[الجزء الأول]
مقدّمة التحقيق
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
ليس هذا موطن الحديث التفصيلي عن ياقوت ومعجم الأدباء؛ ولكن لا بدّ في هذه الكلمة الموجزة من تبيان أمور أساسية: أولها أن أهمية هذا الكتاب كانت لا تفتأ تتمثل لعيني في دور مبكر، وكنت أراه حريا بالعناية والتقدّم على كلّ ما قمت به من قبل في ميدان التحقيق، فهو أصل كبير، ومصدر لا غنى عنه، أفاد منه أكثر من وجّه همته بعد ياقوت نحو التأليف في التراجم، فهو جدير بالتحقيق والتدقيق وتسهيل الحصول على ما يحتاجه الباحثون من معلومات فيه، وقد تكون الخطوة الأولى- لعدم ظهور مخطوطات جديدة- أن يقرأ على المصادر التي نقل عنها أو التي نقلت عنه، لضبط نصوصه، وتحرير ما فيه من مادة، وتخليصه من بعض الاشكالات التي لم تحلّ في طبعاته السابقة. وتلك خطوة مهمة، وهي على اتساع نطاقها ضرورية مهما تتطلب من عناء وجهد. ولكن لابدّ بعدها من وسائل أخرى تعين على العمل، وقد عرضت هذه الوسائل نفسها على نحو متتابع:
1- فقد كنت في أيام الطلب أقرأ لأديب فلسطين الكبير إسعاف النشاشيبي رحمه الله مقالات حول معجم الأدباء ينشرها متتابعة في مجلة الرسالة (المصرية) وكان يحاول أن يصوّب فيها ما يستطيع تصويبه من قراءات خاطئة، إما اجتهادا، وإما بالمقارنة مع المصادر الأخرى، وكان عمله هذا كثير الفائدة حين أردت أن أوجه العناية نحو معجم الأدباء، على الرغم من أن إسعافا أسرف كثيرا في الجري وراء استطرادات، على فائدتها، لا تتصل كثيرا بالهدف الرئيسي الذي من أجله كتب تلك المقالات.
2- اهتم الدكتور مصطفى جواد رحمه الله بمعجم الأدباء، فنشر مقالات متتابعة في مجلة المجمع العلمي العراقي [1] أوضحت أمرين كبيرين أولهما: أن هناك تراجم كثيرة قد ضاعت من معجم الأدباء، والدليل على ذلك أن المؤلف وعد بايرادها ولم ترد، وأن النقول عن ياقوت تتناول تراجم لا وجود لها في ما نشره مرغوليوث؛ وقد جمع منها (46) ترجمة ضائعة، ملتزما لدى النقل ما صرّحت به المصادر من منقولات عن ذلك المعجم؛ ولكن مراجعة الوافي بالوفيات للصفدي (مثلا) تدلّ على أنه نقل كثيرا من التراجم عن ياقوت دون تصريح؛ لكن كان عمل الدكتور جواد أكثر حيطة حين التزم بما وجده منقولا مشفوعا بالتصريح الواضح الدقيق؛ وثانيهما: أن هناك تراجم قد أدرجت في معجم الأدباء، وهي ليست من شرط المؤلف (كما وضحه في المقدمة) وإنما هي مستمدة من كتاب له آخر اسمه «معجم الشعراء» . إذ لما كان المؤلف قد أفرد الشعراء بمعجم مستقل فمن المستبعد أن يترجم في معجم الأدباء لحميد بن ثور الهلالي ومسكين الدارمي وأبي زبيد الطائي وحمزة بن بيض ونصيب بن رباح والفرزدق والخبز أرزي وغيرهم كثيرين. وقد كان رصد هاتين الظاهرتين مفيدا على مستوى التحقيق، إذ نبه من يحاول الاقتراب من معجم الأدباء إلى البحث عن ترجمات أخرى ضاعت غير تلك التي وقع عليها مصطفى جواد، كما نبّه الخاطر إلى ما في الكتاب من مادة دخيلة، وقد تساءلت هل يمكن فرز تلك المادة عن أصل الكتاب، فوجدت أن هذا عمل قد يتحمل الخطأ لأنّ ياقوتا نفسه كرر بعض التراجم في معجميه، كما فعل في ترجمة العتابي حين صرّح أنه استوفى أخباره في معجم الشعراء ومع ذلك أعاد ذكره في معجم الأدباء؛ وقد ترجم للبحتري لأنه إلى جانب شهرته في الشعر ألّف الحماسة، ولكن ترجمة أبي تمام لم ترد فيه، فهل سقطت من الكتاب أو اكتفى المؤلف بذكره في أحد المعجمين؟ ثم إن إسقاط الشعراء من هذا الكتاب قد يعني تحريرا لمعجم الأدباء من مادة دخيلة، ولكن وجود هذه التراجم أمر مفيد للدارس والباحث، خصوصا وأن حذفها يقوم على التحكم المحض لا على تصور واضح لطبيعة كل معجم من المعجمين؛ ولهذا أبقيت تراجم الشعراء، ووضحت في هامش كل ترجمة أنها- على الترجيح- ليست من أصل الكتاب؛ ولست أرى لها أن تحذف إلا حين يكتشف «معجم الشعراء» .
__________
[1] جمعت هذه المقالات في كتاب بعنوان «الضائع من معجم الأدباء» (بغداد: 1990) .(1/1)
3- وما كدت أنجز اعادة النظر في الكتاب حتى بلغ صديقي العلامة الكبير الشيخ حمد الجاسر نبأ اهتمامي به، فأرسل إلي- حفظه الله- يقول إن مختصرا لمعجم الأدباء موجود في مسقط قد يفيدني كثيرا في التحقيق. وبعد محاولات كثيرة للحصول على ذلك المختصر باءت بالاخفاق سافرت إلى الرياض في بعض الشؤون، ولقيت الأستاذ الجاسر، وحدثته بأن ضالتي المنشودة لم تقترن ببشرى العثور عليها، وما كان أشدّ سروري حين لقيته في اليوم التالي وهو يقدم إليّ صورة مكبرة من المختصر، فحملته معي عائدا إلى عمّان، دون أن أكتشف ما يحمله من قيمة بالغة، هوّنت عليّ إعادة العمل في الكتاب من نقطة الصفر.
وجدت الموجز يحمل عنوان «بغية الألباء من معجم الأدباء» اختصره لنفسه أحمد بن علي بن عبد السلام التكريتي، ويقع في 238 ورقة، وقد صدر بفهرست للمحتويات حديث الصنع، وبخط مغاير، ثم بفهرست ثان بخط الناسخ. وفي كل صفحة من صفحاته 21 سطرا ومعدل الكلمات في السطر الواحد 15 كلمة، وهو بخط شرقي واضح ذي حظ من جمال، ولكن بعض أوراقه مضطرب، وهذا الاضطراب أدى الى سقوط أوراق؛ وقد كتبت تراجم كثيرة (موجزة) في الهامش (بخط الأصل) ومعظمها يبدأ بالظهور بعد انتهاء حرف الحاء؛ وعلى الهوامش تعليقات كثيرة لا علاقة لها بالمتن وفيها أحيانا إضافات متأخرة ذات علاقة، لكنها ليست من أصل الكتاب، وكثرة الخطوط في هذه الهوامش تدل على كثرة التملكات. وفي المختصر اضطراب من نوع آخر كأن ترد معلومات في ترجمة ما، وحقيقة أمرها أنها تابعة لترجمة أخرى، ولكن هذا قليل. ويعني الاختصار لدى من قام به حذف ترجمات كاملة، أو حذف جوانب من الترجمة الواحدة، أو حذف السند؛ وفي أغلب الأحيان تحذف أسماء الكتب، فإذا لم تحذف وضعت في الهامش الى جانب الترجمة. ثم إن هذا المختصر لا يمثل جميع معجم الأدباء، بل يتوقف القسم الذي وصلنا منه عند نهاية ترجمة «عبد الله بن محمد بن هارون التوزي» (رقم: 667) فإذا كان هو الجزء الأول فإن ما تبقى من المعجم قد يجيء في جزء أو جزءين (بحسب اعتماد الحذف والايجاز) .
وعلى الرغم من كل هذه الصفات السلبية التي تعتور المختصر، فإن قيمته تبدو عزيزة على التقدير، إذ كشف لدى فحصه ومقارنته بالمطبوعة عن حقائق يمكن أن توصف بأنها خطيرة:
1- لقد أظهر أنّ مطبوعة مرغوليوث (م) قد سقطت منها ترجمات كثيرة، بلغ عددها في هذا الجزء من المختصر فقط حوالي 160 ترجمة، لا يدخل فيها أكثر الضائع الذي عدّه الدكتور مصطفى جواد.
2- حين انتهى الجزء الأول بترجمة عبد الله بن محمد بن هارون دلّ ذلك على أن ما سيتبعه لابدّ أن يتناول بقية حرف العين من العبادلة، وذلك ما لم يرد في (م) وهذا يعني أن ما سقط من (م) يفوق ما عثر عليه مصطفى جواد بكثير؛ إذ هنالك أسماء أعلام لا يمكن أن يغفلهم ياقوت، مثل عبد الله بن المقفع (في عبد الله- وقد وعد ياقوت بايراده) ثم أسماء عبد الرحمن (ومن أهم هؤلاء: عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي- عبد الرحمن بن أخي الأصمعي- عبد الرحمن بن عتيق بن الفحام الصقلي- عبد الرحمن بن عيسى الكاتب الهمذاني- عبد الرحمن بن محمد بن دوست- عبد الرحمن ابن محمد أبو البركات الأنباري) وأسماء عبد السلام (وفي مقدمتهم عبد السلام بن الحسين البصري الذي أفاد ياقوت من منقولات كثيرة بخطه) وأسماء عبد القاهر (ولا يمكن له أن يغفل عبد القاهر الجرجاني) وأسماء عبد الملك (وأبرزهم عبد الملك بن قريب الأصمعي) وأنا هنا إنما أذكر المشهورين من النحويين واللغويين، ولكن كتاب ياقوت يضم الأدباء من كل نوع: المؤرخين والخطاطين والنسابين وغيرهم ممن حددهم في المقدمة.
3- مع أنّ «بغية الألباء» يعد مختصرا فإن فيه تراجم مسهبة قد ضاعت أكثر مادتها من المطبوعة (م) وما عليك إلا أن تقارن بعض التراجم في المختصر بما يقابلها في المطبوعة مثل: الوزير المهلبي- ابن خالويه- الوزير المغربي- حمدان الأثاربي- الخليل بن أحمد الفراهيدي- الزبير بن بكار- سليمان النهرواني- أبو حاتم السجستاني- طلحة النعماني- أبو الأسود الدؤلي- الرياشي- أبو هفان- ابن بري ...
الخ عندئذ تجد أن ما طبع باسم معجم الأدباء قد لا يعدو أن يكون مختصرا آخر له من أصل كبير.
4- إن المختصر لم يهتمّ بايراد كل ترجمة وردت في الأصل؛ وحين اعتمد الحذف فقد تراجم كثيرة ورد بعضها في المطبوعة (مثل الترجمة رقم 2، 3، 4، 5، 7، 8، 13، 14، 18، 19، 20، 22) ولكن أليس من الطبيعي أن يكون قد حذف تراجم أخرى لم تذكر في المطبوعة نفسها؟ فإذا كان الأمر كذلك ارتفع عدد الضائع من معجم الأدباء إلى حد أكبر.
5- إن المختصر والمطبوعة قد يشتركان في الترجمة الواحدة، ولكن تكاد الصلة تكون واهية بين الصورتين في السياق العام والمعلومات المدونة والترتيب؛ (مثل ترجمة الوزير المغربي أو وجود ترجمتين متفاوتين لشخص واحد- ابن الخشاب مثلا) . ترى هل هذا يعني أن المؤلف كتب غير صورة واحدة من كتابه؟ أو من بعض التراجم فيه؟ أغلب الظنّ أن الأمر كان كذلك.
6- ولا ترد في المختصر ترجمات لمن انفردوا بالشعر ولم يضيفوا إليه فنا أدبيا آخر، وهذا يعني أن التكريتي صاحب المختصر قد اطّلع على نسخة من معجم الأدباء سلمت من الاختلاط بين تراجمها وتراجم معجم الشعراء.
7- وتدل بعض التراجم في المختصر (والمطبوعة) على أن المؤلف كان ينحو في عمله نحو الشمول بحيث يتفوق في معجمه على من عداه من المصنفين بالعدد والتنوع؛ كما تدلّ على أنّ «التطويل» في بعض التراجم لم يكن يمثل عقبة لديه، بل كان يراه ميزة له؛ ومع ذلك فإن مقارنة عابرة بينه وبين معاصره القفطي صاحب إنباه الرواة (على الرغم من الصلة بينهما ومن رؤية الأول لعمل الثاني) تدل على انفراد كل منهما بأشياء لم ترد عند الآخر، هذا مع التسليم بأن نطاق معجم الأدباء كان أوسع بكثير من نطاق إنباه الرواة، إذ الثاني مقصور على النحاة.
8- وسوى المختصر لم أستطع أن أحصل على نسخ جديدة، غير أني حصلت على مخطوطة كوبريللي من معجم الأدباء، وهي نسخة يقول مرغوليوث أنه اطلع عليها، ومع ذلك فإن هذه المخطوطة أفادت في توجيه كثير من القراءات، وأضافت ترجمة واحدة أغفلها مرغوليوث، هي ترجمة ابن نصر (رقم: 821) . وقد سقطت منها بعض التراجم، كما أن الترتيب فيها يختلف أحيانا عما جاء في (م) وتبتدىء بترجمة «عبيد الله بن محمد بن أبي بردة القصري» وآخر ترجمة فيها هي ترجمة «علي بن محمد بن علي الفصيحي» وتقع في 219 ورقة، وعدد السطور في الصفحة الواحدة 19 سطرا ومعدل الكلمات في السطر الواحد 13 كلمة، وخطها نسخي واضح مشكول(1/2)
جزئيا، ولصحتها الغالبة وحسن ضبطها نجد أنّ القسم الذي تمثله في المعجم هو أكثر أقسامه استواء وأقلّها ترجمات ضائعة.
ولقد يسأل سائل: ما هذا الذي أقدمه اليوم؟ وقبل الأجابة على هذا السؤال لابد لي من أن أقول: هناك عشرات التراجم التي لا تزال مفقودة من معجم الأدباء، وقد كان بامكاني أن أجري ترميما لأكثرها، ولكني لم أحاول ذلك، لأن حدود ما قام به ياقوت ليست واضحة في كل ترجمة منقولة عنه. ولهذا لم أقم بالترميم إلا في 32 ترجمة، واكتفيت في ترميم معظمها بإعادة ما نقل عن ياقوت (تصريحا) إلى مواضعها من معجمه. فأنا أعرف مثلا أن ترجمة الأصمعي لابد أن تكون واحدة من تراجم معجم الأدباء، ومع ذلك لم أحاول «إقامة» ترجمة للأصمعي تضاف إلى هذه الطبعة، أولا لأني لم أجد نقولا عن ياقوت في ترجمة الأصمعي، وثانيا لأن لياقوت طريقته في النقل ومصادره التي ينقل عنها، وكثيرا ما ينفرد بمعلومات لا توجد عند غيره. ومثل ذلك يقال في تراجم كثيرة نقلت أجزاء منها عنه دون تصريح فاكتسبت حيث وردت وضعا جديدا.
ومع ذلك ما أقدمه اليوم يعد أقرب صورة لمعجم الأدباء في حالته الأولى؛ ولكن معجم الأدباء- بتمامه- سيظل مطلبا بعيدا، يصعب نيله؛ وإذا كنت قد سميته «معجم الأدباء» - وهو ليس بالضبط كذلك- فعذري في ذلك أن تلك هي التسمية التي عرفت بها صورة أقل شمولا وأكثر بعدا عنه من هذه الصورة التي أنشرها اليوم، وبهذا الاسم عرفه الناس وميزوه.
لقد أنفقت جهدا كبيرا في محاولة ضبط هذا النصّ، بعد إذ علمت عملها فيه اجتهادات متفاوتة لم يكن أكثرها صائبا، وحين يجيء هذا الكتاب مزودا بفهارس تحليلية دقيقة، ودراسة للمؤلف وكتابه من جميع نواحيه، فإني أرجو أن تكون فائدته محققة لدى الباحثين والدارسين والقراء.
وإذا كان لي أن أتوجه بالشكر لمن أعانني في هذا العمل، وأنا أعيش في عزلة مبهمة خرساء، فأجزل الشكر وأتمه يتوجه إلى من أهداني «المختصر» ، صديقي العالم البحاثة الجليل الشيخ حمد الجاسر الذي جعل خدمة العلم غاية له، كما أشكر ابنتي السيدة نرمين عباس على ما قدّمته من عون حين حملت عني كثيرا من عبء(1/3)
التصحيح والتدقيق وصنع الفهارس؛ وقد كان للابن العزيز الدكتور ياسين عايش الفضل في إنجاز جوانب من هذا العمل ومراجعة أصوله لدى الطباعة، فله الشكر الجزيل على ما قدّمه.
أما الصديق الحاج الحبيب اللمسي فقد كان دائما يتحرى بحدس الرجل المؤمن تقديم الكتب التراثية المفيدة، ويبذل في سبيل ضبطها وإعلاء حظها من الصحة ما يملك من جهد ومال. ولولا حماسته لنشر صورة من هذا المعجم- هي أقرب الى الصحة مما سبقها- لوجدتني قد ملت إلى ما تمليه السنّ من طلب للراحة ومجانبة للارهاق؛ وفق الله الحبيب لما يحبه ويرضاه، وأقدرني على إيفائه حقه من الشكر وعرفان الجميل.
وأدعو الله مخلصا أن يوفقني إلى إكمال هذا العمل، الذي أرجو أن يحسب في باب العمل الصالح، إنه سميع مجيب.
عمان في آذار (مارس 1992) .
احسان عباس
(بيان بالرموز)
م: المطبوعة (بتحقيق مرغوليوث) وعنها أخذت طبعة دار المأمون (الطبعة المصرية) فتعرضت للشكل التام، والتعليقات الخاطئة، وحذف بعض التراجم.
ش: النشاشيبي، إسعاف (مقالاته في مجلة الرسالة) .
ر: المختصر أي بلغة الألباء.
ك: مخطوطة كوبريللي رقم: 1104.(1/4)
مقدّمة المؤلف
[خطبة الكتاب]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
وبه الإعانة الحمد لله ذي القدرة القاهرة، والآيات الباهرة، والآلاء الظاهرة، والنّعم المتظاهرة، حمدا يؤذن بمزيد نعمه، ويكون حصنا مانعا من نقمه، وصلّى الله على خير الأولين والآخرين من النبيين والصدّيقين، محمد النبي، والرسول الأمّي، ذي الشرف العليّ، والخلق السنيّ، والكرم المرضيّ، وعلى آله الكرام، وأتباعه سرج الظلام، وشرّف وعظم وبجّل وكرم.
وبعد فما زلت منذ غذيت بغرام الأدب، وألهمت حبّ العلم والطلب، مشغوفا بأخبار العلماء، متطلعا إلى أنباء الأدباء، أسائل عن أحوالهم، وأبحث عن نكت أقوالهم بحث المغرم الصبّ، والمحبّ عن الحبّ، وأطوف على مصنّف فيهم يشفي الغليل، ويداوي لوعة العليل، فما وجدت في ذلك تصنيفا شافيا، ولا تأليفا كافيا؛ مع أنّ جماعة من العماء، والأئمة القدماء [1] ، أعطوا ذلك نصيبا من عنايتهم وافرا، فلم يكن عن صبح الكفاية سافرا، كأبي بكر محمد بن عبد الملك التاريخي [2] ، وأرى أنه أول من أعارهم طرفه، وسوّد في تبييض أخبارهم صحفه، لأنه قال في مقدمة كتابه: «وقد اجتهد أبو العباس محمد بن مبرد الأزدي وأبو العباس أحمد بن يحيى
__________
[1] زاد في طبعة دار المأمون: أصحاب كتب التراجم.
[2] محمد بن عبد الملك السراج التاريخي النحوي، أخذ عن المبرد وثعلب، وكان فاضلا متقنا حسن الأخبار، وله كتاب تاريخ النحويين (تاريخ بغداد 2: 348 والوافي 5: 45- 46) . ترجم له ياقوت، ولكن سقطت ترجمته.(1/5)
الشيباني في مثل ما أودعناه كتابنا من أخبار النحويين فما وقعا ولا طارا» ، هذا مع أن كتابه صغير الحجم قليل التراجم محشوّ بالنوادر التي رووها، لا يختصّ بأخبارهم أنفسهم.
ثم ألف بعده في هذا الأسلوب أبو محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه كتابا فلم يقع إلينا إلا أننا نظنه كذلك.
ثم صنّف فيه أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني كتابا حفيلا كبيرا [1] على عادته في تصانيفه، إلا أنه حشاه بما رووه وملأه بما وعوه، فينبغي أن يسمّى مسند النحويين. وقد وقفت على هذا الكتاب وهو تسعة عشر مجلدا، ونقلت فوائده إلى هذا الكتاب مع أنه أيضا قليل التراجم بالنسبة إلى كبر حجمه.
ثم ألف فيه أبو سعيد الحسن بن عبد الله بن المرزبان السيرافي القاضي كتابا صغيرا في نحاة البصرة [2] نقلنا أيضا فوائده إلى هذا الكتاب.
ثم جمع في ذلك أبو بكر محمد بن حسن الاشبيلي الزبيدي كتابا [3] لم يقصّر فيه، وهو أكثر هذه الكتب فوائد، وأكثرها تراجم وفرائد، وقد نقلنا فوائده أيضا إلى هذا الكتاب.
ثم ألف فيه القاضي أبو المحاسن المفضل بن محمد بن مسعر المعري كتابا لطيفا [4] نقلنا فوائده.
ثم ألف فيه علي بن فضال المجاشعي [5] كتابا وسماه «شجرة الذهب في أخبار أهل الأدب» وقع إليّ منه شيء فوجدته كثير التراجم إلا أنه قليل الفائدة لكونه لا يعتني
__________
[1] هو كتاب المقتبس، ولم يصلنا إلا في صورة موجزة باسم نور القبس، حققه رودلف زلهايم، فيسبادن 1964.
[2] نشر بعنوان أخبار النحويين البصريين بتحقيق طه محمد الزيني وعبد المنعم خفاجي، القاهرة 1955.
[3] طبقات النحويين واللغويين تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، القاهرة 1973 (الطبعة الثانية وهي أكثر دقة من الأولى) .
[4] تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم، تحقيق الدكتور عبد الفتاح محمد الحلو، المملكة العربية السعودية 1981.
[5] علي بن فضال المجاشعي: قيرواني الأصل هاجر موطنه وجال في الأرض ثم خدم نظام الملك بالعراق، وتوفي سنة 479 وسيترجم له ياقوت.(1/6)
بالأخبار ولا يعبأ بالوفيات والأعمار.
ثم ألف فيه الكمال عبد الرحمن بن محمد بن الأنباري كتابا سماه «نزهة الألباء في أخبار الأدباء» [1] نقلنا فوائده أيضا.
وكنت مع ذلك أقول للنفس مماطلا، وللهمة معاضلا، ربّ غيث غبّ البارقة، ومغيث تحت الخافقة [2] ، إلى أن هزم اليأس الطمع، واستولى الجدّ على اللعب والولع، وعلمت أنه طريق لم يسلك، ونفيس لم يملك، فاستخرت الله الكريم، واستنجدت بحوله العظيم، وجمعت [3] في هذا الكتاب ما وقع إليّ من أخبار النحويين، واللغويين، والنسابين، والقراء المشهورين، والأخباريين، والمؤرخين، والوارقين المعروفين، والكتاب المشهورين، وأصحاب الرسائل المدوّنة، وأرباب الخطوط المنسوبة والمعينة، وكلّ من صنّف في الأدب تصنيفا، أو جمع في فنه تأليفا، مع إيثار الاختصار، والإعجاز في نهاية الإيجاز. ولم آل جهدا في إثبات الوفيات، وتبيين المواليد والأوقات، وذكر تصانيفهم، ومستحسن أخبارهم، والإخبار بأنسابهم وشيء من أشعارهم.
فأما من لقيته أو لقيت من لقيه فأورد [4] لك من أخباره وحقائق أموره ما لا أترك لك بعده تشوفا إلى شيء [5] من خبره، وأما من تقدّم زمانه، وبعد أوانه، فأورد [6] من خبره ما أدّت الاستطاعة إليه، ووقفني النقل عليه، في تردادي إلى البلاد، ومخالطتي للعباد. وحذفت الأسانيد إلا ما قلّ رجاله، وقرب مناله، مع الاستطاعة لإثباتها سماعا وإجازة، إلا أنني قصدت صغر الحجم وكبر [7] النفع، وأثبتّ مواضع نقلي ومواطن أخذي من كتب العلماء المعوّل في هذا الشأن عليهم، والمرجوع في صحة النقل إليهم.
__________
[1] طبع غير مرة، ونعتمد هنا على طبعة عراقية بتحقيق الدكتور إبراهيم السامرائي 1955.
[2] الخافقة صفة للراية.
[3] انظر تاريخ اربل: 320- 322.
[4] ر: فسأورد.
[5] ر: أترك لنفسك بعده أن تشوف لشيء.
[6] ر: فإني أورد.
[7] ر: وكثر.(1/7)
وكنت قد شرعت عند شروعي في هذا الكتاب، أو قبله، في جميع كتاب في «أخبار الشعراء» المتأخرين والقدماء. ونسجتها على هذا المنول، وسبكتها على هذا المثال في الترتيب، والوضع والتبويب، فرأيت أكثر أهل العلم المتأدبين، والكبراء المتصدرين، لا تخلو قرائحهم من نظم شعر، وسبك نثر، فأودعت ذلك الكتاب كلّ من غلب عليه الشعر فدوّن ديوانه، وشاع بذلك ذكره وشانه، ولم يشتهر برواية الكتب وتأليفها، والآداب وتصنيفها. وأما [1] من عرف بالتصنيف، واشتهر بالتأليف، وصحّت روايته، وشاعت درايته، وقلّ شعره، وكثر نثره، فهذا الكتاب عشّه ووكره، وفيه يكون ثناؤه وذكره، واجتزىء به عن التكرار هناك، إلا النفر اليسير الذين دعت الضرورة إليهم، ودلّت [2] عنايتهم بالصناعتين عليهم. ففي هذين الكتابين أكثر أخبار الأدباء، من العلماء والشعراء. وقصدت بترك التكرار، خفّة محمله في الأسفار، وحيازة ما أهواه من هذا النشوار.
وجعلت ترتيبه على حروف المعجم: أذكر أوّلا من أوّل اسمه ألف، ثم من أول اسمه باء ثم تاء ثم ثاء إلى آخر الحروف، وألتزم ذلك في أول حرف من الاسم وثانيه وثالثه ورابعه، فأبدأ بذكر من اسمه آدم، ألا ترى أن أوّل اسمه همزة ثم ألف، ثم من اسمه إبراهيم لأن أول اسمه ألف وبعد الألف باء، ثم كذلك إلى آخر الحروف، وألتزم ذلك في الآباء أيضا فاعتبره، فإنك إذا أردت الاسم تجد له موضعا واحدا لا يتقدم عليه [3] ولا يتأخر عنه اللهم إلا أن تتفق أسماء عدة رجال وأسماء آبائهم فإن ذلك مما لا حصر فيه إلا بالوفاة، فإني أقدّم من تقدّمت وفاته على من تأخّرت.
وأفردت في آخر كلّ حرف فصلا أذكر فيه من اشتهر بلقبه أو نسبه أو كنيته وخفي عن أكثر الناس اسمه فأذكر من لقبه [4] على ذلك الحرف، من غير أن أورد شيئا من أخباره فيه، إنما أدلّ على اسمه واسم أبيه لتطلبه [5] في موضعه.
ولم أقصد أدباء قطر، ولا علماء عصر، ولا إقليم معيّن، ولا بلد مبيّن، بل
__________
[1] ر: فأما.
[2] م ر: ودلنا.
[3] ر: يتقدم عنه.
[4] أو نسبه ... من لقبه: سقط من م.
[5] ر: ليطلبه.(1/8)
جمعت البصريين والكوفيين والبغداديين والخراسانيين والحجازيين واليمنيين والمصريين والشاميين والمغربيين وغيرهم على اختلاف البلدان، وتفاوت الأزمان، حسب ما اقتضاه الترتيب، وحكم بوضعه التبويب، لا على قدر أقدارهم في القدمة والعلم، والتأخر والفهم.
وابتدأته بفصل يتضمن أخبار قوم من متخلّفي النحويين والمتقعرين المجهولين.
وإني لجدّ عالم ببغيض يندّد ويزري عليّ، ويقبل بوجه اللائمة إليّ، ممن قد أشرب الجهل قلبه، واستعصى على كرم السجيّة لبّه، يزعم أن الاشتغال بأمر الدين أهم، ونفعه في الدنيا والآخرة أعم [1] ؛ أما علم أن النفوس مختلفة الطبائع، متلونة النزائع؟ ولو اشتغل الناس كلّهم بنوع من العلم واحد لضاع باقيه، ودرس الذي يليه. وإن الله جل وعز جعل لكلّ علم من يحفظ جملته، وينظم جوهرته، والمرء ميسّر لما خلق له. ولست أنكر أني لو لزمت مسجدي ومصلّاي، واشتغلت بما يعود بعاقبة دنياي في أخراي [لكان] أولى، وبطريق السلامة في الآخرة أحرى، ولكنّ طلب الأفضل مفقود، واعتماد الأحرى غير موجود. وحسبك بالمرء فضلا أن لا يأتي محظورا، ولا يسلك طريقا مخطورا [2] .
[وقال السري الرفاء:
كن للعلوم مصنّفا أو جامعا ... يبقى لك الذكر الجميل مخلدا
كم من أديب ذكره بين الورى ... غضّ وقد أودى به ذكر الردى
وأرى الأديب يهابه أعداؤه ... وتعدّه السادات فيهم سيدا
ينسى الأواخر والأوائل كلهم ... إلا أخا العلم الذي حاز المدى
وقال بعض الأدباء:
أرى العلماء أطولنا حياة ... وإن أضحوا رفاتا في القبور
__________
[1] ر: أتمّ.
[2] مخطورا: سقطت من م.(1/9)
أناس غيّبوا وهم شهود ... بما ابتدعوه من علم خطير
كأنهم حضور حين تجري ... محاسن ذكرهم عند الحضور
لئن ملئت قبورهم ظلاما ... فإن ضياءهم ملء الصدور] [1]
وبعد فهذه أخبار قوم أخذ عنهم علم القرآن المجيد، والحديث المفيد [وهم أنهجوا طريق العربية، وأناروا سرجه المضيّة] [1] وبصناعتهم تنال الإمارة، وببضاعتهم يستقيم أمر السلطان والوزارة، وبعلمهم يتمّ الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام. ألا ترى أنّ القارىء إذا قرأ إن الله بريء من المشركين ورسوله- بالرفع- فقد سلك طريقا من الصواب واضحا، وركب منهجا من الفضل لائحا، فإن كسر اللام من «رسوله» كان كفرا بحتا [2] وجهلا قحّا؟ وقد روي أن أبا عمرو بن العلاء كان يقول: لعلم العربية هو الدين بعينه، فبلغ ذلك عبد الله بن المبارك فقال:
صدق لأني رأيت النصارى قد عبدوا المسيح لجهلهم بذلك، قال الله تعالى: أنا ولّدتك من مريم وأنت نبيي، فحسبوه يقول: أنا ولدتك وأنت بنيي. فبتخفيف اللام وتقديم الباء وتعويض الضمة بالفتحة كفروا.
وحسبك من شرف هذا العلم أنّ كلّ علم على الإطلاق مفتقر إلى معرفته، محتاج إلى استعماله في محاورته، وصاحبه فغير مفتقر إلى غيره، وغير محتاج إلى الاعتضاد والاعتماد على سواه، فإن العلم إنما هو باللسان، فإذا كان اللسان معوجّا متى يستقيم ما هو به؟ وإن أردت إقامة الدليل على شأن أهل هذا الشان، وإيضاح فضلهم بالدلائل والبرهان، كنت كمن تكلّف دليلا على ضياء النهار، وإشراق الشمس وإحراق النار، فإن ذلك لا يخفى على الصامت من الحيوان فكيف الناطق، وعلى كل كهّ فهّ [3] فكيف الحاذق.
فقد جمعت من أخبار هذه الطائفة بين حكم وأمثال وأخبار وأشعار ونثر وآثار، وهزل وجدّ، وخلاعة وزهد، ومبك ومضحك، وموعظة ونسك:
__________
[1] ما بين معقفين زيادة من ر.
[2] ر: محضا.
[3] ر: فهّ كهّ: والفه: العيي؛ وأما الكه فلعله مذكر «كهة» بمعنى الثقيل الضخيم.(1/10)
من كلّ معنى يكاد الميت يفهمه ... حسنا ويعبده القرطاس والقلم
فهو لا ينفق إلا على من جبل على العلم طبعه، وعمر بحبّ الفضل ربعه، فظلّ للآداب خدينا، ولصحة العقل قرينا، قد عجنت بالظرافة طينته، وسيّرت باللطافة سيرته. وأما أهل الجهل [1] والغي، والفهاهة والعيّ، فليس ذا عشّك فادرجي [2] .
ولا مبيتك فأدلجي. فليعفني المفنّد البغيض، وليعرض عن التعريض.
على أنني معترف بقول [3] يحيى بن خالد: لا يزال الرجل في فسحة من عقله ما لم يقل شعرا أو يصنّف كتابا. وقد كتب جعفر بن يحيى إلى بعض عماله، وقد وقف على سهو في كتاب ورد منه: «اتخذ كاتبا متصفحا [4] لكتبك، فإن المؤلف للكتاب [5] تنازعه أمور وتعتوره صروف [6] تشغل قلبه وتشعّب فكره، من كلام ينسّقه، وتأليف ينظّمه، ومعنى يتعلّق به يشرحه، وحجة يوضحها. والمتصفّح للكتاب أبصر بمواضع الخلل من مبتدي تأليفه» . وأنا فقد اعترفت بقصوري فيما اعتمدت عن الغاية، وتقصيري عن الانتهاء إلى النهاية، فأسأل الناظر فيه أن لا يعتمد العنت ولا يقصد قصد من إذا رأى حسنا ستره، وعيبا أظهره. وليتأمّله بعين الإنصاف لا الانحراف، فمن طلب عيبا وجدّ وجد، ومن افتقد زلل أخيه بعين الرضى فقد فقد.
فرحم الله امرءا قهر هواه، وأطاع الانصاف ونواه، وعذرنا في خطأ إن كان منا، وزلل إن صدر عنّا، فالكمال محال لغير ذي الجلال، فالمرء غير معصوم، والنسيان في الإنسان غير معدوم. وإن عجز عن الاعتذار عنا والتصويب، فقد علم أن كلّ مجتهد مصيب، فانّا وإن أخطأنا في مواضع يسيرة، فقد أصبنا في مواطن كثيرة، فما علمنا
__________
[1] ر: الجهالة.
[2] في المثل: ليس بعشك فادرجي، أي ليس هذا مما ينبغي لك فزل عنه، جمهرة العسكري 2: 197 وفصل المقال: 403.
[3] ر: بفضل قول.
[4] م: منصفا.
[5] للكتاب: سقطت من م.
[6] م: خروق.(1/11)
فيمن تقدّمنا من العلماء [1] وأمنا من الأئمة القدماء أحدا [2] إلا وقد نظم في سلك أهل الزلل، وأخذ عليه شيء من الخطل، وهم هم، فكيف بنا مع قصورنا واقتصارنا وصرف جلّ زماننا في نهمة الدنيا وطلب المعاش [3] ، وتنميق [4] الرياش، الذي مرادنا منه [5] صيانة العرض، وبقاء ماء الوجه لدى العرض.
وإنما تصديت [6] لجمع هذا الكتاب لفرط الشّغف والغرام، والوجد بما حوى والهيام، لا لسلطان أجتديه، ولا لصدر أرتجيه. غير أني أرغب إلى الناظر فيه أن يترحّم عليّ، ويعطف جيد دعائه إليّ، فذلك ما لا كلفة فيه عليه، ولا ضرر يرجع به إليه، فربما انتفعت بدعوته، وفزت بما قد أمن هو من معرّته.
ومع ما تقدّم من اعتذارنا، ومرّ من تنصّلنا واستغفارنا، فقد رآني جماعة من أهل العصر وقد نظمت لآلىء هذا الكتاب، وأبرزته في أبهى من الحليّ على ترائب الكعاب، فاستحسنوه والتمسوه لينسخوه، فوجدت في نفسي شحّا عليهم، وبخلا بعطف جيده إليهم، لأنه مني بمنزلة الروح من جسد الجبان، والسوداوين من العين والجنان، مع كوني غير راض لنفسي بذلك المنع، ولا حامد لها على ذلك الصنع، لكنها طبيعة عليها جبلت، وسجيّة إليها جبرت، حتى قلت فيه مع اعترافي بقلة بضاعتي في الشعر، وعلمي بركاكة نظمي والنثر [7] :
فكم قد حوى من فصل قول محبّر ... ومن نثر مصقاع ومن نظم ذي فهم
ومن خبر حلو ظريف جمعته ... على قدم الأيام للعرب والعجم
يرنّح أعطافي إذا ما قرأته ... كما رنّحت شرّابها إبنة الكرم
ولو أنني أنصفته في محبّتي ... لجلّدته جلدي وصندقته عظمي
__________
[1] من العلماء: سقطت من م.
[2] أحدا: سقطت من م.
[3] ر: في النهمة الدنيا وطل المعاش.
[4] م: وتنمو.
[5] ر: مرادنا به.
[6] م: تصاديت.
[7] وردت الأبيات في تاريخ اربل: 321.(1/12)
عزيز على فضلي بأن لا أطيعه ... على بذله للطائفين على العلم
ولو أنني أسطيع من فرط حبّه ... لما زال من كفّي ولا غاب عن كمي
وقد قرأت بخط أبي سعد السمعاني لأبي عبد الله محمد بن سلامة المقرىء [1] في هذا النشوار:
إني لما أنا فيه من منافستي ... فيما شغفت به من هذه الكتب
لقد علمت بأن الموت يدركني ... من قبل أن ينقضي من حبّها أربي
[ولله درّ القائل] [2] :
ومجموعة فيها علوم كثيرة ... تقرّ بما فيها عيون الأفاضل
ألذّ من النّعمى وأحلى من المنى ... وأحسن من وجه الحبيب المواصل
حكت روضة حاكت يد القطر وشيها ... ومسّك ريّاها نسيم الأصائل
أطالعها في كلّ وقت فأجتلي ... عقائل يغلي مهرها كلّ عاقل
وأمنعها الجهال فهي حبيبة ... «جرى حبّها مجرى دمي في مفاصلي»
(تضمين نصف بيت للمتنبي) .
واعلم [3] أنني لو أعطيت حمر النّعم وسودها، ومقانب [4] الملوك وبنودها، لما سرّني أن ينسب هذا الكتاب إلى سواي، وأن يفوز بقضب سبقه إلّاي، لما قاسيت في تحصيله من المشقة، وطويت في تكميله من طول الشّقّة، فإنني علم الله لم أقف على باب أحد من العالم أجتديه، ولا أحصي عدد ما وقفت على الأبواب للفوائد فيه، فلا غرو أن أمنعه من ملتمسيه، وأحجبه من الراغبين فيه. على أنّي ما زلت أعاتب نفسي على هذا الصنيع، وأعدّه من الأمر الفظيع والخلق الشنيع، إلى أن وقفت على الكتاب الذي ألفه محمد بن عبد الملك التاريخي في أخبار النحويين، وقد قال في
__________
[1] هو- فيما استظهره- محمد بن سلامة بن جعفر بن علي أبو عبد الله القضاعي الشافعي قاضي مصر، مصنف كتاب الشهاب، انظر ترجمته في الوافي 3: 116 وابن خلكان 3: 349 وعبر الذهبي 3: 233 وطبقات الشافعية للسبكي 4: 150 (وفي حاشيته ذكر لمصادر أخرى) والبيتان في تاريخ اربل: 321.
[2] زيادة تقديرية، وفي الأصل بياض.
[3] من هنا حتى نهاية هذه المقدمة تختلف ر عن م بالتقديم والتأخير.
[4] المقانب: جمع مقنب وهو جماعة الخيل.(1/13)
ديباجته [1] : «ولم أقصد بهذا الكتاب لهوا ولا لعبا، ولا سمحت نفسي ببذله، ولا طابت ببثه وإخراجه إلى غير أبي الحسين محمد بن عبد الرحمن الروذباري الكاتب [2]- أطال الله بقاءه- فإنه لي كما قال معاوية بن قرّة في ابنه إياس بن معاوية، وقد قيل له [3] : كيف ابنك؟ فقال: خير ابن كفاني أمر الدنيا وفرّغني لأمر الآخرة» . ثم قال:
«وما أحصي عدد من انقطع بيننا وبينه من الإخوان في ردّنا إياه عن هذا الكتاب» .
فحينئذ خفّفت عن نفسي اللوم، إذ كان التأسّي من أخلاق القوم، وعلمت أنّ النفوس بخيلة بالنفائس، شحيحة بابراز العرائس. هذا وإنما يشتمل كتابه على ثلاث وعشرين ترجمة نقلت زبدها إلى هذا الكتاب، فلم ألام إذا أخفيته عن طالبيه، وحجبته [4] عن خاطبيه؟ وقد أقسمت أن لا أسمح باعارته ما دام في مسوّدته لئلا يلحّ طالب بالتماسه، ولا يكلّفني إبرازه من كناسه، فحملهم منعي على احتذائه، وتصنيف شرواه في استوائه، وما أظنّهم يشقّون غباره، ولا يحسنون ترتيبه وأسطاره، وان وقفت لنظر الجميع، ستعرف الظالع من الضليع. فإذا هذّبته ونقّحته وبيّضته، فتمتع به فإنه كتاب أسهرت لك فيه طرفي، وأنضيت في تحصيله طرفي وطرفي. وقد حصّلته عفوا، وملكته صفوا، فاجعل جائزتي دعاء يزكو غرسه عند ذي العرش، واحمدني في بسطه والفرش، واذكرني في صالح دعائك: وربّ دعوة صادفت إجابة، ورمية حصّلت إصابة.
ولو أنصف أهل الأدب، لاستغنوا به عن المأكل والمشرب؛ ولكنّني أخاف أن يأتيه النقص من جهة زيادة فضله، وأن يقعد بقيام جدّه عظم خطره ونبله. وأستشعر له أمرين منبعهما من قلّة الإنصاف، واجتناب الحقّ والانحراف: أحدهما أن يقال هل هو إلا تصنيف رومّي مملوك، وما عسى أن يأتي به وليس في أبناء جنسه له نظير، وما كان في أمته رجل خطير، لاستيلاء [5] التقليد على العالم والبليد، فهم لا ينظرون ما
__________
[1] ر: وقد ذكر في ديباجته فقال.
[2] هو صاحب الفضل بن جعفر بن حنزابة وولي كتابة مصر قبله (الوافي 4: 46) .
[3] انظر تهذيب ابن عساكر 3: 179.
[4] ر: وسترته.
[5] ر: لشمول.(1/14)
قيل، إنما يسألون عمن قال، ونعم العون للعالم القؤول، حسن الاعتقاد والقبول.
والأمر الآخر قصور الهمم، الغالب على أكثر الأمم، إذ كلّ همّه تحصيل المأكول والملبوس، ولا تسمو همته [1] إلى تشريف النفوس.
واعلم حباك الله بحسن رعايته، وأمدّك بفضل هدايته، أنّ هذا الفن من العلم ليس من بابة من يطلب العلم للمعاش، أو ليحصّل الزينة والرياش، ولا من رغبات من ينظر فيه وقلبه يجول في طلب المحصول فهو يسأل عما ينفق [2] . ولا هو مما ينفق في المدارس، أو يناظر به في المجالس، إنما هو علم الملوك [3] والوزراء، والجلة من الناس والكبراء، يجعلونه ربيعا لقلوبهم، ونزهة لنفوسهم، ترتاح إليه أرواحهم، وتشتمل عليه أفراحهم، فهو ربيع النفوس النفيسة، ورأس مال العلوم الرئيسة.
وقد سمّيت هذا الكتاب إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب [4] ، ومن الله أستمد المعونة، وإياه أسأل التوفيق لما يرضيه، والهداية إلى ما يحبه ويزلف إليه، إنه جواد كريم، رؤوف رحيم.
__________
[1] ر: همتهم.
[2] في م: والرياش ولا هو مما ينفق.
[3] ر: إنما هذا للملوك.
[4] غير ذلك من بعد وسماه: إرشاد الألباء إلى معرفة الأدباء (تاريخ اربل: 322) .(1/15)
الفصل الأول في فضل الأدب وأهله وذمّ الجهل وحمله
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه [1] : كفى بالعلم شرفا أنه يدّعيه من لا يحسنه، ويفرح إذا نسب إليه من ليس من أهله، وكفى بالجهل خمولا أنه يتبرأ منه من هو فيه ويغضب إذا نسب إليه، فنظم بعض المحدثين ذلك فقال:
كفى شرفا للعلم دعواه جاهل ... ويفرح أن يدعى إليه وينسب
ويكفي خمولا بالجهالة أنني ... أراع متى أنسب إليها وأغضب
وقال رضي الله عنه: قيمة كل إنسان [2] ما يحسن، فنظمه شاعر وقال [3] :
لا يكون الفصيح مثل العييّ ... لا ولا ذو الذكاء مثل الغبيّ
قيمة المرء قدر ما يحسن المر ... ء قضاء من الإمام عليّ
وقال كرم الله وجهه [4] : كلّ شيء يعزّ إذا نزر ما خلا العلم فإنه يعز إذا غزر.
ومرّ [5] عمر بن الخطاب رضي الله عنه على قوم يسيئون الرمي فقرّعهم فقالوا: إنا قوم
__________
[1] المحاسن والمساوىء: 399 وورد هنالك البيت الثاني المتصل بالخبر.
[2] ر: امرىء.
[3] قول علي ومعه البيتان في أدب الدنيا والدين: 42 وورد البيتان منسوبين للخليل في قطعة طويلة في بهجة المجالس 1: 65 وهما في جامع بيان العلم: 162 وكلمة عليّ في البيان والتبيين 1: 83، 2: 77 والتذكرة الحمدونية 1: 241 وربيع الأبرار 3: 192. وسترد الأبيات في ترجمة الخليل.
[4] ورد القول دون نسبة في محاضرات الراغب 1: 51.
[5] الخبر في محاضرات الراغب 1: 67 (عن عثمان) .(1/16)
متعلمين، فأعرض مغضبا وقال: والله لخطأكم في لسانكم أشدّ عليّ من خطأكم في رميكم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «رحم الله امرءا أصلح من لسانه» .
وروي أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ
(الزخرف: 77) أنكر عليه عبد الله بن عباس [1] فقال عليّ:
هذا من الترخيم في النداء، فقال ابن عباس: ما أشغل أهل النار في النار عن الترخيم في النداء، فقال علي: صدقت. فهذا يدل على تحقّق الصحابة بالنحو وعلمهم به.
استأذن رجل على إبراهيم النّخعيّ فقال: أبا عمران في الدار؟ فلم يجبه، فقال: أبي عمران في الدار؟ فناداه: قل الثالثة وادخل.
وكان الحسن بن أبي الحسن يعثر لسانه بشيء من اللحن فيقول: أستغفر الله، فقيل له فيه، فقال: من أخطأ فيها فقد كذب على العرب، ومن كذب فقد عمل سوءا وقال الله تعالى وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
(النساء: 110) .
وذكر أبو حيان في «كتاب محاضرات العلماء» حدثنا القاضي أبو حامد أحمد بن بشر [2] قال: كان الفراء يوما عند محمد بن الحسن، فتذاكروا في الفقه والنحو، ففضّل الفراء النحو على الفقه، وفضّل محمد بن الحسن الفقه على النحو، حتى قال الفراء: قلّ رجل أنعم النظر في العربية وأراد علما غيره إلّا سهل عليه، فقال محمد بن الحسن: يا أبا زكريا قد أنعمت النظر في العربية وأسألك عن باب من الفقه، فقال:
هات على بركة الله تعالى، فقال له: ما تقول في رجل صلّى فسها في صلاته، وسجد سجدتي السهو فسها فيهما؟ فتفكر الفراء ساعة ثم قال: لا شيء عليه، فقال له محمد: لم؟ قال: لأن التصغير عندنا ليس له تصغير، وإنما سجدة السهو تمام الصلاة وليس للتمام تمام، فقال محمد بن الحسن: ما ظننت أن آدميا يلد مثلك.
__________
[1] في ر عند ذكر علي يرد «عليه السلام» وعند ذكر ابن عباس هنا: رضي الله عنه.
[2] هو أحمد بن عامر بن بشر المروروذي (362) أستاذ التوحيدي الذي يكثر النقل عنه في كتبه وبخاصة البصائر والذخائر (ابن خلكان 1: 69 والتخريج) وكتاب المحاضرات مما لم يصلنا من كتب أبي حيان.(1/17)
وحكي عن بعض الفقهاء أنه كان يقول: حبّ من الناس حبّ من الله، وما صلح دين إلا بحياء، ولا حياء الا بعقل، وما صلح حياء ولا دين ولا عقل إلا بأدب.
وأنشد أبو الفضل الرياشي [1] :
طلبت يوما مثلا سائرا ... فكنت في الشعر له ناظما
لا خير في المرء إذا ما غدا ... لا طالب العلم ولا عالما
وفي الخبر [2] : ارحموا ثلاثة: عزيز قوم ذلّ، وغنيّ قوم افتقر، وعالما يلعب الجهال بعلمه؛ فنظمه شاعر فقال:
إني من النفر الثلاثة حقّهم ... أن يرحموا لحوادث الأزمان
مثر أقلّ وعالم مستجهل ... وعزيز قوم ذلّ للحدثان
ويقال: فقدان الأديب الطبع كفقدان ذي النجدة السلاح، ولا محصول لأحدهما دون الآخر. وقال [3] :
نعم عون الفتى إذا طلب ... العلم ورام الآداب صحة طبع
فإذا الطبع فاته بطل السعي ... وصار العناء في غير نفع
ومما يقارب ذلك قول بعضهم [4] :
من كان ذا عقل ولم يك ذا غنى ... يكون كذي رجل وليس له نعل
ومن كان ذا مال ولم يك ذا حجى ... يكون كذي نعل وليس له رجل
__________
[1] العقد 2: 215 (أربعة أبيات) .
[2] ورد في مسند الشهاب (رقم: 486 ص: 428) : ارحموا ثلاثة ... وأورده ابن الجوزي في الموضوعات 1: 236 وانظر محاضرات الراغب 1: 44 وأدب الدنيا والدين: 76 يقوله الرسول حين قابلته ابنة حاتم.
[3] ورد البيتان في روضة العقلاء: 39.
[4] ورد البيتان في روضة العقلاء: 23.(1/18)
وقال آخر:
أرى العلم نورا والتأدب حلية ... فخذ منهما في رغبة بنصيب
وليس يتمّ العلم في الناس للفتى ... إذا لم يكن في علمه بأديب
وأنشد أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني [1] :
إنّ الجواهر درّها ونضارها ... هنّ الفداء لجوهر الآداب
فإذا اكتنزت أو ادّخرت ذخيرة ... تسمو بزينتها على الأصحاب
فعليك بالأدب المزيّن أهله ... كيما تفوز ببهجة وثواب
فلربّ ذي مال تراه مبعدا ... كالكلب ينبح من وراء حجاب
وترى الأديب وإن دهته خصاصة ... لا يستخفّ به لدى الأتراب
وقال آخر [2] :
ما وهب الله لامرىء هبة ... أحسن من عقله ومن أدبه
هما جمال الفتى وإن فقدا ... ففقده للحياة أجمل به
وحدث أبو صالح الهروي قال: كان عبد الله بن المبارك يقول: أنفقت في الحديث أربعين ألفا، وفي الأدب ستين ألفا وليت ما أنفقته في الحديث أنفقته في الأدب، قيل له: كيف؟ قال: لأنّ النصارى كفروا بتشديدة واحدة خففوها، قال تعالى يا عيسى إني ولّدتك من عذراء بتول، فقال النصارى ولدتك [3] .
شاعر [4] :
ولم أر عقلا صحّ إلّا بشيمة ... ولم أر علما صحّ إلّا على أدب
__________
[1] في م: سهل بن يحيى، وصوبناه اعتمادا على ما ورد في المصادر في ترجمته، انظر إنباه الرواة 2: 58 (وفي الحاشية ذكر لمصادر كثيرة) . وسيترجم له ياقوت رقم: 576.
[2] البيتان في عين الأدب والسياسة: 126.
[3] انظر روضة العقلاء: 221- 222 حيث ورد جانب من هذه القصة مرويا عن الأصمعي.
[4] البيت في ربيع الأبرار 3: 261 وروضة العقلاء: 222.(1/19)
وقال آخر [1] :
لكلّ شيء حسن زينة ... وزينة العالم حسن الأدب
قد يشرف المرء بآدابه ... فينا وإن كان وضيع النسب
وقال آخر:
من كان مفتخرا بالمال والنسب ... فإنما فخرنا بالعلم والأدب
لا خير في رجل حرّ بلا أدب ... لا لا وإن كان منسوبا إلى العرب
قالوا [2] : والفرق بين الأديب والعالم أن الأديب من يأخذ من كلّ شيء أحسنه فيألفه، والعالم من يقصد لفنّ من العلم فيعتمله [3] ، ولذلك قال علي كرّم الله وجهه [4] : العلم أكثر من أن يحصى فخذوا من كلّ شيء أحسنه.
شاعر:
ذخائر المال لا تبقى على أحد ... والعلم تذخره يبقى على الأبد
والمرء يبلغ بالآداب منزلة ... يذلّ فيها له ذو المال والعقد
وحدث سفيان، قال سمعت الخليل بن أحمد يقول: إذا أردت أن تعلم العلم لنفسك فاجمع من كلّ شيء شيئا، وإذا أردت أن تكون رأسا في العلم فعليك بطريق واحد، ولذلك قال الشعبي: ما غلبني إلا ذو فنّ.
شاعر:
لا فقر أكبر من فقر بلا أدب ... ليس اليسار بجمع المال والنّشب
ما المال إلا جزازات ملفّقة ... فيها عيون من الأشعار والخطب
ويقال: من أراد السيادة فعليه بأربع، العلم والأدب والعفة والأمانة.
__________
[1] البيتان في غرر الخصائص: 144.
[2] محاضرات الراغب 1: 51.
[3] في ر: فيقتله، دون إعجام.
[4] محاضرات الراغب 1: 51 (دون نسبة) .(1/20)
شاعر [1] :
كم من خسيس وضيع القدر ليس له ... في العزّ أصل ولا ينمى إلى حسب
قد صار بالأدب المحمود ذا شرف ... عال وذا حسب محض وذا نشب
وقال بزرجمهر [2] : من كثر أدبه كثر شرفه وإن كان وضيعا، وبعد صوته وإن كان خاملا، وساد وإن كان غريبا، وكثرت الحاجة إليه وإن كان فقيرا.
ويقال [3] : عليكم بالأدب فإنه صاحب في السفر، ومؤنس في الحضر، وجليس في الوحدة، وجمال في المحافل، وسبب إلى طلب الحاجة.
ويقال [4] : مروءتان ظاهرتان: الفصاحة والرياش.
وكلم شبيب بن شيبة رجلا من قريش فلم يحمد أدبه وقال [5] .
وكم من ماجد أضحى عديما ... له حسن وليس له بيان
وما حسن الرجال لهم بزين ... إذا لم يسعد الحسن اللسان
وقال أبو نواس: ما استكثر أحد من شيء إلّا ملّه وثقل عليه، إلا الأدب فإنه كلما استكثر منه كان أشهى له وأخفّ عليه.
وقال: الشّره في الطعام دناءة، وفي الأدب مروءة.
ويقال: الأديب نسيب الأديب، قال أبو تمام [6] :
إن يكد مطّرف الإخاء فإننا ... نسري ونغدو في إخاء تالد
__________
[1] ورد البيتان في غرر الخصائص: 145.
[2] قول بزرجمهر في غرر الخصائص: 144 وهو دون نسبة في لباب الآداب: 233 وفي عين الأدب والسياسة: 127.
[3] قريب من هذا قول شبيب بن شيبة: اطلبوا الأدب فإنه عون على المروءة وزيادة في العقل وصاحب في الغربة وحلية في المجالس (بهجة المجالس 1: 112) وعين الأدب والسياسية: 123 وقارن بروضة العقلاء: 220.
[4] البيان والتبيين 1: 296 وعيون الأخبار 1: 296 ونثر الدر 3: 25 والامتاع والمؤانسة 2: 149 وشرح النهج 18: 129 ومحاضرات الراغب 2: 365 والتذكرة الحمدونية 1: 254.
[5] ورد الثاني في أدب الدنيا والدين: 266 ومعه بيتان آخران. وكذلك في عين الأدب والسياسة: 122.
[6] ديوان أبي تمام 1: 407.(1/21)
أو نفترق نسبا يؤلف بيننا ... أدب أقمناه مقام الوالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا ... عذب تحدّر من غمام بارد [1]
وقال ابن السكيت: خذ من الأدب ما يتعلق بالقلوب وتشتهيه الآذان، وخذ من النحو ما تقيم به الكلام، ودع الغوامض، وخذ من الشعر ما يشتمل على لطيف المعاني، واستكثر من أخبار الناس وأقاويلهم وأحاديثهم ولا تولعنّ بالغثّ منها.
وقال أبو عمرو بن العلاء: قيل لمنذر بن واصل: كيف شهوتك للأدب؟ فقال أسمع الحرف منه لم أسمعه فتودّ أعضائي أنّ لها أسماعا تتنعم مثل ما تنعمت الآذان؛ قيل: وكيف طلبك له؟ قال: طلب المرأة المضلّة ولدها وليس لها غيره؛ قيل:
وكيف حرصك عليه؟ قال: حرص الجموع المنوع على بلوغ لذته في المال.
وقال الأصمعي، قال لي أعرابي: ما حرفتك؟ قلت: الأدب، قال: نعم الشيء، فعليك به فإنه ينزل المملوك في حد الملوك.
وقال أرسطاطاليس: ليت شعري أيش [2] فات من أدرك الأدب، وأي شيء أدرك من فاته الأدب.
وقال البحتري [3] :
رأيت القعود على الإقتصاد ... قنوعا به ذلة في العباد
وعزّ بذي أدب أن يضيق ... بعيشته وسع هذي البلاد
إذا ما الأديب ارتضى بالخمول ... فما الحظّ في الأدب المستفاد
وقال عمر رضي الله عنه [4] : تعلموا العربية فإنها تثّبت العقل، وتزيد في المروءة.
وقال عبد الملك: ما الناس إلى شيء من العلوم أحوج منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتحاورون الكلام، ويتهادون الحكم، ويستخرجون غوامض العلم من
__________
[1] الديوان: واحد.
[2] ر: أي شيء.
[3] لم أجدها في ديوانه.
[4] نور القبس: 2.(1/22)
مخابئها، ويجمعون ما تفرّق منها. إن الكلام قاض يجمع بين الخصوم، وضياء يجلو الظلام، وحاجة الناس إلى موادّه كحاجتهم إلى موادّ الأغذية.
وقال الزهري [1] ما أحدث الناس مروءة أحبّ إليّ من تعلم النحو.
وقال شاعر يصف النحو:
اقتبس النحو ونعم المقتبس ... والنحو زين وجمال ملتمس
صاحبه مكرّم حيث جلس ... من فاته فقد تعمّى وانتكس
كأنما فيه من العيّ خرس ... شتّان ما بين الحمار والفرس
وقال آخر:
لولاكم كان يلقى كلّ ذي خطل ... للنحو مدعيا بين النحارير
لم لا أشدّ على من لا يقوم بها ... من وقعة السّمر والبيض المآثير
قرع رجل على الحسن البصري الباب وقال: يا أبو سعيد فلم يجبه، فقال:
أبي سعيد، فقال الحسن: قل الثالثة وادخل.
وحدث النضر بن شميل قال، أخبرنا الخليل بن أحمد قال: سمعت أيوب السختياني [2] يحدّث بحديث فلحن فيه، فقال: استغفر الله، يعني أنه عد اللحن ذنبا.
وكان ابن سيرين يسمع الحديث ملحونا فيحدث به على لحنه، وبلغ ذلك الأعمش فقال: إن كان ابن سيرين يلحن فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يلحن فقوّمه.
قال [3] : وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يضرب أولاده على اللحن ولا يضربهم على الخطأ، ووجد في كتاب عامل له لحنا فأحضره وضربه درة واحدة.
ودخل [4] أعرابي السوق فسمعهم يلحنون فقال: العجب يلحنون ويربحون.
وكان معاوية بن بجير عامل البصرة لا يلحن فمات بجير بالبصرة ومعاوية بفارس خليفة أبيه، فقال الفيج [5] الذي جاء بنعيه مات بجيرا، فقال له لحنت لا أم لك، فقال
__________
[1] بهجة المجالس 1: 65 ونسب القول لابن سلام.
[2] م: السجستاني.
[3] انظر بهجة المجالس 1: 64 والخبر فيه عن ابن عمر.
[4] نور القبس: 3 وعيون الأخبار 2: 159 وتتمته: «ونحن لا نلحن ولا نربح» .
[5] الفيج: الرسول أو عامل البريد.(1/23)
أخوه عبد الله بن بجير:
ألم تر أنّ خير بني بجير ... معاوية المحقق ما ظننتا
أتاه مخبر ينعى بجيرا ... علانية فقال له لحنتا
وقال الجاحظ: عيوب المنطق التصحيف وسوء التأويل والخطأ في الترجمة، فالتصحيف يكون من وجوه من التخفيف والتثقيل ومن قبل الإعراب ومن تشابه صور الحروف، وسوء التأويل من الأسماء المتواطئة أي أنك تجد اسما لمعان فتتأول على غير المراد، وكذلك سوء الترجمة. واعلم أنّ مذاكرة العلم عون على أدائه وزيادة في الفهم، ولا بد للعالم من جهل أي أن يجهل كثيرا مما يسأل عنه، إما لأنه ما سمعه أو نسيه. وقد قال بعض الفرس: ليس يحسن الأشياء كلّها إنسان، ولكن يحسن كلّ إنسان شيئا.
ومن الأدب قول القائل:
إذا ما روى الراوي حديثا فلا تقل ... سمعنا بهذا قبل أن يتتمما
ولكن تسمّع للحديث موهّما ... بأنك لم تسمعه فيما تقدّما
وقال الأصمعي: من حق من يقبسك علما أن ترويه عنه.
قال أبو عمرو ابن العلاء: إنما سمي النحويّ نحويا لأنه يحرّف الكلام إلى وجوه الإعراب، واللحن مخالفة الاعراب.
واللحن على جهة أخرى أن يكلّم الرجل صاحبه بالكلام يعرفانه بينهما ولا يعرفه سواهما.
وأنشد الكلبيّ لمالك ابن أسماء [1] :
منطق صائب وتلحن أحيا ... نا وخير الحديث ما كان لحنا
أمغطّى مني على بصري بالحبّ أم أنت أكمل الناس حسنا
وحديث ألذّه هو ممّا ... ينعت الناعتون يوزن وزنا
وقد روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه كان لحنا أي فطنا.
__________
[1] العقد 2: 480 والبيان والتبيين 1: 147، 1: 228.(1/24)
وفي حديث أبي الزناد أن رجلا قرأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلحن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرشدوا صاحبكم.
وحدث أبو العيناء عن وهب بن جرير أنه قال لفتى من باهلة: يا بني اطلب النحو فإنك لن تعلم منه بابا إلّا تدرّعت من الجمال سربالا.
وفي حديث سعيد بن العاص [1] قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما نحل والد ولده أفضل من أدب حسن.
وعن ابن شهاب أنه قال: ما أحدث الناس مروءة أعجب إليّ من تعلّم الفصاحة.
وحدث يحيى بن عتيق قال: سألت الحسن فقلت: يا أبا سعيد الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن المنطق ويقيم بها قراءته، قال: حسن يا بني، فتعلمها فإنّ الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها.
وعن سعيد بن سلم قال: دخلت على الرشيد فبهرني هيبة وجمالا فلما لحن خفّ في عيني.
وعن الشعبي قال [2] : حلي الرجال العربية وحلي النساء الشحم.
وحدث التاريخي بإسناد [3] رفعه إلى سلم [4] بن قتيبة قال: كنت عند ابن هبيرة الأكبر قال: فجرى الحديث حتى ذكر العربية فقال: والله ما استوى رجلان دينهما واحد وحسبهما واحد ومروءتهما واحدة، أحدهما يلحن والآخر لا يلحن، إن أفضلهما في الدنيا والآخرة الذي لا يلحن، قال فقلت: أصلح الله الأمير هذا أفضل في الدنيا لفضل فصاحته وعربيته، أرأيت الأخرة ما باله فضّل فيها؟ قال: إنه يقرأ كتاب الله على ما أنزله الله، والذي يلحن يحمله لحنه على أن يدخل في كتاب الله ما ليس فيه، ويخرج منه ما هو فيه، قلت: صدق الأمير وبرّ.
__________
[1] بهجة المجالس 1: 109.
[2] عيون الأخبار 2: 157 (لابن سيرين) وروضة العقلاء: 219 (لابن شبرمة) .
[3] روضة العقلاء: 220.
[4] سلم: لم ترد في م.(1/25)
وحدث عن أبي توبة عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه قال [1] : تكلم أبو جعفر المنصور في مجلس فيه أعرابيّ فلحن، فصرّ الأعرابي أذنيه، فلحن مرة أخرى أعظم من الأولى، فقال الأعرابي: أفّ لهذا ما هذا؟ ثم تكلم فلحن الثالثة، فقال الأعرابي. أشهد لقد وليت هذا الأمر بقضاء وقدر.
وحدث بإسناد رفعه إلى الواقدي قال: صلى رجل من آل الزبير خلف أبي جعفر المنصور وقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ
(التكاثر: 1) فلحن في موضعين، قال: فلما سلم التفت الزبيري إلى رجل كان إلى جانبه فقال له: ما كان أهون هذا القرشيّ على أمله.
وقال بعض الشعراء [2] :
النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء نعظمه إذا لم يلحن
وإذا طلبت من العلوم أجلّها ... فأجلّها عندي مقيم الألسن
وقال آخر [3] :
إما تريني وأثوابي مقاربة ... ليست بخزّ ولا من حرّ كتّان
فإنّ في المجد همّاتي وفي لغتي ... علويّة ولساني غير لحان
وحدث قال [4] : قدم طاهر بن الحسين والعباس بن محمد بن موسى على الكوفة، فرادّه طساسيج من سوادها، فوجّه العباس كاتبه إليه، فلما دخل على طاهر قال له: أخيك أبي موسى يقرأ عليك السلام، قال: وما أنت منه؟ قال: كاتبه الذي يطعمه الخبز، قال: نعم عليّ بعيسى بن عبد الرحمن، قال: فجاء- وكان عيسى كاتب طاهر- فقال: اكتب وأنت قائم بصرف العباس بن محمد بن موسى عن
__________
[1] ورد الخبر بإيجاز في عيون الأخبار 2: 160.
[2] عيون الأخبار 2: 157 والعقد 2: 479 وبهجة المجالس: 1: 66 والكامل للمبرد 1: 248 وزهر الآداب: 720 لإسحاق بن خلف البهراني وغرر الخصائص: 172 وعين الأدب والسياسة: 123 لبزرجمهر.
[3] البيان والتبيين 1: 167 والمحاسن والمساوىء: 426 وغرر الخصائص: 186 وعين الأدب والسياسة:
122- 123.
[4] الخبر في كتاب بغداد: 73.(1/26)
الكوفة إذ لم يتخذ كاتبا يحسن الأداء عنه.
وحدث في ما أسنده إلى الضحاك بن زمل السكسكي، وكان من أصحاب المنصور، قال [1] : كنا مع سليمان بن عبد الملك بدابق إذ قام إليه الشحاج الأزدي الموصلي فقال: يا أمير المؤمنين إنّ أبينا هلك وترك مال كثير، فوثب أخانا على مال أبانا فأخذه، فقال سليمان: فلا رحم الله أباك ولا نيّح عظام أخيك [2] ، ولا بارك الله لك فيما ورثت، أخرجوا هذا اللحّان عني، فأخذ بيده بعض الشاكرية [3] وقال: قم فقد آذيت أمير المؤمنين، فقال: وهذا العاضّ بظر أمه اسحبوا برجله.
وحدث قال، قال رجل للحسن [4] : يا أبا سعيد ما تقول في رجل مات وترك أبيه وأخيه؟ فقال له الحسن: ترك أباه وأخاه، فقال له: فما لأباه وأخاه فقال له الحسن: إنما هو فما لأبيه وأخيه، قال يقول الرجل للحسن: يا أبا سعيد ما أشدّ خلافك عليّ، قال: أنت أشدّ خلافا عليّ أدعوك إلى الصواب وتدعوني إلى الخطأ.
وحدث فيما رفعه عبد الله بن المبارك قال [5] : بعث الحجاج إلى والي البصرة أن اختر لي عشرة ممن عندك فاختار رجالا منهم كثير بن أبي كثير، قال: وكان رجلا عربيا، قال كثير: وقلت في نفسي لا أفلت من الحجاج إلا باللحن، قال: فلما دخلنا عليه دعاني ما اسمك؟ قلت: كثير قال: ابن من؟ فقلت في نفسي: إن قلتها بالواو لم آمن أن يتجاوزها قال قلت: أنا ابن أبا كثير، فقال عليك لعنة الله وعلى من بعث بك، جؤوا [6] في قفاه، قال: فأخرجت.
وحدث في ما أسنده إلى الأصمعي قال [7] : سمعت مولى لعمر بن الخطاب
__________
[1] نور القبس: 3 وعيون الأخبار 2: 159 والبيان والتبيين 2: 222 ومحاضرات الراغب 1: 67 وصبح الأعشى 1: 169 (وهو في أكثر المصادر متصل بزياد بن أبي سفيان) والمحاسن والأضداد: 6 ومصورة ابن عساكر 8: 401.
[2] أي لا صلبها ولا شدّ منها.
[3] الشاكرية: الخدم.
[4] قارن بالعقد 2: 481 (والقول موجه لشريح) .
[5] زهر الآداب: 906.
[6] جؤوا فعل أمر من «وجأ» .
[7] عيون الأخبار 2: 155 والمحاسن والأضداد: 85.(1/27)
يقول: أخذ عبد الملك بن مروان رجلا كان يرى رأي الخوارج، رأي شبيب، فقال له: ألست القائل:
ومنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
قال: إنما قلت أمير المؤمنين أي يا أمير المؤمنين، فأمر بتخلية سبيله.
قال التاريخي: حدثنا أبو بكر الدولابي حدثنا أبو مسهر قال: سألت سعيد بن عبد العزيز التنوخي عن حديث إذا سمعته ملحونا فقال: اللحن يفسد الحديث، وذلك أنه يغيّر معناه، ولم يلف أحد من العلماء إلا مقوّم اللسان.
قال [1] : وقد كان عمر بن عبد العزيز أشدّ الناس في اللحن على ولده وخاصته ورعيته وربما أدّب عليه.
قال وقال نافع مولى ابن عمر [2] : كان ابن عمر يضرب ولده على اللحن كما يضربهم على تعليم القرآن.
وحدث في ما أسنده إلى شريك عن جابر قال: قلت للشعبي أسمع الحديث بغير إعراب فأعربه؟ قال: نعم لا بأس به.
قال: قال حماد بن سلمة [3] : مثل الذي يكتب الحديث ولا يعرف النحو مثل الحمار عليه مخلاة ولا شعير فيها.
وروي عن الشعبي أنه قال: لأن أقرأ وأسقط أحبّ إلي من أن أقرأ وألحن.
وقال محمد بن الليث [4] : النحو في الأدب كالملح في الطعام فكما لا يطيب الطعام إلا بالملح لا يصلح الأدب إلّا بالنحو.
وروي عن عبد الله بن المبارك أنه قال: تعلموا العلم شهرا والأدب شهرين.
وقال رجل لبنيه: يا بني أصلحوا من ألسنتكم فإن الرجل تنوبه النائبة يحتاج أن يتجمل فيها فيستعير من أخيه دابة ومن صديقه ثوبا ولا يجد من يعيره لسانا.
__________
[1] نور القبس: 3.
[2] يروى هذا عن عمر نفسه رضي الله عنه.
[3] التذكرة الحمدونية 2: 162 وروضة العقلاء: 223.
[4] قارن بعيون الأخبار 2: 157.(1/28)
لما قال الفرزدق:
إن الذي سمك السماء بنى لنا ... بيتا دعائمه أعزّ وأطول
فقال الحاضرون: أعزّ وأطول من ماذا؟ فتفكر الفرزدق فوافق ذلك قول المؤذن في الأذان: الله أكبر، فرفع الفرزدق رأسه فقال: يا فلان أكبر من ماذا؟
وقال الخطفى جد جرير [1] :
عجبت لإزراء العييّ بنفسه ... وصمت الذي قد كان بالقول أعلما
وفي الصمت ستر للعييّ وإنما ... صحيفة لبّ المرء ان يتكلما
وحدّث عن الأصمعي أنه قال [2] : أخوف ما أخاف على طالب العلم إذا لم يعرف النحو أن يدخل في جملة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» ، لأنه لم يكن يلحن فمهما رويت عنه ولحنت فقد كذبت عليه.
__________
[1] في الأصل: جد الفرزدق، وانظر البيان والتبيين 1: 220 (والحاشية) واللسان (خطف) وعيون الأخبار 1: 175، 2: 275 والعقد 2: 266 وبهجة المجالس 1: 62 وتاريخ بغداد 14: 248 (دون نسبة) ونسب البيتان في الموشى: 9 للخطفى بن بدر.
[2] روضة العقلاء: 223.(1/29)
فصل [ثان] في فضيلة علم الأخبار
قال أبو الحسن علي بن الحسين [1] ، قالوا: لولا تقييد العلماء خواطرهم بالأخبار وكتبهم للآثار [2] لبطل أول العلم وضاع آخره، إذ كان كلّ علم من الأخبار يستخرج، وكلّ حكمة منها تستنبط، والفقر منها تستثار [3] ، والفصاحة منها تستفاد، وأصحاب القياس عليها يبنون، وأهل المقالات بها يحتجّون، ومعرفة الناس منها تؤخذ، وأمثال الحكماء فيها توجد، ومكارم الأخلاق ومعاليها منها تقتبس، وآداب سياسة الملك والحزم منها تلتمس، فكلّ غريبة بها تعرف، وكلّ عجيبة منها تستطرف، وهو علم يستمتع بسماعه العالم والجاهل [4] ، ويستعذب موقعه الأحمق والعاقل ويأنس مكانه، وينزع إليه الخاصيّ والعامي، ويميل إلى روايته العربيّ والعجمي؛ وبعد فإنه يوصل به إلى كلّ [5] كلام، ويتزين به في كلّ مقام، ويتجمّل به في كلّ مشهد، ويحتاج إليه في كلّ محفل. ففضيلة علم الأخبار تتيه على كلّ علم، وشرف منزلته صحيحة [6] في كلّ فهم؛ فلا يصبر على علمه ويتقن ما فيه من إيراده وإصداره إلا إنسان قد تجرد للعلم، وفهم معناه، وذاق ثمرته، واستشعر من عزه، ونال من سروه، وقديما قيل: إن علم النّسب والأخبار من علوم الملوك وذوي الأخطار، ولا تسمو إليه إلا النفوس الشريفة، ولا تأباه إلا [النفوس الدنية
__________
[1] م: الحسن.
[2] ر: بالآثار.
[3] م: تستشاد.
[4] والجاهل: سقطت من م.
[5] كل: سقطت من م.
[6] الأصوب أن يقول: صحيح.(1/30)
و] [1] العقول السخيفة وقد قالت الحكماء [2] : الكتاب نعم الجليس والذخر، إن شئت ألهتك بوادره، وأضحكتك نوادره، وإن شئت أشجتك مواعظه، وإن شئت تعجبت من غرائب فوائده، وهو يجمع لك الأول والآخر، والناقص والوافر، والغائب والحاضر، والشكل وخلافه، والجنس وضده، وهو ميت ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء، وهو مؤنس ينشط بنشاطك، وينام بنومك، ولا ينطق إلا بما تهوى، ولا يعلم جار ولا خليط أنصف، ولا رفيق أطوع، ولا معلّم أخضع، ولا صاحب أظهر كفاية ولا أجلّ جباية [3] ولا أشدّ [4] نفعا، ولا أحمد أخلاقا، ولا أدوم سرورا، ولا أسلم غيبة، ولا أحسن مواتاة، ولا أعجل مكافاة، ولا أخف مؤونة منه، إن نظرت فيه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وأكثر علمك، وتعرف منه في شهر ما لا تعرف من أفواه الرجال في دهر، يغنيك عن كدّ الطلب [5] وعن الخضوع إلى من أنت أثبت منه أصلا، وأرسخ منه فرعا، وهو المعلم [6] الذي لا يجفوك، وإن قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة.
وكان عبيد الله بن محمد [7] بن عائشة القرشي يقول: الأخبار تصلح للدين والدنيا، قلنا: الدنيا عرفنا فما للآخرة؟ قال: فيها العبر يعتبرها الرجل. وقال الله تعالى مخبرا عن قصة يوسف وإخوته لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ
(يوسف: 111) وقال تعالى: وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ
(النور: 34) وقال عزّ وجلّ: كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ
(طه: 99) ولذلك قال بعضهم لولده: عليك بالأخبار فإنها لا تعدمك كلمة
__________
[1] النفوس الدنية و: سقط من م.
[2] قارن بما جاء لدى الجاحظ في الحيوان 1: 38- 42 والمحاسن والأضداد: 4- 6.
[3] ر: ولا أقل خيانة.
[4] ر: ولا أبدا.
[5] م: الطالب.
[6] ر: العالم.
[7] ر: محمد بن عبيد الله، وهو خطأ انظر الأغاني 2: 170 وعبيد الله هو ولد محمد ابن عائشة المغني.(1/31)
تدل [1] على هدى، وأخرى تنهى عن ردى [2] .
وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه [3] أجمّوا هذه القلوب والتمسوا لها طرائف الحكمة فإنها تملّ كما تملّ الأبدان.
وكان أبو زيد الأنصاري لا يعدو النحو، فقال له خلف الأحمر: قد ألححت على النحو لم تعده ولقلّما ينبل منفرد به، فعليك بالأخبار والأشعار.
وقال ابن المقفع في كتابه في الأدب [4] : ثم انظر الأخبار الرائعة فتحفّظ منها، فإن من شأن الإنسان الحرص على الأخبار، ولا سيما على ما يرتاح له الناس، وأكثر الناس من يحدّث بما يسمع ولا يبالي ممن سمع، وذلك مفسدة للصدق ومزراة بالرأي، فإن استطعت أن لا تخبر بشيء إلا وأنت به مصدّق وألا يكون تصديقك إلّا ببرهان، فافعل.
قال الأخفش علي بن سليمان أنشدني أبو سعيد السكري:
وذكرني حلو الزمان وطيبه ... مجالس قوم يملأون المجالسا
حديثا وأشعارا وفقها وحكمة ... وبرّا ومعروفا وإلفا مؤانسا
وقال ابن عتاب [5] : يكون الرجل نحويا عروضيا، حسن الكتاب، جيّد الحساب، حافظا للقرآن، راوية للشعر، وهو راض [بأن] يعلم أولادنا بستين درهما، ولو أن رجلا كان حسن البيان حسن التخريج للمعاني ليس عنده غير ذلك لم يرض بألف درهم، لأنّ النحوي ليس عنده إمتاع، كالنجار الذي يدعى ليغلق بابا، فلو كان أحذق الناس ثم فرغ من تغليق ذلك الباب قيل له انصرف، وصاحب الإمتاع يراد في الحالات كلّها.
وقال معاوية [6] : ليس ينبغي للرجل أن يستغرق شيئا من العلم إلا علم الأخبار، فأما غير ذلك فالنتف والشدو [من القول] .
__________
[1] تدل: سقطت من م.
[2] ردى: سقطت من م وموضعها بياض.
[3] انظر بهجة المجالس 1: 115.
[4] رسائل البلغاء: 94.
[5] البيان والتبيين 1: 403.
[6] البيان والتبيين 1: 402 (لرجل من ولد العباس) .(1/32)
وكتب عبد الملك بن مروان الى الحجاج: انظر لي رجلا عالما بالحلال والحرام، عارفا بأشعار العرب وأخبارها، أستأنس به وأصيب عنده معرفة فوجّهه إليّ من قبلك، فوجّه إليه الشعبي، وكان أجمع أهل زمانه، قال الشعبي: فلم ألق [1] واليا ولا سوقة إلّا وهو يحتاج [2] إليّ ولا أحتاج إليه ما خلا عبد الملك، ما أنشدته شعرا ولا حدثته حديثا إلا وهو يزيدني فيه، وكنت ربما حدثته وفي يده اللقمة فيمسكها [3] فأقول يا أمير المؤمنين أسغ طعامك، فإن الحديث من ورائه، فيقول: ما تحدثني به أوقع بقلبي من كلّ لذة وأحلى من كل فائدة.
وكتب عبد الملك إلى الحجاج [4] : أنت عندي كقدح ابن مقبل، فلم يدر الحجاج ما عنى، فسأل قتيبة بن مسلم وكان راوية عالما عن ذلك فقال: قد مدحك، فإن ابن مقبل نعت قدحه فقال:
مفدّى مؤدّى باليدين منعم ... خليع قداح فائز متمنّح [5]
خروج من الغمّى إذا صكّ صكّة ... بدا والعيون المستكفّة تلمح [6]
قال: فكانت في نفس الحجاج حتى ولّاه خراسان.
وقال محمد بن عبد الملك الزيات في رجل خلو من الأدب [7] :
يا أيها العائبي ولم تر بي ... عيبا ألا تنتهي وتزدجر
هل لك وتر لديّ تطلبه ... أم لست مما أتيت تعتذر
إن كان قسم الإله فضّلني ... وأنت صلد ما فيك معتصر
__________
[1] ر: أجد.
[2] ر: محتاج.
[3] م: فأمسكها.
[4] قارن بجمهرة العسكري 2: 120 وسرح العيون: 192 وديوان ابن مقبل: 29، 30 وأمالي القالي 1: 15 وثمار القلوب: 173.
[5] مفدى عند صاحبه، يفديه إذا فاز، متمنح: مستعار، يستعيرونه لمعرفتهم بفوزه.
[6] الغمى: الشدة والضيق؛ والعيون المستكفة، عيون الذين حوله يستكفون أي يضعون أيديهم على حواجبهم حين ينظرون إليه.
[7] ديوان ابن الزيات: 29- 30 ومنها أبيات في الأغاني 22: 486- 487.(1/33)
فالحمد والشكر والثناء له ... وللحسود التراب والحجر
اقرأ لنا سورة تخوّفنا ... فإن خير المواعظ السور
أو ارو فقها تحي القلوب به ... جاء به عن نبينا أثر
أو هات ما الحكم في فرائضنا ... ما يستحقّ الاناث والذكر
أو ارو عن فارس لنا مثلا ... فإن أمثال فارس عبر
أو من أحاديث جاهليتنا ... فإنها عبرة ومعتبر
أو هات كيف الصواب [1] في الرفع والخفض وكيف التصريف والصور [2]
أو ارو شعرا أو صف لنا غرضا [3] ... يبلى صحيح منه ومنكسر
فإذ جهلت الآداب مرتغبا ... عنها وخلت العمى هو البصر
ولم تعوّض من ذاك ميسرة ... عليك منها لبهجة أثر
فغنّ صوتا تلهي الفؤاد به ... وكلّ ما قد جهلت مغتفر
تعيش فينا ولا تلائمنا ... فاذهب ودعنا حتّام تنتظر
تغلي علينا الأسعار أنّى [4] وما ... عندك نفع يرجى ولا ضرر
همّك في مرتع ومغتبق ... كما تعيش الحمير [5] والبقر
__________
[1] ر: الإعراب.
[2] ر: الصدر.
[3] ر: أو صف عروضا.
[4] الديوان: أنت.
[5] م: يعيش الحمار.(1/34)
حرف الالف
- 1-
آدم بن أحمد بن أسد الهروي أبو سعد النحوي اللغوي
: حاذق مناظر، ذكره الحافظ أبو سعد السمعاني فقال: هو من أهل هراة سكن بلخ، كان أديبا فاضلا عالما بأصول اللغة صائنا حسن السيرة، قدم بغداد حاجا سنة عشرين وخمسمائة ومات في الخامس والعشرين من شوال من سنة ست وثلاثين وخمسمائة. ولما ورد بغداد اجتمع إليه أهل العلم وقرأوا عليه الحديث والأدب، وجرى بينه وبين الشيخ أبي منصور موهوب بن أحمد بن الخضر الجواليقي [1] ببغداد منافرة في شيء اختلفا فيه، فقال له الهروي: أنت لا تحسن أن تنسب نفسك، فإن الجواليقي نسبة إلى الجمع، والنسبة إلى الجمع بلفظه لا تصحّ. قال: وهذا الذي ذكره الهرويّ نوع مغالطة فإن لفظ الجمع إذا سمّي به جاز أن ينسب إليه بلفظه كمدائني ومعافريّ وأنماري وما أشبه ذلك.
قال مؤلف هذا الكتاب: وهذا الاعتذار ليس بالقويّ لأن الجواليق ليس باسم رجل فيصحّ ما ذكره، وإنما هو نسبة إلى بائع ذلك، والله أعلم؛ وإن كان اسم رجل أو قبيلة أو موضع نسب إليه صحّ ما ذكره.
__________
[1] ينقل ياقوت عن كتاب آخر للسمعاني غير الانساب، ونقل الصفدي هذه الترجمة في الوافي 5: 293 حتى قوله: «صحّ ما ذكره» وانظر بغية الوعاة 1: 404 وما ورد في الإنباه 1: 236 مشبه لما ذكره ياقوت. وقال القفطي إنه عاد إلى بلخ وتصدر للافادة بها حتى توفي.
[1] ستأتي ترجمته رقم: 1169.(1/35)
وقال الحافظ الإمام السمعاني: سمعت أبا القاسم الطريفي يقول: سمعت أبا سعد الهرويّ المؤدب يقول: سئل سفيان الثوريّ عن التقوى فأنشد:
إني وجدت فلا تظنّوا غيره ... هذا التورّع عند هذا الدرهم
فإذا قدرت عليه ثم تركته ... فاعلم بأن هناك تقوى المسلم
وكان الرشيد محمد بن محمد بن عبد الجليل الملقب بالوطواط [1] كاتب الإنشاء لخوارزمشاه [2] من تلاميذ الشيخ أبي سعد آدم بن أحمد الهروي وانتقل الرشيد من بلخ إلى خوارزم وأقام بها في خدمة خوارزمشاه أشهرا. وكان يكاتب الشيخ أبا سعد ويخضع له ويقر بفضله فمما كتب إليه رسالة نسختها [3] :
كتابي وفي الأحشاء وجد على وجد ... إلى الصدر مولانا الأجلّ أبي سعد
أشمّ طويل الباع أصبح رافعا ... إلى قمة الأفلاك ألوية المجد
سراة بني الإسلام عقد جواهر ... وفيهم أبو سعد كواسطة العقد
سقى الله أيامنا بالعقيق ودهورنا [4] باللوى، وأعوامنا بالخليصاء وشهورنا بالحمى؛ فإن هذه المعاني، لألفاظ المسرّات كالمعاني: جنينا [5] فيه أثمار أطايب الأماني، من أشجار وصال الغواني؛ لا بل سقى مواقفنا ببلخ في المدرسة النظامية، واجتماعنا في المجالس الأجليّة الإمامية:
مجالس مولانا أبي سعد الذي ... به سعد الأيام والدين والدنيا
همام حوى يوم الفخار بنانه ... على رغم آناف العدى قصب العليا
__________
[1] ستأتي ترجمته رقم: 1107.
[2] لعلّ المعنيّ هنا هو سلطان شاه أبو القاسم محمود بن ايل أرسلان الذي تولى السلطنة سنة 568 ولابنه أبي المظفر تكش ألف رشيد الدين «حدائق السحر في رقائق الشعر» حين كان- فيما يبدو- وليا للعهد، اذ إن رشيد الدين توفي سنة 573 وجاء أبو المظفر إلى الحكم سنة 589.
[3] وردت الرسالة في مجموعة رسائل الوطواط (مصر 1315) 2: 29.
[4] ر: ودهرنا.
[5] جنينا: سقطت من م.(1/36)
الامام أبو سعد، وما أدراك ما الإمام أبو سعد، سعد كلّه، خير قوله وفعله، صاحب جيوش الفصاحة، ومالك رقاب البلاغة، وناظم عقد المحامد، وجامع شمل المكارم، وناشر أردية الفضل والكرم، وعامر أبنية الأدب والحكم:
لله درّ إمام كلّه أدب ... بفضله يتحلّى العجم والعرب [1]
الله يعلم أني وإن شطّ المزار، وشحطت الديار، لا أقطع أكثر أوقاتي، ولا أزجي أغلب ساعاتي، إلا في مدح معاليه، وشرح أياديه، لو أنفقت جميع عمري في ذلك، وسلكت طول دهري تلك المسالك:
لما كنت أقضي بعض واجب حقه ... ولا كنت أحصي من صنائعه عشرا
وكيف لا أبالغ في ثنائه، ولا أواظب على دعائه، وهو الذي رفع قدري وشرح للآداب صدري، وسقاني كؤوس العلم وأحشائي صادية، وكساني حلل الفضل وعوراتي بادية، اغترفت ما اغترفت من بحاره، واقتطفت ما اقتطفت من ثماره:
وأنت الذي عرفتني طرق العلا ... وأنت الذي هدّيتني كلّ مقصد
وأنت الذي بلّغتني كلّ رتبة ... مشيت إليها فوق أعناق حسّدي
عبد مجلسه الشريف أخي عمر، أيده الله، ورد من خراسان ذاكرا لما يجري على لسانه الكريم في المجالس والمحافل، بين أيدي الأكابر والأماثل، من مدحي وثنائي، وتقريظي وإطرائي، فما استبدعت ذلك من خصائص [2] كرمه، ولا استغربته من لطائف شيمه. وكانت كلماته حاملة إياي على هذا التصديع، لمجلسه الرفيع، ورأيه في سحب ذيل العفو على هذا التجاسر، وتبليغ تحيتي الى القارئين عليه والمختلفين إليه من أبناء جنسي، وشركاء درسي، يقتضي الشرف، والسلام.
__________
[1] ر: العرب والعجم.
[2] ر: خصيص.(1/37)
- 2-
أبان بن تغلب بن رياح الجريري أبو سعيد البكري
مولى بني جرير بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر بن وائل: ذكره أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي [1] في مصنفي الإمامية [2] ومات أبان في سنة إحدى وأربعين ومائة.
قال أبو جعفر: هو ثقة جليل القدر عظيم المنزلة في أصحابنا لقي أبا محمد علي بن الحسين وأبا جعفر وأبا عبد الله عليهم السلام [3] وروى عنهم، وكانت له عندهم حظوة وقدم، قال له أبو جعفر: اجلس في مسجد [4] المدينة وأفت الناس فإني أحبّ أن أرى في شيعتي مثلك. وقال أبو عبد الله لما أتاه نعيه: أما والله لقد أوجع قلبي موت أبان [قال] : وكان قارئا فقيها لغويا نبيها [5] تبدّى وسمع من العرب وحكى عنهم، وصنف كتاب الغريب في القرآن وذكر شواهده من الشعر، فجاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي فجمع من كتاب أبان ومحمد بن السائب الكلبي وأبي روق عطية بن الحارث فجعله كتابا واحدا وبيّن ما اختلفوا فيه وما اتفقوا عليه، فتارة يجيء كتاب أبان مفردا، وتارة يجيء مشتركا على ما عمله عبد الرحمن. ولأبان أيضا كتاب الفضائل.
__________
[2] نقل الصفدي هذه الترجمة في الوافي 5: 300 والسيوطي في البغية 1: 404 (بإيجاز) وانظر الفهرست: 276 وذكر له أيضا كتاب القراءات وكتاب فن الأصول في الرواية على مذاهب الشيعة؛ وانظر طبقات ابن الجزري 1: 4 والبلغة: 2 ولم ترد هذه الترجمة في المختصر (ر) .
[1] محمد بن الحسن الطوسي (- 460) خراساني النشأة، انتقل إلى بغداد سنة 408 وعاش فيها أربعين سنة ثم استوطن النجف وبها توفي؛ له مؤلفات كثيرة منها معالم العلماء وكتابه «فهرست كتب الشيعة» أو ما يعرف بفهرست الطوسي قد طبع في كلكتا سنة 1853- 1855 وأعيد تصويره عن هذه الطبعة في أزنابروك سنة 1981 وطبع في بيروت سنة 1983 وبين الطبعتين اختلافات.
[2] انظر فهرست الطوسي: 5 (كلكتا) 44 (بيروت) .
[3] يعني بأبي جعفر: موسى الكاظم، وبأبي عبد الله محمد الباقر.
[4] الصفدي: اجلس في مجلس في مسجد.
[5] الطوسي: لغويا نبيلا.(1/38)
- 3-
أبان بن عثمان بن يحيى بن زكريا اللؤلؤي
يعرف بالأحمر البجليّ أبو عبد الله مولاهم: ذكره أبو جعفر الطوسي في «كتاب أخبار مصنّفي الإمامية» [1] وقال: أصله الكوفة [2] وكان يسكنها تارة والبصرة أخرى، وقد أخذ عنه من أهل البصرة أبو عبيدة معمر بن المثنّى وأبو عبد الله محمد بن سلّام الجمحي، وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء [3] والنسب والأيام.
روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن موسى بن جعفر، وما عرف من مصنّفاته إلا كتاب جمع فيه المبدأ والمبعث والمغازي والوفاة والسقيفة والردّة.
- 4-
إبراهيم بن أحمد بن محمد توزون الطبري النحوي
: أحد أهل الفضل والأدب، سكن بغداد وصحب أبا عمر الزاهد، وكتب عنه كتاب الياقوتة، وعلى النسخة التي بخطه الاعتماد من كتاب أبي عمر [4] كما ذكرناه في ترجمة أبي عمر [5]
__________
[3] الوافي 5: 302 عن ياقوت والبلغة: 2 وبغية الوعاة 1: 405 ولسان الميزان 1: 24 (عن ياقوت) وقال: وذكره ابن حبان في الثقات وقال: يخطىء ويهم. ولم ترد الترجمة في المختصر.
[4] تاريخ بغداد 6: 17 ونزهة الألباء: 227 وإنباه الرواة 1: 158 وبغية الوعاة 1: 406 والبلغة: 4 ويقال فيه أيضا «تيزون» . وكانت وفاته سنة 355 حسبما نصّ على ذلك القفطي؛ ولم ترد هذه الترجمة في المختصر.
[1] فهرست الطوسي: 76 (كلكتا) 46 (بيروت) .
[2] لسان الميزان: وكان أصله من الكوفة.
[3] في لسان الميزان: وأخذ عنه أبو عبيدة ومحمد بن سلام وأكثر عنه في طبقات الشعراء؛ قلت: وهذا صحيح، انظر فهرسة طبقات فحول الشعراء.
[4] يعني محمد بن عبد الواحد المطرز غلام ثعلب، وانظر في مراحل تصنيفه «الياقوتة» إنباه الرواة 3: 175 قال: ثم جمع الناس على قراءة أبي إسحاق الطبري له، يعني توزون هذا.
[5] ترجمة المطرز ستأتي رقم: 1073.(1/39)
ولقي أكابر العلماء من هذه الطبقة، وكان صحيح النقل جيّد الخطّ والضبط. ذكر أبو القاسم [بن] الثلاج أنه حدثه عن إبراهيم بن عبد الوهاب الأبزاري الطبري صاحب أبي حاتم السجستاني.
لا أعرف له تصنيفا غير جمعه لشعر أبي نواس فإنها رواية مشهورة بأيدي الناس.
وقال أبو القاسم التنوخي: حدثني أبو الحسن الطبري غلام الزاهد غلام ثعلب.
وكان منقطعا إلى بني حمدان، وقرأت بخطه قصيدة شبيل بن عزرة الضّبعي [1] وقد قرأها على أبي عمر الزاهد وتناولها من أبي محمد عبد الله بن جعفر بن درستويه وقد قرأ عليه إلى «سيبا من حر سئل» [2] ثم قال: بلغت بقراءتي إلى هاهنا، وقال لي ابن درستويه قد دفعت إليك كتابي بخطي من يدي إلى يدك، وقد أجزت لك القصيدة فاروها عنّي فإن هذا ينوب عن السماع والقراءة- فقبلت ذلك منه- وكتب إبراهيم بن محمد الطبري الروياني بخطه والاعتماد عليه أولى، ولكن الخطيب قال: إبراهيم بن أحمد بن محمد المعروف بتيزون، فإن كان نسب نفسه الى جدّه فذاك، والله أعلم.
- 5-
إبراهيم بن أحمد بن الليث الأزدي اللغوي الكاتب
: لا أعرف من حاله إلا ما قاله السّلفيّ: أنشدني أبو القاسم الحسن بن أبي الفتح الهمذاني قال: أنشدني أبو المظفر إبراهيم بن أحمد بن الليث الأزدي اللغوي الكاتب، قدم علينا همذان وقد حضر مجلسه الأدباء والنحاة لمحلّه من الأدب:
__________
[5]- الوافي 5: 310 (عن ياقوت) وانظر بغية الوعاة 1: 406 ولم ترد ترجمته في المختصر.
[1] شبيل بن عزرة الضبعي من خطباء الخوارج وعلمائهم، كان شيعيا ثم انتقل إلى الشراة (إنباه الرواة 2: 76 والفهرست: 51) وله قصيدة في الغريب، ولعلها التي يقول فيها:
كان تجاوب اللقاح فيها ... وعنترة وأهمجة رئال
انظر ديوان شعر الخوارج: 227 وستأتي ترجمة شبيل رقم: 585.
[2] كذا ورد في الطبعة المصرية: وهو مصحف مضطرب.(1/40)
وقد أغدو وصاحبتي محوص ... على عذراء ناء بها الرهيص [1]
كان بني النحوص على ذراها ... حوائم ما لها عنه محيص
- 6-
إبراهيم بن إسحاق الحربي
: نقلت من كتاب أبي بكر الخطيب قال:
إبراهيم بن إسحاق بن بشير بن عبد الله بن ديسم أبو إسحاق الحربي، ولد سنة ثمان وتسعين ومائة، ومات ببغداد سنة خمس وثمانين ومائتين في ذي الحجة، ودفن في بيته في شارع باب الأنبار، وكان الجمع كثيرا جدا. وكان قد سمع أبا نعيم الفضل بن دكين وعفّان بن مسلم وعبيد الله بن محمد بن عائشة وأحمد بن حنبل وعثمان بن أبي شيبة وعبيد الله القواريري وخلقا من أمثالهم. روى عنه موسى بن هارون الحافظ ويحيى بن صاعد وأبو بكر ابن أبي داود والحسين المحاملي ومحمد بن مخلد وأبو بكر الأنباري النحوي وأبو عمر الزاهد صاحب ثعلب وخلق كثير غيرهم. وكان إماما في العلم رأسا في الزهد، عارفا بالفقه بصيرا بالأحكام، حافظا للحديث مميزا لعلله، قيما بالأدب جماعا للغة، وصنّف كتبا كثيرة منها: كتاب غريب الحديث [2] ، وأصله من مرو؛ وكان يقول أمي تغلبية وأخوالي نصارى أكثرهم. وقيل: لم سمّيت إبراهيم
__________
[6]- ترجمة إبراهيم الحربي في تاريخ بغداد 6: 27 وعنه ينقل ياقوت وعن ياقوت ينقل الوافي 5: 320 والفوات 1: 14 وبغية الوعاة 1: 408؛ وانظر الفهرست وإنباه الرواة 1: 155 وطبقات السبكي 2: 256 وطبقات الشيرازي: 171 وصفة الصفوة 2: 228 وطبقات أبي يعلى 1: 86 وتذكرة الحفاظ: 584 وسير أعلام النبلاء 13: 356 وعبر الذهبي 2: 74 والبلغة: 4 والشذرات 2: 190 وانظر مقدمة كتاب «المناسك» بتحقيق صديقنا العلامة الشيخ حمد الجاسر ففيها دراسة عن الحربي ومؤلفاته ص 9- 256 (وفي حاشية سير أعلام النبلاء مزيد من التخريج) .
[1] صاحبته يعني الفرس؛ المحوص: السريعة العدو، أو الشديدة الخلق.
ناء بها: أتعبها؛ الرهيص: المرهوصة وهي التي أثر فيها الحصى فأوهن حوافرها.
[2] طبع هذا الكتاب في ثلاثة أجزاء بتحقيق الدكتور سليمان بن إبراهيم بن محمد العايد، جامعة أم القرى بمكة المكرمة 1405/1985.(1/41)
الحربي؟ فقال: صحبت قوما من الكرخ على الحديث وعندهم ما جاز القنطرة العتيقة من الحربية [1] فسموني الحربي بذلك.
وحدّث [2] أحمد بن عبد الله بن خالد بن ماهان المعروف بابن أسد قال:
سمعت إبراهيم الحربيّ يقول: أجمع عقلاء الأمة أنه من لم يجر مع القدر لم يهنأ بعيشه، كان يكون قميصي أنظف قميص وإزاري أوسخ إزار، ما حدثت نفسي أنهما يستويان قط، وفرد عقبي مقطوع، وفرد عقبي الآخر صحيح، أمشي بهما وأدور بغداد كلّها هذا الجانب وذاك الجانب، لا أحدّث نفسي أني أصلحهما، وما شكوت إلى أمي ولا إلى أختي ولا إلى امرأتي ولا إلى بناتي قطّ حمّى وجدتها؛ الرجل هو الذي يدخل غمه على نفسه ولا يغمّ عياله، كان بي شقيقة خمسا وأربعين سنة ما أخبرت بها أحدا قط، ولي عشر سنين أبصر بفرد عين ما أخبرت به أحدا، وأفنيت من عمري ثلاثين سنة برغيفين [3] في اليوم والليلة إن جاءتني بهما امرأتي أو إحدى بناتي أكلت وإلا بقيت جائعا عطشان إلى الليلة الأخرى، والآن آكل نصف رغيف وأربع عشرة تمرة إن كان برنيا، أو نيفا وعشرين إن كان دقلا [4] . ومرضت ابنتي فمضت امرأتي فأقامت عندها شهرا فقام إفطاري في هذا الشهر بدرهم ودانقين ونصف. ودخلت الحمام واشتريت لهم صابونا بدانقين فقام نفقة شهر رمضان كلّه بدرهم وأربعة دوانيق ونصف، ولا تروّحت [5] ولا روّحت قطّ ولا أكلت من شيء واحد في يوم مرتين.
وحدث [6] أحمد بن سليمان القطيعي قال: أضقت إضاقة شديدة فمضيت إلى إبراهيم الحربي لأبثّه ما أنا فيه، فقال لي: لا يضيق [7] صدرك فإنّ الله من وراء المعونة. وإني أضقت مرة حتى انتهى أمري في الإضافة إلى أن عدم عيالي القوت،
__________
[1] في م: صحبت قوما من الحربية، وما هنا مطابق للمختصر وتاريخ بغداد.
[2] تاريخ بغداد 6: 30- 31 وقارن بسير الذهبي 13: 367.
[3] م: برغيف.
[4] البرني: نوع جيد من التمر، والدقل رديء.
[5] هو كذلك في تاريخ بغداد وسير الذهبي: 367، وفي ر: تزوجت ولا زوجت.
[6] تاريخ بغداد: 31- 32 وسير الذهبي: 368.
[7] كذا هو أيضا في تاريخ بغداد وسير الذهبي، والأصوب: لا يضق؛ وقارن بإنباه الرواة 1: 156- 157.(1/42)
فقالت لي الزوجة: هب أني وإياك نصبر فكيف نصنع بهاتين الصبيتين؟ فهات شيئا من كتبك حتى نبيعه أو نرهنه، فضننت بذلك وقلت: اقترضي لهما شيئا وأنظريني بقية اليوم والليلة، وكان لي بيت في دهليز داري فيه كتبي، فكنت أجلس فيه للنسخ والنظر، فلما كان في تلك الليلة إذا داقّ يدقّ الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: رجل من الجيران، فقلت: ادخل، فقال أطف السراج حتى أدخل، فكببت على السراج شيئا وقلت: ادخل، فدخل وترك إلى جانبي شيئا وانصرف، فكشفت عن السراج ونظرت فإذا منديل له قيمة وفيه أنواع من الطعام وكاغد فيه خمسمائة درهم، فدعوت الزوجة وقلت: أنبهي الصبيان حتى يأكلوا. ولما كان من الغد قضينا دينا كان علينا من تلك الدراهم. وكان [وقت] [1] مجيء الحاجّ من خراسان، فجلست على بابي من غد تلك الليلة، وإذا جمّال يقود جملين عليهما حملان ورقا وهو يسأل عن منزل إبراهيم الحربي، فانتهى إليّ فقلت: أنا إبراهيم الحربي، فحطّ الحملين وقال: هذان الحملان أنفذهما لك رجل من أهل خراسان، فقلت: من هو؟ فقال: قد استحلفني ألا أقول لك من هو.
وحدث [2] أبو عثمان الرازي قال: جاء رجل من أصحاب المعتضد إلى إبراهيم الحربي بعشرة آلاف درهم من عند المعتضد يسأله عن [أمر] أمير المؤمنين تفرقة ذلك، فردّه وانصرف الرسول ثم عاد فقال له: إن أمير المؤمنين يسألك أن تفرّقة في جيرانك، فقال له: عافاك الله، هذا مال لم نشغل أنفسنا بجمعه فلا نشغلها بتفرقته، قل لأمير المؤمنين إن تركتنا وإلّا تحوّلنا من جوارك.
وحدث أبو القاسم الجبّلي [3] قال: اعتلّ إبراهيم بن إسحاق الحربيّ علة حتى أشرف على الموت، فدخلت عليه يوما فقال: يا أبا القاسم أنا في أمر عظيم مع
__________
[1] زيادة من تاريخ بغداد سقطت من ر.
[2] تاريخ بغداد: 32 وقارن بإنباه الرواة 1: 157.
[3] هو الحافظ أبو القاسم إسحاق بن إبراهيم الجبلي (وجبل بليدة من سواد العراق) عاش ببغداد وكان يفتي بالحديث ويذاكر ولا يحدث، توفي سنة 281 (تاريخ بغداد 6: 378 وطبقات أبي يعلى 1: 110 والوافي 8: 395 وسير أعلام النبلاء 13: 343) والخبر عن تاريخ بغداد: 33 وقارن بسير الذهبي:
369 وإنباه الرواة 1: 157.(1/43)
ابنتي، ثم قال لها: قومي واخرجي إلى عمك، فخرجت وألقت على وجهها خمارها، فقال إبراهيم: هذا عمّك كلميه، فقالت لي: يا عمّ نحن في أمر عظيم لا في الدنيا ولا في الآخرة، والشهر والدهر ما لنا طعام إلا كسر يابسة وملح، وربما عدمنا الملح، وبالأمس قد وجّه إلينا المعتضد مع بدر [1] بألف دينار فلم يأخذها، ووجّه إليه فلان وفلان فلم يأخذ منها شيئا، وهو عليل، فالتفت الحربيّ إليها وتبسّم وقال: يا بنية إنما خفت الفقر؟ فقالت: نعم، فقال لها: انظري إلى تلك الزاوية، فنظرت فإذا كتب، فقال لها: هناك اثنا عشر ألف جزء لغة وغريب كتبته بخطي، إذا مت فوجّهي في كلّ يوم بجزء تبيعينه بدرهم، فمن كان عنده اثنا عشر ألف درهم ليس هو فقيرا.
وحدث أبو عمر الزاهد وابن المنادي [2] : سمعت ثعلبا مرارا يقول: ما فقدت إبراهيم الحربي في مجلس لغة أو نحو خمسين سنة.
وحدث أبو بكر الشافعّي قال [3] ، قال إبراهيم الحربيّ: ما أخذت على علم قطّ أجرا إلّا مرة واحدة فإني وقفت على بقال فوزنت له قيراطا إلا فلسا، فسألني عن مسألة فأجبته فقال للغلام: أعط بقيراط ولا تنقصه شيئا، فزادني فلسا.
وحدث [4] إبراهيم الحربي وقد سألوه عن حديث عباس البقال فقال: خرجت إلى الكبش [5] ووزنت لعباس البقال دانقا إلا فلسا فقال لي: يا أبا إسحاق حدثني حديثا في السخاء فلعلّ الله يشرح صدري فأعمل شيئا، قال: قلت له نعم، روي عن الحسن بن عليّ رضي الله عنهما أنه كان مارا في بعض حيطان المدينة فرأى أسود وبيده رغيف يأكل منه لقمة ويطعم الكلب لقمة إلى أن شاطره الرغيف، فقال له الحسن: ما
__________
[1] بدر غلام المعتضد، ولي الشرطة حين بويع المعتضد سنة 279 وكان ذا نفوذ في دولته (فهرسة تاريخ الطبري) .
[2] هو أبو الحسين ابن المنادي، والخبر عن تاريخ بغداد 6: 33 وقد أفرد لثعلب رواية، ولابن المنادي رواية أخرى؛ وانظر إنباه الرواة 1: 158.
[3] تاريخ بغداد: 34.
[4] المصدر نفسه.
[5] كان اسم شارع في بغداد يتفرع عن درب الأنبار داخل باب الأنبار نفسه مباشرة ويتجه نحو ضفة قناة الصراة الصغرى؛ والحيّ هنالك كان يعرف بحيّ الكبش والأسد (133.) .(1/44)
حملك على أن شاطرته فلم تغابنه فيه بشيء؟ فقال: استحيت عيناي من عينيه أن أغابنه، فقال له الحسن: غلام من أنت؟ فقال: غلام أبان بن عثمان، فقال:
والحائط؟ فقال: لابان بن عثمان. فقال له الحسن: أقسمت عليك لا برحت حتى أعود إليك، فمرّ اشترى الغلام والحائط، وجاء إلى الغلام فقال: يا غلام قد اشتريتك، فقام قائما فقال: السمع والطاعة لله ولرسوله ولك يا مولاي، قال: وقد اشتريت الحائط وأنت حرّ لوجه الله تعالى، والحائط هبة منّي إليك، فقال الغلام: يا مولاي قد وهبت الحائط للذي وهبتني له. قال إبراهيم، فقال عباس البقال: حسن والله يا أبا إسحاق، يا غلام لأبي إسحاق دانق إلا فلسا أعطه بدانق ما يريد ولا تنقصه شيئا، فقلت: والله لا أخذت إلا بدانق إلا فلسا.
وحدث [1] عبد الله بن أحمد بن حنبل قال، كان أبي يقول لي: امض إلى إبراهيم الحربيّ يلقي عليك الفرائض. قال: ولما مات سعيد [2] بن أحمد بن حنبل جاء إبراهيم الحربي إلى عبد الله فقام إليه عبد الله فقال: تقوم إليّ؟ فقال: لم لا أقوم إليك؟ والله لو رآك أبي لقام إليك، قال: والله لو رأى ابن عيينة أباك لقام إليه.
وقال إبراهيم الحربي [3] : في كتاب «غريب الحديث» الذي صنّفه أبو عبيد ثلاثة وخمسون حديثا ليس لها أصل وقد أعلمت عليها في كتاب السروي، منها: أتت امرأة النبيّ صلى الله عليه وسلم وفي يدها مناجد [4] ، ونهى النبيّ صلى الله عليه وسلم عن لبس السراويلات المخرفجة [5] ، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم أهل قاهة [6] ، وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: لو أمرت بهذا
__________
[1] تاريخ بغداد 6: 35.
[2] في م: سعد؛ انظر تاريخ بغداد 9: 96.
[3] تاريخ بغداد 6: 35- 36.
[4] في الحديث أنه عليه السلام رأى امرأة تطوف بالبيت عليها مناجد من ذهب فقال: أسرّك أن يحليك الله مناجد من نار؟ قالت: لا، قال: فأدي زكاتها. قال أبو عبيد: أراه أراد الحلي المكلل بالفصوص، وأصله من النجود وكل شيء زخرفته فقد نجدته (غريب أبي عبيد 3: 113) .
[5] المخرفجة: الواسعة الطويلة.
[6] في غريب أبي عبيد 3: 116 أن رجلا من أهل اليمن قال للرسول: إنّا أهل قاه، وشرح أبو عبيد القاه بأنه سرعة الإجابة وحسن المعاونة.(1/45)
البيت فسفروا [1] ، عن النبي أنه قال للنساء [2] : «إذا جعتنّ دقعتن وإذا شبعتن خجلتن» .
وحدث أبو العباس ابن مسروق قال [3] ، قال لي إبراهيم الحربي: لا تحدّث فتسخن عينك كما سخنت عيني، قلت له: فما أعمل؟ قال: تطأطىء رأسك وتسكت، قلت له: فأنت لم تحدث؟ قال: ليس وجهي من خشب.
وحدث محمد بن عبد الله الكاتب [4] قال كنت يوما عند المبرد فأنشدنا:
جسمي معي غير أنّ الروح عندكم ... فالجسم في غربة والروح في وطن
فليعجب الناس مني أنّ لي بدنا ... لا روح فيه ولي روح بلا بدن
ثم قال: ما أظن أن الشعراء قالوا أحسن من هذا، قلت: ولا قول الآخر؟
قال: هيه، قلت: الذي يقول [5] :
فارقتكم وحييت بعدكم ... ما هكذا كان الذي يجب
فالآن ألقى الناس معتذرا ... من أن أعيش وأنتم غيب
قال: ولا هذا، قلت: ولا قول خالد الكاتب [6] :
روحان لي روح تضمنها ... بلد وأخرى حازها بلد
وأظنّ غائبتي كشاهدتي ... بمكانها تجد الذي أجد
قال: ولا هذا، قلت: أنت إذا هويت الشيء ملت إليه ولم تعدل إلى غيره، قال: لا ولكنّه الحق، فأتيت ثعلبا فأخبرته، فقال ثعلب: ألا أنشدته:
__________
[1] غريب أبي عبيد 1: 63 وفسّر سفر بمعنى كنس (عن الأصمعي)
[2] غريب أبي عبيد 1: 119 قال أبو عمرو: الدقع: الخضوع في طلب الحاجة والحرص عليها، وقال غيره: أخذ من الدقعاء وهو التراب، يعني أنكن تلصقن بالأرض من الخضوع؛ والخجل مأخوذ من الإنسان يبقى ساكنا لا يتحرك، وقيل خجلتن بمعنى بطرتنّ.
[3] تاريخ بغداد: 36.
[4] تاريخ بغداد (37) محمد بن عبيد الله الكاتب؛ والقصة في مصارع العشاق 2: 260- 261.
[5] ورد البيتان في البصائر 4 رقم: 734 (ص: 202) منسوبين لابن الجهم وهما في مصارع العشاق 2: 260.
[6] لم يردا في الجزء الثاني من مجمع الذاكرة (في شعر خالد الكاتب) وهما في مصارع العشاق 2: 260.(1/46)
غابوا فصار الجسم من بعدهم ... لا تنظر العين له فيّا
بأيّ وجه أتلقاهم ... إذا رأوني بعدهم حيّا
يا خجلتي منهم ومن قولهم ... ما ضرّك الفقد لنا شيّا
قال: فأتيت إبراهيم الحربي فأخبرته، فقال: ألا أنشدته [1] :
يا حيائي ممن أحبّ إذا ما ... قلت بعد الفراق إني حييت
لو صدقت الهوى حبيبا ... على الصّحة لما نأى لكنت أموت
قال: فرجعت إلى المبرد، فقال: أستغفر الله إلا هذين البيتين يعني بيتي إبراهيم.
قال [2] : وأنشد رجل إبراهيم قول الشاعر:
أنكرت ذلّي فأيّ شيء ... أحسن من ذلّة المحبّ
أليس شوقي وفيض دمعي ... وضعف جسمي شهود حبّي
فقال إبراهيم: هؤلاء شهود ثقات.
قال [3] : وأنشد بعضهم لإبراهيم الحربّي:
هما [اثنان] إذا عدّا ... فخير لهما الموت
فقير ما له زهد ... وأعمى ما له صوت
وروي عن إبراهيم الحربي أنه قال: ما أنشدت شيئا من الشعر قط إلا قرأت بعده قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ
ثلاث مرات.
وحدث الطوماري قال: دخلت على إبراهيم الحربيّ وهو مريض، وقد كان يحمل ماؤه إلى الطبيب وكان يجيء إليه ويعالجه [فجاءت الجارية] [4] وردّت الماء وقالت: مات الطبيب، فقال:
__________
[1] مصارع العشاق 2: 261.
[2] تاريخ بغداد: 38 ومصارع العشاق 2: 261.
[3] تاريخ بغداد: 39.
[4] زيادة من تاريخ بغداد.(1/47)
إذا مات المعالج من سقام ... فيوشك للمعالج أن يموتا
ودخل عليه قوم يعودونه فقالوا: كيف تجدك يا أبا اسحاق؟ قال: أجدني كما قال [الشاعر] [1] :
دبّ في السقام سفلا وعلوا ... وأراني أذوب عضوا فعضوا
بليت جدّتي بطاعة نفسي ... وتذكرت طاعة الله نضوا
قال أبو الحسن الدارقطني [2] : إبراهيم الحربي ثقة، وكان إماما يقاس بأحمد بن حنبل في زهده وعلمه وورعه، وهو إمام مصنّف عالم بكلّ شيء، بارع في كلّ علم، صدوق، وذكر وفاته كما تقدم.
هذا آخر ما نقلته من تاريخ الخطيب.
نقلت [3] من خط الإمام الحافظ أبي نصر عبد الرحيم بن وهبان صديقنا ومفيدنا قال، نقلت من خطّ أبي بكر محمد بن منصور السمعاني، سمعت أبا المعالي ثابت بن بندار البقال يقول، حكى لنا البرقانّي رحمه الله قال: كان إسماعيل بن إسحاق القاضي [4] يشتهي رؤية إبراهيم الحربي، وكان إبراهيم لا يدخل عليه، يقول: لا أدخل دارا عليها بواب، فأخبر إسماعيل بذلك فقال: أنا أدع بابي كباب الجامع، فجاء إبراهيم إليه، فلما دخل عليه خلع نعليه، فأخذ أبو عمر محمد بن يوسف القاضي [5] نعليه ولفّهما في منديل دبيقيّ وجعله في كمه، وجرى بينهما علم كثير، فلما قام إبراهيم التمس نعليه، فأخرج أبو عمر النعل من كمّه، فقال له إبراهيم: غفر الله
__________
[1] هو أبو نواس، انظر ديوانه: 987.
[2] تاريخ بغداد 6: 40.
[3] نقله الصفدي 5: 321 وعنه الكتبي في الفوات.
[4] أبو إسحاق اسماعيل بن إسحاق القاضي أصله من البصرة، جمع القراءات والحديث والفقه والمعرفة بالعربية، وكان مالكي المذهب، توفي ببغداد سنة 282 (طبقات الشيرازي: 164- 165 وترتيب المدارك والديباج المذهب: 92 وعبر الذهبي 2: 67 وسير الذهبي 13: 339 وفي حاشيته تخريج مستفيض، وستأتي ترجمة اسماعيل في معجم الأدباء رقم: 236.
[5] أبو عمر محمد بن يوسف القاضي: هو ابن عم أبي اسحاق المذكور قبله، انظر طبقات الشيرازي: 165 والديباج المذهب: 241.(1/48)
لك كما أكرمت العلم، فلما مات أبو عمر القاضي رؤي في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: أجيبت فيّ دعوة إبراهيم الحربي رحمه الله.
وحدثني [1] صديقنا الحافظ أبو عبد الله محمد بن محمود بن النجار [2] حرسه الله قال، حدثني أبو بكر أحمد بن سعيد بن أحمد الصباغ الأصبهاني بها قال، حدثنا أحمد بن عمر بن الفضل الحافظ الأصبهاني، ويعرف بجنك، إملاء قال، أخبرنا الحسن بن أحمد المقرىء يعني أبا علي الحداد [3] ، قال: أظنه عن أبي نعيم: إنه كان يحضر في مجلس إبراهيم الحربي جماعة من الشبان للقراءة عليه، ففقد أحدهم أياما، فسأل عنه من حضر فقالوا: هو مشغول، فسكت، ثم سألهم مرة أخرى في يوم آخر، فأجابوه بمثل ذلك، وكان الشاب قد ابتلي بمحبّة شخص شغله عن حضور مجلسه، وعظّموا إبراهيم الحربيّ أن يخبروه بجليّة الحال، فلمّا تكرّر السؤال عنه وهم لا يزيدونه على أنه مشغول قال لهم: يا قوم إن كان مريضا فقوموا بنا لعيادته [4] ، أو مديونا اجتهدنا في مساعدته، أو محبوسا سعينا في خلاصه، فخبّروني عن جليّة حاله [5] ، فقالوا: نجلّك عن ذلك، فقال: لا بدّ أن تخبروني، فقالوا: إنه رجل قد ابتلي بعشق صبّي، فوجم إبراهيم ساعة ثم قال: هذا الصبّي الذي ابتلي بعشقه مليح هو أم قبيح؟ فعجب القوم من سؤاله عن مثل ذلك مع جلالته في أنفسهم وقالوا: أيها الشيخ مثلك يسأل عن مثل هذا؟ فقال: إنه بلغني أنّ الانسان إذا ابتلي بمحبة صورة قبيحة كان بلاء يجب الاستعاذة من مثله، وإن كان مليحا كان ابتلاء يجب الصبر عليه واحتمال المشقة فيه، قال: فعجبنا مما أتى به.
قلت: هذه الحكاية مع الإسناد حدثنيه مفاوضة بحلب ولم يكن أصله معه فكتبته بالمعنى واللفظ يزيد وينقص.
__________
[1] الصفدي 6: 322.
[2] هو صاحب ذيل تاريخ بغداد؛ توفي سنة 643 (انظر الفوات 2: 522 والوفيات 5: 9) وحاشيتيهما وسيترجم له ياقوت رقم: 1114.
[3] الحسن بن أحمد المقرىء أبو علي الحداد شيخ أصبهان في القراءات والحديث: كان ثقة صالحا جليل القدر، وتوفي سنة 515 (طبقات الجزري 1: 206) .
[4] الوافي والفوات: قوموا بنا لنعوده.
[5] ر: أمره.(1/49)
وكان [1] فيه ملح وفكاهة، وربما جاء في أثناء كلامه أشياء سخيفة، منها، قال إبراهيم الحربي: كنت يوما جالسا فجاءني رجل فقال لي: هل يجوز أن يجامع الرجل حموه؟ فقلت: عساه يريد حماته، فقال: لا، تلك أعرف أنها حلال، إنما سؤالي عن الحمو، فقلت: اخرج قبحك الله؟ هكذا قاله حمو ملحونا.
وقال: جاءني يوما رجل آخر فقال لي: يا سيدي أنا شاب وطلبت نفسي الجماع حتى قام ذكري، فكشفته وجعلت ألعب به، فما أحسست إلا بصبي وقد قعد عليه، فلما أحسست بذلك أخذت بأكتافه ولم أزل حتى فرغت منه، أأكون زانيا؟ قال، فقلت له: أما زان أو غير زان فلا أقول فيه شيئا، ولكني أقول: إن أيرك هذا أير مرزوق.
ومن [2] مصنفات إبراهيم الحربي: كتاب غريب الحديث. كتاب سجود القرآن.
كتاب مناسك الحج. كتاب الهدايا والسنّة فيها. كتاب الحمّام وآدابه. والذي خرج من تفسيره لغريب الحديث: مسند أبي بكر رضي الله عنه. مسند عمر رضي الله عنه.
مسند عثمان رضي الله عنه. مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه. مسند الزبير رضي الله عنه. مسند طلحة رضي الله عنه. مسند سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. مسند عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه. مسند العباس رضي الله عنه. مسند شيبة بن عثمان رضي الله عنه. مسند عبد الله بن جعفر. مسند المسور بن مخرمة. مسند المطّلب بن ربيعة. مسند السائب. مسند خالد بن الوليد. مسند أبي عبيدة بن الجراح. مسند ما روي عن معاوية. مسند ما روي عن عاصم بن عمر. مسند صفوان ابن أمية. مسند جبلة بن هبيرة. مسند عمرو بن العاص. مسند عمران بن الحصين.
مسند حكيم بن حزام. مسند عبد الله بن زمعة. مسند عبد الرحمن بن سمرة. مسند عبد الله بن عمرو. مسند عبد الله بن عمر.
__________
[1] هذه الفقرة والتي تليها من المختصر (ر) .
[2] نقله الصفدي 5: 323 وعنه الكتبي؛ وانظر الفهرست: 287 ففي ما ورد هنا زيادة، وأضاف ابن النديم أن له من الكتب: كتاب الأدب، كتاب المغازي، كتاب التيمم.(1/50)
- 7-
إبراهيم بن إسحاق الأديب اللغوي أبو إسحاق الضرير البارع
: سمع الحديث بالبصرة والأهواز وببغداد بعد الأربعين والثلاثمائة، وكان من الشعراء المجودين [1] ، طاف بعض الدنيا ثم استوطن نيسابور إلى أن مات بها في سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة. وكان من الشعراء المجودين [1] وممن تعلم الفقه والكلام، قال ذلك كله الحاكم ولقيه وروى عنه شيئا.
- 8-
إبراهيم بن إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الطرابلسي
: يعرف بابن الاجدابي، وأجدابية من نواحي افريقية، له أدب وحفظ ولغة وتصانيف، ومن مشاهيرها كتاب كفاية المتحفظ، صغير الحجم كثير النفع، وكتاب الأنواء.
- 9-
إبراهيم بن السري بن سهل أبو إسحاق النحوي
: قال الخطيب: كان من أهل الدين والفضل حسن الاعتقاد جميل المذهب، وله مصنفات حسان في الأدب،
__________
[7]- ترجمته في الوافي 5: 324 ونكت الهميان: 87 (نقلا عن ياقوت) وبغية الوعاة 1: 407 والبلغة: 6 ولم ترد هذه الترجمة في المختصر.
[8]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 158 وبغية الوعاة 1: 408 ولم ترد الترجمة في المختصر. وكتاباه اللذان ذكرهما ياقوت مطبوعان.
[9]- ترجمة الزجاج في الفهرست: 66 وأخبار النحويين البصريين: 108 ومراتب النحويين: 136 وطبقات الزبيدي: 111- 112 ووفيات الأعيان 1: 49 وإنباه الرواة 1: 159 وتاريخ بغداد 6: 89 ونور القبس: 342 ونزهة الألباء: 167 والمنتظم 6: 176 وتاريخ أبي المحاسن: 38 وعبر الذهبي 2: 148 وسير الذهبي 14: 360 والوافي 5: 347 والشذرات 2: 259 وروضات الجنات 1: 158 والمقفى 1: 155
[1] وكان ... المجودين: مكرر أيضا في المصادر التي نقلت النص.(1/51)
مات في جمادى الآخرة سنة أحدى عشرة وثلاثمائة. وحكى ابن مهذب في تاريخه [1] حدثني الشيخ أبو العلاء المعري أنه سمع عنه ببغداد أنه لما حضرته الوفاة سئل عن سنه فعقد لهم سبعين، وآخر ما سمع منه: اللهم احشرني على مذهب أحمد بن حنبل.
وأبو إسحاق هو أستاذ أبي علي الفارسي، قال الخطيب [2] باسناده قال أبو محمد عبد الله بن درستويه النحوي، حدثني الزجاج قال: كنت أخرط الزجاج، فاشتهيت النحو فلزمت المبرد لتعلّمه، وكان لا يعلّم مجانا ولا يعلم بأجرة إلا على قدرها، فقال لي: أيّ شيء صناعتك، قلت: أخرط الزجاج وكسبي في كل يوم درهم ودانقان، أو درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك في كلّ يوم درهما، وأشرط لك أن أعطيك إياه أبدا إلى أن يفرّق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه. قال: فلزمته وكنت أخدمه في أموره مع ذلك وأعطيه الدرهم، فينصحني في العلم حتى استقللت، فجاءه كتاب بعض بني مارمة [3] من الصراة يلتمسون معلّما نحويا لأولادهم، فقلت له: أسمني لهم فأسماني، فخرجت فكنت أعلمهم وأنفذ إليه في كلّ شهر ثلاثين درهما وأتفقده بعد ذلك بما أقدر عليه. ومضت مدة على ذلك، فطلب منه عبيد الله بن سليمان مؤدبا لابنه القاسم، فقال له: لا أعرف لك إلّا رجلا زجّاجا بالصراة مع بني مارمة، قال: فكتب إليهم عبيد الله فاستنزلهم عني فنزلوا له، فأحضرني وأسلم القاسم إليّ، فكان ذلك سبب غناي. وكنت أعطي المبرد ذلك الدرهم في كلّ يوم إلى أن مات ولا أخليه من التفقد بحسب طاقتي، قال: فكنت أقول للقاسم بن عبيد الله [4] إن بلّغك الله مبلغ أبيك ووليت الوزارة ماذا تصنع بي؟
فيقول: ما أحببت، فأقول له: تعطيني عشرين ألف دينار، وكانت غاية أمنيتي. فما
__________
[1] هو أبو غالب همام بن الفضل بن جعفر بن علي بن المهذب التنوخي (وأسرة بني المهذب كانت من الأسر المرموقة في المعرة) وقد أكمل تاريخا بدأه جدّ والده، جمعه مما وجده بخط ذلك الجد وما سمعه ممن أدركهم من المعريين، وقد اعتمد عليه ابن العديم كثيرا في بغية الطلب؛ انظر شذرات من كتب مفقودة (91- 109، 461- 463) .
[2] تاريخ بغداد 6: 90 والوافي 5: 348 وإنباه الرواة 1: 159- 160 ونشوار المحاضرة 1: 274.
[3] في بعض المصادر: مازمة؛ وفي بعض آخر: مارقة، وفي النشوار: مارية، وفي المقفى: مازن
[4] وزر للمعتضد. وأقره المكتفي بعده على الوزارة ومات وهو وزير له؛ وهذه القصة في النشوار 1: 75.(1/52)
مضت إلّا سنون حتى ولي القاسم الوزارة وأنا على ملازمتي له وصرت [3] نديمه، فدعتني نفسي إلى إذكاره بالوعد ثم هبته، فلما كان في اليوم الثالث من وزارته قال لي: يا أبا إسحاق لم أرك أذكرتني بالنذر، فقلت: عوّلت على رعاية الوزير أيده الله وأنه لا يحتاج إلى إذكار بنذر عليه في أمر خادم واجب الحقّ، فقال لي: إنه المعتضد ولولاه ما تعاظمني دفع ذلك إليك في مكان واحد، ولكنّي أخاف أن يصير لي معه حديث فاسمح بأخذه متفرقا، فقلت: يا سيدي أفعل، فقال: اجلس للناس وخذ رقاعهم في الحوائج الكبار واستجعل [2] عليها ولا تمتنع من مسألتي شيئا تخاطب فيه، صحيحا كان أو محالا، إلى أن يحصل لك مال النذر، قال: ففعلت ذلك، وكنت أعرض عليه كلّ يوم رقاعا فيوقّع لي فيها، وربما قال لي: كم ضمن لك على هذا؟
فأقول: كذا وكذا، فيقول لي غبنت، هذا يساوي كذا وكذا، ارجع فاستزد، فأراجع القوم، فلا أزال أماكسهم ويزيدوني حتى أبلغ الحدّ الذي رسمه. قال وعرضت عليه شيئا عظيما فحصلت عندي عشرون ألف دينار وأكثر منها في مديدة، فقال لي بعد شهور: يا أبا إسحاق حصل مال النذر؟ فقلت: لا، فسكت، وكنت أعرض عليه فيسألني في كلّ شهر أو نحوه حصل المال؟ فأقول: لا، خوفا من انقطاع الكسب، إلى أن حصل لي ضعف ذلك المال، وسألني يوما فاستحييت من الكذب المتّصل فقلت: قد حصل ذلك ببركة الوزير، فقال: فرّجت والله عني فقد كنت مشغول القلب إلى أن يحصل لك، قال: ثم أخذ الدواة فوقع إلى خازنه بثلاثة آلاف دينار صلة لي فأخذتها وامتنعت أن أعرض عليه شيئا ولم أدر كيف أقع منه، فلما كان من الغد جئته وجلست على رسمي، فأومأ إليّ أن هات ما معك- يستدعي مني الرقاع على الرسم- فقلت: ما أخذت من أحد رقعة لأن النذر وقع الوفاء به ولم أدر كيف أقع من الوزير، فقال: يا سبحان الله أتراني أقطع عنك شيئا قد صار لك عادة وعلم به الناس وصارت لك به منزلة عندهم وجاه وغدوّ ورواح إلى بابك ولا يعلم سبب انقطاعه فيظنّ ذلك لضعف جاهك عندي أو تغير رتبتك عندي، أعرض عليّ رسمك وخذ بلا
__________
[1] المختصر: وأنا.
[2] استجعل: اطلب جعلا أي مكافأة.(1/53)
حساب، فقبّلت يده وباكرته من غد بالرقاع، فكنت أعرض عليه كلّ يوم شيئا إلى أن مات وقد تأثّلت حالي هذه.
وحدث [1] أبو علي الفارسيّ النحوي قال: دخلت مع شيخنا أبي إسحاق الزجاج على القاسم بن عبيد الله الوزير، فورد عليه خادم وسارّه بشيء استبشر له، ثم تقدم إلى شيخنا أبي إسحاق بالملازمة إلى أن يعود ثم نهض فلم يكن بأسرع من أن عاد وفي وجهه أثر الوجوم، فسأله شيخنا عن ذلك لأنس كان بينه وبينه، فقال له: كانت تختلف إلينا جارية لإحدى المغنّيات فسمتها أن تبيعني إياها فامتنعت من ذلك، ثم أشار عليها أحد من ينصحها أن تهديها إليّ رجاء أن أضاعف لها ثمنها، فلما وردت أعلمني الخادم بذلك فنهضت مستبشرا لافتضاضها فوجدتها قد حاضت فكان مني ما ترى، فأخذ شيخنا الدواة من بين يديه وكتب:
فارس ماض بحربته ... حاذق بالطعن في الظّلم
رام أن يدمي فريسته ... فاتقته من دم بدم
وحدث [2] أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي النحوي، قال:
قال أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج: أتيت أبا العباس ابن يزيد المبرد حين دخل بغداد لأقرأ عليه الكتاب- يعني كتاب سيبويه- فقال لي: ما صنعتك؟ فقلت:
زجاج، فقال لي: كم تكسب في كلّ يوم؟ قلت: عشرة فما دونها، قال: جىء كلّ يوم بنصف ما تعمل فتطرحه في هذا الصندوق، وكان عنده صندوق معمول لهذا، قال: فبدأت بقراءة الكتاب، وكلما جئت بشيء طرحته في الصندوق، ولما فرغت من الكتاب وختمته رمى بمفتاح الصندوق إليّ وقال لي: افتح وخذ ما تركت فيه، ففتحت وأخذت جميع ما فيه وكان قد اجتمع شيئا كثيرا كبيرا، فرحم الله أبا العباس، فلقد آساني وأغناني وعلمني.
__________
[1] تاريخ بغداد 6: 92 وإنباه الرواة 1: 162 وابن خلكان 1: 50.
[2] هذه الفقرة كلها من المختصر (ر) ولم ترد في م.(1/54)
قال: وجرى بين الزجاج وبين المعروف بمسينة [1] ، وكان من أهل العلم، شرّ فاتصل ونسجه إبليس وأحكمه حتى خرج إبراهيم بن السريّ إلى حدّ الشتم فكتب إليه مسينة:
أبى الزجاج إلا شتم عرضي ... لينفعه فآثمه وضرّه
وأقسم صادقا ما كان حرّ ... ليطلق لفظة في شتم حره
ولو أني كررت لفرّ مني ... ولكن للمنون عليّ كرّه
فأصبح قد وقاه الله شرّي ... ليوم لا وقاه الله شرّه
فلما اتصل هذا الشعر بالزجاج قصده راجلا حتى اعتذر إليه وسأله الصفح؛ كل هذا من تاريخ الخطيب. أنبأنا زيد بن الحسين الكندي [2] عن أبي منصور الجواليقي عن المبارك الصيرفي [3] عن علي بن أحمد بن الدهان عن عبد السلام بن حسين البصري [4] قال: كتب إلينا أبو الحسن علي بن محمد الشمشاطي [5] من الموصل قال:
قال أبو إسحاق ابن السري الزجاج رحمه الله [6] : دخلت على أبي العباس ثعلب رحمه الله في أيام أبي العباس محمد بن يزيد المبرد وقد أملى شيئا من «المقتضب» فسلمت عليه وعنده أبو موسى الحامض وكان يحسدني شديدا ويجاهرني بالعداوة، وكنت ألين له وأحتمله لموضع الشيخوخة، فقال لي أبو العباس: قد حمل إليّ بعض
__________
[1] مسينة: تضطرب صورته في المصادر، وفي حاشية على شرح بانت سعاد: بمسيبة، والحكاية والشعر في تاريخ بغداد 6: 92 وإنباه الرواة 1: 163.
[2] هو أبو اليمن تاج الدين زيد بن الحسن الكندي النحوي الأديب، توفي سنة 613 بدمشق. (انظر ابن خلكان 2: 339 وإنباه الرواة 2: 10 وذيل الروضتين: 95 وطبقات الجزري 1: 297 والخريدة (قسم الشام 1: 100 والجواهر المضية 1: 246 وبغية الوعاة 1: 570) . وستأتي ترجمته رقم: 504.
[3] الأرجح أنه المبارك بن عبد الجبار الصيرفي البغدادي المحدث، توفي سنة 500 وكان أمينا صحيح الأصول (عبر الذهبي 3: 356) .
[4] عبد السلام بن الحسين أمين دار الكتب ببغداد أيام المعري، وإليه أرسل المعري قصيدته التائية «هات الحديث عن الزوراء أو هيتا» وكانت وفاته سنة 405 (إنباه الرواة 2: 175 وتاريخ بغداد 11: 57 وطبقات الجزري 1: 385) وهو من شرط المؤلف ولكن لم ترد له ترجمة.
[5] توفي سنة 377 وسيترجم له ياقوت رقم: 813.
[6] نقلها السيوطي (المزهر 1: 202- 207) برواية أبي حفص الضرير عن أبي الفتح ابن المراغي.(1/55)
ما أملاه هذا الخلدي [يعني المبرد] فرأيته لا يطوع لسانه بعبارة فقلت له: إنه لا يشكّ في حسن عبارته اثنان، ولكن سوء رأيك فيه يعيبه عندك، فقال: ما رأيته إلا ألكن متغلقا، فقال أبو موسى: والله إن صاحبكم ألكن- يعني سيبويه- فأحفظني ذلك. ثم قال: بلغني عن الفراء أنه قال: دخلت البصرة فلقيت يونس وأصحابه فسمعتهم يذكرونه بالحفظ والدراية وحسن الفطنة فأتيته فإذا هو أعجم لا يفصح، سمعته يقول لجارية له هات ذيك الماء من ذاك الجرة، فخرجت من عنده ولم أعد إليه. فقلت له: هذا لا يصحّ عن الفرّاء، وأنت غير مأمون في هذه الحكاية، ولا يعرف أصحاب سيبويه من هذا شيئا، وكيف تقول هذا لمن يقول في أول كتابه: هذا باب علم ما الكلم من العربية، وهذا يعجز عن إدراك فهمه كثير من الفصحاء فضلا عن النطق به؟
فقال ثعلب: قد وجدت في كتابه نحوا من هذا، قلت: ما هو؟ قال يقول في كتابه، في غير نسخة: «حاشا» حرف يخفض ما بعده كما تخفض حتى وفيها معنى الاستثناء، فقلت له: هذا كذا في كتابه وهو صحيح، ذهب في التذكير إلى الحرف وفي التأنيث إلى الكلمة، قال: والأجود أن يحمل الكلام على وجه واحد، قلت:
كلّ جيد، قال الله تعالى: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً
(الأحزاب: 31) وقرىء وتعمل صالحا وقال عز وجل: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ
(يونس: 42) ذهب إلى المعنى ثم قال وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ
(يونس: 43) إلى اللفظ.
وليس لقائل أن يقول: لو حمل الكلام على وجه واحد في الاثنين كان أجود، لأن كلّا جيد، فأما نحن فلا نذكر «حدود» الفراء لأنّ خطأه فيه أكثر من أن يعد، ولكن هذا أنت عملت «كتاب الفصيح» للمبتدىء المتعلم وهو عشرون ورقة، أخطأت في عشرة مواضع منه، قال لي: اذكرها، قلت له: نعم، قلت وهو عرق النّسا [1] ولا يقال عرق النسا كما لا يقال عرق الأبهر ولا عرق الأكحل، قال امرؤ القيس [2] .
فأنشب أظفاره في النسا ... فقلت هبلت ألا تنتصر
__________
[1] الفصيح: 43.
[2] ديوان امرىء القيس: 161. والعقد الثمين: 127 والمختار من شعر بشار: 226 وقال الأصمعي: لا تقول العرب عرق النسا إنما تقول النسا وأجاز غيره أن يقال: عرق النسا.(1/56)
وقلت حلمت في النوم أحلم حلما [1] [وحلم] ليس بمصدر وإنما هو اسم، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ
(النور: 58) وإذا كان للشيء مصدر واسم لم يوضع الاسم موضع المصدر، ألا ترى أنك تقول حسبت الشيء أحسبه حسبا وحسبانا والحسب المصدر والحساب الاسم، ولو قلت ما بلغ الحسب إليك ورفعت الحسب إليك لم يجز وأنت تريد ورفعت الحساب إليك وقلت: رجل عزب وامرأة عزبة [2] : وهذا خطأ إنما يقال رجل عزب وامرأة عزب لأنه مصدر وصف به فلا يجمع ولا يثنى ولا يؤنث، كما يقال رجل خصم وامرأة خصم. وقد أتيت بباب من هذا النوع في الكتاب وأفردت هذا منه قال الشاعر [3] :
يا من يدلّ عزبا على عزب
وقلت كسرى بكسر الكاف [4] وهذا خطأ إنما هو كسرى، والدليل على ذلك أنا وإياكم لا نختلف في النسب إلى كسرى يقال كسروي، بفتح الكاف، وليس هذا مما يغير بالنسب لبعده منها ألا ترى أنك لو نسبت إلى معزى لقلت معزوي وإلى درهم قلت درهمي ولا يقال معزوي ولا درهمي. وقلت وعدت الرجل خيرا أو شرا [5] فإذا لم تذكر الشرّ قلت أوعدته بكذا نقضا لما أصّلت لأنك قلت بكذا، وقولك بكذا كناية عن الشر، والصواب أن تقول إذا لم تذكر الشر قلت أوعدته. وقلت: وهم المطوعة [6] وإنما هم المطّوعة بتشديد الطاء كما قال الله تعالى: يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ
(التوبة: 79) فقال: ما قلت إلا المّطوّعة، فقلت: هكذا قرأته عليك وقرأه غيري وأنا حاضر أسمع مرارا. وقلت: هو لرشدة وزنية كما قلت هو لغيّة [7] الباب فيها واحد، لأنه إنما يريد المرة الواحدة، ومصادر الثلاثي إذا أردت المرة الواحدة لم
__________
[1] الفصيح: 33.
[2] الفصيح: 66.
[3] هو شطر من رجز لعمرة بنت الحمارس كما في عيون الأخبار 2: 27 والمختار من شعر بشار: 237.
[4] الفصيح: 50.
[5] الفصيح: 25.
[6] الفصيح: 91.
[7] الفصيح: 49- 50.(1/57)
تختلف، تقول ضربته ضربة وجلست جلسة وركبت ركبة، لا اختلاف في ذلك بين أحد من النحويين، وإنما تكسر من ذلك ما كان هيئة حال فتصفها بالحسن والقبح وغيرهما فتقول: هو حسن الجلسة والسيرة والركبة وليس هذا من ذلك. وقلت أسنمة للبلدة [1] ورواه الأصمعي بضم الهمزة أسنمة، فقال: ما روى ابن الأعرابي وأصحابنا إلا أسمنة، فقلت: قد علمت أنت أن الأصمعيّ أضبط لما يحكي وأوثق فيما يروي.
وقلت إذا عزّ أخوك فهن [2] ، والكلام فهن، وهو من هان يهين إذا لان، ومنه قيل هين لين، لأنّ هن من هان يهون من الهوان، والعرب لا تأمر بذلك، ولا معنى لهذا الكلام يصحّ لو قالته العرب، ومعنى عزّ ليس من العزة التي هي المنعة والقدرة وإنما هو من قولك عزّ الشيء إذا اشتد، ومعنى الكلام: اذا صعب أخوك واشتدّ فذلّ من الذلّ له ولا معنى للذلّ هاهنا كما تقول اذا صعب أخوك فلن له. قال فما قرىء عليه «كتاب الفصيح» بعد ذلك علمي. ثم بلغني أنه سئم ذلك فأنكر كتاب الفصيح أن يكون له.
قال المؤلف: وهذه المآخذ التي أخذها الزجاج على ثعلب لم يسلّم إليه العلماء باللغة فيها، وقد ألفوا تآليف في الانتصار لثعلب يضيق هذا المختصر عن ذكرها.
وحدث الزجاج قال: أنشدنا أبو العباس المبرد:
فيّ انقباض وحشمة فإذا ... رأيت أهل الوفاء والكرم
أرسلت نفسي على سجيتها ... وجئت ما جئت غير محتشم
قال عبيد الله الفقير: وهذان البيتان يرويان لمحمد بن كناسة، وقد رواهما آخرون لأبي نواس.
قال الزجاج: فقلت له: أليس يقول الأصمعي الحشمة الغضب فقال:
الحشمة: الغضب، والحشمة الاستحياء، لأن الغضب والاستحياء جميعا نقصان في النفس وانحطاط عن الكمال فلذلك كان مخرجهما واحدا، قال فقلت له: أليس الحياء محمودا والغضب مذموما، وقد روي أن الحياء شعبة من الايمان، وقد قيل إذا لم تستح فاصنع ما شئت، فقال: الحياء محمود في الدين وفي اجتناب المحارم وفي
__________
[1] الفصيح: 47.
[2] الفصيح: 77.(1/58)
الإفضال، وأما في ترك الحقوق والنكوص عن الخصوم عند الحجاج فهو نقصان في النفس.
قال أبو العباس وسمعت المازني يقول: معنى قولهم إذا لم تستح فاصنع ما شئت، أي إذا صنعت ما لا تستحي من مثله فاصنع منه ما شئت، وليس على ما يذهب إليه العوامّ، وهذا تأويل حسن.
قال حمزة بن الحسن الأصبهاني في «كتاب الموازنة» [1] : كان الزجاج يزعم أن كل لفظتين اتفقتا ببعض الحروف، وإن نقص حروف إحداهما عن حروف الأخرى، فإن إحداهما مشتقة من الأخرى، فيقول: الرجل مشتق من الرجل [2] ، والثور إنما يسمّى ثورا لأنه يثير الأرض، والثوب إنما سمي ثوبا لأنه ثاب لباسا بعد أن كان غزلا، حسيبه الله كذا قال. قال: وزعم أن القرنان إنما سمي قرنانا لأنه مطيق لفجور امرأته كالثور القرنان أي المطيق لحمل قرنه، وفي القرآن وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ
(الزخرف: 13) أي مطيقين. قال: وحكى يحيى بن علي بن يحيى المنجم أنه سأله بحضرة عبد الله بن أحمد بن حمدون النديم: من أي شيء اشتق الجرجير؟
قال: لأنّ الريح تجرجره، قال: وما معنى تجرجره؟ قال: تجرره، قال: ومن هذا قيل للحبل الجرير لأنه يجر على الأرض، قال: والجرة لم سميت جرة؟ قال: لأنها تجرّ على الأرض، فقال: لو جرت على الأرض لانكسرت، قال: فالمجرة لم سميت مجرة؟ قال: لأن الله جرها في السماء جرا، قال: فالجرجور الذي هو اسم المائة من الابل لم سميت به؟ قال: لأنها تجرّ بالأزمة وتقاد، قال: فالفصيل المجرّ الذي يشقّ طرف لسانه لئلا يرتضع أمه ما قولك فيه؟ قال: لأنهم جروا لسانه حتى قطعوه، قال: فان جروا أذنيه فقطعوه تسميه مجرا؟ قال: لا يجوز ذلك، فقال يحيى بن علي: قد نقضت العلة التي أتيت بها على نفسك، ومن لم يدر أنّ هذا مناقضة فلا حسّ له.
قال خيرة: وشهدت ابن العلاف الشاعر وعنده من يحكي عن كتاب الزّجاج
__________
[1] نقله السيوطي في المزهر 1: 354.
[2] المزهر: الرحل من الرحيل.(1/59)
أشياء من شنيع الاشتقاق الذي فيه، ثم قال: إني حضرته وقد سئل عن اشتقاق القصعة، قال: لأنها تقصع الجوع أي تكسره، قال ابن العلاف: يلزمه أن يقول الخضض مشتق من الخضيض، والعصفر مشتق من العصفور، والدب مشتق من الدبّ، والعذب من الشراب مشتق من العذاب، والخريف من الخروف، والعقل مشتق من العاقول، والحلم مشتق من الحلمة، والاقليم مشتق من القلم، والخنفساء من الفساء، والخنثى من الأنثى، والمخنث من المؤنث، ضرط إبليس على ذا من أدب!! وقال ابن بشران [1] : كان أبو إسحاق الزجاج ينزل بالجانب الغربي من بغداد في الموضع المعروف بالدويرة وأنشدت له:
قعودي لا يردّ الرزق عني ... ولا يدنيه إن لم يقض شيّ
قعدت فقد أتاني في قعودي ... وسرت فعافني والسير ليّ
فلما أن رأيت القصد أدنى ... إلى رشدي وأن الحرص غيّ
تركت لمدلج دلج الليالي ... ولي ظلّ أعيش به وفيّ
حكي أن [2] عبيد الله بن سليمان الوزير وجّه أبا إسحاق الزجاج إلى أبي خازم عبد الحميد بن عبد العزيز بن عبد المجيد وأبي عمر محمد بن يوسف يسألهما في رجل محبوس بدين ثابت عندهما، فبدأ الزجاج بأبي خازم، فجاء إليه وقد علا النهار ودخل داره فقال أبو إسحاق للبواب: استأذن لإبراهيم الزجّاج، فقال: إن القاضي الآن دخل الدار، وليست العادة بعد أن يقوم من مجلسه ويدخل الدار أن يستأذن عليه حتى تصلّى العصر، فقال أبو إسحاق: تعلمه أنّ الزجاج بالباب، فقال: لو جاء الوزير الساعة لم أستأذن عليه، فانصرف أبو إسحاق وقعد في المسجد مغتاظا مما جرى، غير أنه لا يشتهي الانصراف إلى الوزير إلا بعد قضاء الحاجة، وقعد إلى وقت العصر، فخرج البواب وكنس الباب ورشّ الماء وقال للزجّاج: القاضي قد جلس،
__________
[1] نقله الصفدي في الوافي 5: 350 والشعر في المقفى 1: 156.
[2] هذه القصة من المختصر، وسيرد جانب منها في ترجمة الحسن بن بشر الآمدي رقم: 311.(1/60)
فإن كان لك رأي في الدخول إليه فقم. فقام أبو إسحاق فدخل على أبي خازم فسلّم عليه وتعرّف كلّ واحد منهما خبر صاحبه، غير أنه لم يكن منه من الإقبال ما كان أبو إسحاق يعتقد منه، فأدّى أبو إسحاق رسالة الوزير، فقال أبو خازم: تقرأ على الوزير- أعزّه الله- السلام وتقول له: إن هذا الرجل محبوس لخصمه في دينه وليس بمحبوس لي، فإن أراد الوزير إطلاقه فإما أن يسأل خصمه إطلاقه أو يقضي دينه، فإن الوزير لا يعجزه ذلك. قال أبو إسحاق: جئت إلى هاهنا قبل الظهر فامتنع البواب من الاستئذان على القاضي، فجلست إلى الآن للدخول عليك. (وهو يقصد بهذا أن ينكر القاضي على البواب) . فقال له: نعم، هكذا عادتي، إذا قمت من مجلسي ودخلت داري اشتغلت ببعض الحوائج التي تخصّني، فإن القاضي لا بدّ له من خلوة وتودّع. فاغتاظ أبو إسحاق من ذلك أكثر وقال له: كنت بحضرة الوزير في بعض الليالي، فأنشد بين يديه [1] :
أدلّ فيا حبذا من مدلّ ... ومن سافك لدمي مستحلّ
إذا ما تعزّز قابلته ... بذلّ وذلك جهد المقلّ
فسأل عن ذلك فقيل: إنها للقاضي- أعزه الله- فقال القاضي أبو خازم: نعم، هذه أبيات قلتها في والدة هذا الصبيّ- لغلام قاعد بين يديه، في يده كتاب من الفقه يقرأ عليه وهو ابنه- فإني كنت ضعيف الحال أوّل ما عرفتها، وكنت مائلا إليها، ولم يمكن إرضاؤها بالمال، فكنت أطيّب قلبها بالبيت والبيتين. فقام أبو إسحاق وودّعه ومضى إلى أبي عمر، فاستقبله حجّابه من باب الدار، وأدخلوه إلى الدار، فاستقبله القاضي من مجلسه خطوات وأجلسه في موضعه وأكرمه كما يكرم من يكون خصّيصا بوزير إذا جاء إلى ناظر من قبله، فقال له: في أيّ معنى وأي شيء ترسم؟ فأدّى إليه رسالة الوزير في باب الرجل المحبوس، فقال أبو عمر: السمع والطاعة لأمر الوزير، أنا أسأل صاحب الحقّ حتى يفرج عنه، فإن فعل وإلا وزنت الدين من مالي إجابة لمسألة الوزير- أعزه الله- فقام أبو إسحاق وودعه وانصرف إلى الوزير ضيّق الصّدر
__________
[1] انظر نشوار المحاضرة 1: 89- 90.(1/61)
من أبي خازم مسرورا بصنيع أبي عمر، فاستبطأه الوزير، فحكى ما جرى من كلّ واحد منهما، فقال له الوزير: فأيّ الرجلين أفضل عندك يا أبا إسحاق؟ فقال:
أبو عمر في عقله وسداده وحسن عشرته ومعرفته بحقوق الوزير (يغري بأبي خازم) فقال الوزير: دع هذا عنك، أبو خازم دين كله، وأبو عمر عقل كله.
حدث أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي البصري قال: لما مات أبو العباس أحمد بن يحيى بكى أبو إسحاق الزجاج، فقلت: ما بكاؤك؟ فقال لي:
أين يذهب بك؟ أليس كان يقال أحمد بن يحيى جالس وإبراهيم الزجاج اليوم، فقال الزجاج ونفطويه وابن الأنباري: مات الناقد ونفقت البهارج.
وحدث المرزباني في كتابه المقتبس [1] ولم يذكر من خبره غير هذه القصة وذكرها ابن النديم في فهرسته [2] قالا جميعا: كان السبب في اتصال أبي إسحاق الزجاج بالمعتضد أن بعض الندماء وصف للمعتضد «كتاب جامع النطق» الذي عمله محبرة النديم، (قال محمد بن إسحاق خاصة: واسم محبرة محمد بن يحيى بن أبي عباد ويكنى أبا جعفر، واسم أبي عباد: جابر بن زيد بن الصباح العسكري، وكان حسن الأدب ونادم المعتضد وجعل كتابه جداول) .
رجع الكلام إلى اتفاقهما: فأمر المعتضد القاسم بن عبيد الله أن يطلب من يفسّر تلك الجداول، فبعث إلى ثعلب وعرضه عليه، فلم يتوجه إلى حساب الجداول وقال: لست أعرف هذا، وإن أردتم كتاب العين فموجود ولا رواية له. فكتب ابن عبيد الله إلى المبرد أن يفسّرها فأجابهم إنه كتاب طويل يحتاج إلى تعب وشغل، وإنه قد كبر [3] وضعف عن ذلك، وإن دفعتموه إلى صاحبي إبراهيم بن السريّ رجوت أن يفي بذلك. فتغافل القاسم عن مذاكرة المعتضد بالزجاج حتى ألحّ عليه المعتضد، فأخبره بقول ثعلب والمبرد وأنه أحال على الزجاج، فتقدم إليه بالتقدم إلى الزجاج بذلك، ففعل القاسم، فقال الزجاج: أنا أعمل ذلك على غير نسخة ولا نظر في جدول، فأمره بعمل الثنائي، فاستعار الزجاج كتب اللغة من ثعلب والعسكري وغيرهما
__________
[1] لم ترد في نور القبس.
[2] الفهرست: 66.
[3] الفهرست: أسن.(1/62)
لأنه كان ضعيف العلم باللغة، ففسر الثنائيّ كلّه وكتبه بخط الترمذي الصغير أبي الحسن وجلّده وحمله إلى الوزير، وحمله الوزير إلى المعتضد فاستحسنه وأمر له بثلاثمائة دينار وتقدم إليه بتفسيره كله، ولم يخرج لما عمله الزجاج نسخة إلى أحد إلا إلى خزانة المعتضد ووزيره. (وقال ابن النديم: ثم ظهر في كتاب [1] السلطان هذا التفسير منقطعا ورأيناه في طلحيّ لطيف) . وصار للزجاج بهذا السبب منزلة عظيمة وجعل له رزق في الندماء ورزق في الفقهاء ورزق في العلماء نحو ثلاثمائة دينار.
قال ابن النديم [2] : وللزجاج من الكتب: كتاب ما فسره من جامع النطق. كتاب معاني القرآن (قرأت على ظهر كتاب المعاني: ابتدأ أبو إسحاق بإملاء كتابه الموسوم بمعاني القرآن في صفر سنة خمس وثمانين ومائتين وأتمه في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثلاثمائة) . كتاب الاشتقاق. كتاب القوافي. كتاب العروض. كتاب الفرق.
كتاب خلق الإنسان. كتاب خلق الفرس. كتاب مختصر النحو. كتاب فعلت وأفعلت. كتاب ما ينصرف وما لا ينصرف [3] . كتاب شرح أبيات سيبويه. كتاب النوادر.
- 10-
إبراهيم بن سعدان بن حمزة الشيباني المؤدب
: ذكره المرزباني في كتابه وقال: كان أبو [علي] الحسن العنزي [4] كثير الرواية عنه، يروي عنه الأخبار
__________
[10]- ترجمة ابن سعدان في تاريخ بغداد 6: 99 وفي الوافي 5: 350- 351 نقل عن ياقوت وانظر إنباه الرواة 1: 169 وبغية الوعاة 1: 413. (ولم ترد له ترجمة في نور القبس) .
[1] في الفهرست: نكبات؛ وفي بعض أصوله: بقيات.
[2] الفهرست: 66 والوافي 5: 349- 350. والمقفى 1: 155.
[3] نشر ماجد الذهبي «فعلت وأفعلت» (دمشق 1984) ونشرد. ابراهيم السامرائي «خلق الانسان» ضمن رسائل في اللغة (بغداد: 1964) ونشرت هدى قراعة «ما ينصرف وما لا ينصرف» (القاهرة:
1971) ونشر ابراهيم الابياري كتابا منسوبا إليه هو: «اعراب القرآن» في ثلاثة أجزاء (القاهرة:
1963- 1965) .
[4] هو الحسن بن عليل بن الحسين العنزي أبو علي أديب لغوي إخباري. توفي سنة 290 بسرمن رأى (إنباه 1: 317- 318) وفي ر: العنبري، وسترد ترجمته رقم: 331.(1/63)
ومستحسن الأشعار، وكان لسعدان بن المبارك النحوي [1] ابن يسمى إبراهيم روى عن أبيه النقائض ورواها عنه أبو سعيد السكري، ولست أعلم أهو هذا الذي نسبه العنزي إليه أو غيره، لأن العنزي نسبه إلى سعدان بن حمزة الشيباني، والله أعلم. كل هذا كلام المرزباني.
وكان إبراهيم بن سعدان النحوي فيما رواه أحمد بن أبي طاهر يؤدب المؤيد، وكان ذا منزلة عنده، وحدث المرزباني في ما رفعه إلى أبي إسحاق الطلحي أحمد بن محمد بن حسان في حمار إبراهيم بن سعدان [2] :
الا أيها العير المصرّف لونه ... بلونين في قرّ الشتاء وفي الصيف
هلمّ وقاك الله من كلّ آفة ... إلى مجد مولاك الشفيق على الضيف
وحدث المرزباني عن عبد الله بن يحيى العسكري عن أبي إسحاق الطلحي قال: أخبرنا إبراهيم بن سعدان قال: حرفان فيهما أربع وعشرون نقطة لا يعرف مثلهما حكاهما أبو الحسن اللحياني «تتقتقت» أي صعدت في الجبل و «تبشبشت» من البشاشة، وحرف في القرآن هجاؤه عشرة أحرف متصلة ليس في القرآن مثله في سورة النور لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ
(النور: 55) .
وحدث المرزباني عن الصولي عن أبي العيناء قال، قال لي المتوكل [3] : بلغني أنك رافضي، فقلت: يا أمير المؤمنين وكيف أكون رافضيا وبلدي البصرة، ومنشأي مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي، وجيراني باهلة، وليس يخلو الناس من طلب دين أو دنيا، فإن أرادوا دينا فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وتأخير من قدموا، وإن أرادوا دنيا فأنت وآباؤك أمراء المؤمنين لا دين إلا بك ولا دنيا إلا معك، أبوك مستنزل الغيث، وفي يديك خزائن الأرض، وأنا مولاك، فقال: إن ابن سعدان زعم ذلك فيك، فقلت: ومن ابن سعدان؟ والله ما يفرّق ذلك بين الإمام والمأموم والتابع والمتبوع، إنما ذاك حامل درّة، ومعلّم صبية، وآخذ على كتاب الله أجرة،
__________
[1] سعدان بن المبارك الضرير النحوي المتوفى سنة 220 ستأتي ترجمته رقم: 520.
[2] أورد البيتين كل من القفطي والصفدي.
[3] نثر الدرّ 3: 228.(1/64)
فقال: لا تفعل لأنه مؤدب المؤيد، فقلت: يا أمير المؤمنين إنه لم يؤدّبه حسبة وإنما أدّبه بأجرة، فإذا أعطيته حقّه فقد قضيت ذمامه. فقام ابن سعدان فقال: يا أبا العيناء لا والله ما صدق أمير المؤمنين في شيء مما حكاه عني، ثم أقبل على المتوكل فقال:
أيّ شيء أسهل عليك يا أمير المؤمنين من أن ينقضي مجلسك على ما تحبّ ثم يخرج هذا فيقطعني؟! قال: فضحك المتوكل.
- 11-
إبراهيم بن سعيد بن الطيب أبو إسحاق الرفاعي
: قال أبو طاهر السلفي [1] وسألته يعني أبا الكرم الحوزي [2] عن الرفاعي فقال: هو من عبد السي [3] وكان ضريرا، قدم صبيا ذا فاقة إلى واسط، فدخل الجامع إلى حلقة عبد الغفّار الحضيني [4] فتلقن القرآن، فكان معاشه من أهل الحلقة، ثم أصعد إلى بغداد فصحب أبا سعيد السيرافي وقرأ عليه «كتاب شرح سيبويه» وسمع منه كتب اللغة والدواوين، وعاد إلى واسط. وقد مات عبد الغفار، فجلس صدرا يقرىء الناس في الجامع، ونزل الزيدية من واسط، وهناك تكون الرافضة والعلويون، فنسب إلى مذهبهم ومقت على ذلك وجفاه الناس: وكان شاعرا حسن الشعر جيده. وجدت في كتاب أبي غالب محمد بن أحمد بن سهل النحوي [5] أنشدني أبو إسحاق الرفاعي لنفسه:
__________
[11]- الوافي 5: 354 ونكت الهميان: 88 (والنقل عن ياقوت) وإنباه الرواة 1: 167 وبغية الوعاة 1: 413 (وفيه عن ياقوت أيضا) وطبقات ابن الجزري 1: 15.
[1] سؤالات الحافظ السلفي رقم 93 (ص 83- 86) .
[2] هو أبو الكرم خميس بن علي الحوزي، توفي سنة 520 (والحوز قرية قرب واسط) وترجمته رقم: 467.
[3] في السؤالات: عبد أمي؛ وعند القفطي: فقال هو من عبد القيس (من ربيعة الفرس) وينقل الأستاذ مطاع طرابيشي عن الأستاذ مصطفى جواد أنه يرجح: عبدسي، وهو اسم قرية في البطائح.
[4] هو أبو الطيب عبد الغفار بن عبيد الله الحضيني، كان متصدرا بجامع واسط للاقراء، وتوفي سنة 367 (السؤالات رقم: 25 وفي الحاشية ذكر لمصادر ترجمته) .
[5] هو ابن بشران المتوفى سنة 462 وسيترجم له ياقوت رقم: 981.(1/65)
وأحبة ما كنت أحسب أنني ... أبلى بينهم فبنت وبانوا
نأت المسافة فالتذكر حظّهم ... مني وحظّي منهم النسيان
ومات سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
سمعت [1] أبا نعيم أحمد بن علي بن أخي سكّرة [2] المقرىء الإمام يقول:
رأيت جنازة أبي إسحاق الرفاعيّ مع غروب الشمس تخرج إلى الجبانة وخلفها رجلان، فحدثت بها شيخنا أبا الفتح ابن المختار النحوي [3] فقال: سمّى لك الرجلين؟ فقلت: لا، فقال: كنت أنا أحدهما وأبو غالب ابن بشران الآخر، وما صدقنا أنا نسلم خوفا أن نقتل.
ومن عجائب [4] ما اتفق أن هذا الرجل توفي، وكان على هذا الوصف من الفضل فكانت هذه حاله، وتوفي في غد يوم وفاته رجل من حشو العامة يعرف بدبّاءة [5] كان سواديا [6] فأغلق البلد لأجله وصلّى عليه الناس كافة ولم يوصل إلى جنازته من كثرة الزحام. آخر كلام الحوزي.
وذكر لي أبو عبد الله محمد بن سعيد الذهبي- وذكره في «أخبار النحويين الواسطيين» - أنه توفي في سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فذاكرته بما قاله الحوزي فقال: الرجوع إلى الحقّ خير من التمادي في الباطل؛ الذي ذكره الحوزي هو الحق، وأنا واهم.
وحدث أبو غالب ابن بشران قال أنشدنا أبو إسحاق الرفاعيّ، وما رأيت قط أعلم منه، قال أنشدنا عبد الغفار بن عبد الله، قال أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد نفطويه:
__________
[1] النقل مستمر عن السؤالات.
[2] ذكره السلفي في السؤالات (رقم: 9) وقال: كان صدرا في الجامع، يعني جامع واسط.
[3] أبو الفتح محمد بن محمد بن المختار النحوي المتوفى سنة 474 سيترجم له ياقوت رقم: 1103 (وانظر سؤالات الحافظ السلفي رقم: 10) وفي ر: العلوي.
[4] النقل مستمر عن السؤالات.
[5] سؤالات الحافظ: بدبا.
[6] ر: سوداويا.(1/66)
اقبل معاذير من يأتيك معتذرا ... إن برّ عندك فيما قال أو فجرا
فقد أطاعك من أرضاك [1] ظاهره ... وقد أجلّك من يعصيك مستترا
- 12-
إبراهيم بن سفيان الزيادي
: هو إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد بن أبيه، كان نحويا لغويا راوية، قرأ كتاب سيبويه على سيبويه ولم يتمه، وروى عن الأصمعيّ وأبي عبيدة ونظرائهما، وكان شاعرا مات سنة تسع وأربعين ومائتين، ومن شعره الذي رواه المرزباني في حجر النار الهاشميّ [2] :
دفع الرحمن [لي] عن ... ك فذاك الدفع عنّي
وأراني فيك من يع ... ذلني قارع سنّ
إن تكن برّزت في ... الحسن فقد برّز حزني
حدّث المرزباني عن المبرد عن الزياديّ قال: كان في جواري حقّ قد دعيت [إليه] فحضرت وجيء بنبيذ وطنبور فغنّى مغنيهم:
قولا لمن يتعرّى ... ومن يبدد سرّا
تركت فتيان صدق ... يجلون في الحسن درّا
وصرت إلف خسيس ... يعيد خيرك شرّا ضهيهات فاتك واللّ
هـ من يغرك غرّا
فقلت: لمن هذا الشعر أصلحك الله؟ قال: لي يا سيدي، وأنا جوان بن دست الباهليّ سيدي، قلت: ليس جوان ودست عافاك الله من أسماء العرب، قال:
__________
[12]- ترجمته في الفهرست: 63 وإنباه الرواة 1: 166 والوافي 5: 356 ونور القبس: 219 وبغية الوعاة 1: 414.
[1] ر: يرضيك.
[2] وردت الأبيات في نور القبس.(1/67)
أيش عليك من ذا سيدي؟ قلت: فردّد الصوت، قال: تريد تقمشه كنّك عقاب أو كنّي [1] ما أعرفك، ما تركت على كبد ابن عمي الأصمعي الماء وقد جئت إليّ، طارت فراخ برجك طارت، قال: فوثبت مما حلّ بي فلم أعد إليهم.
وحدث قال: كان الزيادي يشبّه بالأصمعي في معرفته للشعر ومعانيه، وكان فيه دعابة ومزاح، فمن شعره في ذلك:
قد خرج الهجر على الوصل ... وانقطع الحبل من الحبل
ودبّق الهجر جناح الهوى ... وانفلت الوصل من البخل
فليت ذا الهجر قبيل الهوى ... فيسلم الوصل من القتل
وقال الجمّاز يهجو الزياديّ:
ليس بكذّاب ولا آثم ... من قال إبراهيم ملعون
حكم رسول الله في جدّه ... ما ناله إلا الملاعين
وبعد هذا كلّه إنه ... يعجبه القثّاء والتين
وللزيادي من التصانيف: كتاب النقط والشكل. كتاب الأمثال. كتاب تنميق الأخبار. كتاب أسماء السحاب والرياح والأمطار. كتاب شرح نكت [2] كتاب سيبويه.
وقال إبراهيم الزيادي في جارية سوداء كان يحبها:
ألا حبّذا حبّذا حبذا ... حبيب تحملت فيه الأذى
ضويا حبّذا برد أنيابه ... إذا الليل أظلم واجلوّذا
- 13-
إبراهيم بن سليمان بن عبد الله بن حبان [3] النّهمي
، بطن من همدان،
__________
[13]- ترجمته في معجم الطوسي: 13 (كلكتا) 33 (بيروت) ولم ترد في المختصر.
[1] كنّك وكنّي: عامية محرفة عن كأنك وكأني.
[2] ر: شرح ثلث.
[3] الطوسي: حيان.(1/68)
الخزاز الكوفي أبو إسحاق، أخباري، ذكره أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي في «كتاب مصنفي الإمامية» وقال: هو ثقة في الحديث، سكن الكوفة في بني تميم فربما قيل التميمي؛ قال: ثم سكن في بني هلال فربما قيل الهلالي، ونسبه في نهم.
له من الكتب: كتاب النوادر. كتاب الخطب. كتاب الدعاء. كتاب المناسك. كتاب أخبار ذي القرنين. كتاب إرم ذات العماد. كتاب قبض روح المؤمن والكافر. كتاب الدفائن. كتاب خلق السماوات. كتاب أخبار جرهم.
- 14-
إبراهيم بن صالح الوارق
أبو إسحاق تلميذ أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري: ذكره الباخرزي في «كتاب دمية القصر» [1] فقال: أنشدني له الأديب يعقوب بن أحمد، وهو أحسن ما قيل في معنى دود القز:
وبنات جيب ما انتفعت بعيشها ... ووأدتها فنفعنني بقبور
ثم انبعثن عواطلا فإذا لها ... قرن الكباش إلى جناح طيور
قال: ومن المعاني المثارة من دود القز قول أبي الفتح البستي:
ألم تر أن المرء طول حياته ... معّنى بأمر لا يزال يعالجه
[تراه] كدود القز ينسج دائبا ... ويهلك غما وسط ما هو ناسجه
ولأبي إسحاق يهجو ابن زكريا المتكلم الأصبهاني [2] :
أبا أحمد يا أشبه الناس كلهم ... خلاقا وخلقا بالرّخال النواسج [3]
لعمرك ما طالت بتلك اللحى لكم ... حياة ولكن بالعقول الكواسج
__________
[14]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 169 ولم ترد في المختصر.
[1] انظر الدمية 3: 1511.
[2] دمية القصر 3: 1512.
[3] الرخال: جمع رخل وهي الأنثى من أولاد الضأن.(1/69)
- 15-
إبراهيم بن أبي عباد اليمني
: وهو ابن أخي الحسن بن إسحاق بن أبي عباد النحوي، ذكر في موضعه [1] ، وإبراهيم هذا من أعيان النحويين باليمن وله تصنيفان في النحو مختصران سمّى أحدهما التلقين والآخر يعرف بمختصر إبراهيم، وكان متأخرا بعد الخمسمائة.
- 16-
إبراهيم بن العباس الصولي
أبو إسحاق الكاتب: هو إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول مولى يزيد بن المهلب كنيته أبو إسحاق، مات في شعبان سنة ثلاث وأربعين ومائتين بسامرا وهو يتولى ديوان النفقات والضياع، مولده سنة ست وسبعين ومائة وقيل: سنة سبع وستين. وكان صول رجلا تركيا، وكان هو وأخوه فيروز ملكي جرجان وتمجّسا بعد التركية وتشبّها بالفرس، فلما حضر يزيد بن المهلب بن أبي صفرة جرجان أمنهما، فأسلم صول على يده، ولم يزل معه حتى قتل يزيد يوم العقر [2] .
وكان يزيد بن المهلب لما دعا إلى نفسه لحق به صول وغيره فصادفه قد قتل. وذكر الصولي أن صولا [جدّه] شهد الحرب مع يزيد بن المهلب، وأن يزيد وجد مقتولا بلا طعنة ولا ضربة بل انسدّت أذناه ومنخراه وامتلأ فمه بغبار العسكر فمات، فلا يعرف مثله
__________
[15]- ترجمته في بغية الوعاة 1: 426 وسمّاه إبراهيم بن محمد، وذكر أنه كان موجودا في أول المائة الخامسة؛ ولم ترد هذه الترجمة في المختصر.
[16]- ترجمة إبراهيم الصولي في الفهرست: 136 وتاريخ بغداد 6: 117 والأغاني 10: 43 ومروج الذهب 5: 23- 28 وابن خلكان 1: 44 وإعتاب الكتاب: 146 والوافي 6: 24 والنجوم الزاهرة 2: 315، وله أخبار منثورة في الكتب الأدبية، وديوانه مضمن في الطرائف الأدبية: 126- 194 بعناية العلامة الميمني رحمه الله.
[1] انظر الترجمة رقم: 309.
[2] كان عمر بن عبد العزيز قد حبس يزيد بن المهلب في أموال لبيت المال قبله، فلما توفي عمر، خاف ابن المهلب أن ينكّل به يزيد بن عبد الملك، فهرب من سجنه وأعلن الخروج على الدولة الأموية، فقتل يوم العقر (مكان بين واسط وما أصبح يسمّى بغداد من بعد) سنة 102.(1/70)
قتيل غبار، قال: ومعه قتل صول وجماعة من أصحابه وغلمانه وقيل: بل انحاز إلى العباس بن الوليد في جماعة من غلمانه فأعطاه العباس أمانا وبعض أولاد المهلب معه، فلما حصلوا في يده غدر بهم وقتلهم جميعا، وكان [1] يقاتل كلّ من بينه وبين يزيد من جيوش بني أمية ويكتب على سهامه: صول يدعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيّه، فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك فاغتاظ وجعل يقول: ويلي على ابن الغلفاء ما له وللدعاء إلى كتاب الله وسنة نبيّه، ولعله لا يفقه صلاته. وكان محمد بن صول من رجال الدولة العباسية ودعاتها وكان يكنى أبا عمارة، وقتله عبد الله بن علي لما خالف مع مقاتل بن حكيم العكي. وكان بعض أهليهم ادّعوا أنهم عرب وأنّ العباس بن الأحنف الشاعر خالهم. وكان إبراهيم بن العباس وأخوه عبد الله من وجوه الكتّاب، وكان عبد الله أسنّهما وأشدّهما تقدما، وكان إبراهيم آدبهما وأحسنهما شعرا، وكان إذا قال شعرا اختاره وأسقط رذله وأثبت نخبته، فمن ذلك قوله [2] :
ولكنّ الجواد أبا هشام ... وفيّ العهد مأمون المغيب
بطيء عنك ما استغنيت عنه ... وطلّاع عليك مع الخطوب
وهذا من نادر الشعر وجيده. ومن ذلك قوله لأخيه عبد الله [3] :
ولكنّ عبد الله لما حوى الغنى ... وصار له من بين إخوانه مال
رأى خلّة منهم تسدّ بماله ... فساهمهم حتى استوت بهم الحال
وهذا يدل على أن قبله غيره، ولولا أن يكون قبله غيره لقال: «ألا إن الجواد أبا هشام» و «ألا إنّ عبد الله» أو يكون قصد الإيهام بمدح قد تقدم هذه الأبيات من جملته والله أعلم.
وكان إبراهيم كاتبا حاذقا بليغا فصيحا منشئا. وإبراهيم [4] وأخوه عبد الله من
__________
[1] يتفق مع ما في الأغاني 10: 43 (مع بعض تفاوت قليل) .
[2] مروج الذهب 5: 25 والطرائف الأدبية: 129.
[3] الطرائف الأدبية: 136.
[4] قارن بالأغاني 10: 44.(1/71)
صنائع ذي الرياستين الفضل بن سهل، اتصلا به فرفع منهما، وتنقل إبراهيم في الأعمال الجليلة والدواوين إلى أن مات وهو متولّي ديوان الضياع والنفقات بسرّ من رأى سنة ثلاث وأربعين ومائتين للنصف من شعبان. وكان دعبل يقول: لو تكسّب إبراهيم بالشعر لتركنا في غير شيء، ويعجب من قوله [1] :
إنّ امرءا ضنّ بمعروفه ... عني لمبذول له عذري
ما أنا بالراغب في خيره ... إن كان لا يرغب في شكري
وكان إبراهيم صديقا لمحمد بن عبد الملك الزيات فولي محمد الوزارة وإبراهيم على الأهواز فقصده ووجّه إليه بأبي الجهم أحمد بن سيف [2] وأمره بكشفه، فتحامل عليه تحاملا شديدا، فكتب إبراهيم إلى محمد بن عبد الملك [3] :
واني لأرجو بعد هذا محمدا ... لأفضل ما يرجى أخ ووزير
فأقام محمد على أمره، ولجّ أبو الجهم في التحامل عليه، فكتب [4] إبراهيم إلى ابن الزيات يشكو إليه أبا الجهم ويقول: هو كافر لا يبالي ما عمل، وهو القائل لما مات غلامه يخاطب ملك الموت:
تركت عبيد بني طاهر ... وقد ملأوا الأرض عرضا وطولا
وأقبلت تسعى إلى واحدي ... ضرارا كأني قتلت الرسولا
فسوف أدين بترك الصلاة ... وأصطبح الخمر صرفا شمولا
فكان محمد لعصبيته على إبراهيم وقصده له يقول: ليس هذا الشعر لأبي الجهم وإنما إبراهيم قاله ونسبه إلى أبي الجهم.
وكتب [5] إبراهيم إلى ابن الزيات يستعطفه: كتبت وقد بلغت المدية المحزّ، وعدت الأيام عليّ بعد عدواني بك عليها، وكان أسوأ ظنّي وأكثر خوفي أن تسكن في
__________
[1] الطرائف الأدبية: 185.
[2] يعني أن محمد بن عبد الملك هو الذي وجه بأبي الجهم.
[3] الطرائف الأدبية: 132.
[4] قارن بالأغاني 10: 51- 52.
[5] الأغاني 10: 57- 58.(1/72)
وقت حركتها، وتكفّ عند أذاتها، فصرت أضرّ عليّ منها، فكفّ الصديق عن نصرتي خوفا منك، وبادر إليّ العدوّ تقربا إليك، وكتب تحت ذلك [1] :
أخ بيني وبين الدّهر صاحب أيّنا غلبا ... صديقي ما استقام وإن
نبا دهر عليّ نبا ... وثبت على الزمان به
فعاد به وقد وثبا ... ولو عاد الزمان لنا
لعاد به أخا حدبا
وكتب إليه [2] : أما والله لو أمنت ودّك لقلت، ولكني أخاف منك عتبا لا تنصفني فيه، وأخشى من نفسي لائمة لا تحتملها لي، وما قدّر فهو كائن، وعن كلّ حادثة أحدوثة، وما استبدلت بحالة كنت فيها مغتبطا حالا أنا في مكروهها وألمها أشدّ علي من أني فزعت إلى ناصري عند ظلم لحقني فوجدت من ظلمني أخفّ نية في ظلمي منه، وأحمد الله كثيرا، وكتب تحتها [3] :
وكنت أخي بإخاء الزمان ... فلما نبا صرت حربا عوانا
وكنت أذمّ إليك الزمان ... فأصبحت فيك أذمّ الزمانا
وكنت أعدّك للنائبات ... فها أنا أطلب منك الأمانا
قال [4] : ثم وقف الواثق على تحامله عليه فرفع يده عنه، وأمره أن يقبل منه ما رفعه ويردّ إلى الحضرة مصونا، فلما أحسّ إبراهيم بذلك بسط لسانه في ابن الزيات وهجاه هجاء كثيرا، منه [5] :
قدرت فلم تضرر عدوا بقدرة ... وسمت بها إخوانك الذلّ والرغما
وكنت مليا بالتي قد يعافها ... من الناس من يأبى الدنية والذما
__________
[1] الطرائف الأدبية: 155.
[2] الأغاني 10: 58.
[3] الطرائف الأدبية: 166.
[4] الأغاني 10: 58.
[5] الطرائف الأدبية: 165.(1/73)
وقال أيضا فيه [1] :
أبا جعفر خف خفضة بعد رفعة ... وقصّر قليلا عن مدى غلوائكا
فإن كنت قد أوتيت عزا ورفعة ... فإن رجائي في غد كرجائكا
وقال أيضا فيه [2] :
دعوتك في بلوى ألمّت صروفها ... فأوقدت من ضغن عليّ سعيرها
وإني إذا أدعوك عند ملمة ... كداعية بين القبور نصيرها
ولما مات ابن الزيات قال إبراهيم [3] :
لما أتاني خبر الزيات ... وأنه قد عدّ في الأموات
أيقنت أن موته حياتي
ولما انحرف [4] محمد بن عبد الملك عن إبراهيم تحاماه الناس أن يلقوه، وكان الحارث بن بسخنّر الزريم المغني صديقا له مصافيا وهجره في من هجره من الإخوان، فكتب إليه [5] :
تغيّر لي في من تغير حارث ... وكم من أخ قد غيرته الحوادث
أحارث إن شوركت فيك فطالما ... غنينا وما بيني وبينك ثالث
ومن مستحسن شعر إبراهيم بن العباس قوله [6] :
خلّ النفاق لأهله ... وعليك فالتمس الطريقا
وارغب بنفسك أن ترى ... إلّا عدوا أو صديقا
ومنه [7] :
أميل مع الصديق على ابن أمّي ... وأقضي للصديق على الشقيق
وأفرق بين معروفي ومنّي ... وأجمع بين مالي والحقوق
__________
[1] الطرائف الأدبية: 161.
[2] الطرائف الأدبية: 184.
[3] الطرائف الأدبية: 182.
[4] الأغاني 10: 45.
[5] الطرائف الأدبية: 182.
[6] الطرائف الأدبية: 161.
[7] زهر الآداب: 1021 والطرائف الأدبية: 154.(1/74)
فإن ألفيتني حرّا مطاعا ... فإنك واجدي عبد الصديق
وكان [1] إبراهيم يهوى جارية لبعض المغنين بسرّ من رأى يقال لها ساهر [2] شهر بها، وكان منزله لا يخلو منها، ثم دعيت في وليمة لبعض أهلها فغابت عنه ثلاثة أيام، ثم جاءته ومعها جاريتان لمولاها وقالت له: قد أهديت صاحبتيّ إليك عوضا عن مغيبي عنك، فقال:
أقبلن يحففن مثل الشمس طالعة ... قد حسّن الله أولاها وأخراها
ما كنت فيهنّ إلا كنت واسطة ... وكنّ دونك يمناها ويسراها
وجلس [3] يوما مع إخوانه للشرب وبعث خلفها فابطأت عليه، وتنغّص عليه وعلى جلسائه يومه، وكان عندهم عدة من القيان، ثم وافت فسرّي عنه وطابت نفسه وشرب وطرب، وقال [4] :
ألم ترنا يومنا إذ نأت ... ولم تأت من بين أترابها
وقد غمرتنا دواعي السرور ... بإشعالها وبالهابها
ونحن فتور إلى أن بدت ... وبدر الدجى تحت أثوابها
ولما نأت كيف كنّا بها ... ولما دنت كيف صرنا بها
فتغضبت [5] فقالت: ما القصة كما ذكرت، وقد كنتم في قصفكم مع من حضر، وإنما تجملتم لي لما حضرت فقال [6] :
يا من حنيني إليه ... ومن فؤادي لديه
ومن إذا غاب من بي ... نهم أسفت عليه
__________
[1] الأغاني 10: 48 والوافي 6: 25- 26.
[2] الأغاني: سامر؛ المختصر: ساهره.
[3] الأغاني 10: 46.
[4] الطرائف الأدبية: 140.
[5] الأغاني: فتجنّت.
[6] الطرائف الأدبية: 152.(1/75)
إذا حضرت فمن بى ... نهم أصبّ إليه من غاب غيرك منهم
فإذنه في يديه
فرضيت، فأقاموا يومهم على أحسن حال. ثم طال [1] العهد بينهما فملّها، وكانت شاعرة وكانت تهواه أيضا، فكتبت إليه تعاتبه:
بالله يا ناقض العهود بمن ... بعدك من أهل ودّنا نثق
وا سوءتا ما استحيت لي أبدا ... إن ذكر العاشقون من عشقوا
لا غرّني كاتب له أدب ... ولا ظريف مهذّب لبق
كنت بذاك اللسان تختلني ... دهرا ولم أدر أنه ملق
فاعتذر إليها وراجعها فلم تر منه ما تكره حتى فرّق الموت بينهما.
وحدث [2] علي بن الحسن الاسكافي قال: كان لإبراهيم ابن قد يفع وترعرع وكان به معجبا، فاعتلّ علة لم تطل حتى مات، فرثاه مراثي كثيرة وجزع عليه جزعا شديدا، فمن مراثيه فيه [3] :
أنت السواد لمقلة ... تبكي عليك وناظر
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
وقال أيضا فيه [4] :
وما زلت مذلد أعطيته ... أدافع عنه حمام الأجل
أعوّذه دائبا بالقران ... وأرمي بطرفي إلى حيث حل
فأضحت يدي قصدها واحد ... إلى حيث حلّ فلم يرتحل
ومرّ [5] إبراهيم برجل يستثقله فسلّم عليه فقال لبعض من معه: إنه جرميّ،
__________
[1] الوافي 6: 26.
[2] الأغاني 10: 50.
[3] الطرائف الأدبية: 169.
[4] الطرائف الأدبية: 179.
[5] الأغاني 10: 53.(1/76)
فقال له: ما كان عندي إلا أنه من أهل السواد، فضحك إبراهيم وقال: إنما أردت قول الشاعر:
يسائل عن أخي جرم ... ثقيل والذي خلقه
وكتب [1] إبراهيم شفاعة لرجل إلى بعض إخوانه: فلان ممن يزكو شكره.
ويعنيني أمره، والصنيعة عنده واجدة موضعها [2] وسالكة طريقها:
وأفضل ما يأتيه ذو الدين والحجى ... إصابة شكر لم يضع معه أجر
ونظر [3] إبراهيم إلى الحسن بن وهب وهو مخمور فقال له [4] :
عيناك قد حكتا مبى ... تك كيف كنت وكيف كانا
ولربّ عين قد أرت ... ك مبيت صاحبها عيانا
قال [5] ورفع أحمد بن المدبر على بعض عمال إبراهيم فحضر إبراهيم دار المتوكل فرأى هلال الشهر على وجهه ودعا له وضحك وقال له: إنّ أحمد بن المدبر رفع على عاملك كذا وكذا فاصدقني عنه، قال إبراهيم: فضاقت عليّ الحجة، وخفت أن أحقق قوله إن اعترفت ثم لا أرجع منه إلى شيء فيعود علي الغرم، فعدلت عن الحجّة إلى الحيلة فقلت: أنا في هذا يا أمير المؤمنين كما قلت فيك [6] :
ردّ قولي وصدّق الأقوالا ... وأطاع الوشاة والعذّالا
أتراه يكون شهر صدود ... وعلى وجهه رأيت الهلالا
فقال: لا يكون ذلك والله، لا يكون ذلك أبدا، والتفت إلى الوزير وقال له:
كيف تقبل في المال قول صاحبه؟
__________
[1] الأغاني 10: 54.
[2] الأغاني: واقعة موقعها.
[3] الأغاني 10: 55.
[4] الطرائف الأدبية: 175.
[5] الأغاني: 59- 60 والوافي 6: 27.
[6] الطرائف الأدبية: 149.(1/77)
وكان [1] أحمد بن يحيى ثعلب يقول: إبراهيم بن العباس أشعر المحدثين، وما روى شعر كاتب غيره، وكان يستجيد قوله [2] :
لنا إبل كوم يضيق بها الفضا ... ويفترّ عنها أرضها وسماؤها
فمن دونها أن تستباح دماؤنا ... ومن دوننا أن تستذمّ ذماؤها
حمى وقرى فالموت دون مرامها ... وأيسر خطب يوم حقّ فناؤها
ويقول: والله لو أن هذا لبعض الأوائل لاستجيد له.
وقال [3] إبراهيم في قينة كان يهواها:
وعلّمتني كيف الهوى وجهلته ... وعلّمكم صبري على ظلمكم ظلمي
وأعلم ما لي عندكم فيردّني ... هواي إلى جهلي فأرجع عن علمي
ومن أحسن ما قيل في قصر الليل قول إبراهيم بن العباس [4] :
وليلة من الليالي الزّهر ... قابلت فيها بدرها ببدر
لم تك غير شفق وفجر ... حتى تولّت وهي بكر الدهر
وقال [5] أبو العيناء: كنت عند إبراهيم بن العباس وهو يكتب كتابا، فنقطت [من] القلم نقطة مفسدة فمسحها بكمه فعجبت فقال: لا تعجب، المال فرع والقلم أصل، ومن هذا السواد جاءت هذه الثياب، والأصول أحوج إلى المراعاة من الفرع، ثم فكّر قليلا وقال [6] :
إذا ما الفكر ولّد حسن لفظ ... وأسلمه الوجود إلى العيان
ووشّاه فنمنمه بيان ... فصيح في المقال بلا لسان
ترى حلل البيان منشّرات ... تجلّى بينها حلل المعاني
__________
[1] الأغاني 10: 61 ومروج الذهب 5: 25.
[2] زهر الآداب: 1020 والطرائف الأدبية: 153.
[3] الأغاني 10: 62 والقينة هي ساهر (أو سامر) وزهر الآداب: 1020 وانظر الطرائف: 150.
[4] الأغاني 10: 62 والطرائف: 145 والوافي 6: 27 وزهر الآداب: 299.
[5] الأغاني 10: 63.
[6] زهر الآداب: 518- 519 (باختلافات في الرواية) والطرائف الأدبية: 188.(1/78)
وقال إبراهيم في الفضل بن سهل [1] :
يقضي الأمور على بديهته ... وتريه فكرته عواقبها
فيظلّ يصدرها ويوردها ... فيعمّ حاضرها وغائبها
وإذا ألمّت صعبة عظمت ... فيها الرزيئة كان صاحبها
المستقلّ بها وقد رسبت ... ولوت على الأيام جانبها
سست الخلافة إذ نصبت لها ... فحميتها ومنعت جانبها
وعدلتها بالعدل فاعتدلت ... ووسعت راغبها وراهبها
وإذا الحروب غلت بعثت لها ... رأيا تفلّ به كتائبها
رأيا اذا نبت السيوف مضى ... عزم به يسقي مضاربها
أجرى إلى فئة بدولتها ... وأقام في أخرى نوادبها
واذا الخطوب تأثّلت ورست ... هدّت فواضله نوائبها
وإذا جرت بضميره يده ... أبدت له الدنيا مناقبها
قال [2] واجتمع هارون بن محمد بن عبد الملك بن الزيات وابن برد الخيار في مجلس عبيد الله بن سليمان، فجعل هارون ينشد من شعر أبيه محاسنه ويفضله ويقدمه، فقال له ابن برد الخيار: إن كان لأبيك مثل قول ابراهيم بن العباس الصولي [3] :
أسد ضار إذا هيّجته ... وأب برّ إذا ما قدرا
يعرف الأبعد إن أثرى ولا ... يعرف الأدنى إذا ما افتقرا
أو مثل قوله [4] :
تلج السنون بيوتهم وترى لهم ... عن جار بيتهم ازورار مناكب
__________
[1] الأغاني 10: 64- 65 والطرائف الأدبية: 128.
[2] الأغاني 10: 67.
[3] الطرائف الأدبية: 133 مروج الذهب 5: 26 وزهر الآداب: 399.
[4] الطرائف الأدبية: 129.(1/79)
وتراهم بسيوفهم وشفارهم ... مستشرفين لراغب أو راهب
حامين أو قارين حيث لقيتهم ... نهب العفاة ونهزة للراغب
فاذكره وفاخر به، وإلّا فأقلل، فخجل هارون.
قال [1] : ودخل عليه أحمد بن المدبر بعد خلاصه من النكبة مهنئا، وكان استعان به في أمر النكبة فقعد عنه وبلغه أنه كان يسعى ويحرّض عليه ابن الزيات [2] :
وكنت أخي بالدهر حتى إذا نبا ... نبوت فلما عاد عدت مع الدهر
فلا يوم إقبالي عددتك طائلا ... ولا يوم إدباري عددتك من وتر
وما كنت إلا مثل أحلام نائم ... كلا حالتيك من وفاء ومن غدر
وله أيضا فيه [3] :
لو قيل لي خذ أمانا ... من أعظم الحدثان
لما أخذت أمانا ... إلا من الخلان
وأنا أستحسن قوله [4] :
حتى متى أنا في حزن وفي غصص ... إذا تجدّد حزن هوّن الماضي
وقد غضبت فما باليتم غضبي ... حتى رجعت بقلب ساخط راضي
ومما كتب إبراهيم بن العباس إلى ابن الزيات [5] :
من رأى في المنام مثل أخ لي ... كان عوني على الزمان وخلّي
رفعت حاله فحاول حطّي ... وأبى أن يعزّ إلّا بذلّي
__________
[1] الأغاني 10: 69.
[2] الطرائف الأدبية: 158.
[3] الأغاني 10: 69 ومروج الذهب 5: 25 والطرائف: 166.
[4] الطرائف الأدبية: 146 وهو في تاريخ بغداد 6: 117 وزهر الآداب: 1020.
[5] خاص الخاص: 99 وأحسن ما سمعت: 33 والطرائف الأدبية: 163.(1/80)
وكتب إليه يستعطفه [1] :
فهبني مسيئا كالذي قلت ظالما ... فعفوا جميلا كي يكون لك الفضل
فإن لم أكن بالعفو منك لسوء ما ... جنيت به أهلا فأنت له أهل
ومن منثور كلامه: أتاني فلان في وقت أستثقل فيه لحظة الفرح.
وحدث [2] الصولي عن العباس بن محمد قال: أنشدني إبراهيم بن العباس في مجلسه في ديوان الضياع:
ربما تجزع النفوس من ... الأمر لها فرجة كحلّ العقال
ونكت بقلمه ثم قال [3] :
ولربّ نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعا وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنّها لا تفرج
قال فعجبنا من سرعة طبعه وجوده قريحته.
وحدث الصولي عن أحمد بن يزيد المهلبي قال: حدثني أبي قال [4] : لما قرأ إبراهيم بن العباس على المتوكل رسالته إلى أهل حمص [5] أما بعد فإنّ أمير المؤمنين يرى من حقّ الله عليه مما قوّم به من أود، وعدّل به من زيغ، ولمّ به من منتشر، استعمال ثلاث يقدّم بعضهنّ أمام بعض: أولاهن ما يتقدم به من تنبيه وتوقيف، ثم [ما] يستظهر به من تحذير وتخويف، ثم التي لا ينفع لحسم الداء غيرها:
أناة فان لم تغن عقّب بعدها ... وعيدا فإن فلم يغن أغنت عزائمه
عجب المتوكل من حسن ذلك، وأومأ إلى عبيد الله: أما تسمع، فقال: يا أمير المؤمنين إن إبراهيم فضيلة خبأها الله لك واحتبسها على أيامك. وهذا أول شعر نفذ في كتاب عن خلفاء بني العباس.
__________
[1] الطرائف الأدبية: 186- 187.
[2] الخبر والشعر في أمالي المرتضى 1: 486.
[3] الوافي 6: 27 والطرائف، 171.
[4] قارن بالوافي 6: 25.
[5] رسالة إبراهيم إلى أهل حمص في نثر الدر 5: 104.(1/81)
وحدث عن ميمون بن هارون عن أبيه قال قلت لإبراهيم بن العباس: إن فلانا يحبّ أن يكون لك وليا، فقال لي: أنا والله أحبّ أن يكون الناس جميعا إخواني، ولكني لا آخذ منهم إلّا من أطيق قضاء حقّه وإلا استحالوا أعداء، وما مثلهم إلا كمثل النار قليلها مقنع وكثيرها محرق.
وقال الحسين بن علي الباقطائي: شاورت أبا الصقر قبل وزارته في أمر لي فعرفني الصواب فيه، فقلت له: أنت أيدك الله كما قال إبراهيم بن العباس في هذا المعنى [1] :
أتيتك شتّى الرأي لابس حيرة ... فسدّدتني حتى رأيت العواقبا
على حين ألقى الرأي دوني حجابه ... فجبت الخطوب واعتسفت المذاهبا
فقال: لا تبرح والله حتى أكتب البيتين، فكتبتهما له بين يديه بخطي.
وحدث أبو ذكوان قال: لما توفي المعتصم بالله وقام ابنه الواثق خليفة بعده كتب إليه إبراهيم بن العباس يعزّيه بأبيه ويهنئه بالخلافة: إن أحقّ الناس بالشكر من جاء به عن الله، وأولاهم بالصبر من كان سلفه رسول الله، وأمير المؤمنين أعزّه الله وآباؤه نصرهم الله أولو الكتاب الناطق عن الله بالشكر، وعترة رسوله المخصوصون بالصبر، وفي كتاب الله أعظم الشفاء، وفي رسوله أحسن العزاء، وقد كان من وفاة أمير المؤمنين المعتصم بالله ومن مشيئة الله في ولاية أمير المؤمنين الواثق بالله ما عفّى على أوّله آخره، وتلافت بدأته عاقبته، فحقّ الله في الأولى الصبر، وفرضه في الأخرى الشكر، فإن رأى أمير المؤمنين أن يستنجز ثواب الله بصبره ويستدعي زيادته بشكره، فعل، إن شاء الله تعالى وحده.
ومن كلامه: ووجد أعداء الله زخرف باطلهم وتمويه كذبهم سرابا بقيعة يحسبه الظّمآن ماء حتّى إذا جاءه لم يجده شيئا، وكوميض برق عرض فأسرع، ولمع فأطمع، حتى انحسرت مشرّقة مغاربه، وتشعّبت مولّية مذاهبه، وأيقن راجيه وطالبه، ألّا ملاذ ولا وزر، ولا مورد ولا صدر، ولا من الحرب محيص، هنالك ظهرت عواقب
__________
[1] الطرائف: 127.(1/82)
الحقّ منجية، وخواتم الباطل مردية، سنة الله فيما أزاله واداله، ولن تجد لسنّة الله تبديلا، ولا عن قضائه تحويلا.
وحدثني الصولي، قال حدثني يحيى بن البحتري قال: رأيت أبي يذاكر جماعة من شعراء الشام بمعان من الشعر، فمرّ فيها قلة نوم العاشق وما قيل في ذلك، فأنشدوا إنشادات فيها، فقال لهم أبي: فرغ من هذا كاتب العراق إبراهيم بن العباس فقال [1] :
أحسب النوم حكاكا ... إذ رأى منك جفاكا
منّي الصبر ومنك ال ... هجر فابلغ بي مداكا
كذبت همّة عين ... طمعت في أن تراكا
أوما حظّ لعين ... أن ترى من قد رآكا
ليت حظّي منك أن تعلم ... ما بي من هواكا
ثم قال البحتري: تصرفت هذه الأبيات في معان من الشعر أحسن في جميعها، قال: فكتبها عنه أجمعهم.
ومما روى له الصولي [2] :
أولى البرية [3] طرّا أن تواسيه ... عند السرور الذي واساك في الحزن
إنّ الكرام إذا ما أسهلوا ذكروا ... من كان يألفهم في المنزل الخشن
وروى له وهو في الحماسة [3] :
لا يمنعنّك خفض العيش في دعة ... نزوع نفس الى أهل وأوطان
تلقى بكلّ بلاد إن حللت بها ... أرضا بأرض وجيرانا بجيران
__________
[1] الخبر والشعر في أمالي المرتضى 1: 483 وانظر الزهرة: 101 والطرائف الأدبية: 148.
[2] ينسبان لغيره أيضا؛ انظر عيون الأخبار 3: 20 ومروج الذهب 5: 26 وابن خلكان 1: 46 والطرائف: 177.
[3] هما في معاني العسكري 1: 192 وعيون الأخبار 1: 234 وابن خلكان 1: 46 وذكر أنه رآهما في ديوان مسلم بن الوليد، وانظر الطرائف: 151- 152 والمرزوقي رقم: 82.(1/83)
قال الصولي حدثني جرير بن أحمد بن أبي داود قال: كان إبراهيم أصدق الناس لأبي، فعتب على ابنه أبي الوليد في شيء فقال فيه أحسن قول: ذمّه ومدح أباه وما أحسن هذا من جهة جرير [1] :
عفّت مساو تبدّت منك واضحة ... على محاسن أبقاها [2] أبوك لكا
لئن تقدمت أبناء الكرام به ... فقد تقدّم آباء الكرام بكا
وروي لإبراهيم في محمد بن عبد الملك [3] :
إن كان رزقي عليك فارم به ... في ماضغي حيّة على رصد
لو كنت حرا كما زعمت وقد ... كررتني بالمطال لم أعد
لكنني عدت ثم عدت فإن ... عدت إلى مثلها إذا فعد
أعتقني سوء ما أتيت من ... الرقّ فيا بردها على كبدي
فصرت عبدا للسوء فيك وما ... أحسن سوء قبلي إلى أحد
وله فيه [4] :
وقائل لا أبدا ... إن جدّ أو إن هزلا
فهو إذا اضطر إلى ... قول نعم قال بلى
تعودوا منه لما ... ضمت بلى من قول لا
ومما يستحسن من شعر إبراهيم بن العباس [5] :
ابتداء بالتجني ... وقضاء بالتظني
واشتفاء بتجنى ... ك لأعدائك منّي
__________
[1] البيتان عند ابن خلكان 1: 89 وأمالي المرتضى 1: 487 والطرائف: 162.
[2] م: نقاها.
[3] الثابت: أنها ليست للصولي بل هي لأبي الأسد، انظر معاني العسكري 2: 203.
[4] الطرائف الأدبية: 164.
[5] الطرائف الأدبية: 151.(1/84)
بأبي قل لي كي أعل ... م لم أعرضت عنّي قد تمنّى ذاك أعدا
ئي فقد نالوا التمني
وقال أبو زيد البلخي، وذكر إبراهيم بن العباس، فقال: كان من أبلغ الناس في الكتابة حتى صار كلامه مثلا، كتب كتاب فتح عجيبا، أثنى على الله وحمده، ثم قال في خلال ذلك: وقسم الله الفاسق أقساما ثلاثة: روحا معجلة إلى نار الله، وجثة منصوبة بفناء معلقه، وهامة منقولة إلى دار خلافته.
وحدث الجهشياري [1] عن وهب بن سليمان بن وهب قال: كنت أكتب لابراهيم بن العباس على ديوان الضياع، وكان رجلا بليغا ولم يكن له في الخراج تقدم، وكان بينه وبين أحمد بن المدبر تباعد، وكان أحمد مقدّما في الكتابة، فقال أحمد بن المدبر للمتوكل: قلدت إبراهيم بن العباس ديوان الضياع وهو متخلّف، آية من الآيات لا يحسن قليلا ولا كثيرا، وطعن عليه طعنا قبيحا، فقال المتوكل: في غد أجمع بينكما، واتصل الخبر بإبراهيم فأيقن بحلول المكروه، وعلم أنه لا يفي بأحمد بن المدبر في صناعته، وغدا الى دار السلطان آيسا من نفسه ونعمته، وحضر أحمد فقال له المتوكل: قد حضر ابراهيم وحضرت، ومن أجلكم قعدت، فهات اذكر ما كنت فيه أمس فقال أحمد: أيّ شيء أذكر عنه، فإنه لا يعرف أسماء عماله في النواحي، ولا يعلم ما في دساترهم من تقديراتهم وكيولهم وحمل من حمل منهم ومن لم يحمل، ولا يعرف أسماء النواحي التي تقلّدها، وقد اقتطع صاحبه بناحية كذا كذا ألفا، واختلّت ناحية كذا في العمارة، وأطال في ذكر هذه الأمور؛ فالتفت المتوكل إلى إبراهيم فقال: ما سكوتك؟ فقال: يا أمير المؤمنين جوابي في بيتي شعر قلتهما، فإن أذن أمير المؤمنين أنشدتهما، فقال: هات، فأنشده البيتين المذكورين:
ردّ قولي وصدّق الأقوالا
فقال المتوكل: زه زه أحسنت، إيتوني بمن يعمل في هذا لحنا، وهاتوا ما
__________
[1] سقطت الحكاية مع ما سقط من كتاب الجهشياري وأثبتها ميخائيل عواد في نصوص ضائعة ص: 76- 79.(1/85)
نأكل، وجيئوا بالنساء، ودعونا من فضول ابن المدبر، واخلعوا على إبراهيم بن العباس، فخلع عليه وانصرف الى منزله. قال الحسن: فمكث يومه مغموما، فقلت له: هذا يوم سرور وجذل بما جدّد الله لك من الانتصار على خصمك، فقال يا بنيّ الحقّ أولى بمثلي وأشبه، إني لم أدفع أحمد بحجة ولا كذب في شيء مما ذكر، ولا أنا ممن يعشره في الخراج، كما أنه لا يعشرني في البلاغة، وإنما فلجت برطازة ومخرقة، أفلا أبكي فضلا عن أن أغتمّ من زمان يدفع ذلك كلّه؟
وقال الجهشياري [1] : رأيت دفترا بخط إبراهيم بن العباس الصولي فيه شعر قاله وهو في حبس موسى بن عبد الملك يصف ما هو فيه من ضيق الحبس وثقل الحديد والقيد، ويذكر موسى في شعره، وكان يكنى بأبي الحسن فكناه بأبي عمران، فقال في قصيدة طويلة:
كم ترى يبقى على ذا بدني ... قد بلي من طول همّي وفني
أنا في أسر وأسباب ردى ... وحديد فادح يكلمني
وأبو عمران موسى حنق ... حاقد يطلبني بالإحن
ليس يشفيه سوى سفك دمي ... أو يراني مدرجا في كفني
وقد كتب أحمد بن مدبر بخطه في ظهر هذا الدفتر:
أبا إسحاق إن تكن الليالي ... عطفن عليك بالخطب الجسيم
فلم أر صرف هذا الدهر يجري ... بمكروه على غير الكريم
ولإبراهيم بن العباس من التصانيف فيما ذكره محمد بن إسحاق النديم: كتاب ديوان رسائله. كتاب ديوان شعره. كتاب الدولة كبير. كتاب الطبيخ. كتاب العطر [2] .
ومات إبراهيم بن العباس الصولي في سنة ثلاث وأربعين ومائتين في شعبان، وهو يتولى ديوان الضياع والنفقات بسامرّا.
__________
[1] انظر نصوص ضائعة: 79.
[2] ر: القطر.(1/86)
- 17-
إبراهيم بن عبد الله النجيرمي أبو إسحاق النحوي اللغوي
: أخذ عنه أبو الحسين المهلبي وجنادة اللغوي الهروي وكثير من أهل العلم، وكان مقامه بمصر، قال أبو سعد السمعاني: النّجيرميّ نسبة إلى نجيرم، ويقال نجارم، وهي محلّة بالبصرة.
قال المؤلف: لم يصب السمعانيّ في قوله، إلا أن يكون طائفة من أهل هذا الموضع أقاموا بموضع من محالّ البصرة فنسب إليهم، ونجيرم قرية كبيرة على ساحل بحر فارس بينها وبين سراف نحو خمسة عشر فرسخا، رأيتها، يسمونها أهلها والنجار نيرم فيسقطون الجيم تخفيفا أو تخلفا، وليس مثلها يحتمل أن يكون لأهلها محلة بالبصرة، وهم فرس من فرس الحال [1] أكثر أكلهم النبق والسمك.
حدثني بعض أهل مصر عند كوني بها في سنة اثنتي عشرة وستمائة قال: حدثت أن الفضل بن عباس [2] دخل على كافور الإخشيدي فقال له: أدام الله أيام سيدنا الأستاذ، فخفض الأيام، فتبسم كافور إلى أبي إسحاق النجيرمي، فقال أبو إسحاق [3] :
لا غرو أن لحن الداعي لسيدنا ... وغصّ من هيبة بالريق والبهر
فمثل سيدنا حالت مهابته ... بين البليغ وبين القول بالحصر
فان يكن خفض الأيام عن دهش ... من شدّة الخوف لا من قلّة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا ... والفأل نأثره عن سيّد البشر
بأن أيامه خفض بلا نصب ... وأن دولته صفو بلا كدر
__________
[17]- ترجمة النجيرمي في إنباه الرواة 1: 170 والوافي 6: 34 وبغية الوعاة 1: 414 والنجوم الزاهرة 4: 3 وأورد له ابن سعيد في المغرب (قسم مصر: 167) رسالة طويلة كتبها عن الاخشيد إلى ملك الروم، وأعجب بها فنسخ منها عدة نسخ بعث بها إلى البصرة، كما أورد له الحصري في زهر الآداب: 617- 619 رسالة في وصف القلم، وانظر المقفى 1: 239.
[1] كذا، ولعل الصواب: من فقيري الحال.
[2] في بعض المصادر: عياش.
[3] وردت الأبيات أيضا في زهر الآداب: 619 والغيث الذي انسجم 1: 120 والمقفى.(1/87)
قال فأمر له بثلاثمائة دينار ولابن عباس بمثلها، هكذا أخبرني المصري في خبر هذا الشعر وأنه لأبي إسحاق النّجيرمي [1] .
ووجدت في أخبار رواها أبو الجوائز الواسطي قال، حدثني أبو الحسين ابن أذين النحوي، وكان شيخا قد نيف على الثمانين في سنة أربعمائة، قال: حضرت مع والدي وأنا طفل مجلس كافور الاخشيدي وهو غاصّ بأهله، فدخل رجل غريب فسلّم ودعا له، وذكر القصة ولم يذكر الفضل بن عباس، قال: فقام رجل فأنشد- ولم يذكر النجيرمي- وأنشد الشعر بعينه وجهل الرجلين.
قرأت في كتاب من إملاء النّجيرمي، قال كاتبه: أنشدني أبو إسحاق وهي له:
بدّلني الدهر أميرا معورا ... بسيّد كان خضمّا كوثرا [2]
إذا شممت كفّه مذ أمّرا ... شممت منها غمرا مقتّرا [3]
بما أشمّ مسكا وعنبرا ... يا بدلا كان لفاء أعورا [4]
وأنشدهم أيضا لنفسه:
وأيّ فتى صبر على الأين والوجى ... إذا اعتصروا للّوح ماء فظاظها [5]
إذا ضربوها ساعة بدمائها ... وحلّ عن الكوماء عقد شظاظها [6]
__________
[1] جاء في (ر) بعد حكاية اللحن هذه ما نصه: قال كاتبه عفا الله عنه: كتب أبو الفتح اسحاق بن أبي البركات بن الشويخ رأس مثيبة اليهود في زمن المستعصم بالله إلى تاج الدين معلى بن الدباهي، وهو يومئذ صدر المخزن رقعة تتضمن سؤالا لبعض يهود حربى فكتب على رأسها: «يجاب سؤال رافعوها» فلما وقف على هذا اللحن كتب إليه من نظمه:
قد كان همكم في جبر منكسر ... أو رفد مفتقر أو بسط منقبض
حذا يراعكم في الفعل مثلكم ... فليس ينكر منه رفع منخفض
توفي سنة خمس وأربعين وستمائة.
[2] المعور: الناقص؛ الكوثر: الرجل الكثير العطاء.
[3] الغمر: السهك وريح اللحم؛ مقتر: ساطع الرائحة.
[4] اللفاء: الخسيس؛ وفي المثل «بدل أعور» يضرب في المذموم يجيء بعد المحمود، انظر فصل المقال: 183 ومجمع الميداني 1: 59.
[5] الأين: التعب؛ الوجى: الألم الناشىء عن الحفاء؛ اللوح: العطش: الفظاظ: الكروش.
[6] الكوماء: الناقة ذات السنام المرتفع؛ الشظاظ: العود الذي يدخل في عروة الجوالق.(1/88)
فانك ضحّاك إلى كلّ صاحب ... وأنطق من قسّ غداة عكاظها
إذا اشتغب المولى مشاغب مغشم ... فعروة فيها آخذ بكظاظها [1]
- 18-
إبراهيم بن عبد الله الغزال اللغوي
: لا أعرف من حال شيئا إلا أن السلفي قال: أنشدني أبو القاسم الحسن بن الفتح بن حمزة بن الفتح الهمذاني قال: أنشدني إبراهيم بن عبد الله الغزال اللغوي لنفسه وكان يتبجّح بهما:
والبرق في الديجور أهطل مزنة ... أبدت نباتا أرضها كالزّرنب [2]
فوجدت بحرا فيه نار فوقه ... غيم يرى فيه بليل غيهب
- 19-
إبراهيم بن عبد الرحيم العروضي
حكى عنه أبو العباس أحمد بن محمد النامي في «كتاب القوافي» فهو من طبقة ابن درستويه وعلي بن سليمان الأخفش.
- 20-
إبراهيم بن عثمان أبو القاسم ابن الوزان القيرواني النحوي
: كان فقيها
__________
[18]- ترجمته في الوافي 6: 35 (عن ياقوت) وإنباه الرواة 1: 154 وبغية الوعاة 1: 416 ولم ترد في المختصر.
[19]- الوافي 6: 46 (عن ياقوت) وبغية الوعاة 1: 418 (كذلك) ولم ترد في المختصر.
[20]- ترجمة ابن الوزان في طبقات الزبيدي: 247- 249 وإنباه الرواة 1: 172 والديباج المذهب 1: 278 والوافي 6: 50 والشذرات 2: 372 وبغية الوعاة 1: 419 وروضات الجنات 1: 162 ولم ترد في المختصر.
[1] المغشم: الذي يركب رأسه لا يثنيه شيء، عروة: اسم الممدوح؛ آخذ بكظاظها: أي هو من يلازم خصمه ويلجمه عن مشاغبه.
[2] الزرنب: الزعفران.(1/89)
على مذهب العراقيين وإماما في النحو واللغة والعربية والعروض غير مدافع، مع قلّة ادّعاء وخفض جناح. وكان عبد الله بن محمد المكفوف [1] يقرّ له بالفضل، وانتهى من العلم إلى ما لعله لم يبلغه أحد قبله، وأما في زمانه فلا يشك فيه. مات سنة ست وأربعين وثلاثمائة، وكان يحفظ [2] «كتاب العين» للخليل بن أحمد و «غريب المصنف» لأبي عبيد و «إصلاح المنطق» لابن السكيت، وغيرها من كتب اللغة؛ وحفظ قبل ذلك «كتاب سيبويه» ثم كتب الفراء، وكان يميل إلى مذهب البصريين مع إتقانه معرفة مذاهب الكوفيين؛ قال: ولو قال قائل إنه كان أعلم من المبرد وثعلب لصدّقه من وقف على علمه ونفاذه، وكان مع ذلك مقصرا في صناعة الشعر، وله تصانيف كثيرة في النحو واللغة.
- 21-
إبراهيم بن علي أبو إسحاق الفارسي النحوي
: من تلاميذ أبي علي الفارسي، وله كتاب «شرح الجرمي» معروف متداول بأيدي الناس. ذكره الثعالبي [3] في البخاريين وقال: هو من الأعيان في علم اللغة والنحو، ورد بخارى في أيام السامانية فأجلّ وبجّل ودرس عليه أبناء الرؤساء والكتّاب بها وأخذوا عنه، وولي التصفّح في ديوان الرسائل، ولم يزل يليه إلى أن استأثر الله به. وله شعر لم يقع إليّ منه إلا قوله في بعض الرؤساء بالحضرة يستهدي منه جبّة خزّ بيضاء غير لبيس من قصيدة:
وأعن على برد الشتاء بجبة ... تذر الشتاء مقيّدا مسجونا
__________
[21]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 171 والوافي 6: 58 وبغية الوعاة 1: 420.
[1] ذكر الزبيدي (وعنه القفطي) أن أبا محمد عبد الله بن محمد الأموي كان إذا وردت عليه مسائل من النحو سأله عنها.
[2] من هنا حتى آخر الترجمة ورد في المختصر في ترجمة الزجاج.
[3] يتيمة الدهر 4: 150.(1/90)
سوسية بيضاء يترك لونها ... ألوان حسّادي شواحب جونا
عذراء لم تلبس فكفّك في العلا ... تؤتي عذراها وتأبى العونا
تسبي ببهجتها عيونا لم تزل ... تسبي قلوبا في الهوى وعيونا
مثل القلوب من العداة حرارة ... مثل الخدود من الكواعب لينا
قال أبو حيان في «كتاب الوزيرين» [1] وقد ذكر ابن العميد- فقال: وقد اجتاز به أبو إسحاق الفارسّي، وكان من غلمان أبي سعيد السيرافي، وكان قيّما بالكتاب وقريض الشعر وصنّف وأملى وشرح وتكلّم في العروض والقوافي والمعاني وناقض المتنبي وحفظ الطمّ والرمّ فما زوّده درهما ولا تفقده برغيف بعد أن أذن له حتى حضره وسمع كلامه وعرف فضله واستبان سعيه.
- 22-
إبراهيم بن عقيل بن جيش بن محمد بن سعيد
أبو إسحاق القرشي المعروف بابن المكبري النحوي الدمشقي: مات فيما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق في سنة أربع وسبعين وأربعمائة ودفن بالباب الصغير، وذكر أنه حدث عن أبي الحسن علي بن أحمد بن محمد الشرابي النحوي، وروى عنه أبو بكر أحمد بن ثابت الخطيب وأبو محمد ابن الأكفاني، قال الخطيب: وكان صدوقا، قال ابن عساكر: وفي قوله نظر.
قال: وذكره الخطيب في كتابه الذي سماه «تلخيص المتشابه» [2] قيده كما كتبناه في أول الترجمة. قال ابن عساكر: وكان أبو إسحاق يذكر أن عنده تعليقة أبي الأسود
__________
[22]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 2: 470 وتهذيبه 2: 231 والوافي 6: 56 وبغية الوعاة 1: 419 ولم ترد في المختصر.
[1] أخلاق الوزيرين: 352.
[2] هو تلخيص المتشابه في الرسم وحماية ما أشكل منه عن بوادر التصحيف والوهم؛ وإنما ذكره فيه بسبب ضبط عقيل بفتح العين أو بضمها.(1/91)
الدؤلي التي ألقاها إليه علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وكان كثيرا ما يعد بها أصحابه، لا سيما أصحاب الحديث ولا يفي إلى أن كتبها عنه بعض تلاميذه الذين يقرأون عليه [1] وإذا به قد ركّب عليها إسنادا لا حقيقة له [2] اعتبر فوجد موضوعا مركبا، بعض رجاله أقدم ممن روى عنه ولم يكن الخطيب علم بذلك ولا وقف عليه فلذلك وثقه، قال: وهذه التعليقة فهي في أمالي أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي [3] النحوي نحو من عشرة أسطر، فجعلها هذا الشيخ إبراهيم قريبا من عشرة أوراق. وله كتاب في النحو رأيته قدر «اللمع» وقد أجاد فيه.
- 23-
إبراهيم بن الفضل الهاشمي اللغوي
: قال الحاكم في «تاريخ نيسابور» : أبو إسحاق الأديب اللغوي أقام بنيسابور سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وسمعته يذكر سماعه من أبي محمد ابن صاعد وأقرانه، وسمعته يقول، سمعت أبا بكر ابن دريد ينشد لنفسه [4] :
ودّعته حين لا تودّعه ... نفسي ولكنها تسير معه
ثم افترقنا وفي القلوب له ... ضيق مكان وفي الدموع سعه
__________
[23]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 174 والوافي 6: 91 وبغية الوعاة 1: 422.
[1] في ابن عساكر: دفعها إليّ الخطيب الشيخ الفقيه أبو العباس أحمد بن منصور المالكي رحمه الله وكان كتبها عنه وحملها إلى المعروف برزين الدولة المصمودي.
[2] أورد ابن عساكر هذا الإسناد.
[3] سقطت من الأمالي والحقها المحقق (ص 238) نقلا عن الاشباه والنظائر للسيوطي.
[4] ديوانه (صنعة ابن سالم) : 39 (عن ياقوت) .(1/92)
- 24-
إبراهيم بن قطن المهري القيرواني
، أخو أبي الوليد عبد الملك المذكور في بابه [1] : ذكره الزبيدي في كتابه وقال: قرأ إبراهيم النحو قبل أخيه أبي الوليد، وكان سبب طلب أبي الوليد النحو أن أخاه إبراهيم رآه يوما وقد مدّ يده إلى بعض كتبه يقلبها، فأخذ أبو الوليد كتابا منها ينظر فيه فجذبه من يده وقال له: مالك ولهذا وأسمعه كلاما، فغضب أبو الوليد لما قابله به أخوه، وأخذ في طلب العلم حتى علا عليه وعلى أهل زمانه كلّهم واشتهر ذكره وسما قدره، فليس أحد يجهل أمره، ولا يعرف إبراهيم إلا القليل من الناس. وكان إبراهيم يرى رأي الخوارج الاباضية.
- 25-
إبراهيم بن ماهويه الفارسي
: رجل أديب لا أعرف من حاله الا ما ذكره المسعودي فقال [2] : له كتاب عارض فيه المبرد في كتابه الملقب ب «الكامل» .
- 26-
إبراهيم بن محمد بن أبي حصن الحارث
بن أسماء بن خارجة بن حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري أبو إسحاق: كوفي الأصل نزل ثغر المصيصة حتى مات به في عدة روايات ذكرها ابن عساكر في «تاريخ دمشق» أصحّها أنه مات سنة ثمان وثمانين
__________
[24]- ترجمة ابن قطن المهري في طبقات الزبيدي: 229 وإنباه الرواة 1: 175 والوافي 6: 94 وبغية الوعاة 1: 423 ولم ترد في المختصر.
[25]- الوافي 6: 100 (نقلا عن ياقوت) ولم ترد الترجمة في المختصر.
[26]- ترجمة أبي اسحاق الفزاري في طبقات ابن سعد 7: 488 ومصورة ابن عساكر 2: 498 وتهذيبه 2: 255 وسير الذهبي 8: 473 وتذكرة الحفاظ للذهبي: 273 والوافي 6: 104 وتهذيب التهذيب 1: 151 وقد وجدت قطعة من كتابه «السير» نشرت بتحقيق الدكتور فاروق حمادة، (بيروت 1987) فانظر مقدمة المحقق.
[1] عبد الملك بن قطن سقطت ترجمته وجعلتها في الملحق.
[2] مروج الذهب 1: 16.(1/93)
ومائة، وقد روي أنه مات سنة ست وقيل سنة خمس وثمانين. وكان خيّرا فاضلا ورعا صاحب سنّة وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، وله فضائل جمة نذكر منها في هذا الكتاب ما انتخبناه من كتاب دمشق، وكان أبو إسحاق مع ما اشتهر من فضله كثير الغلط وله «كتاب السير» في الأخبار والأحداث، رواه عنه أبو عمرو ومعاوية بن عمرو الرومي، وتوفي أبو عمرو هذا ببغداد سنة خمس عشرة وثلاثمائة.
قال ابن عساكر: أبو إسحاق أحد أئمة المسلمين وأعلام الدين روى عن الأعمش وسليمان البتي [1] وأبي إسحاق سليمان بن فيروز الشيباني وعبد الملك بن عمير وعطاء بن السائب ويحيى بن سعيد الأنصاري وموسى بن عقبة وهشام بن عروة وحميد الطويل وسفيان الثوري، وذكر خلقا كثيرا. وروى عنه سفيان الثوري وأبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي وهما أكبر منه، وذكر خلقا رووا عنه. وحدث فيما رفعه إلى رباح بن الفرج الدمشقي قال، سمعت أبا مسهر يقول: قدم علينا إبراهيم بن الفزاريّ فاجتمع الناس يسمعون منه، فقال لي: اخرج إلى الناس فقل لهم من [كان] يرى رأي القدرية فلا يحضر مجلسنا، ومن كان يأتي السلطان فلا يحضر مجلسنا، قال: فخرجت فأخبرت الناس.
قال وقال عبد الرحمن النسائي [2] : أبو إسحاق الفزاري ثقة مأمون أحد الأئمة، وكان يكون بالشام، روى عنه ابن المبارك. وحدّث الاوزاعي بحديث فقال رجل:
من حدثك يا أبا عمرو؟ فقال: حدثني الصادق المصدّق [3] أبو إسحاق إبراهيم الفزاري. وحدث فيما رفعه إلى أبي صالح محبوب بن موسى الفراء قال: سألت ابن عيينة قلت: حديث سمعت أبا إسحاق رواه عنك أحببت أن أسمعه منك، فغضب عليّ فانتهرني وقال: لا يقنعك أن تسمعه من أبي إسحاق؟ والله ما رأيت أحدا أقدّمه على أبي إسحاق. وقال أبو صالح أيضا [4] : ولقيت الفضيل بن عياض فعزّاني بأبي
__________
[1] ابن عساكر: وسليمان التيمي.
[2] ابن عساكر: 499.
[3] ابن عساكر: الصدوق (وقد تقرأ: المصدوق) .
[4] ابن عساكر: 501 (500) .(1/94)
إسحاق وقال لي: والله لربما اشتقت إلى المصيصة ما بي فضل الرباط إلا لأرى أبا إسحاق. وحدث فيما رفعه إلى أبي مسلم صالح بن أحمد العجلي عن أبيه قال: أبو إسحاق الفزاري كوفي اسمه إبراهيم بن محمد نزل الثغر بالمصيصة، وكان ثقة رجلا صالحا صاحب سنة، وهو الذي أدّب أهل الثغر وعلّمهم السنة، وكان يأمر وينهى، وإذا دخل الثغر رجل مبتدع أخرجه، وكان كثير الحديث، وكان له فقه، أمر سلطانا يوما ونهاه فضربه مائتي سوط، وتكلم فيه [1] . وسئل عنه يحيى بن معين فقال: ثقة ثقة. قال أبو صالح الحسين بن محمد بن موسى الفراء، سمعت علي بن بكار يقول [2] لقيت الرجال الذين لقيهم أبو إسحاق ابن عون وغيرهم والله ما رأيت فيهم أفقه منه. قال أبو صالح، قال عطاء الخفاف [3] : كنت عند الأوزاعي فأراد أن يكتب إلى أبي إسحاق، فقال للكاتب: اكتب إليه وابدأ به فإنه والله خير مني، قال: وكنت عند الثوريّ فأراد أن يكتب إلى أبي إسحاق فقال للكاتب: أكتب إليه فابدأ به فإنه والله خير مني. وحدث فيما رفعه إلى إسماعيل بن إبراهيم قال [4] : أخذ الرشيد زنديقا فأمر بضرب عنقه، فقال له الزنديق: لم تضرب عنقي يا أمير المؤمنين؟ قال: أريح الناس منك، قال: فأين أنت من ألف حديث وضعتها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فيها حرف نطق به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأين أنت يا عدوّ الله من أبي إسحاق الفزاري وعبد الله بن المبارك ينخلانها نخلا فيخرجانها حرفا حرفا.
وحدث فيما رفعه إلى عبد الرحمن بن مهدي قال [5] : كان الأوزاعيّ والفزاريّ إمامين في السنّة، إذا رأيت الشاميّ يذكر الأوزاعي والفزاريّ فاطمئن إليه، كان هؤلاء الأئمة في السنة.
وحدث أبو علي الروذباري [6] : كان أربعة في زمانهم: واحد كان لا يقبل من
__________
[1] ابن عساكر: فغضب له الأوزاعي فتكلم في أمره.
[2] ابن عساكر: 500.
[3] ابن عساكر: 500.
[4] ابن عساكر: 501.
[5] ابن عساكر: 502.
[6] المصدر السابق.(1/95)
السلطان ولا من الإخوان، يوسف بن أسباط، ورث سبعين ألف درهم لم يأخذ منها شيئا وكان يعمل الخوص بيده. وآخر كان يقبل من الإخوان والسلطان جميعا أبو إسحاق الفزاريّ، فكان ما يأخذه من الإخوان ينفقه في المستورين الذين لا يتحركون، والذي يأخذه من السلطان ينفقه [1] في أهل طرسوس. والثالث كان يأخذ من الاخوان ولا يأخذ من السلطان وهو عبد الله بن المبارك يأخذ من الإخوان ويكافىء عليه. والرابع كان يأخذ من السلطان ولا يأخذ من الاخوان وهو مخلد بن الحسين، كان يقول: السلطان لا يمنّ والاخوان يمنّون.
وحدث ابن عساكر فيما رفعه إلى الأصمعي قال [2] : كنت جالسا بين يدي هارون الرشيد أنشده شعرا، وأبو يوسف القاضي جالس على يساره، فدخل الفضل بن الربيع فقال: بالباب أبو إسحاق الفزاري، فقال: أدخله، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال له الرشيد: لا سلّم الله عليك ولا قرّب دارك ولا حيا مزارك، قال: لم يا أمير المؤمنين؟ قال: أنت الذي تحرّم السواد؟ فقال: يا أمير المؤمنين من أخبرك بهذا؟ لعل هذا أخبرك- وأشار إلى أبي يوسف وذكر كلمة- والله يا أمير المؤمنين لقد خرج إبراهيم على جدك المنصور فخرج أخي معه، وعزمت على الغزو فأتيت أبا حنيفة فذكرت له ذلك فقال لي:
مخرج أخيك أحبّ إليّ مما عزمت عليه من الغزو، وو الله ما حرّمت السواد، فقال الرشيد: فسلّم الله عليك وقرّب دارك وحيّا مزارك، اجلس أبا إسحاق، يا مسرور ثلاثة آلاف دينار لأبي إسحاق، فأتي بها فوضعت في يده وانصرف بها، فلقيه ابن المبارك فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من عند أمير المؤمنين وقد أعطاني هذه الدنانير وأنا عنها غنيّ، قال: فإن كان في نفسك منها شيء تصدّق بها، فما خرج من سوق الرافقة حتى تصدّق بها كلها.
وفضائل أبي إسحاق كثيرة اختصرت منها حسب ما شرطت من الإيجاز من «تاريخ دمشق» لابن عساكر.
__________
[1] ابن عساكر: كان يخرجه إلى.
[2] ابن عساكر 2: 502- 503.(1/96)
- 27-
إبراهيم بن محمد بن سعدان بن المبارك النحوي
: أحد من كتب وصحّح، ونظر وحقّق، وروى وصدق، وقد صنّف كتبا حسنة منها كتاب الخيل، لطيف. كتاب حروف القرآن. وأبوه محمد بن سعدان المكفوف أحد أعيان أهل العلم من القراء وله باب يذكر فيه.
- 28-
إبراهيم بن القاسم الكاتب
: يعرف بالرقيق القيرواني، والرقيق لقب له، رجل فاضل أديب له تصانيف كثيرة في علم الأخبار ومنها كتاب تاريخ أفريقية والمغرب، عدة مجلدات. وكتاب النساء، كبير. وكتاب الراح والارتياح. وكتاب نظم السلوك في مسامرة الملوك أربع مجلدات. وكتاب الاختصار البارع للتاريخ الجامع، عشر مجلدات.
وكان في سنة تسعين وثلاثمائة.
وذكره ابن رشيق فقال: هو شاعر سهل الكلام محكمه، لطيف الطبع قويه، تلوح الكتابة على ألفاظه، قليل صنعة الشعر، غلب عليه اسم الكتابة وعلم التاريخ وتأليف الأخبار، وهو بذلك أحذق الناس. وكاتب الحضرة منذ نيّف وعشرين سنة إلى
__________
[27]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 185 والفهرست: 87 وبغية الوعاة 1: 426 ولم ترد في المختصر وتأتي ترجمة أبيه رقم: 1050.
[28]- ترجمة الرقيق في الوافي 6: 92 (وضبط اسمه بأنه بقافين بينهما ياء آخر الحروف فعيل من الرقة) والفوات 1: 41 ومسالك الابصار 11: 333 وفيه نقل عن الأنموذج لابن رشيق (أنموذج الزمان: 55) والمقفى 1: 256. ومقدمة قطب السرور (القسم الثاني) بتحقيق أحمد الجندي، دمشق 1969 ومقدمة المختار منه، تحقيق عبد الحفيظ منصور 1976 ومقدمة قطعة من كتابه تاريخ المغرب والأندلس، تحقيق المنجي الكعبي، وهذه القطعة أعاد تحقيقها عز الدين عمر موسى وعبد الله الزيدان، دار الغرب الاسلامي، بيروت 1990.(1/97)
الآن. ومن شعره جوابا عن أبيات كتبها إليه عمار بن جميل [1] وقد انقطع عن مجالس الشراب [2] :
قريض كابتسام الرّو ... ض جمّشه نسيم صبا
كعقد من جمان الطلّ منظوم وما ثقبا ... ومنثور كنثر الد
رّ من أسلاكه انسربا ... فأهدى نشر زهرته
فتيت المسك منتهبا ... إذا أثماره جنيت
جنيت العلم والأدبا ... بهزل حين ينشده
كأنك منتش طربا ... حباك به أخ يرعى
من العهد الذي وجبا ... صديق مثل صفو الما
ء بالصهباء قد قطبا ... كنزت مودة منه
كفت أن أكنز الذهبا ... إذا عدّ امرؤ حسبا
فحسبي ذكره نسبا ... ألذّ من الحياة لد
يّ لكن قبله قلبا ... فهان عليه ما ألقى
وظنّ تجلدي لعبا ... جفوت الراح عن سبب
وكان لجفوتي سببا ... فصرت لوحدتي كلّا
على الإخوان مجتنبا ... وذاك لتوبة أمّلت أن أقضي بها أربا
فها أنا تائب منها ... فزرني تبصر العجبا
وكان قدم مصر في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة بهدية من نصير الدولة باديس بن زيري إلى الحاكم، فقال قصيدة يذكر فيها المناهل ثم قال [3] :
__________
[1] عمار بن جميل: ترجم له ابن رثيق في الأنموذج: 305 وقال: كان متوسط الطبع، مرّ المذاق، شرس الأخلاق، يتشبه بمحمد بن عبد الملك الزيات.
[2] الأبيات في الأنموذج: 55- 56.
[3] القصيدة في الأنموذج: 57 (وتخريجها) .(1/98)
إذا ما ابن شهر قد لبسنا شبابه ... بدا آخر من جانب الأفق يطلع
إلى أن أقرّت جيزة النيل أعينا ... كما قرّ عينا ظاعن حين يرجع
يقول فيها بعد مدح كثير ووصف جميل:
هدية مأمون السريرة ناصح ... أمين إذا خان الأمين المضيّع
وما مثل باديس ظهير خلافة ... إذا اختير يوما للظهيرة موضع
نصير لها من دولة حاتمية ... إذا ناب خطب أو تفاقم مطمع
حسام أمير المؤمنين وسهمه ... وسمّ ذعاف في أعاديه منقع
قال: ومن مليح كلامه قوله من قصيدة [1] :
إذا ارجحنّت بما تحوي مآزرها ... وخفّ من فوقها خصر ومنتطق
ثنى الصّبا غصنا قد غازلته صبا ... على كثيب له من ديمة لثق
للشمس ما سترت عنّا معاجرها ... وللغزال احورار العين والعنق
مظلومة أن يقال البدر يشبهها ... والبدر يكسف أحيانا وينمحق
يجلل المتن وحف من ذوائبها ... جبينها تحت داجي ليله فلق
كأنها روضة زهراء حالية ... بنورها، ترتعي في حسنها الحدق
وقال ومن أعجب ما سمعت قوله من قصيدة يمدح محمد بن أبي العرب [2] :
أظالمة العينين لحظهما [3] سحر ... وإن ظلم الخدّان واهتضم الخصر
أعوذ ببرد من ثناياك قد ثنى ... إليك قلوبا حشو أثنائها [4] جمر
لقد ضمنت [عيناك] أنّ ضمانتي ... ستبري عظامي بالنحول ولا تبرو
وما أمّ ساجي الطرف خفّاقة الحشا ... أطاع لها الحوذان والسّلم النضر
__________
[1] الأنموذج: 58.
[2] محمد بن أبي العرب الكاتب عمل على أفريقية أيام المنصور الصنهاجي وتوفي سنة 396 (الكامل في التاريخ 9: 90، 152) وانظر الأبيات في الأنموذج: 59.
[3] في م: يخلطها.
[4] المسالك: أثوابها.(1/99)
إذا ما دعاها نصّت الجيد نحوه ... أغنّ قصير الخطو في لحظه [1] فتر
بأملح منها ناظرا ومقلّدا ... ولكن عداني عن تقنّصها الهجر
يقول في مديحها:
تصبّاه أبكار العلا ليس أنها ... منعمة هيفاء أو غادة بكر
يخال بأن العرض غير موفّر ... عن الذمّ إلا أن يدال له الوفر
يقول فيها يصف بلاغته وكتابته:
يوشّح ديباج البلاغة أحرفا ... يكاد يري روضا يوشّحه الزهر
ويفصح لفظا خطّها من فصاحة ... ويشرق من تحبير ألفاظها الحبر
يصيب عيون المشكلات بديهه ... ويبدي له أعقاب ما غيّب الفكر
ثم ذكر الممدوح فقال:
وملمومة شهباء يسعى أمامها ... شهاب عزيم من طلائعه الذعر
يزجّي بنات الأعوجية شزّبا ... عليها بنو الهيجا دروعهم الصبر
أسود وغى تحت العجاجة غابها ... سريجّية بيض وخطّية سمر
صبحت بها دهماء قوم أرتهم ... وجوه الردى حمرا خوافقها الصّفر
قال: ومثل هذه القصيدة في الجودة قصيدة طويلة تشوق فيها إخوانه بمصر، وهي [2] :
هل الريح إن سارت مشرّقة تسري ... تؤدّي تحياتي إلى ساكني مصر
فما خطرت إلّا بكيت صبابة ... وحمّلتها ما ضاق عن حمله صدري
تراني [3] إذا هبّت قبولا بنشرهم ... شممت نسيم المسك في ذلك النشر
وما أنس من شيء خلا العهد دونه ... فليس بخال من ضميري ولا فكري
ليال أنسناها [4] على غرّة الصّبا ... فطابت لنا إذ وافقت غرّة الدهر
__________
[1] المسالك: عظمه.
[2] وردت هذه القصيدة في المسالك وخطط المقريزي 1: 370 وانظر الأنموذج: 61.
[3] ر: لأني.
[4] المسالك: لبسناها.(1/100)
لعمري لئن كانت قصارا أعدّها ... فلست بمعتدّ سواها من العمر
أخادع دهري أن يعود بفرصة ... فينقذ روح الوصل من راحة الهجر
وترجع أيام خلت بمعاهد ... من اللهو لا تنفكّ مني على ذكر
فكم لي بالأهرام أو دير نهية ... مصايد غزلان المكانس [1] والقفر
إلى الجيزة الدنيا وما قد تضمّنت ... جزيرتها ذات المواخير والجسر
وبالمقس فالبستان للعين منظر ... أنيق إلى شاطي الخليج إلى القصر
وفي سردوس [2] مستراد وملعب ... إلى دير مر حنّا إلى ساحل البحر
وكم بين بستان الأمير وقصره ... إلى البركة الزهراء من زهر نضر
تراها كمرآة بدت في رفارف ... من السندس الموشيّ ينشر للتّجر
وكم بتّ في دير القصير [4] مواصلا ... نهاري بليلي لا أفيق من السكر
تباكرني بالراح بكر غريرة ... إذا هتف الناقوس في غرة الفجر
مسيحية خوطّية كلما انثنت ... تشكّت أذى الزنّار من دقة الخصر
وكم ليلة لي بالقرافة خلتها ... لما نلت من لذاتها ليلة القدر
سقى الله صوب القطر تلك مغانيا ... وإن غنيت بالنيل عن سبل القطر
وله أيضا في الغزل [5] :
ريم إذا ما معاريض المنى خطرت ... أجلّه المتمنّي عن تمنّيه
يا إخوتي أأقاحي فيه أقبل لي ... أم خطّ راءين من مسك [6] على فيه
أم حسن ذاك التراخي في تكلّمه ... أم حسن ذاك التهادي في تثنيه
__________
[1] دير نهيا: بالجيزة قرب القاهرة؛ وفي م: المكابد.
[2] سردوس: أحد فروع النيل.
[3] دير مرحنا: كان يقع على شاطىء بركة الحبش.
[4] دير القصير: كان قريبا من القاهرة.
[5] قارن بالفوات 6: 93 والأنموذج: 63.
[6] المختصر (ر) : أم خط آس على مسك.(1/101)
أم سخطه أم رضاه أم تجنّيه ... أم عطفه أم نواه أم تدانيه
نفسي فداؤك ما لي عنك مصطبر ... يا قاتلي كلّ معنى من معانيه
وقال يرثي [1] :
وهوّن ما ألقى وليس بهيّن ... بأن المنايا للنفوس بمرصد
وأني وإن لم ألقك اليوم رائحا ... لصرف رزاياها لقيتك في غد
فلا يبعدنك الله ميتا بقفرة ... معفّر خدّ في الثرى لم يوسّد
تردّى نجيعا حين بزّت ثيابه ... كأنّ على أعطافه فضل مجسد
مضاء سنان في سنان مذلّق ... وفتك حسام في حسام مهند
- 29-
إبراهيم بن محمد بن عبيد الله بن المدبر أبو إسحاق
: الكاتب الأديب الفاضل، الشاعر الجواد المترسل، صاحب النظم الرائق والنثر الفائق، تولى الولايات الجليلة، ثم وزر للمعتمد على الله لما خرج من سرّ من رأى يريد مصر، ومات في سنة تسع وسبعين ومائتين وهو يتقلد للمعتضد ديوان الضياع ببغداد. وأصلهم من دستميسان، وكان يدّعي أنه من ضبّة. وأخوه أحمد [2] من جلة [الكتاب] وأفاضلهم وكرامهم، وحسدته الكتاب على منزلته من السلطان فأغروه به حتى أخرجه إلى دمشق متوليا عليها وناظرا في تحصيل أموالها، وقتله ابن طولون في أمر قد ذكرته في كتابي التاريخ.
__________
[29]- تجد بعض أخبار ابن المدبر في تاريخ الطبري (صفحات متفرقة) ، وفي علاقاته بشعراء عصره، يمكن مراجعة ديوان البحتري وديوان ابن الرومي، وله أخبار منثورة في كتب الأدب، انظر نشوار المحاضرة 1: 270- 273 وله ترجمة في المقفى 1: 309.
[1] انظر المسالك والأنموذج: 63.
[2] تجد أخبارا لأحمد بن المدبر في وفيات الأعيان 7: 56 وخطط المقريزي 1: 314 والمغرب (قسم مصر) 123 وصفحات أخرى والنجوم الزاهرة 3: 43.(1/102)
وإبراهيم بن المدبر هو القائل في إبراهيم بن العباس الصولي يهجوه:
عزل الطويل عن الأزمّه ... لا ردّه ربّي بذمّه
إن كان طال فإنه ... من أقصر الثقلين همّه
هب كنت صولا نفسه ... من كان صول ناك أمّه
ومن شعره أيضا [1] :
يا كاشف الكرب بعد شدته ... ومنزل الغيث بعد ما قنطوا
لا تبل قلبي بشحط بينهم ... فالموت دان إذا هم شحطوا
من «كتاب نظم الجمان» للمنذري، قال العطوي الشاعر: أتيت إبراهيم بن المدبر فاستأذنت عليه فلم يأذن لي حاجبه، فأخذت ورقة وكتبت فيها:
أتيتك مشتاقا فلم أر جالسا ... ولا ناظرا إلّا بوجه قطوب
كأني غريم مقتض أو كأنني ... نهوض حبيب أو حضور رقيب
فسألت الحاجب حتى أوصلها إليه، فلما قرأها قال: ويحك أدخل عليّ هذا الرجل، فدخلت فأكرمني وقضى حوائجي.
قال أبو علي [2] : سمعت أبا محمد المهلبي يتحدث وهو وزير في مجلس أنس أن رجلا كان ينادم بعض الكتاب الظراف، وأحسبه قال ابن المدبر، قال: كنت عنده ذات يوم فرجع غلام له أنفذه في شيء لا أدري ما هو، فقال له رب الدار: ما صنعت؟ فقال: ذهبت ولم يكن فقام ليجيء فجاء فلم يجىء فجئت، قال: فتبينت في ربّ الدار تغيّرا وهمّا، ولم يقل للغلام شيئا، فعجبت من ذلك، ثم أخذ بيدي وقال: قد ضيّق صدري ما جاء به هذا الغلام فقم حتى ندور في البستان الذي في دارنا ونتفرج فلعله يخفّ ما بي، فقلت: والله لقد توهمت أن صدرك قد ضاق بانقلاب كلام الغلام عليك، فأما وقد فهمته فهو ظريف، فقال: إن هذا الغلام من أحصف وأظرف غلام يكون، وذاك أنني ممتحن بعشق غلام أمرد، وهو ابن نجاد في جيراننا، والغلام يساعدني عليه، وأبوه يغار عليه ويمنعه مني، فوجّهت بهذا الغلام
__________
[1] المقفى 1: 312.
[2] يعني- في الأرجح- ابن مقلة.(1/103)
وقلت له: إن لم يكن أبوه هناك فقل له يصير إلينا، فرجع، فلما رآك عندي ورآني احتشمك ردّ هذا الجواب الظريف الذي سمعته، فقلت: أعده عليّ أنت لأفهمه، فقال: إنه يقول ذهبت إلى الغلام ولم يكن أبوه هناك، فقام الغلام ليجيء، فجاء أبوه فلم يجىء الغلام، فجئت أنا. فقلت له: هذا الغلام يجب أن يكون أخا أو صديقا لا غلاما.
وقال مخلد بن علي الشامي الحوراني يهجو ابن المدبر:
على أبوابه من كلّ وجه ... قصدت له أخو مرّ بن أدّ
يعني ضبّة بن أد، يعني أبوابه مضببة باللؤم أو محكمة عن الخير، وكان ابن المدبّر ينسب إلى ضبة:
أخو لخم أعارك منه ثوبا ... هنيئا بالقميص لك الأجدّ
وأخو لخم يريد جذاما:
أبوك أراد أمك حين زفّت ... فلم توجد لأمّك بنت سعد
بنت سعد: يريد عذرة بن سعد بن هذيم القبيلة المعروفة.
وزبد في الهجاء بغير دال ... أحبّ إليك من عسل بزبد
رأيتك لا تحبّ الودّ إلا ... إذا ما كان من عصب وجلد
أراني الله عرّك في الجعبّى ... وعينك عين بشار بن برد
العر: الجرب، والجعبى الاست، وعين بشار يعني أعمى، لأن بشار بن برد كان أعمى.
- 30-
إبراهيم بن محمد بن سعيد بن هلال بن عاصم بن سعد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غبرة بن عوف بن ثقيف الثقفي
: أصله كوفي،
__________
[30]- ترجمته في الوافي 6: 120 (عن ياقوت) ، وانظر فهرست الطوسي: 16 (كلكتا) 31 (بيروت) ولم ترد هذه الترجمة في المختصر.(1/104)
وسعد بن مسعود هو أخو عبيد بن مسعود صاحب يوم الجسر في أيام عمر بن الخطاب مع الفرس، وسعد هو عمّ المختار بن أبي عبيد الثقفي، ولّاه علي كرّم الله وجهه المدائن وهو الذي لجأ اليه الحسن يوم ساباط. وكنية ابراهيم أبو إسحاق وكان جبارا من مشهوري الإمامية، ذكره أبو جعفر محمد بن الحسين الطوسي في «مصنفي الإمامية» وذكر أنه مات في سنة ثلاث وثمانين ومائتين، قال: وانتقل من الكوفة إلى أصفهان وأقام بها، وكان زيديا أوّلا وانتقل إلى القول بالإمامية. وله مصنفات كثيرة منها: كتاب المغازي. كتاب السقيفة. كتاب الردة. كتاب مقتل عثمان. كتاب الشورى. كتاب بيعة أمير المؤمنين. كتاب الجمل. كتاب صفين. كتاب الحكمين. كتاب النهر [1] . كتاب الغارات. كتاب مقتل أمير المؤمنين. كتاب رسائل أمير المؤمنين وأخباره وحروبه غير ما تقدم. كتاب قيام الحسن بن علي رضي الله عنهما. كتاب مقتل الحسين. كتاب التوابين وعين الوردة. كتاب أخبار المختار.
كتاب فدك. كتاب الحجة في فعل [2] المكرمين. كتاب السرائر. كتاب المودة في ذوي القربى. كتاب المعرفة. كتاب الحوض والشفاعة. كتاب الجامع الكبير في الفقه. كتاب الجامع الصغير. كتاب ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين. كتاب فضل الكوفة ومن نزلها من الصحابة. كتاب الإمامة كبير. كتاب الامامة صغير. كتاب المتعتين. كتاب الجنائز. كتاب الوصية. كتاب المبتدا. كتاب أخبار عمر. كتاب أخبار عثمان. كتاب الدار. كتاب الأحداث. كتاب الحروري. كتاب الاستيفاء والغارات [3] . كتاب السير. كتاب يزيد. كتاب ابن الزبير. كتاب التعبير [4] . كتاب التاريخ. كتاب الرؤيا. كتاب الأشربة الكبير والصغير. كتاب محمد وإبراهيم.
كتاب من قتل من آل محمد. كتاب الخطب.
__________
[1] الطوسي: النهروان
[2] الطوسي: فضل (أو فعل) .
[3] الطوسي: كتاب الجزور أو كتاب الاستفسار والغارات.
[4] الطوسي: التفسير.(1/105)
- 31-
إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أبي عون ابن هلال أبي النجم الكاتب أبو إسحاق
صاحب «كتاب التشبيهات» [1] : وكان من أصحاب أبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر وأحد ثقاته وممن كان يغلو في أمره ويدّعي أنه إلهه- تعالى الله عن ذلك. وكان ابن أبي العزاقر من أهل قرية من قرى واسط تعرف بشلمغان، وكان كاتبا ببغداد، ذكر ثابت [2] أنّ المحسّن بن الفرات كان له عناية به فاستخلفه ببغداد لجماعة من العمال بنواحي السلطان، وكانت صورته صورة الحلاج، وكان له قوم يدّعون أنه إلههم وأنّ روح الله عز وجل حلّ في آدم ثم في شيث ثم في واحد واحد من الأنبياء والأوصياء والأئمة حتى حلّ في الحسن بن علي العسكري، وأنه حل فيه. ووضع كتابا سماه الحاسة السادسة [3] ، وأباح الزنا والفجور، فظفر به الراضي بالله فقتله في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، وكان قد استغوى جماعة منهم ابن أبي عون صاحب «كتاب التشبيهات» وكانوا يبيحونه حرمهم وأموالهم يتحكم فيها، وكان يتعاطى الكيمياء، وله كتب معروفة. ولما أخذ ابن أبي العزاقر أخذ معه، فلما قتل ابن أبي العزاقر عرض على إبراهيم بن أبي عون أن يشتمه أو يبصق عليه، فأبى وأرعد وأظهر خوفا من ذلك للحين والشقاء، فقتل وألحق بصاحبه. وكان من أهل الأدب وتأليف الكتب، وكان ناقص العقل متهوّرا، قال ثابت: قيل إن أبا جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقر ادّعى الربوبية فقتل هو
__________
[31]- ترجمة ابن أبي عون في الفهرست: 164 (وانظر بعض خبر ابن ابي العزاقر ص: 225، 425) ومادة «الشلمغاني» في معجم البلدان وتاريخ ابن الأثير 8: 290 والانساب واللباب «الشلمغاني» وابن خلكان 2: 155- 157 (وفيه نقل عن ابن النجار في ترجمة ابن أبي عون) ومختصر أبي الفدا 2: 80 وقد ذكره المعري في رسالة الغفران: 455.
[1] طبع بتحقيق صديقنا محمد عبد المعيد خان رحمه الله (كيمبردج 1950) .
[2] يريد ثابت بن سنان الطبيب صاحب التاريخ الذي ما كتب كتاب في التاريخ أكثر مما كتب- كما يقول القفطي- وهو من سنة نيف وتسعين ومائتين وإلى حين وفاته سنة 363 وعليه ذيل ابن أخته هلال بن المحسن.
[3] المختصر: الحاسة الساكنة.(1/106)
وإبراهيم بن محمد بن أحمد بن أبي النجم المعروف بابن أبي عون صاحبه ضربا بالسوط، ثم ضربت أعناقهما وصلبا، ثم أحرقت جثتهما، وذلك يوم الثلاثاء لليلة خلت من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، نقلته من خطه.
وله من التصانيف: كتاب النواحي والبلدان. كتاب الجوابات المسكتة [1] .
كتاب التشبيهات. كتاب بيت مال السرور. كتاب الدواوين. كتاب الرسائل.
قال المرزباني [2] : أبو عون أحمد بن أبي النجم الكاتب الأنباري مولى لبني سليم، وأبو عون وعمّاه صالح وماجد ابنا أبي النجم شعراء كلهم، وماجد يكنى أبا الدميل، وأبو عون هو القائل في حاتم بن الفرج، وكان أبو شبل البرجمي الشاعر في قدمته سرّ من رأى نزل عليه، وكان أبو شبل أهتم، فقال فيه أبو عون [3] :
لحاتم في بخله فطنة ... أدقّ حسّا من خطى النمل
قد جعل الهتمان ضيفانه ... فصار في أمن من الأكل
ليس على خبز امرىء ضيعة ... أكيله عصم أبو شبل [4]
كم قدر ما تحمله كفّه ... إلى فم من سنّه عطل ضفحاتم الجود أخو طيء
كان وهذا حاتم البخل
وذكر أبو محمد عبد الله بن أحمد الفرغاني [قال] [5] وكان ابن أبي عون أحد القواد ممن قرّبه إليه أبو الهيثم العباس بن محمد بن ثوابة وأكسبه مالا، فلما قبض على أبي الهيثم صار ابن أبي عون عونا عليه مع أعدائه، وكان في من وكل بدار أبي
__________
[1] تقوم بتحقيقه الدكتورة وداد القاضي، وما نشر منه لا يعدو أن يكون قطعة.
[2] هذا النقل من معجم الشعراء، كما ذكر الصفدي في الوافي 8: 209- 210.
[3] الأغاني 14: 192.
[4] يعني عاصم بن وهب المكنىّ بأبي الشبل البرجمي، وهو شاعر عاصر المتوكل العباسي ومدحه (انظر ترجمته في الأغاني 14: 184- 201) .
[5] هو المؤرخ الذي كتب صلة لتاريخ الطبري وكانت وفاته سنة 362 ثم إن ابنه أحمد كتب صلة لتاريخ أبيه، وتوفي الابن سنة 398.(1/107)
الهيثم، ولم يحسن إليه أبو الهيثم إلّا على بصيرة فيه بظلمه وفسقه فسلّطه الله عليه كما كان هو يسلّطه على الناس؛ قال ابن أبي عون: أظنّ أنّ أبا الهيثم كان يهوديا، قيل: وكيف ذلك؟ قال: لأني أخذت غلاما له ففسقت به في دبره وسكرت، وطلبت أمّ ولده لأفجر بها ولم أقدر عليها، ولو كان أبو الهيثم مسلما لغضب الله له. وهذا قول متمرّد على الله مستغرّ بإمهال الله تعالى له، ولم يهمله الله عز وجل ثم أخذه بسوء عمله. وكان ممن آمن بالحلّاج وآمن بربوبيته وأخذ مع من أخذ من أصحاب الحلاج وقتل شر قتلة؛ كذا قال «الحلاج» ، إنما هو ابن أبي العزاقر وإن كانت علّتهما واحدة.
وقرأت بمرو رسالة كتبت من بغداد عن أمير المؤمنين الراضي رضي الله عنه إلى أبي الحسين نصر بن أحمد الساماني إلى خراسان بقتل العزاقري لخصت [منها] ما يتعلق بابن أبي عون، قال فيها بعد أن ذكر أول من أبدع مذهبا في الإسلام من الرافضة وأهل الأهواء «وآخر من أظفره الله منهم به: المقتدر بالله، رحمه الله، فانتقم من المعروف بالحلّاج وخبره أرفع وأشهر من أن يوصف ويذكر- وأراق دمه وأزال تمويهه وحسمه. ولما ورث أمير المؤمنين ميراث أوليائه، وأحلّه [الله] محلّ خلفائه، اقتدى بسنتهم، وجرى على شاكلتهم في كلّ أمر قاد إلى مصلحة ودفع ضرر، وعاد إلى الإسلام وأهله بمنفعة، وجعل الغرض الذي يرجو الإصابة بتيمّمه والمثوبة بتعمّده أن يتتبع هذه الطبقة من الكفار، ويطهّر الأرض من بقيتهم الفجار، فتبحّث عن أخبارهم، وأمر بتقصّي آثارهم، وأن ينهى إليه ما يصحّ من أمورهم، ويحصّل له من يظهر عليه من جمهورهم، فلم يبعد أن أحضر أبو علي محمد [1] وزير أمير المؤمنين رجلا يقال له محمد بن علي الشلمغاني، ويعرف بابن أبي العزاقر، فأعلم أمير المؤمنين أنه من غمار الناس وصغارهم، ووجوه الكفّار وكبارهم، وأنه قد استزلّ خلقا من المسلمين، واستركّ طوائف من العمهين، وأنّ الطلب قد كان لحقه في الأيام الخالية فلم يدرك، وأودعت المحابس قوما [ممن] ضلّ وأشرك فلما رفع حكمه عنه، وأذن في استنقاذ العباد منه واطّلع من أبي عليّ على صفاء نية ونقاء طويّة في ابتغاء
__________
[1] يعني الوزير ابن مقلة.(1/108)
الأجر وطلابه، ورضى الله عز وجل واكتسابه، والامتعاض من أن ينازع في الالهية، أو يضاهى في الربوبية، أنّسه بناحيته فاسترسل، وحبّبه بالمصير إلى حضرته فتعجّل، ففحص أمير المؤمنين عنه ووكل [إليه] همه، ففتش أمره تفتيش الحائط للمملكة، المحامي عن الحوزة، القائم بما فوّضه الله إليه من رعاية الأمة، ووقف أمير المؤمنين على أنه لم يزل يدخل على العقول من كلّ مدخل، ويتوصّل إلى ما فيها من كلّ متوصّل، ويعتزي إلى الملّة وهو لا يعتقدها، وينتمي إلى الخلّة وهو عار منها، ويدّعي العلوم الإلهية وهو عم عنها، ويتحقّق استخراج الحكم الغامضة وهو جاهل بها، ويتّسم بالقدرة على المعجزات وهو عاجز عن ممكن الأشياء ومتهيئها، وينتحل التقيّة في دين آل محمد وهو يضمر التبرؤ منها، ويشنأه ويسبّه صلى الله عليه وسلم ويعضهه، ترمق ظاهره العيون، فتنصرف عنه الظنون، إلى أن دلّ بالحيلة، والمكر والغيلة، على قوم من ذوي الجدة واليسار، والثروة والاحتكار، قد أترفهم النعيم فبطروا، وألهاهم فأشروا، ولجّجهم في بحار اللذة، فتولجوها على كلّ علة، والتمسوا في ذلك رخصة يجعلونها لأنفسهم عمدة وعصمة، وآخرين لا جدة عندهم ولا سعة، قد قويت شهواتهم، وضعفت حالاتهم، فهم يطلبون أقواتهم بالحقّ والباطل، ويخوضون في نيلها مع الجادّ والهازل، فأباحهم المحظورات، وأحلّ لهم المحرّمات، وامتطى لهم مركب الغرور، وتهوّر بهم غايات الأمور، ولم يدع فنّا من الفنون [المردية] ولا نوعا من الأنواع المخزية، إلّا فسح لهم فيه، وشحذ عزائمهم عليه، حتى ادّان له واتّبعه وأطاعه وشايعه خلق رين على قلوبهم فهم لا يفقهون، وضرب على آذانهم فهم لا يسمعون، وغطّي على أعينهم فهم لا يبصرون، وحيل بينهم وبين الرشد فهم لا يرعوون، وأنسوا التدبر والتفكر في خلق أنفسهم، والسماء التي تظلّهم، والأرض التي تقلّهم، فأصفقوا بأجمعهم على أنه خالقهم وربهم ورازقهم ومحييهم، يحلّ فيما شاء من الصور، ويحدث ما شاء من الغير، ويفعل ما يريد، ولا يعجزه قريب ولا بعيد، وادّعوا له الدعاوى الباطلة، وزعموا أنهم عاينوا منه الآيات المعضلة. واستظهر أمير المؤمنين بأن تقدم إلى أبي عليّ بمواقفة هذا اللعين على تمويهاته وقبائح تلبيساته لتكون إقامة أمير المؤمنين حدّ الله عليه بعد الإنعام في الاستبصار، وانكشاف الشّبهة فيه عن القلوب والأبصار، فتجرّد أبو علي في ذلك(1/109)
وتشمّر، وبلغ منه وما قصّر، وانثال عليه كلّ من اطلع على الحقيقة، وتعرّف جليّة الصورة، فوقف أبو علي على أنّ العزاقريّ يدّعي أنه لحقّ الحقّ وأنه إله الآلهة، الأول القديم الظاهر الباطن الخالق الرازق التامّ الموصى إليه بكلّ معنى، ويدعى بالمسيح كما كانت بنو إسرائيل تسمي الله عزّ وجل المسيح، ويقول إن الله جلّ وعلا يحلّ في كلّ شيء على قدر ما يحتمل، وانه خلق الضدّ ليدلّ به على مضدوده، فمن ذلك أنه جلي في آدم عليه السلام لما خلقه وفي إبليس، وكلاهما لصاحبه يدلّ عليه لمضادته إياه في معناه، وإن الدليل على الحقّ أفضل من الحقّ، وأن الضدّ أقرب إلى الشيء من شبهه، وأن الله عز وجل إذا حلّ في هيكل جسد ناسوتي أظهر من القدرة المعجزة ما يدلّ على أنه هو، وأنه لما غاب آدم عليه السلام ظهر اللاهوت في خمسة ناسوتية، كلما غاب منهم واحد ظهر مكانه غيره، وفي خمسة أبالسة أضداد لتلك الخمسة، ثم اجتمعت اللاهوتية في إدريس عليه السلام وإبليسه، وتفرقت بعدهما كما تفرقت بعد آدم عليه السلام، واجتمعت في نوح عليه السلام وإبليسه وتفرقت عند غيبتهما حسب ما تقدم ذكره، واجتمعت في صالح وإبليسه عاقر الناقة وتفرقت بعدهما، واجتمعت في إبراهيم وإبليسه نمرود وتفرقت بعدهما، واجتمعت في هارون وإبليسه فرعون وتفرقت على الرسم بعدهما، واجتمعت في داود عليه السلام وإبليسه جالوت وتفرقت لما غابا، واجتمعت في سليمان عليه السلام وإبليسه وتفرقت كعادتها بعدهما، واجتمعت في عيسى عليه السلام وإبليسه ولما غابا تفرقت في تلامذة عيسى كلهم عليهم السلام والأبالسة معهم، واجتمعت في عليّ بن أبي طالب وإبليسه وتفرقت بعدهما إلى أن اجتمعت في ابن أبي العزاقر وإبليسه. ويصف أن الله عز وجل يظهر في كلّ شيء بكلّ معنى، وأنه في كلّ أحد بالخاطر الذي يخطر بقلبه فيتصور له ما يغتب عنه كأنه يشاهده، وأن الله اسم لمعنى ومن احتاج إليه الناس فهو إلاههم، وبهذا يستوجب [في] كل لغة أن يسمى الله، وأن كلّ واحد من أشياعه لعنه الله يقول إنه ربّ [لمن] دون درجته، وأن الرجل منهم يقول إني ربّ فلان، وفلان ربّ فلان، حتى الانتهاء إلى ابن أبي العزاقر لعنه الله، فيقول: أنا ربّ الأرباب وإله الآلهة لا ربوبية لربّ بعدي، وأنهم لا ينسبون الحسن والحسين رضي الله عنهما إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأن من اجتمعت له اللاهوتية لم يكن له والد ولا ولد، وأنهم(1/110)
يسمون موسى ومحمدا صلى الله عليهما الخائنين لأنهم يدّعون أن هارون أرسل موسى عليهما السلام وأنّ عليا رضي الله عنه أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم فخاناهما، ويزعمون أن عليا أمهل النبيّ صلى الله عليه وسلم عدة أيام أصحاب الكهف سنين، فإذا انقضت هذه المدة وهي خمسون وثلاثمائة سنة تنقلب الشريعة؛ ويصفون أن الملائكة كلّ من ملك نفسه وعرف الحقّ ورآه، وأن الحقّ حقهم، وأن الجنة معرفتهم وانتحال نحلتهم، والنار الجهل بهم والصدوف عن مذهبهم، ويغتفرون ترك الصلاة والصيام والاغتسال، ويذكرون أنّ من نعم الله على العبد أن يجمع له اللذتين، وأنهم لا يتناكحون بتزويج على السنّة ولا بحال تأوّل أو رخصة، ويبيحون الفروج، ويقولون: إن محمدا عليه السلام بعث إلى كبراء قريش وجبابرة العرب وقلوبهم قاسية ونفوسهم آبية، فكان من الحكمة ما طالبهم به من السجود، وأنّ من الحكمة الآن أن يمتحن الناس في إباحة فروج حرمهم، وأن لا شيء عندهم في ملامسة الرجل نساء ذوي رحمه وفي حرم صديقه وأبيه بعد أن يكون على مذهبه، ولا ينكرون أن يطلب أحدهم من صاحبه حرمته ويردّها إليه فيبعث بها طيبة نفسه، وأنه لا بدّ للفاضل منهم أن ينكح المفضول ليولج النور فيه، وابن أبي العزاقر له في هذه الخصلة كتاب سماه «كتاب الحاسة السادسة» وقال: إنه متى أبى ذلك آب قلب في الكون الذي يجيء بعد هذا امرأة إذ كان يحقق التناسخ، وأنه ومن معه يرون إبادة الطالبيين كما يرونها في العباسيين، ويدعون إلى أنفسهم دون غيرهم إذ كان الحقّ عندهم ويظهر فيهم. ووجد كتاب من الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب قيل إنه إلى إبراهيم بن محمد بن أحمد بن أبي النجم المعروف بابن أبي عون أحد وجوه العزاقرية ترجمته: إلى مولاي بشرى من غلامه مرزوق الثلّاج المسكين الفقير الذي بفضل الله يجمع الله بينه وبينه في خير وعافية برحمته، يقول في فصل منه: على مولاي أعتمد وهو حسبي. وفي فصل آخر: ومولاي أهل للتفضّل عليّ ورحمة ضعفي، وأرجو ألا يتأخر بفضله عني وينجزني وعده، وعيني ممدودة إلى تفضّل مولاي وأسأله به إعانتي. فسئل ابن أبي العزاقر عن ذلك الكتاب فكتب بيده: إنه بخط الحسين بن القاسم إلى ابن أبي عون، ووافق ابن أبي عون على ذلك، لأنّ الله أظفر به ومكّن منه، وردّاه رداء ما عمل، ووفّاه غاية ما كتب له من المهل، واعترف بأنه كتاب الحسين بن القاسم إليه، وأن ما(1/111)
على عنوانه صحيح، وأنه هو بشرى، وأن مرزوقا الثلّاج هو الحسين بن القاسم، وكتب ذلك بخطه، وأشهد جماعة من العدول على ما اعترف به. ووجدت رقعة لابن أبي عون هذا بخطّه إلى بعض نظرائه يخاطبه فيها كما يخاطب الإنسان ربّه تبارك وتعالى، ويقول في بعض فصولها: لك الحمد وكلّ شيء وما شئت كان ربي. وفي فصل آخر منها: ولك الحمد على تشريفك وتقريبك. فوقف عليها واعترف بها وأشهد على نفسه عدة من العدول بصحّتها. ووجدت رقعة من المعروف بابن شيث [1] الزيات إلى ابن أبي عون هذا يقول فيها: يا مولاي، عوائد مولاي عندي لطيفة، ورحمته وتفضّله وجميل إحسانه بامتنانه عليّ على كلّ حال، وإيناسي تفضل منه ورحمة، فأسأله بجوده أن يتمم ما تفضّل به ولا يسلبني إياه فإن نعمه عليّ ظاهرة وباطنة، قد ألبسني عافيته، وأصلح شأني، وأصلح ولدي، ورزقني القناعة، وفي ذلك الغناء الأكبر، وأكبر منه تفضّله عليّ بأمر عظيم لا يجازى بشكر، ولا يسعه إلا تفضّله، فإن مولاي الكبير دعاني ابتداء فصرت إليه، فقرّبني وأدناني ومنّ عليّ بحديثه، وسقاني بعد جهد بيده، وقرّبني غاية القرب، ومع هذه الحالة العظيمة وإعطائه لي الملك الخفيّ فقد صحّ قلبي من كلّ كسر كان فيه، وكل شدة جرت [عليه] ، وفعل بي ما لم يفعله بالثلّاج، وأرجو أن يمنّ مولاي بإتمام صلاحي دينا ودنيا، والمنة لمولاي، وأسأل مولاي الإحسان والتفضل، فإني فقير على كلّ حال، وأرجو منه توسعة في كلّ ضيق، وأمنا في كلّ خوف، وعزا في كلّ ذلّ، وأمانا [من] الشدائد، وما هو أولى به ممّا لا أعلمه، وهو القادر عليه والرحيم فيه بمنّه وجميل إحسانه، وهو حسبي ونعم الوكيل. واعترف ابن أبي عون أنها إليه، وأن المخاطبة فيها له، وأن ابن شيث أراد بقوله مولاي الكبير ابن أبي العزاقر، وبقوله الثلّاج الحسين بن القاسم، وأعطى بذلك خطّه وأشهد به؛ ووجد هذا الرجل مستبصرا في كفره، مستظهرا في أمره، مستقصيا في طريق غيّه، ماضيا في عنان شركه وإفكه، حتى إنه كلّف التبرؤ من ابن أبي العزاقر لعنه الله ونيله بهنة [2] يصغّر بها قدره فامتنع من ذلك وأبى وحاد عنه واستعصى إلى أن لم يجد محيصا، فمدّ يده إلى لحيته على سبيل توقير وتكريم وإجلال وتعظيم
__________
[1] ربما قرئت: شبيب.
[2] م: بمهنة.(1/112)
وصرف القذى وإماطة الأذى، وقال- معلنا غير مخافت-: مولاي مولاي. هذا إلى ما وجد بخطّه وخطوط نظرائه من الكبائر التي لا تسوغ في الدين، ولا يحتملها ذو يقين، وإلى ما رسمته هذه الفرقة من الأدعية التي موّهت بها على أهل الركاكة والغباوة، وإذا تأمّلتها أولو الروية والرواية وجدت مباينة لما ألف في الشريعة، مشوبة بالمكر والتدليس، مشحونة بالختل والتلبيس، محلّة دم مبتدعها والمتمسك بها. واستفتى أبو عليّ القضاة والفقهاء في أمر ابن أبي العزاقر، وصاحبه هذا الكافر، وسائر من على مذهبه ممن وجدت له كتب ومخاطبة ومن لم يوجد له ذلك، فأفتى من استفتي منهم بقتلهم وأباحوا دماءهم وكتبوا بذلك خطوطهم، فأمر أمير المؤمنين بإحضار ابن أبي العزاقر اللعين وابن أبي عون صاحبه وضريبه وتابعه، وأن يجلدا ليراهما من سمع بهما، ويتّعظ بما نزل من العذاب بساحتهما، ويتبين من دان بربوبية ابن أبي العزاقر عجزه عن حراسة نفسه، وأنه لو كان قادرا لدفع عن مهجته، ولو كان خالقا دفع [الإهانة] وكشف الضرّ عن جسده، ولو كان ربا لقبض الأيدي عن التنكيل [به] ، وجدّد أمير المؤمنين الاستظهار والحزم والرويّة فيما يمضيه من العزم، وأحضر عمر بن محمد القاضي بمدينة السلام [1] والعدول بها والفقهاء من أهل مجلسه، وسألهم عما عندهم مما انكشف من أمر ابن أبي العزاقر وأمور أهل دعوته وغيّه وضلالته، فأقامت الكافة على رأيها في قتله وتطهير الأرض من رجسه ورجس مثله، وزال الشكّ في ذلك عن أمير المؤمنين بالفتيا وإجماع القاضي والفقهاء، وبما وضح من إخلال هذا الضلال بالمسلمين [2] وإفساد الدين، وذلك أعظم وأثقل وزرا من الإفساد في الأرض والسعي فيها بغير الحق، وقد استحقّ من جرى هذا المجرى القتل، فأوعز أمير المؤمنين بصلبه وصلب ابن أبي عون بحيث يراهما المنكر والعارف، ويلحظهما المجتاز والواقف، فصلبا في أحد جانبي مدينة السلام، ونودي عليهما بما حاولاه من إبطال الشريعة ورأياه من إفساد الديانة، ثم تقدم أمير المؤمنين بقتلهما ونصب
__________
[1] هو عمر بن محمد بن يوسف (من نسل حماد بن زيد) أبو الحسين الأزدي، ولي القضاء بمدينة السلام في حياة أبيه ثم مات أبوه فأقر على القضاء إلى آخر عمره، وكان نسيج وحده في العلم والفضل والنجابة، توفي سنة 328 (تاريخ بغداد 11: 229- 232) .
[2] م: اذلال ... المسلمين.(1/113)
رؤوسهما وإحراق أجسامهما، ففعل ذلك بمشهد من الخاصّة والعامة والنّظارة والمارة» .
- 32-
إبراهيم بن محمد نفطويه
: هو إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة العتكي الأزدي من أهل واسط، وكنيته أبو عبد الله. قال الثعالبي [1] : لقّب نفطويه تشبيها إياه بالنفط لدمامته وأدمته، وقدّر اللقب على مثال سيبويه، لأنه كان ينسب في النحو إليه ويجري في طريقته ويدرس شرح كتابه، وأنشدوا:
لو أنزل النحو على نفطويه
قال: وقد صيّره ابن بسام نفطويه- بضم الطاء وتسكين الواو وفتح الياء- فقال:
رأيت في النوم أبي آدما ... صلّى عليه الله ذو الفضل
فقال أبلغ ولدي كلّهم ... من كان في حزن وفي سهل
بأنّ حوّا أمّهم طالق ... إن كان نفطويه من نسلي
كان عالما بالعربية واللغة والحديث، أخذ عن ثعلب والمبرد وغيرهما، روى عنه أبو عبيد الله [2] المرزباني وأبو الفرج الأصفهاني وابن حيويه وغيرهم.
ذكره المرزباني في «المقتبس» [3] فقال ولد في سنة أربع وأربعين ومائتين، قال:
ومات رحمه الله يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثلاث
__________
[32]- ترجمة نفطويه في تهذيب الأزهري 1: 13 والفهرست: 90 وطبقات الزبيدي: 154 وتاريخ بغداد 6: 159 وإنباه الرواة 1: 176 وابن خلكان 1: 47 ونزهة الألباء: 178 وطبقات الجزري 1: 25 والوافي 6: 129، 130 (ترجم له مرتين) وابن كثير 11: 183 ومختصر أبي الفدا 2: 83 والشذرات 2: 298 وبغية الوعاة 1: 428 (واكثره منقول عن ياقوت) وروضات الجنات 1: 154 وسير الذهبي 15: 75.
[1] لطائف المعارف: 48 (ونقله ابن خلكان والصفدي) .
[2] تضطرب نسبته فأحيانا أبو عبيد الله وأحيانا أبو عبد الله.
[3] انظر نور القبس: 344 ولم يورد فيه كثيرا مما نقله ياقوت.(1/114)
وعشرين وثلاثمائة، وحضرت جنازته عشاء، ودفن في مقابر باب الكوفة وصلّى عليه البربهاري [1] . وكان يخضب بالوسمة.
قال [2] : وكان من طهارة الأخلاق وحسن المجالسة والصّدق فيما يرويه على حال ما شاهدت عليها أحدا ممن لقيناه. وكان يقول: جلست إلى هذه الأسطوانة مذ خمسون- يعني محلّته بجامع المدينة- وكان حسن الحفظ للقرآن، أول ما يبتدىء به في مجلسه بمسجد الأنباريين بالغدوات إلى أن يقرىء القرآن على قراءة عاصم ثم الكتب بعده. وكان فقيها عالما بمذهب داود الأصبهاني رأسا فيه يسلّم له ذلك جميع أصحابه، وكان مسندا في الحديث من أهل طبقته، ثقة صدوقا لا يتعلّق عليه بشيء من سائر ما رووه، وكان حسن المجالسة للخلفاء والوزراء، متقن الحفظ للسير وأيام الناس وتواريخ الزمان ووفاة العلماء، وكانت له مروءة وفتوة وظرف. ولقد هجم علينا يوما ونحن في بستان كان له بالزبيدية [3] في سنة عشرين أو إحدى وعشرين وثلاثمائة فرآنا على حال تبذّل، فانقبضت وذهبت أعتذر إليه فقال: في التعاقل على النبيذ سخف، ثم أنشدنا لنفسه:
لنا صديق غير عالي الهمم ... يحصي على القوم سقاط الكلم
ما استمتع الناس بشيء كما ... يستمتع الناس بحسم الحشم
قال المرزباني [4] : وكان يقول من الشعر المقطعات في الغزل وما يجري مجراها كما يقول المتأدبون، وسنورد من ذلك فيما بعد إن شاء الله حسب الكفاية.
وكان بين أبي عبد الله نفطويه وبين محمد بن داود الأصبهاني مودة أكيدة وتصاف تام، وكان ابن داود يهوى أبا الحسين محمد بن جامع الصيدلاني هوى أفضى به إلى التلف، قال ابن عرفة نفطويه: فدخلت عليه في مرضه الذي مات فيه فقلت: يا
__________
[1] البربهاري: هو أبو محمد الحسن بن علي بن خلف، شيخ الحنابلة بالعراق، توفي سنة 329 (عبر الذهبي 2: 216- 217) .
[2] تجد هذا النص عند القفطي 1: 181.
[3] الزبيدية: محلة ببغداد.
[4] نقله القفطي 1: 182.(1/115)
سيدي ما بك؟ فقال: حبّ من تعلم أورثني ما ترى، فقلت: ما يمنعك من الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع نوعان محظور ومباح، أما المحظور فمعاذ الله منه، وأما المباح فهو الذي صيّرني إلى ما ترى. ثم قال: حدثني سويد بن سعيد الحدثاني عن أبي يحيى القتّات عن مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«من حبّ فعفّ وكتم ثم مات مات شهيدا» [1] ؛ ثم غشي عليه ساعة وأفاق ففتح عينيه، فقلت له: أرى قلبك قد سكن، وعرق جبينك قد انقطع، وهذا أمارة العافية، فأنشأ يقول:
أقول لصاحبّي وسلّياني ... وغرّهما سكون حمى جبيني
تسلّوا بالتعزي عن أخيكم ... وخوضوا في الدعاء وودّعوني
فلم أدع الأنين لضعف سقم ... ولكنّي ضعفت عن الأنين
ثم مات من ليلته وذلك في سنة سبع وتسعين ومائتين، فيقال إن نفطويه تفجع عليه وجزع جزعا عظيما، ولم يجلس للناس سنة كاملة، ثم ظهر بعد السنة فجلس، فقيل له في ذلك فقال: إن أبا بكر ابن داود قال لي يوما وقد تجارينا حفظ عهود الأصدقاء، فقال: أقلّ ما يجب للصديق أن يتسلّب على صديقه سنة كاملة عملا بقول لبيد [2] :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر
فحزنّا عليه سنة كاملة كما شرط.
قال المؤلف لهذا الكتاب: وأخبار أبي بكر ابن داود كثيرة مليحة رائقة، وقد أفردنا له بابا في هذا الكتاب فقف عليه تطرب وتعجب [3] .
__________
[1] عده ابن حزم- وهو العارف بالحديث- اثرا (رسائل ابن حزم 1: 257) وقد وهنه ابن القيم (زاد المعاد 3: 324) واعتبره ابن الجوزي صحيحا (ذم الهوى: 326) وانظر الموشى: 75 وتزيين الأسواق 1: 6.
[2] شرح ديوان لبيد: 214.
[3] سقطت ترجمة ابن داود من كتاب معجم الأدباء المطبوع وسأثبتها في موضعها (رقم: 1046)(1/116)
قال المرزباني: ومما أنشدنا لنفسه في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة [1] :
غنج الفتور يجول في لحظاته ... والورد غضّ النبت في وجناته
وتكلّ ألسنة الورى عن وصفه ... أو أن تروم بلوغ بعض صفاته
لا يعرف الإسعاف إلا خطرة ... لكنّ طول الصدّ من عزماته
لا يستطيع «نعم» ولا يعتادها ... بل لا تسوغ «لعل» في لهواته
قال وأنشدنا لنفسه [2] :
تشكو الفراق وأنت تزمع رحلة ... هلّا أقمت ولو على جمر الغضا
فالآن عذ بالصبر أو مت حسرة ... فعسى يردّ لك النوى ما قد مضى
قال وأنشدنا لنفسه [3] :
أتخالني من زلة أتعتّب ... قلبي عليك أرقّ مما تحسب
قلبي وروحي في يديك وإنما ... أنت الحياة فأين منك المذهب
قال مؤلف الكتاب: ولم يورد أبو عبيد الله إلا هذين البيتين، وأنشدني بعض الأصدقاء البيت الأول منهما وأتبعه بما لا أعلم أهو من قول نفطويه أو غيره وهو:
لا يوحشنّك ما صنعت فتنثني ... متجنبا فهواك لا يتجنّب
أنت البريء من الإساءة كلّها ... ولك الرضى وأنا المسيء المذنب
وحياة وجهك وهو بدر طالع ... وسواد شعرك وهو ليل غيهب
ما أنت إلا مهجني وهي التي ... أحيا بها فترى على من أغضب
قال المرزباني، وأنشدني لنفسه:
كفى بالهوى بلوى وبالحبّ محنة ... وبالهمّ تعذيبا وبالعذل مغرما
أما والذي يقضي الأمور بأمره ... فما شاء أمضاه وما شاء أحكما
__________
[1] إنباه الرواة 1: 182.
[2] المصدر السابق نفسه ونور القبس: 345 وبغية الوعاة 1: 430.
[3] نور القبس: 345.(1/117)
لقد حمّلتني صبوتي وصبابتي ... من الشوق ما أضنى الفؤاد وتيّما
قال وأنشدنا لنفسه:
تجلّ بلواي عن البلوى ... ويذهل القلب عن الشكوى
يظلمني من لا أرى ظلمه ... وما عليه لي من عدوى
عذّبني الحبّ ولكنني ... لا أطلب الراحة بالسلوى [1]
سلّط من أهوى عليّ الضنى ... لا واخذ الله الذي أهوى
قال وله:
لك خدّ تذيبه الأبصار ... يخجل الورد منه والجلّنار
لا تغيبن عن ناظريّ فإني ... أنا من لحظتي عليك أغار
وكان بين نفطويه وابن دريد مماظّة، فقال فيه لما صنف «كتاب الجمهرة» .
ابن دريد بقره ... وفيه لؤم وشره
قد ادّعى بجهله ... جمع كتاب الجمهره
وهو كتاب العى ... ن إلّا أنه قد غيره
فبلغ ذلك ابن دريد فقال يجيبه [2] :
لو أنزل الوحي على نفطويه ... لكان ذاك الوحي سخطا عليه
وشاعر يدعى بنصف اسمه ... مستأهل للصفع في أخدعيه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وصيّر الباقي صراخا عليه
ضو حدث ابن شاذان قال [3] : بكّر نفطويه يوما إلى درب الرواسين فلم يعرف الموضع، فتقدم إلى رجل يبيع البقل فقال له: أيها الشيخ، كيف الطريق إلى درب الرواسين؟ قال: فالتفت البقليّ إلى جار له فقال: يا فلان ألا ترى الى الغلام- فعل الله به وصنع- قد احتبس علي، فقال: وما الذي تريد منه؟ فقال عوّق السلق عليّ
__________
[1] م: بالبلوى.
[2] بغية الوعاة 1: 429 وروضات الجنات 1: 154.
[3] نقله الصفدي في الوافي: 131.(1/118)
فما عندي ما أصفع به هذا العاضّ بظر أمه، فانسلّ ابن عرفة ولم يجبه.
وأنشد الخطيب لنفطويه [1] :
كم قد خلوت بمن أهوى فيمنعني ... منه الحياء وخوف الله والقدر [2]
كم قد خلوت بمن أهوى فتقنعني ... منه الفكاهة والتحديث والنظر
أهوى الملاح وأهوى أن أجالسهم ... وليس لي في حرام منهم وطر
كذلك الحبّ لا إتيان معصية ... لا خير في لذة من بعدها سقر
ومنه [3] :
أستغفر الله مما يعلم الله ... إنّ الشقيّ لمن لم يرحم الله
هبه تجاوز لي عن كلّ مظلمة ... واسوءتا من حيائي يوم ألقاه
وذكره الزبيدي في كتابه فقال [4] : كان بخيلا ضيقا في النحو واسع العلم بالشعر.
قال أبو هلال في «كتاب الأوائل» [5] حدثني أبو أحمد قال: كنا في مجلس نفطويه وهو يملي، فدخل غلام وضيء الوجه [فقطع الاملاء] وقال: قال رجل من أهل عصرنا:
كم خاس ميعادك يا مخلف ... كم تخلف الوعد وكم تحلف
قد صرت لا أدعو على كاذب ... ولا ظلوم الفعل لا ينصف
فما شكّ أحد ممن حضر أن الغلام كان وعده وأخلفه، وأن الشعر له.
وكان [6] نفطويه، مع كونه من أعيان العلماء وعلماء الأعيان، غير مكترث
__________
[1] تاريخ بغداد 6: 161 ونور القبس: 345 والقفطي 1: 182 والوافي 129 ومصارع العشاق 1: 159.
[2] في م والمصادر: والحذر.
[3] تاريخ بغداد 6: 161.
[4] لم يرد هذا في طبقات الزبيدي.
[5] الأوائل 2: 148.
[6] الوافي 6: 131- 132.(1/119)
باصلاح نفسه، فكان يفرط به الصّنان فلا يغيّره، فحضر يوما مجلس حامد بن العباس وزير المقتدر فتأذى هو وجلساؤه بكثرة صنانه، فقال حامد: يا غلام أحضرنا مرتكا [1] فجاء به، فبدأ الوزير بنفسه فتمرتك وأداره على الجلساء فتمرتكوا، وفطنوا ما أراد بنفطويه، وأنه أراد من نفطويه أن يتمرتك فيزول صنانه من غير أن يجبهه بما يكره، فقال نفطويه: لا حاجة بي إليه فراجعه فأبى، فاحتدّ حامد واغتاظ وقال له: يا عاضّ كذا من أمه إنما تمرتكنا جميعا لتأذينا بصنانك، قم لا أقام الله لك وزنا، ثم قال:
أخرجوه عني، أو أبعدوه إلى حيث لا أتأذى به.
وقال ابن بشران أبو محمد عبيد الله في تاريخه: ومن شعر نفطويه:
الجدّ أنفع من عقل وتأديب ... إن الزمان ليأتي بالأعاجيب
كم من أديب يزال الدهر يقصده ... بالنائبات ذوات الكره والحوب
وآخر غير ذي دين ولا أدب ... معمّر بين تأهيل وترحيب
ما الرزق من حيلة يحتالها فطن ... لكنّه من عطاء غير محسوب
قال: وكان كثير النوادر، ومن نوادره: قيل لبهلول في كم يوسوس الانسان فقال: ذاك إلى صبيان المحلة.
قال: وقيل لبعض الشيعة: معاوية خالك فقال: لا أدري أمي نصرانية والأمر إليه.
بخط الوزير المغربي: قال نفطويه [2] : أما سائر العلوم فهاهنا من يشركنا فيها، وأما الشعر فإذا متّ مات على الحقيقة. وقال: من أغرب عليّ ببيت لجرير لا أعرفه فأنا عبده. وقال ابن خالويه، وقال لي يوما وقد حضرته الوفاة: قد جالستني فما رأيت منك إلا خيرا فادع لي، ثم قال: وضئوني. وقد كنت آخذ بيده فمرّ بمسجد هشام بن خلف البزار فقال: هذا مسجد هشام مقرىء أهل بغداد، والله ما كان بأعلم مني، ولكنه أطاع الله فرفع [منه] وعصيت الله فوضع مني.
__________
[1] المرتك: المرداسنج ويتخذ لقطع رائحة العرق.
[2] روضات الجنات 1: 154.(1/120)
قال الحسين بن أبي قيراط: انصرفت من عند أبي عبد الله نفطويه وقد كتبت عنه شيئا، فجئت إلى أبي إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج فقال لي: ما هذا الكتاب؟ فأريته إياه، وكان على ظهره مقطوعتان أنشدنيهما نفطويه لنفسه، فلما قرأهما الزجاج استحسنهما وكتبهما بخطه على ظهر «كتاب غريب الحديث» وكان بحضرته:
تواصلنا على الأيام باق ... ولكن هجرنا مطر الربيع
يروعك صوته لكن تراه ... على روعاته داني النزوع
كذا العشّاق هجرهم دلال ... ومرجع وصلهم حسن الرجوع
معاذ الله أن نلفى غضابا ... سوى دلّ المطاع على المطيع
والأخرى:
وقالوا شانه الجدريّ فانظر ... إلى وجه به أثر الكلوم
فقلت ملاحة نثرت عليه ... وما حسن السماء بلا نجوم
وذكر الفرغاني أن نفطويه كان يقول بقول الحنابلة: إن الاسم هو المسمّى وجرت بينه وبين الزجاج مناظرة أنكر الزجاج عليه موافقته الحنابلة على ذلك.
قرأت في «تاريخ خوارزم» قال أبو سعيد الحمديجي [1] ، سمعت نفطويه يقول: إذا سلّمت على اليهوديّ والنصراني فقلت له: أطال الله بقاءك وأدام سلامتك وأتمّ نعمته عليك فإنما أريد به الحكاية أي أن الله قد فعل بك إلى هذا الوقت وأعتقد به الدعاء للمسلم.
قال الحمديجي، وأنشدنا نفطويه لنفسه:
إذا ما الأرض جانبها الأعادي ... وطاب الماء فيها والهواء
وساعد من تحبّ بها وتهوى ... فتلك الأرض طاب بها الثّواء
يرى الأحباب ضنك العيش وسعا ... ولا يسع البغيضين الفضاء
وعقل المرء أحسن حليتيه ... وزين المرء في الدنيا الحياء
__________
[1] م: أبو سعد الحمدلجي.(1/121)
قال محمد بن إسحاق النديم [1] : وله من الكتب: كتاب التاريخ. كتاب الاقتصارات [2] . كتاب البارع. كتاب غريب القرآن. كتاب المقنع في النحو. كتاب الاستثناء والشرط في القراءة [3] . كتاب الوزراء [4] . كتاب الملح. كتاب الأمثال.
كتاب الشهادات. كتاب المصادر. كتاب القوافي. كتاب أمثال القرآن. كتاب الرد على من يزعم أن العرب يشتقّ كلامها بعضه من بعض. كتاب الردّ على من قال بخلق القرآن. كتاب الردّ على المفضّل بن سلمة في نقضه [5] على الخليل. كتاب في أن العرب تتكلم طبعا لا تعلما.
- 33-
إبراهيم بن محمد الكلابزي
: أدرك المازني وأخذ عن المبرد ومات في سنة ست عشرة وثلاثمائة. قال الزبيدي [6] : وإبراهيم بن محمد بن العلاء الكلابزي اللغوي من أهل العراق بصريّ المذهب؛ حكي عن [ابن] [7] المبرد أنه قال: في تلاميذ أبي رجلان أحدهما يسفل والآخر يعلو، فقيل: ومن هما؟ قال المبرمان [8] يقرأ على أبي ويأخذ عنه «كتاب سيبويه» ثم يقول قال الزجاج، فهذا يسفل، والكلابزيّ يقرأ عليه ثم يقول قال المازني، فهذا يعلو. وكان الكلابزي قد أدرك المازني.
__________
[33]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 185 وطبقات الزبيدي: 183 والوافي 6: 122 وبغية الوعاة 1: 432 ومادة «الكلابزي» في أنساب السمعاني واللباب (وسماه السمعاني إبراهيم بن حميد) والكلابزي نسبة إلى تربية الكلاب وتدريبها؛ ولم ترد هذه الترجمة في المختصر.
[1] الفهرست: 90.
[2] الفهرست: الاقتصامات.
[3] الفهرست: كتاب الاستيفاء في الشروط؛ ر: كتاب الاستيفاء في القراءات.
[4] لم يذكره ابن النديم.
[5] ر: في تعصبه.
[6] انظر طبقات الزبيدي: 114 ولم يرد فيه كل ما أورده ياقوت.
[7] في طبقات الزبيدي: قال ولد أبي العباس محمد بن يزيد.
[8] هو أبو بكر محمد بن علي بن إسماعيل العسكري.(1/122)
وقال ابن بشران: إبراهيم بن حميد الكلابزي مات بالبصرة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة [1] وكان متقدما في النحو واللغة وقد ولي القضاء بالشام.
- 34-
إبراهيم بن محمد بن زكريا الزهري الاندلسي أبو القاسم
، يعرف بابن الافليلي: حدث عن أبي بكر محمد بن الحسن الزبيدي النحوي بكتاب «النوادر» عن القالي، وكان متصدرا في العلم ببلده يقرأ عليه الأدب ويختلف إليه، وله كتاب شرح معاني شعر المتنبي حسن جيد.
قال الحميدي: وكان مع علمه بالنحو واللغة يتكلم في معاني الشعر وأقسام البلاغة والنقد لها، روى عنه جماعة. وحكي عنه باسناد له أنه قال: كان شيوخنا من أهل الأدب يتعالمون أنّ الحرف إذا كتب عليه صحّ- بصاد وحاء- أن ذلك علامة لصحة الحرف لئلا يتوهم متوهم عليه خللا ولا نقصا، فوضع حرف كامل على حرف صحيح، وإذا كان عليه صاد ممدودة دون حاء كان علامة على ان الحرف سقيم إذ وضع عليه حرف غير تام ليدلّ نقص الحرف على اختلال الحرف، ويسمى ذلك الحرف أيضا ضبة أي أن الحرف مقفل بها لم يتّجه لقراءة كما أن الضبة مقفل بها.
قال المؤلف: وهذا كلام عليه طلاوة من غير فائدة تامة، وإنما قصدوا بكتبهم على الحرف «صحّ» إن كان شاكّا في صحّة اللفظة، فلما صحّت له بالبحث خشي أن يعاوده الشكّ فكتب عليها «صح» ليزول شكّه فيما بعد ويعلم هو أنه لم يكتب عليها صح الا وقد انقضى اجتهاده في تصحيحها، وأما الضبّة التي صورتها (ص) فانما هو نصف «صح» كتبه على شيء فيه شكّ ليبحث عنه فيما يستأنفه، فإذا صحّت له أتمها
__________
[34]- ترجمة ابن الافليلي في الجذوة: 142 وبغية الملتمس رقم: 485 والصلة 1: 93 والذخيرة لابن بسام 1/1: 281 وإنباه الرواة 1: 183 وابن خلكان 1: 51 والوافي 6: 114 وبغية الوعاة 1: 426.
[1] عند الزبيدي أنه توفي سنة ست عشرة وثلاثمائة.(1/123)
بحاء فيصير صح، ولو علّم عليها بغير هذه العلامة لتكلّف الكشط وإعادة كتبة «صح» مكانها.
قال أبو مروان ابن حيان [1] : كان أبو القاسم المعروف بابن الإفليلي فريد أهل زمانه بقرطبة في علم اللسان العربي والضبط لغريب اللغة في ألفاظ الأشعار الجاهلية والاسلامية والمشاركة في بعض معانيها، وكان غيورا على ما يحمل من ذلك الفنّ كثير الحسد فيه راكبا رأسه في الخطأ البين إذا تقلده أو نشب فيه، يجادل عليه ولا يصرفه صارف عنه، وعدم علم العروض ومعرفته مع احتياجه إليه وإكمال صناعته به، ولم يكن له شروع فيه، وكان لحق الفتنة البربرية بقرطبة، ومضى الناس بين حائن وظاعن [2] ، فازدلف إلى الأمراء المتداولين بقرطبة من آل حمّود ومن تلاهم إلى أن نال الجاه، واستكتبه محمد بن عبد الرحمن المستكفي [3] بعد ابن برد [4] فوقع كلامه جانبا من البلاغة لأنه كان على طريقة المعلمين المتكلّفين، فلم يجر في أساليب الكتاب المطبوعين، فزهد فيه. وما بلغني أنه ألف في شيء من فنون المعرفة إلا كتابه في شعر المتنبي لا غير، ولحقته تهمة في دينه في أيام هشام المرواني [5] في جملة من تتبع من الأطبّاء في وقته كابن عاصم والشبانسي [6] والحمار [7] وغيرهم، وطلب ابن الافليلي وسجن بالمطبق، ثم أطلق، وفيه يقول موسى بن الطائف [8] من قصيدة:
__________
[1] قارن بما جاء في الذخيرة.
[2] قضت الفتنة البربرية على عمران قرطبة بين سنتي 399- 403 ولقي كثير من العلماء مصارعهم، كما ظعن عدد غير قليل منهم عن المدينة.
[3] محمد بن عبد الرحمن المستكفي كان في غاية التخلف، بويع بالخلافة فأقام ستة عشر شهرا وأياما إلى أن خلع وهرب ومات مسموما سنة: 416.
[4] يعني أبا حفص ابن برد الأصغر، وله ترجمة في الذخيرة 1/1: 486 وفي الحاشية ذكر لمصادر أخرى.
[5] يعني هشام بن الحكم المستنصر الملقب بالمؤيد.
[6] الشبانسي: هو قاسم بن محمد القرشي المرواني، ذكر ابن حزم أنه قرف وشهد عليه فسجن.
الجذوة: 310 والبغية رقم: 1296.
[7] الحمار هو سعيد بن فتحون السرقسطي امتحن من قبل المنصور بن أبي عامر وسجن مدة، انظر الجذوة: 216 والبغية رقم: 813 وطبقات صاعد: 68 والذيل والتكملة 4: 40.
[8] موسى بن الطائف، كان شاعرا مشهورا أيام الحكم والمنصور بن أبي عامر، انظر الجذوة: 317 والبغية رقم: 1325.(1/124)
يا مبصرا عميت نواظر فهمه ... عن كنه عرضي في البديع وطولي
لو كنت تعقل ما جهلت مقاومي ... من ضاق فرسخه بخطوة ميلي
ولئن ثلبت الشعر وهو أباطل ... فلقد ثلبت حقائق التنزيل
وخلعت ربق الدين عنك منابذا ... ولبست ثوب الزيغ والتعطيل
فأقمت للجهال مثلك في الغبا ... علما مشيت أمامه برعيل
ومن المغايظ أن تكون مقلّدا ... علما ولو مقدار وزن فتيل
تعتلّ في الأمر الصحيح معاندا ... أبدا وفهمك علة المعلول
وتظن أنك من فنوني موسر ... وكثير شأنك لا يفي بقليلي
سيسلّ روحك من خبيث قراره ... تأثير هذا الصارم المصقول
وأخصّ سيف الدولة الملك الرضى ... ليعيد عقد رباطك المحلول
وأريك رأي العين أنك ذرّة ... عبثت بها منّي قوائم فيل
- 35-
إبراهيم بن محمد بن محمد بن أحمد
بن علي بن الحسين بن علي بن حمزة بن يحيى بن الحسين بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو علي، والد أبي البركات عمر النحوي صاحب «كتاب شرح اللمع» : من أهل الكوفة، له معرفة حسنة بالنحو واللغة والأدب وحظّ من الشعر جيد من مثله؛ مات فيما ذكره السمعاني عن ابنه أبي البركات في شوّال سنة ست وستين وأربعمائة، ودفن بمسجد السهلة عن ست وستين سنة، وكان قد سافر إلى الشام ومصر وأقام بها مدة، ونفق على الخلفاء بمصر، ثم رجع إلى وطنه الكوفة إلى أن مات بها. وجدت بخط أبي سعد السمعاني، سمعت أبا البركات عمر بن إبراهيم، سمعت والدي يقول:
كنت بمصر وضاق صدري بها فقلت [1] :
__________
[35]- ترجمة الشريف إبراهيم والد أبي البركات في مصورة ابن عساكر 2: 544 وتهذيبه 2: 296 وإنباه الرواة 1: 185 والوافي 6: 119 وبغية الوعاة 1: 430.
[1] إنباه الرواة 1: 186.(1/125)
فإن تسأليني كيف أنت فإنني ... تنكرت دهري والمعاهد والصحبا
وأصبحت في مصر كما لا يسرّني ... بعيدا من الأوطان منتزحا غربا
وإنّي فيها كامرىء القيس مرة ... وصاحبه لما بكى ورأى الدربا
فإن أنج من بابي زويلا فتوبة ... إلى الله أن لا مسّ خفّي لها تربا
قال السمعاني، قال لي الشريف، قال أبي: قلت هذه الأبيات بمصر، وما كنت ضيق اليد، وكان قد حصل لي من المستنصر خمسة آلاف دينار مصرية.
قال وقال الشريف: مرض أبي إما بدمشق أو بحلب، فرأيته يبكي ويجزع، قلت له: يا سيدي ما هذا الجزع فانّ الموت لا بدّ منه، قال: أعرف ذلك، ولكن أشتهي أن أموت بالكوفة وأدفن بها، حتى إذا نشرت يوم القيامة أخرج رأسي من التراب فأرى بني عمي ووجوها أعرفها، قال الشريف: وبلغ ما أراد.
قال: وانشدني أبو البركات لوالده [1] :
راخ لها زمامها والأنسعا ... ورم بها من العلا ما شسعا
وارحل بها مغتربا عن العدا ... توطئك من أرض العدا متّسعا
يا رائد الظّعن بأكناف الحمى ... بلّغ سلامي إن وصلت لعلعا
وحيّ خدرا بأثيلات الغضا ... عهدت فيه قمرا مبرقعا
كان وقوعي في يديه ولعا ... وأوّل العشق يكون ولعا
ماذا عليها لو رثت لساهر ... لولا انتظار طيفها ما هجعا
تمنّعت من وصله فكلّما ... زاد غراما زادها تمنعا
أنا ابن سادات قريش وابن من ... لم يبق في قوس الفخار منزعا
وابن عليّ والحسين وهما ... أبرّ من حجّ ولبّى وسعى
نحن بنو زيد وما زاحمنا ... في المجد إلّا من غدا مدسّعا
الأكثرين في المساعي عددا ... والأطولين في الضراب أذرعا
__________
[1] هذه الأبيات في ترجمة الشريف في ابن عساكر.(1/126)
من كلّ بسّام المحيّا لم يكن ... عند المعالي والعوالي ورعا
طابت أصول مجدنا في هاشم ... فطال فيها عودنا وفرعا
قال: وأنشدني لأبيه [1] :
لما أرقت بجلّق ... وأقضّ فيها مضجعي
نادمت بدر سمائها ... بنواظر لم تهجع
وسألته بتوجّع ... وتخضّع وتفجّع
صف للأحبة ما ترى ... من فعل بينهم معي
واقر السلام على الحبي ... ب ومن بتلك الأربع
- 36-
إبراهيم بن محمد بن إبراهيم النسوي
أبو إسحاق الشيخ العميد: مات فجأة في شهور سنة تسع عشرة وخمسمائة بنيسابور، رجل فاضل شاعر كاتب، حسن المحاورة كريم الصحبة، سمع الحديث الكثير في أسفاره وصنّف في «غريب الحديث» (لأبي عبيد) [2] تصنيفا مفيدا.
- 37-
إبراهيم بن مسعود بن حسان
: المعروف بالوجيه الصغير، ويعرف جده بالشاعر، وإنما سمي بالوجيه الصغير لأنه كان ببغداد حينئذ نحويّ آخر يعرف بالوجيه
__________
[36]- ترجمته في بغية الوعاة 1: 425 (عن ياقوت) ولم ترد ترجمته في المختصر.
[37]- ترجمة الوجيه الصغير في إنباه الرواة 1: 189 والوافي 6: 146 ونكت الهميان: 91 وبغية الوعاة 1: 432 (وفيه نقل عن ابن النجار) .
[1] وردت الأبيات عند ابن عساكر.
[2] لأبي عبيد: حذفه السيوطي، وإذا أثبت فالمعنى أنه ألف معلقا أو مستدركا على غريب الحديث لأبي عبيد.(1/127)
الكبير، وهو شيخي رحمه الله وقد ذكرته في باب المبارك بن المبارك، وكانا ضريرين معا. وكان هذا من أهل الرصافة ببغداد، وكان عجبا في الذكاء وسرعة الحفظ، وكان قد حفظ كتاب سيبويه، وقيل بل حفظ أكثره، وكان يحفظ غير ذلك من كتب الأدب، وأخذ النحو عن مصدق بن شبيب، وكان أعلم منه وأصفى ذهنا، واعتبط شابا في جمادى الأولى سنة تسعين وخمسمائة ولو قدّر الله أن يعيش لكان آية من الآيات.
- 38-
إبراهيم بن محمد بن حيدر بن علي
أبو إسحاق نظام الدين المؤذن الخوارزمي: سألته عن مولده فقال: كانت ولادتي في ذي الحجة سنة تسع وخمسين وخمسمائة وله من التصانيف: كتاب ديوان الانشاء. كتاب شرح كليلة بالفارسية.
كتاب الوسائل إلى الرسائل من نثره. كتاب ديوان شعره بالعربية. كتاب ديوان شعره بالفارسية. كتاب الخطب في دعوات ختم القرآن سماه يتيمة اليتيمة. كتاب الطرفة في التحفة بالفارسية. رسائل. وكتاب أساس نامه في المواعظ بالفارسية. كتاب تعريف شواهد التصريف. كتاب انموذار [1] نامه يشتمل على أبيات غريبة من كليلة ودمنة شرحها بالفارسية. كتاب كفتار نامه منطق. كتاب مرتع الوسائل ومربع الرسائل.
- 39-
إبراهيم بن ممشاذ أبو إسحاق المتوكلي الأصبهاني
، قال حمزة: ومن بلغاء أصبهان أبو إسحاق المتوكلي وكان من رستاق جي، من قرية اسيجان، فخرج الى العراق وكتب للمتوكل، ثم صار من ندمائه فسمي المتوكلي، ولم يكن بالعراق في أيامه أبلغ منه، وله رسالة طويلة في تقريظ المتوكل والفتح بن خاقان يتداولها كتّاب العراق الى الآن. وتسخّط صحبة أولاد المتوكل فتركهم ولحق بيعقوب بن الليث.
وقال حمزة أيضا فيما رواه عن عمارة بن حمزة: حضر المتوكليّ مجلس المتوكل
__________
[38]- ترجمته في الوافي 6: 139 والجواهر المضية 1: 45.
[39]- الوافي 6: 149 (عن ياقوت) .
[1] ر: ازموذار.(1/128)
وقد نثر على المنتصر مال جليل تناهبه الأمراء والقوّاد بين يديه، وإبراهيم لا يتحرك، فقال له المتوكل: ولم لا تنبسط فيه؟ فقال: جلالة أمير المؤمنين منعتني منه، ونعمته عليّ أغنتني عنه، فأقطعه إقطاعات. وكان أحد البلغاء في زمانه حتى لم يتقدمه أحد، ونفذ في أيام المعتمد رسولا عنه وعن الموفق إلى يعقوب بن الليث فاحتبسه عنده وقدّمه على كل من ببابه حتى حسده قواد يعقوب وحاشيته، فأخبروا يعقوب أنه يكاتب الموفق في السرّ فقتله. قلت والأولى من هاتين الروايتين أوضح في أنه هو الذي لحق بيعقوب، يدلّ على ذلك أنه كتب من عند يعقوب إلى المعتمد:
أنا ابن الأكارم من نسل جم ... وحائز إرث ملوك العجم
ومحيي الذي باد من عزّهم ... وعفّى عليه طوال القدم
وطالب أوتارهم جهرة ... فمن نام عن حقّهم لم أنم
يهمّ الأنام بلذاتهم ... ونفسي تهمّ بسوق الهمم
إلى كلّ أمر رفيع العماد ... طويل النجاد منيف العلم
وإني لآمل من ذي العلا ... بلوغ مرادي بخير القسم
معي علم الكائنات الذي ... به أرتجي أن أسود الأمم
فقل لبني هاشم أجمعين ... هلمّوا إلى الخلع قبل الندم
ملكناكم عنوة بالرماح ... طعنا وضربا بسيف خذم
وأولادكم الملك آباؤنا ... فما إن وفيتم بشكر النعم
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز ... لأكل الضباب ورعي الغنم
فإني سأعلو سرير الملوك ... بحدّ الحسام وحرف القلم
وقال يرثي الفضل بن العباس بن مافروخ [1] :
أخ لم تلدني أمّه كان واحدي ... وأنسي وهمّي في الفراغ وفي الشّغل
مضى فرطا لما استتمّ شبابه ... ومن قبل أن يحتلّ منزلة الكهل
__________
[1] نقل الصفدي هذه الأبيات.(1/129)
فعلّمني كيف البكاء من الجوى ... وكيف حزازات الفؤاد من الثكل
إذا ندب الأقوام إخوان دهرهم ... بكيت أخي فضلا أخا الجود والفضل
وقال يهجو إسحاق بن سعد القطربلي عامل أصبهان وقد كان أساء معاملة إخوته بأصبهان:
أين الذين تقوّلوا أن لا يروا ... ضدّين مختلفين في ذا العالم
هذا ابن سعد قد أزال قياسكم ... وأباد حجّتكم بغير تخاصم
أبدى لنا متحرّكا في ساكن ... منه وأظهر قائما في نائم
وإذا تذكر أصلعا هشم استه ... يبكي يقول فديت أصلع هاشم
بالله ما اتخذ الإمامة مذهبا ... إلا لكي يبكي لذكر القائم
قال حمزة: ومن هذا أخذ ابن الناصر قوله:
قل لمن كان إمامي ... اإلى كم تتردّد
التمس ما في سراوي ... ل فتى الناصر أحمد
فهو القائم يا ... مغرور من آل محمد
- 40-
إبراهيم بن موسى الواسطي الكاتب
له كتاب في أخبار الوزراء عارض فيه كتاب محمد بن داود بن الجراح في الوزراء، قاله المسعودي.
- 41-
إبراهيم بن هلال بن زهرون أبو إسحاق الحراني
: أوحد الدنيا في إنشاء
__________
[40]- مروج الذهب 1: 16 ولم ترد ترجمته في المختصر.
[41]- ترجمة أبي إسحاق الصابي في الفهرست: 149 ويتيمة الدهر 2: 242 وتاريخ الحكماء: 75 وابن خلكان 1: 52، 392- 393 والوافي 6: 158 ومعاهد التنصيص 2: 61 وروضات الجنات 1: 163.(1/130)
الرسائل والاشتمال على جهات الفضائل، مات يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شوال سنة أربع وثمانين وثلاثمائة عن إحدى وسبعين سنة، ومولده في سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة، كذا ذكره حفيده أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم في تاريخه. وكان قد خدم الخلفاء والأمراء من بني بويه والوزراء، وتقلد أعمالا جليلة، ومدحه الشعراء، وعرض عليه عز الدولة بختيار بن معز الدولة بن بويه الوزارة إن أسلم فامتنع، وكان حسن العشرة للمسلمين عفيفا في مذهبه، وكان ينوب أوّلا عن الوزير أبي محمد المهلبي في ديوان الإنشاء وأمور الوزارة. ولما ورد عضد الدولة بغداد في سنة سبع وستين وثلاثمائة نقم عليه أشياء من مكتوباته عن الخليفة وعن عز الدولة بختيار فحبسه، فسئل فيه وعرّف فضله، وقيل له: مثل مولانا لا ينقم على مثله ما كان منه، فإنه كان في خدمة قوم لا يمكنه إلا المبالغة في نصحهم، ولو أمره مولانا بمثل ذلك إذا استخدمه في ابنه ما أمكنه المخالفة، فقال عضد الدولة: قد سوّغته نفسه فإن عمل كتابا في مآثرنا وتاريخنا أطلقته، فشرع في محبسه في «كتاب التاجي» في أخبار بني بويه. وقيل إنّ بعض أصدقائه دخل عليه الحبس وهو في تبييض وتسويد في هذا الكتاب، فسأله عما يعمله فقال: أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفّقها، فخرج الرجل وأنهى ذلك إلى عضد الدولة فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، فأكب أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف ونصر بن هارون على الأرض يقبّلانها ويشفعان إليه في أمره حتى أمر باستحيائه، وأخذ أمواله واستصفائه، وتخليق السجن بدمائه، فبقي في السجن بضع سنين إلى أن تخلّص في أيام صمصام الدولة ابن عضد الدولة. وكان بينه وبين الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد مراسلات ومواصلات ومتاحفات، وكذلك بينه وبين الرضّي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي مودة ومكاتبات- أذكر منها ما يليق باختصارنا هذا [1]- مع اختلاف الملل وتباين النّحل، وإنما كان ينظمهم سلك الأدب، مع تبدد الدين والنسب.
وذكر أبو منصور الثعالبي في كتابه [2] أنه بلغ من العمر تسعين سنة، والذي
__________
[1] لم يرد هذا الذي وعد به المؤلف.
[2] يعني اليتيمة، وفيها يقول: وكان قد خنق التسعين (أي قاربها) .(1/131)
أوردته من تاريخ حفيده وهو أعلم به، فأما بلاغته وحسن ألفاظه فقد أغنتنا شهرتها عن صفتها، وذكرتها الشعراء فقال [بعض أهل عصره] :
أصبحت مشتاقا حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاق
صوب البلاغة والحلاوة والحجى ... ذوب البراعة سلوة العشاق
طورا كما رقّ النسيم وتارة ... تحكي لنا الأطواق في الأعناق
لا يبلغ البلغاء شأو مبرّز ... كتبت بدائعه على الأحداق
ولآخر فيه:
يا بؤس من يمنى بدمع ساجم ... يهمي على حجب الفؤاد الواجم
لولا تعلّله بكاس مدامة ... ورسائل الصابي وشعر كشاجم
قال أبو منصور: وكان يصوم شهر رمضان مساعدة وموافقة للمسلمين وحسن عشرة منه لهم، ويحفظ القرآن حفظا يدور على طرف لسانه، وبرهان ذلك في رسائله. قال: وكان أبو إسحاق في عنفوان شبابه أحسن حالا منه في أيام اكتهاله، وفي ذلك يقول [1] :
عجبا لحظّي إذ أراه مصالحي ... عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي
أمن الغواني كان حتى خانني [2] ... شيخا وكان على صباي [3] مصاحبي
أمع [4] التضعضع ملّني متجنبا ... ومع الترعرع كان غير مجانبي
يا ليت صبوته إليّ تأخّرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي
من قصيدة في فنّها فريدة، كتبها إلى الصاحب يشكو فيها عجره وبجره، ويستمطر سحبه ودرره، بعد أن كان يخاطبه بالكاف، ولا يرفعه عن رتبة الأكفاء.
وكان المهلبّي لا يرى إلا به الدنيا، ويحنّ إلى براعته ويصطنعه لنفسه، ويستدعيه في أوقات أنسه، وتوفي المهلبي وأبو إسحاق يلي ديوان الرسائل والخلافة على ديوان
__________
[1] اليتيمة 2: 243.
[2] اليتيمة: ملّني.
[3] ر: هواي.
[4] ر: أمن.(1/132)
الوزارة لأنّ المهلبي مات بعمان، وكان قد مضى لافتتاحها، واستخلف أبا إسحاق على ديوان الوزارة فاعتقل في جملة عمال المهلبي وأصحابه، فقال وهو معتقل [1] :
يا أيّها الرؤساء دعوة خادم ... أربت [2] رسائله على التعديد
أيجوز في حكم المروءة عندكم ... حبسي وطول تهدّدي ووعيدي
قلّدت ديوان الرسائل فانظروا ... أعدلت في لفظي عن التسديد
أعليّ رفع حساب ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلّتي وشهودي
أنسيتم كتبا شحنت فصولها ... بفصول درّ عندكم منضود
ورسائلا نفذت إلى أطرافكم ... عبد الحميد بهنّ غير حميد
قال الثعالبي: وكانت الرسالة التي نقمها عليه عضد الدولة كتابا أنشأه عن الخليفة في شأن عز الدولة بختيار وهو: «وقد جدّد له أمير المؤمنين مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوامق، التي يلزم كلّ دان وقاص، وعامّ وخاصّ، أن يعرف له حقّ ما كرّم به منها، ويتزحزح له عن رتبة المماثلة فيها» فإن عضد الدولة أنكر هذه اللفظة أشدّ الإنكار [3] وأسرّها في نفسه إلى أن ملك العراق فحبسه كما تقدم ذكره.
وقال حفيده هلال بن المحسن في «أخبار الوزراء» : حدثني أبو إسحاق جدي قال: لما توفي أبو الحسين هلال أبي جاءني أبو محمد المهلبي معزيا به، فحين عرفت خبره في تعديته [إلى] مشرعة داري الشاطئة بالزاهر بادرت لتلقيه واستعفائه من الصعود فامتنع من الإجابة الى ذلك، وصعد وجلس ساعة يخاطبني فيها بكلّ ما يقوّي النفس ويشرح الصدر، ويصف والدي ويقرظه لي ويقول: ما مات من كنت له خلفا، ولا فقد من كنت منه عوضا، ولقد قرّت عين أبيك بك في حياته، وسكنت مضاجعه الى مكانك بعد وفاته، فقبّلت يده ورجله، وأكثرت من الثناء عليه والدعاء له، وحضرتني في الحال ثلاثة أبيات أنشدته إياها وهي:
لو وثقنا بأن عمرك يمت ... دّ بأعمارنا قتلنا النفوسا
__________
[1] اليتيمة 2: 244.
[2] ر: أوفت.
[3] ر: أشد إنكار.(1/133)
قد تركت الموت الزؤام مغيظا ... يتلظّى لجرحه كيف يوسى
فغدت عندنا المصيبة نعمى ... بأياديك وهي من قبل بوسى
ثم نهض، وأقسم علينا ألا يتبعه أحد منا، وأنفذ إليّ في بقية ذلك اليوم خمسة آلاف درهم وقال: استعن بها على أمرك. ولم يبق أحد من أهل الدولة إلا جاءني بعده معزيا. ثم اجتاز بي من الغد في طيّاره ووقف واستدعاني وأمرني بالنزول معه، فبعد جهد ما تركني بقية اليوم.
حدث أبو منصور قال [1] ، حكى أبو إسحاق الصابىء قال: طلب مني رسول سيف الدولة ابن حمدان عند قدومه الحضرة شيئا من شعري وذكر أنّ صاحبه رسم له ذلك فدافعته أياما ثم ألحّ عليّ وقت الخروج فأعطيته هذه الثلاثة الأبيات:
إن كنت خنتك في المودة [2] ساعة ... فذممت سيف الدولة المحمودا
وزعمت أن له شريكا في العلا ... وجحدته في فضله التوحيدا
قسما لو اني حالف بغموسها ... لغريم دين ما أراد مزيدا
فلما عاد الرسول إلى الحضرة ودخلت عليه مسلّما أخرج لي كيسا بختم سيف الدولة مكتوبا عليه اسمي وفيه ثلاثمائة دينار.
ووجدت بخط أبي علي بن أبي إسحاق قال: لما غنّي ابن حمدان بهذا الشعر سأله عن قائله فعرفه، قال والدي رحمه الله: فأنفذ إليّ في الوقت عشرة دنانير من دنانير الصلة وزنها خمسمائة مثقال، وأضاف إلى ذلك رسما كان ينفذه إليّ في كلّ سنة إلى أن مات رحمه الله.
قال [3] : وأهدى أبو إسحاق الصابىء إلى عضد الدولة في يوم مهرجان الصطرلابا بقدر الدرهم محكم الصنعة، وكتب إليه (وفي «كتاب الوزراء» لحفيده أنه أهدى الاصطرلاب إلى المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة وكتب إليه) بهذه الأبيات:
__________
[1] اليتيمة 1: 35.
[2] اليتيمة: الأمانة.
[3] اليتيمة 2: 280.(1/134)
أهدى إليك بنو الحاجات واحتفلوا ... في مهرجان جديد أنت مبليه
لكنّ عبدك إبراهيم حين رأى ... علوّ قدرك لا شيء يباريه
لم يرض بالأرض يهديها إليك فقد ... أهدى لك الفلك الأعلى بما فيه
ولقابوس أبيات تشبه هذه مذكورة في بابه.
ذكر القبض على أبي إسحاق الصابىء والسبب فيه، وما جرى عليه من أمره إلى أن أطلق: قال هلال بن المحسن: قبض عليه في يوم السبت لأربع بقين من ذي العقدة سنة سبع وستين وثلاثمائة، وأفرج عنه يوم الأربعاء لعشر بقين من جمادى الأولي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، فكان مدة حبسه ثلاث سنين وسبعة أشهر وأربعة عشر يوما. قال [1] : وكان السبب في القبض عليه أنه كان قد خدم عضد الدولة عند كونه بفارس بالشعر والمكاتبة والقيام بما يعرض من أموره بالحضرة، فقبله وأنفق عليه وأرفده في أكثر نكباته بمال حمله إليه. وورد عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلاثمائة فزاد قربه منه وخصوصه به وتأكّد حاله عنده، فلما أراد العود إلى فارس عمل على الخروج معه إشفاقا من المقام بعده، ثم علم أنه متى فعل ذلك أسلم أهله وولده وتعجّل منهم ما عسى الله أن يدفعه عنه، فاستظهر له عضد الدولة بأن ذكره في الاتّفاق الذي كتب بينه وبين عزّ الدولة وعمدتها [2]- أخيه-، واليمين التي حلفا بها، وشرط عليهما حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من أحواله، وانحدر عضد الدولة فلم يأمن على نفسه من عز الدولة وأبي طاهر ابن بقية وزيره [3] واستتر وأقام على الاستتار مدة، ثم توسط أبو محمد ابن معروف [4] أمره معهما، وأخذ له العهد عليهما والأمان منهما، واستوثق بغاية ما يستوثق به من مثلهما، وظهر فتركاه مديدة ثم قبضا
__________
[1] قارن بما ورد في ذيل تجارب الأمم: 20- 24.
[2] وعمدتها: يعني عمدة الدولة وهو أخو عز الدولة.
[3] هو محمد بن محمد بن بقية وزير عز الدولة بختيار والمحرض له على عضد الدولة. انتهى به الأمر إلى أن اعتقل وسملت عيناه ثم قتل تحت أرجل الفيلة سنة 367 (انظر صفحات متفرقة من تجارب الأمم وتاريخ ابن الأثير ووفيات الأعيان والوافي 1: 100) .
[4] كان أبو محمد عبيد الله بن أحمد بن معروف البغدادي قاضي القضاة في زمانه، وكان من ألباء الرجال، ناهضا بالأحكام معتزليا، توفي سنة 381 (تاريخ بغداد 10: 366 وعبر الذهبي 3: 18) .(1/135)
عليه، وذلك بإغراء ابن السراج [1] لهما به، وتجدد منه في العداوة له أمور تجنّى فيها عليه، وجرت له في هذه النكبة خطوب أشفى فيها على ذهاب النفس، ثم كفاه الله بأن فسد أمر ابن السّراج مع ابن بقية بما عامله بالعلة التي عرضت له، فقبض عليه ونقل القيد من رجل أبي إسحاق إلى رجله، وعاد إلى خدمة عز الدولة، وكتب عنه في أيام المباينة بينه وبين عضد الدولة الكتب التي تضمّنت الوقيعة والاستهتار عليه ومنها:
الكتاب عن الطائع لله بتقديم عز الدولة وإنزاله منزلة ركن الدولة، وهو أعظم ما نقمه عليه. فلما ورد عضد الدولة إلى بغداد في الدفعة الثانية وحصل بواسط، استظهر بأن خرج إلى أبي سعد بهرام بن أردشير، وهو يتردّد في الرسائل، بما يتخوّفه من تشعب رأي عضد الدولة، وسأله إجراء ذكره، وإقامة عذره، والاحتياط له بأمان تسكن إليه نفسه، وكتب على يده كتابا عاد جوابه بما نسخته:
«كتابنا، أيدك الله، من المعسكر بجبل يوم الجمعة لست ليال بقين من شهر ربيع الأول عن سلامة ونعمة، والحمد لله ربّ العالمين، ووصل كتابك، أيدك الله، وفهمناه وعرفنا ما يحمل، واستمعنا من أبي سعد بهرام بن أردشير، أعزه الله، ما أورده عنك، ومن كانت به حاجة إلى إقامة معذرة أو استقالة من عثرة، أو الاستظهار في مثل هذه الأحوال بوثيقة، فأنت مستغن عن ذلك بسابقتك في الخدمة، ومنزلتك من الثقة، وموقعك لدينا من الخصوص والزلفة. وذكر أبو سعد، أعزه الله، التماسك أمانا، فقد بذلناه لك على غناك عنه، وأنت آمن على نفسك ودمك وشعرك وبشرك وأهلك وولدك وسائر ما تحويه يدك، حالّ في كلّ حال بكنف الأثرة والخصوص والإحسان والقبول عندنا، محروس في جاهك وموقعك وحالك، فاسكن إلى ذلك واعتمده، ولك علينا في الوفاء به عهد الله وميثاقه. وقد حمّلنا أبا سعد، أعزه الله، في هذا الباب ما يذكره لك، والله نستعين على النية فيك، وهو حسبنا» والتوقيع بخط عضد الدولة: «اعتمد ذلك واسكن إليه وثق بالله إن شاء الله تعالى» .
ودخل عضد الدولة إلى بغداد فأجراه على رسمه، ووقع بإقرار إقطاعه وإمضاء
__________
[1] يعد أبو نصر ابن السراج من أقوى المؤازرين لابن بقية، ثم انقلب هذا عليه ونكل به (انظر صفحات متفرقة من تجارب الأمم) .(1/136)
تقريراته. فلما حصل بالموصل كتب إلى أبي القاسم المطهر بالقبض عليه؛ فحدثني أبو الحسن فهد بن عبد الله، وكان يكتب لأبي عمرو بن [ ... ] عند نظره في الموصل، قال: أخرج في الموصل إلى الديوان ما وجد في قلاع أبي تغلب من الحسابات ليتأمّل ويميّز، وكان فيها الشيء الكثير من كتب عزّ الدولة إلى أبي تغلب بخطّ أبي إسحاق جدك، فكان أبو عمرو إذا رأى ما فيه ذكر عضد الدولة أيام المباينة بينه وبين عز الدولة [نحّاه] حتى جمع من ذلك شيئا كثيرا وحمله إلى عضد الدولة لعداوة كانت بينه وبينه فأظنّ ما وقف عليه حرّك ما كان في نفسه حتى كتب من هناك بالقبض عليه.
قال: وحدثني جدّي قال: كنت جالسا بحضرة أبي القاسم المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة في يوم القبض عليّ إذ وردت النوبة ففضّت بين يديه، وبدأ منها بقراءة كتاب عضد الدولة، فلما انتهى إلى فصل منه وجم وجوما بان في وجهه، فقال لي أبو العلاء صاعد بن ثابت: أظنّ في هذا الكتاب ما ضاق صدرا به. وقمت من مجلسه لأنصرف فتبعني بعض حجّابه وعدل بي إلى بيت من داره، ووكل بي، وراسلني يقول: «لعلك قد عرفت مني الانزعاج عند الوقوف على الكتاب الوارد من الحضرة اليوم، وكان ذلك لما تضمّن من القبض عليك وأخذ مائة ألف درهم منك، وينبغي أن تكتب خطّك بهذا المال، ولا تراجع فيه، فوالله لا تركت ممكنا في معونتك وتخليصك إلّا بذلته، وقد جعلت اعتقالك في داري، ومقامك في ضيافتي، فطب نفسا بقولي، وثق بما يتبعه من فعلي» . وقبض على ولديه أبي علي المحسن والدي وأبي سعيد سنان عمي، فلما تقدم عضد الدولة إلى أبي القاسم المطهر بالانحدار لقتال صاحب البطيحة سأل عضد الدولة إطلاقه والإذن له في استخلافه بحضرته فقال له: أما العفو فقد شفّعناك فيه، وينبغي أن تعرّفه ذلك وتقول له: إننا قد غفرنا لك عن ذنب لم نعف عما دونه لأهلنا- يعني عز الدولة والديلم- ولأولاد نبيّنا- يعني أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي [1] ، ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك
__________
[1] أبو الحسن محمد بن عمر الحسني العلوي رئيس العلوية بالعراق صادره عضد الدولة وحبسه، (كانت وفاته سنة 390) وأبو أحمد الموسوي نقيب الطالبيين ووالد الرضي والمرتضى غرّبه عضد الدولة وحبسه.(1/137)
وغلّبنا المحافظة فيك على الحفيظة منك؛ وأما استخلافك إياه بحضرتنا فكيف يجوز أن ننقله من السخط والنكبة إلى النظر في الوزارة، ولنا في أمره تدبير. وبالعاجل فتحمل إليه من عندك ثيابا ونفقة، وتطلق ولديه، وتقدّم إليه عنّا بعمل كتاب في مفاخرنا. فحمل إليه المطهر ثيابا ونفقة، وأطلق ولديه والدي وعمي، ورسم له تأليف الكتاب في الدولة الديلمية. وانحدر المطهر وبقي أبو إسحاق في محبسه، وعمل الكتاب، فكان إذا ارتفع جزء منه حمل إلى الحضرة العضدية حتى يقرأه ويتصفحه ويزيد فيه وينقص منه، فلما تكامل على ما أراده حرّر وحمل كلاما محررا فيقال إنه قرىء عليه في أسبوع، وتركه في الحبس بعد ذلك سنة، واتفق أن خرج إلى الزيارة وعاد، فعمل فيه قصيدة يهنئه فيها بمقدمه ويذكّره بأمره، منها [1] :
أهلا بأشرف أوبة وأجلّها ... لأجلّ ذي قدم يلاذ بنعلها
شاهانشاه تاج ملّته التي ... زيدت به في قدرها ومحلّها
يا خير من زهت المنابر باسمه ... في دولة علقت يداه بحبلها
وأقمت فينا سيرة عمرية [2] ... هيهات لا تأتي الملوك بمثلها
يردى غويّ فاجر في بأسها ... ويعيش برّ صالح في فضلها
مولاي عبدك حالف لك حلفة ... تعيا مناكب يذبل عن حملها
لقد انتهى شوقي إليك إلى التي ... لا أستطيع أقلّها من ثقلها
طوبى لعين أبصرتك ومن لها ... بغبار دارك جازيا عن كحلها
ضلو بعتني بجميع عمري لفظة ... أو لحظة بالطرف لم أستغلها
أترى أمرّ بخطرة من بالها ... أترى أعود إلى كثافة ظلها
لي ذمّة محفوظة في ضمنها ... ووثائق محروسة في كفلها
وإذا رأيت سحائبا لك ثرّة ... تروي النفوس الحائمات بهطلها
لا في الرجال الناقعين بوبلها ... كلّا ولا في القانعين بطلّها
__________
[1] اليتيمة 2: 275 وأورد منها أربعة أبيات فقط.
[2] م: عضدية والتصويب عن المختصر.(1/138)
قابلت بالزفرات هبّة ريحها ... وحكيت بالعبرات درّة سجلها
فلو أن عيني راهنت بدموعها ... يمناك في السقيا لفزت بخصلها
قال: قد كان أبو إسحاق يكاتب عضد الدولة في الحبس بالأشعار ويرقّقه، فما رققه شيء كقصيدته القافيّة، ومنها:
أجل في البنين الزّهر طرفك إنهم ... حووا كلّ مرأى للأحبة مؤنق
وتمّت لك النعمى بقرب كبيرهم ... فأهلا به من طارق خير مطرق
موال لنا مثل النجوم مطيفة ... بمولى موال منك كالبدر مشرق
وقد ضمّهم شمل لديك مؤلّف ... فأرث لذي الشمل الشتيت المفرق
وإن كنت يوما عنهم متصدّقا ... فمن مثل ما خوّلت فيهم تصدّق
فلي مقلة تقذى إذا ما مددتها ... إلى حلّة ممن أعول ودردق
إناث وذكران أبيت من أجلهم ... على كمد بين الحجابين مقلق
رسائلهم تأتي بما يلذع الحشا ... ويصدع قلب النازع المتشوق
فباكية ترثي أباها ولم يمت ... وبائنة من بعلها لم تطلّق
وزغب من الأطفال أبناء منزل ... شوارد عنه كالقطا المتمزق
إذا حرّقوا قلبي بنجواهم انثنت ... علاك تناجيني فتطفي تحرّقي
شهدت لئن أنكرت أنك صنتني ... ولم أرع ما أوليتني من ترفّق
لقد ضيّع المعروف عندي وأصبحت ... ودائعه مودوعة عند أحمق
وحبسك لي جاه عريض ورفعة ... وقيدك في ساقيّ تاج لمفرقي
وما موثق لم تطّرحه بموثق ... ولا مطلق لم تصطنعه بمطلق
خلا أن أعواما كملن ثلاثة ... تعرقت البقيا أشدّ تعرق
وقد ظمئت عيني التي أنت نورها ... إلى نظرة من وجهك المتألق
فيا فرحتي إن ألقه قبل ميتتي ... ويا حسرتي إن متّ من قبل نلتقي
خدمتك مذ عشرون عاما موفقا ... فهب لي يوما واحدا لم أوفّق(1/139)
فإن يك ذنب ضاق عندي عذره ... فعندك عفو واسع غير ضيق
قال: وسمعت أبا الريان حامد [1] بن محمد الوزير يقول لجدي، وهما في مجلس أنس وأنا حاضر معهما، لما أنفذت القصيدة اللامية [2] بالتهنئة عند قدوم عضد الدولة من الزيارة عرضتها عليه في وقت كان عبد العزيز بن يوسف غير حاضر فيه، فقرأها ثمّ رفع رأسه إليّ وإلى [أبي] عبد الله ابن سعدان، وكنت آمنه عليك وأعلم أنّ اعتقاده يوافق اعتقادي فيك، فقال: قد طال حبس هذا المسكين ومحنته، فقبّلت أنا وهو الأرض عند ذلك، فقال لنا: كأنكما تؤثران إطلاقه، قلنا: إنّ من أعظم حقوقه علينا وذرائعه عندنا أن عرفناه في خدمتك وخالطناه في أيامك، قال: فإذا كان هذا رأيكما فيه فانفذا وأفرجا عنه، وتقدّما إليه عنا بملازمة منزله إلى أن يرسم له ما [يليق] بمثله. قال أبو الريان، فخرجت مبادرا وأنفذت لشكرستان صاحبي، وأنفذ ابن سعدان محمدا لاواتيه [؟] وانتظرت عودهما بما فعلاه من صرفك إلى دارك، فأبطا عليّ، وكنت أعرف من عادة عضد الدولة أنه يتقدم بالأمر ثم يسأل عنه، فإن كان قد فعل أمضاه ولم يرجع، وإن تأخر فربما بدا له رأي مستأنف في التوقف عنه، فدخلت إلى عضد الدولة في عرض ما أطالعه به [وقلت] : سمع الله في مولانا ما دعي له، فقال: ما تجدد؟
قلت: شاهد الناس أبا إسحاق الصابىء وقد أخرج من محبسه ومضى إلى داره فأكثروا من الدعاء والشكر، فسكت. وشغلت عضد الدولة علته وما أفضى إليه من منيته عن النظر في أمره إلا أنه وصل إلى حضرته فيما بين الإطلاق واشتداد العلة في أيام متفرقة فتفقده بثياب ونفقات عدة دفعات.
وكان [3] الصاحب ابن عباد يحبّه أشدّ الحبّ ويتعصّب له ويتعاهده على بعد الدار بالمنح، وكان الصابىء منذ حبسه عضد الدولة متعطلا إلى أن مات، فكان يواصل حضرة الصاحب بالمدح؛ قال أبو منصور: فقرأت له فصلا من كتاب في ذكر صلة وصلت منه إليه استطرفته جدا وهو: «ورد- أطال الله بقاء سيدنا- أبو العباس أحمد بن
__________
[1] ذيل التجارب: حمد.
[2] الأرجح أنها القصيدة التي مطلعها: «أهلا بأشرف أوبة وأجلها» .
[3] اليتيمة 2: 245- 246.(1/140)
الحسن [1] وأبو محمد جعفر بن شعيب حاجّين، فعرّجا إليّ ملمّين، وعاجا عليّ مسلّمين، فحين عرفتهما وقبل أن أردّ السلام عليهما مددت اليد إلى ما معهما [2] ، كما مدّها حسان بن ثابت إلى رسول جبلة بن الأيهم، ثقة مني بصلته، وتشوقا إلى تكرمته، واعتيادا لإحسانه، وإلفا لموارد إنعامه، وتيقنا أن الخطرة مني على باله مقرونة [3] بالنصيب من ماله، وأن ذكراه لي مشفوعة بجدواه علي، وقمت عند ذلك قائما، وقبّلت الأرض ساجدا، وكررت الدعاء والثناء مجتهدا، وسألت الله أن يطيل له البقاء كطول يده بالعطاء، ويمدّ له في العمر كامتداد يده على الحر، وأن يحرس [على] هذا البدد القليل العدد من مشيخة الكتاب ومنتحلي الآداب ما كنفهم به من ذراه، وأفاءه عليهم من نداه، وأسامهم فيه من مراتعه، وأعذبه لهم من شرائعه التي هم محلأون إلا عنها ومحرومون إلا منها» .
وكان [4] الصاحب يتمنى انحياز أبي إسحاق إلى جنبته، وقدومه إلى حضرته، ويضمن له الرغائب على ذلك إما تشوقا وإما تشرفا. وكان أبو إسحاق يحتمل ثقل الخلّة وسوء أثر العطلة ولا يتواضع للاتصال بجملة الصاحب بعد كونه من نظرائه وتحلّيه بالرياسة في أيامه. قال [5] وأخبرني ثقات منهم أبو القاسم علي بن محمد الكرخي، وكان شديد الاختصاص بالصاحب أنه كثيرا ما كان يقول: كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ ابن العميد وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف وأبو إسحاق الصابىء، ولو شئت لذكرت الرابع، يعني نفسه. فأما الترجيح بين هذين الصدرين [6] ، أعني الصاحب والصابىء، في الكتابة فقد خاض فيه الخائضون وأطنب المحصلون [7] ؛ ومن أشفى [8] ما سمعته في ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد، وأبو إسحاق يكتب
__________
[1] اليتيمة: الحسين.
[2] اليتيمة: مددت اليد إليهما.
[3] اليتيمة: الخطور ... بباله ... مقرون.
[4] اليتيمة 2: 246.
[5] المصدر نفسه.
[6] المختصر: صادي الصّادين.
[7] اليتيمة: وأخب فيه المخبون.
[8] ر: أشفّ.(1/141)
كما يؤمر، وبين الحالين بون بعيد. وكيف جرى الأمر فهما هما، ولقد وقف فلك البلاغة بعدهما.
ومما يدلّ على إناخة كلكل الزمان عليه، وصرف صروفه بعد النباهة إليه، فصل كتبه إلى صديق له يستميحه وهو [1] : «ولما صارت صروف الدهر تتوغل بعد التطرّف، وتجحف بعد التحيّف، وصادف ما تجدّد عليّ في هذا الوقت منها أشلاء مني منهوكة، وعظاما مبرية، وحشاشة مشفية، وبقيّة مودية، جعلت أختار الجهات، وأعتام الجنبات، لأنحو منها ما لا يعاب سائله إذا سأل، ولا يخيب آمله إذا أمل، وكان سيّدي أوّلها إذا عدّدت وأولاها إذا اعتمدت، وكتبت كتابي هذا بيد يكاد وجهي، يتظلّم منها إذ تخطه، إشفاقا على مائه مما يريقه، لولا الثقة بأنه يحقن مياه الوجوه ويحميها، ويجمّها ولا يقذيها» .
فصل من كتاب إلى عضد الدولة في تهنئة بتحويل سنته [2] : «أسأل الله مبتهلا لديه، مادّا يدي إليه، أن يحيل على مولانا هذه السنة وما يتلوها من أخواتها بالصالحات الباقيات، والزيادات الغامرات، ليكون كلّ دهر يستقبله وأمد يستأنفه موفيا [3] على المتقدّم له، قاصرا عن المتأخر عنه، ويوفّيه من العمر أطوله وأبعده، ومن العيش أعذبه وأرغده، عزيزا منصورا، محميّا موفورا [4] باسطا يده فلا يقبضها إلا على نواصي أعداء وحسّاد، ساميا طرفه فلا يغضّه إلا على لذة غمض ورقاد، مستريحة ركابه فلا يعملها إلا لاستضافة عزّ وملك، فائزة قداحه فلا يجيلها إلا لحيازة مال وملك، حتى ينال أقصى ما تتوجّه إليه أمنيته جامحة، وتسمو له همّته طامحة» .
وحدث هلال بن المحسن، حدثني جدي أبو إسحاق- ثم وجدت هذا الخبر بخطّ المحسن بن ابراهيم- قال حدثني والدي أبو إسحاق قال: كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبا قراءة كتب الطبّ والتحلّي بصناعته، وينهاني عن التعرّض
__________
[1] اليتيمة 2: 251 والمختار من رسائل الصابي: 281- 282.
[2] اليتيمة 2: 247.
[3] م: موفرا.
[4] م: منصورا.(1/142)
لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في البيمارستان عشرون دينارا في كلّ شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء خلافة له ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب ومائل إلى قراءة كتب الأدب كاللغة والشعر والنحو والرسائل والأدب، وكان إذا أحسّ بهذا مني يعاتبني عليه وينهاني عنه، ويقول: يا بني لا تعدل عن صناعة أسلافك. فلما كان في بعض الأيام ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمّن أشياء كثيرة كلّفه إياها ومسائل في الطبّ وغيره سأله عنها، وكان الكتاب طويلا بليغا قد تأنّق [فيه] منشئه وتغارب. فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملا لما يريده، وأنفذها على يديّ إلى كاتب لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه، قال: فمضيت وأنشأت أنا الجواب وأطلته وحرّرته وجئت به إليه، فلما قرأه قال: يا بني سبحان الله ما أفضل هذا الرجل وأبلغه، قلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحا وضمّني إليه وقبّل بين عيني وقال: قد أذنت لك الآن فامض فكن كاتبا.
كان أبو إسحاق الصابىء واقفا بين يدي عضد الدولة وبين يديه كتب قد وردت عليه من ابن سمجور صاحب خراسان، وعلى رأسه غلام تركي حسن الوجه جميل الخلقة، وكان مائلا إليه، ورأيت الشمس إذا وجبت عليه حجبها عنه إلى أن استتمّ قراءة ما كان في يده، ثم التفت إليه فقال له: هل قلت شيئا يا إبراهيم؟ فقال:
وقفت لتحجبني عن الشمس ... نفس أعزّ عليّ من نفسي
ظلّت تظللني ومن عجب ... شمس تغيّبني عن الشمس
فسرّ بذلك وطوى الكتب، وجعله مجلسا للشرب، وألقى على الجواري الستائر يغنّونه به في ذلك اليوم، وهو الخامس من شوّال سنة إحدى وستين وثلاثمائة.
وكتب إلى بعض أصدقائه: «ولو حملت نفسي على الاستشفاع والسؤال، لضاق علي فيه المرتكض والمجال، لأنّ الناس عندنا- ما خلا الأعيان الشواذّ الذين أنت بحمد الله أولهم- طائفتان: مجاملة ترى أنها قد وفّتك خيرها إذا كفتك شرها، وأجزلت لك رفدها إذا جنبتك كيدها، ومكاشفة تنزو إلى القبيح نزو الجنادب، أو تدبّ دبيب العقارب، فإن عوتبوا حسروا قناع الشقاق، وإن غولظوا تلثّموا بلثام(1/143)
النفاق، والفريقان في ذاك كما قلت منذ أيام:
أيا ربّ كلّ الناس أبناء علّة ... أما تعثر الدنيا لنا بصديق
وجوه بها من مضمر الغلّ شاهد ... ذوات أديم في النفاق صفيق
اذا اعترضوا عند اللقاء فانهم ... قذى لعيون أو شجى لحلوق
وإن أظهروا برد الودود وظلّه ... أسرّوا من الشحناء حرّ حريق
أخو وحدة قد آنستني كأنني ... بها نازل في معشر ورفيق
فذلك خير للفتى من ثوائه ... بمسبعة من صاحب وصديق
ومن خط أبي علي المحسن بن إبراهيم بن هلال: حدثني والدي رحمه الله قال: وصفت وأنا حدث للوزير أبي محمد المهلبي، وهو يومئذ يخاطب بالأستاذ، فاستدعى عمي أبا الحسن ثابت بن إبراهيم وسأله عني، والتمس منه [إلحاقي به] ووعده فيّ بكلّ جميل، فخاطبني عمي في ذلك وأشار عليّ به، فامتنعت لانقطاعي إلى النظر في العلوم. وكنت مع هذه الحال شديد الحاجة إلى التصرّف لقرب العهد بالنكبة من توزون التي أتت على أموالنا، فلم يزل بي أبي حتى حملني إليه، فلما رآني تقبّلني وأقبل عليّ ورسم لي الملازمة، وبحضرته في ذلك الوقت جماعة من شيوخ الكتّاب، فلما كان في بعض الأيام وردت عليه عدة كتب من جهات مختلفة، فاستدعاني وسلّمها إليّ، وذكر لي المعاني التي تتضمنها الأجوبة، وأطال القول، فمضيت وأجبت عن جميعها من غير أن أخلّ بشيء من المعاني التي ذكرها، فقرأها حتى أتى على آخرها، وتقدّم إليّ في الحال بإحضار دواتي والجلوس بين يديه متقدما على الجماعة، فلزم بعضهم منزله وجدا وغضبا، وأظهر بعضهم التعالل، فلم أزل أتلطّف وأداري وأغضي على قوارص تبلغني حتى صارت الجماعة إخواني وأصدقائي.
وقرأت بخطه أيضا، وفي «كتاب الوزراء» لابنه- قال المحسن: حدثني والدي، وقال هلال: حدثني جدي، واللفظ والمعنى يزيد وينقص، والاعتماد على ما في كتاب هلال لأنه أتم- قال أبو إسحاق: كنت في مجلس الوزير أبي محمد المهلبي في بعض أيام الحداثة جالسا في مجلس أنسه، وبين يديه أبو الفضل العباس ابن الحسين وأبو أحمد الفضل بن عبد الرحمن وأبو علي الحسين بن محمد الأنباري(1/144)
وأبو الفرج ابن أبي هشام وغيرهم من خلفائه وكتابه، وقد أخذ الشراب من الجماعة، وزاد بهم على حدّ النشوة، وكانت لي في ذلك مزية لأنني شربت معه أرطالا عدة، إذ حضر رسول الأمير معزّ الدولة يذكر أن معه مهما، فقال أبو محمد: يدخل، فدخل وقال: الأمير يقول: تكتب عني الساعة كتابا إلى محمد بن إلياس صاحب كرمان تخطب فيه ابنته لبختيار، فقال الوزير: هذا كتاب يحتاج إلى تأمل وتثبت، وما في الكتّاب من فيه مع السكر فضل له، ثم التفت إلى أبي علي [ابن] الأنباري فقال له: تتمكن يا أبا علي من كتبه؟ فقال: أما الليلة وعلى مثل هذه الحالة والصورة فلا، ورآني الوزير مصغيا إلى القول متشوفا لما يرسمه لي في ذلك فقال: تكتبه يا أبا إسحاق؟
قلت: نعم، قال: افعل، فقمت إلى صفّة يشاهدني فيها واستدعيت دواتي ودرجا منصوريا وكتبت كتابا اقتضبته بغير رويّة ولا نسخة، والوزير والحاضرون يلاحظوني، ويعجبون من إقدامي ثم اقتضابي و [عدم] إطالتي، فلما فرغت منه أصلحته وعنونته وحملته إليه، فوقف عليه ووجهه متهلّل في أثناء القراءة والتأمّل، ورمى به إلى أبي علي ابن الأنباري ثم قال للجماعة: هذا كتاب حسن دالّ على الكفاية المبرّزة، ولو كتبه صاحيا مروّيا لكان عجبا، فكيف إذ يكتبه منتشيا مقتضبا، ولكنه كاتبي وصنيعتي، قم يا أبا إسحاق من موضعك واجلس هاهنا حيث أجلستك الكفاية، وأومأ إلى جانب أبي الغنائم ابنه، فقبّلت يده ورجله وشكرته ودعوت له، وجلست بحيث أجلسني، وشرب لي سارا، ثم استدعى حاجبه وقال: تقدّم دابته إلى حيث تقدّم دوابّ خلفائي، ويوفّى من الإكبار والإكرام ما يوفونه؛ فحسدني على ذلك كلّ من كان حاضرا، ووفوني من الغد حكم المساواة في المخاطبة والمعاملة، واستشعروا عندها أسباب العداوة والمنافسة. ثم قلدني دواوين الرسائل والمظالم والمعاون تقليدا سلطانيا كتب به عن المطيع لله إلى أصحاب الأطراف.
وحدث هلال بن المحسن، قال حدثني جدي أبو إسحاق قال: كان أبو طاهر ابن بقية واقفا بين يدي عضد الدولة في سنة أربع وستين وثلاثمائة التي ورد فيها للمعاونة على الأتراك، فقال لي عضد الدولة: لو عرضت علينا أبياتك إلى أبي القاسم عبد العزيز بن يوسف التي هي- وأنشدها وكانت-:(1/145)
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد ... تدمى مناسمها في الحزن والجدد
أبلغ أبا قاسم نفسي الفداء له ... مقالة من أخ للحقّ معتمد
أنصفت فيها ولم أظلم وما حسن ... بالمرء إلا مقال الحقّ والسدد
في كلّ يوم لكم فتح له خطر ... يشاد فيه بذكر السّيد العضد
وما لنا مثله لكننا أبدا ... نجيبكم بجواب الحاسد الكمد
فأنت أكتب منّي في الفتوح وما ... تجري مجيبا إلى شأوي ولا أمدي
إذ لست تعرفها تأتيك من أحد ... ولست أعرفها تمضي إلى أحد
وما ذممت ابتدائي إذ بدأتكم ... ولا جوابكم في القرب والبعد
وإنما رمت أن أثني على ملك ... مستطرد بدليل فيه مطرد
قال: فلما استتمها قال لأبي طاهر: ما قصد أبو إسحاق في هذه الأبيات؟
وسمعها أبو طاهر صفحا، وقد كان شرب أقداحا ولم يعلق بذكره من الأمر إلا ذكر المجلس، واشتهر خبرها عند كلّ أحد، فلما عاد عضد الدولة إلى شيراز سألني أبو طاهر ابن بقية عنها، وطالبني بإنشادها إياه فلم يمكنّي إنكارها فغيرتها في الحال على هذا [الوجه] :
يا راكب الجسرة العيرانة الأجد ... تدمى مناسمها في الحزن والجدد
أبلغ أبا قاسم نفسي الفداء له ... مقالة من أخ للودّ معتقد
أنصفت فيها ولم أظلم ولا حسن ... بالمرء إلا مقال الحقّ والسدد
قد أعجبتك فتوح أنت كاتبها ... تردّد السجع فيها غير متئد
خلا لك الجوّ إذ أصبحت منتشيا ... تشدو بها طربا كالطائر الغرد
تروعني كلّ يوم منك رائعة ... تبغي الجواب لها من موجع كمد
فأنت أكتب مني في الفتوح وما ... تجري مجيبا إلى شأوي ولا أمدي
أعطيتني شرّ قسميها وفزت بما ... فيه الفوائد من قرب ومن بعد
فاشكر إلاهك واعذرني فقد صدئت ... قريحتي من زمان مقرف نكد
ثم سعي بأبي إسحاق إلى عزّ الدولة حتى قبض عليه بعد أن أعطانا أمانا كتبه ابن(1/146)
بقية بيده، ولم يستقص ابن بقية عليه لحقّ كان قد أوجبه عليه أيام كون عضد الدولة ببغداد، فكتب أبو إسحاق إلى ابن بقية من الحبس:
ألا يا نصير الدين والدولة التي ... رددت إليها العزّ إذ فات ردّه
أيعجزك استخلاص عبدك بعدما ... تخلّصت مولاك الذي أنت عبده
وكتب أبو إسحاق إلى المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة، وقد عرضت له شكاة:
ولو استطعت أخذت علّة جسمه ... فقرنتها مني بعلّة حالي
وجعلت صحّتي التي لم تصف لي ... بدلا له من صحة الإقبال
فتكون عندي العلّتان كلاهما ... والصحتان له بغير زوال
قرأت بخط أبي علي ابن إبراهيم الصابىء، كتب والدي إلى بعض إخوانه:
«كانت رقعتك يا سيدي وصلت إليّ مشتملة من لطيف تفضلك وبرّك، وأنيق نظمك ونثرك، على ما شغلني الاستحسان له، والاسترواح إليه، وتكرير الطرف في مبانيه، والفكر في معانيه، عن الشروع في الإجابة عنه، ثم تعاطيتها فوجدتني بين حالين:
إما أوجزت إيجازا يظنّ معه التقصير، أو أطلت إطالة يظهر فيها القصور، فرأيت أولى الأمرين بذل الممكن واستنفاد الجمهود، بعد تقديم الإقرار والاعتراف بفضلك:
فسبحان ربّ كريم حباك ... بطول اللسان وطول البنان
ووفّاك من فضل إنعامه ... كمالا تقصّر عنه الأماني
فما كنت أحسب أنّ الزمان ... يزان [1] بمثلك لولا عياني
ومن خطه: حدثني والدي أبو إسحاق قال: راسلت أبا الطيب المتنبي رحمه الله في أن يمدحني بقصيدتين وأعطيه خمسة آلاف درهم، ووسطت بيني وبينه رجلا من وجوه التجار، فقال: قل له والله ما رأيت بالعراق من يستحقّ المدح غيرك، ولا أوجب عليّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكّر لك الوزير- يعني أبا محمد المهلبي- وتغير عليك. لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي
__________
[1] ر: يوات (يواتي) .(1/147)
بهذه الحالة فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك منالا ولا عن شعري عوضا، قال والدي: فتنبهت على موضع الغلط، وعلمت أنه قد نصح، فلم أعاوده.
ومن شعر أبي إسحاق قوله [1] :
جرت الجفون دما وكاسي في يدي ... شوقا إلى من لجّ في هجراني
فتخالف الفعلان شارب قهوة ... يبكي دما وتشاكل اللونان
فكأنّ ما في الجفن من كاسي جرى ... وكأن ما في الكاس من أجفاني
وله أيضا:
أيها اللائم المضيّق صدري ... لا تلمني فكثرة اللوم تغري
قد أقام القوام حجّة عشقي ... وأبان العذار في الحبّ عذري
وله أيضا وهو في غاية الجودة:
حذّرت قلبي أن يعود إلى الهوى ... لما تبدّل بالنزاع نزوعا
فأجابني لا تخش مني بعد ما ... أفلتّ من شرك الغرام وقوعا
حتى إذا داع دعاه إلى الهوى ... أصغى إليه سامعا ومطيعا
كذبالة أخمدتها فكما دنا ... منها الضّرام تعلقته سريعا
وله أيضا:
مرضت من الهوى حتى إذا ما ... بدا ما بي لإخواني الحضور
تكنّفني ذوو الإشفاق منهم ... ولا ذوا بالدعاء وبالنذور
وقالوا للطبيب أشر فإنا ... نعدّك للعظيم من الأمور
فقال شفاؤه الرمان مما ... تضمنه حشاه من السعير
فقلت لهم أصاب بغير قصد ... ولكن ذاك رمّان الصدور
وله أيضا:
إلى الله أشكو ما لقيت من الهوى ... بجارية أمسى بها القلب يلهج
__________
[1] هذه القطعة وما يليها نقلت من اليتيمة 2: 257، 258، 259.(1/148)
إذا امتزجت أنفاسنا بالتثامنا ... توهمت أن الروح بالروح يمزج
كأني وقد قبلتها بعد هجعة ... ووجدي ما بين الجوانح يلعج
أضفت إلى النفس التي بين أضلعي ... بأنفاسها نفسا إلى الصدر تولج
فإن قيل لي اختر أيما شئت منهما ... فإني إلى النفس الجديدة أحوج
وله أيضا:
أقول وقد جرّدتها من ثيابها ... وعانقتها كالبدر في ليلة التمّ
وقد آلمت صدري لشدّة ضمها ... لقد جبرت قلبي وإن أوهنت عظمي
وله أيضا:
إن نحن قسناك بالغصن الرطيب فقد ... خفنا عليك به ظلما وعدوانا
لأنّ أحسن ما نلقاه مكتسيا ... وأنت أحسن ما نلقاك عريانا
وله أيضا [1] :
فديت من لا حظني طرفها ... من خيفة الناس بتسليمته
لما رأت بدر الدجى تائها ... وغاظها ذلك من شيمته
نضت له البرقع عن وجهها ... فردّت البدر إلى قيمته
وكتب أبو إسحاق إلى الوزير أبي نصر سابور بن أردشير جوابا عن كتاب إليه:
أتتني على بعد المدى منك نعمة ... تشاكل ما قدّمت من نعم عندي
كتابك مطويا على كلّ منّة ... يمنّ بها المولى الكريم على العبد
فقبّلت إجلالا له الأرض ساجدا ... وعفّرت قدّام الرسول بها خدي
وقابلت ما فيه من الطّول والندى ... بما فيّ من شكر عليه ومن حمد
وعاليت نحو العرش طرفي باسطا ... يدي بدعاء قد بذلت به جهدي
وكم لك عندي من يد قد حفظتها ... ولم ينسنيها ما تطاول من عهد
__________
[1] هذه القطعة لم ترد في اليتيمة.(1/149)
وقال في غلام له اسمه رشد أسود [1] :
قد قال رشد وهو أسود للذي ... ببياضه استعلى علوّ الخاتن
ما فخر خدّك بالبياض وهل ترى ... أن قد أفدت به مزيد محاسن
ولو أنّ مني فيه خالا زانه ... ولو أنّ منه فيّ خالا شانني
وله فيه أيضا [2] :
لك وجه كأنّ يمناي خطته ... بلفظ تملّه آمالي
فيه معنى من البدور ولكن ... نفضت صبغها عليه الليالي
لم يشنك السواد بل زاد حسنا ... إنما يلبس السواد الموالي
وله في البق [3] :
وللة لم أذق من حرّها وسنا ... كأنّ في جوها النيران تشتعل
حاط بي عسكر للبق ذو لجب ... ما فيه إلا شجاع فاتك بطل
من كلّ شائلة الخرطوم طاعنة ... لا تحجب السّجف [4] مسراها ولا الكلل
صامو علينا وحرّ الصيف يطبخنا ... حتى إذا نضجت أجسادنا أكلوا
وقال يذمّ البصرة وكان قد خرج إليها لاستيفاء مال السلطان:
ليس يغنيك في التطهر بالبص ... رة إن حانت الصلاة اجتهاد
إن تطهرت فالمياه سلاح ... أو تيممت فالصعيد سماد
وقال عند رحيله عنها:
تولّيت عن ارض البصيرة راحلا ... وأفئدة الفتيان حشو حقائبي
؟؟؟ ضيفها كلّ ليلة ... بأمثال غزلان الصريم الربائب
اقمت بها سوق الصبا والندى معا ... لعاشقة حيرى وحيران لاغب
__________
[1] اليتيمة 2: 266- 267.
[2] المصدر السابق.
[3] هذه القطعة والأربع التي تليها من اليتيمة 2: 268، 269، 270.
[4] ر: يحجب الستر.(1/150)
فما تظهر الأسواق إلا صنائعي ... ولا تستر الجدران إلا حبائبي
وقال وقد عتب على بعض ولده:
أرضى عن ابني إذا ما عقنى حدبا ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي
ولست أدري لم استحققت من ولدي ... إقذاء عيني وقد أقررت عين أبي
وكتب إلى بعض الرؤساء يلتمس منه إشغال بعض ولده وإجراء رزق عليه:
وما أنا إلا دوحة قد غرستها ... وسقّيتها حتى تراخى بها المدى
فلما اقشعرّ العود منها وصوّحت ... أتتك بأغصان لها تطلب الندى
وكتب إليه أبو عليّ المحسن ابنه تسلية في إحدى نكباته:
لا تأس للمال إن غالتك غائلة ... ففي جنابك من فقد اللهى عوض
إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعت ... يداك من طارف أو تالد عرض
وأجابه أبو إسحاق:
يا درة أنا من دون الورى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض
قد قلت للدهر قولا كان مصدره ... عن نية لم يشب إخلاصها مرض
دع المحسّن يحيا فهو جوهرة ... جواهر الأرض طرّا عندها عرض
والنفس لي عوض عما أصيب به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض
اتركه لي وأخاه ثم خذ سلبي ... ومهجتي فهما مغزاي والغرض
وقال يمدح المهلبي [1] :
وكم من يد بيضاء حازت جمالها ... يد لك لا تسودّ إلا من النّقس
إذا رقشت بيض الصحائف خلتها ... تطرّز بالظلماء أردية الشمس
وله فيه وقد فصد من غير علة [2] :
__________
[1] اليتيمة 2: 274.
[2] هذه القطعة وما يليها واردة في اليتيمة 2: 275، 276، 279، 280، 282، 285، 286، 287، 290، 293، 260.(1/151)
لهجت يمينك بالندى فبنانها ... أبدا يفيض على العفاة عطاء
حتى فصدت وما بجسمك علة ... كيما تسبّب للطبيب حباء
ولقد أرقت دما زكيا من يد ... حقنت بتدبير الأمور دماء
يجري العلا في عرقه جري الندى ... في عوده فهو اللباب صفاء
لو تقدر الأحرار حين أرقته ... جعلوا له حبّ القلوب وعاء
فانعم وعش في صحة وسلامة ... تحيي الوليّ وتكبت الأعداء
وله أيضا فيه:
لا تحسب الملك الذي أعطيته ... يفضي وإن طال الزمان إلى مدى
كالروح في أفق السماء فروعه ... وعروقه متولجات في الندى
في كلّ عام يستجدّ شبيبة ... فيعود ماء العود فيه كما بدا
حتى كأنك دائر في حلقة ... فلكية في منتهاها المبتدا
وله في ابن سعدان:
ومازلت من قبل الوزارة جابري ... فكن رائشي إذ أنت ناه وآمر
أمنت بك المحذور إذ كنت شافعا ... فبلّغني المأمول إذ أنت قادر
لعمري لقد نلت المنى بك كلّها ... وطرفي إلى نيل المنى لك ناظر
عكس قول المهلبي:
بلغت الذي قد كنت آمله بكم ... وإن كنت لم أبلغ لكم ما أؤمّل
وله إلى الصاحب:
لما وضعت صحيفتي ... في بطن كفّ رسولها
قبّلتها لتمسّها ... يمناك عند وصولها
وتودّ عيني أنها ... اكتحلت ببعض فصولها
حتى ترى في وجهك ... الميمون غاية سولها(1/152)
وقال لأبي القاسم عبد العزيز بن يوسف:
أبو قاسم عبد العزيز بن يوسف ... عليه من العلياء عين تراقبه
روى ورعى لما رأى قول قائل ... «وشبع الفيى لؤم إذا جاع صاحبه»
وله تهنئة بالعيد:
يا سيدا أضحى الزما ... ن بأسره منه ربيعا
أيام دهرك لم تزل ... للناس أعيادا جميعا
حتى لأوشك بينها ... عيد الحقيقة أن يضيعا
فاسلم لنا ما أشرقت ... شمس على أفق طلوعا
واسعد بعيد ما يزا ... ل إليك معتقدا رجوعا
وله أيضا يهنىء عضد الدولة بالأضحى:
صلّ ياذا العلا لربّك وانحر ... كلّ ضد وشانيء لك أبتر
أنت أعلى من أن تكون ... أضاحيك قروما من الجمال لتعقر
بل قروما من الملوك ذوي السؤ ... دد تيجانها أمامك تنثر
كلما خرّ ساجدا لك رأس ... منهم قال سيفك الله اكبر
وله أيضا:
ولما رأيت الله يهدي وخلقه ... تجاسرت واستفرغت جهد جهيد
فكان احتفالي في الهدية درهما ... يطير على الأنفاس يوم ركود
وجزءا لطيفا ذرعه ذرع محبسي ... وتقييده بالشكل مثل قيودي
ألاطف مولانا وكالماء طبعه ... تسلسل من عذب النطاف برود
وكتب إلى الوزير أبي نصر سابور بن أردشير وقد أعيد إلى الوزارة:
قد كنت طلّقت الوزارة بعدما ... زلّت بها قدم وساء صنيعها
فغدت بغيرك تستحلّ ضرورة ... كيما يحلّ إلى ذراك رجوعها
والآن آلت ثم آلت حلفة ... ألّا يبيت سواك وهو ضجيعها(1/153)
وله يهجو:
أيها النابح الذي يتصدّى ... بقبيح يقوله لجوابي
لا تؤمّل أني أقول لك اخسأ ... لست أسخو بها لكلّ الكلاب
وله يهجو:
وراكب فوق طرف ... كأنه فوق طرفي
له قذال متين ... يجلّ عن كلّ وصف
يذوب شوقا إليه ... نعلي وخفّي وكفي
وله يهجو:
يبدي اللواط مغالطا وعجانه ... أبدا لأعواد الورى مستهدف
فكأنه ثعبان موسى إذ غدا ... لحبالهم وعصيّهم يتلقّف
وله يصف الشعر:
لقد شان شأن الشعر قوم كلامهم ... إذا نظموا شعرا من الثلج أبرد
فيا ربّ إن لم تهدهم لصوابه ... فأضللهم عن وزن ما لم يجوّدوا
وله أيضا:
إذا جمعت بين امرأين صناعة ... فأحببت أن تدري الذي هو أحذق
فلا تتفقد منهما غير ما جرت ... به لهما الأرزاق حين تفرّق
فحيث يكون النقص فالرزق واسع ... وحيث يكون الفضل فالرزق ضيق
وله أيضا:
كلّ الورى من مسلم ومعاهد ... للدين منه فيك أعدل شاهد
فإذا رآك المسلمون تيقنوا ... حور الجنان لدى النعيم الخالد
وإذا رأى منك النصارى ظبية ... تعطو ببدر فوق غصن مائد
أثنوا على تثليثهم واستشهدوا ... بك إذ جمعت ثلاثة في واحد
وإذا اليهود رأوا جبينك لامعا ... قالوا لدافع دينهم والجاحد(1/154)
هذا سنا الرحمن حين أبانه ... لكليمه موسى النبيّ العابد
ويرى المجوس ضياء وجهك فوقه ... مسودّ فرع كالظلام الراكد
فتقوم بين ظلام ذاك ونور ذا ... حجج أعدّوها لكلّ معاند
أصبحت شمسهم فكم لك فيهم ... من راكع عند الظلام وساجد
والصابئون يرون أنك فردة ... في الحسن إقرارا لفرد ماجد
كالزهرة الزهراء أنت لديهم ... مسعودة بالمشتري وعطارد
فعلى يديك جميعهم مستبصر ... في الدين من غاوي السبيل وراشد
أصلحتهم وفتنتني فتركتني ... من بينهم أسعى بدين فاسد
قرأت بخط أبي على المحسن بن إبراهيم بن هلال الصابىء، حدثني أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة الهاشمي الشاعر قال: أعانني والدك أبو إسحاق إبراهيم بن هلال في هجائي خمرة المجنونة بالشيء الكثير فمن ذلك [1] :
لخمرة عندي حديث يطول ... رأتني أبول فكادت تبول
وقالت تقول بنا يا فتى ... فقلت وأدليت لم لا أقول
فلما نهضت أتتني رقاع ... وجاءت هدايا ووافى رسول
ومن ذلك أيضا:
نام أيري وقد تولّج فيها ... قائلا فيه من هجير وحرّ
بيت خيش في برده ونداه ... سجفت دونه شريحة بظر
نعم مستبرد الغراميل لولا ... أنه منتن خبيث المقرّ
ومن ذلك أيضا:
ألا هل قائل مني لخمره ... فقدتك كلّ شيء منك عبره
ألا كلّ النوى في السر يخفى ... وقد أخفت نواتك كلّ بسره
إذا وردتك فيشة ذي جمام ... ترفّ نضارة وتروق حمره
__________
[1] اليتيمة 3: 13.(1/155)
تولّت عنك صفراء النواحي ... عليها من ثياب حشاك صدره
فتدخل وهي فيشة جيسوان ... وتخرج وهي كالبرنيّ صفره
ومن خط أبي علي المحسن، حدثني السري بن أحمد الشاعر الرفاء قال:
أنشدني والدك لنفسه:
مازلت في سكري ألمّع كفّها ... وذراعها بالقرص والآثار
حتى تركت أديمها وكأنما ... غرس البنفسج منه في الجمّار
وأخذت هذا المعنى فقلت [1] :
أحبب [2] إليّ بفتية نادمتهم ... بين المحلّة والقباب البيض
من كلّ محض الجاهلية معرق ... في الخرّميّة بالعدا عرّيض
وسموا الأكفّ بخضرة فكأنما ... غرسوا بها الريحان في الإغريض
ومن خطّه لأبي الحسن ابن سكرة الهاشمي من قصيدة إلى والدي وعمي أبي العلاء رحمهما الله:
إيمنوا يا بني هلال جميعا ... نوب الدهر والزمان المعاند
وارتقوا كيف شئتم في المعالي ... وأذلّوا وأهبطوا كلّ حاسد
لكم في أبي العلاء علو ... وصعود ببدره التمّ صاعد
زاد في عزكم وما زال منكم ... كلّ يوم يزيد في الصّيد واحد
وكتب من الحبس إلى ابنه المحسّن وهو أكثر من هذا في ترجمة أبيه [2] :
كتبت أقيك السوء من مجلس ضنك ... وعين عدوّي رحمة منه لي تبكي
وقد ملكتني كفّ فظّ مسلّط ... قليل التقى ضار على الفتك والإفك
صليت بنار الهمّ فازددت صفوة ... كذا الذهب الابريز يصفو على السبك
__________
[1] لم ترد في ديوانه (ط. القدسي) .
[2] اليتيمة 2: 294.(1/156)
وكتب إلى صديق له من الحبس [1] :
نفسي فداؤك غير معتدّ بها ... إذ قد مللت حياتها وبقاءها
ولو أن لي مالا سواها لم أكن ... أرضى لنفسك أن تكون إزاءها
لكن صغرت فلم أجد إلا التي ... قد آن لي أن استطيل ذماءها
وإذا شكرت لمن فداك فإنني ... لك شاكر أن قد قبلت فداءها
وكأنني المفديّ حين أرحتني ... من نائبات ما أطيق لقاءها
وقال في الحبس [2] :
إذا لم يكن للمرء بد من الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد
وأصعبه ما جاءه وهو راتع ... تطيف به اللذات والحظّ مسعد
فان أك شرّ العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد
وسيان يوما شقوة وسعادة ... إذا كان غبا واحدا لهما الغد
كان [3] أبو الحسن محمد بن عبد الله بن سكرة ملازما لأبي إسحاق، فتأخر عنه فكتب إليه أبو إسحاق يتعرف خبره ويستبطىء حضوره، فأجابه:
لست ممن يخاف منك حؤولا ... فألاقيك بكرة وأصيلا
عزّ لقياي أنّ عندي نبيذا ... فإذا ما فني أتيت ذليلا
وقال في الشيب [4] :
يقول الناس لي في الشيب عزّ ... يزيد به جلال المرء ضعفا
ولولا أنه ذلّ وهون ... لما احتكم المزّين فيه نتفا
أخذه من ابن الرومي [5] :
كفاك من ذلتي للشيب حين أتى ... أني توليت نتفا لحيتي بيدي
__________
[1] المصدر السابق.
[2] اليتيمة 2: 296.
[3] هذه الفقرة من المختصر.
[4] اليتيمة 2: 299.
[5] البيت في اليتيمة 2: 299؛ وهو في ديوان ابن الرومي 2: 806.(1/157)
وله أيضا [1] :
وجع المفاصل وهو أى ... سر ما لقيت من الأذى
جعل الذي استحسنته ... واليأس من حظي كذا
والعمر مثل الكاس ير ... سب في أواخرها القذى
حدّث الرئيس أبو الحسن هلال قال: قلت لجدّي أبي إسحاق- تجاوز الله عنه- وهو يشكو زمانه: يا سيدي ما نحن بحمد الله تعالى إلا في خير وعافية، ونعمة كافية، فما معنى هذه الشكوى التي تواصلها، ويضيق صدرك بها، ويتنغّص عيشك معها؟ فضحك وقال: يا بني نحن كدود العسل قد نقلنا منه إلى الخل، فهوذا نحسّ بحموضته ونأسى ونحزن على ما كنّا فيه من العسل ولذته، وأنتم كدود الخلّ ما ذقتم حلاوة غيره، ولا رأيتم طلاوة ضدّه.
ولأبي إسحاق من التصانيف: كتاب رسائله وهو مشهور نحو ألف ورقة. كتاب التاجي في أخبار آل بويه. كتاب أخبار أهله. كتاب اختيار شعر المهلبي. كتاب ديوان شعره.
- 42-
إبراهيم بن علي الحصري القيرواني الأنصاري
: قال ابن رشيق في كتاب «الأنموذج» مات بالمنصورة من أرض القيروان سنة ثلاث عشرة وأربعمائة [2] وقد جاوز الأشد، قال: وكان شاعرا نقادا عالما بتنزيل الكلام وتفصيل النظام، يحبّ المجانسة
__________
[42]- ترجمة الحصري في الذخيرة لابن بسام 4/2: 584 وابن خلكان 1: 54 والوافي 6: 61 ومسالك الابصار 11: 309 (عن الأنموذج) وأنموذج الزمان: 45 وعنوان الأريب 1: 43.
[1] اليتيمة 2: 300.
[2] كذا ورد هنا نقلا عن الأنموذج ورجّحه ابن خلكان من غير تعليل؛ وقال ابن بسام إنه توفي سنة 453 ونقل الصفدي عن كتاب الجنان لابن الزبير أن الحصري ألف زهر الآداب سنة 450 فإن صحّ ذلك، كان ما ذكره ابن بسام في تاريخ وفاته هو الصواب.(1/158)
والمطابقة، ويرغب في الاستعارة تشبها بأبي تمام في اشعاره وتتبعا لآثاره، وعنده من الطبع ما لو أرسله على سجيته لجرى جري الماء، ورقّ رقة الهواء، كقوله في بعض مقطعاته [1] :
يا هل بكيت كما بكت ... ورق الحمائم في الغصون
هتفت سحيرا والربى ... للقطر رافعة العيون
فكأنها صاغت على ... شجوي شجى تلك اللحون
ذكّرنني عهدا مضى ... للأنس منقطع القرين
فتصرمت أيامه ... وكأنها رجع الجفون
وله في الغزل:
كتمت هواك حتى عيل صبري ... وأدنتني مكاتمتي لرمسي
ولم أقدر على إخفاء حال ... يحول بها الأسى دون التأسي
وحبك مالك لحظي ولفظي ... وإظهاري وإضماري وحسي
فإن أنطق ففيك جميع نطقي ... وإن أسكت ففيك حديث نفسي
وقوله أيضا [2] :
إني أحبّك حبا ليس يبلغه ... همّي ولا ينتهي فهمي إلى صفته
أقصى نهاية علمي فيه معرفتي ... بالعجز مني عن إدراك معرفته
وله تآليف [3] جيدة في ملح الشعر والخبر، قال ابن رشيق [4] : وقد كان أخذ في عمل طبقات الشعراء على رتب الأسنان وكنت أصغر القوم سنا فصنعت:
رفقا أبا إسحاق بالعالم ... حصلت في أضيق من خاتم
لو كان بالسّن تنال العلا [5] ... فضّل إبليس على آدم
__________
[1] نقله الصفدي في الوافي 6: 62 وهو في المسالك 11: 311 والأنموذج: 46 وسرور النفس: 99.
[2] ورد في الذخيرة والوافي والأنموذج.
[3] ر: تصانيف.
[4] ورد في الوافي؛ وانظر ديوان ابن رشيق: 174 وتمام المتون: 117.
[5] م: فضل السبق (السنّ) مندوحة.(1/159)
فبلغه البيتان فأمسك عنه واعتذر منه، ومات وقد سدّ عليه باب الفكرة فيه ولم يصنع شيئا. والذي أعرف أنا من تصانيفه: كتاب زهر الآداب. وكتاب النورين [1] اختصره منها، وهما يتضمنان أخبارا وأشعارا حسانا. وكتاب المصون والدر المكنون. وله عندي كتاب الجواهر في الملح والنوادر، كتبه عبد القادر البغدادي [2] .
- 43-
إبراهيم بن يحيى بن المبارك بن المغيرة
اليزيدي أبو إسحاق بن أبي محمد العدوي: قد ذكر السبب الذي من أجله سمي باليزيدي في خبر أبيه، وكان إبراهيم عالما بالأدب شاعرا مجيدا نادم الخلفاء، وقدم دمشق صحبة المأمون، كذا ذكر ابن عساكر في «تاريخ دمشق» . مات فيما ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في «كتاب المنتظم» سنة خمس وعشرين ومائتين.
قال ابن عساكر: وكان قد سمع أباه أبا محمد اليزيدي وأبا زيد سعيد بن أوس الأنصاري والأصمعي، روى عنه أخوه أبو علي إسماعيل بن يحيى بن المبارك وابنا أخيه أحمد وعبيد الله ابنا محمد بن أبي محمد.
قال الخطيب: وهو بصريّ سكن بغداد، وكان ذا قدر وفضل وحظّ وافر من الأدب، وله كتاب مصنّف يفتخر به اليزيديون وهو «ما اتفق لفظه واختلف معناه» نحو من سبعمائة ورقة، رواه عنه ابن أخيه عبيد الله بن محمد بن أبي محمد، وذكر إبراهيم أنه بدأ بعمله وهو ابن سبع عشرة سنة، ولم يزل يعمله إلى أن أتت عليه ستون سنة. وله كتاب مصادر القرآن، قال ابن النديم [3] : بلغ فيه إلى سورة الحديد
__________
[43]- ترجمة إبراهيم اليزيدي في تاريخ بغداد 6: 209 والأغاني 20: 217 ونور القبس: 89 ومصورة ابن عساكر 2: 567 وتهذيبه 2: 311 وإنباه الرواة 1: 189 ونزهة الألباء: 114 وطبقات الجزري 1: 29 والوافي 6: 165 وبغية الوعاة 1: 434. والمقفى 1: 332.
[1] هو نور الظرف ونور الطرف.
[2] هذه العبارة تستوقف النظر. فإذا كان عبد القادر هو صاحب الخزانة فهي جملة مزيدة ألحقها بعض المعلقين. وقد طبع الكتاب باسم «جمع الجواهر» .
[3] الفهرست: 56.(1/160)
ومات. وكتاب في بناء الكعبة وأخبارها. وكتاب النقط والشكل. وله كتاب المقصور والممدود.
حدث ابن عساكر [1] في تاريخه بإسناد رفعه إلى إبراهيم بن أبي أحمد عن أبيه قال: كنت مع أبي عمرو بن العلاء في مجلس إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام، فسأل عن رجل من أصحابه فقده، فقال لبعض من حضره: اذهب فاسأل عنه، فرجع فقال: تركته يريد أن يموت، فضحك منه بعض القوم وقال: في الدنيا إنسان يريد أن يموت؟! فقال إبراهيم: لقد ضحكتم منها عربية إذ يريد هاهنا بمعنى يكاد قال الله تعالى: يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ
(الكهف: 77) قال: فقال أبو عمرو بن العلاء: لا نزال بخير مادام فينا مثلك.
وحدث أيضا قال، قال إبراهيم اليزيدي: كنت يوما عند المأمون وليس معنا إلا المعتصم، قال: فذكر كلاما فلم أحتمله منه- يعني من المعتصم- وأجبته، قال:
فأخفى ذلك المأمون ولم يظهره ذلك الإظهار، فلما صرت من غد إلى المأمون كما كنت أصير قال لي الحاجب: أمرت أن لا آذن لك، فدعوت بدواة وقرطاس فكتبت [2] :
أنا المذنب الخطّاء والعفو واسع ... ولو لم يكن ذنب لما عرف العفو
سكرت فأبدت منّي الكاس بعض ما ... كرهت وما إن يستوي السكر والصحو
ولا سيما إذ كنت عند خليفة ... وفي مجلس ما إن يليق به اللغو
ولولا حميّا الكاس كان احتمال ما ... بدهت به لا شكّ فيه هو السرو
تنصّلت من ذنبي تنصّل ضارع ... إلى من لديه [3] يغفر العمد والسّهو
فإن تعف عني ألف [4] خطوي واسعا ... وإلا يكن عفو فقد قصر الخطو
__________
[1] نقل السيوطي هذه القصة في الأشباه والنظائر 6: 189 عن ياقوت.
[2] الأبيات في الأغاني وابن عساكر والوافي والإنباه ونور القبس والمقفى.
[3] ابن عساكر: إليه.
[4] م ر: تلف.(1/161)
قال: فأدخلها الحاجب ثم خرج إليّ فأدخلني، فمدّ المأمون باعيه فأكببت على يديه أقبلهما [1] فضمني إليه وأجلسني.
قال المرزباني: إن المأمون وقّع على ظهر هذه الأبيات:
إنما مجلس الندامى بساط ... للمودات بينهم وضعوه
فإذا ما انتهوا إلى ما أرادوا ... من حديث ولذة رفعوه
وحدث أبو الفرج الأصبهاني في كتابه [2] ورفعه إلى إبراهيم بن اليزيدي قال:
كنت مع المأمون في بلد الروم، فبينا أنا أسير في ليلة مظلمة شاتية ذات غيم وريح وإلى جانبي قبة إذ برقت بارقة [3] فإذا في القبة عريب المغنية جارية المأمون، فقالت:
إبراهيم بن اليزيدي؟ فقلت: لبيك، فقالت: قل في هذا البرق أبياتا أغني فيها، فقلت:
ماذا بقلبي من أليم الخفق ... إذا رأيت لمعان البرق
من قبل الأردنّ أو دمشق ... لأنّ من أهوى بذاك الأفق
فارقته وهو أعزّ الخلق ... عليّ والزّور خلاف الحق
ذاك الذي يملك منّي رقّي ... ولست أبغي ما حييت عتقي
فتنفّست نفسا ظننت أنه قد قطع حيازيمها، فقلت: ويحك على من هذا؟! فضحكت وقالت: على الوطن، فقلت: هيهات ليس هذا كله للوطن، فقالت:
ويحك أفتراك ظننت أنك تستفزني؟ والله لقد نظرت نظرة مريبة في مجلس فادعاها أكثر من ثلاثين رئيسا، والله ما علم أحد منهم لمن كانت إلى هذا الوقت.
ووجدت في بعض الكتب أن إبراهيم اليزيديّ دخل يوما على المأمون وعنده يحيى بن أكثم القاضي، فأقبل يحيى على إبراهيم يمازحه وهم على الشراب، فقال له فيما قال: ما بال المعلمين ينيكون الصبيان؟ فرفع إبراهيم رأسه فإذا المأمون يحرّض
__________
[1] م وابن عساكر: فقبلتهما، وما هنا رواية ر.
[2] الأغاني 22: 217 ونقله ابن عساكر. والمقريزي.
[3] ابن عساكر: برقة.(1/162)
يحيى على العبث به، فغاظ ذلك إبراهيم، فقال: أمير المؤمنين أعلم خلق الله بهذا، فإن أبي أدبه، فقام المأمون من مجلسه مغضبا، ورفعت الملاهي وكلّ ما كان بحضرته. فأقبل يحيى بن أكثم على إبراهيم فقال له: أتدري ما خرج من رأسك؟
إني لأرى هذه الكلمة سببا في انقراضكم يا آل اليزيدي، قال إبراهيم: فزال عني السكر وسألت من أحضر لي دواة ورقعة فأحضرهما وكتبت إليه معتذرا بقولي:
أنا المذنب الخطّاء والعفو واسع
الأبيات المتقدمة، قال: فرضي وعفا عنه.
قال إبراهيم [1] : وكنت يوما بحضرة المأمون فقالت لي عريب على سبيل الولع: يا سلعوس، قال: وكان من يريد العبث بإبراهيم لقبه سلعوس، قال إبراهيم: فقلت لها:
قل لعريب لا تكوني مسلعسه ... وكوني كتتريف وكوني كمؤنسه
هذه أسماء جواري المأمون، قال: فقال المأمون على الفور:
فإن كثرت منك الأقاويل لم يكن ... هنالك شكّ أنّ ذلك وسوسه
فقال إبراهيم: كذا والله يا أمير المؤمنين قدّرت، وإياه أردت، وعجبت من فطنة المأمون وذهنه.
- 44-
الأثرم الفابجاني الأصبهاني
: ذكره في «كتاب أصبهان» فقال: كان أحد
__________
[44]- ورد في الفهرست: 62 من اسمه علي بن المغيرة الاثرم، وكنيته أبو الحسن، وقال فيه: روى عن جماعة من العلماء وعن فصحاء الأعراب وروى كتب أبي عبيدة والأصمعي؛ وقد وردت ترجمته في مصادر أخرى؛ وهذا الأثرم الاصبهاني- في تقديري- شخص آخر، لأن المؤلف نفسه سيترجم لعلي بن المغيرة في العليين (رقم: 838) ولهذا أرى أن مرغوليوث قد وهم في الاشارة إلى عليّ هذا وبذلك ضلّل ناشري الطبعة المصرية، وفابجان من قرى أصبهان.
[1] الأغاني 22: 225.(1/163)
علماء اللغة وممن جال بلدان العراق يجمع اللغة والشعر وتصحيحهما من علمائهما.
- 45-
أحمد بن أبان بن سيّد اللغوي الأندلسي
: أخذ عن أبي علي القالي وغيره من علماء بلاده، وكان عالما حاذقا أديبا، مات فيما ذكره أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال القرطبي في تاريخه [1] في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة وكان يعرف بصاحب الشرطة.
قال أبو نصر الحميدي في آخر كتابه [2] في باب من يعرف بأحد آبائه: ابن سيد إمام في اللغة والعربية، وكان في أيام الحكم المستنصر، وهو مصنف كتاب العالم في اللغة في نحو مائة مجلد، مرتب على الأجناس، بدأ بالفلك وختم بالذرة. وله في العربية كتاب العالم والمتعلم على المسألة والجواب، وكتاب شرح كتاب الأخفش، وله غير ذلك. ذكره أبو محمد علي بن أحمد [3] وأثنى عليه ولم يسمّه لنا، ولعله أحمد بن أبان بن سيد المذكور في بابه.
- 46-
أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن داود بن حمدون
النديم أبو عبد الله:
__________
[45]- ترجمة ابن سيد في إنباه الرواة 1: 30 والوافي 6: 198 وبغية الوعاة 1: 291 (وانظر الاشارات التالية إلى المصادر التي ينقل عنها المؤلف) . ولم ترد الترجمة في المختصر.
[46]- ترجمة ابن حمدون النديم في إنباه الرواة 1: 25 والوافي 6: 209 وبغية الوعاة 1: 291.
[1] الصلة: 7.
[2] جذوة المقتبس: 11، 381.
[3] هو ابن حزم الظاهري أستاذ الحميدي وعنه كثير من مرويات الجذوة؛ وقد جرى ذكر ابن حزم لابن سيد في رسالته في فضل الأندلس (رسائل ابن حزم 2: 182) حيث قال ذاكرا أهم كتب اللغة التي ألفها الأندلسيون، «ومنها كتاب أحمد بن أبان بن سيد في اللغة المعروف بكتاب العالم نحو مائة سفر على الأجناس في غاية الايعاب بدأ بالفلك وختم بالذرة» .(1/164)
ذكره أبو جعفر الطوسي في «مصنفي الإمامية» [1] وقال: هو شيخ أهل اللغة ووجههم، وأستاذ أبي العباس ثعلب، قرأ عليه قبل ابن الأعرابي وتخرّج به مديدة [2] ، وكان خصيصا بأبي محمد الحسن بن علي [3] عليهما السلام وأبي الحسن قبله، وله معه مسائل وأخبار.
وله كتب منها: كتاب أسماء الجبال والمياه والأودية. كتاب بني مرة بن عوف.
كتاب بني نمر بن قاسط. كتاب بني عقيل. كتاب بني عبد الله بن غطفان. كتاب طيء. كتاب شعر العجير السلولي وصنعته. كتاب شعر ثابت قطنة.
قال الشابشتي [4] وكان خصيصا بالمتوكل ونديما له، وأنكر منه المتوكل ما أوجب نفيه عن بغداد ثم قطع أذنه، وكان السبب في ذلك أن الفتح بن خاقان كان يعشق شاهك خادم المتوكل، واشتهر الأمر فيه حتى بلغه، وله فيه أشعار ذكرت بعضها في ترجمة الفتح، وكان أبو عبد الله يسعى فيما يحبّه الفتح، ونمي الخبر إلى المتوكل فاستدعى أبا عبد الله وقال له: إنما أردتك وأدنيتك لتنادمني ليس لتقود على غلماني، فأنكر ذلك وحلف يمينا حنث فيها، فطلّق من كانت حرة من نسائه، وأعتق من كان مملوكا ولزمه حجّ ثلاثين سنة فكان يحج في كلّ عام. قال: فأمر المتوكل بنفيه إلى تكريت فأقام فيها أياما، ثم جاءه زرافة [5] في الليل على البريد فبلّغه ذلك، فظنّ أن المتوكل لما شرب بالليل وسكر أمر بقتله، فاستسلم لأمر الله، فلما دخل إليه قال له: قد جئتك في شيء ما كنت أحبّ أن أخرج [6] في مثله، قال: وما هو؟ قال: أمير المؤمنين أمر بقطع أذنك، وقال قل له: لست أعاملك إلا كما يعامل الفتيان، فرأى ذلك هينا في جنب ما كان توهّمه من إذهاب مهجته [7] فقطع غضروف أذنه من خارج
__________
[1] فهرس الطوسي: 20 (كلكتا) 55 (بيروت) .
[2] كذا في الوافي، وفي م والطوسي: وتخرج من يده.
[3] يعني به الحسن العسكري.
[4] قصة نفي المتوكل له تجدها في الديارات: 6 وما بعدها.
[5] زرافة: اسم سياف المتوكل.
[6] ر والديارات: أجيء.
[7] الديارات: فرأى ذلك أسهل مما ظنه من القتل.(1/165)
ولم يستقصه، وجعله في كافور كان معه وانصرف به، وبقي منفيا مدة، ثم أحدر إلى بغداد فأقام بمنزله مدة. قال أبو عبد الله: فلقيت إسحاق بن إبراهيم الموصلي ثمّ لما كفّ بصره، فسألني عن أخبار الناس والسلطان فأخبرته، ثم شكوت إليه غمي بقطع أذني، فجعل يسلّيني ويعزيني، ثم قال لي: من المتقدم اليوم عند أمير المؤمنين الخاصّ من ندمائه؟ قلت: محمد بن عمر البازيار، قال: من هذا الرجل وما مقدار علمه وأدبه؟ فقلت: أما أدبه فلا أدري، ولكني أخبرك بما سمعت منه منذ قريب:
حضرنا الدار يوم عقد المتوكل لأولاده الثلاثة، فدخل مروان بن أبي الجنوب بن أبي حفصة فأنشده قصيدته التي يقول فيها [1] :
بيضاء في وجناتها ... ورد فكيف لنا بشمّه
فسرّ المتوكل بذلك سرورا كثيرا شديدا، وأمر فنثر عليه بدرة دنانير وأن تلقط وتطرح [2] في حجره، وأمره بالجلوس وعقد له على اليمامة والبحرين، فقال: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم ولا أرى، أبقاك الله ما دامت السماوات والأرض، فقال محمد بن عمر: هذا بعد عمر طويل إن شاء الله [3] . قال له: فما بلغك من أدبه؟
فقال: أكثر ما يقول للخليفة أبقاك الله يا أمير المؤمنين إلى يوم القيامة وبعد القيامة بشيء كثير. فقال إسحاق: ويلك جزعت على أذنك وغمّك قطعها، لم؟ حتى تسمع مثل هذا الكلام؟ ثم قال: لو أن لك مكّوك آذان أيش كان ينفعك مع هؤلاء؟! قال: ثم أعاده المتوكل إلى خدمته، وكان إذا دعا به قال له: يا عبيد على جهة المزاح. وقال له يوما: هل لك في جارية أهبها لك فأكبر ذلك وأنكره، فوهب له جارية يقال لها «صاحب» من جواريه حسنة كاملة إلا أن بعض الخدم ردّ الطشت [4] على فمها وقد أرادت أن ترميه فصدع ثنيّتها فاسودّت فشانها ذلك عنده، وحمل كلّ ما كان لها وكان شيئا كثيرا عظيما، فلما مات أبو عبد الله تزوجت «صاحب» بعض
__________
[1] هذا البيت مما فات جامع ديوانه.
[2] ر: وتترك.
[3] زاد هنا في م: وقبل.
[4] الديارات: السبطانة، وهي من آلات الصيد.(1/166)
العلويين، قال علي بن يحيى بن المنجم فرأيته في النوم وهو يقول:
أيا عليّ ما ترى العجائبا ... أصبح جسمي في التراب غائبا
واستبدلت صاحب بعدي صاحبا
ومن شعر أبي عبد الله يعاتب فيه علي بن يحيى [1] :
من عذيري من أبي حسن ... حين يجفوني ويصرمني
كان لي خلا وكنت له ... كامتزاج الروح بالبدن
فوشى واش فغيّره ... وعليه كان يحسدني
إنما يزداد معرفة ... بودادي حين يفقدني
قال: واتصل بنجاح بن سلمة [2] أن أبا عبد الله ابن حمدون يذكره بحضرة المتوكل ويتنادر به، فلقيه نجاح يوما فقال له: يا أبا عبد الله قد بلغني ذكرك لي بغير الجميل في حضرة أمير المؤمنين، أتحبّ أن أنهي إليه قولك إذا خلوت: «أتراني أحبه وقد فعل بي ما فعل؟! والله ما وضعت يدي على أذني الا تجدّدت له عندي بغضة» ، فقال ابن حمدون: الطلاق له لازم إن كان قال هذا قط، وامرأته طالق إن ذكره بغير ما يحبه أبدا.
وكان [3] أبوه إبراهيم- وأظنّ أنه الملقب بحمدون- ينادم المعتصم ثم الواثق بعده، وكان يعابث المتوكل في أيام أخيه الواثق، وجاءه مرّة بحيّة وأخرج رأسها من كمه تعريضا بأمّه شجاع، وكان ذلك يعجب الواثق. ولما مات الواثق نادم حمدون المتوكل، فلما كان في بعض الأيام أمر المتوكل باحضار «فريدة» جارية أخيه الواثق، فأحضرت مكرهة ودفع إليها عود فغنّت غناء كالنّدبة، فغضب المتوكل وأمرها أن تغني غناء، فغنّت بتحزّن وشجى، فزاد ذلك في طيب غنائها، فوجم حمدون للرقة التي تداخلته، فغضب المتوكل ورأى أنه فعل ذلك بسبب أخيه الواثق حزنا عليه، وكان
__________
[1] ورد الشعر في الديارات.
[2] نجاح أحد كتاب الدولة العباسية، قتل ستة 245 (انظر فهرست تاريخ الطبري) والنصّ في الديارات.
[3] النقل عن الديارات: 11.(1/167)
يبغض كلّ من مال إليه، فأمر بنفيه إلى السند وضربه ثلاثمائة سوط، فسأل أن يكون الضرب من فوق الثياب لضعفه عن ذلك، فأجيب إلى ذلك، وأقام منفيا ثلاث سنين، وتزوج المتوكل «فريدة» بعد ذلك فولدت له ابنه أبا الحسن.
وحدث حمدون بن إسماعيل قال: دعاني المعتصم يوما فدخلت إليه وهو في بعض مجالسه، وإلى جنبه باب صغير، فحادثته مليا إلى أن رأيت الباب قد حرّك وخرجت منه جارية بيضاء مقدودة حسنة الوجه، وبيدها رطل وعلى عنقها منديل، فأخذ الرطل من يدها فشربه، ثم قال: اخرج يا حمدون، فخرجت فكنت في دهليز الحجرة، فلم ألبث أن دعاني، فدخلت وهو جالس على حاله، فحادثته مليا ثم حرك ذلك الباب فخرجت جارية كأحسن ما يكون من النساء سمراء رقيقة اللون بيدها رطل، فأخذه وشربه، وقال: ارجع إلى مكانك، فخرجت فلبثت ساعة هناك، ثم دعاني فأتيته وحادثته ساعة، وحرك الباب فخرجت أحسن الثلاث بيدها رطل ومعها منديل، فأخذ الرطل فشربه، وقال: ارجع إلى مكانك، فخرجت فلبثت ساعة، ثم دعاني فدخلت فقال لي: أتعرف هؤلاء؟ قلت: معاذ الله أن أعرف أحدا ممن هو داخل دار أمير المؤمنين، فقال: إحداهن ابنة بابك الخرّمي، والأخرى ابنة المازيار، والثالثة ابنة بطريق عمورية، افترعتهن الساعة، وهذا نهاية الملك يا حمدون.
وأما أبو محمد ابن حمدون فذكر جحظة أن مولده في سنة سبع وثلاثين ومائتين، وتوفي ببغداد في رمضان سنة تسع وثلاثمائة، ونادم المعتمد وخصّ به وكان من ثقاته المتقدمين عنده، وله معه أخبار. وأما أبو العنبس بن أبي عبد الله بن حمدون أحد المشهورين بجودة الغناء والصنعة فيه، وابنه إبراهيم بن أبي العنبس أيضا من المجيدين في الغناء وشجاء الصوت، فهؤلاء المعروفون بمنادمة الخلفاء من بني حمدون.
وحدث أحمد بن أبي طاهر أن ابن حمدون النديم حدثه أن الواثق بالله بسط جلّاسه وأمرهم أن لا ينقبضوا في مجلسه وأن يجروا النادرة على ما اتفقت عليه غير محتشمين، وان اتفق وقوعها عليه احتمل، قال: فغبرنا على ذلك مدة، وكان على إحدى عيني الواثق نكتة بياض، فلما كان في بعض الأيام أنشد الواثق أبيات أبي حية النميري:(1/168)
نظرت كأني من وراء زجاجة ... إلى الدار من فرط [1] الصبابة أنظر
فقلت: وإلى غير الدار يا أمير المؤمنين، فتبسم ثم قال لوزيره: قد قابلني هذا الرجل بما لا أطيق أن أنظر إليه بعدها فانظر كم مبلغ جاريه وجرايته وأرزاقه وصلاته فاجمعها، وأقطعه بها إقطاعا بالأهواز، وأخرجه إليها ليبعد عن ناظري، ففعل.
قال: وأخرجت إليها وتبيّغ [2] بي الدم، فالتمست حجاما كان في خدمتي، فقيل لم يخرج في الصحبة لعلّة لحقته، فقلت: التمسوا حجاما نظيفا حاذقا وتقدموا إليه بقلّة الكلام وترك الانبساط، فأتوني بشيخ حسن على غاية النظافة وطيب الريح، فجلس بين يديّ وأخذ الغلام المرآة، فلما أخذ في إصلاح وجهي قلت له: اترك في هذا الموضع واحذف في هذا الموضع وعدّل هذه الشعرات وسرّح هذا المكان، وأطلت الكلام وهو ساكت، فلما قعد للحجامة قلت له: اشرط في الجانب الأيمن اثنتي عشرة شرطة، وفي الجانب الأيسر أربع عشرة شرطة، فإن الدم في الجانب الأيسر أقلّ منه في الأيمن، لأن الكبد في الأيمن والحرارة هناك أوفر والدم أغزر، فإذا زدت في شرط الأيمن اعتدل خروج الدم من الجانبين، ففعل وهو مع ذلك ساكت، فعجبت من صمته وقلت للغلام: ادفع إليه دينارا، فدفعه إليه فردّه، فقلت: استقلّه ولعمري إن العيون إلى مثلي ممتدة والطمع مستحكم في نديم الخليفة وصاحب إقطاعه، أعطه دينارا آخر، ففعل فردّهما وأبى أن يأخذهما، فاغتظت وقلت: قبحك الله أنت حجّام سواد، وأكثر من يجلس بين يديك يدفع لك نصف درهم، وأنت تستقلّ ما دفعت اليك؟! فقال: وحقك ما رددتها استقلالا، ولكن نحن أهل صناعة واحدة، وأنت أحذق منّي وما كان الله ليراني وأنا آخذ من أهل صناعتي أجرة أبدا، فأخجلني وانصرف ولم يأخذ شيئا. فلما كان في العام القابل خرجت لمثل ما خرجت إليه في العام الماضي واحتجت إلى نقص الدم، فقلت لغلامي: اذهب فجئنا بذلك الحجام فقد عرف الخدمة، وقد انصرف تلك الدفعة ولم يأخذ شيئا، ولعله أيضا قد نسيها فيقع برّنا منه على حاجة منه إليه، قال: فلما جلس بين يديّ أصلح وجهي الإصلاح الذي كنت أوقفته عليه وحجمني أحسن حجامة فلما فرغ قلت: سبحان الله
__________
[1] م: ماء.
[2] تبيغ به الدم وتبوغ: هاج.(1/169)
أنت صانع سواد، فمن أين لك هذا الحذق بهذه الصنعة؟ فقال: وحقّك ما كنت أحسن من هذا شيئا، ولكنّ حجام الخليفة اجتاز بنا بهذا الموضع في العام الماضي فتعلمت منه هذا، فضحكت منه وأمرت له بثلاثين دينارا مع ما تمّ له من معاريض كلامه في الدفعتين جميعا.
وأنشد جحظة في أماليه لنفسه يرثي حمدون النديم، كذا قال ولم يعينه:
أيعذب من بعد ابن حمدون مشرب ... لقد كدّرت بعد الصفاء المشارب
أصبنا به فاستأسد الضّبع بعده ... ودبّت إلينا من أناس عقارب
وقطّب وجه الدهر بعد وفاته ... فمن أيّ وجه جئته فهو قاطب
بمن ألج الباب السديد حجابه ... إذا ازدحمت يوما عليه المواكب
بمن أبلغ الغايات [1] أم من بجاهه ... أنال وأحوي كلّ ما أنا طالب
فأصبحت حلف البيت خلف جداره ... وبالأمر مني تستعيذ النجائب
وقال جحظة في أبي جعفر ابن حمدون، ولا أعرفه إلا أنه كذا أورده في أماليه:
أبا جعفر لا تنال العلا ... بتيهك في المجلس الحاشد
ولا بغلام كبدر التمام ... ركّب في غصن مائد
ولا بازيار إذا ما أتاك ... يخطر بالزّرق الصائد [2]
فكيف وما لك من شاكر ... وكيف وما لك من حامد
أتذكر إذ أنت تحت الزمان ... وحيدا بلا درهم واحد
وتحدّث جحظة في أماليه قال، قال لي أبو عبد الله ابن حمدون: حسبت ما وصلني به المتوكل في مدة خلافته وهي أربع عشر سنة وشهور فوجدته ثلاثمائة وستين ألف دينار، ونظرت فيما وصلني به المستعين في مدة خلافته وهي ثلاث سنين ونيف فكان أكثر مما وصلني به المتوكل، ثم خلع المستعين وحدر إلى واسط ومنع من كلّ شيء الا القوت، فاشتهى نبيذا فخرجت دايته إلى أهل واسط فتشكّت ذلك اليهم،
__________
[1] الوافي: العلياء.
[2] م: بالذر والصائد.(1/170)
فقال لها رجل من التجار: له عندي كلّ يوم خمسة أرطال نبيذ دوشاب، فكانت تمضي إليه في كلّ يوم فتجيئه به سرا إلى أن حمل من واسط فقتل بالقاطول.
- 47-
أحمد بن إبراهيم بن أبي عاصم اللؤلؤي
[قال] أبو بكر الزبيدي: ومن نحاة القيروان ابن أبي عاصم وكان من العلماء النقاد في العربية والغريب والنحو والحفظ والقيام بشرح أكثر دواوين العرب. مات فيما ذكره الزبيدي سنة ثماني عشرة وثلاثمائة وله ست وأربعون سنة. وكان كثير الملازمة لأبي محمد المكفوف النحوي [1] وعنه أخذ، وكان صادقا في علمه وبيانه لما يسأل عنه [2] ، وله تأليف في الضاد والظاء حسن بين [3] ، وكان شاعرا مجيدا، وكان أبوه موسرا فلم يكن يمدح أحدا لمجازاة، وترك الشعر في آخر عمره وأقبل على طلب الحديث والفقه، وهو القائل:
أيا طلل الحيّ الذين تحملوا ... بوادي الغضا كيف الأحبّة والحال
وكيف قضيب البان والقمر الذي ... بوجنته ماء الملاحة سيّال [4]
كأن لم تدر ما بيننا ذهبية ... عبيريّة الأنفاس عذراء سلسال
ولم أتوسّد ناعما بطن كفّه ... ولم يحو جسمينا مع الليل سربال
فبانت به عنّي ولم أدر بغتة ... طوارق صرف البين والبين مغتال [5]
فلما استقلّت ظعنهم وحدوجهم ... دعوت ودمع العين في الخدّ هطال
__________
[47]- ترجمة اللؤلؤي في إنباه الرواة 1: 27 والوافي 6: 198 وبغية الوعاة 1: 293، وطبقات الزبيدي: 243 وذكره باسم «أبو بكر بن إبراهيم بن أبي عاصم» .
[1] يعني عبد الله بن محمود المكفوف، وقد تقدم ذكره.
[2] الزبيدي: حسن البيان لما يسأل عنه.
[3] الزبيدي: حسنه وبينه.
[4] الزبيدي: يختال.
[5] الزبيدي: قتّال.(1/171)
«حرمت مناي منك [1] إن كان ذا الذي ... تقوّله الواشون عني كما قالوا»
وهذا البيت الأخير تضمين من أبيات لها قصة أنا ذاكرها: ذكر أبو الفرج علي بن الحسين في كتابه [2] قال: كان عبد الله بن محمد القاضي المعروف بالخلنجي ابن أخت علويه المغني، وكان تيّاها صلفا، فتقلّد في خلافة الأمين قضاء الشرقية، وكان يجلس إلى أسطوانة من أساطين الجامع فيستند إليها بجميع بدنه ولا يتحرك، فإذا تقدّم إليه الخصمان أقبل عليهما بجميع جسده، وترك الاستناد حتى يفصل بينهما ثم يعود لحاله، وعمد بعض المجّان إلى رقعة من الرقاع التي تكتب فيها الدعاوى فألصقها في موضع دنيّته بالدّبق، فلما جلس الخلنجي إلى السارية وتمكّن منها وتقدم إليه الخصوم وأقبل إليهم بجميع جسده كما كان يفعل انكشف رأسه وبقيت الدنيّة موضعها مصلوبة ملتصقة، فقام الخلنجي مغضبا وعلم أنها حيلة عليه وقعت، فغطّى رأسه بطيلسانه وتركها مكانها حتى جاء بعض أصحابه فأخذها، فقال بعض شعراء عصره:
إن الخلنجيّ من تتايهه ... أثقل باد لنا بطلعته
ما تيه ذي نخوة [3] مناسبه ... بين أخاوينه وقصعته
يصالح الخصم من يخاصمه ... خوفا من الجور في قضيته
لو لم تدبّقه كفّ قانصه ... لطار فيها على رعيته
واشتهرت الأبيات والقصة ببغداد، وعمل لها علويه حكاية أعطاها الزفّانين والمخنثين فأخرجوه فيها، وكان علويه يعاديه لمنازعة كانت بينهما ففضحه، واستعفى الخلنجي من القضاء ببغداد، وسأل أن يولّى بعض الكور البعيدة، فولّي جند دمشق أو حمص، فلما ولي المأمون الخلافة غناه علويه بشعر الخلنجي وهو:
برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ... تقوّله الواشون عنّي كما قالوا
__________
[1] الزبيدي: سقيت نجيع السمّ.
[2] انظر الأغاني 11: 318- 320 وبعضه في كتاب بغداد: 152.
[3] الأغاني: ما إن لذي نخوة.(1/172)
ولكنّهم لما رأوك غريّة ... بهجري تساعوا [1] بالنميمة واحتالوا
فقد صرت أذنا للوشاة سميعة ... ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
فقال له المأمون: من يقول هذا الشعر؟ قال: قاضي دمشق، فأمر المأمون بإحضاره فكتب إلى والي دمشق بإحضاره [2] فأشخص، وجلس المأمون للشرب، وأحضر علويه ودعا بالقاضي. فقال له: أنشدني قولك:
برئت من الإسلام إن كان ذا الذي ... تقوّله الواشون عنّي كما قالوا
فقال: يا أمير المؤمنين هذا شيء قلته منذ أربعين سنة وأنا صبي، والذي أكرمك بالخلافة وورّثك ميراث النبوة ما قلت شعرا منذ أكثر من عشرين سنة إلا في زهد أو عتاب صديق، فقال له: اجلس فجلس، فناوله قدحا من نبيذ كان في يده، فقال: يا أمير المؤمنين ما غيّرت الماء بشيء قطّ مما يختلف في تحليله، فقال: لعلك تريد نبيذ التمر أو الزبيب، فقال: لا والله يا أمير المؤمنين ما أعرف شيئا منها، فأخذ القدح من يده وقال: أما والله لو شربت هذا لضربت عنقك، ولقد ظننت أنك صادق في قولك كلّه، ولكن لا يتولى لي [القضاء] أبدا رجل بدأ في قوله بالبراءة من الإسلام، انصرف إلى منزلك، وأمر علويه أن يغير ذلك ويقول:
حرمت مناي منك إن كان ذا الذي
- 48-
أحمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله
بن الحسن الفارسي أبو حامد المقرىء الأديب نزيل نيسابور: جمع في القراءات مصنفات كثيرة. قال الحاكم:
__________
[48]- ترجمته في الوافي 6: 211 (عن ياقوت) .
[1] الأغاني: تواصوا.
[2] الأغاني: باشخاصه.(1/173)
وكان من العباد، أقام في منزل أبي إسحاق المزكي سنين لتأديب أولاده وحفظ سماعاتهم عليهم. سمع في بلده من أصحاب أبي الأشعث وعمر بن شبة وأقرانهم، مات بنيسابور سنة ست وأربعين وثلاثمائة [1] .
قال الحاكم: حدثني أبو حامد الفارسي قال حدثنا أبو الحسين ابن زكريا قال:
كنت عند أبي بكر محمد بن داود بن علي الأصبهاني الفقيه وهو يكتب إلى بعض إخوانه بهذه الأبيات:
جعلت فداك قد طال اشتياقي ... وليس تزيدني إلا مطالا
كتبت إليك أستدعي نوالا ... فلم تكتب إليّ نعم ولا لا
نصحت لكم حذارا أن تعابوا ... فعاد عليّ نصحكم وبالا
سأصبر إن أطعت الصبر حتى ... يملّ الصبر أو تهوى الوصالا
- 49-
أحمد بن إبراهيم بن معلى بن أسد العمّي
أبو بشر: ذكره أبو جعفر الطوسي في «مصنفي الإمامية» قال: والعمّ هو مرة بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة، وهو ممن دخل في تنوخ بالحلف وسكنوا الأهواز، وكان مستملي أبي أحمد الجلودي، وسمع كتبه كلها ورواها، وكان ثقة في حديثه حسن التصنيف، وأكثر الرواية عن العامة والاخباريين، وكان جده المعلّى بن أسد من أصحاب صاحب الزنج المختصين به، وروى عنه وعن عمه أسد بن المعلى أخبار صاحب الزنج، وله تصانيف منها: كتاب التاريخ الكبير. كتاب التاريخ الصغير. كتاب مناقب علي عليه السلام. كتاب أخبار صاحب الزنج. كتاب الفرق وهو كتاب حسن غريب. كتاب أخبار السيد الحميري.
شعر [السيد الحميري] [2] . كتاب عجائب العالم.
__________
[49]- ترجمته في الوافي 6: 212 (عن ياقوت) وفهرس الطوسي: 21.
[1] هنا ينتهي نقل الصفدي.
[2] زيادة عن الوافي.(1/174)
- 50-
أحمد بن إبراهيم الضبي
أبو العباس الملقب بالكافي الأوحد الوزير بعد الصاحب أبي القاسم ابن عباد لفخر الدولة أبي الحسن علي بن ركن الدولة بن بويه:
مات في صفر سنة تسع وتسعين وثلاثمائة ببروجرد من أعمال بدر بن حسنويه على ما نذكره.
ذكره الثعالبي فقال: هو جذوة من نار الصاحب أبي القاسم، ونهر من بحره، وخليفته النائب منابه في حياته، القائم مقامه بعد وفاته، وكان الصاحب استنجبه [1] منذ الصبا، واجتمع فيه الرأي والهوى، فاصطنعه لنفسه وأدّبه بآدابه، وقدّمه بفضل الاختصاص على سائر صنائعه وندمائه، وخرّج منه صدرا يملأ الصدور كمالا، ويجري في طريقه ترسما وترسلا، وفي ذرى المعالي توقلا، ويحقق قول أبي محمد [الخازن] [2] فيه من قصيدة:
تزهى بأترابها كما زهيت ... ضبّة بالماجد ابن ماجدها
سمائها شمسها غمامتها ... هلالها بدرها عطاردها
يروي كتاب الفخار أجمع عن ... كافي كفاة الورى وواحدها
وقد كانت بلاغة العصر بعد الصاحب والصابىء بقيت متماسكة بأبي العباس، فأشرفت على التهافت بموته، وكادت تشيب بعده لمم الأقلام، وتجف غدر محاسن الكلام، لولا أنّ الله سدّ ببقاء الأمير أبي الفضل عبيد الله بن أحمد ثلم الآداب والكتابة. ثم وصفه بكلام كثير.
ومن شعر أبي العباس الضبي [3] :
__________
[50]- ترجمة الكافي الأوحد أحمد بن إبراهيم الضبي في المنتظم 7: 240 والوافي 6: 204 واليتيمة 3: 291.
[1] م واليتيمة: استصحبه.
[2] أبو محمد عبد الله بن أحمد الخازن أصبهاني من خواص الصاحب، كان يتولى خزانة كتبه في شبابه، ثم ذهب مغاضبا أو هاربا، ثم عاد إلى حضرة الصاحب (اليتيمة 3: 325) .
[3] اليتيمة 3: 295.(1/175)
لا تركنن إلى الفرا ... ق فإنه مر المذاق
والشمس عند غروبها ... تصفرّ من ألم الفراق
وكتب إلى الصاحب كافي الكفاة [1] :
أكافي كفاة الأرض ملكك خالد ... وعزّك موصول فأعظم بها نعمى
نثرت على القرطاس درا مبددا ... وآخر نظما قد فرعت به النجما
جواهر لو كانت جواهر نظّمت ... ولكنها الأعراض لا تقبل النظما
وهذه رسالة من نثره كتبها إلى أبي سعيد الشيبي [2] : أتاني كتاب شيخ الدولتين فكان في الحسن روضة حزن بل جنة عدن، وفي شرح النفس وبسط الأنس برد الأكباد والقلوب، وقميص يوسف في أجفان يعقوب.
ومنها: وبعد فإن المنازعين للأمير حسام الدولة نسور قد أفنتها [3] العصور، ودولته حرسها الله في إبان شبابها واعتدالها، وريعان إقبالها واقتبالها، قد أسّست على صلاح وسداد، وعمارة دنيا ومعاد، وهي مؤذنة بالدوام في ظلّ السلامة والسلام.
وأما سبب هربه إلى بروجرد فإن أمّ مجد الدولة اتهمته أنه سم أخاه، وطلبت منه مائتي ألف دينار نفقة في مأتمه، فلم يفعل والتجأ إلى بروجرد، وهي من أعمال بدر بن حسنويه الكردي، ثم بدا له في الرجوع إلى الوزارة، فبذل مائتي ألف دينار ليعاد إلى وزارته لمجد الدولة، فلم يجب إلى ذلك، فلما مات احتوى ابنه أبو القاسم سعد على تركته، وكانت عظيمة، ومات بعده بشهور، فاحتوى أبو بكر محمد بن عبد العزيز بن رافع على المال، وورد تابوت أبي العباس إلى بغداد مع أحد حجابه، وكتب ابنه إلى أبي بكر الخوارزمي شيخ أصحاب أبي حنيفة يعرّفه أنه وصّى بدفنه في مشهد الحسين بن علي رضي الله عنهما، ويسأله القيام بأمره وابتياع تربة له، فخاطب الشريف الطاهر أبا أحمد في ذلك وسأله أن يبيعهم تربة بخمسمائة دينار، فقال: هذا
__________
[1] المصدر نفسه.
[2] اليتيمة 3: 292.
[3] اليتيمة: اقتنصتها.(1/176)
رجل التجأ الى جوار جدي ولا آخذ لتربته ثمنا، وكتب [على] نفسه الموضع الذي طلب منه، وأخرج التابوت إلى براثا، وخرج الطاهر أبو أحمد ومعه الأشراف والفقهاء وصلّى عليه، وأصحب خمسين رجلا من رجاله حتى أوصلوه ودفنوه هنالك. وقد مدحه مهيار بقصائد منها [1] :
أجيراننا بالغور والركب متهم ... أيعلم خال كيف بات المتيم
رحلتم وعمر الليل فينا وفيكم ... سواء ولكن ساهرون ونوم
بنا أنتم من ظاعنين وخلّفوا ... قلوبا أبت أن تعرف الصبر عنهم
يقون الوجوه الشمس والشمس فيهم ... ويسترشدون النجم والنجم منهم
أناشد نعمان الأخابير عنهم ... كفى حيرة مستفصح وهو أعجم
ولما جلا التوديع عمّن أحبّه ... ولم يبق إلا نظرة تتغنّم
بكيت على الوادي فحرّمت ماءه ... وكيف يحلّ الماء أكثره دم
ونفّرت بالأنفاس عنّي حدوجهم ... كأن مطاياهم بهنّ توسم
وإن ملوكا في بروجرد كرمت ... هم بذلوا الإنصاف حين تكرموا
يميّز من أعدائهم أولياؤهم ... إذا انتقموا يوم الجزاء وانعموا
أسادتنا والجود صيّرنا لكم ... عبيدا وعن قوم نعز ونكرم
إلام وكان البرّ منكم سجية ... تواصلنا يجفى وكم نتظلم
من اعتضتم عنا خطيبا لفضلكم ... وهل مثل شعري عن علاكم يترجم
وهل غير مدحي طبّق الأرض فيكم ... وإن كان ملء الأرض ما قد مدحتم
ولما مات رثاه مهيار أيضا بقصيدة منها [2] :
أبكيك لي ولمن بلين بفرقة الأيتام بعدك والنساء أرامل
__________
[1] ديوان مهيار 3: 344.
[2] ديوان مهيار: 3: 28- 30.(1/177)
ولمستجير والخطوب تنوشه ... مستطعم والدهر فيه آكل
ولمعشر طرق العلوم ذنوبهم ... في الناس وهي لهم إليك وسائل
قد كنت ملتحفا بمدحك حلّة ... فخرا تجرّ لها عليك ذلاذل
فاليوم أشكرك الصنيع مراثيا ... خرس المشبّب عندها والعاذل
قال هلال [1] : في عصر الجمعة لست بقين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة توفي الصاحب كافي الكفاة أبو القاسم إسماعيل بن عباد بالريّ، ودفن من غد في داره، ونظر في الأمور بعده أبو العباس أحمد بن إبراهيم الضبي المتلقب بالكافي الأوحد، ومنزلة الصاحب وعلو قدره وما شاع من ذكره يغني عن الإطالة في وصف أمره. فحدثني [2] القاضي أبو العباس أحمد بن محمد الباوردي قال: اعتلّ الصاحب أبو القاسم فكان أمراء الديلم ووجوه الحواشي وأكابر الناس يغادون بابه ويراوحونه، ويخدمونه بالدعاء وتقبيل الأرض وينصرفون، وجاءه فخر الدولة عدة دفعات، فيقال إن الصاحب قال له وهو على يأس من نفسه: قد خدمتك أيها الأمير الخدمة التي استفرغت فيها الوسع، وسرت في دولتك وأيامك السيرة التي حصّلت لك حسن الذكر بها، فإن أجريت الأمور بعدي على رسومها علم أن ذلك منك، ونسب الجميل فيه إليك، واستمرت الأحدوثة الطيّبة لك، ونسيت أنا في أثناء ما يثنى به عليك، وإن غيّرت ذلك وعدلت عنه، وسمعت أقوال من يحملك على خلافه ويسلك به في طريقه، كنت المذكور بما تقدم والمشكور عليه، وقدح في دولتك وذكرك ما يشيع آنفا عنك، فقال له في جواب [3] ذلك ما أراه به قبول رأيه. فلما كان وقت غروب الشمس من ليلة الجمعة المذكورة قضى نحبه، وكان أبو محمد خازن الكتب ملازما داره على سبيل الخدمة له وهو عين لفخر الدولة في مراعاة الدار وما فيها، فأنفذ في الحال وعرّفه الخبر، فأنفذ فخر الدولة خواصّه وثقاته حتى احتاطوا على الدار والخزائن ووجدوا له كيسا فيه رقاع أقوام بمائة ألف وخمسين ألف دينار مودعة عندهم، فاستدعاهم وطالبهم بذلك فأحضروه، وكان فيه ما هو بختم مؤيد الدولة، ورجّمت الظنون فيه فقيل إنه
__________
[1] انظر ذيل تجارب الأمم لأبي شجاع: 261.
[2] ر: فحدث.
[3] ر: أثناء.(1/178)
أخذه من خيانة، وقيل: إنه أودعه لولد مؤيد الدولة عن وصية منه إليه، ونقل ما كان في الدار والخزائن إلى دار فخر الدولة، وجهّز الصاحب وأخرج تابوته وسط الناس، وقد جلس أبو العباس الضبي للعزاء به، فلما بدا على أيدي الحاملين له قامت الجماعة إعظاما له وقبلوا الأرض، ثم وقعت الصلاة عليه وعلّق بالسلاسل في بيت كبير إلى أن نقل إلى تربته بأصبهان. وكان القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد قد قال: لا أرى الرحمة عليه لأنه مات من غير توبة ظهرت منه، فطعن عليه بذلك، ونسب إلى قلّة الرعاية فيه. وقبض فخر الدولة على القاضي عبد الجبار وأسبابه وقرر أمرهم على ثلاثة آلاف ألف درهم، فأدّوا ذلك ورقا وعينا وقيمة عقار سلّموه، وباع في جملة ما باع ألف طيلسان محشّى وألف ثوب مصري، وقلد القضاء بعده علي بن عبد العزيز، وطالب أبا العباس الضبي أن يحصّل من الأعمال [1] والمتصرفين فيها ثلاثين ألف ألف درهم، وقال له: إن الصاحب أضاع الأموال وأهمل الحقوق، وينبغي أن يستدرك ما فات ويتتبّع ما مضى، فامتنع من ذاك مع تردّد القول فيه. وكتب أبو علي الحسن بن أحمد بن حمولة، وكان من أعلام [2] الكتاب المتقدمين الذين استخصهم [3] الصاحب وأقر لهم بالفضل، وقد قاد الجيوش الكثيرة فهزمهم، فقامت له الهيبة التامة في قلوب العساكر والملوك المجاورين، وكان عند موت الصاحب بجرجان مقيما مع الجيوش لمدافعة قابوس بن وشمكير وجيوش خراسان، فكتب يخطب الوزارة ويضمن ثمانية آلاف ألف درهم عنها، فأجيب بالحضور، فلما قرب قال فخر الدولة لأبي العباس الضبي: قد ورد أبو علي وعزمت على الخروج من غد لتلقّيه، وأمرت الجماعة من قوادي وأصحابي بالنزول له، ولا بد من خروجك وفعلك مثل ذلك، فثقل هذا القول على أبي العباس، وقال له خواصه وأصحابه: هذا ثمرة امتناعك عليه وتقاعدك عما دعاك له، وسيكون لهذه الحال ما بعدها، فراسل فخر الدولة وبذل له ستة آلاف ألف درهم على إقراره على الوزارة وإعفائه من تلقي أبي علي، وخرج فخر الدولة وتلقاه ولم يخرج أبو العباس، ورأى فخر الدولة أن من الصلاح لأمره الإشراك بينهما في وزارته، فسامح أبا علي بألفي ألف درهم من جملة الثمانية التي بذلها،
__________
[1] فوقها في: العمال.
[2] ر: أعيان.
[3] ر: استنصحهم.(1/179)
وسامح أبا العباس بألفي ألف درهم من جملة الستة التي ذكرناها، وقرر عليهما عشرة آلاف ألف درهم، وجمع بينهما في النظر، وخلع عليهما خلعتين متساويتين، ورتب أمرهما على أن يجلسا في دست واحد، ويكون التوقيع لهذا في يوم والعلامة للآخر وتجعل الكتب باسمهما يقدم هذا على عنواناتها يوما وهذا يوما، ووقع التراضي بذلك، وجرت الحال عليه، ونظرا في الأعمال وتحصيل الأموال، وقبضا على أصحاب الصاحب أبي القاسم ومن لحقته المسامحة في أيامه، وقرّرا عليهم المصادرات. وذكر القاضي أبو العباس عن أبي العلاء ابن المقرن أنه حدثه أنهما استخرجا من أصبهان وحدها جملة وافرة، وجرت حال غيرها من النواحي إلى مصادرة أهلها إلى مثل هذه الصورة، وأنفذا أبا بكر ابن رافع إلى استراباذ ونواحيها لاستيفاء ما يستوفيه من المعاملين والتنّاء فيها، فقيل إنه جمع الوجوه وأرباب الأحوال وأخّر الإذن لهم حتى تعالى النهار واشتد الحر، ثم أطعمهم طعاما أكثر ملحه ومنعهم الماء عليه وبعده، وقدّم إليهم الدواة والكاغد وطالبهم بكتب خطوطهم بما يصححونه، ولم يزل يستام عليهم فيه وهم يتلهفون عطشا إلى أن التزموا له عشرة آلاف ألف درهم، وتوقّف العمال والمتصرفون عن الخروج إلى قزوين لأن أهلها أهل امتناع وقوة، فبذل الفاراضي بن شير مردي الخروج إليها، وذكر أنه يعرف وجوه أموال فيها، وخرج وحاول مطالبة أهلها ومعاملتهم بمثل ما عومل به غيرهم، فاجتمعوا وهجموا عليه في داره وقتلوه. واجتمع لفخر الدولة من الأموال في الخزائن والقلاع ما كثّره المقللون، ثم تمزق بعد وفاته فلم يبق منه بقية في أسرع وقت. ثم مات فخر الدولة وولي الأمر بعده ابنه مجد الدولة أبو طالب رستم، واستولت السيدة والدته على الأمر. وأجري أمر الوزيرين على حاله في أيام فخر الدولة من التشارك في تدبير المملكة، ومزقا أموال فخر الدولة وبذّراها غاية التبذير، ثم نجم قابوس واستولى على جرجان وضام جيوش خراسان. فدعت الضرورة إلى تجهيز [1] جيش إليه وأن يخرج معه أحد الوزيرين، فتقارعا على من يخرج منهما، فوقعت القرعة على الجليل أبي علي الحسن بن أحمد بن حمولة، فخرج ومعه العساكر الحميلة، ووقعت بينه وبين قابوس وقائع
__________
[1] ر: تسريب.(1/180)
استنفدت الأموال التي صحبته واحتاج إلى الإمداد من الريّ، فتقاعد به أبو العباس الضبي فرجع إلى الري مفلولا، وأقاما على أمرهما من الاشتراك مدة، ثم سعت بينهما السعاة وقالوا: فساد الأمر إنما هو من اشتراكهما واختلاف آرائهما، والرأي أن يعزل أحدهما ويبقى الآخر. وكان ابن حمولة شديد الثقة بنفسه معتقدا أن العساكر لا تختار غيره ولا تريد سواه، فكان متغافلا، حتى دبّر أبو العباس الضبى عليه، وقبض عليه بأمر السيدة، وحمله إلى قلعة استوناوند، ثم أنفذ [1] إليه من قتله. واستبد أبو العباس بالأمر وجرت له خطوب عجز في أمرها، ومات قرابة للسيدة فاتهم أنه سقاه السم [2] ، فهرب حتى لحق بروجرد في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ملتجئا إلى بدر بن حسنويه، فلم يزل عنده إلى أن مات في بروجرد في سنة سبع وتسعين أو ثمان وتسعين، وتبعه ابنه أبو القاسم سعد لاحقا به، وكانت المدة قريبة بينهما. وقيل: إن أبا بكر ابن رافع واطأ أحد غلمانه فسقاه سما كان فيه حتفه، ونهض أبو بكر من همذان إلى بروجرد لاحتمال تركته، فذكر أنه حصل له ما زاد على ستمائة ألف دينار.
- 51-
أحمد بن إبراهيم أبو رياش
: وجدت بخطّ الحميدي فيما رواه عن التنوخي في كتاب «نشوار المحاضرة» قال: هو أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي.
ووجدت بخط بعض أدباء مصر قال: أبو رياش أحمد بن إبراهيم الشيباني، ولعل أبا هاشم كنية إبراهيم. مات فيما ذكره أبو غالب همام بن الفضل بن مهذب المعرّي في تاريخه في سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة.
قال أبو علي المحسن بن علي التنوخي: ومن رواة الأدب الذين شاهدناهم
__________
[51]- ترجمة أبي رياش في يتيمة الدهر 2: 352 وإنباه الرواة 1: 25، 4: 118 والوافي 6: 205 وبغية الوعاة 1: 409 ولم ترد ترجمته في المختصر.
[1] ر: بعث.
[2] ر: قتله بالسمّ.(1/181)
أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي، وكان يقال إنه يحفظ خمسة آلاف ورقة لغة، وعشرين ألف بيت شعر، إلا أن أبا محمد المافروخي أبرّ عليه لأنهما اجتمعا أول ما تشاهدا بالبصرة، فتذاكرا أشعار الجاهلية، وكان أبو محمد يذكر القصيدة فيأتي أبو رياش على عيونها فيقول أبو محمد: لا، إلا أن تهذّها من أولها إلى آخرها، فينشد معه ويتناشدان إلى آخرها، ثم أتى أبو محمد بعدة قصائد لم يتمكن أبو رياش أن يأتي بها إلى آخرها، وفعل ذلك في أكثر من مائة قصيدة. حدثني بذلك من حضر ذلك المجلس معهما.
وحكى أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري في كتابه المعروف ب «الرياش المصطنعي» أن أبا رياش كان طويل الشخص جهير الصوت يتكلّم بكلام البادية، ويظهر أنه على مذهب الزيدية، ويتزوج كثيرا ويطلق، وكان يقول: ولدت بالبادية، ولعبت بالخضرمة، وتأدبت بالبصرة- والخضرمة بستان في ناحية اليمامة له خاصية في عظم البصل. والريش والرياش حسن الهيئة والشارة.
وقال أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي في اليتيمة [1] : كان أبو رياش باقعة في حفظ أيام العرب وأنسابها وأشعارها، غاية بل آية في هذّ دواوينها وسرد أخبارها، مع فصاحة وبيان، وإعراب واتقان، ولكنه كان عديم المروءة وسخ اللبسة كثير التقشّف وقليل التنظف. وفيه يقول أبو عثمان الخالدي [2] :
كأنما قمل أبي رياش ... ما بين صئبان قفاه الفاشي
وذا وذا قد لجّ في انتعاش ... شهدانج بدّد في خشخاش
وكان مع ذلك شرها على الطعام، رجيم شيطان المعدة حوتيّ الالتقام، ثعبانيّ الالتهام، سيء الأدب في المواكلة، دعاه أبو يوسف البريدي [3] والي البصرة إلى مائدته، فلما أخذ في الأكل مدّ يده إلى بضعة لحم فانتهشها ثم ردّها إلى القصعة، فكان بعد ذلك إذا حضر مائدته أمر بأن يهيأ له طبق ليأكل عليه وحده. ودعاه يوما المهلبي الوزير
__________
[1] تقدمت الاشارة إليه في مصادر الترجمة أعلاه (وهو داخل في ترجمة ابن لنكك) ونقله القفطي في 4: 118.
[2] ديوان الخالديين: 137.
[3] م: اليزيدي.(1/182)
إلى طعامه فبينما هو يأكل إذ امتخط في منديل الغمر [1] وبصق فيه، ثم أخذ زيتونة من قصعة فغمزها بعنف حتى طفرت نواتها فأصابت وجه الوزير، فتعجّب من سوء أدبه، فاحتمله لفرط علمه، ففي شره أبي رياش يقول ابن لنكك:
يطير إلى الطعام أبو رياش ... مبادرة ولو واراه قبر
أصابعه من الحلواء صفر ... ولكنّ الأخادع منه حمر
وله فيه:
أبو رياش بغى والبغي مصرعه [2] ... فشدّد الغين ترميه بآبدته
عبد ذليل هجا للحين سيّده ... تصحيف كنيته في صدغ والدته
وله فيه وقد ولّاه المافروخي عملا بالبصرة:
قل للوضيع أبي رياش لا تبل ... ته كلّ تيهك بالولاية والعمل
ما ازددت حين وليت إلا خسة ... كالكلب أنجس ما يكون إذا اغتسل [3]
ولابن لنكك فيه أشعار كثيرة، بعضها في أخبار ابن لنكك من «كتاب الشعراء» .
وجدت في موضع آخر من كتاب «نشوار المحاضرة» للقاضي التنوخي: كان أبو رياش أحمد بن أبي هاشم القيسي اليماميّ رجلا من حفاظ اللغة، وكان جنديا في أول أمره مع المسمعيّ برسم العرب، ثم انقطع إلى العلم والشعر وروايته لنا بالبصرة، وأنا حدث مع عمي حتى صرت رجلا وكتبت عنه وأخذت منه علما صالحا، وكان يتعصب على أبي تمام الطائي. وقال بعض الحاضرين لأبي إن من عيون شعر أبي رياش قوله في أبيات عند ذكر امرأة شبّب بها:
لها فخذا بختيّة تعلف النوى ... على شفة لمياء أحلى من التمر
__________
[1] منديل الغمر: ما يستعمل لمسح الأيدي بعد الأكل.
[2] اليتيمة: مهلكة.
[3] نهاية النقل عن اليتيمة.(1/183)
فغضب أبو رياش ونهض، فأمر أبي بإجلاسه وقال للحاضر القائل: ولا كلّ ذا، وترضّاه ووهب له دراهم صالحة القدر.
قال: وأخبرني من حضر مجلس أبي محمد المافروخيّ عامل البصرة، وقد تناظرا في شيء من اللغة اختلفا فيه، فقال أبو رياش: كذا أخبرتني عمتي أو جدتي في البادية عن العرب ووجدتها تتكلم به، فقال له أبو الحسين محمد بن محمد بن جعفر بن لنكك الشاعر، وكان حاضرا: اللغة لا تؤخذ عن البغيّات، فأمسك خجلا.
وكان أبو محمد المافروخي قد ولّاه الرسم على المراكب بعبادان بحار سابع [؟] وأحسن إليه واختاره عصبية منه للعلم والأدب، فقال ابن لنكك:
أبو رياش ولي الرسما ... وكيف لا يصفع أو يعمى
يا ربّ جدي دقّ في خصره ... ثم أتانا بقفا يدمى
قال: وحدثني أبو رياش قال مدحت الوزير المهلبي فتأخرت صلته وطال ترددي إليه، فقلت [1] :
وقائلة قد مدحت الوزير ... وهو المؤمّل والمستماح
فماذا أفادك ذاك المديح ... وهذا الغدوّ وذاك الرواح
فقلت لها ليس يدري امرؤ ... بأيّ الأمور يكون الصلاح
عليّ التقلب والإضطراب ... جهدي وليس علي النجاح
قال المؤلف: وأما أبو محمد المافروخي الذي تقدم ذكره مكررا فهو أبو محمد عبد العزيز بن أحمد المافروخي، كان يتقلّد عمالة البصرة، وكان من العلم والجلالة على ما تقدم ذكره، وكان مع ذلك تمتاما يكرّر الحرف في كلامه، وهو الذي تسميه العامة فأفاء، وكان مستغلقا جدا. فحدث التنوخي أنه اعترض جملا يسير في صحن الدار بحضرته ووقف ليخاطب عليه، فلم يرضه فقال: أخرجوه عني، وكرر أخ أخ لأجل عقلة لسانه، فبرك الجمل لأنه ظنّ أنه يقال له ذلك، كما يقال إذا أريد منه البروك. قال: وكان إذا أنشد الشعر أو قرأ القرآن قرأه وأورده على أحسن ما يكون من
__________
[1] نشوار المحاضرة 2: 158.(1/184)
حسن الأداء وطيب الحنجرة، فقيل له: لو كان كلامك كله شعرا أو كقراءة القرآن تخلّصت من هذه الشدة، فقال: يكون ذلك طنزا. قال: وكان أحد خلفائه قد خرج إلى بعض الأعمال واستخلف بحضرته ابنا له كان مثل المافروخي في التمتمة، فخاطبه المافروخي أول ما دخل إليه في أمر شيء قال فيه ووو مرارا، فأجابه ذلك الابن بمثل كلامه، فقال: يا غلمان، قفاه، كأنه يحكيني، فصفع صفعا محكما حتى حضره أقوام وحلفوا له أن ذلك عادته، فأخذ يعتذر إليه، قال: الذنب لأبيه لما ترك في حضرتي مثله. فهذا خبر المافروخي لتعرفه.
- 52-
أحمد بن إبراهيم الأديبي
الخوارزمي أبو سعيد: من مشاهير فضلاء خوارزم وأدبائها وشعرائها، قال أبو محمد في «تاريخ خوارزم» : ذكره أبو الفضل الصفّاري في كتابه، قرأت بخطه أنه كان كاتبا بارعا حسن التصرّف في الترسّل، وافر الحظ من حسن الكتابة وفصاحة البلاغة، وكان خطه في الدرجة العليا من أقسام الحسن والجودة. فمن كلامه: الزيادة فوق الحدّ نقصان، والإساءة بلسان الحق إحسان.
قال: وكان إذا رأى كتابة متعقدة متكلفة قال: الكتابة تسكن سكة أخرى.
وكتب إلى بعض الرؤساء في شكاية رجل ثقيل: قد منيت من هذا الكهل الرازيّ صاحب الجبة الكهباء، واللحية الشهباء، بالداهية الدهياء، والصيلم الصماء، جعل لسانه سنانه، وأشفار عينيه الصلبة شفاره، فإذا تكلم كلم بلسانه أكثر مما يكلم بسنانه، وإذا لمح ببصره جرح القلوب بلحظه أشدّ مما جرح الآذان بلفظه، يظهر للناس في زي مظلوم وإنه لظالم، ويشكو إليهم وجع السليم وإنه لسالم.
وكتب إلى بعض الرؤساء وقد حجب عنه:
ومحجّب بحجاب عزّ شامخ ... وشعاع نور جبينه لا يحجب
حاولته فرأيت بدرا طالعا ... والبدر يبعد بالشعاع ويقرب
__________
[52]- ترجمة الأديبي في الوافي 6: 207 (عن ياقوت) .(1/185)
قبّلت نور جبينه متعززا ... باللحظ منه وقد زهاه الموكب
كالشمس في كبد السماء ونورها ... من جانبيه مشرّق ومغرّب
إن بان شخصي عن مجالس غيره ... فالنفس في ألطافه تتقلب
وإذا تقاربت النفوس وإن نأت ... أشخاصها فهو الجوار الأقرب
وكتب إلى واحد وقد بعث إليه شاة: وصلت الشاة فكانت شاة الشياه، حسنة الحلي والشّيات، ففرح الفراريج بمكانها وملأوا منها حواصلهم، وثنوا بالثناء والدعاء أناملهم.
وله: ساعدت الأيام بالمراد، ووفت بالميعاد، وجمعت لي بين طرفي الإصعاد والإسعاد.
وله: حضرة مولانا الحضرة التي تضرب إليها أكباد الابل من كلّ فجّ عميق، وتمدّ نحوها أعناق الأمل من كلّ فوج وفريق.
وله: أيام مولانا مشرقة كأخلاقه، وأخباره عبقة كأعراقه، تزهى بجلال مكانه الرتب والمعارج، وتزّيّن بكرم وجهه وبهائه الأعياد والمهارج.
وله: لا يليق خاتم العزّ والجلال إلا بخناصره، ولا يرجع الباطل إلى الحق إلا عند ناصره.
وله: من لحظته عين إقباله، وسقته عين أفضاله، قابلته سعودها بإشراق، وآذنت عوده بإيراق.
وله: إن كانت الوزارة دثرت رسومها وآثارها، ودرست أعلامها ومنارها، فلقد قيض الله لها مولانا فمدّ باعها، وعمر رباعها، فأنّست بتدابيره الثاقبة من وحشة نفارها، واستروحت من آرائه الصائبة إلى كنفها وقرارها.
وله: كتابي وأنا في سلامة إلّا من الشوق إلى طلعته المسعودة، والنزاع إلى أخلاقه المشهودة، وملاحظة تلك الهمم العلية، ومطالعة تلك الحركات الشهية، ومجاري تلك الأنامل بالأقلام فإنها إذا جرت نثرت الدرر، وأسالت على جباه الأنام الغرر، وسنّت للبلغاء والكتاب، سنن الفقر والآداب.(1/186)
- 53-
أحمد بن إبراهيم بن محمد السجزي
أبو نصر، أحد الأدباء الفضلاء: قرأ على أبي بكر عبد القاهر، ثم قرأت بخط سلامة بن عياض الكفرطابي النحوي ما صورته: وجدت في آخر نسخة «المقتصد» لعبد القاهر الجرجاني بالري مكتوبا ما حكايته: قرأ عليّ الأخ الفقيه أبو نصر أحمد بن إبراهيم بن محمد السجزي، أيده الله، هذا الكتاب من أوله إلى آخره قراءة ضبط وتحصيل، وكتبه عبد القاهر بن عبد الرحمن بخطه في شهر الله المبارك من شهور سنة أربع وخمسين وأربعمائة.
- 54-
أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد
الطبيب، يعرف بابن الجزار القيرواني: كان طبيبا حاذقا دارسا، كتبه جامعة لتواليف الأوائل، فيه حسن الفهم لها. وله مصنفات فيه وفي غيره. فمن أشهر كتبه في الطب: كتابه في علاج الأمراض سماه «زاد المسافر» وكتابه في الأدوية المفردة المعروف ب «الاعتماد» وكتابه في الأدوية المركبة المعروف ب «البغية» ورسائله في النفس وذكر اختلاف الأوائل فيها. وكان أيضا له عناية بالتاريخ [1] ألف فيه كتابا رأيته في مجلد يزيد [2] على العشر سماه «التعريف بصحيح التاريخ» وذاك الذي أوجب ذكره في هذا الكتاب. وكان مع ذلك حسن المذهب فاضل [3] السيرة، صائنا لنفسه منقبضا عن الملوك ذا ثروة، ولم يكن يقصد
__________
[53]- أحمد بن إبراهيم السجزي: وقع ذكره ضمن ترجمة شيخه عبد القاهر الجرجاني في انباه الرواة 2: 190 ونسبته فيه «الشجري» .
[54]- ترجمة ابن الجزار في عيون الأنباء 2: 37 والوافي: 6: 208- 209 وابن جلجل: 88 وطبقات الأمم: 61 وقد كتبت عنه دراسات حديثد كثيرة، انظر مقدمة كتاب سياسة الصبيان وتدبيرهم تحقيق الدكتور محمد الحبيب الهيلة (ط. دار الغرب الإسلامي، بيروت 1984) وفيها أيضا ثبت ضاف بمؤلفاته الموجودة والمفقودة.
[1] هناك نقول كثيرة عن أحد كتبه التاريخية في العيون والحدائق.
[2] لعل الصواب: في مجلدات تزيد.
[3] م: باصل؛ وصوبته بحسب السياق.(1/187)
أحدا إلى بيته، وكان له معروف وأدوية يفرّقها، وكان في أيام المعز بالله [1] في حدود سنة خمسين وثلاثمائة أو ما قاربها.
- 55-
أحمد بن أحمد ابن أخي الشافعي
: هو رجل من أهل الأدب، رأيت جماعة من أعيان العلماء يفتخرون بالنقل من خطه، ورأيت خطه وليس بجيد المنظر لكن متقن الضبط، ولم أر أحدا ذكر شيئا من خبره، لكني وجدت خطّه في آخر كتاب وقد قال فيه: كتبه أحمد بن أحمد المعروف بابن أخي الشافعي وراق ابن عبدوس الجهشياري، والجهشياري هذا قد ذكر في بابه [2] ، وقد جمع ديوان البحتري وغيره [3] .
- 56-
أحمد بن إسحاق بن البهلول
بن حسان بن سنان أبو جعفر التنوخي: أنباري الأصل، ولي القضاء بمدينة المنصور عشرين سنة، ومات لأحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر سنة ثمان عشرة وثلاثمائة ومولده بالأنبار سنة إحدى وثلاثين ومائتين عن ثمان وثمانين سنة.
قال أبو بكر الخطيب [4] : وحدث حديثا كثيرا، وكان عنده عن أبي كريب محمد بن العلاء حديث واحد، وروى عنه الدارقطني وأبو حفص ابن شاهين
__________
[55]- ترجمة ابن أخي الشافعي في الوافي 6: 229 (عن ياقوت) .
[56]- ترجمة ابن البهلول في المنتظم 6: 231 ونزهة الالباء: 172 والجواهر المضية 1: 57 والوافي 6: 235 وبغية الوعاة 1: 295 وسير الذهبي 14: 497 والشذرات 2: 276.
[1] يعني المعز الفاطمي.
[2] ترجمة الجهشياري رقم: 1077.
[3] زاد الصفدي نقلا عن الذهبي أنه يرجح أن يكون هو أحمد بن أحمد بن زياد الفارسي صاحب ابن عبدوس وابن سلام وله كتاب أحكام القرآن في عشرة أجزاء وكتاب مواقيت الصلاة، وكانت وفاته سنة 310.
[4] تاريخ بغداد 4: 30- 32 ونقله محقق النشوار 5: 212- 216.(1/188)
والمخلص [1] وجماعة، وكان ثقة. قال: وذكر طلحة بن محمد بن جعفر في تسمية قضاة بغداد أحمد بن إسحاق بن البهلول [وقال] : عظيم القدر، واسع الأدب، تامّ المروءة، حسن الفصاحة، حسن المعرفة بمذهب أهل العراق، ولكن غلب عليه الأدب. وكان لأبيه إسحاق مسند كبير حسن، وكان ثقة، وحمل الناس عن جماعة من أهل هذا البيت منهم البهلول بن حسان ثم ابنه إسحاق ثم أولاد إسحاق. ولم يزل أحمد بن إسحاق على قضاء المدينة من سنة ست وتسعين ومائتين إلى شهر ربيع الآخر سنة ست عشرة وثلاثمائة، ثم صرف؛ وكان ثبتا في الحديث ثقة مأمونا جيد الضبط لما حدّث به، وكان متفننا في علوم شتى منها الفقه على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وربما خالفهم في مسيلات يسيرة. وكان تامّ العلم باللغة حسن القيام بالنحو على مذهب الكوفيين، وله فيه كتاب ألفه، وكان تامّ الحفظ للشعر القديم والمحدث والأخبار الطوال والسير والتفسير، وكان شاعرا كثير الشعر جدا، خطيبا حسن الخطابة والتفوّه بالكلام لسنا، صالح الحظ في الترسل والمكاتبة، والبلاغة في المخاطبة، وكان ورعا متخشّنا في الحكم، تقلّد القضاء بالأنبار وهيت وطريق الفرات من قبل الموفق بالله الناصر لدين الله في سنة ست وسبعين ومائتين، ثم تقلده للناصر دفعة أخرى، ثم تقلده للمعتضد، ثم تقلد بعض كور الجبل للمكتفي في سنة اثنتين وتسعين ولم يخرج إليها، ثم قلده المقتدر بالله في سنة ست وتسعين بعد فتنة ابن المعتز القضاء بمدينة المنصور من مدينة السلام وطسّوجي قطر بّل ومسكن والأنبار وهيت وطريق الفرات، ثم أضاف له إلى ذلك بعد سنين القضاء بكور الأهواز مجموعة لما مات قاضيها إذ ذاك محمد بن خلف المعروف بوكيع، فما زال على هذه الأعمال إلى أن صرف عنها في سنة سبع عشرة وثلاثمائة.
وحدث [2] أبو نصر يوسف بن عمر ابن القاضي أبي عمر محمد بن يوسف قال:
كنت أحضر دار المقتدر بالله وأنا غلام حدث، بالسواد، مع أبي الحسين [3] ، وهو
__________
[1] اسمه محمد بن عبد الرحمن.
[2] عن تاريخ بغداد 4: 32 ونقله محقق النشوار 4: 15 وما بعدها (عن معجم الأدباء) .
[3] أبو الحسين عمر بن أبي عمر محمد قلد القضاء في حياة أبيه، وتوفي سنة 328 (المنتظم 6: 307) .(1/189)
يومئذ قاضي القضاة، فكنت أرى في بعض المواكب القاضي أبا جعفر يحضر بالسواد، فإذا رآه أبي عدل إلى موضعه فجلس عنده، فيتذاكران الشعر والأدب والعلم حتى يجتمع عليهما من الخدم عدد كثير كما يجتمع على القصّاص استحسانا لما يجري بينهما، فسمعته يوما وقد أنشد بيتا لا أذكره الآن، فقال له أبي: أيها القاضي إني أحفظ هذا البيت بخلاف هذه الرواية، فصاح عليه صيحة عظيمة وقال: اسكت، ألي تقول هذا؟ أنا أحفظ لنفسي من شعري خمسة عشر ألف بيت، وأحفظ للناس أضعاف ذلك وأضعافه وأضعفاه، يكررها مرارا؛ وفي رواية ابن عبد الرحيم [1] عن التنوخي قال، قال له: هات ألي تقول هذا وأنا أحفظ من شعري نيفا وعشرين ألف بيت سوى ما أحفظه للناس؟ قال: فاستحيى أبي منه لسنّه ومحلّه وسكت.
قال [2] : وحدثني القاضي أبو طالب محمد ابن القاضي أبي جعفر بن البهلول قال: كنت مع أبي في جنازة بعض أهل بغداد من الوجوه، وإلى جانبه في الحقّ [3] جالس أبو جعفر الطبري، فأخذ أبي يعظ صاحب المصيبة ويسلّيه وينشده أشعارا ويروي له أخبارا، فداخله الطبريّ في ذلك ودأب معه، ثم اتسع الأمر بينهما في المذاكرة وخرجا إلى فنون كثيرة من الأدب والعلم استحسنها الحاضرون وعجبوا منها، وتعالى النهار وافترقنا، فلما جعلت أسير خلفه قال: يا بني هذا الشيخ الذي داخلنا اليوم في المذاكرة من هو أتعرفه؟ فقلت: يا سيدي كأنك لم تعرفه؟ فقال: لا، فقلت: هذا أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، فقال: إنا لله ما أحسنت عشرتي يا بني، فقلت: كيف يا سيدي؟ فقال: ألا قلت لي في الحال فكنت أذاكره غير تلك المذاكرة، هذا رجل مشهور بالحفظ والاتساع في صنوف من العلم وما ذاكرته بحسبها. قال: ومضت على هذا مدة فحضرنا في حقّ آخر، وجلسنا وإذا بالطبري يدخل إلى الحقّ، فقلت له قليلا قليلا: أيها القاضي هذا أبو جعفر الطبري قد جاء مقبلا، قال: فأومأ إليه بالجلوس عنده، فعدل إليه، فأوسعت له حتى جلس إلى
__________
[1] هو أبو بكر محمد بن عبد الرحيم المازني، توفي سنة 308 (تاريخ بغداد 5: 365) .
[2] عن تاريخ بغداد 4: 32- 33 ونقله محقق النشوار 4: 17.
[3] الحق- فيما يبدو- تعني هنا «واجب العزاء» ، وسمّي به المكان الذي يجتمع فيه الناس لذلك.(1/190)
جنبه، وأخذ أبي يجاريه، فكلّما جاء إلى قصيدة ذكر الطبري منها أبياتا، قال أبي:
هاتها يا أبا جعفر إلى آخرها، فيتلعثم الطبري فينشدها أبي إلى آخرها، وكلما ذكر شيئا من السير قال أبي: كان هذا في قصة فلان ويوم بني فلان مرّ يا أبا جعفر، فربما مرّ وربما تلعثم، فيمرّ أبي في جميعه حتى يسبقه، قال: فما سكت أبي يومه ذاك إلى الظهر، وبان للحاضرين تقصير الطبري، ثم قمنا فقال لي أبي: الآن شفيت صدري.
ولأبي جعفر هذا كتاب في النحو على مذهب الكوفيين.
حدث أبو عليّ التنوخي [1] حدثني أبو الحسين علي بن هشام بن عبد الله المعروف بابن أبي قيراط كاتب ابن الفرات وأبو محمد عبد الله بن علي دلويه كاتب نصر القشوري [2] وأبو الطيب محمد بن أحمد الكلوذاني كاتب ابن الفرات قالوا: كنّا مع أبي الحسن ابن الفرات في دار المقتدر في وزارته الثالثة في يوم الخميس لخمس ليال بقين من جمادى الآخرة من سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وقد استحضر ابن قليجة رسول علي بن عيسى إلى القرامطة في وزارته الأولى، فواجه عليّ بن عيسى في المجلس بحضرتنا بأنه وجّهه إلى القرامطة مبتدئا، فكاتبوه يلتمسون منه المساحي والطلق وعدة حوائج، فأنفذ جميع ذلك إليهم، وأحضر ابن الفرات معه خطه (أي ابن عيسى) في نسخة أنشأها ابن ثوابة إلى القرامطة جوابا عن كتابهم إليه، وقد أصلح علي بن عيسى فيها بخطه، ولم يقل إنكم خارجون عن ملة الإسلام بعصيانكم أمير المؤمنين، ومخالفتكم إجماع المسلمين، وشقكم العصا، ولكنكم خارجون عن جملة أهل الرشاد والسداد، وداخلون في جملة أهل العناد والفساد، فهجّن ابن الفرات عليا بذلك وقال: ويحك تقول القرامطة مسلمون والإجماع قد وقع على أنهم أهل ردة لا يصلون ولا يصومون، وتوجّه إليهم بالطلق وهو الذي إذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار، قال: أردت بهذا المصلحة واستعادتهم إلى الطاعة بالرفق وبغير حرب، فقال ابن الفرات لأبي عمر القاضي: ما عندك في هذا يا أبا عمر؟
__________
[1] وردت القصة في الوزراء للصابي: 317 ونقلها محقق النشوار 4: 19 عن ياقوت.
[2] كان نصر القشوري حاجبا للمقتدر، وتوفي سنة 316 (المنتظم 6: 220) .(1/191)
اكتب به، فأفحم وجعل مكان ذلك أن أقبل على علي بن عيسى فقال: يا هذا لقد أقررت بما لو أقرّ به إمام لما وسع الناس طاعته، قال: فرأيت عليّ بن عيسى وقد حدّق إليه تحديقا شديدا لعلمه بأنّ المقتدر في موضع يقرب منه بحيث يسمع الكلام ولا يراه الحاضرون، فاجتهد ابن الفرات بأبي عمر أن يكتب بخطّه شيئا فلم يفعل، وقال: قد غلط غلطا وما عندي غير ذلك، فأخذ خطه بالشهادة عليه بأنّ هذا كتابه. ثم أقبل على أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول القاضي فقال: ما عندك يا أبا جعفر في هذا؟ فقال: إن أذن الوزير أن أقول ما عندي فيه على شرح [1] قلته، قال:
افعل، قال: صحّ عندي أن هذا الرجل- وأومأ إلى علي بن عيسى- افتدى [2] بكتابين كتبهما إلى القرامطة في وزارته الأولى ابتداء وجوابا ثلاثة آلاف رجل من المسلمين كانوا مستعبدين وهم أهل نعم وأموال، فرجعوا إلى أوطانهم ونعمهم، فإذا فعل الإنسان مثل هذا الكتاب [3] على جهة طلب الصلح والمغالطة للعدوّ لم يجب عليه شيء [4] ، قال: فما عندك فيما أقرّ به أن القرامطة مسلمون؟ قال: إذا لم يصحّ عنده كفرهم وكاتبوه بالتسمية لله ثم الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وانتسبوا إلى أنهم مسلمون وإنما ينازعون في الإمامة فقط لم يطلق عليهم الكفر، قال: فما عندك في الطلق ينفذ إلى أعداء الإمام فإذا طلي به البدن أو غيره لم تعمل فيه النار، وصاح بها كالمنكر على أبي جعفر، فأخبرني؛ فأقبل ابن البهلول على علي بن عيسى فقال له:
أنفذت الطلق الذي هذه صفته [5] إلى القرامطة؟ فقال علي بن عيسى: لا، فقال ابن الفرات: هذا رسولك وثقتك ابن قليجة قد أقرّ عليك بذلك، فلحق عليّ بن عيسى دهشة فلم يتكلم، فقال ابن الفرات لأبي جعفر ابن البهلول: احفظ إقراره بأن ابن قليجة ثقته ورسوله وقد أقر عليه بذلك، فقال: أيها الوزير لا يسمّى هذا مقرا، هذا مدّع وعليه البينة، فقال ابن الفرات: فهو ثقته بإنفاذه إياه، قال: إنما وثقه في حمل كتاب
__________
[1] الصابي: بيان.
[2] الصابي: استخلص.
[3] الصابي: فإذا كتب ... هذه الكتب.
[4] الصابي: حكم.
[5] الصابي: صورته.(1/192)
فلا يقبل قوله عليه في غيره، فقال ابن [الفرات: يا] أبا جعفر أنت وكيله ومحتجّ عنه لست إلا حاكما، فقال: لا ولكنّي أقول الحقّ في هذا الرجل كما قلته في حقّ الوزير- أيده الله- لما أراد حامد بن العباس في وزارته ومن ضامّه الحيلة على الوزير- أعزه الله- بما هو أعظم من هذا الباب، فإن كنت لم أصب حينئذ فلست مصيبا في هذا الوقت. فسكت ابن الفرات والتفت إلى عليّ بن عيسى وقال: أقرمطي؟ فقال له علي بن عيسى: أيها الوزير، أنا قرمطي، أنا قرمطي!! يعرض به، (وذكر قصة طويلة ليست من خبر ابن البهلول في شيء) .
وحدث أبو الحسن [1] علي بن هشام بن أبي قيراط قال: دخلت مع أبي إلى أبي جعفر أحمد بن إسحاق بن البهلول عقيب عيد لنهنئه به، وتطاول الحديث، فقال له أبي: قد كنت أكاتب الوزير- أيده الله- إلى محبسه، يعني ابن الفرات لأنه هو كان الوزير إذ ذاك الوزارة الثالثة، وأعرّفه ما عليه القاضي من موالاته في كذا وكذا، والآن هو على شكر القاضي والاعتداد به، قال: فلما سمع ذلك فرّق الغلمان ومن كان في مجلسه من أصحابه حتى خلا وقال: ليس يخفى عليّ التغير في عين الوزير، وإن كان لم ينقصني من رتبة ولا عمل، وبالله أحلف لقد لقيت حامد بن العباس بالمدائن لما جيء به للوزارة فقام لي في حرّاقته قائما، وقال لي: هذا الأمر لك ولولدك، وسيبين لك ما أفعله في زيادتك من الأعمال والأرزاق، ثم لقيته يوم الخلع عليه بعد لبسه إياها فتطاول [لي] ، فلما فعلت به في أمر الوزير أيده الله ما فعلته بحضرة أمير المؤمنين عاداني وصار لا يعير لي طرفه، وتعرّضت منه لكلّ بلية، فكنت خائفا له حتى أراح الله منه بتفرّد علي بن عيسى بالأمور، واشتغاله هو بالضمان، وسقوط حاجتنا إلى لقائه؛ وما لي إلى هذا الوزير أيده الله ذنب يوجب انقباضه إلا أني أدّيت الوديعة التي كانت له عندي، وبالله لقد ورّيت عن ذكرها جهدي، ودافعت بما يدافع به مثلي ممن لا يمكنه الكذب، فلما جاء ابن حماد كاتب موسى بن خلف [2] أقرّ بها وأحضر الدليل باحضار
__________
[1] وردت القصة في كتاب الوزراء 113- 116 (باختلافات يسيرة) ونقلها محقق النشوار 4: 28 (عن ياقوت) .
[2] كان موسى بن خلف من المقربين إلى ابن الفرات، وقد ضربه حامد بن العباس عندما قبض على ابن الفرات سنة 306 ومات تحت الضرب.(1/193)
المرأة التي حملتها لم أجد بدّا عن أدائها، وقد فعل مثلي أبو عمر في الوديعة التي كانت له عنده، إلا أن أبا عمر فعل ما قد علمته من حيلة بشراء فصّ بنصف درهم نقش عليه علي بن محمد، ووضع مالا من عنده في أكياس ختمها به، وقال للوزير:
وديعتك عندي بحالها، وإنما غرمت ما أدّيت عنك من مالي، وأراد التقرب إليه ففعل هذا، وأنت تعلم فرق ما بيني وبين أبي عمر في كثرة المال فأريد أن تسلّ سخيمته، وتستصلح لي نيته، وتذكّره بحقي القديم عليه، ومقامي له بين يدي الخليفة إذ ذاك، وأن مثل ذلك لا ينسى بتجنّ لا يلزم. فقال له أبي: أنا أفعل ولا أقصّر، وقد اختلفت الأخبار علينا فيما جرى ذلك اليوم، فإن رأى القاضي- أعزه الله- أن يشرحه لي فعل، فقال أبو جعفر: كنت أنا وأبو عمر وعلي بن عيسى وحامد بن العباس بحضرة الخليفة مع جماعة من خواصّه، وكلهم منحرف عن الوزير- أيده الله- ومحبّ لمكروهه، إذ أحضر حامد الرجل الجندي الذي ادّعى أنه وجده راجعا من أردبيل إلى قزوين ثم إلى أصبهان ثم إلى البصرة، وأنه أقرّ له عفوا أنه رسول ابن الفرات إلى ابن أبي الساج [1] في عقد الامامة لرجل من الطالبيين المقيمين بطبرستان ليقوّيه ابن أبي الساج ويسيره إلى بغداد ويعاونه ابن الفرات بها، وأنه مخبر أنه تردّد في ذلك دفعات، ويخاطبه بحضرة الخليفة في أن يصدق عما عنده في ذلك، فذكر الرجل مثل ما أخبر به عنه حامد، ووصف أن موسى بن خلف كان يتخبّر لابن الفرات لأنه من الدعاة الذين يدعون إلى الطالبيين، وأنه كان يمضي في وقت من الأوقات الى ابن أبي الساج في شيء من هذا، فلما استتم الخليفة سماع هذا الكلام اغتاظ غيظا شديدا، وأقبل على أبي عمر وقال: ما عندك فيمن فعله هذا؟ فقال: لئن كان فعل ذلك لقد أتى أمرا فظيعا، وأقدم على أمر يضرّ بالمسلمين جميعا واستحقّ كذا- كلمة عظيمة لا أحفظها- قال أبو جعفر: وتبينت في عليّ بن عيسى كراهية لما جرى، والانكار للدعوى، والطنز [2] بما قيل فيها، فقويت بذلك نفسي، وأقبل الخليفة عليّ فقال: ما عندك يا أحمد في من فعل هذا؟ فقلت: إن رأى أمير المؤمنين أن يعفيني، فقال: ولم؟
__________
[1] هو يوسف بن أبي الساج، قائد في عهد المقتدر قتل في حرب القرامطة سنة 315.
[2] الطنز: الهزء والسخرية.(1/194)
فقلت: لأن الجواب ربما أغضبت به من أنا محتاج إلى رضاه أو خالف ما يوافقه من ذلك ويهواه ويضرّبي، فقال: لا بدّ أن تجيب، فقلت: الجواب ما قال الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ
(الحجرات: 6) ومثل هذا يا أمير المؤمنين لا يقبل فيه خبر واحد والتمييز [1] يمنع من قبول مثل هذا على ابن الفرات، أتراه يظن به أنه رضي أن يكون تابعا لابن أبي الساج، ولعله ما كان يرضى وهو وزير أن يستحجبه، ثم أقبلت على الرجل فقلت له: صف لي أردبيل، عليها سور أم لا؟ فإنك على ما تدعيه من دخولها لا بدّ أن تكون عارفا بها، واذكر لنا صفة باب دار الإمارة: هل هو حديد أم خشب؟
فتلجلج فقلت له: كاتب ابن أبي الساج- ابن محمود- ما اسمه ما كنيته؟ فلم يعرف ذلك، فقلت له: فأين الكتب التي معك؟ فقال: لما أحسست بأني قد وقعت في أيديهم رميت بها خوفا من أن توجد معي فأعاقب، قال: فأقبلت على الخليفة وقلت:
يا أمير المؤمنين هذا جاهل متكسّب مدسوس من قبل عدوّ غير محصل، فقال علي بن عيسى مؤيدا لي: قد قلت هذا للوزير فلم يقبل قولي، وليس يهدّد هذا فضلا عن أن ينزل به مكروه إلا أقرّ بالصورة، فأقبل الخليفة على نذير الحرمي وعدل عن أن يأمر نصرا الحاجب بذلك لما يعرفه بينه وبين ابن الفرات: بحقنا عليك لما ضربته مائة مقرعة أشدّ الضرب إلى أن يصدق عن الصورة، فعدّي بالرجل عن حضرة الخليفة ليبعد ويضرب، فقال: لا إلا هاهنا، فضرب بالقرب منه دون العشرة، فصاح:
غررت وضمنت لي الضمانات وكذبت، والله ما دخلت أردبيل قط. فطلب نزار بن محمد الضبي أبو معد، وكان صاحب الشرطة وقد انصرف، فقال الخليفة لعلي بن عيسى: وقّع إليه بأن يضرب هذا مائة سوط، ويثقله بالحديد، ويحبس في المطبق، فوالله لقد رأيت حامدا وقد كاد يسقط انخزالا وانكسارا ووجدا واشفاقا، وخرجنا وجلسنا في دار نصر الحاجب، وانصرف حامد، وأخذ علي بن عيسى ينظر في الحوائج، وأخّر أمر الرجل، فقال له حاجبه ابن عبدوس [2] : قد وجّه نذير [3]
__________
[1] الصابي: والعقل.
[2] هو الجهشياري صاحب كتاب الوزراء والكتاب.
[3] لعل الصواب «نزار» الضبي صاحب الشرطة، وليس نذير الحرمي.(1/195)
بالمضروب المتكذب، فقلت له: إنه وإن كان قد جهل فقد غمّني ما لحقه خوفا من أن أكون سببه، فإن أمكنك أن تسقط عنه المكروه أو بعضه أجرت، فقال: ما في هذا لعنه الله أجر، ولكن أقتصر على خمسين مقرعة وأعفيه من السياط، ثم وقع بذلك الى نزار وانصرفنا. فصار حامد من أعدى الناس لي.
وقال ابن عبد الرحيم [1] حدثني القاضي أبو القاسم التنوخي، وله بأمره الخبرة التامة لما يجمعهما من النسب في الصناعة قال: كان أبو جعفر من جلّة الناس وعظمائهم وعلمائهم، وتقلد قضاء الأنبار وهيت والرحبة وسقي [2] الفرات في أيام المعتمد بعد كتبة الموفق أبي أحمد سنة سبعين ومائتين وأقام يليها إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأضيف له إليها الأهواز وكورها السبع [3] وخلفه عليها جدّي أبو القاسم علي بن محمد التنوخي في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، وقلّده ماه الكوفة وماه البصرة [4] مضافات إلى ما تقدم ذكره، ثم ردّ عليه مدينة المنصور وطسّوج مسكن وقطر بل بعد فتنة ابن المعتز في سنة ست وتسعين ومائتين، ولم يزل على هذه الولايات إلى سنة ست عشرة وثلاثمائة، وأسنّ وضعف، فتوصل أبو الحسين الأشناني [5] إلى أن ولي قضاء المدينة، فكانت له أحاديث قبيحة، وقيل إن الناس سلموا عليه بالقبا [6] إيماء الى البغاء، وكان اليه الحسبة ببغداد، فصرف في اليوم الثالث وأعيد العمل إلى أبي جعفر فامتنع من قبوله، ورفع يده عن النظر في جميع ما كان إليه وقال: أحبّ أن يكون بين الصرف والقبر فرجة، ولا أنزل من القلنسوة [7] إلى الحفرة، وقال في ذلك:
__________
[1] نقله الأستاذ الشالجي في النشوار 4: 23.
[2] في م: طريق، وصوبه الشالجي.
[3] كور الأهواز السبع هي: سوق الأهواز ورامهرمز وإيذج وعسكر مكرم وتستر وجنديسابور وسوس وسرق ونهرتيرى ومناذر (معجم البلدان 1: 411) .
[4] ماه الكوفة هي الدينور، وماه البصرة نهاوند.
[5] هو عمر بن الحسن بن علي محدث بغدادي ولي القضاء بنواحي الشام (انظر مادة الأشناني في الأنساب والمنتظم 6: 166) .
[6] يرجح الأستاذ الشالجي أن تكون بالبقا (أي يدعون له بالبقاء وهم ينوون قلب القاف غينا) .
[7] القلنسوة: رمز للقضاء.(1/196)
تركت القضاء لأهل القضاء ... وأقبلت أسمو إلى الآخره
فإن يك فخرا جليل الثناء ... فقد نلت منه يدا فاخره
وان كان وزرا فأبعد به ... فلا خير في إمرة وازره
فقيل له: فابذل شيئا حتى يردّ العمل إلى ابنك أبي طالب [1] فقال: ما كنت لأتحمّلها حيا وميتا، وقد خدم ابني السلطان وولاه الأعمال، فإن استوفق خدمته قلّده، وإن لم يرتض مذاهبه صرفه، وهذا يفتضح ولا يخفى، وأنشدهم:
يقولون همّت بنت لقمان مرّة ... بسوء وقالت يا أبي ما الذي يخفى
فقال لها ما لا يكون فأمسكت ... عليه ولم تمدد لمنكرة كفا
وما كلّ مستور تغلّق دونه ... مصاريع أبواب ولو بلغت الفا
بمستتر والصائن العرض سالم ... وربتما لم يعدم الذمّ والقرفا
على أن أثواب البريء نقية ... ولا يلبث الزور المفكك أن يطفا
قال: ولست أعلم هذا الشعر له أم تمثل به.
قال التنوخي: وكان أبو جعفر يقول الشعر تأدبا وتطربا [1] ، وما علمت أنه مدح أحدا بشيء منه، وله قصيدة طردية مزدوجة طويلة، وحمل الناس عنه علما كثيرا، ومن شعره:
رأيت العيب يلصق بالمعالي ... لصوق الحبر في يقق الثياب
ويخفى في الدنيء فلا تراه ... كما يخفى السواد على الإهاب
وله في الوزير ابن الفرات [3] :
قل لهذا الوزير قول محقّ ... بثّه النصح أيّما إبثاث
قد تقلّدتها ثلاثا [4] ثلاثا ... وطلاق البتات عند الثلاث
__________
[1] هو ابنه محمد بن أحمد بن اسحاق.
[2] ر: وتظرفا.
[3] ورد البيتان أيضا في كتاب الوزراء: 245.
[4] الصابي: مرارا.(1/197)
وكان الأمر على ما قاله، فإن ابن الفرات قتل بعد الوزارة الثالثة في محبسه.
وله أيضا:
أقبلت الدنيا وقد ولّى العمر ... فما أذوق العيش إلا كالصّبر
لله أيام الصبا لو تفتكر ... لاقت لدينا لو تؤوب ما يسر
وله أيضا:
ويجزع من تسليمنا فيردنا ... مخافة أن نبغي نداه فيبخلا [1]
وما ضره ان يجتبينا ببشره ... فنقنع بالبشر الجميل ونرحلا
وله أيضا:
وحرقة أورثتها فرقة دنفا ... حيران لا يهتدي إلا إلى الحزن
في جسمه شغل عن قلبه وله ... في قلبه شغل عن سائر البدن
وله أيضا:
أبعد الثمانين أفنيتها ... وخمسا وسادسها قد نما
ترجّي الحياة وتسعى لها ... لقد كاد دينك أن يكلما
وله أيضا:
إلى كم تخدم الدنيا ... وقد جزت الثمانينا
لئن لم تك مجنونا ... لقد فقت المجانينا
وقد ذكر أبو عبد الله ابن بشران في تاريخه قال: دخل على القاضي أحمد بن إسحاق بن البهلول أبو القاسم عمر بن شاذان الجوهري فقال له: ارتفع يا أبا حفص، فقال له بعض من حضر: هو أبو القاسم، فأنشأ ابن البهلول يقول:
فإن تنسني الأيام كنية صاحب ... كريم فلم أنس الإخاء ولا الودا
ولكن رأيت الدهر ينسيك ما مضى ... إذا أنت لم تحدث إخاء ولا عهدا
__________
[1] القافية: فيبخل (مرفوعة) في المختصر.(1/198)
- 57-
أحمد بن إسحاق
، يعرف بالجفر: حميريّ النسب مصريّ الدار، لم أجد له ذكرا إلا في كتاب أبي بكر الزبيدي فإنه ذكره في نحاة مصر وقال: مات سنة إحدى وثلاثمائة.
- 58-
أحمد بن إسماعيل بن سمكة
، أبو عبد الله أبو علي: بجلي عربي من أهل قمّ: ذكره أبو جعفر في مصنّفي الامامية، من أهل الفضل والأدب والعلم، وعليه قرأ أبو العباس محمد بن الحسين بن العميد، وله عدة كتب لم يصنّف مثلها، منها كتاب العباسي، وهو كتاب عظيم في عشرة آلاف ورقة في أخبار الخلفاء والدولة العباسية مستوفى لم يصنّف مثله وغير ذلك. وكان نحويا لغويا أخباريا. من شعره في أبي الفضل ابن العميد:
خلّط فهذا زمان فيه تخليط ... والناس إثنان محسود ومغبوط
ولا تقيمن بأرض لا انتفاع بها ... فالأرض واسعة والرزق مبسوط
فأجابه ابن العميد:
لا تضجرن بزمان فيه تخليط ... إن القضاء بجدّ المرء مربوط
واصبر على الدهر لا تغضب على أحد ... فلن ترى غير ما في اللوح مخطوط
- 59-
أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخصيب
نطاحة من أهل الأنبار: كان
__________
[57]- ترجمة الجفر في طبقات الزبيدي: 377 وفيه «يعرف بالجبر» .
[58]- هذه الترجمة من المختصر ولم ترد في مطبوعة مرغوليوث، وانظر فهرست الطوسي: 23 (كلكتا) 59 (بيروت) .
[59]- ترجمة نطاحة في فهرست ابن النديم: 138 والوافي 6: 248.(1/199)
كاتب عبيد الله بن عبد الله بن طاهر [1] ، وكان بليغا مترسلا شاعرا أديبا متقدما في صناعة البلاغة، وكان في الأكثر يكتب عن نفسه إلى إخوانه، وبينه وبين ابن المعتز مراسلات وجوابات عجيبة.
ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من التصانيف: كتاب ديوان رسائله نحو ألف ورقة يحتوى على كلّ حسن من الرسائل. كتاب الطبيخ. كتاب طبقات الكتاب.
كتاب أسماء المجموع المنقول من الرقاع يشتمل على سماعاته من العلماء وما شاهد من أخبار الجلة. كتاب صفة النفس. كتاب رسائله إلى إخوانه.
قال المرزباني في «المعجم» وجدّه الخصيب بن عبد الحميد صاحب مصر وأصلهم من المذار [2] ، وهو القائل:
خير الكلام قليل ... على كثير دليل
والعيّ معنى [3] قصير ... يحويه لفظ طويل
وفي الكلام عيون ... وفيه قال وقيل
وللبليغ فصول ... وللعييّ فضول
وله أيضا:
لا تجعلن بعد داري ... مخسّسا لنصيبي
فربّ شخص بعيد ... إلى الفؤاد قريب
وربّ شخص قريب ... إليه غير حبيب
ما القرب والبعد إلا ... ما كان بين القلوب
وله يمدح كاتبا:
وإذا نمنمت بنانك خطّا ... معربا عن إصابة وسداد
عجب الناس من بياض معان ... يجتنى من سواد ذاك المداد
__________
[1] كتب قبله لمحمد بن طاهر.
[2] ر: المداد.
[3] ر: شيء.(1/200)
وله أيضا:
ماذا أقول لمن إن زرته حجبا ... وان تخلّفت عنه مكرها عتبا
وان أردت خلاصا من تعتّبه ... ظلما فعاتبته في فعله غضبا
قال أحمد بن يحيى: كان أحمد بن إسماعيل بن إبراهيم الكاتب علّامة شاعرا حسن المعرفة بالشعر، وكان من الظرفاء الخلعاء، قال لي مرة: يا أبا العباس ما بنات مخر؟ فقلت: بنات مخر سحائب بيض يأتين قبل الصيف تشبّه النساء في بياضهنّ وحسنهنّ بها، لأنّ سحاب الصيف لا ماء فيه فيسودّ ويتغير، فقال لي: قلبك عربي.
واستهدى من أحمد بن إسماعيل كتاب «حدود الفراء» فأهداه وكتب على ظهره:
خذه فقد سوّغت منه مشبها ... بالروض أو بالبرد في تفويفه
نظمت كما نظم السحاب سطوره ... وتأنّق الفرّاء في تأليفه
وشكلته ونقطته فأمنت من ... تصحيفه ونجوت من تحريفه
بستان خطّ غير أن ثماره ... لا تجتنى إلا بشكل حروفه
- 60-
أحمد بن أبي الأسود القيرواني
: ذكره الزبيدي فقال: كان غاية في النحو واللغة، وهو من أصحاب عبد الملك المهري [1] ، وله تصانيف في النحو والغريب ومؤلفات حسان، وكان شاعرا مجيدا.
__________
[60]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 31 وبغية الوعاة 1: 297 وطبقات الزبيدي: 229.
[1] هو عبد الملك بن قطن المهري، وقد مرّ ذكره في ترجمة أخيه إبراهيم، وسقطت ترجمته.(1/201)
- 61-
أحمد بن أعثم الكوفي أبو محمد الأخباري المؤرخ
: كان شيعيا وهو عند أصحاب الحديث ضعيف وله كتاب المألوف، وكتاب الفتوح [1] معروف، ذكر فيه إلى أيام الرشيد، وله كتاب التاريخ إلى آخر أيام المقتدر ابتدأه بأيام المأمون ويوشك أن يكون ذيلا على الأول، رأيت الكتابين. وقال أبو علي الحسين بن أحمد السلامي البيهقي أنشدني ابن أعثم الكوفي:
إذا اعتذر الصديق إليك يوما ... من التقصير عذر أخ مقرّ
فصنه عن جفائك وارض عنه ... فإنّ الصفح شيمة كلّ حرّ
- 62-
أحمد بن بختيار بن علي بن محمد الماندائي
أبو العباس الواسطي: وكان له معرفة جيدة بالأدب والنحو واللغة، مات ببغداد في جمادى الآخرة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة ومولده في ذي الحجة سنة ست وسبعين وأربعمائة بأعمال واسط، وقد ولي القضاء بواسط، وكان فقيها فاضلا له معرفة تامة بالأدب واللغة ويد باسطة في كتب السجلات والكتب الحكمية. سمع أبا القاسم ابن بيان وأبا علي ابن نبهان وغيرهما.
قال أبو الفرج ابن الجوزي [2] : وكان يسمع معنا على الفضل بن ناصر. صنف كتبا منها: كتاب القضاة. كتاب تاريخ البطائح.
قرأت بخط حجة الاسلام أبي محمد عبد الله بن أحمد بن أحمد بن الخشاب،
__________
[61]- ترجمة ابن أعثم في الوافي 6: 256.
[62]- ترجمته الماندائي في طبقات السبكي 6: 14 والوافي 6: 261 وبغية الوعاة 1: 297 وطبقات الاسنوي 2: 436 والمشتبه: 624 والكامل لابن الاثير (حوادث 552) وتاريخ ابن كثير 12: 236 (وتكتب نسبته أيضا: المندائي باسقاط الالف الأولى) .
[1] طبع في ثمانية أجزاء (حيدر أباد الدكن) .
[2] المنتظم 10: 177.(1/202)
أنشدني صديقنا الشيخ أبو العباس أحمد بن بختيار بن علي بن محمد الماندائي لنفسه في ابن المرخم:
قد نلت بالجهل أسبابا لها خطر ... يضيق فيها على العقل المعاذير
مصيبة عمّت الاسلام قاطبة ... لا يقتضي مثلها حزم وتدبير
إذا تجارى ذوو الألباب جملتها ... قالوا جهول أعانته المقادير
وقال ابن الخشاب: ومما انشده ابن بختيار في مجلس ابن ناصر لنفسه:
خلق أرقّ من النسيم إذا جرى ... سحرا على نور الربيع الزاهر
لو جاور البحر الأجاج أعاده ... عذبا يروق صفاؤه للناظر
وله:
لما كسا وجهه عذار ... خلعت في وصله العذارا
داريته فاستقام حتى ... صار إذا لم أدره دارا
- 63-
أحمد بن أمية بن أبي أمية أبو العباس الكاتب
: ذكره المرزباني فقال: من أهل بيت الكتابة والغزل والظرف والأدب، حدثنا أحمد بن القاسم النيسابوري أنه لقيه بعد الخمسين والمائتين أو حواليها وأخذ عنه علما كثيرا وأدبا.
قلت: وأمية مولى لهشام بن عبد الملك واتصل في دولة بني العباس بالربيع حاجب المنصور وكتب بين يديه، وله شعر حسن، وولده أهل بيت علم منهم أحمد هذا وأخوه محمد وقد ذكرته في «أخبار الشعراء» .
قال المرزباني وأحمد هو القائل:
خبّرت عن تغيري الأترابا ... ومشيبي فقلن بالله شابا
نظرت نظرة إليّ فصدّت ... كصدود المخمور شمّ الشرابا
__________
[63]- تاريخ بغداد 4: 43 والورقة لابن الجراح: 50 والوافي 6: 259.(1/203)
إن أدهى مصيبة نزلت بي ... أن تصدّي وقد عدمت الشبابا
وكان أبو هفان يقول: ليس في الدنيا هجاء أشرف ولا أظرف من قول أحمد بن أمية:
إذا ابن شاهك قد ولّيته عملا ... أضحى وحقّك عنه وهو مشغول
بسكة أحدثت ليست بشارعة ... في وسطها عرصة في وسطها ميل
يرى فرانقها في الركض مندفعا ... تهوي خريطته والبغل مشكول
- 64-
أحمد بن بشر بن علي التجيبي
: يعرف بابن الأغبس، ذكره الحميدي وقال:
مات سنة ست وعشرين وثلاثمائة، وكان فقيها على مذهب الشافعي مائلا إلى الحديث عالما بكتب القرآن، قد أتقن كلّ ما قيل فيها من جهة العربية والتفسير واللغة والقراءة، وكان حافظا للغة العربية كثير الرواية جيّد الخط والضبط للكتب، وأخذ عن العجلي والخشنّي وابن الغازي.
- 65-
أحمد بن بكران بن الحسين الزجاج
: كتب عنه علي بن محمد الأزدي في سنة خمس وخمسين وثلاثمائة.
- 66-
أحمد بن بكر العبديّ أبو طالب
، صاحب كتاب «شرح الايضاح» لأبي علي
__________
[64]- ترجمة ابن الأغبس في تاريخ ابن الفرضى 1: 44 وجذوة المقتبس: 111 وطبقات الزبيدي: 282 والمقتبس (انطونية) : 48 وإنباه الرواة 1: 33 والوافي 6: 265 والديباج المذهب 1: 157 وبغية الوعاة 1: 298.
[65]- ترجمته في تاريخ بغداد 4: 56.
[66]- ترجمة العبدي في نزهة الألباء: 230 وابن خلكان 1: 101 والوافي 6: 267 وبغية الوعاة 1: 298.(1/204)
الفارسي: كان نحويا لغويا قيما بالقياس والافتنان في العلوم العربية، أخذ عن القاضي أبي سعيد السيرافي وأبي الحسن الرماني وأبي علي الفارسي، ومات في سنة ست وأربعمائة في خلافة القادر بالله، لم أجد له خبرا فأحكيه إلا ما حكى هو عن نفسه في كتاب «شرح الإيضاح» أنه تكلم مع أبي محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن السيرافي (قال العبدي: وكان ابن السيرافي مكينا في هذا الشأن على شهرته عند الناس في اللغة) في تاء تفعلين فقال: هي علامة التأنيث والفاعل مضمر، فقلت له: ولو كانت بمنزلة التاء في ضربت علامة للتأنيث فقط لثبتت مع ضمير الاثنين وعلم أن فيها مع دلالتها على التأنيث معنى الفاعل، فلما صار للاثنين بطل ضمير الواحد الذي هو الياء وجاءت الألف وحدها، فقال هذا إذا زبيل الحوالج كذا وكذا، وانقطع الوقت بالضحك من ابن شيخنا في قلة تصرفه.
وقرأت في فوائد نقلت عن أبي القاسم المغربي الوزير أن العبدي أصيب بعقله واختل في آخر عمره. وله من التصانيف كتاب شرح الايضاح. كتاب شرح الجرمي.
- 67-
أحمد بن أبي بكر بن أبي محمد الخاوراني
، النحوي الأديب أبو الفضل يلقب بالمحدويه: لقيته بعرف سرين [1] ، وهو شاب فاضل بارع متفنن قيّم بعلم النحو محترق بالذكاء حافظ للقرآن، كتب بخطه العلوم وقرأها على مشايخه، ورأيته قد صنّف كتابين صغيرين في النحو، وشرع في أشياء لم تمهله المنية ليتمها، منها فيما ذكر لي «شرح المفصل» للزمخشري، وكتب عني الكثير وفارقته في سنة سبع عشرة
__________
[67]- ترجمته الخاوراني في الوافي 6: 268 وبغية الوعاة 1: 299؛ والخاوراني نسبة إلى خاوران وهي قرية من نواحي خلاط، وقال ياقوت في معجم البلدان: ومنها صديقنا أديب تبريز أحمد بن أبي بكر بن أبي محمد، مات شابا في سنة 620.
[1] يذكر ياقوت أن العرف من مخاليف اليمن بينه وبين صنعاء عشرة فراسخ ويذكر في مادة «سرّين» أنها قرية من أعمال صنعاء؛ ولكني لست واثقا من أن هذا الموضع هو الذي يعنيه هنا.(1/205)
وستمائة ثم بلغني أنه اعتبط فمات في سنة عشرين وستمائة وعمره نحو ثلاثين سنة، وله رسالة صالحة.
- 68-
احمد بن جعفر الدينوري
ختن ثعلب على ابنته، يكنى أبا علي: أحد النحاة المبرزين المصنفين [ذكره الزبيدي] في نحاة مصر وقال: انه مات بمصر سنة تسع وثمانين ومائتين قال: وكان أبو عليّ الدينوري يخرج من منزل ثعلب وهو جالس على باب داره فيتخطى أصحابه ومعه محبرته فيقرأ كتاب سيبويه على أبي العباس المبرد، فيعاتبه ثعلب ويقول: إذا رآك الناس تمضي إلى هذا الرجل وتقرأ عليه وتتركني يقولون ماذا؟ فلم يكن يلتفت إلى قوله. قال: وكان أبو علي هذا حسن المعرفة، قال قال المصعبي: فسألت أبا علي كيف صار المبرد أعلم بكتاب سيبويه من ثعلب؟ فقال: لأن المبرد قرأه على العلماء وثعلب قرأه على نفسه.
قال الزبيدي: وأصله من الدينور، وقدم البصرة وأخذ عن المازني وحمل عنه كتاب سيبويه، ثم دخل إلى بغداد فقرأ على المبرد، ثم قدم مصر، وألف «كتاب المهذب» في النحو، وكتب في صدره اختلاف البصريين والكوفيين وعزا كلّ مسألة إلى صاحبها، ولم يعتلّ لكلّ واحد منهم ولا احتجّ لمقالته، فلما أمعن في الكتاب ترك الاختلاف ونقل مذهب البصريين، وعوّل في ذلك على كتاب الاخفش سعيد بن مسعدة. وله كتاب مختصر في ضمائر القرآن استخرجه من «كتاب المعاني» للفراء.
ولما قدم علي بن سليمان الأخفش إلى مصر خرج أبو علي منها، فلما رجع الأخفش إلى بغداد عاد أبو علي إلى مصر فأقام بها حتى مات في السنة المقدم ذكرها. وله كتاب إصلاح المنطق.
__________
[68]- ترجمة ختن ثعلب في إنباه الرواة 1: 33 والوافي 6: 285 وبغية الوعاة 1: 301 وطبقات الزبيدي: 215.(1/206)
- 69-
أحمد بن جعفر جحظة
: هو أبو الحسن أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد بن برمك البرمكي النديم. قال أبو عبد الله الحسن بن علي بن مقلة: سألت جحظة عمّن لقّبه بهذا اللقب فقال: ابن المعتز لقبني به، فإنه لقبني يوما فقال لي: ما حيوان إذا قلب [1] صار آلة للبحرية؟ فقلت: علق إذا عكس صار قلعا، فقال: أحسنت يا جحظة، فلزمني هذا اللقب، وهو من في عينيه نتوء جدا؛ وكان قبيح المنظر وكان له لقب آخر يلقبه به المعتمد، وهو خنياكر [2] ، وما أدري أيّ شيء معناه.
كان حسن الأدب كثير الرواية للأخبار متصرفا في فنون من العلم كالنحو واللغة والنجوم، مليح الشعر مقبول الألفاظ حاضر النادرة، وكان طنبوريا حاذقا فيه فائقا، مات في شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة [3] بجبّل ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين.
ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: ولجحظة من التصانيف: كتاب الطبيخ، لطيف. كتاب الطنبوريين. كتاب فضائل السكباج. كتاب الترنم. كتاب المشاهدات. كتاب ما شاهده من أمر المعتمد على الله. كتاب ما جمعه مما جرّبه المنجمون فصحّ من الأحكام. كتاب ديوان شعره.
قال [4] : كان جحظة وسخا قذرا دنيء النفس في دينه قلّة، وهو القائل:
إذا ما ظمئت إلى ريقه ... جعلت المدامة منه بديلا
وأين المدامة من ريقه ... ولكن أعلّل قلبا عليلا
__________
[69]- ترجمة جحظة في الفهرست: 162 وتاريخ بغداد 4: 65 ووفيات الأعيان 1: 133 والوافي 6: 286 وفي الأغاني والديارات والبصائر وغيرها من الكتب الأدبية أخبار منثورة عنه، وقد ألف فيه الدكتور مزهر السوداني كتابه: جحظة البرمكي الأديب الشاعر (النجف: 1977) .
[1] م: عكس.
[2] لعلّ معناه: المغني.
[3] في الفهرست: سنة 326 (وأثبت ابن خلكان التاريخين) .
[4] أي صاحب الفهرست.(1/207)
ومن سائر شعره قوله:
لي صديق مغرى بقربي وشدوي ... وله عند ذاك وجه صفيق
قوله إن شدوت أحسنت زدني ... وبأحسنت لا يباع الدقيق
حدث الخطيب قال [1] ، قال جحظة: أنشدت عبيد الله بن عبد الله بن طاهر قولي:
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أوثقته [2] ... وجامع بددت ما يجمع
فقال لي: ذنبك إلى الزمان الكمال.
ومن شعر جحظة [3] :
أقول لها والصبح قد لاح ضوءه ... كما لاح ضوء البارق المتألق
شبيهك قد وافى ولاح افتراقنا ... فهل لك في صوت وكأس مروّق
فقالت شفائي في الذي قد ذكرته ... وان كنت قد نغصته بالتفرّق
قال جحظة: صك لي بعض الملوك بصلة [4] ، فدافعني الجهبذ به حتى ضجرت، فكتبت إليه [5] :
إذا كانت صلاتكم رقاعا ... تخطّط بالأنامل والأكفّ
ولم تكن الرقاع تجرّ نفعا ... فها خطّي خذوه بألف ألف
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه:
طرقنا بزوغى [6] حين أينع زهرها ... وفيها لعمر الله للعين منظر
__________
[1] تاريخ بغداد 4: 66.
[2] م: واثقته؛ ر: واريته.
[3] الإمتاع والمؤانسة 2: 167- 168 والوافي 6: 288.
[4] م: بصك.
[5] تاريخ بغداد 4: 68 والمنتظم 6: 284 (وانظر جحظة: 288- 289) .
[6] بزوغى: من قرى بغداد، بينها وبين بغداد نحو فرسخين.(1/208)
وكم من بهار يبهر العين حسنه ... ومن جدول بالبارد العذب يزخر
ومن مستحثّ بالمدام كأنه ... وإن كان ذميا أمير مؤمّر
وفي كفّه اليمنى شراب مورّد ... وفي كفّه اليسرى بنان معصفر
شقائق تندى بالندى فكأنها ... خدود عليهنّ المدامع تقطر
وكم ساقط سكرا يلوك لسانه ... وكم قائل هجرا وما كان يهجر
وكم منشد بيتا وفيه بقيّة ... من العقل إلا أنه متحير
«فكان مجنّي دون من كنت أتقي ... ثلاث شخوص كاعبان ومعصر»
وكم من حسان جسّ أوتار عوده ... فألهب نارا في الحشا تتسعر
يغنّي وأسباب الصواب تمدّه ... بصوت جليل ذكره حين يذكر
أحنّ حنين الواله الطّرب الذي ... ثنى شجوه بعد الغداء التذكر
أجحظة إن تجزع على فقد معشر ... فقدت بهم من كان للكسر يجبر
وأصبحت في قوم كأنّ عظامهم ... إذا جئتهم في حاجة تتكسّر
فصبرا جميلا إن في الصبر مقنعا ... على ما جناه الدهر والله أكبر
وأنشد أيضا لنفسه:
يا من بعدت من الكرى ببعاده ... الصبر مذ غيّبت عنّي غائب
أصبحت أجحد أنني لك عاشق ... والعين مخبرة بأني كاذب
وأنشد أيضا لنفسه:
قد قلّل الإدمان أكلي فما ... أطعم زادا قيس إبهام
فالحمد لله وشكرا له ... قد صرت من بابة أقوام
قوم ترى أولادهم بينهم ... للجوع في حلية أيتام
وأنشد أيضا لنفسه:
أرى الأيام ترمز لي بخير ... ولكن بعد أيام طوال
فمن ذا ضامن لدوام عمري ... إلى دهر يغيّر سوء حالي(1/209)
هي التسعون قد عطفت قناتي ... ونفّرت الغواني عن وصالي
وفيها لو عرفت الحق شغل ... عن الأمر الذي أضحى اشتغالي
كأني بالنوادب قائلات ... وجسمي فوق أعناق الرجال
ألا سقيا لجسمك كيف يبلى ... وذكرك في المجالس غير بالي
وأنشد أيضا لنفسه [1] :
أنفق ولا تخش إقلالا فقد قسمت ... بين العباد مع الآجال أرزاق
لا ينفع البخل مع دنيا مولية ... ولا يضرّ مع الإقبال إنفاق
وأنشد أيضا لنفسه:
تعجبت إذ رأتني فوق مكسور ... من الحمير عقير الظهر مضرور
من بعد كلّ أمين الرّسغ معترض ... في السير تحسبه إحدى التصاوير
فقلت لا تعجبي منّي ومن زمن ... أنحى عليّ بتضييق وتقتير
بل فاعجبي من كلاب قد خدمتهم ... تسعين عاما بأشعاري وطنبوري
ولم يكن في تناهي حالهم بهم ... حرّ يعود على حالي بتغيير
وقيل لجحظة: كيف حالك؟ فقال: كما قال الشاعر [2] :
أيّ شيء رأيت أعجب من ذا ... إن تفكرت ساعة في الزمان
كلّ شيء من السرور بوزن ... والبلايا تكال بالقفزان
وأنشد جحظة لنفسه:
الحمد الله ليس لي كاتب ... ولا على باب منزلي حاجب
ولا حمار إذا عزمت على ... ركوبه قيل جحظة راكب
ولا قميص يكون لي بدلا ... مخافة من قميصي الذاهب
__________
[1] بخلاء الخطيب: 191 وشرح المضنون به: 113 ولسان الميزان 1: 146.
[2] الوافي 6: 288 ومعاهد التنصيص 2: 299.(1/210)
وأجرة البيت فهي مقرحة ... أجفان عيني بالوابل الساكب
إن زارني صاحب عزمت على ... بيع كتاب لشبعة الصاحب
أصبحت في معشر تشمتهم ... فرض من الله لازب واجب
فيهم صديق في عرسه عجب ... إذا تأملت أمرها عاجب
تحسبها حرة وحافرها ... أرقّ من شعر خالد الكاتب
وأنشد لنفسه:
أحمد الله لم أقل قطّ يا بد ... رويا منصفا ويا كافور
لا ولا قلت أين أين الشواهين ... ووزّاننا [1] وأين البدور
لا ولا قيل قد أتاك من الضي ... عة برّ موفّر وشعير
وأتاك العطّار بالند لما ... قيل ما في الخزانتين بخور
أنا خلو من المماليك و ... الأملاك جلد على البلاء صبور
ليس إلا كسيرة وقديح ... وخليق أتت عليه الدهور
قال جحظة: ومررت بوقاد يوقد في التنور ويغني [2] :
أنا أهواك بنور الله ... فافعل ما بدا لك
إن تكن تمنعني شخ ... صك فابذل لي خيالك
قد أخذت الدن والطن ... بور والكلب فمالك
قل لمن جنبك القم ... عوث من دسّك والك
وله أيضا [3] :
ولي صاحب زرته للسلام ... فقابلني بالحجاب الصّراح
وقالوا تغيّب عن داره ... لخوف غريم ملحّ وقاح
ولو كان عن داره غائبا ... لأدخلني أهله للنكاح
__________
[1] ر: ورراننا (دون إعجام) .
[2] البصائر للتوحيدي 4: 140 (رقم: 482) .
[3] البصائر 2: 45 (رقم: 109) وجحظة البرمكي: 278.(1/211)
وقال يستزير بعض إخوانه [1] :
لنا يا أخي زلّة وافره ... وقدر معجّلة حاضره
وراح تريك [2] إذا صفّقت ... سنا البرق في الليلة الماطره
وما شئت من زهر يانع ... أطافت به الديمة الماطره
ومسمعة [3] لم يخنها الصواب ... وزامرة أيما زامره
وما شئت من خبر نادر ... ونادرة بعدها نادره
فايت ولو كنت يا ابن الكرام ... وحاشاك من ذاك في الآخره
وأنشد لنفسه أيضا:
ما زارني في الحبس من نادمته ... كأسين كاس مودة ومدام
بخلوا عليّ وقد طلبت سلامهم ... فكأنني طالبتهم بطعام
وأنشد أيضا لنفسه:
وذي جدة طلبت إليه برّا ... من الجلساء مذموم الخلائق
فأقسم أنه رجل فقير ... أرانيه المهيمن وهو صادق
كأني بالمنازل عن قليل ... خلون من المطرّزة النمارق
وقد ظفر النساء بما تركتم ... فصار لماهر بالنيك حاذق
وأنشد أيضا لنفسه في أماليه:
وقائل قال لي من أنت قلت له ... مقال ذي حكمة دانت له الحكم
لست الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم
أنا الذي دينه إسعاف سائله ... والضرّ يعرفه والبؤس والعدم
انا الذي حبّ أهل البيت أفقره ... فالعدل مستعبر والجور مبتسم
__________
[1] الديارات: 22 ومحاضرات الراغب 1: 307 (ط. الشرفية) وهو يدعو ابن طرخان.
[2] م: تزيل.
[3] الديارات: ومحسنة.(1/212)
وله أيضا [1] :
ولى كبد لا يصلح الطبّ سقمها ... من الوجد لا تنفكّ دامية حرّى
فياليت شعري والظنون كثيرة ... أيشعر بي من بتّ أرعى له الشعرى
وله أيضا:
شكري لإحسانك شكر امرىء ... يستوهب الإحسان من واهبه
وكيف لا أشكر من لا أرى ... في منزلي إلا الذي جاد به
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه:
حسبي ضجرت من الأدب ... ورأيته سبب العطب
وهجرت إعراب الكلام ... وما حفظت من الخطب
ورهنت ديوان النقا ... ئض واسترحت من التعب
وله أيضا [2] :
لا تعجبي يا هند من ... حالي فما فيها عجب
إن الزمان بمن تقدّ ... م في النباهة منقلب
فالجهل يضطهد الحجى ... والراس يعلوه الذنب
حدث غرس النعمة في كتاب الهفوات [3] قال: كان جحظة لما أسنّ يفسو في مجالسه فيلقى من يعاشره منه جهدا، قال أبو الحسين ابن عياش [4] : وكنت أحبّ غناءه والكتابة عنه لما عنده من الآداب، وكان يستطيب عشرتي، وكنت إذا جلست عنده أخذت عليه الريح، [وجلست فوقها] ، فجئته يوما في مجلس الأدب والناس عنده وهو يملي، فلما خفّوا قال لي ولآخر كان معي، اجلسا عندي حتى أقعدكما على
__________
[1] البصائر 2: 47 (رقم: 117) والبيت الثاني في المنتحل: 238.
[2] محاضرات الراغب 1: 13 (الشرفية) .
[3] الهفوات: 157- 158 ونشوار المحاضرة 2: 195- 196.
[4] أبو الحسين عبد الله بن أحمد بن عياش، كان على الفتيا بسوق الأهواز، ويروي عنه التنوخي في النشوار والفرج بعد الشدة قصصا كثيرة.(1/213)
لبود، وأطعمكما طباهجة بكبود، وأسقيكما من معتقة اليهود، وأبخّركما بعنبر وعود، أطيب من الندود، وأغنيكما غناء المسدود [1] . فقلت: هذا موضع السجود. وجلسنا وصديقي لا يعرف خلّته في الفساء، وأنا قد أخذت الريح [2] ، فوفى لنا بجميع ما ذكره، وقال لنا وقد غنى وشربنا: نحن بالغداة علماء وبالعشي في صورة المخنكرين [3] . فلما أخذ النبيذ منه أخذ يفسو وصديقي يغمزني ويتعجب، فأقول له: إن ذلك عادته وخلّته، وأن سبيله أن يحتمل إلى أن غنّى صوتا من الشعر والصنعة له فيه وكان يجيده:
إن بالحيرة قسا قد مجن ... فتن الرهبان فيها وافتتن
ترك الإنجيل حينا للصبا ... ورأى الدنيا مجونا فركن
قال: فطرب عليه صديقي طربا شديدا واستحسنه كثيرا وأراد أن يقول له:
أحسنت والله يا أبا الحسن، فقال له ما في نفسه يتردد من أمر الفساء: افس عليّ يا أبا الحسن كيف شئت، فخجل جحظة وخجل الفتى وانصرفنا.
وحدث الخطيب عن أبي الفرج الاصبهاني قال [4] : حدثني جحظة قال:
اتصلت عليّ إضافة أنفقت فيها كلّ ما أملكه حتى بقيت ليس في داري سوى البواري [5] فأصبحت يوما وأنا أفلس من طنبور بلا وتر- كما يقال في المثل- ففكرت كيف أعمل فوقع لي أن أكتب إلى محبرة بن أبي عباد [6] الكاتب، وكنت أجاوره، وكان قد ترك التصرّف قبل ذلك بسنتين وحالفه النقرس فأزمنه حتى صار لا يتمكن من التصرف إلا محمولا على الأيدي أو في محفة، وكان مع ذلك على غاية الظّرف وكبر النفس وعظم
__________
[1] المسدود: مغنّ (انظر الأغاني 20: 250) .
[2] زاد هنا لفظة «فوقي» ولم ترد في الهفوات والنشوار (وهي تكرار للكلمة التالية) .
[3] المخنكرون: المجان.
[4] تاريخ بغداد 4: 66- 67 والفرج بعد الشدة 2: 365.
[5] البواري: الحصر، المفرد: بارية.
[6] هو محمد بن يحيى بن أبي عباد جابر العسكري. وقد مرّ ذكره.(1/214)
النعمة ومواصلة الشرب والقصف، فأردت أن أتطايب عليه ليدعوني فآخذ منه ما أنفقه مدة، فكتبت إليه:
ماذا ترى في جديّ ... وفي غضار بوارد [1]
وقهوة ذات لون ... يحكي خدود الخرائد
ومسمع يتغنّى ... من آل يحيى بن خالد
إن المضيع لهذا ... نزر المروءة بارد
فما شعرت إلا بمحفة محبرة يحملها غلمانه إلى داري، وأنا جالس على بابي، فقلت له: لم جئت؟ ومن دعاك؟ فقال: أنت، فقلت: إنما قلت لك ماذا ترى في هذا، وعنيت في بيتك، وما قلت لك إنه في بيتي، وبيتي والله أفرغ من فؤاد أمّ موسى، فقال: الآن قد جئت ولا أرجع، ولكن أدخل إليك وأستدعي من داري ما أريد، قلت: ذاك إليك، فدخل فلم ير في بيتي إلا بارية، فقال يا ابا الحسن هذا والله فقر نصيح، هذا ضرّ مدقع، ما هذا؟ قلت: هو والله ما ترى، فأنفذ إلى داره فاستدعى فرشا وآلة وقماشا وغلمانا، وجاء فراشوه ففرشوا ذلك، وجاءوا من الصفر والشمع وغير ذلك بما يحتاج إليه، وجاء طباخه بما كان في مطبخه، وهو شيء كثير بآلات ذلك، وجاء شرابيّه بالأواني والمخروط والفاكهة وآلة التبخير والبخور وألوان الأنبذة، وجلس يومه ذلك وليلته عندي يشرب على غنائي وغناء مغنية أحضرتها كنت ألفتها، فلما كان من الغد سلّم إلى غلامه كيسا فيه ألف درهم ورزمة ثياب صحاح ومقطوعة من فاخر الثياب، واستدعى محفته فجلس فيها وشيعته، فلما بلغ آخر الصحن قال: مكانك يا أبا الحسن، احفظ بابك فكلّ ما في دارك لك، فلا تدع أحدا يحمل منه شيئا، وقال للغلمان: اخرجوا، فخرجوا بين يديه، وأغلقت الباب على قماش بألوف كثيرة.
وأنشد السلامي لجحظة في سعد الحاجب [2] :
يا سعد إنك قد خدمت ثلاثة ... كلّ عليه منك وسم لائح
__________
[1] الفرج: وبرمة وبوارد.
[2] الأبيات في البصائر 6: 58 (رقم: 169) ومنها بيتان في محاضرات الراغب 1: 318.(1/215)
وأراك تخدم رابعا لتميته ... رفقا به فالشيخ شيخ صالح
يا خادم الوزراء انك عندهم ... سعد ولكن أنت سعد الذابح
وحدث جحظة قال: دخلت وأنا في بقايا علة على كاتب (قال ابن بشران:
على هارون بن غريب الخال) فقدم إلينا مضيرة عصبان فأمعنت فيها، فقال: جعلت فداك أنت عليل، وبدنك نحيل، والعصب ثقيل، واللبن يستحيل، فقلت له:
والعظيم الجليل، المفضل المنيل، لا تركت منها كثير ولا قليل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. فغضب عليّ فضربني عشرين مقرعة فقلت [1] :
ولي صاحب لا قدّس الله روحه ... وكان من الخيرات غير قريب
أكلت عصيدا عنده في مضيرة ... فيا لك من يوم عليّ عصيب
قال: ودخلت إليه يوما آخر فقدم إليّ لوزينجا لها أيام وقد حمضت، فأخذت أمعن في أكلها، فقال لي: إن اللوزينج إذا كان بالجوز أسخن، وإذا كان باللوز ألحم، فقلت: نعم يا سيدي إذا كان لوزينجا وأما إذا كانت مصوصا فلا.
وحدث عبد الله بن المعتز قال: عربد ابن أبي العلاء على جحظة بحضرتي فأمرت بتنحية جحظة إلى أن رضي أحمد، فكتب إليّ جحظة:
أليس من العجائب أن مثلي ... يقام لأحمد بن أبي العلاء
ولي نفس أبت الا ارتفاعا ... فأضحت كالسماء على السماء
لقد غضب الزمان على أناس ... فأبلاهم بأولاد الزناء
في «تاريخ دمشق» قال جحظة سلمت على بعض الرؤساء وكان مبخلا، فلما أردت الانصراف قال لي: يا أبا الحسن أيش تقول في قطائف بائتة؟ ولم يكن له بذلك عادة، فقلت: ما آبى ذلك، فأحضر لي جاما فيه قطائف قد خمّت، فأوجعت فيها وصادفت مني مسغبة، وهو ينظر إليّ شزرا، فقال لي: يا أبا الحسن إن القطائف إذا كانت بجوز أتخمتك، وإذا كانت بلوز أبشمتك، قال فقلت: هذا إذا كانت قطائف،
__________
[1] بخلاء الخطيب: 148.(1/216)
فأما إذا كانت مصوصا فلا، وعملت لوقتي هذه الأبيات [1] :
دعاني صديق لي لأكل القطائف ... فأمعنت فيها آمنا غير خائف
فقال: وقد أوجعت بالأكل قلبه ... رويدك مهلا فهي إحدى المتالف
فقلت له: ما إن سمعنا بهالك ... ينادى عليه يا قتيل القطائف
قال عبد الله بن المعتز: كتب إليّ جحظة في يوم مطير: انصرفت من عندك جعلني الله فداك وقد كنّا عقدنا موعدا للقاء، ثم منعني من المصير إليك ما نحن فيه من انقطاع شريان الغمام، فتفضّل ببسط العذر لعبدك إن شاء الله.
ومن شعر جحظة [2] :
وليل في جوانبه حران ... فليس لطول مدته انقضاء
عدمت مطالع الإصباح فيه ... كأنّ الصبح جود أو وفاء
وله أيضا:
رحلتم فكم من أنة بعد زفرة ... مبيّنة للناس شوقي إليكم
وقد كنت أعتقت الجفون من البكا ... فقد ردّها في الرقّ حزني عليكم
وحدث أبو الفرج الأصبهاني قال: دعاني أبو محمد ابن الشار يوما ودعا جحظة، وأطال حبس الطعام جدا، وجاع جحظة فأخذ دواة وبياضا وكتب [3] :
مالي وللشار وأولاده ... لا قدّس الوالد والوالده
قد حفظوا القرآن واستعملوا ... ما فيه إلا سورة المائده
ورمى بها إليّ فقرأتها ودفعتها إلى ابن الشار، فقرأها ووثب مسرعا فقدم المائدة، فقاطعه جحظة فكان يجهد جهده أن يجيئه فلا يفعل، فإذا عاتبناه قال: لا والله حتى يحفظ تلك السورة.
__________
[1] الوافي 6: 289.
[2] سرور النفس: 29 ورسالة الطيف: 110 وربيع الأبرار (الورقة 3/أ) والبيت الثاني في مجموعة المعاني: 191.
[3] بخلاء الخطيب: 149 والتمثيل والمحاضرة: 303.(1/217)
وله أيضا:
يطول عليّ الليل حتى أملّه ... فأجلس والنوام في غفلة عني
فلا أنا بالراضي من الدهر فعله ... ولا الدهر يرضى بالذي ناله مني
قال أبو علي حدثني أبو القاسم الحسين بن علي البغدادي، وكان أبوه ينادم ابن الحواري ثم نادم البريديين بالبصرة وأقام بها سنين، قال: كان جحظة سخيف الدين، وكان لا يصوم شهر رمضان، وكان يأكل سرا، فكان عند أبي يوما في شهر رمضان مسلما فاحتبسه، فلما كان نصف النهار سرق من الدار رغيفا ودخل المستراح وجلس على المقعدة، واتفق أن دخل أبي فرآه فاستعظم ذلك وقال: ما هذا يا أبا الحسن؟ فقال: أفتّ لبنات وردان ما يأكلون فقد رحمتهم من عذاب الجوع.
ومن شعر جحظة [1] .
إن كنت ترغب في الزيا ... رة عند أوقات الزياره
فدع الشتيمة للغلا ... م إذا دنوت من الغضاره
ومن مطبوع شعر جحظة:
وإذا جفاني صاحب ... لم أستجز ما عشت قطعه
وتركته مثل القبو ... ر أزورها في كلّ جمعه
وحدث جحظة في أماليه: دخلت إليّ عريب المأمونية مع شروين المغني وأبي العنبس المغني وأنا يومئذ غلام عليّ قباء ومنطقة وأنكرتني وسألت عني فأخبرها شروين وقال لها: هذا فتى من أهلك. هذا ابن جعفر بن موسى بن يحيى بن خالد البرمكي، وهو يغني بالطنبور، فأدنتني وقربت مجلسي ودعت بطنبور وأمرتني أن أغني، فغنيت أصواتا فقالت: أحسنت يا بنيّ ولتكوننّ مغنيا، ولكن إذا حضرت بين هذين الأسدين ضعت أنت وطنبورك- تعني بين عوديهما- وأمرت لي بمائة دينار.
وأنشد لنفسه في أماليه:
دعيني من العذل أين الكبير ... بحرمة معبودك الأكبر
__________
[1] محاضرات الراغب 1: 317 (الشرفية) .(1/218)
فلست بباك على ظاعن ... ولا طلل محول مقفر
ولكن بكائي على ماجد ... أراد نوالا فلم يقدر
وأنشد فيه لنفسه:
مرضت فلم يعدني في شكاتي ... من الإخوان ذو كرم وخير
فإن مرضوا وللأيام حكم ... سينفذ في الكبير وفي الصغير
غدوت على المدامة والملاهي ... وإن ماتوا خريت [1] على القبور
وأنشد فيه لنفسه:
يا راقدا ونسيم الورد منتبه ... في رقّة القفص [2] والأطيار تنتحب
الورد ضيف فلا تجهل كرامته ... وهاتها قهوة في الكاس تلتهب
سقيا له زائرا تحيا النفوس به ... يجود بالوصل حينا ثم يجتنب
تبا لحرّ رآه وهو ذو جدة ... لم يقض من حقّه بالشرب ما يجب
وقال جحظة:
ناديت عمرا وقد مالت بجانبه ... مدامة أخذت بالرأس والقدم
قد لاح في الدير نار الراهبين وقد ... ناداك بالصبح ناقوساهما فقم
فقام يعثر في أثواب نعسته ... لبزل صافية كالنجم في الظلم
فاستلّها وشدا والكأس في يده ... «سلّم على الربع من سلمى بذي سلم»
لو دام لي في الورى خلّ وعاتقة ... لما حفلت بذي قربى ولا رحم
ولا بكرت إلى جلف [3] لنائله ... ولا التفتّ إلى شيء من النعم
حدث أبو علي المحسن بن علي بن محمد قال [4] : كان الحسن بن مخلد أكرم الناس في بذل المال وأبخلهم بطعامه، فكان يحضر ندماؤه على مائدته فلا يستجرىء
__________
[1] م: حزنت.
[2] القفص: قرية بين بغداد وعكبرا كانت من مواطن النزهة واللهو.
[3] م: حلو.
[4] نشوار المحاضرة 2: 190- 194.(1/219)
أحد منهم أن يشعّث شيئا البتة، وينزهون أنفسهم عند رفع المائدة بمسح أيديهم بلحاهم، وله في ذلك قصص عجيبة؛ قال جحظة: ربحت بأكلة أقريتها مع الحسن بن مخلد خمسمائة دينار وخمسمائة درهم وخمسة أثواب فاخرة وعتيدة طيب سريّة، فقيل له: كيف كان ذلك؟ فقال: كان الحسن بن مخلد بخيلا على الطعام سمحا بالمال، وكان يأخذ ندماءه بغتة فيسقيهم النبيذ ويواكلهم، فمن أكل قتله قتلا، ومن شرب معه على الخسف [1] حظي عنده، قال: فكنت عنده يوما فقال لي: يا أبا الحسن قد عملت غدا على الصبوح الجاشريّ فبت عندي، فقلت: لا يمكنني ولكني أباكرك قبل الوقت، فعلى أيّ شيء عملت أن تصطبح؟ فقال: قد أعدّ لنا كذا وكذا، ووصف ما تقدم به إلى الطباخ بعمله، فعقدنا الرأي على أن أباكره، وقمت وجئت إلى منزلي ودعوت طباخي فتقدمت إليه بأن يصلح لي مثل ذلك بعينه ويفرغ منه وقت العتمة، ففعل، ونمت وقمت وقد مضى نصف الليل، فأكلت ما أصلح، وغسلت يدي، وأسرج [لي] وأنا عامل على المضيّ إليه إذا طرقتني رسله، فجئته فقال:
بحياتي أكلت؟ قلت: أعيذك بالله، انصرفت من عندك قبل الغروب، وهذا نصف الليل، فأيّ وقت أصلح لي شيء؟ أو أي وقت أكلت شيئا؟ اسأل غلمانك على أيّ حال وجدوني، فقالوا: وجدناه يا سيدنا وقد لبس ثيابه، هو ينتظر أن يفرغ له من إسراج بغلته ليركبها، فسرّ بذلك سرورا شديدا وقدّم الطعام فما كان فيّ فضل أشمه، فأمسكت عن تشعيثه ضرورة وهو يستدعي أكلي، ولو أكلت أحلّ دمي، قال: وكذا كانت عادته، فأقول هو ذا آكل يا سيدي، وفي الدنيا أحد يأكل أكثر من هذا؟! وانقضى الأكل وجلسنا على الشرب، فجعلت أشرب بأرطال وهو يفرح، وعنده أني أشرب على الريق أو على ذلك الأكل الذي خلست معه، ثم أمرني بالغناء فغنيت، فاستطاب ذلك وطرب وشرب أرطالا، فلما رأيت النبيذ قد عمل فيه قلت: يا سيدي تطرب أنت على غنائي فأنا على أي شيء أطرب؟ فقال: يا غلام هات دواة، فأحضرت فكتب لي رقعة ورمى بها إليّ وإذا هي على صيرفيّ يعامله بخمسمائة دينار، فأخذتها وشكرته، ثم غنيته وطرب وزاد سكره، فطلبت منه ثيابا فخلع عليّ خمسة
__________
[1] على الخسف: على غير أكل.(1/220)
أثواب، ثم أمر أن يبخّر كلّ من بين يديه، فأحضرت عتيدة حسنة سريّة فيها طيب كثير، فأخذ الغلمان يبخّرون منها الناس، فلما انتهوا إليّ قلت: يا سيدي وأنا أرضى أن أتبخر حسب؟ فقال لي: ما تريد؟ قلت: أريد نصيبي من العتيدة، قال: قد وهبتها لك، فأخذتها، وشرب بعد ذلك رطلا واتكأ على مسورته، وكذا كانت عادته إذا سكر، فقام الناس من مجلسه وقمت وقد طلع الفجر وأضاء، وهو وقت يبكر الناس في حوائجهم، فخرجت كأني لصّ قد خرج من بيت قوم على قفا غلامي الثياب والعتيدة كارة، فصرت إلى منزلي ونمت نومة ثم ركبت إلى درب عون أريد الصيرفي، فأوصلت إليه الرقعة، فقال: يا سيدي أنت الرجل المسمّى في التوقيع؟ قلت:
نعم، قال: أنت تعلم أن أمثالنا يعاملون للفائدة، قلت: أجل، قال: ورسمنا أن نعطى في مثل هذا ما يكسر في كلّ دينار، درهما، فقلت له: لست أضايقك في هذا القدر، فقال: ما قلت هذا لأربح عليك الكثير، أيما أحبّ إليك أن تأخذ كما يأخذ الناس وهو ما قد عرّفتك، أو تجلس مكانك إلى الظهر حتى أفرغ من شغلي ثم تركب معي إلى داري فتقيم عندي اليوم والليلة تشرب، فقد والله سمعت بك وكنت أتمنى أن أسمعك، ووقعت الآن لي رخيصا، فإذا فعلت هذا دفعت إليك الدنانير من غير خسران، فقلت: أقيم عندك، فجعل الرقعة في كمه وأقبل على شغله، فلما دنت الظهر جاء غلامه ببغلة فارهة فركب وركبت معه، وصرنا إلى دار سريّة حسنة بفاخر الفرش والآلات ليس فيها إلا جوار روم للخدمة من غير فحل، فتركني في مجلسه ودخل ثم خرج بثياب أولاد الخلفاء من حمام داره وتبخر وبخرني بيده بندّ عتيق جيد، وأكلنا أسرى الطعام وأنظفه، وقمنا إلى مجلس سريّ للشرب فيه فواكه وآلات بمال، وشربنا ليلتنا، فكانت ليلتي عنده أطيب من أختها عند الحسن بن مخلد، فلما أصبحنا أخرج كيسين في أحدهما دنانير وفي الآخر دراهم، فوزن خمسمائة دينار وخمسمائة درهم وقال: يا سيدي تلك ما أمرت به وهذه الدراهم هدية مني إليك، فأخذتها وانصرفت، وصار الصيرفي صديقي وداره لي.
وقال [1] وحدثني أبو الحسن أحمد بن يوسف التنوخي قال حدثني أبو علي
__________
[1] نشوار المحاضرة 2: 292.(1/221)
ابن الأعرابي الشاعر قال: كنت في دعوة جحظة، فأكلت وجلسنا نشرب وهو يغني، إذ دخل رجل فقدّم إليه جحظة زلّة كان زلّها من طعامه ونحن نأكل، وكان بخيلا على الطعام، قال: وكأنّ الرجل كان طاويا، طاوي سبع، فأتى على الزلّة، ورفع الطيفورية فارغة وجحظة يرمقه بغيظ، ونحن نلمح جحظة ونضحك، فلما فرغ قال له جحظة: تلعب معي بالنرد؟ قال: نعم فوضعاه بينهما ولعبا، فتوالى اللعب على جحظة من الرجل بأن تجيء الفصوص على ما يريد من الأعداد، ويكره جحظة، فأخرج جحظة رأسه من قبّة الخيش رافعا له إلى السماء، وقال كأنه يخاطب الله جلّ وعزّ: لعمري إني أستحقّ هذا لأني أشبع من أجعته.
قلت: ما. شد تباعد ما بين هذين الخبرين وخبر رواه التنوخي [1] أيضا عن أبي العباس ابن المنجم [2] قال: سمعت أبا عبد الله الموسوي العلوي [3] يقول: قصدني أبو جعفر محمد بن يحيى بن شيرزاد [4] في أيام تدبيره الأمر قصدا قبيحا، وعمل لي كتّابه مؤامرة [5] في خراجاتي بمائة ألف درهم، أكثرها واجب [عليّ] وباقيها كالواجب، وأحضرني للمناظرة عليها واعتقلني في داره، فضقت ذرعا بما نزل بي، وعلمت أن المال سيلزمني إذا نوظرت، وأنه يؤثر في حالي ويهتك جاهي، فلم أدر ما أصنع، فشاورت بعض من يختصّ به فقال: طمعه فيك والله قويّ وما ينفعك معه شيء غير المال، فقلت له: ففكّر في حيلة أو مخادعة، ففكر ثم قال: لا أعرف لك دواء إلا شيئا واحدا إن سمحت به نفسك وتركت العلوية عنك وفعلته نجوت، قلت:
ما هو؟ قال: هو رجل سمح على الطعام محبّ لآكله على مائدته موجب لحرمته،
__________
[1] نشوار المحاضرة 2: 336- 338.
[2] هو أبو العباس هبة الله بن المنجم.
[3] هو أخو أبي أحمد الموسوي نقيب الطالبيين، نفاهما عضد الدولة واعتقلهما وبقيا في الاعتقال ثلاث سنوات، وأطلقا سنة 372.
[4] كان ابن شيرزاد كاتبا لهارون بن غريب الخال (خال المقتدر) وتقلبت به الأحوال في مناصب مختلفة (انظر صفحات متفرقة من تجارب الأمم وتاريخ ابن الأثير) .
[5] المؤامرة: عمل تجمع فيه الأوامر الخارجة في مدة أيام الطمع ويوقع السلطان في آخره بإجازة ذلك (مفاتيح العلوم: 38) .(1/222)
وأرى لك إذا وضع طعامه أن تخرج إليه فإنك معه في الدار، ولا يمنعك الموكلون من ذلك، فتجيء بغير إذن فتجلس على المائدة وتأكل وتنبسط، وتخاطبه في أمرك عقيب الأكل، وتسأله وترفق به وتخضع له، فإنه يسامحك بأكثرها ويقرب ما بينك وبينه، فشقّ ذلك عليّ، ثم نظرت فإذا وزن المال أشقّ منه، وكان أبو جعفر لا يأكل إلا بعد المغرب في كلّ يوم أكلة، فلم آكل ذلك اليوم شيئا، وراعيت مائدته، فلما وضعت قمت فقال الموكلون: إلى أين؟ قلت: الى مائدة الوزير، فما قدروا أن يمنعوني، فلما رأى أبو جعفر أكبر ذلك وتهلّل وجهه وقال: إلى عندي يا سيدي، وأجلسني إلى جنبه، فأقبلت آكل وأنبسط في الأكل والحديث إلى أن رفعت المائدة واستدعاني إلى موضعه، فغسلت يدي بحضرته، فلما فرغت أردت أن أبتدئه بالخطاب، فقال لي: قد آذيتك يا سيدي يا أبا عبد الله بتأخرك عن منزلك، فامض إلى بيتك وما أخاطبك بشيء مما في نفسي ولا مما أردت مخاطبتك به، ولا مطالبة عليك من جهتي بعدما تفضلت به، فشكرته وقلت: إن رأى سيدنا أيده الله أن يتمم معروفه بتسليم المؤامرة إليّ فعل، فقال: هاتموها، فما برحت إلا وهي في خفي، وانصرفت إلى منزلي وقد سقط المال عني، ولزمته للسلام، وصرت أتعمّد مواكلته والتخصص به، فسلمت طول أيامه وسلم جاهي ومالي عليّ إلى أن مضى لسبيله.
قلت: هذا حسن من فعله مع عسف كان فيه بالرعية في جباية المال لم يسبق إليها، ولا تبعه بعده أحد في مثلها، فكانت له أفعال منكرة منها أنه استدعى العيارين وضمّنهم ما يسرقونه من أموال الناس.
وكتب جحظة إلى أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله المسمعي، وكان قائدا جليلا تقلد البصرة وفارس [1] :
إليك أبا اسحاق مني رسالة ... تزين الفتى إن كان يعشق زينه
لقد كنت غضبانا على الدهر زاريا ... عليه فقد أصلحت بيني وبينه
وكان أبو إسحاق هذا أديبا شاعرا، ومن شعره:
ألاطف من أجله أهله ... وكلّ إليّ حبيب قريب
__________
[1] الوافي 6: 289.(1/223)
وأسأل عن غيره قبله ... لأبطل ظنّ الذي يستريب
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه:
قد نلتم صحة ما نالها بشر ... وحزتم نعمة ما نالها [1] ملك
فليت شعري أمقدار تعمّدكم ... بما أتاكم به أم وسوس الفلك
وأنشد جحظة في أماليه [2] :
يا من دعاني وفرّ مني ... أخلفت والله حسن ظني
قد كنت أرضى بخبز رزّ ... ومالح أو قليل بن
وسكرة من نبيذ دبس ... أقام يوما بقعر دن
فكيف يغلو بما ذكرنا ... مساعد شاعر مغنّي
وحدث جحظة في أماليه قال [3] : كنت أشرب عند بعض إخواني بباب حرب في ناعورة ثابت الرصاصي في يوم قطر، ومعنا شيخ خضيب حسن البزة متصدر، فتجارينا ذكر المطر وما جاء فيه من الخبر، فقال الشيخ: حدثوا يا سيدي عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه بابكر وبا حفص وعلى النبيين السريين منكر ونكير وعلى عمرو بن العاص قاتل الكفار يوم غدير خم وصاحب راية النبي يوم القطائف (يريد يوم الطائف) ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قطرة تنزل من السماء إلا ومحّا ملك يتّبحّا حتى يضحّا في موضحّا ثم يصعد ويدحّا» ، فقلت له: يا شيخ فالقطر يقع في الكنيف والملك ينزل معه؟ قال:
نعم يا سيدي فيهم ما في الناس من الدناءة والخسة.
وأنشد جحظة لنفسه في أماليه:
قالت غلالته القصب ... لما تثنّى واضطرب
أترى جنيت جناية ... حتى صلبت على الخشب
قال جحظة في أماليه: استهديت من بعض إخواني دواة فأخّرها عني، ثم
__________
[1] ر: حازها.
[2] لطائف المعارف: 49.
[3] الوافي 6: 287 والمتحدث جاهل ويقلب العين حاء (محّا معها وهكذا) .(1/224)
اجتمعنا في مجلس أبي العباس ثعلب فقلت لأبي العباس: ما أراد الشاعر بقوله:
أحاجيك ما قبر عديم ترابه ... به معشر موتى وإن لم يكفّنوا
سلوت عن التبيان مدة قبرهم ... فإن نبشوا يوما من الدهر بينوا
فسكت ساعة ثم قال: الدواة، فلما انصرفت إلى منزلي إذا الدواة قد سبقتني إليه.
قال جحظة: دعوت فضيلا الأعرج، وكان عندنا جماعة، فكتب إلينا:
أنا في منزلي وقد رزق الله ... نديما ومسمعا وعقارا
فاعذروني بأن تخلفت عنكم ... «شغل الحلي أهله أن يعارا»
ومثله لغيره [1] :
حيّ طيفا من الأحبة زارا ... بعد أن نوّم الكرى السّمارا
داعيا في الوصال تحت دجى ... الليل عيونا عن الوصال سهارى
قلت ما بالنا جفينا وكنّا ... قبل ذاك الأسماع والأبصارا
قال إنا كما عهدت ولكن ... «شغل الحلي أهله أن يعارا»
قال جحظة: وسألت الحسن بن مخلد حاجة فقال: إذا كان بعد ثلاث عرّفتك، فقلت: يا سيدي تعدني أن تعدني.
قال جحظة في أماليه: كنت جالسا عند صديق لي، فجاءه رقعة من منزله فلما نظر فيها ضرط، فحادثته ساعة واغتفلته وأخذتها وإذا فيها: قد فني الدقيق وغدا الخبزة.
وأنشد لنفسه في أماليه يقول:
يقول لي مالكي والدمع منحدر ... لا خفّف الله ربّ العرش بلواكا
وإن دعوت عليه عند معتبة ... يقول قلبي له في السرّ حاشاكا
__________
[1] البصائر 4 رقم: 126 (ص: 54) .(1/225)
وأنشد أيضا لنفسه في أماليه:
ما أنصفتني يد الزمان ولا ... أدركني غير حرفة الأدب
لا حفظ الله حيثما سلكت ... أمي وأير الحمار في است أبي
ما تركا درهما أصون به ... وجهي يوما عن ذلّة الطلب
- 70-
أحمد بن جميل بن الحسن بن جميل أبو منصور
: أديب أريب فاضل كامل، له يد باسطة في النظم والنثر، وهو من أهل بغداد وكان يسكن باب الأزج، ذكره أبو الفرج ابن الجوزي في مذيّله على صدقة بن الحسن فقال: كانت له معرفة بالأدب جيدة وله كتاب مقامات حذو الحريري [1] . وله فضل، ومات في شهر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وخمسمائة.
- 71-
أحمد بن حاتم أبو نصر الباهلي صاحب الأصمعي
: روى عن الأصمعي كتبه، وقال أبو العباس محمد بن أحمد القمري [2] الإسكافي النحوي: كان أبو نصر ابن أخت الأصمعي؛ وقال أبو الطيب في «كتاب مراتب النحويين» [3] : زعموا أن أحمد بن حاتم كان ابن أخت الأصمعي وليس هذا بثبت، رأيت جعفر ابن باسويه [4]
__________
[70]- ترجمة ابن جميل في الوافي 6: 293 (وهو لا ينقل عن ياقوت) .
[71]- ترجمة أبي نصر الباهلي في الفهرست: 61 وتاريخ بغداد 4: 114 وطبقات الزبيدي: 180 وإنباه الرواة 1: 36، 4: 180 والوافي 6: 295 وبغية الوعاة 1: 301.
[1] قال الصفدي: أنشأ «المقامات العشرين» نظما ونثرا، رواها عنه ولده يوسف.
[2] لعله «المعمري» كما سيأتي رقم: 969.
[3] مراتب النحويين: 82 وأبو الطيب اللغوي اسمه عبد الواحد بن علي (توفي سنة 351) .
[4] في مراتب النحويين: بابتويه.(1/226)
ينكره. وكان أثبت من عبد الرحمن يعني ابن أخي الأصمعي وأسنّ، وكان يضيق على ابن الأعرابي مسكه [1] . وقد أخذ عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد، وأقام ببغداد، وربما حكى الشيء بعد الشيء عن أبي عمرو الشيباني، ومات فيما ذكره هو وأبو عبد الله بن الأعرابي وعمرو بن أبي عمرو الشيباني في سنة احدى وثلاثين ومائتين وقد نيف على السبعين.
وحدث المرزباني [2] عن أبي عمر الزاهد، قال، قال ثعلب: دخلت على يعقوب بن السكيت وهو يعمل «إصلاح المنطق» فقال: يا أبا العباس رغبت عن كتابي فقلت له: كتابك كبير وأنا عملت الفصيح للصبيان، ثم قال لي: سر معي إلى أبي نصر صاحب الأصمعي، فمضيت معه فلما كنا في الطريق قال: قد سألت أبا نصر عن بيت شعر فأجابني جوابا لم أرضه، أفأعيده عليه؟ فقلت: لا تفعل فإن عنده أجوبة، وقد أجابك ببعضها فلما دخلت عليه سأله عن البيت فقال له: يا مؤاجر ما أنت وهذا؟
وأنا قربتك حتى رموني بك؟! عندي عشرون جوابا في هذا، وخجل من ذلك وخرجنا، فقلت له، لا مقام لك هاهنا، اخرج من سرّ من رأى واكتب إليّ بما تحتاج إليه لأسأل عنه وأعرفك إياه.
وحكي عن الأصمعي انه كان يقول: ما يصدق عليّ الا أبو نصر، وكان ثقة مأمونا.
ولأبي نصر من التصانيف: كتاب الشجر والنبات. كتاب اللبأ واللبن. كتاب الابل. كتاب أبيات المعاني. كتاب اشتقاق الأسماء. كتاب الزرع والنخل. كتاب الخيل. كتاب الطير. كتاب ما يلحن فيه العامة. كتاب الجراد.
وذكره حمزة في «كتاب أصبهان» قال: ولما أقدم الخصيب بن أسلم [3] أبا محمد الباهليّ صاحب الأصمعي إلى أصبهان نقل معه مصنفات الأصمعي وأشعار شعراء الجاهلية وشعراء الاسلام مقروءة على الأصمعي، وكان قدومه اصبهان بعد سنة
__________
[1] المسك: الجلد، والمعنى أنه كان يرهقه ويعنته، قال أبو الطيب (92) وكان أبو نصر الباهلي يتعنت ابن الأعرابي ويكذبه ويدعي عليه التزيد ويزيفه.
[2] نقلها الصفدي: وقارن بحكاية مماثلة أوردها الزبيدي والقفطي.
[3] البغية: الخصيب بن سالم.(1/227)
عشرين ومائتين فأقام أشهرا، ثم تأهب منها للحج، فدخل إلى عبد الله بن الحسن وسأله أن يدله على رجل يسلّم إليه دفاتره إلى أن يرجع، فقال له: عليك بمحمد بن العباس وكان مؤدب أولاد عبد الله بن الحسن مقبول القول، فسلم الباهلي إليه دفاتره وخرج، فانسخها محمد بن عبد الله الناس، فقدم الباهلي وقامت قيامته، ودخل إلى عبد الله بن الحسن وذكر له ما كان يأمل في دفاتره من التكسب بها، فجمع له عبد الله بن الحسن من أهل البلد عشرة آلاف درهم، ووصله الخصيب بعشرين ألفا فتناولها ورجع إلى البصرة.
- 72-
أحمد بن الحارث بن المبارك الخراز
أبو جعفر راوية أبي الحسن المدائني والعتابي: كان راوية مكثرا موصوفا بالثقة وكان شاعرا، وهو من موالي المنصور.
ومات الخراز- فيما ذكره قانع ورواه المرزباني عنه- في ذي الحجة سنة ثمان وخمسين ومائتين وكان ينزل في باب الكوفة فدفن في مقابرها، وقيل مات في سنة تسع وخمسين.
وذكره المرزباني في «المقتبس» [1] فقال: حدثني علي بن هارون قال أخبرني عبيد الله بن أحمد بن أبي طاهر عن أبيه عن محمد بن صالح بن النطاح مولى بني هاشم عن أبيه قال: طلب المنصور رجالا يجعلهم بوابين له، فقيل له لا يضبطهم إلا قوم لئام الأصول أنذال النفوس صلاب الوجوه، ولا تجدهم إلا في رقيق اليمامة، فاشتري له مائتا غلام من اليمامة فصيّر بعضهم بوابين وبقي الباقون، فكان ممن بقي خلال جد أبي العيناء محمد بن القاسم بن خلال وحسان بن إبراهيم بن عطار جد أحمد بن الحارث الخراز.
وقال المرزباني، أخبرني محمد بن يحيى، قال حدثني الحسين بن إسحاق،
__________
[72]- ترجمة أبي جعفر الخراز في الفهرست: 117 وتاريخ بغداد 4: 122 والوافي 6: 297.
[1] لم يرد له ذكر في نور القبس.(1/228)
قال أنشدت أحمد بن الحارث شعرا للبحتري، فعاب منه شيئا، فبلغ البحتري فقال [1] :
الحمد لله على ما أرى ... من قدر الله الذي يجري
ما كان ذا العالم من عالمي ... يوما ولا ذا الدهر من دهري
يعترض الحرمان في مطلبي ... ويحكم الخراز في شعري
وروى محمد بن داود لأحمد بن الحارث في إبراهيم بن المدبّر وحاجبه بشر:
وجه جميل وصاحب صلف ... كذاك أمر الملوك يختلف
فأنت تلقى بالبشر واللّط ... ف وبشر يلقاهم به جنف
يا حسن الوجه والفعال ويا ... أكرم وجه سما به شرف
ويا قبيح الفعال بالحاجب ال ... غثّ الذي كلّ أمره نطف
فأنت تبني وبشر يهدمه ... والمدح والذمّ ليس يأتلف
وذكره أبو بكر الخطيب فقال [2] : كان الخراز ذا فهم ومعرفة صدوقا سمع من المدائني كتبه كلها، وهو بغداديّ روى عنه السكري وابن أبي الدنيا وغيرهما.
وكان [3] كبير الرأس طويل اللحية كبيرها حسن الوجه كبير الفم ألثغ، خضب قبل موته بسنة خضابا قانئا، فسئل عن ذلك فقال: بلغني أن منكرا ونكيرا إذا حضرا ميتا فرأياه خضيبا قال منكر لنكير: تجاف عنه.
ومن سائر شعره قوله:
إني امرؤ لا أرى بالباب أقرعه ... إذا تنمّر دوني حاجب الباب
ولا ألوم امرءا في ردّ ذي شرف ... ولا أطالب ودّ الكاره الآبي
ولما قتل بغا التركي باغرا التركيّ وهاجت الأتراك على المستعين بالله وخافهم
__________
[1] ديوان البحتري 2: 1015.
[2] تاريخ بغداد 4: 123.
[3] هذا عن ابن النديم.(1/229)
وانحدر من سرّ من رأى إلى بغداد في سنة احدى وخمسين ومائتين في المحرم [1] قال أحمد بن الحارث [2] :
لعمري لئن قتلوا باغرا ... لقد هاج باغر حربا طحونا
وفرّ الخليفة والقائدان ... بالليل يلتمسون السفينا
وحلّ ببغداد قبل الشروق ... فحلّ بهم منه ما يكرهونا
فليت السفينة لم تأتنا ... وغرّقها الله والراكبينا
هي قصيدة يذكر فيها الحرب وصفتها.
وقال أحمد بن الحارث في بشر حاجب إبراهيم بن المدبر:
قد تركناك لبشر ... وتركنا لك بشرا
وذكره محمد بن إسحاق النديم في كتابه وقال: له من الكتب: كتاب المسالك والممالك. كتاب أسماء الخلفاء وكتابهم [3] والصحابة. كتاب مغازي البحر في دولة بني هاشم وذكر أبي حفص صاحب أقريطش. كتاب القبائل. كتاب الأشراف. كتاب ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه. كتاب أبناء السراري. كتاب نوادر الشعراء. كتاب مختصر كتاب البطون. كتاب مغازي النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه وأزواجه. كتاب أخبار أبي العباس.
كتاب الأخبار والنوادر. كتاب سجية [4] البريد. كتاب النسب [5] . كتاب الحلائب والرهان. كتاب جمهرة نسب الحارث بن كعب وأخبارهم في الجاهلية [6] .
__________
[1] انظر في مقتل باغر: تاريخ الطبري 3: 1235 وما بعدها.
[2] أورد الطبري ستة عشر بيتا من هذه المرثية 3: 1540- 1541.
[3] الفهرست: وكناهم.
[4] الفهرست: شحنة.
[5] الفهرست: النسيب.
[6] من الغريب أن أسماء هذه الكتب وردت في (ر) في ترجمة بديع الزمان.(1/230)
- 73-
أحمد بن الحسن بن إسماعيل أبو عبيد الله السكوني
الكندي النسابة: كان له اختصاص بالمكتفي ثم بالمقتدر، ذكره أبو الحسن محمد بن جعفر بن النجار الكوفي في «تاريخ الكوفة» وقال: انه كان ممن أخذ عن ثعلب الأدب، وكان مليح المجلس حسن الترسّل متمكنا من نفسه، هذا لفظ ابن النجار بعينه.
وحكى ابن النجار عن أبي عبيد الله قال، قال [لي] ابن عبدة [1] النساب: ما عرف النسّاب أنساب العرب على حقيقة حتى قال الكميت النزاريات فأظهر بها علما كثيرا، ولقد نظرت في شعره فما رأيت أحدا أعلم منه بالعرب وأيامها. قال أبو عبيد الله: فلما سمعت هذا جمعت شعره فكان عوني على التصنيف لأيام العرب.
ورأيت أنا لأبي عبد الله كتابا في أسماء مياه العرب، ونقلته، غير تامّ [2] .
- 74-
أحمد بن الحسين بن القاسم بن الحسن أبي علي
، أبو بكر، يلقب الفلكي، جدّ أبي الفضل الفلكي الحافظ الهمذاني: قال شيرويه: روى عن الحسن بن الحسين التميمي وأبي الحسن علي بن الحسن بن سعد البزاز وأبي بكر عمر بن سهل الحافظ، روى عنه ابناه أبو عبد الله الحسين وأبو الصقر الحسن، قال:
وكان إماما جامعا في كل فنّ عالما بالأدب والنحو والعروض وسائر العلوم، وخصوصا في علم الحساب فإنه كان يقال له الحاسب، وكذلك لقب بالفلكي، وكان هيوبا [3] ذا حشمة ومنزلة عند الناس، مات في ذي القعدة سنة أربع وثمانين وثلاثمائة وهو ابن خمس وثمانين سنة.
__________
[73]- ترجمة أبي عبيد الله السكوني في الوافي 6: 309 (عن ياقوت) .
[74]- ترجمته في الوافي 6: 305 وبغية الوعاة 1: 303 وفيهما أن اسم أبيه «الحسن» .
[1] الوافي: عبيدة.
[2] انظر فهرست معجم البلدان فقد نقل عنه كثيرا، وكذلك البكري في معجمه.
[3] الوافي: مهوبا، والصواب «مهيبا» .(1/231)
- 75-
أحمد بن الحسن بن محمد بن اليمان بن الفتح الديناري أبو عبد الله:
رجل أديب إلا أن الغالب عليه الخط، وذكرنا له إنما لحسن خطّه الذي بلغ فيه الغاية، وقال الوزير عميد الدولة أبو سعد ابن عبد الرحيم في أخبار ابنه عبد الجبار بن أحمد: وكان والده أبو عبد الله الديناري مقدّما مكرّما يزوّر بحسن خطّه على أبي عبد الله ابن مقلة تزويرا لا يكاد يفطن له. وله ولد أديب يقال له أبو يعلى عبد الجبار ذكر في بابه [1] .
- 76-
أحمد بن الحسين يعرف بابن شقير أبو بكر
: هو أحمد بن الحسين بن العباس بن الفرج النحوي، أخذ عن أحمد بن عبيد بن ناصح، وكان مشهورا برواية كتب الواقدي عن أحمد بن عبيد عنه، ومات في صفر سنة سبع عشرة وثلاثمائة في خلافة المقتدر، وهو في طبقة أبي بكر السراج. وله تصانيف منها: كتاب مختصر في النحو. كتاب المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث.
قرأت في كتاب ابن مسعر [2] أنّ الكتاب الذي ينسب إلى الخليل ويسمى «الجمل» أنه من تصنيف ابن شقير هذا، قال يقول فيه: النصب على أربعين وجها [3] .
__________
[75]- ترجمة الديناري في الوافي 6: 310 (عن ياقوت) .
[76]- أخبار النحويين البصريين: 109 وتاريخ بغداد 4: 89 وإنباه الرواة 1: 34 والوافي 6: 349 وبغية الوعاة 1: 302 (احمد بن الحسن) وورد ذكره في نزهة الألباء: 142 في ترجمة شيخه ابن ناصح.
[1] سقطت ترجمته من أصل الكتاب.
[2] م: مسعدة.
[3] قد نشر هذا الكتاب (بيروت 1985) باسم الخليل ولم يقل ناشره إنه منسوب إلى الخليل (في العنوان) والمحقق ليس ناسخا ينفق الكتاب ليكسب مالا؛ غفر الله لمحققه فقد ظن أن العنعنات التي أوردها في المقدمة تغني. وقد كتب الدكتور محمود حسني بحثا نفى فيه نسبة الكتاب إلى الخليل (مجلة جامعة دمشق، عدد: 9) .(1/232)
- 77-
أحمد بن الحسين بن مهران المقرىء أبو بكر النيسابوري
قال الحافظ أبو القاسم: أصله من أصبهان، سكن نيسابور. قال الحاكم: هو إمام عصره في القراءات وأعبد من رأينا من القراء، وكان مجاب الدعوة، مات في السابع والعشرين من شوال سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة، وهو يوم مات ابن ستّ وثمانين سنة، وصلينا عليه في ميدان الطاهرية، وتوفي ذلك اليوم أبو الحسن العامري صاحب الفلسفة [1] .
قال الحاكم: فحدثني عمر بن أحمد الزاهد قال: سمعت الثقة من أصحابنا يذكر أنه رأى أبا بكر ابن الحسين بن مهران، رحمه الله، في المنام في الليلة التي دفن فيها، قال فقلت: أيها الأستاذ ما فعل الله بك؟ فقال: إن الله عز وجل أقام أبا الحسن العامري بحذائي وقال: هذا فداؤك من النار.
ثم ذكر الحاكم باسناد رفعه الى أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إذا كان يوم القيامة أعطى الله كلّ رجل من هذه الأمة رجلا من الكفار فيقول هذا فداؤك من النار. وهذا الخبر إذا قرن بالرؤيا صار من براهين الشرع.
قال الحاكم: سمع ابن مهران بنيسابور أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وأبا العباس السراج الثقفي وأبا العباس الماسرجسي. وله من التصانيف: كتاب الشامل.
كتاب الغاية [2] . كتاب قراءة أبي عمرو. كتاب غرائب القراءات. كتاب وقوف القرآن. كتاب الانفراد. كتاب شرح المعجم. كتاب شرح التحقيق. كتاب اختلاف عدد السور. كتاب رؤوس الآيات. كتاب الوقف والابتداء. كتاب قراءة عبد الله بن عمرو. كتاب علل كتاب الغاية. كتاب المبسوط. كتاب آيات القرآن. كتاب الاتفاق والانفراد. كتاب المقطع والمبادىء.
__________
[77]- ترجمة ابن مهران في طبقات الجزري 1: 49 وسير الذهبي 16: 406 والنجوم الزاهرة 4: 160 والشذرات 3: 98.
[1] أبو الحسن العامري: محمد بن أبي ذر يوسف العامري النيسابوري، صاحب الأمد على الأبد، والإعلام بمناقب الإسلام وغيرهما من المؤلفات، ذكره التوحيدي في الإمتاع والمقابسات، وأورد له مسكويه في جاويدان خرد مختارات من حكمه وكانت وفاته سنة 381.
[2] هو في القراءات العشر.(1/233)
قال الحاكم: سمعت أبا بكر ابن مهران يقول: قرأت على أبي علي محمد بن أحمد بن حامد الصفار المقرىء القرآن من أوله إلى آخره، وقال: قرأت القرآن من أوله إلى آخره على أبي بكر محمد بن سليمان بن موسى الهاشمي ببغداد، وقال:
قرأت على قنبل بن عبد الرحمن بن محمد بن خالد بن سعيد بن خروجة المكي، وقال: قرأت على أبي الحسن النبال، وأخبرني أنه قرأ على ابن الاخريط وهب بن واضح، وقرأ ابن الاخريط على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، وقرأ ابن قسطنطين على شبل بن عباد ومعروف بن مسكان، فأخبراه أنهما قرءا على عبد الله بن كثير عن مجاهد عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الحاكم: ومحمد بن الحسين بن مهران الأديب الفقيه الكاتب أخو أبي بكر سمع عبد الله بن شيرويه و. قرانه، وسمع الكتب من أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة وأقرانه، ومات في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وهو ابن نيّف وثمانين سنة.
- 78-
أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد
بديع الزمان الهمذاني أبو الفضل: قال أبو شجاع شيرويه بن شهردار في «تاريخ همذان» إن أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن بشر أبا الفضل الملقب ببديع الزمان سكن هراة، روى عن أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا وعيسى بن هشام الأخباري، وكان أحد الفضلاء والفصحاء، متعصبا لأهل الحديث والسنة، ما أخرجت همذان بعده مثله، وكان من مفاخر بلدنا، روى عنه أخوه أبو سعد ابن الصفار والقاضي أبو محمد عبد الله بن الحسين النيسابوري.
قال: وتوفي في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. قال شيرويه: ومحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد بن بشر الصفار الفقيه أبو سعد أخو بديع الزمان أبي الفضل أحمد بن الحسين بن يحيى لأبيه وأمه مفتي البلد. روى عن ابن لال وابن تركان وعبد الرحمن
__________
[78]- ترجمة بديع الزمان في وفيات الأعيان 1: 127 (وص 402) والوافي 6: 355 والشريشي 1: 22 ومعاهد التنصيص 3: 113 وروضات الجنات 1: 238 (وأكثرهم عالة على ما أورده الثعالبي في يتيمة الدهر 4: 256) وسير الذهبي 17: 67 والنجوم الزاهرة 4: 218. وقد كتبت حول مقاماته في العصر الحديث دراسات كثيرة تتطلب إفراد ببلبوغرافيا خاصة بها.(1/234)
الامام وأبي بكر محمد بن الحسين الفراء وابن جائحان، وذكر جماعة وافرة.
قال: وأدركته ولم يقض لي عنه السماع، وكان في الحديث ثقة، ويتهم بمذهب الأشعرية، ويقال جنّ في آخر عمره إلى أن مات. وسمعت بعض أصحابنا يقول: كان يعرف الرجال والمتون، ولد في ثالث عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة ومات- ولم يذكره وذكره الثعالبي- في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، وكذا قال أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في «تاريخ هراة» .
قال المؤلف: وقد رأيت ذكر البديع في عدّة تصانيف من كتب العلماء، فلم يستقص أحد خبره أحسن مما اقتصّه الثعالبي، وكان قد لقيه وكتب عنه، فنقلت خبره من كتابه ولخصته من بعض سجعه قال: بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر وغرة العصر، ولم نر نظيره في الذكاء وسرعة الخاطر وشرف الطبع وصفاء الذهن وقوة النفس، ولم ندرك نظيره في طرف النثر وملحه، وغرر النظم ونكته، وكان صاحب عجائب وبدائع، فمنها أنه كان ينشد الشعر لم يسمعه قط، وهو أكثر من خمسين بيتا، إلا مرة واحدة فيحفظها كلّها ويؤديها من أولها إلى آخرها لا يخرم حرفا، وينظر في الأربعة والخمسة الأوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره، نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذّها عن ظهر قلبه هذّا ويسردها سردا، وهذا حاله في الكتب الواردة وغيرها، وكان يقترح عليه عمل قصيدة وإنشاء رسالة في معنى بديع وباب غريب فيفرغ منها في الوقت والساعة، وكان ربما كتب الكتاب المقترح عليه فيبتدىء بآخره ثم هلم جرا إلى أوله، ويخرجه كأحسن شيء وأملحه، ويوشّح القصيدة الفريدة من قيله بالرسالة الشريفة من إنشائه، فيقرأ من النظم النثر ويروي من النثر النظم، ويعطى القوافي الكثيرة فيصل بها الأبيات الرشيقة، ويقترح عليه كلّ عويص وعسير من النظم والنثر فيرتجله أسرع من الطرف، على ريق لا يبلعه ونفس لا يقطعه، وكلامه كله عفو الساعة وفيض اليد ومسارقة القلم ومسابقة اليد للفم. وكان يترجم ما يقترح عليه من الأبيات الفارسية المشتملة على المعاني الغريبة بالأبيات العربية، فيجمع فيها بين الإبداع والإسراع، إلى عجائب كثيرة لا تحصى، ولطائف تطول أن تستقصى. وكان مع ذلك مقبول الصورة حسن العشرة، وفارق همذان سنة ثمانين وثلاثمائة وهو مقتبل الشبيبة، غضّ الحداثة، وقد درس على أبي الحسين ابن(1/235)
فارس وأخذ عنه جميع ما عنده واستنفد علمه. وورد حضرة الصاحب ابن عباد فتزود من ثمارها وحسن آثارها، ثم قدم جرجان وأقام بها مدة على مداخلة الإسماعيلية والتعيش في أكنافهم، واختصّ بالدهخداه [1] أبي سعد محمد بن منصور، ونفقت بضاعته لديه، وتوفر حظه من عادته المعروفة في إسداء الإفضال على الأفاضل. ولما أراد ورود نيسابور أعانه بما سيره إليها فوردها في سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة ونشر بها بزّه وأظهر طرزه، وأملى أربعمائة مقامة [2] نحلها أبا الفتح الاسكندري في الكدية وغيرها، وضمنها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين. ثم شجر بينه وبين الأستاذ أبي بكر الخوارزمي ما كان سببا لهبوب ريح الهمذاني وعلوّ أمره، إذ لم يكن في الحساب أن أحدا من العلماء ينبري لمساجلته، فلما تصدى الهمذاني لمباراته وجرت بينهما مقامات ومبادهات ومناظرات، وغلّب قوم هذا وغلّب آخرون ذاك، طار ذكر الهمذاني في الآفاق، وشاع ذكره في الأفّاق، ودرّت له أخلاف الرزق، فلما مات الخوارزميّ خلا له الجوّ وتصرفت به أحوال جميلة وأسفار كثيرة، ولم يبق من بلاد خراسان وسجستان وغزنة بلدة إلا دخلها وجنى ثمارها، ولا ملك له ولا وزير إلا واستمطر بنوئه وسرى في ضوئه، فحصلت له نعمة حسنة وثروة جميلة، وألقى عصاه بهراة فاتخذها دار قراره، وصاهر بها أبا علي الحسين بن محمد الخشنامي، وهو الفاضل الكريم الأصيل، وانتظمت أحواله بمصاهرته، واقتنى بمعونته ضياعا فاخرة، وحين بلغ أشدّه وأربى على أربعين سنة ناداه الله فلباه، وفارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
وهذا أنموذج من رسائله:
فصل [3] من رقعة كتبها إلى الخوارزمي، وهو أول ما كاتبه به: أنا لقرب الأستاذ: كما طرب النشوان مالت به الخمر [4] .
__________
[1] الدهخداه: سيد القرية أو رئيسها.
[2] في هذا العدد مجال للنظر، إذ ليس لدينا منها إلا أربعون، ومنهم من جعلها إحدى وخمسين مقامة (بعدد رسائل إخوان الصفا الإسماعيلية الذين كان البديع يلابسهم ويداخلهم في جرجان) .
[3] اليتيمة 4: 259 ورسائل البديع: 128.
[4] من الواضح أنه يضمن رسالته أشطارا من الشعر، وقوله: «كما انتفض العصفور ... » عجز بيت، وصدره: وإني لتعروني لذكراك هزة.(1/236)
ومن الارتياح للقائه: كما انتفض العصفور بلله القطر.
ومن الامتزاج بولائه: كما التقت الصهباء والبارد العذب.
ومن الابتهاج بمزاره: كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب.
ومن رقعة إلى غيره [1] :
يعزّ علي أن ينوب- أيد الله الشيخ- في خدمته قلمي عن قدمي، ويسعد برؤيته رسولي دون وصولي، ويرد مشرع الأنس به كتابي قبل ركابي، ولكن ما الحيلة والعوائق جمة:
وعليّ أن أسعى ولى ... س عليّ إدراك النجاح
وقد حضرت داره، وقبلت جداره، وما بي حبّ الحيطان، ولكن شغف بالقطّان، ولا عشق الجدران، ولكن شوق إلى السكان.
وقال البديع وأراد التحميض- كما يقول أهل بغداد- ومعناه عندهم غير ذلك كقوله [2] :
ولقد دخلت ديار فارس مرة ... أبتاع ما فيها من الأعراض
فإذا فسا فيها رجال سادة ... لهفي على ذاك الزمان الماضي
فالسامع يرى أنه أراد فسا مدينة بفارس التي منها أبو علي الفسوي النحوي وإنما أراد فسا من الفسو، والضمير في «فيها» يريد به اللحية.
وذكر أبو إسحاق الحصري في كتاب «زهر الآداب» [3] وقد ذكر أبا الفضل الهمذاني بديع الزمان فقال: وهذا اسم وافق مسمّاه ولفظ طابق معناه، كلامه غضّ المكاسر أنيق الجواهر، يكاد الهواء يسرقه لطفا والهوى يعشقه ظرفا. ولما رأى أبا بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي أغرب بأربعين حديثا وذكر أنه استنبطها من ينابيع صدره، وانتخبها من معادن فكره، وأبداها للأبصار والبصائر، وأهداها إلى الأفكار والضمائر، في معارض حوشية، وألفاظ عنجهية، فجاء أكثرها تنبو عن قبوله الطباع،
__________
[1] اليتيمة: 259 والرسائل: 103.
[2] ديوان البديع: 47.
[3] زهر الآداب: 261.(1/237)
ولا ترفع له حجب الأسماع، وتوسّع فيها، إذ صرّف ألفاظها ومعانيها، في وجوه مختلفة، وضروب منصرفة، عارضه بأربعمائة مقامة في الكدية تذوب ظرفا وتقطر حسنا، لا مناسبة بين المقامتين لفظا ولا معنى، عطف مساجلتها، ووقف مناقلتها، بين رجلين سمّى أحدهما عيسى بن هشام والآخر أبا الفتح الاسكندري، وجعلهما يتهاديان الدرّ ويتنافثان السحر، في معان تضحك الحزين، وتحرّك الرصين، وتطالع منها كل طريفة، ويوقف منها على كل لطيفة، وربما أفرد بعضهما بالحكاية، وخصّ أحدهما بالرواية.
[وقد ذكره] أبو نصر عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي في «تاريخ هراة» من تأليفه، وأنشد للبديع:
خرج الأمير ومن وراء ركابه ... غيري وعزّ عليّ أن لم أخرج
أصبحت لا أدري أأدعو طغمشي ... أم يكتليني أم أصيح بنذغجي
وبقيت لا أدري أأركب أبرشي ... أم أدهمي أم أشبهي أم ديزجي
يا سيد الأمراء ما لي خيمة ... إلا السماء إلى ذراها ألتجي
كتفي بعيري إن ظعنت، ومفرشي ... كمّي، وجنح الليل مطرح هودجي
وكتب بديع الزمان إلى مستميح عاوده مرارا وقال له: لم لا تديم الجود بالذهب، كما تديمه بالادب؟ فكتب البديع [1] : عافاك الله، مثل الإنسان في الإحسان، مثل الأشجار في الإثمار، وسبيل من ابتدأ بالحسنة، أن يرفّه إلى السنة، وأنا كما ذكرت لا أملك عضوين من جسدي، وهما فؤادي ويدي، أما اليد فتولع بالجود، وأما الفؤاد فيتعلق بالوفود [2] ، ولكنّ هذا الخلق النفيس، لا يساعده الكيس، وهذا الخلق الكريم، لا يحتمله الغريم، ولا قرابة بين الأدب والذهب، فلم جمعت بينهما؟ والأدب لا يمكن ثرده في قصعة، ولا صرفه في ثمن سلعة، قد جهدت جهدي بالطباخ أن يطبخ لي من جيمية الشماخ [3] لونا فلم يفعل، وبالقصّاب أن يذبح
__________
[1] اليتيمة: 262 والرسائل: 221.
[2] ر: بالرفود.
[3] جيمية الشماخ هي التي يقول فيها:
وأشعث قد قدّ السفار قميصه ... يجرّ شواء بالعصا غير منضج(1/238)
«أدب الكتّاب» فلم يقبل، وأنشدت في الحمام ديوان أبي تمام فلم ينجع، ودفعت إلى الحجّام مقطّعات اللحام فلم يأخذ، واحتيج في البيت إلى شيء من الزيت فأنشدت ألفا ومائتي بيت من شعر الكميت فلم تغن، ودفعت أرجوزة العجاج في توابل السكباج فلم تنفع، وانت لم تقنع فما أصنع؟ فإن كنت تحسب اختلافك إليّ إفضالا منك عليّ، فراحتي ألّا تطرق ساحتي، وفرجي ألّا تجي، والسلام.
وحدث أبو الحسن ابن أبي القاسم البيهقي صاحب كتاب «وشاح الدمية» وقد ذكر أبا بكر الخوارزمي: وقد رمي بحجر البديع الهمذاني في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، وأعان البديع الهمذاني قوم من وجوه نيسابور كانوا مستوحشين من أبي بكر، فجمع السيد نقيب السادة بنيسابور أبو علي بينهما [1] ، وأراده على الزيارة، وداره بأعلى ملقباذ [2] ، فترفّع، فبعث اليه السيد مركوبه، فحضر أبو بكر مع جماعة من تلامذته، فقال له البديع [3] : إنما دعوناك لتملأ المجلس فوائد، وتذكر الأبيات الشوارد، والأمثال الفوارد، ونباحثك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتسر بما عندنا ...
ونبدأ بالفنّ الذي ملكت زمامه وطار به صيتك، وهو الحفظ إن شئت، والنظم ان أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت، فهذه دعواك التي تملأ منها فاك، فأحجم الخوارزميّ عن الحفظ لكبر سنه ولم يجل في النثر قداحا وقال: أبادهك، فقال البديع: الأمر أمرك يا أستاذ، فقال له الخوارزمي: أقول لك ما قال موسى للسحرة (قال بل ألقوا) فقال البديع:
الشعر أصعب مذهبا ومصاعدا ... من أن يكون مطيعه في فكّه
والنظم بحر والخواطر معبر ... فانظر إلى بحر القريض وفلكه
فمتى توانى في القريض مقصر ... عرّضت أذن الامتحان لعركه
__________
[1] قال البديع في رسائله (ص 39) واتفق أن السيد أبا علي نشط للجمع بيني وبينه، فدعاني فأجبت، ثم عرض عليّ حضور أبي بكر فطلبت ذلك وقلت: هذه عدة كنت أستنجزها، وفرصة لا أزال أنتهزها، فتجشم السيد أبو الحسين وكاتبه يستدعيه فاعتذر أبو بكر بعذر في التأخر ...
[2] هي ملقاباذ عند ياقوت.
[3] الرسائل: 41- 82، وما هنا مبني على الإيجاز والتلخيص (ومن الواضح أن ما يورده ياقوت إنما هو حكاية البديع للقصة، وهي من طرف واحد) .(1/239)
قال: وهذه أبيات كثيرة فيها مدح الشريف أبي علي والمفاخرة وتهجين الخوارزمي، فقال الخوارزمي أيضا أبياتا ولكن ما أبرزها من الغلاف، فقال له البديع: أما تستحي أن يكون السنور أعقل منك لانه يجعر فيغطيه بالتراب، فقال لهما الشريف: انسجا على منوال المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق
فابتدا أبو بكر وكان إلى الغايات سباقا وقال:
فإذا ابتدهت بديهة يا سيدي ... فأراك عند بديهتي تتقلّق
ما لي أراك ولست مثلي في الورى ... متموها بالترّهات تمخرق
ونظم أبياتا ثم اعتذر فقال: هذا كما يجيء لا كما يجب، فقال البديع: قبل الله عذرك، لكن وقفت بين قافات خشنة كلّ قاف كجبل قاف، فخذ الآن جزاء عن قرضك وأداء لفرضك:
مهلا أبا بكر فزندك أضيق ... واخرس فإن أخاك حيّ يرزق
يا أحمقا وكفاك تلك فضيحة ... جرّبت نار معرّتي هل تحرق
فقال له أبو بكر: يا أحمقا لا يجوز فإنه لا ينصرف، فقال البديع: لا نزال نصفعك حتى ينصرف وتنصرف معه، وللشاعر أن يردّ ما لا ينصرف [إلى الصرف] وإن شئت قلت: يا كودنا. ثم قولك في البيت «يا سيدي» ثم قلت «تتقلق» مدحت أم قدحت؟ فإن اللفظين لا يركضان في حلبة، فقال لهما الشريف: قولا على منوال المتنبي:
أهلا بدار سباك أغيدها
قال البديع:
يا نعمة لا تزال تجحدها ... ومنة لا تزال تكندها
فقال أبو بكر: الكنود قلة الخير لا الكفران، فكذبه الجمع وقالوا: ما قرأت قوله تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ
(العاديات: 6) أي لكفور، فقال له أبو بكر: أنا(1/240)
اكتسبت بفضلي [1] دية أهل همذان فما الذي اكتسبت أنت بفضلك [2] فقال له البديع:
أنت في حرفة الكدية أحذق، وبالاستماحة أحرى وأخلق، فقطعه الكلام. ثم أنشد القوّال:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا اللطم في الخدّ الرقيق
فقال الخوارزمي: أنا أحفظ هذه القصيدة، فقال البديع: أخطأت فإن البيت على غير هذه الصيغة وهي:
وشبهنا بنفسج عارضيه ... بقايا الوشم في الوجه الصفيق
فقال له أبو بكر: والله لأصفعنك ولو بعد حين، فقال البديع: أنا أصفعك اليوم وتضربني غدا، اليوم خمر وغدا أمر، وأنشد قول ابن الرومي [3] :
رأيت شيخا سفيها ... يفوق كلّ سفيه
وقد أصاب شبيها ... له وفوق الشبيه
ثم أنشد البديع [4] :
وأنزلني طول النوى دار غربة ... إذا شئت لاقيت امرءا لا أشاكله
أحامقه حتى يقال سجية ... ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
فأمال النعاس الرؤوس، وسكنت الألحان والنفوس، وسلب الرقاد الجلوس، فنام القوم كعادتهم في ضيافات نيسابور، وأصبحوا فتفرقوا، وبعض القوم يحكم بغلبة البديع، وبعضهم يحكم بغلبة الخوارزمي، وسعى الفضلاء بينهما بالصلح ودخل عليه البديع واعتذر وتاب واستغفر مما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقال له البديع: بعد الكدر صفو، وبعد الغيم صحو، فعرض عليه الخوارزمي الاقامة عنده سحابة يومه، فأجابه
__________
[1] الرسائل: بعقلي.
[2] الرسائل: بعقلك.
[3] ديوان ابن الرومي 6: 2634 (في هجاء خالد القحطبي) .
[4] البيتان في البيان والتبيين 1: 245، 2: 4235: 21 وعيون الأخبار 3: 24 والأول منهما في بهجة المجالس 1: 234.(1/241)
البديع وأضافه الخوارزمي. وكان بعض الرؤساء مستوحشا من الخوارزمي، وهيأ مجمعا في دار الشيخ السيد أبي القاسم الوزير، وكان أبو القاسم فاضلا ملء إهابه، وحضر أبو الطيب سهل الصعلوكي والسيد أبو الحسين العالم، فاستمال البديع قلب السيد أبي الحسين بقصيدة قالها في مدائح أهل البيت أولها:
يا معشرا ضرب الزما ... ن على معرّسهم خيامه
ثم حضر المجلس القاضي أبو عمر البسطامي وأبو القاسم ابن حبيب والقاضي أبو الهيثم والشيخ أبو نصر ابن المرزبان، ومع الامام أبي الطيب الفقهاء والمتصوفة، وحضر أبو نصر [1] الماسرجسي مع أصحابه والشيخ أبو سعد [2] الهمذاني، ودخل مع الخوارزمي جمع غفير من أصحابه، فقيل لهما أنشدا على منوال قول أبي الشيص [3] :
أبقى الزمان به ندوب عضاض ... ورمى سواد قرونه ببياض
فابتدر الخوارزمي فقال:
يا قاضيا ما مثله من قاض ... أنا بالذي تقضي علينا راض
منها:
ولقد بليت بشاعر متهتك ... لا بل بليت بناب ذئب غاض
فقال البديع: ما معنى قولك ذئب غاض؟ فقال أبو بكر: ما قلته، فشهد عليه الحاضرون أنه قاله، فقال أبو بكر: الذئب الغاضي الذي يأكل الغضا، فقال البديع:
استنوق الذئب، صار الذئب جملا يأكل الغضا. ثم دخل الرئيس أبو جعفر والقاضي أبو بكر الحيري [4] والشيخ أبو زكريا [5] والشيخ أبو الرشيد المتكلم [6] ، فقال الرئيس قولا على هذا النمط:
__________
[1] الرسائل: أبو الحسن
[2] الرسائل: أبو سعيد.
[3] أشعار أبي الشيص: 71.
[4] الرسائل: القاضي أبو بكر الحربي.
[5] الرسائل: أبو زكريا الحيري.
[6] الرسائل: مع عدة من الأراذل فيهم أبو رشيدة.(1/242)
برز الربيع لنا برونق مائه ... فانظر لمنظر [1] أرضه وسمائه
والترب بين ممسّك ومعنبر ... من نوره بل مائه وروائه
ثم أنشد الخوارزمي على هذا النمط، فلما فرغ من انشاده قال البديع للوزير والرئيس: لو أن رجلا حلف بالطلاق أني لا أقول شعرا ثم نظم تلك الأبيات التي قالها الخوارزمي [هل كنتم تطلقون امرأته عليه؟ فقالت الجماعة: لا يقع بهذا طلاق، ثم قلت: انقد عليّ في ما نظمت، واحكم عليه كما حكمت، فأخذ الابيات وقال:] [2] لا يقال نظرت لكذا [3] ويقال نظرت إلى كذا، وأنت قلت فانظر لمنظر، وشبهت الطير بالمحصنات، وهذا تشبيه فاسد، ثم شبهتها بالمغنيات حين قلت:
والطير مثل المحصنات صوادح ... مثل المغني شاديا بغنائه
المحصنات كيف توصف بالغناء؟ (ثم) قلت: «كالبحر في تزخاره والغيث في أمطاره» [4] والغيث هو المطر، فقال البديع: الغيث المطر والسحاب، وصدقه الحاضرون وأنكروا على الخوارزمي. فقال الامام أبو الطيب: علمنا أي الرجلين أفضل وأشعر، فقام البديع وقبل رأس الخوارزمي ويده وقال: اشهدوا أن الغلبة له، قال ذلك على سبيل الاستهزاء، وتفرق الناس واشتغلوا بتناول الطعام، وأبو بكر ينطق عن كبد حرّى، والوزير يقول للبديع: ملكت فأسجح. فلما قام أبو بكر أشار إلى البديع وقال: لأتركنّك بين الميمات، فقال: ما معنى الميمات: فقال: بين مهدوم مهزوم مغموم محموم مرجوم محروم، فقال البديع: لأتركنك بين الهيام والسقام والسام والبرسام والجذام والسرسام، وبين السينات بين منحوس ومنخوس ومنكوس ومعكوس، وبين الخاءات من مطبوخ ومسلوخ ومشدوخ ومفسوخ وممسوخ، وبين الباءات بين مغلوب ومسلوب ومصلوب ومنكوب. فخرج البديع وأصحاب الشافعي
__________
[1] الرسائل: لروعة.
[2] زيادة ضرورية من الرسائل (ص: 72) .
[3] يشير الى قول البديع «فانظر لروعة (المنظر) أرضه وسمائه» .
[4] يريد قول البديع:
كالبحر في تزخاره والغيث في ... إمطاره والجو في أنوائه(1/243)
يعظمونه بالتقبيل والاستقبال، والاكرام والاجلال، وما خرج الخوارزمي حتى غابت الشمس، وعاد إلى بيته وانخزل انخزالا شديدا، وانكسف باله وانخفض طرفه، ولم يحل عليه الحول حتى خانه عمره وذلك في شوال سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة.
قال أبو الحسن البيهقي: وبديع الزمان أبو الفضل أحمد بن الحسين الحافظ كان يحفظ خمسين بيتا بسماع واحد، ويؤديها من أولها إلى آخرها، وينظر في كتاب نظرا خفيفا ويحفظ أوراقا ويؤديها من أولها إلى آخرها، فارق همذان في سنة ثمانين وثلاثمائة، وكان قد اختلف إلى أحمد بن فارس صاحب «المجمل» وورد حضرة الصاحب وتزود من ثمارهما، واختصّ بالدهخداه أبي سعد محمد بن منصور، ونفقت بضاعته لديه، ووافى نيسابور في سنة اثنتين وثمانين وثلاثمائة، وبعد موت الخوارزمي خلا له الجوّ، وجرت بينه وبين أبي علي الحسين بن محمد الخشنامي مصاهرة، وألقى عصا المقام بهراة، ثم فارق دنياه في سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
وحدث الثعالبي في أخبار أبي فراس قال [1] : حكى أبو الفضل الهمذاني قال، قال الصاحب أبو القاسم يوما لجلسائه وأنا فيهم، وقد جرى ذكر أبي فراس الحارث بن سعيد بن حمدان: لا يقدر أحد أن يزوّر على أبي فراس شعرا فقلت: من يقدر على ذلك، وهو الذي يقول:
رويدك لا تصل يدها بباعك ... ولا تغز السباع إلى رباعك
ولا تغر العدوّ عليّ إني ... يمين إن قطعت فمن ذراعك
فقال الصاحب: صدقت، فقلت: أيد الله مولانا فقد فعلت [2] .
ويقال إن السبب في مفارقة البديع الهمذاني حضرة الصاحب أنه كان في مجلسه فخرجت منه ريح، فقال البديع: هذا صرير التخت، فقال الصاحب: أخشى أن يكون صرير التحت، فأورثه ذلك خجلا كان سبب مفارقته إياه ووروده إلى خراسان.
__________
[1] اليتيمة 1: 102.
[2] من الواضح أن البديع نظم البيتين على المكان وأنشدهما الصاحب، وجازت عليه نسبتهما إلى أبي فراس أو تظاهر بذلك.(1/244)
وكانت أول رقعة كتبها البديع إلى الخوارزمي عند وروده نيسابور [1] : «أنا لقرب الأستاذ أطال الله بقاءه: كما طرب النشوان مالت به الخمر.
ومن الارتياح للقائه: كما انتفض العصفور بلله القطر.
ومن الامتزاج بولائه: كما التقت الصهباء والبارد العذب.
ومن الابتهاج بمزاره: كما اهتز تحت البارح الغصن الرطب.
فكيف ارتياح الأستاذ لصديق طوى إليه ما بين قصبتي العراق وخراسان بل [ما بين] عتبتي الجبل ونيسابور، وكيف اهتزازه لضيف في بردة حمال وجلدة جمال:
رث الشمائل منهج الأثواب ... بكرت عليه مغيرة الأعراب
كمهلهل وربيعة بن مكدّم ... وعتيبة بن الحارث بن شهاب
وهو وليّ إنعامه بانفاذ غلامه الى مستقرّي، لأفضي إليه بما عندي إن شاء الله تعالى وحده.
ثم اجتمع إليه فلم يحمد لقيه فانصرف عنه وكتب إليه [2] : الأستاذ- والله يطيل بقاءه، ويديم تأييده ونعماءه- أزرى بضيفه أن وجده يضرب آباط القلة في أطمار الغربة، فأعمل في ترتيبه أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكفّ، ودفع في صدر القيام عن التمام، ومضغ الكلام وتكلّفه لرد السلام، وقد قبلت هذا الترتيب صعرا، واحتملته وزرا، واحتضنته نكرا، وتأبطته شرا، ولم آله عذرا، فإن المرء بالمال وثياب الجمال، وأنا مع هذه الحال وفي هذه الأسمال أتقزز صفّ النعال، ولو حاملته العتاب وناقشته الحساب وصدقته المصاع لقلت: إن بوادينا ثاغية صباح وراغية رواح، وقوما يجرّون المطارف ولا يمنعون المعارف [3] :
وفيهم مقامات حسان وجوههم ... وأندية ينتابها القول والفعل
على مكثريهم حقّ من يعتريهم ... وعند المقلين السماحة والبذل
__________
[1] ورد بعض هذه الرسالة في ما تقدم.
[2] الرسائل: 31.
[3] ديوان زهير: 113، 114.(1/245)
ولو طوّحت بالأستاذ أيدي الغربة إليهم لوجد منال البشر قريبا، ومحطّ الرّحل رحيبا، ووجه المضيف خصيبا، ورأيه- أيده الله، في أن يملأ من هذا الضيف أجفان عينه ويوسع أعطاف ظنه، ويجيبه بموقع هذا العتاب الذي معناه ود، والمر الذي يتلوه شهد، موفق إن شاء الله تعالى.
الجواب من الخوارزمي:
إنك إن كلفتني ما لم أطق ... ساءك ما سرّك مني من خلق
فهمت ما تناوله سيّدي من خشن خطابه ومؤلم عتبه وعتابه، وصرفت ذلك منه إلى الضجر الذي لا يخلو منه من نبا به دهر ومسّه من الأيام ضر، والحمد لله الذي جعلني موضع أنسه، ومظنّة مشتكى ما في نفسه. أما ما شكاه سيدي من مضايقتي إياه- زعم- في القيام وتكلّفي لردّ السلام، فقد وفّيته حقّه كلاما وسلاما وقياما على قدر ما قدرت عليه ووصلت إليه، ولم أرفع عليه غير السيد أبي القاسم [1] ، وما كنت لأرفع أحدا على من أبوه الرسول وأمه البتول، وشاهداه التوراة والانجيل، وناصراه التأويل والتنزيل، والبشير به جبرائيل وميكائيل. وأما عدم الجمال ورثاثة الحال فما يضعان عندي قدرا ولا يضرّان نجرا، وإنما اللباس جلدة والزيّ حلية بل قشرة، وإنما يشتغل بالجلّ من لا يعرف قيمة الخيل، ونحن بحمد الله نعرف الخيل عارية من جلالها، ونعرف الرجال بأقوالها وأفعالها، لا بآلاتها وأحوالها. وأما القوم الذين صدر سيدي عنهم وانتمى اليهم ففيهم لعمري فوق ما وصف: حسن عشرة وسداد طريقة وجمال تفصيل وجملة، ولقد جاورتهم فنلت المراد وأحمدت المراد:
فإن أك قد فارقت نجدا وأهله ... فما عهد نجد عندنا بذميم
والله يعلم نيتي للأحرار عامة [2] ولسيدي من بينهم خاصة، فإن أعانني على مرادي له ونيتي فيه بحسن العشرة بلغت له بعض ما في المنية [3] وجاوزت مسافة القدرة، وإن قطع علي طريق عزمي [4] بالمعارضة وسوء المؤاخذة صرفت عناني عن
__________
[1] الرسائل: الا السيد أبا البركات.
[2] الرسائل: للأخوان كافة.
[3] الرسائل: الفكرة.
[4] الرسائل: عشرتي.(1/246)
طريق الاختيار بيد الاضطرار [1] :
فما النفس إلا نطفة بقرارة ... إذا لم تكدّر كان صفوا غديرها
وعلى هذا فحبذا عتاب سيدي إذا صادف ذنبا واستوجب عتبا، فأما أن يسلفنا العربدة ويستكثر المعتبة والموجدة فتلك حالة نصونه عنها ونصون أنفسنا عن احتمال مثلها، فليرجع بنا إلى ما هو أشبه به وأجمل له، ولست أسومه أن يقول: اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ
(يوسف: 97) ولكن أسأله أن يقول: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
(يوسف: 92) .
رقعة البديع الثالثة إلى الخوارزمي [2] :
أنا أرد من الأستاذ سيدي شرعة وده، وإن لم تصف، وألبس خلعة برّه وإن لم تضف، وقصاراي أن أكيله صاعا بصاع ومدّا عن مدّ، وإن كنت في الأدب دعيّ النسب ضعيف السبب ضيّق المضطرب سيء المنقلب، أمتّ إلى أهله بعشرة رشيقة [3] ، وأنزع إلى خدمة أصحابه بطريقة. ولكن بقي أن يكون الخليط منصفا في الإخاء عادلا في الوداد، إذا زرت زار وإن عدت عاد، والأستاذ سيدي- أيده الله- ضايقني في القبول أولا وناقشني [4] في الإقبال ثانيا، فأما حديث الاستقبال وأمر الإنزال والإنزال فنطاق الطمع ضيّق عنه غير متسع لتوقعه منه، وبعد فكلفة الفضل هيّنة وفروض الودّ متعيّنة، وطرق المكارم بينة، وأرض العشرة لينة، فلم اختار قعود التعالي مركبا، وصعود التغالي مذهبا؟ وهلّا ذاد الطير عن شجر العشرة إذا كان ذاق الحلو من ثمرها؛ وقد علم الله أن شوقي إليه قد كدّ الفؤاد برحا على برح، ونكأه قرحا على قرح، فهو شوق داعيته محاسن الفضل وجاذبته بواعث العلم، ولكنها مرّة مرة ونفس حرة، ولم تقد إلا بالإعظام ولم تلق إلا بالاكرام. وإذا استعفاني سيدي الأستاذ
__________
[1] البيت لعمارة بن عقيل كما في الكامل للمبرد 1: 29 وحماسة الخالديين 1: 230 ومعجم المرزباني:
78 والبصائر 6 (رقم: 632 ص 205) من أبيات رائية، ووردت قافيته في الرسائل «معينها» .
[2] الرسائل: 35 (ويلاحظ بعض التباين بين النص في الرسائل والنص عند ياقوت وقد أشرت الى بعضه في ما تقدم، وسأقتصر في الاشارة فيما يلي على الفروق المهمة) .
[3] الرسائل: أمت إلى عشرة أهله بنيقة.
[4] الرسائل: وصارفني.(1/247)
من معاتبته واستعادته، ومؤاخذته إذا جفا واستزادته، وأعفى نفسه من كلف الفضل يتجشمها، فليس إلا غصص الشوق أتجرعها، وحلل الصبر أتدرّعها، فلم أعره من نفسي، وأنا لو أعرت جناحي طائر لما رنّقت إلا إليه، ولا حلّقت إلا عليه [1] :
أحبّك يا شمس النهار وبدره ... وإن لا مني فيك السّها والفراقد
وذاك لأن الفضل عندك باهر ... وليس لأن العيش عندك بارد
جواب الخوارزمي عنها:
شريعة ودّي لسيدي- أدام الله عزه- إذا وردها صافية، وثياب بري إذا قبلها ضافية، هذا ما لم يكدّر الشريعة بتعنته وتعصّبه، ولم تخرّق الثياب بتجنيه وتسحّبه، فأما الإنصاف في الإخاء فهو ضالّتي عند الأصدق، ولا أقول [2] :
وإني لمشتاق إلى ظلّ صاحب ... يروق ويصفو إن كدرت عليه
فإن قائل هذا البيت قاله والزمان زمان، والاخوان إخوان، وحسن العشرة سلطان، ولكني أقول: وإني لمشتاق إلى ظلّ:
رجل يوازنك المودّة جاهدا ... يعطي ويأخذ منك بالميزان
فإذا رأى رجحان حبّة خردل ... مالت مودّته مع الرجحان
وقد كان الناس يقترحون الفضل فأصبحنا نقترح العدل، وإلى الله المشتكى لا منه. ذكر الشيخ سيدي- أيده الله- حديث الاستقبال، وكيف يستقبل من انقضّ علينا انقضاض العقاب الكاسر، ووقع بيننا وقوع السهم العائر:
وتكليفك المرء ما لا يطيق ... يجوز على مذهب الأشعري
وقد زاد سيدي على أستاذه الأشعري، فإن أستاذه كلّف العاجز ما لا يطيق مع عجزه عنه، وسيدي كلّف الجاهل علم الغيب مع الاستحالة منه. والمنزل بما فيه قد عرضته عليه، ولو أطقت حمله لحملته إليه، والشوق الذي ذكره سيدي فعندي منه الكثير الكبير، وعنده منه الصغير اليسير، وأكثرنا شوقا أقلّنا عتابا وأليننا خطابا. ولو
__________
[1] الشعر للمتنبي، انظر ديوانه. 314.
[2] البيت لأبي العتاهية، الأغاني 11: 326 غنى فيه علويه للمأمون، وانظر الصداقة والصديق للتوحيدي:
50- 51.(1/248)
أراد سيدي أن أصدّق دعواه في شوقه إليّ لغضّ من حجم عتبه عليّ، فإنما اللّفظ زائد واللحظ وارد، فإذا رقّ اللفظ دقّ اللحظ، وإذا صدق الحبّ ضاق العتاب والعتب:
فبالخير لا بالشرّ فارج مودتي ... وأيّ امرىء يقتال منه الترهّب
عتاب سيدي قبيح ولكنه حسن، وكلامه ليّن ولكنه خشن، أما قبحه فلأنه عاتب بريئا، ونسب إلى الإساءة من لم يكن مسيئا. وأما حسنه فلألفاظه الغرر، ومعانيه التي هي كالدرر، فهي كالدنيا ظاهرها يغرّ وباطنها يضرّ، وكالمرعى على دمن الثرى منظره بهيّ ومخبره وبيّ، ولو شاء سيدي نظم الحسن والإحسان، وجمع بين صواب الفعل واللسان:
يا بديع القول حاشا ... لك من هجو بديع
ولحسن القول عوّذ ... تك من سوء الصنيع
لا يعب بعضك بعضا ... كن مليحا في الجميع
رقعة أخرى للبديع إلى الخوارزمي:
أنا وإن كنت مقصّرا في موجبات الفضل من حضور مجلس الاستاذ سيدي فما أفري إلا جلدي، ولا أبري إلا قدحي، ولا أبخس إلا حظّي، وإن يكن ذاك جرما فكفى هذا عقابا، ومع ذاك فما أعمر أوقاتي إلا بمدحه ولا أطرّز ساعاتي إلا بذكره، ولا أركض إلا في حلبة وصفه حرس الله فضله. نعم وقد رددت «كتاب الأوراق» للصولي وتطاولت لكتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، وللأستاذ سيدي في الفضل والتفضل به رأيه.
وقال البديع يمدح الصحابة ويهجو الخوارزميّ ويجيبه عن قصيدة رويت له في الطعن عليهم:
وكّلني بالهمّ والكآبه ... طعّانة لعّانة سبّابه
للسلف الصالح والصحابه ... أساء سمعا فأساء جابه
...
تأملوا يا كبراء الشيعه ... لعشرة الاسلام والشريعه
أتستحلّ هذه الوقيعه ... في بيع الكفر وأهل البيعه
...(1/249)
فكيف من صدّق بالرساله ... وقام للدين بكلّ آله
وأحرز الله يد العقبى له ... ذلكم الصديق لا محاله
...
إمام من أجمع في السقيفه ... قطعا عليه أنه الخليفه
ناهيك من آثاره الشريفه ... في ردّه كيد بني حنيفه
...
سل الجبال الشمّ والبحارا ... وسائل المنبر والمنارا
واستعلم الآفاق والأقطارا ... من أظهر الدين بها شعارا
...
ثم سل الفرس وبيت النار ... من الذي فلّ شبا الكفار
هل هذه البيض من الآثار ... إلا لثاني المصطفى في الغار
...
وسائل الاسلام من قوّاه ... وقال إذ لم تقل الأفواه
واستنجز الوعد فأومى الله ... من قام لما قعدوا إلا هو
...
ثاني النبيّ في سني الولاده ... ثانيه في الغارة بعد العاده
ثانيه في الدعوة والشهاده ... ثانيه في القبر بلا وساده
...
ثانيه في منزلة الزعامه ... نبوة أفضت إلى إمامه
أتأمل الجنة يا شتّامه ... ليست بمأواك ولا كرامه
...
ان امرءا أثنى عليه المصطفى ... ثمّت والاه الوصيّ المرتضى
واجتمعت على معاليه الورى ... واختاره خليفة ربّ العلى
...
واتبعته أمة الأمّيّ ... وبايعته راحة الوصيّ
وباسمه استسقى حيا الوسميّ ... ما ضرّه هجو الخوارزميّ
...
سبحان من لم يلقم الصخر فمه ... ولم يعده حجرا ما أحمله
يا نذل يا مأبون أفطرت فمه ... لشدّ ما اشتاقت إليك الحطمه
...(1/250)
إن أمير المؤمنين المرتضى ... وجعفرا الصادق أو موسى الرضى
لو سمعوك بالخنا معرّضا ... ما ادخروا عنك الحسام المنتضى
...
ويلك لم تنبح يا كلب القمر ... ما لك يا مأبون تغتاب عمر
سيد من صام وحجّ واعتمر ... صرّح بإلحادك لا تمش الخمر
...
يا من هجا الصديق والفاروقا ... كيما يقيم عند قوم سوقا
نفخت يا طبل علينا بوقا ... فما لك اليوم كذا موهوقا
...
إنك في الطعن على الشيخين ... والقدح في السيّد ذي النورين
لواهن الظهر سخين العين ... معترض للحين بعد الحين
...
هلا شغلت باستك المغلومه ... وهامة تحملها مشؤومه
هلا نهتك الوجنة الموشومه ... عن مشتري الخلد ببئر رومه
...
كفى من الغيبة أدنى شمّه ... من استجاز القدح في الأئمه
ولم يعظم أمناء الأمه ... فلا تلوموه ولوموا أمه
...
ما لك يا نذل وللزكيّه ... عائشة الراضية المرضيّه
يا ساقط الغيرة والحميّه ... ألم تكن للمصطفى حظيه
...
من مبلغ عنّي الخوارزميا ... يخبره أن ابنه عليا
قد اشترينا منه لحما نيا ... بشرط أن يفهمنا المعنيا
...
يا أسد الخلوة خنزير الملا ... مالك في الحرّى تقود الجملا
يا ذا الذي يثلبني إذا خلا ... وفي الخلا أطعمه ما في الخلا
...
وقلت لما احتفل المضمار ... واحتفّت الأسماع والأبصار
سوف ترى إذا انجلى الغبار ... أفرس تحتي أم حمار
...(1/251)
وكتب البديع إلى معلمه جوابا [1] : الشيخ الإمام يقول: فسد الزمان، أفلا يقول متى كان صالحا؟ أفي الدولة العباسية وقد رأينا آخرها وسمعنا بأولها، أم في المدة المروانية وفي أخبارها:
لا تكسع الشّول بأغبارها ... انك لا تدري من الناتج
ام السنين الحربية:
والسيف يغمد في الطّلى ... والرمح يركز في الكلى
ومبيت حجر بالفلا ... والحرّتان وكربلا
أم الأيام العدوية، وصاحبها [يقول] : هل بعد البزول الا النزول، أم الأيام التيمية [وصاحبها] يقول طوبى لمن مات في نأنأة الاسلام، أم على عهد الرسالة وقيل اسكني يا فلانة فقد ذهبت الأمانة، أم في الجاهلية ولبيد يقول:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم ... وبقيت في خلف كجلد الأجرب
أم قبل ذلك وأخو عاد يقول:
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الأهل أهل والبلاد بلاد
أم قبل ذلك وقد قال آدم عليه السلام:
تغيرت البلاد ومن عليها ... فوجه الأرض مغبرّ قبيح
أم قبل ذلك والملائكة تقول أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ
(البقرة: 30) واني على توبيخه لي لفقير إلى لقائه، شفيق على بقائه، ما نسيته ولا أنساه، وإن له بكل كلمة علمنا منارا، ولكل حرف أخذته منه نارا، ولو عرفت لكلامي موقعا من قلبه لاغتنمت خدمته به، ولكني خشيت أن يقول هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا
(يوسف: 65) واثنتان قلما تجتمعان الخراسانية والانسانية، وإني وإن لم أكن خراسانيّ الطينة فإني خراساني المدينة، والمرء من حيث يوجد لا من حيث يولد، والانسان من حيث يثبت لا من حيث ينبت، فإذا انضاف إلى تربة خراسان ولادة همذان ارتفع القلم وسقط التكليف، والجرح جبار والجاني حمار، فليحملني
__________
[1] الرسالة موجهة الى أستاذه أحمد بن فارس، انظر الرسائل: 414.(1/252)
على هناتي، أليس صاحبنا يقول:
لا تلمني على ركاكة عقلي ... إن تصورت أنني همذاني [1]
- 79-
أحمد بن الحسين بن عبيد الله بن إبراهيم بن عبد الله الأسدي الغضاري
: كان من الأدباء والفضلاء الاذكياء، وله خط يزري بخط ابن مقلة على طريقته.
- 80-
أحمد بن خالد أبو سعيد الضرير البغدادي
: رأيت في فوائد أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي صاحب كتاب «المجمل» ما صورته: وجدت في تفسير أبي موسى محمد بن المثنى العنزي ولم أسمعه، حدثني أبو معاوية الضرير محمد بن حازم، حدثنا إسماعيل روى عن أبي صالح، هكذا أسماه، وقد سماه السلامي كما ذكرناه في الترجمة، والذي ترجمناه أصحّ لأني رأيته في مواضع أخر موافقا له، والله أعلم.
قال الازهري [2] : كان طاهر بن عبد الله بن طاهر استقدمه من بغداد إلى خراسان وأقام بنيسابور وأملى بها المعاني والنوادر، ولقي أبا عمرو الشيباني وابن الأعرابي، وكان يلقى الأعراب الفصحاء الذين استوردهم ابن طاهر نيسابور فيأخذ عنهم وكان شمر [3] وأبو الهيثم [4] يوثّقانه.
__________
[79]- هو من الخطاطين الذين لم تهتم بهم كثيرا كتب التراجم.
[80]- ترجمة أبي سعيد الضرير في إنباه الرواة 1: 41 والوافي 6: 369 ونكت الهميان: 96 وبغية الوعاة 1: 305.
[1] بعد هذا في الموجز رسالة من البديع الى مسكويه وسترد في ترجمة مسكويه.
[2] تهذيب اللغة 1: 24.
[3] يعني شمر بن حمدويه الهروي اللغوي (وسيترجم له المؤلف رقم: 589) .
[4] هو أبو الهيثم الرازي النحوي قدم هراة قبل وفاة شمر (توفي سنة 255) وكان أعلم بالنحو من شمر وله تصانيف (إنباه الرواة 4: 182) .(1/253)
ونقلت من كتاب «نتف الطرف» تأليف أبي علي الحسين بن أحمد السلامي البيهقي صاحب كتاب «ولاة خراسان» - وقد ذكرناه في بابه [1]- قال: خرّج أبو سعيد الضرير عن أبي عبيد من «غريب الحديث» جملة مما غلط فيه، وأورد في تفسيره فوائد كثيرة ثم عرض ذلك على عبد الله بن عبد الغفار وكان أحد الأدباء فكأنه لم يرضه، فقال لأبي سعيد: ناولني يدك فناوله يده فوضع الشيخ في كفّه متاعه وقال له:
اكتحل بهذا يا أبا سعيد حتى تبصر فكأنك لا تبصر.
ثم قال: سمعت أبا جعفر محمد بن سليمان الشرمقاني قال: سمعت أبا سعيد الضرير يقول: كان يقال إذا أردت أن تعرف خطأ أستاذك فجالس غيره.
وله تصانيف منها: كتاب الردّ على أبي عبيد في غريب الحديث. وكتاب الأبيات.
قال السلامي: حدثني أبو العباس محمد بن أحمد الغضاري قال حدثني عمي محمد بن الفضل، وكان قد بلغ مائة وعشرين سنة قال: لما قدم عبد الله بن طاهر نيسابور وأقدم معه جماعة من فرسان طرسوس وملطية وجماعة من أدباء الأعراب منهم عرّام وأبو العميثل وأبو العيسجور وأبو العجنّس وعوسجة وأبو العذافر وغيرهم فتفرّس أولاد قواده وغيرهم بأولئك الفرسان، وتأدبوا بأولئك الأعراب، وبهم تخرّج أبو سعيد الضرير، واسمه أحمد بن خالد، وكان وافى نيسابور مع عبد الله بن طاهر، فصار بهم إماما في الأدب. وقد كان صحب بالعراق أبا عبد الله محمد بن زياد الأعرابي وأخذ عنه، فبلغ ابن الأعرابي أن أبا سعيد يروي عنه أشياء كثيرة مما يفتي فيه، فقال لبعض من لقيه من الخراسانية: بلغني أن أبا سعيد يروي عني أشياء كثيرة فلا تقبلوا منه من ذلك غير ما يرويه من أشعار العجاج ورؤبة، فإنه عرض ديوانهما عليّ وصحّحه.
وحدّث عن الغضاري عن عمه قال: اختصم بعض الأعراب الذين كانوا مع عبد الله بن طاهر في علاقة بينهم إلى صاحب الشرطة بنيسابور فسألهم بيّنة وشهودا يعرفون، فأعجزهم ذلك، فقال أبو العيسجور:
إن يبغ منا شهودا يشهدون لنا ... فلا شهود لنا غير الأعاريب
وكيف يبغي بنيسابور معرفة ... من داره بين أرض الحزن واللّوب
__________
[1] ترجمته رقم: 366.(1/254)
قرأت [1] بخط عبد السلام البصري في كتاب محمد بن أبي الأزهر قال، حدثني وهب بن إبراهيم خال عبيد الله بن سليمان بن وهب قال: كنا يوما بنيسابور في مجلس أبي سعيد المكفوف، وكان أبو سعيد عالما باللغة جدا، إذ هجم علينا مجنون من أهل قمّ، فسقط على جماعة من أهل المجلس، فاضطرب الناس لسقطته، ووثب أبو سعيد لا يشكّ أن آفة قد لحقتنا من سقوط جدار أو شرود بهيمة، فلما رآه المجنون على تلك الحال قال: الحمد لله ربّ العالمين، على رسلك يا شيخ لا ترع، آذاني هؤلاء الصبيان وأخرجوني عن طبعي إلى ما لا أستحسنه من غيري، فقال أبو سعيد:
امنعوا منه عافاكم الله، فوثبنا وشرّدنا من كان [يعبث به] ورجعنا، فسكت ساعة لا يتكلم، إلى أن عدنا إلى ما كنّا فيه من المذاكرة، وابتدأ بعضنا بقراءة قصيدة من شعر نهشل بن حري التميمي حتى بلغ قوله:
غلامان خاضا الموت من كلّ جانب ... فآبا ولم تعقد وراءهما يد
متى يلقيا قرنا فلا بدّ أنه ... سيلقاه مكروه [2] من الموت أسود
فما استتم هذا البيت حتى قال [المجنون] : قف أيها القارىء، تتجاوز المعنى ولا تسأل عنه؟ ما معنى قوله ولم تعقد وراءهما يد؟ فأمسك من حضر عن القول، فقال: قل يا شيخ فإنك المنظور إليه والمقتدى به، فقال أبو سعيد: يقول إنهما رميا بأنفسهما في الحرب أقصى مراميها ورجعا موفورين لم يؤسرا فتعقد أيديهما كتفا [3] ، فقال: يا شيخ أترضى لنفسك بهذا الجواب؟ فأنكرنا ذلك على المجنون، فنظر بعضنا إلى بعض، فقال أبو سعيد: هذا الذي عندنا فما عندك؟ فقال: المعنى يا شيخ آبا ولم تعقد يد بمثل فعلهما بعدهما لأنهما فعلا ما لم يفعله أحد، كما قال الشاعر:
قرم [4] إذا عدّت تميم معا ... ساداتها عدّوه بالخنصر
__________
[1] أورد السيوطي هذه القصة في الأشباه والنظائر 6: 191- 193 نقلا عن ياقوت.
[2] م: مكروب.
[3] كتفا: ربطا بالكتاف.
[4] م: قوم.(1/255)
ألبسه الله ثياب النّدى ... فلم تطل عنه ولم تقصر
أي خلقت له، وقريب من الأول قوله:
قومي بنو مذحج من خير الأمم ... لا يصعدون قدما على قدم
يعني أنهم يتقدمون الناس ولا يطأون على عقب أحد، وهذان فعلا ما لم يفعله أحد. فلقد رأيت أبا سعيد وقد احمرّ وجهه واستحيا من أصحابه، ثم غطّى المجنون رأسه وخرج وهو يقول: يتصدّرون ويغرّون الناس من أنفسهم. فقال أبو سعيد بعد خروجه: اطلبوه فإني أظنه إبليس، فطلبناه فلم نظفر به.
قال الشافعي حدثني أبو جعفر الشرمقاني قال: كان أبو سعيد الضرير مثريا ممسكا لا يكسر رأس رغيف له، إنما يأكل عند من يختلف إليهم، لكنه كان أديب النفس عاقلا، حضر يوما مجلس عبد الله بن طاهر فقدّم إليه طبق عليه قصب السكر، وقد قشر وقطّع كاللقم، فأمره عبد الله بن طاهر أن يتناول منه، فقال أبو سعيد: إن لهذا لفاظة ترتجع من الأفواه وأنا أكره ذلك في مجلس الأمير- أيده الله، فقال عبد الله: تناول فليس بصاحبك من احتشمك واحتشمته، أما إنه لو قسم عقلك على مائة رجل لصار كلّ رجل منهم عاقلا.
وقيل إن هذا الكلام جرى بين الضرير وبين أبي دلف في مجلسه.
وحدث قال حدثني الغضاري قال: كان أبو سعيد الضرير يختار المؤدبين لأولاد قواد عبد الله بن طاهر، ويبيّن مقدار أرزاقهم، ويطوف عليهم، ويتعهد من بين أيديهم من أولئك الصبيان. فاستقبله يوما في ميدان الحسين بعض أولئك المؤدبين فقال له: يا فلان من أين وجهك؟ قال: من شاذياخ، قال: زد فيه ألفا ولاما، فقال: من شاذياخال، فقال أبو سعيد: اللهم غفرا زدهما في أول الحرف ويلك، فقال: ألف لام شاذياخ، فقال: صمّ صداك، كم رزقك؟ قال: سبعين درهما، فقال: يصرف ويبدل به غيره وهو صاغر قميء [1] .
وحدث الحاكم في «كتاب نيسابور» سمعت أبا زكريا يحيى بن محمد العنبري يقول: سمعت أبي يقول: لما قلّد المأمون عبد الله بن طاهر ولاية خراسان في سنة
__________
[1] م: صدى.(1/256)
سبع عشرة ومائتين وناوله العهد بيده قال: حاجة يا أمير المؤمنين، قال: مقضية، قال: يسعفني أمير المؤمنين في استصحاب ثلاثة من العلماء، قال: من هم؟ قال:
الحسين بن الفضل البجلي وأبو سعيد الضرير وأبو إسحاق القرشي، فأجابه إلى ذلك، فقال عبد الله: وطبيب يا أمير المؤمنين، فليس في خراسان طبيب حاذق، قال:
من؟ قال: أيوب الرهاوي، فقال: يا أبا العباس لقد أسعفناك بما التمسته، وقد أخليت العراق من الأفراد. قال: فقدم الحسين بن الفضل نيسابور وابتاع بها دارا مشهورة بباب عزرة، فبقي يعلّم الناس العلم ويفتي إلى أن مات في شعبان سنة اثنتين وثمانين ومائتين وهو ابن مائة سنة وأربع سنين، ودفن في مقبرة الحسين بن معاذ، قال: ولو كان في بني إسرائيل لكان من عجائبهم يعني الحسين بن الفضل، ذكر ذلك كله في ترجمة الحسين بن الفضل.
قرأت بخط الأزهري من كتاب «نظم الجمان» للمنذري، سمعت أبا عبد الله المعقلي المزني يقول، سمعت أبا سعيد الضرير يقول: كنت أعرض على ابن الأعرابي أصول الشعر أصلا أصلا، وعرض عليه وأنا أحضر شعر الكميت في المجالس التي كان يحضرها، قال: فحفظته بعرضه وحفظت النكت التي أفاد فيها، فقال لي ابن الأعرابي يوما: لم تعرض عليّ فيما عرضت شعر الكميت، فقلت له:
عرضه عليك فلان فحفظته بعرضه، وحفظت ما أفدت فيه من الفوائد والنكت والمعاني، وجعلت أنشده وأعرّفه من تلك النكت، فعجب.
وقال أبو سعيد الضرير [1] : سألني أبو دلف عن بيت امرىء القيس [2] :
كبكر المقاناة البياض بصفرة
قال: أخبرني عن البكر هي المقاناة أم غيرها؟ قال قلت: هي هي، قال:
أفيضاف الشيء إلى صفته؟ قلت: نعم، قال: وأين؟ قلت: قد قال الله تعالى:
وَلَدارُ الْآخِرَةِ*
(يوسف: 109) فأضاف الدار إلى الآخرة وهي هي بعينها، والدليل على ذلك أنه قال في سورة أخرى: وَالدَّارُ الْآخِرَةُ*
(الأعراف: 169) قال: أريد
__________
[1] هذه القصة نقلها السيوطي في الأشباه والنظائر 6: 189.
[2] عجز البيت: جواهرها في صرة لم تزيل.(1/257)
أشفى من هذا، فأنشدته لجرير [1] :
يا ضبّ إنّ هوى القيون أضلكم ... كضلال شيعة أعور الدجّال
- 81-
أحمد بن داود بن ونند أبو حنيفة الدينوري
: أخذ عن البصريين والكوفيين، وأكثر أخذه عن ابن السكيت، وكان نحويا لغويا مهندسا منجما حاسبا، راوية ثقة فيما يرويه ويحكيه، مات في جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وجدت ذلك على ظهر «كتاب النبات» من تصنيفه، ووجدت في كتاب عتيق: مات أحمد بن داود أبو حنيفة الدينوري قبل سنة تسعين ومائتين، ثم وجدت على ظهر النسخة التي بخط ابن المسيح بكتاب النبات من تصنيف أبي حنيفة: توفي أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري ليلة الاثنين لأربع بقين من جمادى الأولى سنة اثنتين وثمانين، ووجدت في «كتاب الوفيات» لأبي عبد الله محمد بن سفيان بن هارون ابن بنت جعفر بن محمد الفريابي البغدادي: مات أبو حنيفة أحمد بن داود بن ونند صاحب «كتاب النبات» في سنة إحدى وثمانين ومائتين.
قال أبو حيان في «كتاب تقريظ الجاحظ» [2] ومن خطه الذي لا أرتاب فيه نقلت، قال: قلت لأبي محمد الأندلسي- يعني عبد الله بن حمود الزبيدي، وكان من غرر أصحاب السيرافي، وله في هذا الكتاب ذكر [3]-: قد اختلف أصحابنا في مجلس أبي سعيد السيرافي في بلاغة الجاحظ وأبي حنيفة صاحب النبات ووقع الرضى بحكمك فما قولك؟ فقال: أنا أحقر نفسي عن الحكم لهما وعليهما، فقال لا بدّ من قول، قال: أبو حنيفة أكثر بداوة وأبو عثمان أكثر حلاوة، ومعاني أبي عثمان لائطة
__________
[81]- ترجمة أبي حنيفة الدينوري في إنباه الرواة 1: 41 والوافي 6: 377 وبغية الوعاة 1: 306 وخزانة الأدب 1: 60 والبلغة: 20 وسير الذهبي 13: 422 والفهرست: 86.
[1] ديوان جرير: 962.
[2] لم يصلنا هذا الكتاب من كتب أبي حيان.
[3] ترجمته رقم: 646.(1/258)
بالنفس سهلة في السمع، ولفظ أبي حنيفة أغرب وأعرب وأدخل في أساليب العرب.
قال أبو حيان: والذي أقوله وأعتقده وآخذ به واستهام عليه أني لم أجد في جميع من تقدّم وتأخر ثلاثة لو اجتمع الثقلان على تقريظهم ومدحهم ونشر فضائلهم في أخلاقهم وعلمهم ومصنفاتهم ورسائلهم مدى الدنيا إلى أن يأذن الله بزوالها لما بلغوا آخر ما يستحقه كلّ واحد منهم، أحدهم هذا الشيخ الذي أنشأنا له هذه الرسالة وبسببه جشّمنا هذه الكلفة، أعني أبا عثمان عمرو بن بحر، والثاني أبو حنيفة أحمد بن داود الدينوري فإنه من نوادر الرجال، جمع بين حكمة الفلاسفة وبيان العرب، له في كلّ فنّ ساق [1] وقدم ورواء وحكم [2] ، وهذا كلامه في «الأنواء» يدلّ على حظّ وافر من علم النجوم وأسرار الفلك، فأما كتابه في «النبات» فكلامه فيه في عروض كلام أبدى بدويّ وعلى طباع أفصح عربيّ، ولقد قيل لي إن له في القرآن كتابا يبلغ ثلاثة عشر مجلدا ما رأيته، وأنه ما سبق إلى ذلك النمط، هذا مع ورعه وزهده وجلالة قدره. وقد وقف الموفّق عليه وسأله وتحفّى به، والثالث أبو زيد أحمد بن سهل البلخي فإنه من لم يتقدم له شبيه في الأعصر الأول، ولا يظنّ أنه يوجد له نظير في مستأنف الدهر، ومن تصفح كلامه في «كتاب أقسام العلوم» وفي «كتاب أخلاق الأمم» وفي «كتاب نظم القرآن» وفي «كتاب اختيار السيرة» وفي رسائله إلى إخوانه وجوابه عما يسأل عنه ويبده به، علم أنه بحر البحور، وأنه عالم العلماء. وما رئي في الناس من جمع بين الحكمة والشريعة سواه، وإن القول فيه لكثير، ولو تناصرت إلينا أخبارهما لكنا نحبّ أن نفرد لكلّ واحد منهما تقريظا مقصورا عليه، وكتابا منسوبا إليه، كما فعلت بأبي عثمان.
قرأت في كتاب ابن فورجة المسمى ب «الفتح على أبي الفتح» في تفسير قول المتنبي [3] :
__________
[1] ر: شان.
[2] ر: وسلم.
[3] انظر الفتح: 245- 247 وقد ذهب ابن جني إلى أن التشبيه بما يعني أن السائل يقول: بما يشبه فلان؟
فيقال: كأنه الأسد، وهذا ما يستنكره ابن فورجة.(1/259)
فدع عنك تشبيهي بما وكأنه ... فما أحد فوقي ولا أحد مثلي
وقال فيه ما لم يرضه ابن فورجة، ونسبه إلى أنه سأل عنه أبا الطيب، فأجاب بهذا الجواب، فأورد ابن فورجة هذه الحكاية: زعموا أن أبا العباس المبرد ورد الدينور زائرا لعيسى بن ماهان، فأول ما دخل عليه وقضى سلامه قال له عيسى: أيها الشيخ ما الشاة المجثّمة التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل لحمها؟ فقال: هي الشاة القليلة اللبن مثل اللجبة، فقال: هل من شاهد؟ قال: نعم قول الراجز:
لم يبق من آل الحميد نسمه ... إلا عنيز لجبة مجثّمه
فإذا بالحاجب يستأذن لأبي حنيفة الدينوري، فلما دخل قال له: أيها الشيخ ما الشاة المجثّمة التي نهينا عن أكل لحمها؟ فقال: هي التي جثمت على ركبها وذبحت من خلف قفاها، فقال: كيف تقول وهذا شيخ أهل العراق- يعني أبا العباس المبرد- يقول هي مثل اللجبة، وهي القليلة اللبن، وأنشده البيتين، فقال أبو حنيفة: أيمان البيعة تلزم أبا حنيفة إن كان هذا التفسير سمعه هذا الشيخ أو قرأه، وإن كان البيتان إلا لساعتهما هذه، فقال أبو العباس: صدق الشيخ أبو حنيفة، فإنني أنفت أن أرد عليك من العراق وذكري ما قد شاع فأول ما تسألني عنه لا أعرفه، فاستحسن منه هذا الإقرار وترك البهت. قال ابن فورجة: وأنا أحلف بالله العليّ إن كان أبو الطيب قطّ سئل عن هذا البيت فأجاب هذا الجواب الذي حكاه ابن جني، وإن كان إلّا متزيدا مبطلا في ما يدعيه، عفا الله عنه وغفر له، فالجهل والإقرار به أحسن من هذا.
وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال [1] : وله من الكتب المصنفة: كتاب الباه.
كتاب ما يلحن فيه العامة. كتاب الشعر والشعراء. كتاب الفصاحة. كتاب الأنواء.
كتاب في حساب الدور [2] . كتاب البحث في حساب الهند. كتاب الجبر والمقابلة.
كتاب البلدان. كتاب النبات [3] لم يصنّف في معناه مثله. كتاب الردّ على لغدة
__________
[1] الفهرست: 86.
[2] ر: حساب الدينور.
[3] طبعت من هذا الكتاب قطعتان.(1/260)
الأصفهاني. كتاب الجمع والتفريق. كتاب الأخبار الطوال [1] . كتاب الوصايا.
كتاب نوادر الجبر. كتاب إصلاح المنطق. كتاب القبلة والزوال. كتاب الكسوف.
قال أبو حيان: وله كتاب في تفسير القرآن.
- 82-
أحمد بن رشيق الاندلسي الكاتب أبو العباس
: ذكره الحميدي وقال: كان أبوه من موالي بني شهيد، ونشأ هو بمرسية، وانتقل إلى قرطبة وطلب الأدب فبرّز فيه، وبسق في صناعة الرسائل، مع حسن الخطّ المتفق على نهايته، وتقدم فيهما، وشارك في سائر العلوم، ومال إلى الفقه والحديث، وبلغ من رياسة الدنيا أبلغ [2] منزلة، وقدمه الأمير الموفق أبو الجيش مجاهد بن عبد الله العامريّ على كلّ من في دولته لأسباب أكّدت له ذلك عنده: من المودّة والثقة والنصيحة والصحبة في النشأة.
وكان ينظر في أمور الجهة التي كان فيها [3] نظر العدل والسياسة، ويشتغل بالفقه والحديث، ويجمع العلماء والصالحين ويؤثرهم، ويصلح الأمور جهده، وما رأينا من أهل الرياسة من يجري مجراه من هيبة مفرطة وتواضع وحلم عرف به مع القدرة، مات بعد الأربعين وأربعمائة عن سنّ عالية. وله كتاب رسائل مجموعة متداولة منها رسالة إلى أبي عمران موسى بن عيسى بن أبي حاج نجح الفاسي وأبي بكر ابن عبد الرحمن فقيهي القيروان في الاصلاح بينهما، وكتاب على تراجم كتاب الصحيح للبخاري ومعاني ما أشكل منه. وقد رأيته غير مرة إذا غضب في مجلس الحكم أطرق ثم قام ولم يتكلم بين اثنين، فظننته كان يذهب إلى حديث أبي بكرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
[82]- ترجمة ابن رشيق الكاتب الأندلسي في جذوة المقتبس: 114 والحلة السيراء 2: 128؛ وقد تولى جزيرة ميورقة لمجاهد العامري، وهو الذي آوى ابن حزم، وفي حضرته جرت المناظرة بينه وبين أبي الوليد الباجي.
[1] هو من كتبه المطبوعة (من ذلك طبعة القاهرة 1960 بتحقيق عبد المنعم عامر) .
[2] الجذوة: ارفع.
[3] يعني جزيرة ميورقة.(1/261)
«لا يحكم حاكم بين اثنين وهو غضبان» ، وظننت [1] أن قيامه عند الغضب شيء ما سبق إليه، حتى رأيت بعض المصنفين القدماء قد حكى عن يزيد بن أبي حبيب أنه قال:
إنما غضبي في نعليّ، إذا سمعت ما أكره أخذتهما ومضيت.
- 83-
أحمد بن رضوان أبو الحسن النحوي
: أظنه ممن أخذ النحو من أصحاب أبي علي الفارسي.
- 84-
أحمد بن زهير أبي خيثمة
: هو أبو بكر أحمد بن أبي خيثمة زهير بن حرب بن شداد النسائي الأصل، سمع أبا نعيم الفضل بن دكين ويحيى بن معين وأحمد بن حنبل، وأخذ علم النسب عن مصعب بن عبد الله الزبيري، وأيام الناس عن أبي الحسن المدائني، والأدب عن محمد بن سلام الجمحي، ومات في شوال سنة تسع وسبعين ومائتين في خلافة المعتمد على الله عن أربع وتسعين سنة، ذكر ذلك كله الخطيب. قال: وله «كتاب التاريخ» الذي أحسن تصنيفه وكثّر فائدته، قال: ولا أعرف أغزر فوائد من كتاب التاريخ الذي ألفه أحمد بن أبي خيثمة، وكان لا يرويه إلا على الوجه، فسمعه منه الشيوخ الأكابر، كأبي القاسم البغوي ونحوه. قال: واستعار أبو العباس محمد بن إسحاق السراج من أبي بكر ابن أبي خيثمة شيئا من التاريخ فقال:
يا أبا العباس عليّ يمين أن لا أخذت بهذا الكتاب إلا على الوجه، فقال أبو العباس:
وعليّ عزيمة ألا اكتب الا ما أستفيد فردّه عليه ولم يحدّث في تاريخه عنه بحرف.
وأنشد الخطيب لابن أبي خيثمة:
__________
[83]- بغية الوعاة 1: 307 (عن ياقوت) .
[84]- ترجمته في تاريخ بغداد 4: 162 وتذكرة الحفاظ: 596 والوافي 6: 376 (وفيه نقل عن معجم الشعراء لم يورده ياقوت) وسير الذهبي 11: 492 والفهرست: 286 وطبقات الحنابلة 1: 44 وطبقات الجزري 1: 54 ولسان الميزان 1: 174.
[1] من هنا حتى آخر الترجمة لم يرد في جذوة المقتبس.(1/262)
قالوا اهتجارك من تهواه تسلاه ... فقد هجرت فما لي لست أسلاه
من كان لم ير في هذا الهوى أثرا ... فليلقني ليرى آثار بلواه
من يلقني يلق مرهونا بصبوته ... متيّما لا يفكّ الدهر قيداه
متيم شفّه بالحبّ مالكه ... ولو يشاء الذي أدواه داواه
قال الخطيب: وكان ابن أبي خيثمة كثير الكتاب، أكثر الناس عنه السماع.
في كتاب الفرغاني انه مات سنة سبع وتسعين قال: وفي آخر شوال مات ابن أبي خيثمة صاحب التاريخ من سكتة، وكانت له معرفة بأخبار الناس وأيامهم، وله مذهب كان الناس ينسبونه إلى القول بالقدر، وكان مختصا بعليّ بن عيسى.
- 85-
أحمد بن سعد أبو الحسين الكاتب
: ذكره حمزة في أهل أصبهان فقال:
ندب في أيام القاهر بالله إلى عمل الخراج أبو الحسين أحمد بن سعد، فورد أصبهان غرّة جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، ثم صرف بأبي علي ابن رستم في جمادى الآخرة من هذه السنة، ثم قدم أبو الحسين ابن سعد من فارس متقلدا لتدبير البلد وعمل الخراج من قبل الأمير علي بن بويه يعني عماد الدولة في جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة ثم صرف في سنة أربع وعشرين. قال: ثم ردت جباية الخراج في سنة أربع وعشرين إلى أبي القاسم سعد بن أحمد بن سعد. قال: ثم إن أبا الحسين عزل في شوال من هذه السنة، ولم يذكره بعد ذلك.
وعدّ فضلاء أصبهان من أصحاب الرسائل ثم قال: وأما أبو مسلم محمد بن [ ... ] وأبو الحسين أحمد بن سعد فقد استغنينا بشهرة هذين وبعد صوتهما في كور المشرق والمغرب وعند كتّاب الحضرة وإجماع أهل الزمان عن وصفهما وسياقة [1] الرسائل لهما.
__________
[85]- ترجمته في الوافي 6: 385 وبغية الوعاة 1: 308 وروضات الجنات 1: 211.
[1] م: وعامة.(1/263)
ثم ذكره في المصنفين فقال: له من الكتب كتاب الاختيار من الرسائل لم يسبق إلى مثله، وكتاب آخر في الرسائل سماه «فقر البلغاء» . وكتاب الحلي والشيات [1] .
وكتاب المنطق. وكتاب الهجاء.
قرأت في كتاب عتيق: حدثني سرح دسر [2] قال: تنبأ في مدينة أصبهان رجل في زمن أبي الحسين ابن سعد، فأتي به وأحضر العلماء والعظماء والكبراء كلهم، فقيل له: من أنت؟ فقال: أنا نبي مرسل، فقيل له: ويلك إن لكل نبي آية فما آيتك وحجتك؟ فقال: ما معي من الحجج لم يكن لأحد قبلي من الأنبياء والرسل، فقيل له: أظهرها، فقال: من كان منكم له زوجة حسناء أو بنت جميلة أو أخت صبيحة فليحضرها إليّ أحبلها بابن في ساعة واحدة. فقال أبو الحسين ابن سعد: أما أنا فأشهد أنك رسول وأعفني من ذلك، فقال له رجل: نساء ما عندنا ولكن عندي عنز حسناء فأحبلها لي، فقام يمضي، فقيل له: إلى أين؟ قال: أمضي إلى جبرئيل وأعرّفه أن هؤلاء يريدون تيسا ولا حاجة بهم إلى نبيّ، فضحكوا منه وأطلقوه [3] .
وأنشد للاصبهاني أبي الحسين هذا أشعارا منها في جواب معمّى:
رماني أخ أصفي له الودّ جاهدا ... ومن يتطوّع بالمودة يحمد
بداهية تعيا على كلّ عالم ... بوجه المعمّى بالصواب مؤيد
وحمّل سرّ الوحش والطير سرّه ... وأرسلها نكرا ببيداء قردد
فأنهضت قلبي في هوى نفس جارح ... ومن يغد يوما بالجوارح يصطد
فحاش لي الصنفين من بين أرنب ... يقود الوحوش طائعات وهدهد
يسوق لنا أسراب طير تتابعت ... على نسق مثل الجمان المنضد
وفرّقتها بالزّجر حين تجاوبت ... وعادت عباديدا بشمل مبدّد
وراوضتها بالفكر حتى تذلّلت ... فمن مسمح طوعا ومن متجلد
__________
[1] م: الحلي والثياب.
[2] كذا في م. ولعل صوابه: سرخ سر، اسم علم معناه «أحمر الرأس» .
[3] ر: وأكرموه.(1/264)
فأخرجت السرّ الخفّي وأنشدت ... قريض رهين بالصبابة ذي دد
وإني وإياها لكالخمر والفتى ... متى يستطع منها الزيادة يزدد
وله في أبي الفضل محمد بن الحسين ابن العميد:
البين أفردني بالهمّ والكمد ... والبين جدّد حرّ الثّكل في كبدي
فارقت من صار لي من واحدي عوضا ... يا ربّ لا تجعلنها فرقة الأبد
أمسك حشاشة نفسي أن يطيف بها ... كيد من الدهر بعد الفقد للولد
لا في الحياة فانّي غير مغتبط ... بالعيش بعد انقصاف الظهر والعضد
بل أبق لي الخلف المأمول حيطته ... على عيال وأطفال ذوي عدد
من أن يروا ضيعة في عرصة البلد ... وأن يروا نهزة في كفّ مضطهد
ربّي رجائي، وحسب المرء معتمدا ... نجل العميد وصنع الواحد الصمد
وله إلى أبي الحسين ابن لرة في مملوك له أسود كان تبناه:
حذّر فديتك «بشرى» من تبرّزه ... إني أخاف عليه لقعة العين
إذا بدت لك منه طرّة سبلت ... على الجبين وتحذيف كنونين
حسبت بدرا بدا تمّا فأكلفه ... غمامة نشرت في الأرض ثوبين
كأنما خطّ في أصداغه قلم ... بالحبر خطّين جاءا لفق قوسين
لكنّ ذلك منه غير دافعه ... عن الفتون وعن بعد من الشّين
وهذه قطعة شعر لأبي الحسين ابن سعد على أربع قواف كلما أفردت قافية كان شعرا برأسه إلى آخر الأبيات:
وبلدة قطعتها. بضامر. خفيدد. عيرانة ركوب ... وليلة سهرتها. لزائر. ومسعد. مواصل حبيب
وقينة وصلتها. بطاهر. مسوّد. ترب العلا نجيب ... إذا غوت أرشدتها. بخاطر. مسدّد. وهاجس مصيب
وقهوة باكرتها. لتاجر. ذي عند. في دينه وحوب(1/265)
سورتها كسرتها. بماطر. مبرّد. من جمّة القليب ... وحرب خصم هجتها. بكاثر. ذي عدد. في قومه مهيب
معودا بل سقتها. بباتر. مهند. يفري الطّلى رسوب ... وكم حظوظ نلتها. من قادر. ممجّد. بصنعه الغريب
كافيت إذ شكرتها. في سامر. ومشهد. للملك الرقيب
- 86-
أحمد بن سعيد بن عبد الله الدمشقي أبو الحسن
: نزل بغداد وحدث عن الزبير بن بكار ب «الموفقيات» وغيرها من مصنفاته، وكان مؤدّب ولد المعتز، واختص بعبد الله بن المعتز. روى عنه إسماعيل الصفار وغيره، وكان صدوقا، مات سنة ست وثلاثمائة.
ذكره المرزباني في كتابه فقال: [قال] أبو بكر محمد بن القاسم الانباري حدثني أحمد بن سعيد قال: كنت أؤدب أولاد المعتز، فتحمّل أحمد بن يحيى بن جابر الفلاذري [1] على قبيحة أم المعتز بقوم سألوها أن تأذن له في أن يدخل إلى ابن المعتز وقتا من النهار، فأجابت أو كادت تجيب، فلما اتصل الخبر بي جلست في منزلي غضبان مسكّرا لما بلغني عنها، فكتب إليّ أبو العباس عبد الله بن المعتز وله إذ ذاك ثلاث عشرة سنة:
أصبحت يا ابن سعيد حزت مكرمة ... عنها يقصّر من يحفى وينتعل
سربلتني حكمة قد هذّبت شيمي ... وأجّجت غرب ذهني فهو مشتعل
أكون إن شئت قسّا في خطابته ... أو حارثا وهو يوم الفخر مرتجل [2]
__________
[86]- ترجمته في تاريخ بغداد 4: 171 ونور القبس: 340 وإنباه الرواة 1: 44 والوافي 6: 388.
[1] الفلاذري: هكذا بالفاء، وهو بالباء أشهر.
[2] سيوضح المؤلف أسماء هؤلاء الذين ذكرهم ابن المعتز بعد القصيدة.(1/266)
وإن أشأ فكزيد في فرائضه ... أو مثل نعمان ما ضاقت بي الحيل
أو الخليل عروضيا أخا فطن ... أو الكسائيّ نحويا له علل
تغلي بداهة ذهني في مركّبها ... كمثل ما عرفت آبائي الأول
وفي فمي صارم ما سلّه أحد ... من غمده فدرى ما العيش والجذل
عقباك شكر طويل لا نفاد له ... تبقى معالمه ما أطّت الإبل
قسّ هو ابن ساعدة الأيادي، والحارث بن حلزة كان ارتجل قصيدته:
آذنتنا ببينها أسماء
وزيد بن ثابت الأنصاري، والنعمان أبو حنيفة صاحب الرأي والفقه.
وحدث أيضا قال: كتب ابن المعتز إلى أحمد بن سعيد الدمشقي جوابا عن كتاب استزاره فيه: قيّد نعمتي عندك بمثل ما كنت استدعيتها به، وذبّ عنها أسباب الظن، واستدم ما تحبّ مني بما أحبّ منك.
وكتب ابن المعتز إلى الدمشقي جوابا عن اعتذار كان من الدمشقي في شيء بلغ ابن المعتز عنه [1] : والله لا قابل إحسانك مني كفر، ولا تبع إحساني إليك منّ، فلك منّي يد لا أقبضها عن نفعك، وأخرى لا أبسطها إلى ظلمك، ومهما تسخطني فإني أصون وجهك عن ذلّ الاعتذار.
- 87-
أحمد بن سعيد بن شاهين البصري أبو العباس
: هو أحمد بن سعيد بن شاهين بن علي بن ربيعة، ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من أهل الأدب، وله من الكتب كتاب ما قالته العرب وكثر في أفواه العامة.
__________
[87]- ترجمة ابن شاهين في الفهرست: 88 والوافي 6: 389 وبغية الوعاة 1: 310.
[1] الصداقة والصديق: 426.(1/267)
- 88-
أحمد بن سعيد بن حزم الصدفي الاندلسي
المنتجيلي أبو عمر: ذكره الحميدي فقال: سمع بالأندلس جماعة منهم محمد بن أحمد الزرّاد، وذكر غيره [1] ورحل فسمع إسحاق بن إبراهيم بن النعمان وأحمد بن عيسى المصري المعروف بابن أبي عجينة وغيرهما، وألف «كتاب تاريخ الرجال» كبيرا، جمع فيه جميع ما أمكنه من أقوال الناس في أهل العدالة والتجريح، سمعه منه خلف بن أحمد المعروف بابن أبي جعفر وأحمد بن محمد الاشبيلي المعروف بابن الحرار، قال ابن عبد البر: ويقال إنه لم يكمل سماعه إلا لهما. ومات أبو عمر الصدفي سنة خمسين وثلاثمائة، كل هذا من كتاب الحميدي.
وذكر بعض الناس [2] أنه من ولد جعفر بن الحارث من أهل قرطبة ويكنى أبا عمر، وعني بالآثار والسنن وجمع الحديث والتاريخ، وروى عن جماعة بالأندلس منهم أحمد بن ثوابة وأسلم بن عبد العزيز وطبقتهم، ورحل إلى المشرق سنة إحدى عشرة وثلاثمائة مع أحمد بن عبادة الرعيني فسمع بمكة من أبي جعفر العقيلي وأبي بكر ابن المنذر صاحب الإشراق والدبيلي أبي جعفر محمد بن إبراهيم وأبي سعيد ابن الأعرابي وغيرهم. وسمع بمصر على جماعة منهم أبو عبد الله محمد بن الربيع بن سليمان، وبالقيروان من أحمد بن نصر ومحمد بن محمد بن اللباد، ثم انصرف الى الأندلس فصنف تاريخا في المحدّثين بلغ فيه الغاية، قرىء عليه، ولم يزل يحدّث إلى أن مات ليلة الخميس لتسع بقين من جمادى الآخرة سنة خمسين وثلاثمائة، ومولده يوم الجمعة لخمس خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع وثمانين ومائتين.
__________
[88]- ترجمته في جذوة المقتبس: 117 (وبغية الملتمس رقم: 411) وتاريخ ابن الفرضي 1: 55 والوافي 6: 389 وسير الذهبي 16: 104 وفهرسة ابن خير: 227.
[1] ذكر أبا عثمان سعيد بن عثمان الأعناقي ومحمد بن قاسم.
[2] هذا موافق لما أورده ابن الفرضي.(1/268)
- 89-
أحمد بن سليمان الطوسي أبو عبد الله
: هو أبو عبد الله أحمد بن سليمان بن داود بن محمد بن أبي العباس الطوسي، واسم أبي العباس الفضل بن سليمان بن المهاجر بن سنان بن حكيم، وكان فاضلا مات في ما ذكره الخطيب في صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة عن ثلاث وثمانين سنة. قال ابن شاذان قال الطوسي: ولدت سنة أربعين ومائتين. روى عنه أبو حفص ابن شاهين وأبو الفرج الأصبهاني صاحب «كتاب الأغاني» وأبو عبيد الله المرزباني، وكان صدوقا. حدث محمد بن طاهر الناشي [1] أبو عبد الله المعروف بقتيبة [2] ، سمعت الخضر بن داود بمكة يقول: قدم علينا سليمان بن داود الطوسي وهو على البريد، وكان الزبير قد فرغ من كتاب النسب، فأهدى إليه الطوسي هدايا كثيرة، فأهدى إليه الزبير «كتاب النسب» فقال له سليمان: أحبّ أن تقرأه عليّ، فقرأه عليه، وسمع ابنه أحمد بن سليمان مع أبيه جميع الكتاب. روى عنه أبو بكر ابن شاذان وأبو حفص ابن شاهين وأبو عبيد الله المرزباني والمخلص.
- 90-
أحمد بن سليمان بن وهب بن سعيد الكاتب أبو الفضل
: وأبوه أبو أيوب سليمان بن وهب الوزير وعمه الحسن بن وهب معروفان مشهوران مذكوران في هذا الكتاب [3] ، ونسب هذا البيت مستقصى في ترجمة الحسن بن وهب. مات في ما ذكره أبو عبيد الله في كتاب «معجم الشعراء» في سنة خمس وثمانين ومائتين، وكان أبو الفضل هذا بارعا فاضلا ناظما ناثرا قد تقلد الأعمال ونظر للسلطان في جباية الأموال،
__________
[89]- ترجمته في تاريخ بغداد 4: 177 والوافي 6: 405.
[90]- ترجمته في الوافي 6: 401.
[1] م: المباشر، وأثبت ما في تاريخ الخطيب.
[2] م: بقنينة؛ تاريخ بغداد: بابن قتيبة.
[3] ترجمة الحسن رقم: 357 ولم ترد لسليمان ترجمة.(1/269)
وأخوه عبيد الله بن سليمان والقاسم بن عبيد الله وزيرا المعتضد والمكتفي.
ولأحمد من التصنيفات كتاب ديوان شعره وكتاب ديوان رسائله.
حدث الصولي قال: وجدت بخطّ بعض الكتاب أن أحمد بن سليمان سأل صديقا له حاجة فلم يقضها له فقال:
قل لي نعم مرة إني أسرّ بها ... وإن عداني ما أرجوه من نعم
فقد تعودت لا حتى كأنك لا ... تعدّ قولك لا إلا من الكرم
قال: وحدثني الطالقاني [قال] : كنا عند أحمد بن سليمان على شرب ومعنا رجل من الهاشميين ورجل من الدهاقين، فعربد الهاشميّ على الدهقان فأنشد أحمد بن سليمان:
إذا بدأ الصديق بيوم سوء ... فكن منه لآخر ذا ارتقاب
وأمر باخراج الهاشمي، فقال له: أتخرجني وتدع نبطيا؟ فقال: نعم رأس كلب أحبّ إليّ من ذنب أسد.
وحدث عن الحسين بن إسحاق قال: كنت عند أحمد بن سليمان بن وهب ونحن على شراب، فوافته رقعة فيها أبيات مدح، فكتب الجواب فنسخته، ولم أنسخ الرقعة الواردة عليه، وكان جوابه: وصلت رقعتك- أعزك الله- فكانت كوصل بعد هجر، وغنى بعد فقر، وظفر بعد صبر، ألفاظها درّ مشوف، ومعانيها جوهر مرصوف، وقد اصطحبا أحسن صحبة، وتآلفا أقرب ألفة، لا تمجّها الآذان، ولا تتعب بها الأذهان. وقرأت في آخرها من الشعر ما لم أملك نفسي أن كتبت لجلالته عندي، وحسن موقعه من نفسي، بما لا أقوم به مع تحيّف الصهباء لبي وشربها من عقلي مقدار شربي، ولكني واثق منك بطيّ سيئتي ونشر حسنتي:
نفسي فداؤك يا أبا العباس ... وافى كتابك بعد طول الياس
وافى وكنت بوحشتي متفردا ... فأصارني للجمع والإيناس
وقرأت شعرك فاستطلت لحسنه ... فخرا على الخلفاء والجلّاس
عاينت منه عيون وشي سدّيت ... ببدائع في جانب القرطاس(1/270)
فاقت دقائقة وجلّ لحسنه ... عن أن يحدّ بفطنة وقياس
شعر كجري الماء يخرج لفظه ... من حسن طبعك مخرج الأنفاس
لو كان شعر الناس جسما لم يكن ... لكماله إلا مكان الراس
وكان لأحمد خادم يقال له عرّام، ويكنى أبا الحسام، وكان يهواه جدا، فخرج مرة إلى الكوفة بسبب رزقه مع إسحاق بن عمران، فكتب إلى إسحاق:
دموع العين مذروفه ... ونفس الصبّ مشغوفه
من الشوق إلى البدر ال ... ذي يطلع بالكوفه
فلما قرأ كتابه وفّاه رزقه وأنفذه إليه سريعا.
ومن كلامه: النعم- أيدك الله- ثلاث: مقيمة ومتوقّعة وغير محتسبة، فحرس الله لك مقيمها، وبلّغك متوقّعها، وآتاك ما لم تحتسب منها.
قال: ودخل أحمد بن سليمان إلى صديق له ولم يره كما ظنّ من السرور، فدعا بدواة وكتب:
قد أتيناك زائرين خفافا ... وعلمنا بأنّ عندك فضله
من شراب كأنه دمع مرها ... ء أضاءت لها من الهجر شعله
ولدينا من الحديث هنات ... معجبات نعدّها لك جمله
إن يكن مثل ما تريد وإلا ... فاحتملنا فإنما هي أكله
ومن مشهور شعره الذي لا تخلو مجاميع أهل الفضل منه قوله يصف السرو من أبيات، وربما نسبوه إلى غيره:
حفّت بسرو كالقيان تلحّفت ... خضر الحرير على قوام معتدل
فكأنها والريح حين تميلها ... تبغي التعانق ثم يمنعها الخجل
وكتب في صدر كتاب إلى ابن أخيه الحسن بن عبيد الله بن سليمان:
يا ابني ويا ابن أخي الأدنى ويا ابن أبي ... والمرتدي برداء العقل والأدب
ومن يزيد جناحي من قواك به ... ومن إذا عدّ مني زان لي حسبي(1/271)
ومن منثوره: كتب إلى ابن أبي الاصبع: لو أطعت الشوق إليك والنزاع نحوك لكثر قصدي لك وغشياني إياك، مع العلّة القاطعة عن الحركة، الحائلة بيني وبين الركوب، فالعلة إن تخلّفت مخلّفتي، وإيثار التخفيف يؤخّر مكاتبتي، فأما مودة القلب وخلوص النية ونقاء الضمير والاعتداد بما يجدده الله لك من نعمة ويرفعك إليه من درجة ويبلغك إياه من رتبة، فعلى ما يكون عليه الأخ الشقيق وذو المودة الشقيق.
وأرجو أن يكون شاهدي على ذلك من قلبك أعدل الشهود، ووافدي باعلامك إياه أصدق الوفود، وبحسب ذلك انبساطي إليك في الحاجة تعرض قبلك، ويعنى بالنجاح فيها عندك، وعرضت حاجة ليس تمنعني قلتها من كثير الشكر عليها، والاعتداد بما يكون من قضائك اياها، وقد حمّلتها يحيى [1] لتسمعها منه وتتقدم بما أحبّ فيها، جاريا على كرم سجيتك وعادة تفضلك [2] ، إن شاء الله.
وكتب الى أخيه الوزير عبيد الله وقد سافر ولم يودّعه: أطال الله بقاء الوزير مصحبا له السلامة الشاملة، والغبطة المتكاملة، والنعم المتظاهرة، والمواهب المتواترة، في ظعنه ومقامه، وحلّه وترحاله، وحركته وسكونه، وليله ونهاره، وعجّل إلينا أوبته، وأقرّ عيوننا برجعته، ومتّعها بالنظر إليه. كان شخوص الوزير- أعزه الله- في هذه المدة بغتة أعجل عن توديعه فزاد ذلك في ولهي وأضرم لوعتي، واشتدت له وحشتي، وذكرت قول كثير [3] :
وكنتم تزينون البلاد ففارقت ... عشية بنتم زينها وجمالها
فقد جعل الراضون إذ أنتم بها ... بخصب البلاد يشتكون وبالها
والوزير- أعزه الله- يعلم ما قيل في يحيى بن خالد:
ينسى صنائعه ويذكر وعده ... ويبيت في أمثاله يتفكّر [4]
__________
[1] ر: فلان.
[2] ر: فضلك.
[3] ديوان كثير: 75.
[4] حاشية ر بخط مغاير: أكرم بذلك من ذكور ناس.(1/272)
وكتب إلى صديق له: ليس عن الصديق المخلص والأخ المشارك في الأحوال كلّها مذهب، ولا وراءه للواثق به مطلب، والشاعر يقول [1] :
وإذا يصيبك والحوادث جمّة ... حدث حداك إلى أخيك الأوثق
وأنت الأخ الأوثق، والوليّ المشفق، والصديق الوصول، والمشارك في المكروه والمحبوب، قد عرّفني الله من صدق صفائك، وكرم وفائك، على الأحوال المتصرفة والأزمنة المتقلبة، ما يستغرق الشكر ويستعبد الحر. وما من يوم يأتي عليّ إلا وثقتي بك تزداد استحكاما، واعتمادي عليك يزداد توكّدا والتئاما، أنبسط في حوائجي، وأثق بنجح مسألتي، والله أسأل لك طول البقاء في أدوم النعمة وأسبغها، وأكمل العوافي وأتمها، وألّا يسلب الدنيا نضرتها بك، وبهجتها ببقائك، فما أعرف بهذا الدهر المتنكر في حالاته حسنة سواك، ولا حلية غيرك، فأعيذك بالله من العيون الطامحة، والألسن القادحة، وأسأله أن يجعلك في حرزه الذي لا يرام، وكنفه الذي لا يضام، وأن يحرسك بعينه التي لا تنام، إنه ذو المنّ والإنعام.
- 91-
أحمد بن سليمان المعبدي أبو الحسين
: ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: روى عن علي بن ثابت عن أبي عبيد، وعن ابن أخيه أبي الوزير عن الأعرابي. روى عنه أبو بكر محمد بن الحسين بن مقسم، وخطه يرغب فيه، وهو أحد العلماء المشاهير الثقات.
قرأت بخط ابن أبي نواس قال أبو عمر ابن حيويه، قال لي أبو عمران: مات المعبدي ليلة الأربعاء، ودفن يوم الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
__________
[91]- ترجمته في الفهرست: 87.
[1] ورد البيت في الصداقة والصديق: 430 (دون نسبة) .(1/273)
- 92-
أحمد بن سهل البلخي أبو زيد
: كان فاضلا قائما بجميع العلوم القديمة والحديثة، يسلك في مصنفاته طريقة الفلاسفة، إلا أنه بأهل الأدب أشبه. وكان معلما للصبيان ثم رفعه العلم إلى مرتبة علية، كما اقتصصنا في أخباره. وقد وصفه أبو حيان في كتابه في «تقريظ الجاحظ» بوصف ذكرته في أخبار أبي حنيفة أحمد بن داود [1] فاحتسبت به كعادتي في الايجاز وترك التكرير.
مات في سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة على ما اذكره فيما بعد، عن سبع أو ثمان وثمانين سنة.
حكي عنه أنه قال [كان] الحسين بن علي المروروذي وأخوه صعلوك [2] يجريان عليّ صلات معلومة دائمة، فلما صنفت كتابي «في البحث عن التأويلات» قطعاها عني. وكان لأبي علي محمد بن أحمد بن جيهان من خرخان الجيهاني وزير نصر بن أحمد الساماني جوار [3] يدرّها عليّ، فلما أمليت كتاب «القرابين والذبائح» حرمنيها، قال: وكان الحسين قرمطيا، وكان الجيهانيّ ثنويّا.
وكان أبو زيد يرمى بالإلحاد، ذكر ذلك كله محمد بن إسحاق النديم.
قال [4] : ولأبي زيد من الكتب: كتاب أقسام العلوم. كتاب شرائع الأديان.
كتاب اختيارات السير. كتاب السياسة الكبير. كتاب السياسة الصغير. كتاب كمال الدين. كتاب فضل صناعة الكتابة. كتاب مصالح الأبدان والأنفس، يعرف بالمقالتين. كتاب أسماء الله تعالى وصفاته. كتاب صناعة الشعر. كتاب فضيلة علم الأخبار. كتاب الأسماء والكنى والألقاب. كتاب أسامي الأشياء. كتاب النحو
__________
[92]- ترجمة أبي زيد البلخي في الفهرست: 153 والوافي 6: 409 وبغية الوعاة 1: 311.
[1] انظر الترجمة رقم: 81.
[2] هو أحمد بن علي المعروف بصعلوك.
[3] الفهرست: جوائز.
[4] يعني صاحب الفهرست.(1/274)
والتصريف. كتاب الصورة والمصور. كتاب رسالته [في] حدود الفلسفة. كتاب ما يصحّ من أحكام النجوم. كتاب الردّ على عبدة الأوثان. كتاب فضيلة علوم الرياضيات. كتاب في أقسام علوم الفلسفة. كتاب القرابين والذبائح. كتاب عصمة الأنبياء. كتاب نظم القرآن. كتاب قوارع القرآن. كتاب الفتاك والنساك. كتاب ما أغلق من [1] غريب القرآن. كتاب في أن سورة الحمد تنوب عن جميع القرآن. كتاب أجوبة أبي القاسم الكعبي. كتاب النوادر في فنون شتى. كتاب أجوبة أهل فارس. كتاب تفسير صور كتاب السماء والعالم لأبي جعفر الخازن. كتاب أجوبة أبي علي ابن محتاج. كتاب أجوبة أبي إسحاق المؤدب. كتاب المصادر. كتاب أجوبة مسائل أبي الفضل السكّري. كتاب الشطرنج. كتاب فضائل مكة على سائر البقاع. كتاب جواب رسالة أبي علي ابن المنير الزيادي. كتاب منية الكتاب. كتاب البحث عن التأويلات كبير. كتاب الرسالة السالفة إلى العاتب [عليه] . كتاب رسالته في مدح الوراقة. كتاب وصية. كتاب صفات الأمم. كتاب القرود. كتاب فضل الملك.
كتاب المختصر في اللغة. كتاب صولجان الكتبة. كتاب نثارات من كلامه. كتاب أدب السلطان والرعية. كتاب فضائل بلخ. كتاب تفسير الفاتحة والحروف المقطعة في أوائل السور. كتاب رسوم الكتب. كتاب كتبه إلى أبي بكر ابن المستنير عاتبا ومنتصفا في ذمّه المعلمين والوراقين. كتاب كتبه إلى أبي بكر ابن المظفر في شرح ما قيل في حدود الفلسفة. كتاب أخلاق الأمم.
وقرأت بخط أبي سهل أحمد بن عبيد الله بن أحمد مولى أمير المؤمنين وتصنيفه كتابا في أخبار أبي زيد البلخي [وأبي القاسم الكعبي البلخي] وأبي الحسن شهيد البلخي فلخّصت منه ما ذكرته في تراجم الثلاثة، قال في أخبار أبي زيد:
ولد أبو زيد أحمد بن سهل ببلخ بقرية تدعى شامستيان من رستاق نهر غربنكي من جملة اثني عشر نهرا من أنهار بلخ، وكان أبوه سجزيا يعلم الصبيان، هذا ما ذكره أبو محمد الحسن بن محمد الوزيري، وله كتاب في أخبار أبي زيد البلخي، وسمعت أنه كان يعلّم بهذه القرية المدعوة شامستيان- أعني
__________
[1] الفهرست: كتاب جمع فيه ما علق عنه.(1/275)
أباه- وكان أبو زيد يميل إليها ويحبّها لأجل مولده بها ونزعه إليها حبّ المولد ومسقط الرأس والحنين إلى الوطن الأول، ولذلك لما حسنت حاله ودعته نفسه إلى اعتقاد الضياع والأسباب، والنظر للأولاد والأعقاب، اختارها من قرى بلخ، فاعتقد بها ضيعته، ووكل بها همته، وصرف إلى اتخاذ العقد بها عنايته. وقد كانت تلك الضياع بعد باقية إلى قريب من هذا الزمان في أيدي أحفاده وأقاربه بها وبالقصبة، ثم إنهم- كما أقدّر- قد فنوا وانقرضوا في اختلاف هذه الحوادث ببلخ وغيرها من سائر البلدان، فلا أحسب أنه بقي منهم نافخ ضرم ولا عين تطرف هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً
(مريم: 98) سمعت أن الأمير أحمد بن سهل بن هاشم كان ببلخ، وعنده أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود الكعبي وأبو زيد ليلة من الليالي وفي [يد] الأمير عقد لآلىء نفيسة ثمينة تتلألأ كاسمها ويتوهج نورها، وكان حمل إليه من بعض بلاد الهند حين افتتحت، فأفرد الأمير منها عشرة أعداد وناولها أبا القاسم، وعشرة أعداد أخر وناولها أبا زيد، وقال: هذه اللآلىء في غاية النفاسة، فأجببت أن أشرككما فيها ولا أستبدّ بها دونكما، فشكرا له ذلك. ثم إنّ أبا القاسم وضع لآلئه بين يدي أبي زيد وقال: إن أبا زيد من هو مهتمّ بشأنهنّ فأردت أن أصرف ما برّني به الأمير إليه لينتظم في عقدهن، فقال الأمير: نعمّا فعلت ورمى بالعشرة الباقية إلى أبي زيد وقال: خذها فلست في الفتوة بأقلّ حظا ولا أوكس سهما من أبي القاسم، ولا تغبننّ عنها فانها ابتيعت للخزانة من الفيء بثلاثين ألف درهم، فاجتمعت الثلاثون عند أبي زيد برمّتها، وباعها بمال جليل، وصرف ثمنها إلى الضيعة التي اشتراها بشامستيان.
قال: وكان أبو زيد كما ذكر أبو محمد الحسن الوزيري- وكان رآه واختلف إليه- ربعة نحيفا مصفارّا أسمر اللون جاحظ العينين فيهما تأخر وقبل، بوجهه آثار جدريّ، صموتا سكّيتا ذا وقار وهيبة. وقد وصفه أبو علي أحمد المنيري الزيادي في رسالته التي كتبها إليه وأراد أن يهدم بنيانه، ويضع شانه، ويوهي أركانه، فردّ عليه أبو زيد في جوابها ما ألبسه الشّنار والصّغار، ونبّه العالم أنّ حظه من العلوم حظّ منكود، وأنه فيما أجرى له من كلامه غير سديد، قرأت على أبي محمد الوزيري كلتا الرسالتين فزعم أنه قرأهما عليهما- أعني أبا زيد والمنيري كليهما- فذكر المنيري في رسالته في جملة(1/276)
ما هجّنه به: و «إنك لا تصلح إلا أن تكون زامرا أو مغبّرا [1] أو مخنكرا» ، فدلّ هذا الكلام على أنه كان جاحظ العين أشدق مع قصر قامة ودنّو هامة.
قال: ثم حدّثت أنه كان في عنفوان شبابه وطراءة زمانه وأول حداثته ومائه دعته نفسه إلى أن يسافر ويدخل إلى أرض العراق ويجثو بين يدي العلماء، ويقتبس منهم العلوم، فتوجّه إليها راجلا مع الحاجّ، وأقام بها ثماني سنين، وجازها فطوّف البلدان المتاخمة لها، ولقي الكبار والأعيان، وتتلمذ لأبي يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي وحصّل من عنده علوما جمة، وتعمّق في علم الفلسفة، وهجم على أسرار علم التنجيم والهيئة، وبرز في علم الطب والطبائع، وبحث عن أصول الدين أتمّ بحث وأبعد استقصاء حتى قاده ذلك إلى الحيرة وزلّ به عن النهج الأوضح، فتارة كان يطلب الإمام، ومرّة كان يسند الأمر إلى النجوم والأحكام، ثم انه لما كتبه الله في الأول من السعداء، وحكم بأنه لا يتركه يتسكّع [2] في ظلمات الأشقياء، بصّره أرشد الطرق وهداه لأقوم السبل، فاستمسك بعروة من الدين وثيقة، وثبت من الاستقامة على بصيرة وحقيقة؛ فذكر أبو الحسن الحديثي قال: كان أبو بكر البكري فاضلا خليعا لا يبالي ما قال، وكان يحتمل عنه لسنّه [3] قال: أذكر إذ كنا عنده وقد قدّمت المائدة وأبو زيد يصلّي، وكان حسن الصلاة، فضجر البكريّ من طول صلاته، فالتفت إلى رجل من أهل العلم يقال له محمد الخجندي فقال: يا أبا محمد ريح الإمامة بعد في رأس أبي زيد، فخفّف أبو زيد الصلاة وهما يضحكان، قال أبو الحسن: فلم أدر ما ذلك، حتى سألت لا أدري الخجندي أو أبا بكر الدمشقي، فقال أحدهما: اعلم أنّ أبا زيد في أول أمره كان خرج في طلب الإمام إلى العراق، إذ كان قد تقلّد مذهب الإمامية، فعيّره البكريّ بذلك.
قال: وكان حسن الاعتقاد، ومن حسن اعتقاده انه كان لا يثبت من علم النجوم الأحكام، بل كان يثبت ما يدلّ عليه الحسبان. ولقد جرى ذكره رحمه الله في مجلس الامام أبي بكر أحمد بن محمد بن العباس البزار، وهو الامام ببلخ والمفتي بها، فأثنى عليه خيرا وقال: إنه كان قويم المذهب حسن الاعتقاد، لم يقرف بشيء في ديانته كما
__________
[1] م: مغيرا.
[2] م: يتبلغ وصوبته بحسب المعنى.
[3] الوافي: لعلوّ سنه.(1/277)
ينسب إليه من نسب إلى علم الفلسفة، وكلّ من حضر من الفضلاء والأماثل أثنى عليه ونسبه إلى الاستقامة والاستواء، وأنه لم يعثر له مع ما له من المصنفات الجمة على كلمة تدلّ على قدح في عقيدته. ثم لما قضى وطره من العراق وصار في كلّ فنّ من فنون العلم قدوة، وفي كلّ نوع من أنواعه إماما قصد العود إلى بلده، فتوجّه إليها مقبلا على طريق هراة حتى وصل إلى بلخ وانتشر بها علمه. فلما ورد أحمد بن سهل بن هاشم المروزي بلخ واستولى على تخومها، راوده على أن يستوزره فأبى عليه، واختار سلامة الأولى والعقبى، فاتخذ أبا القاسم الكعبيّ وزيرا، وأبا زيد كاتبا. وكان أبو القاسم الوزير وأبو زيد من الكتاب، وعظم محلّهما عنده، وأصبحا بأرفع طرف عنده مرموقين، وبأروى كأس من جنابه مصبوحين ومغبوقين، وكان رزق أبي القاسم في الشهر ألف درهم ورقا، ولأبي زيد خمسمائة درهم ورقا، وكان أبو القاسم يأمر الخازن بزيادة مائة درهم لأبي زيد من رزقه ونقصان مائة درهم من رزق نفسه، فكان يصل إلى أبي زيد ستمائة درهم، وإلى أبي القاسم تسعمائة درهم، وكان يأخذ لنفسه مكسّرة ويأمر لأبي زيد بالوضح الصحاح، فبقوا على ذلك مدة غير طويلة، وعاشوا على جملة جميلة، حتى فتك بهم يد المنون، وهلك أحمد بن سهل عن عمر قصير واستمتاع بامامة غير كبير.
قال: أخبرني أبو محمد الحسن بن [محمد] الوزيري، وكان لقي أبا زيد وتتلمذ له، قال: كان أبو زيد ضابطا لنفسه ذا وقار وحسن استبصار، قويم اللسان جميل البيان، متثبتا نزر الشعر قليل البديهة، واسع الكلام في الرسائل والتأليفات، إذا أخذ في الكلام أمطر اللآلىء المنثورة، وكان قليل المناظرة حسن العبارة، وكان يتنزه عما يقال في القرآن إلا الظاهر المستفيض من التفسير والتأويل والمشكل من الأقاويل، وحسبك ما ألفه من كتاب «نظم القرآن» الذي لا يفوقه في هذا الباب تأليف.
قرأت في «كتاب البصائر» لأبي حيان الفارسي [1] من ساكني بغداد قال، قال أبو حامد القاضي: لم أر كتابا في القرآن مثل كتاب لأبي زيد البلخي، وكان فاضلا
__________
[1] البصائر 8: 66 (رقم 227/ج) .(1/278)
يذهب في رأي الفلاسفة، لكنه تكلم في القرآن بكلام لطيف دقيق في مواضع، وأخرج سرائره وسمّاه «نظم القرآن» ولم يأت على جميع المعاني فيه. قال:
وللكعبيّ كتاب في التفسير يزيد حجمه على كتاب أبي زيد.
قال الوزيري: وكان أيضا يتحرّج عن تفضيل الصحابة بعضهم على بعض، وكذلك عن مفاخرة العرب والعجم ويقول: ليس في هذه المناظرات الثلاث ما يجدي طائلا ولا يتضمن حاصلا، لأن الله تعالى يقول في معنى القرآن أنزلناه قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ
(الزمر: 28) الآية. وأما معنى الصحابة وتفضيل بعضهم فقوله عليه السلام: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وكذلك العربي والشعوبي فإنه سبحانه يقول فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ
(المؤمنون: 101) ويقول في موضع آخر إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ
(الحجرات: 13) .
قال: وسمعت بعض أهل الأدب يقول: اتفق أهل صناعة الكلام أن متكلمي العالم ثلاثة الجاحظ وعلي بن عبيدة اللطفي وأبو زيد البلخي، فمنهم من يزيد لفظه على معناه وهو الجاحظ، ومنهم من يزيد معناه على لفظه وهو علي بن عبيدة، ومنهم من توافق لفظه ومعناه وهو أبو زيد.
وقال أبو حيان في «كتاب النظائر» : أبو زيد البلخيّ يقال له بالعراق جاحظ خراسان.
وحكى ان أبا زيد لما دخل على أحمد بن سهل أول دخوله عليه سأله عن اسمه فقال له: أبو زيد، فعجب أحمد بن سهل من ذلك حين سأله عن اسمه فأجاب عن كنيته، وعدّ ذلك من سقطاته، فلما خرج ترك خاتمه في مجلسه عنده، فأبصره أحمد بن سهل فازداد تعجبا من غفلته، فأخذه بيده ونظر في نقش فصّه فإذا عليه «أحمد بن سهل» فعلم حينئذ أنه إنما أجاب عن كنيته للموافقة الواقعة بين اسمه واسمه، وانه أخذ بحسن الأدب، وراعى حدّ الاحتشام، واختار وصمة التزام الخطأ والمحال في الوقت والحال على أن يتعاطى اسم الأمير بالاستعمال والابتذال.
وحكى أنّ أبا زيد في حداثته وحال فقره وخلّته كان التمس من أبي علي المنيري حنطة، فأمره بحمل جراب إليه ففعل، فلم يعطه حنطة وحبس الجراب، ومضى على هذا أعوام كثيرة، وخرج شهيد بن الحسين إلى محتاج بن أحمد بالصغانيان، وكتب(1/279)
إلى أبي زيد كتبا لم يجبه أبو زيد عنها، فكتب إليه شهيد بهذين البيتين يعيّره بحديث الجراب:
أمنّي النفس منك جواب كتبي ... وأقطعها لتسكن وهي تابى
إذا ما قلت سوف يجيب قالت ... إذا ردّ المنيريّ الجرابا
قال: وقرأت بخط أبي الحسن الحديثي على ظهر كتاب «كمال الدين» لأبي زيد: قال أبو بكر الفقيه: ما صنّف في الإسلام كتاب أنفع للمسلمين من كتاب «البحث عن التأويلات» صنّفه أبو زيد البلخي، وهذا الكتاب- يعني كتاب «كمال الدين» .
وكان لأبي زيد حافد يقال له علي بن محمد بن أبي زيد.
قال: ولأبي زيد نحو من ستين تأليفا.
قال: ولقي أحمد بن سهل الأمير أبا زيد في طريق وقد أجهده السير فقال له:
عييت أيها الشيخ، فقال له أبو زيد: نعم أعييت أيها الأمير، فنبهه أنه لحن في قوله «عييت» إذ العيّ في الكلام والإعياء في المشي.
وأنشد أبو زيد:
لكلّ امرىء ضيف يسرّ بقربه ... وما لي سوى الأحزان والهمّ من ضيف
تناءت بنا دار الحبيب اقترابها ... فلم يبق إلا رؤية الطيف للطيف
وقال أبو زيد: كان ببلخ مجنون من عقلاء المجانين، وكان يعرف بأبي إبراهيم إسحاق بن اسحاق البغداذي دخل اليّ وكنت ألاعب الأهوازيّ بالشطرنج، فقال: أبو زيد والأهوازي لك، فتحيرت في هذا الكلام، فقال لي: احسب فحسبت بحروف الجمل فكان ستون، قال فصل بين كنيتك والأهوازي، قال: فوصلت فإذا أبو زيد ثلاثون والأهوازي ثلاثون، فقضيت عجبا من اختراعه في تلك الوهلة هذا الحساب.
وأما خبر وفاته، قال صاحب الكتاب المذكور، ذكر أبو بكر الدمشقي قال: دخلت على أبي زيد رحمه الله يوم الجمعة ضحوة لعشر بقين من ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة فوجدته ثقيلا من علته، فسلّمت عليه سلاما ضعيفا، ثم قال: يا أبا بكر قد انقطع السبب، وما هو إلا فراق الاخوان، ودمعت عينه وبكيت أنا، وقلت:
أرجو أن يشفّع الله الشيخ فينا وفي غربتنا بعافيته، فقال: أيهات، وقرأ هذه الآية(1/280)
أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ
(الشعراء: 205) ثم قال: لا تغب عنّي وكن بالقرب، فلما كان عند العتمة قال: انصرفوا حتى أدعوكم، وقال لابنه الحسين: إذا طلع القمر ونزل في الدار فأعلمني، فلما طلع القمر أعلمه، فصاح بهم فجاءوا، وقال: أطلع القمر؟ فقالوا:
نعم، قال: اجتمعوا كلّ من في المنزل فاجتمعوا عليه، فسأل كلّ واحد منهم عن حاله وعن كسوته وعن آلة الشتاء، ثم قال: بقي شيء لم أصلحه لكم؟ قالوا: لا، فاستحلّهم، ثم قال: عليكم السلام، هذا آخر اجتماعي معكم، ثم جعل يتشهّد ويستغفر، ثم قال: قوموا فقد جاء نوبة غيركم، فخرجوا من باب الطارمة وهم يسمعون تشهده، ثم سكت فرجعوا وقد قضى نحبه، رحم الله هذا العقل والتمييز، فصار كما قال أبو تمام:
ثم انقضت تلك السنون وأهلها ... فكأنها وكأنهم أحلام
قال المؤلف: هذا آخر ما كتبته من كتاب أبي سهل أحمد بن عبيد الله من أخبار أبي زيد، وما أرى ان أحدا جاء من خبر أبي زيد بأحسن مما جاء به، أثابه الله على اهتمامه الجنة. وسأكتب أخبار أبي القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي عنه في موضعه [1] ، ولم أخلّ من أخبار أبي زيد التي ذكرها بشيء مما يتعلق به، إنما تركت أشياء من فوائده تتعلق بكتب المجاميع.
وقال المرزباني: أحمد بن سهل البلخي محدّث معتمدي، هو القائل يرثي الحسن بن الحسين العلوي وقد توفي ببلخ:
إن المنية رامتنا بأسهمها ... فأوقعت سهمها المسموم بالحسن
أبو محمد الأعلى فغادره ... تحت الصفيح مع الأموات في قرن
يا قبر إنّ الذي ضمّنت جثّته ... من عصبة سادة ليسوا ذوي أفن
محمد وعليّ ثم زوجته ... ثم الحسين ابنه والمرتضى الحسن
صلّى الاله عليهم والملائكة المقربون طوال الدهر والزمن
__________
[1] سقطت ترجمة الكعبي، وضاع ما وعد به المؤلف.(1/281)
قال المؤلف: هكذا قال المرزباني، ولا أدري أيريد صاحبنا هذا أو غيره فإنه لم يذكره بأكثر مما كتبناه.
وقرأت في «كتاب البلدان» لأبي عبد الله البشاري أنّ صاحب خراسان استدعاه إلى بخارى ليستعين به على سلطانه، فلما بلغ جيحون ورأى تغطمط أمواجه وجرية مائه وسعة قطره كتب إليه: إن كنت استدعيتني لما بلغك من صائب رأيي فإني إن عبرت هذا النهر فلست بذي رأي، ورأيي يمنعني من عبوره. فلما قرأ كتابه عجب منه وأمره بالرجوع إلى بلخ.
- 93-
أحمد بن الصنديد العراقي
: يكنى أبا مالك، كان من أهل الأدب والشعر، روى شعر المعرّي عنه وله فيه شرح، وله مع الحصريّ [1] مناقضات، دخل الاندلس وكان عند بني طاهر [2] ومدح الرؤساء والأكابر.
- 94-
أحمد بن أبي طاهر أبو الفضل واسم أبي طاهر طيفور
: مروروذي الأصل أحد البلغاء الشعراء الرواة، من أهل الفهم المذكورين بالعلم، وهو صاحب «كتاب تاريخ بغداد في أخبار الخلفاء والأمراء وأيامهم» مات سنة ثمانين ومائتين ودفن بباب الشام ببغداد، ومولده سنة أربع ومائتين مدخل المأمون بغداد من خراسان، ذكر ذلك ابنه عبيد الله فيما ذيله على تاريخ والده وحكاه عنه، قال: وروى عن عمر بن شبة، روى عنه ابنه عبيد الله ومحمد بن خلف بن المرزبان.
__________
[93]- ترجمة ابن الصنديد العراقي في الصلة 1: 89 والوافي 6: 426 وبغية الوعاة 1: 312.
[94]- ترجمة ابن أبي طاهر في تاريخ بغداد 4: 211 والوافي 7: 8.
[1] يعني عبد الغني الحصري الأعمى، فإنه دخل الأندلس أيضا.
[2] كان بنو طاهر سادة مرسية بعد الفتنة البربرية، واشتهر منهم الكاتب ذو الوزارتين أبو عبد الرحمن ابن طاهر (انظر الذخيرة 3: 24 وما بعدها ... ) .(1/282)
وحدث جعفر بن حمدان صاحب «كتاب الباهر» [1] كان أحمد بن أبي طاهر مؤدّب كتّاب عاميّا ثم تخصّص وجلس في سوق الوارقين في الجانب الشرقي. قال:
ولم أر ممن شهر بمثل ما شهر به من التصنيف للكتب وقول الشعر أكثر تصحيفا منه ولا أبلد علما ولا ألحن، ولقد أنشدني شعرا يعرضه عليّ في إسحاق بن أيوب لحن في بضعة عشر موضعا منه، وكان أسرق الناس لنصف بيت وثلث بيت، قال: وكذا قال لي البحتريّ فيه، وكان مع هذا جميل الأخلاق ظريف المعاشرة حلوا من الكهول.
وحدث أبو هفّان قال [2] : كنت أنزل في جوار المعلّى بن أيوب صاحب العرض والجيش في أيام المأمون، وكان أحمد بن أبي طاهر ينزل عندي [3] ، فأضقنا إضاقة شديدة تعذّرت علينا وجوه الحيلة، فقلت لابن أبي طاهر: هل لك في شيء لا بأس به، تدعني حتى أسجّيك وأمضي إلى منزل المعلى بن أيوب فأعمله أنّ صديقا لي قد توفي فآخذ منه ثمن كفن فننفقه، فقال: نعم، وجئت إلى وكيل المعلى فعرّفته خبرنا، فصار معي إلى منزلي، فتأمل ابن أبي طاهر ثم نقر أنفه فضرط، فقال لي: ما هذا؟ فقلت: هذه بقية من روحه كرهت نكهته فخرجت من استه، فضحك وعرّف المعلّى خبرنا فأمر لنا بجملة دنانير.
والمعلّى هذا هو الذي يقول فيه دعبل وقيل أبو علي البصير [3] :
لعمر أبيك ما نسب المعلّى ... إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكنّ البلاد إذا اقشعرّت ... وصوّح نبتها رعي الهشيم
وحدّث الجهشياريّ في كتاب الوزراء قال [4] : مدح أحمد بن أبي طاهر الحسن بن مخلد وزير المعتمد فأمر له بمائة دينار وقال: إيت رجاء الخادم فخذها منه
__________
[1] النقل عن الفهرست: 163.
[2] انظر هذه الحكاية في البصائر 1: 26 (رقم: 59) وجمع الجواهر: 309 وقطب السرور: 197.
[3] م: عنده.
[3] ديوان دعبل (الأشتر) : 320/ونسبا في عيون الأخبار 2: 36 ومعجم الشعراء (كرنكو) 185 والتمثيل والمحاضرة: 91 ونهاية الأرب 3: 93 لأبي علي البصير.
[4] هذا مما لم يشتمل عليه المطبوع من كتاب الجهشياري، وقد نقله الأستاذ ميخائيل عواد عن معجم الأدباء في نصوص ضائعة: 84.(1/283)
فلقي أحمد رجاء فقال له: لم يأمرني بشيء، فكتب إلى الحسن:
أما رجاء فأرجا [1] ما أمرت به ... فكيف إن كنت لم تأمره يأتمر
بادر بجودك مهما كنت مقتدرا ... فليس في كلّ حال أنت مقتدر
فأمر باضعافها له.
وذكره محمد بن اسحاق النديم وقال [2] له من الكتب: كتاب المنثور والمنظوم أربعة عشر جزءا، والذي بيد الناس ثلاثة عشر جزءا. كتاب سرقات الشعراء. كتاب بغداد. كتاب الجواهر. كتاب المؤلفين. كتاب الهدايا. كتاب المشتق المختلف من المؤتلف. كتاب أسماء الشعراء الأوائل. كتاب الموشّى. كتاب ألقاب الشعراء ومن عرف بالكنى ومن عرف بالاسم. كتاب المعرقين [3] من الأنبياء. كتاب المعتذرين.
كتاب اعتذار وهب من ضرطته [4] . كتاب من أنشد شعرا وأجيب بكلام. كتاب الحجاب. كتاب تربية [5] هرمز بن كسرى أنو شروان. كتاب خبر الملك العاتي في تدبير المملكة والسياسة. كتاب الملك المصلح والوزير المعين. كتاب الملك البابلي والملك المصري الباغيين والملك الحكيم [6] الرومي. كتاب المزاح والمعاتبات. كتاب مفاخرة الورد والنرجس. كتاب مقاتل الفرسان. كتاب مقاتل الشعراء. كتاب الخيل كبير. كتاب الطرد. كتاب سرقات البحتري من أبي تمام. كتاب جمهرة [نسب] بني هاشم. كتاب رسالته إلى إبراهيم بن المدبر. كتاب الرسالة في النهي عن الشهوات.
كتاب الرسالة إلى علي بن يحيى. كتاب الجامع في الشعراء وأخبارهم. كتاب فضل العرب على العجم. كتاب لسان العيون. كتاب أخبار المتظرفات. كتاب اختيار أشعار الشعراء. كتاب اختيار شعر بكر بن النطاح. كتاب المؤنس. كتاب الغلة
__________
[1] فأرجا يعني فأرجأ.
[2] الفهرست: 163.
[3] الفهرست: المعرفين (وفي طبعة فلوجل: المعروفين) .
[4] الفهرست: من حبقته.
[5] الفهرست (فلوجل) : مرتبة.
[6] الفهرست: الحليم.(1/284)
والغليل. كتاب اختيار شعر العتابي. كتاب اختيار شعر منصور النمري. كتاب اختيار شعر أبي العتاهية. كتاب أخبار بشار واختيار شعره. كتاب أخبار مروان وآل مروان واختيار أشعارهم. كتاب أخبار ابن مناذر. كتاب أخبار ابن هرمة ومختار شعره. كتاب اختيار شعر ابن الدمينة [1] . كتاب أخبار وشعر عبيد الله بن قيس الرقيات.
وأنشد له ابنه عبيد الله في كتابه:
وما الشعر الا السيف ينبو وحده ... حسام ويمضي وهو ليس بذي حدّ
ولو كان بالإحسان يرزق شاعر ... لأجدى الذي يكدي وأكدى الذي يجدي
ومن قوله أيضا:
قد كنت أصدق في وعدي فصيّرني ... كذابة ليس ذا في جملة الأدب
يا ذاكرا حلت عن عهدي وعهدكم ... فنصرة الصدق أفضت بي إلى الكذب
حدث المرزباني في «كتاب المقتبس» [2] عن عبد الله بن محمد الحليمي قال: أنشدني أحمد بن أبي طاهر لنفسه في أبي العباس المبرد:
كملت في المبرّد الآداب ... واستقلّت في عقله الألباب
غير أنّ الفتى كما زعم النا ... س دعيّ مصحّف كذاب
وحدّث عن الصولي عن أبي علي ابن عينويه الكاتب قال: حدثني أحمد بن أبي طاهر قال: خرجت من منزل أبي الصقر نصف النهار في تموز فقلت: ليس بقربي منزل أقرب من منزل المبرد إذ كنت لا أقدر أصل إلى منزلي بباب الشام، فجئته فأدخلني إلى حويشة له، وجاء بمائدة فأكلت معه لونين طيبين، وسقاني ماء باردا وقال لي: أحدثك إلى أن تنام، فجعل يحدثني أحسن حديث، فحضرني لشؤمي وقلة شكري بيتان فقلت: قد حضر بيتان أنشدهما؟ فقال: ذاك إليك، وهو يظن أني قد مدحته، فأنشدته:
ويوم كحرّ الشوق في صدر عاشق ... على أنه منه أحرّ وأومد
__________
[1] الفهرست: كتاب أخبار ابن الدمنية.
[2] لم يرد هذا في نور القبس.(1/285)
ظللت به عند المبرد قائلا ... فما زلت في ألفاظه أتبرد
فقال لي: قد كان يسعك إذا لم تحمد ألّا تذم، وما لك عندي جزاء الا إخراجك، والله لا جلست عندي بعد هذا، فأخرجني فمضيت إلى منزلي بباب الشام، فمرضت من الحرّ الذي نالني مدة، فعدت باللوم على نفسي.
قال الخالدي: حدثنا جحظة عن أحمد بن أبي طاهر قال: قصدت سرّ من رأى زائرا بعض كتّابها بشعر مدحته به، فقبلني وأحسن إليّ وأجزل صلتي ووهب لي غلاما روميا حسن الوجه، ورحلت أريد بغداد سائرا على الظّهر ولم أركب الماء، فلما سرت نحو الفرسخ أخذتنا السماء بأمر عظيم من القطر، ونحن بالقرب من دير السّوسن [1] فقلت للغلام: اعدل بنا يا بنيّ إلى هذا الدير نقيم فيه إلى أن يخفّ هذا المطر، ففعل، وازداد القطر واشتد، وجاء الليل، فقال الراهب: أنت العشية هاهنا، وعندي شراب جيّد فتبيت وتقصف، ويسكن المطر وتجفّ الطريق وتبكّر، فقلت:
أفعل، فأخرج إليّ شرابا ما رأيت قطّ أصفى منه ولا أعطر، فقلت: هات مدامك، وأمرت بحط الرحل، وبتّ والغلام يسقيني والراهب نديمي حتى متّ سكرا، فلما أصبحت رحلت وقلت:
سقى سرّ من را وسكّانها ... وديرا لسوسنها الراهب
سحاب تدفّق عن رعده ال ... صّفوق وبارقه الواصب
فقد بتّ في ديره ليلة ... وبدر على غصن صاحبي
غزال سقاني حتى الصباح ... صفراء كالذهب الذائب
على الورد من حمرة الوجنتين ... وفي الآس من خضرة الشارب
سقاني المدامة مستيقظا ... ونمت ونام إلى جانبي
فكانت هناة لك الويل من ... جناها الذي خطّه كاتبي
فيا ربّ تب واعف عن مذنب ... مقرّ بزلته تائب
__________
[1] ذكر الشابشتي بسامرا ديرا اسمه دير السوسي (149- 162) ولكن هذه الحكاية لم ترد فيه.(1/286)
- 95-
أحمد بن الطيب السرخسي- يعرف بابن الفرانقي
: أحد العلماء الفهماء المحصّلين، الفصحاء البلغاء المتقنين، له في علم الأثر الباع الوساع، وفي علوم الحكماء الذهن الثاقب الوقّاد وبسطة الذراع، وهو تلميذ الكندي، وله في كلّ فنّ تصانيف ومجاميع وتواليف. كان أحد ندماء أبي العباس المعتضد بالله والمختصّين به، فأنكر منه بعض شأنه، فأذاقه حمامه صبرا وجعله نكالا، ولم يرع له ذمة ولا إلا.
وقال في «تاريخ دمشق» [1] ذكره أبو الحسن محمد بن أحمد بن القواس قال:
ولي احمد بن الطيب الحسبة يوم الاثنين والمواريث يوم الثلاثاء وسوق الرقيق يوم الأربعاء لسبع خلون من رجب سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وفي يوم الاثنين لخمس خلون من جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين غضب المعتضد على أحمد بن الطيب، وفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الأولى ضرب ابن الطيّب مائة سوط وحوّل إلى المطبق، وفي صفر سنة ست وثمانين ومائتين مات ابن الطيب السرخسي.
حدث أبو القاسم [2] عن عبد الله بن عمر الحارثي قال حدثني أبي قال حدثني أبو محمد عبد الله بن حمدون نديم المعتضد قال [3] : كان المعتضد في بعض متصيّداته مجتازا بعسكره وأنا معه، فصاح ناطور في قراح قثّاء، فاستدعاه وسأله عن سبب صياحه، فقال: أخذ بعض الجيش من المقثأ شيئا، فقال: اطلبوهم، فجاءوا بثلاثة
__________
[95]- ترجمة ابن الطيب السرخسي في الفهرست: 320- 321 (وتاريخ دمشق؛ وقد ضاعت) وأخبار الحكماء: 77 وبغية الطلب 1: 176 وعيون الأنباء 1: 189 والوافي 7: 5. (قلت: وأرجح أن ترجمته كما أوردها ياقوت مبتورة، إذ ليس من عادته أن يوجز حين يجد أخبارا مستفيضة يستطيع أن يقتبسها، ثم إنه لم يذكر شيئا من كتبه، ولدى ابن النديم منها عدد كثير) ثم حصلت على المختصر فوجدت فيه مادة كثيرة أضفتها.
[1] ورد في بغية الطلب: 183.
[2] أبو القاسم ابن عساكر صاحب تاريخ دمشق.
[3] وردت هذه القصة في نشوار المحاضرة 1: 331 عن عبد الله بن عمر الحارثي عن أبيه عن ابن حمدون، وانظر المنتظم 5: 123.(1/287)
أنفس، فقال: هؤلاء الذين أخذوا القثاء؟ فقال الناطور: نعم، فقيدهم في الحال وأمر بحبسهم، فلما كان من الغد أنفذهم إلى القراح وضرب أعناقهم فيه وسار، فأنكر الناس ذلك وتحدّثوا به ونخبت قلوبهم منه، ومضت على ذلك مدة طويلة، فجلست أحادثه ليلة فقال لي: يا عبد الله هل يعتب الناس عليّ شيئا عرّفني حتى أزيله، فقلت: كلّا يا أمير المؤمنين، فقال: أقسمت عليك بحياتي إلّا صدقتني، قلت: يا أمير المؤمنين وأنا آمن؟ قال: نعم، قلت: إسراعك إلى سفك الدماء، فقال: والله ما هرقت دما قطّ منذ وليت هذا الأمر إلا بحقه، قال: فأمسكت إمساك من ينكر [1] عليه الكلام، فقال: بحياتي لما قلت، فقلت: يقولون إنك قتلت أحمد بن الطيب، وكان خادمك، ولم تكن له جناية ظاهرة، فقال: ويحك إنه دعاني إلى الإلحاد فقلت له: يا هذا أنا ابن عمّ صاحب هذه الشريعة، وأنا الآن منتصب منصبه، فألحد حتى أكون من؟ وكان قد قال لي: إن الخلفاء لا تغضب، وإذا غضبت لم ترض، فلم يصحّ إطلاقه. فسكتّ سكوت من يريد الكلام، فقال: في وجهك كلام، فقلت:
الناس ينقمون عليك أمر الثلاثة الأنفس الذين قتلتهم في قراح القثّاء، فقال: والله ما كان أولئك المقتولون [2] هم الذين أخذوا القثاء، وإنما كانوا لصوصا حملوا من موضع كذا وكذا، ووافق ذلك أمر أصحاب القثّاء، فأردت أن أهوّل على الجيش بأنّ من عاث من عسكري وأفسد بهذا القدر كانت هذه عقوبتي له ليكفّوا عما فوقه، ولو أردت قتلهم لقتلتهم في الحال والوقت، وإنما حبستهم وأمرت باخراج اللصوص من غد مغطين الوجوه ليقال إنهم أصحاب القثاء، فقلت: فكيف تعلم العامّة؟ قال: باخراجي القوم الذين أخذوا القثاء أحياء، وإطلاقي لهم في هذه الساعة، ثم قال: هاتم القوم، فجاءوا بهم وقد تغيّرت حالهم، فقال لهم: ما قصتكم؟ فاقتصّوا عليه قصة القثّاء فاستتابهم عن فعل مثل ذلك وأطلقهم فانتشرت الحكاية فزالت التهمة [3] .
وقيل إن السبب في قتل أحمد بن الطيب دعاؤه للمعتضد إلى مذهب الفلاسفة
__________
[1] النشوار: يتبين.
[2] ر: المقتولين.
[3] بعد هذا الموضع إلى آخر الترجمة زيادة من المختصر.(1/288)
والخروج عن الاسلام فاستحلّ قتله، فلما أجمع على قتله أنفذ إليه: أنت كنت عرفتنا عن الحكماء أنهم قالوا: لا يجب للملوك أن يغضبوا، فإذا غضبوا لا يجب لهم أن يرضوا، ولولا هذا لأطلقتك لسالف ذمّتك وخدمتك، ولكن اختر أيّ قتلة تحبّ أن أقتلك. قال: فاختار أن يطعم اللحم المكبّب ويسقى الشراب العتيق حتى يسكر ثم يفصد من يديه ويترك دمه يجري إلى أن يموت. فأمر المعتضد بذلك ففعل به، وظنّ أحمد أن دمه إذا انقطع مات في الحال بغير ألم، فانعكس ظنه. قال: وذلك أنه لما فصد نزف جميع دمه ثم بقيت معه من الحياة بقية فلم يمت وغلبت عليه الصفراء، فصار كالمجنون ينطح برأسه الحيطان ويصيح ويضجّ لفرط الآلام، ويعدو في مجلسه ساعات كثيرة إلى أن مات. فبلغ المعتضد ذلك فقال: هذا اختياره لنفسه، وأيش في الفساد بأكثر مما اختاره لنفسه من الرأي الذي جرّ عليه القتل. وكان المعتضد بالله يعدّد بعد قتله إياه ذنوبه إليه والأمور التي أنكرها عليه ليعلم أنه كان مستحقا لما عامله به:
فمنه: أنه كان لأحمد بن الطيب مجلس يجتمع إليه فيه أهل العلم يفاوضونه ويفاوضهم، فقال المعتضد: فكنت ربما سألته عن هذا المجلس وما يجري فيه فيخبرني. وسألته في بعض الأيام على عادتي فقال لي: يا أمير المؤمنين، مرّ بي أمس شيء ظريف، قلت: ما هو؟ قال: دخل إلي [في] جملة الناس رجل لا أعرفه، حسن الرّواء والهيئة، فتوسمت فيه أنه من أهل الفضل والمعرفة، فلم ينطق من أول المجلس إلى آخره، فلما انصرف من كان حاضرا لم ينصرف معهم، فقلت له: ألك حاجة؟ قال: نعم، تخلي لي نفسك، فأنفذت غلماني، فقال لي: أنا رجل قد أرسلني الله تعالى إلى هذا البشر، وقد بدأت بك لفضلك، وأمّلت أن أجد منك معونة على ما بعثت له، فقلت له: يا هذا أما علمت أني مسلم أعتقد أنه لا نبيّ بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: علمت ذلك، وما جئتك إلا بأمر وبرهان، فهل لك في الوقوف على معجزتي؟ فأردت أن أعلم ما عنده فقلت له: هاتها، فقال: تحضر سطلا فيه ماء، فتقدمت باحضاره، فأخرج من كمه حجرين أبيضين صلدين كأشدّ ما يكون من الصخر، فقال: خذهما، فأخذتهما، فقال: ما هما؛ قلت: حجرين، فقال لي: رم أن تكسرهما، فلم أستطع لشدتهما وصلابتهما، فقلت: ما أستطيع،(1/289)
فقال: ضعهما في السطل، فوضعتهما، وقال: غطّهما، فغطيتهما بمنديل، وأقبل عليّ يحدثني، فوجدته ممتعا كثير الحديث سديد العبارة حسن البيان صحيح العقل لا أنكر منه شيئا، فلما طال الأمر قلت له: فأيّ شيء بعد هذا؟ فقال: أخرج لي الحجرين، فكشفت عنهما، فطلبتهما فلم أجدهما، وتحيرت وقلت: ليس في السطل شيء، فقال لي: أنت تركتهما بيدك ولم أقرب منهما ولا لحظت السطل بعيني فضلا عن غيره، قلت: صدقت، قال: أما في ذلك إعجاز؟ فقلت له: بقيت عليك حال واحدة، قال: وما هي؟ قلت: أنك تجيء بحجر من عندي فتفعل به مثل هذا، فقال لي: وهكذا قال أصحاب موسى له: نريد أن تكون العصا من عندنا، فتوقفت عن جوابه لأتفكر فيه، فقام وقال لي: فكّر في أمرك إلى أن أعود إليك. وانصرف، وندمت بعد انصرافه على إفراجي عنه، وأمرت الغلمان بردّه وطلبه، فتفرقوا في كلّ طريق فما وجدوه. فقال المعتضد لراوي هذا الخبر: أتدري ما أراد أحمد بن الطيب، لعنه الله، بهذا الحديث؟ فقلت: لا يا أمير المؤمنين، فقال: إنما أراد أن سبيل موسى، عليه السلام، في العصا كسبيل هذا الرجل في الحجر، وأنّ جميع ذلك بحيلة، وكان ذلك من اكثر ما نقمه عليه.
قال محمد بن إسحاق النديم: أحمد بن الطيب هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مروان السرخسي، ممن ينتمي إلى الكندي وعليه قرأ ومنه أخذ، وكان متفننا في علوم كثيرة من علوم القدماء والعرب، حسن المعرفة جيد القريحة بليغ اللسان مليح التصنيف. كان أولا معلما للمعتضد ثم نادمه وحظي به، وكان يفضي إليه بأسراره ويستشيره في أمور مملكته، وكان الغالب على بن الطيب علمه لا عقله.
وكان سبب قتله أن المعتضد أفضى إليه بسرّ يتعلّق بالقاسم بن عبيد الله وبدر غلام المعتضد فأذاعه بحيلة من القاسم مشهورة، فسلمه المعتضد إليهما فاستقصيا ماله ثم أودعاه المطامير، فلما كان في الوقت الذي خرج فيه المعتضد إلى فتح آمد فقتل أحمد بن عيسى بن شيخ، ثم أفلت من المطامير جماعة من الخوارج وغيرهم، وأمر المعتضد القاسم باتيان جماعة ممن يستحق القتل ليستريح من تعلّق القلب بهم، فأثبتهم ووقع المعتضد بقتلهم، فأدخل القاسم أحمد بن الطيب في جملتهم فيما(1/290)
بعد فقتل، فسأل عنه المعتضد فذكر القاسم قتله فلم ينكره. وكان الذي نقمه المعتضد على أحمد بن الطيب أن عبيد الله بن سليمان دخل يوما على المعتضد بعد تغيّظ المعتضد عليه من شيء بلغه عنه وخاطبه بما يكره، فلما خرج قال: يا أحمد ما ترى إلى هذا الفاعل الصانع وقد أخرب الدنيا واحتجن الأموال، وفي جنبه ثلاثة آلاف ألف دينار ما يمنعني من أخذها إلا الحلم عنه، وفعل الله بي وصنع إن أنا استعملته أكثر من هذا. قال: فخرج أحمد بن الطيب فوجد عبيد الله على الباب ينتظره، فحمله إلى داره وواكله وسقاه ووهب له مالا عظيما وخلع عليه خلعا كثيرة ورفق به وسأله أن يعلمه ما عساه جرى بعد خروجه من ذكره، فاستحلفه أحمد بن الطيب على كتمان ذلك. فحلف له، فخبره الخبر على حقيقته وودّعه أحمد ونهض، فركب عبيد الله من عنده بعد أن عمل ثبتا يحتوي على جميع ما له [من] تبر وورق وضيعة وحرس وقماش وعقار ودابة وبغل ومركب وغلام وآلة وسائر الأعراض، وجاء إلى المعتضد فخاطبه على الأمور كما كان يخاطبه، فلما حضر وقت انصرافه قال: أريد خلوة من أمير المؤمنين لمهمّ عارض أذكره، فأخلى مجلسه، فحلّ سيفه بين يديه ومنطقته وقبل الأرض وبكى وقال: يا أمير المؤمنين، الله الله في دمي، أقلني واعف عني وهب لي الحياة واغفر لي إجرامي وما في نفسك عليّ، فأمّا مالي فوالله- وابتدأ يحلف بالطلاق والعتاق وما تبعه من أيمان البيعة- إن كتمتك منه شيئا، وهذا ثبت بجميع ما أملكه، وطيبة من نفسي وانشراح من صدري، بارك الله لك فيه، ودعني أخدمك وأخد [م] . فقال له المعتضد: ما بك إلى هذا حاجة ولا في نفسي عليك ما يوجب هذا. فقال: الآن قد علمت أن رأي أمير المؤمنين عليّ فاسد، إذ ليس يخرج إليّ بما عنده فيّ، ولا يقبل ما بذلته، ولا يقع منه عقاب وأخذ يلجّ في البكاء والتضرّع، فرقّ له المعتضد وتغيّظ من معرفته بذلك، فقال: أتحبّ أن أقول هذا؟ قال: نعم، قال: تصدقني عن السبب الذي حملك على هذا، فعرّفه ما جرى له مع أحمد بن الطيب فرضي عنه وحلف له على ما سرّ به وخفف عن خاطره، ووثق له أنه لا يسيء إليه، وأنفذ في الحال وقبض على أحمد بن الطيب وحبسه.
[وله من الكتب: كتاب مختصر قاطيغورياس. كتاب مختصر كتاب بارميناس.(1/291)
كتاب مختصر كتاب أنالوطيقا الأولى. كتاب مختصر أنالوطيقا الثاني. كتاب الأعشاش وصناعة الحسبة الكبير. كتاب عش الصناعات والحسبة الصغير. كتاب نزهة النفوس، ولم يخرج بأسره. كتاب اللهو والملاهي في الغناء والمغنين والمنادمة والمجالسة وأنواع الأخبار والملح. كتاب السياسة الكبير. كتاب السياسة الصغير.
كتاب المدخل إلى صناعة النجوم. كتاب الموسيقى الكبير، مقالتان ولم يعمل مثله حسنا وجلالة. كتاب الموسيقى الصغير. كتاب الأرثماطيقي في الأعداد والجبر والمقابلة. كتاب المسالك والممالك. كتاب الجوارح والصيد بها. كتاب المدخل إلى صناعة الطب نقض فيه على حنين بن إسحاق. كتاب المسائل. كتاب فضائل بغداد وأخبارها. كتاب الطبيخ ألّفه على الشهور والأيام للمعتضد. كتاب زاد المسافر وخدمة الملوك مقالتان، لطيف. كتاب المدخل إلى علم الموسيقى. كتاب آداب الملوك. كتاب الجلساء والمجالسة. كتاب رسالته في جواب ثابت بن قرّة فيما سئل عنه. كتاب مقالته في النّمش والكلف. كتاب رسالته في المساكين وطريف اعتقاد العامّة. كتاب منفعة الجبال. كتاب رسالته في وصف مذاهب الصابئين. كتاب في أنّ المبدعات في حال الابداع لا متحركة ولا ساكنة] [1] .
- 96-
أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم
بن سعيد بن أبي زرعة الزهري مولاهم:
__________
[96]- ترجمته في المنتظم 5: 71 والوافي 7: 80 وسير الذهبي 13: 47 (وترجم لأخيه محمد 13: 46 ولأخيه عبد الرحيم 13: 48 وكانت وفاة محمد سنة 249 ووفاة عبد الرحيم سنة 286، ووفاة أحمد هذا سنة 270، قال الذهبي: رفسته دابة وكان من أبناء الثمانين، وهو الذي استمرّ فيه الوهم على الطبراني إذ يقول حدثنا أحمد بن عبد الله البرقي ولم يلقه، وإنما لقي أخاه عبد الرحيم) وانظر الجرح والتعديل 2: 61 وطبقات الحفاظ: 253 والشذرات 2: 158. وفي الوافي أنه مصري، وعلى هذا تفهم نسبته «البرقي» وعلى ذلك ورد عند السمعاني في الأنساب، ولم أجد برق رود (أو روذ) أو برقة قمّ عند ياقوت؛ ويبدو لي أنّ هذه المادة قد دخلها خلط كثير في النقل.
[1] ما بين معقفين في سرد أسماء الكتب لم يرد في م كما لم يرد في ر؛ ولكني أضفته هنا اعتمادا على أن الترجمة في (م) ناقصة كثيرا حتى بالنسبة للمختصر، وأن ياقوتا حريص على ذكر المؤلفات، بينما (ر) لا تحرص على ايراد أسماء الكتب إلا قليلا.(1/292)
يكنى أبا بكر البرقي، وقد ذكرنا فيما بعد برقيا آخر اسمه أحمد بن محمد [1] ، وهو أيضا من برقة قم، وقد اشتد عليّ أمره وأمر هذا، فنقلت كما وجدت، ولا شكّ أنهما من بيت واحد والله أعلم، وكانوا ثلاثة إخوة كلّهم من أهل العلم أبو بكر أحمد وأبو عبد الله محمد وأبو سعيد عبد الرحيم، يروي ثلاثتهم المغازي عن عبد الملك بن هشام.
وفي «كتاب أصبهان» لحمزة في الفصل الذي ذكر فيه أهل الأدب واللغة قال:
أحمد بن عبد الله البرقي كان من رستاق برق روذ وهو أحد الرواة للغة والشعر، واستوطن قم، فخرج ابن أخيه أبو عبد الله البرقي هناك، ثم قدم أبو عبد الله أصبهان فاستوطنها.
قرأت في «كتاب جمهرة النسب» قال ابن حبيب: أخبرني أبو عبد الله البرقي وكان أعلم أهل قمّ بنسب الأشعريين أن ابن الكلبيّ قال في ثلاثة أحياء من الاشعريين «لسن» وإنما هو «أسن» وقال «امراطة» وإنما هو «مراطة» وقال «زكاز» وإنما هو «ركاز» .
- 97-
أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبو جعفر الكاتب
: ولد ببغداد ومات بمصر وهو على قضائها سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة وقد روى عن أبيه تصانيفه كلّها، حدث عنه أبو الفتح المراغي النحوي وعبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي وغيرهما وقال أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرّزاذ إن أبا جعفر ابن قتيبة حدّث بكتب أبيه كلّها بمصر حفظا ولم يكن معه كتاب، وأحسب ذكر ذلك عن أبي الحسين المهلبي.
وحدث أبو سعيد ابن يونس قال: قدم أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة مصر
__________
[97]- ترجمة ابن قتيبة في تاريخ بغداد 4: 229 والكندي: 485، 586 وإنباه الرواة 1: 45 وعبر الذهبي 2: 193 والوافي 7: 80 ورفع الإصر 1: 72 والديباج المذهب: 35 (1: 161) .
[1] الترجمة رقم: 137.(1/293)
سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وتولى بها القضاء، وتوفي بها وهو على القضاء سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
- 98-
أحمد بن عبد الله المعبدي
: من ولد معبد بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، أحد من اشتهر بالنحو وعلم العربية من الكوفيين، وجه من وجوه أصحاب ثعلب الكبار، ذكره الزبيدي. وقد تقدم ذكر آخر يقال له أحمد بن سليمان [1] لا أدري أهو هذا، ونسب إلى جدّ له أعلى يقال له سليمان أم هو غيره. قرأت بخط ابن أبي نواس قال أبو عمر ابن حيويه، قال لي أبو عمران: مات المعبدي ليلة الأربعاء لثمان بقين من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين.
- 99-
أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني، أبو منصور بن أبي محمد عبد الله بن أحمد [بن جعفر]
بن خذيان بن حامس الفرغاني: كان أبوه صاحب محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ، وقد كتبنا خبره فيما بعد في بابه [2] . مات أحمد هذا في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، ومولده لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة سبع وعشرين وثلاثمائة بمصر، وكتبت وفاته كما أخبرني المصريون بها في سنة اثنتي عشرة وستمائة عند كوني بها. روى أبو منصور عن أبيه تصانيف أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، وصنّف أبو منصور أيضا عدة تصانيف منها: كتاب التاريخ وصل به تاريخ والده. وكتاب سيرة العزيز سلطان مصر المنتسب إلى العلويين. وكتاب سيرة كافور الإخشيدي، وبمصر كان مقامه.
__________
[98]- في م: أحمد بن محمد بن عبد الله المعبدي، وهو بهذه الصورة في غير موضعه حسب الترتيب الهجائي؛ واعتمادا على الزبيدي: 153 وبغية الوعاة 1: 321 جعلته «أحمد بن عبد الله» .
[99]- ترجمة أحمد الفرغاني في الوافي 7: 86 (عن ياقوت) .
[1] الترجمة رقم: 91.
[2] الترجمة رقم: 635 عن المختصر.(1/294)
- 100-
أحمد بن عبد الله بن بدر القرطبي النحوي أبو مروان
مولى الحكم المستنصر: روى عن أبي عمر ابن أبي الحباب وأبي بكر ابن هذيل [1] وكان نحويا لغويا شاعرا عروضيا، مات سنة ثلاث وعشرين وأربعمائة، حدّث عنه أبو مروان الطبني، وذكر خبره ووفاته، قاله ابن بشكوال.
- 101-
أحمد بن عبد الله بن سليمان أبو العلاء المعري
: هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان بن [محمد بن سليمان بن أحمد بن سليمان] بن داود بن المطهر بن زياد بن ربيعة بن الحارث بن ربيعة بن أرقم بن أنور بن اسحم بن النعمان، ويقال له الساطع لجماله، ابن عديّ بن عبد غطفان بن عمرو بن بريح بن جذيمة بن تيم الله بن أسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة. وتيم الله مجتمع تنوخ: من أهل معرة النعمان من بلاد الشام، كان غزير الفضل شائع الذكر وافر العلم غاية في الفهم، عالما حاذقا بالنحو، جيد الشعر جزل الكلام، شهرته تغني عن صفته وفضله ينطق بسجيته.
ولد بمعرة النعمان سنة ثلاث وستين وثلاثمائة واعتلّ علة الجدريّ التي ذهب فيها بصره سنة سبع وستين وثلاثمائة، وقال الشعر وهو ابن احدى عشرة سنة، ورحل إلى بغداد سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة، أقام ببغداد سنة وسبعة أشهر، ثم رجع إلى
__________
[100]- الصلة: 45 والوافي 7: 87 وبغية الوعاة 1: 313.
[101]- معظم ترجماته في المصادر قد أدرجت في «تعريف القدماء» ، ومنها هذه الترجمة ص: 67- 141 وللأستاذ مصطفى صالح كتاب بعنوان كشاف مصادر دراسة أبي العلاء المعري، دمشق 1978.
[1] هو الشاعر يحيى بن هذيل وكان عالما دينا نزيها توفي سنة 389 (ابن الفرضي 1: 193 وترتيب المدارك 6: 293) وستأتي ترجمته رقم: 1243.(1/295)
بلده فأقام به ولزم منزله إلى أن مات يوم الجمعة الثاني من شهر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وأربعمائة في أيام القائم.
وكان في آبائه وأعمامه ومن تقدمه من أهله وتأخر عنه من ولد أبيه ونسله فضلاء وقضاة وشعراء، أنا ذاكر منهم من حضرني لتعرف نسبه في العلم كما عرفت ما أعطيه من الفهم:
كان سليمان بن أحمد بن سليمان جدّه قاضي المعرة، وتولّى القضاء بحمص وبها مات في سنة تسعين ومائتين ثم ولي القضاء بعده بها ولده أبو بكر محمد عم [والد] أبي العلاء وفيه يقول الصنوبري الشاعر [1] :
بأبي يا ابن سليما ... ن لقد سدت تنوخا
وهم السادة شبّا ... نا لعمري وشيوخا
أدرك البغية من أض ... حى بناديك منيخا
واردا عندك نيلا ... وفراتا وبليخا
واجدا منك متى ... استتصرخ للمجد صريخا
في زمان غادر ... لهمّات في الناس مسوخا
ثم بعده أخوه أبو محمد [والد] عبد الله والد أبي العلاء، ولعبد الله شعر في مرثية والده [2] :
إن كان أصبح من أهواه مطّرحا ... بباب حمص فما حزني بمطّرح
لو بان أيسر ما أخفيه من جزع ... لمات أكثر أعدائي من الفرح
وتوفي [والد] [3] عبد الله بحمص سنة سبع وسبعين وثلاثمائة.
__________
[1] فاتني أن أدرج هذه الأبيات في ديوان الصنوبري (في الطبعة الأولى) ، وهي واردة في الخريدة (قسم الشام) 2: 3.
[2] الخريدة (قسم الشام) 2: 3.
[3] ان سقوط كلمة «والد» جعل الدارسين يظنون أن عبد الله نفسه هو الذي توفي في ذلك العام، ولهذا ذهبوا يناقشون المسألة ويبنون أحكاما مختلفة، ذلك لأن من الثابت أن وفاة والد أبي العلاء إنما كانت سنة 395.(1/296)
ومنهم أبو المجد محمد بن عبد الله أخو أبي العلاء، وكان أسنّ من أبي العلاء، وله أيضا شعر في الزهد [1] :
كرم المهيمن منتهى أملي ... لا نيّتي أرجو ولا عملي
يا مفضلا جلّت فواضله ... عن بغيتي حتى انقضى أجلي
كم قد أفضت عليّ من نعم ... كم قد سترت عليّ من زلل
إن لم يكن لي ما ألوذ به ... يوم الحساب فإن عفوك لي
ومنهم عبد الواحد أبو الهيثم أخو أبي العلاء القائل في الشمعة [2] :
وذات لون كلوني في تغيره ... وأدمع كدموعي في تحدرها
سهرت ليلي وباتت بي مسهّدة ... كأن ناظرها في قلب مسهرها
وله أيضا:
قالوا تراه سلا لأن جفونه ... ضنّت عشية بيننا بدموعها
ومن العجائب أن تفيض مدامع ... نار الغرام تشبّ في ينبوعها
هؤلاء من حضرني ممن كان قبل أبي العلاء وفي زمانه، وقد تأخر عن زمانه من أهله من كان عالما فاضلا، وأنا ذاكرهم هاهنا ليجيئوا على نسق واحد:
فمنهم القاضي أبو المجد محمد بن عبد الله [بن] محمد أبي المجد- وأبو المجد الثاني هو أخو أبي العلاء- وذكره العماد في «الخريدة» فقال [3] : ذكر لي [ابن] ابنه القاضي أبو اليسر الكاتب أنه كان فاضلا أديبا فقيها على مذهب الشافعي، أريبا مفتيا خطيبا، أدرك عم أبيه أبا العلاء وروى عنه مصنفاته وأشعاره، وولي القضاء بالمعرة إلى أن دخلها الفرنج خذلهم الله في سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة فانتقل إلى شيزر وأقام بها مدة، ثم انتقل إلى حماة فأقام بها إلى أن مات في محرم سنة ثلاث وعشرين
__________
[1] الابيات في الخريدة 2: 6.
[2] هذه القطعة والتي تليها في الخريدة 2: 6.
[3] الخريدة 2: 8 وانظر ترجمته في الانصاف والتحري (التعريف: 501) .(1/297)
وخمسمائة ومولده سنة أربعين وأربعمائة، وله ديوان ورسائل، ومن شعره [1] :
رأيتك في نومي كأنك معرض ... ملالا فداويت الملالة بالتّرك
وأصبحت أبغي شاهدا فعدمته ... فعدت فغلّبت اليقين على الشك
وعهدي بصحف الودّ تنشر بيننا ... فإن طويت فاجعل ختامك بالمسك
لئن كانت الأيام أبلى جديدها ... جديدي وردّت من رحيب إلى ضنك
فما أنا الا السيف أخلق جفنه ... وليس بمأمون الغرار على الفتك
قال وأنشدني بعض أهل المعرة [2] :
جسّ الطبيب يدي جهلا فقلت له ... إليك عني فإن اليوم بحراني
فقال لي ما الذي تشكو فقلت له ... إني هويت بجهلي بعض جيراني
فقام يعجب من قولي وقال لهم ... إنسان سوء فداووه بانسان
قال: وأنشدني مؤيد الدولة أسامة بن منقذ، قال أنشدني القاضي أبو المجد المعري لنفسه [3] :
وقائلة رأت شيبا علاني ... عهدتك في قميص صبا بديع
فقلت وهل ترين سوى هشيم ... إذا جاوزت أيام الربيع
قال الأمير أسامة [4] : ولما فارق أهله بالمعرة وبقي منفردا وكان له غلام اسمه شعيا قال:
زمان غاض أهل الفضل فيه ... فسقيا للحمام به ورعيا
أسارى بين أتراك وروم ... وفقد أحبة ورفاق شيعا
قال وقد سبقه إلى هذا المعنى الوزير المغربي، فإنه لما تغيرت عليه الوزارة
__________
[1] الخريدة 2: 9.
[2] الخريدة 2: 10.
[3] المصدر نفسه.
[4] الخريدة 2: 11.(1/298)
وتغرب كان معه غلام اسمه داهر، فقال [1] :
كفى حزنا أني مقيم ببلدة ... يعلّلني بعد الأحبة داهر
يحّدثني مما يجمّع عقله ... أحاديث منها مستقيم وجائر
قال الأمير أسامة: لما بليت بفرقة الأهل كتبت إلى أخي أستطرد بغلامي أبي المجد والوزير المغربي اللذين ذكراهما في شعريهما:
أصبحت بعدك يا شقيق النفس في ... بحر من الهمّ المبرح زاخر
متفردا بالهمّ من لي ساعة ... برفاق شعيا أو علالة داهر
(الحديث شجون يذكّر الشيء بما يتصل به) . وأشعار أبي المجد المعرّي كثيرة منها [2] :
قد أوسع الله البلاد وللفتى ... إلى بعضها عن بعضها متزحزح
فخلّ الهوينا إنها شرّ مركب ... ودونك صعب الأمر فالصعب أنجح
فإن نلت ما تهوى فذاك وان تمت ... فللموت خير للكريم وأروح
ومنهم أبو اليسر شاكر [3] بن عبد الله بن محمد أبي المجد بن عبد الله بن محمد [بن عبد الله] بن سليمان، قال العماد: كان كاتب الإنشاء لنور الدين محمود بن زنكي قبلي، فلما استعفى وقعد في بيته توليت الانشاء بعده، ومولده بشيزر في جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وأربعمائة وكان قد تولى ديوان الإنشاء سنين كثيرة. قال: وأنشدني لنفسه [4] :
وردت بجهلي مورد الصبّ فارتوت ... عروقي من محض الهوى وعظامي
ولم تك الا نظرة بعد نظرة ... على غرّة منها ووضع لثام
فحلّت بقلبي من بثين طماعة ... أقرت بها حتى الممات غرامي [5]
__________
[1] انظر كتابي: الوزير المغربي ص: 130.
[2] الخريدة 2: 14- 15.
[3] الخريدة 2: 35 وما بعدها.
[4] الخريدة 2: 36.
[5] م: عظامي.(1/299)
وله أيضا:
سارقته نظرة أطال بها ... عذاب قلبي وما له ذنب
يا جور حكم الهوى ويا عجبا ... تسرق عيني ويقطع القلب
وله:
بأبي عارضان دبّا على الخ ... دّ دبيبا من تحت عقرب صدغ
قعد القلب منهما في بلاء ... وعذاب ما بين قرص ولدغ
وله:
غريت بهم نوب الليالي فاغتدوا ... ما يستقرّ لهم بأرض دار
حتى كأنهم طريف بضائع ... وكأن أحداث الزمان تجار
وله:
تعمّم رأسي بالمشيب فساءني ... وما سرّني تفتيح نور بياضه
وقد أبصرت عيني خطوبا كثيرة ... فلم أر خطبا أسودا كبياضه
ومنهم القاضي أبو مسلم وادع بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سليمان [1] : كان أبو العلاء عمّ أبيه تولّى القضاء بمعرة النعمان وكفر طاب وحماة، وكان مشهورا بالكرم، مولده سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة، وله رسائل حسنة وشعر بديع منه:
وقائلة ما بال حبّك أرمدا ... فقلت وفي الأحشاء من قولها لدغ
لئن سرقت عيناه من لون خدّه ... فغير بديع ربما نفض الصبغ
ومن شعره أيضا:
ولما تلاقينا وهذا بناره ... حريق وهذا بالدموع غريق
تقلّدت الدرّ الذي فاض جفنها ... فرصّعه من مقلتيّ عقيق
__________
[1] الخريدة 2: 39- 40.(1/300)
ومنهم أبو عدي النعمان بن أبي مسلم وادع [1] من أهل العلم والفضل وهو القائل:
يا أيها الملّاك لا تبرحوا [2] ال ... أملاك وارجوها إلى قابل
فالعام قد صحّت ولكنها ... للعدل والمشرف والعامل
ومات أبو عدي بعد سنة خمسين وخمسمائة.
ومنهم أبو مرشد سليمان بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان [3] : ولي القضاء بمعرة النعمان وانتقل إلى شيزر بعد أخذ الفرنج المعرة، وتوفي بها، وله رسائل وشعر منه قصيدة التزم في كلّ كلمة منها حرف النون، أولها:
نزّه لسانك عن نفاق منافق ... وانصح فإن الدين نصح المؤمن
وتجنّب المنّ المنكّد للنّدى ... وأعن بنيلك من أعانك وامنن
ومنهم أبو سهل عبد الرحمن بن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان [4] : مولده ومنشؤه بشيزر وحماة، وتوفي في الزلزلة [التي] كانت بحماة سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة، وكان شاعرا مطبوع الشعر ومنه:
جرحت بلحظي خدّ الحبيب ... فما طالب المقلة الفاعله
ولكنه اقتصّ من مهجتي ... كذاك الديات على العاقله [5]
ومن شعره أيضا:
ولما سألت القلب صبرا عن الهوى ... وطالبته بالصدق وهو يروغ
تيقّنت منه أنه غير صابر ... وأنّ سلوّا عنه ليس يسوغ
فإن قال لا أسلوه قلت صدقتني ... وان قال أسلو عنه قلت دروغ
__________
[1] الخريدة 2: 41.
[2] الخريدة: لا ترتجوا.
[3] الخريدة 2: 44- 45.
[4] الخريدة 2: 46- 47.
[5] زاد في المختصر بعد هذا مقطوعتين هما «سارقته نظرة ... » و «تعمم رأسي بالمشيب فساءني» وهما مما نسب لأبي اليسر شاكر المعري (ص: 299) .(1/301)
(هذه كلمة عجمية معناها كذب) .
ومنهم أخوه أبو المعالي صاعد بن مدرك بن علي بن محمد بن عبد الله بن سليمان [1] : مولده ومنشؤه شيزر وحماة، ومات بمعرة النعمان، ومن شعره:
ألا أيا أيها الوادي المنينيّ هل لنا ... تلاق فنشكو فيه صنع التفرّق
أبثّك ما بي من غرام ولوعة ... وفرط جوى يضني وطول تشوق
عسى أن ترقي حين ملّكت رقّه ... وترثي له مما بهجرك قد لقي
بوصل يروّي غلّة الوجد والأسى ... ويطفى به حرّ الجوى والتحرق
وغير هؤلاء حذفت أسماءهم اختصارا، وإنما قصدت الإخبار عن إعراق أبي العلاء في بيت العلم.
ونقلت من بعض الكتب أنّ أبا العلاء لما ورد إلى بغداد قصد أبا الحسن علي بن عيسى الربعي ليقرأ عليه، فلما دخل إليه قال علي بن عيسى: ليصعد الاصطيل، فخرج مغضبا ولم يعد إليه. والاصطيل في لغة أهل الشام الأعمى، ولعلها معرّبة.
ودخل على المرتضى أبي القاسم فعثر برجل فقال: من هذا الكلب؟ فقال المعري: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسما. وسمعه المرتضى فاستدناه واختبره فوجده عالما مشبعا بالفطنة والذكاء فأقبل عليه إقبالا كثيرا.
وكان أبو العلاء يتعصّب للمتنبي ويزعم أنه أشعر المحدثين ويفضله على بشار ومن بعده مثل أبي نواس وأبي تمام، وكان المرتضى يبغض المتنبي ويتعصّب عليه، فجرى يوما بحضرته ذكر المتنبي فتنقّصه المرتضى وجعل يتتبع عيوبه، فقال المعري:
لو لم يكن للمتنبي من الشعر إلا قوله:
لك يا منازل في القلوب منازل
لكفاه فضلا، فغضب المرتضى وأمر فسحب برجله وأخرج من مجلسه، وقال لمن بحضرته: أتدرون أيّ شيء أراد الأعمى بذكر هذه القصيدة؟ فإن للمتنبي ما هو أجود منها لم يذكرها، فقيل: النقيب السيد أعرف، فقال: أراد قوله في هذه القصيدة:
__________
[1] الخريدة 2: 48.(1/302)
وإذا أتتك مذمّتي من ناقص ... فهي الشهادة لي بأنّي كامل
ولما رجع إلى المعرة لزم بيته فلم يخرج منه، وسمّى نفسه رهين المحبسين- يعني حبس نفسه في المنزل وترك الخروج منه وحبسه عن النظر إلى الدنيا بالعمى-.
وكان متهما في دينه يرى رأي البراهمة لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحما، ولا يؤمن بالرسل والبعث والنشور، وعاش شيئا وثمانين سنة لم يأكل اللحم منها خمسا وأربعين سنة. وحدّثت أنه مرض مرة فوصف الطبيب له الفرّوج، فلما جيء به لمسه بيده وقال: استضعفوك فوصفوك، هلّا وصفوا شبل الأسد؟! وقيل إنه قال: ما أريد إصلاح نفسي بإفساد هذا، ولم يتناوله. وقد أوردنا من شعره ما يستدلّ به على سوء معتقده، ويخبرك بنحلته ومستنده.
وحدث غرس النعمة أبو الحسن الصابي أنه بقي خمسا وأربعين سنة لا يأكل اللحم ولا البيض ويحرّم إيلام الحيوان، ويقتصر على ما تنبت الأرض، ويلبس خشن الثياب، ويظهر دوام الصوم. قال: ولقيه رجل فقال له: لم لا تأكل اللحم؟ قال:
ارحم الحيوان، قال: فما تقول في السباع التي لا طعام لها إلا لحوم الحيوان، فإن كان لذلك خالق فما أنت بأرأف منه، وإن كانت الطبائع المحدثة لذلك فما أنت بأحذق منها ولا أتقن علما، فسكت.
قال ابن الجوزي: وقد كان يمكنه أن لا يذبح رحمة، وأما ما قد ذبحه غيره فأيّ رحمة بقيت؟.
قال: وقد حدّثنا عن أبي زكرياء أنه قال، قال لي المعري: ما الذي تعتقد؟
فقلت في نفسي: اليوم أقف على اعتقاده، فقلت له: ما أنا إلا شاكّ، فقال: وهكذا شيخك.
قال القاضي أبو يوسف عبد السلام القزويني [1] ، قال لي المعري: لم أهج أحدا قط، فقلت له: صدقت إلّا الأنبياء عليهم السلام، فتغير وجهه.
وحدّث أبو زكرياء قال: لما مات أبو العلاء أنشد على قبره بعد موته أربعة
__________
[1] هو عبد السلام بن محمد بن يوسف بن بندار القزويني المعتزلي، كانت وفاته سنة 488.(1/303)
وثمانون شاعرا مراثي من جملتها أبيات لعليّ بن الهمام من قصيدة طويلة:
إن كنت لم ترق الدماء زهادة ... فلقد أرقت اليوم من جفني دما
سيرت ذكرا في البلاد كأنه ... مسك مسامعها يضمّخ أو فما
وترى الحجيج إذا أرادوا ليلة ... ذكراك أوجب فدية من أحرما
كأنه يقول: ان ذكرك طيب، والطيب لا يحلّ للمحرم فيجب عليه فدية. وختم في أسبوع واحد عند القبر مائتا ختمة، وهذا مما لم يشارك فيه. وكانت الفتاوي في بيتهم على مذهب الشافعي من أكثر من مائتي سنة بالمعرة.
ومن شعره في الزهد [1] :
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحقّ لسكان البسيطة أن يبكوا
يحطّمنا صرف الزمان كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
ومن شعره في الزهد [2] :
فلا تشرّف بدينا عنك معرضة ... فما التشرف بالدنيا هو الشرف
واصرف فؤادك عنها مثلما انصرفت ... فكلّنا عن مغانيها سينصرف
يا أمّ دفر لحاك الله والدة ... فيك الخناء وفيك البؤس والسّرف
لو أنك العرس أوقعت الطلاق بها ... لكنّك الأمّ مالي عنك منصرف
وله [3] :
حدث السلفي بإسناده عن القاضي أبي المهذّب عبد المنعم بن أبي الروس السروجي قال: سمعت أخي القاضي [أبا] الفتح يقول: دخلت على الشيخ أبي العلاء التنوخي بالمعرة، وكنت أتردّد إليه وأقرأ عليه في بعض خلواته، بغير علم منه، فسمعته وهو ينشد من قوله:
__________
[1] اللزوميات (هندية) 2: 123.
[2] الثالث والرابع منها في اللزوميات 2: 97.
[3] من هنا زيادة منقولة عن المختصر.(1/304)
كم غودرت غادة كعاب ... وعمّرت أمّها العجوز
أحرزها الوالدان خوفا ... والقبر حرز لها حريز
يجوز أن تبطىء المنايا ... والخلد في الدهر لا يجوز
ثم تأوه ثلاث مرات وتلا قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ
(هود 103- 105) ثم صاح وبكى بكاء شديدا، وطرح وجهه على الأرض زمانا، ثم رفع رأسه ومسح وجهه وقال: سبحان من تكلّم بهذا الكلام في القدم، سبحان من هذا كلامه، وسكت وسكن، فصبرت عليه ساعة ثم سلّمت عليه فردّ عليّ السلام، فقال لي: يا أبا الفتح متى أتيت؟ فقلت: الساعة، فأمرني بالجلوس فجلست وقلت: يا سيدي أرى في وجهك أثر غيظ، فقال: لا يا أبا الفتح، بل أنشدت شيئا من كلام المخلوق، وتلوت شيئا من كلام الخالق فلحقني ما ترى. فتحققت صحّة دينه وقوة يقينه.
قال السلفي: وسألت أبا زكريا التبريزي إمام عصره في اللغة ببغداد، فقلت له: قد رأيت أبا العلاء بالمعرة وعليّ بن عثمان بن جني الموصلي بصور والقصابيّ بالبصرة وابن برهان ببغداد وغيرهم من الأدباء فمن المفضّل من بينهم؟ قال: هؤلاء أئمة لا يقال لهم أدباء، وأفضل من رأيته ممن قرأت عليه أبو العلاء.
قال السلفي: حكي عن أبي العلاء المعري في الكتاب الذي أملاه وترجمه ب «الفصول والغايات» ، وكأنه معارضة منه للسور والآيات، فقيل له: أين هذا من القرآن؟ فقال: لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة.
قال السلفي: كان أبو نصر المنازي أحد وزراء نصير الدولة ابن مروان بديار بكر، فأرسله إلى مصر رسولا، فوصل إلى المعرة ودخل إلى أبي العلاء مسلّما مناشدا، وانبسط أحدهما إلى الآخر، وتذكر أبو العلاء ما يقاسي من الناس وكلامهم فيه، فقال له أبو نصر: ماذا يريدون منك وقد تركت لهم الدنيا والآخرة، فقال:
والآخرة أيضا؟ قال: والآخرة أيضا، والآخرة أيضا. فأطرق ولم يكلّمه إلى أن قام.(1/305)
أنشد له السلفي:
أبا العلاء ابن سليمانا ... إن العمى أولاك إحسانا
لو أبصرت عيناك هذا الورى ... لم ير إنسانك إنسانا
حدث هبة الله بن موسى المؤيد في الدين، وكان بينه وبين أبي العلاء صداقة ومراسلات، قال: كنت أسمع من أخبار أبي العلاء وما أوتيه من البسطة في علم اللسان ما يكثر تعجّبي منه، فلما وصلت المعرة داخلا إلى الديار المصرية لم أقدّم شيئا على لقائه، فحضرت إليه واتفق حضور أخي معي، وكنت بصدد أشغال يحتاج إليها المسافر، فلم أسمح بمفارقته والاشتغال بها.
فتحدّث أخي معي حديثا باللسان الفارسي فأرشدته إلى ما يعمله فيها ثم عدت إلى مذاكرة أبي العلاء، فتجارينا الحديث إلى أن ذكرت ما وصف به في سرعة الحفظ وسألته أن يريني من ذلك شيئا أحكيه عنه، فقال لي: خذ كتابا من هذه الخزانة- لخزانة قريبة منه- واذكر أوله فإني أورده عليك حفظا، فقلت: كتابك ليس بغريب إن حفظته، فقال: قد دار بينك وبين أخيك كلام بالفارسية إن شئت أعدته، قلت:
فأعده، فأعاد الحديث أجمع ما أخلّ بحرف منه، ولم يكن يعرف اللغة الفارسية.
وهذا الخبر من العجائب.
قال السلفي بإسناده: عرض على أبي العلاء التنوخي كفّ من اللوبياء، فأخذ منها واحدة ولمسها بيده وقال: ما أدري ما هي، إلا أني أشبهه بالكلية، فتعجبوا منه ومن فطنته وإصابته في حديثه [1] .
وحدث أبو الكرم خميس بن علي الحوزي النحوي [2] حدثنا القاضي أبو يوسف القزويني، قال قال لي ملحد المعرة: ما سمعت في أمر الحسين بن علي رضي الله عنهما شيئا يجب أن يحفظ، فقلت له: قد قال سواديّ من أهل بلادنا أبياتا لا يقول مثلها تنوخ جدّك الأكبر:
رأس ابن بنت محمد ووصيّه ... للمسلمين على قناة يرفع
__________
[1] هنا نهاية ما نقل عن المختصر.
[2] هو صاحب الجوابات على سؤالات الحافظ السلفي. وقد تقدم ذكره.(1/306)
والمسلمون بمنظر وبمشهد ... لا جازع فيهم ولا متفجع
كحلت بمنظرك العيون عماية ... وأصمّ رزؤك كلّ أذن تسمع
أيقظت أجفانا وكنت لها كرى ... وأنمت عينا لم تكن بك تهجع
ما روضة إلا تمنّت أنها ... لك تربة ولخطّ قبرك مضجع
قال: ولم يسمّ لنا قائلا.
وقال أبو منصور الثعالبي في « [تتمة] يتيمة الدهر» [1] وكان حدثني أبو الحسن الدّلفي المصّيصي الشاعر، وهو من لقيته قديما وحديثا في مدة ثلاثين سنة، قال:
لقيت بمعرة النعمان عجبا من العجب، رأيت شاعرا ظريفا يلعب بالشطرنج والنرد ويدخل في كلّ فنّ من الجد والهزل، يكنى أبا العلاء، وسمعته يقول: أنا أحمد الله على العمى كما يحمده غيري على البصر، قال: وحضرته يوما وهو يملي في جواب كتاب ورد عليه من بعض الرؤساء:
وافى الكتاب فأوجب الشكرا ... فضممته ولثمته عشرا
وفضضته وقرأته فاذا ... أجلى كتاب في الورى يقرا
فمحاه دمعي من تحدّره ... شوقا إليك فلم يدع سطرا
قال: وأنشدني لنفسه [2] :
لست أدري ولا المنجم يدري ... ما يريد القضاء بالانسان
غير أني أقول قول محقّ ... قد يرى الغيب فيه مثل العيان
إن من كان محسنا قابلته ... بجميل عواقب الإحسان
حدث أبو سعد السمعاني في «كتاب النسب» [3] وقد ذكر المعري، فقال بعد وصفه: وذكر تلميذه أبو زكريا التبريزي أنه كان قاعدا في مسجده بمعرة النعمان بين
__________
[1] تتمة اليتيمة 1: 9 (وتعريف القدماء: 3) .
[2] هذه الأبيات لأبي القاسم المحسن بن عمرو المحلي في تتمة اليتيمة.
[3] الأنساب (دمج) 11: 399 ولم يذكر القصة في هذه المادة وانما ذكرها في مادة (التنوخي) (الأنساب- حيدر آباد 3: 93) .(1/307)
يدي أبي العلاء يقرأ عليه شيئا من تصانيفه، قال: وكنت قد أقمت عنده سنين، ولم أر أحدا من أهل بلدي، فدخل المسجد مغافصة [1] بعض جيراننا للصلاة، فرأيته وعرفته فتغيرت من الفرج، فقال لي أبو العلاء: أيش أصابك؟ فحكيت له أني رأيت جارا لي بعد أن لم ألق أحدا من أهل بلدي سنتين، فقال لي: قم وكلّمه، فقلت حتى أتمم السّبق [2] ، فقال: قم أنا أنتظر لك، فقمت وكلمته بلسان الأذربية شيئا كثيرا إلى أن سألت عن كلّ ما أردت، فلما رجعت وقعدت بين يديه قال لي: أيّ لسان هذا؟
قلت: هذا لسان أهل أذربيجان، فقال لي: ما عرفت اللسان ولا فهمته، غير أني حفظت ما قلتما، ثم أعاد عليّ اللفظ بعينه من غير أن ينقص عنه أو يزيد عليه جميع ما قلت وقال جاري، فتعجبت غاية التعجّب كيف حفظ ما لم يفهمه. قال المؤلف:
وهذا غاية ليس بعدها شيء في حسن الحفظ.
وقال المؤلف: وأنا كثير الاستحسان لقول أبي العلاء [3] :
أسالت أبيّ الدمع فوق أسيل ... ومالت لظلّ بالعراق ظليل
أيا جارة البيت الممّنع أهله [5] ... غدوت ومن لي عندكم بمقيل
لغيري زكاة من جمال فإن تكن ... زكاة جمال فاذكري ابن سبيل
وأرسلت طيفا خان لما بعثته ... فلا تثقي من بعده برسول
خيالا [6] أرانا نفسه متجنبا ... وقد زار من صافي الوداد وصول
نسيت مكان العقد من دهش النوى ... فعلّقته من وجنة بمسيل
وكنت لأجل السنّ شمس غديّة ... ولكنّها للبين شمس أصيل
أسرت أخانا بالخداع وانه ... يعدّ إذا اشتدّ الوغى بقبيل
__________
[1] في الأنساب: فدخل معنا صفّة المسجد.
[2] السبق: الدرس (وقيل هي فارسية) .
[3] سقط الزند 3: 1040.
[4] السقط: أتي.
[5] السقط: جاره.
[6] السقط: خيال.(1/308)
فإن تطلقيه تملكي شكر قومه ... وإن تقتليه تؤخذي بقتيل
وان عاش لاقى ذلة واختياره ... وفاة عزيز لا حياة ذليل
وكيف يجرّ الجيش يطلب غارة ... أسير بمجرور الذيول كحيل
ومن شعره لزوم ما لا يلزم [1] :
يا محلّي عليك مني سلام ... سوف أمضي وينجز الموعود
فلجسمي إلى التراب هبوط ... ولروحي إلى الهواء صعود
وعلى حالها تدوم الليالي ... فنحوس لمعشر وسعود
أترجّون أن أعود إليكم ... لا ترجّوا فإنني لا أعود
قرأت بخط أبي سعد، أنشدنا الوكيل باصبهان [2] ، أنشدنا عبيد الله القشيري، أنشدنا أبو الوليد الدربندي [3] قال: أنشدني أبو العلاء التنوخي في داره عند وداعي إياه [4] :
كم بلدة فارقتها ومعاشر ... يذرون من أسف عليّ دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى ... لعهود إخوان الصفاء مضيعا
خاللت توديع الأصادق للنوى ... فمتى أودّع خلّي التوديعا
قال ابن الهبارية: أنشدني أبو زكريا الخطيب التبريزي قال، أنشدني أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعرّي لنفسه [5] :
أرى جيل التصوف شرّ جيل ... فقل لهم وأهون بالحلول
أقال الله حين عبدتموه ... كلوا أكل البهائم وارقصوا لي
وكتب إلى خاله أبي القاسم عليّ بن سبيكة، عند طلوعه من العراق، ووجد أمّه قد توفّيت، ولم يعلم قبل مقدمه بذلك:
__________
[1] اللزوميات: 268.
[2] هو أبو محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن عبد الله كان وكيل القضاة، توفي سنة 551.
[3] هو الحسن بن محمد بن علي الصوفي البلخي محدث توفي سنة 456 (دربند في معجم البلدان) .
[4] سقط الزند 4: 1721.
[5] لم يردا في ما وصلنا من شعره.(1/309)
كتابي- أطال الله بقاء سيّدي ما طلع صبير، ورسا ثبير [1]- من معرّة النّعمان، ولكلّ نبأ مستقرّ. وردتها بعد سآمة، ورود كعب بن مامة [2] ، فإنّا لله وإنا إليه راجعون، وله الحمد ممزوجا به الدّمع، مستكّا له من الوجد السّمع. وصلى الله على سيدنا محمد وعترته، صلاة يثقل بها لساني حزنا، وترجح في المحشر قدرا ووزنا. ثم أذكر قصصي بعد ذلك:
ألا يا ليتني والمرء ميت ... وما تغني من الحدثان ليت
...
يا ليت عمرا- وليت ضلّة سفه ... لم يغز فهما ولم يحلل بواديها
...
لو أنّ صدور الأمر يبدون للفتى ... كأعقابه لم تلفه يتندّم
رحمك الله من ساكنة رمس، أصبحت حياتك كأمس.
فإن ينقطع منك الرّجاء فإنّه ... سيبقى عليك الحزن ما بقي الدّهر
لا آمل بعدها خيرا، ولا أزيد في ... المحن إلّا إيضاعا وسيرا.
صلّى الإله عليك من مفقودة ... إذ لا يلائمك المكان البلقع [3]
أنّى حللت وكنت جدّ فروقة ... بلدا يمرّ به الشّجاع فيفزع
لا بارك الله في الدّنيا إذا انقطعت ... أسباب دنياك من أسباب دنيانا [4]
يا سلوة الأيام موعدك الحشر. موعد والله بعيد، لا سلوة حتى يؤوب عنزيّ القرظة، ويرجع النعمان إلى الحيرة، ويبعث نبيّ من مكّة [5] . لو لم تكن الآجال ذبرا [6] ، لوجب أن أقتل بها صبرا. على أنّي والله قد أعلمتها أنّي مرتحل، وأنّ عزمي
__________
[1] الصبير: السحاب، وثبير: اسم جبل.
[2] قصة كعب بن مامة وإيثاره صاحبه بالماء وموته عطشا، مشهورة، وتتردد في كتب الأمثال.
[3] البيتان لشاعر اسمه مويلك المزموم، انظر ديوان شعر الخوارج: 194 وفيه تخريج.
[4] البيت لجرير في ديوانه: 162.
[5] هذه أمثلة على الاستحالة، والعنزي رجل ذهب يجني القرظ فلم يأب، وفيه يقول الشاعر:
فرجّي الخير وانتظري إيابي ... إذا ما القارظ العنزي آبا
[6] الذبر- بالذال وبالزاي- الكتابة.(1/310)
على ذلك جادّ مزمع، فأذنت فيه، وأحسبها ظنّته مذقة الشارب، ووميض الخالب [1] ، ولكلّ أجل كتاب. وحزني لفقدها كنعيم أهل الجنّة، كلما نفد جدّد؛ وشرحه إملال سامع، وإفناء زمان. والله يجعلها وإيّاي فداءي مولاي من كلّ رزيّة، ويصيّره المخصوص عنّي بالمزية [2] . وربّ سامع خبري، لم يسمع عذري.
والمعاذر مكاذب، غير أنّ الرّائد لا يكذب أهله [3] فإن قال أدام الله عزّه: يأبى الحقين العذرة، وإذا سمعت بسرى القين فآعلم أنّه مصبح، وفي النّوى يكذبك الصادق [4]- فوالذي أخرج الجذع من الجريمة، والنّار من الوثيمة [5] ، ما نكّبت حلب في الإبداء والانكفاء، إلّا كما تنكّب خريدة المحار، لما دونها من أهوال البحار. وأنا كما علم- أدام الله تأييده- وحشيّ الغريزة، إنسيّ الولادة. وكلّ أزبّ نفور [6] .
عوى الذّئب فاستأنست بالذّئب إذ عوى ... وصوّت إنسان فكدت أطير [7]
يرى الوحشة الانس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أمّ النّجوم الشّوابك [8]
يودّ بجدع الأنف لو أنّ ظهرها ... من النّاس أعرى من سراة أديم
لو وردت حلب لتعيّنت عليّ حقوق إن قضيتها نصبت، وإن تخلّفت عنها عوتبت وقصبت [9] . ومن لم يهبط نعمان الأراك، لم يعتب عليه في إهداء المسواك. ويطلب من راكب هجر الفرض، ومن مسافر البحرين الحساس [10] . وشوقي إلى مشاهدته
__________
[1] هذان مثلان على السرعة، فمذقة الشارب: حسوه الماء خطفا، والخالب: البرق.
[2] المزية: الفضيلة.
[3] هذه أمثال انظر جمهرة العسكري 1: 474، 493؛ 1: 29؛ 1: 474.
[4] وهذه أمثال أيضا، كما في الجمهرة 1: 28، 1: 23، 2: 35 (عند النوى) .
[5] الجريمة: النواة، والوثيمة: الحجارة المسكورة، والقول لأوس بن حارثة: «لا والذي أخرج العذق من الجريمة والنار من الوثيمة» .
[6] الأزب: الكثير الشعر، وهذا مثل، انظر الجمهرة 2: 154.
[7] البيت للأحيمر السعدي، كما في الشعر والشعراء في ترجمة الأحمير.
[8] البيت لتأبط شرا، ديوانه: 156.
[9] نصبت: تعبت؛ قصبت: ذممت وشتمت.
[10] الفرض: نوع من التمر؛ والحساس: سمك صغير يجفف.(1/311)
شوق اليفن إلى الشّباب، والشّارف إلى السّقاب [1] ؛ لو أوسقته الحمائل أضعفها عن الذّميل، أو طوّقته الحمائم لأغصّها بالهديل. كيف تزيد الحمامة الخطباء [2] ، على الحامّة [3] الخطباء. الرّياش أفضل من الرّيش المكر [4] ، والمنزل أشرف من الوكر؛ وطوق الذّهب، خير من طوق الغيهب. وأين الشّارف، من اللبيب العارف! ليس أمّ الفصيل، من ذوات التّحصيل. إنّما هي حنين بعده سلوّ، واشتغال لبّ ثمّ خلوّ.
وأسفي على فائت قربه كأسف وحشيّة تربّ طلا [5] في صفاصف وفلا؛ اتّخذت بيتا كالخدر، في ظلّ الفاردة [6] من السّدر؛ ثمّ هكعت [7] في الهجير فدرج الطّفل، وهو لأبي جعدة نصيب وكفل [8] ؛ فلمّا قضت الرّقاد، نظرت فإذا بقيّة أجلاد؛ فهي بين وله وعله. والله سبحانه يسهّل اجتماعا يكون به شملنا كنجوم ذات العرش، لا ترهب فرقة ولا نقص أرش [9] .
وقد كنت كاتبته كتابا من الرّقّة أشرح له فيه ما حملني على النّزول. فإن كان وصل فهو الغرض، وإن تخلّف فالإعادة لمعناه جرض [10] . ولكلّ مقام مقال، ولكلّ أوان ثمرة، وفي كلّ واد سمرة. وجدت بغداذ كجناح الأخيل [11] ، حسن وليس فيه ما حمل:
إنّ العراق لأهلي لم يكن وطنا ... والباب دون أبي غسّان مسدود [12]
__________
[1] اليفن: الشيخ الكبير؛ الشارف: الناقة المسنة، والسقاب: أولادها.
[2] الخطباء: ذات لون مشرب حمرة في صفرة.
[3] الحامة: الأقرباء.
[4] الريش المصبوغ بالمغرة.
[5] الوحشية: بقرة الوحش. ترب: تربي، الطلا: ولدها.
[6] الفاردة: المنفردة.
[7] هكعت: سكنت.
[8] أبو جعدة: الذئب، والكفل: الحظ.
[9] الأرش: أن يكون في الثوب مثلا عيب ينقص به الثمن.
[10] الجرض: الغصص.
[11] الأخيل: الصرد، وهو طائر.
[12] الشعر لذي الرمة، ديوانه: 1359، 1361 وأبو غسان: مالك بن مسمع بن شهاب كان سيد ربيعة في زمانه، وتوفي سنة 73 هـ.(1/312)
فانم القتود على عيرانة أجد ... مهريّة مخطتها غرسها العيد [1]
...
كم دون مية من مستعمل قذف ... ومن فلاة بها تستودع العيس [2]
حنّت إلى نخلة القصوى فقلت لها ... بسل حرام ألا تلك الدّهاريس [3]
أمّي شآمية إذ لا عراق لنا ... قوما نودّهم إذ قومنا شوس
...
فإن يك في كيل اليمامة عسرة ... فما كيل ميّافارقين بأعسرا [4]
لنفسي أقول: أعييتني بأشر، فكيف بدردر. وعصيتني من شبّ إلى دبّ.
ليس بعشّك فادرجي. هذا أحقّ منزل بترك. الصّيف ضيّعت اللّبن. الرّبيع أغفلت الكمأة. وعلى المفازة أرقت السّقاء [5] . عودي إلى مباركك، ألحقك الشّرّ بأهلك.
فمن أناس ما أنت. ليس النّيق بموطن الظّليم، ولا الهجل بمرتع الغفر [6] .
لكلّ أناس من معدّ عمارة ... عروض إليها يلجؤون وجانب [7]
وكنت ظننت أنّ الأيّام تسمح لي بالإقامة هناك، فإذا الضارية أحجأ بعراقها، والأمة أبخل بصربتها [8] ، والعبد أشحّ بكراعه، والغراب أضنّ بتمرته. ووجدت العلم ببغداد أكثر من الحصى عند جمرة العقبة، وأرخص من الصّيحانيّ بالجابرة [9] ،
__________
[1] انم: ارفع، القتود: عيدان الرحل؛ عيرانة: ناقة تشبه العير؛ أجد: موثقة الخلق، مخطتها غرسها:
أزالت عنها الغرس وهو قميص يكون على الولد دون الرحم، والعيد: من مهرة، أي أنها مهرية خالصة لم تشتر.
[2] الأبيات للمتلمس، جرير بن عبد المسيح (انظر نخلة القصوى في معجم البلدان) .
[3] بسل هنا بمعنى حرام، الدهاريس: الدواهي.
[4] البيت لابن احمر كما في المعرب: 322.
[5] هذه أمثال، انظر جمهرة العسكري 1: 53، 2: 197، 1: 575 (وما لم يكن أمثالا فهو قياس عليها) .
[6] النيق: أعلى موضع في الجبل، الهجل: السهل، الغفر: ولد الوعل.
[7] من مفضلية للأخنس بن شهاب التغلبي، والعمارة: أصغر من القبيلة، والعروض: طريق ضيقة في الجبل.
[8] الضارية: المفترسة، أحجأ: أشد ولعا وتمسكا، العراق: ما بقي من لحم وعظم، والصربة: اللبن الحقين الحامض.
[9] الجابرة: اسم للمدينة، والصيحاني: نوع من التمر.(1/313)
وأمكن من الماء بخضارة، وأقرب من الجريد باليمامة. ولكن على كلّ خير مانع، ودون كل درّة خرساء موحية، أو خضراء طامية [1] .
إذا لم تستطع أمرا فذره ... وجاوزه إلى ما تستطيع [2]
يكفيك ما بلّغك المحلّ. إن عجز ظلّ عن شخصك فلا يعجزنّ عن عضو منك. فلمّا زبنت الضّروس الحالب، ونزت العنود تحت الراكب [3] ، ومنعت القلوع النّازع [4] ، ولم تعمّ الفلوت شاكي الأريز [5] ، وغشّى الثّول وجه المشتار [6] ، وخيّب رائدا سحاب، وكذب شائما برق، وأخلف رويعيا مظنّة [7]- عادت لعترها لميس [8] ، وذكر وجاره ثعالة، وطرب لوكنته ابن دأية [9] . وما هبطت في طريقي واديا، ولا فرعت جبلا، ولا حملتني سفينة، ولا ذلّت لي مطيّة، إلّا بمنّ الله سبحانه ومنّة سيّدي وعنايته وجاهه. وأياديه أكبر من الشّكر، وأوسع من إحاطة الذّكر. وقد علمت أنّه يعمل ذلك معي لا يريد جزاء ولا شكورا. ولكن لمّا كان السّكوت غباوة عند الجماعة، والشّكر أذيّة لمسدي الصّنيعة، كان احتمال ملامة واحدة، أيسر من احتمال ملاوم كثيرة.
وأمّا سيّدي أبو طاهر فقد حمّلني من الإنعام أوقا [10] لا آمل النّهوض بجزء منه،
__________
[1] الخرساء: صفة للحية، موحية: معجلة، يقال إن الدرة تحرسها حية، والخضراء: الموجة، طامية:
مرتفعة.
[2] البيت لعمرو بن معد يكرب، ديوانه: 142.
[3] زبنت: دفعت، الضروس: الناقة السيئة الخلق؛ نزت: وثبت. العنود: الناقة تتنكب الطريق من شدة نشاطها.
[4] القلوع: القوس تنقلب إذا نزع فيها، والنازع: الذي يوتّر القوس للرمي.
[5] الفلوت: كساء صغير لا ينضم طرفاه، الأريز: البرد.
[6] الثول: جماعة النحل؛ المشتار: الذي يجني العسل.
[7] هذا مثل (العسكري 1: 95) والرويعي: تصغير راعي، يضرب مثلا في الحاجة تلتمس فيحول دونها حائل وأصله أن راعيا قد عرف مكانا معشبا فقصده فصادف عارضا يمنعه من رعيه.
[8] هذا مثل (العسكري 2: 49) يضرب مثلا لمن يرجع إلى خلق كان قد تركه، والعتر: الأصل.
[9] ابن دأية: الغراب.
[10] الأوق: الثقل.(1/314)
وما ورث برّي عن كلالة، ولا أخذ تفقّدي من دار غربة: شنشنة من أخزم [1] ، ونشنشة من أخشن [2] . إنما تقيّل [3] أباه، والشّكير نابت من العضة، والبرم من السّلم [4] ، ومن أشبه أباه فما ظلم [5] . ما زالت كتبه تطرق أصدقاءه، محافظة على المكارم، ومراعاة لأمر غير لازم، حتّى جعلهم إليّ كعرف الفرس، أو قوى المرس.
وكلّما عرضوا قضاء حاجة أعرضت عن تكليف المشقّة، لأنّي أعتقد حكمة زهير في قوله [6] :
ومن لا يزل يستحمل النّاس نفسه ... ولا يعفها يوما من الذّلّ يسأم
ولو علمت أنّي أرجع على قروائي، لم أتوجّه لهذه الجهة، ولكنّ البلاء موكّل بالمنطق، والخيرة مغيّبة، والخطوب مثل دوك النّوفل [8] ، يفتح بعضه عن مثل نبات الغمق، وبعضه عن ذوات النسق [9] . لا يدري الرّجل بم يولع هرمه [10] ، ولا إلى أيّ أجمة يسوقه جدّه. وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ
(الأعراف: 188) . وجد في لوح:
يا أيّها المضمر همّا لا تهمّ ... إنّك إن تقدر لك الحمّى تحمّ
ورعاية الله شاملة لمن عرفته ببغداد؛ فلقد أفردوني بحسن المعاملة، وأثنوا عليّ في الغيبة، وأكرموني دون النّظراء والطّبقة. ولما آنسوا تشميري للرّحيل، وأحسّوا بتأهّبي للظّعن، أظهروا كسوف بال، وقالوا من جميل كلّ مقال، وتلفّعوا من
__________
[1] جمهرة العسكري 1: 541 يضرب مثلا للرجل يشبه أباه، وأخزم: من جدود حاتم، فخرج حاتم على مثاله في الجود.
[2] نشنشة: حجر، والأخشن: الجبل.
[3] تقيل: سار على منواله.
[4] الشكير: ما ينبت في أصول الشجر، والبرم: ثمر العضاه.
[5] مثل، انظر العسكري 2: 244.
[6] شرح ديوان زهير: 32.
[7] رجع على قروائه أي على قفاه.
[8] الدوك: الموج، النوفل: البحر.
[9] نبات الغمق: نبات لريحه فساد؛ وذوات النسق: الأسنان المتناسقة.
[10] هرمه: عقله.(1/315)
الأسف ببرد قشيب، وذرفت عيون أشياخ شيب. فلا إله إلّا الله! أيّ نابتة ليست لها راعية! لا تخلو فاغية من سائفة [1] ، ولا تعدم الخرقاء ثلّة [2] ، ولا الثّقال سائقة، ولا السّمجة قائنة [3] .
وأمروني لرغبتهم في صقبي [4] منهم بأمور تنهى عنها القناعة، وتكفّ دونها العادة. وما أبعد نضاد من جبال الضّريب [5] ، وأشدّ اختلاف الغائر والمنجدين!
شتّان ما يومي على كورها ... ويوم حيّان أخي جابر [6]
...
على حين أن ذكّيت وابيضّ مفرقي ... أسام الذي أعيبت إذ أنا أمرد [7]
أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصّدر [8]
والله يحسن جزاءهم: إن كان ما فعلوه حفاظا فهو منّة عظيمة، وإن كان نفاقا فهو عشرة جميلة. وانصرفت وماء وجهي في سقاء غير سرب، ما أرقت منه قطرة في طلب أدب ولا مال. ومنذ فارقت العشرين من العمر ما حدّثت نفسي باجتداء علم من عراقيّ ولا شآم. مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً
(الكهف: 17) .
والذي أقدمني تلك البلاد مكان دار الكتب بها.
ولست وإن أحببت من يسكن الغضا ... بأوّل راج حاجة لا ينالها
شرفا لذلك المنزل منزلا، وللسّاكنين به نفرا، ولماء دجلة واديا ومشربا.
__________
[1] الفاغية: كل زهرة ذات رائحة طيبة، السائفة: السّامّة.
[2] في المثل: لا تعدم الخرقاء علة ولا تعدم صناع ثلة؛ والصناع: المرأة الماهرة، لا تعدم صوفا تغزل منه (جمهرة العسكري 2: 379) .
[3] الثقال: البطيء من الدواب؛ السمجة: القبيحة، قائنة: ماشطة تزينها.
[4] الصقب: الجوار.
[5] نضاد: جبل بالعالية، الضريب: الثلج.
[6] بيت للأعشى، ديوانه: 108.
[7] ذكيت: كبرت، أعيبت: عددته عيبا (والقياس أعبت) .
[8] البيت لحاتم الطائي، ديوانه: 210.(1/316)
وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ... تخلّيت من حبل الهوى وتخلّت [1]
لكالمبتغي ظلّ الغمامة كلّما ... تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت
وكنت إذا خبّرت رجلا بمسيري بانت فيه كآبة، وبدت عليه كبوة، فكتمت ذلك عنهم كتمان المرأة ضرّتها بالغيب، ما في جسدها من سوء وعيب. فلمّا علق حرباء البين تنضبته [2] ، ووقف صرد الفراق [3] موقفه، كنت وإيّاهم كأبي قابوس وبني رواحة:
قال لهم خيرا وأثنى عليهم ... وودّعهم وداع أن لا تلاقيا
وسرت عن بغداد لستّ بقين من شهر رمضان، سيرا تنحط إبله، وتئطّ نسوعه [4] ، وتوقّع الغرق سفنه، يودّ الماشي الرّجيل [5] فيه أنّه بعض الرّكب، ولو كانوا ركبان الجذوع [6] ؛ وأنه انتعل ولو بأديم الوجه والجبين، واضطجع ولو على القصد والشّبهان [7] . عند الصّباح يحمد القوم السّرى. الغمرات ثمّ ينجلين [8] .
ومررت بطرف الشّهباء؛ لأنّي سلكت طريق الموصل وميّافارقين، وفيها أمواه كأمواه الطثرة والعذيب [9] فسبحان الله القديم!
وردت مياها ملحة فكرهتها ... فسقيا لأهلي الأوّلين ومائيا
كلّما شحجت النّواعب قلت خيرا أيّتها الطّير، لا علم لك بما كان ولا علم لك بما يكون. وراءك وراءك! فغيري من تهيّبين [10] . طالما نزل نازلك على النّبيلة [11]
__________
[1] البيتان لكثير عزة، ديوانه: 103.
[2] التنضبة: نوع من الشجر تعلق به الحرباء وهي مضرب المثل في الحزم فلا ترسل ساقا إلا ممسكة ساقا.
[3] الصرد: طائر يتشاءم به ولذلك أضافه الى الفراق.
[4] تنحط: تئن من التعب، تئط: تصدر أطيطا أي تصوت، والنسوع: السيور تشد بها الرحال.
[5] الرجيل: الماشي على رجليه.
[6] ركبان الجذوع: الذين يصلبون.
[7] القصد: العوسج، الشبهان، نبات شائك.
[8] هذان مثلان (جمهرة العسكري 2: 42، 2: 80) .
[9] الطثرة والعذيب محلان معروفان بطيب الماء.
[10] تهيبين: تخوفين.
[11] النبيلة: الجيفة.(1/317)
فهاض جناحه الوليد.
من مبلغ عمرو بن لأ ... ي حيث كان من الأقاوم [1]
لا يمنعنّك من بغا ... ء الخير تعقاد التّمائم
فلقد غدوت وكنت لا ... أغدو على واق وحاتم [2]
فإذا الأشائم كالأيا ... من والأيامن كالأشائم
وكذاك لا خير ولا ... شرّ على أحد بدائم
ولمّا نزلنا بالحنيّة، تساوى حامل المال وحامل الرّمال، وقلّ بلاء الغادي أين قال [3] ، والرّائح أين عرّس وبات. فلم نزل كذلك حتى بلغنا آمد، ثمّ عادت السّبيل إلى غوائلها، وسدكت [4] الرّفاق بمخاوفها.
فما بلّغتنا إلّا جريضا ... بلا نقي العظام ولا سنام
ولمّا فاتني المقام بحيث اخترت، أجمعت على انفراد يجعلني كالظّبي في الكناس، ويقطع ما بيني وبين النّاس، إلّا من وصلني الله به وصل الذّراع باليد، واللّيلة بالغد.
وأنا أحمل إلى مولاي، أدام الله عزّه، وإلى مولاي أبي طاهر، عضدني الله ببقائه، سلاما له نضرة الألاء [5] . وصفاء الماء، وعذوبة الأري، وتتابع القطر، وخلود النّجوم، وأرج العرار، وتألّق الوميض. والسلام.
__________
[1] ينسب الشعر لمرقش، وهو في اللسان (يمن، وقى) له وقيل لخزز بن لوذان، وانظر عيون الأخبار 1: 145 والصاهل والشاحج: 273 والحيوان 3: 436 والمختلف والمؤتلف: 143 ويعزى في حماسة البحتري إلى المرقم الذهلي وهو خزز نفسه.
[2] الواقي: الصرد؛ الحاتم: الغراب، وكلاهما يتشاءم به.
[3] قال: نام في القائلة.
[4] سدكت: لزمت.
[5] الألاء: شجر دائم الخضرة.(1/318)
وكتب إلى أهل معرّة النعمان مقدمه من بغداد ولم يصل إليهم:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
هذا كتاب إلى السّكن المقيم بالمعرّة، شملهم الله بالسّعادة، من أحمد بن عبد الله بن سليمان، خصّ به من عرفه وداناه، سلّم الله الجماعة ولا أسلمها، ولمّ شعثها ولا آلمها.
أمّا الآن فهذه مناجاتي إيّاهم منصرفي عن العراق، مجتمع أهل الجدال، وموطن بقيّة السّلف، بعد أن قضّيت الحداثة فانقضت، وودّعت الشّبيبة فمضت، وحلبت الدّهر أشطره، وجرّبت خيره وشرّه، فوجدت أوفق ما أصنعه في أيّام الحياة، عزلة تجعلني من النّاس كبارح الأروى من سانح النّعام. وما ألوت نصيحة لنفسي، ولا قصّرت في اجتذاب المنفعة إلى حيّزي. فأجمعت على ذلك، واستخرت الله فيه، بعد جلائه على نفر يوثق بخصائلهم، فكلّهم رآه حزما، وعدّه إذا تمّ رشدا.
وهو أمر سري عليه بليل، قضي ببقّة [1] ، وخبّت به النّعامة، ليس بنتيج السّاعة، ولا ربيب الشّهر والسنة، ولكنّه غذيّ الحقب المتقادمة، وسليل الفكر الطّويل. وبادرت إعلامهم ذلك، مخافة أن يتفضّل منهم متفضّل بالنّهوض إلى المنزل الجارية عادتي بسكناه ليلقاني فيه، فيتعذّر ذلك عليه، فأكون قد جمعت بين سمجين: سوء الأدب وسوء القطيعة. وربّ ملوم لا ذنب له. والمثل السّائر: خلّ امرأ وما اختار. وما سمحت القرون [2] بالإياب، حتّى وعدتها أشياء ثلاثة: نبذة كنبذة فتيق النّجوم [3] ، وانقضابا من العالم كانقضاب القائبة من القوب [4] ، وثباتا في البلد إن حال أهله من خوف الرّوم. فإن أبى من يشفق عليّ أو يظهر الشّفق إلا النّفرة مع السّواد، كانت نفرة الأعفر أو الأدماء [5] . وأحلف ما سافرت أستكثر من النشب، ولا أتكثّر بلقاء الرّجال،
__________
[1] إشارة إلى المثل ببقة تركت الرأي (في قصة الزباء) .
[2] القرون: النفس.
[3] النجوم: النباتات، يتفتق عنها قشرها وتنبذه.
[4] القائبة: البيضة، القوب: الفرخ.
[5] الأعفر: صفة للظبي. الأدماء: الظبية.(1/319)
ولكن آثرت الإقامة بدار العلم، فشاهدت أنفس مكان لم يسعف الزّمن بإقامتي فيه.
والجاهل مغالب القدر. فلهيت عمّا استأثر به الزّمان. والله يجعلهم أحلاس الأوطان، لا أحلاس الخيل والرّكاب؛ ويسبغ عليهم النّعمة سبوغ القمراء الطّلقة على الظّبي الغرير، ويحسن جزاء البغداديّين؛ فلقد وصفوني بما لا أستحقّ، وشهدوا لي بالفضيلة على غير علم، وعرضوا عليّ أموالهم عرض الجدّ، فصادفوني غير جذل بالصّفات، ولا هشّ إلى معروف الأقوام. ورحلت وهم لرحيلي كارهون. وحسبي الله وعليه يتوكل المتوكّلون.
وكتب إلى أبي طاهر المشرّف بن سبيكة وهو ببغداد، يذكر له أمر شرح السيرافي وما جرى فيه من التعب:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
لله الحمد، ما أحصي خطأ وعمد؛ وصلى الله على محمد ما التأم شعب، وعلا كعبا كعب.
شوقي إلى سيّدي الشيخ شوق البلاد الممحلة، إلى السّحابة المسحلة [1] .
وانتفاعي بقربه انتفاع الأرض الأريضة، بالأمواه الغريضة [2] . وتشوّفي لأخباره تشوّف راعي أنعام، أجدب في عام بعد عام؛ لبارق يمان، هو له مرتقب ممان [3] . وأسفي لفقده أسف وحشيّة، رادت بالعشيّة، فخالفها السّرحان [4] إلى طلا راد فحار؛ فهي تطوف حول أميل [5] ، وترى صبرها ليس بجميل. وتذكّري لأوقاته تذكّر الفطيم ثدي الوالدة، والمقسم بالملح لبني خالدة [6] . وانتظاري لقدومه انتظار تاجر مكّة وفد
__________
[1] مسحلة: غزيرة المطر، من قولهم مطر مسحل أي جود.
[2] الأريضة: المستعدة للعطاء، الزكية الكريمة؛ الغريضة: الأمواه الطرية.
[3] ممان: ممطول.
[4] السرحان: الذئب.
[5] أميل: جبل من الرمل.
[6] الملح: الرضاع، والاشارة الى قول الشاعر:
لا يبعد الله رب العباد ... والملح ما ولدت خالده(1/320)
الأعاجم، وربّ الماشية ظهور النّبت النّاجم. وفزعي إلى نجدته فزع الغرق إلى سيف دان؛ والفرق إلى سيف ليس بددان [1] ؛ واعتذاري من التثقيل عليه اعتذار الورقاء [2] من الغدر، وأبي جهل من حضور بدر. وثقتي بمكارمه ثقة راكب الماء بالعامة [2] ، والحارث بالنّعامة [4] . وشكري على أياديه حبيس ليس بمحتبس، يتجدّد مع النّفس.
وفي هذا اليوم، وهو يوم كذا، وصل كتابه فسررت به سرور الظّمآن ورد نميرا، والسّاهر صادف سميرا [5] . وكان ما ضمنه من ذكر سلامته بشرى لها تخفّ الأحلام، خفّة القائل ولا يلام: يا بشراي هذا غلام. والله يمنّ باجتماع، ليس بعده من إزماع [6] .
وفهمت ما ذكره من أمر النّسخة المحصّلة. وهو، أدام الله عزّه، الكريم المتكّرم، وأنا المثقل المبرم، جرى في التفضّل على الرّسم، وألححت إلحاح الوسم. فإمّا الشّرح إن سمح القدر، وإلّا فهو هدر. وقد كنت قلت في بعض كتبي إلى سيّدي: إن كانت الخطوط مختلفة، والأبواب مؤتلفة، فلا بأس. يغني عن لبس السّرق، ثوب جمع من شتّى خرق. ما عدا خطّ عليّ بن عيسى؛ فإنّه رجل اتّكل على ما في صدره، فتهاون بإحكام سطره. وإنّما رجوت ببركته أن يرتفق أناس كما قال الله تعالى: وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ
(يوسف: 20) فأمّا أنا فلا أقول: عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً*
(يوسف: 21) .
وأمّا ما ذكره من فساد النّاس فأحلف ما حلم أديم [7] : إنّ ذلك لداء قديم؛
__________
[1] ددان: لا يقطع.
[2] الورقاء: الذئبة.
[3] العامة: عيدان تشد وتوضع في الماء يعبر عليها.
[4] الحارث بن عباد، والنعامة فرسه.
[5] السمير: المسامر.
[6] إزماع: فراق.
[7] حلم الأديم: فسد الجلد.(1/321)
النّمرة بنت النّمرة، والقتادة أخت السّمرة. وهو- أدام الله تأييده- من الملامة، في أحصن لامة [1] ؛ فلا يبعثه تعذّر الحاجة، على اللجاجة. أهو الكتاب المكنون، الذي لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ
(الواقعة: 79) إنما هو أباطيل أتياه [2] ، وتعليل في أيام الحياة. وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ*
(الحديد: 20) فأمّا سيّدي الشيخ أبو عمرو، فإنّ اسمه وافق آية، بلغت بفألها النهاية؛ وهي قوله جلّ اسمه: كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ
(إبراهيم: 24) وأنا والجماعة نهدي إلى سيّدي الشيخ وإلى جميع أصدقائه، سلاما تأرج الكتب بحمله، وتروض المجدبة من سبله [3] . وحسبي الله.
وكتب إلى أبي عمرو الاستراباذي، في أمر شرح السّيرافي:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ*
سلام كالعترة [4] الهنديّة، والرّوضة النجدية؛ يتّصل بسحاب غمر، إلى الشيخ الفاضل أبي عمرو، أطال الله بقاءه ما سكنت ألف، وافتقر إلى جواب حلف، وقرنه الله بسعد دان، كما تقارن الفرقدان؛ لا يرهب منهما فراق، ما تبع الشروق إشراق.
فشوقي إليه لو تذرّى [5] جبلا أتعبه، أو سلك في واد لرعبه؛ جمع الله بيننا في دار مقام، سالمة من الانتقام.
وورد كتابه فأبهجني ابتهاج الطائر المحتبس بالتسريح، والأسير المصفّد بفكاك مريح، وسررت بخبر سلامته سرور الداريّين، أحدهما بنسكه، والآخر بمسكه.
أدامهما الله له حتّى يصير سهيل قمرا، والدرّ في العضاه ثمرا. وقد أثنيت وشكرت، وفي إملال الصديق ابتكرت. أو غلت كلّ الإيغال، وقطعت عن مهمّ الأشغال. إذ
__________
[1] اللامة مخفف لأمة: الدرع.
[2] أتياه: جمع تيه.
[3] تروض: تصبح روضة، السبل: المطر.
[4] العترة: القطعة من المسك.
[5] تذرى: صعد الذروة.(1/322)
كانت عند طلّاب العلم بمدينة السلام كشجر العرى [1] لا يسقط ورقه، والماء الصّرى [2] لا يؤمن شرقه. لا سيّما من جمع نور الآداب، من كل هضب وعداب [3] .
كان أيسر من عنائه في ذلك قذف الشّرح في سيح [4] ؛ حتّى يعشب خدّ شريح. فهو فيما روي ثطّ، ما أشعر وجهه قطّ [5] ، كفاني الله وله الحباء، أن تبدل من الشين الباء، فيصير الشرح من الشّقاء، البرح على الأصدقاء. أهو المصدر من قوله تعالى:
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ
(الشرح: 1) أم من قوله عزّ سلطانه: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ
(الأنعام: 125) إنّما هو أفانين كلام أصبح وهو مجموع، المقيس فيه والمسموع؛ لا يخلد من رواه، قد عاش النّاس بسواه. إنّي وحياته الكريمة قد خفت أن يجعلني الإخوان لأجله فيمن شرح بالكفر صدرا، ولن أخاف منهم غدرا؛ لا الصّارم صقلت، ولا في الشّامخ توقّلت. والكريم المبرّز كجواد بعيد الشأو، كلّف شأوا بعد شأو، فجاء محمود الآثار، منزّها عن كلّ عثار، دالّا على اليمن بغرّة زاهرة، ودائرة سمامة ظاهرة. ولن أقول لمن غاب: ريش سهمه اللّغاب؛ ولا أقرأ لكتاب أبي سعيد: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ
(فصلت: 44) بل أنا من التّثقيل حذر، مشفق من ذلك معتذر. وإنّما سألت أن يستسعد برائه، لقلّة نظرائه. وهو عندي أجلّ، والكتاب أيسر وأقلّ، من أن يكلّف خطوات، ولو كنّ كدبيب القطوات.
وأنا أسأل الشيخ الأديب الفاضل، أن يسعفني بكتاب منه يشتمل على أسطر، كأنّ فيه ريح القطر؛ يضمّن طيب خبر، هو أذكى من العنبر، وأوامر منه ونواه، ما أنا إن امتثلتها بواه، وأستودعه الله وديعة ضنين، عند ثقة أمين.
ومن شعر أبي العلاء في الغزل [6] :
__________
[1] العرى من الشجر ما لا يسقط ورقه في الشتاء مثل الأراك والسدر، ويعول الناس عليه إذا انقطع الكلأ.
[2] الصرى: الماء الذي قد تغير طعمه.
[3] العداب: جانب الرمل.
[4] السيح: الماء الجاري على وجه الأرض.
[5] كان القاضي شريح كوسجا أي لا شعر ينبت في وجهه، وذلك هو الثط.
[6] الأبيات الآتية مما لم يرو في سقط الزند.(1/323)
يا ظبية علقتني في تصيّدها ... أشراكها وهي لم تعلق بأشراكي
رعيت قلبي وما راعيت حرمته ... فلم رعيت ولا راعيت مرعاك
أتحرقين فؤادا قد حللت به ... بنار حبّك عمدا وهو واراك
أسكنته حين لم يسكن به سكن ... وليس يحسن أن تسخي بسكناك
ما بال داعي غرامي حين يأمرني ... بأن أكابد حرّ الوجد ينهاك
ولم غدا القلب ذا يأس وذا طمع ... يرجوك أن ترحميه ثم يخشاك
ومن خطّ ابن العصار، قال أبو العلاء في رجل اسمه أبو القاسم [1] :
هذا أبو القاسم أعجوبة ... لكلّ من بدري ولا يدري
لا ينظم الشعر ولا يحفظ ... القرآن وهو الشاعر المقري
قرأت بخطّ أبي سعد قال، سمعت المبارك بن أحمد بن الاخوة مذاكرة [2] :
خرج رجل على سبيل الفرجة فقعد على الجسر فأقبلت امرأة من جانب الرصافة متوجهة إلى الجانب الغربي فاستقبلها شابّ فقال لها: رحم الله علي بن الجهم، فقالت المرأة في الحال: رحم الله أبا العلاء المعري، ولم يقفا ومرّا مشرّقا ومغرّبة، فتتبعت المرأة وقلت لها: أخبريني عافاك الله عما قال لك وعما أجبتيه، فقالت: نعم رحم الله علي بن الجهم، أراد قوله:
عيون المها بين الرصافة والجسر ... جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
وأردت بترحمي على أبي العلاء قوله:
فيا دارها بالحزن إن مزارها ... قريب ولكن دون ذلك أهوال
قال أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي: أنشدني ابو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري لنفسه [3] :
منك الصدود ومني بالصدود رضى ... من ذا علي بهذا في هواك قضى
__________
[1] هما في بغية الطلب 9: 176 وانظر تعريف القدماء: 297 (نقلا عن الصفدي) .
[2] وردت القصة في كتاب الأذكياء لابن الجوزي، انظر تعريف القدماء: 389.
[3] شروح السقط: 654.(1/324)
بي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت ... من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
جرّبت دهري وأهليه فما تركت ... لي التجارب في ودّ امرىء غرضا
إذا الفتى ذمّ عيشا في شبيبته ... ماذا يقول إذا عصر الشباب مضى
وقد تعوضت عن كلّ بمشبهه ... فما وجدت لأيام الصّبا عوضا
وله أيضا:
غدوت مريض العقل والدين فالقنى ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
... الأبيات.
قرأت بخط عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الشاعر في كتاب له ألفه في الصّرفة زعم فيه أن القرآن لم يخرق العادة بالفصاحة حتى صار معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم، وأن كلّ فصيح بليغ قادر على الاتيان بمثله، إلا أنهم صرفوا عن ذلك، لا أن يكون القرآن في نفسه معجز الفصاحة، وهو مذهب الجماعة من المتكلمين والرافضة، منهم بشر المرّيسيّ والمرتضى أبو القاسم، قال في تضاعيفه: وقد حمل جماعة من الأدباء قول أصحابنا أنه لا يمكن أحد من المعارضة بعد زمان التحدّي على أن نظموا على أسلوب القرآن، وأظهر ذلك قوم وأخفاه آخرون، ومما ظهر منه قول أبي العلاء في بعض كلامه: أقسم بخالق الخيل، والريح الهابّة بليل، بين الشّرط ومطلع سهيل، إنّ الكافر لطويل الويل، وإنّ العمر لمكفوف الذيل، اتّق مدارج السيل، وطالع التوبة من قبيل، تنج وما إخالك بناج. وقوله: أذلت العائذة أباها، وأضاءت الوهدة رباها، والله بكرمه اجتباها، أولاها الشرف بما حباها، أرسل الشمال وصباها، ولا يخاف عقباها.
وقال [1] :
ما جار شمّاسك في كلمة [2] ... ولا يهوديّك بالطامع
والطيلسان اشتق في لفظه ... من طلسة المبتكر الخامع
__________
[1] اللزوميات 2: 143.
[2] اللزوميات: في حكمه.(1/325)
والقسّ خير لك فيما أرى ... من خاطب [1] يخطب في جامع
وله أيضا [2] :
قالوا فلان جيد فأجبتهم ... لا تكذبوا [3] ما في البرية جيّد
فغنيّهم نال الغناء ببخله ... وفقيرهم بصلاته يتصيّد [4]
والناس في أبي العلاء مختلفون، فمنهم من يقول إنه كان زنديقا وينسبون إليه أشياء مما ذكرناها، ومنهم من يقول [كان] زاهدا عابدا متقللا يأخذ نفسه بالرياضة والخشونة والقناعة باليسير والإعراض عن أعراض الدنيا. قال كمال الدين أبو القاسم عمر بن أبي جرادة [5] : قرأت بخطّ أبي اليسر شاكر بن عبد الله بن سليمان المعري أن المستنصر صاحب مصر بذل لأبي العلاء ما في بيت المال بالمعرة من الحلال فلم يقبل منه شيئا، وقال [6] :
كأنّما غانة لي من غنى ... فعدّ عن معدن أسوان
سرت برغمي عن زمان الصّبا ... يعجلني وقتي وأكواني
صدّ أبي الطيب لما غدا ... منصرفا عن شعب بوّان
وقال أيضا [7] :
لا أطلب الأرزاق والمولى يفيض عليّ رزقي ... إن أعط بعض القوت أعلم أنّ ذلك ضعف حقّي
__________
[1] اللزوميات: من مسلم.
[2] اللزوميات 1: 339.
[3] اللزوميات: جيد لصديقه لا يكذبوا.
[4] رواية هذا البيت في اللزوميات:
فأميرهم نال الامارة بالخنا ... وتقيهم بصلاته متصيد
[5] هو ابن العديم صاحب بغية الطلب والإنصاف والتحري.
[6] منها بيتان في تعريف القدماء: 578 (عن الإنصاف والتحري؛ وانظر ص: 269- 270 نقلا عن الوافي) .
[7] تعريف القدماء: 269 (عن الوافي) 290 (عن نكت الهميان) 333 (عن بغية الوعاة) .(1/326)
قال: وقرأت بخطّ أبي اليسر المعري في ذكره: وكان رضي الله عنه يرمى من أهل الحسد له بالتعطيل، وتعمل تلامذته وغيرهم على لسانه الأشعار يضمنونها أقاويل الملحدة قصدا لهلاكه وإيثارا لاتلاف نفسه، فقال رضي الله عنه [1] :
حاول إهواني قوم فما ... واجهتهم إلا باهوان
يحرّشوني بسعاياتهم ... فغيّروا نية إخواني
لو استطاعوا لوشوا بي إلى المريخ في الشّهب وكيوان وقال أيضا [2] :
غريت بذمّي أمة ... وبحمد خالقها غريت
وعبدت ربي ما استطعت ... ومن بريته بريت
وفرتني الجهال حا ... سدة عليّ وما فريت
سعروا عليّ فلم أحسّ وعندهم أني هريت
فهرست كتبه على ما نقلته من خط أحد مستملي أبي العلاء، فقال: الذي أملاه أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي تجاوز الله عنه من الكتب على ضروب منها ما هو في الزهد؛ وقرأت في نسخة أخرى: فهرست كتبه ما صورته، قال الشيخ أبو العلاء رضي الله عنه: لزمت مسكني منذ سنة أربعمائة، واجتهدت على أن أتوفّر على تسبيح الله وتحميده إلّا أن اضطرّ إلى غير ذلك، فأمليت أشياء وتولّى نسخها الشيخ أبو الحسن علي بن عبد الله بن أبي هاشم- أحسن الله معونته- فألزمني بذلك حقوقا جمّة وأيادي بيضا، لأنه أفنى فيّ زمنه ولم يأخذ عما صنع ثمنه، فالله يحسن له الجزاء، ويكفيه حوادث الزمن والأرزاء، وهي على ضروب مختلفة فمنها ما هو في الزهد والعظات وتمجيد الله سبحانه وتعالى من المنظوم والمنثور، فمن ذلك: الكتاب المعروف بالفصول والغايات، والمراد بالغايات القوافي لأن القافية غاية البيت أي منتهاه، وهو كتاب موضوع على حروف المعجم ما خلا الألف، لأن فواصله مبنيّة
__________
[1] تعريف القدماء: 270 (عن الوافي) 578 (عن الإنصاف والتحري) .
[2] انظر التعليق السابق.(1/327)
على أن يكون ما قبل الحرف المعتمد فيها ألف، ومن المحال أن يجمع بين ألفين ولكن تجيء الهمزة وقبلها ألف مثل العطاء والكساء، وكذلك الشراب والسراب في الباء، ثم على هذا الترتيب، ولم يعتمد فيه أن تكون الحروف التي يبنى عليها مستوية الإعراب بل تجيء مختلفة، وفي الكتاب قواف تجيء على نسق واحد وليست الملقبة بالغايات، ومجيئها على قريّ واحد مثل أن يقال عمامها وغلامها وغمامها، وأمرا وتمرا، وما أشبهه، وفيه فنون كثيرة من هذا النوع (وقيل إنه بدأ بهذا الكتاب قبل رحلته إلى بغداد وأتمه بعد عوده إلى معرة النعمان، وهو سبعة أجزاء، وفي نسخة: مقداره مائة كراسة) . وكتاب السادن أنشأه في ذكر غريب هذا الكتاب وما فيه من اللغز، مقداره عشرون كراسة. وكتاب إقليد الغايات، لطيف مقصور على تفسير اللغز مقداره عشر كراريس.
الكتاب المعروف بالأيك والغصون، وهو كتاب الهمزة والردف [ومن] خطه:
يبنى على إحدى عشرة حالة: الهمزة في حال إفرادها وإضافتها، ومثال ذلك السماء بالرفع، السماء بالنصب، السماء بالخفض، سماء يتبع الهمزة التنوين، سماؤه مرفوع مضاف، سماءه منصوب مضاف، سمائه مخفوض مضاف، ثم يجيء سماؤها وسماءها وسمائها على التأنيث، ثم همزة بعدها هاء ساكنة مثل عباءه وملاءه، فإذا ضربت في حروف المعجم الثمانية والعشرين خرج من ذلك ثلاثمائة فصل وثمانية فصول وهي مستوفاة في كتاب الهمزة والردف. وذكرت فيه الأرداف الأربعة بعد ذكر الألف: وهي الواو المضموم ما قبلها، والواو التي قبلها فتحة [والياء المكسور ما قبلها، والياء التي قبلها فتحة] ويذكر لكل جنس من هذه أحد عشر وجها كما ذكر للألف.
ومن غير خطّه: وهو في العظات وذمّ الدنيا، وهو اثنان وتسعون جزءا نسخة أخرى. ويكون مقدار هذا الكتاب ألف ومائتا كراسة.
ومن خطه: والكتاب المعروف بتضمين الآي، وهو كتاب مختلف الفصول؛ فمنه طائفة على حروف المعجم، وقبل الحرف المعتمد ألف، مثل أن يقال في الهمزة بناء ونساء، وفي الباء ثياب وعباب ثم على هذا إلى آخر الحروف. ومنه فصول كثيرة على فاعلين مثل باسطين وقاسطين، وعلى فاعلون مثل حامدون وعابدون، وفيه ما هو(1/328)
على غير هذا الفن، والغرض أن يأتي بعد انقضاء الكلام آية من الكتاب العزيز مثل قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ
وربما اقتصر على بعض الآية أو جيء بآيتين وأكثر منهما إذا كانت الآيات من ذوات القصر كآيات عبس ونحوها، ومقدار هذا الكتاب أربعمائة كراسة. وكان السبب في تأليف هذا الكتاب أن بعض الأمراء سأله أن يؤلف كتابا برسمه، ولم يؤثر أن يؤلف شيئا في غير العظات والحثّ على تقوى الله فأملى هذا الكتاب.
كتاب تفسير الهمزة والردف جزء.
كتاب سيف الخطبة جزءان يشتمل على خطب السنة، فيه خطب للجمع والعيدين والخسوف والكسوف والاستسقاء وعقد النكاح، وهي مؤلفة على حروف من حروف المعجم فيها خطب عمادها الهمزة، وخطب بنيت على الباء، وخطب على الدال وعلى الراء وعلى اللام وعلى الميم وعلى النون، وتركت الجيم والحاء وما يجري مجراها لأن الكلام المقول في الجماعات ينبغي أن يكون سجسجا سهلا، ومقداره أربعون كراسة، وكان سأله في هذا الكتاب رجل من المتظاهرين بالديانة فصنّف له.
كتاب نشر شواهد الجمهرة ولم يتمّ، ثلاثة أجزاء. كتاب دعاء وحرز الخيل.
كتاب مجد الأنصار في القوافي.
كتاب تاج الحرة في عظات النساء خاصة، وتختلف فصوله: فمنها ما يجيء بعد حرفه الذي يثبت ثبات الرويّ ياء التأنيث، كقوله: شائي وتشائي وتسائي وهابي وترابي، ومنه ما هو مبنيّ على الكاف نحو غلامك وكلامك، وفيها ما يجيء على تفعلين مثل ترغبين وتذهبين، وأنواعه كثيرة فيكون هذا الكتاب نحو أربعمائة كراسة.
كتاب يعرف بدعاء ساعة. وكتاب آخر يعرف بوقفة الواعظ.
كتاب يعرف بسجع الحمائم يتكلم فيه على ألسن حمائم أربع، وكان بعض الرؤساء سأله أن يصنّف له تصنيفا يذكّره فيه فأنشأ هذا الكتاب وجعل ما يقوله على لسان الحمامة في العظة والحثّ على الزهد، قال غيره: هو أربعة أجزاء مقداره ثلاثون كراسة.
كتاب يعرف بلزوم ما لا يلزم، وهو في المنظوم بني على حروف المعجم،(1/329)
يذكر كل حرف سوى الألف بوجوهه الأربعة وهي الضمة والفتحة والكسرة والوقف.
ومعنى لزوم ما لا يلزم أن القافية يردّد فيها حرف لو غيّر لم يكن مخلّا بالنظم، كما قال كثير:
خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا ... قلوصيكما ثم انزلا حيث حلّت
فلزم اللام قبل التاء، وذلك لا يلزمه، ولم يفعل كما فعل الشنفرى في قصيدته التي على التاء لأنه لم يلزم فيها إلا حرفا واحدا، ولكنه خالف بين الحروف التي قبل الروي فقال:
أرى أم عمرو أزمعت فاستقلّت ... وما ودّعت جيرانها يوم ولّت
وقال فيها:
بريحانة من نبت حلية نوّرت ... لها أرج ما حولها غير مسنت
وقال فيها:
لها وفضة فيها ثلاثون سيحفا ... إذا آنست أولى العديّ اقشعرّت
ومن غير خطه: وهو ثلاثة أجزاء أو أربعمائة وعشرون كراسة، يحتوي على أحد عشر ألف بيت من الشعر.
وكتاب زجر النابح يتعلق بلزوم ما لا يلزم، وذلك أن بعض الجهال تكلّم على أبيات من لزوم ما لا يلزم يريد بها التشرير والأذيّة، فألزم أبا العلاء أصدقاؤه أن ينشيء هذا، فأنشأ هذا الكتاب وهو كاره.
ومن غير خطه: وهو شرح اللزوم، وهو جزء واحد مقداره أربعون كراسة.
كتاب يتعلق بزجر النابح سماه نجر الزجر. كتاب ملقى السبيل صغير فيه نظم ونثر. كتاب الجلي والحلي، سأله فيه صديق له من أهل حلب يعرف بابن الحلي مجلد واحد أو عشرون كراسة.
ومن غير هذا الجنس: كتاب لطيف فيه شعر قيل في الدهر الأول يعرف بكتاب سقط الزند وأبياته ثلاثة آلاف بيت.
كتاب يعرف بجامع الأوزان، فيه شعر منظوم على معنى اللغز يعمّ به الأوزان الخمسة عشر التي ذكرها الخليل بجميع ضروبها ويذكر قوافي كلّ ضرب من ذلك.(1/330)
مثاله أن يقال للضرب الأولى من الطويل أربع قواف: المطلقة المجردة مثل قول القائل:
ألا يا أسلمي يا هند بني بدر ... وإن كان حيّانا عدى آخر الدهر
والقافية المردفة مثل قول امرىء القيس:
ألا انعم صباحا أيها الطلل البالي
والمقيدة المجردة وذلك مفقود في الشعر القديم والمحدث، وربما جاء به المحدثون على النحو الذي يسمّى مقصورا كما قال بعض الناس وهو في السجن، هو صالح بن عبد القدوس:
إلى الله أشكو إنه موضع الشكوى ... وفي يده كشف المصيبة والبلوى
خرجنا من الدنيا ونحن من اهلها ... فما نحن بالأحياء فيها ولا الموتى
إذا ما أتانا مخبر عن حديثها ... فرحنا وقلنا جاء هذا من الدنيا
وتعجبنا الرؤيا فجلّ حديثنا ... إذا نحن أصبحنا الحديث عن الرؤيا
فإن حسنت لم تأت عجلى وأبطأت ... وان قبحت لم تحتبس وأتت عجلى
والقافية المقيدة المؤسسة مثل أن يكون العادل والقائل، وذلك مرفوض متروك، ثم على هذا النحو إلى آخر الكتاب، ومقداره ستون كراسة، ويكون عدد أبيات شعره نحو تسعة الآف بيت، وهو ثلاثة أجزاء.
كتاب يعرف بالسجع السلطاني يشتمل على مخاطبات للجنود والوزراء وغيرهم من الولاة، وكان بعض من خدم السلطان وارتفعت طبقته ولا قدم له في الكتبة فسأل أن ينشأ له كتاب مسجوع من أوله إلى آخره، وهو لا يشعر بما يريد لقلة خبرته بالأدب فألّف له هذا الكتاب، وهو أربعة أجزاء.
وكتاب يعرف بسجع الفقيه جزء، ثلاثون كراسة.
وكتاب لطيف يعرف بسجع المضطرين عمله لرجل مسافر يستعين به على أمور دنياه.
وكتاب مختصر يعرف بذكرى حبيب، في غريب شعر أبي تمام، سأل فيه صديق لأبي العلاء من الكتّاب، وهو أربعة أجزاء، ستون كراسة.(1/331)
وهذه الكتب المسؤول في تأليفها إنما تكلفها مؤلفها من فرط الحياء، وهو لتأليفها كاره.
وكتاب عبث الوليد فيما يتصل بشعر البحتريّ، وكان سبب إنشائه أن بعض الرؤساء أنفذ نسخة ليقابل له بها، فأثبت ما جرى من الغلط ليعرض ذلك عليه، وهو جزء واحد، عشرون كراسة.
وكتاب يعرف بالرياشي المصطنعي في شرح مواضع من الحماسة الرياشيّة عمل لرجل يلقب بمصطنع الدولة ويخاطب بالإمرة، واسمه كليب بن علي، ويكنى أبا غالب، أنفذ نسخة من الحماسة الرياشية وسأل أن يخرّج في حواشيها أشياء لم يذكرها أبو رياش مما يحتاج إلى تفسيره، فخشي أن تضيق الحواشي عن ذلك، فصنع هذا الكتاب، وجمع فيه ما سنح مما لم يفسّره أبو رياش، أربعون كراسة.
وكتاب يعرف بشرف السيف، عمل للرجل الذي كان مقيما بدمشق، وهو المعروف بنشتكين الدزبري، وكان السبب في عمله أنه كان يوجه إلى أبي العلاء بالسلام ويحفي المسألة عنه، فأراد جزاءه على ما فعل، جزءان.
وكتاب يعرف بتعليق الجليس مما يتصل بكتاب أبي القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي المعروف بالجمل، جزء.
وكتاب إسعاف الصديق ثلاثة أجزاء يتعلّق بالجمل أيضا.
وكتاب قاضي الحق يتصل بالكتاب المعروف بالكافي الذي ألفه أبو جعفر النحاس.
وكتاب الحقير النافع مختصر في النحو خمس كراريس. وكتاب يتصل به، يعرف بالطل الطاهري، أنشىء لرجل يعرف بأبي طاهر، حلبي.
وكتاب المختصر الفتحي يتصل بكتاب محمد بن سعدان، صنعه لرجل يكنى أبا الفتح محمد بن علي بن أبي هاشم، وكان أبو هذا الرجل تولّى إثبات ما ألفه أبو العلاء من جميع هذه الكتب، فألزمه بذلك حقوقا جمة وأيادي بيضا.
وكتاب في الرسائل الطوال فيها رسالة الغفران [1] .
__________
[1] سيأتي الحديث عن الرسائل ولهذا يعد هذا المذكور هنا دخيلا.(1/332)
وكتاب سميته «خطب الخيل» يتكلم على ألسنتها، ومقداره عشر كراريس.
كتاب يعرف بخطبة الفصيح يتكلّم فيه على أبواب الفصيح مقداره خمس عشرة كراسة. وكتاب شرح فيه ما جاء في الذي قبله من الغريب يعرف بتفسير خطبة الفصيح.
وكتاب رسيل الراموز نحو ثلاثين كراسة. وكتاب راحة اللزوم ويشرح فيه ما في كتاب لزوم ما لا يلزم من الغريب نحو مائة كراسة.
وكتاب لطيف يعرف بخماسية الراح في ذم الخمر، ومعنى هذا الوسم أنه بني على حروف المعجم، فذكر لكل حرف تمكن حركته خمس سجعات مضمومات، وخمسا مفتوحات، وخمسا مكسورات، وخمسا موقوفات، يكون مقداره عشر كراريس.
وكتاب المواعظ الست، وهو لطيف، ومعنى هذا التلقيب أن الفصل الأول منه في خطاب رجل، والثاني في خطاب اثنين، والثالث في خطاب جماعة، والرابع في خطاب امرأة، والخامس في خطاب امرأتين، والسادس في خطاب نسوة، نحو خمس عشرة كراسة.
كتاب ضوء السقط، تفسير غريب سقط الزند، مقداره عشرون كراسة.
وكتاب الصاهل والشاحج يتكلم فيه على لسان فرس وبغل، مقداره أربعون كراسة، صنفه لأبي شجاع فاتك الملقب بعزيز الدولة والي حلب من قبل المصريين وكان روميا.
كتاب لسان الصاهل والشاحج في تفسير الكتاب الذي قبله.
كتاب القائف على معنى كليلة ودمنة، ألفت منه أربعة أجزاء ثم انقطع تأليفه لموت من أمر بعمله وهو عزيز الدولة فاتك المقدم ذكره، ومقداره ستون كراسة.
وكتاب منار القائف في تفسير الكتاب الذي قبله فيما جاء فيه من اللغز والغريب، عشر كراريس. كتاب دعاء الأيام السبعة.
وكتاب رسالة على لسان ملك الموت عليه السلام.
وكتاب بعض فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وكتاب رسالة العصفورين.(1/333)
وكتاب السجعات العشر، موضوع على كل حرف من حروف المعجم عشر سجعات في المواعظ.
كتاب شرح سيبويه لم يتمّ، مقداره خمسون كراسة.
كتاب يتصل بكتاب الزجاجيّ يعرف بعون الجمل، عمل أيضا لابي الفتح محمد بن علي بن أبي هاشم المذكور آنفا، وهو آخر شيء أملاه.
وكتاب في النحو يتصل بالكتاب المعروف بالعضدي ولقبه «ظهير العضدي» .
وكتاب ديوان الرسائل وهو ثلاثة أقسام: الأوّل رسائل طوال تجري مجرى الكتب المصنفة مثل كتاب «رسالة الملائكة» وكتاب «الرسالة السندية» جزء، وكتاب «رسالة الغفران» جزء، وكتاب «رسالة الفرض» جزء ونحو ذلك. والثاني: رسائل دون هذه في الطول مثل كتاب رسالة المنيح. وكتاب رسالة الأغريض. والثالث:
كتاب الرسائل القصار كنحو ما تجري به العادة في المكاتبة، قيل إنه أربعون جزءا، وقيل إنه ثمانمائة كراسة.
وكتاب خادم الرسائل في تفسير ما تضمّنته هذه الرسائل مما يحتاج إليه المبتدئون في الأدب.
كتاب تظلم السور. وكتاب عظات السور. وكتاب الراحلة ثلاثة أجزاء في تفسير كتاب لزوم ما لا يلزم.
وكتاب في المنظوم يعرف بكتاب استغفر واستغفري، مقداره مائة وعشرون كراسة، فيه نحو من عشرة آلاف بيت.
وكتاب يعرف بالرسالة الحضية. وكتاب رسائل المعونة وهي ما كتبت على ألسن قوم. وكتاب مثقال النظم في العروض، جزء.
وكتاب اللامع العزيزي في تفسير شعر المتنبي عمل للأمير عزيز الدولة وغرسها ابن تاج الأمراء أبي الدوام ثابت بن ثمال بن صالح بن مرداس بن إدريس بن نصر بن حميد بن شداد بن عبد قيس بن ربيعة بن كعب بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ويقال له أيضا «الثابتي العزيزي» مقداره مائة وعشرون كراسة.
هذا ما وجدناه وأثبتناه عن جماعة من أصحاب أبي العلاء. قالوا: وله بعض(1/334)
كتب في العروض والشعر بدأ بها ولم تتمّ أو تمت وشذّ عنّا أسماؤها.
ومن شعره الدالّ على سوء عقيدته من لزوم ما لا يلزم [1] :
ألا فانعموا واحذروا في الحياة ... ملمّا يسمّى زوال النعم
أتوكم بأقوالهم [2] والحسام ... فشدّ به زاعم ما زعم
تلوا باطلا وجلوا صارما ... وقالوا صدقنا فقلنا [3] نعم
زخارف ما ثبتت في القلوب [4] ... عمّى عليكم بهنّ المعم
ومن ذلك أيضا [5] :
فقد طال العناء فكم تعاني ... سطورا عاد كاتبها بطمس
دعا موسى وزال وقام عيسى ... وجاء محمد بصلاة خمس
وقيل يجيء دين غير هذا ... فأودى الناس بين غد وأمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي ... وان قلت اليقين أطلت همسي
ومن ذلك أيضا [6] :
وجدت الشرع تخلقه الليالي ... كما خلق الرداء الشرعبيّ
هي العادات يجري الشيخ منها ... على شيم تعوّدها الصبيّ
وأشوى الحقّ غاو مشرقي ... ولم يرزقه آخر مغربيّ
فذا عمر يقول وذا سواه ... كلا الرجلين في الدعوى غبي
ومن ذلك أيضا:
إذا ما ذكرنا آدما وفعاله ... وتزويجه بنتيه لابنيه في الدنا
علمنا بأن الخلق من أصل ريبة ... وأنّ جميع الناس من عنصر الزنا
__________
[1] اللزوميات 2: 490 (صادر) .
[2] اللزوميات: باقبالهم.
[3] اللزوميات: فقلتم.
[4] اللزوميات: في العقول.
[5] اللزوميات 2: 55.
[6] اللزوميات 2: 641.(1/335)
وقال في «رسالة الغفران» [1] ولما أجلى عمر بن الخطاب أهل الذمة عن جزيرة العرب شقّ ذلك على الجالين، فيقال إن رجلا من يهود خيبر يعرف بسمير بن أدكن قال في ذلك:
يصول أبو حفص علينا بدرّة ... رويدك إنّ المرء يطفو ويرسب
كأنك لم تتبع حمولة مأقط ... لتشبع إنّ الزاد شيء محبب
فلو كان موسى صادقا ما ظهرتم ... علينا ولكن دولة ثم تذهب
ونحن سبقناكم إلى المين فاعرفوا ... لنا رتبة البادي الذي هو أكذب
مشيتم على آثارنا في طريقنا ... وبغيتكم في أن تسودوا وترهبوا
وهذا يشبه أن يكون شعره قد نحله هذا اليهودي، أو أن إيراده لمثل هذا واستلذاذه به من أمارات سوء عقيدته وقبح مذهبه.
ومن أشعاره الدالة على سوء اعتقاده قوله في لزوم ما لا يلزم أيضا [2] :
وهيهات البرية في ضلال ... وقد نظر اللبيب لما اعتراها
تقدّم صاحب التوراة موسى ... وأوقع في الخسار من اقتراها [3]
فقال رجاله وحي أتاه ... وقال الناظرون بل افتراها
وما حجّي إلى أحجار بيت ... كؤوس الخمر تشرب في ذراها
إذا رجع الحليم إلى حجاه ... تهاون بالمذاهب وازدراها
ومنها أيضا [4] :
خذ المرآة واستخبر نجوما ... تمرّ بمطعم الأري المشور
تدلّ على الممات بلا ارتياب ... ولكن لا تدلّ على النشور
__________
[1] رسالة الغفران: 433- 434.
[2] اللزوميات: 622.
[3] اقتراها: تتبعها.
[4] اللزوميات 1: 556 (صادر) (1: 392) .(1/336)
ومنها أيضا [1] :
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدوا ... ويهود حارت والمجوس مضلّله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر ديّن لا عقل له
ومنها أيضا [2] :
إن الشرائع ألقت بيننا إحنا ... وأورثتنا أفانين العداوات
وما أبيحت نساء الروم عن عرض ... للعرب إلا بأحكام النبوات
ومنها أيضا [3] :
تناقض مالنا إلا السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
يد بخمس مئين عسجدا فديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار
قال المؤلف: كأنّ المعري حمار لا يفقه شيئا، وإلا فالمراد بهذا بيّن: لو كانت اليد لا تقطع إلا في سرقة خمسمائة دينار لكثر سرقة ما دونها طمعا في النجاة، ولو كانت اليد تفدى بربع دينار لكثر من يقطعها ويؤدّي ربع دينار دية عنها، نعوذ بالله من الضلال.
ومنها أيضا [4] :
ضحكنا وكان الضحك منا سفاهة ... وحقّ لسكان البسيطة أن يبكوا
تحطّمنا الأيام حتى كأننا ... زجاج ولكن لا يعاد لنا سبك
ومما يدل على كفره تصريحا قوله [5] :
عقول يستخفّ بها سطور ... ولا يدري الفتى لمن الثبور
كتاب محمد وكتاب موسى ... وإنجيل ابن مريم والزبور
__________
[1] اللزوميات 2: 301 (صادر) (2: 201) .
[2] اللزوميات 1: 228 (صادر) 1: 186.
[3] اللزوميات 1: 544 (صادر) 1: 286.
[4] قد مرّ البيتان.
[5] اللزوميات 1: 324.(1/337)
ومن ذلك أيضا:
صرف الزمان مفرّق الإلفين ... فاحكم إلهي بين ذاك وبيني
أنهيت عن قتل النفوس تعمدا ... وبعثت أنت لقتلها ملكين
وزعمت أن لها معادا ثانيا ... ما كان أغناها عن الحالين
ومن ذلك أيضا:
إذا كان لا يحظى برزقك عاقل ... وترزق مجنونا وترزق أحمقا
فلا ذنب يا ربّ السماء على امرىء ... رأى منك ما لا يشتهي فتزندقا
ومن ذلك أيضا قوله [1] :
في كل أمرك تقليد تدين به ... حتى مقالك ربي واحد أحد
وقد أمرنا بفكر في بدائعه ... فان تفكّر فيه معشر لحدوا
[ومن ذلك أيضا] [2] :
لولا التنافس في الدنيا لما وضعت ... كتب التناظر لا المغني ولا العمد [3]
ومن ذلك أيضا قوله [4] :
قلتم لنا خالق قديم ... صدقتم هكذا نقول
زعمتموه بلا زمان ... ولا مكان ألا فقولوا
هذا كلام له خبيء ... معناه ليست لكم عقول
ومن ذلك أيضا قوله [5] :
دين وكفر وأنباء تقال وفر ... قان ينصّ وتوراة وإنجيل
في كلّ جيل أباطيل ملفّقة ... فهل تفرّد يوما بالهدى جيل
__________
[1] اللزوميات 1: 252.
[2] اللزوميات 1: 249 (1: 321 صادر) .
[3] المغني للقاضي عبد الجبار وكذلك العمد.
[4] اللزوميات 2: 179 (2: 270 صادر) .
[5] اللزوميات 2: 177 (2: 268 صادر) .(1/338)
ومن ذلك أيضا [1] :
الحمد لله قد أصبحت في لجج ... مكابدا من هموم الدهر قاموسا
قالت معاشر لم يبعث إلاهكم ... إلى البرية عيساها ولا موسى
وإنما جعلوا الرحمن مأكلة ... وصيروا دينهم للملك ناموسا
ولو قدرت لعاقبت الذين بغوا ... حتى يعود حليف الغيّ مرموسا
ومن ذلك أيضا قوله:
ولا تحسب مقال الرسل حقّا ... ولكن قول زور سطّروه
وكان الناس في عيش رغيد ... فجاؤوا بالمحال فكدّروه
قال المؤلف: نقلت هذا كلّه من تاريخ غرس النعمة محمد بن هلال بن المحسن الصابي، وحمدت الله تعالى على ما ألهم من صحة الدين وصلاح اليقين، واستعذت به من استيلاء الشيطان على العقول.
قرأت في كتاب «فلك المعاني» : إن كثيرا من الجهّال يعدّ الموت ظلما من البارىء عز وجل ويستقبحه بما فيه من النعمة والحكمة والراحة والمصلحة، وقد قال أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان المعري مع تحذلقه ودعواه الطويلة العريضة وشهرة نفسه بالحكمة ومظاهرته:
ونهيت عن قتل النفوس تعمّدا ... وبعثت أنت لقتلها ملكين
وزعمت أن لنا معادا ثانيا ... ما كان أغناها عن الحالين
وهذا كلام مجنون معتوه يعتقد أنّ القتل كالموت والموت كالقتل، فليت هذا الجاهل لما حرم الشّرع وبرده، والحقّ وحلاوته، والهدى ونوره، واليقين وراحته، لم يدّع ما هو بريء منه بعيد عنه، ولم يقل:
غدوت مريض العقل والرأي فالقني ... لتخبر أنباء العقول الصحائح
حتى سلّط الله عليه أبا نصر بن أبي عمران داعي الدعاة بمصر فقال له: أنا ذلك
__________
[1] اللزوميات 2: 22 (2: 34 صادر) .(1/339)
المريض رأيا وعقلا، وقد أتيتك مستشفيا فاشفني، وجرت بينهما مكاتبات كثيرة أمر في آخرها بإحضاره حلب، ووعده على الإسلام خيرا من بيت المال، فلما علم أبو العلاء أنه يحمل للقتل أو الإسلام سمّ نفسه ومات، وليته لما ادّعى العقل خرس ولم يقل مثل هذه الترهات التي يخلد إليها من لا حاجة لله تعالى فيه.
قال المؤلف: لما وقفت على هذه القصة اشتهيت أن أقف على صورة ما دار بينهما على وجهه حتى ظفرت بمجلّد لطيف وفيه عدّة رسائل من أبي نصر هبة الله بن موسى بن أبي عمران إلى المعري في هذا المعنى [1] ، انقطع الخطاب بينهما على المساكتة، ولم يذكر فيها ما يدلّ على ما ذهب إليه ابن الهبارية من سمّ المعريّ نفسه.
ونقلها على الوجه يطول فلخّصت منها الغرض دون تفاصح المعرّي وتشدّقه.
1- كتب ابن أبي عمران إليه:
الشيخ- أحسن الله توفيقه- الناطق بلسان الفضل والأدب، الذي ترك من عداه صامتا، مشهود له بهذه الفضيلة من كلّ من هو فوق البسيطة. غير أن الأدب الذي هو جالينوس طبّه، وعنده مفاتح غيبه، ليس مما يفيده كبير فائدة في معاشه أو معاده سوى الذكر السائر به الركبان، مما هو إذا تسامع المذكور به علم أنه له بمكانه الجمال والزينة ما دام حيا، فإذا رمت به يد المنون من ظهر الأرض إلى بطنها فلا بحسن ذكره ينتفع، ولا بقبحه يستضرّ. وإذ كانت الصورة هذه كان مستحيلا منه- أيده الله- مع وفور عقله أن جعل موادّه كلّها منصبّة إلى إحكام اللغة العربية والتقعّر فيها، واستيفاء أقسام ألفاظها ومعانيها، ووفر عمره على ما لا نتيجة لها منها، وترك نفسه المتوقدة نار ذكائها خلوا من النظر في شأن معاده وأن يمتار من علمه ما هو أنفع، فيمكث إذا ذهب الزبد جفاء من غيره، فإذا هو حرسه الله بمقتضى هذا الحكم مرتو من عذب مشرب هذا العلم، وإنما ليس يبوح به لضرب من ضروب السياسة.
والدليل على كونه ناظرا لمعاده سلوكه سبيل [شظف] العيش والتزهد، وعدوله عن الملاذّ من المأكول والمشروب والملبوس، وتعفّفه عن أن يجعل جوفه للحيوان
__________
[1] طبعت هذه الرسائل غير مرة، وقد قمت بتحقيقها في الجزء الأول من رسائل أبي العلاء، بيروت 1982 (ص: 99 وما بعدها) .(1/340)
مدفنا، أو أن يذوق من درّها لبنا، أو يستطعم من [طعام] استكدّت عليه في حرثه وإنشائه، وهذه طريقة من يعتقد أنه إذا آلمها جوزي بألمها، وهذا غاية في الزهد.
ولما رأيت ذلك وسمعت داعية البيت الذي يعزى إليه وهو:
غدوت مريض الدين والعقل فالقني ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
شددت إليه راحلة العليل في دينه وعقله إلى الصحيح الذي ينبئني أنباء الأمور الصحائح. وأنا أول ملبّ لدعوته معترف بخبرته، وهو حقيق أن لا يوطئني العشوة فيسلك بي في المجاهل، ولا يعتمد فيما يورده تلبيس الحقّ بالباطل.
وأوّل سؤالي عن أمر خفيف فإن استنشقت نسيم الشفاء سقت السؤال إلى المهمّ: أسأله عن العلّة في تحريمه على نفسه اللحم واللبن وكلّ ما صدر إلى الوجود من منافع الحيوان فأقول: أليس النبات موضوعا للحيوان يمتار منه، وبوجوده وجوده، وبقوة في الحيوان حساسة ما استولى على الانتفاع بالنبات؟ ولو لم يكن الحيوان لكان موضوع النبات باطلا لا معنى له، وعلى هذه القضية فإن القوة الإنسانية مستولية على الحيوان استيلاء الحيوان على النبات لرجحانها عليه بالنطق والعقل، فهي مسخّرة له على أنواع من التسخير ولولا ذلك لكان موضوع الحيوان باطلا. فتجافي الشيخ- وفقه الله- عن الانتفاع بما هو موضوع له مخلوق لأجله إبطال لتركيب الخلقة. ثم امتناعه من أكل الحيوان ليس يخلو القصد به من أحد أمرين. إما أنه تأخذه رأفة بها فلا يرى تناولها بالمكروه، وما ينبغي له أن يكون أرأف بها من خالقها، فإذا ادّعى أنّ تحليلها وتحريمها إنما كان من بعض البشر، يعني به أصحاب الشرائع، وأن الله لم يبح إراقة دم حيوان وأكله، كان الدليل على بطلان قوله وقوع المشاهدة لجنس السباع وجوارح الطير التي خلقها الله سبحانه على صيغة لا تصلح إلا لنتش اللحوم وفسخها، وتمزيق الحيوانات وأكلها. وإذا كان هذا الشكل قائم العين في الفطرة كان جنس البشر وسيع العذر في أكل اللحوم، وكان من أحلّ لهم ذلك محقا. والثاني أنه يرى سفك دماء الحيوان خارجا عن أوضاع الحكمة، وذلك اعتراض منه على خالقه الذي أوجده، وإذا أنعم الشيخ وساق إليّ حجة أعتمدها رجوت كشف المرض الذي وقع اعترافي به.(1/341)
2- الجواب من أبي العلاء المعري إليه:
قال العبد الضعيف العاجز أحمد بن عبد الله بن سليمان: أول ما أبدأ به أني أعدّ سيدنا الرئيس الأجلّ المؤيد في الدين- أطال الله بقاءه- ممن ورث حكمة الأنبياء، وأعدّ نفسي الخاطئة من الأغبياء. وهو بكتابه إليّ متواضع، ومن أنا حتى يكتب مثله إلى مثلي؟! مثله في ذلك مثل الثريا كتبت إلى الثرى. وقد علم الله أن سمعي ثقيل، وبصري عن الابصار نقيل [1] . قضي عليّ وأنا ابن أربع، لا أفرق بين البازل والرّبع [2] ، ثم توالت محني، فأشبه شخصي العود المنحني، ومنيت في آخر عمري بالإقعاد، وعداني عن النهضة عاد.
وأما ما ذكره سيدنا الرئيس الأجلّ المؤيد في الدين فالعبد الضعيف العاجز يذكر له مما عاناه طرفا فأقول: إنّ الله جلّت عظمته حكم عليّ بالإزهاد، فطفقت من العدم في جهاد. وأما قول العبد الضعيف العاجز:
غدوت مريض العقل والدين فالقني
فإنما خاطب به من هو في غمرة الجهل، لا من هو للرياسة علم وأصل، وقد علم أنّ الحيوان كلّه حساس يقع به الألم، وقد سمع العبد الضعيف [شيئا] من اختلاف القدماء، وأول ما يبدأ به لو أن قائلا من البشر قال: إذا بنينا القضية البتيّة المركبة من المسند والمسند إليه، ولها واسطتان إحداهما نافية والأخرى استثنائية، فقلنا: الله لا يفعل إلا الخير، أفهذه القضية كاذبة أم صادقة؟ فإن قيل إنها صادقة فقد رأينا الشرور غالبة، فعلمنا أنّ ذلك أمر خفي. ولم يزل من ينسب إلى الدين يرغب في هجران اللحوم لأنها لم يوصل إليها إلا بإيلام حيوان، يفرّ منه في كلّ أوان، وأن الضائنة تكون في محلّ القوم وهي حامل، فإذا وضعت وبلغ ولدها شهرا أو نحوه اعتبطوه فأكلوه، ورغبوا في اللبن، وباتت أمه ثاغية، لو تقدر سعت له باغية. وقد
__________
[1] رسائل المعري: كليل: والنقيل: الغريب.
[2] البازل: الجمل إذا استكمل الثامنة، والربع: الفصيل الذي ينتج في الربيع.(1/342)
تردّد في كلام العرب ما يلحق الوحشية من الوجد والناقة إذا فقدت الفصيل، فقال قائلهم [1] :
فما وجدت كوجدي أمّ سقب ... أضلّته فرجّعت الحنينا
وللسائل أن يقول: إن كان الخير لا يريد ربّنا سواه، فالشرّ لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد علم به أولا، فإن كان عالما به فلا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون مريدا له أولا، فإن كان مريدا له فكأنه الفاعل، كما أن القائل يقول: قطع الأمير يد السارق، وإن لم يباشر ذلك بنفسه، وإن كان غير مريد فقد جاز عليه ما لا يجوز على أمير مثله في الأرض إنه إذا فعل في ولايته شيء لا يرضاه أنكره وأمر بزواله، وهذه عقدة قد اجتهد المتكلمون في انحلالها فأعوزهم.
وقد ذكرت الأنبياء أنّ البارىء جلّت عظمته رؤوف رحيم، ولو رأف ببني آدم وجب أن يرأف بغيرهم من أصناف الحيوان الذي يجد الألم بأدنى شيء، وقد علم أن الوحش الراتعة يبكر إليها الفارس فيطعن العير أو الأتان، وهنّ ما أسدين إليه ذنبا.
ولأيّ حال استوجب من يفعل بها هذا الرأفة وهي لم تشرب من الماء بذنوب، ولم تجن ما يكتب من الذنوب. وقد رأيت الجيشين المنتسب كلّ واحد منهما إلى الشرع المنفرد، يلتقيان وكلاهما في مدد، ويقتل بينهما آلاف عددا. فهذا محسوب من أي الوجهين؟ فليس عند النظر بهين.
فلما بلغ العبد الضعيف العاجز اختلاف الأقوال وبلغ ثلاثين عاما، سأل ربه إنعاما، ورزقه صوم الدهر، فلم يفطر في السنة ولا الشهر، إلا في العيدين، وصبر على توالي الجديدين، وظنّ اقتناعه بالنبات يثبت له جميل العافية.
وقد علم سيدنا الرئيس الأجلّ المؤيد في الدين ولا ريب أنه قد نظر في الكتب المتقدمة ما حكي عن جالينوس وغيره من اعتقاد يدلّ على الحيرة، وإذا قيل إن البارىء رؤوف رحيم فلم سلّط الأسد على افتراس نسمة إنسية، ليست بالمفسدة ولا القسيّة؟ وكم مات بلدغ الحيات جماعة مشهورة، وسلّط على الطير الراضية بلقط الحبة البازي والصقر، وإن القطاة لتدع فراخها ظماء وتبتكر لترد ماء تحمله إليها في
__________
[1] هو عمرو بن كلثوم، والبيت من معلقته.(1/343)
حوصلتها، فيصادفها دونهنّ أجدل فيأكلها فيهلك فراخها عطشا، وذكر أشياء من هذا الباب ثم قال: وأعوذ بالله وأتبرأ من قول الكافر [1] :
ألمت بالتحية أمّ بكر ... فحيّوا أمّ بكر بالسلام
وكائن بالطويّ طويّ بدر ... من الأحساب والقوم الكرام
وكائن بالطويّ طويّ بدر ... من الشيزى تكلّل بالسنام
ألا يا أمّ بكر لا تكرّي ... عليّ الكاس بعد أخي هشام
وبعد أخي أبيه وكان قرما ... من الأقرام شرّاب المدام
ألا من مبلغ الرحمن عني ... بأني تارك شهر الصيام
إذا ما الرأس زايل منكبيه ... فقد شبع الأنيس من الطعام
أيوعدنا ابن كبشة أن سنحيا ... وكيف حياة أصداء وهام
أيترك أن يردّ الموت عني ... ويحييني إذا بليت عظامي
ولعن الله القائل، ويقال إنه الوليد بن يزيد بن عبد الملك [2] :
أدنيا مني خليلي ... عند لا دون الإزار
فلقد أيقنت أني ... غير مبعوث لنار
سأروض الناس حتى ... يركبوا دين الحمار
وأرى من يطلب ... الجنة يسعى في خسار
وويل لابن رغبان إن كان قال [3] :
هي الأولى وقد نعموا بأخرى ... وتسويف الظنون من السواف [4]
فإن يك بعض ما قالوه حقا ... فإن المبتليك هو المعافي
__________
[1] هو أبو بكر شداد بن الأسود الليثي ويعرف بابن شعوب وأبياته في سيرة ابن هشام 2: 29 وأنساب الاشراف 1: 307 ورسالة الغفران: 413.
[2] ديوان الوليد: 41- 42 ورسالة الغفران: 435 وانظر رسائل المعري 1: 114.
[3] هو عبد السلام بن رغبان المشهور بديك الجن، انظر رسالة الغفران: 438 ورسائل المعري 1: 116.
[4] السواف: الهلاك.(1/344)
ومما حثني على ترك أكل الحيوان أنّ الذي لي في السنة نيف وعشرون دينارا، فإذا أخذ خادمي بعض ما يجب، بقي لي ما لا يعجب؛ فاقتصرت على فول وبلسن [1] ، وما لا يعذب على الألسن. فأما الآن فإذا صار إلى من يخدمني كبير عندي وعنده هين، فما حظّي إلا اليسير المتعيّن. ولست أريد في رزقي زيادة، ولا أوثر لسقمي عيادة، والسلام.
3- الجواب من ابن أبي عمران:
حوشي الشيخ- أدام الله سلامته- من أن يكون ممن فطن في مرض دينه وعقله لعلته، وأجاب دعوة الداعي منه، بالبيت الشائع عنه لينال شفاء علته، جوابا يزيده إلى غلّته غلة، إذا يكون كما قال المتنبي:
أظمتني الدنيا فلما جئتها ... مستسقيا مطرت عليّ مصائبا
كان سؤالي له- حرسه الله- في شيء يختصّ بنفسه في هجره ما يشدّ الجسم من اللحم الذي ينبت اللحم، فأجاب بما أقول في جوابه: أهذه أنباء الأمور الصحائح؟
وهل زاد السقيم بدوائه هذا إلا سقما، والأعمى الأصمّ في دينه وعقله بما قال إلا عمى وصمما، على أن جميع ما ذكره بنجوة عن سؤالي الأول ومعزل عنه، ولا مناسبة بينها وبينه.
وأما القول بأن اللحوم لا يوصل إليها إلا بإيلام الحيوان فقد سبق الجواب: لا يكوننّ الشيخ أرأف بها من خالقها، فليس يخلو من كونه عادلا أو جائرا، فإن كان عادلا فإنه سبحانه يقبض أرواح الآكل والمأكول جميعا، وذلك مسلّم له، وإن كان جائرا لم ينبغ أن نرجح على خالقنا بعدلنا وجوره.
وأما قوله: وللسائل أن يقول إن كان الخير هو الذي لا يريد ربنا سواه فالشرّ لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون قد علم به أولا إلى آخره، فأقول: قيل إن إنسانا ضاع له مصحف فقيل له اقرأ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها
(الشمس: 1) فإنك تجده، فقال
__________
[1] البلسن: العدس.(1/345)
وهذه السورة أيضا فيه. فأقول أيضا إن هذا أيضا من ذلك، وجميعه ظلمات فأين النور؟ وإنما قصدنا أن نعرف أنباء الأمور الصحائح كما قاله.
وأما قوله لما رأى اختلاف الأقوال، وأيقن بنفاد وزوال، سأل ربّه أن يرزقه صوم الدهر، واقتنع بالنبات، فما صحّ لي أن الربّ الذي سأله هو الذي يريد الخير وحده، أو الذي يريد الشر وحده، أو الذي يريدهما جميعا. والصوم فرع على أصل من شرع يأتي به رسول، والرسول يتعلّق بمرسل، وقصتنا في المرسل مشتبهة: يبعث رسولا يريد أن يطاع أم لا يطاع؛ فإن كان يريد أن يطاع فهو مغلوب على إرادته لأن من لا يطيعه أكثر، وإن كان يريد أن لا يطاع فإرساله إياه محال وطلبه حجّة على الضعفاء ليعذبهم. فإن كان موضوع صومه على هذا فلم يفعل شيئا، وإن كان على غيره مما هو أجلى وأوضح فهو الذي أطلبه.
وأما حكايته قول بعض الملحدين واستعاذته بالله أن يكون من المعترضين في قوله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى
(النجم: 51) الآيات: إن كان البارىء سبحانه خلقهم وهو يعلم أنهم مجرمون، وللتوبة والإنابة يحرمون فكان الأولى به- وهو الرؤوف الرحيم- أن لا يخلقهم لئلا يعذّبهم، وإن كان لا يعلم فهو كأمثالنا ولا يدري ما يكون منه.
وقول الشيخ بعده: معاذ الله أن نقول ذلك بل نسلّم ونتلو الآية: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً
(الكهف: 17) فليس الملحد إذا قال: إن السكر حلو والخلّ حامض لا يقبل منه لكونه ملحدا، وقوله يقتضي جوابا.
فإن كان عند الشيخ جواب فهو الذي نبغي، وإلا فما التسليم في هذا الموضع إلا التسليم للملحد لا شيء غيره. وأما إنشاده:
ألمت بالتحية أم عمرو
وما بعده من الأشعار وذمّه من قال ولعنه، فمن الذي اتهمه بشيء من ذلك حاشاه؟ وما الذي أوجب الإذكار بكفريات شعرهم؟ وأما ختمه الرسالة بقوله: إن الذي حثّه على ترك أكل الحيوان أن الذي له في السنة نيف وعشرون دينارا يصير إلى خادمه معظمها ويبقى له أيسرها، فمحمل مؤونة القدر الذي يطعمه لو كان ثقيلا لوجب(1/346)
تحمله، فكيف وهو الخفيف محمله؟ وقد كاتبت مولاي تاج الأمراء [1]- حرس الله عزه- أن يتقدم بازاحة العلة فيما هو بلغة مثله من ألذّ الطعام، ومراعاته به على الإدرار والدوام، ليتكشّف عنه غاشية هذه الضرورة، ويجري أمره في معيشته على أحسن ما يكون من الصورة. ثم إن قام من الشيخ نشطة لجواب أعفاني فيه عن قصد الأسجاع ولزوم ما لا يلزم فإن ملتمسي فيه المعاني لا الألفاظ.
4- الجواب من أبي العلاء:
سيدنا الرئيس الأجل المؤيد في الدين عصمة المؤمنين، هدى الله الأمم بهدايته، وسلك بهم طريق الخير على يده: قد بدأ المعترف بجهله المقرّ بحيرته، والداعي إلى الله سبحانه أن يرزقه ما قلّ من رحمته في أول ما خاطبه به أن ذكر اعتقاده في سيدنا الرئيس الأجلّ المؤيد في الدين، ضوّأ الله الظلم ببصيرته، وأذهب شكوك الأفئدة برأيه وحكمته، وما نفسه عليه من الذلّة والحقرّية عنده، وأنه يحسبها ساكنة في بعض السوام. وعجب أن مثله يطلب الرشد ممن لا رشد عنده، فيكون كالقمر الذي هو دائب في خدمة ربّه ليلا ونهارا، يطلب الحقيقة من أقمر [2] بفلاة يرد الماء على الصائد ويصيب قلبه بسهم.
وقد ذكر- أيد الله الحقّ بحياته- بيتا من أبيات على الحاء، ذكر وليّه ليعلم غيره ما هو عليه من الاجتهاد في التدين، وما حيلته في الآية المنزلة التي هي قوله: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي
(الأعراف: 178) وأولها:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتعلم أنباء الأمور الصحائح
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما ... ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
ولا يقدر أحد يدفع أنّ الحيوان البحريّ لا يخرج من الماء إلا وهو كاره، وإذا سئل المعقول عن ذلك لم يقبّح ترك أكله وإن كان حلالا، لأن المتدينين لم يزالوا
__________
[1] تاج الأمراء لقب الأمير ثمال بن صالح المرداسي، ويلقب أيضا معز الدولة.
[2] الأقمر: صفة للحمار.(1/347)
يتركون ما هو لهم حلال مطلق:
وأبيض أمّات أرادت صريحه ... لأطفالها دون الغواني الصرائح
والمراد بالأبيض اللبن، ومشهور أنّ الأم إذا ذبح ولدها وجدت عليه وجدا عظيما، وسهرت لذلك ليالي، وقد أخذ لحمه وتوفّر على أصحاب أمّه ما كان يرضع من لبنها، فأيّ ذنب لمن تحرّج عن ذبح السليل، ولم يرغب في استعمال اللبن، ولا يزعم أنه محرم، وإنما تركه اجتهادا في التعبّد ورحمة للمذبوح رغبة أن يجازى عن ذلك بغفران خالق السماوات والأرض؟! وإذا قيل إن الله سبحانه يساوي بين عباده في الأقسام فأيّ شيء أسلفته الذبائح من الخطأ حتى تمنع حظّها من الرأفة والرفق؟
فلا تفجعنّ الطير وهي غوافل ... بما وضعت فالظلم شرّ القبائح
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الليل، وذلك أحد القولين في قوله عليه الصلاة والسلام: «أقرّوا الطير في وكناتها» ، وفي الكتاب العزيز: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ
(المائدة: 95) إلى غيرها من الآي في المعنى، فإذا سمع من له أدنى حسّ هذا القول فلا لوم عليه إذا طلب التقرّب إلى ربّ السموات والأرضين بأن يجعل صيد الحلّ كصيد الحرم، وإن كان ذلك ليس بمحظور.
ودع ضرب النحل الذي بكرت له ... كواسب من أزهار نبت فوائح
لما كانت النحل تحارب الشائر عن العسل بما تقدر عليه، وتجتهد أن تردّه عن ذلك، فلا غرو إن أعرض عن استعماله رغبة في أن تجعل النحل كغيرها مما يكره فيه ذبح الأكيل وأخذ ما كان يعيش به لتشربه النساء كي يبدنّ، وغيرها من بني آدم. وقد وصفت الشعراء ذلك فقال أبو ذؤيب يصف مشتار العسل [1] :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها ... وخالفها في بيت نوب عواسل [2]
وروي عن علي عليه السلام حكاية معناها أنه كان له دقيق شعير في وعاء يختم
__________
[1] شرح أشعار الهذليين 1: 144.
[2] لم يرج لسعها: لم يبال به؛ النوب التي تذهب وتجيء.(1/348)
عليه، فإذا كان صائما لم يختم على شيء من ذلك الدقيق، وقد كان عليه السلام يصل إلى غلّة كثيرة، ولكنه كان يتصدّق بها ويقتنع أشدّ اقتناع. وروي عن بعض أهل العلم أنه قال في بعض خطبه إن غلته تبلغ في السنة خمسين ألف دينار. وهذا يدلّ على أن الأنبياء والمجتهدين من الأئمة يقصرون نفوسهم ويؤثرون بما يفضل منهم أهل الحاجة.
وقد عدل سيدنا الرئيس إلى الإيماء بأنّ من ترك أكل اللحم ذميم، ولو أخذ بهذا المذهب لوجب على الإنسان أن لا يصلّي صلاة إلا ما افترض عليه، لأن ما زاد على ذلك أدّاه إلى كلفة، والله تبارك وتعالى لا يريد ذلك، ولوجب [أن] الذي له مال كثير، إذا أخرج عن الذهب ربع العشر، لا يحسن به أن يزيد على ذلك، وقد حثّ الناس على النفقات في غير موضع من الكتاب الأشرف. والعبد الضعيف العاجز قد افتقر الى مثل ذلك، ولو مثل بحضرته السامية لعلم أنه لم يبق فيه بقية لأن يسأل ولا أن يجيب لأن أعضاءه متخاذلة، وقد عجز عن القيام في الصلاة، فإنما يصلّي قاعدا، والله المستعان. وكيف له أن يكون يصل إلا أن يدبّ على عكاز (ثم استشهد على عجزه بأشعار العرب) وإني لأعجز إذا اضطجعت عن القعود، فربما استعنت بانسان، فإذا همّ بإعانتي وبسط يديه لنهضتي ضربت عظامي لأنهن عاريات من كسوة كانت عليهن.
وأما استشهاده ببيت أبي الطيب فمن استرشد بمثل العبد الضعيف العاجز مثله مثل من طلب في القتادة ثمر النخلة، وإنما حمل سائله على ذلك حسن الظنّ الذي هو دليل على كرم الطبع وشرف النفس وطهارة المولد وخالص الخيم.
وأما ما ذكره من المكاتبة في توسيع الرزق عليّ فيدلّ على إفضال ورثه عن أب فأب وجدّ في إثر جد حتى يصل النسب إلى التراب، فالعبد الضعيف العاجز ما له رغبة في التوسّع ومعاودة الأطعمة، وتركها صار له طبعا ثانيا، وأنه ما أكل شيئا من حيوان خمسا وأربعين سنة:
والشيخ لا يترك أخلاقه ... حتى يوارى في ثرى رمسه [1]
__________
[1] البيت لصالح بن عبد القدوس، انظر نكت الهميان: 171 وتهذيب ابن عساكر 6: 371.(1/349)
وقد علم أن السيد الأجلّ تاج الأمراء فخر الملك عمدة الإمامة وعدّة الدولة ومجدها ذا الفخرين نصيف أولاد سام وحام ويافث. وودّ العبد الضعيف العاجز لو أن قلعة حلب وجميع جبال الشام جعلها الله ذهبا لينفقه تاج الأمراء نصير الدولة النبوية- على إمامها السلام وكذلك على الأئمة الطاهرين من آبائه- من غير أن يصير إلى العبد الضعيف من ذلك قيراط، وهو يستحيي من حضرة تاج الأمراء أن ينظر إليه بعين من رغب في العاجلة بعدما ذهب، وهو رضي أن يلقى الله- جلت قدرته- وهو لا يطالب إلا بما فعل من اجتناب اللحوم، فإن وصل إلى هذه الرتبة فقد سعد (ثم اعتذر عن السجع بأخبار أوردها واحتجاجات ذكرها) . وسيدنا الرئيس الأجل المؤيد في الدين- لا زالت حجّته باهرة ودولته عالية- كما قال ثعلبة بن صعير [1] :
ولربّ قوم ظالمين ذوي شذى ... تغلي صدورهم بهتر هاتر [2]
لدّ ظأرتهم على ما ساءهم ... وخسأت باطلهم بحقّ ظاهر [3]
ولو ناظر أرسطاليس لجاز أن يفحمه، أو أفلاطون لنبذ حججه خلفه، والله يجمّل بحياته الشريعة، وينصر بحججه الملة، وحسبي الله ونعم الوكيل.
5- الجواب من ابن أبي عمران:
ما فاتحت الشيخ- أحسن الله توفيقه- بالقول إلا مفاتحة متناكر عليه فيه، مؤثر لأن يخفى من أين جاء السؤال، فيكون الجواب عنه باسترسال ورفض حشمة وحذف تكلّف للخطاب بسيّدنا والرئيس وما يجري هذا المجرى، إذ كان حكم ما يتجارى فيه موجبا أن لا يتخلله شيء من زخارف الدنيا، ولأنني أعتقد أن سيدي بالحقيقة من تستفل دون يده يداي أخذا منه للدنيا، أو تمتار نفسي من نفسه استفادة من معالم الأخرى. فما أدري كيف انعكست الحال حتى صار الشيخ- أدام الله تأييده- يخاطبني
__________
[1] ثعلبة بن صعير شاعر جاهلي قديم، وبيتاه من قصيدة له مفضلية، انظر شرح ابن الأنباري: 254- 256.
[2] الشذى: الأذى، الهتر الهاتر: الكلام القبيح.
[3] لد: شديد والخصومة، ظأرتهم: عطفتهم: خسأت: زجرت ودفعت.(1/350)
بسيدنا والرئيس، ولست مفضلا عليه في دنيا ولا دين، بل شادّ راحلتي إليه لاستفادة إن وردت موردها أو صادفت نهلا أو علّا منها قابلتها بالشكر لنعمته والإسجال على نفسي بأستاذيته.
وبعد، فإني أعلمه- أدام الله سلامته- أني شققت جيب الأرض من أقصى دياري إلى مصر، وشاهدت الناس بين رجلين: إما منتحل لشريعة صبا إليها ولهج بها إلى الحدّ الذي إن قيل له من أخبار شرعه: إن فيلا طار أو جملا باض لما قابله إلا بالقبول والتصديق، ولكان يكفّر من يرى غير رأيه فيه ويسفّهه ويلعنه، والعقل عند من هذه سبيله في مهواة وفي مضيعة، فليس يكاد ينبعث [لأن يعلم] ان هذه الشريعة التي هو منتحلها لم يطوّق طوقها ولم يسوّر سوارها الا بعد لموع نور العقل منه، فكيف يصحّ تولّيه أولا وعزله آخرا؟ [أو منتحل للعقل يقول إنه حجة لله تعالى على عباده، مبطل لجميع ما للناس فيه، مستخفّ بأوضاع الشرائع] ... [1] .
فلما رمت بي المرامي إلى الشام وسمعت أن الشيخ- وفقه الله- بفضل في الأدب والعلم قد اتفقت عليه الأقاويل، ووضح به البرهان والدليل، ورأيت الناس في ما يتعلّق بدينه مختلفين، وفي أمره متبلبلين، فكلّ يذهب فيه مذهبا، وحضرت مجلسا جليلا أجري فيه ذكره، فقال الحاضرون فيه غثا وسمينا فحفظته في الغيب، وقلت: إن المعلوم من صلابته في زهده يحميه من الظنة والريب، وقام في نفسي أن عنده من حقائق دين الله سرّا قد أسبل عليه من البقية سترا، وأمرا يميز به عن قوم يكفّر بعضهم بعضا، ولما سمعت البيت: غدوت مريض العقل ... توثقت من خلدي فيما حدثت عقوده، وتأكدت عهوده، وقلت: إن لسانا يستطيع بمثل هذه الدعوى نطقا، ويفتق من هذا الفخر العظيم رتقا، للسان صامت عنده كلّ ناطق، من ذروة جبل للعلم شاهق، فقصدته قصد موسى للطور أقتبس منه نارا، وأحاول أن أرفع بالفخر منارا، لمعرفة ما تخلّف عن معرفته المتخلفون، واختلف في حقيقته المختلفون، فأدليت دلوي بالمسألة الخفيفة التي سألت عنها ترقّيا من دون إلى فوق، وتدرّجا من
__________
[1] لا بد من هذه الزيادة بناء على قوله من قبل: وشاهدت الناس بين رجلين ... الخ.(1/351)
صغير إلى كبير، فكان جوابه أنه يصغر عن أن يكون للاسترشاد محلا، فقلت: هذه زيادة في فضله، وما يجوز صدور مثله عن مثله. ثم انتهى إلى الإحالة على كون الناس ممن تقدّم أو تأخر في وادي الحيرة تائهين، وفي أذيالها متعثرين، من قائل يقول إن الخير والشرّ من الله، ومجيب يجيبه هل كان ما كان يستعيذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من وعث السفر وكلّ مستعاذ منه خيرا أو شرا؟ فإن كان خيرا فالاستعاذة منه باطلة، وان كان شرا والله مريده فالاستعاذة منه كذلك فضول وزيادة في المعنى. وسؤال من يسأل هل كان سمّ الحسن وقتل الحسين عليهما السلام خيرا أو شرا؟ فإن كان خيرا فاللعنة على القاتل من أي جهة، وان كان شرا والله مريده زال اللوم عن القاتل. وقائل يقول: إنّ الخير من الله والشرّ من غيره، ومجيب يجيب بالجواب الذي يقطع به الأسباب، وغير ذلك مما أطال به الخطاب من أشعار الملحدة وأقوالهم، فكان جوابي- أدام الله سلامته- أنني من هؤلاء الذين [ذكرتهم] تبريت اليك، وتطارحت عليك، وان كلامهم عندي قبل أن علّلته عليل، وهو على مسامع القبول منّي ثقيل، فافتح لي إلى ما عندك بابا، وافسح لي من لدنك جنابا، فلم يفعل.
ثم خاطبته على امتناعه من أكل اللحوم فاحتجّ بكونه متحرجا من قصدها- أعني البهائم- بالمضرّة والايلام، متعففا عنها لهذه الجهة، فقطعت لسان حجته بعد تناهيها وقلت: إذا كان الله تعالى سلّط بعضها ليأكل بعضا، وهو أعرف بوجوه الحكمة وأرأف بالخليقة، فلا يكن أرأف بها من ربها ولا أعدل فيها من خالقها.
ثم عدل إلى قصور يد الاستطاعة دون ذلك، إذ كان القدر الذي هو له في السنة منصرفا إلى من يتولّى خدمته أكثره وخالصا له أقلّه، فقطعت الحجة في هذا الباب أيضا، وعيّنت له على جهة كريمة من الذين لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا أذى من يقوم بقدر كفايته من أطيب ما يأكلون، وأزكى ما في البيوت يدّخرون؛ فتجافت نفسه- وقاها الله السوء- عن هذا الباب أيضا، وكتب في الجواب الثاني بأنه لا يؤثر ذلك ولا يرغب فيه ولا يخرق عادته المستمرة في الترك، وابتدأ يقول إني طلبت الرشد ممن لا رشد عنده وان البيت الذي قاله مما تعلقت به وجعلته محجة إلى استقراء طريقته ومذهبه، إنما أراد الإعلام باجتهاده في التديّن، وما حيلته في الآية المنزلة مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً
(الكهف: 17) فجمع بين(1/352)
المتضادّين في كلمة واحدة. إنه إن كانت الآية حقا كان الاجتهاد باطلا، وقال: إن لله سبحانه أسرارا لا يقف عليها إلا الأولياء، فنحن على ذلك السرّ ندور، وعلى باب من هو عنده نطوف. فإن قلنا إنه- حرسه الله- من أصحابه بدعوى صحّته في دينه وعقله ومرض الناس على موجب قوله، قال: لا رشد عندي، فنظمه في هذا المعنى يناقض نثره، ونثره يخالف نظمه، فكيف الحيلة؟ ثم قال إن البيت المقول:
غدوت مريض العقل والدين فالقني ... لتعلم أنباء العقول الصحائح
يؤدي معناه البيت الثاني:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما ... ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
فكان مرض الدين والعقل من جهة أكل اللحوم وشرب الألبان وتناول العسل، فمن ترك هذه المطاعم كان صحيحا دينه وعقله، وهو يعلم أن مصحّة الأديان والعقول لا تقوم بذلك، ولا يجوز أن يكون هذا البيت الثاني ناسخا لحكم الأول، فيكون محصول دعواه في فقر الناس إلى أن يصحّ دينهم وعقلهم هو أن يقول لهم: لا تأكلوا اللحم واللبن.
وأما قوله: إنّ الحيوان البحريّ كاره أن يخرج إلى البرّ وأنه ليس يقبح في العقول ترك أكله، وإن كان حلالا، لأن المتدينين لم يزالوا يتركون ما لهم طلق، فما من حيوان بحريّ ولا برّي هو أجلّ من هذا الانسان الحيّ العاقل، وهو كاره للموت، فيموت، وكاره لأن يأكله شيء، والدود تأكله في قبره، فإن كان ذلك صادرا عن موضع حكمة كان ما ذكره من الحيوان البريّ والبحري جاريا في مضمار هذا مثلا بمثل، وان كان معدولا به عن وجه الحكمة كان محالا أن يكون صانعي سفيها، وأكون وأنا مصنوعه حكيما.
وأما قوله إن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى إلى أن تقرّحت قدماه، فقيل له فيه فقال: أفلا أحبّ أن أكون عبدا شكورا، فما هذا مما نحن عليه في شيء، والانسان له أن يصلّي ما شاء من الصلوات في الأوقات التي تجوز فيها الصلاة على أن لا يزيد في الفرائض ولا ينقص منها، وهذا الكلام شرعيّ، وكانت النصبة للتكلّم على العقليات.
وأما قوله إنه عليه السلام حرّم صيد الحرم، وان لغيره أن يحرّم صيد الحلّ تقربا(1/353)
إلى الله سبحانه، فليس لأحد أن يحلّل أو يحرّم غيره.
وأما قوله إن عليا عليه السلام لما قدّم الخبيص سأل: هل أكل النبي صلى الله عليه وسلم منه؟
فلما قالوا: لا، رفعه ولم يأكله، فهذه الحجة عليه لا له، فإن الناس مجمعون على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفارق أكل اللحم، وهو يهجره دهره، وذلك بالضدّ سواء، ولو أنه حرسه الله لم يستظهر عليّ بالشريعة ولم يتجاوز نصبة العقل لصنته عن هذا الجواب الذي عسى أن يشغل سرّه، ويعز عليّ ذلك.
وأما ما شكاه من ضعفه وقصور حركته وأنه لم يبق فيه بقية لأن نسأل ولا أن يجيب، فما هو- حرسه الله- على علّاته من الضعف والقوة إلا من محاسن الزمان، وممن سارت بذكر فضله الركبان، إلا أنه على عدوان الدهر عليه عدا على نفسه بحرمانها ملاذّ دنياها، فإن وثقت نفسه بملاذّ تعتاض عنها مما هو خير وأبقى منها فما خسرت صفقته وقام مصداق قوله بالبيت المقدم ذكره، وان كان يوسم بميسم الشحّ بمنع المنتجعين وردّ السائلين. وان كان شقّ على نفسه من غير بصيرة، كما يدّعيه الآن، خوضا مع الخائضين، وتحيرا مع أمثالنا من المتحيرين، فقد أضاعها وجنى عليها وادعى في البيت المقدّم ذكره ما لا برهان له. والغرض في السؤال والجواب الفائدة، وإذا عدمت فقد خفّف الله عنه أن يتكلّف جوابا.
واما الأسجاع ومسألتي التخلي عنها فما كانت إلّا شحا بالمعاني ان نضلّ بتتبعها، ولأنني إذا تتبعت فضله بصناعته في الأدب والشعر وجدت في أرضه مراغما كثيرا وسعة، ومن أين لي أن أظهر على مكنون جواهر علوم دينه كظهوري على مصنفّات أدبه وشعره.
وقبل وبعد فأنا أعتذر عن سرّ له أدام الله حراسته أذعته، وزمان منه بالقراءة والاجابة شغلته، لأنني من حيث ما نفعته ضررته، والله تعالى يعلم أني ما قصدت به غير الاستفادة من علمه، والاغتراف من بحره، والسلام.
وكنا بحضرة القاضي الأكرم الوزير جمال الدين أبي الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني- حرس الله مجده- وفيه جماعة من أهل الفضل والأدب، فقال أبو الحسن علي بن عدلان النحوي الموصلي: حضرت بدمشق عند محمد بن نصر بن عنين الشاعر وزير المعظم، فجاءته رقعة طويلة عريضة خالية من معنى، فارغة من(1/354)
فائدة فألقاها إليّ قائلا: هل رأيت قطّ رقعة أسقط أو أدبر من هذه، مع طول وعرض، فتناولتها فوجدتها كما قال، وشرعت أخاطبه فأومأ إليّ بالسكوت وهو مفكر، ثم أنشدني لنفسه:
وردت منك رقعة أسأمتني ... وثنت صدري الحمول ملولا
كنهار المصيف ثقلا وكربا ... وليالي الشتاء بردا وطولا
فاستحسن أهل المجلس هذه البديهة وعجبوا من حسن المعنى، فقال القاضي الأكرم: ما زلت أستحسن كلاما وجدته على ظهر كتاب ديوان الأعشى في مدينة قفط في سنة خمس وثمانين يتضمن لأبي العلاء المعري [شعرا] يشبه ما في هذين البيتين من المقابلة ضدا بضدّ في موضعين، ولعل هذين البيتين يفضلان على ذلك، فقلنا له: وما ذلك الكلام؟ فقال: حكي أن صالح بن مرداس صاحب حلب نزل على معرّة النعمان محاصرا ونصب عليها المناجيق، واشتدّ في الحصار لأهلها، فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء لعجزهم عن مقاومته، لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به، وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر بالخروج إليه بنفسه، وتدبير الأمر برأيه، إما بأموال يبذلونها أو طاعة يعطونها، فخرج ويده في يد قائده، وفتح له بابا من أبواب معرّة النعمان وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل، فقال صالح: هو أبو العلاء فجيئوني به، فلما مثل بين يديه سلّم عليه ثم قال: الأمير أطال الله بقاءه كالنهار الماتع قاظ وسطه وطاب أبرداه، وكالسيف القاطع لان متنه وخشن حدّاه، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
(الأعراف: 199) فقال صالح (لا تثريب عليكم اليوم) قد وهبت لك المعرة وأهلها وأمر بتقويض الخيام والمناجيق فنقضت ورحل، ورجع أبو العلاء وهو يقول:
نجّى المعرة من براثن صالح ... ربّ يعافي كلّ داء معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة ... الله ألحفهم جناح تفضل
قال أبو غالب ابن مهذب المعري في تاريخه: في سنة سبع عشرة وأربعمائة صاحت امرأة يوم الجمعة في جامع المعرة، وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغتصبها نفسها، فنفر كلّ من في الجامع وهدموا الماخور، وأخذوا خشبه، ونهبوه.(1/355)
وكان أسد الدولة في نواحي صيدا، فوصل الأمير أسد الدولة فاعتقل من أعيانها سبعين رجلا، وذلك برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ، وأوهمه أنّ في ذلك إقامة للهيبة. قال: ولقد بلغني أنه دعي لهؤلاء المعتقلين بآمد وميافارقين على المنابر، وقطع تادرس عليهم ألف دينار، وخرج الشيخ أبو العلاء المعري إلى أسد الدولة صالح وهو بظاهر المعرة، وقال له الشيخ أبو العلاء: مولانا السيد الأجلّ أسد الدولة ومقدّمها وناصحها كالنهار الماتع اشتدّ هجيره وطاب أبراده، وكالسيف القاطع لان صفحه وخشن حداه، خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ
(الأعراف: 199) فقال صالح: قد وهبتهم لك أيها الشيخ، ولم يعلم أبو العلاء أنّ المال قد قطع عليهم، والا كان قد سأل فيه، ثم قال الشيخ أبو العلاء بعد ذلك شعرا وهو [1] :
تغيبت في منزلي برهة ... ستير العيون فقيد الحسد
فلما مضى العمر إلا الأقلّ ... وحمّ لروحي فراق الجسد
بعثت شفيعا إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع منّي سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
فلا يعجبنّي هذا النّفاق ... فكم نفّقت محنة ما كسد
- 102-
أحمد بن عبد الرحمن بن نخيل الحميري
أبو العباس الشنتمري: يقول فيه أبو العباس أحمد بن عبد العزيز بن غزوان [2] الكاتب الشنتمري، وقد حضر القراءة عليه هو وجماعة من طلبته بشنتمرية:
ومجلس ليس لعمري به ... باغ، وباع الخير فيه مديد
__________
[102]- نسبته إلى شنتمرية تدل على أنه أندلسي، ولكني لم أستطع الوقوف على المصدر الذي ينقل عنه ياقوت. ولابن غزوان الشنتمري ترجمة في التكملة 1: 47.
[1] اللزوميات 1: 302 (1: 404 صادر) .
[2] م: غنزوان.(1/356)
وربما تقضى حياة به ... وينثني العالم فيه بليد
يزينه في جمعه فتية ... غرّ كما تدري صباح الخدود
ما منهم في جمعهم واحد ... إلا أخو نبل وذهن حديد
تجمعوا حول فقيه حوى ... حلما وعلما مع رأي سديد
إن خانك التفكير في مشكل ... فانه يبلغ ما قد تريد
وإن يقل كان الذي قاله ... ولم يكن فيه لخلق مزيد
كأنه بين تلاميذه ... بدر بدا بين نجوم السعود
- 103-
أحمد بن عبد الله المهاباذي الضرير
: من تلاميذ عبد القاهر الجرجاني، له شرح كتاب اللمع.
- 104-
أحمد بن عبد السيد بن علي
يعرف بابن الأشقر النحوي أبو الفضل: متأخر من ساكني قطيعة باب الأزج، ذكره أبو عبد الله ابن الدبيثي في كتابه الذي ذيله على تاريخ السمعاني وقال: هو أديب فاضل، قرأ على أبي زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي ولازمه حتى برع في فنه، وسمع على علوّ سنه من أبي الفضل محمد بن ناصر السلامي؛ قال: وسمعت من يذكر أنه رأى أبا محمد ابن الخشّاب النحويّ بالقطيعة من باب الازج وهو يسأله عن مسائل من النحو ويباحثه. وقد روى [ابن] الأشقر وأقرأ العربية إلا أن الروايات عنه قليلة.
__________
[103]- ترجمة المهاباذي في الوافي 7: 112 ونكت الهميان: 110 وبغية الوعاة 1: 320.
[104]- ترجمة ابن عبد السيد في إنباه الرواة 1: 87 والوافي 7: 64 وبغية الوعاة 1: 324.(1/357)
- 105-
أحمد بن عبد الملك بن أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن عيسى بن شهيد أبو عامر
: أشجعي النسب من ولد الوضاح بن رزاح الذي كان مع الضحاك يوم المرج، ذكره الحميدي وقال: إنه مات في جمادى الأولى سنة ست وعشرين وأربعمائة بقرطبة ومولده سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وأبوه عبد الملك بن أحمد شيخ من شيوخ وزراء الدولة العامرية ومن أهل الأدب والشعر، وجدّه أحمد بن عبد الملك ذو الوزارتين من أهل الأدب وكان في أيام عبد الرحمن الناصر له شعر وبديهة ولم يخلف لنفسه نظيرا في علمي النظم والنثر.
قال: وهو من العلماء بالأدب ومعاني الشعر وأقسام البلاغة، وله حظ من ذلك، بسق فيه، ولم ير لنفسه في البلاغة أحدا يجاريه، وله كتاب «حانوت عطار» في نحو من ذلك، وسائر رسائله وكتبه نافعة الجد كثيرة الهزل، وشعره كثير مشهور.
وقد ذكره أبو محمد علي بن أحمد [1] مفتخرا به فقال: ولنا من البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد، وله من التصرّف في وجوه البلاغة وشعابها مقدار ينطق فيه بلسان مركّب من لساني عمرو وسهل [2] ومن شعر أبي عامر المختار [3] :
وما ألان قناتي غمز حادثة ... ولا استخفّ بحلمي قطّ إنسان
أمضي على الهول قدما لا ينهنهني ... وأنثني لسفيهي وهو حردان
__________
[105]- ترجمة ابن شهيد في الجذوة: 124 (بغية الملتمس رقم: 437) والمطمح: 16 والمطرب: 147 والذخيرة 1: 191 واليتيمة 2: 35 واعتاب الكتاب: 203 وابن خلكان 1: 116 والمغرب 1: 78 والخريدة 2: 555 والوافي 7: 144 والمسالك 11: 206 وقد جمع شعره كل من شارل بلا (بيروت 1963) ويعقوب زكي (القاهرة 1969) ولشارل بلا محاضرات عنه (عمان: 1966) وانظر فصلا عنه في كتابي تاريخ الأدب الأندلسي- عصر سيادة قرطبة: 270 (الطبعة الثانية) .
[1] يعني ابن حزم الفقيه، وقوله هذا في رسالته في فضل أهل الأندلس (رسائل ابن حزم 2: 188) .
[2] أي الجاحظ عمرو بن بحر وسهل بن هارون.
[3] الديوان (زكي) : 161.(1/358)
ولا أقارض جهالا بجهلهم ... والأمر أمري والأيام أعوان
أهيب بالصبر والشحناء ثائرة ... وأكظم الغيظ والأحقاد نيران
وقوله [1] :
ألمت بالحبّ حتى لو دنا أجلي ... لما وجدت لطعم الموت من ألم
وذادني كرمي عمن ولهت به ... ويلي من الحبّ أو ويلي من الكرم
قال، وقال أبو محمد علي بن أحمد: ولم يعقب أبو عامر، وانقرض عقب الوزير أبيه بموته، وكان جوادا لا يليق شيئا ولا يأسى على فائت، عزيز النفس مائلا إلى الهزل، وكان له من علم الطبّ نصيب وافر.
- 106-
أحمد بن عبد الملك بن علي بن أحمد بن عبد الصمد بن بكر المؤذن أبو صالح النيسابوري
: الحافظ الأمين الخيّر الثقة المحدّث الصوفي نسيج وحده في طريقته وجمعه وإفادته. ولد في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ومات لتسع خلون من شهر رمضان سنة سبعين وأربعمائة، وذكره أبو سعد السمعاني في «المذيل» فقال، ومن خطه نقلت: كان عليه الاعتماد في الودائع من كتب الحديث المجموعة في الخزائن الموروثة عن المشايخ، الموقوفة على أصحاب الحديث، وكان يصونها ويتعهّد حفظها ويتولّى أوقاف المحدثين من الحبر والكاغد وغير ذلك، ويقوم بتفرقتها عليهم وإيصالها إليهم، وكان يؤذّن على منارة المدرسة البيهقية سنين احتسابا، ووعظ المسلمين وذكرهم، وكان يأخذ صدقات الرؤساء والتجار ويوصلها إلى ذوي الحاجات، ويقيم مجالس الحديث. وكان إذا فرغ جمع وصنّف وأفاد. وكان حافظا ثقة دينا خيرا كثير السماع واسع الرواية، جمع بين الحفظ والإفادة والرحلة وكتب الكثير بخطه.
__________
[106]- ترجمة المؤذن النيسابوري في تاريخ بغداد 4: 267 والوافي 7: 156.
[1] الديوان: 151.(1/359)
ثم ذكر أبو سعد جماعة كثيرة ممن سمع عليه بجرجان والريّ والعراق والحجاز والشام ثم قال: كما تنطق به تصانيفه وتخريجاته، ولم يتفرغ للإملاء لاشتغاله بالمهمات التي هو بصددها. ثم ذكر جماعة رووا عنه، ثم قال: وصنّف التصانيف وجمع الفوائد وعمل التواريخ، منها: كتاب التاريخ لبلدنا مرو، ومسوّدته عندنا بخطّه، وأثنى عليه ثناء طويلا، وذكر أن الخطيب أبا بكر ذكره في تاريخه، وأنه كتب عنه وكتب هو عن الخطيب [1] ، ووصفه بالحفظ والمعرفة والذبّ عن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم روى عنه أخبارا وأسانيد لغيره منها ما أسنده إليه، وقال: أنشد الشريف أبو الحسن عمران بن موسى المغربي لنفسه:
جزيت وفائي منك غدرا وخنتني ... كذاك بدور التمّ شيمتها الغدر
وحاولت عند البدر والشمس سلوة ... فلم يسلني يا بدر شمس ولا بدر
وفي الصدر منّي لوعة لو تصورت ... بصورة شخص ضاق عن حملها الصدر
أمنت اقتدار البين من بعد بينكم ... فما لفراق بعد فرقتكم قدر
- 107-
أحمد بن عبد الوهاب بن هبة الله بن محمد بن علي بن الحسين بن يحيى بن السيبيّ أبو البركات بن أبي الفرج
مؤدب الخلفاء: كانت له معرفة حسنة بالآداب، ومات في سادس عشري المحرم سنة أربع عشرة وخمسمائة عن ست وخمسين سنة وثلاثة أشهر.
قال أبو الفرج ابن الجوزي: كان أبو البركات يعلّم أولاد المستظهر، وكان له أنس بالمسترشد، فلما قبض على ابن الجزري صاحب المخزن ولي ابن السيبي مكانه
__________
[107]- ترجمة ابن السيبي في المنتظم 9: 219 ونزهة الألباء: 268 ومرآة الزمان 8: 91 والوافي 7: 162.
[1] قال الخطيب: قدم علينا وهو شاب في حياة أبي القاسم ابن بشران، ثم عاد إلى نيسابور وقدم علينا مرة ثانية في سنة 434 فكتب عني في ذلك الوقت وكتبت عنه.(1/360)
النظر في المخزن سنة وثمانية أشهر، وكان عالما بالأدب والشعر، كثير الإفضال على أهل العلم، وخلّف من المال ما حزر بمائة ألف دينار، ووقف وقوفا على مكة والمدينة.
- 108-
أحمد بن عبيد بن ناصح بن بلنجر أبو جعفر النحوي الكوفي
: يعرف بأبي عصيدة، ديلمي الأصل من موالي بني هاشم، حدّث عن الواقديّ والأصمعي وأبي داود الطيالسي وزيد بن هارون وغيرهم، وروى عنه القاسم بن محمد بن بشار الأنباري وأحمد بن حسن بن شهير، ومات فيما ذكره أبو عبد الله محمد بن شعبان بن هارون ابن بنت الفريابي في «تاريخ الوفيات» له في سنة ثلاث وسبعين ومائتين. قالوا:
وكان ضعيفا فيما يرويه.
وله من التصانيف: كتاب المقصور والممدود. وكتاب المذكر والمؤنث.
وكتاب الزيادات في معاني الشعر لابن السكيت في إصلاحه. وكتاب عيون الأخبار والأشعار.
وحدث محمد بن إسحاق النديم قال: كان أبو عصيدة وابن قادم يؤدّبان ولد المتوكل، قال: لما أراد المتوكل أن يتخذ المؤدبين لولده جعل ذلك إلى إيتاخ، فأمر إيتاخ كاتبه أن يتولّى ذلك، فبعث إلى الطوال والأحمر وابن قادم وأبي عصيدة هذا وغيرهم من أدباء ذلك العصر، فأحضرهم مجلسه وحضر أبو عصيدة فقعد في آخر الناس، فقال له من قرب منه: لو ارتفعت، فقال: بل أجلس حيث انتهى بي المجلس، فلما اجتمعوا قال لهم الكاتب: لو تذاكرتم وقفنا على موضعكم من العلم واخترنا، فألقوا بينهم بيت ابن غلفاء [2] الفزاري:
__________
[108]- ترجمة أبي عصيدة في طبقات الزبيدي: 204 والفهرست: 79- 80 ومراتب النحويين: 97 وتاريخ بغداد 4: 258 وإنباه الرواة 1: 84 ونزهة الألباء: 142 والوافي 7: 166 وبغية الوعاة 1: 333 وتهذيب التهذيب 1: 60.
[1] م: عنقاء.(1/361)
ذريني إنما خطأي وصوبي ... عليّ وإن ما أنفقت مال
فقالوا: ارتفع مال بانما إذ كانت ما بمعنى الذي، ثم سكتوا، فقال لهم أحمد بن عبيد من آخر الناس: هذا الإعراب فما المعنى؟ فأحجم الناس عن القول، فقيل له: فما المعنى عندك؟ قال: أراد ما لومك إياي وإنما أنفقت مالا ولم أنفق عرضا، فالمال لا ألام على إنفاقه؛ فجاءه خادم من صدر المجلس فأخذ بيده حتى تخطّى به إلى أعلاه وقال له: ليس هذا موضعك، فقال: لأن أكون في مجلس أرتفع منه إلى أعلاه أحبّ إليّ من أن أكون في مجلس أحطّ عنه. فاختير هو وابن قادم.
قرأت بخطّ أبي منصور الأزهري في «كتاب التهذيب في اللغة» [1] له، أخبرني المنذري عن القاسم بن محمد الأنباري عن أحمد بن عبيد بن ناصح قال: كنا نألف مجلس أبي أيوب ابن أخت الوزير، فقال لنا يوما- وكان ابن السكيت حاضرا- ما تقول في الأدم من الظباء؟ فقال: هي البيض البطون السّمر الظهور، يفصل بين لون ظهورها وبطونها جدّتان مسكيّتان، قال: فالتفت إليّ وقال: ما تقول يا أبا جعفر؟
فقلت: الأدم على ضربين، أما التي مساكنها الجبال في بلاد قيس فهي على ما وصف، وأما التي مساكنها الرمل في بلاد تميم فهي البيض الخوالص البياض [فأنكر يعقوب] . واستأذن ابن الأعرابي على أثر ذلك، فقال أبو أيوب: قد جاءكم من يفصل بينكم، فدخل فقال له أبو أيوب: يا أبا عبد الله، ما تقول في الأدم من الظباء، فتكلم كأنما ينطق عن لسان ابن السكّيت، فقلت: يا أبا عبد الله، ما تقول في ذي الرمة؟ قال: شاعر، قلت: ما يقول في قصيدته صيدح؟ قال: هو بها أعرف منّا بها. قال: فأنشدته قوله:
من المؤلفات الرمل أدماء حرّة ... شعاع الضّحى في متنها يتوضّح
فسكت ابن الأعرابي وقال: هي العرب تقول ما شاءت.
وبخط عبد السلام البصري، حدثنا أبو الحسن محمد بن يوسف بن موسى سبط [ ... ] قال حدثنا أبو القاسم عبيد الله بن محمد بن جعفر الأزدي قال: سمعت أحمد بن
__________
[1] التهذيب 14: 215.(1/362)
عبيد بن ناصح يقول: لما أراد المتوكل أن يعقد للمعتز ولاية العهد حططته عن مرتبته [1] قليلا وأخّرت غداءه عن وقته، فلما كان وقت الانصراف قلت للخادم: احمله، فضربته من غير ذنب، فكتب بذلك إلى المتوكل، فأنا في الطريق منصرفا إذ لحقني صاحب رسالة، فقال: أمير المؤمنين يدعوك، قال: فدخلت على المتوكل وهو جالس على كرسيّ، والغضب يتبيّن في وجهه، والفتح بن خاقان قائم بين يديه متكئا على السيف، فقال لي: ما هذا الذي فعلته يا أبا عبد الله؟ قلت: أقول يا أمير المؤمنين؟
فقال: قل فاني إنما سألتك لتقول، قلت: بلغني ما عزم عليه أمير المؤمنين- أطال الله بقاءه- فدعوته وحططت منزلته، ليعرف هذا المقدار فلا يعجل بزوال نعمة أحد، وأخّرت غداءه ليعرف هذا المقدار من ألم الجوع فإذا شكي إليه الجوع عرف ذلك، وضربته من غير ذنب ليعرف مقدار الظلم فلا يعجل على أحد، قال فقال لي:
أحسنت، وأمر لي بعشرة آلاف درهم ثم لحقني رسول قبيحة بعشرة آلاف أخرى، فانصرفت بعشرين ألفا.
قال وحدثنا أبو القاسم الأزدي قال: سمعت أحمد بن عبيد بن ناصح يحدث أبي قال، قال لي المعتز يوما: يا مؤدبي تصلّي جالسا وتضربني قائما؟ قال فقلت له:
كيف تراني أؤدي فرضي؟ قائما أو قاعدا؟ قال فقال لي: بل تؤدي الفرض قائما، فقلت له: وضربك أيضا من الفروض ولا أؤدي فرضي إلا قائما.
وقال عبد الله بن عدي الحافظ: أحمد بن عبيد أبو عصيدة النحوي كان بسرّ من رأى يحدّث عن الأصمعيّ ومحمد بن مصعب القرقساني بمناكير. وقال أبو أحمد الحافظ النيسابوري وذكره فقال: لا يتابع على جلّ حديثه. قال أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري أنشدني أبي قال: أنشدنا أحمد بن عبيد:
ضعفت عن التسليم يوم فراقها ... فودّعتها بالطّرف والعين تدمع
وأمسكت عن ردّ السلام فمن رأى ... محبا بطرف العين قبلي يودع
رأيت سيوف البين عند فراقها ... بأيدي جنود الشّوق بالموت تلمع [2]
عليك سلام الله مني مضاعفا ... إلى أن تغيب الشمس من حيث تطلع
__________
[1] ر: رتبته
[2] ر: ترفع.(1/363)
- 109-
أحمد بن عبيد الله بن محمد بن عمار أبو العباس الثقفي
الكاتب المعروف بحمار العزيز: كذا قال الخطيب قال: وله مصنفات في مقاتل الطالبيين وغير ذلك، وكان يتشيع، ومات في سنة أربع عشرة وثلاثمائة، حدث عن عثمان بن أبي شيبة وسليمان بن أبي شيخ وعمر بن شبة ومحمد بن داود بن الجراح وغيرهم. روى عنه القاضي الجعابي وابن زنجي الكاتب وأبو عمرو ابن حيويه وأبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني وغيرهم. وفيه يقول ابن الرومي [1] :
وفي ابن عمّار عزيريّة ... يخاصم الله بها والقدر
ما كان لم كان وما لم يكن ... لم لم يكن فهو وكيل البشر
هذا ما ذكره الخطيب.
ووجدت في كتاب ألفه أبو الحسن علي بن عبيد الله بن المسيب الكاتب في «أخبار ابن الرومي» - وكان ابن المسيّب هذا صديقا لابن الرومي وخليطا له- قال:
كان أحمد بن محمد بن عبيد الله بن عمار (هكذا قال في نسبه بتقديم محمد على عبيد الله) صديقا لابن الرومي كثير الملازمة له، وكان ابن الرومي يعمل له الأشعار وينحله إياها يستعطف بها من يصحبه، وكان ابن عمار محدودا فقيرا وقّاعة في الأحرار، وكان أيام افتقاره كثير التسخّط لما تجري به الأقدار، في آناء الليل والنهار، حتى عرف بذلك، فقال له علي بن العباس بن الرومي يوما: يا أبا العباس قد سمّيتك العزير، قال له: وكيف وقعت لي على هذا الاسم؟ قال: لأن العزير خاصم ربه بأن أسال من دماء بني إسرائيل على يدي بخت نصر سبعين ألف دم، فأوحى الله [إليه] لئن لم تترك مجادلتي في قضائي لأمحونّك من ديوان النبوة. وقال فيه:
وفي ابن عمار عزيرية
__________
[109]- ترجمة ابن عمار في تاريخ بغداد 4: 252 والوافي 7: 171 وقد اعتمد الآمدي في الموازنة على احدى رسائله.
[1] ديوان ابن الرومي 3: 913.(1/364)
وذكر البيتين اللذين في كتاب الخطيب، وزاد:
لا بل فتى خاصم في نفسه ... لم لم يفز قدما وفاز البقر
وكلّ من كان له ناظر ... صاف فلا بدّ له من نظر
وكتب ابن الرومي إلى أحمد بن محمد بن بشر المرثدي قصيدة يمدحه بها ويهنئه بمولود ولد له، ويحضه على برّ ابن عمار والاقبال عليه، يقول فيها [1] :
ولي لديكم صاحب فاضل ... أحبّ أن يبقى [2] وأن يصحبا
مبارك الطائر ميمونه ... خبّرني عن ذاك من جرّبا
بل عندكم من يمنه شاهد ... قد أفصح القول وقد أعربا
جاء فجاءت معه غرّة ... تقيّل الناس بها كوكبا
إن أبا العباس مستصحب ... يرضي أبا العباس مستصحبا
لكنّ في الشيخ عزيرية ... قد تركته شرسا مشغبا
فاشدد أبا العباس كفّا به ... فقد ثقفت المخطب المحربا
باقعة إن أنت خاطبته ... أعرب أو فاكهته أغربا
أدّبه الدهر بتصريفه ... فأحسن التأديب إذ أدبا
وقد غدا ينشر نعماءكم ... في كلّ ناد موجزا مطنبا
والقصيدة طويلة.
قال: وصار محمد بن داود بن الجراح يوما إلى ابن الرومي مسلّما عليه، فصادف عنده أبا العباس أحمد بن محمد بن عمار، وكان من الضيق والإملاق في النهاية، وكان علي بن العباس مغموما به، فقال محمد بن داود لابن الرومي ولأبي عثمان الناجم: لو صرتما إليّ وكثرتما بما عندي لأنس بعضنا ببعض، فأقبل ابن الرومي على محمد بن داود فقال: أنا في بقية علة، وأبو عثمان مشغول بخدمة صاحبه
__________
[1] ديوان ابن الرومي 1: 235.
[2] الديوان: يرعى.(1/365)
- يعني إسماعيل بن بلبل- وهذا أبو العباس ابن عمار له موضع من الرواية والأدب، وهو على غاية الإمتاع والإيناس بمشاهدته، وأنا أحبّ أن تعرف مثله، وفي العاجل خذه معك لتقف على صدق القول فيه. فأقبل محمد بن داود على أحمد بن عمار وقال له: تفضل بالمصير إليّ في هذا اليوم، وقبله قبولا ضعيفا، فصار إليه ابن عمار في ذلك اليوم، ورجع إلى ابن الرومي فقال له: إني أقمت عند الرجل وبتّ، وأريد أن تقصده وتشكره وتؤكّد أمري معه، ومحمد بن داود في هذا الوقت متعطّل ملازم منزله، فصار إليه وأكّد له الأمر معه، وطال اختلافه إليه إلى أن ولي عبيد الله بن سليمان وزارة المعتضد واستكتب محمد بن داود بن الجراح وأشخصه معه، وقد خرج إلى الجبل، ورجع وقد زوّجه بعض بناته وولّاه ديوان المشرق، فاستخرج لابن عمار أقساطا أغناه بها وأجرى عليه أيضا من ماله، ولم يزل يختلف إليه أيام حياة محمد بن داود، وكان السبب في أن نعشه الله بعد العثار، وانتاشه من الإقتار ابن الرومي، فما شكر ذلك له، وجعل يتخلّفه ويقع فيه ويعيبه، وبلغ ابن الروميّ ذلك فهجاه باهاج كثيرة، منها وهو مصحّف [1] :
قل لعمّار بن عمّار ... ألا تعظم قدري
بخراجيك وخرؤ الد ... يك لا تعرض لشعري
وتذكّر حين تنسى ... حرّ عمّيك وأثري
وأذقني فرح الرّو ... حة منقادا لأمري
حر حالاتك للجييران ... لكن لست تدري
قال ابن المسيّب: ومن عجيب أمر عزير هذا أنه كان يتنقص ابن الرّومي في حياته، ويزري على شعره، ويتعرّض لهجائه، فلمّا مات ابن الروميّ عمل كتابا في تفضيله ومختار شعره وجلس يمليه على النّاس.
__________
[1] ديوان ابن الرومي 3: 1126 وبناء الألفاظ على التصحيف، وهو من فاحش القول، ومثال ذلك أن تقرأ البيت الثاني: بحر أختك وحر والدتك لا تعرض لشعري، والثالث: وتذكّر حين تنسى حر عمتك الخ؛ وإذا كتبت الأبيات دون التصحيف المقصود جاءت غير موزونة.(1/366)
وذكره محمد بن إسحاق النديم في كتاب الفهرست [1] فقال: كان يصحب محمد بن داود بن الجراح ويروي عنه، ثمّ توكّل للقاسم بن عبيد الله بن سليمان وولده.
وله من الكتب: كتاب المبيّضة، وهو في مقاتل الطالبيين. كتاب الأنواء.
كتاب مثالب أبي نواس. كتاب أخبار سليمان بن أبي شيخ. كتاب الزّيادة في أخبار الوزراء لابن الجراح. كتاب أخبار حجر بن عديّ. كتاب أخبار أبي نواس. كتاب أخبار ابن الرومي ومختار شعره. كتاب المناقضات. كتاب أخبار أبي العتاهية. كتاب الرّسالة في بني أميّة. كتاب الرسالة في تفضيل بني هاشم ومواليهم وذمّ بني أميّة وأتباعهم. كتاب الرسالة في المحدب والمحدث، كتاب أخبار عبد الله بن معاوية الجعدي، كتاب الرسالة في مثالب معاوية.
وذكره أبو عبد الله [2] المرزباني في «كتاب المعجم» فقال: وذكر أنه مات في سنة عشر وثلاثمائة قال: وهو القائل:
وعيّرتني النّقصان والنّقص شامل ... ومن ذا الّذي يعطى الكمال فيكمل؟
وأقسم أنّي ناقص غير أنني ... إذا قيس بي قوم كثير تقلّلوا
تفاضل هذا الخلق بالعلم والحجى ... ففي أيّما هذين أنت فتفضل
ولو منح الله الكمال ابن آدم ... لخلّده والله ما شاء يفعل
وذكر ابن زنجيّ أبو القاسم الكاتب قال: كان الوزير أبو الحسن عليّ بن محمد بن الفرات قد أطلق في وزارته الأخيرة للمحدّثين عشرين ألف درهم، فأخذت لأبي العبّاس أحمد بن عبيد الله بن عمّار، لأنّه كان يجيئني ويقيم عندي، وسمعت منه أخبار المبيّضة، ومقتل حجر، وكتاب صفّين، وكتاب الجمل، وأخبار المقدّمي، وأخبار سليمان بن أبي شيخ وغير ذلك، خمسمائة درهم.
__________
[1] الفهرست: 166.
[2] هنا أبو عبد الله، وقد ورد أبو عبيد الله من قبل.(1/367)
- 110-
أحمد بن عبد الله بن أحمد أبو الحسين الكلوذاني
المعروف بابن قرعة: من أهل الأدب والفضل الغزير، كتب بخطّه الكثير من المصنّفات الطّوال، ولازم أبا بكر الصّوليّ، وتضلّع عليه من أدبه، وروى عنه، وطلب الأدب طول عمره، ثمّ عاد إلى بلده كلواذى، فأقام بها طول عمره، وقصده الناس، فكان أديبها وفاضلها، ولم يزل بها إلى آخر عمره.
- 111-
أحمد بن عبيد الله بن الحسن بن شقير، أبو العلاء البغداديّ
: ذكره الحافظ أبو القاسم في «تاريخ دمشق» [1] وقال: حدّث عن أبي بكر محمّد بن هارون بن المحدوّ [2] ، وحامد بن شعيب البلخيّ والهيثم بن خلف وأبي بكر الباغندي والبغوي وأبي عمر الزاهد وأبي بكر ابن الأنباري وابن دريد وأحمد بن فارس وأبي بكر أحمد بن عبد الله بن سيف السجستاني. روى عنه تمام الرازي ومكي بن محمد بن الغمر وأبو نصر عبد الوهاب ابن عبد الله بن الحيان ومحمد بن عبد الله بن الحسن الدوري.
__________
[110]- ترجمة ابن قرعة في تاريخ بغداد 4: 254 والوافي 7: 174.
[111]- ترجمة ابن شقير في الوافي 7: 119 (أحمد بن عبد الله بن شقير) وأعاد ترجمته 7: 175 (أحمد بن عبيد الله بن شقير) وعلى هذا فيمكن الرجوع إلى تاريخ بغداد 4: 254 وإنباه الرواة 1: 84 وبغية الوعاة 1: 333.
[1] انظر مختصر تاريخ دمشق لابن منظور 3: 148 (تحقيق رياض مراد) .
[2] ابن عساكر: المجدد.(1/368)
- 112-
أحمد بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم أبو عيسى
: نذكر كلّ واحد من آبائه وأعمامه وأهل بيته في بابه إن شاء الله تعالى وحده، وأما نسبهم وولاؤهم وأوليتهم فنذكره في باب جده يحيى بن أبي منصور المنجم إن شاء الله. وكان أحمد هذا نبيلا فاضلا، وذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: وله كتاب تاريخ سني العالم.
- 113-
أحمد بن علي أبو بكر الميموني البرزندي النحوي
: ذكره أبو الفتح منصور بن المعذر النحوي الأصفهاني المتكلم، وقد ذكر جماعة من المعتزلة النحويين، فذكر أبا سعيد السيرافي وأبا علي الفارسي وعلي بن عيسى الرماني وغيرهم ثم قال: وأبو بكر أحمد بن علي النحوي البرزندي الشافعي النحوي [1] المعتزلي القائل:
إذا مت فانعيني إلى العلم والنهى ... وما حبّرت كفّي بما في المحابر
فاني من قوم بهم يفخر الهدى ... إذا أظلمت بالقوم طرق البصائر
- 114-
أحمد بن علي بن وصيف المعروف بابن خشكنانجه
: يكنى أبا الحسين، وكان أبوه علي الملقب بخشكنانجه فاضلا، وقد ذكر في بابه [2] . مات أحمد ببغداد.
وذكره محمد بن اسحاق النديم [3] وقال: كان كاتبا بليغا فصيحا شاعرا، وله من الكتب: كتاب النثر الموصول بالنظم. كتاب صناعة البلاغة. كتاب الفوائد.
__________
[112]- ترجمة أبي عيسى ابن المنجم في الفهرست: 161 وانظر ما يأتي رقم 116.
[113]- ترجمة الميموني النحوي في الوافي 7: 236 وبغية الوعاة 1: 349.
[114]- ترجمة ابن خشكنانجة في الوافي 7: 227 وقال فيه: «كان من متأدبي الكتاب ويذهب مذهب الشيعة ويحضر مجالس النظر ويتكلم، نادم الوزراء ومدحهم منذ أيام المهلبي» وأورد له قصيدة كتب بها إلى أبي اسحاق الصابي.
[1] النحوي: مكررة.
[2] ترجمته رقم: 848.
[3] الفهرست: 155 (وكناه أبا الحسن) .(1/369)
- 115-
أحمد بن علي القاساني اللغوي أبو العباس
: يعرف بلوه وقيل بابن لوه، لا أعرف من أمره إلا ما قرأته بخطّ بديع بن عبد الله فيما كتبه عن أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي، أنشدني أحمد بن علي القاساني اللغوي:
اغسل يديك من الثقات ... فاصرمهم صرم البتات
واصحب أخاك على هوا ... هـ وداره بالترّهات
ما الودّ الا باللسا ... ن فكن لسانيّ الصفات
وقال في موضع آخر منه: سمعت أبا العباس أحمد بن علي القاساني يقول:
سمعت أعرابيا بالبادية يقول:
قل لدنيا أصبحت تلعب بي ... سلّط الله عليك الآخره
قلت أنا: هذا البيت معروف للحسين بن الضحاك مع بيت آخر هو [1] :
إن أكن أبرد من قنينة ... أو من الريش فأمي فاجره
وقال في موضع آخر: أخبرني أبو العباس أحمد بن علي القاساني، يعرف بلوه، وقال في موضع آخر: يعرف بابن لوه، بقزوين قال: كنت بالبصرة وبها أبو بكر ابن دريد، فبينا نحن في مجلسه ورد علينا رجل من أهل الكوفة فجعل يسأله عن مسائل يظهر فيها لنا أنه يتعنته ويتسقّطه، فأقبل عليه أبو بكر فقال له: يا هذا قد عرفت مغزاك وأحبّ أن تجمع ما تريد أن تسألني عنه في قرطاس وتأتيني به وتأخذ مني الجواب بديهة إن شئت أو روية، فمضى الرجل وجاءه بعد ثلاث، وقد جمع له، فما سأله عن مسألة إلا وأبو بكر يبادره بالجواب والرجل يكتب، ثم إنا سألنا الرجل فأعطانا المسائل والجواب فكتبتها وهي هذه سماعي من أبي بكر لفظا: القهوسة: مشية بسرعة. القعسرة: الصلابة والشدة. القعنسة: الانتصاب في الجلسة، ويقال
__________
[115]- ترجمة القاساني في بغية الوعاة 1: 349.
[1] البيتان في الأغاني 7: 200.(1/370)
القعنسة: أن يرفع الرجل رأسه وصدره. القعوسة: التذلل. العرطسة: استرخاء وبلادة في الإنسان. البحدلة: القصر. بهدل: طائر. الكهدل: الشابة الناعمة. غطمش من قولنا تغطمش علينا إذا ظلمنا. هجعم من الهجعمة وهي الجرأة. خضارع من الخضرعة: وهي التسمح بأكثر مما عند الانسان. التخثعم: الانقباض. الخثعمة:
التلطخ بالدم. الشغفر. المرأة الحسناء. الكلحبة: العبوس، ويقال كلحبت النار إذا مدّت لسانها. سنبس من الصلابة واليبس. البلندي: الغليظ الصلب. القرثعة:
تقرّد الصوف، في حروف نحو هذه.
قال ابن فارس، أنشدني أبو العباس أحمد بن علي القاساني، وكان يعرف بابن لوه، قال أنشدني أبو عبد الله نفطويه لبعض الأعراب:
إذا واله حنّت من الليل حنّة ... إلى إلفها جاوبتها بحنين
هنالك لا روّادهم يبلغوننا ... ولا خبر يجلو العمى بيقين
وقال، قال أبو العباس: حججت فوقفت على أعرابية فقلت لها: كيف أصبحت؟ فقالت:
بخير على أنّ النوى مطمئنة ... بليلى وان العين باد معينها
وإني لباك من تفرّق شملهم ... فمن مسعد للعين أم من يعينها
قال وأنشدني:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بواد به الجثجاث والسّلم النّضر
قال ابن فارس، وأنشدني أحمد بن علي القاساني:
وأمست أحبّ الناس قربا ورؤية ... إلى قلبه سلمى وإن لم تحبّب
حببت إليه كلّ واد تحلّه ... سليمى خصيبا كان أو غير مخصب
قال وأنشدني:
وإذا دعا داع بها فدّيتها ... وعضضت من جزع لفرقتها يدي
لا تبعدن تلك الشمائل والحلى ... منها وإن سكنت محلّ الأبّد(1/371)
- 116-
أحمد بن علي بن هارون بن علي بن يحيى بن أبي منصور المنجم، أبو الفتح
: أحد من سلك سبيل آبائه في طرق الأداب واهتدى بهم في التولج إلى الفضائل من كلّ فن، روى عنه أبو علي التنوخي في «نشواره» فأكثر، ووصفه بالفضل وما قصّر، وأنشد له أشعارا قال: أنشدني أبو الفتح أحمد بن علي بن هارون بن يحيى المنجم في الوزير أبي الفرج محمد بن العباس بن فسانجس في وزارته، وقد عمل على الانحدار إلى الأهواز لنفسه:
قل للوزير سليل المجد والكرم ... ومن له قامت الدنيا على قدم
ومن يداه معا تجري ندى وردى ... يجريهما عدل حكم السيف والقلم
ومن إذا همّ أن تمضي عزائمه ... رأيت ما تفعل الأقدار في الأمم
ومن عوارفه تهمي وعادته ... في ربّ بدأته تنمي على القدم
لأنت أشهر في رعي الذمام وفي ... حكم التكرّم من نار على علم
العبد عبدك في قرب وفي بعد ... وأنت مولاه إن تظعن وإن تقم
فمره يتبعك أو لا فاعتمده بما ... تجري به عادة الملّاك في الخدم
قال: وأنشدني لنفسه، وذكر أنه لا يوجد لها قافية رابعة من جنسها في الحلاوة [1] :
__________
[116]- انظر رقم: 112 حيث ترجم ياقوت لأحمد بن علي بن يحيى وهو الذي يكنى بأبي عيسى؛ وقد ترجم الصفدي 7: 228 لواحد كنيته أبو عيسى وسماه أحمد بن علي بن هارون بن علي بن يحيى والمفروض أنه غير أبي الفتح الذي يترجم له ياقوت هنا؛ فأبو الفتح هذا ترجم له الخطيب 4: 318 وذكره الثعالبي 3: 394 وهو الذي يروي عنه التنوخي (انظر النشوار 3: 204، 284، 285) ؛ وهناك أبو عيسى ابن المنجم (من رجال القرن الرابع ومن ندماء الصاحب) وهو الذي ترجم له الصفدي، كما ذكرت، وأشار إليه أبو حيان في الامتاع 1: 56- 57 وذكر أنه لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا. وذكره في أخلاق الوزيرين: 160 (وأخطأ المعلّق في تحديد من هو المقصود هنا من بني المنجم) . ولعلّ أبا عيسى هو أحمد بن يحيى بن علي بن يحيى بن المنجم.
[1] أصل هذا في نشوار المحاضرة 3: 204 وذكر التنوخي أنها وردت أيضا في جزء آخر من كتابه (وقد وقعت في الجزء الرابع نقلا عن معجم الأدباء، فهو جزء مجموع) .(1/372)
سيدي أنت ومن عادته ... باعتداء وبجور جاريه
أنصف المظلوم وارحم عبرة ... بدموع ودماء جاريه
ربما أكني بقولي سيدي ... عند شكواي الهوى عن جاريه
قال: وأنشدني لنفسه والقافية كلها «عود» باختلاف المعنى:
العيش عافية والراح والعود ... فكلّ من حاز هذا فهو مسعود
ضهذا الذي لكم في مجلس أنق ... أشجاره العنبر الهندي والعود
وقينة وعدها بالخلف مقترن ... بما يؤمّله راج وموعود
وفتية كنجوم الليل دأبهم ... إعمال كأس حذاها النار والعود
فاغدوا عليّ بكاس الراح مترعة ... عودا وبدءا فإن أحمدتم عودوا
- 117-
أحمد بن علي أبو الحسن البتي الكاتب
: كان يكتب للقادر بالله عند مقامه بالبطيحة، ولما وصلته البيعة كتب عنه إلى بهاء الدولة. وكان البتي حافظا للقرآن تاليا له مليح المذاكرة بالأخبار والآداب، عجيب النادرة ظريف المزح والمجون.
قال ابن عبد الرحيم: كان البتي في بدء أمره يلبس الطيلسان ويسمع الحديث ويقرأ القرآن على شيوخ عصره، وكان يذكر أنه قرأ القرآن على زيد بن أبي بلال، وكان غاية في جميع [1] خلال الأدب، يتعلق بصدور وافرة من فنون العلم، ويكتب خطا جيدا، ويترسّل ترسلا لا بأس به، وينظم شعرا دون ما كان حظي به من العلم؛ ثم لبس من بعد الدرّاعة وسلك في لبسه مذاهب الكتاب القدماء، وكان يلبس الخفّين والمبطّنة ويتعمم العمّة الثغرية وإن لبس لالجة [2] لم تكن إلا مربدية [3] ، وكان لا
__________
[117]- ترجمة البتي في تاريخ بغداد 4: 320 والمنتظم 7: 263 والوافي 7: 231.
[1] الوافي: في جمع.
[2] اللالجة أو اللالكة: ضرب من النعال.
[3] الوافي: مريدية.(1/373)
يتعرض لحلق شعره جريا على السنة السالفة. وكتب من بعد في ديوان الخلافة، وكان له حرمة بالقادر بالله رعاها له، ثم غلب على أخلاقه الهزل وتجافى الجدّ بالواحدة وانقطع إلى اللعب، وكان شكله ولفظه وما يورده من النوادر يدعو إلى مكاثرته والرغبة إلى مخالطته، فحضر مجلس بهاء الدولة في جملة الندماء، ونفق عليه نفاقا لا مزيد عليه، ولم يكن لأحد من الرؤساء مسرّة تتمّ ولا أنس يكمل إلا بحضوره، فكانوا يتداولونه ولا يفارقونه، ونادم الوزراء حتى انتهى إلى منادمة فخر الملك، وأعجب به غاية الإعجاب وأحسن إليه غاية الاحسان، ومات في أيامه. وكانت له نوادر مضحكة وجوابات سريعة لا يكاد يلحقه فيها أحد، وتعرّض لغيبة الناس تعرضا قلّ ما أخلّ به على الوجه المضحك الذي يكون سببا إلى تدارك تلك المنقصة وطريقا إلى [تغمد] زلته فيها بما اعتمده من التطايب. وكان يذهب مذهب المعتزلة ويميل إلى فقه أبي حنيفة، ويتعصّب للطائيّ تعصبا شديدا، ويفضل البحتريّ على أبي تمام ويغلو فيه غاية الغلو.
فمن نوادره الشائعة أنه انحدر مع الرضيّ والمرتضى وابن أبي الريان الوزير وجماعة من الأكابر لاستقبال بعض الملوك، فخرجوا عليهم اللصوص ورموهم بالحذّافات، وجعلوا يقولون: ألا حلوا يا أزواج القحاب؛ فقال البتي: ما خرج هؤلاء علينا إلا بعين، قالوا: ومن أين علمت؟ قال: وإلا فمن أين علموا أنا أزواج قحاب؟!.
وكان البتي صاحب الخبر والبريد في الديوان القادري ومات في شعبان سنة ثلاث وأربعمائة؛ وله تصانيف منها: كتاب القادري. وكتاب العميدي. كتاب الفخري.
قال الوزير أبو القاسم المغربي: كان أبو الحسن البتي أحد المتفننين في العلوم لا يكاد يجارى في فنّ من فنون العلوم فيعجز عنه، وكان مليح المحاضرة كثير المذاكرة طيّب النادرة مقبول المشاهدة، رأيته على باب أحد رؤساء العمال وقد حجب عنه فكتب اليه:
على أي باب أطلب الإذن بعدما ... حجبت عن الباب الذي أنا حاجبه
فخرج الاذن له في الحال.(1/374)
وحدث الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن قال: كنت مع فخر الملك أبي غالب ابن خلف بالأهواز فكتب الى أبي ياسر عمار بن أحمد الصيرفي: احمل إلى أبي الحسن البتي مائتي دينار مع امرأة لا يعرفها، واكتب معها رقعة غير مترجمة، وقل فيها: قد دعاني ما آثرته من مخالطتك، ورغبت فيه من مودتك، الى استدعاء المواصلة منك، وافتتاح باب الملاطفة بيني وبينك، وقد أنفذت مع الرسول مائتي دينار. فأخذها أبو الحسن وكتب على ظهر الرقعة: مال لا أعرف مهديه فأشكر له ما يوليه، إلا أنه صادف إضاقة دعت إلى أخذه والاستعانة في بعض الأمور به، وقلت [1] :
ولم أدر من ألقى عليه رداءه ... سوى أنه قد سلّ عن ماجد محض
وإذا سهّل الله لي اتساعا رددت العوض موفورا، وكان المبتدىء بالبر مشكورا.
وكان أبو الحسن قد فطن للقصة، وكتب ما كتب على بصيرة. ولما أنفذ أبو ياسر بالجواب أقرأنيه فخر الملك، فاستحسنت وقوع هذا البيت موقعه من التمثل.
ومن شعر الرضيّ الموسوي إليه الأبيات المشهورة [2] :
أبا حسن أتحسب أن شوقي ... يقلّ على مكاثرة [3] الخطوب
يهشّ لكم على العرفان قلبي ... هشاشته إلى الزّور الغريب
وألفظ غيركم ويسوغ عندي ... ودادكم مع الماء الشروب
ورثاه الرضيّ الموسوي بقوله [4] :
ما للهموم كأنها ... نار على قلبي تشبّ
والدمع لا يرقا له ... غرب كأن العين غرب
ما كنت أحسب أنني ... جلد على الأرزاء صعب
ما أخطأتك النائبا ... ت إذا أصابت من تحبّ
__________
[1] البيت لأبي خراش الهذلي (شرح أشعار الهذليين: 1231) .
[2] ديوان الرضي (بيروت) 1: 193.
[3] الديوان: معارضة.
[4] ديوان الرضي 1: 170.(1/375)
ورثاه المرتضى أخو الرضي بقوله [1] :
عرّج على الدار مغبرّا جوانبها ... فاسأل بها عجلا عن ساكن الدار
وقل لها أين ما كنّا نراه على ... مرّ المدى بك من نقض وإمرار
وأين أوعية الآداب فاهقة ... تجري خلالك جري الجدول الجاري
يا أحمد بن عليّ والردى عرض ... يزور بالرغم منّا كلّ زوار
علقت منك بحبل غير منتكث ... عند الحفاظ وعود غير خوّار
وقد بلوتك في سخط وعند رضى ... وبين طيّ لأنباء وإظهار
فلم تفدني إلا ما أضنّ به ... ولم تزدني إلا طيب أخبار
لا عار فيما شربت اليوم غصّته ... من المنون وهل بالموت من عار
ولم ينلك سوى ما نال كلّ فتى ... عالي المكان ولاقى كلّ جبار
وأمر بهاء الدولة أبا الحسن البتي أن يعمل شعرا يكتب على تكة إبريسم فقال [2] :
لم لا أتيه ومضجعي ... بين الروادف والخصور
وإذا قسمت فإنني ... بين الترائب والنحور
ولقد نشأت صغيرة ... بأكفّ ربّات الخدور
وله يصف كوز الفقاع [3] :
يا ربّ ثدي مصصته بكرا ... وقد عراني خمار مغبوق
له هدير إذا شربت به ... مثل هدير الفحول في النوق
كأن ترجيعه إذا رشف ... الراشف فيه صياح مخنوق
__________
[1] ديوان المرتضى 2: 78 (وفي العنوان أنه يرثي أبا الحسن أحمد بن علي البيهقي، وفي لفظة «البيهقي» تصحيف) .
[2] وردت الأبيات في تاريخ بغداد.
[3] انظر المصدر السابق، والوافي 7: 233.(1/376)
وله أيضا:
ما احمرت العين من دمع أضرّ بها ... في عرصتي طلل أو إثر مرتحل
لكن رآها الذي يهوى وقد نظرت ... في وجه آخر فاحمرّت من الخجل
قال ابن عبد الرحيم: وكان القادر بالله استتر عنده لما طلبه الطائع قبل انحداره، وأخذ يده أن يستلينه، فلما ولي وقضي الأمر صرف ابن حاجب النعمان ورتبه في كتابته، واتفق أن كان ذلك في وقت الأضحى، فخرج إليه خادم على العادة في مثل ذلك فقال له: رسم أن تحصى أسقاط الأضاحي، فقال لغلامه: خذ الدواة فإنّ القوم يريدون كيرعانيا [1] ولا يريدون كاتبا، وانصرف بهذا المزح من الخدمة، وكان الهزل قد غلب عليه وعزب عنه الجدّ جملة.
وكان بينه وبين الرضيّ مقارضة لكلام جرى بينهما، فاتفق أن اجتاز بقرب دار الرضيّ عند مسجد الأنباري، فقال لغلامه: مل بنا عن تلك الدار فإني أكره المرور بها، فالتفت فوقعت عينه على الرضي، فتمم كلامه من غير أن يقطعه وقال: فإنني لا وجه لي في لقائه لطول جفائه، فاستحسن هذا من بديهته، ودخل دار الرضيّ واصطلحا.
ومن نوادره أنه سمع يوما أصوات الملاحين وارتفاع ضجة فقال: ما هذا؟
فقالوا: هؤلاء أولاد أبي الفضل ابن حاجب النعمان وأبي سعيد ابن أبي الخطاب وجماعة أولادهم، فقال: ما بيننا وبين هؤلاء إلا موت الآباء؟
ورأى معلما قبيح الوجه يعرف بنفّاط الجن، وكان وحشا انكشفت سوءته، فقال له: يا هذا استر عورتك السفلى، فإنك قد أدليت ولكن بغير حجّة.
واستقبل أبا عبد الله ابن الدرّاع في ميدان بستان فخر الدولة، وهو متكىء على يد غلام أسود، فقال أبو عبد الله: هذا الأسود يصلح لخدمة سيدنا، فقال البتي:
أي الخدم؟ فقال: خدمة الفراش، فقال: اللهم غفرا أرمى بالبغاء وليس في منزلي خنفساء ويعرى منه سيدنا وفي داره جميع بني حام؟!
__________
[1] لعلّه: يريدون كراعيا.(1/377)
بشر ابن الحواري بمولود، وكان ابن الحواري سمج الخلقة، فقال له البتي:
إن كان هذا المولود يشبهك فويه ثم ويه.
وسقاه الفقاعي في دار فخر الدولة فقاعا فلم يستطبه، فردّ الكوز مفكرا، فقال له الفقاعي: في أيّ شيء تفكر؟ فقال: في دقة صنعتك، كيف أمكنك أن تخرى في هذه الكيزان كلّها مع ضيق رأسها.
واتاه غلامه في مجلس حفل فقال له: ان ابنك وقع من ثلاث درج، فقال:
ويلك من ثلاث بقين أو خلون؟ فلم يفهم عنه، فقال: إن كان خلون فسهل وان بقين فيحتاج إلى نائحة.
ودخل الرقي العلويّ على فخر الملك فقال: أطال الله بقاء مولانا وأسعده بهذا اليوم، فقال له: وأيّ يوم هذا؟ فقال: أيلون، فقال البتي، بالنون؟ فقال: ما قرأت النحو، فقال البتي: أنت إذا معذور فإنك ثلاثة أرباع رقيع (أراد رقيّ إذا ألحقت به العين وهو الحرف الرابع صار رقيع) .
قال ابن عبد الرحيم: وكان بين البتي وبين أبي القاسم ابن فهد ملاحاة ومنابذة ثم أصلح فخر الملك بينهما، فعمل فيه أبياتا يقول فيها:
قلت للبتيّ لما ... رام صلحي من بعيد
وكان يرمى بالبخر ويزنّ بالأبنة أيضا.
وقال فيه أيضا:
وكلّ شرط للصلح أقبله ... إن أنت أعفيتني من القبل
وحدث ابن عبد الرحيم قال: وكان البتي مقبولا مستملحا في جميع أحواله ولم يكن فيه أقلّ من شعره، فإنه كان في غاية البرد وعدم الطبع، وكان قد عمل في فخر الملك وهو يسدّ بثق النهروان قصيدة يصف فيها السّكر قال فيها:
إذا أتاه الماء من جانب ... عاجله بالسدّ من جانب
فقال له: هذا والله أيها الاستاذ بارد، وأعاده فحكى البيت وتأمله، وقال: نعم والله هو بارد، وجعل يعوج على نفسه ويكرر الانشاد مستبردا له، فضحك فخر الملك منه وقطع الإنشاد ولم يتممه.(1/378)
قال: ولم يكن يسلم أحد من لسانه وتعويجه وثلبه له، وإذا اتفق أن يسمعه من يقول ذلك فيه التفت إليه كالمعتذر وقال: مولاي هاهنا؟ ما علمت بحضوره، ويجعل كونه ما علم بحضوره اعتذارا كأنه مباح له ثلبه بالغيبة.
قال: وكان مع ذكائه وتوقده وكثرة طنزه وتولّعه أشدّ الناس غباوة في الأمور الجديات وأبعدهم من تصورها، وكان له معرفة تامة بالغناء وصنعته، ولا تكاد المغنية تغنّي بصوت إلا ذكر صنعته وشاعره وجميع ما قيل في معناه.
وله من قصيدة في ابن صالحان:
سل الربع بالخبتين كيف معاهده ... وأنّى برجع القول منه هوامده
عفت حقبا بعد الأنيس رسومه ... فلم يبق إلا نؤيه وخوالده
ديار نزفت الدمع في عرصاتها ... تؤاما إلى أن أقرح الجفن فارده
أرقت دما بعد الدموع نزحته ... من القلب حتى غيّضته شوارده
سأستعتب الدهر الخؤون بسيّد ... يردّ جماح الدهر إذ هو قائده
سواء عليه طارف المال في الندى ... إذا ما انتحاه السائلون وتالده
وله فيه:
قرم إذا اعتذرت نوافل برّه ... لم يلف دافع حقّها بمعاذر
من معشر ورثوا المكارم والعلا ... وتقسّموها كابرا عن كابر
قوم يقوم حديثهم بقديمهم ... ويسير أولهم بمجد الآخر
وكان أبو إسحاق الصابيء قد عمل لأبي بشر ابن طازاد نسخة كتاب أراد إنشاءه ونحله اياه، فكتب إليه أبو الحسن البتي يعرّض بذلك:
زكاة العلوم زكاة الندى ... وعرف المعارف بذل الحجى
ولكن يجرّ به أهله ... فأجر بنيلك فضل التقى
لئن كنت أوجبته قربة ... لما وقع الموقع المرتضى
وما صدقاتك مقبولة ... إذا ما تنكبت فيها الهدى(1/379)
قد عرفت- أطال الله بقاء سيدي- العارية والمستعير وكيف جرى الأمر في ذلك، وما ظننت أن هذا يجري مجرى الماعون الذي لا يحسن منعه ولا يقع المعرض موقعه بل يسلّ لوقته عن لابسه.
- 118-
أحمد بن علي بن محمد أبو عبد الله الرماني النحوي
المعروف بابن الشرابي: ذكره أبو القاسم [1] فقال: سمع عبد الوهاب بن حسن الكلابي وأبا الفرج الهيثم بن أحمد الفقيه وأبا القاسم عبد الرحمن بن الحسين بن الحسن بن علي بن يعقوب بن أبي العقب. حدث بكتاب «اصلاح المنطق» ليعقوب بن السكيت عن أبي جعفر محمد بن أحمد الجرجاني عن أبي علي الحسن بن إبراهيم الآمدي عن أبي الحسن علي بن سليمان الأخفش عن ثعلب عن ابن السكيت. روى [2] عنه ابو نصر ابن طلاب الخطيب. قال ابن الاكفاني: حدثنا عبد العزيز بن أحمد الكناني توفي أبو عبد الله احمد بن علي الرماني الشرابي النحوي يوم الجمعة ليومين مضيا من ربيع الآخر سنة خمس عشرة وأربعمائة.
- 119-
أحمد بن علي بن خيران الكاتب المصري أبو محمد
: الملقب بوليّ الدولة، صاحب ديوان الانشاء بمصر بعد أبيه، وكان أبوه أيضا فاضلا بليغا أعظم قدرا من ابنه
__________
[118]- ترجمة ابن الشرابي في إنباه الرواة 1: 88 والوافي 7: 212 وبغية الوعاة 1: 347.
[119]- ترجمة ابن خيران في الوافي 7: 234 والاشارة لابن الصيرفي: 34، 35، والمغرب (قسم القاهرة) : 244 وانظر صبح الأعشى 1: 96. وقال ابن سعيد إنه وقع له ديوان شعره وانه وقف على رسائله في مجلدين واكثرها من طبقة المغسول المسبوع لا تقف منها على غريبة ولا تظفر بنادرة (قارن هذا برأي هلال بن المحسن في ما يلي) .
[1] يعني ابن عساكر، انظر تهذيبه 1: 411 وكأنه سقط من مختصر ابن منظور.
[2] إنباه: رواه (يعني إصلاح المنطق) .(1/380)
وأكثر علما، وكان أبو محمد هذا يتقلّد ديوان الانشاء للظاهر ثم للمستنصر، وكان رزقه في كلّ سنة ثلاثة آلاف دينار، وله عن كلّ ما يكتبه من السجلات والعهود وكتب التقليدات رسوم يستوفيها من كل شيء يحسبه، وكان شابا حسن الوجه جميل المروءة واسع النعمة طويل اللسان جيّد العارضة. وسلّم إلى أبي منصور ابن الشيرازي رسول [أبي] كاليجار إلى مصر من بغداد جزءين من شعره ورسائله، واستصحبهما إلى بغداد ليعرضهما على الشريف المرتضى أبي القاسم وغيره ممن يأنس به من رؤساء البلد، ويستشير في تخليدهما دار العلم، لينفذ بقية الديوان والرسائل إن علم أنّ ما أنفذه منها ارتضي واستجيد، وانه فارقه حيا، ثم ورد الخبر بأنه مات في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وأربعمائة في أيام المستنصر.
قال ابن عبد الرحيم: ووقع إليّ الجزء من الشعر فتأملته فما وجدته طائلا، وعرّفني الرئيس أبو الحسين هلال بن المحسن أن الرسائل صالحة سليمة، قال: وقد انتزعت من المنظوم، على خلوّه إلا من الوزن والقافية. فمن شعره:
عشق الزمان بنوه جهلا منهم ... وعلمت سوء صنيعه فشنئته
نظروه نظرة جاهلين فغرّهم ... ونظرته نظر الخبير فخفته
ولقد أتاني طائعا فعصيته ... وأباحني أحلى جناه فعفته
ومن شعره أيضا:
ولي لسان صارم حدّه ... يدمي إذا شئت ولا يدمى
ومنطق ينظم شمل العلا ... ويستميل العرب والعجما
ولو دجا الليل على أهله ... فأظلموا كنت لهم نجما
ومن شعره أيضا:
أخذ المجد يميني ... ليفيضنّ يميني
ثم لا أرجىء إحسا ... نا إلى [من] يرتجيني
ومن شعره أيضا:
ولقد سموت على الأنام بخاطر ... الله أجرى منه بحرا زاخرا(1/381)
فإذا نظمت نظمت روضا حاليا ... وإذا نثرت نثرت درا فاخرا
وقال على لسان بعض العلويين يخاطب العباسيين [1] :
وينطقنا فضل البدار إلى الهدى [2] ... ويخرسكم عن ذكر فضل [لكم] بدر
وقد كانت الشورى علينا غضاضة ... ولو كنتم فيها استطاركم الكبر
ومن شعره أيضا:
يا من إذا أبصرت طلعته ... سدّت عليّ مطالع الحزم
قد كفّ لحظي عنك مذ كثرت ... فينا الظنون فكفّ عن ظلمي
ومن شعره أيضا:
حيّوا الديار التي أقوت مغانيها ... واقضوا حقوق هواها بالبكا فيها
ديار فاترة الألحاظ فاتنة ... جنت عليك ولجّت في تجنيها
ظلّت تسحّ دموعي في معاهدها ... سحّ السحاب إذا جادت عزاليها
ومن شعره أيضا:
أيها المغتاب لي حسدا ... مت بداء البغي والحسد
حافظي من كلّ معتقد ... فيّ سوءا حسن معتقدي
ومن شعره أيضا:
أما ترى الليل قد ولّت كواكبه ... والصبح قد لاح وانبثت مواكبه
ومنهل العيش قد طابت موارده ... والدهر وسنان قد أغفت نوائبه
فقم بنا نغتنم صفو الزمان فما ... صفا الزمان لمخلوق يصاحبه
ومن شعره أيضا [3] :
خلقت يدي للمكرمات ومنطقي ... للمعجزات ومفرقي للتاج
__________
[1] وردا من جملة أبيات في المغرب: 246.
[2] المغرب: فضل البدار عليكم.
[3] البيتان في المغرب: 245.(1/382)
وسموت للعلياء أطلب غاية ... يشقى بها الغاوي ويحظى الراجي
ومن شعره [1] :
أنا شيعيّ لآل المصطفى ... غير أني لا أرى سبّ السلف
ضأقصد الإجماع في الدين ومن ... قصد الاجماع لم يخش التلف
لي بنفسي شغل عن كلّ من ... للهوى قرّظ قوما أو قذف
ومن شعره:
فقام يباهي غرة الشمس نوره ... وتنصف من ظلم الزمان عزائمه
أغرّ له في العدل شرع يقيمه ... وليس له في الفضل ندّ يقاومه
وقال على لسان ذلك الملك يخاطب الظاهر لاعزاز دين الله حين أمر بالختم على جميع ما له هذين البيتين، وكانا السبب في الإفراج عما أخذ منه والرضى عنه:
من شيم المولى الشريف العلي ... ألّا يرى مطّرحا عبده
وما جزا من جنّ من حبكم ... أن تسلبوه فضلكم عنده
وكان ابن خيران قد خرج إلى الجيزة متنزها ومعه جماعة من أصحابه المتقدمين في الأدب والشعر والكتابة، وقد احتفوا به يمينا وشمالا، فأدّى بهم السير إلى مخاضة مخوفة، فلما رأى إحجام الجماعة من الفرسان عنها وظهور جزعهم منها قنّع بغلته فولّجها حتى قطعها، وانثنى قائلا مرتجلا:
ومخاضة يلقى الردى من خاضها ... كنت الغداة إلى العدا خوّاضها
وبذلت نفسي في مهاول خوضها ... حتى تنال من العلا أغراضها
وله أيضا:
من كان بالسيف يسطو عند قدرته ... على الأعادي ولا يبقى على أحد
ضفإن سيفي الذي أسطو به أبدا ... فعل الجميل وترك البغي والحسد
__________
[1] ورد الأول من هذه الأبيات في المغرب: 247.(1/383)
وله أيضا:
قد علم السيف وحدّ القنا ... أنّ لساني منهما أقطع
والقلم الأشرف لي شاهد ... بأنني فارسه المصقع
قال ابن عبد الرحيم: وهو كثير الوصف لشعره والثناء على براعته ولسنه، وجميع ما في الجزء بعد ما ذكرته لا حظّ فيه، وليس فيه مدح إلا في سلطانهم المستنصر، والباقي على نحو ما ذكرته في مراثي أهل البيت عليهم السلام، ولو كان فيه ما يختار لاخترته.
- 120-
أحمد بن علي بن ثابت بن أحمد بن مهدي الخطيب أبو بكر البغدادي
: الفقيه الحافظ أحد الأئمة المشهورين المصنفين المكثرين، والحفاظ المبرزين، ومن ختم به ديوان المحدّثين. سمع ببغداد شيوخ وقته، وبالبصرة وبالدينور وبالكوفة، ورحل إلى نيسابور في سنة خمس عشرة وأربعمائة وقدم دمشق سنة خمس وأربعين وأربعمائة حاجّا فسمع بها، ثم قدمها بعد فتنة البساسيري لاضطراب الأحوال ببغداد، فآذاه الحنابلة بجامع المنصور سنة إحدى وخمسين فسكنها مدة وحدث بها بعامّة كتبه ومصنفاته إلى صفر سنة سبع وخمسين، فقصد صور فأقام بها، وكان يتردد إلى القدس للزيارة ثم يعود إلى صور، إلى أن خرج من صور في سنة اثنتين وستين وأربعمائة وتوجه إلى طرابلس وحلب، فأقام في كل واحدة من البلدتين أياما قلائل، ثم عاد إلى بغداد في أعقاب سنة اثنتين وستين وأقام بها سنة إلى أن توفي وحينئذ روى «تاريخ بغداد» . وروى عنه من شيوخه أبو بكر البرقاني والأزهري وغيرهما.
__________
[120]- ترجمة الخطيب البغدادي في مصورة تاريخ ابن عساكر 7: 22 وتهذيب ابن عساكر 1: 399 ووفيات الأعيان 1: 76 ومختصر ابن منظور 1: 173- 176 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد (ج 18 من التاريخ وذيوله) : 54 وطبقات السبكي 4: 29 والمنتظم 8: 265 والوافي 7: 190 وتذكرة الحفاظ: 1135 وعبر الذهبي 3: 253 والشذرات 3: 311 والبداية والنهاية 12: 101 وتبيين كذب المفتري: 268 وطبقات ابن هداية الله: 57 والنجوم الزاهرة 5: 87 وللأستاذ يوسف العش كتاب عنه بعنوان: الخطيب البغدادي مؤرخ بغداد ومحدثها (دمشق 1945) .(1/384)
وقال غيث بن علي الصوري [1] : سألت أبا بكر الخطيب عن مولده فقال:
ولدت يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة.
وكان [2] الخطيب يذكر انه لما حجّ شرب من ماء زمزم ثلاث شربات، وسأل الله عز وجل ثلاث حاجات، أخذ بقول النبي صلى الله عليه وسلم ماء زمزم لما شرب له، فالحاجة الأولى أن يحدّث بتاريخ بغداد ببغداد، والثانية أن يملي الحديث بجامع المنصور، والثالثة أن يدفن إذا مات عند قبر بشر الحافي. فلما عاد إلى بغداد حدّث بالتاريخ بها، ووقع إليه جزء فيه سماع الخليفة القائم بأمر الله، فحمل الجزء ومضى إلى باب حجرة الخليفة وسأل أن يؤذن له في قراءة الجزء فقال الخليفة: هذا رجل كبير في الحديث فليس له إلى السماع مني حاجة، ولعل له حاجة أراد أن يتوصّل إليها بذلك، فسلوه ما حاجته، فسئل فقال: حاجتي أن يؤذن لي أن أملي بجامع المنصور، فتقدم الخليفة إلى نقيب النقباء بأن يؤذن له في ذلك، فحضر النقيب وأملى. ولما مات أرادوا دفنه عند قبر بشر بوصيّة منه، قال ابن عساكر [3] : فذكر شيخنا إسماعيل بن أبي سعد الصوفي- وكان الموضع الذي بجنب بشر قد حفر فيه أبو بكر أحمد بن علي الطّريثيثي [4] قبرا لنفسه وكان يمضي إلى ذلك الموضع فيختم فيه القرآن ويدعو، ومضى على ذلك عدة سنين- فلما مات الخطيب سألوه أن يدفنوه فيه فامتنع فقال: هذا قبري قد حفرته وختمت فيه عدة ختمات، ولا أمكن أحدا من الدفن فيه، وهذا مما لا يتصور. فانتهى الخبر إلى والدي فقال له: يا شيخ لو كان بشر في الأحياء ودخلت أنت والخطيب إليه أيكما كان يقعد إلى جنبه أنت أو الخطيب؟ فقال: لا بل الخطيب، فقال له: كذا ينبغي أن يكون في حالة الموت، فإنه أحقّ به منك، فطاب قلبه ورضي بأن يدفن الخطيب في ذلك الموضع فدفن فيه. وقيل إنه كان يذهب إلى مذهب أبي الحسن الأشعري.
__________
[1] يعني في تاريخ صور من تأليفه.
[2] النقل مستمر عن ابن عساكر 7: 24 (وتهذيبه 1: 400) .
[3] انظر المصدر السابق نفسه.
[4] مسند صوفي يعرف بابن زهراء، توفي سنة 497 (طبقات السبكي 4: 39 والمنتظم 9: 138 والشذرات 3: 405) .(1/385)
عن أبي الفرج الاسفرايني، كان الشيخ أبو بكر الخطيب معنا في طريق مكة، فكان يختم كل يوم ختمة إلى قرب الغياب، قراءة ترتيل، ثم يجتمع عليه الناس وهو راكب يقولون حدثنا فيحدثهم.
وقال المؤتمن الساجي: ما أخرجت بغداد بعد الدارقطني أحفظ من الخطيب.
وذكر في «المنتظم» [1] ان الخطيب لقي في مكة أبا عبد الله ابن سلامة القضاعي فسمع منه بها، وقرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزي في خمسة أيام، ورجع إلى بغداد فقرب من رئيس الرؤساء أبي القاسم ابن المسلمة وزير القائم بأمر الله تعالى. وكان قد أظهر بعض اليهود كتابا وادّعى أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم باسقاط الجزية عن أهل خيبر، وفيه شهادات الصحابة، وأنه خطّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فعرضه رئيس الرؤساء على أبي بكر الخطيب فقال: هذا مزوّر، فقيل له: من أين لك ذلك؟ قال: في الكتاب شهادة معاوية بن أبي سفيان، ومعاوية أسلم يوم الفتح وخيبر كانت في سنة سبع، وفيه شهادة سعد بن معاذ وكان قد مات يوم الخندق في سنة خمس، فاستحسن ذلك منه.
وذكر محمد بن عبد الملك الهمذاني أن رئيس الرؤساء تقدّم إلى القصّاص والوعّاظ أن لا يورد أحد حديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعرضه على أبي بكر الخطيب، فما أمرهم بايراده أوردوه، وما منعهم منه ألغوه.
ومن «المنتظم» [2] قال: ولما جاءت نوبة البساسيري استتر الخطيب وخرج من بغداد إلى الشام وأقام بدمشق، ثم خرج إلى صور ثم إلى طرابلس وإلى حلب ثم عاد إلى بغداد في سنة اثنتين وستين فأقام بها سنة ثم مات. قال: وله ستة وخمسون مصنفا بعيدة المثل منها كتاب تاريخ بغداد. كتاب شرف أصحاب الحديث [3] . كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع. كتاب الكفاية في معرفة علم الرواية. كتاب المتفق
__________
[1] المنتظم 8: 265.
[2] المنتظم 8: 266.
[3] طبع شرف أصحاب الحديث، وكذلك طبع من كتبه: الجامع لأخلاق الراوي والسامع، وكتاب الكفاية، وكتاب الرحلة في طلب الحديث، وكتاب اقتضاء العلم العمل وكتاب تقييد العلم، وكتاب البخلاء، وكتاب التطفيل، وكتاب السابق واللاحق، وكتاب الفقيه والمتفقه، وكتاب الأسماء المبهمات ...(1/386)
والمفترق. كتاب السابق واللاحق. كتاب تلخيص المتشابه في الرسم. كتاب في التلخيص. كتاب الفصل والوصل. كتاب المكمل في بيان المهمل. كتاب الفقيه والمتفقه. كتاب الدلائل والشواهد على صحة العمل باليمين مع الشاهد. كتاب غنية المقتبس في تمييز الملتبس. كتاب الأسماء المبهمة في الأنباء المحكمة. كتاب الموضح وهو أوهام الجمع والتفريق. كتاب المؤتنف تكملة المختلف والمؤتلف.
كتاب نهج الصواب في أن التسمية من فاتحة الكتاب. كتاب الجهر بالبسملة. كتاب الخيل. كتاب رافع الارتياب في القلوب من الأسماء والالقاب. كتاب القنوت.
كتاب التبيين لأسماء المدلّسين. كتاب تمييز المزيد في متصل الأسانيد. كتاب من وافق كنيته اسم أبيه. كتاب من حدّث فنسي. كتاب رواية الآباء عن الابناء. كتاب الرحلة في طلب الحديث. كتاب الرواة عن مالك بن أنس. كتاب الاحتجاج للشافعي فيما أسند إليه والردّ على الجاهلين بطعنهم عليه. كتاب التفصيل لمبهم المراسيل.
كتاب اقتضاء العلم العمل. كتاب تقييد العلم. كتاب القول في علم النجوم. كتاب روايات الصحابة عن التابعين. كتاب صلاة التسبيح. كتاب مسند نعيم بن همار [1] جزء. كتاب النهي عن صوم يوم الشك. كتاب الاجازة للمعلوم والمجهول. كتاب روايات السنة من التابعين. كتاب البخلاء. كتاب الطفيليين. كتاب الدلائل والشواهد. كتاب التنبيه والتوقيف على فضائل الخريف.
قال ابن الجوزي: فهذا الذي ظهر لنا من تصانيفه، ومن نظر فيها عرف قدر الرجل وما هيّء له مما لم يهيأ لمن كان أحفظ منه كالدارقطني وغيره.
وحدث أبو سعد السمعاني [2] ، قرأت بخطّ والدي، سمعت أبا الحسين ابن الطيوري ببغداد يقول: أكثر كتب الخطيب سوى التاريخ مستفاد من كتب الصوريّ [3] ، كان الصوري بدأ بها ولم يتمها، وكانت للصوريّ أخت بصور، مات
__________
[1] م: هماز؛ وصاحب المسند هو نعيم بن حماد.
[2] ترجم السمعاني للخطيب البغدادي في مادة «الخطيب» من كتاب الأنساب، ولكن هذا النص لم يرد فيه، فهو منقول من مؤلف آخر للسمعاني.
[3] هذا الصوري هو أبو عبد الله محمد بن علي الحافظ، وكان على صلة بالخطيب لأنه سكن بغداد (انظر الأنساب: الصوري) .(1/387)
وخلّف عندها اثني عشر عدلا محزوما من الكتب، فلما خرج الخطيب إلى الشام حصّل من كتبه ما صنف منها كتبه. قال: وكان سبب وفاة الصوري أنه افتصد، وكان الطبيب الذي فصده قد أعطي مبضعا مسموما ليفصد به غيره، فغلط ففصده فقتله. قال ابن الجوزي [1] عند سماع هذه الحكاية: وقد يضع الانسان طريقا فتسلك، وما قصّر الخطيب على كلّ حال. وكان حريصا على علم الحديث، كان يمشي في الطريق وفي يده جزء يطالعه، وكان حسن القراءة فصيح اللهجة عارفا بالأدب، يقول الشعر الحسن. قال ابن الجوزي [2] : ونقلت من خطه من شعره قوله:
لعمرك ما شجاني رسم دار ... وقفت بها ولا ذكر المغاني
ولا أثر الخيام أراق دمعي ... لأجل تذكري عهد الغواني
ولا ملك الهوى يرما قيادي ... ولا عاصيته فثنى عناني
رأيت فعاله بذوي التصابي ... وما يلقون من ذلّ الهوان
فلم أطمعه فيّ وكم قتيل ... له في الناس لا يحصى وعان
طلبت أخا صحيح الودّ محضا ... سليم الغيب مأمون اللسان
فلم أعرف من الإخوان إلا ... نفاقا في التباعد والتداني
وعالم دهرنا لا خير فيه ... ترى صورا تروق بلا معاني
ووصف جميعهم هذا فما إن ... أقول سوى فلان أو فلان
ولما لم أجد حرّا يؤاتي ... على ما ناب من صرف الزمان
صبرت تكرما لفراغ دهري ... ولم أجزع لما منه دهاني
ولم أك في الشدائد مستكينا ... أقول لها ألا كفّي كفاني
ولكني صليب العود عود ... ربيط الجأش مجتمع الجنان
أبيّ النفس لا أختار رزقا ... يجيء بغير سيفي أو سناني
__________
[1] المنتظم 8: 266- 267.
[2] المصدر السابق.(1/388)
لعزّ في لظى باغيه يشوى ... ألذّ من المذلة في الجنان
ومن طلب المعالي وابتغاها ... أدار لها رحى الحرب العوان
ومن شعره أيضا [1] :
لا تغبطنّ أخا الدنيا لزخرفها ... ولا للذة وقت عجّلت فرحا
فالدهر أسرع شيء في تقلّبه ... وفعله بيّن للخلق قد وضحا
كم شارب عسلا فيه منيّته ... وكم تقلّد سيفا من به ذبحا
قال أبو الفرج ابن الجوزي [2] : وكان الخطيب قديما على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عليه أصحابنا لما رأوا من ميله إلى المبتدعة وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي وتعصّب في تصانيفه عليهم، فرمز إلى ذمّهم وصرّح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة أحمد بن حنبل: سيّد المحدّثين، وفي ترجمة الشافعي تاج الفقهاء فلم يذكر أحمد بالفقه. وقال [3] في ترجمة حسين الكرابيسي انه قال عن أحمد: أيش نعمل بهذا الصبي، إن قلنا لفظنا بالقرآن مخلوق قال بدعة، وان قلنا غير مخلوق قال بدعة، ثم التفت إلى أصحاب أحمد فقدح فيهم بما أمكن. وله دسائس في ذمهم عجيبة، وذكر شيئا مما زعم أبو الفرج أنه قدح في الحنابلة وتأول له، ثم قال: أنبأنا أبو زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي عن أبيه قال سمعت إسماعيل بن أبي الفضل القومسي، وكان من أهل المعرفة بالحديث يقول: ثلاثة من الحفاظ لا أحبّهم لشدة تعصبهم وقلة إنصافهم: الحاكم أبو عبد الله، وأبو نعيم الأصبهاني، وأبو بكر الخطيب. قال أبو الفرج: وصدق إسماعيل، وكان من أهل المعرفة [4] فإن الحاكم كان متشيعا ظاهر التشيّع، والآخران كانا يتعصبان للمتكلمين والأشاعرة. قال: وما يليق هذا بأصحاب الحديث، لأن الحديث جاء في ذمّ الكلام، وقد أكدّ الشافعيّ في هذا حتى قال: رأيي في أصحاب الكلام أن يحملوا على البغال ويطاف بهم. قال:
__________
[1] تهذيب ابن عساكر 1: 401.
[2] المنتظم 8: 267- 268.
[3] المنتظم 8: 269.
[4] المنتظم، وقد كان من كبار الحفاظ ثقة صدوقا له معرفة حسنة بالرجال ...(1/389)
وكان للخطيب شيء من المال، فكتب إلى القائم بأمر الله، إني إذا متّ كان مالي لبيت المال، وأنا استأذن أن أفرّقه على من شئت، فأذن له ففرقه على أصحاب الحديث، وكان مائتي دينار، ووقف كتبه على المسلمين وسلّمها إلى أبي الفضل ابن خيرون فكان يعزها، ثم صارت إلى ابنه الفضل فاحترقت في داره. ووصّى الخطيب أن يتصدق بجميع ما عليه من الثياب.
قال ابن طاهر: سألت أبا القاسم هبة الله بن عبد الوارث الشيرازي قلت: هل كان أبو بكر الخطيب كتصانيفه في الحفظ؟ فقال: لا، كنا إذا سألناه عن شيء أجابنا بعد أيام، وإن ألححنا عليه غضب، وكانت له بادرة وحشة، وأما تصانيفه فمصنوعة مهذّبة، ولم يكن حفظه على قدر تصانيفه.
وذكر أبو سعد السمعاني في ترجمة عبد الرحمن بن محمد بن عبد الواحد القزاز قال: سمع جميع كتاب تاريخ مدينة السلام من مصنفه أبي بكر الخطيب الحافظ إلا الجزء السادس والثلاثين فإنه قال: توفيت والدتي واشتغلت بدفنها والصلاة عليها، ففاتني هذا الجزء وما أعيد لي، لأن الخطيب كان قد شرط في الابتداء أن لا يعاد الفوت لأحد، فبقي الجزء غير مسموع.
قال السمعاني: لما رجعت إلى خراسان حصل لي تاريخ الخطيب بخطّ شجاع بن فارس الذهلي الأصل الذي كتبه بخطّه لأبي غالب محمد بن عبد الواحد القزاز، وعلى وجه كلّ واحد من الأجزاء مكتوب سماع لأبي غالب ولابنه أبي منصور عبد الرحمن ولأخيه عبد المحسن، الا هذا الجزء السادس والثلاثين [والجزء ... ]
فإنه كتب على وجهيهما إجازة لأبي غالب وابنه أبي منصور، وشجاع أعرف الناس فيكون قد فاته الجزءان المذكوران لا جزء واحد.
ونقلت من خط أبي سعد السمعاني ومنتخبه لمعجم شيوخ عبد العزيز بن محمد النخشبي قال [1] : ومنهم أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب، يخطب في بعض قرى بغداد، حافظ فهم، ولكنه كان يتّهم بشرب الخمر، كنت كلما لقيته بدأني
__________
[1] نقله الصفدي 7: 194.(1/390)
بالسلام، فلقيته في بعض الأيام فلم يسلّم علي، ولقيته شبه المتغير، فلما جاز عنّي لحقني بعض أصحابنا وقال لي: لقيت أبا بكر الخطيب سكران، فقلت له: قد لقيته متغيرا واستنكرت حاله ولم أعلم أنه سكران، ولعله قد تاب إن شاء الله. قال السمعاني: ولم يذكر عن الخطيب رحمه الله هذا إلا النخشبي مع أني لحقت جماعة كثيرة من أصحابه.
وقال في «المذيل» [1] والخطيب رحمه الله في درجة القدماء من الحفاظ والأئمة الكبار، كيحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن أبي خيثمة وطبقتهم، وكان علّامة العصر، اكتسى به هذا الشأن غضارة وبهجة ونضارة، وكان مهيبا وقورا نبيلا خطيرا ثقة صدوقا متحريا، حجة فيما يصنفه ويقوله وينقله ويجمعه، حسن النقل والخط، كثير الشكل والضبط، قارئا للحديث فصيحا، وكان في درجة الكمال والرتبة العليا خلقا وخلقا وهيئة ومنظرا، انتهى إليه معرفة علم الحديث وحفظه، وختم به الحفاظ رحمه الله. بدأ سماع الحديث سنة ثلاث وأربعمائة وقد بلغ احدى عشرة سنة من عمره. قال: وسمعت بعض مشايخي يقول: دخل بعض الأكابر جامع دمشق أو صور ورأى حلقة عظيمة للخطيب، والمجلس غاصّ، يسمعون منه الحديث، فقعد إلى جانبه وكأنه استكثر الجمع، فقال له الخطيب: القعود في جامع المنصور مع نفر يسير أحبّ إلي من هذا.
قال: وسمعت أبا الفتح مسعود بن محمد بن أحمد أبي نصر الخطيب بمرو يقول، سمعت أبا عمر النسوي يعرف [بابن] ليلى يقول: كنت في جامع صور عند الخطيب، فدخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير وقال للخطيب: فلان، وذكر بعض المحتشمين من أهل صور، يسلّم عليك ويقول: هذا تصرفه في بعض مهماتك، فقال الخطيب: لا حاجة لي فيه، وقطّب وجهه، فقال العلوي: فتصرفه إلى بعض أصحابك، قال قل له: يصرفه إلى من يريد، فقال العلوي: كأنك تستقلّه ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها وقال: هذه ثلاثمائة دينار، فقام الخطيب محمر الوجه وأخذ السجادة ونفض الدنانير على الأرض وخرج من المسجد.
__________
[1] المصدر السابق.(1/391)
قال الفضل ابن ليلى: ما أنسى عزّ خروج الخطيب وذلّ ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصر ويجمعها.
وحدث باسناد رفعه إلى الخطيب قال: حدثت ولي عشرون سنة، حين قدمت من البصرة كتب عني شيخنا أبو القاسم الأزهري أشياء أدخلها في تصانيفه وسألني فقرأتها عليه وذلك في سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. وحدث قال: ذكر أبو الفضل ناصر السلامي قال: كان أبو بكر الخطيب من ذوي المروءات، حدثني أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب اللغوي قال: لما دخلت دمشق في سنة ست وخمسين كان بها إذا ذاك الامام أبو بكر الحافظ، وكانت له حلقة كبيرة يجتمعون في بكرة كلّ يوم فيقرأ لهم، وكنت أقرأ عليه الكتب الأدبية المسموعة له، فكان إذا مر في كتابه شيء يحتاج إلى إصلاح يصلحه ويقول: أنت تريد مني الرواية وأنا أريد منك الدراية، وكنت أسكن منارة الجامع، فصعد إليّ يوما وسط النهار وقال: أحببت أن أزورك في بيتك، وقعد عندي وتحدثنا ساعة، ثم أخرج قرطاسا فيه شيء وقال لي: الهدية مستحبّة وأسألك أن تشتري به الاقلام، ونهض ففتحت القرطاس بعد خروجه فإذا فيه خمسة دنانير صحاح مصرية، ثم إنه مرة ثانية صعد وحمل إليّ ذهبا وقال لي: تشتري به كاغدا، وكان نحوا من الأول أو أكثر، قال: وكان إذا قرأ الحديث في جامع دمشق يسمع صوته في آخر الجامع، وكان يقرأ معربا صحيحا.
وقال أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي الحافظ الاصبهاني يمدح مؤلفات الخطيب [1] :
تصانيف ابن ثابت الخطيب ... ألذّ من الصبا الغضّ الرطيب
يراها إذ حواها من رواها ... رياضا تركها رأس الذنوب [2]
ويأخذ حسن ما قد صاغ منها ... بقلب الحافظ الفطن الأريب
فأيّة راحة ونعيم عيش ... يوازي كتبه أم أيّ طيب
__________
[1] الأبيات في طبقات السبكي وتذكرة الحفاظ والوافي والمستفاد.
[2] السبكي: رياضا للفتى اليقظ اللبيب.(1/392)
وحدث محمد بن طاهر المقدسي، سمعت أبا القاسم مكي بن عبد السلام الرميلي يقول: كان سبب خروج أبي بكر الخطيب من دمشق إلى صور أنه كان يختلف إليه صبيّ صبيح الوجه- وقد سمّاه مكي أنا نكّبت عن ذكره- فتكلّم الناس في ذلك، وكان أمير البلدة رافضيا متعصبا، فبلغته القصة، فجعل ذلك سببا للفتك به، فأمر صاحب شرطته أن يأخذه بالليل ويقتله، وكان صاحب الشرطة من أهل السنة، فقصده صاحب الشرطة تلك الليلة مع جماعة من أصابه ولم يمكنه أن يخالف الأمير، فأخذه وقال له: قد أمرت بكذا وكذا، ولا أجد لك حيلة، إلا أني أعبر بك على دار الشريف ابن أبي الحسن العلوي، فإذا حاذيت الباب فادخل الدار، فإني أرجع إلى الأمير وأخبره بالقصة، ففعل ذلك ودخل دار الشريف، وذهب صاحب الشرطة إلى الأمير وأخبره الخبر، فبعث الأمير إلى الشريف أن يبعث به، فقال الشريف: أيها الأمير أنت تعرف اعتقادي فيه وفي أمثاله، ولكن ليس في قتله مصلحة، هذا رجل مشهور بالعراق وإن قتلته قتل به جماعة من الشيعة بالعراق وخرّبت المشاهد، قال:
فما ترى؟ قال: أرى ان يخرج من بلدك، فأمر باخراجه فخرج إلى صور وبقي بها مدة إلى أن رجع إلى بغداد فأقام بها إلى أن مات.
ومن شعر الخطيب أيضا:
قد شاب رأسي وقلبي ما يغيّره ... كرّ الدهور عن الإسهاب في الغزل
وكم زمانا طويلا ظلت أعذله ... فقال قولا صحيحا صادق المثل
حكم الهوى يترك الألباب حائرة ... ويورث الصبّ طول السقم والعلل
وحبّك الشيء يعمي عن مقابحه ... ويمنع الأذن أن تصغي إلى العذل
لا أسمع العذل في ترك الصبا أبدا ... جهدي فما ذاك من همي ولا شغلي
من ادّعى الحبّ لم تظهر دلائله ... فحبّه كذب قول بلا عمل
وله أيضا:
تغيّب الخلق عن عيني سوى قمر ... حسبي من الخلق طرا ذلك القمر
محلّه في فؤادي قد تملّكه ... وحاز روحي وما لي عنه مصطبر
فالشمس أقرب منه في تناولها ... وغاية الحظّ منها للورى النظر(1/393)
أردت تقبيله يوما مخالسة ... فصار من خاطري في خدّه أثر
وكم حليم رآه ظنّه ملكا ... وراجع الفكر فيه أنه بشر
قال عبد الخالق بن يوسف: أنشدني من لفظه الشيخ أبو العز أحمد بن عبد الله بن كادش عن الخطيب، وقال: هي في أبي منصور ابن النقور [1] :
الشمس تشبهه والبدر يحكيه ... والدرّ يضحك والمرجان من فيه
ومن سرى وظلام الليل معتكر ... فوجهه عن ضياء البدر يغنيه
زوي له الحسن حتى حاز أحسنه ... لنفسه وبقي للخلق باقيه
فالعقل يعجز عن تحديد غايته ... والوهم يقصر عن فحوى معانيه
يدعو القلوب فتأتيه مسارعة ... مطيعة الأمر منه ليس تعصيه
سألته زورة يوما فأعجزني ... وأظهر الغضب المقرون بالتيه
وقال لي دون ما تبغي وتطلبه ... تناول الفلك الأعلى وما فيه
رضيت يا معشر العشاق منه بأن ... أصبحت تعلم اني من محبيه
وأن يكون فؤادي في يديه لكي ... يميته بالهوى منه ويحييه
وله أيضا:
بنفسي عاتب في كلّ حال ... وما لمحبه ذنب جناه
حفظت عهوده ورعيت منه ... ذماما مثله لي ما رعاه
حرمت وصاله إن كنت يوما ... جرى لي خاطر بهوى سواه
ولو تلفي رضاه لهان عندي ... خروج الروح في طلبي رضاه
وله أيضا:
خمار الهوى يربي على نشوة الخمر ... وذو الحزم فيه ليس يصحو من السكر
وللحبّ في الأحشاء حرّ أقلّه ... وأبرده يوفي على لهب الجمر
أخبركم يا أيها الناس أنني ... عليم بأحوال المحبين ذو خبر
__________
[1] البيتان الاولان في طبقات السبكي 4: 37 والأبيات كلها في المستفاد: 55- 56.(1/394)
سبيل الهوى سهل يسير سلوكه ... ولكنه يفضي إلى مسلك وعر
ويجمع أوصاف الهوى ونعوته ... لحرفين سعد الوصل أو شقوة الهجر
وله أيضا:
إلى الله أشكو من زماني حوادثا ... رمت بسهام البين في غرض الوصل
أصابت بها قلبي ولم أقض منيتي ... ولو قتلتني كان أجمل بالفعل
متى تتمايل بين قتل وفرقة ... تجد فرقة الأحباب شرا من القتل
قال أبو بكر الخطيب: كتب معي أبو بكر البرقاني إلى أبي نعيم الأصبهاني الحافظ كتابا يقول في فصل منه: وقد نفذ إلى ما عندك عمدا متعمدا أخونا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت- أيده الله وسلمه- ليقتبس من علومك، ويستفيد من حديثك، وهو بحمد الله ممن له في هذا الشأن سابقة حسنة، وقدم ثابت، وفهم به حسن. وقد رحل فيه وفي طلبه وحصل له منه ما لم يحصل لكثير من أمثاله الطالبين له، وسيظهر لك منه عند الاجتماع من ذلك، مع التورّع والتحفظ وصحة التحصيل، ما يحسن لديك موقعه، ويجمل عندك منزلته. وأنا أرجو إذا صحت منه لديك هذه الصفة أن يلين له جانبك، وأن تتوفر له وتحتمل منه ما عساه يورده من تثقيل في الاستكثار، أو زيادة في الاصطبار، فقديما حمل السلف عن الخلف ما ربما ثقل، وتوفروا على المستحقّ منهم بالتخصيص والتقديم والتفضيل ما لم ينله الكلّ منهم.
وقال الرئيس أبو الخطاب ابن الجراح يمدح الخطيب [1] :
فاق الخطيب الورى صدقا ومعرفة ... وأعجز الناس في تصنيفه الكتبا
حمى الشريعة من غاو يدنّسها ... بوضعه ونفى التدليس والكذبا
جلا محاسن بغداد فأودعها ... تاريخه مخلصا لله محتسبا
وقام في الناس بالقسطاس منحرفا [2] ... عن الهوى وأزال الشكّ والريبا
سقى ثراك أبا بكر على ظمأ ... جون ركام يسحّ الواكف السربا
__________
[1] تهذيب ابن عساكر 1: 401 (والتاريخ 7: 27) .
[2] م وابن عساكر: منزويا.(1/395)
ونلت فوزا ورضوانا ومغفرة ... إذا تحقق وعد الله واقتربا
يا أحمد بن عليّ طبت مضطجعا ... وباء شانيك بالأوزار محتقبا
وقال ابو القاسم: حدثني أبو محمد ابن الاكفاني حدثني أبو القاسم مكي بن عبد السلام المقدسي قال [1] : مرض الشيخ أبو بكر الخطيب ببغداد في نصف رمضان إلى ان اشتد به الحال غرّة ذي الحجة وأيسنا منه، وأوصى إلى أبي الفضل ابن خيرون، ووقف كتبه على يده، وفرّق جميع ما له في وجوه البر وعلى أهل العلم والحديث، وأخرجت جنازته من حجرد تلي المدرسة النظامية من نهر المعلى، وحمل جنازته أبو إسحاق الشيرازي [2] وتبعه الفقهاء والخلق العظيم، وعبرت الجنازة على الجسر وحملت إلى جامع المنصور، وكان بين الجنازة جماعة ينادون: هذا الذي كان يذبّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الذي كان ينفي الكذب عن رسول الله، هذا الذي كان يحفظ حديث رسول الله. وعبرت الجنازة بالكرخ ومعها ذلك الخلق العظيم.
- 121-
أحمد بن علي بن قدامة ابو المعالي قاضي الأنبار
: أحد العلماء بهذا الشأن المعروفين المشهورين به، وله من الكتب كتاب في علم القوافي. كتاب في النحو.
مات في شوال سنة ست وثمانين وأربعمائة.
- 122-
أحمد بن علي بن عمر بن سوار المقرىء أبو طاهر
: مات فيما ذكره
__________
[121]- ترجمته في نزهة الألباء: 254 والوافي 7: 201 وبغية الوعاة 1: 344 وزاد الصفدي في ترجمته:
«روى عنه محمد بن عقيل الكاتب الدسكري وأحمد بن محمد بن غالب العطاردي» .
[122]- ترجمة ابن سوار المقرىء في طبقات الجزري 1: 86 وعبر الذهبي 3: 343 والوافي 7: 204 والشذرات 3: 403.
[1] المصدر السابق: 402.
[2] تاريخ ابن عساكر 7: 28.(1/396)
السمعاني في رابع شعبان سنة ست وتسعين وأربعمائة ودفن عند قبر معروف الكرخي.
قال، وقال ابن ناصر أبو الفضل: أظنّ أن مولد ابن سوار في سنة ست عشرة وأربعمائة. قال: وسمعت أبا المعمر المبارك بن أحمد الأنصاري [يقول] : سألت ابن سوار عن مولده فقال ولدت سنة اثنتي عشرة وأربعمائة. قال: وهو والد شيخينا أبي الفوارس هبة الله ومحمد، وكان ثقة أمينا مقرئا فاضلا، وكان حسن الأخذ للقرآن العظيم، ختم عليه جماعة كتاب الله، وكتب الكثير بخطه من الحديث، وصنف في القرآن «كتاب المستنير» وغيره، سمع [محمد بن] عبد الواحد بن رزمة صاحب أبي سعيد السيرافي النحوي وأبا القاسم علي بن المحسن التنوخي وأبا طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان البزاز وغيرهم، وروى عنه عبد الوهاب الأنماطي ومحمد بن ناصر الحافظان وغيرهما. قال: وسألت عنه الأنماطي فقال ثقة مأمون فيه خير ودين. وسألت عنه الحافظ ابن ناصر فأحسن الثناء عليه وقال: شيخ نبيل عالم ثبت متقن، رحمه الله.
وأنشد السمعاني باسناده إلى ابن سوار المقرىء قال: أنشدني أبو الحسن علي بن محمد السمسار، أنشدنا أبو نصر عبد العزيز بن نباتة السعدي لنفسه [1] :
نعلّل بالدواء إذا مرضنا ... وهل يشفي من الموت الدواء
ونختار الطبيب وهل طبيب ... يؤخر ما يقدمه القضاء
وما أنفاسنا إلا حساب ... ولا حركاتنا إلا فناء
وذكره أبو علي الحسين بن محمد بن فيّره الصدفي في شيوخه، فذكر نسبه ثم قال، البغدادي الضرير المقرىء، ولعله أضر على كبر، فإن المحب ابن النجار أخبرني أنه رأى خطه تحت الطباق متغيرا.
سمع الصدفي منه كتابه المستنير وكتابه في المفردات، أفرد ما جمعه في المستنير. وقال: هو شيخ فاضل في الحنفية سمع كثيرا وحبس نفسه على إقراء القرآن.
__________
[1] ديوان ابن نباتة 1: 610.(1/397)
وذكره أبو بكر ابن العربي في شيوخه فقال: واقف على اللغة مذاكر ثقة فاضل قرأ على أبوي علي الشرمقاني والعطار وأبي الحسن ابن فارس الخياط وابي الفتح ابن المقدر وأبي الفتح ابن شيطا وغيرهم.
- 123-
أحمد بن علي بن مخلد البيّادي الأديب أبو العباس
: ذكره عبد الغافر فقال: أحد وجوه أفاضل النواحي المشهورين باللهجة الفصيحة في النظم والنثر، سمع الأحاديث وعني بجمعها.
- 124-
أحمد بن علي بن أبي جعفر محمد بن أبي صالح البيهقي
، أبو جعفر المقرىء اللغوي ويعرف ببو جعفرك، ومعنى هذه الكاف المزيدة في آخر الاسم الفارسي التصغير، يقولون في تصغير علي عليك، وفي تصغير حسن حسنك، وفي تصغير جعفر جعفرك، وما أشبهه: مات فيما ذكره أبو سعد السمعاني في مشيخة أبيه في سلخ شهر رمضان سنة أربع وأربعين وخمسمائة، أخبرني بذلك الشيخ الامام أبو المظفر عبد الرحيم بن أبي سعد السمعاني عن والده، وأخبرني أيضا أن مولده في حدود سنة سبعين وأربعمائة.
قال السمعاني: كان إماما في القراءة والتفسير والنحو واللغة، صنف التصانيف في ذلك، وانتشرت عنه في البلاد، وظهر له أصحاب نجباء وتخرج به خلق وكان
__________
[123]- ينقل ياقوت عن ذيل تاريخ نيسابور، ولم ترد له ترجمة في المنتخب.
[124]- ترجمة بو جعفرك في إنباه الرواة 1: 89 والوافي 7: 214 وطبقات المفسرين: 4 وبغية الوعاة 1: 346.(1/398)
ملازما لبيته والمسجد القديم بنيسابور وكان إمامه، لا يخرج منه [1] إلا في أوقات الصلاة، وكان لا يزور أحدا إنما يقصده الناس إلى منزله للتعلم منه والتبرك به.
سمع أبا نصر أحمد بن محمد بن صاعد القاضي وأبا الحسن علي بن الحسن بن العباس الصندلي الواعظ وغيرهما، وذكر وفاته كما تقدم.
وذكر تاج الدين محمود بن أبي المعالي الخواريّ [2] في مقدمة «كتاب ضالة الأديب» قال: أحمد بن علي البيهقي كان إماما في القراءات والأدب، حفظ «كتاب الصحاح» في اللغة عن ظهر قلب بعدما قرأه على أبي الفضل أحمد بن محمد الميداني وكتبا كثيرة، وله مؤلفات منها: كتاب المحيط بلغات القرآن. كتاب ينابيع اللغة جرّد فيه صحاح اللغة من الشواهد وضمّ إليه من تهذيب اللغة والشامل لأبي منصور الجبّان والمقاييس لابن فارس قدرا صالحا من الفوائد والفرائد، وهو كتاب صالح كبير الحجم يقرب حجمه من الصحاح. وله أيضا كتاب تاج المصادر. كتاب المحيط بعلم القرآن [3] . وقال علي بن محمد بن علي زله الجويني يمدح بو جعفرك ويذكر كتابه «تاج المصادر» وقد راعى اللزوم:
أبا جعفر يا من جعافر فضله ... موارد منها قد صفت ومصادر
كتابك ذا غيل تأشّب نبته ... وأنت به ليث بخفّان خادر
لبست صدار الصبر يا خير مصدر ... مصادر لا تنهى إليها المصادر
فقل لرواة الفضل والأدب انتهوا ... اليها ونحو الريّ منها فبادروا
- 125-
أحمد بن علي بن إبراهيم بن الزبير الغساني الأسواني المصري
يلقب
__________
[125]- ترجمة ابن الزبير الاسواني في وفيات الأعيان 1: 160- 164 والخريدة (قسم مصر) 1: 200 والطالع السعيد: 52 والوافي 7: 220 والمقفى 1: 533 وقد طبع باسمه كتاب «الذخائر والتحف» .
[1] يعني من بيته.
[2] الخواري: نسبة إلى خوار بقرب نيسابور.
[3] ذكر قبل ذلك: المحيط بلغات القرآن.(1/399)
بالرشيد، وكنيته أبو الحسين: مات في سنة اثنتين وستين وخمسمائة مخنوقا- على ما نذكره. وكان كاتبا شاعرا فقيها نحويا لغويا ناشيا عروضيا مؤرخا منطقيا مهندسا عارفا بالطبّ والموسيقى والنجوم متفننا.
قال السلفي [1] : أنشدني القاضي أبو الحسين [2] أحمد بن علي بن إبراهيم الغساني الاسواني لنفسه بالثغر:
سمحنا لدنيانا بما بخلت به ... علينا ولم نحفل بجلّ أمورها
فيا ليتنا لما حرمنا سرورها ... وقينا أذى آفاتها وشرورها
قال: وكان ابن الزبير هذا من أفراد الدهر فضلا في فنون كثيرة من العلوم، وهو من بيت كبير بالصعيد [من] الممولين، وولي النظر بثغر الاسكندرية والدواوين السلطانية بغير اختياره، وله تآليف ونظم ونثر التحق فيها بالأوائل المجيدين، قتل ظلما وعدوانا في محرم سنة اثنتين وستين وخمسمائة. وله تصانيف معروفة لغير أهل مصر منها: كتاب منية الالمعي ومنيّة المدعي [3] تشتمل على علوم كثيرة. كتاب المقامات. كتاب جنان الجنان وروضة الذهان في أربع مجلدات، يشتمل على شعر شعراء مصر ومن طرأ عليهم. كتاب الهدايا والطرف. كتاب شفاء الغلة في سمت القبلة. كتاب رسائله نحو خمسين ورقة. كتاب ديوان شعره نحو مائة ورقة.
ومولده باسوان، وهي بلدة من صعيد مصر، وهاجر منها إلى مصر فأقام بها، واتصل بملوكها ومدح وزراءها وتقدّم عندهم، وأنفذ إلى اليمن في رسالة، ثم قلد قضاءها وأحكامها ولقب بقاضي قضاة اليمن وداعي دعاة الزمن. ولما استقرت بها داره سمت نفسه إلى رتبة الخلافة فسعى فيها، وأجابه قوم وسلّم عليه بها، وضربت له السكة، وكان نقش السكة على الوجه الواحد: قل هو الله أحد الله الصمد، وعلى الوجه الآخر الامام الأمجد أبو الحسين أحمد، ثم قبض عليه ونفذ مكبلا إلى قوص، فحكى من حضر دخوله إليها أنه رأى رجلا ينادي بين يديه: هذا عدو السلطان
__________
[1] معجم السفر: 47 (رقم: 154) .
[2] معجم السفر: الحسن.
[3] هو مقامة طويلة وصف فيها عشرين علما وشرحها، ومنه نسخة بالمكتبة الخالدية كتبت 849 وطبع مع شرحه المختصر سنة 1320.(1/400)
أحمد بن الزبير وهو مغطّى الوجه حتى وصل إلى دار الامارة، والأمير بها يومئذ طرخان سليط [1] ، وكان بينهما ذحول قديمة، فقال: احبسوه في المطبخ الذي كان يتولّاه قديما، وكان ابن الزبير قد تولى المطبخ، وفي ذلك يقول الشريف الأخفش من أبيات يخاطب الصالح بن رزيك:
يولّي على الشيء أشكاله ... فيصبح هذا لهذا أخا
أقام على المطبخ ابن الزبير ... فولّى على المطبخ المطبخا
فقال بعض الحاضرين لطرخان: ينبغي أن تحسن إلى الرجل فإن أخاه يعني المهذب حسن بن الزبير قريب من قلب الصالح، ولا أستبعد أن يستعطفه عليه فتقع في خجلة؛ قال: فلم يمض على ذلك غير ليلة أو ليلتين حتى ورد ساع من الصالح بن رزيك إلى طرخان بكتاب يأمره فيه باطلاقه والاحسان إليه، فأحضره طرخان من سجنه مكرما. قال الحاكي: فلقد رأيته وهو يزاحمه في رتبته ومجلسه.
وكان السبب في تقدمه في الدولة المصرية في أول أمره ما حدّثني به الشريف أبو عبد الله محمد بن أبي محمد عبد العزيز الادريسي الحسني الصعيدي قال، حدثني زهر الدولة حدثنا [ ... ] أن احمد بن الزبير دخل إلى مصر بعد مقتل الظافر وجلوس الفائز وعليه أطمار رثة وطيلسان صوف، فحضر المأتم وقد حضر شعراء الدولة فأنشدوا مراثيهم على مراتبهم، فقام في آخرهم وأنشد قصيدته التي أولها:
ما للرياض تميل سكرا ... هل سقّيت بالمزن خمرا
إلى أن وصل إلى قوله:
أفكر بلاء بالعرا ... ق وكربلاء بمصر أخرى
فذرفت العيون، وعج القصر بالبكاء والعويل، وانثالت عليه العطايا من كلّ جانب، وعاد إلى منزله بمال وافر حصل له من الأمراء والخدم وحظايا القصر، وحمل إليه من قبل الوزير جملة من المال، وقيل له لولا أنه العزاء والمأتم لجاءتك الخلع.
__________
[1] الوافي: سليط اللسان.(1/401)
قال: وكان على جلالته وفضله ومنزلته من العلم والنسب قبيح المنظر أسود الجلدة جهم الوجه سمج الخلقة ذا شفة غليظة وأنف مبسوط كخلقة الزنوج قصيرا؛ حدثني الشريف المذكور عن أبيه قال: كنت أنا والرشيد بن الزبير والفقيه سليمان الديلمي نجتمع في القاهرة في منزل واحد، فغاب عنا الرشيد يوما وطال انتظارنا له، وكان ذلك في عنفوان شبابه وإبّان صباه وهبوب صباه، فجاءنا وقد مضى معظم النهار، فقلنا له: ما أبطأ بك عنا؟ فتبسم وقال: لا تسألوا عما جرى عليّ اليوم، فقلنا: لا بدّ من ذلك، فتمنع وألححنا عليه فقال: مررت اليوم بالموضع الفلاني وإذا امرأة شابة صبيحة الوجه وضيئة المنظر حسّانة الخلق ظريفة الشمائل، فلما رأتني نظرت إليّ نظر مطمع لي في نفسها، فتوهمت أنني وقعت منها بموقع ونسيت نفسي، وأشارت إليّ بطرفها فتبعتها وهي تدخل بي سكة وتخرج من أخرى حتى دخلت دارا، وأشارت إليّ فدخلت ورفعت النقاب عن وجه كالقمر في ليلة تمامه، ثم صفقت بيديها منادية يا ستّ الدار، فنزلت إليها طفلة كأنها فلقة قمر، فقالت لها: إن رجعت تبولين في الفراش تركت سيدنا القاضي يأكلك، ثم التفتت [إليّ] وقالت: لا أعدمني الله إحسانه بفضل سيدنا القاضي أدام الله عزه، فخرجت وأنا خزيان خجل لا أهتدي الطريق.
وحدثني قال: اجتمع ليلة عند الصالح بن رزيك هو وجماعة من الفضلاء فألقى عليهم مسألة في اللغة، فلم يجب عنها بالصواب سواه، فأعجب الصالح، فقال الرشيد ما سئلت قطّ عن مسألة إلا وجدتني أتوقّد فهما، فقال ابن قادوس وكان حاضرا:
إن قلت من نار خلق ... ت وفقت كلّ الناس فهما
قلنا صدقت فما الذي ... أطفاك حتى صرت فحما
وأما سبب مقتله فلميله إلى أسد الدين شيركوه عند دخوله إلى البلاد ومكاتبته له، واتصل ذلك بشاور وزير العاضد فطلبه، فاختفى بالاسكندرية، واتفق التجاء الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب إلى الاسنكدرية ومحاصرته لها، فخرج ابن الزبير راكبا متقلدا سيفا وقاتل بين يديه، ولم يزل معه مدة مقامه بالاسكندرية إلى أن خرج منها، فتزايد وجد شاور عليه، واشتد طلبه له، واتفق أن ظفر به على صفة لم تتحقق(1/402)
لنا فأمر باشهاره على جمل وعلى رأسه طرطور ووراءه جلواز ينال منه.
واخبرني الشريف الادريسي عن أبي الفضل بن أبي الفضل أنه رآه على تلك الحال الشنيعة وهو ينشد [1] :
ان كان عندك يا زمان بقية ... مما تهين به الكرام فهاتها
ثم جعل يهمهم شفتيه بالقرآن، وأمر به بعد إشهاره بمصر والقاهرة ان يصلب شنقا، فلما وصل به إلى الشنّاقة [2] جعل يقول للمتولّي ذلك منه: عجّل عجّل، فلا رغبة لكريم في الحياة بعد هذه الحال، ثم صلب.
حدثني الشريف المذكور قال: حدثني الثقة حجاج بن المسبح الاسواني أن ابن الزبير دفن في موضع صلبه، فما مضت الأيام والليالي حتى قتل شاور وسحب، فاتفق أن حفر له ليدفن فوجد الرشيد بن الزبير في الحفرة مدفونا فدفنا معا في موضع واحد، ثم نقل كلّ واحد منهما بعد ذلك إلى تربة له بقرافة مصر والقاهرة.
ومن شعر الرشيد قوله يجيب أخاه المهذب عن قصيدته التي أولها:
يا ربع أين ترى الأحبة يمموا ... رحلوا فلا خلت المنازل منهم
ونأوا فلا سلت الجوانح عنهم ... وسروا وقد كتموا العداة مسيرهم
وضياء نور الشمس ما لا يكتم ... وتبدلوا أرض العقيق عن الحمى
روّت جفوني أيّ أرض يمموا ... نزلوا العذيب وإنما في مهجتي
نزلوا وفي قلب المتيم خيّموا ... ما ضرّهم لو ودعوا من أودعوا
نار الغرام وسلّموا من أسلموا ... هم في الحشا إن أعرقوا أو أشأموا
أو أيمنوا أو أنجدوا أو اتهموا ... وهم مجال الفكر من قلبي وإن
بعد المزار فصفو عيشي معهم ... أحبابنا ما كان أعظم هجركم
عندي ولكنّ التفرق أعظم ... غبتم فلا والله ما طرق الكرى
جفني ولكن سحّ بعدكم الدم ... وزعمتم أني صبور بعدكم
هيهات لا لقّيتم ما قلتم
__________
[1] البيت لمهيار، ديوانه 1: 164.
[2] ر: السيافة.(1/403)
وإذا سئلت بمن أهيم صبابة ... قلت الذين هم الذين هم هم
النازلين بمهجتي وبمقلتي ... وسط السويدا والسواد الأكرم
لا ذنب لي في البعد أعرفه سوى ... أني حفظت العهد لما خنتم
فأقمت حين ظعنتم وعدلت ... لما جرتم وسهدت لما نمتم
يا محرقا قلبي بنار صدودهم ... رفقا ففيه نار شوق تضرم
أسعرتم فيه لهيب صبابة ... لا تنطفي إلّا بقرب منكم
يا ساكني أرض العذيب سقيتم ... دمعي إذا ضنّ الغمام المرزم
بعدت منازلكم وشطّ مزاركم ... وعهودكم محفوظة مذ غبتم
لا لوم للأحباب فيما قد جنوا ... حكّمتهم في مهجتي فتحكموا
أحباب قلبي أعمروه بذكركم ... فلطالما حفظ الوداد المسلم
واستخبروا ريح الصّبا تخبركم ... عن بعض ما يلقى الفؤاد المغرم
كم تظلمونا قادرين وما لنا ... جرم ولا سبب بمن يتظلم
ورحلتم وبعدتم وظلمتم ... ونأيتم وقطعتم وهجرتم
هيهات لا أسلوكم أبدا وهل ... يسلو عن البيت الحرام المحرم
وأنا الذي واصلت حين قطعتم ... وحفظت أسباب الهوى إذ خنتم
جار الزمان عليّ لما جرتم ... ظلما ومال الدهر لما ملتم
وغدوت بعد فراقكم وكأنني ... هدف تمرّ بجانبيه الأسهم
ونزلت مقهور الفؤاد ببلدة ... قلّ الصديق بها وقلّ الدرهم
في معشر خلقوا شخوص بهائم ... يصدا بها فكر اللبيب ويبهم
إن كورموا لم يكرموا أو علّموا ... لم يعلموا أو خوطبوا لم يفهموا
لا تنفق الآداب عندهم ولا ال ... إحسان يعرف في كثير منهم
صمّ عن المعروف حتى يسمعوا ... هجر الكلام فيقدموا ويقدّموا
فالله يغني عنهم ويزيد في ... زهدي لهم ويفكّ أسري منهم(1/404)
- 126-
أحمد بن علي الصفاري الخوارزمي أبو الفضل
: قال محمد بن أرسلان:
كان من فضلاء خوارزم وبلغائهم وكتابهم، وله أشعار مونقة لطيفة، ورسائل لبقة خفيفة، جمع رسائله أبو حفص عمر بن الحسن [1] بن المظفر الأديبي وجعلها على خمسة عشر بابا، وذكر في أول جمعه: وبعد فإني رغبت في مطالعة رسائل، تكون إلى التخريج في البراعة وسائل، ثم تقلبت وتطلبت، فلم أر أعذب في السمع وأعلق بالطبع وأجرى في ميدان أهل الزمان من غرر أبي الفضل الصفاري، ثم ذكرت ما كان بينه وبين والدي رحمه الله من المحبة المشتبكة اشتباك الرحم الجارية في عروقها مجرى الدم، والأخوة الصافية من الكدر الباقية على الغير، فاقترحت عليه أن يلقي إليّ ما حصل لديه من رقاعه الصادرة إليه، فأجابني إلى ملتمسي، فدونت ما ألقاه إليّ من إنشائه، وألحقت به ما وجدته عند غيره من أودّائه، وهذا أنموذج من كلامه: كتب عن أبي سعيد سهل بن أحمد السهلي إلى عميد الملك أبي نصر الكندري حين أنهض ولده إلى حضرته: كتابي- أطال الله بقاء الشيخ السيد- وأنا معترف برقّ ولائه، متصرف في شكر سوابق آلائه، حامد الله تعالى على تظاهر أسباب عزه وعلائه، ولم أزل منذ حرمت التشرف بخدمته أنطوي على مبايعته وأتلظى شوقا إلى التسعد بخدمة حضرته التي هي مجمع الوفود، ومطلع الجود، وعصرة المنجود [2] ، وأتمنى على الله تعالى حالا تدنيني من جنابه الرحب، ومشرعه العذب، ومتى تذكرت تلك الأيام التي كانت تسعفني بالتمكن من خدمته التي هي مادة الجمال وغاية الآمال انثنيت بحسرة مرّة، وانطويت على غصّة مستمرة، وكم كاتبت شريف حضرته- لا زالت محسودة مأنوسة- فلم أؤهل لجواب، ولم أشرف بخطاب، فأمسكت عن العادة في المعاودة جريا على طريقة الأصاغر، في مراعاة حشمة الأكابر، ولو جريت في مكاتبة حضرته
__________
[126]- ترجمته في الوافي 7: 215.
[1] الوافي: الحسين.
[2] عصرة المنجود: ملجأ المكروب.(1/405)
على حكم الاعتقاد، والنية الخالصة في الوداد، لأكثرت حتى أضجرت، وهو بحمد الله أحسن أخلاقا وأوفر في الكرم والمجد خلاقا، من أن يرى عن قدماء خدمه متجافيا، ولخواصّ أصاغره جافيا، ولو كان رحيلي ممكنا لاستعملت في الخدمة قدمي دون قلمي، وحين عجزت عن ذلك لما أنا مدفوع إليه من اختلال الحال وتضاعف الاعتلال، أنهضت ولدي أبا الحسين خادمه نائبا عني في إقامة رسم حضرته التي من فاز بها فقد فاز وسعد، وعلا نجمه وصعد، فلا زال مولانا منيع الأركان، رفيع القدر والمكان، سابغ القدرة والإمكان، محروس العزّ والسلطان، تدين المقادير لأحكامه، وتجري السعود تحت راياته وأعلامه، آمين إن شاء الله.
- 127- أحمد بن علي بن المعمر بن محمد بن المعمر بن أحمد بن محمد بن محمد بن عبيد الله بن علي بن عبيد الله بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أبو عبد الله النقيب الطاهر، نقيب نقباء الطالبيين ابن النقيب الطاهر أبي الغنائم: أديب فاضل شاعر منشىء، له رسائل مدونة حسنة مرغوب فيها يتداولها [1] الناس، في مجلدين، وكان من ذوي الهيئات والمنزلة الخطيرة التي لا يجحدها أحد، وكان فيه كيس ومحبة لأهل العلم، وبينه وبين محمد بن الحسن بن حمدون مكاتبات كتبناها في ترجمته [2] ، وكان وقورا عاقلا جدا، تولى النقابة بعد أبيه في سنة ثلاثين وخمسمائة، ولم يزل على ذلك إلى أن مات في سنة تسع وستين وخمسمائة تاسع عشر جمادى الآخرة، فيكون قد ولي النقابة تسعا وثلاثين سنة، وبداره بالحريم الطاهري كانت وفاته، وصلّى عليه جمع كثير، وتقدم في الصلاة عليه شيخ الشيوخ أبو القاسم
__________
[127]- ترجمته في المنتظم 10: 60، 62 ومختصر ابن الدبيثي: 194 وتاريخ ابن الأثير (حوادث 569) وعبر الذهبي 4: 205 والوافي 7: 211 والشذرات 4: 231 والنجوم الزاهرة 6: 72.
[1] م: يتناولها.
[2] هذا يعني أنه سيترجم لمحمد بن الحسن بن حمدون، ولكن هذه الترجمة مما سقط من معجم الأدباء.(1/406)
عبد الرحيم بن اسماعيل النيسابوري بوصية منه بذلك بعد مشاجرة جرت بينه وبين قثم بن طلحة نقيب الهاشميين، ودفن بداره المذكورة، ثم نقل بعد ذلك إلى المدائن فدفن بالجانب الغربي منها في مشهد أولاد الحسين بن علي عليه السلام. وكان قد سمع الحديث من أبي الحسين المبارك بن عبد الجبار الصيرفي وأبي الحسن علي بن محمد بن العلاف وأبي الغنائم محمد بن علي الزينبي وغيرهم، وحدث عنهم. سمع منه أبو الفضل أحمد بن صالح بن شافع وأبو اسحاق إبراهيم بن محمود بن الشعار والشريف أبو الحسن علي بن أحمد اليزيدي وغيرهم. وله كتاب ذيله على «منثور المنظوم» لابن خلف النيرماني، وكتاب آخر مثله في انشائه. وكانت حرمته في الأيام المقتفوية وأمره لم ير أحد من النقباء مثلهما مقدرة وبسطة، ثم مرض مرضة شارف فيها التلف، فولي ولده الأسنّ النقابة موضعه، ثم أفاق من مرضه واستمرّ ولده على النقابة حتى عزل عنها، ومات ولده في سنة ثلاث وخمسين ولم تعد منزلته إلى ما كانت عليه في أيام المستنجد لأسباب جرت من العلويين.
- 127 ب-
أحمد بن علويه الأصبهاني الكراني
: قال حمزة: كان صاحب لغة يتعاطى التأديب ويقول الشعر الجيد، وكان من أصحاب أبي علي لغذة [1] ، ثم رفض صناعة التأديب وصار في ندماء أحمد بن عبد العزيز ولد ابن أبي دلف العجلي، وله رسائل [2] مختارة، دوّنها أبو الحسن أحمد بن سعد في كتابه المصنّف في الرسائل [3] . وله ثمانية كتب في الدعاء من إنشائه، ورسالة في الشيب والخضاب، وله شعر جيد كثير منه في أحمد بن عبد العزيز العجلي:
__________
(127 ب) - ترجمته في الوافي 7: 235 وبغية الوعاة 1: 336 وفي المختصر: أحمد بن علي بن علويه.
[1] هو الحسن بن عبد الله أبو علي الأصبهاني يعرف بلغذة ولكذه (وسيترجم له ياقوت رقم: 320) ، وانظر الفهرست: 89.
[2] الوافي: رسالة.
[3] انظر الترجمة: رقم: 85.(1/407)
يرى مآخير ما يبدو أوائله ... حتى كأنّ عليه الوحي قد نزلا
ركن من العلم لا يهفو لمحفظة ... ولا يحيد وإن أبرمته جدلا
إذا مضى العزم لم ينكث عزيمته ... ريب ولا خيف منه نقض ما قبلا
بل يخرج الحيّة الصمّاء مطرقة ... من جحرها ويحطّ الأعصم الوعلا
وله فيه:
اذا ما جنى الجاني عليه جناية ... غفا كرما عن ذنبه لا تكرّما
ويوسعه رفقا يكاد لبسطه ... يودّ بريء القوم لو كان مجرما
وله يهجو زامرا اسمه حمدان:
حذار يا قوم من حمدان وانتبهوا ... حذار يا سادتي من زامر زاني
فما يبالي إذا ما دبّ مغتلما ... بدا بصاحب دار أو بضيفان
يلهي الرجال بمزمار فإن سكروا ... ألهى النساء بمزمار له ثاني
ومن شعره:
حكم الغناء تسمّع ومدام ... ما للغناء مع الحديث نظام
لو أنني قاض قضيت قضية ... إنّ الحديث مع الغناء حرام
قال حمزة: وله وأنشدنيها في سنة عشر وثلاثمائة، وله ثمان وتسعون سنة:
دنيا مغبّة من أثرى بها عدم ... ولذة تنقضي من بعدها ندم
وفي المنون لأهل اللبّ معتبر ... وفي تزوّدهم منها التقى غنم
والمرء يسعى لفضل الرزق مجتهدا ... وما له غير ما قد خطّه القلم
كم خاشع في عيون الناس منظره ... والله يعلم منه غير ما علموا
قال: وقال بعد أن أتت عليه مائة:
حنى الدهر من بعد استقامته ظهري ... وأفضى إلى ضحضاح عيشته عمري
ودبّ البلى في كلّ عضو ومفصل ... ومن ذا الذي يبقى سليما على الدهر(1/408)
قال: ولأحمد بن علويه قصيدة على ألف قافية، شيعية، عرضت على أبي حاتم السجستاني فأعجب بها وقال: يا أهل البصرة غلبكم أهل أصبهان. وأول هذه القصيدة:
ما بال عينك ثرّة الإنسان ... عبرى اللحاظ سقيمة الأجفان
وقال أحمد بن علويه يهجو الموفق لما أنفذ الأصبغ رسولا إلى أحمد بن عبد العزيز العجلي يأمره بانفاذ قطعة من جيشه:
أدّى رسالته وأوصل كتبه ... وأتى بأمر لا أبا لك معضل
قال اطّرح ملك اصبهان وعزّها ... وابعث بعسكرك الخميس الجحفل
فعلمت أن جوابه وخطابه ... عضّ الرسول ببظر أمّ المرسل
- 128-
أحمد بن عمر البصري النحوي
: روى عن أبي عبد الله محمد بن المعلى بن عبد الله الأزدي عن أبي بشر عن أبي المفرج الأنصاري عن ابن السكيت.
- 129-
أحمد بن عمران بن سلامة الألهاني أبو عبد الله
النحوي يعرف بالأخفش [1] : قديم ذكره أبو بكر الصولي في الكتاب الذي ألفه في «شعراء مصر» فقال: كان نحويا لغويا، وأصله من الشام وتأدّب بالعراق، فلما قدم مصر أكرمه
__________
[128]- بغية الوعاة 1: 350 (عن ياقوت) .
[129]- ترجمته في تاريخ بغداد 4: 333 والوافي 7: 270 وبغية الوعاة 1: 351 وروضات الجنات 1: 196.
[1] ذكر السيوطي أن الأحافش من النحاة أحد عشر.(1/409)
إسحاق بن عبد القدوس وأخرجه إلى طبرية فأدّب ولده، وله أشعار كثيرة في أهل البيت عليهم السلام، منها:
إن بني فاطمة الميمونه ... الطيبين الأكرمين الطينه
ربيعنا في السنة الملعونه ... كلهم كالروضة المهتونه
قال: وحدثني علي بن سراج قال، حدثني جعفر بن أحمد قال قال لي أحمد بن عمران، قال الهيثم بن عدي: ممن أنت؟ قلت: أنا من ألهان أخي همدان، قلت:
نعم هم غرس الجن يسمع به ولا يرى، ما رأيت ألهانيا قبلك. قال: وكان الألهاني قد نزل على رعل، حيّ من بني سليم، فلم يقروه فقال:
تضيفت بغلتي والأرض معشبة ... رعلا وكان قراها عندهم عدس [1]
وأكلبا كأسود الغاب ضارية ... وواقفات [2] بأيدي أعبد عبس
والعام أرغد والأيام فاضلة ... وما ترى في سواد الحيّ من قبس
يستوحشون من الضيف الملمّ بهم ... ويأنسون إلى ذي السّوءة الشرس
وله يمدح جعفر بن جدلة:
إذا استسلم المال عند الهذيل ... فمال الفتى جعفر خاسر
وإن ضنّ جازره بالمدى ... فإن الحسام له حاضر
- 130-
أحمد بن فارس بن زكريا اللغوي
، وقال ابن الجوزي: أحمد بن زكريا بن
__________
[130]- ترجمة ابن فارس في إنباه الرواة 1: 92 والمنتظم 7: 103 ودمية القصر 3: 1479 ونزهة الألباء:
219 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 65 وترتيب المدارك 7: 84 ووفيات الأعيان 1: 100 وسير الذهبي 17: 103 واليتيمة 3: 400 والديباج المذهب: 37 (1: 163) والوافي 7: 278 والشذرات 3: 132 وبغية الوعاة 1: 352 والبلغة: 28 وطبقات المفسرين: 4 وروضات الجنات 1: 232 وإشارة التعيين: 43.
[1] عدس: كلمة زجر للبغال خاصة.
[2] الوافي: وواقبات.(1/410)
فارس، ولا يعاج به. مات سنة تسع وستين وثلاثمائة، وقال قبل وفاته بيومين:
يا ربّ إن ذنوبي قد أحطت بها ... علما وبي وباعلاني وإسراري
أنا الموحّد لكنّي المقرّ بها ... فهب ذنوبي لتوحيدي وإقراري
ووجد بخط الحميدي أن ابن فارس مات في حدود سنة ستين وثلاثمائة، وكل منهما لا اعتبار به، لأني وجدت خطّ كفه على «كتاب تتمة الفصيح» من تصنيفه، وقد كتبه في سنة إحدى وتسعين وثلاثمائة.
وذكره الحافظ السلفي في «شرح مقدمة معالم السنن» للخطابي فقال: أصله من قزوين [1] . وقال غيره: أخذ أحمد بن فارس عن أبي بكر أحمد بن الحسن الخطيب راوية ثعلب وأبي الحسن علي بن إبراهيم القطان وأبي عبد الله أحمد بن طاهر المنجم وعلي بن عبد العزيز المكي صاحب أبي عبيد وأبي القاسم سليمان بن أحمد الطبراني. وكان ابن فارس يقول: ما رأيت مثل أبي عبد الله أحمد بن طاهر ولا رأى هو مثل نفسه.
وكان ابن فارس قد حمل إلى الريّ بأخرة ليقرأ عليه مجد الدولة أبو طالب ابن فخر الدولة علي بن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمي صاحب الري، فأقام بها قاطنا [2] ، وكان الصاحب بن عباد يكرمه ويتتلمذ له ويقول: «شيخنا أبو الحسين ممن رزق حسن التصنيف وأمن فيه من التصحيف» . وكان كريما جوادا لا يبقي شيئا، وربما سئل فوهب ثياب جسمه وفرش بيته. وكان فقيها شافعيا فصار مالكيا وقال:
دخلتني الحمية لهذا البلد- يعني الريّ- كيف لا يكون فيه رجل على مذهب هذا الرجل المقبول القول على جميع الألسنة.
وله من التصانيف: كتاب المجمل. وكتاب متخير الألفاظ. كتاب فقه اللغة.
كتاب غريب إعراب القرآن. كتاب تفسير أسماء النبي عليه السلام. كتاب مقدمة [نحو] . كتاب دارات العرب. كتاب حلية الفقهاء. كتاب الفرق. كتاب مقدمة
__________
[1] قال في الإنباه: قيل كان من قزوين ولا يصح ذلك، وإنما قالوه لأنه كان يتكلم بكلام القزاونة.
[2] ر: قاضيا.(1/411)
الفرائض. كتاب ذخائر الكلمات. كتاب شرح رسالة الزهري إلى عبد الملك بن مروان. كتاب الحجر. كتاب سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كتاب صغير الحجم. كتاب الليل والنهار. كتاب العمّ والخال. كتاب أصول الفقه. كتاب أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم. كتاب الصاحبي صنفه لخزانة الصاحب. كتاب جامع التأويل في تفسير القرآن، أربع مجلدات. كتاب الشيات والحلى. كتاب خلق الإنسان. كتاب الحماسة المحدثة.
كتاب مقاييس اللغة، وهو كتاب جليل لم يصنف مثله. كتاب كفاية المتعلمين في اختلاف النحويين [1] .
وحدث ابن فارس، سمعت أبي يقول: حججت فلقيت بمكة ناسا من هذيل فجاريتهم ذكر شعرائهم فما عرفوا أحدا منهم، ولكني رأيت أمثل الجماعة رجلا فصيحا وأنشدني [2] .
إذا لم تحظ في أرض فدعها ... وحثّ اليعملات على وجاها
ولا يغررك حظّ أخيك فيها ... إذا صفرت يمينك من جداها
ونفسك فز بها إن خفت ضيما ... وخلّ الدار تحزن من بناها [3]
فإنك واجد أرضا بأرض ... ولست بواجد نفسا سواها
ومن شعر ابن فارس:
وقالوا كيف أنت فقلت خير ... تقضّى حاجة وتفوت حاج
إذا ازدحمت هموم القلب [4] قلنا ... عسى يوما يكون لها انفراج
نديمي هرتي وسرور قلبي ... دفاتر لي ومعشوقي السراج
__________
[1] من كتبه المطبوعة: الصاحبي، ومعجم مقاييس اللغة، وكتاب متخير الألفاظ، وقد حقق كتاب «المجمل» أيضا وطبع مرتين.
[2] البيتان الأول والثاني منها في البصائر 4: 245 (رقم: 874) دون نسبة.
[3] م: بكاها.
[4] ر واليتيمة: الصدر.(1/412)
ومن شعره في همذان [1] :
سقى همذان الغيث لست بقائل ... سوى ذا وفي الأحشاء نار تضرّم
وما لي لا أصفي الدعاء لبلدة ... أفدت بها نسيان ما كنت أعلم
نسيت الذي أحسنته غير أنني ... مدين وما في جوف بيتي درهم
وله أيضا:
إذا كنت في حاجة مرسلا ... وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيما ولا توصه ... وذاك الحكيم هو الدرهم
وله أيضا:
مرّت بنا هيفاء مقدودة ... تركيّة تنمى لتركيّ
ترنو بطرف فاتن فاتر ... كأنها حجّة نحوي
قال الثعالبي: حدثني ابن عبد الوارث النحوي قال: كان الصاحب منحرفا عن أبي الحسين ابن فارس لانتسابه إلى خدمة آل العميد وتعصبه لهم، فأنفذ إليه من همذان «كتاب الحجر» من تأليفه، فقال الصاحب: «ردّ الحجر من حيث جاءك» [2] . ثم لم تطب نفسه بتركه فنظر فيه وأمر له بصلة.
ولابن فارس في «اليتيمة» [3] :
يا ليت لي ألف دينار موجهة ... وأن حظّي منها فلس فلّاس
قالوا فما لك منها قلت تخدمني ... لها ومن أجلها الحمقى من الناس
__________
[1] هذه الأبيات في اليتيمة والوفيات وإنباه الرواة والديباج وسير الذهبي.
[2] هو مثل، انظر الميداني 1: 206 أي لا تقبل الضيم وارم من رماك.
[3] اليتيمة 3: 405- 407 والمدارك: 85 (القطعة الأولى) .(1/413)
وله أيضا:
اسمع مقالة ناصح ... جمع النصيحة والمقه
إياك واحذر أن تبيت من الثقات على ثقه
وله أيضا:
وصاحب لي أتاني يستشير وقد ... أراد في جنبات الأرض مضطربا
قلت اطّلب أيّ شيء شئت واسع ورد ... منه الموارد إلا العلم والأدبا
وله أيضا:
إذا كان يؤذيك حرّ المصيف ... وكرب الخريف وبرد الشتا
ويلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي متى
وله أيضا:
عتبت عليه حين ساء صنيعه ... وآليت لا أمسيت طوع يديه
فلما خبرت الناس خبر مجرّب ... ولم أر خيرا منه عدت إليه
وله أيضا:
تلبّس لباس الرضا بالقضا ... وخلّ الأمور لمن يملك
تقدّر أنت وجاري القضاء ... مما تقدّره يضحك
قال يحيى بن منده الاصبهاني: سمعت عمي عبد الرحمن بن محمد بن العبدي يقول، سمعت أبا الحسين أحمد بن زكريا بن فارس النحوي يقول: دخلت بغداد طالبا للحديث، فحضرت مجلس بعض أصحاب الحديث وليست معي قارورة، فرأيت شابا عليه سمة جمال، فاستأذنته في كتب الحديث من قارورته فقال: من انبسط إلى الإخوان بالاستئذان فقد استحقّ الحرمان.
قال عبد الرحمن بن منده: وسمعت ابن فارس يقول: سمعت أبا أحمد [1] بن
__________
[1] ر: أبا محمد.(1/414)
أبي التيار يقول: أبو أحمد العسكري يكذب على الصولي، مثلما كان الصولي يكذب على الغلابي، مثلما كان الغلابي يكذب على سائر الناس.
قرأت بخط الشيخ أبي الحسن علي بن عبد الرحيم السلمي، وجدت بخطّ ابن فارس على وجه المجمل، والأبيات له، ثم قرأتها على سعد الخير الانصاري، وأخبرني أنه سمعها من ابن شيخه أبي زكريا عن سليمان بن أيوب عن ابن فارس:
يا دار سعدى بذات الضال من إضم ... سقاك صوب حيا من واكف العين
العين: سحاب ينشأ من قبل القبلة.
إني لأذكر أياما بها ولنا ... في كلّ إصباح يوم قرة العين
العين هاهنا: عين الانسان وغيره.
تدني معشّقة منا معتقة ... تشجّها عذبة من نابع العين
العين هاهنا: ما ينبع منه الماء.
إذا تمززها شيخ به طرق ... سرت بقوتها في الساق والعين
العين هاهنا: عين الركبة، والطرق: ضعف الركبتين.
والزقّ ملآن من ماء السرور فلا ... نخشى تولّه ما فيه من العين
العين هاهنا: ثقب يكون في المزادة، وتوله الماء أن يتسرب.
وغاب عذّالنا عنّا فلا كدر ... في عيشنا من رقيب السوء والعين
العين هاهنا: الرقيب.
يقسم الودّ فيما بيننا قسما ... ميزان صدق بلا بخس ولا عين
العين هاهنا: العين في الميزان.
وفائض المال يغنينا بحاضره ... فنكتفي من ثقيل الدين بالعين
العين هاهنا: المال الناضّ.
والمجمل المجتبى تغني فوائده ... حفّاظه عن كتاب الجيم والعين(1/415)
قال: وبخطه أيضا، سمعت أبي يقول: حججت فلقيت بمكة ناسا من هذيل فجاريتهم ذكر شعرائهم.
وجدت على نسخة قديمة بكتاب «المجمل» من تصنيف ابن فارس ما صورته:
تأليف الشيخ أبي الحسين أحمد بن فارس بن زكريا الزهراوي الأستاذ خرذي [1] ، واختلفوا في وطنه فقيل كان من رستاق الزهراء من القرية المعروفة كرسف وجيانا باذ، وقد حضرت القريتين مرارا، ولا خلاف أنه قرويّ. حدثني والدي محمد بن أحمد، وكان من جملة حاضري مجالسه قال: أتاه آت فسأله عن وطنه فقال: كرسف، قال فتمثل الشيخ:
بلاد بها شدّت عليّ تمائمي ... وأول أرض مسّ جلدي ترابها
وكتبه مجمع بن محمد بن أحمد بخطه في شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وأربعمائة. وكان في آخر هذا الكتاب ما صورته أيضا: قضى الشيخ أبو الحسين أحمد بن فارس رحمه الله في صفر سنة خمس وتسعين وثلاثمائة بالريّ، ودفن بها مقابل مشهد قاضي القضاة أبي الحسن علي بن عبد العزيز يعني الجرجاني.
أنشد أبو الريحان البيروني في «كتاب الآثار الباقية عن القرون الخالية [2] لأحمد بن فارس:
قد قال فيما مضى حكيم ... ما المرء إلا بأصغريه
فقلت قول امرىء لبيب ... ما المرء إلا بدرهميه
من لم يكن معه درهماه ... لم تلتفت عرسه إليه
وكان من ذلّه حقيرا ... تبول سنّورة عليه
وحدث هلال بن المظفر الريحاني قال: قدم عبد الصمد بن بابك الشاعر إلى
__________
[1] عند ياقوت في معجم البلدان: الأستاذ خرذي والأشتاجردي. وفي الانباه: الاشتاجردي.
[2] الآثار الباقية: 338.(1/416)
الري في أيام الصاحب، فتوقع أبو الحسين أحمد بن فارس أن يزوره ابن بابك ويقضي حقّ علمه وفضله، وتوقع ابن بابك أن يزوره ابن فارس ويقضي حقّ مقدمه، فلم يفعل أحدهما ما ظنّ صاحبه، فكتب ابن فارس إلى أبي القاسم ابن حسول:
تعديت في وصلي فعدّي عتابك ... وأدني بديلا من نواكم إيابك
تيقنت أن لم أحظ والشمل جامع ... بأيسر مطلوب فهلا كتابك
ذهبت بقلب عيل بعدك صبره ... غداة أرتنا المرقلات ذهابك
وما استمطرت عيني سحابة ريبة ... لديك ولا ثنّت يميني سخابك
ولا نقبت والصبّ يصبو لمثلها ... عن الوجنات الغانيات نقابك
ولا قلت يوما عن قلى وسآمة ... لنفسك «سلّي عن ثيابي ثيابك»
وأنت التي شيّبت قبل أوانه ... شبابي سقى الغرّ الغوادي شبابك
تجنّيت ما أوفى وعاتبت ما كفى ... ألم يأن سعدى أن تكفّي عتابك
وقد نبحتني من كلابك عصبة ... فهلّا وقد حالوا زجرت كلابك
تجافيت من مستحسن البرّ جملة ... وجرت على بختي جفاء ابن بابك
فلما وقف أبو القاسم الحسولي على الأبيات أرسلها إلى ابن بابك، وكان مريضا، فكتب جوابها بديها: وصلت الرقعة أطال الله بقاء الأستاذ وفهمتها، وأنا أشكو اليه الشيخ أبا الحسين فإنه صيرني فصلا لا وصلا، وزجا لا نصلا، ووضعني موضع الخلال من الموائد، وتمّت من أواخر القصائد، وسحب اسمي منها مسحب الذيل، وأوقعه موقع الذنب المحذوف من الخيل، وجعل مكاني مكان القفل من الباب، وفذلك من الحساب، وقد أجبت عن أبياته بأبيات أعلم ان فيها ضعفا لعلتين، علتي وعلتها، وهي:
أيا أثلات الشّعب من مرج يابس ... سلام على آثاركنّ الدوارس
لقد شاقني والليل في شملة الحيا ... اليكنّ توليع النسيم المخالس
ولمحة برق مستميت كأنه ... تردّد لحظ بين أجفان ناعس
فبتّ كأني صعدة يمنيّة ... تزعزع في نقع من الليل دامس(1/417)
ألا حبّذا صبح اذا ابيضّ أفقه ... تصدّع عن قرن من الشمس وارس
ركبت من الخلصاء تركب سيلها ... ورود المطيّ الحائمات الكوانس
فيا طارق الزوراء قل لغيومها اس ... تهلّي على متن من الكرخ آنس
وقل لرياض القفص تهدي نسيمها ... فلست على بعد المزار بآيس
ألا ليت شعري هل أبيتنّ ليلة ... لقى بين أقراط المها والمحابس
وهل أرينّ الريّ دهليز بابل ... وبابل [1] دهليز إلى أرض فارس
ويصبح ردم السدّ قفلا عليهما ... كما صرت قفلا في قوافي ابن فارس
فعرض أبو القاسم الحسولي المقطوعين على الصاحب وعرفه الحال فقال:
البادي أظلم والقادم يزار، وحسن العهد من الإيمان.
- 131-
أحمد بن الفضل بن شبانة الكاتب أبو الصقر
النحوي الهمذاني: من أهل همذان، ذكره شيرويه. كان يلقب بساسي دوير، مات سنة خمسين وثلاثمائة، روى عن إبراهيم بن الحسين بن ديزيل وأبي خليفة الفضل بن الحباب الجمحي وأبي القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي وأبي سعيد الحسن بن علي بن زكريا العدوي وأبي بكر محمد بن خلف وكيع وأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب وأبي العباس محمد بن يزيد المبرد وأبي بكر ابن دريد النحوي وأبي الحسن علي بن سعيد السكّري وعلي بن الفضل الرشيدي وغيرهم. روى عنه أبو بكر أحمد بن علي بن لال [2] وأبو العباس أحمد بن إبراهيم بن تركان وأبو الحسن إبراهيم بن جعفر الأسدي وأبو بكر خلف بن محمد الخياط وأبو عبد الله أحمد بن عمر الكاتب وابن روزبه وغيرهم.
حدثنا عبد الملك بن عبد الغفار الفقيه لفظا، أخبرنا عبد الله بن عيسى الفقيه،
__________
[131]- ترجمة ابن شبانة (بالنون كما ضبطه الصفدي) في الوافي 7: 287 وبغية الوعاة 1: 353 (شبابة- بباءين) .
[1] م: بابك.
[2] م: بلال.(1/418)
حدثنا محمد بن أحمد قال، سمعت أبا الصقر ابن شبانة الكاتب يقول: كنت بالبصرة فاستأذنت على أبي خليفة وعنده جماعة من الهاشميين يتغدون، فحبسني البواب، فكتبت في رقعة فناولتها بعض غلمانه، فناولها أبا خليفة:
أبا خليفة تجفو من له أدب ... وتتحف الغرّ من أولاد عباس
ما كان قدر رغيف لو سمحت به ... شيئا وتأذن لي في جملة الناس
فلما وصلت إليه الرقعة قال: عليّ بالهمذاني صاحب الشعر، فأدخلت إليه فقدّم إليّ طبقا من رطب وأجلسني معه.
- 132-
أحمد بن الفضل بن محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الباطرقاني المقرىء
: مات في الثاني والعشرين من صفر سنة ستين وأربعمائة بأصبهان، قال السمعاني: كان مقرئا فاضلا ومتحدثا مكثرا من الحديث، كتب بنفسه الكثير، وكان حسن الخطّ دقيقه. قرأ القرآن على جماعة من مشاهير القدماء بالروايات وصنّف التصانيف فيه منها: كتاب طبقات القراء. كتاب الشواذ. وصلّى بالناس إماما في الجامع الكبير سنين بعد المظفر بن الشبيب. سمع الحديث من أبي عبد الله محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن خرشيدة التاجر وجماعة، وروى لنا عن جماعة كثيرة.
قال ابن منده: جرى ذكر الباطرقاني عند الامام عمي رحمه الله، والشيخ الحافظ أبو محمد عبد العزيز بن محمد النخشبي وجماعة حاضرون، فقال عبد العزيز: صنّف مسندا ضمّنه ما اشتمل عليه صحيح البخاري، إلا أنه كتب المتن من الأصل ثم ألحقه الاسناد، وهذا ليس من شرط أصحاب الحديث وأهله، يتكلم في مسائل لا يسع الموضع ذكرها، لو اقتصر على الإقراء والحديث كان خيرا له.
__________
[132]- ترجمة الباطرقاني المقرىء في طبقات الجزري 1: 96 وعبر الذهبي 3: 246 وسير الذهبي 18: 182 والأنساب (الباطرقاني) والوافي 7: 288 والشذرات 3: 308.(1/419)
- 133-
أحمد بن كامل بن شجرة بن منصور بن كعب بن يزيد أبو بكر القاضي
: قال الخطيب: قال القاضي ابن كامل ولدت في سنة ستين ومائتين، قال: ومات في المحرم سنة خمسين وثلاثمائة. قال الخطيب: وكان ينزل في شارع عبد الصمد، وهو أحد أصحاب محمد بن جرير الطبري، وتقلّد قضاء الكوفة من قبل أبي عمر محمد بن يوسف، وكان من العلماء بالأحكام وعلوم القرآن والنحو والشعر وأيام الناس والتواريخ وأصحاب الحديث، وله مصنفات في أكثر ذلك.
قال النديم منها: كتاب غريب القرآن. كتاب القراءات. كتاب التقريب في كشف الغريب. كتاب موجز التأويل عن محكم التنزيل. كتاب التنزيل. كتاب الوقوف. كتاب التاريخ. كتاب المختصر في الفقه. كتاب الشروط الكبير. كتاب الشروط الصغير. كتاب البحث والحث. كتاب أمهات المؤمنين. كتاب الشعر.
كتاب الزمان. كتاب أخبار القضاة.
وكان قد اختار لنفسه مذهبا. قال الخطيب: وحدث ابن كامل عن محمد بن سعد العوفي ومحمد بن الجهم السمري وأبي قلابة الرقاشي وأحمد بن أبي خيثمة وأبي إسماعيل الترمذي. روى عنه الدارقطني وأبو عبد الله [1] المرزباني وحدثنا عنه ابن رزقويه وغيره، وقال ابن رزقويه: لم تر عيناي مثله. ولما بلغ الثمانين أنشدنا:
عقد الثمانين عقد ليس يبلغه ... إلا المؤخّر للأخبار والغير
قال: وأنشد القاضي ابن كامل لنفسه:
صرف الزمان تنقل الأيام ... والمرء بين محلّل وحرام
وإذا تقشعت الأمور تكشّفت ... عن فضل أيام وقبح أنام
__________
[133]- ترجمة ابن شجرة في الفهرست: 35، 292 وتاريخ بغداد 4: 357 وإنباه الرواة 1: 97 وعبر الذهبي 2: 285 وطبقات الجزري 1: 98 والوافي 7: 298 وتاج التراجم: 14 وبغية الوعاة 1: 354 وسير الذهبي 15: 544 (ويعتمد ياقوت في نقله على تاريخ بغداد والفهرست) .
[1] الوافي: أبو عبيد الله.(1/420)
وسئل الدارقطني عن ابن كامل فقال: كان متساهلا ربما حدث من حفظه بما ليس عنده في كتابه، وأهلكه العجب فإنه كان يختار ولا يضع لأحد من الأئمة أصلا.
قيل له: أكان جريريّ المذهب؟ فقال: بل خالفه واختار لنفسه، وأملى كتابا في السير وتكلم على الاختيار [1] .
أنبأنا الخطيب أبو الفضل عبيد الله بن أحمد بن عبد الله المنصوري قال، حدثنا أبو منصور موهوب بن الجواليقي، حدثنا ثابت بن بندار، حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، حدثنا أبو بكر أحمد بن كامل بن شجرة القاضي في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، حدثني عبد الله بن أحمد بن عيسى المقرىء يعرف بالفسطاطي، قال حدثنا أحمد بن سهل أبو عبد الرحمن، قال قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال: كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنّا عليه فلم يؤذن لنا، قال فقيل لنا: إنه لا يخرج اليكم أو يسمع القرآن، قال: وكان معنا رجل مؤذن وكان صيّتا، فقلنا له:
اقرأ، فقرأ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ
(التكاثر: 1) ورفع بها صوته، قال: فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بلّ لحيته بالدموع ومعه خرقة ينشّف بها الدموع من عينه، وأنشأ يقول:
بلغت الثمانين أو جزتها ... فماذا أؤمّل أو أنتظر
أتاني ثمانون من مولدي ... وبعد الثمانين ما ينتظر؟
علتني السنون فأبلينني
قال: ثم خنقته العبرة، قال وكان معنا علي بن خشرم فأتمه له فقال:
فدقّت عظامي وكلّ البصر
قال: ثم قال القاضي أحمد بن كامل: ولدت سنة ستين ومائتين، وأنشدنا:
عقد الثمانين عقد ليس يبلغه ... إلا المؤخر للأخبار والغير
__________
[1] تاريخ بغداد والوافي: الأخبار.(1/421)
- 134-
أحمد بن كليب النحوي
: صاحب أسلم، الأندلسيّين، ذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في «المنتظم» ان أحمد بن كليب مات سنة ست وعشرين وأربعمائة، وذكر قصته التي أذكرها فيما بعد بعينها، ولا أدري من أين له هذه الوفاة، فإن الحميديّ ذكره في كتابه ولم يذكر وفاته. قال الحميدي: هو شاعر مشهور الشعر ولا سيما شعره في أسلم، وكان قد أفرط في حبّه حتى أدّاه ذلك إلى الموت، وخبره في ذلك طريف رواه محمد بن الحسن المذحجي قال: كنت أختلف في النحو إلى أبي عبد الله محمد بن خطاب النحويّ [1] في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي الجماعة أسلم بن عبد العزيز صاحب المزني والربيع، قال محمد بن الحسن: وكان من أجمل من رأته العيون، وكان يجيء معنا إلى محمد بن خطاب: أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب البارع والشعر الرائق، فاشتدّ كلفه بأسلم وفارق صبره، وصرّف فيه القول متسترا بذلك إلى أن فشت أشعاره فيه وجرت على الألسنة وتنوشدت في المحافل، فلعهدي بعرس وفيه زامر يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم:
أسلمني في هوا ... هـ أسلم هذا الرشا
غزال له مقلة ... يصيب بها من يشا
وشى بيننا حاسد ... سيسأل عمّا وشى
ولو شاء أن يرتشي ... على الوصل روحي ارتشى
فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب ولزم بيته والجلوس
__________
[134]- ترجمة أحمد بن كليب في إنباه الرواة 1: 96 والبداية والنهاية 12: 38 والنجوم الزاهرة 4: 281 والوافي 7: 299 وبغية الوعاة 1: 354 وقصته في عشقه لأسلم في صورتها الكاملة إنما هي رواية ابن حزم كما أوردها الحميدي في الجذوة: 134 (وبغية الملتمس رقم: 462) وقد نقلت في المنتظم 8: 83 ومصارع العشاق 1: 297- 300 وتزيين الأسواق 2: 339.
[1] محمد بن خطاب، له ترجمة في الجذوة: 50 وبغية الوعاة 1: 99.(1/422)
على بابه، فكان أحمد بن كليب لا شغل له إلّا المرور على باب أسلم سائرا ومقبلا نهاره كلّه، فانقطع أسلم عن الجلوس على باب داره نهارا، فإذا صلّى المغرب واختلط الظلام خرج مستروحا وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب، فتحيّل في بعض الليالي ولبس جبة من جباب أهل البادية، واعتمّ بمثل عمائمهم، وأخذ باحدى يديه دجاجا وبالأخرى قفصا فيه بيض، وتحيّن جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه وقبّل يده وقال: يأمر مولاي بأخذ هذا، فقال له أسلم:
ومن أنت؟ قال: صاحبك في الضيعة الفلانية، وقد كان تعرّف أسماء ضياعه وأصحابه فيها، فأمر أسلم بأخذ ذلك منه، ثم جعل أسلم يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، وتأمله فعرفه، فقال: يا أخي وهنا بلغت بنفسك وإلى هاهنا تبعتني؟! أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب وعن الخروج جملة وعن القعود على باب داري نهارا حتى قطعت عليّ جميع ما لي فيه راحة؟! قد صرت في سجنك، والله لا فارقت بعد هذه الليلة قعر منزلي [1] ولا قعدت ليلا ولا نهارا على بابي، ثم قام. وانصرف أحمد بن كليب حزينا كئيبا.
قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنا فقلنا لأحمد بن كليب: قد خسرت دجاجك وبيضك، فقال: هات كلّ ليلة قبلة يده وأخسر أضعاف ذلك، قال: فلما يئس من رؤيته ألبتة نهكته العلة وأضجعه المرض، قال: فأخبرني شيخنا محمد بن خطاب قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى؟ فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم فيّ البتة، فقلت له: وما دواؤك؟ قال: نظرة من أسلم، فلو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك، وكان هو والله أيضا يؤجر.
قال: فرحمته وتقطعت نفسي له، ونهضت إلى أسلم، فتلقاني بما يجب، فقلت له: لي حاجة قال: وما هي؟ قلت له: قد علمت ما جمعك مع أحمد من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم ولكن قد تعلم أنه أشهر اسمي وآذاني، فقلت له: كلّ ذلك مغتفر في الحال التي هو فيها، والرجل يموت، فتفضل بعيادته، فقال: والله ما أقدر على ذلك، فلا تكلّفني هذا، فقلت له: لا بدّ، فليس عليك في ذلك شيء،
__________
[1] ر: داري.(1/423)
فإنما هي عيادة مريض، قال: ولم أزل به حتى أجاب، فقلت: فقم الآن فقال لي:
لست والله أفعل ذلك، ولكن غدا، فقلت له: ولا خلف، فقال: نعم. قال:
فانصرفت إلى أحمد بن كليب وأخبرته بوعده بعد تأبيه، فسرّ بذلك وارتاحت نفسه.
قال: فلما كان من الغد بكّرت إلى أسلم وقلت له: الوعد، فوجم وقال: والله لقد تحملني على خطّة صعبة، وما أدري كيف أطيق ذلك، فقلت له: لا بد من أن تفي بوعدك. فأخذ رداءه ونهض معي راجلا، فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، فلما توسط الدرب وقف واحمرّ وخجل وقال لي: الساعة والله أموت وما أستطيع أن أنقل قدمي ولا أن أعرض هذا على نفسي، فقلت: لا تفعل، بعد أن بلغت المنزل تنصرف؟ قال: لا سبيل والله إلى ذلك البتة، قال:
ورجع مسرعا فاتبعته وأخذت بردائه فتمادى وتمزّق الرداء وبقيت قطعة منه في يدي، ومضى ولم أدركه، فرجعت ودخلت إلى أحمد بن كليب، وقد كان غلامه دخل إليه إذ رآنا من أول الدرب مبشّرا، فلما رآني دونه تغير لونه وقال: وأين أبو الحسن؟ فأخبرته بالقصة فاستحال من وقته واختلط، وجعل يتكلم بكلام لا يعقل منه أكثر من الترجع، فاستبشعت الحال وجعلت أترجّع وقمت، فثاب إليه ذهنه وقال لي يا أبا عبد الله:
اسمع، وأنشد:
أسلم يا راحة العليل ... رفقا على الهائم النحيل
وصلك أشهى إلى فؤادي ... من رحمة الخالق الجليل
فقلت له: اتق الله، ما هذه العظيمة؟! فقال لي: قد كان ما كان. فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الدرب حتى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدنيا، هذا قتيل الحبّ لا دية ولا قود. قال: وهذه قصة مشهورة عندنا، والرواة ثقات. وأسلم هذا من بيت جليل، وهو صاحب الكتاب المشهور في أغاني زرياب، وكان شاعرا أديبا.
قال الحميدي: وقد رأيت ابنه أبا الجعد، قال: وذكرت هذه القصة لمحمد بن سعيد [1] الخولاني الكاتب فعرفها وقال لي: أخبرني الثقة، قال: لقد رأيت أسلم هذا
__________
[1] ر: لسعيد بن أحمد.(1/424)
في يوم شديد المطر لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب زائرا له وقد تحيّن غفلة الناس في مثل ذلك الوقت.
وكان أحمد بن كليب قد أهدى إلى أسلم في أول أمره «كتاب الفصيح» وكتب عليه:
هذا كتاب الفصيح ... بكلّ لفظ مليح
وهبته لك طوعا ... كما وهبتك روحي
وقرأت في «كتاب الديارات» للخالدي [1] حكاية أعجبني أمر صاحبها، وأحببت أن يكون لها موضع من كتابي هذا، وكأن المثل يذكر بالمثل، ذكرتها عقيب خبر أحمد بن كليب فانهما خبران متقاربان، قال حدثني أبو الحسين يحيى بن الحسين الكندي الحراني الشاعر، قال حدثني أبو بكر أحمد بن محمد الصنوبري قال: كان بالرها ورّاق يقال له سعيد، وكان في دكانه مجلس كلّ أديب، وكان حسن الأدب والفهم يعمل شعرا رقيقا، وما كنّا نفارق دكانه أنا وأبو بكر المعوّج الشامي الشاعر وغيرنا من شعراء الشام وديار مصر، وكان لتاجر بالرها نصرانيّ من كبار تجارها ابن اسمه عيسى من أحسن الناس وجها وأحلاهم قدا وأظرفهم طبعا ومنطقا، وكان يجلس إلينا ويكتب عنا من أشعارنا، وجميعنا نحبّه ونميل إليه، وهو حينئذ صبي في الكتّاب، فعشقه سعيد الوراق عشقا مبرحا، وكان يعمل فيه الأشعار، فمن ذلك وقد جلس عنده في دكانه:
اجعل فؤادي دواة والمداد دمي ... وهاك فابر عظامي موضع القلم
وصيّر اللوح وجهي وامحه بيد ... فإن ذلك برء لي من السقم
ترى المعلّم لا يدري بمن كلفي ... وأنت أشهر في الصبيان من علم
ثم شاع بعشق الغلام في الرها خبره، فلما كبر وشارف الاحتلام [2] أحبّ الرهبنة، وخاطب أباه وأمه في ذلك، والحّ عليهما حتى أجاباه وخرجا به إلى دير زكّى بنواحي الرقة، وهو في نهاية حسنه، فابتاعا له قلّاية، ورفعا إلى رأس الدير جملة من المال عنها، فأقام الغلام فيها. وضاقت على سعيد الوراق الدنيا بما رحبت، وأغلق
__________
[1] وردت في تزيين الأسواق 2: 354.
[2] م: الاشلاف؛ وما أثبته ورد في ر.(1/425)
دكانه وهجر إخوانه ولزم الدير مع الغلام، وسعيد في خلال ذلك يعمل فيه الأشعار، فمما عمل فيه وهو في الدير، وكان الغلام قد عمل شماسا:
يا جمّة قد علت غصنا من البان ... كأن أطرافها أطراف ريحان
قد قايسوا الشمس بالشّماس فاعترفوا ... بانما الشمس والشماس سيان
فقل لعيسى بعيسى كم هراق دما ... إنسان عينك من عين لانسان
ثم إن الرهبان أنكروا على الغلام كثرة إلمام سعيد به ونهوه عنه، وحرموه إن أدخله قلايته، وتوعدوه باخراجه من الدير إن لم يفعل، فأجابهم إلى ما ساموه من ذلك، فلما رأى سعيد امتناعه منه شقّ عليه وخضع للرهبان ورفق بهم فلم يجيبوه وقالوا: في هذا علينا إثم وعار، ونخاف السلطان، فكان إذا وافى الدير أغلقوا الباب في وجهه، ولم يدعوا الغلام يكلمه فاشتدّ وجده وزاد عشقه حتى صار إلى الجنون، فخرق ثيابه، وانصرف إلى داره فضرب جميع ما فيها بالنار، ولزم صحراء الدير وهو عريان يهيم ويعمل الأشعار ويبكي.
قال أبو بكر الصنوبري: ثم عبرت يوما أنا والمعوج الشامي من بستان بتنا فيه فرأيناه جالسا في ظلّ الدير وهو عريان، وقد طال شعره وتغيرت خلقته، فسلّمنا عليه وعذلناه وعنّفناه فقال: دعاني من هذا الوسواس، أتريان ذلك الطائر الذي على هيكل الدير- وأومأ بيده إلى طائر هناك- فقلنا: نعم، فقال: أنا وحقكما يا أخويّ أناشده منذ الغداة أن يسقط فاحمّله رسالة إلى عيسى، ثم التفت إليّ وقال: يا صنوبريّ معك ألواحك؟ قلت: نعم، قال: اكتب:
بدينك يا حمامة دير زكّى ... وبالانجيل عندك والصليب
قفي وتحمّلي عني سلاما ... إلى قمر على غصن رطيب
عليه مسوحه وأضاء فيها ... وكان البدر في حال المغيب
حماه جماعة الرهبان عني ... فقلبي ما يقرّ من الوجيب
وقالوا رابنا إلمام سعد ... ولا والله ما أنا بالمريب
وقولي سعدك المسكين يشكو ... لهيب جوى أحرّ من اللهيب
فصله بنظرة لك من بعيد ... إذا ما كنت تمنع من قريب(1/426)
وان أنا متّ فاكتب حول قبري ... محبّ مات من هجر الحبيب
رقيب واحد تنغيص عيش ... فكيف بمن له مائتا رقيب
ثم تركنا وقام يعدو إلى باب الدير وهو مغلق دونه، وانصرفنا عنه. وما زال كذلك زمانا، ثم وجد في بعض الأيام ميتا إلى جانب الدير، وكان أمير البلد يومئذ العباس بن كيغلغ، فلما اتصل ذلك به وبأهل الرها خرجوا إلى الدير وقالوا: ما قتله غير الرهبان، وقال لهم ابن كيغلغ: لا بدّ من ضرب رقبة الغلام واحراقه بالنار، ولا بد من تعزير جميع الرهبان بالسياط، وتصعّب في ذلك، فافتدى النصارى نفوسهم وديرهم بمائة ألف درهم. وكان الغلام بعد ذلك إذا دخل الرها لزيارة أهله صاح به الصبيان: يا قاتل سعيد الوراق، وشدّوا عليه بالحجارة يرجمونه، وزاد عليه الأمر في ذلك حتى امتنع من دخول المدينة، ثم انتقل إلى دير سمعان وما أدري ما كان منه.
ومثل هذه الحكاية خبر مدرك بن علي الشيباني [1] ، وكان مدرك شاعرا أديبا فاضلا، وكان كثيرا ما يلم بدير الروم ببغداد ويعاشر نصاراه، وكان بدير الروم [2] غلام من أولاد النصارى يقال له عمرو بن يوحنا، وكان من أحسن الناس وجها وأملحهم صورة وأكملهم خلقا، وكان مدرك بن علي يهواه، وكان لمدرك مجلس يجتمع فيه الأحداث لا غير، فإن حضر شيخ أو ذو لحية قال له مدرك: انه قبيح بك ان تختلط مع الأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله، فيقوم. وكان عمرو ممن يحضر مجلسه، فعشقه وهام به، فجاء عمرو يوما إلى المجلس فكتب مدرك رقعة وطرحها في حجره، فقرأها فإذا فيها:
بمجالس العلم التي ... بك تمّ حسن جموعها
إلا رثيت لمقلة ... غرقت بفيض دموعها
بيني وبينك حرمة ... الله في تضييعها
__________
[1] انظر تزيين الأسواق 2: 341 وورد طرف من القصة في مصارع العشاق 1: 242، 2: 258.
[2] ذكر ياقوت دير الروم (معجم البلدان 2: 662) وقال: بيعة كبيرة حسنة البناء محكمة الصنعة للنسطورية خاصة، وهي ببغداد في الجانب الشرقي منها، وتجاورها بيعة لليعقوبية حسنة المنظر عجيبة البناء، ثم ذكر لمدرك بن علي شعرا في التغزل بذوي الوجوه الحسان في دير الروم.(1/427)
فقرأ الأبيات عمرو، ووقف عليها من كان في المجلس وقرأوها، فاستحيا عمرو وانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك فترك مجلسه وتبعه، وقال فيه قصيدته المزدوجة المشهورة التي أولها:
من عاشق ناء هواه دان ... ناطق دمع صامت اللسان
موثق قلب مطلق الجثمان ... معذّب بالصدّ والهجران
وهي طويلة. وكتب إليه لما هجره وقطع مجلسه:
فيض الدموع وشدة الأنفاس ... شهدا على ما في هواه أقاسي
لبس الملاحة وهو ألبسني الضنا ... شتان بين لباسه ولباسي
يا من يريد وصالنا ويصدّه ... ما قد يحاذر من لباس [1] الناس
صلني فإن سبقت إليك مقالة ... منهم فعصّب ما يقال براسي
ثم خرج مدرك إلى الوسواس وسلّ جسمه وتغير عقله وترك مجلسه وانقطع عن الاخوان ولزم الفراش. قال حسان بن محمد بن عيسى بن شيخ: فحضرته عائدا في جماعة من إخوانه فقال: ألست صديقكم والقديم العشرة لكم؟ أفما فيكم أحد يسعدني بالنظر إلى وجه عمرو؟ قال: فمضينا إلى عمرو فقلنا له: إن كان قتل هذا الرجل دينا فإن إحياءه مروءة، قال: وما فعل؟ قلنا: قد صار إلى حال لا نحسبك تلحقه، قال: فنهض معنا، فلما دخلنا عليه سلم عليه عمرو فأخذ بيده وقال: كيف تجدك يا سيدي، فنظر إليه ثم أغمي عليه وافاق وهو يقول:
أنا في عافية ... الّا من الشوق إليكا
أيها العائد ما بي ... منك لا يخفى عليكا
لا تعد جسما وعد قلبا رهينا في يديكا ... كيف لا يهلك مرشو
ق بسهمي مقلتيكا
ثم شهق شهقة فارق فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفناه، رحمه الله.
__________
[1] كذا ولعل الصواب: من كياد.(1/428)
- 135-
أحمد المحرر يعرف بالأحول
: قديم كان في أيام الرشيد والمأمون وبعد ذلك، قال أبو عبد الله ابن عبدوس: ذكر أبو الفضل ابن عبد الحميد في كتابه أن الأحول المحرر شخص مع محمد بن يزداد بن سعيد وزير المأمون عند شخوص المأمون إلى دمشق، وأنه شكا يوما إلى أبي هارون خليفة محمد بن يزداد الوحدة والغربة وقلة ذات اليد، وسأله أن يكلّم له محمدا في كلام المأمون في أمره ليبرّه بشيء، ففعل أبو هارون ذلك، ورأى محمد بن يزداد من المأمون طيب نفس فكلمه فيه وعطفه عليه، فقال له المأمون: أنا أعرف الناس به، ولا يزال بخير ما لم يكن معه شيء، فإذا رزق فوق القوت بذّره وأفسده، ولكن أعطه لموضع كلامك أربعة آلاف درهم. فدعا ابن يزداد بالأحول وعرّفه ما جرى ونهاه عن الفساد، وأمر له بالمال، فلما قبضه ابتاع غلاما بمائة دينار، واشترى سيفا ومتاعا، وأسرف فيما بقي بعد ذلك حتى لم يبق معه شيء، فلما رأى الغلام ذلك أخذ كلّ ما كان في بيته وهرب، فبقي عريانا بأسوأ حال، وسار إلى أبي هارون خليفة ابن يزداد فأخبره، فأخذ أبو هارون نصف طومار ونشره ووقع في آخره:
فرّ الغلام فطار قلب الأحول ... وأنا الشفيع وأنت خير معوّل
ثم ختمه ودفعه إليه وقال له: امض به إلى محمد بن يزداد فأوصله إليه، فلما رآه ابن يزداد قال له: ما في كتابك؟ قال: لا أدري، فقال: هذا من حمقك، تحمل كتابا لا تدري ما فيه، ثم فضّه فلم ير فيه شيئا، فجعل ينشره وهو يضحك حتى أتى على آخره، فوقف على البيت ووقّع تحته:
لولا تعبّث أحمد بغلامه ... كان الغلام ربيطة بالمنزل
ثم ختمه وناوله [إياه] وأمره أن يردّه إلى خليفته، فقال له: الله الله فيّ جعلت فداك، ارحمني من الحال التي صرت اليها، فرقّ له ووعده أن يكلم المأمون، فلما وجد بعد ذلك خلوة من المأمون كلمه فيه وشرح له ما جرى أجمع، ووصف له ضعف
__________
[135]- انظر نصوص ضائعة من كتاب الوزراء والكتاب للجهشياري: 45 وبدائع البدائه: 46- 48.(1/429)
عقل الأحول ووهي عقدته وسخفه، فأمر المأمون باحضاره، فلما وقف بين يديه قال له: يا عدوّ الله تأخذ مالي فتشتري به غلاما حتى يفرّ منك؟! فارتاع لذلك وتلجلج لسانه فقال: جعلت فداك يا أمير المؤمنين ما فعلت، فقال له: ضع يدك على رأسي واحلف أنك لم تفعل، فجعل ابن يزداد يأخذ بيده لذلك والمأمون يضحك ويشير إليه أن ينحيها، ثم أمر له باجراء رزق واسع في كلّ شهر، ووصله مرة بعد مرة حتى أغناه، وكان يعجبه خطه.
- 136-
أحمد بن محمد بن حميد بن سليمان بن حفص بن عبد الله بن أبي الجهم بن حذيفة بن غانم بن عامر بن عبد الله بن عبيد بن عوتج بن عدي بن كعب العدوي الجهمي، أبو عبد الله من بني عدي بن كعب القرشي، ينسب إلى جده أبي الجهم بن حذيفة
: حجازي دخل العراق وبها تأدّب ونشأ، وكان أديبا راوية شاعرا متقنا عالما بالنسب والمثالب، ويتناول جلة الناس، وله في ذلك كتب. مات [ ... ] .
ذكره المرزباني ومحمد بن إسحاق النديم فقالا: وقع بينه وبين قوم من العمريين والعثمانيين شر، فذكر سلفهم بأقبح ذكر، فكلّمه بعض الهاشميين في ذلك، فذكر العباس بأمر عظيم، فانتهى خبره إلى المتوكل فأمر بضربه مائة سوط، تولى ضربه إياها إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، فلما فرغ من ضربه قال فيه:
تبرا الكلوم وينبت الشّعر ... ولكلّ مورد غلّة [1] صدر
واللؤم في أثواب منبطح ... لعبيده ما أورق الشجر
قال: وله من الكتب: كتاب أنساب قريش وأخبارها. كتاب المعصومين.
كتاب المثالب. كتاب الانتصار في الردّ على الشعوبية. كتاب فضائل مضر.
__________
[136]- الفهرست: 124.
[1] الفهرست: محنة.(1/430)
- 137-
أحمد بن أبي عبد الله محمد بن خالد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي البرقي، أبو جعفر الكوفي الأصل
: وكان يوسف بن عمر الثقفي والي العراق من قبل هشام بن عبد الملك قد حبس جده محمد بن علي بعد قتل زيد بن علي ثم قتله، وكان خالد صغير السن، فهرب مع أبيه عبد الرحمن إلى برقة قمّ فأقاموا بها، وكان ثقة في نفسه غير أنه أكثر الرواية عن الضعفاء واعتمد المراسيل. وصنف كتبا كثيرة منها المحاسن وغيرها، وقد زيد في المحاسن ونقص، فمما وقع إليّ منها: كتاب الابلاغ.
كتاب التراحم والتعاطف. كتاب أدب النفس. كتاب المنافع. كتاب أدب المعاشرة. كتاب المعيشة. كتاب المكاسب. كتاب الرفاهية. كتاب المعاريض. كتاب السفر. كتاب الأمثال. كتاب الشواهد من كتاب الله عزّ وجلّ. كتاب النجوم. كتاب المرافق.
كتاب الدواجن. كتاب المشوم [1] . كتاب الزينة. كتاب الأركان. كتاب الزي.
كتاب اختلاف الحديث. كتاب المآكل. كتاب الفهم. كتاب الإخوان. كتاب الثواب. كتاب تفسير الأحاديث واحكامها. كتاب العلل. كتاب العقل. كتاب التخويف. كتاب التحذير. كتاب التهذيب. كتاب التسلية. كتاب التاريخ. كتاب التبصرة. كتاب غريب كتب المحاسن. كتاب مذامّ الاخلاق. كتاب النساء. كتاب المآثر والأحساب. كتاب أنساب الامم. كتاب الزهد والموعظة. كتاب الشعر والشعراء. كتاب العجائب. كتاب الحقائق. كتاب المواهب والحظوظ. كتاب الحياة، وهو كتاب النور والرحمة. كتاب التعيين. كتاب التأويل. كتاب مذامّ الأفعال. كتاب الفروق. كتاب المعاني والتحريف. كتاب العقاب. كتاب الامتحان. كتاب العقوبات. كتاب العين. كتاب الخصائص. كتاب النحو. كتاب العيافة والقيافة. كتاب الزجر والفأل. كتاب الطيرة. كتاب المراشد. كتاب
__________
[137]- ترجمته في الوافي 7: 390- 392 وانظر الفهرست 276، 277 ويبدو أن النديم ينسب أكثر هذه الكتب (وهي فصول من كتاب المحاسن) إلى أبيه محمد بن خالد البرقي ولم يعد لأحمد إلا ثلاثة كتب.
[1] الوافي: الشؤم.(1/431)
الأفانين. كتاب الغرائب. كتاب الخيل. كتاب الصيانة. كتاب الفراسة. كتاب العويص. كتاب النوادر. كتاب مكارم الأخلاق. كتاب ثواب القرآن. كتاب فضل القرآن. كتاب مصابيح الظّلم. كتاب المنتخبات. كتاب الدعابة والمزاح. كتاب الترغيب. كتاب الصفوة. كتاب الرؤيا. كتاب المحبوبات والمكروهات. كتاب خلق السموات والأرض. كتاب بدء خلق ابليس والجن. كتاب الدواجن والرواجن [1] . كتاب مغازي النبي صلى الله عليه وسلم. كتاب بنات النبي صلى الله عليه وسلم وازواجه. كتاب الأجناس والحيوان. كتاب التأويل [2] . كتاب طبقات الرجال. كتاب الأوائل. كتاب الطب. كتاب التبيان. كتاب الجمل. كتاب ما خاطب الله به خلقه. كتاب جداول الحكمة. كتاب الأشكال والقرائن. كتاب الرياضة. كتاب ذكر الكعبة. كتاب التهاني. كتاب التعازي.
- 138-
أحمد بن محمد بن يوسف الاصبهاني
: قال حمزة في «كتاب أصبهان» وذكره في جملة الأدباء الذين كانوا بها وقال: له كتاب في طبقات البلغاء. وكتاب في طبقات الخطباء لم يسبق إلى مثلهما. وكتاب أدب الكتاب [3] . وأنشد الأصبهاني في القاضي الوليد بن أبي الوليد:
لعمرك ما حمدنا غبّ ودّ ... بذلنا الصفو منه للوليد
رجونا أن يكون لنا ثمالا ... إذا ما المحل أذوى كلّ عود
ويحيي أحمد بن أبي دواد ... سليل المجد والشرف العتيد
فزرناه فلم نحصل لديه ... على غير التهدّد والوعيد
__________
[138]- الوافي 7: 392 (وفيه؟؟ - في موضع يوسف- دون إعجام للحرف الأول) .
[1] الوافي: الدواحن والدواحر (كذا) .
[2] قد مرّ ذكره.
[3] الوافي: أدب الكاتب.(1/432)
تورّد حوضه الآمال منّا ... فآبت غير حامدة الورود
يظلّ عدوّه يحظى لديه ... بنيل الحظّ من دون الودود
رضينا بالسلامة من جداه ... وأعفيناه من كرم وجود
وقال في مثل للفرس قلبه إلى العربية شعرا:
إني إذا ما رأيت فرخ زنى ... فليس يخفى عليّ جوهره
لو في جدار يخطّ صورته ... لماج في كفّ من يصوره
وقال في رجل عدل عن انتحال علم الاسلام إلى علم الفلسفة:
فارقت علم الشافعيّ ومالك ... وشرعت في الإسلام رأي برقلس
وأراك في دين الجماعة زاهدا ... ترنو إليه بمثل طرف الأشوس
وكتب إلى بعض إخوانه:
نفسي فداؤك من خليل مصقب ... لم يشفني منه اللقاء الشافي
عندي غدا فئة تقوم بمثلها ... لله حجّته على الأصناف
مثل النجوم يلذّ حسن حديثهم ... ليسوا بأوباش ولا أجناف
أو روضة زهراء معشبة الثرى ... كال الربيع لها بكيل واف
من بين ذي علم يصول بعلمه ... أو شاعر يعصى بحد قواف
منهم أبو حسن برقلس دهره ... وأبو الهذيل وليس بالعلّاف
والهرمزانيّ الذي يسمو به ... شرف أناف به على الأشراف
فاجعل حديثك عندنا يشفي الجوى ... فنفوسنا ولهى إلى الإيلاف
وكن الجواب فليس يعجبني أخ ... في الدين شاب وفاقه بخلاف(1/433)
- 139-
أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي أبو جعفر
: ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في «تاريخ دمشق» فقال: أحمد بن محمد بن يحيى بن المبارك بن المغيرة أبو جعفر العدوي النحوي المعروف أبوه باليزيدي: كان من ندماء المأمون، وقدم معه دمشق وتوجه منها غازيا للروم. سمع جده أبا محمد يحيى وأبا زيد الأنصاري، وكان مقرئا، روى عنه أخوه عبيد الله والفضل ابنا محمد وابن أخيه محمد بن العباس ومحمد بن أبي محمد وعون بن محمد الكندي ومحمد بن عبد الملك الزيات. مات قبيل سنة ستين ومائتين.
قرأت في كتاب أبي الفرج الاصبهاني [1] : حدثنا محمد بن العباس حدثني أبي عن أخيه أبي جعفر قال: دخلت يوما على المأمون بقارا وهو يريد الغزو فأنشدته شعرا مدحته به أوله:
يا قصر ذا النخلات من بارا [2] ... إني حننت إليك من قارا
أبصرت أشجارا على نهر ... فذكرت أنهارا وأشجارا
لله أيام نعمت بها ... في القفص أحيانا وفي بارا
إذ لا أزال أزور غانية ... ألهو بها وأزور خمارا
لا أستجيب لمن دعا لهدى ... وأجيب شطّارا ودعّارا
أعصي النصيح وكلّ عاذلة ... وأطيع أوتارا ومزمارا
__________
[139]- هو أحمد بن محمد بن يحيى بن المبارك بن المغيرة، انظر الفهرست: 56 والأغاني 20: 226- 232 وطبقات الزبيدي: 82- 86 وبغية الطلب 2: 13 وتاريخ بغداد 5: 117 وانباه الرواة 1: 127 والوافي 7: 388 وطبقات ابن الجزري 1: 133 وبغية الوعاة 1: 386 وشعر اليزيديين لمحسن غياض: 157، 168. ومصورة تاريخ ابن عساكر 2: 223 وتهذيب ابن عساكر 2: 82- 83 ومختصر ابن منظور 3: 289.
[1] الأغاني 20: 229 وبغية الطلب؛ وقوله «قرأت» هو كلام ابن عساكر نفسه.
[2] بارا: من أعمال كلواذى من نواحي بغداد.(1/434)
قال: فغضب المأمون وقال: أنا في وجه عدو [1] وأحضّ الناس على الغزو وأنت تذكرهم نزه [2] بغداد؟! قلت: الشيء بتمامه، ثم قلت:
فصحوت بالمأمون من سكري ... ورأيت خير الأمر ما اختارا
ورأيت طاعته مؤدية ... للفرض إعلاناو إسرارا
فخلعت ثوب الهزل من عنقي ... ورضيت دار الخلد لي دارا
وظللت معتصما بطاعته ... وجواره وكفى به جارا
إن حلّ أرضا فهي لي وطن ... وأسير عنها حيثما سارا
فقال له يحيى بن أكثم: ما أحسن ما قال يا أمير المؤمنين، أخبر أنه كان في سكر وخسار، فترك ذلك وارعوى وآثر طاعة خليفته، وعلم أنّ الرشد فيها فسكن وأمسك.
ولأحمد بن اليزيدي هذا بيت جمع فيه حروف المعجم كلها وهو:
ولقد شجتني طفلة برزت ضحى ... كالشمس خثماء العظام بذي الغضا
وذكره أبو بكر الزبيدي فقال [3] : هو أمثل أهل بيته في العلم، وهو القائل يهجو غلاما [4] :
[نفسي تحدثني بأنك غادر ... وهواي فيك على ذنوبك ساتر
تعد الوفاء وأنت تظهر غيره ... ولقد يدلّ على الضمير الظاهر
لك مقلة طماحة مقسومة ... بين الجميع كما يدور الدائر
لو زار بيتك كل يوم عسكر ... أرضاهم لحظ بعينك فاتر
ومن البلاء بأن وجهك [5] فاتن ... للعالمين وأن طرفك ساحر
وإذا برزت فكل قلب طائر ... شوقا إليك وكل طرف ناظر
__________
[1] بغية الطلب: غزو.
[2] بغية الطلب: نزهة.
[3] لم يرد هذا في ترجمته في طبقات الزبيدي.
[4] بعد هذا بياض في م؛ وقد أضفت الأبيات من طبقات الزبيدي.
[5] م والزبيدي: عينك.(1/435)
ولديك إسعاف لهم وإجابة ... وهو الذي ما زلت منك أحاذر
في دون هذا للمتيم سلوة ... عن إلفه لو أن قلبي صابر
ولأهجرنك جازعا أو صابرا ... إني إذا إلف تنكر هاجر
- 140-
أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن سهل
، ويقال ابن أبي سهل الأحوال أبو العباس: ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو من متقدمي الكتاب وأفاضلهم، وكان عالما بصناعة الخراج متقدما في ذلك على أهل عصره، مات سنة سبعين ومائتين. وله كتاب الخراج.
- 141-
أحمد بن محمد بن ثوابة بن خالد الكاتب أبو العباس
: قال محمد بن إسحاق النديم: هو أحمد بن محمد بن ثوابة بن يونس أبو العباس الكاتب، أصلهم نصارى وقيل إن يونس يعرف بلبابة، وكان حجاما، وقيل أمهم لبابة. ومات أبو العباس سنة سبع وسبعين ومائتين. وقال الصولي: مات في سنة ثلاث وسبعين.
قال [1] : وحدثني أبو سعيد وهب بن إبراهيم بن طازاذ قال: كان بين علي بن الحسين وبين أبي العباس ابن ثوابة منازعة في ضيعة، فاجتمعا في مجلس بعض الرؤساء، وأحسبه عبيد الله بن سليمان، فردّ عليّ بن الحسين مناظرة أبي العباس إلى أخيه أبي القاسم [جعفر] بن الحسين، فناظر أبا العباس، فأقبل أبو العباس يهاتره ويطنز به، وقال في جملة قوله: من أنتم؟ إنما نفقتم بالبذيذة [2] ، قال: فالتفت
__________
[140]- ترجمته في الفهرست: 150 وابن خلكان 1: 84 والوافي 7: 390.
[141]- ترجمة أبي العباس ابن ثوابة في الفهرست: 143 والوافي 7: 368.
[1] النقل عن الفهرست.
[2] الفهرست: بالبزبزة (ف: نفقتم بالبربرة) ر: فقتم بالبزبرة.(1/436)
عليّ بن الحسين إلى صبيّ كان معه كأنه الدنيا المقبلة، فأخذ بيده وقام قائما في موضعه وكشف عن رأسه وقال بأعلى صوته: يا معشر الكتاب قد عرفتموني، وهذا ولدي من فلانة بنت فلان الفلاني، وهي مني طالق طلاق الحرج والسنة على سائر المذاهب إن لم يكن هذا الشرط الذي في أخدعي شرط جدّه فلان المزين، لا يكني عن جد ابن ثوابة، قال: فاستخذى [1] أبو العباس ولم يحر جوابا ولا أجرى بعد ذلك كلاما في الضيعة، وسلّمها من غير منازعة ولا محاورة.
قال [2] : وكان أبو العباس من الثقلاء البغضاء، وله كلام مدوّن مستهجن مستثقل، منه: عليّ بماء الورد أغسل فمي من كلام الحاجم. ومنه: لما رأى أمير المؤمنين الناس قد تدرأسوا وتدقلموا وتدبسقوا وتذوذروا تدسقن. وله من التصانيف.
كتاب رسائله المجموعة. كتاب رسالته في الكتابة والخط.
وأخوه جعفر بن محمد بن ثوابة تولّى ديوان الرسائل في أيام عبيد الله بن سليمان الوزير، وابنه أبو عبد الله أحمد بن جعفر تولى ديوان الرسائل في أيام المطيع، وله ابن اسمه محمد بن أحمد [3] كان أيضا مترسلا بليغا وله كتاب رسائل.
وأبو الحسين محمد بن جعفر بن ثوابة وابنه أبو عبد الله أحمد بن محمد بن جعفر وله أيضا ديوان رسائل، وهو آخر من بقي من فضلائهم.
ومن كلام أبي العباس: من حقّ المكاتبة أن يسبقها أنس، وينعقد قبلها ودّ، ولكن الحاجة أعجلت عن ذلك، فكتبت كتاب من يحسن الظنّ إلى من يحققه.
ومن فصل له إلى عبيد الله بن سليمان: لم يؤت الوزير من عدم فضيلة، ولم أوت من عدم وسيلة، وغلّة الصادي تأبى له انتظار الورد وتعجل عن تأمل ما بين الغدير والوادي، ولم أزل أترقّب أن يخطرني بباله ترقّب الصائم لفطره، وأنتظره انتظار الساري لفجره، إلى أن برح الخفاء، وكشف الغطاء، وشمت الأعداء، وان في تخلفي وتقدّم المقصرين لآية للمتوسمين، والحمد لله رب العالمين.
وقيل لابن ثوابة: قد تقلد إسماعيل بن بلبل الوزارة فقال: إنّ هذا عجز قبيح من
__________
[1] ر: فاستحال.
[2] النقل مستمر عن الفهرست.
[3] ذكره في الفهرست: 144 ولكن لم يذكر الآخرين، والأرجح أن نسخة الفهرست التي وصلتنا ناقصة.(1/437)
الأقدار. وكان محمد بن أحمد بن ثوابة [كاتبا] لبايكباك التركي فلما أغري المهتدي بالرافضة قال المهتدي لبايكباك: كاتبك والله أيضا رافضي، فقال بايكباك: كذب والله على كاتبي ما كان يقول هؤلاء، فشهدت الجماعة عليه، فقال بايكباك: كذبتم ليس كاتبي كما تقولون، كاتبي خيّر فاضل يصلّي ويصوم وينصحني، ونجاني من الموت، لأ أصدّق قولكم عليه، فغضب المهتدي وردّ الأيمان على صحّة القول في ابن ثوابة وهو يقول لا لا. فلما انصرف القوم من حضرة المهتدي أسمعهم بايكباك وشتمهم ونسبهم إلى أخذ الرشا والمصانعات، وأغلظ لهم، وأمر ببعضهم فنيل بمكروه إلى أن تخلصوا من يده. واستتر ابن ثوابة، وقلّد المهتدي كتابة بايكباك سهل بن عبد الكريم الأحول، ونودي على ابن ثوابة، ثم تنصّل بايكباك إلى المهتدي واعتذر إليه، فقبل عذره وصفح عنه. فلما قدم موسى بن بغا سرّ من رأى من الجبل تلقاه بايكباك وسأله التلطف في المسألة في الصفح عن كاتبه ابن ثوابة، فلما جدّد المهتدي البيعة في دار أناجور التركي عاود بايكباك المسألة في كاتبه، فوعده بالرضى عنه وقال: الذي فعلته بابن ثوابة لم يكن لشيء كان في نفسي عليه يخصّني لكن غضبا لله تعالى وللدين، فإن كان قد نزع عما أنكر منه وأظهر تورعا فإني قد رضيت عنه، ثم رضي عنه الخليفة في يوم الجمعة النصف من محرم سنة خمسين ومائتين، وخلع عليه أربع خلع، وقلّده سيفا، ورجع إلى كتابة بايكباك.
ميمون بن هارون [قال] قال لي أبو الحسن علي بن محمد بن الأخضر: كنا يوما في مجلس أبي العباس ثعلب إذ جاءه أبو هفان البصري للسلام عليه، فسأله عن أمره وسبب قدومه من سامرّا وأين يريد، فقال: أريد ابن ثوابة- يعني أحمد بن محمد بن ثوابة بن خالد- وكان بالرقة، وكان ذلك في أيام عيد فقال أبو العباس:
كيف رضاك عن بني ثوابة؟ فقال: إني والله أكره هجاءهم في يوم مثل هذا، ولكنّي أقمت هجائي لهم مقام الزكاة وقلت:
ملوك ثناهم كأحسابهم ... وأخلاقهم شبه آدابهم
فطول قرونهم أجمعين ... يزيد على طول أذنابهم
وقال الصولي: كانت بين أبي الصقر إسماعيل بن بلبل الوزير وبين أبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة وحشة شديدة لأسباب: منها أشياء جرت في مجلس صاعد(1/438)
في آخر أيامه، فقد حدثني رشيق الموساي الخادم، وما رأيت خادما أعقل منه ولا أكتب يدا، قال: كنا في مجلس صاعد، فسأل عن رجل فقال أبو الصقر: قد كان أنفي- يريد نفي- فقال ابن ثوابة: في الخر، فسمعها فقال أبو الصقر: كيف نكلّم من حقه أن يشدّ ويحد؟! فقال ابن ثوابة: من جهلك أنك لا تعلم أن من يشدّ لا يحد، ومن يحدّ لا يشد، ثم ضرب الدهر من ضربه فرأيت ابن ثوابة قد دخل إلى أبي الصقر بواسط فوقف بين يديه ثم قال: أيها الوزير لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ
(يوسف: 91) فقال له أبو الصقر لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ
(يوسف: 92) يا أبا العباس، ثم رفع مجلسه وقلّده طساسيج بابل وسورا وبربسما، فضاعف وزاد في الدعاء له، فما زال واليا إلى أن توفي في سنة ثلاث وسبعين ومائتين، هكذا ذكر الصولي، والأول منقول من كتاب محمد بن إسحاق، وهذا أولى بالصواب.
قال الصولي [1] وحدثني الحسين بن علي الكاتب قال: كان أبو العيناء في جملة أبي الصقر، قال: وكان يعادي ابن ثوابة لمعاداة أبي الصقر، فاجتمعا في مجلس بعقب ما جرى بين أبي الصقر وبين ابن ثوابة في مجلس صاعد فتلاحيا، فقال له ابن ثوابة: أما تعرفني؟ قال: بلى أعرفك ضيّق العطن، كثير الوسن، قليل الفطن، خارّا على الذقن، قد بلغني تعدّيك على أبي الصقر، وإنما حلم عنك لأنه لم ير عزّا فيذله، ولا علوّا فيضعه، ولا حجرا فيهدمه، فعاف لحمك أن يأكله وسهك دمك أن يسفكه، فقال له: اسكت فما تسابّ اثنان إلا غلب الأمهما، قال أبو العيناء: فلهذا غلبت بالأمس أبا الصقر، فأسكته.
ومن «كتاب الوزراء» لهلال بن المحسن، حدّث علي بن سليمان الأخفش قال [2] ذكر لي المبرد أنه كان في يوم نوبة له عند أبي العباس أحمد بن محمد بن ثوابة حين دخل عليه غلامه وفي يده رقعة البحتري، فقرأها أبو العباس ووقّع فيها توقيعا خفيفا وأمر باصلاحها، فأصلحت وأعيدت إليه، قال المبرد: فرمى بها إليّ فإذا فيها [3] :
__________
[1] وردت في البصائر: 8 رقم 617 (ص: 174) مع بعض اختلاف، ونثر الدر 3: 196.
[2] أدب الكتاب للصولي: 177.
[3] ديوان البحتري 3: 1574.(1/439)
اسلم أبا العباس وابق ... فلا أزال الله ظلّك
وكن الذي يبقى لنا ... ونموت حين نموت قبلك
لي حاجة أرجو لها ... إحسانك الأوفى وفضلك
والمجد مشترط على ... ك قضاءها والشرط أملك
فلئن كفيت ملمّها ... فلمثلها أعددت مثلك
قال: وإذا قد وقع أبو العباس «مقضيّة والله الذي لا إله إلا هو ولو أتلفت المال وأذهبت الحال، فقل رعاك الله ما شئت منبسطا، وثق بما أنا عليه لك مغتبطا، ان شاء الله تعالى» .
وقال أحمد بن علي الماذرائي الكاتب الأعور الكردي صديق المبرد يهجو ابن ثوابة من قصيدة:
تعست أبا الفضل الكتابه ... من أجل مقت بني ثوابه
وسألت أهل المهنتي ... ن من الخطابة والكتابه
عن عادل في حكمه ... فعليك أجمعت العصابه
فاسمع فقد ميزتهم ... ولكلّهم طرز وبابه
أما الكبير فمن جلا ... لته يقال له لبابه
وإذا خلا فممدّد ... في البيت قد شالوا كعابه
وارفضّ عنه زهوه ... وتقشّعت تلك المهابه
نقلت من خط عبد السلام البصري، ثنا أبو العباس التميمي، ثنا جحظة في «أماليه» قال: حضرت مجلس أبي العباس ثعلب وعنده جماعة من أصحابه، وحضر أحمد بن علي الماذرائي، فسأله عن أبي العباس ابن ثوابة وقال له: متى عهدك به؟
فقال: لا عهد ولا عقد، ولا وفاق ولا ميثاق، فقال له ثعلب: عهدي بك إذا غضبت هجوت، فهل من شيء؟ فأنشد:
بني ثوابة أنتم أثقل الأمم ... جمعتم ثقل الأوزار والتخم
أهاض حين أراكم من بشامتكم ... على القلوب وإن لم أوت من بشم(1/440)
كم قائل حين غاظته كتابتكم ... لو شئت يا ربّ ما علّمت بالقلم
فقال ثعلب: أحسنت والله في شعرك وأسأت إلى القوم.
وعن أبي الفرج الأصبهاني [1] حدثني أبو الفضل العباس بن أحمد بن محمد بن ثوابة قال: قدم البحتريّ النيل على أحمد بن علي الاسكافي مادحا له فلم يثبه ثوابا يرضاه بعد أن طالت مدته عنده، فهجاه بقصيدته التي يقول فيها:
ما كسبنا من أحمد بن عليّ ... ومن النيل غير حمّى النيل
وهجاه بقصيدة أخرى أولها:
قصة النيل فاسمعوها عجابه
فجمع إلى هجائه إياه هجاء بني ثوابة. وبلغ ذلك أبي فبعث إليه بألف درهم وثيابا ودابة بسرجه ولجامه فردّه وقال: قد أسلفتكم إساءة لا يجوز معها قبول صلتكم، فكتب إليه أبي: أما الاساءة فمغفورة، والمعذرة فمشكورة، والحسنات يذهبن السيئات، وما يأسو جراحك مثل يدك، وقد رددت إليك ما رددته عليّ وأضعفته، فإن تلافيت ما فرط منك أثبنا وشكرنا، وإن لم تفعل احتملنا وصبرنا، فقبل ما بعث به وكتب إليه: كلامك والله أحسن من شعري، وقد أسلفتني ما أخجلني وحمّلتني ما أثقلني وسيأتيك ثنائي، ثم غدا عليه بقصيدة أولها:
ضلال لها ماذا أرادت من الصد [2]
وقال فيه بعد ذلك:
برق أضاء القيق من ضرمه [3]
وقال فيه أيضا [4] :
أن دعاه داعي الهوى فأجابه
__________
[1] الأغاني 21: 47- 48 والتذكرة الحمدونية 2: 136.
[2] عجز البيت: ونحن وقوف من فراق على حدّ.
[3] عجزه: يكشف الليل عن دجى ظلمه.
[4] عجزه: ورمى قلبه الهوى فأصابه.(1/441)
فلم يزل أبي يصله بعد ذلك ويتابع برّه لديه حتى افترقا.
وكتب أحمد بن محمد بن ثوابة إلى إسماعيل بن بلبل حين صاهر الناصر لدين الله الموفق بالله: بسم الله الرّحمن الرّحيم بلغني للوزير- أيده الله- نعمة زاد شكرها على مقادير الشكر، كما أربى مقدارها على مقادير النعمة، فكان مثلها قول إبراهيم بن العباس:
بنوك غدوا آل النبيّ ووارثو ... الخلافة والحاوون كسرى وهاشما
وأنا أسأل الله تعالى أن يجعلها موهبة ترتبط ما قبلها، وتنتظم ما بعدها، وتصل جلال الشرف، حتى يكون الوزير- أعزه الله- على سادة الوزراء موفيا، ولجميل العادة مستحقا، ولمحمود العاقبة مستوجبا، وأن يلبس خدمه وأولياءه من هذه الحلل العالية ما يكون لهم ذكرا باقيا وشرفا مخلدا.
وكان يلقب «لبابة» وكان عبيد الله بن سليمان قد صرف أحمد بن محمد بن ثوابة عن طساسيج كان يتقلدها بأبي الحسن ابن مخلد، فقال أحمد بن علي الماذرائي الأعور الكردي:
إني وقفت بباب الجسر في نفر ... فوضى يخوضون في غرب من الخبر
قالوا لبابة أضحت وهي ساخطة ... قد قدّت الجيب من غيظ ومن ضجر
فقلت حقا وقد قرّت بقولهم ... عيني وأعين إخواني بني عمر
لا تعجبوا لقميص قدّ من قبل ... فإن صاحبه قد قدّ من دبر
ولأبي سهل فيه يخاطب عبيد الله بن سليمان:
يا أبا القاسم الذي قسم الله ... له في الورى الهوى والمهابه
كدت تنفي أهل الكتابة عنها ... حين أدخلت فيهم ابن ثوابه
أنت ألحقته وما كان فيهم ... بهم ظالما به للكتابه
هل رأينا مخنثا كاتبا أو ... هل يسمّى أديب قوم لبابه
وله فيه:
أقصرت عن جدّي وعن شغلي ... والمكرمات وعدت في هزلي(1/442)
لما أراني الدهر من تصريفه ... غيرا يغيّر مثلها مثلي
بلغ أحمد بن ثوابة بجنونه ... ما ليس يبلغه ذوو عقل
إن كان نقص المرء يجلب حظه ... فالعقل يرفع رزق ذي فضل
قال أبو حيان في «كتاب الوزيرين» [1] : حدثنا أبو بكر الصميري قال، حدثنا ابن سمكة قال، حدثنا ابن محارب قال، سمعت أحمد بن الطيب يقول: إنّ صديقا لابن ثوابة الكاتب أبي العباس يكنى أبا عبيدة قال له ذات يوم: إنك بحمد الله ومنّه ذو أدب وفصاحة وبراعة [وبلاغة] فلو أكملت فضائلك بأن تضيف إليها معرفة البرهان القياسي وعلم الأشكال الهندسية الدالة على حقائق الأشياء، وقرأت أقليدس وتدبّرته، فقال لي ابن ثوابة: وما كان اقليدس ومن هو؟ قال: رجل من علماء الروم يسمّى بهذا الاسم وضع كتابا فيه أشكال كثيرة مختلفة تدلّ على حقائق الأشياء المعلومة والمغيّبة يشحذ الذهن ويدقّق الفهم ويلطّف المعرفة ويصفّي الحاسة ويثبت الرويّة، ومنه افتتح الخط وعرفت مقادير حروف المعجم، قال له أبو العباس ابن ثوابة: وكيف ذلك؟ قال: لا تعلم كيف هو حتى تشاهد الأشكال وتعاين البرهان، قال: فافعل ما بدا لك، فأتاه برجل يقال له قويري [2] مشهور ولم يعد إليه بعد ذلك.
قال أحمد بن الطيب: فاستظرفت ذلك وعجبت منه، فكتبت إلى ابن ثوابة رقعة نسختها: بسم الله الرّحمن الرّحيم، اتصل بي- جعلت فداك- أن رجلا من إخوانك أشار عليك بتكميل فضائلك وتقويتها بشيء من معرفة القياس البرهانيّ وطمأنينتك إليه، وأنك أصغيت إلى قوله وأذنت له، فأحضرك رجلا كان غاية في سوء الأدب، معدنا من معادن الكفر، وإماما من أئمة الشرك، لاستغرارك واستغوائك، يخادعك عن عقلك الرصين، وينازلك في ثقافة فهمك المبين، فأبى الله العزيز إلا جميل عوائده الحسنة قبلك، ومننه السوابق لديك، وفضله الدائم عندك بأن أتى على قواعد برهانه من ذروته، وحطّ عوالي أركانه من أقصى معاقد أسّه، فأحببت استعلامي ذلك على كنهه من جهتك، ليكون شكري لك على ما كان منك حسب لومي لصاحبك على
__________
[1] أخلاق الوزيرين: 235- 247.
[2] قويري: اسمه إسحاق بن إبراهيم (أخبار الحكماء: 55) .(1/443)
ما كان منه، ولأتلافى الفارط في ذلك بتدبّر المشيئة، إن شاء الله تعالى.
قال: فأجابني ابن ثوابة برقعة نسختها: بسم الله الرّحمن الرّحيم، وصلت رقعتك- أعزك الله- وفهمت فحواها، وتدبرت متضمنها، والخبر كما اتصل بك، والأمر كما بلغك، وقد لخّصته وبيّنته حتى كأنك معنا وشاهدنا. وأول ما أقول الحمد لله مولي النعم، والمتوحّد بالقسم، إليه يردّ علم الساعة وإليه المصير، وأنا أسأل إيزاع الشكر على ذلك، وعلى ما منحنا من ودّك وإتمامه بيننا بمنّه. ومما أحببت إعلامك وتعريفك بما تأدّى إليك أنّ أبا عبيدة لعنه الله تعالى، بنحسه ودسّه وحدسه اغتالني ليكلم ديني من حيث لا أعلم، وينقلني عما أعتقده وأراه وأضمره من الإيمان بالله عز وجل وبرسوله صلى الله عليه وسلم موطّدا إليّ الزندقة بسوء نيته إلى [1] الهندسة، وأنه يأتيني برجل يفيدني علما شريفا تكمل به فضائلي، فيما زعم، فقلت: عسى أفيد به براعة في صناعة، أو كمالا في مروءة، أو فخارا عند الأكفاء، فأجبته بأن هلمّ، فأتاني بشيخ ديرانيّ شاخص النظر منتشر عصب البصر، طويل مشذّب، محزوم الوسط، متزمّل في مسكه، فاستعذت بالرحمن إذ نزغني الشيطان، ومجلسي غاصّ بالأشراف من كلّ الأطراف، وكلّهم يرمقه ويتشوّف إلى رفعي مجلسه وإدنائه وتقريبه، ويعظمونه ويحيّونه، والله محيط بالكافرين. فأخذ مجلسه ولوى أشداقه وفتح أوساقه، فتبينت في مشاهدته النفاق، وفي ألفاظه الشقاق، فقلت: بلغني أن عندك معرفة من الهندسة، وعلما واصلا إلى فضل يفيد الناظر فيه حكمة وتقدما في كلّ صناعة، فهلمّ أفدنا شيئا منها عسى أن يكون عونا لنا على دين أو دنيا، في مروءة ومفاخرة لدى الأكفاء، ومفيدا زهدا ونسكا فذلك هو الفوز العظيم فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ
(آل عمران: 185) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ*
(فاطر: 17) قال:
فأحضرني دواة وقرطاسا، فأحضرتهما، فأخذ القلم ونكت نكتة نقط منها نقطة تخيّلها بصري وتوهّمها طرفي كأصغر من حبة الذر، فزمزم عليها من وساوسه، وتلا عليها من محكم أسفار أباطيله، ثم أعلن عليها جاهرا بافكه، وأقبل عليّ وقال: أيها الرجل، إن هذه النقطة شيء لا جزء له، فقلت: أضللتني وربّ الكعبة، وما الشيء الذي لا
__________
[1] أخلاق الوزيرين: فوطد في الزندقة بتزيينه الهندسة.(1/444)
جزء له؟ فقال: كالبسيط، فأذهلني وحيّرني وكاد يأتي على عقلي لولا أن هداني ربي، لأنه أتاني بلغة ما سمعتها والله من عربيّ ولا عجميّ، وقد أحطت علما بلغات العرب وقمت بها، واستبرتها جاهدا، واختبرتها عامدا، وصرت فيها إلى ما لا أجد أحدا يتقدمني إلى المعرفة به، ولا يسبقني إلى دقيقه وجليله، فقلت أنا: وما الشيء البسيط؟ فقال: كالله وكالنفس، فقلت له: إنك من الملحدين، أتضرب لله الأمثال والله يقول فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
(النحل: 74) لعن الله مرشدا أرشدني إليك، ودالا دلّني عليك، فما ساقك إليّ إلّا قضاء سوء، ولا كسعك نحوي إلا الحين، وأعوذ بالله من الحين وأبرأ اليه منكم ومما تلحدون والله وليّ المؤمنين إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ*
(الانعام: 78) لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. فلما سمع مقالتي كره استعاذتي فاستخفّه الغضب، فأقبل عليّ مستبسلا وقال: إني أرى فصاحة لسانك سببا لعجمة فهمك، وتذرّعك بقولك آفة من آفات عقلك، فلولا من حضر والله المجلس وإصغاؤهم إليه مستصوبين أباطيله، ومستحسنين أكاذيبه، وما رأيت من استهوائه إياهم بخدعه، وما تبينت من توازرهم لأمرت بسلّ لسان اللكع الألكن، وأمرت باخراجه إلى أحرّ نار الله وسعيره وغضبه ولعنته. ونظرت إلى أمارات الغضب في وجوه الحاضرين فقلت: ما غضبكم لنصرانيّ يشرك بالله، ويتّخذ من دونه الأنداد ويعلن بالالحاد؟! لولا مكانكم لنهكته عقوبة، فقال لي رجل منهم: إنه إنسان حكيم، فغاظني قوله فقلت: لعن الله حكمة مشوبة بكفر، فقال لي آخر: إن عندي مسلما يتقدم أهل هذا العلم، ورجوت بذكره الاسلام خيرا فقلت: إيتني به، فأتاني برجل قصير دحداح آدم مجدور الوجه أخفش العينين أجلح أفطس سيّء المنظر قبيح الزيّ، فسلم فرددت عليه السلام، فقلت: ما اسمك؟
فقال: أعرف بكنية قد غلبت عليّ، فقلت: أبو من؟ فقال: أبو يحيى، فتفاءلت بملك الموت عليه السلام، وقلت: اللهم إني أعوذ بك من الهندسة، اللهم فاكفني شرّها فإنه لا يصرف السوء إلا أنت، وقرأت الحمد لله والمعوذتين وقل هو الله أحد وقلت: إن صديقا لي جاءني بنصرانيّ يتخذ الأنداد، ويدّعي أن لله الأولاد، ليغويني، فهلمّ أفدنا شيئا من هندستك، وأقبسنا من طرائف حكمتك، ما يكون لي سببا إلى رحمة الله ووسيلة إلى غفرانه، فإنها أربح تجارة وأعود بضاعة، فقال:(1/445)
أحضرني دواة وقرطاسا، فقلت: أتدعو بالدواة والقرطاس وقد بليت منهما ببلية كلمها لم يندمل عن سويداء قلبي؟ فقال: وكيف كان ذلك؟ فقلت: إن النصراني نقط نقطة كأصغر من سمّ الخياط وقال لي: إنها معقولة كربّك الأعلى، فوالله ما عدا فرعون وكفره وإفكه فقال: إني أعفيك من النقطة، لعن الله قويري، وما كان يصنع بالنقطة؟
وهل بلغت أنت أن تعرف النقطة؟ فقلت: استجهلني وربّ الكعبة وقد أخذت بأزمّة الكتابة ونهضت بأعبائها واستقللت بثقلها، يقول لي لا تعرف فحوى النقطة، فنازعتني نفسي في معالجته بغليظ العقوبة، ثم استعطفني الحلم إلى الأخذ بالفضل، ودعا بغلامه وقال: ايتني بالتخت، فو الله ما رأيت مخلوقا بأسرع إحضارا له من ذلك الغلام، فأتاه به، فتخيلته هيئة منكرة ولم أدر ما هو، وجعلت أصوّب الفكر فيه [تارة] وأصعّد أخرى وأجيل الرأي مليّا وأطرق طويلا، لأعلم أيّ شيء هو: أصندوق هو فإذا ليس بصندوق، أتخت [هو] فإذا ليس بتخت، فتخيلته كتابوت، فقلت لحد لملحد يلحد به الناس عن الحق. ثم أخرج من كمه ميلا عظيما فظننته متطببا وانه لمن شرار المتطببين، فقلت له: إن أمرك لعجب كله، ولم أر أميال المتطببين كميلك، أتفقا به العين؟ قال: لست بمتطبب ولكن أخطّ به الهندسة على هذا التخت، فقلت له:
إنك وإن كنت مباينا للنصرانيّ في دينه لمؤازر له في كفره، أتخطّ على تخت بميل لتعدل بي عن وضح الفجر إلى غسق الليل، وتميل بي إلى الكذب باللوح المحفوظ وكاتبيه الكرام، إياي تستهوي أم حسبتني كمن يهتز لمكايدكم؟! فقال: لست أذكر لوحا محفوظا ولا مضيّعا، ولا كاتبا كريما ولا لئيما، ولكن أخطّ فيه الهندسة وأقيم عليها البرهان بالقياس والفلسفة، قلت له: اخطط فأخذ يخطّ وقلبي مروّع يجب وجيبا، وقال لي غير متعظم: ان هذا الخط طول بلا عرض، فتذكرت صراط ربي المستقيم وقلت له: قاتلك الله، أتدري ما تقول؟ تعالى صراط ربّي المستقيم عن تخطيطك وتشبيهك وتحريفك وتضليلك، انه لصراط مستقيم، وإنه لأحدّ من السيف الباتر والحسام القاطع، وأدقّ من الشعر وأطول مما تمسحون، وأبعد مما تذرعون، ومداه بعيد، وهو له شديد، أتطمع أن تزحزحني عن صراط ربي وحسبتني غرا غبيا لا أعلم ما في باطن ألفاظك ومكنون معانيك؟! والله ما خططت الخطّ وأخبرت انه طول بلا عرض إلّا ضلة بالصراط المستقيم لتزلّ قدمي عنه وأن ترديني في جهنم، أعوذ(1/446)
بالله وأبرأ إليه من الهندسة، ومما تدلّ عليه وترشد إليه، إني بريء من الهندسة ومما تعلنون وتسرون، ولبئسما سوّلت لك نفسك أن تكون من خزنتها بل من وقودها، وإن لك فيها لأنكالا وسلاسل وأغلالا، وطعاما ذا غصة. فأخذ يتكلم فقلت: سدّوا فاه مخافة أن يبدر من فيه مثل ما بدر من المضلل الأول، وأمرت بسحبه فسحب إلى أليم عذاب وناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ
(التحريم: 6) ثم اخذت قرطاسا وكتبت بيدي يمينا آليت فيها بكلّ عهد مؤكّد وعقد مردّد ويمين ليست له كفّارة أني لا أنظر في الهندسة أبدا، ولا أطلبها ولا أتعلمها من أحد سرا ولا جهرا، ولا على وجه من الوجوه، ولا على سبب من الأسباب، وأكدت بمثل ذلك على عقبي وعقب أعقابهم: لا تنظروا فيها ولا تتعلموها ما دامت السموات والأرض إلى أن تقوم الساعة لميقات يوم معلوم. وهذا بيان ما سألت- أعزك الله- عنه فيما دفعت إليه وامتحنت به، ولتعلم ما كان منّي.
ولولا وعكة أنا في عقابيلها لحضرتك مشافها وأخذت بحظ المتمني [من الأنس] بك والاستراحة إليك، فمهّد على ذلك عذري، فإنك غير مباين لفكري والسلام.
قال عبد الله الفقير إليه مؤلف هذا الكتاب: لا شكّ أن أكثر ما في هذه الرسالة مفتعل مزوّر وما أظنّ برجل مثل ابن ثوابة- وهو بمكانه من العلم بحيث تلقى إليه مقاليد الخلافة فيخاطب عنها بلسانه القاصي والداني، ويرتضيه العقلاء والوزراء، بحيث لا يرون له نظيرا في زمانه في براعة لسانه، تولّى كتابة الإنشاء السنين الكثيرة- أن يكون منه هذا كله، ولكن عسى أن يكون منه ما كان من ابن عبّاد وهو الذي ساق أبو حيان خبر ابن ثوابة لأجله، وهو أن قال [1] كان ابن عباد يسبّ أصحاب الهندسة ويقول: جاءني بعض هؤلاء الحمقى ورغّبني في الهندسة، فابتدأ فأثبت خمسة وعشرين وخطّ خطا ووضع شكلا وطوّل وزعم أنه يعمل برهانا على ذلك، فقلت له:
كنت أعرف أنّ هذا خمسة وعشرون ضرورة، وقد شككت الآن، فأنا مجتهد حتى أعلم بالاستدلال وهذا هو الخسار.
__________
[1] أخلاق الوزيرين: 234.(1/447)
قلت: ومثل هذا لا يبعد أن يقول مثله من لم يتدرب بهذه الصناعة، فأما ما تقدم من حديث ابن ثوابة فهو غاية في التجلّف، والرجل كان أجلّ من ذلك، وإنما أتي من جهة أحمد بن الطيب لأنه كان فيلسوفا، وكان ابن ثوابة متعجرفا كما ذكرنا، فأخذ يسخر منه ليضحك المعتضد، فإن أحمد بن الطيب كان من جلساء المعتضد، وإما أن يكون أبو حيان جرى على عادته في وضع ما أكثر من وضعه من مثل ذلك، والله أعلم.
- 142-
أحمد بن علي بن المأمون النحوي اللغوي
القاضي صاحب الخط المليح والنقل الصحيح: مات في تاسع عشر شعبان سنة ست وثمانين وخمسمائة ومولده في ذي القعدة سنة تسع وخمسمائة. سألت ولده أبا محمد عبد الله بن أحمد عنه فأعطاني جزءا بخط والده هذا، وقد ضمّنه ذكر نفسه وذكر ولده، فنقلت منه جميع ما أذكره في هذ الترجمة إلا ما أبينه.
قال: «أنا أحمد بن علي بن هبة الله بن علي الزوال (وأصله الزول، وإنما غيره المتكلمون به وزادوا ألفا، والزول الرجل الشجاع، وقد ذكر ذلك في «كتاب الألفاظ» لابن السكيت) [1] ابن محمد بن يعقوب بن الحسين بن عبد الله المأمون بالله الخليفة، ابن هارون الرشيد بالله الخليفة، ابن محمد المهدي بالله الخليفة، ابن عبد الله المنصور بالله الخليفة، ابن محمد الكامل بن علي السجاد بن عبد الله حبر [2] الأمة، ابن العباس سيد العمومة، ابن عبد المطلب شيبة الحمد، ابن هاشم عمرو العلى، ابن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر، هو قريش، بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن
__________
[142]- انباه الرواة 1: 88 ومختصر ابن الدبيثي: 196 والوافي 7: 212 وبغية الوعاة 1: 348 (رقم: 668) (والترجمة يجب أن تكون متقدمة عن هذا الموضع بحسب الترتيب الهجائي) .
[1] تهذيب الألفاظ: 166.
[2] م: خير.(1/448)
مضر بن نزار بن معد بن عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع بن سلامان بن ثبت بن جميل بن قيدار بن إسماعيل بن إبراهيم الخليل بن آزر بن تارح بن ناحور بن ساروغ بن أرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس، بن ليارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آدم أبي البشر، فطرة الله عز وجل. ومولدي في ضحى نهار الثلاثاء ثالث عشر ذي القعدة سنة تسع وخمسمائة، ولدت بدرب فيروز في الدار المعروفة الآن بورثة ابن الثقفي القاضي عز الدين، قاضي القضاة رحمه الله، وكان والدي يومئذ كاتب الزمام في الأيام المستظهرية وبعد ذلك في الأيام المسترشدية مدة. وكنت منذ نشأت ختمت القرآن وقرأته للعشرة على المرزوقي رحمه الله الأمين أبي بكر، أنا وحجة الإسلام أبو محمد إسماعيل بن الجواليقي وفقه الله، وكنا نترافق حين الحداثة في القراءة على الشيوخ، ويتكثر بعضنا ببعض ونتعاضد في القراءة. وكتبت الخطّ على أبي سعيد الحسن بن منصور أبي الحسن الجزري رحمه الله، وكان صالحا أديبا صائم الدهر عالما في فنون من العلم فقيها، وكان والدي يؤثرني من دون إخواني لما يراه من اشتغالي بالعلم، فإنني منذ انفصلت من المكتب رجعت بقراءة النحو واللغة إلى شيخنا أوحد الزمان أبي منصور ابن الجواليقي رحمه الله، وصحبته إحدى عشرة سنة، وقرأت عليه كتبا كثيرة من حفظي وغير حفظي، حتى توليت القضاء سنة أربع وثلاثين وخمسمائة» .
«وكان الحكم والقضاء على دجيل إلى والدي المقدم ذكره مضافا إلى الخطابة، فحين ولي أمر ديوان الزمام ببغداد ردّ القضاء إلى ولده هبة الله الملقب بتاج العلى، وكان يخاطب من الديوان العزيز مجّده الله بالأجلّ الأوحد زين الإسلام نجم الكفاة تاج العلى جمال الشرف مجد القضاة عين الكفاة، وكان بعد ذلك أضيف إليه نظر دجيل أجمع مع المخزنيات، وكان ذا سطوة وشجاعة، وثروة كبيرة، ومماليك من الأتراك والاماء والعبيد، والقرايا والأملاك، والرياسة التامة، والصيت والذكر الجميل بين العرب والعجم، وكان له معروف كبير ودار مضيف بحربيّ [1] يجتمع إليها أمراء
__________
[1] حربي: اسم قرية بين بغداد وتكريت.(1/449)
العجم على طبقاتهم وغيرهم من الغرباء، وكان له نواب في القضاة بحربي والحظيرة [1] وغيرهما، وكانت ولايته من قاضي القضاة الدامغاني إلى أن درج بالموصل مسموما مخافة منه لما شوهد من رئاسته وتبع العرب والتركمان له وحمل السلاح والجند والاستطالة العظيمة، ونفذ ميتا في شفارة [2] حتى دفن بحربي في أواخر سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وانحدار ولده علي بن هبة الله بن علي طالبا مكانه ببذل المال الجمّ، وكان وزير الزمان يومئذ شرف الدين علي بن طراد الزينبي في أوائل الأيام المقتفوية، فترك مع بذله، ووليت بعد أن أحضرت، وقيل لي قد رسم توليك من غير قربة لتميزك بالعلم، وكان لي من العمر يومئذ أربع وعشرون سنة» .
«واعتزى ابن أخي بعد ذلك إلى ديوان السلطنة، وخاطب الديوان العزيز في ذلك فلم يجب، ودخل في النوبة جماعة من الأهل والأكابر من ولاة الأمر، فتوسط الحال على أن يكون لولده مجلس وساطة وحكم بحربي في المداينات، وما عداها إليّ مع الخطابة وذلك نصر يقين، فكتبت رسالة إلى المواقف المقدّسة النبوية المقتفوية قدّسها الله، ومنها: «ومعاذ الله أن يقارن هذا الفتى بالعبد ولا يعرف قبيلا من دبير، ولا يؤلّف بين كلمتين في تعبير، لو سيم قراءة الفاتحة أخجلته، أو ريم منه التماس حاجة في التطهر أخفرته، وعدّ عن أسباب لا يمكن بسطها، ولا يروق خطّها. وأما العبد فطرائقه معلومة، ومآخذه مفهومة، ومحلّ الشيء عنده قابل، والجمهور إليه مائل، وسحاب الاستحقاق لما أهّل له في أرضه هاطل، ومعاذ الله أن يتغير من كريم الآراء الشريفة في حقّه رأي، أو ينفصم من تلك الوعود فيما أهّل له وأي، والوعود كالعهود، ومواقع الكلم الشريفة كالترتق في الجلمود، وهو واثق من الانعام، بما سار بين الأنام، ليغدو مستحكم الثقة بالإكرام، والأمر أعلى والسلام» .
فبرز التوقيع الأشرف المقتفوي يؤمر فيه بالعمل بسابق التوقيع، وخرجت إلى العمل، وبقيت مدة. فتولى القضاء بمدينة السلام وفاء بن المرخّم وكان على حالة جليلة من الاختصاص واستخدام قضاة الأطراف من جانبه، فأبيت ذلك وخاطبت في الخروج عن
__________
[1] الحظيرة: قرية من أعمال بغداد من جهة تكريت من ناحية دجيل.
[2] كذا ورد.(1/450)
يده وإضافة باقي دجيل مع ما والاه وقاربه من لدن تكريت إلى الانبار وإلى الجبل وما والاه من بلد خانقين وروشن قبادوا إلى الحربية من الجانب الغربي ببغداد» .
«وكنت أحكم في ذلك أجمع، حتى ولي المستنجد بالله رضي الله عنه وقصر القضاة [1] وغيرهم، وأنا في الجملة، وبقيت إحدى عشرة سنة مقصورا إلى أن توفي إلى رحمة الله بعد أن استوعب ما كنت أملكه سائره فلم أضيّع من زماني شيئا، وكتبت في الحبس ثمانين مجلدة منها «الجمهرة» لأبي بكر ابن دريد مجلدتان، «وشرح سيبويه» ثلاث مجلدات، و «إصلاح المنطق» محشّى مجلدة واحدة، و «الغريبان» للهروي مجلدة واحدة، و «أشعار الهذليين» ثلاث مجلدات، و «شعر المتنبي» مجلدة، و «غريب الحديث» لأبي عبيد مجلدتان، وأشياء يطول شرحها من الكتب الكبار، وحفّظت أولادي الختمة، وأيضا حفظتهم كتبا كثيرة في علم العربية والتفاسير وغريب القرآن والخطب والأشعار، وشرحت لهم «كتاب الفصيح» ، وجمعت لهم كتابا سميته «أسرار الحروف» يبين فيه مخارجها ومواقعها من الزوائد والمنقلب والمبدل والمتشابه والمضاعف وتصريفها في المعاني الموجودة فيها والمعاني الداخلة عليها، وذكرت فيه من اشتقاق الأسماء كلّ ما تكلمت به علماء البصريين والكوفيين وغيرهم من أهل اللغة، وهو مجلدة ضخمة تحتوي على عشرين كراسة في كلّ وجهة عشرون سطرا» .
«ولما درج الإمام المستنجد بالله وأتاح الله الخروج من ذلك الضيق، وولي بعده الإمام العادل الرحيم المستضيء بالله أمير المؤمنين، وشملت رحمته من كان في السجن من الأمة حتى لم يبق فيه أحدا إلّا أفرج عنه، ومن وجد له بخزانته المعمورة من ماله شيئا عليه اسمه أعاده عليه، وكل من كان في ولاية أعاده إليها، ومن وجد من ملكه شيئا تحت الاعتراض أفرج عنه وأعاده إليه، وأنا ممن أنعم في حقه بإعادة خرقة كان ختمها باقيا عليها واسمي، فيها ثلاثمائة دينار إمامية صحاح من جملة ما أخذ من مالي، فأعادها عليّ، وأعاد عليّ سهاما في ثلاث قرايا بالراذان، وقراحا ببلدة الحظيرة، وما كان فات وبيع لم يرجع، وأنعم في حقي بإعادة ولايتي عليّ وتقريبي
__________
[1] قصر القضاة: أي حبسهم.(1/451)
واستخدامي في مهامّ عدة، وكان الوسيط في ذلك كله الوزير عضد الدولة أبو الفرج ابن رئيس الرؤساء وكان محبا لاسداء العوارف والاصطناع وجذب الأتباع، وإدخال المكارم عند الرجال، وكان كريما رحب الفناء لأرباب الحوائج بعيدا ما ينفصل من بابه محروم» . هذا آخر ما نقلته من خطه. واجتمعت بولده قوام الدين أبي محمد عبد الله ابن أحمد، وقد أفردت له ترجمة في هذا الكتاب [1] ، فأنشدني لوالده من حفظه:
فؤاد المشوق كثير العنا ... ومن كتم الوجد أبدى الضنا
وكم مدنف في الهوى بعدهم ... وكانوا الأماني له والمنى
لقد خلّفوه أخا لوعة ... مولّه شوق يعاني المنا
ينادي من الشوق في إثرهم ... إذا آده ما به قد منا
بيا جسدا ناحلا بالعراق ... مقيما وقلبا بوادي منى
تحرّقه زفرات الحنين ... ويغدو بهنّ الشجى ديدنا
وهي طويلة قالها في زعيم الدين ابن جعفر عند عوده من مكة.
وقرأت على ظهر كتاب ما صورته لأحمد بن المأمون:
قد كنت أركب للخيل العتاق فما ... أبقى لي الدهر لا بغلا ولا فرسا
وكنت أنهض بالعبء الثقيل فقد ... أصدّني الدهر عن نهضي به فرسا
وكم فرست أسودا عنوة عرضا ... وعضّني الدهر حتى خلته فرسا
فأفّ من دهرنا أفّ له فلقد ... أضاع حرا كريما بئسما فرسا
وله:
أهديت درجا مليحا ... كمثل خطّ ابن مقله
العين فيه كعين ... والميم فيه كمقله
والنون فيه كنون ... ما بين صدغ ومقله
__________
[1] سقطت، واستدركتها من ابن الفوطي، انظر رقم: 633.(1/452)
- 143-
أحمد بن أبي عمر المقرىء المعروف بأحمد الزاهد أبو عبد الله الأندرابي
: مات في العشرين من ربيع الأول سنة سبعين وأربعمائة. ذكره عبد الغافر وقال: شيخ زاهد عابد عالم بالقراءات له التصانيف الحسنة في علم القراءات، سمع الحديث، وأكثر سماعه مع السيد أبي المعالي جعفر بن حيدر العلوي الهروي الصوفي، وكان رفيقه، سمعا صحيح مسلم وغيره، وروى عن محمد بن يحيى بن الحسن الحافظ.
روى عنه أبو الحسن الحافظ.
- 144-
أحمد بن محمد بن بشر بن سعد المرثدي أبو العباس
: ذكره الخطيب فقال: كنيته أبو علي، ومات في صفر سنة ست وثمانين ومائتين، وذكر ابن بنت الفريابي أنه مات في سنة أربع وثمانين وسمع علي بن الجعد والهيثم بن خارجة في آخرين، وروى عنه أبو بكر الشافعي وغيره وكان عبد الرحمن بن يوسف يثني عليه.
وقال ابن المنادي: هو أحد الثقات.
وذكره محمد بن اسحاق النديم فقال: كنيته أبو العباس الكبير، وهو الذي كان ابن الرومي يكاتبه في السمك [1] ، وكان المرثدي يكتب للموفق في خاصته [2] . وله من الكتب: كتاب الأنواء في نهاية الحسن. كتاب رسائله. كتاب أشعار قريش، وعليه عول أبو بكر الصولي في كتاب الأوراق وله انتحل، وقد ذكرت ذلك في أخبار الصولي.
__________
[143]- المنتخب (الثاني) من السياق، الورقة: 33 ب.
[144]- ترجمة المرثدي في الوافي 7: 393 وهو في الفهرست: 143 (أبو أحمد بن بشر المرثدي) وتاريخ بغداد 5: 41.
[1] انظر ديوان ابن الرومي: 702.
[2] الفهرست: في خاص أمره.(1/453)
قال [1] عبد الله بن المعتز: كتب إليّ [ابن] بشر المرثدي:
يا بعيد الشأو في الحسب ... وقريع الناس في الأدب
والذي ما مثله بشر ... في صنوف الجدّ واللعب
كنت بي برّا وذا صلة ... في رسالات وفي كتب
وقبيح بالكريم إذا ... حال عن عهد بلا سبب
وقال ابن المعتز: وكتب إليّ المرثدي أيضا:
لي امير إذا جفا يتجنّى ... وإذا ملّ قال كان وكنّا
وإذا غاب عنه ذو الودّ حولا ... لم يقل ما له لقد غاب عنّا
- 145-
أحمد بن محمد بن عاصم أبو سهل الحلواني
: ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: بينه وبين أبي سعيد السكري نسب قريب، فروى عن أبي سعيد كتبه وكان كثيرا ما توجد بخطه وخطه في نهاية القبح إلّا انه من العلماء. وله من الكتب كتاب المجانين الأدباء.
- 146-
أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي
: هو صحيح الخط متقن الضبط من أهل الأدب يعتمد على خطه وضبطه، لا أعرف من خطه إلا ما رأيته بخطه بكتاب تفسير القرآن لابن جرير الطبري وقد ذكر عند خاتمته: «وكتبه أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي ورّاق الجهشياري» .
__________
[145]- الفهرست: 88 وتاريخ بغداد 5: 76 وإنباه الرواة 1: 98 والوافي 7: 394. وذكر الخطيب أنه توفي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة.
[146]- طبقات السبكي 2: 186 وتهذيب الأسماء واللغات 2: 296 (رقم: 557) .
[1] من هنا إلى آخر الترجمة منقول من المختصر.(1/454)
- 147-
أحمد بن محمد بن سليمان بن بشار الكاتب
: ذكره محمد بن إسحاق النديم فقال: هو أستاذ أبي عبد الله الكوفي الوزير، وكان أحد الأفاضل من الكتاب بلاغة وفصاحة وصناعة، وله كتاب الخراج نحو ألف ورقة وكتاب الشراب والمنادمة.
- 148-
أحمد بن محمد المهلبي أبو العباس
: كذا ذكره محمد بن إسحاق النديم في كتابه وقال: هو مقيم بمصر ويعرف بالبرجاني [1] ، وله من الكتب كتاب شرح علل النحو. كتاب المختصر في النحو.
وكان بمصر نحوي يعرف بالمهلبي اسمه علي بن أحمد وكان في هذا العصر، فإن كان هذا فقد وهم النديم في اسمه، وإلّا فهو غيره، والله أعلم. وقد كتبنا لذلك ترجمة في بابه [2] .
- 149-
أحمد بن محمد بن نصر الجيهاني أبو عبد الله
، وزير نصر بن أحمد بن نصر الساماني، صاحب خراسان: كان أديبا فاضلا، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال:
له من الكتب: كتاب آيين. كتاب العهود للخلفاء [3] والأمراء. كتاب المسالك والممالك. كتاب الزيادات في كتاب الناشىء من المقالات.
__________
[147]- ترجمته في الفهرست: 150.
[148]- ترجمته في الفهرست: 93.
[149]- الفهرست: 153 والوافي 8: 53 (وسيترجم ياقوت لمحمد بن أحمد بن نصر الجيهاني أبي عبد الله وزير نصر بن أحمد رقم: 963) .
[1] الفهرست: بالرجائي (ف: بالرحابي) ونصّ الفهرست: وآخر يعرف بالرجائي (فكأنه شخص غيره) .
[2] ترجمته رقم: 717.
[3] م: والخلفاء، والتصويب عن الفهرست.(1/455)
ولأحمد ابن أبي بكر الكاتب يهجو أبا عبد الله الجيهاني:
أيا ربّ فرعون لما طغى ... وتاه وأبطره ما ملك
لطفت وأنت اللطيف الخبير ... فأقحمته اليمّ حتى هلك
فما بال هذا الذي لا أراه ... يسلك إلا الذي قد سلك
مصونا على نائبات الدهور ... يدور بما يشتهيه الفلك
ألست على أخذه قادرا ... فخذه وقد خلص الملك لك
فقد قرب الأمر من أن يقال ... ذا الأمر بينهما مشترك
والا فلم صار يملى له ... وقد لجّ في غيّه وانهمك
ولن يصفو الملك ما دام فيه ... شريك وإن شك [....]
ذكر هذه الأبيات أبو الحسن محمد بن سليمان بن محمد في «كتاب مزيد [1] التاريخ في أخبار خراسان» .
وقال فيه بعضهم يهجوه قال، وأظنه اللحام:
لا لسان لا رواء ... لا بيان لا عباره
لا ولا ردّ سلام ... منك إلا بالاشاره
أنا أهواك ولكن ... أين آثار الوزاره
قال: ثم مات السديد منصور بن نوح، وقام مقامه الرضى أبو القاسم نوح بن منصور، والجيهاني على وزارته، ثم صرفت عنه الوزارة في شهر ربيع الأخر سنة سبع وستين وثلاثمائة، ووليها أبو الحسين عبد الله بن أحمد العتبي.
__________
[1] م: فريد، وأرجح أنه مزيد التاريخ لأنه زاده على تاريخ السلامي في ولاة خراسان، وسيأتي اسمه كذلك في ترجمة ابن خلاد الرامهرمزي.(1/456)
- 150-
أحمد بن محمد بن يزداد [1] بن رستم أبو جعفر النحوي الطبري
: سكن بغداد، قال الخطيب: وحدّث بها عن نصير بن يوسف وهاشم بن عبد العزيز صاحبي علي بن حمزة الكسائي. روى باسناده قال، قال عبد الله بن مسعود: إني قد سمعت القراء فوجدتهم متقاربين فاقرءوا كما علمتم، فإنما هو كقول أحدكم هلمّ وتعال. قال عمر بن محمد بن سيف الكاتب: سمعت من ابن رستم في سنة أربع وثلاثمائة.
قال محمد بن اسحاق النديم: وله من الكتب: كتاب غريب القرآن. كتاب المقصور والممدود. كتاب المذكر والمؤنث. كتاب صورة الهمز. كتاب التصريف.
كتاب النحو.
وقرأت في «كتاب الغاية» لأبي بكر ابن مهران النيسابوري في القراءات قرأت على أبي عيسى بكار بن أحمد المقرىء قال: قرأت على أبي جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبراني [2] ، وكان مؤدبا في دار الوزير ابن الفرات، ووصلنا إليه بالحيل والشفعاء، وكان بصيرا بالعربية حاذقا في النحو، أخذ القراءات عن نصير بن يوسف أبي المنذر النحوي صاحب الكسائي وأخذ نصير عن الكسائي.
- 151-
أحمد بن محمد بن عبد الله بن صالح بن شيخ بن عمير أبو الحسن، أحد أصحاب أبي العباس ثعلب
: ذكره المرزباني في كتاب «المقتبس» وقال ابن بشران في «تاريخه» : في سنة عشرين وثلاثمائة مات أبو بكر ابن أبي شيخ ببغداد، وكان
__________
[150]- ترجمته في تاريخ بغداد 5: 125 والفهرست: 65 وإنباه الرواة 1: 128 وطبقات الجزري 1: 114 والوافي 8: 111 وبغية الوعاة 1: 387.
[151]- ترجمته في نور القبس: 336- 337 وتاريخ بغداد 5: 42 والوافي 8: 31، وفي نسبه «عميرة» في ر.
[1] تاريخ بغداد والانباه والفهرست: يزديار.
[2] نسبه مرة الطبري ومرة الطبراني ولم يفرق بينهما مع أن الطبري نسبة إلى طبرستان، والطبراني نسبة إلى طبرية.(1/457)
محدثا اخباريا، وله مصنفات، ولا أدري أهو هذا أم غيره، فإن الزمان واحد وكلاهما اخباري، والله أعلم. ولعل ابن بشران غلط في جعله ابن أبي شيخ أو جعله أبا بكر، والله أعلم.
وحدث المرزباني عن عبد الله بن يحيى العسكري قال: أنشدني أبو الحسن أحمد بن محمد بن صالح بن شيخ بن عمير الأسدي لنفسه وكتب بها إلى بعض إخوانه:
كنت يا سيدي على التطفيل ... أمس لولا مخافة التثقيل
وتذكرت دهشة القارع البا ... ب إذا ما أتى بغير رسول
ونخوفت أن أكون على القو ... م ثقيلا فقدت كلّ ثقيل
لو تراني وقد وقفت أروّي ... في دخول إليك أو في قفول
لرأيت العذراء حين تحايا ... وهي من شهوة على التعجيل
وحدث عن عمر بن بنان الأنماطي عن أبي الحسن الأسدي قال: تركت النبيذ، وأخبرت أبا العباس ثعلبا بتركي إياه، ثم لقيت محمد بن عبد الله بن طاهر فسقاني، فمررت على ثعلب وهو جالس على باب منزله عشيا، فلما رآني أتكفأ في مشيتي علم أني شارب، فقام ليدخل إلى منزله ثم وقف على بابه، فلما حاذيته وسلّمت عليه أنشأ يقول:
فتكت من بعد ما نسكت وصا ... حبت ابن سهلان صاحب السّقط
إن كنت أحدثت زلة غلطا ... فالله يعفو عن زلة الغلط
قال عمر: فسألت ثعلبا عن ابن سهلان صاحب السّقط فقال: أهل الطائف يسمون الخمار صاحب السّقط.
وحدث عن الصولي قال: أنشدني أبو الحسن أحمد بن محمد الانباري لنفسه في قصيدته المزدوجة التي تمم بها قصيدة علي بن الجهم التي ذكر فيها الخلفاء إلى زمانه:
ثم تولى المستعين بعده ... فحاز بيت ماله وجنده
ثم أتى بغداد في محرّم ... إحدى وخمسين برأي مبرم(1/458)
وذكر قطعة من أخباره ثم قال:
وثبتت خلافة المعتز ... ولم يشب أموره بعجز
وذكر طرفا من أموره ثم قال:
وقلدوا محمد بن الواثق ... في رجب من غير أمر عائق
المهتدي بالله دون الناس ... جاء به الرحمن بعد الياس
ثم قال بعد أبيات:
وقام بالأمر الامام المعتمد ... إمام صدق في صلاح مجتهد
وساق قطعة من سيرته.
- 152-
أحمد بن محمد جراب الدولة
: هو أحمد بن محمد بن علويه، من أهل سجستان، ويكنى أبا العباس، وكان طنبوريا أحد الظرفاء الطياب، كان في أيام المقتدر وأدرك دولة بني بويه فلذلك سمى نفسه بجراب الدولة لأنهم كانوا يفتخرون بالتسمية في الدولة، وكان يلقب بالريح أيضا، وله كتاب ترويح الأرواح ومفتاح السرور والافراح لم يصنّف في فنه مثله اشتمالا على فنون الهزل والمضاحك.
- 153-
أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الهمذاني أبو عبد الله
: يعرف بابن الفقيه، أحد أهل الأدب، ذكره محمد بن إسحاق في كتابه الذي ألفه في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة قال: وله كتاب البلدان نحو ألف ورقة أخذه من كتب الناس، وسلخ كتاب الجيهاني. وكتاب ذكر الشعراء المحدثين والبلغاء منهم والمفحمين.
وقال شيرويه: محمد بن إسحاق بن إبراهيم الفقيه أبو أحمد والد أبي عبيد الأخباري روى عن إبراهيم بن حميد البصري وغيره، روى عنه ابنه أبو عبد الله.
__________
[152]- ترجمة جراب الدولة في الفهرست: 170 والوافي 8: 7 وكتابه ترويح الأرواح منه نسخة بالمكتبة الوطنية بباريس.
[153]- ترجمته في الفهرست: 171 وقد طبع مختصر كتاب البلدان (ليدن 1885) بتحقيق دي خويه.(1/459)
وقال شيرويه: أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم الأخباري أبو عبد الله، يعرف بابن الفقيه، ويلقب بحالان، صاحب «كتاب البلدان» روى عن أبيه وإبراهيم بن الحسين بن ديزيل ومحمد بن أيوب الرازي وأبي عبد الله الحسين بن أبي السرح الأخباري، وذكر جماعة، قال: وروى عنه أبو بكر ابن لال وأبو بكر ابن روزبة، ولم يذكر وفاته.
- 154-
أحمد بن محمد بن الوليد بن محمد
، يعرف بولاد: من أهل بيت علم، ولأبيه وجده ذكر في هذا الكتاب وتراجم في مواضعها [1] ، وكنية أحمد هذا أبو العباس، مات فيما ذكره الزبيدي في كتابه سنة اثنتين وثلاثمائة. قال: وكان بصيرا بالنحو أستاذا فيه، ورحل إلى بغداد من موطنه مصر، ولقي إبراهيم الزجاج وغيره، وكان الزجاج يفضّله ويقدمه على أبي جعفر النحاس، وكانا جميعا تلميذيه. وكان الزجاج لا يزال يثني عليه عند كلّ من قدم إلى بغداد من مصر، ويقول لهم: لي عندكم تلميذ من حاله وصفته كذا، فيقال له: أبو جعفر النحاس، فيقول: بل أبو العباس ابن ولاد.
قال: وجمع بعض ملوك مصر بين ابن ولاد وابن النحاس وأمرهما بالمناظرة، فقال ابن النحاس لابن ولاد: كيف تبني مثال افعلوت من رميت فقال ابن ولاد: أقول ارمييت، فخطأه أبو جعفر وقال: ليس في كلام العرب افعلوت ولا افعليت، فقال أبو العباس: إنما سألتني أن أمثّل لك بناء ففعلت وإنما تغفّله أبو جعفر بذلك.
قال الزبيدي: ولقد أحسن في قياسه حين قلب الواو ياء، وقد كان أبو الحسن سعيد بن مسعدة الأخفش يبني من الأمثلة ما لا مثال له في كلام العرب.
وله كتاب المقصور والممدود [2] . وكتاب الانتصار لسيبويه فيما ذكره المبرد.
__________
[154]- ترجمته في طبقات الزبيدي: 219- 220 وإنباه الرواة 1: 99 والوافي 8: 101 ومرآة الجنان 2: 311 وحسن المحاضرة 1: 531 وبغية الوعاة 1: 386 وإشارة التعيين: 44.
[1] ترجمة محمد بن ولاد رقم: 1130 وليس للوليد ترجمة.
[2] طبع كتاب بهذا الاسم يحمل اسم «أحمد» ولكن المؤلف سيذكر كتابا في المقصور والممدود لمحمد أيضا.(1/460)
- 155-
أحمد بن محمد البشتي الخارزنجي
: قال السمعاني: خارزنج قرية بنواحي نيسابور بناحية بشت، والمشهور من هذه القرية أبو حامد أحمد بن محمد الخارزنجي، إمام [1] أهل الأدب بخراسان في عصره بلا مدافعة، فإن فضلاء عصره لما حجّ بعد الثلاثين وثلاثمائة شهد له أبو عمر الزاهد صاحب ثعلب ومشايخ العراق بالتقدم، وكتابه المعروف ب «التكملة» [هو] البرهان في تقدمه وفضله. ولما دخل بغداد تعجّب أهلها من تقدمه في معرفة اللغة، فقيل: هذا الخراساني لم يدخل البادية قط وهو من آدب الناس فقال: أنا بين عربين بشت وطوس.
سمع الحديث من أبي عبد الله محمد بن إبراهيم البوشنجي، وحدّث، سمع منه الحاكم أبو عبد الله الحافظ، ومات في رجب سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وهذا كله نقله السمعاني من كتاب الحاكم أبي عبد الله.
قال الأزهري [2] : وممن ألف وجمع من الخراسانيين في زماننا هذا فصحّف وأكثر فغير، رجلان: أحدهما يسمّى أحمد بن محمد البشتي ويعرف بالخارزنجي، والآخر أبو الأزهر البخاري. فأما الخارزنجي فإنه ألف كتابا سماه «التكملة» أراد أنه كمل «كتاب العين» المنسوب إلى الخليل بن أحمد بكتابه، وأما البخاري فإنه سمى كتابه «الحصائل» فأعاره هذا الاسم لأنه أراد تحصيل ما أغفله الخليل، ونظرت في أول كتاب البشتي فرأيته أثبت في صدره الكتب المؤلفة التي استخرج كتابه منها، وعدّد كتبا، قال الخارزنجي: استخرجت ما وضعت في كتابي هذا من الكتب المذكورة، قال: ولعلّ بعض الناس يبتغي العيب [3] بتهجينه والقدح فيه لأني أسندت ما فيه إلى
__________
[155]- إنباه الرواة 1: 107 والوافي 8: 7 والأنساب واللباب (الخارزنجي) وبغية الوعاة 1: 388 وروضات الجنات 1: 220.
[1] هذا النصّ ينقله القفطي عن تاريخ نيسابور للحاكم: وهذا يؤكده قول ياقوت: «وهذا كله نقله السمعاني من كتاب الحاكم» .
[2] تهذيب اللغة 1: 32- 33 (ونقله القفطي أيضا) .
[3] التهذيب: العنت.(1/461)
هؤلاء العلماء من غير سماع وإنما إخباري عنهم إخبار عن صحفهم ولا يزري ذلك على من عرف الغثّ من السمين، وميز بين الصحيح والسقيم، وقد فعل مثل ذلك أبو تراب صاحب «كتاب الاعتقاب» فإنه روى عن الخليل بن أحمد وأبي عمرو بن العلاء والكسائي وبينه وبين هؤلاء فترة، وكذلك القتيبي روى عن سيبويه والأصمعي وأبي عمرو وهو لم ير منهم أحدا.
قال المؤلف: وردّ عليه الأزهري في هذا الفصل بما يطول عليّ كتبه [1] . وله من الكتب: كتاب التكملة. كتاب التفصلة. كتاب تفسير أبيات أدب الكاتب.
- 156-
أحمد بن محمد بن إسحاق بن أبي خميصة
: يعرف بالحرمي بن أبي العلاء، أبو عبد الله، من أهل مكة، سكن بغداد، ذكره الخطيب فقال: مات سنة سبع عشرة وثلاثمائة وكان كاتب أبي عمر محمد بن يوسف القاضي، وحدث عن الزبير ب «كتاب النسب» وغيره [وروى] عنه أبو حفص ابن شاهين وأبو عمر ابن حيويه وأكثر [عنه] أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني وغيره.
- 157-
أحمد بن محمد بن موسى بن العباس أبو محمد
: ذكره ابن الجوزي في «المنتظم» وقال: كان معتنيا بأمر الأخبار وطلب التواريخ، وولي حسبة سوق الرقيق، وكتب عنه، ومات في محرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
__________
[156]- ترجمة الحرمي في تاريخ بغداد 4: 390 وعبر الذهبي 2: 169 والوافي 8: 9 والشذرات 2: 275.
[157]- المنتظم 6: 283 والوافي 8: 130.
[1] قد أطال الأزهري في ما استدركه على البشتي من أخطاء، انظر تهذيب اللغة 1: 34- 40؛ وأما أبو الأزهر البخاري فقال فيه الأزهري: إنه أقلّ معرفة من البشتي وأكثر تصحيفا.(1/462)
- 158-
أحمد بن محمد بن عبد الله الزردي
اللغوي العلامة النيسابوري أبو عمرو الزردي: والزرد من قرى اسفرائين من رساتيق نيسابور. ذكره الحاكم، وقال: مات أبو عمرو الزردي في شعبان سنة ثمان وثلاثين وثلاثمائة. قال: وكان واحدا في هذه الديار في عصره بلاغة وبراعة وتقدما في معرفة أصول الأدب، وكان رجلا ضعيف البنية مسقاما، يركب حمارا ضعيفا، ثم إذا تكلم تحير العلماء في براعته. سمع الحديث الكثير من أبي عبد الله محمد بن المسيب الأرغياني وأبي عوانة يعقوب بن إسحاق وأقرانهما.
قال الحاكم: سمعت الأستاذ أبا عمرو الزردي في منزلنا يقول: إن الله إذا فوّض سياسة خلقه إلى واحد يخصه بها منهم وفّقه لسداد السيرة، وأعانه بالهامه من حيث رحمته تسع كلّ شيء، ولمثل ذلك كان يقول ابن المقفع: تفقدوا كلام ملوككم إذ هم موفّقون للحكمة، ميسّرون للاجابة، فإن لم تحط به عقولكم في الحال فإن تحت كلامهم حيّات فواغر وبدائع جواهر. وكان بعضهم يقول: ليس لكلام سبيل أولى من قبول ذلك، فإن ألسنتهم ميازيب الحكمة والاصابة. قال: وسمعت أبا عمرو الزردي يقول: العلم علمان: علم مسموع وعلم ممنوح [1] .
- 159-
أحمد بن محمد بن عبد ربه بن حبيب بن حدير بن سالم مولى هشام
بن
__________
[158]- ترجمة الزردي في الوافي 8: 30 وبغية الوعاة 1: 369 وفي المختصر أن وفاته: 333.
[159]- ترجمة ابن عبد ربه في تاريخ ابن الفرضي 1: 49 وجذوة المقتبس: 94 (وبغية الملتمس رقم: 327) ومطمح الأنفس: 51 ووفيات الأعيان 1: 92 وسير الذهبي 15: 283 والوافي 8: 10 وبغية الوعاة 1: 371 وللدكتور جبرائيل جبور فيه كتاب ابن عبد ربه وعقده وقد عقدت له فصلا في كتابي: تاريخ الأدب الأندلسي- عصر سيادة قرطبة، كما قام الدكتور رضوان الداية بجمع شعره (بيروت 1979) وكذلك جمعه الدكتور التونجي.
[1] ر: ممنوع.(1/463)
عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان: كنيته أبو عمر، ذكره الحميدي وقال: إنه مات سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة ومولده سنة ست وأربعين ومائتين عن إحدى وثمانين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام، وهو من أهل بلاد الأندلس.
قال الحميدي: وأبو عمر من أهل العلم والأدب والشعر وهو صاحب «كتاب العقد» في الأخبار، مقسم على عدة فنون، وسمّى كلّ باب منه على نظم العقد كالواسطة والزبرجدة والياقوتة والزمردة وما أشبه ذلك. وبلغني أنّ الصاحب ابن عباد سمع بكتاب «العقد» فحرص حتى حصل عنده، فلما تأمله قال: هذه بضاعتنا ردّت إلينا، ظننت أن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، وإنما هو مشتمل على أخبار بلادنا، لا حاجة لنا فيه فردّه.
قال الحميدي: وشعره كثير مجموع، رأيت منه نيفا وعشرين جزءا من جملة ما جمع للحكم بن عبد الرحمن الملقب بالناصر الأموي سلطان المغرب، وبعضها بخطه.
قال: وكانت لأبي عمر بالعلم جلالة وبالأدب رياسة وشهرة، مع ديانته وصيانته، واتفقت له أيام ولايات للعلم فيها نفاق، فتسوّد بعد الخمول وأثرى بعد فقر، وأشير بالتفضيل إليه، إلا أنه غلب عليه الشعر.
ومن شعره وكان بعض من يألفه قد أزمع على الرحيل في غداة عيّنها، فأتت السماء في تلك الغداة بمطر جود منعته من الرحيل، فكتب إليه أبو عمر ابن عبد ربه [1] :
هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر ... هيهات يأبى عليك الله والقدر
ما زلت أبكي حذار البين ملتهفا ... حتى رثى لي فيك الريح والمطر
يا برده من حيا مزن على كبد ... نيرانها بغليل الشوق تستعر
آليت ألّا أرى شمسا ولا قمرا ... حتى أراك فأنت الشمس والقمر
__________
[1] انظرها أيضا في المطرب: 154 والمطمح: 58 والنفح 3: 447.(1/464)
ومن شعره السائر [1] :
الجسم في بلد والروح في بلد ... يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد
إن تبك عيناك لي يا من كلفت به ... من رحمة فهما سهماك في كبدي
قال: ووقف ابن عبد ربه تحت روشن لبعض الرؤساء فرشّ بماء وكان فيه غناء حسن ولم يعرف فقال [2] :
[يا من يضنّ بصوت الطائر الغرد ... ما كنت أحسب هذا البخل في أحد]
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة ... أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد
فلا تضنّ على سمعي تقلده ... صوتا يجول مجال الروح في الجسد
لو كان زرياب حيا ثم أسمعه ... لذاب من حسد أو مات من كمد
أما النبيذ فإني لست أشربه ... ولست آتيك إلا كسرتي بيدي
وزرياب عندهم يجري مجرى إسحاق بن إبراهيم الموصلي في صنعة الغناء ومعرفته، وله أصوات مدونة ألفت الكتب فيها وضربت به الأمثال.
قال: ولأبي عمر أيضا أشعار كثيرة سماها «الممحصات» وذلك أنه نقض كلّ قطعة قالها في الصبا والغزل بقطعة في المواعظ والزهد، وأرى أن من ذلك قوله [3] :
إلا إنما الدنيا غضارة أيكة ... إذا اخضرّ منها جانب جفّ جانب
هي الدار ما الآمال إلا فجائع ... عليها ولا اللذات الا مصائب
وكم سخنت بالأمس عين قريرة ... وقرّت عيون دمعها الآن ساكب
فلا تكتحل عيناك منها بعبرة ... على ذاهب منها فإنك ذاهب
ومن شعره وهو آخر شعر قاله فيما قيل:
بليت وأبلتني الليالي بكرّها ... وصرفان للأيام معتوران
وما بي لا أبكي لسبعين حجة ... وعشر أتت من بعدها سنتان
وقد أجاز لي رواية كتابه الموسوم ب «العقد» الحافظ ذو النسبين، بني دحية
__________
[1] المطمح: 59 والمطرب: 153 والنفح 7: 51.
[2] المطرب: 152- 153 والمطمح: 58.
[3] العقد 3: 175 والمطرب: 155.(1/465)
والحسين، أبو الخطاب عمر بن الحسن المعروف بابن دحية المغربي السبتي [1] ، فإنه رواه عن شيخه أبي محمد عبد الحق بن عبد الملك بن بونه العبدي، عن شيخه أبي عبد الله محمد بن معمر، عن شيخه أبي بكر محمد بن هشام المصحفي، عن أبيه، عن زكريا بن بكير بن الأشجّ عن المصنف.
وقسم كتاب العقد على خمسة وعشرين كتابا، كل كتاب منها جزءان، فذلك خمسون جزءا في خمسة وعشرين كتابا، كلّ كتاب باسم جوهرة من جواهر العقد، فأولها كتاب اللؤلؤة في السلطان، ثم كتاب الفريدة في الحروب، ثم كتاب الزبرجدة في الأجواد، ثم كتاب الجمانة في الوفود، ثم كتاب المرجانة في مخاطبة الملوك، ثم كتاب الياقوتة في العلم والأدب، ثم كتاب الجوهرة في الأمثال، ثم كتاب الزمردة في المواعظ، ثم كتاب الدرّة في التعازي والمراثي، ثم كتاب اليتيمة في الأنساب، ثم كتاب العسجدة في كلام الأعراب، ثم كتاب المجنبة في الأجوبة، ثم كتاب الواسطة في الخطب، ثم كتاب المجنبة الثانية في التوقيعات والفصول والصدور وأخبار الكتبة، ثم كتاب العسجدة الثانية في الخلفاء وأيامهم، ثم اليتيمة الثانية في أخبار زياد والحجاج والطالبيين والبرامكة، ثم الدرة الثانية في أيام العرب ووقائعهم، ثم الزمردة الثانية في فضائل الشعر ومقاطعه ومخارجه، ثم الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر وعلل القوافي، ثم الياقوتة الثانية في (علم) الألحان واختلاف الناس فيه، ثم المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن، ثم الجمانة الثانية في المتنبئين والممرورين والطفيليين، ثم الزبرجدة الثانية في التحف والهدايا والنتف والمفاكهات والملح، ثم الفريدة الثانية في الهيئات والبنايين والطعام والشراب، ثم اللؤلؤة الثانية في طبائع الانسان وسائر الحيوان وتفاضل البلدان [2] . وهو آخر الكتاب.
ومن شعر ابن عبد ربه [3] :
ودّعتني بزورة [4] واعتناق ... ثم نادت متى يكون التلاقي
__________
[1] هو مؤلف كتاب المطرب، انظر ترجمته في وفيات الأعيان 3: 448.
[2] هذه التقسيمات غير متفقة تماما والعقد المطبوع.
[3] العقد 5: 412 والمطمح: 52 وابن خلكان 1: 92 والنفح 5: 599.
[4] ر: بزفرة.(1/466)
وبدت لي فأشرق الصبح منها ... بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم ... بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أفظع يوم ... ليتني متّ قبل يوم الفراق
ومن شعره أيضا [1] :
يا ذا الذي خطّ الجمال بخدّه ... خطين هاجا لوعة وبلا بلا
ما صحّ عندي أن لحظك صارم ... حتى لبست بعارضيك حمائلا
قال [2] : أخبرني بعض العلية أن الخطيب أبا الوليد ابن عسال [3] حجّ فلما انصرف، تطلّع إلى لقاء المتنبي واستشرف، ورأى أن لقيته فائدة يكتسبها، وجملة فخر لا يحتسبها، فصار إليه فوجده في مسجد عمرو بن العاص ففاوضه قليلا ثم قال:
ألا انشدني لمليح الاندلس- يعني ابن عبد ربه- فأنشده [4] :
يا لؤلؤا يسبي العقول أنيقا ... ورشا بتقطيع القلوب رفيقا
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... درّا يعود من الحياء عقيقا
وإذا نظرت إلى محاسن وجهه ... أبصرت وجهك في سناه غريقا
يا من تقطّع خصره من رقة ... ما بال قلبك لا يكون رقيقا
فلما أكمل إنشاده استعادها منه، ثم صفق بيديه وقال: يا ابن عبد ربه لقد يأتيك العراق حبوا.
ثم ان ابن عبد ربه أقلع في آخر عمره عن صبوته وأخلص لله في توبته، فاعتبر أشعاره التي قالها في الغزل واللهو، وعمل على أعاريضها وقوافيها في الزهد، وسماها «الممحصات» فمنها القطعة التي أولها:
هلا ابتكرت لبين انت مبتكر
__________
[1] المطمح: 52 وابن خلكان 1: 92 والنفح 3: 565.
[2] المطمح: 52 وفيه الأبيات.
[3] ر: عباد.
[4] العقد 5: 399.(1/467)
محّصها بقوله [1] :
يا قادرا ليس يعفو حين يقتدر ... ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عاين بقلبك إنّ العين غافلة ... عن الحقيقة واعلم أنها سقر
سوداء تزفر من غيظ إذا سعرت ... للظالمين فما تبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة ... لكان فيه عن اللذات مزدجر
أنت المقول له ما قلت مبتدئا ... «هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر»
- 160-
أحمد بن محمد بن إسماعيل النحاس أبو جعفر
: من أهل مصر، رحل إلى بغداد فأخذ عن المبرد والأخفش علي بن سليمان ونفطويه والزجاج وغيرهم، ثم عاد إلى مصر فأقام بها إلى أن مات بها فيما ذكره أبو بكر الزبيدي في كتابه في سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة.
وأبو جعفر هذا صاحب الفضل الشائع، والعلم المتعارف الذائع، يستغني بشهرته عن الاطناب في صفته. قال الزبيدي [2] : ولم يكن له مشاهدة فإذا خلا بقلمه جوّد وأحسن، وكان لا ينكر أن يسأل أهل النظر والفقه ويفاتشهم عما أشكل عليه في تصانيفه. قال الزبيدي: فحدثني قاضي القضاة بالاندلس وهو المنذر بن سعيد البلوطي قال: أتيت ابن النحاس في مجلسه فألفيته يملي في أخبار الشعراء شعر قيس بن معاذ المجنون حيث يقول:
خليليّ هل بالشام عين حزينة ... تبكّي على نجد لعلي أعينها
__________
[160]- ترجمة ابن النحاس في طبقات الزبيدي: 220- 221 وإنباه الرواة 1: 101 والمستفاد من ذيل تاريخ بغداد: 72 وابن خلكان 1: 82 وعبر الذهبي 2: 246 وسير الذهبي 15: 401 والشذرات 2: 346 والوافي 7: 362 وبغية الوعاة 1: 362.
[1] المطرب: 154 والمطمح: 61 والنفح 7: 53.
[2] نقله في المستفاد: 73 قائلا: ذكره أبو عبد الله الزبيدي المغربي في كتابه أخبار أهل الأدب؛ وهو موهم لأن النقل عن طبقات الزبيدي.(1/468)
قد اسلمها الباكون إلا حمامة ... مطوقة باتت وبات قرينها
تجاوبها أخرى على خيزرانة ... يكاد يدنّيها من الأرض لينها
فقلت: يا أبا جعفر ماذا أعزك الله باتا يصنعان، فقال لي: وكيف تقوله أنت يا أندلسي؟ فقلت: بانت وبان قرينها، فسكت وما زال يستثقلني بعد ذلك حتى منعني «كتاب العين» وكنت ذهبت إلى الانتساخ من نسخته، فلما قطع بي قيل لي: [أين] أنت عن أبي العباس ابن ولاد؟ فقصدته فلقيت رجلا كامل العلم حسن المروءة، فسألته الكتاب فأخرجه إليّ، ثم تندم أبو جعفر لما بلغه إباحة أبي العباس الكتاب لي، وعاد إلى ما كنت أعرفه منه.
قال: وكان أبو جعفر لئيم النفس شديد التقتير على نفسه، وكان ربما وهبت له العمامة فيقطعها ثلاث عمائم، وكان يأبى شرى حوائجه بنفسه، ويتحامل فيها على أهل معرفته. وصنف كتبا حسانا مفيدة منها: كتاب الانوار. كتاب الاشتقاق لأسماء الله عز وجل. كتاب معاني القرآن. كتاب اختلاف الكوفيين والبصريين، سماه المقنع. كتاب أخبار الشعراء. كتاب أدب الكتاب. كتاب الناسخ والمنسوخ [1] .
كتاب الكافي في النحو. كتاب صناعة الكتاب. كتاب إعراب القرآن. كتاب شرح السبع [2] الطوال. كتاب شرح أبيات سيبويه [3] . كتاب الاشتقاق. كتاب معاني الشعر. كتاب التفاحة في النحو. كتاب أدب الملوك. وسمعت من يحكي أن تصانيفه تزيد على الخمسين مصنفا [4] .
وقد ذكر أبو عبد الله الحميدي القاضي المذكور في قصة ابن النحاس [5] ، وقال: هو أبو الحكم المنذر بن سعيد يعرف بالبلوطي ينسب إلى موضع هناك قريب من
__________
[1] طبع بمصر: 1323.
[2] كذا وهو شرح التسع كما نشر بتحقيق أحمد خطاب (بغداد 1973) .
[3] حققه زهير زاهد (بيروت 1986) .
[4] طبع له كتاب الوقف والائتناف (بغداد 1978) .
[5] الجذوة: 326، والقاضي البلوطي المنذر بن سعيد تتردد ترجمته في المصادر الأندلسية والمشرقية انظر أيضا: ابن الفرضي 2: 142 وقضاة الخشني: 175 والمرقبة العليا: 66 والمطمح: 37 وطبقات الزبيدي: 319 وأزهار الرياض 2: 272 ونفح الطيب 2: 16 (وفي حاشيته ذكر لمصادر أخرى) .(1/469)
قرطبة يقال له فحص البلوط، ولي قضاء الجماعة بقرطبة في حياة الحكم المستنصر، وذكر له قصة استحسنتها فأثبتها هاهنا إذ لم أجعل له ترجمة [1] لأنه لم يذكره بالتصنيف في الأدب فقال: كان الحكم المستنصر مشغوفا بأبي علي القالي يؤهله لكلّ مهمّ في بابه، فلما ورد رسول ملك الروم أمره عند دخول الرسول الحضرة أن يقوم خطيبا بما كانت العادة جارية به، فلما كان في ذلك الوقت وشاهد أبو علي الجمع وعاين الحفل جبن ولم تحمله رجلاه ولا ساعده لسانه، وفطن له أبو الحكم منذر بن سعيد القاضي، فوثب وقام مقامه وارتجل خطبة بليغة على غير أهبة، وأنشد لنفسه في آخرها:
هذا المقال الذي ما عابه فند ... لكنّ صاحبه أزرى به البلد
لو كنت فيهم غريبا كنت مطّرفا ... لكنني منهم فاغتالني النكد
لولا الخلافة أبقى الله بهجتها ... ما كنت أبقى بأرض ما بها أحد
واتفق الجمع على استحسانه وجمال استدراكه، وصلّب العلج وقال: هذا كبش رجال الدولة، ثم ذكر قصته مع ابن النحاس بعينها.
- 161-
أحمد بن محمد بن حمادة أبو الحسن الكاتب
: حسن الأدب، من أفاضل الكتاب، صنف الكتب ولقي الأدباء وله: كتاب امتحان الكتاب وديوان ذوي الالباب. كتاب شحذ الفطنة. كتاب الرسائل، ذكره محمد بن إسحاق.
- 162-
أحمد بن محمد بن عبد الله بن هارون أبو الحسين
: أظنه من عسكر مكرم لأنه اعتنى بشرح مختصر محمد بن علي بن إسماعيل المبرمان، ثم قرأت في بعض المجموعات: تقدّم رجلان إلى القاضي أبي أحمد ابن أبي علان رحمه الله، فادّعى
__________
[161]- ترجمته في الفهرست: 144- 145 والوافي 7: 388.
[162]- الوافي 8: 29 وبغية الوعاة 1: 368.
[1] تأمل هذا؛ فإن له ترجمة برقم: 1160.(1/470)
أحدهما على الآخر شيئا، فقال المدّعى عليه: ما له عندي حق، فقال القاضي: من هذا؟ فقالوا: ابن هارون النحويّ العسكري، فقال القاضي: فاعطه ما أقررت له به [1] . له شرح كتاب التلقين رأيته وسمّاه «البارع» وكتاب شرح العيون. وكتاب شرح المجاري. رأيت كتاب شرح التلقين بخطه وقد كتبه في رجب سنة تسع وستين وثلاثمائة.
- 163-
أحمد بن محمد بن أحمد بن نصر بن ميمون بن مروان بن الأسلمي الكفيف النحوي أبو عمرو
: قال ابن الفرضي هو من أهل قرطبة، ويقال له إشكابة، سمع من قاسم بن أصبغ ومحمد بن محمد الخشني وغيرهما، وكان صالحا عفيفا، أدب عند الرؤساء والجلة من الملوك، ومات لأحدى عشرة ليلة خلت من شوّال سنة تسعين وثلاثمائة.
- 164-
أحمد بن محمد بن أحمد أبو الحسن العروضي
معلم أولاد الراضي بالله:
وجدت على كتابه في العروض بخطه: وقد قرىء عليه في سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، وكان إماما في علم العروض، حتى قال أبو علي الفارسي في بعض كتبه وقد احتاج إلى الاستشهاد ببيت قد تكلم عليه في التقطيع: وقد كفانا أبو الحسن العروضي الكلام في هذا الباب.
ولقي أبو الحسن ثعلبا وأخذ عنه، وروى عنه أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني.
__________
[163]- تاريخ ابن الفرضي 1: 72 والوافي 7: 329 ونكت الهميان: 114 وبغية الوعاة 1: 358.
[164]- تاريخ بغداد 5: 140 (وذكر أن وفاته سنة 342) والوافي 7: 328.
[1] يريد أن «ما» هنا ليست نافية، بل المعنى «الذي له عندي حق» ، ويرى الأستاذ النشاشيبي أنه جاء بها عامية أي «ماله» عندي حق، وما دام نحويا فهو يؤخذ بلفظه، إذ ليس يحمل كلامه على اللحن، قلت: وذلك وجه جيد في التخريج.(1/471)
نقلت من كتاب ألفه أبو القاسم عبيد الله بن جرو الأسدي في العروض، وكان الكتاب بخطّ أبي الحسن السمسماني، يقول فيه: وكان أبو الحسن ابن أحمد العروضي عمل كتابا كبيرا وحشاه بما قد ذكر أكثره، ونقل كلام أبي إسحاق الزجاج وزاد فيه شيئا قليلا، وضمّ إليه بابا في علم القوافي، وذاك علم مفرد مثل علم العروض، وفيه مسائل لطيفة واختلاف كثير يحتاج إلى كشف واستقصاء نظر، ولم أره كبير عمل، ولو نسخ كتاب أبي الحسن الأخفش في القوافي لكان أعذر عندي. ثم ضمّ إليه بابا في استخراج المعمّى وهذا لا يتعلق بالعروض، وضمّ إليه بابا في الايقاع ونسبه، وغيره به أحذق، وختمه بقصيدة في العروض ولم يفد بها غير التكرير، وكان ينبغي أن يوفّي صناعته حقها ولا يخلّ بشيء منها ثم [لا] يتعرض لما قد ضمه إليها.
- 165-
أحمد بن محمد التاريخي الرعيني الاندلسي
: قال الحميدي: عالم بالأخبار ألف في مآثر المغرب كتبا جمة، منها كتاب ضخم ذكر فيه مسالك الأندلس ومراسيها وأمهات مدنها وأجنادها الستة وخواصّ كلّ بلد منها، ذكره أبو محمد علي بن أحمد [1] وأثنى عليه.
- 166-
أحمد بن محمد بن موسى بن بشير بن حماد [2] بن لقيط الرازي الأندلسي
:
__________
[165]- جذوة المقتبس: 96 (وبغية الملتمس رقم: 329) وقد ترجم الحميدي لاثنين أحدهما هو أحمد بن محمد الرعيني (رقم: 173) والثاني هو أحمد بن محمد التاريخي، فهل خلط ياقوت بينهما في ترجمة واحدة؛ وانظر أيضا الوافي 7: 402، والترجمة التالية (رقم: 166) فلعل الترجمتين لشخص واحد.
[166]- طبقات الزبيدي: 302 وجذوة المقتبس: 97 وإنباه الرواة 1: 136 والوافي 8: 131 وبغية الوعاة 1: 385.
[1] في م: ذكره ابن جرير (وهو مصحف عن ابن حزم) .
[2] في م: جناد.(1/472)
أصله من الري، ذكره أبو نصر الحميدي قال: له كتاب في أخبار ملوك الأندلس وكتابهم وخططها [1] على نحو كتاب أحمد بن أبي طاهر في أخبار بغداد. وكتاب في أنساب مشاهير أهل الأندلس في خمس مجلدات ضخم من أحسن كتاب وأوسعه.
كتاب تاريخه الأوسط. كتاب تاريخه الأصغر. كتاب مشاهير أهل الأندلس في خمسة أسفار من جيد كتبه. وقال ابن الفرضي: أصله رازي قدم أبوه على الإمام محمد، وكان أبوه من أهل اللسن والخطابة، وولد أحمد هذا بالأندلس يوم الاثنين عاشر ذي الحجة سنة أربع وسبعين ومائتين ومات لاثنتي عشرة ليلة خلت من رجب سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.
- 167-
أحمد بن محمد بن فرج الجياني الاندلسي
: أبو عمر، وقد ينسب إلى جده فيقال أحمد بن فرج، وكذلك أخوه. وهو وافر الأدب كثير الشعر معدود في العلماء والشعراء، وله الكتاب المعروف «بكتاب الحدائق» ألفه للحكم المستنصر، عارض فيه «كتاب الزهرة» لابن داود الأصبهاني، إلا أن ابن داود ذكر مائة باب في كل باب مائة بيت، وأبو عمر ذكر مائتي باب في كل باب مائتي [2] بيت ليس منها باب تكرر اسمه لأبي بكر، ولم يورد فيه لغير الاندلسيين شيئا، وأحسن الاختيار ما شاء. وله أيضا «كتاب المنتزين والقائمين بالأندلس وأخبارهم» . وكان الحكم قد سجنه لأمر
__________
[167]- ترجمة ابن فرج صاحب كتاب الحدائق في المطمح: 79 والصلة 1: 12 واليتيمة 1: 368 والمغرب لابن سعيد 2: 56 والوافي 8: 77 ومسالك الأبصار 11: 195 (وياقوت يعتمد في الترجمة على جذوة المقتبس: 97 أو بغية الملتمس رقم: 331) . وانظر رسالة ابن حزم في فضل الأندلس (رسائل 2: 183) .
[1] في الجذوة: له في أخبار ملوك الأندلس وخدمتهم وركبانهم وغزواتهم كتاب كبير. وألف في صفة قرطبة وخططها ومنازل العظماء بها كتابا ... (فهما كتابان لا واحد) والحميدي ينقل عن رسالة ابن حزم في فضل الأندلس (رسائل ابن حزم 2: 183) وقد جاء فيها: تواريخ الرازي في ملوك الأندلس وخدمتهم وغزواتهم ونكباتهم وكتاب في صفة قرطبة ... الخ.
[2] في م ورسائل ابن حزم: مائة.(1/473)
نقمه عليه، قال الحميدي: وأظنه مات في سجنه. وله في السجن أشعار كثيرة مشهورة، منها:
ما سمعنا سقما يداوى بسقم ... غير ما في جفون ليلى وجسمي
ناضلتني يوم الكثيب ولكن ... أين من وقع سهمها وقع سهمي
لي منها حظّا عتاب وإعتا ... ب هما معنيا سروري وهمي
- 168-
أحمد بن محمد بن سعيد بن عبيد الله بن أحمد بن سعيد بن أبي مريم، أبو بكر القرشي الوراق، وراق ابي الحسن أحمد بن عمير بن جوصا الحافظ الدمشقي
: ويعرف بابن فطيس، قال ابن عساكر في «تاريخ دمشق» : ومات في شوّال سنة خمسين وثلاثمائة ومولده في رمضان سنة احدى وسبعين أو اثنتين وسبعين ومائتين وهو صاحب الخط الحسن المشهور، مولى جويرية بنت أبي سفيان. روى الحديث عن جماعة من أهل الشام.
قال ابن عساكر [1] وقد ذكره عبد العزيز الكناني وقال: كان ثقة مأمونا يورّق للناس بدمشق، له خط حسن.
قال المؤلف: وإنما ذكرناه لما اشترطنا في أول الكتاب من ذكر أرباب الخطوط المنسوبة، فذكرناه لما وصفه به ابن عساكر من جودة الخط، وأما أنا فلم أر من خطه شيئا.
__________
[168]- ترجمة ابن فطيس في مصورة تاريخ ابن عساكر 2: 172 (وتهذيب ابن عساكر 2: 55 ومختصر ابن منظور 3: 262) والوافي 7: 403.
[1] لم يرد هذا في مصورة ابن عساكر.(1/474)
محتويات الجزء الأوّل
الموضوع الصفحة
مقدمة المحقق أ
[مقدمة المؤلف] 5
[خطبة الكتاب] 5
الفصل الأول: في فضل الأدب وأهله وذم الجهل وحمله 16
فصل ثان: في فضيلة علم الأخبار 30
[تراجم] حرف الألف 35
1- آدم بن أحمد بن أسد الهروي 35
2- أبان بن تغلب بن رياح الجريري 38
3- أبان بن عثمان بن يحيى اللؤلؤي 39
4- ابراهيم بن أحمد بن توزون الطبري 39
5- ابراهيم بن أحمد بن الليث الأزدي 40
6- ابراهيم بن إسحاق الحربي 41
7- ابراهيم بن اسحاق اللغوي 51
8- ابراهيم بن اسماعيل ابن الأجدابي 51
9- ابراهيم بن السري بن سهل الزجاج 51
10- ابراهيم بن سعدان بن حمزة الشيباني 63
11- ابراهيم بن سعيد بن الطيب الرفاعي 65
12- ابراهيم بن سفيان الزيادي 67(1/475)
13- ابراهيم بن سليمان بن عبد الله النهمي 68
14- ابراهيم بن صالح الوراق 69
15- ابراهيم بن أبي عباد اليمني 70
16- إبراهيم بن العباس الصولي 70
17- إبراهيم بن عبد الله النجيرمي 87
18- إبراهيم بن عبد الله الغزال 89
19- إبراهيم بن عبد الرحيم العروضي 89
20- إبراهيم بن عثمان ابن الوزان القيرواني 89
21- إبراهيم بن علي الفارسي 90
22- إبراهيم بن عقيل بن جيش ابن المكبري 91
23- إبراهيم بن الفضل الهاشمي 92
24- إبراهيم بن قطن المهري القيرواني 93
25- إبراهيم بن ماهويه الفارسي 93
26- إبراهيم بن محمد بن الحارث الفزاري 93
27- إبراهيم بن محمد بن سعدان بن المبارك 97
28- إبراهيم بن القاسم، الرقيق 97
29- إبراهيم بن محمد ابن المدبر 102
30- إبراهيم بن محمد بن سعيد الثقفي 104
31- إبراهيم بن محمد بن أبي عون 106
32- إبراهيم بن محمد نفطويه 114
33- إبراهيم بن محمد الكلابزي 122
34- ابراهيم بن محمد الزهري، ابن الافليلي 123
35- إبراهيم بن محمد بن محمد الشريف 125
36- إبراهيم بن محمد بن إبراهيم النسوي 127
37- إبراهيم بن مسعود بن حسان، الوجيه الصغير 127(1/476)
38- إبراهيم بن محمد بن حيدر نظام الدين الخوارزمي 128
39- إبراهيم بن ممشاذ المتوكلي الأصبهاني 128
40- إبراهيم بن موسى الواسطي 131
41- إبراهيم بن هلال بن زهرون، أبو إسحاق الصابي 131
42- إبراهيم بن علي الحصري القيرواني 158
43- إبراهيم بن يحيى بن المبارك اليزيدي 160
44- الأثرم الفابجاني الأصبهاني 163
45- أحمد بن أبان بن سيد الأندلسي 164
46- أحمد بن إبراهيم ابن حمدون النديم 164
47- أحمد بن إبراهيم بن أبي عاصم اللؤلؤي 171
48- أحمد بن إبراهيم بن محمد الفارسي المقرىء 173
49- أحمد بن إبراهيم بن معلّى العمّي 174
50- أحمد بن إبراهيم الضبي، الكافي الأوحد 175
51- أحمد بن إبراهيم أبو رياش 181
52- أحمد بن إبراهيم الأديبي الخوارزمي 185
53- أحمد بن إبراهيم بن محمد السجزي 187
54- أحمد بن إبراهيم، ابن الجزار القيرواني 187
55- أحمد بن أحمد بن أخي الشافعي 188
56- أحمد بن اسحاق بن البهلول التنوخي 188
57- أحمد بن اسحاق يعرف بالجفر 199
58- أحمد بن اسماعيل بن سمكة 199
59- أحمد بن اسماعيل، نطّاحة 199
60- أحمد بن أبي الأسود القيرواني 201
61- أحمد بن أعثم الكوفي المؤرخ 202
62- أحمد بن بختيار بن علي الماندائي 202(1/477)
63- أحمد بن أمية بن أبي أمية 203
64- أحمد بن بشر بن علي التجيبي 204
65- أحمد بن بكران بن الحسين الزجاج 204
66- أحمد بن بكر العبدي 204
67- أحمد بن أبي بكر الخاوراني 205
68- أحمد بن جعفر الدينوري 206
69- أحمد بن جعفر، جحظة 207
70- أحمد بن جميل بن الحسن 226
71- أحمد بن حاتم أبو نصر الباهلي 226
72- أحمد بن الحارث بن المبارك الخراز 228
73- أحمد بن الحسن بن اسماعيل السكوني 231
74- أحمد بن الحسين بن القاسم الفلكي 231
75- أحمد بن الحسن بن محمد الديناري 232
76- أحمد بن الحسين يعرف بابن شقير 232
77- أحمد بن الحسين بن مهران النيسابوري 233
78- أحمد بن الحسين، بديع الزمان الهمذاني 234
79- أحمد بن الحسين بن عبيد الله الغضاري 253
80- أحمد بن خالد أبو سعيد الضرير البغدادي 253
81- أحمد بن داود، أبو حنيفة الدينوري 258
82- أحمد بن رشيق الأندلسي 261
83- أحمد بن رضوان أبو الحسن النحوي 262
84- أحمد بن زهير أبي خيثمة النسائي 262
85- أحمد بن سعد أبو الحسين الكاتب 263
86- أحمد بن سعيد بن عبد الله الدمشقي 266
87- أحمد بن سعيد بن شاهين البصري 267(1/478)
88- أحمد بن سعيد بن حزم الصدفي 268
89- أحمد بن سليمان الطوسي 269
90- أحمد بن سليمان بن وهب 269
91- أحمد بن سليمان المعبدي 273
92- أحمد بن سهل البلخي 274
93- أحمد بن الصنديد العراقي 282
94- أحمد بن أبي طاهر طيفور 282
95- أحمد بن الطيب السرخسي 287
96- أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم الزهري 292
97- أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة 293
98- أحمد بن عبد الملك المعبدي 294
99- أحمد بن عبد الله بن أحمد الفرغاني 294
100- أحمد بن عبد الله بن بدر القرطبي 295
101- أحمد بن عبد الله بن سليمان، أبو العلاء المعري 295
102- أحمد بن عبد الرحمن بن نخيل الحميري 356
103- أحمد بن عبد الله المهاباذي 357
104- أحمد بن عبد السيد، ابن الأشقر 357
105- أحمد بن عبد الملك ابن شهيد 358
106- أحمد بن عبد الملك بن علي النيسابوري 359
107- أحمد بن عبد الوهاب بن هبة الله، مؤدب الخلفاء 360
108- أحمد بن عبيد بن ناصح بن بلنجر 361
109- أحمد بن عبيد الله، ابن عمار حمار العزير 364
110- أحمد بن عبد الله الكلوذاني، ابن قرعة 368
111- أحمد بن عبيد الله بن الحسن بن شقير 368
112- أحمد بن علي بن يحيى المنجم 369(1/479)
113- أحمد بن علي الميموني البرزندي 369
114- أحمد بن علي بن وصيف، ابن خشكنانجة 369
115- أحمد بن علي القاساني، ابن لوه 370
116- أحمد بن علي بن هارون المنجم 372
117- أحمد بن علي أبو الحسن البتي 373
118- أحمد بن علي بن محمد، ابن الشرابي 380
119- أحمد بن علي بن خيران، ولي الدولة 380
120- أحمد بن علي، أبو بكر الخطيب 384
121- أحمد بن علي بن قدامة، قاضي الأنبار 396
122- أحمد بن علي بن عمر بن سوار 396
123- أحمد بن علي بن مخلد البيادي 398
124- أحمد بن علي بن محمد البيهقي، بوجعفرك 398
125- أحمد بن علي، ابن الزبير الأسواني 399
126- أحمد بن علي الصفاري الخوارزمي 405
127- أحمد بن علي بن المعمر، أبو عبد الله النقيب 406 127 ب- أحمد بن علي بن علويه الأصبهاني 407
128- أحمد بن عمر البصري 409
129- أحمد بن عمران بن سلامة الألهاني 409
130- أحمد بن فارس بن زكريا 410
131- أحمد بن الفضل بن شبانة الهمذاني 418
132- أحمد بن الفضل بن محمد الباطرقاني 419
133- أحمد بن كامل بن شجرة 420
134- أحمد بن كليب النحوي 422
135- أحمد المحرر، يعرف بالأحول 429
136- أحمد بن محمد بن حميد العدوي الجهمي 430(1/480)
137- أحمد بن محمد بن خالد البرقي 431
138- أحمد بن محمد بن يوسف الأصبهاني 432
139- أحمد بن محمد بن أبي محمد اليزيدي 434
140- أحمد بن محمد بن عبد الكريم 436
141- أحمد بن محمد بن ثوابة 436
142- أحمد بن علي بن المأمون 448
143- أحمد بن أبي عمر المقرىء الأندرابي 453
144- أحمد بن محمد بن بشر المرثدي 453
145- أحمد بن محمد بن عاصم الحلواني 454
146- أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي 454
147- أحمد بن محمد بن سليمان 455
148- أحمد بن محمد المهلبي 455
149- أحمد بن محمد بن نصر الجيهاني 455
150- أحمد بن محمد بن يزداد الطبري 457
151- أحمد بن محمد بن عبد الله، صاحب ثعلب 457
152- أحمد بن محمد جراب الدولة 459
153- أحمد بن محمد الهمذاني، ابن الفقيه 459
154- أحمد بن محمد، أبو العباس ابن ولاد 460
155- أحمد بن محمد البشتي الخارزنجي 461
156- أحمد بن محمد بن أبي خميصة الحرمي 462
157- أحمد بن محمد بن موسى 462
158- أحمد بن محمد بن عبد الله الزردي 463
159- أحمد بن محمد ابن عبد ربه الأندلسي 463
160- أحمد بن محمد، أبو جعفر النحاس 468
161- أحمد بن محمد بن حمادة 470(1/481)
162- أحمد بن محمد بن عبد الله بن هارون 470
163- أحمد بن محمد بن أحمد الأسلمي 471
164- أحمد بن محمد بن أحمد العروضي 471
165- أحمد بن عبد محمد التاريخي 472
166- أحمد بن محمد بن موسى الرازي المؤرخ 472
167- أحمد بن محمد بن فرج الجياني 473
168- أحمد بن محمد بن سعيد وراق ابن جوصا 474(1/482)
[الجزء الثاني]
[تتمة حرف الالف]
بسم الله الرحمن الرحيم*
[- 169-]
أحمد بن محمد بن الفضل بن جعفر بن محمد
بن الجراح، أبوبكر الخزاز: سمع أبا بكر ابن دريد وأبا بكر ابن السراج وأبا بكر ابن الانباري وروى كثيرا من مصنفاتهم، ومات في سنة احدى وثمانين وثلاثمائة. ومكان ثقة حسن الأدب والخط والاتقان والضبط، فاضلا أديبا كثير الكتب، حسن الحال ظاهر الثروة. روى عنه القاضي أبو العلاء الواسطي والصيمري والتنوخي وأبو الحسين هلال بن المحسن وأولاد الصابىء كلهم كثيرا من كتب الأدب متصلة الرواية إلى الآن، وقد روى شيخنا تاج الدين أبو اليمن من طريقه عدة كتب أدبية.
قال أبو القاسم التنوخي: سمعت ابن الجراح يقول: كتبي بعشرة آلاف درهم ودوابّي بعشرة آلاف درهم، [وسلامي بعشرة آلاف درهم] . قال التنوخي: وكان أحد الفرسان يلبس أداته ويركب فرسه ويخرج إلى الميدان ويطارد الفرسان.
[- 170-]
أحمد بن محمد بن أحمد بن الحسن بن سعيد
، أبو علي الاصبهاني المقرىء: سكن دمشق وصنف تصانيف في القراءات، وقرأ القرآن على أبي القاسم زيد بن علي بن أحمد بن أبي بلال الكوفي وأبي بكر النقاش وأبي العباس الحسن بن
__________
[169]- تاريخ بغداد 5: 81 والوافي 8: 80.
[170]- تاريخ ابن عساكر (ط) 7: 161 (مصورة 2: 88) وتهذيب ابن عساكر 1: 445 (ولم يرد في مختصر ابن منظور) وطبقات الجزري 1: 101 والوافي 7: 307.(2/483)
سعيد الفارسي وأبي عبد الله صالح بن مسلم بن عبيد الله المقرىء وأبي الفتح المظفر بن أحمد بن إبراهيم بن برهان، وسمع بدمشق أبا محمد عبد الله بن عطية وعبد الوهاب بن الحسن الكلابي والحسين بن علي [بن عبيد الله الرهاوي وروى عنه] أبو القاسم ابن الفرات وأبو نصر ابن الجبّان، ومات سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة بدمشق في شهر ربيع الآخر، وكان لجنازته مشهد عظيم.
[- 171-]
أحمد بن محمد بن هاشم بن خلف بن عمرو بن سعيد
بن عثمان بن سلمان بن سليمان القيسي القرطبي الأعرج: يكنى أبا عمر، سمع محمد بن عمر بن لبابة وأسلم بن عبد العزيز وأحمد بن خالد، ومال إلى النحو وغلب عليه وأدب به، وكان وقورا مهيبا لا يقدم [أحد] عليه ولا عنده بالهزل «1» ، وكان يلقب بالقاضي لوقاره، مات سنة خمس وأربعين وثلاثمائة قال ابن الفرضي: ذكره محمد بن حسن «2» .
[- 172-]
أحمد بن محمد بن جعفر بن ثوابة
، يكنى أبا عبد الله: أحد البلغاء الفهماء وأرباب الاتساع في علم البلاغة، ولي ديوان الرسائل بعد أبيه محمد بن جعفر في سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة في أيام المقتدر، ولم يزل على ديوان الرسائل إلى أن مات وهو متوليه في أيام معز الدولة في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة، فولي ديوان الرسائل بعده أبو إسحاق الصابىء.
حدث أبو الحسين علي بن هشام الكاتب قال، سمعت الوزير أبا الحسن علي بن عيسى يقول لأبي عبد الله أحمد بن محمد بن محمد «3» بن جعفر بن ثوابة: ما
__________
[171]- طبقات الزبيدي: 299 وابن الفرضي 1: 55 والوافي 8: 93 وبغية الوعاة 1: 385.
[172]- ترجمة ابن ثوابة في الوافي 7: 370.(2/484)
قال «أما بعد» أحد على وجه الأرض أكتب من جدك، وكان أبوك أكتب منه، وأنت أكتب من أبيك.
قال أبو علي المحسن التنوخي: وقد رأيت أنا أبا عبد الله هذا في سنة تسع وأربعين «1» وإليه ديوان الرسائل، وكان نهاية في حسن الكلام والكتبة.
[- 173-]
أحمد بن محمد بن الفضل الأهوازي
، يعرف بابن كثير: صاحب بلاغة وفضل، ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: له من الكتب كتاب مناقب الكتّاب.
[- 174-]
أحمد بن محمد الافريقي المعروف بالمتيم
أبو الحسن: أحد الأدباء الفضلاء الشعراء، له من التصانيف كتاب الشعراء الندماء. كتاب الانتصار المنبي عن فضل المتنبي، وغير ذلك، وله ديوان شعر كبير.
قال الثعالبي: رأيته ببخارى شيخا رثّ الهيئة تلوح عليه سيماء الحرفة، وكان يتطبب وينجّم، فأما صناعته التي يعتمد عليها فالشعر، ومما أنشدني لنفسه:
وفتية أدباء ما علمتهم ... شبهتهم بنجوم الليل إذ نجموا
فرّوا إلى الراح من خطب يلمّ بهم ... فما درت نوب الأيام ابن هم
قال وأنشدني أيضا لنفسه:
تلوم على تركي الصلاة حليلتي ... فقلت اعزبي عن ناظري أنت طالق
فو الله لا صلّيت لله مفلسا ... يصلّي له الشيخ الجليل وفائق
لماذا أصلي ابن باعي ومنزلي ... وأين خيولي والحلى والمناطق
أصلي ولا فتر من الارض تحتوي ... عليه يميني إنني لمنافق
__________
[173]- ترجمة ابن كثير في الفهرست: 155.
[174]- ترجمة المتيم في اليتيمة 4: 157 والوافي 8: 156 والفوات 1: 150 والزركشي: 62.(2/485)
بلى إن عليّ الله وسَّع لم أزل ... أصلّي له ما لاح في الجو بارق
وله في تركي:
قلبي أسير في يدي مقلة ... تركية ضاق لها صدري
كأنها من ضيقها عروة ... ليس لها زرّ سوى السحر
[- 175-]
أحمد بن محمد بن إبراهيم بن الخطاب
الخطابي أبو سليمان: من ولد زيد بن الخطاب أخي عمر بن الخطاب، كذا ذكر أبو عبيد الهروي وكان تلميذه، وأبو منصور الثعالبي وكان صديقه. مات الخطابي فيما ذكره عبد الرحمن بن عبد الجبار الفامي الهروي في «تاريخ هراة» من تصنيفه (وسماه حمدا) في سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة ومولده في رجب سنة تسع عشرة وثلاثمائة.
نقلت من خط أبي سعد السمعاني قال: نقلت من خط الشيخ ابن عمر: توفي الامام أبو سليمان الخطابي ببست في رباط على شاطىء هندمند يوم السبت السادس عشر من شهر ربيع الآخر سنة ست وثمانين وثلاثمائة. وذكر أبو الفرج عبد الرحمن بن الجوزي في «كتاب المنتظم» أنه توفي سنة تسع وأربعين وثلاثمائة وهذا ليس بشيء.
قال السمعاني: كان الخطابي حجّة صدوقا، رحل إلى العراق والحجاز، وجال في خراسان، وخرج إلى ما وراء النهر، وكان يتجر في ماله الحلال، وينفق على الصّلحاء من إخوانه.
وقد ذكره الثالبي في «كتاب يتيمة الدهر» وقال: كان يشبّه في زماننا بأبي عبيد القاسم بن سلام.
__________
[175]- ترجمة الخطابي في اليتيمة 4: 334 وإنباه الرواة 1: 125 والمنتظم 6: 367 وتذكرة الحفاظ: 1018 وسير الذهبي 17: 23 والعبر 3: 39 والبداية والنهاية 11: 236 وطبقات السبكي 3: 282 والوافي 7: 317 والشذرات 3: 127 وخزانة الأدب 1: 282 وبغية الوعاة 1: 546 (حمد) والأنساب (الخطابي) والنجوم الزاهرة 4: 199 (ويعتمد ياقوت على السمعاني والثعالبي والمنتظم وشرح مقدمة السنن للسلفي وتاريخ نيسابور للحاكم وغير ذلك) وسيترجم له ياقوت باسم «حمد» رقم:
428.(2/486)
وذكره الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد بن أحمد السلفي في «شرح مقدمة كتاب معالم السنن» له فقال: وذكر الجمّ الغفير والعدد الكثير أن اسمه حمد، وهو الصواب وعليه الاعتماد.
قال المؤلف: وإنما ذكرته أنا في هذا الباب لأن الثعالبي وأبا عبيد الهروي وكانا معاصريه وتلميذيه سمياه أحمد «1» وقد سماه الحاكم ابن البيّع في «كتاب نيسابور» حمدا، وجعله في باب من اسمه حمد؛ وذكر أبو سعد السمعاني في «كتاب مرو» :
سئل أبو سليمان عن اسمه فقال: اسمي الذي سمّيت به حمد، لكنّ الناس كتبوه أحمد، فتركته عليه. قال: ورثاه أبو بكر عبد الله بن إبراهيم الحنبلي ببست في شعر فسماه حمدا فقال:
وقد كان حمدا كاسمه حمد الورى ... شمائل فيها للثناء ممادح
خلائق ما فيها معاب لعائب ... إذا ذكرت يوما فهن مدائح
تغمّده الله الكريم بعفوه ... ورحمته والله عاف وصافح
ولا زال ريحان الإله وروحه ... قرى روحه ما حنّ في الأيك صادح
قال: وقد أخذ العلم عن كثير من أهله، ورحل في طلب الحديث، وطوّف وألف في فنون من العلم وصنّف، وأخذ الفقه عن أبي بكر القفال الشاشي وأبي علي ابن أبي هريرة ونظرائهما من فقهاء أصحاب الشافعي.
ومن تصانيفه: كتاب معالم السنن في شرح كتاب السنن لابي داود. كتاب غريب الحديث «2» ذكر فيه ما لم يذكره أبو عبيد ولا ابن قتيبة في كتابيهما، وهو كتاب ممتع مفيد، رواه عنه أبو الحسين عبد الغافر بن محمد بن عبد الغافر الفارسي ثم النيسابوري. كتاب تفسير أسامي الرب عزّ وجل. شرح الأدعية المأثورة. كتاب شرح البخاري. كتاب العزلة «3» . كتاب إصلاح الغلط. كتاب العروس. كتاب أعلام(2/487)
الحديث. كتاب الغنية عن الكلام. كتاب شرح دعوات لابن خزيمة.
ومن شيوخ الخطابي في الأدب وغيره إسماعيل الصفار وأبو عمر الزاهد وأبو العباس الأصم وأحمد بن سليمان النجار وأبو عمرو السماك ومكرم القاضي وجعفر الخلدي، كل هؤلاء بغداديون، وبها كتب عنهم، سوى الأصم فإنه نيسابوري عالي الاسناد جدا، وروى عنه خلق منهم عبد بن أحمد بن عفير الهروي وأبو مسعود الحسن بن محمد الكرابيسي البستي، روى عنه ببست، وأبو بكر محمد بن الحسن المقرىء، روى عنه بغزنة، وأبو الحسن علي بن الحسن الفقيه السجزي، روى عنه بسجستان، وأبو عبد الله محمد بن علي بن عبد الله «1» الفسوي، روى عنه بفارس، وآخرون. وقد روى عنه الامام الفقيه أبو حامد الاسفرايني فقيه العراق والحاكم أبو عبد الله محمد بن البيع النيسابوري، روى عنه بخراسان. وقد حدث عنه أبو عبيد الهروي في «كتاب الغريبين» .
وأنشد أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي لأبي سليمان الخطابي في «اليتيمة» «2» أشعارا منها:
وما غربة الانسان في شقّة النوى ... ولكنّها والله في عدم الشكل
وإني غريب بين بست وأهلها ... وإن كان فيها أسرتي وبها أهلي
ولأبي منصور الثعالبي في الخطابي شعر منه:
أبا سليمان سر في الأرض أو فأقم ... فأنت عندي دنا مثواك أو شطنا
ما أنت غيري فأخشى أن تفارقني ... فديت روحك بل روحي فأنت أنا
نقلت من خط أبي سعد السمعاني أنبأنا اسماعيل بن أحمد الحافظ أنبأنا أبو القاسم سعد بن علي بن محمد الريحاني إذنا أنبأنا أبو سعد «3» الخليل بن محمد الخطيب قال: كنت مع أبي سليمان الخطابي فرأى طائرا على شجرة، فوقف ساعة يستمع ثم أنشأ يقول:
يا ليتني كنت ذاك الطائر الغردا ... من البرية منحازا ومنفردا(2/488)
في غصن بان زهته الريح تخفضه ... طورا وترفعه أفنانه صعدا
خلو الهموم سوى حبّ تلمّسه ... في الترب أو نغبة يروي بها كبدا
ما إن يؤرقه فكر لرزق غد ... ولا عليه حساب في المعاد غدا
طوباك من طائر طوباك ويحك طب ... من كان مثلك في الدنيا فقد سعدا
وحدث أبو بكر محمد بن علي بن الحسن بن البراغوثي اللغوي فيما ذكره السلفي قال: أنشدني أبو منصور الثعالبي بنيسابور للخطابي يقوله في الثعالبي:
قلبي رهين بنيسابور عند أخ ... ما مثله حين تستقرى البلاد أخ
له صحائف أخلاق مهذبة ... منها التقى والنهى والحلم ينتسخ
قال أبو طاهر السلفي: وقلت أنا فيه في سنة خمسين وخمسمائة لشغفي بتآليفه، ورغبتي في تحصيل تصانيفه:
ظنّ هذا الخطّاء في الخطابي ... شيخ أهل العلوم والآداب
من على كتبه اعتماد ذوي الفضل ... ومن قوله كفصل الخطاب
أن يحوز الفردوس اذ أتعب النفس ... لذي العرش غاية الاتعاب
وتعنّى في الأخذ جدا وفي التصنيف ... من بعد رغبة في الثواب
نضر الله وجهه من إمام ... ألمعيّ أتى بكلّ ثواب
ولعمري قد فاز بالرّوح والريحان ... من غير شبهة وارتياب
فلقد كان شمس متّبعي الشرع ... على الزائغين سوط عذاب
وللسلفي فيه أشعار غير هذا في نهاية الضعف والسقط كما ترى «1» ، ومن شعره في اليتيمة «2» :(2/489)
وليس اغترابي في سجستان أنني ... عدمت بها الإخوان والدار والأهلا
ولكنني «1» ما لي بها من مشاكل ... وإن الغريب الفرد من يعدم الشكلا
وله:
شرّ السباع العوادي دونه وزر ... والناس شرهم ما دونه وزر
كم معشر سلموا لم يؤذهم سبع ... وما ترى بشرا لم يؤذه بشر
ومنه أيضا:
ما دمت حيا فدار الناس كلّهم ... فإنما أنت في دار المداراة
من يدر دارى ومن لم يدر سوف يرى ... عما قليل نديما للندامات
ومنه أيضا:
وقائل ورأى من حجبتي عجبا ... كم ذا التواري وأنت الدهر محجوب
فقلت حلّت نجوم السعد «2» منذ بدا ... نجم المشيب ودين الله مطلوب
فلذت من وجل بالاستتار عن الأبصار إنّ غريم الموت مرهوب ومنه أيضا:
تغنّم سكون الحادثات فإنها ... وإن سكنت عما قليل تحرّك
وبادر بأيام السلامة إنها ... رهون وهل للرّهن عندك مترك
ومنه أيضا:
تسامح ولا تستوف حقّك كلّه ... وأبق فلم يستقص قطّ كريم
ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد ... كلا طرفي قصد الأمور ذميم «3»
وقال أبو القاسم الداودي الهروي، قال الثعالبي له في مرثية الخطابي رحمه الله:
انظروا كيف تخمد الأنوار ... انظروا كيف تسقط الأقمار
انظروا هكذا تزول الرواسي ... هكذا في الثرى تغيض البحار(2/490)
[- 176-]
أحمد بن محمد بن عبد الرحمن أبو عبيد الهروي الباشاني
: المؤدب صاحب «كتاب غريبي القرآن والحديث» والسابق إلى الجمع بينهما في علمنا. قرأ على جماعة منهم أبو سليمان الخطابي وكان اعتماده وشيخه الذي يفتخر به أبا منصور محمد بن أحمد الأزهري صاحب كتاب «التهذيب في اللغة» . مات أبو عبيد هذا فيما ذكره المليحي سنة إحدى وأربعمائة في رجبها. روى عنه «كتاب الغريبين» أبو عمرو عبد الواحد بن أحمد المليحي وأبو بكر محمد بن إبراهيم بن أحمد الأردستاني، وله من الكتب: كتاب الغريبين. كتاب ولاة هراة.
[- 177-]
أحمد بن محمد بن عبد الله بن يوسف بن محمد بن مالك
السهلي الأديب، أبو الفضل العروضيّ الصفّار الشافعي: ذكره عبد الغافر في «السياق» فقال: مات بعد سنة ست عشرة وأربعمائة ومولده سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة. وهو شيخ أهل الأدب في عصره، حدّث عن الأصم والكازرلي وأبي الفضل المزكي وأبي منصور الأزهري وأقرانهم، وتخرج به جماعة من الأئمة منهم علي بن أحمد الواحدي وغيره.
وذكره أبو منصور الثعالبي فقال: إمام في الأدب، خنّق التسعين في خدمة الكتب، وأنفق عمره على مطالعة العلوم وتدريس مؤدبي نيسابور وإحراز الفضائل والمحاسن، وهو القائل في صباه:
__________
[176]- نسبه عند ابن خلكان وغيره أحمد بن محمد بن محمد بن أبي عبيد (وفي م: أحمد بن محمد بن عبد الرحمن ... ) الهروي الباشاني (أو الفاشاني) نسبة إلى فاشان إحدى قرى هراة؛ واستدرك ابن خلكان بقوله: ورأيت على ظهر كتابه «الغريبين» أنه أحمد بن محمد بن عبد الرحمن، والله أعلم.
انظر ابن خلكان 1: 95 وعبر الذهبي 3: 75 وطبقات السبكي 4: 84 والشذرات 3: 161 والوافي 8: 114 وروضات الجنات 1: 241.
[177]- ترجمته في السياق (المنتخب 2) : 24 وتتمة اليتيمة 2: 23- 24.(2/491)
أوفى على الديوان بدر الدجى ... فسل نجوم السعد ما حظّه
أخدّه أملح أم خطّه «1» ... ولحظه أفتن أم لفظه
قال: وأنشدني لنفسه:
لعزة الفضة المبرّه ... أودعها الله قلب صخره
حتى إذا النار أخرجتها ... بألف كدّ وألف كرّه
أودعها الله كفّ وغد ... أقسى من الصخر ألف مره
[- 178-]
أحمد بن محمد بن أحمد بن سلمة بن شرام الغساني:
أحد النحاة المشهورين بالشام، صحب أبا القاسم الزجاجي وأخذ عنه وكتب تصانيفه، وكان جيد الخطّ والضبط صحيح الكتابة، وجدت خطّه في «كتاب أمالي الزجاجي» وقد فرغ من كتابتها في سنة ست وأربعين وثلاثمائة.
ذكره أبو القاسم «2» فقال: أحمد بن محمد بن أحمد بن سلمة أبو بكر بن أبي العباس الغساني المعروف بابن شرّام النحوي، سمع أبا بكر الخرائطي وأبا الدحداح أحمد بن محمد بن إسماعيل التميمي وأبا الحسن أحمد بن جعفر بن محمد الصيدلاني وعبد الغافر بن سلامة الحمصي وأبا القاسم عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجي وأبا بكر أحمد بن محمد بن سعيد بن عبيد الله بن فطيس والحسن بن حبيب الحظائري «3» وأبا الطيب أحمد بن إبراهيم بن عبادل الشيباني وإبراهيم بن محمد بن أبي ثابت وأبا علي
__________
[178]- ترجمة ابن شرام في إنباه الرواة 1: 104 (ابن سرام- بالسين المهملة) والوافي 7: 328 وبغية الوعاة 1: 357 ويعتمد ياقوت على تاريخ ابن عساكر (ط) 7: 162- 163 (تهذيب ابن عساكر 1: 445، وفيه بن أبي شرام) .(2/492)
محمد بن القاسم بن أبي نصر. روى عنه رشأ بن نظيف وأبو بكر أحمد بن الحسن بن أحمد بن الطبال «1» وأبو الحسن الربعي وأبو نصر ابن الجبان. قال ابن الأكفاني:
رأيت في كتاب عتيق: توفي أبو بكر ابن شرام يوم الثلاثاء لعشر خلون من شعبان سنة سبع وثمانين وثلاثمائة.
[- 179-]
أحمد بن محمد بن الحسن الخلال الوراق الأديب
: صاحب الخط المليح الرائق، والضبط المتقن الفائق، أظنه ابن أبي الغنائم الأديب، وقد ذكرنا في باب علي بن محمد آخر ونراه أخا هذا، والله أعلم. وجدت بخطه على كتاب قد كتبه في سنة خمس وستين وثلاثمائة ...
[- 180-]
أحمد بن محمد بن يعقوب الملقب مسكويه
، أبو علي الخازن صاحب «التجارب» : مات فيما ذكره يحيى بن منده في تاسع صفر سنة إحدى وعشرين وأربعمائة.
قال أبو حيان في: «كتاب الأمتاع» «2» وقد ذكر طائفة من متكلمي زمانه، ثم قال: وأما مسكويه ففقير بين أغنياء، وعييّ بين أبيناء، لأنه شاذ، وإنما أعطيته في هذه الأيام «صفو الشرح» لا يساغوجي وقاطيغورياس من تصنيف صديقنا بالريّ، قال الوزير: ومن هو؟ قلت: أبو القاسم الكاتب غلام أبي الحسن العامري، وصحّحه
__________
[179]- لم أجد له ترجمة.
[180]- ترجمة مسكويه في تتمة اليتيمة 1: 96 وتاريخ الحكماء: 331 وعيون الأنباء 1: 245 والوافي 8: 109 وروضات الجنات 1: 254.(2/493)
معي، وهو الآن لائذ بابن الخمار، وربما شاهد أبا سليمان المنطقي، وليس له فراغ لكنه محسّ في هذا الوقت للحسرة التي لحقته مما فاته من قبل، فقال: يا عجبا لرجل صحب ابن العميد أبا الفضل ورأى ما عنده، وهذا حظه، قلت: قد كان هذا، ولكنه كان مشغولا بطلب الكيمياء مع أبي الطيب الكيميائي الرازي، مملوك الهمة في طلبه والحرص على إصابته، مفتونا بكتب أبي زكريا وجابر بن حيان، ومع هذا كان إليه خدمة صاحبه في خزانة كتبه، هذا مع تقطيع الوقت في الحاجات الضرورية والشهوية، والعمر قصير، والساعات طائرة، والحركات دائمة، والفرص بروق تأتلق، والأوطار في عرضها تجتمع وتفترق، والنفوس على فوائتها تذوب وتحترق. ولقد قطن العامريّ الريّ خمس سنين ودرّس وأملى وصنّف وروى فما أخذ عنه مسكويه كلمة واحدة، ولا وعى مسألة، حتى كأنه كان بينه وبينه سد، ولقد تجرّع على هذا التواني الصاب والعلقم، ومضغ بفمه «1» حنظل الندامة في نفسه، وسمع بأذنه قوارع الملامة من أصدقائه حين لم ينفع ذلك كله، وبعد هذا فهو ذكيّ، حسن الشعر، نقيّ اللفظ، وإن بقي عساه أن يتوسّط هذا الحديث، وما أرى ذلك مع كلفه بالكيمياء، وإنفاق زمانه وكدّ بدنه وقلبه في خدمة السلطان، واحتراقه في البخل بالدانق والقيراط والكسرة والخرقة، نعوذ بالله من مدح الجود باللسان، وإيثار الشحّ بالفعل، وتمجيد الكرم بالقول ومفارقته بالعمل.
قال أبو منصور الثعالبي «2» : كان في الذروة العليا من الفضل والأدب والبلاغة والشعر، وكان في ريعان شبابه متصلا بابن العميد مختصّا به، وفيه يقول:
لا يعجبنّك حسن القصر تنزله ... فضيلة الشمس ليست في منازلها
لو زيدت الشمس في أبراجها مائة ... ما زاد ذلك شيئا في فضائلها
ثم تنقلت به أحوال جليلة في خدمة بني بويه والاختصاص ببهاء الدولة، وعظم شأنه وارتفع مقداره، فترفع عن خدمة الصاحب ولم ير نفسه دونه، ولم يخل من نوائب الدهر حتى قال ما هو متنازع بينه وبين نفر من الفضلاء:(2/494)
من عذيري من حادثات الزمان ... وجفاء الإخوان والخلان
قال: وله قصيدة في عميد الملك تفنّن فيها، وهنأه باتفاق الأضحى والمهرجان في يوم، وشكا سوء أثر الهرم وبلوغه إلى أرذل العمر:
قل للعميد عميد الملك والأدب ... اسعد بعيديك عيد الفرس والعرب
هذا يشير بشرب ابن الغمام ضحى ... وذا يشير عشيا بابنة العنب
خلائق خيّرت في كلّ صالحة ... فلو دعاها لغير الخير لم تجب
أعدن شرخ شباب لست أذكره ... بعدا وردّت عليّ العمر من كثب
فطاب لي هرمي والموت يلحظني ... لحظ المريب ولولا أنت لم يطب
فإن تمرّس بي خصم تعصّب لي ... وإن أساء إليّ الدهر أحسن بي
ومنها:
وقد بلغت الى أقصى مدى عمري ... وكلّ غربي واستأنست بالنوب
إذا تملأت من غيظ على زمني ... وجدتني نافخا في جذوة اللهب
ومنها:
وإن تمنيت عيش الدهر أجمعه ... وأن تعاين ما ولّى من الحقب
فانظر إلى سير القوم الذين مضوا ... والحظ كتابتهم من باطن الكتب
تجد تفاوتهم في الفضل مختلفا ... وإن تقاربت الأحوال في النسب
هذا كتاج على رأس يعظّمه ... وذاك كالشعر الجافي على الذنب
قال المؤلف: وكان مسكويه مجوسيا وأسلم، وكان عارفا بعلوم الأوائل معرفة جيدة، وله في ذلك: كتاب الفوز الأكبر. كتاب الفوز الأصغر. وصنف كتاب تجارب الأمم في التاريخ «1» ، ابتداؤه من بعد الطوفان وانتهاؤه إلى سنة تسع وستين وثلاثمائة.
وله كتاب أنس الفريد، وهو مجموع يتضمن أخبارا وأشعارا وحكما وأمثالا غير مبوب.(2/495)
وكتاب ترتيب العادات. وكتاب المستوفي أشعار مختارة. وكتاب الجامع. وكتاب جاوذان خرد «1» . وكتاب السير أجاده ذكر فيه ما يسير به الرجل نفسه من أمور دنياه، مزجه بالأثر والآية والحكمة والشعر «2» .
وللبديع الهمذاني إلى أبي علي مسكويه يعتذر من شيء بلغه عنه بعد مودة كانت بينهما «3» :
ويا عزّ إن واش وشى بي عندكم ... فلا تمهليه أن تقولي له مهلا
كما لو وشى واش بعزة عندنا ... لقلنا تزحزح لا قريبا ولا سهلا
بلغني- أطال الله بقاء الشيخ- أن قيضة كلب وافته بأحاديث لم يعرها الحقّ نوره، ولا الصدق ظهوره، وأن الشيخ أذن لها على حجاب أذنه، وفسح لها فناء ظنّه، ومعاذ الله أن أقولها، وأستجيز معقولها. بلى، قد كان بيني وبينه عتاب لا ينزع كتفه، ولا يجذب أنفه، وحديث لا يتعدّى إلى النفس وضميرها، ولا يعرف الشفة وسميرها، وعربدة كعربدة أهل الفضل لا تتجاوز الدّلال والإدلال، ووحشة يكشفها عيان لحظة، كعتاب جحظة «4» . فسبحان من ربّى هذا الأمر حتى صار إمرا «5» ، وتأبّط شرّا، وأوحش حرّا، وأوجب عذرا، بل سبحان من جعلني في حيّز العذر أشيم بارقته، وأستجلي صاعقته، أنا المساء إليه، والمجنيّ عليه، والمستخفّ به. لكن من بلي من الأعداء كما بليت، ورمي من الحسدة بما رميت، ووقف من الوجد والوحدة حيث وقفت، واجتمع عليه من المكاره ما وصفت، اعتذر مظلوما، وأحسن(2/496)
ملوما، وضحك مشتوما. ولو علم الشيخ عدد أبناء الحدد، وأولاد العدد «1» ، بهذا البلد، ممن ليس له همة إلا في شكاية أو حكاية أو سعاية أو نكاية، لضنّ بعشرة غريب إذا بدر، وبعيد إذا حضر، ولصان مجلسه عمّن لا يصونه عما رقي إليه؛ فهبني قلت ما حكي له: أليس الشاتم من أسمع؟ أليس الجاني من أبلغ؟ فقد بلغ من كيد هؤلاء القوم أنهم حين صادفوا من الأستاذ نفسا لا تستفزّ، وحبلا لا يهزّ، دسّوا إلى خدينه «2» بما حرّشوا به نارهم، وورد عليّ ما قالوه فما لبثت أن قلت:
فإن تك حرب بين قومي وقومها ... فإني لها في كلّ نائبة سلم
فليعلم الشيخ الفاضل أن في كبد الأعداء مني جمرة، وأن في أولاد الزنا عندنا كثرة، قصاراهم نار يشبّونها، أو عقرب يدبّونها، أو مكيدة يطلبونها، ولولا أن العذر إقرار بما قيل، وأكره أن أستقيل، لبسطت في الاعتذار شاذروانا، ودخلت في الاستقالة ميدانا. لكنه أمر لم أضع أوله فلا أتدارك آخره، وقد أبى الشيخ أبو محمد إلا أن يوصل هذا النثر الفاتر بنظم مثله، فهاكه يلعن بعضه بعضا:
مولاي إن عدت ولم ترض لي ... أن أشرب البارد لم أشرب
امتط خدّي وانتعل ناظري ... وصد بكفّي حمة العقرب
بالله ما أنطق عن كاذب ... فيك ولا أبرق عن خلّب
فالصفو بعد الكدر المفترى ... كالصحو بعد المطر الصيّب
إن أجتن الغلظة من سيدي ... فالشوك عند الثمر الطيب
أو ينفذ الزور على ناقد ... فالخمر قد تعصب بالثيّب «3»(2/497)
ولعلّ الشيخ أبا محمد يقوم من الاعتذار بما قعد عنه القلم والبيان فنعم رائد الفضل هو، والسلام:
(وجاء الجواب من أبي علي) :
وإذا الواشي أتى يسعى بها ... نفع الواشي بما جاء يضرّ
فهمت خطاب الشيخ الفاضل الأديب البارع الذي لو قلت إنه السحر الحلال والعذب الزلال لنقصته حظه، ولم أوفّه حقه. أما البلاغات «1» التي أومأ إليها فوالله ما أذنت لها ولا أذنت فيها، وما أذهبني عن هذه الطريقة وأبعدني عنها، وقد نزه الله لسانه عن الفحشاء وسمعي عن الإصغاء، وما يتخذ العدو بينهما مجالا؛ وأما الأبيات فقد تكلفت الجواب عنها لا مساجلة له، ولكن لأبلغ المجهود في قضاء حقه:
يا بارعا في الأدب المجتنى ... منه ضروب الثمر الطيب
لو قلت إنّ البحر مستغرق ... في بحرك الفياض لم أكذب
أحمدتني الشعر وأعتبتني ... فيه ولم أذمم ولم أعتب
والعذر يمحو ذنب فعّاله ... فكيف يمحوه ولم يذنب
أنا الذي آتيك مستغفرا ... من زلة لم تك من مذهبي
وأنت لا تمنع مستوهبا ... مالا فهب ذنبا لمستوهب
قال أبو حيان في «كتاب الوزيرين» «2» : فإن ابن العميد اتخذه خازنا لكتبه، وأراد أيضا أن يقدح ابنه به، ولم يكن من الصنائع المقصودة، والمهمات اللازمة، وكان يحتمل ذلك لبعض العزازة بظله والتظاهر بجاهه.
نسخة وصية أبي علي مسكويه «3»
: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما عاهد عليه أحمد بن محمد، وهو يومئذ آمن(2/498)
في سربه، معافى في جسمه، عنده قوت يومه، لا تدعوه إلى هذه المعاهدة ضرورة نفس ولا بدن، ولا يريد بها مراءاة مخلوق، ولا استجلاب منفعة، ولا دفع مضرة منهم: عاهده على أن يجاهد نفسه، ويتفقد أمره، فيعفّ ويشجع ويحكم، وعلامة عفته أن يقتصد في مآرب بدنه حتى لا يحمله الشره على ما يضرّ جسمه أو يهتك مروءته، وعلامة شجاعته أن يحارب دواعي نفسه الذميمة حتى لا تقهره شهوة قبيحة ولا غضب في غير موضعه، وعلامة حكمته أن يستبصر في اعتقاداته حتى لا يفوته بقدر طاقته شيء من العلوم والمعارف الصالحة، ليصلح أولا نفسه ويهذّبها، ويحصل له من هذه المجاهدة ثمرتها التي هي العدالة. وعلى أن يتمسك بهذه التذكرة ويجتهد في القيام بها والعمل بموجبها، وهي خمسة عشر بابا: إيثار الحق على الباطل في الاعتقادات، والصدق على الكذب في الأقوال، والخير على الشر في الأفعال، وكثرة الجهاد الدائم لأجل الحرب الدائمة بين المرء وبين نفسه، والتمسك بالشريعة ولزوم وظائفها، وحفظ المواعيد حتى ينجزها، وأول ذلك ما بيني وبين الله جلّ وعز، وقلة الثقة بالناس بترك الاسترسال، ومحبة الجميل لأنه جميل لا لغير ذلك، والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل، وحفظ الحال التي تحصل في شيء شيء حتى تصير ملكة ولا تفسد بالاسترسال، والإقدام على كل ما كان صوابا، والإشفاق على الزمان الذي هو العمر ليستعمل في المهمّ دون غيره، وترك الخوف من الموت والفقر لعمل ما ينبغي، وترك التواني، وترك الاكتراث لأقوال أهل الشرّ والحسد لئلا يشتغل بمقابلتهم، وترك الانفعال لهم، وحسن احتمال الغنى والفقر والكرامة والهوان لجهة وجهة، وذكر المرض وقت الصحة والهمّ وقت السرور والرضى عند الغضب ليقلّ الطغي والبغي، وقوة الأمل وحسن الرجاء والثقة بالله عز وجل وصرف جميع البال إليه.(2/499)
[- 181-]
أحمد بن محمد الصخري أبو الفضل
: قتل في أواخر سنة ست وأربعمائة، هكذا ذكر أبو محمد ابن أرسلان في «تاريخ خوارزم» وقال: هو أحد مفاخر خوارزم، أديب كامل، وعالم ماهر، وكاتب بارع، وشاعر ساحر.
قال أبو منصور الثعالبي في كتابه: له ظرف حجازي، وخطّ عراقي، وبلاغة جزلة سهلة، ومروءة ظاهرة، ومحاسن متظاهرة، وله شعر كثير يجمع فيه بين الإسراع والإبداع، ويأخذ بطرفي الإتقان والإحسان، ثم هو في الارتجال فرد الرجال، لسرعة خاطره، وسلامة طبعه، وحصول أعنّة القوافي في يده. وكان في عنفوان شبابه ألمّ بحضرة الصاحب إسماعيل بن عباد، فاقتبس من نورها، واغترف من بحورها، وانخرط في سلك أعيان أهل الفضل بها، وتزود من ثمارها، فحسن أثره، وطاب خبره، ورجع إلى أوطانه، وأقام بحضرة سلطانه، في أجلّة الكتّاب، ووجوه العمال، وهو الآن من أخصّ جلساء الأمير وأقرب ندمائه، وأفضل كتّابه وأجلّ شعرائه، ولا تكاد تخلو منه مجالس أنسه، ولا تتقشع عنه سحائب جوده، وما أكثر ما يقترح عليه الأشعار في المعاني البديعة فيتكفّل بها «1» ويفي، ويعلّقها «2» في الوقت والساعة بين يديه، ويعرضها عليه. وعهدي بذلك المجلس العالي ليلة من الليالي وقد جرى فيه ذكر أبي الفضل الهمذاني بديع الزمان وإعجاز لطائفة وخصائصه في الارتجالات، وسرعة إتيانه وإثباته بالاقتراحات، وأنه كان يكتب الكتاب المقترح عليه ويبتدىء بآخر سطر ثم هلم جرّا إلى السطر الأول، حتى يخرجه مستوفى الألفاظ والمعاني، كأملح شيء وأحسنه، فانتدب الصخريّ لهذه البادرة، وضمن الاستقلال بهذه الغريبة الصعبة، فرسم له على لسان الشيخ أبي الحسين السهلي «3» أن يكتب في معنى مؤلف الكتاب كتابا إلى الدهخداه أبي سعيد محمد بن منصور الحوالي يذكر فيه
__________
[181]- ترجمة الصخري في الوافي 8: 145 ولم أجد له ترجمة بين الخوارزميين في اليتيمة أو التتمة.(2/500)
أن أخبار فلان في محاسن أدبه وبديع تأليفاته لم تزل تأتينا، ثم تشوقنا إلى مشاهدته ... الفصل، فأخذ القلم والقرطاس، وكتب أولا السطر الذي يقع في آخره إن شاء الله تعالى، ثم لم يزل يمضي قدما في الكتاب ويرتفع من عجزه إلى صدره ومن سفله إلى علوه ويصل أواخره بأوائله حتى أتمّ المعنى المقترح عليه، مع جودة الألفاظ وسهولتها وحسن مطالعها، وفرغ من الكتاب في زمان قصير المدة، وقد أخذ منه الشراب وأثرت فيه الكاسات، فوقع ذلك أحسن موقع، وعدّ من محاسنه.
وله: كتاب رسائل مدونة. كتاب ديوان شعر، مجلد.
فمن منثور كلامه: الشيخ أصدق لهجة، وأبين في الكرم محجّة، من أن يخلف برق ضمانه، ولا يمطر سحاب إحسانه، فليت شعري ما الذي فعله في أمر وليّه القاصر عليه أمله، وهل بلغ الكتاب أجله، وقد استهل الشهر الثامن استهلالا، ولا بدا لأفق مواعده هلالا.
آخر: طبع كرمه أغلب من أن يحتاج إلى هزّ، وحسام فضله أقطع من أن يهزّ لحز.
آخر: أما إني لا أرضى من كرمه العدّ، أن تجرّ أولياؤه على شوك الردّ، فبحقّ مجده المحض، الذي فاق به أهل الأرض، أن يرفع عن حاجتي قناع الخجل، ولا يقبر أملي فيها قبل حلول الأجل. وهذا قسم أرجو أن يصونه عن الحنث، وعهد أظنّ أنه لا يعرّضه للنكث.
آخر: لا أدري أأهنّىء الشيخ بعوده إلى مركزه، ومستقرّ عزه، سالما في نفسه التي سلامتها سلامة المعالي والمكارم، وهي أجسم المتاع وأنفس الغنائم، أم أهنّىء الحضرة به، فقد عاد إليها ماؤها، ورجع برجوعه حسنها وبهاؤها، أم أهنّىء الملك- ثبت الله أركانه، كما نضر بمكانه منه زمانه- فقد آب إليه رونقه، وزوال عن أمره رنقه، أم أهنّىء الفضل فقد كان ذوى عوده ثم اخضرّ وأورق، وهوى نجمه ثم أنار وأشرق، أم أهنّىء جماعة الأولياء والخدم وكافة أنشاء الكتّاب فقد عاشوا، وانتعشوا وارتاشوا، وارتفعت نواظرهم بعد الانخفاض، وانشرحت صدورهم غبّ الانقباض.
وأنا أعدّ نفسي من جملتهم، ولا أنحرف مع طول العهد عن قبلتهم.
وله: كتابي وقد عرتني علّة منعتني من استغراق المعاني واستيعابها، وإشباع(2/501)
الكلم في وجوهها وأبوابها. فاختصرت وقصرت، وعلى النّبذ القصير «1» اقتصرت، وما أعرف هذه العلة إلا من عوادي فراقه، ودواعي اشتياقه، ولئن كانت النعمة بمكانه خارجة عن القياس، غير خافية من جميع الناس، إنها ازدادت الآن ظهورا، وإن لم يكن قدرها مستورا، وقدر النعمة لا يعرف إلا بعد الزوال، ولا يتحقق إلا مع الانتقال. أهّلنا الله لعودها، لنحسن جوارها بالشكر لها وحمدها. وأصحبه السلامة حالّا ومرتحلا، ومقيما ومنتقلا، إنه خير صاحب، يصحب كلّ غائب.
وله: وصل كتاب الشيخ فيما حلّاني به من صفاته التي هو بها حال، وأنا منها خال، وقد كان أعارني منها عارية، وجدت نفسي منها عارية، لكنه نظر إليّ بعين رضاه، وشهد لي بقلب هواه. فلا ينظرنّ بعين الرضى فنظرتها ربما تجنح، ولا يشهدنّ بقلب الهوى فإنها شهادة تجرح.
وله: كلّ من ورد جناب الشيخ من أمثالي إنما ورد بأمل منفسح، ثم صدر بصدر منشرح، إذ ما امتدت إليه يد فارتدت عاطلا، ولا توجّه تلقاءه رجاء فعاد باطلا. وأنا أجلّه أن يفسخ من بينهم ذريعة رجائي، وينسخ شريعة ولائي، بل أظنّ إن لم يفضّلني «2» عليهم في المراتب «3» ، لم ينقصني عنهم في الواجب، ثم ليس طمعي في ماله، فكفاني ما شملني من إفضاله، بل كفاه ما تكلّفه في هذا الوقت من كلفة المروّة، التي تنوء بالعصبة أولي القوّة، ولكن طمعي في جاهه ومن ضنّ به ملوم، إذ البخل به لوم.
ومن أشعاره يمدح أبا العباس خوارزمشاه:
أشبه البدر في السنا والسناء ... وحوى رقة الهوى والهواء
وأتى الشيب بعدها منذرا «4» لي ... عن يد الدهر بالبلى والبلاء
وإذا شاء بالندى الملك العا ... دل في المجد والعلا والعلاء
أبدل الشين منه سينا وأوطا ... ني الثريا من الثرى والثراء(2/502)
ومن شعره أيضا في الهجاء:
أيا ذا الفضائل واللام حاء ... وياذا المكارم والميم هاء
ويا أنجب الناس والباء سين ... ويا ذا الصيانة والصاد خاء
ويا أكتب الناس والتاء ذال ... ويا أعلم الناس والعين ظاء
تجود على الكلّ والدال راء ... فأنت السخيّ ويتلوه فاء
لقد صرت عيبا لداء البغاء ... ومن قبل كان يعاب البغاء
وله يستهدي ماء الورد:
يا من حكى الورد الجنيّ بعرفه ... وبظرفه وبلطفه وبهائه
إن شئت والإفضال منك سجية ... أهديت لي قارورة من مائه
وله من قصيدة في أبي الفتح البستي:
نسب كريم فاضل أنسى به ... من كان معتمدا على أنسابه
قد كنت في نوب الزمان وصرفه ... إذ عضّني صرف الزمان بنابه
فاليوم جانبت الحوادث جانبي ... إذ قد نسبت إلى كريم جنابه
ومن قصيدة في أبي الحسين السهلي:
نفس مصدّقة جميع عداتها ... لكن مكذّبة ظنون عداتها
همّاته حكمت على هاماتها ... أن أصبحت للوحش من أقواتها
يا أحمد بن محمد يا خير من ... ولي الوزارة عند خير ولاتها
ما دامت الأيام في الغفلات عن ... عرصات مجدك فاغتنم غفلاتها
وله من قصيدة:
لئن بخلت بإسعادي سعاد ... فإني بالفؤاد لها جواد
وإن نفد اصطباري في هواها ... فدمع العين ليس له نفاد
أرى ثلجا بوجنتها ونارا ... لتلك النار في قلبي اتقاد
فهب من نارها كان احتراقي ... فلم بالثلج ما برد الفؤاد(2/503)
لاجتهدنّ في طلب المعالي ... بسعي ما عليه مستزاد
فإن أدركت آمالي وإلا ... فليس عليّ إلا الاجتهاد
وله في بعض الصدور:
جمعت إلى العلا شرف الأبوه ... وحزت إلى الندى فضل المروه
أتيتك خادما فرفعت قدري ... إلى حال الصداقة والأخوه
فما شبّهتني إلا بموسى ... رأى نارا فشرّف بالنبوه
وله من قصيدة:
أسمعت يا مولاي ده ... ري بعد بعدك ما صنع
أخنى عليّ بصرفه ... فرأيت هول المطّلع
[182]
أحمد بن محمد أبو الحسين السهلي الخوارزمي
: قال محمود بن محمد الإسلامي في «تاريخ خوارزم» : إنه مات بسرّ من رأى في سنة ثمان عشرة وأربعمائة على ما نذكره، قال: وهو من أجلة خوارزم، وبيته بيت رئاسة ووزارة وكرم ومروءة.
قال الثعالبي: وهو وزير ابن وزير:
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
قال: وكان يجمع بين آلات الرئاسة والآداب والوزارة، ويضرب في العلوم والآداب بالسهام الغائرة، ويأخذ من الكرم وحسن الشيم بالحظوظ الوافرة. وله «كتاب الروضة السهلية في الأوصاف والتشبيهات» ، وبأمره والتماسه صنّف
__________
[182]- ترجمة السهلي (م ر: السهيلي) في بغية الطلب 2: 49 (وفيه السهلي) أبو الحسن وقيل أبو الحسين وفيه أيضا نقل عن معجم الأدباء والوافي 8: 147؛ وينقل ياقوت عن كتاب للثعالبي لعله اليتيمة أو التتمة ولكني لم أجد فيهما ترجمة للسهلي.(2/504)
الحسن بن الحارث الحسوني «1» في المذهب «كتاب السهلي» يذكر فيه المذهبين مذهب الشافعي والحنفي.
وله شعر، فمن ذلك ولم يسبق إلى معناه «2» :
ألا سقّنا الصهباء صرفا فإنها ... أعزّ علينا من عناق الترحّل
وإني لأقلي النقل حبا لطعمها ... لئلا يزول الطعم عند التنقل
وله في النجوم:
والشهب تلمع في الظلام كأنها ... شرر تطاير من دخان النار
فكأنها فوق السماء بنادق ... الكافور فوق صلاية العطار
وله في النجوم أشعار منها في شعاع القمر على الماء:
كأنما البدر فوق الماء مطّلعا ... ونحن بالشطّ في لهو وفي طرب
ملك رآنا فأهوى للعبور فلم ... يقدر فمدّ له جسر من الذهب
خرج السهلي من خوارزم في سنة أربع وأربعمائة إلى بغداد وتوطنها وترك وزارة خوارزم شاه أبي العباس مأمون [بن مأمون] خوفا من شره، فلما قدم بغداد أكرمه فخر الملك أبو غالب محمد بن خلف، وهو والي العراق يومئذ، وتلقاه بالجميل، فلما مات فخر الملك خرج من بغداد هاربا أيضا حتى لحق بغريب بن مقن «3» خوفا على ماله، وكان غريب صاحب البلاد العليا تكريت ودجيل وما لاصقها، فأقام عنده إلى أن مات، وخلف عشرين ألف دينار سلّمها غريب إلى ورثته.(2/505)
[- 183-]
أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي أبو علي
: من أهل أصبهان، كان غاية في الذكاء والفطنة وحسن التصنيف وإقامة الحجج وحسن الاختيار، وتصانيفه لا مزيد عليها في الجودة. مات فيما ذكره أبو زكريا يحيى بن منده في ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وأربعمائة. قال: وكتب عنه سعيد البقال وأخرجه في «معجمه» .
وجدت خطه على كتاب شرح الحماسة من تصنيفه، وقد قرىء عليه في شعبان سنة سبع عشرة وأربعمائة، وكان قد قرأ كتاب سيبويه على أبي علي الفارسي وتتلمذ له بعد أن كان رأسا بنفسه.
وله من الكتب: كتاب شرح الحماسة «1» أجاد فيه جدا. كتاب شرح المفضليات. كتاب شرح الفصيح. كتاب شرح أشعار هذيل. كتاب الأزمنة «2» .
كتاب شرح الموجز. كتاب شرح النحو.
قال الصاحب بن عباد: فاز بالعلم من أصبهان ثلاثة: حائك وحلّاج وإسكاف، فالحائك هو المرزوقي، والحلاج أبو منصور ابن ما شدّة، والإسكاف أبو عبد الله الخطيب بالري صاحب التصانيف في اللغة.
ووجدت في مجموع «3» بخطّ بعض فضلاء العجم نقلت من خطّ الأبيوردي: أبو علي المرزوقي صاحب شرح الحماسة والهذليين قرأ على أبي علي، وهو يتفاصح في تصانيفه كابن جني، وكان معلّم أولاد بني بويه بأصبهان، ودخل إليه الصاحب فما قام له، فلما أفضت الوزارة إلى الصاحب جفاه.
__________
[183]- ترجمة المرزوقي في إنباه الرواة 1: 106 والوافي 8: 5 وبغية الوعاة 1: 365 وروضات الجنات 1: 244 وسير الذهبي 17: 475.(2/506)
[- 184-]
أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي
: المفسر، صاحب الكتاب المشهور بأيدي الناس المعروف بتفسير الثعلبي، مات فيما ذكره عبد الغني بن سعيد الحافظ المصري، ونقلته من حاشية «كتاب الإكمال» لابن ماكولا في محرم سنة سبع وعشرين وأربعمائة. وقال: أبو إسحاق الثعلبي المفسر جليل خراساني، وذكر وفاته.
وذكره عبد الغافر في «السياق» فقال: أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو إسحاق الثعلبي المقرىء المفسّر الواعظ الأديب الثقة الحافظ، صاحب التصانيف الجليلة:
من التفسير الحاوي أنواع الفرائد «1» من المعاني والإشارات، وكلمات أرباب الحقائق، ووجوه الإعراب والقراءات، ثم كتاب العرائس والقصص «2» وغير ذلك مما لا يحتاج إلى ذكره لشهرته، وهو صحيح النقل موثوق به. حدث عن أبي طاهر ابن خزيمة «3» وأبي بكر ابن مهران المقرىء وأبي بكر ابن هانىء وأبي بكر ابن الطرازي والمخلدي والخفاف وأبي محمد ابن الرومي وطبقتهم. وهو كثير الحديث كثير الشيوخ، وذكر وفاته كما تقدم. قال: وسمع منه الواحديّ التفسير وأخذه عنه وأثنى عليه، وحدّث عنه بإسناد رفعه إلى عاصم قال: الرئاسة بالحديث رئاسة نذلة إن صحّ الشيخ وحفظ وصدق فأصمى يقال: هذا شيخ كيّس وإذا وهم قالوا شيخ كذاب. وله كتاب ربيع المذكرين.
__________
[184]- يقال له الثعلبي والثعالبي، وترجمته في السياق (المنتخب: 2) : 26 وإنباه الرواة 1: 119 وابن خلكان 1: 79 وطبقات المفسرين: 5 والوافي 7: 307 وبغية الوعاة 1: 356 وطبقات السبكي 4: 58 والعبر 3: 161 وطبقات الجزري 1: 100 والشذرات 3: 230 والنجوم الزاهرة 4: 238 وروضات الجنات 1: 245 واللباب (الثعلبي) وسير الذهبي 17: 435.(2/507)
[- 185-]
أحمد بن محمد بن أحمد بن محمود بن دلويه
أبو حامد الأستوائي: مات فيما ذكره الخطيب في سنة أربع وثلاثين وأربعمائة، وقال: يعرف بالدلوي، وأستوى التي نسب إليها قرية من قرى نيسابور. قدم بغداد فسمع من الدارقطني واستوطنها إلى حين وفاته، وولي القضاء بعكبرا من قبل القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني، وكان ينتحل في الفقه مذهب الشافعي وفي الأصول مذهب الأشعري. وله حظّ في معرفة الأدب والعربية، وحدث بشيء يسير.
قال الخطيب: كتبت عنه، وكان صدوقا، ولما مات دفن بالشونيزية.
قال المؤلف: كان الدلوي أديبا فاضلا، وكثيرا ما توجد كتب الأدب بخطه، وكان صحيح النقل جيد الضبط معتبر الخط في الغالب.
[- 186-]
أحمد بن محمد بن عمار بن مهدي بن إبراهيم
المهدوي أبو العباس «1» المقرىء: ذكره الحميدي فقال: أصله من المهدية من بلاد القيروان، ودخل الاندلس في حدود الثلاثين وأربعمائة أو نحوها، وكان عالما بالقراءات والأدب متقدما، ذكره لي بعض أهل العلم بالقراءات وأثنى عليه، وأنشدني له في ظاءات القرآن:
__________
[185]- ترجمة الدلوي في تاريخ بغداد 4: 377 والوافي 7: 351 وطبقات السبكي 4: 60 وبغية الوعاة 1: 358.
[186]- هو عند الحميدي (106) أحمد بن محمد، وعلّق محقق الجذوة أنه وجد بحاشية الأصل ... «هو أحمد بن عمار التميمي» ، ولهذا ترجم له في إنباه الرواة 1: 91 وطبقات الجزري 1: 92 والوافي 7: 257 وبغية الوعاة 1: 351 باسم أحمد بن عمار؛ وذلك كله اعتمادا عل ما ذكره ابن بشكوال في الصلة: 88 وقد جمع ياقوت بينهما، والمهدوي نسبة إلى بلد المهدية، وكنيته في المصادر أبو العباس.(2/508)
ظنت عظيمة ظلمنا من حظها ... فظللت أوقظها لتكظم «1» غيظها
وظعنت أنظر في الظلام وظله ... ظمآن أنتظر الظهور لوعظها
ظهري وظفري ثم عظمي في لظى ... لا ظاهرنّ لحظّها ولحفظها
لفظي شواظ أو كشمس ظهيرة ... ظفر لدى غلظ القلوب وفظّها
[وله كتب في علم القرآن منها كتاب التحصيل في تفسير القرآن. وكتاب التفصيل في تفسيره أيضا، وله غير ذلك] «2» .
[- 187-]
أحمد بن محمد بن أحمد بن برد الأندلسي
: ذكره الحميدي وقال: هو مولى أحمد بن عبد الملك بن عمر بن محمد بن شهيد، أبو حفص الكاتب، مليح الشعر بليغ الكتابة، من أهل بيت أدب ورياسة، له رسالة في السيف والقلم والمفاخرة بينهما، وهو أول من سبق إلى القول في ذلك بالاندلس. وقد رأيته بالمرية بعد الأربعين وأربعمائة غير مرة.
__________
[187]- هذا هو المعروف بابن برد الأصغر تمييزا له عن جده، وقد ترجم له ابن بسام في الذخيرة 1: 486 وله ترجمة في المطمح: 24 (وعنه نفح الطيب 3: 545) والمغرب 1: 86 والوافي 7: 350 والمسالك 8: 311 وجذوة المقتبس: 107 (وبغية الملتمس رقم: 354) .(2/509)
وكان جده أحمد بن برد «1» وزيرا في الأيام العامرية وكاتبا بليغا أيضا مات سنة ثماني عشرة وأربعمائة- أعني الوزير- ومن شعر أحمد بن محمد هذا «2» :
تأمل فقد شقّ البهار مغلّسا ... كماميه عن نوّاره الخضل الندي
مداهن تبر في أنامل فضة ... على أذرع مخروطة من زبرجد
ومن شعره أيضا «3» :
لما بدا في لازور ... ديّ الحرير وقد بهر
كبرت من فرط الجما ... ل وقلت ما هذا بشر
فأجابني لا تنكرن ... ثوب السماء على القمر
ومن شعره أيضا:
قلبي وقلبك لا محالة واحد ... شهدت بذلك بيننا الألحاظ
فتعال فلنغظ الحسود بوصلنا ... إنّ الحسود بمثل ذاك يغاظ
[- 188-]
أحمد بن محمد بن هارون النزلي أبو الفتح النحوي
: أخذ عن أبي الحسن علي بن عيسى الربعي، وهو من أقران أبي يعلى ابن السراج.
__________
[188]- ترجمة النزلي في الوافي 8: 96 وبغية الوعاة 1: 385.(2/510)
[- 189-]
أحمد بن محمد العمركي «1» الهمذاني أبو عبد الله اللغوي
: ذكره شيرويه بن شهردار فقال: روى عن عبد الرحمن بن حمدان الجلاب وأبي الحسين محمد بن الحريري «2» صاحب أبي شعيب الحراني وغيرهما، روى عنه أبو عبد الله الامام وغيره.
[- 190-]
أحمد بن محمد بن أحمد بن شهردار المعلم الأصبهاني
: كان أديبا فاضلا بارعا في الأدب، فصيحا كثير السماع حسن الخطّ صاحب أصول، مات في شوّال سنة ست وأربعين وأربعمائة. قال يحيى بن منده: سمعت من الثقات، منهم أبو غالب ابن هارون تلميذه، أنه كان رجلا فاضلا إلا أنه كان لا يصلّي الصلوات كما قيل.
[- 191-]
أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم الميداني
: أبو الفضل النيسابوري- والميدان محلة من محالّ نيسابور كان يسكنها فنسب إليها- ذكر ذلك عبد الغافر. وهو أديب فاضل عالم نحوي لغوي، مات فيما ذكره عبد الغافر بن إسماعيل الفارسي في «السياق» في رمضان سنة ثماني عشرة وخمسمائة، ليلة القدر، ودفن بمقبرة الميدان. قرأ على أبي الحسن علي بن أحمد الواحدي وعلى يعقوب بن أحمد النيسابوري وله من التصانيف كتاب جامع الأمثال جيّد بالغ «3» . كتاب السامي في
__________
[189]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 129 والوافي 8: 149 وبغية الوعاة 1: 388.
[190]- ترجمته في الوافي 7: 362 (وفي نسبه شهمردان بدلا من شهردار) .
[191]- ترجمة الميداني في نزهة الألباء: 272 وإنباه الرواة 1: 121 وابن خلكان 1: 148 والبداية والنهاية 12: 194 والوافي 7: 326 وبغية الوعاة 1: 356 وإشارة التعيين: 46 وسير الذهبي 19: 489.(2/511)
الأسامي «1» . كتاب الأنموذج في النحو. كتاب الهادي للشادي. كتاب النحو الميداني. كتاب نزهة الطرف في علم الصرف. كتاب شرح المفضليات. كتاب منية الراضي في رسائل القاضي.
وفي كتاب السامي في الأسامي يقول أسعد بن محمد المرساني:
هذا الكتاب الذي سمّاه بالسامي ... درج من الدرّ بل كنز من السام
ما صنّفت مثله في فنّه أبدا ... خواطر الناس من حام ومن سام
فيه قلائد ياقوت مفصّلة ... لكل أروع ماضي العزم بسام
فكعب أحمد مولاي الامام سما ... فوق السماكين من تصنيفه السامي
وسمعت في المفاوضة ممن لا أحصي أن الميداني لما صنّف كتاب الجامع في الأمثال وقف عليه أبو القاسم الزمخشري فحسده على جودة تصنيفه، وأخذ القلم وزاد في لفظة الميداني سينة، فصار النميداني، ومعناه بالفارسية الذي لا يعرف شيئا؛ فلما وقف الميداني على ذلك أخذ بعض تصانيف الزمخشري فزاد في نسبته سينة فصار الزنخشري، ومعناه بائع زوجته.
وذكر محمد بن [أبي] المعالي بن الحسن الخواري في كتابه «ضالّة الأديب من الصحاح والتهذيب» وقد ذكر الميداني فقال: وسمعت غير مرة من كبار أصحابه يقولون: لو كان للذكاء والشهامة والفضل صورة لكان الميداني تلك الصورة، ومن تأمل كلامه واقتفى أثره علم صدق دعواهم. وكان ممن قرأ عليه وتخرّج به الامام أبو جعفر أحمد بن علي المقرىء البيهقي وابنه سعيد، وكان إماما بعده.
قال عبد الغافر بن اسماعيل: ومن أشعاره:
تنفّس صبح الشيب في ليل عارضي ... فقلت عساه يكتفي بعذاري
فلما فشا عاتبته فأجابني ... ألا هل يرى صبح بغير نهار
وذكره أبو الحسن البيهقي في كتاب «وشاح الدمية» فقال «2» : الامام أستاذنا صدر الافاضل أبو الفضل أحمد بن محمد بن أحمد الميداني، صدر الادباء وقدوة(2/512)
الفضلاء، قد صاحب الفضل في أيام نفد زاده، وفني عتاده [وضاعت] عدته، وبطلت أهبته، فقوّم سناد العلوم بعد ما غيّرتها الأيام بصروفها، ووضع أنامل الأفاضل على خطوطها وحروفها، ولم يخلق الله تعالى فاضلا في عهده إلا وهو في مائدة آدابه ضيف، وله بين بابه وداره شتاء وصيف، وما على من عام لجج البحر الخضمّ واستنزف الدرر ظلم وحيف. وكان هذا الامام يأكل من كسب يده، ومما أنشدني رحمه الله لنفسه:
حننت إليهم والديار قريبة ... فكيف إذا سار المطيّ مراحلا
وقد كنت قبل البين لا كان بينهم ... أعاين للهجران فيهم دلائلا
وتحت سجوف الرقم أغيد ناعم ... يميس كخوط الخيزرانة مائلا
وينضو علينا السيف من جفن مقلة ... تريق دم الأبطال في الحبّ باطلا
ويسكرنا لحظا ولفظا كأنما ... بفيه وعينيه سلافة بابلا
وله أيضا:
شفة لماها زاد في آلامي ... في رشف ريقتها شفاء سقامي
قد ضمّنا جنح الدجى وللثمنا ... صوت كقطّك أرؤس الأقلام
ثم ذكر البيتين اللذين أولهما:
تنفس صبح الشيب في ليل عارضي
وقد مرّ ذكرهما آنفا، ثم قال، وله:
يا كاذبا أصبح في كذبه ... أعجوبة أيّة أعجوبه
وناطقا ينطق في لفظة ... واحدة سبعين أكذوبه
شبّهك الناس بعرقوبهم ... لما رأوا أخذك أسلوبه
فقلت كلّا إنه كاذب ... عرقوب لا يبلغ عرقوبه
ثم ذكر وفاته كما تقدم في رواية عبد الغافر، ثم ذكر ولده سعيدا، وقد ذكرناه في بابه «1» .(2/513)
[- 192-]
أحمد بن محمد الصلحي أبو الخطاب
: كان أديبا فاضلا كاتبا حسن الخط، وله شعر رقيق سائر، ذكره أبو سعد في «المذيل» وأورد له هذين البيتين وهما:
يا راقد العين عيني فيك ساهرة ... وفارغ القلب قلبي فيك ملآن
إني أرى منك عذب الثغر عذّبني ... وأسهر الجفن جفن منك وسنان
[- 193-]
أحمد بن محمد بن القاسم بن أحمد بن خذيو الاخسيكثي
، أبو رشاد الملقب بذي الفضائل: مات ليلة الأحد الثامن من جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وخمسمائة، وأخسيكث مدينة من فرغانة- يقال بالثاء والتاء- وكان هو وأخوه ذو المناقب محمد أديبي مرو غير مدافعين، يقرّ لهما بذلك كلّهم، قدما مرو وسكناها إلى أن ماتا.
وكان ذو الفضائل هذا شاعرا أديبا مصنفا كاتبا مترسلا في ديوان السلاطين، وله تصانيف منها: كتاب في التاريخ. كتاب في قولهم كذب عليك كذا. كتاب زوائد في شرح سقط الزند. وغير ذلك.
قرأت في ديوان شعره بخطّه: أنشدت لأبي العلاء:
هفت الحنيفة والنصارى ما اهتدت ... ومجوس حارت واليهود مضلله
اثنان أهل الأرض ذو عقل بلا ... دين وآخر ديّن لا عقل له
فقلت مجيبا له:
الدين آخذه وتاركه ... لم يخف رشدهما وغيهما
رجلان أهل الأرض قلت، فقل ... يا شيخ سوء أنت أيهما
__________
[192]- ترجمة الصلحي في الوافي 8: 138.
[193]- ترجمة الأخسيكثي في إنباه الرواة 1: 132 والوافي 8: 81 وبغية الوعاة 1: 374 وانظر «الأخسيكثي» في الأنساب واللباب.(2/514)
ذكره السمعاني في مشيخته فقال: كان أديبا فاضلا بارعا له الباع الطويل في معرفة النحو واللغة، واليد العليا الباسطة في النظم والنثر، وله ردود «1» على جماعة من قدماء الفضلاء، ومشاعرات ومنافرات مع الفحول والكبراء، وكان أكثر فضلاء خراسان قرأوا الأدب عليه وتلمذوا له. سمع بأخسيكث أبا القاسم محمود بن محمد الصوفي، وبمرو جدّي أبا المظفر السمعاني. سمعت منه كتاب الآداب والمواعظ للقاضي أبي سعد الخليل بن أحمد السجزي بروايته عن محمود الصيرفي عن أبي عبيد الكرواني عن المصنف. كانت ولادته في حدود سنة ست وستين وأربعمائة، وتوفي بمرو فجأة ليلة الاثنين لأربع ليال بقين من جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
[- 194-]
أحمد بن محمد الآبي أبو العباس
: كان من أهل آبة من ناحية برقة، وسافر إلى اليمن تاجرا، واجتمع بأبي بكر السعيدي بعدن. وحدثني المولى المفضل جمال الدين بقصته مع السعيدي عنه أنه سمعها منه، ثم قدم الاسكندرية وأقام بها، فجرى بينه وبين القاضي شرف الدين عبد الرحمن بن [شكر] قاضي الاسكندرية ما أحوجه إلى قدومه إلى القاهرة، وشكا منه إلى الصاحب صفي الدين ابن شكر فلم يشكه، فأقام بالقاهرة إلى أن مات، وكان شكواه من قطع رزقه من مسجد كان يصلّي فيه أو نحو ذلك. وكان قدومه إلى القاهرة في سنة ست وستين وخمسمائة، ومات بعد ذلك في نحو سنة ثمان وتسعين، وصنّف كتابا في النحو رأيته بخطه، وهي مسائل منثورة.
حدثني المولى القاضي المفضل جمال الدين قال: دخلت إلى الصاحب أبي بشر وهو في مجلسه، فجلست إلى جانبه فانشدني متمثلا:
إنّك لا تشكو إلى مصمّت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت
إشارة إلى أنه لم يشكه.
__________
[194]- ترجمة الآبي في الوافي 8: 148 وبغية الوعاة 1: 387.(2/515)
قال أبو زياد الكلابي: ومثل من أمثال العرب «إنك لا تشكو إلى مصمت» «1» والتصميت أن تقول المرأة إذا بكى صبيها الرضيع، وهي مشغولة عنه لبعض صبيانها أو لزوجها، صمّت هذا الصبيّ، فيأتيه فيحتضنه «2» بيده حتى يسكت.
قال، وحدثني قال: دخلت إلى مجلس الشيخ الموفق أبي الحجاج يوسف المعروف بابن الخلال كاتب الانشاء في أيام المصريين، وكان الموفق قد عمل معمّى في المرآة نثرا، فقال لمن بحضرته: ما تقولون في قولي: شيء شديد الباس، يغيره الضعيف الأنفاس، وذكر كلاما بعده، فاستدللت بهذه الفاتحة على أنه المرآة، لأن الشديد الباس هو الحديد، ويغير صقالها النفس، فقلت له ذلك، فاستحسن حدة خاطري.
أنشدني مولانا القاضي الإمام جمال الدين أبو الحجاج يوسف ابن القاضي الأكرم علم الدين أبي طاهر إسماعيل بن عبد الجبار بن أبي الحجاج قال: أنشدني أبو العباس أحمد بن محمد الآبي ممتدحا لي، وكتبته أنا من خطه بيده:
يا خير من فاق الأفاضل سؤددا ... وامتاز خيما «3» في الفخار ومحتدا
وسما لأعلام المعالي فاحتوى ... فضلا به يهدى وفضلا يجتدى
وإذا الرياسة لم تزن بمعارف ... وعوارف يسدى بها كانت سدى
لا تنس من لم ينس ذكرك أحمدا ... وافى جنابكم الكريم فأحمدا
يهدي إلى الأسماع من أوصافكم ... ملحا كزهر الروض باكره الندى
مستحسنات كلّما كررتها ... لم تسأم الأسماع منها موردا
والفضل فيه لكم ومنكم إنما ... يعزى المضاعف في الجميل لمن بدا
كالزّهر تسقي الزّهر صيّب أفقها ... فيعود منه نشره متصعّدا
جاد الغمام على الكمام بمائه ... عذبا فنضّر ما حوته ونضدا(2/516)
وإذا امرؤ أسدى لحرّ نعمة ... بدءا تملكه بها واستعبدا
دعي المفضل إذ تسامى فضله ... شرفا على نظرائه واستمجدا
[- 195-]
أحمد بن محمد بن جعفر بن مختار الواسطي
أبو علي النحوي العدل ابن أخي أبي الفتح محمد بن محمد بن جعفر بن مختار النحوي الذي يأتي ذكره فيما بعد «1» إن شاء الله تعالى: مات بعد سنة خمسمائة وله عقب بواسط. أخذ النحو عن أبي غالب ابن بشران، وكان منزله مألفا لأهل العلم، وكان من الشهود المعدّلين، وكان طحانا بمشرعة التنانيريين بواسط.
حدثني أبو عبد الله محمد بن سعد بن الحجاج الدبيثي قال، حدثني عبد الوهاب بن غالب عن الشريف أبي العلاء ابن التقي قال: قدم إلى واسط في بعض الأعوام عسكر الأعاجم فنهبوا قطعة من البلد، ونهبوا دكان الشيخ أبي علي ابن مختار ونزلوا بداره، قال الشريف: فدخلت معه إليهم نستعطفهم أن يردّوا عليه بعض ما أخذوا منه، فلم نر لذلك وجها، وخرجنا وهو يقول:
تذكرت ما بين العذيب وبارق ... مجرّ عوالينا ومجرى السوابق
ثم التفت إليّ فقال: ما العامل في الظرف في هذا البيت؛ فقلت له: يا سيدي ما شغلك ما أنت فيه عن النحو والنظر فيه؟ فقال: يا بني وما يفيدني إذا حزنت؟! وحدث الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمد السلفي قال، أنشدني الشيخ أبو علي أحمد بن محمد بن مختار المعدل بواسط لنفسه، وأفادنيه خميس بن علي الحافظ «2» :
__________
[195]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 133 وسؤالات الحافظ السلفي: 55- 56 والوافي 8: 14 وبغية الوعاة 1: 364.(2/517)
كم جاهل متواضع ... ستر التواضع جهله
ومميّز في علمه ... هدم التكبر فضله
فدع التكبر ما حيي ... ت ولا تصاحب أهله
فالكبر عيب للفتى ... أبدا يقبّح فعله
وأنشد له:
ما هذه الدنيا بدار مسرّة ... فتخوّفي مكرا لها خدّاعا
بينا الفتى فيها يسرّ بنفسه ... وبماله يستمتع استمتاعا
حتى سقته من المنية شربة ... وحمته منها بعد ذاك رضاعا
فغدا بما كسبت يداه رهينة ... لا يستطيع لما عراه دفاعا
لو كان ينطق قال من تحت الثرى ... فليحسن العمل الفتى ما اسطاعا
[- 196-]
أحمد بن مروان المؤدّب أبو مسهر
: من أهل الرملة، عالم باللغة، كان في أيام المتوكل، وهو القائل:
غيث وليث فغيث حين تسأله ... عرفا وليث لدى الهيجاء ضرغام
يحيا الأنام به في الجدب إن قحطوا ... جودا وتشقى به يوم الوغى الهام
حالان ضدّان مجموعان فيه فما ... ينفكّ بينهما بؤسى وإنعام
كالمزن تجتمع الحالات فيه معا ... ماء ونار وإرهام وإضرام
__________
[196) - الوافي 8: 175 وبغية الوعاة 1: 391.(2/518)
[197]
أحمد بن مطرّف بن إسحاق القاضي، أبو الفتح المصري
: كان في الدولة المصرية في أيام الحاكم، وله تآليف في الأدب منها: كتاب النوائح. كتاب كبير في اللغة. ورسالة في الضاد والظاء، كتب بها إلى الشريف أبي الحسن محمد بن القاسم الحسيني عامل تنيس.
[198]
أحمد بن مطرّف أبو الفتح العسقلاني
: كان يلي القضاء بدمياط، ومات في سنة ثلاث عشرة وأربعمائة، ومولده سنة نيف وعشرين وثلاثمائة. وكان أديبا فاضلا، وله كتب كثيرة مصنّفة في الأدب وفي اللغة وغيرهما. وديوان شعره جمعه على نسختين إحداهما معربة، والأخرى مجردة، يكون دون ألف ورقة- قال ذلك كله أبو عبد الله الصوري الحافظ، وحكى أنه أنشده قطعة من شعره، وناوله بقيته، وأذن له في روايته عنه ورواية سائر مصنفاته، قال: ومما أحفظ له من قطعة أنشدنيها لنفسه أولها:
علمي بعاقبة الأيام يكفيني ... وما قضى الله لي لا بدّ يأتيني
يقول فيها:
ولا خلاف بأن الناس مذ خلقوا ... فيما يرومون معكوسو القوانين
إذ ينفق العمر في الدنيا مجازفة ... والمال ينفق فيها بالموازين
[199]
أحمد بن موسى بن أبي عمار الحناط
صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام:
مات فيما ذكره ابن بنت الفريابي في سنة إحدى وثمانين ومائتين.
__________
[197]- الوافي 8: 181 وبغية الوعاة 1: 391.
[198]- الوافي 8: 181 وبغية الوعاة 1: 391 وفي ر: العمري من ولد محمد بن زيد بن عبد الله بن عبد الله ابن عمر.(2/519)
[200]
أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد المقرىء أبو بكر
: قال الخطيب:
كان شيخ القرّاء في وقته، والمقدم منهم على أهل عصره، مات فيما ذكره الخطيب في شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، ودفن في مقبرة باب البستان من الجانب الشرقي، ومولده في ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين.
قال الخطيب: وحدث عن عبد الله بن أيوب المخرمي «1» ومحمد بن الجهم السمري وخلق غيرهما. وحدث عنه الدارقطني وأبو بكر الجعابي وأبو بكر ابن شاذان وأبو حفص ابن شاهين وغيرهم. وكان ثقة مأمونا يسكن بالجانب الغربي نحو مربعة الخرسي.
حدث أبو بكر الخطيب قال، قال ثعلب النحوي في سنة ست وثمانين ومائتين:
ما بقي من عصرنا هذا أعلم بكتاب الله من أبي بكر ابن مجاهد.
وحدث أبو بكر المحبري «2» قال: صليت خلف أبي بكر ابن مجاهد صلاة الغداة فاستفتح بقراءة الحمد، ثم سكت، ثم استفتح ثانية ثم سكت، ثم ابتدأ بالقراءة فقلت: أيها الشيخ رأيت اليوم منك عجبا، فقال لي: شهدت المكان؟ فقلت:
نعم، فقال: أشهدك الله إن حدثت به عني إلى أن أوارى تحت أطباق الثرى، ثم قال لي: يا بني ما هو إلا أن كبّرت تكبيرة الإحرام حتى كأني بالحجب قد انكشفت ما بيني وبين ربّ العزة تعالى سرّا بسرّ، ثم استفتحت بقراءة الحمد فاستجمع كلّ حمد لله في كتابه ما بين عينّي فلم أدر بأيّ الحمدلة ابتدىء.
وحدث عيسى بن علي بن عيسى الوزير قال: أنشدني أبو بكر ابن مجاهد، وقد
__________
[200]- ترجمة ابن مجاهد في الفهرست: 34 وتاريخ بغداد 5: 144- 148 والمنتظم 6: 282 وطبقات الجزري 1: 139 وسير الذهبي 15: 272 وعبر الذهبي 2: 201 والوافي 8: 200 والشذرات 2: 302 ومرآة الجنان 2: 288 وطبقات السبكي 3: 57.(2/520)
جئته عائدا، وأطال عنده قوم كانوا قد حضروا لعيادته، فقال لي: يا أبا القاسم عيادة ثم ماذا؟ فصرف من حضر، ثم هممت بالانصراف معهم فأمرني بالرجوع إليه، ثم أنشدني عن محمد «1» بن الجهم السمري:
لا تضجرنّ مريضا جئت عائده ... إنّ العيادة يوم إثر يومين
بل سله عن حاله وادع الإله له ... واقعد بقدر فواق بين حلبين
من زار غبّا أخا دامت مودته ... وكان ذاك صلاحا للخليلين
وحدث الحسين بن محمد بن خلف المقرىء قال: سمعت أبا الفضل الزهري يقول: انتبه أبي في الليلة التي مات فيها أبو بكر ابن مجاهد فقال: يا بني ترى من مات الليلة؟ فإني قد رأيت في منامي كأنّ قائلا يقول: قد مات الليلة مقوّم وحي الله منذ خمسين سنة. فلما أصبحنا إذا ابن مجاهد قد مات، آخر ما نقلناه من «تاريخ الخطيب» .
وذكره محمد بن إسحاق في كتابه فقال: كان ابن مجاهد مع ما عرف به من الفضل واشتهر عنه من العلم والنبل كثير المداعبة طيّب الخلق، وله من الكتب:
كتاب القراءات الكبير. كتاب القراءات الصغير. كتاب الياءات. كتاب الهاءات.
كتاب قراءة أبي عمرو. كتاب قراءة ابن كثير. كتاب قراءة عاصم. كتاب قراءة نافع.
كتاب قراءة حمزة. كتاب قراءة الكسائي. كتاب قراءة ابن عامر. كتاب قراءة النبي صلى الله عليه وسلّم. كتاب السبعة «2» . كتاب انفرادات القراء السبعة. كتاب قراءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
قال ابن مجاهد: سألني الوزير علي بن عيسى عن الحجة في اظهار الميم عند قوله: لهم فيها، فقلت: ليس الحجة عليّ، أنا رأيت ميما وفاء فنطقت بهما، الحجة عليّ حين أدغم.
نقلت من خط أبي سعد السمعاني واختياره لتاريخ يحيى بن منده، سمعت الإمام أبا المظفر عبد الله بن شيث المقرىء يقول، سمعت أحمد بن منصور المذكّر(2/521)
يقول، سمعت أبا الحسن ابن سالم البصري الصوفيّ يقول- وهو صاحب سهل بن عبد الله التستري- قال سمعت أبا بكر محمد بن مجاهد المقرىء يقول: رأيت رب العزة في المنام، فختمت عليه ختمتين، فلحنت في موضعين فاغتممت، فقال: يا ابن مجاهد الكمال لي الكمال لي.
قرأت في «تاريخ خوارزم» في ترجمة أبي سعيد أحمد بن محمد بن حمديج الحمديجي قال: كنت أختلف إلى أبي بكر ابن مجاهد المقرىء البغدادي، فكان يكرمني لفقهي، فاشتهيت أن أقرأ عليه لما رأيت من ولوع الناس بالقراءة عليه، فقلت له: إني أريد أن أقرأ عليك القرآن، فقال: نعم إن كنت تريد القراءة فاجلس مجلس التلامذة، قال: فتحولت من جنبه إلى بين يديه، فلما افتتحت القراءة على رسم العامة وقلت: بسم الله الرحمن الرحيم قال: أو كذا تقرأ اذهب إلى ذلك الفتى حتى يرشدك ثم اقرأ عليّ فخجلت من ذلك وترك إكرامي كما كان يكرمني قبل ذلك لما عرف بضاعتي في القراءة.
وقال التنوخي: بلغني عن أبي بكر ابن مجاهد أنه قال: الناس أربعة: مليح يتبغض لملاحته فيحتمل، وبغيض يتملّح فذاك الحمى والداء الذي لا دواء له، وبغيض يتبغض فيعذر لأنه طبعه، ومليح يتملح فتلك الحياة الطيبة.
قرأت «1» بخط ابن مختار العلوي قال ابن خالويه: كنت عند أبي عمر الزاهد فجاء شابّ مقرىء من أهل باب الشام فقال: سمعت ابن مجاهد يقول: رأيت رسول الله في النوم فقرأت عليه سورة الأنعام، فلما بلغت إلى رأس خمس وثلاثين إنما يستجيب الذين يسمعون
(الأنعام: 36) أومأ بيده إليّ أن قف، فوقفت فقلت:
لو كان [ابن] مجاهد على مائة فرسخ وجب أن أصير إليه لأسمع هذه الحكاية منه، فصرت إليه من جامع المدينة إلى سوق العطش فسألته فقال: لا والله ما كان من هذا شيء، وهذا بالحقيقة وقف حسن.
ومن تاريخ ابن بشران: كان ابن مجاهد كثيرا ما ينشد:
إذا عقد القضاء عليك أمرا ... فليس يحلّه إلّا القضاء(2/522)
قال: وذكر عن ابن مجاهد أنه حضر وجماعة من أهل العلم في بستان، وداعب وقال وقد لاحظه بعضهم: التعاقل في البستان كالتخالع في المسجد.
وروي عن أبي طالب الهاشمي صهر أبي بكر ابن مجاهد قال: كنت عند ابن مجاهد وقد حضرته الوفاة، فقال لي: أخرج من ها هنا من أهلنا، قال: ففعلت ذلك، ثم قال لي: وتباعد أنت أيضا، فوقفت عنه بعيدا فاستقبل القبلة وأقبل يتلو آيات من القرآن ثم خفت صوته فلم يزل يتشاهد إلى أن طفي.
قال: وكان له جاه عريض عند السلطان، وسأله بعض أصحابه كتابا إلى هلال بن بدر في حاجة له، فكتب إليه كتابا وختمه ولم يقف عليه فلما صار إلى هلال وسلّم إليه الكتاب قضى حوائجه وبلغ له فوق ما أراد، فلما أراد أن ينصرف قال له:
تدري ما في كتابك؟ قال: فأخرجه وفيه بسم الله الرحمن الرحيم حامل كتابي إليك حامل كتاب الله عني، والسلام، وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين.
[201]
أبو أحمد النهرجوري الشاعر العروضي «1»
: له في العروض تصانيف، وهو به عارف حاذق يجري مجرى أبي الحسن العروضي والعمراني وغيرهما فيه، وهو مع ذلك شاعر متوسط الطبقة، وهو من أهل البصرة. حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن نصر الكاتب قال: اجتمعت به بالبصرة في سنة تسع وتسعين وثلاثمائة وأنا في جملة أبي العباس ابن ماسرجيس وسافرنا عنها إلى أرّجان [مع] بهاء الدولة، وخرج النهرجوري معنا وأقام في مصاحبته إلى أن تقلد أبو الفرج محمد بن علي الخازن البصرة في أواخر سنة اثنتين وأربعمائة فعاد معه إليها، ثم وردتها في ذي القعدة
__________
[201]- الوافي 8: 301 وقد عده البيهقي في تاريخ حكماء الإسلام: 35 أحد إخوان الصفا؛ ويرد مكانه في الإمتاع 2: 5 أبو أحمد المهرجاني (وفي أصل الإمتاع ما يشبه النهرجوري) .(2/523)
سنة ثلاث وأربعمائة متصلا بخدمة شاهنشاه الأعظم جلال الدولة ابن بهاء الدولة وقد مات النهرجوري قبل ذلك بشهور بعلة طريفة لحقته من ظهور القمل في جسمه عند حكه إياه إلى أن مات. وكان شيخا قصيرا شديد الأدمة سخيف اللبسة وسخ الجملة سيّء المذهب متظاهرا بالإلحاد غير مكاتم له، ولم يتزوج قط ولا أعقب، وكان قويّ الطبقة في الفلسفة وعلوم الأوائل، ومتوسطا في علوم العربية وعلمه بها أكثر من شعره. وكان ثلّابة للناس هجاء قليل الشكر لمن يحسن إليه غير مراع لجميل يسدى إليه. وأنشدني أشياء كثيرة من شعره ومنه:
من عاذري من رئيس ... يعدّ كسبي حسبي
لما انقطعت إليه ... حصلت منقطعا بي
فسمع ذلك أبو العباس ابن ماسرجيس فقال: هذا تدليس منه وأنا المقصود بالهجو، وإنما قال: من عاذري من وزير، وقد راقبني في تعبيره، فلما توفي النهرجوري حمل إلى أبي العباس مسوّداته، فوجد فيها القطعة منسوبة إليه فأخرجها ووقفني عليها وعرفني صحّة حدسه فيه.
ومن شعره في أبي الوفاء ابن الصيقل:
ما استخرج المال بمثل العصا ... لطالبيه من أبي الغدر
أليس قد أخرج موسى بها ... لقومه الماء من الصخر
وله أيضا:
صاح نديمي وشفّه الطرب ... يا قومنا إنّ أمرنا عجب
نار إذا الماء مسها زفرت ... كأنها لالتهابها حطب
وله يهجو طبيبا من أهل الأبلّة يعرف بابن غسان، وكان قد أغري بهجائه:
يا طبيبا داوى كساد ذوي الأكفا ... ن حتى أعادهم في نفاق
إن تكن قد وصلت رزقهم في ... ها فكم قد قطعت من أرزاق
وقّع الله في جبينك للأر ... زاق أن ودّعي وداع الفراق(2/524)
وله فيه أيضا:
يا ابن غسان أنت ناقضت عيسى ... فهو يحيي الموتى وأنت تميت
يشهد القلب أنه يقدم الغاسل ... أو أنّ دسته تابوت
وقال في أبي إسحاق الصابىء يمدحه وهو بالبصرة بقصيدة أولها:
لا يذهبنّ عليك في العوّاد ... ضعف القوى وتفتت الأكباد
لا تسألي عني سواك فإنما ... ذكراك أنفاسي وحبّك زادي
يا سمحة بدمي على تحريمه ... فيما يظنّ أصادق وأعادي
حاشاك أن ألقاك غير بخيلة ... أو أن أرى ما لا يزين رشادي
وله يهجو امرأة:
تموت من شهوة الضراط ولا ... يسعدها دبرها بتصويت
كأنها إذ تناك خابية ... تغسل ملقيّة لتزفيت
وله أيضا:
لو كان يورث بالمشابه ميّت ... لملكت بالأعضاء ما لا يملك
نغل مخايله تخبّر أنه ... في الناس من نطف الجميع مشبّك
قالوا: ولم يكن وسخه وقذارته عن فقر، فإن حاله كانت مستقيمة حسنة، بل كانت لعادة سيئة فيه، وكان الناس يتقون لسانه وكثرة هجائه.
قال ابن نصر: ومدح أبو أحمد النهرجوري أبا الفرج منصور بن سهل المجوسي عامل البصرة، فأعطاه صلة حاضرة هنية والتفّ به الحواشي فطالبوه، فكتب رقعة ودفعها إلى بعض الداخلين إليه وقال: تسلّم هذه إلى الأستاذ، وكان فيها:
أجازني الأستاذ عن مدحتي ... جائزة كانت لأصحابه
ولم يكن حظي منها سوى ... جهبذتي يوما على بابه
فلما وصلت إليه الرقعة خرّج في الحال من صرف الحواشي عنه، وصار معه حتى دخل منزله.(2/525)
[202]
أحمد بن نصر بن الحسين البازيار أبو علي
: كان نديما لسيف الدولة بن حمدان، وكان أبوه نصر بن الحسين من ناقلة سامرّا، واتصل بالمعتضد وخدمه وخفّ على قلبه، وأصله من خراسان، وكان يتعاطى لعب الجوارح، فردّ إليه المعتضد نوعا من أنواع جوارحه. ومات أبو علي بحلب في حياة سيف الدولة. وله من الكتب:
كتاب تهذيب البلاغة، ذكر ذلك كله محمد بن إسحاق النديم «1» .
قال ثابت بن سنان «2» : مات أبو علي أحمد بن نصر بن البازيار بالشام في سنة اثنتين وخمسين وثلاثمائة. وحدث أبو جعفر طلحة بن عبد الله بن قناش صاحب «كتاب القضاة» قال: كنا بحضرة سيف الدولة- وقد كان من ندمائه- قال: كان يحضر معنا مجلسه أبو نصر البنص، وكان رجلا من أهل نيسابور أقام ببغداد قطعة من أيام المقتدر وبعدها إلى أيام الراضي، وكان مشهورا بالطيبة والخلاعة وخفّة الروح وحسن المحاضرة مع العفة والستر، وتقلد الحكم في عدة نواح بالشام، فقيل له يوما بحضرة سيف الدولة: لم لقّبت البنص؟ فقال: ما هذا لقب وإنما هو اشتقاق من كنيتي، كما لو أردنا أن نشتق من أبي علي مثل هذا (وأومأ إلى ابن البازيار) لقلنا سيف الدولة منه ولم ينكر عليه. وقد استدللت بهذه الحكاية على عظم قدر ابن البازيار عند سيف الدولة إذ قرن اسمه باسمه.
قال أبو علي عبد الرحمن بن عيسى بن الجراح في «تاريخه» : لما ورد ناصر الدولة إلى بغداد، وقد ردّ إليه تدبير العساكر وإمرة الأمراء، قلّد الوزير أبو إسحاق
__________
[202]- بغية الطلب 2: 88 والوافي 8: 214 ونقل ابن العديم من كتاب «معرفة شرف الملوك» أن سيف الدولة كان يترحم على أبي علي البازيار ويقول: رحمك الله يا أبا علي كان يقول لي وأنا أفوض إلى «نجا» وأعطيه وأرفع منزلته: أيها الأمير إنك تعقد عقدا فانظر كيف تحله (ثم كان من عصيان نجا ما كان) .(2/526)
أحمد بن محمد القراريطي إبراهيم بن أخي أبي الحسن عليّ بن عيسى أصل ديوان المشرق وزمام البرّ وزمام المغرب وزمام الضياع «1» وديوان الفراتية مدة من الزمن، ثم استشفع أحمد بن نصر البازيار إلى الوزير القراريطي «2» بابن مكرم كاتب ناصر الدولة، فقلّده ديوان المشرق وزمام البرّ وزمام المغرب «3» وعوّض أبا نصر إبراهيم بن أخي أبي الحسن مكان ما صرفه عنه: ديوان البر وديوان ضياع ورثة موسى بن بغا.
الأصل: نقلت هذا من خط إبراهيم بن أخي أبي الحسن علي بن عيسى صاحب هذه القصة، فإن النسخة بالتاريخ كانت بخطه.
وذكر هلال أن أحمد بن نصر البازيار كان ابن أخت أبي القاسم علي بن محمد بن الحواري.
وكان أبو العباس الصفري شاعر سيف الدولة قد حبس لمحاكمة كانت بينه وبين رجل من أهل حلب، فكتب إلى ابن البازيار من محبسه:
كذا الدهر بوس مرة ونعيم ... فلا ذا ولا هذا يكاد يدوم
وذو الصبر محمود على كلّ حالة ... وكلّ جزوع في الأنام ملوم
يقول فيها:
أترضى الطهمّانيّ «4» قاض بحبسه ... إذا اختصمت يوما إليه خصوم
وإنّ زمانا فيه يحبس مثله ... لمثلي زمان ما علمت لئيم
يكاد فؤادي يستطير صبابة ... إذا هبّ من نحو الأمير نسيم
هل أنت ابن نصر ناصري بمقالة ... لها في دجى الخطب البهيم نجوم
ولائم قاض ردّ توقيع من به ... غدا قاضيا فالأمر فيه عظيم
ومتخذ عندي صنيعة ماجد ... كريم نماه في الفخار كريم(2/527)
[203]
أحمد بن هبة الله بن العلاء بن منصور المخزومي
أبو العباس الأديب النحوي المعروف بالصدر ابن الزاهد: مات في الثالث عشر من رجب سنة إحدى عشرة وستمائة وقد نيف على الثمانين، وكان له اختصاص عظيم بالشيخ أبي محمد ابن الخشاب لا يفارقه، فحصل منه علما جما، وصارت له يد باسطة في العربية واللغة، وكان قرأ قبله على أبي الفضل ابن الأشقر. وكان كيسا مطبوعا خفيف الروح حسن الفكاهة، وسمع من عبد الوهاب الأنماطي وابن الماندائي وغيرهما.
أنبأنا أبو عبد الله الدبيثي قال: أنشدني أبو العباس أحمد بن هبة الله الأديب لفظا، قال أنشدني الأمير أبو الفوارس سعد بن محمد الصيفي لنفسه «1» :
أجنّب أهل الأمر والنهي زورتي ... وأغشى امرءا في بيته وهو عاطل
وإني لسمح بالسلام لأشعث ... وعند الهمام القيل بالردّ باخل
وما ذاك من كبر ولكن سجية ... تعارض تيها عندهم وتساجل
ذكره العماد في الخريدة فقال «2» : هو من الفقهاء بالنظامية، ذو الخاطر الوقاد «3» ، والقريحة والانتقاد، وله يد في العربية والنحو، قرأ على شيخنا أبي محمد [ابن] الخشاب، وأنشدني لنفسه:
ومهفهف يسبيك خطّ عذاره ... ويريك ضوء البدر في أزراره
حسدت شمائله الشّمول وهجّنت ... لطف النسيم يهبّ في أسحاره «4»
وإذا أردت جفاه قال لي الهوى ... هو في الفؤاد فداره في داره
__________
[203]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 138 ومختصر ابن الدبيثي: 224 والوافي 8: 223 وبغية الوعاة 1: 395.(2/528)
لم أضمر السلوان عنه ساعة ... إلا استعذت وتبت من إضماره
دقّت معاقد خصره فكأنها ... المعنى الخفيّ يجول في أفكاره
وكأن وجنته وحمرة خده ... ورد غذاه الطلّ في أسحاره
وله قصيدة كتبها إلى الملك الناصر يوسف بن أيوب منها «1» :
إنّ الأكاسرة الألى شادوا العلا ... بين الأنام فمفضل أو منعم
يشكون أنك قد نسخت فعالهم ... حتى تنوسي ما تقدّم منهم
وسننت في شرع المكارم «2» ما عموا ... عن بعضه وفهمت ما لم يفهموا
وله أيضا «3» :
ماذا يقول لك الراجي وقد نفدت ... فيك المعاني وبحر القول قد نزفا
وما له حيلة إلا الدعاء فإن ... يسمع يظلّ عليه «4» الدهر معتكفا
[204]
أحمد بن الهيثم بن فراس بن محمد بن عطاء السامي
: قال المرزباني: هو أحد الرواة المكثرين، روى عنه الحسن بن عليل العنزي وأبو بكر وكيع.
قلت: وكان أبوه الهيثم بن فراس شاعرا مكثرا، وكان جده فراس من شيعة بني العباس، وقد أدرك دولة هشام بن عبد الملك، وله في أول الدولة أخبار. فحدّث المرزباني بإسناد رفعه إلى الهيثم بن فراس قال: أنشدت عمار بن ثمامة:
__________
[204]- تاريخ بغداد 5: 192 والوافي 8: 228.(2/529)
ينادي الجار خادمه فتسعى ... مشمرة إذا حضر الطعام
وأدعو حين يحضرني طعامي ... فلا أمة تجيب ولا غلام
وحدّث عن محمد بن العباس عن المبرد قال، قال الهيثم بن فراس في الفضل بن مروان وزير المعتصم «1» :
تجبّرت يا فضل بن مروان فاعتبر ... فقبلك كان الفضل والفضل والفضل
ثلاثة أملاك مضوا لسبيلهم ... أبادهم الموت المشتّت والقتل
يريد الفضل بن يحيى والفضل بن الربيع والفضل بن سهل
فإنك قد أصبحت في الناس ظالما ... ستودي كما أودى الثلاثة من قبل
[205]
أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البلاذري
أبو الحسن، وقيل أبو بكر: من أهل بغداد، ذكره الصولي في ندماء المتوكل على الله، مات في أيام المعتمد على الله في أواخرها، وما أبعد أن يكون أدرك أول أيام المعتضد. وكان جده جابر يخدم الخصيب صاحب مصر.
وذكره ابن عساكر في «تاريخ دمشق» «2» فقال: سمع بدمشق هشام بن عمار وأبا حفص عمر بن سعيد، وبحمص محمد بن مصفّى، وبأنطاكية محمد بن عبد الرحمن بن سهم وأحمد بن برد الأنطاكيين، وبالعراق عفان بن مسلم وعبد الأعلى بن حماد وعلي بن المديني وعبد الله بن صالح العجلي ومصعبا الزبيري وأبا عبيد القاسم بن سلام وعثمان بن أبي شيبة وأبا الحسن علي بن محمد المدائني
__________
[205]- الفهرست: 125 وبغية الطلب 2: 116 وسير الذهبي 13: 162 والوافي 8: 239 (ويعتمد ياقوت على ابن عساكر، المصورة 2: 269 وابن النديم: 125 والجهشياري ومعجم المرزباني وأمالي ابن المنجم والوزراء للصولي) وزاد ابن عساكر في كناه: «أبو جعفر» .(2/530)
ومحمد بن سعد كاتب الواقدي وذكر جماعة. قال: وروى عنه يحيى بن البريم «1» وأحمد بن عبد الله بن عمار وأبو يوسف يعقوب بن نعيم [بن] «2» قرقارة الأرزني «3» .
قال محمد بن إسحاق النديم: كان جدّه جابر يكتب للخصيب صاحب مصر، وكان شاعرا راوية، ووسوس آخر أيامه فشدّ في المارستان ومات فيه، وكان سبب وسوسته أنه شرب ثمر البلاذر على غير معرفة فلحقه ما لحقه.
وقال الجهشياري في «كتاب الوزراء» «4» : جابر بن داود البلاذري كان يكتب للخصيب بمصر، هكذا ذكروا، ولا أدري أيهما شرب البلاذر أحمد بن يحيى أو جابر بن داود. إلّا ان ما ذكره الجهشياري يدلّ على أن الذي شرب البلاذر هو جده لأنه قال: جابر بن داود، ولعلّ ابن ابنه لم يكن حينئذ موجودا، والله اعلم.
وكان أحمد بن يحيى بن جابر عالما فاضلا شاعرا راوية نسابة متقنا، وكان مع ذلك كثير الهجاء بذيء اللسان آخذا لأعراض الناس، وتناول وهب بن سليمان بن وهب لما ضرط فمزّقه كلّ ممزّق، فمن قوله فيه، وكانت الضرطة بحضرة عبيد الله بن يحيى بن خاقان:
أيا ضرطة حسبت رعده ... تنوّق في سلّها جهده
تقدّم وهب بها سابقا ... وصلّى أخو صاعد بعده
لقد هتك الله ستريهما ... كذا كلّ من يطعم الفهده «5»
وقال أحمد بن يحيى بن جابر يهجو عافية بن شبيب:
من رآه فقد رأى ... عربيا مدلّسا
ليس يدري جليسه ... أفسا أم تنفّسا(2/531)
وحدث علي بن هارون بن المنجم في «أماليه» عن عمه قال، حدثني أبو الحسن أحمد بن يحيى البلاذري قال: لما أمر المتوكل إبراهيم بن العباس الصولي أن يكتب فيما كان أمر به من تأخير الخراج حتى يقع في خمس من حزيران ويقع استفتاح الخراج فيه، كتب في ذلك كتابه المعروف، وأحسن فيه غاية الاحسان، فدخل عبيد الله بن يحيى على المتوكل فعرّفه حضور إبراهيم بن العباس وإحضاره الكتاب معه، فأمر بالاذن له، فدخل وأمره بقراءة الكتاب فقرأه، واستحسنه عبيد الله بن يحيى وكلّ من حضر، قال البلاذري: فدخلني حسد له فقلت: فيه خطأ، قال فقال المتوكل: في هذا الكتاب الذي قرأه عليّ إبراهيم خطأ؟ قال قلت: نعم، قال: يا عبيد الله وقفت على ذلك؟ قال: لا والله يا أمير المؤمنين ما وقفت فيه على خطأ، قال: فأقبل إبراهيم بن العباس على الكتاب يتدبّره فلم ير فيه شيئا، فقال: يا أمير المؤمنين الخطأ لا يعرى منه الناس وقد تدّبرت الكتاب خوفا من أن أكون قد أغفلت شيئا وقف عليه أحمد بن يحيى فلم أر ما أنكره، فليعرّفنا موضع الخطأ، قال فقال المتوكل: قل لنا ما هو هذا الخطأ الذي وقفت عليه في هذا الكتاب، قال فقلت: هو شيء لا يعرفه إلا عليّ بن يحيى المنجم ومحمد بن موسى، وذلك أنه أرّخ الشهر الروميّ بالليالي، وأيام الروم قبل لياليها، فهي لا تؤرّخ بالليالي وإنما يؤرخ بالليالي شهور العرب لأن لياليها قبل أيامها بسبب الأهلّة، قال فقال إبراهيم: صدق يا أمير المؤمنين هذا ما لا علم لي به ولا أدّعي فيه ما يدّعي، قال: فغير تاريخه.
قال الجهشياري: وقال أحمد بن يحيى البلاذري في عبيد الله بن يحيى وقد صار إلى بابه فحجبه:
قالوا اصطبارك للحجاب مذلّة ... عار عليك مدى الزمان وعاب
فأجبتهم ولكلّ قول صادق ... أو كاذب عند المقال جواب
إني لأغتفر الحجاب لماجد ... أمست له منن عليّ رغاب
قد يرفع المرء اللئيم حجابه ... ضعة ودون العرف منه حجاب
وحدث الجهشياري قال، حدثني ابن أبي العلاء الكاتب، قال حدثني أبو الحسن أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري قال: دخلت إلى أحمد بن صالح بن شيرزاد(2/532)
فعرضت عليه رقعة لي فيها حاجة، فتشاغل عني، فقلت:
تقدّم وهب سابقا بضراطه ... وصلّى الفتى عبدون والناس حضّر
وإني أرى من بعد ذاك وقبله ... بطونا لناس آخرين تقرقر
فقال: يا أبا الحسن بطن من؟ فقلت: بطن من لم يقض حاجتي، فأخذ الرقعة ووقّع فيها بما أردت.
وقال أحمد بن يحيى يهجو صاعدا وزير المعتمد:
أصاعد قد ملأت الأرض جورا ... وقد سست الأمور بغير لبّ
وساميت الرجال وأنت وغد ... لئيم الجدّ ذو عيّ وغب «1»
أضلّ عن المكارم من دليل ... وأكذب من سليمان بن وهب
وقد خبّرت أنك حارثيّ ... فردّ مقالتي أولاد كعب
قلت: أما سليمان بن وهب فمعروف، وأما دليل فهو دليل بن يعقوب النصراني أحد وجوه الكتاب، كان يكتب لبغا التركي ثم توكل للمتوكل على خاصه.
وحدث أبو القاسم الشافعي في «تاريخ دمشق» باسناده قال، قال أحمد بن جابر البلاذري، قال لي محمود الوراق: قل من الشعر ما يبقى ذكره ويزول عنك إثمه، فقلت «2» :
استعدّي يا نفس للموت واسعي ... لنجاة فالحازم المستعدّ
قد تبينت «3» أنه ليس للحيّ ... خلود ولا من الموت بدّ
إنما أنت مستعيرة ما سو ... ف تردّين والعواري تردّ
أنت تسهين والحوادث لا تسهو ... وتلهين والمنايا تجدّ
لا ترجّي البقاء في معدن الموت ... ودار حتوفها لك ورد(2/533)
أيّ ملك في الأرض أم أيّ حظّ ... لامرىء حظه من الارض لحد
كيف يهوى امرؤ لذاذة أيا ... م عليه الانفاس فيها تعدّ
ومن شعر البلاذري الذي رواه المرزباني في «معجم الشعراء» «1» :
يا من روى أدبا ولم يعمل به ... فيكفّ عادية الهوى بأديب
حتى يكون بما تعلّم عاملا ... من صالح فيكون غير معيب
ولقلّما تجدي إصابة صائب ... أعماله أعمال غير مصيب
قال ابن عساكر في كتابه «2» : وبلغني أن البلاذري كان أديبا راوية له كتب جياد، ومدح المأمون بمدائح، وجالس المتوكل، ومات في أيام المعتمد ووسوس في آخر عمره.
قال المؤلف: هذا الذي ذكره ابن عساكر من كلام المرزباني في «معجم الشعراء» بعينه.
وقال محمد بن إسحاق النديم «3» : وله من الكتب: كتاب البلدان الصغير.
كتاب البلدان الكبير لم يتم. كتاب جمل نسب الأشراف، وهو كتابه المعروف المشهور. كتاب عهد أردشير ترجمه بشعر، قال: وكان أحد النّقلة من الفارسي إلى العربي. كتاب الفتوح.
وحدث الصولي في «كتاب الوزراء» حدثني أحمد بن محمد الطالقاني قال قال لي أحمد بن يحيى البلاذري: كانت بيني وبين عبيد الله بن يحيى بن خاقان حرمة منذ أيام المتوكل، وما كنت أكلّفه حاجة لاستغنائي عنه، فنالتني في أيام المعتمد على الله إضافة فدخلت إليه وهو جالس للمظالم، فشكوت تأخّر رزقي وثقل ديني، وقلت: إنّ عيبا على الوزير- أعزّه الله- حاجة مثلي في أيامه، وغضّ طرفه عنّي، فوقع لي ببعض ما أردت وقال: أين حياؤك المانع لك من الشكوى على الاستبطاء؟ فقلت:(2/534)
غرس البلوى يثمر ثمر الشكوى، وانصرفت وكتبت إليه:
لحاني الوزير المرتضى في شكايتي ... زمانا أحلّت للجدوب محارمه
وقال لقد جاهرتني بملامة ... ومن لي بدهر كنت فيه أكاتمه
فقلت: حياء المرء ذي الدين والتقى ... يقلّ إذا قلّت لديه دراهمه
حياة ابن يحيى نعمة مستجدّة ... وحفظ لملك قد أضيعت سوائمه
تلائمه النّعمى وتحسن عنده ... وكم من معار نعمة لا تلائمه
لجأت إليه من زمان معاند ... قليل على أحداثه من يسالمه
فكان كظنّي في كريم فعاله ... وأمطرت النعمى عليّ مكارمه
وحدث الصولي عن محمد بن علي أن البلاذري امتدح أبا الصقر إسماعيل بن بلبل، وكتب إليه كتابا حسنا وسأله أن يطلق له شيئا من أرزاقه، فوعده فلم يفعل فقال:
تجانف إسماعيل عنّي بودّه ... وملّ إخائي واللئيم ملول
وإن امرءا يغشى أبا الصقر راغبا ... إليه ومغترّا به لذليل
وقد علمت شيبان أن لست منهم ... فماذا الذي إن أنكروك تقول
ولو كانت الدعوى تثبّت بالرّشا ... لثبّت دعواك الذين تنيل
ولكنهم قالوا مقالا فكذّبوا ... وجاءوا بأمر ما عليه دليل
وله فيما أورده عبد الله بن أبي طاهر:
لما رأيتك زاهيا ... ورأيتني أجفى ببابك
عدّيت رأس مطيّتي ... وحجبت نفسي عن حجابك(2/535)
[206]
أحمد بن يحيى بن زيد بن سيار أبو العباس ثعلب
الشيباني مولاهم النحوي اللغوي: إمام الكوفيين في النحو واللغة والثقة والديانة، ولد فيما ذكره المرزباني «1» عن مشايخه سنة مائتين، ومات لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين ومائتين في خلافة المكتفي بن المعتضد وقد بلغ تسعين سنة وأشهرا. وكان رأى أحد عشر خليفة أولهم المأمون وآخرهم المكتفي، وكان قد ثقل سمعه قبل موته، ودفن في مقابر باب الشام في حجرة اشتريت له وبنيت بعد ذلك، وقبره هناك معروف، وردّ ماله على ابنته وكان خلّف أحدا وعشرين ألف درهم وألفي دينار ودكاكين بباب الشام قيمتها ثلاثة آلاف دينار، وضاع له قبل أبي أحمد الصيرفي ألف دينار، وكان يتجر له بها، ذكر ذلك عبد الله بن الحسين القطربلي في «تاريخه» .
حدث المرزباني عن أبي العباس محمد بن طاهر الطاهري- وكان أبو العباس ثعلب يؤدّب أباه طاهر بن محمد بن عبد الله بن طاهر- قال «2» : كان سبب وفاة أبي العباس ثعلب أنه كان في يوم جمعة قد انصرف من الجامع بعد صلاة العصر، وكان يتبعه جماعة من أصحابه إلى منزله، أنا أحدهم، فتبعناه في تلك العشية إلى أن صرنا إلى درب قد أسماه بناحية باب الشام، واتفق أن ابنا لابراهيم بن أحمد الماذرائي يسير من ورائنا على دابة، وخلفه خادم له على دابة، قد قلق واضطرب، وكان في تلك العشية بيده دفتر ينظر فيه وقد شغله عما سواه، فلما سمعنا صوت حوافر الدوابّ خلفنا
__________
[206]- ترجمة ثعلب في طبقات الزبيدي: 141 وتاريخ بغداد 5: 204 ونور القبس: 334 والفهرست: 80 وإنباه الرواة 1: 138 ونزهة الألباء: 157 ووفيات الأعيان 1: 102 وطبقات ابن الجزري 1: 148 وتذكرة الحفاظ: 214 وسير الذهبي 14: 5 وعبر الذهبي 2: 88 والبداية والنهاية 11: 98 والوافي 8: 243 والنجوم الزاهرة 3: 113 واشارة التعيين: 51 (ويعتمد المؤلف في الأكثر على طبقات الزبيدي وتاريخ بغداد والمقتبس والفهرست وكتاب التاريخي ومراتب النحويين وكتاب ابن أبي الأزهر، وسيشار إلى ذلك في مواضعه) .(2/536)
تأخرنا عن جادة الطريق، ولم يسمع أبو العباس لصممه صوت الحوافر، فصدمته دابة الخادم فسقط على رأسه في هوة من الطريق قد أخذ ترابها، فلم يقدر على القيام، فحملناه إلى منزله كالمختلط يتأوه من رأسه، وكان سبب وفاته رحمه الله.
وحدث المرزباني عن أحمد بن محمد العروضي قال: إنما فضل أبو العباس أهل عصره بالحفظ للعلوم التي تضيق عنها الصدور، وقد كان أبو سعيد السكري كثير الكتب جدا، فكتب بيده ما لم يكتبه أحد، فكانا في الطرفين لأن أبا سعيد كان غير مفارق للكتاب عند ملاقاة الرجال، وأبو العباس لا يمسّ بيده كتابا اتكالا على حفظه وثقة بصفاء ذهنه.
قال الخطيب: سمع- يعني ثعلب- محمد بن سلام الجمحي ومحمد بن زياد الأعرابي وعلي بن المغيرة الأثرم وإبراهيم بن المنذر الحزامي وسلمة بن عاصم وعبيد الله بن عمر القواريري والزبير بن بكار وخلقا كثيرا. وروى عنه محمد بن العباس اليزيدي وعلي بن سليمان الأخفش وإبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه وأبو بكر ابن الأنباري وأبو عمر الزاهد وأبو الحسن ابن مقسم وأحمد بن كامل القاضي وخلق كثير. وكان يقول: سمعت من القواريري مائة ألف حديث.
قرأت بخط أبي سالم الحسن بن علي قال، نقلت من خط الحسن بن علي بن مقلة، قال أبو العباس أحمد بن يحيى: ابتدأت النظر في العربية والشعر واللغة في سنة ست عشرة ومولدي سنة مائتين في السنة الثانية من خلافة المأمون. قال أبو العباس «1» : ورأيت المأمون لما قدم من خراسان في سنة أربع ومائتين وقد خرج من باب الحديد، وهو يريد قصر الرصافة، والناس صفّان إلى المصلّى. قال: وكان أبي قد حملني على يده، فلما مرّ المأمون رفعني وقال لي: هذا المأمون وهذه سنة أربع ومائتين، فحفظت ذلك إلى هذه الغاية، وحذقت العربية، وحفظت كتب الفراء كلّها حتى لم يشذّ عني حرف منها ولي خمس وعشرون سنة، وكنت أعنى بالنحو أكثر من عنايتي بغيره، فلما أتقنته أكببت على الشعر والمعاني والغريب ولزمت أبا عبد الله ابن الاعرابي بضع عشرة سنة. وأذكر يوما وقد صار إلى أحمد بن سعيد بن سلم وأنا عنده(2/537)
وجماعة منهم السدريّ وأبو العالية فأقام وتذاكروا شعر الشماخ، وأخذوا في البحث عن معانيه والمساءلة عنه، فجعلت أجيب ولا أتوقف، وابن الأعرابي يسمع، حتى أتينا على معظم شعره، فالتفت إلى أحمد بن سعيد يعجّبه مني.
قال أبو العباس: قلت لابن ماسويه في علة شكوتها إليه: ما تقول في الحمام؟
فقال لي: إن تهيأ لانسان بعد أربعين سنة أن يكون قيّم حمام فليفعل.
قال أبو العباس: «الذي» لا ينسب إليه لأنه لا يتم إلا بصلة، والعرب لا تنسب إلا إلى اسم تامّ، والذي وما بعده حكاية، والحكاية لا ينسب إليها لئلا تتغير. قال أبو العباس: وسئل ابن قادم عنها وأنا غائب بفارس فقال «اللذوي» ، فلما قدمت وسئلت فقلت: لا ينسب إليه وأتيت بهذه العلة فبلغته، فلما اجتمعنا تجاذبنا، ثم رجع إلى قولي.
وقال أبو العباس: كنت أصير إلى الرياشيّ لأسمع عنه، وكان نقي العلم، فقال لي يوما وقد قرىء عليه:
ما تنقم الحرب العوان منّي ... بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمّي
كيف تقول بازل أو بازل؟ فقلت: أتقول لي هذا في العربية؟ إنما أقصدك لغير هذا، يروى بازل وبازل وبازل: الرفع على الاستئناف، والخفض على الإتباع، والنصب على الحال، فاستحيا وأمسك.
قال أبو العباس «1» : ودخلت على محمد بن عبد الله بن طاهر فإذا عنده المبرد وجماعة من أسبابه وكتّابه، وكان محمد بن عيسى وصفه له، فلما قعدت قال لي محمد بن عبد الله: ما تقول في قول امرىء القيس:
لها متنتان خظاتا كما ... أكبّ على ساعديه النمر
قال قلت: أما غريب البيت فإنه يقال: لحم خظا بظا إذا كان صلبا مكتنزا(2/538)
ووصف فرسا، وقوله: أكب على ساعديه النمر أي في صلابة ساعد النمر إذا اعتمد على يده، والمتن الطريقة الممتدة من عن يمين الصلب وشماله. وما فيه من العربية أنه [قال] : خظتا، فلما تحركت التاء أعاد الألف من أجل الحركة والفتحة، قال:
فأقبل بوجهه على محمد بن يزيد، فقال له محمد: أعزّ الله الأمير إنما أراد [في] خظاتا الإضافة، أضاف خظاتا إلى «كما» قال، فقلت: ما قال هذا أحد، قال محمد بن يزيد: بلى سيبويه يقوله، فقلت لمحمد بن عبد الله: لا والله ما قال هذا سيبويه، وهذا كتابه فليحضر، ثم أقبلت على محمد بن عبد الله وقلت: ما حاجتنا إلى كتاب سيبويه؟ أيقال مررت بالزيدين ظريفي عمرو فيضاف نعت الشيء إلى غيره؟
فقال محمد لصحة طبعه: لا والله ما يقال هذا، ونظر إلى محمد بن يزيد فأمسك ولم يقل شيئا، وقمت ونهض المجلس.
قال عبد الله الفقير إليه: لا أدري لم لا يجوز هذا وما أظنّ أحدا ينكر قول القائل: رأيت الفرسين مركوبي زيد، ولا الغلامين عبدي عمرو، ولا الثوبين درّاعتي زيد، ومثله مررت بالزيدين ظريفي عمرو، فيكون مضافا إلى عمرو وهو صفة لزيد، وهذا ظاهر لكل متأمّل «1» .
قال أبو العباس: لما شاهدني المازني وجاراني النحو وخرج إلى سرّ من رأى كان يذكرني ويوجّه إليّ: أخيك يقرئك السلام.
قال أبو العباس: قال لي محمد بن عيسى بحضرة محمد بن عبد الله: نحن نقدّمك لتقدمة الأمير، فقلت له: يا شيخ إني لم أتعلم العلم لتقدّمني الأمراء وإنما تعلمته لتقدّمني العلماء.
قال أحمد بن يحيى: كان محمد بن عبد الله يكتب «ألف درهم واحدة» فإذا مرّ به «ألف درهم واحد» أصلحه «واحدة» ، فكان كتّابه ينكرون ذلك ويغلظ عليهم ويهابونه فلا يبتدئونه فيه بشيء، فقال يوما: أتدري لم عمل الفراء «كتاب البهي» ؟
قلت: لا قال: لعبد الله أبي بأمر طاهر جدي، قلت له: إنه قد كان عمل له كتبا منها(2/539)
«كتاب المذكر والمؤنث» قال: وما فيه؟ قلت: مثل «ألف درهم واحد» ولا يجوز «واحدة» ، ففتح عينيه وتنبّه وأقلع.
وقال أبو العباس: بعث إليّ عبد الله ابن أخت أبي الوزير رقعة فيها خطّ المبرد «ضربته بلا سيف» قال: أيجوز هذا؟ فوجهت إليه: لا والله ما سمعت بهذا، قال أبو العباس: هذا خطأ بتة «1» لأن التبرئة لا يقع عليها خافض ولا غيره، لأنها أداة وما تقع أداة على أداة.
قال العجوزي: صرت إلى المبرد مع القاسم والحسن ابني عبيد الله بن سليمان بن وهب، فقال لي القاسم: سله عن شيء من الشعر، فقلت: ما تقول- أعزك الله- في قول أوس:
وغيّرها عن وصلها الشيب إنه ... شفيع إلى بيض الخدور مدرّب
فقال بعد تمكث وتمهل وتمطّق: يريد أن النساء أنس به فصرن لا يستترن منه.
ثم صرنا إلى أبي العباس أحمد بن يحيى، فلما غصّ المجلس سألته عن البيت فقال:
قال لنا ابن الأعرابي: إنّ الهاء في «إنه» للشباب وإن لم يجر له ذكر لأنه علم، والتفتّ إلى الحسن والقاسم فقلت: أين صاحبنا من صاحبكم؟
وقال حمزة: لما مات المازنيّ خلفه أبو العباس المبرد، وبقي ذكره ببغداد وسامرّا لا يغضّ أحد منه إلى أن ذكره ابن الأنباريّ في بعض مصنفاته وأراد أن يضع منه ويرفع من صاحبه أبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، جاريا على عادته في العصبية للكوفيين على البصريين، فقال: سمعت أبا العباس- يعني ثعلبا- يقول: عزمت على المضيّ إلى المازنيّ لأناظره فأنكر ذلك عليّ أصحابنا وقالوا: مثلك لا يصلح أن يمضي إلى بصريّ فيقال غدا إنه تلميذه، فكرهت الخلاف عليهم، فأراد ابن الأنباري أن يرفع من ثعلب فوضع منه. ولم يقتصر على ذلك التقصير بالمازنيّ حتى قصّر بالخليل أيضا، وزعم أن أبا العباس أحمد بن يحيى حكى له أن أبا جعفر الرؤاسي(2/540)
عمل كتابا في النحو وسماه «الفيصل» فبعث الخليل إليه يستعيره فوجّه به إليه، فقال: والدليل على أن الخليل تعلّم النحو من كتاب الرؤاسي ما يوجد في كتاب سيبويه من ذكره إذ يقول: قال الكوفي، وهذا متى سمع علم أنه لا يقوله إلا عصبي.
قرأت في كتاب ابن أبي الأزهر بخطّ عبد السلام البصري قال: كان بإزاء دار أبي العباس ثعلب رجل قد غلب على عقله، فكان ربما خرج فجلس على الباب- باب بيته- ينظر إلى الناس، فرأى يوما غلام أبي العباس وقد أدخل إلى داره خبزا أسود، فقال له: يا أبا العباس لم لا تشتري لك خبز حوّارى؟ ما معنى هذا الضيق والشؤم؟ فقال له: هذا أصلح من الحاجة وبذل الوجه إلى الناس، فضحك وقال:
عجبت لك من هذا الكلام أمالك هذا إلا من بذل الوجه والحاجة إلى الناس والطلب منهم؟ لا تقبل برّ أحد إن كنت صادقا، فالتفت إليّ وقال: قد قال قولا، ثم أنشدني في الزهد:
زماننا صعب وإخواننا ... أيديهم جامدة البذل
وقد مضى الناس ولم يبق في ... عصرك إلا محكم البخل
وما لنا بلغة أقواتنا ... ما فيه للإسراف من فضل
فضمّ كفّيك على ملكها ... وأطرش السمع عن العذل
فتعجبت من إنشاده هذا الشعر بعقب ما خوطب به.
قال أحمد بن فارس اللغوي: كان أبو العباس ثعلب لا يتكلّف الإعراب في كلامه، كان يدخل المجلس فنقوم له فيقول: أقعدوا أقعدوا، بفتح الألف.
قال ابن كامل القاضي: أنشدني أبو بكر ابن العلاف لنفسه لما مات المبرد «1» :
ذهب المبرد وانقضت أيّامه ... وليلحقنّ مع المبرّد ثعلب
بيت من الآداب أصبح نصفه ... خربا وباقي ربعه فسيخرب
فابكوا لما سلب الزمان ووطّنوا ... للدهر أنفسكم على ما يسلب
ذهب المبرد حيث لا ترجونه ... أبدا ومن ترجونه فمغيّب(2/541)
فتزوّدوا من ثعلب فبكأس ما ... شرب المبرد عن قليل يشرب
واستحلبوا ألفاظه فكأنكم ... بسريره وعليه جمع مجلب
وأرى لكم أن تكتبوا أنفاسه ... إن كانت الأنفاس مما يكتب
فليلحقنّ بمن مضى متخلّف ... من بعده وليذهبنّ ونذهب
وقال أبو الطيب عبد الواحد اللغوي في كتابه المسمى «مراتب النحويين» «1» قال: كان ثعلب يعتمد على ابن الأعرابي في اللغة، وعلى سلمة بن عاصم في النحو، ويروي عن ابن نجدة كتب أبي زيد، وعن الأثرم كتب أبي عبيدة، وعن أبي نصر كتب الأصمعي، وعن عمرو بن أبي عمرو كتب أبيه، وكان ثقة متقنا يستغني بشهرته عن نعته.
وقال: وكان ثعلب حجّة دينا ورعا مشهورا بالحفظ والصدق وإكثار الرواية وحسن الدراية، كان ابن الأعرابي إذا شكّ في شيء يقول له: ما عندك يا أبا العباس في هذا؟ ثقة بغزارة حفظه. ولد سنة مائتين وطلب اللغة والعربية في سنة ست عشرة ومائتين. قال: وابتدأت بالنظر في «حدود الفراء» وسني ثماني عشرة سنة، وبلغت خمسا وعشرين سنة وما بقي عليّ مسألة للفراء إلا وأنا أحفظها وأحفظ موضعها من الكتاب، ولم يبق شيء من كتب الفراء في هذا الوقت إلا وقد حفظته.
وحدث المرزباني قال عبد الله بن حسين بن سعد القطربلي في «تاريخه» «2» :
كان أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب من الحفظ والعلم وصدق اللهجة، والمعرفة بالغريب، ورواية الشعر القديم، ومعرفة النحو على مذهب الكوفيين، على ما ليس عليه أحد، وكان يدرس كتب الفراء والكسائي درسا، [ولم يكن يعلم] «3» مذهب البصريين، ولا مستخرجا للقياس ولا مطالبا له، وكان يقول: قال الفراء والكسائي، فإذا سئل عن الحجة والحقيقة في ذلك لم يغرق في النظر. وكان أبو علي أحمد بن جعفر النحوي ختنه زوج ابنته يخرج من منزله، وهو جالس على باب داره، فيتخطى أصحابه ويمضي ومعه دفتره ومحبرته فيقرأ على أبي العباس المبرد كتاب سيبويه،(2/542)
فيعاتبه أحمد بن يحيى على ذلك ويقول له: إذا رآك الناس تمضي إلى هذا الرجل تقرأ عليه يقولون ماذا؟ فلم يكن يلتفت إلى قوله.
قال «1» : وكان ختنه هذا أبو علي يعرف بالدينوري، وكان حسن المعرفة، فسمعت إسحاق المصعبي يقول له: كيف صار محمد بن يزيد أعلم بكتاب سيبويه من أحمد بن يحيى؟ قال: لأن محمد بن يزيد قرأه على العلماء، وأحمد بن يحيى قرأه على نفسه. قال «2» : ولم يزل ثعلب مقدما عند العلماء منذ أيام حداثته، وكان ضيّق النفقة مقتّرا على نفسه، حدثني أخي- وكان صاحبه ووصيه- قال: دخلت إليه يوما وقد احتجم، وبين يديه طبق فيه ثلاثة أرغفة وخمس بيضات وبقل وخلّ، وهو يأكل، فقلت له: يا أبا العباس قد احتجمت، ولو أخذ لك رطل لحم وثمن التوابل ومثله للعيال ما له معنى.
قال «3» : وسمعت أحمد بن إسحاق المعروف بابن «4» المدوّر يقول: كنت أرى أبا عبد الله ابن الأعرابي يشكّ في الشيء فيقول لثعلب: ما عندك يا أبا العباس في هذا؟ ثقة بغزارة حفظه. ولم يكن مع ذلك موصوفا بالبلاغة، ولا رأيته إذا كتب كتابا إلى بعض إخوانه من أصحاب السلطان خرج عن طبع العامة، فإذا أخذته في الشعر والغريب ومذهب الفرّاء والكسائي رأيت من لا يفي به أحد ولا يتهيأ له الطعن عليه.
وكان هو ومحمد بن يزيد علمين ختم بهما تاريخ الأدب «5» ، أو كانا كما قال بعض المحدثين:
أيا طالب العلم لا تجهلنّ ... وعذ بالمبرد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب(2/543)
قال المرزباني: أخبرني الصولي أنّ عبد الله بن الحسين بن سعد القطربلي أنشده هذه الأبيات لنفسه.
وحدث محمد بن أحمد الكاتب قال «1» حدثنا أحمد بن يحيى النحوي قال:
سألني ابن الأعرابي كم لك من الولد؟ فقلت: ابنة وأنشدته:
لولا أميمة لم أجزع من العدم ... ولم أجب في الليالي حندس الظّلم
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ... والموت أكرم نزّال على الحرم
فأنشدني ابن الأعرابي في المعنى:
أميمة تهوى عمر شيخ يسرّه ... لها الموت قبل الليل لو أنها تدري
يخاف عليها جفوة الناس بعده ... ولا ختن يرجى أودّ من القبر
وحدث عن أبي عبد الله الحكيمي عن يموت بن المزرّع قال: وأراد أبو العباس ثعلب أن يرحل إلى أبي حاتم السجستاني إلى البصرة، فبلغه أن أبا حاتم انتشر ذكره يوما لما رأى جماعة من المرد يكتبون في مجلسه، فرآه غلام منهم فقال له: أصلحك الله أي لام هذه؟ قال: لام كي يا بنيّ، فلم يخرج أبو العباس إليه.
وحدث الصولي قال «2» : كنا عند أبي العباس أحمد بن يحيى فقال له رجل:
المسجد هذا المعروف، فما المصدر؟ قال: مصدره السجود، قال: فعرّفني ما لا يجوز من ذا، فقال: لا يقال مسجد وضحك وقال: هذا يطول إن وصفنا ما لا يجوز، وإنما يوصف الجائز ليدلّ على أن غيره لا يجوز. ومثل ذلك أن ماسويه وصف لإنسان دواء ثم قال له: كل الفرّوج وشيئا من الفاكهة، فقال: أريد أن تخبرني بالذي لا آكل، فقال: لا تأكلني ولا حماري ولا غلامي، واجمع كثيرا من القراطيس وبكّر إليّ، فإن هذا يكثران وصفته لك.
وحدث عن الصولي قال، قال أبو العباس ثعلب: لم أسمع من جماعة، كلّهم قد رأيته وتمكنت منه، ولو أردت ذلك ما فاتني عنهم جميع ما أطلب، منهم أبو عبيد(2/544)
القاسم ابن سلام وإسحاق الموصلي وأبو توبة والنضر بن حديد، وإني لأذكر موت الفراء ذكرا جيدا وأنا في الكتّاب.
وحدث قال، وقال أبو العباس يوما آخر: الهرم علّة قائمة بنفسها، فإذا كان معه علة فذاك أمر عظيم، وأنشد:
أرى بصري في كلّ يوم وليلة ... يكلّ وخطوي عن مداهنّ يقصر
ومن يصحب الأيام تسعين حجة ... يغيرنه والدهر لا يتغير
لعمري لئن أصبحت أمشي مقيّدا ... لما كنت أمشي مطلقا قبل أكثر
وحدث أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي «1» قال، قال ثعلب: اقعدني «2» محمد بن عبد الله بن طاهر مع ابنه طاهر، وأفرد لي دارا في داره، وأقام لنا وظيفة، فكنت أقعد معه إلى أربع ساعات من النهار، ثم أنصرف إذا أراد الغداء، فنمي ذلك إلى أبيه، فكسا البهو والأروقة «3» ، وأضعف ما كان يعدّ من الألوان، فلما حضر وقت الانصراف انصرفت، فنمي ذلك إليه فقال للخادم الموكّل بنا: قد نمي إليّ انصراف أحمد بن يحيى وقت الطعام، فظننت أنه استقلّ ما يحضر ولم يستطب الموضع فأمرنا بتضعيفه، ثم نمي إليّ أنه انصرف، فقل له عن نفسك: أبيتك أبرد من بيتنا أو طعامك أطيب من طعامنا؟ وتقول له عني: انصرافك إلى بيتك وقت الغداء هجنة علينا، فلما عرّفني الخادم ذلك أقمت، فكنت على هذه الحال ثلاث عشرة سنة، وكان يقيم لي مع ذلك في اليوم سبع وظائف من الخبز الخشكار، ووظيفة من الخبز السميد، وسبعة أرطال من اللحم، وعلوفة رأس، وأجرى لي في الشهر ألف درهم.
ولقد جاءت سنة الفتنة وعظم الأمر في الدقيق واللحم فكتب إليه كاتبه على المطبخ يعرّفه ما هو فيه من عظم المؤونة، ويسأله إحضار الجريدة فيقتصر على ما لا بدّ منه «4» ، فأنفذها فكانت مشتملة على ثلاثة آلاف وستمائة إنسان، فرأيت محمدا قد زاد(2/545)
فيها بخطه قوما آخرين ووقّع عليها: لست أقطع عن أحد ما عوّدته ولا سيما من قال لي أطعمني الخبز، فأجر الأمر على ما في الجريدة واصبر على هذه المؤونة، فإما عشنا جميعا وإما متنا جميعا.
قال الزبيدي «1» : وخلف كتبا جليلة، فأوصى إلى علي بن محمد الكوفي أحد أعيان تلاميذه وتقدّم إليه في دفع كتبه إلى أبي بكر أحمد بن إسحاق القطربلي، فقال الزجاج للقاسم بن عبيد الله: هذه كتب جليلة فلا تفوتنّك، فأحضر خيران الورّاق فقوّم ما كان يساوي عشرة دنانير: ثلاثة، فبلغت أقلّ من ثلاثمائة دينار، فأخذها القاسم بها.
وقال أبو الطيب عبد الواحد بن علي اللغوي في «كتاب مراتب النحويين» «2» :
وانتهى علم الكوفيين إلى ابن السكّيت وثعلب، وكانا ثقتين أمينين، ويعقوب أسنّ وأقدم موتا وأحسن الرجلين تأليفا، وكان ثعلب أعلمهما بالنحو، وكان يعقوب يضعّف فيه. قال ثعلب: كنت يوما عند ابن السكيت فسألني عن شيء فصحت عليه، وكان ثعلب شديد الحدّة، قال فقال لي: لا تصح فوالله ما سألتك الا مستفهما.
وحدث أبو أحمد العسكري في «كتاب التصحيف» قال «3» ، وأخبرنا أبو بكر ابن الأنباري قال، حدثني أبي قال: قرأ القطربلي على أبي العباس ثعلب بيت الأعشى:
فلو كنت في حب ثمانين قامة ... ورقّيت أسباب السماء بسلّم
فقال أبو العباس: خرب بيتك، هل رأيت حبا قط ثمانين قامة؟! إنما هو جب.
وحدث الخطيب «4» قال، قال ثعلب: كنت أحبّ أن أرى أحمد بن حنبل فلما دخلت عليه قال لي: فيم تنظر؟ قلت: في النحو والعربية، فأنشدني أبو عبد الله وهو لبعض بني أسد:(2/546)
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل ... خلوت ولكن قل عليّ رقيب
ولا تحسبنّ الله يغفل ما يرى ... ولا أن ما يخفي عليه يغيب
لهونا عن الآثام حين تتابعت ... ذنوب على آثارهنّ ذنوب
فيا ليت أنّ الله يغفر ما مضى ... ويأذن في توباتنا فنتوب
وحدث الخطيب «1» قال، قال أبو محمد الزهري: كان لثعلب عزاء ببعض أهله، فتأخّرت عنه لأنه خفي عليّ، ثم قصدته معتذرا فقال لي: يا أبا محمد ما بك حاجة إلى أن تتكلف عذرا فإن الصديق لا يحاسب، والعدوّ لا يحتسب له.
وجدت بخط أبي الحسن علي «2» بن عبيد الله السمسمي اللغوي، حدثنا أبو محمد ابن الحسن النوبختي قال، حدثنا أبو الفتح محمد بن جعفر المراغي النحوي قال، حدثنا أبو بكر ابن الخياط النحوي قال: كنت عند أبي العباس ثعلب في بعض الأيام، فسأله رجل وقد ساء سمعه فقال له: يا أبا العباس- أعزّك الله- ما الصوص؟
فقال له: الصوح أصل الجبل، فأعاد الرجل سؤاله لعلمه بأن الشيخ ما فهم، فقال ثعلب: السوح جمع ساحة، فأعاد سؤاله ثالثة فعلم ثعلب أنه ما فهم عن الرجل، قال فقال له: ادن مني فألقم أذني فاك وقل، ففعل ذلك، فلما فهم ثعلب سؤاله قال:
نعم العرب تقول: رأيت صوصا على أصوص أي رجلا نذلا على ناقة كريمة.
حدث الزجاجي أبو القاسم عن علي بن سليمان الاخفش قال، أخبرنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: قدم الرياشي بغداد سنة ثلاثين ومائتين فصرت إليه لآخذ عنه، فقال لي: أسألك عن مسألة، فقلت: نعم، فقال: تجيز نعم الرجل يقوم؟ فقلت: نعم هي جائزة عند الجميع، أما الكسائي فيضمر، والتقدير عنده نعم الرجل رجل يقوم لأنّ نعم عنده فعل، والفراء لا يضمر لأنّ نعم عنده اسم فيرفع الرجل بنعم ويقوم صلة للرجل، وأما صاحبك يعني سيبويه فإنه لا يضمر شيئا ونعم عنده أيضا فعل، ولكن يجعل يقوم مترجما، وهو الذي يسمونه البدل، فسكت فقلت له: فأسألك عن مسألة، فقال: نعم، فقلت: [أتجيز] يقوم نعم الرجل فقال: جائز، فقلت: هذه(2/547)
خطأ عند الجميع، أما على مذهب الكسائي فإنه لا يولي الفعل فعلا، فأما على مذهب الفراء فإن يقوم عنده صلة للرجل والصلة لا تقدم على الموصول، وأما على مذهب سيبويه صاحبك فإنه لا يجوز لأنه ترجمة والترجمة إيضاح وتبيين للجملة التي تتقدمها ولا يجوز تقديمها عليها. فقال: أنا تارك للعربية فخذ فيما قصدت له، ففاتحته أيام الناس والأخبار والاشعار ففتحت به بسيح بحر.
وحدث قال، أخبرنا علي بن سليمان الأخفش قال: كنت يوما بحضرة ثعلب فأسرعت القيام قبل انقضاء المجلس، فقال: إلى أين؟ ما أراك تصبر عن مجلس الخلدي- يعني المبرد- فقلت له: لي حاجة، فقال لي إني أراه يقدم البحتريّ على أبي تمام، فإذا أتيته فقل له: ما معنى قول أبي تمام:
اآلفة النجيب كم افتراق ... أظلّ فكان داعية اجتماع
قال أبو الحسن: فلما صرت إلى أبي العباس المبرد سألته عنه فقال: معنى هذا أن المتحابّين العاشقين قد يتصارمان ويتهاجران إدلالا لا عزما على القطيعة، فإذا حان الرحيل وأحسّا بالفراق تراجعا إلى الودّ وتلاقيا خوف الفراق وأن يطول العهد بالالتقاء بعده، فيكون الفراق حينئذ سببا للاجتماع كما قال الآخر:
متّعا بالفراق يوم الفراق ... مستجيرين بالبكا والعناق
كم أسرّا هواهما حذر النا ... س وكم كاتما غليل اشتياق
فأظلّ الفراق فالتقيا فيه ... فراقا أتاهما باتفاق
كيف أدعو على الفراق بحتف ... وغداة الفراق كان التلاقي
قال: فلما عدت إلى ثعلب سألني عنه فأعدت عليه الجواب والأبيات فقال: ما أشد تمويهه، ما صنع شيئا، إنما معنى البيت أن الانسان قد يفارق محبوبه رجاء أن يغنم في سفره فيعود إلى محبوبه مستغنيا عن التصرف فيطول اجتماعه معه، ألا تراه يقول في البيت الثاني:
وليست فرحة الأوبات إلّا ... لموقوف على ترح الوداع
وهذا نظير قول الآخر، بل منه أخذ أبو تمام:
وأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا ... وتسكب عيناي الدموع لتجمدا(2/548)
هذا هو ذاك بعينه.
وحكى أن ثعلبا خرج يوما على أصحابه وليس فيهم إلا كهل أو شيخ فأنشد متمثلا:
ألا ربما سؤت الغيور وبرّحت ... بي الأعين النّجل المراض الصحائح
فقد ساءني أن الغيور يودّني ... وأن نداماي الكهول الجحاجح
قلت أنا: هذا والله مليح جدا.
وحدث جحظة في «أماليه» قال: كنت يوما في مجلس ثعلب، فقال له رجل:
يا سيدي ما البعجدة؟ قال: لا أعرفها في كلام العرب، فقال الرجل: فإني وجدتها في شعر عبد الصمد بن المعذل حيث يقول:
أعاذلتي أقصري ... أبع جدتي بالمنن
فاغتاظ أبو العباس غيظا عظيما وقال: يا قوم أجيدوا أذنيه عركا أو يحلف أنه لا يرجع يحضر حلقتي ففعلنا.
حدث أبو عمر الزاهد قال «1» : كنت في مجلس أبي العباس ثعلب فسأله سائل عن شيء فقال: لا أدري، فقال له: أتقول لا أدري وإليك تضرب أكباد الأبل، وإليك الرحلة من كل بلد؟ فقال له ثعلب: لو كان لأهلي بعدد ما لا أدري بعر لا ستغنيت.
قال أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد الزهري «2» : كان بيني وبين أبي العباس ثعلب مودة وكيدة، وكنت أستشيره في أموري، فجئته يوما أشاوره في الانتقال من محلّة إلى محلة لتأذيّ بالجيران، فقال: يا أبا محمد، العرب تقول: صبرك على أذى من تعرف خير من استحداث ما لا تعرف.
قال أبو عمر الزاهد: أنشدني أبو العباس ثعلب:
إذا ما شئت أن تبلو صديقا ... فجرب ودّه عند الدراهم
فعند طلابها تبدو هنات ... وتعرف ثمّ أخلاق المكارم(2/549)
وحدث الخطيب قال «1» : كان بين المبرد وثعلب منافرات كثيرة، والناس مختلفون في تفضيل كلّ واحد منهما على صاحبه، قال: وجاء رجل إلى ثعلب فقال له يا أبا العباس قد هجاك المبرد، فقال: بماذا؟ فأنشده:
أقسم بالمبتسم العذب ... ومشتكى الصبّ إلى الصبّ
لو أخذ النحو عن الربّ ... ما زاده الا عمى القلب
فقال أنشدني من أنشده أبو عمرو بن العلاء:
شاتمني عبد بني مسمع ... فصنت عنه النفس والعرضا
ولم أجبه لاحتقاري له ... من ذا يعضّ الكلب إن عضّا
وحدث أيضا قال «2» قال أبو العباس محمد بن عبيد الله بن عبد الله بن طاهر، قال لي أبي: حضرت مجلس أخي محمد بن عبد الله بن طاهر وحضره أبو العباس ثعلب والمبرد، فقال لي أخي محمد: قد حضر هذان الشيخان فليتناظرا، [وأنا أحب أن أعرف أيهما أعلم] قال: فتناظرا في شيء من علم النحو مما أعرفه، فكنت أشركهما فيه إلى أن دقّقا فلم أفهم، ثم عدت إليه [بعد انقضاء] «3» المجلس، فسألني فقلت: إنهما تكلّما فيما أعرف فشركتهما ثم دقّقا فلم أعرف ما قالا، ولا والله يا سيدي ما يعرف أعلمهما إلا من هو أعلم منهما، ولست ذلك الرجل. فقال لي: يا أخي أحسنت والله، هذا أحسن- يعني اعترافه بذلك.
وقال لي أبو عمر الزاهد «4» : سألت أبا بكر ابن السراج فقلت: أيّ الرجلين أعلم ثعلب أم المبرد؟ فقال: ما أقول في رجلين العالم بينهما.
وحدّث أبو عمر أيضا قال «5» : كنت في مجلس أبي العباس ثعلب فضجر، فقال له شيخ خضيب من الظاهرية «6» : لو علمت ما لك من الأجر في إفادة الناس لصبرت(2/550)
على أذاهم، فقال: لولا ذاك ما تعذبت، ثم أنشد بعقب هذا:
يعابثن بالقضبان كلّ مفلّج ... به الظّلم لم تفلل لهن غروب
رضابا كطعم الشّهد يجلو متونه ... من الضّرو أو غصن الأراك قضيب
أولائك لولا هنّ ما سقت نضوة ... لحاج ولا استقبلت برد جنوب
وحدث أبو بكر ابن مجاهد قال «1» كنت عند أبي العباس ثعلب فقال لي: يا أبا بكر اشتغل أصحاب القرآن بالقرآن ففازوا، واشتغل أهل الفقه بالفقه ففازوا، واشتغل أصحاب الحديث بالحديث ففازوا، واشتغلت أنا بزيد وعمرو فليت شعري ما يكون حالي في الآخرة؟ فانصرفت من عنده فرأيت تلك الليلة النبيّ صلى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي:
أقرىء أبا العباس عني السلام وقل له: إنك صاحب العلم المستطيل؛ قال الروذباري «2» : أراد أن الكلام به يكمل والخطاب به يجمل، وقال مرة أخرى: أراد أن جميع العلوم مفتقرة إليه.
وأنشد الخطيب «3» قال أنشد أبو العباس ثعلب:
بلغت من عمري ثمانينا ... وكنت لا آمل خمسينا
والحمد لله وشكرا له ... إذ زاد في عمري ثلاثينا
وأسأل الله بلوغا إلى ... مرضاته آمين آمينا
ونقلت من كتاب محمد بن عبد الملك التاريخي في «أخبار النحويين» قال «4» :
أبو العباس أحمد بن يحيى بن زيد بن ثعلب الشيباني النحوي فاروق النحويين، والمعاير على اللغويين من الكوفيين والبصريين، أصدقهم لسانا، وأعظمهم شانا، وأبعدهم ذكرا، وأرفعهم قدرا، وأصحّهم علما، وأوسعهم حلما، وأتقنهم حفظا وأوفرهم حظا من الدين والدنيا. حدثني المفضل بن سلمة بن عاصم قال: رأس أبو(2/551)
العباس أحمد بن يحيى ثعلب النحوي واختلف الناس إليه في سنة خمس وعشرين ومائتين. قال: وسمعت إبراهيم الحربي يقول، وقد تكلم الناس في الاسم والمسمّى:
وقد كرهت لكم ولنفسي ما كره أحمد بن يحيى ورضيت لكم ولنفسي ما رضي أحمد بن يحيى. قال: وكان أبو الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني قد ذكر أبا العباس ثعلبا للناصر لدين الله الموفّق بالله، وأخرج له رزقا سنيا سلطان يا، فحسن موقع ذلك من أهل العلم والأدب، وقال قائلهم لأبي الصقر وأبي العباس في أبيات ذكرها:
فيا جبلي شيبان لا زلتما لها ... حليفي فخار في الورى وتفضّل
فهذا ليوم الجود والسيف والقنا ... وأنت لبسط العلم غير مبخّل
عليك أبا العباس كلّ معوّل ... لأنك بعد الله خير معوّل
فككت حدود النحو بعد انغلاقه ... وأوضحته شرحا وتبيان مشكل
فكم ساكن في ظلّ نعمتك التي ... على الدهر أبقى من ثبير ويذبل
فأصبحت للاخوان بالعلم ناعشا ... وأخصبت منه منزلا بعد منزل
وذكر التاريخي وفاة ثعلب كما تقدم؛ قال وقال بعض أصحابنا يرثيه:
مات ابن يحيى فماتت دولة الأدب ... ومات أحمد أنحى العجم والعرب
فإن تولّى أبو العباس مفتقدا ... فلم يمت ذكره في الناس والكتب
وللتاريخي في ثعلب شعر رثاه به، نذكره في بابه إن شاء الله تعالى «2» .
قال التاريخي: وحدثني أبو الحصين البجلي قال: يقول أهل الكوفة لنا ثلاثة فقهاء في نسق لم ير الناس مثلهم: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، ولنا ثلاثة نحويين كذلك وهم أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي وأبو زكريا يحيى بن زياد الفراء وأبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب.
آخر ما نقلناه من كتاب التاريخي.
وذكره محمد بن إسحاق النديم في «كتاب الفهرست» «1» وقال: له من الكتب: كتاب المصون في النحو جعله حدودا. كتاب اختلاف النحويين. كتاب(2/552)
معاني القرآن. كتاب مختصر في النحو سماه الموفّقي. كتاب القراءات. كتاب معاني الشعر. كتاب التصغير. كتاب ما ينصرف وما لا ينصرف. كتاب ما يجرى وما لا يجرى. كتاب الشواذّ. كتاب الوقف والابتداء. كتاب الهجاء. كتاب استخراج الألفاظ من الأخبار. كتاب الأوسط. كتاب غريب القرآن لطيف. كتاب المسائل.
كتاب حدّ النحو. كتاب تفسير كلام ابنة الخس. كتاب الفصيح «1» .
وذكر أن «الفصيح» تصنيف ابن داود الرقي وادعاه ثعلب، وهذا له ترجمة.
قال: ولأبي العباس مجالسات وأمال أملاها على أصحابه في مجالسه تحتوي على قطعة من النحو واللغة والأخبار ومعاني القرآن والشعر رواها عنه جماعة. وعمل أبو العباس قطعة من دواوين العرب وفسّر غريبها كالأعشى والنابغتين وغيرهم.
وسئل ثعلب عن معنى قولهم «لا أكلمك أصلا» فقال: معناه أقطع ذلك من أصله، وأنشد:
بأهلي من لا يقطع البخل رغبتي ... إليه ومن يزداد عن رغبتي بخلا
ومن قد لحاني الناس فيه فأكثروا ... عليّ فكلّ الناس مضطغن ذحلا
وأمنحه صفو الهوى ولو انه ... على البحر يسقي ما سقيت به سجلا
وما زلت تعتادين ودّي بالمنى ... وبالبخل حتى قد ذهبت به أصلا
قرأت في «أمالي» أبي بكر محمد بن القاسم الأنباري: أنشدنا أبو بكر لأحمد بن يحيى النحوي:
إذا كنت قوت النفس ثم هجرتها ... فكم تلبث النفس التي أنت قوتها
ستبقى بقاء الضبّ في الماء أو كما ... يعيش لدى ديمومة البيد حوتها
قال: وزادنا أبو الحسن ابن البراء:
أغرّك أني قد تصبرت جاهدا ... وفي النفس مني منك ما سيميتها
فلو كان ما بي بالصخور لهدّها ... وبالريح ما هبّت وطال خفوتها
فصبرا لعلّ الله يجمع بيننا ... فأشكو هموما منك كنت لقيتها(2/553)
كذا كان في الكتاب، ولا أدري أهذا الشعر لثعلب أم أنشده لغيره، إلا أنه في هذا الكتاب لأحمد بن يحيى كما ترى.
[207]
أحمد بن يحيى بن علي بن يحيى بن أبي منصور
المنجم أبو الحسن: قد ذكرنا آباءه في أبوابهم، وكان أبو الحسن هذا أديبا شاعرا فاضلا عالما، أحد رؤساء زمانه في علم الكلام وعلوم الدين والافتنان في الآداب، مات في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة عن نيف وسبعين سنة «1» ، وله أخبار مع الراضي في منادمته إياه، ذكر ذلك كله المرزباني في «المعجم» .
قال ثابت: وفي ذي الحجة كانت وفاته، ومولده في سنة اثنتين وستين ومائتين «2» وكان يحيى بن علي أبوه قد صنف كتابا في «أخبار الشعراء المخضرمين» فأتمّه ابنه هذا.
وله من الكتب: كتاب أخبار أهله ونسبهم. كتاب الإجماع في الفقه على مذهب ابن جرير الطبري، وكان يرى رأيه.. كتاب المدخل إلى مذهب الطبري ونصرة مذهبه. كتاب الأوقات.
وأبو الحسن هذا هو القائل فيما رواه المرزباني:
يا سيّدا قد راح فر ... دا ما له في الفضل توأم
عمّرت أطول مدة ... تزداد تمكينا وتسلم
في صفو عيش لا تزال ... به العدى تقذى وترغم
ما زلت في كلّ الأمور ... موفّقا للخير ملهم
بك إن تذوكرت الأيادي ... يبتدا فيها ويختم
__________
[207]- ترجمة أبي الحسن ابن المنجم في تاريخ بغداد 5: 215 والوافي 8: 246 وانظر الفهرست 160- 161، 292.(2/554)
[208]
أحمد بن يحيى بن الوزير بن سليمان بن مهاجر
: مولى قيسبة بن كلثوم السومي «1» ، يكنى أبا عبد الله. [روى عن] ابن كليب وعبد الله بن وهب، وكان فقيها من جلساء ابن وهب، وكان عالما بالشعر والأدب والأخبار وأيام الناس والأنساب، يقال كان مولده سنة إحدى وسبعين ومائتين، وتوفي في حبس ابن المدبر صاحب الخراج بمصر لخراج كان عليه، ودفن يوم الأحد لاثنتين وعشرين ليلة خلت من شوال سنة خمسين ومائتين، وكان من أهل مصر، ذكر ابن يونس في تاريخ مصر ذلك كله.
[209]
أحمد بن يحيى بن سهل بن السريّ الطائي
أبو الحسن المنبجي الشاهد المقرىء النحوي الأطروش: ذكره ابن عساكر في «تاريخ دمشق» وكان وكيلا في الجامع مات سنة خمس عشرة وأربعمائة، روى عن أبي عبد الله ابن مروان «2» وأبي العباس أحمد بن فارس الأديب المنبجي وأبي الحسن نظيف بن عبد الله المقرىء وغيرهم. وكان يحفظ من أخبار أبي عبد الله ابن خالويه النحوي، وكان ثقة. قال ابن عساكر: أنشدني ابن الأكفاني عن ابن الكتاني عن أحمد بن يحيى بن سهل المنبجي، أنشدني أبو العباس أحمد بن فارس الأديب، أنشدني ابن طباطبا لنفسه «3» :
__________
[208]- بغية الطلب 2: 122 وإنباه الرواة 1: 152 والوافي 8: 247 وبغية الوعاة 1: 398 وتهذيب التهذيب 1: 89.
[209]- ترجمته في مصورة ابن عساكر 2: 270 (وتهذيب ابن عساكر 1: 112 ومختصر ابن منظور 3: 319) وإنباه الرواة 1: 151 والوافي 8: 248 وبغية الوعاة 1: 395.(2/555)
حسود مريض القلب يخفي أنينه ... ويضحي كئيب البال مني حزينه
يلوم على أن رحت للعلم طالبا ... أقلّب من كلّ الرواة فنونه
وأختار أبكار الكلام وعونه ... وأحفظ مما أستفيد عيونه
ويزعم أن العلم لا يجلب الغنى ... ويحسن بالجهل الذميم ظنونه
فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ... فقيمة كلّ الناس ما يحسنونه
[210]
أحمد بن يزيد بن محمد المهلبي أبو جعفر
: أديب شاعر راوية، له قصيدة مدح فيها الموفق وهنأه بفتح البصرة، منها:
قل للأمير هناك النصر والظفر ... وفيهما للاله الحمد والشكر
ما فوق فتحك فتح في الزمان كما ... ما فوق فخرك يوم الفخر مفتخر
[211]
أحمد بن يعقوب بن يوسف أبو جعفر
النحوي المعروف ببرزويه الأصبهاني:
مات فيما ذكره الخطيب سنة أربع وخمسين وثلاثمائة في أيام المطيع فكان يعرف بغلام نفطويه، أخذ عن أبي خليفة الفضل بن الحباب ومحمد بن العباس اليزيدي وغيرهما.
[212]
أحمد بن يعقوب بن ناصح الأصبهاني
الأديب أبو بكر النحوي: ذكره الحاكم فقال: هو نزيل نيسابور، وسمع بأصبهان محمد بن يحيى بن منده الأصبهاني
__________
[210]- الوافي 8: 270 (وقال ذكره المرزباني في معجمه، وأورد من رائيته ستة أبيات وشفعها بمقطوعة أخرى) .
[211]- تاريخ بغداد 5: 226 (وعدّ كثيرا من شيوخه) . والوافي 8: 275 وبغية الوعاة 1: 400.
[212]- الوافي 8: 276 وبغية الوعاة 1: 400.(2/556)
وأقرانه. مات بنيسابور قبل الخمسين وبعد الأربعين والثلاثمائة، وكتب عنه الحاكم وأسند إليه في كتابه حديثين.
[213]
أحمد بن أبي يعقوب إسحاق بن جعفر بن وهب
بن واضح الاخباري العباسي:
ذكره أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب المصري الكندي المؤرخ في تاريخ له ابتدأه بسنة ثمانين ومائتين قال: إن أحمد بن إسحاق بن واضح مولى بني هاشم توفي في سنة أربع وثمانين ومائتين، وله تصانيف كثيرة منها: كتاب التاريخ كبير «1» . كتاب أسماء البلدان مجلد «2» . وكتاب في أخبار الأمم السالفة صغير. كتاب مشاكلة الناس لزمانهم «3» .
[214]
أحمد بن أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم يعرف بابن الداية
: كان أبوه ولد داية إبراهيم بن المهدي، وأظنّ أن المعروف بابن الداية هو يوسف الراوي أخبار أبي نواس، والله أعلم. وكان أبوه يوسف بن إبراهيم يكنى أبا الحسن، وكان من جلة الكتاب بمصر، ولا أدري كيف كان انتقاله إليها عن بغداد. وكان له مروءة تامة وعصبية مشهورة.
قال أبو القاسم العساكري الحافظ «4» : يوسف بن إبراهيم أبو الحسن الكاتب،
__________
[213]- هو اليعقوبي المؤرخ، والأرجح أن وفاته متأخرة عن التاريخ المذكور (انظر الأعلام للزركلي 1: 91) .
[214]- عيون الأنباء 1: 190، 207 والوافي 8: 282.(2/557)
وأظنه بغداديا كان في خدمة إبراهيم بن المهدي قدم دمشق سنة خمس وعشرين ومائتين، وحكى عن عيسى بن حكم «1» الدمشقي الطبيب النسطوري وشكلة أم إبراهيم بن المهدي وإسماعيل بن أبي سهل بن نوبخت وأبي إسحاق إبراهيم بن المهدي وأحمد بن رشيد الكاتب مولى سلام الأبرش وجبرئيل بن بختيشوع الطبيب وأيوب بن الحكم البصري المعروف بالكسروي وأحمد بن هارون الشرابي. روى عنه ابنه أبو جعفر أحمد ورضوان بن أحمد بن جالينوس وكان من ذوي المروءات، وصنف كتابا فيه أخبار المتطببين.
قال الحافظ: وبلغني عن أبي جعفر أحمد بن يوسف قال: حبس أحمد بن طولون يوسف بن إبراهيم والدي في بعض داره، وكان اعتقال الرجل في داره يؤيس من خلاصه، فكاد ستره أن ينهتك لخوف شمله عليه، وكان له جماعة من أبناء الستر «2» يتحمل مؤنها «3» مقيمة لا تنقطع إلى غيره، فاجتمعوا وكانوا زهاء ثلاثين رجلا وركبوا إلى دار أحمد بن طولون، فوقفوا بباب له يعرف بباب الخيل، واستأذنوا عليه فأذن لهم، فدخلوا إليه وعنده محمد بن عبد الله بن عبد الحكم وجماعة من أعلام مستوري مصر، فابتدأوا كلامه بأن قالوا: قد اتفق لنا- أيد الله الأمير- من حضور هذه الجماعة- وأشاروا إلى ابن عبد الحكم والحاضرين مجلسه- ما رجونا أن يكون ذريعة إلى ما نأمله «4» ، ونحن نرغب إلى الأمير في أن يسألها عنّا ليقف على أمرنا ومنازلنا، فسألهم عنهم فقالوا: قد عرضت العدالة على أكثرهم فامتنع منها، فأمرهم أحمد بن طولون بالجلوس، وسألهم تعريفه ما قصدوا له فقالوا: ليس لنا أن نسأل الأمير مخالفة ما يراه في يوسف بن إبراهيم لأنه أهدى إلى الصواب فيه، ونحن نسأله أن يقدمنا إلى ما اعتزم عليه فيه: إن آثر قتله أن يقتلنا، وإن آثر غير ذلك أن يبلغ مأربه «5» ، فهو في سعة وحلّ منه، فقال لهم: ولم ذلك؟ فقالوا: لنا ثلاثون سنة ما أفكرنا في ابتياع شيء مما احتجنا إليه، ولا وقفنا بباب غيره، ونحن والله يا أمير نرتمض «6» [من] البقاء بعده ومن السلامة من شيء إن مكروه وقع به، وعجّوا بالبكاء بين يديه، فقال أحمد بن(2/558)
طولون: بارك الله عليكم فقد كافأتم إحسانه وجازيتم إنعامه، ثم قال: أحضروا يوسف بن إبراهيم فأحضر، فقال: خذوا بيد صاحبكم وانصرفوا، فخرجوا معه وانصرف إلى منزله.
قال أبو جعفر أحمد بن يوسف بن إبراهيم: وبعث أحمد بن طولون في الساعة التي توفي فيها والدي يوسف بن إبراهيم بخدم فهجموا الدار وطالبوا بكتبه مقدرين أن يجدوا فيها كتابا من أحد ممن ببغداد، فحملوا صندوقين، وقبضوا عليّ وعلى أخي وصاروا بنا إلى داره، وأدخلنا إليه وهو جالس وبين يديه رجل من أشراف الطالبيين، فأمر بفتح أحد الصندوقين، وأدخل خادم يده فوقع في يده دفتر جراياته على الاشراف وغيرهم، فأخذ الدفتر بيده وتصفحه، وكان جيد الاستخراج، فوجد اسم الطالبيّ في الجراية فقال له وأنا أسمع: كانت عليك جراية ليوسف بن إبراهيم؟ فقال له: نعم يا أيها الأمير دخلت هذه المدينة وأنا مملق فأجرى عليّ في كلّ سنة مائتي دينار ومائة اردب قمحا «1» أسوة ابن الأرقط والعقيقي وغيرهما، ثم امتلأت يداي بطول الامير فاستعفيته منها فقال لي: ناشدتك «2» الله أن قطعت سببا لي برسول الله صلى الله عليه وسلّم، وتدمّع الطالبي، فقال أحمد بن طولون: رحم الله يوسف بن إبراهيم، ثم قال: انصرفوا إلى منازلكم «3» فلا بأس عليكم، فانصرفنا فلحقنا جنازة والدنا، وحضر ذلك العلويّ دفننا «4» وقضى حقنا، وقد أحسن مكافأة والدنا في مخلّفيه.
وقال «5» : أبو جعفر أحمد بن أبي يعقوب يوسف بن إبراهيم، يعرف بابن الداية، من فضلاء أهل مصر ومعروفيهم، وممن له علوم كثيرة في الأدب والطب والنجامة والحساب وغير ذلك، وكان أبوه أبو يعقوب كاتب إبراهيم بن المهدي ورضيعه. ألّف كتابا في أخبار الطب. مات أحمد بن يوسف في سنة نيف وثلاثين وثلاثمائة وأظنها سنة أربعين وثلاثمائة وله من التصانيف: سيرة أحمد بن طولون «6» .(2/559)
كتاب سيرة ابنه أبي الجيش خمارويه. كتاب سيرة هارون ابن أبي الجيش وأخبار غلمان بني طولون. كتاب المكافأة «1» . كتاب حسن العقبى. كتاب أخبار الأطبّاء.
كتاب مختصر المنطق ألّفه للوزير علي بن عيسى. كتاب ترجمة كتاب الثمرة. كتاب أخبار المنجّمين. كتاب أخبار إبراهيم بن المهدي. كتاب الطبيخ.
وذكره ابن زولاق الحسن بن إبراهيم فقال «2» : كان أبو جعفر رحمه الله في غاية الافتنان، أحد وجوه الكتّاب الفصحاء والحسّاب والمنجمين، مجسطيّ أوقليدسيّ، حسن المجالسة حسن الشعر، قد خرج من شعره أجزاء. دخل يوما على أبي الحسن علي بن المظفر الكرخي عامل خراج مصر مسلّما عليه فقال له: كيف حالك يا أبا جعفر؟ فقال على البديهة:
يكفيك من سوء حالي إن سألت به ... أني على طبريّ في الكوانين
[215]
أحمد بن يوسف بن القاسم بن صبيح الكاتب القفطي
أبو جعفر: من أهل الكوفة، كان يتولى ديوان الرسائل للمأمون، وكان أخوه القاسم بن يوسف يدّعي أنه من بني عجل، ولم يدّع أحمد ذلك.
قال المرزباني: هو «3» مولى لبني عجل، ومنازلهم بسواد الكوفة. وزر أحمد
__________
[215]- ترجمة أحمد بن يوسف الكاتب في كتاب بغداد لابن أبي طاهر: 128 والأغاني 22: 565 وتاريخ بغداد 5: 216 والجهشياري: 304 والفهرست: 139 (وعده من بلغاء الناس وأنه اعتمد على أنس بن أبي شيخ ص: 140 وذكر أن أشعاره في خمسين ورقة (ص 188) ومصورة تاريخ ابن عساكر 2: 287 وتهذيب ابن عساكر 2: 124 ومختصر ابن منظور 2: 330 وبغية الطلب 2: 148 وقال إن ابن الجراح ذكره في الورقة، والوافي 8: 279 وانظر صفحات متفرقة من زهر الآداب، وله أخبار كثيرة قد نثرت في كتب الأدب، ورسائل أو منتخبات منها. وله ترجمة في كتاب الأوراق (أخبار الشعراء المحدثين) 143- 146، 206- 236.(2/560)
للمأمون بعد أحمد بن أبي خالد. مات في قول الصولي في شهر رمضان سنة ثلاث عشرة ومائتين وقال غيره سنة أربع عشرة ومائتين، وكان أبوه يوسف يكنى أبا القاسم، وكان يكتب لعبد الله بن علي عمّ المنصور، وله شعر حسن وبلاغة. وكان أحمد وأخوه «1» القاسم شاعرين أديبين، وأولادهما جميعا أهل أدب يطلبون الشعر والبلاغة.
حكى عن المأمون وعبد الحميد بن يحيى الكاتب وحكى عنه ابنه محمد بن أحمد بن يوسف وعلي بن سليمان الأخفش وغيرهما.
قال الصولي: لما مات أحمد بن أبي خالد الأحول شاور المأمون الحسن بن سهل فيمن يكتب له ويقوم مقامه، فأشار عليه بأحمد بن يوسف وبأبي عباد ثابت بن يحيى الرازي، وقال: هما أعلم الناس بأخلاق أمير المؤمنين وخدمته وما يرضيه فقال له: اخترلي أحدهما، فقال الحسن: إن صبر أحمد على الخدمة وجفا لذّته قليلا فهو أحبّهما إليّ لأنه أعرق في الكتابة وأحسنهما بلاغة وأكثر علما، فاستكتبه المأمون، وكان يعرض الكتب ويوقّع، ويخلفه أبو عباد إذا غاب عن دار المأمون مترفعا عن الحال التي كان عليها أيام أحمد بن أبي خالد، وكان ديوان الرسائل وديوان الخاتم والتوقيع والأزمّة إلى عمرو بن مسعدة، وكان أمر المأمون يدور على هؤلاء الثلاثة «2» .
حدث الصولي عن أبي الحارث النوفلي قال: كنت أبغض القاسم بن عبيد الله لمكروه نالني منه، فلما مات أخوه الحسن قلت على لسان ابن بسام «3» :
قل لأبي القاسم المرجّى ... قابلك الدهر بالعجائب
مات لك ابن وكان زينا ... وعاش ذو الشّين والمعايب
حياة هذا كموت هذا ... فليس تخلو من المصائب
وإنما أخذه من قول أحمد بن يوسف الكاتب لبعض إخوانه من الكتّاب، وقد ماتت له ببغا، وكان له أخ يضعّف، فكتب إليه «4» :(2/561)
أنت تبقى ونحن طرّا فداكا ... أحسن الله ذو الجلال عزاكا
فلقد جلّ خطب دهر أتانا ... بمقادير أتلفت ببّغاكا
عجبا للمنون كيف أتاها ... وتخطّت عبد الحميد أخاكا
كان عبد الحميد أصلح للموت ... من الببغا وأولى بذاكا
شملتنا المصيبتان جميعا ... فقدنا هذه ورؤية ذاكا
حدث أبو القاسم عبد الله بن محمد بن ناقيا الكاتب في «كتاب ملح الممالحة» قال: لما خرج عبد الله بن طاهر من بغداد إلى خراسان قال لابنه محمد: إن عاشرت أحدا بمدينة السلام فعليك بأحمد بن يوسف الكاتب، فإن له مروءة، فما عرج محمد حين انصرف من توديع أبيه على شيء حتى هجم على أحمد بن يوسف في داره، فأطال عنده، ففطن له أحمد فقال: يا جارية غدينا، فأحضرت طبقا وأرغفة نقية وقدّمت ألوانا يسيرة وحلاوة وأعقب ذلك بأنواع من الأشربة في زجاج فاخر وآلة حسنة وقال: يتناول «1» الأمير من أيها شاء. ثم قال له: إن رأى الأمير أن يشرف عبده ويجيئه في غد أنعم بذلك، فنهض وهو متعجّب من وصف أبيه له، وأراد فضيحته فلم يترك قائدا جليلا ولا رجلا مذكورا من أصحابه إلا عرفهم أنه في دعوة أحمد بن يوسف، وأمرهم بالغدوّ معه، فلما أصبحوا قصدوا دار أحمد بن يوسف، وقد أخذ أهبته وأظهر مروءته، فرأى محمد بن النضائد والفرش والستور والغلمان والوصائف ما أدهشه، ونصب ثلاثمائة مائدة وقد حفت بثلاثمائة وصيفة، ونقل إلى كل مائدة ثلاثمائة لون في صحاف الذهب والفضة ومثارد الصين، فلما رفعت الموائد قال ابن طاهر: هل أكل من بالباب؟ فنظروا فإذا جميع من بالباب قد نصبت لهم الموائد فأكلوا، فقال: شتان بين يوميك يا أبا الحسن (كذا في هذه الرواية كناه بأبي الحسن) فقال: أيها الأمير ذاك قوتي وهذه مروءتي.
وحدث الصولي قال «2» : كان من أول ما ارتفع به أحمد بن يوسف أن المخلوع لما قتل أمر طاهر الكتّاب أن يكتبوا إلى المأمون فأطالوا، فقال طاهر: أريد أخصر من(2/562)
هذا، فوصف له أحمد بن يوسف فأحضره لذلك، فكتب: أما بعد فإنّ المخلوع وإن كان قسيم أمير المؤمنين في النّسب واللحمة فقد فرّق حكم الكتاب بينه وبينه في الولاية والحرمة، لمفارقته عصمة الدين، وخروجه عن إجماع المسلمين، قال الله عز وجل لنوح عليه السلام في ابنه: يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح
(هود: 46) ولا صلة لأحد في معصية الله، ولا قطيعة ما كانت في ذات الله. وكتبت إلى أمير المؤمنين وقد قتل الله المخلوع، وأحصد لأمير المؤمنين أمره، وأنجز له وعده، فالأرض بأكنافها أوطأ مهاد لطاعته، وأتبع شيء «1» لمشيئته. وقد وجهت إلى أمير المؤمنين بالدنيا وهو رأس المخلوع، وبالآخرة وهي البردة والقضيب، والحمد لله الآخذ لأمير المؤمنين بحقه، والكائد له من خان عهده ونكث عقده حتى رد الألفة، وأقام به الشريعة، والسلام على أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. فرضي طاهر ذلك وأنفذه ووصل أحمد بن يوسف وقدمه.
وحدث محمد بن عبدوس «2» أنه لما حمل رأس المخلوع إليه وهو بمرو أمر المأمون بإنشاء كتاب عن طاهر بن الحسين ليقرأ على الناس، فكتبت عدة كتب لم يرضها المأمون والفضل بن سهل، فكتب أحمد بن يوسف هذا الكتاب فلما عرضت النسخة على ذي الرئاستين رجع نظره فيها ثم قال لأحمد بن يوسف: ما أنصفناك، ودعا بقهرمانه وأخذ القلم والقرطاس وأقبل يكتب بما يفرّغ له من المنازل، ويعدّ له فيها من الفرش والآلات والكسوة والكراع وغير ذلك، ثم طرح الرقعة إلى أحمد بن يوسف وقال له: إذا كان في غد فاقعد في الديوان، وليقعد جميع الكتاب بين يديك، واكتب إلى الآفاق.
وحدث فيما رفعه إلى إبراهيم بن إسماعيل قال «3» ، قال: كثر الطلاب للصلات بباب المأمون، فكتب إليه أحمد بن يوسف: داعي نداك يا أمير المؤمنين ومنادي جدواك جمعا الوفود ببابك يرجون نائلك المعهود، فمنهم من يمتّ بحرمة، ومنهم من يدلي(2/563)
بخدمة، وقد أجحف بهم المقام، وطالت عليهم الأيام، فإن رأى أمير المؤمنين أن ينعشهم بسيبه، ويحقق حسن ظنهم بطوله فعل إن شاء الله تعالى.
فوقع المأمون: الخير متبع، وأبواب الملوك مظانّ لطالبي الحاجات ومواطن لهم، ولذلك قال الشاعر:
يسقط الطير حيث يلتقط الحبّ وتغشى منازل الكرماء فاكتب أسماء من ببابنا منهم، واحك مراتبهم ليصل إلى كلّ رجل قدر استحقاقه، ولا تكدّر معروفنا عندهم بطول الحجاب وتأخير الثواب، فقد قال الشاعر:
فانك لن ترى طردا لحرّ ... كالصاق به طرف الهوان
حدث أحمد بن أبي طاهر قال «1» : كتب صديق لأحمد بن يوسف الكاتب في يوم دجن إليه: يومنا ظريف النواحي، رقيق الحواشي، قد رعدت سماؤه وبرقت وحنت وارجحنت، وانت قطب السرور، ونظام الأمور، فلا تفردنا منك فنقلّ، ولا تنفرد عنا فنذلّ، فإن المرء بأخيه كثير وبمساعدته جدير. قال: فصار أحمد بن يوسف إلى الرجل وحضرهم من أرادوا، ثم تغيمت السماء فقال أحمد بن يوسف:
أرى غيما تؤلفه «2» جنوب ... وأحسب أن سيأتينا بهطل
فعين الرأي أن تدعو برطل ... فتشربه وتدعو لي برطل
وتسقيه ندامانا جميعا ... فيفترقون منه بغير عقل
فيوم الغيم يوم الغمّ إن لم ... تبادر بالمدامة كلّ شغل
ولا تكره محرّمها عليها ... فإني لا أراه لها بأهل
قال: فغنى فيه عثعث اللحن المشهور.
وأهدى أحمد بن يوسف هدية في يوم نوروز إلى المأمون وكتب معها «3» :(2/564)
على العبد حقّ فهو لا بد فاعله ... وان عظم المولى وجلّت فضائله
ألم ترنا نهدي إلى الله ما له ... وان كان عنه ذا غنى فهو قابله
ولو كان يهدى للكريم بقدره ... لقصّر فضل المال عنه وسائله
ولكننا نهدي إلى من نعزه ... وان لم يكن في وسعنا ما يعادله
وذكر الجهشياري قال «1» كان يكتب لعبد الله بن علي: يوسف بن صبيح مولى بني عجل من ساكني سواد الكوفة، فذكر القاسم بن يوسف بن صبيح أن أباه حدثه أن عبد الله بن علي لما استتر عند أخيه سليمان بالبصرة علم أنه لا وزر له من أبي جعفر.
قال: فلم أستتر، وقصدت أصحابنا الكتاب فصرت في ديوان أبي جعفر، وأجرى لي في كل يوم «2» عشرة دراهم، قال: فبكرت يوما إلى الديوان قبل فتح بابه ولم يحضر أحد من الكتاب، وإني لجالس عليه إذ انا بخادم لأبي جعفر قد جاء إلى الباب فلم ير غيري فقال لي: أجب أمير المؤمنين، فأسقط في يدي وخشيت الموت، فقلت له: إن أمير المؤمنين لم يردني، فقال: وكيف؟ قلت: لأني لست ممن يكتب بين يديه، فهمّ بالانصراف عني، ثم بدا له فأخذني وأدخلني، حتى إذا كنت دون الستر وكّل بي ودخل، ولم يلبث أن خرج فقال لي: ادخل فدخلت، فلما صرت على باب الايوان قال لي الربيع: سلّم على أمير المؤمنين، فشممت رائحة الحياة فسلّمت، فأدناني وأمرني بالجلوس، ثم رمى إليّ بربع قرطاس وقال لي: اكتب وقارب بين الحروف، وفرّج بين السطور، واجمع خطك، ولا تسرف في القرطاس. وكانت معي دواة شامية فتوقفت عن إخراجها، فقال لي: يا يوسف وأنت تقول في نفسك أنا بالأمس في ديوان الكوفة أكتب لبني أمية ثم مع عبد الله بن علي وأخرج الساعة دواة شامية؟ إنك إنما كنت في الكوفة تحت يدي غيرك «3» وكنت مع عبد الله بن علي لي ومعي، والدويّ الشامية أدب جميل ومن أدوات الكتاب، ونحن أحق بها، قال: فأخرجتها وكتبت وهو(2/565)
يملي، فلما فرغت من الكتاب أمر به فأترب وأصلح وقال: دعه وكل العنوان اليّ، ثم قال لي: كم رزقك يا يوسف في ديواننا؟ فقلت: عشرة دراهم، فقال: قد زادك أمير المؤمنين عشرة دراهم أخرى رعاية لحرمتك بعبد الله بن علي ومثوبة لك على طاعتك ونقاء ساحتك، وأشهد أنك لو اختفيت باختفائه لأخرجتك ولو كنت في جحرة النمل، ثم زايلت بين أعضائك. فدعوت له وخرجت مسرورا بالسلامة.
كان للمأمون «1» جارية اسمها مؤنسة، وكانت تعتني بأحمد بن يوسف، وكان أحمد بن يوسف يقوم بحوائجها، فأدلّت على المأمون في بعض الأمور فأنكر عليها، وصار إلى الشماسية ولم يحملها معه، فاستحضرت نصرة خادم أحمد بن يوسف وحملته رسالة إلى مولاه بخبرها، وسألته التلطف لاصلاح نية المأمون، فلما عرّفه الخادم ذلك دعا بدواته وقصد الشماسية فاستأذن على المأمون، فلما وصل اليه قال:
أنا رسول فأذن لي في تأدية الرسالة، فأنشده هذه الأبيات:
قد كان عتبك مرّة مكتوما ... فاليوم أصبح ظاهرا معلوما
نال الأعادي سؤلهم لا هنّئوا ... لما رأونا ظاعنا ومقيما
هبني أسأت فعادة لك أن ترى ... متجاوزا متفضلا مظلوما
قال: قد فهمت الرسالة، فكن الرسول بالرضى، ووجّه بياسر الخادم فحملها.
وكان موسى بن عبد الملك في ناحية أحمد بن يوسف، وهو خرّجه وقدّمه، قال الحسن بن مخلد: حدثني موسى بن عبد الملك قال: وهب لي أحمد بن يوسف (وكان يرمى بأنه كان يعبث بموسى بن عبد الملك يتعشقه) ألف ألف درهم في مرات، وكان عاتبه فيه محمد بن الجهم البرمكيّ، فكتب إليه أحمد بن يوسف «2» :
لا تعذلّني يا أبا جعفر ... لوم الأخلّاء من اللوم
إن استه مشربة حمرة ... كأنها وجنة مكلوم
فتقدم محمد إلى البجلي، وكان في ناحيته، فأجابه:(2/566)
لست بلاحيك على حبّه ... ولست في ذاك بمذموم
لأنّ في أسفله سخنة ... كأنها سخنة محموم
ذكر غرس النعمة في «كتاب الهفوات» «1» حدثني محمد بن علي بن طاهر بن الحسين قال: كان أحمد بن يوسف يسقط السقطة بعد السقطة فتتلف نفسه في بعض سقطاته، وذلك أنه حكى علي بن يحيى بن أبي منصور أن المأمون كان إذا تبخر طرح له العود والعنبر، فإذا تبخر أمر باخراج المجمرة ووضعها تحت الرجل من جلسائه اكراما له، وحضر أحمد بن يوسف يوما، وتبخّر المأمون على عادته ثم [أمر] بوضع المجمر تحت أحمد بن يوسف فقال: هاتوا ذا المردود، فقال المأمون: ألنا يقال هذا ونحن نصل رجلا واحدا من خدمنا بعشرة آلاف درهم (قال الصولي في كتاب الوزراء: بستة آلاف ألف دينار، وهو الصحيح) إنما قصدنا إكرامك وأن أكون أنا وأنت قد اقتسمنا بخورا واحدا، يحضر عنبر، فأحضر منه شيء في الغاية من الجودة في كلّ قطعة ثلاثة مثاقيل، وأمر أن تطرح قطعة في المجمر ويبخر بها أحمد ويدخل رأسه في زيقه حتى ينفد بخورها، وفعل به ذلك بقطعة ثانية وثالثة، وهو يستغيث ويصيح، وانصرف إلى منزله وقد احترق دماغه واعتل ومات سنة ثلاث عشرة ومائتين وقيل أربع عشرة ومائتين وكانت له جارية يقال لها نسيم لها من قلبه مكان خطير، فقالت ترثيه «2» :
ولو أن ميتا هابه الموت قبله ... لما جاءه المقدار وهو هيوب
ولو أن حيّا قبله صابه الردى ... إذا لم يكن للأرض فيه نصيب
وقالت أيضا ترثيه «3» :
نفسي فداؤك لو بالناس كلّهم ... ما بي عليك تمنّوا أنهم ماتوا
وللورى موتة في الدهر واحدة ... ولي من الهمّ والأحزان موتات(2/567)
ومن شعر أحمد بن يوسف، كتب به إلى صديق له «1» :
تطاول باللقاء العهد منا ... وطول العهد يقدح في القلوب
أراك وان نأيت بعين قلبي ... كأنّك نصب عيني من قريب
فهل لك في الرواح إلى حبيب ... يقرّ بعينه قرب الحبيب
قال أحمد بن يوسف، وقد شتمه رجل بين يدي المأمون، للمأمون: قد والله يا أمير المؤمنين رأيته يستملي من عينيك ما يلقاني به.
وكتب إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، وقد زاره إبراهيم بن المهدي: عندي من أنا عبده وحجتنا عليك إعلامنا اياك والسلام:
عندي من تبهج العيون به ... فإن تخلّفت كنت مغبونا
وأهدى إلى المأمون في يوم عيد هدية وكتب معها «2» : هذا يوم جرت فيه العادة، باهداء العبيد إلى السادة، وقد أهديت قليلا من كثير عندي وقلت:
أهدى إلى سيده العبد ... ما ناله الإمكان والوجد
وإنما أهدى له ماله ... يبدأ هذا ولذا ردّ
فقال المأمون: عاقل أهدى حسنا.
ومن شعره اللطيف «3» :
إذا ما التقينا والعيون نواظر ... فألسننا حرب وأبصارنا سلم
وتحت استراق اللحظ منا مودّة ... تطلّع سرا حيث لا يبلغ الوهم
وهو القائل في محمد بن سعيد بن حماد الكاتب، وكان يميل إليه وكان صبيا مليحا «4» :
صدّ عني محمد بن سعيد ... أحسن العالمين ثاني جيد
صدّ عني لغير جرم إليه ... ليس الا لحسنه في الصدود(2/568)
قال: وكان محمد بن سعيد يكتب بين يديه، فنظر إلى عارضه قد اختط في خدّه، فأخذ رقعة وكتب فيها «1» :
لحاك الله من شعر وزادا ... كما ألبست عارضه الحدادا
أغرت على تورد وجنتيه ... فصيّرت احمرارهما سوادا
ورمى بها إلى محمد بن سعيد، فكتب مجيبا، عظم الله أجرك فيّ يا سيدي وأحسن لك العوض مني.
ومن شعر أحمد بن يوسف «2» :
كثير هموم النفس حتى كأنما ... عليه كلام العالمين حرام
إذا قيل ما أضناك أسبل دمعه ... يبوح بما يخفي وليس كلام
وعاش القاسم أخوه بعد، فقال يرثيه:
رماك الدهر بالحدث الجليل ... فعزّ النفس بالصبر الجميل
أترجو سلوة وأخوك ثاو ... ببطن الأرض تحت ثرى مهيل
ومثل أخيك فلتبك البواكي ... لمعضلة من الخطب الجليل
وزير الملك يرعى جانبيه ... بحسن تيقظ وصواب قيل
وكتب إلى إبراهيم بن المهدي: قد أحلّك الله من الشّرف أعلى ذروته، وبلّغك من الفضل أبعد غايته، فما الآمال إلا إليك مصروفة، والأعناق نحوك معطوفة، وإليك تنتهي الهمم السامية، وعليك تقف الظنون الحسنة، وبك تثنى الخناصر، وبعدك تعدّ الأكابر، وببحرك تسافر الرغائب، وتستفتح أغلاق المطالب، لا يستعطي النجح من رجاك، ولا تعروه النوائب في ذراك «3» .(2/569)
[216]
أخثاء
: هو لقب ولا أعرف اسمه، ولم أجد له ذكرا إلا ما ذكره أبو بكر المبرمان في الباب من كتابه: «في نكت كتاب سيبويه» في الفرق بين الكلم والكلام فقال:
وقال لي الملقب بأخثاء وكان أحد من رأينا من النحويين الذين صحت لهم القراءة على أبي عثمان المازني، وكان موصوفا في أول نظره بالبراعة مسلّما له استغراق الكتاب على أبي عثمان، ثم أدركته علة فقصر عن الحال الأولى أنا حاكيه، ورأيت أنا أبا العباس ثعلبا يروم ذلك وهو ان كل ما لفظ به ينقسم أقساما ثلاثة، قسم منه يكون للحدث ولأسماء المحدثين ولأسماء الأمكنة والأزمنة التي تقع فيها الأحداث ولا اسم للجنس فيه وذلك نحو الضرب والقتل والأخذ والكلام وما أشبه ذلك، فإذا سئلت عن شيء من هذا فقيل لك: ما هو؟ فجوابه أن تذكر الحدث المنقضي مع الزمان.
وصنف منه يكون للأجناس ولا اسم للاحداث فيه ولا يكون حدثا وهو كقولك سفرجلة وسفرجل فإذا سئلت عن ذلك فجوابه ان تخبر عن صفة الشيء فتقول: هو الذي لونه كذا وجسمه كذا ومركّب من كذا. وصنف آخر يجمع الجنسين وذلك نحو تمرة وتمر فهذا من باب سفرجلة وسفرجل ثم تقول أتمر النخل يتمر اتمارا، فهذا إنما هو عبارة عن الحدث، فإذا سئلت ما التمر فجوابه ان تقول: هو الجسم الذي من صفته كذا ومن قدّه كذا وفي داخله كذا، وإذا سئلت ما الاتمار فجوابه ان يمرّ الزمان بحرّه وبرده وما فيه على البسر فيتغير من حال كذا إلى حال كذا، ثم يلين فيصير فيه الدبس. وانما تنبىء عن الاحداث التي تقع، وكذا كلمة وكلم في باب تمرة وتمر، فإذا قيل لك ما الكلم؟ فالجواب: هو الموضوع المتعارف بين الناس استعملوه، وهو الذي يسمونه اسم وفعل وحرف. فإن قيل: فما الكلام؟ فجواب ذلك ان تقول: هو إجراء هذا الذي يسمونه كلما وإخراجه بالصواب من الفم، فهو حدث فالكلام حدث، والكلم موضوع الكلام الذي يستعمل كزيد وضرب وهل وبل، فقد جمع الكلم أمرين، والكلام ليس كذلك إنما هو لأمر واحد.
__________
[216]- الوافي 8: 310.(2/570)
[217]
أسامة بن سفيان السجزي النحوي
: من نحاة سجستان وشعرائها، ذكره أبو الحسن البيهقي في كتاب «الوشاح» وأنشد له:
أبى النأي إلّا أن يجدّد لي ذكرى ... لمن ودعتني وهي لا تملك العبرا
وقالت رعاك الله ما خلت أنني ... أراك تسلّى أو تطيق لنا هجرا
وكنت ترى فرط العلاقة ساعة ... تغيّبها عنا وإن قصرت شهرا
وتجزع من وشك الفراق فما لنا ... على فرقة الأحباب أن نظهر الصبرا
منها في المديح:
وزير يرى المعروف يجمل ذكره ... فأرسل بين الناس معروفه غمرا
فما أقلعت يوما غمامة جوده ... ولا قطرت رشا ولا أخطأت قطرا
وما اختصّ يوما حاضرا دون غائب ... برفد ولا ذا فاقة دون من أثرى
وقد أمّه الراجون من كلّ وجهة ... فأربى مرجّاهم بواحدة عشرا
وقد كان يعطيهم وهم في ديارهم ... ولكن هوى أن يجمع الرفد والبشرا
رأى ماله مال العدى فأباده ... فلم يبق منه لا ولا منهم إثرا
[218]
أسامة بن مرشد بن علي بن مقلّد بن نصر
بن منقذ بن محمد بن منقذ بن
__________
[217]- إنباه الرواة 1: 237 والوافي 8: 377 وبغية الوعاة 1: 437.
[218]- لأسامة ابن منقذ ترجمة في مصورة ابن عساكر 2: 702 وتهذيبه 2: 403 والخريدة (قسم الشام) 1: 498 وبغية الطلب 2: 205 وابن خلكان 1: 195 والوافي 8: 378 وسير الذهبي 21: 164 والمقفى 2: 40 ويمثل كتاب الاعتبار شيئا من سيرته الذاتية، كما قد كتبت عنه في العصر الحديث عدة دراسات، ونشر من كتبه سوى الاعتبار: لباب الآداب والمنازل والديار وديوان شعره وكتاب العصا والبديع في نقد الشعر. وله كتاب في التاريخ، وله أزهار الأنهار ينقل عنه ابن العديم.(2/571)
نصر بن هاشم بن سوار بن زياد بن زغيب «1» بن مكحول بن عمرو بن الحارث بن عامر بن مالك بن أبي مالك بن عوف بن كنانة بن بكر بن عذرة بن زيد اللات بن رفيدة بن ثور بن كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمرو [بن الحاف] بن قضاعة بن مالك بن حمير بن مرة بن زيد بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان: هكذا ذكر هو نسبه وفيه اختلاف يسير عند ابن الكلبي. ويكنى أسامة أبا المظفر، ويلقب مؤيّد الدولة مجد الدين.
وفي بني منقذ جماعة أمراء شعراء، لكن أسامة أشعرهم وأشهرهم، وأنا أذكر لكلّ واحد من أهله في ترجمته ما يليق ولا أفرّقهم:
ذكره عماد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد الأصفهاني في «كتاب خريدة القصر وجريدة العصر» وأثنى عليه كثيرا فقال «2» : ما زال بنو منقذ هؤلاء مالكي شيزر، وهي حصن قريب من حماة، معتصمين بحصانتها ممتنعين بمناعتها، حتى جاءتن الزلزلة في سنة نيف وخمسين فخربت حصنها، وأذهبت حسنها، وتملكها نور الدين محمود بن زنكي عليهم، وأعاد بناءها فتشعبوا شعبا وتفرقوا أيدي سبا.
قال ابن عساكر «3» : ذكر لي أسامة أنه ولد سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وقدم دمشق سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة ومات أسامة في ثالث عشري رمضان سنة أربع وثمانين وخمسمائة ودفن بجبل قاسيون. قال العماد «4» : وأسامة كاسمه، في قوة نثره ونظمه، يلوح في كلامه أمارة الإمارة، ويؤسّس بيت قريضه عمارة العبارة، حلو المجالسة، حالي المساجلة، ندي النديّ بماء الفكاهة، عالي النجم في سماء النباهة، معتدل التصاريف، مطبوع التصانيف، أسكنه عشق الغوطة، دمشق المغبوطة، ثم نبت به كما تنبو الدار بالكريم، فانتقل إلى مصر فبقي بها مؤمّرا مشارا إليه بالتعظيم، إلى أيام ابن رزيك، فعاد إلى الشام، وسكن دمشق مخصوصا بالاحترام، حتى أخذت شيزر من أهله، ورشقهم صرف الزمان بنبله، ورماه الحدثان(2/572)
إلى حصن كيفا مقيما بها في ولده، مؤثرا لها على بلده، حتى أعاد الله دمشق إلى سلطنة الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة سبعين، ولم يزل مشغوفا بذكره، مشتهرا بإشاعة نظمه ونثره، والأمير العضد مرهف ولد الأمير مؤيّد الدولة جليسه، ونديمه وأنيسه. (قال مؤلف هذا الكتاب: وقد رأيت أنا العضد هذا بمصر عند كوني بها في سنتي إحدى عشرة، واثنتي عشرة وستمائة وأنشدني شيئا من شعره وشعر والده) قال: فاستدعاه إلى دمشق- يعني مؤيّد الدولة- وهو شيخ قد جاوز الثمانين.
قال «1» وأنشدني العامريّ من شعره بأصبهان، وكنت أتمنى لقياه، وأشيم على البعد حياه. حتى لقيته في صفر سنة إحدى وسبعين بدمشق، وسألته عن مولده فقال:
ولدت في السابع والعشرين من جمادى الآخرة سنة ثمان وثمانين وأربعمائة وأنشدني لنفسه البيتين اللذين سارا له في قلع ضرسه «2» :
وصاحب لا أملّ الدهر صحبته ... يشقى لنفعي ويسعى سعي مجتهد
لم ألقه مذ تصاحبنا فحين بدا ... لناظريّ افترقنا فرقة الأبد
وأنشدني لنفسه من قديم شعره «3» :
قالوا نهته الأربعون عن الصبا ... وأخو المشيب يجوز ثمّت يهتدي
كم حار في ليل الشباب فدلّه ... صبح المشيب على الطريق الأقصد
وإذا عددت سنيّ ثمّ نقصتها ... زمن الهموم فتلك ساعة مولدي
قلت أنا: هذا كلام نفيس ومعنى لطيف، ولكنه أخذ معنى البيت الثاني من قول ابن الرومي «4» .
كفى بسراج الشيب في الرأس هاديا ... إلى من أضلّته المنايا لياليا
فكان كرامي الليل يرمي فلا يرى ... فلما أضاء الشيب شخصي رمانيا(2/573)
وأخذ معنى البيت الأخير من قول أبي فراس ابن حمدان في مزدوجته «1» :
ما العمر ما طالت به الدهور ... العمر ما تمّ به السرور
أيام عزّي ونفاذ أمري ... هي التي أحسبها من عمري
لو شئت مما قد قللن جدّا ... عددت أيام السرور عدّا
ولكنّ قول أسامة أبلغ في المعنى وهذا ظاهر.
قال وأنشدني من قديم شعره «2» :
لم يبق لي في هواكم أرب ... سلوتكم والقلوب تنقلب
أوضحتم لي سبل السلوّ وقد ... كانت لي الطرق عنه تنشعب
إلام دمعي من هجركم سرب ... قان وقلبي من غدركم يجب
إن كان هذا لأن تعبّدني ... الحبّ فقد أعتقتني الريب
أحببتكم فوق ما توهّمه ... الناس وخنتم أضعاف ما حسبوا
وقوله أيضا «3» :
يا دهر مالك لا يصدّك ... عن مساءتي العتاب
أمرضت من أهوى ويأ ... بى أن أمرّضه الحجاب
لو كنت تنصف كانت ... الأمراض لي وله الثواب
أخذ هذا المعنى من قول الشاعر:
يا ليت علّته لي غير أنّ له ... أجر المريض وأني غير مأجور
قال العماد: وهذا الذي أوردته من شعره نقلته من «تاريخ السمعاني» فلما وردت إلى دمشق واجتمعت به قلت له: هل لك معنى مبتكر في الشيب؟
فأنشدني «4» :(2/574)
لو كان صدّ معاتبا ومغاضبا ... أرضيته وتركت خدّي شائبا
لكن رأى تلك النضارة قد ذوت ... لما غدا ماء الشبيبة ناضبا
ورأى النهى بعد الغواية صاحبي ... فثنى العنان يريغ غيري صاحبا
وأبيه ما ظلم المشيب فإنه ... أملي فقلت عساه عني راغبا
أنا كالدجى لما تناهى عمره ... نشرت له أيدي الصباح ذوائبا
ومن شعره أيضا في محبوس «1» :
حبسوك والطير النواطق إنما ... حبست لميزتها على الأنداد
وتهيّبوك وأنت مودع سجنهم ... وكذا السيوف تهاب في الأغماد
ما الحبس دار مهانة لذوي العلا ... لكنّه كالغيل للآساد
ومنه قوله في الشمعة «2» :
انظر إلى حسن صبر الشمع يظهر لل ... رائين نورا وفيه النار تستعر
كذا الكريم تراه ضاحكا جذلا ... وقلبه بدخيل الغمّ منفطر
وقوله أيضا «3» :
نافقت دهري فوجهي ضاحك جذل ... طلق وقلبي كئيب مكمد باك
وراحة القلب في الشكوى ولذّتها ... لو أمكنت لا تساوي ذلّة الشاكي
وقوله أيضا «4» :
لئن غضّ دهر من جماحي أو ثنى ... عناني أو زلّت بأخمصي النعل
تظاهر قوم بالشّمات جهالة ... وكم إحنة في الصدر أبرزها الجهل
وهل أنا إلا السيف فلّل حدّه ... قراع الأعادي ثم أرهفه الصقل(2/575)
وقوله أيضا «1» :
لا تحسدنّ على البقاء معمّرا ... فالموت أيسر ما يؤول إليه
وإذا دعوت بطول عمر لامرىء ... فاعلم بأنك قد دعوت عليه
قال العماد «2» وتناشدنا بيت الوزير المغربي في وصف خفقان القلب وتشبيهه بظل اللواء الذي تخترقه الرياح وهو «3» :
كأنّ قلبي إذا عنّ ادّكاركم ... ظلّ اللواء عليه الريح تخترق
فقال لي الأمير مؤيد الدولة أسامة: فقد شبهت القلب الخافق وبالغت في تشبيهه وأربيت عليه في قولي من أبيات، وهي «4» :
أحبابنا كيف اللقاء ودونكم ... عرض «5» المهامه والفيافي الفيح
أبكيتم عيني دما لفراقكم ... فكأنّما إنسانها مجروح «6»
وكأن قلبي حين يخطر ذكركم ... لهب الضرام تعاورته الريح
فقلت له: صدقت، فإن المغربي قصد تشبيهه خفقان القلب، وأنت شبهت القلب الواجب باللهيب، وخفقانه باضطرابه عند اضطرامه لتعاور الريح فقد أربيت عليه.
وأنشدني أيضا من قوله، أيام شبابه وهو معتقل، في الخيال «7» :
ذكر الوفاء خيالك المنتاب ... فألمّ وهو بودّنا مرتاب
نفسي فداؤك من حبيب زائر ... متعتّب عندي له الإعتاب(2/576)
ودّي كعهدك والديار قريبة ... من قبل أن تتقطع الأسباب
ثبت فلا طول الزيارة ناقص ... منه وليس يزيده الإغباب
حظر الوفاء عليّ هجرك طائعا ... وإذا اقتسرت فما عليّ عتاب
قال وتذاكرنا قول أبي العلاء المعرّيّ «1» :
لو حطّ رحلي فوق النجم رافعه ... ألفيت ثمّ خيالا منك منتظري
وأبلغ من هذا قول المعرّيّ في بعد المسافة «2» :
وذكرت كم بين العقيق إلى الحمى ... فجزعت من أمد المدى المتطاول
وعذرت طيفك في الجفاء فإنه ... يسري فيصبح دوننا بمراحل
وأنشدني «3» :
وأعجب ما لقيت من الليالي ... وأيّ فعالها بي لم يسؤني
تقلّب قلب من مثواه قلبي ... وجفوة من ضممت عليه جفني
قال «4» : واجتمعنا عند الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بدمشق ليلة، وكان يلعب بالشطرنج، فقال لي الأمير أسامة: ألا أنشدك البيتين اللذين قلتهما في الشطرنج؟ فقلت: هات، فأنشدني لنفسه:
انظر إلى لاعب الشطرنج يجمعها ... مغالبا ثم بعد الجمع يرميها
كالمرء يكدح للدنيا ويجمعها ... حتى إذا مات خلّاها وما فيها
وأنشدني لنفسه في غرض له في نور الدين محمود رحمه الله «5» :
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا ... له فكل على الخيرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم خالية ... من المعاصي وفيها الجوع والعطش(2/577)
قال وأنشدني لنفسه:
أأحبابنا هلّا سبقتم بوصلنا ... صروف الليالي قبل أن نتفرقا
تشاغلتم بالهجر والوصل ممكن ... وليس إلينا للحوادث مرتقى
كأنّا أخذنا من صروف زماننا ... أمانا ومن جور الحوادث موثقا
وقال أيضا:
قمر إذا عاينته «1» شغفا به ... غرس الحياء بوجنتيه شقيقا
وتلهّبت خجلا فلولا ماؤها ... مترقرقا فيه لصار حريقا
وازورّ عني مطرقا فأضلّني ... أنى «2» اهتدى نحو السلوّ طريقا
فليلحني من شاء فيه فصبوتى ... بهواه سكر لست منه مفيقا
وكتب إليه ابنه أبو الفوارس مرهف إلى حصن كيفا كتابا على يد مستمنح فلم يمكّن الوقت من بلوغ الغرض من البر، فكتب أسامة جوابه:
أبا الفوارس ما لاقيت من زمني ... أشدّ من قبضه كفّي عن الجود
رأى سماحي بمنزور تجانف لي ... عنه وجودي به فاجتاح موجودي
فصرت إن هزّني جان تعوّد أن ... يجني نداي رآني يابس العود
وقال أيضا «3» :
سقوف الدور في خربرت «4» سود ... كستها النار أثواب الحداد
فلا تعجب إذا ارتفعت علينا ... فللحظ اعتناء بالسواد
بياض العين يكسوها جمالا ... وليس النور إلا في السواد
ونور الشيب مكروه وتهوى ... سواد الشعر أصناف العباد
وطرس الخطّ ليس يفيد علما ... وكلّ العلم في وشي المداد(2/578)
وله في مدح صلاح الدين «1» :
هو من عرفن «2» فلو عصاه نهاره ... لرماه نقع جيوشه بغياهب
وله في الهزل «3» :
خلع الخليع عذاره في فسقه ... حتى تهتّك في بغا ولواط
يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا ... هذا كذلك إبرة الخياط
قال العماد «4» : وكان قد سألني أن أتنجّز له مطلوبا عند الملك الناصر صلاح الدين فكتب إليّ يستحثني:
عماد الدين مولانا جواد ... مواهبه كمنهلّ السحاب
يحكّم في مكارمه الأماني ... ولو كلّفنه ردّ الشباب
وعذرك في قضا شغلي قضاء ... يصرّفه فما عذر الجواب
ولمؤيد الدولة أسامة بن منقذ تصانيف حسان منها كتاب القضاء. كتاب الشيب والشباب ألفه لأبيه. كتاب ذيل يتيمة الدهر للثعالبي. كتاب تاريخ أيّامه. كتاب في أخبار أهله، رأيته.
ومن شعر الأمير الأجل مؤيّد الدولة مجد الدين أسامة بن منقذ:
صديق لنا كالبحر قد أهلك الورى ... ولم تنههم أخطاره عن ركوبه
مودّته تحكيه صفوا وخبرها ... كمشربه من حوبه وذنوبه
ومنه أيضا:
كنت بين الرجاء واليأس منه ... أقطع الدهر بين سلم وحرب
ألتقي عتبه بأكرم إعتا ... ب ويلقى ذلّي بتيه وعجب
فبدا للملوك أني لو رم ... ت سلوّا لما سلا عنه قلبي
فتجنّى لي الذنوب ولا و ... الله مالي ذنب سوى فرط حبي(2/579)
ومنه أيضا «1» :
انظر بعينك هل ترى ... أحدا يدوم على المودّه
لترى أخلّاء الصفا ... ء عدى إذا تأتيك شدّه
ومنه أيضا:
تنكّرني الإخوان حتى ثقاتهم ... وحذّرني منهم نذير التجارب
كأني إذا أودعت سرّي عندهم ... رفعت بنار فوق أعلى المراقب
قال العماد «2» وكتبها إلى دمشق بعد خروجه إلى مصر في أيام بني الصوفي يشير إليهم:
ولوا فلما رجونا عدلهم ظلموا ... فليتهم حكموا فينا بما علموا
ما مرّ يوما بفكري ما يريبهم ... ولا سعت بي إلى ما ساءهم قدم
ولا أضعت لهم عهدا ولا اطلعت ... على ودائعهم في صدري التهم
محاسني منذ ملّوني بأعينهم ... قذى وذكري في آذانهم صمم
وبعد لو قيل لي ماذا تحبّ وما ... تختار من زينة الدنيا لقلت هم
هم مجال الكرى من مقلتيّ ومن ... قلبي محلّ المنى جاروا او اجترموا
تبدلوا بي ولا أبغي بهم بدلا ... حسبي بهم أنصفوا في الحكم أم ظلموا
يا راكبا تقطع البيداء همّته ... والعيس تعجز عمّا تدرك الهمم
بلّغ أميري معين الدين مألكة ... من نازح الدار لكن ودّه أمم
هل في القضية يا من فضل دولته ... وعدل سيرته بين الورى علم
تضييع واجب حقّي بعد ما شهدت ... به النصيحة والإخلاص والخدم
إذا نهضت إلى مجد تؤثله ... تقاعدوا وإذا شيّدته هدموا
وإن عرتك من الأيام نائبة ... فكلّهم للذي يبكيك يبتسم(2/580)
وكلّ من ملت عنه قرّبوه ومن ... والاك فهو الذي يقصى ويهتضم
اين الحمية والنفس الأبية إذ ... ساموك خطّة خسف عارها يصم
هلا أنفت حياء أو محافظة ... من فعل ما أنكرته العرب والعجم
أسلمتنا وسيوف الهند مغمدة ... ولم يروّ سنان السمهري دم
وكنت أحسب من والاك في حرم ... لا يعتريه به شيب ولا هرم
وأنّ جارك جار للسموأل لا ... يخشى الأعادي ولا تغتاله النقم
هبنا جنينا ذنوبا لا يكفّرها ... عذر فماذا جنى الأطفال والحرم
ومنها:
لكنّ رأيك أدناهم وأبعدني ... «فليت أنّا بقدر الحبّ نقتسم»
ولا سخطت بعادي إذ رضيت به ... «ولا لجرح إذا أرضاكم الم»
تعلقت بحبال الشمس منك يدي ... ثم انثنت وهي صفر ملؤها ندم
لكن فراقك آساني وآسفني ... ففي الجوانح نار منه تضطرم
فاسلم فما عشت لي فالدهر طوع يدي ... وكلّ ما نالني من بؤسه نعم
ومن شعره أيضا:
الق الخطوب إذا طرقن ... بقلب محتسب صبور
فسينقضي زمن الهموم ... كما انقضى زمن السرور
فمن المحال دوام حال ... في مدى العمر القصير
وتوفي بعد الثمانين وخمسمائة.
ومنهم أخوه أبو الحسن علي بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ «1» سيد بني منقذ، ورد بغداد حاجا بعد العشرين وخمسمائة وقد ذكره السمعانيّ في «تاريخه» وأنشد له «2» :(2/581)
ودعت صبري ودمعي يوم فرقتكم ... وما علمت بأنّ الدمع يدّخر
وضلّ قلبي من صدري فعدت بلا ... قلب فيا ويح ما آتي وما أذر
ولو علمت ذخرت الصبر مبتغيا ... إطفاء نار بقلبي منك تستعر
قال الامير علي بن مرشد سمعت دراجا «1» يصيح بدرب حبيب فقلت فيه:
يا طائرا لعبت أيدي الفراق به ... مثلي فأصبح ذا همّ وذا حزن
داني الأسى نازح الأوطان مغتربا ... عن الأحبّة مصفودا عن الوطن
بلا نديم ولا جار يسرّ به ... ولا حميم ولا دار ولا سكن
لكن نطقت فزال الهمّ عنك ولي ... همّ يقلقل أحشائي ويخرسني
وكلّ من باح بالشكوى استراح ومن ... أخفى الجوى بثّ» عنه شاهد البدن
أرّقت عيني بنوح لست أفهمه ... مع ما بقلبي من وجد يؤرّقني
وما بكيت ولي دمع غواربه ... إذا ارتمت منه لم تنشقّ بالسفن
قال وكتب إلى صديق له «3» :
ما فهت مع متحدّث متشاغلا ... إلا رأيتك خاطرا في خاطري
ولو استطعت لزرت أرضك ماشيا ... بسواد قلبي لا بأسود ناظري
وكتب إلى أخيه مؤيّد الدولة أسامة وهو بالموصل:
ألا هل لمحزون تذكّر إلفه ... فحنّ وأبدى وجده من يعينه
وعيشا مضى بالرغم إذ نحن جيرة ... ترفّ على روض الوصال غصونه
لدى منزل كان السرور قرينكم ... به فتولّى إذ تولّى قرينه
فلو أعشبت من فيض دمعي محوله ... لما رضيت عن دمع عيني جفونه(2/582)
قال: وأنشدني له ابن أخيه الأمير مرهف بن أسامة:
لأشكرنّ النوى والعيس إذ قصدت ... بي معدن الجود والاحسان والكرم
فسرت في وطني إذ سرت عن وطني ... فمن رأى صحة جاءت من السقم
وقد ندمت على عمر مضى أسفا ... إذ لم أكن لك جارا فيه في القدم
فاسلم ولا زلت محروس العلا أبدا ... ما لاحت الشهب في داج من الظلم
وقال أخوه أسامة بن مرشد: ونقلت من خطّ أخي عز الدولة أبي الحسن علي بن مرشد من شعره، وكان استشهد رحمه الله على غزة في شهر رمضان سنة خمس وأربعين وخمسمائة في حرب الفرنج لعنهم الله، قبل أن يكمل من شعره، وكان تقنطر به فرسه على باب غزة، واستعلى الفرنج على أصحابه فانكشفوا عنه، فقتل وبقي في المعركة. وأنشد له أشعارا منها قوله في مرض طال به:
ظننت وظنّ الألمعيّ مصدّق ... بأن سقام المرء سجن حمامه
فإن لم يكن موت صريح فإنّه ... عذاب تملّ النفس طول مقامه
وكم يلبث المسجون في قبضة الأذى ... يجرّب فيه الموت غرب حسامه
وأنشد له قوله عند رحيله عن بغداد إلى الحجاز:
ترحلت عن بغداد لا كارها لها ... وفي القلب منها لوعة وحريق
فسقيا لأيام تقضّت بربعها ... إذ العيش غضّ والزمان أنيق
باخوان صدق ليس فيهم مشاقق ... وكلهم حان عليّ شفيق
وأنشد له أيضا:
ولما أعارتني النوى منك نظرة ... أحبّ إلى قلبي من البارد العذب
تعقّبها البين المشتّ فليتنا ... بقينا على تأميلنا لذة القرب
وأنشد له:
ليت شعري علام صدّك عنّا ... بعد ما كنت تدّعي الأشواقا
لا تجار الزمان سبقا إلى الهجر ... فما زال صرفه سبّاقا
أنت غرّ بغدره فلهذا ... قد تعجلت بالصدود الفراقا(2/583)
وأنشد له:
بني أبي إن عدا دهر ففرّقنا ... فهمّ نفسي بكم ما عشت مجتمع
هل تعلمون الذي في النفس من أسف ... عليكم وحنين ليس ينقطع
نزحتم أدمعي حتى لقد محلت ... جفون عيني ومات اليأس والطمع
وإنّ دهرا رمى عن جيده دررا ... أمثالكم لزمان عاطل ضرع
ومنهم جده سديد الملك أبو الحسن علي بن مقلد بن منقذ «1» : وكان من شرطه أن يقدّم على بنيه، قال: هو جدّ الجماعة، موفور الطاعة، أحكم آساس مجده وشادها، وفضل أمراء ديار بكر والشام وسادها.
قال أبو يعلى حمزة بن أسد «2» : في سنة أربع وسبعين وأربعمائة في رجب ملك الأمير أبو الحسن علي بن المقلد بن منقذ حصن شيزر من الأسقف الذي كان فيه بمال بذله له وارغبه فيه إلى أن حصل في يده، وشرع في عمارته وتحصينه والممانعة «3» عنه إلى أن تمكنت حاله فيه، وقويت نفسه في حمايته والمدافعة عنه «4» .
والأمير سديد «5» الملك هو ممدوح فحول الشعراء والذي امتدحه ابن حيّوس بقصيدته التي أولها (وكتبها إليه من طرابلس وهو بحلب) «6» :
أما الفراق فقد عاصيته فأبى ... وطالت الحرب إلّا أنه غلبا
أراني البين لما حمّ عن قدر ... وداعنا كلّ جدّ بعده لعبا
قال: وسألت ابن ابنه الأمير أسامة بن مرشد بن علي عن وفاة جده فقال مات سنة خمس وسبعين وأربعمائة.
قال: وأنشدني مجد العرب العامري باصبهان قال، أنشدني الأمير أبو سلامة(2/584)
مرشد لأبيه الأمير أبي الحسن علي بن مقلد في غلام له ضربه، وقد أبدع في هذا المعنى وأغرب «1» :
أسطو عليه وقلبي لو تمكّن من ... كفّيّ غلّهما غيظا إلى عنقي
وأستعزّ «2» إذا عاتبته حنقا ... وأين ذلّ الهوى من عزّة الحنق
قال وأنشدني له أيضا «3» :
ماذا النجيع بوجنتيك وليس من ... شرط الأنوف على الخدود رعاف
ألحاظنا جرحتك حين تعرّضت ... لك أم أديمك جوهر شفّاف
وقرأت له في مجموع:
إذا ذكرت أياديك التي سلفت ... مع سوء فعلي وزلّاتي ومجترمي
أكاد أقتل نفسي ثمّ يمنعني ... علمي بأنك مجبول على الكرم
وله أيضا:
من كان يرضى بذلّ في ولايته ... من خوف عزل فإني لست بالراضي
قالوا فتركب أحيانا فقلت لهم ... تحت الصليب ولا في موضع القاضي
وله أيضا:
لا تعجلوا بالهجر إنّ النوى ... تحمل عنكم منّة الهجر
وظاهرونا بوفاق فقد ... أغناكم البين عن الهجر
وله أيضا:
ألقى المنيّة في درعين قد نسجا ... من المنيّة لا من نسج داود
إن الذي صوّر الأشياء صوّرني ... نارا من البأس في بحر من الجود(2/585)
وهذان البيتان يرويان لعبد المؤمن ملك الغرب.
ولسديد الملك من مجموع أسامة:
كيف السلوّ وحبّ من هو قاتلي ... أدنى إليّ من الوريد الأقرب
إني لأعمل فكرتي في سلوة ... عنه فيظهر فيّ ذلّ المذنب
وله أيضا:
بكرت تنظر شيبي ... وثيابي يوم عيد
ثم قالت لي بهزء ... يا خليعا في جديد
لا تغالطني فما تصلح إلّا للصدود
قال العماد: أنشدت هذه الأبيات والقطع جميعها الأمير مؤيد الدولة أسامة في سنة اثنتين وسبعين فأنكر أن يكون لجده سوى البيتين اللذين أولهما:
لا تعجلوا بالهجر إن النوى وأنشدني لجده، وكان كتب بها إلى القاضي جلال الملك أبي الحسن علي بن عمّار صاحب طرابلس:
أحبابنا لو لقيتم في مقامكم ... من الصبابة ما لاقيت في ظعني
لأصبح البحر من أنفاسكم يبسا ... كالبرّ من أدمعي ينشقّ بالسفن
ومنهم الأمير أبو سلامة مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ [والد] أسامة وولد المقدم ذكره «1» ، له البيت القديم، والفضل العميم من فروع الأملاك الفارعي الأفلاك.
قال السمعاني في «تاريخه» : رأيت مصحفا بخطّه كتبه بماء الذهب على الطاق الصوريّ، ما رأيت ولا أظنّ أن الرائين رأوا مثله، فقد جمع إلى فضائله حسن خطه، وتقدم بحسن تدبيره على رهطه، وأسنّ وعمّر وله أولاد نجباء أمجاد، كرماء أجواد، وكان مولده سنة ستين وأربعمائة ومات بشيزر سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة فيما حكاه ولده أسامة للسمعاني. وذكره مجد العرب أبو فراس العامري وقال: كنت مقيما مدّة(2/586)
بشيزر في كنفهم، حاظيا برفدهم ساميا بشرفهم. وأثنى على خلفهم وترحّم على سلفهم. قال: وكان الأمير حينئذ بقلعة شيزر أخوه أبو العساكر سلطان، وهو ممدوحي الذي حباني الإكرام والاحسان، والأمير مرشد يقرّبني ويكرمني، وقال فيّ أبياتا منها «1» :
لئن نسي امرو عهدا فإني ... لعهد أبي الفوارس غير ناس
وما عاش الأمير أبو فراس ... فما مات الأمير أبو فراس
كنية العامري أبو فراس، وأبو فراس الآخر هو أبو فراس ابن حمدان، وكان العامري يتبجّح بالبيتين.
وذكر «2» السمعاني في «تاريخه» أنشدني ولده أبو عبد الله محمد بن مرشد بن علي بن مقلد بن منقذ من حفظه، عند القبة التي فيها قبر أيوب النبي صلى الله عليه وسلّم، عند عقبة أفيق بنواحي الأردن قال: وأنا قائم أكتب، وهو وغلمانه على الخيل، قال: أنشدني والدي مرشد بن علي لنفسه بشيزر «3» :
ظلوم أبت في الظلم إلا تماديا ... وفي الصدّ والهجران إلّا تناهيا
شكت هجرنا والذنب في ذاك ذنبها ... فيا عجبا من ظالم جاء شاكيا
وطاوعت الواشين فيّ وطالما ... عصيت عذولا في هواها وواشيا
ومال بها تيه الجمال إلى القلى «4» ... وهيهات أن أمسي لها الدهر قاليا
ولا ناسيا ما استودعت من عهودها ... وإن هي أبدت جفوة وتناسيا
ومنها في العتاب:
وقلت أخي يرعى بنيّ وأسرتي ... ويحفظ فيهم عهدتي وذماميا
ويجزيهم ما لم أكلّفه فعله ... لنفسي فقد أعددته من تراثيا(2/587)
فأصبحت صفر الكفّ ممّا رجوته ... أرى اليأس قد غطّى سبيل رجائيا
فما لك لمّا أن حنى الدهر صعدتي ... وثلّم مني صارما كان ماضيا
تنكّرت حتى صار برّك قسوة ... وقربك منهم جفوة وتناسيا «1»
على أنني ما حلت عمّا عهدته ... ولا غيّرت هذي الشؤون وداديا
فلا زعزعتك الحادثات فإنني ... أراك يميني والأنام شماليا
قال: وقرأت في بعض الكتب كلمة نظمها الخطيب أبو الفضل يحيى بن سلامة الحصكفي في جواب رسالة وصلته من الأمير «2» علي بن مرشد من شيزر وهي:
حوى مرشد وابناه غرّ المناقب ... وحلّوا من العلياء أعلى المراتب
ذوائب مجد ما علمت بأنهم ... من العلم أيضا في الذرى والذوائب
أتت من عليّ روضة جاد روضها ... سحائب فضل لا كجود السحائب
بأبيات شعر أفحمت كلّ شاعر ... وآيات نثر أعجبت كلّ خاطب
وغرّ معان أعجزت كلّ عالم ... وأسطر خطّ أرعشت كل كاتب
ربيع بورد وافد لمطالع ... وربع لوفد وارد بمطالب
وخود رمت بالسحر عن قوس حاجب ... لها في العلا فخر على قوس حاجب
فلو قطبت [راحا] لما قطّبت لها ... وجوه ولا غطّت على حكم شارب
ومنهم حميد بن مالك «3» بن مغيث بن نصر بن منقذ بن محمد بن منقذ بن نصر بن هاشم، أبو الغنائم الملقب بمكين الدولة: ولد بشيزر في تاسع جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وأربعمائة ونشأبها، وانتقل إلى دمشق فسكنها مدة طويلة، واكتتب في العسكر، وكان يحفظ القرآن، وله شعر جيّد وفيه شجاعة وعفاف، ومات في نصف شعبان سنة أربع وستين وخمسمائة بحلب، ومن شعره:(2/588)
ما بعد جلّق للمرتاد منزلة ... ولا كسكّانها في الأرض سكّان
فكلّها لمجال الطرف منتزه ... وكلّهم لصروف الدهر أقران «1»
وهم وإن بعدوا عنّي بنسبتهم ... إذا بلوتهم بالودّ اخوان
وقال في أخيه يحيى:
بالشام لي جدث وجدت بفقده ... وجدا يكاد القلب منه يذوب
فيه من البأس المهيب صواعق ... تخشى ومن ماء السماء قليب
فارقت حتى حسن صبري بعده ... وهجرت حتى النوم وهو حبيب
قال الحافظ علي بن الحسن بن هبة الله: وأنشدنا لنفسه:
يذكّرني يحيى الرماح شوارعا ... وبيض المواضي جرّدت للوقائع
وأقسم ما رؤياه في العين بهجة ... بأحسن من أوصافه في المسامع
قال: وأنشد لنفسه:
وسلافة أزرى احمرار شعاعها ... بالورد والوجنات والياقوت
جاءت مع الساقي تنير بكأسها ... فكأنّها اللاهوت في الناسوت
وقال وأنشدنا لنفسه في صديق له يعاتبه:
أدنو بودّي وحظّي منك يبعدني ... هذا لعمرك عين الغبن والغبن
وإن توخّيتني يوما بلائمة ... رجعت باللوم إبقاء على الزمن
وحسن ظنّي موقوف عليك فهل ... غيّرت بالظنّ بي عن رأيك الحسن
ومنهم الأمير شرف الدين «2» أبو الفضل إسماعيل بن أبي العساكر سلطان بن علي بن منقذ «3» كان أبوه عمّ مؤيد الدولة أسامة بن مرشد أمير شيزر، وكان شابا فاضلا سكن لما أخذت منهم شيزر بدمشق، ومات بها سنة إحدى وستين وخمسمائة. قال(2/589)
العماد: وسمعت من شعره:
ومهفهف كتب الجمال بخدّه ... سطرا يحيّر ناظر المتأمّل
بالغت في استخراجه فوجدته ... لا رأي إلّا رأي أهل الموصل «1»
وذكره ابن عمه الأمير مرهف بن أسامة وأثنى عليه وأنشدني له أشعارا منها بيتان في النحل والزنبور وهما:
ومغرّدين ترنّما في مجلس ... فنفاهما لأذاهما الأقوام
هذا يجود بما يجود بعكسه ... هذا فيحمد ذا وذاك يذام
يعني العسل من النحل وعكسه اللسع من الزنبور «2» .
وأنشدني أيضا له «3» :
سقيت كأس الهوى علا على نهل ... فلا تزدني كأس اللوم والعذل
نأى الحبيب فبي من نأيه حرق ... لو لابست جبلا هدّت قوى الجبل
ولو تطلّبت سلوانا لزدت هوى ... وقد تزيد رسوبا نهضة الوحل
عفت رسومي فعج نحوي لتندبني ... فالصبّ غبّ زيال الحبّ كالطلل
صحوت من قهوة تنفى الهموم بها ... لكنني ثمل من طرفه الثمل
أصبّر النفس عنه وهي قائلة ... ما لي بعادية الأشواق من قبل
كم ميتة وحياة ذقت طعمهما ... مذ ذقت طعم النوى لليأس والأمل
والنفس إن خاطرت في غمرة وألت ... منها وإن خاطرت في الوجد لم تئل(2/590)
لها دروع تقيها من سهام يد ... فهل دروع تقيها أسهم المقل
فانظر إليه تر الأقمار في قمر ... وانظر إليّ تر العشّاق في رجل
بأيّ أمر سأنجو من هوى رشأ ... في جفنه سحر هاروت وسيف علي
إذا رمى طرفه باللحظ قال له ... قلبي أعد لارماك الله بالشلل
أمن بني الروم ذا الرامي الذي فتكت ... سهامه بالورى أم من بني ثعل
إن خفت روعة هجران الحبيب فقد ... أمنت في حبّه من روعة العذل
ومنهم الأمير أبو الفتح يحيى بن سلطان بن منقذ «1» : لقبه فخر الدولة «2» ، ذكره الأمير مرهف بن أسامة، وذكر أنه قتل على بعلبك في سنة أربعين وخمسمائة، وأنشدني من شعره ما كتبه إلى أبيه عز الدين يطلب منه رمحا:
يا خير قوم لم يزل مجدهم ... في صفحات الدهر مسطورا
عبدك يبغي أسمرا ذكره ... ما زال بين الناس مذكورا
مسدّد والجور من شأنه ... إن نال وترا صار موتورا
فإن تفضّلت به عاد عن ... صدور أعدائك مكسورا
ومنهم الأمير عز الدولة ابو المرهف نصر بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ:
عمّ مؤيد الدولة أسامة، قال العماد «3» : كنا حضرنا عند الملك الناصر ليلة بدمشق سنة إحدى وسبعين والأمير مؤيد الدولة حاضر، وتناشدنا ملح القصائد، ونشدنا ضالّة الفوائد، وجرى حديث اقتضى إنشاد الأمير أسامة بيتين لبعضهم في المشط الأسود والمشط الأبيض، وهما لأبي الحسين أحمد بن محمد بن الدويدة المعري «4» كان في زمن بني صالح:
كنت أستعمل السواد من الأمشاط والشعر في سواد الدياجي
أتلقّى مثلا بمثل فلمّا ... صار عاجا سرّحته بالعاج(2/591)
ثم قال الأمير: قد أخذ هذا المعنى عمّي نصر وعكسه وقال:
كنت أستعمل البياض من الأمشاط عجبا بلمّتي وشبابي فاتخذت السواد في حالة الشيب سلوّا عن الصبا بالتصابي وقال لي الأمير أسامة: كان عمّي نصر قد أخرج حجّة عن والدته، فرآها في النوم كأنها تنشده فانتبه والأبيات على حفظه وهي:
جزيت من ولد برّ بصالحة ... فقد كسبت ثوابا آخر الزمن
وقد حججت إلى البيت الحرام وقد ... أتيته زائرا يا خير محتضن
فلا تنلك يد الأيام ما طلعت ... شمس وما صدحت ورقاء في فنن
وكان نصر هذا صاحب قلعة شيزر بعد والده سديد الملك، وكان كريما ذا أريحية. حدثني الأمير مرهف بن أسامة بحضرة والده قال: كتب القاضي أبو مسلم وادع المعرّيّ «1» إلى الأمير نصر في نكبة نالته:
يا نصر يا ابن الأكرمين ومن ... شفع التلاد بطارف الفخر
هذا كتاب من أخي ثقة ... يشكو إليك نوائب الدهر
فامنن بما عوّدت من حسن ... هذا أوان النفع والضر
فكتب إليه نصر إنه لم يحضرني سوى ما هو عندك مودع، وهو ستة آلاف دينار، فاصرفها في بعض مصالحك واعذر. وذكر ان نصرا كان برا بوالده سديد الملك، فقال فيه سديد الملك:
جزى الله نصرا خير ما جزيت به ... رجال قضوا فرض العلاء ونفّلوا
هو الولد البرّ العطوف وإن رمى ... به حادث فهو الحمام المعجّل
يفدّيك يا نصر رجال محلّهم ... من المجد والإحسان ان يتقوّلوا
سأثني بما أوليت بالموقف الذي ... تقرّ به الأقدام أو تتزلزل(2/592)
وألقاك يوم الحشر أبيض ناصعا ... وأشكر عند الله ما كنت تفعل
وتوفي نصر بن علي في جمادى الآخرة سنة إحدى وتسعين وأربعمائة بشيزر.
ومنهم الأمير عضد الدين أبو الفوارس مرهف بن أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ «1» : قال مؤلف الكتاب: فارقته في جمادى الأولى سنة اثنتي عشرة وستمائة بالقاهرة يحيا، ولقيته بها وهو شيخ ظريف واسع الخلق شائع الكرم جمّاعة للكتب، وحضرت داره واشترى مني كتبا، وحدثني أنّ عنده من الكتب ما لا يعلم مقداره، إلا أنه ذكر لي أنه باع منها أربعة آلاف مجلد في نكبة لحقته فلم يؤثر فيها. وسألته عن مولده فقال: ولدت سنة عشرين وخمسمائة، فيكون عمره إلى وقتنا هذا اثنتين وتسعين سنة. وكان قد أقعد لا يقدر على الحركة، إلا أنه صحيح العقل والذهن والفطنة والبصر يقرأ الخطّ الدقيق كقراءة الشبان، إلا أن سمعه فيه ثقل، وكان ذلك يمنعني من مكاثرته ومذاكرته. وكان السلطان صلاح الدين، رحمه الله، قد أقطعه ضياعا بمصر فهو يصرّفها في مصالحه، وأجراه الملك العادل أخو صلاح الدين على ذلك، وكان الملك الكامل بن العادل يحترمه ويعرف له حقه. وأنشدني شيئا من شعره وشعر أهله لم يحضرني منه في هذا الوقت ما أورده.
وذكر له العماد في «كتاب الخريدة» ما ذكر أنه سمعه منه وهو:
سمحت بروحي في رضاك ولم يكن ... ليعجزني لولا رضاك المذاهب
وهانت لجرّاك العظائم كلها ... عليّ وقد جلّت لديّ النوائب
فكان ثوابي عن ولائي تجهّم «2» ... رمتني به منك الظنون الكواذب
فمهلا فلي في الأرض عن منزل القلى «3» ... مسار إذا أخرجتني ومسارب
وإن كنت ترجو طاعتي بإهانتي ... وقسري فإن الرأي عنك لعازب(2/593)
وأنشدني أيضا لنفسه (قال وهو حاضر عند والده وذكر أنه مما كتبه إلى والده) :
رحلتم وقلبي بالولاء مشرّق ... لديكم وجسمي بالعناء مغرّب
فهذا سعيد بالدنوّ منعّم ... وهذا شقيّ بالبعاد معذّب
وما أدّعي شوقا فسحب مدامعي ... تترجم عن شوقي إليكم وتعرب
ووالله ما اخترت التأخّر عنكم ... ولكن قضاء الله ما منه مهرب
ومات الأمير عضد الدين مرهف في ثاني صفر سنة ثلاث عشرة وستمائة.
[219]
إسحاق بن إبراهيم الموصلي ابن ميمون بن بهمن بن نسك
، وكان اسم ميمون ماهان فقلبوه استثقالا؛ قال إسحاق: نحن من أرجان وموالينا من الخزيميين «1» ، وكانت لهم ضياع عندنا، وإنما نسبوا إلى الموصل لأن أبا إبراهيم سافر إليها وأقام بها مدة يعلم الغناء، فلما عاد إلى الكوفة قيل له: كيف أنت يا موصلي، فلصقت به الموصلي؛ وكنيته أبو محمد، وكان الرشيد إذا أراد أن يولع به كناه أبا صفوان، وموضعه من العلم ومكانه من الأدب والشعر لو أردنا استيعابه طال الكتاب، وخرجنا عن غرضنا من الاختصار. ومن وقف على الأخبار وتتبع الآثار علم موضعه. وأما الغناء فكان أصغر علومه وأدنى ما يوصف به، وإن كان الغالب عليه، لأنه كان له في سائر علومه «2» نظراء ولم يكن له في هذا نظير، لحق فيه من مضى وسبق من بقي، فهو إمام هذه الصناعة. على أنه كان أكره الناس لهذه الصناعة وهي الغناء والتسمّي به ويقول: وددت أن أضرب كلّما أراد منّي من يندبني أن أغنّي، وكلّما قال قائل إسحاق
__________
[219]- ترجمة إسحاق الموصلي نقلها ياقوت عن الأغاني (وستجيء الإشارة إلى مواطن النقل) وانظر أيضا:
نور القبس: 316 وطبقات ابن المعتز: 360 وتاريخ بغداد 6: 338 ومصورة ابن عساكر 2: 724 وتهذيبه 2: 417 وإنباه الرواة 1: 215 وبغية الطلب 2: 237 وذكر أنه مذكور في كتاب الورقة لابن الجراح وابن خلكان 1: 202 والوافي 8: 388 ونزهة الألباء: 116 وسير الذهبي 11: 118.
ودراسة عنه لمحمود أحمد الحفني (في سلسلة أعلام العرب) .(2/594)
الموصلي المغنّي، عشر مقارع- ولا أطيق أكثر منها «1» - وأعفى من الغناء والنسبة إليه.
وكان المأمون يقول: لولا ما سبق لأسحاق على ألسنة الناس وشهر به من الغناء عندهم لولّيته القضاء بحضرتي، فإنه أولى به وأحقّ وأعفّ وأصدق تديّنا وأمانة من هؤلاء القضاة وأكثر.
قال «2» : بقيت زمانا من دهري أغلّس في كل يوم إلى هشيم فأسمع منه الحديث، ثم أصير إلى الكسائي فأقرأ عليه جزءا من القرآن، وآتي الفرّاء فأقرأ عليه جزءا، ثم آتي منصور زلزل فيضاربني طريقين «3» أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ عنها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعي فأناشده، وآتي أبا عبيدة فأذاكره، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت ومن لقيت وما أخذت وأتغدّى معه، وإذا كان العشاء رحت إلى الرشيد.
وقال الأصمعي «4» : خرجت مع الرشيد [إلى الرقة] «5» فلقيت إسحاق الموصلي بها، فقلت له: هل حملت شيئا من كتبك؟ فقال: حملت ما خفّ، فقلت: كم مقداره؟ فقال: ثمانية عشر صندوقا، فعجبت وقلت: إذا كان هذا ما خفّ فكم يكون ما ثقل؟ فقال: أضعاف ذلك.
وكان الأصمعيّ «6» يعجب بقول إسحاق:
إذا كانت الأحرار أصلي ومنصبي ... ودافع ضيمي خازم وابن خازم
عطست بأنف شامخ وتناولت ... يداي الثريا قاعدا غير قائم
وقال «7» جعفر بن قدامة، حدثني علي بن يحيى بن المنجّم قال: سأل إسحاق(2/595)
الموصلي المأمون أن يكون دخوله إليه مع أهل العلم والأدب والرواة لا مع المغنين، فإذا أراد الغناء غنّاه، فأجابه إلى ذلك، ثم سأله بعد مدّة أن يكون دخوله مع الفقهاء، فأذن له في ذلك، فكان يدخل ويده في يد القضاة حتى يجلس بين يدي المأمون. ثم مضت مدة على ذلك فسأله في لبس السواد يوم الجمعة والصلاة معه في المقصورة، قال: فضحك المأمون وقال: ولا كلّ هذا يا إسحاق، قد اشتريت منك هذه المسألة بمائة ألف درهم، وأمر له بها.
وحدث المرزباني عن محمد بن عطية الشاعر قال «1» : كنت عند يحيى بن أكثم في مجلس له يجتمع إليه فيه أهل العلم، وحضره إسحاق، فجعل يناظر أهل الكلام حتى انتصف منهم، ثم تكلم في الفقه فأحسن واحتج، ثم تكلم في الشعر واللغة ففاق فيها من حضر، فأقبل على يحيى بن أكثم وقال: أعزّ الله القاضي أفي شيء مما ناظرتك فيه تقصير؟ قال: لا والله، قال: فما بالي أقوم بسائر العلوم قيام أهلها وأنسب إلى فنّ واحد قد اقتصر الناس عليه؟ قال العطويّ: فالتفت إليّ يحيى بن أكثم وقال: جوابه في هذا عليك، قال- وكان العطوي من أهل الجدل والكلام- فالتفتّ إلى إسحاق وقلت: يا أبا محمد «2» أخبرني إذا قيل من أعلم الناس بالشعر واللغة؟؟
أيقولون إسحاق أم الأصمعي وأبو عبيدة؟ فقال: بل الأصمعيّ وأبو عبيدة، قال: فإن قيل من أعلم الناس بالنحو؟ أيقولون إسحاق أم الخليل وسيبويه؟ قال: بل الخليل وسيبويه، قال: فإن قيل من أعلم الناس بالأنساب؟ أيقولون إسحاق أم ابن الكلبي؟
قال: بل ابن الكلبي، قال: فإن قيل من أعلم الناس بالكلام؟ أيقولون إسحاق أم أبو الهذيل والنظام؟ قال: بل أبو الهذيل والنظام، قال: فإن قيل من أعلم الناس بالفقه؟ أيقولون إسحاق أم أبو حنيفة وأبو يوسف؟ فقال: بل أبو حنيفة وأبو يوسف، قال: فإن قيل من أعلم الناس بالحديث؟ أيقولون إسحاق أم علي بن المديني ويحيى بن معين؟ قال: بل علي بن المديني ويحيى بن معين، قال: فإذا قيل من أعلم الناس بالغناء أيجوز أن يقول قائل فلان أعلم من إسحاق؟ قال: لا، قلت:(2/596)
فمن ها هنا نسبت إلى ما نسبت إليه لأنه لا نظير لك فيه وأنت في غيره لك نظراء، فضحك وقام وانصرف. فقال لي يحيى بن أكثم: لقد وفّيت الحجة وفيها ظلم قليل لإسحاق، لأنه ربما ماثل أو زاد على من فضّلته عليه وإنه ليقل في الزمان نظيره. وكان إسحاق قد روى الحديث عن جماعة منهم: أبو معاوية الضرير وهشيم وابن عيينة وغيرهم. وكان مع كراهيته للغناء أحذق خلق الله به ممن تقدّم وتأخر، وأشدّ الناس بخلا به على كل أحد حتى على جواريه وغلمانه ومن يأخذ عنه منتسبا إليه متعصبا له فضلا عن غيره، وهو الذي صحّح أجناس الغناء وطرائقه وميّزها تمييزا لم يقدر عليه أحد قبله ولا تعلّق به أحد بعده، ولم يكن قديما مميّزا على هذا الجنس.
وكان «1» إبراهيم بن المهدي يأكل المغنين أكلا حتى يحضر إسحاق فيداريه إبراهيم ويطلب مكافأته، ولا يدع إسحاق تبكيته ومعارضته، وكان إسحاق آفته- كما إن لكل شيء آفة- وله معه عدة مشاهد.
قال إسحاق «2» : كنت يوما عند الرشيد وعنده ندماؤه وخاصته، وفيهم إبراهيم ابن المهدي، فقال لي الرشيد: يا إسحاق تغنّ:
شربت مدامة وسقيت أخرى ... وراح المنتشون وما انتشيت
فغنيته، فأقبل عليّ إبراهيم بن المهدي فقال: ما أصبت يا إسحاق ولا أحسنت، فقلت له: ليس هذا مما تحسنه ولا تعرفه، وإن شئت فغنه، فإن لم أوجدك أنك تخطىء فيه منذ ابتدائك إلى انتهائك فدمي حلال، ثم أقبلت على الرشيد فقلت: يا أمير المؤمنين هذه صناعتي وصناعة أبي وهي التي قرّبتنا منك واستخدمتنا إليك وأوطأتنا بساطك، فإذا نازعناها أحد بلا علم لم نجد بدّا من الإيضاح والذبّ، فقال: لا غرو ولا لوم عليك، وقام الرشيد ليبول، فأقبل عليّ إبراهيم وقال: ويلك يا إسحاق تجترىء عليّ وتقول ما قلت يا ابن الزانية؟ فداخلني ما لم أملك نفسي معه فقلت له: أنت تشتمني ولا أقدر على إجابتك، وأنت ابن الخليفة وأخو الخليفة ولولا ذلك لقد كنت أقول لك: يا ابن الزانية كما قلت لي يا ابن الزانية، ولكنّ قولي في(2/597)
ذمّك ينصرف إلى خالك الأعلم، ولو لاك لذكرت صناعته ومذهبه- قال إسحاق: وكان بيطارا- وعلمت أنّ إبراهيم يشكوني إلى الرشيد، وأن الرشيد سيسأل من حضر عما جرى فيخبرونه «1» ، ثم قلت له: أنت تظنّ أنّ الخلافة تصير إليك، فلا تزال تهدّدني بذلك وتعاديني كما تعادي سائر أولياء أخيك حسدا له ولولده على الأمر، وأنت تضعف عنه وعنهم، وتستخفّ بأوليائهم تشفيا «2» ، وأرجو ألّا يخرجها الله تعالى عن يد الرشيد وولده، وأن يقتلك دونها، وإن صارت إليك والعياذ بالله فحرام عليّ العيش يومئذ والموت أطيب من الحياة معك، فاصنع حينئذ ما بدا لك. فلما خرج الرشيد وثب إبراهيم فجلس بين يديه وقال: يا أمير المؤمنين شتمني وذكر أمي واستخفّ بي، فغضب الرشيد وقال: ما تقول ويلك؟ قلت: لا أعلم، سل من حضر، فأقبل على مسرور وحسين الخادم فسألهما عن القصّة، فجعلا يخبرانه ووجهه يربدّ إلى أن انتهيا إلى ذكر الخلافة فسرّي عنه ورجع لونه وقال لابراهيم: ما له ذنب، شتمته فعرّفك أنه لا يقدر على جوابك، ارجع الى موضعك وأمسك عن هذا. فلما انقضى المجلس وانصرف الناس أمر أن لا أبرح، وخرج كلّ من حضر حتى لم يبق غيري، فساء ظنّي وهمّتني نفسي، فأقبل عليّ وقال لي: ويحك يا إسحاق، أتراني لا أعرف وقائعك؟! قد والله زنّيته دفعات، ويحك لا تعد، ويحك حدّثني عنك لو ضربك أخي إبراهيم أكنت أقتصّ لك منه فأضربه وهو أخي؟ يا جاهل أتراه لو أمر غلمانه أن يقتلوك فقتلوك أكنت أقتله بك؟ فقلت: قد والله قتلتني يا أمير المؤمنين بهذا الكلام، ولئن بلغه ليقتلنّي، وما أشكّ في أنه قد بلغه الآن، فصاح بمسرور الخادم وقال: عليّ بإبراهيم الساعة، وقال لي: قم فانصرف، فقلت لجماعة من الخدم، وكلّهم كان لي محبا وإليّ مائلا: أخبروني بما يجري، فأخبروني من غد أنّه لما دخل عليه وبّخه وجهّله وقال: لم تستخفّ بخادمي وصنيعتي ونديمي وابن خادمي وصنيعة أبي في مجلسي وتقدم عليّ وتصنع في مجلسي وحضرتي؟! هاه هاه تقدم على هذا وأمثاله وأنت مالك والغناء وما يدريك ما هو ومن أخذ لحنه وطارحك إياه حتى تظن أنك تبلغ منه مبلغ(2/598)
إسحاق الذي غذي به وهو صناعته، ثم تظنّ أنك تخطّئه فيما لا تدريه، ويدعوك إلى إقامة الحجة عليك فلا تثبت لذلك وتعتصم بشتمه، أليس هذا مما يدل على السقوط وضعف العقل وسوء الأدب من دخولك فيما لا يشبهك ثم إظهارك إياه ولم تحكمه؟! أليس تعلم ويحك أن هذا سوء رأي وأدب وقلة معرفة ومبالاة بالخطأ والتكذيب والردّ القبيح؟! ثم قال له: والله العظيم وحقّ رسوله الكريم وإلّا فأنا نفيّ من أبي لئن أصابه سوء أو سقط عليه حجر من السماء، أو سقط من دابته، أو سقط عليه سقف، أو مات فجأة لأقتلنك به، والله والله والله، وأنت أعلم فلا تعرض له؛ قم الآن فاخرج، فخرج وقد كاد يموت. فلما كان بعد ذلك دخلت عليه وإبراهيم عنده، فأعرضت عنه، فجعل الرشيد ينظر إليّ مرة وإلى إبراهيم أخرى ويضحك، ثم قال له: إني لأعلم محبّتك لإسحاق وميلك إليه والأخذ عنه، وإن هذا لا تقدر عليه كما تريد إلا أن يرضى، والرضى لا يكون بمكروه، ولكن أحسن إليه وأكرمه وبرّه وصله، فإذا فعلت ذلك ثم خالف ما تهواه عاقبته بيد منبسطة ولسان منطلق، ثم قال لي: قم إلى مولاك وابن مولاك فقبّل رأسه، فقمت إليه وأصلح بيننا.
وحدث «1» المبرّد قال: حدّثت عن الأصمعي قال: دخلت أنا وإسحاق بن إبراهيم يوما على الرشيد فرأيته لقس النفس، فأنشده إسحاق «2» :
وآمرة بالبخل قلت لها اقصري ... فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلّان الكرام ولا أرى ... بخيلا له حتى الممات خليل
وانّي رأيت البخل يزري بأهله ... فأكرمت نفسي أن يقال بخيل
ومن خير أخلاق الفتى قد علمته ... إذا نال منها أن يقال «3» ينيل
فعالي فعال الموسرين تكرّما ... ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى ... ورأي أمير المؤمنين جميل(2/599)
قال فقال الرشيد: لأكفينّك إن شاء الله، ثم قال: لله درّ أبيات تأتينا بها ما أشدّ أصولها، وأحسن فصولها، وأقلّ فضولها، وأمر له بخمسين ألف درهم، فقال له إسحاق: وصفك والله يا أمير المؤمنين لشعري أحسن منه فعلام آخذ الجائزة؟
فضحك الرشيد وقال: اجعلوها لهذا القول مائة ألف درهم، قال الأصمعي: فعلمت يومئذ أن إسحاق أحذق بصيد الدراهم مني.
وحدث «1» إسحاق قال: قال لي الرشيد يوما: بأيّ شيء يتحدّث الناس؟
قلت: يتحدثون أنك تقبض على البرامكة وتولّي الفضل بن الربيع الوزارة، فغضب وصاح وقال: وما أنت وذاك؟ فأمسكت، فلما كان بعد أيام دعا بنا فكان أوّل شيء غنيته:
إذا نحن صدقناك ... فضرّ عندك الصدق
طلبنا النفع بالباط ... ل إذ لم ينفع الحقّ
فلو قدّم صبّا في ... هواه الصبر والرفق
لقدّمت على الناس ... ولكن الهوى رزق
- والشعر لأبي العتاهية- قال: فضحك الرشيد وقال لي: يا إسحاق قد صرت حقودا.
وحدثت «2» شهوات جارية إسحاق التي كان أهداها إلى الواثق أن محمدا الأمين لما غنى إسحاق لحنه الذي صنعه في شعره:
يا أيّها القائم الأمين «3» فدت ... نفسك نفسي بالأهل والولد
بسطت للناس إذ وليتهم ... يدا من الجود فوق كلّ يد
فأمر له بألف ألف درهم، فرأيتها قد أدخلت «4» إلى دارنا يحملها مائة فراش.(2/600)
وحدث «1» إسحاق قال: أقام المأمون بعد قدومه عشرين شهرا لم يسمع حرفا من الأغاني، ثم كان أول من تغنّى بحضرته أبو عيسى ابن الرشيد، ثم واظب على السماع متستّرا متشبّها في أول أمره بالرشيد، فأقام على ذلك أربع حجج، ثم ظهر للندماء والمغنين. وكان حين أحبّ السماع سأل عني فجرّحت بحضرته، وقال الطاعن عليّ: ما يقول أمير المؤمنين في رجل يتيه على الخلافة؟ فقال: ما بقّى هذا شيئا من التيه إلا استعمله، فأمسك عن ذكري، وجفاني من كان يصلني لسوء رأيه الذي ظهر فيّ، فأضرّ ذلك بي، حتى جاءني علويه يوما فقال لي: أتأذن لي في ذكرك، فإنّا قد دعينا اليوم؟ فقلت: لا، ولكن غنّه بهذا الشعر، فإنه سيبعثه على أن يسألك لمن هذا؟ فإذا سألك انفتح لك ما تريد، فكان الجواب أسهل عليك من الابتداء، وألقيت عليه لحني في شعري:
يا سرحة الماء قد سدّت موارده ... أما إليك طريق غير مسدود
لحائم حام حتى لا حيام له ... محلأ عن طريق الماء مطرود
قال: فلما استقرّ بعلويه المجلس غنّاه الشعر الذي أمرته، فما عدا المأمون أن سمع الغناء حتى قال: ويلك يا علويه لمن هذا الشعر؟ قلت: يا سيدي لعبدك الذي جفوته واطّرحته لغير جرم، فقال إسحاق تعني؟ قلت: نعم، فقال: يحضرني الساعة، فجاءني رسوله فصرت إليه، فلما دخلت عليه قال: ادن فدنوت منه فرفع يديه مادّهما إليّ فأكببت عليه، فاحتضنني بيديه وأظهر من بري وإكرامي ما لو أظهر صديق مؤانس لصديق لسرّه.
وقال «2» إسحاق غنّيت المأمون يوما:
لأحسن من قرع المثاني ورجعها ... تواتر صوت الثغر يقرع بالثغر
وسكر الهوى أروى لعظمي ومفصلي ... من الشرب بالكاسات من عاتق الخمر
فقال لي المأمون: ألا أخبرك بأطيب من ذلك وأحسن؟ الفراغ والشباب والجدة.(2/601)
وحدث «1» إسحاق قال: ذكر المعتصم وأنا بحضرته يوما بعض أصحابه وقد غاب عنه، فقال: تعالوا حتى نقول ما يصنع في هذا الوقت، فقال قوم كذا وقال آخرون كذا، فبلغت النوبة إليّ فقال: قل يا إسحاق، قلت: إذا أقول فأصيب، قال: أتعلم الغيب؟ قلت: ولكني أفهم ما يصنع وأقدر على معرفته، قال: فإن لم تصب؟ قلت: وإن أصبت؟ قال: لك حكمك، وإن لم تصب؟ قلت: لك دمي قال: وجب، قلت: وجب، قال: فقل، قلت: يتنفس، قال: وإن كان ميتا؟
قلت: تحفظ الساعة التي تكلمت فيها، فإن كان مات قبلها أو فيها فقد قمرتني، قال: قد أنصفت، قلت: فالحكم، قال: فاحتكم ما شئت، قلت: ما حكمي إلا رضاك يا أمير المؤمنين، قال: فإن رضاي لك وقد أمرت لك بمائة ألف درهم، أترى مزيدا؟ فقلت: ما أولاك يا أمير المؤمنين بذاك، قال: فإنها مائتا ألف أترى مزيدا؟
فقلت: ما أحوجني إلى ذاك، قال: فإنها ثلاثمائة ألف، أترى مزيدا؟ قلت: ما أولاك يا أمير المؤمنين بذاك، فقال: يا صفيق الوجه ما نزيد على هذا.
وحدث «2» إسحاق قال: كنت جالسا بين يدي الواثق وهو وليّ عهد إذ خرجت وصيفة من القصر كأنّها خوط بان، أحسن من رأته عيني، يقدمها «3» عدة وصائف بأيديهن المذابّ والمناديل ونحو ذلك، فنظرت إليها نظر دهش وهو يرمقني «4» ، فلما تبيّن إلحاح نظري إليها قال لي: ما لك يا أبا محمد، قد انقطع كلامك وبانت الحيرة فيك؟ فلجلجت، فقال: رمتك والله هذه الوصيفة فأصابت قلبك، فقلت: غير ملوم، فضحك وقال: أنشدني شيئا في هذا المعنى فأنشدته قول المرار:
ألكني إليها عمرك الله يا فتى ... بآية ما قالت متى أنت رائح
وآية ما قالت لهنّ عشيّة ... وفي الستر حرّات الوجوه ملائح
تخيرن أرماكنّ فارمين رمية ... أخا أسد إذ طوّحته الطوائح «5»
فلبّسن مسلاس الوشاح كأنّها ... مهاة لها طفل برمّان راشح(2/602)
فقال الواثق: أحسنت وحياتي وظرفت، فاصنع فيه لحنا فإن جاء كما أريد فالوصيفة لك، فصنعت فيه لحنا وغنّيته إياه، فانصرفت بالجارية.
وحدث «1» إسحاق قال: غنّيت الواثق في شعر قلته عنده بسرّ من رأى وقد طال مقامي واشتقت إلى أهلي وهو:
يا حبّذا ريح الجنوب إذا بدت ... في الصبح وهي ضعيفة الأنفاس
قد حمّلت برد الندى وتحمّلت ... عبقا من الجثجاث والبسباس
فاستحسنه وقال لي: يا إسحاق لو جعلت مكان الجنوب شمالا ألم تكن أرقّ وأعذى وأصحّ للأجساد وأقلّ وخامة وأطيب للأنفس؟ فقلت: ما ذهب عليّ ما قاله أمير المؤمنين، ولكن التفسير فيما بعد وهو:
ماذا يهيج من الصبابة والهوى ... للصبّ بعد ذهوله والياس
فقال الواثق: فإنما استطبت ما تجيء به الجنوب لنسيم بغداد لا للجنوب، وإليهم إشتقت لا إليها، فقلت: أجل يا أمير المؤمنين، وقمت فقبلت يده، فضحك وقال: قد أذنت لك بعد ثلاثة أيام فامض راشدا، وأمر لي بمائة ألف درهم.
وحدث «2» إسحاق قال: ما وصلني أحد من الخلفاء قطّ بمثل ما وصلني به الواثق، ولا كان أحد يكرمني إكرامه، ولقد غنّيته:
لعلك إن طالت حياتك أن ترى ... بلادا بها مبدى لليلى ومحضر
فاستعاده مني جمعة «3» لا يشرب على غيره، ثم وصلني بثلاثمائة ألف درهم.
ولقد استقدمني إليه فلما قدمت عليه قال لي: ويحك يا إسحاق أما اشتقت إليّ؟
فقلت: بلى والله يا سيدي، وقد قلت في ذلك أبياتا إن أمرتني أنشدتك إياها، قال:
هات فأنشدته:
أشكو إلى الله بعدي عن خليفته ... وما أعالج من سقم ومن كبر(2/603)
لا أستطيع رحيلا إن هممت به ... يوما إليه ولا أقوى على السفر
أنوي الرحيل إليه ثمّ يمنعني ... ما أحدث الدهر والأيام في بصري
وإنما قال: ما أحدث الدهر والأيام في بصري، لأن إسحاق لما كبر ضعف بصره ثم أضرّ. واستأذنته في إنشاد قصيدة مدحته بها فأذن لي، فأنشدته «1» :
لما أمرت بإشخاصي إليك هفا ... قلبي حنينا إلى أهلي وأولادي
ثم اعتزمت ولم أحفل ببينهم ... وطابت النفس عن فضل وحمّاد
فلو شكرت أياديكم وأنعمكم ... لما أحاط بها وصفي وتعدادي
فقال أحمد بن إبراهيم لعلي بن يحيى، وقد أخبر بهذا الخبر: أخبرني لو قال الخليفة أحضرني فضلا وحمّادا أليس كان إسحاق يفتضح من دمامة خلقتهما وتجلّف «2» شاهدهما؟! قال إسحاق «3» : وانحدرت معه إلى النجف فقلت له: يا أمير المؤمنين قد قلت في النّجف قصيدة، قال: هاتها فأنشدته:
يا راكب العيس لا تعجل بنا وقف ... نحيّ دارا لسعدى ثم ننصرف
حتى انتهيت فيها إلى قولي:
لم ينزل الناس في سهل ولا جبل ... أصفى هواء ولا أعذى من النجف
حفّت ببرّ وبحر في جوانبها ... فالبرّ في طرف والبحر في طرف
وما يزال نسيم من يمانية ... يأتيك منها بريّا روضة أنف
ثم مدحته فقلت:
لا يحسب الجود يفني ماله أبدا ... ولا يرى بذل ما يحوي من السّرف
ومضيت فيها حتى أتممتها فطرب وقال: أحسنت والله يا أبا محمد، وكناني(2/604)
يومئذ، وأمر لي بمائة ألف درهم. وانحدرت معه إلى الصالحية التي يقول فيها أبو نواس:
فالصالحية من أطراف كلواذى
فذكرت الصبيان وبغداد فقلت:
أتبكي على بغداد وهي قريبة ... فكيف إذا ما ازددت منها غدا بعدا
لعمرك ما فارقت بغداد عن قلى ... لو انا وجدنا من فراق لها بدّا
إذا ذكرت بغداد نفسي تقطّعت ... من الشوق أو كادت تهيم بها وجدا
كفى حزنا أن رحت لم أستطع لها ... وداعا ولم أحدث بساحتها «1» عهدا
فقال لي: يا موصلي اشتقت إلى بغداد؟ فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين ولكن من أجل الصبيان، وقد حضرني بيتان فقال: هاتهما، فأنشدته «2» :
حننت إلى أصيبية صغار ... وشاقك منهم قرب المزار
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار
فقال لي: يا إسحاق صر إلى بغداد فأقم مع عيالك شهرا ثم صر إلينا وقد أمرت لك بمائة ألف درهم.
وحدث حمّاد «3» بن إسحاق عن إسحاق قال: دخلت يوما دار الواثق بالله بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا، فسمعت صوت عود من بيت وترنما لم أسمع أحسن منه قط، فأطلع خادم رأسه وصاح فدخلت، وإذا الواثق، فقال لي: أي شيء سمعت؟ فقلت: الطلاق كاملا لازم لي وكلّ مملوك «4» لي حرّ لقد سمعت ما لم أسمع مثله قط حسنا، فضحك وقال: ما هو إلا فضلة «5» أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم والتابعون بعدهم وكثر في حرم الله عزّ وجلّ ومهاجر(2/605)
رسوله صلى الله عليه وسلّم، أتحبّ أن تسمعه؟ قلت: أي والذي شرّفني بخطاب أمير المؤمنين وجميل رأيه، فقال: يا غلام هات العود وأعط إسحاق رطلا فدفع الرطل إليّ وضرب وغنّى في شعر لأبي العتاهية بلحن صنعه فيه:
أضحت قبورهم من بعد عزّتهم ... تسفي عليها الصّبا والحرجف الشّمل
لا يدفعون هواما «1» عن وجوههم ... كأنهم خشب بالقاع منجدل
فشربت الرطل ثم قمت ودعوت له، فأجلسني وقال: أتشتهي أن تسمعه «2» ثانية؟ قلت: أي والله، فغنّانيه ثانية وثالثة وصاح ببعض خدمه وقال: احمل إلى إسحاق الساعة ثلاثمائة ألف درهم، قال: يا إسحاق قد سمعت ثلاثة أصوات وشربت ثلاثة أرطال وأخذت ثلاثمائة ألف درهم، فانصرف إلى أهلك مسرورا ليسرّوا معك، فانصرفت بالمال.
وحدث «3» إسحاق بن إبراهيم قال: جاءني الزبير بن دحمان يوما مسلما فقلت له: إلى أين؟ فقال: إن الفضل بن الربيع أمرني أن أبكّر إليه لنصطبح، فقلت له:
أنت تعرف أن صبوح الفضل غبوق غيره، فأقم عندي نشرب، ثم قلت له:
أقم يا أبا العوّام ويحك نشرب ... ونله مع اللاهين يوما ونطرب
إذا ما رأيت اليوم قد بان خيره ... فخذه بشكر واترك الفضل يغضب
قال: فأقام عندي وسررنا يومنا، ثم صار إلى الفضل فسأله عن سبب تأخره عنه فحدثه الحديث وأنشده الشعر، فعتب عليّ وحوّل وجهه عني، وأمر عونا حاجبه بأن لا يدخلني ولا يستأذن لي عليه ولا يوصل لي رقعة إليه، فقلت وكتبت بها إلى الفضل «4» :(2/606)
يقول أناس شامتون وقد رأوا ... مقامي وإغبابي الرواح إلى الفضل
لقد كان هذا خصّ بالفضل مرّة ... فأصبح منه اليوم منصرم الحبل
ولو كان لي في ذاك ذنب علمته ... لقطّعت نفسي بالملامة والعذل
وتوصلت حتى عرضت الأبيات عليه، فلما قرأها قال: أعجب من ذنبه وأشدّ أنه لا يرى من نفسه ذنبا بذلك الفعل، فقلت في نفسي: لا أرى أمره يصلحه إلا حاجبه عون، فقلت لعون «1» :
عون يا عون ليس مثلك عون ... أنت لي عدة إذا كان كون
لك عندي والله إن رضي ... الفضل غلام يرضيك أو برذون
فقال: اكتب رقعة وقل شعرا لأعرضه لك عليه، فقلت «2» :
حرام عليّ الراح ما دمت غضبانا ... وما لم يعد عني رضاك كما كانا
فأحسن فإني قد أسأت ولم تزل ... تعوّدني عند الإساءة إحسانا
قال: فأتى الفضل بالشعرين جميعا فقرأهما وضحك وقال: ويحك إنما عرّض بقوله: «غلام يرضيك» بالسوءة، فقال: قد وعدني بما قد سمعت فإن شئت أن تحرمنيه فأنت أعلم، فأمره أن يرسل إليّ، فأتاني رسوله فصرت إليه فرضي عني ووفيت لعون.
وحدث إسحاق قال «3» : عتب عليّ جعفر بن يحيى وقال: إني لا أراك ولا تغشاني، فقلت: إني أتيتك كثيرا فيحجبني خادمك نافذ، فقال: إذا حجبك عني فنكه، فكتبت إليه بعد أيام:
جعلت فداءك من كلّ سوء ... إلى حسن رأيك أشكو أناسا
يحولون بيني وبين السلام ... فليس أسلّم إلّا اختلاسا
وأنفذت أمرك في نافذ ... فما زاده ذاك إلّا شماسا(2/607)
قال: فأحضرني ودعا نافذا وقرأ الأبيات عليه وقال له: فعلتها يا عدوّ الله؟! فغضب نافذ حتى كاد يبكي وجعفر يضحك ويصفّق، ثم لم يعد بعدها إلى التعرض.
وحدث «1» علي بن الصباح قال: كانت امرأة من بني كلاب يقال لها زهراء تحدّث إسحاق وتناشده، وكانت تميل إليه وتكني عنه في شعرها إذا ذكرته ب «جمل» قال: فحدثني إسحاق أنها كتبت إليه وقد غابت عنه:
وجدي بجمل على أني أجمجمه ... وجد السقيم ببرء بعد إدناف
أو وجد ثكلى أصاب الموت واحدها ... أو وجد مغترب من بين ألّاف
قال فأجبتها:
اقرا السلام على زهراء إذ ظعنت «2» ... وقل لها قد أذقت القلب ما خافا
أما أويت «3» لمن خلّفت مكتئبا ... يذري مدامعه سحّا وتوكافا
فما وجدت على إلف فجعت به «4» ... وجدي عليك وقد فارقت ألّافا
وحدث محمد بن عبد الله الخزاعي قال: أنشدني إسحاق لنفسه «5» :
سقى الله يوم الماوشان ومجلسا ... به كان أحلى عندنا من جنى النحل
غداة اجتنينا اللهو غضّا ولم نبل ... حجاب أبي نصر ولا غضب الفضل
غدونا صحاحا ثم رحنا كأننا ... أطاف بنا شرّ شديد من الخبل
فسألته ان يكتبنيها ففعل، فقلت له: ما حديث يوم الماوشان فقال: لو لم أكتبك الأبيات ما سألت عما لا يعنيك، ولم يخبرني.
قال «6» : وكان ابن الأعرابي يصف اسحاق ويقرظه ويثني عليه ويذكر أدبه وحفظه(2/608)
وعلمه وصدقه ويستحسن قوله:
هل إلى أن تنام عيني سبيل ... إنّ عهدي بالنوم عهد طويل
غاب عنّي من لا أسمي فعيني ... كلّ يوم وجدا عليه تسيل
إنّ ما قلّ منك يكثر عندي ... وكثير ممن تحبّ القليل
وكان اسحاق إذا غنى هذه الأبيات تفيض عيناه ويبكي أحرّ بكاء فسئل عن بكائه فقال: تعشقت جارية فقلت لها هذه الأبيات ثم ملكتها وكنت مشغوفا بها حتى كبرت واعتلت عيني، فإذا غنيت هذا الصوت ذكرت أيامه المتقدمة، وأنا أبكى على دهري الذي كنت فيه.
قال إسحاق «1» وأنشدني بعض الأعراب لنفسه:
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... على الغصن ماذا هيّجت حين غنّت
تغنّت بصوت أعجميّ فهيّجت ... من الوجد «2» ما كانت ضلوعي أجنّت
فلو قطرت عين امرىء من صبابة ... دما قطرت عيني دما وأبلّت «3»
فما سكتت حتى أويت لصوتها ... وقلت أرى هذي الحمامة جنّت
ولي زفرات لو يدمن قتلنني ... بشوق إلى هاتي «4» التي قد تولّت
إذا قلت هذي زفرة اليوم قد مضت ... فمن لي بأخرى في غد قد أظلّت
فيا منشر الموتى أعنّي على التي ... «5» بها نهلت نفسي سقاما وعلّت
لقد بخلت حتى لو اني سألتها ... قذى العين من سافي التراب لضنّت
فقلت ارحلا يا صاحبيّ فليتني ... أرى كلّ نفس أعطيت ما تمنّت
حلفت لها بالله ما أمّ واحد ... إذا ذكرته آخر الليل أنّت(2/609)
ولا وجد أعرابية قذفت بها ... صروف النوى من حيث لم تك ظنّت
إذا ذكرت ماء العذيب «1» وطيبه ... وبرد حصاه آخر الليل حنّت «2»
بأكثر مني لوعة غير أنّني ... أجمجم أحشائي على ما أجنّت
وحدث «3» حماد بن إسحاق: لما خرج أبي إلى البصرة وعاد أنشدني لنفسه:
ما كنت أعرف ما في البين من حزن ... حتى تنادوا بأن قد جيء بالسفن
لما افترقنا على كره لفرقتنا ... أيقنت أني قتيل الهمّ والحزن
قامت تودعني والدمع يغلبها ... فجمجمت بعض ما قالت ولم تبن
مالت عليّ تفدّيني وترشفني ... كما يميل نسيم الريح بالغصن
وأعرضت ثم قالت وهي باكية ... يا ليت معرفتي إياك لم تكن
وحدث «4» إسحاق قال: دخلت على الأصمعي فأنشدته أبياتا قلتها وكتبتها إلى بعض الأعراب، وهي «هل إلى أن تنام عيني سبيل» ... الأبيات، وهي متقدمة، قال: فجعل يعجب بها ويرددها، فقلت له: انها بنو ليلتها، فقال: لا جرم أن أثر التوليد فيها بيّن، فقلت: ولا جرم أن أثر الحسد فيك ظاهر.
وكان «5» إسحاق يقوم على ابن الاعرابي ويبرّه، فكان ابن الأعرابي يقول:
إسحاق والله أحقّ بقول أبي تمام:
ترمي «6» بأشباحنا إلى ملك ... نأخذ من ماله ومن أدبه
ممن قد قيل فيه.
وحدث «7» إسحاق قال: بعث إليّ طلحة بن طاهر وقد انصرف من وقعة الشراة،(2/610)
وقد أصابته ضربة في وجهه فقال: غنّني فغنّيته في شعر بعض الأعراب:
إني لأكني بأجبال عن اجبلها ... وباسم أودية عن إسم واديها
عمدا ليحسبها الواشون غانية ... أخرى وتحسب أني لست أعنيها
ولا يغيّر ودي أن أهاجرها ... ولا فراق نوى في الدار أنويها
وللقلوص ولي منها إذا بعدت ... بوارح الشوق تنضيني وأنضيها
فقال: أحسنت والله أعده، فأعدته عليه وهو يشرب، حتى صلى العتمة وأنا أغنّيه إياه، فأقبل على خادم له فقال له: كم عندك؟ فقال: مقدار سبعين ألف درهم، فقال: تحمل معه، فلما خرجت من عنده تبعني جماعة من الغلمان يسألوني، فوزّعت المال بينهم، فرفع الخبر إليه فأغضبه ولم يوجه إليّ ثلاثا، فكتبت إليه:
علمني جودك السماح فما ... أبقيت شيئا لديّ من صلتك
لم أبق شيئا إلا سمحت به ... كأنّ لي قدرة كمقدرتك
تتلف في اليوم بالهبات و ... في الساعة ما تجتبيه في سنتك
فلست أدري من أين تنفق لو ... لا أن ربّي يجزي على هبتك
فلما كان في اليوم الرابع بعث إليّ فصرت إليه، فدخلت فسلمت، ورفع بصره إليّ ثم قال: اسقوه رطلا، فسقيته «1» ، فأمر لي بآخر وآخر فشربت ثلاثة ثم قال غنني: «إني لأكني بأجبال عن اجبلها» فغنيته إياه ثم أتبعته الأبيات التي قلتها فقال لي: ادن فدنوت، فقال لي: أعد الصوت فأعدته، فلما فهمه وعرف المعنى قال لخادم له: أحضرني فلانا فأحضره، فقال له: كم قبلك من مال الضياع، قال:
ثمانمائة «2» ألف درهم، فقال: أحضرها الساعة، فجيء بثمانين بدرة، فقال: جئني بثمانين مملوكا، فأحضروا فقال: أحملوا المال، ثم قال: يا أبا محمد خذ «3» المال والمماليك حتى لا تحتاج إلى أحد تعطيه شيئا.(2/611)
حدث «1» علي بن يحيى المنجم أن إسحاق لما انحدر إلى البصرة كتب إلى علي بن هشام القائد: جعلت فداك، بعث إليّ أبو نصر مولاك بكتاب منك إليّ يرتفع عن قدري ويقصّر عنه شكري، فلولا ما أعرف من معانيه لظننت أنّ الرسول غلط بي فيه، فما لنا ولك يا أبا عبد الله، تدعنا حتى إذا نسينا الدنيا وأبغضناها ورجونا السلامة من شرها أفسدت قلوبنا وعلّقت أنفسنا، فلا أنت تريدنا ولا أنت تتركنا، وما ذكرته من شوقك إليّ فلولا أنك حلفت عليه لقلت:
يا من شكا عبثا إلينا شوقه ... شكوى المحبّ وليس بالمشتاق
لو كنت مشتاقا إليّ تريدني ... ما طبت نفسا ساعة بفراقي
وحفظتني حفظ الخليل خليله ... ووفيت لي بالعهد والميثاق
هيهات قد حدثت أمور بعدنا ... وشغلت باللذات عن إسحاق
قد تركت جعلت فداك ما كرهت من العتاب في الشعر وغيره، وقلت أبياتا لا أزال أخرج بها إلى ظهر المربد، وأستقبل الشمال وأتنسم أرواحكم فيها، ثم يكون ما الله أعلم به، وان كنت تكرهها تركتها إن شاء الله:
ألا قد أرى أنّ الثواء قليل ... وأن ليس يبقى للخليل خليل
وأني وإن ملّيت في العيش حقبة ... كذي سفر قد حان منه رحيل
فهل لي إلى أن تنظر العين مرة ... إلى ابن هشام في الحياة سبيل
فقد خفت أن ألقى المنايا بحسرة ... وفي النفس منه حاجة وغليل
وأما بعد، فإني أعلم أنك وإن لم تسأل عن حالي تحبّ أن تعلمها وأن تأتيك عني سلامة، فأنا يوم كتبت إليك سالم البدن مريض القلب، وبعد فأنا جعلت فداك في صنعة كتاب ظريف مليح فيه تسمية القوم ونسبهم وبلادهم وأسبابهم وأزمنتهم، وما اختلفوا فيه من غنائهم، وبعض أحاديثهم وأحاديث قيان الحجاز والكوفة [والبصرة المعروفات والمذكورات] وقد بعثت إليك بأنموذج فإن كان كما قال القائل: قبّح الله(2/612)
كلّ دنّ أوّله درديّ، لم نتجشّم إتمامه، وإن كان كما قال العربي «إنّ الجواد عينه فراره» أعلمتنا فأتممناه مسرورين بحسن رأيك فيه.
وكان «1» إسحاق يألف عليا وأحمد بن هشام وسائر أهلهم إلفا شديدا، ثم وقعت بينهم نبوة ووحشة في أمر لم يقع إلينا، فهجاهم هجاء كثيرا. فحدّث أبو أيوب المديني عن مصعب الزبيري قال، قال لي أحمد بن هشام: أما تستحي أنت وصباح بن خاقان المنقري، وأنتما شيخان من مشايخ المروءة والعلم والأدب، أن يذكر كما إسحاق في شعره فيقول:
قد نهانا مصعب وصباح ... فعصينا مصعبا وصباحا
عذلا ما عذلا ثم ملّا ... فاسترحنا منهما واستراحا
فقلت له: إن كان قد فعل فما قال إلّا خيرا، إنما ذكر أننا نهيناه عن خمر شربها أو امرأة عشقها، وقد أشاد باسمك في الشعر بأشدّ من هذا، قال: بماذا؟ قلت:
بقوله:
وصافية تعشي العيون رقيقة ... رهينة عام في الدنان وعام
أدرنا بها الكأس الرويّة موهنا ... من الليل حتى انجاب كلّ ظلام
فما ذرّ قرن الشمس حتى كأننا ... من العيّ نحكي أحمد بن هشام
قال: أو قد فعل العاضّ بظر أمّه؟ قلت: إي والله قد فعل.
ومن شعر إسحاق عند علوّ سنه:
سلام على سير القلاص مع الركب ... ووصل الغواني والمدامة والشّرب
سلام امرىء لم تبق منه بقية ... سوى نظر العينين أو شهوة القلب
لعمري لئن حلّئت عن منهل الصبا ... لقد كنت ورّادا لمشرعه العذب
ليالي أغدو بين برديّ لاهيا ... أميس كغصن البانة الناعم الرطب
وحدث «2» أبو بكر الصولي عن إبراهيم الشاهيني قال: كان إسحاق يسأل الله أن(2/613)
لا يبتليه بالقولنج لما رأى من صعوبته على أبيه، فأري في منامه كأنّ قائلا يقول له: قد أجيبت دعوتك، ولست تموت بالقولنج، ولكن تموت بضدّه، فأصابه ذرب فمات منه في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين ومائتين في خلافة المتوكل على الله، فبلغ المتوكل نعيه فغمّه وحزن عليه وقال: ذهب صدر عظيم من جمال الملك وبهائه وزينته، ثم نعي إليه بعده أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي الخارج عليه فقال: تكافأت الحالان، ثم قال: قام الفتح بوفاة أحمد وما كنت آمن وثبته عليّ مقام الفجيعة باسحاق، والحمد لله على ذلك. ورثاه أودّاؤه وأصدقاؤه بأشعار كثيرة منها قول إدريس ابن أبي حفصة «1» :
سقى الله يا ابن الموصليّ بوابل ... من الغيث قبرا أنت فيه مقيم
ذهبت فأوحشت الكرام فما يني ... بعبرته يبكي عليك كريم
إلى الله أشكو فقد إسحاق إنني ... وإن كنت شيخا بالعراق يتيم
وقال مصعب بن [عبد الله] الزبيري يرثي إسحاق «2» :
أتدري لمن تبكي العيون الذوارف ... وينهلّ منها مسبل ثم واكف
لفقد امرىء لم يبق في الناس مثله ... مفيد لعلم أو صديق يلاطف
تجهّز إسحاق إلى الله رائحا ... فلله ما ضمّت عليه اللفائف
وما حمل النعش المولّي «3» عشيّة ... من الناس إلّا دامع العين لاهف «4»
فلقّيت في يمنى يديك صحيفة ... إذا نشرت يوم الحساب الصحائف
تسرّك يوم البعث عند قراتها ... ويفترّ ضحكا كلّ من هو واقف «5»(2/614)
وحدث الصولي قال: كان «1» لإسحاق من الولد حميد وحماد وأحمد وحامد وإبراهيم وفضل، ولم يكن في ولد إبراهيم من يغني إلا إسحاق وطياب أخوه. ومات إسحاق وله من التصانيف التي تولّى هو بنفسه تصنيفها «2» كتاب أغانيه التي غنى فيها.
كتاب أخبار عزة الميلاء. كتاب أغاني معبد. كتاب أخبار حماد عجرد. كتاب أخبار حنين الحيري. كتاب أخبار ذي الرمّة. كتاب أخبار طويس. كتاب أخبار المغنين المكيين. كتاب أخبار سعيد بن مسجح. كتاب أخبار الدلّال. كتاب أخبار محمد بن عائشة. كتاب أخبار الأبجر. كتاب أخبار ابن صاحب الوضوء. كتاب الاختيار من الأغاني للواثق. كتاب اللحظ والاشارات. كتاب الشراب، يروي فيه عن العباس بن معن وابن الجصاص وحماد بن ميسرة. كتاب جواهر الكلام. وكتاب الرقص والزفن.
كتاب النغم والايقاع. كتاب أخبار الهذليين. كتاب الرسالة إلى علي بن هشام.
كتاب قيان الحجاز. كتاب القيان. كتاب النوادر المتخيرة. كتاب الأخبار والنوادر.
كتاب أخبار حسّان. كتاب أخبار الأحوص. كتاب أخبار جميل. كتاب أخبار كثّير.
كتاب أخبار نصيب. كتاب أخبار عقيل بن علفة. كتاب أخبار ابن هرمة.
وأما كتاب الأغاني الكبير فقال محمد بن إسحاق النديم: قرأت بخطّ أبي الحسن علي بن محمد بن عبيد بن الزبير الكوفي الأسدي، حدثني فضل بن محمد اليزيدي قال: كنت عند إسحاق بن إبراهيم الموصلي فجاءه رجل فقال له: يا أبا محمد أعطني كتاب الأغاني، فقال: أيّما كتاب؟ الكتاب الذي صنفته أو الكتاب الذي صنّف لي؟ يعني بالذي صنّفه كتاب أخبار المغنين واحدا واحدا، والكتاب الذي صنّف له كتاب الأغاني الكبير الذي بأيدي الناس.
قال محمد بن إسحاق: وحدثني أبو الفرج الأصبهاني قال: أخبرني أبو بكر محمد بن خلف وكيع قال، سمعت حماد بن إسحاق يقول: ما ألّف أبي هذا الكتاب قطّ، يعني كتاب الأغاني الكبير، ولا رآه، والدليل على ذلك أن أكثر أشعاره المنسوبة إنما جمعت لما ذكر معها من الأخبار، وما غنّي فيها إلى وقتنا هذا، وإن أكثر نسبة(2/615)
المغنين خطأ. والذي ألفه أبي من دواوين غنائهم يدلّ على بطلان هذا الكتاب، وإنما وضعه وراق كان لأبي بعد وفاته، سوى الرخصة التي هي أول الكتاب فإن أبي ألفها، إلا أن أخباره كلها من روايتنا. وقال لي أبو الفرج: هذا سمعته من أبي بكر وكيع [حكاية فحفظته] واللفظ يزيد وينقص.
قال: وأخبرني جحظة أنه يعرف الورّاق الذي وضعه، وكان يسمى سندي بن علي، وحانوته في طاق الزبل، وكان يورّق لاسحاق، فاتفق هو وشريك له على وضعه. وهذا الكتاب يعرف في القديم بكتاب السراة، وهو أحد عشر جزءا، ولكل جزء أول يعرف به، فالجزء الأول من الكتاب «الرخصة» هو من تأليف إسحاق لا شك فيه ولا خلف.
قرأت في كتاب ألّف في أخبار أبي زيد البلخي أن أبا زيد قال، وذكر كتاب الأغاني لإسحاق، فقال: ما رأيت أعجب من الموصلي، جمع علم العرب والعجم في كتاب ثم أفسده «1» بالاسم. قال: وكان إسحاق أديبا فاضلا متقدما في كلّ شيء، بلغني أنه دخل على إسحاق بن إبراهيم بن مصعب «2» يعزّيه بعبد الله بن طاهر فقال:
لم تصب أيها الأمير بعبد ... الله لكن به أصيب الأنام
فسيكفيكم البكاء عليه ... أعين المسلمين والإسلام
[220]
إسحاق بن إبراهيم البربري المحرّر ووالده إبراهيم
: ويعرف بالنديم، كذا قال عبد الرحمن بن عيسى الوزير. قال محمد بن إسحاق النديم: هو إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن الصباح بن بشر بن سويد بن الأسود التميمي ثم السعدي،
__________
[220]- الفهرست: 11 والوافي 8: 393.(2/616)
وكان إبراهيم أبوه أحول وكان محرّرا أيضا.
وكان أول من تكلم على رسوم الخط وقوانينه وجعله أنواعا رجل يعرف بالأحول المحرّر لا أدري هل هو إبراهيم أو غيره، وكان من صنائع البرامكة، وكان يحرّر الكتب النافذة من السلطان الى ملوك الأطراف في الطوامير، وكان في نهاية الحرفة والوسخ، ومع ذلك كان سمحا لا يليق على شيء، فلما رتب الأقلام جعل أول الأقلام الثقال فمنها قلم الطومار، وهو أجلّها يكتب في طومار تامّ بسعفة، وربما كتب بقلم، وكانت تنفذ الكتب إلى الملوك به. ومن الأقلام قلم الثلثين. قلم السجلات. قلم العهود. قلم المؤامرات. قلم الأمانات. قلم الديباج. قلم المدمج «1» . قلم المرصّع. قلم التشاجي. فلما نشأ ذو الرياستين الفضل بن سهل اخترع «2» قلما وهو أحسن الأقلام، ويعرف بالرئاسي «3» ، ويتفرع إلى عدة أقلام فمن ذلك قلم الرئاسي الكبير. قلم النصف من الرئاسي. قلم الثلث. قلم صغير النصف. قلم خفيف الثلث. قلم المحقق. قلم المنثور. قلم الوشي. قلم الرقاع. قلم المكاتبات. قلم غبار الحلبة. قلم النرجس. قلم البياض.
فأما إسحاق هذا فإنه كان يعلّم المقتدر وأولاده، وهو أستاذ ابن مقلة، ولأبي عليّ إليه رسالة ذكرتها في أخبار أبي علي؛ ويكنى بأبي الحسين «4» ، لم ير في زمانه أحسن خطا منه ولا أعرف بالكتابة.
ولإسحاق كتاب القلم. كتاب تحفة الوامق. رسالة في الخطّ والكتابة.
وأخوه أبو الحسن نظيره، ويسلك طريقته. وابنه أبو القاسم إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم. وابنه أبو محمد القاسم بن إسماعيل بن إسحاق. ومن ولده أيضا أبو العباس عبد الله بن إسحاق، وهؤلاء القوم في نهاية حسن الخطّ والمعرفة بالكتابة.(2/617)
[221]
إسحاق بن إبراهيم الفارابي أبو إبراهيم
: خال إسماعيل بن حماد الجوهريّ صاحب «كتاب الصحاح في اللغة» ، وأبو إبراهيم هذا هو صاحب «كتاب ديوان الأدب» «1» المشهور اسمه الذائع ذكره.
كتب إلينا القاضي الأشرف يوسف بن إبراهيم بن عبد الواحد الشيباني القفطي «2» من بلاد اليمن، وكان قد سافر إلى هناك وأقام، قال: مما أخبركم به أن أبا إبراهيم إسحاق الفارابي مصنف «كتاب ديوان الأدب» كان ممن ترامى به الاغتراب، وطوّح به الزمان المنتاب إلى أرض اليمن، وسكن زبيد وبها صنّف كتابه «ديوان الأدب» ومات قبل أن يروى عنه، وكان أهل زبيد قد عزموا على قراءته عليه، فحالت المنية دون ذلك. قال: وكانت وفاته فيما يقارب سنة خمسين وأربعمائة «3» والله أعلم. ووضع كتابه على ستة كتب: الأول السالم، الثاني المضاعف، الثالث المثال- وهو ما كان في أوله واو أو ياء، والرابع كتاب ذوات الثلاثة- وهو ما كان في وسطه حرف من حروف العلة، والخامس كتاب ذوات الأربعة- وهو ما كان في آخره حرف علة، والسادس كتاب الهمزة. وكل كتاب من هذه الستة أسماء وأفعال يورد الأسماء أولا ثم الأفعال بعده.
وله: كتاب بيان الإعراب. كتاب شرح أدب الكاتب. كتاب ديوان الأدب.
قرأت بخطّ «4» الشيخ أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي السوى
__________
[221]- ترجمة الفارابي صاحب ديوان الأدب في الوافي 8: 395 وبغية الوعاة 1: 437 وانظر إنباه الرواة 1: 52- 53 (ذكره عرضا في ترجمة المعري) .(2/618)
قال: قرأته على أبي إبراهيم رحمه الله بفاراب، ثم على أبي السري محمد بن إبراهيم الأصبهاني بأصبهان، ثم عرضته على القاضي أبي سعيد السيرافي ببغداد.
قال الحاكم: وكنت قرأت بعضه إلى موضع البلاغ وهو آخر الأسماء على أبي يعقوب يوسف بن محمد بن إبراهيم الفرغاني النريزقاني «1» ، قال: قرأته على أبي علي الحسن بن علي بن سعد الزاميني «2» وقرأه أبو علي على أبي ابراهيم.
قال الحاكم: قول الجوهري عرضته على القاضي أبي سعيد السيرافي، يريد أنه قبله ولم ينكره، فصار عنده من صحاح اللغة، فأما الردّ من قبل أبي محمد يوسف بن الحسن، بن السيرافي [فلما] أنكره من كلمات أعلم عليها.
بخط الجوهري في آخر الثلث الأخير من نسخة الحاكم: قرأ عليّ أبو سعد عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن عزيز هذا الكتاب من أوّله إلى آخره، وصححته له وكتبه إسماعيل بن حمّاد الجوهريّ. وعلى النسخة أيضا في موضع آخر: سمعه مني ولداي علي والحسن من أوّله الى آخره بقراءتي إياه إلا أوراقا قرأها الحسن بنفسه عليّ، وصحّ سماعهما، والله تعالى يبارك لهما فيه ويوفقهما لصالح الأعمال، وكتب أبوهما يعقوب بن أحمد غرة المحرم سنة خمس وخمسين وأربعمائة. ثم قرأه عليّ ولدي الحسن قراءة بحث واستقصاء من أوله إلى آخره بما على حواشيه من الفوائد وشرح الأبيات في شهور سنة ثلاث وستين وأربعمائة. وعلى النسخة أيضا قبل ذلك ما صورته: سمعه مني بلفظي وصحّحه عرضا بنسختي صاحبه أبو يوسف يعقوب بن أحمد وفرغ منه في ذي القعدة سنة تسع وعشرين وأربعمائة، وكتب عبد الرحمن بن محمد بن دوست بخطه.
قال مؤلف الكتاب: فهذا مع وضوحه وكون هؤلاء المذكورين مشهورين معروفين ومعرفتي بالخطوط الموجودة على النسخة كمعرفتي بما لا أشكّ فيه، يبطل ما كتب إلينا القاضي القفطي من كون هذا الكتاب صنف بزبيد وأنه لم يسمع على مصنّفه.(2/619)
قال بعض شعراء خراسان يصف هذا الكتاب:
كتاب ديوان الأدب ... أحلى جنى من الضّرب
أودعه منشئه ... أكثر ألفاظ العرب
ما ضرّ من يحسنه ... خمول ذكر في النسب
يرفعه كتابنا ... فوق أعال في الحسب
وجدت بخط الامام أبي يوسف يعقوب بن أحمد النيسابوري اللغوي على «كتاب ديوان الأدب» بخطه ما صورته: سمعت هذا الكتاب من أوله إلى آخره عن الحاكم أبي سعد عبد الرحمن بن محمد بن دوست بقراءته إياه علينا وذلك بنيسابور في شهور سنة تسع وعشرين وأربعمائة، قال: قرأت على الشيخ أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي السوى قال: قرأته على أبي إبراهيم رحمه الله بفاراب ثم علي أبي السري محمد بن إبراهيم الاصبهاني ثم عرضته على القاضي أبي سعيد السيرافي ببغداد وقرأه جماعة كثيرة ورووه. وله أيضا كتاب بيان الاعراب. كتاب شرح أدب الكاتب.
[222]
إسحاق بن أحمد بن شيث بن نصر بن شيث
بن الحكم بن اقلذ بن عقبة بن يزيد بن سلمة بن رؤبة بن خفاتة بن وائل بن هضيم بن ذبيان الصفّار، أبو نصر الأديب البخاري من أهل بخارى: كان أحد أفراد الزمان في علم العربية، والمعرفة بدقائقها الخفيّة، وكان فقيها، وورد إلى بغداد وروى بها ومات بعد سنة خمس وأربعمائة فإنه في هذه السنة حدّث ببغداد. ذكره السمعاني أبو سعد في «تاريخ مرو» والحاكم بن البيع في «تاريخ نيسابور» والخطيب في «تاريخ بغداد» .
قال تاج الإسلام ومن خطه نقلت: ورد أبو نصر الصفّار خراسان ثم خرج إلى العراق والحجاز وسكن الطائف وبها توفي، وقبره بها معروف. وله تصانيف في
__________
[222]- ترجمته في تاريخ بغداد 6: 403 ومنتخب السياق (2) ص: 46 والوافي 8: 401 وبغية الوعاة 1: 438؛ وفي م في نسبه «شبيب» وغيرته اعتمادا على المصادر المذكورة.(2/620)
اللغة، وكان حسن الشعر، وهو جد الزاهد الصفّار إبراهيم بن إسماعيل بن إسحاق بن أحمد الذي لقيناه بمرو. وسمع نصر بن أحمد بن إسماعيل الكشاني، وروى عنه أبو علي الحسن بن علي بن محمد بن المذهب التميمي البغدادي.
وقال الحاكم: أبو نصر الفقيه الأديب البخاري الصفار- بعد ما ذكر سنّه كما تقدم- قدم علينا حاجّا وما كنت رأيت [مثله] ببخارى في سنّه في حفظ الأدب والفقه، وقد طلب الحديث في أنواع من العلم، وأنشدني لنفسه من الشعر المتين ما يطول شرحه، ثم قال: أنشدني لنفسه:
العين من زهر الخضراء في شغل ... والقلب من هيبة الرحمن في وجل
لو لم تكن هيبة الرحمن تردعني ... شرقت من قبلي في صحن خدّ ولي
يا دمية خلقت كالشمس في المثل ... حوريّ جسم ولكن صورة الرجل
لو كان صيد الدّمى والمرد من عملي ... لكنت من طرب كالشارب الثمل
لكنني من وثاق العقل في عقل ... وليس لي عن وفاق العقل من حول
الله يرقبني والعقل يحجبني ... فما لمثلي إذا في اللهو والغزل
كلفت نفسي عزّا في صيانتها ... دين الورى لهم طرا وديني لي
وقال أبو بكر ابن علي الخطيب: اسحاق بن أحمد بن شيث أبو نصر البخاري، ويعرف بالصدق، قدم بغداد في سنة خمس وأربعمائة، وحدّث بها عن نصر بن أحمد بن إسماعيل الكشاني صاحب جبريل «1» السمرقندي، حدثني عنه الحسن بن علي بن محمد بن المذهب وأثنى عليه خيرا.
قال المؤلف: ورأيت أنا له كتابا في النحو عجيبا سماه «كتاب المدخل إلى سيبويه» ذكر فيه المبنيات فقط، يكون نحوا من خمسمائة ورقة، ووقفت منه على كلام من تبحّر في هذا الشأن واشتمل على غوامضه إلى أقصى مكان، وله غير ذلك من التصانيف في الأدب، وكتاب المدخل الصغير في النحو وكتاب الرد على حمزة في حدوث التصحيف.(2/621)
[223]
إسحاق بن بشر بن محمد بن عبد الله بن سالم
، أبو حذيفة البخاري مولى بني هاشم: ولد ببلخ واستوطن بخارى فنسب إليها، وهو صاحب «كتاب المبتدأ» وغيره. مات ببخارى سنة ست ومائتين حدث عن محمد بن إسحاق بن يسار وعبد الملك بن جريج وسعيد بن أبي عروبة وجويبر بن سعيد ومقاتل بن سليمان ومالك بن أنس وسفيان الثوري وإدريس بن سنان وخلق من أئمة أهل العلم أحاديث باطلة. روى عنه جماعة من الخراسانيين ولم يرو عنه من البغداديين فيما أعلم سوى إسماعيل بن عيسى العطّار فإنه سمع منه مصنفاته ورواها عنه. وروى الحسن بن علويه القطان أن الرشيد بعث إلى أبي حذيفة فأقدمه بغداد، وكان يحدث في المسجد المعروف بابن رغبان.
وقال أحمد بن سيار بن أيوب: كان ببخارى شيخ يقال له أبو حذيفة إسحاق بن بشر القرشي، وكان صنف في «بدء الخلق» كتابا وفيه أحاديث ليست لها أصول، وكان يتعرض فيروي عن قوم ليسوا ممن أدركهم مثله، فإذا سألوه عن آخرين دونهم يقول من أين أدركت هؤلاء وهو يروي عن من فوقهم، وكانت فيه غفلة مع أنه كان يزنّ بحفظ. وسمعت إسحاق بن منصور يقول: قدم علينا ها هنا وكان يحدث عن ابن طاوس ورجال كبار من التابعين ممن ماتوا قبل حميد الطويل، قال فقلت له: كتبت عن حميد الطويل؟ قال: ففزع وقال: جئتم تسخرون بي؟ حميد عن أنس جدّي لم يلق حميدا، قال فقلنا له: أنت تروي عن من مات قبل حميد بكذا كذا سنة. قال:
فعلمنا ضعفه وأنه لا يعلم ما يقول.
وقال أبو رجاء قتيبة بن سعيد: بلغني أن أبا حذيفة البخاري قدم مكة فجعل يقول: حدثني ابن طاوس، فقيل لسفيان بن عيينة ذلك فقال: سلوه عن مولده،
__________
[223]- أكثر الترجمة منقول عن تاريخ الخطيب 6: 326 والفهرست: 106 وانظر مصورة تاريخ ابن عساكر 2: 745 وتهذيبه 2: 434 وسير الذهبي 9: 477 وعبر الذهبي 1: 349 وميزان الاعتدال 1: 184 والوافي 8: 405 والشذرات 2: 15.(2/622)
فسألوه فإذا ابن طاوس مات قبل مولده بسنين. قال: وهو متروك الحديث ساقط رمي بالكذب.
قال المؤلّف: كلّ ما تقدم من كتاب الخطيب.
قال محمد بن إسحاق النديم «1» : وله من الكتب: كتاب المبتدأ. كتاب الفتوح. كتاب الردة. كتاب الجمل. كتاب الألوية. كتاب صفين. كتاب حفر زمزم.
[224]
إسحاق بن سلمة بن إسحاق القيني
: أخباريّ عالم أندلسي، له كتاب يشتمل على أجزاء كثيرة في أخبار رية- ناحية بالاندلس- وحصونها وولاتها وحروبها وفقهائها وشعرائها، ذكره أبو محمد ابن حزم.
[225]
إسحاق بن عمار، يعرف بابن الجصاص
: يكنى أبا يعقوب، من موالي اليمن، وكان صاحب عيسى بن موسى في أول الدولة ولم يزل معه، فكان الناس يقرأون عليه الشعر في دار عيسى.
قال المرزباني، قال عيسى بن جعفر: إسحاق بن عمار من موالي اليمن، ويقال هو عبد الله بن إسحاق وإسحاق أبوه هو الجصاص، وقد اختلف في ولائه أيضا.
وقال الكسائي: إسحاق بن عمار الجصّاص أحد من أخذنا عنه الشعر وكان
__________
[224]- ترجمته القيني الأخباري في تاريخ ابن الفرضي 1: 89 وجذوة المقتبس: 159 وبغية الملتمس (رقم: 556) والوافي 8: 413.
[225]- نور القبس: 272 والوافي 8: 419.(2/623)
عالما به، ومات في آخر أيام المنصور. قال: وكان إذا تكلم في مجلس صمت الناس.
وقال عبد الله بن جعفر: ذكر ابن الجصاص الكوفيّ الراوية عند أحمد بن سعيد بن سلم، قال: ذكر عند أبي فاختلفوا في ولائه، فقال أبي: حدثني من رآه وقد دخل إلى عيسى بن موسى بعد أن خلع وسلّم العهد إلى المهدي فقال: أيها الأمير، أنت والله كما قال الأحوص «1» :
فمن يك عنّا سائلا بشماتة ... لما مسنّا أو ساكتا غير سائل
فما عجمت منّا العواجم ماجدا ... صبورا على حرّات تلك التلاتل
إذا سرّ لم يبطر وليس لنكبة ... ألمّت به بالخاشع المتضائل
وحدّث المبرد عن عبد الله بن صالح المقرىء: كان ابن الجصاص وجناد بن واصل قاعدين فتذاكرا القبور، فقال ابن الجصاص متمثلا:
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري ... إلى دير هند كيف خطّت مقابره
فقال جناد:
تري عجبا مما قضى الله فيهم ... رهائن حتف أوجبته مقادره
فردّ عليه أعرابي فقال:
بيوت تدانى أهلها فوق أهلها ... ومستأذن لا يدخل الدهر زائره
وقال ابن الكلبي: ابن الجصاص الراوية مولى لبشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان.(2/624)
[226]
إسحاق بن مرار أبو عمرو الشيباني الكوفي
: قال الأزهري «1» : كان يعرف بأبي عمرو الأحمر «2» ومرار بكسر الميم ورائين مهملتين مخففتين «3» ، وهو مولى وليس من بني شيبان، وإنما كان مؤدبا لأولاد ناس من بني شيبان فنسب إليهم، كما نسب اليزيدي إلى يزيد بن منصور حين أدّب ولده.
وقرأت في «أمالي» أبي إسحاق النجيرمي: ذكر أن يوسف الأصبهاني قال: أبو عمرو الشيباني من الدهاقين، وإنما قيل له الشيباني لأنه كان يؤدّب ولد هارون الرشيد الذين كانوا في حجر يزيد بن مزيد الشيباني فنسب إليه. قال عبد الله بن جعفر: وأبو عمرو راوية أهل بغداد واسع العلم باللغة والشعر، ثقة في الحديث كثير السماع، وله كتب كثيرة في اللغة جياد. مات في أيام المأمون سنة خمس ومائتين أو ست ومائتين وقد بلغ مائة سنة وعشر سنين. وقال ابن السكيت: مات أبو عمرو وله ثمان عشرة ومائة سنة، وكان يكتب بيده إلى أن مات، وكان ربما استعار مني الكتب وأنا إذ ذاك صبيّ آخذ عنه وأكتب من كتبه.
وقال ابن كامل «4» : مات أبو العتاهية وأبو عمرو الشيباني وإبراهيم الموصلي المغنّي والد إسحاق في يوم واحد سنة ثلاث عشرة ومائتين ببغداد. قال ابن درستويه:
__________
[226]- ترجمته في طبقات الزبيدي: 194 ومراتب النحويين: 91 ومراتب النحويين: 91 وتهذيب اللغة 1: 13 والفهرست: 75 ونور القبس: 277 وإنباه الرواة 1: 221 ونزهة الالباء: 61 وتاريخ بغداد 6: 329 وابن خلكان 1: 201 والبداية والنهاية 10: 265 وتهذيب التهذيب 12: 182 والوافي 8: 425 وبغية الوعاة 1: 439 وتاريخ أبي المحاسن: 207- 208 والبلغة: 38 (وسيعتمد المؤلف على مصادر أخرى) وروضات الجنات 2: 2 وللدكتور رزوق فرج رزوق دراسة موجزة عنه (بغداد: 1968) .(2/625)
وله بنون وبنو بنين يروون عنه كتبه وأصحاب علماء ثقات، وكان ممن يلزم مجلسه ويكتب عنه الحديث أحمد بن حنبل رضي الله عنه.
وحدث الحزنبل عن عمرو بن أبي عمرو الشيباني قال «1» : لما جمع أبي أشعار القبائل كانت نيفا وثمانين قبيلة، فكان كلما عمل منها قبيلة وأخرجها إلى الناس كتب مصحفا بخطّه وجعله في مسجد الكوفة حتى كتب نيفا وثمانين مصحفا.
وكان يقول لبنيه: تعلموا العلم فإنه يوطىء الفقراء بسط الملوك.
وروي عن أبي عمرو الشيباني انه قال يوما لأصحابه: لا يتمنّينّ أحد أمنية سوء، فإن البلاء موكّل بالمنطق، هذا المؤمل «2» قال:
شفّ المؤمل يوم الحيرة النظر ... ليت المؤمل لم يخلق له بصر
فذهب بصره، وهذا مجنون بني عامر قال:
فلو كنت أعمى أخبط الأرض بالعصا ... أصمّ ونادتني أجبت المناديا
فعمي وصم.
وقال أبو شيل يهجو أبا عمرو الشيباني «3» :
قد كنت أرجو أبا عمرو أخا ثقة ... حتى ألمّت بنا يوما ملمّات
فقلت والمرء تخطيه منيّته ... أدنى عطيته إياي ميّات
فكان ما جاد لي لا جاد عن سعة ... ثلاثة ناقصات مدلهمات
ما الشعر ويح أبيه من صناعته ... لكن صناعته بخل وبالات
ودنّ خلّ بفتل فوق عاتقه ... فيه ربيثاء «4» مخلوط وصحناة(2/626)
فلو رأيت أبا عمرو ومشيته ... كأنه جاحظ العينين نهّات
نهات أي نهاق.
وقال محمد بن إسحاق النديم «1» : وله من الكتب كتاب الجيم «2» . كتاب النوادر.
كتاب أشعار القبائل، ختمه بابن هرمة. كتاب الخيل. كتاب غريب المصنف. كتاب اللغات. كتاب غريب الحديث. كتاب النوادر الكبير على ثلاث نسخ.
وقال أبو الطيب اللغوي في كتاب «مراتب النحويين» «3» وأما «كتاب الجيم» فلا رواية له لأن أبا عمرو بخل به على الناس فلم يقرأه أحد عليه.
وذكره أبو بكر الخطيب فقال «4» : هو كوفي نزل بغداد وحدّث بها عن دكين «5» الشامي. روى عنه ابنه عمرو وأحمد بن حنبل وأبو عبيد القاسم ابن سلام وكان ثقة.
قال ثعلب «6» : وكان مع أبي عمرو الشيباني من العلم والسماع عشرة أضعاف ما كان مع أبي عبيدة ولم يكن في أهل البصرة مثل أبي عبيدة في السماع والعلم.
قال المؤلف: ولقد أسرف ثعلب فيما فضّل به أبا عمرو، فإنني لا أقول إن الله خلق رجلا كان أوسع رواية وعلما من أبي عبيدة في زمانه.
وحدث يونس بن حبيب قال «7» : دخلت على أبي عمرو الشيباني وبين يديه قمطر فيه أمناء من الكتب يسيرة، فقلت له: أيها الشيخ هذا علمك؟ فتبسم إليّ وقال: إنه من صدق كثير.
وقال الخطيب «8» : كان أبو عمرو نبيلا فاضلا عالما بكلام العرب حافظا للغاتها، عمل كتاب شعراء مضر وربيعة ويمن إلى ابن هرمة، وسمع من الحديث سماعا واسعا، وعمّر عمرا طويلا حتى أناف على التسعين، وهو عند الخاصة من أهل(2/627)
العلم والرواية مشهور معروف، والذي قصّر به عند العامة من أهل العلم أنه كان مستهترا بالنبيذ والشرب له.
قرأت بخط أبي منصور الأزهري في «كتاب نظم الجمان» للمنذري حدثني أبو بكر محمد بن أحمد بن النضر المنني قال، حدثني سعيد بن صبيح قال، حدثني أبوك- يعني النضر- قال: كنت عشيّة الخميس عند إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، وجاء أبو عمرو الشيباني فقال لي: من هذا الشيخ؟ قلت: هذا أبو عمرو الشيباني صاحب العربية والغريب، وكان قد أتى عليه نحو من خمس عشرة ومائة سنة، فالتفتّ إليه أسائله عن أيامه وسنه، ثم قال: ما راح بك، ألك حاجة؟ قال: نعم بلغني أنك تقول إن القرآن مخلوق، قال: نعم، قال: فمتى خلقه قبل أن يتكلم به أو بعد ما تكلم به؟ فأطرق طويلا ثم رفع رأسه وقال: أنت شيخ جدل، هذا قولي وقول أمير المؤمنين، قال سعيد: فغدوت يوم الجمعة على أبي عمرو- وكان مجلسه وكنت أقرب منه- فقلت: يا أبا عمرو وأيش كنت تصنع عند إسماعيل بن حماد؟ قال: من أخبرك؟ أحمد بن أبي غالب؟ اله عن هذا فإن هذا بي عارف- يعني المأمون- دعوا هذا لا تتكلموا به.
[227]
إسحاق بن نصير الكاتب البغدادي أبو يعقوب كاتب الرسائل
بديوان مصر بعد محمد بن عبد الله بن عبد كان: قال ابن زولاق: مات سنة سبع وتسعين ومائتين. قال ابن زولاق: وكان أبو جعفر محمد بن عبد الله بن عبد كان على المكاتبات والرسائل منذ أيام أحمد بن طولون، ومكاتباته وأجوبته موجودة، إلى أن قدم عليه أبو يعقوب إسحاق بن نصير البغدادي من العراق والتمس التصرّف، فقال له ابن عبد كان: في ماذا تتصرف؟ فقال: في المكاتبات والأجوبة والترسل، وكان بين يدي أبي جعفر كتب قد وردت فقال له: خذ هذه وأجب عنها، فأخذها ومضى إلى ناحية من الدار فأجاب عنها، ثم وضع خفّه تحت رأسه ونام، وقام أبو جعفر إلى الحجرة التي له فاجتاز به
__________
[227]- الوافي 8: 428.(2/628)
والكتب بين يديه، فأخذها وقرأها، فلما تأمّلها جعل يروّح إسحاق بن نصير حتى انتبه، فقال له: عمن أخذت الكتبة؟ وأجرى عليه أربعين دينارا في كلّ شهر، فلم يزل مع أبي جعفر إلى أن توفي أبو جعفر وانفرد بالأمر علي بن أحمد الماذرائي، فقال لإسحاق: الزم منزلك، فانصرف، فوردت كتب فأجاب عنها علي بن أحمد ودخل على أبي الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون فعرضها عليه، فقال له: ما هذه بالألفاظ التي كانت تخرج مني وعني، فمضى علي بن أحمد وعاد إليه، فما أراد أبو الجيش الجواب ولا استجاده، فخرج علي بن أحمد وقال: هاتوا إسحاق بن نصير، فجيء به فقال: أجب عن هذه، فأجاب، ودخل علي بن أحمد على أبي الجيش فقرأ الأجوبة، فقال: نعم هذا الذي أعرف، أيش الخبر؟ فقال له: كاتب كان مع أبي جعفر فاعتزل وأحضرته الساعة، فقال: هاته، فأحضره، فقال: كم رزقك؟ فقال: أربعون دينارا، فقال لعلي بن أحمد: اجعلها أربعمائة في السنة، اجعلها له أربعمائة في الشهر، وقال لإسحاق بن نصير: لا تفارق حضرتي. فبلغ إسحاق حتى صار رزقه ألف دينار في كل شهر، فكان يجود بذلك ويفضل به على الناس، ولقد أرسل إلى بغداد إلى ثلاثة أنفس: إلى أبي العباس المبرد وإلى أبي العباس ثعلب وإلى وراق كان يجلس عنده دفعة واحدة ثلاثة آلاف دينار، لكلّ واحد منهم ألف دينار، وجرى ذلك على يدي أحمد بن الوليد التاجر خال القاضي بمصر.
[228]
إسحاق بن يحيى بن سريج الكاتب، أبو الحسين النصراني
: ذكره محمد بن إسحاق النديم وقال: كان جيّد المعرفة بأمر الدواوين والخراج ومناظرة العمال، وله معرفة تامة بالنجوم ومولده في شعبان سنة ثلاثمائة. قال: وهو يحيا.
قال المؤلف: وكان قوله هذا في سنة سبع وسبعين وثلاثمائة.
قال: وله من الكتب كتاب الخراج الكبير في ألف ورقة، جزأه جزءين، وجعله
__________
[228]- الفهرست: 151 والوافي 8: 428 (وفي م في نسبه: شريح) .(2/629)
ستة منازل. كتاب الخراج الذي في أيدي الناس مائتا ورقة. كتاب الخراج صغير نحو مائة ورقة. كتاب عمل المؤامرات بالحضرة. كتاب تحويل سني المواليد نحو مائة ورقة. كتاب جمل التاريخ.
[229]
إسحاق بن موهوب بن أحمد بن محمد بن الخضر
الجواليقي يكنى أبا طاهر: وهو أخو إسماعيل ومات في حادي عشر رجب سنة خمس وسبعين وخمسمائة ودفن بباب حرب عند أبيه وأخيه. سمع أبا القاسم ابن الحصين وأباه وغيرهما، وحدث بالقليل، سمع منه القاضي القرشي قال: وسألته عن مولده فقال في ربيع الأول سنة سبع عشرة وخمسمائة.
[230]
أسعد بن عصمة أبو البيداء الرياحي
: أعرابي نزل البصرة، وكان يعلّم الصبيان بالأجرة، وأقام بها أيام عمره يؤخذ عنه العلم، زوج أم أبي مالك عمرو بن كركرة، وكان شاعرا، ومن شعره:
قال فيها البليغ ما قال ... ذو العيّ وكلّ بوصفها منطيق
وكذاك العدوّ لم يعد أن قال ... جميلا كما يقول الصديق
[231]
أسعد بن علي بن أحمد الزوزني المعروف بالبارع
: أبو القاسم الأديب الشاعر الفاضل الكاتب المترسل، مات فيما ذكره عبد الغافر في «السياق» يوم عيد الأضحى سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.
__________
[229]- إنباه الرواة 1: 230 والوافي 8: 427.
[230) - الفهرست: 49 وانباه الرواة 4: 96 والوافي 9: 30.
[231]- ترجمته في السياق (المنتخب 2) : 48 ودمية القصر 2: 1403 (ألتونجي) والوافي 9: 28.(2/630)
قرأت بخط تاج الاسلام: البارع من أهل زوزن، سكن نيسابور وورد العراق وأكرم فضلاؤها مورده، وكان شاعر عصره وأوحد «1» دهره بخراسان والعراق، وقد شاع ذكره في الآفاق. وكان على كبر سنّه يسمع الحديث ويكتب إلى آخر عمره. سمع أبا عبد الرحمن ابن محمد الداودي وأبا جعفر محمد بن اسحاق البحّاثي، روى لنا عنه أبو البركات الفراوي وأبو منصور الشحامي وغيرهما.
وذكره الباخرزي في «الدمية» وقال: الأديب أبو القاسم أسعد بن علي البارع الزوزني: هو البارع حقا، والوافر من البراعة حظا، وقد اكتسب الأدب بجدّه وكدّه، وانتهى من الفضل إلى أقصى حدّه، ولفّتني إليه نسبة الآداب، ونظمتني وإياه صحبة الكتاب، وهلم جرّا إلى الآن، ارتدينا المشيب، وخلعنا برد الشباب ذاك القشيب.
ولا أكاد أنسى وأنا في الحضر، حظّي منه في السفر، وقد أخذنا بيننا بأطراف الأحاديث، ورشنا المطايا بأجنحة السير الحثيث، حتى سرنا معا إلى العراق، ونزل هو من فضلائه بمنزلة السواد من الأحداق، وعنده توقيعاتهم بتبريزه على الأقران، وحيازته قصبات الرهان، وأنا على ذلك من الشاهدين، لا أكتم من شهادتي دقّا ولا جلّا، بل أعتقد بها صكّا وعليها سجلّا، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، وعازب لبه.
قال السمعاني: أنشدني الشحامي، أنشدنا البارع لنفسه:
قد أقبل المعشوق فاستقبلته ... مستشفيا مستسقيا من ريقه
نشوان والإبريق في يده ولي ... من ريقه ما ناب عن إبريقه
لو كنت أعلم أنه لي زائر ... لرششت من دمعي تراب طريقه
ولكنت أذكي جمر قلبي في الدجى ... بطريقه كي يهتدي ببريقه
فزويت وجهي عن مدامة كأسه ... وشربت كأسا من مجاج عقيقه
وله أيضا:
كأن لون الهواء ماء ... أو سندس رقّ أو عمامه
كأن شكل الهلال قرط ... أو عطفة النون أو قلامه(2/631)
وله أيضا:
ألا فاشكر لربك كلّ وقت ... على الآلاء «1» والنعم الجسيمه
إذا كان الزمان زمان سوء ... فيوم صالح منه غنيمه
وله أيضا:
أبو بكر حبا في الله مالا ... أكان لسانه يجري بلالا
لقد واسى النبيّ بكلّ خير ... وأعطى من ذخائره بلالا
لو ان السحر أبغضه اعتقادا ... لما أعطى الإله له بلالا
ومما أورده الباخرزي في كتابه للبارع «2» :
قمر سبى قلبي بعقرب صدغه ... لما تجلّى عنه قلب العقرب
فأجبته ألديك قلبي قال لا ... لكنّ قلبك عند قلب العقرب
قرأت في بعض الكتب، قال: الفضلاء الملقبون بالبارع في خراسان ثلاثة:
أحدهم البارع الهروي، وهو صاحب «كتاب طرائف الطرف» وهو أدونهم في الفضل مرتبة، والثاني البارع البوشنجي وهو أوسطهم، والثالث البارع الزوزني وهو أفضلهم وأشهرهم. قال: وكان تلميذ القاضي أبي جعفر البحاثي «3» ، وهو الذي يقول فيه البحاثي:
عفجت على اليبس البويرع مرّة ... فقال لقد أوجعت سرمي فبلّه
فقلت بزاقي لا يفي بجميعه ... ومن أين لي أن أبزق الدرب كلّه
قلت أنا: ينبغي أن يكون قد استعمله بمنارة اسكندرية إذا عفجه في شيء كالدرب فأوجعه.
وقال البحاثي فيه أيضا:(2/632)
للبارع ابن العاهره ... زوجة سوء فاجره
مؤاجر قد زوّجوه ... كفؤه مؤاجره
وقال البارع هذا يخاطب أبا القاسم علي بن أبي نزار «1» رئيس زوزن:
كفّ عليّ عندها التبر ... هان وللملك بها قدر
كأنما الخال على ظهرها ... عنبرة قد مجّها البحر
[232]
أسعد بن مسعود بن علي بن محمد بن الحسن العتبي
أبو إبراهيم: من ولد عتبة بن غزوان، وهو حفيد أبي النصر «2» العتبي، كذا ذكر السمعاني في «المذيّل» وأبو النصر هو محمد بن عبد الجبار «3» ، وليس في نسب هذا عبد الجبار كما ترى، ولا أدري ما صوابه إلّا أن يكون ابن بنته.
قال السمعاني: قرأت بخط والدي: أسعد بن مسعود العتبي مولده سنة أربع وأربعمائة، ذكره أبو الحسن البيهقي في «وشاح الدمية» وقال: هو مصنف «كتاب درة التاج» و «كتاب تاج الرسائل» وكان كاتبا في الدواوين المحمودية والسلجوقية، وعاش إلى آخر أيام نظام الملك، وقال في الإمام علي الفنجكردي:
يا أوحد البلغاء والأدباء ... يا سيد الفضلاء والعلماء
يا من كأنّ عطاردا في قلبه ... يملي عليه حقائق الأشياء
وذكره أبو سعد، ونقلت من خطّه، قال بعد ذكر نسبه: كان من أهل نيسابور،
__________
[232]- ترجمته في السياق (المنتخب 2: 47) والوافي 9: 30 وسير الذهبي 19: 158 والمنتظم 9: 125.
وتكرر «محمد» في نسبه (في ر) .(2/633)
وكان يسكن مدرسة البيهقي؛ وهو من أولاد المنعّمين «1» ، شاعر كاتب، تصرف في الأعمال أيام شبابه، وخرج في صحبة «2» عميد خراسان إلى أسفار، وصحب الأكابر، وارتفعت به الأيام وانخفضت حتى تأخّر عن العمل، وتاب ولزم البيت وقنع بالكفاف من العيش، واستراح من الأمور، وعقد له مجلس الإملاء في الجامع المنيعي «3» فأملى مدة، وكان يحضر عنده المحدّثون والأئمة. دخل بغداد وسمع بها من أبي منصور عبد الله بن سعيد بن مهدي الكاتب الخوافي، وسمع بنيسابور ومرو وغير ذلك، وسمع جدّه أبا النصر العتبيّ وروى لنا عنه جماعة.
قال: وقرأت بخط أبي جعفر محمد بن علي الحافظ الهمذاني: أسعد بن مسعود العتبي شيخ عالم ثقة ديّن، كان يثني عليه أبو صالح المؤذن الحافظ. وذكره في موضع آخر وقال: أسعد العتبي تزهّد وكان من الصالحين.
قال السمعاني: أنبأنا أبو البركات الفراوي عن أسعد بن مسعود عن عبد القاهر بن طاهر التميمي، حدثني شيخ فاضل قال: دخلت المسجد الجامع بالبصرة فرأيت شيخا بهيا قد قطع مسافة العمر، فسلّمت عليه وقلت: أتفرّس أنك شاعر، فقال: أجل، فقلت: أنشدني من مقولك ما يكون لي تذكرة منك، فقال:
اكتب:
قالوا تغيّر شعره عن حاله ... والهمّ يشغلني عن الأشعار
أما الهجاء فعنه شيبي زاجري «4» ... والمدح قلّ لقلّة الأحرار
قال السمعاني: أنشدني أبو الحسين أحمد بن محمد السمناني المصري، أنشدنا أبو إبراهيم أسعد العتبي لنفسه:
قد كنت فيما مرّ من أزماني ... متوانيا لتقاصر الإحسان
ورأيت خلّاني وأهل مودّتي ... متوفّرين معا على الاخوان(2/634)
فتغيّروا لما رأوني تائبا ... وعن التصرّف قد صرفت عناني
دعهم وعادتهم فلم أر مثلهم ... إلا مجرّد صورة الإنسان
واغسل يديك من الزمان وأهله ... بالطين والصابون والأشنان
[233 الف]
أسعد بن المهذب بن أبي المليح مماتي
: أحد الرؤساء الأعيان الجلة «1» ، والكاتب الكبراء المنزلة، ومن تصرف في الأعمال، وولي رئاسة الديوان، وله أدب بارع، وخاطر وقّاد مسارع، وقد صنّف في الأدب وعرف، ومات بمدينة حلب في ثامن عشري جمادى الأولى سنة ست وستمائة، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وأصله من نصارى أسيوط- بليدة بصعيد مصر- قدموا مصر وخدموا وتقدموا وولوا الولايات، وهو مع ذلك من أهل بيت في الكتابة عريق، [برز جدّ أبيه ممّاتي أيام بدر الجمالي] «2» وهو كالمستولي على الديار المصرية ليس على يده يد، والمسمّون بالخلافة محجوبون ليس لهم غير السكة والخطبة. وكان إلى مماتي كثير من أعماله، فحدثني الصاحب الكبير الوزير الجليل جمال الدين الأكرم أبو الحسن علي بن يوسف الشيباني القفطي- حرس الله علاه- بمدينة حلب قال: بلغني أن بعض تجار الهند قدم إلى مصر ومعه سمكة مصنوعة من عنبر، قد تنوّق فيها وأجيد وطيّبت ورصعت بالجواهر، فعرضها على بدر الجمالي ليبيعها منه فسامها من صاحبها فقال: لا أنقصها من ألف دينار شيئا، فأعيدت إليه، فخرج بها من دار بدر، فقال له أبو المليح: أرني هذه السمكة، فأراه إياها، فقال له: كم سمت فيها؟ فقال: لا أنقصها من ألف دينار
__________
[233]- ترجمة ابن مماتي في إنباه الرواة 1: 231 وبغية الطلب 3: 28 ووفيات الأعيان 1: 210 والخريدة (قسم مصر) 1: 100 والوافي 9: 19 والنجوم الزاهرة 6: 178 والشذرات 5: 20 وحسن المحاضرة 1: 325 والبداية والنهاية 13: 53 (وكنيته أبو المكارم) وسير الذهبي 21: 485 (وانظر مزيدا من التخريج في الحاشية) والمقفى 2: 83.(2/635)
درهما واحدا، فأخذ بيده وقبض ألف دينار من ماله وتركها عنده مدة، فاتفق أن شرب أبو مليح يوما وسكر وقال لندمائه: قد اشتهيت سمكا هاتم المقلى والنار حتى نقليه بحضرتنا، فجاءوه بمقلى حديد وفحم وتركوه على النار، وجاء بتلك السمكة العنبر فتركها في المقلى، فجعلت تتقلى وتفوح روائحها حتى لم يبق بمصر دار إلا ودخلتها تلك الرائحة، وكان بدر الجمالي جالسا فشمّ تلك الرائحة وتزايدت، فاستدعى الخزّان وأمرهم بفتح خزائنه وتفتيشها خوفا من حريق قد يكون وقع فيها، فوجدوا خزائنه سالمة، فقال: ويحكم انظروا ما هذا، ففتشوا حتى وقعوا على حقيقة الخبر، فاستعظم، وقال: هذا النصرانيّ الفاعل الصانع قد أكل أموالي واستبدّ بالدنيا دوني حتى أمكنه أن يفعل مثل هذا، وتركه إلى الغداة، فلما دخل إليه وهو مغضب قال له:
ويحك أستعظم أنا وأنا ملك مصر شرى سمكة من العنبر فأتركها استكثارا لثمنها فتشتريها أنت، ثم لا يقنعك حتى تقليها وتذهب في ساعة ألف دينار مصرية؟! ما فعلت هذا الا وقد نقلت بيت أموالي إليك وفعلت، فقال له: والله ما فعلت هذا إلا غيرة عليك ومحبة لك، فإنك اليوم سلطان نصف الدنيا، وهذه السمكة لا يشتريها إلا ملك، فخفت ان يذهب بها إلى بعض الملوك ويخبره بأنك استعظمتها ولم تشترها، فأردت أن أعكس الأمر وأعلمه أنك ما تركتها إلّا احتقارا لها، وأنها لم يكن لها عندك مقدار، وأنّ كاتبا نصرانيا من كتابك اشتراها وأحرقها، فيشيع بذلك ذكرك، ويعظم عند الملوك قدرك. فاستحسن بدر ذلك منه وأمر له بضعفي ثمنها وزاد في رزقه.
وكان مماتي مع ذلك كريما ممدّحا قد مدحه الشعراء، فذكر أبو الصلت «1» في «كتاب الرسالة المصرية» «2» له أن أبا طاهر إسماعيل بن محمد الشاعر المعروف بابن مكنسة كان منقطعا إليه، فلما مات مماتي رثاه ابن مكنسة بقصيدة منها:
ماذا أرجّي من حيا ... تي بعد موت أبي المليح(2/636)
ما كان بالنّكس الدنيّ ... من الرجال ولا الشحيح
كفر النصارى بعد ما ... غدروا «1» به دين المسيح
(كذا قال، ولعلهم اغتالوه أو قتلوه) . ولما ولي الأفضل ابن أمير الجيوش بدر الجماليّ بعد أبيه دخل إليه ابن مكنسة مادحا، فقال له: ذهب رجاؤك بموت أبي المليح فما الذي جاء بك إلينا؟ وحرمه ولم يقبل مديحه.
وأما المهذّب والده، وكان يلقب بالخطير، فإنه كان كاتب ديوان الجيش بمصر في أواخر أيام المصريين وأول أيام بني أيوب مدة، فقصده الكتاب وجعلوا له حديثا عند السلطان «2» فهمّ به صلاح الدين يوسف بن أيوب أو أسد الدين شير كوه، وهو يومئذ المتولي على الديار المصرية، فخاف المهذّب فجمع أولاده ودخل على السلطان وأسلموا على يده، فقبلهم وأحسن إليهم وزاد في ولاياتهم وجبّ الاسلام ما قبله.
ووجدت على ظهر كتاب من تصانيف ابن مماتي مكتوبا: كان المهذب أبوه المعروف بالخطير مرتبا على ديوان الاقطاعات، وهو على دين النصرانية، فلما علم أسد الدين شيركوه في بدء أمره بمصر أنه نصراني وأنه يتصرّف في [الديوان] بلا غيار نهاه، وأمره بغيار النصارى، ورفع الذؤابة وشدّ الزنار، وصرفه عن الديوان، فبادر هو وأولاده فأسلموا على يده، فأقرّه على ديوانه مدة ثم صرفه عنه، فقال فيه ابن الذروي «3» :
لم يسلم الشيخ الخطير ... لرغبة في دين أحمد
بل ظنّ أن محاله ... يبقي له الديوان سرمد
والآن قد صرفوه عنه ... فدينه فالعود أحمد
قال: ووجدت بخط ابن مماتي:
صحّ التمثل في قديم ... الدهر أنّ العود أحمد(2/637)
ولما أمر شيركوه النصارى بلبس الغيار وأن يعمّموا بغير عذبة قال عمارة اليمني:
يا أسد الدين ومن عدله ... يحفظ فينا سنّة المصطفى
كفى غيارا شدّ أوساطنا ... فما الذي يوجب كشف القفا
وجرى معه حديث النحويين وأن أحدهم ينفد عمره فيه ولا يتجاوزه إلى شيء من الأدب الذي يراد النحو لأجله: من البلاغة وقول الشعر ومعرفة الأخبار والآثار وتصحيح اللغة وضبط الأحاديث، فقال الأسعد: هؤلاء مثلهم مثل الذي يعمل الموازين وليس عنده ما يزن فيه، فيأخذها غيرهم فيزن فيها الدرّ النفيس والجوهر الفاخر والدنانير الحمر والجواهر البيض. وهذا عندي من حسن التمثيل.
أنشدنا سعيد بن أبي الكرم بن هبة الله المصري- قال، أنشدني الخطير أبو سعيد ابن مماتي لنفسه في أبي سعيد ابن أبي اليمن النحال وزير العادل، وكان نصرانيا وأسلم، وكان أملح الناس وجها- أعني ابن النحّال:
وشادن لما أتى مقبلا ... سبّحت ربّ العرش باريه
ومذ رأيت النحل «1» في خدّه ... أيقنت أنّ الشهد في فيه
وأنشدنا سعيد بن أبي الكرم المذكور قال، أنشدني الخطير أبو سعيد ابن مماتي في ابن النحال أيضا، وكان يسكن ابن النحّال في أول الدرب، وكان في آخر الدرب صبيّ مثله في الحسن يعرف بابن زنبور:
حوى درب نور الدين كلّ شمردل ... مشددة أوساطهم بالزنانير
فأوّله للشهد والنحل منزل ... وآخره يا سادتي للزنابير
ومن عجيب ما جرى للخطير أنه كان يوما جالسا في ديوانه في حجرة موسومة بديوان الجيش من قصر السلطان بمصر، وكانت حجرة حسنة مرخّمة منمّقة، فجاءه قوم وقالوا له: قم من ها هنا: فقال لهم: ما الخبر؟ فقالوا: قد تقدم الملك العادل أبو بكر بن أيوب بأخذ رخام هذه الحجرة وأن يعمر به موضعا آخر، فخرج منكسرا كاسفا، فقيل له في ذلك فقال: قد استجيبت فينا دعوة، وما أظنني أجلس في ديوان(2/638)
بعدها، أما سمعتم إذا بالغوا في الدعاء علينا قالوا: خرّب الله ديوانه، وما بعد الخراب إلا اليباب، ثم دخل منزله وحمّ فلم يخرج منه إلّا ميتا. فلما مات خلفه ابنه الأسعد هذا على ديوان الجيش وتصدّر فيه مدّة طويلة ثمّ أضيف إليه في الأيام الصلاحية والعزيزية ديوان المال، وهو أجلّ ديوان من دواوين مصر، وتصدّر فيه واختصّ بصحبة القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني، ونفق عليه وحظي عنده وكرم لديه، فقام بأمره وأشاع من ذكره ونبّه على فضله، وصنّف له عدة تصانيف باسمه، ولم يزل على ذلك إلى أن ملك الملك العادل أبو بكر ابن أيوب الديار المصرية، وكان وزيره والمدبّر لدولته الصفي عبد الله بن علي بن شكر، وكان بينه وبين الأسعد ذحل قديم أيام رئاسته عليه، ووقعت من الأسعد إهانة في حقّ ابن شكر فحقدها عليه إلى أن تمكن منه، فلما ورد مصر أحضر الأسعد إليه وأقبل بكلّيته عليه وفوّض إليه جميع الدواوين التي كانت باسمه قديما، وبقي على ذلك سنة كاملة، ثم عمل له المؤامرات ووضع عليه المحالات وأكثر فيه التأويلات، ولم يلتفت إلى أعذاره ولا أعاره طرفا لاعتذاره، فنكبه نكبة قبيحة، ووجه عليه أموالا كثيرة وطالبه بها، فلم يكن له وجه لأنه كان عفيفا ذا مروءة، فأحال عليه الأجناد فقصدوه وطالبوه وأكثروا عليه وآذوه «1» واشتكوه إلى ابن شكر فحكّمهم فيه؛ فحدثني المؤيد إبراهيم بن يوسف الشيباني قال: سمعت الأسعد يقول: علقت في المطالبة على باب داري بمصر على ظهر الطريق في يوم واحد إحدى عشرة مرة، فلما رأوا أنه «2» لا وجه لي قيل لي:
تحيّل ونجّم هذا المال عليك في نجوم، فقلت: أما المال فلا وجه له عندي، ولكن إن أطلقت وملكت نفسي استجديت من الناس وسألت من يخافني ويرجوني فلعلّي أحصّل من هذا الوجه، فأما من وجه حاصل فليس لي بعد ما أخذتموه مني درهم واحد، فنجّم المال عليّ وأطلقت، وبقيت مديدة إلى أن حلّ بعض نجوم المال عليّ فاختفيت واستترت، وقصدت إلى القرافة وأخفيت نفسي في مقبرة الماذرائيين،(2/639)
وأقمت «1» بها مدة عام كامل وضاق الأمر عليّ فهربت قاصدا للشام على اجتهاد من الاستتار «2» ، فلحقني في بعض الطريق فارس مجدّ فسلّم عليّ وسلّم إليّ مكتوبا ففضضته وإذا هو من الصفّي ابن شكر يذكر فيه: لا تحسب أن اختفاءك عني كان بحيث لا أدري أين أنت ولا أين مكانك، فاعلم أن أخبارك كانت تأتيني يوما يوما «3» وأنك كنت في قبور الماذرائيين بالقرافة منذ يوم كذا، وأنني اجتزت هناك واطّلعت فرأيتك بعيني، وأنك لما خرجت هاربا عرفت خبرك، ولو أردت ردّك لفعلت، ولو علمت أنك قد بقي لك مال أو حال لما تركتك، ولم يكن ذنبك عندي مما يبلغ أن أتلف معه نفسك، وإنما كان مقصودي أن أدعك تعيش خائفا فقيرا غريبا مهجّجا «4» في البلاد، فلا تظنّ أنك هربت مني بمكيدة صحّت لك عليّ، فاذهب إلى غير دعة الله.
قال: وتركني القاصد وعاد، فبقيت مبهوتا إلى أن وصلت إلى حلب.
فحدثني الصاحب جمال الدين الأكرم- أدام الله علوّه-: لما ورد إلى حلب نزل في داري، فأقام عندي مدة وذلك في سنة أربع وستمائة، وعرف الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين بن أيوب رحمه الله خبره فأكرمه وأجرى عليه في كلّ يوم دينارا صوريا وثلاثة دنانير أخرى في الشهر أجرة دار، فكان يصل إليه في كلّ شهر ثلاثة وثلاثون دينارا غير برّ وألطاف ما كان يخليه منها، وأقام عنده على قدم العطلة إلى سنة ست وستمائة كما ذكرنا، ومات فدفن بظاهر حلب بمقام بقرب قبر أبي بكر الهروي.
وله تصانيف كثيرة يقصد بها قصد التأدب وفي معرض وقائع تجري، ويعرضها على الأكابر، لم تكن مفيدة إفادة علمية إنما كانت شبيهة بتصانيف «5» الثعالبي وأضرابه، فمن ذلك كتاب تلقين اليقين في الفقه. كتاب سرّ الشعر. كتاب علم النثر. كتاب الشيء بالشيء يذكر، وعرضه على القاضي فسمّاه «سلاسل الذهب» لأخذ بعضه بشعب بعض. كتاب تهذيب الأفعال لابن طريف. كتاب قرقرة الدجاج في ألفاظ ابن(2/640)
الحجاج. كتاب الفاشوش في أحكام قراقوش. كتاب لطائف الذخيرة، لابن بسام.
كتاب ملاذ الأفكار وملاذ الاعتبار. كتاب سيرة صلاح الدين يوسف بن أيوب. كتاب أخاير الذخائر. كتاب كرم النجار في حفظ الجار، عمله للملك الظاهر لما قدم عليه.
كتاب ترجمان الجمان. كتاب مذاهب المواهب. كتاب باعث الجلد عند حادث الولد. كتاب الحضّ على الرضى بالحظ. كتاب زواهر السدف وجواهر الصدف.
كتاب قرص العتاب. كتاب درّة التاج. كتاب ميسور النقد. كتاب المنحل. كتاب أعلام النصر. كتاب خصائص المعرفة في المعمّيات. [كتاب روائع الوقائع] «1» .
وكان علم الدين ابن الحجاج شريكه في ديوان الجيش، وكان بينهما ما يكون بين المتماثلين في العمل، فعمل فيه الكتاب المتقدم ذكره، وهجاه بعدة أشعار منها:
حكى نهرين ما في الأرض ... من يحكيهما أبدا
ففي أفعاله ثورا ... وفي ألفاظه بردى
وكان له نوادر حسنة حادّة منها ما حدثني به الصاحب القاضي الأكرم قال: ركبت وإياه يوما «2» وخرجنا نسير بظاهر حلب، فكان خروجنا من أحد أبوابها، ودرنا سور البلد جميعه ثم دخلنا من ذلك الباب، فقال: اليوم سيرنا تدليك، قيل «3» كيف؟
قال: من برّا برّا.
وكان السديد بن المنذر «4» وهو رجل فقيه اتصل بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بعض الاتصال، فجعل لنفسه بذلك سوقا، واستجلب بما يمتّ به من ذلك- وإن كان باطلا- رزقا، وكان أعور رديئا قليل الدين بغيضا. ولما أحدث الملك الظاهر غازي قناة الماء بحلب وأجراها في شوارعها ودور الناس فوّض إلى ابن المنذر النظر في مصالحها، ورزق على ذلك رزقا حسنا نحو ثلاثمائة درهم في الشهر «5» ، فسأل عنه الأمير فارس الدين ميمون القصري، والأسعد بن مماتي حاضر، فقال له مسرعا:(2/641)
هو اليوم مستخدم على قناة، فأعجب بحسن هذه النادرة الحاضرين.
وقيل للأسعد يوما: أي شيء يشبه ابن المنذر؟ فقال: يشبه الزبّ، فاستبردوا ذلك وظنوا أنه إنما ذهب إلى عورة فقط، فقال: ما لكم لا تسألوني كيف يشبهه؟
فقالوا: كيف؟ قال: هو أقرع أصلع أعور يسمع بلا أذن، يدخل المداخل الرديئة بحدّة واجتهاد «1» ويرجع منكسرا، فاستحسن ذلك.
وله شعر، من ذلك قوله في الثلج في رجب سنة خمس وستمائة:
قد قلت لما رأيت الثلج منبسطا ... على الطريق إلى أن ضلّ سالكها
ما بيّض الله وجه الأرض في حلب ... إلا لأنّ غياث الدين مالكها
وقال أيضا فيه:
لما رأت عيني الثلج ... ساقطا كالأقاحي
وصار ليل الثرى ... منه أبيضا كالصباح
حسبت ذلك من ذو ... ب درّ عقد الوشاح
أو من حباب الحميّا ... أو من ثغور الملاح
فما على داخل النا ... ر بعد ذا من جناح
وقال أيضا فيه:
بسيف غياث الدين غازي بن يوسف ... بن أيوب دام القتل واتصل الفتح
وشاهدته في الدست والثلج دونه ... فقلت سليمان بن داود والصرح
وقال أيضا فيه:
مذ رأينا الصبح يزدا ... ن ويزداد انفراشا
وحسبنا نوره يط ... رد من خلف الفراشا
نثر الثلج علينا ... ياسمينا وفراشا(2/642)
ورأى أن يرسل الأس ... هم بالبرد فراشا
فغدا الكافور في عنبرة ... الأرض فراشا
وقال أيضا فيه:
لما رأت عيني ... الثلج خلته الياسمينا
وقلت من عجب منه ... أصبح الآس مينا
وخلته من ثغور ... الملاح للّاثمينا
فما أرادوا من الدرّ ... قطّ إلا ثمينا
وقال أيضا فيه:
لما رأيت الثلج قد ... أضحت به الأرض سما
وأنست الصّبا الصّبا ... وأذكرت جهنما
خفت فما فتحت من ... تعاظم الخوف فما
فإن نمى صبري وهو ناقص فإنما
وقال أيضا فيه:
لما رأيت الثلج قد ... غطّى الوهاد والقنن
سألت أهل حلب ... هل تمطر السما لبن «1»
نقل من خطه ومن شعره أيضا:
وحياء «2» ذاك الوجه بل وحياته ... قسم يريك الحسن في قسماته
لأرابطنّ على الغرام بثغره ... لأفوز بالمرجوّ من حسناته
وأجاهدنّ عواذلي في حبّه ... بالمرهفات عليّ من لحظاته
قد صيغ من ذهب وقلّد جوهرا ... فلذاك ليس يجوز أخذ زكاته(2/643)
وله أيضا:
يعاهدني أن لا يخون وينكث ... ويحلف لي ألّا يصدّ ويحنث
ومن أعجب الأشياء أنّك ساكن ... بقلبي وأني عن مكانك أبحث
وللحسن بل لله طرف مذكّر ... يتيه به عجبا وظرف مؤنث
ومنه أيضا:
يا سالب الظبية لحظا وجيد ... أجر لمن تهجر أجر الشهيد
متى رأى طرفك قتل أمرىء ... بأسهم اللحظ فقيد الفقيد
وله دو بيت:
يا غصن أراك حاملا عود أراك ... حاشاك إلى السّواك يحتاج سواك
قل لي أنهاك عن محبّيك نهاك ... لو تمّ وفاك بست خدّيك وفاك
كذا وجدت له في أشعار مجموعة، وأنشدني هذين الدوبيت بعض أهل الأدب وذكر أنهما للعماد الأصبهاني الكاتب، وهما به أشبه، لأنّهما في غاية الجودة، وابن مماتي في طبقة شعره انحطاط جدّا.
ومن شعره أيضا:
قد نهانا عن الغرام نهانا ... إذ هوانا ألا نذوق هوانا
وهجرنا الحبيب خيفة أن ... يهجر بدءا فيستمرّ عنانا
وتركناه للورى فكأنّا ... قد أدرناه بيننا دستكانا
وأنسنا من وحشة بفراق ... فافترقنا كما ترى برضانا
وسمعنا من العذول كلاما ... فأنفنا من ضحكه لبكانا
أيّ خير يكون في حبّ من ... فوّق سهما من لحظه ورمانا
نحن لو لم نكن هجرناه من ... قبل لأبدى صدوده وجفانا
شيمة في الملاح قد أحسن الدهر ... بأعلامها بنا وأسانا(2/644)
وصباح المشيب يظهر ما كا ... ن طلام الشباب عنه ثنانا
ما مشينا إلى الصبابة إلّا ... وخطانا معدودة من خطانا
فأدرها معسجدات كؤوسا ... مطلعات من الحباب جمانا
[233 ب]
أسعد بن علي النحوي
: نقلت من خط محمد بن أسعد بن النقيب الجواني النسابة النحوي، أنشدني مولاي الشريف القاضي الكامل الفاضل المرتضى جمال العلماء تاج الأدباء سناء الملك معتمد الدولة ذو الحسبين أبو المبارك أسعد بن علي الحسيني في مرضه الذي مات فيه، رضي الله عنه، وقد أغمي عليه في يوم حمّى كانت به فأفاق فقال: اكتب عني هذين البيتين بديها رأيت كأنني قلتهما في النوم، وكأني نجوت بهما:
واتخذ حبّ النبيّ ملجأ ... ثم أصحاب النبيّ العشره
فبذا أوصى أباك والد ... ثم جدّ الجدّ حتى حيدره
ومات أسعد بن علي الجواني سنة تسع وخمسين وخمسمائة، فمن شعره في الثلج «1» :
قد قلت لما رأيت الثلج منبسطا ... على الطريق إلى أن ضلّ سالكها
ما بيّض الله وجه الأرض في حلب ... إلا لأنّ غياث الدين مالكها
__________
[233 ب]- هذه الترجمة من (ر) ولم ترد في المطبوعة؛ والجواني نسبة إلى الجوانية وهي موضع قرب أحد.
ولأسعد بن علي ترجمة في إنباه الرواة 1: 230 وبغية الوعاة 1: 441 وروضات الجنات 2: 8 وكنيته أبو البركات أو أبو المبارك، حدث بمصر عن ابن القطاع، وأصله من الموصل وهاجر إلى مصر واستوطنها، وكان ذا منزلة عند الخلفاء الفاطميين.(2/645)
[234]
اسلم بن سهل بن أسلم بن زياد بن حبيب الرزاز
أبو الحسن المعروف ببحشل الواسطي: منسوب إلى محلّة الرزّازين، المحلة السفلى بواسط، ومسجده هناك وداره، وهو ثقة إمام يصلح للصحيح «1» ، وجدّه لأمّه أبو محمد وهب بن بقية، ويقال وهبان.
جمع بحشل «تاريخ واسط» وضبط أسماء أهلها ورتّب طبقاتهم، وكان لا مزيد عليه في الحفظ والإتقان. مات في سنة ثمان وثمانين ومائتين قبلها أو بعدها بقليل، حدّث عنه بتاريخه أبو بكر محمد بن عثمان بن سمعان المعدّل، وكان يضاهيه في الحفظ والاتقان، وشركه في أكثر شيوخه، ومات قبل الثلاثين والثلاثمائة، ذكر ذلك كله السلفي الحافظ في «السؤالات» التي سألها خميسا الحوزي.
[235]
إسماعيل بن أحمد بن عبد الله الحيري
: أبو عبد الرحمن «2» الضرير المفسر المقرىء الواعظ الفقيه المحدّث الزاهد أحد أئمة المسلمين- والحيرة محلّة بنيسابور هي الآن خراب- مات فيما ذكره عبد الغافر بن إسماعيل بعد الثلاثين وأربعمائة، ومولده سنة إحدى عشرة وثلاثمائة، قال: وله التصانيف المشهورة في علوم القرآن
__________
[234]- سؤالات السلفي: 90- 91 والوافي 9: 52.
[235]- تاريخ بغداد 7: 313 والسياق (المنتخب 2) : 38 والمنتظم 8: 105 وطبقات الشافعية 4: 265 وطبقات ابن قاضي شهبة 1: 206 والوافي 9: 84 ونكت الهميان: 119 وطبقات المفسرين: 7 والشذرات 3: 246 وسير الذهبي 17: 539 (وفي م: أن كنيته أبو عبد الله، وغيرته اتباعا لما ورد في السياق وفي الوافي، والثاني ينقل عن ياقوت) .(2/646)
والقراءات والحديث والوعظ والتذكير. سمع «صحيح البخاري» من أبي الهيثم، سمع منه ببغداد، وقد روى عن زاهر السرخسي [وأبي الفضل الحدادي وأبي العباس الأنماطي والمخلدي وأبي الحسن العبدوي وطاهر بن خزيمة والخفاف وأبي الحسن الماسرجسي وطبقتهم. وكان نفاعا للخلق مفيدا مباركا في علمه] «1» .
[236]
إسماعيل بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد بن درهم
أبو إسحاق الأزدي مولى آل جرير بن حازم: من أهل البصرة، مات فيما ذكره الخطيب «2» سنة اثنتين وثمانين ومائتين ومولده سنة مائتين، مات فجأة.
قال التنوخي، حدثني أبو الفرج الأصبهاني أن القاضي إسماعيل لبس سواده ليخرج إلى الجامع فيحكم، ولبس أحد خفّيه وأراد أن يلبس الآخر فمات، وهو قاض على جانبي بغداد جميعا. سمع محمد بن عبد الله الأنصاري ومسدد بن مسرهد وعلي بن المديني وغيرهم. روى عنه موسى بن هارون الحافظ وعبد الله بن أحمد بن حنبل ويحيى بن صاعد وكثيرون. وكان فاضلا عالما متقنا فقيها على مذهب مالك بن أنس، شرح مذهبه ولخصه واحتج له، وصنّف المسند وكتبا عدة في علوم القرآن، وجمع كتاب حديث مالك وكتاب يحيى بن سعيد الأنصاري وكتاب أيوب السختياني، واستوطن بغداد قديما وولي القضاء بها ولم يزل يتقلده إلى حين وفاته.
قال الخطيب «3» ، قال طلحة بن محمد بن جعفر الشاهد: إسماعيل بن إسحاق
__________
[236]- ترجمته في أخبار القضاة 3: 280، 281- 282 وطبقات الشيرازي: 164 وتاريخ بغداد 6: 284 وترتيب المدارك 4: 278- 293 والوافي 9: 91 والمنتظم 5: 151 وسير الذهبي 13: 339 وتذكرة الحفاظ: 625 وعبر الذهبي 2: 67 والديباج المذهب 1: 282 وطبقات ابن الجزري 1: 162 وطبقات الحفاظ: 275 وبغية الوعاة 1: 443 (ويعتمد ياقوت على تاريخ بغداد) .(2/647)
منشأه البصرة، وأخذ الفقه على مذهب مالك عن أحمد بن المعذّل، وتقدم في هذا المذهب «1» حتى صار علما فيه، ونشر من مذهب مالك وفضله ما لم يكن بالعراق في وقت من الأوقات، وصنّف في الاحتجاج لمذهب مالك والشرح له ما صار لأهل هذا المذهب مثالا يحتذونه وطريقا يسلكونه، وانضاف إلى ذلك علمه بالقرآن فإنّه صنّف في القرآن كتبا تتجاوز كثيرا من الكتب المصنفة فيه، فمنها كتاب في أحكام القرآن، وهو كتاب لم يسبقه أحد من أصحابه إلى مثله. وكتاب في القراءات، وهو كتاب جليل القدر عظيم الخطر. وكتاب في معاني القرآن، وهذان الكتابان يشهد بفضله فيهما واحد زمانه «2» ، ومن انتهى إليه العلم في النحو واللغة في أوانه، وهو المبرد.
ورأيت أبا بكر ابن مجاهد يصف العلم بهذين «3» الكتابين، وسمعته مرّات لا أحصيها يقول: القاضي إسماعيل أعلم مني بالتصريف. وبلغ من العمر ما صار به واحدا في عصره في علوّ الإسناد، لأن مولده في سنة تسع وتسعين ومائة، فحمل الناس عنه من الحديث الحسن ما لم يحمل عن كثير أحد، وكان الناس يصيرون إليه فيقتبس منه كلّ فريق علما لا يشاركه فيه الآخر فمن قوم يحملون الحديث، ومن قوم يحملون علم القرآن والقراءات والفقه إلى غير ذلك مما يطول شرحه، فأما سداده في القضاء، وحسن مذهبه فيه، وسهولة الأمر عليه فيما كان يلتبس على غيره، فشيء شهرته تغني عن ذكره. وكان في أكثر أوقاته وبعد فراغه من الخصوم متشاغلا بالعلم لأنه اعتمد على كاتبه «4» أبي عمر محمد بن يوسف فكان يحمل عنه أكثر أمره من لقاء السلطان وينظر في كلّ أمره، وأقبل هو على الحديث والعلم. قال أبو العباس محمد بن يعقوب الأصمّ: كان إسماعيل بن إسحاق نيفا وخمسين سنة على القضاء ما عزل عنه «5» إلا سنتين. قال الخطيب «6» : وهذا القول فيه تسامح، وذلك أنّ ولاية إسماعيل للقضاء ما(2/648)
بين ابتدائها إلى حين وفاته لم تبلغ خمسين سنة، وأول ما ولي في خلافة المتوكل لمّا مات سوار بن عبد الله بن سوار بن عبد الله، وكان قاضي القضاة بسرّ من رأى جعفر ابن عبد الواحد الهاشمي، فأمره المتوكل أن يولّي إسماعيل قضاء الجانب الشرقي من بغداد سنة ست وأربعين ومائتين، ولم يعزله أحد من الخلفاء غير المهتدي، فإنه نقم على أخيه حماد بن إسحاق شيئا فضربه بالسياط وعزل إسماعيل، إلى أن قتل المهتدي «1» وولي المعتمد فأعاده إلى القضاء، فلم يزل على قضاء بغداد بالجانبين إلى أن مات، ولم يقلد قضاء القضاة لأنّ قاضي القضاة كان الحسن بن أبي الشوارب وكان يكون حينئذ بسامرّا.
وحدث الخطيب قال «2» ، قال المبرد: لما توفيت والدة القاضي إسماعيل رأيت من وجهه «3» ما لم يقدر على ستره، وكان كلّ يعزّيه، وقد كاد لا يسلو، فسلّمت عليه ثم أنشدته:
لعمري لئن عال ريب الزمان ... فساء لقد عال نفسا حبيبه
ولكنّ علمي بما في الثواب ... عند المصيبة ينسي المصيبه
فتفهم كلامي واستحسنه، ودعا بدواة وكتبه، ثم انبسط وزالت عنه تلك الكآبة والجزع.
قال إبراهيم بن حماد: أنشدني عمي إسماعيل القاضي:
همم الموت عاليات فمن ... ثمّ تخطّى الى لباب اللباب
ولهذا قيل الفراق أخو الموت ... لإقدامه على الأحباب
قال «4» : ودخل إلى القاضي إسماعيل بن إسحاق عبدون بن صاعد الوزير،(2/649)
وكان نصرانيا، فقام له ورحب به، فرأى إنكار الشهود ومن حضره، فلما خرج قال لهم: قد علمت إنكاركم وقد قال الله تعالى: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم
(الممتحنة: 8) وهذا الرجل يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين خليفتنا، وهذا من البر، فسكتت الجماعة.
قرأت بخط أبي سعد السمعاني باسناد له رفعه إلى أبي العباس ابن الهادي قال:
كنت عند إسماعيل بن إسحاق القاضي في منزله، فخرج يريد صلاة العصر ويدي في يده، فمرّ بابن البري وكان غلاما جميلا فنظر إليه فقال وهو يمشي إلى المسجد:
لولا الحياء وأنني مشهور ... والعيب يعلق بالكبير كبير
لحللت منزلها الذي تحتلّه ... ولكان منزلنا هو المهجور
وانتهى إلى مسجد على باب داره فقال: الله أكبر الله أكبر، ثم مرّ في أذانه؛ والشعر لابراهيم بن المهدي.
وحكى أبو حيان هذه الحكاية كما مرّ وزاد فيها: فقيل له افتتحت الأذان بقول الشعر؟ فقال: دعوني فو الله لو نظر أمير المؤمنين إلى ما نظرت إليه لشغله عن تدبير ملكه، قيل له: فهل قلت شيئا آخر فيه؟ قال: نعم أبيات عبثت بي وأنا في المحراب فما استتممت قراءة الحمد حتى فرغت منها، وهي:
ألحاظه ترجمان منطقه ... ووجهه نزهة لعاشقه
هذّبه الظرف والكمال فما ... يمرّ عيب على طرائقه
قد كثرت قالة العباد فما ... تسمع إلا سبحان خالقه
ومن «كتاب القضاة» لابن سمكة قال: لما مات إسماعيل بن إسحاق بقيت بغداد ثلاثة أشهر بغير قاض حتى ضجّ الناس ورفع إلى المعتضد، فاختار عبيد الله بن سليمان ثلاثة قضاة: أبا حازم وعليّ بن أبي الشوارب ويوسف، وهو ابن عم إسماعيل بن إسحاق، فولّى أبا حازم الكرخ، وابن أبي الشوارب مدينة المنصور، ويوسف الجانب الشرقي. قال: وأخبرني الثقة أن إسماعيل دخل على الموفق فقال له: ما تقول في النبيذ؟ فقال: أيها الأمير إذا أصبح الإنسان وفي رأسه شيء منه يقال له ماذا؟ فقال الموفق: يقال هو مخمور، قال: فهو كاسمه.(2/650)
وحدث المحسن «1» قال: سمعت أبي يحكي عن أبي عمر القاضي قال: عرض القاضي إسماعيل على عبيد الله بن سليمان وزير المعتضد رقعة في حوائج الناس [فوقع فيها] فعرض أخرى وقال: إن أمكن الوزير أن يوقّع وقّع، وعرض أخرى وقال شيئا من هذا الجنس، فقال له عبيد الله: يا أبا إسحاق كم تقول: إن أمكن وإن جاز وإن سهل؟ من قال لك إنه يجلس هذا المجلس أحد ثم يتعذر عليه شيء على وجه الأرض من الأمور فقد كذبك، هات رقاعك كلّها في موضع واحد، قال: فأخرجها إسماعيل من كمه وطرحها بين يديه، فوقّع فيها فكانت مع ما وقّع فيه قبل الكلام وبعده نحو الستين «2» رقعة، رحمه الله فما أصدق ما كانت رغبته إلى الله عزّ وجل.
[237]
إسماعيل بن الحسن بن علي الغازي البيهقي أبو القاسم
شمس الأئمة:
ذكره البيهقي في «كتاب الوشاح» فقال: يعرف بالشمس البيهقي، كان جامعا لفنون الآداب، حائزا «3» لمفاتيح الحكمة وفصل الخطاب، أقام وتوطّن بمرو، وطريقه في الفقه مستقيم، وأكثر مصنفاته عن المناقص سليم، ومن منظومه:
كتّاب حضرتنا دامت سلامتهم ... يهيّئون من الألقاب أسبابا
وينصبون من الأطماع ألوية ... ويفتحون من الألقاب أبوابا
ويبخلون بما جاد الكريم به ... وينفقون على الأقوام ألقابا
تجشّأوا في نواديهم بلا شبع ... كأنّهم أكلوا الحلتيت والرابا
__________
[237]- الوافي 9: 106.(2/651)
أخذه من قول الخوارزمي:
قلّ الدراهم في كيسي خليفتنا ... فصار ينفق في الأقوام ألقابا
قال: ومن تصانيفه كتاب نقض الاصطلام. كتاب سمط الثريا في معاني غريب الحديث. كتاب في اللغة. كتاب في الخلاف طريف «1» .
[238]
إسماعيل بن الحسين بن محمد بن الحسين بن أحمد بن محمد
بن عزيز «2» بن الحسن بن أبي جعفر محمد الأطروش بن علي بن الحسين بن علي بن محمد الديباج بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم: كنيته أبو طالب بن أبي محمد بن أبي الحسين بن أبي أحمد بن أبي أحمد بن أبي علي بن أبي الحسين بن أبي جعفر بن أبي الفضل بن أبي جعفر الأطروش بن أبي الحسين بن أبي عبد الله بن أبي الحسين بن أبي جعفر بن أبي عبد الله الصادق بن أبي جعفر الباقر بن أبي محمد زين العابدين بن أبي عبد الله السبط بن أبي الحسن أمير المؤمنين، المروزي العلويّ النسابة الحسيني عزيز الدين حقا؛ أول من انتقل من أجداده إلى مرو من قمّ أبو علي أحمد بن محمد بن عزيز، وكان انتقل إلى بغداد من المدينة علي بن محمد الديباج، وكان علي هذا يعرف بالخارص، وابنه الحسين انتقل إلى قم، ثم أقاموا بمرو إلى هذا الأوان.
وأخبرني- أحسن الله جزاءه- أن مولده ليلة الاثنين الثاني والعشرين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وسبعين وخمسمائة. ورد بغداد في سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة «3» صحبة الحجاج ولم يحجّ، وقرأ الأدب على الإمام منتجب الدين أبي الفتح محمد بن سعد بن محمد بن محمد بن أبي الفضل الديباجي والإمام برهان الدين أبي الفتح
__________
[238]- الوافي 9: 108.(2/652)
ناصر بن أبي المكارم عبد السيد بن علي المطرزي الخوارزمي وأخيه الامام مجد الدين أبي الرضى طاهر، وقرأ الفقه على الامام فخر الدين محمد بن محمد بن محمد بن الحسين الطيان الماهرويّ الحنفي وقاضي القضاة منتجب الدين أبي الفتح محمد بن سليمان بن إسحاق الفقيهي، قال: وما علمت أنه ولي القضاء بمرو أحسن سيرة منه، رحمه الله. وقرأ الحديث على الامام فخر الدين إسماعيل بن محمد بن يوسف القاشاني وأبي بكر محمد بن عمر الصائغي السنجي «1» والامام شرف الدين محمد بن مسعود المسعودي والإمام فخر الدين أبي المظفر عبد الرحيم بن الامام تاج الاسلام عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني وعبد الرشيد بن محمد بن أبي بكر الزرقي المؤدب، وبنيسابور على القاضي ركن الدين إبراهيم بن علي بن حمد المعيني والإمام مجد الدين أبي سعد عبد الله بن عمر الصفار والإمام نور الدين فضل الله بن أحمد بن محمد الجليل النوقاني وعبد الرحيم بن عبد الرحمن الشعري، وبالريّ على مجد الدين يحيى بن الربيع الواسطي، وببغداد عليه وعلى عبد الوهاب بن علي بن سكينة وغيرهم بشيراز وهراة وتستر ويزد.
وله من التصانيف كتاب حظيرة «2» القدس، نحو ستين مجلدا ولعله يزيد فيما بعد.
وكتاب بستان الشرف، وهو مختصر ذلك يكون عشرين مجلدا. كتاب غنية الطالب في نسب آل أبي طالب، مجلد. كتاب الموجز في النسب، مجلد لطيف. كتاب الفخري صنّفه للفخر الرازي. كتاب زبدة الطالبية، مجلد لطيف. كتاب خلاصة العترة النبوية في أنساب الموسوية. كتاب المثلث في النسب. شجّر عدة كتب منها:
كتاب أبي الغنائم الدمشقي. كتاب من اتصل عقبه لأبي الحسن محمد بن القاسم التميمي الأصفهاني مشجّر. وكتاب المعارف للسيد أبي طالب الزنجاني الموسوي.
كتاب الطبقات للفقيه زكريا بن أحمد البزار «3» النيسابوري. كتاب نسب الشافعي خاصة. كتاب وفق الأعداد في النسب.
وهذا السيد- أدام الله فضله- اجتمعت به في مرو في سنة أربع عشرة وستمائة(2/653)
فوجدته كما قيل:
قد زرته فرأيت «1» الناس في رجل ... والدهر في ساعة والفضل في دار
قد طبع من حسن الأخلاق وسجاحة «2» الأعراق وحسن البشر وكرم الطبع وحياء الوجه وحبّ الغرباء على ما لا نراه متفرّقا في خلق كثير، وهو مع ذلك أعلم الناس يقينا بالأنساب والنحو واللغة والشعر والأصول والنجوم. وقد تفرّد بهذا البلد بالتصدّر لاقراء العلوم على اختلافها في منزل ينتابه الناس على حسب أغراضهم، فمن قارىء للغة، ومتعلّم في النحو، ومصحّح للغة، وناظر في النجوم، ومباحث في الأصول وغير ذلك من العلوم. وهو مع سعة علمه متواضع حسن الأخلاق لا يرد غريب إلا عليه، ولا يستفيد مستفيد إلّا منه.
وأنشدني أدام علوه لنفسه:
قولوا لمن لبّي في حبّه ... قد صار مغلوبا ومسلوبا
وفي صميم القلب مني أرى ... هواه والإيمان مكتوبا
وصحّتي في عشقه صيّرت ... جسمي معلولا ومعيوبا
ومدمعي منهمرا ماؤه ... منهملا في الخدّ مسكوبا
وأنشدني أدام الله علوه لنفسه:
والعين يحجبها لألاء وجنته ... من التأمّل في ذا المنظر الحسن
بل عبرتي منعت لو نظرتي عبرت ... إليه من مقلتي إلا على الشّفن
لولا تجشّمه بالإبتسام وما ... أمدّه الله عند النطق باللسن
لما عرفت عقيقا شقّه درر ... ولم يبن فوه نطقا وهو لم يبن
حدثني عزيز الدين رحمه الله قال: لما ورد الفخر الرازي إلى مرو، وكان من جلالة القدر وعظم الذكر وضخامة الهيبة بحيث لا يراجع في كلامه، ولا يتنفّس أحد بين يديه لإعظامه على ما هو مشهور متعارف، دخلت إليه، وترددت للقراءة عليه،(2/654)
فقال لي يوما: أحبّ أن تصنّف لي كتابا لطيفا في أنساب الطالبيين لأنظر فيه فلا أحبّ أن أموت «1» جاهلا به، فقلت له: أتريده مشجّرا أم منثورا؟ فقال: المشجر لا ينضبط بالحفظ، وأنا أريد شيئا أحفظه، فقلت له: السمع والطاعة، ومضيت وصنّفت له الكتاب الذي سميته ب «الفخري» وحملته وجئته به، فلما وقف عليه نزل عن طراحته وجلس على الحصير وقال لي: اجلس على هذه الطراحة، فأعظمت ذلك وهبته «2» ، فانتهرني نهرة [عظيمة] مزعجة وزعق فيّ قائلا «3» : اجلس بحيث أقول لك، فتداخلني علم الله من هيبته ما لم أتمالك إلا أن جلست حيث أمرني، ثم أخذ يقرأ عليّ ذلك الكتاب وهو جالس بين يديّ ويستفهمني عما يستغلق عليه إلى أن أنهاه قراءة، فلما فرغ من قراءته «4» قال: اجلس الآن حيث شئت، فإن هذا علم أنت أستاذي فيه، وأنا أستفيد منك وأتتلمذ لك، وليس من الأدب أن يجلس التلميذ إلا بين يدي الأستاذ، فقمت من مقامي «5» ، وجلس هو في منصبه، ثم أخذت أقرأ عليه وأنا جالس بحيث كان أوّلا، وهذا لعمري من حسن الأدب حسن ولا سيّما من مثل ذلك الرجل العظيم المرتبة.
[239]
إسماعيل الضرير النحوي أبو علي
: لا أعرف من أمره الا ما ذكر أن رجلا سأل إسماعيل الضرير النحويّ عن أبي القاسم علي بن أحمد بن الفرج بن الحسين بن المسلمة الملقب برئيس الرؤساء، وزير القائم: كيف ترى رئيس الرؤساء في النحو؟
فقال: يتكلّم فيه بكلام أهل الصنعة، وسئل رئيس الرؤساء عن إسماعيل فقال: ما أرى مفتوح القلب في النحو إلا هذا المغمّض العينين.
__________
[239]- ترجمته في إنباه الرواة 1: 198 وجعله الصفدي (الوافي 9: 229 ونكت الهميان: 119) اسماعيل ابن المؤمل، وتابعه السيوطي في البغية 1: 454.(2/655)
[240]
إسماعيل بن حماد الجوهري أبو نصر الفارابي
: ابن أخت أبي إسحاق الفارابي صاحب «ديوان الأدب» ، وكان الجوهري هذا من أعاجيب الزمان ذكاء وفطنة وعلما، وأصله من بلاد الترك من فاراب، وهو إمام في علم اللغة والأدب، وخطّه يضرب به المثل في الجودة لا يكاد يفرّق بينه وبين خطّ أبي عبد الله ابن مقلة، وهو مع ذلك من فرسان الكلام في الأصول. وكان يؤثر السفر على الحضر، ويطوف الآفاق، واستوطن الغربة على ساق، دخل العراق فقرأ علم العربية على شيخي زمانه ونور عين أوانه: أبي علي الفارسي وأبي سعيد السيرافي، وسافر إلى أرض الحجاز، وشافه باللغة العرب العاربة، وقد ذكر هو ذلك في مقدمه «كتاب الصحاح» من تصنيفه، وطوّف بلاد ربيعة ومضر، وأجهد نفسه في الطلب، ولما قضى وطره من التطواف «1» عاد راجعا إلى خراسان، وتطرّف الدامغان، فأنزله أبو علي الحسين بن علي، وهو من أعيان الكتاب وأفراد الفضلاء، عنده، وأخذ عنه وسمع منه، ثم سرّحه إلى نيسابور، فلم يزل مقيما بها على التدريس والتأليف وتعليم «2» الخط وكتابة المصاحف والدفاتر حتى مضى لسبيله عن آثار جميلة.
وذكره أبو الحسين الباخرزي فقال «3» : هو صاحب «صحاح اللغة» لم يتأخر فيها عن شرط أقرانه، ولا انحدر عن درجة أبناء زمانه، أنشدني الأديب يعقوب بن أحمد قال، أنشدني الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن صالح الوراق تلميذ الجوهري رحمه الله له:
__________
[240]- ترجمة الفارابي اللغوي في دمية القصر (التونجي) : 1490 وإنباه الرواة 1: 194 وسير الذهبي 17: 80 وعبر الذهبي 3: 55 ونزهة الألباء: 344 والوافي 9: 111 وبغية الوعاة 1: 446 وإشارة التعيين: 55 ومرآة الجنان 2: 446 ولسان الميزان 1: 400 وحاشية على شرح بانت سعاد 1: 461 وروضات الجنات 2: 44 وياقوت ناظر في نقله الى اليتيمة 4: 406- 407.(2/656)
يا ضائع العمر بالأماني ... أما ترى رونق الزمان
فقم بنا يا أخا الملاهي ... نخرج إلى نهر بشتقان «1»
لعلّنا نجتني سرورا ... حيث جنى الجنتين دان
كأننا والقصور فيها ... بحافتي كوثر الجنان
والطير فوق الغصون تحكي ... بحسن أصواتها الأغاني
وراسل الورق عندليب ... كالزير والبمّ والمثاني
وبركة حولها أناخت ... عشر من الدّلب واثنتان
فرصتك اليوم فاغتنمها ... فكلّ وقت سواه فان «2»
وله من التصانيف: كتاب في العروض جيد بالغ سماه «عروض الورقة» .
كتاب المقدمة في النحو. كتاب الصحاح في اللغة. وهذا الكتاب هو الذي بأيدي الناس اليوم وعليه اعتمادهم، أحسن تصنيفه، وجوّد تأليفه، وقرّب متناوله، وأبرّ في ترتيبه على من تقدمه، يدلّ وضعه على قريحة سالمة ونفس عالمة؛ فهو أحسن من «الجمهرة» وأوقع من «تهذيب اللغة» وأقرب متناولا من «مجمل اللغة» ، فيه يقول الشيخ أبو محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري «3» :
هذا كتاب الصحاح أحسن «4» ما ... صنّف قبل الصحاح في الأدب
يشمل أبوابه «5» ويجمع ما ... فرّق في غيره من الكتب
هذا مع تصحيف فيه في مواضع عدة أخذها عليه المحققون وتتبعها العالمون، ومن ذا الذي ما ساء قط؟ ومن له الحسنى فقط؟ فإنه رحمه الله غلط وأصاب، وأخطأ المرمى وأصاب، كسائر العلماء الذين تقدموه وتأخروا عنه، فإني لا أعلم في الدنيا كتابا سلّم إلى مؤلفه فيه، ولم يتبعه بالتتبع من يليه.(2/657)
وذكره أبو الحسن علي بن فضال المجاشعي في كتابه الذي سماه «بحر الذهب في معرفة أئمة الادب» فقال: كان الجوهري قد صنف «كتاب الصحاح» للأستاذ أبي منصور عبد الرحيم «1» بن محمد البيشكي، وسمعه منه إلى باب الضاد المعجمة، واعترى الجوهري وسوسة فانتقل إلى الجامع القديم بنيسابور، فصعد إلى سطحه وقال: أيها الناس إني عملت في الدنيا شيئا لم أسبق [إليه] فسأعمل للآخرة أمرا لم أسبق إليه، وضمّ إلى جنبيه مصراعي باب وسّطهما «2» بحبل وصعد مكانا عاليا من الجامع وزعم أنه يطير، فوقع فمات، وبقي بقية الكتاب مسوّدة غير منقح ولا مبيض، فبيّضه أبو إسحاق إبراهيم بن صالح الوراق تلميذ الجوهري بعد موته، فغلط فيه في عدة مواضع غلطا فاحشا.
وكان الجوهري يجيد قول الشعر، فمن ذلك «3» :
رأيت فتى أشقرا أزرقا ... قليل الدماغ كثير الفضول
يفضّل من حمقه دائبا ... يزيد بن هند على ابن البتول
قال المؤلف: وكنت بحلب في سنة إحدى عشرة وستمائة في منزل القاضي الأكرم والصاحب الأعظم أبي الحسن علي بن يوسف بن إبراهيم الشيباني، فتجارينا أمر الجوهريّ وما وفّق له من حسن التصنيف، ثم قلت له: ومن العجب أني بحثت عن مولده ووفاته بحثا شافيا، وسألت عنهما الواردين من نيسابور فلم أجد مخبرا عن ذلك، فقال لي: لقد بحثت قبلك عن ذلك فلم أر مخبرا عنه، فلما كان من غد ذلك اليوم جئته فقال لي: ألا أخبرك بطريفة؟ إنني رأيت في بارحتنا في النوم قائلا يقول لي: مات إسماعيل بن حماد الجوهري في سنة ست وثمانين وثلاثمائة ولعمري وان كان المنام مما لا يقطع به ولا يعمل عليه فهذا بلا شك زمانه وفيه كان أوانه، لأن شيخيه أبا علي وأبا سعيد ماتا قبل هذه المدة بسنين يسيرة. ثم وجدت نسخة بديوان الأدب بخطّ الجوهري بتبريز وقد كتبها في سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة، ثم وقفت على(2/658)
نسخة بالصحاح بخطّ الجوهري بدمشق عند الملك المعظم بن العادل بن أيوب صاحب دمشق وقد كتبها في سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
وقد ذكره أبو منصور عبد الملك بن محمد الثعالبي في «كتاب يتيمة الدهر» وأنشد من شعره «1» :
لو كان لي بدّ من الناس ... قطعت حبل الناس بالياس
العزّ في العزلة لكنّه ... لا بدّ للناس من الناس
وأنشد له «2» :
وها أنا يونس في بطن حوت ... بنيسابور في ظلل الغمام
فبيتي والفؤاد ويوم دجن ... ظلام في ظلام في ظلام
وأنشد له «3» :
زعم المدامة شاربوها أنها ... تنفي الهموم وتذهب الغما
صدقوا سرت بعقولهم فتوهموا ... أن السرور بها لهم تما
سلبتهم أديانهم وعقولهم ... أرأيت عادم ذين مغتمّا
ومن شعره «4» :
يا صاحب الدعوة لا تجزعن ... فكلنا أزهد من كرز
فالماء كالعنبر في قومس ... من عزّه يجعل في الحرز
فسقّنا ماء بلا منّة ... وأنت في حلّ من الخبز
قال مؤلف الكتاب: وذكر محمود «5» بن أبي المعالي الحواري في «كتاب ضالة الأديب من الصحاح والتهذيب» - بعد أن ذكر قصة الجوهري كما ذكرها المجاشعي(2/659)
سواء، من تصنيفه الكتاب للبيشكي، وقراءة الناس عليه إلى باب الضاد، وشدّه مصراعي الباب وطيرانه، ثم قال: وسألت الإمام سعيد ابن الامام أحمد بن محمد الميداني عن الخلل الواقع في هذا الكتاب فقال مثل ما ذكرناه: إن هذا الكتاب قرىء عليه إلى باب الضاد فحسب، وبقي أكثر الكتاب على سواده، ولم يقدّر له تنقيحه ولا تهذيبه، فلهذا يقول في باب السين: قيس أبو قبيلة من مضر، واسمه الياس بنقطتين تحتها، ثم يقول في فصل النون من هذا الباب: الناس بالنون اسم قيس عيلان، فالأول سهو «1» والثاني صحيح. ثم قال: ومن زعم أنه سمع عن الجوهري شيئا من الكتاب زيادة على أول الكتاب إلى باب الضاد فهو مكذوب عليه. قال: ورأيت أنا نسخة السماع وعليها خطّه إلى باب الضاد، وهي الآن موجودة في بلادنا، والله أعلم بحقيقته. قال: والكتاب بخط مؤلفه عند أبي محمد إسماعيل بن محمد بن عبدوس النيسابوري وفيه يقول، وذكر البيتين المتقدمين. قال وقال الثعالبي في أثناء كتابه يعني «يتيمة الدهر» : إن تلك النسخة بيعت بمائة دينار نيسابورية وحملت إلى جرجان، والعلم عند الله في ذلك.
قال المؤلف: وأما البيشكي الذي صنّف له الكتاب فقد ذكره عبد الغافر الفارسي في «السياق» «2» فقال: هو عبد الرحيم بن محمد «3» البيشكي الأستاذ الامام أبو منصور بن أبي القاسم الأديب الواعظ الأصولي، من أركان أصحاب أبي عبد الله- يعني الحاكم بن عبد الله بن البيع- له المدرسة والأصحاب والأوقاف والأسباب والتدريس والمناظرة والنثر والنظم، توفي في جمادى الأولى سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
ووجدت على ظهر «كتاب الصحاح» وكانت مجلدة واحدة كاملة بخطّ الحسن بن يعقوب بن أحمد النيسابوري اللغوي الأديب ما صورته: قرأ عليّ هذا الكتاب من أوله إلى آخره، بما عليه من حواشيه من الفوائد، معارضا بنسختي(2/660)
مصححا إياها، صاحبه الفقيه الفاضل السديد الحسين بن مسعود الصرام، بارك الله له فيه، وهو إجازة لي عن الاستاذ أبي منصور عبد الرحيم بن محمد البيشكي عن المصنف، وكتبه الحسن بن يعقوب بن أحمد في شهر الله الاصم سنة احدى وسبعين وأربعمائة؛ فهذا كما تراه مخالف لما تقدم من أنّ الجوهري لم يعمل من الكتاب إلا إلى باب الضاد.
ومن كتابه الموسوم ب «الصحاح» «1» : النخيس: البكرة يتّسع ثقبها الذي يجري فيه المحور مما يأكله المحور فيعمدون إلى خشيبة فيثقبون وسطها ثم يلقمونها ذلك الثقب المتسع، ويقال لتلك الخشيبة النخاس، وسألت أعرابيا بنجد من بني تميم، وهو يستقي وبكرته نخيس، فوضعت إصبعي على النخاس فقلت: ما هذا؟
وأردت أن أتعرف منه الخاء من الحاء فقال: نخاس، بخاء معجمة، فقلت: أليس قال الشاعر:
وبكرة نحاسها نحاس
فقال: ما سمعنا بهذا في آبائنا الاولين «2» .
ومن كتابه في باب بقّم «3» : وقلت لأبي علي الفارسي «4» : أعربيّ هو؟ فقال:
معرب، قال: وليس في كلامهم اسم على فعل الا خمسة خضّم بن عمرو بن تميم وبالفعل سمّي، وبقّم لهذا الصبغ، وشلّم موضع بالشام، وهما أعجميان وبذّر اسم ماء من مياه العرب، وعثّر موضع، ويحتمل أن يكونا سميا بالفعل، فثبت أنّ فعّل ليس من أصول أسمائهم وانما يختص بالفعل، فإذا سميت به رجلا لم ينصرف في المعرفة للتعريف ووزن الفعل، وينصرف في النكرة.(2/661)
[241]
إسماعيل بن خلف أبو طاهر الصقلي المقرىء
: صاحب علي بن إبراهيم بن سعيد الحوفي، من حوف مصر. وصنّف «كتاب إعراب القراءات» في تسع مجلدات كبار، وصنف في القراءات كتاب الاكتفاء. وكتاب العيون. وأرى أنه كان فيما بعد سنة عشر وخمسمائة.
[242]
إسماعيل بن عباد بن العباس بن عباد الوزير
الملقب بالصاحب كافي الكفاة، أبو القاسم: من أهل الطالقان، وهي ولاية بين قزوين وأبهر، وهي عدة قرى يقع عليها هذا الاسم. وبخراسان بلدة تسمى الطالقان غير هذه خرج منها جماعة من أهل العلم- هكذا نسبه المحدثون، وقد قال الرستمي شاعره «1» :
يهني ابن عباد بن عباس بن عبد ... الله نعمى بالكرامة تردف
وقال فيه السلامي يهجوه:
يا ابن عباد بن عباس ... بن عبد الله حرها
تنكر الجبر وأخرجت ... إلى دنياك كرها
__________
[241]- ترجم ابن خلكان (1: 233) لمن اسمه اسماعيل بن خلف بن سعيد بن عمران المقرىء الأندلسي السرقسطي (وليس الصقلي كما قال ياقوت) معتمدا على الصلة لابن بشكوال: 105 كما ترجم له ابن الجزري 1: 164؛ ووفاة السرقسطي كانت سنة 455؛ وليس من المقطوع به أنه الصقلي؛ وانظر الوافي 9: 116 حيث وجه الانتباه إلى الترجمتين.
[242]- ترجمته في اليتيمة 3: 192 وابن خلكان 1: 228 والمنتظم 7: 179 وإنباه الرواة 1: 201 وسير الذهبي 16: 511 ونزهة الألباء: 222 والوافي 9: 125 ولسان الميزان 1: 413 وبغية الوعاة 1: 449 والشذرات 3: 113 وروضات الجنات 2: 19- 43 (ويعتمد ياقوت كثيرا على أخلاق الوزيرين والامتاع) وللشيخ محمد آل ياسين دراسة عنه، وقد نشر عددا من رسائله كما نشر ديوانه وجزءين من معجم له اسمه «المحيط» ، وحقق مجموعة من رسائله الدكتوران عبد الوهاب عزام وشوقي ضيف (القاهرة 1366) . وأخباره التاريخية متصلة بتاريخ البويهيين.(2/662)
قال أبو حيان في «أخلاق الوزيرين» «1» : كان عباد يلقب الأمين، وكان دينا خيرا مقدما في صناعة الكتابة. قال: وكتب الأمين لركن الدولة، كما كتب العميد لصاحب خراسان، والأمين كان ينصر مذهب الأشناني «2» تدينا وطلبا للزلفى عند ربه، والعميد كان يعمل لعاجلته. وإن قلت: كان الأمين معلما بقرية من قرى طالقان الديلم، قيل: وكان والد العميد نخالا في سوق الحنطة بقمّ.
والصاحب مع شهرته بالعلوم وأخذه من كلّ فن منها بالنصيب الوافر والحظّ الزائد الظاهر، وما أوتيه من الفصاحة ووفّق لحسن السياسة والرجاحة، مستغن عن الوصف، مكتف عن الإخبار عنه والرصف. مولده في ذي القعدة سنة ست وعشرين وثلاثمائة، ووزر لمؤيد الدولة أبي منصور بويه بن ركن الدولة أبي علي الحسن بن بويه وأخيه فخر الدولة ثماني عشرة سنة وشهرا واحدا. ومات الصاحب- فيما ذكره أبو نعيم الحافظ- في رابع عشرين من صفر سنة خمس وثمانين وثلاثمائة. وكان أبوه عباد يكنى بالحسن، وكان من أهل العلم والفضل أيضا، سمع أبا خليفة الفضل بن الحباب وغيره من البغداديين والأصفهانيين والرازيين، وصنف كتابا في «أحكام القرآن» نصر فيه الاعتزال، جوّد فيه. روى عنه ابنه الوزير أبو القاسم ابن عباد وابن مردويه الأصفهاني، ومات عباد في السنة التي مات فيها ابنه سنة خمس وثمانين وثلاثمائة.
كلّ ما ذكرناه من خبر عبّاد أبي الوزير فهو منقول من «كتاب المنتظم» في التاريخ من تصنيف أبي الفرج ابن الجوزي «3» .
وبين عباد وبين الحسن بن عبد الرحمن بن حماد القاضي مكاتبات ومراسلات مذكورة مدوّنة.
وكان الصاحب في بدء أمره من صغار الكتاب يخدم أبا الفضل ابن العميد على خاصة، فترقّت به الحال إلى أن كتب لمؤيد الدولة بن ركن الدولة بن بويه أخي عضد الدولة بن ركن الدولة الديلمي، ومؤيد الدولة حينئذ أمير، وأحسن في خدمته وحصل له عنده بقدم الخدمة قدم، وأنس منه مؤيد الدولة كفاية وشهامة فلقبه بالصاحب كافي(2/663)
الكفاة، فلما مات أبوه ركن الدولة وولي مؤيد الدولة بلاده بالري وأصبهان وتلك النواحي خلع على أبي الفتح ابن العميد وزير أبيه خلع الوزارة وأجراه على ما كان في أيام أبيه إلى أن قتل- كما ذكرناه في ترجمته- واستوزر الصاحب واستولى على أموره وحكّمه في أمواله، ولم يزل على ذلك إلى أن مات مؤيد الدولة. وكان فخر الدولة أخو مؤيد الدولة قد هرب من أخيه عضد الدولة والتجأ بخراسان إلى السامانية هو وقابوس بن وشمكير- في أخبار يضيق كتابنا عنها- فأنفذ الصاحب إليه وأحضره وملّكه البلاد، فأقر الصاحب على أمره، فأراد الصاحب اختباره: هل في نفسه عليه شيء مما كان في أيام مؤيد الدولة الذي أوجب هرب فخر الدولة، فاستعفاه من الخدمة والوزارة فقال له فخر الدولة: لك في هذه الدولة من إرث الوزارة كما لنا من إرث الإمارة، فسبيل كلّ واحد منا أن يحتفظ بحقه، ولم يعفه. ولم يزل على أمره معه إلى أن مات الصاحب، والأمور تصدر عن أمره، والملك يتدبر برأيه. وكان إذا قال فخر الدولة قولا وقال الصاحب قولا امتثل قول الصاحب وترك قول فخر الدولة.
وللصاحب أخبار حسان في مكارم الأخلاق مع رقاعة كانت فيه، ووصفه صاحب «الامتاع» فقال «1» : كان الصاحب كثير المحفوظ حاضر الجواب فصيح اللسان، قد نتف من كلّ أدب [خفيف] شيئا وأخذ من كلّ فنّ طرفا «2» والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجّنة بطرائقهم، ومناظرته مشوبة بعبارة الكتّاب، وهو شديد التعصّب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطبّ والتنجم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس له من الجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر. وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر وليس بذاك «3» . و [في] بديهته غزارة، وأما رويّته فخوارة. وطالعه الجوزاء والشعرى فقريبة منه، ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى التألّه والرقة والرأفة والرحمة، والناس كلّهم يحجمون عنه لجراءته وسلاطته واقتداره وبسطته، شديد العقاب،(2/664)
طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان يعطي كثيرا قليلا (يعني يعطي الكثير القليل) ، مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب بعيد الفيئة، قريب الطّيرة، حسود حقود، وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أما الكتّاب والمتصرّفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته، وقد قتل خلقا وأهلك ناسا ونفى أمة نخوة وبغيا وتجبرا وزهوا، ومع هذا يخدعه الصبيّ، ويخلبه الغبيّ، لأن المدخل عليه واسع والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: «مولانا يتقدم بأن أعار شيئا من كلامه ورسائله، منظومه ومنثوره، فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس إلّا لأستفيد كلامه وأفصح به وأتعلّم البلاغة منه، لكأنّما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجاجه في أثنائها «1» برهان، فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص» . فيلين عند ذلك ويذوب، ويلهى عن كلّ مهمّ له، وينسى كلّ فريضة عليه، ويتقدّم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق، ويسهّل الإذن عليه والوصول إليه والتمكّن من مجلسه، فهذا هذا، ثمّ يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرا ويدفعه إلى أبي عيسى ابن المنجّم ويقول له:
قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في جملة الشعراء، وكن الثالث من [الهمج] المنشدين، فيفعل ذلك أبو عيسى وهو بغداديّ محكّك، قد شاخ على الخدائع وتحنّك، وينشد، فيقول له عند سماعه شعره في نفسه، ووصفه بلسانه، ومدحه من تحبيره: أعد يا أبا عيسى فإنك والله مجيد، زه يا أبا عيسى، قد صفا ذهنك وزادت قريحتك وتنقّحت قوافيك، ليس هذا من الطراز الأول حين أنشدتنا في العيد الماضي، مجالسنا تخرّج الناس وتهب لهم الذكاء وتزيدهم الفطنة وتحوّل الكودن عتيقا والمحمّر جوادا، ثم لا يصرفه عن مجلسه إلا بجائزة سنيّة وعطيّة هنية، ويغايظ الجماعة من الشعراء وغيرهم لأنهم يعلمون أن أبا عيسى لا يقرض مصراعا ولا يزن بيتا ولا يذوق عروضا. قال يوما: من في الدار؟ فقيل له: أبو القاسم الكاتب وابن ثابت، فعمل في الحال بيتين وقال لإنسان بين يديه: إذا أذنت لهذين فادخل بعد هما بساعة، وقل: قد قلت بيتين فإن رسمت لي إنشادهما أنشدتهما، وازعم أنك بدهت(2/665)
بهما، ولا تجزع من تأفّفي بك ولا تفزع من نكيري عليك، ودفع البيتين إليه وأمره بالخروج إلى صحن الدار، وأذن للرجلين حتى وصلا، فلما جلسا وأنسا دخل الآخر على تفيئتهما ووقف للخدمة وأخذ يتلمّظ، يري أنه يقرض شعرا، ثم قال: يا مولانا قد حضرني بيتان فإن أذنت أنشدت، قال له: أنت إنسان أخرق سخيف لا تقول شيئا فيه خير، اكفني أمرك وشعرك، قال: يا مولانا هي بديهتي وإن كسرتني «1» ظلمتني، وعلى كلّ حال فاسمع فإن كانا بارعين وإلا فعاملني بما تحبّ، قال: أنت لجوج هات، فأنشد:
يا أيها الصاحب تاج العلا ... لا تجعلنّي نهزة «2» الشامت
بملحد يكنى أبا قاسم ... ومجبر يعزى إلى ثابت
فقال: قاتلك الله، لقد أحسنت وأنت مسيء. قال لي أبو القاسم: وكدت أتفقأ غيظا لأني علمت أنها من فعلاته المعروفة، وكان ذلك الجاهل لا يقرض بيتا، ثم حدثني الخادم الحديث بقضه. والذي غلّطه في نفسه وحمله على الإعجاب بفضله والاستبداد برأيه أنه لم يجبهه أحد قطّ بتخطئة، ولا قوبل بتسوئة، لأنه نشأ على أن يقال: أصاب سيدنا وصدق مولانا، ولله درّه ما رأينا مثله، من ابن عبد كان مضافا إليه، ومن ابن ثوابة مقيسا عليه؟ ومن إبراهيم بن العباس الصولي؟ من صريع الغواني؟ من أشجع السلمي؟ إذا سلك طريقهما، قد استدرك مولانا على الخليل في العروض، وعلى أبي عمرو بن العلاء في اللغة، وعلى أبي يوسف في القضاء، وعلى الاسكافي في الموازنة، وعلى ابن نوبخت في الآراء والديانات، وعلى ابن مجاهد في القراءات، وعلى ابن جرير في التفسير، وعلى أرسطاطاليس في المنطق، وعلى الكندي في الجزء، وعلى ابن سيرين في العبارة، وعلى أبي العيناء في البديهة، وعلى ابن أبي خالد في الخطّ، وعلى الجاحظ في الحيوان، وعلى سهل بن هارون في الفقر، وعلى يوحنا في الطبّ، وعلى ابن ربن في الفردوس «3» ، وعلى(2/666)
عيسى بن دأب «1» في الرواية، وعلى الواقدي في الحفظ، وعلى النجار في البدل «2» وعلى بني ثوابة في التقفية «3» ، وعلى السريّ السقطي في الخطرات والوساوس، وعلى مزبّد «4» في النوادر، وعلى أبي الحسن العروضي في استخراج المعمّى، وعلى بني برمك في الجود، وعلى ذي الرياستين في التدبير، وعلى سطيح في الكهانة، وعلى أبي المحياة خالد بن سنان في دعواه. هو والله أولى بقول أبي شريح أوس بن حجر التميمي في فضالة بن كلدة أبي دليجة «5» :
الألمعيّ الذي يظنّ لك الظنّ كأن قد رأى وقد سمعا فتراه عند هذا الهذر وأشباهه يتلوّى ويبتسم، ويطير فرحا به وينقسم، ويقول:
ولا كذا، ثمرة السبق لهم وقصرنا أن نلحقهم أو نقفو أثرهم، وهو في ذلك يتشاجى ويتحايك «6» ، ويلوي شدقه ويبتلع ريقه ويردّ كالآخذ ويأخذ كالمتمنع، ويغضب في عرض الرضى ويرضى في لبوس الغضب، ويتهالك ويتمالك ويتفاتك «7» ويتمايل، ويحاكي المومسات ويخرج في أصحاب السماجات، وهو مع هذا يظن أنه خاف على نقّاد الأخلاق وجهابذة الأحوال ... »
«وقد أفسده أيضا ثقة صاحبه به وتعويله عليه وقلة سماعه من الناصح فيه، وهو في الأصل مجدود لا جرم [ليس] يقلّه مكان دلالا وترفا وعجبا، واندراء على الناس، وازدراء للصغار والكبار، وجبها للصادر والوارد. وفي الجملة آفاته كثيرة وذنوبه جمة، ولكن الغنى ربّ غفور: (وهذا عجز بيت لعروة بن الورد من أبيات أولها) «8» :(2/667)
ذريني للغنى أسعى فإني ... رأيت الناس شرّهم الفقير
وأبعدهم وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير
ويقصيه النديّ وتزدريه ... حليلته وينهره الصغير
وتلقى ذا الغنى وله جلال ... يكاد فؤاد صاحبه يطير
قليل ذنبه والذنب جمّ ... ولكنّ الغنى ربّ غفور
«قال فكيف تتمّ له الأمور مع هذه الصفات؟ قلت: والله لو أنّ عجوزا بلهاء أو أمة ورهاء أقيمت مقامه لكانت الأمور على هذا السياق «1» ، لأنه قد أمن أن يقال له: لم فعلت ولم لم تفعل؟ وهذا باب لا يتّفق لأحد من خدم الملوك إلا بجدّ سعيد ولقد نصح صاحبه الهرويّ في أموال تاوية وأمور من النظر عارية، فقذف بالرقعة إليه حتى عرف ما فيها، ثم قتل الرافع خنقا، هذا وهو يدين بالوعيد. وقال لي الثقة من أصحابه:
ربما شرع في أمر يحكم فيه بالخطأ فيقلبه جدّه صوابا حتى كأنه عن وحي، وأسرار الله في خلقه عند الارتفاع والانحطاط خفية، ولو جرت الأمور على موضوع الرأي وقضية العقل لكان معلّما في مصطبة على شارع أو في دار لتان «2» فإنه يحرج «3» الانسان بتفيهقه وتشادقه، واستحقاره واستكباره، وإعادته وإبدائه، وهذه أشكال تعجب الصبيان ولا تنفّرهم عن المعلمين، ويكون فرحهم بها سببا للملازمة والحرص على التعلم والحفظ والرواية والدراسة» .
هذا قول صاحب «الامتاع» فيه.
ومما وجدت في بعض الكتب من مكارم الاخلاق للصاحب أنه استدعى يوما شرابا من شراب السكر فجيء بقدح منه، فلما أراد شربه قال له بعض خواصه: لا تشربه فإنه مسموم، فقال له: وما الشاهد على صحّة ذلك؟ قال: بأن: تجرّبه على من أعطاكه، قال: لا أستجيز ذلك ولا أستحلّه، قال: فجرّبه على كلب «4» ، قال: إن(2/668)
التمثيل بالحيوان لا يجوز وأمر بصبّ ما في القدح، وقال للغلام: انصرف عني ولا تدخل داري بعدها، وأقرّ رزقه عليه وقال: لا تدفع اليقين بالشكّ، والعقوبة بقطع الرزق نذالة.
قال: ودخل إلى الصاحب رجل لا يعرفه، فقال له الصاحب: أبو من؟ فأنشد الرجل:
وتتفق الأسماء في اللفظ والكنى ... كثيرا ولكن لا تلاقى الخلائق «1»
فقال له: اجلس يا أبا القاسم.
وكان يقول لجلسائه: نحن بالنهار سلطان وبالليل إخوان «2» .
وحدث أبو الحسن النحوي قال «3» : كان مكي المنشد قديم الصحبة والخدمة للصاحب، فأساء إليه غير مرة والصاحب يتجاوز له، فلما كثر ذلك منه أمر الصاحب بحبسه، فحبس في دار الضرب، وكانت في جواره، فاتفق أن الصاحب صعد يوما سطح داره وأشرف على دار الضرب فناداه مكي: فاطلع فرآه في سواء الجحيم
(الصافات: 55) فضحك الصاحب وقال اخسؤا فيها ولا تكلمون
(المؤمنون: 108) ثم أمر باطلاقه.
ومن كتاب «أخلاق الوزيرين» لأبي حيان التوحيدي:
قال المؤلف: أما خبر أبي حيان مع ابن عباد فى ذكر في أخبار أبي حيان، وأما غيره فإن أبا حيان كان قصد ابن عباد إلى الري فلم يرزق منه، فرجع عنه ذامّا له، وكان أبو حيان مجبولا على الغرام بثلب الكرام، فاجتهد في الغضّ من ابن عباد، وكانت فضائل ابن عباد تأبى الا أن تسوقه إلى المدح وإيضاح مكارمه، فصار ذمّه له مدحا، فمن ذلك أن قال بعد أن فرغ من الاعتذار من التصدي لثلبه قال «4» : فأول ما أذكر من ذلك ما أدلّ به على سعة كلامه، وفصاحة لسانه، وقوة جأشه، وشدة منّته،(2/669)
وإن كان في فحواه ما يدل على رقاعته وانتكاث مريرته وضعف حوله وركاكة عقله وانحلال عقده: لما رجع من همذان سنة تسع وستين وثلاثمائة بعد أن فارق حضرة عضد الدولة استقبله الناس من الريّ وما يليها واجتمعوا بساوة، وكان قد أعدّ لكلّ واحد منهم كلاما يلقاه به عند رؤيته، فأول من دنا منه القاضي أبو الحسن الهمذاني «1» من قرية يقال لها أسد اباذ، فقال له: أيها القاضي ما فارقتك شوقا إليك، ولا فارقتني وجدا عليك، ولقد مرّت لي بعدك مجالس تقتضيك وتحظيك وترضيك، ولو شهدتني بين أهلها وقد علوتهم ببياني ولساني وجدلي وبرهاني لأنشدت قول حسان بن ثابت «2» في ابن عباس وهو:
إذا ما ابن عباس بدا لك وجهه ... رأيت له في كلّ مجمعة فضلا
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بملتقطات لا ترى بينها فصلا
كفى وشفى ما في النفوس ولم يدع ... لذي إربة في القول جدا ولا هزلا
سموت إلى العلياء من غير خفّة ... فنلت ذراها لا دنيّا ولا وغلا
ولذكرت أيضا أيها القاضي قول الآخر وأنشدته، فإنه قال في من وقف موقفي، وقرف مقرفي، وتصرّف تصرّفي، وانصرف منصرفي، واغترف مغترفي:
إذا قال لم يترك مقالا ولم يقف ... لعيّ ولم يثن اللسان على هجر
يصرّف بالقول اللسان إذا انتحى ... وينظر في أعطافه نظر الصقر
ولقد أودعت صدر عضد الدولة ما يطيل التفاته إليّ ويكثر حسرته عليّ، ولقد رأى منّي ما لم ير قبله مثله ولا يرى بعده شكله، والحمد لله [الذي] أوفدني عليه على ما يسرّ الوليّ وأصدرني عنه على ما يسوء العدوّ، أيّها القاضي كيف الحال والنفس، [وكيف الامتاع والأنس] ، وكيف المجلس والدرس، وكيف القرص والجرس «3» ، وكيف(2/670)
الدسّ والدعس «1» ، وكيف الفرس والمرس «2» . وكاد لا يخرج من هذا الهذيان لتهيجه واحتدامه وشدة خباله «3» وغلوائه، والهمذاني مثل الفأرة بين يدي السنور، وقد تضاءل وقمؤ لا يصعد له نفس الا بنزع تذلّلا وتقلّلا، هذا على كبره [في مجلسه ونذالته] في نفسه. ثم نظر إلى الزعفرانيّ «4» رئيس أصحاب الرأي فقال: أيها الشيخ سرّني لقاؤك، وساءني عناؤك، ولقد بلغني عدواؤك، وما خيّله إليك خيلاؤك، وأرجو ألّا أعيش حتى يردّ عليك غلواؤك، ما كان عندي أنك تقدم على ما أقدمت عليه، وتنتهي في عداوتك لأهل العدل والتوحيد إلى ما انتهيت إليه، ولي معك إن شاء الله نهار له ليل «5» وليل يتبعه ليل، وثبور يتصل به ويل، وقطر يدفع ومعه «6» سيل وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار
(الرعد: 44) فقال له الزعفراني: حسبنا الله ونعم الوكيل. ثم أبصر أبا طاهر الحنفي فقال: أيها الشيخ ما أدري أشكوك أم أشكو إليك؟ أما شكواي منك، فإنك لم تكاتبني بحرف، كانّا لم نتلاحظ بطرف، ولم نتحافظ على إلف، ولم نتلاق على ظرف؛ وأما شكواي إليك فإني ذممت الناس بعدك، وذكرت لهم عهدك، وعرضت بينهم ودك، وقدحت عليهم زندك، ونشرت عليهم غرائب ما عندك، فاشتاقوا إليك بتشويقي، واستصفوك بترويقي «7» . وأثنوا عليك بتنميقي وتزويقي «8» ، وهكذا عمل الأحباب، إذا تناءت بهم الركاب، والتوت دونهم الأعناق، واضطرمت في صدورهم نار الاشتياق، فالحمد لله الذي أعاد الشعب ملتئما، والشمل منتظما، والقلوب وادعة، والأهواء جامعة، حمدا يتصل بالمزيد، على عادة السادة مع العبيد، عند كلّ قريب وبعيد. ثم التفت إلى ابن القطّان القزويني(2/671)
الحنفي، وكان من ظرفاء العلماء، فقال: كدت أيها الشيخ أحلم بك في اليقظة، وأشتمل عليك دون الحفظة؛ لأنك قد ملكت مني غاية المكانة والحظة «1» ، والله ما أسغت بعدك ريقا، إلا على جرض، ولا سلكت دونك طريقا، إلا على مضض، ولا وجدت للظرف سوقا، إلا بالعرض. سقى الله ربعا أنت ساكنه «2» بنزاهتك، وطبعا أنت طابنه «3» ببراعتك، ومغرسا أنت ينعه «4» بنباهتك [وأصلا أنت فرعه بفقاهتك] .
وقال للعباداني «5» : أيها القاضي أيسرّك ان أشتاقك وتسلو عني، وأن أسأل عنك وتنسلّ مني، وأن أكاتبك فتتغافل، وأطالبك بالجواب فتتكاسل؟! وهذا ما لا أحتمله من صاحب خراسان، ولا يطمع في مثله مني ملك بني ساسان. متى كنت منديلا ليد، ومتى نزلت على هذا الحدّ لأحد؟ إن انكفأت عليّ بالعذر انكفاء، وإلّا اندرأت عليك بالعذل اندراء، ثم لا يكون لك قرار بحال، ولا يبقى لك بمكاني استكثار إلا على وبال وخبال. ثم طلع أبو طالب العلوي، فقال: أيها الشريف جعلت حسناتك عندي سيئات، ثم أضفت إليها هنات، ولم تفكّر في ماض ولا آت. أضعت العهد، وأخلفت الوعد، وحققت النحس وأبطلت السعد. وحلت سرابا للحيران، بعد ما كنت شرابا للحرّان. وظننت أنك قد شبعت مني، واعتضت عنّي هيهات وأنّى [لك] بمثلي، أو بمن يعثر في ذيلي، أو له نهار كنهاري أو ليل كليلي.
وهل عائض منّي وإن جلّ عائض
أنا واحد هذا العالم، وأنت بما تسمع عالم. لا إله الا الله سبحان الله، أيها الشريف، أين الحقّ الذي وكّدناه أيام كادت الشمس تزول، والزمان علينا يصول، وأنا أقول وأنت تقول، والحال بيننا يحول؟! سقى الله ليلة تشييعك وتوديعك، وأنت(2/672)
متنكّر تنكّرا يسوء الوليّ وأنا متفكّر تفكّرا يسوء العدوّ، ونحن متوجّهون إلى ورامين «1» خوفا من ذلك الجاهل المهين (يعني بالجاهل المهين ذا الكفايتين حين أخرجه من الريّ بعد أن ألّب عليه وكاد أن يؤتى على نفسه الخبيثة، وهو حديث له فرش، وما أنا بصدده يمنع من اقتصاصه ولعله يأتي فيما بعد) . ثم نظر إلى أبي محمد كاتب الشروط فقال: أيها الشيخ الحمد لله الذي كفانا شرّك، ووقانا عرّك وضرّك. ونآنا فيحك وحرّك، دببت الضّراء الينا، ومشيت الخمر علينا «2» ، ونحن نحيس لك الحيس «3» ، ونصفك باللبابة والكيس، ونقول ليس مثله ليس، وأنت في خلال ذلك تقابلنا بالويح والويس، لولا أنك قرحان، لسقط بك العشاء على سرحان «4» . وقال لابن أبي خراسان الفقيه الشافعي: أيها الشيخ ألغيت ذكرنا عن لسانك، واستمررت على الخلوة بانسانك، جاريا على نسيانك، مشتهرا «5» بفتيانك وافتنانك، غير عاطف على أخدانك وإخوانك، لولا أنني أرعى قديما قد أضعته، وأعطيك من رعايتي ما قد منعته، لكان لي ولك حديث، إما طيب وإما خبيث. خلّفتك محتسبا، فخلفت مكتسبا، وتركتك آمرا بالمعروف فلحقتك راكبا للمنكر. قد يفيل الرأي ويخيب الظنّ ويكذب الأمل، وقد قال الأول:
ألا ربّ من تغتشه لك ناصح ... ومؤتمن بالغيب وهو ظنين
ثم نظر إلى الشادياشي «6» فقال: يا أبا علي كيف أنت، وكيف كنت؟ فقال: يا مولانا:
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا ... لا كنت إن كنت أدري كيف لم أكن(2/673)
فقال: اغرب يا ساقط، يا هابط، يا من تذهب إلى الحائط بالغائط، ليس هذا من نحت يدك، ولا هو مما نشأ من عندك، هذا لمحمد بن عبد الله بن طاهر وأوله:
كتبت تسأل عني كيف كنت وما ... لاقيت بعدك من همّ ومن حزن
لا كنت إن كنت أدري كيف كنت ولا ... لا كنت إن كنت أدري كيف لم اكن
وكان ينشد وهو يلوي رقبته، وتجحظ حدقته، وينزي أطراف منكبيه، ويتشايل «1» ويتمايل، كأنه الذي يتخبّطه الشّيطان من المسّ. ثم قال: يا أبا علي لا تعوّل على أير في سراويل [غيرك] لا أير إلا أير تمطى تحت عانتك، فإنك إن عوّلت على ذلك شانك وخانك، وفضح حانك ومانك «2» . ثم نظر إلى غلام قد بقل وجهه كان يتّهم به على الوجه الأقبح، فالتوى وتقلقل، وقال ادن مني يا بنيّ كيف كنت، ولم حملت على نفسك هذا العناء؟ وجهك هذا الحسن لا يبتذل للشحوب، ولا يعرّض للفحات الشمس بين الطلوع إلى الغروب، أنت يجب أن تكون [في] بذلة، بين حجلة وكلّة، تزاح بك العلة، وتغلي بك القلة، وتشفى منك الغلّة. هذا آخر حديث الاستقبال.
قال أبو حيان «3» : ودخل يوما دار الإمارة الفيرزان المجوسي [فقال له] في شيء خاطبه به: إنما أنت محشّ مجش مخش «4» ، لا تهشّ ولا تبش ولا تمتشّ «5» ، فقال الفيرزان: أيها الصاحب برئت من النار إن كنت أدري ما تقول، إن كان رأيك أن تشتمني فقل ما شئت، بعد أن أعلم فانّ العرض لك، والنفس فداؤك، لست من الزنج ولا من البربر، كلّمنا على العادة التي عليها العمل، والله ما هذا من لغة آبائك(2/674)
الفرس، ولا من لغة أهل دينك من أهل السواد، وقد خالطنا الناس فما سمعنا منهم هذا النمط، فقام مغضبا.
قال «1» : وكان ابن عباد يقول للإنسان إذا قدم عليه من أهل العلم: يا أخي تكلّم واستأنس واقترح وانبسط ولا ترع، واحسبني في جوف مرقّعة، ولا يروعك هذا الحشم والخدم والغاشية والحاشية، وهذه المرتبة والمصطبة، وهذا الطاق والرواق، وهذه المجالس والطنافس، فإن سلطان العلم فوق سلطان الولاية، فليفرخ روعك، ولينعم بالك، وقل ما شئت، وانصر ما أردت، فلست تجد عندنا إلا الإنصاف والإسعاف، والإتحاف والإطراف، والمواهبة والمقاربة، والمؤانسة والمقابسة؛ ومن كان يحفظ ما كان يهذي به في هذا وفي غيره؟ ويجري في هذا الميدان فيطيل، حتى إذا استوفى «2» ما عند ذلك الانسان بهذه الزخارف والحيل وسال «3» الرجل معه في حدوره على مذهب الثقة فحاجّه وراجعه «4» وضايقه وسابقه، ووضع يده على النكتة الفاصلة والأمر القاطع تنمّر له وتغيّر عليه ثم يقول «5» : يا غلام خذ بيد هذا الكلب إلى الحبس، وضعه فيه بعد أن تصبّ على كاهله وظهره وجنبيه خمسمائة سوط وعصا فإنه معاند ضدّ، يحتاج إلى أن يشدّ بالقدّ، ساقط هابط كلب [نباح، وقاح، متعجرف] أعجبه صبري، وغرّه حلمي، ولقد أخلف ظني، وعدت على نفسي بالتوبيخ، وما خلق الله العصا باطلا. فيقام ذلك البائس على هذه الحالة، وليس الخبر كالعيان، فمن لم يحضر ذلك المجلس لم ير منظرا رفيعا ورجلا رقيعا.
قال «6» : وكان أبو الفضل ابن العميد إذا رآه قال: أحسب أن عينيه ركّبتا من زئبق، وعنقه عمل بلولب- وصدق فإنه كان ظريف التثني والتلوّي، شديد التفكّك والتفتّل، كثير التعوّج والتموّج، في شكل المرأة المومسة والفاجرة الماجنة.(2/675)
قال «1» : وحدثني الجرباذقاني «2» الكاتب أبو بكر، وكان كاتب داره، قال:
يبلغ من سخنة عين صاحبنا أنه لا يسكت عمّا لا يعرف، ولا يسالم نفسه فيما لا يفي به ولا يكمل له، ويظنّ أنه إن سكت فطن لنقصه، وإن احتال وموّه جاز ذلك وخفي واستتر، ولا يعلم أن ذلك الاحتيال طريق إلى الإغراء بمعرفة الحال وصدق القائل:
«كاد المريب يقول خذوني» ؛ قلت: وما الذي حداك على هذه المقدمة؟ قال قال لي في بعض هذه الأيام: ارفع حسابك فقد أخّرته وقصّرت فيه وانتهزت سكوتي وشغلي بأمر الملك وسياسة الأولياء والجند والرعايا والمدن، وما عليّ من أعباء الدولة وحفظ البيضة ومشارفة الأطراف النائية والدانية باللسان والقلم، والرأي والتدبير، والبسط والقبض، والتتبع والنفض، وما على قلبي من الفكر في الأمور «3» الظاهرة والغامضة، وهذا باب لعمري مطمع وإمساكي عنه مغر بالفساد مولع، فبادر عافاك الله إلى عمل حساب بتفصيل باب باب، يبين فيه أمر داري وما يجري «4» عليه أمر دخلي وخرجي. قلت له: هذا كلّه بسبب قوله: هات حسابك بما نراعيه؟ فقال: أي والله، ولقد كان أكثر من هذا ولقد اختصرته. قال أبو بكر: فتفردت أياما وحرّرت الحساب على قاعدته وأصله والرسم الذي هو معروف بين أهله، وحملته إليه، فأخذه من يدي وأمرّ عينيه فيه من غير تثبّت أو فحص أو مسألة، فحذف به إليّ وقال: أهذا حساب؟ أهذا كتاب؟ أهذا تحرير؟ أهذا تقرير؟ أهذا تفصيل؟ أهذا تحصيل؟ والله لولا أني ربّيتك في داري، وشغلت بتخريجك ليلي ونهاري، ولك حرمة الصبا، ويلزمني رعاية الابنا: لأطعمتك هذا الطومار، وأحرقتك بالنفط والقار، وأدّبت بك كلّ كاتب وحاسب، وجعلتك مثلة لكلّ شاهد وغائب: أمثلي يموّه عليه؟ ويطمع فيما لديه؟ وأنا خلقت الحسابة والكتابة، والله ما أنام ليلة إلّا وأحصّل في نفسي ارتفاع العراق، ودخل الآفاق. أغرّك مني أني أجررتك رسنك؟ وأخفيت قبيحك وأبديت حسنك؟ غيّر هذا الذي رفعت، واعرف قبل وبعد ما صنعت، واعلم أنك من الآخرة(2/676)
قد رجعت، فزد في صلاتك وصدقتك، ولا تعوّل على قحتك وصلابة حدقتك.
قال: فو الله ما هالني كلامه، ولا أحاك فيّ هذيانه، لأني كنت أعلم جهله في الحساب، ونقصه في هذا الباب، فذهبت وأفسدت وأخّرت وقدّمت، وكابرت «1» وتعمدت، ثم رددته إليه، فنظر فيه وضحك في وجهي وقال: أحسنت بارك الله عليك، هكذا أردت، وهذا بعينه طلبت، لو تغافلت عنك في أول الأمر لما تيقظت في الثاني، فهذا كما ترى، اعحب منه كيف شئت.
قال أبو حيان «2» : ومن رقاعته أيضا سمعته يقول وقد جرى حديث الأبهري المتكلم، وكان يكنى أبا سعيد فقال: لعن الله ذاك الملعون المأبون المأفون، جاءني بوجه مكلّح، وأنف مفلطح، ورأس مسطّح، وسرم مفتّح، ولسان مبلّح «3» ، فكلمني في مسألة الأصلح، فقلت له: اعزب عليك غضب «4» الله الأترح، الذي يلزم ولا يبرح.
وشتم يوما رجلا فقال «5» : لعن الله هذا الأهوج الأعوج «6» الأفلج الأفحج، الذي إذا قام تحلّج «7» ، وإذا مشى تدحرج، وإذا عدا تفجفج «8» . قال أبو حيان:
بالله يا أصحابنا حدثوني أهذا عقل رئيس، أم بلاغة كاتب، أم كلام متماسك؟ لم تجنّون به، وتتهالكون عليه، وتغيظون أهل الفضل به؟ هل هناك إلا الجدّ الذي يرفع من هو أنذل منه ويضع «9» من هو أرفع منه؟! ولقد حدثت هذا الحديث أبا السلم «10» الشاعر فأنشدني لشاعر:(2/677)
سبحان من أنزل الدنيا منازلها ... وميّز الناس مشنوءا وموموقا
فعاقل فطن أعيت مذاهبه ... وجاهل خرق تلقاه مرزوقا
كأنّه من خليج البحر مغترف ... ولم يكن بارتزاق القوت محقوقا
هذا الذي ترك الألباب حائرة ... وصيّر العاقل النحرير زنديقا
قال «1» : وكان كلفه بالسجع في الكلام والقلم عند الجد والهزل يزيد على كلف كلّ من رأيناه في هذه البلاد، قلت لابن المسيبي «2» : أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة تنحلّ بموقعها عروة الملك ويضطرب بها حبل الدولة ويحتاج من [أجلها] إلى غرم ثقيل وكلفة صعبة وتجشّم أمور وركوب أهوال لما كان يخفّ عليه أن يفرج عنها ويخلّيها بل يأتي بها ويستعملها ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها. قال «3» : وقلت للخليلي: أما كان ابن العميد يسمع كلامه؟
قال: بلى، وكان يقول: سجعه يدل على الخلاعة والمجانة، وخطه يدلّ على الشلل والزمانة، وصياحه يدلّ على أنه قد غلب بالقمار في الحانة. وهو أحمق بالطبع إلّا أنه طيب، قلت للخليلي: فهل عرفت طالعه؟ فقال حدثني بعض أصحابنا منهم الهرويّ أن طالعه الجوزاء والشعرى اليمانية (كط) وكان زحل في الحادي عشر في الحمل (كز) «4» والقمر فيه (يط) والشمس في السنبلة (يج) والزهرة فيها (ي) والمشتري في الميزان (كد) والمريخ في العقرب (ن) وسهم السعادة في القوس (يد) وسهم الغيب في الجدي (يز) والرأس في الثالث من الأسد (يا) . قال وخفي عليّ عطارد.
وذكر أنه ولد سنة ست وعشرين وثلاثمائة من الهجرة لأربع عشرة ليلة من ذي القعدة، روز سروش من ماه شهرير «5» . قلت: وأين ولد؟ قال: كان عندنا أنه ولد بطالقان، وقال لنا يوما باصطخر، وقال غير الخليلي: كان عطارد في السنبلة (ط ي) .(2/678)
قال أبو حيان «1» : وكنت بالريّ سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة وابن عباد بها مع مؤيّد الدولة قد ورد في مهمات وحوائج، وعقد ابن عباد مجلس جدل، وكنا نبيت عنده في داره في باب شير «2» ومعنا الضرير أبو العباس القاضي وأبو الحوراء «3» البرقي وأبو عبد الله النحوي الزعفراني وجماعة من الغرباء، فرأى ليلة في مجلسه وجها غريبا صاحب مرقّعة فأحبّ أن يعرفه «4» ويعرف ما عنده، وكان الشابّ من أهل سمرقند يعرف بأبي واقد الكرابيسي، فقال له: يا أخ انبسط واستأنس وتكلم، فلك منا جانب وطيء وشرب مريء، ولن ترى إلا الخير، بم تقرف، فقال: بدقاق قال: تدق ماذا؟ قال: أدقّ الخصم إذا زاغ عن سبيل الحق، فلما سمع هذا تنكّر وعجب لأنه فجىء ببديعة، فقال: دع هذا وتكلم، قال: أتكلم سائلا؟ ما بي والله حاجة إلى مسألة، أم أتكلّم مسؤولا؟ فو الله إني لأكسل عن الجواب، أم أتكلّم مقررا؟ فو الله إني لأكره أن أبدّد الدرّ في غير موضعه، وإني لكما قال الأول:
لقد عجمتني العاجمات فلم تجد ... هلوعا ولا لين المجسّة في العجم
وكاشفت أقواما فأبديت وصمهم ... وما للأعادي في قناتي من وصم
قال له: يا هذا ما مذهبك؟ قال: مذهبي ألا أقرّ على الضيم ولا أنام على الهون ولا أعطي صمتي لمن لم يكن وليّ نعمتي ولم يصل عصمته بعصمتي، قال:
هذا مذهب حسن، ومن ذا الذي يأتي الضيم طائعا ويركب الهون سامعا؟ ولكن ما نحلتك التي تنصرها؟ قال: نحلتي مطوّية في صدري لا أتقرّب بها إلى مخلوق، ولا أنادي عليها في سوق، ولا أعرضها على شاكّ، ولا أجادل فيها المؤمن، قال: فما تقول في القرآن؟ قال: ما أقول في كلام رب العالمين الذي يعجز عنه الخلق إذا أرادوا الاطلاع على غيبه، وبحثوا عن خافي سره وعجائب حكمته؟ فكيف إذا حاولوا مقابلته بمثله، وليس له مثل مظنون فضلا عن مثل متيقن؟ فقال له ابن عباد:(2/679)
صدقت، ولكن أمخلوق أم غير مخلوق؟ فقال: إن كان مخلوقا [كما تزعم فما ينفعك؟ وإن كان غير مخلوق] كما يزعم خصمك فما يضرّك؟ فقال: يا هذا أبهذا [العقل] تناظر في دين الله وتقوم على عبادة الله؟ قال: إن كان كلام الله نفعني إيماني به وعملي بمحكمه وتسليمي لمتشابهه، وإن كان كلام غيره- وحاش لله من ذلك- ما ضرني؟ فأمسك عنه ابن عباد وهو مغيظ، ثم قال: أنت لم تخرج من خراسان بعد. فمكث الرجل ساعة ثم نهض، فقال له ابن عباد: إلى أين يا هذا، قد تكسّر الليل، بت هاهنا، فقال: أنا بعد لم أخرج من خراسان، كيف أبيت بالريّ، وخرج فارتاب به ابن عباد فقفّاه بصاحب له وأوصاه بأن يتبع خطاه ويبلغ مداه من حيث لا يفطن به ولا يراه، فما زاغ الرجل عن باب ركن الدولة حتى وصل ودخل في ذلك الوقت الفائت إليه، فقيل لابن عباد ذلك فطار نومه وقال: أيّ شيطان هبط علينا وأحصى ما كنّا فيه بلسان سليط وطبع مريد؟ وكان هذا الكرابيسيّ عينا لركن الدولة بخراسان، فلذلك كان قريبا [منه] وكان أحد رجالات [الدنيا] .
ومما «1» يدلّ على ولوع ابن عباد بالسجع ومجاوزة الحدّ فيه بالإفراط قوله يوما:
حدثني [ابن] باش، وكان من سادة الناش؛- جعل السين شينا ومرّ في هذا الحديث وقال: هذه لغة، وكذب وكان كذوبا.
وقال «2» ابن عباد لشيخ من خراسان في شيء جرى: والله لولا شيء لقطّعتك تقطيعا، وبضّعتك تبضيعا، ووزعتك توزيعا، ومزعتك تمزيعا، وجزّعتك تجزيعا، وأدخلتك في حر أمك «3» ، ثم وقف ساعة ثم قال: جميعا. قال وملح هذه الحكاية ينبتر في الكتابة وبهاؤها ينقص في الرواية دون مشاهدة الحال وسماع اللفظ وملاحة الشكل في التحرك والتثني والترنح والتهادي ومدّ اليد وليّ العنق وهزّ الرأس والأكتاف واستعمال الأعضاء والمفاصل.
قال «4» وحدثنا ابن عباد يوما قال: ما قطعني «5» إلا شابّ ورد علينا إلى أصبهان(2/680)
بغدادي فقصدني فأذنت له، وكان عليه مرقعة وفي رجليه نعل طاق، فنظرت إلى حاجبي فقال له وهو يصعد إليّ: اخلع نعلك، فقال: ولم ولعلّي أحتاج إليها بعد ساعة، فغلبني الضحك وقلت: أتراه يريد أن يصفعني.
قال أبو حيان: وقال لي علي بن الحسن الكاتب: هجرني في بعض الأيام هجرا أضرّ بي وكشف مستور حالي، وذهب عليّ أمري، ولم أهتد إلى وجه حيلة في مصلحتي، وورد المهرجان فدخلت عليه في غمار الناس فلما أنشدت نوبتين «1» تقدمت فأنشدت فلم يهشّ لي ولم ينظر إليّ، وكنت ضمّنت أبياتي بيتا له من قصيدة على رويّ قصيدتي، فلما مرّ به البيت هبّ من كسله ونظر إليّ كالمنكر عليّ، فطأطأت رأسي وقلت بصوت خفيض: لا تلم ولا تزد في القرحة فما عليّ محمل، وإنما سرقت هذا من قافيتك لأزيّن به قافيتي، وأنت بحمد الله تجود بكلّ علق ثمين وتهب كلّ درّ مكنون، أتراك تشاحّني على هذا القدر وتفضحني في هذا المشهد؟! فرفع رأسه وصوته وقال: يا بني أعد هذا البيت، فأعدته، فقال: أحسنت يا هذا، ارجع إلى أوّل قصيدتك فقد سهونا عنك وطار الفكر بنا إلى شأن آخر، والدنيا مشغلة، وصار ذلك ظلما بغير قصد منا ولا تعمد. قال: فأعدتها وأمررتها وفغرت فمي بقوافيها، فلما بلغت آخرها قال: أحسنت، الزم هذا الفنّ فإنه حسن الديباجة وكأنّ البحتريّ استخلفك، وأكثر بحضرتنا وارتفع بخدمتنا وابذل نفسك في طاعتنا نكن من وراء مصالحك بأداء حقك والجذب بضبعك «2» والزيادة في قدرك على أقرانك، قال: فلم أر بعد ذلك إلا الخير حتى عراه ملل آخر فوضعني في الحبس سنة، وجمع كتبي فأحرقها بالنار، وفيها كتب الفراء والكسائي ومصاحف القرآن وأصول كثيرة في الفقه والكلام، فلم يميزها من كتب الأوائل، وأمر بطرح النار فيها من غير تثبّت بل لفرط جهله وشدة نزقه. فهلّا طرح النار في خزانته وفيها كتب ابن الراوندي «3» وكلام ابن أبي العوجاء «4» في معارضة القرآن بزعمه، وصالح بن عبد القدوس وأبي سعيد(2/681)
الحصيري وكتب أرسطاطاليس وغير ذلك؟! ولكن من شاء حمق نفسه. قال أبو حيان «1» : وحدثني محمد بن المرزبان قال: كنا بين يديه ليلة فنعس وأخذ إنسان يقرأ سورة الصافّات فاتفق أنّ بعض هؤلاء الأجلاف من أهل ما وراء النهر نعس أيضا وضرط ضرطة منكرة فانتبه وقال: يا أصحابنا نمنا على «والصافّات» وانتبهنا على «والمرسلات» وهذا من نوادره وملاحاته.
وحدثني أيضا قال «2» : انفلتت ليلة أخرى ضرطة من بعض الحاضرين وهو في الجدل فقال على حدّته: كانت بيعة أبي بكر، خذوا فيما أنتم فيه، يعني فلتة، لأنه قيل في بيعة أبي بكر كانت فلتة.
قال «3» : وقال قوم من أهل أصبهان لابن عباد: لو كان القرآن مخلوقا لجاز أن يموت، ولو مات القرآن في آخر شعبان بماذا كنّا نصلّي التراويح في رمضان؟ قال:
لو مات القرآن كان رمضان يموت أيضا ويقول لا حياة لي بعدك ولا نصلّي التراويح ونستريح.
قال أبو حيان «4» واسمع ما هو أعجب من هذا: ناظر بالريّ اليهوديّ رأس الجالوت في إعجاز القرآن، فراجعه اليهودي فيه طويلا وماتنه «5» قليلا، وتنكد عليه حتى احتد وكاد يتّقد «6» ، فلما علم أنه قد سجر تنّوره وأسعط أنفه احتال طلبا لمصاداته «7» ورفقا به في مخاتلته فقال: أيها الصاحب فلم تتقد وتستشيط وتلتهب وتختلط؟ كيف يكون القرآن عندي آية ودلالة ومعجزة من جهة نظمه وتأليفه؟ فإن كان النظم والتأليف بديعين وكان البلغاء فيما تدّعي عنه عاجزين وله مذعنين وها أنا أصدق عن نفسي وأقول ما عندي: إنّ رسائلك وكلامك وفقرك وما تؤلفه وتباده به نظما ونثرا(2/682)