
قال: وكان محترما عند الخلفاء والسلاطين، كتب إليه المقتفي لأمر الله «1» أمير المؤمنين كتابا من جملته: وبعد فإن الأب القدّيس النفيس خامس أولي العزم، وسابع السبعة على الجزم، وارث علم الأنبياء، حافظ شرع المصطفى أبا العلاء، ثم ذكر كلاما واستدعى منه الدعاء.
قال: وسمعت ولده أبا محمد عبد الغني بن الشيخ الحافظ أبي العلاء رحمه الله يقول: لما أدخل أبي على أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله، رضي الله عنه، بعد استدعاء أمير المؤمنين إياه، كان يأمره خواصّ الخليفة بتقبيل الأرض في المواضع، وكان يأبى ذلك، فلما أكثروا عليه قال: دعوني إنما السجود لله تعالى، فكفّوا عنه حتى وصل إليه، وسلم بالخلافة عليه، فقام له أمير المؤمنين وأجلسه، ثم كلّمه ساعة وسأل منه الدعاء فدعا، وأذن له في الرجوع فرجع، وكانوا قد أحضروا الخلعة والصلة فاستعفى عن ذلك فأعفي، وخرج من بغداد حذرا من فتنة الدنيا وآفاتها.
وحدثني غير واحد أن السلطان محمدا «2» لما دخل عليه داره نصحه كثيرا ووعظه، وكان السلطان جالسا بين يديه مقبلا عليه بوجهه مصغيا إلى كلامه، فلما قام ليخرج أمره بتقدمة رجله اليمنى وأخذه الطريق من الجانب الأيمن.
وسمعت الإمام أبا بشر الثاني رحمه الله يقول: سمعت عبد الغني بن سرور المقدسي يقول: كنت يوما في خدمة الحافظ أبي طاهر السلفي بثغر الاسكندرية نقرأ الحديث، فجرى ذكر الحفّاظ إلى أن انتهى الكلام إلى ذكر الحافظ أبي العلاء(2/827)
رحمه الله، فأطرق الحافظ أبو طاهر عند ذكره، ثم رفع رأسه وقال: قدّمه دينه، قدّمه دينه.
قال: وسمعت أبا بشر محمد بن محمد بن منصور المقرىء الخطيب بشيراز يذكر الحافظ أبا العلاء، رضي الله عنه، ويثني عليه، ثم أنشد يقول:
فسار مسير الشمس في كلّ موطن ... وهبّ هبوب الريح في الشرق والغرب
قال: وسمعت الامام أبا نصر أحمد بن الامام الحافظ أبي الفرج ابن عبد الملك بن الشعار يقول: سمعت الامام أبا الحسن الحراني يقول: كنت أطوف بالكعبة فرأيت شيخا في الطواف، فلما نظرت إليه تفرّست فيه الخير والصلاح، وانتظرته حتى قضى طوافه، فدنوت منه وسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام، فسألته عن الوطن فسمّى لي موضعا بعيدا، ذكره أبو الحسن ونسيه أبو نصر، قال أبو الحسن:
أيّ شيء المقصد بعد بلوغك بيت ربك؟ فقال: مقصدي الحافظ أبو العلاء، فتعجبت في نفسي وقلت: ستظفر إن شاء الله بمقصودك وتنال مطلوبك، وبكيت حتى غلبني البكاء، فقال: وممّ بكاؤك؟ فقلت: ان الحافظ أبا العلاء الذي تقصده وتأمل بلوغه قد كنت مستفيدا منه كذا وكذا سنة، قرأت عليه القرآن ختما، وسمعت منه الحديث الكثير، فتعجّب من قولي وقام إليّ وقبّل بين عيني، وهو يفدّيني بأبيه وأمه، وغاب عني.
قال: وسمعت أبا بشر يقول: لما دخلت على الامام أبي المبارك المقرىء بشيراز جعل يذكر شيخ الاسلام الحافظ أبا العلاء الهمذاني، رحمه الله، ويثني عليه، ثم أنشد متمثلا:
فسار مسير الشمس في كلّ موطن ... وهبّ هبوب الريح في الشرق والغرب
قال: رحل إليه رجل من أقصى المغرب، وكان له حظّ في كلّ علم، ومدحه بقصيدة هي من غرر القصائد، وذكر أحواله في سفرته وما أصابه من التعب والمشاقّ، ومن شعره فيه أيضا:
سعى إليك على قرب ومن بعد ... من كان ذا رغبة في العلم والسّند(2/828)
حتى أناخ بمغناك الكريم وقد ... كلّت ركائبه في الخبت والسّند «1»
كذاك أثرى وما أوعت أنامله ... لكن وعى قلبه ما شاء من مدد
وما أناخ بمغنى غيركم أحد ... إلا ونودي ما بالربع من أحد
وقد قصدتك من أقصى المغارب لا ... أبغي سواك لوحي الواحد الصمد
وما امتطيت سوى رجليّ راحلة ... وقد غنيت عن العيرانة الأجد
وهذه رحلة بكر كشفت لها ... عن ساق ذي عزمات غير متئد
عناية لم تكن قبلي لذي طلب ... وحظوة لكم في غابر الأبد
هل كان قبلك حبر أمّه رجل ... وسار مدة حول سير مجتهد
أبا العلاء العلاء الكلّ إنك في ... أقصى العراق مقيم منه في بلد
وقد فشا لك ذكر في البلاد كما ... فاحت أزاهر روض للغمام ندي
قال: وسمعت الشيخ، رحمه الله، يقول يوما لمن حضره: إن خلّف أبو العلاء دينارا أو درهما بعد موته فلا تصلّوا عليه. وكان، رحمه الله، لا يبقي على الذهب والفضة، وكلّ ما آتاه الله منها يصرفه في اليوم، وينفقه في قضاء الديون ومراعاة الناس، فمات ولم يخلّف دينارا ولا درهما، حتى بيعت داره وقضي منه دينه.
قال: وكان، رحمه الله، شديد التمسك بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فكان لا يسمع باطلا أو يرى منكرا إلّا غضب لله ولم يصبر على ذلك ولم يداهن؛ قال: سمعت أبا رشيد راشد بن إسماعيل المعدّل يقول: كنت عند الشيخ يوما، فدخل عليه أبو الحسين العبادي الواعظ زائرا، وجلس عنده زمانا، وجعل يكلم الشيخ إلى أن جرى في كلامه: وعزمت غير مرة على الاتيان إلى الخدمة لكني منعني كون الكوكب الفلانيّ في البرج الفلاني، فزبره «2» الشيخ وقال: السنّة أولى أن تتّبع، فقام العباديّ خجلا وخرج.
وكان من ورعه في رواية الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه ما كان يترجم الحديث للعامة(2/829)
رعاية منه للصدق. واستدعي منه بهمذان أن يفسّر للناس حديثا واحدا فأجاب وقعد لذلك، فلما شرع في الكلام قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم. واستدعي منه ثانيا بالكرخ كذلك، فروى حديثا في فضائل الأعمال وفي بعض ألفاظه «حتى يدخل الجنة» ، ففسر لفظة الجنة قبل أن يفسر لفظة «حتى يدخل» ، كأنه قدم لفظة «الجنة» على لفظة «حتى يدخل» في ترجمته، فاستغفر ورجع وأتى بها على الوجه المنطوق به في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وكان رحمه الله يتحرّج عن القصص والكلام فيها والتنميق والتكلّف حذرا من الزيادة والنقصان.
ولما قصد السلطان محمد بغداد وحاصرها، وخالف الإمام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين، رضي الله عنه، كان الشيخ، رحمه الله، يقرأ «صحيح البخاري» بهمذان على الشيخ عبد الأوّل، رحمه الله، على اسليهر «1» يحضره لسماع الكتاب عامّة أهل البلد من الأمراء والفقهاء والعلماء والصوفية والعوام، فصرّح القول قائما على المنبر بأنّ السلطان ومن معه من جنوده خارجة مارقة، ثم قال: لو أنّ رجلا من عسكر أمير المؤمنين رمى رجلا من أصحاب السلطان بسهم، وجاءه آخر من غير الفريقين فنزع السهم من جراحته، يكون هو أيضا خارجيا باغيا، وكرّر القول في ذلك مرارا.
قال: وسئل الشيخ رحمه الله عن سبب أكثر اشتغاله بعلم الكتاب والسنة فقال:
إني نظرت في ابتداء أمري فرأيت أكثر الناس عن تحصيل هذين العلمين معرضين، وعن دراستهما لاهين، فاشتغلت بهما وأنفقت عمري على تحصيلهما حسبة.
قال: ورأى رحمه الله قلة رغبة الخلق في تحصيل العلم والرحلة ولقاء الشيوخ، فاتخذ مهدا وعزم على المضّي إلى بغداد وأصفهان للرواية، ورفع منائر «2» العلم وإحياء السنة حسبة، فمنعه الضعف والكبر، وأدركته المنية وهو على هذه النية.
قال: سمعت الثقة يقول: سمعت الشيخ رحمه الله يقول: كنت واقفا يوما على باب دار الشيخ أبي العز القلانسي رحمه الله في حرّ شديد أنتظر الاذن، فمرّ بي إنسان فرآني على تلك الحال واقفا، فقال لي: أيها الرجل لو أنك تصير إماما يقرأ(2/830)
عليك ويقتدى بك، أهكذا كنت تفعل أنت بطلبة العلم ومن يأتيك من الغرباء؟ فذرفت عيناي فقلت: لا إن شاء الله، وأشهدت الله تعالى في نفسي في تلك الحال على أني لا آخذ على التعليم والاقراء والتحديث أجرا، ولا أبخل بعلمي على أحد، وأبذله حسبة، فكان كما قال، ويقعد لطلبة العلم من أول النهار إلى آخره.
قال: وكان الشيخ رحمه الله لا يرى طول نهاره إلّا كاتبا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أو مطالعا له، أو مشتغلا به، أو مصغيا إلى قراءة القرآن وطلبة العلم، هكذا كان دأبه بالنهار، ويجعل ليلته ثلاثة أثلاث، يكتب في ثلث، ويتفكر في ثلث، وينام في ثلث. وكان كثيرا ما يقول عند انتباهه من النوم: يا كريم أكرمنا، وكان من كرامته على الناس وإقبال الناس عليه والتبرك به أنه كان يصعب عليه المرور يوم الجمعة في مضيّه ورجوعه لازدحام الخلق عليه، وكان جماعة من الشبان يتحلقون حواليه يدفعون عنه زحمة الناس، وهو يمر في وسطهم مطرقا لا يشتغل بأحد، وهو يقول: يا من أظهر الجميل وستر على القبيح.
قال: سمعت العدل عمر بن محمد يقول: دخلنا على الإمام الحافظ أبي العلاء رضي الله عنه وهو يكتب، فقعدنا عنده ساعة، فوضع ما في يده وقام ليتوضأ، فنظرنا فيما كتب فإذا هو قد بيّض كلّ موضع فيه اسم من أسماء الله تعالى أو ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، فتعجبنا من ذلك، فلما رجع سألناه عن ذلك فقال: إني لما كنت أكتب ذلك شككت في الوضوء فما جوّزت أن أكتب بيدي أسماء الله تعالى أو ذكر الرسول صلى الله عليه وسلّم وأنا شاكّ في الوضوء.
وكان الشيخ رحمه الله إذا نزل بالناس شدة أو بلاء يجيء إليه الناس ويسألونه الدعاء فيقول: اللهم إني أخاف على نفسي أكثر مما يخافون على أنفسهم. وكان كثيرا ما يقول: ليتني كنت بقّالا او حلّاجا، ليتني نجوت من هذا الأمر رأسا برأس لا عليّ ولا ليا.
قال: وسمعت والدي يحكي عن الامام عبد الهادي بن علي رحمة الله عليه أنه قال: كنت أمشي يوما مع الشيخ الامام الحافظ رحمه الله في الشتاء في وحل شديد، وفي رجليه مداس خفيفة يكاد يدخل فيها الطين، فقلت له: يا أخي لو لبست مداسا غير هذا يصلح للشتاء، فقال: إذا لبست غيرها لهت عيني عن النظر إليها، فربما(2/831)
نظرت إلى منكر أو فاحشة، وفي دوام نظري إليها وحفظي لها عن الوحل شغل عن ذلك وحفظ للبصر.
قال: وكراماته مشهورة بين الناس، منها: ما كتب به إليّ الشيخ أبو عبد الله محمد بن إبراهيم المقرىء قال: سمعت الأستاذ بهلة الطحان يقول: حملت أحمال الحنطة من دار الشيخ رضي الله عنه لأطحنها لأهله، فلما طحنتها ووضعت بعضها على بعض قصد بعض من في الطاحونة من المستحقين أن يأخذ شيئا من ذلك الدقيق ليخبز منه رغيفا، فصحت عليه ومنعته من الأخذ، فلما رددت الأحمال إلى دار الشيخ من الغد تبسّم الشيخ في وجهي وقال: ويلك يا بهلة، لم منعت الرجل أن يأخذ قبضات من الدقيق؟! فتحيرت من قوله، وقبّلت في الحال رجليه، وتبت على يديه، واستغفرت الله عز وجل عما سلف مني من الذنوب، وصرت معتقدا في كرامات أولياء الله تعالى.
قال: سمعت أبا محمد عبد الله بن عمر يقول: كنت يوما في خدمة الشيخ رضي الله تعالى عنه نأكل الغداء فدقّ الباب داقّ، فقمت وفتحت له الباب، فإذا بالشيخ الصالح مسعود النّعال، فاستأذنت له، فدخل وقعد عند الشيخ إلى الطعام، فلما كان بعد ساعة نظر إلى مسعود وقال: يا مسعود لو أن النطفة التي قدّر الله عز وجل في سابق علمه أن يخلق منها خلقا صبّت على الأرض لظهر منها ذلك الخلق، فلما سمع مسعود النعال هذا الكلام انزعج وبكى وصاح، فتعجبنا من تلك الحالة، فلما سكن سألته عن سبب انزعاجه وتواجده من كلام الشيخ، فقال لي: اعلم أني تزوجت امرأة منذ سنين كثيرة وما رزقت منها ولدا، وأني جئت اليوم لأسأل منه الدعاء حتى يرزقني الله عزّ وجل ولدا صالحا، فقبل سؤالي إياه حدّثني بما في قلبي، وأظهر لي سري، وأسمعني ما سمعتم. قال: ثم دعاه الشيخ رضي الله عنه ودعا له، وسأل الله عز وجل له الولد، وناوله شيئا من بقية الطعام وقال: أطعمها أهلك، قال: ثم رأيته بعد ذلك بمدة فقال: قد رزقني الله عز وجل والحمد لله ابنا وبنتا ببركة دعاء الشيخ وهمته.
قال: وسمعت الشيخ أبا عبد الله يقول: سمعت الشيخ أبا بكر عبد الغفار بن محمد بن عبد الغفار- وكان خال ولد الشيخ رضي الله عنه- يقول لي: هل علمت(2/832)
سبب وفاة أختي، يعني التي كانت حليلة الشيخ رحمة الله عليهما؟ قلت: لا، قال قالت أختي: كان للشيخ في الدار بيت مختصّ به لا يدخله غيره، وكان يأذن لي في بعض الليالي بدخولي فيه، وفي أكثر الأوقات وأغلب الليالي يغلق الباب على نفسه ويخلو فيه بنفسه، وأبيت أنا في الدار وحدي، فاشتدّ ذلك عليّ حتى أقلق نهاري وأسهر ليلي، فبينا أنا متفكرة في بعض تلك الليالي إذ قلت في نفسي: لم لا أقوم فأرتقي الرواق وأنظر إليه من كوّة البيت لأقف على حاله، فقمت وارتقيت الرواق، فقبل بلوغي الكوة رأيت نورا عظيما وضياء ساطعا من البيت أضاء منه شيء، فتقدمت ونظرت في البيت، فرأيت الشيخ جالسا في مكانه، وحوله جماعة يقرأون عليه، وكنت أرى سوادهم وأسمع حسّهم غير أني لا أرى صورهم، فهالني ذلك ووقعت مغشيّا عليّ لا أشعر شيئا، إلا أني رأيت الشيخ واقفا على رأسي، فأقامني وتلطّف بي وقال لي: ماذا دهاك؟ فقصصت عليه قصتي، فقال لي: كفي عن هذا ولا تخبري بما رأيت أحدا من الناس إن كنت تريدين رضاي، فقبلت منه ذلك وكتمت سرّه حتى أمرضني، وحملت مريضة إلى دار أبي؛ قال الامام أبو عبد الله وقال لي الشيخ أبو بكر واشتدّ عندنا مرضها، وكنا نسألها عن سبب مرضها، وكانت تعلل بأشياء، إلى أن وقعت في هول الموت وسياق النزع، ثم نظرت إلينا وبكت ثم قالت: أوصيكم بزوجي أبي العلاء واسترضائه، والآن بدا لي أن أخبركم بسبب موتي، ثم قصّت علينا هذه القصة، وفارقت الدنيا، رحمها الله.
قال: وسمعت الشيخ أبا العلاء أحمد بن الحسن الحداد العارف يقول: سمعت الشيخ عمر بن سعد بن عبد الله بن حذيفة من نسل حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول: كنت مع الحافظ أبي العلاء في بعض الأسفار، فأدركنا شيخا من أهل الحديث، وانتخب عليه الحافظ جزءا من مسموعه وسماعه عليه، وارتحلنا من عنده فوصلنا إلى نهر عظيم، فلما عبرنا النهر وقع ذلك الجزء منّا وضاع، وضاق قلب الحافظ لذلك ضيقا شديدا، فلما كان بعد ذلك بأيام استقبلنا رجل حسن الوجه حسن الشارة وسلّم علينا، ثم أقبل على الحافظ وقال: ما الذي أصابكم وما سبب حزنك؟
فقصّ عليه الحافظ قصة الجزء وكيفية ضياعه، فقال: خذ القلم واكتب عني جميع ما ضاع عنك في ذلك الجزء، وأخذ الحافظ القلم متعجبا ننظر إليه وهو يملي والحافظ(2/833)
يكتب إلى أن فرغ، فلما فرغ الحافظ أخذ ببعض ثيابه فقال: أنشدك الله من أنت؟
فقال: أنا أخوك الخضر، وبعثت إليك لهذا الأمر، ثم غاب عنا فلم نره.
سمعت الشيخ الصالح سنقر بن عبد الله غلام شيخنا أبي طاهر محمد بن الحسن بن أحمد العطار، رحمه الله ابن الشيخ رضي الله عنه يقول: إني خدمت الشيخ رضي الله عنه سنين كثيرة فرأيت العجائب الكثيرة في خلواته، منها: أنه قام ليلة ليتوضأ فقال لي: استق الماء من البئر، فجئت وأرسلت الدلو فيها، فلما بلغ الدلو إلى رأس البئر نظرت فيها فإذا الدلو مملوءة ذهبا أحمر أضاء الدار حمرته، فصحت صيحة عظيمة، فقال لي: أيها الشيخ ماذا أصابك؟ فأريته الدلو فاسترجع، ثم استأخر وقال لي: اقلب الدلو في البئر فإنا نطلب الماء لا الذهب، قال: فقلبتها، ثم أخذ الدلو من يدي واستقى الماء وقال لي: يا سنقر إياك إياك أن تخبر بما رأيت أحدا من الناس ما دمت حيا.
قال: رأيت بخط الثقة، ذكر أنه نقل من خط الشيخ أبي الفتح محمد بن الحسين بن وهب: سمعت الشيخ أبا عبد الله الحسين بن إبراهيم بن الحسين بن جعفر الجوزقاني يقول: كنت نائما ذات ليلة، فرأيت فيما يرى النائم كأنّ الناس يهرعون إلى رباط أبي الفرج أحمد بن علي المقرىء رحمة الله عليه، قال: فسألت ما لهؤلاء؟ فقالوا: إنّ أنس بن مالك رضي الله عنه نزل في رباط المقرىء، ففرحت وأسرعت وقصدت الإمام الحافظ أبا العلاء وأخبرته بذلك، فلما سمع مني فرح ونشط، وقام وأخذ جزءا واحدا من أحاديث أنس بن مالك رضي الله عنه وجاء معي حتى دخلنا الرباط، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالس في الرباط، ورأينا أنس بن مالك عن يساره، فقدمنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم وسلّمنا عليه وجلسنا بين يديه، فاستأذنه أبو العلاء في قراءة ذلك الجزء عليه فأذن له، فابتدأ أبو العلاء بالقراءة، وقرأ ذلك الجزء قراءة حسنة مبينة صحيحة، ورأيته صلى الله عليه وسلّم يتبسم من الفرح مرة إلى وجهه ومرة إلى وجهي، فلما قرأ الجزء انتبهت من النوم وقمت وتوضأت وصليت الصلاة شكرا لله تعالى على ما رأيت في المنام.
قال: وسمعت الشيخ عمر بن أبي رشيد بن طاهر الزاهد يقول: رآني يوما الشيخ علي الشاذاني صاحب الكرامات الظاهرة فقال: يا عمر اذهب إلى الحافظ أبي(2/834)
العلاء وقبّل جبينه عني، فإني رأيت الليلة في المنام من قبّل جبهته موفيا محتسبا غفر الله له.
قال: وسمعت الشيخ الزاهد، وكان من الأبدال إن شاء الله يقول: سمعت الشيخ سعيدا المتقي، وكان من الصالحين يقول: رأيت جنات عدن مفتوحة أبوابها، وإذا الناس كلّهم وقوف ينظرون دخول شخص، فلما قرب من الباب وكاد يدخل جنة عدن سألت من هذا الشخص الذي يدخل جنة عدن قبل دخول الخلائق؟ فقالوا:
الحافظ أبو العلاء ومن كان يحبّه في الله عز وجل، فتضرعت وبكيت وقلت: وأنا أيضا ممن يحبّه في الله عز وجل، دعوني أدخل، فقال شخص: صدق دعوه يدخل، فدخلت مع القوم وهم يقولون: ادخلوها بسلام آمنين
(الحجر: 46) .
قال المصنف: وحكى لي الشيخ الإمام أبو عبد الله زبير بن محمد بن زبير المشكاني رحمه الله قال: رأيت ليلة من الليالي في المنام كأنّ الإمام أبا العلاء رضي الله عنه يمشي إلى الحجّ، وهو جالس في المهد متربع، والمهد يمشي في الهواء بين السماء والأرض، فعدوت خلفه، فنزل المهد من السماء إلى الأرض، وشيء مثل الوتد حتى خرج من ذلك المهد، فتعلّقت به، فقام المهد يمشي في الهواء وأنا متعلق به حتى وصلنا الفرات، فأخذني العطش، فقلت للحافظ، إني عطشان أريد أشرب، فقال لي: تعال حتى نشرب من زمزم، فمشينا حتى وصلنا مكة، فدخلت الحرم، وشربت من ماء زمزم، ورأيت في الحرم خلقا كثيرا، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم مع الحافظ أبي العلاء جالسا على تلّ في الحرم أعلى من سطح الحرم، وما معهما أحد غيرهما، وهما يستقبلان الكعبة وينظران إلى فوق، ورأيت رسول اللهّ صلى الله عليه وسلّم يتكلّم مع أحد نحو فوق الكعبة، وإذا أراد أن يتكلم قام إليه، ورأيت شيخنا أبا العلاء شاخصا ببصره إلى الذي يكلم النبي صلى الله عليه وسلّم فوق الكعبة، ولا يلتفت يمينا ولا شمالا، فقلت في نفسي: أذهب فأبصر من الذي يكلّم النبيّ صلى الله عليه وسلّم وينظر إليه الحافظ أبو العلاء، فتقدمت ونظرت إلى فوق الكعبة فرأيت عرش الرحمن جلّ جلاله واقفا فوق الكعبة، ورأيت الرحمن جلّ جلاله عليه، فأشار إليّ النبي صلى الله عليه وسلّم أن «أسأل الله تبارك وتعالى» ، فسألت الله تعالى أربع حاجات، فسمعته يقول بالفارسية، كردم، وسألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم حاجة ففعل، فنويت الرجوع، فقال لي(2/835)
رسول الله صلى الله عليه وسلّم: أتذهب؟ فوقفت أنتظر أمره، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالفارسية:
شكرانه گو، فوقفت وقرأت: قل هو الله أحد
(الإخلاص: 1) خمسمائة مرة، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: حسن، فرجعت وتركت رسول الله صلى الله عليه وسلّم جالسا مع الحافظ أبي العلاء على ذلك التلّ وينظران إلى الله عز وجل.
وقد مدحه أفاضل عصره بأشعار كثيرة، منهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله المغربي وقد خرج الشيخ فحجبت الشمس غمامة فقال لي في ذلك:
ظهرت فأخفت وجهها الشمس هيبة ... وشوقا إلى مرآك أسبلت الدمعا
ولما رأت مسعاك كفّت شوؤنها ... لئلّا ترى حيّا يصدّك عن مسعى
وقد كان ذاك القطر أيضا دلالة ... على أنّ مولى الجمع قد رحم الجمعا
ولا شكّ أن الله يرحم أمة ... حللت بها قطعا أقول بذا قطعا
وقد مدحه أبو عبد الله المغربي هذا بقصائد حسان، وقد أفردها الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن محمود بن إبراهيم بن الفرج مؤلف هذه المناقب رحمه الله، والأصل يشتمل على ستة أجزاء بخطه كلّها رحمه الله، وقد ذكر فيه بعد ذكر القصائد التي ذكرتها:
سمعت أبا بشر محمد بن محمد بن محمد بن هبة الله بن عبد الله بن سهل رحمه الله يقول: كان أبو عبد الله المغربي بأصفهان في مدرسة النظام وهو يقرأ القرآن، فلما بلغ قوله عز وجلّ: واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
(الحجر: 99) قام وصرخ وترك أمتعته وكتبه وأقبل إلى الصحراء هائما، وما رؤي بعد ذلك ولا سمع له خبر ولا أثر.
وأنشد موفق بن أحمد المكي الخطيب في مدحه:
حفظ الامام أبي العلاء الحافظ ... بالرجل ينكت هام حفظ الجاحظ
عمرو بن بحر بحره من جدول ... متشعّب من بحر بحر الحافظ
ما إن رأينا قبل بحرك من [له] ... بحر طفوح كالأتيّ اللافظ «1»(2/836)
أحييت ما قد فاظ من سنن العلا ... والعلم قبلك في انتزاع الفائظ
بهظ البرايا عبء أدنى علمه ... أعظم به من عبء علم باهظ
كم واعظ لي أن أجاور مجده «1» ... لو كان ينجع فيّ وعظ الواعظ
غاظ الأعادي جاهه كعلومه ... فرددت «2» غيظهم بهذا الغائظ
وأنشد أيضا في مدحه:
وليس اعتراف الحاسدين بفضله ... لشيء سوى أن ليس يمكنهم جحد
بدا كعمود الفجر ما فيه شبهة ... فهل لهم من أن يقرّوا به بدّ
وأنشد الإمام العلامة أفضل الدين أبو عمرو عثمان بن عبد الملك بن عبيد الله بن أحمد بن سعيد الدمانخير الكرخي رحمة الله عليه في مدحه:
صبرا فأيام الهموم تزول ... والدهر يعطيك المنى وينيل
ويبين «3» من فلك السعادة باقيا ... قمر الأماني والنحوس أفول
لا تأيسنّ إذا تلمّ «4» ملمة ... إن الشدائد تعتري وتحول
والفضل لا يزري به عدم الغنى ... أفليس يحسن في الرماح ذبول
ما إن يضرّ العضب بعد مضائه ... يوم القراع إذا عرته فلول
لا تشتغل بالعسر واطو مشمّرا ... بسط الفيافي والشعاب «5» مقيل
والبس سواد الليل مرتديا به ... إنّ التجلّد للرجال جميل
حتى تنيخ العيس في كنف العلا ... حيث التكرّم بالنجاح «6» كفيل
كنف الإمام القرم قطب الدين من ... جوب الفلا إلا إليه فضول
صدر الزمان أبي العلاء سميدع ... غرّ المعالي في ذراه تقيل
وهي طويلة.(2/837)
ولموفق الدين مكي خطيب خوارزم أشعار كثيرة في مدحه منها:
بقيت بقاء الدهر في الناس خالدا ... أيا خير من في الأرض خالا ووالدا
لتروي أحاديث النبيّ محمد ... وتحيي مسانيدا وتزوي معاندا
فهذا دعائي بالحجون وبالصفا ... وهذا مرامي حيث ما كنت ساجدا
قال: وسمعت الثقة يقول: سمعت الشيخ رضي الله عنه يقول: لما مات فلان- أحد أصدقائه ذكر اسمه ونسيته- شقّ عليّ موته، وأثر فيّ وفاته، فكنت بعد ذلك أكتب كلّ سنة كتاب الوصية، وأنا سمعت منه حينئذ صغيرا وهو يقول غدا من شهر رجب، شهر الله الأصم، وأنا أريد أن أجدّد مع ربي عهدا. وهذا كتاب وصيته: بسم الله الرحمن الرحيم أخبرنا عبد القادر اليوسفي وهبة الله بن أحمد الشيباني قالا، أخبرنا أبو علي الحسن بن علي التميمي، أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنهما، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: ما حقّ امرىء مسلم يبيت ليلتين وله شيء يوصي فيه إلا ووصيته مكتوبة عنده. وأخبرنا الشيخ أبو القاسم زاهر بن طاهر بن محمد بن محمد الحافظ، أخبرنا أبو عثمان سعد بن محمد النّجيرمي، أخبرنا أبو الخير الحنبلي وأبو بكر محمد بن أحمد بن عقيل قالا، أخبرنا أبو بكر محمد بن حفص بن جعفر حدثنا إسحاق بن إبراهيم الغضبي، حدثنا خالد بن يزيد الأنصاري، حدثني محمد بن أبي ذئب عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: من لم يحسن الوصية عند الموت كان نقصا في مروءته وعقله، قيل: وكيف يوصي؟ قال يقول: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، الرحمن الرحيم، إني أعهد إليك في دار الدنيا أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدا صلى الله عليه وسلّم عبدك ورسولك، وأن الجنة حقّ، وأن النار حق، وأن البعث حق، والحساب والقدر حق والميزان حق، وأن الدين كما وصفت، وأن الاسلام كما شرعت، وأن القول كما حدّثت، وأن القرآن كما أنزلت، جزى الله محمدا صلى الله عليه وسلّم عنّا خير الجزاء، وحيّا محمدا منا بالسلام. اللهم يا عدتي عند كربتي، ويا صاحبي عند شدتي، ويا وليّ نعمي،(2/838)
إلهي وإله آبائي، لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنك إن تكلني إلى نفسي أقرب من الشرّ وأتباعد من الخير، فآنسني في قبري من وحشتي، واجعل لي عهدا يوم ألقاك، ثم يوصي بحاجته. وتصديق هذه الوصية في القرآن لا يملكون الشفاعة إلا من اتخذ عند الرحمن عهدا
(مريم: 87) فهذا عهد الميت.
وهذه وصيته سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، ونقلتها من خطه: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصى به الحسن بن أحمد بن الحسن بن أحمد بن محمد العطار طوعا، في صحة عقله وبدنه وجواز أمره، أوصى وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة ولا ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له وليّ من الذّلّ وخلق كل شيء فقدّره تقديرا ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين
(الأعراف: 54) ، ويشهد أن محمدا عبده أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدّين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى أصحابه وسلّم تسليما كثيرا، ويشهد أن الجنة حق، والنار حق، والبعث حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور، وأنه جلّ وعزّ جامع الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم، في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، ويشهد أن صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله ربّ العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وهو أول المسلمين، وأنه رضي بالله ربا، وبالاسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلّم نبيا، وبالقرآن إماما، وبالمؤمنين إخوانا، وأنه يدين لله عزّ وجلّ بمذهب أصحاب الحديث، ويتضرّع إلى الله عزّ وجلّ ويتوسّل إليه بجميع كتبه المنزلة وأسمائه الحسنى وكلماته التامّات وجميع ملائكته المقربين وأنبيائه المرسلين، [أن] يحييه على ذلك حيا ويميته على ذلك إذا توفاه، وأن يبعثه عليه يوم الدين، وأوصى نفسه وخاصّته وقرابته ومن سمع وصيّته بتقوى الله، وأن يعبدوه في العابدين، ويحمدوه في الحامدين، ويذكروه في الذاكرين، ولا يموتنّ إلّا وهم مسلمون، وأوصى إلى الشيخ أبي مسعود إسماعيل بن أبي القاسم الخازن في جميع تركته وما يخلفه بعده، وفي قضاء ديونه واقتضاء ديونه وإنفاذ وصاياه، وذكره في ذلك بتقوى الله وإيثار طاعته، وحذّره أن يبدّل شيئا من ذلك أو يغيّره، وقد قال الله تعالى فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم
(البقرة: 181) وكتب هذه الوصية موصيها الحسن بن أحمد بن الحسن بن(2/839)
أحمد بن محمد بن العطار في يوم الثلاثاء السابع من ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وخمسمائة.
قال: وحدثني من شهد قبض روح الشيخ رضي الله عنه قال: كنا قعودا في ذلك الوقت، وكنا نحبّ أن نلقنه كلمة الشهادة رعاية للسنة، ومع هذا كنا نخشى من هيبته ونحذر سوء الأدب، فبقينا متحيّرين حتى قلنا للرجل من أصحاب الشيخ: اقرأ أنت سورة يس، فرفع الرجل صوته يقرأ السورة، وكنا ننظر إليه ونراقب حاله، فدهش القارىء وأخطأ في القراءة، ففتح الشيخ عينه وردّ عليه، فسررنا بذلك وحمدنا الله عز وجل. ثم جيء إليه بقدح فيه شيء من الدواء، ووضع القدح على شفته فولّى وجهه وردّ القدح بفيه وفتح عينه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله رافعا بها صوته، وفاضت نفسه رحمه الله ورضي عنه وأرضاه، وجعل أعلى الجنان مأواه، وكان ذلك قبيل العشاء الآخرة ليلة الخميس التاسع عشر من جمادى الأولى عام سبعة وستين وخمسمائة، ودفن يوم الخميس في مسجده، وصلى عليه ابنه الإمام ركن الدين شيخ الإسلام ابو عبد الله أحمد القائم مقامه وخليفته على أولاده وأصحابه واتباعه رحمه الله. والكتاب الذي يشتمل على مناقبه كتاب ضخم جليل، وإنما كتبت هذه النبذة ليستدلّ به على فضله ومرتبته، رحمة الله عليه، والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبيه محمد وآله أجمعين.
[309]
الحسن بن إسحاق بن أبي عباد اليمني النحوي
: من وجوه اليمن، كان يصحب الفقيه يحيى بن أبي الخير «1» ، وعمه إبراهيم بن أبي عباد نحوي أيضا يذكر في موضعه «2» ، وصنف الحسن هذا مختصرا في النحو مشهورا باليمن يقرأه المبتدئون،
__________
[309]- إنباه الرواة 1: 290 والوافي 11: 400 وبغية الوعاة 1: 500 وروضات الجنات 3: 90.(2/840)
وهو قريب العهد تقارب وفاته سنة تسعين وخمسمائة، وهو القائل:
لعمرك ما اللحن من شيمتي ... ولا أنا من خطإ ألحن
ولكنني قد عرفت الأنام ... فخاطبت كلا بما يحسن
[310]
الحسن بن أسد بن الحسن الفارقي
أبو نصر: شاعر رقيق الحواشي مليح النظم متمكن من القافية كثير التجنيس قلما يخلو له بيت من تصنيع وإحسان وبديع، كان في أيام نظام الملك والسلطان ملكشاه، وشمله منهما الجاه بعد أن قبض عليه وأساء إليه، فإنه كان مستوليا على آمد وأعمالها، مستبدّا باستيفاء أموالها، فخلصه الكامل الطبيب «1» . وكان نحويا رأسا وإماما في اللغة يقتدى، وصنف في الآداب تصانيف تقوم له مقام شاهدي عدل بفضله وعظم قدره، منها: كتاب شرح اللمع كبير. كتاب الإفصاح في شرح أبيات مشكلة «2» .
حدثني الشيخ الإمام موفق الدين أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي قال: حدثني قاضي عسكر نور الدين محمود بن زنكي قال: قدم على ابن مروان صاحب ديار بكر شاعر من العجم يعرف بالغساني، وكان من عادة ابن مروان إذا قدم عليه شاعر يكرمه وينزله ولا يجتمع به إلى ثلاثة أيام ليستريح من سفره ويصلح شعره ثم يستدعيه، واتفق أن الغسانيّ لم يكن أعدّ شيئا في سفره ثقة بقريحته، فأقام ثلاثة أيام فلم يفتح عليه بعمل بيت واحد، وعلم أنه يستدعى ولا يليق به أن يلقى الأمير بغير مديح، فأخذ قصيدة من شعر ابن أسد لم يغير فيها إلا اسمه، فغضب من ذلك وقال:
__________
[310]- ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 2: 416 وإنباه الرواة 1: 294 والفوات 1: 321 والوافي 11: 401 وعبر الذهبي 3: 316 والنجوم الزاهرة 5: 140 وبغية الوعاة 1: 500 والشذرات 3: 380 وإشارة التعيين: 85.(2/841)
يجيء هذا العجمي فيسخر منا؟! ثم أمر بمكاتبة ابن أسد، وأمر أن يكتب القصيدة بخطّه ويرسلها إليه، فخرج بعض الحاضرين فأنهى القضية إلى الغساني، وكان هذا بآمد، وكان له غلام جلد، فكتب من ساعته إلى ابن أسد كتابا يقول فيه: إني قدمت على الأمير فأرتج عليّ قول الشعر مع قدرتي عليه، فادّعيت قصيدة من شعرك استحسانا لها وعجبا بها ومدحت بها الأمير، ولا أبعد أن تسأل عن ذلك، فإن سئلت فرأيك الموفق في الجواب، فوصل غلام الغساني قبل كتاب ابن مروان، فجحد ابن أسد أن يكون عرف هذه القصيدة أو وقف على قائلها قبل هذا، فلما ورد الجواب على ابن مروان عجب من ذلك وأساء إلى الساعي وشتمه وقال: إنما قصدكم فضيحتي بين الملوك، وإنما يحملكم على هذا الفعل الحسد منكم لمن أحسن إليه، ثم زاد في الإحسان إلى الغساني وانصرف إلى بلاده. فلم يمض على ذلك إلا مديدة حتى اجتمع أهل ميافارقين إلى ابن أسد، ودعوه إلى أن يؤمّروه عليهم، ويساعدوه على العصيان، وإقامة الخطبة للسلطان ملكشاه وحده، وإسقاط ابن مروان بن الخطبة، فأجابهم إلى ذلك، وبلغ ذلك ابن مروان فحشد له، ونزل على ميافارقين محاصرا فأعجزه أمرها، فأنفذ إلى نظام الملك والسلطان يستمدّهما، فأنفذا إليه جيشا ومددا مع الغساني الشاعر المذكور آنفا، وكان تقدّم عند نظام الملك والسلطان وصار من أعيان الدولة، وصدقوا في الزحف على المدينة حتى أخذوها عنوة وقبض على ابن أسد وجيء به إلى ابن مروان، فأمر بقتله، فقام الغساني وجرّد العناية في الشفاعة، فامتنع ابن مروان امتناعا شديدا من قبول شفاعته، وقال: إن ذنبه وما اعتمده من شقّ العصا يوجب أن يعاقب عقوبة من عصى وليس عقوبة غير القتل، فقال: بيني وبين هذا الرجل ما يوجب قبول شفاعتي فيه، وأنا أتكفّل به ألا يجري منه بعد شيء يكره، فاستحيى منه وأطلقه له، فاجتمع به الغسّاني وقال له: أتعرفني؟ قال: لا والله ولكني أعرف أنك ملك من ملائكة «1» السماء منّ الله بك عليّ لبقاء مهجتي، فقال له: أنا الذي ادّعيت قصيدتك وسترت عليّ، وما جزاء الإحسان إلا الاحسان، فقال ابن أسد: ما رأيت ولا سمعت بقصيدة جحدت فنفعت صاحبها أكثر من نفعها إذا ادّعاها(2/842)
غير هذه، فجزاك الله عن مروءتك خيرا، وانصرف الغساني من حيث جاء.
وأقام ابن أسد مدة ورقّت «1» حاله، وجفاه إخوانه وعاداه أعوانه، ولم يقدم أحد على مقاربته ولا مرافدته حتى أضرّ به العيش، فعمل قصيدة مدح بها ابن مروان وتوصّل حتى وصلت إليه فلما وقف ابن مروان عليها غضب وقال: لا يكفيه ان يخلص منا رأسا برأس حتى يريد منا الرفد والمعيشة، لقد أذكرني بنفسه، فاذهبوا به فاصلبوه، فذهبوا به فصلبوه، رحمه الله.
ومن شعر الحسن بن أسد الفارقي رحمه الله:
بنتم فما كحل الكرى ... لي بعد وشك البين عينا
ولقد غدا كلفي بكم ... أذنا عليّ لكم وعينا (رقيب)
فأسلت بعد فراقكم ... من ناظري بالدمع عينا (عين الماء)
فحكت مدامعها الغزار ... من الغيوم الغرّ عينا (عين السحاب)
جادت على أثر شفى ... عينا لهم لم تلق عينا (شخص)
من كلّ واضحة الترا ... ئب سهلة الخدين عينا (واسعة العين)
غراء تحسب وجهها ... للشمس حين تراه عينا
أمسيت في حيّ لها ... عبدا أضام وكنت عينا (سيد)
لا حركت ركب الركائب ... إذ بهنّ سريت عينا (حر من النوق)
غار الحسود من الوصال ... فلا رعاه الله عينا (مصدر)
فذممت حرفا عاينت ... عيناي في أولاه عينا (عين الحرف)
كانت تناصفنا وصافي ... الودّ لا ورقا وعينا (ذهب)
لهفي وقد أبصرت في ... ميزان ذاك الوصل عينا (نقصان)
كم من أخ فينا وعى ... ما لم نكن فيه وعينا (سمعنا)
ومصاحب صنّفت في ... عدوائه للعين عينا (كتاب الخليل)(2/843)
وقال في الشمعة «1» :
ونديمة لي في الظلام وحيدة ... مثلي مجاهدة كمثل جهادي
فاللون لوني والدموع كأدمعي «2» ... والقلب قلبي والسهاد سهادي
لا فرق فيما بيننا لو لم يكن ... لهبي خفيّا وهو منها بادي
وله أيضا «3» :
أريقا من رضابك أم رحيقا ... رشفت فلست من سكري مفيقا
وللصهباء أسماء ولكن ... جهلت بأنّ في الأسماء ريقا
حمتني عن حميّا الكأس نفس ... إلى غير المعالي لن تتوقا
وما تركي لها شح ولكن ... طلبت فما وجدت لها صديقا
وله أيضا «4» :
وإخوان بواطنهم قباح ... وإن كانت ظواهرهم ملاحا
حسبت مياه ودهم عذابا ... فلما ذقتها كانت ملاحا
وله أيضا «5» :
ووقت غنمناه من الدهر مسعد ... معار وأوقات السرور عواري
معانيه مما نبتغيه جميعه ... كواس ومما لا نريد عواري
أدار علينا الكاس فيه ابن أربع ... وعشر له بالكأس أي مدار
تناولتها منه بكفّ كأنها ... أناملها تحت الزجاج مداري
وله أيضا «6» :
تيّم قلبي شادن أغيد ... ملّك «7» فالناس له أعبد
لو جاز أن يعبد في حسنه ... وظرفه كنت له أعبد(2/844)
وله أيضا «1» :
هويت بديع الحسن للغصن قدّه ... وللظبي عيناه وخدّاه للورد
غزال من الغزلان لكن أخافه ... وإن كنت مقداما على الأسد الورد
وله أيضا «2» :
ولربّ دان منك يكره قربه ... وتراه وهو عشاء عينك والقذى
فاعرف وخلّ مجرّبا هذا الورى ... واترك لقاءك ذا كفافا والق ذا
وله أيضا «3» :
أيا ليلة زار فيها الحبيب ... أعيدي لنا منك وصلا وعودي
فإني شهدتك مستمتعا ... به بين رنة ناي وعود
وطيب حديث كزهر الرياض ... تضوّع ما بين مسك وعود
سقتك الرواعد من ليلة ... بها اخضرّ يابس عيشي وعودي
وفي لي بوعد ولا تخلفيه ... إخلاف دهر به لي وعودي
فلما تقضيت أمرضتني ... فزوري مريضك يوما وعودي
وله أيضا «4» :
يا من حكى «5» ثغره الدرّ النظيم ومن ... تخال أصداغه السود العناقيدا
اعطف على مستهام ضمّ من أسف ... على هواك وفي حبل العنا قيدا
وله أيضا «6» :
بنتم فما لحظ الطرف الولوع بكم ... شيئا يسرّ به قلبي ولا لمحا
فلو محا فيض دمع من تكاثره ... إنسان عين إذا إنسانه لمحا
وله أيضا «7» :
أيا كم أعاني الوجد في كلّ صاحب ... ولست أراه لي كوجدي واجدا(2/845)
إذا كنت ذا عدم فحرب مجانب ... وتلقاه لي سلما اذا كنت واجدا
أحاول في دهري خليلا مصافيا ... وهيهات خلّا صافيا لست واجدا
وله أيضا «1» :
بعدت فأما الطرف مني فساهد ... لشوقي وأما الطرف منك فراقد
فسل عن سهادي أنجم الليل إنها ... ستشهد لي يوما بذاك الفراقد
قطعتك إذ أنت القريب لشقوتي ... وواصلني قوم إليّ أباعد
فيا أهل ودّي إن أبى وعد قربنا ... زمان فأنتم لي به إن أبى عدوا
وله أيضا «2» :
لا يصرف الهمّ إلا شدو محسنة ... أو منظر حسن تهواه أو قدح
والراح للهمّ أنفاها فخذ طرفا ... منها ودع أمّة في شربها قدحوا
بكر تخال إذا ما المزج خالطها ... سقاتها أنهم زندا بها قدحوا
وله أيضا «3» :
بعدت فقد أضرمت ما بين أضلعي ... ببعدك نارا شجو قلبي وقودها
وكلفت نفسي قطع بيداء لوعة ... تكلّ بها هوج المهارى وقودها
وله أيضا «4» :
تجلّد على الدهر واصبر بما ... عليك الإله من الرزق أجرى
ولا يسخطنّك صرف القضاء ... فتعدم إذ ذاك حظا وأجرا
فما زال رزق امرىء طالب ... بعيدا إليه دجى الليل يسرى
توقع إذا ضاق أمر عليك ... خيرا فإنّ مع العسر يسرا
وله أيضا «5» :
قد كان قلبي صحيحا كالحمى زمنا ... فمذ أبحت الهوى منه الحمى مرضا
فلم سخطت على من كان شيمته ... وقد أبحت له فيك الحمام رضى(2/846)
يا من إذا فوّقت سهما لواحظه ... أضحى لها كلّ قلب قلّب غرضا
أنا الذي إن يمت حبّا يمت أسفا ... وما قضى فيك من أغراضه غرضا
ما إن قضى الله شيئا في خليقته ... أشدّ من زفرات الحب حين قضى
فلا قضى كلف نحبا فأوجعني ... إن قيل إن المحبّ المستهام قضى
وله أيضا «1» :
تراك يا متلف جسمي ويا ... مكثر إعلالي وإمراضي
من بعد ما أضنيتني ساخط ... عليّ في حبّك أم راضي
[311]
الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي النحوي الكاتب
، أبو القاسم: صاحب «كتاب الموازنة بين الطائيين» : كان حسن الفهم جيد الدراية والرواية، سريع الإدراك، رأيت سماعه على «كتاب القوافي» لأبي العباس المبرد، وقد سمعه على نفطويه سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، ثم وجدت خطّه على كتاب «تبيين [غلط] قدامة بن جعفر في نقد الشعر» وقد ألفه لأبي الفضل محمد بن الحسين بن العميد، وقد قرأه عليه وكتب خطه في سنة خمس وستين وثلاثمائة.
وقال ابن النديم في «الفهرست» «2» الذي ألفه في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة: هو من أهل البصرة قريب العهد، وأحسبه يحيا إلى الآن، ثم وجدت «كتاب القوافي» للمبرد بخط أبي منصور الجواليقي ذكر في إسناده أن عبد الصمد بن حنيش النحوي قرأه على أبي القاسم الآمدي في سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة. وفي «تاريخ»
__________
[311]- الفهرست: 173 وإنباه الرواة 1: 285 والوافي 11: 407 وبغية الوعاة 1: 500 وإشارة التعيين: 87 وروضات الجنات 3: 75 (ويعتمد ياقوت على الفهرست والنشوار) .(2/847)
هلال بن المحسن: في هذه السنة- يعني في سنة سبعين- مات الحسن بن بشر الآمدي بالبصرة.
وقال أبو علي المحسن التنوخي «1» حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي، كاتب القضاة من بني عبد الواحد بالبصرة، وله شعر حسن واتساع تامّ في الأدب، ودراية وحفظ وكتب مصنفة، قال: حدثني أبو إسحاق الزجاج قال: كنا ليلة بحضرة القاسم بن عبيد الله نشرب، وهو وزير، فغنت بدعة جارية عريب «2» :
أدلّ فأكرم به من مدلّ ... ومن ظالم لدمي مستحلّ
إذا ما تعزز قابلته ... بذلّ وذلك جهد المقلّ
وأسلمت خدّي له خاضعا ... ولولا ملاحته لم أذلّ «3»
فأدّت فيه صنعة حسنة جدّا، فطرب القاسم عليه طربا شديدا واستحسن الصنعة جدّا والشعر فأفرط، فقالت بدعة: يا مولاي إن لهذا الشعر خبرا حسنا أحسن منه، قال: وما هو؟ قالت: هو لأبي خازم «4» القاضي، قال: فعجبنا من ذلك، مع شدة تقشف القاضي أبي خازم وورعه وتقبّضه «5» ، فقال لي الوزير: بالله يا أبا إسحاق اركب «6» إلى أبي خازم واسأله عن هذا الشعر وسببه، فباكرته وجلست حتى خلا وجهه ولم يبق إلا رجل بزيّ القضاة عليه قلنسوة، فقلت: بيننا شيء أقوله على خلوة، فقال: ليس هذا ممن أكتمه شيئا، فقصصت عليه الخبر، وسألت عن الشعر والخبر، فتبسّم ثم قال: هذا شيء كان في الحداثة، قلته في والدة هذا- وأومأ الى القاضي الجالس وإذا هو ابنه- وكنت إليها مائلا، وكانت لي مملوكة ولقلبي مالكة، فأما الآن(2/848)
فلا عهد لي بمثله منذ سنين، ولا عملت شعرا منذ دهر طويل، وأنا أستغفر الله مما مضى. قال: فوجم الفتى حتى ارفضّ عرقا، وعدت إلى القاسم فأخبرته فضحك من خجل الابن وقال: لو سلم من العشق أحد لكان أبو خازم مع تقبضه «1» وكنا نتعاود ذلك زمانا.
قال المؤلف: كان هذا الخبر بترجمة أبي إسحاق الزجاج أحرى إلا أنّ في أوله من إيضاح حال الآمدي ما ساق باقي الحديث «2» .
قال أبو علي «3» : كان قد ولي القضاء بالبصرة في سنة نيف وخمسين وثلاثمائة رجل لم يكن عندهم بمنزلة من صرف به، لأنه ولّي صارفا لأبي الحسن محمد بن عبد الواحد الهاشمي، فقال فيه أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي كاتب القاضيين أبي القاسم جعفر «4» وأبي الحسن محمد بن عبد الواحد:
رأيت قلنسوة «5» تستغيث ... من فوق رأس تنادي خذوني
وقد قلقت فهي طورا تميل ... من عن يسار ومن عن يمين
فطورا تراها فويق القفا ... وطورا تراها فويق الجبين
فقلت لها أيّ شيء دهاك ... فردّت بقول كئيب حزين
دهاني أن لست في قالبي ... وأخشى من الناس أن يبصروني
وأن يعبثوا بمزاح معي ... وإن فعلوا ذاك بي قطعوني
فقلت لها مرّ من تعرفين ... من المنكرين لهذي الشؤون
[ومن كان يشهق إما رآك ... ويخرج من جوفه كالرنين]
ومن كان يصفع في الدين «6» لا ... يملّ ويشتدّ في غير لين(2/849)
ويسلح «1» ملأك كيل التمام ... إما على صحة أو جنون
ففارقها ذلك الإنزعاج ... وعادت إلى حالها في السكون
وحدث ابن نصر «2» قال: حدّثت يوما أبا الفرج الببغا الشاعر أن أبا الفرج منصور بن بشر النصراني الكاتب، وكان منقطعا إلى أبي العباس ابن ماسرجس، فأنفذه مرة إلى أبي عمر إسماعيل بن أحمد عامل البصرة في بعض حاجاته، فعاد من عنده مغضبا لأنه لم يستوف له القيام عند دخوله، وأراد أبو العباس إنفاذه بعد أيام فأبى وقال: لو أعطيتني زورق ابن الخواستيني مملوءا كيمياء، كلّ مثقال منه إذا وضع على ألف مثقال صفرا صار ذهبا إبريزا ما مضيت إليه، فأمسك عنه مغيظا (وهذا زورق معروف بالبصرة، وحمله ثلاثمائة ألف رطل، وقد رأيت دواتي أبي العباس سهل بن بشر، وقد حكي له أن ابن علان قاضي القضاة بالأهواز ذكر أنه رأى قبجة «3» وزنها عشرة أرطال، فقال: هذا محال، فقيل له: تردّ قول ابن علان؟ قال: فإن قال ابن علان إن على شاطىء جيحون نخلا يحمل غضار صيني مجزّع بسواد أقبل) وقلت لأبي الفرج: وللناس عادات في المبالغات، وهذا من أعجبها، فقال لي: كان الآمدي النحويّ صاحب «كتاب الموازنة» يدّعي هذه المبالغات على أبي تمام ويجعلها استطرادا لعيبه إذا ضاق عليه المجال في ذمه، وأورد في كتابه قوله من قصيدته التي أولها «4» :
من سجايا الطلول ألا تجيبا خضبت خدّها إلى لؤلؤ العقد دما أن رأت شواتي خضيبا كلّ داء يرجى الدواء له الا الفظيعين ميتة ومشيبا(2/850)
ثم قال: هذه من مبالغاته المسرفة؛ ثم قال أبو الفرج: هذه والله المبالغة التي يبلغ بها السماء.
وله من الكتب: كتاب المختلف والمؤتلف في أسماء الشعراء «1» . كتاب نثر المنظوم. كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري «2» . كتاب في أن الشاعرين لا تتفق خواطرهما. كتاب ما في عيار الشعر لابن طباطبا من الخطأ. كتاب فرق ما بين الخاصّ والمشترك من معاني الشعر. كتاب تفضيل شعر امرىء القيس على الجاهليين. كتاب في شدة حاجة الإنسان إلى أن يعرف نفسه. كتاب تبيين غلط قدامة بن جعفر في «كتاب نقد الشعر» . كتاب معاني شعر البحتري. كتاب الرد على ابن عمار فيما خطأ فيه أبا تمام. كتاب فعلت وأفعلت، غاية لم يصنف مثله. كتاب الحروف من الأصول في الأضداد، رأيته بخطه في نحو مائة ورقة. كتاب ديوان شعره نحو مائة ورقة.
وقرأت في كتاب ألفه أحد بني عبد الرحيم الوزراء الذين مدحهم مهيار وغيره ولم يذكر اسمه، قال أخبرني القاضي أبو القاسم التنوخي «3» عن أبيه أبي علي المحسن أن مولد أبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي بالبصرة وأنه قدم بغداد يحمل عن الأخفش والحامض والزجاج وابن دريد وابن السراج وغيرهم اللغة والنحو، وروى الأخبار في آخر عمره بالبصرة، وكان يكتب «4» بمدينة السلام لأبي جعفر هارون بن محمد الضبي خليفة أحمد بن هلال صاحب عمان بحضرة المقتدر بالله ووزارته ولغيره من بعده، وكتب بالبصرة لأبي الحسن أحمد وأبي أحمد طلحة بن الحسن بن المثنى، وبعدهما لقاضي البلد أبي القاسم جعفر ابن عبد الواحد الهاشمي على الوقوف التي تليها القضاة ويحضر به في مجلس حكمه، ثم لأخيه أبي الحسن محمد بن عبد الواحد لما ولي قضاء البصرة، ثم لزم بيته إلى أن مات. وكان كثير الشعر حسن الطبع جيد الصنعة(2/851)
مشتهرا بالتشبيهات.
ولأبي القاسم تصانيف كثيرة جيدة مرغوب فيها منها «كتاب الموازنة بين البحتري وأبي تمام» في عشرة أجزاء وهو كتاب حسن، وإن كان قد عيب عليه في مواضع منه، ونسب إلى الميل مع البحتري فيما أورده، والتعصّب على أبي تمام فيما ذكره، والناس بعد فيه على فريقين: فرقة قالت برأيه حسب رأيهم في البحتري وغلبة حبّهم لشعره، وطائفة أسرفت في التقبيح لتعصّبه، فإنه جدّ واجتهد في طمس محاسن أبي تمام وتزيين مرذول البحتري. ولعمري إن الأمر كذلك، وحسبك أنه بلغ في كتابه إلى قول أبي تمام:
أصمّ بك الناعي وإن كان أسمعا
وشرع في إقامة البراهين على تزييف هذا الجوهر الثمين، فتارة يقول: هو مسروق، وتارة يقول: هو مرذول، ولا يحتاج المنصف إلى أكثر من ذلك؛ إلى غير ذلك من تعصباته، ولو أنصف وقال في كلّ واحد بقدر فضائله لكان في محاسن البحتري كفاية عن التعصب بالوضع من أبي تمام.
وله أيضا «كتاب الخاص والمشترك» تكلم فيه على الألفاظ والمعاني التي تشترك العرب فيها ولا ينسب مستعملها إلى السرقة وإن كان سبق إليها، وبيّن الخاصّ الذي ابتدعه الشعراء وتفردوا به ومن اتبعهم، وما أقصر في إيضاح ذلك وتحقيقه، إلى غير ذلك من تصانيفه التي ذكرنا منها ما قدرنا عليه فيما تقدم.
ومن شعره «1» :
يا واحدا بان في الزمان ... ممن يجاريه أو يداني
دعني من نائل جزيل ... يعجز عن شكره لساني
فلست والله مستميحا ... ولا أخا مطمع «2» تراني
وهب إذا كنت لي وهوبا ... من بعض أخلاقك الحسان(2/852)
وقال في أبي محمد المافروخي، وكان عالما فاضلا لا يجارى لكنه كان تمتاما:
لا تنظرنّ إلى تتعتعه إذا ... رام الكلام ولفظه المعتاص
وانظر إلى الحكم التي يأتي بها ... تشفيك عند تطلّق وخلاص
فالدرّ ليس يناله غوّاصه ... حتى تقطّع أنفس الغوّاص
وفي «النشوار» «1» : حدثني أبو القاسم الحسن بن بشر الآمدي قال، قال أبو أحمد طلحة بن الحسن بن المثنّى، وقد تجارينا على خلوة الحديث فيما كان بينه وبين أبي القاسم البريدي وتدبير كلّ واحد منهما على صاحبه في القبض عليه، وأشرت عليه بأن يهرب ولا يقيم، وأنه لا يجب أن يغترّ «2» ، فقال: لست أفكر في هذا الرجل لأمور «3» كثيرة منها: رؤيا رأيتها منذ ليال كثيرة، فقلت: ما هي؟ فقال: رأيت ثعبانا عظيما قد خرج من هذا الحائط، وأومأ بيده إلى حائط في مجلسه، وهو يريدني، فطلبته [وضربته] فأثبتّه في الحائط، فتأولت ذلك أن الثعبان البريديّ وأني أغلبه؛ قال: فحين قال: «فأثبتّه في الحائط» سبق إلى قلبي أنّ البريديّ هو الثابت، وأن الحائط حياطة له «4» دون أبي أحمد، فأردت أن أقول له إن الخبر مستفيض بما كان عبد الملك رأى في منامه كأنه وابن الزبير اصطرعا في صعيد من الأرض، فطرح ابن الزبير عبد الملك تحته على الأرض، وأوتده بأربعة أوتاد فيها، وأنه أنفذ راكبا إلى البصرة حتى لقي ابن سيرين فقصّ عليه الرؤيا كأنها له، وكتم [ذكر] ابن الزبير، فقال له ابن سيرين: هذه الرؤيا ليست رؤياك فلا أفسّرها لك، فألحّ عليه فقال له:
هذه الرؤيا يجب أن تكون لعبد الملك، فإن صدقتني فسّرتها لك، فقال: هو كما وقع لك، فقال: قل له إن صحّت رؤياك هذه فستغلب ابن الزبير على الأرض، ويملك الأرض من صلبك أربعة ملوك. فمضى الرجل إلى عبد الملك فأخبره، فعجب من فطنة ابن سيرين، فقال: ارجع إليه فقل له من أين قلت ذلك؟ فرجع الرجل إليه فقال(2/853)
له: إن الغالب في النوم هو المغلوب، وتمكنه على الأرض غلبته عليها، والأوتاد الأربعة التي أوتدها في الأرض هم ملوك يتمكنون من الأرض كما تمكنت الأوتاد. قال أبو القاسم الآمدي: فأردت أن أقول لأبي أحمد هذا، وما وقع لي من القياس عليه في تفسير رؤياه، فكرهت ذلك، لأنه كان يكون سوء أدب وقباحة عشرة ونعيا «1» لنفسه، فما مضت إلا أيام حتى قبض البريديّ عليه وكان من أمره ما كان.
[312]
أبو الحسن البوراني
: معتزلي نحويّ ذكره المقدر عند ذكره لجماعة من المعتزلة النحويين فقال: وأبو الحسن البوراني، وناهيك تدقيقا في مسائل الكتاب، وكان في أيام أبي علي الفارسي وطبقته.
[313]
الحسن بن الحسين بن عبيد الله بن عبد الرحمن
بن العلاء بن أبي صفرة المعروف بالسكري، أبو سعيد النحوي اللغوي الراوية الثقة المكثر: مات في سنة خمس وسبعين ومائتين ومولده في سنة اثنتي عشرة ومائتين. سمع يحيى بن معين وأبا حاتم السجستاني والعباس بن الفرج الرياشي ومحمد بن حبيب والحارث بن أبي أسامة وأحمد بن الحارث الخراز وخلقا سواهم، وأخذ عنه محمد بن عبد الملك التاريخي.
وكان ثقة صادقا يقرىء القرآن، وانتشر عنه في كتب الأدب ما لم ينتشر عن أحد من نظرائه، وكان إذا جمع جمعا فهو الغاية في الاستيعاب والكثرة.
__________
[312]- بغية الوعاة 1: 527.
[313]- ترجمة السكري في طبقات الزبيدي: 183 (وفيه أنه توفي سنة 290) والفهرست: 86 وتاريخ بغداد 7: 296 والمنتظم 5: 97 وإنباه الرواة 1: 291 وسير الذهبي 13: 126 والوافي 11: 424 ونزهة الالباء: 274 والبداية والنهاية 11: 154 والبلغة: 56 وبغية الوعاة 1: 502 واشارة التعيين: 88.(2/854)
حدث أبو الكرم خميس بن علي الحوزي النحوي الحافظ الواسطي في أماليه- وله في هذا الكتاب باب «1» قال: قدم أبو سعيد الحسن بن الحسين السكري بغداد فحضر مجلس أبي زكريا الفراء، وهو يومئذ شيخ الناس بها، فأملى الفراء بابا في التصغير قال فيه: العرب تقول: هو الهن وتصغيره الهنيّ، وتثنيته في الرفع الهنيّان، وفي النصب والجر الهنيّين، وأنشد عليه قول القتّال الكلابي «2» :
يا قاتل الله صلعانا تجيء بهم ... أمّ الهنيّين من زند لها واري
فأمسك أبو سعيد حتى إذا انقضى المجلس ولم يبق فيه أحد سوى الفراء تقدم أبو سعيد حتى جلس بين يديه وقال له: أكرمك الله، أنا رجل غريب، وقد مرّ شيء أتأذن لي في ذكره؟ فقال: اذكره، فقال: إنك قلت هو الهن وتثنيته في الرفع الهنيان وفي النصب والجر الهنيين، وهذا جميعه كما قلت، ثم أنشدت قول الكلابي:
يا قاتل الله صلعانا تجيء بهم ... أم الهنيين من زند لها واري
وليس هكذا أنشدناه أشياخنا، قال الفراء: ومن أشياخك؟ قال: أبو عبيدة وأبو زيد والأصمعي، قال الفراء: وكيف أنشده أشياخك؟ قال: فزعموا أن الهنبر بوزن الخنصر ولد الضبع، وأن القتّال قال:
يا قاتل الله صلعانا تجيء بهم ... أم الهنيبر من زند لها واري
على التصغير؛ ففكر الفراء ساعة وقال: أحسن الله عن الإفادة وحسن «3» الأدب جزاءك.
قال المؤلف ياقوت بن عبد الله: هكذا وجدت هذا الخبر في أمالي الحوزي، وهو ما علمت من الحفاظ، إلا أنه غلط فيه من وجوه: وذلك أن السكري لم يلق الأصمعي ولا أبا عبيدة ولا أبا زيد، وإنما روى عمن روى عنهم كابن حبيب وابن أبي أسامة والخراز وطبقتهم، ثم إن السكري ولد في سنة اثنتي عشرة ومائتين، وأبو عبيدة(2/855)
مات سنة تسع عشرة ومائتين وأبو زيد مات سنة خمس عشرة ومائتين، والأصمعي مات في سنة ثلاث عشرة ومائتين أو خمس عشرة ومائتين فمتى قرأ عليهم، وهذه الجماعة المذكورة هم في طبقة الفراء لأن الفراء مات في سنة سبع ومائتين، ولعل هذه الحكاية عن غير السكري وأوردها خميس عنه سهوا وأوردتها أنا كما وجدتها.
وللسكري من الكتب على ما ذكره محمد بن اسحاق النديم «1» : كتاب أشعار هذيل. كتاب النقائض. كتاب النبات. كتاب الوحوش، جوّد في تصنيفه. كتاب المناهل والقرى. كتاب الأبيات السائرة. وعمل أشعار جماعة من الشعراء منهم:
امرؤ القيس. النابغة الذبياني. النابغة الجعدي. زهير. الحطيئة. لبيد. تميم بن أبي بن مقبل. دريد بن الصمة. الأعشى. مهلهل. متمم بن نويرة. أعشى باهلة.
الزبرقان بن بدر. بشر بن أبي خازم. المتلمس. الراعي. الشماخ. الكميت.
ذو الرمة. الفرزدق. ولم يعمل شعر جرير، وعمل شعر أبي نواس، وتكلم على معانيه وغريبه في نحو ألف ورقة ولم يتمّ، وإنما عمل مقدار ثلثيه؛ قال محمد بن إسحاق النديم: ورأيته بخط الحلواني، وكان الحلواني قريب أبي سعيد السكري.
وعمل شعر قيس بن الخطيم وهدبة بن خشرم وابن أحمر العقيلي والأخطل وغير هؤلاء. وأما أشعار القبائل فإنه عمل منهم: أشعار بني هذيل. أشعار بني شيبان.
أشعار بني ربيعة. أشعار بني يربوع. أشعار بني طيء. أشعار بني كنانة. أشعار بني ضبة. أشعار بجيلة. أشعار بني القين. أشعار بني يشكر. أشعار بني حنيفة. أشعار بني محارب. أشعار الأزد. أشعار بني نهشل. أشعار بني عدي. أشعار بني أشجع. أشعار بني نمير. أشعار بني عبد ودّ. أشعار بني مخزوم. أشعار بني سعد.
أشعار بني الحارث. أشعار الضباب. أشعار فهم وعدوان. أشعار مزينة.
وحدث الصولي قال: كنت عند أحمد بن يحيى ثعلب فنعي إليه السكري فتمثل «2» :(2/856)
المرء يخلق وحده ... ويموت يوم يموت وحده
والناس بعدك إن هلكت ... فمن رأيت الناس بعده
[314]
الحسن بن الخطير أبو علي الفارسي المعروف بالظهير
: كان فقيها لغويا نحويا، مات بالقاهرة من الديار المصرية في شهور سنة ثمان وتسعين وخمسمائة؛ حدثني بجميع ما أورده عنه ها هنا من خبره ووفاته تلميذه الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الادريسي الحسني الصعيدي بالقاهرة في سنة اثنتي عشرة وستمائة قال:
كان الظهير يكتب على كتبه في فتاويه «الحسن النعماني» فسألته عن هذه النسبة فقال: أنا نعماني، أنا من ولد النعمان بن المنذر، ومولدي بقرية تعرف بالنعمانية، ومنها ارتحلت إلى شيراز فتفقهت بها فقيل لي الفارسي، وأنتحل مذهب النعمان «1» وأنتصر له فيما وافق اجتهادي. وكان عالما بفنون من العلم: كان قارئا بالعشر والشواذّ، عالما بتفسير القرآن وناسخه ومنسوخه والفقه والخلاف والكلام والمنطق والحساب والهيئة والطب، مبرزا في اللغة والنحو والعروض والقوافي ورواية أشعار العرب وأيامها وأخبار الملوك من العرب والعجم، وكان يحفظ في كلّ فن من هذه العلوم كتابا فكان يحفظ في علم التفسير كتاب «لباب التفسير» لتاج القراء، وفي الفقه كتاب «الوجيز» للغزالي، وفي فقه أبي حنيفة كتاب «الجامع الصغير» لمحمد بن الحسن الشيباني نظم النسفي، وفي الكلام كتاب «نهاية الاقدام» للشهرستاني، وفي اللغة كتاب «الجمهرة» لابن دريد، كان يسردها كما يسرد القارىء الفاتحة. وقال لي: كنت أكتب ألواحا وأدرسها كما أدرس القرآن، فحفظتها في مدة أربع عشرة
__________
[314]- في أصل م: الحسن بن الظئر، وغيرته اعتمادا على الوافي 11: 427 وبغية الوعاة 1: 502 والجواهر المضية 1: 191 وتاج التراجم: 17 وحسن المحاضرة 1: 314 وروضات الجنات 3: 92 وهو في هذه المصادر: الحسين بن الخطير بن أبي الحسين النعماني- أبو علي الظهير (أو الظهيري) .(2/857)
سنة. وكان يحفظ في النحو «كتاب الإيضاح» لأبي علي، وعروض الصاحب ابن عباد، وكان يحفظ في المنطق أرجوزة أبي علي ابن سينا، وكان قيّما بمعرفة قانون الطب له، وكان عارفا باللغة العبرانية ويناظر أهلها بها، حتى لقد سمعت بعض رؤساء اليهود يقول له: لو حلّفت أنّ سيدنا كان حبرا من أحبار اليهود لحلفت فإنه لا يعرف هذه النصوص بالعبرانية إلّا من تدرّب بهذه اللغة. وكان الغالب عليه علم الأدب، حتى لقد رأيت الشيخ أبا الفتح عثمان بن عيسى النحوي البلطي، وهو شيخ الناس يومئذ بالديار المصرية، يسأله سؤال المستفيد عن حروف من حوشيّ «1» اللغة. وسأله يوما بمحضري عمّا وقع في ألفاظ العرب على مثال شقحطب فقال: هذا يسمى في كلام العرب المنحوت، ومعناه أن الكلمة منحوتة من كلمتين كما ينحت النجار خشبتين ويجعلهما واحدة «2» ، فشقحطب منحوت من شق وحطب، فسأله البلطي أن يثبت له ما وقع من هذا المثال إليه ليعوّل في معرفتها عليه فأملاها عليه في نحو عشرين ورقة من حفظه، وسماها «كتاب تنبيه البارعين على المنحوت من كلام العرب» .
قال: ورأيت السعيد أبا القاسم هبة الله بن الرشيد جعفر بن سناء الملك يسأله على وجه الامتحان عن كلمات من غريب كلام العرب وهو يجيب عنها بشواردها، وكان القاضي الفاضل عبد الرحيم بن البيساني قد وضعه على ذلك.
قال: وحدثني عن نفسه قال: لما دخلت خوزستان لقيت بها المجير البغدادي تلميذ الشهرستاني، وكان مبرزا في علوم النظر، فأحبّ صاحب خوزستان أن يجمع بيننا للمناظرة في مجلسه، وبلغني ذلك فأشفقت من الانقطاع لمعرفتي بوفور بضاعة المجير من علم الكلام، وعرفت أنّ بضاعته من اللغة نزرة، فلما جلسنا للمناظرة والمجلس غاصّ بالعلماء فقلت له بعرض الكلام: إذا اشرأبت الطلّة إلى قرينها فأرّها في وبصان أو الجماد إذا تأشّب في المغث «3» ، فاحتاج إلى أن يستفسر ما قلت، فشنّعت عليه وقلت: انظر إلى المدّعي رتبة الإمامة يجهل لغة العرب التي بها نزل كلام(2/858)
ربّ العالمين وجاء حديث سيد المرسلين، والمناظرة إنما اشتقّت من النظير، وليس هذا بنظيري لجهله بأحد العلوم التي يلزم المجتهد القيام بها، وكثر لغط أهل المجلس وانقسموا فريقين: فرقة لي وفرقة عليّ، وانفكّ المجلس على ذلك وشاع في الناس أني قطعته.
وكان الظهير قد أقام بالقدس مدة، فاجتاز به الملك العزيز عثمان بن صلاح الدين يوسف فرآه عند الصخرة يدرس، فسأل عنه فعرّف منزلته من العلم، فأحضره عنده ورغّبه في المصير معه ليقمع به شهاب الدين أبا الفتح الطوسي لشيء نقمه عليه، فورد معه إلى القاهرة، وأجرى عليه كلّ شهر ستين دينارا ومائة رطل خبزا وخروفا وشمعة كلّ يوم، ومال إليه الناس من الجند وغيرهم من العلماء، وصار له سوق قائم إلى أن قرّر العزيز المناظرة بينه وبين الطوسي في غد عيد، وعزم الظهير أن يسلك مع الطوسيّ وقت المناظرة طريق المجير من المغالطة، لأن الطوسيّ كان قليل المحفوظ إلا أنه كان جريئا مقداما شديد العارضة، واتفق أن ركب العزيز يوم العيد، وركب معه الظهير والطوسي، فقال الظهير للعزيز، في أثناء الكلام: أنت يا مولانا من أهل الجنة، فوجد الطوسيّ السبيل إلى مقتله فقال: وما يدريك أنه من أهل الجنة؟
وكيف تزكّي على الله تعالى؟ فقال له الظهير: قد زكّى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه فقال:
أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، فقال له: أبيت يا مسكين إلا جهلا، ما تفرّق بين التزكية عن الله والتزكية على الله، وأنت من أخبرك أن هذا من أهل الجنة؟ ما أنت إلّا كما زعموا أنّ فأرة وقعت في دنّ خمر فشربت فسكرت، فقالت: أين القطاط؟ فلاح لها هرّ فقالت: لا تؤاخذ السكارى بما يقولون. وأنت شربت من خمر دنّ نعمة هذا الملك، فسكرت فصرت تقول خاليا: أين العلماء؟ فأبلس [الظهير] ولم يحر جوابا، وانصرف وقد انكسرت حرمته عند العزيز، وشاعت هذه الحكاية بين العوامّ وصارت تحكى في الأسواق والمحافل، فكان مآل أمره أن انضوى إلى المدرسة التي أنشأها الأمير تركون الأسدي يدرّس بها مذهب أبي حنيفة إلى أن مات، وكان قد أملى كتابا في تفسير القرآن وصل منه بعد سنين إلى تفسير قوله تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض
(البقرة: 253) في نحو مائتي ورقة، ومات ولم يختم تفسير سورة البقرة.(2/859)
وله كتاب في شرح الصحيحين على ترتيب الحميدي سمّاه «كتاب الحجة» اختصره من كتاب «الإفصاح في تفسير الصحاح» للوزير ابن هبيرة وزاد عليه أشياء وقع اختياره عليها. وكتاب في اختلاف الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار «1» ولم يتم. وله خطب وفصول وعظيّة مشحونة بغريب اللغة وحوشيّها.
[315]
الحسن بن داود الرقي أبو علي
: لا أعرف من أمره إلا ما وجدته بخط أبي الحسن علي بن عبيد الله السمسمي اللغوي، حدثنا النيسابوري قال، حدثنا أبو الحسن محمد بن يوسف الناقط قال حدثنا القاضي أبو بكر أحمد بن كامل ابن خلف بن شجرة قال، قال لي أبو أحمد محمد بن موسى البردي: سمعت من الحسن بن داود أبي علي الرقي بسرّ من رأى سنة ثمان وثلاثين ومائتين كتابه الذي يسميه «كتاب الحلي» وكان وقت كتبنا عنه قد جاز الثمانين، وأخرج إليّ أبو أحمد الكتاب فإذا هو الكتاب الذي سماه أحمد بن يحيى «فصيح الكلام» . قال أبو الحسن الناقط، قال ابن كامل: وكان الحسن بن داود مؤدّب عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد.
[316]
الحسن بن داود بن الحسن القرشي
المعروف بالنقاد المقرىء، يكنى أبا علي: أمويّ كوفي، قرأ على أبي محمد القاسم بن أحمد المعروف بالخياط التميمي المعروف بابن القملي أيضا، عن أبي جعفر محمد بن حبيب الشموني
__________
[315]- ترجمته في الوافي 12: 5.
[316]- الفهرست: 36 والوافي 12: 5 وبغية الوعاة 1: 503 وطبقات ابن الجزري 1: 212 ويتصحف اسمه فيصبح: النقار أو البقار أو النقاد- والصيغة الأخيرة بضبط الصفدي.(2/860)
الكوفي، عن أبي يوسف يعقوب بن خليفة الأعشى، عن أبي بكر ابن عياش عن عاصم قراءة عاصم، ومات بالكوفة سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة وصنف كتبا منها كتاب قراءة الأعشى. كتاب اللغة في مخارج الحروف وأصول النحو.
ذكر الحافظ أبو العلاء الهمذاني في «كتاب القراءات العشر» له في نسب النقاد: الحسن بن داود بن الحسن بن عون بن منذر بن صبيح القرشي النحوي، وكان موصوفا بحسن القراءة وطيب النغم جدا.
وقال ابن النجار في «تاريخ الكوفة» : ومن تأريخ رجال عاصم: محمد بن غالب الصيرفي، وبينه وبين القملي اختلافات في حروف يسيرة، وقرأ عليه جماعة من أهل الكوفة، فمنهم أبو علي الحسن بن داود النقاد، وكان حاذقا بالنحو لفاظا بالقرآن صاحب ألحان، وكان يصلّي بالناس تراويح بالجامع بالكوفة، وصلى فيه ثلاثا وأربعين سنة، وكان أحد المجوّدين.
[317]
الحسن بن رشيق القيرواني مولى الأزد
: كان شاعرا أديبا نحويا لغويا حاذقا عروضيا كثير التصنيف حسن التأليف، وكان بينه وبين ابن شرف الأديب مناقضات ومحاقدات، وصنّف في الردّ عليه عدة تصانيف.
كان أبوه رشيق روميا- ذكر ذلك هو في الردّ على ابن شرف بعد ذكره نسب ابن شرف: هو اسم امرأة نائحة، ثم قال: وأما أنا فنظر الله في وجهة هذا الشيخ إليّ، وأتمّ به النعمة عليّ، فما أبغى به أبا، ولا أرضى بمذهبه مذهبا، رضيت به روميا لا دعيّا ولا بدعيّا.
__________
[317]- ترجمة ابن رشيق في الخريدة 2: 230 والمطرب: 58 وإنباه الرواة 1: 298 والذخيرة 4: 597 وابن خلكان 2: 85 ومسالك الأبصار 11: 227 وأنموذج الزمان: 439 والوافي 12: 11 وبغية الوعاة 1: 504 والشذرات 3: 297 ومرآة الجنان 3: 78 والبلغة: 58 وروضات الجنات 3: 68 والحلل السندسية 1: 278 وإشارة التعيين: 89 وعنوان الأريب 1: 52 وللأستاذ حسن حسني عبد الوهاب كتاب البسيط في تاريخ القيروان وشاعرها ابن رشيق وقد جمع الميمني شعره في «النتف من شعر ابن رشيق وابن شرف» ثم جمع شعره صديقنا الدكتور عبد الرحمن ياغي، وكلا الجمعين قد أخلّ بأشعار كثيرة له، وبخاصة ما أورده ابن بسام في الذخيرة وما أورده عياض في ترتيب المدارك.(2/861)
تأدب ابن رشيق على أبي عبد الله ابن جعفر القزاز القيرواني النحوي اللغوي وغيره من أهل القيروان، ومات بالقيروان سنة ست وخمسين وأربعمائة عن ست وستين سنة، ذكر ابن رشيق هذا نفسه في كتابه الذي صنفه في شعراء عصره ووسمه ب «الأنموذج» فقال في آخره: صاحب الكتاب هو حسن بن رشيق، مولى من موالي الأزد، ولد بالمحمدية سنة تسعين وثلاثمائة، وتأدّب بها يسيرا وقدم إلى الحضرة سنة ست وأربعمائة، وامتدح سيدنا خلّد الله دولته (قال المؤلف: يعني المعز بن باديس بن المنصور) سنة عشر بقصيدة أوّلها «1» :
ذمّت لعينك أعين الغزلان ... قمر أقرّ لحسنه القمران
ومشت ولا والله ما حقف النقا ... مما أرتك ولا قضيب البان
وثن الملاحة غير أنّ ديانتي ... تأبى عليّ عبادة الأوثان
منها:
يا ابن الأعزّة من أكابر حمير ... وسلالة الأملاك من قحطان
من كلّ أبلج واضح بلسانه ... يضع السيوف مواضع التيجان
قال: ومن مدح القصيدة التي دخل بها في جملته، ونسب إلى خدمته فلزم الديوان، وأخذ الصلة والحملان «2» :
لدن الرماح لما تسقى أسنّتها ... من مهجة القيل أو من ثغرة البطل
لو أثمرت من دم الأعداء سمر قنا ... لأورقت عنده سمر القنا الذبل
إذا توجّه في أولى كتائبه ... لم تفرق العين بين السهل والجبل
فالجيش ينفض حوليه أسنته ... نفض العقاب جناحيها من البلل
يأتي الأمور على رفق وفي دعة ... عجلان كالفلك الدوار في مهل
قال: ومن رثائه «3» :(2/862)
أما لئن صحّ ما جاء البريد به ... ليكثرنّ من الباكين أشياعي
ما زلت أفزع من يأس الى طمع ... حتى ترفّع يأسي فوق أطماعي
فاليوم أنفق كنز العمر أجمعه ... لمّا مضى واحد الدنيا باجماع
قال: ومن هجائه «1» :
قالوا رأينا فراتا ليس يوجعه ... ما يوجع الناس من هجو إذا قذفا
وله من كتاب «سر السرور» «2» :
معتقة يعلو الحباب متونها ... فتحسبه فيها نثير جمان
رأت من لجين راحة لمديرها ... فطافت له من عسجد ببنان
ومن غير كتابه، له «3» :
ومن حسنات الدهر عندي ليلة ... من العمر لم تترك لأيامها ذنبا
خلونا بها ننفي القذى عن عيوننا ... بلؤلؤة مملوءة ذهبا سكبا
قال الأبيوردي: هذا أحسن من قول ابن المعتز:
كم من عناق لنا ومن قبل ... مختلسات حذار مرتقب
نقر العصافير وهي خائفة ... من النواطير يانع الرّطب
وله أيضا «4» :
قد أحكمت «5» مني التجارب ... كلّ شيء غير جودي
أبدا أقول لئن كسبت ... لأقبضنّ يدي شديد
حتى إذا أثريت عدت ... إلى السماحة من جديد
إنّ المقام بمثل حالي ... لا يتمّ مع القعود
لا بد لي من رحلة ... تدني من الأمل البعيد(2/863)
وله أيضا «1» :
في الناس من لا يرتجى نفعه ... إلا إذا مس باضرار
كالعود لا يطمع في طيبه ... إن أنت لم تمسسه بالنار
ومما أورده ابن رشيق لنفسه في «الأنموذج» «2» :
أقول كالمأسور في ليلة ... ألقت على الآفاق كلكالها
يا ليلة الهجر التي ليتها ... قطّع سيف الهجر أوصالها
ما أحسنت جمل ولا أجملت ... هذا وليس الحسن إلا لها
وأنشد لنفسه أيضا «3» :
أحبّ أخي وإن أعرضت عنه ... وقلّ على مسامعه كلامي
ولي في وجهه تقطيب راض ... كما قطّبت في وجه المدام
وربّ تجهم من غير بغض ... وضغن كامن تحت ابتسام
وله أيضا «4» :
من جفاني فإنني غير جاف ... صلة أو قطيعة في عفاف
ربما هاجر الفتى من يصافيه ... ولاقى بالبشر من لا يصافي
وأنشد لنفسه في كتاب «فسح اللمح» «5» :
المرء في فسحة كما علموا ... حتى يرى شعره وتأليفه
فواحد منهما صفحت له ... عنه وجازت له زخاريفه
وآخر أنت «6» منه في غرر ... إن لم يوافق رضاك تثقيفه
وقد بعثنا كيسين ملؤهما ... نقد امرىء حاذق وتزييفه(2/864)
فانظر وما زلت أهل معرفة ... يا من لنا علمه ومعروفه
ثم قال في ورقة أخرى: تمام الأبيات العينية «1» (وما وجدتها، أعني الأبيات التي هذه تمامها) :
ولو غيرك الموسوم عندي برتبة ... لأعطيت فيه مدعي القوم ما ادّعى
فلا تتخالجك الظنون فإنها ... مآثم واترك للصنائع موضعا
فو الله ما طوّلت باللوم فيكم ... لسانا ولا عرّضت للذمّ مسمعا
ولا ملت عنكم بالوداد ولا انطوت ... حبالي ولا ولّى ثنائي مودّعا
بلى ربما أكرمت نفسي فلم تهن ... وأجللتها عن أن تذلّ وتخضعا
فباينت لا أنّ العداوة باينت ... وقاطعت لا أنّ الوفاء تقطعا
وختم كتاب «العمدة» بهذه الأبيات «2» :
إن الذي صاغت يدي وفمي ... وجرى لساني فيه أو قلمي
مما عنيت بسبك خالصه ... واخترته من جوهر الكلم
لم أهده إلا لتكسوه ... ذكرا يجدده على القدم
لسنا نزيدك فضل معرفة ... لكنهنّ مصايد الكرم
فاقبل هدية من أشدت به ... ونسخت عنه آية العدم
لا تحسن الدنيا أبا حسن ... «3» تأتي بمثلك فائق الهمم(2/865)
[318]
الحسن بن شهاب بن الحسن بن علي بن شهاب
أبو علي العكبري: قال الخطيب: ولد بعكبرا في سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة، ومات في سنة ثمان وعشرين وأربعمائة، وسمع الحديث على كبر السنّ من أبي علي ابن الصوّاف وابن مالك القطيعيّ وغيرهما. وكان فاضلا يتفقّه على مذهب أحمد بن حنبل.
حدث قال: كسبت بالوراقة خمسة وعشرين ألف درهم، قال: وكنت أشتري كاغدا بخمسة دراهم، فأكتب فيه ديوان المتنبي في ثلاث ليال وأبيعه بمائتي درهم وأقله بمائة وخمسين درهما، وكذلك كتب الأدب المطلوبة.
وأخذ السلطان من تركة ابن شهاب ألف دينار سوى ما خلّفه من العقار والمتجر، وكان قد أوصى بثلث ماله للمتفقهة الحنابلة فلم يعطوا شيئا.
[319]
الحسن بن أبي الحسن صافي أبو نزار النحوي
: وكان أبوه صافي مولى الحسين الأرموي «1» التاجر، وكان لا يذكر اسم أبيه إلا بكنيته لئلا يعرف أنه مولى، وهو المعروف بملك النحاة. قال أبو القاسم علي بن عساكر الحافظ «2» : ذكر لي أنه
__________
[318]- ترجمة أبي علي العكبري في تاريخ بغداد 7: 329 وطبقات الحنابلة: 370 والمنتظم 8: 92 والوافي 12: 55 والشذرات 3: 241، وهذه الترجمة من ر.
[319]- ترجمة ملك النحاة سقطت في مصورة ابن عساكر وهي في تهذيبه 4: 169 والخريدة (قسم العراق) 3/1: 89 وإنباه الرواة 1: 305 وبغية الطلب 4: 229 ومرآة الزمان: 295 وابن الدبيثي: 281 وابن خلكان 2: 92 وعبر الذهبي 4: 204 وسير الذهبي 20: 512 وطبقات السبكي 7: 63 وطبقات الاسنوي 2: 496 والوافي 12: 56 والنجوم الزاهرة 6: 68 والبداية والنهاية 12: 272 والبلغة: 59 والشذرات 4: 227 وبغية الوعاة 1: 504 واشارة التعيين: 91 وروضات الجنات 3: 85 (ويعتمد ياقوت أيضا على ابن عساكر والعماد) وللدكتور حنا حداد دراسة عنه (الأردن: 1982) بعنوان «ملك النحاة» .(2/866)
ولد ببغداد سنة تسع وثمانين وأربعمائة في الجانب الغربي بشارع دار الرقيق، ثم انتقل الى الجانب الشرقي الى جوار حرم الخلافت، وهناك قرأ العلم وتخرج، وسمع الحديث من الشريف أبي طالب الزينبي، وقرأ الفقه على أحمد [الأشنهي] ، وأصول الفقه على أبي الفتح ابن برهان «1» ، والخلاف على أسعد الميهني «2» ، والنحو على أبي الحسن علي بن أبي زيد الأستراباذي الفصيحي، وفتح له الجامع ودرّس، ثم سافر إلى بلاد خراسان وكرمان وغزنة، ودخل إلى الشام وقدم دمشق، ثم خرج منها وعاد إليها واستوطنها إلى أن مات بها في تاسع شوال سنة ثمان وستين وخمسمائة، ودفن بمقبرة الباب الصغير، وكان قد ناهز الثمانين. كان صحيح الاعتقاد كريم النفس، ذكر لي أسماء مصنفاته: كتاب الحاوي في النحو مجلدتان: كتاب العمد في النحو مجلدة، وهو كتاب نفيس. كتاب المقتصد في التصريف مجلدة ضخمة.
كتاب أسلوب الحق في تعليل القراءات العشر وشيء من الشواذ مجلدتان. كتاب التذكرة السفرية، انتهت إلى أربعمائة كراسة. كتاب العروض، مختصر محرر.
كتاب في الفقه على مذهب الشافعي سماه «الحاكم» مجلدتان. كتاب مختصر في أصول الفقه. كتاب مختصر في أصول الدين. كتاب ديوان شعره. كتاب المقامات حذا حذو الحريري.
ومن شعره يمدح النبي صلى الله عليه وسلّم «3» :
يا قاصدا يثرب الفيحاء مرتجيا ... أن يستجير بعليا خاتم الرسل
خذ عن أخيك مقالا إن صدعت به ... مدحت في آخر الأعصار والأول
قل يا من الفخر موقوف عليه فإن ... تذوكر الفخر لم يصدف ولم يمل
صيت إذا طلبت غاياته خرقت ... سبعا طباقا فبذّت كلّ ذي أمل
علوت وازددت حتى عاد مبتذخا ... جبريل عمّا له قد كان لم يطل(2/867)
وعدت والكبر قد نافى علاك فما ... عدوت شيمة سبط الخلق مبتهل
أتتك غرّ قوافي المدح خاضعة ... لديك فاقبل ثناء غير منتحل
ثناء من لم يجد وجناء تحمله ... إليك أو صدّ بالاقتار عن جمل
ومن شعره أيضا «1» :
حنانيك إن راعتك «2» يوما خصائصي ... وهالك أصناف الكلام المسخّر
فسل منصفا عن قالتي «3» غير جائر ... يخبّرك أنّ الفضل للمتأخّر
وقال أحمد بن منير «4» يهجو ملك النحاة وكان قد كتب أبو نزار إلى بعض القضاة «القاضويّ» «5» :
أيا ملك النحو والحاء من ... تهجّيه من تحت قد أعجموها
أتانا قياسك هذا الذي ... يعجم أشياء قد أعربوها
ولما تصنّعت «6» في القاضويّ ... غدا وجه جهلك «7» فيه وجوها
وقالوا: قفا الشيخ، إنّ الملوك ... إذا دخلوا قرية أفسدوها
فبلغت أبياته ملك النحاة فأجابه بأبيات منها:
أيا ابن منير حسبت الهجاء ... رتبة فخر فبالغت فيها
جمعت القوافي من ذا وذا ... وأفسدت أشياء قد أصلحوها «8»
وفي آخرها:
فقالوا قفا الشيخ إنّ الملوك ... إذا أخطأت سوقة أدّبوها(2/868)
قال البلطي: كان ملك النحاة قدم إلى الشام فهجاه ثلاثة من الشعراء ابن منير والقيسراني والشريف الواسطي، واستخف به ابن الصوفي ولم يوفه قدر مدحه، فعاد إلى الموصل ومدح جمال الدين وجماعة من رؤسائها وقضاتها، فلما نبت به الموصل قيل له: لو رجعت إلى الشام، فقال: لا أرجع إلى الشام إلا أن يموت ابن الصوفي وابن منير والقيسراني والشريف الواسطي، فقتل الشريف الواسطي ومات ابن منير والقيسراني في مدة سنة، ومات الصوفي بعدهم بأشهر.
وحدثني شيخنا أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش النحوي قال: بلغني أنه كان لملك النحاة غلام، وكان سيّء العشرة قليل المبالاة بمولاه ملك النحاة، فأرسله يوما في شغل ليتعجل في إنجازه، فأبطأ فيه غاية الإبطاء، ثم جاء بعذر غير جميل، وكان يحضر ملك النحاة جماعة من أصدقائه والتلامذة، فغضب ملك النحاة وخرج عن حدّ الوقار الذي كان يلتزمه ويتوخّاه وقال له: ويلك أخبرني ما سبب قلة مبالاتك بي واطّراحك لقبول أوامري؟ أنكتك قط؟ فبادر الغلام وقال: لا والله يا مولاي معاذ الله أن تفعل ذلك بي فإنك أجلّ من ذلك، قال: ويلك فنكتني قط؟ فحرك الغلام رأسه متعجبا من كلامه وسكت، فقال له: ويلك أدركني بالجواب، هذا موضع السكوت لا رعاك الله يا ابن الفاعلة؟ عجّل قل ما عندك قل، فقال: لا والله، قال:
فما السبب في أنك لا تقبل قولي ولا تسرع في حاجتي؟ فقال له: إن كان سبب الانبساط لا يكون إلا هذين فسأعدك ولا أعود إلى ما تكره إن شاء الله.
قال العماد «1» : أقام ملك النحاة بالشام في رعاية نور الدين محمود بن زنكي، وكان مطبوعا متناسب الأحوال والأفعال، يحكم على أهل التمييز بحكم ملكه فيقبل ولا يستثقل «2» . وكان يقول: هل سيبويه إلا من رعيتي؟ ولو عاش ابن جني لم يسعه إلا حمل غاشيتي، مرّ الشيمة حلو الشتيمة، يضم يده على المائة والمائتين، ويمشي وهو منها صفر اليدين، مولع باستعمال الحلاوات السكرية وإهدائها إلى جيرانه وإخوانه، مغرى بإحسانه إلى خلصانه وخلانه.(2/869)
قال العماد: أذكره وقد وصلت إليه خلعة مصرية وجائزة سنية، فأخرج القميص الدبيقيّ إلى السوق فبلغ دون عشرة دنانير، فقال: قولوا هذا قميص ملك كبير أهداه إلى ملك كبير ليعرف الناس قدره فيحلّوا عليه البدر على البدار، وليجلّوا قدره في الأقدار، ثم قال: أنا أحق به إذا جهلوا حقه، وتنكبوا فيه سبل الواجب وطرقه.
ومن طريف ما يحكى عن ملك النحاة أن نور الدين محمودا خلع عليه خلعة سنية ونزل ليمضي إلى منزله، فرأى في طريقه حلقة عظيمة، فمال إليها لينظر ما هي، فوجد رجلا قد علّم تيسا له استخراج الخبايا، وتعريفه من يقول له من غير إشارة، فلما وقف عليه ملك النحاة قال الرجل لذلك التيس: في حلقتي رجل عظيم القدر، شائع الذكر، ملك في زي سوقة، أعلم الناس وأكرم الناس وأجمل «1» الناس، فأرني إياه، فشقّ ذلك التيس الحلقة وخرج حتى وضع يده على ملك النحاة، فلم يتمالك ملك النحاة أن خلع تلك الخلعة ووهبها لصاحب التيس، فبلغ ذلك نور الدين فعاتبه وقال:
استخففت بخلعتنا حتى وهبتها من طرقيّ؟! فقال: يا مولانا عذري في ذلك واضح لأنّ في هذه المدينة زيادة على مائة ألف تيس، ما فيهم من عرف قدري إلا هذا التيس، فجازيته على ذلك، فضحك منه نور الدين وسكت.
وحكي عنه أنه كان يستخفّ بالعلماء، فكان إذا ذكر واحد منهم يقول: هو كلب من الكلاب، فقال رجل يوما: فلست إذا ملك النحاة، إنما أنت ملك الكلاب، فاستشاط غضبا وقال: أخرجوا عني هذا الفضولي.
وقال السمعاني: دخل أبو نزار بلاد غزنة وكرمان، ولقي الأكابر وتلقي مورده بالإكرام، ولم يدخل بلاد خراسان، وانصرف إلى كرمان وخرج منها إلى الشام.
قال: وقرأت فيما كتبته بواسط ولا أدري عمن سمعته لأبي نزار النحوي «2» :
أراجع لي عيشي الفارط ... أم هو عني نازح شاحط
ألا وهل تسعفني أوبة ... يسمو بها نجم المنى الهابط
أرفل في مرط ارتياح وهل ... يطرق سمعي: هذه واسط(2/870)
يا زمني عدلي فقد رعتني ... حتى عراني شيبي الواخط
كم أقطع البيداء في ليلة ... يقبض ظلّي خوفها الباسط
أأرقب الراحة أم لا وهل ... يعدل يوما دهري القاسط
أيا ذوي ودّي «1» أما اشتقتم ... إلى إمام جأشه رابط
وهل عهودي عندكم غضة ... أم أنا في ظني إذا غالط
لتهنكم ما عشتم واسط ... إني لكم يا سادتي غابط
وأنشد له «2» :
الخيش والبرم الكبير ... منظوم ذلك والنثير «3»
ودخان عود الهند و ... الشمع المكفّر «4» والعبير
ورشاش ماء الورد قد ... عرفت «5» به تلك النحور
ومثالث العيدان يسعد ... جسّها «6» بمّ وزير
وتخافق النايات يخفق ... «7» بينها الطبل القصير
والشرب بالقدح الصغير ... يحثّه القدح الكبير
أحظى لديّ «8» من الأبا ... عر والحداة بها تسير
للعبد أن يلتذّ في ... دنياه والله الغفور(2/871)
ومن شعره أيضا «1» :
يا ابن الذين ترفعوا في مجدهم ... وعلت أخامصهم فروع شمام
أنا عالم ملك بكسر اللام ... فيما أدعيه لا بفتح اللام
أنشدني عفيف الدين أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل أحمد بن عبد الوهاب بن الزاكي بن أبي الفوارس السلمي الحراني المعروف بابن الصيرفي الدمشقي قال:
أنشدني فتيان بن علي بن فتيان الأسدي النحوي في ملك النحاة، وكانت قد عضّت يد ملك النحاة سنّور فربطها بمنديل عظيم:
عتبت على قطّ ملك النحاة ... وقلت أتيت بغير الصواب
عضضت يدا خلقت للندى ... وبثّ العلوم وضرب الرقاب
فأعرض عني وقال اتئد ... أليس القطاط أعادي الكلاب
قال: فبلغته الأبيات فغضب منها إلا أنه لم يدر من قائلها، ثم بلغه أنني قلتها فبلغني ذلك، فانقطعت عنه حياء مدة، فكتبت إليه شعرا أعتذر إليه، فكتب إليّ:
يا خليليّ نلتما النعماء ... وتسنّمتما العلا والعلاء
ألمما بالشاغور والمسجد ... المعمور واستمطرا به الأنواء
وامنحا صاحبي الذي كان فيه ... كلّ يوم تحية وثناء
ثم قولا له اعتبرنا الذي فهت ... به مادحا فكان سماء
وقبلنا فيه اعتذارك عمّا ... قاله الجاهلون عنك افتراء
الشاغور: محلة بدمشق بالباب الصغير.
وقال فتيان بن علي بن فتيان الأسدي المعلم الدمشقي: رأيت أبا نزار في النوم بعد موته فقلت له: ما فعل الله بك؟ فقال: أنشدته قصيدة [ما] في الجنة مثلها فتعلق بحفظي منها أبيات وهي:
يا هذه أقصري عن العذل ... فلست في الحلّ ويك من قبلي(2/872)
يا ربّ ها قد أتيت معترفا ... بما جنته يداي من زلل
ملآن كفّ بكلّ مأثمة ... صفر يد من محاسن العمل
فكيف أخشى نارا مسعّرة ... وأنت يا ربّ في القيامة لي
قال: فو الله منذ «1» فرغت من إنشادها ما سمعت حسيس النار.
حدث «2» شمس الدين محمد بن هبة الله الشيرازي قاضي دمشق قال: سمعت ملك النحاة يقول: للحيص بيص بيتان لو باعنيهما بجميع شعري:
سأرحل عن بغداد في طلب العلا ... الى بلدة يحنو عليّ أميرها
إلى بلدة فيها الكلاب تخالها ... كلابا وما ردّت إليها أمورها
[320]
الحسن بن عبد الله المعروف بلغدة- ولكذة أيضا، الأصبهاني
أبو علي:
قدم بغداد، وكان جيّد المعرفة بفنون الأدب، حسن القيام بالقياس، موفقا في كلامه. وكان إماما في النحو واللغة، وكان في طبقة أبي حنيفة الدينوري، مشايخهما سواء، وكان بينهما مناقضات.
قال حمزة بن حسن الأصبهاني في «كتاب أصبهان» : وأقدم علي بن رستم الديمرتي «3» من سامرّا إبراهيم بن غيث البغدادي، وكان أصبهانيا، فخرج في صغره إلى العراق، فبرع في علم النحو واللغة، وهو جدّ عبد الله بن يعقوب الفقيه، وروى عن أبي عبيدة وأبي زيد، وأقدم الخصيب بن أسلم الباهليّ صاحب الأصمعي. وعن
__________
[320]- ترجمته في الفهرست: 89 وإنباه الرواة 3: 43 (حرف اللام) والوافي 12: 86 وبغية الوعاة 1: 509 وروضات الجنات 3: 59 (ويعتمد ياقوت على كتاب أصبهان لحمزة والفهرست) .(2/873)
أبي إسحاق إبراهيم بن غيث وأبي عمر الخرقي- وهو أول من قدم أصبهان من أهل الأدب واللغة- وعن الباهلي صاحب الأصمعي وعن الكرماني صاحب الأخفش أخذ أبو علي لغدة علم اللغة. وكان أبو علي يحضر مجلس أبي إسحاق ويكتب عنه، ثم خالفه وقعد عنه وجعل ينقض عليه ما يمليه.
قال حمزة: وأنبأنا [ ... أن] من تقدم من أهل اللغة من أصبهان، وصار فيها رئيسا يؤخذ عنه جماعة منهم: أبو علي لغدة، وكان رأسا في اللغة والعلم والشعر والنحو، حفظ في صغره كتب أبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي، ثم تتبع ما فيها فامتحن بها الأعراب الوافدين على أصبهان، وكانوا يفدون على محمد بن يحيى بن أبان فيضربون خيمهم بفناء داره في باغ سلم بن عود، ويقصدهم أبو علي كلّ يوم، فيلقي عليهم مسائل شكوكه «1» من كتب اللغة ويثبت تلك الأوصاف عن ألفاظهم في الكتاب الذي سماه «كتاب النوادر» ثم لم يكن له في آخر أيامه نظير بالعراق.
قال: وكتاب النوادر هذا كتاب كبير يقوم بإزاء كلّ ما خرج إلى الناس من كتب أبي زيد في النوادر. وله من الكتب الصغار: كتاب الصفات. كتاب خلق الانسان.
كتاب خلق الفرس. وكتب أخرى كثيرة من صغار الكتب؛ وله ردود على علماء اللغة وعلى رواة الشعر والشعراء قد جمعناها نحن في كتاب وأنفذناه إلى أبي إسحاق الزجاج رحمه الله.
قال محمد بن إسحاق النديم «2» : وله من التصانيف كتاب الردّ على الشعراء، نقضه عليه أبو حنيفة الدينوري. كتاب النطق. كتاب الرد على أبي عبيد في غريب الحديث. كتاب علل النحو. كتاب مختصر في النحو. كتاب الهشاشة والبشاشة.
كتاب التسمية. كتاب شرح معاني الباهلي. كتاب نقض علل النحو. كتاب الرد على ابن قتيبة في غريب الحديث.
وأفرد حمزة الأصبهاني في «كتاب أصبهان» أشعارا للغدة منها «3» :(2/874)
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم ... والمنكرون لكلّ أمر منكر
وبقيت في خلف يزيّن بعضهم ... بعضا ليستر معور من معور
ما أقرب الأشياء حين يسوقها ... قدر وأبعدها إذا لم تقدر
الجدّ أنهض بالفتى من كدّه ... فانهض بجد في الحوادث أو ذر
وإذا تعسرت الأمور فأرجها ... وعليك بالأمر الذي لم يعسر
ومن شعره أيضا «1» :
خير إخوانك المشارك في المرّ ... وأين الشريك في المرّ أينا
الذي إن شهدت سرّك في القوم ... وإن غبت كان أذنا وعينا
مثل تبر العقيان إن مسّه النا ... ر جلاه الجلاء فازداد زينا
وأخو السوء ان يغب عنك يسبعك ... وان يحتضر يكن ذاك شينا
جيبه غير ناصح ومناه ... أن يعيب الخليل إفكا ومينا
فاصرمنه ولا تلهّف عليه ... إنّ صرما له كنقدك دينا
ومن شعره أيضا:
بذلت لك الصفاء بكلّ جهدي ... وكنت كما هويت فصرت خزّا «2»
فرحت بمدية فحززت أنفي ... وحبل مودّتي بيديك حزّا
ولم تترك إلى صلح مجازا ... ولا فيه لمطلبه مهزّا
ستمكث نادما في العيش منّي ... وتعلم أن رأيك كان عجزا «3»
وتذكرني إذا جربت غيري ... وتعلم أنني لك كنت كنزا(2/875)
وله من أبيات «1» :
يا قصير العمر ما هذا الأمل ... كل ذا الحرص وقد حان الأجل
ارتض الدنيا وكن ذا وجل ... فجنان الخلد حفّت بالوجل
[321]
الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي
أبو سعيد النحوي القاضي:
وسيراف بليد على ساحل البحر من أرض فارس، رأيته أنا، وبه أثر عمارة قديمة وجامع حسن، إلا أنه الآن الغالب عليه الخراب. وكان قد ولي القضاء على بعض الأرباع ببغداد، ومات رحمه الله يوم الاثنين ثاني رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة في خلافة الطائع، ودفن في مقابر الخيزران، وكان أبوه مجوسيا اسمه بهزاد فسمّاه أبو سعيد عبد الله. وكان أبو سعيد يدرس ببغداد القرآن والقراءات وعلوم القرآن والنحو واللغة والفقه والفرائض، وكان قد قرأ على أبي بكر ابن مجاهد القرآن، وعلى أبي بكر ابن دريد اللغة، ودرسا جميعا عليه النحو، وقرأ على أبي بكر ابن السراج وأبي بكر المبرمان النحو، وقرأ أحدهما عليه القرآن ودرس الآخر عليه الحساب.
قال الخطيب «2» : وكان رحمه الله زاهدا ورعا لم يأخذ على الحكم أجرا إنما
__________
[321]- ترجمة السيرافي في طبقات الزبيدي: 119 (وزعم أنه معتزلي من أصحاب الجبائي وورد ذلك لدى الخطيب ونفاه عنه بعضهم) وتاريخ بغداد 7: 341 والفهرست: 68 ونزهة الالباء: 307 والمنتظم 7: 95 وإنباه الرواة 1: 313 وبغية الطلب 4: الورقة 266 وابن خلكان 2: 78 وسير الذهبي 16: 247 وعبر الذهبي 2: 347 والوافي 12: 74 والبداية والنهاية 11: 294 ومرآة الجنان 2: 390 وطبقات ابن الجزري 1: 218 ولسان الميزان 2: 218 والنجوم الزاهرة 4: 133 وبغية الوعاة 1: 507 والجواهر المضية 2: 66 والشذرات 3: 65 والبلغة: 61 ولسان الميزان 2: 218 وروضات الجنات 3: 70 واشارة التعيين: 93 (ويعتمد ياقوت على تاريخ بغداد والفهرست ومؤلفات التوحيدي) .(2/876)
كان يأكل من كسب «1» يمينه، فكان لا يخرج إلى مجلس الحكم ولا إلى مجلس التدريس حتى ينسخ عشر ورقات يأخذ أجرتها عشرة دراهم تكون بقدر مؤونته ثم يخرج إلى مجلسه. وصنّف كتبا: منها شرح كتاب سيبويه.
قال أبو حيان التوحيدي: رأيت أصحاب أبي علي الفارسي يكثرون الطلب لكتاب «شرح سيبويه» ويجتهدون في تحصيله، فقلت لهم: إنكم لا تزالون تقعون فيه وتزرون على مؤلّفه فما لكم وله؟ قالوا: نريد أن نردّ عليه ونعرّفه خطأه فيه. قال أبو حيان: فحصّلوه واستفادوا منه ولم يردّ عليه أحد منهم، أو كما قال أبو حيان فإني لم أنقل ألفاظ الخبر لعدم الأصل الذي قرأته منه.
وكان أبو علي وأصحابه كثيري الحسد لأبي سعيد، وكانوا يفضلون عليه الرماني، فحكى ابن جني عن أبي علي أن أبا سعيد قرأ على ابن السراج خمسين ورقة من أول الكتاب ثم انقطع، قال أبو علي: فلقيته بعد ذلك فعاتبته على انقطاعه فقال لي: يجب على الانسان أن يقدم ما هو أهم، وهو علم الوقت من اللغة والشعر والسماع من الشيوخ، فكان يلزم ابن دريد ومن جرى مجراه من أهل السماع.
وقال أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني صاحب «كتاب الأغاني» يهجو أبا سعيد السيرافي:
لست صدرا ولا قرأت على صدر ... ولا علمك البكيّ بشاف «2»
لعن الله كلّ شعر ونحو ... وعروض يجيء من سيراف
وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال «3» : قال لي أبو محمد «4» ولد أبي سعيد:
[ولد أبي] بسيراف، وفيها ابتدأ بطلب العلم، وخرج عنها قبل العشرين، ومضى إلى عمان فتفقه بها، ثم عاد إلى سيراف ومضى إلى العسكر فأقام بها مدة (قال المؤلف: وبها قرأ فيما أحسب على المبرمان) قال: كان فقيها على مذهب العراقيين، وورد إلى(2/877)
بغداد فخلف أبا محمد ابن معروف قاضي القضاة على قضاء الجانب الشرقي، وكان أستاذه في النحو، ثم استخلفه على الجانبين؛ ومولده قبل التسعين ومائتين، وله من الكتب: كتاب شرح سيبويه «1» . ألفات القطع والوصل. كتاب أخبار النحويين البصريين. كتاب شرح مقصورة ابن دريد. كتاب الإقناع في النحو، لم يتم، فتممه ابنه يوسف. وكان يقول: وضع أبي النحو في المزابل ب «الاقناع» يريد أنه سهّله حتى لا يحتاج إلى مفسّر. كتاب شواهد كتاب سيبويه. كتاب الوقف والابتداء. كتاب صنعة الشعر والبلاغة. كتاب المدخل إلى كتاب سيبويه. كتاب جزيرة العرب.
قرأت «2» بخط أبي حيان التوحيدي في كتابه الذي ألفه في «تقريظ عمرو بن بحر» ، وقد ذكر جماعة من الأئمة كانوا يقدّمون الجاحظ ويفضلونه فقال: ومنهم أبو سعيد السيرافي شيخ الشيوخ وإمام الأئمة معرفة بالنحو والفقه واللغة والشعر والعروض والقوافي والقرآن والفرائض والحديث والكلام والحساب والهندسة، أفتى في جامع الرصافة خمسين سنة على مذهب أبي حنيفة فما وجد له خطأ ولا عثر منه على زلة، وقضى ببغداد، وشرح «كتاب سيبويه» في ثلاثة آلاف ورقة بخطه في السليماني، فما جاراه فيه أحد ولا سبقه إلى تمامه إنسان، هذا مع الثقة والديانة والأمانة والرواية، صام أربعين سنة وأكثر الدهر كله. قال لنا الأندلسي: فارقت بلدي في أقصى الغرب طلبا للعلم وابتغاء مشاهدة العلماء، فكنت إلى أن دخلت بغداد ولقيت «3» أبا سعيد وقرأت عليه «كتاب سيبويه» نادما سادما في اغترابي عن أهلي ووطني من غير جدوى في علم أو حظّ من دنيا «4» ، فلما سعدت برؤية هذا الشيخ علمت أن سعيي قرن بسعدي، وغربتي اتصلت ببغيتي، وأن عنائي لم يذهب هدرا، وأنّ رجائي لم ينقطع يأسا.
قرأت بخط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابىء، قرأنا على أبي سعيد الحسن بن عبد الله في «كتاب ما يلحن فيه العامة» لأبي حاتم «هو الشّمع مفتوح الشين والميم» فسألناه عما يحكى عن أبي بكر ابن دريد أنه قال: «شمع بكسر(2/878)
الشين» فقال: لا يعاج عليه، قلنا له: فهو صحيح عن ابن دريد؟ فقال: نعم هو عنه بخطّي في «كتاب الجمهرة» . قال: وكان أبو الفتح ابن النحوي وأبو الحسن الدريدي سألاني عن ذلك فاستعفيت من الإجابة لئلا أنسب إلى أبي بكر حرفا أجمع الناس على خلافه.
وقال أبو حيان في «كتاب محاضرات العلماء» قال: وحضرت مجلس شيخ الدهر، وقريع العصر، العديم المثل، المفقود الشكل، أبي سعيد السيرافي، وقد أقبل على الحسين بن مردويه الفارسي يشرح له ترجمة «المدخل إلى كتاب سيبويه» من تصنيفه، فقال له: علّق عليه، واصرف همتك إليه، فإنك لا تدركه إلا بتعب الحواسّ، ولا تتصوّره إلا بالاعتزال عن الناس. فقال: أيّد الله القاضي، أنا مؤثر لذلك، ولكنّ اختلال الأمر وقصور الحال يحول بيني وبين ما أريده، فقال له: ألك عيال؟ قال: لا، قال: عليك ديون؟ قال: دريهمات، قال: فأنت ريّح القلب حسن الحال ناعم البال، اشتغل بالدرس والمذاكرة والسؤال والمناظرة واحمد الله تعالى على خفّة الحاذ وحسن الحال، وأنشده:
إذا لم يكن للمرء مال ولم يكن ... له طرق يسعى بهنّ الولائد
وكان له خبز وملح ففيهما ... له بلغة حتى تجيء العوائد
وهل هي إلا جوعة إن سددتها ... فكلّ طعام بين جنبيك واحد
قال: وكان يقرأ على أبي سعيد السيرافي «الكامل» للمبرد فجاءه أبو أحمد ابن مردك «1» ، وكان هذا من ساوة واستوطن بغداد وولد [له] بها، وكان له قرب ومنزلة من أبي سعيد يوجب حقّه ويرعى له، فقال له يوما: أيها الشيخ عندي ابنة بلغت حدّ التزويج، وجماعة من الغرباء والبغداديين يخطبونها، فما ترى؟ ممن أزوجها؟
فقال: ممّن يخاف الله تعالى وأكثرهم تقية وخشية منه، فإن من يخاف الله إن أحبها بالغ في إكرامها، وإن لم يحبها تحرّج من ظلمها، فاستحسنّا ذلك وأثبتناه. ثم قال:
لا تنسبوا هذا إليّ إنما هذا قول الحسن.
قال: وشبيه هذه الحكاية أن رجلا وقف على الحسن فقال: علمني ما يقربني(2/879)
إلى الله تعالى وإلى الناس، قال: أما ما يقربك إلى الله فمسألته، وأما ما يقرّبك إلى الناس فترك مسألتهم.
وقال: وتأخر بعض أصحابه عن مجلسه في يوم السبت، وكان يرعى حقّ أبيه فيه لأنه كان وجيها شريفا، فلما كان يوم الأحد قال له: ما الذي أخّرك؟ فأشار إلى شرب الدواء ولأجله تأخر عن المجلس فأنشدنا:
لنعم اليوم يوم السبت حقّا ... لصيد إن أردت بلا امتراء
وفي الأحد البناء فإنّ فيه ... تبدّى الله في خلق السماء
وفي الاثنين إن سافرت حقا ... يكون الأوب فيه بالنماء
وان ترم الحجامة في الثلاثا ... ففي ساعاته درك الشفاء
وإن شرب امرؤ يوما دواء ... فنعم اليوم يوم الأربعاء
وفي يوم الخميس قضاء حاج ... ففيه الله آذن «1» بالقضاء
ويوم الجمعة التزويج فيه ... ولذات الرجال مع النساء
قال: ولما قبل ابن معروف شهادته عاتبه على ذلك بعض المختصين به وقال: أيها الشيخ إنك إمام الوقت وعين الزمان والمنظور إليه والصدر، وإذا حضرت محفلا كنت البدر، قد اشتهر ذكرك في الأقطار والبلاد، وانتشر علمك في كلّ محفل وناد، والألسنة مقرّة بفضلك، فما الذي حملك على الانقياد لابن معروف، واختلافك إلى مجلسه، وصرت تابعا بعد أن كنت متبوعا، ومؤتمرا بعد أن كنت آمرا؟
وضعت من قدرك، وضيّعت كثيرا من حرمتك، وأنزلت نفسك منزلة غيرك، وما فكّرت في عاقبة أمرك، ولا شاورت أحدا من صحبك، فقال: اعلموا أن هذا القاضي سبب اكتساب ذكر جميل، وصيت حسن، ومباهاة لأقرانه، ومنافسة لإخوانه، ومع ذلك له من السلطان منزلة، وبلغني أنه يستضيء برأيه ويعدّه من جملة ثقاته وأوليائه، وعرّض لي وصرّح في الأمر مرة بعد أخرى وثانية عقب أولى، فلم أجب إليه، ولم أسلس قيادي له، فخفت مع كثرة الخلاف اعتمادي بما أستضرّ به وينتفع به غيري،(2/880)
وإذا اتفق أمران فاتّباع ما هو أسلم جانبا وأقلّ غائلة أولى، وقد كان الآن ما كان، والكلام فيه ضرب من الهذيان. فلما كان بعد هذا بأيام ورد عليه من آمد صاحب أبي العباس ابن ماهان بكتاب يهنئه فيه بما تلبّس به من العدالة، وكان الكتاب يشتمل على كلمات وجيزة وألفاظ حسنة ومعان منتقاة، وكان أبو العباس هذا من أصحاب أبي سعيد، وممن لازمه سنين عدة، وعلّق عنه- على ما ذكره الشاشي- زهاء عشرة آلاف ورقة على شرحه لكتاب سيبويه وغيره درسا ومذاكرة، وكانت له أيضا بضاعة قوية في علم الهيئة وبصر تامّ بمذهب الكوفيين في النحو حتى ما كان يطاق. وكان من أصدر الكتاب على يده رجلا كرديا عليه جبة ثقيلة فوقها جبّاعة عظيمة، قد أضرّت به شمس الهواجر، ومقاساة السفر، وقطع المهامه والمفاوز، وكان الشيخ يبيّن لبعض أصحابه الفرق في قوله تعالى: مثل ما إنكم تنطقون
(الذاريات: 23) والاحتجاج عمن نصبه ورفعه، والكرديّ ما يفهم منه القليل ولا الكثير، ثم التفت إلى أبي سعيد وقال: يا شيخ في أيّ شيء أنت؟ وفي ماذا تتكلم؟ فقال: أتكلم في شيء لا يعرفه كلّ أحد، ولا يتصوره كثير من الناس، قال: ففسّره لي لعلي أفهمه، قال: لا يكون ذلك أبدا، قال: أنت عالم ومن اقتبس منك علما لزمك الجواب، فقال له: عليك بمجلس يجري فيه حديث الفرض والنفل والسنن وظواهر أمر الشريعة لتستفيد منه وتنتفع به، فأخذ الكرديّ في المطاولة وإيراد الهذيان وما لا محصول له، وسكت عنه أبو سعيد وصمت هو أيضا، وجعل أبو سعيد على عادته يبيّن ويوضّح ويتكلم وينثر الدرّ ولا يهدأ ولا يفتر لسانه ولا يجفّ ريقه، والكرديّ ملازمه، وكأنّه كالمتبرم به والمستثقل لجلوسه وملازمته إياه إلى أن قام ومضى؛ ثم قال أبو سعيد: ما ظننت أن ثقيلا تمكّن من أحد تمكّن هذا منّا اليوم، وإنّ ألم ثقله خلص إلى الروح والبدن كما خلص إليّ، لقد هممت تارة بضربه فقلت: ربما ضربني أيضا، ثم هممت بالقيام فقلت: ضرب من الخرق، ثم كدت أصيح فقلت: نوع من الجنون، ثم بقيت أدعو سرّا وأرغب إلى الله تعالى في صرفه، فتفضل الله الكريم عليّ بذلك، ومع هذه الحالة لم تزل أبيات محمد بن المرزبان تتردد بين لهاتي ولساني، فقلنا له: وما الأبيات؟ فقال:
أيا شقيق الرصاص والجبل ... ويا قريع الأيام في الثّقل(2/881)
أرح حياتي فقد هجمت على ... نفسي وأشرفت بي إلى أجلي
والله لو كنت والدا حدبا ... وكنت تحيي الأموات في المثل
وتمزج الثلج في العساس لدى ... القيظ وعند الشتاء بالعسل
رحلت عن ذاك عند آخره ... واخترت أن لا أراك في الرحل
فخذ طريفي وتالدي فإذا ... لم يبق شيء فخذ إذا سملي
وارحل إلى الظلمة التي ذكرت ... من خلف قاف يا شرّ مرتحل
قال: وكان قد ظهر بالعراق رجل من الجراد فأضرّت بالزروع والأثمار وغلت الأسعار وأثّرت في أحوال الناس، فحضرنا مجلس أبي سعيد السيرافي وكلّ منا شكا حاله وذكر خلّته، وكان فينا رجل مزارع ذكر أنه زرع بنواحي النهروان «1» أربعة آلاف جريب ملكا وضمانا وإجارة رجاء الفائدة، وقد أتى عليها الجراد، وهلك ذلك الرجل لأجله، ثم قال أبو سعيد: لا يهولنّك أمرها فأنها جند من جنود الله مأمور، بلغنا أن جرادة سقطت بين يدي عبد الله بن عباس رضي الله عنه فأخذها ونشر جناحها وقال:
أتعلمون ما هو مكتوب عليها «2» ؟ قالوا: لا، قال: مكتوب عليها أنا مغلي الأسعار مع تدفّق الأنهار. وأورد في ذكر الجراد ما حيّر الناظرين ثم قال: ومن أحسن ما وصف به الجراد قول بعض الخطباء حيث يقول: إن الله سبحانه خلق خلقا وسمّاها جرادا، وألبسها أجلادا، وجنّدها أجنادا، وأدمجها إدماجا، وكساها من الوشي ديباجا، وجعل لها ذرية وأزواجا، إذا أقبلت خلتها سحابا أو عجاجا، وإذا أدبرت حسبتها قوافل وحجاجا، مزخرفة المقاديم، مزبرجة المآخير، مزوّقة الأطراف، منقطعة الأخفاف، منمنمة الحواشي، منمقة الغواشي، ذات أردية مزعفرة، وأكسية معصفرة، وأخفية مخططة، معتدلة قامتها، مؤتلفة خلقتها، مختلفة حليتها، موصولة المفاصل، مدرجة الحواصل، تسعى وتحتال، وتميس وتختال، وتطوف وتجتال، فتبارك خالقها، وتعالى رازقها، من غير حاجة منها إليها، رحمة منه عليها، أوسعها رزقا، وأتقنها خلقا، وفتق منها رتقا، ووشّح أعراقها، وألجم أعناقها، وطوّقها أطواقها، وقسم معايشها وأرزاقها، تنظر شزرا من ورائها، وترقب النازل من سمائها، وتحرس(2/882)
الدائر من حوبائها، سلاحها عتيد، وبأسها شديد، ومضرّتها تعديد، وتدبّ على ست وتطير، فسبحان من خلقها خلقا عجيبا، وجعل لها من كلّ ثمر وشجر نصيبا، وجعل لها إدبارا وإقبالا، وطلبا واحتيالا، حتى دبّت ودرجت، وخرجت ودخلت، ونزلت وعرجت، مع المنظر الأنيق، والعصب الدقيق، والبدن الرقيق: هذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه
(لقمان: 11) ثم قال: وماذا تقولون في طير إذا طار بسط، وإذا دنا من الأرض لطع، رجلاه كالمنشار، وعيناه كالزجاج، عينه في جنبه، ورجله أطول من قامته، ألا وهي الجرادة. ثم قال: وأحسن منه: جيدها كجيد البقر، ورأسها كرأس الفرس، وقرنها كقرن الوعل، ورجلها كرجل الجمل، وبطنها كبطن الحية، تطير بأربعة أجنحة، وتأكل بلسانها، فتبارك الله ما أحسنها.
وأحسن ما فيها أنها طعام ونقل، طاهر حيا وميتا، تجدب أقواما وتخصب آخرين.
فقلنا له: ما معنى قولك: «تجدب أقواما وتخصب آخرين» ؟ قال: إنها إذا حلت البوادي والفيافي ومواضع الرمال فهي خصب لهم وميرة، وإذا حلت بمأوى الزرع والأشجار فهي تجدب، لأنها تأتي على الشوك والشجر والرطب واليابس فلا تبقي ولا تذر.
قال: وقال أيضا في تضاعيف كلامه: خادم الملك لا يتقدم في رضاه خطوة إلا استفاد بها قدمة وحظوة.
قال: وما رأيت أحدا من المشايخ كان أذكر لحال الشباب وأكثر تأسّفا على ذهابه منه، فإنه إذا رأى أحدا من أقرانه قد عاجله الشيب تسلّى به، ولم يزل يسأله عن حاله [كيف] كانت في أيام الشباب وزمن الصبا، وإذا ذكر بين يديه ما يتعلّق بالشيب والشباب بكى وجدا وحنّ، وشكا وأنّ، وتذكر عهد الشباب. وكان كثيرا ما ينشد مقطعات محمود الوراق في الشيب ويبكي عليها، وأنشد يوما:
فإن يكن المشيب طرا علينا ... وولّى بالبشاشة والشباب
فإني لا أعاقبه بشيء ... يكون عليّ أهون من خضاب
رأيت بأنّ ذاك وذا عذاب ... فينتقم العذاب من العذاب(2/883)
قال وأنشدنا لمحمود الوراق في الشيب وعيناه تدمعان:
ولو أن دار الشيب قرّت بصاحب ... على ضيقها «1» لم يبغ دارا بداره
ولكنّ هذا الشيب للموت رائد ... يخبرنا عنه بقرب مزاره
قال أبو حيان: وكان أبو سعيد يفتي على مذهب الإمام أبي حنيفة وينصره، فجرى حديث تحليل النبيذ عنده، فقال له بعض الخراسانيين: أيها الشيخ دعنا من حديث أبي حنيفة وقول الشافعي، ما ترى أنت في شرب النبيذ والقدر الذي لا يسكر ويسكر؟
فقال: أما المذهب فمعروف لا عدول عنه «2» ، وأما الذي يقضيه «3» الرأي ويوجبه العقل ويلزم من حيث الاحتياط والأخذ بالأحسن والأولى فتركه والعدول عنه، فقال له: بيّن لنا عافاك الله، فقال: اعلم أنه لو كان المسكر حلالا في كتاب الله تعالى أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لكان يجب على العاقل رفضه وتركه بحجّة العقل والاستحسان، فإن شاربه محمول على كلّ معصية، مدفوع إلى كلّ بلية، مذموم عند كلّ ذي عقل ومروءة، يحيله عن مراتب العقلاء والفضلاء والأدباء، ويجعله من جملة السفهاء، ومع ذلك فيضرّ بالدماغ والعقل والكبد والذهن، ويولّد القروح في الجوف، ويسلب شاربه ثوب الصلاح والمروءة والمهابة حتى يصير بمنزلة المخبّط المخريق والمثبّج «4» ، يقول بغير فهم، ويأمر بغير علم، ويضحك من غير عجب، ويبكي من غير سبب، ويخضع لعدوه، ويصول على وليه، ويعطي من لا يستحقّ العطية، ويمنع من يستوجب الصلة، ويبذّر في الموضع الذي يحتاج فيه أن يمسك، ويمسك في الموضع الذي يحتاج فيه أن يبذر، يصير حامده ذاما وأفعاله ملومة «5» ، عبده لا يوقره، وأهله لا تقربه، وولده يهرب منه، وأخوه يفزع عنه، يتمزغ في قيئه، ويتقلب في سلحه، ويبول في ثيابه، وربما قتل قريبه، وشتم نسيبه، وطلق امرأته، وكسر آلة البيت، ولفظ بالخنا، وقال كلّ غليظة وفحش، يدعو عليه جاره، ويزري به(2/884)
أصحابه، عند الله ملوم، وعند الناس مذموم، وربما تستولي عليه في حال سكره مخايل الهموم، فيبكي دما، ويشقّ جيبه حزنا، وينسى القريب، ويتذكر البعيد، والصبيان يضحكون منه، والنسوان يفتعلن «1» النوادر عليه، ومع ذلك فبعيد من الله قريب من الشيطان، قد خالف الرحمن في طاعة الشيطان، وتمكن من ناصيته، وزيّن في عينه إتيان الكبائر وركوب الفواحش واستحلال الحرام وإضاعة الصلاة والحنث في الايمان، سوى ما يحلّ به عند الافاقة من الندامة، ويستوجب من عذاب الله يوم القيامة. فقال الرجل: والله إن قولك ووصفك له أعلق بالقلب من كلّ دليل «2» واضح وبرهان لائح، وحجة وأثر، وقول وخبر، فقال له: لولا ذهاب الوقت ولا عوض له لاستدللت لكلّ خصلة ذكرتها ولفظة أوردتها بآية من كتاب الله أو خبر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، حتى يقال: إن هذه الألفاظ مشتقة من ذاك مستنبطة منه «3» ، ولكن الأمر في ذلك أظهر وأشهر من أن يبيّن ويوضح. ولأبي حنيفة مسائل لا أرتضيها له، قد خالفه فيها أعيان الصحابة والناقلة لمذهبه، ولكن لكلّ أريب هفوة، ولكلّ جواد كبوة، والكلام إذا كثر لا يخلو من الخطأ، والقول إذا تتابع لا يعرى من التناقض، والله المعين على أمر الدنيا والدين.
قال أبو حيان، قال أبو سعيد: دخلت مسجدا بباب الشام يوما أنظر أبا منصور العمدي «4» ، فرأيت عربيّا قد استلقى ومخلاته تحت رأسه، وهو يترنّم بهذه الأبيات، بحلق أطيب ما يكون، وصوت أندى ما يسمع:
سماء الحبّ تهطل بالصدود ... ونار الحبّ تحرق من بعيد
وعين الحب تأتي بالمنايا ... فتغرسها «5» على قلب عميد
وأول من عشقت عشقت ظبيا ... له في الصدر قلب من حديد(2/885)
فقلت له: أعد الأبيات، فقال لي: دخلت عليّ وشغلتني عما كنت عليه، خلوت بنفسي في هذا المسجد أتمنى أمانيّ دونها خرط القتاد، فأفسدتها عليّ، فحفظت الأبيات من قوله وانصرفت وتركته.
قال أبو حيان: وأنشدنا أبو سعيد السيرافي في المشيب:
تفكرت في شيب الفتى وشبابه ... فأيقنت أن الحقّ للشيب واجب
يصاحبني شرخ الشباب فينقضي ... وشيبي إلى حين الممات مصاحب
ثم قال: ما رأيت أحدا كان أحفظ لجوامع الزهد نظما ونثرا، وما ورد في الشيب والشباب، من شيخنا أبي سعيد، وذاك أنه كان دينا ورعا تقيا زاهدا عابدا خاشعا، له دأب بالنهار من القراءة والخشوع، وورد بالليل من القيام والخضوع، صام أربعين سنة الدهر كله. قال: وقال لي أبو إسحاق المدائني: ما قرأت عليه خبرا ولا شيئا قطّ فيه ذكر الموت والقبر والبعث والنشور والحساب والجنة والنار والوعد والوعيد والعقاب والمجازاة والثواب والانذار والاعذار وذم الدنيا وتقلّبها بأهلها وتغيرها على أبنائها إلا وبكى منها وجزع عندها، وربما تنغص عليه يومه وليلته، وامتنع من عادته في الأكل والشرب. وكان ينشدنا ويورد علينا من أمثاله ما كنا نستعين به ونستفيد منه ما نجعله حظّ يومنا. ورأيته يوما ينشد ويبكي:
حنى الدهر من بعد استقامته ظهري ... وأفضى إلى تنغيص عيشته عمري
ودبّ البلى في كلّ عضو ومفصل ... ومن ذا الذي يبقى سليما على الدهر
قال: ووصّى يوما بعض أصحابه وكان يقرأ عليه «شرح الفصيح» لابن درستويه: كن كما قال الخليل بن أحمد: اجعل ما في كتبك رأس مالك، وما في صدرك للنفقة. قال: وأنشدنا:
وذي حيلة للشيب ظلّ يحوطه ... يقرّضه حينا وحينا ينتّف
وما لطفت للشيب حيلة عالم ... من الناس إلا حيلة الشيب ألطف
قال أبو حيان: وشكا أبو الفتح القواس إليه طول عطلته، وكساد سوقه، ووقوف أمره، وذهاب ماله، ورقّة حاله، وكثرة ديونه وعياله، وتجلّف صبيانه، وسوء عشرة أهله معه، وقلة رضاهم به، ومطالبتهم له بما لا يقوم به، وأنه يقع ويقوم(2/886)
ويدخل كلّ مدخل حتى يحصّل لنفسه وعياله بعض كفايتهم، فقال: ثق بالله خالقك، وكل أمرك إلى رازقك، وأقلل من شغبك، وأجمل في طلبك، واعلم أنك بمرأى من الله ومسمع، قد تكفل برزقك فيأتيك من حيث لا تحتسبه، وضمن لك ولعيالك قوتهم فيدرّ عليك «1» من حيث لا ترتقبه، وعلى حسب الثقة «2» بالله يكون حسن «3» المعونة، وبمقدار عدولك عن الله إلى خلقه يكون كلّ المؤونة، وأنشد وذكر أنه لبعض المحدثين:
يا طالب الرزق إنّ الرزق في طلبك ... والرزق يأتي وإن أقللت من تعبك
لا يملكنّك لا حرص ولا تعب ... فيسلماك ولا تدري إلى عطبك
إن تخف أسباب رزق الله عنك فكم ... للرزق من سبب يغنيك عن سببك
بل ان تكن في أعزّ العزّ ذا أرب ... فلا يكن زاد من لم تبل من أربك
لا تعرضنّ لزاد لست تملكه ... واقنع بزادك أو فاصبر على سغبك
ولست تحمد أن تعزى إلى نشب ... إذا عزيت إلى بخل على نشبك
هب جاهل القوم غرّته جهالته ... ألست ذا أدب فاعمل على أدبك
لا تكلبنّ على عرض الكرام تعش ... والكلب أحسن حالا منك في كلبك
ولا تعب عرض من في عرضه جرب ... إلا وأنت نقيّ العرض من جربك
وإنما الناس في الدنيا ذوو رتب ... فانهض إلى الرتبة العلياء من رتبك
قال أبو حيان: وكان يختلف إلى مجلس أبي سعيد عليّ بن المستنير، وكان هذا ابن بنت قطرب، وكان أبو سعيد يعرف له تقدّمه على كثير من أصحابه، وكان يرجع إلى وطأة خلق، وحسن عشرة، وحلاوة كلام، وفقر مدقع، وضرّ ظاهر، وحالة سيئة، وأمر مختلّ، ومعيشة ضيقة، وكثرة عيال ومؤونة، مع نشاط القلب، وثبات النفس، وطلاقة الوجه، والطرب والارتياح. وقرأ يوما على أبي سعيد «ديوان(2/887)
المرقش» وأخذ خطّه بذلك وعجّل الانصراف من عنده، فقال له أبو سعيد: أين عزمت؟ قال: أذهب لأصلح أمر العيال، وأتمحّل وأحتال، فدعا له بالرزق والسعة والمعونة والكفاية، وهو مع ذلك ضاحك السنّ قرير العين، فلما انصرف قلنا له: هذا الرجل مع ما فيه لا يعرف الحزن في وجهه، ولا يشتدّ همه، ولا يقدر على دفعه، فالتفت بعضهم فقال: أيها الشيخ وراءه حال يخفيها عنا ويطويها منا، قال: ما أظنّ الأمر على ذلك، لكنّ الرجل عاقل، والعاقل يعلو عليه همه وحزنه فيقهرهما بعقله وعلمه، والجاهل يشتدّ همه وحزنه ويرى ذلك في وجهه ولا يقدر على دفعه لجهله، فاستحسنا ذلك وأثبتناه.
قال في «كتاب الامتاع» «1» : فقال لي الوزير أين أبو سعيد من أبي علي، وأين علي بن عيسى منهما؟ وأين ابن المراغي «2» أيضا من الجماعة؟ وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه، فكان من الجواب: أبو سعيد أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب، وأدخل في كلّ باب، وأخرج عن كلّ طريق، وألزم للجادّة الوسطى في الدين والخلق، وأروى للحديث، وأقضى في الأحكام، وأفقه في الفتوى، وأحضر بركة على المختلفة «3» ، وأظهر أثرا في المقتبسة، ولقد كتب إليه نوح بن نصر- وكان من أدباء ملوك آل سامان- سنة أربعين وثلاثمائة كتابا خاطبه فيه بالإمام، وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة مسألة، الغالب عليها الحروف وما أشبه الحروف، وباقي ذلك أمثال مصنوعة على العرب شكّ فيها فسأله عنها، وكان هذا الكتاب مقرونا بكتاب الوزير البلعمي «4» خاطبه فيه بامام المسلمين ضمنه مسائل في القرآن وأمثالا للعرب مشكلة. وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتابا خاطبه فيه بشيخ الاسلام، سأل عن مائة وعشرين مسألة أكثرها في القرآن وباقي ذلك في الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلّم وعن الصحابة. وكتب إليه ابن حنزابة من مصر كتابا خاطبه فيه بالشيخ الجليل وسأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث المرويّ عن(2/888)
النبي صلى الله عليه وسلّم وعن السلف، وقال لي الدارقطني سنة سبعين: أنا جمعت ذلك لابن حنزابة على طريق المعونة. وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان على يد شيخنا أبي سليمان كتابا خاطبه فيه بالشيخ الفرد، سأل عن سبعين مسألة في القرآن ومائة كلمة في العربية وثلاثمائة بيت من الشعر، هكذا حدثني به أبو سليمان، وأربعين مسألة في الأحكام، وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين. قال الوزير «1» : وهذه المسائل والجوابات «2» عندك؟ قلت: نعم، قال: في كم تقع؟ قلت: لعلها تقع في ألف وخمسمائة ورقة لأن أكثرها في الظهور، قال: ما أحوجنا إلى النظر إليها والاستمتاع بها والاستفادة منها، وأين الفراغ وأين السكون ونحن في كل يوم ندفع إلى طامّة تنسي ما سلف وتوعد بالداهية. ثم قال: صل حديثك، قلت: وأما أبو علي فأشدّ تفردا بالكتاب، وأكثر «3» إكبابا عليه، وأبعد من كل ما عداه مما هو علم الكوفيين، وما تجاوز في اللغة كتب أبي زيد وأطرافا لغيره، وهو متّقد بالغيظ على أبي سعيد وبالحسد له: كيف تم له تفسير كتاب سيبويه من أوله إلى آخره بغريبه وأمثاله وشواهده وأبياته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، لأن هذا شيء ما تمّ للمبرد ولا للزجاج ولا لابن السراج ولا لابن درستويه، مع سعة علمهم وفيض بيانهم «4» ، ولأبي علي أطراف من الكلام في مسائل أجاد فيها ولم يأتل، ولكنه قعد عن الكتاب على النظم المعروف.
وحدثني [بعض] أصحابنا أن أبا علي اشترى شرح أبي سعيد بالأهواز في توجهه إلى بغداد سنة ثمان وستين لاحقا بالخدمة المرسومة به والندامة الموقوفة عليه بألفي درهم، وهذا حديث مشهور وإن كان أصحابه يأبون الإقرار به إلا من يزعم أنه أراد النقض عليه واظهار الخطأ فيه. وقد كان الملك السعيد «5» همّ بالجمع بينهما فلم يقض ذلك لأن أبا سعيد مات في رجب سنة ثمان وستين وثلاثمائة. وأبو علي يشرب ويتخالع «6»(2/889)
[ويفارق] هدي سجية «1» أهل العلم وطريقة الديانين «2» ، وأبو سعيد يصوم الدهر «3» ولا يصلّي إلا في الجماعة، ويفتي «4» على مذهب أبي حنيفة، ويلي القضاء سنين، ويتأله ويتحرّج، وغيره بمعزل عن هذا، ولولا الإبقاء [على الحرمة] «5» لأهل العلم لكان القلم يجري بما هو خاف، ويخبر بما هو مجمجم، ولكنّ الأخذ بحكم المروءة أولى، والإعراض عن ما يوجب اللائمة أحرى. وكان أبو سعيد حسن الخطّ، ولقد أراده الصيمري أبو جعفر على الانشاء والتحرير فاستعفى. وقال: هذا يحتاج فيه إلى دربة وأنا عار منها، وإلى سياسة وأنا غريب فيها.
ومن العناء رياضة الهرم
وحدثنا النصري «6» أبو عبد الله وكان يكتب النوبة للمهلبي قال: كنت أخطّ بين يدي الصيمري أبي جعفر محمد بن أحمد بن محمد، فالتمسني يوما لأن أجيب ابن العميد أبا الفضل عن كتاب فلم يجدني، وكان أبو سعيد السيرافي بحضرته، فظنّ «7» أنه لفضل العلم أقوم بالجواب من غيره، فتقدّم إليه أن يكتب ويجيب، فأطال في عمل نسخة كثر فيها الضّرب والإصلاح، ثم أخذ يحرّر والصيمري يقرأ ما يكتبه، فوجده مخالفا «8» لجاري العادة لفظا، مباينا لما يؤثره ترتيبا، قال: ودخلت في تلك الحال فتمثل الصيمري بقول الشاعر:
يا باري القوس بريا ليس يصلحه ... لا تظلم القوس أعط «9» القوس باريها(2/890)
ثم قال لأبي سعيد: خفف عليك «1» أيها الشيخ وادفع الكتاب إلى أبي عبد الله تلميذك ليجيب عنه، فخجل من هذا القول، فلما ابتدأت الجواب من غير نسخة تحيّر مني أبو سعيد ثم قال للصيمري: أيها الأستاذ ليس بمستنكر ما كان مني ولا بمستكثر «2» ما كان منه، إن مال الفيء «3» لا يصحّ في بيت المال إلا بين مستخرج وجهبذ، والكتّاب جهابذة الكلام، والعلماء مستخرجوه، فتبسم الصيمري وأعجبه ما سمع وقال: على كلّ حال ما أخليتنا من فائدة. وكان أبو سعيد بعيد القرين لأنّه كان يقرأ عليه القرآن والتفسير والفقه والفرائض والشروط والنحو واللغة والعروض والقوافي والحساب والهندسة والشعر والحديث والأخبار، وهو في كل هذا إما في الغاية وإما في الوسط.
وأما علي بن عيسى فعليّ الرتبة «4» في النحو واللغة والكلام والعروض والمنطق، وعيب به لأنه «5» لم يسلك طريق واضع المنطق بل أفرد صناعة وأظهر براعة، وقد عمل في القرآن كتابا نفيسا، هذا مع الدين الثخين والعقل الرزين «6» .
وأما ابن المراغي فلا يلحق بهؤلاء، مع براعة اللفظ وسعة الحفظ، وقوة النفس، [وبلل الريق] «7» وغزارة النفث، وكثرة الرواية «8» ، ومن نظر له في «كتاب البهجة» عرف ما أقول واعتقد فوق ما وصفت «9» .
وأما المرزباني وابن شاذان والقرميسيني وابن الخلال «10» وابن حيويه فلهم رواية وجمع «11» ، ليس لهم في شيء من ذلك نقط ولا إعجام، ولا إسراج ولا إلجام.
وحدثني الشيخ الامام علم الدين القاسم بن أحمد الأندلسي شيخنا قال:(2/891)
حدثني تاج الدين أبو اليمن زيد بن الحسن الكندي شيخنا، قال «1» : بلغني أن أبا سعيد دخل على ابن دريد وهو يقول: أول من أقوى في الشعر أبونا آدم عليه السلام في قوله:
تغيّرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح
تغيّر كلّ ذي طعم ولون ... وقلّ بشاشة الوجه المليح
فقال أبو سعيد: يمكن إنشاده على وجه لا يكون فيه إقواء، فقال: وكيف ذلك؟
قال: بأن تنصب بشاشة على التمييز، وترفع الوجه المليح بقلّ، ويكون قد حذف التنوين لالتقاء الساكنين كما حذف في قوله:
فألفيته غير مستعتب ... ولا ذاكر الله إلا قليلا
وقال أبو حيان «2» : جرى ليلة ذكر أبي سعيد السيرافي في مجلس ابن عباد، وكان ابن عباد يتعصب له، ويقدمه على أهل زمانه، ويزعم أنه حضر مجلسه، وأبان عن نفسه، وصادف من أبي سعيد بحر علم وطود حلم، فقال أبو موسى الخشكي «3» : إلّا أنه لم يعمل في «شرح كتاب سيبويه» شيئا، فنظر إليه ابن عباد متنمرا ولم يقل حرفا، فعجبت من ذلك، ثم إني توصلت ببعض أصحابه حتى سأل عن حلمه عن أبي موسى مع ذبّه عن أبي سعيد فقال: والله لقد ملكني الغيظ على «4» ذلك الجاهل حتى عزب عنّي رأيي ولم أجد في الحال شيئا يشفي غيظي وغلّتي منه، فصار ذلك سببا لسكوتي عنه، فشابهت الحال الحلم، وما كان ذلك حلما، ولكن طلبا لنوع من الاستخفاف لائق به، فو الله ما يدري ذلك الكلب ولا أحد ممن خرج من قريته ورقة من ذلك الكتاب، وهل سبق أحد إلى مثله من أول الكتاب إلى آخره مع كثرة فنونه وخوافي(2/892)
أسراره؟! وكان أبو موسى هذا من طبرستان، فعدّ هذا التعصب من مناقب ابن عباد، وحجب أبا موسى بعد ذلك.
ومن عجيب «1» ما مرّ بي ما قرأته في «كتاب الانتصار المنبي عن فضائل المتنبي» لأبي الحسين محمد بن أحمد بن محمد المغربي راوية المتنبي وكان قد ردّ فيه على بعض من زعم أن شعر المتنبي مسروق من أبي تمام والبحتري، وله قصيدة عارض بها بعض قصائد المتنبي، وأخذ المغربي يردّ عليه فقال: ورأيته وقد استشهد بأبي سعيد السيرافي مؤدّب الأمير أبي إسحاق ابن معز الدولة أبي الحسين ابن بويه وذكر أنه أعطاه خطه بأن قصيدته خير من قصيدة أبي الطيب، قال: ومن جعل الحكم في هذا إلى أبي سعيد؟ إنما يحكم في الشعر الشعراء لا المؤدّبة، وبمثل هذا جرت سنة العرب في القديم، كانت تضرب للنابغة خيمة من أدم بسوق عكاظ وتأتي الشعراء من سائر الآفاق فتعرض أشعارها عليه فيحكم لمن أجاد، وخبره مع حسان وغيره معروف، ولو كان أعلم الناس بالنحو أشعرهم لكان أبو علي الفسوي أشعر الناس، وما عرف له نظم بيت ولا أبيات ولا سمع ذلك منه. وأما إعطاء أبي سعيد خطه فيوشك أن يكون من جنس «2» ما حدثني به المعروف بابن الخزاز الوراق ببغداد وأبو بكر القنطري وأبو الحسين ابن «3» الخراساني، وهما وراقان أيضا من جلة أهل هذه الصنعة أن أبا سعيد إذا أراد بيع كتاب استكتبه بعض تلامذته حرصا على النفع منه ونظرا في دق المعيشة كتب في آخره، وإن لم ينظر في حرف منه: «قال الحسن بن عبد الله قد قرىء هذا الكتاب عليّ وصح» ليشترى بأكثر من ثمن مثله. قلت: وهذا ضد ما وصفه به الخطيب من متانة الدين، وتأبّيه من أخذ رزق على القضاء، وقناعته بما يحصل من نسخه هذه، والله أعلم بما كان.(2/893)
مناظرة جرت بين متى بن يونس القنائي الفيلسوف وبين أبي سعيد السيرافي رحمة الله عليه
قال أبو حيان «1» : ذكرت للوزير مناظرة جرت في مجلس الوزير أبي الفتح الفضل بن جعفر بن الفرات بين أبي سعيد السيرافي وأبي بشر متى واختصرتها، فقال لي: اكتب هذه المناظرة على التمام فإن شيئا يجري في ذلك المجلس النبيه وبين هذين الشيخين بحضرة أولئك الأعلام ينبغي أن يغتنم سماعه، وتوعى فوائده، ولا يتهاون بشيء منه. فكتبت: حدثني أبو سعيد بلمع من هذه القصة، فأما علي بن عيسى النحوي الشيخ الصالح فإنه رواها مشروحة قال: لما انعقد المجلس سنة عشرين وثلاثمائة «2» قال الوزير ابن الفرات للجماعة- وفيهم الخالدي وابن الاخشيد والكندي وابن أبي بشر وابن رباح وابن كعب وأبو عمرو قدامة بن جعفر والزهريّ وعلي بن عيسى بن الجراح وأبو فراس وابن رشيد وابن عبد العزيز الهاشمي وابن يحيى العلويّ ورسول ابن طغج من مصر والمرزباني صاحب بني سامان-: أريد أن ينتدب منكم إنسان لمناظرة متّى في حديث المنطق، فإنه يقول: لا سبيل إلى معرفة الحقّ من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين، إلا بما حويناه من المنطق، وملكناه من القيام [به] ، واستفدناه من واضعه على مراتبه وحدوده، واطلعنا عليه من جهة اسمه على حقائقه. فأحجم القوم وأطرقوا، فقال ابن الفرات: والله إن فيكم لمن يفي بكلامه ومناظرته وكسر ما يذهب إليه، وإني لأعدّكم في العلم بحارا، وللدين وأهله أنصارا، وللحقّ وطلابه منارا، فما هذا التغامز والتلامز اللذان تجلّون عنهما؟! فرفع أبو سعيد السيرافي رأسه وقال:
اعذر أيها الوزير، فإن العلم المصون في الصدور غير العلم المعروض في هذا(2/894)
المجلس على الأسماع المصيخة، والعيون المحدقة، والعقول الجامّة «1» ، والألباب الناقدة، لأن هذا يستصحب الهيبة والهيبة مكسرة، ويجتلب الحياء والحياء مغلبة، وليس البراز في معركة غاصّة، كالصراع في بقعة خاصّة «2» . فقال ابن الفرات: أنت لها يا أبا سعيد، فاعتذارك عن غيرك يوجب عليك الانتصار لنفسك، والانتصار لنفسك راجع على الجماعة بفضلك. فقال أبو سعيد: مخالفة الوزير فيما يأمره «3» هجنة، والاحتجان عن رأيه إخلاد إلى التقصير، ونعوذ بالله من زلّة القدم، وإيّاه نسأل حسن التوفيق في الحرب والسلم. ثم واجه متّى فقال: حدثني عن المنطق ما تعني به، فإنا إذا فهمنا مرادك فيه كان كلامنا معك في قبول صوابه وردّ خطأه على سنن مرضيّ وعلى طريقة معروفة. قال متى: أعني به أنه آلة من الآلات يعرف به صحيح الكلام من سقيمه، وفاسد المعنى من صالحه، كالميزان فإني أعرف به الرجحان من النقصان والشائل من الجانح. فقال له أبو سعيد: أخطأت لأن صحيح الكلام من سقيمه يعرف [بالنظم المألوف والاعراب المعروف إذا كنا نتكلم بالعربية؛ وفاسد المعنى من صالحه يعرف] بالعقل إن كنا نبحث بالعقل. وهبك عرفت الراجح من الناقص من طريق الوزن من لك بمعرفة الموزون أهو حديد أو ذهب أو شبه أو رصاص، وأراك بعد معرفة الوزن فقيرا إلى معرفة جوهر الموزون، وإلى معرفة قيمته وسائر صفاته التي يطول عدّها، فعلى هذا لم ينفعك الوزن الذي كان عليه اعتمادك، وفي تحقيقه كان اجتهادك، إلا نفعا يسيرا من وجه واحد، وبقيت عليك وجوه، فأنت كما قال الأول «4» .
حفظت شيئا وضاعت منك أشياء
وبعد، فقد ذهب عليك شيء ها هنا: ليس كلّ ما في الدنيا يوزن، بل فيها ما يوزن، وفيها ما يكال، وفيها ما يذرع، وفيها ما يمسح، وفيها ما يحزر، وهذا وإن 14.(2/895)
كان هكذا في الأجسام المرئية فإنه أيضا على ذلك في المعقولات المقرّرة «1» .
والاحساسات «2» ظلال العقول، وهي تحكيها بالتبعيد والتقريب، مع الشبه المحفوظ والمماثلة الظاهرة. ودع هذا: إذا كان المنطق وضعه رجل من يونان على لغة أهلها واصطلاحهم عليها وما يتعارفونه بها من رسومها وصفاتها، من أين يلزم الترك والهند والفرس والعرب أن ينظروا فيه ويتخذوه حكما لهم وعليهم، وقاضيا بينهم، ما شهد لهم [به] قبلوه وما أنكره رفضوه؟.
قال متى: إنما لزم ذلك لأن المنطق بحث عن الأغراض المعقولة والمعاني المدركة، وتصفّح للخواطر السانحة والسوانح الهاجسة، والناس في المعقولات سواء، ألا ترى أن أربعة وأربعة ثمانية عند جميع الأمم وكذلك ما أشبهه.
قال أبو سعيد: لو كانت المطلوبات بالعقل والمذكورات باللفظ ترجع مع شعبها المختلفة وطرائقها المتباينة إلى هذه المرتبة البينة في أربعة وأربعة أنهما ثمانية زال الاختلاف وحضر الاتفاق، ولكن ليس الأمر هكذا، ولقد موّهت بهذا المثال، ولكم عادة في مثل هذا التمويه، ولكن ندع هذا أيضا: إذا كانت الأغراض المعقولة والمعاني المدركة لا يوصل إليها إلّا باللغة الجامعة للأسماء والأفعال والحروف أفليس قد لزمت الحاجة إلى معرفة اللغة؟ قال: نعم، قال: أخطأت، قل في هذا الموضع بلى، قال متى: بلى، أنا أقلدك في مثل هذا. قال أبو سعيد: فأنت إذن لست تدعونا إلى علم المنطق بل إلى تعلم اللغة اليونانية، وأنت لا تعرف لغة يونان، فكيف صرت تدعونا إلى لغة لا تفي بها، وقد عفت منذ زمان طويل، وباد أهلها وانقرض القوم الذين كانوا يتفاوضون بها ويتفاهمون أغراضهم بتصرفها «3» ؟ على أنك تنقل من السريانية فما تقول في معان متحوّلة «4» بالنقل من لغة يونان إلى لغة أخرى سريانية ثم من هذه إلى لغة أخرى عربية؟(2/896)
قال متى: يونان وإن بادت مع لغتها فإن الترجمة قد حفظت الأغراض وأدّت المعاني وأخلصت الحقائق.
قال أبو سعيد: إذا سلمنا لك أن الترجمة صدقت وما كذبت، وقوّمت وما حرّفت، ووزنت وما جزفت، وأنها ما التاثت ولا حافت، ولا نقصت ولا زادت، ولا قدمت ولا أخرت، ولا أخلّت بمعنى الخاصّ والعامّ ولا بأخصّ الخاصّ ولا بأعمّ العامّ، وإن كان هذا لا يكون، وليس في طبائع اللغات ولا في مقادير المعاني، فكأنك تقول بعد هذا: لا حجة إلا عقول يونان، ولا برهان إلا ما وصفوه «1» ، ولا حقيقة إلا ما أبرزوه.
قال متى: لا ولكنهم من بين الأمم أصحاب عناية بالحكمة، والبحث عن ظاهر هذا العالم وباطنه، وعن كل ما يتّصل به وينفصل عنه، وبفضل عنايتهم ظهر ما ظهر، وانتشر ما انتشر، وفشا ما فشا، ونشا ما نشا من أنواع العلم وأصناف الصناعة «2» ، ولم نجد هذا لغيرهم.
قال أبو سعيد: أخطأت وتعصبت وملت مع الهوى، فإن العلم مبثوث في العالم، ولهذا قال القائل:
العلم في العالم مبثوث ... ونحوه العاقل محثوث
وكذلك الصناعات مفضوضة على جميع من على جديد الأرض، ولهذا غلب علم في مكان دون مكان، وكثرت صناعة في بقعة دون صناعة، وهذا واضح والزيادة عليه مشغلة، ومع هذا فإنما كان يصح قولك وتسلم دعواك لو كانت يونان معروفة بين جميع الأمم بالعصمة الغالبة والفطرة «3» الظاهرة والبنية المخالفة، وأنهم لو أرادوا أن يخطئوا ما قدروا، ولو قصدوا أن يكذبوا ما استطاعوا، وأن السكينة نزلت عليهم، والحقّ تكفّل بهم، والخطأ تبرأ منهم، والفضائل لصقت بأصولهم وفروعهم، والرذائل بعدت عن جواهرهم وعروقهم وهذا جهل ممّن يظنه بهم، وعناد ممّن يدّعيه(2/897)
عليهم، بل كانوا كغيرهم من الأمم يصيبون في أشياء ويخطئون في أشياء، ويصدقون في أمور ويكذبون في أمور، ويحسنون في أحوال ويسيئون في أحوال، وليس واضع المنطق يونان بأسرها، إنما هو رجل منهم، وقد أخذ عمن قبله، كما أخذ عنه من بعده، وليس هو حجة على هذا الخلق الكثير والجمّ الغفير، وله مخالفون منهم ومن غيرهم. ومع هذا فالاختلاف في الرأي والنظر والبحث والمسألة والجواب سنخ وطبيعة، فكيف يجوز أن يأتي رجل بشيء يرفع به هذا الخلاف أو يحلحله أو يؤثر فيه، هيهات هذا محال، ولقد بقي العالم بعد منطقه على ما كان قبل منطقه، وامسح وجهك بالسلوة عن شيء لا يستطاع، لأنه مفتقد بالفطرة والطباع، وأنت فلو فرّغت بالك وصرفت عنايتك إلى معرفة هذه اللغة التي تحاورنا بها وتجارينا فيها وتدارس أصحابك بمفهوم أهلها وتشرح كتب يونان بعبارة «1» أصحابها لعلمت أنك غنيّ عن معاني يونان كما أنك غني عن لغة يونان. وها هنا مسألة: أتقول إن الناس عقولهم مختلفة وأنصباؤهم منها متفاوتة؟ قال متى: نعم، قال: وهذا التفاوت والاختلاف بالطبيعة أو الاكتساب؟ قال: بالطبيعة، قال فكيف يجوز أن يكون ها هنا شيء يرتفع به الاختلاف الطبيعيّ والتفاوت الأصليّ؟ قال متى: هذا قد مرّ في جملة كلامك آنفا، قال أبو سعيد: فهل وصلته بجواب قاطع، وبيان ناصع؟ ودع هذا: أسألك عن حرف واحد هو دائر في كلام العرب، ومعانيه متميّزة عند أهل العقل فاستخرج أنت معانيه من ناحية منطق أرسطاطاليس الذي تدلّ به وتباهي بتفخيمه- وهو الواو- وما أحكامه وكيف مواقعه؟ وهل هو على وجه واحد أو وجوه؟
فبهت متى وقال: هذا نحو، والنحو لم أنظر فيه لأن لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحويّ حاجة إلى المنطق، لأن المنطق يبحث عن المعنى، والنحو يبحث عن اللفظ، فإن مرّ المنطقي باللفظ فبالعرض، وإن عبر النحوي بالمعنى فبالعرض، والمعنى أشرف من اللفظ، واللفظ أوضع من المعنى.
قال أبو سعيد: أخطأت لأن المنطق والنحو واللفظ والإفصاح والإعراب والإنباء والحديث والاخبار والاستخبار والعرض والتمني والحضّ والدعاء والنداء والطلب كلها(2/898)
من واد واحد بالمشاكلة والمماثلة، ألا ترى أن رجلا لو قال: نطق زيد بالحق ولكن ما تكلم بالحق، وتكلّم بالفحش ولكن ما قال الفحش، وأعرب عن نفسه ولكن ما أفصح، وأبان المراد ولكن ما أوضح أو فاه بحاجته ولكن ما لفظ، أو أخبر ولكن ما أنبأ، لكان في جميع هذا مخرّفا ومناقضا وواضعا للكلام في غير حقه، ومستعملا للفظ على غير شهادة من عقله وعقل غيره. والنحو منطق ولكنه مسلوخ من العربية، والمنطق نحو ولكنه مفهوم باللغة، وإنما الخلاف بين اللفظ والمعنى أنّ اللفظ طبيعي والمعنى عقلي، ولهذا كان اللفظ بائدا على الزمان يقفو أثر الطبيعية بأثر آخر من الطبيعية، ولهذا كان المعنى ثابتا على الزمان لأن مستملي المعنى عقل، والعقل إلهيّ، ومادّة اللفظ طينية، وكل طيني متهافت. وقد بقيت أنت بلا اسم لصناعتك التي تنتحلها وآلتك التي تزهى بها، إلا أن تستعير من العربية لها اسما فتعار، ويسلم لك [ذلك] بمقدار، وإن لم يكن لك بدّ من قليل هذه اللغة من أجل الترجمة فلا بدّ لك أيضا من كثيرها من أجل تحقيق الترجمة واجتلاب الثقة والتوقي من الخلة اللاحقة لك.
قال متى: يكفيني من لغتكم هذا الاسم والفعل والحرف، فإني أتبلّغ بهذا القدر إلى أغراض قد هذّبتها لي يونان.
قال أبو سعيد: أخطأت لأنك في هذا الاسم والفعل والحرف فقير إلى وصفها وبنائها على الترتيب الواقع في غرائز أهلها، وكذلك أنت محتاج بعد هذا إلى حركات هذه الأسماء والأفعال والحروف، فإن الخطأ والتحريف في الحركات كالخطأ والفساد في المتحركات، وهذا باب أنت وأصحابك ورهطك عنه في غفلة. على أن ها هنا سرا ما علق بك ولا أسفر لعقلك وهو: أن تعلم أن لغة من اللغات لا تطابق لغة أخرى من جميع جهاتها، بحدود صفاتها في أسمائها وأفعالها وحروفها وتأليفها وتقديمها وتأخيرها واستعارتها وتحقيقها وتشديدها وتخفيفها وسعتها وضيقها ونظمها ونثرها وسجعها ووزنها وميلها وغير ذلك مما يطول ذكره، وما أظن أحدا يدفع هذا الحكم أو يسأل في صوابه ممن يرجع إلى مسكة من عقل أو نصيب من إنصاف، فمن أين يجب أن تثق بشيء ترجم لك على هذا الوصف؟ بل أنت إلى أن تعرف اللغة العربية أحوج منك إلى أن تعرف المعاني اليونانية. على أن المعاني لا تكون يونانية ولا هندية، كما(2/899)
أن اللغات تكون «1» فارسية ولا عربية ولا تركية. ومع هذا فإنك تزعم أن المعاني حاصلة بالعقل والفحص والفكر، إلا إحكام اللغة، فلم تزري على العربية وأنت تشرح كتب أرسطاطاليس بها مع جهلك بحقيقتها؟! وحدثني عن قائل قال لك:
حالي في معرفة الحقائق والتصفح لها والبحث عنها حال قوم كانوا قبل واضع المنطق أنظر كما نظروا، وأتدبر كما تدبروا، لأن اللغة قد عرفتها بالمنشأ والوراثة، والمعاني نقّرت عنها بالنظر والرأي والاعتقاب والاجتهاد، ما تقول له؟ [أتقول] لا يصحّ له هذا الحكم ولا يستتب هذا الأمر لأنه لم يعرف هذه الموجودات من الطريقة التي عرفتها أنت، ولعلك تفرح بتقليده لك وإن كان على باطل، أكثر مما تفرح باستبداده وإن كان على حقّ، وهذا هو الجهل المبين والحكم غير المستبين.
ومع هذا: فحدثني عن الواو ما حكمه فإني أريد أن أبيّن أن تفخيمك للمنطق لا يغني عنك شيئا وأنت تجهل حرفا واحدا من اللغة التي تدعو بها إلى الحكمة اليونانية، ومن جهل حرفا واحدا أمكن أن يجهل اللغة بكاملها، فإن كان لا يجهلها كلّها ولكن يجهل بعضها فلعله يجهل ما يحتاج إليه ولا ينفعه فيه علم ما لا يحتاج [إليه] . وهذه رتبة العامة أو هي رتبة من هو فوق العامة بقدر يسير، فلم يتأبّى على هذا ويتكبر «2» ويتوهم أنه من الخاصة وخاصة الخاصة، وأنه يعرف سرّ الكلام وغامض الحكمة وخفيّ القياس وصحيح البرهان؟ وإنما سألتك عن معاني حرف واحد، فكيف لو نثرت عليك الحروف كلها وطالبتك بمعانيها ومواضعها التي لها بالتجوّز؟
سمعتكم تقولون «في» لا يعلم النحويون مواقعها وإنما يقولون هي للوعاء كما يقولون: إن الباء للإلصاق؛ وإن «في» تقال على وجوه: يقال الشيء في الوعاء، والإناء في المكان، والسائس في السياسة والسياسة في السائس. أترى [أن] هذا التشقيق «3» هو من عقول يونان ومن ناحية لغتها، ولا يجوز أن يعقل هذا بعقول الهند والترك والعرب؟ فهذا جهل من كل من يدّعيه، وخطل من القول الذي أفاض فيه.(2/900)
النحوي إذا قال: «في» للوعاء فقد أفصح في الجملة عن المعنى الصحيح، وكنى مع ذلك عن الوجوه التي تظهر بالتفصيل، ومثل هذا كثير وهو كاف في موضع التكنية «1» .
فقال ابن الفرات. أيها الشيخ الموفق، أجبه بالبيان عن مواقع الواو حتى تكون أشد في إفحامه، وحقّق عند الجماعة ما هو عاجز عنه ومع ذلك فهو متشبّع «2» به.
فقال أبو سعيد: للواو وجوه ومواقع منها: معنى العطف في قولك أكرمت زيدا وعمرا، ومنها القسم في قولك والله لقد كان كذا وكذا، ومنا الائتناف كقولك:
خرجت وزيد قائم، لأن الكلام بعده ابتداء وخبر، ومنها معنى ربّ التي هي للتقليل نحو قوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق «3»
ومنها أن تكون أصلية في الاسم كقولك: واقد واصل وافد، وفي الفعل كقولك وجل يوجل، ومنها أن تكون مقحمة نحو قول الله تعالى: فلما أسلما وتله للجبين وناديناه
(الصافات: 13) أي ناديناه، ومثله قول الشاعر «4» :
فلما أجزنا ساحة الحيّ وانتحى ... بنا بطن خبت ذي قفاف عقنقل
المعنى: انتحى بنا، ومنها معنى الحال في قوله عز وجل: ويكلم الناس في المهد وكهلا
(آل عمران: 46) أي يكلّم الناس حال صغره بكلام الكهل في حال كهولته، ومنها أن تكون بمعنى حرف الجرّ كقولك استوى الماء والخشبة أي مع الخشبة.
فقال ابن الفرات لمتى: يا أبا بشر أكان هذا في نحوك؟
ثم قال أبو سعيد: دع هذا، ها هنا مسألة علاقتها بالمعنى العقلي أكثر من(2/901)
علاقتها بالشكل اللفظي، ما تقول في قول القائل: زيد أفضل الاخوة؟ قال:
صحيح، قال فما تقول إن قال: زيد أفضل إخوته، قال: صحيح، قال: فما الفرق بينهما مع الصحة؟ فبلّح وجنح وعصب ريقه «1» . فقال أبو سعيد: أفتيت على غير بصيرة ولا استبانة. المسألة الأولى جوابك عنها صحيح وإن كنت غافلا عن وجه صحتها، والمسألة الثانية جوابك عنها غير صحيح وإن كنت أيضا ذاهبا عن وجه بطلانها. قال متى: بين ما هذا التهجين. قال أبو سعيد: إذا حضرت المختلفة استفدت، ليس هذا مكان التدريس، هو مجلس إزالة التلبيس مع من عادته التمويه والتشبيه، والجماعة تعلم أنك أخطأت، فلم تدعي أن النحويّ إنما ينظر في اللفظ لا في المعنى والمنطقي ينظر في المعنى لا في اللفظ؟ هذا كان يصحّ لو أن المنطقي يسكت ويجيل فكره في المعاني ويرتب ما يريد في الوهم السيّاح «2» والخاطر العارض والحدس الطارىء، وأما وهو يريغ أن يبرز ما صحّ له بالاعتبار والتصفح إلى المتعلم والمناظر فلا بدّ له من اللفظ الذي يشتمل على مراده، ويكون طباقا لغرضه، وموافقا لقصده.
قال ابن الفرات: يا أبا سعيد تمم لنا كلامك في شرح المسألة حتى تكون الفائدة ظاهرة لأهل المجلس والتبكيت عاملا في نفس أبي بشر. فقال: ما أكره من إيضاح الجواب عن هذه المسألة إلا ملل الوزير، فإن الكلام إذا طال ملّ. فقال ابن الفرات: ما رغبت في سماع كلامك وبيني وبين الملل علاقة، فأما الجماعة فحرصها على ذلك ظاهر. فقال أبو سعيد: إذا قلت زيد أفضل إخوته لم يجز، وإذا قلت:
زيد أفضل الاخوة جاز، والفصل بينهما أنّ إخوة زيد هم غير زيد، وزيد خارج من جملتهم، ودليل ذلك أنه لو سأل سائل فقال: من إخوة زيد لم يجز أن تقول زيد وعمرو وبكر وخالد، وإنما تقول: بكر وعمرو وخالد، ولا يدخل زيد في جملتهم، فإذا كان زيد خارجا عن إخوته صار غيرهم، فلم يجز أن يكون أفضل إخوته كما لم يجز أن يكون حمارك أفضل البغال لأن الحمار غير البغال، كما أن زيدا غير إخوته،(2/902)
فإذا قلت: زيد أفضل الاخوة جاز لأنه أحد الاخوة والاسم يقع عليه وعلى غيره فهو بعض الاخوة، ألا ترى أنه لو قيل من الاخوة؟ عددته فيهم فقلت: زيد وعمرو وبكر وخالد، فيكون بمنزلة قولك حمارك أفره الحمير، فلما كان على ما وصفنا جاز أن يضاف إلى واحد منكور يدل على الجنس، فتقول زيد أفضل رجل وحمارك أفره حمار، فيدلّ رجل على الجنس كما دل الرجال، وكما في عشرين درهما ومائة درهم.
فقال ابن الفرات: ما بعد هذا البيان مزيد، ولقد جلّ علم النحو عندي بهذا الاعتبار وهذا الإسفار «1» .
فقال أبو سعيد: معاني النحو منقسمة بين حركات اللفظ وسكناته، وبين وضع الحروف في مواضعها المقتضية لها، وبين تأليف الكلام بالتقديم والتأخير وتوخّي الصواب في ذلك وتجنب الخطأ من ذلك، وإن زاغ شيء عن هذا النعت فإنه لا يخلو من أن يكون سائغا بالاستعمال النادر والتأويل البعيد أو مردودا لخروجه عن عادة القوم الجارية على فطرتهم. فأما ما يتعلق باختلاف لغات القبائل فذلك شيء مسلّم لهم ومأخوذ عنهم «2» ، وكل ذلك محصور بالتتبع والرواية والسماع والقياس المطرد على الأصل المعروف من غير تحريف، وإنما دخل العجب على المنطقيين لظنهم أنّ المعاني لا تعرف ولا تستوضح إلا بطريقهم ونظرهم وتكلفهم، فترجموا لغة هم فيها ضعفاء ناقصون بترجمة أخرى هم فيها ضعفاء ناقصون، وجعلوا تلك الترجمة صناعة وادعوا على النحويين أنهم مع اللفظ لا مع المعنى.
ثم أقبل أبو سعيد على متّى فقال: ألا تعلم يا أبا بشر أن الكلام اسم واقع على أشياء قد ائتلفت بمراتب؟ مثال ذلك أنك تقول هذا ثوب، والثوب يقع على أشياء بها صار ثوبا، لأنه نسج بعد أن غزل، فسداته لا تكفي دون لحمته، ولحمته لا تكفي دون سداته، ثم تأليفه كنسجه، وبلاغته كقصارته، ورقة سلكه كرقة لفظه، وغلظ غزله ككثافة حروفه، ومجموع هذا كله ثوب ولكن بعد تقدمة كلّ ما يحتاج إليه فيه.(2/903)
قال ابن الفرات: سله يا أبا سعيد عن مسألة أخرى، فإن هذا كلما توالى عليه بان انقطاعه، وانخفض ارتفاعه في المنطق الذي ينصره والحق الذي لا يبصره «1» .
قال أبو سعيد: ما تقول في رجل قال: لهذا عليّ درهم غير قيراط، ولهذا الآخر عليّ درهم غير قيراط؟ قال متى: ما لي علم بهذا النمط. قال: لست نازعا عنك حتى يصحّ عند الحاضرين أنك صاحب مخرقة وزرق، ها هنا ما هو أخفّ من هذا: قال رجل لصاحبه: بكم الثوبان المصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغان؟ وقال آخر: بكم ثوبان مصبوغين؟ بيّن هذه المعاني التي تضمنها لفظ لفظ. قال متى: لو نثرت أنا أيضا عليك من مسائل المنطق شيئا لكان حالك كحالي.
قال أبو سعيد: أخطأت لأنك إذا سألتني عن شيء أنظر فيه، فإن كان له علاقة بالمعنى وصحّ لفظه على العادة الجارية أجبت، ثم لا أبالي أن يكون موافقا أو مخالفا، وإن كان غير متعلّق بالمعنى رددته عليك، وإن كان متصلا باللفظ ولكن على موضع لكم في الفساد- على ما حشوتم به كتبكم- رددته أيضا، لأنه لا سبيل إلى إحداث لغة مقررة بين أهلها. ما وجدنا لكم إلا ما استعرتم من لغة العرب كالسلب والإيجاب، والموضوع والمحمول، والكون والفساد، والمهمل والمحصور «2» ، وأمثلة لا تنفع ولا تجدي، وهي إلى العيّ أقرب وفي الفهاهة أذهب، ثم أنتم هؤلاء في منطقكم على نقص ظاهر لأنكم لا تفون بالكتب ولا هي مشروحة، وتدعون الشعر ولا تعرفونه، وتدعون الخطابة وأنتم عنها في منقطع التراب، وقد سمعت قائلكم يقول: الحاجة ماسّة إلى كتاب البرهان، فإن كان كما قال فلم قطع الزمان بما قبله من الكتب؟ وإن كانت الحاجة قد مسّت إلى ما قبل البرهان فهي أيضا ماسة إلى ما بعد البرهان، وإلا فلم صنّف ما لا يحتاج إليه ويستغنى عنه؟ هذا كله تخليط وزرق وتهويل ورعد وبرق، وإنما بودكم أن تشغلوا جاهلا وتستذلّوا عزيزا، وغايتكم أن تهولوا بالجنس والنوع والخاصة والفصل والعرض والشخص، وتقولوا: الهلّية والأينية والماهية والكيفية(2/904)
والكمية والذاتية والعرضية والجوهرية والهيولية والصورية والأيسية والليسيّة «1» والنفسية، ثم تنمطون وتقولون: جئنا بالسحر في قولنا لا (أ) في شيء من (ب) و (ج) في بعض (ب) فلا (أ) في بعض (ج) و (أ) لا في كل (ب) ، و (ج) في بعض (ب) فاذن: لا (أ) في كل (ج) «2» . هذا بطريق الخلف «3» ، وهذا بطريق الاختصاص، وهذه كلها جزافات وترّهات ومغالق وشبكات «4» ، ومن جاد عقله وحسن تمييزه ولطف نظره وثقب رأيه وأنارت نفسه استغنى عن هذا كلّه، بعون الله وفضله، وجودة العقل وحسن التمييز ولطف النظر وثقوب الرأي وإنارة النفس من منائح الله الهنية ومواهبه السنية يختص بها من يشاء من عباده، وما أعرف لاستطالتكم بالمنطق وجها، وهذا الناشىء أبو العباس قد نقض عليكم وتتبّع طريقكم وبيّن خطأكم وأبرز ضعفكم، ولم تقدروا إلى اليوم أن تردوا عليه كلمة واحدة مما قال، وما زدتم على قولكم: لم يعرف أغراضنا ولا وقف على مرادنا وإنما تكلم على وهم. وهذا منكم لجاجة «5» ونكول، ورضى بالعجز والكلول، وكل ما ذكرتم في الموجودات فعليكم فيه اعتراض: هذا قولكم في فعل «6» وينفعل لم تستوضحوا فيهما مراتبهما ومواقعهما، ولم تقفوا على مقاسمهما، لأنكم قنعتم فيهما بوقوع الفعل من يفعل وقبول الفعل من ينفعل، ومن وراء ذلك غايات خفيت عليكم ومعارف ذهبت عنكم، وهذا حالكم في الإضافة، فأما البدل ووجوهه والمعرفة وأقسامها والنكرة ومراتبها وغير ذلك مما يطول ذكره فليس لكم فيه مقال ولا مجال.
وأنت إذا قلت لإنسان كن منطقيا فإنما تريد: كن عقليا أو عاقلا أو اعقل ما تقول لأنّ أصحابك يزعمون أن المنطق هو العقل، وهذا قول مدخول لأن المنطق على وجوه أنتم منها في سهو. وإذا قال لك آخر: كن نحويا لغويا فصيحا فإنما يريد: افهم عن نفسك ما تقول ثم رم أن يفهم عنك غيرك وقدّر اللفظ على المعنى فلا يفضل عنه،(2/905)
وقدّر المعنى على اللفظ فلا ينقص منه- هذا إذا كنت في تحقيق شيء على ما هو به، فأما إذا حاولت فرش المعنى وبسط المراد فاجل «1» اللفظ بالروادف الموضحة والأشباه المقربة والاستعارات الممتعة، وشدّ «2» المعاني بالبلاغة، أعني لوّح منها شيئا حتى لا تصاب إلا بالبحث عنها والشوق إليها لأن المطلوب إذا ظفر به على هذا الوجه عز وجلّ، وكرم وعلا، واشرح منها شيئا حتى لا يمكن أن يمترى فيه أو يتعب في فهمه أو يعرّج «3» عنه لاغتماضه فبهذا المعنى يكون جامعا لحقائق الأشياء ولأشباه الحقائق، وهذا باب إن استقصيته خرج عن نمط ما نحن عليه في هذا المجلس. على أني لا أدري أيؤثر فيك ما أقول أم لا.
ثم قال: حدثنا هل فصلتم قط بالمنطق بين مختلفين، أو رفعتم بالخلاف بين اثنين، أتراك بقوة المنطق وبرهانه اعتقدت أن الله ثالث ثلاثة، وأن الواحد أكثر من واحد، وأن الذي هو أكثر من واحد هو واحد، وأن الشرع ما تذهب إليه والحق ما تقوله؟! هيهات، ها هنا أمور ترتفع «4» عن دعوى أصحابك وهذيانهم، وتدقّ عن عقولهم وأذهانهم. ودع هذا: ها هنا مسألة قد أوقعت خلافا، فارفع ذلك الخلاف بمنطقك، قال قائل: لفلان من الحائط إلى الحائط، ما الحكم فيه وما قدر المشهود به لفلان، فقد قال ناس: له الحائطان معا وما بينهما، وقال آخرون: له ما بينهما، وقال آخرون: له النصف من كل واحد منهما، وقال آخرون: له أحدهما، هات الآن آيتك الباهرة، ومعجزتك القاهرة، وأنى لك بهما، وهذا قد بان بغير نظرك ونظر أصحابك. ودع هذا أيضا: قال قائل: من الكلام ما هو مستقيم حسن، ومنه ما هو مستقيم كذب، ومنه ما هو خطأ، فسّر هذه الجملة، واعترض عليه عالم آخر فاحكم أنت بين هذا القائل والمعترض، وأرنا قوة صناعتك التي تميز بها بين الخطأ والصواب وبين الحق والباطل، فإن قلت: كيف أحكم بين اثنين أحدهما قد سمعت مقالته(2/906)
والآخر لم أحصل على اعتراضه قيل لك: استخرج بنظرك الاعتراض إن كان ما قاله محتملا له، ثم أوضح الحقّ منهما، لأن الأصل مسموع لك حاصل عندك، وما يصحّ به أو يطّرد عليه يجب أن يظهر منك، فلا تتعاسر علينا، فإن هذا لا يخفى على أحد من الجماعة. فقد بان الآن أن مركّب اللفظ لا يحوز مبسوط العقل، والمعاني معقولة ولها اتصال شديد وبساطة تامّة، وليس في قوة اللفظ من أيّ لغة كان أن يملك ذلك المبسوط ويحيط به وينصب عليه سورا ولا يدع شيئا من داخله أن يخرج ولا شيئا من خارجه أن يدخل خوفا من الاختلاط الجالب للفساد، أعني أن ذلك يخلط الحقّ بالباطل ويشبّه الباطل بالحق، وهذا الذي وقع الصحيح منه في الأول قبل وضع المنطق، وقد عاد ذلك الصحيح في الثاني بهذا المنطق. وأنت لو عرفت العلماء والفقهاء ومسائلهم ووقفت على غورهم في نظرهم، وغوصهم في استنباطهم وحسن تأويلهم لما يرد عليهم، وسعة تشقيقهم للوجوه المحتملة والكنايات المفيدة والجهات القريبة والبعيدة، لحقرت نفسك وازدريت أصحابك، ولكان ما ذهبوا إليه وتابعوا عليه أقلّ في عينك من السها عند القمر، ومن الحصى عند الجبل. أليس الكندي- وهو علم في أصحابك- يقول في جواب مسألة: «هذا من جواب عدة» «1» فعدّ الوجوه بحسب الاستطاعة على طريق الإمكان من ناحية الوهم بلا ترتيب حتى وضعوا له مسائل من هذا [الشكل] وغالطوه بها وأروه [أنها] من الفلسفة الداخلة، فذهب عليه ذلك الوضع، فاعتقد أنه مريض العقل فاسد المزاج حائل الغريزة مشوّش اللب، قالوا له:
أخبرنا عن الاسطقسات الأجرام واصطكاك تضاغط الأركان «2» هل يدخل في باب وجوب الإمكان أو يخرج من باب الفقدان إلى ما يخفى عن الأذهان؟ وقالوا له أيضا:
ما نسبة «3» الحركات الطبيعيّة إلى الصور الهيولانية؟ وهل هي ملابسة للكيان في حدود النظر والبيان أو مزايلة له على غاية الإحكام؟ وقالوا له: ما تأثير فقدان الوجدان في عدم الإمكان عند امتناع الواجب من وجوبه في ظاهر ما لا وجوب له لاستحالته في إمكان أصله؟ وعلى هذا فقد حفظ جوابه عن جميع هذا على غاية الركاكة والضعف(2/907)
والفساد والفسالة والسخف، ولولا التوقي من التطويل لسردت ذلك كله. ولقد مرّ بي في خطه: التفاوت في تلاشي الأشياء غير محاط به لأنه يلاقي الاختلاف في الأصول والاتفاق في الفروع، وكل ما يكون على هذا النهج فالنكرة تزاحم عليه المعرفة، والمعرفة تناقض النكرة، على أن النكرة والمعرفة من باب الألسنة العارية من ملابس الأسرار الإلهية، لا من باب الإلهية العارضة في أحوال البشرية «1» . ولقد حدثني أصحابنا الصابئون عنه بما يضحك الثكلى، ويشمت العدوّ ويغمّ الصديق، وما ورث هذا كله إلا من بركات يونان وفوائد الفلسفة والمنطق، ونسأل الله عصمة وتوفيقا نهتدي بهما إلى القول الراجع إلى التحصيل، والفعل الجاري على التعديل، إنه سميع مجيب.
قال أبو حيان: هذا اخر ما كتبت عن علي بن عيسى الشيخ الصالح باملائه، وكان أبو سعيد روى لمعا من هذه القصة، وكان يقول: لم أحفظ عن «2» نفسي كلّ ما قلت، ولكن كتب ذلك القوم الذين حضروا في ألواح كانت معهم ومحابر أيضا، وقد اختل [عليّ] كثير منه.
قال علي بن عيسى: وتقوّض المجلس وأهله يتعجبون من جأش أبي سعيد ولسانه المتصرف ووجهه المتهلل وفوائده المتتابعة. وقال له الوزير ابن الفرات: عين الله عليك أيها الشيخ، فقد ندّيت أكبادا، وأقررت عيونا، وبيضت وجوها، وحكت طرازا لا تبليه الأيام ولا يتطرقه الحدثان.
قال: قلت لعلي بن عيسى: وكم كان سن أبي سعيد يومئذ؟ قال مولده سنة ثمانين ومائتين، وكان له يوم المناظرة أربعون سنة، وقد عبث الشيب بلهازمه، هذا مع السمت والوقار والدين والجد، وهذا شعار أهل الفضل والتقدم، وقلّ من تظاهر به وتحلى بحليته إلا جلّ في العيون، وعظم في الصدور والنفوس، وأحبته القلوب وجرت بمدحه الألسنة.(2/908)
وقلت لعلي بن عيسى: أكان أبو علي الفسوي حاضرا في المجلس؟ قال:
لا، كان غائبا وحدّث بما كان، وكان [يكتم] الحسد لأبي سعيد على ما فاز به من هذا الخبر المشهور والثناء المذكور.
قال أبو حيان: وقال لي الوزير عند منقطع هذا الحديث: ذكرتني شيئا كان في نفسي وأحببت أن أسألك عنه وأقف عليه، أين أبو سعيد من أبي علي وأين علي بن عيسى منهما وأين المراغي أيضا من الجماعة وكذلك المرزباني وابن شاذان وابن الوراق وابن حيويه؟ (فكان من الجواب ما تقدم ذكره) .
ونظير خبر أبي سعيد مع متى خبره أيضا مع أبي الحسن العامري الفيلسوف النيسابوري، ذكره أبو حيان أيضا قال: لما ورد أبو الفتح ابن العميد إلى بغداد وأكرم العلماء استحضرهم إلى مجلسه ووصل أبا سعيد السيرافي وأبا الحسن علي بن عيسى الرماني بمال كما ذكرنا في باب أبي الفتح علي بن محمد بن العميد. قال أبو حيان «1» : انعقد المجلس في جمادى الأولى «2» سنة أربع وستين وثلاثمائة وغص بأهله، فرأيت العامري وقد انتدب فسأل أبا سعيد السيرافي فقال: ما طبيعة الباء من بسم الله، فعجب الناس من هذه المطالبة ونزل بأبي سعيد ما كاد يشده «3» به، فأنطقه الله بالسحر الحلال، وذلك أنه قال: ما أحسن ما أدبنا به بعض الموفقين المتقدمين، فقال:
وإذا خطبت على الرجال فلا تكن ... خطل الكلام تقوله مختالا
واعلم بأن مع السكون «4» لبابة ... ومن التكلّف ما يكون خبالا «5»
والله يا شيخ لعينك أكبر من فرارك «6» ، ولمرآك أوفى من دخلتك، ولمنثورك(2/909)
أبين من منظومك، فما هذا الذي طوّعت له نفسك، وسدّد عليه رأيك؟ اني أظنّ أن السلامة بالسكوت تعافك، والغنيمة بالقول ترغب عنك، والله المستعان، فقال ابن العميد وقد أعجب بما قال أبو سعيد:
فتى كان يعلو مفرق الحقّ قوله ... إذا الخطباء الصيد عضّل قيلها
جهير وممتدّ العنان مناقل ... بصير بعورات الكلام خبيرها
القائل القول الرفيع الذي ... يمرع منه البلد الماحل
والتفت إلى العامري فقال:
وإنّ لسانا لم تعنه لبابة ... كحاطب ليل يجمع الرذل حاطبه
وذي خطل بالقول يحسب انه ... مصيب فما يلمم به فهو قائله «1»
وفي الصمت ستر للعيّي وإنما ... صحيفة لبّ المرء أن يتكلما «2»
وفي الصمت ستر وهو أولى بذي الحجى ... إذا لم يكن للنطق وجه ومذهب
ثم أقبل على ابن فارس معلمه فقال: لسنا من كلام أصحابك في الفرضة «3» والشط «4» .
قال أبو حيان: فلما خرجنا قلت لأبي سعيد: أرأيت أيها الشيخ ما كان من هذا الرجل الخطير عندنا الكبير في أنفسنا؟ قال: ما دهيت قطّ بمثل ما دهيت به اليوم، لقد جرى بيني وبين أبي بشر صاحب «شرح كتاب المنطق» سنة عشرين وثلاثمائة في مجلس أبي الفضل ابن الفرات مناظرة كانت هذه أشوس «5» وأشرس منها.(2/910)
[322]
الحسن بن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل بن زيد
بن حكيم العسكري، أبو أحمد اللغوي العلامة: مولده يوم الخميس لست عشرة ليلة خلت من شوال سنة ثلاث وتسعين ومائتين ومات سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة. قال السلفي الحافظ، على ما سمعت أبا عامر غالب بن علي بن غالب الفقيه الاستراباذي بقصر روناش «1» يقول: رأيت بخط أبي حكيم أحمد بن إسماعيل بن فضلان اللغوي العسكري مكتوبا: توفي أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري يوم الجمعة لسبع خلون من ذي الحجة من سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة.
قال مؤلف الكتاب: ولقد طال تطوافي وكثر تسآلي عن العسكريين أبي أحمد وأبي هلال، فلم ألق من يخبرني عنهما بجليّة خبر، حتى وردت دمشق في سنة اثنتي عشرة وستمائة في جمادى الآخرة، ففاوضت الحافظ تقي الدين إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن بن الأنماطي النضاري المصري- أسعده الله بطاعته- فيهما، فذكر لي أن الحافظ أبا طاهر أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السلفي الأصبهاني لما ورد إلى دمشق سئل عنهما فأجاب فيهما بجواب لا يقوم به إلا مثله من أئمة العلم وأولي الفضل والفهم، فسألته أن يفيدني في ذلك ففعل متفضلا، فكتبته على صورة ما أورده السلفي، غير المولد والوفاة فإنه كان في آخر أخبار أبي أحمد، فقدمته على عادتي. وأخبرني بذلك عن السلفي جماعة منهم الأسعد محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الله العامري المقدسي والنبيه أبو طاهر إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن الانصاري وغيرهما إجازة، قال أبو طاهر
__________
[322]- ترجمة أبي أحمد العسكري في ذكر أخبار اصفهان 1: 272 والمنتظم 7: 191 والأنساب واللباب (العسكري) وإنباه الرواة 1: 310 وابن خلكان 2: 83 وسير الذهبي 16: 413 وعبر الذهبي 3: 20 والوافي 12: 76 ومرآة الجنان 2: 415 والبداية والنهاية 11: 312 والنجوم الزاهرة 4: 163 وبغية الوعاة 1: 506 والشذرات 3: 102 واشارة التعيين 95 وروضات الجنات 3: 60 (وذكر في المختصر أن وفاته كانت سنة ستين وثلاثمائة) .(2/911)
السلفي: دخل إليّ الشيخ الأمين أبو محمد هبة الله بن أحمد بن الاكفاني بدمشق سنة عشر وخمسمائة، وجرى ذكر أبي أحمد العسكري، فذكرت فيه ما يحتمل الوقت، وبعد خروجه كتبت إليه بعد البسملة:
أما بعد حمد الله العلي، والصلاة على المصطفى النبي، فقد جرى اليوم ذكر الشيخ المرضي أبي أحمد العسكري، وأنشدت للصاحب الكافي لله شعرا، خاله سيدي سحرا، ورام- حرس الله نعمته وكبت بالذلّ عندته- اثباته بتمامه، فاشتغلت به بعد نهوضه وقيامه، وأضفت إليه وإلى ذكر الشيخ أبي أحمد زيادة تعريف، ليقف على جلية حاله كأنه ينظر إليه من وراء ستر لطيف. فليعلم- أطال الله لكافة الأنام بقاءه، ولا سلبهم ظله وبهاءه- أن الشيخ أبا أحمد هذا كان من الأئمة المذكورين بالتصرف في أنواع العلوم، والتبحر في فنون الفهوم، ومن المشهورين بجودة التأليف وحسن التصنيف، ومن جملته: كتاب صناعة الشعر رأيته. كتاب الحكم والأمثال. كتاب التصحيف. كتاب راحة الأرواح. كتاب الزواجر والمواعظ. كتاب تصحيح الوجوه والنظائر. وكان قد سمع ببغداد والبصرة وأصبهان وغيرها من شيوخ في عداد شيخيه أبي القاسم البغوي وابن أبي داود السجستاني، وأكثر عنهم وبالغ في الكتابة، وبقي حتى علا به السن، واشتهر في الآفاق بالدراية والاتقان، وانتهت إليه رياسة التحديث والاملاء للآداب والتدريس بقطر خوزستان، ورحل الأجلّاء إليه، للأخذ عنه والقراءة عليه، وكان يملي بالعسكر وتستر ومدن ناحيته ما يختاره من عالي روايته عن متقدمي شيوخه، ومنهم: أبو محمد عبدان الأهوازي وأبو بكر ابن دريد ونفطويه وأبو جعفر ابن زهير ونظراؤهم، ومن متأخري أصحابه الذين رووا عنه الحديث ومتقدميهم أيضا- فإني ذكرتهم على غير رتبهم كما جاء لا كما يجب-: أبو عباد الصائغ التستري وذو النون بن محمد والحسين بن أحمد الجهرمي وابن العطار الشروطي الأصبهاني وأبو بكر أحمد بن محمد بن جعفر الأصبهاني المعروف باليزدي وأبو الحسين علي بن أحمد بن الحسن البصري المعروف بالنعيمي الفقيه الحافظ وأبو علي الحسن بن علي بن إبراهيم المقرىء الأهوازي نزيل دمشق، إلا أنه قد انقلب عليه اسمه فيقول في تصانيفه أخبرنا أبو أحمد عبد الله بن الحسن بن سعيد النحوي بعسكر مكرم، قال: أخبرنا محمد بن جرير الطبري وغيره، وهو الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري لا عبد الله بن(2/912)
الحسن. وقد روى عنه أبو سعد أحمد بن محمد بن عبد الله بن الخليل الماليني وأبو الحسين محمد بن الحسن بن أحمد الأهوازي شيخا أبي بكر الخطيب الحافظ البغدادي وخلق سواهم لا يحصون كثرة، لم أثبت أسماءهم احترازا من وهم ما واحتياطا لبعد العهد بروايات تلك الديار. والنعيميّ والأهوازي روى عنهما الخطيب أيضا، وكذلك روى عن أبي نعيم الأصفهاني الحافظ، وقد روى أبو نعيم عن أبي أحمد كثيرا. وممن روى عن أبي أحمد من أقران أبي نعيم أبو بكر محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الوادعي وعبد الواحد بن أحمد بن محمد الباطرقاني وأبو الحسن أحمد بن محمد بن زنجويه الاصفهانيون وأبو عبد الله محمد بن منصور بن جيكان التستري والقاضي أبو الحسن علي بن عمر بن موسى الايذجي وأبو سعيد الحسن بن علي بن بحر السقطي التستري. وروى عنه ممن هو أكبر من هؤلاء سنا وأقدم موتا: أبو محمد خلف بن محمد بن عليّ الواسطي وأبو حاتم محمد بن عبد الواحد الرازي المعروف باللبان، وهما من حفاظ الحديث. وقد روى عنه الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي بخراسان بالاجازة وكذلك القاضي أبو بكر ابن الباقلاني المتكلم بالعراق.
وقد وقع حديثه لي عاليا من طرق عدة، فمن ذلك حكاية رأيتها الآن معي في جزء من تخريجي بخطي، وهي ما أخبرنا الشيخ أبو الحسين المبارك بن عبد الجبار بن أحمد الصيرفي ببغداد، حدثنا الحسن بن علي بن أحمد التستري من لفظه بالبصرة، حدثنا الحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري إملاء بتستر، حدثنا العباس بن الوليد بن شجاع بأصبهان، حدثنا محمد بن يحيى النيسابوري، حدثنا محمد بن عمرو بن مكرم، حدثني عتبة بن حميد قال، قال بشر بن الحارث لما ماتت أخته: «إذا قصّر العبد في طاعة ربّه سلبه أنيسه» .
قال أبو أحمد العسكري في كتاب «شرح التصحيف» «1» من تصنيفه، وقد ذكر باب ما يشكل ويصحّف من أسماء الشعراء فقال: وهذا باب صعب لا يكاد يضبطه إلا كثير الرواية غزير الدراية. وقال أبو الحسن علي بن عبدوس الأرجاني رحمه الله، وكان فاضلا متقدما، وقد نظر في كتابي هذا، فلما بلغ إلى هذا الباب قال لي: كم(2/913)
عدة أسماء الشعراء الذين ذكرتهم؟ قلت: مائة ونيف، فقال: اني لأعجب كيف استتبّ لك هذا، فقد كنا ببغداد والعلماء بها متوفّرون- وذكر أبا إسحاق الزجاج وأبا موسى الحامض وأبا بكر «1» الأنباري واليزيدي «2» وغيرهم- فاختلفنا في اسم شاعر واحد، وهو حريث بن محفض، وكتبنا أربع رقاع إلى أربعة من العلماء فأجاب كلّ واحد منهم بما يخالف الآخر، فقال بعضهم: مخفض بالخاء والضاد المعجمتين، وقال بعضهم: محفص بالحاء والصاد غير معجمتين. وقال آخر: ابن محفض، وقال آخر: ابن محقص، فقلنا ليس لهذا إلا أبو بكر ابن دريد، فقصدناه في منزله وعرّفناه ما جرى، فقال ابن دريد: أين يذهب بكم؟ هذا مشهور، هو حريث بن محفّض- بالحاء غير معجمة مفتوحة والفاء مشددة والضاد منقوطة- هو من بني تميم ثم من بني مازن بن عمرو بن تميم، وهو القائل «3» :
ألم تر قومي إن دعوا لملمة ... أجابوا وان أغضب على القوم يغضبوا «4»
هم حفظوا غيبي كما كنت حافظا ... لقومي أخرى مثلها إن تغيبوا
بنو الحرب «5» لم تقعد بهم أمهاتهم ... وآباؤهم آباء صدق فأنجبوا
وتمثّل الحجاج بهذه الأبيات على منبره فقال: أنتم يا أهل الشام كما قال حريث بن محفض، وذكر هذه الأبيات، فقام حريث بن محفض فقال: أنا والله حريث بن محفض، قال: فما حملك على أن سابقتني «6» ؟ قال: لم أتمالك إذ تمثل الأمير بشعري حتى أعلمته مكاني؛ ثم قال أبو الحسن ابن عبدوس: فلم يفرّج عنا غيره.
قال أبو أحمد «7» : واجتمع يوما في منزلي بالبصرة أبو رياش وأبو الحسين ابن لنكك- رحمهما الله فتقاولا، فكان فيما قال أبو رياش لأبي الحسين: أنت كيف تحكم على الشعر والشعراء ولم تفرق بين الزفيان والرقبان؟ فأجاب أبو الحسين ولم(2/914)
يقنع ذاك أبا رياش وقاما على شغب وجدال. قال أبو أحمد: فأما الرقبان- بالراء والقاف، وتحت الباء نقطة- فشاعر جاهلي قديم يقال له أشعر الرقبان، وأما الزفيان- بالزاي والفاء وتحت الياء نقطتان- فهو من بني تميم من بني سعد بن زيد مناة بن تميم يعرف بالزفيان السعدي، راجز كثير الشعر، وكان على عهد جعفر بن سليمان، وهو الزفيان بن مالك بن عوانة القائل:
وصاحبي ذات هباب دمشق ... كأنها بعد الكلال زورق
قال: وذكر أبو حاتم آخر يقال له الزفيان وأنه كان مع خالد بن الوليد حين أقبل من البحرين فقال:
تهدى إذا خوت النجوم صدورها ... ببنات نعش أو بضوء الفرقد
فقد أخبرنا «1» به أبو الحسين ابن الطيوري ببغداد، قال أخبرنا أبو سعيد السقطي بالبصرة، قال أخبرنا أبو أحمد الحسن بن عبد الله بن سعيد بن إسماعيل بن زيد بن حكيم العسكري إملاء سنة ثمانين وثلاثمائة بتستر، فذكر مجالس من «أماليه» هي عندي. وقرأت على أبي علي أحمد بن الفضل بن شهريار بأصبهان عن السقطي هذا فوائد عن أبي أحمد وغيره. وأما الأبيات المقصودة فعندي في أجزاء أذربيجان على نسق لا أذكر موضعها، إلا أن فيها قصة معناها أن الصاحب أبا القاسم إسماعيل بن عباد بن العباس الوزير كان يتمنى لقاء أبي أحمد العسكري ويكاتبه على ممرّ الأوقات ويستميل قلبه، فيعتلّ عليه بالشيخوخة والكبر إذا عرف أنه يعرّض بالقصد إليه والوفود عليه، فلما يئس منه الصاحب احتال في جذب السلطان إلى ذلك الصوب، وكتب إليه حين قرب من عسكر مكرم كتابا يتضمّن علوما نظما ونثرا، ومما ضمنه من المنظوم قوله «2» :
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوخدان
أتيناكم من بعد أرض نزوركم ... إلى «3» منزل بكر لنا وعوان(2/915)
نسائلكم هل من قرى لنزيلكم ... بملء جفون لا بملء جفان
فلما قرأ أبو أحمد الكتاب أقعد تلميذا له فأملى عليه الجواب عن النثر نثرا وعن النظم نظما، وبعث به إليه في الحال، وكان في آخر جوابه أبياته التي ذكرها على الحال:
وقد حيل بين العير والنزوان
وهو تضمين إلا أن الصاحب استحسنه ووقع ذلك منه موقعا عظيما وقال: لو عرفت أن هذا المصراع يقع في هذه القافية لم أتعرض لها، وكنت قد ذهلت عنه وذهب علي. ثم إن أبا أحمد قصده وقت حلوله بعسكر مكرم بلده، ومعه أعيان أصحابه وتلامذته في ساعة لا يمكن الوصول إليه إلا لمثله، وأقبل عليه بالكلية بعد أن أقعده في أرفع موضع من مجلسه، وتفاوضا في مسائل فزادت منزلته عنده، وأخذ أبو أحمد منه بالحظ الأوفر وأدرّ على المتصلين به إدرارا كانوا يأخذونه إلى أن توفي وبعد وفاته أيضا فيما أظنّ. ولما نعي إليه أنشد فيه:
قالوا مضى الشيخ أبو أحمد ... وقد رثوه بضروب النّدب
فقلت ماذا فقد شيخ مضى ... لكنه فقد فنون الأدب
ثم ذكر السلفي وفاته كما تقدم. هذا آخر ما ذكره من خبر أبي أحمد، هذا كلّه من كتاب السلفي.
ثم وجدت مما أنبأني به أبو الفرج ابن الجوزي عن ابن ناصر عن أبي زكريا التبريزي وعن أبي عبد الله ابن الحسن الحلواني عن أبي الحسن علي بن المظفر البندنيجي قال: كنت أقرأ بالبصرة على الشيوخ فلما دخلت سنة تسع وسبعين وثلاثمائة إلى الأهواز بلغني حال أبي أحمد العسكري فقصدته وقرأت عليه، فوصل فخر الدولة والصاحب ابن عباد، فبينا نحن جلوس نقرأ عليه وصل إليه ركابيّ ومعه رقعة، ففضها وقرأها وكتب على ظهرها جوابها، فقلت: أيها الشيخ ما هذه الرقعة؟ فقال: رقعة الصاحب، كتب إليّ:
ولما أبيتم أن تزوروا وقلتم ... ضعفنا فما نقوى على الوخدان
الأبيات الثلاثة المتقدمة، قلت: فما كتبت إليه في الجواب؟ قال: قلت:(2/916)
أروم نهوضا ثم يثني عزيمتي ... تعوذ «1» أعضائي من الرجفان
فضمّنت بيت ابن الشريد «2» كأنما ... تعمّد تشبيهي به وعناني
«أهمّ بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان»
قال: ثم نهض وقال لابد من الحمل على النفس، قال: فإن الصاحب لا يقنعه هذا، وركب بغلة وقصده، فلم يتمكن من الوصول إلى الصاحب لاستيلاء الحشم، فصعد تلعة ورفع صوته بقول أبي تمام:
ما لي أرى القبة الفيحاء مقفلة ... دوني وقد طال ما استفتحت مقفلها
كأنها جنة الفردوس معرضة ... وليس لي عمل زاك فأدخلها
قال: فناداه الصاحب: ادخلها يا أبا أحمد فلك السابقة الأولى، فتبادر إليه أصحابه فحملوه حتى جلس بين يديه، فسأله عن مسألة، فقال أبو أحمد: الخبير صادفت، فقال الصاحب: يا أبا أحمد تغرب في كلّ شيء حتى في المثل السائر فقال: تفاءلت عن السقوط بحضرة مولانا- وإنما كلام العرب سقطت-. ووجدت بعد ذلك أنه توفي في سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
وحدث ابن نصر قال: حدثني أبو أحمد العسكري بالبصرة قال: كان أبو جعفر المجوسي عامل البصرة رجلا واسع النفس، وكان يتعاهد الشعراء ويراعيهم مثل العصفري والنهرجوري وغيرهم، وهم يهجونه، وكان هذان خصوصا من أوضعهم، وقد رأيت النهرجوري. قال: فلما مات أبو جعفر رثاه النهرجوري بقوله:
يا ليت شعري وليت ربتما ... صحّت فكانت لنا من العبر
هل أرين شوثنا وأمّته ... راكبة حوله على البقر
يقدمهم أربعون لبسهم ... مع حلية الحرب حلّة النمر
وأنت فيهم قد ابترزت لنا ... كالشمس في نورها أو القمر
قد نكحوا الأمهات واتكلوا ... على عتيق الأبوال في الطهر(2/917)
وشارفوا والنساء قد ولدت ... غسل مضاريطها من الوضر
وأصبحوا أشبه البرية ... بالظرف وأولى بكلّ مفتخر
شوثن عند المجوس يجري مجرى المهدي، ويزعمون أنه يخرج وقدامه أربعون نفسا على كل منهم جلد النمر فيعيدون دين النور؛ قال فقلت: يا أبا أحمد هذه بالهجاء أشبه منها بالمرثية بكثير، قال: هكذا قصد النهرجوري لا بارك الله فيه وقد عاتبته وقلت له: ما استحق أبو جعفر هذا منك، فقال: ما تعديت مذهبه الذي يعترف به.
ووجدت في «تاريخ أصفهان» «1» من تأليف الحافظ أبي نعيم قال: الحسن بن عبد الله بن سعيد بن الحسين أبو أحمد العسكري «2» الأديب أخو أبي علي، قدم أصبهان مرارا، أول قدمة قدمها سنة تسع وأربعين، وقدمها أيضا سنة أربع وخمسين، وكان قدم أصبهان قديما وسمع من الفضل بن الخصيب وسمع عنه أبي وابن زهير وغيرهما، تأخر موته، توفي في صفر سنة ثلاث وثمانين.
[323]
الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى
بن مهران، أبو هلال اللغوي العسكري: قال أبو طاهر السلفي: وكان لأبي أحمد تلميذ وافق اسمه اسمه، واسم أبيه اسم أبيه، وهو عسكري أيضا، فربما اشتبه ذكره بذكره إذا قيل الحسن بن عبد الله العسكري الأديب، فهو أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مهران اللغوي العسكري؛ سألت الرئيس أبا المظفر محمد بن أبي العباس الأبيوردي، رحمه الله، بهمذان عنه فأثنى عليه ووصفه بالعلم والعفة معا وقال: كان
__________
[323]- ترجمة أبي هلال العسكري في: دمية القصر 1: 506 والوافي 12: 78 وبغية الوعاة 1: 506 وطبقات المفسرين للسيوطي: 10 وطبقات الداودي 1: 134 واشارة التعيين 96 وروضات الجنات 3: 72.(2/918)
يتبزّز «1» احترازا من الطمع والدناءة والتبذل، وذكر فيه فصلا هو في سؤالاتي عنه، وكان الغالب عليه الأدب والشعر، وله كتاب في اللغة وسمه بالتلخيص «2» كتاب مفيد. وكتاب صناعتي النظم والنثر «3» وهو أيضا كتاب مفيد جدا. ومن جملة من روى عنه أبو سعد السمّان الحافظ بالريّ، وأبو الغنائم ابن حماد المقرىء إملاء بالأهواز، وأبو حكيم أحمد بن إسماعيل بن فضلان اللغوي بالعسكر، وآخرون. ومن شعره ما أنشدنا أبو طالب محمد بن [ ... ] المقرىء إملاء، أنشدني أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري لنفسه:
قد تعاطاك شباب ... وتغشّاك مشيب
فأتى ما ليس يمضي ... ومضى ما لا يؤوب
فتأهب لسقام ... ليس يشفيه طبيب
لا توهّمه بعيدا ... إنما الآتي قريب
ومما أنشدنا القاضي أبو أحمد الموحد بن محمد بن عبد الواحد الحنفي بتستر، قال أنشدنا أبو حكيم أحمد بن إسماعيل بن فضلان العسكري، أنشدناه أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل اللغوي لنفسه بالعسكر «4» :
إذا كان مالي مال من يلقط العجم ... وحالي فيكم حال من حاك أو حجم
فأين انتفاعي بالأصالة والحجى ... وما ربحت كفي على العلم والحكم
ومن ذا الذي في الناس يبصر حالتي ... فلا يلعن القرطاس والحبر والقلم
ومما أنشدنا القاضي أبو أحمد الحنفي بتستر، قال أنشدنا أبو حكيم اللغوي، قال أنشدنا أبو هلال العسكري لنفسه:
جلوسي في سوق أبيع وأشتري ... دليل على أنّ الأنام قرود(2/919)
ولا خير في قوم تذلّ كرامهم ... ويعظم فيهم نذلهم ويسود
ويهجوهم عني رثاثة كسوتي ... هجاء قبيحا ما عليه مزيد
ومما أنشدناه أبو غالب الحسين بن أحمد بن الحسين القاضي بالسوس، قال أنشدنا المظفر بن طاهر بن الجراح الأستراباذي، قال أنشدني أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل اللغوي العسكري لنفسه:
يا هلالا من القصور تدلّى ... صام وجهي لمقلتيه وصلّى
لست أدري أطال ليلي أم لا ... كيف يدري بذاك من يتقلّى
لو تفرغت لاستطالة ليلي ... ولرعي النجوم كنت مخلّى
هذا آخر ما ذكره السلفي من حال أبي هلال.
قال مؤلف الكتاب: وهذه الأبيات الأخيرة التي منها «لست أدري أطال ليلي أم لا» والبيت الذي بعده رأيته في بعض الكتب منسوبا إلى خالد الكاتب «1» ، والله أعلم.
هذا عن السلفي. وذكر غيره أن أبا هلال كان ابن أخت أبي أحمد وله من الكتب بعد ما ذكره السلفي: كتاب جمهرة الأمثال «2» . كتاب معاني الأدب «3» . كتاب من احتكم من الخلفاء إلى القضاة. كتاب التبصرة، وهو كتاب مفيد. كتاب شرح الحماسة «4» . كتاب الدرهم والدينار. كتاب المحاسن في تفسير القرآن، خمس مجلدات. كتاب العمدة. كتاب فضل العطاء على العسر. كتاب ما تلحن فيه الخاصة. كتاب أعلام المعاني في معاني الشعر. كتاب الأوائل «5» . كتاب ديوان شعره. كتاب الفرق بين المعاني. كتاب نوادر الواحد والجمع.(2/920)
قال المؤلف: وأما وفاته فلم يبلغني فيها شيء، غير أني وجدت في آخر «كتاب الأوائل» من تصنيفه: وفرغنا من إملاء هذا الكتاب يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة خمس وتسعين وثلاثمائة.
ولبعضهم:
وأحسن ما قرأت على كتاب ... بخطّ العسكريّ أبي هلال
فلو أني جعلت أمير جيش ... لما قاتلت إلا بالسؤال
فإن الناس ينهزمون منه ... وقد ثبتوا «1» لأطراف العوالي
وقال أبو هلال العسكري في تفضيل الشتاء على غيره من الأزمنة:
فترت صبوتي وأقصر شجوي ... وأتاني السرور من كلّ نحو
إنّ روح الشتاء خلّص روحي ... من حرور تشوي الوجوه وتكوي
برد الماء والهواء كأن قد ... سرق البرد من جوانح خلو
ريحه تلمس الصدور فتشفي ... وغماماته تصوب فتروي
لست أنسى منه دماثة دجن ... ثم من بعده نضارة صحو
وجنوبا تبشّر الأرض بالقطر ... كما بشّر العليل ببرو
وغيوما مطرزات الحواشي ... بوميض من البروق وخفو
كلما أرخت السماء عراها ... جمع القطر بين سفل وعلو
وهي تعطيك حين هبّت شمالا ... برد ماء فيها ورقة جوّ
وترى الأرض في ملاءة «2» ثلج ... مثل ريط لبسته فوق فرو
واستعار العرار منها لباسا ... سوف يمنى من الرياح بنضو
فكأنّ الكافور موضع ترب ... وكأنّ الجمان موضع قرو
وليال أطلن مدة درسي ... مثلما قد مددن في عمر لهوي(2/921)
مرّ لي بعضها بفقه وبعض ... بين شعر أخذت فيه ونحو
وحديث كأنه عقد ريا ... بتّ أرويه للرجال وتروي
في حديث الرجال روضة أنس ... بات يرعى بأهل نبل وسرو
وقال أبو الحسين محمد بن محمد بن أركل «1» في ضد ذلك «2» :
قلت إذ فضّلوا الشتاء على ... الصيف ولجّوا وأكثروا الهذرا
يا ربّ حرّ المصيف «3» يحرقنا ... ولا نريد الشتاء والمطرا
غيم ووحل والزمهرير فما ... نعدمه رائحا ومبتكرا
يحبسنا «4» الشهر في منازلنا ... هلكى نقاسي الهموم والفكرا
أطول ليل له وأهوله ... نهاره لا نحسّه قصرا
يا ربّ عجل لنا المصيف ولو ... أسلمنا حرّه إلى سقرا
دعني مع الصيف والشمال فما ... أكرهه بكرة ولا سحرا «5»
[324]
الحسن بن عبد الله العثماني، أبو علي النيسابوري
: ذكره عبد الغافر في «كتاب السياق» وقال: إنه مات في شهور سنة نيف وسبعين وأربعمائة، ووصفه فقال: هو الإمام الكامل البارع في فنه، المعجز في نكته، له التصانيف المشهورة في التذكير والخطب وطرف الأشعار والرسائل والموشّحات الغريبة والصناعات البديعة والترصيعات الرشيقة في النظم والنثر، بحيث يستفيد منها الأكابر والأماثل، ويستضيء
__________
[324]- ترجمته في السياق (المنتخب: 2) : 54 والوافي 12: 87.(2/922)
بنورها البلغاء في المحافل، تفقّه على الجويني ثم انتقل إلى ناحية بست وسكنها، ووافى بها قبولا بالغا، فصار مشارا إليه في عصره تحترمه الصدور. قال: وافيت الناحية فرأيت ازدحاما على قبره في الموسم وتناحرا عليه، وكان أكثر ميله إلى مقولاته في تصانيفه ومجموعاته، نظما ونثرا، دون المنقول.
[325]
الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي
، أبو محمد القاضي: ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: هو حسن التصنيف مليح التأليف، يسلك طريقة الجاحظ، وكان شاعرا، وقد سمع الحديث ورواه، مات في حدود ستين وثلاثمائة.
قال: وله من الكتب: كتاب ربيع المتيم في أخبار العشاق. كتاب الفلك في مختار الأخبار والأشعار. كتاب أمثال النبي صلى الله عليه وسلّم. كتاب الريحانتين الحسن والحسين.
كتاب إمام التنزيل في علم القرآن. كتاب النوادر والشوارد. كتاب أدب الناطق.
كتاب الرّثي «1» والتعازي. كتاب رسالة السفر. كتاب مباسطة الوزراء. كتاب المناهل والأعطان والحنين إلى الأوطان. كتاب الفاصل بين الراوي والواعي «2» .
وكان القاضي الخلادي من أقران القاضي التنوخي، وقد مدح عضد الدولة أبا شجاع بمدائح، وبينه وبين الوزير المهلبي وأبي الفضل ابن العميد مكاتبات ومجاوبات منها ما نقلته من «مزيد التاريخ» لأبي الحسن محمد بن سليمان بن محمد الذي زاده على «تاريخ السلامي» في ولاة خراسان؛ قال: حدثني عبد الله بن إبراهيم قال: لما استوزر أبو محمد المهلبي كتب إليه أبو محمد الخلادي في التهنئة:
__________
[325]- ترجمته في الفهرست: 172 وتذكرة الحفاظ: 905 والأنساب 6: 47 واليتيمة 3: 423 والوافي 12: 64 والشذرات 3: 30، 37 (ويعتمد ياقوت على الفهرست واليتيمة والأنساب للسمعاني) .(2/923)
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله مانح الجزيل، ومعوّد الجميل، ذي المن العظيم، والبلاء الجسيم:
الآن حين تعاطى القوس باريها ... وأبصر السمت في الظلماء ساريها «1»
الآن عاد إلى الدنيا مهلّبها ... سيف الخلافة بل مصباح داجيها
أضى الوزارة تزهى في مواكبها ... زهو الرياض إذا جادت غواديها
تاهت علينا بميمون نقيبته ... قلّت لمقداره الدنيا وما فيها
موفّق الرأي مقرون بغرّته ... نجم السعادة يرعاها ويحميها
معزّ دولتها هنئتها فلقد ... أيدتها بوثيق من رواسيها
تهنئة مثلي من أولياء الوزير- أطال الله بقاءه- الدعاء، وأفضله ما صدر عن نية لا يرتاب بها ولا يخشى مذقها، وكان غيب صاحبه أفضل من مشهده، فهنأ الله الوزير كرامته، وأحلى له ثمرة ما منحه، وأحمد بدأه وعاقبته ومفتتحه وخاتمته، حتى تتصل المواهب عنده اتصالا في مستقبله ومستأنفه، يوفي على متقدمه بمنّه. وكتابي هذا- أيد الله الوزير- من المنزل برامهرمز، وأنا عقيب علّة ومحنة، ولولا ذلك لم أتأخر عن حضرته- أجلّها الله- مهنّئا ومسلّما، فإن رأى الوزير شرفني بجواب هذا الكتاب.
فكتب إليه المهلبي جوابه: بسم الله الرحمن الرحيم، وصل كتابك يا أخي- أطال الله بقاءك، وأدام عزك وتأييدك «2» ونعماءك- المتضمن نفيس الجواهر من بحار الخواطر، الحاوي ثمار الصفاء من منبت الوفاء، وفهمته ووقع ما أهديته من نظم ونثر، وخطاب وشعر، موقع الريّ من ذي الغلّة، والشفاء من ذي العلّة، والفوز من ذي الخيبة، والأوب من ذي الغيبة، وما طابت بي حال «3» إلا وأنت الأولى بسرورها والأغبط بحبورها، إذ كنت شريك النفس في السراء ومواسيها في الضرّاء. وتكلفت الإجابة عما نظمت على كثرة من الشغل إلّا عنك، وزهد في المطاولة إلّا فيك، والعذر في تقصيرها عن الغاية واضح، ودليل العجلة فيها لائح، وأنت بمواصلتي بكتبك وأخبارك(2/924)
وأوطارك مسؤول، والجري على عادتك المأثورة وسيرتك «1» المشكورة مأمول، وأنا والله على أفضل عهدك وأحسن ظنك وأوكد ثقتك، ومشتاق إليك:
مواهب الله عندي لا يوازيها ... سعي ومجهود وسعي لا يدانيها «2»
لكنّ أقصى المدى شكري لأنعمه ... وتلك أفضل قربى عند مؤتيها
والله أسأل توفيقا لطاعته ... حتى يوافق فعلي أمره فيها
وقد أتتني أبيات مهذّبة ... ظريفة جزلة رقّت حواشيها
ضمّنتها حسن أوصاف «3» وتهنئة ... أنت المهنّى بباديها وتاليها
ودعوة صدرت عن نية خلصت ... لا شكّ فيها أجاب الله داعيها
وأنت أوثق «4» موثوق بنيّته ... وأقرب الناس من حال نرجيها
فثق بنيل المنى في كلّ منزلة ... أصبحت تعمرها عندي وتبنيها
وكتب أبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد إلى القاضي أبي محمد الخلادي: بسم الله الرحمن الرحيم، أيها القاضي الفاضل- أطال الله بقاءك، وأدام عزك ونعماءك- من أسرّ داءه، وستر ظماءه، بعد عليه أن يبلّ من غلته، وقد غمرني منذ قرأت كتابك إلى الشريف- أيده الله- شوق استجذب نفسي واستفزّها ومدّ جوانحي وهزها، ولا شفاء إلا قربك ومجالستك، ولا دواء إلا طلعتك ومؤانستك، ولا وصول إلى ذلك إلا بزيارتك واستزارتك، فإن رأيت أن تؤثر أخفهما عليك، وتعلمني آثرهما لديك، وتقدم ما استنسبته «5» في ذلك، فعلت، فإني أراعيه أشد المراعاة، وأتطلعه في كلّ الأوقات، وأعدّ على الفوز به الساعات.
فأجابه الخلادي: بسم الله الرحمن الرحيم، قرأت التوقيع- أطال الله بقاء الأستاذ الرئيس- فشحذ الفطنة وآنس الوحدة، وألبس العزة وأفاد البهجة، وقلت كما قال رؤبة لما استزاره أبو مسلم صاحب الدعوة:(2/925)
لبيك إذ دعوتني لبيكا ... أحمد ربا ساقني «1» إليكا
فأما الإجابة عن أفصح بيان، خطّ بأكرم بنان، واضح كالزهر المؤنق، مالك لرقاب المنطق، فما أنا منها بقريب، وهيهات أنى لي التّناوش من مكان بعيد، لكني على الأثر، ولا أتأخر عن الوقت المنتظر، إن شاء الله تعالى.
قال: وكان أبو محمد الخلادي ملازما لمنزله قليل البروز لحاجته، وقيل له في ذلك فروى عن أبي الدرداء «2» : نعم صومعة الرجل بيته، يكفّ فيه سمعه وبصره.
وروى عن ابن سيرين أنه قال: العزلة عبادة، وقال: خلاؤك أقنى لحيائك، وقال:
عزّ الرجل في استغنائه عن الناس، والوحدة خير من جليس السوء «3» ، وأنشد لابن قيس الرقيات «4» :
اهرب بنفسك واستأنس بوحدتها ... تلق السعود إذا ما كنت منفردا
ليت السباع لنا كانت معاشرة ... وأننا لا نرى ممن نرى أحدا
إن السباع لتهدا في مرابضها ... والناس ليس بهاد شرّهم أبدا
ثم صار الخلادي إلى أبي الفضل ابن العميد، فلما فتشه شدا منه علما غزيرا، وقبس أدبا كثيرا، وقال الخلادي: إن أعجب الأستاذ معرفتي صحبته وتعلقت به وأقمت عنده وبين يديه.
وكتب الخلادي إلى منزله برامهرمز: بسم الله الرحمن الرحيم، قد وردت من الأستاذ الرئيس على ضياء باهر، وربيع زاهر، ومجلس قد استغرق جميع المحاسن، وحفّ بالأشراف والأكارم، وجلساء أقران أعداد عام، كأنهم نجوم السماء، من طالبيّ رخو المعاطف، صلب المكاسر، جامع إلى شرف الحسب دينا(2/926)
وظرفا، وإلى كرم المحتد حرمة وفضلا، وكاتب حصيف، وشاعر مفلق، وسمير أنيق «1» ، وفقيه جدل، وشجاع بطل:
كرام المساعي لا يخاف جليسهم ... إذا نطق العوراء غرب لسان
إذا حدّثوا لم تخش سوء استماعهم ... وإن حدّثوا أدّوا بحسن بيان
ووضعنا الزيارة حيث لا يزري بنا كرم المزور، ولا يعاب الزور، يجدّ الأستاذ عندي كلّ يوم مكرمة وميرة، تطويان مسافة الرجاء، وتتجاوزان غايات الشكر والثناء، والبشر والدعاء، فزاد الله في تبصيره حقوق زوّاره، وتيسيري لشكر مبارّه.
قال الثعالبي «2» : ومن ملح ابن خلاد قوله:
قل لابن خلّاد إذا جئته ... مستندا في المسجد الجامع
هذا زمان ليس يحظى به ... «حدثنا الأعمش عن نافع»
وقوله وقد طولب بالخراج «3» :
يا أيها المكثر فينا الزّمجره ... ناموسه دفتره والمحبره
قد أبطل الديوان كتب السحره ... والجامعين وكتاب الجمهره
هيهات لن يعبر تلك القنطره ... نحو الكسائيّ وشعر عنتره
ودغفل وابن لسان الحمّرة ... ليس سوى المنقوشة المدوّره
ذكر السمعاني في «كتاب النسب» «4» قال: القاضي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي كان فاضلا مكثرا من الحديث، ولي القضاء ببلاد الخوز، ورحل قبل التسعين ومائتين، وكتب عن جماعة من أهل شيراز، ذكره أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز الشيرازي القصّار في «تاريخ فارس» وقال: بلغني أنه [عاش] برامهرمز إلى قرب الستين وثلاثمائة.
15.(2/927)
[326]
الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن عبد الرحمن
بن يزيد، أبو حسان الزيادي البغدادي القاضي: من أعيان أصحاب الواقدي، روى عن الهيثم بن عدي وهشيم بن بشير وغيرهما، وكان أديبا فاضلا نسابة أخباريا جوادا كريما سمحا، مات سنة اثنتين وأربعين ومائتين أو ثلاث وأربعين عن تسع وثمانين سنة، مات هو والحسن بن علي بن الجعد في وقت واحد، وكان الزيادي حينئذ على قضاء مدينة المنصور.
وكان الزيادي يصنّف الكتب ويصنّف له، وكانت له خزانة كتب حسنة كثيرة، وله من الكتب على ما ذكر محمد بن إسحاق «1» ، كتاب عروة بن الزبير. كتاب طبقات الشعراء. كتاب الآباء والأمهات.
وقال الحافظ أبو القاسم: سمع بدمشق الوليد بن مسلم وشعيب بن إسحاق وعمر بن عبد الواحد وعمر بن سعيد والوليد بن محمد الموقري ومعروف بن عبد الله الخياط «3» وهارون بن عمر الدمشقي ومحمد بن إسحاق بن بلال بن أبي الدرداء وسفيان «2» بن عيينة وشعيب بن صفوان «4» ومعتمر بن سليمان وجرير بن عبد الحميد وحماد بن زيد ووكيع بن الجراح وأبا داود الطيالسي. روى عنه أبو العباس الكديمي وإسحاق بن الحسن الحربي ومحمد بن محمد الباغندي وأبو بكر ابن أبي الدنيا.
__________
[326]- ترجمة الزيادي في الفهرست: 123 ومصورة ابن عساكر 4: 468 وتهذيب ابن عساكر 4: 194 وتاريخ بغداد 7: 356 والأنساب 6: 359 وعبر الذهبي 1: 437 وسير الذهبي 11: 496 وتاريخ الطبري 3: 1117 والجرح والتعديل 3: 25 والوافي 12: 98 والبداية والنهاية 10: 244 ومرآة الجنان 2: 134 والجواهر المضية 1: 197 والشذرات 2: 100 (ويعتمد ياقوت على الفهرست والجهشياري وابن عساكر) .(2/928)
وذكر الجهشياري في «كتاب الوزراء» «1» أن رجلا من أهل خراسان أودع أبا حسان الزياديّ القاضي عشرة آلاف درهم، وأنها صادفت منه خلّة فأنفقها، وقدّر أن يأتي ما يردّ على الخراساني مكانها إلى أن ينصرف الخراساني من الحج، فحدث للخراساني أمر قطعه عن الحج، وعزم على الانصراف إلى بلده، فصار إلى أبي حسان يلتمس منه ماله، فتعلّل عليه ودافعه وتحيّر وضاقت الحيلة عليه، وعاد الخراساني مرارا فدافعه، ثم وعده في يوم بعينه، واشتد غمّه وقلقه وأجمع على بذل وجهه إلى بعض إخوانه، فلما كان في ليلة اليوم الذي وعد الرجل فيه امتنع عليه النوم من شدة قلقه، فقام في بعض الليل فقصد دينار بن عبد الله، فلما صار في بعض الطريق تلقّاه رسول لدينار يسأل عن أبي حسان، فلما سمع ذكره سأله عن سببه وتعرّف إليه، فقال له: أبو علي دينار يقرأ عليك السلام ويقول لك: قسمت شيئا على عيالنا وذكرت من في منزلك منهم فوجهت إليهم بعشرة آلاف درهم، فقبلها وحمد الله، وصار إلى منزله فسلمها إلى الخراساني، وصار إلى دينار بن عبد الله شاكرا له وعرّفه خبره، فقال له دينار: فأرانا إنما وجّهنا بمال الخراساني فعلى ماذا يعتمد العيال؟ وأمر له بعشرة آلاف درهم أخرى.
وفي سنة ثماني عشرة ومائتين كتب المأمون من الثغر إلى إسحاق بن إبراهيم المصعبي والي بغداد في امتحان القضاة والشهود والفقهاء والمحدثين بالقرآن، فمن أقرّ أنه مخلوق محدث خلّى سبيله، ومن أبي عليه أعلمه به ليأمر فيه برأيه، فأحضر إسحاق أبا حسّان الزيادي وبشر بن الوليد الكندي وعلي بن أبي مقاتل والفضل بن غانم والذيال بن هيثم وسجّادة والقواريري وأحمد بن حنبل وقتيبة وسعدويه الواسطي وعلي بن الجعد وسعد بن أبي إسرائيل وابن الهرش وابن علية الأكبر ويحيى بن عبد الرحمن الرياشي «2» ، وشيخا آخر من ولد عمر بن الخطاب كان قاضي الرقة، وأبا نصر التمار وأبا معمر القطيعي ومحمد بن حاتم بن ميمون ومحمد بن نوح المضروب(2/929)
وابن الفرّخان وجماعة منهم: النضر بن شميل وأبو علي «1» ابن عاصم وأبو العوام البزاز وابن شجاع وعبد الرحمن بن إسحاق، فأدخلوا على إسحاق فقرأ عليهم كتاب المأمون مرتين حتى فهموه، ثم كلّم رجلا رجلا منهم، فيجيب بما يغالط به أو يصرّح، حتى قال لأبي حسان الزيادي «2» ما عندك؟ وقرأ عليه كتاب المأمون، فأقرّ بما فيه، ثم قال: من لم يقل هذا القول فهو كافر، فقال له إسحاق: القرآن مخلوق هو؟ قال:
القرآن كلام الله، والله خالق كل شيء «3» ، وأمير المؤمنين إمامنا، وبسببه سمعنا عامة العلم، وقد سمع ما لم نسمع وعلم ما لم نعلم، وقد قلّده الله أمرنا، فصار يقيم حجّنا وصلاتنا، ونؤدي إليه زكوات أموالنا، ونجاهد معه ونرى إمامته، فإن أمرنا ائتمرنا وإن نهانا انتهينا، قال: القرآن مخلوق، فأعاد مقالته، قال إسحاق: فإن هذه مقالة أمير المؤمنين، قال: قد تكون مقالته ولا يأمر بها الناس، وإن أخبرتني أن أمير المؤمنين أمرك أن أقول قلت ما أمرتني به، فإنك الثقة فيما أبلغتني عنه. قال: ما أمرني أن أبلغك شيئا، قال أبو حسان: وما عندي إلا السمع والطاعة فأمرني آتمر، قال: ما أمرني أن آمرك، وإنما أمرني أن أمتحنكم، فتركه والتفت إلى أحمد بن حنبل فسأله.
قال الحافظ أبو القاسم: وليس كما يظنه الناس من ولد زياد بن أبيه، وإنما تزوج [أحد] أجداده أم ولد لزياد فقيل له الزيادي، قال ذلك أحمد بن أبي طاهر صاحب «كتاب بغداد» .(2/930)
[327]
الحسن بن علي الحرمازي أبو علي
: هو مولى بني هاشم ثم مولى آل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وإنما نزل بالبصرة في بني الحرماز فنسب إليهم، والحرماز لقب واسمه الحارث «1» بن مالك بن عمرو بن تميم بن مرّ. نشأ بالبادية ثم قدم البصرة فأقام بها.
وحدث المبرد قال: كان التوزي والحرمازي والجرمي يأخذون عن أبي عبيدة وأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري والأصمعي، وكان هؤلاء الثلاثة أكبر أصحابهم، وكان من دون هؤلاء في السن إبراهيم الزيادي والمازني والرياشي.
قال أبو الطيب اللغوي صاحب كتاب «مراتب النحويين» «2» : كان الحرمازي في ناحية عمرو بن مسعدة فخرج عمرو إلى الشام فقال الحرمازي:
أقام بأرض الشام فاختلّ جانبي ... ومطلبه بالشام غير قريب
ولا سيما من مفلس حلف نقرس ... أما نقرس في مفلس بعجيب
وحدث أبو العيناء قال: اعتلّ الحرمازي وكان له صديق من الهاشميين فلم يعده، فكتب إليه «3» :
متى تنفكّ واجبة الحقوق ... إذا كان اللقاء على الطريق
إذا ما لم يكن إلّا سلام ... فما يرجو الصديق من الصديق
مرضت فلم تعدني عمر شهر ... وليس كذاك فعل أخ شقيق
وقال الحرمازي، وكتب بها إلى محمد بن عبيد الله العتبي:
بنفسي أنت قد جاء ... ك ما عندي من كتبك
__________
[327]- ترجمة الحرمازي في الفهرست 54 ومراتب النحويين: 75 ونور القبس: 208 والوافي 12: 142 وبغية الوعاة 1: 515.(2/931)
فلا تبعد من الإفضا ... ل ما نرجوه من قربك
فما زلت أخا جود ... وإفضال على صحبك
وسل قلبك عما لك ... في قلبي من حبك
فقد أخبرني قلبي ... عما لي في قلبك
وأني لك راض بي ... وأني لي راض بك
وكان بعض الهاشميين قد وعد الحرمازي وعدا فأخّره، فكتب إليه «1» :
رأيت الناس قد صدقوا ومانوا ... ووعدك كلّه خلف ومين
وعدت فما وفيت لنا بوعد ... وموعود الكريم عليه دين
ألا يا ليتني استبقيت وجهي ... فإن بقاء وجه الحرّ زين
[328]
الحسن بن علي المدائني النحوي
: قال أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال: مات لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة تسع وسبعين وثلاثمائة، وكان إماما فاضلا تخرج به جماعة وافرة العدد.
[329]
الحسن بن علي بن عمر، ويقال عمار
، المعروف بابن المصحح، أبو محمد التيمي النحوي: سمع أبا بكر عبد الله بن محمد بن عبد الله الحنائي وأبا بكر ابن أبي الحديد وأبا نصر حديد بن جعفر الرماني. روى عنه عبد العزيز الكتاني ونجاء بن
__________
[328]- إنباه الرواة 1: 315 والوافي 12: 142 وبغية الوعاة 1: 516 وقال فيه القفطي: متحقق بهذا الشأن (أي النحو) متصدر للافادة مذكور بين أهله، كنيته أبو محمد.
[329]- مصورة ابن عساكر 4: 559 (وفيه التميمي) وتهذيب ابن عساكر 4: 232 والوافي 12: 143 وبغية الوعاة 1: 512.(2/932)
أحمد وأبو القاسم النسيب «1» ، وسئل عنه فقال: ثقة، ومات لسبع بقين من رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة، ذكر ذلك كلّه أبو القاسم علي بن الحسن بن عساكر في «تاريخ دمشق» .
[330]
الحسن بن علي بن الحسن بن عبد الله بن مقلة
: أبو عبد الله، ومقلة اسم أم لهم كان أبوها يرقّصها فيقول يا مقلة أبيها فغلب عليها، وأبو عبد الله هو أخو الوزير أبي علي محمد بن علي، وهو المعروف بجودة الخط الذي يضرب به المثل. كان الوزير أوحد الدنيا في كتبه قلم الرقاع والتوقيعات، لا ينازعه في ذلك منازع، ولا يسمو إلى مساماته ذو فضل بارع، وكان أبو عبد الله هذا أكتب من أخيه في قلم الدفاتر والنسخ، مسلما له فضيلته، غير مفاضل في كتبته. ومولد أبي عبد الله في سلخ رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين، ومات في شهر ربيع الآخر سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، ومات أبوه أبو العباس علي بن الحسن في ذي الحجة سنة تسع وثلاثمائة، وله يوم مات سبع وستون سنة وأشهر، وصلى عليه ابنه أبو علي (ولأخيه أبي علي ترجمة في بابه مفردة لما اشترطنا في ذكر أرباب الخطوط المنسوبة) «2» وكان أبو هما الملقب بمقلة أيضا كاتبا مليح الخطّ، وقد كتب في زمانهما وبعدهما جماعة من أهلهما وولدهما فلم يقاربوهما وإنما يندر للواحد منهم الحرف بعد الحرف والكلمة بعد الكلمة، وإنما كان الكمال لأبي علي وأبي عبد الله أخيه.
فممن كتب من أولادهما أبو عبد الله وأبو الحسن ابنا أبي علي وأبو أحمد سليمان بن أبي الحسن، وأبو الحسين علي بن أبي علي، وأبو الفرج العباس بن علي بن مقلة، ومات أبو الفرج هذا في سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ومات أبو
__________
[330]- الوافي 12: 143.(2/933)
الحسين علي بالفالج والسكتة في سنة ست وأربعين وثلاثمائة ومولده سنة خمس وثلاثمائة.
حدث ابن نصر قال: وجدت بخطّ أبي عبد الله ابن مقلة على ظهر جزء:
وغنتني ابنة الحفار:
إلى سامع الأصوات من أبعد المسرى ... شكوت الذي ألقاه من ألم الذكرى
فيا ليت شعري والأمانيّ ضلّة ... أيشعر بي من بتّ أرعى له الشعرى
قال ابن نصر: فقلت كفى ابنة الحفار هذا الصوت أن يذكرها، ويكتبه أبو عبد الله ابن مقلة بخطه.
وحدث ابن «1» نصر قال، حدثني أبو القاسم ابن الرقي منجم سيف الدولة قال: كنت في صحبة سيف الدولة في غداة المصيبة المعروفة «2» وكان سيف الدولة قد انكسر يومئذ كسرة قبيحة، ونجا بحشاشته بعد أن قتلت عساكره، قال: فسمعت سيف الدولة يقول وقد عاد إلى حلب: هلك مني من عرض ما كان في صحبتي خمسة آلاف ورقة بخطّ أبي عبد الله ابن مقلة، قال: فاستعظمت ذلك وسألت بعض شيوخ خدمه الخاصة عن ذلك، فقال لي: كان أبو عبد الله منقطعا إلى بني حمدان سنين كثيرة يقومون بأمره أحسن القيام، وكان ينزل في دار قوراء حسنة، وفيها فروش، يشاكلها مجلس دست، وله شيء للنسخ وحوض فيه محابر وأقلام، فيقوم ويتمشى في الدار إذا ضاق صدره، ثم يعود فيجلس في بعض تلك المجالس وينسخ ما يخفّ عليه، ثم ينهض ويطوف على جوانب البستان، ثم يجلس في مجلس آخر وينسخ أوراقا أخر على هذا، فاجتمع في خزائنهم من خطّه ما لا يحصى.
وجدت بخطّ بعض أهل الفضل عن بعضهم قال: حضرت مجلس أبي علي محمد بن علي بن مقلة في أيام وزارته، وقد عرضت عليه رقاع وتوقيعات وتسبيبات قد زوّر على خطّه أخوه أبو عبد الله وارتفق عليها، فكان ينظر فيها ويمضيها وقد عرف(2/934)
صورتها، وكان أبو عبد الله حاضرا، فلما كثرت عليه التفت إليه فقال: يا أبا عبد الله قد خفّفت عنا حتى ثقّلت، وخشينا أن نثقل عليك، فأحبّ أن تخفّف عن نفسك هذا التعب، فضحك أبو عبد الله وقال: السمع والطاعة.
وقال ثابت بن سنان: لما ولي أبو علي ابن مقلة [الوزارة قلد أخاه أبا عبد الله] ديوان الضياع الخاصّة، وديوان الضياع المستحدثة، وديوان الدار الصغيرة. وصودر أبو عبد الله في أيام القاهر على خمسين ألف دينار بعد أن حلف أنه لا يملك إلا بساتين وما ورثه من زوجته، وقيمة الجميع نحو مائة ألف درهم «1» .
[331]
الحسن بن عليل بن الحسين بن علي
بن حبيش بن سعد العنزي «2» :
واسم عليل عليّ، وعليل لقب غلب عليه، وكنيته أبو علي. لقي يحيى بن معين وأحمد بن [إبراهيم الموصلي] وأبا خيثمة [زهير بن حرب] وحدث عنهم، وكان صاحب أدب وأخبار. مات في سنة تسعين ومائتين، وكان أحد الرواة الثقات الذين لا مطعن عليهم في الصدق، وكان مقيما بسرّ من رأى وبها دفن.
فمن شعره:
كلّ المحبين قد ذمّوا السهاد وقد ... قالوا بأجمعهم طوبى لمن رقدا
وقلت يا ربّ لا أبغي الرقاد ولا ... ألهو بشيء سوى ذكري له أبدا
إن نمت نام فؤادي عن تذكرهم ... وإن سهرت شكا قلبي الذي وجدا
__________
[331]- هذه الترجمة وردت في المختصر. ولابن عليل ترجمة في إنباه الرواة 1: 317 وتاريخ بغداد 7: 398. ولكن اضطراب التصوير جعلها في 6: 398، وهذا الاضطراب يشمل عدة تراجم، وقد أفسد مصدرا مهما.(2/935)
[332]
الحسن بن علي بن إبراهيم بن يزداد
بن هرمز بن شاهويه، أبو علي الأهوازي المقرىء صاحب التصانيف المشهورة: قال ابن عساكر: قدم دمشق في ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة وسكنها، وقرأ القرآن بروايات كثيرة وأقرأه، وصنف كتابا في القرآن «1» ، وحدّث عن خلق كثير منهم: نصر بن أحمد المرجى وأبو حفص الكتاني والمعافى بن زكريا بن طرارا وروى عنه الخطيب أبو بكر ابن ثابت وغيره.
قال ابن عساكر «2» : أنبأنا أبو طاهر ابن الحنّائي، أنبأنا أبو علي الأهوازي، حدثنا أبو زرعة أحمد بن محمد بن عبد الله بن سعيد القشيري، حدثني جدّي لأبي الحسن بن سعيد، حدثنا أبو علي الحسين بن إسحاق الدقيقي، حدثنا أبو زيد حماد بن دليل عن سفيان الثوري عن قيس بن مسلم عن عبد الرحمن بن سابط عن أبي أمامة الباهلي قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إذا كانت عشية عرفة هبط الله عز وجل إلى السماء الدنيا، فيطلع إلى أهل الموقف فيقول: مرحبا بزوّاري الوافدين إلى بيتي، وعزّتي لأنزلن إليكم ولأساوينّ مجلسكم بنفسي، فينزل إلى عرفة فيعمهم بمغفرته، ويعطيهم ما يسألون إلا المظالم، ويقول: يا ملائكتي أشهدكم أني قد غفرت لهم، ولا يزال كذلك إلى أن تغيب الشمس، ويكون امامهم إلى المزدلفة، ولا يعرج إلى السماء تلك الليلة، فإذا أسفر الصبح ووقفوا عند المشعر الحرام غفر لهم حتى المظالم، ثم يعرج إلى السماء وينصرف الناس إلى منى.
__________
[332]- ترجمته في بغية الطلب 4: 278 ومصورة تاريخ ابن عساكر 4: 475 وتهذيب ابن عساكر 4: 197 وميزان الاعتدال 1: 512 (ولسان الميزان 2: 237) وسير الذهبي 18: 13 وعبر الذهبي 3: 210 وطبقات ابن الجزري 1: 220 والوافي 12: 122 والنجوم الزاهرة 5: 56 ومرآة الجنان 3: 63 والشذرات 3: 274 (ويعتمد ياقوت على تاريخ ابن عساكر) وذكر ابن العديم من كتبه: الموجز في القراءات السبعة. كتاب في القراءات العشرة. كتاب الوجيز في القراءات الثمانية، وله كتاب يطعن فيه على الأشعري ويعد كتاب تبيين كذب المفتري لابن عساكر ردا عليه.(2/936)
هذا الحديث «1» منكر وفي إسناده غير واحد من المجهولين. وللأهوازي أمثاله في كتاب جمعه في الصفات سماه «كتاب البيان في شرح عقود أهل الايمان» أودعه أحاديث منكرة كحديث: إنّ الله تعالى لما أراد أن يخلق نفسه خلق الخيل، فأجراها حتى عرقت، ثم خلق نفسه من ذلك العرق، مما لا يجوز أن يروى ولا يحلّ أن يعتقد.
وكان «2» مذهبه مذهب السالمية، يقول بالظاهر ويتمسك بالأحاديث الضعيفة التي تقوّي له رأيه. وحديث إجراء الخيل موضوع، وضعه بعض الزنادقة ليشنّع به على أصحاب الحديث في روايتهم المستحيل «3» ، فيقبله بعض من لا عقل له «4» ، وهو مما يقطع ببطلانه شرعا وعقلا.
قال الأهوازي: ولدت في سابع عشر محرم سنة اثنتين وستين وثلاثمائة، ومات في رابع ذي الحجة سنة ست وأربعين وأربعمائة.
قال ابن عساكر «5» : وسمعت أبا الحسن علي بن أحمد بن منصور يحكي عن أبيه قال: لما ظهر من الأهوازي الاكثار من الروايات في القراءات اتهم في ذلك، فسار رشأ بن نظيف وأبو القاسم ابن الضراب «6» وابن القماح إلى العراق لكشف ما وقع في نفوسهم منه، ووصلوا إلى بغداد، وقرأوا على بعض الشيوخ الذين روى عنهم الأهوازي، وجاءوا بالاجازات عنهم وبخطوطهم، فمضى الأهوازي إليهم وسألهم أن يروه تلك الخطوط التي معهم، ففعلوا ودفعوها إليه، فأخذها وغيّر أسماء من سمّى ليستر دعواه، فعادت عليه بركة القرآن فلم يفتضح. وبلغني أنهم سألوا عنه بعض المقرئين الذين ذكر أنه قرأ عليهم وحكوه له فقال: هذا الذي تذكرونه قد قرأ عليّ جزءا أو نحوه.(2/937)
قال «1» وقال حدثني أبي قال: عاتبت- أو عوتب- أبو طاهر الواسطيّ المقرىء في القراءة على الأهوازي فقال: أقرأ عليه العلم ولا أصدقه في حرف واحد.
قال: وحدثني أبو طاهر محمد بن الحسن بن علي بن المليحي «2» قال: كنت عند رشأ بن نظيف في داره على باب الجامع وله طاقة إلى الطريق، فاطلع فيها وقال:
قد عبر رجل كذّاب، فاطلعت فوجدته الأهوازي. قال، وقال ابن الاكفاني، قال لنا الكتاني: كان الأهوازي مكثرا من الحديث، وصنف الكثير في القراءات، وكان حسن التصنيف، وجمع في ذلك شيئا كثيرا، وفي أسانيد القراءات غرائب، كان يذكر في مصنفاته أنه أخذها رواية وتلاوة، وأن شيوخه أخذوها رواية وتلاوة، ولما توفي كانت له جنازة عظيمة.
[333]
الحسن بن علي بن إبراهيم الصقلي النحوي
: مات بمكة في ذي الحجة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ودفن بها. روى عن الزجاجي وأبي بكر الأنباري وغيرهما.
فمن شعره:
في سبيل الله ودّ حسن ... دام من قلبي لوجه حسن
وهوى ضيّعته في سكن ... ليس حظي منه غير الحزن
يرقد الليل ويستعذبه ... وإذا ما رمت طيب الوسن
زارني منه خيال ما له ... أرب في غير أن يوقظني
وقيل إنه مات بمكة بعد أن حج ودخل مكة، وطيف بتابوته حول البيت وذلك لاثنتي عشرة ليلة من ذي الحجة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.
__________
[333]- هذه الترجمة وردت في المختصر، وللصقلي ترجمة في مصورة ابن عساكر 4: 570، وكنيته أبو علي.(2/938)
[334]
الحسن بن علي بن بركة بن عبيدة
: أبو محمد «1» المقرىء النحوي الفرضي، من ساكني الكرخ بدرب رياح. مات في ثامن عشر شوال سنة اثنتين وثمانين وخمسمائة، وكان فاضلا قارئا نحويا لغويا فرضيا، قرأ القرآن بالروايات على الشيخ أبي محمد ابن بنت الشيخ، وبالكوفة على عمر بن إبراهيم العلوي، وقرأ النحو على أبي السعادات ابن الشجري، ولازمه حتى برع في فنه، وتصدّر مدة طويلة لإقراء القرآن والنحو واللغة والفرائض، وأنشد له العماد في «الخريدة» شعرا قاله في المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين وهو:
يا خير مستخلف عمّت نوافله ... وطبّق الأرض بعد المحل نائله
أحيت لنا سيرة المهدي سيرته ... عدلا وبذلا فما تحصى فواضله
إمام حقّ بعهد الله محتفظ ... وكلّ شيء حواه فهو باذله
خير الخلائف «2» أضحى لا ينازعه ... منهم إمام وان جلّت أوائله
كالمصطفى «3» جاء بعد الأنبياء وما ... فيهم على فضلهم خلق يعادله
وله في المستضيء أيضا:
هذه دولة تخيّرها الله ... فدامت لنا سجيس الليالي
دولة روّضت «4» رباها وجادت ... من لهاها بوابل متوالي
واستقادت صعب المقادة بالعدل ... ودانت لها قلوب الرجال
__________
[334]- الخريدة (قسم العراق) 3/1: 216- 218 وإنباه الرواة 1: 316 ومختصر ابن الدبيثي 1: 285 والوافي 12: 130 ومرآة الزمان: 390 وطبقات ابن الجزري 1: 224 وبغية الوعاة 1: 224 والنجوم الزاهرة 6: 104 (ويعتمد ياقوت على الخريدة) وقد ضبط اسمه في بعض المصادر بفتح العين.(2/939)
وأضاءت بالمستضيء بأمر الله ... لا زال ملكه في اتصال
ملك عمّ برّه كلّ برّ ... وأباح الآمال في الأموال «1»
وأغاث الأنام منه سجال ... بعد إمحالهم عقيب سجال
طبّق الأرض منه فضل وعدل «2» ... وكفاها بوائق الزلزال
جعل الله ودّكم يا بني العباس ... فرضا من أشرف الأعمال
وعليكم صلاتنا في التحيات ... توالى لأنكم خير آل «3»
يا بني عمّ أحمد طاب محيا ... كم ومن قبل طبتم في الظلال «4»
[335]
الحسن بن علي الجويني الكاتب
، أبو علي صاحب الخط المليح المنسوب: كان مقيما ببغداد ولا أدري أولد بها أم انتقل اليها، لأنه لما انتقل إلى مصر كان يعرف بها بالبغدادي، وكان يلقب فخر الكتاب. مات بمصر لعشر خلون من صفر سنة ست وثمانين وخمسمائة. سمعت جماعة من أهل الكتابة المتحققين بها يقولون: لم يكتب
__________
[335]- ترجمته في بغية الطلب 4: 275 وسير الذهبي 21: 233 وابن خلكان 2: 131 وتلخيص مجمع الآداب 4/3: 143 والوافي 12: 127 (وفيه نقل عن ابن النجار) وقال ابن خلكان: وذكره العماد الكاتب في الخريدة (قسم العراق 3/2: 58) وكان من ندماء أتابك زنكي بالشام، وأقام بعده في ظل محمود نور الدين، ثم سافر إلى مصر وتوطّن بها. ولم يورد العماد من شعره إلا أبياتا يتشوق فيها إلى القاضي الفاضل، وأورد له ابن العديم عددا من مقطعاته. وأورد المنذري ترجمته في وفيات سنة 584 ثم قال: وقيل انه توفي سنة 586 وقال الذهبي يعرف بابن اللعيبة؛ وراجع تعليق محقق سير الذهبي هنا ففيه فوائد مهمة.(2/940)
أحد بعد أبي الحسن علي بن هلال بن البواب أجود من الجويني، وكان أستاذه في الكتابة يعقوب الغزنوي، كتب عليه ببغداد إلا أنه أبرّ عليه وزاد حتى لا تناسب بين خطيهما. وكان من شيمة الجويني أنه قطّ ما كتب شيئا بخطّه كثر أو قلّ، دق أو جلّ، إلا ويكتب في آخره: كتبه الحسن بن علي الجويني. وكتب عليه جماعة من الكتاب وافتخروا بأستاذيته كابن القيسراني وغيره، وكان يتنقل في البلاد، حتى حطّ بركه بالديار المصرية، ونفق بها سوقه، وعلا على أبناء جنسه قدره، وعظم شانه وارتفع مكانه، وكان مع ذلك لا يترك هيئته وسمته، فإنه كان يتزيا زيّ أهل التصوف. وبلغ من علو قدره بالديار المصرية إلى أن ولي ولده عز الدين إبراهيم ولاية القاهرة بعد ما ولي ولاية اسكندرية مدة، وكان محمود السيرة، رأيت أهل مصر ممن شاهد ولايته يحسن الثناء عليه، وكان ملوكيّ الهمة شريف النفس، أعني عز الدين إبراهيم. وكان فخر الكتاب يقول الشعر ويتعاناه إلا أنه لم يكن فيه بذاك، ومن شعره يمدح القاضي الفاضل وهو من أجود شعره:
لولا انقطاع الوحي كان منزّلا ... في الفاضل بن عليّ البيساني
نثني عليه بمثل ما يثني على ... أفعاله المرضيّة الملكان
ومن شعره في الزهد:
كم كادت الأوطان تشغلنا ... بزخارف الدنيا عن الله
حتى تغرّ بنا فكم غيرا ... يقطعن عقل الغافل اللاهي
[336]
الحسن بن علي بن إبراهيم بن الزبير
، أبو محمد المصري، أخو الرشيد أحمد بن علي- وقد تقدم ذكره «1» -: وكان من أهل أسوان من غسان، وكان الحسن هذا
__________
[336]- ترجمته في الخريدة (قسم مصر) 1: 204 وكتاب الروضتين 1: 147 والوافي 12: 131 والفوات 1: 243 والطالع السعيد: 100 وطبقات الداودي 1: 135 وحسن المحاضرة 1: 242 والشذرات 4: 197 والمقفى 3: 346.(2/941)
يلقب بالقاضي المهذب، مات في ربيع الآخر سنة إحدى وستين وخمسمائة بمصر، وكان كاتبا مليح الخطّ، فصيحا جيد العبارة، وكان أشعر من أخيه الرشيد، وكان قد اختص بالصالح ابن رزيك وزير المصريين، وقيل إن أكثر الشعر الذي في ديوان الصالح إنما هو عمل المهذب ابن الزبير، وحصل له من الصالح مال جمّ، ولم ينفق عنده أحد مثله. وكان القاضي عبد العزيز بن الجباب «1» المعروف بالجليس هو الذي قرّظه عند الصالح حتى قدمه، فلما مات الجليس شمت به ابن الزبير، ولبس في جنازته ثيابا مذهبة، فنقص عند الناس بهذا السبب واستقبحوا فعله، ولم يعش بعد الجليس إلا شهرا واحدا.
وصنف المهذب «كتاب الأنساب» وهو كتاب كبير أكثر من عشرين مجلّدا، كل مجلد عشرون كراسا، رأيت بعضه فوجدته مع تحقّقي هذا العلم وبحثي عن كتبه غاية في معناه لا مزيد عليه يدلّ على جودة قريحة مؤلفه وكثرة اطلاعه، إلا أنه حذا فيه حذو أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري، وأوجز في بعض أخباره عن البلاذري، إلا أنه إذا ذكر رجلا ممن يقتضي الكتاب ذكره لا يتركه حتى يعرّفه بجهده مع إيراد شيء من شعره وخبره. وكان المهذب قد مضى إلى بلاد اليمن في رسالة من بعض ملوك مصر، واجتهد هناك في تحصيل كتب النسب، وجمع منها ما لم يجتمع عند أحد حتى صحّ له تأليف هذا الكتاب.
وكان أخوه الرشيد لما مضى إلى اليمن وادّعى الخلافة- كما ذكرناه في ترجمته- نمي خبره إلى المعروف بالداعي، فقبض عليه قبضا لا نعلم كيفيته وهمّ بقتله، فكتب المهذّب هذا إلى الداعي بقصيدته المشهورة يمدحه ويستعطفه حتى أطلقه، والقصيدة «2» :
يا ربع أين ترى الأحبّة يمموا ... هل أنجدوا من بعدنا أم أتهموا(2/942)
نزلوا من العين» السواد وإن نأوا «2» ... ومن الفؤاد مكان ما أنا أكتم
رحلوا وفي القلب المعنّى بعدهم ... وجد على مرّ الزمان مخيم
رحلوا وقد لاح الصباح وإنما ... تسري إذا جنّ الظلام الأنجم
وتعوّضت بالأنس روحي وحشة ... لا أوحش الله المنازل منهم
لولا هم ما قمت بين ديارهم ... حيران أستاف التراب «3» وألثم
أمنازل الأحباب أين هم و ... أين الصبر من بعد التفرّق عنهم
يا ساكني البلد الحرام وإنما ... في الصدر مع شحط المزار سكنتم
يا ليتني في النازلين عشية ... بمنى وقد جمع الرفاق الموسم
فأفوز إن غفل الرقيب بنظرة ... منكم إذا لبّى الحجيج «4» وأحرموا
إني لأذكركم إذا ما أشرقت ... شمس الضحى من نحوكم فأسلّم
لا تبعثوا لي في النسيم تحية ... إني أغار من النسيم عليكم
إني امرؤ قد بعت حظي راضيا ... من هذه الدنيا بحظّي منكم
فسلوت إلا عنكم وقنعت ... الا منكم وزهدت إلا فيكم
ورأيت كلّ العالمين بمقلة ... لو ينظر الحساد ما نظرت عموا
ما كان بعد أخي الذي فارقته ... ليبوح إلا بالشكاية لي فم
هو ذاك لم يملك علاه مالك ... كلا ولا وجدي عليه متمم «5»
أقوت مغانيه وعطّل ربعه ... ولربما هجر العرين الضيغم
ورمت به الأهوال همة ماجد ... كالسيف يمضي غربه ويصمّم
يا راحلا بالمجد عنّا والعلا ... أترى يكون لكم إلينا مقدم(2/943)
يفديك قوم كنت واسط عقدهم ... ما إن لهم مذ غبت شمل ينظم
لك في رقابهم وإن هم أنكروا ... منن كأطواق الحمام وأنعم
جهلوا فظنّوا أنّ بعدك مغنم ... لما رحلت وإنما هو مغرم
فلقد أقرّ العين أن عداك قد ... هلكوا ببغيهم وأنت مسلّم
لم يعصم الله ابن معصوم من ... الآفات واخترم اللعين الأخرم «1»
واعتضت بعدهم بأكرم معشر ... بدأوا لك الفعل الجميل وتمّموا
فلعمر مجدك إن كرمت عليهم ... إن الكريم على الكرام مكرم
أقيال بأس خير من حملوا القنا ... وملوك قحطان الذين هم هم
متواضعون ولو ترى ناديهم ... ما اسطعت من إجلالهم تتكلم
وكفاهم شرفا ومجدا باذخا «2» ... أن أصبح الداعي المتوّج منهم
هو بدر تمّ في سماء علاهم ... وبنو أبيه بنو زريع «3» أنجم
ملك حماه جنّة لعفاته ... لكنّه للحاسدين جهنم
أثني عليك بما مننت وأين من ... أوصاف مجدك يا مليكا أعظم
فاغفر لي التقصير فيه وعدّه ... مع ما تجود به عليّ وتنعم
مع أنني سيرت فيك شواردا ... كالدرّ بل أبهى لدى من يفهم
تغدو وهوج الذاريات رواكد ... وتبيت تسري والكواكب نوّم
وإذا المآثر عدّدت في مشهد ... فبذكرها يبدا المقال ويختم
وإذا تلا الراوون محكم آيها «4» ... صلّى عليك السامعون وسلّموا
وكفى برأي إمام عصرك ناقضا ... ما أحكم الأعداء فيك وأبرموا(2/944)
وأنشدني أبو طاهر إسماعيل بن عبد الرحمن الأنصاري المصري بمصر في سنة اثنتي عشرة وستمائة قال: أنشدني أبو محمد الحسن بن علي بن الزبير مطلع قصيدة:
أعلمت حين تجاور الحيّان ... أنّ القلوب مواقد النيران
وعلمت أن صدورنا قد أصبحت ... في القوم وهي مرابض الغزلان
وعيوننا عوض العيون أمدّها ... ما غادروا فيها من الغدران
ما الوجد هزّ قناتهم بل هزّها ... قلبي لما فيه من الخفقان
وتراه يكره أن يرى أظعانهم ... فكأنّما أصبحت في الاظعان
وكان لما جرى لأخيه الرشيد ما جرى من اتّصاله بالملك صلاح الدين يوسف بن أيوب عند كونه محاصرا بالاسكندرية- كما ذكرناه في بابه- قبض شاور على المهذب وحبسه، فكتب إلى شاور شعرا كثيرا ليستعطفه فلم ينجع، حتى التجأ إلى ولده الكامل أبي الفوارس شجاع بن شاور ومدحه بأشعار كثيرة، وهو في الحبس، حتى قام بأمره واستخرجه من حبسه، وضمّه إليه واصطنعه، فمن ذلك قوله من قصيدة:
يا صاحبي سجن الخزانة خلّيا ... نسيم الصبا ترسل إلى كبدي نفحا
وقولا لضوء الصبح هل أنت عائد ... إلى ناظري أم لا أرى بعدها صبحا
ولا تيأسا من رحمة الله أن أرى ... سريعا «1» بفضل الكامل العفو والصفحا
فإن تحبساني في النجوم تجبّرا ... فلن تحبسا مني له الشكر والمدحا
وكتب إليه:
وما كنت أخشى قبل سجنكما على ... دموعي أن يقطرن خوف المقاطر
وما لي من أشكو إليه أذاكما ... سوى ملك الدنيا شجاع بن شاور
ومما قاله فيه، وهو لعمري من رائق الشعر وجيّده:
إذا أحرقت في القلب موضع سكناها ... فمن ذا الذي من بعد يكرم مثواها
وإن نزفت ماء العيون بهجرها «2» ... فمن أيّ عين تأمل العيس سقياها(2/945)
وما الدمع يوم البين إلّا لآلىء ... على الرسم في رسم الديار نثرناها
وما أطلع الزهر الربيع وإنما ... رأى الدمع أجياد الغصون فحلّاها
ولمّا أبان البين سرّ صدورنا ... وأمكن فيها الأعين النّجل مرماها
عددنا دموع العين لما تحدرت ... دروعا من الصبر الجميل نزعناها
ولما وقفنا للوداع وترجمت ... لعينيّ عمّا في الضمائر عيناها
بدت صورة في هيكل فلو آننا ... ندين بأديان النصارى عبدناها
وما طربا صغنا القريض وإنما ... جلا اليوم مرآة القرائح مرآها
وليلة بتنا: في ظلام شبيبتي ... سراي، وفي ليل الذوائب مسراها
تأرّج أرواح الصّبا كلما سرى ... بأنفاس ريا آخر الليل رياها
ومهما أدرنا الكأس باتت جفونها ... من الراح تسقينا الذي قد سقيناها
[ومنها] :
ولو لم يجد يوم الندى في يمينه ... لسائله غير الشبيبة أعطاها
فيا ملك الدنيا وسائس أهلها ... سياسة من قاس «1» الأمور وقاساها
ومن كلّف الأيام ضدّ طباعها ... وعاين أهوال الخطوب فعاناها
عسى نظرة تجلو بقلبي وناظري «2» ... صداه فإني دائما أتصداها
وحدثني الشريف أبو جعفر محمد بن عبد العزيز الادريسي أن السبب في حبسه كان أنه كاتب شيركوه الملقب بأسد الدين، وهو نازل على بلبيس بعساكره في محاربة شاور، فلما رحل أسد الدين عن بلبيس وجدت الكتب في منزله، فحملت إلى شاور فحبسه وهمّ بصلبه لو لم يستنقذه ابنه الكامل.
وأنشدني المصريون للمهذب في رفّاء:
بليت برفّاء «3» لواحظ طرفه ... بنا فعلت ما ليس يفعله النّصل(2/946)
يجور على العشّاق والعدل دأبه ... ويقطعني ظلما وصنعته الوصل
ومن شعره أيضا «1» :
ولئن ترقرق دمعه يوم النوى ... في الطرف منه وما تناثر عقده
فالسيف أقطع ما يكون إذا غدا ... متحيّرا في صفحتيه فرنده
ومنه أيضا «2» :
لقد طال هذا الليل بعد فراقه ... وعهدي به قبل الفراق قصير
فكيف أرجّي الصبح بعدهم وقد ... تولّت شموس بعدهم وبدور
ومنه أيضا:
يعنّفني من لو تحقّق ما الهوى ... لكان إلى من قد هويت رسولي
بنفسي بدر لو رآه عواذلي ... على الحبّ فيه فاد كلّ عذول
ومنه أيضا «3» :
أقصر فديتك عن لومي وعن عذلي ... أو لا فخذ لي أمانا من ظبا المقل
من كلّ طرف مريض الجفن ينشدني ... «يا ربّ رام بنجد من بني ثعل»
إن كان فيه لنا وهو السقيم شفا ... «فربّما صحّت الأجسام بالعلل» «4»
وقال يرثي صديقا له وقد وقع المطر يوم موته «5» :
بنفسي من أبكى السماوات فقده ... بغيث ظنّناه نوال يمينه
فما استعبرت إلا أسى وتأسّفا ... وإلا فماذا القطر في غير حينه(2/947)
وله أيضا:
لا ترج ذا نقص ولو أصبحت ... من دونه في الرتبة الشمس
كيوان أعلى كوكب موضعا ... وهو إذا أنصفته نحس
وله أيضا:
فدع التمدح بالقديم فكم عفا ... في هذه الآكام قصر داثر
إيوان كسرى اليوم عند خرابه ... خير لعمرك منه خصّ عامر(2/948)
محتويات الجزء الثّاني
الموضوع الصفحة
[تتمة تراجم حرف الألف] 483
169- أحمد بن محمد بن الفضل الخزاز 483
170- أحمد بن محمد بن أحمد أبو علي الأصبهاني 483
171- أحمد بن محمد بن هاشم القرطبي الأعرج 483
172- أحمد بن محمد بن جعفر بن ثوابة 484
173- أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي 485
174- أحمد بن محمد الافريقي، المتيم 485
175- أحمد بن محمد، أبو سليمان الخطابي 486
176- أحمد بن محمد بن عبد الرحمن الهروي الباشاني 491
177- أحمد بن محمد بن عبد الله، العروضي الصفار 491
178- أحمد بن محمد، ابن شرام الغساني 492
179- أحمد بن محمد بن الحسن الخلال 493
180- أحمد بن محمد الملقب مسكويه 493
181- أحمد بن محمد الصخري 500
182- أحمد بن محمد السهلي الخوارزمي 504
183- أحمد بن محمد، أبو علي المرزوقي 506
184- أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي 507
185- أحمد بن محمد بن أحمد، أبو حامد الاستوائي 508
186- أحمد بن محمد بن عمار المهدوي 508(2/949)
الموضوع الصفحة
187- أحمد بن محمد، ابن برد الأصغر 509
188- أحمد بن محمد بن هارون النزلي 510
189- أحمد بن محمد العمركي 511
190- أحمد بن محمد بن أحمد بن شهردار 511
191- أحمد بن محمد، أبو الفضل الميداني 511
192- أحمد بن محمد الصلحي 514
193- أحمد بن محمد بن القاسم الأخسيكثي 514
194- أحمد بن محمد الآبي 515
195- أحمد بن محمد بن جعفر الواسطي 517
196- أحمد بن مروان المؤدب أبو مسهر 518
197- أحمد بن مطرف بن إسحاق القاضي 519
198- أحمد بن مطرف أبو الفتح العسقلاني 519
199- أحمد بن موسى بن أبي عمار الحناط 519
200- أحمد بن موسى بن العباس، ابن مجاهد 520
201- أبو أحمد النهرجوري 523
202- أحمد بن نصر بن الحسين البازيار 526
203- أحمد بن هبة الله بن العلاء المخزومي 528
204- أحمد بن الهيثم بن فراس السامي 529
205- أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري 530
206- أحمد بن يحيى بن زيد، أبو العباس ثعلب 536
207- أحمد بن يحيى بن علي المنجم 554
208- أحمد بن يحيى بن الوزير 555
209- أحمد بن يحيى بن سهل الطائي المنبجي 555
210- أحمد بن يزيد بن محمد المهلبي 556(2/950)
الموضوع الصفحة
211- أحمد بن يعقوب بن يوسف، برزويه الاصبهاني 556
212- أحمد بن يعقوب بن ناصح الاصبهاني 556
213- أحمد بن إسحاق بن جعفر، ابن واضح اليعقوبي 557
214- أحمد بن يوسف بن إبراهيم، ابن الداية 557
215- أحمد بن يوسف بن القاسم الكاتب 560
216- أخثاء 570
217- أسامة بن سفيان السجزي 571
218- أسامة بن مرشد ابن منقذ 571
219- إسحاق بن إبراهيم الموصلي 594
220- إسحاق بن إبراهيم البربري 616
221- إسحاق بن إبراهيم الفارابي اللغوي 618
222- إسحاق بن أحمد بن شيث البخاري 620
223- إسحاق بن بشر بن محمد، أبو حذيفة البخاري 622
224- إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني 623
225- إسحاق بن عمار، ابن الجصاص 623
226- إسحاق بن براء، أبو عمرو الشيباني 625
227- إسحاق بن نصير الكاتب البغدادي 628
228- إسحاق بن يحيى بن سريج الكاتب 629
229- إسحاق بن موهوب بن الخضر الجواليقي 630
230- أسعد بن عصمة، أبو البيداء الرياحي 630
231- أسعد بن علي بن أحمد الزوزني، البارع 630
232- أسعد بن مسعود بن علي العتبي 633
233- أسعد بن المهذب، ابن مماتي 635 233 ب- أسعد بن علي النحوي 645(2/951)
الموضوع الصفحة
234- أسلم بن سهل الرزاز، بحشل الواسطي 646
235- اسماعيل بن أحمد بن عبد الله الحبري 646
236- اسماعيل بن اسحاق، ابن حماد الأزدي 647
237- إسماعيل بن الحسن بن علي الغازي، شمس الأئمة 651
238- إسماعيل بن الحسين بن محمد العلوي النسابة 652
239- إسماعيل الضرير النحوي أبو علي 655
240- إسماعيل بن حماد الجوهري، صاحب الصحاح 656
241- إسماعيل بن خلف الصقلي أبو طاهر 662
242- إسماعيل بن عباد، الصاحب ابن عباد 662
243- إسماعيل بن عبد الله، أبو العباس الميكالي 721
244- إسماعيل بن عبد الرحمن، السدي الكبير 724
245- إسماعيل بن عبد الرحمن بن أحمد الصابوني 726
246- إسماعيل بن علي بن إسماعيل الخطبي 727
247- إسماعيل بن علي الحظيري 728
248- إسماعيل بن عيسى العطار 729
249- إسماعيل بن القاسم، أبو علي القالي 729
250- إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الصفار 732
251- إسماعيل بن محمد بن أحمد الوثابي 733
252- إسماعيل بن محمد بن عبدوس الدهان 734
253- إسماعيل بن محمد القمي 735
254- إسماعيل بن محمد بن عامر، أبو الوليد ابن حبيب 735
255- إسماعيل بن مجمع الأخباري 736
256- إسماعيل بن موهوب بن أحمد الجواليقي 736
257- إسماعيل بن يحيى بن المبارك اليزيدي 737(2/952)
الموضوع الصفحة
258- الأغر أبو الحسن 739
259- أمان بن الصمصامة بن الطرماح 739
260- أمية بن عبد العزيز بن أبي الصلت 740
[تراجم حرف الباء] 744
261- بزرج بن محمد العروضي 744
262- بشر بن يحيى بن علي القيني النصيبي 746
263- بقي بن مخلد الأندلسي 746
264- بكر بن حبيب السهمي 750
265- أبو بكر ابن عياش الحناط الكوفي 751
266- بكر بن محمد، أبو عثمان المازني 757
267- بندار بن عبد الحميد الكرخي، ابن لره 765
268- بهزاد بن يوسف بن يعقوب النجيرمي 768
[تراجم حرف التاء] 769
269- تمام بن غالب، ابن التياني المرسي 769
270- توفيق بن محمد بن الحسين الأطرابلسي 770
[تراجم حرف الثاء] 771
271- ثابت بن الحسين بن شراعة التميمي 771
272- ثابت بن أبي ثابت علي الكوفي 771
273- ثابت بن أبي ثابت عبد العزيز اللغوي 772
274- ثابت بن عمرو بن حبيب 772
275- ثابت بن سنان الصابىء 772
276- ثابت بن محمد الجرجاني 773
277- أبو ثروان العكلي 775(2/953)
الموضوع الصفحة
[تراجم حرف الجيم] 776
278- جبر بن علي بن عيسى الزهيري 776
279- جعفر بن أحمد المروزي 776
280- جعفر بن أحمد بن عبد الملك الاشبيلي 777
281- جعفر بن أحمد بن الحسين، ابن السراج 777
282- جعفر بن إسماعيل بن القاسم القالي 781
283- جعفر بن الفضل ابن الفرات، ابن حنزابة 781
284- جعفر بن قدامة بن زياد الكاتب 788
285- جعفر بن محمد بن أحمد بن حدار 790
286- جعفر بن محمد بن الأزهر الأخباري 792
287- جعفر بن محمد بن خالد بن ثوابة 792
288- جعفر بن محمد بن حمدان الموصلي 793
289- جعفر بن موسى، أبو الفضل ابن الحداد 798
290- جعفر بن هارون بن إبراهيم الدينوري 798
291- جلد بن جمل الراوية 799
292- جناد بن واصل الكوفي 799
293- جنادة بن محمد بن الحسين الهروي 800
294- جهم بن خلف المازني 801
295- جودي بن عثمان الموروري 802
[تراجم حرف الحاء] 803
296- الحارث بن أبي العلاء، أخو أبي عمرو 803
297- حبشي بن محمد الشيباني 803
298- حبيش بن عبد الرحمن، أبو قلابة الجرمي 804
299- حبيش بن موسى الصيني 805(2/954)
الموضوع الصفحة
300- حسان بن مالك بن أبي عبدة 806
301- الحسن بن إبراهيم بن زولاق 807
302- الحسن بن أحمد بن يعقوب، الهمداني 809
303- الحسن بن أحمد بن يعقوب (ترجمة ثانية) 810
304- الحسن بن أحمد، أبو علي الفارسي 811
305- الحسن بن أحمد، الأسود الغندجاني 821
306- الحسن بن أحمد بن عبد الله بن البناء 823
307- الحسن بن أحمد الاستراباذي 825
308- الحسن بن أحمد بن الحسن الهمذاني 825
309- الحسن بن إسحاق بن أبي عباد اليمني 840
310- الحسن بن أسد بن الحسن الفارقي 841
311- الحسن بن بشر بن يحيى الآمدي 847
312- أبو الحسن البوراني 854
313- الحسن بن الحسين، أبو سعيد السكري 854
314- الحسن بن الخطير، الظهير الفارسي 857
315- الحسن بن داود الرقي 860
316- الحسن بن داود بن الحسين القرشي النقاد 860
317- الحسن بن رشيق القيرواني 861
318- الحسن بن شهاب بن الحسن العكبري 866
319- الحسن بن صافي، ملك النحاة 866
320- الحسن بن عبد الله، لغدة الأصبهاني 873
321- الحسن بن عبد الله، أبو سعيد السيرافي 876
322- الحسن بن عبد الله، أبو أحمد العسكري 911
323- الحسن بن عبد الله، أبو هلال العسكري 918(2/955)
الموضوع الصفحة
324- الحسن بن عبد الله العثماني 922
325- الحسن بن عبد الرحمن بن خلاد الرامهرمزي 923
326- الحسن بن عثمان بن حماد الزيادي 928
327- الحسن بن علي الحرمازي 931
328- الحسن بن علي المدائني 932
329- الحسن بن علي بن عمر، ابن المصحح 932
330- الحسن بن علي بن الحسن، ابن مقلة 933
331- الحسن بن عليل بن الحسين العنزي 935
332- الحسن بن علي بن إبراهيم الأهوازي 936
333- الحسن بن علي بن إبراهيم الصقلي 938
334- الحسن بن علي بن بركة بن عبيدة 939
335- الحسن بن علي الجويني الكاتب 940
336- الحسن بن علي، ابن الزبير الاسواني 941(2/956)
[الجزء الثالث]
[تتمة حرف الحاء]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
- 337-
الحسن بن علي بن أبي سالم المعمر بن عبد الملك بن ناهوج الاسكافي
الأصل البغدادي المولد والدار، أبو البدر ابن أبي منصور: من أهل باب الأزج، أحد الكتاب المتصرفين في خدمة الديوان الامامي هو وأبوه، وكان فيه فضل وأدب بارع وعربية وتصرف في فنونها، ويكتب خطا على طريقة أبي علي ابن مقلة قلّ نظيره فيه، وله خصائص، ولقي المشايخ، وصنف عدّة تصانيف في الأدب حسنة، وتنقّل في الولايات إلى أن رتّب مشرفا بالديوان العزيز في سادس شهر رمضان سنة ست وثمانين وخمسمائة، فكان على ذلك إلى أن عزل في سابع ذي الحجة سنة ثمان وثمانين.
وكان صحب أبا محمد ابن الخشاب النحوي، وقرأ عليه وبحث معه وعلّق عنه تعاليق وقفت على بعضها فوجدتها منبئة عن يد باسطة في هذا الفن من العلم، ورأيت بخطه في حلب تعاليق وكتبا واختيارات ونظما ونثرا تدلّ على قريحة سالمة، ونفس عالمة، تقلل النظير، وتؤذن بالعلم الغزير، ومما بلغني من شعره:
وعلى الكثيب مخمّر من تيهه ... كالبدر من حسن وليس بآفل
حجبوه بالبيض القواصل مادروا ... من حسنه وسيوفهم كالقاصل
رشأ كأنّ لحاظه مطرورة ... قذفت بها غرضا حنيّة نابل
__________
[337]- ترجمته في مختصر ابن الدبيثي 2: 19 والوافي 12: 139 وبغية الوعاة 1: 514 وقال الصفدي:
«وطوّل ياقوت ترجمته إلى الغاية وأورد من رسائله إلى القاضي الفاضل جملة» وهذا القول قد يشير إلى أن الصفدي اطلع على نسخة اختلطت فيها ترجمة الاسكافي بترجمة القطان بعده. وقد فصلت بينهما، ولكني أقدر أن هذا الاختلاط كان السبب في السقوط رسائل أخرى في ترجمة الاسكافي.(3/957)
وكأنّ سحر بلاغة في لفظه ... أخذ تعقّدها نوافث بابل
وكان خرج من بغداد حاجّا في سنة تسع وثمانين وخمسمائة أو نحوها فجاور بمكة، ثم صار منها إلى الشام وأقام بحلب مدة، ثم انتقل إلى مصر فسكنها إلى أن مات بها في ثامن عشر رمضان سنة ست وتسعين وخمسمائة عن سبع وستين سنة، ودفن بالقرافة، حدث بذلك ابنه أبو منصور علي.
وقرأت بخط ابن أبي سالم الذي لا أرتاب به ما صورته: نسخة كتاب كتبته إلى القاضي الفاضل عند قدومي من الحجاز إلى مصر في جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة: لو كانت المودات- أطال الله بقاء المجلس السامي في نعمة خصيبة المرتع، وعيشة عذبة المنبع، وأدام علاه في سعادة لا تتطرق إلى ضافي بردها السابغ حوادث الأقدار، ولا يتطرّق صافي وردها السائغ بحوادث الأكدار، وحرس مواهبه لديه ما لزم السكون أول المشدّدين، ولا زالت ثاوية بجنابه حتى يلتقي المخفّفان من كلمتين، ولا فتئت منح التوفيق مصاحبة له ما اشتبه الذاتي بالعرض اللازم، وذم المفرط أمره وأحمده الحازم- لا تقرع أبوابها، ولا يتدرع زينة لبوسها وأثوابها إلا عن معرفة في المشاهد سابقة، أو ماتّة قائدة أو ذريعة سائقة ... [1]
التعاضد والتضافر.... [1] سابق للصفة، وإنما للنفوس سرائر أهواء تحنّ إلى التداني وإن تباعدت الشعوب وتنازحت الديار، كما لتباينها أسباب تتنافر من أجلها وإن تقاربت الأنساب وتناوحت المقارّ، والفضائل الفاضلية القريرة، والمناقب الشهيرة، التي قد سار ذكرها في الآفاق سير القمر، وعطل مزيتها مرويّ السير، وتليت محاسنها كما تتلى السور، وصار الفوز بمناسمة ريّاها من أفضل ما أسفر عنه سفر، ولو عاينها الصّدر الأول لمدح في دراستها السهر، وما جدب السمر، فلا غرو أن تحنّ النفوس إلى محلّ كمالها، ومأوى توافر أضدادها التي انفرد بجمالها، ومثوى مواهبها التي هبطت اليه من المحلّ الأرفع لما سمّي لها وسما لها، ومن هو أمينها المصدق لظنونها ويمينها إذا كان غيره يمينها وشمالها، وقد زادها إفراط حبّ التبيان، فلله درّ ذلك
__________
[1] بياض في م.(3/958)
البيان، فلكم استفاءت حجته إلى أمر الله من الطوائف والفرق، وكم فضّ كتابه من كتائب الضلال وفرق.
ثم ذكر وصف بلاغته بما أطال فيه ووصف البحر الذي ركبه حتى خلص إلى مصر ثم قال: وقد أرسل هذه الخدمة مستخرجة للإذن في الحضور والتشرف بميمون اللقاء، وإن زاحم به أوقات الطاعات ومواقيت الأذكار، وشغل على اختصاره عن شيء من المهام والأوطار، فللمتوكل لنفسه أن يدّعي أنّ في ذلك ضربا من ضروب البرّ، فإنه قد أصبح ولله الحمد في هذا الطرف لقاطنيه وطارقيه كالأب البرّ. والمنشود من الأريحية الكريمة إكرام مثوى خدمته وتلقّيها بما يزيل عنها انقباض الغريب ووحشته، وحيرة القادم ودهشته، فعنده حياء طبيعيّ لعلة متجاوزة للقدر المحدود.
غذيت به طفلا فإن رمت غيره ... عصاني وأغرتني به ألفة المهد
وكتب إليه بعد الحضور عنده رقعة منها: وحضر الشيخ النفيس وصحبته ما قابل كريم الاهتمام الذي صدر عنه من الأدعية والأثنية بما لا يزال يواليه ويرفعه ويهديه، ولقد أخجله أن يرى نفسه في صورة مثقّل، أو يرى بعين غير موحّد في دين هواه متنقّل. ومقترحه أن يخصّ من حسن الرأي العالي بشعار يبهج ولا ينهج، ويشرع له سبيلا في الفخر وينهج، وأن يشير بأسطر بالخط الكريم تفوق المال، وتبقي الجمال، فأبقى السمات ما خطّته يمينه، وأثبت الصفات ما دلّ عليه تزيينه، وأزكى الشهادات ما تطوّع به كرمه، وأعطر رياض الحمد ما أنبته ديمه. وقد حصل الخادم بين نزاع يحضّه على حضور الخدمة وينشطه، وخوف إبرام يقبضه ويثبّطه؛ وقد ترجم عن حاله هذه بأبيات الشاعر أبي عبد الله وهي:
حالة قد حصلت أخبط [1] منها ... حول دار الأستاذ في عشواء
إن تأخّرت أو تقدّمت فيها ... ساء ظنّي في الموضعين برائي
لست أدري من الضلال أقدّا ... مي خير في ذاك أم من ورائي
أوثر الخدمة التي تثبت [2] اسمي ... عندكم في جريدة الأولياء
ثم أخشى من أن [3] أعدّ إذا ... جئت من المبرمين والثقلاء
__________
[1] م: للخوف.
[2] م: توثر.
[3] م: أني.(3/959)
قد تحيرت فاجعلوا أنتم اسمي ... حيث شئتم من هذه الأسماء
ومن خطه: ومن عبث الخاطر وهوسه أبيات تشوقت فيها الحجاز بعد مجاورتي بالحرم الشريف بمكة، قدسها الله سنة اثنتين أو ثلاث وسبعين:
خليليّ هل تشفي من الوجد وقفة ... بخيف منى والسامرون هجوع
وهل للييلات [1] المحصّب عودة ... وعيش مضى بالمأزمين رجوع
وهل سرحة بالسفح من أيمن الصفا ... رعت من عهودي ما أضاع مضيع
وهل قوّضت خيم على أبرق الحمى ... وما ذاك من غدر الزمان بديع
وهل تردن ماء بشعب ابن عامر ... حوائم لو يقضى لهنّ شروع
وما ذاك إلا عارض من طماعة ... له بقلوب العاشقين ولوع
وإني متى أعص التجلّد والأسى ... فللشوق مني والغرام مطيع
فيا جيرتي إذ للزمان نضارة ... وعودي نضار والخيام جميع
بنعمان والأيام فينا حميدة ... ووادي الهوى للنازلين مريع
وما أزمع الحيّ اليمانون نيّة ... ولا ريع بالبين المشتّ مروع
كفى حزنا أني أبيت وبيننا ... من البيد ممتدّ [2] الفجاج وسيع
أعالج نفسا قد تولّى بها الأسى ... وطرفا يجفّ المزن وهو هموع
ومن خطّه أيضا: بيتان صدرت بهما كتابا في هذه الرقعة إلى بعض الإخوان بمكة حرسها الله تعالى:
ألا قل لجيران الصفا ليت ... داعي التفرق أعمى يوم راح مناديا
لعمري لقد ودّعت يوم وداعكم ... بشعب المنقّى شعبة من فؤاديا
ومن خطّه رسالة كتبها إلى الفاضل أيضا يسأله شيئا من رسائله، قال في آخرها:
فصار مثل هذه العوارف التي أقتصر في ذكرها على الإيماء وقوفا مع مجد سيدنا- أطال
__________
[1] م: لليلات.
[2] الوافي: معروض؛ م: معد.(3/960)
الله بقاءه مبسوط اليد في عباد الله بالفرض، مقرضا له عناء همه فيهم أحسن القرض، منجزا لهم ما وعد: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ
(الرعد: 17) - عند الخادم، ومثله كالبيت من القريض قبل القافية، والمريض الذي مطلته الأيام بالعافية، فلا يكمل ذلك ولا يروق، ولا يتطرّب به المشوق، ولا يترنّم به الكئيب، ولا يتسلّى به الغريب، دون تمامه، وتكافي أجزاء نظامه، وعبقه بمسك ختامه، ولا يحسّ هذا بلذة على الحقيقة، وإن شرفت، حتى تجد روحه روح الشفاء فيدرك مزيتها بطرق الصحة ومروءتها بحاسة سمعها، وتساعفه الأقدار بتكميلها لك وجمعها:
وما أسفي إلّا عليها فإنني ... بقرطاسها لا بالدنانير أكلف
فجد لي بما أهواه منها فإنني ... سألحف في استيهابها وأكلّف
وما هذه الأهواء إلا غرائز ... قبيح لدى نقادها المتكلف
وإن كان الخادم عن حال من شرّف بهذا من أفناء الناس، ولم يكمل بعدته الاستئناس، فليس له أن يكون معترضا، ولا أن يتلقى ذلك بغير التسليم والرضى، فإن الخدمة السامية هي التي تبين لديها الأقدار، وبأفعالها تترتب المنازل وتتفاوت الأخطار.
- 338-
الحسن بن علي بن محمد بن إبراهيم بن أحمد القطان،
أبو علي المروزي:
أصله من بخارى، وولد بمرو سنة خمس وستين وأربعمائة. ومات مقتولا، قتله الغز لما وردوا خراسان وتغلّبوا على مرو، فقبضوا عليه في من قبضوا، فجعل يشتمهم وجعلوا يحثون التراب في فمه، حتى مات سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.
__________
[338]- سقط أول هذه الترجمة من ياقوت، واختلطت بترجمة الاسكافي السابقة ونبّه على ذلك الدكتور مصطفى جواد رحمه الله (ص: 19) فاعدت صدر الترجمة اعتمادا على المختصر والصفدي (الوافي 12: 140- 141) وبغية الوعاة 1: 513 وانظر ترجمة أخرى له في تاريخ الحكماء للبيهقي: 156 (ط. دمشق) وقال البيهقي: إن له رسائل في الطبّ، واكثر معالجاته يؤول إلى تقليل الطعام وتلطيفه، وربما ينهى المريض عن الدواء الغذائي فضلا عن الغذاء، وأورد له أقوالا حكيمة.(3/961)
وكان شيخا فاضلا، كبيرا محترما، قد أخذ بأطراف العلوم على اختلافها، وغلب عليه اسم الطّبّ، وله في كل نوع تصنيف مأثور. وكان له دكان برأس المربّعة يقعد فيه للتطبب يؤذي الناس ويشتمهم إذا سئل عن شيء من المداواة. وكان ينظر في الخزانة التي عملت يرسم الكتب في المدرسة الخاتونيّة وهي يومئذ معمورة بالكتب ينتابها الفضلاء ويلتذ بها العلماء، حتى أغار خوارزمشاه على مرو وفي صحبته الرشيد الوطواط كاتبه فدخلها وانتخب من محاسن كتبها ونقلها الى خوارزم وتركها صفرا.
وكان القطان قد وقف فيها من كتب نفسه الكثير، فبين القطان والوطواط في ذلك رسائل معروفة وأجوبة مشهورة يدعي القطان عليه أنه انتهب كتبه وأغار على ثمرة عمره وما جمعه في سالف أيامه، والرشيد يتبرأ من ذلك ويحلف له أنه ما فعل.
وكنت عند كوني بمرو عرض عليّ شيخنا فخر الدين أبو المظفر عبد الرحيم بن تاج الاسلام أبي سعد السمعاني- تغمدهما الله برحمته- جزءا يشتمل على رسائل للحسن القطان إلى الرشيد الوطواط، محشوة بالسبّ له والثلب تصريحا لا تعريضا، ويلزمه الحجة في أنه نهب كتبه وسلبه نتيجة عمره، ويستحسب الله عليه، وضاق نطاق الزمان من تحصيلها وكتبها، وقلت:
وكم منية خلّفت خلفي وبغية ... ومن حاج نفس حال من دونها الترك
إذا ذكرتها النفس حنّت وأرزمت ... وودّت لفرط الوجد أدركها الفتك
سلام على تلك الديار وقدّست ... نفوس بمثواها ثوى العلم والنسك
وبقيت نفسي إليها متطلعة، وإلى مكنونها ملتفتة، فظفرت برسائل الرشيد محمد بن محمد بن عبد الجليل العمري البلخي المعروف بالوطواط متضمنة الأجوبة عنها يدلّ آخرها على إضراب الحسن القطّان عن تهمته والإذعان بابراء ساحته.
نسخة الرسالة الأولى [1] : بسم الله الرّحمن الرّحيم، قرع سمعي من أفواه الواردين وألسنة الطارئين على خوارزم أنّ سيدنا- أدام الله فضله- كلّما تفرّغ من مهمّات نفسه، ووظائف درسه، يقبل بمجامعه على أكل لحمي، والإطناب في سبّي
__________
[1] راجع رسائل الوطواط 2: 18 (ط. مصر 1315) .(3/962)
وشتمي، وينسبني إلى الإغارة على كتبه، ويبالغ في هتك أستار الكرم وحجبه. أهذا يليق بالفضل والمروّة؟ أو يجمل بالكرم والفتوة أن يفتري على أخيه المسلم، بمثل هذا الكذب المقلق والبهتان المؤلم؟ والله إذا نفخ في الصور يوم النشور، وبعثت هذه الرمم البالية، من الأجداث متدرعة ملابس الحياة الثانية، وجمعت عباد الله في مواقف العرصات، وتطايرت صحائف الأعمال إلى أربابها، وسئلت كلّ نفس عما كسبت، فمن مسيء يسحب على وجهه إلى النار، ومن محسن يحمل على أعطاف الملائكة إلى الجنة، لم يتعلق في ذلك المقام الهائل أحد بذيلي طالبا مني ملكا غصبته، ولا مالا نهبته، أو دما سفكته، أو سترا هتكته، أو شخصا قتلته، أو حقا أبطلته. وها أنا ذا قد آتاني الله من الوجه الحلال قريبا من ألف مجلد من الكتب النفيسة، والدفاتر الفائقة والنسخ الشريفة، وقد وقفت الكلّ [1] على خزائن الكتب المبنية في بلاد الاسلام- عمرها الله- لينتفع المسلمون بها، ومن كانت عقيدته هكذا كيف يستجيز من نفسه أن يغير على كتب إمام من شيوخ العلم، أنفق جميع عمره حتى حصّل أوراقا [2] يسيرة لو بيعت في الأسواق لما أحضر بثمنها مائدة لئيم؟! الله الله لا يفترينّ سيدنا- أدام الله فضله- فافتراء الكذب على مثلي ذنب [3] يتعثر في أذياله يوم القيامة، وليخافنّ الله [4] الذي لا إله إلا هو، وليتذكرن يوما يثاب الصادق فيه على صدقه، ويعاقب الكاذب على كذبه، والسلام.
فورد على الرشيد جواب عن هذه الرسالة يكون في نحو كراستين يغلظ له في القول، ويصرّح فيه بالسبّ والتهمة، فكتب إليه الرشيد [5] : بسم الله الرحمن الرحيم، ورد كتاب سيدنا- أطال الله بقاءه في دولة مفترّة المباسم، ونعمة متجددة المراسم- مشتملا من الإيذاء والإيحاش، والإبذاء والإفحاش [6] ، على كلمات، بل
__________
[1] الرسائل: وأنا وقفت الكلّ؛ م: ووقفت كلها.
[2] الرسائل: أو يراقا.
[3] الرسائل: والله لا إله إلا هو ليقترفن ... بافتراء الكذب ... ذنبا.
[4] ر: وليخش من الله.
[5] الرسائل 2: 19.
[6] الرسائل: مشتملا من الإيذاء والافحاش.(3/963)
على ظلمات، لو أطفأ أدام الله علوّه بعض لهبه، وسكّن نائرة غضبه، ثم عاد إليه متصفحا لألفاظه ومعانيه، متفحّصا عن مقاطعه ومبانيه، لما ارتضى ذلك من دينه وعقله، ولما استحسنه من كرمه وفضله. إلا أني أعذره فيما قال، قصر كلامه أو طال، لعلمي أنه أدام الله علوّه مسلوب مغلوب، جريح أسنّة القهر، طريح صدمات الدهر، عضّته أنياب النوائب، وخدشته أظفار المصائب. نهبت كتبه وأمواله، وغصبت رحاله وأثقاله، وطالب الثأر يقصد كلّ راجل وفارس، وصاحب الضالّة يتّهم كل قائم وجالس. ولقد علم سيدنا- أدام الله علوه- أن وقعة مرو عمرها الله كانت واقعة عامّة شملت كلّ جبهة وحافر، وطبقت كلّ صائح وصافر، وكان قد لحقت في ذلك الوقت بعسكر خوارزمشاه من طبقات الناس أوزاع وأخياف، ومن حشرات [1] الأرض أنواع وأصناف، قصارى همّهم القتل والإغارة، ومنتهى أربهم الإحراق والإبارة، وأوباش مرو أيضا كانوا يخرجون من مكامنهم في الليالي، ويتعرضون لبيوت السادات والموالي، فليس بمستبعد أن يكون قد ظفر بكتبه من أولئك الأقوام أحد لا يعرف شانه، ولا يعلم مكانه. أما أنا فالله تعالى يعلم- وقد خاب من استشهده باطلا- أني ما فتحت للإغارة بابا، ولا نهبت كتابا [2] ، بل ذهبت يوما على مقتضى إشارته الكريمة لأحمل كتبه إلى المعسكر [3] ، فلما دخلت داره الرفيعة، ورأيت كتبا كثيرة فوق ما يحيط به عدّ، أو يشتمل عليه حدّ، فقلت: نقل هذه أمر مشكل، وحمل هذه خطب معضل، فتركتها بحالتها [4] في أماكنها، وخليتها برمتها في معادنها، وخرجت كما دخلت خالي الحقائب، فارغ الزكائب. فإن كنت غصبت [5] يوم وقعة مرو أو قبلها أو بعدها من كتبه- أدام الله علوه- كتابا أو جزءا أو دفترا [6] ، أو من سائر أمواله شيئا صغر أو جل، كثر أو قلّ، أو رضيت أن يغصبه أحد من أتباعي والمنتمين إليّ، أو عرفت غاصبا غصبه، أو ناهبا نهبه، فأخفيت ذلك عنه، أو كتمته منه، فأنا بريء من الله وهو بريء مني، وإن كنت فعلت بنفسي شيئا مما ذكرت، أو رضيت أن يفعله أحد من
__________
[1] المختصر: ومن خرّاب.
[2] م ر: بابه ... كتابه.
[3] الرسائل: العسكر.
[4] ر: بحالها.
[5] ر: أصبت.
[6] ر: رقا.(3/964)
المتعلقين بي، أو عرفت فاعلا فعله، فعليّ لله أن أحجّ بيته المعظم المكرم راجلا حافيا وعلى عاتقي الزاد والمزادة عشر مرات، وإن كنت فعلت شيئا من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي أو عرفت فاعلا فعله، فكلّ مال ملكته يميني فهو في سبيل الله على مساكين الحرمين، وإن كنت فعلت شيئا من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي، أو عرفت فاعلا فعله، فكلّ عبد ملكته أو أملكه فهو حرّ، وإن كنت فعلت شيئا من ذلك، أو رضيت أن يفعله أحد من المتعلقين بي، أو عرفت فاعلا فعله، فكلّ امرأة تزوّجتها أو أتزوّجها فهي طالق مني ثلاث تطليقات [1] ؛ هذه الأيمان والنذور كتبتها ببناني، وأجريتها على لساني، لا خوفا من غوائله، ولا هربا من حبائله، فإن الصلح آمن أهله، والإسلام جبّ ما قبله، ولكن إظهارا لخلوّ راحتي، وبراءة ساحتي، وشفقة عليه- أدام الله علوّه- وصيانة لفاضل مثله [وهو] الذي لا مثيل له في أقطار الشرق والغرب وأقاصي البر والبحر، أن يسلك طريقة غير مستصوبة، ويختار شريعة غير مستعذبة. عصمنا الله وإياه مما يورث ذمّا، ويعقب إثما. وقد بعثت في قران هذه الخدمة خدمة أخرى مفرطة في الطول، مجررة الذيول [2] ، منسوجة على منوال آخر كالكي للداء إذا استحكمت شدته، وتطاولت مدته، وعجز الأساة عن معالجته، والأطبّاء عن مداواته، وهديته- أدام الله علوه- فيها النّجدين، وأريته الطريقين، ودفعت عنان الاختيار إليه، ووضعت زمام الإيثار في يديه، ليسلك منهما ما يشاء، إما ما يسرّ [به] وإما ما يساء، وفقه الله للأصوب والأصلح، وأسعده بالأرشد والأنجح، وجعله من الصالحين المصلحين، والفائزين المفلحين، والسلام.
وكتب إليه مع الكتاب المتقدم ذكره [3] : بسم الله الرحمن الرحيم، صادفني- أطال الله بقاءك في دولة مشرقة الكواكب، ونعمة هاطلة السحائب، وسلامة طيبة المشارع والمشارب- خطابه الكريم وكتابه الشريف بخوارزم وأنا ناعم البال، منتظم
__________
[1] م ر: طلقات.
[2] م: الذيل.
[3] رسائل الوطواط: 21.(3/965)
الحال، من النفس في دعة، ومن العيش في سعة، والحمد لله على ذلك وبه الثقة والحول، وله المنّة والطول، وحين تنسمت من يد حامله رياه، وثبت من مكاني مستقبلا إياه، ومددت إليه يميني مدّ معزّ مكرم، وأخذته بطرف كمي أخذ مجلّ معظم، وقلت في نفسي: كرامة ساقها الله تعالى إليّ، وسعادة ألقت أنوارها عليّ، وأرسلت في الحال قاصدا إلى دارات [1] الأشراف وسروات الأطراف، وبعثت في الساعة مسرعا إلى رجالات الأخبية والأبنية، وساكنة الأباطح والأودية، ودعوت من كلّ حلة رئيسها وزعيمها، ومن كل خطّة كبيرها وعظيمها، حتى اجتمع عندي البدويّ والحضري، واحتشد في ربعي الربعي والمضري، ثم عرضت عليهم كتابا شريفا [2] بختمه، وحنيت ظهري لتقبيله ولثمه، وطلبت خطيبا مصقعا من بلغاء بني معدّ صحيح اللسان، فصيح البيان، ووضعت له في منزلي منبرا من الساج، مغشّى بالأطلس [3] والديباج، ليصعد به ذرى الأعواد، ويقرأه على رؤوس الأشهاد، فرفع الكلّ أبصارهم [4] يمنة ويسرة، وسألوني خفية وجهرة، ما هذا الذي تظهره لنا وتعرضه، وتوجب علينا سماعه وتفرضه؟ فقلت: كتاب إمام [5] لم تلمح عين الزمان بمثله، ولم تسمح يد الليالي [6] بشكله، كتاب إمام هو في العلم صاحب آيات، وفي الفضل سابق غايات، إمام تطلع نجوم الجوّ دون قدره، وتحسد رياض الخلد أطايب صدره، كتاب إمام تمّ به حساب العلماء، كما تمّ برسول الله صلى الله عليه وسلم حساب الأنبياء، صحيفة فخر حررتها يد بيضاء، وقلادة مجد رصّعتها همة روعاء. ونشرت من معالي سيدنا- أدام الله علوه- ومفاخره، وذكرت من مناقبه ومآثره، ما امتلأ بنشره النادي، وسال من ذكره الوادي، فسكنوا وسكتوا، وأنصفوا وأنصتوا، فلما فضضت ختامه، وحدرت لثامه، شاهدت في أثنائه من الفزع الأكبر، وعاينت في أدراجه من أهوال يوم المحشر، ما أطال السهاد، وأطار الرقاد، وشقّ جلباب الصبر ومريطاء الجلد، وجرح سواد العين وسويداء الخلد، حسبته حلّة خسروانية، فوجدته حربة هندوانية. كتاب لا
__________
[1] م: دروات.
[2] ر: كتابه الشريف.
[3] م: مغشيا بالدرر.
[4] م: أصواتهم.
[5] إمام: سقطت من م.
[6] م ر: الزمان.(3/966)
بل كتائب تفلّ كلّ جيش، وخطاب لا بل خطوب تكدّر كلّ عيش، وكلام لا بل في الأضالع كلام، وفصول لا بل في الجوانح نصول، وأسجاع مؤنقة، لا بل أوجاع موبقة، كأنّه نازلة الدهر، وقاصمة الظهر، كأنما ألفاظه أنياب الأراقم، ولمعانيه أظفار الضراغم. هو- أدام الله علوه- دفّاع الأمراض بطبّه، فلم أمرضني بفضائح سبّه؟ ونطاسيّ الجراح بعلمه، فلم جرحني بقبائح ظلمه؟
وممّن أرجّي شفاء السقام ... ومسقمتي جفوات الطبيب
ما هذا الإنذار والإيعاد؟ وما هذا الإبراق والإرعاد؟ كأنه صاحب دلدل، أو فارس بلبل [1] ، أو كأنه من أقيال اليمن، وأبطال الزمن، أو كأنه ثعبان الحرب، وشيطان الطّعن والضرب [2] ، وذكر البول أولى به من ذكر الهول، وحديث البراز أولى به من حديث البراز:
إن للهجر رجالا ... ورجالا للوصال
قال- أدام الله علوّه- مصصت دمي من عرقي، أو ليس يدري أنّ امتصاص الدماء من خصائص بضاعته، والتصرف في اللحوم والعظام [3] من لوازم صناعته؟! رحم الله امرءا عرف قدره، ولم يتعدّ طوره. وشر ما في بني آدم من الخصال الذميمة، والأفعال اللئيمة، إيذاء الصغار للكبار، وإيحاش العبيد للأحرار [4] . وهذا له- أدام الله فضله- جبلّة فطر عليها، وطبيعة استرسل معها، وسجية شهر بين العامة والخاصة بها، يشتم كلّ يوم [5] في منزله ومكانه، وعلى سدّة داره وطرف دكانه، خلقا كثيرا، وجما غفيرا، من الرافعين قصصهم إليه، والعارضين عللهم عليه، فيرجعون وجفونهم تتصوّب عبراتها، وقلوبهم تتصعّد زفراتها، لما يلاقون من سوء خلقه،
__________
[1] الرسائل: يليل.
[2] الرسائل، ثعبان الحرب والطعن، وشيطان الطغي والظعن.
[3] ر: والطعام.
[4] الرسائل: والكبار ... والأحرار؛ ر: الصفاء للأكابر ... للاحتراز.
[5] ر: كل من.(3/967)
ويقاسون من خشونة نطقه، ويقفلون وألم ذلك التهجم [1] والإعراض، والوقيعة في الأحساب والأعراض، أشدّ عليهم من ألم الأسقام والأمراض. ولهذا جعل شخصه، وصيّر نفسه- مع أنه أفضل زمانه، وأعلم أولاد أقرانه- ضحكة الأداني والأقاصي، وسخرة للأذناب والنواصي، حتى صار بحيث إذا مشى في الأسواق تعادى صبيان البلد حوله فيسخرون منه ويضحكون عليه وينعرون في قفاه. ولا أقول فيه- أدام الله علوه- إلا ما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي في ابن المقفع حين رأى كمال فضله، ونقصان عقله. «علم وافر، وعقل قاصر» . ومن قصور عقل ابن المقفع أنه مرّ ببيت النار، وكان من أولاد كسرى، فتنفس الصعداء وتمثّل ببيت الأحوص بن محمد الأنصاري:
يا بيت عاتكة الذي أتعزل ... حذر العدى وبه الفؤاد موكّل
فاتهم بالمجوسية، فألقي في تنور مسجور، فأحرق. وما أصدق من قال:
قيراط عقل، خير من قنطار فضل، ومثقال حلم، أنفع من مكيال علم. أنكر- أدام الله علوه- رشاد مذهبي وإنكاره ضلال، وجحد سداد سيرتي وجحوده باطل محال، فيا طيّر الله جمجمة فرّخت فيها الأضاليل وباضت، ويا أسكت الله شقشقة دفقت منها الأباطيل وفاضت. ولا أعني بهذه الجمجمة إلا جمجمته التي لا عقل فيها، ولا أريد بهذه الشقشقة إلا شقشقته التي يباينها الصدق وينافيها. حتى متى يتهمني بظنّه؟ وإلى كم يجرّعني درديّ دنّه؟ أيحسب- أدام الله علوّه- أن ظنّه الباطل وخياله الفاسد ووهمه الكاذب وحي من السماء إلهي؟ أو إلهام في الحقيقة رباني؟ أو آية نفث بها روح القدس في روعه؟ لا بل هو واحد من أبناء زماننا وهذا شرّ الأزمنة، عجم الشيطان عوده فاستلانه، فصير خزانة خياله مكانه، فهذه الخطرات التي تختلج في جنانه، وتدور حول حسبانه، من تلك الخيالات الشيطانية، لا من الإلهامات الربانية. ولقد بلغني من أفواه الرواة، وألسنة الثقات أنه- أدام الله علوّه- أخذ بعين هذه التهمة الكاذبة قبل هذا واحدا من أعيان أهل جلدته، وسكّان بلدته، وهو مسعود بن المنتجب- رحمة الله- فأغار على أهله وبيته، وتعرّض لحيّه وميته، وخرّب دوره ورباعه،
__________
[1] الرسائل: التهجم.(3/968)
وغصب أثاثه ومتاعه [1] ، من غير حجّة صحّحها، ولا بيّنة أوضحها. اللهم اصرع الظالم على الهامة، وخذ منه للمظلوم حتى يرضى عنه يوم القيامة. ومما أقضي منه العجب أن عهدي به- أدام الله عزه- قد كان يخرب الأبدان، فها هو الآن يخرب الأوطان، وما أسرع الدهر إلى تغيير البشر، وما أقدره على تبديل الصور والسير.
قرأت في بعض الكتب [2] أنّ خليفة من الخلفاء رأى في منامه أن واحدا من ندمائه وثب عليه ليقتله، فلما أصبح استدعى النديم وأمر بقتله، فقال له النديم: ماذا فعلت حتى استوجبت هذه العقوبة، قال الخليفة: ما فعلت شيئا، ولكني رأيت في المنام أنك تقتلني وأنا أقتلك لذلك، فقال له النديم: إن يوسف بن يعقوب- صلوات الله عليهما- مع كونه صدّيقا نبيا احتاجت رؤياه إلى تعبير، وافتقرت أحاديثه إلى تأويل وتفسير، أفتستغني رؤياك عن مثل ذلك؟ فضحك الخليفة وخلاه. وأنا أقول: هكذا ظنون جميع ذوي الألباب، معرضة للخطأ والصواب. كأنّه- أدام الله علوه- تفرّد من بينهم بذاته، وتوّحد بعظمة صفاته [3] ، فتنزهت ظنونه عن السهو، وتقدّست أحاديثه عن اللغو. عصمنا الله من الكبر البائن، والعجب الشائن. أما حان أن ينتبه- أدام الله علوه- من غفلته، ويستيقظ من رقدته، وقد بلغ غاية شيبه، وأخذ الموت بلحيته وجيبه، يقرع كلّ ساعة منادي الفناء، في أذنه الصمّاء: أن اترك أوطانك، واهجر أهلك وجيرانك، وارحل إلى جهنم بخيلك ورجلك، فإنها قد أوقدت نيرانها لأجلك. وما حرص جهنم على شي، كحرصها على إحراق [4] شيخ غويّ، وهمّ غبي، سيّء الخليقة، مذموم الطريقة، يتظاهر بالإثم والعدوان، ويتبع خطوات الشيطان. هو- أدام الله علوّه- بلغ ساحل الحياة ووقف على ثنية الوداع، وهمّ بحر عمره بالنضوب، ومال نجم بقائه للغروب، فما ظنّه: هل في الحياة مطمع وقد بليت جدّته، وفنيت مدته، وتراجع أمره، وأتى على الثمانين عمره؟!
أيرجو الفتى عودا إلى طيّباته ... وقد جاوزت رأس الثمانين سنّه
__________
[1] م: وباعه.
[2] الرسائل: في كتب أهل الأدب.
[3] ر: بعظمته وصفاته.
[4] الرسائل: احتراق.(3/969)
كتبت هذه الأحرف على سبيل الأنموذج، والجواب بعد في الجراب، والسيف لم يسلّ من القراب، فإن انزجر- أدام الله علوه- واتعظ، وترك الفظاظة والغلظ، وعاد إلى كرم العهد وصفاء الود، فانا خادم مخلص وعبد مطيع وتلميذ معتقد:
والا فعندي للعدوّ وقائع ... تريه المنايا لا ينادى وليدها
فجاء جواب القطان بالاعتذار وبراءة ساحته من التهمة [1] .
ومن تصانيفه: كتاب دوحة الشّرف في نسب أبي طالب- ثماني مجلدات، كتاب بخطّه مشجّر. رسالة سارحة الرّموز وفاتحة الكنوز. سبائك الذهب. العروض- مشجّر. كتاب «كيهان شناخت» في الهيئة؛ وقد رأيته وهو جيّد في بابه. ومن شعره في كتاب: «الدّوحة في النسب» :
حداني لحصر الطالبيّين حبّهم ... وشدّ إلى مرقى علاهم تشوّفي
ففيهم ذراريّ النبيّ محمد ... فهم خير أخلاف تلوا خير مخلف
مضى بعد تبليغ الرّسالات موصيا ... بإكرام ذي القربى وإعظام مصحف
وما رام أجرا غير ودّ أقارب ... وأهون به أجرا فهل من به يفي
قال أبو سعد السّمعاني؛ كان فاضلا عالما بالطّبّ واللغة والأدب، وعلوم الأوائل المهجورة، وكان ينصر مذهبهم ويميل إليهم، واشتغل بالفقه والحديث في ابتداء عمره، ثم أعرض عنه، وكان يسمع الحديث على كبر سنّه ويشتغل به، ويصححه على من يعلم من الغرباء الواردين إلى مرو تستّرا وإظهارا للرغبة في العلوم الشرعية، والله أعلم بالعقيدة الباطنة.
سمع كتاب فضائل القرآن من أبي القاسم عبد الله بن محمد بن عليّ القرشي.
ومن شعر أبي علي القطان:
كانوا يعيشون دهرا في ديانتهم ... لا يلفتون إلى شيء من الرتب
فرقّ دين فعاشوا في مروءتهم ... حتى خلت عنهم الأوطان عن كثب
فالآن عيش مداراة وتزجية ... إما إلى رغب إما إلى رهب
__________
[1] من هنا حتى آخر الترجمة مأخوذ عن الوافي.(3/970)
- 339-
الحسن بن علي بن غسان
أبو عمرو ويعرف بالشاكر [1] [البصري] : كان من أكبر أهل البصرة فضلا، وأوفرهم حجى وعقلا، له في جميع العلوم اليد البيضاء والهمة العلياء، وكان يغشى مجلسه رؤساء أهل البصرة وفضلاؤها وعلماؤها يقرأون عليه الحديث والفقه وعلوم القرآن وكتب الأدب. وكان حسن الهيئة، نظيف الثوب، مليح الخطّ، ظريف الشكل، حسن الخلق، أبيّ النفس، متين الدين، كثير الورع. وكان شافعيّ المذهب، وله عدة مصنّفات في عدّة فنون، وله شعر في فنون مختلفة وغير ذلك من الأدعية والخطب ما ليس لغيره من أبناء عصره وأهل زمانه.
وكان يبذل جهده في تأديب ولد اسمه عبد الرحمن ويحسن تربيته، فأبى الله إلا أن ينشأ على أقبح صفة، واشتغل في حياة أبيه مع الكناسين ومن أشبههم. وبالغ أبوه في استنقاذه من ذلك فلم يصل إلى مقصوده، ومات أبوه وهو على تلك الحال.
فمن كلامه في مخاطبة ولده هذا: أما بعد فإن العلم أفضل ما التمس، وأنفع ما اقتبس، به يحاز الجمال والأجر، وهو الغاية في الشرف والفخر:
إذا ما فاخر المثرون يوما ... بما حازوه من مال ووفر
فخرت عليهم بالعلم إني ... وجدت العلم غاية كلّ فخر
وقال أيضا: أما بعد فإن الأدب قوام اللسان وقيمة الانسان، صاحبه محبّب مكرّم، جليل في العيون مفخم، إن قال أصغى إليه الأقوام، وإن صال صال بنطق كالحسام:
لساني أمضى من سنا السيف مرهفا ... وأبعد في الأغراض من ظبة السهم
به أتّقي قذع الغواة وأرتقي ... بسلطانه يوم الفخار إلى النجم
أما بعد فإن الأدب ملبس جميل، ومفخر جليل، يعلو بصاحبه إلى أشرف
__________
[339]- هذه الترجمة من المختصر وانظر إنباه الرواة 1: 316 والوافي 12: 140 وطبقات الداودي 1: 137.
[1] ر: بالشاكرة.(3/971)
الرتب، وينهض به إلى أقعد الحسب:
إذا الفتى فاته مال يجمّله ... ففي التأدّب مما فاته خلف
هو اللباس الذي لا شيء يعدله ... والمفخر الزين فيه العزّ والشرف
- 340-
الحسن بن عمر بن المراغي،
أبو علي الأديب: أحد محاسن أذربيجان فضلا عن المراغة، له الأدب البارع والفضل الذائع، والتصانيف المفيدة والاشعار الرائقة.
وجدت من تصانيفه: كتاب في رسائل من إنشائه. وكتاب الديباجة في النحو، مفيد حسن.
ومن منثور كلامه مشفوعا بشيء من نظمه: حررت هذا الخطاب- أطال الله بقاء سيدنا الأستاذ الرئيس، وأدام علوه- عن سلامة مشفوعة بصبابة، وزفرات للفراق مقرونة بكآبة، فأنا أسيرها، وفرط الأسى أميرها، أجود بالدمعة، من شدة اللوعة، على خدّ مخدّد لما أقاسيه من شوق مجدد، إلى حضرته، آنسها الله تعالى، وعزته حرسها الله.
وهذا من غاية [الجودة] في الرسائل ولا أدري أهو من كلامه أو كلام غيره ولو تحققت انه من [ ... ] [1] .
- 341-
الحسن بن عمرو الحلبي النحوي
المعروف بابن دهن الحصى: أقام بحلب واتخذها دارا وصار له بها أهل وولد، بقي مدة يقرىء النحو بجامعها، ومات بحلب
__________
[340]- ترجمة المراغي. لم ترد في الطبعة المصرية، وهي في م.
[341]- يعتمد ياقوت في هذه الترجمة على ابن العديم، وبنهاية الجزء الرابع من بغية الطلب يسقط عدد ممن اسمه «حسن» ويبدأ الجزء الخامس بمن اسمه «الحسين» . ولهذا لم ترد ترجمة ابن دهن الحصى في بغية الطلب الموجود بين أيدينا. وانظر في ما يلي الترجمة رقم: 405 والحصى بالحاء المهملة أو المعجمة إذ ترد الصورتان.
[1] بياض بالأصل.(3/972)
سنة ثلاث وستمائة، وله تصانيف منها: [ ... ] .
أنشدني كمال الدين عمر بن أبي جرادة- أدام الله علوه- قال أنشدني ابن دهن الحصى لنفسه عقيب برئه من نقرس كان يعتريه:
من لصبّ فوق فرش ضنا ... أبدا يبرا وينتكس
جفنه بالدمع منطلق ... وكراه عنه محتبس
جهل العوّاد موضعه ... فهداهم نحوه النفس
وأنشدني أيضا، قال أنشدني المذكور لنفسه:
برد ولا قلب من أهوى إذا ذكرت ... له حرارة قلب الهائم الدنف
جسمي دقيق به عار كما عريت ... من نقطها ثم دقّت صورة الألف
وأنشدني، قال أنشدني المذكور لنفسه:
وما أنا في الشكوى عن البين عاجز ... ولا ضاق في حمل الرزايا بكم صدري
ولا خانني حسن اصطباري وإنما ... رميت من البلوى بأكثر من صبري
قال وأنشدني لبعضهم:
ما شانها والله زرقة عينها ... بل كان ذاك زيادة في زينها
كادت أساود شعرها تسطو على ... مهج الورى لولا زمرّد عينها
قال وأنشدني لبعضهم [ ... ] [1] .
أنشدني بدر الدين بن الشيزري أبو الحسن محمد بن هبة الله بن علي التميمي، أنشدنا ضياء الدين الحسن بن عمرو بن دهن الحصى لنفسه في التجنيس:
ولما تجلّى الدار عنا وقد جرت ... حميّا الغوادي في معاطف عود
وأخفى وميض البرق دمع مدامة ... وأخرس صوت الرعد ناطق عود
أعادت سماء الدّجن فينا نبيذها ... مباخر عود في مباخر عود
__________
[1] بياض بالأصل.(3/973)
وله، أنشدني له عنه:
إذا كنت ذا علم فكن ذا سماحة ... فما أنت فيما قلته بملوم
ولا تك ممن يبرز القال وهو في ... مدار علوم في مدارع لوم
وله أيضا، أنشدنيه له:
بأبي من شادن فمه ... لحميا ريقه قدح
قاتل الله الوشاة بنا ... كم سعوا فينا وكم قدحوا
وأنشدنيه له:
مرضى من الهجر لا يعتادهم أحد ... ما كان أسعدهم لو أنهم عيدوا
صاموا لغيبة بدر التم عن غضب ... ويوم يبدو لهم وجه الرضى عيد
وأنشدنيه له:
تطالبني عيني بكم بعد بعدكم ... وأنتم على حكم الهوى في سوادها
وتطمعني في طيفكم برقادها ... وإذخرها كحلا بميل سهادها
إذا لم تكونوا عون عيني على الكرى ... فلا حاجة لي في لذيذ رقادها
ولي مهجة لم تبق منها بقية ... سوى ما سكنتم من صميم فؤادها
وله:
حاكمتني إليك أطماع نفسي ... أنت ما بينهنّ خصم وقاض
إن أكن أمس بالتواصل حيا ... فأنا اليوم بالقطيعة راض
وأنشدني أيضا له رحمه الله:
تمثلتم لي والديار بعيدة ... فخيّل لي ان الفؤاد بكم مغنى
وناجاكم قلبي على البعد بيننا ... فأوحشتم لفظا وآنستم معنى
وكان له جامكية فأخّرت، فكتب إلى السلطان، أنشدنيه بدر الدين المذكور، قال أنشدني ابن دهن الحصى لنفسه:
ابني الندى من آل أيوب الأولى ... بنوالهم فاقوا على الأمطار(3/974)
من كلّ منبجس البنان كأنما ... يهمي عليك بديمة مدرار
لا غار دركم العميم ولا خلت ... يوما صحائفكم من الإدرار
فأطلقها في الحال، وكتب: يوفّى على سياقة قبضه.
وأنشدني قال أنشدني لنفسه:
منّي لا منك الذي أشتكي ... يا من له العتبى أنا المذنب
ما غبت عن عيني ولم تحتجب ... لكن بعينيّ قذى يحجب
فخذ يدي في الحبّ يا من به ... منه إليه في الهوى أهرب
- 342-
الحسن بن القاسم الرازي، أبو علي:
كان يلازم مجلس الصاحب ابن عباد، وكان نحويا لغويا، وله «كتاب المبسوط» في اللغة.
- 343-
الحسن بن مالك أبو العالية الشامي:
مولى العمّيين، وبنو العمّ قوم من فارس نزلوا البصرة في بني تميم أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأسلموا وغزوا مع المسلمين فحمدوا بلاءهم فقالوا لهم: أنتم وإن لم تكونوا من العرب إخوتنا وأهلنا، وأنتم الأنصار وبنو العمّ، فلقبوا بذلك.
وقدم [أبو العالية] بغداد وأدّب العباس بن المأمون، وكان من أصحاب الاصمعي. فمن شعره:
فلو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كلّ من يعطى المنى بمسدّد
لقلت لأيام مضين ألا ارجعي ... إلينا وأيام مضين ألا ابعدي
__________
[342]- الحسن بن القاسم الرازي أبو علي: سقطت هذه الترجمة من م ر، وهي مما نبه عليه الدكتور جواد (ص: 20) وقد أشار السيوطي في بغية الوعاة (1: 517) إلى أنه ينقل عن ياقوت، وانظر الوافي 12: 203.
[343]- ترجمة أبي العالية الشامي من المختصر، وانظر نور القبس: 210 والوافي 12: 209 والفوات 1: 254.(3/975)
وحدث محمد بن يزيد المبرد: [قال] قال الجماز لأبي العالية: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت على غير ما يحبّ الله وغير ما أحبّ أنا وغير ما يحبّ إبليس، لأن الله عز وجل يحبّ أن أطيعه ولا أعصيه ولست كذلك، وابليس يحبّ أن أعصي الله عز وجل وأطيعه ولست كذلك، وأنا أحب أن أكون على غاية الجدة والثروة ولست كذلك.
وأنشد المبرد لأبي العالية:
أذمّ بغداد والمقام بها ... من بعد ما خبرة وتجريب
ما عند سكّانها لمختبط ... رفد ولا فرجة لمكروب
قوم مواعيدهم مطرّزة ... بزخرف القول والأكاذيب
خلّوا سبيل العلا لغيرهم ... ونازعوا في الفسوق والحوب
يحتاج راجي النوال عندهم ... إلى ثلاث بغير تكذيب
كنوز قارون أن تكون له ... وعمر نوح وصبر أيوب
- 344-
الحسن بن محمد المهلبي الوزير:
هو أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وزير معزّ الدولة أبي الحسين ابن أحمد بن بويه، ومات وهو على الوزارة في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة.
وكان المهلبيّ من ارتفاع القدر واتساع الصّدر ونبل الهمّة وفيض الكفّ على ما هو مذكور مشهور، وأيامه معروفة في وزارته لمعزّ الدولة وتدبيره أمور العراق، مع أنه [كان] غاية في الأدب والمحبة لأهله والإقبال عليهم والاحسان إليهم، وكان يترسّل ترسلا بليغا ويقول الشعر قولا لطيفا يضرب بحسنه المثل، كما قال بعض أهل العصر:
__________
[344]- سقط صدر هذه الترجمة في م وهي واردة في المختصر والصفدي 12: 223 وانظر ترجمة المهلبي أيضا في اليتيمة 2: 223 والمنتظم 7: 9 وابن خلكان 2: 124 والفوات 1: 353 والبداية والنهاية 11: 241 وعبر الذهبي 2: 294 والشذرات 3: 9 وله أخبار كثيرة في نشوار المحاضرة.(3/976)
بأبي من إذا أراد سراري ... عبّرت لي أنفاسه عن عبير
وسباني ثغر كدرّ نظيم ... تحته منطق كدرّ نثير
وله طلعة كنيل الأماني ... أو كشعر المهلبيّ الوزير
وقال ابن الحجاج في ضد ذلك:
قيل إن الوزير قد قال شعرا ... يجمع الجهل شمله ويضمّه
ثم أخفاه فهو كالهرّ يخرا ... في زوايا البيوت ثم يطمّه
ليتني كنت حاضرا حين يروي ... هـ فأفسو في راحتي وأشمّه
قال [الثعالبي] [1] : وحدثني أبو بكر الخوارزمي وأبو نصر ابن سهل بن المرزبان وأبو الحسن المصيصي، دخل حديث بعضهم في بعض فزاد ونقص، قالوا: كانت حال المهلبي قبل الاتصال بالسلطان حال ضعف وقلّة، وكان يقاسي منها قذى عينه وشجى صدره، فبينا هو ذات يوم في بعض أسفاره مع رفيق له [2] من أصحاب الحراب والمحراب، إلا أنه من أهل الأدب، إذا لقي من سفره نصبا واشتهى اللحم فلم يقدر على ثمنه، فقال ارتجالا:
ألا موت يباع فأشتريه ... فهذا العيش ما لا خير فيه
إذا أبصرت قبرا من بعيد ... وددت لو آنني فيما يليه
ألا رحم المهيمن نفس حرّ ... تصدّق بالوفاة على أخيه
فاشترى له رفيقه بدرهم واحد ما سكّن قرمه، وتحفّظ الأبيات وتفارقا؛ وضرب الدهر ضربانه حتى ترقّت حال المهلبي إلى أعظم درجة من الوزارة فقال:
رقّ الزمان لفاقتي ... ورثى لطول تحرقي
فأنالني ما أرتجي ... وأفاتني ما أتقي
__________
[1] اليتيمة 2: 223 وانظر ابن خلكان والوافي والفوات.
[2] اسم هذا الرفيق أبو عبد الله الصوفي وقيل أبو الحسن العسقلاني.(3/977)
فلأصفحن عن ما أتا ... هـ من الذنوب السّبق
حتى جنايته لما ... فعل المشيب بمفرقي
وحصل الرفيق تحت كلكل من كلاكل الدهر ثقل عليه بركه، وهاضه عركه، فقصد حضرته وتوصل إلى إيصال رقعة تتضمن أبياتا منها:
ألا قل للوزير بلا احتشام [1] ... مقالة مذكر ما قد نسيه
أتذكر إذ تقول لضنك عيش ... «ألا موت يباع فأشتريه»
فلما نظر فيها تذكره وهزته أريحية الكرم للحنين إليه، ورعاية [2] حق الصحبة فيه، والجري على حكم من قال:
إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
فأمر له في العاجل بسبعمائة درهم، ووقع في رقعته: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ
(البقرة: 261) [ثم دعا به، وخلع عليه وقلده عملا يرتفق به ويرتزق منه] [3] .
قيل [4] : كان لمعز الدولة غلام تركيّ يدعى تكين الجمدار، أمرد وضيء الوجه، فلفرط [ميل] معزّ الدولة إليه وشدة إعجابه به جعله رئيس سريّة جرّدها لحرب بعض بني حمدان، وكان المهلّبي يستظرفه ويستحسن صورته ويرى أنه من عدد الهوى لا من عدد الوغى، فقال فيه:
طفل [5] يرقّ الماء في ... وجناته ويرفّ عوده
ويكاد من شبه العذا ... رى فيه أن تبدو نهوده
__________
[1] م واليتيمة: فدتك نفسي، وأثبت ما في (ر) .
[2] م: ورعي.
[3] زيادة من اليتيمة.
[4] اليتيمة 2: 226 عن كتاب التاجي.
[5] اليتيمة: ظبي.(3/978)
ناطوا بمعقد خصره ... سيفا ومنطقة تؤوده
جعلوه قائد عسكر ... ضاع الرعيل ومن يقوده
فما كان بأسرع من أن كانت الدائرة على هذا القائد.
وكتب إلى ابن العميد في جواب كتاب ورد منه [1] :
طلع الفجر من كتابك عندي ... فمتى باللقاء يبدو الصباح
ذاك إن تمّ لي فقد عذب العيش ونيل المنى وريش الجناح وكتب القاضي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي إلى المهلبي، وقد منعه المطر عن زيارته:
سحاب أتى كالأمن بعد تخوّف ... له في الثرى فعل الشفاء بمدنف
ومدّ جناحيه على الأرض جانحا ... فراح عليها كالغراب المرفرف
غدا البرّ بحرا زاخرا وانثنى الضحى ... بظلمته في ثوب ليل مسجّف
تحاول منه الشمس في الجوّ مخرجا ... كما حاول المغلوب تجريد مرهف
فأفرغ ماء قال وارد حوضه ... أسلسال ماء أم سلافة قرقف
أتى رحمة للناس غيري فإنه ... عليّ عذاب ماله من تكشّف
سحاب عدا بي عن سحاب وعارض ... منعت به عن عارض متكفكف
فأجابه المهلبي:
أتت رقعة الشيخ [3] الجليل فكشّفت ... وساوس محزون الفؤاد ملهّف
فأهدت نظاما من قريض كأنه ... نظام لآل أو كوشي مفوّف
تكامل فيه الشكل والظّرف مثلما ... تكامل في مهديه كلّ التظرف
حوى منتهى الحسنى بأول خاطر ... تكلّفه في الشعر ترك التكلّف
__________
[1] اليتيمة 2: 232.
[2] اليتيمة 2: 341- 342.
[3] اليتيمة: القاضي.(3/979)
ودخل رسول معز الدولة على المهلبي يدعوه وهو على شرابه فقال بديها:
إذا قيل طعم الوصل ثمّ تنمرت ... عليك بوجه لم يكن يعرف القطبا
وما جاءني منه رسول وإن أتى ... بما سرّني إلا ملئت به رعبا
قيل: صحب أبو محمد المهلّبي في أول أمره أبا زكريا يحيى بن سعيد السوسي ونظر في ضياعه بالأهواز وكانت جليلة القدر، ثم اتصل بأبي الحسن عليّ بن محمد الطبري وكان واليا كبيرا من قبل معز الدولة وناب عنه على باب معزّ الدولة بحضرة أبي جعفر الصيمريّ، وكانت فيه مداخلة ومعرفة بخدمة الرؤساء. وكان بين أبي جعفر وأبي الحسن الطبري عداوة، فجرى بين المهلبي وبين أبي الحسن منافرة نكبه لأجلها ثم رضي عنه بعد ذلك. ثم لازم أبا جعفر وصحبه إلى بغداد والجبل، وشرع في سدّ بثق النهروان، فندب له المهلبي، فقام فيه أحسن قيام.
ولأبي [....] قصيدة يخاطب فيها أبا جعفر الصميري ويذكر المهلبي وكان في صحبته:
ماذا لقينا من القاطول لا هطلت ... فيه السحاب ولا سقّته تهتانا
فقد سددناه وارتدّت غواربه ... حسرى ولم نأل إحكاما وإتقانا
وقد دعمنا له سكرا سما وطما ... حتى توهّمه راءوه ثهلانا
واستفرغ الوسع حتى طمّ خا ... دمك المهلّبي وقاسى فيه أشجانا
نجاه منه بآراء مثقّفة ... تخالها في ظلام الليل نيرانا
رميت بحرا بطود فاستكان له ... كرها وأيقظت فيما ناب يقظانا
وما تقابل بالإقبال ممتنعا ... إلا تبدّل بالعصيان إذعانا
ثم خرج معزّ الدولة والصميري إلى الموصل لقتال ناصر الدولة، فاستخلف الصيمريّ المهلبيّ وأبا الحسن طازاد بن عيسى على الأمور بمدينة السلام إلى أن عاد.
ثم خرج الصميريّ إلى البطيحة لطلب عمران بن شاهين، فاستناب بحضرة معزّ الدولة أبا محمد وحده في سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة، فخدم أبو محمد بين يدي معز الدولة خدمة حسنة خفّف بها عنه وخفّ على قلبه بها، فمال إليه وقربه، وبلغ أبا جعفر ذلك(3/980)
فثقل عليه، فتطلّب لأبي محمد الذنوب، وتمحّل ما أنكره عليه، وأطلق فيه لسانه بالوقيعة والتهدد، وبلغ أبا محمد ذلك فقلق له واستشعر النكبة والهلكة لأنه لم يطمع من معز الدولة في نصرته عليه وعصمته منه، فما راعه إلا ورود كتاب الطائر بوفاة الصميري، فجلس له في العزاء وأظهر له الحزن الشديد ولزم منزله، فاستدعاه معز الدولة وأمره بالحضور وتمشية الأمور إلى أن يقلّد من يرى تقليده الوزارة. وترشح للوزارة جماعة منهم: أبو علي الحسن بن هارون بن نصر وأبو علي الحسن بن محمد الطبري وأبو الحسن محمد بن أحمد المافروخي وأبو عبد الله محمد بن أحمد الخوميني، وبذلوا البذول وضمنوا الأموال، ووسّط أبو عليّ الطبري في أمره والدة عز الدولة وبذل مائتي ألف درهم عاجلة على سبيل الهدية فطالبه معز الدولة بالمال، فحمل منه مائة وثمانين ألف درهم وقال: قد بقي بقية يسيرة إذا ظهر حملتها، فقال معز الدولة: لا أفعل إلا بعد استيفاء المال، فعلم الطبري أنه خدع، وندم على ما فعله. ثم حضر الجماعة المترشحون الخاطبون وكل يعتقد أنه المختار المقلّد، وجلسوا في خركاه ينتظرون الإذن، ثم أوصل القوم ووقفوا على مراتبهم، ودخل أبو محمد بعدهم وقام في أخرياتهم، فلما تجمع الناس أسرّ معز الدولة إلى أبي علي الحسن بن إبراهيم الخازن قولا لم يسمع، فمشى إلى أبي محمد المهلبي وقبّل يده وخاطبه بالاستاذية، على ما كان أبو جعفر يخاطب به، وحمله إلى الخزانة فخلع عليه الخلعة التي هي رسم أمثاله: القباء والسيف والمنديل والمنطقة. قال هلال، قال جدي: فو الله يا بنيّ لقد رأيت الناس على طبقاتهم ممن أسميناه، ومن يتلوهم من الجند وغيرهم، والسعيد منهم من وصل إلى يده فقبّلها. وعاد أبو محمد إلى حضرة معز الدولة فخاطبه بالتعويل عليه في تقلّد وزارته وتدبير دولته، وشكره أبو محمد شكرا
__________
[1] م: حمله.
[2] ر: يتوقعون.
[3] الخلعة ... أمثاله: زيادة من ر.
[4] ر: ممن كان مترشحا للوزارة.
[5] ر: أبو نصر.
[6] ر: وغشي عليه.(3/981)
أطال فيه وخرج منصرفا إلى داره، فقدّم له شهريّ بمركب ذهب، وسار أبو محمد وسبكتكين الحاجب بين يديه، والقواد والناس في موكبه، وذلك لثلاث بقين من جمادى الأولى سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة، ثم جددت له الخلع من دار الخلافة بالسواد والسيف والمنطقة فأثقلته هذه الخلع وكان ذا جثّة، والزمان صيف، وقد مشى في تلك الصحون الكثيرة، فسقط عند دخوله إلى حضرة المطيع لله ووقع على ظهره، وظنّ أنه يحصر لما جرى، فقال يا أمير المؤمنين:
خرسنوه وما درى ما خراسا ... ن بلبس القباء والموزجين
ثم أكثر الشكر وأطال فيه، فاستحسنت منه هذه البديهة على تلك الصورة، وركب إلى داره وجميع الجيش معه، وحجاب الخلافة ومعز الدولة بين يديه.
فلما كانت سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة لهج معز الدولة بذكر عمان، وحدّث نفسه بأخذها، وأغراه بذلك المعروف بكرك، أحد النقباء الأصاغر [1] ، فأمر المهلبيّ بالخروج إليها، فدافعه ووضع عليه من يزهّده فيها، فلم يزدد إلا لجاجا، وكاد أبو محمد الوزير [2] حاشية معز الدولة إذ ألزمهم تقسيطا في نفقة البناء الذي استحدثه من غير أن يخرج بأحد منهم إلى عسف، فأحفظهم فعله، فبعثوا معزّ الدولة على إخراجه، فلما ألحّ عليه ضمن له أن يستخرج من هؤلاء جملة كبيرة يستعين بها في هذا الوجه، فمكّنه من ذلك بعد أن شرط عليه أخذ العفو وتجنّب الإجحاف، فقبض على جماعة وأخذ منهم ألفي ألف درهم، منها خمسمائة ألف درهم من أبي علي الحسن بن إبراهيم النصراني الخازن، ومعزّ الدولة على غاية العناية بأمره والثقة بأنه لا مال له، وأظهر أبو علي الفقر وسوء الحال وأنه اقترض المال الذي أدّاه من الناس، فشقّ ذلك على معزّ الدولة وظنه حقا، واعتلّ أبو علي عقيب ذلك ومات، فاعتقد معزّ الدولة أن أبا محمد قتله لما عامله به، وأقبل عليه يلومه ويحلف له أنه يقيده به، فلم يلتفت أبو محمد إلى ذلك، وبادر إلى دار أبي علي وقبض على خادم له ضغير
__________
[1] ر: وأغراه بذلك أحد النقباء الأصاغر.
[2] م: وكان أبو محمد وزير حاشية معز الدولة بأن ألزمهم.(3/982)
كان يختصّه ويثق به، ومنّاه ووعده، فدلّه على دفين كان لأبي علي في الدار [1] ، فاستخرج منه عدة قماقم فيها نيف وتسعون ألف دينار وحملها إلى معز الدولة وقال له:
هذا قدر أمانة خازنك الذي ظننت أني قد قتلته باليسير الذي أخذته لك منه، وما فيه درهم من ماله [2] ، وإنما افترصه [3] من أولادك وحرمك وغلمانك وشنّع عليك، ثم تتبع أسبابه فأخذ منهم تمام مائتي ألف دينار، وقدّر أبو محمد أن معز الدولة يمكنه من الحاشية الباقين ويعفيه من الخروج فلم يقبل [4] ، وجدّ به جدّا شديدا في الانحدار فانحدر في جمادي الآخرة من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، وتمادت أيامه بالبصرة للتأهب والاستعداد، وامتنع العسكر المجرد من ركوب البحر، فبلغ معزّ الدولة ذلك، فاتهمه بأنه بعث العسكر على الشغب [5] ، فكاتبه بالجدّ والإنكار عليه في توقفه وألزمه بالمسير [6] ، ووجد أعداؤه طريقا للطعن عليه، فاغتنموا تنكّر معز الدولة عليه، وأقاموا في نفسه أنه انحدر من مدينة السلام وهو لا يعتقد العود إليها، وأنه سيغلب على البصرة كما تغلّب البريديون، وأن العسكر الذي معه والعشائر هناك على طاعته [7] ، عظّموا عنده أمواله، فتدوخ معزّ الدولة بأقاويلهم، وعرف أبو محمد ذلك فأطلق لسانه فيهم، وخرق الستر بينه وبينهم، وتطابقت الجماعة في المشورة على معز الدولة بالقبض عليه، والاعتياض بأمواله عما تعذّر [8] حصوله من عمان، وجعلوه على ثقة من أنهم يسدون مسدّه، فمال إلى قولهم، وكتب إلى أبي محمد يعفيه من الانحدار [9] إلى عمان، ويرسم له الانكفاء إلى مدينة السلام، وعلم أبو محمد بالحال ووطّن نفسه على الصبر وركوب أصعب المراكب فيه، وأن يدخل فيما دخل فيه القوم، ويتولى هو
__________
[1] ر: في داره.
[2] ر: من مالك.
[3] م، اقترضه.
[4] م: يفعل.
[5] ر: بأن ذلك من غائلته وامتناع العسكر من جهته.
[6] م: والزام المسير.
[7] م: طاعة له.
[8] م: يقدر.
[9] م: الاتمام.(3/983)
مصادرة نفسه وأصحابه وخصومه وأعدائه، وكان مليّا بذلك، فهجمت عليه علته التي مات منها، وتردد بين إفاقة ونكسة إلى أن وردت الكتب باليأس منه، فأنفذ معزّ الدولة حينئذ أحد ثقاته على ظاهر العيادة له وباطن الاستظهار على ماله وحاشيته، فألفاه في طريقه محمولا في محفة كبيرة مملوءة بالفرش الوثيرة، ومعه فيها من يخدمه ويعلّله، ويتناوب في حملها جماعة من الحمالين، فلما انتهى إلى زاوطا [1] قضى نحبه ومضى لسبيله، وسقط الطائر بمدينة السلام بذلك، فقبض على أسبابه وحرمه وولده، فصودرت الجماعة، ووقع السّرف في الاستقصاء عليهم، فلم يظهر لأبي محمد مال صامت ولا ذخيرة باطنة، وبانت لمعزّ الدولة نصيحته وبطلان التكثيرات [2] عليه، وقد كان يصل إليه من حقوق الرقاب في ضياعه وما يأخذه من إقطاعه ويستثني به على عماله مال كثير يستوفيه جهرا، من غير أن توقع فيه أمانة، ويصرف جميعه في مؤونته ونفقاته وصلاته وهباته، إلى هدايا جليلة كان يتكلّفها لمعز الدولة في أيام النواريز والمهاريج، وعطف معز الدولة على الجماعة يطالبهم بالضمانات التي ضمنوها، فاحتجوا بوفاته، ووعدوا بالبحث عن ودائعه، وتدافعت الأيام واندرج الأمر فكان الذي صحّ من مال أبي محمد ومال حرمه وأولاده وأسبابه خمسة آلاف ألف درهم، فيها الصامت والناطق والباطن وأثمان الغلات وارتفاع الأملاك والأموال وأموال جماعة من التجار أخذت بالتأويلات، وكانت وفاته سببا لصيانته عن عاجل ابتذالهم له، وصيانتهم عن آجل بلواهم به. وكانت مدة وزارته ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، ووفاته في يوم السبت لثلاث ليال بقين من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. ولأبي محمد:
قضيت نحبي فسرّ قوم ... حمقى لهم غفلة ونوم
كأنّ يومي عليّ حتم ... وليس للشامتين يوم
قال هلال بن المحسن بن أبي إسحاق الصابي: وحدثني أبو إسحاق جدي
__________
[1] ر: رواطه (ويقال فيها زاوطة) .
[2] ر: النكرات.(3/984)
قال: صاغ أبو محمد دواة ومرفعا وحلّاهما حلية كثيرة مشرقة، وكانت ذرعا وكسرا في عرض شبر، وكذلك كانت آلاته عظاما حتى إن مخادّ دسته مثل مساند الدسوت، إلى ما يجري هذا المجرى من آلات الاستعمال، وقدّمت الدواة بين يديه في مرفعها وأبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن الشيرازي وأنا إلى جانبه، فتذاكرنا سرّا حسن الدواة وجلالتها وعظمها، ثم قال لي: ما كان أحوجني إليها لأبيعها وأتسع بثمنها، فقلت:
وأي شيء يعمل الوزير؟ قال: يدخل في حر أمه. وسمع أبو محمد ما جرى بيننا بالإصغاء منه إلينا وذهب ذاك علينا [1] ، فاجتمعت مع أبي أحمد من غد فقال لي:
عرفت خبر الدواة؟ قلت: لا، قال: جاءني البارحة رسول الوزير ومعه الدواة ومرفعها ومنديل فيه عشر قطع ثيابا حسانا وخمسة آلاف درهم، وقال: الوزير يقول أنا عارف بأمرك في قصور الموادّ عنك، وتضاعف المؤن عليك، وأنت تعرف شغلي وانقطاعي به عن كل حق يلزمني، وقد آثرتك بهذه الدواة لما ظننته من استحسانك إياها اليوم عند مشاهدتك، وحملت معها ما تجدّد به كسوتك وتصرفه في بعض نفقتك [2] ، وانصرف الرسول وبقيت متحيّرا متعجبا من اتفاق ما تجارينا به أمس وحدوث هذا على أثره.
وتقدم أبو محمد بصياغة دواة أخرى على شكلها ومرفع مثل مرفعها، فصيغت في أقرب مدة، ودخلنا إلى مجلسه وقد فرغ منها وتركت بين يديه وهو يوقع منها، ونظر أبو محمد إليّ وإلى أبي أحمد ونحن نلحظها فقال: هيه من منكما يريدها بشرط الإعفاء من الدخول في حر الأمّ؟ فخجلنا وعلمنا أنه كان قد سمع قولنا، وقلنا: بل يمتع الله مولانا وسيدنا الوزير بها ويبقيه حتى يهب ألفا مثلها، اللهم أنت جدد الرحمة والرضوان عليه في كلّ ساعة، بل لحظة، بل لمحة، وعلى كل نفس شريفة وهمة عالية، إنك العلي تحب معالي الأمور وأشرافها وتبغض سفسافها.
قال: وحدث إبراهيم بن هلال قال: كان أبو محمد المهلبي يناصف العشرة أوقات خلوته، ويبسطنا في المزح إلى أبعد غاية، فإذا جلس للعمل كان امرءا وقورا مهيبا محذورا آخذا في الجد الذي لا يتخوّنه نقص، ولا يتداخله ضعف، فاتفق أن
__________
[1] ر: وذهب ذلك عنا.
[2] ر: نفقاتك.(3/985)
صعد يوما من طيّاره إلى داره وقد حقنه البول وما كان يعتريه من سلسه، فقصد بعض الأخلية فوجده مقفلا، وكذلك كانت عادته جارية في أخلية داره حفاظا لها عن الابتذال، فأبى أن يدعو الفرّاش ويحضر فقال لي متنادرا على نفسه:
فهبك طعامك استوثقت منه ... فما بال الكنيف عليه قفل
فقلت: لعمري إنه موضع عجب، وإذا وقع الإحتياط في الأصل فقد استغني عنه في الفرع، فضحك وقال: أوسعتنا هجاء، فقلت: وجدت مقالا، فقال:
اسكت يا فاعل يا صانع.
قال أبو إسحاق: وأجلسني معز الدولة لأكتب بين يديه، وأبو محمد المهلبي قائم فحجبني عن الشمس، فقال: كيف ترى هذا الظل؟ فقلت: ثخين، فقال وا عجبا أحسن وتسيء، وضحك.
ومن شعر المهلبي [1] :
يا هلالا يبدو فيزداد شوقي [2] ... وهزارا يشدو فيزداد عشقي
زعم الناس أن رقّك ملكي ... كذب الناس أنت مالك رقّي
وحدث أبو محمد المهلبي قال: كنت أيام حداثتي وقصر حالي وصغر تصرّفي أسكن دارا لطيفة، ونفسي مع ذلك تنازع في الأمور العظيمة، إلا أن الجد قاعد والمقدور غير مساعد، فأصبحت يوما وقد جاء المطر، وازدادت الحجرة إظلاما وصدري بها ضيقا، فقلت:
أنا في حجرة تجلّ عن الوصف ... ويعمى البصير فيها نهارا
هي في الصبح كالظلام وفي ... الليل يولّي الأنام عنها فرارا
أنا منها كأنني جوف بئر ... أتقي عقربا وأحذر فارا
وإذا ما الرياح هبّت رخاء ... خلت حيطانها تميد انتشارا
__________
[1] اليتيمة 2: 239.
[2] م: لتهتاج نفسي.(3/986)
ربّ عجّل خرابها وأرحني ... من حذاري فقد مللت الحذارا
وتحدث أبو الحسين هلال بن المحسن قال: حدث القاضي أبو بكر ابن محمد بن عبد الرحمن بن قريعة [1] قال: كنت مع الوزير أبي محمد المهلبي بالأهواز فاتفق أن حضرت عنده في يوم من شهر رمضان، والزمان صائف والحرّ شديد، ونحن في مجلس بارد، فسمع صوت رجل ينادي على الناطف فقال: أما تسمع أيهذا [2] القاضي صوت هذا البائس في مثل هذا الوقت، والشمس على رأسه وحرّها تحت قدمه، ونحن نقاسي في مكاننا هذا البارد ما نقاسيه من الحر؟! وأمر بإحضاره فأحضر، فرآه شيخا ضعيفا عليه قميص رثّ، وهو بغير سراويل، وفي رجله تاسومة مخلقة، وعلى رأسه مئزر، ومعه نبيخة فيها ناطف لا يساوي خمسة دراهم، فقال له: ألم يكن لك أيها الشيخ في طرفي النهار مندوحة عن مثل هذا الوقت؟! فتنفس وقال: ما أهون على الراقد سهر الساهد، وقال:
ما كنت بائع ناطف فيما مضى ... لكن قضت لي ذاك أسباب القضا
وإذا المعيل تعذّرت طلباته ... رام المعاش ولو على جمر الغضا
فقال له الوزير: أراك متأدّبا فمن أين لك ذلك؟ فقال: إني أيها الوزير من أهل بيت لم يكن فيهم من صناعته ما ترى، وأسرّ إليه أنه من ولد معن بن زائدة، فأعطاه مائة دينار وخمسة أثواب، وجعل ذلك رسما له في كلّ سنة.
وحدث القاضي أبو علي التنوخي قال [3] : شاهدت أبا محمد المهلبي وقد ابتيع له في ثلاثة أيام ورد بألف دينار فرش به مجالسه [4] وطرحه [5] في بركة عظيمة كانت في داره، ولها فوّارات عجيبة يطرح ورق الورد في مائها وتنفضه، وبعد شربه عليه وبلوغه ما أراده منه أنهبه.
ولأبي عبد الله الحسين بن أحمد بن الحجاج يرثي أبا محمد:
يا معشر الشعراء دعوة موجع ... لا يرتجى فرح السلوّ لديه
__________
[1] م: خزيمة.
[2] م: أيها.
[3] النشوار 1: 303.
[4] م: مجالس.
[5] ر: وتركه.(3/987)
عزّوا القوافي بالوزير فإنها ... تبكي دما بعد الدموع عليه
مات الذي أمسى الثناء وراءه ... وجميل عفو الله بين يديه
هدم الزمان بموته الحصن الذي ... كنّا نفرّ من الزمان إليه
وتضاءلت همم المكارم والعلا ... وانبتّ حبل المجد من طرفيه
عمري لئن قادته أسباب الردى ... مثل الجواد يقاد في شطنيه
فليعلمنّ بنو بويه أنما ... فجعت به أيام آل بويه
ولأبي محمد المهلبي [1] :
أمثلي يا أخي وقسيم نفسي ... يفارق عهده عند الفراق
ويسلو سلوة من بعد بعد ... وينسبه الشقيق إلى الشقاق
فأقسم بالعناق وتلك أشفى ... وأوفى من يميني بالعتاق
لقد ألصقت بي طلبا قبيحا ... تجافى جانباه عن التصاق
وحدث أبو النجيب شداد بن إبراهيم الجزري الشاعر الملقب بالظاهر قال:
كنت كثير الملازمة للوزير أبي محمد المهلبي، فاتفق أني غسلت ثيابي، وأنفذ إليّ يدعوني، فاعتذرت بعذر فلم يقبله وألحّ في استدعائي، فكتبت إليه:
عبدك تحت الحبل عريان ... كأنه لا كان شيطان
يغسل أثوابا كأن البلى ... فيها خليط وهي أوطان
أرقّ من ديني إن كان لي ... دين كما للناس أديان
كأنها حالي من قبل أن ... يصبح عندي لك إحسان
يقول من يبصرني معرضا ... فيها وللأقوال برهان
هذا الذي قد نسجت فوقه ... عناكب الحيطان إنسان
فأنفذ لي جبة وقميصا وعمامة وسراويل وكيسا فيه خمسمائة درهم وقال: قد أنفذت لك ما تلبسه وتدفعه إلى الخياط ليصلح لك الثياب على ما تريده، فإن كنت
__________
[1] النشوار 3: 187.(3/988)
غسلت التكّة واللالكة عرّفني لأنفذ لك عوضها.
ولأبي محمد المهلبي:
ويوم كأن الشمس والغيم دونها ... حجاب به صينت فما يتهتك
عروس بدت في زرقة من ثيابها ... تجلّلها فيها رداء ممسّك
قرأت بخط المحسن بن إبراهيم الصابىء، أنشدني والدي قال: أنشدني الوزير أبو محمد المهلبي لنفسه:
إذا تكامل لي ما قد ظفرت به ... من طيب مسمعة وظرف رمّان
وقهوة لو تراها خلت رقتها ... ديني وحافر من ان شئت غناني
فما أبالي بما لاقى الخليفة من ... بغا الخصيّ وعصيان ابن حمدان
وقال الصاحب ابن عباد: أنشدني الأستاذ أبو محمد المهلبي لنفسه [1] :
قال لي من أحبّ والبين قد ج ... دّ وفي مهجتي لهيب الحريق
ما الذي في الطريق تصنع بعدي ... قلت أبكي عليك طول الطريق
حدث أبو علي التنوخي قال [2] : كان أبو محمد المهلبي يكثر الحديث على طعامه، وكان طيب الحديث، وأكثره مذاكرة بالأدب وضروب الحديث على المائدة لكثرة من يجمعهم عليها من العلماء والكتاب والندماء، وكنت كثيرا ما أحضر، فقدّم إليه في بعض الأيام [طيهوج] [3] فقال لي: أذكرني هذا حديثا ظريفا، وهو ما أخبرني به بعض من كان يعاشر الراسبيّ الأمير [4] ، قال: كنت آكل معه يوما وعلى المائدة خلق عظيم فيهم رجل من رؤساء الأكراد المجاورين لعمله، وكان ممن يقطع الطريق، ثم استأمن إليه فأمنه واختصّه وطالت أيامه، وكان في ذلك اليوم على مائدته إذ قدم حجل فألقى الراسبي منه واحدة إلى الكردي كما يلاطف الرؤساء مؤاكليهم، فأخذها الكردي وجعل يضحك، فتعجب الراسبي من ذلك وقال: ما سبب هذا الضحك وما جرى ما يوجبه؟ فقال: خبر كان لي، فقال: أخبرني به، فقال: شيء ظريف ذكرته لما رأيت
__________
[1] اليتيمة 2: 239.
[2] نشوار المحاضرة 3: 208.
[3] طيهوج: ذكر الحجل.
[4] هو علي بن أحمد (توفي 301) .(3/989)
هذه، قال: فما هو؟ قال: كنت أيام قطع الطريق قد اجتزت في المحجة الفلانية في الجبل الفلاني، وأنا وحدي في طلب من آخذ ثيابه، فاستقبلني رجل وحده، فاعترضته وصحت عليه فاستسلم إليّ ووقف، فأخذت ما كان معه، وطالبته أن يتعرّى ففعل، ومضى لينصرف فخفت أن يلقاه في الطريق من يستفزّه عليّ، فأطلب وأنا وحدي فأوخذ، فقبضت عليه وعلوته بالسيف لأقتله، فقال: يا هذا أي شيء بيني وبينك؟ أخذت ثيابي ولا فائدة لك في قتلي، فكتفته ولم ألتفت إلى قوله، وأقبلت أقنّعه بالسيف، فالتفت كأنه يطلب شيئا، فرأى حجلة قائمة على الجبل، فصاح يا حجلة اشهدي لي عند الله تعالى أني أقتل مظلوما، فما زلت أضربه حتى قتلته، وسرت فما ذكرت هذا الحديث حتى رأيت هذه الحجلة فذكرت حماقة هذا الرجل فضحكت، فانقلبت عينا الراسبيّ في رأسه حردا وقال: لا جرم والله أن شهادة الحجلة عليك لا تضيع اليوم في الدنيا قبل الآخرة، وما أمنتك إلا على ما كان منك من إفساد السبيل، فأما الدماء فمعاذ الله أن أسقطها عنك يا ابن الفاعلة بالأمان، وقد أجرى الله على لسانك الاقرار عندي، يا غلمان اضربوا عنقه، قال: فبادر الغلمان إليه بسيوفهم يخبطونه حتى تدحرج رأسه بين أيديهم على المائدة وجرّت جثته، ومضى الراسبي حتى أتمّ غداءه.
قال أبو علي [1] : حضرت أبا محمد في وزارته وقد دفع إليه شاعر رقعة صغيرة فقرأها وضحك، وأمر له بألف درهم، وطرح الرقعة فقرأتها وإذا فيها:
يا من إليه النفع والضرّ ... قد مسّ حال عبيدك الضرّ
لا تتركنّ الدهر يظلمني ... ما دام يقبل قولك الدهر
قال إبراهيم بن هلال الصابىء: كان أبو محمد يخاطب بالاستاذية.
قال أبو علي: كنت في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة ببغداد، فحضر أول يوم من شهر رمضان فاصطحبت أنا وأبو الفتح عبد الواحد بن أبي علي الحسين بن هارون الكاتب [2] إلى دار أبي الغنائم الفضل بن الوزير أبي محمد المهلبي لتهنئته بالشهر،
__________
[1] نقله محقق النشوار 3: 49.
[2] ر: مع أبي الفتح عبد الواحد بن مروان الكاتب (وسيرد كما هو في م بعد قليل) .(3/990)
عند توجه أبيه إلى عمان، وبلغ أبو محمد إلى موضع من أنهار البصرة يعرف بعلياباذ ففترت نيّته عن الخروج إلى عمان، واستوحش معز الدولة منه وفسد رأيه فيه، واعتلّ المهلبي هناك، ثم أمره معز الدولة بالرجوع عن علياباذ وان لا يتجاوزه، وقد اشتدت علته، والناس بين مرجف بانه يقبض عليه إذا حصل بواسط أو عند دخوله إلى بغداد، وقوم يرجفون بوفاته، وخليفته إذ ذاك على الوزارة ببغداد أبو الفضل العباس بن الحسين بن عبد الله وأبو الفرج محمد بن العباس بن فسانجس. فجئنا إلى أبي الغنائم ودخلنا إليه وهو جالس في عرضيّ بداره التي كانت لأبيه على دجلة على الصراة عند شباك على دجلة، وهو في دست كبير عال جالس، وبين يديه الناس على طبقاتهم، فهنأناه بالشهر وجلسنا وهو إذا ذاك صبي غير بالغ إلا أنه محصّل، فلم يلبث أن جاء أبو الفضل وأبو الفرج خليفتا أبيه فدخلا إليه وهنآه بالشهر، فأجلس أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، على طرف دسته في الموضع الذي فيه فضلة المخادّ إلى الدست، ما تحرك لأحد منهما ولا انزعج، ولا شاركاه في الدست، وأخذا معه في الحديث، وزادت مطاولتهما، وأبو الفضل يستدعي خادم الحرم فيسارّه، فيمضي ويعود ويخاطبه سرّا إلى أن جاءه بعد ساعة فسارّه فنهض أبو الفضل، فقال له أبو الفرج: إلى أين يا سيدي؟ فقال: أهنىء من يجب تهنئته وأعود إليك، وكان أبو الفضل زوج زينة ابنة الوزير المهلبي أخت أبي الغنائم من أبيه وأمه تجنّي، فحين دخل واطمأنّ قليلا وقع الصراخ، وتبادر الخدم والغلمان، ودعي الصبي وكان يتوقع أن يرد عليه خبر موت أبيه لأنه كان عالما بشدة علته، فقام فمسكه أبو الفرج وقال: اجلس اجلس وقبض عليه، وخرج أبو الفضل وقد قبض على تجني أم الصبي ووكّل بها خدما وختم الأبواب، ثم قال للصبي: قم يا أبا الغنائم إلى مولانا يعني معز الدولة فقد طلبك، وقد مات أبوك، فبكى الصبيّ وسعى إليه وعلق بدراعته وقال: يا عم الله الله فيّ، يكررها، فضمّه أبو الفضل إليه واستعبر وقال: ليس عليك بأس ولا خوف، وانحدروا إلى زبازبهم، فجلس أبو الفرج في زبزبه، وجلس أبو الفضل في زبزبه، وأجلس الغلام بين يديه، وأصعدت الزبازب تريد معزّ الدولة بباب الشماسية، فقال أبو الفتح ابن الحسين بن هارون: ما رأيت مثل هذا قط ولا سمعت، لعن الله الدنيا، أليس الساعة كان هذا الغلام في الصدر معظّما، وخليفتا أبيه بين يديه، وما افترقا حتى(3/991)
صار بين أيديهما ذليلا حقيرا. ثم جرى من المصادرات على أهله وحاشيته ما لم يجر على أحد. وله [1] :
لقد واظبت نفسي على الحبّ والهوى ... بجارية ترعى الهوى وتواظب
صفا لي منها الودّ والشيب شامل ... كما كان يصفو والشباب مصاحب
وله:
إني ليعصمني هواك عن الهوى ... حتى كأنّ علي منك رقيبا
وأجول في غمرات حبّك جاهدا ... طورا فيحسبني الجليس رهيبا
ما إن هممت بشمّ نحرك ساعة ... إلا ملأت من الدموع جيوبا
قال أبو حيان، قال ابن أبي طرخان: دخلت إلى المهلبيّ في أيام نكبته، فرأيته يذمّ صنائعه ومن قدّمه في أيامه وأولاهم الجميل، وقال: ما علمت أن الدهر بهذه الأفعال يعامل الأحرار، وإلا كنت أحسنت لنفسي الاختيار، وبكى وقال:
لئن قعدت بي قلة المال قعدة ... فما أنا عن كسب المعالي بقاعد
وما أنا بالساعي إلى الجهل والخنا ... ولا عن مكافاة الصديق براقد
أكافي أخي بالودّ أضعاف وده ... وأبذل للمولى طريفي وتالدي
وما صاحبي عند الرخاء بصاحب ... إذا لم يكن عند الأمور الشدائد
فقلت له: أدام الله حراسة الوزير كفكف عبرتك، وهوّن على نفسك، فمذ كانت الدنيا كانت غدّارة مكارة، تقصد الأحرار بالمكاره، وتلقى أهل المروات بالنوائب، وترميهم بالأوابد، وأكثر من ترى من هذا الوري فهم عبيد الطمع وأسراء الجشع، يخونون الاخوان ويميلون مع الرجحان، فدمعت عيناه وأنشد:
الناس أتباع من دامت له النعم ... والويل للمرء ان زلّت به القدم
مالي رأيت أخلائي وحاصلهم ... اثنان مستكبر عنّي ومحتشم
لما رأيت الذي يجفون قلت لهم ... أذنبت ذنبا؟ فقالوا ذنبك العدم
__________
[1] اليتيمة 2: 237.(3/992)
قال أبو علي محمد بن وشاح الكاتب، قال لي أبو الحسن محمد بن عبيد الله ابن سكرة الهاشمي، من ولد المهدي: خرجت إلى الأهواز قاصدا للوزير أبي محمد الحسن بن محمد المهلبي مادحا له فلما وصلت إليه أنشدته:
قفي حيث انتهيت من الصدود ... ولا تتعمدي قتل العميد
فقد وهواك وهو أجلّ حلفي ... حميت نظيرتيك من الهجود
هجرت مقيمة وظعنت غضبي ... فحربت الحديد على الحديد
فراق ظعينة وفراق رأي ... يكرّهما عليّ فراق جود
ثلاث ما اجتمعن على ابن حبّ ... صدود في صدود في صدود
قال: وانصرفت، فلما كان من الغد استدعاني وقال: اسمع وأنشدني لنفسه:
أتاني في قميص اللاذ يمشي ... عدوّ لي يلقّب بالحبيب
وقد عبث الشراب بوجنتيه ... فصير خده كسنا اللهيب
فقلت له فديتك كيف هذا ... بلا واش أتيت ولا رقيب
وما هذا الذي أحدثت بعدي ... لقد أمسيت في زي عجيب
فقال الشمس أهدت لي قميصا ... رقيق الجسم من شقق الغروب
فثوبي والمدام ولون خدي ... قريب من قريب من قريب
- 345- الحسن بن محمد بن وكيع التنيسي أبو محمد: أديب فاضل شاعر مجيد عارف بفنون العلم؛ مات في سنة تسعين وثلاثمائة، وكان سمسارا في بلده متأدبا ظريفا، وكان قد صنف «كتاب سرقات المتنبي» وحاف عليه. وعذله بعض أهل
__________
[345]- ترجمة ابن وكيع في اليتيمة 1: 372 وابن خلكان 2: 104 والشذرات 3: 141 والمقفى 3: 410 وقد جمع ديوانه الدكتور حسين نصار (مصر 1953) جمعا لا يفي إلا ببعض شعره، ولهلال ناجي استدراك عليه (المورد 2/1 (1973) 198- 205 وطبع كتابه المصنف مرتين: مرة بتحقيق د. محمد رضوان الداية، دمشق 1984 ومرة بتحقيق د. محمد يوسف نجم، بغداد 1984 (وهذه الترجمة من ر) .(3/993)
الأدب فلم يرجع عن ذلك، فقال له: هل تثقل عليك الموافقة؟ قال: لا، قلت:
هذه الأبيات التي لك مأخوذة من قول المتنبي؛ وأبيات ابن وكيع:
لو كان كلّ عليل ... يزداد مثلك حسنا
لكان كلّ مريض ... يودّ لو كان مضنى
يا أكمل الناس حسنا ... صل أكمل الناس حزنا
غنيت عني وما لي ... وجه به عنك أغنى
وأبيات المتنبي [1] :
فلو كان المريض يزيد حسنا ... كما تزداد أنت على السقام
لما عيد المريض إذن وعدّت ... شكايته من النّعم العظام
فقال: والله ما سمعت هذا، فقلت: إذا كان الأمر على هذا فاعذر بمثله المتنبي.
ومن شعره:
وحديث كأنه ... أوبة من مسافر
كان أحلى من الرقا ... د إلى طرف ساهر
وله:
من أين للظبي الغرير الأحور ... في الخدّ مثل عذاره المتحدّر
رشأ كأن بعارضيه كليهما ... مسكا تساقط فوق ورد أحمر
قيل ان ابن وكيع كان قد مال إلى غلام أمرد حسن الوجه، فقيل لأبيه: إنه قد شغف بمن لا يستحقّ أن يشغف به، فعاتبه على ذلك، واتفق أنّ الغلام اجتاز عليه وهو لا يعرفه، فقال: لو هويت مثل هذا كنت معذورا، فقال في الحال [2] :
أبصره عاذلي عليه ... ولم يكن قبلها رآه
فقال لي لو هويت هذا ... ما لامك الناس في هواه
__________
[1] لم يردا في ديوان المتنبي.
[2] الأبيات في اليتيمة 1: 396- 397 والمقفى: 413.(3/994)
قل لي إلى من عدلت عنه ... فليس أهل الهوى سواه
وظلّ من حيث ليس يدري ... يأمر بالحبّ من نهاه
- 346-
الحسن بن محمد السهواجي أبو علي:
أديب أريب، شاعر لبيب مشهور مذكور. وسهواج من قرى مصر، ومات بمصر سنة أربعمائة، فمن شعره:
كرام المساعي في اكتساب محامد ... وأهدى إلى طرق المعالي من القطا
وأبوابهم معمورة بعفاتهم ... وأيديهم ما تستريح من العطا
وله:
وقد كنت أخشى الحبّ لو كان نافعي ... من الحب أن أخشاه قبل وقوعه
كما حذر الانسان من نوم عينه ... ونام ولم يشعر أوان هجوعه
وله:
نطقت بالضحى حمامة أيك ... فأثارت أسى وأجرت دموعا
ذكرت إلفها فحنت إليه ... فبكينا من الفراق جميعا
وله:
قوم كرام إذا سلّوا سيوفهم ... في الرّوع لم يغمدوها في سوى المهج
إذا دجا الخطب أو ضاقت مذاهبه ... وجدت عندهم ما شئت من فرج
__________
[346]- هذه الترجمة لم ترد في (م) ووردت في المختصر، وصرّح الصفدي (12: 243) بنقلها عن ياقوت، ولهذا مزجت بين ما ورد في المختصر وما أورده الصفدي. وانظر أيضا ترجمة السهواجي في يتيمة الدهر 1: 397 والفوات 1: 262.(3/995)
- 347-
الحسن بن محمد بن الحسن بن حبيب أبو القاسم:
الواعظ المفسر ذكره عبد الغافر فقال: إمام عصره في معاني القرآن وعلومه، وقد صنف التفسير المشهور به، وكان أديبا نحويا عارفا بالمغازي والقصص والسير، مات في ذي القعدة سنة ست وأربعمائة وصنف في القراءات والأدب وفي عقلاء المجانين.
وكان يدرس لأهل التحقيق ويعظ العوام، وانتشر عنه بنيسابور العلم الكثير، وسارت تصانيفه في الآفاق. حدث عن الأصم وعبد الله بن الصفار وأبي الحسن الكارزي، وكان أبو إسحاق الثعلبي من خواص تلاميذه؛ وكان كرامي المذهب ثم تحول شافعيا. ومن شعره:
في علم علّام الغيوب عجائب ... فاصبر فللصبر الجميل عواقب
ومصائب الأيام إن غاديتها ... بالصّبر ردّت عنك وهي مواهب
لم يدج ليل العسر قطّ بغمة ... إلا بدا لليسر فيه كواكب
وله أيضا:
بمن يستغيث العبد إلا بربّه ... ومن للفتى عند الشدائد والكرب
ومن مالك الدنيا ومالك أهلها ... ومن كاشف البلوى على البعد والقرب
ومن يدفع الغماء وقت نزولها ... وهل ذاك إلا من فعالك يا ربي
[وجدت على حاشية الأصل المنقول منه هذا الاختيار:
إذا ضاقت بك الأسباب يوما ... فثق بالواحد الصمد العليّ
فكم لله من لطف خفيّ ... يدقّ خفا عن الفهم الذكي
وكم أمر تساء به صباحا ... فتعقبه المسرّة بالعشي
__________
[347]- ترجمة ابن حبيب هذه تمثل الجمع بين ما ورد في المختصر وما أورده الصفدي (الوافي 12: 239) وانظر بغية الوعاة 1: 519 وطبقات المفسرين للسيوطي: 11 وعبر الذهبي 3: 93 وسير الذهبي 17: 237 وطبقات الداودي 1: 140.(3/996)
وكم عسر أعاد الله يسرا ... يفرّج همّ ذي قلب شجيّ
وقيل إنه كان ذا ثروة، وكان في داره بستان وبئر، وكان إذا قصده إنسان من الغرباء إن كان ذا ثروة طمع في ماله، وإن كان فقيرا أمره بنزح الماء لبستانه حتى يقيده، وكان لا يفعل بأهل بلده ذلك.
- 348-
الحسن بن محمد [بن علي] بن رجا بن الدهان اللغوي:
أخذ عن الربعي والسيرافي، وأخذ عنه أبو زكريا التبريزي، مات في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، وكان من أصحاب الرماني، وكان سيّء الحال قشفا محالفا للفقر. وذكروا أنه كان يوما جالسا لأصحابه وعليه ثوب خلق تبدو منه عورته فقال له بعض أصحابه مشيرا إلى ذلك العضو: أيها الشيخ غرمولك، أي استر ذكرك، فتجمع الدهان ثم استرسل فبدا العضو، فقال له ذاك الرجل: أيها الشيخ قمدّك، فعاد وتجمع مستترا ثم مرّ في الإقراء وعاد مسترسلا، فبدا العضو فقال له: أيها الشيخ قهبلسك، وجرى معه في هذا الميدان من التنبيه على الاستتار بذكر الغريب من أسماء الذكر، فأقبل عليه الشيخ الدهان متضجرا وقال له: ويلك ما أتقنت من الغريب إلا حفظ أسماء هذا المردريك؟! فتضاحك الجماعة من قوله وانقطع المجلس.
قال المصنف: هذه حكاية مشهورة صحيحة عن هذا الصدر الذي يتعذر أن يكون في زماننا مثله، وقد كان يقصد وتقرأ عليه علوم الأدب، وأهل زماننا يذمون زمانهم، ولم يكن له ثوب يواريه، ولا في تلاميذه ذو أريحية يواسيه، فضلا عن أن يفضل عليه ويبره. ولكن ذم الناس لزمانهم لقلة رضاهم بأرزاقهم وأن كلّ أحد يرجو الغاية لا الكفاية، ويرى أنه مستحق للملك، لا لما يمشّي أمره في دار الهلك، والله المستعان.
__________
[348]- ترجمة ابن الدهان من المختصر، ولم يصرح الصفدي بنقلها عن ياقوت، ولهذا لم أجمع بينهما؛ وانظر ترجمة ابن الدهان في إنباه الرواة 1: 304 والجواهر المضية 1: 202 والبلغة: 64 والوافي 12: 230 وبغية الوعاة 1: 523.(3/997)
- 349-
الحسن بن محمد التميمي القاضي التاهرتي:
يعرف بابن الربيب، أصله من تاهرت، وطلب العلم بالقيروان ومات بها سنة عشرين وأربعمائة وقد جاوز الخمسين، وتولّى القضاء.
وكان محمد بن جعفر القزاز معنيا به محبا له، فبلغ النهاية في الأدب وعلم الخبر والنسب وله في ذلك تأليف مشهور. وكان خبيرا باللغة شاعرا مقدما قويّ الكلام يتكلف بعض التكلف، وكان عبد الكريم بن إبراهيم النهشلي يروي له ما لا يروي لأحد من الشعراء، سئل عن أشعر أهل بلده فقال: أنا ثم ابن الربيب. ومن شعره [1] :
فلما التقى الجمعان واسنمطر الأسى ... مدامع منا تمطر الموت والدما
لدى مأتم للبين غنّى به الهوى ... بشجو وحنّ الشوق فيه فأرزما
تصدّت فأشجت ثم صدّت فأسلمت ... ضميرك للبلوى عقيلة أسلما
ومن شعره يرثي المنصور بن محمد بن أبي العرب [2] :
لله أيّ محافظ ومحامي ... فجعت به الدنيا وأيّ همام
ومصرّف للملك راح مصرّفا ... في الترب بين صفائح ورجام
حلّت عليه الحادثات وطالما ... نزلت به قسرا على الأحكام
وتناولته يد الردى ولربما ... نالت به الأرواح وهي سوامي
يا قبر لا تظلم عليه فطالما ... جلّى بغرّته دجى الاظلام
أعجب بقبر قيس شبر قد حوى ... ليثا وبحر ندى وبدر تمام
__________
[349]- ترجمة ابن الربيب من المختصر، وانظر إنباه الرواة 1: 318 والوافي 12: 237 وبغية الوعاة 1: 525 وأنموذج الزمان: 111 واستدركه جواد في الضائع: 18.
[1] أنموذج الزمان: 112 والانباه والوافي.
[2] منها بيتان في الانموذج والانباه والوافي.(3/998)
ومنها:
ولطالما اصطكت لدى أبوابه ... ركب الملوك وجلّة الأقوام
يا ويح أيد أسلمتك إلى الثرى ... ما كنت تسلمها إلى الاعدام
- 350-
الحسن بن محمد بن عزيز أبو منصور اللغوي:
لا أعرف من حاله شيئا، غير أني وجدت له كتابا في اللغة في عشر مجلدات مرتبا على حروف المعجم سماه «ديوان العرب وميدان الأدب» وخطّه عليه بالقراءة في شعبان سنة سبع وثلاثين وأربعمائة.
- 351-
الحسن بن القاسم بن علي الواسطي المعروف بغلام الهراس:
أبو علي المقرىء، إمام الحرمين، مات سنة ثمان وستين وأربعمائة بواسط. سافر في طلب الاسناد للقراءات وأتعب نفسه في التجويد والتحقيق حتى صار طبقة أهل العصر، ورحل إليه الناس من أقطار الأرض، وكفّ بصره بأخرة؛ وقد قدح قوم في قراءته وقالوا: ادّعى الاسناد في شيء لا حقيقة له، ذكر ذلك عن ابن خيرون الأمين وغيره.
- 352-
الحسن بن محمد بن عبد الصمد بن أبي الشخباء،
أبو علي العسقلاني:
صاحب الرسائل، مات في ما ذكره علي بن بسام في كتاب الذخيرة في سنة اثنتين
__________
[350]- هذه الترجمة من الوافي (12: 244) وهو يصرح بالنقل عن ياقوت، وانظر بغية الوعاة 1: 523.
[351]- ترجمة غلام الهراس من الوافي (12: 204) وقد صرح الصفدي بالنقل عن ياقوت وانظر مصورة ابن عساكر 4: 578 وتهذيب ابن عساكر 4: 239 وعبر الذهبي 3: 266 وميزان الاعتدال 1: 518 ولسان الميزان: 245 وطبقات ابن الجزري 1: 228 والشذرات 3: 329.
[352]- ترجمته في ابن خلكان 2: 89 والوافي 12: 68 وذكره العماد في الخريدة في العسقلانيين وهو قسم(3/999)
وثمانين وأربعمائة معتقلا بمصر في خزانة البنود، وكان يلقب بالمجيد ذي الفضيلتين، أحد البلغاء الفصحاء الشعراء، له رسائل مدونة مشهورة قيل إن القاضي الفاضل عبد الرحيم بن [علي] البيساني منها استمدّ وبها اعتدّ، وأظنه كتب في ديوان الرسائل للمستنصر صاحب مصر لأن في رسائله جوابات إلى الفساسيري، إلا أن أكثر رسائله إخوانيات وما كتبه عن نفسه إلى أصدقائه ووزراء وأمراء زمانه، وها أنا أكتب منها ما سنح لتعرف قدر بضاعته ومغزى صناعته، نظما ونثرا؛ قال من قصيدة:
أخذت لحاظي من جنى خديك ... أرش الذي لاقيت من عينك
هيهات إني إن وزنت بمهجتي ... نظري إليك فقد ربحت عليك
غضّي جفونك وانظري تأثير ما ... صنعت لحاظك في بنان يديك
هو ويك نضح دمي وعزّ عليّ أن ... ألقاك في عرض الخطاب بويك
وسلكت في فيض الدموع مسالكا ... قصرت بها يد عامر وسليك
صانوك بالسمر اللدان وصنتهم ... بنواظر فحميتهم وحموك
لو يشهرون سيوف لحظك في الورى [1] ... ما استنفروا [2] فيها قنا أبويك
وهم المغاوير الكماة وإنما ... ألقوا مقاليد القلوب إليك [3]
وقد كتب إلى صديق له: لما حديت ركاب مولاي، أخذ صبري معه، وصحبه قلبي وتبعه:
فعجبت من جسم مقيم سائر ... كمسير بيت الشعر وهو مقيّد
وبقيت بعده أقاسي أمورا تخفّ الحليم وترعي الهشيم، إن رجوت منها غفلة
__________
تابع لشعراء مصر. الورقة 14 (نسخة باريس رقم: 3328) ويعتمد ياقوت على الذخيرة (4/2: 627) وهناك مجموعة من رسائله في جمهرة الاسلام للشيزري، ومجموعة من رسائله وخطبه في الريحان والريعان؛ وذكره المقريزي (في اتعاظ الحنفا 2: 328) وذكر أنه توفي سنة 486.
[1] الوغى.
[2] م: استقرأوا.
[3] البيت من ر.(3/1000)
اقتحمت، وإن رمت منها فرجة تضايقت والتحمت. وأما الوحشة فقد اصطبحت منها كأسا مترعة، وتجرعت من صابها أمرّ جرعة. ورأيت فؤادي إذا مرّ ذكر مولانا به [1] يكاد يخرج من خدره، ويرغب في مفارقة صدره، حنينا يجدّده السماع، وصدودا تنتقض منه الأضلاع، وزفرة تدمي في عذارها، ويطلع في الترائب شرارها:
أداري شجاها كي تخلّي مكانها ... وهيهات ألقت رحلها واطمأنت
وأما ما أعاني بعد مسيره فأشياء منها عيث الألم مرة بعد مرة [2] ، وزوال الاستمتاع بما يعرفه من تلك المسرة؛ ومنها اضطراري إلى كثرة مكاثرة من أعلم دخل سرائره، واختلاف باطنه وظاهره، وتكلف اللقاء له بصفحة مستبشرة، وأخلاق غير متوعرة.
والله يعلم نفور طباعي ممن رآه أهل الأدب من الأدب غفلا، ومن ذخائره مقفلا، لكن السياسة تقتضي اعتماد ما ذكرت، وتوجب قصد ما شرحت، وإن كان موردا غير عذب، وثقيلا على العين والقلب:
ولربما ابتسم الفتى وفؤاده ... شرق الضلوع برنّة وعويل
ومنها انعكاس كثير من الآمال، وارتشاف الزمن [3] الصبابة الباقية من الحال، بجوائح مصرية وشامية، وفوادح أرضية وسمائية. ولا أشكو بل أسلّم له مذعنا، وأرى فعله كيف تصرفت الأحوال جميلا حسنا:
ومن لم يسلّم للنوائب أصبحت ... خلائقه طرّا عليه نوائبا
والله تعالى المسؤول أن يهب لي من قرب مولاي ما يأسو هذه الكلوم، ويجدد من المسرّة عافي الرسوم، فجميع الحوادث، وسائر النوائب الكوارث، إذا قربت الخطوة، واستجيبت هذه الدعوة، تمسي غير مذكورة، وبجناح التجاوز مكفورة.
وكتب [4] إلى أبي الفرج الموفقي جوابا عن رقعة: وصلت رقعة مولاي والصبح
__________
[1] م: مولاي.
[2] بعد مرة: زيادة من ر.
[3] الزمن: زيادة من ر.
[4] وردت الرسالة في الذخيرة 4/2: 654، ولأبي الفرج ترجمة في الدمية 1: 185 والخريدة (قسم مصر) 2: 218 (وفيه الموقفي- بتقديم القاف) .(3/1001)
قد سل على الأفق مقضبه، وأزال بأنوار الغزالة غيهبه، فكانت بشهادة الله صبح الآداب ونهارها، وثمار البلاغة وأزهارها، قد توشحت بضروب من الفضل تقصر [1] قاصية المدى، وتجري به في مضمار الأدب مفردا:
فكأن روض الحزن تنشره الصبا ... ما ظلت من قرطاسها أتصفح [2]
فأما ما تضمنته من وصفي فقد صارت حضرته السامية تتسمح في الشهادة بذلك مع مناقشتها في هذه الطريقة، وأنها لا توقع ألفاظها إلا مواقع الحقيقة، فإن كنت قد بهرجت عليها فلتراجع نقدها، تجدني لا أستحق من ذلك الإسهاب فصلا، ولا أعدّ لكلمة واحدة منه أهلا. وبالجملة فالله ينهضني بشكر هذا الانعام الذي يقف عند الثناء ويظلع، ويحصر دونه الخطيب [3] المصقع:
هيهات تعيي الشمس كلّ مرامق ... ويعوق دون منالها العيّوق
وأما الفصل الذي أودعه الرقعة الكريمة من قوله: «فأما فلان فيحلّ في قومه ويفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد، قدوره عمارية، وعطسات جواريه أسدية، تراهنّ أبدا يمشين [4] في حلل الشباب ويهوين لو خلق الرجال خلق الضباب، يتضوّعن النشر العبقسي، ويرضعن مراضع ثعالة المجاشعي» وما أمرت حضرته السامية من ذكر ما عندي فيه، فقد تأمّلته طويلا وعثر الخادم فيه بما أنا ذاكره، راغبا في الرضى بما بلغت اليه المقدرة، وتجليل ذلك بسجوف الصفح.
أما قوله: «يفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد» فيقع لي أنه أراد خالد بن الوليد المخزومي، وذلك أن مسيلمة الحنفي كان قد تنبأ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحديثه مشهور، فبعث إليه أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد المقدم ذكره في جيش كثيف من المسلمين، ففتح اليمامة وقتل مسيلمة وأباد جماعة كثيرة من بني حنيفة.
__________
[1] الذخيرة: تعطيه.
[2] البيت مضطرب في م.
[3] الذخيرة: البليغ.
[4] هكذا في الذخيرة، وأرجح «يمسن» .(3/1002)
وأما قوله «قدوره عمّاريّة» فإن هذا الفصل لما كان مبنيا على الذمّ وجب أن يتطلب لهذا السبب معنىّ يجب حمله عليه، ولم يجد ما ينسب إليه إلا قول الفرزدق [1] :
لو أن قدرا بكت من طول ما حبست ... على الحقوق بكت قدر ابن عمار
ما مسّها دسم مذ فضّ معدنها ... ولا رأت بعد نار القين من نار
وأما قوله «عطسات جواريه أسدية» فيقوى في وهمي أنه أراد قول الأول في هجائه [2] :
إذا أسدية عطست فنكها ... فإن عطاسها طرف الوداق
وأما قوله: «يهوين لو خلق الرجال خلق الضباب» فإن الجاحظ ذكر في «كتاب الحيوان» أن للضب أيرين وللضبة حرين، وحكى أن أير الضبّ أصله واحد، وإنما يتفرق فيصير أعلاه اثنين، واستشهد على ذلك بقول الفزاري [3] :
رعين الدبا والبقل حتى كأنما ... كساهن سلطان ثياب مراجل [4]
سبحل له نزكان كانا فضيلة ... على كلّ حاف في البلاد وناعل [5]
والنزك: اسم أير الضب، وأنشد الأصمعي لأبي درماء فيما رواه أبو خالد النميري [6] :
تفرقتم لا زلتم قرن واحد ... تفرّق أير الضبّ والأصل واحد
ومن ها هنا قالت حبّى المدنية لما عذلها أبوها في تزوجها ابن أم كلاب [7] :
__________
[1] ديوان الفرزدق 1: 326.
[2] هو في الأغاني 12: 181 لكثير، وانظر ديوانه: 389 وروايته «إذا ضمرية» .
[3] م: الفرزدق: والتصويب عن الحيوان 6: 73 ونسبت الأبيات في اللسان (سبحل) لأبي الحجاج، وقال ابن بري إنها لحمران ذي الغصة.
[4] الدبا: الجراد؛ والمراجل، ثياب يمنية فيها صور، ويقال فيها أيضا مراحل.
[5] السّبحل: المسن من الضباب.
[6] الحيوان 6: 74 بإنشاد الكسائي، والخبر كله (لا البيت وحده) رواية أبي خالد (أو أبي خلف) النميري عن أبي حية النميري.
[7] الحيوان 6: 75 (2: 200) ، وعند الجاحظ أن الذي عذلها هو ابنها (لا أبوها) .(3/1003)
وددت بأنه ضبّ وأني ... ضبيبة كدية وجدت خلاء
وأما قوله: «يتضوعن النشر» فمن أمثال العرب: «هو أخسر صفقة من شيخ مهو» [1] وهو بطن من عبد القيس بن أفصى بن دعميّ بن جديلة بن أسد بن نزار بن معد بن عدنان، وكان من خبره أن إيادا كانت أفسى العرب، فوفد وافدهم إلى الموسم بسوق عكاظ ومعه حلة نفيسة، فقال: يا معشر العرب من يشتري مني مثلبة قوم لا تضرّه بحلتي هذه؟ فقال الشيخ المهوي: أنا أشتريها، فقال الإيادي: أشهدكم يا معشر العرب أني قد بعت فساء إياد لوافد عبد القيس بحلّتي هذه، وتصافحا وافترقا متراضيين، وقد شهد عليهما أهل الموسم فصارت عبد القيس أفسى العرب. وقيل لابن مناذر: كيف الطريق إلى عبد القيس؟ فقال: شمّ ومرّ:
فإن عبد القيس من لؤمها ... تفسو فساء ريحه تعبق
من كان لا يدري لها منزلا ... فقل له يمشي ويستنشق
وأما قوله: «أعطش من ثعالة المجاشعيّ» [2] فمن أمثال العرب فيما ذكره الكلبي قال: هما رجلان من بني مجاشع عطشا، فالتقم كلّ واحد منهما أير صاحبه يشرب بوله، فلم يغن عنهما شيئا وماتا عطشا، ووجدا على تلك الحال، قال جرير يهجو بني دارم [3] :
رضعتم ثم سال على لحاكم ... ثعالة حين لم تجدوا شرابا
هذا ما وقع لي في هذا الفصل، وأرجو أن تكون قد ذهبت إلى ما قصده قائله.
ومن كلامه يهنىء بكسر أتسز الغزّي، وكان ذلك لثمان ساعات مضين من يوم الاثنين في العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة تسع وستين وأربعمائة: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ
(آل عمران: 173)
__________
[1] المثل في الدرة الفاخرة: 140 (أحمق من ... ) وجمهرة العسكري 1: 388 والمستقصى 1: 82 وثمار القلوب: 106 واللسان (فسا) واسم الشيخ: عبد الله بن بيدرة.
[2] المثل في الدرة الفاخرة: 309 وجمهرة العسكري 2: 70 والميداني 2: 49 والمستقصى 1: 248.
[3] ديوان جرير: 818.(3/1004)
قد ارتفع الخلاف بين الكافة أن الله ذخر للدولة الفاطمية- ثبّت الله أركانها- من الحضرة العليّة المنصورة الجيوشية- خلد اله سلطانها- من حمى سوادها، ونصر أعلامها، وضمّ نشرها، وحفظ سريرها ومنبرها، بعد أن كان الأعداء الذين ارتضعوا درّ إنعامها، وتوسموا بشرف أيامها، فطردت يد الاصطناع إملاقهم، وأثقلت قلائد الإحسان أعناقهم، خفروا ذمم الولاء، وكفروا سوابغ الآلاء، ففجأتهم الحوادث من كلّ طريق، ونعب بهم غراب الشتات والتفريق، واستباحتهم يد الشدائد فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ
(النحل: 26) . ولم تزل النفوس منذ طرق أتسز بن أوق اللعين هذه البلاد، وأنجم فيها أنجم الفساد، وتعدّى حدود الله وكلماته، وتعرض لمساخطته ونقماته، عالمة بأن إملاء الحضرة العلية- مد الله ظلها على الكافة- لم يكن عن استعمال رخصة في هذه الحال، ولا سكون الى عوارض من الإغفال والإهمال، بل هو أمر ركب فيه متن التدبير، وجرت بنقله المقادير. واتبع فيه قوله تعالى: فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ
(الحج: 44) وحين خدمته المطالع المردية إلى الأعمال القاهرة مؤملا انفصام عروة الله المتينة، وأفول ما توقّد من شجرة مباركة زيتونة، سكنت النفوس إلى [أن] الحضرة العلية- ثبت الله مجدها- ستجرّد له من عزماتها الباقية ما يعجّل دماره، وتنتضي له [من] آرائها الكاملة ما يعفّي آثاره. وحين توالت الأنباء، واصطلمت الرجال بانكسار اللعين، وما منحته الحضرة من النصر المبين، حتى نهبت الأموال وتحكّمت السيوف بحكم القادر الغالب، وأكلتهم الحرب أكل الغرثان الساغب، وأنشبت فيهم أظافرها المنية، وكسيت الأرض من دمائهم حلّة عسجدية، وولّى المخذول على أدباره، ونكص على أعقابه بوبيل أوزاره، يخاف من نجوم الليل أن ترجمه، ومن شمس النهار [أن] تصطلمه، وترك ما معه يقسّم يمينا وشمالا، ومن حشده يقتّل ركبانا ورجالا، علم أن لله تعالى عناية بالدولة الزاهرة، وتحقق أن له سبحانه رعاية بالملة الطاهرة، تحوط أقطارها، وتضاعف أنوارها، ولطفا خفيا بهذه الرعية، ومشيئته نافذة في هذه البرية، التي لولا مقام الحضرة العلية لمزّق أديمها، واستبيح حريمها. والله المحمود على ما منح الأمة من هذه النعمة، والمسؤول أن يشدّ ببقاء الحضرة العلية قواعد الاسلام، ويسم بمحامدها أغفال الأيام، ويستخدم لها(3/1005)
السيوف والأقلام، حتى لا يبقى على الأرض مفحص قطاة إلا وقد دوخها سنابك خيولها، ولا مسقط نواة إلّا وقد ركزت فيه صدور رماحها ونصولها.
فقد دفعت- أدام الله جمال الدنيا ببقائها، وأعز كمال الدين ببأسها وأصالة رائها- خطبا جسيما، واستلقحت من السياسة أمرا عقيما، وأعادت شمل الأمة ملموما نظيما. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وكان فضل الله عليك عظيما. فأما العبد المملوك فقد تلاعبت به أيدي الأقدار، وقذفته العطلة في هوّة بعيدة الأقطار، وهو يعد نفسه ويوفيها، ويسوّفها ويمنيها، أنّ مراحم الحضرة- نصر الله أعلامها- تعيد كساد بضاعته نفاقا، واضطراب حاله انتظاما واتساقا، وسكون ريحه خفوقا، وغروب حظه شروقا، إن شاء الله تعالى.
وكتب الى بعض إخوانه: أغبّ كتاب مولاي حتى أضرم نارا في الفؤاد، وحالف بين جفني والسهاد:
ثم وافى بلفظه الرائق العذ ... ب وأغنى عن الزلال البرود
وقرأته متنزها ... في روضه وغديره
جمع البلاغة كلّها ... تختال بين سطوره
فالدرّ في منظومه ... والسحر في منثوره
وعرفت ذكر الشوق الذي هيّج أحزانا، ونكأ قرحا لا يندمل زمانا، وإن عندي بشهادة الله ما يضرم ناره، ويشب أواره، والله تعالى يسهل من ألطافه الخفية ما يجمع الشمل، ويصل الحبل، ويقرّب الدار، ويدني المزار، بمحمد وآله والأئمة الأطهار. وأما حالي بعده، وارتياحي إلى ما عنده، وتأسفي على الفائت من أخلاقه التي هي من الحسن أدقّ، ومن الماء أصفى وأرقّ، فحال صبّ أخذ ما في فؤاده، وحولف بين طرفه وسهاده، فحرم لذلك لذيذ رقاده. وأما عتبه عليّ لتأخّر كتبي عنه، وبعدها منه، فهو يعلم- حرس الله مدته- أنني إذا واصلت أو أغببت، أنه سمير خاطري، وإن غاب عن ناظري، وهو نازل بضمائري، وإن بان من بين مخالطي ومعاشري:(3/1006)
يا غائبا عن ناظري ... وحاضرا في خاطري
لا تخش مني جفوة ... فباطني كظاهري [1]
والله يعلم أني لم أغفل كتابه صرما وهجرا، ولا أهملت مجاوبته نقضا لمودته الكريمة ولا غدرا، فإنه من العين بمكان السواد، ومن الصدر بموضع الفؤاد، وبسبب هذا الاعتقاد، وما ذكرت من محض الوداد، أبثّه أشجانا، وأطلعه على أسراري إسرارا واعلانا، ثقة بودّه، وتمسكا بوثيق عهده وعقده، لو رآني فسح الله مدته، وضاعف عليّ مودّته، لرأى صبا قلبه خفيق، ودمعه طليق:
قلق الضمير بظبية وهنانة ... فلها بقلبي هزة وعلوق
الوجه طلق والوشاح مهفهف ... والردف دعص والقوام رشيق
وتبسمت عن واضح فضحت به ... سطع البروق ونمّ منه رحيق
هذه الأبيات تغني عما أردت أن أشرحه، وتنبىء عن مكنون ما سبيلي أن أثبته وأوضحه، والله المسؤول أن يقضي مأربي بسعادة جده، ويزيل عني ما أخشاه بتمام إقباله ومجده، وكتابه هو فسحة للصدر، ومنية ما يطلب من الدهر، ولرأيه علوه في إمضائه إليّ، ووفوده عليّ.
وكتب إلى ابن المغربي يهنئه بالفتوح: أطال الله بقاء سيدنا الوزير الأجلّ ما سطع الصبح بعموده، وهمهم السحاب برعوده، وطلعت في الافق أنجم سعوده:
نعتدّه ذخر العلا وعتادها ... ونراه من كرم الزمان وجوده
والدهر يضحك من بشاشة بشره ... والعيش يطرب من نضارة عوده
فقد ألبس الله الدهر من مناقب الحضرة السامية ما أخرس اللائمة [2] ، وأفاض على الكافة من آلائها ما تملك به رقّ المآثر، ويعجز عنه كلّ ناظم وناثر:
يقصّر عنه لسان البليغ ... ويفضل عن مقلة الناظر
__________
[1] م: كالظاهر.
[2] ر: لائمه.(3/1007)
فما تنفكّ- خلد الله أيامها- تذود [1] عن الدولة برأي صائب، وحساب قاضب، يتحاسد عليه الدرع والدراعة، ويتنافس فيه الصمصامة واليراعة، والملك بين هذين متين العماد، مستبحر [2] الثماد:
ما زال قائد كتبة وكتيبة ... بأصيل رأيي منصل وفؤاد
شبهان من قلم ومن صمصامة ... شهرا ليوم ندى ويوم جلاد
وما وقفت في هذا المقام موقفا وحشيا، ولا وقع عندها موقعا أجنبيا، بل اقتفت آثار أسلاف خفقت عليهم ألوية المعالي وبنودها، ووسمت بأسمائهم جباه الممالك وخدودها، وتحيف الكرم أموالهم وهي أثيثة الجناح، وذللت عزائمهم من النّوب وهي شديدة الجماح:
كتّاب ملك يستقيم برأيهم ... أود الخلافة أو أسود صباح
بصدور أقلام يردّ إليهم ... شرف الرياسة أو صدور رماح
قد كان العبد خدم المجلس السامي بخدمة قصرها على [3] التهنئة بما فتح الله تعالى من الظفر بالعدو الذي أطاع شيطانه، ومدّ في مضمار الغيّ أشطانه، واتبع ما أسخط الله وكره رضوانه، وجرى الله تعالى على جميل عادته في زلزلة أطواده، واستئصال أحزابه وأجناده، الذين غدت الرماح تستقي مياه نحورهم، والسيوف تنتهب ودائع صدورهم، والحمام يجول عليهم كلّ مجال، ويستدني إليهم نوازح الآجال:
ما طال بغي قطّ إلا غادرت ... فعلاته الأعمار غير طوال
فتح أضاء به الزمان وفتّحت ... فيه الأسنة زهرة الآمال
وأرجو أن يكون التوفيق قضى بوصولها، وأذن في قبولها، فيمتدّ ظل، ويثري مقلّ، ويصوب عارض مستهل:
أيعجز فضلك عن خادم ... وأنت بأمر الورى مستقل
__________
[1] ر: الضمير يعود على «الحضرة» .
[2] م: مستجبر.
[3] م: قصدها عن.(3/1008)
وبحكم ما العبد عليه من تطلّع الأمل القويّ، وتوقع الإنعام الكسروي، عززها بهذه المناجاة، وإن كان على ثقة أن رشاه قد ألقي في الغدير القريب، ورائده قد خيّم بالمرتع الخصيب:
لو رأينا التوكيد خطة عجز ... ما شفعنا الأذان بالتثويب
وله- أدام الله عزه- الرأي العالي فيه، إن شاء الله تعالى.
وكتب إلى صارم الدولة ابن معروف: أطال الله بقاء الحضرة الصارمية يجري القدر على حسب أهويتها، ويعقد الظفر بعزائم ألويتها، وتحلّى بذكرها ترائب الأيام العاطلة، وتنجز بكرمها عدات الحظوظ المماطلة، ما أصحب الجامح، وأضاء السماك الرامح، وعافت الماء الإبل القوامح [1] :
وما سحبت في مفرق الأرض ذيلها ... خوافق ريح للسحاب لواقح
إذا رفض الناس المديح وطلّقوا ... بنات العلا زفّت إليه المدائح
أيام الناس شهود مختلفة الأقوال، وصنوف متباينة الأحوال، فيوم تؤرخ السير بسؤدده وسنائه، وينطق بمحامد قوم ألسنة أبنائه، ويوم يخبو في موقف الجد شهابه، ويعبق بمسك المدام إهابه، فالحمد لله الذي جعل الحضرة السامية عقال الخطوب العوارم، ونظام المحاسن والمكارم، يعتدها الزمن نسيم أصائله، وزهر خمائله، وشموس مشارقه، وتيجان مفارقه، فيجب على كلّ من ضمّ اليراعة بنانه، وأطلق في ميدان البراعة عنانه، أن لا يخلي مجلسه من مدح معروضة، وخدم مفروضة، يسهب فيها الواصف، ويوجبها الإنعام المتراصف [2] :
عسى منّة تقوى على شكر منّة ... وهيهات أعيا البحر من هو راشف
ولو كنت لا تولي يدا مستجدة ... إلى أن توفّى شكر ما هو سالف
حميت حريم المال من سطوة الندى ... وغاضت وحاشاها لديك العوارف
وكم عزمة في الشكر كانت قوية ... فأضعفها إحسانك المتضاعف
__________
[1] م: الطوامح، وصوبته. والقوامح التي ظمئت حتى فترت.
[2] لعل الأصوب: المترادف.(3/1009)
رعى الله من عمّ البرية عدله ... فأنصف مظلوم وأومن خائف
له منن في حرب خطب معاطف ... دماث وفي صدر الخطوب عواطف
فكم داهل [1] هدته- نصر الله عزائمها- بعد الضلال، وحرّ استنقذته من حبائل الإقلال، ومرهق خفّفت عنه وطأة الزمن المتثاقل، وطريق [2] بوّأته من حرمها أمنع المعاقل:
منازل عزّ لو يحلّ ابن مزنة [3] ... بها لسلا عما له من منازل
فيا صارما يعطي وينسى عطاءه ... ولم نر سيفا ذا وفاء ونائل
يكاد يفيض البرق من وجناته ... إذا ما أتاه سائل بوسائل
إذا هو عرّى سيفه من غموده ... وأفضى بفضفاض من السّرد ذابل
وقد صبغ النقع النهار بصبغة ... ترى ناصلا منها بياض المناصل
رأيت متون الخيل تحمل ضيغما ... مرير مذاق الكيد حلو الشمائل
يلذّ له طعن الكماة كأنما ... جرى الشّنب المعسول فوق العواسل [4]
وكم أخرست أطرافها من غماغم ... لأقرانه واستنطقت من ثواكل
من القوم لم تترك لهم عند كاشح ... طوال ردينياتهم من طوائل
إذا ما سروا خلف العدوّ وهجّروا ... تظلّل من أرماحهم في ظلائل
وما ذبلت يوما خميلة عزة ... إذا زرعت فيها كعوب الذوابل
أوائل مجد لم يزل فاخرا بها ... تميم بن مرّ أو كليب بن وائل
ثم جاءته مناقب الحضرة العلية فتمّ بها مناقب تميم، وحكم لآل القعقاع أمر حكيم، ونصر لواء بني نصر، وأبدرت أهلة بني بدر، ونبه منبه هوازن، وظهرت
__________
[1] م: أهل؛ وصوبته. والداهل: المتحير، وربما كانت «ذاهل» .
[2] طريق هنا بمعنى مطروق: وهو الضعيف (ولعلها «وطريد» ) .
[3] ابن مزنة: الهلال.
[4] العواسل: الرماح لأنها تعسل أي تهتز؛ م: طعم الكماة (وصوّبه النشاشيبي) .(3/1010)
مزينة ومازن، وضحك لعبس عابس الدهر، وراحت الكلمة [1] كاملة الفخر، وزادت مغايظ الأزد، وقشرت قشيرا عن بلوغ المجد، وأغمدت سيوف بني غامد، وصارت همدان كالجمر الهامد، وعنس مذحج كالعنس [2] مذللة، وحمير بالراية الحمراء متظللة، وطوت طيء عملها استخذاء، وغضت جفنة جفونها استحياء، فحرس الله محاسن الحضرة السامية التي جباه الأنام بها موسومة، وتمم نعمها التي هي بينها وبين الناس مقسومة. ولا زالت الدولة الفاطمية تحمد عزائمها التي شهدت لها بمداومة الكفاة، وأنشرت من النصائح كلّ رميم رفات:
كأنك حين ظلّ الناس عنها ... هديت إلى رضى هادي الدعاة [3]
مزيل المال من ملك الاعادي ... وناظم شمله بعد الشتات
سينطق بالثناء على عليّ ... وعترته المنابر صامتات
فقاد له إلى بغداد قودا ... تجلّى لحمها جنب الفرات
عليها كلّ داني الحلم ثبت ... سفيه [4] السيف من بعد الثبات
كأنهم [وهم] [5] لحم المنايا ... يفيدون الحياة من الممات
يسابقون إلى العدوّ الأعنة، فتطعن عزائمهم قبل الأسنة، ويقتدون بالحضرة السامية في خوض الرّهج، وإرخاص المهج، وتحمّل الأعباء، في موالاة أصحاب العباء [6] ؛ ولا سلب الله هذا الثغر وأهله ما وهب لهم من إنعامه الذي يتهافت إليهم متناسقا، ويعيد غصن مجدهم ناضرا باسقا:
إذا ما قلى الناس السماح عشقته ... وأحسن من يسدي المكارم عاشقا
__________
[1] الكملة جمع كامل وهم أولاد بنت الخرشب الأنمارية.
[2] العنس: النوق.
[3] م: الرعاة، وصوبته.
[4] م: سيفه.
[5] زيادة لازمة.
[6] أصحاب العباء: آل الرسول.(3/1011)
حمى الله من كيد الزمان خلائقا ... وسعت بها يا ابن الكرام خلائقا
إذا أظلموا كانت شموسا طوالعا ... وان أجدبوا كانت غيوثا دوافقا
وقد زار شهر الصوم ربعك صابحا ... له بأفاويق السعود وغابقا
تنوّر بالقرآن أسداف ليله ... فيبيضّ منها كلّ ما كان غاسقا
تأرّج من تقواك فيه لطائم ... يظلّ لها عرنين عامك ناشقا
فعش أبدا ما شوهد الأفق أورقا ... وراح قضيب الأيك أخضر وارقا [1]
إذا عدّ قوم للمعالي أخامصا ... عددناك تيجانا لها ومفارقا
- 353-
الحسن بن محمد بن الحسن بن محمد بن حمدون
أبو سعد بن أبي المعالي بن أبي سعد الكاتب: قد تقدّم ذكر أبيه [2] صاحب الديوان بهاء الدين أبي المعالي وذكر عمه أبي نصر محمد بن الحسن كاتب الإنشاء. وكان أبو سعد هذا يلقب تاج الدين. مات أبو سعد هذا في حادي عشر محرم سنة ثمان وستمائة كما نذكره فيما بعد، ومولده في صفر سنة سبع وأربعين وخمسمائة. وكان رحمه الله من الأدباء العلماء الذين شاهدناهم، زكيّ النفس، طاهر الأخلاق، عالي الهمة، حسن الصورة، مليح الشبية، ضخم الجثة، كث اللحية طويلها، طويل القامة، نظيف اللبسة، ظريف الشكل. وهو ممن صحبته فحمدت صحبته وشكرت أخلاقه، وكان قد ولي عدة ولايات عاينت منها النظر في البيمارستان العضدي، وكانت هيبته فيه ومكانته منه أعظم من مكانة أرباب الولايات الكبار، لأن الناس يرونه بعين العلم
__________
[353]- ترجمته في مختصر ابن الدبيثي 2: 23 وذيل الروضتين: 79 وعبر الذهبي 5: 27 والوافي 12: 221 وتكملة المنذري 2: 220 وهو ابن مؤلف التذكرة الحمدونية، وقد حققت منها- حتى كتابة هذه السطور- عدة أجزاء، صدر منها جزءان. ببيروت 1983- 1984.
[1] م: أورقا.
[2] بل سيأتي في المحمدين، ولعل «تقدم» تشير إلى ما قبل الترتيب النهائي.(3/1012)
والبيت القديم في الرئاسة. ثم ولي عند الضرورة كتابة السكة بالديوان العزيز ببغداد، يرزق برزق مقداره عشرة دنانير في الشهر، وسألته فقلت: من هو حمدون الذي تنسبون إليه؟ أهو حمدون نديم المتوكل ومن بعده من الخلفاء؟ فقال: لا نحن من آل سيف الدولة بن حمدان بن حمدون من بني تغلب، هذا صورة لفظه.
وكان من المحبين للكتب واقتنائها، والمبالغين في تحصيلها وشرائها، وحصل له من أصولها المتقنة وأمهاتها المعينة ما لم يحصل لكثير أحد، ثم تقاعد به الزمان [1] وبطل عن العمل، فرأيته يخرجها ويبيعها وعيناه تذرفان الدموع عليها كالمفارق لأهله الاعزّاء، والمفجوع بأحبابه الأودّاء، فقلت له: هوّن عليك- أدام الله أيامك- فإن الدهر ذو دول، وقد يصحب الزمان ويساعد، وترجع دولة العز وتعاود، فتستخلف ما هو أحسن منها وأجود؛ فقال: حسبك يا بني هذه نتيجة خمسين سنة من العمر أنفقتها في تحصيلها، وهب أن المال يتيسر والعمر [2] يتأخر، وهيهات، فحينئذ لا أحصل من جمعها بعد ذلك إلا على الفراق الذي ليس بعده تلاق، وأنشد بلسان الحال:
هب الدهر أرضاني وأعتب صرفه ... وأعقب بالحسنى وفكّ من الأسر
فمن لي بأيام الشباب التي مضت ... ومن لي بما قد مرّ في البؤس من عمري
ثم أدركته منيته ولم ينل أمنيته.
وكان حريصا على العلم، فجمع من أخبار العلماء، وصنّف من أخبار الشعراء، وألف كتبا كان لا يجسر على إظهارها خوفا مما طرق أباه مع شدة احتراز.
وبالجملة فعاش في زمن سوء وخليفة غشوم جائر، كان إذا تنفس خاف أن يكون على نفسه رقيب يؤدي به إلى العطب، وهو كان آخر من بقي من هذا البيت القديم والركن الدعيم، ولم يخلّف إلا ابنة مزوجة من ابن الدوامي، وما أظنها معقبة أيضا. وكان مع اغتباطه بالكتب ومنافسته ومناقشته فيها جوادا باعارتها، ولقد قال لي يوما، وقد عجبت من مسارعته إلى إعارتها للطلبة: ما بخلت باعارة كتاب قط ولا أخذت عليه رهنا. ولا
__________
[1] م: الدهر.
[2] م: والأجل.(3/1013)
أعلم أني مع ذلك فقدت كتابا في عارية قط، فقلت: الأعمال بالنيات، وخلوص نيتك في إعارتها لله حفظها عليك.
وكتب بخطه الرائق الكتب الكثيرة الكبار والصغار المروية، وقابلها وصححها وسمعها على المشايخ، فكان ممن لقي من المشايخ أبو بكر محمد بن عبيد الله الزاغوني والنقيب أبو جعفر أحمد بن محمد بن العباس المكي وأبو حامد محمد بن الربيع الغرناطي، مغربيّ قدم عليهم، وأبو المعالي محمد بن محمد بن اللحاس [1] العطار ووالده أبو المعالي ابن حمدون وأبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن سليمان المعروف بابن البطي [2] ، وجماعة بعدهم كثيرة: كابن كليب الحراني [3] وابن بوش [4] وغيرهم. وروى شيئا من مسموعاته يسيرا. وكان مؤيد الدين محمد بن محمد القمي نائب الوزارة ببغداد قد خرج إلى ناحية خوزستان حيث عصى سنجر مملوك الخليفة بها حتى قبض عليه وعاد به وفي صحبته عز الدين نجاح الشرابي، فخرج الناس لتلقيه عند عوده في محرم سنة ثمان وستمائة، وكان تاج الدين في من خرج لتلقيه، وكان عبلا ترفا معتادا للدعة والراحة، ملازما لقعر داره وكان الحر شديدا والوقت صائفا، فلما انتهى إلى المدائن اشتدّ عليه الحر وتكاثف حتى أفضى به إلى التلف، فمات رحمه الله في الوقت المقدم ذكره بالمدائن، بينه وبين بغداد سبعة فراسخ، فحمل إلى بغداد ودفن بمقبرة موسى بن جعفر بباب التبن، رحمه الله ورضي عنه.
__________
[1] م: النحاس؛ وهو أبو المعالي محمد بن محمد بن الجبان الحريمي العطار، كان صالحا ثقة، وتوفي سنة 562 وعمره أربع وتسعون سنة (عبر الذهبي 4: 179) .
[2] في الوافي: محمد بن أحمد بن البطي؛ وهو خطأ؛ وابن البطي هو أبو الفتح محمد بن عبد الباقي بن أحمد بن سليمان البغدادي مسند العراق، توفي سنة 564 (عبر الذهبي 4: 188) .
[3] هو مسند العراق أبو الفرج عبد المنعم بن عبد الوهاب الحراني الحنبلي، توفي سنة 596 (عبر الذهبي 4: 293) .
[4] ابن بوش اسمه يحيى بن أسعد، توفي سنة 593 (عبر الذهبي 4: 283) .(3/1014)
- 354-
الحسن بن محمد الصغاني النحوي:
ويقال صاغان من بلاد ما وراء النهر:
قدم العراق وحجّ ثم دخل اليمن ونفق له بها سوق، وكان وروده إلى عدن سنة عشر وستمائة. وله تصانيف في الأدب منها: تكملة العزيزي. وكتاب في التصريف.
ومناسك الحج ختمه بأبيات قالها وهي:
شوقي الى الكعبة الغرّاء قد زادا ... فاستحمل القلص الوخّادة الزادا
أراقك الحنظل العاميّ منتجعا ... وغيرك انتجع السّعدان وارتادا [1]
أتعبت سرحك حتى آض عن كثب ... نياقها رزّحا والصعب منقادا
فاقطع علائق ما ترجوه من نشب ... واستودع الله أموالا وأولادا
وكان يقرأ عليه بعدن «معالم السنن» للخطابي، وكان معجبا بهذا الكتاب وبكلام مصنفه ويقول: إن الخطابيّ جمع لهذا الكتاب جراميزه [2] . وقال لأصحابه:
احفظوا غريب أبي عبيد القاسم بن سلام فمن حفظه ملك ألف دينار، فإني حفظته فملكتها، وأشرت على بعض أصحابي بحفظه فحفظه وملكها. وفي سنة ثلاث عشرة وستمائة كان بمكة وقد رجع من اليمن وهو آخر العهد به.
وكان الغالب عليه علم اللغة والأحاديث النبوية وصنف كتابا في اللغة سماه
__________
[354]- ترجمة الصغاني في عبر الذهبي 5: 205 والوافي 12: 240 والفوات 1: 358 والنجوم الزاهرة 7: 26 ومرآة الجنان 4: 121 وبغية الوعاة 1: 519 والشذرات 5: 250 والجواهر المضية 1: 201 والعقد الثمين 4: 176 وإشارة التعيين: 98 والبلغة: 63 والبدر الطالع 1: 210 والفوائد البهية: 63 وقد رفعت بعض المصادر في نسبه فهو الحسن بن محمد بن الحسن بن حيدر بن علي الصغاني ولقبه رضي الدين وكنيته أبو الفضائل وهو قرشي عدوي عمري حنفي المذهب؛ وهو مصنف مجمع البحرين والعباب الزاخر (وهذا الثاني طبعت منه أجزاء) وقال الذهبي إنه ولد بمدينة لوهور سنة 577 ونشأ بغزنة ودخل بغداد ... وكانت وفاته سنة 650 وقد ذكر الصفدي عددا كبيرا من مؤلفاته.
[1] م: والرادا؛ والحنظل العاميّ: الذي أتى عليه عام.
[2] جمع له جراميزه: استعدّ له وشمر عن ساق.(3/1015)
«مجمع البحرين» جمع له فيه ما لم يجمع لأحد من أهل هذا العلم، وله من الفضائل ما شاع وذاع وما نرى ذكر له شيء في ذلك [1] .
- 355- الحسن بن المظفر النيسابوري، أبو علي: أديب نبيل شاعر مصنف، ذكره أبو أحمد محمود بن أرسلان في «تاريخ خوارزم» فقال: مات أبو علي الحسن بن المظفر الأديب الضرير النيسابوري ثم الخوارزمي في الرابع من شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، وأثنى عليه ثناء طويلا زعم فيه أنه كان مؤدب أهل خوارزم في عصره ومخرّجهم وشاعرهم ومقدمهم والمشار إليه منهم، وهو شيخ أبي القاسم الزمخشري [2] قبل أبي مضر، وله نظم ونثر وتصانيف، وذكر أن له ولدا اسمه عمر وكنيته أبو حفص أديب فقيه فاضل، وله شعر منه:
سبحان من ليس في السماء ولا ... في الأرض ندّ له وأشباه
أحاط بالعالمين مقتدرا ... أشهد أن لا إله إلا هو
وخاتم المرسلين سيدنا ... أحمد ربّ السماء سماه
أشرقت الأرض بعد بعثته ... وحصحص الحقّ من محياه
ومات أبو حفص هذا في شعبان سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.
ووجدت للحسن بن المظفر من التصانيف: كتاب تهذيب ديوان الأدب. وكتاب تهذيب إصلاح المنطق. وكتاب ذيله على تتمة اليتيمة لم أقف على اسمه. كتاب ديوان شعره مجلدتان. كتاب ديوان رسائله. كتاب محاسن من اسمه الحسن. كتاب زيادات أخبار خوارزم.
__________
[355]- ترجمته في الوافي 12: 271 (ولم يذكره في نكت الهميان) وبغية الوعاة 1: 526.
[1] وكان الغالب ... من ذلك: زيادة من (ر) .
[2] توفي ابن المظفر هذا قبل أن يولد الزمخشري بسنوات.(3/1016)
نقلت من الكتاب الذي وصل به «تتمة اليتيمة» وذكر فيه أشياء من شعره ورسائله ختم بها كتابه وهو أنه قال: الحسن بن المظفر النيسابوري مؤلف الكتاب نيسابوري المحتد خوارزمي المولد، وممن كان عارفا بنفسه غير مفتون بنظمه ونثره، فإنه سلك طريق أبي منصور الثعالبي رحمه الله فيما أورده من شعره في آخر كتاب «تتمة اليتيمة» ، فأورد نبذا مما يستحسن من كلامه ويستبدع من نظامه:
فمن نثره الساذج رقعة له: عرّف الله الشيخ الرئيس بركة شهر رمضان، ووفقه من طاعته لما يكتسب به العفو والغفران، ولولا العذر الواقع من الوحول، لقصدت مجلسه أعلاه الله بالتهنئة والتسليم، وقضاء حقه العظيم، هذا أدام الله تمكينه وعهدي به يعدّني من جملة عياله، ويخصّني كلّ وقت بأفضاله، فليت شعري لم عدل إلى الفطام عن ذلك الانعام؟ فإن كان نسيان فقد جاءه ذكري، وإن كان هجران فحاشاه من هجري.
وله من أخرى: الشيخ يسترقّ الأحرار بعوائد فضله وبواديه، حتى لا حرّ بواديه [1] .
ومن نظمه:
أهلا بعيش كان جدّ موات ... أحيا من اللذات كلّ موات
أيام سرب الأنس غير منفّر ... والشمل غير مروّع بشتات
عيش تحسّر ظلّه عنّا فما ... أبقى لنا شيئا سوى الحسرات
ولقد سقاني الدهر ماء حياته ... والآن يسقيني دم الحيّات
لهفي لأحرار منيت بفقدهم [2] ... كانوا على غير الزمان ثقاتي
قد زالت البركات عنّي كلّها ... بزيال سيدنا أبي البركات
ركن العلا والمجد والكرم الذي ... قد فات في الحلبات أيّ فوات
فارقت طلعته المنيرة مكرها ... فبقيت كالمحصور في الظلمات
__________
[1] أخذه من المثل: لا حرّ بوادي عوف.
[2] الوافي: ببعدهم.(3/1017)
أضحي وأمسي صاعدا زفراتي ... لفراقه متحدرا عبراتي
وأنشد فيه لنفسه:
جبينك الشمس في الأضواء والقمر ... يمينك البحر في الإرواء والمطر
وظلّك الحرم المحفوظ ساكنه ... وبابك الركن للقصّاد والحجر
وسيبك الرزق مضمون لكلّ فم ... وسيفك الأجل الجاري به القدر
أنت الهمام بل البدر التمام بل ... السيف الحسام الهذام الصارم الذكر
وأنت غيث الأنام المستغاث به ... إذا أغارت على أبنائها الغير
وأنشد لنفسه:
أريّا شمال أم نسيم من الصّبا ... أتانا طروقا أم خيال لزينبا
أم الطالع المسعود طالع أرضنا ... فأطلع فيها للسعادة كوكبا [1]
قال أبو علي الضرير: رأيت ابن هودار في المنام بعد موته فقلت له: لقد تحوّلت من دار إلى دار، فهل رأيت قرارا يا ابن هودار؟ قال: فأجابني
لا بل وجدت عذابا لا انقطاع له ... مدى الليالي وربا غير غفّار
ومنزلا مظلما في قعر هاوية ... قرنت فيها بكفّار وفجار
فقل لأهلي موتوا مسلمين فما ... للكافرين لدى الباري سوى النار
- 356- الحسن بن ميمون النصري: أحد بني نصر بن قعين بن طريف بن أسد بن خزيمة، روى عنه محمد بن النطاح، وكان أخباريا عارفا. ذكره محمد بن إسحاق وقال: له من الكتب كتاب الدولة. كتاب المآثر.
__________
[356]- الوافي 12: 281 (والاعتماد على الفهرست: 121) .
[1] م: للسعاد كواكبا.(3/1018)
- 357-
الحسن بن وهب بن سعيد بن عمرو بن حصين بن قيس بن قنان [1] بن متى، أبو علي الكاتب السديد العالم: ولي الولايات الجليلة، وتقلد الأعمال النبيلة، وكان يكتب أولا لمحمد بن عبد الملك الزيات الوزير وولي ديوان الرسائل. وسليمان بن وهب الوزير هو أخوه. مات الحسن بن وهب في آخر أيام المتوكل بالشام وهو يتقلد البريد بنواحيها ومولده سنة ست وثمانين ومائة.
قال محمد بن إسحاق النديم [2] : كتب قنان بن متى جد الحسن ليزيد بن أبي سفيان أخي معاوية لما ولي الشام من قبل عمر بن الخطاب، ثم كتب لأخيه معاوية بعده، ثم وصله معاوية بابنه يزيد وفي أيامه مات، فاستكتب يزيد ابنه قيس بن قنان ثم كتب قيس بعد يزيد لمروان بن الحكم، ثم لابنه عبد الملك، ثم لهشام بن عبد الملك، وفي أيامه مات، فاستكتب هشام ابنه الحصين بن قيس ثم استكتبه من بعده إلى أيام مروان، وخرج معه إلى مصر، فلما قتل مروان صار ابن هبيرة إلى المنصور وأخذ للحصين أمانا، فخدم المنصور والمهديّ، وتوفي مع المهدي في طريق الريّ، فاستكتب المهدي ابنه عمرا، ثم كتب لخالد بن برمك، ثم توفي وخلّف سعيدا، فما زال في خدمة آل برمك، وتحرك ابنه وهب فكتب بين يدي جعفر بن يحيى، ثم صار في جملة ذي الرياستين الفضل بن سهل، فكان ذو الرياستين يقول: عجبت لمن معه وهب كيف لا تهمه نفسه، فلما قتل الفضل استكتبه أخوه الحسن بن سهل بعده، وقلّده كرمان وفارس فأصلحها، ثم وجّه به إلى المأمون في رسالة من فم الصّلح، فغرق في طريقه بين بغداد وفم الصلح، وكتب ابنه
__________
[357]- ترجمة الحسن بن وهب في الفهرست: 136 والأغاني: 22، 533، والسمط: 506 وابن خلكان 2: 15- 18 ومصورة ابن عساكر 4: 604 وتهذيب ابن عساكر 4: 256 والوافي 12: 297 والفوات 1: 367 (ولم ترد في طبعة دار المأمون) .
[1] م: قيان.
[2] الفهرست: 136.(3/1019)
سليمان بن وهب للمأمون وهو ابن أربع عشرة سنة، ثم كتب لإيتاخ التركي، ثم لأشناس التركي، وكانا عظيمي القدر، ثم ولي وزارة المعتمد على الله.
وللحسن ولسليمان ابني وهب شعر مليح ورسائل بليغة مدونة؛ قال المرزباني:
بنو وهب أصلهم نصارى من خسرو سابور من أعمال واسط، تعلقوا بنسب في اليمن في بني الحارث بن كعب، وكان عبيد الله وابنه القاسم يدفعان ذلك. والحسن بن وهب هو القائل [في بنات جارية محمد بن حماد كاتب] راشد، وغنّت عليها:
سأكرم نفسي عنك حسب إهانتي ... لها فيك إن قرّت وكفّ نزاعها [1]
هي النفس ما كلّفتها قطّ خطة ... من [الأمر] إلا قلّ عنها امتناعها
صدقت لعمري أنت أكبر همّها ... فما جهدها إذ قلّ منك انتفاعها
وقال في رواية المرزباني أيضا:
أما الفراق فحين جدّ ترحلت ... مهج النفوس له عن الأجساد
من لم يبت والبين يصدع قلبه ... لم يدر كيف تفتّت الأكباد
قال بعضهم: مررت بقبر الحسن بن وهب بدمشق وعليه مكتوب [2] :
مقيم بالمجازة من قنونا ... وأهلك بالأجيفر والثماد [3]
ألا فاصبر [4] فكلّ فتى سيأتي ... عليه الموت يطرق أو يغادي
قال الصولي: كان من أول أمر الحسن بن وهب اتصاله بمحمد بن عبد الملك الزيات في آخر أيام المأمون، وكان محمد يلي النفقات وغير ذلك، ثم علا أمره في أيام المعتصم فكان لا يبرح من داره إلى أن وزر ابن عمار للمعتصم، وكان محمد بن عبد الملك ينوب عنه، وأمّر محمد على الكتابة الحسن بن وهب.
__________
[1] م: مراعها.
[2] البيتان لكثير، ديوانه: 222 ومعجم البلدان 4: 1007 والأغاني 12: 173- 174.
[3] البيت في م: شديد الاضطراب.
[4] الديوان: فلا تبعد.(3/1020)
ولما نكب الواثق سليمان بن وهب، كما هو مذكور في بابه، قال الحسن بن وهب [1] :
خليليّ من عبد المدان تروّحا ... ونصّا صدور العيس حسرى وطلّحا
فإن سليمان بن وهب بمنزل ... أصاب صميم القلب [مني فأقرحا]
أسائل عنه الحارسين بحسبه ... إذا ما أتوني [كيف أمسى وأصبحا]
وكتب إلى أخيه سليمان وهو بالحبس، ونكبه الواثق [2] :
اصبر أبا أيوب صبرا يرتضى ... فإذا جزعت من الخطوب فمن لها
الله يفرج بعد ضيق كربها ... ولعلها أن تنجلي ولعلها
وقال وقد رآني فارغا من الهوى والشرب: نراك فارغا في هذا اليوم، فقال:
نعم، ولذلك لا أعده من عمري:
إذا كان يومي غير يوم مدامة ... ولا يوم فتيان فما هو من عمري
وإن كان معمورا بعود وقهوة ... فذلك مسروق لعمري من الدهر
وكان أشد الناس شغفا ببنات جارية محمد بن حماد، فجاءت يوما إليه وهو مخمور، فسلمت عليه وقبلت يده، فأراد تقبيل يدها فارتعش فقال:
أقول وقد حاولت تقبيل كفها ... وبي رعدة أهتزّ منها وأسكن
فديتك إني أشجع الناس كلهم ... لدى الحرب إلا أنني عنك أجبن
وكان في أهل الحسن بن وهب عجوز اسمها منى، فعذلته في بنات هذه، فأحضرها مجلسه وسمعت غناءها، فقال الحسن:
ويوم سها عنه الزمان فأصبحت ... نواظره قد حار عنها بصيرها
خلوت بمن أهوى به فتكاملت ... سعودا ودار النحس عنها مديرها
أما تعذريني يا منى في صبابتي ... بمن وجهها كالشمس يلمع نورها
فقالت: لست أعاود لومك بعدها.
__________
[1] الأغاني 22: 537، (535) .
[2] ما سيجيء حتى آخر الترجمة مأخوذ عن المختصر.(3/1021)
وحدث أحمد بن سليمان بن وهب قال: رآني عمي الحسن وأنا أبكي لفراق بعض من ألفته، فقال وجوّد:
ابك فما أنفع ما في البكا ... لأنه للوجد تسهيل
وهو إذا أنت تأملته ... حزن على الخدين محلول
وحدث أيضا قال قال لي عمي في يوم غيم: اكتب إلى فلان فادعه، فأطلت الخطاب، فقال دع ذاك واكتب:
بحسن هذا الضباب ... وحرمة الأصحاب
وطيب يوم التلاقي ... بطاعة الأحباب
إلّا أطعت رسولي ... وكنت أنت جوابي
وكتب الحسن إلى مالك بن طوق في حاجة: كتابي هذا بخطي بعد أن فرّغت له ذهني، فما ظنك بحاجة هذا موقعها مني؟ فإن أحسنت لم أقصر في الشكر، وإن قصرت لا أقبل العذر.
ولأحمد بن الدورقي يهجو الحسن بن وهب:
لا بدّ يا نفس من سجودي ... للقرد في دولة القرود
هبت لك الريح يا ابن وهب ... فخذ لها أهب ة الركود
وللحسن بن وهب:
بنفسي وأهلي فاتن الطرف فاتره ... محكمة أجفانه ومحاجره
يباشر خدي خده فكأنني ... بناظر أحشائي وقلبي أباشره
وقيل: كان على باب الحسن مسجد يصلى فيه أيام، فاتفق أن بنات التي كان يتعشقها جاءت إليه واشترطت عليه أن تمضي وقت صلاة عشاء الآخرة، فكتب إلى الإمام:
قل لداعي الصلاة أخّر قليلا ... قد قضينا حقّ الصلاة طويلا
ليس في ساعة تؤخرها إث ... م يجازى بها وتحيي قتيلا
وتراعي حق المودة فينا ... وتعافى من أن تكون ثقيلا
فحلف أن لا يؤذن العتمة شهرا.(3/1022)
- 358-
الحسن بن وهب الموصلايا،
أبو علي، الكاتب المجرد النصراني: أصله من الموصل، كاتب ديوان الإنشاء في أيام القائم والمعتمد، وكان يكتب خطا [يحكي] خطّ أبي عبد الله ابن مقلة. مات سنة سبع وعشرين وأربعمائة.
- 359-
الحسن بن يسار البصري:
هو الحسن بن أبي الحسن البصري الفقيه القارىء العابد المشهور، مات في سنة عشر ومائة، وهو مولى أم سلمة، يكنى أبا سعيد، وكان مولده لسنتين خلتا من خلافة عمر رضي الله عنه، فعمره ست وتسعون سنة.
وقيل إنه كان من سبي ميسان، سبي لما فتحها المغيرة بن شعبة في عهد عمر رضي الله عنه. وقيل إنّ عرض زنده كان شبرا. وكان يتكلم في شيء من القدر ثم رجع عنه، وكان يأتيه أصحابه فيقولون له: يا أبا سعيد، إن هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال ويقولون: إنما نجري على قدر الله عز وجل، فيقول: كذبوا أعداء الله.
كان فصيحا بليغا زاهدا عابدا عالما عاملا واعظا صادقا قائلا فاعلا، تؤخذ عنه فنون الشرع، ويشبه رؤبة بن العجاج في فصاحة لهجته، وكان أوحد زمانه في معناه.
وقيل ليونس: أتعرف أحدا يعمل مثل عمل الحسن؟ فقال: والله ما أعرف أحدا يقول مثل قوله فكيف يعمل بعمله؟! وقال: كان إذا أقبل فكأنه أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير يضرب
__________
[358]- ترجمة ابن الموصلايا من المختصر.
[359]- ترجمة الحسن البصري في ابن خلكان 2: 69 وحيلة الأولياء 2: 131- 161 وطبقات ابن سعد 7: 156 وذكر أخبار أصبهان 1: 254 وطبقات الشيرازي: 68 والوافي 12: 306 وطبقات الجزري 1: 235 والشذرات 1: 136؛ وأخباره وأقواله منثورة في كتب الأدب، وانظر كتابي الحسن البصري (القاهرة 1952) وكتاب الحسن البصري مفسرا لأحمد البسيط (عمان 1985) والحسن البصري لمصلح بيومي (القاهرة 1980) وهذه الترجمة من المختصر.(3/1023)
عنقه، وإذا ذكرت له النار فكأنها لم تخلق إلا له، وكان من فزعه قوله الحقّ عند من يخاف شرّه.
قيل: وكان الحسن ابن جارية لأمّ سلمة، فكانت أم سلمة تبعث بأمه في الحاجة، فتأخذه أم سلمة وترضعه، فيرون أن تلك الحكمة إنما كانت من لبن أم سلمة.
قال الشيخ: أم سلمة هذه ليست أمّ المؤمنين زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، تلك أم سلمة بنت أمية بن المغيرة المخزومية، وهذه أمّ سلمة بنت مطية بن عامر بن كعب بن سلمة، كانت عند زيد بن ثابت.
قال حماد بن زيد: جالست الحسن أربع سنين فما سألته عن شيء هيبة له.
وقيل إنه أدرك من الصحابة مائة وثلاثين.
وكان بعض الأعراب يجالس الحسن ولا يسأله عن شيء، فقال له يوما: ما أراك تسأل شيئا من أمر دينك، فقال:
مهما جهلت فقد علمت ... بأنني عبد أموت
والناس في طلب الغنى ... وغناؤهم في ما يفوت
شاءوا لغيرهم ونا ... دوا والقبور هي البيوت
فكان الحسن يتمثل بهذه الأبيات غدوة وعشية.
قيل: كان بين الحسن البصري وبين ابن سيرين هجرة، فكان إذا ذكر ابن سيرين يقول: دعونا من ذكر الحاكة؛ وكان بعض أهل سيرين حائكا. فرأى الحسن في منامه كأنما [هو] عريان قائما على مزبلة يضرب بالعود، فأصبح مهموما برؤياه، فقال لبعض أصحابه: امض إلى ابن سيرين فقصّ عليه رؤياي على أنك أنت رأيتها، فدخل على ابن سيرين وذكر له الرؤيا، فقال له ابن سيرين: قل لمن رأى هذه الرؤيا لا يسأل الحاكة عن مثل هذا، فأخبر الرجل الحسن بمقاله فعظم لديه وقال: قوموا بنا إليه، فلما رآه ابن سيرين قام له وتصافحا وسلّم كلّ واحد منهما على صاحبه وجلسا يتعاتبان، فقال له الحسن: دعنا من هذا فقد شغلت الرؤيا قلبي، فقال له ابن سيرين: لا تشغل قلبك فإن العري عريّ من الدنيا، ليس عليك منها علقة، وأما(3/1024)
المزبلة فهي الدنيا قد انكشفت لك أحوالها، فأنت تراها كما هي في ذاتها، وأما ضربك العود فإنها الحكمة التي تتكلم بها وتنفع بها الناس. فقال له الحسن: فمن أين لك أني رأيت هذه الرؤيا؟ قال ابن سيرين: لما قصّها عليّ فكرت فلم أر أحدا يصلح أن يكون رآها غيرك.
قيل: فقد أصحاب الحسن الحسن فجعلوا يطلبونه حتى وجدوه جائيا من خارج البصرة فقالوا: يا أبا سعيد أين كنت فقد طال طلبنا لك؟ فقال: كنت عند إخوان لي جلست إليهم، إن قمت عنهم لا يغتابوني، وإن جلست إليهم ذكّروني، قال: فنظرنا فإذا هو قد جاء من الجبانة.
وقيل له: فلان في النزع، قال: وما معنى النزع؟ قالوا: خروج النفس، قال: هو في هذا منذ خلق.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن أن عظني، فكتب إليه: أما بعد فلو كان لك عمر نوح وملك سليمان وتفنن إبراهيم وحكمة لقمان فإن وراءك عقبة وهي الموت، ومن ورائها داران إن أخطأتك هذه صرت إلى هذه، والسلام.
وقيل إنه كان ممن خرج مع ابن الأشعث على الحجاج وولى معه.
وكتب للربيع بن زياد والي خراسان، وكتب لأنس بن مالك بسابور.
- 360-
الحسن بن يحيى بن أبي منصور المنجم:
كان فاضلا أديبا شاعرا، مات في سنة تسع وتسعين ومائتين في أيام المقتدر، لما مات أخوه علي بن يحيى رثاه ابن المعتز بقصيدة، فكتب الحسن إلى ابن المعتز: قرأت لك يا مولاي شعرا رثيت به وليّك المحبّ لك القائل بفضلك، أخي، فبعثني استحسانه على أن أجيب عنه بجواب إن قصّرت فيه فلم تقصّر نيتي ومحبتي وإخلاصي، وقد كتبت به إليك آخر كتابي هذا، واجترأت على إجابتك ثقة بفضلك أن لا تصرف عيبا إن أتى به وليّك إلا إلى الذي هو أجمل، وهو:
__________
[360]- هذه الترجمة من المختصر ولم ترد في م.(3/1025)
لا قطعت الأيام إلا بعيش ... ترتضيه ونعمة وسرور
وأطال الاله عمرك للعلم ... وطلّابه وجبر الكسير
يا ضياء ذلّت له الشمس والبد ... ر ونورا أوفى على كلّ نور
يا جمال الدنيا ويا زينة الملك ... ومفتاح كلّ أمر عسير
يا كريما يفوق كلّ كريم ... وجوادا يفيض فيض البحور
قد نظمت الأبيات نظم مجيد ... ونسجت القريض نسج قدير
ورثيت الميت الذي كان في ودّ ... ك مستبصرا صحيح الضمير
قائلا بالذي يقول به الأحرار ... من بثّ فضلك المشكور
ناصح الجيب صادعا فيك بالحقّ ... بمدح محبّر مشهور
أينما كنت فهو منك قريب ... في مقام أزمعته أو مسير
لا تبالي إذا بقيت سليما ... أن ترى في جوار أهل القبور
وقليل لك المديح وأن ند ... عو لك الله بالبقا والحبور
وتكون النفوس منا فدا نف ... سك من كلّ حادث محذور
فكتب إليه ابن المعتز:
لئن جذّ منه الموت فرع أراكة ... فمزق ظلّ الودّ منه فعرّاني
لقد نشرت أوراق آخر بعده ... عليّ فعاد الظلّ منه فغطاني
ومن شعر الحسن بن يحيى:
رأيت الهلال على وجهه ... فلم أدر أيهما أنور
سوى أن ذاك بعيد المزار ... وهذا قريب لمن ينظر
وذاك يغيب وذا حاضر ... وما من يغيب كمن يحضر
ونفع الهلال قليل لنا ... ونفع الحبيب لنا أكثر(3/1026)
- 361-
الحسن بن يعقوب بن أحمد بن محمد
أبو بكر الأديب ابن الأديب: كان أستاذ أهل نيسابور في عصره. كان عالما في الاعتزال داعيا إلى الشيعة. رأيت شيئا من خطه وصورة سماع تاريخه سنة سبع عشرة وخمسمائة وفيها مات.
- 362-
الحسن بن أبي المعالي بن مسعود بن الحسين
أبو علي الحلّي المعروف بابن الباقلاني النحوي: ولد سنة ثمان وستين وخمسمائة، وهو أحد أئمة العربية في العصر، سمع من أبي الفرج أبن كليب وغيره، وقرأ العربية على أبي البقاء العكبريّ، واللغة على أبي محمد ابن المأمون [1] ، وقرأ الكلام والحكمة على الامام نصير الدين الطوسي [2] ، وانتهت إليه الرياسة في هذه الفنون وفي علم النحو، وأخذ فقه الحنفية عن أبي المحاسن يوسف بن إسماعيل اللمغاني [3] الحنفي، ثم انتقل إلى مذهب الإمام الشافعي، وكان ذا فهم ثاقب وذكاء وحرص على العلم، وكان كثير المحفوظ، وكتب الكثير بخطه، ذا وقار مع التواضع ولين الجانب، لقيته ببغداد سنة ثلاث وستمائة وكان آخر العهد به.
__________
[361]- ترجمته في الوافي 12: 308 ولسان الميزان 2: 259 وما أثبته هنا نص المختصر، والترجمة موجزة، ولكن الصفدي لم يصرّح بنقله عن ياقوت، وإنما نقل عن دمية القصر، ولذلك لم أغير في نص المختصر.
[362]- ترجمته في تلخيص مجمع الالقاب 4/3: 151 والوافي 12: 273 والجواهر المضية 1: 205 وبغية الوعاة 1: 526 وفيه «الحسن بن معالي» وكانت وفاته سنة 637؛ وفي ابن الفوطي أنه توفي سنة 683 والأغلب أن هذا ابن المترجم هنا.
[1] هو أبو محمد عبد الله بن أحمد بن المأمون.
[2] في الوافي أنه قرأ الكلام على النصير الطوسي وقرأ الحكمة على المسعودي غلام عمر بن سهلان الساوي.
[3] م: الدامغاني؛ الوافي: اللامغاني.(3/1027)
- 363-
أبو الحسن البوراني النحوي:
ذكره محمد بن إسحاق [1] في نحاة المعتزلة ووصفه بالتدقيق في مسائل الكتاب لسيبويه، وكان من طبقة أبي علي الفارسي.
- 364-
الحسين بن إبراهيم بن أحمد النطنزي
أبو عبد الله النحوي اللغوي: منسوب إلى نطنزة، بليد بنواحي أصبهان، مات سنة سبع [2] وتسعين وأربعمائة، وكان يلقب بذي اللسانين، قرأ عليه أبو سعد السمعاني، وأنشد من شعره:
قالوا يزورك أحمد وتزوره ... قلت الفضائل لا تفارق منزله
إن زارني فبفضله أو زرته ... فلفضله فالفضل في الحالين له
وله:
أيا لهفي على زمن التصابي ... إذ الرشأ الرشيق لنا عشيق
وغصن شبابنا غضّ وريق ... ونقل شرابنا عضّ وريق [3]
- 365-
الحسين بن إبراهيم بن خطاب أبو عبد الله:
أحد العلماء البلغاء الفضلاء
__________
[363]- ترجمته في بغية الوعاة 1: 527.
[364]- ترجمة النطنزي في إنباه الرواة 1: 320 والأنساب واللباب (النطنزي) والوافي 12: 319 وبغية الوعاة 1: 528 وهذه الترجمة من المختصر، وأورد له في الوافي عددا غير قليل من المقطعات.
[365]- ترجمته في الوافي 12: 316 وسير الذهبي 20: 295 ولسان الميزان 2: 272 وذكر الصفدي أنه كان صاحب الخبر بالديوان الزمامي وكان كاتبا حاذقا؛ أنشأ احدى وخمسين مقامة حاكى بها بديع الزمان وصنف كتاب «جوامع الانشاء» وكان يلقب «خطير الدولة» . وقد سقطت هذه الترجمة من م ووردت في المختصر.
[1] لم أعثر على ذكر له في الفهرست.
[2] الوافي: تسع.
[3] الشطران معكوسان في الوافي.(3/1028)
الثقلاء [1] . بغداديّ الأصل والمنشأ، قرأ الأدب على أبي زكريا يحيى بن علي التبريزي وتخرّج به، وسمع مصنفاته. مات سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة.
- 366-
الحسين بن أحمد بن محمد السلامي
أبو علي البيهقي الحواري، الأديب المؤرّخ: مات في سنة ثلاثمائة، وهو من تلاميذ إبراهيم بن محمد البيهقي، وكان أبو بكر الخوارزمي من تلاميذه. فمن شعره من قصيدة:
لهفي على عمر أفنيته هدرا ... في خدمة لك لم أكسب به غنما
ما اعتضت من طول أيامي التي سلفت ... في صحبتي لك إلا الخسر والندما
لأجشمنّ اختراق الأرض ذا خبب ... يشجّ بي في بعادي دونك الأكما
محوّلا عنك آمالي برمّتها ... مستغنيا بعطاء الله معتصما
حتى يهيّء ربّ العرش لي سببا ... في حين لا ذلة أخشى ولا غرما
فالحرّ يبذل دون الذلّ مهجته ... والعبد يخنع مهما ضيم واهتضما
الله يعقب من يرجوه خير غنى ... والله أعون ذي نصر لمن ظلما
ومن أبيات:
فراقكم أبقى بقلبي حرارة ... وضاق بها عنّي مقامي ومقعدي
وكيف يطيب العيش لي في مغيبكم ... وأنتم منى نفسي وغاية مقصدي
ورد أبو القاسم جعفر بن الحسين الأطروش العلوي المقلب بالناصر جرجان مستوليا عليها، وكان أديبا شاعرا خطيبا ومعه ابن أبي دهمان الأديب، فقال ابن أبي
__________
[366]- ترجمة السلامي هذه من المختصر؛ وأرجح أنه أبو علي السلامي الذي ترجم له الثعالبي في اليتيمة 4: 95 فهو بيهقي وهو مؤرخ وله كتاب في أخبار ولاة خراسان.
[1] كذا، ولعلها النبلاء.(3/1029)
دهمان يوما للسلامي: إن الناصر مائل إليك مقرّب لك فضل تقريب، فأهد إليه من قولك هدية تكون لك عنده تحية، فأنفذ إليه السلامي بهذين البيتين:
شكا الدين والجود حاليهما ... فأشكاهما الله بالناصر
فأيّد ركن الهدى بالتقى ... وعمّ الورى بالندى الغامر
فلما دخل السلاميّ من الغد إلى أبي القاسم قال: قد حملوا إليّ هديتك وتحيتك، ووجدت حروفها قليلة جامعة، ومعانيها جليلة رائعة، كالجوهر الخفيف وزنه الغالي ثمنه، فبرّك بها عندنا مقبول، وحبلك موصول، وذمامك محفوظ. فقال السلامي: إيها أيها السيد، قد زينت تلك الهدية بجميل وصفك، وشهّرتها بلطيف رصفك، وأعطيتني بها غاية الأعطية، وحبوتني بها نهاية الأحبية، فما ربح أحد من متحلّي [1] هذه الصناعة ما ربحته على هذه الصناعة، فعمل مبرور، وسعي مشكور، فأنا بحسن العوض مغمور، وبكريم المثوبة مبهور، فالتفت أبو القاسم إلى من حضره وقال:
لا يكمل الفضل للمذكور بالحسب ... إلا بزينة فضل العلم والأدب
- 367-
الحسين بن أحمد بن خالويه بن حمدان
أبو عبد الله اللغوي النحوي: من كبار أهل اللغة والعربية أصله من همذان، ودخل بغداد طالبا للعلم سنة أربع عشرة
__________
[367]- ترجمة ابن خالويه في الفهرست: 92 وإنباه الرواة 1: 324 (وفيه الحسين بن محمد) ويتيمة الدهر 1: 107 ونزهة الألباء: 214 وابن خلكان 2: 178 وطبقات ابن الجزري 1: 237 وعبر الذهبي 2: 356 والبداية والنهاية 11: 297 والوافي 12: 323 وبغية الوعاة 1: 529 ولسان الميزان 2: 267 ومرآة الجنان 2: 394 وطبقات السبكي 3: 269 والشذرات 3: 71 وطبقات الداودي 1: 148 والنجوم الزاهرة 4: 139 وروضات الجنات 3: 152 وقد أضاف المختصر زيادات كثيرة إلى الترجمة التي وردت في الأصل.
[1] ر: مستحلي.(3/1030)
وثلاثمائة فلقي فيها أكابر العلماء وأخذ عنهم، فقرأ القرآن على الإمام ابن مجاهد، والنحو والأدب على أبي بكر ابن دريد وأبي بكر ابن الأنباري ونفطويه، وأخذ اللغة عن أبي عمر الزاهد، وسمع من محمد بن مخلد العطار وغيره، وقرأ على أبي سعيد السيرافي وأخذ عنه المعافى بن زكريا النهرواني وآخرون، وانتقل إلى الشام ثم إلى حلب فاستوطنها ونفق بها سوقه وتقدم في العلوم حتى كان أحد أفراد عصره، وكانت الرحلة إليه من الآفاق، واختصّ بسيف الدولة بن حمدان فحظي لديه ونفق عليه وأفضل عليه أفضالا، وعاش في بلهنية إلى أن مات في سنة احدى وسبعين وثلاثمائة، وقرأ عليه آل حمدان وكانوا يجلونه ويكرمونه فانتشر علمه وفضله وذاع صيته، وله مع أبي الطيب المتنبي مناظرات.
ودخل يوما على سيف الدولة فلما مثل بين يديه قال له: اقعد ولم يقل اجلس، قال ابن خالويه: فعلمت بذلك اعتلاقه بأهداب الأدب، واطّلاعه على أسرار كلام العرب. (قلت: قال ابن خالويه هذا لانه يقال للقائم اقعد وللنائم والساجد اجلس) .
وقال أبو عمرو الداني في «طبقات القراء» : كان ابن خالويه عالما بالعربية حافظا للغة بصيرا بالقراءة ثقة مشهورا روى عنه غير واحد من شيوخنا: عبد المنعم بن غلبون والحسن بن سليمان وغيرهما.
وروي أنّ رجلا جاء إلى ابن خالويه وقال له أريد أن أتعلّم من العربية ما أقيم به لساني فقال: أنا منذ خمسين سنة أتعلم النحو فما تعلمت ما أقيم به لساني.
وذكر ابن خالويه في «أماليه» [1] أن سيف الدولة سأل جماعة من العلماء بحضرته ذات ليلة: هل تعرفون اسما ممدودا وجمعه مقصور فقالوا لا، فقال لي: ما تقول أنت؟ قلت: أنا أعرف اسمين، قال: ما هما؟ قلت: لا أقول لك إلا بألف درهم لئلا تؤخذ بلا شكر وهما صحراء وصحارى وعذراء وعذارى.
وقال: سمعت ابن الأنباري يقول: اللئيم الراضع الذي يتخلّل ويأكل خلاله.
وقال: حدثنا نفطويه عن أبي الجهم عن الفراء أنه سمع أعرابيا يقول: قضت
__________
[1] ينقل ابن العديم عن أمالي ابن خالويه في أماكن مختلفة من بغية الطلب، وقد وردت هذه القصة في 1: 24.(3/1031)
علينا السلطان، قلت: السلطان يذكر ويؤنث والتذكير أعلى، ومن أنثه ذهب به إلى الحجة.
وحكى عن أبي عمر الزاهد أنه قال في معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أكلتم فرازموا» أي افصلوا بين اللقمة والطعام باسم الله تعالى.
وحكى عنه أبو بكر الخوارزمي وهو من تلامذته أنه قال: كل عطر مائع فهو الملاب، وكل عطر يابس فهو الكباء، وكل عطر يدق فهو الألنجوج. وكان إذا تكلم قصد التقعير في كلامه، واستعمل وحشيّ اللغة: وجدت على ظهر كتاب بإسناد مرفوع إلى أحمد بن كاشقر قال: جئت أبا عبد الله ابن خالويه فلما نظرني من بعيد قال لي: ما تبغي من علومنا نحوا أم لغة؟ فقلت: لا أحرم شيئا، فقال: اجعل حندورتك في قهبلي، وخذ المزبر بشناترك، فلا أنغو بنغوة إلا جعلتها في حماطة جلجلانك، ونحّ الكنفشة على الحذنّة، واجعل اللّمص في العرين [1] ، واشرب ثم اشرب. فقلنا: إن رأى الأستاذ، أيده الله، أن يأمر غلامه بإسراج الشمعة فقد ادلهمّ النهار فاندفع، فقال [2] : حدثنا أبو العباس الأرزق قال: جئت الشافعي رحمة الله عليه، فقلت له: يا أبا عبد الله تتحقق هذا الفقه فتأخذ الجوائز عليه، والأرزاق السنية، ونحن، فليس لنا إلا هذا الشعر وقد جئت تداخلنا فيه، والآن جئتك بأبيات قلتها إن أجزتها ببيت من الشعر فلك الحكم، وإن عجزت عنها تتوب. فقال لي الشافعي: إيه، قال أبو العباس: فأنشدته:
ما همتي إلا مقارعة العدا ... خلق الزمان وهمتي لم تخلق
والناس أعينهم إلى سلب الغنى ... لا يسألون عن الحجى والأولق
لكنّ من رزق الحجى حرم الغنى ... ضدان مفترقان أيّ تفرّق
لو كان بالحيل الغنى لوجدتني ... بنجوم أقطار السماء تعلقي
فقال الشافعي، رضي الله عنه: ألا قلت كما أقول ارتجالا:
__________
[1] كذا ورد؛ ولعله: العرش.
[2] القصة (بإيجاز) والشعر في طبقات السبكي 1: 304- 305 وفيه عياش الأزرق. وانظر ديوان الشافعي (يكن) : 132- 133 ومناقب الشافعي: 198.(3/1032)
إن الذي رزق اليسار ولم يصب ... حمدا ولا أجرا لغير موفّق
فالجدّ يدني كلّ أمر شاسع ... والجدّ يفتح كلّ باب مغلق
فإذا سمعت بأن مجدودا أتى ... عودا فأورق في يديه فصدّق
ومتى سمعت بأن مجدودا حوى ... ماء ليشربه فغاض فحقق
ومن الدليل على القضاء وكونه ... بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
تفسير غريب هذه الحكاية: الحندورتان: العينان. والقهبل: الوجه.
والمزبر: القلم. والشناتر: الأصابع. ولا أنغو نغوة: أي لا ألفظ بلفظة إلا جعلتها في حماطة جلجلانك: يعني في سويداء قلبك. والكنفشة: العمامة. والحذنّة:
الأذن. واللمص: الفالوذ. والعرين: اللهوات. واشرب: احفظ. واشرب:
اجعله في وعاء.
قيل: حضر المتنبي مجلس أبي علي الحسن بن نصر البازيار وزير سيف الدولة، وهناك ابن خالويه، فتماريا في أشجع السلمي وأبي نواس، فقال ابن خالويه: أشجع أشعر إذ قال في هارون الرشيد [1] :
وعلى عدوّك يا ابن عمّ محمد ... رصدان ضوء الصبح والإظلام
فإذا تنبّه رعته وإذا غفا ... سلّت عليه سيوفك الأحلام
فقال المتنبي: لأبي نواس ما هو أحسن من هذا، قوله في آل برمك [2] :
لم يظلم الدهر إذ توالت ... فيهم مصيباته دراكا
كانوا يجيرون من يعادي ... منه فعاداهم لذاكا
ثم قال المتنبي: أبو نواس أشهر في الدنيا من الدنيا:
قل للذي قاس به غيره ... أقست يسراك إلى اليمنى
فابك على عقلك من نقصه ... بكاء قيس من هوى لبنى
نقلت من خطّ ابن خالويه في نسخة كتاب كتبه إلى سيف الدولة يخبره بما يقرىء ولديه: أبا المكارم وأبا المعالي، قال في أثنائه: فإن قيل لنا كيف صرّفت الفعل من
__________
[1] انظر اشجع السلمي: 253.
[2] لم أجدهما في ديوان أبي نواس.(3/1033)
بسم الله، والأسماء لا تتصرف حيث قلت:
لقد بسملت ليلى غداة لقيتها ... فيا حبذا ذاك الحبيب المبسمل
فالجواب أنّ العرب فعلت ذلك في سبع كلمات شذّت وكثر استعمالهم إياهن، وهن: بسمل إذا قال: بسم الله، وحمدل إذا قال: الحمد لله، وحيعل إذا قال:
حيّ على الفلاح، وجعفل إذا قال: جعلت فداك، وحولق: إذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله. وأما حوقل الشيخ فمعناه دنا للفناء إذا ادرهمّ [1] وخرف وصار همّا إنقحلا [2] ونيّف على المائة شررى قال الراجز:
يا قوم قد حوقلت أو دنوت
والحرف السابع: هيلل إذا قال: لا إله إلا الله، لا ثامن لها.
قال المؤلف، رفق الله به: الذي ذكره ابن خالويه سبعة، ونسي الثامن وهو حسبل إذا قال: حسبنا الله.
وفي الخبر المنقول من خطّه ما يدلّ على أن ابن خالويه جاوز المائة من عمره، والله أعلم.
ومما مدح به ابن خالويه:
إن غاب عنّا شخص سيبويه ... وثعلب أو فاد نفطويه
فنحن نغنى بابن خالويه ... زمام هذا الأمر في يديه
ومرجع الحكم بنا إليه ... أثني بما أعلمه عليه
وكتب إلى سيف الدولة في أول رقعة:
أصبحت كالوالد البرّ الرحيم بنا ... وهل يخاف جفاء الوالد الولد
يا غرة الدين إنّ الناس قد علموا ... أن لا يقوم بهم إلا بك الأود
لولا تراث [من الإسلام] وسطهم ... لكفّروا لك معذورين أو سجدوا
قال كمال الدين أبو القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة أدام الله علوه: وجدت بخطّ بعض أصحاب ابن خالويه على جزء، وعليه خطه: سأل سيف
__________
[1] ادرهمّ: سقط من الكبر.
[2] انقحلا: يبس، وفي الأصل: انخلا.(3/1034)
الدولة جماعة من العلماء بحضرته ذات ليلة: هل تعرفون اسما ممدودا وجمعه مقصور؟ فقالوا: لا. فقال: يا ابن خالويه، ما تقول أنت؟ فقال: أنا أعرف اسمين [ممدودين] وجمعهما مقصور. قال: ما هما؟ قال: صحراء وصحارى وعذراء وعذارى. فلما كان بعد شهر كتبت إليه: إني قد أصبت حرفين آخرين ذكرهما الجرمي في كتاب [التثنية والجمع] وهما صلفاء وصلافى، وهي الأرض الغليظة، وخبراء وخبارى، وهي أرض فيها ندوة. فلما كان بعد عشرين سنة من هذا الحديث: أمليت هذه الأحرف على أبي القاسم العقيقي، أيده الله، فلما مضى إلى دمشق كتبت إليه:
إنه بإقبال الشريف ويمنه لما استعبر [ت] هذه الأحرف وجدت حرفا خامسا ذكره ابن دريد في «الجمهرة» وهو سبتاء وسباتى وهي الأرض الخشنة [1] .
ومن شعر ابن دريد يصف برد همذان [2] :
إذا همذان اعتادها القرّ وانثنى ... برغمك أيلول وأنت مقيم
فعينك عمشاء وأنفك سائل ... ووجهك مسوّد البياض بهيم
وأنت أسير البرد تمشي تعلة ... على [الأين] تحبو مرة وتقوم
بلاد إذا ما الصيف أقبل جنّة ... ولكنها عند الشتاء جحيم
قرأت بخط ابن خالويه نسخة كتاب إلى سيف الدولة: ذكر الله أكبر، والشعر أحقر وأصغر، وثناء الله أسنى وأشرف، وبقاؤه أولى وأطرف، ومديح مولانا سنّة بل واجب فرض:
ملك كأنّ الله قبل كتابه ... أعطاه مما شاء فوق مراده
أحيا الندى كرما ونفّق محسنا ... بالجود سوق العلم بعد كساده
وسما بهمّته التي لو أنها ... للصبح ما انتفع الدجى بسواده
فالدهر حين يصول من خدّامه ... والبدر حين يلوح من حسّاده
ألف الثناء فما يقرّ نداه من ... إتهامه في الأرض أو إنجاده
__________
[1] انظر كتاب «ليس» : 131.
[2] لا معنى لورود شعر ابن دريد هنا إلا أن يكون مما رواه ابن خالويه ولم ترد الابيات في ديوان ابن دريد (جمع ابن سالم) أو لعله أراد ابن خالويه فوهم.(3/1035)
والمجد ليس يصون طارفه امرؤ ... ما لم يهن بالجود عزّ تلاده
من لم ينل رتب العلاء لنفسه ... لم يعلم الميراث من أجداده
أعطى فخلنا الغيث من سؤّاله ... وسطا فقلنا الموت من أنجاده
هو غاية الأمل الذي ما خلفه ... طلب لطالبه ولا مرتاده
فإذا دهيت من الزمان فواله ... وإذا سئمت من الزمان فعاده
ولابن خالويه من التصانيف كتاب أسماء الأسد، ذكر له فيه خمسمائة اسم.
وكتاب إعراب ثلاثين سورة [1] . وكتاب البديع في القراءات [2] . وكتاب اشتقاق خالويه. وكتاب ليس وهو كتاب جيد نفيس [3] يدل على سعة علم مؤلفه، وذاك أنه يقول: ليس في كلام العرب على مثال كذا إلا كذا، وهذا تحكم عظيم. وكتاب الاشتقاق. وكتاب الجمل في النحو. وكتاب أطرغش وأبرعش. وكتاب في القراءات [4] .
وكتاب المبتدأ. وكتاب المقصور والممدود. وكتاب المذكر والمؤنث. وكتاب شرح مقصورة ابن دريد. وكتاب شرح السبع الطوال. وكتاب الألفات. وكتاب الآل، ذكر في أوله ان الآل ينقسم إلى خمسة وعشرين قسما وذكر فيه الأئمة الاثني عشر ومواليدهم ووفياتهم. وكتاب في غريب القرآن قيل إنه صنّف في خمس عشرة سنة. وكتاب ديوان أبي فراس ابن حمدان جمعه وذكر فيه جملة من أخباره وفسر أشعاره [5] . وكتاب الأفق فيما تلحن فيه العامة. وكتاب شرح الفصيح، وغير ذلك [6] .
__________
[1] ظهر عن مطبعة دار الكتب سنة 1941.
[2] نشر منه «مختصر في شواذ القرآن» بعناية برجشتراسر، مصر 1934، وقد نقل ابن العديم خاتمة هذا الكتاب في بغية الطلب 4: 259.
[3] لعلّ آخر تحقيق له تمّ على يد أحمد عبد الغفور عطار، مكة المكرمة 1979 وقد تعقب هذه الطبعة د. محمود جاسم محمد الدرويش في كتابه: ابن خالويه وجهوده في اللغة (بغداد) ص 39- 80.
[4] لعله «الحجة» حققه د. عبد العال سالم مكرم (بيروت 1977) .
[5] ورد بعض هذا الشرح في الطبعة التي أصدرها الدكتور سامي الدهان رحمه الله، وفي نقول ابن العديم زيادات عما ورد في تلك الطبعة.
[6] حقق الدكتور محمود جاسم محمد الدرويش لابن خالويه شرح مقصورة ابن دريد في كتابه «ابن خالويه وجهوده في اللغة» .(3/1036)
ومن شعره:
الجود طبعي ولكن ليس لي مال ... فكيف يبذل من بالقرض يحتال
فهاك خطّي فخذه اليوم تذكرة ... إلى اتساعي فلي في الغيب آمال
وقال:
إذا لم يكن صدر المجالس سيدا ... فلا خير في من صدّرته المجالس
وكم قائل ما لي رأيتك راجلا ... فقلت له من أجل أنك فارس
وقال:
أيا سائلي عن قدّ محبوبي الذي ... كلفت به وجدا وهمت غراما
رأى قصر الأغصان ثم رأى القنا ... طوالا فأضحى بين ذاك قواما
- 368-
الحسين بن أحمد بن يعقوب بن يوسف
بن داود بن سليمان المعروف بابن دمينة: مصنف كتاب «الإكليل» [1] وهو الكتاب المؤلف في أنساب حمير وأيام ملوكها، عظيم القدر والفائدة يشتمل على عشرة فنون: الفن الأول في اختصار المبتدأ وأصول أنساب العرب والعجم، وأنساب ولد حمير. الفن الثاني: في نسب ولد الهميسع بن حمير. الفن الثالث: فضائل قحطان إلى عهد أبي كرب أسعد الكامل، وهو الأوسط. الفن الخامس: في السيرة الوسطى من عهد أبي كرب إلى عهد ذي نواس. الفن السادس: في السيرة الآخرة من عهد ذي نواس إلى عهد الإسلام. الفن
__________
[368]- وردت له ترجمتان من قبل (302، 303) باسم: الحسن بن أحمد بن يعقوب، ويلاحظ هنا أنه وصف محتويات الاكليل ولكن أغفل الجزء التاسع، وهو يضمّ «النقوش» ، وهذا يعني أن النساخ من بعد أهملوه لعجزهم عن نسخه؛ وكذلك أغفل الحديث عن محتويات الجزء الرابع.
[1] قال مختار هذه الأجزاء: لست بصدد ذكر هذه الكتب المصنفة، وإنما ذكر هذا الكتاب العظيم الشأن يجب، لأنه من غرائب الكتب.(3/1037)
السابع: في التنبيه على الأخبار الباطلة والحكايات المستحيلة. الفن الثامن: في ذكر قصور حمير وحكمها وحروبها. الفن العاشر: في معارف همدان، وفي أثناء هذا الكتاب جمل حسان من حساب القرانات وأوقاتها، ونبذ من علم الطبيعة وأحكام النجوم، وآراء الأوائل في قدم العالم وحدوثه، واختلافهم في أدواره وفي تناسل الناس ومقادير أعمارهم، وغير ذلك.
وله بعد هذا تواليف حسان، ومات في سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة.
- 369-
الحسين بن أحمد الزوزني النحوي الضرير
أبو عبد الله: ويخاطب بالقاضي. مات في سنة ست وثمانين وأربعمائة ومن مليح منظومه:
فتى لا يقتني غير المعالي ... ولا يرضى سوى العلياء جارا
حوى من كلّ مكرمة نصيبا ... فأنجد في العلوم كما أغارا
فلو كانت مكارمه هلالا ... لما لاقى محاقا أو سرارا
ولو كانت فضائله نجوما ... لما رضيت لها الفلك المدارا
ولو كانت شمائله شمولا ... لما ألقت لساريها الخمارا
مصنفاته: كتاب المصادر. كتاب القانون في علم الأصول. كتاب «شرح نحو أبي الحسن الضرير النحوي» . كتاب شرح السبع الطوال.
- 370-
الحسين بن أحمد بن بطويه
أبو عبد الله النحوي: لا أعلم من أمره شيئا. ومما أنشدت من شعره:
__________
[369]- ترجمة الزوزني هذه من المختصر، ولم يترجم له الصفدي في نكت الهميان، وهذا قد يعني عدم ورودها في الوافي أيضا. وهو شارح المعلقات السبع، وشرحه طبع كثيرا، ومخطوطاته كثيرة جدا.
[370]- ترجمته في الوافي 12: 330 (وهو ينقل عن ياقوت) وبغية الوعاة 1: 529.(3/1038)
وماذا عليهم لو أقاموا فسلموا ... وقد علموا أني مشوق متيّم
سروا ونجوم الليل زهر طوالع ... على أنهم في الليل للناس أنجم
وأخفوا على تلك المطايا مسيرهم ... فنمّ عليهم في الظلام التبسم
وقال:
وإذا الدرّ زان حسن وجوه ... كان للدرّ حسن وجهك زينا
وتزيدين أطيب الطيب طيبا ... إن تمسيه أين مثلك أينا
وحدث أبو عبد الله نفطويه قال [1] : كنت بالكوفة ملازما للشريف أبي علي عمر بن محمد بن عمر فقدم علينا فتى من أهل الحجاز أديب ظريف، وقصد أبا علي وتردد إليه ونادمه، وكان يقول شعرا مطبوعا فخاطبته في معناه وقلت له: هذا فتى غريب وقد دخل دارك وتحرّم بطعامك، فبرّه وتفقده فقال: ما مدحني، فقلت: ليس الرجل منتدبا لهذا، وإنما يقول الشعر تأدّبا لا تكسبا ولعلك إذا أحسنت إليه أن يقول؛ فأعرض عني، ونقل المجلس إلى الرجل فحضرني واستخبرني عما جرى فذكرته له وجمّلت الحال. فقال: قد بلغني الحال على وجهه، والله يحسن جزاءك، وأنشدني:
عثمان يعلم أن الحمد ذو ثمن ... لكنه يشتهي حمدا بمجّان
والناس أكيس من أن يحمدوا رجلا ... حتى يروا عنده آثار إحسان
وانصرف من الكوفة وكان آخر عهدي به.
__________
[1] هذه الحكاية من المختصر، ولا أدري لم أوردها في ترجمة ابن بطويه إلا أن تكون مما رواه ابن بطويه؛ أو كتب نفطويه بدلا من بطويه سهوا. وصاحب المختصر يحذف السند في كثير من الأحيان.(3/1039)
- 371-
الحسين بن أحمد بن محمد بن جعفر بن محمد
المعروف بابن الحجاج الكاتب الشاعر أبو عبد الله: شاعر مفلق، قالوا إنه في درجة امرىء القيس، لم يكن بينهما مثلهما، وإن كان جلّ شعره [مبنيّا على] مجون وسخف. وقد أجمع أهل الأدب على أنه مخترع طريقته في الخلاعة والمجون ولم يسبقه إليها أحد ولم يلحق شأوّه فيها لاحق، قدير على ما يريده من المعاني [التي هي] الغاية في المجون مع عذوبة الألفاظ وسلاستها. وله مع ذلك في الجدّ أشياء حسنة لكنها قليلة، ويدخل شعره في عشر مجلدات أكثره هزل مشوب بألفاظ المكدين والخلديين والشطّار ولكنه يسمعه أهل الأدب على علاته، ويتفكهون بثمراته، ويستمحلون بنات صدره المتهتكات، ولا يستثقلون حركاتهن لخفتها وان بلغت في الخفة غاية الغايات. وإني لأقول كما قال أبو منصور [1] : لولا قول إبراهيم بن المهدي إن جدّ الأدب جدّ وهزله هزل، لصنت كتابي هذا عن مثل هذا المجون، وحديث كله ذو شجون. ولقد مدح الملوك والأمراء، والوزراء والرؤساء، فلم يخل شعره فيهم مع هيبة المقام من هزل وخلاعة. فلم يعدّوه مع ذلك من الشناعة. وكان عندهم مقبولا مسموعا غالي المهر والسعر، وكان يتحكم على الأكابر والرؤساء بخلاعته. ولا يحجب عن الأمراء والوزراء مع سخافته: يستقبلونه بالبشاشة والاكرام، ويقابلون إساءته بالاحسان والانعام. وناهيك برجل يصف نفسه بمثل قوله [2] :
__________
[371]- ترجمة ابن حجاج في تاريخ بغداد 8: 14 ويتيمة الدهر 3: 31 والامتاع 1: 137 والمنتظم 7: 216 وابن خلكان 2: 168 وعبر الذهبي 3: 50 والبداية والنهاية 11: 329 والوافي 12: 331 ومرآة الجنان 2: 444 ومطالع البدور 1: 39 والشذرات 3: 136 وروضات الجنات 3: 158؛ وهذه الترجمة دخيلة على معجم الأدباء، لأن المؤلف جعل للشعراء معجما آخر، ويبدو أن كثيرا من تراجم الجزء الرابع (بحسب طبعة مرغوليوث) إنما هي في الأصل من «معجم الشعراء» كما قال الأستاذ مصطفى جواد رحمه الله، بحقّ، وسأشير إلى ذلك بإيجاز في التراجم اللاحقة.
[1] يتيمة الدهر 3: 31- 32.
[2] اليتيمة 3: 33.(3/1040)
رجل يدّعي النبوّة في السّخ ... ف ومن ذا يشك في الأنبياء
جاء بالمعجزات يدعو إليها ... فأجيبوا يا معشر السخفاء
حدث السنّ لم يزل يتلهّى ... علمه بالمشايخ الكبراء
خاطر يصفع الفرزدق في الشع ... ونحو ينيك أمّ الكسائي
غير أني أصبحت أضيع في القو ... م من البدر في ليالي الشتاء
وقوله في وصف شعره [1] :
بالله يا أحمد بن عمرو ... تعرف للناس مثل شعري
شعر يفيض الكنيف منه ... من جانبي خاطري وفكري [2]
فلفظه منتن المعاني ... كأنه فلتة بجحر
لو جدّ شعري رأيت فيه ... كواكب الليل كيف تسري
وإنما هزله مجون ... يمشي به في المعاش أمري
وقال [3] :
فإنّ شعري ظريف ... من بابة الظرفاء
ألذّ معنى وأشهى ... من استماع الغناء
وقال [4] :
إن عاب ثعلب شعري ... أو عاب خفة روحي
خريت في باب أفعل ... ت من كتاب الفصيح
وقال في الأمير عز الدولة بختيار [5] :
فديت وجه الأمير من قمر ... يجلو القذى نوره عن البصر
__________
[1] المصدر نفسه.
[2] اليتيمة: ونحري.
[3] اليتيمة 3: 32.
[4] اليتيمة 3: 33.
[5] اليتيمة 3: 48.(3/1041)
فديت من وجهه يشكّكني ... في أنّه من سلالة البشر
إن زليخا لو أبصرتك لما ... ملّت إلى الحشر لذة النظر
ولم تقس يوسفا إليك كما ... نجم السّهى لا يقاس بالقمر
وكان يا سيدي قميصك إن ... هربت منها ينقدّ من دبر
بل وحياتي لو كنت يوسفها ... لم تك من تهمة العزيز بري
لأنني عالم بأنك لو ... شممت ريّا نسيمها العطر
سبقتها وانزبقت تتبعها ... ما بين تلك البيوت والحجر
وقد علمنا بأن سيدنا ال ... أمير ممن يقول بالبظر
ولم تكن تلك تشتكي أبدا ... ما كان من يوسف من الحذر
طبعك كالماء في سهولته ... لكن أبو الزبرقان من حجر
إن الملوك الشباب ما خلقوا ... إلا صلاب الفياش والكمر
وقال يشكو سوء حاله وبعث بها إلى ابن العميد [1] :
فداؤك نفس عبد أنت مولى ... له يرجوك يا خير الموالي
حديثي منذ عهدك بي طويل ... فهل لك في الأحاديث الطوال
فاني بين قوم ليس فيهم ... فتى ينهي إلى الملك اختلالي
فلحمي ليس تطبخه قدوري ... وحوتي ليس تقليه المقالي
ومائي قد خلت منه حبابي ... وخبزي قد خلت منه سلالي
وكيسي الفارغ المطروح خلفي ... بعيد العهد بالقطع الحلال
أفكّر في مقامي وهو صعب ... وأصعب منه عن وطني ارتحالي
فبي مرضان مختلفان حالي ال ... عليلة منهما تمسي بحال
إذا عالجت هذا جفّ كبدي ... وان عالجت ذاك ربا طحالي
__________
[1] اليتيمة 3: 57.(3/1042)
وقال في مثل ذلك أيضا [1] :
يا سيد الناس عشت في نعم ... تأوي إليها موابذ العجم
بديهتي في الخصام حاضرة ... أشهر في الفيلقين من علم
والخطّ خطي كما تراه ولا ال ... زهرة بين القرطاس والقلم
هذا وخبزي حاف بلا مرق ... فكيف لو ذقت لذة الدسم
ما لي وللحم إنّ شهوته ... قد تركتني لحما على وضم
وما لحلقي والخبز يجرحه ... بالملح يشكو مرارة اللقم
وقال في مثل ذلك [2] :
خليلي قد اتسعت محنتي ... عليّ وضاقت بها حيلتي
عذرت عذاري في شيبه ... وما لمت إذ شمطت لمتي
إلى كم يخاصمني دائما ... زماني المقبّح في عشرتي
تحيّفني ظالما غاشما ... وكدّر بعد الصفا عيشتي
وكنت تماسكت فيما مضى ... فقد خانني الدهر في مسكتي
إلى منزل لا يواري إذا ... تربعت فيه سوى سوأتي
مقيما أروح إلى حجرة ... كقبري وما حضرت ميتتي
إذا ما ألمّ صديقي به ... على رغبة منه في زورتي
فرشت له فيه بسط الحديث ... من باب بيتي إلى صفّتي
ومعدته في خلال الكلام ... تشكو خواها إلى معدتي
وقد فتّ في عضدي ما به ... ولكن به غلبت علتي
وأغدو غدوّا مليّا بأن ... يزيد به الله في شقوتي
فأيّة دار تيمّمتها ... تيمّم بوابها حجبتي
__________
[1] اليتيمة 3: 61- 62.
[2] اليتيمة 3: 58- 59.(3/1043)
وإن أنا زاحمت حتى أموت ... دخلت وقد زهقت مهجتي
فيرفعني الناس عند الوصول ... إليهم وقد سقطت عمتي
وإن نهضوا بعد للإنصراف ... أسرعت في إثرهم نهضتي
وإن قدّموا خيلهم للركوب ... خرجت فقدمت لي ركبتي
وفي جمل الناس غلمانهم ... وليس سوائي في جملتي
ولا لي غلام فأدعو به ... سوى من أبوه أخو عمّتي
وكنت مليحا أروق العيون ... قبلا فقد قبحت خلقتي
وقوّسني الهمّ حتى انطويت ... فصرت كأني أبو جدّتي
وكان المزيّن فيما مضى ... تكسّر أمشاطه طرتي
وكنت برأس كلون الغداف ... فقد صرت أصلع من فيشتي
ويا ربّ بيضاء رود الشباب ... كانت تحنّ إلى وصلتي
فصارت تصدّ إذا أبصرت ... مشيبي وتغضب من صلعتي
على أنني قلت يوما لها ... وقد أمضت العزم في هجرتي
دعي عنك ما فوقه عمّتي ... فإن جمالي ورا تكّتي
هنا لك شيء يسرّ العيون ... طويل عريض على دقّتي
وقال [1] :
ويحكم يا كهول أو يا شيوخ ال ... فسق أو يا معاشر الفتيان
اشربوها حمراء مما اقتناها ... آل دير القابون للقربان
بكؤوس كأنها ورق النس ... رين فيها شقائق النعمان
اشربوها وكلّ إثم عليكم ... إن شربتم بالرطل في ميزان
في ليال لو أنها دفعتني ... وسط ظهري وقعت في رمضان
__________
[1] الوافي 12: 337.(3/1044)
وقال يستهدي أبا تغلب ابن حمدان فرسا [1] :
اسمع المدح الذي لو قيل في ... أحد غيرك قالوا سرقا
جاء يستهديك مهرا أدهما ... يركب الفارس منه غسقا
كالدجى تبصر من غرّته ... فوق أطباق دجاه فلقا
جلّ ان يلحق مطلوبا ومن ... طلب الرّيح عليه لحقا
فتراه واقفا في سرجه ... يتلظّى من ذكاه قلقا
فإذا طاب به المشي مضى ... وهو كالرّيح يشقّ الطرقا
كالسحاب الجون إلا أنه ... ليس يسقي الأرض إلا عرقا
جمع الأمرين يعدو المرطا ... في مدى السبق ويمشي العنقا
واستدعاه الوزير للخروج معه إلى القتال فقال من قصيدة [2] :
يا سائلي عن بكاي حين رأى ... دموع عيني تسابق المطرا
ساعة قيل الوزير منحدر ... أسرع دمعي وفاض منحدرا
وقلت يا نفس تصبرين وهل ... يعيش بعد الفراق من صبرا
شاورته والهوى يفتّته ... والرأي رأي الصواب قد حضرا
أهوى انحداري والحزم يكرهه ... وتارك الحزم يركب الغررا
لأنني عاقل ويعجبني ... لزوم بيتي وأكره السفرا
الخيش نصف النهار يعجبني ... والماء بالثلج باردا خصرا
والشرب في روشني أقول به ... كيما أرى الماء منه والقمرا
ولا أقود الخيل العتاق بلى ... أسوق بين الأزقة البقرا
من كلّ جاموسة لعنبلها ... رأس بقرنيه يفلق الحجرا
قد نفخ الشحم جوفها فغدا ... كأنه بطن ناقة عشرا
__________
[1] اليتيمة 3: 101.
[2] اليتيمة 3: 45- 46.(3/1045)
تركض مثل الحصان نافرة ... ومن يردّ الحصان إن نفرا
أحسن في الحرب من صفوفكم ... غدا قعودي أصفّف الطّررا
هيهات أن أحضر القتال وأن ... ترى بعينيك فيه لي أثرا
بل الذي لا يزال يعجبني ال ... دبيب بالليل خائفا حذرا
الدفّ عند الصباح دبدبتي ... وبوقي النّاي كلّما زمرا
هذا اعتقادي وهكذا أبدا ... أرى لنفسي وأنت كيف ترى
ومن مقطعاته [1] :
ملك لو لم يكن من ملكه ... غير دار وشّحت بالنّعم
لو رمى شداد فيها طرفه ... زهّدته بعدها في إرم
وقال:
صنعت في دارك فوّارة ... أغرقت في الأرض بها الأنجما
فاض على نجم السّهى ماؤها ... فأصبحت أرضك تسقي السّما
وقال [1] :
واستوف عمر الدهر في نعمة ... دون مداها موقف الحشر
مصيبة الحاسد في مكثها ... مصيبة الخنساء في صخر
وقال [1] :
هذا حديثي تنمي عجائبه ... بكثرة القال فيه والقيل
أعجزني دفنه فشاع كما ... أعجز قابيل دفن هابيل
وقال [2] :
قد وقع الصلح على غلّتي ... واقتسموها كارة كاره
لا يفلس البقال إلا إذا ... تصالح السّنّور والفاره
__________
[1] اليتيمة 3: 52، 51، 51.
[2] وردت المقطعات هذه في اليتيمة 3: 54، 56، 82، 92، 92، 103، 48، 52.(3/1046)
وقال:
عجبت من الزمان وأيّ شيء ... عجيب لا أراه من الزمان
يصادر قوت جرذان عجاف ... فيجعله لأوعال سمان
وقال:
يا رائحا في داره غاديا ... بغير معنى وبلا فائده
قد جنّ أضيافك من جوعهم ... فاقرأ عليهم سورة المائده
وقال:
فديت من لقّبني مثل ما ... لقبته والحقّ لا يغضب
إن قلت يا عرقوب خادعتني ... يقول لم نفسك يا أشعب
وقال:
قد قلت لما غدا مدحي فما شكروا ... وراح ذمّي فما بالوا ولا شعروا
«عليّ نحت القوافي من معادنها ... وما عليّ إذا لم تفهم البقر»
وقال:
الصبح مثل البصير نورا ... والليل في صورة الضرير
فليت شعري بأيّ رأي ... يختار أعمى على بصير
وقال:
إن بني برمك لو شاهدوا ... فعلك بالغائب والشاهد
ما اعترف الفضل بيحيى أبا ... ولا انتمى يحيى إلى خالد
وقال:
مولاي يا من كلّ شيء سوى ... نظيره في الحسن موجود
إن كنت أذنبت بجهلي فقد ... أذنب واستغفر داود
ولطائف ابن الحجاج كثيرة وفيما أوردناه منها كفاية. توفي يوم الثلاثاء سابع عشري جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة، ودفن في بغداد عند مشهد موسى(3/1047)
الكاظم بن جعفر الصادق رضي الله عنهما، وكان أوصى أن يدفن عند رجليه ويكتب على قبره وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ
(الكهف: 18) وكان من كبار شعراء الشيعة، وقد رآه بعض أصحابه في المنام بعد موته فقال له: ما حالك؟ فأنشد:
أفسد سوء مذهبي ... في الشعر حسن مذهبي
لم يرض مولاي علي ... سبّي لأصحاب النبي
ورثاه الشريف الرّضيّ الموسوي بقصيدة ارتجلها حين أتاه نعيه فقال [1] :
نعوه على ضنّ قلبي به ... فلله ماذا نعى الناعيان
رضيع صفاء [2] له شعبة ... من القلب مثل رضيع اللبان
بكيتك للشّرّد السائرات ... تعبث [3] ألفاظها بالمعاني
مواسم ينهلّ منها الحيا [4] ... بأشهر من مطلع الزبرقان
جوائف تبقى أخاديدها ... عماقا وتعفو ندوب الطعان [5]
تبضّ إلى اليوم آثارها ... بأحمر من عاند الطعن قاني [6]
قعاقعهنّ تشنّ الحتوف ... إذا هنّ أوعدن لا بالشنان
وما كنت أحسب أن المنون ... تفلّ مضارب ذاك اللسان
لسان هو الأزرق القعضبيّ ... تمضمض في ريقه الأفعوان [7]
له شفتا مبرد الهالكيّ ... أنحى بجانبه غير واني [8]
إذا لزّ بالعرض مبراته ... تصدّع صدع الرّداء اليماني
__________
[1] ديوان الشريف الرضي 2: 441- 442.
[2] الديوان: ولاء.
[3] الديوان: تعبق.
[4] الديوان: تعلط منها الجباه، وتعلط: توسم، والزبرقان: القمر.
[5] الجوائف: جمع جائفة وهي الطعنة تنفذ في الجوف، يشبه شعره بها.
[6] تبضّ: تنزف، العاند: العرق الذي لا يرقأ دمه.
[7] القعضبي: الشديد، شبهه بالنصل.
[8] الهالكي: الحداد.(3/1048)
يرى الموت أن قد طوى مضغة ... ولم يطو إلا غرار السنان
فأين تسرّعه للنضال ... وهبّاته للطوال اللّدان
يشلّ الجوائح شلّ السياط ... ويلوي الجوامح ليّ العنان
فإن شاء كان حران الجماح ... وإن شاء كان جماح الحران
يهاب الشجاع غذاميره ... على البعد منه مهاب الجبان [1]
وتعنو الملوك له خيفة ... إذا راع قبل اللظى بالدّخان
وكم صاحب كمناط الفؤاد ... عناني من يومه ما عناني
قد انتزعت من يديّ المنون ... ولم يغن ضمّي عليه بناني
فزال زيال الشباب الرطيب ... وخانك يوم لقاء الغواني
ليبك الزمان طويلا عليك ... فقد كنت خفّة روح الزمان
- 372-
الحسين بن الحسن بن واسان بن محمد أبو القاسم
الواساني الدمشقي توفي سنة أربع وتسعين وثلاثمائة شاعر مجيد برع وبرز في الهجاء، وله فيه نفس طويل، فهو في عصره كابن الرومي في زمانه، وله أهاج كثيرة في ابن القزاز لعداوة تأصّلت بينهما، وكان هجاؤه له سببا لعزل الواساني عن عمله. ومن أجود شعره قصيدته النونيّة التي وصف بها دعوة عملها في خمرايا من قرى دمشق قال [2] :
__________
[372]- هذه الترجمة أيضا موضعها «معجم الشعراء» وترجمة الواساني في اليتيمة 1: 351 وفيه «الحسين بن الحسين بن واسانة» وذكره صاحب جمهرة الاسلام: 158 وسمّاه «الحسين بن محمد» وأورد له قصيدة طويلة في هجاء الفصيصي، مطلعها:
ويلك يا وجه الخشب ... يا جرذا بلا ذنب
[1] الغذامير: الغضب.
[2] اليتيمة 1: 355- 364.(3/1049)
من لعين تجود بالهملان ... ولقلب مدلّه حيران
يا خليليّ أقصرا عن ملامي ... وارثيا لي من نكبتي وارحماني
ومتى ما ذكرت دعوة أبنا ... ء [1] البغايا والعاهرات الزواني
فانتفا لحيتي وجزّا سبالي ... وبنعل الكنيف فاستقبلاني
ما الذي ساقني لحيتي إلى حتفي ... وما غالني وماذا دهاني
من عذيري من دعوة أو هنت عظمي ... وهدّت بوقعها أركاني
كنت في منظر ومستمع منها ... ومن ذا ينجو من الحدثان [2]
فنزت بطنتي وهاجت على نفسي ... بلاء ما كان في حسباني
كان عيشي صاف فكدّره أهل ... صفائي بنو أبي صفوان
فارثوا لي يا معاشر الناس من ضرّي ... ومن طول محنتي وامتحاني
ضرب البوق في دمشق ونادوا ... لشقائي في سائر البلدان
النفير النفير بالخيل والرّجل ... إلى قفر ذا الفتى الواساني
جمعوا لي الجموع من جيل جيلا ... ن وفرغانة ومن ديلمان
ومن الروم والصقالب والتر ... ك وبعض البلغار واليونان
ومن الهند والأعاجم والبر ... بر والكيلجوج والبيلقان
لم يحاشوا ممن عددت من الآ ... فاق من مسلم ولا نصراني
والبوادي من الحجاز إلى نج ... د معدّيّها مع القحطاني
كلّ شكل ما بين حدب وحول ... وأصمّ والعمي والعوران [3]
وشيوخ قبّ البطون [4] وشبّا ... ن رحاب الأشداق والمصران
__________
[1] اليتيمة: أولاد.
[2] اليتيمة: يغتر بالحدثان.
[3] روايته في اليتيمة:
كل ضرب فمن طوال ومن حد ... ب قصار والحول والعوران
[4] اليتيمة: مثل الفراخ.(3/1050)
كل ذي معدة تقعقع جوعا ... وهو شاكي السلاح بالأسنان [1]
كل ذي اسم مستغرب أعجميّ ... منعت صرف إسمه علتان [2]
كمرند وطغتكين وطرخا ... ن وكسرى وخرّم وطوغان
وخمار وزيرك وخوند ... ومميش وطشتم وجوان
وطراد وجهبل وزناد ... وشهاب وعامر وسنان
غمر جمّعوا بغير عقول ... وازعات عنّي [3] ولا أديان
هل سمعتم بمعشر جمعوا الخي ... ل وساروا بالرّجل والفرسان
رحلوا من بيوتهم ليلة المر ... فع من أجل أكلة مجان
شره بارد وحرص على الأكل ... فويلي من معشر مجّان
لست أنسى مصيبتي يوم جاءو ... ني وقد ضاق عنهم الواديان
وردوا ليلة الخميس علينا ... في خميس ملء الربى والمغاني
متوال كالسيل لا يلتقي منه ... لفرط انتشاره الطرفان
أشرفوا بي على زروع وأحطا ... ب وبيت بخيره ملآن
لبن قارس وخبز طريّ ... وقدور تغلي على الداركان [4]
وشواء من الجداء ومعلو ... ف دجاج وفائق الحملان
وشراب ألذّ من زورة المعشوق ... بعد الصدود والهجران
يخجل الورد في الروائح والطعم ... ويحكي شقائق النعمان
أذكرتني جيوشهم يوم جاءو ... ني بيوم الكلاب والرّحرحان
يقدم القوم أرحبيّ [5] هريت ال ... شدق رحب المعى طويل اللسان
هو نمس الدجاج والبطّ والو ... ز وذئب النعاج والخرفان
__________
[1]
معد جوعت ثلاثين يوما ... بسلاح شاك من الأسنان
[2] سقط هذا البيت من اليتيمة.
[3] اليتيمة: قمش جمعوا ... ردعتهم عني.
[4] الداركان: نوع من الخشب.
[5] اليتيمة: هاشمي.(3/1051)
بسواد من عظمه طبّق الأر ... ض وخيل يهوين كالظلمان
وأبو القاسم الكبير على طر ... ف كميت أقبّ كالسرحان
وأخوه الصغير يعترض الخي ... ل على قارح عريض اللبان
وهما يهويان بالساق والرج ... ل إلى ما يسوءني مسرعان
والسريّ الذي سرى في جيوش ... أضعفتني وقصّرت من عناني
بفم واسع وشدق رحيب ... وبكفّ تجول كالصولجان
وأخوه الفضل الذي بان للعا ... لم من فضله شفا النقصان [1]
والشموليّ خلقه خلق حمّا ... ل عريض الأكتاف عبل الجران
لستّ أنساه جاثيا جاحظ العي ... ن عبوسا في صورة الغضبان
كالعقاب الغرثان يقتنص اللح ... م ويهوي إلى طيور الخوان
والأديب الذي به كنت أعت ... دّ غزاني في الحين في من غزاني
وكذا الكاتب الذي كان جاري ... وصديقي ومشتكى أحزاني
وصديق الأشراف أخنى على خم ... ري وأفنى بالكرع ما في دناني
كلما شقّق الفراريج شقّق ... ت لغيظي من فعله قمصاني
وهو في أمره مجدّ رخيّ ال ... بال لم يعنه الذي قد عناني
مجرهدّ [2] كالسوس في الصوف في ... الصيف بقلب خال من الإيمان
قلت قل لي يا ابن المبشّر ما شأ ... نك من بين من غزاني وشاني
ليس هذا من شهوة الأكل هذا ... من طريق البغضاء والشنآن
قلت للفيلسوف لما غدا في الأ ... كل أعني فتى أبي عدنان
واستحثّ الكؤوس صرفا بلا مز ... ج ولاء كالهائم الظمآن
ليت شعري أذاك من طبّ بقرا ... ط تعلمته وسمع الكيان [3]
__________
[1] اليتيمة: من فضل أكله نقصاني.
[2] مجرهد: مسرع.
[3] سمع الكيان: أحد كتب أرسطاطاليس.(3/1052)
وبهذا تزداد بالعالم الجس ... ميّ علما والعالم الروحاني
ثم لا تنس ما لقيت وما مرّ لشؤمي ... من عسكر الفرغان
أعجميّ اللسان أفصح من قسّ ... إذا ما انتشى ومن سحبان
قال قم فأتنا بخبز ولحم ... ونبيذ معتّق في الدنان
وغلام مهفهف [1] حسن الوجه ... يحاكي قوامه غصن بان
لم توكّل فرغان إلا بتفريغ ... دناني وصبّها في القناني [2]
إنّ من أعظم المصائب يا قو ... م بلائي بذلك الطرمذان
رجل كالفنيق فدم بلال ... بّ طويل في صورة الشيطان
بقفا كالحديد [3] يصمد للصّف ... ع ورأس أصمّ كالسندان
واسع الحلق ناقص الخلق والدي ... ن غليظ القذال كالقلتان
يبلع المطجنات [4] بلعا بلا مض ... غ ويحسو النبيذ كالعطشان
وأتوني بزامر زمره يح ... كي ضراط العبيد والرّعيان
ومغنّ غناؤه يجشىء النفس [5] ... ويأتي بالقيء والغثيان
قصدت هذه الطوائف خمرا ... يا ابتلاء ونكبة لامتحاني [6]
قلت: ما شأنكم فقالوا أغثنا ... ما طعمنا الطعام منذ ثمان
وأناخوا بنا فيا لك من يو ... م عصيب من حادثات الزمان [7]
نزلوا ساحتي وأطلقت الخي ... ل بزرع الحقول والبستان [8]
__________
[1] اليتيمة: مقين.
[2] اليتيمة: الجفان.
[3] اليتيمة: كالعمود.
[4] اليتيمة: الطيبات.
[5] اليتيمة: يطلق البطن.
[6] اليتيمة: لهتكي وذلتي وامتحاني.
[7] اليتيمة: عبوس عصبصب أرونان.
[8] اليتيمة: نزلوا حجرتي وأطلقت الأفراس بين الرطبان والفصلان.(3/1053)
أفقروني وغادروني بلا دا ... ر ولا ضيعة ولا صيوان [1]
أدهشوني وحيّروني وقد صر ... ت ذهولا أهيم كالسكران
أسمع اللفظ كالطنين فألفا ... ظهم ما لها لديّ معاني
تركوني يا قوم أجرد من فر ... خ وأعرى ظهرا من الافعوان
أكلوا لي من الجرادق ألفين ... بدبس يسيل كالقطران [2]
أكلوا لي ما حولها ثم مالوا ... كذئاب إلى سميد الفراني [3]
أكلوا لي من الجداء ثلاثين ... وسبعا بالخلّ والزعفران
أكلوا ضعفها شواء وضعيفها ... طبيخا من سائر الألوان
أكلوا لي تبالة تبّلت عق ... لي بعشر من الدجاج سمان [4]
أكلوا لي مضيرة ضاعفت ضرّ ... ي بروس الجداء والحملان
أكلوا لي كشكية كشكشت قل ... بي وهاجت بفقدها أشجاني [5]
أكلوا لي سبعين حوتا من النهر ... طريا من أعظم الحيتان
أكلوا لي عدلا من المالح المقلوّ ... ملقى في الخلّ والأنجذان [6]
أكلوا لي من القريشاء والبر ... نيّ والمعقليّ والصرفان [7]
ألف عدل سوى المصقّر والبر ... ديّ واللؤلؤيّ والصّيحاني [8]
__________
[1] اليتيمة: بستان. (وأكتفي بهذا القدر نموذجا للاختلاف بين اليتيمة ونص معجم الأدباء) .
[2] الجردق: الرغيف.
[3] الفراني: جمع فرنية، وهي خبزة مستديرة ضخمة.
[4] التبالة: أكلة يدخل في تركيبها التابل وهو مجموعة من ما نسميه اليوم «البهارات» .
[5] الكشكية: أكلة تصنع بالكشك، وهو نوع من اللبن «الجميد» .
[6] الأنجذان: نوع من النبات.
[7] القريشاء: لعله نوع من التمر.
البرني: ضرب من التمر أحمر.
المعقلي: نوع من الرطب بالبصرة ينسب إلى نهر معقل بها.
الصرفان: ضرب من التمر واحده صرفانة وهي حمراء مثل البرنية إلا أنها علكة.
[8] في م المصغر؛ والمصقر هو رطب جيد يصب عليه الدبس.(3/1054)
أكلوا لي من الكوامخ والجو ... ز معا والخلاط والأجبان
ومن البيض والمخلّل ما تع ... جز عن جمعه قرى حوران
فتّتوا لي من السفرجل والتفّاح ... والرّازقيّ والرمّان [1]
والرياحين ما رهنت عليه ... جبّتي عند أحمد الفاكهاني
أذبلوا لي من البنفسج والنر ... جس ما ليس مثله في الجنان
ذبحوا لي بالرغم يا معشر النا ... س ثمانين رأس معز وضان
ما كفاهم تذبيحهم غنم القر ... ية حتى أتوا على الثيران
أكلوا كلّ ما حوته يميني ... وشمالي وما حوى جيراني
ثم قالوا هلمّ شيئا فنادي ... ت غلامي قم ويك فاخبأ حصاني
لم تدع لي بطونكم يا بني البظر ... سواه وذا شطوب يماني
فتمالوا عليّ شتما ولعنا ... واستباحوا عرضي بكلّ لسان
ثم جاء المعقّبون من السا ... سة والشاكريّ والعبدان [2]
فرأيت الصراع والدفع واللط ... م وخرم الأنوف والآذان
ثم لما أتوا على كلّ شيء ... ختموا محنتي بكسر الأواني
ثم قاموا مثل البزاة إلى العصفور ... والعصفريّ والزّربطان [3]
فرأيت الطيور بعضا على بع ... ض وبعضا ملقى على الأغصان
أكلوا ما ذكرت ثم أراقوا ... يا صحابي كرّا من الأشنان [4]
__________
البردي: من جيد التمر يشبه البرني.
اللؤلؤي: لعله صفة لنوع من التمر.
الصيحاني: أجود أنواع التمر.
[1] الرازقي: نوع من العنب.
[2] المعقبون: الفوج التالي؛ الساسة: الموكلون بسياسة الدواب؛ الشاكري: الخدم.
[3] العصفري: لعله طائر له لون العصفر.
الزربطان: آلة تصاد بها العصافير، ولعل المراد هنا العصافير نفسها التي تضاد بهذه الطريقة.
[4] الكرّ: مكيانت يساوي أربعين اردبا.
الأشنان: المواد التي تتخذ لغسل الأيدي.(3/1055)
ومن المحلب المطيّب بالبا ... ن وماء الكافور سبع براني [1]
شربوا لي عشرين ظرفا من الرا ... ح لذيذ المذاق أحمر قاني
فأقاموا سوّاسهم والمكاري ... ن إلى أن سمعت صوت الأذان
يجمعون الأحطاب من حيث وافو ... ها فللظّهر ضاع لي غيضتان
ومنها:
قطعوا اللوز والسفرجل أحطا ... با ومالوا بها على غلماني
والنواطير مدّدوا وعلوهم ... حنقا بالعصيّ والقضبان
طالبوني بالنيك في آخر اللي ... ل وجمع النساء والمردان
قم فأسرع فبعضنا يطلب المر ... د وبعض مستهتر بالغواني
فتوهّمته مزاحا فجدّوا ... قلت هذا ضرب من الهذيان
ليس يبقى على أرامل خمرا ... يا سوى بذلهنّ للضيفان
لو سمعتم يا قوم في غسق اللي ... ل بكاء النسوان والولدان
يتنادون بالعويل وبالوي ... ل وراء الأبواب والجدران
ومنها:
ثم راحوا بعد العشاء إلى دا ... ري فلم يتركوا سوى الحيطان
كان لي مفرش وكلّ مليح ... فوقه مطرح من الميسان [2]
وبساط من أحسن البسط مذخو ... ر لعرس أو دعوة أو ختان
غرّقوه بالبصق والقيء والبو ... ل فأضحى وقدره بعرتان
أوقدوا زيتنا جزافا بلا كي ... ل يكيلونه ولا ميزان
خلت داري يا إخوتي المسجد الجا ... مع ليلا للنصف من شعبان
ثم لما انتهت بهم شدّة الكظّة ... خرّوا صرعى إلى الأذقان
__________
[1] البراني: جمع برنية وهي فخارة خضراء ضخمة.
[2] الكل: أرجح أنه نوع من البسط. الميساني: مفارش تشتهر بها ميسان.(3/1056)
هوّموا ساعة كتهويمة الخا ... ئف في غير أرضه الفزعان
ثم قاموا ليلا وقد جنح النس ... ر ومال السّماك والفرقدان
يصرخون الصّبوح يا صاحب البي ... ت فأبكوا عيني وراعوا جناني
سحبوني من عقر داري على وج ... هي كأني أدعى إلى السلطان
ومنها:
هل سمعتم فيما سمعتم بانسا ... ن عراه في دعوة ما عراني
أسعدوني يا إخوتي وثقاتي ... بدموع تجري من الأجفان
إخوتي من لواكف الدمع محزو ... ن كئيب مولّه حيران
هائم العقل ساهر الليل باكي ال ... عين واهي القوى ضعيف الجنان
لم يكن ذا القران إلا على شؤم ... ي فويلي من نحس ذاك القران
والقصيدة كلّها غرر ولطائف أجاد وأحسن فيها كلّ الإحسان، وأبان عن مقاصده بها أحسن بيان.
ومن شعر أبي القاسم أيضا قوله:
لا تصغ للوم إنّ اللوم تضليل ... واشرب ففي الشرب للأحزان تحويل
فقد مضى القيظ واحتثّت رواحله ... وطابت الراح لما آل أيلول
وليس في الأرض نبت يشتكي رمدا ... إلّا وناظره بالطلّ مكحول
وقال:
ولما نضا وجه الربيع نقابه ... وفاحت بأطراف الرياض النسائم
فطارت عقول الطير لما رأيته ... وقد بهتت من بينهنّ الحمائم
وخفن جنونا بالرياض وحسنها ... صدحن وفي أعناقهنّ التمائم
وقال:
أنلني بالذي استقرضت خطّا ... وأشهد معشرا قد شاهدوه
فإن الله خلاق البرايا ... عنت لجلال هيبته الوجوه
يقول إذا تداينتم بدين ... إلى أجل مسمّى فاكتبوه(3/1057)
وقال:
إذا دنت السّحب الثقال وحثّها ... من الرعد حاد ليس يبصر أكمه
أحاديثه مستهولات وصوته ... إذا انخفضت أصواتهنّ مقهقه
إذا صاح في آثارهنّ حسبته ... يجاوبه من خلفه صاحب له
وقال يهجو منشّا بن إبراهيم القزاز [1] :
إنّ منشّا قد زاد في التيه ... وزاد في شامنا تعدّيه
فلا ابن هند ولا ابن ذي يزن ... ولا ابن ماء السما يدانيه
وهو مغيظ على الوصيّ ومن ... يعزى إليه ومن يواليه
يذكر أيام خيبر بهم ... فهم قذى جال في مآقيه
وقد حكى أنّ فاه أطيب من ... سرمي وأني ممن يعاديه
ومن يقول القبيح فيه ومن ... أصبح بالمعضلات يرميه
فسوّكوه بكلّ طيّبة ال ... ريح تعفّي على مساويه
ومضمضوه بالخلّ واجتهدوا ... معا بكلّ اجتهادكم فيه
وأطعموه من الجوارش ما ... يعمل بالمسك والأفاويه [2]
وأنهلوه خمرا معتقة ... قد صانها القسّ في خوابيه
واستفقحوني واستنكهوه تروا ... أنّ لسرمي فضلا على فيه
ثم احملوا الكلب والحمار على ... عياله واصفعوا محبّيه
وقال يهجو أبا الفضل يوسف بن علي ويعرّض فيها أيضا بمنشّا بن إبراهيم القزاز، وكانت هذه القصيدة سبب عزله عن عمله [3] :
__________
[1] منشّا: له أخبار في ذيل تاريخ دمشق 25، 26، 28، 33، كان في أول أمره كاتبا للعسكر الشامي ثم جعله الخليفة الفاطمي نائبا في الشام، فحكم اليهود في الوظائف والأعمال، ثم قبض عليه لما تظلم الناس منه.
[2] الجوارش أو الجوارشنات: الموادّ التي تسعف على الهضم.
[3] اليتيمة: 365.(3/1058)
يا أهل جيرون هل أسامركم ... إذا استقلت كواكب الحمل
بملح كالرياض باكرها ... نوء الثريّا بعارض هطل
أو مثل نظم الجمان ينظم في ال ... عقد ووشي البرود والحلل
يلذّ للسامع الغناء بها ... على خفيف الثقيل والرمل
كنت على باب منزلي سحرا ... أنتظر الشاكريّ يسرج لي [1]
وطال ليلي لحاجة عرضت ... باكرتها والنجوم لم تزل
فمرّ بي في الظلام أسود كال ... فيل عريض الأكتاف والعضل
أشغى له منخر ككوّة تنّور وعين كمقلة الجمل [2] ... ومشفر مسبل كجبّ رحى
على نيوب مثل المدى عصل ... مشقّق الكعب أفدع اليد وال
رجل طويل الساقين كالسبل ... فأهدت الريح منه لي أرجا
مثل جنى الروض في ندى خضل ... مسكا وقفصية [3] معتقة
شيبا ببان وعنبر شمل ... فقلت ما هكذا يكون إذا
انفضّ الندامى روائح السفل ... أسود غاد من الأتون له
عرف أمير نشوان ذي ثمل ... هذا وربّ السماء أعجب من
حمار وحش في البرّ منتعل ... اردده يا نصر كي أسائله
فشأنه عضلة من العضل ... فقال نخشى فوات حاجتنا
وليس هذا من أكبر الشغل ... فقلت ترك الفضول فهو وإن
أنجاك [4] عين الخمول والكسل ... بادره من قبل أن يفوتك في
مسيره بين هذه السّبل
__________
[1] أي بعد لي السرج على الفرس.
[2] اليتيمة: وعين سجراء كالشعل.
[3] القفصية: خمرة تنسب إلى قفص وهي بين بغداد وعكبرا.
[4] اليتيمة: فقلت ترك الفضول يا ناقص الهمة.(3/1059)
فصدّ عني تغافلا ومضى ... يعجب من عقله ومن خللي
وصاح من خلفه رويدك يا ... أسود مالي بالعدو من قبل
ارجع إلى ذلك الرقيع وإن ... أطال في هذره فلا تطل
أجب إذا ما سئلت مقتصدا ... في القول واسكت ان أنت لم تسل
وهو بترك الفضول أجدر لو ... يسلم من خفّة ومن خطل
فكرّ نحوي عجلان يعثر في ... مرط كسيه [1] مبرغث قمل
وقد مذى والمذيّ يقطر من ... غرموله في الذيول كالوشل
وظنّ أني صيد فأبرز لي ... فيشلة مثل ركبة الجمل
وقال لج داركم لأولجها ... فيك وإن كنت لم تبل فبل
ومنها:
قلت له لا عدمت برّك قد ... بذلت ما لم يكن بمبتذل
لكنني والذي يمدّ لك ال ... عمر ويعطيك غاية الأمل
ماشقّ دبري مذ كنت فيشلة ... ولا انتخاب الأيور من عملي
ولا لهذا دعيت فابغ لمي ... لوخك من يستلذّه بدلي
وهات قل لي من اين جئت وقل ... من أين أقبلت يا أبا جعل [2]
فقال لي بتّ عند عاملكم ... هذا أبي الفضل يوسف بن علي
فصاك بي طيبه وصكت به ... منّي صنانا في حدّة البصل
تركته في النهار أخفش لا ... ينظر في خدمة ولا عمل
قلت تطاولت وافتريت على ... شيخ نبيل ينمى إلى نبل
أبوه قسطا وجدّه صمع [3] ... يدعى حنينا وعمّه الصملي
__________
[1] اليتيمة: كساء.
[2] اليتيمة:
وهات قل لي بالله من أي ... ن أقبلت ودعني من هذه العلل
[3] اليتيمة: أبوه سمح وجده ملك.(3/1060)
لعلّ ذا غيره فصفه فما ... يخدع مثلي بهذه الحيل
فإن تكن صادقا نجوت وأن ... حيت عليه باللوم والعذل
وان تكن كاذبا صفعتك بال ... نعل فإن كنت قائلا فقل
فقال يا سيدي عجلت بمك ... روهي وكان الإنسان من عجل
هذا الذي بتّ عنده نصف ... دون عجوز وفوق مكتهل
في فيه نتن وتحت عصعصه ... عين تمجّ الصديد في دغل
أنتن من كلّ ما يقال إذا ... بالغ في الوصف ضارب المثل
وهو على ذاك مولع أبدا ... لشؤم بختي بالعضّ والقبل
له إذا ما علوته نفس ... أمضى من السيف في يدي بطل
والقصيدة طويلة نحو مائة وأربعين بيتا وفيها من الفحش ما لا يجمل بالأديب ذكره، وفيما أوردناه كفاية.
وقال متغزلا ومعرّضا بابن بسطام [1] :
ومهفهف يزهو عليّ بجيده ... وبخصره وبردفه وبساقه
وافى إليّ وقلبه متخوّف ... كتخوّف المعشوق من عشاقه
حتى إذا مدّدته وحللت عن ... كفل مباح الحلّ بعد وثاقه
فاحت عليّ أصنّة من ردفه ... بخلاف ما قد فاح من أطواقه
فسألته ماذا فقال بحرقة ... ودموعه تنهلّ من آماقه
هذا ابن بسطام أتاني طارقا ... بلطيف حيلته وحسن نفاقه
وعلا على ظهري وبلغم مثقبي ... برياله المنهلّ من أشداقه
فبقي صنان رضابه في فقحتي ... زمنا لحاه الله بعد فراقه
فالله يحرمه معيشته كما ... قد سدّ مسكب مثقبي ببصاقه
__________
[1] اليتيمة 1: 355.(3/1061)
- 373-
الحسين بن سعد بن الحسين بن محمد
أبو علي الآمدي اللغوي الشاعر الأديب: توفي ليلة الخميس خامس ربيع الآخر سنة أربع وأربعين وأربعمائة. ولد بآمد ونشأ بها، ثم قدم بغداد فأخذ بها عن أبي يعلى الفرّاء وأبي طالب ابن غيلان [1] ، وأخذ بالشام عن جماعة، ودخل أصبهان فاستوطنها، ومات ودفن بها، وله مؤلفات، ومن شعره:
وأهيف مهزوز القوام إذا انثنى ... وهبت لعذري فيه ذنب اللوائم
بثغر كما يبدو لك الصبح باسم ... وشعر كما يبدو لك الليل فاحم
مليح الرّضا والسّخط تلقاه عاتبا ... بألفاظ مظلوم وألحاظ ظالم
ومما شجاني أنني يوم بينه ... شكوت الذي ألقى إلى غير راحم
وحمّلت أثقال الهوى غير حامل ... وأودعت أسرار الهوى غير كاتم
وأبرح ما لاقيته أنّ متلفي ... بما حلّ بي في حبّه غير عالم
ولو أنني فيه سهرت لساهر ... لهان ولكنّي سهرت لنائم
وقال:
أتنسب لي ذنبا ولم أك مذنبا ... وحمّلتني في الحبّ ما لا أطيقه
وما طلبي للوصل حرص على البقا ... ولكنّه أجر إليك أسوقه
وقال:
توهّم واشينا بليل مزاره ... فهمّ ليسعى بيننا بالتباعد
فعانقته حتى اتحدنا تعانقا ... فلما أتانا ما رأى غير واحد
__________
[373]- ترجمة أبي علي الآمدي في إنباه الرواة 1: 323 والوافي 12: 368 وبغية الوعاة 1: 533، وذكر القفطي والصفدي أن وفاته كانت سنة 499، وهذا يعني أن ما جاء هنا قد يكون خطأ من قبيل السهو.
[1] يعني محمد بن الحسين الفراء ومحمد بن محمد بن غيلان.(3/1062)
وقال:
بنفسي وروحي ذلك العارض الذي ... غدا مسكه تحت السوالف سائلا
درى خدّه أني أجنّ من الهوى ... فهيأ لي قبل الجنون سلاسلا
وقال:
تصدّر للتدريس كلّ مهوّس ... بليد تسمّى بالفقيه المدرّس
فحقّ لأهل العلم أن يتمثلوا ... ببيت قديم شاع في كلّ مجلس
«لقد هزلت حتى بدا من هزالها ... كلاها وحتى سامها كلّ مفلس»
- 374-
الحسين بن الضحاك بن ياسر البصري المعروف بالخليع،
أبو علي:
أصله من خراسان، وهو مولى لولد سلمان بن ربيعة الباهلي الصحابي، فهو مولى لا باهلي النسب كما زعم ابن الجراح، بصريّ المولد والمنشأ، وهو شاعر ماجن ولذلك لقب بالخليع، وعداده في الطبقة الأولى من شعراء الدولة العباسية المجيدين.
ولد سنة اثنتين وستين ومائة وتوفي في بغداد سنة خمسين ومائتين وقد ناهز المائة، وكان شاعرا مطبوعا حسن التصرف في الشعر، وكان أبو نواس يغير على معانيه في الخمر، وإذا قال شيئا فيها نسبه الناس إلى أبي نواس، وله غزل كثير أجاد فيه، وهو أحد الشعراء المطبوعين الذين أغناهم عفو قرائحهم عن التكلّف.
وقد اتصل الحسين بن الضحاك بالخلفاء من بني العباس ونادمهم، وأول من جالس منهم محمد الأمين بن هارون الرشيد وكان اتصاله به في سنة ثمان وتسعين ومائة وهي السنة التي قتل فيها الأمين، وتنقل بعده في مجالس الخلفاء ونادمهم إلى الحين الذي مات فيه في زمن المستعين، وقيل في زمن المنتصر.
__________
[374]- الأغاني 7: 143 وتاريخ بغداد 8: 54 وابن خلكان 2: 162 ومصورة ابن عساكر 4: 672 وتهذيبه 4: 300 والوافي 12: 379 والشذرات 2: 123 (والحسين بن الضحاك شاعر وحسب فهو دخيل على هذا الكتاب) .(3/1063)
حدث الصولي عن عبد الله بن محمد الفارسي عن ثمامة بن أشرس قال [1] : لما قدم المأمون من خراسان وصار إلى بغداد أمر بأن يسمّى له قوم من أهل الأدب ليجالسوه ويسامروه، فذكر له جماعة فيهم الحسين بن الضحاك، فقرأ أسماءهم حتى بلغ إلى اسم الحسين فقال: أليس هو الذي يقول في الأمين، يعني أخاه:
هلا بقيت لسدّ فاقتنا ... أبدا وكان لغيرك التلف
فلقد خلفت خلائفا سلفوا ... ولسوف يعوز بعدك الخلف
لا حاجة لي فيه، والله لا يراني أبدا إلّا في الطريق، ولم يعاقب الحسين على ما كان من هجائه له وتعريضه به.
قال: وانحدر الحسين إلى البصرة فأقام بها طول أيام المأمون، واستقدمه المعتصم من البصرة حين ولي الخلافة بعد موت المأمون، فلما دخل عليه استأذن في الإنشاد، فأذن له فأنشده يمدحه [2] :
هلا رحمت تلدّد [3] المشتاق ... ومننت قبل فراقه بتلاق
إنّ الرقيب ليستريب تنفس ال ... صّعدا إليك وظاهر الإقلاق
ولئن أربت لقد نظرت بمقلة ... عبرى عليك سخينة الآماق
نفسي الفداء لخائف مترقّب ... جعل الوداع إشارة بعناق
إذ لا جواب لمفحم متحيّر ... إلا الدموع تصان بالإطراق
ومنها:
خير الوفود مبشّر بخلافة ... خصّت ببهجتها أبا إسحاق
وافته في الشهر الحرام سليمة ... من كلّ مشكلة وكلّ شقاق
أعطته صفقتها الضمائر طاعة ... قبل الأكفّ بأوكد الميثاق
__________
[1] الأغاني 7: 145 وابن خلكان 2: 162- 163.
[2] الأغاني 7: 150 واشعار الخليع: 83.
[3] م: هلا سألت تلذذ (وكذلك هو في الأغاني) .(3/1064)
سكن الأنام إلى إمام سلامة ... عفّ الضمير مهذّب الأخلاق
فحمى رعيّته ودافع دونها ... وأجار مملقها من الإملاق
قل للأولى صرفوا الوجوه عن الهدى ... متعسّفين تعسّف المرّاق
إني أحذّركم بوادر ضيغم ... درب بخطم موائل الأعناق
متأهب لا يستفزّ جنانه ... زجل الرعود ولا مع الإبراق
لم يبق من متعرّمين توثبوا ... بالشام غير جماجم أفلاق
من بين منجدل تمجّ عروقه ... علق الأخادع أو أسير وثاق
وثنى الخيول إلى معاقل قيصر ... تختال بين أحزّة ورقاق
يحملن كلّ مشمّر متغشّم ... ليث هزبر أهرت الأشداق
حتى إذا أمّ الحصون منازلا ... والموت بين ترائب وتراق
هرّت بطارقها هرير ثعالب ... بدهت بزأر قساور طرّاق [1]
ثم استكانت للحصار ملوكهم ... ذلّا ونيط حلوقهم [2] بخناق
هربت وأسلمت البلاد [3] عشية ... لم تبق غير حشاشة الأرماق
فلما أتمها قال له المعتصم: ادن مني فدنا منه، فملأ فمه جوهرا من جوهر كان بين يديه، ثم أمره بأن يخرجه من فيه فأخرجه، فأمر بأن ينظم ويدفع إليه ويخرج إلى الناس وهو في يده ليعلموا موقعه منه ويعرفوا له فضله.
وحدث الصوليّ عن عون بن محمد الكندي قال: لما ولي المنتصر الخلافة دخل عليه الحسين بن الضحاك فهنأه بالخلافة وأنشده [4] :
تجدّدت الدنيا بملك محمد ... فأهلا وسهلا بالزمان المجدّد
هي الدولة الغراء راحت وبكّرت ... مشمّرة بالرشد في كلّ مشهد
__________
[1] الأغاني: هرير قساور بدهت بأكره منظر ومذاق.
[2] الأغاني: وناط حلوقها.
[3] الأغاني: الصليب.
[4] الأغاني 9: وأشعار الخليع: 47.(3/1065)
لعمري لقد شدّت عرى الدّين بيعة ... أعزّ بها الرحمن كلّ موحد
هنتك أمير المؤمنين خلافة ... جمعت بها أهواء أمة أحمد
فأظهر إكرامه والسرور به وقال له: إن في بقائك بهاء للملك، وقد ضعفت عن الحركة فكاتبني بحاجاتك ولا تحمل على نفسك بكثرة الحركة، ووصله بثلاثة آلاف دينار ليقضي بها دينا بلغه أنه عليه.
وقال في المنتصر أيضا وهو آخر شعر قاله [1] :
ألا ليت شعري أبدر بدا ... نهارا أم الملك المنتصر
إمام تضمّن أثوابه ... على سرجه قمرا من بشر
حمى الله دولة سلطانه ... بجند القضاء وجند القدر
فلا زال ما بقيت مدة ... يروح بها الدهر أو يبتكر
واصطبح عند عبد الله بن العباس بن الفضل وخادم له قائم بين يديه يسقيه، فقال عبد الله: يا أبا عليّ قد استحسنت سقي هذا الخادم، فإن حضرك شيء في هذا فقل، فقال [2] :
أحيت صبوحي فكاهة اللاهي ... وطاب يومي بقرب أشباهي
فآثر اللهو في مكامنه ... من قبل يوم منغّص ناه
بابنة كرم من كفّ منتطق ... مؤتزر بالمجون تياه
يسقيك من طرفه ومن يده ... سقي لطيف مجرّب داه
طاسا وكأسا كأنّ شاربها ... حيران بين الذّكور والساهي
وذكر الصولي في «نوادره» قال: حدثني عليّ بن محمد بن نصر، قال حدثني خالي أحمد بن حمدون، قال قال الحسين بن الضحاك من أبيات وقد عمّر [3] :
أما في ثمانين وفّيتها ... عذير وإن أنا لم أعتذر
__________
[1] الأغاني 9: وأشعار الخليع: 51.
[2] الأغاني 7: 157، 186، 211، 216 وأشعاره: 122.
[3] الأغاني 7: 219 وابن خلكان 2: 166 وأشعاره: 52.(3/1066)
وقد رفع الله أقلامه ... عن ابن ثمانين دون البشر
وإني لمن أسراء الإله ... في الأرض نصب حروف القدر
فإن يقض لي عملا صالحا ... أثاب وإن يقض شرا غفر
وقال [1] :
أصبحت من أسراء الله محتسبا ... في الأرض نحو قضاء الله والقدر
إن الثمانين إذ وفّيت عدّتها ... لم تبق باقية منّي ولم تذر
قلت: والأصل في قول الحسين بن الضحاك هذا الحديث الذي رواه ابن قتيبة في «غريب الحديث» [2] قال حدثنا أبو سفيان الغنوي، حدثنا معقل بن مالك عن عبد الرحمن بن سليمان عن عبيد الله بن أنس عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: إذا بلغ العبد ثمانين سنة فإنه أسير الله في الأرض تكتب له الحسنات وتمحى عنه السيئات.
وقال [3] :
وصف البدر حسن وجهك حتى ... خلت أني وما أراك أراكا
وإذا ما تنفّس النرجس الغ ... ضّ توهمته نسيم شذاكا
خدع للمنى تعللني في ... ك بإشراق ذا وبهجة ذاكا
وقال [4] :
لا وحبّيك لا أصا ... فح بالدمع مدمعا
من بكى شجوه استرا ... ح وإن كان موجعا
كبدي في هواك أس ... قم من أن تقطّعا
لم تدع صورة الضنى ... فيّ للسقم موضعا
__________
[1] الأغاني 7: 221 وأشعاره: 62.
[2] لم يرد في غريب الحديث لابن قتيبة، حسبما تنبىء فهارسه.
[3] الأغاني 7: 165، 166، وأشعاره: 88- 89.
[4] الأغاني 7: 172 وأشعاره: 76 وابن خلكان 2: 164.(3/1067)
وقال [1] :
ألا إنما الدنيا وصال حبيب ... وأخذك من مشمولة بنصيب
ولم أر في الدنيا كخلوة عاشق ... وبذلة معشوق ونوم رقيب
وقال يمدح الوزير الحسن بن سهل [2] :
أرى الآمال غير معرّجات ... على أحد سوى الحسن بن سهل
يباري يومه غده سماحا ... كلا اليومين بان بكلّ فضل
أرى حسنا تقدم مستبدّا ... ببعد من رياسته وقبل
فإن حضرتك مشكلة بشكّ ... شفاك بحكمة وخطاب فصل
سليل مرازب برعوا حلوما ... وراع صغيرهم بسداد كهل
ملوك إن جريت بهم أبرّوا ... وعزّوا أن توازيهم بعدل
ليهنك أنّ ما أرجيت رشدا ... وما أمضيت من قول وفعل
وأنك مؤثر للحقّ فيما ... أراك الله في قطع ووصل
وأنك للجميع حيا ربيع ... يصوب على قرارة كلّ محل
وقال يمدح الواثق لما ولي الخلافة [3] :
أكتّم وجدي فما ينكتم ... بمن لو شكوت إليه رحم
وإني على حسن ظنّي به ... لأحذر إن بحت أن يحتشم
ولي عند لحظته روعة ... تحقّق ما ظنّه المتهم
وقد علم الناس أني له ... محبّ وأحسبه قد علم
وإني لمغض على لوعة ... من الشوق في كبدي تضطرم
عشية ودعت عن مدمع ... سفوح وزفرة قلب سدم
__________
[1] نهاية الأرب 4: 115 وأشعاره: 29.
[2] الأغاني 7: 174 وأشعاره: 93.
[3] الأغاني 7: 191 وأشعاره: 96.(3/1068)
فما كان عند النوى مسعد ... سوى الدمع يغسل طرفا كلم
سيذكر من بان أوطانه ... ويبكي المقيمين من لم يقم
ومنها في المديح:
إلى خازن الله في خلقه ... سراج النهار وبدر الظّلم
ركبنا غرابيب زفّافة ... بدجلة في موجها الملتطم [1]
إذا ما قصدنا لقاطولها ... ودهم قراقيرها تصطدم
وصرنا إلى خير مسكونة ... تيمّمها راغب أو ملمّ
مباركة شاد بنيانها ... بخير المواطن خير الأمم
كأنّ بها نشر كافورة ... لبرد نداها وطيب النّسم
كظهر الأديم إذا ما السحاب ... صاب على متنها وانسجم
مبرّأة من وحول الشتاء ... إذا ما طمى وحله وارتكم
فما إن يزال بها راجل ... يمرّ الهوينا ولا يلتطم
ويمشي على رسله آمنا ... سليم الشّراك نقيّ القدم
وللنون والضبّ في بطنها ... مراتع مسكونة والنّعم [2]
ومنها:
يضيق الفضاء به إن غدا ... بطودي أعاريبه والعجم
ترى النصر يقدم راياته ... إذا ما خفقن أمام العلم
وفي الله دوّخ أعداءه ... وجرّد فيهم سيوف النقم
وفي الله يكظم من غيظه ... وفي الله يصفح عمن ظلم
رأى شيم الجود محمودة ... وما شيم الجود إلا قسم
فراح على نعم واغتدى ... كأن ليس يحسن إلّا نعم
__________
[1] الغرابيب: نوع من القوارب، زفافة: مسرعة.
[2] النون والضبّ: كناية عن حاصلات البحر (النون: السمك) والبرّ.(3/1069)
وقال [1] :
أتاني منك ما ليس ... على مكروهه صبر
فأغضيت على عمد ... وقد يغضي الفتى الحرّ
وأدبتك بالهجر ... فما أدّبك الهجر
ولا ردّك عما كا ... ن منك النصح والزجر
فلما اضطرّني المكرو ... هـ واشتدّ بي الأمر
تناولتك من ضرّي ... بما ليس له قدر
فحركت جناح الذّ ... لّ لمّا مسّك الضرّ
إذا لم يصلح الخير ام ... رءا أصلحه الشرّ
وغضب عليه المعتصم لشيء جرى منه على النبيذ فكتب إليه يسترضيه [2] :
غضب الإمام أشدّ من أدبه ... وقد استجرت وعذت من غضبه
أصبحت معتصما بمعتصم ... أثنى الإله عليه في كتبه
لا والذي لم يبق لي سببا ... أرجو النجاة به سوى سببه
ما لي شفيع غير حرمته ... ولكلّ من أشفى على عطبه
- 375-
الحسين بن عبد الله بن سينا أبو علي الفيلسوف:
مات في سادس شعبان
__________
[375]- ترجمته في عيون الانباء 2: 1- 20 وتاريخ الحكماء: 413 وابن خلكان 2: 157 والجواهر المضية 1: 195 والبداية والنهاية 12: 42 ولسان الميزان 2: 291 والوافي 12: 391 والنجوم الزاهرة 5: 25 وروضات الجنات 3: 170. وهذه الترجمة من المختصر وهي مما أخلّت به (م) .
والاعتماد في مقارنة هذه الترجمة على ما جاء في عيون الأنباء؛ ولكن صاحب المختصر حذف كثيرا، وهذا شيء لا يفعله ياقوت؛ لأن الحذف هنا يخل بتتابع السياق.
[1] أشعار الخليع: 55.
[2] الأغاني: 164 وأشعاره: 31.(3/1070)
سنة ثمان وعشرين وأربعمائة عن ثمان وخمسين سنة. حدث بخبره صاحبه أبو عبيد الجوزجاني عنه قال: كان أبي رجلا من أهل بلخ فانتقل إلى بخارى، وتولّى عملا في أيام نوح بن منصور الساماني بقرية يقال لها خرميثن [1] ، وتزوج أبي من قرية تلاصقها يقال لها أفشنة، وبها ولدت. ثم انتقلنا إلى بخارى، وأحضرت معلم القرآن والأدب، فأكملت العشر وقد حفظت القرآن. وقدم علينا أبو عبد الله الناتلي، وكان يدّعي معرفة علم الفلسفة، وقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه، فقرأت عليه كتاب «إيساغوجي» . فكان إذا مرّت مسألة تصورتها خيرا منه حتى قرأت عليه ظواهر المنطق، ثم أخذت أقرأ الكتب على نفسي وأطالع الشروح حتى أحكمت علم المنطق وإقليدس، ثم انتقلت إلى المجسطي فقال لي الناتلي: تولّ حلّه بنفسك، ثم اعرضه عليّ لأبين لك صوابه من خطئه، فحللت الكتاب وعرضته عليه فكم من مشكل ما عرفه إلا وقت عرضي عليه، ثم رغبت في علم الطبّ، وصرت أقرأ الكتب المصنفة فيه، وعلم الطب ليس من العلوم الصعبة، فلا جرم أنني برزت فيه في أقلّ مدة حتى بدأ فضلاء الطبّ يقرأون عليّ، وتعهدت المرضى فانفتح لي من المعالجات المقتبسة من التجربة ما لا يوصف. هذا وأنا أختلف إلى الفقه وأناظر فيه وأحكمه. وكنت حينئذ من أبناء ست عشرة سنة، وما نمت في هذه المدة ليلة بطولها. وكان إذا أشكل عليّ شيء بتّ وأنا مهموم فأراه في المنام فيتضح لي في الأحلام حتى أحكمت علم المنطق والطبيعي والرياضي. ثم عدت إلى العلم الإلهي، وقرأت منه كتاب «ما بعد الطبيعة» فما كنت أفهمه، وألتبس عليّ غرض واضعه حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فصار لي محفوظا وأنا لا أفهمه، ويئست منه وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه ألبتة.
فحضرت يوما في الوراقين والمنادي ينادي على كتاب في الحكمة، وعرضه عليّ فأعرضت عنه، فقال لي: اشتره فصاحبه محتاج فاشتريته بثلاثة دراهم، وإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب «ما بعد الطبيعة» فطالعته ففهمت الكتاب وتصدقت على الفقراء بشيء كثير، شكرا لله تعالى على ذلك. وكان إذا استغلق عليّ شيء من العلوم، قصدت الجامع، وصلّيت وتضرعت إلى مبدع الكلّ حتى يسهّله
__________
[1] ر: جريمس.(3/1071)
عليّ. وكان سلطان بخارى نوح بن منصور قد مرض في تلك الأيام مرضا عجز عنه أطباؤه، وكان اسمي قد اشتهر بينهم فحضرني وشكرني في مداواته وصلح. فسألته يوما الإذن لي في دخول دار كتبهم ومطالعتها فأذن لي فدخلت دارا عظيمة فيها كتب كثيرة تفوت العدّ والحصر، وطالعت كتب الحكمة التي بها ووقع لي بها ما لم أكن رأيت قبلها ولا بعدها، وظفرت بفوائدها. فلما بلغت ثماني عشرة سنة أتقنت هذه العلوم كلّها. وكان في جيراننا رجل يقال له أبو الحسن العروضي [1] يسألني أن أصنّف له كتابا جامعا في هذه العلوم، فصنفت له المجموع، وسميته به، وأتيت فيه على جميع العلوم، ولي حينئذ إحدى وعشرون سنة، وصنّفت كتاب «الحاصل والمحصول» في قريب من عشرين مجلدة. وصنفت في الأخلاق كتابا سمّيته كتاب «البر والإثم» وهذان الكتابان قلّ أن يوجدا. ثم مات والدي وتصرفت في أعمال السلطان، ودعتني الضرورة إلى الانتقال عن بخارى إلى كركانج، وأبو الحسن السهلي المحبّ لهذه العلوم بها وزير، ثم انتقلت إلى نسا وقصدت الأمير قابوس بن وشمكير صاحب جرجان فاتفق أني وصلتها وقد مات، فرجعت إلى دهستان [2] ، ثم عدت إلى جرجان، وأنشأت في حالي قصيدة شعر منها:
لما عظمت فليس مصر واسعي ... لما [3] غلا ثمني عدمت المشتري
ولأبي علي أشعار منها:
تنفس عن عذارك صبح شيب ... وعسعس ليله فلم التصابي
شبابك كان شيطانا رجيما ... فيرجم من مشيبك بالشهاب
وكان بجرجان رجل يقال له أبو محمد الشيرازي أنزل الرئيس في دار له في جواره، فصنّف له كتاب «المبدأ والمعاد» وكتاب «الأرصاد» . وصنف كتبا كثيرة كأول «القانون» و «مختصر المجسطي» وكثيرا من الرسائل. ثم صنف في أرض الجبل بقية كتبه، ثم انتقل إلى الري، واتصل بخدمة السيدة وابنها مجد الدولة،
__________
[1] عيون الأنباء: أبو الحسين العروضي.
[2] ر: دهيان.
[3] ر: حتى.(3/1072)
وكانت السوداء تغلب على مجد الدولة فاشتغل بمداواته. وصنف هناك كتاب «المعاد» . ثم اتفقت أسباب أوجبت خروجه إلى همذان واتصل بخدمة كذيانويه والنظر في أسبابها. وأصاب شمس الدولة أبا طاهر ابن مجد الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه قولنج كان سببا لاتصال الرئيس به فعالجه حتى شفاه الله تعالى ففاز من مجلسه بخلع ودنانير، وصار من ندمائه. واتفق نهوض الأمير بويه إلى قرمسين لحرب عناز [1] والشيخ صحبته، ثم توجّه إلى همذان منهزما والشيخ صحبته، وسألوه تقليد الوزارة فتقلدها، ثم اتفق شغب العسكر عليه، وكبسوا داره، وأغاروا على أمواله، وساموا الأمير قتله، فامتنع عنه، وعدل إلى نفيه عن حضرته طلبا لمرضاتهم، فتوارى في دار لبعض أصحابه أربعين يوما، فعاود الأمير شمس الدولة علة القولنج، وطلبه فحضر مجلسه، واعتذر إليه، ثم عالجه حتى صلح، وأعيدت الوزارة إليه ثانيا. وكان مع ذلك يجتمع إليه في كل ليلة طلاب العلم فيقرأون، فإذا فرغوا حضر المغنون وهيء [2] المجلس للشراب، ويشتغل به، ثم توجّه الأمير شمس الدولة إلى طارم لحربها، وعاوده القولنج، وانضاف إلى ذلك أمراض أخر جلبها سوء تدبيره، وقلة قبوله من الشيخ، ومات في الطريق، وولّوا ابنه أمير الأمراء أبا الحسن عليا، وهو طفل، وطلبوا إلى الرئيس أن يتولّى وزارته فأبى عليهم، وكاتب علاء الدولة أبا جعفر محمد بن أبي العباس المعروف بابن كاكويه سرّا يطلب خدمته، والانضمام إليه، وكان خال السيدة أم مجد الدولة، وابنه أبو جعفر من قبلها بأصبهان مستول عليها، ثم نمي إلى تاج الملك بهرام بن شيرزاد، وكان مستوليا على شمس الدولة وهو متقدم الختلية وصاحب جيشه والمستولي بعده على الأمر والقائم بأمر ولده، أنه قد كاتب علاء الدولة فجدّ في طلبه حتى أخذه وأودعه قلعة بردوان [3] ، فقال قصيدة فيها:
دخولي كاليقين كما تراه ... وكلّ الشكّ في أمر الخروج
__________
[1] ر: عمار.
[2] ر: وعى؛ وفي الوافي وتاريخ الحكماء: وعبىء.
[3] عيون الأنباء: فردجان.(3/1073)
وبقي هناك أربعة أشهر حتى قصد علاء الدولة همذان وأخذها، وهزم تاج الملك، ومضى إلى تلك القلعة بعينها، ورجع علاء الدولة عن همذان، وعاد تاج الملك وابن شمس الدولة إلى همذان، وحملوا معهم أبا علي فأقام هناك، وخرج متنكرا وأنا وأخوه وغلامان في زيّ الصوفية إلى أصبهان، واستقبلنا أصحاب علاء الدولة والوجوه، وحمل إلينا الثياب والمال، وأنزلنا أكرم منزل. وكان يحضر مجلس المناظرة بين يدي علاء الدولة، فما كان يطاق في شيء من العلوم. واختص بعلاء الدولة وصار من ندمائه. وكان الشيخ يوما بين يدي الأمير وأبو منصور الجبائي حاضر فجرى في اللغة مسألة تكلم الشيخ فيها بما حضره، فالتفت إليه الشيخ أبو منصور، وقال له: أنت فيلسوف وحكيم، وليس الكلام في هذا من صناعتك، فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، وتوفر على درس كتب اللغة ثلاث سنين، واستدعى كتاب «تهذيب اللغة» من تصنيف أبي منصور الأزهري من خراسان، فبلغ الشيخ في اللغة طبقة قلّما يتفق مثلها، وصنّف ثلاثة كتب وكتبها: أحدها على طريقة ابن العميد، والثاني على طريقة الصاحب، والثالث على طريقة الصابي، وجلّدها وأخلق جلودها. وسأل الأمير عرض تلك المجلدات على أبي منصور الجبائي، وذكر أنه ظفر بتلك المجلدات في الصحراء وقت الصيد، فنظر فيها الجبائي، وأشكل عليه كثير مما فيها. فقال له الشيخ: إن الذي جهلته من هذا الكتاب مذكور في الكتاب الفلاني من كتب اللغة، وذكر له كتبا معروفة، ففطن الجبائي لما أريد، وأن الذي حمله على ذلك ما جبهه به فتنصل واعتذر إلى الشيخ، ثم صنّف الشيخ كتابا في اللغة سماه «لسان العرب» لم يصنف في اللغة مثله، ولم ينقله إلى البياض حتى توفي، فبقي على مسوّدته لا يهتدي أحد إلى موضعه [1] .
وكان قد حصل له تجارب كثيرة فيما باشره من المعالجات عزم على تدوينها في كتاب «القانون» وكان قد علّقها على أجزاء، فضاعت قبل تمام الكتاب، منها أنه صدّع يوما فتصوّر أنه من مادة تريد النزول إلى حجاب رأسه، وأنه لا يأمن ورما يحصل فيه. فأمر بإحضار ثلج كثير ودقّه ولفّه في خرقة، وغطىّ رأسه بها، فعل ذلك حتى
__________
[1] عيون الأنباء: ترتيبه.(3/1074)
قوي الموضع، وامتنع عن قبول تلك المادة، وعوفي من ذلك. ووضع في حال الرصد آلات ما سبق إليها.
وكان قويّ القوى كلها، وكانت قوة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب.
وكان كثيرا ما يشتغل به فأثر في مزاجه حتى صار في السنة التي حارب فيها علاء الدولة ابن فراس [1] على باب الكرخ أخذ الشيخ قولنج، ولحرصه على برئه إشفاقا من هزيمة يدفع إليها لا يتأتى له المسير فيها مع المرض حقن نفسه في يوم واحد ثماني مرات حتى تفرّح بعض أمعائه، وظهر به سحج وأحوج إلى المسير مع علاء الدولة نحو إيذج فظهر به علة الصرع الذي يتبع علة القولنج، ومع ذلك كان يدير نفسه ويحقن نفسه لأجل السحج ولبقية القولنج، فأمر يوما باتخاذ دانقين [من] بزر الكرفس في جملة ما يحقن به، وخلطه بها لكسر ريح القولنج به، فقصد بعض الأطباء الذي كان يتقدم إليه يعالجه وطرح [من] بزر الكرفس خمسة دراهم إما عمدا أو خطأ، فازداد السحج بذلك [من] حدة التبرز. وكان يتناول مثرود طوس لأجل الصرع، فقام بعض غلمانه، وطرح شيئا كثيرا من الأفيون فيه وناوله فأكله، وكان سبب ذلك خيانتهم في مال كثير من خزانته، فتمنوا هلاكه ليأمنوا عاقبة أفعالهم.
ونقل الشيخ إلى أصفهان فاشتغل بتدبير [2] نفسه، وكان من الضعف بحيث لا يقدر على القيام، فلم يزل يعالج نفسه حتى قدر على المشي، وحضر مجلس علاء الدولة، لكنه مع ذلك لا يتحفظ، ويكثر من التخليط في أمر المجامعة، ولم يبرأ من العلة كلّ البرء، فكان ينتكس ويبرأ كلّ وقت. فلما قصد علاء الدولة سار معه إلى همذان فعاودته تلك العلة، فلما استقر بهمذان وعلم أن قوته قد سقطت، وأنها لا تفي بدفع المرض فأهمل مداواة نفسه، فأخذ يقول: المدبّر الذي [كان] يدبّر [بدني] قد عجز عن التدبير، والآن فلا تنفع الحكمة والمعالجة. وبقي على هذا أياما، ثم انتقل إلى جوار ربه.
ومن شعره:
محرّك الكلّ أنت القصد والغرض ... وغاية ما لها حدّ ولا عوض
__________
[1] عيون: تاش فراش.
[2] ر: يدبر.(3/1075)
إن دار في خلدي مقدار خردلة ... سوى جلالك فاعلم أنه مرض
وله أيضا:
هبطت إليك من المحلّ الأرفع ... ورقاء ذات تعزّز وتمنّع
محجوبة عن كلّ مقلة عارف ... وهي التي سفرت فلم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما سكنت فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... من ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخشع
تبكي إذا ذكرت عهودا بالحمى ... بمدامع تهمي ولم تتقطع [1]
وتظلّ ساجعة على الدمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدّها ... قفص عن الأوج الفسيح المربع
حتى إذا قرب المسير من الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
وغدت مفارقة لكلّ مخلف ... عنها حليف الترب غير مشيّع
سجعت وقد كشف الغطاء فأدركت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجّع [2]
وغدت تغرّد فوق ذروة شاهق ... سام على قعر الحضيض الأوضع
إن كان أرسلها الإله لحكمة ... طويت عن الفذ اللبيب الأروع
فهبوطها إن كان ضربة لازب ... لتكون سامعة بما لم تسمع
فتعود عالمة بكلّ حقيقة ... في العالمين وخرقها لم يرقع
فهي التي قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنها برق تعرّض بالحمى ... ثم انطوى فكأنّه لم يلمع
__________
[1] الوافي: ولما تقلع.
[2] جمع هنا بيتين مما ورد في العيون.(3/1076)
ومصنفاته: كتاب المجموع مجلدة [1] . كتاب الحاصل والمحصول عشرون مجلدة. كتاب البر والإثم مجلدتان. كتاب الشفاء ثماني عشرة مجلدة [2] . كتاب القانون في الطب ثماني عشرة مجلدة [3] . كتاب الأرصاد الكلية مجلدة. كتاب الإنصاف عشرون مجلدة. كتاب النجاة ثلاث مجلدات [4] . كتاب الهداية مجلدة.
كتاب الإشارات [5] مجلدة. كتاب المختصر الأوسط مجلدة. كتاب العلائي مجلدة.
كتاب القولنج. كتاب لسان العرب في اللغة عشر مجلدات. كتاب الأدوية القلبية مجلدة. كتاب الموجز مجلدة. كتاب بعض الحكمة المشرقية مجلدة. كتاب بيان ذوات الجهة مجلدة. كتاب المعاد مجلدة. كتاب المبدأ والمعاد مجلدة [6] .
ورسائله: رسالة القضاء والقدر. رسالة في الآلة الرصدية. رسالة عرض قاطيغورياس. رسالة المنطق بالشعر. قصائد في العظة والحكمة. رسالة في نعوت المواضيع الجدلية. رسالة في اختصار إقليدس. رسالة في مختصر النبض بالفارسية.
رسالة في الحدود. رسالة في الأجرام السماوية. كتاب الإشارة في علم المنطق.
كتاب أقسام الحكمة. كتاب النهاية. كتاب عهد كتبه لنفسه. كتاب حي بن يقظان [7] . كتاب في أن أبعاد الجسم ذاتية له: كتاب خطب. كتاب عيون الحكمة.
__________
[1] له بهذا الاسم كتاب المجموع أو الحكمة العروضية، تحقيق د. محمد سليم سالم، مكتبة النهضة المصرية، ثم طبعة ثانية بمطبعة دار الكتب 1969.
[2] نشرت منه أقسام رأيت منها أجزاء في المنطق وفي الآثار العلوية.
[3] هو في ثلاثة أجزاء، صورته دار صادر ببيروت.
[4] في مجلدة واحدة طبع القاهرة 1938 وأعيد طبعها بتحقيق د. ماجد فخري، بيروت 1985.
[5] الإشارات والتنبيهات (مع شرح الطوسي) ، طهران 1378.
[6] له في هذا الموضوع رسالة أضحوية في أمر المعاد، تحقيق سليمان دنيا، القاهرة 1949.
[7] طبعت مع رسائل أخرى في ليدن 1889 بعناية.L) Mehren (LL
وقد طبعت له كتب ورسائل أخرى مثل: التعليقات تحقيق د. عبد الرحمن بدوي، القاهرة 1973.
وأحوال النفس، تحقيق د. أحمد فؤاد الأهواني، القاهرة 1952 وعيون الحكمة، تحقيق د.
عبد الرحمن بدوي (الكويت- لبنان) 1980 وأفرد أحمد آنش رسالة العشق بالتحقيق (استانبول 1953) وكانت قد ظهرت في مجموعة مهرن المذكورة سابقا، ورسالة أسباب حدوث الحروف، تحقيق محمد حسان الطيان ويحيى مير علم، دمشق 1983؛ وفي مرحلة مبكرة نشرت له تسع رسائل معا، مصر 1908 وغير ذلك مما فاتني الاطلاع عليه.(3/1077)
كتاب في أنه لا يجوز أن يكون شيء واحد جوهريا وعرضيا. كتاب في أن علم زيد غير علم عمرو. رسائل إخوانية وسلطانية. مسائل جرت بينه وبين بعض العلماء [1] .
- 376-
الحسين بن عبد الله بن يوسف بن أحمد بن شبل أبو علي البغدادي:
ولد في بغداد وبها نشأ وبها توفي سنة أربع وسبعين وأربعمائة. كان متميزا بالحكمة والفلسفة خبيرا بصناعة الطب أديبا فاضلا وشاعرا مجيدا. أخذ عن أبي نصر يحيى بن جرير التكريتي وغيره. وهو صاحب القصيدة الرائية التي نسبت للشيخ الرئيس ابن سينا وليست له، وقد دلّت هذه القصيدة على علوّ كعبه في الحكمة والاطلاع على مكنوناتها، وقد سارت بها الركبان وتداولها الرواة، وهي [2] :
بربّك أيها الفلك المدار ... أقصد ذا المسير أم اضطرار
مدارك قل لنا في أيّ شيء ... ففي أفهامنا منك انبهار
وفيك نرى الفضاء وهل فضاء ... سوى هذا الفضاء به تدار
وعندك ترفع الأرواح أم هل ... مع الأجساد يدركها البوار
وموج ذي المجرّة أم فرند ... على لجج الذراع لها مدار
وفيك الشمس رافعة شعاعا ... بأجنحة قوادمها قصار
__________
[376]- ترجمة ابن شبل في عيون الأنباء 1: 247 واسمه فيه كما ذكره ياقوت، وترجم له آخرون باسم محمد بن الحسين بن عبد الله كما هي الحال في الفوات 3: 340 والوافي 3: 11 والمحمدون من الشعراء: 270- 290 (وأورد منتخبات من شعره مرتبة على حروف المعجم) وانظر المنتظم 8: 328 وابن خلكان 4: 393 والنجوم الزاهرة 5: 111 ودمية القصر 1: 352 (ط. مصر) والبدر السافر: 91 والبداية والنهاية 12: 121.
[1] من أمثلة ذلك المراسلات بينه وبين البيروني، تحقيق سيد حسين نصر ومهدي محقق، تهران 1352.
[2] الوافي والفوات وعيون الأنباء.(3/1078)
وطوق للنجوم إذا تبدى [1] ... هلالك أم يد فيها سوار
وأفلاذ [2] نجومك أم حباب ... تؤلّف بينه لجج غزار
وتنشر في الفضا [3] ليلا وتطوى ... نهارا مثلما يطوى الإزار
فكم بصقالها صدىء البرايا ... وما يصدا لها أبدا غرار
تبادى ثم تخنس راجعات ... وتكنس مثلما كنس الصّوار
فبينا الشرق يقدمها صعودا ... تلقّاها من الغرب انحدار
على ذا قد مضى وعليه يمضي ... طوال منى وآجال قصار
وأيام تعرّقنا مداها ... لها أنفاسنا أبدا شفار
ودهر ينثر الأعمار نثرا ... كما للورد في الروض انتثار
ودنيا كلما وضعت جنينا ... غذته من نوائبها ظئار
هي العشواء ما خبطت هشيم ... هي العجماء ما جرحت جبار
فمن يوم بلا أمس ويوم ... بغير غد إليه بنا يسار
ومن نفسين في أخذ وردّ ... لروح المرء في الجسم انتشار
وكم من بعد ما كانت نفوس ... إلى أجسامها طارت وطاروا
ألم تك بالجوارح آنسات ... فأعقب ذلك الأنس النفار [4]
فإن يك آدم أشقى بنيه ... بذنب ما له منه اعتذار
ولم ينفعه بالأسماء علم ... وما نفع السجود ولا الجوار
فأخرج ثم أهبط ثم أودى ... فترب السافيات له شعار
فأدركه بعلم الله فيه ... من الكلمات للذنب اغتفار
ولكن بعد غفران وعفو ... يعيّر ما تلا ليلا نهار
__________
[1] عيون: من الليالي.
[2] عيون: وترصيع.
[3] عيون: تمدّ رقومها.
[4] عيون: فكم بالقرب عادلها نفار.(3/1079)
لقد بلغ العدوّ بنا مناه ... وحلّ بآدم وبنا الصغار
وتهنا ضائعين كقوم موسى ... ولا عجل أضلّ ولا خوار
فيا لك أكلة ما زال منها ... علينا نقمة وعليه عار
نعاقب في الظهور وما ولدنا ... ويذبح في حشا الأمّ الحوار
وننتظر البلايا والرزايا ... وبعد فللوعيد لنا انتظار
ونخرج كارهين كما دخلنا ... خروج الضبّ أخرجه الوجار
فماذا الإمتنان على وجود ... لغير الموجدين به الخيار
وكان وجودنا خيرا لو انا [1] ... نخيّر قبله أو نستشار
أهذا الداء ليس له دواء ... وهذا الكسر ليس له انجبار
تحيّر فيه كلّ دقيق فهم ... وليس لعمق جرحهم انسبار
إذا التكوير غال الشمس عنّا ... وغال كواكب الأفق انتثار
وبدّلنا بهذي الأرض أرضا ... وطوّح بالسموات انفطار
وأذهلت المراضع عن بنيها ... لدهشتها وعطّلت العشار
وغشّى البدر من فرق وذعر ... خسوف ليس يجلى أو سرار
وسيّرت الجبال فكنّ كثبا ... مهيلات وسجّرت البحار
فأين ثبات ذي الألباب منا ... وأين مع الرجوم لنا اصطبار
وأين عقول ذي الأفهام مما ... يراد بنا وأين الإعتبار
وأين يغيب لبّ كان فينا ... ضياؤك من سناه مستعار
ولا أرض عصته ولا سماء ... ففيم يغول أنجمها انكدار
وقد وافته طائعة وكانت ... دخانا ما لقاتره شرار
قضاها سبعة والأرض مهدا ... دحاها فهي للأموات دار
فما لسموّ ما أعلى انتهاء ... وما لعلوّ ما أرسى قرار
__________
[1] عيون: وكانت أنعما لو أن كونا.(3/1080)
ولكن كلّ ذا التهويل فيه ... لمن يخشى اتعاظ وازدجار
وقال [1] :
بنا إلى الدير من كوثى [2] صبابات ... فلا تلمني فما تغني [3] الملامات
لا تبعدنّ وإن طال الزمان بها ... أيام لهو عهدناها وليلات
فكم قضينا لبانات الشباب بها ... غنما وكم بقيت عندي لبانات
ما أمكنت دولة الأيام مقبلة ... فانعم ولذّ فإن العيش تارات
قبل ارتجاع الليالي فهي عارية ... فإنما منح الدنيا غرامات
قم فاجل في فلك البستان شمس ضحى ... بروجها الزّهر والجامات دارات
لعله إن دعا داعي الحمام بنا ... نقضي وأنفسنا منها رويّات
بم التعلل لولا الراح في زمن ... أحياؤه في سبات الهمّ أموات
بدت تحيّي فقابلنا تحيّتها ... وقد عراها لخوف المزج روعات
مدّت أشعة برق من أبارقها ... على مقابلها منها شعاعات
فلاح في ساق ساقيها خلاخل من ... تبر وفي أوجه الندمان شارات
قد وقّع الصفو سطرا من فواقعها ... «لا فارقت شارب الراح المسرات»
خذ ما تعجّل واترك ما وعدت به ... وكن لبيبا فللتأخير آفات
وللسعادة أوقات مقدّرة ... فيها السرور وللأحزان أوقات
وقال [6] :
أيا جبلي نعمان بالله خلّيا ... نسيم الصبا يخلص إليّ نسيمها
أجد بردها أو تشف منّي حرارة ... على كبد لم يبق إلا صميمها
__________
[1] الوافي والفوات وعيون الانباء.
[2] الوافي: درتا؛ الفوات: درنا.
[3] الفوات: تجدي.
[4] الفوات: وفي حشاها لقرع المزج.
[5] الفوات: ملاءات.
[6] تنسب لمجنون ليلى وقد وردت في ديوانه: 252.(3/1081)
فإن الصّبا ريح إذا ما تنفست ... على كبد حرّاء قلّت همومها
وقال [1] :
ليكفكم ما فيكم من جوى نلقى ... فمهلا بنا مهلا ورفقا بنا رفقا
وحرمة وجدي لا سلوت هواكم ... ولا رمت منه لا فكاكا ولا عتقا
سأزجر قلبا رام في الحبّ سلوة ... وأهجره إن لم يمت بكم عشقا
صحبت الهوى يا صاح حتى ألفته ... فأضناه لي أشفى وأفناه لي أبقى
فلا الصبر موجود ولا الشوق بارح ... ولا أدمعي تطفي لهيبي ولا ترقا
أخاف إذا ما الليل أرخى سدوله ... على كبدي حرقا ومن مقلتي غرقا
أيجمل أن أجزى عن الوصل بالجفا ... فينعم طرفي والفؤاد بكم يشقى
أحظي هذا أم كذا كلّ عاشق ... يموت ولا يحيا ويظما فلا يسقى
سل الدهر علّ الدهر يجمع شملنا ... فلم أر ذا حال على حاله يبقى
وقال:
إذا كان دوني من بليت بجهله ... أبيت لنفسي أن أقابل بالجهل
وإن كنت أدنى منه في الحلم والحجى ... عرفت له حقّ التقدم والفضل
وإن كان مثلي في الفطانة والحجى ... أردت لنفسي أن أجلّ عن المثل
وقال [2] :
وفي اليأس إحدى الراحتين لذي الهوى ... على أن إحدى الراحتين عذاب
أعفّ وبي وجد وأسلو وبي جوى ... ولو ذاب مني أعظم وإهاب
وآنف أن تصطاد قلبي كاعب ... بلحظ وأن يروي صداي رضاب
فلا تنكروا عزّ الكريم على الأذى ... فحين تجوع الضاريات تهاب
__________
[1] عيون الأنباء 1: 251.
[2] عيون الأنباء 1: 252.(3/1082)
وقال [1] :
وكأنما الانسان منّا غيره ... متكوّنا والحسن فيه معار
متصرفا وله القضاء مصرّف ... ومكلفا [2] وكأنه مختار
طورا تصوّبه الحظوظ وتارة ... خطأ تحيل صوابه الأقدار
تعمى بصيرته ويبصر بعد ما ... لا يستردّ الفائت استبصار
فتراه يؤخذ قلبه من صدره ... ويردّ فيه وقد جرى المقدار
فيظلّ يوسع [3] بالملامة نفسه ... ندما إذا عبثت به الأفكار
لا يعرف الإفراط في إيراده ... حتى يبيّنه له الإصدار
وقال [4] :
تلقّ بالصبر ضيف الهمّ حيث أتى ... إنّ الهموم ضيوف أكلها المهج
فالخطب إن زاد يوما فهو منتقص ... والأمر إن ضاق يوما فهو منفرج
فروّح النفس بالتعليل ترض به ... واعلم إلى ساعة من ساعة فرج
وقال [5] :
احفظ لسانك لا تبح بثلاثة ... سرّ ومال ما استطعت ومذهب
فعلى الثلاثة تبتلى بثلاثة ... بمكفّر وبحاسد ومكذّب
وقال [6] :
وعلى قدر عقله فاعتب المر ... ء وحاذر برّا يصير عقوقا
كم صديق بالعتب صار عدوّا ... وعدوّ بالحلم صار صديقا
__________
[1] عيون الأنباء 1: 250 والوافي 3: 14 والفوات 3: 342.
[2] م: ومخير، (وما قبلها على الرفع: متكون، متصرف) .
[3] في المصادر: يضرب.
[4] عيون الأنباء 1: 251 والمحمدون: 276.
[5] عيون الأنباء 1: 252.
[6] عيون الأنباء 1: 251.(3/1083)
وقال [1] :
ثقلت زجاجات أتتنا فرّغا ... حتى إذا ملئت بصرف الرّاح
خفّت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخفّ بالأرواح
وقال [2] :
تسلّ عن كلّ شيء بالحياة فقد ... يهون بعد بقاء الجوهر العرض
يعوّض الله مالا أنت متلفه ... وما عن النفس إن أتلفتها عوض
وقال [3] :
قالوا القناعة عزّ والكفاف غنى ... والذلّ والعار حرص المرء والطمع
صدقتم من رضاه سدّ جوعته ... إن لم يصبه بماذا عنه يقتنع؟
وقال [4] :
إن تكن تجزع من دم ... عي إذا فاض فصنه
أو تكن أحمدت [5] يوما ... سيدا يعفو فكنه
أنا لا أصبر عمّن ... لا يجوز الصبر عنه
كلّ ذنب في الهوى يغ ... فر لي ما لم أخنه
وقال يرثي أخاه أحمد بن عبد الله بن يوسف [6] :
غاية الحزن والسرور انقضاء ... ما لحيّ من بعد ميت بقاء
لا لبيد بأربد مات حزنا ... وسلت صخرا الفتى [7] الخنساء
__________
[1] وردت منسوبة له في عيون الأنباء 1: 251- 252 وهي تنسب لادريس بن اليمان في المصادر الاندلسية، انظر الذخيرة 3/1: 344 والمغرب وجذوة المقتبس (في ترجمته) .
[2] عيون الأنباء 1: 252 والمحمدون: 281 أنشدهما لابن الموصلايا لما حرقت داره.
[3] عيون الأنباء 1: 251.
[4] المصدر نفسه.
[5] م: جحدت.
[6] عيون الأنباء 1: 349 والوافي 3: 12 والفوات 3: 340.
[7] المصادر: وسلت عن شقيقها.(3/1084)
مثل ما في التراب يبلى الفتى فال ... حزن يبلى من بعده والبكاء
غير أنّ الأموات زالوا وأبقوا ... غصصا لا يسيغها الأحياء
إنما نحن بين ظفر وناب ... من خطوب أسودهنّ ضراء
نتمنّى وفي المنى قصر العم ... ر فنغدو بما نسرّ نساء
صحة المرء للسقام طريق ... وطريق الفناء هذا البقاء
بالذي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الداء للنفوس الدواء
ما لقينا من غدر دنيا فلا كا ... نت ولا كان أخذها والعطاء
راجع جودها عليها فمهما ... يهب الصبح يستردّ المساء
ليت شعري حلما تمرّ بنا الأي ... ام أم ليس تعقل الأشياء
من فساد يجنيه للعالم الكو ... ن فما للنفوس منه اتقاء
قبّح الله لذة لشقانا ... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق ... د فايجادنا علينا بلاء
وقليلا ما تصحب المهجة الجس ... م ففيم الأسى وفيم العناء
ولقد أيّد الاله عقولا ... حجة العود عندها الابداء
غير دعوى قوم على الميت شيئا ... أنكرته الجلود والأعضاء
وإذا كان في العيان خلاف ... كيف في الغيب يستبين الخفاء
ما دهانا من يوم أحمد إلا ... ظلمات وما استبان ضياء
يا أخي عاد بعدك الماء سمّا ... وسموما ذاك النسيم الرّخاء
والدموع الغزار عادت من الأن ... فاس نارا تثيرها الصّعداء
وأعدّ الحياة غدرا وإن كا ... نت حياة يرضى بها الأعداء
أين تلك الخلال والحزم أين ال ... عزم أين السناء أين البهاء
كيف أودى النعيم من ذلك الظ ... لّ وشيكا وزال ذاك الغناء
أين ما كنت تنتضي من لسان ... في مقام ما للمواضي انتضاء
كيف أرجو شفاء ما بي وما بي ... دون سكناي في ثراك شفاء(3/1085)
أين ذاك الرّواء والمنطق الجز ... ل وأين الحياء أين الإباء
إن محا حسنك التراب فما لل ... دمع يوما من صحن خدي انمحاء
أو تبن لم يبن قديم ودادي ... أو تمت لم يمت عليك الثناء
شطر نفسي دفنت والشطر باق ... يتمنّى ومن مناه الفناء
إن تكن قدّمته أيدي المنايا ... فإلى السابقين تمضي البطاء
يدرك الموت كلّ حيّ ولو أخ ... فته عنه في برجها الجوزاء
ليت شعري وللبلى كلّ مخلو ... ق بماذا تميز الأنبياء
موت ذي الحكمة المفضل بالنط ... ق وذي العجمة البهيم سواء
لا غويّ لفقده تبسم الأر ... ض ولا للتقيّ تبكي السماء
كم مصابيح أوجه أطفأتها ... تحت أطباق تربها البيداء
كم بدور وكم شموس وكم أط ... واد مجد أمسى عليها العفاء
كم محا غرة الكواكب غيم [1] ... ثم أخفت ضياءها الأنواء
إنما الناس قادم إثر ماض ... بدء قوم للآخرين انتهاء
وقال [2] :
قالوا وقد مات محبوب فجعت به ... وفي الصبا وأرادوا عنه سلواني
ثانيه في الحسن موجود فقلت لهم ... من أين لي في الهوى الثاني صبا ثاني
وقال:
ولو أنني أعطيت من دهري المنى ... وما كلّ من يعطى المنى بمسدّد
لقلت لأيام مضين ألا ارجعي ... وقلت لأيام أتين ألا ابعدي
__________
[1] عيون: صبح.
[2] عيون الانباء 1: 252.(3/1086)
- 377-
الحسين بن عبد الله بن رواحة بن ابراهيم بن عبد الله
بن رواحة، أبو علي الأنصاري الحموي الأديب الفقيه الشاعر المجيد: ولد بحماة ونشأ بها، ورحل إلى دمشق فأقام بها مدة واشتغل بالفقه وسمع الحديث من الحافظ أبي القاسم ابن عساكر ومن عمه وآخرين، ورحل إلى مصر فسمع بها وبالاسكندرية. ثم عاد إلى دمشق فشهد واقعة مرج عكا فقتل فيها شهيدا يوم الأربعاء من شعبان سنة خمس وثمانين وخمسمائة. وله من قصيدة مهنئا بها الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب بعيد النحر سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة وكان السلطان مخيما بمرج فاقوس [1] :
لقد خبر التجارب منه حزم ... وقلّب دهره ظهرا لبطن
فساق إلى الفرنج الخيل برّا ... وأدركهم على بحر بسفن
وقد جلب الجواري بالجواري ... يمدن بكلّ قدّ مرجحنّ
يزيدهم اجتماع الشمل بؤسا ... فمرنان ينوح على مرنّ
زهت اسكندرية يوم سيقوا ... ودمياط إلى المينا بغبن
يرون خياله كالطيف يسري ... فلو هجعوا أتاهم بعد وهن
أبادهم تخوّفه فأمسى ... مناهم لو يبيّتهم بأمن
تملّك جيشهم شرقا وغربا ... فصاروا بين مملوك ورهن
أقام بآل أيوب رباطا ... رأت منه الفرنجة ضيق سجن
رجا أقصى الملوك السلم منهم ... ولم ير جهده في الحرب يغني
فألقى السلم بعد الحرب كرها ... ولم ير من مناه سوى التمني
__________
[377] ترجمة ابن رواحة في تهذيب ابن عساكر 4: 305 وخريدة القصر (قسم الشام) 1: 481 والوافي 12: 413 والفوات 1: 376 ومن المفروض أن تكون في مصورة ابن عساكر 4: 678 غير أن هناك اختلاطا بين ترجمة الحسين بن الضحاك وترجمة ابن رواحة ضاعت فيه المعالم المهمة لكلّ من الترجمتين، وانظر المقفى 3: 517.
[1] الشعر في الروضتين 1: 270 وانظر الوافي 12: 416 والخريدة.(3/1087)
وقال يرثي الحافظ أبا القاسم ابن عساكر وأنشدها بجامع دمشق سنة إحدى وسبعين وخمسمائة [1] :
ذرا السعي في نيل العلا والفضائل ... مضى من إليه كان شدّ الرواحل
فقولا لساري البرق إني معينه ... بنار أسى أو سحب دمع هواطل
وتمزيق جلباب العزاء لفقده ... بزفرة باك أو بحسرة ثاكل
فأعلن به للركب واستوقف السّرى ... لقصّاده من قبل طيّ المراحل
وقل غاب بدر التمّ عن أنجم الدجى ... وأشرق منهم بعده كلّ آفل
وما كان إلا البحر غار ومن يرد ... سواحله لم يلق غير الجداول
وهبكم رويتم علمه عن رواته ... فليس عوالي صحبه بنوازل
فقد فاتكم نور الهدى بوفاته ... ونور التقى منه ونجح الوسائل
وما حظّ من قد غرّه نصل صارم ... رجا نصرة من غمده والحمائل
ليبك عليه من رآه ومن حوى ... هداه بأيام لديه قلائل
ويقض أسى من فاته الفضل عاجلا ... برؤيته والفوز في كلّ آجل
أسفت لا رجائي قدوم أعزّة ... عليه وتسويفي إلى عام قابل
ولو أنهم فازوا بإدراك مثله ... لأزروا على سنّ الصبا بالأماثل
فيا لمصاب عمّ سنة أحمد ... وأحرم منها كلّ راو وناقل
خلا الشام من خير خلت كلّ بلدة ... بها من نظير للإمام مماثل
وأصبح بعد الحافظ العلم شاغرا ... بلا حافظ يهذي به كلّ باقل
وكم من نبيه قلّ مذ مات جاهه ... وقدّم لما أن مضى كلّ خامل
خلت سنّة المختار من ذبّ ناصر ... فأيسر ما لاقته بدعة جاهل
نحا للإمام الشافعيّ مقالة ... فأصبح يثني عنه كلّ مجادل
وأيّد قول الأشعريّ بسنّة ... فكانت عليه من أدلّ الدلائل
__________
[1] تهذيب ابن عساكر 4: 305- 307 (وثبت بعضها في المصورة: 679) .(3/1088)
وكم قد أبان الحقّ في كلّ محفل ... فأروى بما يروي ظماء المحافل
وسدّ من التجسيم باب ضلالة ... وردّ من التشبيه شبهة باطل
وإن يك قد أودى فكم من أسنّة ... مركّبة من قوله في عوامل
وإن مال قوم واستمالوا رعاعهم ... بإضلالهم عنه فلست بمائل
أرى الأجر في نوحي عليه ولا أرى ... سوى الإثم في نوح البواكي الثواكل
وليس الذي يبكي إماما لدينه ... كباك لدنياه على فقد راحل
فيا قلب واصله بأعظم رحمة ... ويا عين فاسقيه بأغزر وابل
وحيّ ثراه الدهر أهنى تحية ... مكررة عند الضحى والأصائل
أعنّي على نوحي عليه فإنه ... قريب ثواء في الثرى والجنادل
ولو لم يكن بالدمع سيل لحبّه ... لضنّ على لحد به كلّ باخل
مضى من حديث المصطفى كان شاغلا ... له باجتهاد فيه عن كلّ شاغل
لقد شمل الإسلام فيه رزية ... وكان له بالنصح أفضل شامل
وفضّل بين السالفين اطّلاعه ... عليهم فذبّ النقص عن كل فاضل
وأصبح في نقد الرجال مميزا ... بغير نظير في الورى ومساجل
وأكمل تاريخا لجلّق جامعا ... لمن حلّها من كلّ شهم وكامل [1]
فأزرى بتاريخ الخطيب وقد غدا ... بخطبته في الكتب أخطب قائل
ومنها:
طوى الموت منه العلم والزهد والنّهى ... وكسب المعالي واجتناب الرذائل
وأفجع منه العالمين بمقدم ... صبور على حرب الضلال [2] حلاحل
وكان غيورا ذبّ عن دين أحمد ... وأدفع عنه من [3] شجاع مقاتل
__________
[1] ابن عساكر: لمن حلها يا ليته غير كامل.
[2] ابن عساكر: على كيد العتاة.
[3] ابن عساكر: بحق لأحمى من.(3/1089)
وأحرم فيه الدّين أشرف صائن ... له ولدفع الزّيغ أعظم صائل
ولم أر نقص الأرض يوما كنقصها ... بموت إمام عالم ذي فضائل
أبا القاسم الأيام قسمة حاكم ... قضى بالفنا فينا قضية عادل
بماذا أعزّي المسلمين ولا أرى ... عزاء سوى من قد مضى من أفاضل
عليك سلام الله ما انتفع الورى ... بعلمك واستعلى على المتطاول
وقال [1] :
إن كان يحلو لديك قتلي ... فزد من الهجر في عذابي
عسى يطيل الوقوف بيني ... وبينك الله في الحساب
وقال [2] :
لاموا عليك وما دروا ... أنّ الهوى سبب السعاده
إن كان وصل فالمنى ... أو كان هجر فالشهاده
وعكسه فقال [3] :
يا قلب دع عنك الهوى قسرا ... ما أنت منه حامد أمرا
أضعت دنياك بهجرانه ... إن نلت وصلا ضاعت الأخرى
وقال:
وللزنبور والبازي جميعا ... لدى الطيران أجنحة وخفق
ولكن بين ما يصطاد باز ... وما يصطاده الزنبور فرق
__________
[1] البيتان في الوافي والفوات والخريدة.
[2] هما في الوافي والفوات.
[3] هما أيضا في المصدرين السابقين.(3/1090)
- 378-
الحسين بن عبد الرحمن الغريبي الكوفي:
غلب عليه طلب الغريب فنسب إليه ويكنى أبا علي، وهو راوية فصيح، فمن شعره يمدح الكتّاب:
إن كنت تقصدني بظلمك عامدا ... فحرمت نفع صداقة الكتاب
السائقين إلى الصديق ثرى الغنى ... والناعشين لعثرة الأصحاب
والناهضين بكلّ عبء مثقل ... والناطقين بفصل كلّ خطاب
والعاطفين على الصديق بفضلهم ... والطيبين روائح الأثواب
ولئن جحدتهم الثناء لطالما ... جحد العبيد تفضّل الأرباب
- 379-
الحسين بن علي أبو عبد الله الباقطائي
الأخباري الكاتب: مات في شعبان سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة. وكان أعلم الناس بأمور الكتّاب وأولادهم وبيوتاتهم.
قرأت بخط بعض الفضلاء قال، قال أبو عبد الله الباقطائي: انصرفت من بستاني عشية، فرأيت بالعباسة رجلا جالسا فتأملته فإذا هو ماني الموسوس، فلمّا حاذيته سلّم علي، ووثب إليّ ومسك لجام دابتي، وقال: ما كان اسم زوجة النبيّ صلى الله عليه وسلم؟ فقلت:
أيتهن يا أبا الحسن؟ فقال: التي ركبت ذاك الكبير الكبير الذي له عنق طويل. قلت:
عائشة. قال: أتحفظ عني ما أقول؟ قلت: هات، فقال:
ركبت أمّنا البعير وقالت ... اضربوا بالسيوف وجه الوصيّ
قاتلوا الطاهر المطهّر قدما ... واطعنوا بالرماح وجه عليّ
أتراها روت أحاديث في ذا ... ك عن الصادق الصدوق النبي
__________
[378]- ترجمة الغريبي هذه من المختصر، وقد تصحفت نسبته في البصائر 2: 149 إلى «القدسي الكوفي» حيث أورد له الأبيات البائية.
[379]- قال ياقوت في معجم البلدان (مادة باقطايا 1: 476) باقطايا من قرى بغداد على ثلاثة فراسخ من ناحية قطربل ينسب إليها الحسين بن علي الكاتب، ذكرته في كتاب معجم الأدباء. وهذه النسبة لم يوردها السمعاني وابن الأثير. والترجمة من المختصر.(3/1091)
ليس يخفى عن الذي يعلم الس ... رّ من العالمين فعل المسيّ
ثم ترك اللجام، وولّى عني، فسرت وجعلت أردّد الأبيات لأحفظها، وقال لي غلامي: هذا ماني يعدو طالبا لنا، فالتفتّ إليه، وقلت: حاجة يا أبا الحسن؟ فقال:
نعم. قلت: ما هي؟ قال: احفظ. قلت: هات. قال:
أفكر فيما جنى بعضهم ... على بعضهم فأطيل الفكر
معاشر قد صحبوا المصطفى ... وكانوا أئمتنا في الأثر
فإن كان دينهم فاسدا ... فأدياننا كلنا في قذر
ومما أنشده [1] :
لا يكون السريّ مثل الدنيّ ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبيّ
قيمة المرء قدر ما يحسن المر ... ء قضاء من الإمام عليّ
أراد قول علي عليه السلام: قيمة كل امرىء ما يحسن.
- 380-
الحسين بن علي بن [] أبو عبد الله النمري
صاحب التصانيف: وكان شاعرا جيدا، قرأ على أبي عبد الله الأزدي. مات في سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
وكان من أصحاب أبي رياش وابن لنكك. وكان من صدور البصرة في الأدب والشعر.
فمن شعره في شكاية عين المحبوب ما أبدع فيه وأحسن، هكذا قال الشيخ:
يا من تشكى عينه ... وبلاؤه منها وفيها
الناس شاكوها إلي ... ك وأنت أيضا تشتكيها
__________
[380]- ترجمة النمري في يتيمة الدهر 2: 359 ونزهة الألباء: 224 وإنباه الرواة 1: 323 والوافي 13: 21 وبغية الوعاة 1: 537 وروضات الجنات 3: 156 وقد ورد في المختصر «النميري» وترك قبل الكنية فراغا مصدرا بلفظة «بن» ليرفع في نسبه، وليس في المصادر شيء من ذلك.
[1] قد مرّ هذان البيتان في مقدمة الكتاب وسيردان في ترجمة الخليل بن أحمد.(3/1092)
وله:
ذكرتك والأمواه تنثر طلّها ... بدجلة والأشجار تنشر ظلّها
وقد دارت الصهباء من كفّ شادن ... [] عينه وأجلها
فأسبلت دمع العين حين استراب بي ... جليسي وقالوا عبرة لن يملها
فقلت لهم لم تبك عيني وإنما ... أصاب اضطراب الماء عيني فبلّها
قيل: وكان أخفش العين، سيّء المنظر، قوي الطبقة بالأدب، عارفا بالشعر يتكلم على معانيه. فمن شعره أبيات كتبها إلى ابن صالحان يهنئه بقدومه الأهواز:
بك تشرف الدنيا وأنت نعيمها ... والدهر أنت وكلّ يوم صالح
ما البحر أغزر منك في يوم الندى ... أزرى نداك بكلّ بحر طافح
لا زلت في نعم وعزّ ثابت ... غاد عليك بما تشاء ورائح
وأعيد هذا العيد نحوك ما دعت ... ورقاء صادحة بأورق صادح
وله:
إذا مرضنا نوينا كلّ صالحة ... وإن شفينا فمنا الزيغ والزّلل
نرضي الإله إذا خفنا ونسخطه ... إذا أمنّا فلا يزكو لنا عمل
- 381-
الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن محمد
بن يوسف بن بحر بن بهرام بن المرزبان بن ماهان بن باذام بن ساسان بن الحرون بن بلاس بن جاماسب بن
__________
[381]- ترجمة الوزير المغربي في تتمة اليتيمة 1: 24 ودمية القصر 1: 94 (ط. مصر) والمنتظم 8: 32 ومصورة ابن عساكر 5: 9- 11 وتهذيب ابن عساكر 4: 312 وتاريخ ابن الأثير 9: 362 وابن خلكان 2: 172 وبغية الطلب 5: 14- 30 والذخيرة 4/2: 475 واعتاب الكتاب: 206 ورجال النجاشي: 55 والاشارة إلى من نال الوزارة: 47 ولسان الميزان 2: 301 والوافي 12: 440 والشذرات 3: 210 وطبقات الداودي 1: 654 وروضات الجنات 3: 166 وراجع أخباره أيضا في ذيل ابن القلانسي: 61- 64 وصفحات متفرقة من اتعاظ الحنفا (ج: 2) والدرة-(3/1093)
فيروز بن يزدجرد بن بهرام جور بن يزدجرد ملك فارس، أبو القاسم المعروف بالوزير المغربي (وليس بمغربي الدار) : ولد فجر يوم الأحد ثالث عشر ذي الحجة سنة سبعين وثلاثمائة، وحفظ القرآن وعدة من الكتب المجردة في النحو واللغة، وخمسة عشر ألف بيت من الشعر، وأتقن الحساب والجبر والمقابلة، وله في حساب المواليد اليد العظمى، هذا كلّه ولم يكمل له من العمر أربعة عشر ربيعا. وكان حسن الخطّ سريع البديهة في النظم والنثر.
وكان جده علي بن محمد يتولى ديوان المغرب فنسب إليه، ويشهد بفضله أبو العلاء المعري، وحسبك وقد نفذ إليه قصيدة فقال: والله لولا أن يقال غاليت، لكتبت تحت كل بيت، فليعبدوا ربّ هذا البيت.
مات في ثالث عشر رمضان سنة ثماني عشرة وأربعمائة.
ولما قتل الحاكم أباه وعمه وأخويه هرب من مصر فلما بلغ الرملة استجار بصاحبها حسّان بن المفرج بن دغفل بن الجراح الطائي ومدحه فأجاره وسكّن جأشه وأزال وحشته، فأقام عنده مدة أفسد في خلالها نيته على الحاكم صاحب مصر، ثم رحل عنها متوجها إلى الحجاز مجتازا بالبلقاء من أعمال دمشق، فلما وصل إلى مكة أطمع صاحبها بالحاكم ومملكة الديار المصرية، وجدّ في ذلك حتى أقلق الحاكم وخاف على ملكه. واستدعى ابا الفتوح الحسين بن جعفر العلوي ويلقب بالراشد بالله بعد أن سهّل عنده سهولة الأمر، فأصغى إلى ذلك وبايعه شيوخ العلويين. وحسّن إليه أبو القاسم أخذ قبلة البيت وما فيه من فضة وضربه دراهم. واتفق أن توفي رجل من الفرس يدعى بالمطوعي وعنده أموال الهند والصين، وخلّف مالا عظيما، وأوصى
__________
- المضية 6: 309- 312 والنجوم الزاهرة 4: 266، وقد ذكره ابن القارح وحكى شيئا من أخباره معه (رسالة الغفران: 51- 58) وانظر مقدمة أدب الخواص تحقيق صديقنا الشيخ حمد الجاسر، ومقدمة كتاب في السياسة تحقيق الدكتور سامي الدهان وفيما يتعلق بالعلاقة بينه وبين أبي العلاء، انظر مقالة لي عنه بمجلة الفكر العربي (بيروت 1982) العدد: 25 (274- 282) ؛ وكذلك كتابي عنه (بيروت 1988) وفيه دراسة لسيرته وما تبقى من شعره ونثره. وقد أورد المختصر زيادات كثيرة على ما ورد في م، وله ترجمة في المقفى 3: 536.(3/1094)
لأبي الفتوح بمائة ألف دينار ليصون بها تركته والودائع التي عنده. فحمله أبو القاسم على أخذ الجميع؛ وخطب [أبو الفتوح] لنفسه بمكة، وسار حتى لحق بآل الجراح. ولما قرب من الرملة تلقّاه المفرج وسائر العرب، وقبّلوا الأرض بين يديه، وسلّموا عليه بامرة المؤمنين، ولقيهم راكبا فرسا متقلدا سيفا زعم أنه ذو الفقار، وفي يده قضيب، زعم أنه قضيب النبي صلى الله عليه وسلم، وحوله جماعة من بني عمه، وألف عبد أسود، وخطب له بالرملة وما لاصقها. ثم بلغ الخبر الحاكم فأرسل الأموال إلى آل الجراح، واستفسدهم بما بذل لهم، وبلغ ذلك أبا الفتوح، فدخل إلى المفرج وسأله إعانته على العود إلى مكة، فأنفذ معه من حمله إلى وادي القرى، فتلقّاه أصحابه، ومضوا به. وقيل: إنه ندم بعد ذلك، فتركه المغربي وقصد العراق على طريق السماوة حتى وصل الأنبار، وقصد فخر الملك أبا غالب محمد بن خلف، وهو يومئذ يتولى العراق من قبل بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة، فاتهمه القادر بالله أنه ورد في إفساد الدولة، فراسل فخر الملك حتى أخرجه من واسط، وكان قد أقام عنده مكرما. فلما توفي فخر الملك مقتولا عاد الوزير المغربيّ إلى بغداد، ثم شخص إلى الموصل، فاتفق وفاة أبي الحسن ابن هانىء كاتب قرواش أمير بني عقيل فتولّى الكتابة مكانه ووزر لقرواش. وسمت نفسه إلى وزارة بغداد فلم يزل يراسل فيها حتى تمّت له، فوزر لشرف الدولة أبي علي بن بهاء الدولة أبي نصر بن عضد الدولة فناخسرو بن بويه سنة أربع عشرة ومائة بغير خلع ولا لقب، وبقي في الوزارة عشرة أشهر وخمسة أيام. فشغب الأمراء عليه، وطالبوه بأقساطهم، فاستشعر منهم وهرب ليلا حتى لحق بعريب بن مقن العقيلي. ومضى من فوره إلى ميّافارقين، واتصل بنصير الدولة أبي نصر ابن مروان صاحب ديار بكر، فوزر له، ومات بميافارقين وهو وزيره.
وكتب إلى أصحاب الأطراف ما بينه وبين الكوفة قبل موته بأن حظيّة له قد ماتت، وقد نقلها إلى الكوفة، وأوصى أصحابه إذا مات أن يحملوه إلى الكوفة فحمل، فكان إذا وصل التابوت إلى أحد الأمراء يعطونه الكتاب فيكرم أصحاب الجنازة، ويسيرها وهو يظنها حظيته حتى وصل إلى الكوفة، فدفن بها في تربة مجاورة لمشهد علي رضي الله عنه وإنما فعل ذلك خوفا أن يمنع من الإجازة لسوء فعله، وحقد الأمراء عليه. وتمّ تدبيره عليهم، وبلغ مراده بعد مماته، وأوصى أن يكتب(3/1095)
على قبره [1] :
كنت في سفرة الغواية والجه ... ل مقيما فحان مني قدوم
تبت من كلّ مأثم فعسى يم ... حى بهذا الحديث ذاك القديم
بعد خمس وأربعين لقد ما ... طلت إلا أن الغريم كريم
وكان خبيث الباطن، شديد الحسد على الفضائل وإن أظهر الميل إليها. وكان إذا دخل إليه الفقيه سأله عن النحو، وإذا دخل إليه النحوي سأله عن الفرائض، وإذا دخل إليه الشاعر سأله عن القرآن عبثا قصدا لتأنيب المسؤول، حتى قال فيه بعض الشعراء:
ويلي وعولي وويه ... لدولة ابن بويه
سياسة الملك ليست ... ما جاء عن سيبويه
وللوزير أبي القاسم رواية عن الوزير أبي الفضل جعفر بن الفضل بن الفرات المعروف بابن حنزابة، حكى عنه بسنده إلى المدائني أنه قال [1] : كان رجل بالمدينة من بني سليم يقال له جعدة كان يتحدّث إليه النساء بظهر المدينة، فيأخذ المرأة فيعلقها إلى الحيطان ويثبت العقال، فإذا أرادت ان تثب سقطت وتكشفت، فبلغ ذلك قوما في بعض المغازي فكتب رجل منهم إلى عمر رضي الله عنه بهذه الأبيات:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ... فدا لك من أخي ثقة إزاري
قلائصنا هداك الله إنا ... شغلنا عنكم زمن الحصار
لمن قلص تركن معقّلات ... قفا سلع بمختلف النجار
يعقّلهنّ جعدة من سليم ... وبئس معقّل الذّود الطوار
يعقلهن أبيض شيظميّ ... معيدا يبتغي سقط العذار
فلما قرأ عمر الأبيات قال عليّ بجعدة من سليم، فأتوه به، فكان سعيد يقول:
__________
[1] وردت الأبيات في كثير من المصادر المذكورة في ترجمته، والأول والثاني منها وردا في الشريشي 5: 357 منسوبين لابن المعتز، وهي القطعة رقم: 95 في كتاب الوزير المغربي.
[2] القصة والابيات في تهذيب ابن عساكر 4: 312 وابن سعد 3: 286.(3/1096)
إني لفي الأغيلمة إذ جرّوا جعدة إلى عمر، فلما رآه قال: أشهد أنك شيظميّ كما وصفت، فضربه مائة ونفاه إلى عمان.
ومن شعر الوزير المغربي [1] :
خف الله واستدفع سطاه وسخطه ... وسائله فيما تسأل الله تعطه
فما تقبض الأيام من نيل حاجة ... بنان فتى أبدى إلى الله بسطه
وكن بالذي قد خطّ باللوح راضيا ... فلا مهرب مما قضاه وخطّه
وإنّ مع الرزق اشتراط التماسه ... وقد يتعدّى إن تعدّيت شرطه
ولو شاء ألقى في فم الطير قوته ... ولكنّه أوحى إلى الطير لقطه
إذا ما احتملت العبء فانظر قبيل أن ... تنوء به أن لا تروم محطّه
وأفضل أخلاق الفتى العلم والحجى ... إذا ما صروف الدهر أخلقن مرطه
فما رفع الدهر امرءا عن محلّه ... بغير التقى والعلم إلا وحطه
وقال [2] :
حلقوا شعره ليكسوه قبحا ... غيرة منهم عليه وشحّا
كان صبحا عليه ليل بهيم ... فمحوا ليله وأبقوه صبحا
وقال [3] :
لي كلما ابتسم النهار تعلة ... بمحدث ما شان قلبي شانه
فإذا الدجى وافى وأقبل جنحه ... فهناك يدري الهمّ أين مكانه
وقال [4] :
إذا ما الأمور اضطربن اعتلى ... سفيه تضام العلا باعتلائه
__________
[1] الأبيات في تهذيب ابن عساكر (والقطعة رقم: 63) .
[2] وردت في عدد من المصادر المذكورة آنفا وفي الشريشي 1: 431 (دون نسبة) وفي المسلك السهل:
464 والوافي في نظم القوافي: 148 (منسوبة للمرادي) وانظر القطعة رقم: 23.
[3] وردا أيضا في الوافي 12: 444 (القطعة رقم: 99) .
[4] وردا في تتمة اليتيمة وغرر الخصائص: 80 (القطعة رقم 2) .(3/1097)
كذا الماء ان حركته يد ... طغا عكر راسب في إنائه
وقال [1] :
أرى الناس في الدنيا كراع تنكرت ... مراعيه حتى ليس فيهنّ مرتع
فماء بلا مرعى ومرعى بغير ما ... وحيث ترى ماء ومرعى فمسبع
وقال [2] :
سأعرض كلّ منزلة ... تعرّض دونها الطب
فإن أسلم رجعت وقد ... ظفرت وأنجح الطلب
وإن أعطب فلا عجب ... لكلّ منية سبب
وقال [3] :
لو كنت أعرف فوق الشكر منزلة ... أعلى من الشكر عند الله في الثمن
إذا منحتكها مني مهذبة ... حذوا على حذو ما واليت من حسن
وقال [4] :
أقول لها والعيس تحدج للسرى ... اعدي لفقدي ما استطعت من الصبر
سأنفق ريعان الشبيبة آنفا ... على طلب العلياء أو طلب الاجر
اليس من الخسران أنّ لياليا ... تمرّ بلا نفع وتحسب من عمري
وقال [5] :
الدهر سهل وصعب ... والعيش مرّ وعذب
فاكسب بمالك حمدا ... فليس كالحمد كسب
__________
[1] وردا في ابن خلكان والوافي (القطعة رقم: 66) .
[2] وردت الأبيات في غرر الخصائص: 9 (القطعة رقم: 12) .
[3] القطعة رقم: 103.
[4] الأبيات في ابن خلكان وطبقات الداودي، ووردت في الذخيرة 4/2: 518 منسوبة لعبد الوهاب المالكي (القطعة رقم: 43) .
[5] وردت في تهذيب ابن عساكر والنجوم الزاهرة (القطعة رقم: 11) .(3/1098)
وما يدوم سرور ... فاختم وطينك [1] رطب
وقال [2] :
من بعد ملكي رمتم أن تغدروا ... ما بعد فرقة ما ملكت تخيّر
ردّوا الفؤاد كما عهدتم للحشا ... ولطرفي الساهي الكرى ثم اهجروا
وقال [3] :
لا تشاور من ليس يصفيك ودّا ... إنه غير سالك بك قصدا
واستشر في الأمور كلّ لبيب ... ليس يألوك في النصيحة جهدا
وقال [4] :
تأمل من أهواه صفرة خاتمي ... فقال بلطف لم تجنبت أحمره
فقلت لعمري كان أحمر لونه ... ولكن سقامي حلّ فيه فغيره
وقال [5] :
إني أبثّك من حدي ... ثي والحديث له شجون
فارقت موضع مرقدي ... ليلا ففارقني السكون
قل لي فأول ليلة ... في القبر كيف ترى أكون
وحدث [6] أنه كان للوزير المغربي مملوك، وكان شديد المحبة له، وكان روميّا، وكان أحد أولاد بطارقة الروم، فبلغ خبره أباه، فسأل ذلك البطريق ملك الروم أن يرسل من يستخلص ولده، ففعل وأنفذ رسولا إلى ابن مروان صاحب ديار بكر، فلما وصل الرسول استدعاه الوزير المغربي وسقاه الخمر عنده تكرمة له. فلما عملت
__________
[1] م: وقلبك.
[2] البيتان في بغية الطلب 5: 21 وتهذيب ابن عساكر (القطعة رقم: 40) .
[3] القطعة رقم: 28.
[4] البيتان في بغية الطلب وتهذيب ابن عساكر (القطعة رقم: 36) .
[5] وردت في كثير من المصادر المذكورة في ترجمته، وفي طراز المجالس: 228 ونفح الطيب 1: 120 (القطعة رقم: 101.
[6] من هنا حتى آخر الترجمة ورد في المختصر، ولم يرد في م.(3/1099)
الخمر في الوزير، قال ذلك الرسول: أريد من إنعام الوزير يبيعني هذا الغلام.
فقال: هو لك. فأخذه من ساعته، ونفذه على خيل قد أعدّت في كل فرسخ فرس.
فلما أصبح الوزير استدعى الغلام، فقيل له: إنك قد وهبته من رسول ملك الروم.
فاستدعاه من ساعته، وطلب منه الغلام، فقال: أيها الوزير، قد قارب بلاد أبيه، بلى مهما أردت من الثمن أعطيتك. فقال الوزير: ما كنت لأذهب نخوتي ومروءتي، قد وهبته منك خالصا، ثم قال [1] :
يا من غدا جبل الرّيّان يحجبه ... ليس التصبّر عن قلبي بمحجوب
أفلتّ قلبي من صدري وأطلبه ... من بعد ما صار في الشمّ الشناخيب
فاصمت ولا ترث لي مما أكابده ... يدي لعمرك كانت أصل تعذيبي
علّمتني الحزم لكن بعد مؤلمة ... إن المصائب أثمان التجاريب
وكان في بعض الأحايين قد اعتزل خدمة السلطان، فقيل له: تركت المناصب في عنفوان شبابك. فقال:
كنت في سفرة ... البطالة والجهل ...
الأبيات وقيل: إنه زار بعض الصالحين المنقطعين، فقال: لو صحبتنا لنستفيد منك فقال: يردّني عن هذا بيت شعر [2] :
إذا شئت أن تحيا غنيا فلا تكن ... بمنزلة إلا رضيت بدونها
فأنا أكتفي بعيشي هذا. فقال: يا شيخ، هذا بيت مال، ليس هو بيت شعر.
قال أبو الحسن علي بن منصور الحلبي المعروف بدوخلة [3] ، قال لي الوزير المغربي ليلة: أريد أن أجمع أوصاف الشمعة السبعة [4] في بيت واحد، وليس يسنح لي ما أرضاه، فقلت: أنا أفعل هذه الساعة. فقال: أنت جذيلها المحكّك وعذيقها
__________
[1] منها بيتان في لباب الآداب: 327 (وانظر القطعة رقم: 14) .
[2] استشهد والد ابن حزم بهذا البيت في نصحه لابنه، انظر جذوة المقتبس: 118.
[3] هو ابن القارح الذي جاوبه المعري برسالة الغفران؛ انظر رسالة ابن القارح (في رسالة الغفران) 55- 56
[4] لم يورد إلا ستة أوصاف.(3/1100)
المرجّب، فأخذت القلم من دواته، وكتبت بحضرته:
لقد أشبهتني شمعة في صبابتي ... وفي هول ما ألقى وما أتوقّع
نحول وحرق في فناء ووحدة ... وتسهيد عين واصفرار وأدمع
فقال: كنت عملت هذا قبل هذا الوقت، فقلت تمنعني سرعة الخاطر، وتعطيني علم الغيب؟ ومن شعره في بلوغ الغاية من السلوّ [1] :
حبيب ملكت الصبر بعد فراقه ... على أنني علّقته وألفته
محا حسن يأسي شخصه من تفكري ... فلو أنني لاقيته ما عرفته
وله [2] :
قطعت الأرض في شهري ربيع ... إلى مصر وعدت إلى العراق
فقال لي الحبيب وقد رآني ... سبوقا للمضمّرة العتاق
ركبت على البراق فقلت كلا ... ولكني ركبت على اشتياقي
وله [3] :
يا صاحبيّ إذا أعياكما سقمي ... فلقّياني نسيم الريح من حلب
من الديار التي كان الصبا وطري ... فيها وكان الهوى العذريّ من أربي
حدث العطيري [4] الشاعر قال: دخلت يوما على الوزير المغربي بالموصل، وهو جالس على ضفة نهر يخرق عرصة داره، وبين يديه جارية كأنها فلقة قمر تسقيه وتنادمه، وهو يقول [5] :
نديمتي جارية ساقيه ... ونزهتي ساقية جاريه
فحكيت هذه الحكاية لأبي العلاء المعري، وأنشدته البيت فقال: هذا هو الطبع
__________
[1] البيتان في الذخيرة 4: 512 وأدب الخواص: 75 وتتمة اليتيمة 1: 24 (القطعة رقم: 21) .
[2] وردت في دمية القصر 1: 96 والذخيرة 4: 528 وابن خلكان 3: 221 (منسوبة لعبد الوهاب المالكي) ، وانظر القطعة رقم: 74.
[3] دمية القصر 1: 96 (القطعة رقم: 15) .
[4] لعل الصواب: العطوي.
[5] الأفضليات: 80 وبديع أسامة: 50 (القطعة رقم: 113) .(3/1101)
لا ما ينعقه ذلك الرجل الذي يقول:
أبى ريقه/ أباريقه أوكارها/ أوكارها يعني البستي. وقيل: إنه كان يقول دائما: ما سررت قط بشعر مدحت به مع كثرة ما قيل كما سررت بقول النامي:
وإذا علي بن الحسين لقيته ... فالق العظيم القدر بالإعظام
تلق امرءا سلطانه في عقله ... وجنوده في ألسن الأقلام
قال المؤلف: هكذا وجدت هذه الحكاية. والمغربي اسمه الحسين بن علي، وفي الشعر بالعكس، فلعل الممدوح أبوه.
ومن شعر الوزير أبي القاسم المغربي [1] :
غزال حبّه للصبر غرب ... ولكن وجهه للحسن شرق
رددت وقد تبسّم عنه طرفي ... وقلت له ترى لي منك رزق
فأرجو الوصل لا أني جدير ... ولا قدري لقدرك فيه وفق
ولكن لست أول من تمنّى ... من الدنيا الذي لا يستحق
حدّث الصاحب الوزير جمال الدين الأكرم، وناهيك به معرفة لأخبار الأيام، خصوصا ما يتعلق بحوادث مصر قال: لما قدم أبو الحسن علي بن الحسين، وولده أبو القاسم إلى مصر وبها الحاكم، تلقاهما وأنزلهما وأكرمهما، وعرف لهما حقّ الكفاية والبيت والأدب، وعيّن لأبي الحسن علي بن الحسين خدمة، واتفق أن دخل أبو القاسم يوما إلى الحاكم، وكان أبو القاسم ذا هيئة ورواء وجسم وشارة، فأعجب الحاكم ما رآه من فخامة منظره، فخاطبه فوجده لسنا حسن المحاورة، أديب الألفاظ، فخفّ على قلبه ونفق عليه، وأمره بملازمة مجلسه، فتكلم أبو القاسم يوما بشيء استحسنه الحاكم، فقال له: يا أبا القاسم، احتكم فيما شئت حتى أبلغكه. فقال:
نعم يا مولانا، أحبّ أن تهب لي نفسي، ولا تقتلني، فتبسم الحاكم، وقال: ما موجب هذا الاقتراح؟ فقال: يعلم مولانا أن العصمة تفرّد بها الأنبياء، وأنا بشر
__________
[1] بغية الطلب 5: 21 والوافي 4: 445 (القطعة رقم: 71) .(3/1102)
أخطىء وأصيب فأخاف بادرة خطأ يكون فيها حتفي، وقد رأيت ذلك في جماعة من أولياء مولانا، والسعيد من وعظ بغيره. فقال: لك ذلك. فقال أبو القاسم: أحبّ أن يكتب لي مولانا خطّه بذلك، ويعطيني توثقة من نفسه به، فقد أوجب هذا الانبساط وسوء الأدب في الخطاب تحكيم مولانا إياي. فوجد من الحاكم وقفة في ذلك. فقال له: لا بأس، نحن عبيد، والمولى مالك. وأرجو أن لا آتي بما يكره مولانا، وأعيش في نعمته على رضاه وما يهواه. ولكن لي أخت لها من قلبي منزلة أخاف عليها من الريح إذا هبّت، إن رأى أمير المؤمنين أن يكتب لها أمانا على نفسها، ويوثقها على بقاء مهجتها وصيانتها فعل، فقال له: لك ذلك، على أن تعطيني موثقا أن لا تفارق حضرتي إلا بإذني. فقال له: لك ذلك. وكتب كلّ واحد منهما بذلك خطّه، وأيّده بيمين حلفها. وخرج أبو القاسم من مجلسه وتهيأ من وقته للاستتار، فأحضر عجوزا ممن يوثق بعقلها وديانتها، وأمرها أن تكتري دارا في بعض المحالّ النائية، وتتردّد إليها، وتبيت فيها تارة، وتنقطع أخرى، ولا تخالط أحدا من الجيران، ورتّب ذلك مدة سنتين أو ثلاث. فاتفق أنه استدعي يوما إلى القصر، فدخل والحاكم جالس في مستشرف الدار، ولم يره أبو القاسم، وكان في اجتيازه قد وطىء نواة تمرة، فلما صار بحيث الحاكم جعل ينفض نعله عدّة نوب، حتى سقطت النواة، ثم التفت فرأى الحاكم فقبّل الأرض بين يديه، فوجد التغير في وجهه، والإنكار باد في نطقه، وإن أظهر التجمّل والانبساط، فعلم أبو القاسم أن الحاكم قد ظن أن نفض نعله كان استهانة به واحتقارا له، وعلم أن الحاكم لا يقيل العثرة، ولما خرج من حضرته، مضى إلى الدار التي أعدتها تلك المرأة، واستتر فيها، وطلبه الحاكم فلم يوجد [واستخبر عنه] من أبيه، فأنكر أن يكون عرف له خبرا، أو وقف منه على أثر، فاعتقل أباه وجميع أهله، وأوقع بهم القتل، وجاء بأخته المذكورة، فعلقها وطلب منها أخاها، وضربها ضربا وجيعا ونادى في البلد بالتماسه، فلم يوقف له على خبر، فأخرج أباه وأخاه وجماعة من أهله إلى المقطم، جبل مطلّ على القاهرة، وضرب أعناقهم صبرا، ثم خرج بنفسه حتى وقف عليهم، وأمر برفعهم وغسلهم وتكفينهم ودفنهم، ورجع إلى داره بالقصر، وجلس للعزاء بهم، وحضرهم الناس، وعليهم ثياب الحزن، وهذا من أعجب تلوّن هذا الرجل- يعني الحاكم- فإنه كان متناقض(3/1103)
الأحوال، متباين الأقوال والأفعال.
واتفق أن حضر بمصر جماعة من شرفاء الحجاز على عادة لهم كانت بالحضور بمصر للاستجداء وطلب الصلة، فوصلهم الحاكم بما جرت عادتهم، وخرجوا إلى ظاهر القاهرة مبرزين قصدا للعود إلى بلادهم، وبلغ ذلك أبا القاسم فسيّر من اشترى له مهريا مثل جمالهم، ولبس لبسهم، وخرج حتى اختلط بهم وهو متلثم. وخرج الحاكم لوداعهم، فتقدموا إليه وخدموه واستأذنوه في الرحيل، فقال لهم: امضوا على بركة الله. وكان في من تقدم إليه أبو القاسم، فلما رأى مشيته قال لواحد من جانبه:
ما أشبه مشية هذا الشريف بمشية ابن المغربي. ورحلوا ورحل معهم.
قال الصاحب: فبلغني أن ابن المغربي فارق الجماعة، وجلس في جبل المقطم بموضع يقال له: الجبل الأحمر حتى ركب الحاكم على عادة كانت له منفردا مع غلامين له إلى ذلك الجبل، فلقيه أبو القاسم في جماعة ممن كان يثق إليهم، وقد خرجوا إليه معدين، فلما رآهم الحاكم خاف واستشعر وعرف أبا القاسم المغربي.
فقال له: يا أبا القاسم: غدرت بك. فقال: لا بأس عليك. وإنما أحببت أن لا أفارقك حتى أواقعك على غدرك، أما أعطيتني موثقا من الله أن لا تسيء إلى تلك الحرمة المسكينة؟ فقال: حملني الغضب عليك لكونك فارقتني بغير إذن، وقد حلفت ألا تفعل إلا بأمري وإرادتي. فقال له: أما أنا فما فارقتك حتى استأذنتك.
فقال له: ومتى استأذنتني؟ قال: في يوم كذا لما أذنت للشرفاء فإني تقدمت حتى سمعت خطابك، وأنت تقول: امضوا مصاحبين على بركة الله، فدخلت في العموم. فقال له الحاكم: إذا كنت قد خرجت من هذه بحجة فلك عليّ عهد الله أن أطلق أختك وألحقها بك فتركه المغربي، وتوجه إلى العراق، ورجع الحاكم إلى القاهرة وجهز خلفه من يردّه، فلم يظفر به حتى لحق ببني الجراح وأغراهم بخلع الحاكم، وقتل المتولي لبلاد الشام منجوتكين. وبلغ الحاكم خبره وما أزمع عليه من قلب دولته، ومضيه إلى أبي الفتوح، فكتب الحاكم إلى أبي القاسم أمانا بخطه، وأتبعه بيمينه، وأيده بتوثقة، وبذل له فيه البذول، ووعده بوزارته ومؤازرته، وبسط القول في ذلك غاية جهده وطاقته، فكان جواب الوزير أبي القاسم أن أخذ رقعة، وكتب فيها:(3/1104)
أأنشب كفي في الرّحى ثمّ أرتجي ... خلاصا لها إني إذن لرقيع
قال: فأيس منه الحاكم حينئذ. فمما أنشده في حال خروجه من مصر:
ونفسك فز بها إن خفت ضيما ... وخلّ الدار تندب من بكاها [1]
فإنك واجد أرضا بأرض ... ولست بواجد نفسا سواها
وله [2] :
الله يعلم ما إثم أردت به ... إلا ونغّصه خوفي من النار
وإنّ نفسي ما همّت بمعصية ... إلا وقلبي عليها عاتب زار
- 382-
الحسين بن علي بن الحسين
المعروف بابن الخازن الكاتب أبو الفوارس صاحب الخط المليح المشهور بالجودة: كان يسكن بغداد بدرب حبيب. وكان مشتهرا بلعب النرد. مات فجأة في سنة اثنتين وخمسمائة. وعرفت أنه كتب خمسمائة نسخة لكتاب الله عز وجل ما بين جامع وربعة. وكتب بالأغاني الكبير ثلاث نسخ.
ومن العجائب أن دار ابن الخازن بدرب حبيب طلبت منه في سنة ثمانين وأربعمائة بألف دينار فلم تسمح نفسه ببيعها، ثم التمس بعد ذلك من يشتريها بثلاثمائة دينار فلم يتهيأ له ذلك، فلما توفي حصلت من حقوق بيت المال فبيعت بمبلغ ستمائة وخمسين دينارا. وهذه حال التركات، فمن شعره:
لا تركننّ إلى الزمان فما بقي ... من كان قبلك واثقا بزمان
صن قدر ما أوليته من نعمة ... فالدهر والأيام ذو حدثان
__________
[382]- هذه الترجمة من المختصر وانظر ترجمته في تاريخ ابن الأثير 10: 415 وقال إنه توفي عن سبعين سنة؛ والوافي 12: 440 ووفيات الأعيان 2: 191 وكتاب الروضتين 1: 29 والبداية والنهاية 12: 170.
[1] لعل الصواب: من بناها.
[2] الذخيرة 4: 513 ونسبها الشريشي (5: 358) لابن المعتز (القطعة: 49) .(3/1105)
لا تخد عنّك مهلة بقضائها ... فالطبع مستول على الإنسان
ارفق بنفسك واجتنب ظلم الورى ... ما دمت مقتدرا على الإمكان
- 383-
الحسين بن علي بن الوليد المعروف بابن الحلاب النحوي:
قرأ عليه أبو غالب ابن بشران النحوي كتاب «الحماسة» عن أبي رياش أحمد بن أبي هاشم عن أبي المظفر [1] الأنطاكي عن أبي تمام.
- 384-
الحسين بن علي بن داعي بن زيد العلوي النيسابوري
أبو عبد الله الحسني النسابة: فاضل معروف، مات في المحرم سنة ثلاث عشرة وخمسمائة بنيسابور.
- 385-
الحسين بن علي بن محمد بن عبد الله
بن عبد الصمد الأستاذ مؤيد الدين أبو إسماعيل الأصبهاني: صاحب الفضائل المشهورة والأشعار السائرة، صدر العراق وشهرة الآفاق المعروف بالطغرائي نسبة إلى من يكتب الطغراء وهي الطرّة التي تكتب
__________
[383]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 13: 15 وبغية الوعاة 1: 537 (وقال: ذكره ابن النجار) وذكره القفطي في ترجمة محمد بن أحمد ابن بشران 3: 45 وقال إنه كان صاحبا لأبي علي الفارسي، وأوردت المصادر الأخرى مديحا له في عضد الدولة البويهي؛ وانظر روضات الجنات 3: 157 حيث ذكره عرضا.
[384]- هذه الترجمة من المختصر.
[385] ترجمة الطغرائي في الأنساب واللباب (المنشىء) وابن خلكان 2: 185 والوافي 12: 431 ومقدمة الغيث المسجم في شرح لامية العجم ومرآة الزمان: 92 والبداية والنهاية 12: 190 ومرآة الجنان 3: 210 والشذرات 4: 41 وروضات الجنات 3: 192. وبغية الطلب (زكار) 6: 2683 وللدكتور علي جواد الطاهر دراسة عنه (بغداد: 1963) .
[1] الإنباه: أبي المطرف.(3/1106)
في أعلى المناشير فوق البسملة بالقلم الجلي تتضمن اسم الملك وألقابه، وهي كلمة أعجمية محرفة من الطرّة.
كان آية في الكتابة والشعر حسن المعرفة باللغة والأدب، أقوم أهل عصره بصنعة الأدب. وكان محترما كبير الشأن جليل القدر خبيرا بصناعة الكيمياء له فيها تصانيف أضاع الناس بمزاولتها أموالا لا تحصى، وخدم السلطان ملك شاه بن الب أرسلان، وكان منشىء السلطان محمد مدة ملكه متولي ديوان الطغراء وصاحب ديوان الإنشاء، تشرفت به الدولة السلجوقية، وتشوّفت إليه المملكة الأيوبية، وتنقل في المناصب والمراتب، وتولى الاستيفاء وترشح للوزارة، ولم يكن في الدولتين السلجوقية والإمامية من يماثله في الإنشاء سوى أمين الملك أبي نصر العتبي، وله في العربية والعلوم قدر راسخ، وله البلاغة المعجزة في النظم والنثر. ورد بغداد وأقام بها مدة طويلة وكان يسافر مع العسكر إلى الجبال والري وأصبهان إلى أن شرف بفضله وكماله.
قال الإمام محمد بن الهيثم الأصفهاني: كشف الأستاذ أبو إسماعيل بذكائه سرّ الكيمياء وفك رموزها واستخرج كنوزها وله فيها تصانيف منها: جامع الأسرار. وكتاب تراكيب الأنوار. وكتاب حقائق الاستشهادات. وكتاب ذات الفوائد. وكتاب الردّ على ابن سينا في إبطال الكيمياء. ومصابيح الحكمة. وكتاب مفاتيح الرحمة. وله ديوان شعر وغير ذلك.
ولد سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وقتل في الوقعة التي كانت بين السلطان مسعود بن محمد وأخيه السلطان محمود سنة خمس عشرة وخمسمائة صبرا بهمذان وقد جاوز الستين. وكان [1] السبب في ذلك أنه كان كاتب الطغراء، والطغراء التوقيعات، لمحمد بن ملكشاه، ثم ولّاه الإشراف على المملكة، وعزل عن ذلك، وأمره بملازمة بيته. وكان ابنه أبو محمد برسم الكتابة للطغراء للملك مسعود بن محمد، فقصده أبوه أبو إسماعيل من أصبهان راكبا في لجاوة [2] وتبع، فلم يلحق بيعة المتولي بأصبهان من قبل السلطان محمود أخي مسعود. وكانت الحال بين الأخوين مسعود ومحمود غير
__________
[1] من هنا حتى آخر الفقرة من المختصر.
[2] كذا وردت. وإذا صحت اللفظة فهي تعني حاشية.(3/1107)
مستقيمة، وهما على الحرب والمنافسة على الملك، ووصل إلى السلطان محمود وهو على باب خويّ فولّاه وزارته، وعزم مسعود على محاربة أخيه، فكتب إليه يدعوه إلى الصلح ويخوّفه وبال الخلف، ويبذل له البذول والإقطاعات، وبلوغ الأغراض والطلبات. فأجاب الأستاذ أبو إسماعيل عن مسعود بجواب يجلب المنافرة والمباينة، ويزيل الطاعة والموافقة، وخطب لمسعود بالسلطنة، وخوطب الأستاذ أبو إسماعيل بالوزير قوام الدين، وكان محمود في قلّ من العسكر، ووقعت بينهما وقعة بهمذان، فانهزم عسكر مسعود، ومضوا على وجوههم متمزقين، وأسر أصحاب السلطان محمود خلقا من أعيان أصحاب مسعود منهم الأستاذ أبو إسماعيل الطغرائي، فأمر السلطان بقتله لما في نفسه عليه مما تقدم ذكره، وقال: لم أقتله إلا لقلّة دينه وسوء معتقده.
وروي أنه لما عزم السلطان محمود على قتل الطغرائي أمر به أن يشدّ إلى شجرة وأن يقف تجاهه جماعة بالسهام، وأن يقف إنسان خلف الشجرة يكتب ما يقول، وقال لأصحاب السهام لا ترموه حتى أشير إليكم، فوقفوا والسهام مفوّقة لرميه، فأنشد الطغرائي في تلك الحالة [1] :
ولقد أقول لمن يسدّد سهمه ... نحوي وأطراف المنية شرّع
والموت في لحظات أحور طرفه ... دوني وقلبي دونه يتقطع
بالله فتّش عن فؤادي هل يرى ... فيه لغير هوى الأحبة موضع [2]
أهون به لو لم يكن في طيّه ... عهد الحبيب وسرّه المستودع
فرقّ له وأمر بإطلاقه، ثم إن الوزير أغراه بقتله بعد حين فقتله، وكان أكبر أسباب قتله حسد أصحاب السلطان له على فضله فحسّنوا للسلطان قتله، فمن أشعاره [3] :
إذا ما لم تكن ملكا مطاعا ... فكن عبدا لمالكه مطيعا
وإن لم تملك الدنيا جميعا ... كما تختار فاتركها جميعا
__________
[1] الأبيات في الوافي 12: 432 وديوانه: 249 وبغية الطلب: 2685، 2687.
[2] رواية الديوان:
بالله فتش عن فؤادي أولا ... هل فيه للسهم المسدد موضع
[3] ديوانه: 245 وبغية الطلب: 2686.(3/1108)
هما سببان من ملك ونسك ... ينيلان الفتى الشرف الرفيعا
فمن يقنع من الدنيا بشيء ... سوى هذين يحي بها وضيعا
وله [1] :
لا تجزعنّ [2] إذا بالأمر ضقت به ... ذرعا ونم وتوسّد خالي البال
فبين غفوة عين وانتباهتها ... تنقل الأمر [3] من حال إلى حال
وما اهتمامك بالمجدي عليك وقد ... جرى القضاء بأرزاق وآجال
وكتب إلى الحكيم أبي الحسن ابن أبي الغنايم الطبيب [4] :
يا سيدي [5] والذي مودّته ... عندي روح يحيا بها الجسد
من ألم الظهر أستغيث وهل ... يألم ظهر إليك يستند
وله [6] :
إني لأذكركم وقد بلغ الظما ... مني فأشرق بالزلال البارد
وأري العدا أن الإساءة منكم ... خطأ وتلك سجية من عامد
ما زلت أزهد في مودة راغب ... حتى ابتليت برغبة في زاهد
إن لم يكن سحرا هواك فإنه ... والسحر قدّا من أديم واحد
وله [7] :
ذكرتكم عند الزلال مع الظما ... فلم أنتفع من برده ببلال
وحدثت نفسي بالأمانيّ فيكم [8] ... وليس حديث النفس غير ضلال
يقرّ بعيني الركب من نحو أرضكم ... يزجّون عيسا قيّدت بكلال
أطارحهم جدّ الحديث وهزله ... لأقطعهم [9] عن سيرهم بمقال
وأسأل عمن لا أريد [10] وإنما ... أريدكم من بينهم بسؤالي
__________
[1] ديوانه: 313 (بيتان فقط) .
[2] الديوان: لا تسهرن.
[3] الديوان: يقلب الدهر.
[4] الديوان: 147.
[5] الديوان: يا سندي.
[6] ديوانه: 141.
[7] ديوانه: 317.
[8] الديوان: ضلة.
[9] الديوان: لأحبسهم.
[10] الديوان: أسائل عمن لا أحب.(3/1109)
فيعثر ما بين الحديث ورجعه ... لساني بكم حتى ينمّ بحالي
وأطوي على ما تعلمون جوانحي ... وأظهر للعذّال أني سال
فلا والذي عافاكم وابتلى بكم ... فؤادي ما مرّ [1] السلوّ ببالي
وقد عشت دهرا لا أبالي من النوى ... فعلمني الهجران كيف أبالي
[وقال يعاتب مؤيد الملك أبا بكر عبيد الله] [2] :
لك الخير قد عودتني منك عادة ... نشأت عليها منذ أول حالي
وكنت أرجّي أن حالك ترتقي ... فينمو بها حالي نموّ هلال
وأسمو إلى نيل الأماني وأقتضي ... مواعيد دهر مولع بمطال
فقد رابني منك الصدود وليته ... صدود اشتغال لا صدود ملال
وإن كان هذا منك دأبا تديمه ... فإذنك لي حتى أزمّ جمالي
وإلا فعد لي بالجميل فقد عفت ... معالم آمالي وضاق مجالي
فمثلي لا يرضى مقاما بذلة ... وصبرا على جاه لديك مذال
ومثلك لا يرضى بتضييع حرمتي [3] ... وتخييب آمال لديك طوال
ومن شعر مؤيد الدين الطغرائي قصيدته التي تداولها الرواة وتناقلتها الألسن المعروفة بلامية العجم وقد رأيت ان اوردها بتمامها إعجابا بها، قال [4] :
أصالة الرأي صانتني عن الخطل ... وحيلة الفضل زانتني لدى العطل
مجدي أخيرا ومجدي أولا شرع ... والشمس رأد الضحى كالشمس في الطّفل
فيم الاقامة بالزوراء لا سكني ... فيها ولا ناقتي فيها ولا جملي
ناء عن الأهل صفر الكفّ منفرد ... كالسيف عرّي متناه عن الخلل
__________
[1] الديوان: ما اجتاز.
[2] القصيدة التالية وردت موصولة بما قبلها، وهما في الديوان قصيدتان لا واحدة، انظر ص: 287.
[3] الديوان: خدمتي.
[4] هي في الديوان: 301- 309 وأثبتها الصفدي في صدر شرحه لها كما أثبتها في الوافي 12: 436- 439؛ ولست أرى أن أتتبع الخلاف في الروايات.(3/1110)
فلا صديق إليه مشتكى حزني ... ولا أنيس إليه منتهى جذلي
طال اغترابي حتى حنّ راحلتي ... ورحلها وقرى العسّالة الذّبل
وضجّ من لغب نضوي وعجّ لما ... يلقى ركابي ولجّ الركب في عذلي
أريد بسطة كفّ أستعين بها ... على قضاء حقوق للعلا قبلي
والدهر يعكس آمالي ويقنعني ... من الغنيمة بعد الجدّ بالقفل
وذي شطاط كصدر الرمح معتقل ... لمثله غير هيّاب ولا وكل
حلو الفكاهة مرّ الجدّ قد مزجت ... بشدّة البأس منه رقة الغزل
طردت سرح الكرى عن ورد مقتله ... والليل أغرى سوام النوم بالمقل
والركب ميل على الأكوار من طرب ... صاح وآخر من خمر الهوى ثمل
فقلت أدعوك للجلّى لتنصرني ... وأنت تخذلني في الحادث الجلل
تنام عيني وعين النجم ساهرة ... وتستحيل وصبغ الليل لم يحل
فهل تعين على غيّ هممت به ... والغيّ يزجر أحيانا عن الفشل
إني أريد طروق الحيّ من إضم ... وقد حماه رماة من بني ثعل
يحمون بالبيض والسمر اللدان به ... سود الغدائر حمر الحلي والحلل
فسر بنا في ذمام الليل معتسفا ... فنفحة الطيب تهدينا إلى الحلل
فالحبّ حيث العدا والأسد رابضة ... حول الكناس لها غاب من الأسل
نؤمّ ناشئة بالجزع قد سقيت ... نصالها بمياه الغنج والكحل
قد زاد طيب أحاديث الكرام بها ... ما بالكرائم من جبن ومن بخل
تبيت نار الهوى منهنّ في كبد ... حرّى ونار القرى منهم على القلل
يقتلن أنضاء حبّ لا حراك به ... وينحرون كرام الخيل والابل
يشفى لديغ العوالي في بيوتهم ... بنهلة من غدير الخمر والعسل
لعلّ إلمامة بالجزع ثانية ... يدبّ منها نسيم البرء في عللي
لا أكره الطعنة النجلاء قد شفعت ... برشقة من نبال الأعين النجل(3/1111)
ولا أهاب الصفاح البيض تسعدني ... باللمح من خلل الاستار والكلل [1]
ولا أخلّ بغزلان تغازلني [2] ... ولو دهتني أسود الغيل بالغيل
حبّ السلامة يثني همّ صاحبه [3] ... عن المعالي ويغري [4] المرء بالكسل
فإن جنحت إليه فاتخذ نفقا ... في الأرض أو سلما في الجوّ فاعتزل
ودع غمار العلا للمقدمين على ... ركوبها واقتنع منهنّ بالبلل
رضا الذليل بخفض العيش مسكنة ... والعزّ تحت رسيم الأينق الذلل
فادرأ بها في نحور البيد جافلة ... معارضات مثاني اللجم بالجدل
إن العلا حدثتني وهي صادقة ... فيما تحدث أنّ العزّ في النقل
لو أنّ في شرف المأوى بلوغ منى ... لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
أهبت بالحظّ لو ناديت مستمعا ... والحظ عني بالجهّال في شغل
لعلّه إن بدا فضلي ونقصهم ... لعينه نام عنهم أو تنبّه لي
أعلّل النفس بالآمال أرقبها ... ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل
لم أرض بالعيش والأيام مقبلة ... فكيف أرضى وقد ولّت على عجل
غالى بنفسي عرفاني بقيمتها ... فصنتها عن رخيص القدر مبتذل
وعادة النصل أن يزهى بجوهره ... وليس يعمل إلا في يدي بطل
ما كنت أوثر أن يمتدّ بي زمني ... حتى أرى دولة الأوغاد والسفل
تقدمتني أناس كان شوطهم ... وراء خطوي لو أمشي على مهل
هذا جزاء امرىء أقرانه درجوا ... من قبله فتمنّى فسحة الأجل
وإن علاني من دوني فلا عجب ... لي أسوة بانحطاط الشمس عن زحل
فاصبر لها غير محتال ولا ضجر ... في حادث الدهر ما يغني عن الحيل
__________
[1] في أصل المختصر: باللمح من صفحات البيض في الكلل.
[2] ر: أغازلها.
[3] ر: صاحبها.
[4] ر: ويرضي.(3/1112)
أعدى عدّوك أدنى من وثقت به ... فحاذر الناس واصحبهم على دخل
وإنما رجل الدنيا وواحدها ... من لا يعوّل في الدنيا على رجل
وحسن ظنك بالأيام معجزة ... فظنّ شرا وكن منها على وجل
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت ... مسافة الخلف بين القول والعمل
وشان صدقك عند الناس كذبهم ... وهل يطابق معوجّ بمعتدل
إن كان ينجع شيء في ثباتهم ... على العهود فسبق السيف للعذل
يا واردا سؤر عيش كلّه كدر ... أنفقت صفوك في أيامك الأول
فيم اقتحامك لجّ البحر تركبه ... وأنت يكفيك منه مصّة الوشل
ملك القناعة لا يخشى عليه ولا ... يحتاج فيه إلى الأنصار والخول
ترجو البقاء بدار لا ثبات لها ... فهل سمعت بظلّ غير منتقل
ويا خبيرا على الأسرار مطلعا ... اصمت ففي الصمت منجاة من الزلل
قد رشّحوك لأمر إن فطنت له ... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
اقنع تعزّ ولا تطمع تذلّ ولا ... تكثر تملّ ولا تغترّ بالمهل [1]
وقال يسلي معين الملك [أبا المحاسن بن] فضل الله في نكبته ويحضه على الصبر [2] :
تصدّى وللحيّ المنيع [3] رحيل ... غزال أحمّ المقلتين كحيل
تصدّى وأمر البين قد جدّ جدّه ... وزمّت جمال واستقلّ حمول
وفي الصدر من نار الصبابة جاحم ... وفي الخدّ من ماء الجفون مسيل
غزال له مرعى من القلب مخصب ... وظلّ صفيق الجانبين ظليل
تناصف فيه الحسن أما قوامه ... فشطب وأما خصره فنحيل
__________
[1] هامش المختصر: هذا البيت لم يذكره أحد من الشراح وهي به عدة 65 والله أعلم.
[2] الديوان: 296.
[3] الديوان: الجميع.(3/1113)
قريب من الرائين يطمع قربه ... وليس إليه للمحبّ سبيل
إذا سار لحظ المرء في وجناته [1] ... تضاءل عنه الطّرف وهو كليل
ولما استقلّ الحيّ وانصدعت به ... نوى عن وداع الظاعنين عجول
تراءى لنا وجه من الخدّ نير ... وضاءت علينا نضرة وقبول [2]
فصبرا معين الملك إن عنّ حادث ... فعاقبة الصبر الجميل جميل
ولا تيأسن من صنع ربّك إنه ... ضمين بأنّ الله سوف يديل
فإنّ الليالي إذ يزول نعيمها ... تبشّر أنّ النائبات تزول
ألم تر أن الليل بعد ظلامه ... عليه لإسفار الصباح دليل
ألم تر أن الشمس بعد كسوفها ... لها منظر يعشي العيون صقيل
وان الهلال النضو يقمر بعد ما ... بدا وهو شخت الجانبين ضئيل
ولا تحسبنّ السيف يقصر [3] كلما ... تعاوره بعد المضاء كلول
ولا تحسبنّ الدوح يقلع كلّما ... يمر به نفح الصّبا فيميل
فقد يعطف الدهر الأبيّ عنانه ... فيشفى عليل أو يبلّ غليل
ويرتاش مقصوص الجناحين بعد ما ... تساقط ريش واستطار نسيل
ويستأنف الغصن السليب نضارة ... فيورق ما لم يعتوره ذبول
وللنجم من بعد الرجوع استقامة ... وللحظّ من بعد الذهاب قفول
وبعض الرزايا يوجب الشكر وقعها ... عليك وأحداث الزمان شكول
ولا غرو أن أخنت عليك فإنما ... يصادم بالخطب الجليل جليل
وأيّ قناة لم ترنّح كعوبها ... وأيّ حسام لم يصبه فلول
أسأت إلى الأيام حتى وترتها ... فعندك أضغان لها وذحول
__________
[1] الديوان: إذا سافر الألحاظ في وجناته.
[2] رواية الديوان:
تراءت لنا لمع الغمامة أوجه ... وضاء علتها نضرة وقبول
[3] الديوان: يقضب.(3/1114)
وصارفتها [1] فيما أرادت صروفها ... ولولاك كانت تنتحي وتصول
وما أنت إلا السيف يسكن غمده ... ليردى به يوم النزال قتيل
أما لك بالصدّيق يوسف أسوة ... فتحمل وطء الدهر وهو ثقيل
وما غضّ منك الحبس والذكر سائر ... طليق له في الخافقين زميل
فلا تذعنن للخطب آدك ثقله ... فمثلك للأمر العظيم حمول
ولا تجزعن للكبل مسّك وقعه ... فإن خلاخيل الرجال كبول
وصنع الليالي ما عدتك سهامها ... وإن أجحفت بالعالمين جميل
وإن امرءا تعدو الحوادث عرضه ... ويأسى لما يأخذنه لبخيل
وقال [2] :
أما العلوم فقد ظفرت ببغيتي ... منها فما أحتاج أن أتعلّما
وعرفت أسرار الخليقة كلّها ... علما أنار لي البهيم المظلما
وورثت هرمس سرّ حكمته الذي ... ما زال ظنا في الغيوب مرجما
وملكت مفتاح الكنوز بحكمة ... كشفت لي السرّ الخفيّ المبهما
لولا التقية كنت أظهر معجزا ... من حكمتي تشفي القلوب من العمى
أهوى التكرّم والتظاهر بالذي ... علّمته والعقل ينهى عنهما
وأريد لا ألقى غبيا موسرا ... في العالمين ولا لبيبا معدما
والناس إما جاهل أو ظالم ... فمتى أطيق تكرّما وتكلما
وقال [3] :
أيكية صدحت شجوا على فنن ... فأشعلت ما خبا من نار أشجاني
ناحت وما فقدت انسا [4] ولا فجعت ... فذكرتني أو طاري وأوطاني
__________
[1] الديوان: وعارضتها.
[2] الديوان: 366.
[3] الديوان: 389.
[4] الديوان: إلفا.(3/1115)
طليقة من إسار الهمّ ناعمة ... أضحت تجدّد وجد الموثق العاني
تشبهت بي في وجد وفي طرب ... هيهات ما نحن في الحالين سيان
ما في حشاها ولا في جفنها أثر ... من نار قلبي ولا من ماء أجفاني
يا ربة البانة الغنّاء تحضنها ... خضراء تلتفّ أغصانا بأغصان
إن كان نوحك إسعادا لمغترب ... ناء عن الأهل ممنيّ بهجران
فقارضيني إذا ما اعتادني طرب ... وجدا بوجد وسلوانا بسلوان
ما أنت مني ولا يعنيك ما أخذت ... منّي الليالي ولا تدرين ما شاني
كلي إلى السّحب إسعادي فإن لها [1] ... دمعا كدمعي وإرنانا كارناني
وقال [2] :
أقول لنضوي وهي من شجني خلو ... حنانيك قد أدميت كلمي يا نضو
تعالي أقاسمك الهموم لتعلمي ... بأنك مما تشتكي كبدي خلو
تريدين مرعى الريف والبدو أبتغي ... وما يستوي الريف العراقيّ والبدو
هناك هبوب الريح مثلك لاغب ... ومثلي ماء المزن مورده صفو
ومحجوبة لو هبّت الريح أرقلت ... إليها المهاري [3] بالعوالي ولم يلووا
صبوت إليها وهي ممنوعة الحمى ... فحتّام أصبو نحو من لا له نحو
هوى ليس يسلي القرب عنه ولا النوى ... وشجو قديم ليس يشبهه شجو
فأسر ولا فكّ ووجد ولا أسى ... وسقم ولا برء وسكر ولا صحو
عناء معنّ وهو عندي راحة ... وسمّ زعاف طعمه في فمي حلو
ولولا الهوى ما شاقني لمع بارق ... ولا هدّني شجو ولا هزّني شدو
وقال [4] :
خبّروها أني مرضت فقالت ... أضنى طارفا شكا أم تليدا
__________
[1] الديوان: الغيم ... فإن له.
[2] الديوان: 410.
[3] الديوان: الغيارى.
[4] الديوان: 143.(3/1116)
وأشاروا بأن تعود وسادي ... فأبت وهي تشتهي أن تعودا
وأتتني في خفية وهي تشكو ... رقبة الحيّ والمزار البعيدا
ورأتني كذا فلم تتمالك ... أن أمالت عليّ عطفا وجيدا
ثم قالت لتربها وهي تبكي ... ويح هذا الشباب غضا جديدا
زورة ما شفت غليلا ولكن ... زيّدت [1] جمرة الفؤاد وقودا
وتولّت بحسرة البين [2] تخفي ... زفرات أبين إلا صعودا
وقال [3] :
انظر تر الجنة في وجهه ... لا ريب في ذاك ولا شكّ
أما ترى فيه الرحيق الذي ... ختامه من خاله مسك
وله [4] :
بالله يا ريح إن مكّنت ثانية ... من صدغه فأقيمي فيه واستتري
وراقبي غفلة منه لتنتهزي ... لي فرصة وتعودي منه بالظفر
وإن قدرت على تشويش طرّته ... فشوّشيها ولا تبقي ولا تذري
ولا تمسّي عذاريه فتفتضحي ... بنفحة المسك بين الورد والصدر
وباكري عذب ورد من مقبّله ... مقابل الطعم بين الطيب والخصر
ثم اسلكي بين برديه على عجل ... واستبضعي الطيب وأتيني على قدر
ونبهيني دوين القوم وانتفضي ... عليّ والليل في شكّ من السحر
لعلّ نفحة طيب منك ثانية ... تقضي لبانة قلب عاقر الوطر
وكتب إلى بعض أصحابه وهو على مسرة [5] :
فديتك قد تنبّهنا لدهر ... عيون صروفه عنّا نيام
__________
[1] الديوان: علمت.
[2] الديوان: اليأس.
[3] الديوان: 267.
[4] الديوان: 168 وبغية الطلب: 2688.
[5] الديوان: 354 وبغية الطلب: 2686.(3/1117)
وجاد لنا الزمان بجمع شمل ... تألّف بعد ما انقطع النظام
مدام تشبه التفاح ذوبا ... وتفاح كما جمد المدام
ومن نسج الربيع محبّرات ... تأنّق في حواشيها الغمام
وريّان الصّبا للحسن فيه ... بدائع لا يحيط بها الكلام
لنا من مسك [1] صدغيه نجاد ... ومن ألحاظ مقلته [2] حسام
ومجلسنا على ما فيه يومي [3] ... بنقصان وأنت له تمام
فلا تعتلّ بالأشغال واحضر ... على عجل وإلّا والسلام
- 386-
الحسين بن عبد الله بن أحمد بن عبد الجبار،
الأمير أبو الفتح المعروف بابن أبي حصينة المعري الأديب الشاعر: توفي بسروج في منتصف شعبان سنة سبع وخمسين وأربعمائة، وكان سبب تقدمه ونواله الامارة أن الامير تاج الدولة ابن مرداس أوفده إلى حضرة المستنصر العبيديّ رسولا سنة سبع وثلاثين وأربعمائة فمدح المستنصر بقصيدة قال فيها [4] :
ظهر الهدى وتجمّل الاسلام ... وابن الرسول خليفة وإمام
مستنصر بالله ليس يفوته ... طلب ولا يعتاص عنه مرام
__________
[386]- ترجمة ابن أبي حصينة في مصورة ابن عساكر 4: 462/5: 2 وتهذيب ابن عساكر 4: 190 وبغية الطلب 4: 248 والوافي 12: 82 والفوات 1: 332 ومعظمها ذكره باسم «الحسن بن عبد الله» وتاريخ ابن الوردي 1: 365 وله ديوان شرح بعضه أبو العلاء (دمشق 1956) .
[1] الديوان: له من فتل.
[2] الديوان: عينيه.
[3] الديوان: يرمى.
[4] هي أيضا في تاريخ ابن الوردي، وفي ملحقات الديوان (وكل القصائد التي أوردها ياقوت وقعت في الملحقات) .(3/1118)
حاط العباد وبات يسهر عينه ... وعيون سكّان البلاد نيام
قصر الإمام أبي تميم كعبة ... ويمينه ركن لها ومقام
لولا بنو الزهراء ما عرف التقى ... فينا ولا تبع الهدى الأقوام
يا آل أحمد ثبّتت أقدامكم ... وتزلزلت بعداكم الأقدام
لستم وغيركم سواء، أنتم ... للدين أرواح، وهم أجسام
يا آل طه حبكم وولاؤكم ... فرض وإن عذل اللحاة ولاموا
وهي طويلة.
ثم مدحه سنة خمسين وأربعمائة فوعده بالإمارة وأنجز له وعده سنة إحدى وخمسين فتسلم سجلّ الإمارة من بين يدي الخليفة في ربيع الآخر من السنة، فمدحه بقصيدة منها [1] :
أما الامام فقد وفى بمقاله ... صلّى الإله على الامام وآله
لذنا بجانبه فعمّ بفضله ... وببذله وبصفوه وجماله
لا خلق أكرم من معدّ شيمة ... محمودة في قوله وفعاله
فاقصد أمير المؤمنين فما ترى ... بؤسا وأنت مظلّل بظلاله
زاد الامام على البحور بفضله ... وعلى البدور بحسنه وجماله
وعلا سرير الملك من آل الهدى ... من لا تمرّ الفاحشات بباله
النصر والتأييد في أعلامه ... ومكارم الأخلاق في سرباله
مستنصر بالله ضاق زمانه ... عن شبهه ونظيره ومثاله
وكان الذي سعى في تأميره وكتب له سجلّ الامارة أبو علي صدقة بن إسماعيل بن فهد الكاتب، فمدحه الأمير أبو الفتح بقصيدة منها:
قد كان صبري عيل في طلب العلا ... حتى استندت إلى ابن إسماعيلا
فظفرت بالخطر الجليل ولم يزل ... يحوي الجليل من استعان جليلا
__________
[1] الأبيات أيضا في تاريخ ابن الوردي وفي ملحقات الديوان.(3/1119)
لولا الوزير أبو عليّ لم أجد ... أبدا الى الشرف العليّ سبيلا
إن كان ريب الدهر قبّح ما مضى ... عندي فقد صار القبيح جميلا
وأجلّ ما جعل الرجال صلاتهم ... للراغبين العزّ والتبجيلا
اليوم أدركت الذي أنا طالب ... والأمس كان طلابه تعليلا
وقال يمدح أسد الدولة عطية بن صالح بن مرداس [1] :
سرى طيف هند والمطيّ بنا تسري ... فأخفى دجى ليل وأبدى سنا فجر
حليليّ فكاني من الهمّ واركبا ... فجاج البوادي الغبر في النّوب الغمر
إلى ملك من عامر لو تمثّلت ... مناقبه أغنت عن الأنجم الزهر
إذا نحن أثنينا عليه تلفتت ... إلينا المطايا مصغيات الى الشكر
وفوق سرير الملك من آل صالح ... فتى ولدته أمّه ليلة القدر
فتى وجهه أبهى من البدر منظرا ... وأخلاقه أشهى من الماء والخمر
أبا صالح أشكو إليك نوائبا ... عرتني كما يشكو النبات إلى القطر
لتنظر نحوي نظرة إن نظرتها ... إلى الصخر فجرت العيون من الصخر
وفي الدار خلفي صبية قد تركتهم ... يطلّون إطلال الفراخ من الوكر
جنيت على روحي بروحي جناية ... فأثقلت ظهري بالذي خفّ من ظهري
فهب هبة يبقى عليك ثناؤها ... بقاء النجوم الطالعات التي تسري
قال الأمير أسامة بن منقذ: فلما فرغ من إنشاده أحضر الأمير أسد الدولة القاضي والشهود، وأشهد على نفسه بتمليك الأمير أبي الفتح ابن أبي حصينة ضيعة من ضياعه لها ارتفاع كبير، وأجازه فأحسن جائزته فأثرى وتمول.
ولما ملك محمود بن نصر بن صالح بن مرداس [2] حلب سنة اثنتين وخمسين
__________
[1] تولى عطية أمر حلب بعد أخيه ثمال سنة 454 وأخرجه منها محمود بن نصر بن صالح فذهب إلى الرقة وتملكها، ثم أخرجه منها مسلم بن قريش، فالتحق بالروم وتوفي بالقسطنطنية سنة 465.
[2] محمود بن نصر المرداسي تملك حلب سنة 452 ثم انتزعها منه عمه ثمال سنة 453 ولما مات ثمال وتملك عطية أخوه هاجم محمود مدينة حلب واستولى عليها وخلع طاعة الفاطميين ودعا للعباسيين واستمرّ في ولايته حتى وفاته سنة 468.(3/1120)
وأربعمائة مدحه بقصيدة منها:
كفّي ملامك فالتبريح يكفيني ... أو جرّبي بعض ما ألقى ولوميني
برمل يبرين أصبحتم فهل علمت ... رمال يبرين أن الشوق يبريني
أهوى الحسان وخوف الله يردعني ... عن الهوى والعيون النجل تغويني
ما بال أسماء تلويني مواعدها ... أكلّ ذات جمال ذات تلوين
كان الشباب إلى هند يقربني ... وشاب رأسي فصار اليوم يقصيني
يا هند إن سواد الرأس يصلح لل ... دنيا وإن بياض الرأس للدين
لست امرءا غيبة الأحرار من شيمي ... ولا النميمة من طبعي ولا ديني
دعني وحيدا أعاني العيش منفردا ... فبعض معرفتي بالناس تكفيني
ما ضرّني ودفاع الله يعصمني ... من بات يهدمني والله يبنيني
وما أبالي وصرف الدهر يسخطني ... وسيب نعماك يا ابن الصّيد يرضيني
أبا سلامة عش واسلم حليف علا ... وسؤدد بشعاع الشمس مقرون
أشنا عداكم وأهوى أن أدين لكم ... فللعدى دينهم فيكم ولي ديني
فلما أتم إنشادها قال له: تمنّ، قال: أتمنى أن أكون أميرا، فجعله أميرا يجلس مع الأمير ويخاطب بالأمير وقرّبه، وقد تقدم أن الإمارة وجهت إليه سنة إحدى وخمسين من ديوان المستنصر بمصر، ولا منافاة بين الروايتين إذ يكون توجيه الإمارة إليه من الأمير محمود بن نصر تاليا لتوجيهها إليه من جانب المستنصر ومؤكدا مؤيدا له.
ووهبه صاحب حلب محمود أيضا مكانا بحلب تجاه حمام الواساني فجعله دارا وزخرفها، فلما تمّ بناؤها نقش على دائرة الدرابزين فيها [1] :
__________
[1] انظر بغية الطلب: 249، 250، 251 وقال بعضهم إن الأبيات في نصر بن محمود، وعلّق ابن العديم بأن ابن أبي حصينة لم يدرك زمان نصر بن محمود؛ وقيل إن الحكاية جرت مع نصر بن صالح أخي ثمال، قال ابن العديم: ودفع إلي مدائح نصر بن صالح مدونة وفيها قصائد مدحه بها أبو الفتح وليس فيها القصيدة الرائية ولا الأبيات السينية، والصحيح أنه مدح بها معز الدولة ثمال بن صالح وأكثر مديحه فيه.(3/1121)
دار بنيناها وعشنا بها ... في دعة من آل مرداس
قوم محوا بؤسي ولم يتركوا ... عليّ في الأيام من باس
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليحسن الناس إلى الناس
ولما تكامل البناء عمل دعوة حضرها الأمير محمود بن نصر فلما رأى حسن الدار وقرأ الأبيات المتقدمة قال: يا أبا الفتح كم صرفت على بناء الدار؟ قال: يا مولانا هذا الرجل تولّى عمارتها ولا أدري كم صرف عليها فسأل المعمار [فقال] : غرم عليها ألفي دينار مصرية فأمر باحضار ألفي دينار وثوب أطلس وعمامة مذهبة وحصان بطوق ذهب وسرفسار ذهب فسلمها إلى ابن أبي حصينة وقال له:
قل لبني الدنيا ألا هكذا ... فليحسن الناس الى الناس
وحضر بعد أيام رجل من أهل المعرة يقال له الزقوم من رعاع الناس وأسافلهم فطلب رزق جنديّ فأعطي ذلك وجعل من أجناد المعرة فقال أحمد بن محمد المعروف بابن الدويدة المعري في ذلك [1] :
أهل المعرة تحت أقبح خطة ... وبهم أناخ الخطب وهو جسيم
لم يكفهم تأمير إبن حصينة ... حتى تجنّد بعده الزقوم
يا قوم قد سئمت لذاك نفوسنا ... يا قوم أين الترك أين الروم
فشاعت الأبيات وسمعها الأمير أبو الفتح، فذهب إلى بيت ابن الدويدة فلما دخل عليه قال له ابن الدويدة: الآن والله كان عندي الزقوم وقال لي: والله ما بي من الهجو ما بي من أنك قرنتني بابن أبي حصينة، فقال له ابن أبي حصينة: قبحك الله وهذا هجو ثان.
وقال يمدح قريش بن بدران بن المقلد بن المسيب صاحب نصيبين [2] :
__________
[1] انظر ترجمة ابن الدويدة في الخريدة (قسم الشام) 2: 53 ودمية القصر 1: 152 (ط. مصر) وابن خلكان 4: 440.
[2] كان قريش بن بدران أمير بني عقيل، وقد توفي في سنة 453، وابنه مسلم هو الذي انتزع حلب من يد المرداسيين، وقضى على دولتهم.(3/1122)
أبت عبراته إلّا انهمالا ... عشية أزمع الحيّ ارتحالا
أجدّك كلّما همّوا بنأي ... ترقرق ماء عينك ثم سالا
تقاضينا مواعد أم عمرو ... فضنّت أن تنيل وأن تنالا
وسار خيالها الساري إلينا ... فلو علمت لعاقبت الخيالا
ومنها:
إذا بلغت ركائبنا قريشا ... فقد بلغت بنا الماء الزلالا
فتى لو مدّ نحو الجوّ باعا ... وهمّ بأن ينال الشهب نالا
إذا انتسب ابن بدران وجدنا ... مناسبه العليّة لا تعالى
تتيه بها إذا ذكرت معدّ ... وتكسب كلّ قيسيّ جمالا
أيا علم الهدى نجوى محبّ ... يحبكم اعتقادا لا انتحالا
مننت فلم تجشّمني عناء ... وجدت فلم تكلّفني سؤالا
إذا عدم الزمان مسيّبيا ... أتاح الله للدنيا وبالا
وهي طويلة اكتفينا منها بما ذكرناه.
وقال يرثي زعيم الدولة أبا كامل بركة بن المقلّد بن المسيّب [1] ، وتوفي بتكريت سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة:
من عظيم البلاء موت العظيم ... ليتني متّ قبل موت الزعيم
يا جفوني سحّي دما أو فحمّي ... صحن خدّي بعبرة كالحميم
بعد خرق من الملوك كريم ... ما زمان أودى به بكريم
جعفريّ النصاب من صفوة الصف ... وة في الفخر والصميم الصميم
يا أبا كامل برغمي أن يش ... قيك سكنى التراب بعد النعيم
أو تبيت القصور خالية من ... ك ومن وجهك الوضيء الوسيم
وانقراض الكرام من شيم الده ... ر ومن عادة الزمان اللئيم
__________
[1] كان بركة يشارك أخاه قرواشا في ملك الموصل.(3/1123)
قد بكت حسرة عليه المذاكي ... وشكت فقده بنات الرسيم
وهي قصيدة طويلة.
وقال يرثي أبا العلاء المعرّي:
العلم بعد أبي العلاء مضيّع ... والأرض خالية الجوانب بلقع
أودى وقد ملأ البلاد غرائبا ... تسري كما تسري النجوم الظلّع
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى ... أن الثرى فيه الكواكب تودع
جبل ظننت وقد تزعزع ركنه ... أنّ الجبال الراسيات تزعزع
وعجبت أن تسع المعرّة قبره ... ويضيق بطن الأرض عنه الأوسع
لو فاضت المهجات يوم وفاته ... ما استكثرت فيه فكيف الأدمع
تتصرّم الدنيا ويأتي بعده ... أمم وأنت بمثله لا تسمع
لا تجمع المال العتيد وجد به ... من قبل تركك كلّ شيء تجمع
وإن استطعت فسر بسيرة أحمد ... تأمن خديعة من يضرّ ويخدع
رفض الحياة ومات قبل مماته ... متطوّعا بأبرّ ما يتطوّع
عين تسهّد للعفاف وللتقى ... أبدا وقلب للمهيمن يخشع
شيم تجمّله فهنّ لمجده ... تاج ولكن بالثناء يرصع
جادت ثراك أبا العلاء غمامة ... كندى يديك ومزنة لا تقلع
ما ضيّع الباكي عليك دموعه ... إن البكاء على سواك مضيّع
قصدتك طلّاب العلوم ولا أرى ... للعلم بابا بعد بابك يقرع
مات النّهى وتعطلت أسبابه ... وقضى العلا والعلم بعدك أجمع
وقال يرثي أبا يعلى حمزة بن الحسين بن العباس الحسيني الدمشقي وكان يوم وفاته بدمشق [1] :
__________
[1] هو حمزة بن الحسن عند ابن عساكر (المصورة 5: 2- 3 والتهذيب 4: 445) وكان قاضيا بدمشق، وتوفي سنة 434.(3/1124)
هوى الشرف العالي بموت أبي يعلى ... ولا غرو أن جلّت رزية من جلّا
سيصلى بنار الحزن من كان آمنا ... به أنّه في الحشر بالنّار لا يصلى
تحلّت به الدنيا فحلّ به الردى ... فعطّلها من ذلك الحلي من حلّى
فقدناه فقد الغيث أقلع وبله ... عن الأرض لما أنفدت ذلك الوبلا
لقد فلّ منه الدهر حدّ مهنّد ... تركنا به في كلّ حدّ له نصلا
فلست أبالي بعده أيّ عابر ... من الناس أملى الله مدته أم لا
تقلّ دموعي والهموم كثيرة ... كذاك دخان النار ان كثرت قلّا
وآنف أن أبكي عليك بعبرة ... إذا لم يكن غربا من الدمع أو سجلا
وقال يرثي معتمد الدولة قرواش بن المقلّد بن المسيّب العقيلي صاحب الموصل، توفي مسجونا بقلعة الجراحية، وقيل قتله ابن أخيه قريش في مستهل رجب سنة أربع وأربعين وأربعمائة ودفن بتلّ توبة من مدينة نينوى:
أمثل قرواش يذوق الرّدى ... يا صاح ما أوقح وجه الحمام
حاشا لذاك الوجه أن يعرف ال ... بؤس وأن يحثى عليه الرّغام
وللجبين الصلّت أن يسلب ال ... بهجة أو يعدم حسن الوسام
يا أسف الناس على ماجد ... مات فقال الناس مات الكرام
غير بعيد يا بعيد الندى ... ولا ذميم يا وفيّ الذمام
زلت فلا القصر بهيّ ولا ... بابك معمور كثير الزحام
ولا الخيام البيض منصوبة ... بوركت يا ناصب تلك الخيام
قبحا لدنيا حطّمت أهلها ... وأخذتهم باكتساب الحطام
تأخذ ما تعطي فما بالنا ... نكثر فيما لا يدوم الخصام
يا قبر قرواش سقيت الحيا ... ولا تعدّتك غوادي الغمام
قضى ولم أقض على إثره ... إني لمن ترك الوفا ذو احتشام
أنظم شعرا والجوى شاغلي ... يا عجبا كيف استقام الكلام(3/1125)
ولما وصل أرمانوس [1] ملك الروم إلى حلب سنة إحدى وعشرين واربعمائة ومعه ملك الروس وملك البلغار والألمان والبلجيك والخزر والأرمن في ستمائة الف من الفرنج قاتلهم شبل الدولة نصر بن صالح صاحب حلب، فهزمهم وتبعهم إلى عزاز وأسر جماعة من أولاد ملوكهم، وغنم المسلمون منهم غنائم عظيمة، فقال ابن أبي حصينة في ذلك، وأنشدها شبل الدولة بظاهر قنسرين:
ديار الحقّ مقفرة يباب ... كأن رسوم دمنتها كتاب
نأت عنها الرباب وبات يهمي ... عليها بعد ساكنها الرّباب
تعاتبني أمامة في التصابي ... وكيف به وقد فات الشباب
نضا مني الصبا ونضوت منه ... كما ينضو من الكفّ الخضاب
ومنها:
إلى نصر وأيّ فتى كنصر ... إذا حلّت بمغناه الركاب
أمنتهك الفرنج غداة ظلّت ... حطاما فيهم السّمر الصّلاب
جنودك لا يحيط بهنّ وصف ... وجودك لا يحصّله حساب
وذكرك كلّه ذكر جميل ... وفعلك كلّه فعل عجاب
وأرمانوس كان أشدّ بأسا ... وحلّ به على يدك العذاب
أتاك يجرّ بحرا من حديد ... له في كلّ ناحية عباب
إذا سارت كتائبه بأرض ... تزلزلت الأباطح والهضاب
فعاد وقد سلبت الملك عنه ... كما سلبت عن الميت الثياب
فما أدناه من خير مجيء ... ولا أقصاه عن شرّ ذهاب
فلا تسمع بطنطنة الأعادي ... فانهم إذا طنّوا ذباب
ولا ترفع لمن عاداك رأسا ... فإن الليث تنبحه الكلاب
__________
[1] انظر ابن الأثير 9: 404- 405، وكان امبراطور الروم حينئذ هو رومانس L) Romanus (LL الثالث.(3/1126)
وقال:
أشدّ من فاقة الزمان ... مقام حرّ على هوان
فاسترزق الله واستعنه ... فإنه خير مستعان
وان نبا منزل بحرّ ... فمن مكان إلى مكان
وقال:
بكت عليّ غداة البين حين رأت ... دمعي يفيض وحالي حال مبهوت
فدمعتي ذوب ياقوت على ذهب ... ودمعها ذوب درّ فوق ياقوت
وقال:
لا تخدعنّك بعد طول تجارب ... دنيا تغرّ بوصلها وستقطع
«أحلام نوم أو كظلّ زائل ... إنّ اللبيب بمثلها لا يخدع» [1]
وقال يمدح ثابت بن ثمال بن صالح بن مرداس [2] :
لو أنّ دارا أخبرت عن ناسها ... لسألت رامة عن ظباء كناسها
بل كيف تخبر دمنة ما عندها ... علم بوحشتها ولا إيناسها
ممحوة العرصات يشغلها البلى ... عن ساحبات المرط فوق دهاسها
ومنها:
وزمان لهو بالمعرة مونق ... بسياثها وبجانبي هرماسها [3]
أيام قلت لذي المودّة أسقني ... من خندريس حناكها أو حاسها [4]
حمراء تغنينا بساطع لونها ... في الليلة الظلماء عن نبراسها
وكأنما حبب المزاج إذا طفا ... درّ ترصّع في جوانب طاسها
رقّت فما أدري أكأس زجاجها ... في جسمها أم جسمها في كاسها
__________
[1] بيت لعمران بن حطان، انظر شعر الخوارج: 173.
[2] ورد بعضها عند ابن عساكر وبغية الطلب.
[3] سياث والهرماس من ضواحي المعرة.
[4] حناك: حصن بالمعرة، وحاس في أرضها.(3/1127)
وكأنما زرجونة جاءت بها ... سقيت مذاب التبر عند غراسها
فأتت مشعشعة كجذوة قابس ... راعت أكفّ القوم عند مساسها
لله أيام الصّبا ونعيمها ... وزمان جدّتها ولين مراسها
ما لي تعيب البيض بيض مفارقي ... وسبيلها تصبو إلى أجناسها
نور الصباح إذا الدجنة أظلمت ... أبهى وأحسن من دجى أغلاسها
إن الهوى دنس النفوس فليتني ... طهّرت هذي النفس من أدناسها
ومطامع الدنيا تذلّ ولا أرى ... شيئا أعزّ لمهجة من ياسها
من عفّ لم يذمم ومن تبع الخنا ... لم تخله التبعات من أوكاسها
زيّن خصالك بالسماح ولا ترد ... دنيا تراك وأنت بعض خساسها
ومتى رأيت يد امرىء ممدودة ... تبغي مواساة الكريم فواسها
خير الأكفّ السابقات بجودها ... كفّ تجود عليك في إفلاسها
ومنها في المدح:
أما نزار فكلّها لكريمة ... لكنّ أكرمها بنو مرداسها
وقال:
إذا المرء لم يرض ما أمكنه ... ولم يأت من أمره أحسنه
فدعه فقد ساء تدبيره ... سيضحك يوما ويبكي سنه
وقال:
الدهر خدّاعة خلوب ... وصفوه بالقذى مشوب
فلا تغرنّك الليالي ... فبرقها خلّب كذوب
وأكثر الناس فاعتزلهم ... قوالب ما لها قلوب(3/1128)
- 387-
الحسين بن عبد الرحيم بن الوليد بن عثمان
بن جعفر أبو عبد الله الكلابي المعروف بابن أبي الزلازل، من بني جعفر بن كلاب، اللغويّ الأديب الكاتب الشاعر: أخذ عن أبي القاسم الزجاجي وأبي بكر محمد بن جعفر الخرائطي وأبي يعقوب النجيرمي وغيرهم. توفي في رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة. وله مصنفات منها، كتاب أنواع الأسجاع وهو ما جاء من أخبار العرب مسجوعا، ابتدأ بتأليفه في دمشق سنة ثلاث وأربعين وثلاثمائة روى فيه عن شيوخه وغيرهم، وهو كتاب ممتع أجاد وضعه وتأليفه.
ومن شعر ابن أبي الزلازل:
لقد عرّفتك الحادثات بفرسها [1] ... وقد أدّبت ان كان ينفعك الأدب
ولو طلب الأنسان من صرف دهره ... دوام الذي يخشى لأعياه ما طلب
وقال [2] :
فتى لرغيفه قرط وشنف ... وإكليلان من خرز وشذر
إذا كسر الرغيف بكى عليه ... بكا الخنساء إذ فجعت بصخر
وقال مهنئا بعض الأمراء بالعيد [3] :
عيد يمن مؤكد بأمان ... من تصاريف طارق الحدثان
جعل الله عيد عامك هذا ... خير عيد يحويه خير زمان [4]
ثم لا زلت من زمانك في يس ... ر ومن طيب عيشه في أمان [5]
__________
[387]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 5: 3 وتهذيب ابن عساكر 4: 309 والوافي 12: 418.
[1] م: نفوسها.
[2] ورد البيتان في بخلاء الخطيب: 169 وديوان المعاني 1: 185 والشريشي 5: 151 وغرر الخصائص: 289 والتذكرة الحمدونية 2: 320 ونهاية الأرب 3: 310.
[3] الأبيات عند ابن عساكر والصفدي.
[4] م: وذاك خير التهاني.
[5] م: صفر ومن شر صرفه في أمان.(3/1129)
آخذا ذمة من الدهر لا تخ ... فر معقودة بأوفى ضمان
نافذ الأمر عالي القدر محمو ... د المساعي مؤيد السلطان
وقال:
ثمانية قام الوجود بها فهل ... ترى من محيص للورى عن ثمانيه
سرور وحزن واجتماع وفرقة ... وعسر ويسر ثم سقم وعافيه
بهنّ انقضت أعمار أولاد آدم ... فهل من رأى أحوالهم متساويه
- 388-
الحسين بن عبد السلام أبو عبد الله
المصري المعروف بالجمل الشاعر المشهور: كان شاعرا مفلقا مدح الخلفاء والأمراء. توفي في ربيع الآخر سنة ثماني وخمسين ومائتين، قدم دمشق وافدا على أحمد بن المدبر، وكان أحمد يقصده الشعراء، فمن مدحه بشعر جيّد أجزل صلته، ومن مدحه بشعر رديء وجّه به مع خادم له إلى الجامع فلا يفارقه حتى يصلّي مائة ركعة ثم يصرفه، فدخل عليه الجمل وأنشده [1] :
أردنا في أبي حسن مديحا ... كما بالمدح تنتجع الولاة
فقالوا أكرم الثقلين طرّا ... ومن جدواه دجلة والفرات
وقالوا يقبل الشعراء لكن ... أجلّ صلات مادحه الصلاة
فقلت لهم وما يغني عيالي ... صلاتي إنما الشأن الزكاة
فيأمر لي بكسر الصاد منها ... فتصبح لي الصّلاة هي الصلات
__________
[388]- ترجمة الجمل المصري في مصورة ابن عساكر 5: 4 وتهذيب ابن عساكر 4: 309 ويتيمة الدهر 1: 440 والوافي 12: 419 والمغرب (قسم مصر) : 270 والنجوم الزاهرة 3: 30 والمقفى 3: 514 وهذا هو الجمل الأكبر، أما الجمل الأصغر فهو مشبه له في الاسم أيضا (انظر المغرب:
271) .
[1] الأبيات عند ابن عساكر والصفدي.(3/1130)
وروى الجمل عن بشر بن بكر عن الأوزاعي أنه قال: كان قوم كسالى ينامون تحت شجرة كمثرى، [ويقولون] إن سقط في أفواهنا شيء اكلنا وإلا فلا، فسقطت كمثراة إلى جانب أحدهم، فقال له الذي يليه: ضعها في فمي، قال: لو استطعت أن أضعها في فمك وضعتها في فمي.
قال ابن يونس في «تاريخ مصر» : كان الجمل شرها في الطعام دنيء النفس وسخ الثوب هجاء، ولد قبل سنة سبعين ومائة وعلت سنه، ومدح المأمون بمصر لما ورد إليها لجوب البيمارستان، ومدح الأمراء مثل عبد الله بن طاهر وغيرهم، وتوفي في ربيع الآخر سنة ثماني وخمسين ومائتين. ومن شعر الجمل أيضا:
إذا أظمأتك أكفّ اللئام ... كفتك القناعة شبعا وريّا
فكن رجلا رجله في الثرى ... وهامة همّته في الثريا
أبيا لنائل ذي ثروة ... تراه بما في يديه أبيا
فإنّ إراقة ماء الحياة ... دون إراقة ماء المحيا
- 389-
الحسين بن عقيل بن محمد بن عبد المنعم
بن هاشم البزار الواسطي القرشي: كان أديبا شاعرا وله عناية بالحديث، روى عنه الخطيب البغدادي والحافظ أبو القاسم ابن عساكر؛ توفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة، ومن شعره:
لقد كمّل الرحمن شخصك في الورى ... فلا شان شيئا من كمالك بالنقص
ومن جمع الآفاق في العين قادر ... على جمع أشتات الفضائل في شخص
وقال [1] :
ولما حدا البين المشتّ بشملنا ... ولم يبق إلا أن تثار الأيانق
__________
[389]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 5: 8 وتهذيب ابن عساكر 4: 311.
[1] الأبيات عند ابن عساكر.(3/1131)
ولم نستطع عند الوداع تصبّرا ... وقد غالنا دمع عن الوجد ناطق
وقفنا لتوديع فكادت نفوسنا ... لأجسادنا قبل الوداع تفارق
فباك لما يلقاه من فقد إلفه ... وشاك له قلب به الوجد عالق
وقال:
أقلي النهار إذا اضاء صباحه ... وأظلّ أنتظر الظلام الدامسا
فالصبح يشمت بي فيقبل ضاحكا ... والليل يرثي لي فيدبر عابسا
وقال:
على لام العذار رأيت خالا ... كنقطة عنبر بالمسك أفرط
فقلت لصاحبي هذا عجيب ... متى قالوا بأنّ اللام تنقط
- 390-
الحسين بن علي بن أحمد بن عبد الواحد
بن بكر بن شبيب الطيبي النديم: نديم المستنجد بالله، ولد سنة خمسمائة وتوفي سنة ثمانين وخمسمائة. كان أديبا كاتبا شاعرا له اليد الطولى في حلّ الألغاز العويصة، فتفاوض أبو منصور محمد بن سليمان بن قتلمش وأبو غالب ابن الحصين في سرعة خاطر ابن شبيب وتقدمه في حلّ الألغاز فعمل ابن قتلمش أبياتا على صورة الالغاز ولم يلغز فيها بشيء أرسلاها إلى ابن شبيب يمتحنانه بها وهي:
وما شيء له في الرأس رجل ... وموضع وجهه منه قفاه
إذا غمّضت عينك أبصرته ... وان فتّحت عينك لا تراه
__________
[390]- ترجمته في الخريدة (قسم العراق) 1: 187 والوافي 12: 447 والفوات 1: 377 (ولقبه سعد الدين) والطيبي نسبة إلى الطيب بين واسط وكور الأهواز؛ م: النصيبي.(3/1132)
ونظم أيضا:
وجار وهو تيار ... ضعيف العقل خوّار
بلا لحم ولا ريش ... وهو في الرمز طيار
بطبع بارد جدا ... ولكن كلّه نار
فكتب ابن شبيب على الأول: هو طيف الخيال، وكتب على الثاني: هو الزئبق، فجاء أبو غالب وأبو منصور إليه وقالا: هب اللغز الأول طيف الخيال، والبيت الثاني يساعدك على ما قلت، فكيف تعمل بالبيت الأول؟ فقال: لأنّ المنام يفسّر بالعكس، لأنّ من بكى يفسر بكاؤه بالضحك والسرور، ومن مات يفسّر موته بطول العمر. وأما اللغز الثاني فإن أصحاب صناعة الكيمياء يرمزون للزئبق بالطيّار والفرّار والآبق وما أشبه ذلك، لأنه تناسب صفته، وأما برده فظاهر، ولإفراط برده ثقل جسمه وجرمه، وكله نار لسرعة حركته وتشكله في افتراقه والتئامه، وعلى كلّ حال ففي ذلك تسامح يجوز في مثل هذه الصور الباطلة إذا طبقت على الحقيقة.
ودخل [1] ابن شبيب يوما على الخليفة المستنجد بالله فقال الخليفة: أين شتيت؟ فقال: عندك يا أمير المؤمنين، فأعجبه هذا التصحيف منه.
ومن شعر ابن شبيب في المستنجد [2] :
أنت الإمام الذي يحكي بسيرته ... من ناب بعد رسول الله أو خلفا
أصبحت لبّ بني العباس كلهم ... إن عدّدت بحروف الجمّل الخلفا
فإن جمّل حروف (لب) اثنان وثلاثون، والمستنجد هو الثاني والثلاثون من الخلفاء.
ومن شعره أيضا:
ومحترس من نفسه خوف زلّة ... تكون عليه حجة هي ماهيا
يصون عن الفحشاء نفسا كريمة ... أبت شرفا إلا العلا والمعاليا
__________
[1] وردت القصة في الخريدة.
[2] الخريدة: 195.(3/1133)
صبور على ريب الزمان وصرفه ... كتوم لأسرار الفؤاد مداريا
له همة تعلو على كلّ همة ... كما قد علا البدر النجوم الدراريا
وقال:
أغصان ورد زيّنت درر الندى ... أجيادها بمخانق وعقود
فتوهجت كمسارج وتأرجت ... كنوافج وتدبجت كبرود
وتبلّجت ككواكب وتبرّجت ... ككواعب وتضرّجت كخدود
وقال:
تبوح بسرك ضيقا به ... وتبغي لسرّك من يكتم
وكتمانك السرّ ممن تخاف ... ومن لا تخاف هو الأحزم
وإن ذاع سرّك من صاحب ... فأنت وإن لمته ألوم
- 391-
الحسين بن علي بن محمد بن ممويه، أبو عبد الله
المعروف بابن قم الزّبيدي اليمني: ولد بزبيد سنة ثلاثين وخمسمائة، وتوفي سنة إحدى وثمانين وخمسمائة. كان أديبا كاتبا شاعرا من أفاضل اليمن المبرزين في النظم والنثر والكتابة، ومن شعره:
أأحبابنا من بالقطيعة أغراكم ... وعن مستهام في المحبّة ألهاكم
صددتم وأنتم تعلمون بأننا ... لغير التجنّي والصدود وددناكم
كشفت لكم سرّي على ثقة بكم ... فصرت بذاك السرّ من بعض أسراكم
جعلناكم للنائبات ذخيرة ... فحين طلبناكم لها ما وجدناكم
قطعتم وصلناكم، نسيتم ذكرناكم ... عققتم بررناكم، أضعتم حفظناكم
وفي النفس سرّ لا تبوح بذكره ... ولو تلفت وجدا إلى يوم لقياكم
__________
[391]- ترجمته في الخريدة (قسم الشام) 3: 74 والوافي 13: 5 والفوات 1: 381.(3/1134)
فإن تجمع الأيام بيني وبينكم ... غفرت خطاياكم لحرمة رؤياكم
وقال:
خير ما ورّث الرجال بنيهم ... أدب صالح وحسن ثناء
ذاك خير من الدنانير والأو ... راق في يوم شدّة ورخاء
تلك تفنى والدين والأدب الصا ... لح لا يفنيان حتى اللقاء
ولابن قم رسالة كتب بها إلى أبي حمير سبأ بن أبي السعود أحمد بن المظفر بن علي الصليحي اليماني بعد انفصاله عن اليمن، رواها عنه الحافظ أبو طاهر السلفي سنة ثمان وستين وخمسمائة [1] وهي [2] :
كتب عبد حضرة السلطان الأجلّ مولاي ربيع المجدبين، وقريع المتأدبين، جلوة الملتبس، وجذوة المقتبس، شهاب المجد الثاقب، ونقاب ذوي الرشد والمناقب- أطال الله بقاءه، وأدام علوّه وارتقاءه، ما قدّمت العارية للمستعير [3] ، ولزمت الياء للتصغير، وجعل رتبته في الأولية عالية المقام [4] ، كحرف الاستفهام، وكالمبتدأ إن تأخر في البنية، فإنه مقدّم في النية، ولا زالت حضرته في الحادثات حمى، وللوفود مزدحما وملتزما، حتى يكون في العلا، بمنزلة حرف الاستعلا، وهو من حروف اللين في حصون، وما جاورها من الإمالة مصون، ولا زال عدوّه كالألف حالها يختلف، تسقط في صلة الكلام، لا سيما مع اللام، فإنه أدام الله علوه أحسن إليّ ابتداء، ونشر عليّ من فضله رداء، أراد أن يخفى وكيف يخفى، لأنّ من شرف الإحسان، سقوط ذكره عن اللسان، كالمفعول رفع رفع الفاعل الكامل، لما حذف من الكلام ذكر الفاعل- يهدي إليه سلاما ما الروض: ضاحكه النّوض [5] ، غرس وحرس، وسقي ووقي، وغيب وصيب، فأخذ من كل نوء بنصيب، زهاه الزهر،
__________
[1] الوافي: سنة اثنتين وستين وخمسمائة.
[2] نقلها الصفدي في الوافي والكتبي في الفوات.
[3] الوافي والفوات: ما أجابت العادية المستغير.
[4] الفوات: وافرة السهام.
[5] النوض: سرب الماء.(3/1135)
وسقاه النهر، جاور الأضا [1] ، فحسن وأضا، رتع فيه الشّحرور [2] ، ومرح العصفور، فنظر إلى أقاحيه، تفترّ في نواحيه، وإلى البهار، يضاحك شمس النهار، فجعل يلثم من ورده خدودا، ويضمّ من أغصانه قدودا، ويقتبس النار، من الجلّنار، ويلتمس العقيق، من الشقيق، فتثنّى ثملا، وغنّى خفيفا ورملا، بأطيب من نفحته المسكية، وأعطر من رائحته الذكية. وإني وإن أهديته في كلّ أوان، من أداء ما يجب غير وان، أعدّ نفسي السّكيت في السّبق، لتقصيري لما وجب عليّ من الحق، أثرت فعثرت، وجهدت فما سعدت، فأنا بحمد الله بخنوع وقنوع، وجناب عن غين الغين [3] ممنوع، فارقت المثول ولا أزال [4] ، ولزمت الخمول والاعتزال، سعيي سعي الجاهد، وعيشي عيش الزاهد، ببلد الأديب فيه غريب، والأريب مريب، إن تكلّم استثقل، وإن سكت استقلل، منزله كبيوت العناكب، ومعيشته كعجالة الراكب، فهو كما قال أبو تمام [5] :
أرض الفلاحة لو أتاها جرول ... أعني الحطيئة لاغتدى حرّاثا
ما جئتها من أيّ باب جئتها ... إلا حسبت بيوتها أجداثا
تصدا بها الأفهام بعد صقالها ... وتردّ ذكران العقول إناثا
أرض خلعت اللهو خلعي خاتمي ... فيها وطلقت السرور ثلاثا
وأما حال عبده بعد فراقه في الجلد، فما حال أمّ تسعة من الولد، ذكور، كأنهم عقبان وصقور، كنّوا في وكور، اخترم منهم ثمانية، وهي على التاسع حانية، نادى النذير العريان في البداية، يا للعادية يا للعادية، فلما سمعت الداع، ورأت الخيل وهي سراع، جعلت تنادي ولدها الأناة الأناة، وهو ينادي القناة القناة [6] :
__________
[1] الأضا: جمع أضاة، وهو بركة الماء.
[2] الوافي: رتعت فيه الفور (والفور: الظباء) .
[3] م: عين الغين.
[4] الوافي: فارقت المتوج بأزال.
[5] ديوان أبي تمام 1: 325.
[6] م: العياه العياه.(3/1136)
بطل كأنّ ثيابه في سرحة ... يحذى نعال السّبت ليس بتوأم [1]
حين رأته يختال في غضون الزرد الموضون، أنشأت تقول:
أسد أضبط يمشي [2] ... بين طرفاء وغيل [3]
لبسه من نسج دا ... ود كضحضاح المسيل
فعرض له في البادية أسد هصور، كأن ذراعه مسد معصور [4] :
فتطاعنا وتواقفت خيلاهما ... وكلاهما بطل اللقاء مقنّع [5]
فلما سمعت صياح الرعيل، برزت من الخدر بصبر قد عيل. فسألت عن الواحد، فقيل لها لحده اللاحد:
فكرّت تبتغيه فصادفته ... على دمه ومصرعه السباعا [6]
عبثن به فلم يتركن إلا ... أديما قد تمزّق أو كراعا
بأشد من عبد له تأسفا، ولا أعظم كمدا ولا تلهفا. وإنه ليعنّف نفسه دائما، ويقول لها لائما: لو فطنت لقطنت، ولو عقلت لما انتقلت، ولو قنعت لرجعت وما هجعت:
يقيم الرجال الموسرون بأرضهم ... وترمي النوى بالمقترين المراميا [7]
وما تركوا أوطانهم عن ملالة ... ولكن حذارا من شمات الأعاديا
أيها السيد أمن العدل والإنصاف، ومحاسن الشيم والأوصاف، إكرام المهان، وإذلال جواد الرهان. يشبع في ساجوره كلب الزّبل، ويسغب في خيسه أبو الشبل:
إذا حلّ ذو نقص مكانة فاضل ... وأصبح ربّ الجاه غير وجيه
__________
[1] انظر ديوان عنترة: 212.
[2] م: أنشد ... يميل.
[3] انظر التاج (ضبط) والأضبط: الأسد يعمل بيساره كما يعمل بيمينه.
[4] م: مهصور، ولعل الصواب: «مضفور» .
[5] لأبي ذؤيب، انظر ديوان الهذليين 1: 38 (وفيه: مخدع) .
[6] للقطامي، ديوانه: 41 (باختلاف في الرواية) .
[7] ورد هذا البيت وحده في حماسة المرزوقي: 1133 لاياس بن القائف.(3/1137)
فإن حياة الحرّ غير شهية ... إليه وطعم الموت غير كريه
أقول لنفسي الدنية: هبّي طال نومك، واستيقظي لا عزّ قومك. أرضيت بالعطاء المنزور، وقنعت بالمواعيد الزور؟! يقظة فإن الجد قد هجع، ونجعة فمن أجدب انتجع، أعجزت في الإباء، عن خلق الحرباء؟ أدلى [1] لسانا كالرشاء، وتسنّم أعلى السماء. ناط همته بالشمس، مع بعدها عن اللمس، [أنف من] ضيق الوجار، ففرّخ في الأشجار، فهو كالخطيب، على الغصن الرطيب:
وإن صريح الرأي والحزم لامرىء ... إذا بلغته الشمس أن يتحولا [2]
وقد أصحب عبده هذه الأسطر شعرا يقصّر فيه عن واجب الحمد، وإن بنيت قافيته على المدّ، وما يعدّ نفسه إلا كمهدي جلد السبنتى الأنمر [3] إلى الديباج الأحمر: أين درّ الحباب، من ثغور الأحباب؟ وأين الشراب، من السراب، والركي البكي من الواد، ذي المواد؟ أتطلب الفصاحة من الغتم، والصباحة من العتم؟ غلط من رأى الآل في القيّ [4] ، فشبّهه بهلهال الدبيقي، هيهات مناسج الرياط، تسبق تنيس ودمياط، ولا أقول إلا كما قال القائل:
من يساجلني يساجل ماجدا ... يملأ الدلو إلى عقد الكرب [5]
بل أضع نفسي في أقل المواضع، وأقول لمولاي قول الخاضع: فأسبل عليها ستر معروفك المواتي، الذي سترت به قدما عوراتي [6] :
فيك برّحت بالعذول إباء ... وعصيت اللوّام والنصحاء
فانثنى العاذلون أخيب منّي ... يوم أزمعتم الرحيل رجاء
__________
[1] م: ولي.
[2] البيت لأبي تمام، ديوانه 3: 106.
[3] م: القسيّ الأسمر.
[4] القي: الأرض القفر.
[5] البيت للفضل بن العباس اللهبي في الأغاني 16: 121.
[6] جاء هذا في الوافي شعرا كما يلي:
فأسبل عليها ستر معروفك الذي ... سترت به قدما على عوراتي(3/1138)
من مجيري من فاتر اللحظ ألمى ... جمع النار خدّه والماء
فيه لليل والنهار صفات ... فلهذا سرّ القلوب وساء
لازم شيمة الخلاف فإن لن ... ت قسا أو دنوت منه تناءى
يا غريب الصفات حقّ لمن كا ... ن غريبا أن يرحم الغرباء
معرضا عن صدوده وتجنّي ... هـ وإشماته بي الأعداء
وإذا ما كتمت ما بي من وج ... د أذاعته مقلتاي بكاء
كعطايا سبا بن أحمد يخفي ... ها فتزداد شهرة ونماء
أريحيّ يهزّه المدح للجو ... د [1] وإن لم نمدحه جاد ابتداء
المعيّ يكاد ينبيك عمّا ... كان في الغيب فطنة وذكاء
وإذا أخلف السماء بأرض ... أخلفت راحتاه ذاك السماء
بندى يخجل الغيوث انهمالا ... وشذا [2] ينهل الرماح الظماء
ما أبالي إذ أحسن الدهر فيه ... أحسن الدهر للورى أم أساء
أيها المجدب الضريك انتجعه ... فعطاياه تسبق الأنواء
تلق منه المهذب الماجد النّد ... ب الكريم السّميدع الأبّاء
راحة في الندى تنيل نضارا ... وحسام في الروع يهمي دماء
يا أبا حمير دعوتك للده ... ر فكنت امرءا يجيب الدعاء
فأبى البخل أن يكون أماما ... وأبى الجود أن يكون وراء
أنا أشكو إليك جور زمان ... دأبه أن يعاند الأدباء
أهملتني صروفه وكأني ... ألف الوصل ألقيت إلقاء
إن سطا أرهب الضراغم في الآ ... جام أو جاد بخّل الكرماء
شيم من أبيه أحمد لا ين ... فكّ عنها تتبعا واقتفاء
__________
[1] م: نرتجيه بهذه المدح الجود.
[2] م: وشدا.(3/1139)
قد تعاطى في المجد شأوك قوم ... عجزوا واحتملت فيه العناء
شرفا شامخا ومجدا منيفا ... حميريا وعزّة [1] قعساء
مال عنّي بما أؤمل فيه ... كلّما قلت سوف يأسو أساء
رهن بيت لو استقرّ به الير ... بوع لم يرضه له نافقاء
نقصتني نقص المرخّم [2] حتى ... خلتني في فم الزمان نداء
منعتني من التصرّف منع ال ... علل التسع صرفها الأسماء
يا أبا حمير وحرمة إحسا ... نك عندي ما كان حبّي رياء
ما ظننت الزمان يبعدني عن ... ك إلى أن أفارق الأحياء
غير أني فدتك نفسي من السّو ... ء وإن قلّ [3] أن تكون فداء
ضاع سعيي وخبت خابت أعا ... ديك ومن يبتغي لك الأسواء
واحتملت الحرمان [4] والنقص والإب ... عاد والذلّ والعنا والجفاء
وتجملت واصطبرت [5] فما أب ... قى على عودي الزمان لحاء
أعلى هذه المصيبة صبر ... لا ولو كنت صخرة صماء
ولو اني لم أعتمد دون غيري ... لتأسيت أن أموت وفاء
غير أن التصريح ليس بخاف ... عند من كان يفهم الإيماء
غير أني مثن عليك وما لم ... ت على ما لقيت إلا القضاء
وسيأتيك في البعاد وفي القر ... ب مديح يستوقف الشعراء
فبشكر رحلت عنك وألقا ... ك به إن قضى الإله لقاء
ليس يبقى في الدهر غير ثناء ... فاكتسب ما استطعت ذاك الثناء
__________
[1] م: وغيرة.
[2] م: نفضتني نفض المرجم.
[3] م: قلت.
[4] م: الزمان.
[5] م: واضطربت.
[6] الفوات: يجمل.(3/1140)
وقال:
تشكّى المحبّون الصبابة ليتني ... تحملت ما يلقون من بينهم وحدي
فكانت لنفسي لذة الحبّ كلّها ... فلم يدرها قبلي محبّ ولا بعدي
وقال:
هدايا الناس بعضهم لبعض ... تولّد في قلوبهم المودّه
وتزرع في النفوس هوى وحبّا ... لصرف الدهر والحدثان عدّه
وتصطاد القلوب بلا شراك ... وتسعد حظّ صاحبها وجدّه
- 392-
الحسين بن محمد بن أحمد بن محمد بن إسحاق
بن محمد بن مبارك التبرجيدي [1] الملقب بالأصمعي الصغير.
- 393-
الحسين بن محمد بن عبد الوهاب بن أحمد بن
محمد بن الحسين بن عبيد الله بن القاسم بن عبيد الله بن الوزير سليمان بن وهب الحارثي البكري الدباس المعروف بالبارع البغدادي: كان لغويا نحويا مقرئا، قرأ القرآن على أبي علي ابن البناء وغيره، وأقرأ خلقا كثيرا، وسمع من القاضي أبي يعلى الموصلي وغيره، وروى
__________
[392]- وردت في المختصر.
[393]- ترجمة البارع في إنباه الرواة 1: 328 والخريدة (قسم العراق) 3/1: 61- 88 والمنتظم 10: 16 وابن خلكان 1: 435 ومرآة الزمان: 134 ومعرفة القراء الكبار 1: 386 وطبقات ابن الجزري 1: 251 وتلخيص مجمع الآداب 1: 504 وسير الذهبي 19: 533 وعبر الذهبي 4: 56 والبداية والنهاية 12: 201 والوافي 13: 33 والنجوم الزاهرة 5: 236 والشذرات 4: 69 وبغية الوعاة 1: 539 وروضات الجنات 3: 195. وبغية الطلب (زكار) 6: 2759.
[1] غير معجمة في الأصل.(3/1141)
عنه الحافظ أبو القاسم ابن عساكر. وكان حسن المعرفة بصنوف الآداب فاضلا، وله مصنفات حسان في القراءات وغيرها، وله ديوان شعر جيد.
وهو من بيت الوزارة فإن جدّه القاسم بن عبيد الله كان وزير المعتضد والمكتفي بعده، وعبيد الله بن القاسم كان وزير المعتضد أيضا قبل ابنه القاسم. وكان بين البارع وابن الهبارية الأديب الشاعر مداعبات، فإنهما كانا رفيقين منذ نشآ. وأضرّ البارع في آخر حياته.
وسمع منه الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي وأبو عبد الله الحسين بن علي بن مهجل الضرير الباقدرائي، وقرأ عليه بالروايات أبو جعفر عبد الله بن أحمد بن جعفر الواسطي المقرىء الضرير وغيره. وكان مولده سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة ببغداد وتوفي صبيحة يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع وعشرين وخمسمائة.
ومن شعره:
لم لا أهيم إلى الرياض وحسنها ... وأظلّ منها تحت ظلّ ضافي
والزهر حيّاني بثغر باسم ... والماء وافاني بقلب صافي
وقال:
يوم من الزمهرير مقرور ... عليه ثوب الضباب مزرور
كأنما حشو جوّه إبر ... وأرضه فرشها قوارير
وشمسه حرّة مخدّرة ... ليس لها من ضبابه نور
ومن شعره [1] :
يا بأبي الريم الذي زارني ... كالبدر يجلوه القبا الأسود
وافى إليّ السّكر ليلا به ... ولم يكن عندي له موعد
فجاء يهتزّ كريحانة ... يكاد من لينته يعقد
وقال: ضيف قلت أهلا به ... يدخل فالعيش به أرغد
__________
[1] من هنا زيادة من المختصر.(3/1142)
عرّض بالجذر فناولته ... في الوقت ما امتدت إليه اليد
حتى إذا أوفيته نقده ... والنقد سماع له الجلمد
بتنا معا في مرقد واحد ... يضمّنا تحت الدجى مسجد
يؤمّني لا لصلاة فما ... أركع إلا بعد ما يسجد
حتى انجلى الليل بصبح ولم ... أرقد ولا خلّيته يرقد
ومن شعره أيضا:
يا همّ نفسي في قرب وفي بعد ... وضمن قلبي في حلّ وفي ظعن
حرمت منك الرضا إن كان غيّرني ... عما عهدتيه شيء أو يغيرني
لو قيل لي نل من الدنيا مناك لما ... جعلت غيرك لي حظا من الزمن
منحتك القلب لا أبغي به ثمنا ... إلا رضاك ووافقري الى الثمن [1]
وحج [2] البارع ابن الدباس فلمّا رجع من الحج ذهب إليه الشريف أبو يعلى ابن الهبارية، وكان صديقا له مرة بعد مرة فلم يصادفه، فكتب إليه بقصيدة يعاتبه فيها:
يا ابن ودّي وأين منّي ابن ودي ... غيّرت طرقه [3] الرئاسة بعدي
عقدت أنفه عليّ و [حلّت] ... فهو ضدّان بين حلّ وعقد
صدّ عني وليس أوّل خلّ ... راع قلبي منه بهجر وصدّ
شغلته عني الرئاسة فاس ... تعلى فخلّيته وذلك جهدي
كنت برّا كما عهدت وصولا ... لي ترعى عهدي وتحفظ ودي
أفلما حججت لا قبل الله ... تعالى مسعاك أنكرت عهدي
أيّ فرق بيني وبينك هل أن ... ت سوى شاعر وأني مكدّي
وحر امّ الزمان فهي يمين ... برّة أنني سأفتح جندي
__________
[1] إلى هنا تنتهي الزيادة من المختصر.
[2] نقل الشعر الصفدي في الوافي، ولم تورد م من قصيدة ابن الهبارية سوى بيت واحد.
[3] م: طبعه.(3/1143)
وأجازيك بالتبظرم والتي ... هـ وكيل الهجاء مدّا بمدّ
أنا أهدى إلى التبظرم لو شئت ... بأصل زاك وفضل ومجد
لو تبظرمت جاز ذاك ولكن ... حدّ ظرفي ألا أجاوز حدي
أي شيء يعود رسمي يعاني ... في حروب الهجاء ليّي ومدّي [1]
ووحقّ الهوى لئن لم تعدني ... باعتذار يزيل ضغني وحقدي
لأميلن على هواك ومالي ... فيه شيء سوى حروري وبردي [2]
كان عزمي أني أعاتب صفعا ... فاستحال العتاب شتما لبعدي [3]
ومتى ما قدمت وفيتك الصف ... ع فثق بي فإن وعدي كنقدي [4]
فأجابه أبو عبد الله البارع بقصيدة طويلة أيضا، وهي:
وصلت رقعة الشريف أبي يع ... لى فقامت مقام لقياه عندي
فتلقيتها بأهلا وسهلا ... ثم ألصقتها بطرفي وخدي
وفضضت الختام عنها فما ظنّ ... ك بالصاب إذ يشاب بشهد
بين حلو من العتاب ومرّ ... هو أولى به وهزل وجدّ
وتجنّ عليّ في غير ذنب ... بعتاب يكاد يحرق جلدي
يدّعي أنني احتجبت وقد زا ... ر مرارا حاشاه من قبح ردّ
ثم دع ذا ما للرياسة والح ... جّ أبن لي في حلّ أنف وعقد [5]
وبماذا علمت بالله أني ... قد تكبرت [6] أو تغيّر عهدي
من تراني أعامل أم وزير ... لأمير أو عارض للجند [7]
__________
[1] هذا البيت غير صحيح القراءة
[2] الوافي: فيه حظ لولا جنوني وردّي.
[3] ر: لعبدي.
[4] الوافي: نقدي.
[5] م: دعك من ذمك الرياسة والحج وقل لي بغير حل وعقد.
[6] م: تنكرت.
[7] م: أم قائد جيش جند.(3/1144)
أنا إلا ذاك الخليع الذي تع ... رف أرضى ولو بجرّة دردي
وإذا صحّ لي عليق فذاك ال ... يوم عيدي وصاحب الدست عبدي
أتراني لو كنت في النار مع ... هامان أنساك أو جنان الخلد
أو لو اني عصّبت بالتاج أسلا ... ك ولو كنت عانيا في القدّ [1]
أنا أضعاف ما عهدت على الع ... هد وإن كنت لا تجازي بودّي
رب ليل بتناه وجهي إلى وج ... هك ندمي عميرة بالجلد
ونهار سرناه كتفي إلى كت ... فك نحتال في حصول المرد
ثم عدنا بخيبة أنا مثل ال ... كلب أعدو وأنت مثل القرد
وكأني أراك بالأمس كالمج ... نون تطغى على محبة حمد
تتمنى أن لو صفعت بنعلي ... هـ ثمانين ثم فزت بفرد
أتراني لم أقض حقك ... بالإسعاف فيما وقعت فيه بجهدي
أو ما كنت ثانيا لك إذ ... نلحم في السوق حلفة ونسدّي
أفهذا إلى التبظرم منسو ... ب إلى كم تجني وكم تستعدي
ألأني قنعت من سائر ... الناس بفذّ من المكارم فرد
صان وجهي عن اللئام و ... أولاني جميلا منه إلى غير حدّ
فتعففت واقتنعت بتدفيع ... زماني وقلت إني وحدي
لا لأني مع ذا أنفت من الكد ... ية أين الكرام حتى أكدي
كل هذا عذر إليك فإن تق ... بل وإلا فاقعد على رأس قردي
قد تناهيت في المزاح ... إلى الغاية حتى كأنه عين حقد
ووحق العباس جدّك ما أنسب ... شيئا منه إلى غير جدّ
فأقلني بحقّ ما بيننا من ... هـ فهذا نهاية في البرد
__________
[1] م: ولو كنت غائبا عن رشدي.(3/1145)
وقال:
إذا المرء أعطى نفسه كلّ ما اشتهت ... ولم ينهها تاقت إلى كلّ باطل
وساقت إليه الاثم والعار بالذي ... دعته إليه من حلاوة عاجل
وقال أيضا [1] :
أفنيت ماء الوجه من طول ما ... أسأل من لا ماء في وجهه
أنهي إليه شرح حالي الذي ... يا ليتني متّ ولم أنهه
فلم ينلني أبدا رفده ... ولم أكد أسلم من جبهه
والدهر إذ مات نحاريره ... قد مدّ أيديه إلى بلهه
وقال:
تنازعني النفس أعلى مقام ... وليس من العجز لا أنشط
ولكن بقدر علوّ المكان ... يكون هبوط الذي يسقط
- 394-
الحسين بن محمد بن جعفر بن محمد بن الحسين
الرافقي المعروف بالخالع: أحد كبار النحاة، كان إماما في النحو واللغة والأدب، وله شعر، توفي سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة. أخذ عن أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي وغيرهما، ويقال إنه من ذرية معاوية ابن أبي سفيان رضي الله عنه، وله من التصانيف كتاب
__________
[394]- ترجمة الخالع في الأنساب واللباب وتاريخ بغداد 8: 105 وميزان الاعتدال 1: 547 ولسان الميزان 2: 310 والوافي 13: 48 وبغية الوعاة 1: 538 (وفيه ترجمة منقولة عن الصفدي ولا تشابه بينها وبين ما أورده الصفدي نفسه في الوافي) ؛ ووفاته فى تاريخ بغداد سنة 422 وبعد جعفر في نسبه يرد: ابن الحسن بن محمد بن عبد الباقي أبو عبد الله. وفي المختصر أن وفاته 422 عن سنّ عالية وفقر باد وقيل إنه كفن في قبائه، وله تصانيف كثيرة، وكان له ابن أديب يشبه خطه خط ابن أبي نواس وتلك الطبقة.
[1] الأبيات في الوافي 13: 36.(3/1146)
الأودية والجبال والرمال. وكتاب الأمثال. وكتاب تخيلات العرب. وشرح شعر أبي تمام. وكتاب صناعة الشعر، وغير ذلك.
ومن شعره:
رأيت العقل لم يكن انتهابا ... ولم يقسم على قدر السنينا
فلو أنّ السنين تقسّمته ... حوى الآباء أنصبة البنينا
وقال:
خطرت فقلت لها مقالة مغرم ... ماذا عليك من السلام فسلّمي
قالت بمن تعنى فحبّك بيّن ... من سقم جسمك قلت بالمتكلم
فتبسمت فبكيت قالت لا ترع ... فلعلّ مثل هواك بالمتبسم
قلت اتفقنا في الهوى فزيارة ... أو موعدا قبل الزيارة قدمي
فتضاحكت عجبا وقالت يا فتى ... لو لم أدعك تنام بي لم تحلم
وقال:
أما لظلام ليلي من صباح ... أما للنجم فيه من براح
كأن الأفق سدّ فليس يرجى ... به نهج إلى كلّ النواحي
كأن الشمس قد مسخت نجوما ... تسير مسير أذواد [1] طلاح
كأن الصبح مهجور طريد ... كأن الليل مات صريع راح
كأن بنات نعش متن حزنا ... كأنّ النسر مكسور الجناح
وقال:
لا تعبسنّ بوجه عاف سائل ... خير المواهب أن ترى مسؤولا
لا تجبهن بالردّ وجه مؤمّل ... فبقاء عزّك أن ترى مأمولا
يلقى الكريم فيستدلّ ببشره ... ويرى العبوس على اللئيم دليلا
واعلم بأنك لا محالة صائر ... خبرا فكن خبرا يروق جميلا
__________
[1] م: رواد؛ وصوبته بحسب المعنى.(3/1147)
- 395-
الحسين بن محمد بن الحسين بن حيّ التجيبي القرطبي:
كان أديبا فاضلا عالما بالهندسة والهيئة كلفا بصناعة التعديل، أخذ علم العدد والهندسة والهيئة عن أبي عبد الله محمد بن عمر بن محمد المعروف بابن برغوث الرياضي الفلكي المتوفى سنة أربع وأربعين وأربعمائة [1] . وخرج ابن حيّ من الأندلس سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة ولحق بمصر بعد أن نالته بالأندلس، وفي طريقه بالبحر، محن شديدة، ثم رحل من القاهرة إلى اليمن واتصل بأميرها الصليحي [2] القائم بالدعوة للمستنصر بالله معدّ بن الظاهر علي فحظي عنده، وبعثه رسولا إلى أمير المؤمنين القائم بأمر الله الخليفة العباسي في هيئة فخمة، فنال هناك إقبالا ودنيا عريضة، وتوفي باليمن بعد انصرافه من بغداد إليها سنة ست وخمسين وأربعمائة.
وله من التصانيف: زيج مختصر على طريقة السند هند وغير ذلك.
ومن شعره:
تأمل صورة العدد ... فمن ينظر إليه هدي
كما الأعداد راجعة ... وإن كثرت إلى الأحد
كذاك الخلق مرجعهم ... لربّ واحد صمد
وقال:
تحفظ من لسانك فهو عضو ... أشدّ عليك من وقع السنان
فلا والله ما في الخلق خلق ... أحقّ بطول سجن من لسان
وقال:
ورأيت السماء كالبحر إلا ... أن ما وسطه من الدرّ طافي
فيه ما يملأ العيون كبير ... وصغير ما بين ذلك صافي
__________
[395]- انظر نفح الطيب 3: 376 وطبقات صاعد: 73.
[1] انظر ترجمة ابن برغوث في طبقات صاعد: 71.
[2] م: السخي ويشبه أن تكون كذلك نقلا عن طبعة طبقات صاعد، تحقيق شيخو.(3/1148)
وقال [1] :
ودّعته حيث لا تودّعه ... روحي ولكنّها تسير معه
ثم تولّى وفي القلوب له ... ضيق مجال وفي القلوب سعه
وقال:
إذا ما كثرت على صاحب ... وقد كان يدنيك من نفسه
فلا بدّ من ملل واقع ... يغيّر ما كان من أنسه
- 396-
الحسين بن محمد بن الحسين القمي الكاتب أبو عبد الله:
والد الأستاذ أبي الفضل ابن العميد. ذكر أبو إسحاق الصابي أن رسائل العميد لا تقصر في البلاغة عن رسائل ابنه أبي الفضل، قال المؤلف [2] : وعندي أن هذا الحكم من أبي اسحاق فيه حيف شديد على أبي الفضل، والقاصّ لا يحب القاص. وتقلد ديوان الرسائل لنوح بن نصر الساماني، ولقب بالشيخ العميد.
- 397-
الحسين بن محمد أبو علي السهواجي:
أديب شاعر لبيب مشهور، وسهواج من قرى مصر، صنّف كتاب القوافي، وتوفي بمصر سنة أربعمائة رحمه الله تعالى.
__________
[396]- أضيفت هذه الترجمة من تلخيص مجمع الآداب 4/2: 911 وقد نبه على ذلك الأستاذ مصطفى جواد، وفي أخبار العميد وعلاقته بابنه أبي الفضل انظر كتاب أخلاق الوزيرين.
[397]- قد مرّت له ترجمة باسم الحسن (رقم: 346) ومعنى ذلك أن المؤلف قد ترجم له مرتين؛ وقال ياقوت في معجم البلدان (سهواج) 3: 205 سهواج- بفتح أوله وسكون ثانية ثم واو وآخره جيم، قرية من قرى مصر ينسب إليها أبو علي الحسن بن محمد الأديب الشاعر صاحب كتاب القوافي، قد ذكرته في أخبار الأدباء» ، وانظر الوافي 12: 243 فإن اسمه فيه «الحسن» أيضا وكذلك في الفوات 1: 361 اليتيمة 1: 413 (وفي نسبته «الشهواجي» خطأ» .
[1] وردا منسوبين لابن دريد في الترجمة رقم: 23.
[2] في مجمع الآداب: قال ياقوت الحموي في كتابه.(3/1149)
ومن شعره [1] :
وقد كنت أخشى الحبّ لو كان نافعي ... من الحبّ أن أخشاه قبل وقوعه
كما حذر الانسان من نوم عينه ... ونام ولم يشعر أوان هجوعه
وقال:
كرام المساعي في اكتساب محامد ... وأهدى إلى طرق المعالي من القطا
وأبوابهم معمورة بعفاتهم ... وأيديهم لا تستريح من العطا
ومن شعره أيضا:
وهتوف أيكية ذات شجو ... سجعت ثم رجّعت ترجيعا [2]
ذكرت إلفها فحنّت إليه ... فبكينا من الفراق جميعا
ومنه أيضا:
قوم كرام إذا سلّوا سيوفهم ... في الرّوع لم يغمدوها في سوى المهج
إذا دجا الخطب أو ضاقت مذاهبه ... وجدت عندهم ما شئت من فرج
وقال:
شخوص الفتى عن منزل الضيم واجب ... وإن كان فيه أهله والأقارب
وللحرّ أهل إن نأى عنه أهله ... وجانب عزّ إن نأى عنه جانب
ومن يرض دار الضيم دارا لنفسه ... فذلك في دعوى التوكّل كاذب
وقال:
توخّ من الطرق أوساطها ... وعدّ عن الجانب المشتبه
وسمعك صن عن سماع القبيح ... كصون اللسان عن النّطق به
فإنك عند سماع القبيح ... شريك لقائله فانتبه
__________
[1] وردت المقطعات الأربع الأولى في ترجمته رقم: 346.
[2] رواية الوافي والفوات، أو هو بيت آخر:
نطقت بالضحى حمامة أيك ... فأثارت أسى وأجرت دموعا(3/1150)
- 398-
الحسين بن محمد أبو الفرج النحوي
المعروف بالمستور: كان نحويا لغويا أديبا شاعرا حدث عن الزجاجي، توفي سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة. ومن شعره:
أمسى يحنّ لوجهه قمر الدجى ... وغدا يلين للحنه الجلمود
فإذا بدا فكأنما هو يوسف ... وإذا شدا فكأنه داود
وقال:
فكأنما الشمس المنيرة إذا بدت ... والبدر يجنح للغروب وما غرب
متحاربان لذا مجنّ صاغه ... من فضة ولذا مجن من ذهب
وله مزدوجة أنشدها بعض الدمشقيين سنة خمس وثمانين وثلاثمائة:
الحبّ بحر زاخر ... راكبه مخاطر
جنوده المحاجر ... والحدق السواحر
ركبته على غرر ... وخطر على خطر
في واضح يحكي القمر ... وكان حتفي في النظر
حلّفته لما بدا ... كغصن غبّ ندى
ريّان بالحسن ارتدى ... وبالبها تفرّدا [2]
__________
[398]- ترجمة المستور النحوي في مصورة ابن عساكر 5: 126 وتهذيب ابن عساكر 4: 362 وإنباه الرواة 1: 328 وبغية الوعاة 1: 540.
[1] وردت هذه المزدوجة عند ابن عساكر.
[2] ابن عساكر: بالحسن ظل مفردا.(3/1151)
بحقّ بيت المقدس ... والبلد المقدّس
وبالتي لم تدنس ... لا تك منك مؤيسي
بحقّ قدس مريم ... وبطرس المعظّم
بعادل لم يظلم ... رقّ لصبّ مغرم
بالدير بالرهبان ... بحرمة القربان
ببولص ذي الشان ... كن حسن الإحسان
بالطور بالزبور ... بساكن القبور
بشاهد مشهور ... اعطف على المهجور
بحرمة المسيح ... وبالفتى الذبيح
بالفصح بالتسبيح ... أبق عليّ روحي
بليلة الميلاد ... وحرمة الأعياد
ولابسي السواد ... اجعل رضاك زادي
وهي طويلة اكتفينا منها بهذا المقدار.
ومن شعره أيضا:
كانت بلهنية الشبيبة سكرة ... فصحوت واستبدلت سيرة مجمل
وقعدت أنتظر الفناء كراكب ... «عرف المحلّ فبات دون المنزل»(3/1152)
- 399-
الحسين بن محمد بن عبد الرحمن بن فهم
بن محرز أبو عبد الله: مات سنة تسع وثمانين ومائتين. سمع مصعبا الزبيري وخلف بن هشام والبزار ومحمد بن سلام الجمحي وابن النطاح. وروى عنه أبو الفرج الأصفهاني وأبو الفضل محمد بن أبي جعفر المنذري، وكان يقول: أبو مسلم صاحب الدولة جدي، كان جده لأمه. وكان ابن فهم ثقة عدلا في الرواية. وكان يسكن الرصافة. قال أحمد بن كامل القاضي:
سمعت الحسين بن فهم يقول: اشهدوا علي بأنني منذ فعلت خلة من ثلاث خلال فأنا مجنون: إن شهدت عند الحاكم، أو حدثت العوام، أو قبلت الوديعة.
- 400-
الحسين بن محمد بن الحسين بن سهلويه الكاتب
الأصبهاني أبو العلاء أحد أصحاب الصاحب بن عباد، مات [ ... ] . ذكر في كتابه الذي صنفه، وسماه «أجناس الجواهر» عن نفسه قال: حدثني أبو الفرج الببغاء الشاعر قال: أمرني سيف الدولة ممتحنا أن أكتب رقعة إلى رجل تزوجت أمه أحسّن ذلك [1] ، ورسم أن أكتبها بحضرته ارتجالا، فكتبت: من سلك إليك، أعزّك الله، سبيل الانبساط لم يستوعر مسلكا من المخاطبة فيما يحسن الانقباض عن ذكر مثله؛ واتصل بي ما كان من أمر واجبة الحقّ عليك، المنسوبة بعد نسبتك إليها إليك، أقرّ الله صيانتها في اختيارها ولو أن [ ... ] يتناكره وشرع المروّة يحظره، لكنت في مثله بالرضا أولى، وبالاعتذار مما جدده الله من صيانتها أحرى. فلا يسخطنّك، أعزك الله من ذلك، ما رضيه
__________
[399]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر المنتظم 6: 36- 37 (وذكر أنه ولد سنة 211) وقال: كان عسرا في الرواية متمنعا إلا لمن أكثر ملازمته، وكان متقنا في العلوم كثير الحفظ للحديث ولأصناف الأخبار والنسب والشعر.
[400]- وردت هذه الترجمة في المختصر.
[1] كانت كتابة رسالة إلى من تزوجت أمه محكّ براعة عند الكتاب، انظر زهر الآداب: 346، 347.(3/1153)
واجب الشرع وحسّنه أدب الديانة، فمباح الله أحقّ أن يتبع، وإياك أن تكون ممن إذا حرم اختياره تسخط اختيار القدر له، والسلام.
قال ابن سهلويه: فلما عدت من مدينة السلام إلى الري عرضتها على الصاحب، كافي الكفاة، فاستحسن المغزى، وقال: قد أصاب غرة الهدف في المرمى، وقرطس ثغرة الغرض في المعنى، ولكنّ في ألفاظه لينا، وفي عبارته ضعفا، ثم قال لي ولجماعة من كتابه على سبيل الامتحان: اكتبوا رقعة إلى رجل آخر دعته الضرورة إلى تزويج أمه، فلما قرر الأمر، وأمضى العقد ندم وتذمم، وهمّ بأن يهيم على وجهه، ولفّ رأسه حياء من فعله. فتفادت الجماعة من ذلك، وضمنت إنشاءها، وعملت الرسالة على ما اقترحه عليّ، وبكرت إليه والشمس لم تجلّل الأرض بضيائها، ولم تخلع عليها صفرة ردائها، فلما قرأها أعجب بها جدا، وقرظني بما لا أرى [وجها] في إعادة ذكره فأكون كمن يزهى بما يصدر عن صدره، فيقال:
فلان كالمفتون بابنه وبشعره؛ والرسالة: قد عرفت، أعزك الله، ما شكوته مما اتفق عليك من حادثة الزمن الصماء، ونائبة الغير الشنعاء، ووقعت على ما قلت من أن أمّ طبق طرّقت إليك ببكرها، وبنت الدهر برزت إليك من خدرها، فسعّرت جوانبك لهيبا، وملأت جوانحك ندوبا، حين أحوجتك إلى تزويج كبيرتك على طريق الاقتار، وأوجبت عليك ضمّها إلى كفء كريم من بني الأحرار، وإنك رأيت ذلك عارا تجلل لباسه، وشنارا أعيا عليك مراسه، وإنك تحسب ان دون محو هذه الغضاضة شيب المفارق، وأن وصمتها لا ترّحض عنك بأشنان بارق، حتى خفّ عليك أن تضع كفك في يد الدهر، وطاب لك التفصي من العمر، وتصورت أن العيش مع الذام عدل الموت الزؤام، فهممت أن تنفض يدك مما أنت فيه من عيش ندي ناعم الأطراف، وعمر هنيء سائغ القطاف، ووددت بأن تلحق بمنقطع التراب، فلا تأتي أهلك إلا بعد شمط الغراب، راضيا بأن تتقلب في الأبارق على الرمضاء، وتدور في الأجارع مع الشمس كالحرباء، وأن تحصل بحيث لا تحسّ بنبأة من إنسان، ولا تأنس إلا بعزيف الجنان، وتقتصر من طعامك على كشى الضباب، بل على سفّ التراب. وتجعل كفّك قيعة للأبوال، فتتجرعها عوضا عن الماء الزلال، كلّ ذلك لكيلا يقع طرفك على معيّر شامت، ومستهزىء متهافت. وهذا الذي استشعرته مما لا أرتضيه من عقلك(3/1154)
الرصين، ورأيك الوثيق، فإن فيما أتيته ضروبا من المصالح وفنونا من المرافق، فمنها أنك سترت عورة واستفدت طهرا وعصمة، وقضيت لمن ارتكضت في حشاها ذماما وحرمة، ومنها أنك نزّهت نفسك عن التوسم بالعقوق للذهاب مع الأنفة، وصنتها عن أن تتبع فيها المقالة للائمة، لا سيما وفيها علالة من الشباب تنطلق معها ألسنة الاغتياب، فلا تملكنك دواعي الهمّ والحسرة، فقد جدع الحلال أنف الغيرة.
وإن ساءتك هذه الحال من جانب إنها لتسرّ من جوانب، وكذاك رياح الأيام تختلف فتارة تهب شمائل وأخرى جنائب. جعل الله عز وجل نعمه عليك مصفّاة من سوء يكدرها، ومواهبه لديك مبرأة من شائبة ترنّقها، وجعل ما يوليك بعدها جامعا للعزّ الأشد والنظر الأشوس، وحرسه عما يغري القذى بطرفك، ويوكل الأذى بلبّك، بمنّه وسعة طوله.
ولما مات الصاحب قال أبو العلاء ابن سهلويه يرثيه [1] :
يا كافي الملك ما أوفيك حقك [2] من ... وصفي وإن طال تمجيد وتأبين
فتّ الصفات فما يرثيك من أحد ... إلا وتزيينه إياك تهجين
سقى الحيا قبرك الثاوي بمصرعه ... ليث وغيث وصمصام وتنّين
بناظريّ ثرى أرض حللت بها ... فردا وفرشك فيه الترب والطين
ما متّ وحدك لا بل مات من ولدت ... حوّاء طرا بل الدنيا بل الدين
تبكي عليك العطايا والصلات كما ... تبكي عليك الرعايا والسلاطين
هذي نواعي العلا قد قمن [3] نادبة ... أضعاف ما ندبتك الخرّد العين
لم يبق للسؤدد اسم مذ نأيت ولا ... للجود رسم ولا للمجد آيين [4]
__________
[1] أورد الثعالبي هذه الأبيات في اليتيمة (3: 284) ونسبها لأبي القاسم ابن أبي العلاء الأصبهاني، ثم ترجم في الكتاب نفسه (3: 324) لمن اسمه أبو القاسم غانم بن أبي العلاء الأصبهاني، ولا يتضح من هذا صلة هذا الشاعر بابن سهلويه أبي العلاء، وبعض هذه الأبيات ورد في ترجمة الصاحب ابن عباد.
[2] اليتيمة: ما وفيت حظك.
[3] اليتيمة: مذ مت.
[4] لم يرد هذا البيت في اليتيمة.(3/1155)
قام السعاة وكان الخوف أقعدهم ... واستيقظوا بعد ما نام الملاعين
لا يعجب الناس لما متّ وانتشروا [1] ... مضى سليمان فانحلّ الشياطين
- 401-
الحسين بن محمد بن الحسين، أبو عبد الله
الضراب الصوري: نحوي دمشق ومدرسها، مات سنة أربع عشرة وأربعمائة.
- 402-
الحسين بن محمد الراغب أبو القاسم الأصبهاني:
أحد أعلام العلم، ومشاهير الفضل متحقق بغير فن من العلوم وله تصانيف كثيرة: كتاب تفسير القرآن.
كتاب أحداق عيون الشعر. كتاب المحاضرات [2] . كتاب الذريعة إلى معالم الشريعة [3] . كتاب المفردات من تفسير القرآن [4] .
__________
[401]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر مصورة ابن عساكر 5: 119 وتهذيب ابن عساكر 4: 359، (وفيه: ابن صواب) وبغية الوعاة 1: 539 وقد كان ذا عناية بالحديث وكان في وقته نحوي البلد ومدرسه.
[402]- للراغب الأصبهاني ترجمة في سير الذهبي 18: 120 وتاريخ الحكماء للبيهقي: 112 والوافي 13: 45 وروضات الجنات 3: 197 وللدكتور عمر عبد الرحمن الساريسي دراسة عنه، عمان 1986؛ وهذه الترجمة من المختصر.
[1] اليتيمة: الناس منهم إن هم انتشروا.
[2] طبع غير مرة، آخرها في أربعة أجزاء (في مجلدين) بدار الحياة- بيروت.
[3] طبع بمصر سنة 1308 وهناك طبعة أخرى حديثة.
[4] من كتبه المطبوعة: تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين، تحقيق د. عبد المجيد النجار، دار الغرب الإسلامي- بيروت 1988؛ ومجمع البلاغة في جزءين تحقيق د. عمر الساريسي، عمان 1986.(3/1156)
- 403-
الحسين بن محمد بن الحسين بن الحسن الهروي،
أبو عبد الله الحاكم:
مات سنة ست وتسعين وأربعمائة.
- 404-
الحسين بن مطير بن مكمل الأسدي،
مولى بني أسد بن خزيمة: وكان جده مكمّل عبدا فعتق وقيل كوتب. وابن مطير من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية فصيح متقدم في الرجز والقصيد، يعدّ من فحول المحدثين، يشبه كلامه كلام الاعراب وأهل البادية، وفد [1] على الأمير معن بن زائدة الشيباني لما ولي اليمن، فلما دخل عليه أنشده:
أتيتك إذ لم يبق غيرك جابر ... ولا واهب يعطي اللها والرغائبا
فقال له: يا أخا بني أسد ليس هذا بمدح، إنما المدح قول نهار بن توسعة في مسمع بن مالك:
قلّدته عرى الأمور نزار ... قبل أن يهلك السّراة البحور
فغدا إليه بأرجوزة يمدحه بها [2] فاستحسنها وأجزل صلته.
__________
[403]- هذه الترجمة من المختصر.
[404]- ترجمة الحسين بن مطير في طبقات ابن المعتز: 114 والأغاني 15: 331 ومصورة ابن عساكر 5: 129 وتهذيب ابن عساكر 4: 365 ومختصر ابن منظور 7: 176 والسمط، 409 وسير أعلام النبلاء 7: 81 والوافي 13: 63 والفوات 1: 388 والخزانة 2: 485 وقد جمع ديوانه كلّ من الدكتور حسين عطوان، ومحسن غياض (والإحالة على الثاني منهما) وهذه الترجمة بمعجم الشعراء أليق وأوفق.
[1] القصة والشعر في الأغاني 15: 332 وقارن بما في التذكرة الحمدونية 2: 65 وانظر الخزانة 2: 485.
[2] مطلع الأرجوزة:
حدثتها يا حبذا دلالها ... تسأل عن حالي وما سؤالها(3/1157)
وحدث جعفر بن منصور قال: حدثني أبي قال: حجّ المهديّ فنزل زبالة فدخل الحسين بن مطير الأسدي عليه فقال [1] :
أضحت يمينك من جود مصوّرة ... لا بل يمينك منها صورة الجود
من حسن وجهك تضحي الأرض مشرقة ... ومن بنانك يجري الماء في العود
فقال المهدي: كذبت، قال: ولم ذاك يا أمير المؤمنين؟ قال: هل تركت في شعرك موضعا لأحد بعد قولك في معن بن زائدة [2] :
ألمّا على معن وقولا لقبره ... سقتك الغوادي مربعا ثم مربعا
فيا قبر معن أنت أول حفرة ... من الأرض خطّت للمكارم مضجعا
ويا قبر معن كيف واريت جوده ... وقد كان منه البرّ والبحر مترعا
بلى قد وسعت الجود والجود ميّت ... ولو كان حيا ضقت حتى تصدّعا
ولما مضى معن مضى الجود وانقضى ... وأصبح عرنين المكارم أجدعا
وما كان إلا الجود صورة وجهه ... فعاش ربيعا ثم ولّى وودّعا
وكنت لدار الجود يا معن عامرا ... وقد أصبحت قفرا من الجود بلقعا
فتى عيش في معروفه بعد موته ... كما كان بعد السيل مجراه مرتعا
تمنى أناس شأوه من ضلالهم ... فأضحوا على الأذقان صرعى وظلّعا
تعزّ أبا العباس عنه ولا يكن ... جزاؤك من معن بأن تتضعضعا
أبى ذكر معن أن يميت فعاله ... وان كان قد لاقى حماما ومصرعا
فما مات من كنت ابنه لا ولا الذي ... له مثل ما أبقى أبوك وما سعى
فقال: يا أمير المؤمنين إنما معن حسنة من حسناتك وفعلة من فعلاتك، فأمر له بألف دينار ثم قال: سل حاجتك، فقال [3] :
__________
[1] الديوان: 48 (وفيه تخريج كثير) .
[2] انظر ابن خلكان 4: 340 وأمالي المرتضى 1: 228 وأمالي القالي 1: 275 وزهر الآداب: 794 والديوان: 60- 62 وفيه مزيد من التخريج.
[3] الديوان: 72.(3/1158)
بيضاء تسحب من قيام فرعها ... وتغيب فيه وهو جعد أسحم
فكانّها منه نهار مشرق ... وكأنه ليل عليها مظلم
قال: خذ بيدها، لجارية كانت على رأسه، فأولدها مطير بن الحسين بن مطير.
وقال الرياشي حدثني أبو العالية عن أبي عمران المخزومي قال [1] : أتيت مع أبي واليا كان بالمدينة من قريش وعنده ابن مطير، وإذا بمطر جود فقال له الوالي:
صف لي هذا المطر، قال: دعني أشرف عليه، فأشرف عليه ثم نزل فقال [2] :
كثرت لكثرة قطره أطباؤه ... فإذا تحلّب فاضت الأطباء
وله رباب هيدب لذفيفه ... قبل التبعّق ديمة وطفاء [3]
وكأن ريّقه ولمّا يحتفل ... ودق السماء عجاجة كدراء [4]
وكأن بارقه حريق تلتقي ... ريح عليه وعرفج وألاء [5]
مستضحك بلوامع مستعبر ... بمدامع لم تمرها الأقذاء
فله بلا حزن ولا بمسرّة ... ضحك يؤلف بينه وبكاء
حيران متّبع صباه تقوده ... وجنوبه كنف له ووعاء
غدق ينتّج في الأباطح فرّقا ... تلد السيول وما لها أسلاء [6]
غرّ محجلة دوالح ضمّنت ... حمل اللقاح وكلّها عذراء [7]
سحم فهنّ إذا كظمن سواجم ... سود وهنّ إذا ضحكن وضاء
__________
[1] الأغاني 15: 337.
[2] الأبيات في الشعر والشعراء: 34 والأزمنة والأمكنة 2: 98 وانظر الديوان: 27- 30.
[3] الرباب: السحاب، الهيدب: المتدلي، التبعق: اندفاع المطر، الوطفاء: الديمة المسحّ الحثيثة.
[4] الريق: أول دفقة من المطر؛ الودق: المطر.
[5] العرفج والألاء: نوعان من الشجر.
[6] ينتج: يولد؛ فرّقا: سحبا متفرقة؛ الأسلاء: جمع سلا وهو الجلد الذي يغشي الولد حين يخرج من بطن أمه.
[7] الدوالح: جمع دلوح وهي السحابة البطيئة لأنها مثقلة بالماء.(3/1159)
لو كان من لجج السواحل ماؤه ... لم يبق في لجج السواحل ماء
وقال ابن دريد: أنشدنا أبو حاتم السجستاني وعبد الرحمن بن أخي الأصمعي عن عمه للحسين بن مطير الأسدي، وقال عبد الرحمن قال عمي: لو كان شعر العرب هكذا ما أثم منشده [1] :
ألا حبّذا البيت الذي أنت هاجره ... وأنت بتلماح من الطرف ناظره
لأنك من بيت لعينيّ معجب ... وأملح في عيني من البيت عامره
أصدّ حياء ان يلمّ بي الهوى ... وفيك المنى لولا عدو أحاذره
وفيك حبيب النفس لو تستطيعه ... لمات الهوى والشوق حين تجاوره
فإن آته لم أنج إلا بظنّة ... وإن يأته غيري تنط بي جرائره
وكان حبيب النفس للقلب واترا ... وكيف يحبّ القلب من هو واتره
فإن يكن الأعداء أحموا كلامه ... علينا فلن تحمى علينا مناظره
أحبّك يا سلمى على غير ريبة ... ولا بأس في حبّ تعفّ سرائره
ويا عاذلي لولا نفاسة حبّها ... عليك لما باليت أنك خابره
بنفسي من لا بدّ أنّي هاجره ... ومن أنا في الميسور والعسر ذاكره
ومن قد لحاه الناس حتى اتقاهم ... ببغضي إلا ما تجنّ ضمائره
أحبّك حبا لن أعنّف بعده ... محبّا ولكنّي إذا ليم عاذره
لقد مات قبلي أول الحبّ فانقضى ... ولو متّ أضحى الحبّ قد مات آخره
كلامك يا سلمى وإن قلّ نافعي ... فلا تحسبي أني وإن قلّ حاقره
ألا لا أبالي أيّ حيّ تحملوا ... إذا إثمد البرقاء لم يخل حاضره
وحدث المرزباني عن الأخفش قال: أنشدنا أبو العباس ثعلب عن ابن الأعرابي لحسين بن مطير الأسدي [2] :
__________
[1] انظر أمالي المرتضى 1: 431 وتهذيب ابن عساكر وأمالي القالي 1: 78 والزهرة: 119 والديوان:
54- 57.
[2] الديوان: 44- 47 (وفيه تخريج كثير) .(3/1160)
لقد كنت جلدا قبل أن توقد النوى ... على كبدي نارا بطيئا خمودها
ولو تركت نار الهوى لتصرّمت ... ولكنّ شوقا كلّ يوم وقودها
وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ... إذا قدمت أيامها وعهودها
فقد جعلت في حبة القلب والحشا ... عهاد الهوى تولى بشوق يعيدها
بمرتجة الأرداف هيف خصورها ... عذاب ثناياها عجاف قيودها [1]
وصفر تراقيها وحمر أكفها ... وسود نواصيها وبيض خدودها
مخصّرة الأوساط زانت عقودها ... بأحسن مما زيّنته عقودها
يمنّيننا حتى ترفّ قلوبنا ... رفيف الخزامى بات طلّ يجودها
وفيهن مقلاق الوشاح كأنها ... مهاة بتربان [2] طويل عقودها
وكنت أذود العين أن ترد البكا ... فقد وردت ما كنت عنه أذودها
هل الله عاف عن ذنوب تسلّفت ... أم الله إن لم يعف عنها معيدها
وقال [3] :
رأت رجلا أودى بوافر لحمه ... طلاب المعالي واكتساب المكارم
خفيف الحشا ضربا كأنّ ثيابه ... على قاطع من جوهر الهند صارم
فقلت لها لا تعجبنّ فإنني ... أرى سمن الفتيان إحدى المشائم
وأنشد له ابن قتيبة [4] :
يضعّفني حلمي وكثرة جهلهم ... عليّ وأني لا أصول بجاهل
دفعتكم عنّي وما دفع راحة ... بشيء إذا لم تستعن بالأنامل
__________
[1] هكذا في أمالي المرتضى؛ والقيود: أصل الأسنان فلعلّ وصفها بأنها عجاف له مغزاه عندهم، إذا صحت الرواية.
[2] تربان: واد.
[3] البيان والتبيين 2: 171 والديوان: 74.
[4] أمالي الزجاجي: 129 والديوان: 69 (ونسبا في حماسة الخالديين 2: 190 للأحوص بن جعفر وفي البيان 3: 335 لملاعب الأسنة) .(3/1161)
وأنشد له المبرد [1] :
ولي كبد مقروحة من يبيعني ... بها كبدا ليست بذات قروح
أباها عليّ الناس لا يشترونها ... ومن يشتري ذا علّة بصحيح
- 405-
الحسين بن هبة الله ضياء الدين أبو علي
ابن زاهر الموصلي الملقب بدهن الحصى: أحد نحاة العصر، تصدر لإقراء العربية في بلده، وتقدم عند صاحب الموصل، ثم تغير عليه فرحل إلى الملك الناصر صلاح الدين، ثم وفد على ابنه في حلب فقربه ورتّب له معلوما على إقراء العربية. وكان أديبا شاعرا متفننا لقيته بحلب وبها مات سنة ثمان وستمائة.
ومن شعره:
مرضت ولي جيرة كلهم ... عن الرّشد في صحبتي حائد
فأصبحت في النقص مثل الذي ... ولا صلة لي ولا عائد
وقال:
يبتهج النّاس بأعيادهم ... لأجل ذبح أو لإفطار
وإنما عظم سروري بها ... للثم من أهوى بلا عار
أرقبها حولا إلى قابل ... لأنها غاية أوطاري
وقال:
وإني وإن أخّرت عنكم زيارتي ... لعذر فإني في المودة أوّل
فما الودّ تكرير الزيارة دائما ... ولكن على ما في القلوب المعوّل
__________
[405]- قد مرّت ترجمة الحسن بن عمرو الحلبي النحوي المعروف بابن دهن الحصى (أو الخصى) وهو معاصر للمترجم به هنا، وكلا الرحلين له صلة بحلب، وكلاهما نال جامكية من السلطان. وانظر:
بغية الوعاة 1: 541 (وهو ينقل عن البدر السافر للأدفوي) .
[1] أمالي المرتضى 1: 436 والديوان: 43 (وقد ينسبان لغيره) .(3/1162)
- 406-
الحسين بن هداب بن محمد بن ثابت
الديري الأصل، نسبة إلى الدير- قرية من قرى النعمانية- ويعرف بالنوري، والنورية قرية من قرى الحلة السّيفية من سيف الفرات، نزل بها، أبو عبد الله الضرير: توفي يوم الأربعاء ثاني عشر رجب سنة اثنتين وستين وخمسائة. كان نحويا لغويا مقرئا فقيها شاعرا متفننا، قرأ بالروايات على أبي العز محمد بن الحسين بن بندار الواسطي وأبي بكر محمد بن الحسين بن علي المزرفي. سكن بغداد منعكفا على نشر العلم والاقراء، فكان يقرىء النحو واللغة والقراءات، وكان يحفظ عدة دواوين من شعر العرب، وكان كثير الافادة والعبادة عفيفا دينا، وله شعر جيد منه:
فيك يا أغلوطة الفكر ... تاه عقلي وانقضى عمري
سافرت فيك العقول فما ... ربحت إلا عنا السفر
رجعت حسرى وما وقفت ... لا على عين ولا أثر
وقال:
بأبي ريم تبلّج لي ... عن رضى في طيّه غضب
وأراني صبح طلعته ... بظلام الصّدغ ينتقب
وسقى بالكاس مترعة ... خمرة صهباء [1] تلتهب
فهي شمس في يدي قمر ... وكلا عقديهما الشّهب
ولها من ذاتها طرب ... ولهذا يرقص الحبب
وقال:
قال لي من رأى صباح مشيبي ... عن شمال من لمتي ويمين
أيّ شيء هذا فقلت مجيبا ... ليل شكّ محاه صبح يقين
__________
[406]- ترجمته في مختصر ابن الدبيثي 2: 46 والوافي 13: 80 ونكت الهميان: 145 وبغية الوعاة 1: 542.
[1] م: صهباء مثل الشمس (وغيرته بحسب الوزن) .(3/1163)
- 407-
الحسين بن الوليد بن نصر أبو القاسم
المعروف بابن العريف النحوي الأديب الشاعر: له «شرح كتاب الجمل في النحو» للزجاج. وكتاب «الرد علي أبي جعفر النحاس في كتابه الكافي» وغير ذلك. وكان مقدّما في العربية إماما فيها عارفا بصنوف الآداب. أخذ العربية عن ابن القوطية وغيره، ورحل إلى المشرق فأقام بمصر مدة طويلة وسمع فيها من الحافظ ابن رشيق وأبي طاهر الذهلي وغيرهما، ثم عاد إلى الأندلس فاختاره المنصور محمد بن أبي عامر صاحب الأندلس مؤدبا لأولاده، وكان يحضر مجالسه. ومناظراته مع أبي العلاء صاعد اللغوي البغدادي مشهورة، فمن ذلك أنّ المنصور جلس يوما وعنده أعيان مملكته من أهل العلم كالزبيدي صاحب الطبقات، والعاصمي وابن العريف صاحب الترجمة وغيرهم [1] فقال لهم المنصور:
هذا الرجل الوافد علينا يزعم أنه متقدّم في هذه العلوم، وأحبّ أن يمتحن، فوجّه إليه، فلما مثل بين يديه والمجلس قد غصّ بالعلماء والأشراف خجل صاعد واحتشم، فأدناه المنصور ورفع محلّه وأقبل عليه، وسأله عن أبي سعيد السيرافي فزعم أنه لقيه وقرأ عليه كتاب سيبويه، فبادره العاصميّ بالسؤال عن مسألة من الكتاب فلم يحضره جوابها، واعتذر بأنّ النحو ليس جلّ بضاعته، فقال له الزبيدي: فما تحسن أيها الشيخ؟ فقال: حفظ الغريب، قال: فما وزن أولق؟ فضحك صاعد وقال: أمثلي يسأل عن هذا، إنما يسأل عنه صبيان المكتب، قال الزبيدي: قد سألناك ولا نشكّ أنك تجهله، فتغيّر لونه فقال: وزنه أفعل فقال الزبيدي: صاحبكم ممخرق، فقال له صاعد: إخال الشيخ صناعته الأبنية، فقال له: أجل، فقال صاعد: وبضاعتي أنا حفظ الأشعار ورواية الأخبار وفكّ المعمّى وعلم الموسقي، قال: فناظره ابن العريف
__________
[407]- ترجمة ابن العريف النحوي في جذوة المقتبس: 182 (وبغية الملتمس: رقم: 653) .
وابن الفرضي 1: 134 والوافي 13: 81 وبغية الوعاة 1: 542 وإشارة التعيين: 105.
[1] الذخيرة 4/1: 14 والزبيدي هو اللغوي المشهور والعاصمي هو محمد بن عاصم النحوي القرطبي (الجذوة: 74 والصلة: 453) .(3/1164)
(صاحب الترجمة) فظهر عليه صاعد وجعل لا يجري في المجلس كلمة إلا أنشد عليها شعرا شاهدا، وأتى بحكاية تناسبها، فأعجب المنصور فقربه وقدمه.
وكان يوما [1] بمجلس المنصور أيضا فأحضرت إليه وردة في غير أوانها لم يكمل فتح ورقها فقال فيها صاعد مرتجلا:
أتتك أبا عامر وردة ... يذكّرك المسك أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها راسها
فسرّ بذلك المنصور، وكان ابن العريف حاضرا فحسده وجرى إلى مناقضته وقال للمنصور: هذان البيتان لغيره، وقد أنشدنيهما بعض البغداديين لنفسه بمصر، وهما عندي على ظهر كتاب بخطه، فقال له المنصور: أرنيه، فخرج ابن العريف وركب وحرّك دابته حتى أتى مجلس ابن بدر، وكان أحسن أهل زمانه بديهة، فوصف له ما جرى، فقال ابن بدر هذه الأبيات، ودسّ فيها بيتي صاعد:
غدوت إلى قصر عبّاسة ... وقد جدّل النوم حرّاسها
فألفيتها وهي في خدرها ... وقد صدع السكر أنّاسها
فقالت أسرت على هجعة ... فقلت بلى فرمت كاسها
ومدّت يديها إلى وردة ... يحاكي لك الطيب أنفاسها
كعذراء أبصرها مبصر ... فغطّت بأكمامها راسها
وقالت خف الله لا تفضحنّ ... في ابنة عمّك عباسها
فوليت عنها على خجلة ... وما خنت ناسي ولا ناسها
فطار ابن العريف بها وعلّقها على ظهر كتاب بخطّ مصري ومداد أشقر، ودخل بها على المنصور، فلما رآها اشتد غيظه وقال للحاضرين: غدا أمتحنه، فإن فضحه الامتحان أخرجته من البلاد، ولم يبق في موضع لي عليه سلطان، فلما أصبح أرسل
__________
[1] الخبر في الجذوة والذخيرة 4/1: 17 ونفح الطيب 3: 79 وبدائع البدائه: 229 والريحان والريعان 1: 154 والشريشي 1: 118.(3/1165)
إليه فأحضر وحضر جميع الندماء والجلساء، فدخل بهم إلى مجلس قد أعدّ فيه طبقا عظيما فيه سقائف مصنوعة من جميع النواوير، ووضع على السقائف لعب من ياسمين في شكل الجواري، وتحت السقائف بركة ماء قد ألقي فيها اللآلىء مثل الحصباء، وفي البركة حية تسبح فلما دخل صاعد ورأى الطبق قال له المنصور: إن هذا يوم إما أن تسعد فيه معنا وإما أن تشقى، لأنه قد زعم هؤلاء القوم أن كلّ ما تأتي به دعوى، وهذا طبق ما توهمت أنه حضر بين يدي ملك قبلي شكله فصفه بجميع ما فيه، فقال له صاعد على البديهة:
أبا عامر هل غير جدواك واكف ... وهل غير من عاداك في الأرض خائف
يسوق إليك الدهر كلّ غريبة ... وأعجب ما يلقاه عندك واصف
وشائع نور صاغها هامر الحيا ... على حافتيها عبقر ورفارف
ولما تناهى الحسن فيها تقابلت ... عليها بأنواع الملاهي وصائف
كمثل الظباء المستكنّة كنّسا ... تظللها بالياسمين السقائف
وأعجب منها أنّهنّ نواظر ... إلى بركة ضمّت إليها الطرائف
حصاها اللآلي سابح في عبابها ... من الرّقش مسموم الثعابين زاحف
ترى ما تراه العين في جنباتها ... من الوحش حتى بينهن السلاحف
فاستغربوا له تلك البديهة في مثل ذلك الموضع، وكتبها المنصور بخطه، وكان إلى ناحيته من تلك السقائف سفينة فيها جارية من النوار تجذّف بمجاذيف من ذهب لم يرها صاعد، فقال له المنصور: أحسنت إلا انك أغفلت ذكر السفينة والجارية، فقال للوقت:
وأعجب منها غادة في سفينة ... مكلّلة تصبو إليها المهاتف
إذا راعها موج من الماء تتقي ... بسكّانها ما هيّجته العواصف
متى كانت الحسناء ربّان مركب ... تصرّف في يمنى يديه المجاذف
ولم تر عيني في البلاد حديقة ... تنقّلها في الراحتين الوصائف
ولا غرو أن انشت معاليك روضة ... وشتها أزاهير الربى والزخارف(3/1166)
فأنت امرؤ لو رمت نقل متالع ... ورضوى ذرتها من سطاك نواسف
إذا قلت قولا أو بدهت بديهة ... فكلني له إني لمجدك واصف
فأمر له المنصور بألف دينار ومائة ثوب، ورتب له في كل شهر ثلاثين دينارا وألحقه بندمائه.
توفي أبو القاسم ابن العريف بطليطلة في رجب سنة تسعين وثلاثمائة.
- 408-
حرملة بن المنذر بن معديكرب بن حنظلة
بن النعمان بن حية بن سعنة بن الحارث بن ربيعة، ويتصل نسبه بيعرب بن قحطان، أبو زبيد الطائي: شاعر معمّر عاش خمسين ومائة سنة، وعداده في المخضرمين، أدرك الإسلام ولم يسلم ومات نصرانيا. وكان أبو زبيد طوالا من الرجال ينتهي إلى ثلاثة عشر شبرا، وكان حسن الصورة، فكان إذا دخل مكة دخلها متنكرا لجماله. وكان أبو زبيد يزور الملوك، وملوك العجم خاصة، وكان عالما بسيرهم، ووفد على الحارث بن أبي شمر الغساني والنعمان بن المنذر.
حدث عمارة بن قابوس قال [1] : لقيت أبا زبيد الطائي فقلت له: يا أبا زبيد هل أتيت النعمان بن المنذر؟ قال: أي والله لقد أتيته وجالسته، قلت: فصفه لي، فقال:
كان أحمر أزرق أبرش قصيرا، فقلت له: أيسرّك أنه سمع مقالتك هذه وأنّ لك حمر النّعم؟ قال: لا والله ولا سودها، فقد رأيت ملوك حمير في ملكها، ورأيت ملوك غسّان في ملكها، فما رأيت أشدّ عزا منه: كان ظهر الكوفة ينبت الشقائق فحمى ذلك المكان فنسب إليه فقيل شقائق النعمان؛ فجلس ذات يوم هناك وجلسنا بين يديه كأن
__________
[408]- ترجمة أبي زبيد الطائي في طبقات ابن سلام 2: 593 والشعر والشعراء: 219 (المنذر بن حرملة) والأغاني 12: 118 ومصورة ابن عساكر 4: 321 وتهذيب ابن عساكر 4: 111 وبغية الطلب (زكار) 5: 2188 والوافي 11: 335 والسمط: 118 والخزانة 2: 155 والإصابة 2: 60 وهذه الترجمة أقرب إلى معجم الشعراء.
[1] الأغاني 12: 125.(3/1167)
على رؤوسنا الطير [1] ، فقام رجل من الناس فقال له: أبيت اللعن أعطني فإني محتاج، فتأمّله طويلا ثم أمر به فأدني حتى قعد بين يديه، ثم دعا بكنانة فاستخرج منها مشاقص فجعل يجأ بها وجهه حتى سمعنا قرع العظام، وخضب بالدم، ثم أمر به فنحّي. ومكثنا مليا فنهض رجل آخر فقال له: أبيت اللعن أعطني، فتأمله ساعة ثم قال: أعطوه ألف درهم، فأخذها وانصرف، ثم التفت النعمان عن يمينه ويساره وخلفه فقال: ما قولكم في رجل أزرق أحمر يذبح على هذه الأكمة، أترون دمه سائلا حتى يجري في هذا الوادي؟ فقلنا له: أنت أبيت اللعن أعلى برأيك، فدعا برجل على هذه الصفة فأمر به فذبح، ثم قال: ألا تسألوني عما صنعت؟ فقلنا: ومن يسألك عن أمرك وما تصنع؟ فقال: أما الأول فإني خرجت مع أبي نتصيّد فمررنا به وهو بفناء بابه وبين يديه عسّ من لبن، فتناولته لأشرب منه فثار إليّ فهراق الإناء، فملأ وجهي وصدري، فأعطيت الله عهدا لئن أمكنني منه لأخضبنّ لحيته وصدره من دم وجهه، وأما الآخر فكانت له عندي يد فكافأته بها، وأما الذي ذبحته فإن عينا لي بالشام كتب إليّ أنّ جبلة بن الأيهم بعث إليك برجل صفته كذا وكذا ليقتلك [2] فطلبته فلم أقدر عليه حتى كان اليوم، فرأيته بين القوم فأخذته.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقرّب أبا زبيد ويدني مجلسه لمعرفته بسير من أدركهم من ملوك العرب والعجم، فدخل عليه يوما وعنده المهاجرون والأنصار، فتذاكروا مآثر العرب وأخبارها وأشعارها، فالتفت إليه عثمان وقال له: يا أخا تبع المسيح أسمعنا بعض قولك، فقد أنبئت أنك تجيد الشعر، فأنشده قصيدته التي أولها [3] :
من مبلغ قومنا النائين إذ شحطوا ... أنّ الفؤاد إليهم شيّق ولع
ووصف فيها الأسد، فقال له عثمان: تالله تفتأ تذكر الأسد ما حييت، والله إني
__________
[1] زاد في الأغاني: وكأنه باز.
[2] الأغاني: ليغتالك.
[3] طبقات ابن سلام: 593- 599 والأغاني 118- 122 وشعر أبي زبيد: 108.(3/1168)
لأحسبك جبانا هدانا [1] قال: كلا يا أمير المؤمنين، ولكني رأيت منه منظرا وشهدت مشهدا لا يبرح ذكره يتجدّد في قلبي، ومعذور أنا بذلك يا أمير المؤمنين غير ملوم، فقال له عثمان: وأين كان ذلك وأنى؟ فقال: خرجت في صيّابة [2] من أشراف العرب وفتيانهم ذوي هيئة وشارة حسنة، ترتمي بنا المهارى بأكسائها [3] القيروانات على قنو البغال تسوقها العبدان [4] ، ونحن نريد الحارث بن أبي شمر الغساني ملك الشام، فاخروّط [5] بنا السير في حمارّة القيظ، حتى إذا عصبت [6] الأفواه وذبلت الشفاه وشالت المياه [7] وأذكت الجوزاء المعزاء [8] ، وذاب الصّيهد [9] وصرّ الجندب، وضاف العصفور الضبّ في وكره، وجاوره في جحره، قال قائل: أيها الركب غوروا [10] بنا في ضوج [11] هذا الوادي، وإذا واد قد بدا لنا [12] كثير الدغل دائم الغلل [13] ، شجراؤه مغنّة [14] وأطياره مرنّة، فحططنا رحالنا بأصول دوحات كنهبلات [15] وأصبنا من فضلات المزاود [16] وأتبعناها الماء البارد. فلما انتصف حرّ يومنا ذلك وبينما نحن كذلك [17] ، إذ صرّ أقصى الخيل أذنيه [18] وفحص الأرض بيديه،
__________
[1] الهدان: الأحمق.
[2] الصيابة: الخيار والسادة.
[3] الاكساء: جمع كسأ، وهو مؤخر كل شيء.
[4] القيروانات.... العبدان: سقط من الطبقات والأغاني.
[5] اخروط: امتد.
[6] م: نضبت؛ وعصبت: يبس ريقها وجف.
[7] شالت: نشفت.
[8] المعزاء: الأرض الغليظة.
[9] الصيهد: شدة الحر.
[10] م: تجوزوا، وغوروا: انزلوا للقيلولة.
[11] الضوج، منعرج الوادي.
[12] الطبقات: قديديمتنا (يعني قدامنا) .
[13] الدغل: الشجر الملتف؛ الغلل: الماء الذي يتغلل الأشجار.
[14] م: صحراؤه؛ والشجراء: الأشجار المتكاثفة، مغنّة: فيها غنّة لطيران الذباب وتصويته.
[15] الكنهبلة: الشجرة العظيمة من العضاه.
[16] المزاود: أوعية الزاد.
[17] الطبقات: فإنا لنصف حرّ يومنا ذلك ومما طلته.
[18] صرّ أذنيه: حددهما.(3/1169)
فو الله ما لبث أن جال ثم حمحم فبال، ثم فعل فعله الذي يليه واحدا فواحدا، فتضعضعت الخيل وتكعكعت الإبل [1] وتقهقرت البغال، فمن نافر بشكاله وشارد [2] بعقاله، فعلمنا أنه السبع، ففزع كلّ منّا إلى سيفه فسلّه من قرابه [3] ثم وقفنا رزدقا [4] ، فأقبل أبو الحارث من أجمته يتظالع في مشيته [5] كأنه مجنوب أو في هجار معصوب [6] لطرفه وميض، ولصدره نحيط [7] ، ولبلعومه غطيط، ولأرساغه نقيض [8] كأنما يخبط هشيما أو يطأ صريما [9] له هامة كالمجنّ وخدّ كالمسن، وعينان سجراوان كأنهما سراجان يقدان، وقصرة ربلة ولهزمة رهلة، وكتد مغبط، وزور مفرط، وساعد مجدول، وعضد مفتول [10] وكفّ شثنة البراثن إلى مخالب كالمحاجن، فضرب بيديه فأرهج [11] ، وكشّر فأفرج، عن أنياب كالمعاول مصقولة غير مفلولة، وفم أشدق كالغار الأخرق [12] ثم تمطى [فأشرع] بيديه وحفز بوركيه حتى صار ظلّه مثليه، ثم أقعى فاقشعرّ، ثم أقبل [13] فاكفهر، ثم تجهم فازبأر [14] ، فلا وذو بيته في السماء ما اتقيناه إلا بأخ لنا من فزارة كان ضخم الجزارة [15] ، فوقصه
__________
[1] تكعكعت: أحجمت.
[2] الطبقات: وناهض.
[3] الطبقات: فاستله من جربانه.
[4] الرزدق: الصف المستوي.
[5] الطبقات: في بغيه، يعني يختال.
[6] م: كأنه مجنون أو في وجار مسجون؛ والمجنوب: المصاب بذات الجنب، والهجار: الحبل يشدّ به. (وسقطت معصوب من الطبقات) .
[7] م: خطيط؛ والنحيط: الزفير.
[8] م: قضيض؛ والنقيض: صوت المفاصل.
[9] م: رميما؛ والصريم: الرمل.
[10] العين السجراء: التي تخالط بياضها أو سوادها حمرة خفيفة، القصرة: العنق؛ ربلة: كثيرة اللحم، واللهزمة: مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن، رهلة: مسترخية، والكتد: مجتمع الكتفين، مغبط:
مرتفع ممتلىء؛ والزور (وفي م: زند) ملتقى أطراف عظام الصدر، مفرط: ممتلىء اللحم.
[11] أرهج: أثار الغبار.
[12] الأخرق: الواسع الخرق.
[13] الأغاني: مثل؛ الطبقات: تميل.
[14] ازبأر: انتفش شعره.
[15] الجزارة: اليدان والرجلان والعنق.(3/1170)
ثم نفضه نفضة فقضقض متنيه وجعل يلغ في دمه [1] ، فذمرت أصحابي فبعد لأي ما استقدموا، فهجهجنا به، فكرّ مقشعرا بزبرته كأن به شيهما حوليا فاختلج رجلا أعجز ذا حوايا فنفضه نفضة تزايلت بها مفاصله [2] ، ثم همهم ففرفر وزفر فبربر، ثم زأر فجرجر، ثم لحظ فأشزر [3] ، فو الله لخلت البرق يتطاير من تحت جفونه، من عن شماله ويمينه، فأرعشت الأيدي واصطكت الأرجل، وأطّت الأضلاع وارتجت الأسماع، وشخصت العيون وتحققت الظنون وانخزلت المتون [4] . فقال له عثمان اسكت قطع الله لسانك فقد أرعبت قلوب المسلمين.
وقال يصف الأسد [5] :
فباتوا يدلجون وباب يسري ... بصير بالدجى هاد هموس [6]
إلى أن عرّسوا وأغبّ عنهم ... قريبا ما يحسّ له حسيس [7]
خلا أنّ العتاق من المطايا ... حسسن به فهنّ لذا شموس [8]
فلما أن رآهم قد تدانوا ... أتاهم وسط رحلهم يميس
فثار الزاجرون فزاد قربا ... إليهم ثم واجهه ضبيس [9]
بنصل السيف ليس له مجنّ ... فصدّ ولم يصادفه جبيس [10]
فيضرب بالشمال إلى حشاه ... وقد نادى فأخلفه الأنيس
__________
[1] وقصه: دق عنقه؛ قضقض: كسر؛ ولغ: أخذ الدم بلسانه.
[2] ذمر: شجع وحض؛ بعد لأي: بعد جهد. استقدموا: أقدموا، الهجهجة: زجر السبع؛ الزبرة:
شعر مجتمع على كاهل الأسد، اقشعرت: انتفشت؛ الشيهم (في م: شحما) القنقذ؛ الحولي:
أتى عليه حول كامل؛ اختلج: انتزع؛ أعجز: ضخم البطن، الحوايا: الأمعاء.
[3] الطبقات، ثم نهم فقرمز؛ والنهيم أشد من الزئير؛ فرفر: صاح؛ جرجر: ردد الصوت في حنجرته؛
[4] م: فظنت المنون.
[5] شعر أبي زبيد: 94- 99 (وفيه تخريج كثير) .
[6] هموس: يمشي مشيا خفيا.
[7] عرسوا: نزلوا آخر الليل للراحة؛ أغب عنهم: تأخر؛ الحسيس: الحسّ أو الصوت الخفي.
[8] الطبقات: فهن إليه شوس؛ أي أمالت أعناقها وهي تنظر إليه؛ شموس: قد حرنت.
[9] ضبيس: شرس صعب المراس.
[10] الجبيس: الجبان الضعيف (وفي م: جسيس) .(3/1171)
بسمر كالمحاجن في قنوب ... يقيها قضّة الأرض الدخيس [1]
فخرّ السيف واختلفت يداه ... وكان بنفسه وقيت نفوس [2]
وطار القوم شتّى والمطايا ... وغودر في مكرهم الرئيس [3]
وجال كأنه فرس صنيع ... يجرّ جلاله ذبل شموس [4]
كأن بنحره وبساعديه ... عبيرا ظلّ تعبؤه عروس [5]
فذلك إن تلاقوه تفادوا ... ويحدث عنكم أمر شكيس [6]
وقال ابن الأعرابي [7] : كان لأبي زبيد كلب يقال له أكدر [8] ، وكان له سلاح يلبسه إياه، فكان لا يقوم له الأسد، فخرج ليلة ولم يلبسه سلاحه، فلقيه الأسد فقتله، فقال أبو زبيد:
أحال أكدر مختالا [9] كعادته ... حتى إذا كان بين البئر والعطن [10]
لاقى لدى ثلل الأطواء داهية ... سرت وأكدر تحت الليل في قرن
__________
[1] م: فشمر كالمحالق في عيون تقيه. وهو يصف مخالبه المعقفة، يدخلها في القنوب وهو الغطاء الذي يدخل فيه الأسد مخالبه. ورواية المحالق قد تصحّ؛ ومعنى المحالق: المواسي التي تحلق الشعر.
القضة: الحصى الصغار؛ الدخيس: اللحم المكتنز.
[2] اختلفت يدا المتصدي للأسد ووجد نفسه فريسة، وبنفسه وقى نفوس الآخرين.
[3] م: الرسيس.
[4] الصنيع: المضمّر؛ ذبل: ضامر.
[5] م: تعنوه عروس، وعبأ الطيب خلطه وصنعه.
[6] هكذا هو، وقال الأستاذ محمود شاكر، وهو غير صحيح وليس له معنى يعتد به، وقرأ البيت:
فذلك إن تفادوه تفادوا ... ويصرف عنكم أمر شكيس
تتفادوه: تتحاموه؛ وتضادوا: فدى بعضكم بعضا، أي قال الواحد للآخر: جعلت فداك ويصرف:
يرد؛ شكيس: صعب عسير.
[7] الأغاني 12: 124.
[8] م: الأكدر.
[9] م: مشيا لا. وأحال: أقبل.
[10] العطن: مناخ الابل عند الماء.(3/1172)
حفّت به شيمة ورهاء تطرده ... حتى تناهى إلى الحولات [1] في سنن
إلى مقابل فتل الساعدين له ... فوق السّراة كذفرى الفالج القمن [2]
رئبال غاب فلا قحم ولا ضرع ... كالبغل يحتطم العجلين [3] في شطن
وهي قصيدة طويلة، فلامه قومه على كثرة وصفه للأسد وقالوا: قد خفنا أن تسبنا العرب بوصفك له، فقال: لو رأيتم منه ما رأيت أو لقيتم منه ما لقي أكدر لما لمتموني. ثم أمسك عن وصفه فلم يصفه حتى مات.
وقال [4] ابن الأعرابي: كان أبو زبيد يقيم أكثر أيامه في أخواله بني تغلب، وكان له غلام يرعى إبله، فغزت بهراء، وهم من قضاعة، بني تغلب فمروا بغلامه فدفع إليهم إبل أبي زبيد وانطلق معهم يدلّهم على عورة القوم ويقاتل معهم، فهزمت تغلب بهراء وقتل الغلام، فقال أبو زبيد في ذلك:
هل كنت في منظر ومستمع ... عن نصر بهراء غير ذي فرس [5]
تسعى إلى فتية الأراقم واس ... تعجلت قيل الجمان والقبس [6]
في عارض من جبال بهرا بها الأ ... لّ مرين الحروب عن درس [7]
فنهزة من لقوا حسبتهم ... أحلى وأشهى من بارد الدّبس [8]
لا ترة عندهم فتطلبها ... ولا هم نهزة لمختلس
__________
[1] م: الجولان؛ والحولات: الدواهي.
[2] السراة: الظهر؛ الفالج: البعير ذو السنامين، القمن: السريع.
[3] الأغاني: العلجين.
[4] طبقات ابن سلام: 606 والأغاني 12: 127 وشعر أبي زبيد: 102- 107.
[5] في منظر ومستمع: أي في معزل عن الأمر، وهل بمعنى قد.
[6] م: قبل الجمان؛ القيل: شرب نصف النهار؛ والجمان والقبس: ناقتان لأبي زبيد.
[7] م: جبال بهرائها الأولى مرين الحرور؛ العارض: السحاب وهو هنا كناية عن الجيش الكثيف؛ الأل:
جمع ألة وهي الحربة؛ مرين: حلبن؛ والحرب تشبه بالنوق، والدرس: جمع درسة وهي الدربة والتجربة.
[8] أي هل حسبت من لقوا نهزة (أي غنيمة باردة) والدبس: عسل التمر.(3/1173)
جود كرام إذا هم ندبوا ... غير لئام ضجر ولا كسس [1]
صمت عظام الحلوم إن سكتوا ... من غير عيّ بهم ولا خرس
تقوت [2] أفراسهم نساؤهم ... يزجون أجمالهم مع الغلس
صادفت لما خرجت منطلقا ... جهم المحيا كباسل شرس
تخال في كفّه مثقّفة ... تلمع فيها كشعلة القبس
بكفّ حرّان ثائر بدم ... طلّاب وتر في الموت منغمس
إما تقاذف [3] بك الرماح فلا ... أبكيك إلا للدلو والمرس [4]
حمدت أمري ولمت أمرك إذ ... أمسك جلز السنان بالنفس [5]
وقد تصلّيت حرّ نارهم ... كما تصلّى المقرور من قرس [6]
تذبّ عنه كفّ بها رمق ... طيرا عكوفا كزوّر العرس [7]
عما قليل علون جثّته ... فهنّ من والغ ومنتهس
فلما بلغ شعره بني تغلب بعثوا إليه بدية غلامه وما نهب من إبله، فقال في ذلك [8] :
ألا أبلغ بني عمرو رسولا ... فإني في مودتكم نفيس
فما أنا بالضعيف فتظلموني ... ولا جافي اللقاء ولا خسيس
__________
[1] جود: جمع جواد؛ وكسس: قال الأستاذ محمود شاكر: لا معنى له؛ وغيره إلى كبس وهو جمع كباس وهو الرجل الذي إذا سألته حاجة كبس برأسه في جيب قميصه.
[2] في م: تقود، والتصويب عن الطبقات.
[3] الأغاني: تقارن؛ الطبقات: تقارش، يريد تداخلت واصطك بعضها ببعض.
[4] يقول لا أبكيك إلا لأنك كنت خادما ماهرا في استعمال الدلو والمرس أي الاستقاء.
[5] جلز السنان: المستدير كالحلقة في أسفل سنان الرمح.
[6] المقرور: الذي يحس ببرد شديد؛ القرس: أشد البرد.
[7] أي أن كفه وفيها بقية من حياة تدفع عنه الطيور العاكفة على جسده، كأنها لا حتشادها نساء يحتشدن في عرس.
[8] الطبقات: 612 وشعر أبي زبيد: 100 والأغاني 12: 129.(3/1174)
أفي حقّ مواساتي أخاكم ... بمالي ثم يظلمني السّريس [1]
وحدث ابن الأعرابي قال: كان أبو زبيد الطائي نديما للوليد بن عقبة والي الكوفة من قبل عثمان، فلما شهدوا عليه بشرب الخمر وعزل عن عمله وخرج من الكوفة قال أبو زبيد [2] :
من يرى العير لابن أروى على ظهر ... المرورى حداتهنّ عجال [3]
مصعدات والبيت بيت أبي وه ... ب خلاء تحنّ فيه الشّمال
يعرف الجاهل المضلّل أن ال ... دهر فيه النكراء والزلزال
ليت شعري كذاكم العهد أم كا ... نوا أناسا ممن يزول فزالوا
بعد ما تعلمين يا أمّ زيد ... كان فيهم عزّ لنا وجمال
ووجوه بودّنا مشرقات ... ونوال إذا أريد النوال
أصبح البيت قد تبدّل بالحيّ ... وجوها كأنها الأقتال [4]
كلّ شيء يحتال فيه الرجال ... غير أن ليس للمنايا احتيال
ولعمر الإله لو كان للسي ... ف مصال أو للسان مقال
ما تناسيتك الصفاء ولا الو ... دّ ولا حال دونك الأشغال
ولحرّمت لحمك المتعضّى [5] ... ضلة ضلّ حلمهم ما اغتالوا
قولهم شربك الحرام وقد كا ... ن شراب سوى الحرام حلال
وأبى الظاهر العداوة إلا ... شنآنا وقول ما لا يقال
من رجال تقارضوا منكرات ... لينالوا الذي أرادوا فنالوا
__________
[1] السريس: الضعيف الذي لا ولد له.
[2] انظر تهذيب ابن عساكر 4: 113 ونسب قريش: 139 والأغاني 5: 122- 123 وشعر أبي زبيد: 127 (وفيه تخريج كثير) .
[3] ابن أروى: الوليد، وأروى أمه وأم عثمان؛ المرورى: الصحارى.
[4] الأقتال: الأعداء.
[5] م: المتقصى: والمتعضى: المفرّق.(3/1175)
غير ما طالبين ذحلا ولكن ... مال دهر على أناس فمالوا
من يخنك الصفاء أو يتبدل ... أو يزل مثل ما تزول الظلال
فاعلمن أنني أخوك أخو الو ... دّ حياتي حتى تزول الجبال
ليس بخل عليك عندي بمال ... أبدا ما أقلّ نعلا قبال [1]
ولك النصر باللسان وبالك ... فّ إذا كان لليدين مصال
ولأبي زبيد في مدح الوليد بن عقبة شعر كثير تركناه خوف الإطالة. ومن جيد شعره [2] :
إنّ نيل الحياة [3] غير سعود ... وضلال تأميل نيل الخلود
علّل المرء بالأماني [4] ويضحي ... غرضا للمنون نصب العود
كلّ يوم ترميه منها برشق ... فمصيب أو صاف غير بعيد [5]
كلّ ميت قد اعترفت [6] فلا أو ... جع [7] من والد ومن مولود
غير أن اللجلاج [8] هدّ جناحي ... يوم فارقته بأعلى الصعيد
وكان أبو زبيد يحمل في كل أحد إلى البيع مع النصارى، فبينا هو يوم أحد يشرب والنصارى حوله رفع بصره إلى السماء، فنظر نظرا طويلا ثم رمى الكأس من يده وقال [9] :
إذا جعل المرء الذي كان حازما ... يحلّ به حلّ الحوار ويحمل
__________
[1] أقل: حمل؛ القبال: زمام النعل.
[2] انظر شعر أبي زبيد: 115 (وفيه تخريج) .
[3] الديوان: طول الحياة.
[4] الديوان: بالرجاء.
[5] صاف السهم: حاد عن الهدف.
[6] الديوان: اغتفرت.
[7] م: واجع.
[8] م: الحلاج: واللجلاج ابن أخت أبي زبيد.
[9] تهذيب ابن عساكر 4: 113.(3/1176)
فليس له في العيش خير يريده ... وتكفينه ميتا أعفّ وأجمل
أتاني رسول الموت يا مرحبا به ... واني لآتيه أما سوف أفعل
ثم مات فجأة ودفن هناك.
- 409-
حسنون بن جعفر بن حسنون بن عبد الرحمن
بن مروان السهمي الشاعر:
من أهل مصر.
- 410-
حصن بن ربيعة بن صعير بن كلاب بن عامر
بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، المعروف بلسان الحمّرة. وابنه أبو كلاب عبد الله، كانا من أعلم الناس بعلم النسب، وأخبار الأوائل. قال لرؤبة بن العجّاج:
للعلم آفة وهجنة وإضاعة. فأما آفته فنسيانه، وأما هجنته فالكذب فيه، وأما إضاعته فوضعه عند من لا يستأهله.
- 411-
حفص الأموي مولاهم:
شاعر من شعراء الدولة الأموية عاش حتى أدرك دولة
__________
[409]- من المختصر.
[410]- من المختصر. وقد ذكر ابن النديم (ص: 102) أن لسان الحمرة اسمه ورقاء بن الأشعر بن كلاب، وكان أشد الناس تيها وكبرا. أما الذي روى عنه العجاج- والد رؤبة- إن للعلم آفة وهجنة ونكدا فهو النسابة البكري وكان نصرانيا (انظر ابن النديم) وذكر ابن قتيبة في عيون الأخبار (2: 118) أن النسابة البكري هو الذي قال: إن للعلم آفة وهجنة ونكدا، مخاطبا رؤبة بن العجاج حين زاره. ويبدو من نسب المترجم به هنا أنه بكري. وفي جمهرة ابن حزم (315) أن لسان الحمرة هو حصن بن ربيعة- ونسبه كما ورد هنا- قال: والنسابة هو عبد الله بن لسان الحمرة.
[411]- ترجمة حفص الأموي في مصورة ابن عساكر 5: 194 وتهذيب ابن عساكر 4: 391 ومختصر ابن منظور 7: 212 (وهو يلحق بمعجم الشعراء) .(3/1177)
بني العباس ولحق بعبد الله بن علي فاستأمنه، فهو من مخضرمي الدولتين، وكان يختلف إلى كثيّر بن عبد الرحمن المعروف بكثير عزة الشاعر يروي عنه شعره، وكان هجّاء لبني هاشم فطلبه عبد الله بن علي فلم يقدر عليه، ثم جاءه حفص مستأمنا فقال: أنا عائد بالأمير، فقال له: ومن أنت؟ قال: حفص الأموي، فقال: أنت الهجّاء لبني هاشم؟ فقال: أنا الذي أقول أعز الله الأمير:
وكانت أمية في ملكها ... تجور وتكثر عدوانها
فلما رأى الله أن قد طغت ... ولم يحمل الناس طغيانها
رماها بسفاح آل الرسول ... فجذّ بكفّيه أعيانها
ولو آمنت قبل وقع العذاب ... فقد يقبل الله إيمانها
فلما أتم الإنشاد قال له عبد الله بن علي: اجلس، فجلس فتغدّى بين يديه، ثم دعا عبد الله خادما له فساره بشيء، ففزع حفص وقال: أيها الأمير قد تحرمت بك وبطعامك وفي أقلّ من هذا كانت العرب تهب الدماء، فقال له عبد الله: ليس شيء مما ظننت، فجاء الخادم بخمسمائة دينار فقال: خذها ولا تقطعنا وأصلح ما شعّثت منا.
وروى ابن السائب الكلبي أن هشام بن عبد الملك قال يوما لقوّامه على خيله كم أكثر ما ضمّت حلبة من الخيل في الجاهلية والاسلام؟ قالوا: ألف فرس وقيل ألفان، فأمر أن يؤذّن بالناس بحلبة تضمّ أربعة آلاف فرس، فقيل له: يا أمير المؤمنين يحطم بعضها بعضا فلا يتسع لها طريق، فقال: نطلقها ونتوكل على الله والله الصانع، فجعل الغاية خمسين ومائتي غلوة، والقصب مائة، والمقوّس ستة أسهم، وقاد إليه الناس من كلّ أوب، ثم برز هشام إلى دهناء الرصافة قبيل الحلبة بأيام، فأصلح طريقا واسعا لا يضيق بها، فأرسلت يوم الحلبة بين يديه وهو ينظر إليها تدور حتى ترجع، وجعل الناس يتراءونها حتى أقبل الزابد [1] كأنه ريح لا يتعلّق به شيء حتى دخل سابقا وأخذ القصبة، ثم جاءت الخيل بعد ذلك أفذاذا وأفواجا، ووثب الرجّاز يرتجزون
__________
[1] في ابن عساكر يرد أحيانا الزايد وأحيانا الذائد.(3/1178)
منهم المادح للزابد، ومنهم المادح لفرسه، ومنهم المادح لخيل قومه، فوثب حفص الأموي مولاهم وقام مرتجزا يقول:
إنّ الجواد السابق الامام ... خليفة الله الرّضى الهمام
أنجبه السوابق الكرام ... من منجبات ما لهنّ ذام
كرائم يجلى بها الظلام ... أمّ هشام جدّها القمقام
وعائش يسمو بها الأقوام ... خلائف من نجلها أعلام
إن هشاما جدّه هشام ... مقابل مدابر هضّام
جرى به الأخوال والأعمام ... نجل كنجل كلّهم قدّام
سنّوا له السبق وما استقاموا ... حتى استقام حيثما استقاموا
وأحرز المجد الذي أقاموا ... أطلق وهو يفع غلام
في حلبة تمّ لها التمام ... من آل فهر وهم السنام
فبذّها سبقا وما ألاموا ... كذلك الزابد يوم قاموا
أتى ببدء الخيل ما يرام ... مجلّيا كأنه حسام
سبّاق غايات لها ضرام ... لا يقبل العفو ولا يضام
ويل الجياد منه ماذا راموا ... سهم تفرّ دونه السهام
فأعطاه هشام يومئذ ثلاثة آلاف درهم وخلع عليه ثلاث حلل من جيّد وشي اليمن وحمله على فرس من خيله السوابق، وانصرف معه ينشده هذا الرجز حتى قعد في مجلسه، وأمره بملازمته فكان أثيرا [1] عنده.
وقال حفص أيضا [2] :
لا خير في الشيخ إذا ما اجلخّا ... وسال غرب دمعه فلخّا [3]
__________
[1] م: أسيرا.
[2] الشطران الأولان في اللسان (جلخ، لخخ، طلخ) وهناك خمسة أشطار في اللسان (دخخ) وانظر البصائر 4: 149.
[3] اجلخ: فترت عظامه؛ ولخت عينه: التزقت من الرمص، ويروى: واطلخا: أي تفرق دمعه.(3/1179)
وكان أكلا كلّه وشخّا ... تحت رواق البيت يغشى الدخّا [1]
- 412-
حفص بن سليمان بن المغيرة أبو عمر بن أبي داود
الأسدي الكوفي الغاضري [2] البزاز، نسبة لبيع البز: الإمام القارىء راوي عاصم بن أبي النجود، كان ربيب عاصم ابن زوجته فأخذ عنه القراءة عرضا وتلقينا؛ قال حفص قال لي عاصم:
القراءة التي أقرأتك بها فهي التي قرأتها عرضا على أبي عبد الرحمن السلمي عن علي والتي أقرأتها أبا بكر ابن عياش فهي التي كنت أعرضها على زرّ بن حبيش عن ابن مسعود.
ولد حفص سنة تسعين ونزل بغداد فأقرأ بها وأخذ عنه الناس قراءة عاصم تلاوة، وجاور بمكة فأقرأ بها أيضا. قال يحيى بن معين: الرواية الصحيحة من قراءة عاصم رواية حفص، وكان أعلمهم بقراءة عاصم، وكان مرجحا على شعبة بضبط القراءة.
توفي حفص بن سليمان سنة ثمانين ومائة.
- 413-
حفص بن عمر بن عبد العزيز بن صهبان
بن عيسى بن صهبان، ويقال صهيب، أبو عمر الدوري الأزدي البغدادي المقرىء النحوي الضرير، نزيل سامرّا،
__________
[412]- ترجمته في الفهرست: 31 وتاريخ بغداد 8: 186 وطبقات ابن الجزري 1: 254 وتهذيب التهذيب 2: 400 وميزان الاعتدال 1: 558 والوافي 13: 98.
[413]- الفهرست: 287 وتاريخ بغداد 8: 203 وميزان الاعتدال 1: 266 وسير الذهبي 11: 541 والعبر 1: 446 وتذكرة الحفاظ: 406 وطبقات الداودي 1: 162 وطبقات ابن الجزري 1: 255 وتهذيب التهذيب 2: 408 والوافي 13: 102 ونكت الهميان: 146 والنجوم الزاهرة 2: 323 وشذرات الذهب 2: 111.
[1] في رواية: عند سعار النار يغشى الدخا؛ والدخ: الدخان.
[2] م: الفاخري.(3/1180)
راوي الامامين أبي عمرو والكسائي: إمام القراء وشيخ العراق في زمانه، ثقة ثبت كبير ضابط، رحل في طلب القراءات وقرأ بالحروف السبعة وبالشواذّ، وسمع من ذلك شيئا كثيرا، وقرأ على أبي عمرو بن العلاء والكسائي وروى عنهما، وقرأ العربية على أبي محمد يحيى بن المبارك اليزيدي.
قال أبو داود: رأيت أحمد بن حنبل يكتب عن أبي عمر الدوري. وصنف «كتاب ما اتفقت ألفاظه ومعانيه من القرآن» و «كتاب أجزاء القرآن» وغير ذلك.
والدوري نسبته إلى الدور، موضع ببغداد ومحلة بالجانب الشرقي. توفي أبو عمر الدوري سنة ست وأربعين ومائتين.
- 414-
حفص بن عمر العنبري:
صاحب الهيثم بن عديّ، له مصنفات، حكي عنه قال: أراد عيسى بن موسى أن يضمه إلى أولاده فقيل له إنه مأبون فتركه، فلقيه حماد الرواية، فقال له: يا ابن أبي ودة، ألم يكن الأمير أراد ضمّك إلى ولده؟ قال:
بلى. قال: فما الذي ثناه عن ذلك؟ قال: سعي بي عنده، وأخبر أني خائن قال:
إن امرا فررت منه إلى الخيانة لشديد.
- 415-
أبو حفص الزكرمي العروضي
الأديب الشاعر: قال الحافظ أبو طاهر السلفي في معجم السفر [1] أنشدني أبو القاسم ذوبان بن عتيق بن تميم الكاتب [2] قال:
__________
[414]- ترجمته في الفهرست: 113؛ وكنيته أبو عمر وذكر له كتبا منها: كتاب النساء، كتاب ذكر أدعياء الجاهلية، وهذه الترجمة من المختصر.
[415]- معجم السفر: 75 (وفيه الزكزمي- بزاءين) وأخبار وتراجم أندلسية (وهو مستخرج من معجم السفر) : 37 ومعجم البلدان «زكرم» وقد ذكر ابن حمديس الزكرمي وسماه عمر (ديوانه: 294) .
[1] م: معجم الشعراء.
[2] قال السلفي: كان ذوبان- واسمه أيضا عبد الرحمن- كثير الحفظ وقد علقت عنه من شعر شعراء أفريقية مقطعات.(3/1181)
أنشدني أبو حفص الزكرمي بافريقية مما قاله بالأندلس وقد طولب بمكس يتولّاه يهودي:
يا أهل دانية لقد خالفتم ... حكم الشريعة والمروءة فينا
ما لي أراكم تأمرون بضدّ ما ... أمرت ترى نسخ الاله الدينا
كنا نطالب لليهود بجزية ... وأرى اليهود بجزية طلبونا
ما إن سمعنا مالكا أفتى بذا ... كلّا ولا من بعده سحنونا
لا هؤلاء ولا الأئمة كلّهم ... حاشاهم بالمكس قد أمرونا
أيحوز مثلي أن يمكّس عدله [1] ... لو كان يعدل وزنه قاعونا [2]
ولقد رجونا أن ننال بعدلكم ... رفدا يكون على الزمان معينا
فالآن نقنع بالسلامة منكم ... لا تأخذوا منا ولا تعطونا
- 416-
حفصة بنت الحاج الركوني:
شاعرة أديبة من أهل غرناطة مشهورة بالحسب والأدب والجمال والمال، جيدة البديهة رقيقة الشعر أستاذة وليت تعليم النساء في دار المنصور [حفيد] أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي، وسألها يوما أن تنشده فقالت ارتجالا:
يا سيد الناس يا من ... يؤمّل الناس رفده
__________
[416]- ترجمة حفصة في تحفة القادم: 240 والمقتضب من تحفة القادم: 167 والتكملة رقم 2891 وصلة الصلة: 278 والمغرب 2: 138، 166 ورايات المبرزين: 61 ونفح الطيب (انظر فهرسته) والمطرب: 10 والاحاطة 1: 499 ونزهة الجلساء: 32 والوافي 13: 107 والركونية نسبة إلى قرية ركونة وهي من عمل البشرّات. (ترجمة حفصة تقع في معجم الشعراء) .
[1] معجم السفر: ما واجب مثلي يمكس عدله.
[2] قاعون: جبل شاهق عند دانية.(3/1182)
امنن علي بطرس ... يكون للدهر عده
تخطّ يمناك فيه ... «الحمد لله وحده»
أشارت بذلك إلى العلامة السلطانية، فإن السلطان كان يكتب بيده في رأس المنشور بخط غليظ «الحمد لله وحده» فمنّ عليها وكتب لها بيده ما طلبت.
وتولع بها [عثمان بن] [1] أمير المؤمنين عبد المؤمن المذكور وتغير بسببها على أبي جعفر أحمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي، وكان عاشقا لها متصلا بها يتبادلان رسائل الغرام ويتجاوبان تجاوب الحمام، وقد أدى [عثمان بن] عبد المؤمن ولعه بها إلى قتل أبي جعفر.
ومما كتبته حفصة إلى أبي جعفر:
رأست فما زال العداة بظلمهم ... وحقدهم النامي يقولون لم رأس
وهل منكر أن ساد أهل زمانه ... جموح إلى العليا نقيّ من الدنس
وبات معها أبو جعفر في بستان بحوز مؤمل فلما حان وقت التفرق قال:
رعى الله ليلا لم يرع بمذمم ... عشية وارانا بحوز مؤمّل
وقد خفقت من نحو نجد أريجة ... إذا نفحت جاءت بريا القرنفل
وغرّد قمريّ على الدوح وانثنى ... قضيب من الريحان من فوق جدول
يرى الروض مسرورا بما قد بدا له ... عناق وضمّ وارتشاف مقبّل
فقالت:
لعمرك ما سرّ الرياض بوصلنا ... ولكنه أبدى لنا الغلّ والحسد
ولا صفّق النهر ارتياحا لقربنا ... ولا غرّد القمريّ إلا لما وجد
فلا تحسن الظنّ الذي أنت أهله ... فما هو في كلّ المواطن بالرّشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمر سوى كيما تكون لنا رصد
__________
[1] هذه الزيادة ضرورية؛ وكان عثمان بن عبد المؤمن واليا على غرناطة، حينئذ، وكان أبو جعفر ابن سعيد (عم ابن سعيد أبي الحسن مؤلف المغرب) وزيرا له، وكان عثمان أسود اللون، فبلغه أن أبا جعفر قال لحفصة: ما تحبين في ذلك الأسود وأنا أقدر أشتري لك من السوق بعشرين دينارا خيرا منه (المغرب 2: 164) .(3/1183)
وقالت:
سلوا البارق الخفّاق والليل ساكن ... أظلّ بأحبابي يذكّرني وهنا
لعمري لقد أهدى لقلبي خفوقه ... وأمطر كالمنهلّ من مزنه الجفنا
وبلغها أن أبا جعفر ابن سعيد علق بجارية سوداء فأقام معها أياما فكتبت إليه:
يا أظرف الناس قبل حال ... أوقعه وسطه القدر
عشقت سوداء مثل ليل ... بدائع الحسن قد ستر
لا يظهر البشر في دجاها ... كلا ولا يبصر الخفر
بالله قل لي وأنت أدرى ... بكلّ من هام في الصور
من الذي حبّ قبل روضا ... لا نور فيه ولا زهر
فكتب إليها معتذرا:
لا حكم إلا لأمر ناه ... له من الذنب يعتذر
له محيا به حياتي ... أعيذ مجلاه بالسّور
كضحوة العيد في ابتهاج ... وطلعة الشمس والقمر
بسعده لم أمل إليه ... إلا طريفا له خبر
عدمت صبحي فاسودّ عشقي ... وانعكس الفكر والنظر
إن لم تلح يا نعيم روحي ... فكيف لا تفسد الفكر
وكتبت إلى بعض أصحابها:
أزورك أم تزور فإن قلبي ... إلى ما تشتهي أبدا يميل
فثغري مورد عذب زلال ... وفرع ذؤابتي ظلّ ظليل
وهل تخشى بأن تظما وتضحى ... إذا وافى إليك بي المقيل
فعجّل بالجواب فما جميل ... إباؤك عن بثينة يا جميل
وكان أبو جعفر ابن سعيد يوما في منزله وقد خلا ببعض أصحابه وجلسائه، فضرب الباب فخرجت جاريته تنظر من بالباب، فوجدت امرأة فقالت لها: ما تريدين؟ فقالت: ادفعي لسيدك هذه البطاقة، فإذا فيها:(3/1184)
زائر قد أتى بجيد غزال ... طامع من محبّه بالوصال
بلحاظ من سحر بابل صيغت ... ورضاب يفوق بنت الدوالي
يفضح الورد ما حوى منه خدّ ... وكذا الثغر فاضح للآلي
أتراكم باذنكم مسعفيه ... أم لكم شاغل من الأشغال
فما قرأ الرقعة قال: وربّ الكعبة ما صاحب هذه الرقعة إلا حفصة، فبادر إلى الباب فلم يجدها، فكتب إليها:
أيّ شغل عن المحبّ يعوق ... يا صباحا قد آن منه الشروق
صل وواصل فأنت أشهى إلينا ... من لذيذ المنى فكم ذا نشوق
لا وحبيك لا يطيب صبوح ... غبت عنه ولا يطيب غبوق
لا وذلّ الجفا وعزّ التلاقي ... واجتماع إليه عزّ الطريق
وقالت:
أغار عليك من عيني وقلبي ... ومنك ومن زمانك والمكان
ولو أني جعلتك في عيوني ... إلى يوم القيامة ما كفاني
ماتت حفصة بمراكش سنة ست وثمانين وخمسمائة.
- 417-
حفصويه:
من أفاضل كتاب الخراج وهو أول من صنف في الخراج.
- 418-
الحكم بن عبدل بن جبلة بن عمرو بن ثعلبة بن
عقال بن بلال بن سعد بن
__________
[417]- من المختصر؛ وذكر ابن النديم حفصويه (ص: 150) وقال إنه كان جد عبد العزيز الشاعر العسجدي من قبل أمه، وكان متقدما في صناعة الخراج وله إلى جانب كتاب الخراج، كتاب الرسائل.
[418]- ترجمة الحكم بن عبدل في الأغاني 2: 360 والسمط: 899 ومصورة ابن عساكر 5: 208 وتهذيب ابن عساكر 4: 399 ومختصر ابن منظور 7: 219 والمؤتلف والمختلف: 242 والوافي 13: 114(3/1185)
حبال بن نصر بن غاضرة، وينتهي نسبه إلى خزيمة بن مدركة الأسدي الغاضري [1] الكوفي: شاعر مجيد هجّاء من شعراء الدولة الأموية، كان ممن نفاه ابن الزبير من العراق كما نفى منها عمّال بني أمية، فقدم دمشق ونال من عبد الملك بن مروان حظوة، فكان يدخل عليه ويسمر عنده، فقال ليلة لعبد الملك [2] :
يا ليت شعري وليت ربّما نفعت ... هل أبصرنّ بني العوام قد شملوا
بالذلّ والأسر والتشريد إنهم ... على البرية حتف حيثما نزلوا
أم هل أراك بأكناف العراق وقد ... ذلّت لعزك أقوام وقد نكلوا
فقال عبد الملك:
إن يمكن الله من قيس ومن جرش [3] ... ومن جذام ويقتل صاحب الحرم
تضرب جماجم أقوام على حنق ... ضربا ينكّل عنّا غابر الأمم
ودخل [4] يوما على عبد الملك فقعد بين السماطين وقال: أصلح الله الأمير رؤيا رأيتها بالمنام أقصّها عليك؟ فقال: هات، فأنشأ يقول:
طلعت عليّ الشمس بعد غضارة ... في نومة ما كنت قبل أنامها
فرأيت أنك جدت لي بوليدة ... مغنوجة حسن علي قيامها
وببدرة حملت إليّ وبغلة ... شهباء ناجية يصلّ لجامها
فسألت ربّي أن يثيبك جنّة ... يلقاك فيها روحها وسلامها
فقال: كلّ ما رأيت عندنا إلا البغلة فإنها دهماء فارهة، فقال: امرأته طالق إن- والفوات 1: 390 وقد وردت له ترجمة في ابن خلكان 2: 201 وهي ليست من شرط ابن خلكان لأنه لا يعرف سنة وفاته؛ وورود ترجمته في معجم الأدباء مستغرب، فإنه بمعجم الشعراء أليق) .
__________
[1] م: الفاخري.
[2] الأغاني 2: 375.
[3] الأغاني: جدس.
[4] الأغاني 2: 363 وعبد الملك هو ابن بشر بن مروان، وفي رواية الأبيات بعض اختلاف، كما أن في القصة اختلافا كذلك.(3/1186)
كان رآها إلا دهماء ولكنّه نسي، فأمر عبد الملك أن يحمل إليه كلّ ما ذكره في شعره.
ودخل [1] ابن عبدل على محمد بن حسان بن سعد وكان على خراج الكوفة، فكلمه في رجل من العرب أن يضع عنه ثلاثين درهما من خراجه، فقال محمد بن حسان: أماتني الله إن كنت أقدر أن أضع من خراج أمير المؤمنين شيئا، فانصرف ابن عبدل وهو يقول:
دع الثلاثين لا تعرض لصاحبها ... لا بارك الله في تلك الثلاثينا
لما علا صوته في الدار مبتكرا ... كأشتفان [2] يرى قوما يدوسونا
أحسن فانك قد أعطيت مملكة ... إمارة صرت فيها اليوم مفتونا
لا يعطك الله خيرا مثلها أبدا ... أقسمت بالله إلا قلت آمينا
فلم يضع من خراج الرجل شيئا فقال ابن عبدل فيه:
رأيت محمدا شرها ظلوما ... وكنت أراه ذا ورع وقصد
يقول أماتني ربّي خداعا ... أمات الله حسان بن سعد
ركبت إليه في رجل أتاني ... كريم يبتغي المعروف عندي
فقلت له وبعض القول نصح ... ومنه ما أسرّ له وأبدي
توقّ كرائم البكريّ إني ... أخاف عليك عاقبة التعدّي
فما صادفت في قحطان مثلي ... ولا صادفت مثلك في معدّ
أقلّ براعة وأشدّ بخلا ... وألأم عند مسألة وحمد
فقدت محمدا ودخان فيه ... كريح الجعر فوق عطين جلد [3]
فأقسم غير مستثن يمينا ... أبا بخر لتتّخمنّ ردّي
فلو كنت المهذب من تميم ... لخفت ملامتي ورجوت حمدي
__________
[1] الأغاني 2: 367- 368.
[2] اشتفان: (بهامش م) كلمة يونانية وفارسية معناها: تاج.
[3] الجعر: بخر ذوات المخالب؛ العطين: المنتن.(3/1187)
نكهت عليّ نكهة أخدريّ ... شتيم أعصل الأنياب ورد [1]
فما يدنو إلى فمه ذباب ... ولو طليت مشافره بقند [2]
فإن أهديت لي من فيك حتفا ... فإني كالذي أهديت مهدي
ولولا ما وليت لكنت فسلا ... لئيم الكسب شأنك شأن عبد
وخطب [3] محمد بن حسان هذا بنتا لطلبة بن قيس بن عاصم المنقريّ فقال ابن عبدل:
لعمري ما زوجتها لكفاءة ... ولكنما زوجتها للدراهم [4]
وما كان حسّان بن سعد ولا ابنه ... أبو البخر [5] من أكفاء قيس بن عاصم
ولكنه ردّ الزمان على استه ... وضيّع أمر المحصنات الكرائم
له ريقة بخراء تصرع من دنا ... وتنتن خيشوم الضجيع الملازم
خذي دية منه تكوني غنية ... وروحي [6] إلى باب الأمير فخاصمي
وكان بالكوفة [7] امرأة موسرة لها على الناس ديون كثيرة بالسواد، فأتت الحكم بن عبدل وعرّضت له بأنها تتزوجه إذا اقتضى لها ديونها، فقام ابن عبدل بدينها حتى اقتضاه، ثم طالبها بالوفاء فكتبت إليه:
سيخطيك الذي حاولت مني ... فقطّع حبل وصلك من حبالي
كما أخطاك معروف ابن بشر ... وكنت تعدّ ذلك رأس مال
__________
[1] الأخدري: الأسد؛ الشتيم: العبوس؛ الأعصل: المعوج الأنياب، ورد: أحمر.
[2] القند: العسل من قصب السكر.
[3] الأغاني 2: 364.
[4] رواية الأغاني:
أباع زياد سود الله وجهه ... عقيلة قوم سادة بالدراهم
[5] الأغاني: أبو المسك.
[6] الأغاني: تكن لك عدة وجيئي.
[7] الأغاني 2: 370.(3/1188)
وكان ابن عبدل يأتي ابن بشر بن مروان بالكوفة فيسأله، فيقول له: أخمسمائة أحبّ إليك العام أم ألف في قابل؟ فيقول: ألف في قابل، فإذا أتاه من قابل قال له:
ألف أحبّ إليك العام أم الفان في قابل؟ فيقول: ألفان فلم يزل كذلك حتى مات ابن بشر ولم يعطه شيئا.
فدخل ابن عبدل على عبد الملك بن مروان [1] بعد ما جرى مع المرأة فقال له عبد الملك: ما أحدثت بعدي؟ قال: خطبت امرأة من قومي فردّت عليّ بيتي شعر، قال: وما هما؟ قال قالت: سيخطيك الذي حاولت مني ... البيتان، فضحك عبد الملك وقال له: لحاك الله أذكرت [2] بنفسك وأمر له بألفي درهم.
وعن ابن الكلبي [3] قال كان الحكم بن عبدل منقطعا إلى بشر بن مروان، وكان يأنس به ويقربه، وأخرجه معه إلى البصرة لما وليها، فرأى منه الحكم جفاء لشغل عرض له فانقطع عنه شهرا ثم أتاه، فلما دخل عليه قال له بشر: يا ابن عبدل ما لك انقطعت عنا وقد كنت لنا زوارا؟ فقال ابن عبدل:
كنت أثني عليك خيرا فلما ... أضمر القلب من نوالك ياسا
كنت ذا منصب قنيت حيائي ... لم أقل غير أن هجرتك باسا
لم أطق ما أردت بي يا ابن مروا ... ن ستلقى إذا أردت أناسا
يقبلون الخسيس منك ويثنو ... ن ثناء مدخمسا دخماسا [4]
فقال له: لا نسومك الخسيس ولا نريد منك ثناء مدخمسا، ووصله وكساه.
ولما مات بشر جزع عليه ابن عبدل فقال يرثيه [5] :
أصبحت جمّ بلابل الصدر ... متعجبا لتصرّف الدهر
ما زلت أطلب في البلاد فتى ... ليكون لي ذخرا من الذخر
__________
[1] الأغاني: عبد الملك بن بشر (بن مروان) .
[2] الأغاني: لجاد ما أذكرت.
[3] الأغاني 2: 371.
[4] مدخمس: غير جاد.
[5] الأغاني 2: 374.(3/1189)
ويظلّ يسعدني وأسعده ... في كلّ نائبة من الأمر
حتى إذا ظفرت يداي به ... جاء القضاء بحينه يجري
إني لفي همّ يباكرني ... منه وهمّ طارق يسري
فلأصبرنّ وما رأيت دوا ... للهمّ غير عزيمة الصبر
والله ما استعظمت فرقته ... حتى أحاط بفضله خبري
وعن النضر بن شميل قال: دخلت على أمير المؤمنين المأمون بمرو فقال أنشدني أقنع بيت للعرب، فأنشدته قول الحكم بن عبدل [1] :
إني امرؤ لم أزل وذاك من الله ... أديبا أعلّم الأدبا
أقيم بالدار ما اطمأنت بي ... الدار وإن كنت نازعا طربا
لا أجتوي خلّة الصديق ولا ... أتبع نفسي شيئا إذا ذهبا
أطلب ما يطلب الكريم من ... الرزق بنفسي وأجمل الطلبا
وأحلب الثرّة الصفيّ ولا ... أجهد أخلاف غيرها حلبا
إني رأيت الفتى الكريم إذا ... رغّبته في صنيعة رغبا
والعبد لا يحسن العطاء ولا ... يعطيك شيئا إلا إذا رهبا
مثل الحمار المعقب [2] السّوء لا ... يحسن مشيا إلا إذا ضربا
ولم أجد عزة الخلائق إلا ... الدين لما اعتبرت والحسبا
قد يرزق الخافض المقيم وما ... شدّ لعيس رحلا ولا قتبا
ويحرم الرزق ذو المطية وال ... رحل ومن لا يزال مغتربا
وكان الحكم بن عبدل أعرج فدخل على عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وهو أعرج أيضا، وكان صاحب شرطه أعرج كذلك، فقال [3] :
ألق العصا ودع التخامع [4] والتمس ... عملا فهذي دولة العرجان
__________
[1] الأغاني 16: 154.
[2] الأغاني: الموقع.
[3] الأغاني 2: 362.
[4] م: التخادع.(3/1190)
لأميرنا وأمير شرطتنا معا ... لكليهما يا قومنا رجلان
فإذا يكون أميرنا ووزيرنا ... وأنا فجىء بالرابع الشيطان
وقال في بشر بن مروان:
ولو شاء بشر كان من دون بابه ... طماطم سود أو صقالبة حمر
ولكنّ بشرا سهّل الباب للتي ... يكون لبشر بعدها الحمد والأجر
بعيد مراد العين ما ردّ طرفه ... حذار الغواشي باب دار ولا ستر
- 419-
الحكم بن معمر بن قنبر بن جحاش بن سلمة
بن ثعلبة بن مالك بن طريف بن محارب الخضري: شاعر إسلامي، وكان مع تقدمه في الشعر سجّاعا كثير السجع، وكان هجّاء خبيث اللسان، وكان بينه وبين الرمّاح بن أبرد المعروف بابن ميادة مهاجاة ومواقف كان الغلب في أكثرها على الرماح، فتهاجيا زمانا طويلا، ثم كفّ ابن ميّادة وسأله الصلح فصالحه الحكم.
وكان [1] أول ما بدأ الهجاء بينهما أن ابن ميادة مرّ بالحكم وهو ينشد في مصلى النبي صلّى الله عليه وسلم في جماعة من الناس قوله:
لمن الديار كأنها لم تعمر ... بين الكناس وبين برق محجّر
حتى انتهى إلى قوله:
يا صاحبيّ ألم تشيما بارقا ... نضح المزار [2] به فهضب المنحر
__________
[419]- ترجمة الحكم الخضري مما أخذ من معجم الشعراء وأدخل في معجم الأدباء، وانظر مصورة ابن عساكر 5: 220 وتهذيب ابن عساكر 4: 407 ومختصر ابن منظور 7: 228 والأغاني 2: 248 (في ترجمة ابن ميادة) والوافي 13: 125.
[1] الأغاني 2: 248.
[2] الأغاني: الصراد (وفي رواية: المزاد) .(3/1191)
قد بتّ أرقبه وبات مصعّدا ... نهض المقيّد في الدّهاس الموقر [1]
فقال له ابن ميادة: ارفع إليّ رأسك أيها المنشد، فرفع الحكم إليه رأسه فقال له: من أنت؟ قال: أنا الحكم بن معمر الخضري، قال: فو الله ما أنت في بيت حسب ولا في أرومة شعر [2] فقال له الحكم: وماذا عبت من شعري؟ قال: عبت أنك أدهست وأوقرت، قال له الحكم: ومن أنت؟ قال: أنا ابن ميادة، قال: ويحك فلم رغبت عن أبيك وانتسبت إلى أمك، قبح الله والدين خيرهما ميادة، أما والله لو وجدت في أبيك خيرا ما انتسبت إلى أمك راعية الضأن، وأما إدهاسي وإيقاري فإني لم آت خيبر إلّا ممتارا لا متحاملا [3] ، وما عدوت أن حكيت حالك وحال قومك، فلو سكتّ عن هذا كان خيرا لك وأبقى عليك، فلم يفترقا إلا عن هجاء.
وقال الحكم يهجو أم جحدر بنت حسان المرية وكانت فضلت ابن ميادة عليه [4] :
ألا عوقبت [5] في قبرها أم جحدر ... ولا لقيت إلا الكلاليب والجمرا
كما حادثت عبدا لئيما وخلته ... من الزاد إلا حشو ريطاته صفرا
فيا ليت شعري هل رأت أمّ جحدر ... أكشّك أو ذاقت مغابنك القشرا [6]
وهل أبصرت أرساغ أبرد أو رأت ... قفا أمّ رمّاح إذا ما استقت ذفرا [7]
وبالغمر قد صرّت لقاحا وحادثت ... عبيدا فسل عن ذاك زبّان والغمرا [8]
__________
[1] يريد نهض الجمل المقيد الموقر (المحمل) في الدهاس وهي الأرض السهلة اللينة.
[2] م: الشعر.
[3] م: لا ممتارا ولا متحاملا؛ والممتار الذي يجلب الميرة، والمتحامل: الذي يحمل للناس بأجر.
[4] الأغاني 2: 252.
[5] الأغاني: لا عوفيت.
[6] أكشك: هكذا ورد، ولعل صوابه: كبّيك يعني لحمه المتغير الرائحة؛ أو نثيثك وهو رشح السقاء، ويعني هنا رشح عرقه. والمغابن: الأرفاغ والآباط؛ القشرا: التي انقشر عنها جلدها.
[7] الذفر بفتح الفاء وسكنه هنا للشعر: الصنان وخبث الرائحة.
[8] يريد أنها أمة تصر أضراع النوق؛ وتختلط بالعبيد من أمثالها، وفي الأغاني: نيّان فالغمرا.(3/1192)
ومما قاله الحكم في ابن ميادة [1] :
خليليّ عوجا حيّيا الدار بالجفر ... وقولا لها سقيا لعصرك من عصر
وماذا تحيّي من رسوم تلاعبت ... بها حرجف تذري بأذيالها الكدر
إذا يبست عيدان قوم وجدتنا ... وعيداننا تغشى على الورق الخضر
إذا الناس جاءوا بالقروم أتيتهم ... بقرم يساوي رأسه غرّة البدر
لنا الغور والأنجاد والخيل والقنا ... عليكم وأيام المكارم والفخر
فيا مرّ قد أخزاك في كلّ موطن ... من اللؤم خلّات يزدن على العشر
فمنهنّ أن العبد حامي ذماركم ... وبئس المحامي العبد عن حوزة الثغر
ومنهن أن لم تمسحوا وجه سابق ... جواد ولم تأتوا حصانا على طهر
ومنهن أن الميت يدفن منكم ... فيفسو على دفّانه وهو في القبر
ومنهن أن الجار يسكن وسطكم ... بريئا فيرمى بالخيانة والغدر
ومنهن أن عذتم بأرقط كودن ... وبئس المحامي أنت يا ضرطة الجفر [2]
ومنهن أن الشيخ يوجد منكم ... يدبّ إلى الجارات محدودب الظهر
تبيت ضباب الضغن يخشى احتراشها ... وان هي أمست دونها ساحل البحر
- 420-
الحكم بن موسى السلولي: هو أبو يزيد الحكم
بن موسى بن الحسين بن يزيد السلولي الكوفي أحد الرواة.
__________
[420]- من المختصر.
[1] الأغاني 2: 262 وقد وضح الأصفهاني أن ما يورده منتخب وليس قصيدة بكاملها.
[2] الكودن: البرذون: الجفر: ولد المعزى، وذلك يعني أنه مثال الهوان.(3/1193)
- 421-
أبو الحكم ابن غلندو الاشبيلي:
ولد بأشبيلية وبها نشأ، وكان أديبا شاعرا جيد الشعر متفننا متميزا بصناعة الطب، خدم بها المنصور [حفيد] أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي [1] فحظي عنده وقدّم، وكان أبوه أيضا في خدمة أبي يعقوب والد المنصور. وكان أبو الحكم حسن الخطّ يكتب الخطين الأندلسي والمشرقي، وتوفي بمراكش سنة سبع وثمانين وخمسمائة ومن شعره:
ماست فأزرت بالغصون الميّس ... وأتتك تخطر في غلالة سندس
وتبرجت جنح الظلام كأنها ... شمس تجلت في دياجي الحندس
تختال بين لداتها فتخالها ... بدرا بدا بين الجواري الكنّس
أرجت برياها الصّبا فتضوّعت ... أنفاسها والصبح لم يتنفّس
وسرت إلينا في ملاءة سندس ... بترفّل وتدلّل وتبهنس
وتزلفت والليل مسبل جنحه ... والجوّ داج من ظلام الحندس
وله:
لئن غبت عن عيني وشطّ بك النوى ... فأنت بقلبي حاضر وقريب
خيالك في وهمي وذكرك في فمي ... ومثواك في قلبي فأين تغيب
__________
[421]- ترجمة ابن غلندو في تحفة القادم: 94 والمقتضب من تحفة القادم: 71 والتكملة: 937 ونفح الطيب 3: 597 وعيون الانباء 2: 597 ويكتب أيضا «غلنده» وسمّاه صاحب التحفة «عبيد الله بن علي بن غلنده» وذكر أنه ولد بسرقسطة ونشأ باشبيلية- وهو مخالف لما يقوله ياقوت، وجعل وفاته سنة 581.
[1] م: سعيد (وهو خطأ) .(3/1194)
- 422-
حكيم بن عياش المعروف بالأعور الكلبي:
شاعر مجيد، كان منقطعا إلى بني أمية بدمشق وسكن المزّة بها ثم انتقل إلى الكوفة، وكان بينه وبين الكميت بن زيد مفاخرة [1] . وقدم أسامة خال الأعور على معاوية فقال له: اختر لك منزلا، فاختار المزّة واقتطع فيها هو وعترته، فقال الأعور:
إذا ذكرت أرض لقوم بنعمة ... فبلدة قومي تزدهي وتطيب
بها الدين والإفضال والخير والندى ... فمن ينتجعها للرشاد يصيب
ومن ينتجع أرضا سواها فإنه ... سيندم يوما بعدها ويخيب
تأتّى بها خالي أسامة منزلا ... وكان لخير العالمين حبيب
حبيب رسول الله وابن رديفه ... له ألفة معروفة ونصيب
فأسكنها كلبا فأضحت بليدة ... لنا منزل رحب الجناب خصيب
فنصف على برّ فسيح رحابه ... ونصف على بحر أغرّ يطيب
وكان الأعور يتعصّب لليمن على مضر فقال [2] :
ما سرّني أن أمّي من بني أسد ... وأن ربي نجّاني من النار
وأنهم زوجوني من بناتهم ... وأنّ لي كلّ يوم ألف دينار
وجاء رجل إلى عبد الله بن جعفر فقال له: يا ابن رسول الله هذا حكيم الكلبي ينشد الناس هجاءكم بالكوفة، فقال: هل حفظت منه شيئا؟ قال: نعم، وأنشده [3] :
__________
[422]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 5: 268 وتهذيب ابن عساكر 4: 425 ومختصر ابن منظور 7: 240 والوافي 13: 131 وياقوت يتابع ابن عساكر في هذه الترجمة، وهي أدخل في معجم الشعراء.
[1] انظر الأغاني 16: 341، 356 حيث ذكر أن الأعور الكلبي هو الذي بدأ بهجاء القيسية، فردّ عليه الكميت بقصيدته «ألا حييت عنا يا مدينا» في ثلاثمائة بيت، ولجّ الهجاء بينهما.
[2] ورد البيتان أيضا في الأغاني 16: 357.
[3] انظر البصائر 8: 16 (رقم: 12) وشرح النهج 15: 238.(3/1195)
صلبنا لكم زيدا على جذع نخلة ... ولم نر مهديا على الجذع يصلب
وقستم بعثمان عليا سفاهة ... وعثمان خير من عليّ وأطيب
فرفع عبد الله يديه إلى السماء وهما تنتفضان رعدة فقال: اللهم إن كان كاذبا فسلّط عليه كلبا؛ فخرج حكيم من الكوفة فأدلج فافترسه الأسد فأكله، وأتى البشير عبد الله وهو في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلم فخرّ لله تعالى ساجدا وقال: الحمد لله الّذي صدقنا وعده.
- 423-
حماد بن إسحاق بن إبراهيم الموصلي أبو الفضل:
[كان] أديبا راوية فاضلا، شارك أباه إسحاق في كثير من سماعاته، وسمع من أبي عبيدة والأصمعي.
وألف كتبا كثيرة في الأدب. وأصابه في آخر عمره صمم، ومات [] وكان يلقب بالبارد، لأنه كان يجالس أباه، وكان أبوه كالنار الموقدة، ولم يكن كذلك، ولم يكن بعد أبيه من أهله مثله.
- 424-
حماد بن عمر بن يونس بن كليب الكوفي المعروف
بحماد عجرد، مولى بني سواءة بن عامر بن صعصعة: شاعر مجيد من طبقة بشار، وكان بينهما مهاجاة، وهو أحد الحمادين الثلاثة. قال إبراهيم العامري: كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم
__________
[423]- ترجمته في المختصر والفهرست: 159- 160 (وترك تاريخ وفاته بياضا) وعدّ له كتبا كثيرة منها كتاب الأشرية. كتاب أخبار الحطيئة. كتاب أخبار ذي الرمة. كتاب مختار غناء جده إبراهيم. كتاب أخبار رؤبة. كتاب أخبار عبيد الله بن قيس الرقيات. كتاب الندامى؛ وتختلط أخباره بأخبار أبيه في الأغاني.
[424]- ترجمة حماد عجرد (وهي دخيلة هنا ويجب أن تكون في معجم الشعراء) وردت في طبقات ابن المعتز: 67 والشعر والشعراء: 663 والمؤتلف والمختلف: 157 وأنساب الاشراف 3: 180 والأغاني 14: 304 وتاريخ بغداد 8: 148 ومصورة ابن عساكر 5: 273 وتهذيب ابن عساكر 4: 427 وسير الذهبي 7: 156 وأمالي المرتضى 1: 133 وابن خلكان 2: 210 والوافي 13: 142 وروضات الجنات 3: 248.(3/1196)
الحمادون: حماد عجرد وحماد الراوية وحماد بن الزبرقان يتنادمون ويتعاشرون معاشرة جميلة ويتناشدون الأشعار، وكانوا كأنهم نفس واحدة، وكانوا يرمون بالزندقة جميعا.
وحماد عجرد من مخضرمي الدولتين، نادم الوليد بن يزيد ولم يشتهر إلا في الدولة العباسية، قدم بغداد في أيام المهدي هو ومطيع بن إياس ويحيى بن زياد فاشتهروا بها. وكان حماد ماجنا ظريفا متهما في دينه، وكان أحد الأئمة يتنقّصه، فلما بلغه ذلك كتب إليه [1] :
إن كان نسكك لا يت ... مّ بغير شتمي وانتقاصي
فاقعد وقم بي حيث شئ ... ت لدى الأداني والأقاصي
فلطالما زكّيتني ... وأنا المقيم على المعاصي
أيام تأخذها وتع ... طي في أباريق الرصاص
وسبب تسميته بعجرد أن أعرابيا مرّ به وهو غلام يلعب مع الصبيان في يوم شديد البرد وهو عريان، فقال له الأعرابي: تعجردت يا غلام، فسمي عجردا، والمتعجرد المتعري.
وكتب [2] أبو النضير الجمحي الشاعر إلى حماد يسأله عن حاله في الشراب ومن يعاشر عليه، فكتب إليه حماد:
أبا النضير اسمع كلامي ولا ... تجعل سوى الإنصاف في بالكا
سألت عن حالي وما حال من ... لم يلف إلا عابدا ناسكا
يظهر نسكا ومتى يفترص ... يكن عليّ عاديا فاتكا
ومرض حماد فعاده أصدقاؤه جميعا إلا مطيع بن إياس، فكتب إليه حماد [3] :
كفاك عيادتي من كان يرجو ... ثواب الله في صلة المريض
__________
[1] الأغاني 14: 316 وتهذيب ابن عساكر: 428 وقد صرّح الأصفهاني أن المقصود هو أبو حنيفة الفقيه.
وفي رواية أخرى أنه يحيى بن زياد.
[2] الأغاني 11: 272 وقال إنه يعني (في البيت الثالث) حريث بن عمرو، وكان حماد نزل عليه، وكان حريث مشهورا بالزندقة.
[3] الأغاني 14: 335.(3/1197)
فإن تحدث لك الأيام سقما ... يحول جريضه دون القريض
يكن طول التأوّه منك عندي ... بمنزلة الطنين من البعوض
ومن شعر حماد عجرد [1] :
إني أحبّك فاعلمي ... إن لم تكوني تعلمينا
حبا أقلّ قليله ... كجميع حبّ العالمينا
وقال [2] :
فأقسمت لو أصبحت في قبضة الهوى ... لأقصرت عن لومي وأطنبت في عذري
ولكن بلائي منك أنك ناصح ... وأنك لا تدري بأنك لا تدري
وقال في أبي العباس الطوسي [3] :
أرجوك بعد أبي العباس إذ بانا ... يا أكرم الناس أعراقا وعيدانا
فأنت أكرم من يمشي على قدم ... وأنضر الناس عند المحل أغصانا
لو مجّ عود على قوم عصارته ... لمجّ عودك فينا المسك والبانا
وكان بين حماد وبشار بن برد ومطيع بن إياس أهاج كثيرة أعرضنا عن ذكرها لما فيها من السخف والمجون.
وتوفي حماد عجرد بالبصرة سنة إحدى وستين ومائة في أصح الروايات.
- 425-
حماد بن سلمة بن دينار الإمام أبو سلمة البصري:
مولى بني تميم، وهو
__________
[425]- ترجمة حماد بن سلمة في طبقات ابن سعد 7: 282 والمعارف: 503 والمعرفة والتاريخ 2: 193- 204 ومراتب النحويين: 66 وأخبار النحويين البصريين: 60 والفهرست: 283-
[1] تهذيب ابن عساكر 4: 428 والأغاني 14: 339.
[2] الأغاني 14: 345 وسير الذهبي 7: 156.
[3] الأغاني 14: 303 وتهذيب ابن عساكر: 428.(3/1198)
ابن أخت حميد الطويل شيخ أهل البصرة في الحديث والعربية والفقه وأخذ النحو عن الخليل، وكان الخليل يجلس صحبة حماد بن زيد وجرير بن حازم وحماد بن سلمة، وكان حماد بن زيد إذا أخذ نعله للقيام قال القوم: قد ضرب بالطبل، فلا يجلسون.
وحماد بن سلمة كان السبب في اشتغال سيبويه بالنحو وذلك أن سيبويه كان في أول أمره يطلب الحديث- أخذ عنه يونس بن حبيب النحوي، وسئل أيما أسنّ أنت أو حماد فقال: حماد أسنّ مني ومنه تعلمت العربية. فكان سيبويه يستملي على حماد فقال حماد: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ما من أحد من أصحابي إلا من لو شئت لأخذت عنه علما ليس أبا الدرداء» فقال سيبويه: ليس أبو الدرداء، فقال له حماد: لحنت يا سيبويه، ليس أبا الدرداء، فقال: لا جرم لأطلبنّ علما لا تلحنني فيه أبدا، فطلب النحو ولزم الخليل بن أحمد حتى بلغ منه ما بلغ. وجاء سيبويه الى حماد بن سلمة فقال له: أحدثك هشام بن عروة عن أبيه في رجل رعف في الصلاة، فقال: أخطأت إنما هو رعف، فانصرف إلى الخليل بن أحمد فشكا إليه ما لقيه من حماد فقال:
صدق حماد، ألمثل حماد يقال هذا؟
وكان يقول من يطلب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة ليس فيها شعير.
قال موسى بن اسماعيل المنقري قلت: لحماد بن سلمة أطال الله بقاءك، فقال: مه، هذه تحية الشباب، ما أصنع بالبقاء يجيئني ويجيئني الدجال.
وقال: كنا إذا صرنا إلى حماد قبل أيدينا وقربنا ويقول: بأبي أنتم إذا غبتم عني فإنما أنا صبي ألعب مع الصبيان فإذا رأيتكم أحيا برؤيتكم.
حضر الأصمعي مجلسه فأدناه ورحب به ثم قال: كيف تنشد هذا البيت:
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا ... وإن عاهدوا أوفوا وان عقدوا شدوا
__________
وطبقات الزبيدي: 51 وحلية الأولياء 6: 249 ونزهة الألباء: 26 وإنباه الرواة 1: 329 وسير الذهبي 7: 444 والعبر 1: 248 وتذكرة الحفاظ 1: 202 وميزان الاعتدال 1: 590 وطبقات ابن الجزري 1: 258 والوافي 13: 145 والبلغة: 73 وتهذيب التهذيب 3: 11 وبغية الوعاة 1: 548 والشذرات 1: 262 وروضات الجنات 3: 249 والجواهر المضية 1: 225 وقد دخلت الترجمة هنا تحشية من المختصر أخلّت بها المطبوعة م.(3/1199)
فقلت: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا بكسر الباء، فقال لي: انظر جيدا فنظرت فقلت: لست أعرف إلا هذا، فقال لي يا بني: أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنى، القوم إنما بنوا الكلام ولم يبنوا اللبن الطين، قال: فلم أزل أهابه ولزمته.
وكان أبو عمر الجرمي يقول: ما رأيت فقيها قط أفصح من عبد الوارث إلا حماد بن سلمة.
وكان حماد يقول: من لحن في حديثي فقد كذب عليّ.
وكان حماد يمرّ بالحسن البصري في الجامع فيدعه ويذهب إلى أصحاب العربية يتعلم منهم؛ وكان مع تقدمه في العربية إماما في الحديث ثقة ثبتا حتى قالوا: إذا رأيت الرجل يقع في حماد فاتهمه على الإسلام.
روى حماد عن ثابت [1] وأبي عمران الجوني وعبد الله بن كثير وابن [أبي] مليكة وخلق، وعنه مالك وسفيان وشعبة وابن مهدي وعفان وأمم.
وقال عمرو بن سلمة [2] : كتبت عن حماد بن سلمة بضعة عشر ألف حديث.
وقال ابن المديني: كان عند يحيى بن الضرير عن حماد عشرة آلاف حديث.
وقال يحيى بن معين: هو أعلم الناس بثابت.
وقال أحمد بن حنبل: حماد أعلم الناس بحديث خاله حميد الطويل وأثبتهم فيه.
وقال أحمد ويحيى: هو ثقة.
وقال رجل لعفان: أحدثك عن حماد؟ قال: من حماد، ويلك؟ قال: ابن سلمة، قال: هلّا قلت أمير المؤمنين؟
وقال ابن عدي: حماد إمام جليل وهو مفتي أهل البصرة مع سعيد بن أبي عروبة.
وقال إسحاق بن الطباع، قال لي سفيان بن عيينة: العلماء ثلاثة عالم بالله
__________
[1] يعني ثابتا البناني.
[2] كذلك هو في ميزان الاعتدال والصواب عمرو بن عاصم (انظر الحاشية رقم 3 ص 446 من سير الذهبي) .(3/1200)
وبالعلم، وعالم بالله ليس بعالم بالعلم، وعالم بالعلم ليس بعالم بالله، قال ابن الطباع: الأول كحماد بن سلمة، والثاني مثل أبي الحجاج، والثالث كأبي يوسف.
وقال ابن المديني: من سمعتموه يتكلّم في حماد فاتهموه.
واحتجّ مسلم بحماد بن سلمة في أحاديث عدة في الأصول من حديثه عن ثابت، وأخرج له الأربعة إلا البخاري، فنكت ابن حبّان على البخاري ولم يسمّه حيث احتجّ بابن دينار وابن عياش وابن أخي الزهري وترك حمادا فقال: لم ينصف من جانب حديث حماد، واحتجّ بأبي بكر ابن عياش وعبد الرحمن بن دينار وابن أخي الزهري.
وقال حماد بن زيد: ما كنا نرى أحدا يتعلم بنيّة غير حماد، وما نرى اليوم من يعلّم بنيّة غيره.
وقال وهيب: كان حماد بن سلمة سيدنا وأعلمنا، وكان إماما في العربية فصيحا مفوها مقرئا فقيها شديدا على المبتدعة. وله تآليف، ولم يكن له كتاب غير كتاب قيس بن سعد، يعني كان يحفظ علمه. مات حماد في ذي الحجة سنة سبع وستين ومائة وقيل سنة تسع وستين في خلافة المهدي ورثاه اليزيدي بأبيات أولها [1] :
يا طالب النحو ألا فابكه ... بعد أبي عمرو وحماد
يعني حماد بن سلمة وأبي عمرو بن العلاء.
- 426-
حماد بن ميسرة بن المبارك بن عبيد الديلمي،
مولى بني بكر بن وائل،
__________
[426]- ترجمة حماد الراوية في طبقات ابن المعتز: 69 والمعارف: 541 والفهرست: 104 ومراتب النحويين: 72 وطبقات الزبيدي: 209 وأمالي المرتضى 1: 131 ومصورة ابن عساكر 5: 273 وتهذيب ابن عساكر 4: 430 ومختصر ابن منظور 7: 244 ونزهة الألباء: 23 والأغاني 6: 68 وابن خلكان 2: 206 وسير الذهبي 7: 157 والوافي 13: 137 ولسان الميزان 2: 352 وبغية الوعاة 1: 549 والخزانة 4: 129 ويرد أحيانا باسم حماد بن سابور، وأحيانا باسم حماد بن هرمز.
[1] الإنباه 1: 330 وميزان الاعتدال 1: 592 وسير الذهبي: 451 والذي رثاه هو يحيى بن المبارك اليزيدي.(3/1201)
وقيل مولى مكنف بن زيد الخيل، الكوفي المعروف بالراوية: قال المدائني كان من أعلم الناس بأيام العرب وأخبارها وأشعارها وأنسابها ولغاتها. وكانت ملوك بني أمية تقدّمه وتؤثره وتستزيده فيفد عليهم ويسألونه عن أيام العرب وعلومها ويجزلون صلته.
وعن الهيثم [1] بن عدي صاحبه وراويته قال، قال الوليد بن يزيد لحماد الراوية:
بم استحققت هذا اللقب فقيل لك الراوية؟ فقال: بأني أروي لكلّ شاعر تعرفه يا أمير المؤمنين أو سمعت به، ثم أروي لأكثر منهم ممن أعرف أنك لم تعرفه ولم تسمع به، ثم لا أنشد شعرا لقديم ولا محدث إلا ميّزت القديم منه من المحدث؛ فقال: إن هذا لعلم وأبيك كثير، فكم مقدار ما تحفظ من الشعر؟ قال: كثيرا، ولكني أنشدك على كلّ حرف من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة، سوى المقطعات، من شعر الجاهلية دون شعر الإسلام، قال: سأمتحنك في هذا، وأمره بالانشاد فأنشد حتى ضجر الوليد، ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه، فأنشده ألفين وتسعمائة قصيدة للجاهليين، وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة الف درهم.
وروي [2] عن حماد الراوية أنه قال: كنت منقطعا إلى يزيد بن عبد الملك وكان أخوه هشام يجفوني لذلك دون سائر أهله من بني أمية، فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام خفته فمكثت في بيتي سنة لا أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سرّا، فلما لم أسمع أحدا يذكرني أمنت فخرجت وصلّيت الجمعة في الرصافة، ثم جلست عند باب الفيل، فإذا شرطيان قد وقفا عليّ فقالا: يا حماد أجب الأمير يوسف بن عمر، فقلت في نفسي: هذا الذي كنت أحذره، ثم قلت لهما: هل لكما أن تدعاني حتى آتي أهلي فأودعهم وداع من لا ينصرف إليهم أبدا ثم أصير معكما إلى الأمير؟ فقالا: ما إلى ذلك سبيل، فاستسلمت إليهما وصرت إلى يوسف بن عمر وهو في الايوان الأحمر، فسلمت عليه فرمى إليّ كتابا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى يوسف بن عمر، أما بعد: فإذا قرأت كتابي هذا
__________
[1] متابع للأغاني: 68- 69.
[2] الأغاني: 72- 74 وتهذيب ابن عساكر 4: 431 (نقلا عن الجليس الصالح 3: 357) والشريشي 3: 267 ودرة الغواص: 110 ونزهة الألباء: 23 والوافي 13: 139.(3/1202)
فابعث إلى حماد الراوية من يأتيك به غير مروّع ولا متعتع، وادفع إليه خمسمائة دينار وجملا مهريّا يسير عليه اثنتي عشرة ليلة إلى دمشق، فأخذت الدنانير ونظرت فإذا جمل مرحول فركبته وسرت اثنتي عشرة ليلة حتى وافيت باب هشام، فاستأذنت فأذن لي، فدخلت عليه في دار قوراء مفروشة بالرخام وهو في مجلس مفروش بالرخام، بين كل رخامتين قضيب ذهب، وهشام جالس على طنفسة حمراء وعليه ثياب خزّ حمر، وقد تضمّخ بالمسك والعنبر، وبين يديه مسك مفتوت في أواني ذهب يقلّبه بيده فيفوح، فسلمت عليه بالخلافة فردّ عليّ السلام، واستدناني فدنوت منه حتى قبّلت رجله، فإذا جاريتان لم أر مثلهما قطّ، في أذني كلّ واحدة منهما حلقتان فيهما لؤلؤتان تتقدان.
فقال لي: كيف أنت يا حماد وكيف حالك، فقلت: بخير يا أمير المؤمنين، قال:
أتدري فيم بعثت إليك، قلت: لا، قال: بعثت إليك بسبب بيت خطر ببالي لا أعرف قائله، قلت: وما هو؟ قال:
ودعوا بالصّبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
فقلت: هذا يقوله عديّ بن زيد العباديّ في قصيدة له، قال: فأنشدنيها فأنشدته:
بكر العاذلون في وضح الصب ... ح يقولون لي ألا تستفيق
ويلومون فيك يا ابنة عبد اللّ ... هـ والقلب عندكم موهوق
لست أدري إذ أكثروا العذل فيها ... أعدوّ يلومني أم صديق
زانها حسنها وفرع عميم ... وأثيث صلت الجبين أنيق [1]
وثنايا مفلّجات عذاب ... لا قصار ترى ولا هنّ روق [2]
ودعوا بالصبوح يوما فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
قدّمته على عقار كعين ال ... ديك صفّى سلافها الراووق [3]
__________
[1] صلت: واضح.
[2] روق جمع أروق وهو الطويل.
[3] قدّمته بالقاف جائز، والأرجح فدّمته بالفاء أي جعلت له فداما، الراووق: المصفاة.(3/1203)
مزّة قبل مزجها فإذا ما ... مزجت لذّ طعمها من يذوق
وطفا فوقها فقاقيع كالد ... رّ صغار يثيرها التصفيق
ثم كان المزاج ماء سحاب ... لا صرى آجن ولا مطروق [1]
قال: فطرب هشام ثم قال: أحسنت يا حماد، يا جارية اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي، وقال: أعد فأعدت فاستخفه الطرب حتى نزل عن فرشه، ثم قال للجارية الأخرى: اسقيه، فسقتني شربة ذهبت بثلث عقلي الثاني، فقلت: إن سقتني الثالثة افتضحت، فقال لي هشام: سل حاجتك، قلت: كائنة ما كانت؟
قال: نعم، قلت: إحدى الجاريتين، فقال: هما جميعا لك بما عليهما وما لهما، ثم قال للأولى: اسقيه فسقتني شربة لم أعقل بعدها حتى أصبحت، فإذا بالجاريتين عند رأسي وعدّة من الخدم مع كلّ واحد منهم بدرة، فقال لي أحدهم: أمير المؤمنين يقرأ عليك السلام ويقول لك: خذ هذه فأصلح بها شأنك، فأخذتها والجاريتين وانصرفت إلى أهلي.
قال الهيثم بن عدي: ما رأيت رجلا أعلم بكلام العرب من حماد.
وقال الأصمعي: كان حماد أعلم الناس إذا نصح، يعني إذا لم يزد وينقص في الأشعار والأخبار فإنه كان متهما بأنه يقول الشعر وينحله شعراء العرب.
وقال المفضل الضبي [2] : قد سلط على الشعر من حماد الراوية ما أفسده فلا يصلح أبدا، فقيل له: وكيف ذلك؟ أيخطىء في رواية أم يلحن؟ قال: ليته كان كذلك، فإن أهل العلم يردّون من أخطأ إلى الصواب، ولكنه رجل عالم بلغات العرب وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيهم، فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق، فتختلط أشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا عند عالم ناقد وأين ذلك.
وذكر أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس [3] أن حمادا هو الذي جمع السبع
__________
[1] الصرى: الماء الذي طال استنقاعه (م: صدى) والآجن: المتغير الطعم، والمطروق: الذي طرقته الدواب، فراثت وكدرت.
[2] الأغاني 6: 85.
[3] انظر شرح القصائد التسع: 682.(3/1204)
الطوال، ولم يثبت ما ذكره الناس من أنها كانت معلقة على الكعبة.
ولحماد اخبار طوال اقتصرنا على ما ذكرناه منها، وكانت ولادته في سنة خمس وتسعين وتوفي سنة خمس وخمسين ومائة، ورثاه ابن كناسة الشاعر بقوله:
لو كان ينجي من الردى حذر ... نجّاك مما أصابك الحذر
يرحمك الله من أخى ثقة ... لم يك في صفو ودّه كدر
فهكذا يفسد الزمان و ... يفنى العلم فيه ويدرس الأثر
- 427-
حماس بن ثامل مولى عثمان بن عفان:
شاعر إسلامي من مخضرمي الدولتين أدرك أيام السفاح، وكان يوما في مجلسه، فذكر إسماعيل بن عبد الله القسري بني أمية فذمّهم وسبهم، فقال حماس للسفاح: يا أمير المؤمنين أيسبّ هذا بني عمك وعمالهم وهو رجل اجتمع والخرّيت في نسب؟ إن بني أمية لحمك ودمك، فكلهم ولا تؤكلهم، فقال له: صدقت، وأمسك إسماعيل فلم يحر جوابا.
ومن شعر حماس:
الله نجّى قلوصي بعد ما علقت ... من الأمير ومن عمرو بن سيّار
بحلفة من يمين غير صادقة ... حلفتها ثم لم تلحقني بالنار
إحلف يمينا إذا ما خفت مضلعة ... وتب إلى غافر للذنب غفّار
- 428-
حمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب الخطابي
من ولد زيد بن الخطاب،
__________
[427]- لم أجد احدا ترجم له، وقد ورد عرضا في الأغاني 22: 26- 27 وذكر حكايته مع إسماعيل العشري عند السفاح، وكتبه محقق الأغاني (ط. دار الثقافة) جماس- بالجيم- (وهو خارج عن شرط المؤلف في معجم الأدباء وحقه أن يكون في معجم الشعراء) .
[428]- قد مرّت ترجمة الخطابي برقم: 174 في الأحمدين؛ وقد ذكرت هنالك مصادر ترجمته.(3/1205)
أبو سليمان البستي، نسبة إلى مدينة بست من بلاد كابل: كان محدثا فقيها أديبا شاعرا لغويا أخذ اللغة والأدب عن أبي عمر الزاهد وأبي علي إسماعيل الصفار وأبي جعفر الرزاز وغيرهم من علماء العراق، وتفقّه بالقفال الشاشي، وروى عنه الحافظ أبو عبد الله ابن البيع المعروف بالحاكم النيسابوري والحافظ المؤرخ عبد الغافر بن محمد الفارسي صاحب «السياق لتاريخ نيسابور» وأبو القاسم عبد الوهاب الخطابي وخلق.
قال الحافظ أبو المظفر السمعاني [1] : كان حجة صدوقا رحل إلى العراق والحجاز وجال في خراسان وخرج إلى ما وراء النهر.
وقال الثعالبي [2] : كان يشبه في عصرنا بأبي عبيد القاسم بن سلام في عصره، علما وأدبا وزهدا وورعا وتدريسا وتأليفا، إلا أنه كان يقول شعرا حسنا وكان أبو عبيد مفحما.
ولأبي سليمان كتب من تآليفه أشهرها وأسيرها: كتاب غريب الحديث وهو في غاية الحسن والبلاغة. وله أعلام السنن في شرح صحيح البخاري. ومعالم السنن في شرح سنن أبي داود. وكتاب إصلاح غلط المحدثين. وكتاب العزلة. وكتاب شأن الدعاء. وكتاب الشجاج وغير ذلك.
ولد في رجب سنة تسع عشرة وثلاثمائة وتوفي ببلده بست سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة وقيل سنة ست وثمانين والاول أصح.
ومن شعره:
إذا خلوت صفا ذهني وعارضني ... خواطر كطراز البرق في الظلم
وإن توالى صياح الناعقين على ... أذني عرتني منه لكنة العجم
وقال [3] :
لعمرك ما الحياة وإن حرصنا ... عليها غير ريح مستعاره
وما للريح دائمة هبوب ... ولكن تارة تجري وتاره
__________
[1] ذكر هذا النص في ترجمته السابقة.
[2] عن اليتيمة 4: 334 وقد تكرّر هنا.
[3] اليتيمة 4: 335.(3/1206)
وقال [1] :
وما غمّة الانسان من شقّة النوى ... ولكنها والله من عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
وقال [2] :
تسامح ولا تستوف حقّك كلّه ... وأبق فلم يستقص قطّ كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم
وقال [3] :
قد أولع الناس بالتلاقي ... والمرء صبّ إلى هواه
وإنما منهم صديقي ... من لا يراني ولا أراه
وقال [4] :
شرّ السباع الضواري [5] دونه وزر ... والناس شرّهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما نرى بشرا لم يؤذه بشر
وقال [6] :
ما دمت حيا فدار الناس كلهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديما للندامات
__________
[1] تكرر ذكر هذين البيتين نقلا عن اليتيمة، وانظر طبقات السبكي 3: 284.
[2] اليتيمة 4: 336 (وهما قد وردا في الترجمة السابقة) وطبقات السبكي 3: 285.
[3] اليتيمة 4: 336.
[4] اليتيمة 4: 335 (وقد تكررا في الترجمة السابقة) .
[5] اليتيمة: العوادي.
[6] اليتيمة 4: 335 (وهما مكرران) .(3/1207)
- 429-
حمدان بن عبد الرحيم، أبو الفوارس الأثاربي:
من قرية من أعمال حلب تدعى معراثا الأثارب. وكانت ملكه، ومن أولاده انتقلت إلى ملاكها الآن. أحد الأدباء الشعراء الخلعاء الأطباء الكتاب، كان دائبا في طلب العلم يحضر مجالس العلماء وأهل الأدب ويصحب من لقيه منهم ويلازمه. ولي للسلطان نور الدين أعمالا منها معرة النعمان. ودخل بغداد، وقال فيها:
إن بغداد لمن أبصرها ... ورآها طرفة بين البلاد
فتأمّلها تراها عجبا ... نعم بيض على قوم سواد
توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة [1] .
حدث حمدان بن عبد الرحيم ابن أخي هذا حمدان المذكور قال: جلس يوما عمي حمدان وجماعة من وجوه المعرة، منهم الرئيس نعمان، رئيس المعرة، وكان خال المحدّث حمدان، على مجلس أنس بمعرة النعمان، ومعهم مغنّية تسمى
__________
[429]- ترجمة حمدان الأثاربي في مصورة ابن عساكر 5: 284 وتهذيب ابن عساكر 4: 434 (وعليه يعتمد ياقوت) وبغية الطلب 5: 276 وذكره ياقوت في «الأثارب» 1: 114- 115 وقال إنه كان في أيام طغتدكين صاحب دمشق وصنف تاريخا، قال: وقد ذكرته في معراثا بأتمّ من هذا، ولم يفعل، غير أنه ذكره في مادة: جزر. حربنوش. دير حشيان. دير عمان. دير مرقس. عرشين القصور. معرة مصرين. ورفع ابن العديم في نسبه: حمدان بن عبد الرحيم بن حمدان بن علي بن خلف بن هلال بن نعمان بن داود أبو الموفق التميمي من ولد حاجب بن زرارة، وقال: أصله من قرية من قرى حلب تعرف بمعراثا الاثارب، وكانت جارية في ملكه، ومن أولاده انتقلت إلى ملاكها الآن، ثم انتقل هو وأبوه إلى الأثارب فسكنا بها، وكان اكثر مقامه بالجزر يتردد في نواحيه في الدولتين الاسلامية والفرنجية، وولي في الجزر أعمالا للديوان في دولة أتابك زنكي بن آق سنقر ... ووهبه صاحب الأثارب الفرنجي قرية تعرف بمعربونية من ناحية معرة مصرين ودامت في يده بعد أخذ المسلمين البلاد من يد الفرنج. قلت: وأورد ابن العديم عنه معلومات مفيدة وذكر أن له كتابا في أخبار بني تميم وكتابا في التاريخ من سنة 490 ضمنه أخبار الفرنج وأيامهم وخروجهم إلى الشام من السنة المذكورة وما بعدها، وسماه «المفوف» . ومعظم هذه الترجمة من المختصر.
[1] هكذا هو في المختصر، وفي المطبوعة سنة أربع وخمسين وخمسمائة.(3/1208)
«ست النظر» ثم افترقوا بعد هزيع من الليل، فقام عمي حمدان إلى فراش قد هيّأه له الرئيس أبو الفتح ابن أبي حصينة في قبة له، وانتبه في أثناء الليل وأراد الخروج من القبة، فسقط من أعلاها إلى ناحية الدار، فعلم به الرئيس نعمان فجاءه في طائفة من أصحابه، وحملوه إلى فراشه. وأمر نعمان أصحابه ألا يخبره أحد بما جرى، ونام ساعة وهم حوله، ثم دعوا المغنية، فجلست عند رأسه تغني فانتبه من نومه، وجلس واستطاب وقته، فسألوه أن ينظم في ذلك شعرا، فعمل للوقت:
أيا صاح قد صاح ديك الصباح ... وهبّت تغنيك ستّ النّظر
بلفظ هو السحر سحر الحلال ... ووجه حوى الحسن مثل القمر
وتشدوك قم وتنبّه لها ... وباكر صبوحك قبل البكر
أفق كم تنام وهات المدام ... ورقرق لنا الجام وقّيت شر
أما تنظر الفجر خلف الظلام ... محثا وأعلامه قد نشر
وقد سامحتك صروف الزمان ... وكفّت أكفّ القضا والقدر
فما العذر في ترك شرب الشّمول ... ونهب الأباريق كرا وفر
فشرب الشمول بخفق الطبول ... ونفخ الزماري وقرع الوتر
فما رونق الدهر باق عليك ... فخذ ما صفا واجتنب ما كدر
قال: فبقي مدة لا يعلم ما جرى إلى أن قلت له يوما: ما تقول في من سقط من هذا المكان؟ وأشرت إلى (المكان) الذي سقط منه إلى أسفل فقال: ما يجمع الله به شملا. فقلت له: أتذكر ليلة «أيا صاح قد صاح ديك الصباح» ؟ فقال: وما جرى؟ فقصصت عليه القصة. فقال: لهذا تؤلمني أعضائي. ثم وقع مريضا لوقته وبقي مطروحا على الفراش شهرين.
واتفق له الخروج إلى معراثا الأثارب، وكانت حينئذ بيد الإفرنج، فمرض صاحب الاثارب منويل، وهو ابن أخت صاحب أنطاكية، فدخل إليه حمدان فعالجه إلى أن عوفي، فمنّاه فطلب منه قرية فأعطاه معربونية فسكن بها مدة ثلاثين سنة، فسيّر إليه أبو الحسن ابن أبي جرادة من يعتبه على مقامه بين الفرنج، وسوء اختياره في المكوث بينهم، فكتب إليه:(3/1209)
وقائل عائب لي إذ رأى شغفي ... بقرية ليس سكناها من الشرف
ماذا دعاك إلى هذا؟ فقلت له ... صروف دهر وصرف الدهر غير خفي
بخل الوفيّ وإعراض الرضي وتق ... صير الصفي وظلم المشرف الجنف
فإن أقمت بها فالمسك موطنه ... في جلدة ومقرّ الدرّ في الصّدف
ومن شعره [1] :
لا جلق رقن لي معالمها ... ولا اطّبتني أنهار بطنان
ولا ازدهتني بمنبج فرص ... راقت لغيري من آل حمدان
لكن زماني بالجزر ذكرني ... طيب زماني وفيه أبكاني [2]
يا حبذا الجزر كم نعمت به ... بين جنان ذوات أفنان
واجتاز [3] بحمدان في بعض السنين الأمير مهند الدولة بن الحنشي [4] فأنزله بداره في الأثارب وأقام عنده أشهرا، فلما وافى هلال رمضان قال الأمير:
لله من قمر رآني معرضا ... عنه وإعراضي حذار وشاته
طلع الهلال فقلت أعمل حيلة ... في قبلة تجني جنى وجناته
فمضى وقال تصدّ عن قمر الهوى ... لترى الهلال رقى إلى درجاته
فأنا وحقّ هواك أبعد مرتقى ... منه وتأثيري كتأثيراته
أنا كامل أبدا وذلك ناقص ... فاجهد بوصفي ممعنا [5] وصفاته
__________
[1] الأبيات في معجم البلدان 2: 71 (جزر) 655 (دير حشيان) وبغية الطلب: 279.
[2] الجزر- بالفتح ثم السكون- كورة من كور حلب.
[3] متابع لابن عساكر وهو في بغية الطلب: 277.
[4] م: الخشيني (والتصويب عن بغية الطلب) .
[5] البغية: جاهدا.(3/1210)
- 430-
حمد بن الحسين وزير منوجهر،
يكنى أبا علي، وأصله من همذان: وزر لمنوجهر بن قابوس بن وشمكير بجرجان، إلى أن قبض عليه، واستصفى ماله. ومات في اعتقاله سنة عشر وأربعمائة. وكان أديبا فاضلا كاملا بليغا، وله أشعار منها:
عابوه لما التحى فقلنا ... عبتم وغبتم عن الجمال
هذا غزال وهل معيب ... تولّد المسك في غزال
وله:
إذا ولّت الدنيا عن المرء أقبلت ... إليه مذمّات العدى والأصادق
وإن هو لم يدلج إلى المال لم يزل ... على المال مقطوع العرى والعلائق
تصفحت أحوال الزمان فلم أجد ... أعز وجودا من صديق موافق
- 431-
حمدة ويقال حمدونة بنت زياد بن بقي،
من قرية بادي من أعمال وادي آش: كان أبوها زياد مؤدّبا، وكانت أديبة نبيلة شاعرة ذات جمال ومال مع العفاف والصون إلا أنّ حبّ الأدب كان يحملها على مخالطة أهله مع نزاهة موثوق بها، وكانت تلقب بخنساء المغرب وشاعرة الأندلس.
__________
[430]- هذه الترجمة من المختصر.
[431]- ترجمة حمدة بنت زياد الوادياشية في التكملة رقم: 2120 (ط. مدريد) وتحفة القادم: 234 والمقتضب من تحفة القادم: 162 والمغرب 2: 145 ورايات المبرزين: 63 والمطرب: 11 والاحاطة 1: 497 والسفر الثامن من الذيل والتكملة: 485 (رقم: 250) ونفح الطيب 4: 287 وعيون التواريخ 12: 9 والوافي 13: 163 والفوات 1: 394 ومطالع البدور 1: 272 ونزهة الجلساء: 38 (وهو ينقل عن ابن سعيد وعن تذكرة الصلاح الصفدي) .(3/1211)
روى عنها أبو القاسم ابن البراق [1] قال: أنشدتنا حمدة العوفية لنفسها وقد خرجت متنزهة بالرملة من نواحي وادي آش فرأت ذات وجه وسيم أعجبها، فقالت:
أباح الدمع أسراري بوادي ... له في الحسن آثار بوادي
فمن نهر يطوف بكلّ روض ... ومن روض يرفّ بكلّ وادي
ومن بين الظباء مهاة أنس ... سبت لبى وقد ملكت فؤادي
لها لحظ ترقّده لأمر ... وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في أفق السواد
كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل بالسواد
وقد نسب إليها أهل المغرب الأبيات الشهيرة المنسوبة للمنازي الشاعر المشهور وهي [2] :
وقانا لفحة الرمضاء واد ... سقاه مضاعف الغيث العميم
حللنا دوحه فحنا علينا ... حنّو المرضعات على الفطيم
وأرشفنا على ظمإ زلالا ... ألذّ من المدامة للنديم
يصدّ الشمس أنى واجهتنا ... فيحجبها ويأذن للنسيم
يروع حصاه حالية العذارى ... فتلمس جانب العقد النظيم
أجمع أدباء المشرق على نسبة هذه الأبيات للمنازي، وهو أحمد بن يوسف المنازي المتوفى سنة سبع وثلاثين وأربعمائة وأنه عرضها على أبي العلاء المعري [3] ، فجعل المنازي كلما أنشده المصراع الأول من كل بيت سبقه أبو العلاء إلى المصراع
__________
[1] هو أبو القاسم محمد بن علي بن البراق، له ترجمة في الذيل والتكملة 6: 457- 483.
[2] المنازي هو أحمد بن يوسف ونسبته إلى منازكرد وكان وزيرا للمروانية ملوك ديار بكر، وسيّره نصر الدولة أحمد بن مروان رسولا عنه إلى مصر، فزار المعرة واجتمع بأبي العلاء، وهو شاعر مقل مجيد.
[3] انظر بغية الطلب 2: 156 وزاد ابن العديم: أن المنازي لما أنشد المعري قوله «نزلنا دوحه فحنا علينا» بادر أبو العلاء فقال: حنو الوالدات على الفطيم، فقال المنازي: إنما قلت: حنو الوالدات على اليتيم، فقال أبو العلاء: الفطيم أحسن.(3/1212)
الثاني كما نظمه المنازي. ونسبها أدباء الأندلس ومؤرخوها إلى حمدة، وجزم بذلك طائفة منهم، وفيهم من رواها لها قبل أن يخلق المنازي، والله تعالى أعلم.
ومن شعر حمدة أيضا:
ولما أبى الواشون إلا فراقنا ... وما لهم عندي وعندك من ثار
وشنّوا على أسماعنا كلّ غارة ... وقلّ حماتي عند ذاك وأنصاري
غزوتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل والنار
- 432-
حمران بن أعين بن سنبس مولى الطائيين،
يكنى أبا عبد الله: نحوي قارىء حسن الصوت، وكان يتشيع. لقي أبا الأسود الدؤلي، وأخذ عنه حمزة الزيات.
وكان يقول: لا تأمننّ قارئا على صحيفة، ولا جمّالا على حبل.
ولما مات جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، رثاه بمراث منها:
بكيت على خير ما لاحق ... بسالفه صفوة الخالق
بكيت على ابن نبيّ الهدى ... بدمع على وجنتي سابق
ربيع البلاد وغيث العباد ... لشارد [1] صبح وللشارق
ووارث علم نبيّ الهدى ... وميزان حقّ به ناطق
فصلّى الإله على روحه ... وأكرم مثواه من صادق
وقيل: حضر ابن أعين عند جعفر بن محمد، عليهم السلام، يقرأ وساءله عن ضروب من العلوم، وكان مقدما، وكان عنده جماعة من القرشيين، فلما خرجوا قالوا: إنما أحبّ أن يرينا أنّ في شيعته مثل هذا.
__________
[432]- هذه الترجمة من المختصر؛ وقد ترجم له المرزباني في نور القبس: 267 والقفطي في إنباه الرواة 1: 339 وانظر طبقات ابن الجزري 1: 261 وتهذيب التهذيب 3: 25.
[1] الإنباه: لسارب.(3/1213)
- 433-
حمزة بن أسد بن علي بن محمد أبو يعلى
المعروف بابن القلانسي التميمي:
العميد الأديب الكاتب الشاعر المؤرخ صاحب الخط الحسن وله نثر ونظم رائق. كان من أعيان دمشق ومن أفاضلها المبرزين، ولي رياسة ديوانها مرتين وكان يكتب له في سماعه أبو العلاء المسلم بن القلانسي وبذلك كان يسمى. وبها توفي في ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمسمائة ودفن بجبل قاسيون، وله تاريخ للحوادث ابتدأ به من سنة إحدى وأربعين وأربعمائة إلى حين وفاته [1] ، وكانت له عناية بالحديث، وله كتب عليها سماعه. ومن شعره:
إياك تقنط عند كلّ شديدة ... فشدائد الأيام سوف تهون
وانظر أوائل كلّ أمر حادث ... أبدا فما هو كائن سيكون
وقال أيضا:
يا من تملّك قلبي طرفه فغدا ... معذّبا بين أشواق وأشجان
امنن بوصل لعلّي أستجير به ... من سطوة البين في صدّ وهجران
ما لي منيت بممنوع يعذبني ... ولا يزيد فؤادي غير أحزان
لا برّد الله قلبي من تحرّقه ... إن شبت حبّي له يوما بسلوان
إذا ترنم قمريّ على فنن ... في ليلة زاد في حزني وأشجاني
وكم أسرّ غرامي ثم أعلنه ... وليس يخفى بكم سرّي وإعلاني
لا برّد الله شوقي إن نويت لكم ... تغيّرا ما بأشكال وألوان
__________
[433]- ترجمة ابن القلانسي في مصورة ابن عساكر 5: 298 ومختصر ابن منظور 7: 259 وتهذيب ابن عساكر 4: 442 (وعليه اعتماد ياقوت) وعبر الذهبي 4: 156 وسير الذهبي 20: 388 وتلخيص مجمع الآداب 1: 912 والشذرات 4: 174.
[1] ابتداؤه بتاريخه «ذيل تاريخ دمشق» قد يكون سنة 448 إذا اعتبرنا ترتيب السنين ولكنه بدأه قبل ذلك، وجاء في طبعة 1908 (ص: 3) ان أول ما وجد من تاريخ ابن القلانسي: ذكر الحرب بين المعز لدين الله والقرامطة سنة 363.(3/1214)
وقال:
يا نفس لا تجزعي من شدة عظمت ... وأيقني من إله الخلق بالفرج
كم شدة عرضت ثم انجلت ومضت ... من بعد تأثيرها في المال والمهج
- 434-
حمزة بن بيض الحنفي الكوفي أحد بني بكر
بن وائل: شاعر مقدم مجيد من شعراء الدولة الأموية كان منقطعا إلى المهلب وولده، ثم انقطع إلى الأمير بلال بن أبي بردة، ووفد على سليمان بن عبد الملك وامتدحه قبل الخلافة، فقال [1] :
أتينا سليمان الأمير نزوره ... وكان امرءا يحبى ويكرم زائره
إذا كنت بالنجوى به متفردا ... فلا الجود مخليه ولا البخل حاضره
كفى سائليه سؤلهم من ضميره ... عن البخل ناهيه وبالجود آمره
ودخل عليه وعنده يزيد بن المهلب، فقال [2] :
حاز الخلافة والداك كلاهما ... ما بين سخطة ساخط أو طائع
أبواك ثم أخوك أصبح ثالثا ... وعلى جبينك نور ملك رابع
سرّيت خوف بني المهلب بعدما ... نظروا السبيل بسمّ موت ناقع
ليس الذي أولاك ربك فيهم ... عند الإله وعندهم بالضائع
فأمر له بخمسين ألف درهم.
__________
[434]- ترجمة حمزة بن بيض في مصورة ابن عساكر 5: 299 ومختصر ابن منظور 7: 258 وتهذيب ابن عساكر 4: 443 والأغاني 16: 142 والمعارف: 591 والمؤتلف والمختلف: 141 وبغية الطلب 5: 287 وسير الذهبي 5: 267 والوافي 13: 185 والفوات 1: 395 وأخبار الحمقى: 43؛ (وحمزة بن بيض شاعر وحسب، فترجمته هذه يجب أن تذهب إلى معجم الشعراء) .
[1] عن تاريخ ابن عساكر.
[2] الأغاني 16: 150- 151 وابن عساكر.(3/1215)
وقال في سليمان أيضا [1] :
لم تدر ما «لا» فلست قائلها ... عمرك ما عشت آخر الأبد
ولم تؤامر بتلك ممتريا ... فيها وفي أختها ولم تكد
وهي على أنها أخفّهما ... أثقل حملا عليك من أحد
لما تعودت من نعم فنعم ... ألذّ في فيك من جنى الشهد
إلا يكن عاجل تعجّله ... لنا لئلا تقولها فعد
وما تعد في غد يكن غدك ... الواجب للسائلين خير غد
ودخل [2] على يزيد بن المهلب يوم جمعة وهو يتأهب للمضيّ إلى المسجد وجاريته تعممه فضحك فقال له يزيد: ممّ تضحك؟ قال: من رؤيا رأيتها إن أذن لي الأمير قصصتها، قال: قل، فأنشأ يقول:
رأيتك في المنام سننت خزّا ... عليّ بنفسجا وقضيت ديني
فصدّق يا هديت اليوم رؤيا ... رأتها في المنام كذاك عيني
قال: كم دينك؟ قال: ثلاثون ألفا، قال: قد أمرنا لك بها ومثلها، ثم قال:
يا غلمان فتّشوا الخزائن فجيئوه بكل جبة خزّ بنفسج تجدونها، فجاءوا بثلاثين جبة، فنظر إليه يلاحظ الجارية فقال: يا جارية عاوني عمك على قبض الجباب فإذا وصلت إلى منزله فأنت له، فأخذها والجباب وانصرف.
وقال في يزيد بن المهلب أيضا [3] :
ومتى يؤامر نفسه مستخليا ... في أن تجود لدى السؤال تقول جد
أو أن يعود لنا بنفحة نائل ... بعد الكرامة والحباء تقول عد
أو في الزيادة بعد جزل عطائه ... للمستزيد من العفاة تقول زد
__________
[1] تهذيب ابن عساكر ومختصر ابن منظور.
[2] تهذيب ابن عساكر: 443- 444 وقارن بالأغاني: 163.
[3] تهذيب ابن عساكر (والنقل عن الجليس الصالح) .(3/1216)
أو في الوفود على أسير موثق [1] ... بخلت أقاربه عليه تقول فد
أو في ورود شريعة محفوفة ... بالمشرفية والرماح تقول رد
ونعم بفيه ألذّ حين يقولها ... طعما من العسل المدوف بماء ورد
ولما خرج زيد بن علي على هشام منع أهل مكة والمدينة أعطياتهم سنة، فقال حمزة بن بيض في ذلك [2] :
وصلت سماء الضرّ بالضرّ بعدما ... زعمت سماء الضرّ عنا ستقلع
فليت هشاما كان حيّا يسوسنا ... وكنّا كما كنّا نرجّي ونطمع
ولما ولي أبو لبيد البجلي ابن أخت خالد القسري أصبهان، وكان رجلا متنسكا، خرج حمزة بن بيض في صحبته، فقيل له إن مثل حمزة لا يصحب مثلك لأنه صاحب كلاب ولهو، فبعث إليه ثلاثة آلاف درهم وأمره بالانصراف فقال:
يا ابن الوليد المرتجى سيبه ... ومن يجلّي الحندس الحالكا
سبيل معروفك منّي على ... بال فما بالي على بالكا
حشو قميصي شاعر مفلق ... والجود أمسى حشو سربالكا
يلومك الناس على صحبتي ... والمسك قد يستصحب الرامكا
إن كنت لا تصحب إلّا فتى ... مثلك لن تؤتى بأمثالكا
إني امرؤ حيث يريد الهوى ... فعدّ عن جهلي باسلامكا
قال له أبو لبيد: صدقت، وقرّب منزلته.
وقال النضر بن شميل [3] : دخلت على المأمون بمرو فقال: يا نضر أنشدني أخلب بيت للعرب، قلت: هو قول ابن بيض في الحكم بن مروان:
__________
[1] م: فقير موبق؛ والفداء يكون للأسير الموثق.
[2] في هذا الخبر اضطراب واضح، فإن الذي وعد الناس بأن سماء الضرّ عنهم ستقلع هو الوليد بن يزيد، وزيد ثار في زمن هشام؛ ويفهم من البيت الثاني ان هشاما قد توفي «فليت هشاما كان حيا يسوسنا» ولعل البيتين في الردّ على الوليد، ولا علاقة لهما بثورة زيد.
[3] الأغاني 16: 153.(3/1217)
تقول لي والعيون هاجعة ... أقم علينا يوما فلم أقم
أيّ الوجوه انتجعت قلت لها ... وأيّ وجه إلا إلى الحكم
متى يقل حاجبا سرادقه ... هذا ابن بيض بالباب يبتسم
قد كنت أسلمت قبل مقتبلا ... والآن أرحل وأعطني سلمي
فقال المأمون: لله درك فكأنما شقّ لك عن قلبي.
وأودع [1] حمزة عند ناسك ثلاثين ألفا ومثلها عند نبّاذ، فأما الناسك فبنى بها دارا وزوّج بناته فأنفقها وجحدها، وأما النباذ فأدّى إليه ماله، فقال في ذلك:
ألا لا يغرّنك ذو سجدة ... يظلّ بها دائبا [2] يخدع
كأن بجبهته حبة [3] ... تسبّح طورا وتسترجع
وما للتقى لزمت وجهه ... ولكن ليغترّ مستودع
ولا تنفرنّ من اهل النبيذ ... وإن قيل يشرب لا يقلع
فعندي علم بما قد خبرت ... إن كان علمي بها ينفع
ثلاثون ألفا طواها السجود ... فليست إلى أهلها ترجع
بنى الدار من غير أمواله ... فأصبح في بيته يرتع
مهائر من مالهم قد حرمن ... ظلما فهم سغّب جوّع
وأدّى أخو الكاس ما عنده ... وما كنت في ردّه أطمع
ونزل [4] بقوم فأساءوا ضيافته وطرحوا لبغلته تبنا رديئا فعافته، فأشرف عليها فشحجت حين رأته، فقال:
احسبيها ليلة أدلجتها ... فكلي إن شئت تبنا أو ذري
قد أتى مولاك خبز يابس ... فتغدّى فتغدّي واصبري
__________
[1] الأغاني 16: 147.
[2] م: لا يغرك ... دائما.
[3] الأغاني: حلية.
[4] تهذيب ابن عساكر 4: 444.(3/1218)
ولحمزة بين بيض أخبار حسان مع عبد الملك بن مروان وابنه وآل المهلب يطول ذكرها. توفي سنة ست عشرة ومائة وقيل سنة عشرين ومائة والأول أصح.
- 435-
حمزة بن حبيب بن عمارة بن اسماعيل،
الإمام أبو عمارة التيمي، تيم الله ولاء وقيل نسبا، الكوفي المعروف بالزيات، وقيل له الزيات لأنه كان يجلب الزيت من الكوفة إلى حلوان ويجلب من حلوان الجبن والجوز إلى الكوفة: وهو الإمام الحبر شيخ القراء وأحد السبعة الأئمة ولد سنة ثمانين [في خلافة عبد الملك بن مروان] ، وأدرك الصحابة بالسن فيحتمل أن يكون رأى بعضهم.
أخذ القراءة عرضا عن الأعمش والإمام جعفر بن محمد الصادق وابن أبي ليلى وحمران بن أعين. وروى عن الحكم وعدي بن ثابت وحبيب بن أبي ثابت وطلحة بن مطرف. وأخذ القراءة عنه إبراهيم بن أدهم وسفيان الثوري وشريك بن عبد الله وعلي بن حمزة الكسائي وغيرهم. وروى عنه يحيى بن آدم وحسين الجعفي وخلق. وإليه المنتهى في الصدق والورع والتقوى، وإليه صارت الامامة في القراءة بعد عاصم والأعمش. وكان إماما حجة ثقة ثبتا رضيا، قيما بكتاب الله، بصيرا بالفرائض، خبيرا بالعربية، حافظا للحديث، عابدا زاهدا خاشعا قانتا لله ورعا عديم النظير.
قال الأعمش يوما، وقد رأى حمزة مقبلا: وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ
(الحج: 34) وقال ابن فضيل: ما أحسب أنّ الله يدفع البلاء عن أهل الكوفة إلا بحمزة. وعن شعيب بن حرب أنه قال: ألا تسألوني عن الدرّ يعني قراءة حمزة. وكان شيخه إذا رآه مقبلا يقول: هذا حبر القرآن. وقال سفيان الثوري: غلب حمزة الناس على القرآن
__________
[435]- ترجمة حمزة بن حبيب في طبقات ابن سعد 6: 385 وطبقات الزبيدي: 139 والفهرست: 32 والمعارف: 529 والمعرفة والتاريخ 2: 256 وابن خلكان 2: 216 وعبر الذهبي 1: 226 وتاريخ الذهبي 6: 174 وميزان الاعتدال 1: 605 وسير الذهبي 7: 90 وطبقات ابن الجزري 1: 261 والوافي 13: 172 وتهذيب التهذيب 3: 27 والشذرات 1: 240. وفي ترجمته المذكورة في المختصر زيادات واختلافات عما هنا، ولذلك سأثبتها في ملحقات الكتاب لصعوبة المزج بين الترجمتين.(3/1219)
والفرائض. وقال له أبو حنيفة: شيئان غلبتنا عليهما لسنا ننازعك فيهما: القرآن والفرائض. وقد وثّقه يحيى بن معين وقال: حسن الحديث عن أبي إسحاق يعني ابن أبي ليلى، ووثقه آخرون، وقال النسائي: ليس به بأس.
وأما ما ذكر عن أحمد بن حنبل وأبي بكر ابن عياش ويزيد بن هارون وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن إدريس وحماد بن زيد من كراهتهم لقراءة حمزة لما فيها من المدّ المفرط والسّكت واعتبار الهمزة في الوقف والامالة ونحو ذلك من التكلف فإن حمزة أيضا كان يكره ذلك وينهى عنه، وروي أنه كان يقول لمن يفرط في المدّ والهمز: لا تفعل، أما علمت أن ما فوق البياض فهو برص، وما فوق الجعودة فهو قطط، وما فوق القراءة فهو ليس بقراءة.
وبعد فقد انعقد الإجماع على تلقي قراءة حمزة بالقبول، والإنكار على من تكلم فيها. توفي حمزة بحلوان، مدينة في آخر سواد العراق سنة ست وخمسين ومائة [في خلافة المنصور] وقيل سنة ثمان وخمسين وله ست وسبعون سنة.
- 436-
حمزة بن الحسن الأصفهاني أبو عبد الله:
مشهور بالفضل، شائع الذكر، له تصانيف جيدة، إلا أنه [] وكان مع ذلك رقيعا ناقص العقل، غير ثبت، ولم ير في عصره أعرف منه بالفارسية، ولا أحسن تصرفا فيها منه. وله مصنّفات كثيرة:
كتاب تاريخ أصفهان. كتاب الأمثال على أفعل [1] . كتاب أصبهان وأخبارها. كتاب التشبيهات. كتاب الأمثال الصادرة عن بيوت الشعر. كتاب أنواع الدعاء. كتاب التنبيه على حدوث التصحيف [2] . كتاب رسائل. كتاب التماثيل في تباشير السرور.
__________
[436]- ترجمته في الفهرست: 154 وذكر أخبار أصبهان 1: 300 وإنباه الرواة 1: 335؛ وهذه الترجمة من المختصر؛ وذكر السمعاني في الأنساب أنه توفي قبل 360 ويستنتج من كتاب سني ملوك الأرض والأنبياء (طبعه جوتوالد ثم أعيد طبعه في بيروت) أنه كان حيا سنة 351.
[1] حققه عبد المجيد قطامش، ويقع في جزءين، طبع دار المعارف بمصر 1972.
[2] من مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، تحقيق محمد أسعد طلس 1968.(3/1220)
كتاب جمع فيه أخبار عشرة من الشعراء المحدثين أولهم بشار. كتاب ديوان شعر أبي نواس [1] . كتاب ديوان شعر أبي تمام. كتاب مضاحك الأشعار. كتاب أعياد بغداد الفرس.
- 437-
حمزة بن علي أبو يعلى بن العين زربي،
نسبة إلى عين زربى [2] الأديب الشاعر: قتل في الوقعة التي كسر فيها أتسز بن أوق بمصر سنة ست وخمسين وخمسمائة. ومن شعره هذه القصيدة وهي من بحر السلسلة [3] ، قال:
هل تأمن يبقي لك الخليط إذا بان ... للهمّ فؤادا وللمدامع أجفان
أتطمع في سلوة وجسمك حال ... بالسّقم ومن حبّهم فؤادك ملآن
تبغي أملا دونه حشاشة نفس ... وهوى في الحشا يضاعف أشجان
اعتلّ لأجفاني القريحة أجفان ... إذ بان ركاب من العقيق إلى البان
فالدمع إذا ما استمر فاض نجيعا ... والحبّ إذا ما استمر ضاعف أشجان
لله وجوه بدت لنا كبدور ... حسنا وقدود غدت تميس كاغصان
إذا عزموا عزمة الفراق أعاروا ... للقلب هموما تحلّ فيه وأحزان
سقيا لزمان مضى ففرّق شملا ... أيام خلا لي العيش والوصل بحلوان
يا ساكنة في الحشا ملكت فؤادا ... أضحت حرق الوجد فيه تضرم نيران
حتّام تمنّي الفؤاد منك بوعد ... هل ينقع لمع السراب غلّة عطشان
حتام أرى راجيا وصال حبيب ... قد أسرف في هجره وأصبح خوّان
__________
[437]- ترجمته في تهذيب ابن عساكر 4: 449 (وأكثر ما أورده ياقوت عنه) وبغية الطلب 5: 296 (وهو ممن يلحق بمعجم الشعراء) .
[1] في «أربعة» أجزاء، تحقيق فاغنر.
[2] عين زربى (وعند ابن العديم: عين زربه) بلدة من الثغور من نواحي المصيصة.
[3] بحر السلسلة: مستفعلتن فاعلن مفاعلتن فل. والشعر عند ابن عساكر.(3/1221)
وقال [1] :
تناسيتم عهد الوفا [2] بعد تذكار ... فأجرى حديثي عنكم [3] مدمعي الجاري
وأنكرتموني بعد عرفان صبوتي [4] ... فهيّجتم وجدي وأضرمتم ناري
وهل دام في الأيام وصل لهاجر ... وودّ لخوّان وعهد لغدّار
ألا حاكم لي في الغرام يقيلني ... ألا آخذ لي بعد سفك دمي ثاري
وإني لصبّار على ما ينوبني ... ولكن على هجرانكم غير صبار
وقال [5] :
يا راكبا عرض الفلاة ألا ... بلّغ أحبّاي الذي تسمع
قل لهم ما جفّ لي مدمع ... ولم يطب لي بعدكم مضجع
ولا لقيت الطيف مذ غبتم ... وإنما يلقاه من يهجع
وقال:
المال يرفع ما لا يرفع الحسب ... والودّ يعطف ما لا يعطف النّسب
والحلم آفته الجهل المضرّ به ... والعقل آفته الإعجاب والغضب
- 438-
حميد بن ثور بن عبد الله،
وقيل ابن حزن بن عامر بن أبي ربيعة بن نهيك بن هلال الهلالي، ويتصل نسبه بنزار بن معدّ، أبو المثنى: أحد المخضرمين من
__________
[438]- لا وجه يسوّغ وضع حميد بن ثور في معجم الأدباء؛ انظر ترجمته في طبقات ابن سلام: 192 والشعر والشعراء: 306 والأغاني 4: 358 والاستيعاب 1: 377 وأسد الغابة 2: 53 ومصورة ابن عساكر 5: 339 (وقد نشر صديقنا العلامة الدكتور شاكر الفحام هذه الترجمة في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق 64 (1989) وتعقيب الشيخ الجاسر 65 (1990) ومختصر ابن منظور 7: 272 وتهذيب ابن عساكر 4: 459 والوافي 13: 193 والاصابة 1: 355.
[1] الشعر عند ابن عساكر وابن العديم.
[2] البغية: الهوى.
[3] م: فيكم؛ ابن عساكر: عندكم.
[4] البغية: وانكرتم بعد اعتراف مودّتي.
[5] الأبيات عند ابن عساكر.(3/1222)
الشعراء، أدرك الجاهلية والاسلام، وقيل إنه رأى النبي صلّى الله عليه وسلم.
قال ابن منده: لما أسلم حميد أتى النبي صلّى الله عليه وسلم فأنشده [1] :
أصبح قلبي من سليمى مقصدا [2] ... إن خطأ منها وإن تعمّدا
تحمّل الهمّ كلازا جلعدا ... ترى العليفيّ عليها مؤكدا [3]
وبين نسعيه خدبّا ملبدا ... إذا السراب بالفلاة اطّردا [4]
ونجد الماء الذي تورّدا ... تورّد السيّد أراد المرصدا [5]
حتى أرانا ربّنا محمّدا
وقيل إن حميدا قال الشعر في أيام عمر رضي الله عنه.
حدّث [6] محمد بن فضالة النحويّ قال: تقدّم عمر بن الخطاب إلى الشعراء ان لا يشبّب أحد بامرأة، فقال حميد بن ثور:
أبى الله إلا أنّ سرحة مالك ... على كلّ أفنان العضاه تروق
فقد ذهبت عرضا وما فوق طولها ... من السّرح الّا عشّة وسحوق [7]
فلا الظلّ من برد الضحى تستطيعه ... ولا الفيء من بعد العشيّ تذوق
فهل أنا إن علّلت نفسي بسرحة ... من السّرح موجود عليّ طريق
كنى عن المرأة التي أرادها بالسرحة، والعرب تكني عن النساء بها. وقال [8] :
لقد أمرت بالبخل أمّ محمد ... فقلت لها حثّي على البخل أحمدا
__________
[1] الأبيات في ديوانه: 77 (وفيه تخريج) .
[2] مقصدا: قد أصيب بطعنة أو رمية سهم.
[3] الكلاز: الناقة المجتمعة الخلق؛ الجلعد: الضخمة، العليفي: المنسوب إلى علاف، وهو أول من عمل الرحال، المؤكد: الشديد الأسر.
[4] النسع: سير من جلد؛ الخدب: الضخم يريد السنام، ملبد: عليه لبدة من الوبر.
[5] نجد الماء: سال (يريد به العرق) تورّد: تلوّن، شبه تلونه بتلون السيد والسيد: الذئب، المرصد:
الطريق الذي يرصد الذئب فيه فريسته.
[6] الأغاني 4: 358 وانظر الديوان: 38، 39، 40.
[7] العشة: القليلة الأغصان والورق، والسحوق: المفرطة في الطول.
[8] الحماسة 4: 123 والديوان: 76.(3/1223)
فإني امرؤ عوّدت نفسي عادة ... وكلّ امرىء جار على ما تعوّدا
أحين بدا في الرأس شيب وأقبلت ... إليّ بنو غيلان مثنى وموحدا
رجوت سقاطي واعتلالي ونبوتي ... وراءك عني طالقا وارحلي غدا
وقال [1] :
فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب
ليالي سمع الغانيات وطرفها ... إليّ وإذ ريحي لهنّ جنوب [2]
وقال [3] :
لو لم يوكل بالفتى ... إلّا السلامة والنعم
وتناوباه لأوشكا ... أن يسلماه إلى الهرم
وقال [4] :
وما هاج هذا الشوق إلّا حمامة ... دعت ساق حرّ مغرما فترنّما
بكت مثل ثكلى قد اصيب حميمها ... مخافة بين يترك الحبل أجذما
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيا شاقه صوت اعجما
وقال أيضا لما حظر عمر على الشعراء ذكر النساء [6] :
تجرّم أهلوها لأن كنت مشعرا ... جنونا بها يا طول هذا التجرّم [7]
وما لي من ذنب إليهم علمته ... سوى أنني قد قلت يا سرحة اسلمي
بلى فاسلمي ثم اسلمي ثمت اسلمي ... ثلاث تحيات وإن لم تكلّمي
__________
[1] الديوان: 52 من قصيدة طويلة (وتخريجها ص: 60) .
[2] تقول العرب للاثنين إذا كانا متصافيين: ريحهما جنوب.
[3] الديوان: 134 عن معجم الأدباء.
[4] الأبيات في الديوان: 24، 27 وانظر شرح شواهد الكشاف: 292 ومعاني العسكري 1: 336 والزهرة: 245 وسرور النفس: 95 والوحشيات: 193.
[5] م: شوق حر مغرم؛ وساق حر: ذكر الحمام.
[6] الديوان: 133.
[7] تجرم: ادعوا جرما: مشعرا جنونا: خالطه الجنون.(3/1224)
وقال لزوجته [1] :
فاقسم لولا أنّ حدبا تتابعت ... عليّ ولم أبرح بدين مطرّدا [2]
لزاحمت مكسالا كأن ثيابها ... تجنّ غزالا بالخميلة أغيدا
إذا أنت باكرت المنيئة باكرت ... مداكا لها من زعفران وإثمدا [3]
- 439-
حميد بن مالك الأرقط،
ولقب بالأرقط لآثار كانت بوجهه: وهو شاعر إسلامي مجيد، وكان بخيلا؛ قال أبو عبيدة [4] : بخلاء العرب أربعة: الحطيئة وحميد الأرقط وأبو الأسود الدؤلي وخالد بن صفوان.
ومن شعر حميد:
قد أغتدي والصبح محمرّ الطّرر ... والليل تحدوه تباشير السمر
وفي تواليه نجوم كالشّرر ... بسحق الميعة ميال العذر
كأنه يوم الرهان المحتضر ... وقد بدا أول شخص ينتظر
دون أثابيّ من الخيل زمر ... ضار غدا ينفض صيبان المطر
عن زفّ ملحاح بعيد المنكدر ... أقنى تظلّ طيره على حذر
يلذن منه تحت أفنان الشّجر ... من صادق الورق طروح بالبصر
__________
[439]- ترجمة حميد الأرقط في الخزانة 2: 454 والسمط: 659 وفرحة الأديب: 42، 44 وبعض خبره في التذكرة الحمدونية 2: 313- 314 (وهو دخيل على معجم الأدباء) وكان معروفا بهجاء الضيفان.
[1] الديوان: 80.
[2] الحدب: السنوات المجدبة.
[3] المنيئة: دباغة الجلود؛ المداك: الحجر يسحق عليه الطيب.
[4] ورد القول في الأغاني 2: 136 ونور القبس: 146 والتذكرة الحمدونية 2: 313 ونهاية الأرب 3: 297 والمستطرف 1: 171.(3/1225)
بعيد توهيم الوقاع والنظر ... كأنما عيناه في حرفي حجر
بين مآق لم تخرّق بالإبر
وقال في وصف أفعى [1] :
منهرت الشدق رقود الضحى ... سار طمور بالدجنات
وتارة تحسبه ميّتا ... من طول إطراق وإخبات
يسبته الصبح وطورا له ... نفح ونفث [2] في المغارات
- 440-
حميد بن مالك بن مغيث بن نصر بن
منقذ بن محمد بن منقذ، مكين الدولة أبو الغنائم الكناني: ولد بشيزر سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وبها نشأ ثم انتقل إلى دمشق وسكنها، واكتتب في الجيش وكان يحفظ القرآن، وكان أديبا شاعرا، توفي بحلب في شعبان سنة أربع وستين وخمسمائة. ومن شعره:
أدنو بودّي وحظّي منك يبعدني ... هذا لعمرك عين الغبن والغبن
وإن توخيّتني يوما بلائمة ... رجعت باللوم إبقاء على الزمن
وحسن ظني موقوف عليك فهل ... عدلت في الظنّ بي عن رأيك الحسن
وقال:
وقهوة كدموع الصبّ صافية ... تكاد في الكأس عند الشرب تلتهب
يطفو الحباب عليها وهي راسبة ... كأنه فضة من تحتها ذهب
__________
[440]- ترجمة ابن منقذ هذا قد مرّت من قبل ضمن ترجمة أسامة بن منقذ التي ذكر فيها المؤلف عددا من المناقذة؛ وانظر مصورة ابن عساكر 5: 356 وتهذيبه 4: 466 ومختصر ابن منظور 7: 276 وكل ما أورده ياقوت من مقطعات منقول عن ابن عساكر.
[1] ورد الشعر في الحيوان للجاحظ 4: 180، 282- 283 (ولم ينسبه) .
[2] م: ونقب.(3/1226)
وقال:
وسلافة أزرى احمرار شعاعها ... بالورد والوجنات والياقوت
جاءت مع الساقي تنير بكأسها ... فكأنها اللاهوت في الناسوت
وقال:
ما بعد جلّق للمرتاد منزلة ... ولا كسكانها في الأرض سكان
فكلّها لمجال الطرف منتزه ... وكلهم لصروف الدهر أقران
وهم وإن بعدوا منّي بنسبتهم ... إذا بلوتهم بالودّ إخوان
وقال:
وبلدة جمعت من كلّ مبهجة ... فما يفوت لمرتاد بها وطر
بكلّ مشترف من ربعها أفق ... وكلّ مشترف من أفقها قمر
- 441-
حميدة بنت النعمان بن بشير الأنصاري:
شاعرة ابنة شاعر، كانت تحت خالد بن المهاجر بن خالد بن الوليد، تزوّج بها بدمشق لما قدم على عبد الملك بن مروان، فقالت فيه [1] :
نكحت المدينيّ إذ جاءني ... فيا لك من نكحة غاويه
كهول دمشق وشبانها ... أحبّ إلينا من الجاليه
صنان لهم كصنان التيوس ... أعيا على المسك والغاليه
فقال يجيبها [2] :
__________
[441]- انظر الأغاني 9: 218 (في أخبار الحارث بن خالد) 220- 225؛ 16: 21 وانظر البحث القيم الذي كتبه صديقنا العلّامة أحمد راتب النفاخ في مجلة المجمع العربي بدمشق [3 (1984) 587- 615] وحميدة هذه إنما يترجم لها في معجم الشعراء.
[1] الأغاني 9: 218.
[2] الأغاني 9: 218- 219.(3/1227)
أسنا ضوء نار ضمرة بالقف ... رة أبصرت أم سنا ضوء برق
قاطنات الحجون أشهى إلى قل ... بي من ساكنات دور دمشق
يتضوّعن لو تضمخن بالمس ... ك صنانا كأنه ريح مرق
ثم طلقها فخلف عليها روح بن زنباع، فنظر إليها يوما تنظر إلى قومه جذام وقد اجتمعوا عنده، فلامها فقالت: وهل أرى إلا جذاما فو الله ما أحبّ الحلال منهم فكيف بالحرام؟ وقالت تهجوه [1] :
بكى الخزّ من روح وأنكر جلده ... وعجّت عجيجا من جذام المطارف
وقال العبا قد كنت حينا لباسهم ... وأكسية كردية وقطائف
فقال روح يجيبها:
فإن تبك منا تبك ممن يهينها ... وما صانها إلا اللئام المقارف [2]
وقال لها [3] :
أثني عليّ بما علمت فإنني ... مثن عليك لبئس حشو المنطق
فقالت:
أثني عليك بأنّ باعك ضيق ... وبأن أصلك في جذام ملصق
فقال روح:
أثني عليّ بما علمت فإنني ... مثن عليك بنتن ريح الجورب
__________
[1] الأغاني 9: 220.
[2] الأغاني: وإن تهوكم تهو اللئام المقارفا.
[3] الأغاني 9: 221.(3/1228)
- 442-
حيان بن خلف بن حسين بن حيان بن
محمد بن حيان بن وهب بن حيان أبو مروان القرطبي، صاحب تاريخ الأندلس: مات سنة سبع وستين وأربعمائة، وكان من موالي الأمير عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان. قال: التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة.
- 443-[.........
حيدرة بن أبي الغنائم المعمر بن محمد بن المعمر بن أحمد بن محمد بن أبي علي بن محمد بن الحسين بن عبد الله بن علي بن عبد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام: مات سنة إحدى وخمسمائة وولي النقابة.
__________
[442]- مؤرخ الأندلس وترجمته هذه من المختصر وله ترجمة في الجذوة؛ 188 (وبغية الملتمس رقم: 679) والصلة: 150 والذخيرة 1: 573 (وانظر الحاشية ففيها حديث عما ظهر ونشر من كتابه المقتبس، وعن أهم الدراسات الحديثة التي تناولته) : وابن خلكان 1: 457 والوافي 13: 224 والبداية والنهاية 12: 117 وعبر الذهبي 3: 270 والشذرات 3: 333.
[443]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الوافي 13: 228 والجواهر المضية 2: 228 وكنية حيدرة أبو الفتوح ولقبه الرضي، حفظ القرآن في صباه وقرأ الأدب وكتب بخطه كثيرا من كتب التفسير والحديث والسير والأنساب والأدب، وكان خطه مليحا؛ وجعل الصفدي وفاته سنة 502.(3/1229)
حرف الخاء
- 444-
خالد الزبيدي اليمني:
شاعر إسلامي مقلّ، قال أبو عبيدة معمر بن المثني:
قدم خالد الزبيدي في جماعة معه من زبيد إلى سنجار ومعه ابنا عمّ له يقال لأحدهما ضابىء وللآخر عويد، فشربوا يوما من شراب سنجار فحنّوا إلى بلادهم، فقال خالد:
أيا جبلي سنجار ما كنتما لنا ... مقيظا ولا مشتى ولا متربّعا
ويا جبلي سنجار هلّا بكيتما ... لداعي الهوى منا شتيتين أدمعا
فلو جبلا عوج شكونا إليهما ... جرت عبرات منهما أو تصدّعا
بكى يوم تلّ المحلبية ضابىء ... وألهى عويدا بثّه فتقنعا
فانبرى له رجل من النمر بن قاسط يقال له دثار أحد بني حيي فقال:
أيا جبلي سنجار هلّا دققتما ... بركنيكما أنف الزبيديّ أجمعا
لعمرك ما جاءت زبيد لهجرة ... ولكنّها كانت أرامل جوّعا
تبكّي على أرض الحجاز وقد رأت ... جرائب خمسا في جدال فأربعا [1]
فأجابه خالد يقول:
وسنجار تبكي سوقها كلما رأت ... بها نمريا ذا كساوين أيفعا
__________
[444]- كرّر المؤلف ما ورد هنا في مادة «سنجار» من معجم البلدان. (وخالد الزبيدي يلحق بمعجم الشعراء) .
[1] جرائب: جمع جريب، وجدال: قرية قرب سنجار كأنه يتعجب من ذلك ويقول: كيف تحنّ إلى أرض الحجاز وقد شبعت بهذه الديار (عن معجم البلدان) .(3/1230)
إذا نمريّ طالب الوتر غرّه ... من الوتر أن يلقى طعاما فيشبعا
إذا نمريّ ضاف بيتك فاقره ... مع الكلب زاد الكلب واسجرهما معا
أمن أجل مدّ من شعير قريته ... بكيت وناحت أمّك الحول أجمعا
بكى نمريّ أرغم الله أنفه ... بسنجار حتى تنفد العين أدمعا
- 445-
خالد بن خداش بن عجلان أبو الهيثم، مولى المهلب
بن أبي صفرة: مات سنة ثلاث وعشرين ومائتين، أخذ [الحديث عن مالك بن أنس والمغيرة بن عبد الرحمن وغيرهما ... ] [وله من الكتب: كتاب الازارقة وحروب المهلب.
كتاب أخبار آل المهلب] .
- 446-
خالد بن صفوان بن عبد الله بن عمرو بن الأهتم،
أبو صفوان التميمي المنقري البصري، أحد فصحاء العرب وخطبائهم: كان راوية للأخبار خطيبا مفوّها بليغا، وكان يجالس هشام بن عبد الملك وخالدا القسريّ.
حدث العتبي قال [1] قال هشام بن عبد الملك لشبّة بن عقال، وعنده الفرزدق
__________
[445]- من المختصر، وانظر ترجمته في الفهرست: 121 وتاريخ بغداد 8: 304 وابن خلكان 2: 231 وتهذيب التهذيب 3: 85 وطبقات أبي يعلى 1: 152 وسير الذهبي 10: 488 وميزان الاعتدال 1: 629 وعبر الذهبي 1: 386 وتهذيب الكمال 1: 351 (وفي حاشيته تخريج كثير) والوافي 13: 276 وقد أورد المزي جريدة طويلة بأسماء شيوخه ومن روى عنه، وما قاله العلماء في توثيقه أو تضعيفه.
[446]- ترجمة خالد بن صفوان في مصورة ابن عساكر 5: 465 وتهذيب ابن عساكر 5: 56 ومختصر ابن منظور 7: 353 والمعارف: 403 وسير الذهبي 6: 226 والوافي 13: 254 وأخباره منثورة في كتب الأدب مثل البيان والتبيين والكامل والعقد وأمالي المرتضى والبصائر والتذكرة الحمدونية. جمع خطبه د. يونس أحمد السامرائي، بغداد: 1990.
[1] الأغاني 8: 81 وخطب خالد: 82- 83.(3/1231)
وجرير والأخطل، وهو يومئذ أمير: ألا تخبرني عن هؤلاء الذين قد مزّقوا أعراضهم، وهتكوا أستارهم، وأغروا بين عشائرهم في غير خير ولا برّ ولا نفع، أيهم أشعر؟ فقال شبة: أما جرير فيغرف من بحر، وأما الفرزدق فينحت من صخر، وأما الأخطل فيجيد المدح والفخر. فقال هشام: ما فسّرت لنا شيئا نحصّله، فقال: ما عندي غير ما قلت، فقال لخالد بن صفوان: صفهم لنا يا ابن الأهتم، فقال: أما أعظمهم فخرا، وأبعدهم ذكرا، وأحسنهم عذرا، وأسيرهم مثلا [1] ، وأقلهم غزلا، وأحلاهم عللا، الطامي إذا زخر، والحامي إذا زأر، والسامي إذا خطر، الذي إن هدر قال، وإن خطر صال، الفصيح اللسان، الطويل العنان، فالفرزدق. وأما أحسنهم نعتا، وأمدحهم بيتا، وأقلهم فوتا، الذي إن هجا وضع، وإن مدح رفع فالأخطل. وأما أغزرهم بحرا، وأرقهم شعرا، وأهتكهم لعدوه سترا، الأغر الأبلق، الذي إن طلب لم يسبق، وإن طلب لم يلحق فجرير، وكلهم ذكيّ الفؤاد، رفيع العماد، واري الزناد.
فقال له مسلمة بن عبد الملك: ما سمعنا بمثلك يا خالد في الأولين ولا رأينا في الآخرين وأشهد أنك أحسنهم وصفا، وألينهم عطفا، وأعفّهم مقالا، وأكرمهم فعالا.
فقال خالد: أتمّ الله عليكم نعمه، وأجزل لديكم قسمه، وآنس بكم الغربة، وفرّج بكم الكربة، وأنتم والله ما علمت أيها الأمير كريم الغراس، عالم بالناس، جواد في المحل، بسّام عند البذل، حليم عند الطيش، في ذروة قريش، ولباب عبد شمس، ويومك خير من أمس. فضحك هشام وقال: ما رأيت كتخلصك يا ابن صفوان في مدح هؤلاء ووصفهم حتى أرضيتهم جميعا.
وعن عمر بن شبة [2] قال مرّ خالد بن صفوان بأبي نخيلة الشاعر الراجز وقد بنى دارا، فقال له أبو نخيلة: يا أبا صفوان كيف ترى داري؟ قال: رأيتك سألت فيها إلحافا، وأنفقت ما جمعت لها إسرافا، جعلت إحدى يديك سطحا، وملأت الأخرى سلحا، فقلت من وضع في سطحي، وإلّا ملأته بسلحي. ثم ولّى وتركه، فقيل له ألا تهجوه؟ فقال: إذن والله يركب بغلته ويطوف في مجالس البصرة ويصف أبنيتي بما يعيبها.
__________
[1] م: وأشدهم ميلا.
[2] الأغاني 20: 363 وخطب خالد: 108- 109.(3/1232)
وعن يونس بن حبيب النحوي قال قال رجل لخالد بن صفوان: كان عبدة بن الطبيب لا يحسن أن يهجو، فقال: لا تقل ذاك، فو الله ما أبى عن عيّ، ولكنه كان يترفّع عن الهجاء ويراه ضعة كما يرى تركه مروءة وشرفا، ثم قال:
وأجرأ من رأيت بظهر غيب ... على عيب الرجال أولو العيوب
وحدّث شبيب بن شبة [1] عن خالد بن صفوان قال: أوفدني يوسف بن عمر الثقفي إلى هشام بن عبد الملك في وفد العراق، فقدمت عليه وقد خرج متبديا بأهله وقرابته وحشمه وجلسائه وغاشيته، فنزل في أرض قاع صحصح متنايف أفيح، في عام قد بكر وسميّه وتتابع وليّه وأخذت الأرض فيه زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيع مونق، فهو في أحسن منظر ومخبر وأحسن مستمطر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، حتى لو أن قطعة ألقيت فيه لم تترب، وقد ضرب له سرادق من حبر كان صنعه له يوسف بن عمر باليمن، فيه فسطاط فيه أربعة أفرشة من خزّ أحمر، مثلها مرافقها، وعليه دراعة من خز أحمر، مثلها عمامتها، وقد أخذ الناس مجالسهم، فأخرجت رأسي من ناحية السماط، فنظر إليّ مثل المستنطق لي فقلت: أتمّ الله عليك يا أمير المؤمنين نعمه وسوغكها بشكره، وجعل ما قلّدك من هذا الأمر رشدا، وعاقبة ما تؤول إليه حمدا، وأخلصه لك بالتقى، وكثره لك بالنما، ولا كدّر عليك منه ما صفا، ولا خلط سروره بالردى، فلقد أصبحت للمسلمين ثقة ومستراحا، إليك يفزعون في مظالمهم، وإياك يقصدون في أمورهم، وما أجد يا أمير المؤمنين- جعلني الله فداءك- شيئا هو أبلغ في قضاء حقّك وتوقير مجلسك وما منّ الله به عليّ من مجالستك والنظر إلى وجهك من أن أذكّرك نعمة الله عليك، فأنبهك على شكرها، وما أجد في ذلك شيئا هو أبلغ من حديث من سلف قبلك من الملوك، فإن أذن لي أمير المؤمنين أخبرته، وكان متكئا فاستوى قاعدا وقال: هات يا ابن الأهتم، فقلت: يا
__________
[1] الأغاني 2: 113- 115 وتهذيب ابن عساكر 5: 57- 59 (وهناك رواية أخرى 59- 60 عن الجليس الصالح) وانظر عيون الأخبار 2: 341 والامامة والسياسة 2: 105 والمصباح المضيء 2: 110 والتذكرة الحمدونية 1: 154- 156 والذهب المسبوك: 183- 186 وقصيدة عدي في ديوانه: 84 (وفيه تخريج كثير) .(3/1233)
أمير المؤمنين إن ملكا من الملوك قبلك خرج في عام مثل عامنا هذا إلى الخورنق والسدير، في عام قد بكّر وسميّه وتتابع وليّه، وأخذت الأرض زينتها من اختلاف ألوان نبتها من نور ربيع مونق في أحسن منظر وأحسن مخبر، بصعيد كأن ترابه قطع الكافور، وقد كان أعطي فتاء السنّ مع الكثرة والغلبة والقهر، فنظر فأبعد النظر فقال لمن حوله: هل رأيتم مثل ما أنا فيه؟ وهل أعطي أحد مثل ما أعطيت؟ فكان عنده رجل من بقايا حملة الحجّة والمضيّ على أدب الحق ومنهاجه، ولم تخل الأرض من قائم لله بالحجة في عباده فقال أيها الملك، إنك سألت عن أمر أفتأذن في الجواب عنه؟ قال: نعم، قال أرأيت هذا الذي أنت فيه: أشيء لم تزل فيه أم شيء صار إليك ميراثا، وهو زائل عنك، وصائر إلى غيرك كما صار إليك ميراثا من لدن غيرك؟
قال: كذلك هو. قال: فلا أراك إلا أعجبت بشيء يسير تكون فيه قليلا وتغيب عنه طويلا، وتكون غدا بحسابه مرتهنا. قال: ويحك فأين المهرب وأين المطلب؟ قال:
فإما أن تقيم في ملكك وتعمل فيه بطاعة ربك على ما ساءك وسرّك ومضّك وأرمضك، وإما أن تضع تاجك وتخلع أطمارك وتلبس مسوحك، وتعبد ربك في جبل حتى يأتيك أجلك. قال: فإذا كان السحر فاقرع عليّ بابي فإني مختار أحد الرأيين، فإن اخترت ما أنا فيه كنت وزيرا لا يعصى، وإن اخترت خلوات الأرض وقفر البلاد كنت رفيقا لا يخالف. فلما كان السحر قرع عليه بابه، فإذا قد وضع تاجه وخلع أطماره ولبس المسوح وتهيأ للسياحة، فلزما والله الجبل حتى أتاهما أجلهما، فذلك حيث يقول أخو بني تميم عديّ بن زيد العبادي:
أيها الشامت المعيّر بالده ... ر أأنت المبرأ الموفور
أم لديك العهد الوثيق من الأي ... ام بل أنت جاهل مغرور
من رأيت المنون خلّدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير
أين كسرى كسرى الملوك أنوشر ... وان أم أين قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملوك ال ... روم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ... لة تجبى إليه والخابور
شاده مرمرا وجلّله كل ... سا فللطير في ذراه وكور(3/1234)
لم يهبه ريب المنون فباد ال ... ملك عنه فبابه مهجور
وتذكّر ربّ الخورنق إذ أش ... رف يوما وللهدى تفكير
سرّه ماله وكثرة ما يم ... لك والبحر معرضا والسدير
فارعوى قلبه وقال وما ... غبطة حيّ إلى الممات يصير
ثم بعد الفلاح والملك والنع ... مة وارتهم هناك قبور
ثم صاروا كأنهم ورق ج ... فّ فألوت به الصّبا والدّبور
قال: فبكى هشام حتى اخضلت لحيته وبلت عمامته، وأمر بنزع أبنيته ونقل قرابته وأهله وحشمه وجلسائه وغاشيته، ولزم قصره. فأقبلت الموالي والحشم على خالد بن صفوان فقالوا: ما أردت بأمير المؤمنين؟ نغصت عليه لذته وأفسدت مأدبته.
فقال لهم: إليكم عني فإني عاهدت الله عز وجل ألا أخلو بملك إلا ذكّرته الله عز وجل.
وتقدم في ترجمة حميد الأرقط [1] من كلام أبي عبيدة أن خالد بن صفوان مع فضله وجلالته أحد بخلاء العرب الأربعة: روي [2] أنه أكل يوما خبزا وجبنا، فرآه أعرابيّ فسلم عليه، فقال له خالد: هلمّ إلى الخبز والجبن فإنه حمض العرب، وهو يسيغ اللقمة ويفتق الشهوة وتطيب عليه الشربة، فانحطّ الأعرابي فلم يبق شيئا منهما، فقال خالد يا جارية زيدينا خبزا وجبنا، فقالت: ما بقي عندنا منه شيء، فقال خالد: الحمد لله الذي صرف عنا معرته، وكفانا مؤونته، والله إنه ما علمته ليقدح في السنّ، ويخشّن الحلق، ويربو في المعدة، ويعسر في المخرج. فقال الأعرابي: والله ما رأيت قط قرب مدح من ذمّ أقرب من هذا.
ومن حكم خالد بن صفوان [3] :
إن جعلك الأمير أخا فاجعله سيدا، ولا يحدثنّ لك الاستئناس به غفلة عنه ولا تهاونا.
__________
[1] انظر الترجمة رقم: 439.
[2] تهذيب ابن عساكر: 62- 63 وخطب خالد: 62.
[3] تهذيب ابن عساكر 5: 63 وقارن بما ورد في التذكرة الحمدونية 1: 327 (رقم 885/2) وفيه تخريج.(3/1235)
وقال [1] : ابذل لصديقك مالك، ولمعرفتك بشرك وتحيتك، وللعامة رفدك وحسن محضرك، ولعدوك عدلك، واضنن بدينك وعرضك عن كلّ أحد.
وقال [2] : إن أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة وأنقص الناس عقلا من ظلم من هو دونه.
وقال [3] : لا تطلبوا الحوائج في غير حينها، ولا تطلبوها إلى غير أهلها، ولا تطلبوا ما لستم له بأهل فتكونوا للمنع أهلا.
توفي خالد بن صفوان سنة خمس وثلاثين ومائة.
- 744-
خالد بن طليق بن محمد بن عمران بن حصين الخزاعي:
اخباري راوية نسّابة، وكان معجبا تياها. ولاه المهدي قضاء البصرة. وبلغ من تيهه أنه كان إذا أقيمت الصلاة قام في موضعه، فربما قام وحده، فقال له إنسان مرة: سوّ الصف.
فقال: بل يستوي الصف بي. مصنفاته: كتاب المآثر، كتاب المتزوجات، كتاب المنافرات، كتاب الرهان.
- 448-
خالد بن كلثوم بن سمير الكلبي [الكوفي] :
مولى شريح بن بسطام [لغوي
__________
[447]- هذه الترجمة من المختصر. وانظر: الفهرست: 107 (وياقوت ينقل عنه) وقضاة وكيع 2: 123- 133.
[448]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الفهرست: 73 ومراتب النحويين: 72 ونور القبس: 291 (ذكره عرضا) وطبقات الزبيدي 194 (ذكر اسمه وموضع ترجمته بياض) وإنباه الرواة 1: 352 والبلغة:
76 (بإيجاز شديد) وبغية الوعاة 1: 550 وإشارة التعيين: 111.
[1] تهذيب ابن عساكر: 64.
[2] تهذيب ابن عساكر: 65.
[3] تهذيب ابن عساكر: 65.(3/1236)
راوية لأشعار القبائل وأخبارها وعارف بالأنساب والألقاب وأيام الناس. حدث المرزباني بما رفعه إلى عمر بن الأنصاري قال: قرأت على خالد بن كلثوم شعر الفرزدق بين يدي خالد بن يزيد بن مزيد، ومرّت قصيدة الفرزدق التي مدح بها بني شيبان، فاستقصيت عليه في المسألة عن معانيها وغريبها. فلما فرغت منها، وحضر الغداء وغمسنا أيدينا في الطعام، قال: يا أنصاري، أنت تظن أنك قد استقصيت ما في هذه القصيدة؟ فقلت: كذلك عند نفسي. قال: فأي شيء معنى قوله:
أناس إذا ما أنكر الكلب أهله ... أناخوا فعاذوا بالسيوف الصوارم
متى ينكر الكلب أهله؟ قال: فقلت: لا والله ما أدري، وامتنع من تفسيره، فأومأت إلى خالد حتى سأله أن يفعل. فقال: ينكر الكلب أهله إذا تفنّعوا بالحديد.
مصنفاته: كتاب الشعراء المذكورين، كتاب أشعار القبائل.
- 449-
خالد بن يزيد بن أبي سويد بن أسد أبو الهيثم
المراري اللغوي: مات سنة ست وسبعين ومائتين، وهو ابن تسعين سنة. قيل: رئي على باب المسجد الجامع يشتري الفانيذ والسكر والعسل والتمر. فقيل له: يا أبا الهيثم، تشتري أربعة من الحلوى في وقت واحد، وأنت ليس لك شيء وإنما تأخذ من الناس؟ فقال:
فليس يحفظ العلم إلا بالحلواء والمرقة.
وكان إماما في اللغة وعلم العربية، والصلابة في السنة. وقال: رأيت ربّ العزة في النوم، فقال لي: يا خالد، أيش علّمت عبادي؟ فقلت: يا رب، علمتهم التشهد.
وقال: كان عندنا بالري قاض، فورد عليه كتاب عزله، فلما نظر فيه مات مكانه.
__________
[449]- هذه الترجمة من المختصر.(3/1237)
قال أبو الهيثم [1] ، قال لي أبو ليلى الأعرابي ولصاحب لي كنا نختلف إليه:
أنت بلبل قلقل، وصاحبك هذا عثول قثول- القلقل والبلبل، الخفيف من الرجال.
والعثول والقثول الفدم [2] .
- 450-
خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، الأمير أبو هاشم الأموي:
كان من رجالات قريش المتميزين بالفصاحة والسماحة وقوة العارضة، علّامة خبيرا بالطبّ والكيمياء شاعرا.
قال الزبير بن مصعب: كان خالد بن يزيد بن معاوية موصوفا بالعلم حكيما شاعرا؛ وقال ابن أبي حاتم: كان خالد من الطبقة الثانية من تابعي أهل الشام، وقيل عنه قد علم علم العرب والعجم.
روى خالد الحديث عن أبيه وعن دحية بن خليفة الكلبي رضي الله عنه، وروى عنه الزهري وغيره. وأخرج البيهقي والخطيب البغدادي والعسكري والحافظ ابن عساكر عنه عدة أحاديث. وكان إذا لم يجد أحدا يحدثه حدّث جواريه [3] وكان من صالحي القوم، وكان يصوم الجمعة والسبت والأحد.
__________
[450]- ترجمة خالد بن يزيد في مصورة ابن عساكر 5: 579 ومختصر ابن منظور 8: 33 وتهذيب الكمال 8: 201 وتهذيب ابن عساكر 5: 119 وأنساب الأشراف 4/1: 359- 367 وابن خلكان 2: 224 وتاريخ الحكماء: 440 والمعارف: 352 ونسب قريش: 128- 130 والفهرست: 419 والوافي 13: 270 وسير الذهبي 9: 411 والعبر 1: 105 والبداية والنهاية 9: 60 وتهذيب التهذيب 3: 128 وكتب التاريخ مثل الطبري وابن الأثير والمعرفة والتاريخ وتاريخ أبي زرعة وتاريخ خليفة؛ وكتب الأدب كالبيان وغيره، وانظر أيضا المقفى 3: 774.
[1] هذا النص في اللسان (بلل) (عثل) (قثل) . قال أبو الهيثم قال لي أبو ليلى الأعرابي: أنت قلقل بلبل أي ظريف خفيف؛ والعثول: الأحمق، والقثول: العيي الفدم.
[2] هذا الشرح ورد في الحاشية بخط ناسخ المختصر.
[3] زاد ابن عساكر: ثم يقول إني لأعلم أنكن لستن له بأهل، يريد بذاك الحفظ.(3/1238)
وكان يقول: كنت معنيّا بالكتب وما أنا من العلماء ولا من الجهال.
وكان خالد جوادا ممدّحا، جاءه رجل فقال له: إني قد قلت فيك بيتين ولست أنشدهما إلا بحكمي، فقال له: قل، فقال:
سألت الندى والجود حرّان أنتما ... فقالا لي بل عبدان بين عبيد [1]
فقلت ومن مولاكما فتطاولا ... عليّ وقالا خالد بن يزيد
فقال له: تحكّم، فقال: مائة ألف درهم، فأمر له بها.
وكان خالد شجاعا جريئا، وكان بينه وبين عبد الملك بن مروان مناظرات، تهدده عبد الملك مرّة بالسطوة والحرمان، فقال له: أتتهددني ويد الله فوقك مانعة، وعطاؤه دونك مبذول؟!.
وأجرى [2] أخوه عبد الله بن يزيد الخيل مع الوليد بن عبد الملك فسبقه عبد الله، فدخل الوليد على خيل عبد الله فنفّرها ولعب بها، فجاء عبد الله إلى أخيه خالد فقال: لقد هممت اليوم بقتل الوليد بن عبد الملك، فقال له خالد: بئس ما هممت به في ابن أمير المؤمنين وولي عهد المسلمين، قال: إنه لقي خيلي فنفّرها وتلاعب بها، فقال له خالد: أنا أكفيكه، فدخل خالد على عبد الملك وعنده الوليد فقال له: يا أمير المؤمنين إن الوليد بن أمير المؤمنين لقي خيل ابن عمه عبد الله فنفرها وتلاعب بها، فشقّ ذلك على عبد الله، فقال عبد الملك إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ
(النمل: 34) فقال له خالد: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
(الإسراء: 16) فقال له عبد الملك: أما والله لنعم المرء عبد الله على لحن فيه، فقال له خالد: أفعلى الوليد تعوّل في اللحن؟ فقال عبد الملك. إن يكن الوليد لحانا فأخوه سليمان، قال خالد: وإن يكن عبد الله لحانا فأخوه خالد، فقال عبد الملك: مدحت والله نفسك يا خالد، قال: وقبلي والله مدحت نفسك يا أمير المؤمنين، قال:
ومتى؟ قال: حين قلت أنا قاتل عمرو بن سعيد، [قال] حقّ والله لمن قتل عمرا أن
__________
[1] ابن عساكر: فقالا جميعا إننا لعبيد؛ واقرأ «لي» بخطف الياء.
[2] تهذيب ابن عساكر 5: 121- 122 والمصورة: 584.(3/1239)
يفخر بقتله، قال: أما والله لمروان كان أطولها باعا، قال: أما إني أرى ثأري في مروان صباح مساء، ولو شاء أن أديله لأدلته [1] . قال: ما أجرأك عليّ يا خالد، خلّني عنك، قال: لا والله ما قال الشاعر:
ويجرّ اللسان من أسلات ال ... حرب ما لا يجرّ منها البنان
فقال عبد الملك: يا وليد أكرم ابن عمك، فقد رأيت أباه يكرم أباك وجدّه يكرم جدّك.
وقيل لخالد [2] ما أقرب شيء؟ قال الأجل، قيل فما أرجى شيء؟ قال العمل، قيل فما أوحش شيء؟ قال الميت، قيل فما آنس شيء؟ قال الصاحب المؤاتي.
وقيل [3] ما الدنيا؟ قال ميراث، قيل فالأيام؟ قال دول، قيل فالدهر؟ قال أطباق، والموت يكمل سبيله، فليحذر العزيز الذلّ والغنيّ الفقر، فكم عزيز قد ذل وكم من غني قد افتقر.
وقال [4] إذا كان الرجل مماريا لجوجا معجبا برأيه فقد تمت خسارته.
ولما [5] لزم بيته قيل له كيف تركت الناس ولزمت بيتك؟ فقال: هل بقي إلا حاسد نعمة أو شامت بنكبة؟! ومن شعر خالد بن يزيد [6] :
أتعجب أن كنت ذا نعمة ... وأنك فيها شريف مهيب
فكم ورد الموت من ناعم ... وحبّ الحياة إليه عجيب
أجاب المنية لما دعت ... وكرها يجيب لها من يجيب
سقته ذنوبا من انفاسها ... ويذخر للحيّ منها ذنوب
__________
[1] ابن عساكر: أن أزيله لأزلته.
[2] تهذيب ابن عساكر 5: 122 والمصورة: 585.
[3] يتابع النقل عن ابن عساكر.
[4] المصورة: 585.
[5] عن ابن عساكر، المصورة: 586.
[6] هذه القطعة والقطعة التالية لها في ابن عساكر، المصورة: 586.(3/1240)
وقال في رملة بنت الزبير بن العوّام [1] :
أليس يزيد السير في كلّ ليلة ... وفي كلّ يوم من أحبتنا قربا
أحنّ إلى بنت الزبير وقد علت ... بنا العيس خرقا من تهامة أو نقبا
إذا نزلت أرضا تحبّب أهلها ... إلينا وإن كانت منازلها حربا
وإن نزلت ماء وإن كان قبلها ... مليحا وجدنا ماءه باردا عذبا
تجول خلاخيل النساء ولا أرى ... لرملة خلخالا يجول ولا قلبا
أقلّوا عليّ اللوم فيها فإنني ... تخيرتها منهم زبيرية قلبا [2]
أحبّ بني العوّام طرا لحبها ... ومن حبّها أحببت أخوالها كلبا
وقال [3] :
إن سرّك الشرف العظيم مع الغنى ... وتكون يوم أشدّ خوف وائلا
يوم الحساب إذا النفوس تفاضلت ... في الوزن إذ غبط الأخفّ الثاقلا [4]
فاعمل لما بعد الممات ولا تكن ... عن حظّ نفسك في حياتك غافلا
ومما نسبوا إليه من التصانيف في الكيمياء: السر البديع في فك الرمز المنيع.
وكتاب الفردوس. ورسائل أخرى.
توفي خالد بن يزيد سنة تسعين وقيل سنة خمس وثمانين، وشهده الوليد بن عبد الملك وقال: لتلق بنو أمية الأردية على خالد فلن يتحسروا على مثله أبدا.
- 451-
خالد بن يزيد مولى بني المهلب، ويقال له خالويه المكدي:
كان أديبا ظريفا
__________
[451]- هو خالويه المكدي أحد «شخصيات» كتاب البخلاء: 39- 46، ووصيته لابنه فيه.
[1] منها ثلاثة أبيات في ابن خلكان 2: 224- 225 وخمسة في المقفى.
[1] منها ثلاثة أبات في ابن خلكان 2: 224- 225 وخمسة في المقفى.
[2] قلبا: خالصة.
[3] مصورة ابن عساكر: 587.
[4] م: الأثقلا.(3/1241)
بلغ في البخل والتكدية وكثرة المال المبلغ الذي لم يبلغه أحد، وكان متكلما بليغا قاصّا داهيا، وكان أبو سليمان الأعور وأبو سعيد المدائني القاصان من غلمانه، وله أخبار حسان.
ومن لطائفه وصيته لابنه عند موته وفيها لطائف وغرائب قال فيها: إني قد تركت لك ما تأكله إن حفظته، وما لا تأكله إن ضيعته. ولما أورثتك من العرف الصالح، وأشهدتك من صواب التدبير، وعوّدتك من عيش المقتصدين، خير لك من هذا المال. وقد دفعت إليك آلة لحفظ المال عليك بكلّ حيلة، ثم إن لم يكن لك معين من نفسك لما انتفعت بشيء من ذلك، بل يعود ذلك النهي كله إغراء [1] لك، وذلك المنع تهجينا لطاعتك: قد بلغت في البرّ منقطع العمران [2] ، وفي البحر أقصى مبلغ السفن، فلا عليك إذ رأيتني ألا ترى ذا القرنين، ودع عنك مذاهب ابن شرية فانه لا يعرف إلّا ظاهر الخبر، ولو رآني تميم الداريّ لأخذ عني صفة الروم، ولأنا أهدى من القطا ومن دعيميص ومن رافع المخشّ [3] ، إنّي قد بتّ في القفر مع الغول، وتزوجت السّعلاة، وجاوبت الهاتف، ورغت عن الجن إلى الحنّ، واصطدت الشقّ، وحاورت النسناس، وصحبني الرّئي، وعرفت خدع الكاهن وتدسيس العرّاف، وإلى ما يذهب الخطّاط والعياف، وما يقول أصحاب الأكتاف، وعرفت التنجيم والزّجر والطّرق والفكر. إن هذا المال لم أجمعه من القصص والتكدية، ومن احتيال النهار ومكابدة الليل، ولا يجمع مثله أبدا إلا من معاناة ركوب البحر، ومن عمل السلطان، أو من كيمياء الذهب والفضة، قد عرفت الأسّ [4] حقّ معرفته، وفهمت كسر الاكسير على حقيقته، ولولا علمي بضيق صدرك، ولولا أن أكون سببا لتلف نفسك لعلّمتك الساعة الشيء الذي بلغ بقارون، وبه تبنّكت خاتون، والله ما يتسع صدرك عندي لسرّ
__________
[1] م: اعتزالا.
[2] البخلاء: التراب.
[3] يعني عبيد بن شرية الجرهمي، ولا نعرف ما هي مذاهبه، ولعله يعني أحاديثه الأسطورية، ونميم الداري كان يعرف الروم لأنه كان يسكن في فلسطين؛ ودعيميص الرمل مضرب المثل في الهداية، وكذلك رافع الطائي الذي كان دليل خالد في اجتياز المفازة.
[4] البخلاء: الرأس.(3/1242)
صديق، فكيف ما لا يحتمله عزم ولا يتّسع له صدر. وخزن [1] سرّ الحديث وحبس كنوز الجواهر أهون من خزن العلم. ولو كنت عندي مأمونا على نفسك لأجريت الأرواح في الأجساد وأنت تبصر ما كنت لا تفهمه بالوصف ولا تحقّه بالذكر، ولكنّي سألقي عليك علم الإدراك وسبك الرخام وصنعة الفسيفساء وأسرار السيوف القلعية، وعقاقير السيوف اليمانية، وعمل الفرعوني، وصنعة التلطيف على وجهه، إن أقامني الله من صرعتي هذه، ولست أرضاك وإن كنت فوق البنين، ولا أثق بك وإن كنت لاحقا بالآباء، لأني لم أبالغ في محبتك [2] . إني قد لابست السلاطين والمساكين، وخدمت الخلفاء والمكدين، وخالطت النساك والفتاك، وعمرت السجون كما عمرت مجالس الذكر، وحلبت الدهر أشطره، وصادفت دهرا كثير الأعاجيب، فلولا أني دخلت من كلّ باب، وجريت مع كلّ ريح [وعرفت] السرّاء والضرّاء، حتى مثلت لي التجارب عواقب الأمور، وقربتني من غوامض التدبير، لما أمكنني جمع ما أخلّفه لك، ولا حفظ ما حبسته عليك، ولم أحمد نفسي على جمعه كما حمدتها على حفظه، لأن بعض هذا المال لم أنله بالحزم والكيس، وإنما حفظته لك من فتنة الأبناء [3] ، ومن فتنة النساء، ومن فتنة الثناء، ومن فتنة الرياء، ومن أيدي الوكلاء، فإنهم الداء العياء.
والوصية كلها على هذا النمط، وفيها غرائب، وهي طويلة تقع في كراسة.
- 452-
خالد بن يزيد الكاتب أبو الهيثم:
من أهل بغداد، وأصله من خراسان،
__________
[452]- ترجمة خالد الكاتب في تاريخ بغداد 8: 308 وطبقات ابن المعتز: 405 والأغاني 20: 234 والمنتظم 5: 35 والوافي 13: 278 والفوات 1: 401 وبغية الطلب 6: 121 وله ترجمة في ابن خلكان 2: 232 (وهي من مزيدات طبعة بيروت وليست من شرط المؤلف) والنجوم الزاهرة 3: 36 (وحقه أن يلحق بمعجم الشعراء) .
[1] م: وحرز.
[2] البخلاء: محنتك (ولعلها هي الصواب) .
[3] البخلاء: فتنة البناء.(3/1243)
شاعر مشهور رقيق الشعر؛ كان من كتاب الجيش، ثم ولاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات عملا ببعض الثغور، فخرج فسمع في طريقه مغنية تغني:
من كان ذا شجن بالشام يطلبه ... ففي سوى الشام أمسى الأهل والشّجن
فبكى حتى سقط على وجهه مغشيا عليه، فأفاق مختلطا ووسوس.
وقال قوم: كان يهوى جارية لبعض الوجوه ببغداد فلم يقدر عليها فاختلط، وقيل إن السوداء غلبت عليه، وقيل [1] كان خالد مغرما بالغلمان ينفق عليهم كلّ ما يستفيد، فهوي غلاما يقال له عبد الله، وكان أبو تمام الطائي الشاعر يهواه، فقال فيه خالد:
قضيب بان جناه ورد ... تحمله وجنة وخدّ
لم أثن طرفي إليه إلا ... مات عزاء وعاش وجد
ملّك طوع النفوس حتى ... علّمه الزهو حين يبدو
واجتمع الصدّ فيه حتى ... ليس لخلق سواه صدّ
فبلغ ذلك أبا تمام فقال فيه أبياتا منها:
شعرك هذا كلّه مفرط ... في برده يا خالد البارد
فعلقها [2] الصبيان، فما زالوا يصيحون به يا خالد البارد حتى وسوس. وهجا أبا تمام في هذه القصة فقال:
يا معشر المرد إني ناصح لكم ... والمرء في القول بين الصدق والكذب
لا ينكحنّ حبيبا منكم أحد ... فداء وجعائه [3] أعدى من الجرب
لا تأمنوا أن تعودوا بعد ثالثة ... فتركبوا عمدا ليست من الخشب
وحدث ابن أبي سلالة الشاعر قال [4] : دخلت بغداد في بعض السنين فبينا أنا مارّ في طريق إذا أنا برجل عليه مبطّنة وعلى رأسه قلنسوة سوداء، وهو راكب على
__________
[1] الأغاني 20: 241 وديوانه: 502.
[2] م: فعلمها.
[3] م: فإن عجانه.
[4] هو حمزة بن أبي سلالة الكوفي كما في الأغاني 20: 242.(3/1244)
قصبة، والصبيان خلفه يصيحون يا خالد البارد، فإذا آذوه حمل عليهم بالقصبة، فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا، وأدخلته بستانا هناك، فجلس واستراح، واشتريت له رطبا فأكل، واستنشدته فأنشدني [1] :
قد حاز قلبي فصار يملكه ... فكيف أسلو وكيف أتركه
رطيب جسم كالماء تحسبه ... يخطر في القلب منه مسلكه
يكاد يجري من القميص من ال ... نعمة لولا القميص يمسكه
ومن شعر خالد أيضا [2] :
كبد شفّها غليل التصابي ... بين عتب وجفوة وعذاب [3]
كلّ يوم تدمى بجرح من الشو ... ق ونوع مجدد من عتاب
يا سقيم الجفون أسقمت جسمي ... فاشفني كيف شئت لابك ما بي
إن أكن مذنبا فكن حسن العف ... وأو اجعل سوى الصدود عقابي [4]
وقال [5] :
يا تارك الجسم بلا قلب ... إن كنت أهواك فما ذنبي
يا مفردا بالحسن أفردتني ... منك بطول الشوق والحب
إن تك عيني أبصرت فتنة ... فهل على قلبي من عتب
فحسبك الله لما بي كما ... أنك في فعلك بي حسبي
توفي خالد الكاتب سنة تسع وستين ومائتين ببغداد.
__________
[1] ديوانه: 522.
[2] الأغاني 20: 244.
[3] الأغاني: بين هجر وسخطة وعتاب.
[4] م: عتابي.
[5] الأغاني 20: 248 وديوانه: 482.(3/1245)
- 453-
خداش بن بشر بن خالد بن الحارث،
أبو يزيد التميمي المعروف بالبعيث البصري: كان خطيبا شاعرا مجيدا، وكان بينه وبين جرير مهاجاة، فلجّ الهجاء بينهما نحوا من أربعين سنة ولم يتغلب واحد منهما على صاحبه، ولم يتهاج شاعران في العرب في جاهلية ولا إسلام بمثل ما تهاجيا به، وكان الفرزدق يعين البعيث والبعيث يعين ابن أمّ غسان على جرير؛ فمما قاله البعيث لجرير [1] :
إذا طلع العيّوق أوّل كوكب ... كفى اللؤم عند النازحين جرير
ألست كليبيا وأمك كلبة [2] ... لها بين أطناب البيوت هرير
ولو عند غسّان السليطيّ عرّست ... رغا قرن منها وكاس عقير [3]
أتنسى نساء باليمامة منكم ... نكحن عبيدا ما لهنّ مهور
وقال له أيضا [4] :
كليب لئام الناس قد تعلمونه [5] ... وأنت إذا عدّت كليب لئيمها
أترجو كليب أن يجيء حديثها ... بخير وقد أعيا كليبا قديمها [6]
وقال له أيضا:
إذا أيسرت معزى عطية وارتعت ... بلاغا من الموت اجتواها حميمها
__________
[453]- ترجمة البعيث في طبقات ابن سلام: 121 والشعر والشعراء 1: 405 ومصورة ابن عساكر 5: 590 وتهذيب ابن عساكر 5: 125 (وأسقطه ابن منظور في اختصاره) والوافي 13: 293 وانظر البيان والتبيين 1: 211، 351 وألقاب الشعراء: 305 والسمط: 296 (ومكانه الصحيح معجم الشعراء) .
[1] الأبيات في الأغاني 8: 27 وتهذيب ابن عساكر 5: 126 والمؤتلف: 241 للأعور النبهاني، وردّ جرير عليه يدلّ على ذلك إذ يقول:
وأعور من نبهان يعوي ودونه ... من الليل بابا ظلمة وستور
[2] الأغاني: وهل يكرم الأضياف كلب لكلبة.
[3] القرن: البعير المقرون: كاس البعير: وقف على ثلاث.
[4] الأغاني 8: 16.
[5] م: يعلمونها.
[6] ورد البيت وحده في المؤتلف والمختلف: 241.(3/1246)
تعرّضت لي حتى صككتك صكة ... على الوجه يكبو لليدين أميمها
أليست كليب ألأم الناس كلّهم ... وأنت إذا عدّت كليب لئيمها
وقال له أيضا [1] :
أشاركتني في ثعلب قد أكلته ... فلم يبق إلا رأسه وأكارعه
فدونك خصييه وما ضمّت استه ... فأنك رمّام [2] خبيث مراتعه
وقال جرير له [3] :
ألم تر أني قد رميت ابن فرتنى ... بصمّاء لا يرجو الحياة أميمها
له أمّ سوء بئس ما قدمت له ... إذا فرط الأحساب عدّ قديمها
وأهاجيهما ونقائضهما كثيرة اكتفينا بما أوردناه منها.
توفي البعيث سنة أربع وثلاثين ومائة بالبصرة في خلافة الوليد بن عبد الملك [4] .
- 454-
خراش بن إسماعيل الشيباني العجلي:
أخذ عنه ابن محمد بن السائب الكلبي، وهو أحد النسابة، صاحب كتاب ربيعة وأنسابها.
- 455-
خرقة بن نباتة بن الرّبد بن عمرو بن عبد مناة الكلبي:
شاعر إسلامي، قدم
__________
[454]- هذه الترجمة من المختصر. وانظر الفهرست: 108، 121 (وعنه ينقل ياقوت) .
[455]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 5: 594 وتهذيب ابن عساكر 5: 128 وأسقطه ابن منظور من مختصره. (وهو ملحق بالشعراء في معجمهم) والمؤتلف والمختلف: 145 واسمه فيه «خرقة بن نتافة» ويقال له خرقة بن شعاث، وشعاث أمه؛ واسم جده قد يكون الزبد والزند والزيد.
[1] هما في المؤتلف والمختلف: 72.
[2] المؤتلف: قمقام.
[3] الأغاني 8: 16.
[4] هذا خطأ واضح، فان خلافة الوليد بن عبد الملك كانت بين سنتي 86- 96، وانتهت الدولة الأموية سنة 132.(3/1247)
على حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية في دمشق فجفاه حرب ولم يصله بشيء، فهجاه فقال:
كأني ونضوي عند حرب بن خالد ... من الجوع ذئبا قفرة علزان [1]
وباتت علينا جفوة ما نحبها ... وبتنا نقاسي ليلة كثمان
وقال [2] :
أعزّي يا جبيل [3] دمي وهزي ... سنانا تطعنين به ونابا
لتعلم عامر الأجدار [4] أنا ... إذا غضبت نبيت لها غضابا
وقال:
وأرهبنا الخليفة واستمرت ... وجوه الأرض تعتصب اعتصابا
وقتّلنا القبائل من عليم ... وبيّحنا قنافة والرّبابا
وقال [5] :
كسع الشتاء بسبعة غبر ... أيام شهلتنا من الشهر [6]
فإذا انقضت أيام شهلتنا ... صنّ وصنّبر مع الوبر
وبآمر وأخيه مؤتمر ... ومعلّل وبمطفىء الجمر
ذهب الشتاء موليا عجلا ... وأتتك واقدة من الحرّ
وقال:
إلى الله أشكو عبرة قد أظلّت ... ونفسا إذا ما عزّها الشوق ذلّت
__________
[1] العلز: المكروب.
[2] البيتان في المؤتلف والمختلف.
[3] م: أعرني يا جميل؛ وجبيل من أجداد الشاعر (يعني يا قبيلة جبيل) .
[4] هكذا في المؤتلف وابن عساكر؛ م: الأجواد.
[5] نسبت الأبيات في اللسان (عجز) لابن أحمر، وأورد صاحب التاج البيت الأول في تسع ونسبه لأبي الشبل الأعرابي وكذلك قال ابن برّي ونفى نسبتها لابن أحمر. وهذه الأيام التي يعدها تسمى أيام العجوز وهي خمسة: صن وصنبر ووبر ومطفىء الجمر ومكفىء الظعن، وقيل هي سبعة (وزاد: آمر ومؤتمر) كما ورد في الأبيات.
[6] كسع: تلي؛ الشهلة: العجوز.(3/1248)
تحنّ إلى أرض العراق ودونها ... تنائف لو تسري بها الريح ضلّت
وقال:
يا عامر بن عقيل كيف كفركم ... كعبا ومنكم إليه ينتهي الشرف
أفنيتم الحرّ من سعد ببارقة ... يوم الغرابة ما في برقها خلف
مات سنة خمس عشرة ومائة.
- 456-
خزيمة بن محمد بن خزيمة الأسدي النحوي:
من أهل الحلة المزيدية:
تخرّج به خلق كثير. وكان جيد الشعر. من ذلك يهجو ابن ناكيرا:
قل لابن ناكيرا أبي طاهر ... وليس يجدي عنده نفعا
أحرجتني والمرء مع غيظه ... يرى على عرنينه جدعا
تحيّل الناس لمنفوعهم ... وأنت لا مال ولا مرعى
كأنك العقرب في شرّها ... تلسع من مرّت به طبعا
- 457-
الخضر بن ثروان بن أحمد بن أبي عبد الله
الثعلبي، أبو العباس الضرير التوماثي:- بضم التاء المثناة وسكون الواو بعدها ميم وألف ثم ثاء مثلثة- بلد من بلاد الجزيرة، الفارقي الجزري: ولد بالجزيرة، ونشأ بميافارقين، وأصله من توماثا.
وكان عالما بالنحو مقرئا فاضلا أديبا عارفا حسن الشعر كثير المحفوظ، قرأ اللغة على
__________
[456]- من المختصر؛ وانظر الوافي بالوفيات 13: 314 وبغية الوعاة 1: 551 (وينقل عن ابن النجار) وهذه الترجمة في موضعها من معجم الأدباء لأن خزيمة الأسدي كان نحويا، ويقال إنه أول من انتشر عنه بتلك البلاد وتخرج به جماعة. ولم يورد الصفدي والسيوطي له شعرا.
[457]- ترجمة التومائي الضرير في إنباه الرواة 1: 356 والأنساب واللباب (التوماثي) ومعجم البلدان (توماثا) والوافي 13: 326 ونكت الهميان: 149 والخريدة (قسم الشام) 2: 466 وطبقات السبكي 7: 82 وبغية الوعاة 1: 551 وروضات الجنات 3: 279.(3/1249)
ابن الجواليقي، والنحو على ابن الشجري [1] ، والفقه على أبي الحسن الأبنوسي [2] ، وكان ببغداد. وله محفوظات كثيرة منها المجمل وشعر الهذليين وشعر رؤبة وذي الرمة. لقيته بمرو وسرخس ونيسابور في سنة أربع وأربعين وخمسمائة [3] ، وسألته عن مولده فقال سنة خمس وخمسمائة، وأنشدني لنفسه [4] :
كتبت وقد أودى بمقلتي البكا ... وقد ذاب من شوق إليك سوادها
فما وردت لي نحوكم من رسالة ... وحقّكم إلّا وذاك سوادها
وقال أيضا [5] :
أنت في غمرة النعيم تعوم ... لست تدري بأنّ ذا لا يدوم
كم رأينا من الملوك قديما ... همدوا فالعظام منهم رميم
ما رأينا الزمان أبقى على شخ ... ص شقاء فهل يدوم النعيم
والغنى عند أهله مستعار ... فحميد به ومنهم ذميم
وقال:
مواعظ الدهر أدّبتني ... وإنما يوعظ الأديب
لم يمض بؤس ولا نعيم ... إلا ولي فيهما نصيب
بلغتنا وفاته ببخارى سنة ثمانين وخمسمائة.
- 458-
الخضر بن هبة الله ابن أبي الهمام الطائي الشاعر البغدادي:
دخل مصر
__________
[458]- ترجمة ابن أبي الهمام في مصورة ابن عساكر 5: 659 وتهذيب ابن عساكر 5: 169 (وأسقطه ابن منظور في المختصر) والوافي 13: 328.
[1] اسمه هبة الله بن علي بن محمد.
[2] اسمه أحمد بن عبد الله بن علي الأبنوسي.
[3] هذا لا يقوله ياقوت، لأن التاريخ المذكور قبل مولده بكثير، وإنما هو قول السمعاني.
[4] معجم البلدان وإنباه الرواة وبغية الوعاة والخريدة.
[5] الإنباه والوافي ونكت الهميان والخريدة.(3/1250)
وحضر بين يدي أمير المؤمنين الراشد بالله ابن المسترشد بالله فأنشده على البديهة [1] :
ولما شأوت الحاسدين إلى مدى ... رفيع تزلّ العصم دون مرامه
ورفّعت الأستار لي دون سيّد [2] ... شفى غلّتي من بشره وسلامه
سطوت على صرف الزمان ببأسه ... وصلت على كيد العدى بانتقامه
ودخل على الأمير علي بن صدقة فقال على البديهة أيضا [3] :
سأشكر ما أوليتني من منائح ... زماني وإن كنت العييّ المقصّرا
نمتك قروم في الملاحم والندى ... إذا انتسبت كانت أسودا وأبحرا
فكلّ كريم غادرته مبخّلا ... وكلّ قديم غادرته مؤخرا
وقدم الطائي إلى دمشق وامتدح بها واليها محمد بن بوري بن طغتكين، ومدح أبا الفتح نصر الله بن صالح الهاشمي، ودخل عليه يوما وقد افتصد فقال بديهة [4] :
لما مددت إليه راحة راحة ... من شأنها الإعطاء والإعدام
وحسرت ردن ملاءة [5] عن ساعد ... لا ساعدت أعداءه الأيام
أكبرت ما فعل الطبيب وهالني ... من فعله التغرير والاقدام
وعجبت كيف فرى الحديد بمنصل [6] ... في مدحه تتفاخر الأوهام
لكن أمرت ولو أشرت [7] بنقمة ... يوما لذاب بغمده الصمصام
يا من له في كلّ قلب هيبة ... وله بكلّ رواجب إنعام
أغنيت زين الدين طلّاب الندى ... وتباشرت بقدومك الأيتام
مضّ العراق فراق ظلّك عنهم ... وتهنأت بك جلّق والشام
__________
[1] ابن عساكر وبدائع البدائه: 383- 384.
[2] ابن عساكر: دون ماجد.
[3] مصورة ابن عساكر: 660.
[4] مصورة ابن عساكر: 660.
[5] م: رد ملامة.
[6] م: بمفصل.
[7] م: أثرت.(3/1251)
فبنو المكارم في البرية كلّها ... صنف وأنت مقدّم وإمام
ولد الخضر البغدادي سنة تسع وتسعين وأربعمائة ومات سنة أربع وستين وخمسمائة.
- 459-
خلاد بن يزيد الأرقط الباهلي أبو عمرو:
كان به أثر جدريّ فسمّي الأرقط.
وهو مولى لبني فراص من آل عطية بن عماد، وكان راوية لأخبار العرب وأشعارها.
أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وغيره من العلماء.
حدث خلاد قال: كنا جلوسا على باب عمرو بن عبيد والمعتزلة معنا إذ جاء طبيب نصرانيّ يطبّ له، فدعاه المعتزلة إلى الإسلام، ودعوناه إلى الإسلام، فقال للمعتزلة إن أسلمت وقلت بمقالتكم، كيف أكون عند هؤلاء؟ قلنا: كافر. فالتفت إلينا وقال: إن أسلمت وقلت بقولكم، كيف أكون عند هؤلاء؟ قلنا: كافر. فقال:
مرّوا حتى تجتمعوا ثم أتبعكم. قال: فانكسرنا. وخرج عمرو بن عبيد فرأى فينا تغيّرا. فقال: ما شأنكم؟ فأخبرناه الخبر، فقال: إنه قال ولم يقل، وأخطأتم في الجواب، ألا قلتم له: نحن قد اجتمعنا على الشريعة والفريضة، وافترقنا فيما فرقته أهواؤنا، فاجتمع على ما اجتمعنا عليه، ودع ما اختلفنا فيه حتى ترى من رأيك.
وحدث خلّاد قال [1] ، قال عمر بن هبيرة أمير العراق: وفد عبد الله بن جعفر بن أبي طالب على يزيد بن معاوية، فقال له: كم كان أمير المؤمنين يعطيك؟ قال:
كان، رحمه الله، يعطيني ألف ألف. فقال يزيد: قد زدناك على ترحمك عليه ألف
__________
[459]- من المختصر؛ وانظر الفهرست: 119 (قال: ولا مصنف له نعرفه) وطبقات فحول الشعراء: 7 ونور القبس: 180 وتهذيب التهذيب 3: 176 وطبقات ابن الجزري 1: 275 وميزان الاعتدال 1: 657 (وكانت وفاة خلاد سنة عشرين ومائتين) وتهذيب الكمال 8: 363 والوافي 13: 373.
[1] انظر أنساب الأشراف 4/1: 289 (رقم: 774) وتهذيب ابن عساكر 7: 327 ونور القبس: 181 ومعجم المرزباني: 314 والبداية والنهاية 8: 230.(3/1252)
ألف. فقال: بأبي أنت وأمي. فقال يزيد: ولهذه ألف ألف. قال: أما إني لا أقولها لأحد من بعدك. قال: ولهذه ألف ألف. قال: ما يمنعني من الإطناب في وصفك [إلا] الإشفاق عليك من جودك. فقال: ولهذه ألف ألف. وحمل المال معه، فقيل ليزيد: فرّغت بيت مال المسلمين على رجل واحد. فقال: إنما دفعته إلى أهل المدينة أجمعين. ثم وكّل به من يعرّفه خبره من حيث لا يعلم، فلما دخل المدينة فرّق المال فيها، فاحتاج بعد شهر إلى القرض فلامه الناس، فقال:
لا تبخلنّ بدنيا وهي مقبلة ... فليس ينقصها التبذير والسّرف
فإن تولّت فأحرى أن تجود بها ... فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف
قال المؤلف: ما سمعت أن أحدا نسب إلى عبد الله بن جعفر شعرا غير خلاد هذا فإنه روى له هذين البيتين والله أعلم هل هما له أم لا.
وقال خلاد [1] : كنّا يوما جلوسا عند أبي أيوب المورياني وزير المنصور، فأتاه رسول المنصور فقام إليه وقد امتقع لونه، وتغيّر ومضى وعاد، فقال له بعض أصحابه في ذلك، فقال: سأضرب لكم مثلا في ذلك يقوله العامة، وهو أن البازي قال للديك: ما شيء أقلّ وفاء منك لأهلك، أخذوك وأنت بيضة فحضنوك وخرجت على أيديهم، فأطعموك على أكفهم ونشأت بينهم حتى إذا كبرت [جعلت] لا يدنو منك واحد منهم إلا طرت يمنة ويسرة وصحت وصوّتّ، وأنا أخذت كبيرا من الجبال، فعلموني وألّفوني ثم يخلّون عني فآخذ صيدتي فآتي بها إلى أصحابي. فقال له الديك: لو رأيت في سفافيدهم من البزاة ما رأيت فيها من الديوك هربت أشدّ من هربي.
__________
[1] وردت هذه القصة برواية خلاد في الجهشياري: 102- 103.(3/1253)
- 460-
خلف بن أحمد القيرواني الشاعر،
قال ابن رشيق في «الأنموذج» : شاعر مطبوع، تأدب بأفريقية ودخل مصر، وله شعر معروف جيد. مات بزويلة المهدية سنة أربع عشرة وأربعمائة، ومن شعره:
هل الدهر يوما بليلى يجود ... وأيامنا باللوى ستعود
عهود تقضّت وعيش مضى ... بنفسي والله تلك العهود
ألا قل لسكان وادي الحمى ... هنيئا لكم في الجنان الخلود
أفيضوا علينا من الماء فيضا ... فنحن عطاش وأنتم ورود
- 461-
خلف بن حيان بن محرز ويكنى أبا محرز،
البصري المعروف بالأحمر:
كان مولى أبي بردة بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، من سبي السغد الذين سباهم قتيبة فوهبهم سلم بن قتيبة لبلال بن أبي بردة الأشعري، وأعتق بلال أبويه وكانا فرغانيين ومات خلف بعد وفاة الرشيد، والرشيد مات سنة ثلاث وتسعين ومائة، وروى بعضهم أنه مات سنة خمس وسبعين ومائة. وكان خلف راوية نفسه علامة يسلك الأصمعي طريقه ويحتذي حذوه حتى قيل هو معلم الأصمعي، وهو والأصمعي فتقا المعانى وأوضحا المذاهب وبينا المعالم.
__________
[460]- ترجم الصفدي في الوافي 13: 362 لمن اسمه أحمد بن خلف السعدي (نسبة إلى قرية السعديين بجوار المهدية) نقلا عن الأنموذج لابن رشيق؛ وذكر أنه صحب الأمير تميم بن معد وإخوته بالمنصورية ودخل مصر في أيام العزيز؛ ولعلّه هو الذي ترجم له ياقوت نفسه لاشتراكهما في النشأة والهجرة إلى مصر، وهما في حدود زمن واحد. وانظر الأنموذج: 126 ومعجم البلدان 3: 93.
[461]- ترجمة خلف الأحمر في طبقات ابن سلام: 9: 21 والشعر والشعراء: 673 والمعارف: 544 وطبقات ابن المعتز: 146 ومراتب النحويين: 46- 47 وأخبار النحويين البصريين: 52 ونور القبس:
72- 80 وطبقات الزبيدي: 177 والفهرست: 55 ونزهة الألباء: 58 وإنباه الرواة 1: 348 والوافي 13: 353 وبغية الوعاة 1: 554 وله أخبار في الكامل للمبرد وأمالي المرتضى والمزهر للسيوطي والحيوان للجاحظ وأمالي القالي وتهذيب اللغة للأزهري والسمط ... وانظر مجمع الذاكرة 1: 41- 189.(3/1254)
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: خلف الأحمر معلم الأصمعي ومعلم أهل البصرة. وقال الأخفش: لم أدرك أحدا أعلم بالشعر من خلف الأحمر والأصمعي.
وقال ابن سلام [1] : أجمع أصحابنا أن الأحمر كان أفرس الناس ببيت شعر، وأصدق لسانا، وكنا لا نبالي إذا أخذنا عنه خبرا أو أنشدنا شعرا أن لا نسمعه من صاحبه. وقال شمر: خلف الأحمر أول من أحدث السماع بالبصرة، وذلك أنه جاء إلى حماد الراوية فسمع منه وكان ضنينا بأدبه.
ولم يكن فيه ما يعاب. إلا أنه كان يعمل القصيدة، يسلك فيها ألفاظ العرب القدماء، وينحلها أعيان الشعراء كأبي دواد الإيادي وتأبط شرا والشنفرى وغيرهم، فلا يفرق بين ألفاظه وألفاظهم، فترويها جلّة العلماء لذلك الشاعر الذي نحله إياها، فمما نحله إلى تأبط شرا:
إن بالشّعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه لا يطلّ
ومما نحله الشنفرى القصيدة المعروفة بلامية العرب، أولها:
أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل
حدث يونس قال [2] : كنا عند أبي عمرو بن العلاء ومعنا خلف الأحمر، فقرأ عليه رجل:
قالت أميمة ما له ... بعدي قد ابيضت شواته
فقال له أبو عمرو: عظمت الراء فظننتها واوا، وإنما هي سراته أي عاليته، فقال لي خلف بالفارسية: أصاب الرجل ووهم أبو عمرو. شواته جلدة رأسه. قال الصولي: والبيت لسعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت من قصيدة، وبعده:
فأراه ليس كما علم ... ت صحا وأقصر عاذلاته
ماذا نكرت من امرىء ... أن شاب مذ شابت لداته
قال يونس: سمعت أعرابيا يقول: قد قال لي أعرابي آخر كبرت والله. فقال:
__________
[1] طبقات فحول الشعراء: 23.
[2] ما يقع فيه التصحيف (عبد العزيز أحمد) : 74.(3/1255)
أجل، لقد طالت حياتي ونحتت قناتي وابيضت سراتي؛ وإذا كان ذلك مما يقوله العرب فالذي قاله أبو عمرو صواب.
قال الرياشي: سمعت الأخفش يقول: لم ندرك ها هنا أحدا أعلم بالشعر من خلف الأحمر والأصمعي. قلت: أيهما كان أعلم؟ قال: الأصمعي. قلت: لم؟
قلت: لأنه كان أعلم بالنحو.
قال خلف: أنا وضعت على النابغة القصيدة التي منها:
خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
وقال أبو الطيب عبد الواحد اللغوي [1] : كان خلف يصنع الشعر وينسبه إلى العرب فلا يعرف، ثم نسك وكان يختم القرآن في كل يوم وليلة، وبذل له بعض الملوك مالا عظيما خطيرا على أن يتكلم في بيت شعر شكّوا فيه فأبى ذلك وقال: قد مضى لي فيه ما لا أحتاج أن أزيد عليه. وكان قد قرأ أهل الكوفة عليه أشعارهم وكانوا يقصدونه لما مات حماد الراوية، فلما نسك خرج إلى أهل الكوفة يعرفهم الأشعار التي أدخلها في أشعار الناس، فقالوا له: أنت كنت عندنا في ذلك الوقت أوثق منك الساعة، فبقي ذلك في روايتهم إلى الآن. واختص به أبو نواس وله فيه مراث مشهورة.
ولخلف ديوان شعر حمله عنه أبو نواس و «كتاب جبال العرب» .
حدث الأصمعي [2] قال: حضرنا مأدبة ومعنا أبو محرز خلف الأحمر، وحضرها ابن مناذر الشاعر، فقال لخلف الأحمر: يا أبا محرز إن يكن النابغة وامرؤ القيس وزهير قد ماتوا فهذه أشعارهم مخلدة، فقس شعري إلى شعرهم واحكم فيها بالحق، فغضب خلف ثم أخذ صحفة مملوءة مرقا فرمى بها عليه فملأه، فقام ابن مناذر مغضبا وأظنه هجاه بعد ذلك.
وحدث ابن سلام قال [3] قال لي خلف الأحمر: كنت أسمع ببشار بن برد قبل أن
__________
[1] مراتب النحويين: 47.
[2] الأغاني 18: 108.
[3] الأغاني 3: 185 ونور القبس: 75.(3/1256)
أراه، فذكروه لي يوما وذكروا بيانه وسرعة جوابه وجودة شعره، فاستنشدتهم شيئا من شعره فأنشدوني شيئا لم أحمده، فقلت: والله لآتينه ولأطأطئنّ منه، فأتيته وهو جالس على بابه، فرأيته أعمى قبيح المنظر عظيم الجثة، فقلت: لعن الله من يبالي بهذا، فوقفت أتأمله طويلا، فبينا أنا كذلك إذ جاءه رجل فقال: إن فلانا سبّك عند الأمير محمد بن سليمان ووضع منك، فقال: أو قد فعل؟ قال: نعم، فأطرق، وجلس الرجل عنده وجلست، وجاء قوم فسلّموا عليه فلم يردد عليهم، فجعلوا ينظرون إليه وقد درّت أوداجه، فلم يلبث إلا ساعة حتى أنشدنا بأعلى صوته وأفخمه، فقال:
نبّئت نائك أمّه يغتابني ... عند الأمير وهل عليّ أمير
ناري محرّقة وبيتي واسع ... للمعتفين ومجلسي معمور
ولي المهابة في الأحبة والعدا ... وكأنني أسد له تامور [1]
غرثت حليلته وأخطأ صيده ... فله على لقم الطريق زئير [2]
قال: فارتعدت والله فرائصي واقشعرّ جلدي، وعظم في عيني جدا حتى قلت في نفسي: الحمد لله الذي أبعدني من شرك.
وكان بين خلف الأحمر وبين أبي محمد اليزيدي مهاجاة، فقال أبو محمد فيه [3] :
زعم الأحمر المقيت لدينا ... والذي أمّه تقرّ بمقته
أنه علّم الكسائي نحوا ... فلئن كان ذا كذاك فباسته
وهجا خلف أبا محمد اليزيدي بقصيدة فائية تداولها الأفواه والأسماع نسبه فيها إلى اللواطة مطلعها [4] :
إني ومن وسج [5] المطيّ له ... حدب الذّرى إرقالها [6] رجف
والمحرمين لصوتهم زجل ... بفناء كعبته إذا هتفوا
__________
[1] التامور: عرين الأسد.
[2] غرثت: جاعت: لقم الطريق: متن الطريق.
[3] الأغاني 20: 192.
[4] الأغاني 20: 198.
[5] وسج: أسرع.
[6] الأغاني: أذقانها.(3/1257)
منّي إليه غير ذي كذب ... ما إن رأى قوم ولا عرفوا
في غابر الناس الذين بقوا ... والفرط الماضين من سلفوا
أحدا كيحيى في الطعان إذا اف ... ترش القنا وتضعضع الحجف [1]
في معرك يلقى الكميّ به ... للوجه منبطحا وينحرف
وإذا أكبّ القرن يتبعه ... طعنا دوين صلاه ينخسف [2]
وهي طويلة نحو أربعين بيتا اكتفينا بهذا المقدار منها. وله من المصنفات كتاب حيات العرب وما قيل فيها من الشعر.
- 462-
خلف بن أحمد بن محمد بن خلف بن الليث
بن خلف بن فرقد أبو أحمد الغربي ملك سجستان في أيام السلطان محمود بن سبكتكين: كان عالما فاضلا أديبا تقصده الشعراء. وكان ملك سجستان. وكان في أول أمره على مذهب أهل الرأي.
وكان أهل مذهبه يغرونه بقتل من خالف مذهبه، فقتل ألوفا كثيرة على ذلك الرأي.
وكان يحيى بن عمارة بسجستان في ذلك الوقت، فخاف على نفسه، فالتحف بملحفة كالنسوان، ولحق ببعض السيّارة فتحمل معهم على تلك الحال قاصدا هراة. ثم إن الأمير خلف بن أحمد رجع عن مذهب أهل الرأي إلى مذهب أهل الحديث، فقتل خلقا كثيرا من أهل الرأي. وصنف في تفسير القرآن كتابا كبيرا نحوا من مائة وعشرين مجلدا. وله كتاب تعبير الرؤيا سماه «تحفة الملوك» .
مات سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. وكان سبب موته أن السلطان محمود بن سبكتكين قبض عليه، وحبسه في قلعة، فشرب دواء حتى غاب رشده، وخيل للموكلين به أنه قد مات فسلّم إلى أهله فجعلوه في تابوت، ومضوا به، وبلغ ذلك
__________
[462]- هذه الترجمة من المختصر. وانظر الوافي 13: 364- 365 (وقد صرّح بنقله عن ياقوت وأورد كل ما جاء هنا) وسير الذهبي 17: 116 وعبر الذهبي 3: 70 ومعجم البلدان (سجستان) والأنساب واللباب (السجزي) والشذرات 3: 156 وتاريخ ابن الأثير (صفحات من الجزء التاسع) .
[1] الحجف: التروس.
[2] الصلا: وسط الظهر.(3/1258)
محمودا فقبض عليه مرة أخرى، وفعل فعلته الأولى. فأمر السلطان أن يجعل في تابوت ويغلق حتى مات.
- 463-
خلف بن المختار الأطرابلسي المغربي:
صاحب نحو ولغة، وكان بخيلا بعلمه. مات سنة تسعين ومائتين.
- 464-
خلف بن هشام بن ثعلب البزار أبو محمد:
كان من أهل قمّ، وصار إلى بغداد حتى صار كأنه من أهلها. مات في أيام الواثق سنة تسع وعشرين ومائتين.
وكان يكره أن يقال له البزار. وكان يقول في حرح [1] من يقول لي البزار، وإنما قولوا المقرىء. قال أبو علي الأهوازي: ليس للبغداديين قارىء غير خلف بن هشام، ولا كان قط من أهلها فاضل يشار إليه في العلم فيما أراه إلا قليل، وكان خلف قد قرأ على الكسائي.
جاء إليه سليم بن عيسى الحنفي وقرأ عليه من أول القرآن إلى رأس «الستين» من سورة النور ولم يغلط. فلما بلغ إلى قوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ*
ترك الأعرج، فأخرج سليم رجله وقال: وأين أنا؟ فقال خلف: «ولا على الأعرج حرج» . فقال له سليم حينئذ: أما إنك لو ختمت ولم تغلط لقلت إنك منافق.
مصنفاته: كتاب اختيار القراءات للكسائي. كتاب القراءات.
__________
[463]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر: طبقات الزبيدي: 259 والوافي 13: 360 وبغية الوعاة 1: 556.
[464]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر: طبقات ابن سعد 7: 348 وتاريخ بغداد 8: 322 ومعرفة القراء الكبار 1: 171 وسير الذهبي 10: 576 وعبر الذهبي 1: 404 وطبقات ابن الجزري 1: 273 وتهذيب التهذيب 3: 156 والوافي 13: 358 (وفيه مزيد من التخريج) . والشذرات 2: 67 وورد ذكره في الفهرست: 34- 42 (وترجمته هنالك ص: 34) .
[1] كذا ولعله: «في حر أم» .(3/1259)
- 465-
الخليل بن أحمد بن عمرو بن تميم الفراهيدي،
ويقال الفرهودي نسبة إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن مضر الأزدي البصري، العروضي النحوي اللغوي: سيد الأدباء في علمه وزهده. قيل: أول من سمي في الإسلام أحمد أبو الخليل. ويكنى أبا عبد الرحمن وهو من أعمال عمان من قرية من قراها، وانتقل إلى البصرة. مات سنة خمس وسبعين ومائة عن أربع وسبعين سنة. وقيل إنه مولى الفراهيد، وأصله من الفرس.
قال المؤلف [1] : وهذا القول عندي صحيح، وذاك لأنه لم يذكر أحد في نسبه أكثر من الخليل بن أحمد لم يزد أحد عليه، ولو كان عربيا لم يخف ذلك عن الأئمة العلماء الذين كتبوا أنساب الأراذل الخاملي الذكر، فكيف مثل هذا الإمام مع كثرة تلاميذه المتقنين، أما كان منهم رجل سأله عن نسبه فيكتبه فيما كتب من أخباره وأشعاره؟! قال حمزة بن الحسن الأصبهاني في كتاب «الموازنة بين العربية والعجمية» :
وللعرب فضل على غيرهم من الأمم بما اتفق لعلماء لغتهم من تقييد ألفاظهم في بطون
__________
[465]- ترجمة الخليل بن أحمد في المعارف: 541 وطبقات ابن المعتز: 95 ومراتب النحويين 27 وأخبار النحويين البصريين: 38 والتهذيب للأزهري 1: 10، 28- 29 وطبقات الزبيدي: 43 والفهرست:
ونزهة الألباء: 45 والتنبيه لحمزة: 124 ونور القبس: 56- 72 وتاريخ أبي المحاسن: 123 وإنباه الرواة 1: 341 وابن خلكان 2: 244 وتهذيب الأسماء واللغات 1: 177 وعبر الذهبي 1: 268 وسير الذهبي 7: 429 وطبقات ابن الجزري 1: 275 ومرآة الجنان 1: 362 والبداية والنهاية 10: 161 وتهذيب التهذيب 3: 163 والوافي 13: 385 وسرح العيون: 268 والبلغة: 79 وبغية الوعاة 1: 557 والشذرات 1: 275 وروضات الجنات 3: 289 وله أخبار كثيرة منثورة في كتب الأدب واللغة تطلب في مظانّها؛ ولكوركيس عواد وميخائيل كتاب ببليوغرافي عنه (بغداد: 1972) ومعظم هذه الترجمة من المختصر وبعضها من المطبوعة م.
[1] هذا الترجيح من المؤلف غير مقنع؛ وفراهيد بن مالك أزدي، ويقول المرزباني: «وكان من أنفسهم صحيح النسب معروف الأهل» ، ويقول ابن سلام: لم يكن في العرب أذكى من الخليل (ولا في العجم أذكى من ابن المقفع) ؛ وهذا القول سيرد في ما يلي.(3/1260)
الكتب، وعلماء الفرس تدّعي مشاركتهم في هذه الفضيلة، ويزعمون أن لغتهم كانت منتشرة ذاهبة في الضياع على غير نظام، إلى أن ظهر بجمعها بعد انتشارها فيلسوف دولة الإسلام الخليل بن أحمد الفرهودي، ومن الفرس كان أصله لأنه من فراهيد اليمن، وكانوا من بقايا أولاد الفرس الذين فتحوا بلاد اليمن لكسرى. وكان جدّ الخليل من أولئك، فضمه إلى وهرز لتدبير جيشه، وحصل باليمن فتناسل بها أولاده، وصاهروا قبائل الأزد، فادعاهم الأزد، وبالبلدية والقرابة ضم الخليل سيبويه إلى نفسه حتى خرّجه، فمن أجل أنّ الخليل كان من الفرس صارت لنا شركة في مفاخر العرب بما أثّله الخليل لهم، فزعموا أن للخليل ثلاثة أياد عند العرب كبار لم يسد مثلها إليهم عربي منهم: أحدها ما نهج لتلميذه سيبويه من التأتي لتأليف كتابه حتى علّمه كيف يفرّق جمهور النحو أبوابا، وتجنس الأبواب أجناسا، ثم تنوع الأجناس أنواعا حتى أخرجه معجز التأليف، فقيد به على العرب منطقهم حتى سلم أعقابهم للإعراب وتقويم اللسان من هجنة اللحن وخطأ القول.
الثانية: اختراعه لأشعارهم ميزانا حذاه على غير مثال، وهو العروض التي إليها مفزع من خذله الطبع، ولم يساعده الذوق من الشعراء ورواة الأشعار، فصار أثره لاختراع هذا العلم كأثر الفيلسوف أرسطا طاليس في شرح علم حدود المنطق.
الثالثة: ما منحهم في لغتهم من حصره إياها في الكتاب الذي سماه كتاب «العين» فبدأ فيه بسياقة مخارج الحروف، وأظهر فيه حكمة لم يقع مثلها للحكماء من اليونانيين. فلما فرغ من سرد مخارج الحروف عدل إلى إحصاء أبنية الأشخاص وأمثلة أحداث الأسماء، فزعم أن مبلغ عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرير ينساق إلى اثني عشر ألف ألف وثلاثمائة ألف وخمسة آلاف وأربعمائة واثني عشر. الثنائي منها ينساق إلى سبعمائة وستة وخمسين، والثلاثي إلى تسعة عشر ألف وستمائة وستة وخمسين.
والرباعي إلى أربع مائة وواحد وتسعين ألفا وأربعمائة. والخماسي إلى أحد عشر ألف ألف وسبعمائة وثلاثة وتسعين ألفا وستمائة. قالوا: فقد شاركنا في فضيلة لغتها ومزية نحوها، وحلية عروض قريضها شرك العنان إذ كان الخليل مثيرها من مكمنها وهو منّا.
قال السيرافي: كان الغاية في تصحيح القياس واستخراج مسائل النحو وتعليله.(3/1261)
أخذ عن أبي عمرو بن العلاء وروى عن أيوب وعاصم الأحول وغيرهما، وأخذ عنه الأصمعي وسيبويه والنضر بن شميل وأبو فيد مؤرج السّدوسيّ وعلي بن نصر الجهضمي وغيرهم. وهو أول من استخرج العروض وضبط اللغة وحصر أشعار العرب، يقال إنه دعا بمكة أن يرزقه الله تعالى علما لم يسبق به، فرجع وفتح عليه بالعروض، وكانت معرفته بالايقاع، وهو الذي أحدث له علم العروض وكان يقول الشعر فينظم البيتين والثلاثة ونحوها.
قال الخليل بن أحمد: دخلت على سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس ووجدته يسقط في كلامه، فجلست حتى انصرف الناس، فقال: هل حاجة يا أبا عبد الرحمن! قلت أكبر الحوائج. قال: قل فإن مسائلك مقضية ووسائلك قوية.
قلت: أنت سليمان بن علي، وكان علي في العالم عليا وكان عبد الله بن العباس الحبر والبحر، وكان العباس بن عبد المطلب إذا تكلم أخذ سامعه ما يأخذ النشوان على نقر العيدان، وأراك تسقط في كلامك، وهذا لا يشبه محتدك ومنصبك، قال فكأنما فقأ في وجهه الرمّان خجلا فقال: لن تسمعه بعدها. ثم احتجب عن الناس، وأكبّ على النظر ثم أذن للناس في مجلس عامّ، فدخلت في لمة الناس فوجدته يفصح حتى خلته معدّ بن عدنان، فجلست حتى انصرف الناس. فقال: كيف رأيت أبا عبد الرحمن؟ فقلت رأيت كلّ ما سرني في الأمير، وأنشدت [1] :
لا يكون السريّ مثل الدني ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبيّ
لا يكون الألدّ ذو المعول المر ... هف عند الخصام مثل العيي
قيمة المرء قدر ما يحسن المر ... ء قضاء من الإمام علي
أي شيء من اللباس على ذي السرّ ... وأبهى من اللسان السري
ضينظم الحجة الشتيتة في السل ... ك من القول مثل نظم الهدي
وترى اللحن في لسان أخي الهي ... بة مثل الصدا على المشرفي
فاطلب النحو للقران وللشع ... ر مقيما والمسند المروي
__________
[1] ورد منها بيتان في المقدمة.(3/1262)
كل ذي الجهل بالفنون يعادي ... ها ويزري منها بغير الزري
وانصرفت فاستتبعني غلام على كتفه بدرة فرددتها عليه وكتبت إليه [1] :
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخّى بنفسي أني لا أرى أحدا ... يموت هزلا ولا يبقى على حال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
والرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك فيه حول محتال
سأل رجل الخليل بن أحمد: من أي العرب أنت؟ فقال: فراهيدي، وسأله آخر فقال: فرهودي. قال المبرد: قوله فراهيدي انتسب إلى فراهيد بن مالك بن فهم بن عبد الله بن مالك بن مضر بن الأزد. وقوله فرهودي انتسب إلى واحد من الفراهيد، وهو فرهود، والفراهيد صغار الغنم.
وكان الخليل أعلم الناس وأذكاهم وأفضل الناس وأتقاهم، وكانوا يقولون: لم يكن في العرب بعد الصحابة أذكى من الخليل بن أحمد ولا أجمع، ولا كان في العجم أذكى من ابن المقفع ولا أجمع. وكان الخليل أشد الناس تعففا. ولقد كان الملوك يقصدونه ويتعرضون له لينال منهم فلم يكن يفعل، وكان يعيش من بستان له خلّفه عليه أبوه بالحربية. وكان يحجّ سنة ويغزو سنة حتى جاءه الموت، وأول من جمع الحروف في بيت واحد الخليل، فقال:
صف خلق خود كمثل الشمس إذ بزغت ... يحظى الضجيع بها نجلاء معطار
قيل: كان عند رجل دواء لظلمة العين ينتفع به الناس فمات وأضرّ ذلك بمن كان يستعمله. فقال الخليل بن أحمد: أله نسخة معروفة؟ قالوا: لم نجد نسخته. قال فهل له آنية يعمله فيها؟ قالوا: نعم، إناء كان يجمع الأخلاط فيه. قال: فجيئوني به. فجعل يشمّه ويخرج نوعا نوعا حتى ذكر خمسة عشر نوعا، ثم سأل عن جمعها ومقدارها، فعرف ذلك ممن يعالج مثله، فعمله فأعطاه الناس فانتفعوا به مثل تلك المنفعة، ثم وجدت النسخة في كتب الرجل فوجدوا الأخلاط ستة عشر خلطا كما ذكر
__________
[1] الأبيات في مصادر كثيرة، انظر نور القبس: 66.(3/1263)
الخليل لم يغفل منها إلا خلطا واحدا.
وقال الخليل [1] : كنت أخرج من منزلي فألقى رجلا من أربعة: رجلا أعلم مني فهو يؤم فائدتي، ورجلا مثلي فهو يؤم مذاكرتي، ورجلا متعلما مني فهو يؤمّ ثوابي، ورجلا دوني في الحقيقة، وهو يرى أنه فوقي ويحاول أن يتعلم مني وكأنه يعلمني فذاك الذي لا أكلمه ولا أنظر إليه.
وقال [2] : الرجال أربعة: رجل يدري ويدري أنه يدري، فذاك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذاك غافل فنبهوه، ورجل لا يدري ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه، ورجل لا يدري ولا يدري أنه لا يدري فذاك مائق فاحذروه.
وقال الناشىء يهجو داود بن علي الأصبهاني الفقيه [3] :
أقول كما قال الخليل بن أحمد ... وإن شئت ما بين النظامين في الشعر
عذلت على من لو علمت بقدره ... بسطت وكان العذل واللوم من عذري
جهلت ولم تعلم بأنك جاهل ... فمن لي بأن تدري بأنك لا تدري
وأنشد علي بن هارون عن أبيه في معناه:
يدعي العلم بالنجوم كما قد ... يدعي مثل ذاك في كل أمر
وهو في ذاك ليس يدري ولا يد ... ري من النوك أنه ليس يدري
وقال الخليل [4] : تكلم أربعة أملاك بأربع كلمات كأنها رمية واحدة. قال كسرى: أنا على ردّ ما لم أقل أقدر مني على ردّ ما قلت. وقال قيصر: لا أندم على ما لم أقل، وقد أندم على ما قلت. وقال ملك الصين: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني، وإذا لم أتكلم بها ملكتها. وقال ملك الهند: عجبت لمن يتكلم بالكلمة إن وقعت عليه ضرّته، وإن لم ترفع عليه لم تنفعه. قال الخليل: وطلبت لها نظائر في أشعار العرب فوجدت منها في قول الشاعر:
__________
[1] نور القبس: 60.
[2] نور القبس: 61 وعيون الأخبار 2: 126.
[3] نور القبس: 61.
[4] نور القبس: 61- 62.(3/1264)
حبس ما لم أقل عليّ يسير ... وعسير ردّ الكلام المقول
وقال الآخر:
ما لم أقله لم أسعه ندامة ... ومتى أقل يكثر عليّ تندّمي
وقال الآخر:
كلامك مملوك إذا لم تفه به ... وتلقاه إن أطلقته لك مالكا
وقال الآخر:
عجبت للقائل قولا هذرا ... متى يشع يدن إليك ضررا
وليس بالنافع إمّا سترا
وقال الخليل: ثلاثة ينسين المصائب: مرّ الليالي، والمرأة الحسناء، ومحادثة الرجال.
وقال [1] :
وما بقيت من اللذات إلا ... محادثة الرجال ذوي العقول
وقد كنا نعدهم قليلا ... فقد أضحوا أقلّ من القليل
وله [2] :
وما هي إلا ليلة ثم يومها ... وحول إلى حول وشهر إلى شهر
مطايا يقرّبن الجديد من البلى ... ويدنين أشلاء الكرام من القبر
ويتركن أزواج الغيور لغيره ... ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر
كان عبد الله بن الحسن العنبري قاضي البصرة يأتي جارا له يقول بالنجوم، فدخل قلبه شيء، فجاء الخليل فسأله، فقال له الخليل: أخبرني عن الحاء من أين مخرجها؟ قال: من الحلق. قال: فأخبرني عن الباء من أين مخرجها؟ قال: من طرف اللسان. قال: أفتقدر أن تخرج هذه من مخرج تلك؟ قال: لا. قال: قم
__________
[1] نور القبس: 63.
[2] نور القبس: 63.(3/1265)
فإنك مائق، ثم أنشأ يقول [1] :
أبلغا عني المنجم أني ... كافر بالذي قضته الكواكب
عالم أن ما يكون وما كا ... ن فحتم من المهيمن واجب
وأنشد للخليل:
يقولون لي دار الأحبة قد دنت ... وأنت كئيب إن ذا لعجيب
فقلت وما تغني الديار وقربها ... إذا لم يكن بين القلوب قريب
وله في وصف البصرة، ويروى لأبي عيينة:
يا جنة فاقت الجنان فما ... تبلغها قيمة ولا ثمن
ألفتها فاتخذتها وطنا ... إن فؤادي لأهلها وطن
من سفن كالنعام مقبلة ... ومن نعام كأنها سفن
صاهر حيتانها الضباب بها ... فهذه كنّة وذا ختن
قال وهب بن جرير [2] : خرج أبي والخليل والفضل بن المؤتمن العبلي إلى سليمان بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة إلى الأهواز فبدأ بعطاء الاثنين قبل الخليل. فكتب إليه بأبيات تمثل بها:
ورد العفاة المعطشون فأصدروا ... ريّا وطاب لهم لديك المكرع
ووردت بحرك ظامئا متدفّقا ... فرددت دلوي شنها يتقعقع
وأراك تمطر جانبا عن جانب ... وفناء أرضي من سمائك بلقع
ألبخس منزلتي تؤخر حاجتي ... أو ليس عندك لي بخير مطمع
ورحل عنه فوجه إليه ألف دينار فردها عليه، وقال: هيهات أفلتت قائبة عن قوبها. القائبة البيضة، والقوب: الفرخ، وهو مثل ضربه.
وروي [3] أن سليمان بن حبيب وجّه إلى الخليل وهو يومئذ والي فارس والأهواز
__________
[1] البيتان في نور القبس: 65.
[2] نور القبس: 67.
[3] قارن بنور القبس: 66- 67.(3/1266)
يستدعيه لتأديب ولده، فأخرج الخليل إلى رسوله خبزا يابسا، وقال له: كل، فما عندي غيره، وما دمت أجده فلا حاجة لي إلى سليمان، وقال:
أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال
سخّى بنفسي أني لا أرى أحدا ... يموت جوعا ولا يبقى على حال
وإن بين الغنى والفقر منزلة ... مخطومة بجديد ليس بالبالي
فالرزق عن قدر لا العجز ينقصه ... ولا يزيدك منه حول محتال
إن كان ضنّ سليمان بنائله ... فالله أفضل مسؤول لسؤال
والفقر في النفس لا في المال نعرفه ... ومثل ذاك الغنى في النفس لا المال
قيل: قطع سليمان جاريا كان يجريه عليه، فقال الخليل:
إن الذي شق فمي ضامن ... للرزق حتى يتوفاني
حرمتني خيرا قليلا فما ... زادك في مالك حرماني
فبلغت سليمان فأقامته وأقعدته، وكتب إلى الخليل يعتذر إليه، وأضعف جاريه، فقال الخليل [1] :
وزلة يكثر الشيطان إن ذكرت ... منها التعجب جاءت من سليمانا
لا تعجبنّ لخير زلّ عن يده ... فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا
وله [2] :
اعمل بعلمي ولا تنظر إلى عملي ... ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري
حدث علي بن نصر الجهضمي قال [3] : رأيت الخليل بعدما مات في النوم، فقلت له: ما صنع الله بك؟ قال: رأيت ما كنا فيه لم يكن شيئا، وما وجدت أفضل من «سبحان الله والحمد لله والله أكبر» .
__________
[1] نور القبس: 67.
[2] نور القبس: 61.
[3] نور القبس: 72.(3/1267)
قيل [1] : وكان الخليل يحب أن يرى عبد الله بن المقفع، وكان عبد الله يحب ذلك، فجمعهما عبّاد بن عبّاد المهلبي فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن، ثم افترقا. فقيل للخليل: كيف رأيت ابن المقفع؟ فقال: ما رأيت مثله قط، وعلمه أكثر من عقله.
وقيل لابن المقفع: كيف رأيت الخليل؟ فقال: ما رأيت قط مثله، وعقله أكثر من علمه. وصدق في ذلك، أدى عقل الخليل إلى أن مات وهو أزهد الناس، وأدى جهل ابن المقفع إلى أن قتل على ما ذكرناه في بابه من هذا الكتاب.
وسئل الخليل [2] ، فقيل له: ما الجود؟ قال: بذل الموجود. قيل: فما الزهد؟ قال: ألا تطلب المفقود حتى يفقد الموجود. وقال الخليل: الناس في سجن ما لم يتمازحوا، وأنشد لنفسه:
يكفيك من دهرك هذا القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت
وكان يقول: إذا نسخ الكتاب ثلاث مرات، ولم يقابل انقلب بالفارسية.
وكان [3] الخليل صديقا لسليمان بن حبيب. وكثر الزوار عليه فتشاغل عنهم، فقدم الخليل بن أحمد فسألوه أن يذكره أمرهم فكتب إليه:
لا تقبلنّ الشعر ثم تعيده ... وتنام والشعراء غير نيام
واعلم بأنهم إذا لم ينصفوا ... حكموا لأنفسهم على الحكام
وجناية الجاني عليهم تنقضي ... وعقابهم يبقى على الأيام
وله، وقد رويت للأحنف بن قيس وقد لامه قومه على كثرة الحلم [4] :
سألزم نفسي الصفح عن كلّ مجرم ... وإن كثرت منهم إليّ الجرائم
فما أنا إلا واحد من ثلاثة ... شريف ومشروف ومثل مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف قدره ... وأتبع فيه الحقّ والحقّ قائم
وأما الذي مثلي فإن زلّ أو هفا ... تفضلت إن الفضل للحر لازم [5]
__________
[1] قارن بنور القبس: 57.
[2] بعضه في نور القبس: 63.
[3] نور القبس: 67.
[4] نور القبس: 56.
[5] نور القبس: بالعز حاكم.(3/1268)
وأما الذي دوني فإن قال صنت عن ... إجابته نفسي وإن لام لائم
مولد الخليل سنة مائة، وتوفي سنة خمس وسبعين ومائة. قيل: أقام الخليل في خص من أخصاص البصرة لا يقدر على فلسين وأصحابه يكسبون بعلمه الأموال.
ولقد سمعه النضر بن شميل يقول: إني لأغلق عليّ بابي فما يجاوزه همي.
وقد روي في سبب وضع الخليل كتاب العروض ما ذكره عبد الله بن المعتز أن الخليل مرّ في سكّة القصّارين في البصرة فسمع دق الكوادين بأصوات مختلفة، فوقف يسمع اختلافه، ثم قال: والله لأصنعنّ على هذا المعنى علما غامضا، فوضع العروض.
وحدث النضر بن شميل قال [1] : كان أصحاب الشعر يمرون بالخليل فيتكلمون في النحو، فقال الخليل: لا بدّ لهم من أصل، فوضع العروض. وخلا في بيت، ووضع بين يديه طستا أو ما أشبه الطست، فجعل يقرعه بعود ويقول: فاعلن مستفعلن فعولن، قال: فسمعه أخوه، فخرج إلى المسجد، فقال إن أخي قد أصابه جنون، فأدخلهم عليه وهو يضرب الطست، فقالوا: يا أبا عبد الرحمن، ما لك؟ أصابك شيء؟ أتحب أن نعالجك؟ فقال: وما ذاك؟ قالوا: أخوك زعم أنك قد خولطت، فأنشأ يقول:
لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا
لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا
قال أبو محمد اليزيدي: قصدت الخليل في بعض الأيام، فلما دخلت عليه ألفيته جالسا على طنفسة صغيرة، فأوسع لي فكرهت التضييق عليه، فقال: لا يضيق سمّ الخياط مع متحابين، ولا تسع الدنيا متباغضين، وأنشد [2] :
ما اتسعت أرض إذا كان من ... تبغض في شيء من الأرض
كتب سليمان بن حبيب إلى الخليل أن اكتب لي النحو في ثلاث كلمات ولا تزد عليها، فكتب إليه: الرفع موسوم بالوصف، والخفض مجرور الإضافة، وما لا سبيل إليه فهو نصب.
__________
[1] نور القبس: 58.
[2] نور القبس: 61.(3/1269)
وأنشد للخليل:
ما ازددت في أدبي حرفا أسرّ به ... إلا تزيدت حرفا تحته شوم
إن المقدم في حذق بصنعته ... أنى توجّه فيها فهو محروم
وقال الخليل: من أخطأته المنايا قيدته الليالي والسنون.
حدّث الخليل بن أحمد قال: اجتزت في بعض أسفاري براهب في صومعة فدققت عليه والمساء قد أزفت جدا، وقد خفت من الصحراء وسألته أن يدخلني، فقال: من أنت؟ قلت: أنا الخليل بن أحمد. فقال: أنت الذي يزعمه الناس وجها واحدا في العلم بأمر العرب؟ فقلت: كذا يقولون، ولست كذلك. فقال: إذا أجبتني عن ثلاث مسائل جوابا مقنعا فتحت لك الباب، وأحسنت ضيافتك [وإن لم تجب] لم أفتح لك. قلت: وما هي؟ قال: ألسنا نستدل على الغائب بالشاهد؟
فقلت: بلى. قال: فأنت تقول: الله عز وجل ليس بجسم ولا عرض، ولا نرى شيئا بهذه الصفة. وأنت تزعم أن الناس في الجنة يأكلون ويشربون، ولا يتغوّطون، وأنت لم تر آكلا شاربا إلا متغوّطا، وأنت تقول: إن نعيم أهل الجنة لا ينقضي، وأنت لم تر شيئا إلا منقضيا. قال: فقلت له، بالشاهد الحاضر استدللت على ذلك كله. أما الله تعالى فإنما استدللت عليه بأفعاله الدالّة عليه، ولا مثل له. وفي الشاهد مثل ذلك، وهي الروح التي فيك وفي كل حيوان تعلم أنك تحسّ بها تحت كل شعرة منها، ونحن لا ندري أين هي، ولا كيف هي، ولا ما صفتها، ولا جوهرها، ثم ترى الإنسان يموت إذا خرجت، ولا يحس بشيء خرج منه. وإنما استدللنا عليها بأفعالها وبحركاتها، وتصرفنا بكونها فينا. وأما قولك إن أهل الجنة لا يتغوطون مع الأكل، فالشاهد لا يمنع ذلك، ألا ترى الجنين يغتذي في بطن أمه ولا يتغوط؟ وأما قولك إن نعيم أهل الجنة لا ينقضي مع أن أوله موجود، فإنا نجد أنفسنا نبتدىء الحساب بالواحد، ثم إذا أردنا ألا ينقضي إلى ما لا نهاية له لم نكرره وأعداده تضعيفه إلى انقضائها. قال: ففتح لي الباب، وأحسن ضيافتي.
قال المؤلف: هذا الجواب كما شرط الراهب إقناعيّ لا قطعيّ.
وكان سفيان الثوري يقول: من أحب أن ينظر إلى رجل خلق من الذهب(3/1270)
والمسك فلينظر إلى الخليل بن أحمد.
ويروى عن النضر بن شميل أنه قال: كنا نميّل بين ابن عون والخليل بن أحمد أيهما نقدّم في الزهد والعبادة فلا ندري أيهما نقدم. وكان يقول: ما رأيت رجلا أعلم بالسنة بعد ابن عون من الخليل بن أحمد. وكان يقول: أكلت الدنيا بعلم الخليل بن أحمد وكتبه، وهو في خصّ لا يشعر به. وكان يحجّ سنة ويغزو سنة، وكان من الزهاد المنقطعين إلى الله تعالى. وكان يقول: إن لم تكن هذه الطائفة أولياء الله تعالى فليس لله وليّ.
وللخليل من التصانيف: كتاب الإيقاع. وكتاب الجمل. وكتاب الشواهد.
وكتاب العروض. وكتاب العين في اللغة، ويقال إنه لليث بن نصر بن سيار، عمل الخليل منه قطعة وأكمله الليث. وله كتاب فائت العين [1] . وكتاب النغم. وكتاب النقط والشكل، وغير ذلك.
ومن شعره أيضا:
وقبلك داوى الطبيب المريض ... فعاش المريض ومات الطبيب
فكن مستعدا لداء [2] الفناء ... فإن الذي هو آت قريب
توفي سنة ستين ومائة وقيل سبعين ومائة وله أربع وسبعون سنة.
- 466-
الخليل بن أحمد بن محمد بن الخليل بن موسى
بن عبد الله بن عاصم بن جبل السجزي، أبو سعيد: إمام في كل علم، شائع الذكر مشهور الفضل معروف
__________
[466]- ترجمة الخليل بن أحمد السجزي في يتيمة الدهر 4: 338 والأنساب (السجزي) . والتحبير 1: 546 ومصورة ابن عساكر 5: 679 وتهذيب ابن عساكر 5: 175 ومختصر ابن منظور 8: 85 والجواهر المضية 1: 324 وتاج التراجم: 27 والوافي 13: 392 والبداية والنهاية 11: 306 والنجوم الزاهرة 4: 153 والشذرات 3: 91 وقد جمعت هنا بين ما جاء في المختصر والمطبوعة م.
[1] يعني فائت حرف العين لا الكتاب كله لأنه لم يكمله.
[2] م: لدار (والتصويب من ش) .(3/1271)
بالإحسان في النظم والنثر؛ وكان فقيها شاعرا محدثا رحل في طلب الحديث إلى نيسابور ودمشق وأدرك الأئمة والعلماء وسافر في البلاد، وصنف التصانيف، وولي القضاء ببلدان شتى من وراء النهر.
حدّث قال [1] : قدم علينا بسجستان وأنا قاضيها صاحب جيش من خراسان من قبل نصر بن أحمد، ومعه خلق عظيم من الجيش، فملك سجستان فأكثر أصحابه الفساد في البلد، وامتدت أيديهم إلى النساء في الطرقات قهرا، فاجتمع الناس إليّ وإلى الفقيه فلان وشكوا إلينا الحال، فدخلت أنا والفقيه وجماعة من وجوه البلد إليه.
وكان المبتدىء الخطاب الفقيه، فوعظه وعرّفه ما يجري. فقال له: يا شيخ، ما ظننتك بهذا الجهل، معي ثلاثون ألف رجل نساؤهم ببخارى، فإذا قامت أيورهم كيف يصنعون، ينفذونها بسفاتج إلى حرمهم، لا بدّ لهم أن يضعوها فيمن ها هنا، كيف استوى لهم. هذا أمر لا يمكنني إفساد قلوب الجيش بنهيهم عنه. فانصرف.
قال: فخرجنا، فقالت لنا العامة: أيش قال الأمير؟ فأعاد عليهم الفقيه الكلام بعينه.
فقالوا: هذا القول منه فسق وأمر به ومكاشفة بمعصية الله، فهل يحلّ لنا عندك قتاله بهذا القول؟ فقال لهم الفقيه: نعم، قد حلّ لكم قتاله. فتبادرت العامة، وانسللنا من الفتنة فلم نصلّ المغرب من تلك الليلة وفي البلد أحد من الخراسانية لأنه اجتمع من العامة ما لا يضبط عدده، فقتلوا خلقا عظيما من الخراسانية، ونهبت دار الأمير فطلبوه ليقتلوه، فأفلت على فرسه، ومعه كل من قدر على الهرب، ومضوا على وجوههم، فما جاءنا بعدهم جيش من خراسان.
قال الحاكم أبو عبد الله في «تاريخ نيسابور» : كان الخليل شيخ أهل الرأي في عصره، وكان من أحسن الناس كلاما في الوعظ والذكر، مع تقدّمه في الفقه والأدب، وكان ورد نيسابور، قديما مع محمد بن إسحاق بن خزيمة وأقرانه، وسمع بالريّ والعراق والحجاز، وورد نيسابور محدّثا ومفيدا سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، وسكن سجستان ثم انتقل إلى بلخ وسكنها، ومن شعره في مدح أبي حنيفة النعمان بن ثابت وصاحبيه والأئمة القراء:
__________
[1] من هنا حتى قوله «من خراسان» آخر الفقرة مزيد من المختصر.(3/1272)
سأجعل لي النعمان في الفقه قدوة ... وسفيان في نقل الأحاديث سيدا
وفي ترك ما لم يعنني من عقيدة ... سأتبع يعقوب العلا ومحمدا
وأجعل حزبي من قراءة عاصم ... وحمزة بالتحقيق درسا مؤكدا
وأجعل في النحو الكسائيّ عمدتي ... ومن بعده الفراء ما عشت سرمدا
وإن عدت للحجّ المبارك مرة ... جعلت لنفسي كوفة الخير مشهدا
فهذا اعتقادي وهو ديني ومذهبي ... فمن شاء فليبرز ليلقى موحدا
ويلقى لسانا مثل سيف مهنّد ... يفلّ إذا لاقى الحسام المهندا
وقال:
إذا ضاق باب الرزق عنك ببلدة ... فثمّ بلاد رزقها غير ضيّق
وإياك والسكنى بدار مذلّة ... فتسقى بكأس الذلة المتدفق
فما ضاقت الدنيا عليك برحبها ... ولا باب رزق الله عنك بمغلق
وقال:
ليس التطاول رافعا من جاهل ... وكذا التواضع لا يضرّ بعاقل
لكن يزاد إذا تواضع رفعة ... ثم التطاول ما له من حاصل
وقال:
رضيت من الدنيا بقوت يقيمني ... ولا أبتغي من بعده أبدا فضلا
ولست أروم القوت إلا لأنه ... يعين على علم أردّ به جهلا
فما هذه الدنيا يكون نعيمها ... لأصغر ما في العلم من نكتة عدلا
وقال:
الله يجمع بيننا في غبطة ... ويزيل وحشتنا بوشك تلاق
ما طاب لي عيش فديتك بعدما ... ناحت عليّ حمامة بفراق
إن الإله لقد قضى في خلقه ... أن لا يطيب العيش للمشتاق
توفي القاضي السجزي بسمرقند وهو قاض بها سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة ومولده سنة إحدى وسبعين ومائتين، وقيل توفي بفرغانة وهو على مظالمها. وقال أبو(3/1273)
بكر الخوارزمي يرثيه:
ولما رأينا الناس حيرى لهدة ... بدت بأساس الدين بعد تأطّد [1]
أفضنا دموعا بالدماء مشوبة ... وقلنا لقد مات الخليل بن أحمد
- 467-
خميس بن علي بن أحمد بن علي بن الحسين
بن إبراهيم بن الحسن بن سلامويه أبو الكرم الواسطي الحوزي، والحوز محلة بأعلى الجانب الشرقي من واسط، الحافظ النحوي الأديب الشاعر المحدث: من الفضلاء النبلاء العلماء النحاة، جمع بين حفظ القرآن وعلمه والحديث وحفظه ومعرفة رجاله، وإليه انتهت الرياسة في وقته بواسط.
حدث عن أبي القاسم عبد العزيز بن علي الأنماطي وأبي منصور محمد النديم العكبري وأبي القاسم علي بن أحمد البشري وغيرهم من البغداديين والواسطيين.
قال الحافظ أبو طاهر السلفي: كان خميس من حفّاظ الحديث المحققين بمعرفة رجاله، ومن أهل الأدب البارع، وله شعر غاية في الجودة، وفي شيوخه كثرة، وقد علّقت عنه فوائد، وسألته عن رجال من الرواة فأجاب بما أثبته في جزء ضخم، (وهو عندي) . وقد أملى عليّ نسبه وهو: خميس بن علي بن أحمد بن علي بن الحسين بن إبراهيم بن الحسن بن سلامويه الحوزي، ومولده سنة سبع وأربعين وأربعمائة وكان اتقانه مما يعوّل عليه. وفي كتاب ابن نقطة مولده سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة في
__________
[467]- ترجمة خميس الحوزي في معجم البلدان (الحوز) والأنساب واللباب (الحوزي) وإنباه الرواة 1: 358 وعبر الذهبي 4: 20 وتذكرة الحفاظ: 1262 والخريدة (قسم العراق) 4/2: 469 والوافي 13: 420 وعيون التواريخ للكتبي 12: 68 ومرآة الجنان 3: 199 وبغية الوعاة 1: 561 وطبقات الحفاظ للسيوطي: 458 والشذرات 4: 27 ومقدمة سؤالات الحافظ السلفي لخميس الحوزي تحقيق مطاع الطرابيشي.
[1] يقترح (ش) أن تقرأ: توطد.(3/1274)
شعبان ومات في شعبان أيضا بواسط سنة عشر وخمسمائة. ومن شعره [1] :
تركت مقالات الكلام جميعها ... لمبتدع يدعو بهنّ إلى الردى
ولازمت أصحاب الحديث لأنهم ... دعاة إلى سبل المكارم والهدى
وهل ترك الإنسان في الدين غاية ... إذا قال قلدت النبيّ محمدا
وقال:
من كان يرجو أن يرى ... من ساقط أمرا سنيا
فلقد رجا أن يجتني ... من عوسج رطبا جنيا
وأنشد عنه:
وحرمة ما حمّلت من ثقل حبكم ... وأشرف محلوف به حرمة الحبّ
لأنتم وإن ضنّ الزمان بقربكم ... ألذّ إلى قلبي من البارد العذب
فلا تحسبوا أن المحبّ إذا نأى ... وغاب عن العينين غاب عن القلب
- 468-
خويلد بن خالد بن محرز بن زبيد بن أسد
بن مخزوم بن صاهلة بن كاهل بن الحارث بن غنم بن سعد بن هذيل الهذلي، أبو ذؤيب: شاعر مجيد مخضرم أدرك الجاهلية والاسلام، قدم المدينة عند وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه.
روي عنه أنه قال: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلّوا بالإحرام، فقلت: مه؟ فقالوا: توفي رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
__________
[468]- ترجمة أبي ذؤيب الهذلي في الشعر والشعراء: 547 وطبقات ابن سلام: 131 والأغاني 6: 250 والمؤتلف: 173 ومصورة ابن عساكر 5: 690 ومختصر ابن منظور 8: 92 وتهذيب ابن عساكر 5: 182 والاستيعاب 4: 1648 وأسد الغابة 5: 188 والإصابة 7: 63 والوافي 13: 437 والخزانة 1: 203 وشرح شواهد المغني: 10 والعيني 1: 295، 298 ومعاهد التنصيص 2: 165 والدميري 2: 47 (وترجمة أبي ذؤيب أليق بمعجم الشعراء) .
[1] الخريدة: 473.(3/1275)
وفي رواية أنه قال: بلغنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم عليل، وقع ذلك إلينا عن رجل من الحيّ قدم معتما فأوجس أهل الحيّ خيفة وأشعرنا حزنا، فبتّ بليلة باتت النجوم بها طويلة الأناة لا ينجاب ديجورها ولا يطلع نورها، فظللت أقاسي طولها وأقارع غولها حتى إذا كان دوين السفر وقرب السحر خفت، فهتف هاتف وهو يقول [1] :
خطب أجلّ أناخ بالإسلام ... بين النخيل ومقعد الآطام
قبض النبيّ محمد فعيوننا ... تذري الدموع عليه بالتسجام
قال أبو ذؤيب: فوثبت من نومي فزعا، فنظرت إلى السماء فلم أر إلا سعد الذابح، فتفاءلت به ذبحا يقع في العرب، وعلمت أن النبي صلّى الله عليه وسلم قد قبض أو أنه ميت، فركبت ناقتي فسرت، فلما أصبحت طلبت شيئا أزجره، فعنّ لي القنفذ قد قبض على صلّ، يعني حية، فهي تلتوي عليه والقنفذ يقضمه حتى أكله، فزجرت ذلك وقلت:
تلوي الصل انفتال الناس عن الحقّ على القائم بعد رسول الله، ثم أوّلت أكل القنفذ له غلبة القائم على الأمر. والحديث طويل ذكر فيه حضوره في سقيفة بني ساعدة ومبايعة أبي بكر رضي الله عنه.
وروى ابن سلام عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: سئل حسان بن ثابت من أشعر الناس؟ قال: أحيا؟ قالوا: حيا؟ قال: أشعر الناس حيا هذيل، وأشعر هذيل غير مدافع أبو ذؤيب.
وقال ابن شبة: تقدم أبو ذؤيب جميع شعراء هذيل بقصيدته العينية التي يرثي فيها بنيه ومطلعها [2] :
أمن المنون وريبها تتوجع ... والدهر ليس بمعتب من يجزع
قالت أميمة ما لجسمك شاحبا ... منذ ابتذلت ومثل ما بك ينفع
أم ما لجسمك لا يلائم مضجعا ... ألا أقضّ عليك ذاك المضجع
ضفأجبتها أما لجسمي إنه ... أودى بنيّ من البلاد فودعوا
__________
[1] الخزانة 1: 203.
[2] ديوان أبي ذؤيب: 4 وهي مفضلية.(3/1276)
أودى بنيّ فأعقبوني حسرة ... بعد السرور وعبرة ما تقلع
ومنها:
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم ... وإذا المنية أقبلت لا تدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كلّ تميمة لا تنفع
وتجلّدي للشامتين أريهم ... أني لريب الدهر لا أتضعضع
لا بدّ من تلف مقيم فانتظر ... أبأرض قوم أم بأخرى المضجع
ومنها:
والنفس راغبة إذا رغّبتها ... وإذا تردّ إلى قليل تقنع
كم من جميعي الشمل ملتئمي الهوى ... كانوا بعيش ناعم فتصدّعوا
وهي نحو سبعين بيتا أورد ابن رشيق أبياتا منها في «العمدة» وعدّها في المطبوع من شعر العرب.
ومن شعره ما أنشده له ثعلب [1] :
وعيّرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
فإن أعتذر منها فإني مكذّب ... وإن تعتذر يردد عليّ اعتذارها
وشعر أبي ذؤيب كله على نمط في الجودة وحسن السبك. وتوفي في غزوة أفريقية مع ابن الزبير، وقال وهو يجود بنفسه مخاطبا ابن أخيه أبا عبيد:
أبا عبيد وقع الكتاب ... واقترب الوعيد والحساب
وعند رحلي جمل منجاب ... أحمر في حاركه انصباب
ثم قضى نحبه ودلّاه ابن الزبير في حفرته.
__________
[1] ديوانه: 70- 71.(3/1277)
- 469-
خيار بن أوفى النهدي:
شاعر إسلامي دخل على معاوية فقال له: ما صنع بك الدهر؟ فقال: يا أمير المؤمنين ضعضع قناتي، وشيب شواتي [1] ، وأفنى لذاتي، وجرأ عليّ عداتي، ولقد بقيت زمانا آنس بالأصحاب، وأسبل الثياب، وآلف الأحباب، فبادوا عني، ودنا الموت مني. فقال له: أنشدني ما قلت في الخمر والنهي عنها فقال:
أنهد بن زيد ليس في الخمر رفعة ... فلا تقربوها إنني غير فاعل
فإني وجدت الخمر شينا ولم يزل ... أخو الخمر حلّالا شرار المنازل
فكم قد رأينا من فتى ذي جهالة ... صحا بعد أزمان وطول تجاهل
ومن سيد قد قنّعته مذلّة ... فعاش ذليلا ضحكة في المحافل
فلله أقوام تمادوا بشربها ... فأضحوا وهم أحدوثة في القوافل
فقال معاوية: صدقت، والله لكم من سيد أدمنها فتركته ضحكة وأحدوثة، ومن ذي رغبة فيها قد صحا عنها فصار سيد قومه. والله ما وضع شيء الرّجل كما وضعه الشراب، والله لهي الداء العياء.
مات خيار النهدي في خلافة يزيد بن معاوية.
__________
[469]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 5: 695 وتهذيب ابن عساكر 5: 188 ومختصر ابن منظور 8: 97.
[1] ابن عساكر: وشتت شراتي.(3/1278)
حرف الدال
- 470-
داود بن القاضي أحمد بن أبي دواد:
كان أديبا شاعرا فاضلا، وكان صديقا لمحمد بن يسير [1] الرياشي الشاعر المشهور، وكان ابن يسير كثير التردّد عليه، ففقد ابن يسير يوما أهلوه وطلبوه فلم يجدوه، وكان مع أصحاب له خرج معهم للنزهة، فجاءوا إلى القاضي داود بن أحمد يسألونه عنه، فقال لهم: اطلبوه في منزل «حسن» المغنية، فإن وجدتموه والّا فهو في حبس أبي شجاع صاحب شرطة «خمار» التركي. فلما كان بعد أيام جاء ابن يسير إليه فقال له: ايه أيها القاضي كيف دللت عليّ أهلي؟ قال: كما بلغك، وقد قلت في ذلك أبياتا، قال: أو فعلت ذلك أيضا؟
زدني من برّك، هات أيّ شيء قلت، فأنشده:
ومرسلة توجّه كلّ يوم ... إليّ وما دعا للصبح داع
تسائلني وقد فقدوه حتى ... أرادوا بعده قسم المتاع
إذا لم تلقه في بيت «حسن» ... مقيما للشراب وللسماع
ولم ير في طريق بني سدوس ... يخطّ الأرض منه بالكراع
__________
[470]- الأغاني 14: 38- 39، وترجم له الآمدي في المؤتلف والمختلف وسمّاه «دواد» - بتقديم الواو على الألف- وهو الأقرب إلى الصواب، يعني أنه سمّي باسم جده وأورد له رثاء في أخيه ثم قال: وله في كتاب اياد أشعار وأخبار وقصته مع أبيه حيث فارقه وعاد إليه.
[1] م: بشير (حيثما ورد) .(3/1279)
يدقّ حزونها بالوجه طورا ... وطورا باليدين وبالذراع
فقد أعياك مطلبه وأمسى ... بلا شكّ [1] بحبس أبي شجاع
فجعل ابن يسير يضحك ويقول: أيها القاضي لو غيرك يقول لي هذا لعرف مصيره. ثم لم يبرح حتى أعطاه داود مائتي درهم وخلع عليه.
- 471-
داود بن أحمد بن يحيى بن الخضر،
أبو سليمان الداودي الضرير الملهمي البغدادي المقرىء الأديب: قرأ القرآن بالروايات على أبي الحسن علي بن عساكر البطائحي وأبي الفضل أحمد بن محمد بن شنيف، وبرع في الأدب، وكان مولعا بشعر أبي العلاء المعرّي يحفظ منه جملة صالحة، ولذلك كان الناس يرمونه بسوء العقيدة. توفي أبو سليمان ببغداد سنة خمس عشرة وستمائة ومن شعره:
أعلّل القلب بذكراكم ... والقلب يأبى غير لقياكم
حللتم قلبي وبنتم فما ... أدناكم منّي وأقصاكم
يا حبذا ريح الصّبا إنها ... تروّح القلب برياكم
وقال:
إلى الرحمن أشكو ما ألاقي ... غداة غدوا [2] على هوج النياق
نشدتكم بمن زمّ المطايا ... أمرّ بكم أمرّ من الفراق
وهل داء أمرّ من التنائي ... وهل عيش ألذّ من التلاقي
__________
[471]- ترجمته في ذيل الروضتين: 110 ومرآة الزمان: 593 ومختصر ابن الدبيثي 2: 64 وطبقات ابن الجزري 1: 278 وتكملة المنذري 2: 420 والوافي 13: 458 (وينقل عن ابن النجار) ونكت الهميان: 150 ولسان الميزان 2: 424.
[1] الأغاني: فلا تغلط.
[2] م: غد، والتصويب عن الوافي.(3/1280)
- 472-
داود بن الجراح:
جد الوزير أبي الحسن علي بن داود. وكان داود من أعيان الكتاب وفضلائهم. مات سنة [إحدى وتسعين ومائتين] وقد كتب للمستعين بالله.
كتب أبو سليمان داود إلى إبراهيم بن العباس الصولي وكان كاتبا، رقعة فيها:
«قد كثرت ذنوبي، واتصلت اعتذاراتي بتأخري عنك وإخلالي بخدمتك، وطال لذلك عتبك عليّ، وما هو إلا لتنقلي من منزل إلى منزل، ونزولي دارا بعد دار لا أجد في قريبها ما أريد فأفزع إلى البعيد، وكلما أجمعت على شراء منزل ووجّهت له وجها قصدني الزمان بنائبة فيما أعددته حتى يجتاحه ويحوجني إليه، وأنا حريص مجدّ في بيع أوفر ضياعي غلة وأنضّها ثمنا لاتخاذ منزل يقرب منك لأقضي الحقّ في خدمتك، وأنزل [على] الصغير والكبير من أمرك، وأستغني عمن افتقرت إليه في النيابة عني، أعانني الله على طاعتك، ووفر عليّ حسن رأيك، وأعاذني من الغير فيك» .
فوقع إبراهيم بن العباس في كتابه «فهمت ما كتبته، وتأملت ما شكوته، فرأيت الذنب لك في ستر أمرك عني، وإخفائه مني، وطيّك أيامك على ذلك، ودرجها دونه عظيم منك قبيح عندي، وأنت فيه تضيع حقك وحقي، فحجتك في قولك ذا حرمة، وعذرك فيه وعرفه [1] ، وجنايتك على نفسك أعظم من جناية الزمان عليك، وما أنكرت منك، ولا استقبحت أثرك، ولا أغفلت مراعاتك. وكان عليك الإذكار بما نسي، والإظهار لما خفي، والكشف لما يستتر، والله يوفقك، ويهدي الرشد لك، وقد أمرت الجهبذ حامدا أن يحمل إليك خمسة آلاف دينار لتتخذ بها منزلا لا غير، فأصيّر عليك مقدارها، ولا تؤيس مما يضعف عليها فقدم ذلك، واحرص على القرب منا، إن شاء الله تعالى» .
__________
[472]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الفهرست: 142 والوافي 13: 465 وصنف كتاب التاريخ. وأخبار الكتاب. وكتاب الأمم السالفة.
[1] فحجتك ... وعرفه: هذا النص مضطرب ولم أتمكن من تصويبه.(3/1281)
- 473-
داود بن سلم
مولى بني تيم [1] بن مرة: شاعر من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية كان يسكن المدينة، وكان يقال له الآدم [2] لشدة سواده، وكان من أقبح الناس وجها وأشدهم بخلا، طرقه قوم بالعقيق فصاحوا به العشاء والقرى يا ابن سلم، فقال لهم: لا عشاء لكم عندي ولا قرى، قالوا: فأين قولك إذ تقول:
يا دار هند ألا حيّيت من دار ... لم أقض منك لباناتي وأوطاري
عودت فيها إذا ما الضيف نبهني ... عقر العشاري على يسر وإعسار
قال: لستم من أولئك الذي عنيت.
وقدم [3] داود دمشق فنزل على حرب بن خالد بن يزيد بن معاوية، فلما دخل داره قام غلمانه إلى متاعه فأدخلوه وحطوا عن راحلته، ثم دخل على حرب فأنشده:
فلما دفعت لأبوابهم ... ولاقيت حربا لقيت النجاحا
وجدناه يحمده المجتدون ... ويأبى على العسر إلا سماحا
ويغشون حتى ترى كلبهم ... يهاب الهرير وينسى النباحا
فأنزله وأكرمه وأجازه بجائزة عظيمة ثم استأذنه للخروج فأذن له وأعطاه ألف دينار وقال له: لا إذن لك عليّ متى جئت، فودعه وخرج من عنده وغلمانه جلوس، فلم يقم إليه منهم أحد، فظنّ أن حربا ساخط، فرجع فقال له: أبك عليّ موجدة؟ قال: لا،
__________
[473]- ترجمته في الأغاني 6: 11- 21 والسمط: 550 ومصورة ابن عساكر 6: 19 وتهذيب ابن عساكر 5: 203 ومختصر ابن منظور 8: 148 والوافي 13: 467 (وهو بمعجم الشعراء يلحق لا بمعجم الأدباء) .
[1] م: تميم.
[2] الأغاني: وكان يقال له داود الأرمك.
[3] الأغاني 6: 20 وتهذيب ابن عساكر 4: 108 (ترجمة حرب) وأمالي القالي 1: 242 والتذكرة الحمدونية 2: 197 وقارن بالمحاضرات 1: 653 وشرح النهج 11: 223 والكامل 2: 144 والأبيات في رسائل ابن أبي الدنيا: 87.(3/1282)
وما ذاك؟ فأخبره أنّ غلمانه لم يعينوه على رحله فقال له: ارجع إليهم فسلهم، فرجع إليهم فقالوا له: إنا ننزل من جاءنا ولا نخرج من خرج من عندنا.
وكان داود منقطعا إلى قثم بن العباس وفيه يقول [1] :
نجوت من حلّ ومن رحلة ... يا ناق إن قرّبتني من قثم
إنك إن بلغتنيه غدا ... حالفني اليسر ومات العدم
في كفّه بحر وفي وجهه ... بدر وفي العرنين منه شمم
لم يدر ما «لا» وبلى قد درى ... فعافها واعتاض منها نعم
أصمّ عن قيل الخنا سمعه ... وما عن الخير به من صمم
توفي داود بن سلم في حدود سنة عشرين ومائة.
- 474-
داود بن الهيثم بن إسحاق بن البهلول بن
حسان بن حسان بن سنان أبو سعد التنوخي الأنباري: قال الخطيب البغدادي في «تاريخ مدينة السلام» : كان نحويا لغويا حسن المعرفة بالعروض واستخراج المعمى فصيحا كثير الحفظ للنحو واللغة والأدب والاشعار وله شعر جيد. أخذ عن ابن السكيت وثعلب وسمع من جده إسحاق وابن شبة وأخذ عنه ابن الازرق وجماعة، وله كتاب في النحو على مذهب الكوفيين وكتاب خلق الانسان في اللغة وغير ذلك. مات بالأنبار سنة عشرة وثلاثمائة وله ثمان وثمانون سنة. ومن شعره:
بساتينها للمسك فيها روائح ... وأشجارها للريح فيها ملاعب
__________
[474]- ترجمته في تاريخ بغداد 8: 379 والمنتظم 6: 217 وسير الذهبي 14: 483 والجواهر المضية 1: 240 والوافي 13: 496 وتاج التراجم: 21 والنجوم الزاهرة 3: 221 وبغية الوعاة 1: 563 وروضات الجنات 3: 302.
[1] الأغاني 6: 21 وانظر تهذيب ابن عساكر 5: 203.(3/1283)
كأن هزيز الريح بين غصونها ... ضرائر أضحى بينهن تعاتب
كأن القباب الغر فيها مواكب ... تضيء كما أمست تضيء الكواكب
كأن فتيت المسك بين ترابها ... إذا ما تهادته الصبا والجنائب
ومن تحتها الأنهار تجري مياهها ... ففائضة منها ومنها سواكب
كأن مجاريها سبائك فضة ... تذاب وأسياف تهزّ قواضب
- 475-
دعبل بن علي بن رزين بن سليمان
بن تميم بن نهشل بن خداش بن خالد بن عبد بن دعبل بن أنس بن خزيمة: كذا قال أبو الفرج، وقال آخرون: دعبل بن علي بن رزين بن عثمان بن عبد الله بن بديل بن ورقاء، يتصل نسبه بمضر، أبو علي الخزاعي، وعلى هذا الأكثر: شاعر مطبوع مفلق، يقال إن أصله من الكوفة، وقيل من قرقيسيا، وكان أكثر مقامه ببغداد، وسافر إلى غيرها من البلاد فدخل دمشق ومصر، وكان هجاء خبيث اللسان لم يسلم منه أحد من الخلفاء ولا من الوزراء ولا أولادهم ولا ذو نباهة أحسن إليه أو لم يحسن، وكان بينه وبين الكميت بن زيد وأبي سعد المخزومي مناقضات، وكان من مشاهير الشيعة، وقصيدته التائية في أهل البيت من أحسن الشعر وأسنى المدائح، قصد بها علي بن موسى الرضا بخراسان فأعطاه عشرة آلاف درهم وخلع عليه بردة من ثيابه فأعطاه بها أهل قمّ ثلاثين ألف درهم فلم يبعها، فقطعوا عليه الطريق ليأخذوها فقال لهم: إنها تراد لله عز وجل وهي محرمة عليكم، فدفعوا له ثلاثين ألف درهم فحلف أن لا يبيعها أو يعطوه بعضها ليكون في
__________
[475]- ترجمة دعبل في الأغاني 20: 67 والشعر والشعراء: 727 وطبقات ابن المعتز: 224 والفهرست: 183 وتاريخ بغداد 8: 328 ومصورة ابن عساكر 6: 68 وتهذيبه 5: 230 ومختصر ابن منظور 8: 172 ورجال الكشي: 313 والموشح: 299. وابن خلكان 2: 266 وسير الذهبي 11: 519 والوافي 14: 12 ولسان الميزان 2: 430 ومعاهد التنصيص 2: 190 والشذرات 2: 11 وروضات الجنات 3: 306 وقد قام كل من زولنديك والدكتور محمد يوسف نجم والدكتور عبد الكريم الأشتر بجمع شعره (1961، 1962، 1964) ، وعلى الأخير نعتمد في الإحالة.(3/1284)
كفنه، فأعطوه كما واحدا فكان في أكفانه. ويقال إنه كتب القصيدة في ثوب وأحرم فيه وأوصى بإن يكون في أكفانه، ونسخ هذه القصيدة مختلفة في بعضها زيادات يظن أنها مصنوعة ألحقها بها أناس من الشيعة، وإنا موردون هنا ما صحّ منها قال [1] :
مدارس آيات خلت من تلاوة ... ومنزل وحي مقفر العرصات
لآل رسول الله بالخيف من منى ... وبالركن والتعريف والجمرات
ضديار عليّ والحسين وجعفر ... وحمزة والسجّاد ذي الثفنات [2]
ديار عفاها كلّ جون مبادر ... ولم تعف للأيام والسنوات
قفا نسأل الدار التي خفّ أهلها ... متى عهدها بالصوم والصلوات
ضو أين الأولى شطّت بهم غربة النوى ... أفانين في الآفاق مفترقات
هم أهل ميراث النبيّ إذا اعتزوا ... وهم خير قادات وخير حماة
وما الناس إلا حاسد ومكذّب ... ومضطغن ذو إحنة وترات
إذا ذكروا قتلى ببدر وخيبر ... ويوم حنين أسبلوا العبرات
قبور بكوفان وأخرى بطيبة ... وأخرى بفخّ نالها صلواتي
وقبر ببغداد لنفس زكيّة ... تضمنها الرحمن في الغرفات
فأما المصمّات التي لست بالغا ... مبالغها مني بكنه صفات
إلى الحشر حتى يبعث الله قائما ... يفرّج منها الهمّ والكربات
نفوس لدى النهرين من أرض كربلا ... معرّسهم فيها بشطّ فرات
تقسّمهم ريب الزمان كما ترى ... لهم عقوة مغشيّة الحجرات
سوى أنّ منهم بالمدينة عصبة ... مدى الدهر أنضاء من الأزمات
قليلة زوّار سوى بعض زوّر ... من الضبع والعقبان والرّخمات
لهم كلّ حين نومة بمضاجع ... لهم في نواحي الأرض مختلفات
__________
[1] ديوانه: 71.
[2] السجاد ذو الثفنات: علي بن الحسين زين العابدين.(3/1285)
وقد كان منهم بالحجاز وأهلها ... مغاوير نحّارون في السنوات [1]
تنكّب لأواء السنين جوارهم ... فلا تصطليهم جمرة الجمرات
إذا أوردوا خيلا تشمّس بالقنا ... مساعر جمر الموت والغمرات
وان فخروا يوما أتوا بمحمد ... وجبريل والفرقان ذي السّورات
ملامك في أهل النبيّ فأنهم ... أحبّاي ما عاشوا وأهل ثقاتي
تخيرتهم رشدا لأمري فانهم ... على كلّ حال خيرة الخيرات
فيا ربّ زدني من يقيني بصيرة ... وزد حبّهم يا ربّ في حسناتي
بنفسي أنتم من كهول وفتية ... لفكّ عناة أو لحمل ديات
أحبّ قصيّ الرحم من أجل حبكم ... وأهجر فيكم أسرتي وبناتي
وأكتم حبّيكم مخافة كاشح ... عنيد لأهل الحقّ غير موات
لقد حفّت الأيام حولي بشرّها ... وإني لأرجو الأمن بعد وفاتي
ألم تر أني من ثلاثين حجة ... أروح وأغدو دائم الحسرات
أرى فيئهم في غيرهم متقسّما ... وأيديهم من فيئهم صفرات
فآل رسول الله نحف جسومهم ... وآل زياد حفّل القصرات
بنات زياد في القصور مصونة ... وآل رسول الله في الفلوات
إذا وتروا مدّوا إلى أهل وترهم ... أكفّا من الأوتار منقبضات
فلولا الذي أرجوه في اليوم أو غد ... لقطّع قلبي إثرهم حسراتي
خروج إمام لا محالة خارج ... يقوم على اسم الله والبركات
يميّز فينا كلّ حقّ وباطل ... ويجزي على النعماء والنقمات
سأقصر نفسي جاهدا عن جدالهم ... كفاني ما ألقى من العبرات
فيا نفس طيبي ثم يا نفس أبشري ... فغير بعيد كلّ ما هو آت
فإن قرّب الرحمن من تلك مدتي ... وأخّر من عمري لطول حياتي
__________
[1] م: يختارون في السروات.(3/1286)
شفيت ولم أترك لنفسي رزية ... وروّيت منهم منصلي وقناتي
أحاول نقل الشمس من مستقرها ... وأسمع أحجارا من الصّلدات
فمن عارف لم ينتفع ومعاند ... يميل مع الأهواء والشبهات
قصاراي منهم أن أموت بغصة ... تردّد بين الصدر واللهوات
كأنك بالأضلاع قد ضاق رحبها ... لما ضمّنت من شدّة الزفرات
ومما يختار من شعر دعبل قصيدته العينية التي رثى بها الحسين عليه السلام، قال [1] :
رأس ابن بنت محمد ووصيّه ... يا للرجال على قناة يرفع
والمسلمون بمنظر وبمسمع ... لا جازع من ذا ولا متخشع
أيقظت أجفانا وكنت لها كرى ... وأنمت عينا لم تكن بك تهجع
كحلت بمنظرك العيون عماية ... وأصم نعيك كلّ أذن تسمع
ما روضة إلا تمنت أنها ... لك مضجع ولخطّ قبرك موضع
ومن مختاراته أيضا قوله [2] :
خليليّ ماذا أرتجي من غد امرىء ... طوى الكشح عني اليوم وهو مكين
وان امرءا قد ضنّ منه بمنطق ... يسدّ به فقر امرىء لضنين
ومن مختار شعره قوله [3] :
أين الشباب وأية سلكا ... لا أين يطلب ضلّ بل هلكا
لا تعجبي يا سلم من رجل ... ضحك المشيب برأسه فبكى
يا ليت شعري كيف نومكما ... يا صاحبيّ إذا دمي سفكا
لا تأخذا بظلامتي أحدا ... قلبي وطرفي في دمي اشتركا
ولدعبل كتاب طبقات الشعراء. وديوان شعر. مات سنة ست وأربعين ومائتين.
__________
[1] ديوان دعبل: 141.
[2] ديوانه: 356 (وهما لوالد دعبل) .
[3] ديوانه: 160.(3/1287)
- 476-
دغفل النساب هو دغفل بن حنظلة بن زيد
بن عبدة بن عبد الله بن ربيعة بن عمرو بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل بن قاسط بن هيث بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان الشيباني: اختلف فيه، هل له صحبة برسول الله صلّى الله عليه وسلم، أم لا. وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم، وروى عنه الحسن البصري ومحمد بن سيرين وغيرهما. ذكر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» في وقعة دولاب [1] مع الخوارج في سنة خمس وستين قال: وانهزم أهل البصرة فغرق منهم في دجيل خلق منهم دغفل بن حنظلة الشيباني.
حدث الحسن عن دغفل قال: كان على النصارى صوم شهر رمضان، فمرض ملك فيهم فقال: لئن شفاه الله ليزيدنّ عشرة أيام، ثم كان ملك بعده فأكل لحما فوقع فوه، فقال: لئن شفاه الله ليزيدن سبعة أيام، ثم ملك بعده فقال: ما يدع هذه الثلاثة أيام أن يتمها ونجعل صومنا في الربيع، ففعل، فكانت خمسين يوما.
قيل للإمام أحمد بن حنبل، رضي الله عنه، دغفل بن حنظلة له صحبة؟ قال:
ما أعرفه.
واستقدمه معاوية إلى دمشق ليعلّم ولده يزيد.
وحدّث معاذ بن هشام عن دغفل أنه قال: قبض رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو ابن خمس وستين سنة.
قال معاوية لدغفل وقد أرسل إليه ليعلّم يزيد، وسأله عن أنساب العرب وعن النجوم والعربية وعن أنساب قريش فأخبره فإذا رجل عالم، فقال: من أين حفظت هذا يا دغفل؟ قال: حفظته بلسان سؤول وقلب عقول، وإن آفة العلم النسيان. وقال له يوما: بم ضبطت ما أرى؟ قال: بمفاوضة العلماء. قال: وما مفاوضة العلماء؟
__________
[476]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر: الفهرست: 101 (وذكر أن اسمه الحجر بن الحارث ودغفل لقب) ومصورة ابن عساكر 6: 89 وتهذيبه 5: 242 ومختصر ابن منظور 8: 198 وطبقات ابن سعد 7: 140 والاستيعاب: 462 والإصابة 1: 475 وميزان الاعتدال 2: 27 والوافي 11: 18.
[1] الأغاني 6: 138.(3/1288)
قال: كنت إذا لقيت عالما أخذت ما عنده وأعطيته ما عندي.
حدث عكرمة عن ابن عباس قال [1] : حدثني علي بن أبي طالب، عليه السلام، من فيه، قال: لما أمر الله رسوله أن يعرض نفسه على قبائل العرب خرج وأنا معه وأبو بكر [2] ، قال: فرفعنا إلى مجلس من مجالس العرب، فتقدّم أبو بكر، وكان مقدّما في كلّ خير، وكان رجلا نسّابة، فسلّم وقال: ممّن القوم؟
قالوا: من ربيعة. قال: وأيّ ربيعة أنتم؟ أمن هامتها أم من لهازمها؟ فقالوا: بل من الهامة العظمى. فقال أبو بكر: وأيّ هامتها العظمى أنتم؟ فقالوا: من ذهل الأكبر.
قال: من عوف الذي يقال لا حرّ بوادي عوف؟ قالوا: لا. قال: فمنكم جسّاس بن مرة حامي الذمار، ومانع الجار؟ قالوا: لا. قال: فمنكم بسطام بن قيس أبو اللواء، ومنتهى الأحياء؟ قالوا: لا. قال: فمنكم الحوفزان قاتل الملوك، وسالبها أنفسها؟
قالوا: لا. قال: فمنكم المزدلف صاحب العمامة الفردة؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من كندة؟ قالوا: لا. قال: فمنكم أصهار الملوك من لخم؟ قالوا:
لا. قال أبو بكر: فلستم ذهلا الأكبر، إنما أنتم ذهل الأصغر. فقام إليه غلام من بني شيبان، يقال له دغفل حين بقل وجهه وهو يقول:
إن على سائلنا أن نسأله ... والعبء لا تعرفه أو تحمله
يا هذا إنك قد سألتنا فأخبرناك، ولم نكتمك شيئا، فممن الرجل؟ قال أبو بكر الصديق: أنا من قريش. فقال الفتى: بخ بخ أهل الشرف والرياسة، من أيّ القرشيين أنت؟ قال: من ولد تيم بن مرة. فقال الفتى: أمكنت والله الرامي من سواء الثغرة، أمنكم قصيّ الذي جمع القبائل من فهر وكان يدعى في قريش مجمّعا؟ قال:
لا. قال: فمنكم هاشم الذي هشم الثريد لقومه ورجال مكة مسنتون عجاف؟ قال:
لا. قال: فمنكم شيبة الحمد عبد المطلب مطعم طير السماء، الذي كأنّ وجهه القمر يضيء في الليلة الداجية الظلماء؟ قال: لا. قال: فمن أهل الإفاضة أنت؟ قال:
__________
[1] الخبر في المجلس السابع والخمسين من الجليس الصالح (3: 22) ودلائل النبوة للبيهقي: 96، وتهذيب ابن عساكر 5: 246 والعقد 3: 327 والفائق للزمخشري 3: 83 ومحاضرات اليوسي 2: 530.
[2] بعد هذا: رضي الله عنهما، ولا وجه لإثباته.(3/1289)
لا. قال: فمن أهل الحجابة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل السقاية أنت؟ قال:
لا. قال: فمن أهل الندوة أنت؟ قال: لا. قال: فمن أهل الرفادة أنت؟ قال:
لا. واجتذب أبو بكر زمام الناقة راجعا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال الغلام:
صادف درء السيل درءا يدفعه ... يهيضه حينا وحينا يصدعه
أما والله لو ثبتّ لأخبرتك أنك من زمعات قريش. قال وتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قال عليّ: فقلت يا أبا بكر لقد وقعت من الأعرابي على باقعة، قال: أجل أبا الحسن، ما من طامّة إلا وفوقها طامة، والبلاء موكّل بالمنطق.
قيل: جاء قوم من سعد بن زيد بن مناة إلى دغفل النسابة فسلموا عليه، وهو مولّ ظهره للشمس في مشرفة له، فردّ عليهم من غير أن يلتفت إليهم ثم قال لهم: من القوم؟ قالوا: نحن سادة مضر. قال: أنتم إذن قريش الحرم، أهل العزّ والقدم، والفضل والكرم، والرأي في البهم؟ قالوا: لسنا منهم. قال: لا. قالوا: لا. قال:
فأنتم إذن هوازن أجرأها فوارس، وأجملها مجالس. قالوا: لسنا منهم قال: لا، قالوا: لا. قال: فأنتم إذن سليم، موارس عضاضها، ومنّاع أعراضها. قالوا: لسنا منهم. قال: لا. قالوا: لا. قال: فأنتم إذن بنو حنظلة، أكرمها جدودا، وأسهلها خدودا، وألينها جلودا. قالوا: لسنا منهم. قال: لا. قالوا: لا. قال: فلا أراكم إلا من زمعات مضر، وأنتم تأبون إلا [ان] ترقوا إلى الغلاصم منهم. اذهبوا لا كثر الله بكم من قلة، ولا أعزّ بكم من ذلة.
قال الأصمعي: الناسبون أربعة: دغفل وأبو ضمضم وصبيح والكيس النمري.
قال أبو عمرو بن العلاء: أرسل معاوية إلى دغفل النسابة فقال له: كيف علمك بقريش؟ فقال: عالم يا أمير المؤمنين. قال: هات إذن. قال: ما أنتم يا بني عبد شمس من قريش إلا كواسطة القلادة، في الشّرك أشراف وسادة، وفي الإسلام ملوك وقادة. وأما بنو هاشم فأنجاد أمجاد، ذوو ألسنة حداد. وأما بنو المطلب بن عبد مناف فإنه غامض ذكرهم ضحل نجرهم. وأما بنو نوفل فنقرة أصابتها نعرة لا تقطع بعرة ولا تجود بذرة. وأما بنو عبد الدار فإنهم أوساط الأشراف لا أجواد ولا سقاط.
وأما بنو عبد العزى فأهل بأس وفيهم أحلام وفيهم أعلام. وأما بنو زهرة فأهل فحش(3/1290)
فاش، أحلام كالقسي، إن سكتوا فبغير حلم، وإن نطقوا فبغير علم. وأما بنو مخزوم فمعزى مطيرة، أصابتها قشعريرة، إلا بني المغيرة فإن فيهم تشادق الكلام، ومصاهرة الكرام. وأما بنو تيم فكثير عددهم، غير ظاهر جلدهم، وهم عبيد من سادهم، ولا يزال فيهم قائد يقتادهم. وأما بنو جمح فأهل خفّة وصلف، ما خلا بني خلف. وأما بنو سهم فأهل عزّ في الحرم، ليس لهم في سواها موضع قدم. وأما بنو عامر بن لؤي فيقودون الخيول، ويدركون الذحول، وليست لهم عقول. وأما بنو عدي فأهل لؤم أعراق، ودقة أخلاق، إن استغنوا شحوا، وإن افتقروا ألحّوا. فقال له معاوية: لقد حملت أضغان قريش. فقال: يا أمير المؤمنين، إني لا أستطيع أن أتقرّب إليك بفساد ما أعلم، وهذا علمي بقومك، فإن كان غير هذا فهات علمك بهم حتى آخذ به. قال معاوية: يا أخا بكر بن وائل، إني ألبس قريشا على أخلاقها، وأزوي عن مشاربها. فلما خرج دغفل نظر معاوية إلى وجوه من عنده من قريش على وجه الشماتة وقال: يا معشر قريش إنه عابكم جهده، وقال:
لعمر أبيكم فلا تكذبوا ... لقد عابكم جهده دغفل
ونحن أناس على ما بنا ... لآخرنا الأوّل الأوّل
فإن يك حقا كما قاله ... فما غاب من عاركم أطول
فإن كان كذبا فعلامة ... دعاه إليه هوى أميل
ألا إنه أعلم الآخرين ... وكلّ مقال له يحمل
وفي رواية أخرى تختلف، فقال القوم: ما عاب سواك، إنك استمعت وهو يذكر بني عبد شمس فلم تبال بما قال في أحياء قريش.
- 477-
دعوان بن علي بن حماد بن صدقة الجبائي،
أبو محمد الضرير المقرىء:
كان من أعيان القراء ببغداد متميزا بالقراءة بصيرا بالعربية حسن الطريقة والسمت. قرأ
__________
[477]- ترجمة دعوان في المنتظم 10: 127 وطبقات ابن الجزري 1: 280 وذيل ابن رجب 1: 212 والوافي 14: 18.(3/1291)
القرآن بالروايات على أبي طاهر أحمد بن علي بن سوار وأبي الخطاب علي بن عبد الرحمن بن الجراح وأبي القاسم يحيى بن أحمد السيبي، وسمع من الحسين بن أحمد بن محمد بن طلحة النعالي والحسين بن علي بن أحمد بن البسري وأبي المعالي ثابت بن بندار، وقرأ عليه القرآن خلق كثير، وروى عنه عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلي، توفي سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة.
- 478-
أبو الدقّيس الاعرابي:
كان أفصح الناس؛ حدّث الأحفش قال، قال الخليل: دخلنا على أبي الدقيس الأعرابي نعوده، فقلت: كيف تجدك؟ [قال] :
أجدني أجد ما لا أشتهي، وأشتهي ما لا أجد، ولقد أصبحت في زمان سوء [قلت:
وما زمان السوء؟ قال] : من جاد لم يجد، ومن وجد لم يجد. قلت: فما الدقيس؟
قال: لا أدري. قلت: فاكتنيت بما لا تدري ما هو؟ قال: إنما الكنى والأسماء علامات [1] .
أخذ عنه أعيان أهل العلم كأبي عبيدة ويونس والأصمعي والخليل بن أحمد.
قال أبو عبيدة الدقيش: دويبة رقطاء أصغر من العظاءة، والدقش شبيه بالنقش.
- 479-
دكين بن رجاء الفقيمي:
راجز مشهور، وفد على الوليد بن عبد الملك،
__________
[478]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر ابن النديم: 53 حيث ذكر أنه قناني غنوي؛ وإنباه الرواة 4: 115 وينقل ياقوت عن مراتب النحويين: 40 (ويكتب أحيانا بالشين: أبو الدقيش) . والوافي 14: 22 واللسان (دقش) .
[479]- ترجمة دكين الفقيمي الراجز في الشعر والشعراء: 508 والأغاني 9: 252 (ولعله الدارمي) والسمط: 652 ومصورة ابن عساكر 6: 99 وتهذيب ابن عساكر 5: 250 وهو غير دكين بن سعيد الدارمي، قال ياقوت: واشتبها على ابن قتيبة في طبقات الشعراء فجعلهما واحدا، والدارمي هو الذي مدح عمر بن عبد العزيز كما سيأتي في الترجمة التالية وفي التمييز بينهما يتبع ياقوت تاريخ ابن عساكر.
[1] مراتب النحويين: 41 إنما هي أسماء نسمعها فنتسمى بها.(3/1292)
وكان الوليد متأهبا لسباق الخيل، فقاد دكين فرسه للسباق، فلما رآه الوليد- وكان الفرس دميما- قال: أخرجوه من الحلبة، قبح الله هذا، فقال دكين: يا أمير المؤمنين والله ما لي مال غيره، فإن لم يسبق خيلك فهو حبيس في سبيل الله. فضحك الوليد وأمر بختمه، وأرسلت الخيل فجاء سابقا، فقال دكين:
قد أغتدي والطير في أكنات ... تحدو بي الشمأل في الفلاة
والليل لم يحسر عن القنّات ... وللندى لمّ [1] على لماتي
بذي شنيب سابغ الصّلعات ... نابي [2] المقدّ مشرف القطاة
من قارح واء ومن وآت ... ومن رباع ورباعيات
ومن ثنيّ ومثنّيات ... وجذع عبل ومجذعات
بتن على الخيل مسطّرات ... حتى إذا انشقت دجى الظّلمات
ووضع الحبل [3] على اللبّات ... وفرّق الغلمان بالوصاة
من كلّ ذي قرط وقزّعات ... أرسلن يغبطن ذرى الصّعدات
تسري دوين الشمس ملحفات ... من قسطلان القاع مسحلات [4]
حتى إذا كنّ بمهويّات ... بالنّصف بين الخطّ والغايات
عضّ بنابيه على الشباب ... وسط شماطيط [5] مجلّحات [6]
مثل السراحين مصلّيات ... جاء أمام سبّق الغايات
منهن من عرّض للزمات
__________
[1] ابن عساكر: ماء.
[2] م وابن عساكر: ناتي.
[3] م: الخيل؛ والحبل يوضع أمام الخيل قبل الانطلاق.
[4] القسطلان: الغبار الساطع؛ ومسحلات: تضرب بالسياط، وقد يكون معناها ملجمات.
[5] م: سناظيط؛ والشماطيط: هي الخيل تجيء متفرقة أرسالا.
[6] م: ملححات؛ ابن عساكر: ملحلحات؛ ومجلحات: يسرن سيرا شديدا.(3/1293)
وقال يمدح مصعب بن الزبير:
يا ناق خبّي بالقيود خببا ... حتى تزوري بالعراق مصعبا
قد علم الإمام إذ تنخّبا ... بيانه ورأيه المجرّبا
وفي الأمور عقله المؤدّبا ... يا مرسل الريح الجنوب والصّبا
وآذنا للفلك تجري خببا ... وخالق الماء وشيجا نسبا
يعيد خلقا بعد خلق عجبا ... عظما ولحما ودما وعصبا
خالا وعما وابن عمّ وأبا ... أعط الأمير مصعبا ما احتسبا
واجعل له من سلسبيل مشربا ... فرعا يزين المنبر المنصّبا
قلبا دهيّا ولسانا قعضبا [1] ... هذا وإن قيل له هب وهبا
جواريا وفضة وذهبا ... والخيل يعلكن الحديد المنشبا
قودا يلجلجن أبازيم الشبا [2] ... قد جعل الناس إليه سببا
من صادر ووارد أيدي سبا
- 480-
دكين بن سعيد الدارمي التميمي الراجز:
وهو غير دكين بن رجاء المتقدم، واشتبها على ابن قتيبة في «طبقات الشعراء» فجعلهما واحدا. ودكين بن سعيد هذا هو الذي كان منقطعا إلى عمر بن عبد العزيز حين كان واليا بالمدينة يسامره مع أبي عون
__________
[480]- انظر مصورة ابن عساكر 6: 100 وتهذيب ابن عساكر 5: 251 ومختصر ابن منظور 8: 205 والشعر والشعراء والأغاني (في الترجمة السابقة) ويقال فيه أيضا دكين بن سعد (وهذا الراجز والذي قبله يلحقان بمعجم الشعراء) .
[1] م: قصعبا؛ والقعضب: الجريء.
[2] م: فورا تلجلجن أباريم الشبا؛ والقود: جمع قوداء وهي الفرس الطويلة العنق؛ يلجلجن، يحركن في أفواههن؛ أبازيم: جمع إبزيم وهي الحلقات؛ والشبا: أطراف الحديد.(3/1294)
وسالم بن عبد الله، فلما ولي عمر بن العزيز الخلافة قصده، فلما استأذن عليه قال له الحاجب: إنه في شغل بردّ المظالم، فترقّب خروج عمر للصلاة فلما خرج ناداه فقال:
يا عمر الخيرات والمكارم ... وعمر الدسائع العظائم
إني امرؤ من قطن بن دارم ... أسدّ حقّ المسلم المسالم
بيع يمين بالإخاء الدائم ... إذ ينتحي والله غير نائم
ونحن في ظلمة ليل عاتم ... عند أبي عون وعند سالم
فدخل عمر على أمهات أولاده فما زال يجمع من عندهنّ العشرة والعشرين حتى جمع له ثلاثمائة فأعطاه إياها. مات دكين هذا سنة تسع ومائة.(3/1295)
حرف الذال
- 481-
ذو القرنين بن ناصر الدولة
أبي محمد الحسن بن عبد الله، أبو المطاع ابن حمدان التغلبي المعروف بوجيه الدولة: كان أديبا فاضلا شاعرا ولي إمرة دمشق سنة اثنتي عشرة وأربعمائة ثم عزل ثم وليها سنة خمس عشرة وأربعمائة وبقي إلى سنة تسع عشرة وأربعمائة، ومن شعره [1] :
لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... وشهدت حين نكرر التوديعا
أيقنت أنّ من الدموع محدّثا ... وعلمت أنّ من الحديث دموعا
وقال [2] :
يا غانيا عن خلّتي ... أنا عنك إن فكرت أغنى
إن التقاطع والعقو ... ق هما أزالا الملك عنّا
وأظنّ أن لن يتركا ... في الأرض مؤتلفين منّا
يفنى الذي وقع التنا ... زع بيننا فيه ونفنى
__________
[481]- ترجمة ذي القرنين ابن حمدان في مصورة ابن عساكر 6: 127 ومختصر ابن منظور 8: 230 وتهذيب ابن عساكر 5: 262 (وعليه يعتمد ياقوت) ويتيمة الدهر 1: 74 وتتمة اليتيمة 1: 3 ودمية القصر 1: 221 وابن خلكان 2: 279 والوافي 14: 42 والنجوم الزاهرة 5: 27 والشذرات 3: 238.
[1] وردا في تتمة اليتيمة وابن عساكر وابن خلكان.
[2] وردت القطعة بروايتين عند ابن عساكر.(3/1296)
وقال [1] :
بأبي من هويته فافترقنا ... وقضى الله بعد ذاك اجتماعا
فافترقنا حولا فلما التقينا ... كان تسليمه عليّ وداعا
وقال [2] :
أفدي الذي زرته بالسيف مشتملا ... ولحظ عينيه أمضى من مضاربه
فما خلعت نجادي للعناق له ... حتى لبست نجادا من ذوائبه
فبات [3] أسعدنا في نيل بغيته ... من كان في الحبّ أشقانا بصاحبه
وقال [4] :
من كان يرضى بذلّ في ولايته ... خوف الزوال فإني لست بالراضي
قالوا فتركب أحيانا فقلت لهم ... تحت الصليب ولا في موكب القاضي
توفي أبو المطاع بمصر في صفر سنة ثمان وعشرين وأربعمائة [5] .
__________
[1] وردا في ابن عساكر والوافي.
[2] الأبيات في اليتيمة وابن عساكر وابن خلكان والوافي.
[3] م: فان.
[4] وردا في ابن عساكر والوافي، وهما لمرشد بن منقذ 2: 585.
[5] من الواضح أن الصفدي لم ينقل هذه الترجمة عن ياقوت.(3/1297)
حرف الراء
- 482-
راشد بن إسحاق بن راشد أبو حكيمة الكاتب:
كان أديبا كاتبا شاعرا، ذكره ابن المرزبان في «طبقات الشعراء» وقال: كان أكثر شعره في رثاء متاعه، وإنما كان يقول ذلك لتهمة لحقته من الأمير عبد الله بن طاهر أيام كتابته له في خادم لعبد الله.
واتصل راشد بالوزير محمد بن عبد الملك الزيات، وله معه أخبار حسان: حدّث يحيى بن عبّاد قال: حج محمد بن عبد الملك في آخر أيام المأمون، فلما قدم من الحج كتب إليه راشد الكاتب يقول [1] :
لا تنس عهدي ولا مودتيه ... واشتق إلى طلعتي ورؤيتيه
فإن تجاوزت ما أقول إلى ال ... عصب فذاك المأمول منك ليه
فأجابه محمد بن عبد الملك:
إنك منّي بحيث يطّرد الن ... اظر من تحت ماء دمعتيه
ولا ومن زادني تودّده ... على صحابي بفضل غيبتيه
ما أحسن التّرك والخلاف لما ... تريد منّي وما تقول ليه
__________
[482]- طبقات ابن المعتز: 389 والوافي 14: 59 والفوات 2: 15 وثمار القلوب: 180 وهو عند ياقوت «أبو حليمة» باللام، وموضعه الصحيح معجم الشعراء.
[1] هو في طبقات ابن المعتز والأغاني 22: 479.(3/1298)
يا بأبي أنت ما نسيتك في ... يوم دعائي ولا هديتيه
ناجيت بالذكر والدعاء لك ال ... لّه لك الله رافعا يديه
حتى إذا ما ظننت بالملك ال ... قادر أن قد أجاب دعوتيه
قمت إلى موضع النعال وقد ... أقمت عشرين صاحبا معيه
وقلت لي صاحب أريد له ... نعلا ولو من جلود راحتيه
فانقطع القول عند واحدة ... قال الذي اختارها بشارتيه
فقلت عندي لك البشارة وال ... شكر وقلّا في جنب حاجتيه
ثم تخيّرت بعد ذاك من ال ... عصب اليماني بفضل خبرتيه
موشيّة لم أزل ببائعها ... أرغب حتى زها عليّ بيه
يرفع في سومه وأرغبه ... حتى التقى زهده ورغبتيه
وقد أتاك الذي أمرت به ... فاعذر بكثر الإنعام قلتيه
وقال راشد الكاتب وهو يجود بنفسه في مرضه الذي مات فيه بطريق مكة. ولم ولم أقف له على شعر خال من الفحش والمجون غيرها:
أطبقت للنوم جفنا ليس ينطبق ... وبتّ والدمع في خديّ يستبق
لم يسترح من له عين مؤرّقة ... وكيف يعرف طعم الراحة الأرق
وددت لو تمّ لي حجّي ففزت به ... ما كلّ ما تشتهيه النفس يتفق
- 483-
ربيعة بن عامر بن أنيف بن شريح بن
عمرو بن زيد بن عبد الله بن عدس بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم الملقب بمسكين: قال أبو عمرو
__________
[483]- ترجمة مسكين في الشعر والشعراء: 455 والأغاني 20: 169 والسمط: 186 وتهذيب ابن عساكر 5: 303 والوافي 14: 97 والخزانة 3: 60 وله أشعار في أمالي المرتضى وأنساب الأشراف وشرح النهج وتاريخ الطبري، وقد قام بجمع شعره خليل ابراهيم العطية وعبد الله الجبوري (بغداد 1970) وإليه الإحالة (والأرجح أن مسكينا يجب أن يكون في معجم الشعراء) .(3/1299)
الشيباني: وإنما لقب مسكينا لقوله [1] :
أنا مسكين لمن أنكرني ... ولمن يعرفني جدّ نطق
لا أبيع الناس عرضي إنني ... لو أبيع الناس عرضي لنفق
وقال ابن قتيبة: وسمي المسكين لقوله [2] :
وسميت مسكينا وكانت لجاجة ... وإني لمسكين إلى الله راغب
وكان مسكين شاعرا مجيدا سيدا شريفا، وكان بينه وبين الفرزدق مهاجاة، فدخل بينهما شيوخ بني عبد الله وبني مجاشع فتكافّا، واتقاه الفرزدق خشية أن يستعين عليه بجرير، واتقى مسكين الفرزدق خوفا من أن يعينه عليه عبد الرحمن بن حسان.
وقال الفرزدق: نجوت من ثلاثة أشياء لا أخاف بعدها شيئا: نجوت من زياد حين طلبني، ونجوت من ابني رميلة وقد نذرا دمي وما فاتهما أحد طلباه، ونجوت من مهاجاة مسكين الدارمي لأنه لو هجاني اضطرني أن أهدم شطر حسبي لأنه من بحبوحة نسبي وأشراف عشيرتي، فكان جرير حينئذ ينتصف مني بيدي ولساني.
ومن مختارات شعر مسكين الدارمي قوله [3] :
ولست إذا ما سرّني الدهر ضاحكا ... ولا خاشعا ما عشت من حادث الدهر
ولا جاعلا عرضي لمالي وقاية ... ولكن أقي عرضي فيحرزه وفري
أعفّ لدى عسري وأبدي تجملا ... ولا خير في من لا يعفّ لدى العسر
وإني لأستحيي إذا كنت معسرا ... صديقي وإخواني بأن يعلموا فقري
وأقطع إخواني وما حال عهدهم ... حياء وإعراضا وما بي من كبر
ضو من يفتقر يعلم مكان صديقه ... ومن يحي لا يعدم بلاء من الدهر
ومن مستحسن شعره [4] :
أتّق الأحمق أن تصحبه ... إنما الأحمق كالثوب الخلق
__________
[1] ديوان مسكين: 56.
[2] ديوانه: 24.
[3] ديوانه: 41.
[4] ديوانه: 55- 56.(3/1300)
كلما رقّعت منه جانبا ... حركته الريح وهنا فانخرق
أو كصدع في زجاج بيّن ... أو كفتق هو يعيي من رتق
وإذا جالسته في مجلس ... أفسد المجلس منه بالخرق
وإذا نهنهته كي يرعوي ... زاد جهلا وتمادى في الحمق
وإذا الفاحش لاقى فاحشا ... فهناكم وافق الشنّ الطبق
إنما الفحش ومن يعتاده ... كغراب السوء ما شاء نعق
أو حمار السوء إن أشبعته ... رمح الناس وإن جاع نهق
أو كعبد السوء إن جوّعته ... سرق الجار وإن يشبع فسق
أو كغيرى رفعت من ذيلها ... ثم أرخته ضرارا فانمزق
أيها السائل عما قد مضى ... هل جديد مثل ملبوس خلق
وقدم على معاوية فسأله ان يفرض له فأبى، فخرج من عنده وهو يقول [1] :
أخاك أخاك إنّ من لا أخا له ... كساع إلى الهيجا بغير سلاح
وان ابن عمّ المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البازي بغير جناح
وقال [2] :
ناري ونار الجار واحدة ... وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضرّ جارا لي أجاوره ... أن لا يكون لبيته ستر
أغضي إذا ما جارتي برزت ... حتى يواري جارتي الخدر
ويصمّ عما كان بينهما ... سمعي وما بي غيره وقر
مات مسكين الدارمي سنة تسع وثمانين.
__________
[1] ديوانه: 29.
[2] ديوانه: 45.(3/1301)
- 484-
ربيعة بن يحيى بن معاوية بن جشم
بن بكر بن حبيب بن عمرو بن تغلب المعروف بأعشى بني تغلب: شاعر من شعراء الدولة الأموية، كان نصرانيا وعلى النصرانية مات سنة اثنتين وتسعين، وكان يتردّد بين البداوة والحضارة، فإذا حضر سكن الشام، وإذا بدا نزل بنواحي الموصل وديار ربيعة حيث منازل قومه.
ومن شعره قوله يمدح بني عبد المدان الحارثيين [1] :
فكعبة نجران حتم علي ... ك حتى تناخي بأبوابها
تزور يزيد وعبد المسيح ... وقيسا هم خير أربابها
يبادرنا الورد والياسمي ... ن والمسمعات بأقصابها
وبربطنا دائم معمل ... فأيّ الثلاثة أزرى بها
ولما التقينا على آلة ... ومدّت إليّ بأسبابها
إذا الحبرات تلوّت [2] بهم ... وجرّوا أسافل هدّابها
وقال [3] :
ما روضة من رياض الحزن [4] معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس فيها كوكب شرق ... مؤزّر بعميم النبت مشتمل
يوما بأطيب منها نشر رائحة ... ولا بأحسن منها إذ دنا الأصل
__________
[484]- ترجمة أعشى بني تغلب في الأغاني 11: 263 وبغية الطلب 7: 58 واسمه عنده ربيعة بن نجوان وقيل اسمه النعمان بن نجوان وقال ابن حبيب: اسمه النعمان بن يحيى؛ وفي ديوان الأعشين: 270 أن أعشى تغلب هو عمرو بن الأهيم؛ أما ربيعة بن يحيى التغلبي فسمّاه أعشى نجوان (ديوان الأعشين: 289) وقد أخطأ ياقوت (أو لعل في النسخة سقطا) حين نسب له شعرا ليس له، ولم يورد من شعره الذي أثبته أبو الفرج شيئا. ومهما يكن من شيء، فمكان الأعشى معجم الشعراء.
[1] هذا الشعر لأعشى قيس كما في الأغاني 6: 282 وديوانه: 122.
[2] م: اذا الخير آت فلوت.
[3] وهذه الأبيات أيضا لأعشى قيس، انظر ديوانه: 43.
[4] م: في رياض الحسن.(3/1302)
- 485-
ربيعة بن ثابت بن لجأ بن العيزار بن لجأ
الأسدي أبو ثابت الرقي الشاعر:
استقدمه أمير المؤمنين المهدي فمدحه بعدة قصائد مشهورة فأجازه وأجزل صلته، وهو الذي قال في يزيد بن حاتم المهلبي ويزيد بن أسيد السلمي [1] :
لشتّان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغرّ ابن حاتم
يزيد سليم سالم المال والغنى ... أخو الأزد للأموال غير مسالم
فهمّ الفتى الأزديّ إتلاف ماله ... وهمّ الفتى القيسيّ جمع الدراهم
وهو الذي يقول في العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس قصيدته المشهورة التي لم يسبق إليها إجادة، منها [2] :
لو قيل للعباس يا ابن محمد ... قل لا وأنت مخلّد ما قالها
ما إن أعدّ من المكارم خصلة ... إلا وجدتك عمّها أو خالها
وإذا الملوك تسايروا في بلدة ... كانوا كواكبها وكنت هلالها
إن المكارم لم تزل معقولة ... حتى حللت براحتيك عقالها
فبعث إليه العباس بدينارين فقال [3] :
مدحتك مدحة السيف المحلّى ... لتجري في الكرام كما جريت
فهبها مدحة ذهبت ضياعا ... كذبت عليك فيها وافتريت
فانت المرء ليس له وفاء ... كأني إذ مدحتك قد رثيت
__________
[485]- ترجمة ربيعة الرقي في طبقات ابن المعتز: 157 والأغاني 16: 189 والوافي 14: 95 ونكت الهميان: 151 وقد جمع شعره صديقنا الدكتور يوسف حسين بكار (بغداد 1980) وموضعه الصحيح هو «معجم الشعراء» .
[1] الأغاني 16: 189 ومجموع شعره: 97.
[2] الأغاني 16: 191 ومجموع شعره: 87.
[3] الأغاني 16: 192 ومجموع شعره: 67.(3/1303)
فلما بلغت العباس غضب وتوجه إلى الرشيد فقال: إن ربيعة الرقي قد هجاني، فأحضره الرشيد وهمّ بقتله، فقال: يا أمير المؤمنين مره باحضار القصيدة فأحضرها فلما سمعها استحسنها وقال: والله ما قال أحد في الخلفاء مثلها فكم أثابك؟ قال:
دينارين، فغضب الرشيد على العباس وقال: يا غلام أعط ربيعة ثلاثين ألف درهم وخلعة واحمله على بغلة. وقال له: بحياتي لا تذكره في شعرك لا تعريضا ولا تصريحا.. وكان الرشيد قد هم بان يزوج العباس ابنته ففتر عنه لذلك. توفي ربيعة الرقي سنة ثمان وتسعين ومائة.
- 486-
رزق الله بن عبد الوهاب التميمي البغدادي:
أديب شاعر مجيد لا أعرف من أمره غير هذا، توفي ببغداد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة ومن شعره:
بأبي حبيب زارني متنكّرا ... فبدا الوشاة له فولّى معرضا
فكأنني وكأنه وكأنهم ... أمل ونيل حال بينهما القضا
وقال:
شارع دار الرقيق أرّقني ... فليت دار الرقيق لم تكن
به فتاة للقلب فاتنة ... أنا فداء لوجهها الحسن
- 487-
رزين بن زندورد العروضي:
مات في أيام المتوكل على الله، أبو زهير مولى طيفور بن منصور الحميري خال المهدي. ويقال هو مولى بني هاشم، وهو بغدادي
__________
[486]- ترجمته في طبقات الحنابلة 2: 250 والمنتظم 9: 88 وبغية الطلب 7: 70 وطبقات ابن الجزري 1: 284 وذيل ابن رجب 1: 77 والوافي 14: 112 ومعرفة القراء 1: 356 وقد أوردت المصادر عنه معلومات تكفي لتوضيح ما جهله ياقوت من أمره؛ ولدى الصفدي معلومات عنه وشعر له، غير الذي أورده ياقوت.
[487]- ترجمة رزين العروضي في الورقة لابن الجراح: 32 وتاريخ بغداد 8: 436 والوافي 14: 116 (وهو ينقل عن ياقوت) وانظر التذكرة الحمدونية 2: 280.(3/1304)
كثير الشعر، وأكثر شعره يخرج عن العروض.
أخذ عن عبد الله بن هارون بن السميدع البصري العروضي مؤدب آل سليمان، وكان عبد الله بن هارون يقول أوزانا غريبة من العروض فنحا رزين نحوه في ذلك فأتى فيه ببدائع جمة، وكان رزين من أصحاب دعبل الخزاعي الشاعر.
حدث دعبل أنه نزل هو ورزين بقوم من بني مخزوم فلم يقروهما ولا أحسنوا ضيافتهما، قال دعبل: فقلت فيهم [1] :
عصابة من بني مخزوم بتّ بهم ... بحيث لا تطمع المسحاة في الطين
ثم قلت لرزين أجز، فقال:
في مضغ أعراضهم من خبزهم عوض ... بني النفاق وأبناء الملاعين
وهو القائل [2] لآل جعفر بن محمد بن الأشعث الخزاعي [3] :
إني أتيتك مرات لتأذن لي ... فكان عندك سهل الاذن محجوبا
إن كنت تحجبني بالذنب مزدهيا ... فقد لعمري أبوكم كلّم الذيبا
فكيف لو كلّم الليث الهصور إذن ... تركتم الناس مأكولا ومشروبا
هذا السّنيدي لا يسوى إتاوته ... يكلّم الفيل تصعيدا وتصويبا
فاذهب إليك فإني لا أرى أحدا ... بباب دارك طلّابا ومطلوبا
قال الشيخ أبو محمد ابن الخشاب النحوي: أنشدني أبو المظفر محمد بن محمد بن قزما الاسكافي هذه الأبيات، ثم قال [4] : يا سيدي، هذا هجاء خبيث، وأخبث ما فيه أنه قال: كلم الذئب، ولم يقل: كلمه الذئب، ليسلم له سلخ الفضيلة بما تمثل به في قوله: هذا السنيدي ...
__________
[1] الأغاني 20: 121.
[2] من هنا حتى قوله: «بعد هذا» مزيد من المختصر.
[3] هذا الشعر للعروضي في الجهشياري: 193- 194 وفي الورقة: 33 نقلا عن ابن أبي طاهر وفي الحيوان 7: 217 وفي ثمار القلوب: 387 ونسب في طبقات ابن المعتز: 295 لأبي سعد المخزومي، كما نسب في الأغاني 20: 90 لدعبل.
[4] للجاحظ تعليق مسهب على هذا الشعر، وتعليق الاسكافي مشبه له وإن كان موجزا.(3/1305)
حدّث ابن العروضي قال [1] : لقيت أبا الحارث جمين فقلت له: ما أغراك إلى هجاء محمد بن يحيى بن خالد البرمكي، وتصفه بالبخل؟ فقال: دع ذا عنك، فإني دخلت عليه الساعة، وبين يديه خوان له من نصف خشخاشة سوى ما يسقط من الحت. قال: قلت له: أما تستحي من هذا الكلام؟ فقال: والله الذي لا إله إلا هو لو أن عصفورا بقي من بيدره حبة من حنطة ما رضي أو جاء بالعصفور مشويا بين رغيفين من عند العصفور. قلت له: أما تستحي من هذا الكلام؟ فقال: والله لأن يرقى إلى السماء على سلّم من زبد حتى يتناول بنات نعش كوكبا كوكبا أيسر عليه من أن يهب لك رغيفا في المنام. قال: فقلت له: أما تستحي، وعذلته، فقال: وأزيدك، والله لو أن له ثمانين طرزا [2] طول كلّ طرز ما يدخل أوله النهر فلا يبلغ آخره حتى يصير مملوءا إبرا في كل إبرة خيط [3] ثم جاء يوسف النبي عليه السلام، ومعه الأنبياء والشهداء يسألونه أن يعيره إبرة يخيط بها قميصه الذي قدّ من دبر ما أعارهم. قال: قلت له:
حرم كلامك بعد هذا.
ومن شعر رزين أيضا [4] :
كأنّ بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفّة حابل
تؤدي إليه أنّ كلّ ثنية ... تيممها ترمي إليه بقاتل
وقال:
خير الصديق هو الصدوق مقالة ... وكذاك شرّهم المنون الأكذب
فإذا غدوت له تريد نجازه ... بالوعد راغ كما يروغ الثعلب
توفي رزين العروضي سنة سبع وأربعين ومائتين.
__________
[1] هذه القصة في نثر الدر 3: 249- 250 وهي هناك شديدة الإسهاب، وفي النص اختلافات.
[2] الطرز: البيت.
[3] صورة ما في ر: فاردته لا حباطيه.
[4] هما في الأغاني 13: 163- 164 لعبد الله بن الحجاج.(3/1306)
- 488-
رسته بن أبي الأبيض الأصبهاني
الضرير الشاعر: ذكره حمزة بن الحسن الأصبهاني في «تاريخ أصفهان» فقال: كان مليح الشعر أشبه الناس شعرا ببشار بن برد، حمل من أصفهان إلى بغداد وأدخل على زبيدة بنت جعفر زوج الرشيد وكان دميما، فلما رأته قالت: تسمع بالمعيديّ خير من ان تراه، فقال رسته: أيتها السيدة إنما المرء بأصغريه، ثم أنشدها وأخذ جائزتها، وله شعر كثير ومنه قوله:
أيها الإخوة الذين لساني ... من قديم الزمان عنهم كليل
جئتكم للسلام حتى إذا ما ... صحت شهرا كما يصيح الدليل
قيل قد أدخل الخوان عليهم ... قلت ما لي إذن إليهم سبيل
وقال:
قد مات كلّ نبيل ... ومات كلّ نبيه
ومات كلّ أديب ... وفاضل وفقيه
لا يوحشنك طريق ... كلّ الخلائق فيه
مات رسته سنة خمس وسبعين ومائة.
- 489-
رفيع بن سلمة بن مسلم بن رفيع أبو غسان
دماذ العبدي اللبابي: كاتب أبي عبيدة معمر بن المثنى وصاحبه المختص به، ودماذ لقب ومعناه الفسيلة. وقيل إن المازني مشى إلى أبي غسان يسمع منه الأخبار. وكان شاعرا هجّاء خبيث اللسان فلمّا أسنّ أنكر ما هجا به الناس، فمن شعره:
__________
[488]- ترجمته في الوافي 14: 121 ونكت الهميان: 152.
[489]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الفهرست: 60 وإنباه الرواة 2: 5 وطبقات الزبيدي: 181 والوافي 14: 139 والبلغة: 80 وبغية الوعاة 1: 568.(3/1307)
شغلي عن الناس بإنسان ... علّق قلبي وتناساني
موّه باب الحبّ حتى إذا ... سقطت في الصبوة خلّاني
- 490-
رمضان بن رستم بن محمد بن علي بن رستم بن
هردوز، فخر الدين ابن الساعاتي الخراساني الأصل الدمشقي: وهو أخو بهاء الدين أبي الحسن علي بن رستم بن الساعاتي الشاعر المشهور. وكان فخر الدين هذا طبيبا فاضلا أديبا شاعرا، وله معرفة تامة بالمنطق والعلوم الحكمية، وكان يكتب خطا منسوبا في غاية الجودة، وتلقّى صناعة الطب عن رضي الدين أبي الحجاج يوسف بن حيدر الرحبي الموجود الآن في دمشق ولازمه زمانا طويلا، والعلوم الأدبية عن تاج الدين زيد الكندي، وكان خبيرا بعلم الموسيقى ويحسن الضرب بالعود، لقيته بدمشق وحضرت مجالسه غير مرة، وبلغنا وفاته سنة ثمان عشرة وستمائة. وله من التصانيف حواش على القانون لابن سينا. وتكملة كتاب القولنج له. والمختار من الأشعار، وغير ذلك.
ومن شعره:
وروضة زاد بالأترجّ بهجتها ... في صفرة اللون يحكي لون مسكين
عجبت منه فما أدري أصفرته ... من فرقة الغصن أم من خوف سكين
وقال [1] :
يحسدني قومي على صنعتي ... لأنني بينهم فارس
سهرت في ليلي واستنعسوا ... لن يستوي الدارس والناعس
__________
[490]- ترجمة ابن الساعاتي في عيون الانباء 2: 183- 184 (وقد خدم بالطب الملك الفائز بن العادل أبي بكر ابن أيوب وتوزر له، كما خدم الملك المعظم عيسى وتوزر له كذلك، وكان ينادمه ويلعب بالعود) والوافي 14: 128 والدارس للنعيمي 2: 388.
[1] وردا في عيون الانباء: 184 والوافي.(3/1308)
وقال:
حسب المحبّ تلذذ بغرامه ... من كلّ ما يهوى وما يتحبّب
راح المحبة لا تريح بروحها ... من كان في شيء سواها يرغب
- 491-
الرماح بن أبرد بن ثوبان بن سراقة بن قيس
بن سلمى بن ظالم بن جذيمة بن يربوع، أبو شرحبيل المرّي المعروف بابن ميادة: وهي أمه، وكانت صقلبية [1] وكان يزعم أنها فارسية. وهو شاعر مجيد من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية، مات في خلافة المنصور سنة تسع وأربعين ومائة، ومن شعره يفخر بنسب أبيه في العرب ونسب أمه في العجم [2] :
أليس غلام بين كسرى وظالم ... بأكرم من نيطت عليه التمائم
لو انّ جميع الناس كانوا بتلعة ... وجئت بجدّي ظالم وابن ظالم
لظلّت رقاب الناس خاضعة لنا ... سجودا على أقدامنا بالجماجم
ومن مختار شعره قصيدته البائية التي مدح بها الوليد بن يزيد ومطلعها [3] :
هل تعرف الدار بالعلياء غيّرها ... سافي الرياح ومستنّ له طنب
دار لبيضاء مسودّ مسائحها ... كأنها ظبية ترعى وتنتصب
__________
[491]- ترجمة ابن ميادة في الأغاني 2: 227 والشعر والشعراء: 655 وطبقات ابن المعتز: 106 ومصورة ابن عساكر 6: 279 وتهذيب ابن عساكر 5: 331 والمؤتلف: 180 والسمط: 306 وكتاب من نسب إلى أمه: 91 وألقاب الشعراء: 308 والوافي 14: 143 (وهو بمعجم الشعراء أليق) . وقد جمع شعره محمد نايف الدليمي (الموصل 1970) ود. حنا جميل حداد، دمشق 1982 وإلى الثاني أشير.
[1] زعم الذين نشروا الأغاني (طبعة دار الثقافة) أن صقلبية تنسب إلى صقلب وهي بلد في الأندلس من أعمال شنترين، وهذا خطأ أو إمعان فيه.
[2] شعر ابن ميادة: 227 وانظر الأغاني: 233.
[3] شعره: 57 وانظر الأغاني: 267.(3/1309)
تحنو لأكحل ألقته بمضيعة ... فقلبها شفقا من حوله يجب
يا أطيب الناس ريقا بعد هجعتها ... وأملح الناس عينا حين تنتقب
ليست تجود بنيل حين أسألها ... ولست عند خلاء اللهو أغتصب
في مرفقيها إذا ما عونقت حجم [1] ... على الضجيع وفي أنيابها شنب
وليلة ذات أهوال كواكبها ... مثل القناديل فيها الزيت واللهب [2]
قد جبتها جوب ذي المقراض ممطرة ... إذا استوى مغفلات البيد والحدب [3]
بعنتريس كأن الدّبر يلسعها ... إذا ترنّم حاد خلفها طرب [4]
إلى الوليد أبي العباس قد عجلت ... ودونه المعط من لبنان والكثب [5]
أعطيتني مائة صفرا مدامعها ... كالنخل زيّن أعلى نبته الشّرب [6]
يسوقها يافع جعد مفارقه ... مثل الغراب غذاه الصرّ والحلب
وذا سبيب صهيبيا له عرف ... وهامة ذات فرق ما بها صخب
لما أتيتك من نجد وساكنه ... نفحت لي نفحة طارت بها العرب
إني امرؤ أعتفي الحاجات أطلبها ... كما اعتفى سنق يلقى له العشب [7]
ولا ألحّ على الخلّان أسألهم ... كما يلحّ بعظم الغارب القتب
ولا أخادع ندماني لأخدعهم ... عن مالهم حين يسترخي بهم لبب
وأنت وابناك لم يوجد لكم مثل ... ثلاثة كلّهم بالتاج معتصب
الطيبون إذا طابت نفوسهم ... شوس الحواجب والأبصار إن غضبوا
__________
[1] الأغاني: جمم (وهو كثرة اللحم) .
[2] الأغاني: والعطب (وهو القطن) .
[3] المقراض: المقص، الممطرة: ثوب يتقى به المطر، الحدب: المرتفع من الأرض.
[4] العنتريس: الناقة الصلبة؛ الدبر: الزنابير أو النحل.
[5] المعط: الأراضي التي لا نبات فيها؛ وفي الديوان: من نيان والكثب.
[6] الشرب: ما يحفر حول النخلة ويملأ ماء.
[7] أعتفي: أطلب؛ السنق: الذي شبع إلى حد البشم، يقول: أعتفي الحاجات بغير حرص ولا كلب.(3/1310)
قسني إلى شعراء الناس كلّهم ... وادع الرواة إذا ما غبّ ما احتلبوا [1]
إني وإن قال أقوام مديحهم ... فأحسنوه وما مالوا وما كذبوا
أجري أمامهم جري امرىء فلج ... عنانه حين يجري ليس يضطرب
وقال أيضا [2] :
لقد سبقتك اليوم عيناك سبقة ... وأبكاك من عهد الشباب ملاعبه
وتذكار عيش قد مضى ليس راجعا ... لنا أبدا أو يرجع الدرّ حالبه
كأن فؤادي في يد ضبثت [3] به ... محاذرة أن يقضب الحبل قاضبه
وأشفق من وشك الفراق وأنني ... أظنّ لمحمول عليه فراكبه
فو الله ما أدري أيغلبني الهوى ... إذا جدّ جدّ البين أم أنا غالبه
فإن استطع أغلب وإن يغلب الهوى ... فمثل الذي لاقيت يغلب صاحبه
وشعر ابن ميادة كثير اكتفينا بما ذكرناه منه.
- 492- رؤبة بن العجاج واسم العجاج عبد الله بن رؤبة بن أسد بن صخر بن كنيف بن عميرة، يتصل نسبه بزيد بن مناة: الراجز المشهور من مخضرمي الدولتين ومن أعراب البصرة، سمع من أبي هريرة رضي الله عنه والنسابة البكري، وعداده في
__________
[492]- ترجمة رؤبة في الأغاني 20: 323 وطبقات ابن سلام 761- 767 والشعر والشعراء: 495 وابن خلكان 2: 63 وبغية الطلب 7: 114 وسير الذهبي 6: 162 والوافي 14: 147 وله أخبار منثورة في كتب الأدب كنثر الدر والبيان والتبيين وعيون الأخبار والعقد والبصائر والتذكرة الحمدونية ... إلخ.
(وموضعه الصحيح معجم الشعراء) .
[1] غبّ: فسد.
[2] الأغاني: 265 وشعر ابن ميادة: 71.
[3] م: خبثت؛ ضبثت: قبضت.(3/1311)
التابعين. وروى عنه أبو عبيدة معمر بن المثنى والنضر بن شميل وخلف الأحمر وغيرهم. وله ديوان رجز مشهور. مات في زمن المنصور سنة خمس وأربعين ومائة ومن رجزه [1] :
اذا العجوز غضبت فطلّق ... ولا ترضّاها ولا تملّق
واعمد لأخرى ذات دلّ مونق ... لينة المسّ كمسّ الخرنق
اذا مضت مثل السياط المشّق
ومنه وهو مشهور [2] :
من يك ذا بتّ فهذا بتّي ... مقيّظ مصيّف مشتّي
أخذته من نعجات ستّ
وله شعر قليل منه [3] :
أيها الشامت المعير بالشي ... ب أقلنّ بالشباب افتخارا
قد لبست الشباب غضّا طريفا ... فوجدت الشباب ثوبا معارا
- 493- روح بن عبد الأعلى المؤدّب: بصري يكنى أبا همام، متهم في دينه، يعلم أولاد المسلمين العربية والشعر، ويعلم أولاد المجوس خط الفرس وكتاب مزدك، وعهد أردشير، وهو القائل [4] :
وعين السخط تبصر كل عيب ... وعين أخي الرضا عن ذاك تعمى
__________
[493]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 14: 152 (وينقل عن المرزباني وهو مصدر ياقوت أيضا) .
[1] مجموع أشعار العرب (ديوان رؤبة) : 179.
[2] مجموع أشعار العرب: 189.
[3] يقال إن رؤبة لم يقل من الشعر إلا هذين البيتين؛ انظر بغية الطلب: 124، 126.
[4] وردا في الوافي، وكذلك القطعة التالية.(3/1312)
ولو يمنى يديّ تكرّهتني ... إذن لحسمتها بالنار حسما
وله أيضا:
فما لزمان السوء لا درّ درّه ... وللبين فينا كيف قد طال عمره
فراق وبعد واشتياق وزفرة ... كحرّ سعير قد تضرّم جمره
سأصبر دهري ما حييت ومن يعش ... بحلو معاش يعقب الحلو مرّه(3/1313)
حرف الزاي
- 494-
زاكي بن كامل بن علي، أبو الفضائل
المعروف بالمهذّب الهيتيّ القطيفي الملقب بأسير الهوى: كان أديبا فاضلا شاعرا رقيق الشعر، مات سنة ست وأربعين وخمسمائة، ومن شعره:
عيناك لحظهما أمضى من القدر ... ومهجتي منهما أضحت على خطر
يا أحسن الناس لولا أنت أبخلهم ... ماذا يضرّك لو متّعت بالنظر
جد بالخيال وإن ضنّت يداك به ... لا تبتلي مقلتي بالدمع والسهر
يا من تمكن في قلبي الغرام به ... فقد حذرت وما وقّيت من حذر
زوّد بتوديعة أو وقفة فعسى ... تحيي بها نضو أشواق على سفر
وقال:
أفعال ألحاظه المرضى الصحاح بنا ... أضعاف ما يفعل الصّمصامة الذّكر
عجبت من جفنه بالضعف منتصرا ... على القلوب ويقوى وهو منكسر
ومن لهيب خدود كلّما سقيت ... ماء الشباب بنار الحسن تستعر
ان مجّ في الشرق من فيه الرضاب ترى ... من عرف رياه أهل الغرب قد سكروا
شهود صدق غرامي فيك أربعة ... الوجد والدمع والأسقام والسهر
__________
[494]- ترجمته في الوافي 14: 163 والفوات 2: 27 والشذرات 4: 140 وبغية الطلب (زكار) 8: 3728 وفيه القطيعي، وأورد له المقطوعة الضادية.(3/1314)
وقال:
سيدي ما عنك لي عوض ... طال بي في حبّك المرض
كم بلا ذنب تهدّدني ... فجفوني ليس تغتمض
أبغير الهجر تقتلني ... لا أبالي هجرك الغرض
ورضائي في رضاك فقل ... ما تشاء لست أعترض
أنت لي داء أموت به ... كم أداويه وينتقض
- 495-
زائدة بن نعمة بن نعيم، أبو نعمة القشيري [1]
المعروف بالمجفجف [2] :
كان شاعرا جيد الشعر نقيّ الألفاظ مختارها رقيق المعاني يمدح السادات وأهل البيوتات، لقيته بحلب سنة ثمانين وخمسمائة وتوفي سنة ست وثمانين وخمسمائة، ومن شعره [3] :
أصبح الربع من سمية خالي ... غير هيق وناشط وغزال [4]
وثلاث كأنهنّ حمام ... في رماد وأشعث الرأس بالي
هلهلته الرياح مما توالى ... نسجها بالغدوّ والآصال
من قبول ومن دبور سنوح ... وجنوب ومن صبا وشمال
__________
[495]- مصورة ابن عساكر 6: 325 وتهذيب ابن عساكر 5: 351 وبغية الطلب 7: 139 والوافي 14: 168، وقال ابن العديم: هو شاعر بني مالك، قدم حلب ومدح بها الملك رضوان بن تتش وغيره، وكان يتردد إليها كثيرا؛ ومدح صدقة بن مزيد، ومدح أتابك بدمشق فخلع عليه خلعة تامة وحمله على فرس عتيق.
[1] م: التستري، والتصويب عن بغية الطلب.
[2] م: بالمحفحف، وضبطه الصفدي بجيمين وفاءين.
[3] بغية الطلب: 191 (والقصيدة شديدة التصحيف في م وتهذيب ابن عساكر) .
[4] م: هين ... وغوال.(3/1315)
تجلب الغيث غير ريث [1] حياه ... برسوم الديار والأطلال
كلّ نبت من الربيع وزهر ... مثل جيد من العرائس حالي
أو كزيّ [2] الذي عهدن [3] لديه ... في ظلال الخيام أو في الحجال
كلّ براقة الثنايا تراءى ... برقيق الغروب [4] عذب زلال
وكأن الغمام من بعد وهن ... مازجته بقرقف جريال
كنت في عينها كمرود كحل ... صرت في عينها كشوك السّيال
حيث صار السواد مني بياضا ... وتبدلت أرذل الأبدال [5]
- 496-
زبان بن العلاء بن عمار بن العريان
بن عبد الله بن الحصين بن الحارث بن
__________
[496]- ترجمة أبي عمرو بن العلاء في نور القبس: 25 والمعارف: 531، 540 وأخبار النحويين البصريين: 22 ومراتب النحويين: 13- 20 ونزهة الألباء: 15 وطبقات الزبيدي: 35 والفهرست: 30 وابن خلكان 3: 466 وإنباه الرواة 4: 125 وعبر الذهبي 1: 223 وسير الذهبي 6: 407 وطبقات ابن الجزري 1: 288 والبداية والنهاية 10: 113 والوافي 14: 171 والفوات 2: 28 والشذرات 1: 237 وبغية الوعاة 2: 231 وتهذيب التهذيب 12: 178 والنجوم الزاهرة 2: 22 وروضات الجنات 3: 388.
[1] م: ريب.
[2] م: وكذاك.
[3] م: عهدنا.
[4] م: العزوف.
[5] زاد في بغية الطلب وابن عساكر أبياتا وهي:
فإذا الخيل أصبحت بي قياما ... صافنات وأينقى وجمالي
بجناب ابن سالم وحماه ... احتمى جانبي وجاهي ومالي
مثلما كنت في عراق دبيس ... لم تكن تخطر الهموم ببالي
فإذا ساءلت قشير بمصر ... ونمير بن عامر كيف حالي
وكلاب وفتية من عقيل ... ورجال ببرقة من هلال
كان ردّ الجواب أني بخير ... ما عدت مالكا صروف الليالي
ومالك المذكور هنا هو مالك بن سالم بن مالك العقيلي صاحب قلعة جعبر.(3/1316)
جلهمة بن حجر بن خزاعي بن مازن بن مالك بن عمرو بن تميم بن مر بن أدّ بن طابخة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان: الإمام أبو عمرو بن العلاء التميمي المازني البصري أحد القراء السبعة. واختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا.
فقيل ربان، وقيل زبان، وقيل يحيى، وقيل العريان وقيل جزء، وقيل اسمه كنيته.
قال الأصمعي: قلت لأبي عمرو ما اسمك؟ قال: أبو عمرو. وقيل للمبرد إن قوما يزعمون أن اسم أبي عمرو زبان. فقال: قد فتشت عن هذا بالبصرة، وسألت من هناك من أهله وولده، فلم يثبت له ولا لأخيه أبي سفيان اسم، ولهما أخ آخر يقال له معاذ، وقيل لجلالته عندهم كان يهاب لأن يسأل عن اسمه فلا يعرف إلا بكنيته [1] .
والصحيح انه زبّان لما روي أنّ الفرزدق جاء معتذرا إليه من أجل هجو بلغه عنه، فقال له أبو عمرو:
هجوت زبان ثم جئت معتذرا ... من هجو زبان لم تهج ولم تدع
ولد أبو عمرو بمكة سنة ثمان أو خمس وستين ومات بالكوفة سنة أربع وخمسين ومائة، أخذ بمكة والمدينة والكوفة والبصرة عن شيوخ كثيرة منهم أنس بن مالك والحسن البصري وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد، وأخذ النحو عن نصر بن عاصم الليثي. وأخذ عنه القراءة عرضا وسماعا جماعة كثيرون منهم عبد الله بن المبارك واليزيدي، وأخذ عنه النحو الخليل بن أحمد ويونس بن حبيب البصري وأبو محمد اليزيدي، وأخذ عنه الأدب وغيره طائفة منهم أبو عبيدة معمر بن المثنى والأصمعي ومعاذ بن مسلم النحوي وغيرهم، وروى عنه الحروف سيبويه، وكان أعلم الناس بالعربية والقرآن وأيام العرب والشعر.
حدث أبو عبيدة [2] عن أبي عمرو قال [3] : طلب الحجاج أبي فخرج منه هاربا إلى اليمن فإنّا لنسير بصحراء اليمن فلحقنا لا حق ينشد:
__________
[1] فقيل ربان ... إلا بكنيته: من المختصر؛ وانظر نور القبس: 25.
[2] هذه الفقرة مزيدة من المختصر حتى قوله: في كل يوم.
[3] قارن بنور القبس: 30 وإنباه الرواة 4: 128- 129.(3/1317)
ربما تكره النفوس من الأمر لها فرجة كحلّ العقال (الفرجة بالفتح في الأمر وبالضم في الحائط وغيره) .
قال: فقال أبي: ما الخبر؟ فقالوا: مات الحجاج. قال أبو عمرو: فأنا بقول «فرجة» أشدّ سرورا منّي بموت الحجاج. قال، فقال أبي: أصرف ركابنا إلى البصرة.
حدث الأصمعي قال [1] : كان لأبي عمرو كلّ يوم فلسان من غلّته: فلس يشتري به ريحانا، وفلس يشتري به كوزا فيشم الريحان، ويشرب في الكوز يومه، فإذا أمسى تصدق بالكوز وأمر الجارية أن تجفف الريحان وتدقه في الأشنان، ثم يستجد غير ذلك في كل يوم.
وكان [2] أبو عمرو يقرىء الناس في مسجد البصرة والحسن البصري حاضر.
ويروى أن الحسن لأجله قال: كاد العلماء يكونون أربابا.
قيل: كان نقش خاتم أبي عمرو بن العلاء:
وإن امرءا دنياه أكبر همه ... لمستمسك منها بحبل غرور
وقيل: إنه لا يعرف له شعر إلا ما رواه بعضهم [3] :
وأنكرتني وما كان الذي نكرت ... من الحوادث إلا الشيب والصلعا
وكان أبو عمرو يقول: هذا البيت أنا قلته وألحقته بشعر الأعشى. قال أبو عمرو بن العلاء: كنت معجبا به حتى لقيت أعرابيا فصيحا فهما فأنشدته إياه، فقال: أخطأت است صاحبه الحفرة، ما الذي يبقى بعد الشيب والصلع؟ فعلمت أنّي لم أصنع شيئا. قال أبو عبيدة: سمعت بشارا قبل ذلك بعشر سنين يقول: ما يشبه هذا شعر الأعشى.
حدث سفيان الثوري قال [4] : كنّا عند الأعمش وعنده أبو عمرو يحدث: كان
__________
[1] إنباه الرواة 4: 128 والمختصر.
[2] هذه الفقرة وبعدها فقرات حتى قوله ... الشهيدة تؤجر: مزيد من المختصر.
[3] قارن بمراتب النحويين: 14.
[4] مراتب النحويين: 16- 17.(3/1318)
رسول الله، صلّى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة. قال الأعمش: ومعنى يتخولنا، يتعاهدنا، فقال له أبو عمرو: إن كان يتعاهدنا فيخوّننا [1] ، فأما يتخوّلنا فيستصلحنا. فقال له الأعمش: وما يدريك؟ فقال له أبو عمرو: إن شئت يا أبا محمد أن أعلمك الساعة أن الله ما علمك شيئا مما تدعيه فعلت. قال أبو الطيب: والصحيح [ما] ذهب إليه أبو عمرو.
وقال الأصمعي: لقد ظلمه أبو عمرو. قال: يتخولنا ويتخوننا جميعا، فمن قال: يتخولنا يستصلحنا، ومن قال يتخوننا يتعهدنا؛ قال: والرواية باللام والمعنى متقارب.
وحدث أبو الطيب قال [2] : كان أبو عمرو يميل إلى القول بالإرجاء، فحدث الأصمعي قال: قال عمرو بن عبيد لأبي عمرو: يا أبا عمرو؟ وهل يخلف الله وعده؟
قال لا، قال: أفرأيت من أوعده الله عقابا أيخلف وعده؟ قال من العجمة أتيت يا أبا عثمان، إن الوعد غير الوعيد، لأن العرب لا تعد عارا ولا خلفا أن تعد شرا ثم لا تفعله، ترى ذلك كرما وفضلا وإنما الخلف أن تعد خيرا ولا تفعله. قال له: أوجد هذا في كلامهم، فأنشده:
ولا يرهب ابن العمّ ما عشت صولتي ... ولا يختتي [3] من خشية المتهدّد
وإني وإن أوعدته أو وعدته ... لمخلف إيعادي ومنجز موعدي
قال المؤلف: هذا جملة ما جرى بينهما من المناظرة على ما توجه في كتب العلماء، ثم أضاف إليها بعض المعتزلة شعرا مولدا أتمّ الخبر به، وجعل الحجة له فيهما. فقال عمرو بن عبيد: بل أنت يا أبا عمرو شغلك الإعراب عن طلب
__________
[1] يتخوننا عند الأصمعي بمعنى يتعهدنا؛ وفي رواية يتحولنا- بالحاء المهملة- أي يطلب الأحوال التي ننشط فيها.
[2] مراتب النحويين 17- 18 والنقل هنا أوفى، وفي المراتب المطبوع نقص، وانظر إنباه الرواة 4: 133 وأورد الصفدي جانبا من الخبر ثم قال: وهو خبر فيه طول استوفاه ياقوت في معجم الأدباء.
[3] يختتي: يستحي.(3/1319)
الصواب، أما سمعت قول الآخر:
إن أبا ثابت لمشترك ال ... خير شريف الآباء والبيت
لا يخلف الوعد والوعيد ولا ... يبيت من ثاره على فوت
حدث أبو حمزة الشحام قال: وقف علينا أبو عمرو بن العلاء في السوق يساومنا ببعض ما عندنا، ثم قال: الغبن غبنان. قلنا: وما هما يا أبا عمرو؟ قال: الغبن والغلاء، فإذا استجدت ذهب أحدهما.
وحدث الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن أرهبته ورهبته، فقال:
ليستا سواء. فقلت: رهبته فرقته وأرهبته أدخلت الفرق قلبه. فقال أبو عمرو: ذهب من يحسن هذا من ثلاثين سنة.
سئل أبو عمرو [1] : متى يحسن بالمرء أن يتعلم؟ قال: ما دامت الحياة تحسن به.
أنشد أبو الحسن علي بن الحسن بن علي الشيرازي لأبي عمرو بن العلاء المقرىء:
دع الهمّ بالرزق يا عاقلا ... فربّك منه لنا قد فرغ
فما لك منه إذا ما افتكرت ... بعقل صحيح سوى ما مضغ
أجاز التراقي [2] بلا مانع ... وقابل بالخوف لما بلغ
فدع ذكر دنيا تبدّت لنا ... كسمّ الشجاع إذا ما لدغ
فإني خلوت بذكري لها ... وفارقت إبليس لما نزغ
فألفيتها مثل ماء الإناء ... وكلب العشيرة فيها يلغ
فخلّيتها عن قلى كلّها ... وعلّلت نفسي بأخذ البلغ
سأل رجل [3] أبا عمرو بن العلاء حاجة فوعده بها، ثم إن الحاجة تعذرت على
__________
[1] إنباه الرواة 4: 128.
[2] هذا هو شكل الكلمة في رولا معنى لها؛ والبيت كله غير واضح المعنى.
[3] إنباه الرواة 4: 126.(3/1320)
أبي عمرو، فلقيه الرجل بعد ذلك، فقال له: وعدتني يا أبا عمرو وعدا لم تنجزه.
قال له أبو عمرو: فمن أولى بالغمّ أنا أو أنت؟ قال الرجل: أنا. قال أبو عمرو: لا والله بل أنا. قال: وكيف ذلك أصلحك الله، وأنا المدفوع عن حاجتي؟ فقال:
لأني وعدتك، فأنت بفرح الوعد، وأنا بهمّ الإنجاز، وبتّ ليلتك فرحا مسرورا، وبتّ ليلتي مفكرا مهموما، ثم عاق القدر عن بلوغ الإرادة، فلقيتني مدلا، ولقيتك محتشما، فأنا أولى بالغم منك. قال: صدقت.
وحدث الأصمعي قال: غاب أبو عمرو عن البصرة عشرين سنة ثم رجع ففقد إخوانه الذين كانوا يجلسون إليه في مجلسه بجامع البصرة، فأنشأ يقول:
يا منزل الحيّ الذي ... ن تفرّقت بهم المنازل
أصبحت بعد عمارة ... قفرا تهبّ بك الشمائل
فلئن رأيتك موحشا ... فبما رأيت وأنت آهل
وحدث الأصمعي قال: كنا عند أبي عمرو بن العلاء فسأله رجل: لم سميت الخيل خيلا؟ فسكت أبو عمرو، فقال فتى في المجلس: سميت خيلا لاختيالها.
فقال أبو عمرو: اكتبوا الاختيال من الخيلاء، وهو العجب.
قال الأصمعي: صنع أبو عمرو بن العلاء هريسة فكتب إليّ:
هلمّ إلى من عذّبت طول ليلها ... بأضيق حبس في وطيس مسعّر
وقد جلدت حدين وهي بريّة ... فحيّ على دفن الشهيدة تؤجر
وكان يونس بن حبيب يقول: لو كان أحد ينبغي أن يؤخذ بقوله في كلّ شيء كان ينبغي أن يؤخذ بقول أبي عمرو بن العلاء.
وقال أبو عبيدة: أبو عمرو أعلم الناس بالقراءات والعربية وأيام العرب والشعر، وكانت دفاتره ملء بيته إلى السقف، ثم تنسك فأحرقها. وأما حاله في أهل الحديث فقد وثقه يحيى بن معين وغيره وقالوا: صدوق حجة في القراءة، وله أخبار حسان، وروي عنه فوائد كثيرة يطول ذكرها.(3/1321)
- 497-
الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت
بن عبد الله بن الزبير بن العوام، أبو عبد الله القرشي الأسدي: كان علّامة نسّابة أخباريا أعلم الناس قاطبة بأخبار قريش وأنسابها ومآثرها وأشعارها، وعلى كتابه في أنساب قريش الاعتماد في معرفة أنساب القرشيين. أخذ عن سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه ابن ماجة وابن أبي الدنيا وغيرهما، وكان ثقة من أوعية العلم، ولا يلتفت لقول أحمد بن علي السليماني فيه إنه منكر الحديث.
وولد ونشأ بالحجاز ومات بمكة وهو قاض لها، ليلة الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ست وخمسين ومائتين عن أربع وثمانين سنة. وكان أبوه أبو بكر بكار على قضاء مكة، ثم ولّى المتوكل الزبير ابنه القضاء بعد أبيه، فلم يزل قاضيها إلى أن مات على ذلك. ودخل بغداد عدة دفعات.
حدث موسى بن هارون قال [1] : كنت بحضرة الأمير محمد بن عبد الله بن طاهر فاستأذن عليه الزبير بن بكار، فلما دخل عليه أكرمه وعظمه وقال له: إن باعدت بيننا الأنساب فقد قرّبت بيننا الآداب، وان أمير المؤمنين أمرني أن أدعوك وأقلدك القضاء [2] فقال له الزبير بن بكار: أبعد ما بلغت هذه السن ورويت أن من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين أتولى القضاء؟ فقال له: فتلحق بأمير المؤمنين بسر من رأى، فقال له:
أفعل، فأمر له بعشرة آلاف درهم وعشرة تخوت ثياب وظهر يحمله ويحمل ثقله إلى حضرة سرّ من رأى. فلما أراد الانصراف قال له: ان رأيت يا أبا عبد الله أن تفيدنا شيئا نرويه عنك ونذكرك به، قال: نعم، انصرفت من عمرة المحرّم فبينا أنا بأثاية
__________
[497]- ترجمة الزبير بن بكار في الفهرست: 123 ونور القبس: 321 وتاريخ بغداد 8: 467 وبغية الطلب 7: 143 وابن خلكان 2: 311 وتذكرة الحفاظ وانظر مقدمة جمهرة نسب قريش حيث ذكر المحقق اثنين وعشرين مصدرا ترجمت له، وفي هذه الترجمة هنا زيادات كثيرة مأخوذة من المختصر، ورفع في المختصر نسبه إلى عدنان.
[1] ابن خلكان ومصارع العشاق 2: 56 وتاريخ بغداد: 469 مع اختلافات أساسية في الرواية.
[2] في المصادر السابقة: اختارك لتأديب ولده.(3/1322)
العرج إذا أنا بجماعة مجتمعة، فأقبلت اليهم، وإذا برجل كان يقنص الظباء وقد وقع ظبي في حبالته فذبحه فانتفض في يده، فضرب بقرنه صدره فنشب القرن فيه فمات، وإذا بفتاة أقبلت كأنها المهاة، فلما رأت زوجها ميتا شهقت ثم قالت:
يا خشن لو بطل لكنّه أجل ... على الأثاية ما أودى به البطل
يا خشن جمع أحشائي وأقلقها ... وذاك يا خشن لولا غيره جلل
أضحت فتاة بني نهد علانية ... وبعلها في أكفّ القوم محتمل
وكنت راغبة فيه أضنّ به ... فحال من دون ظبي الريمة الاجل
ثم شهقت فماتت، فما رأيت أعجب من الثلاثة: الظبي مذبوح، والرجل جريح ميت، والفتاة ميتة. فلما خرج قال الأمير محمد بن عبد الله: أيّ شيء أفدنا من الشيخ، قالوا: الأمير أعلم، قال: قوله «أضحت فتاة بني نهد علانية» أي ظاهرة، وهذا حرف لم أسمعه في كلام العرب قبل اليوم.
حدث المرزباني فيما أسنده إلى الزبير بن بكار قال [1] عادلت المتوكل على الله من الجوسق إلى المحمدية فلما سرنا قال لي: يا زبير، من أفضل الناس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال: فورد عليّ شيء لم أروّ فيه، فخفت أن أقول: عليّ، فيقول:
تقدّمه على أبي بكر، وخشيت أن أقول أبا بكر فيقول: فضلت على آل رسول الله صلّى الله عليه وسلم، غيرهم. قال: فسكتّ فاقتضاني الجواب، فسكتّ. فقال: ما لك لا تجيب؟ فقلت: يا أمير المؤمنين، سمعت الناس بالمدينة يقولون: أبو بكر خير الصحابة، وعليّ خير القرابة. قال: فأرضاه ذلك وكفّ.
حدّث ثعلب قال: كتب رجل إلى الزبير بن بكار يستجفيه، فكتب إليه الزبير:
ما غيّر الدهر ودا كنت تعرفه ... ولا تبدلت بعد الذكر نسيانا
ولا حمدت وفاء من أخي ثقة ... إلا جعلتك فوق الحمد عنوانا
قال الزبير: شيعني إسحاق بن إبراهيم التميمي، وقال:
فراقك مثل فراق الحياة ... وفقدك مثل افتقاد الديم
__________
[1] نور القبس: 321.(3/1323)
عليك السلام فكم من وفاء ... أفارق منك وكم من كرم
وحدث الزبير قال: شكرت بعض الملوك على عارفة له فما رأيته يقبل الشكر حق قبوله، فأنشدته:
فلو كان يستغني عن الشكر ماجد ... لعزّة ملك أو علوّ مكان
لما ندب الله العباد لشكره ... فقال اشكروني أيها الثقلان
قال المؤلف: هذا قول بشع شنع، فإن الله تعالى ليس به فاقة إلى شكر عباده، وإنما أدبهم بما أمرهم، قلت: وإنما هذه استعارة حسنة.
قال الزبير: تشوّفت إلى المدينة وأنا بالعراق فقلت:
ليت شعري ولليالي صروف ... هل أرى مرّة بقيع الزبير
ذاك مغنى ألذّه وقطين ... تشتهي النفس أن تراه بخير
قال الزبير [1] : جئت إلى الفتح بن خاقان أسأله أن يستأذن لي أمير المؤمنين المتوكل في الحج فوعدني، فقلت له أنشدك، وأنشدته:
ما أنت بالسبب الضعيف وإنما ... نجح الأمور بقوة الأسباب
فاليوم حاجتنا إليك وإنما ... يرجى الطبيب لساعة الأوصاب
قال فاستأذن لي على المتوكل فخرج سعيد بن مسكين فقال: ادخل، فدخلت فودعت أمير المؤمنين، ثم خرجت وخرج الفتح، فقال: جائزتك تلحقك، وعهدك بالقضاء على مكة لاحق بك، فلما صرت إلى منزلي إذا خادم معه ثلاثون ألف درهم فقبضتها وخرجت إلى مكة، فلما أردت الدخول إليها إذا رسوله ومعه عهدي بالقضاء، فدخلتها واليا عليها.
ثم مات بمكة في الوقت المقدم ذكره. وكان سبب موته أنه سقط من سطح علوّه عشرة أذرع فانكسرت ترقوته ووركه فمات، وصلى عليه ابنه مصعب، وحضر جنازته محمد بن عيسى بن المنصور ودفن إلى جانب قبر علي بن عيسى الهاشمي في نقرة الحجون.
__________
[1] نور القبس: 321- 322.(3/1324)
وقال الزبير: دخلت على المعتزّ بالله وهو محموم فقال لي: يا أبا عبد الله، إني قد قلت في ليلتي هذه أبياتا، وقد أعيا عليّ إجازة بعضها، ثم أنشدني:
إني عرفت علاج القلب من وجع ... وما عرفت علاج الحبّ والجزع
جزعت للحبّ والحمّى صبرت لها ... إنّي لأعجب من صبري ومن جزعي
من كان يشغله عن حبّه وجع ... فليس يشغلني عن حبكم وجعي
قال: فقلت:
وما أملّ حبيبي ليلتي أبدا ... مع الحبيب ويا ليت الحبيب معي
قال: فأمر لي على البيت بألف دينار.
وقال الزبير: خطب إليّ محمد بن الفضل بن الحسن العلوي أختا لي فرددته ردّا جميلا فكتب إليّ يفخر ويكثر فكتبت إليه: وصل كتابك يهدر بشقشقة صلماء (بشقشقة صلماء أي مشقوقة) عن شفة علماء (شفة علماء: الأعلم المشقوق الشفة العليا) تزعم أنك وأني، فدم حيث أنت، ودعني حيث أنا، فلعمري ليبطئن بي عنك الذي أسرع بك إلي، والسلام.
قال: وتزوجت امرأة، وعندي أخرى فما زالت بي حتى طلقتها، وأقبلت على بيت فيه كتب، فجاءت المرأة فأخذت بعضادتي الباب، وقالت: لكتبك أشرّ عليّ من أربع ضرّات.
وللزبير بن بكار من التصانيف: كتاب نسب قريش وأخبارها. وكتاب أخبار العرب وأيامها. وكتاب نوادر أخبار النسب. وكتاب الموفقيات في الأخبار ألفه للموفق بالله [1] . وكتاب أزواج النبي صلّى الله عليه وسلم. وكتاب وفود النعمان على كسرى. وكتاب الأوس والخزرج. وكتاب النحل، قال ابن النديم: رأيته بخط ابن السكري. وكتاب نوادر المدينيين. وكتاب الاختلاف. وكتاب العقيق وأخباره. وكتاب إغارة كثيّر على الشعراء. وأخبار ابن ميادة. وأخبار ابن الدمينة. وأخبار ابن قيس الرقيات. وأخبار أبي دهبل الجمحي. وأخبار أبي السائب. وأخبار الأشعث. وأخبار الأحوص.
__________
[1] نشره د. سامي مكي العاني، بغداد 1972.(3/1325)
وأخبار ابن هرمة. وأخبار توبة بن الحميّر وليلى الأخيلية. وأخبار أمية بن أبي الصلت. وأخبار حاتم. وأخبار حسان. وأخبار جميل. وأخبار عبد الرحمن بن حسان. وأخبار العرجي. وأخبار عمر بن أبي ربيعة. وأخبار كثيّر. وأخبار المجنون. وأخبار نصيب. وأخبار هدبة بن الخشرم وزيادة، وغير ذلك.
- 498-
زكريا بن أحمد بن محمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن حمويه
النسابة البزاز أبو يحيى: فاضل مشهور له معرفة بالأنساب. مات سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. له تصانيف في علوم الزيدية [1] وأخبارهم، منها كتاب «الابانة عن الإمامة» .
- 499-
زكريا بن يحيى بن عبد الرحمن الساجي البصري
أبو يحيى: من أئمة أهل العلم والفضل. مات سنة سبع وثلاثمائة بالبصرة. وكان فيه فكاهة زائدة حتى قيل إنّ له مجلسا للعلم ومجلسا للهو. وكان يقول: أصلحت سريرتي بيني وبين الله، عز وجل، لما بلغت الأربعين، فما أبالي من طعن عليّ. وكان يلقّب الناس، وقال: ما لقبتهم حتى لقبت نفسي وأهلي، لقبي أنا الساقول، وابني زيرك.
ذكر عنه أن رجلا صار إليه، فقال له قد محنت فخذ بيدي، فأراني رجلا في ثقل
__________
[498]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الوافي 14: 201 (وهو ينقل عن ياقوت دون أن يصرّح بذلك) .
[499]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الفهرست: 266 وطبقات الشيرازي: 104 وسير الذهبي 14: 197 وتذكرة الحفاظ: 709 وعبر الذهبي 2: 134 وميزان الاعتدال 2: 79 وطبقات السبكي 3: 299 وطبقات الأسنوي 2: 22 والبداية والنهاية 11: 131 والوافي 14: 205 وتهذيب التهذيب 3: 334 ولسان الميزان 2: 488 والشذرات 2: 250.
[1] ر: اليزيدية.(3/1326)
روح المعروف بفلان، وكان هذا الرجل ينسب إلى ثقل الروح، فحلفت بالطلاق أن حمار بن رزقويه أخف روحا منه، فقال له أبو يحيى: جئني بالحمار فجاءه به، وكان جذعا مربوعا، فخرج من مجلسه في الجامع إلى باب الأحنف، ومعه أهل مجلسه ينظر إلى الحمار، فقال اركبوه فركب، وشوّر بين يديه فقال للرجل: أقم على زوجتك فهذا في الحمير أخف روحا من ذاك في الناس.
له من الكتب كتاب في أخبار البصرة، كتاب الأبلة، كتاب في الجرح والتعديل.
- 500-
زند بن الجون
المعروف بأبي دلامة الكوفي: أسود من موالي بني أسد، أدرك آخر أيام بني أمية ونبغ في أيام بني العباس، وانقطع إلى السفاح والمنصور والمهدي، ومات في خلافة المهدي سنة إحدى وستين ومائة. وله مع الخلفاء والأمراء أخبار كثيرة ونوادر جمة، فمن ذلك ان أبا جعفر المنصور أمر اصحابه بلبس السواد وقلانس طوال ودراريع كتب عليها فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ
(البقرة: 137) وأن يعلقوا السيوف في المناطق، فدخل عليه أبو دلامة في هذا الزيّ، فقال له المنصور: كيف أصبحت يا أبا دلامة قال: بشرّ حال يا أمير المؤمنين، قال: كيف ذلك ويلك؟ قال: وما ظنك يا أمير المؤمنين بمن أصبح وجهه في وسطه، وسيفه على استه، ونبذ كتاب الله وراء ظهره، وصبغ بالسواد ثيابه!! فضحك المنصور ووصله وأمر بتغيير ذلك الزي، وفي ذلك يقول أبو دلامة [1] :
__________
[500]- ترجمة أبي دلامة في الشعر والشعراء: 660 وطبقات ابن المعتز: 54 والأغاني 10: 247 وتاريخ بغداد 8: 488 وابن خلكان 2: 320 وسير الذهبي 7: 374 والوافي 14: 216 والمؤتلف والمختلف: 231 والبداية والنهاية 10: 134 ومعاهد التنصيص 2: 211 والدميري 1: 163 والشذرات 1: 249 وله طرائف منثورة في كتب الأدب (ومكانه معجم الشعراء) وقد جمع ديوانه الدكتور رشدي علي حسن (بيروت 1985) .
[1] الأغاني 10: 248 وديوانه: 60 (وفيه تخريج) .(3/1327)
وكنا نرجّي من إمام زيادة ... فجاد بطول زاده في القلانس
تراها على هام الرجال كأنها ... دنان يهود جلّلت بالبرانس
وخرج [1] أبو دلامة مع روح بن حاتم المهلبي في بعث لقتال الشراة، فلما نشبت الحرب أمره روح بمبارزة فارس من الشراة يدعو إلى البراز، فقال أبو دلامة:
إني أعوذ بروح أن يقدّمني ... إلى البراز فتخزى بي بنو أسد
إن البراز إلى الأقران أعلمه ... مما يفرّق بين الروح والجسد
قد حالفتك المنايا أن صمدت لها ... وأنها لجميع الخلق بالرصد
إن المهلب حبّ الموت أورثكم ... وما ورثت اختيار الموت عن أحد
لو أنّ لي مهجة أخرى لجدت بها ... لكنها خلقت فردا فلم أجد
فضحك منه روح وأعفاه.
ولأبي دلامة شعر كثير كله جيد، وفيما أوردناه منه كفاية.
- 501-
زهير بن ميمون الفرقبي الهمداني
[أبو محمد] كان من أهل الكوفة، وقيل له الفرقبي لأنه كان يتّجر إلى ناحية فرقب فنسب إليها وكان من أهل القرآن. مات في سنة خمس وخمسين ومائة في زمن المنصور وكان عالما بالنسب.
__________
[501]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الفهرست: 103 ونور القبس: 267 وإنباه الرواة 2: 18 والوافي 14: 228. وقد وردت نسبته القرقبي، والفرقبي (الأولى فاء) وقيل فيه: كان نحويا قارئا أخذ النحو عن أصحاب أبي الأسود، وذكر المرزباني في نور القبس أن وفاته كانت سنة ست وخمسين ومائة؛ ولم يذكر ياقوت قرقب في معجم البلدان وإنما ذكر فرقب (3: 881) وقال: فرقب موضع قال الفراء: ينسب إليه زهير الفرقبي من أهل القرآن. وقال الأزهري: الفرقبية: ثياب بيض من كتان والقرقبية كذلك.
[1] الأغاني 10: 256 وديوانه: 44.(3/1328)
- 502-
زياد بن سلمى بن عبد القيس أبو أمامة العبدي
المعروف بزياد الأعجم مولى عبد القيس: قيل له الأعجم للكنة كانت فيه، أدرك أبا موسى الأشعري وعثمان بن أبي العاص وشهد معهما فتح اصطخر، عدّه ابن سلام في الطبقة السادسة [1] من شعراء الاسلام.
وهمّ الفرزدق بهجاء عبد القيس فأرسل إليه زياد لا تعجل حتى أهدي إليك هدية، فبعث إليه:
فما ترك الهاجون لي إن هجوته ... مصحّا أراه في أديم الفرزدق
وما تركوا عظما يرى تحت لحمه ... لكاسره أبقوه للمتعرق
سأكسر ما أبقوه لي من عظامه ... وانكت مخّ الساق منه وأنتقي
وإنا وما تهدي لنا إن هجوتنا ... لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق
فلما بلغ الفرزدق الشعر قال: ما إلى هجاء هؤلاء من سبيل ما عاش هذا العبد.
ودخل زياد على عبد الله بن جعفر فسأله في خمس ديات فأعطاه، ثم عاد فسأله في خمس ديات أخر فأعطاه، ثم عاد فسأله في عشر ديات فأعطاه، فأنشأ يقول:
سألناه الجزيل فما تلكّا ... وأعطى فوق منيتنا وزادا
وأحسن ثم أحسن ثم عدنا ... فأحسن ثم عدت له فعادا
مرارا لا أعود إليه إلّا ... تبسّم ضاحكا وثنى الوسادا
وقال يرثي المغيرة بن المهلّب:
__________
[502]- ترجمة زياد الأعجم في طبقات ابن سلام: 693- 699 والشعر والشعراء: 343 والأغاني 15: 307 والمؤتلف والمختلف: 193، 195 والكامل 2: 226 والوافي 14: 244 والفوات 2: 29 ومعاهد التنصيص 2: 173 وتهذيب التهذيب 3: 370 والخزانة 4: 192 وانظر التذكرة الحمدونية 2: 157 (والتخريج) 342 (والتخريج) (وموقعه الصحيح في معجم الشعراء) .
[1] بل هو في الطبقة السابعة.(3/1329)
إنّ السماحة والمروءة ضمّنا ... قبرا بمرو على الطريق الواضح
مات المغيرة بعد طول تعرّض ... للموت بين أسنة وصفائح
فإذا مررت بقبره فاعقر به ... كوم الهجان وكلّ طرف سابح
وانضح جوانب قبره بدمائها ... فلقد يكون أخا دم وذبائح
وهي من أحسن المراثي.
توفي زياد في حدود المائة.
- 503-
زياد بن عبد العزيز بن أحمد بن زياد الجذامي الأندلسي
[كان] بليغا راوية للأخبار، توفي سنة ثلاثين وأربعمائة. له من المصنفات: كتاب منار السراج في الردّ على القبري [1] . كتاب في الردّ على منذر القاضي. أرجوزة.
- 504-
زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن
بن سعيد بن عضيهة ابن عمير بن الحارث الأصغر: ذي رعين، تاج الدين أبو اليمن الكندي البغدادي ثم الدمشقي النحوي اللغوي المقرىء الحافظ المحدث الجامع لأسباب الفضائل، محط الركبان، حسنة الزمان: ولد ببغداد في شعبان سنة عشرين وخمسمائة، وتوفي بدمشق
__________
[503]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الصلة 1: 186 والوافي 15: 17.
[504]- ترجمة تاج الدين الكندي في إنباه الرواة 2: 10 وابن خلكان 2: 339 وذيل الروضتين: 95 والخريدة (قسم الشام) 1: 100 ومرآة الزمان: 575 وتكملة المنذري 2: 383 والوافي 15: 50 وسير الذهبي 22: 34 ومرآة الجنان 4: 25 والبداية والنهاية 3: 71 والجواهر المضية 1: 246 والنجوم الزاهرة 6: 216 وطبقات ابن الجزري 1: 297 وبغية الوعاة 1: 570 وإشارة التعيين (وراجع حاشية تكملة المنذري وحاشية سير الذهبي ففي التخريج استقصاء) ؛ وفي هذه الترجمة زيادات كثيرة من المختصر.
[1] م: القبرني (والنسبة إلى مدينة قبرة) .(3/1330)
سنة سبع وتسعين وخمسمائة [1] . وكان أبوه من كبار التجار وذوي الجدة واليسار، فاتفق له الشيخ الإمام أبو محمد عبد الله بن علي بن أحمد المقرىء المعروف بابن بنت الشيخ سبط أبي منصور الخياط فألقى الله محبّته في قلبه فلقّنه القرآن وهو طفل صغير، وأقرأه القراءات العشر، وله من العمر عشر سنين وأربعة أشهر، وشاهده خطّ الشيخ له بذلك. فلما رأى الشيخ ذكاءه وحسن تقبّله للعلم ازداد له حبا، وربّاه تربية الولد البار، ونصحه وحمله إلى مشايخ وقته وعلماء أوانه، فقرأ عليهم القرآن، وصنّف له كتبا في قراءاتهم، وأسمعه الحديث من نفسه ومن أهله في وقته، ووهب له جملة من كتبه، واستجاز له من المشايخ ببغداد واستدعى له من مشايخ الأقطار، وكان ذلك سرا اطّلع عليه الشيخ أبو محمد ظهر به نبأه بعد حين. وكان كلما قرأ عليه القراءات برواية دعا له تارة بطول العمر وتارة بحسن القبول، وتارة بالإفادة، وتارة بالتوفيق والسعادة، إلى غير ذلك من الدعوات، فما منها شيء إلا وقد استجيب له فيه. وبلغ عدد من قرأ عليه من الشيوخ الذين لقيهم وسمع منهم، وأجازوا له من الأقطار سبعمائة ونيّفا وستين شيخا من رجل وامرأة.
ومن عجائب ما وقع له من الأسانيد ما أخبرنا به- أيده الله- قال: أخبرنا القاضي أبو بكر ابن محمد بن عبد الباقي بن محمد بن عبد الله الأنصاري العدل قاضي البيمارستان قراءة عليه وأنا أسمع في صفر سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة قال: أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد الفقيه الحنبلي الرملي قراءة عليه، وأنا أسمع، قال: أنبأنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم بن أيوب بن ناس البزار قراءة عليه في المحرم سنة ثمان وستين وثلاثمائة، قال: أنبأنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله البصري اللخمي قال: أنبأنا محمد بن عبد الله الأنصاري عن ابن عون عن الشعبي قال:
سمعت النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله، صلّى الله عليه وسلم، يقول: «إن الحلال بيّن، وإن الحرام بيّن، وإن بين ذلك أمورا مشتبهات، وربما قال مشتبهة، وسأضرب لكم في ذلك مثلا: إن لله حمى، وإن حمى الله ما حرّم الله، وإن من يرع حول الحمى
__________
[1] أجمعت المصادر على أنه توفي سنة 613.(3/1331)
يوشك أن يخالط الحمى، وربما قال: يخالط الريبة، يوشك أن يحشر. وهذا حديث مجمع على صحته، وهو أحد الأحاديث التي اتفق أئمة الحديث على أن مدار السنة عليها، وقد أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، وأبو داود والنسائي في سننه، وغيرهم من الأئمة في كتبهم من عدة طرق. وأخرجه مسلم بن الحجاج في العدد إلى الشعبي. وقد مات مسلم سنة إحدى وستين ومائتين، فيكون من سمعه من تاج الدين أبو اليمن كمن سمعه من مسلم.
وله عوال كثيرة يعجز عن تعدادها. وتفرد برواية كثير من الكتب لا يشركه فيها أحد، وفي كثرة ما صحبته وحضرت مجلسه ما رأيت القارىء قرأ عليه كتابا من مروياته وعلى الخصوص الأدبية واللغوية والنحوية ونحوها إلا وهو يسابق القارىء إلى ما يقرأه بالإشارة إلى المعنى أو إيراد اللفظ. وقلّما سئل عن مسألة إلا وأجاب فيها، ثم استدعى الكتاب في الحال وأخرج المسألة منه توافق ما أجاب به، فقيل له: أيّ حاجة إلى إحضار الكتاب وقولك حجة بالغة؟ فقال كلاما معناه يزيد تثبت السائل وتحقّق المسؤول.
وتفرّد بالسماع والرواية من جماعة مشايخ، وخرج من بغداد وقصد همذان، وتفقّه على سعد الراوي. واتفق أن والده حجّ وتوفي، فلما بلغه خبر والده عاد إلى بغداد، وأقام بها مدة، ثم أصعد إلى الشام، واتصل بعز الدين فروخ شاه وصحبه عشر سنين ما فارقه ساعة واحدة ثم التحق بأخيه من بعده تقي الدين.
وقد قرأ النحو على أبي محمد سبط أبي منصور الخياط وعلى أبي السعادات هبة الله ابن الشجري وابن الخشاب، واللغة على أبي منصور موهوب الجواليقي وسمع الحديث من ابن عبد الباقي وآخرين.
ولما قدم دمشق تقدّم فيها وتصدّر وازدحم عليه الطلاب، وانتقل من مذهب الحنابلة إلى مذهب الحنفية فتوغل فيه وأفتى، واستوزره فروخ شاه، ثم اتصل بأخيه صاحب حماة واختص به. وقرأ عليه الملك المعظم عيسى العربية فأقرأه «كتاب سيبويه» و «الإيضاح» لأبي علي الفارسي و «شرح سيبويه» لابن درستويه وقرأ عليه جماعة القراءة والنحو واللغة، وكتب الخطّ المنسوب، وكانت له خزانة كتب جليلة في(3/1332)
جامع بني أمية. وله تعليقات على ديوان المتنبي وأخرى على خطب ابن نباتة. وكتاب نتف اللحية من ابن دحية ردّ فيه على ابن دحية الكلبي في كتابه الذي سماه «الصارم الهندي في الردّ على الكندي» وكتاب في الفرق بين قول القائل طلقتك إن دخلت الدار وبين إن دخلت الدار طلقتك، ألفه جوابا لسؤال ورد عليه، وله غير ذلك.
وقال لي تاج الدين: كنت في صغري وقت اشتغالي بالعلم أبغض إخوتي إلى أبي لأنه كان يريدني أشتغل بالمتجر، وكنت أنا أشتغل بالعلم، وكان ذلك سعادة منحني الله تعالى بها، فإنني اكتسبت بالعلم مقدار أربعين ألف دينار وهبتها جميعها لمن يلوذ بي حتى إن الدار التي أنا مقيم فيها كتبتها لهم.
وكان لتاج الدين غلامان أحدهما اسمه ياقوت، وسمي فيما بعد يعقوب، والآخر يحيى، وهو ابن غلام له فخوّلهما جميع ما يملك.
وأقول: ما أظن أن أحدا نال من العلم، وبلغ منه ما بلغ تاج الدين، فإني رأيت الملك المعظم ابن الملك العادل، وهو صاحب الشام، والمتملك عليها، وهو يقصد منزله راجلا ليقرأ عليه النحو، ولا يكلّفه مشقة المجيء إلى خدمته. ورأيت على بابه من المماليك الأتراك وغيرهم ما لا يكون إلا على باب ملك، ومن الآدر والبساتين ما لا يحصى.
وكان الكندي يكثر الجلوس في دكان رجل عطّار يتطّبب، فجاءته امرأة تستوصفه شيئا فطلبت منه حاجة فأعطاها، وأخرى وأخرى إلى أن ضجر، فقال لها في كلام دار بينهما: يا امرأة، أخذتي والله مخّي، فقال الكندي مسرعا: لا تلمها، فإنها محتاجة إليه تريد تطعمه لزوجها (جعله حمارا) .
ومدح الشيخ أبا اليمن شجاع بن الدهان البغدادي، فقال [1] :
يا زيد زادك ربّي من مواهبه ... نعماء يقصر عن إدراكها الأمل
لا غيّر الله حالا قد حباك بها ... ما دار بين النحاة الحال والبدل
النحو أنت أحقّ العالمين به ... لأن باسمك فيه يضرب المثل
__________
[1] سير الذهبي: 39.(3/1333)
ومن شعر تاج الدين [1] :
لامني في اختصار كتبي حبيب ... فرّقت بينه الليالي وبيني
كيف لي لو أطلت لكنّ عذري ... فيه أنّ المداد إنسان عيني
وكتب إلى القاضي محيي الدين ابن الشهرزوري من أبيات [2] :
إني علقت بمحيي الدين معتضدا ... فعاد تقبيح دهري وهو إحسان
وكم رأيت لغيري غيره عضدا ... لكن أولئك مرعى وهو سعدان
ووجدت له مقطعات كثيرة من الشعر، إلا أنه كان في باقي الفضائل أطول يدا من الشعر؛ وفيه يقول علم الدين السخاوي [3] :
لم يكن في عصر عمرو [4] مثله ... وكذا الكنديّ في آخر عصر
فهما زيد وعمرو إنما ... بني النحو على زيد وعمرو
- 505-
زيد بن الحسن الأحاظي التميمي
أديب شاعر كان بعد الخمسمائة، ومن شعره قوله في سلطان شاحط من بلاد اليمن:
قالوا لنا السلطان في شاحط ... يأتي الزنا من موضع الغائط
قلت هل السلطان من فوقه؟ ... قالوا بل السلطان من هابط
__________
[505]- ذكره ياقوت في معجم البلدان «شاحط» وأورد البيتين.
[1] الوافي 14: 54.
[2] المصدر السابق.
[3] سير الذهبي: 39 والوافي 14: 52.
[4] عمرو هو سيبويه.(3/1334)
- 506-
زيد بن الربيع بن سليمان الحجري:
يعرف بزيد البارد، من أهل الأندلس.
مات سنة ثلاث وثلاثمائة.
- 507-
زيد بن عبد الله بن رفاعة الهاشمي أبو الخير:
أحد الأدباء العلماء الفضلاء. كان معاصر الصاحب بن عباد، وكان يعتقد رأي الفلاسفة. أقام بالبصرة زمنا طويلا، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم منهم أبو سليمان محمد بن مسعر البستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن علي بن هارون الزنجاني، وأبو أحمد النهرجوري والعوفي وغيرهم فصحبهم وخدمهم، وكانت هذه العصابة قد تآلفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبا، وزعموا أنهم قرّبوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله والمصير إلى جنته وذلك أنهم قالوا: الشريعة قد دنّست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة، لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية والمصلحة الاجتهادية، وزعموا أنه متى انتظمت الفلسفة اليونانية والشريعة العربية فقد حصل الكمال، وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علمها وعملها، وأفردوا لها
__________
[506]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر طبقات الزبيدي: 284 والمقتبس لابن حيان (انطونية) : 48 والتكملة 1: 331 وإنباه الرواة 2: 15 والوافي 15: 50 وبغية الوعاة 1: 573 وقال الزبيدي وابن الأبار: كان له حظ من العربية واللغة وقرض الشعر، وكان حسن الضبط للكتب متقنا لها، وهو الذي جمع بين الأبواب في كتاب الأخفش فاقتدى به الناس، وكانت مفرقة. ووفاته عند الزبيدي وابن الأبار: سنة ثلاثمائة.
[507]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الامتاع والمؤانسة 2: 4 (وعنه ينقل ياقوت) وعن ياقوت ينقل الصفدي مصرحا بذلك في الوافي 15: 48 وتاريخ بغداد 8: 450 وميزان الاعتدال 2: 103 ولسان الميزان 2: 506 وتاريخ حكماء الإسلام للبيهقي 35- 36 ونزهة الأرواح 2: 20. وقد حدث زيد ببلاد الجبال وخراسان عن ابن دريد وابن الأنباري بكتب الأدب، وذكره القاضي التنوخي وقال:
أعرفه، كان يتولى العمل لمحمد بن عمر العلوي على بعض النواحي، ولم نعرفه بشيء من العلم ولا سماع الحديث، وكان يذكر لنا عنه أنه يذهب مذهب الفلاسفة.(3/1335)
فهرستا، وسمّوها «رسائل إخوان الصفا» وكتموا أسماءهم، ونثروها في الوراقين ووهبوها للناس، وادّعوا أنهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء وجه الله، وطلب رضوانه، وحشوا هذه الرسائل بالكلمات الدينية والأمثال الشرعية، والحروف المحتملة، والطرق المموهة، وحيث اعتبرت هذه فوجدت متنوقّة من كل فن نتفا بلا إشباع ولا كفاية، وفيها خرافات وكنايات وتلفيقات وتلزيقات، وقد غرق الصواب فيها لغلبة الخطأ عليها، وحملت إلى الشيخ أبي سليمان محمد بن بهرام المنطقي السجستاني، ونظر فيها أياما وتبحرها طويلا، وقال: تعبوا وما أغنوا، ونصبوا وما أجدوا، وحاموا وما وردوا، وغنّوا وما أطربوا، ظنوا ما لم يكن ولا يكون ولا يستطاع، ظنّوا أنهم يدسّون الفلسفة التي هي علم النجوم والأفلاك والمقادير والمجسطي وآثار الطبيعة والموسيقا الذي هو معرفة النغم والإيقاعات والنقرات والأوزان، والمنطق الذي هو اعتبار الأقوال بالإضافات والكميات والكيفيات في الشريعة. وأن يطفئوا الشريعة بالفلسفة، وهذا مرام دونه حدد، قد تورّك على هذا قبل هؤلاء قوم كانوا أحدّ أنيابا وأحضر أسبابا، وأعظم أقدارا، فلم يتمّ لهم ما أرادوه، ولا بلغوا ما أمّلوه، وحصلوا على لوثات قبيحة، وعواقب مخزية، إلى كلام طويل من هذا الباب.
قال زيد بن رفاعة الهاشمي: سمعت أبا بكر الشبلي ينشد في جامع المدينة والناس حوله:
يقول خليلي كيف صبرك عنهم ... فقلت وهل صبر فيسأل عن كيف
بقلبي هوى أذكى من النار حرّه ... وأحلى من التقوى وأمضى من السيف
ومما رواه عن ابن عباس، رضي الله عنه، في قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً
قال: أي شيء أضعف من الإنسان؟ ينطق بلحم، ويبصر بشحم، ويسمع بعظم. أي شيء أضعف من الإنسان؟ تبطره النعمة، وترضيه اللقمة، وتصرعه النقمة.(3/1336)
- 508-
زيد بن عبد الوهاب بن محمد الأردستاني:
القاضي أبو الطيب، وكان من ملازمي مجلس نظام الملك.
- 509-
زيد بن علي بن عبد الله، أبو القاسم
الفارسي الفسوي: كان علّامة فاضلا نحويا لغويا مشاركا في عدة علوم، أخذ النحو عن أبي الحسين ابن أخت أبي علي الفارسي وروى عنه «الايضاح» لخاله، وقرأ على الشريف أبي البركات عمر بن إبراهيم الكوفي [1] ، وأخذ الحديث عن أبي ذر الهروي [2] وغيره. وأقرأ العربية بحلب ودمشق. وله «شرح الإيضاح في النحو» لأبي علي الفارسي. وشرح الحماسة لأبي تمام، وغير ذلك. مات بطرابلس في ذي الحجة سنة سبع وستين وأربعمائة.
ومما أنشده لأربون [3] الفارسي:
الزم جفاءك لي ولو فيه الضنا ... وارفع حديث البين عما بيننا
فسموم هجرك في هواجره الأذى ... ونسيم وصلك في أصائله المنى
- 510-
زيد بن كثرة:
أعرابي قدم البصرة، وأقام بمربدها، وأخذت عنه اللغة.
__________
[508]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر دمية القصر 1: 463 وتلخيص مجمع الآداب 4: 3/460 والوافي 15: 49. وأورد له الصفدي ثلاث مقطعات.
[509]- ترجمة زيد بن علي الفارسي في مصورة ابن عساكر 6: 657 وتهذيبه 6: 28 (ولم يورده ابن منظور في مختصره) وإنباه الرواة 2: 17 وبغية الطلب 8: 124 وبغية الوعاة 3: 393 وزعم القفطي في انباه الرواة أنه ابن أخت أبي علي الفارسي، والصحيح أنه يروي عن ابن أخت أبي علي. والبيتان من المختصر.
[510]- هذه الترجمة من المختصر.
[1] كان ذلك في عام 455.
[2] في بغية الطلب: عن أبي عبيد نعيم بن مسعود الهروي.
[3] بغية الطلب: لأبزون.(3/1337)
- 511-
زيد بن مرزكّة الموصلي:
[كان] نحويا شاعرا أديبا إلا أنه كان رافضيا دجالا، وكان أصله من قرية من قرى الموصل تدعى «عين سعي» ومن شعره الذي أبان عن سوء مذهبه قوله يستطرد بأبي بكر، رضي الله عنه:
وإذا لزمت زمامها قلقت ... قلق الخلافة في أبي بكر
ومن جيد شعره قوله يرثي الحسين بن علي، صلوات الله عليهما من قصيدة:
فلولا بكاء المزن حزنا لفقده ... لما جاءنا بعد الحسين غمام
ولو لم يشقّ الليل جلبابه أسى ... لما انجاب من بعد الحسين ظلام
__________
[511]- هذه الترجمة من المختصر، وقد قال ياقوت في ترجمة علي بن دبيس النحوي الموصلي: وأخذ عنه زيد مرزكة، وهو مذكور في بابه. وقد وردت ترجمة زيد هذا في الوافي 15: 58 وخريدة القصر (قسم الشام) 2: 301 وبغية الوعاة 1: 574؛ ومرزكة بفتح الميم وسكون الراء وفتح الزاي وتشديد الكاف.(3/1338)
حرف السين
- 512-
ساتكين [بن] أرسلان التركي
أبو منصور المالكي الأديب: له كتاب في النحو لطيف، مات سنة ثمان وثمانين وأربعمائة [بالقدس] .
- 513-
سالم بن أحمد بن سالم شيخنا أبو المرجي
بن أبي الصقر التميمي الحاجب المعروف بالمنتجب، الأديب النحوي العروضي البغدادي: مات ببغداد يوم الأحد خامس ذي القعدة سنة إحدى عشرة وستمائة.
هذا أول شيخ قرأت عليه بدمشق، وكان تاجرا ذا ثروة حسنة مبخّلا. وكان قد قرأ النحو على أبي البقاء العكبري وغيره وكان أديبا فاضلا نحويا متفردا بالعروض، سمع صحيح مسلم من المؤيد الطوسي، وكان محبوبا حسن الأخلاق قرأت عليه العربية والعروض ببغداد، وله تصانيف: كتاب «أرجوزة في النحو» على مثال أرجوزة
__________
[512]- هذه الترجمة من المختصر. وانظر إنباه الرواة 2: 69 ومصورة ابن عساكر 7: 8 وتهذيبه 6: 44 (ولم يورده ابن منظور في مختصره) والوافي 15: 75.
[513]- هذه الترجمة موجودة في م، ولكنها موجزة، ومعظم مادتها من المختصر وانظر إنباه الرواة 2: 67، 68 (ترجم له مرتين) والوافي 15: 78 وبغية الوعاة 1: 574 وروضات الجنات 4: 28. وذكر القفطي تاريخ وفاته كما ورد هنا، وقال: كان من ساكني درب القرنفليين ببغداد وأنه قرأ على الشيخ أبي البقاء النحوي (يعني العكبري) وأبي الخير مصدق بن شبيب وأبي البركات ابن الأنباري وصحب الوجيه النحوي.
لعل ذكر دمشق هنا سهو، لأنه سيذكر في ما يلي أنه قرأ عليه ببغداد.(3/1339)
الحريري. كتاب في صناعة الشعر جيد نافع. كتاب في القوافي. كتاب في العروض، فمن شعره:
يا ماجدا جلّ أن يهدى لمكرمة ... لأنه بالدنايا غير موصوف
إن قلت جد بعد دعواي التي سبقت ... من عفتي وإبائي خفت تعنيفي
هب أنني تبت لا أرجو ندى أحد ... يوما فهل تبت عن إسداء معروف
وأنشدني له يرثي الإمام مجد الدين أبا سعيد عبد الله بن عمر بن أحمد بن منصور الصّفّار:
عليك فتى الصفّار في كلّ ليلة ... صلاة من الرحمن دائمة تترى
أفدت الورى حيا بعلمك والنهى ... وزاروك ميتا فاستفادوا بك الأجرا
وكنت لهم في الأرض ذخرا لفاقة ... فصرت لهم في يوم بعثهم ذخرا
مضيت وأبقيت الشهاب أخا التقى ... ففارقنا خير وأبقى لنا خيرا
أيا زائري قبر الإمام هديتم ... إذا أنتم عاينتم ذلك القبرا
فقولا له من بعد كلّ تحية ... فديناك من قبر حوى لحده بحرا
- 514-
سالم بن عبد الله، ويقال ابن عبد الرحمن
أبو العلاء، مولى هشام بن عبد الملك وكاتبه على ديوان الرسائل: وكان سالم أستاذ عبد الحميد بن يحيى الكاتب، كاتب مروان بن محمد وختنه. حدث زياد الأعجم قال: حضرت جنازة هشام بن عبد الملك فسمعت أبا عبد الأعلى ينشد:
وما سالم عما قليل بسالم ... وإن كثرت أحراسه ومواكبه
__________
[514]- هذه الترجمة من المختصر. انظر الفهرست: 131 وأنساب الأشراف (المخطوط) ومصورة ابن عساكر 7: 39 وتهذيبه 6: 57 وبغية الطلب 8: 188 والجهشياري: 62 والوافي 15: 86 وانظر كتابي: عبد الحميد بن يحيى الكاتب، ففيه دراسة عن سالم ورسائل له.(3/1340)
وإن كان ذا باب شديد وحاجب ... فعمّا قليل يهجر الباب حاجبه
ويصبح بعد الحجب للناس مفردا ... رهينة بيت لم تستّر جوانبه
فنفسك فاكسبها السعادة جاهدا ... فكلّ امرىء رهن بما هو كاسبه
وما كان إلا الدفن حتى تفرّقت ... إلى غيره أفراسه ومراكبه
وأصبح مسرورا به كلّ كاشح ... وأسلمه أصحابه وحبائبه
له كتاب رسائل مدوّنة نحو مائة ورقة.
- 515-
السائب بن فروخ أبو العباس الضرير المكي
الشاعر، مولى بني جذيمة بن عليّ بن الديل: سمع عبد الله بن عمرو بن العاص، وروى عنه عطاء [1] وحبيب بن أبي ثابت وعمرو بن دينار. ووثقه أحمد، وروى له البخاريّ ومسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجة. وكان منحرفا عن آل أبي طالب مائلا إلى بني أمية مادحا لهم، وهو القائل لأبي الطفيل عامر بن واثلة وكان شيعيا:
لعمرك إنني وأبا طفيل ... لمختلفان والله الشهيد
لقد ضلوا بحبّ أبي تراب ... كما ضلّت عن الحقّ اليهود
وهو القائل يرثي بني أمية عند انقضاء دولتهم:
آمت نساء بني أمية منهم [2] ... وبناتهم بمضيعة أيتام
نامت جدودهم وأسقط نجمهم ... والنجم يسقط والجدود تنام
خلت المنابر والأسرّة منهم ... فعليهم حتى الممات سلام
توفي أبو العباس الأعمى بعد ست وثلاثين ومائة.
__________
[515]- ترجمة السائب بن فروخ في الأغاني 16: 228 والوافي 15: 106 ونكت الهميان: 153 والفوات 2: 41 وتهذيب التهذيب 3: 449 والتاريخ الكبير للبخاري 4: 154.
[1] يعني عطاء بن أبي رياح.
[2] م: أمست ... أيما.(3/1341)
- 516-
سحيم بن حفص أبو اليقظان الراوية الأخباريّ
النسابة: كان أميا لا يكتب، وكان أنسب الناس وكان عارا على أبي عبيدة وكان أبو عبيدة عارا على الناس. توفي سنة تسعين ومائة. ذكره ابن النديم وذكر له من المصنفات: كتاب أخبار تميم. كتاب حلف تميم بعضها بعضا. كتاب نسب خندف وأخبارها. كتاب النسب الكبير. كتاب النوادر.
- 517-
سراج بن عبد الملك بن سراج أبو الحسين
بن أبي مروان النحوي اللغوي الأخباري الأديب الشاعر: كان عالم الأندلس في وقته، كان يجتمع إليه مهرة النحاة كابن الابرش وابن الباذش ومن في طبقتهما يتلقون عنه لوقوفه على دقائق النحو ولغات العرب وأشعارها وأخبارها، روى عنه القاضي عياض وابن خير وغيرهما، ومن شعره:
بثّ الصنائع لا تحفل بموقعها ... في آمل شكر المعروف أو كفرا
كالغيث ليس يبالي حيثما انسكبت ... منه الغمائم تربا كان أو حجرا
مات ابن أبي مروان سنة ثمان وخمسمائة.
__________
[516]- الفهرست: 106- 107 والمختصر (وقيل سحيم لقب واسمه عامر بن حفص، وقال أبو اليقظان: سمتني أمي خمسة عشر يوما عبيد الله. قال المدائني: فاذا قلت حدثنا أبو اليقظان أو سحيم بن حفص وعامر بن حفص وعامر بن أبي محمد وعامر بن الأسود وسحيم بن الأسود ... فهو أبو اليقظان) .
[517]- ترجمة أبي الحسين ابن سراج في الصلة: 222 والذخيرة 1/2: 821 والقلائد: 202 والغنية: 201 والمغرب 1: 116 ومعجم شيوخ الصدفي: 305 وأخبار وتراجم أندلسية: 132 والمطرب: 123 وإنباه الرواة 2: 66 والوافي 15: 128 وبغية الوعاء 1: 576 والديباج المذهب: 126 وترتيب المدارك 8: 142 والخريدة 3: 484 والمسالك 11: 414 ومعجم السفر: 411.(3/1342)
- 518-
السريّ بن أحمد بن السريّ أبو الحسن الكندي
المعروف بالسريّ الرفاء الموصلي الشاعر المشهور: أسلمه أبوه صبيا للرفائين بالموصل فكان يرفو ويطرز، وكان مع ذلك ينظم الشعر ويجيد فيه، كتب إليه في ذلك الحال صديق له يسأله عن خبره وحاله في حرفته، فكتب إليه [1] :
يكفيك من جملة أخباري ... يسري من الحبّ وإعساري
في سوقة أفضلهم مرتد ... نقصا ففضلي بينهم عاري
وكانت الابرة فيما مضى ... صائنة وجهي وأشعاري
فأصبح الرزق بها ضيّقا ... كأنه من ثقبها جار
فلما جاد شعره انتقل من حرفة الرفو إلى حرفة الأدب، واشتغل بالوراقة فكان ينسخ ديوان شعر كشاجم وكان مغرى به، وكان يدسّ فيما يكتبه منه أحسن شعر الخالديين ليزيد في حجم ما ينسخه وينفّق سوقه ويشنع بذلك على الخالديين لعداوة كانت بينه وبينهما، فكان يدعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره، فكان فيما يدسّه من شعرهما في ديوان كشاجم يتوخى اثبات مدّعاه.
ولم يزل السريّ في ضنك من العيش إلى أن خرج إلى حلب واتصل بسيف الدولة ومدحه وأقام بحضرته، فاشتهر وبعد صيته ونفق سوق شعره عند أمراء بني حمدان ورؤساء الشام والعراق. ولما مات سيف الدولة انتقل السريّ إلى بغداد ومدح الوزير المهلبي [2] وغيره من الأعيان والصدور، فارتفق وارتزق وحسنت حاله وسار
__________
[518]- ترجمة السريّ الرفاء في الفهرست: 195 (ونقلها ابن العديم في البغية 8: 229) واليتيمة 2: 117 وتاريخ بغداد 9: 194 وبغية الطلب 8: 227 وابن خلكان 2: 104 والوافي 15: 136 ومعاهد التنصيص 3: 280؛ قلت: ويبدو أن هذه الترجمة موجزة لأن ابن العديم ينقل عن ياقوت أخبارا لم ترد هنا.
[1] اليتيمة 2: 117 (قال الثعالبي: وهذه الأبيات ليست في ديوان شعره الذي في أيدي الناس وإنما هي في مجلدة بخط السري استصحبها أبو نصر سهل بن المرزبان من بغداد) وبغية الطلب: 228.
[2] علق مرغليوث هنا بقوله: هذا من أغلاط الثعالبي فإن الوزير المهلبي توفي سنة 352 وسيف الدولة سنة 356.(3/1343)
شعره في الآفاق.
وللسريّ تصانيف: كتاب الدّيرة وكتاب المحب والمحبوب والمشموم والمشروب [1] . وديوان شعر يدخل في مجلدين. وكانت وفاته ببغداد سنة اثنتين وستين وثلاثمائة.
ومن مدائحه لسيف الدولة قوله [2] :
أعزمتك الشهاب أم النهار ... وراحتك السحاب أم البحار
خلقت منية ومنى وتضحي ... تمور بك البسيطة أو تمار
تحلّي الدين أو تحمي حماه ... فأنت عليه سور أو سوار
ومنها:
حضرنا والملوك له قيام ... تغضّ نواظرا فيها انكسار
وزرنا منه ليث الغاب طلقا ... ولم نر قبله ليثا يزار
فعشت مخيرا لك في الأماني ... وكان على العدو لك الخيار
ضو ضيفك للحيا المنهلّ ضيف ... وجارك للربيع الطلق جار
ومن غرر شعره في الغزل قوله [3] :
بلاني الحبّ فيك بما بلاني ... فشاني أن تفيض غروب شاني
أبيت الليل مرتقبا أناجي ... بصدق الوجد كاذبة الأماني
فتشهد لي على الأرق الثريا ... ويعلم ما أجنّ الفرقدان
إذا دنت الخيام به فأهلا ... بذاك الخيم والخيم الدواني
فبين سجوفها أقمار تمّ ... وبين عمادها أغصان بان
ومذهبة الخدود بجلنار ... مفضضة الثغور بأقحوان
سقانا الله من رياك ريّا ... وحيانا بأوجهك الحسان
__________
[1] نشر في أربعة أجزاء تحقيق مصباح غلاونجي، وماجد حسن الذهبي، دمشق 1986.
[2] ديوانه 2: 221.
[3] اليتيمة 2: 159 وديوانه 2: 711.(3/1344)
ستصرف طاعتي عمن نهاني ... دموع فيك تلحى من لحاني
ولم أجهل نصيحته ولكن ... جنون الحبّ أحلى في جناني
فيا ولع العواذل خلّ عني ... ويا كفّ الغرام خذي عناني
وقال في الورد [1] :
لو رحّبت كاس بذي زورة ... لرحبت بالورد إذ زارها
جاء فخلناها خدودا بدت ... مضرمة من خجل نارها
وعطّر الدنيا فطابت به ... لا عدمت دنياه عطّارها
وقال [2] :
وروضة بات طلّ الغيث ينسجها ... حتى إذا نسجت أضحى يدبجها
إذا تنفس فيه ريح نرجسها ... ناغى جنيّ خزاماها بنفسجها
أقول فيها لساقينا وفي يده ... كاس كشعلة نار إذ يؤججها
لا تمزجنها بغير الريق منك وإن ... تبخل بذاك فدمعي سوف يمزجها
أقلّ ما بي من حبّيك أن يدي ... إذا دنت من فؤادي كاد ينضجها
- 519-
سعد الرابية بن شداد:
كوفي، وهو من بني يربوع، وإنما سمي الرابية بموضع كان يعلّم فيه النحو. أخذ عن أبي الأسود الدؤلي، وكان مزاحا مضحكا، اجتمعت بنو راسب والطفاوة إلى زياد بن أبيه في مولود فقال سعد الرابية: أيها الأمير، يلقى هذا المولود في الماء، فإن رسب فهو من راسب، وإن طفا فهو من الطفاوة، فأخذ زياد
__________
[519]- هذه الترجمة من المختصر وانظر أنساب الأشراف 4/1: 178 والوافي 15: 164 وبغية الوعاة 1: 579.
[1] اليتيمة 2: 169 والديوان 2: 241.
[2] هي للخباز البلدي في اليتيمة 2: 211 وانظر ديوان السري 2: 788.(3/1345)
نعله وقام ضاحكا، وقال: ألم أنهك عن هذا الهزل في مجلسي؟
وفي سعد الرابية يقول الفرزدق:
إني لأبغض سعدا أن أجاوره ... ولا أحبّ بني عمرو بن يربوع
قوم إذا غضبوا لم يخشهم أحد ... والجار فيهم ذليل غير ممنوع
وكان عبيد الله بن زياد يستظرفه ويقربه، فأبطأ عبيد الله عن صلته أشهرا، فقال يوما عبيد الله: ما أحوجني إلى وصفاء لهم قدود وحلاوة ورشاقة يقومون على رأسي ويكونون يدي. فقال سعد: حاجتك عندي أيها الأمير، أنا أعرف الناس بموضعهم وأنا أجيئك بهم، فعمد إلى أصلح من قدر عليه من الغلمان الذين في مكتبه فألبسهم ثياب الوصفاء، فلما رآهم عبيد الله أعجب بهم واشتراهم وغالى بهم، ومضى سعد فاختفى في منزل بعض أصحابه، فلما جاء الليل بكى الصبيان، فقال لهم: أي شيء تريدون؟ فقال كلّ واحد منهم: أريد بيتنا. فقال: وأين بيتكم؟ فقالوا: في موضع كذا وكذا، وأنا ابن فلان، وهذا ابن فلان. ففطن عبيد الله أنها حيلة وسخرية، وأنه أخذ المال باطلا، فوضع عليه الرّصد، فلما جيء به، قال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: أبطأت صلتك عني، وقطعتني ما عوّدتني فأعملت في الحيلة عليك. فضحك منه، وترك المال عليه.
- 520-
سعدان بن المبارك أبو عثمان الضرير النحوي الراوية،
مولى عاتكة مولاة المهدي امرأة المعلى بن طريف الذي ينسب إليه نهر المعلّى ببغداد: كان من رواة العلم والأدب كوفي المذهب، روى عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، وروى عنه محمد بن الحسن بن دينار الهاشمي.
وله من المصنفات: كتاب خلق الانسان. وكتاب الوحوش. وكتاب الأرض
__________
[520]- ترجمته في الفهرست: 77 وتاريخ بغداد 9: 203 ونزهة الألباء: 94 والوافي 15: 190 ونكت الهميان: 157 وبغية الوعاة 1: 581.(3/1346)
والمياه والبحار والجبال. وكتاب النقائض. وكتاب الأمثال. مات سنة عشرين ومائتين.
- 521-
سعد بن أحمد بن مكي النيلي المؤدب الشيعي:
كان نحويا فاضلا عالما بالأدب، مغاليا في التشيع، له شعر جيّد أكثره في مديح أهل البيت، وله غزل رقيق.
مات سنة خمس وستين وخمسمائة وقد ناهز المائة؛ ومن شعره:
قمر أقام قيامتي بقوامه ... لم لا يجود لمهجتي بذمامه
ملّكته كبدي فأتلف مهجتي ... بجمال بهجته وحسن كلامه
وبمبسم عذب كأنّ رضابه ... شهد مذاب في عبير مدامه
وبناظر غنج وطرف أحور ... يصمي القلوب إذا رمى بسهامه
وكأن خطّ عذاره في حسنه ... شمس تجلّت وهي تحت لثامه
فالصبح يسفر من ضياء جبينه ... والليل يقبل من أثيث ظلامه
والظبي ليس لحاظه كلحاظه ... والغصن ليس قوامه كقوامه
قمر كأن الحسن يعشق بعضه ... بعضا فساعده على قسامه
فالحسن من تلقائه وورائه ... ويمينه وشماله وأمامه
ويكاد من ترف لدقّة خصره ... ينقدّ بالأرداف عند قيامه
- 522-
سعد بن الحسن بن سليمان أبو محمد التوراني الحراني
النحوي الأديب
__________
[521]- ترجمة النيلي في الخريدة 4/1: 203 والوافي 15: 198 ونكت الهميان: 157 والفوات 2: 50 والشذرات 4: 309 (وجاء اسمه في المصادر ما عدا معجم الأدباء «سعيد» ويؤيده قوله: دع يا سعيد هواك واستمسك بمن ... (الخريدة: 206) .
[522]- ترجمته في الوافي 15: 178 وبغية الوعاة 1: 577، والتوراني نسبة إلى «تور» وهي قرية على باب حران (قاله السيوطي في بغية الوعاة؛ ولم يذكر ياقوت «تور» في معجم البلدان) .(3/1347)
الشاعر: كان تاجرا يسافر إلى الشام والعراق ومصر وخراسان، وسكن ببغداد مدة وأخذ فيها عن أبي منصور موهوب الجواليقي وغيره، وكان عارفا بالنحو جيد النظم والنثر. مات سنة ثمانين وخمسمائة، ومن شعره:
ولست كمن أخنى عليه زمانه ... فظلّ على أحداثه يتعتّب
تلذّ له الشكوى وإن لم يجد بها ... شفاء كما يلتذّ بالحكّ أجرب
وقال:
جاءت تسائل عن ليلي فقلت لها ... وصورة الهمّ تمحو صورة [1] الجذل
ليلي بكفّيك [2] فاغني عن سؤالك لي ... إن بنت طال وإن واصلت لم يطل
- 523-
سعد بن الحسن بن شداد، أبو عثمان المعروف بالناجم:
كان أديبا فاضلا شاعرا مجيدا، وكان بينه وبين ابن الرومي صحبة ومودة ومخاطبات، توفي سنة أربع عشرة وثلاثمائة. ومن شعره:
شدو ألذّ من ابتدا ... ء العين في إغفائها
أحلى وأشهى من منى ... نفس ونيل رجائها
وقال:
علمي بأنك جاهل ... هو جنّة لك من غيابي
والصمت عنك وصرم حب ... لي منك أبلغ من عتابي
__________
[523]- اسمه سعيد عند الصفدي في الوافي 15: 208 والكتبي في الفوات 2: 51 وقد خلط البكري في السمط: 525 بين هذا الناجم صديق ابن الرومي وبين الناجم المصري واسمه محمد بن سعيد (انظر المحمدون: 353) .
[1] الوافي: وسورة الهم ... سيرة.
[2] م: بكفك.(3/1348)
وجواب مثلك أن يقا ... بل بالسكوت عن الجواب
ما زلت أحلم عن كلا ... ب الناس فعل أخي اجتناب
وأبيحهم صفح الذنو ... ب فكيف عن كلب الكلاب
وقال:
لئن كان عن عينيّ أحمد غائبا ... فما هو عن عين الضمير بغائب
له صورة في القلب لم يقصها النوى ... ولم تتخطفها أكفّ النوائب
إذا ساءني منه نزوح دياره ... وضاقت عليّ في نواه مذاهبي
عطفت على شخص له غير نازح ... محلّته بين الحشا والترائب
وقال:
قالوا اشتكت نرجستا [1] وجهه ... قلت لهم أحسن ما كانا
حمرة ورد الخدّ أعدتهما ... والصبغ قد ينفذ أحيانا
- 524-
سعد بن علي بن القاسم بن علي بن القاسم،
أبو المعالي الأنصاري الحظيري ثم البغدادي المعروف بالوراق دلال الكتب: من أهل الحظيرة وكان قد قدم بغداد واستوطنها إلى حين وفاته. كان أديبا فاضلا شاعرا رقيق الشعر وله اليد [2]
__________
[524]- ترجمة الحظيري الوراق في المنتظم 10: 241 والخريدة (قسم العراق) 4/1: 28 وبغية الطلب 8: 264 وابن خلكان 2: 109 والوافي 15: 169، والحظيري نسبة إلى الحظيرة من نواحي دجيل من سواد بغداد. صحب العبادي الواعظ وكتب عنه شيئا من محاسن كلامه في الوعظ في كتاب سماه «النور البادي من كلام العبادي» وصحب الشيخ محمد الفارقي الزاهد وجمع ما استحسنه من كلامه في «الكلم الفارقية في الكلم الالهية» ، ومن كتبه التي لم يذكرها ياقوت «كتاب الإعجاز في معرفة الألغاز» ألفه باسم مجاهد الدين قايماز، وكتاب «حاطب ليل» ضمنه فوائد ونوادر.
[1] م: وجنتا، والتصويب عن الفوات.
[2] من هنا حتى آخر الفقرة من المختصر.(3/1349)
الباسطة في النظم والنثر. صحب أبا القاسم علي بن أفلح الشاعر، وجالس الشريف أبا السعادات ابن الشجري، وأبا منصور ابن الجواليقي وأبا محمد ابن الخشاب وتفقّه على مذهب أبي حنيفة، وأحب الخلوة والانقطاع فخرج سائحا، وطاف بلاد الشام، ثم عاد إلى بغداد، وكان وجيها عند أهلها. وكان دلالا في الكتب والدفاتر، وبلغني أنه اتهم في دينه وسعي به أنه يرى رأي الأوائل، ونمي ذلك عنه وخشي على مهجته، ففارق وطنه وخرج بزيّ السيّاح، وتغرّب في البلاد مدة حتى سكنت نفسه، ومات من يخافه ثم رجع إلى بغداد، وبنى له بظاهر البلد صومعة أقام بها مدة، ثم عاد إلى ما كان عليه من بيع الدفاتر والكتب والتصنيف والاشتغال بالعلوم والتأليف إلى أن أدركته منيته فمات على هيئته. وله مصنفات منها: زينة الدهر وعصرة أهل العصر في ذكر لطائف شعراء العصر ذيّل به «دمية القصر» للباخرزي الذى جعله ذيلا على «يتيمة الدهر» للثعالبي. وله كتاب لمح الملح وكتاب الايجاز في معرفة الالغاز وديوان شعر.
توفي ببغداد يوم الاثنين خامس عشري صفر سنة ثمان وستين وخمسمائة.
قرأت بخط [1] الشيخ أبي محمد ابن الخشاب، أنشدني صديقنا الشيخ الزاهد أبو المعالي الحظيري الوراق لنفسه هجوا:
يقول لي الأنقا علام هجوتني ... وأبديت لي بعد الصفاء المساويا
ولو أنني أخفيت عنه عيوبه ... ولم أبد ما فيه لما كنت صافيا
وله ديوان شعر صغير الحجم إلا أن أكثر شعره مصنوع يقرأ على جهات عدة، وهو من عجيب البديع، فمن ذلك، وهو يستخرج [2] به الضمير من حروف المعجم، وذاك أن تعلم أن كل بيت منها له عدد، فالأول واحد، والثاني اثنان، والثالث أربعة، والرابع ثمانية، والخامس ستة عشر. [وصورة العمل بذلك أن تقول] لإنسان اضمر حرفا فإذا قرأت عليه بيتا، فسله هذا الحرف الذي أضمره في ذلك البيت أم لا؟ فإذا أعلمك فاحفظ ما لذلك البيت من العدد، ثم أنشده الآخر فإن
__________
[1] قرأت بخط ... وهذي الدموع القانيات شرارها: مزيد من المختصر.
[2] انظر الوافي 15: 173.(3/1350)
اعترف له بكونه فيه فأضف العدد الثاني إلى الأول، وإن لم يكن في البيت فألغه، كذلك إلى آخرها فإذا اجتمع لك شيء من العدد فعدّ من أول الحرف إلى أن تصل إلى ذلك العدد الذي حصّلته [1] ، فإن ذلك الحرف هو المضمر، وإن جاء في الجميع فهو الألف. والأبيات التي يستخرج بها ضمير الحروف هي هذه:
قل لهذا الغزال إن ظلّ يجني ... أنا أضنى إن خنتني لشقائي (1)
خاب صبّ أغراه عتبك بالحبّ ... ولو ضرّه بزور البكاء (2)
صل خليلي حثّ السّلاف إلي كلّ ... شفيق قضى لحيف الجفاء (4)
وأدم ذمّ من يصدّ ومن يضمر ... زهدا من سائر الأشياء (8)
وأمط عنك ظلم كلّ غنّي ... عنك فيه قلى لأهل العلاء (16)
ومن شعره أيضا:
شكوت إلى من شفّ قلبي بعده ... توقّد نار ليس يطفى سعيرها
فقال بعادي عنك أكبر راحة ... ولولا بعاد الشمس أحرق نورها
وله في غلام محموم:
ولما حمي جمر الحبيب تزايدت ... شجوني ولم أملك سوابق أدمعي
وما ذاك إلا حين حلّ بخاطري ... تلهّب منه الجسم من نار أضلعي
وله:
أحدقت ظلمة العذار بخدّي ... هـ فظنّوا جماله ذا ممات
قلت ماء الحياة في فمه العذ ... ب فطاب الدخول في الظلمات
وله:
وقد أنكروا سلواي نيران حبّهم ... وفي كبدي إضرامها واستعارها
تنفّست من حرّ الجوى وتبادرت ... دموع حكى وهي العقيق احمرارها
فقلت لهم هذا التنفس حرّها ... وهذي الدموع القانيات شرارها
ومن شعره أيضا:
__________
[1] الوافي: ثم اجمع عدد الأبيات التي أعلمك بها وعدّ من ألف ب ت ث ج ح خ إلى آخره، فعلى أيها انقطع العدد فهو الحرف المضمر.(3/1351)
اشرب على طرب من كفّ ذي طرب ... قد قام في طرب يسعى إلى طرب
من خندريس كعين الديك صافية ... مما تخيّرها كسرى من العنب
فالراح من ذهب والكاس من ذهب ... يا من رأى ذهبا يسقى على ذهب
وقال:
ومعذّر في خدّه ... ورد وفي فمه مدام
ما لان لي حتى تغ ... شّى صبح طلعته ظلام
كالمهر يجمح تحت را ... كبه ويعطفه اللجام
وقال:
وددت من الشوق المبرّح أنني ... أعار جناحي طائر فأطير
فما لنعيم لست فيه لذاذة ... ولا لسرور لست فيه سرور
وقال:
قل لمن عاب شامة لحبيبي ... دون فيه دع الملامة فيه
إنما الشامة التي قلت عنها ... فصّ فيروزج بخاتم فيه
- 525-
سعد بن محمد بن سعد بن الصيفي التميمي،
شهاب الدين أبو الفوارس المعروف بحيص بيص، الفقيه الأديب الشاعر: كان من أعلم الناس بأخبار العرب ولغاتهم وأشعارهم، أخذ عنه الحافظ أبو سعد السمعاني وقرأ عليه ديوان شعره وديوان
__________
[525]- ترجمة الحيص بيص في الخريدة (قسم العراق) 1: 202 وبغية الطلب 8: 271 (هو ينقل عن السمعاني وابن النجار) والمنتظم 10: 288 وابن خلكان 2: 106 وسير الذهبي 21: 61 وعبر الذهبي 4: 219 ومرآة الزمان 8: 352 وطبقات السبكي 7: 91 والبداية والنهاية 12: 301 ولسان الميزان 3: 19 والوافي 15: 165 وروضات الجنات 4: 32 وقد نشر ديوانه في ثلاثة أجزاء بتحقيق مكي السيد جاسم وشاكر هادي شكر (بغداد 1974- 1975) . وقد ولد الحيص بيص بكرخ بغداد، واشتغل بالفقه والأدب، وكان يتعاظم في نفسه ويترفع على أبناء جنسه.
[1] م: سعيد.
[2] بغية الطلب: 279.(3/1352)
رسائله، وذكره في «ذيل مدينة السلام» وأثنى عليه، وأخذ الناس عنه علما وأدبا كثيرا، وكان لا يخاطب أحدا إلا بكلام معرب.
وإنما قيل له حيص بيص لأنه رأى الناس يوما في أمر شديد فقال: ما للناس في حيص بيص؟ فبقي عليه هذا اللقب.
مات ليلة الأربعاء سادس شعبان سنة أربع وسبعين وخمسمائة ببغداد.
ومن تقعّر الحيص بيص في كتابه ما حدّث به بعض أصحابه أنه نقه من مرض فوصف له صاحبه هبة الله البغدادي الطبيب [1] أكل الدراج، فمضى غلامه واشترى دراجا واجتاز على باب أمير وغلمانه يلعبون، فخطف أحدهم الدراج، فأتى الغلام الحيص بيص وأخبره الخبر، فقال له: ائتني بدواة وقرطاس، فأتاه بهما فكتب إلى ذلك الأمير: لو كان مبتزّ دراجة فتخاء كاسر، وقف بها السّغب بين التدويم والتمطر، فهي تعقي وتسفّ، وكان بحيث تنقب أخفاف الإبل لوجب الإغذاذ إلى نصرته، فكيف وهو ببحبوحة كرمك، والسلام. ثم قال لغلامه: امض بها وأحسن السفارة بايصالها للأمير، فمضى بها ودفعها للحاجب، فدعا الأمير بكاتبه وناوله الرقعة فقرأها ثم فكر ليعبّر له عن المعنى، فقال له الأمير: ما هو؟ فقال: مضمون الكلام أن غلاما من غلمان الأمير أخذ دراجا من غلامه، فقال: اشتر له قفصا مملوءا دراجا واحمله إليه، ففعل.
وكتب [2] إلى أمين الدولة ابن التلميذ يطلب منه شياف أبار: أزكنك [3] أيها الطبّ اللبّ الآسي النطاسي النفيس النقريس، أرجنت عندك أمّ خنّور [4] ، وسكعت عنك أمّ هوبر [5] ، أني مستأخذ أشعر في حنادري رطسا ليس كلسب شبوة [6] ، ولا
__________
[1] هو أبو القاسم هبة الله بن الفضل البغدادي الطبيب، وكان بينه وبين الحيص بيص شنآن وتهاتر، وكانا قد يصطلحان وقتا ثم يعودان إلى ما كانا فيه. والقصة والرسالة في عيون الانباء 1: 283- 284.
[2] عيون الانباء 1: 284.
[3] أزكنك: أعلمك وأعرّفك.
[4] أرجنت: حبست، وأم خنور: الداهية.
[5] سكعت: ضلت وتحيرت، وأم هوبر: الهوبر: الفهد أو القرد؛ ولعل أم هوبر تعني الداهية.
[6] الحنادر: جمع حندورة وهي سواد العين؛ الرطس: الضرب؛ واللسب: اللدغ؛ وشبوة: العقرب.(3/1353)
كنخز المنصحة، ولا كنكز الحضب [1] ، بل كسفع الزخيخ [2] ، فأنا من التباشير إلى الغباشير لا أعرف ابن سمير من ابن جمير، ولا أحسّ صفوان من همام [3] بل آونة أرجحنّ شاصيا، وفينة أحبنطي مقلوليا، وتارة أعرنزم، وطورا أسلنقي [4] ، كل ذلك مع أحّ وأخ، وتهمّ قرونتي أن أرفع عقيرتي بيعاط عاط إلى هياط ومياط، وها لي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشبار، ولا أحيص ولا أكيص، ولا أغرندي ولا أسرندي [5] فبادرني بشياف الأبار النافع لعلتي، الناقع لغلتي. فلما قرأ أمين الدولة رقعته نهض لوقته وأخذ حفنة شياف أبار وقال لبعض أصحابه: أوصلها إليه عاجلا ولا تتكلف قراءة ورقة ثانية.
ومن شعره يمدح المقتفي لأمر الله [6] :
ماذا أقول إذا الرواة ترنموا ... بفصيح شعري في الإمام العادل
واستحسن الفصحاء شأن قصيدة ... لأجلّ ممدوح وأفصح قائل
وترنّحت أعطافهم فكأنما ... في كلّ قافية سلافة بابل
ثم انثنوا غبّ القريض وضمنه ... يتساءلون عن الندى والنائل
هب يا أمير المؤمنين بأنني ... قسّ الفصاحة ما جواب السائل
ودخل ابن القطان يوما على الوزير الزينبي وعنده الحيص بيص فقال: قد عملت بيتين هما نسيج وحده وأنشده:
__________
[1] المنصحة: الإبرة؛ والحضب: ضرب من الحيات.
[2] الزخيخ: النار؛ وسفعها: لفحها.
[3] التباشير: طرائق ضوء الصبح في الليل؛ الغباشير: لعلها حلول الظلام. وابنا سمير: الليل والنهار، وابن سمير: الليلة التي لا قمر فيها، وابن جمير الليل المظلم وقيل ابن جمير الهلال؛ والصفوان:
اليوم الصافي الشديد البرد، وعلى هذا يكون «الهمام» اليوم الشديد الحرّ الذي يذيب الشحم.
[4] من أمثال العرب؛ إذا أرجحن شاصيا فاكفف يدا ومعناه: إذا ألقى الرجل نفسه وغلبته فرفع رجليه فاكفف يدك عنه؛ وشصا برجله رفعها. والمحبنطي: المتغضب؛ والمحبنطىء: المنتفح، واقلولى:
انكمش وتجافى واستوفز. واعرنزم: اجتمع وتقبّض: واسلنقى: نام على ظهره.
[5] أحيص: أحيد فأسلم؛ ويكيص عن الأمر: يكع؛ ومن معاني لا يكيص: لا يأكل؛ يغرندي: يعلو ويغلب؛ وكذلك يسرندي. ومن معاني يسرندي: يمضي قدما.
[6] عيون الانباء: 284 وديوانه 3: 413 (عن معجم الأدباء) .(3/1354)
زار الخيال بخيلا مثل مرسله ... فما شفاني منه الضمّ والقبل
ما زارني قطّ إلا كي يوافيني ... على الرقاد فينفيه ويرتحل
فقال الوزير للحيص بيص: ما تقول في دعواه هذه؟ فقال: إن أنشدهما ثانية سمع لهما ثالثا فأنشدهما فقال الحيص بيص:
وما درى أن نومي حيلة نصبت ... لطيفة حين أعيا اليقظة الحيل
وحدث نصر الله بن مجلى [1] قال: رأيت في المنام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقلت له: يا أمير المؤمنين تفتحون مكة فتقولون من دخل دار أبي سفيان فهو آمن ثم يتمّ على ولدك الحسين يوم الطفّ ما تم؟ فقال: أما سمعت أبيات ابن الصيفي في هذا؟ فقلت: لا، فقال: اسمعها منه. فلما استيقظت بادرت إلى دار الحيص البيص، فخرج إليّ فذكرت له الرؤيا فأجهش بالبكاء وحلف بالله أنه ما سمعه منه أحد وأنه نظمها في ليلته هذه، ثم أنشدني [2] :
ملكنا فكان العفو منا سجية ... فلما ملكتم سال بالدم أبطح
وحلّلتم قتل الأسارى وطالما ... غدونا عن الأسرى نعفّ ونصفح
فحسبكم هذا التفاوت بيننا ... وكلّ إناء بالذي فيه ينضح
ومن شعره أيضا [3] :
العين تبدي الذي في قلب صاحبها ... من الشناءة أو حبّ إذا كانا
إنّ البغيض له عين تكشّفه ... لا تستطيع لما في القلب كتمانا
فالعين تنطق والأفواه صامتة ... حتى ترى من ضمير القلب تبيانا
__________
[1] بغية الطلب: 274.
[2] انظر ديوانه 3: 404.
[3] ديوانه 3: 415 (عن معجم الأدباء) .(3/1355)
- 526-
سعد بن محمد بن علي بن الحسين بن معبد بن مطر
بن مالك بن الحارث بن سنان بن خزاعة بن حييّ الأزدي الحوال، يعرف بالوحيد، أبو طالب من أهل البصرة:
كان شاعرا حسن الشعر، وعلمه أكثر من شعره، وأدبه أظهر من نباهته، وكان جيد التصنيف مليح التأليف؛ لقي أبا رياش وأبا الحسين ابن لنكك، وأخذ عنهما وعن طبقاتهما.
مات سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
وانتقل إلى جبّل وأقام بها من أجل الروزيين [1] لأنهم أكبروا أمره، وأجروا عليه.
وكانت بضاعته في الأدب قوية، ومعرفته بالشعر جيدة وقد ردّ على المتنبي في عدة مواضع، وكان مع هذا ضيّق الرزق محارفا يمدح بالشيء اليسير ولا يبالي. وسافر إلى مصر، ومدح بني حمدان، وكان له خط مليح صحيح النقل، فاتفق أنه مدح أحد التنّاء يعرف بأبي الحسن ابن هرثمة متقدم بالنيل بقصيدة فاستزاره، ودفع إليه عشرين درهما قيمتها نصف دينار وسأله أن يزيده فلم يفعل، فهجاه بأبيات منها:
وقيل بحر فجئته فإذا ... أعجوبة من عجائب البحر
وله من أبيات:
أما ترى أن الهموم مولعه ... بكلّ روح ليست الراح معه
فادلف إلى اللهو بكأس مترعه ... ومزهر أصواته مرجّعه
وله:
تعدّد لوّامي عليّ ذنوبها ... ويأبى شفيع الحسن أن يحسب الذنب
وقالوا إذا شطت نوى دارها سلا ... وما شطّ من أمسى ومنزله القلب
__________
[526]- معظم هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر بغية الطلب 8: 278 والوافي 15: 176 وبغية الوعاة 1: 580؛ وقد جاء في م بعد ذكر نسبه: كان عالما بالنحو واللغة والعروض بارعا في الأدب، أخذ عنه أبو غالب ابن بشران النحوي وغيره، وذكر تاريخ وفاته ومقطعتين له، أوردتهما قبل ذكر كتبه؛ وما ورد في المختصر يتفق مع ما أورده الصفدي.
[1] كذا، ولم أدر ما صوابه.(3/1356)
وله في صفة الخطاطيف:
وسود في مذابحها احمرار ... فتحسبها مذبّحة تطير
كأن ظهورها ليل بهيم ... وتحت بطونها صبح منير
كأن شظيتي عنقود كرم ... أعارهما لساقيها معير
يخاف الليل طائرها فيلفى ... إذا ولّى بسهميه يشير
قال المؤلف: هذه أبيات غاية في جودة اللفظ وصحة المعنى، لا سيما البيت الأخير فانه لم يسبق إلى معناه.
وله يمدح بختيار:
ألا فاسألوا الأيام عن مأثراته ... فما جاءت الأيام إلا لتشهدا
كثير عديد الحاسدين وإنما ... على قدر جدّ المرء يلفى محسّدا
وله يهجو حمدان بن ناصر الدولة:
فقر بوجهك ليس يبرح شاكيا ... فتكون مبتسما كأنك عابس
وإذا بسطت يدا كأنك قابض ... وإذا تقوم حسبت أنك جالس
مستوحش من كلّ خير يرتجى ... وبكل مخزية وعار آنس
ومن شعره:
ليس الأديب أخا الروا ... ية للنوادر والغريب
ولشعر شيخ المحدث ... ين أبي نواس أو حبيب
بل ذو التفضل والمرو ... ءة والعفاف هو الأديب
وقال:
لو تجلّى لي الزمان للاقى ... مسمعيه منّي عتاب طويل
إنما نكثر الملامة للده ... ر لأن الكرام فيه قليل
وله من الكتب: كتاب العدناني. كتاب القحطاني. كتاب معاني شعر المتنبي. ديوان شعره نحو مائة ورقة. كتاب الردّ على ابن جني في تفسيره لشعر المتنبي.(3/1357)
- 527-
سعيد بن إبراهيم المعروف بابن التستري أبو الحسين:
كان نصرانيا من صنائع بني الفرات هو وأبوه، يلزم السجع في كلامه. وكان يكتب لعلي بن محمد بن الفرات، وهو القائل:
وعد البدر بالزيارة ليلا ... فإذا ما وفى قضيت نذوري
قلت يا سيدي ولم تؤثر ... الليل على بهجة النهار المنير
قال لي لا أحبّ تغيير رسمي ... هكذا الرسم في طلوع البدور
وله في ضده:
قلت زوري فأرسلت ... أنا آتيك سحره
قلت فالليل كان أخ ... فى وأدنى مسرّه
فأجابت بحجة ... زادت القلب حسره
أنا شمس وإنما ... تطلع الشمس بكره
وله وقد نكب بنكبة بني الفرات:
ما لك قد هيّمك الهمّ ... وضلّ عنك الحزم والفهم
لو رمت أن تبقي الأذى ما بقي ... لا فرح دام ولا غمّ
وله من الكتب: كتاب المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث، على حروف المعجم. كتاب الرسائل في الفتوح على هذا الترتيب. كتاب رسائله المجموعة من كل فن.
__________
[527]- هذه الترجمة من المختصر. وانظر الوافي 15: 195 (وهو ينقل عن ياقوت) وتاريخ الوزراء للصابي: 240.(3/1358)
- 528-
سعيد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم بن
أحمد الميداني، وأبوه أبو الفضل هو صاحب كتاب مجمع الأمثال: مات سعيد سنة تسع وثلاثين وخمسمائة. له من التصانيف كتاب الأسماء في الأسما. كتاب غرائب اللغة. كتاب نحو الفقهاء، وله كتاب اشتق له اسما من كتاب أبيه المسمى بالسامي في الأسامي.
- 529- سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير بن قيس بن زيد بن النعمان بن مالك بن ثعلبة بن كعب بن الخزرج، أبو زيد الأنصاري الخزرجي البصري النحوي اللغوي الإمام الأديب، وإنما غلبت عليه اللغة والغريب والنوادر فانفرد بذلك: أخذ عن أبي عمرو بن العلاء، وأخذ عنه أبو عبيد القاسم بن سلام وعمرو بن عبيد وأبو العيناء وأبو حاتم السجستاني وعمر بن شبة ورؤبة بن العجاج وغيرهم، وروى الحديث عن ابن عون وجماعة. وكان ثقة ثبتا قرأ عليه خلف البزار، وكان يرمى بالقدر ولكن دفع عنه ذلك أبو حاتم وقال: هو صدوق. وروى الحسين بن الحسن الرازي عن ابن معين أنه صدوق، ووثقه جزرة وغيره، وليّنه ابن حبّان لأنه وهم في سند حديث «اسفروا بالفجر» وروى له أبو داود في سننه والترمذي في جامعه.
وكان سفيان الثوري يقول، قال لي ابن مناذر: أصف لك أصحابك، أما الأصمعي فأحفظ الناس، وأما أبو عبيدة فأجمعهم، وأما أبو زيد الأنصاري فأوثقهم.
__________
[528]- هذه الترجمة من المختصر وانظر الأنساب (الميداني) وإنباه الرواة 2: 51 وابن خلكان 1: 130 والوافي 15: 199 (وهو ينقل عن ياقوت) وبغية الوعاة 1: 582.
[529]- ترجمة أبي زيد في الفهرست: 60 وأخبار النحويين البصريين: 52 ونور القبس: 104 وتهذيب اللغة للأزهري 1: 5 وطبقات الزبيدي: 165 والمعارف: 545 وتاريخ بغداد 9: 77 ونزهة الألباء: 173 وتاريخ أبي المحاسن: 224 وانباه الرواة 2: 30 وابن خلكان 2: 378 وعبر الذهبي 1: 367 وميزان الاعتدال 2: 126 وسير الذهبي 9: 494 والكاشف 1: 355 والوافي 15: 200 ومرآة الجنان 2: 58 والبداية والنهاية 10: 269 وطبقات ابن الجزري 1: 305 وتهذيب التهذيب 4: 3 والنجوم الزاهرة 2: 210 وبغية الوعاة 1: 582 والشذرات 2: 34 والبلغة: 84 وطبقات الداودي 1: 179 وروضات الجنات 4: 48.(3/1359)
وقال صالح بن محمد: أبو زيد النحوي ثقة.
ويروى عن أبي عبيدة والأصمعي أنهما سئلا عن أبي زيد الأنصاري فقالا: ما شئت من عفاف وتقوى وإسلام.
وكان سيبويه إذا قال: سمعت الثقة، يريد به أبا زيد الأنصاري.
وقال المبرد: كان أبو زيد عالما بالنحو، ولم يكن مثل الخليل وسيبويه، وكان يونس من باب أبي زيد في العلم واللغات، وكان أعلم من أبي زيد بالنحو، وأبو زيد أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو. وقال أبو عثمان المازني: كنا عند أبي زيد فجاء الأصمعي وأكبّ على رأسه يقبّلها، وجلس وقال: هذا عالمنا ومعلمنا منذ عشرين سنة.
وتوفي أبو زيد بالبصرة سنة خمس عشرة ومائتين في خلافة المأمون وقد جاوز التسعين.
وقال الأخفش [1] : أبو زيد أعلم من أبي عمرو. وقال أبو علي القالي: كان أبو زيد أنحى من أبي عبيدة والأصمعي وأغزر في اللغة منهما، وله كتب كثيرة ونوادر في اللغة مشهورة. وأخذ أبو زيد عن العرب وعن أبي عمرو بن العلاء. وأخذ منه أبو عبيد القاسم بن سلام وسيبويه والرياشي وأبو حاتم السجستاني. ولما كبر أبو زيد اختل حفظه ولم يختل عقله. قال أبو حاتم: قلت لأبي زيد نسأ الله في أجلك، فقال: يا بني وما النسأ بعد الثمانين.
وحدث المبرد قال [2] : كان أبو زيد يلقب الناس فلقب الجرمي بالكلب لجدله واحمرار عينيه، ولقب المازني بالتدرج لأن مشيه كان يشبه مشي التدرج. ولقب أبا حاتم رأس البغل لكبر رأسه. ولقب التوزي أبا الوزواز لخفة حركته وذكائه. ولقب الزيادي طارقا لأنه كان يأتيه ليلا.
حدث عن أبي زيد الأنصاري أن شيخا جاءه بصبيّ معه فقال: يا أبا زيد، ما أعلم هذا الغلام بالغريب! فاسأله عما شئت. فقال له أبو زيد: ما الجهوة يا بني؟
__________
[1] هذا النص حتى آخر الشعر من المختصر.
[2] إنباه الرواة 2: 34- 35.(3/1360)
قال: لا أدري. قال: هي دوارة فقحتك.
وحدث أبو زيد قال: قدمت علينا البصرة أعرابية ومعها ابنان لها كأنهما مهران، فما [قضيا] أشهرا حتى دفنتهما، فكانت تأتي قبرهما فتبكيهما. فأتيتها ذات يوم وهي بين القبرين، وقد وضعت يدها عليهما وهي تقول:
ولله جاراي اللذان أراهما ... قريبين مني والمزار بعيد
مقيمين بالبيداء لا يبرحانها ... ولا يسألان الركب أين يريد
كما تركا عينيّ لا ماء فيهما ... وشكا سواد القلب وهو عميد
أطوف فاستبرى القبور فلا أرى ... سوى جدث أحجارهنّ ركود
كواتم أسرار ضوامن أعظم ... بلين وباقي حدّهن حديد
قال أبو زيد: فو الله لبكيت حتى كان المازني يظن أني أبوهما.
ومن شعر أبي زيد [1] :
إذا أنت لم تعف عن صاحب ... أساء وعاقبته إن عثر
بقيت بلا صاحب فاحتمل ... وكن ذا وفاء وإن هو غدر
وله في أبي محمد اليزيدي [2] :
وجه يحيى يدعو إلى البصق فيه ... غير أني أصون عنه بصاقي
وله من الكتب: كتاب إيمان عثمان. كتاب حيلة ومحالة. كتاب التثليث.
كتاب القوس والترس. كتاب مسائية، كتاب المعزى، كتاب الإبل والشاء. كتاب خلق الإنسان. كتاب الأبيات. كتاب المطر. كتاب النبات والشجر. كتاب اللغات.
كتاب قراءة أبي عمرو. كتاب النوادر. كتاب الجمع والتثنية. كتاب اللبن. كتاب بيوتات العرب. كتاب تخفيف الهمزة. كتاب الواحد. كتاب الجود والبخل. كتاب التمر. كتاب جبأة. كتاب المقتضب. كتاب الغرائز. كتاب الوحوش. كتاب
__________
[1] نور القبس: 108.
[2] من هنا حتى آخر الترجمة (ما عدا أسماء الكتب) مزيد من المختصر.(3/1361)
الفرق. كتاب الورد. كتاب فعلت وأفعلت. كتاب نعت الغنم. كتاب المشافهات.
كتاب غريب الأسماء. كتاب الهمز. كتاب الأمثال. كتاب المصادر. كتاب الحلبة.
كتاب نابه ونبيه. كتاب المنطق. كتاب الملتزم. كتاب التصاريف.
قال ابن دريد: أخبرنا أبو حاتم قال، أخبرنا أبو زيد قال: بينما أنا في المسجد الحرام إذ وفد علينا أعرابيّ فقال: يا مسلمون، إن الحمد لله والصلاة على نبيه، أنا امرؤ من أهل هذا الملطاط الشرقي المواصي أسياف تهامة، عكفت علينا سنون محش فاجتبّت الذرى وهشّمت العرى، وحمشت النجم، وأعجت البهم، وهمت الشحم، والتحبت اللحم، وأحجنت العظم، وغادرت التراب مورا، والماء غورا، والناس أوزاعا، والنبط قعاعا، والضّهل خراعا، والمقام جعجاعا، يصبحنا الهاوي، ويطرقنا العاوي، فخرجت لا أتلفع بوصيدة، ولا أتقوت بهبيدة، فالنحصات وقعة، والركبات زلعة، والأطرف قفعة، والجسم مسلهمّ، والنظر مدرهمّ، أعشو فأغطش، وأضحي فأخفش، أسهل طالعا، وأحزن راكعا، فهل من أمير يمير، أو داع لخير. وقاكم الله سطوة القادر، وملكة الكاهر، وسوء الموارد، وتصرّح المصادر.
قال أبو زيد: فأعطيته دينارا وكتبت كلامه، واستفسرته ما لم أعرف. تفسير ذلك:
الملطاط أشد انخفاضا من الغائط وأوسع منه، والمواصي الملاصق، تواصى النبت إذا لصق بعضه ببعض. أسياف: جمع سيف وهو ساحل البحر. عكفت:
أقامت. محش جمع محوش وهي السنة التي تمحش الشجر الذي يبقى على الجدب. حمشت استأصلت واحتلقت. أعجت جعلتها عجايا وهو السيّء الغذاء أي هزلى. وهمت الشحم: أذابته. والتحبت اللحم: قشرته عن العظم. وأحجنت العظم: أي ضيرته معوجا كالمحجن. والمور الذي يجيء ويذهب على وجه الأرض. والغور: الماء الغائر في الأرض. والأوزاع المتفرقون. والنبط: الماء المستنبط. والقعاع: الملح المر، يقال: ماء قعاع، والضهل: الماء القليل على وجه الأرض، وكذلك الضحل. والجعجاع: المقام على غير طمأنينة. والهاوي:(3/1362)
الجراد. والعاوي: الذئب. والتلفع: الاشتمال، وكلّ نسيجة وصيدة. والهبيدة حبّ الحنظل. والنحص: باطن القدم، والوقع الذي ييجعه باطن قدمه، فلا يطيق المشي، والركبات جمع ركبة. والتزلع: تشقق الجلد، والقفع الذي تجمعت أنامله والمسلهم: الضامر هزالا، والمدرهم الذي قد أظلمت عليه عينه من جوع أو مرض.
وأغطش: أظلم. وأعشو: أنظر، ويقال: عشوت إلى النار إذا أحددت طرفك بالليل لتنظر إليها. وأخفش: لا يبصر بالنهار مثل الخفاش. أسهل ظالعا: إذا مشيت في السهل ظلعت فكيف في الجبل. وأحزن راكعا: أي إذا ركبت الحزن من الأرض، وهو الغليظ منها، ركعت أي كبوت على وجهي. يمير أي يعطيه. الكاهر مثل القاهر.
- 530-
سعيد بن جبير، أبو عبد الله:
مولى والبة من بني أسد. وكان أسود اللون.
كتب لعبد الله بن عتبة بن مسعود، ثم كتب لأبي بردة بن أبي موسى الأشعري وهو على القضاء وبيت المال بالكوفة. وخرج مع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث.
ولما انهزم ابن الأشعث من دير الجماجم هرب سعيد بن جبير إلى مكة، فأخذه عبد الله القسري، وكان واليا للوليد بن عبد الملك على مكة، فبعثه إلى الحجاج بن يوسف. فلما رآه الحجاج قال له: اختر أي قتلة شئت. فقال سعيد: بل أنت اختر لنفسك فإن القصاص أمامك. فقال له الحجاج: يا شقيّ بن كسير، ألم أقدم إلى الكوفة ولم يؤمّ بها إلا عربي فجعلتك إماما؟ قال: بلى. قال: أو لم أولّك القضاء فضجّ أهل الكوفة وقالوا، لا يصلح للقضاء إلا العربي، فاستقضيت أبا بردة وأمرته ألا يقطع أمرا دونك؟ قال: بلى. قال: أو ما جعلتك من سماري؟ قال: بلى. قال:
__________
[530]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر طبقات ابن سعد 6: 256 وطبقات خليفة: (العمري) : 280 والمعارف: 445 والمعرفة والتاريخ 1: 712 وحلية الأولياء 4: 272 وأخبار أصبهان 1: 324 وطبقات الشيرازي: 82 وابن خلكان 2: 371 وتذكرة الحفاظ: 71 وسير الذهبي 4: 321 وعبر الذهبي 1: 112 والبداية والنهاية 9: 96 وطبقات ابن الجزري 1: 305 وتهذيب التهذيب 4: 11 والنجوم الزاهرة 1: 228 وطبقات الحفاظ: 31 وطبقات المفسرين: 181 والشذرات 1: 108.(3/1363)
أو ما أعطيتك من المال كذا وكذا تفرّقه في ذي الحاجة، ثم لم أسألك عن شيء منه؟
قال: بلى. قال: فما أخرجك عليّ؟ قال: بيعة كانت لابن الأشعث في عنقي.
قال: فغضب الحجاج، ثم قال: أما كانت بيعة أمير المؤمنين عبد الملك في عنقك قبله؟ والله لأقتلنّك، فقتله سنة أربع وتسعين في أيام الوليد.
وكان أخذ القراءة عن عبد الله بن عياش. وروي أنه لما دخل على الحجاج، وأمر بقتله بكى ابن لسعيد صغير، فقال له سعيد: لا تبك، فما بقاء أبيك بعد خمس وستين سنة؛ ونظر إلى جموع الحجاج وخيله ورجله فأنشأ يقول:
يا دولة الجور قد طالت لياليها ... وطال تعذيبنا من فسق واليها
يسار فينا بما لو سير في جزر ... لاشتد محمية منها لواليها
فلا نحامي على دين فننصره ... ولا نحامي على دنيا فنحويها
فلو شركناهم في لين عيشهم ... لقلت دنيا وقوم أترفوا فيها
لكنهم صرفوا عنا لذاذتها ... وألبسونا بلايا لست أحصيها
ثم ضرب عنقه فسال منه دم كثير، فعجب الحجاج منه، وسأل الأطباء عنه، فقالوا: هذا رجل لم يخف القتل ولا هابك.
- 531-
أبو سعيد بن حرب بن غورك القيرواني:
[كان] عارفا بالقرآن والنحو، كثير الوقار، قليل الكلام.
- 532-
سعيد بن الحكم أبو عبد الله بن أبي مريم النسابة:
ذكره ابن النديم وقال:
له من التصانيف: كتاب المآثر. وكتاب النسب. وكتاب نواقل العرب.
__________
[531]- من المختصر؛ وانظر طبقات الزبيدي: 233 وإنباه الرواة 4: 123؛ قال: وكان ينسب من أجل وقاره إلى الكبر، وكان لا يبتسم في مجلسه فضلا عن أن يضحك. وكانت له أشعار كثيرة فصيحة.
[532]- انظر الفهرست: 107.(3/1364)
- 533-
سعيد بن حميد بن بحر:
وقيل سعيد بن حميد بن مهرمار الواسطي الشاعر يكنى أبا عثمان وله رسائل وأشعار. جيد التناول للسرقة، كثير الإغارة، وكان يدّعي أنه من أولاد ملوك الفرس. ومن شعره [1] .
فداك أبي ما لي أراك بخيلة ... مقيم على الحرمان من يستزيدها
فأصبحت كالدنيا تذمّ صروفها ... ونوسعها عيبا ونحن عبيدها
وله أيضا [2] .
لا تعتبنّ على النوائب ... فالدهر يرغم كلّ صاحب
واصبر على حدثانه ... إن الأمور لها عواقب
ما كلّ من أنكرته ... ورأيت جفوته تعاتب
الدهر أولى ما صبر ... ت له على رنق المشارب
كم نعمة مطوية ... لك بين أثناء المصائب
ومسرّة قد أقبلت ... من حيث تنتظر النوائب
ومن رائق شعره قوله [3] :
تقول أنل عينيك حظا من الكرى ... فقد لاح أو قد كاد يبدو سنا الفجر
فقلت لها فيه لقاء معاشر ... تعافهم نفسي ويعيا بهم صبري
فو الله ما في الأرض خلق علمته ... يرجّى لعرف أو يقصّر عن نكر
فلا تنكري أني صدفت عن الكرى ... فإن سواد الليل حظي من عمري
__________
[533]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الفهرست: 137 والأغاني 18: 89 والوافي 15: 213 وهو سعيد ابن حميد بن سعيد بن حميد بن بحر. وليونس السامرائي، رسائل سعيد بن حميد وأشعاره، بغداد 1971.
[1] السامرائي: 125.
[2] السامرائي: 123- 124 والبصائر 3: 158.
[3] لم ترد في مجموع السامرائي.(3/1365)
وله [1] :
لجت عواذله تعاتبه ... وخلون دون مواقع العذر
وتصرّمت أيام لذته ... فمضين عنه بجدّة العمر
وخلت منازل من أحبّته ... قذفت بهم عنها يد الدهر
وأشد ما لاقيت بعدهم ... أني فجعت بهم مع الصبر
وولي ديوان الرسائل في أيام المستعين رئاسة، فقال فيه بعض الكتاب [2] :
يا حجة الله في الأرزاق والقسم ... ومحنة لذوي الأخطار والهمم
تراك أصبحت في نعماء سابغة ... إلّا وربّك غضبان على النعم
وله من الكتب: كتاب انتصاف العجم من العرب، ويعرف بالتسوية. كتاب رسائله. كتاب ديوان شعره.
- 534-
سعيد بن حميد بن البختكان:
يكنى أبا عياض، كاتب شاعر مترسل وله أصل في الفرس قديم، شديد العصبية على العرب، له من الكتب كتاب افتخار العجم على العرب. وكتاب رسائله.
- 535-
سعيد بن سعيد الفارقي، أبو القاسم النحوي:
أخذ عن الربعي وابن
__________
[534]- من المختصر؛ والفرق بين هذا وسابقه في الكنية، ولكنهما في الشعوبية متشابهان، وقد فرّق بينهما ابن النديم، انظر الفهرست: 137.
[535]- ترجمة سعيد الفارقي في بغية الطلب 8: 297 والوافي 15: 223 وبغية الوعاة 1: 584 وروضات الجنات 3: 154 (في ترجمة ابن خالويه) .
[1] لم ترد في مجموع السامرائي.
[2] لم ترد في المجموع المذكور.(3/1366)
خالويه، وكان بارعا في العربية أديبا فاضلا له تصانيف منها كتاب تقسيمات العوامل وعللها. وكتاب تفسير المسائل المشكلة في أول «المقتضب» للمبرد، وغير ذلك.
مات مقتولا بالقاهرة عند بستان الخندق يوم الجمعة لسبع بقين من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة ومن شعره:
من آنسته البلاد لم يرم ... منها ومن أوحشته لم يقم
ومن يبت والهموم قادحة ... في صدره بالزناد لم ينم
- 536-
سعيد بن طلحة بن الحسين بن أبي ذر
بن إبراهيم بن علي الصالحاني:
تخرج به أكثر أهل أصبهان، وسمع الحديث. مات سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة.
- 537-
أبو سعيد ابن عبد الصمد المقري:
له تواليف في تفسير القرآن جيدة، منها التبصرة في القراءات، كتاب شرح الغاية. كتاب قراءة يعقوب خاصة.
- 538-
سعيد بن عبد الله بن دحيم:
سكن إشبيلية والأندلس، أبو عثمان. [كان] عالما بالنحو إماما في كتاب سيبويه، ذا حظ وافر من علم اللغة وشرح الأشعار. مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة.
__________
[536]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الوافي 15: 227.
[537]- هذه الترجمة من المختصر.
[538]- هذه الترجمة من المختصر وانظر الصلة: 216 وإنباه الرواة 2: 55 والوافي 15: 233 وبغية الوعاة 1: 584.(3/1367)
- 539-
سعيد بن عبد العزيز بن عبد الله بن محمد
بن إبراهيم بن عبد المؤمن بن طيفور، أبو سهل النيلي: كان أديبا نحويا فقيها طبيبا عالما بصناعة الطب، وله من التصانيف: اختصار كتاب المسائل لحنين. تلخيص شرح فصول بقراط لجالينوس مع نكت من شرح أبي بكر الرازي، وغير ذلك، مات سنة عشرين وأربعمائة، ومن شعره:
يا مفدّى العذار والخدّ والقدّ ... بنفسي وما أراها كثيرا
ومعيري من سقم عينيه سقما ... دمت مضنى به ودمت معيرا
اسقني الراح تشف لوعة قلب ... بات مذ بنت للهموم سميرا
هي في الكاس خمرة فإذا ما ... أفرغت في الحشا استحالت سرورا
- 540-
سعيد بن عثمان بن سعيد بن محمد بن سعيد
بن عبد الله بن يوسف البربري اللغوي المعروف بابن القزاز ويلقب بلحية الزبل: وهو من أهل قرطبة من بلاد الأندلس. روى عن أبي علي القالي، ومات في سنة أربع وسبعين وثلاثمائة [1] .
وكان من أهل الأدب البارع.
__________
[539]- ترجمته في عيون الانباء 1: 253 والوافي 15: 240 وبغية الوعاة 1: 585.
[540]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الصلة. 204 وإنباه الرواة 2: 44 والوافي 15: 242 وبغية الوعاة 1: 585؛ وكان ابن القزاز حافظا للغة والعربية، حسن القيام بهما، وله كتاب في الرد على صاعد اللغوي في مناكير كتابه المسمى ب «الفصوص» . ونشر له كتاب بعنوان «العشرات في اللغة» تحقيق يحيى جبر (عمان: 1984) .
[1] ذكر بعضهم أن وفاته كانت سنة أربعمائة، وذكر آخرون انها كانت في سنة أربع وتسعين وثلاثمائة (أو خمس وتسعين) .(3/1368)
- 541-
سعيد بن عيسى الأصفر أبو عثمان النحوي:
سكن طليطلة من بلاد الأندلس. [كان] عالما بالنحو واللغة والأشعار، ومشاركا في المنطق وكتب الأخبار.
له شرح كتاب الجمل، يسير. توفي سنة ستين وأربعمائة.
- 542-
سعيد بن الفرج أبو عثمان الرشاش مولى بني أمية:
كان أديبا فاضلا عالما باللغة والشعر، وكان يحفظ أربعة آلاف أرجوزة للعرب، ويضرب المثل بفصاحته، إلا أنه كان كثير التقعر في كلامه، رحل إلى المشرق ودخل بغداد ومصر فأقام بها مدة؛ توفي سنة اثنتين وسبعين ومائتين.
- 543-
سعيد بن المبارك بن علي بن عبد الله بن سعيد
بن محمد بن نصر بن عاصم بن عباد بن عاصم وينتهي نسبه إلى كعب بن عمرو الأنصاري، أبو محمد المعروف بابن الدهان النحوي: كان من أعيان النحاة وأفاضل اللغويين، كثير التصنيف جيد الشعر، أخذ عن الرماني اللغة والعربية، وسمع الحديث من أبي غالب أحمد بن البناء وأبي القاسم هبة الله بن محمد بن الحصين وغيرهما، وأخذ عنه الخطيب التبريزي وجماعة. ولد سنة أربع وتسعين وأربعمائة بنهر طابق، وكان أصله من بغداد من محلة المقتديّة، وانتقل إلى الموصل وأقام بها إلى أن مات بها في
__________
[541]- هذه الترجمة من المختصر، وانظر الصلة لابن بشكوال 1: 222 والذيل والتكملة 4: 39 وإنباه الرواة 2: 47 وهو رعيني قصيري (نسبة إلى قصير عطية) وكتابه في شرح الجمل يسمى الحلل وله رسائل.
وجعل ابن عبد الملك وفاته سنة: 462.
[542]- ترجمته في طبقات الزبيدي: 261 والمغرب 2: 57 وبغية الوعاة 1: 586.
[543]- ترجمة ابن الدهان في إنباه الرواة 2: 47 وابن خلكان 2: 142 والوافي 15: 250 ونكت الهميان: 158 والنجوم الزاهرة 6: 72 وبغية الوعاة 1: 587 ومرآة الجنان 3: 390 وطبقات الداودي 1: 183 وروضات الجنات 4: 54 والشذرات 4: 233 وطبقات الاسنوي 1: 537.
وهذه الترجمة موجزة نسبيا في م؛ وقد أضيف إليها أجزاء كثيرة من المختصر.(3/1369)
رمضان- ليلة عيد الفطر- سنة تسع وخمسين وخمسمائة.
وكان سبب إصعاده من بغداد أن ابن الصوفي صاحب دمشق سمع به فكتب إليه عدّة مكتوبات يسأله إصعاده وقصده ويرغّبه في رفده، وهو يدافع إلى أن حركه القدر فأصعد إلى الموصل ليفد عليه، فأقام بها مديدة حتى قدم جمال الدين أبو الفرج محمد بن علي بن أبي منصور الأصبهاني الجواد صحبة سيف الدين غازي بن زنكي، واستقرت قدمه في الوزارة له، والتحكم في أمواله فسمع به جمال الدين الوزير فأحضره مجلسه، واصطفاه لنفسه، وأفاض عليه من إنعامه ما منعه عن قصد سواه، وأجرى عليه الجرايات، وقال له: جميع ما ترجوه من ابن الصوفي عندي أضعافه.
وجعله من جملة جلسائه.
فمما أنشدت من شعره ما ألقاه إليّ أمين الدين أبو محمد ياقوت الموصلي الكاتب، وكان من أعيان تلاميذه، وسمع أكثر تصانيفه، في مدح الفقر [1] :
أتعجب أنني أمسي فقيرا ... ويحظى بالغنى الغمر الحقير
كذا الأطواق يكساها حمام ... وتعطل حكمة منها الصقور
وله أيضا [2] :
أهوى الخمول لكي أعيش مرفّها ... مما يعانيه بنو الأزمان
إن الرياح إذا عصفن رأيتها ... تولي الأذيّة شامخ الأغصان
وله [3] :
بادر إلى العيش والأيام راقدة ... ولا تكن لصروف الدهر تنتظر
فالعمر كالكأس يبدو في أوائله ... صفوا وآخره في قعره كدر
وله:
ومسائلي ماذا المقام كذا ... فذا بلا مال ولا نشب
فأجبته هو ما علمت به ... أنا في عزاء مصيبة الأدب
__________
[1] الوافي: 253.
[2] الوافي: 252.
[3] الوافي: 252.(3/1370)
وله [1] :
قيل لي جاءك نجل ... ولد شهم وسيم
قلت عزّوه بفقدي ... ولد الشيخ يتيم
قال المؤلف: وكان ابن الدهان هذا مع ما أوتي من سعة العلم وشياع الذكر والفهم، سقيم الخطّ، كثير الغلط فيما يكتبه، وهذا عجب من أمره.
وقيل: إن ابن الدهان قال: رأيت في المنام شخصا أعرفه وهو ينشد شخصا كأنه حبيب له [2] :
أيها الماطل ديني ... أمليّ وتماطل
علّل القلب فإني ... قانع منك بباطل
وقيل: إن هذين البيتين كان ابن الدهان ينشدهما دائما وينسبهما إلى نفسه.
وسألت أمين الدين ياقوت عن مصنفاته فأملى عليّ: كتاب شرح الإيضاح لأبي علي الفارسي ثلاث وأربعون مجلدة. كتاب الغرة، وهو شرح اللمع في العربية لابن جني ثلاث مجلدات. كتاب تفسير القرآن أربع مجلدات. كتاب النهاية في العروض. كتاب الدروس مقدمة في النحو. كتاب الفصول في النحو. كتاب الدروس في القوافي والعروض. كتاب العقود في المقصور والممدود. كتاب المآخذ الكندية من المعاني الطائية، وهو ما أخذ المتنبي من أبي تمام. كتاب فيه شرح بيت واحد من شعر الملك الصالح ابن رزيك وزير صاحب مصر، عشرين كراسة، أرسله إليه إلى مصر إذ لم يقدر على قصده ومدحه. كتاب إزالة المراء في الغين والراء.
كتاب الغنية في الضاد والظاء. كتاب الأضداد. كتاب النكت والاشارات على ألسن الحيوانات. كتاب في شرح «قل هو الله أحد، مجلد. كتاب في شرح الفاتحة مجلد.
كتاب رسائله. وكتاب ديوان شعره [3] .
ولما غرقت بغداد في سنة ثمان وستين وخمسمائة في أيام المستضيء بالله،
__________
[1] الوافي: 252.
[2] الوافي: 253.
[3] نشر له فايز فارس «باب الهجاء» (بيروت 1986) .(3/1371)
وقعت داره على كتبه التي كان قد جمعها في مدة عمره، وكان أكثرها بخطه، فبلغه ذلك فوجّه مملوكه إلى بغداد فوجدها وقد بقيت تحت الهدم أياما كثيرة، وقد تعفّنت وذهب أكثرها، فقد كان من الاتفاق السيء في أمرها أنه كان في جواره مدبغة فسرى إليها روائح الجلود، فصارت آية في النتن وسوء الحال، وجاءوا بها على تلك الصفة. وكان فيما ذهب منها شرح الإيضاح، ولم يبق منه إلا ست عشرة مجلدة لأنها كانت صحبته لما أصعد، وقال: لقد بخّرت كتبي بأربعين رطلا لاذنا لتزول منها روائح العفونة فلم تزل، وأصيب على كتبه مصابا عظيما، وعالجها بالبخرات حتى كان سببا لذهاب بصره، فما مات حتى أضر.
ومن شعره:
لا تحسبن أنّ بالكت ... ب مثلنا ستصير
فللدجاجة ريش ... لكنّها لا تطير
وقال:
وأخ رخصت عليه حتى ملّني ... والشيء مملول إذا ما يرخص
ما في زمانك من يعزّ وجوده ... إن رمته إلا صديق مخلص
- 544-
سعيد بن محمد بن جريج أبو عقال القيرواني:
الكاتب الأديب، كاتب القاضي سليمان بن عمران قاضي افريقية [1] ، مات سنة تسع وسبعين ومائتين، ومن شعره أبيات رثى بها القاضي سليمان المذكور قال:
عجبا لموضع لحده في قبره ... للعلم والعرفان كيف توسعا
__________
[544]- لم أجد له ترجمة.
[1] تولى قضاء القيروان بعد وفاة سحنون (سنة 240) .(3/1372)
رجع الخصوم
وخلّفوا علم الهدى ... في باب سلم لا يزال ممتعا
أتت المنية من تلبّب قاضيا ... خمسين عاما واثنتين وأربعا
- 545-
سعيد بن محمد الغساني أبو عثمان المعروف بابن الحداد القيرواني:
[كان] عالما بالعربية واللغة، وكان الجدل غالبا عليه، مات في سنة أربعمائة شهيدا في بعض الوقائع. وكان له في أول دخول الشيعة إلى القيروان مقامات محمودة ناضل فيها عن الدين وذبّ عن السنن حتى شبّهه الناس بأحمد بن حنبل أيام المحنة. وكان يناظرهم ويقول: قد أربيت على التسعين، وما بي إلى العيش من حاجة، وذلك أنهم لما ملكوا البلد أظهروا تبديل الشرائع والسنن وبدروا إلى رجلين من أصحاب سحنون قتلوهما وعرّوا أجسادهما ونودي عليهما: هذا جزاء من ذهب مذهب مالك.
وله من الكتب: كتاب توضيح المشكل في القرآن. كتاب المقالات ردّ فيه على المذاهب جميعها. كتاب الاستيعاب. كتاب الأمالي. كتاب عصمة الأنبياء [1] .
كتاب العبادة الكبرى. كتاب العبادة الصغرى. كتاب الاستواء والاحتجاج على الملاحدة.
- 546-
سعيد بن محمد بن علي بن محمد السلامي القرشي الكوفي:
[كان] أديبا فاضلا حسن الخط، جيد الضبط.
__________
[545]- هذه الترجمة من المختصر: وانظر طبقات الزبيدي: 239 وعلماء أفريقية للخشني: 201، 257، 239 وترتيب المدارك 5: 78 وإنباه الرواة 2: 53 والوافي 15: 179، 256 (ترجم له مرتين) ومعالم الايمان 2: 295 وبغية الوعاة 1: 589 وروضات الجنات 4: 53 ورياض النفوس 2: 57- 115.
[546]- من المختصر.
[1] طبقات الزبيدي: كتاب عصمة المسلمين؛ الانباه: عصمة الدينيين.(3/1373)
- 547-
سعيد بن محمد المعافري أبو عثمان القرطبي
يعرف بابن الحداد: أخذ عن أبي بكر ابن القوطية.
- 548-
سعيد بن مسعدة أبو الحسن المعروف بالأخفش
الأوسط البصري، مولى بني مجاشع بن دارم- بطن من تميم: وقيل إنه كان من أهل بلخ، وكان أجلع والأجلع الذي لا تنطبق شفتاه وقيل الأجلع: القصير الشفة العليا، وكان معتزليا، غلام أبي شمر وعلى مذهبه. أحد أئمة النحاة من البصريين، أخذ عن سيبويه، وهو أعلم من أخذ عنه، وكان أخذ عمن أخذ عنه سيبويه لأنه أسنّ منه ثم أخذ عن سيبويه أيضا، وهو الطريق إلى كتاب سيبويه فإنه لم يقرأ الكتاب على سيبويه أحد، ولم يقرأه سيبويه على أحد، وإنما قرىء على الأخفش بعد موت سيبويه. قال المبرد [1] : لم يقرأ أحد كتاب سيبويه على سيبويه وانما قرىء بعده على الأخفش. وكان الأخفش أسن من سيبويه. وكان ممن قرأه عليه أبو عمر صالح بن اسحاق الجرمي وأبو عثمان المازني.
وكان الأخفش يستحسن كتاب سيبويه كل الاستحسان فتوهم الجرميّ والمازني أن الأخفش قد همّ أن يدّعي الكتاب لنفسه فتشاورا في منع الأخفش من ادعائه، فقالا:
نقرأه عليه، فإذا قرأناه عليه أظهرناه وأشعنا أنه لسيبويه فلا يمكن أن يدعيه، فأرغبا الأخفش وبذلا له شيئا من المال على أن يقرآه عليه فأجاب، وشرعا في القراءة، وأخذا الكتاب عنه وأظهراه للناس. وكان الأخفش يقول: ما وضع سيبويه في كتابه
__________
[547]- من المختصر، وانظر: الصلة: 209 وبغية الوعاة 1: 589 وذكر ابن بشكوال أنه بسط في كتاب الأفعال لابن القوطية وزاد فيه، وأنه توفي بعد الأربعمائة شهيدا في بعض الوقائع.
[548]- ترجمة الأخفش الأوسط في أخبار النحويين البصريين: 50 والمعارف: 545 والفهرست: 58 وطبقات الزبيدي: 72 ومراتب النحويين: 68 ونور القبس: 97 ونزهة الألباء: 91 وإنباه الرواة 2: 36 وابن خلكان 2: 380 وسير الذهبي 10: 206 والوافي 15: 258 وبغية الوعاة 1: 590 والبداية والنهاية 10: 293 والشذرات 2: 36 ومرآة الجنان 2: 61 وروضات الجنات 4: 51.
[1] نور القبس: 95.(3/1374)
شيئا إلا وعرضه علي وهو يرى أني أعلم منه وكان أعلم به مني، وأنا اليوم أعلم به منه.
وحكى ثعلب أن الفراء دخل على سعيد بن سلم فقال: قد جاءكم سيد أهل اللغة وسيد أهل العربية، فقال الفراء: أما ما دام الأخفش يعيش فلا.
وحكى الأخفش قال: لما ناظر سيبويه الكسائي ورجع وجّه إليّ فعرّفني خبره معه ومع البغداديين وودعني ومضى إلى الأهواز، فرددت؛ جلست في سميرية حتى وردت بغداد فوافيت مسجد الكسائي، فصليت خلفه الغداة، فلما انفتل من صلاته وقعد في محرابه وبين يديه الفراء والأحمر وابن سعدان سلمت وسألته عن مائة مسألة، فأجاب بجوابات خطأته في جميعها، فأراد أصحابه الوثوب عليّ فمنعهم، ولم يقطعني ما رأيتهم عليه عما كنت فيه، فلما فرغت من المسائل قال لي الكسائي بالله أنت أبو الحسن سعيد بن مسعدة؟ قلت: نعم، فقام إليّ وعانقني وأجلسني إلى جنبه، ثم قال: لي أولاد أحبّ أن يتأدبوا بك ويتخرجوا على يديك وتكون معي غير مفارق لي، فأجبته إلى ذلك، فلما اتصلت الأيام بالاجتماع سألني أن أؤلف له كتابا في معاني القرآن فألفته [1] ، فجعله إماما له وعمل عليه كتابا في المعاني، وعمل الفراء كتابه في المعاني عليهما، وقرأ عليّ كتاب سيبويه سرا ووهب لي سبعين دينارا.
قال أبو حاتم [2] : أخذ الأخفش كتاب أبي عبيدة في القرآن فأسقط شيئا وزاد شيئا، وجعله لنفسه، وقال: الكتاب لمن أصلحه، وليس الكتاب لمن أفسده.
سأل المؤرّج سعيد بن مسعدة عن قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ
ما العلة في سقوط الياء منه، وإنما تسقط عند الجزم؟ فقال: لا أجيبك ما لم تبت على باب داري مدة. قال: فبتّ على باب داره مدّة، ثم سألته، فقال: اعلم أن هذا مصروف على جهته، وكل ما كان مصروفا على جهته فإن العرب تبخس حظه من الإعراب نحو قوله: وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا
أسقط الهاء لأنها مصروفة من فاعلة إلى فعيل. قلت:
وكيف صرفه؟ قال: الليل لا يسري، وإنما يسرى فيه.
قيل: أدّب الأخفش أولاد المعدل بن غيلان العبدي فكتب الأخفش إلى
__________
[1] نشر في جزءين بتحقيق د. فائز فارس، الكويت 1981.
[2] من هنا حتى آخر الشعر مزيد من المختصر.(3/1375)
المعدل: يستجفي ابنه عبد الله:
أبلغ أبا عمرو حليف الندى ... بأن عبد الله لي جافي
قد أحكم الآداب طرّا فما ... يجهل شيئا غير ألطافي
لم تند من كفيه لي قطرة ... وليس ذا منه بإنصاف
فكتب إليه المعدل:
إن يجف عبد الله أو يعتدي ... يكفك إنصافي وألطافي
فأجابه الأخفش:
ما بعد إنصافك لي غاية ... وبعض إنصافك لي كاف
وكان أبو العباس ثعلب يفضل الأخفش ويقول: هو أوسع الناس علما. وقال المبرد: أحفظ من أخذ عن سيبويه الأخفش ثم الناشىء ثم قطرب. وكان الأخفش أعلم الناس بالكلام وأحذقهم بالجدل. توفي سنة خمس عشرة ومائتين وقيل سنة إحدى وعشرين.
وله من التصانيف: كتاب الأربعة. كتاب الاشتقاق. كتاب الأصوات. كتاب الأوسط في النحو. كتاب تفسير معاني القرآن. كتاب صفات الغنم وألوانها وعلاجها وأسبابها. كتاب العروض. كتاب القوافي [1] . كتاب المسائل الكبير. كتاب المسائل الصغير. كتاب معاني الشعر. كتاب المقاييس. كتاب الملوك. كتاب وقف التمام.
ووضع الأخفش كتبا في النحو ومات قبل اتمامها.
- 549-
سعيد بن هارون، أبو عثمان الاشنانداني
مولى عبد الله بن معمر التيمي:
كان نحويا لغويا من أئمة اللغة، أخذ عن أبي محمد التّوزي، وأخذ عنه أبو بكر ابن
__________
[549]- ترجمة الأشنانداني في الفهرست: 66 ونزهة الألباء: 139 ومراتب النحويين: 84 وطبقات الزبيدي 182 (ذكر الاسم ولم يورد ترجمة) وبغية الوعاة 1: 591؛ 2: 136.
[1] حققه صديقنا أحمد راتب النفاخ، بيروت 1974.(3/1376)
دريد. قال ابن دريد: سألت أبا حاتم السجستاني عن اشتقاق ثادق اسم فرس فقال:
لا أدري، وسألت الرياشي فقال: يا معشر الصبيان إنكم تتعمقون بالعلم، وقال:
سألت أبا عثمان الاشنانداني فقال هو من ثدق المطر من السحاب إذا خرج خروجا سريعا نحو الودق.
وحكى ابن دريد أيضا قال: سألت أبا حاتم السجستاني عن قول الشاعر:
وجفر الفحل فأضحى قد هجف ... واصفرّ ما اخضرّ من البقل وجف
فقلت: ما هجف؟ فقال: لا أدري، فسألت الاشنانداني فقال: هجف اذا التحقت خاصرتاه من التعب وغيره.
وله من التصانيف: كتاب معاني الشعر يرويه عنه ابن دريد [1] . وكتاب الأبيات [2] ، وغير ذلك. مات سنة ثمان وثمانين ومائتين. والاشنانداني نسبة إلى أشنان محلة ببغداد وزادوا الدال فيها كما زادوا الهاء في الأشنهي نسبة إلى أشنا.
- 550-
سعيد بن هاشم بن سعيد
وينتهي نسبة إلى عبد القيس، أبو عثمان الخالدي البصري: كان [هو] وأخوه أبو بكر أديبي البصرة وشاعريها في وقتهما، وكان بينهما وبين السري الرفاء الموصلي ما يكون بين المتعاصرين من التغاير والتضاغن، فكان يدعي عليهما سرقة شعره وشعر غيره، ويدس شعرهما في ديوان كشاجم ليثبت مدّعاه كما بينا ذلك في ترجمة السري.
وقال ابن النديم: قال لي الخالدي وقد تعجبت من كثرة حفظه: أنا أحفظ ألف سفر، كل سفر مائة ورقة. وكان هو وأخوه مع ذلك إذا استحسنا شيئا غصباه صاحبه
__________
[550]- ترجمة الخالدي سعيد بن هاشم في الفهرست: 195 واليتيمة 2: 183 والوافي 15: 263 والفوات 2: 52؛ وانظر مقدمة التحف والهدايا، ومقدمة الأشباه والنظائر وقد جمع د. سامي الدهان ديوان الخالديين (دمشق 1969) ، والخالديان نسبة إلى الخالدية وهي من قرى الموصل.
[1] طبع غير مرة، احداها بعناية د. صلاح الدين المنجد، بيروت 1964.
[2] ر: كتاب الأثبات.(3/1377)
حيّا كان أو ميتا لا عجزا منهما عن قول الشعر ولكن كذا كان طبعهما؛ وكلام ابن النديم هذا فيه موافقة للسري الرفاء أو مجاراة له والله أعلم.
ثم قال ابن النديم: وقد عمل أبو عثمان شعره وشعر أخيه قبل موته، وله تصانيف منها حماسة شعر المحدثين وغير ذلك. توفي أبو عثمان سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، ومن شعره [1] :
يا قضيبا يميس تحت هلال ... وهلالا يرنو بعيني غزال
منك يا شمسنا تعلمت الشم ... س دنوّ السنا وبعد المنال
وقال [2] :
هتف الصبح بالدجى فاسقنيها ... قهوة تترك الحليم سفيها
لست تدري لرقة وصفاء ... هي في كأسها أم الكاس فيها
وقال [3] :
بغداد قد صار خيرها شرّا ... صيّرها الله مثل سامرّا
اطلب وفتش واحرص فلست ترى ... في أهلها حرة ولا حرا
وقال [4] :
فهاتها كالعروس قانية ال ... خدين في معجر من الحبب
كادت تكون الهواء في أرج ال ... عنبر لو لم تكن من العنب
فلو ترى الكأس حين يمزجها ... رأيت شيئا من أعجب العجب
نار حواها الزجاج يلهبها ال ... ماء ودرّ يدور في لهب
وقال [5] :
يا راقدا عاريا من ثوب أسقامي ... هب الرقاد لعين جفنها دامي
لا خلّص الله قلبي من يدي رشأ ... رؤيا رجائي له أضغاث أحلام
__________
[1] اليتيمة 2: 202 والديوان: 146.
[2] اليتيمة 2: 203 والفوات: 54 والديوان: 150.
[3] اليتيمة 2: 207 والديوان: 127.
[4] اليتيمة 2: 199 والديوان: 111.
[5] الديوان: 148.(3/1378)
وقال [1] :
أما ترى الغيم يا من قلبه قاسي ... كأنه أنا مقياسا بمقياس
قطر كدمعي وبرق مثل نار جوى ... في القلب مني وريح مثل أنفاسي
- 550 ب-
سعيد بن هريم الكاتب:
كان شريك سهل بن هارون في بيت حكمة المأمون. كان بليغا فصيحا مترسلا. له كتاب الحكمة ومنافعها. كتاب رسائله المجموعة.
- 551-
سكن بن سعيد الأندلسي:
له كتاب في طبقات الكتاب بالأندلس.
- 552-
أبو سفيان بن العلاء:
أخو أبي عمرو، مات أبو سفيان في سنة خمس وستين ومائة بعد أخيه، وقيل إن اسمه الحارث.
- 553-
سلامة بن عبد الباقي بن سلامة
أبو الخير الانباري المقرىء النحوي الضرير:
كان عالما بالقراءات والعربية وفنون الأدب، قرأ على ابن طاوس المقرىء، وحدث عنه بجزء هلال الحفار عن طراد الزينبي عن هلال، ثم رحل إلى مصر وسكن بها وتصدّر بجامع عمرو بن العاص يقرىء القرآن والنحو. وله مصنفات منها شرح على
__________
(550 ب) - من المختصر، وانظر الفهرست: 134، والوافي 15: 269.
[551]- من المختصر؛ وانظر جذوة المقتبس؛ 219 (بغية الملتمس رقم: 843) .
[552]- من المختصر؛ وانظر طبقات الزبيدي وإنباه الرواة 4: 122 وبغية الوعاة 1: 592.
وكان أبو سفيان نحويا قائما بالغريب وعلم النسب، وقد وثقه يحيي بن معين.
[553]- ترجمة أبي الخير الأنباري في الوافي 15: 329 وبغية الوعاة 1: 593.
[1] اليتيمة 2: 202 والديوان: 135.(3/1379)
مقامات الحريري. ولد سنة ثلاث وخمسمائة ومات بمصر في ذي الحجة سنة تسعين وخمسمائة.
- 554-
سلامة بن غيّاض بن أحمد أبو الخير الكفرطابي النحوي:
كان عالما حاذقا بصيرا بعلوم الأدب، صحيح الكتب جيد الحفظ، ذكره صاحبنا ابن النجار في «تاريخه» فقال: قدم بغداد سنة ست وعشرين وخمسمائة، وكتب عنه أبو محمد ابن الخشاب، وقرأ الأدب بمصر على أبي القاسم علي بن جعفر بن القطاع السعدي المصري. وله مصنفات في النحو منها التذكرة عشر مجلدات. وكتاب في النحو لطيف. وكتاب ما تلحن فيه العامة في زمانه. والرسالة الأدبية في الحض على تعليم العربية. مات سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة ومن شعره:
اقنع لنفسك فالقناعة ملبس ... لا يطمع الاشرار في تخريقه
فلربّ مغرور غدا تغريقه ... في حرصه سببا إلى تغريقه
قرأت [1] بخط الشيخ أبي محمد ابن الخشاب: حكى لي سلامة بن غياض الكفرطابي عفا الله عنا وعنه، وكان ممن ينسب إلى الصناعة النحوية أنه سأل صبية من العرب، وقد احتاج إلى خيط يخيط به شيئا فقال لها: أعطني خويطا، فجاءته بغصن صغير من شجرة. فقال: ما هذا؟ فقالت: ما طلبت. فقال: إنما أردت خيطا.
قالت: فهلا قلت خييطا؟ وصدقت: الخويط تصغير خوط، وهو الغصن، والخييط تصغير الخيط.
__________
[554]- ترجمة أبي الخير الكفرطابي في إنباه الرواة 2: 67 وبغية الوعاة 1: 593 وإشارة التعيين: 133؛ (وبعد أن درس الكفرطابي بمصر رحل إلى بغداد بعد سنة عشرين وخمسمائة وقرأ عليه قوم بها ثم سار إلى واسط ودرّس النحو في جامعها، علقه عنه أبو الفتح بن زريق الحداد وغيره، ثم رحل إلى البصرة ثم إلى بلاد العجم وجال في أقطارها وبعد ذلك عاد إلى الشام واستوطن حلب وبها توفي) .
[1] من هنا حتى آخر الترجمة مزيد من المختصر.(3/1380)
- 555-
سلامة بن محمد النحوي الحلبي:
له أشعار منها:
أراني في انتقاص كلّ يوم ... ولا يبقى على النقصان شي
طوى العصران ما نشراه مني ... فكم أبقى على نشر وطي
علامات الفناء تحت جسمي ... وحرص ثابت في الجسم حي [1]
- 556-
سلمان بن عبد الله بن محمد أبو عبد الله بن أبي طالب الحلواني النهرواني:
قال صاحبنا ابن النجار: قدم بغداد وقرأ بها النحو على الثمانيني، واللغة على ابن الدهان وغيره، وبرع في النحو، وكان إماما فيه وفي اللغة، وسمع الحديث من القاضي أبي الطيب الطبري وغيره، وجال في العراق ونشر بها النحو، واستوطن أصبهان، وروى عنه السلفي.
وصنف تفسير القرآن. وكتابا في القراءات. والقانون في اللغة عشر مجلدات لم يصنف مثله. وشرح الإيضاح لأبي علي الفارسي. وشرح ديوان المتنبي.
والأمالي، وغير ذلك. مات في ثاني عشر صفر سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وقيل أربع وتسعين وأربعمائة، ومن شعره:
__________
[555]- من المختصر، وبما أنه حلبي فمن المتوقع أن ترد ترجمته في بغية الطلب، ولكن كثيرا من تراجم حرف السين قد سقطت.
[556]- ترجمة أبي عبد الله الحلواني في الوافي 15: 311 وبغية الوعاة 1: 595 وترجم له القفطي في الإنباه 2: 26 باسم سليمان (ونقل عن تاريخ أصبهان ليحيى بن منده وعن الاكمال لابن ماكولا) ودمية القصر 1: 387 وقال: عاشرته بنيسابور سنة 363 فوجدته لطيف العشرة رقيق القشرة.. (ويتردد اسمه بين سليمان وسلمان) وانظر الشذرات 3: 399 ومرآة الجنان 3: 156 وطبقات الداودي 1: 192 وطبقات المفسرين للسوطي: 13؛ وانظر الترجمة رقم: 567 في ما يلي.
[1] بهامش المختصر: لم أجد له في الأصل ترجمة إلا هذه القطعة، وقطعة أخرى لم تقع في الاختيار.(3/1381)
إن خانك الدهر فكن عائذا ... بالبيض والادلاج والعيس
ولا تكن عبد المنى إنها ... رؤوس أموال المفاليس
وقال:
تقول بنيّتي أبتي تقنّع ... ولا تطمح إلى الأطماع تعتد
ورض باليأس نفسك فهو أخرى ... وأزين في الورى وعليك أعود
فلو كنت الخليل وسيبويه ... أو الفرّاء أو كنت المبرّد
لما ساويت في حيّ رغيفا ... ولا تبتاع بالماء المبرّد
- 557-
سلم بن عمرو بن حماد مولى بني تيم بن مرّة:
شاعر مطبوع من شعراء الدولة العباسية، كان منقطعا إلى البرامكة، وكان يلقب بالخاسر لأن أباه خلّف له مالا فأنفقه على الأدب، فقال له بعض أهله: إنك لخاسر الصفقة فلقّب بذلك؛ ثم مدح الرشيد فأمر له بمائة ألف درهم وقال له: كذّب بهذا المال من لقّبك بالخاسر، فجاءهم بها وقال: هذا ما أنفقته على الأدب ثم ربحت الأدب فأنا سلم الرابح لا سلم الخاسر.
وقيل في تلقيبه بهذا غير ما ذكر [1] .
وكان سلم تلميذا لبشار بن برد وصديقا لأبي العتاهية، فلما قال بشار قصيدته التي يقول فيها:
من راقب الناس لم يظفر بحاجته ... وفاز بالطيّبات الفاتك اللهج
فقال سلم أبياتا أدخل فيها معنى هذا البيت فقال:
من راقب الناس مات غمّا ... وفاز باللذة الجسور
__________
[557]- ترجمة سلم الخاسر في طبقات ابن المعتز: 99 والأغاني 19: 214 وتاريخ بغداد 9: 136 وابن خلكان 2: 350 (سالم الخاسر) والوافي 15: 302.
[1] قيل إنه ورث من أبيه مصحفا فباعه واشترى بثمنه طنبورا، وقيل وقع في قسطه من الميراث مصحف، فردّه وأخذ مكانه دفاتر شعر.(3/1382)
فبلغ بيته بشارا فغضب وقال: سار والله بيت سلم وخمل بيتنا، وكان الأمر كذلك، لهج الناس ببيت سلم ولم ينشد بيت بشار أحد، فكان ذلك سببا للنفور بينهما، فكان سلم بعد ذلك يقدّم أبا العتاهية ويقول: هو أشعر الجنّ والانس، إلى أن قال أبو العتاهية يخاطب سلما [1] :
تعالى الله يا سلم بن عمرو ... أذلّ الحرص أعناق الرجال
هب الدنيا تصير إليك عفوا ... أليس مصير ذلك للزوال
فلما بلغ ذلك سلما غضب على أبي العتاهية وقال: ويلي على الجرّار بن الفاعلة الزنديق، زعم أني حريص وقد كنز البدر وهو لا يزال يطلب وأنا في ثوبيّ هذين لا أملك غيرهما، ثم كتب إليه:
ما أقبح التزهيد من واعظ ... يزهّد الناس ولا يزهد
لو كان في تزهيده صادقا ... أضحى وأمسى بيته المسجد
ورفض الدنيا ولم يلقها ... ولم يكن يسعى ويسترفد
يخاف أن تنفد أرزاقه ... والرزق عند الله لا ينفد
الرزق مقسوم على من ترى ... يناله الأبيض والأسود
كلّ يوفّى رزقه كاملا ... من كفّ عن جهد ومن يجهد
وذكر من اقتدار سلم الخاسر على الشعر أنه اخترع شعرا على حرف واحد ولم يسبق إلى مثل ذلك لأن أقل شعر العرب على حرفين نحو قول دريد بن الصمة:
يا ليتني فيها جذع ... أخبّ فيها وأضع
فقال سلم الخاسر لأمير المؤمنين موسى الهادي شعرا على ضرب واحد منه:
موسى المطر ... غيث بكر
ثم انهمر ... لمّا اغتفر
ثم غفر ... لما قدر
ثم اقتصر ... عدل السّير
__________
[1] الأغاني 19: 222- 223.(3/1383)
باقي الأثر ... خير البشر
فرع مضر ... بدر بدر
لمن نظر ... هو الوزر
لمن حضر ... والمفتخر
ولما بويع الهادي بالخلافة وهو بجرجان دخل عليه سلم الخاسر وأنشده:
لما أتت خير بني هاشم ... خلافة الله بجرجان
شمّر للحزم سرابيله ... برأي لا غمر ولا وان
لم يدخل الشورى على رأيه ... والحزم لا يمضيه رأيان
وقال لهارون الرشيد حين ولي الخلافة:
بهارون قرّ الملك في مستقرّه ... وأشرقت الدنيا وأينع نورها
وليس لأيام المكارم غاية ... تتمّ بها إلا وأنت أميرها
وقال في يحيى بن خالد بن برمك:
وفتى خلا من ماله ... ومن المروءة غير خال
وإذا وأى [1] لك موعدا ... كان الفعال مع المقال
لله درّك من فتى ... ما فيك من كرم الخلال
أعطاك قبل سؤاله ... فكفاك مكروه السؤال
ولسلم شعر كثير أجاد في أكثره، وتوفي في خلافة الرشيد سنة ست وثمانين ومائة.
- 558-
سلمويه بن صالح الليثي:
هو من رواة الأخبار والأنساب، له كتاب الدولة.
__________
[558]- من المختصر؛ وانظر سير الذهبي 9: 433- 434 وفيه أنه يكنى أبا صالح ويسمى سليمان أيضا وهو مولى الليثيين حافظ معمر مروزي، عاش مائة سنة. فإن كان هو المقصود هنا، فينظر تخريج ترجمته في المصدر المذكور.
[1] وأى: وعد.(3/1384)
- 559-
سلمة بن عاصم أبو محمد النحوي:
أخذ عن أبي زكريا يحيى الفرّاء، وروى عنه كتبه، وأخذ عن خلف الأحمر وسمع منه «كتاب العدد» ، وأخذ عن سلمة أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، وكان يقول: كان سلمة حافظا لتأدية ما في الكتب، والطوال حاذقا بالعربية، وابن قادم [1] حسن النظر في العلل. ولسلمة من التصانيف:
كتاب معاني القرآن. وكتاب المسلوك في العربية. وكتاب غريب الحديث، وغير ذلك.
- 560-
سلمة بن عباس العامري أبو حفص
مولى بني حسل بن عامر بن لؤي بن غالب بن النضر بن كنانة: أحد العلماء النبلاء الرواة الفهماء، كان كأنه أبو عمرو بن العلاء في علمه وملاقاته الناس، يكنى أبا حفص. ولقي الفرزدق، وكان يصاحب أبا حية النميري. أخذ العلم عن ابن أبي اسحاق الحضرمي، وكان صالحا ديّنا شاعرا مجيدا، مات سنة ثمان وستين ومائة في خلافة المهدي. فمن شعره يرثي بعض خلانه، وقيل هو أبو سفيان بن العلاء أخو أبي عمرو:
صحبت أبا سفيان عشرين حجة ... خليلي صفاء ودنا غير كاذب
فأمسيت لما حالت الأرض بيننا ... على قربه مني كأن لم أصاحب
أجدك ما تغني كلوم مصيبة ... على صاحب إلا فجعت بصاحب
تقطع أحشائي إذا ما ذكرتهم ... وتنهلّ عيني بالدموع السواكب
__________
[559]- ترجمة سلمة بن عاصم في الفهرست: 74 ومراتب النحويين: 149 وإنباه الرواة 2: 56 وطبقات الزبيدي: 137 وتاريخ أبي المحاسن: 182 وتاريخ بغداد 9: 143 ونزهة الألباء: 101 وطبقات ابن الجزري 1: 311 وبغية الوعاة 1: 596 والبلغة: 89 ووردت ترجمته في المختصر مختلفة عما هنا وسأوردها في الملحق.
[560]- من المختصر، وانظر الأغاني 20: 255 والوافي 15: 325 (وفيهما ابن عياش، وهو الصواب) .
[1] الطوال نحوي كوفي من أصحاب الفراء، وابن قادم أحمد أو محمد بن عبد الله.(3/1385)
- 561-
سلمة بن عبد الله أبو بكر الهذلي:
كان عالما بأيام العرب وسيرها وأحد أصحاب الحديث، وكان قد لقي الزهري والحسن البصري ومحمد بن سيرين، وكان بصريا مات في سنة تسع وخمسين ومائة.
- 562-
سليمان بن أيوب بن محمد، أبو أيوب المديني:
من ظرفاء أهل المدينة المنورة، كان أديبا أخباريا فاضلا ذا غرام بالغناء وأخبار المغنين. ذكره ابن النديم وقال: له من المصنفات: أخبار عزة الميلاء. كتاب أخبار ابن مسجح. طبقات المغنين. كتاب الغنم والايقاع. كتاب المنادمين. كتاب الاتفاق. كتاب أخبار قيان الحجاز. كتاب قيان مكة. كتاب أخبار ظرفاء المدينة. كتاب أخبار ابن عائشة.
كتاب أخبار حنين الحيري. كتاب أخبار ابن أبي عتيق. كتاب أخبار الغريض. كتاب أخبار ابن سريج.
- 563-
سليمان بن بنين بن خلف بن عوض
تقي الدين الدقيقي المصري النحوي الأديب الفرضي العروضي العلامة: اجتمعت به في عدة مجالس بحضرة القاضي الاكرم، وأجازني برواية مصنفاته وهي: الأحكام الشوافي في إحكام القوافي. أخلاق الكرام وأخلاق اللئام. أعذب العمل في شرح أبيات الجمل. الأفلاك السوائر في انفكاك الدوائر. الأقوال العربية في الأمثال النبوية. آلات الجهاد وأدوات الصافنات
__________
[561]- من المختصر، وانظر الوافي 15: 325 (وينقل عن ياقوت) .
[562]- ترجمته في الفهرست: 156.
[563]- ترجمة سليمان بن بنين في الوافي 15: 356 وبغية الوعاة 1: 597 (وهو ينقل عن الذهبي) . وقد بشر كتابه اتفاق المباني وافتراق المعاني بتحقيق د. يحيى عبد الرؤوف جبر، عمان 1985.(3/1386)
الجياد. تحبير الأفكار في تحرير الأشعار. الاعجاز والايعاز في المعاني والألغاز.
البسط في أحكام الخط. بذل الاستطاعة في الكرم والشجاعة. أنوار الأزهار في معاني الأشعار. استنجاز المحامد في انجاز المواعد. اتفاق المباني وافتراق المعاني. التنبيه على الفرق والتشبيه. الحلّ [1] الكافي في خلل القوافي. الدرّة الأدبية في نصرة العربية. الدّيم الوابليّة في الشيم العادلية. الدرر الفردية في الغرر الطردية. دلائل الأفكار [2] في فضائل الأشعار. الروض الأريض في أوزان القريض.
سلوان الجلد عند فقدان الولد. الشامل في فضائل الكامل. فرائد الآداب وقواعد الاعراب. فضائل البذل مع العسر ورذائل البخل مع اليسر. عنوان السلوان. كمال المزية في احتمال الرزية. الكواكب الدّرّية في المناقب الصدرية. لباب الألباب في شرح الكتاب (كتاب سيبويه) . منتهى الأدب في منتهى [3] كلام العرب. محض النصائح ومخض القرائح. معادن التبر في محاسن الشعر. مكارم الأخلاق وطيب الأعراق. الوافي في علم القوافي. الوضاح في شرح أبيات الايضاح.
توفي تقي الدين الدقيقي بالقاهرة سنة ثلاث عشرة وستمائة [4] .
- 564-
سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب بن وارث
القاضي أبو الوليد الباجي، الفقيه المتكلم المحدث المفسر الأديب الشاعر: أصل آبائه من بطليوس، انتقلوا إلى
__________
[564]- ترجمة أبي الوليد الباجي في الصلة: 197 والقلائد: 188 والذخيرة 2/1: 94 والمغرب 1: 404 وترتيب المدارك 8: 117 والمرقبة العليا: 95 والديباج المذهب: 120 وبغية الملتمس رقم: 777 وتهذيب ابن عساكر 6: 251 والاكمال 1: 486 وتذكرة الحفاظ: 1178 وعبر الذهبي 3: 280 وابن خلكان 2: 408 ومرآة الجنان 3: 108 والوافي 15: 372 والفوات 2: 64 والشذرات 3: 334 والروض المعطار: 75 ونفح الطيب 2: 67 وباجة التي ينسب إليها تقع اليوم في البرتغال على بعد مائة وأربعين كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من لشبونة.
[1] البغية: المجمل.
[2] البغية: الأذكار.
[3] البغية: مبتدا.
[4] في بغية الوعاة أن وفاته كانت سنة 614 نقلا عن الذهبي.(3/1387)
باجة- باجة الأندلس، وثم باجة أخرى بافريقية وأخرى بأصبهان. ولد أبو الوليد سنة ثلاث وأربعمائة، وأخذ بالأندلس عن أبي الاصبغ ومحمد بن إسماعيل وأبي محمد مكي بن حموش وأبي شاكر [1] وغيرهم، ورحل سنة ست وعشرين وأربعمائة إلى المشرق، فأقام في الحجاز مجاورا ثلاثة أعوام ملازما للحافظ أبي ذر المحدث يخدمه ويسمع منه، وحج أربع حجج، وسمع هناك من ابن سنجويه وابن محرز والمطوعي، ورحل إلى بغداد فأخذ فيها عن أبي الطيب الطبري وأبي إسحاق الشيرازي والدامغاني وابن عمروس، وأخذ عن الخطيب البغدادي وأخذ الخطيب عنه. ورحل إلى الشام فأخذ فيها عن السمسار، ودخل الموصل فأخذ بها علم الكلام عن السمناني، ثم رجع إلى الأندلس فحاز الرياسة فيها، وسمع منه خلق كثير منهم: الحافظان الصدفي والجياني، والمعافري والسبتي والمرسي وغيرهم، وولي القضاء بمواضع من الأندلس.
وله مصنفات منها: الاستيفاء شرح الموطأ. والمنتقى مختصر الاستيفاء.
والايماء مختصر المنتقى. والسراج في ترتيب الحجاج. والتعديل والتجريح لمن خرّج عنه البخاري في الصحيح. وإحكام الفصول في أحكام الأصول. والتسديد إلى معرفة التوحيد. والمعاني في شرح الموطأ، عشرون مجلدا. وكتاب اختلاف الموطآت.
وتفسير القرآن. والمقتبس من علم مالك بن أنس. والمهذب في اختصار المدونة.
وكتاب مسائل الخلاف. والحدود في الأصول. والاشارة في الأصول. وكتاب فرق الفقهاء. وكتاب الناسخ والمنسوخ. وكتاب السنن في الرقائق والزهد. وكتاب النصيحة لولده، وغير ذلك. مات بالمرية سنة أربع وتسعين وأربعمائة، ومن شعره [2] :
ما طال عهدي بالديار وانما ... أنسى معاهدها أسى وتبلّد
لو كنت أنبأت الديار صبابتي ... رقّ الصفا بفنائها والجلمد
وله في المعتضد بالله عباد [3] :
__________
[1] أبو الأصبغ بن أبي درهم ومحمد بن إسماعيل بن فورتش وأبو محمد مكي بن أبي طالب المقرىء المشهور وأبو شاكر القبري خال الباجي.
[2] الذخيرة 2/1: 99 ونفح الطيب.
[3] الذخيرة 2: 100 والنفح 2: 76.(3/1388)
عباد استعبد البرايا ... بأنعم فاقت النعائم
مديحه ضمن كلّ قلب ... حتى تغنّت به الحمائم
وقال [1] :
إذا كنت أعلم علم اليقين ... بأنّ جميع حياتي كساعه
فلم لا أكون ضنينا بها ... فأجعلها في صلاح وطاعه
وقال:
ليس عندي شخص النوى بعظيم ... فيه غمّ وفيه كشف غموم
ان فيه اعتناقة لوداع ... وانتظار اعتناقة لقدوم
وقال يرثي ولديه وقد ماتا غريبين [2] :
رعى الله قبرين استكانا ببلدة ... هما أسكناها في السواد من القلب
لئن غيّبا عن ناظري وتبوّآ ... فؤادي لقد زاد التباعد في القرب
يقرّ بعيني أن أزور ثراهما ... وألصق مكنون الترائب بالترب
وأبكي وأبكي ساكنيها لعلّني ... سأنجد من صحب وأسعد من سحب
ولا استعذبت عيناي بعدهما كرى ... ولا ظمئت نفسي إلى البارد العذب
أحنّ ويثني اليأس نفسي عن الأسى ... كما اضطر محمول على المركب الصعب
- 565-
سليمان بن صالح النحوي الكتبي أبو صالح:
أحد أصحاب السير والأخبار الأتقياء. له كتاب فتوح خراسان وهو كتاب الدولة.
__________
[565]- هذه الترجمة من المختصر. وسمّاه في الفهرست: 120 سلمويه وقد مرّ رقم 558.
[1] وردت في معظم المصادر المذكورة آنفا.
[2] وردت الأبيات في الذخيرة والقلائد والمغرب وترتيب المدارك.(3/1389)
- 566-
سليمان بن أبي شيخ، واسم أبي شيخ منصور بن سليمان أبو أيوب:
أخباري راوية لقي جلة الناس، مات سنة ست وأربعين ومائتين. له كتاب الأخبار المجموعة.
- 567-
سليمان بن أبي طالب عبد الله بن الفتى الحلواني النهرواني
أبو عبد الله، والد الحسن بن سليمان الفقيه المدرس بالنظامية. له حظ من العربية وافر وآداب تامة. مات بأصبهان سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة، وأكثر أئمة أصبهان وفضلائها قرأوا عليه الأدب. سمع ببغداد أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري وغيره.
وأمّا الفتى أوله فاء مفتوحة بعدها تاء معجمة فهو أبو عبد الله سليمان بن عبد الله يعرف بابن الفتى من أهل النهروان. دخل بغداد سنة ثلاثين وأربعمائة فتشاغل بالأدب فقرأ على أبي الخطاب الجبلي والثمانيني وغيرهما، فمن شعره [1] :
يا ظبية حلّت بباب الطاق ... بيني وبينك أوكد الميثاق
فوحقّ أيام الحمى ووصالنا ... قسما بها وبنعمة الخلاق
ما مرّ من يوم ولا من ليلة ... إلا إليك تجددت أشواقي
سقيا لأيام جنى لي طيبها ... ورد الخدود ونرجس الأحداق
فإذا أضرّت بي عقارب صدغها ... كانت مراشف ريقها ترياقي
__________
[566]- هذه الترجمة من المختصر؛ وانظر الفهرست: 256.
[567]- هذه الترجمة قد وردت في م شديدة الإيجاز، وهي هنا مأخوذة من المختصر. وقد تقدمت ترجمة الحلواني النهرواني برقم: 556 باسم «سلمان» ؛ وهي هنا أكثر اسهابا، وفيها ينقل المؤلف عن مصادر غير التي اعتمدها في الترجمة السابقة.
[1] إنباه الرواة 2: 28 والوافي 15: 312.(3/1390)
وأنشد الأديب [ابن] الفتى لنفسه [1] :
تذلّل لمن إن تذلّلت له ... يرى ذاك للفضل [2] لا للبله
وجانب صداقة من لا يزال ... على الأصدقاء يرى الفضل له
وأنشد ابن الفتى لغيره:
لا تحقرن فاضلا وإن قصرت ... آلته عن عيون رامقه
فالمسك بينا تراه ممتهنا ... في فهر عطاره وساحقه
حتى تراه بعارضي ملك ... أو موضع التاج من مفارقه
وكان ابنه الحسن بن سليمان بن عبد الله بن الفتى فقيها عالما، سكن بغداد، وفوّض إليه التدريس بالمدرسة النظامية. وكان عالما فاضلا يعظ في الأحايين. له معرفة تامة بالنحو واللغة، وينشىء الخطب والشعر. مات في شوال سنة خمس وعشرين وخمسمائة، ودفن بجنب الشيخ أبي إسحاق الشيرازي بباب أبرز.
وكان لابن الفتى هذا ابن آخر يقال له أبو الحسن علي، كان أديبا فاضلا، وبالأديب كان يخاطب، وكان وجيها بالريّ إما وزيرا لبعض أمراء السلجوقية أو شبيها بالوزير، مدحه أبو يعلى ابن الهبارية عند وروده إلى الري فلم يحمده فكتب إلى بعض أصدقائه وساءله في ذمّه فأبى.
وأما الرسالة التي كتبها إلى ابن أبي الفتى فهي: للأسماع- أطال الله بقاء الشيخ الأديب، العالم اللبيب، الكامل الأريب، الفاضل الحسيب، غرة الدهر البهيم، وواسطة العقد النظيم، وجامع عناديد الشرف وأشتاته، ومحيي رسم الأدب ورفاته:
الألمعيّ اللوذعيّ ... الأريحيّ أبي الحسن
ربّ السماحة والرجا ... حة والفصاحة واللسن
منها: وقد كنت أيام تشريفه بأصبهان، بمقدمه السعيد ومقامه المديد، أجتهد
__________
[1] الوافي 15: 312.
[2] الوافي: للظرف.(3/1391)
في لقائه كلّ الاجتهاد، وأعتد بخدمته غاية الاعتداد، ولم أجد طريقا إلى ذلك إلا بحسن سفارة السيد الوالد، الإمام الماجد، بقية المشايخ والصدور، ومالك أزمة المنظوم والمنثور، علم العلم والأدب، وطود الحلم والحسب، أبي الأدباء، وموئل الغرباء، الذي دقّ فكره، وجلّ قدره:
سلمان أوحد عصره ... وزمانه في كلّ فن
شيخ العلوم وكعبة ... للفضل يقصدها الفطن
فيعتذر أنه حرسه الله مشغول بأمور مهمّة، وحوادث ملمة، ولما نزلنا الريّ أيقنت بالريّ من رؤيته، والتعاطي من بديهته العدّ ورويّته، ووثقت بالظفر بخدمته، فكنت الوامق الخجل لأنني ترددت إلى أن ملّني بواب دار الوزارة، وشكاني دهليز دار الإمارة، والحجاب كثيف، والحاجب عنيف:
لكن غرامي بالأدي ... ب أباح لي خلع الرسن
فكتبت منبسطا لأظ ... هر من غرامي ما بطن
يا سيّد الأدباء قل ... ب الصبّ عندك مرتهن
قلت: فهذا من هذه الرسالة يدل على أنه كان أديبا ذا مكانة من السلطان، وتمكّن من علوّ القدر والشان.
فلما لم يحمد ما كان منه، كتب إلى الفقيه أبي بكر محمد بن الشافعي المعروف بالعيثوري: لو وجدت إلى لقاء الشيخ الفقيه، أطال الله بقاءه ما اهتزّ غصن كعطفه، وجاد سحاب ككفّه، وتبلّج صبح كبشره، وتأرّج روض كذكره، وزخر بحر كعلمه، وشمخ طود كحلمه، ونفذ قدر كعزمه؛ بل أطال الله بقاءه ما قام أير واسبطرّ، واختلج بظر فاقشعر، وتجهّم عيش أديب فاكفهر، واطرد القياس ببؤس الفاضل واستمر؛ بل أطال الله بقاءه لتبادل الصبيان في المكاتب والمعالم، وتساحق النسوان في المقابر والمآتم. بل أطال الله بقاءه ما قدحت زنود الأفراح بالأقداح، وعدل طريق إلى الفقاح عن الأحراح، واتهم كاتب بحامل دواته، وغلام بمولاه أو بمولاته؛ بل أطال الله بقاءه ما خاب أمل عند لئيم ساقط، وحبط عمل في سوق زنيم هابط؛ بل أطال بقاءه ما بذل لئيم فقحته، وكشخان زوجته، وصفعان هامته؛ وأري(3/1392)
البخل كيسا وفطنة، ونسب السخاء خرقا وهجنة، وفديت الدراهم بالمحارم، والمائدة بالوالدة، والفلس بالعرس، سبيلا [1] لأخفيت القدم، وأعفيت القلم، ولكنت مليا بمحامده في كعبة فضائله حاجا إلى بابه، عاجلا بالاستئذان على حجّابه، فسقى الله [....] وكان الشريف البصري، وكان يجمع شملنا، ويصل حبلنا، ويضم أشتاتنا، ويعمّ بالاجتماع أوقاتنا، فنرتبع من مجلس الشيخ الفقيه في روض أريض، ونشفي بلقائه داء كلّ قلب مريض، ونتجارى في حلبات الفضل، فنتجاذب أطراف الجدّ من الحديث والهزل. وبعدا لهذه الأيام التي منعتنا مشاهدته، وحرمتنا مجاورته ومحاورته، وحجبته عنا، وأخذت له بانقطاعنا عنه فوق حقه منا.
وعلم الله أنني وصلت غرّة ذي الحجة إلى مدينة الري التي أقفر من المروءة جنابها، وصفرت من الفتوّة وطابها، وترأس أذنابها، وتذأب كلابها، ونسخ شرع الافضال في ربوعها، ومسخ كلّ من عرفناه من تابع أهلها ومتبوعها، وكان أول ما بدأت به السؤال عن أخباره، أجراها الله على إيثاره، والشيخ الإمام الحافظ بذلك شاهد، وليس في إقامة هذه الشهادة بواحد، فعرّفني من سلامته ما سكنت إليه نفسي، وشكرت الله عليه، ثم عدت إليها بعد الرحيل، ونزلت منها بربع محيل، فبلغني ما ساءني وأقلقني، وأزعجني وأرّقني، وجدّد سوء ظني بالزمان الجاهل، وأكد قبيح رأيي في الدهر الخامل، إلّا بما يسوء الأحرار، ويسرّ الأغمار، وما استبدعته من ذميم عادته، ولئيم جبلته، وقديم خرقه، وعظيم هوجه:
دفن ابن سلمان كان أولى ... لو وفّق الدهر للصواب
ودفن من يصطفيه أيضا ... من المخانيث والقحاب
لكنّ هذا الزمان كلب ... يفترس الأسد بالكلاب
وما تلك الحلية إلا من جملة الناس، ورب عار أحسن من كاس، وإذا تبلّجت الأرض فالروض يعود، وما دامت السماء فالشهب تطلع على الرسم المعهود. وسلب الحجل خير من قطع الرجل، وما هو إلا نصل جرّد من غمده، وجيد عطل من عقده، وغصن عرّي من ورقه، وورده على غير جريمة، ولا إتيان عظيمة ولا غشيان كريمة:
__________
[1] اقرأ: لو وجدت الى لقاء الشيخ الفقيه سبيلا (وما بينهما جمل معترضة) .(3/1393)
ومن نال الكريمة مستعيرا ... لفرط تغافل الشيخان عنه
جدير والأمور إلى معاد ... وإن قطبت بحزّ الرأس منه
فذاك الذي منعني من الحضور، ومواصلة الرواح بالبكور. ولما قيل قد فتح الباب، ورفع الحجاب، واجتمع الإخوان والأصحاب، وقعت هذه الواقعة التي أرغب إلى الله في صرفها، وقشع سحب غمامها وكشفها، وأزف انصرافي، وقصر الليل علي تحت زفافي، فحررت هذه السطور مع كثرة الموانع، وغلبة الصوارف والدوافع، والله تعالى يديم له النعمة الصافية، والمنحة الوافية، ويكفيه المحذور، ويسخّر له الأمور، ويجري المقدار على إرادته، ويحيل لأجله الفلك الأحمق عن عادته. وبعد ذلك فبلغني حرس الله نعمته أنه أنكر قديم مودتي، وسأل عني بعد طول صحبتي، سؤال متعرّف لأمري و [] حبرته من شعري، وذلك عند إطرائه شيخ الظّراف، وإمام اللطاف ابن حجاج. وأين الجدول من البحر، والكوكب من الفجر، والبعرة من الدرّة، والعرة من الغرّة، والعانة من الطرّة، والسّرم من السّرّة، والسّحنة من القرة، والحلوة من المرة، والأمة من الحرّة:
كان ابن حجاج في زمان ... ينطق من ظرفه الجماد
كل وليّ له بقول ... سمح وموجوده جواد
طبّ بداء القريض يعنى ... من كل أمر بها يراد
كابن عباد وابن العميد، والمهلبي والمجيد، وبني حمدان في إمارتهم، وآل المقتدر أيام خلافتهم، وعضد الدولة وعزها، وبني ركنها ومعزها، وغير هؤلاء من كبار القواد وأعيان الأمر الذين لو تعاطوا مساجلته لفضلوه، أو ادّعوا مناضلته لنضلوه، أو جاروه في حلبة الجد والهزل في العلم والفضل لشآه راجلهم ولسبقه، ونتف سباله وحلقه:
عبيدك القن في زمان ... بالجهل قد أخرس الشقاشق
بين كلاب بلا عقول ... ما فيهم واحد موافق
عمي عن المكرمات صمّ ... تعوقهم دونها العوائق
من كلّ تيس جهم المحيّا ... فجّ حديث العلا منافق(3/1394)