اختار ثلاثين رجلًا من أهل عمان فولاهم الصدقات. ويسأله أن يقفل من قبله من الجند. فكتب إليه: «قد فهمت ما ذكرت فاقفل من قبلك من الجند بعد أن تخيرهم بين ركوب البحر وسلوك البر، فمن اختار البحر فاكتر له وزوده من بيت مال المسلمين، ومن اختار البر فاكتر له ظهرا وزوده ما يقيمه أيضا والسلام» .
وقال سحيم بن حفص أبو اليقظان: استعمل عدي بن سعيد بن مسعود المازني على عمان فأخذ رجلا من الأزد يقال له خليد بن سعوة، فضربه مائة سوط في باقة أرادها ابن مسعود، فأتى عمر فشكا ذلك إليه، وأنشده قول كعب الأشعري:
إن كنت تحفظ ما يليك فإنما ... عمال أرضك بالعراق ذئاب
لم يستقيموا للذي تدعو له ... حتى تضرب بالسيوف رقاب
بأكف منصلتين أهل بصائر ... في رفعهن مواعظ وعقاب
لولا قريش نصرها ودفاعها ... أمسيت منقطعا بي الأسباب
فقال عمر: لمن هذا الشعر؟ قال: لرجل من الأزد من أهل عمان يقال له كعب. فقال له: ما كنت أرى أهل عمان يقولون مثل هذا الشعر، وكتب عمر إلى عدي بن أرطاة: «إن استعمالك سعيد بن مسعود قدر من الله قدره عليك، وبلية ابتلاك بها، فإذا أتاك كتابي فابعث إليه من يعزله، وابعث به إليّ مشدودا موثقا» . فعزله واستعمل عبد الرحمن بن قيس، وحمل سعيدا إلى عمر فجعل سعيد يرتجز ويقول:
كيف ترى الشيخ أبا الزبير ... يدل بعد خطب الأمير
سوق الروايا وحدا البعير(8/132)
فلما دخل عليه كلمه عمر فقال: أصلحك الله أتكلمني وأنا موثق؟
أطلق عني حتى أتكلم بحجتي، فأطلق عنه وقال للأزدي: اضربه، فقال قمير بن سعيد: أنا الذي ضربته ولم يضربه أبي، قال: فأعطي الأزدي سوطا، وقال عمر: قم فاجلده كما جلدك. فجلد قميرا مائة سوطا، فقال له أبوه: يا قمير أصرر أذنيك إصرار الفرس الجموح، وعض عَلَى نواجذك، واذكر أحاديث غد، وإياك وذكر الله فإنه معجزة.
وقال أبو اليقظان: قام رجل من بني كلاب إلى عمر وهو على المنبر فأنشد:
إن الذين بعثت في أقطارها ... نبذوا كتابك واستحل المحرم
جلس الذئاب على منابر أرضنا ... كل بنقص نصيبنا يتكلم
وأردت أن يلي الأمانة منهم ... عدل وهيهات الأمين المسلم
فقال عمر: صدقني والله.
حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن صالح العجلي قَالَ: سمعت حمزة الزيات يحدث أن عمر بن عبد العزيز غضب على رجل غضبا شديدا فأتي به وأمر بالسياط فأحضرت، فقال: لولا شدة غضبي عليك لأوجعتك.
المدائني أن عمر بن عبد العزيز قال: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من حلم إلى علم، وعفو إلى مقدرة. قال: وقال عمر بن عبد العزيز: تعلموا العلم فإنه زين للغني، وعون للفقير، لا أقول أنه يكسب به ولكنه يدعوه إلى القناعة.
حَدَّثَنِي بَكْر بْن الهيثم عن سُفْيَان بْن عيينة قال: قدم وفد على عمر بن عبد العزيز من العراق، فنظر عمر إلى شاب منهم يتهيأ للكلام فقال عمر:(8/133)
ليتكلم أكبركم سنا، فقال الفتى: يا أمير المؤمنين، ليس الأمر بالسن ولو كان كذلك كان في المسلمين من هو أسنن منك، قال: صدقت. فتكلم فقال: إنا لم نأتك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فأتتنا في بلادنا ودخلت علينا منازلنا، وأما الرهبة فإنا أمناها بعدلك.
قال: فما أنتم؟ قال: نحن وفد الشكر. فنظر محمد بن كعب القرظي إلى وجه عمر يتهلل، فقال: يا أمير المؤمنين لا يغلبن جهالة القوم بك معرفتك بنفسك، فإن من الناس ناسا غرهم الستر وخدعهم حسن الثناء وأنا أعيذك بالله من أن تكون منهم. فبكى عمر.
حدثني عبد الرحمن بن حزرة أحد ولد جرير بن عطية الخطفي قال:
وفد جرير على عمر بن عبد العزيز فغبر حينا لا يصل إليه، ثم رأى ذات يوم عون بن عبد الله المسعودي يريد الدخول عليه وكان قارئا فقام إليه جرير فقال له:
يا أيها القارئ المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... إني لدى الباب كالمصفود في قرن
فقال له عون: إن أمكنني ذلك فعلت إن شاء الله.
فلما دخل عون على عمر سلم وجلس حتى فرغ من حوائج الناس، ثم أقبل عليه فقال: يا أمير المؤمنين إن ببابك جرير بن عطية وهو يطلب الإذن، فقال عمر: أو يمنع أحد من الدخول؟. قال: لا يا أمير المؤمنين لكنه يطلب إذنا خاصا ينشدك فيه. قال: يا غلام أدخل جريرا. فأدخل إليه وعون جالس فأنشد جرير عمر:(8/134)
أأذكر الجهد والبلوى التي شملت ... أم أكتفي بالذي نبئت من خبر
كم بالمواسم من شعثاء أرملة ... ومن يتيم ضعيف الصوت والنظر
ممن ترجى له من بعد والده ... كالفرخ في العش لم ينهض ولم يطر [1]
فبكى عمر حتى بلت دموعه لحيته، وأمر بصدقات تفرق على الفقراء في النواحي فقال جرير:
هذي الأرامل قد قضيت حاجتها ... فمن لحاجة هذا الأرمل الذكر
فقال له: يا جرير أنت من أبناء المهاجرين الأولين؟ قال: لا. قال:
أفمن أبناء الأنصار؟. قال: لا. قال: أفمن أبناء التابعين بإحسان؟.
قال: لا. قال: أفمن فقراء المسلمين أنت فنجريك على ما نجري عليه الفقراء؟ قال: قدرتي فوق ذلك. قال: أفأنت ابن سبيل فنعينك على سفرك؟ قال: قدرتي فوق ذلك. فقال: يا جرير ما أرى لك بين الدفتين حقا.
فولى جرير فقال عون: يا أمير المؤمنين إن الخلفاء كانت تعوده الإحسان، وإن مثل لسانه يتقى، فقال عمر: ردوه فرد فقال له عمر:
يا جرير إن عندي من مالي عشرين دينارا وأربعة أثواب فأقاسمك ذلك.
فقال: بل توفر يا أمير المؤمنين وتحمد.
فلما خرج تلقاه الناس فقالوا له: ما وراءك؟ قال: خرجت من عند رجل يعطي الفقراء ويمنع الشعراء، وإني له لحامد. ولم يذكره بسوء. وقال فيه حين مات:
__________
[1] ديوان جرير ص 210- 211.(8/135)
فالشمس كاسفة ليست بطالعة ... تبكي عليك نجوم الليل والقمر [1]
المدائني عن عوانة قال: كتب صالح بن عبد الرحمن وصاحب له إلى عمر بن عبد العزيز وكان يلي الخراج بالعراق: «إنه لا يصلح الناس إلا السيف» فغضب عمر وقال: أما تعجبون لربذتين من الربذ [2] ، خبيثين من الخبث يعرضان لي بدماء المسلمين، ما من الناس أحد إلا ودماؤكما أهون علي من دمه.
المدائني قال: كتب عمر إلى أهل البصرة كتابا ذكر فيه يزيد بن المهلب فقال: «إنه لم يكن من أئمة الهدى، ولا الأعوان على التقوى» .
المدائني قال: أتى رجل من آل قتيبة عمر بن عبد العزيز فوقع في يزيد بن المهلب عنده وتظلّم وهو ساكت، ثم قذفه فقال عمر: أخرج مما قلت فلم يخرج، فأمر سليمان بن حبيب فحده.
المدائني قال: حبس عمر يزيد بن المهلب فقيل له: إنه شريف له موضع. فقال: إنه صاحب فتك، وليس له خير من السجن.
حَدَّثَنِي دَاوُد بْن عَبْدِ الحميد قَاضِي الرقة عن مروان بن معاوية عن عيسى بن المغيرة عن مزاحم بن زفر قال: كنا بسمرقند وعليها محمد بن المهلب فخرج علينا شار يوم جمعة وضرب رجلًا من بني عجل بالسيف فأخذ. ودعا محمد بن الضحاك ابن مزاحم صاحب التفسير فسأله عن أمره فقال: أرى أن تحبسه حتى تنظر ما حال المضروب. فحبسه وكتب إلى
__________
[1] ديوان جرير ص 235.
[2] الربذة: رجل لا خير فيه. وخرقة الحائض وخرقة يجلو بها الصائغ الحلى. القاموس.(8/136)
يزيد بن المهلب، فكتب به إلى سليمان بن عبد الملك فوافاه الكتاب وقد مات سليمان، وولي عمر بن عبد العزيز، فكتب عمر: «أما بعد فانظر فإن كان المضروب مات من ضربة الحروري فادفعه إلى أوليائه ليقتلوه، وإن كان قد برئ فأقصه منه ثم احبسه في محبس قريب من أهله حتى يتوب من هواه الخبيث الذي خرج عليه أو يموت» .
قالوا: وأشرف سليمان في حجته من عقبة قديد، فنظر إلى عسكره، فأعجبه ما رأى من كثرة سواده، فقال: كيف ترى يا أبا حفص؟. فقال:
أرى دنيا يأكل بعضها بعضا، أنت المبتلى بها والمسؤول عنها.
ونعب غراب فقال: ما تراه يا أبا حفص يقول؟. قال: لا أدري وإن شئت قلت لك.
المدائني قال: مرض عمر بن عبد العزيز فقال مسلمة: آتيك بمائة ألف درهم تتصدق بها؟ قال: أفلا تصنع خيرا من ذلك؟ قال: وما هو يا أمير المؤمنين؟ قال: تردها إلى حيث أخذتها منه فإنه خير لك.
المدائني قال: قال مسلمة لعمر بن عبد العزيز: يا أمير المؤمنين أما تمل الخل والزيت؟ قال: إذا مللتها تركتهما حتى اشتهيتهما.
حدثنا هشام بن عمار عن الوليد قال: دخل بعضهم على عمر بن عبد العزيز حين ولي الخلافة فقال: من تكن الخلافة زينته فإنك زينتها، وإنك لكما قال الشاعر:
وتزيدين طيب الطيب طيبا ... إن تمسيه أين مثلك أينا
فإذا الدر زان حسن وجوه ... كان للدر حسن وجهك زينا(8/137)
قال: دعني فأنا أعلم بنفسي وذنوبي، إني إلى عفو الله عني أحوج مني إلى تقريظك إياي.
قال: وقال الوليد: أثنى قوم على عمر فقال لهم: يا هؤلاء دعونا من ثنائكم وأمدونا بدعائكم.
حدثني أبو بكر الأعين عن السهمي عن أبيه وغيره أن عدي بن أرطاة كتب إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في عذاب قوم من عمال الخراج بلحوا [1] في يديه وامتنعوا من أداء ما عليهم، فكتب إليه: «أما بعد فالعجب كل العجب من استئذانك إياي في عذاب البشر، كأني جنة لك من عذاب الله، أو كأن رضائي ينجيك من سخط الله، فمن أعطاك ما قبله عفوا فاقبله، ومن قامت عليه البينة فخذه بما ثبت بالبينة عليه، ومن أنكر فاستحلفه، فو الله لأن يلقوا الله بجناياتهم أحب إلي من أن ألقاه بعذابهم، والسلام» .
وحدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثنا سعيد بن عامر عن عون بن المعمر قال: كتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: «أما بعد فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات» ، فكتب إليه عمر: «أما بعد فكأنك بالدنيا وكأنها لم تكن، وكأنك بالآخرة وكأنها لم تزل، والسلام» .
حدثني أبو أيوب الرقي المعلم عن النفيلي قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى الجراح بن عبد الله الحكمي: «أما بعد فكأنك بالدنيا وكأنها لم
__________
[1] بلح: أعيا. القاموس.(8/138)
تكن، وكأنك بالآخرة وكأنها لم تزل، واعلم أن من علم أن كلامه من عمله أقل كلامه إلا فيما يعنيه وينفعه.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ عَنِ المبارك بن سعيد عن أبي حمزة الثمالي قال: أطرى ابن الأهتم بني أمية، وأفرط في مدحهم فقال عمر: من سَرَّهُ أن ينظر إِلَى الأفاك الأثيم فلينظر إِلَى ابن الأهتم.
فَلَمَّا استخلف قال: لا يدخل علي ابن الأهتم ولا خَالِد بْن عَبْد اللَّه القسري فإنهما مُقْوِلان، وإن من البيان ما فيه سحر.
حدثني عبد الله بن صالح عن زهير بن معاوية أن عمر بن عبد العزيز عزل بعض قضاته، فلما قدم عَلَيْهِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لم عزلتني؟ قال:
لأن كلامك أكثر من كلام الخصمين إذا تحاكما إليك.
وقال هشام بن عمار: قال همام بن مصاد: دخلت على عمر، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا بن مصاد إن في الجسد مضغة إليها يأوي خيره وشره فأصلحوا قلوبكم تصلح أعمالكم.
حَدَّثَنِي دَاوُد بْن عَبْدِ الحميد قَاضِي الرقة عن أبيه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى بعض عماله: «أنزل رعيتك بمنزلة ولدك، فوقر كبيرهم، وارحم صغيرهم، وقوم ناشئهم» .
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح عَن الليث بْن سعد قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى الجراح بن عبد الله الحكمي: «أما بعد:
فدع من الحلال ما يكون حاجزًا بينك وبين الحرام، فإن من استوعب الحلال كله تاقت إلى الحرام نفسه، وعليك بالقصد فإن الإسراف من عمل الشيطان، والسلام» .(8/139)
حدثني محمد بن الأعرابي عن الأباني قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز بعث إلى سالم بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة الكندي، فقال: قد وليت هذا الأمر وابتليت به فأشيروا علي، فقال سالم: اجعل الناس ثلاثة أصناف أبا، وأخا، وابنا. فبر أباك، وصل أخاك، وارحم ابنك. وقال محمد بن كعب: اجعل الدنيا يوما صمته عن لذاتك، فكأن فطرك عليه الموت. وقال رجاء بن حيوة:
أحب للناس ما تحبه لنفسك، وأكره ما تكرهه لنفسك، واعلم أنك أول خليفة يموت.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحِ بْنِ مُسْلِمٍ الْعِجْلِيُّ عَنْ يحيى بْن يمان عَنْ سُفْيَان قَالَ: بلغنا أن محمد بن يوسف أخا الحجاج ضرب على أهل اليمن خرجا جعله وظيفة أخصبوا أو أجدبوا، فلما ولى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ كتب إليه عامله يعلمه ذلك فكتب: «ألغ تلك الوظيفة، واقتصر بالناس على عشر ما سقي سيحا أو سقته السماء ونصف عشر ما سقي بالغرب والسواني [1] ، فو الله لأن لا يأتيني من اليمن حفنة كتم أحب إِلَى منَ إقرار هَذِهِ الوظيفة» .
فلما ولي يزيد بْن عَبْد الملك أمر بردها.
المدائني عن مسلمة بْن محارب قَالَ: لما ولي محمد بْن يوسف اليمن أساء السيرة، وظلم الرعية وضرب عَلَى أهل اليمن خراجا جعله وظيفة عليهم، فلما ولى عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ كتب إِلَى عامله يأمره بإلغاء تلك الوظيفة والاقتصار على العشر والصدقة، وقال: «والله لأن لا يأتيني من
__________
[1] الغرب: الراوية والدلو العظيمة والسانية: الغرب وأداته والناقة يسقي عليها.(8/140)
اليمن حفنة كتم أحب إِلَى منَ إقرار هَذِهِ الضريبة» . فلما ولي يزيد أمر بردها وكتب إلى عروة بن محمد: إن ابن عبد العزيز كان مغرورا منك ومن أشباهك فأعد على أهل اليمن الضريبة التي كان عمر أمر بإسقاطها، ولو صار أهلها حرضا [1] .
المدائني قال: دخل على عمر بن عبد العزيز سالم السندي، وكان من خاصته، فقال له: أسرك ما وليت أم ساءك؟ قال: سرني للناس وساءني لك. قال: إني أتخوف أن أكون قد أوبقت نفسي، قال: ما أحسن حالك إن كنت تخاف، إنما أخاف عليك ألا تخاف. قال: عظني. قال: إن آدم أخرج من الجنة بخطيئة، فتدبر أمرك، واحفظ نفسك.
قال: وقال عمر لمحمد بن كعب: عظني. فقال: لا أرضى نفسي لموعظتك لأني لأصلي بين الفقير والغني فأميل إلى الغني، ويدخل الفقير والغني علي فأوسع للغني. فقال عمر: فاستغفر الله. وبكى.
المدائني عن سحيم بن سفيان قال: ولى عمر بن عبد العزيز أيام توليته المدينة للوليد بن عبد الملك رجلًا يقال له راشد، ويكني أبا علي، الربذة فضرب رجلًا من بني أسد يقال له بعثر، فركب إلى عمر وأنشأ يقول:
أقول لراشد أمسك كتابي ... وخل لناقتي عنك السبيلا
ستجمع بالمدينة وابن ليلى ... وحكمته التي تشفي الغليلا
وأتى عمر فشكا إليه فبعث إلى راشد ثم قال لبعثر: اضربه كما ضربك، فضربه ثم أتى راشد بإهاب فلبسه فقال بعثر:
__________
[1] أي حتى لو أشرفوا على الهلاك وطال همهم وسقمهم. القاموس.(8/141)
رأيت أخا الصفاء أبا علي ... يعاتبني ويدرع الإهابا
يقول ظلمتني وأقول كل ... أصاب إلى أخيه ما أصابا
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَن الوليد بْن مُسْلِم عمن سمع عمر بن عبد العزيز يقول: ما كذبت مذ عرفت أن الكذب يضر بأهله.
وقال أبو اليقظان: ثنا جويرية بن أسماء عن إسماعيل بن أبي حكيم كاتب عمر بن عبد العزيز، وهو مولى لآل الزبير قال: ما كتبت له قط في أكثر من شبر حتى خرج من الدنيا.
وقال أبو اليقظان: لما قدم عمر المدينة واليا عليها، دخلت عليه قريش، فقال أبان بن عثمان بن عفان: قد أتاكم أمير مضطلع بأمره.
وقال أبو اليقظان، ثنا جويرية بن أسماء عن إسماعيل قال: قال عمر: ما تركت من الدنيا شيئا تتوق إليه نفسي إلا البراذين فإني كنت أجد لها تحت ذي وطاء لا أجده لغيرها من المراكب.
حدثنا محمد بن مصفى الحمصي عن أبيه قال: لما ولي عمر بن عبد العزيز كتب إليه سابق البريري أو أنشده:
باسم الذي أنزلت من عنده السور ... والحمد لله أما بعد يا عمر
إن كنت تعلم ما تأتي وما تذر ... فكن على حذر قد ينفع الحذر
واصبر على القدر المجلوب وارض به ... وإن أتاك بما لا تشتهي القدر
فما صفا لامرئ عيش يسر به ... إلا سيتبع يوما صفوه كدر
في أبيات.(8/142)
قالوا: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي: إياك والمزاح، فإنه يذهب بالمروءة، وينبت الضغائن. وقال عمر بن عبد العزيز: قال عمر بن الخطاب: الرأي كثير والحزم قليل.
وقال أبو اليقظان عن جويرية: غضب عمر بن عبد العزيز فقال ابنه عبد الملك: أتغضب في قدرك وموضعك الذي وضعك الله به؟ فقال:
أو ما تغضب أنت يا عبد الملك؟ فقال: فما ينفعني سعة جوفي إذا أنا لم أردد الغضب فيه حتى يسكن. فتبسم عمر.
فلما حضرت عبد الملك بن عمر الوفاة قال له عمر: كيف تجدك يا بني؟ قال: أجدني في الموت فاتق الله يا أبه واصبر. فقال: يا بني ما خلق الله عينا تطرف أحب إلي ولا أعز علي منك، ولأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك.
فقال: يا أبه. ولأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب.
فمات يوم خميس، فخرج عمر في جنازته وقد اكتحل وسرح لحيته وقال:
أحببت أن أرغم الشيطان. وقال: الذي نزل بعبد الملك أمر كنا نتوقعه، فلما أتى لم ننكره.
وقال كثير:
وحض الذي ولى على البر والتقى ... ولم يهمم الباقي بأن يتخشعا
ولو نزلت مثل الذي نزلت به ... بركن شديد من أجأ لتصدعا
فأصبحت كالمبقي له بعض نفسه ... عياضا وبعض قد تولى فودّعا [1]
__________
[1] ديوان كثير ص 113، وفيه البيتين الأول والثاني فقط.(8/143)
فلما كان يوم الجمعة صعد المنبر فقال: الحمد لله على ما أعطى والحمد لله على ما بقى، والحمد لله على ما أخذ. ثم كتب إلى جميع عماله:
عدي بن أرطاة الفزاري وغيره: «إن الله وهب عبد الملك بن عمر فمتعني به ما شاء أن يمتعني به، ثم قبضه إليه، فأعوذ بالله أن تكون لي مشيئة في غير ما أحب الله، فإذا جاءك كتابي هذا فلا أعلمن ما بكي عليه قبلك، وأكثر من الاستغفار له إن شاء الله، والسلام» .
وقال سحيم بن حفص: قام عمر على قبر ابنه حين دفنه فقال:
رحمك الله إن كنت لتسرني حيا فأنا بك اليوم أسر، فرحم الله من قال:
رحمك الله يا عبد الملك.
المدائني عن سحيم أن عبد الملك قال لعمر أبيه: يا أبه لعله يمنعك أن تقوم بالحق مخافة هؤلاء- يعني بني مروان- فو الله لوددت أن القدور تغلي بنا وبهم. فقال: يا بني صبرا فإن الخمر كانت محرمة عند الله، فأنزل فيها آيتين قبل أن ينزل تحريمها.
وقال أبو اليقظان: بلغ عمر عن ابنه عبد الملك أمر كرهة فكتب إليه: «بلغني عنك بعض ما أكره، ولو كنت تقدمت إليك فيه لأتاك مني ما تكرهه، واذكر أن أباك كان عند أبيه مطرحا يفضل عليه الكبير ويؤثر عليه الصغير، واذكر أن أمك كانت أمة من الأعاجم وليست من خيارهم، فلئن عدت ليأتينك مني ما لا تحب إن شاء الله» .
وقال عمر بن عبد العزيز: إنه لا عمل لمن لا نية له، ولا أجر لمن لا خشية له، وإن أيمن أحدكم وأشأمه لسانه، فمن حفظ لسانه أراح نفسه وسلم المسلمون منه، وإن قوما صحبوا سلاطينهم بغير ما يحق عليهم فعاشوا(8/144)
بخلافهم وأكلوا بألسنتهم وخلبوا الأمة بالمكر والخيانة والخديعة، ألا إن كل ذلك في النار، ألا فلا يقربنا من أولئك أحد لا سيما خالد بن صفوان وخالد بن عبد الله.
المدائني قال: قال عمر بن عبد العزيز لمعلمه: كيف كانت طاعتي لك وأنت تعلمني؟ قال: أحسن طاعة. قال: فقد ينبغي أن تطيعني كما كنت أطيعك، خذ من شاربك حتى تبدو شفتاك، وخذ من قميصك حتى تبدو عقباك.
حدثني عبد الواحد بن غياث البصري عن جويرية بن أسماء قال:
كتاب أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْمٍ إلى عمر ثلاثة كتب فأجابه عنها في كتاب واحد إليه: «إن من كان قبلي من أمراء المدينة كانت تجري عليهم أرزاق للشمع، فإن رأى أمير المؤمنين أن يجريها لي فليفعل» .
وكتب إليه: «إن مسجد بني عدي بن النجار، أخوال رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استهدم فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر ببنائه فليفعل» .
وكتب إليه إن قوما من الأنصار قد بلغوا أسنانا ولم يبلغ عطاؤهم الشرف فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر بإثباتهم في شرف العطاء فليفعل» .
فافتض عمر كتبه ثم كتب: «أما ما ذكرت من أمر الشمع فطالما مشيت في طرق المدينة في الليلة الظلماء، وأنت لا يمشى بين يديك بشمع، ولا يمشي خلفك رجال قريش والأنصار.
وأما مسجد بني عدي فقد كنت أحب أن أخرج من الدنيا ولم أضع لبنة على لبنة ولا آجرة على آجرة، فابنه واقتصد في النفقة.(8/145)
وأما ما ذكرت من أمر الرجال الذين بلغوا سنا ولم يبلغ عطاؤهم الشرف، فإنما الشرف شرف الآخرة، والسلام» .
المدائني عن مسلمة أن عدي بن أرطاة كتب إلى عمر: «إن قوما من أهل الذمة تعوذوا بالإسلام مخافة الجزية، فليكتب إلي أمير المؤمنين فيهم برأيه» ؟
فكتب إليه: «إن الله بعث نبيه صلى الله عليه وسلم داعيا ولم يبعثه جابيا فمن دخل في المسلمين فله ما لهم وعليه ما عليهم، فانظر من كان من أهل الذمة فأظهر الإسلام واختتن وقرأ سورا من القرآن، فأسقط الجزية عنه إن شاء الله والسلام» .
المدائني وغيره قالوا: كتب عمر إلى عدي: «أما بعد فما بقاء الدين مع وسوسة الشيطان، وجفوة السلطان، فأعط كل ذي حق حقه والسلام» .
حدثني إسماعيل بن أبي زيد الأنطاكي، أخو ثمامة الكاتب، قال:
حدثني شيخ لنا قال: أصابت الناس زلزلة، فكتب عمر: أما بعد فإن الله ذو قدرة غالبة وعزّ قاهر، يعفو عمن يشاء، ويؤاخذ من أراد، وإن هذه الرجفة عتاب من الله لخلقه، فاعتبوه بطاعته، وخافوا عقابه، فإنه يقول:
(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ. أو أمن أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ. أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ الله إلا القوم الخاسرون) [1] .
__________
[1] سورة الأعراف- الآيات: 97- 99.(8/146)
وحدثنا الْحُسَيْن بْن علي الأسود العجلي عَنْ يَحْيَى بْن آدم عن فضيل بن عياض قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عدي بن أرطاة: «أما بعد فإن الله سبحانه وبحمده إنما جعل الجزية على من رغب عن الإسلام غيا وخسرانا، فانظر من كان قبلك من أهل الذمة ممن كبرت سنه، وضعفت قوته، وولت محاسنه فأجر عليه قوته من بيت مال المسلمين والسلام» .
حدثني الحسين عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَن عَبْد اللَّهِ بْن المبارك عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قال: كتب عمر بن عبد العزيز: «من غلب الماء على شيء فهو له» [1] .
حدثني الحسين بن علي الأسود، ثنا محمد بن يزيد العقدي عن محمد بن طلحة عن داود بن سليمان أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: «أما بعد فإن أهل الكوفة قد أصابهم بلاء وشدة، وجور في الأحكام، وسنن سنها عليهم عمال السوء، وإن قوام الدين، وصلاح الرعية العدل والإحسان، فلا يكونن شيء أهم إليك من نفسك حتى توطنها بطاعة الله، وأنا آمرك أن توظف عليهم خراجهم ولا تحمل خرابا على عامر، ولا عامر على خراب، وخذ من الخراب ما أطاق وأصلحه حتى يعمر، ولا تأخذ من العامر إلا وظيفة الخراج في رفق وتسهيل من غير عنف وإرهاق لأهل الأرض ولا تأخذ في الخراج إلا وزن سبعة ليس فيها آيين [2] ، ولا أجور الصرافين، ولا هدايا النوروز والمهرجان، ولا دراهم
__________
[1] الخراج ليحيى بن آدم ص 92.
[2] الآيين: الرسم أو العادة، أو الدأب، أو المتداول أو التشريفات. المعجم الذهبي، فارسي عربي.(8/147)
النكاح، ولا ثمن الصحف، ولا أجر البيوت، ولا أجور الفيوج [1] ، ولا خراج من أسلم من أهل الذمة، ولا تعجل دوني بقتل ولا قطع، والسلام» .
قالوا: وكتب عمر إلى العمال: «أما بعد: فإنه كان في الناس من أهل هذا الشراب أمر ساءت فيه رعيتهم حتى بلغت بهم إصابة الدم الحرام، والمال الحرام، والفرج الحرام، وهم يقولون: شربنا شرابا لا باس به، وإن شرابا حمل على هذه المحارم لعظيم البلاء كثير الإثم، وقد جعل الله المندوحة والسعة في أشربة ليس في الأنفس منها حاكة [2] ، ولا ريب الماء الفرات واللبن العذب والعسل الماذي والسويق، وفي أشربة كثيرة من نبيذ التمر والزبيب المنبوذ في أسقية الأدم التي لازفت فيها، فإنه بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه [نهى عن نبيذ الظروف المزفتة وعن الدباء والحنتم،] وقيل كل مسكر حرام، فاستغنوا بما أحل الله عما حرم، فإنه من شرب بعد تقدمنا إليه من هذه الأشربة المكروهة أوجعناه عقوبة، ومن استخفى عنا فالله أشد بأسا وأشد تنكيلا، وقد أردت بكتابي إليكم اتخاذ الحجة عليكم في اليوم وما بعده، نسأل الله أن يزيد المهتدي منا ومنكم هدى وأن يقبل بالمسيء منا ومنكم إلى التوبة في يسر منه وعافية، والسلام» .
المدائني عن خالد بن يزيد عن أبيه قال: أغلظ رجل لعمر بن عبد العزيز فأمر بتجريده ثم قال: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس) [3] خلّوا سبيله.
__________
[1] الفيوج: الرسل.
[2] أي شك. القاموس.
[3] سورة آل عمران- الآية: 134.(8/148)
المدائني قال: أبلغ رجل عمر كلاما عن رجل غاظه فهم بعقوبته ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منه اليوم ما ينال مني في مثله غدا، خلوا سبيله.
المدائني عَنِ المبارك بْن فضالة قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عدي بْن أرطاة: «أما بعد فإني كنت كتبت إِلَى عَمْرو بْن عَبْد اللَّهِ أن يقسم ما وجد بعمان من عشور الحب والتمر في فقراء أهلها، ومن سقط إليها من أهل البادية وإضافته إليها أهل الحاجة والمسكنة وانقطاع السبل، فكتب إِلَى أنه سأل عاملك قبله عن ذلك الطعام والتمر فذكر أنه قَدْ باعه وحمل إليك ثمنه، فأردد إِلَى عَمْرو ما كان عاملك حمل إليك من ثمن التمر والحب ليضعه في المواضع التي أمرته بوضعه فيها، ويصرفه إليها إن شاء الله، والسلام» .
المدائني قال: قدم يزيد بن المهلب أخاه إلى خراسان فحبس وكيع بن أبي سود، فبكى فقيل له: أتبكي يا أبا مطرف جزعا من الحبس؟ فقال:
وددت أني ويزيد بن المهلب، وسليمان بن عبد الملك في النار فلعن الله أجزعنا، ولكني أبكي لأني قتلت قتيبة ثم يعزلني ابن العبسية، ويولي يزيد.
فلما ولي عمر بن عبد العزيز بلغه ذلك فقال: لوكيع على جفائه خير من يزيد بن المهلب، على أنه لا خير في واحد منهما.
قال المدائني: لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة وولى عدي بْن أرطاة الفزاري البصرة أراد أن ينشئ غرفًا فوق دار الإمارة، فكتب إليه عمر:(8/149)
«هبلتك أمك يا بن أم عدي، أيعجز عنك منزل وسع زيادا وآل زياد» ؟.
فأمسك عدي.
حَدَّثَنَا بَسَّامٌ الْجَمَّالُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عن أيوب أن قتيلًا وجد بالبصرة في بني نمير فكتب فيه إلى سليمان بن عبد الملك، فكتب إلى عامله «أن استحلف خمسين رجلًا على قاتله، فإن حلفوا فأقده» . فلم يفعل حتى ولي عمر بن عبد العزيز، فكتب إلى عمر في أمره فكتب: «إن شهد على قاتله عدلان فاقتله، وإلا فلا تقتله» .
المدائني عن عبيس بن بيهس قال: جاء رجل من بني عزيز بن ثعلبة بن يربوع إلى عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين اسقني سقاك الله. قال: أين؟. قال: بالخرنق [1] فإنه طريق لا يطؤه الناس ولا يتطرقونه.
فكتب عمر إلى عدي بن أرطاة: «أما بعد: فإن رجلًا من بني ثعلبة بن يربوع يقال له فلان استحفرني بالخرنق فاحفره، ومن جاءك من أسود الناس وأبيضهم يستحفرك فأحفره، واشترط أن ابن السبيل أول ريان، وأن حريم البئر طول رشائها، والسلام» .
قالوا: وكتب عمر إلى عدي: «أما بعد فاستوص بمن في سجون أرضك خيرا، ولا تصيبنهم ضيعه، وأقم لهم ما يصلحهم من الطعام والأدام من مال الصدقة إن شاء الله» .
__________
[1] الخرنق: موضع بين مكة والبصرة. معجم البلدان.(8/150)
وكتب إلى عدي: «أما بعد فما كان عندك من لقطة فحال عليها الحول فأخرج ما يجب فيها من الصدقة فضعه في أهل المسكنة والحاجة، ما كانت عندك، حتى يجيء لها طالب، وليكن ذلك شأنك وشأنها حتى يبقى منها ما لا تجب فيه الصدقة إن شاء الله، والسلام» .
وكتب عمر إلى بعض عماله: «أما بعد فقد بلغني أن كثيرا ممن قبلك من أهل الذمة قد لبسوا العمائم وتشبهوا بالمسلمين في زيهم، فامنعهم من ذلك أشد المنع، وخذهم بأن يحلقوا أوساط رؤوسهم، إن شاء الله، والسلام» .
المدائني قال: وعظ عمر بن عبد العزيز قوما من أهل بيته، فقال مسلمة: جزاك الله يا أمير المؤمنين خيرا، فلقد ألنت منا قلوبا قاسية، وأبكيت عيونا جامدة، وأحييت لنا في الصالحين شرفا وذكرا.
المدائني قال: خطب عمر فقال: أيها الناس أصلحوا من سرائركم تصلح علانيتكم، واعملوا لآخرتكم تكفوا أمر دنياكم، فإنّ امرأ ليس بينه وبين آدم أب حي لمعرق له في الموت.
شريح عن إسماعيل بن علية أن صالح بن عبد الرحمن بعث توبة العنبري إلى سليمان في أمر فقال: إذا فرغت من أمر سليمان فائت عمر بن عبد العزيز فاعرض عليه الحوائج. فلما أتى قال: عليك بتقوى الله وما يبقى لك عند الله فإن الذي يبقى لك عنده باق عند الناس والذي لا يبقى لك عند الله غير باق لك عند الناس. فأبلغ ذلك صالحا فقال: أسمعتم قط بكلام أحسن من هذا؟(8/151)
المدائني عن موسى بن يزيد عن عمه قال: قال هشام لرجاء بن حيوة: ألست صاحب عمر يوم ناجيته في الدار وقد توفي سليمان؟ فقال:
يا أمير المؤمنين، والله ما دعاني ولا ناجاني إلا في صرف الخلافه عنه. فقال هشام: رحم الله أبا حفص كان في أمر وكنا في غيره.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ مسلمة بن عبد الملك لعمر:
ألا توصي ببنيك؟ قال: أوصي بهم الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
المدائني قال: قال عبد الملك بن مروان يوم احتضر:
إن بني صبية صغار ... أفلح من كان له كبار
إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كان له ربعيون
فقال عمر بن عبد العزيز وكان عنده: (أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [1] .
قال: وكتب عمر إلى الناس: «أما بعد فإن صدقة الفطر سنة مؤكدة، فأدوا صدقة الفطر عن أهليكم: حرهم ومملوكهم، صغيرهم، وكبيرهم، وليكن ما تؤدون عن كل رأس صاعا من شعير أو تمر، أو نصف صاع من بر ليقسم عاملكم ذلك في أهل المسكنة والحاجة من الحاضرة دون أهل البادية إن شاء الله، والسلام» .
قالوا: وكتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز: «إن قوما من أهل الخراج كانوا إذا أرادوا كسر خراجهم جلوا من أرض إلى
__________
[1] سورة الأعلى- الآيتان- 14- 15.(8/152)
أخرى، وإني أمرت أن تجعل أرض من جلا صافية، وأرجو أن يتركوا بذلك عادتهم إن شاء الله» .
فكتب إليه عمر: «أما بعد فقد بلغني كتابك، ولعمري لئن لم تدع رجلًا خرج من أرض إلى أرض ومن قرية إلى قرية إلا أخذت أرضه ثم عزلت أم مت لينقطعن صاحب الأرض عنها وتبوء بإثمه، وما يجلو رجل عن أرضه إلا بأن يحمل فوق طاقته، فإياك أن تعمل وعمالك بعمل ابن يوسف وعماله، فإنهم كانوا مفسدين وقد قضى الله بأنه لا يصلح عمل المفسدين، وتألف أهل الأرض فإن أرضيهم وبلادهم أحب إليهم من الجلاء إذا عدل عليهم ورفق بهم إن شاء الله والسلام» .
المدائني عن بقية بن عبد الرحمن عن أبيه قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى بعض إخوانه: «أوصيك بتقوى الله الذي ابتدأك بإحسانه واحتج عليك بأنبيائه وبرهانه، فإنك مختبر بما كلفت، ومرتهن بما عملت، وكأن قد وافيت مضجعك، وطالعت مرجعك، واضمحلت عنك الدنيا، ثم بعثت يوم النشور، ووقفت بين يدي الملك القدير ليجزيك بما كدحت، ويسألك عما اجترحت. فاعمل بدنك فيما ينجيك، ودع عنك ما لا يعنيك، فإن الدنيا قد أدبرت، وإن أمورها قد تكدرت، وقد رأيت من تقلب أحوالها وتصرف أمورها ما فيه معتبر وموعظة لمن أبصر، أعاننا الله وإياك على تقواه، وألهمنا وإياك رضاه، تعاهدني يا أخي بكتابك فإن الكتب من الإخوان تديم الود والعهد، وتدعو إلى التواصل والتناصح، ولا قوة إلا بالله» . وقال بعضهم: إن الرجل كتب إلى عمر بهذا الكتاب.(8/153)
وقال محمد بن مصفى الحمصي: كتب عمر إلى الجراح الحكمي أو غيره من عماله: «أما بعد، فإذا قدرت على عقوبة العباد، فاذكر قدرة الله عليك، فاعف له ما لم يكن في العفو مفسدة في الدين واستخراج من القوم المذنبين، فإنك بالله تعز، واليه ترجع» .
المدائني قال: كتب عمر إلى أبي أمامة الحمصي يعزيه بابن له استشهد: «أما بعد: فالحمد لله على آلائه وقضائه، وقد بلغني الذي ساق الله إلى عبد الله بن أبي أمامة من الشهادة، فقد عاش في الدنيا مأمونا وأفضى إلى الآخرة شهيدا، فقد فاز بما خص الله به الشهداء من الفضيلة والكرامة، فليس شيء نعلمه وإن عظم خطره وجل ثوابه أعظم عند الله تبارك وتعالى وعند عباده الذين أوتوا العلم والفهم من الشهادة، فمن خصه الله بها فقد أفلح وأنجح وربح، ووسمه الله سمة الأبرار، فهو في جوار الله وتحت عرشه قد انقطعت عنه مرارة الدنيا وعلاجها، وصار إلى عيش الأخرة وحبورها، نسأل الله الذي بيده نواصي العباد أن يرزقنا وإياكم الشهادة والسعادة بقدرته والسلام» .
حدثنا عمرو الناقد وأبو عبيد القاسم بن سلام قالا: ثنا محمد بن يزيد الواسطي، أنبأنا سفيان بن حسين أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه فترك نقط سين «بسم الله» وتبيينها، فأشخصه إليه فقال الناس: فيم أشخص فلان؟ فقيل: أشخص في سين، فعلقها الناس.
المدائني عن مسلمة قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عماله: «أما بعد فإن الصلاة أحق ما تعهده المرء من نفسه، ومن ولاه الله أمره. فأقيموا الصلاة في بيوتكم ومساجدكم لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها، وترتيل(8/154)
ما تقرأون من القرآن فيها، فإن الله جعلها (عَلَى المؤمنين كتابا موقوتا [1] ، وتعهدوا الناس في الزكاة وحضوهم عليها، فإن من أداها أجر، ومن استخف بحقها وبذر كانت حجة عليه، نسأل الله أن يجعلنا مطيعين له مجتهدين في مرضاته، والسلام» .
وكتب عمر إلى عدي بن أرطاة: «أما بعد فقد أتاني كتابك تسأل عن القضاء بين الناس، والقضاء بين الناس باتباع ما في كتاب الله، ثم ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ما حكم به أئمة الهدى، ثم استشارة ذوي الرأي والعلم، فما أتاك من الحكم فلم تجده في الكتاب نصا، ولا في السنة رواية، ولا أخبرك به مخبر عن الأئمة الأبرار، فسل عنه أهل العفة والمعرفة، ثم احكم بالعدل، ولا تؤثر أحدا على أحد، إن شاء الله.
وسألت عن ميراث رجل وهب ولاءه أو باعه غير مستكره فإن الولاء لمن أعتق، لا يباع ولا يوهب، وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم [أن الولاء لمن أعتق] .
وسألت عن الكافر يعتقه المسلم فهو مولى للمسلم، وميراثه راجع إلى بيت المال، لأنه لا يتوارث أهل ملتين، ويعقل عنه إذا جنى من مال الله.
وسألت عن المرأة ترمي الرجل بنفسها أو يوجد معها وليس معهما أحد سواهما، والرجل جاحد وقد اتهم وأظن، وأن الحدود لا تقام إلا بالبينات أو الاعتراف، فاجلد من أخذته على ذلك جلد النكال على غير حد، ولا تقم الحدود بالتهم فإنها تدرأ بالشبهات، وما ستر الله عباده فاسترهم
__________
[1] سورة النساء- الآية: 103.(8/155)
به، واعلم أنك متمسك بالعدل ما أزلت الشك بالبينة، والشهود والعدول، والسلام» .
قالوا: وكتب عمر إلى عدي بن أرطاة: «أما بعد: فاحص أهل المسكنة بالبصرة، واكتب إلي بعدتهم إن شاء الله» . فأحصاهم فبلغوا ثلاثين ألفا وتسعمائة وخمسة عشر إنسانا، فكتب إلى عدي يأمره أن يعطي كل إنسان جريبا في كل شهر من طعام كسكر والسواد إذا قدم عليه بالطعام» .
قال: وجه عمر جيشا إلى الروم فمشى معهم ثم ودعهم وقال: اتقوا الله وقاتلوا أعداءه ابتغاء ثواب الآخرة، فإن الأجر للصابرين (فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [1] .
وَحَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ قَالَ: بلغنا عَن عمر بن عبد العزيز أَنَّهُ قَالَ: التقى مفحم ملجم.
حدثنا سعيد بن سليمان عَنِ المبارك بْن فضالة قَالَ: كتب عُمَر بن عبد العزيز إلى عامل له: «أمت كل بدعة، وأحي كل سنة من سنن الإسلام، وشريعة من شرائعه، ولا تأخذنك في الله لومة لائم» .
المدائني عن المبارك بن سلام عن مجالد أن عاملا لعمر بن عبد العزيز كتب إليه يستأذنه في عذاب العمال، والبسط عليهم، ويذكر مقاسمة عمر بن الخطاب عماله، فكتب إليه: «قد فهمت كتابك ولم تعلمني عن مقاسمة عمر عماله شيئا إلا وقد علمته، ولعمري لغير ما استأمرتني فيه من أمر العمال أجمل في عاجل الأمر، وأسرع في درك البغية مما كان ابن يوسف
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 177.(8/156)
وابن أبي مسلم، وصالح بن عبد الرحمن يفعلونه من العذاب بالجوامع، والمحبس الضنك، وسوء المطعم والمشرب، وغلظ الملبس، وفر من ذلك أشد الفرار، وانظر من كان في السجون في وثاق أو في مطعم سوء ومشرب سوء، فنفس عنهم وأطلقهم، وأحسن أسار من أسرت، وليس رأيي في العمال إلا محاسبتهم فيما ولوا فمن أدركنا عليه حقا أخذناه به، ومن لم ندركه عليه خلينا سبيله حتى يحكم الله فينا وفيهم بما شاء والسلام» .
وقالوا: كتب عمر بن عبد العزيز إلى بعض عماله: «كتبت تسال عن الرجل من الموالي يكون له ذوو رحم لهم عدد، وله مال يرثونه دون مواليه فيحدث حدثا، أيكون عقله عليهم دون مواليه، وإن الموالي لا يحملون العقل، والموالي ثلاثة: مولى رحم، ومولى عتاقة يورث ولا يرث ومولى عقل لا يرث ولا يورث وميراثه لعصبة رحمه» .
حدثنا عفان بن مسلم، ثنا جرير بن حازم قال: قرأت كتاب عمر إلى عدي: «أما بعد فقد بلغني كتابك تسأل عن شهادة الأربع النسوة المرضيات أتجيزها أم لا، وكتبت تسال عن العبد يقذف الحر، وذكرت أنه بلغك أني كنت أضربه في عملي على المدينة أربعين جلدة، ثم جلدته في آخر عملي ثمانين، وإن جلدي الأول كان رأيا رأيته، وإن جلدي الآخر وافق ما في كتاب الله لأن الله يقول: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شهداء فاجلدوهم ثمانين جلده) [1] لم يسمّ فيها حرا ولا مملوكا، فاجلده ثمانين.
__________
[1] سورة النور- الآية: 4.(8/157)
فأما شهادة النسوة الأربع فإني لم أسمع في الكتاب بشهادة خلصت فيها نساء إلا ومعهن رجل فانته من الأمر إلى ما تعرف، ودع ما تنكر، واعلم أنّ أحدا لا يستطيع إنفاذ حقوق الناس بينهم حتى لا يبقى منها شيء، ولا بد من أن تستأخر قضايا كثيرة إلى يوم الحساب، والسلام» .
حدثني عمر بن شبه، ثنا عمرو بْن عاصم عَنْ حماد بْن سلمة عن حميد أن رجلًا اختلس طوقا من عنق جارية فارتفعوا إلى عدي بن أرطاة، فسأل عدي الحسن [1] فقال: لا تقطعه. وقال إياس بن معاوية بن قرة: اقطعه.
فكتب عدي بذلك إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب عمر: «إن العرب كانت تسمي هذا: العادي، فاجلده، واستودعه الحبس» .
حدثني خلف بن هشام البزار، ثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أبي النجود أن عدي بن أرطاة كتب إلى عمر: «إني أخذت رجلًا يسبك فهممت بقتله، ورفع إلي رجل قتل في السوق فاتهم به فساق من فساق أهل البصرة، ولم تقم عليهم البينة» ؟
فكتب إليه: «أنظر القتيل فده من بيت مال المسلمين، وانظر الفساق فاحبسهم عن المسلمين، وأنفق عليهم من بيت المال، وانظر الذي سبني فسبّه، وإلا فخلّ سبيله، فو الله لو كنت قتلته لقتلتك به» .
حدثني منصور بن مزاحم عن شعيب بن صفوان قال: استبطأ عمر بن عبد العزيز عديا في بعض الأمر، فكتب إليه: «إنك غررتني يا بن أم عدي بعمامتك السوداء» .
المدائني عن عبد الله بن سلم أن عدي بن أرطاة خطب فشتم عليا
__________
[1] الحسن البصري.(8/158)
ولعنه، فكتب الحسن [1] بذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عدي: «بلغني عنك أنك شتمت عليا ولعنته، ولبئس الرجل أنت، إن فعلت ذلك، وأقدمت عليه، فقبحك الله وترحك، وأنا أقسم لئن عدت لمثلها لأنهكنك عقوبة، ثم لأسيئن عزلك» . فأمسك عدي. فقال الشاعر:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف ... بريئا ولم تقبل مقالة مجرم
حدثني أبو بكر الأعين عن سعيد بن سليمان عن خلف بن خليفة عن أبي هاشم الرماني قال: كتب عدي بن أرطاة إلى عمر: «إن الناس أصابوا خصبا وخيرا كادوا يبطرون له» ، فكتب إليه عمر: «إن الله رضي من أهل الجنة حين دخلوها بأن قالوا: الحمد لله رب العالمين، فمر من قبلك أن يحمدوا الله على ما آتاهم إن شاء الله والسلام» .
المدائني قال: كتب عمر إلى عدي: «أن سل الحسن: ما بال نصارى العرب لا يؤخذ منهم الجزية» ؟ فسأله فقال: اكتب إليه: «إنك متبع ولست بمبتدع، إن عمر رأى في ذلك صلاحا» .
حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، ثنا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ عَنْ عَوْفٍ قَالَ: كَتَبَ عمر إلى عدي: «أن سل الحسن: ما مَنَعَ مَنْ مَضَى مِنَ الأَئِمَّةِ أَنْ يَحُولُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَبَيْنَ مَا يَجْمَعُونَ مِنَ النِّسَاءِ» ؟ فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ: «إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ الْجِزْيَةَ مِنَ مَجُوسِ هَجَرَ، وَأَقَرَّهُمْ عَلَى مَجُوسِيَّتِهِمْ وَمَنَاكِحِهِمْ، وَأَقَرَّهُمْ أَبُو بَكْر، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، رَضِيَ اللَّه عَنْهُمْ» .
حدثني محمد بن أبان الطحان، ثنا أبو هلال الراسبي، ثنا شهر بن حوشب أنه استأذن على عدي بن أرطاة فقال الآذن: إنّ الأمير يقول:
__________
[1] الحسن البصري.(8/159)
لا تأذن له فإنه سبني. فقال له قتادة: إن خادم البيت يخبرك بما في أنفس أهلها، وإن عديا قد أخبرك بما في نفس صاحبه عمر، فلا غفر الله لمن لا يستغفر لهما- يعني عليا وعثمان-.
المدائني عن الفضل بن سويد الضبي قال: كتب عمر إلى عدي:
«أما بعد فإنه بلغني أن قوما قبلك إذا توضئوا رفعوا الطساس من بين أيديهم واحدا واحدا، وذلك من زي العجم، فلا يرفعن طس قبلك حتى يمتلئ أو يفرغ من آخر القوم» .
المدائني عن يزيد بن إبراهيم، عن أيوب قال: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز: «مروا أهل الصلاح يتذاكروا السنن في مجالسهم، ومساجدهم، وأسواقهم» .
المدائني قال: كتب عدي إلى عمر: «إنه قد ذكرت لي امرأة من أهل البصرة أعجبني دينها وموضعها وجمالها، وقد أحببت يا أمير المؤمنين أن تزوجنيها» .
فكتب إليه: «إن كنت أصبت بعدي مالًا، فأهلك الذي صبروا على فقرك أحق بك. وإلا تكن أصبته فإن أجمل بك ألا يكون كما قال ابن دارة:
إن الفزاري لا ينفعك. وأستغفر الله» .
المدائني عن إسحاق المالكي قال: كتب عدي إلى عمر يستأذنه في تزوج هند بنت أسماء، فكتب إليه عمر: «إن الفزاري لا ينفعك، والسلام» . - يريد قول ابن دارة-:(8/160)
لا تأمنن فزاريا خلوت به ... على قلوصك واكننها [1] بأسيار
إن الفزاري لا ينفعك مغتلما ... يواصل الدهر تهدارا بتهدار
عباس بن هشام الكلبي عن أبي مخنف قال: كانت الولاة من بني أمية قبل عمر يشتمون عليا ويلعنونه- فلما ولي عمر بن عبد العزيز أمسك عن ذلك. فقال كثير:
وليت فلم تشتم عليا ولم تخف ... بريئا ولم تتبع مقالة مجرم
تكلمت بالحق المبين وإنما ... تبين آيات الهدى بالتكلم
فصدقت معروف الذي قلت بالذي ... فعلت فأضحى راضيا كل مسلم
ألا إنما يكفي القنا بعد زيغه ... من الأود البادي ثقاف المقوم [2]
فقال عمر حين أنشده هذا الشعر: أفلحنا إذا.
المدائني عن أبي هلال الراسبي عن قتادة قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عدي: «أما بعد فإذا أبردت إلي بريدا فأبرده حسن الاسم حسن المنطق، خفيف اللحية يفهم عني ويفهمني مثل عذام الضبي» .
حدثنا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ عن سفيان عن جعفر بن برقان قال: كتب عمر إلى عدي: «أنظر كل قرية ليسوا بأهل عمود، فمرهم أن يجمعوا» .
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ خليد بن دعلج قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عماله «أن اجعلوا أثمان كبول من تسجنونه من بيت المال، وإيّاكم أن تغرّموهم أثمانها» .
__________
[1] الكن: وقاء كل شيء وستره. القاموس.
[2] ديوان كثير ص 215.(8/161)
المدائني عن أبي هلال قال: كتب عمر إلى عدي: إذا أشكل عليك أمر فسل عنه الحسن بن أبي الحسن» .
المدائني قال: كتب عمر إلى عماله: «إن الله يقول: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [1] أي لا تقاتل من لا يقاتلك من النساء والصبيان والرهبان.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، ثنا أَبُو داود الطيالسي، ثنا أبان بن جمعة، ثنا بكر بن عبد الله قال: كتب عدي بْن أرطاة إِلَى عُمَر بْن عبد العزيز يسأله عن أم الولد إذا زنت وقد ولدت من سيدها، هل تباع؟.
قال: لا تباع وإن بغت.
حدثنا شيبان بن فروخ، ثنا حماد بن سلمة، ثنا قتادة أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عدي بن أرطاة: «إن امرأة المفقود تعتد أربع سنين» .
حدثنا عفان، ثنا حماد بن سلمة، أنبأنا حميد أن رجلًا كاتب عبده واشترط عليه أن له سهما في ميراثه. فسأل عدي إياس بن معاوية، فقال:
السهم في كلاب العرب السدس، فكتب عدي إلى عمر بن عبد العزيز بذلك، فكتب إليه: «إن قضاء الله قبل شرطه. ليس له شيء» .
حدثنا عمر بْن شبه عَن عفان عَن حماد بن سلمه عن حميد أن رجلًا أسلم على يد عبيدة بن أبي عاصم السلمي وترك عشرين ألفا فكتب عدي إلى عمر في ذلك، فكتب: «إن عبيدة أحق بميراثه» .
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 190.(8/162)
حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سلمة عن حميد أن رجلًا من موالي بني جشم قتل رجلًا خطأ، فسأل عدي الحسن عن ذلك، فقال:
لا تعقل العرب عن الموالي، فكتب إلى عمر بذلك فكتب إليه عمر: «إن مولى القوم من أنفسهم، وهم أحق بميراثه، فليعطوا عنه» ، فجعل الدية عليهم.
حَدَّثَنِي هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سلمة عن حميد أن قتيلا وجد بين بني عبس وبني قشير بالبصرة، فكتب فيه عدي إلى عمر، فكتب فيه عمر:
«إن من القضايا قضايا لا يقضى فيها إلى يوم القيامة، وإن هذا منها» .
حدثنا عفان عن حماد بن سلمة عن قتادة أن رجلًا باع امرأة حرة من رجل بأربعمائة درهم، وهربا فوجدا، وإذا ثمنها في هميان [1] في حقوها، فكتب فيها عدي إلى عمر، فكتب عمر: «أن عزرهما، واستودعهما السجن، ولا تقطعهما» .
المدائني عن العباس بن محمد عن أبيه أن عمر كتب إلى بعض عماله:
«أما بعد فإن الله أكرم بالإسلام أهله، ورفع به عنهم الصغار والذلة، فانظر من ادعى الإسلام فشهد أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسوله، وأنه يؤمن بالله وملائكته ورسله، وأن عيسى عبد الله وكلمته ورسوله، إذا كان نصرانيا، وأن عزيزا عبد الله إن كان يهوديا، وحفظ عدد الصلاة وأوقاتها، وقرأ من القرآن فاتحة الكتاب فما زاد، وأحسن الوضوء، ووجدته مختتنا فضع عنه الجزية» .
__________
[1] الهميان: شداد السراويل، ووعاء للدراهم. القاموس.(8/163)
المدائني عن مسلمة وغيره قالوا: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عامل له: «أما بعد فإن الله أكرم بالإسلام أهله وشرفهم وأعزهم، وضرب الذلة والصغار على من خالفهم، وجعلهم خير أمة أخرجت للناس، فلا تولين أمور واحد من المسلمين أحدا من أهل ذمتهم وخراجهم فتنبسط عليهم أيديهم وألسنتهم فتذلهم بعد أن أعزهم الله، وتهينهم بعد أن أكرمهم الله، وتعرّضهم لكيدهم والاستطالة عليهم مع ما لا يؤمن من غشهم إياهم، فإن الله يقول: (لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا ودوا ما عنتّم) [1] .
ويقول: (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أولياء بعض) [2] والسلام» .
المدائني عن مسلمة قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عدي في عزل من كان من العمال من أهل الذمة وأن لا يستعين بهم. فعزل ابن رأس البغل، وابن زاذانفروخ بن بيزي، وأقر زاد مرد بن الهربذ، فكتب إليه في عزله فعزله.
قال: وكتب عمر في إباحة الأحماء ليرعى الناس فيها، وكتب إلى بعض عماله: «كتبت تسأل عن الأسير أيكتب إلى أهله بوصيته وفيها عتق ووصايا، فأجز وصيته وعتقه إذا علم أنه على دينه لم يغيره، وشهد العدول من المسلمين على وصيته» .
__________
[1] سورة آل عمران- الآية: 118.
[2] سورة المائدة- الآية: 51.(8/164)
المدائني قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عدي: «أما بعد فإنه ذكر لي أن رجالًا من أهل الجفاء وقلة الفقه يشترون الطعام ثم يبيعونه قبل أن يقبضوه، ولعمري إن ذلك من الربا الذي لا شك فيه ولا مرية، فإذا جاءك كتابي هذا فامنع من قبلك منه أشد المنع وحذرهم العقوبة عليه أبلغ التحذير، ومن كان عنده من ذلك شيء اشتراه من مسلم فليرده إلى صاحبه، ومن كان منهم على بيع شيء منه فليرفضه، وإن قدرت على أحد منهم فعل ذلك بعد نهيك عنه فأوجعه عقوبة واجعله نكالا لمن رآه وسمع به، إن شاء الله، والسلام» .
حدثني عبد الله بن صالح عن سلام بن مسكين قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عدي وأهل البصرة فنهاهم عن القبالة [1] والصرف دراهم بدراهم إلا مثلا بمثل، ولبس الحرير والتماثيل وعن الأوعية الأربعة: الدباء والنقير والحنتم والمزفت [2] .
المدائني عن عمرو بن ميمون أن عمر كتب إلى عدي- وكان عدي كتب إليه في الرجل يفلس بالمال العظيم، إنه قد كان بعض الفقهاء يرى بيعه-: «قد فهمت كتابك في أمر المفلس فلا يباعن حر، وإن فلس» .
المدائني قال: كتب عمر إلى عدي: «إن رجالا يولون نساءهم الطلاق: فيجعلون أمر نسائهم في أيديهنّ، وإن الله لم يجعل للنساء من
__________
[1] القبالة: الكفالة والضمان. القاموس.
[2] الدباء: القرع، كانوا ينتبذون فيها فتسرع الشدة في الشراب. والحنتم جرار مدهونة خضر كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة. والنقير: أصل النخلة ينقر وسطه ثم ينبذ فيه التمر، ويلقى عليه الماء ليصير نبيذا مسكرا. والمزفت هو الإناء الذي طلي بالزفت، ثم انتبذ فيه. النهاية لابن الأثير.(8/165)
الطلاق شيئا، فأيما رجل جعل أمر امرأته بيدها فاختارت نفسها فواحدة وهو أملك بها، وإن ردت الأمر إليه فليس بشيء» .
حَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة عن هارون بْن معروف عن ضمرة بن ربيعة عن علي بن أبي حملة قال: رأيت يزيد بن المهلب يطاف به في عسكر عمر بن عبد العزيز في محمل وإلى جنبه رجل من الحرس، وهو يقول: ارفع رأسك يا فاسق.
وقال المدائني: حبس عمر يزيد بن المهلب بما كتب به إلى سليمان بن عبد الملك، وحبس عدي إخوة يزيد بالبصرة.
المدائني عن أبي جزي عن داود بن أبي هند قال: كتب بعض عمال عمر إليه في غلام ابن إحدى عشرة سنة افتض جارية ابنه تسع، فكتب عمر إليه: «إن الحدود والنكال لا يكون إلا لمن بلغ الحلم وعلم ماذا له في الإسلام، وماذا عليه. والسلام» .
وكتب عمر في مسلم أسر فتنصر: «أن تزوج امرأته، وتكون في عدتها من حين يبلغها تنصره، ولا يتوارثان، وإن مات هي في عدتها» .
وكتب عمر: «إنه لا قطع على المختلس ولكنه لا يرثي له من طول حبس» .
وكتب عمر إلى بعض عماله: «اجلد القاذف حرا كان أو عبدا ثمانين إذا افتريا، فإن الله يقول: (فاجلدوهم ثمانين جلدة) [1] ولم يسمّ عبدا ولا حرّا» .
__________
[1] سورة النور- الآية: 4.(8/166)
وكتب عمر إلى عدي بن أرطاة: «إنه بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ما نكحت عليه امرأة من صداق فهو لها أو عدة لأهلها قبل أن تنكح فهو لها، وما كان من حباء لأهلها بعد أن تنكح فهو لهم» ] .
المدائني عن شيخ من أهل الجزيرة قال: كتب عمر إلى بعض عماله:
«أما بعد فلا يغلبنك جهل الجاهل بك على علمك بنفسك، فإن من الناس ناسا غرهم الستر وفتنهم حسن الثناء، فأعاذنا الله وإياك من أن نكون مغرورين بستر الله مفتونين بمدح الناس، والسلام» .
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ عَنِ عبد الله بن المبارك عن الأوزاعي عن سليمان بن حبيب قال: شتم رجل رجلًا فادعى شهادة قوم غيب أن ما قال كما قال، فلم يشهدوا له، فقال عمر لسليمان: يا سليمان اضرب وفرق فلا يقع سوط على سوط.
المدائني قال: كتب عمر إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: «إنه لا يقتل رجل شتم رجلًا إلا أن يكون نبيا» .
المدائني قال: دخل أبو مجلز لاحق بن حميد على عمر بن عبد العزيز فلما أخبر بمكانه قال: إني لم أعرفك. قال: فهلا يا أمير المؤمنين إذ لم تعرفني أنكرتني فسألت عني.
حدثني هشام بن عمار قال: قال عمر بن عبد العزيز: إن من الغرة بالله أن يصر العبد على المعصية، ويتمنى على الله المغفرة.
المدائني عن أبي عبد الرحمن التميمي عن عبد الله بن يزيد بن جابر قال: قال رجاء بن حيوة: قال لي سليمان بن عبد الملك في مرضه: إلى من ترى أن أعهد، وله بنون رجال قد بلغوا، أمهاتهم أمهات أولاد، فهم(8/167)
لا يطمعون في الخلافة، وأولاد من المهائر صغار، قلت: يا أمير المؤمنين قد سمعتك تقول ما ورث خليفة ميراثا أفضل من ولي عهد صالح يعمل في الرعية بالعدل بعده.
وخرجت فقام إلي عبد الملك بن أرطاة فقال لي: إلى من عهد أمير المؤمنين؟ قلت: لم يعهد بعد وقد شاورني. قال: هل لك في رجل إن ولي الناس لم ير منه خلل ولا زيغ إن شاء الله؟ قلت: من هو؟ قال: عمر بن عبد العزيز المرضي المأمون. قلت: كنت أريده وقد قوى رأيي وعزمي قولك فيه، فدخلت فأشرت به على سليمان فعهد إليه.
فلما مات واستخلف عمر، خطب الناس فقال: أيها الناس. والله ما سألت الله هذا الأمر في سر ولا علانية، ولا دسست فيه بكلمة، ولا خطوت فيه خطوة فإن شئتم فبيعتكم مردودة عليكم.
فقال هشام بعد ذلك: لقد ندمت يوم قال بيعتكم مردودة عليكم إذ لم أقل: نعم فأقلناها. فبلغ قوله عمر فقال: لو أن الأحول فعل لفعلت، فكان أول ما قضى به رده فدك إلى ما كانت عليه عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال: حدثني عوانة قال: مات سليمان واستخلف عمر بن عبد العزيز فخطب الناس فقال: والله ما أردتها ولا تمنيتها، ولا سعيت لها فاتقوا الله وأعطوا الحق من أنفسكم وردوا المظالم فإني والله ما أصبحت وبي موجدة على أحد من أهل القبلة، إلا على ذي سرف حتى يرده الله إلى قصد، ثم نزل وقد فرشوا له، فترك الفرش وجلس ناحية.(8/168)
وكتب إلى مسلمة وهو بأرض الروم يأمره بالقفول، وأذن للناس بالقفول.
المدائني: قالوا: كتب عمر إلى سالم بن عبد الله بن عمر أن يكتب إليه بسيرة عمر بن الخطاب، فكتب إليه: إن عمر كان في غير زمانك ورجالك فإن قدرت أن تعمل في زمانك عمل عمر كنت أفضل منه.
المدائني عن غياث بن إبراهيم قال: قاد الناس الخيل إلى سليمان بن عبد الملك فمات قبل أن يجريها فاستحيا عمر من الناس فأجرى الخيل التي جمعت، ثم أعطى الناس ولم يخيّب أحدا، ثم لم يجر فرسا حتى مات.
المدائني عن ابن جعدبة قال: ارتد ابن وابصة وأتى الروم، فبعث عمر في فداء من بأيدي الروم من المسلمين رجلًا، فمر في طريق من طرقهم فسمع رجلًا يغني بشعر ابن دارة:
وكائن بالبلاط [1] إلى المصلّى ... إلى أحد إلى ما حاز ريم [2]
إلى الجماء [3] من خد أسيل ... نقي اللون ليس به كلوم
يلومك في تذكرها رجال ... ولو بهم كما بك لم يلوموا
فدخل عليه ودعاه إلى الإسلام فِأبى. ويقال بل أسلم ورجع إلى المدينة. فروى جويرية بن أسماء عن بعض أصحابه أنه رأى جنازة ابن وابصة بالمدينة [4] .
__________
[1] البلاط موضع بالمدينة بين المسجد المقدس وسوق البلد. المغانم المطابة.
[2] اسم واد قرب المدينة. المغانم المطابة.
[3] الجماء جبل بالمدينة، على ثلاثة أميال، من ناحية العقيق، إلى الجرف. المغانم المطابة.
[4] بهامش الأصل: بلغ العرض بالأصل الثالث، ولله الحمد.(8/169)
المدائني قال: قال أبو عاصم: خناصرة من قنسرين، وبها مرض عمر ومات بدير سمعان من أرض حمص. وبين خناصرة ودير سمعان ثلاثون أو أربعون ميلا وهو على تخوم قنسرين.
قالوا: واشترى عمر موضع قبره من نصراني بدير سمعان بأربعين درهما وهو مريض، فقال النصراني: وتعطيني قميصك، فأعطاه إياه.
وعند قبر عمر زيتون.
المدائني عن ابن جعدبة قال: كان ليث بن أبي رقية، وإسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير كاتبين لعمر بن عبد العزيز فدخلا عليه يوما فقال:
يا معشر العلوج أما يستطيع أحدكم إذا غدا أن يسرح لحيته؟.
المدائني عن خالد بن يزيد بن بشر عن أبيه قال: كان من خاصة عمر: ميمون بن مهران، ورجاء بن حيوة، ورياح الباهلي. وكان دون هؤلاء عنده: عون بن عبد الله بن عتبة، ومحمد بن الزبير الحنظلي.
الْمَدَائِنيّ عَن مسلمة بْن محارب قَالَ: خرج بلال بن أبي بردة، وأخوه عبد الله إلى عمر، يختصمان إليه في الأذان في مسجدهم فارتاب بهما فدس إليهما من عرض عليهما ولاية العراق على أن يجعلا له جعلا فقال له بلال: أعطيك مائة ألف درهم، وقال أخوه: أعطيك أكثر من مائة ألف درهم. فأخبر عمر بما بذلا، فقال لهما: الحقا بمصركما.
وكتب إلى عبد الحميد: «لا تول بلالا الشرّ، ولا أحدا من ولد أبي موسى شيئا» . ويقال إنه كتب: «بليل الشر- صغره-» .(8/170)
المدائني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: لما دفن عمر بن عبد العزيز قام غليم أو جويرية من أهله وقد سود ذراعيه فقرأ: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [1] فما بقي أحد حضر إلا بكي.
المدائني عن علي بن مجاهد قال: كتب عمر بن عبد العزيز: «اقطعوا رؤوس التصاوير، ولا تدعون المعلمين يحملون الصبيان إذا حذقوا» [2] .
حدثني عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف قال: قال المنصور أمير المؤمنين: ما ردّ أحد علينا حقنا إلا عمر بن عبد العزيز.
المدائني عن مسلمة بن محارب قال: دخل عنبسة بن سعيد على عمر فقال: يا أمير المؤمنين كان من قبلك من الخلفاء يصلون أرحامنا ويعرفون حقنا، وإنك قد أمسكت عنا فإما أن تصنع بنا ما كانوا يصنعون وإما أن تأذن لنا في اللحاق بأهلنا فنشاهدهم ونصلح من شأنهم. فقال عمر: أما من كان من قبلنا فقد كانوا يفعلون ما ذكرت، وما كان ذلك لهم، وأما ما سألت من الانصراف فهو إليك.
فولى عنبسة فدعاه فظن أنه قد بدا لعمر فيما كلمه به فقال: اذكر الموت فإنك لا تذكره في حال سعة إلا ضاقت عليك ولا تذكره في حال ضيق إلا اتسعت لك.
المدائني قال: قال عمر لابنه: لا تحقرن أحدا، فلعل بعض من تزدريه عينك أقرب إلى الله وسيلة منك.
__________
[1] سورة التكوير- الآية: 1.
[2] حذق الصبي القرآن: تعلمه كله ومهر فيه. القاموس.(8/171)
أبو الحسن المدائني عن أبي بحر الأصبهاني عن أبي سيار قال: اشتريت لعمر بن عبد العزيز ثوبين من خز السوس، ذكر أهل السوس أنهم لم يعملوا مثلها لأحد، فقال لي: ما أخشنهما فلما استخلف اشتريت له ثوب كتان بستة عشر درهما فقال: ما ألينه، فقلت في ذلك فقال: قلت ما قلت يومئذ وأنا في نفسي صادق، وقلت هذا وأنا في نفسي صادق.
وروي أن بلال بن أبي بردة قدم وعليه عمامة سوداء وكان من أطول الناس صلاة فقيل لعمر: ما رأينا أطول من صلاة بلال فلو استعنت به فإنه من أهل بيت لهم قدم في الإسلام، فقال لكاتبه: اعلم لي علمه، فأتاه فقال: إن أمير المؤمنين ذكرك للعراق فما تجعل لي؟ قال: مثلي لا يكلم بهذا. قال: والله لأصرفن عنك الولاية إن لم ترضني. قال: فلك مائة ألف درهم، قال: فاكتب لي رقعة بخطك فإني لا آمن الغدر، فكتب له رقعة وأشهد عليها خاصته. ثم أتى الكاتب عمر بالرقعة فنخس به عمر من الشام، وكتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: «لا تولين أحدًا من آل أبي موسى الأشعري شيئا من العمل، ولا سيما بليل» .
وحدثني عبد الله بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي الْمِقْدَامِ الْقُرَشِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَا نَظَرُكَ إِلَيَّ؟ قُلْتُ: أَعْجَبُ لِمَا حَالَ مِنْ لَوْنِكَ وَنَحَلَ مِنْ جِسْمِكَ.
فَقَالَ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَيْتَنِي يَا مُحَمَّدُ بَعْدَ ثَالِثَةٍ فِي قَبْرِي وَقَدْ سَالَتْ حَدَقَتَايَ عَلَى وَجْنَتَيَّ- أَوْ قَالَ خَدَّيَّ- وَرَأَيْتَ جِلْدِي قَدِ امْتَلأَ صَدِيدًا وَدُودًا وَقَدِ انْشَقَّ بَطْنِي فَبَدَا مَا فِيهِ كُنْتَ لِي أَشَدَّ إِنْكَارًا، حَدِّثْنِي حَدِيثًا سَمِعْتُكَ تُحَدِّثُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: قُلْتُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «إِنَّ(8/172)
أَشْرَفَ الْمَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةُ. اقْتُلُوا الْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ، وَلَوْ كُنْتُمْ فِي صَلاتِكُمْ.] وَمَنْ [نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ فَكَأَنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ، وَإِنَّمَا تَتَجَالَسُونَ بِالأَمَانَةِ،] وَمَنْ [سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَكْرَمَ النَّاسِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ، وَمَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ أَغْنَى النَّاسِ فَلْيَكُنْ بِمَا عِنْدَ اللَّهِ أَوْثَقَ مِنْهُ بِمَا فِي يَدَيْهِ،] [أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرِّ النَّاسِ: مَنْ أَكَلَ وَحْدَهُ وَجَلَدَ عَبْدَهُ، وَمَنَعَ رِفْدَهُ. أَلا] [أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ: مَنْ لا يَقِيلُ عَثْرَةً، وَلا يَقْبَلُ مَعْذِرَةً، وَلا يَغْفِرُ ذَنْبًا] .
[أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ: مَنْ يَبْغَضُ النَّاسَ وَيَبْغَضُونَهُ،] أَلا أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ [ذَلِكَ: الَّذِي يُخَافُ شَرُّهُ وَلا يُرْجَى خَيْرُهُ،] إِنَّ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ قَالَ لِبَنِي [إِسْرَائِيلَ: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تُعَلِّمُوا الْحِكْمَةَ غَيْرَ أَهْلِهَا فَتَظْلِمُوهَا، وَلا تَمْنَعُوهَا أَهْلَهَا فَتَظْلِمُوهُمْ» ] .
قالوا: وأتى رجل نصراني عمر بن عبد العزيز فتظلم من هشام وادعى أن في يده ضيعة، فقال: يا هشام قم مع خصمك. قال: بل أوكل وكيلا بخصومته. قال: لا. فقام فجلس بين يديه، فجعل هشام ينتهر خصمه فقال له عمر: يا أحول عندي تنتهره؟. إن عدت عاقبتك.
فادعى النصراني فقال هشام: ضيعتي وقطيعة أقطعنيها عبد الملك ومعي سجل من الوليد وسليمان. فقال عمر لابنه عبد الملك: يا بني انظر في سجلاته وأمره. فنظر فقال: أرى أمر النصراني قويا، وحجته عالية، وحق الله أولى ما أوثر. فقال عمر: أحرق سجلاته. فأحرقها، ورد على الرجل ضيعته. فلما ولي هشام استؤذن في أخذ الضيعة من يد النصراني فقال: لا تردوا حكما حكم به عمر.(8/173)
المدائني عن أبي يعقوب قال: أجاز عمر بن عبد العزيز عبد الحميد بن عبد الرحمن بعشرة آلاف درهم. قالوا: وكتب عمر إلى سليمان بن أبي كريمة: «إن أحق العباد بإجلال الله وخشيته من ابتلاه بمثل ما ابتلاني به، ولا أحد أشد حسابا ولا أهون على الله مني إن عصيته، فقد ضاق بما أنا فيه ذرعي، فادع الله لي في غزاتك، فإنك بعرض خير وإجابة.
حدثني روح بن عبد المؤمن، ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ قَالَ: نظر عمر إلى رجل يكتب على الأرض: بسم الله الرحمن الرحيم. فنهاه وقال: لا تعد.
المدائني عن إدريس بن قادم عن ميمون بن مهران قال: قال لي عمر: إني وضعت الوليد بن عبد الملك في حفرته ثم نظرت فإذا وجهه أسود، فإذا مت فاكشف عن وجهي. ففعلت فرأيت وجهه أحسن مما كان في أيام تنعمه رضي الله عنه.
المدائني عن عبد الله بن سلم وغيره قال: دخل ناس من بني أمية على عمة لعمر فكلموها في أن تأتي عمر فتسأله أن يجري عليهم ما كان جاريا لهم من الأرزاق، ويقال بل أرادت كلامه في أرزاقها، فلما صارت إليه ظن ما جاءت له فقال لها: إني قد ظننت ظنا فاسمعي ما أصف لك من حالي.
إن اللَّه بعث محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بشيرا ونذيرا، فبلغ رسالات ربه، ثم اختار له ما عنده، فقبضه إليه والناس على منهاج واضح مستقيم، فولي ولاة بعده سلكوا سبيله واهتدوا بهديه، وكان الطريق واحدا، ثم ولي بعد ذلك أقوام اشتقوا من تلك الطريق طرقا مختلفة وانتهى الأمر إلي وقد كادت أعلام تلك الطريق النهجة تدرس فأردت إقامة تلك الأعلام، فضج من ذلك من(8/174)
أخذ يمينا وشمالًا، وثقل عليهم أن يرجعوا عن طريقهم التي سلكوها وسألوني اتباعهم، وفي اتباعهم النار، فما ترين؟ قالت: أرى أنهم أحق أن يتبعوك. ثم قال: حاجتك؟ قالت: ما أنا بذاكرة بعد ما سمعت شيئا.
المدائني عن مسلمة أن عمر بن عبد العزيز قال لعبد الملك ابنه: يا بني إن الشباب عون على مساوئ الأخلاق، فاذكر فضل الله علينا واغتنم فراغ نفسك، وإياك والغفلة عن أمر معادك، فإن الله قد أحسن إلينا في اللطيف والجليل من أمرنا.
المدائني عن عمر بن مجاشع أن مسلمة بن عبد الملك دخل على عمر فدعا عمر بالغداء فأتى بخل وزيت فأكلا، ثم قال: يا أبا سعيد هل تشتهي شيئا أو كنت تأكل شيئا لو أتيت به؟ قال: لا. قال: فأرى ما في يديك من الدنيا لا تقدر على أن تصيب منه من المطعم والمشرب إلا بقدر ما يطيق بدنك فعلام يهلك من أهلك نفسه؟
أبو الحسن المدائني: أن عمر بن عبد العزيز قال: ما أحب أن يهون علي الموت لأنه آخر ما أؤجر عليه.
قال: وقال عمر: لا يكون الرجل تقيا حتى يسلم الناس من لسانه ويده.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ عمر: ما كان الحجاج صاحب دين ولا دنيا، لأن صاحب الدين من لم يسفك الدماء ولم ينتهك المحارم. ثم قدم العراق والخراج كثير دار فما زال بالخرق والاعتداء حتى صار إلى خمسة وعشرين ألف ألف درهم.(8/175)
حدثني هشام بن عمار عن سعيد المري قال: وعظ عمر بن عبد العزيز رجل فقال: «إنك أدركت من الحق رسما قد عفا، وأمرا قد أدبر، فأنت لا ترى شيئا واضحا فتتبعه، فكأنك في بحر تضطرب أمواجه، فاعتصم بحبل الله، واستعن بالله، وعليك بالعدل الذي به تدمغ الباطل وتزهقه» .
المدائني قال: أتي عمر بقوم على شراب وفسق، ومعهم شيخ مسن، فلما رآه عمر حسبه شاهدا فدعاه فقال له: هات بماذا تشهد؟ فقال: إني أصلحك الله مبتلى. فاسترجع عمر وأجلسه مع القوم.
قال: وجاؤوا إلى عمر برجل شتم عثمان فقال له: لم شتمته؟ قال:
لأني أبغضه. قال: أو كلما أبغضت رجلًا شتمته؟ قال: نعم. فضربه عشرين سوطا.
المدائني قال: دخل محمد بن الزبير الحنظلي على عمر بن عبد العزيز فدعا له بغداء فلما وضعت المائدة بين يديه قال عمر:
إذا ما مات ميت من تميم ... فسرّك أن يعيش فجيء بزاد
المدائني عن خالد بن يزيد بن بشر عن أبيه قال: سئل عمر بن عبد العزيز عن علي، وعثمان وأمر الجمل وصفين فقال: «تلك دماء كف الله عنها يدي، فأنا أكره أن أغمس بها لساني» .
حدثني هشام بن عمار عن ابن واقد قال: بلغ صاحب الروم موت عمر بن عبد العزيز فقال: ليس العجب من الرهبان والعباد الذين تعذرت الدنيا عليهم إنما العجب ممن رفض الدنيا وهو يملكها.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ: قَالَ عبد الملك بن عمر لعمر:
ما يمنعك من إنفاذ رأيك في رد المظالم؟ قال: إني أروض الناس رياضة(8/176)
الصعب، فإن أبقاني الله أنفذت رأيي، وإن عجلت بي منيتي، فقد علم الله أني أخاف إن بادهت الناس بما أريد أن يلجوا ويلجئوني إلى السيف، ولا خير في أمر لا يأتي إلا بالسيف.
حدثني هشام بن عمار قال: عزم عمر بن عبد العزيز على أخذ ما في أيدي بني أمية من حقوق الناس، ورده على أهله، فاجتمعوا إليه فكلموه، فقال: إنكم أعطيتم في هذه الدنيا حظا فلا تنسوا حظكم من الله، وإني لأحسب شطر أموال أمة محمد في أيديكم ظلما، والله ما تركت في يد واحد منكم حقا لمسلم ولا معاهد إلا رددته.
المدائني عن المقدمي أن عمر قال لابنه حين استحثه في رد المظالم: أي بني إن نفسي مطيتي، فإن لم أرفق بها لم تبلغني، إن الحقحقة في السير قلما تورد إلى خير.
وقال هشام: بلغني أن عمر بن عبد العزيز قال لمسلمة بن عبد الملك- ورأى عليه حلة يمينة: يا أبا سعيد إن أفضل الاقتصاد ما كان بعد الجدة، وأفضل اللين ما كان في الولاية، وأفضل العفو ما كان بعد القدرة.
المدائني أن رجلًا أتى عمر من مصر فقال له: يا أمير المؤمنين إن عبد العزيز أخذ أرضي ظلما، فقال: وأين أرضك يا عبد الله؟ قال: حلوان.
قال: أعرفها ولي شركاء، وهذا الحاكم بيننا. فمشى عمر إلى القاضي فقضى عليه، فقال عمر: قد انفقنا عليها. قال القاضي: ذلك بما نلتم من غلتها، فقد نلتم منها بمثل نفقتكم. فقال: لو حكمت بغير ذلك ما وليت لي أمرا ابدا، وأمر بردها.(8/177)
المدائني عن إدريس بن قادم قال: قال عمر لميمون بن مهران- ويكنى أبا أيوب، وكان مهران مكاتبا لبني نصر بن معاوية، وكان ميمون مملوكا لامرأة من الأزد من ثمالة يقال لها أم أيمن فأعتقته بالكوفة، ثم تحول إلى الجزيرة في أيام الجماجم-: يا أبا أيوب كيف لي بأعوان أثق بهم وآمنهم؟! قال: يا أمير المؤمنين لا تشغل قلبك بهذا فإنك سوق، وإنما يحمل إلى كل سوق ما ينفق فيه، فإذا عرف الناس أنه لا ينفق عندك إلا الصحيح لم يأتك إلا الصحيح.
المدائني قال: قال عمر بن عبد العزيز: لا تعدم من الأحمق خلتين:
كثرة التلفت وسرعة الإجابة.
وكتب عمر إلى عدي: «أما بعد فلا تسر سيرة الحجاج، فإنه كان بلاء وافق من قوم خطايا» .
قالوا: وكان عمر بن عبد العزيز يتحدث أول الليل، ويسل عن أمور الناس، ويصلي آخره ويقول: إن محادثة الرجال تلقيح لألبابها.
وحدثني أبو عبد الرحمن الجعفي مشدانة عن عبد الله بن المبارك قال:
قال زياد بن أبي زياد مولى ابن أبي ربيعة: دخلت على عمر بن عبد العزيز فترجل لي عن صدر المجلس ثم قال: إذا دخل عليك من لا ترى لك عليه فضلا، فلا تأخذ عليه شرف المجلس.
حدثني محمد بن مصفى قال: بلغنا أن عمر بن عبد العزيز خطر بيده خطرة ثم بكى فقيل له: ما أبكاك؟ قال: ذكرت النار فأشفقت من أن تغل يدي في الآخرة.(8/178)
المدائني قال: حمل إلى عمر مسك فأمر ببيعه، فلما أخرج أخذ عمر بأنفه وقال: هذا للمسلمين وإنما ينتفع بريحه، ولا حاجة لي في الانتفاع بشيء من حق المسلمين.
قالوا: وسابق عمر الخيل بالمدينة، وكان فيها فرس لمحمد بْن طَلْحَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن أبي بكر، وفرس لرجل جعدي فتقدم فرس الجعدي، فجعل يرتجز ويقول:
غاية مجد نصبت يا من لها ... نحن حويناها وكنا أهلها
لو ترسل الطير لجئنا قبلها
فلم ينشب أن سبقه فرس ابن طلحة فقال عمر: سبقك والله ابن السباق إلى الخيرات.
المدائني عن مسلمة بْن محارب وغيره قَالُوا: بعث عدي بن أرطاة إلى عمر رسولا من بني تميم بقتل الخوارج الذين خرجوا في مسجد الحرورية فقتلوا، وبهم سمي مسجد الحرورية، فقال للتميمي: ممن أنت؟ قال:
من بني تميم. قال: جفاء كثير. قال: وخير كثير. فقال عمر: وخير لعمري كثير. ثم قال عمر: من أين خرج هؤلاء؟ قالوا: قدموا من البحرين. قال: إن لهم هناك لسنخا [1] .
قال: ودخل عبد الملك بن أرطاة على عمر فقال: يا أبا خالد جزاك الله عني جزاءك، فقد جعلتني غرضا للحتوف، ودريئة للبلايا. فقال:
__________
[1] السناخة: الريح المنتنة، والوسخ، وآثار الدباغ. القاموس.(8/179)
يا أمير المؤمنين لا تجزع فإن الله إن علم منك الاجتهاد في النية، والقسم بالسوية، والعدل في الرعية، شكر سعيك، وولي أمرك.
وحدثني الْعُمَرِيُّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَوَانَةَ قال: دخل ميمون بن مهران على عمر وهو محزون فقال: ما بك يا أمير المؤمنين؟ قال: إني قلدت أمرا عظيما ولم أشاور فيه قبل وقوعه، ولم أطلبه، فقد تفرق علي أمري حتى وددت أن أمي لم تلدني.
المدائني عن ابن جعدبة قال: قال عمر بن عبد العزيز لزياد، وكان عبدا لآل عياش بن أبي ربيعة، فطلبه عمر فأعتقوه، فقدم عليه فقال له:
يا زياد (إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ ربي عذاب يوم عظيم) [1] قال: يا أمير المؤمنين إني لا أخاف عليك أن تخاف، إنما أخاف عليك ألا تخاف. إن آدم أخرج من الجنة بذنب واحد فصيح به في الأمم وذكر في الكتب، فقال الله:
(وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى [2] فالنجاء النجاء يا عمر. وقد روي هذا عن غيره.
قالوا: وأتى عمر رجل فقال: يا أمير المؤمنين جاءت بي الحاجة، ونزعت بي إليك الفاقة، فانتهيت منك إلى الغاية، والله سائلك عن مقامي على عيال قد أعييتهم وأعيوني.
فقال: كيف أعييتهم؟ قال: أعييتهم أن أكسبهم غنى، وأعيوني أن يموتوا. فألحق له عياله وأعطاه نفقته. ويقال ألحق له شطر عياله.
المدائني عن رجل عن الشرقي قال: قدم رجل من البصرة على عمر فشكا إليه عدي بن أرطاة فقال: غرني بعمامته السوداء، قد كتبت إليه: من
__________
[1] سورة الأنعام- الآية: 15.
[2] سورة طه- الآية: 121.(8/180)
جاءك ببينة على حق هو له فسلمه إليه وقد عناك إلي. فكتب إليه بما سأله، وأعطاه نفقة من بيت المال وأعطاه دريهمات من ماله فقال: اشتر بها لحما.
المدائني عن فرات بن السائب عن ميمون قال: قال عمر لمسلمة:
كفني إذا مت بدينار من عطائي فإن ربي إن كان راضيا عني فسيبدلني خيرا منه.
قال: وسأل عمر بن عبد العزيز إسماعيل بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري حوائج فقال: ألم آمركم أن تلحقوا بأمصاركم، لست قاضيا لك حاجة حتى تلحق بمصرك، ودفع عنه، فقال: والله ما كنا ندفع هذا المدفع عن محمد صلى الله عليه وسلم. فوجم عمر ساعة وتغرغرت عينه، ثم قضى حوائجه.
المدائني عن أبي بكر الهذلي قال: قال عمر بن عبد العزيز لابنه عبد الملك: يا بني التمس الرفعة بالتواضع، والشرف بالتقوى وإيّاك والخيلاء، ولا تحقرنّ أحدا فإنك لا تدري لعل بعض من تزدريه عينك أكرم على الله منك، ولا تنس نصيبك من الله ونصيب الناس منك.
قال: ومات عبد الملك وهو ابن تسع عشرة سنة.
حدثني هشام بن عمار قال: بكى عمر بن عبد العزيز فقيل له:
ما يبكيك؟ قال: ذكرت انصراف أقوام كانوا يتقلبون في النعم السابغة، والفضل العظيم في الدنيا إلى النار لا ينالهم الله برحمة منه أبدا.
المدائني عن أيوب عن خالد بن عجلان قال: كان عند فاطمة بنت عبد الملك جوهر فقال لها: من أين صار إليك؟. قالت: أعطانيه أمير المؤمنين- تعني أباها- فقال: إما أن ترديه إلى بيت المال، وإما أن تأذني في فراقك- وكانت امرأته- فإني أكره أن أكون أنا وأنت في بيت وهو عندك.(8/181)
قالت: لا بل أختارك على أضعافه، قال: فضعيه في بيت المال.
فلما ولي يزيد بن عبد الملك قال لها: إن شئت رددته عليك، وإن شئت أعطيتك قيمته.
قالت: أطيب به نفسا في حياته ثم أرجع فيه بعد وفاته، لا حاجة لي فيه، فقسمه يزيد بين ولده، وأهله.
قالوا: وكان عمر بن عبد العزيز يتلو كثيرا وهو جالس للناس:
(أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنَى عَنْهُمْ ما كانوا يمتّعون) [1] يبكي.
المدائني عن يزيد بن قحيف قال: بلغني أن عمر بن عبد العزيز كان يتمثل كثيرا بقول الشاعر:
تسر بما يبلى وتشغل بالهوى ... كما غر باللذات في النوم حالم
نهارك يا مغرور سهو وغفلة ... وليلك نوم والردى لك لازم
ولست إلى الأمر الرشيد بمرعو ... كذلك في الدنيا تعيش البهائم
المدائني عن مسلمة بن عثمان القرشي قال: بلغني أن عمر لما ولي الخلافة نظر إلى ما كان له من عبيد وإماء، ورقيق، ومتاع، ولباس، وعطر، وغير ذلك فأمر به فبيع فبلغ ثمنه ثلاثة وعشرين ألف دينار، فجعل ذلك في السبيل.
المدائني عن أبي إسماعيل الهمداني عن أبيه قال: رأيت عمر بن عبد العزيز وقد ركب يوما وقد بدت ساقه أو ركبته من ضيق أسفل قميصه.
المدائني عن بشر بن عبد الله قال: مشى رجال من بني مروان إلى عمر بن عبد العزيز حين أسرع في بيت المال بما رد من المظالم فقالوا: يا أمير
__________
[1] سورة الشعراء- الآيات: 205- 207.(8/182)
المؤمنين إنك ترد أمرًا وليه غيرك فأمضاه فدعهم وما عملوا، واستقبل أمرك. فقال: والله لوددت أنه لم يبق مظلمة إلا رددتها ثم خرجت نفسي.
المدائني عن عمر بن مجاشع قال: دخل عنبسة بْن سَعِيد بْن العاص بْن أَبِي أحيحة على عمر بن عبد العزيز فسأله حوائج، وبين يديه سراج، يكاد يطفأ مرة ثم يضيء مرة، وفي ناحية الدار كتاب يكتبون وبين أيديهم شمع، فقال: يا أمير المؤمنين لو أمرت بشمعة فوضعت بين يديك.
قال: ذاك للمسلمين تكتب به حوائجهم، وهذا لي وهو يجزيني. ثم قال لعنبسة: يا أبا خالد ألك حاجة؟. فسأله معونة وزيادة في عطائه فقال:
يا عنبسة إن كنت غارما قضينا عنك، وإن كنت محتاجا أعطيناك ما يقيمك ويصلحك، انظر من أين جمعت مالك فإن كان حراما فارفضه وانظر لنفسك قبل يوم يتمنى فيه المفرط الرجعة.
المدائني عن شيخ من قريش قال: كان حميد الأمجي يشرب الخمر وكان منزله أمج [1] فقيل فيه:
حميد الذي أمج داره ... أخو الخمر ذي الشيبة الأصلع
أتاه المشيب على شربها ... وكان كريما فلم ينزع
فقدم على عمر فلما رآه قال:
حميد الذي أمج داره......
قال: يا أمير المؤمنين كذب علي. قال: فاستغفر الله.
__________
[1] أمج من أعراض المدينة. المغانم المطابة، وفيه الشعر بزيادة بيت واحد.(8/183)
حدثنا القاسم بن سلام عن مروان بن معاوية عن توبة بن سالم قَالَ:
كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى عبد الحميد بن عبد الرحمن: «أما بعد: فارفع سوطك عن الناس، وكفى بثلاثين سوطا تضربها الرجل نكالا، إلا في حد» .
حدثني داود بن عبد الحميد عن أبيه قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز أو احتاج إلى عسل، فقيل له ابعث رجلا على البريد إلى قرية كذا ليأتيك به فقال: ما كان الله ليراني اشغل جناح المسلمين أو قال جناحا من أجنحة المسلمين في شهوة أشتهيها.
حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن جده قال: كتب عمر إِلَى عَبْد الحميد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن زَيْد بن الخطاب عامله على الكوفة: «أما بعد فقد بلغني أنّ من قبلك يسبّون الحجاج، فانْهم عن ذلك، فإنه بلغني أن المظلوم يدعو على الظالم، فيكون المظلوم ظالما والظالم مظلوما» .
حدثني بكر بن الهيثم، ثنا أبو حذيفة، ثنا سفيان عن طلحة بن يحيى قال: كان عمر بن عبد العزيز ولى الكوفة الزهري، فبلغه عنه شيء فنخس به وتثقله حتى رده إلى المدينة، ولم يستعمله وولى عَبْد الحميد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن زَيْد بن الخطاب الكوفة» .
حدثني عمر بن شبة عن عفان، ثنا عمر بن علي قال: سمعت أبا سعيد مولى ثقيف قال: أول كتاب قرأه عبد الحميد من عمر كتاب فيه سطران.
قالوا: وكتب عمر إلى عبد الحميد: «أما بعد: فلا أعلمن ما جعلت على أهل السجون قيودا ثقالًا تمنعهم من الصلاة قياما، وذكرت أن قبلك(8/184)
قوما فساقا إن تركوا أفسدوا البلاد، وإن حبسوا استراح الناس من معرتهم وبوائقهم، فإن كان أمر هؤلاء القوم ظاهرا فاحبسهم في السجون، وأجر على كل امرئ منهم في كل شهر خمسة دراهم وكساء وقميصا في الشتاء وإزارا ورداء في الصيف» .
المدائني عن أبي المليح الرقي عن ميمون بن مهران قال: دخلت على عمر وهو متغيظ على عبد الحميد فقلت: ما له يا أمير المؤمنين؟. قال:
بلغني أنه قال: لا أظفر بشاهد زور إلا قطعت لسانه، قلت: يا أمير المؤمنين إنه لا يتم على ذلك إنما يهيب الناس، فقال: انظروا إلى هذا الشيخ، إن خصلتين خيرهما الكذب لخصلتا سوء.
حدثني عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْن وهب عَنِ ابْن لهيعة عن عبد الأعلى بن عبد الحميد عن أبي الزناد قال: كتب عبد الحميد بن عبد الرحمن إلى عمر بن عبد العزيز إنه فضل عندنا من المال شيء كثير بعد العطاء. فكتب إليه عمر: «انظر من كان عليه دين في غير سرف فاقض عنه، ومن تزوج فلم يجد ما ينقد فانقد عنه» . ففعل، ثم كتب إليه يخبره أن قد فضل بعد ذلك مال كثير أيضا، فكتب عمر إليه: «أن قو به ضعفة أهل الذمة، فإنا لا نريدهم لسنة ولا لسنتين» .
المدائني قال: كتب عمر إلى بعض عماله إن البريد جناح المسلمين، وبه نفاذ أمور السلطان، وتعجل ما يحتاجون إلى معرفته من الأخبار، فأحسن تعهده والقيام عليه وإدرار أرزاق قوامه وأعوانه ولتجد [1] له علوفته وينظر في مصلحته إن شاء الله، والسلام» .
__________
[1] بهامش الأصل: لتتخذ.(8/185)
حدثني العباس النرسي، ثنا يزيد بن زريع، ثنا فضيل أبو معاذ أن أهل بيت من أهل الري من أهل العهد لحقوا بالديلم، فأغارت خيل المسلمين على الديلم فأصابت أهل ذلك البيت، فكتب الحارث بن عباد إلى عبد الحميد في أمورهم إلى عمر فكتب إليه: اجمع من قبلك من أهل الرأي فإذا اتفقوا على شيء فأمضه.
فجاء عبد الله بن ذكوان أبو الزناد إلى حلقه في المسجد فيها الشعبي والحكم بن عتيبة فقال: إنكم ستدعون إلى كذا، فاتفق رأيهم على أن الأبوين وما استفادا من ولد ومال بالديلم في سهام المسلمين، وما أدخلا الديلم من ولد صغير فليس عليه شيء، فأمضى عمر رأيهم على ما اتفقوا عليه.
حدثني أبو عبد الرحمن الجعفي عن عبد الله بن المبارك، ثنا يوسف بن المهاجر أن الأصبهبذ صاحب طبرستان أهدى إلى عبد الحميد حين قدم الكوفة هدية من زعفران وطيالسة وورق وأشباه ذلك فقبلها وعزلها وكتب فيها إلى عمر بن عبد العزيز فكتب إليه عمر: «إن كان الأصبهبذ عودك الهدية بالجزيرة فاقبل هديته، وإلا فانها هديته لولايتك عليه فارددها، فإن أبى قبولها فبعها وأدخل قيمتها بيت المال، واحتسبها من خراجه، إن شاء الله» .
حدثنا عفان، أنبأنا شعبة عن حماد قال: سألني عبد الحميد عن دية النصراني واليهودي والمجوسي فقلت: قال إبراهيم مثل دية المسلم، فكتب إلى عمر فقال: النصف من دية المسلم. وقال حماد: قول عمر أحب إلي.(8/186)
حدثني عمر بن شبه عن أبي نعيم، ثنا سفيان عن حماد قال: سألني عبد الحميد عن بيع الآجام [1] فقلت: كان إبراهيم يكرهه. فكتب إلى عمر فقال عمر: لا بأس به كنا نسميها الحبس. قال سفيان يعني السمك.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذِ بْن مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَة عَنْ حماد قال:
سألني عبد الحميد عن النصراني تسلم امرأته فقلت: قال إبراهيم: هما على نكاحهما، فكتب إلى عمر، فكتب عمر: يفرق بينهما. فقال حماد: وقول عمر أحب إليّ.
وروى عن خصيف قال: كتب عبد الحميد إلى عمر بن عبد العزيز في نصرانية أسلمت وزوجها نصراني كيف يصنع بالولد؟ فكتب أن فرق بينها وبين زوجها وألحق الولد بها.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ بَيَانٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ:
سَأَلَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ الْخِيَارِ فَقُلْتُ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلا شَيْءَ. وَقَالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: [إِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ، وَإِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَقُّ بِهَا،] وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنِ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَوَاحِدَةٌ وَإِنِ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلاثٌ لا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَاخْتَارَ قَوْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
قالوا: وسير الوليد بن عبد الملك الأحوص الشاعر إلى دهلك [2] فلما استخلف عمر كتب إليه:
__________
[1] بالقاموس: الآجام: الضفادع.
[2] دهلك جزيرة في بحر اليمن، بلدة ضيقة حرجة حارة. معجم البلدان.(8/187)
كيف ترى للنوم طعما ولذة ... وخالك أمسى موثقا بالحبائل
فمن يك أمسى سائلا عن شماتة ... ليشمت بي أو شامتا غير سائل
فقد عجمت منى الحوادث ماجدا ... صبورا على عضات تلك البلابل [1]
فبعث عمر إلى عراك الغفاري، وكان الذي شهد عليه، فقال:
ما ترى في هذا البائس فقد كتب بما ترى؟ فقال عراك: مكانه خير له، فلما ولي يزيد أقدم الأحوص وسير عراكا، فقال الأحوص:
الآن استقر الملك في مستقره ... وعاد لعرف أمره المتنكر
طريد تلافاه يزيد برحمة ... فلم يمس من نعمائه يتعذّر [2]
أي يتعذر- يعني يزيد-.
قالوا: وكتب عبد الحميد إلى عمر: «إني وجدت الموالي يتزوجون إلى العرب، والعرب إلى الموالي» . فكتب إليه: «إني نظرت فيما ذكرت فلم أجد أحدا من العرب يتزوج إلى الموالي إلا الطمع الطبع، ولم أجد أحدا من الموالي يتزوج إلى العرب إلا الأشر البطر، ولا أحرم حلالا، ولا أحل حراما، والسلام» . وروي إنه كتب، أمض فإن الله قد أحله.
المدائني: إن محمد بن الوليد بن عتبة بن أبي شعبان خطب إلى عمر فقال عمر رادا عليه: الحمد لله ذي العز والكبرياء، وصلى الله على محمد خاتم الأنبياء، أما بعد: فقد أحسن بك ظنا من أودعك كريمته، واختارك ولم يختر عليك. قد زوجتك على ما جاء في كتاب الله: (إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) [3] .
__________
[1] شعر الأحوص الأنصاري ص 226- 227 مع وفارق.
[2] شعر الأحوص الأنصاري ص 142.
[3] سورة البقرة- الآية: 229.(8/188)
عمر بن شبه عن يحيى بن سعيد عن ابن عجلان عن أبي الزناد قال:
كنت مع عبد الحميد بالكوفة فقضى باليمين مع الشاهد، فأنكر ذلك ناس من أهل الكوفة، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز في ذلك فكتب إليه أن أقض بها، وقال: وقد شهد عندي رجل من كبرائهم أنه شهد شريحا قضى بها.
قالوا: وكتب عمر بن عبد العزيز: «لا يحملن الخمر من رستاق إلى رستاق» .
قالوا: وكتب عبد الحميد إلى عمر بن عبد العزيز: «إن يزيد بن المهلب دعا موسى بن الوجيه، ودعا بالسياط، وقال: إن طلقت امرأتك وإلا قتلتك» ، فكتب: «إن يزيد ظلم نفسه، وأما موسى فقد جاز طلاقه» .
وروي عن أبي هلال الراسبي قال، ثنا يونس: أن مرتدا ارتد بالكوفة في أيام عمر بن عبد العزيز فشاور عامله عبد الحميد الناس فقالوا:
«اقتله فكتب إلى عمر فيه، فكتب إليه: «إن اضرب عليه الجزية، ثم خل عنه» .
قالوا: وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الحميد: «لا تقض بالجوار، ولا تدع صورة على باب إلا كسرتها» .
حدثني عمر بن شبه عن سريج بن النعمان عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خرجت حرورية في العراق في خلافة عمر بن عبد العزيز وأنا مع عبد الحميد بن عبد الرحمن بن يزيد، فكتب عمر إلى عبد الحميد: «أن ادعهم مرتين أو ثلاثا، فإن رجعوا، وإلا فقاتلهم، فإن الله لم يجعل لهم سلفا يحتجون بهم علينا» .(8/189)
فبعث إليهم عبد الحميد جيشا فهزمهم الخوارج، فلما بلغ ذلك عمر بعث مسلمة بن عبد الملك في جيش من أهل الشام، وكتب إلى عبد الحميد: «قد بلغني فعل جيشك جيش السوء- قال ابن أبي الزناد فسموا جيش السوء إلى اليوم- وقد بعثت إليهم مسلمة بن عبد الملك فخل بينه وبينهم» . فلم ينشب أن أظفره الله بهم.
وحدثت عن سويد بن سعيد عن بقية بن الوليد عن محمد بن زياد عن ميمون بن مهران أن حرورية دخلوا على عمر فقالوا: السلام عليك يا إنسان فقال: وعليكم السلام، فقالوا: لا حكم إلا الله. قال: نعم لا حكم إلا لله.
حدثنا عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ، ثنا إسحاق أبو النصر قال: أخذ معي فلس بهرج [1] زمن الحجاج فضربني ابن أبي مسلم وحبسني، فتكلم فيّ الحواري بن زياد فأخذوا مني ألفا وتركوني، فلما استخلف عمر أتيته فأخبرته فبكى وقال: ألف درهم في فلس بهرج، وكتب إلى عبد الحميد: إن كان الأمر كما ذكر فاعطه ألف درهم، قال فأتيته فإذا سياط موضوعة فقلت في نفسي أتيت أمير المؤمنين فلم أر سياطا. قال:
فأعطاني ألفا وكتب لي عملًا وأعطاني نفقة.
وروي عن الصلت بن بهرام قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول حين شكونا إليه عبد الحميد عامله: لقد عجلتم علي، لعلكم ترون أنكم ترون عدلا. والله لا ترون عدلا أبدا.
__________
[1] البهرج: الباطل والرديء. القاموس.(8/190)
قالوا: وقع بين امرأة من أهل المدائن وبين عريفها مشاجرة فأسقط اسمها من الديوان، فأتت عمر بن عبد العزيز فكتب بيده إلى عبد الحميد بأن يفك عن اسمها ويعيده، ويخدمها خادما، وأمر لها بخمسمائة درهم وكراها، فقدمت على عبد الحميد وقد مات عمر فأوصلت إليه الكتاب فعرف خطه، فبكى ثم قال: والله لأنفذن ما فيه.
ولما مات عمر رضي الله عنه أحب عبد الحميد أن يتقرب إلى يزيد بن عبد الملك فكتب إلى محمد بن جرير يأمره بمحاربة شوذب الخارجي. فقال الخوارج: ما فعل هذا إلا وقد مات الرجل الصالح، وأقر يزيد بن عبد الملك عبد الحميد على الكوفة، حتى خلع يزيد بن المهلب ووجه إليه يزيد مسلمة.
المدائني عن عيسى بن يزيد قَالَ: كتب أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إلى سليمان بن عبد الملك: إن الشمع الذي كنت اخرج به إلى الصلاة في وقت العشاء والصبح قد نفد، وكذلك القراطيس التي كنت أكتب فيها، فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بشمع وقراطيس، وأن يلحقني بشرف العطاء بالحجاز.
فوصل الكتاب إلى عمر وقد مات سليمان فكتب إليه: «أما بعد فقد قرأت كتابك إلى سليمان في الشمع وقد عهدتك تخرج في الليلة المطيرة الشديدة الظلمة إلى المسجد بلا شمع، وأنت يومئذ خير منك اليوم، وكتبت تسأل إلحاقك بشرف العطاء بالحجاز، وقد عهدتك وأنت لا تحب الأثرة، وأنت يومئذ خير منك اليوم، وقد كتبت إلى صاحب مصر آمره أن يحمل إليك القراطيس على ما كان يحمل، فألطف القلم، واجمع الحوائج العدة في(8/191)
كتاب واحد، ولا تطنب في الإملاء، فلا حاجة لنا في كثرة الكلام والسلام» .
قالوا: تزوج رجل من بني فراص- كانت أخته عند عدي- امرأة من الحدان كان لها موضع من قومها، فطلقها وهو يشرب، ثم جحد فأتت إياس بن معاوية بشاهد فعدله، وجاءت بعبد لها وقد أعتقته فعدل، فانتزعها إياس من الفراصي، فأمر عدي بها فردت على الفراصي. وأراد عدي أن يقدم على إياس بمشورة وكيع بن أبي سود، فقال له داود بن أبي هند: (إِنَّ الْمَلأَ يأتمرون بك ليقتلوك) [1] . فهرب إياس إلى عمر بن عبد العزيز، وولى عدي الحسن بن أبي الحسن القضاء، وكتب عدي إِلَى عُمَر يعلمه ذلك فكتب إليه عُمَر: «الحسن أهل لما وليته، ولكن ما أنت والقضاء؟ فرق بين الرجل والمرأة، فرق الله بين أعضائك» .
المدائني قال: كتب عمر إلى عماله: إنه بلغني أن نساء ذوات سعة يخرجن عند موت الميت ناشرات شعورهم ينحن، وهذا فعل أهل الجاهلية، وإن الله لم يرخص للنساء في وضع خمرهن مذ أمرهن بضربها على جيوبهن، فتقدم في هذه النياحة تقدما شديدا، وقد كانت هذه الأعاجم تلهو بأشياء زينها الشيطان لهم، فازجر من قبلك من المسلمين عن ذلك، فلعمري لقد آن لهم أن يتركوه مع قراءة كتاب الله، وانه عن ذلك الباطل واللهو من الغناء وما أشبهه، فمن لم ينته فنكل به غير معتد ولا مسرف، إن شاء الله، والسلام» .
__________
[1] سورة القصص- الآية: 20.(8/192)
المدائني قال: كتب عمر إلى عدي في كتابه: «إن الله جعل لأهل الخير أعوانا عليه، ولأهل الشر أصحابا مزينين له، وقد نهيتك عن كاتبك فلم أرك متحاشيا لذلك ولا زاجرا له عن ظلم الرعية وانتقاص حقوقهم، وإنك حين تفعل ذلك يا عدي لمغتر بي تارك حظك من الله، فاطرد عنك هذا الشائن، ولا تشركه في أمانتك، وأخرجه عن المصر، فإني لو أشركت أحدا من حزب الشيطان في أمانتي لاستعنت بابن أبي مسلم [1] ، فاكفني نفسك يا عدي، ولا تحملني على مكروهك، إن شاء الله، والسلام» .
قالوا: وكتب عمر إلى عماله: «أن انظروا من كان في أسواقكم من باعة اللحم من أهل الذمة فليؤخذوا بأن لا يذبحوا ذبيحة إلا ذكروا اسم الله عليها، وأن لا تكسر ولا تنخع حتى تموت، ولتترك متشحطة مذبوحة ومنحورة، ولا ينفخوا في اللحم فإنه من الغش، والسلام» .
المدائني عن ابن جعدبة قال: كتب عمر إلى أبي بكر بن حزم: «أما بعد فإن الطالبين الذين نجحوا، والتجار الذين ربحوا، هم الذين اشتروا الباقي الذين يدوم بالفاني المذموم، فاغتبطوا ببيعتهم، وأحمدوا عاقبة أمرهم، فاعمل لنفسك وبدنك صحيح، وأنت مريح، قبل أن تنقضي أيامك وينزل بك حمامك فإن العيش الذي أنت فيه ظل يتقلص ويزول» .
وكتب إلى عبد الحميد: «أما بعد فإنه من ابتلى بأمر الناس فقد عظمت بليته، نسأل الله عافيته وحسن معونته، فكن لمن وليت أمره ناصحا وعليهم شفيقا حدبا، واملك نفسك عند الهوى والغضب واكفف يدك
__________
[1] هو يزيد بن أبي مسلم وكان من كتاب الحجاج. انظر تاريخ خليفة ج 1 ص 411.(8/193)
ولسانك عن الأموال والأعراض والأبشار، واستر ما استطعت من عورات الناس إلا شيئا أبداه الله لا يصلح ستره، فإن سبق منك هوى أو غضب فاستغفر ربك وراجع أمرك، نسأل الله تعالى أن يصلح لنا أعمالنا ويكفينا أمورنا، وما نرجع إليه بعد الموت، والسلام» .
المدائني عن فرات بن السائب عن ميمون بن مهران قال: كتب عمر إلى الجراح بن عبد الله: «إن ولاة السلطان بعرض مكاره وبلاء إلا من وقى الله وأعان، فاتق الله حق تقاته، واذكر موقفك بين يديه، وإذا حضرك خصم جاهل فرأيت منه رعة سيئة فارفق به وسدده وبصره، وخذ له الحق غير متجانف على خصمه، وإن أتى رجل ذنبا يستحق به العقوبة فلا تعاقبه بغضب تجده في نفسك، ولكن لما أتى وجنى، جعلنا الله وإياك ممن (لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا) [1] ، أو من المتقين الذين لهم العاقبة، والسلام» .
المدائني قال: كتب عمر إلى عدي بن أرطاة، بلغني أن عمالك بفارس يخرصون [2] الثمار ثم يقومونها على أهلها بسعر فوق سعر الناس الذي يتباعون به، ثم يأخذون ذلك ورقا، وإن طوائف من الأكراد يأخذون العشر من السابلة والمارة في الطرق. ولو علمت أنك أمرت بذلك أو رضيته ما ناظرتك ولأتاك مني ما تكره. وقد بعثت بشر بن صفوان وعبد الله بن عجلان للنظر في ذلك، ورد الثمن الذي أخذ من الناس إلى ما باع أهل الأرض في
__________
[1] سورة القصص- الآية: 83.
[2] الخرص: الحزر، والكذب، وكل قول بالظن، وخارصه: بادله. القاموس.(8/194)
غلاتهم، فلا تعرض لهم فيما وجهتهم له من ذلك، وأحسن معونتهم عليه، إن شاء الله، والسلام» .
حَدَّثَنِي هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سلمة عن يونس بن عبيد أن رجلًا من الأنصار أتى عمر بن عبد العزيز فقال: أنا فلان بن فلان، قتل جدي فلان يوم أحد. وجعل يذكر مناقب سلفه، فنظر عمر إلى عنبسة بن سعيد فقال: هذه والله المناقب لا يوم مسكن، ويوم الجماجم، ويوم مرج راهط.
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
المدائني قال: كتب عمر إلى أَبِي بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حزم:
«أما بعد فليكن سعيك في الدنيا للآخرة فليس لك إلا ما قدمت، واعلم أن مقطعات الأمور أمامك، وأن الله غير مدخل جنته إلا من رضي عنه، وإنك لا تزداد من حسنة ولا تستعتب من سيئة بعد الموت» .
قالوا: وكتب عمر إلى عمال الثغور: «أما بعد: فلا تشتروا للأمراء من حظ العامة من المغنم شيئا، وأمروا القسام أن يجزئوا ما أفاء الله عليكم من السبي والغنيمة خمسة أخماس ثم ليقرعوا عليها بخمسة أسهم، لله الخمس وأربعة للعامة الذي قاتلوا عليها، فحيث وقع سهم الخمس فليحرر ثم يخلى بين الناس وأنصبائهم، والسلام» .
المدائني عن حباب بن موسى قال: قال عمر بن عبد العزيز: نشأت على بغض علي لا أعرف غيره، وكان أبي يخطب فإذا ذكر عليا نال منه فلجلج، فقلت: يا أبه إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت على ذكر علي عرفت منك تقصيرا، قال: أفطنت لذلك؟ قلت: نعم. قال: يا بني إن الذين من حولنا لو نعلمهم من حال عليّ ما نعلم تفرقوا عنا.(8/195)
حدثني منصور بن أبي مزاحم عن شعيب بن صفوان قال: كتب عمر بن عبد العزيز: «أما بعد فإنه يجب على المسلمين أن يضعوا من أهل الشرك والكفر ما وضع الله منهم، وأن ينزلوهم بمنزلتهم التي أنزلهم الله بها من الذل والصغار، ولا يشركوهم في أمانتهم ولا يسلطوهم على أهل الإسلام فتجري عليهم أحكامهم ويستخدموهم بالطمع فيما عندهم، وينزلوا بهم حاجاتهم فيغشونهم ويحرمونهم، فلا يبق احد ممن قبلك على غير الإسلام على شيء إلا عزلته واستبدلت به رجلًا من المسلمين ترضى دينه وأمانته وعفافه، وخذهم بشدّ المناطق، وركوب الأكف، وحلق أوساط رؤوسهم، وأطع الله واتقه، فإنه لا حرز لك ولا منعة إن عصيته والسلام» .
وكتب عمر إلى عدي بن أرطاة: «أما بعد: فقد أتاني كتابك تذكر أنك لما قدمت البصرة جعلت سفيان بن فرقد حاجبا وتقدمت إليه الا يرزأ أحدا شيئا، فبلغك عنه أمر تكرهه فأتاك بخمسين دينارا ذكر أنه أعطاه إياها رجل، فقبضتها وعزلتها في بيت المال إلى أن يأتيك أمري، وليس بيت المال بموضع للرشاء فاردد ذلك الذهب إلى صاحبه الذي أخذ منه فإن ابن فرقد يعرفه، إن شاء الله، والسلام» .
وكتب عمر إلى عدي: «إن بعض من ورد علينا أخبرني عن ناحية من نواحي فارس خرابا، فأسهرني ذلك وغمني، فتعهد أهل عملك بالكتب والرسل، واجتهد في عمارة البلاد بالعدل والرفق وترك الاستقصاء، واعلم إنما يلتمس إصلاح قوم آثروا سيئا واجتهدوا في فساد ما تحت أيديهم حتى بلغ الأمر ما بلغ، وليس بكثير على الله جل ثناؤه أن يجعل في عمارة سنة ما يعدل(8/196)
خراب سنين مضت قبلها فيجبره بها، فإن الله يبلغ من تضعيفه لمن يشاء أكثر من ذلك، (وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ واسع عليم) [1] ، والسلام» .
قال: وكتب عمر إلى أبي بكر بن محمد: «ذكرت أن ناسا من بني أسد وفزارة تلاحوا، فرمي فراس الأسدي بحجر فأصاب ركبته، ثم تفرقوا، ومكث سنة وجعا من رميته فاصطلحوا على مائتين من الإبل وإنه لا صلح إلا ما يجوز في الإسلام، فأنفذ الصلح بينهم على مائة من الإبل فليس بدم صاحبهم عن ذلك مذهب، ولولا السنة لم أبال ما أعطاهم بنو فزارة من أموالهم، والسلام» .
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ عمر بن عبد العزيز: لم أر رجلًا كان أعلم بأمر الدنيا من عبد الملك، ولا رجلًا كان أغضب للدنيا ولا اشتدت غلبة الدنيا عليه مثل الوليد، ولا رجلًا آكل للدنيا من سليمان، وهذه الدنيا تريد أن آكلها وتأكلني، والله لا أفعل.
المدائني عن خالد بن يزيد بن بشر عن أبيه قال: شتم رجل معاوية عند عمر بن عبد العزيز، فأمر بضربه ثلاثة أسواط.
المدائني عن بشر بن عبد الله قال: دخل عبد الملك بن عمر على أبيه فقال: يا أبه ما يؤمنك أن يأتيك أمر الله بياتا وأنت نائم، فقال: يا بني إن نفسي مطيتي وإن لم أرحها لم تحملني، وإني لأحتسب من الأجر في العدل ما أرجو أن لا يقصر بي عن الأجر في ترك النوم.
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 261.(8/197)
وقال عمر لميمون: لأن أبقى لهذا المال حتى أسلكه سبيله أحب إلي من أن أتركه لولدي ميراثا، لا أحاسب بشيء منه.
المدائني عَنِ المبارك بْن فضالة قَالَ: كتب عمر بن عبد العزيز: «إن من كان عليه دين له وفاء به فليقض من ماله، ومن لم يكن عنده فلينظره غرماؤه، فإنما وضعوا أموالهم عنده على أن يصادفوا مالا أو عدما» .
وروى الهيثم بن عدي عن عدي قال: كتب عمر إلى عبد الحميد:
«كتبت تذكر أنك وجدت في بيت المال سبعة آلاف درهم مما أخذ ممن كان يختلف بالخمور، ولا حاجة لي في خبيث، فإن وجدت له أهلًا فاردده عليهم، والسلام» .
المدائني قال: كتب إلى عمر صديق له من النساك: «إلى العبد المبتلى بأمور المسلمين من أخيه فلان، أما بعد: فإنك ممتحن بما وليت ومجزي بما عملت، فأصلح نيتك وتوق على دينك فإنك بعرض خير وشر، فإن اتبعت الخير سعدت، وإن ملت إلى الشر غويت، وكان يقال من تقلد شيئا من أمور المسلمين فإنما فتح له باب إلى الجنة، وباب إلى النار، فأيهما اختار فهو والجه، عصم الله دينك ووفر من الأجر حظك ووفقك للخير ووفقه لك» .
فكتب إليه عمر: «فهمت كتابك يا أخي، وقد عظمت علي البلية، فاسأل الله العون والكفاية، لا تخلني رحمك الله من كتبك بالنصيحة، فإنك تقضي بها حق المودة، والسلام» .
المدائني عن المسيب بن شريك قال: قدم على عمر بشير من الصائفة فقال له: إن شئت زدناك في عطائك، وإن شئت ألحقنا لك عيلا. فقال:
كلاهما وتمرا، فقال عمر: إنك لبطال وليس لبطال عندنا شيء.(8/198)
المدائني: أن عمر كتب إلى محمد بن عروة السعدي عامله على اليمن: «أن أخرج من بيت المال قبلك مائة ألف درهم للغارمين ولا تعط منها من كان دينه في سرف وتبذير، واعط من تزوج أو ابتاع ذا رحم فأعتقه أو تاجرا أتى على ما في يديه، وأخرج مائة ألف درهم لأبناء السبيل، ومر رهطا من ذوي الدين والحسبة والنية الحسنة أن يقعدوا بها على طريق الحاج فلا يدعوا منقطعا به منهم ولا محسورا إلا أعانوه، ولا مرملا إلا زودوه، ولا راجلًا إلا حملوه، ولا عاريا إلا كسوه إن شاء الله، فإن سبيل الحاج خير السبل» .
وقال كثير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
أقول لما أتاني ثم مهلكه ... لا يبعدن قوام الأهل والدين
قد غادروا في ضريح اللحد منجدلا ... بدير سمعان [1] قسطاس الموازين
[2] وقال الجمحي:
ثلاثة ما رأت عيني لهم شبها ... يضم أعظمهم في المسجد الحجر
وأنت تتبعهم لم تأل مجتهدا ... سقيا لها سبلا بالعدل تفتقر
فإن قصرت عن العليا التي بلغوا ... وأنت تطلبها واغتالك القدر
فما بلغت التي من دون ما بلغوا ... ففت في ذاك من تثنى له السير
لو كنت أملك للأقدار تروية ... تأتي رواحا وتبيتا وتبتكر
دفعت عن عمر الخيرات مصرعه ... بدير سمعان لكن تغلب المرر
[3]
__________
[1] يعرف الموقع الآن باسم «قرية الدير الشرقي» قرب معرة النعمان.
[2] ليسا في ديوانه المطبوع.
[3] بهامش الأصل: المرر جمع مرة وهي القوة، هذا ولم أهتد إلى معرفة اسم هذا الجمحي.(8/199)
قالوا: وكان عمر بن عبد العزيز أمر أن يخرج الفرزدق من مَسْجِد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، وذلك أنه كان ينشد فيه الهجاء، ويتبذى فقال فيه الشاعر:
نفاك الأغر ابن عبد العزيز ... ومثلك يُنفَى عن المسجد
فلقي الفرزدق مخنثًا فقال له: ما فعلت عمتنا؟ فقال: نفاها الأغر ابن عبد العزيز.
المدائني قال: تزوج عبد الرحمن بن عمرو بن سهل بْن عَمْرو من بني عامر بْن لؤي بنتا لعبد الله بن عمر بن الخطاب، فكانا أحسن زوج بالمدينة، فكلمته يوما وقد مرض فأعرض عنها فقالت: يا حبيبي مالك أعرضت عني؟ قال: أموت وتتزوجين بعدي. قالت: فإني لا أفعل إن- وأعوذ بالله- حدث بك حدث بل أنا المتقدمة قبلك، فخطبها عمر بن عبد العزيز فتزوجته، فدخل عليها ابن قارظ الكناني فقال لها: مثلك ما قال القائل:
تبدلت بعد الخيزران جريدة ... وبعد ثياب الخز أحلام نائم
فقالت: ما ذاك مثلي، ولكنه ما قال أرطاة بن سمية:
ما كنت إلا والها ذات عولة ... على شجوها بعد الحنين المرجع
متى لم تجده تنصرف لطياتها ... من الأرض أو ترجع لأنف ومرجع
فأفحمته. وكانت ابنتها من عبد الرحمن عند الحجاج بن يوسف فقال لها: مات أبوك فجزعت، فقال: لم تجزعين وقد تزوجت أمك عمر بن عبد العزيز؟
وحدثني الحسين بن علي الحرمازي، ثنا العتبي قال: سمع عمر بن عبد العزيز رجلًا يمدح فاطمة بنت الحسين، ويقال فاطمة بنت عبد الملك(8/200)
امرأته فقال: ما تعرف من الشر شيئا. فقال عمر: معرفتها بالشر جنبتها إياه.
وقال سليمان بن عبد الملك لعمر بن عبد العزيز وهما بطريق مكة، وأراد أن يذكر له شيئا، فسأله: هل علينا من عين؟ قال: نعم عليك من الله عين بصيرة وأذن سميعة.
قال العتبي: قرأ قارئ عند عمر بن عبد العزيز آية فلحن، فقال مسلمة: لحن والله يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أو ما شغلك معناها عن لحنه.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ، أنبأ عثمان بن خالد بن دينار عن أبيه عن ميمون بن مهران قال: قال لي عمر بن عبد العزيز: لا تأتين سلطانا وإن أمرته بمعروف، ولا تخلون بامرأة وإن قرأت عليها القرآن، ولا تصحبن عاقا فإنه لن يصلك، وقد عق والديه.
الْمَدَائِنِيُّ عَن عِيسَى بْن يَزِيدَ قَالَ: لَمَّا احتضر عمر بن عبد العزيز قيل له: اكتب إلى يزيد وأوصه بالأمة فقال: وبماذا أوصيه، إني لأعلم أنه من بني مروان.
ثم كتب إليه: «أما بعد: فاتق الله يا يزيد الصرعة بعد الغفلة حين لا تقال العثرة، ولا تقدر على الرجعة، إنك تترك ما تترك لمن لا يحمدك، وتصير إلى من لا يعذرك، والسلام» .
حدثني عباس عن أبيه عن عوانة قال: أنشد عمر بن عبد العزيز قول الأحوص بن محمد الأنصاري:(8/201)
سيبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة حب يوم تبلى السرائر [1]
فبكى عمر وقال: ويحه ما أغفله عن قول الله (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ.
فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصر) [2] .
وقالوا: كان على شرطة عمر روح بن يزيد بن يستر السكسكي.
حدثني عمرو بن محمد عن الحجاج الرصافي عن أشياخهم قال: عزى رجل عمر بن عبد العزيز عن ابنه عبد الملك فقال:
تعز أمير المؤمنين فإنه ... لما قد ترى يغذى الصغير ويولد
هل ابنك إلا من سلالة آدم ... وكل له حوض المنية مورد
قالوا: ومرض عمر بن عبد العزيز، فقيل له: لو تداويت. فقال:
لو كان دوائي في مسح أذني ما مسحتها، نعم المذهوب إليه ربي.
وحدثني محمد بن خالد الطحان عن يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد قَالَ: كتب عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ إِلَى أبي بكر بن عمرو بن حزم: «أن انظر ما كان من حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحديث عمرة بنت عبد الرحمن فاكتبه، فإني قد خفت دروس العلم، وذهاب أهله» .
قال الواقدي: قال عمر بن عبد العزيز: ما بقي أحد أعلم بحديث عائشة من عمرة.
وحدثني عمرو بن محمد عن الحجاج قال: اشتهى عمر بن عبد العزيز في صحته عسلا يؤتى به من قرية على فراسخ، فقيل له: توجه رسولا على
__________
[1] شعر الأحوص الأنصاري ص 145.
[2] سورة الطارق- الآيتان: 9- 10.(8/202)
دابة من دواب البريد ليأتيك به، فقال: معاذ الله، لا يراني الله شاغلا جناحا من أجنحة المسلمين في شهوة أشتهيتها.
حدثني هِشَام بْن عمار عَنِ الوليد بْن مسلم عن مولى لعمر بن عبد العزيز عن عمر أنه قال لمحمد بن كعب: عظني. فقال: يا أمير المؤمنين إن فيك جرأة، وجبنا، وكيسا، وعجزا، فداو بعض ما فيك ببعض، وعليك بأهل الدين والعقل فإنهم يكفونك أنفسهم ويعينونك على غيرهم، وإياك ومن مودته لك بقدر حاجته إليك فإذا انقطعت حاجته ذهبت مودته.
وإذا اصطنعت صنيعة فأحسن ربها وغذاءها. فقال عمر: أحسن الله جزاءك.
وحدثني هشام بن عمار قال: بلغني أن رجلًا تكلم عند عمر بن عبد العزيز فرفع صوته فقال عمر: بحسب الرجل أن يسمع جليسه، لو أدرك شيء خيرا بشدة صوت لأدركته الحمير.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ عَنِ حماد بن عمرو قال: سمع عمر بن عبد العزيز باكية في جنازة أبيها وهي تقول: يا أبتاه، كان يقصر المجلس إذا أتاه. فقال: ما أحسن ما وصفت أباها.
هشام عن بقية قال: تزوج رجل يقال له سليمان بن عثمة امرأتين فقال بعض الشعراء:
ليهن ابن عثمان ما عنده ... فلست وإن حسدوا حاسدا
مهاتان لونهما واحد ... يذيقانه ثغبا باردا
فبورك فيه وفي أهله ... وفي ماله ونما صاعدا
فشكاه إلى عمر فقال: ما أرى هجاء، ولكنه شهره، فأدّبه.(8/203)
وكتب عمر إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن: «اعلم أن كل ذي عادة مقتض ما سننت له» .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الواقدي عن مالك بن أنس قال: كان عمر بن عبد العزيز إذا أراد أن يقوم قال: إذا شئتم. وكان مالك يفعل ذلك، وكان قبيصة إذا أراد أن يقوم يتناول نعله.
حدثني داود بن عبد الحميد قال: كان مشايخنا يحدثون أن عمر بن عبد العزيز كان صديقا لعدي بن أرطاة قبل الخلافة، وكان يقول: ما رأيت أشبه بمن مضى في مذهبه وعفافه من عدي. فلما استخلف ولاه البصرة.
حدثنا عفان، ثنا أبو هلال قال: كان عدي يخطب فإذا خطب جلس في الخطبة الأولى، ثم يقوم فيخطب الثانية حتى إذا فرغ مد يده يدعو.
قالوا: وحفر عدي نهره، وخرج الناس ينظرون إليه، والحسن يمشي خلف حمار عدي، فالتفت عدي فرآه فنزل عن الحمار، وحمل عليه الحسن، وجعل يمشي بحيث كان الحسن يمشي من الحمار، والحسن راكب.
قالوا: وكتب عمر إلى عدي: «أن يجري على من كبرت سنه، وضعفت قوته، وذهبت مكاسبه من أهل الذمة، من بيت مال المسلمين، وقال إن عمر بن الخطاب رَأَى شَيْخًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَقُومُ عَلَى أَبْوَابِ النَّاسِ يَسْأَلُهُمْ فَقَالَ: مَا أَنْصَفْنَاكَ. أَخَذْنَا منك الخراج شابا، فلما كبرت سنك خذلناك. فأجرى عليه قوته من بيت المال» .(8/204)
المدائني قال: عاد عدي وكيع بن أبي سود فقال له عدي: كيف تجدك؟ قال: وثابا على العتب، أكالا للعصب، قال: فما بلغ عدي منزله حتى نعي له.
قال أبو عبيدة: وبعث عدي إليه رجلًا يعوده فقال له: الأمير يقرئك السلام. فقال: أَنَا والله الأمير ولكني مظلوم، ثم قال: يقول لك كيف تجدك؟ قال: أجدني قفازا على العتب فلم يبلغ الرسول حتى سمع الواعية عليه.
وروي عن أبي شور القليبي قال: أشرف عدي على وكيع من دار الإمارة وهو مريض في داره فقال وكيع لبنيه: ارفعوا صدري. فقال له عدي: أبا مطرف كيف تجدك؟ قال: صالحا من رجل يجد أرواح طعامك ولا يأتيه منه شيء. قال: وكيف تراك لو رأيت منه شيئا؟. قال: أكون قفازا على العتب غشوما. فقال عدي: أطيلوا الحائط بيني وبينه فلا أراه ولا يراني.
وأتى وكيع الحسن فقام فناوله نعليه فقيل له: أتقوم إلى وكيع مع جفائه؟ فقال: بلغني أن في جسده كذا وكذا طعنة وضربة في سبيل الله، وأنا أكرمه لذلك.
وقالوا: أرسل عدي إلى محمد بن سيرين رجلًا وقال له: قل له عن نفسك إني رأيت أني حلبت ناقة فامتككتها حتى حلبتها دما. فقال ابن سيرين: لم تر أنت هذه الرؤيا، وإنما رآها عدي فارجع إليه فقل له: اتق الله فإنك قد جاوزت في حلبك وجبايتك ما أحل الله لك إلى ما حرمه عليك.(8/205)
قالوا: ولما قدم عدي البصرة قال لإياس بن معاوية بن قرة المزني:
أنت من أهل البلد وأعلم به مني فدلني على قوم من القراء استعملهم.
فقال: إن القراء ضربان: ضرب يقرأون لله فلا حاجة لهم في عملك، وضرب يقرأون للدنيا، فإذا استعملتهم أمكنتهم مما أرادوا.
قال: فأشر عليّ بقوم من أهل البيوتات، فإنهم عسى أن يستحيوا لأحسابهم ويرعوا على أنفسهم ويتصنعوا لطول الولاية.
ثم شاور مالك بن دينار فقال له: أما أهل الدين فقد استغنوا عنك بما عندهم، وأما أهل الدنيا فمنهم تهرب. قال: فمن بقي؟ قال: عليك بأهل الشرف فإنهم يحامون على قديمهم، ويربون حديثهم.
قال أبو داود الطيالسي: حدثني من سمع عديا يخطب على منبر البصرة وهو يقول: ما أنا وهذه الشهادات، ما أنا وهذه الخصومات. فتحت لكم بابي وأجلست فيكم إياسا ولا أراكم تزدادون إلا كثرة، لقد كنت أرى القاضي من قضاة المسلمين وما عنده أحد، ولقد أتيت شريحا فقلت: يا أبا أمية أين أنت؟. قال: بينك وبين الحائط. قلت: إني تزوجت امرأة، قال: بالرفاء والبنين. قلت: ولدت غلاما. قال: ليهنك الفارس.
قلت: وشرطت لها دارها ثم بدا لي أن أحولها إلى الشام. قال: أنت أحق بأهلك. قلت: فاقض. قال: قد فعلت.
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن ابن أبي سبرة عن صالح بن حسان قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول في خلافته وذكر أبا بكر بن عبد الرحمن فقال: إن هناك شرفا وفضلا ونسكا واحتمالا.(8/206)
الواقدي قال: كان من سراة الموالي أبو كثير مولى أسلم، وهو من سبي فارس، وكان يقال له زاد الركب. فبعث معه عبد العزيز بن مروان بألف دينار إلى عمر بن عبد العزيز فنسيها في دار عبد العزيز ومضى فأتى عبد العزيز بالألف، فلما قدم أبو كثير المدينة دفع إلى عمر ألف دينار من ماله، واكتتب منه البراءة، فلما قدم مصر أتى به عبد العزيز وكان تاجرا يتجر إلى مصر فقال له: ما فعلت الألف دينار؟ قال: دفعتها إلى عمر وأحضر البراءة، فقال: كيف دفعتها وهي عندنا؟ قال: نسيتها ولم أدر أين هي فكرهت أن أسر عدوا فأشمته، أو أكبت صديقا فأغمه، وخفت أن لا أصدق، وعلي فضل من الله فاحتملتها. فقال عبد العزيز: ألك حاجة؟. قال: نعم، توضع عني العشور إذا دخلت مصر بتجارتي.
فقال: نعم. ووضعها عنه. وكان عبد العزيز يقول: من آمن من ابن أبي كثير؟! ودفع إليه الألف دينار.
حدثني ابن القتات عن شيخ من الشاميين قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول: قيدوا العلم بالكتاب وقيدوا النعم بالشكر.
حدثني داود بن عبد الحميد حدثني أبي عن جدي أن عمر بن عبد العزيز أتى بسكران فقال: ألقوا رداءه في أردية فألقي. وقال: انظروا فإن لم يعرفه ولم يخلصه من الأردية فحدوه.(8/207)
الخوارج في أيام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
خبر بسطام بن مري اليشكري ولقبه شوذب [1] .
قال أبو الحسن المدائني. خرج بسطام بن مري أيام عمر بن عبد العزيز بن مروان، فقال لأصحابه: يا أخلائي إنكم قد باينتم قومكم في ولاية هذا الرجل، وهو يأمر بالعدل ويظهره ويعمل به فاعذروا فيما بينكم وبينه، وادعوه إلى أمركم. فكتبوا إليه فعظموا طاعة الله وأمره، وعابوا الظلم وأهله، وأكفروا أهل الكبائر، وبرئوا منهم، ودعوه إلى رأيهم وإلى البراءة من علي وعثمان ورد أحكام عثمان، وما حكم به علي بعد الحكمين، واستأذنوه في أن يوجهوا من يناظره ويحاجه على أن يؤمنه، فكتب عمر إليهم: «إلى العصابة الذين خرجوا بزعمهم التماس الحق، أما بعد ذلك:
فإن الله لم يلبس على العباد أمورهم، ولم يتركهم سدى، ولم يجعلهم في عمياء، فبعث إليهم النذر وأنزل عليهم الكتب، فبعث محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بشيرا ونذيرا، وأنزل عليه كتابا حفيظا (لا يَأْتِيهِ الباطل من بين يديه
__________
[1] بهامش الأصل: بلغت عراضها بالأصل الثالث ولله كل حمد.(8/209)
وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [1] ) فيه علم ما يأتون وما يتقون، فأوصيكم بتقوى الله، وشكر نعمته، والاعتصام بحبله، والتوكل عليه، فإنه (من يتّق الله يجعل له مخرجا) [2] ، وقد بلغني كتابكم، وما دعوتم إليه، (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يدعى إلى الإسلام) [3] وقد خاب من دعي إلى الحق ولم يجب.
وذكرتم ما اعتقد الله في عباده، وأمرهم به من الطاعة (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) [4] . وسألتموني أن أحكم بالعدل، وأقوم بالقسط، وفي الحق مقنع وفوز ونجاة لمن عمل به، (ولكل نبأ مستقر) [5] فلكم التي سألتم وبالله التوفيق.
وسألتموني رد ما حكم به من كان في صدر هذه الأمة من الأئمة إلا ما كان من حكم أبي بكر وعمر وعلي قبل الحكمين، وهم ومن كان بعدهم من الأئمة كانوا أقرب عهدا برسول الله صلى الله عليه سلم وأصحابه، والله يشهد على أحكامهم ويعلمها.
وسألتموني الإذن لكم في قدوم طائفة منكم علي، فمن أحب ذلك منكم فليقدم آمنا لا أحجبه ولا أبسط إليه يدا، وإني أدعوكم إلى الله ورسوله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والإنابة إلى أمر الله، وأذكركم
__________
[1] سورة فصلت- الآية: 24.
[2] سورة الطلاق- الآية: 2.
[3] سورة الصف- الآية: 7.
[4] سورة الأنعام- الآية: 49.
[5] سورة الأنعام- الآية: 67.(8/210)
الله أن تخالفوا كتاب الله وسنة نبيه، فقد بين لكم الهدى وأراكم البينات، فاقبلوا أمر الله، وإياكم والبدع والغلو في الدين، والسؤال عما قد كفيتموه، فقد سبق فيه من الله ما قد سمعتم من قوله: (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تبد لكم تسؤكم [1] ف (هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بصيرة [2] فإن تقبلوا يقبل الله منكم، وإن تعرضوا فإن الله أمامكم ومن ورائكم، فمن ذا يعجز الله و (شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصّمّ البكم) [3] .
وقلتم لا حكم إلا لله العلي القدير، (ومن أحس من الله حكما لقوم يوقنون» ) [4] .
وبعث بكتابه إليهم مع عون بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، ومحمد بن الزبير الحنظلي وقال لهما: إن هؤلاء القوم قد خرجوا علينا بأسيافهم، فإذا قدمتم عليهم فادعوهم إلى الحق والجماعة فإن دعونا من كتاب الله إلى ما لم أعمل به فاضمنا عني العمل به، وإن دعونا من كتاب الله إلى ما قد علمناه وجهلوه فحاجوهم به حتى يرجعوا إليه.
قال: فقد ما عليهم، فقال عون: أيتها العصابة إنا قد أقمنا من كتاب الله ما قد حفظنا وعملنا بما علمنا فهل عندكم من علم فتخرجوه لنا، أم أمنتم على أنفسكم ما خفتم على قومكم، أم رجوتم شيئا لأنفسكم يئستم منه لقومكم، أم تقولون ذنوب قومكم شرك وذنوبكم ذنوب؟
__________
[1] سورة المائدة- الآية: 101.
[2] سورة يوسف- الآية: 108.
[3] سورة الأنفال- الآية: 22.
[4] سورة المائدة- الآية: 50.(8/211)
قالوا: نترك الذنوب كفرا لقول الله: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الكافرون) [1] قال: أخطأتم التأويل، من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له فهو كافر فأما حاكم وقع حدا قد رآه عن صاحبه وهو مقر بالآية فلا يكون كافرا لأن الله تبارك وتعالى قال: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه) [2] وقال الله: (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يبعثوا) [3] وهؤلاء يؤمنون بالبعث، وأمير المؤمنين مجتهد لنفسه في الحكم بالعدل، وإحياء ما قد أميت منه، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم.
قالوا: فإن عمال صاحبك يظلمون. قال: فتولوا أعماله. قالوا:
لا نعمل له. قال: فكونوا أمناء على عماله، فأي عامل منهم عمل بغير الحق فاعزلوه. قالوا: ولا هذا، وقرءوا كتاب عمر فقالوا: نوجه رجلين يكلمانه فإن أجابنا فذاك، وإن أبى كان الله من ورائه، فأرسلوا مولى لبني شيبان يقال له عاصم، ورجلا من بني يشكر من أنفسهم، فقدموا جميعا على عمر وهو بخناصرة، فصعد إليه عون، ومحمد بن الزبير، وهو في غرفة، وعنده ابنه عبد الملك بن عمر، وكاتبه مزاحم فأخبراه بمكان الرجلين فقال:
فتشوهما لعل معهما حديدا، ثم أدخلوهما ففعلا، فلما دخلا قالا: السلام عليكم. وجلسا فقال عمر: ما أخرجكم هذا المخرج، وما الذي نقمتم؟
فقال عاصم وكان حبشيا: ما نقمنا سيرتك لتحري العدل والإحسان فأخبرنا
__________
[1] سورة المائدة- الآية: 44.
[2] سورة فصلت- الآية: 26.
[3] سورة التغابن- الآية: 7.(8/212)
عن قيامك بهذا الأمر أعن رضى من المسلمين ومشورة كان أم ابتززتم إمرتهم؟ قال: ما سألتهم الولاية عليهم ولا غلبتهم على مشيئتهم، وعهد إلي رجل عهدا لم أسأله الله قط لا في سر ولا علانية، فقمت به ولم ينكره علي أحد، ولم يكرهه غيركم، وأنتم ترون الرضا بكل من عدل وأنصف من كان من الناس فانزلوني ذلك الرجل، فإن خالفت الحق، وزغت عنه فلا طاعة لي عليكم.
قالا: بيننا وبينك أمر واحد. قال: وما هو؟ قالوا: رأيناك خالفت أعمال أهل بيتك وسميتها مظالم وسلكت غير طريقهم فإن كنت على هدى وهم على ضلالة فالعنهم وابرأ منهم، فقال عمر: قد علمت أنكم لم تخرجوا طلبا للدنيا ولكنكم أردتم الآخرة فأخطأتم طريقها، إن الله لم يبعث رسوله صلى الله عليه وسلم لعّانا، وقال إبراهيم: (فمن اتّبعني فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [1] وقال الله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقتده) [2] وقد سميتم أعمالهم ظلما وكفى بذلك لهم ذما ونقصا، فابلوا الله حسنا فيما آتاكم ودعوا ما فاتكم، فليس لعن أهل الذنوب فريضة لا بدّ منها، فإن قلتم إنها فريضة فاخبرني أيها المتكلم متى لعنت فرعون؟ قال: ما أذكر متى لعنته. قال:
أفيسعك ألا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق وشرهم، ولا يسعني إلا لعن أهل بيتي وهم مصلون؟
قال: أو ما هم كفار بظلمهم؟ قال: لا لأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا الناس فكان من أقر بالإيمان وشرائعه قبل منه، فإن أحدث حدثا أقيم عليه
__________
[1] سورة ابراهيم- الآية: 36.
[2] سورة الأنعام- الآية: 90.(8/213)
الحد، فقال الخارجي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الناس إلى التوحيد بالله والإقرار بما نزل من عنده والعمل بما سن من سنته، ولو قالوا نؤمن بما جاء من عند الله ونخالف سنتك ما قبل ذلك منهم.
فقال عمر: فليس أحد يقول لا أعمل بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنْ القوم أسرفوا على أنفسهم على علم منهم بأن الذي أتوا محرم عليهم، ولكن غلب عليهم الشقاء.
قال: فابرأ مما خالف عمالك ورد أحكامهم. قال: أخبرني عن أبي بكر وعمر أليسا من أسلافكم؟ قال: بلى. قال: فهل تعلمون أن أبا بكر حِينَ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وارتدت العرب قاتلهم وسبى الذراري وأخذ الأموال؟
قالا: نعم. قال: أفتعلمون أن عمر رد السبايا بعده إلى عشائرهم بفدية فدوهم بها؟. قالا: نعم. قال: فهل برئ عمر من أبي بكر؟ قالا:
لا. قال: أفتبرءون أنتم من واحد منهما؟ قالا: لا. قال: فأخبروني عن أهل النهر وهم من أسلافكم، هل تعلمون أن أهل الكوفة خرجوا فلم يسفكوا دما ولم يأخذوا مالا، وأن من خرج إليهم من أهل البصرة اعترضوه، وقتلوا عبد الله بن خباب وجاريته؟. قالا: نعم. قال: فهل برئ من لم يقتل ممن قتل واستعرض؟ قالا: لا. قال أفتبرءون أنتم من إحدى الطائفتين؟. قالا: لا. قال: أفوسعكم أن توليتم أبا بكر وعمر وأهل البصرة وأهل الكوفة وقد علمتم اختلاف أعمالهم في الفروج والأعمال، ولا يسعني إلا البراءة من أهل بيتي والدين واحد، فاتقوا الله فإنكم جهال تقبلون من الناس ما رد عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتردون عليهم ما قبل، ويأمن عندكم من خاف عنده، ويخاف عندكم من أمن عنده، ويخاف(8/214)
عندكم من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وكان من فعل ذلك عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آمنا، وحقن دمه، وأحرز ماله ووجبت حرمته، وأنتم تقتلونه ولا تقتلون سائر أهل الأديان فتحرمون دماءهم ويأمنون عندكم. قال اليشكري: أرأيت رجلًا ولي قوما وأموالهم فعدل فيها، ثم صيرها بعده إلى رجل غير مأمون، أتراه أدى الحق الذي يلزمه، أو تراه قد سلم؟ قال: لا. قال: أفتسلم هذا ليزيد من بعدك وأنت تعرف أنه لا يقوم فيه بالحق؟ قال: إنما ولاه غيري والمسلمون أولى بما يكون منهم فيه بعدي. قال: أفترى ما صنع من ولاه حقا؟
فبكى عمر، ثم خرجا فقال مولى بني شيبان: لقد رأيت رجلا يتحرى الخير، وما سمعت حجة أبين ولا مأخذ أقرب من قوله فارجع بنا إليه، فرجعا فقال عاصم الحبشي: أما أنا فأشهد أنك على الحق. فقال عمر لصاحبه اليشكري: ما تقول أنت؟ قال: ما أحسن ما قلت وما وصفت ولكني لا أفتات على المسلمين بأمر حتى أعرض عليهم ما قلت وأعلم ما حجتهم.
فمضى الرجلان وسرح عمر معهما رجلًا يعلم خبر القوم فأخبرهم اليشكري بما جرى بينه وبين عمر، فأقاموا وقالوا: كفوا عنه ما ترككم.
فقال لهم رسول عمر: فهو يكف عنكم ما لم تفسدوا، فرجع إلى عمر، ونزل بسطام وأصحابه حزة [1] من الموصل، وأقام عاصم الحبشي عند عمر فأمر
__________
[1] حزة موضع بين نصيبين ورأس عين على الخابور، وحزة أيضا قرب إربل من أرض الموصل معجم البلدان.(8/215)
له بعطاء، فمات بعد خمسة عشر يوما. وكان عمر يقول: أهلكني أمر يزيد وخصموني فيه فاستغفر الله.
وكتب عمر إِلَى عَبْد الحميد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن زَيْد بن الخطاب بما كان بينه وبين الخوارج من القول والكتاب، ويأمره أن يكفّ عنهم ما كفّوا وأن يجاهدهم إن قاتلوه، فبعث عبد الحميد إليهم: محمد بن جرير بن عبد الله البجلي في الفين، وبعث عمر: هلال بن أحوز في ألف، وكان بسطام في ثلاثمائة ويقال في ستمائة، فكان ابن جرير وهلال بإزائهم لم يقاتلوهم حتى مات عمر، فقال رجل من الخوارج لهلال.
خرجت إلى الشراة وأنت حرب ... لقد غررت يا بن أبي هلال
وإنا معشر قتلوا عليا ... وعباد بن أخضر في الضلال
وإن بصيرتي لما تبدل ... وإن الدين دين أبي بلال
وانصرف هلال وأصحابه بعد موت عمر وولاية يزيد بن عبد الملك، وتوجه بسطام إلى الموصل فقتل عاملها، فقاتله محمد بن جرير، فهزمه بسطام، وهرب أصحابه، وكان بمحمد طعنة ولم تكن له ولمن معه ناهية دون الكوفة.
وتشاغلوا بخروج يزيد بن المهلب على بسطام، فأرسل يزيد بن المهلب حبيب بن خدرة أو غيره ممن هو على رأيه يدعو إلى نصره، فضرب بسطام رسوله عشرين سوطا، وقال: لولا مكانك من الدين لقتلتك.
فلما قتل يزيد بن المهلب، وجه مسلمة، أو عامل الجزيرة، إلى بسطام وهو بالموصل السحاح بن وداع الأزدي فقتل وانهزم أصحابه، ومضى بسطام يريد الجزيرة، فانتدب له تميم بن الحباب أخو عمير بن الحباب(8/216)
السلمي وقال: إن قتلنا بسطاما أغرنا على ربيعة، فعقد له عامل الجزيرة على ثلاثة آلاف فواقع بسطاما، فقتل تميم ومالك بن عمير وهو ابن أخيه، وكانت الحرب بينهما بتامرا [1] وقتل من الخوارج عدة فقال الشاعر:
لقد أسلمت قيس تميما ومالكا ... كما أسلم السحاح قبلك تائبه
تركنا تميم بن الحباب ملحبا [2] ... تبكي عليه عرسه وقرائبه
وأقبل من حران يحمل راية ... يغالب أمر الله والله غالبه
في قصيدة.
وقال آخر:
تركنا تميم بن الحباب مجدلا ... بغيضة تامرا قليلا عوائده
ينادي سليما وهي صم سموعها ... وقد أسلمته إذ دعاها حواشده
وأتى بسطام جوخى [3] فوجه إليه مسلمة بن عبد الملك من الكوفة سعيد بن عمرو الحرشي وقال بعضهم: وجه يزيد بن عبد الملك نفسه في أربعة آلاف فلقيه بسطام بجوخى فانهزم سعيد ثم كر فقتل بسطام وأصحابه وانهزم من بقي وقتل أكثر أصحاب سعيد، وقتل مع بسطام الريان بن عبد الله اليشكري، فقال حسان وهو أحد الخوارج:
يا عين أذري دموعا منك تسجاما ... وابكي صحابة بسطام وبسطاما
في أبيات.
__________
[1] تامرا: طسوج من سواد بغداد بالجانب الشرقي. معجم البلدان.
[2] لحب: بالسيف ضرب، الشيء أثر فيه، واللحم قطعة طولا. القاموس.
[3] جوخى: اسم نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد. معجم البلدان.(8/217)
وقد قال قوم: إن عمر وجه مسلمة إلى الحرورية فظفر بهم، وكان عبد الحميد وجه إليهم من واقعهم تقربا إلى يزيد، فهزمه الخوارج.
قالوا: ولما مات سليمان بدابق، وبلغ عبد العزيز بن الوليد موته، عقد ألوية وصار إلى طبرية وهو لا يعلم من ولي بعده، ودعا إلى نفسه، فلما بلغه أن عمر الوالي وصح ذلك عنده حل ألويته، وأتاه فبايعه، فقال له عمر: أردت أن تشق عصا المسلمين وتفتنهم؟ فقال: يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي استنقذني بك، والله لو يليها غيرك ما ملكها عليّ.(8/218)
فولد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه
عبد الله الأكبر، وأم عمار، أمهما لميس بنت علي من بني الحارث بن كعب. وإبراهيم، ومروان، أمهما أم شعيب بن زبان الكلبية: وإسحاق، ويعقوب، وموسى، أمهم فاطمة بنت عبد الملك بن مروان. وعبد الملك الناسك، وعبد الله الأصغر، وعاصم، والوليد، وعبد العزيز، وزبان، ومحمد الأصغر، لأمهات أولاد شتى.
فأما عبد الله الأكبر،
فكان شجاعا، جوادا ولي العراقين ليزيد بن الوليد بن عبد الملك خلافته كلها، وهي ستة أشهر، فلما مات يزيد أقام واليا على العراقين فأراد أهل العراق أن يبايعوا له بالخلافة لمكان أبيه وقالوا:
هذا ابن الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز، فقال في ذلك يحيى بن منصور الذهلي:
خلافتكم حلوة عذبة ... وتدعى على اسمك أحلى لها
فدونكها يا بن عبد العزيز ... سربلك الله سربالها
وقال بعض الشعراء:(8/219)
لعبد الله عبد الله تجري ... صحائفنا أمير المؤمنينا
لمن زادته إمرته اتضاعا ... فذلك سنة المتخشعينا
وهو احتفر نهر ابن عمر، ونسب إليه، وساوم عبد الله بن عمر رجلًا بشيء فقال له الرجل: ما أشد مكابتك. فوجم عبد الله ثم قال: ويحك إياك أن تغضب قريشا فإن القرشي إذا غضب لم يكن له بقية.
وخرج في أيام ولايته عَبْد اللَّهِ بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بن جعفر بن أبي طالب وقد كتبنا خبره.
حدثني جماعة من أهل العلم منهم عباس بن هشام الكلبي عن أبيه، وقد ذكر ذلك المدائني، قالوا: لما ولي يزيد الناقص، بعد قتل الْوَلِيد بْن يَزِيد بْنِ عَبْدِ الْمَلِك، وجه منصور بن جمهور إلى العراق واليا عليها وأمره أن يحمل يوسف بن عمر إليه، فنفذ منصور إلى العراق في خمسة آلاف ويقال إنه لم يوله العراق، ولكنه أمره بحمل يوسف بن عمر، فوافى منصور العراق، وقد هرب يوسف منه إلى منزل له بالبلقاء من عمل دمشق، وأقام منصور بالعراق أشهرا ثم ولى يزيد بْن الوليد بْن عَبْد الملك، وهو الناقص، عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ وقال له: أن أهل العراق يحبونك فأحسن السيرة فيهم، فلما قدمها قال لمنصور بن جمهور: أنت أحد أخوالي، والخال والد فلا يتلعبن بك فتيان قريش وأقم معي.
وقال الهيثم بن علي: دخل منصور بن جمهور الكوفة، لأيام خلت من رجب، فأخذ بيوت الأموال، وأخرج العطاء والأرزاق، وأطلق من في السجون التي ليوسف من العمال وأهل الخراج، وأقام بالكوفة نحوا من(8/220)
شهرين وخليفته عليها عبيد الله بن العباس بن يزيد الكندي. واستعمل على البصرة جرير بن يزيد بْن جرير بْن عَبْد الله البجلي.
فلما قوي أمر يزيد بن الوليد وجاءته البيعة من الآفاق، وَلِّي عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ، فقدم على منصور فسمع له منصور وأطاع، وكذلك جميع قواد الشام، وقد كان خاف ألا يسلم له منصور.
قالوا: وأجرى عبد الله بن عمر على منصور في الشهر مع نزله ثمانية آلاف درهم، وكان يقاتل معه، وولى عبد الله: المسيح بن الحوارى بن زياد بن عمرو العتكي أزدشير خرة من كور فارس، وسليمان بن حبيب بن المهلب الأهواز، واقر نصر بن سيار الليثي على خراسان، وأعطى الناس أعطياتهم وأرزاقهم، فنازعه قواد الشام وقالوا: تقسم على هؤلاء فيئنا وهم عدونا؟ فقال عبد الله لأهل العراق: إني قد أرد فيئكم فيكم، وعلمت أنكم أحق فنازعني هؤلاء وأنكروا علي، فخرج أهل الكوفة إلى الجبانة وتجمعوا، فأرسل إليهم قواد أهل الشام يعتذرون ويحلفون أنهم لم يقولوا شيئا مما بلغهم.
وثار غوغاء الناس وسرعانهم من الفريقين فتناوشوا، وأصيب منهم رهط لم يعرفوا، وعبد الله بن عمر حينئذ بالحيرة، وعبيد الله بن العباس الكندي بالكوفة، وكان منصور استخلفه عليها فأراد أهل الكوفة إخراجه من القصر، فأرسل عبيد الله بن العباس إلى عمر بن الغضبان بن القبعثري فأتاه فنحى الناس عنه، وزجر السفهاء، حتى تحاجزوا من بعضهم بعضا، فبلغ ذلك ابن عمر فأرسل إلى ابن الغضبان وكساه وحمله وأعظم جائزته، وولاه(8/221)
شرطه وخراج السواد، وأمر أن يفرض لقومه من بني شيبان، ففرض لهم في ستين وفي سبعين.
وولى عبد الله بن عمر صلاة الكوفة: عاصم بن عمر أخاه، وقدم عبد الله والحسن ويزيد بنو مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن أبي طالب على عبد الله بن عمر، فنزلوا في النخع في دار مولاهم الوليد بن سعيد، فأكرمهم ابن عمر وأجازهم وأجرى عليهم في كل يوم ثلاثمائة درهم، فكانوا كذلك حتى هلك يزيد بن الوليد، وبايع الناس أخاه إبراهيم بن الوليد، ومن بعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك فقدمت بيعتهما على ابن عمر وهو بالكوفة، فبايع الناس لهما وزادهم في العطاء مائة مائة، وكتب ببيعتهما إلى الآفاق فجاءته البيعة، فبينا هو كذلك إذ أتاه الخبر بأن مروان بن محمد بن مروان قد سار في أهل الجزيرة إلى إبراهيم، وأنه امتنع من البيعة له، فاحتبس عبد الله بن عمر عبد الله بن معاوية عنده، وزاد في البر، وفي ما كان يجري عليه، وأعده ليبايع له إن ظفر مروان بإبراهيم، ويقاتل مروان معه.
فماج الناس في أمرهم وقرب مروان من الشام، وخرج إليه إبراهيم فقاتله فهزمه مروان وظفر بعساكره، ومضى إبراهيم هاربا، وثبت عبد العزيز بن الحجاج، فقاتل حتى قتل.
وأقبل إسماعيل بن عبد الله القسري أخو خالد هاربا حتى قدم الكوفة، وكان في عسكر إبراهيم فقاتل معه، فافتعل إسماعيل كتابا على لسان إبراهيم بولاية الكوفة، وأرسل إلى اليمانية فأعلمهم أن إبراهيم ولاه العراق،(8/222)
ووعدهم الإحسان والتفضيل، وقال: إني لا آمن أن يعترض علي ابن عمر. فتقبلوا ذلك منه.
وبلغ الخبر ابن عمر فباكره مع صلاة الغداة فقاتله ومعه عمر بن الغضبان، فلما رأى إسماعيل ذلك، ولا عهد معه، وأن صاحبه الذي افتعل العهد على لسانه وقد هزم وهرب، وخاف أن يظهر أمره فيفتضح ويقتل، قال لأصحابه: إني كاره لسفك الدماء، ولم أظن أن الأمر يبلغ هذا، فكفوا أيديكم. فتفرقوا عنه، ثم قال لأهل بيته: إن إبراهيم قد هزم وهرب ودخل مروان دمشق، فتحدث بذلك أهل بيته، واشتهر الخبر، واشرأبت الفتنة، ووقعت العصبية بين الناس.
وكان سبب الفتنة أن عبد الله بن عمر أعطى مضر وربيعة عطايا عظاما، ولم يعط جعفر بن نافع بن القعقاع بن شور الذهلي، وعثمان بن الخيبري أحد بني تيم اللات بن ثعلبة شيئا، ولم يسوهما بنظرائهما، فدخلا عليه فكلماه كلاما غليظا، فغضب ابن عمر وأمر بهما أن ينحيا فدفعهما عبد الملك الطائي، وكان يقوم على رأسه فخرجا مغضبين.
وكان ثمامة بن حوشب بن يزيد بن رويم الشيباني حاضرا، فغضب لصاحبيه، فخرجوا جميعا إلى الكوفة وابن عمر حينئذ بالحيرة، فلما دخلوا الكوفة نادوا: يا ربيعة، فاجتمعت إليهم ربيعة واجتمعوا وائتمروا وبلغ الخبر ابن عمر، فبعث إليهم أخاه عاصما، فأتاهم وهم بدير هند، فاجتمعوا وحشدوا، فألقى نفسه بينهم وقال: هذه يدي لكم فاحكموا، فاستحيوا منه وتشكروا له، وأقبلوا على صاحبيهم فسكنوهما فسكنا وكفّا.(8/223)
فلما أمسى ابن عمر بعث من تحت ليلته إلى عمر بن الغضبان بمائة ألف فقسمها في قومه، وأرسل إلى جعفر بن نافع بن القعقاع بعشرة آلاف درهم، وإلى عثمان بن الخيبري بعشرين ألفا، فلما رأت الشيعة ضعف ابن عمر أغمزوا فيه واجترأوا عليه وطمعوا فيه، ودعوا إلى عَبْد اللَّهِ بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بن جعفر، وكان الذي ولي ذلك هلال بن أبي الورد مولى بني عجل، فثاروا في غوغاء الناس حتى أتوا المسجد فاجتمعوا فيه، وهلال القائم بالأمر، فبايعه ناس من الشيعة لعبد الله بن معاوية، ثم مضوا من فورهم إلى عبد الله بن معاوية فأخرجوه من دار الوليد بن سعيد حتى أدخلوه القصر، وحالوا بين عاصم بن عمر وبين القصر، فلحق بأخيه عبد الله بالحيرة.
وجاء ابن معاوية الكوفيون فبايعوه وفيهم عمر بن الغضبان بن القبعثري ومنصور بن جمهور، وإسماعيل بن عبد الله القسري، ومن كان من أهل الشام له بالكوفة أصل وأهل.
وأقام ابن معاوية بالكوفة أياما، فبايعه الناس، وأتته الشيعة من المدائن، وفم النيل، واجتمع له الناس، فخرج يريد عبد الله بن عمر بالحيرة.
وبرز له ابن عمر بمن كان معه من أهل الشام، فخرج رجل من أهل الشام يسأل البراز فبرز له القاسم بن عبد الغفار العجلي، فقال له الشامي:
لقد دعوت حين دعوت وما أظن أنه يخرج إلي إلا رجل مكره، إني والله ما أريد قتالك ولكني أحببت أن ألقي إليك ما انتهى إلي. أخبرك أنه ليس معكم رجل من أهل اليمن: منصور، ولا إسماعيل، ولا غيرهما إلّا وقد(8/224)
كاتب ابن عمر، وقد كاتبته مضر وندموا على ما كان منهم، ولم أر لكم معشر ربيعة كتابا ولا رسولا، وليسوا مواقعيكم يومكم حتى تصبحوا فيواقعوكم، فإن استطعتم ألا تكون بكم الحرة [1] دون اليمن ومضر فافعلوا، فإني رجل من قيس، وسنكون غدا بإزائكم فإن أردتم الكتاب إلى صاحبنا أبلغته إياه، وإن أردتم الوفاء لمن خرجتم معه فقد أعلمتكم حال الناس، فدعا القاسم بن عبد الغفار رجالًا من قومه فأعلمهم ما قال له القيسي وأن من مع ابن عمر من مضر وربيعة سيقفوا بإزاء ميسرته وفيها ربيعة، فقال ابن معاوية: إن هذه علامة ستظهر لنا إذا أصبحنا فإن أحب عمر بن الغضبان فليأتني الليلة، وإن منعه شغل بما فيه فهو في عذر، وإني لأظن القيسي قد كذب. وأرسل إليه بذلك فأتى الرسول عمر بن الغضبان فرده إليه بكتاب يقول فيه: إن رسولي هذا بمنزلتي عنده فتأمره أن يتوثق من منصور وإسماعيل، فأبى ابن معاوية أن يفعل، وأصبح الناس غادين على القتال وقد جعل ابن معاوية أهل اليمن في الميمنة ومضر وربيعة في الميسرة، ونادى مناديه: من جاء برأس فله كذا، ومن جاء بأسير فله كذا، والمال عند عمر بن الغضبان.
والتقى فاقتتلوا، وحمل عمر بن الغضبان على ميمنة ابن عمر فانكشفوا، ومضى إسماعيل ومنصور من فورهما إلى الحيرة، وزحمت غوغاء الناس أهل اليمن فقتلوا منهم أكثر من ثلاثين رجلًا، وقتل الهاشمي وهو العباس بن عبيد الله بن عبد الله زوج بنت الملاءة، أصابه سهم. وقتل
__________
[1] كذا بالأصل وأرجح أنها تصحيف «الميسرة» .(8/225)
مكبر بن الحواري بن زياد في غيرهم، ثم انكشفوا وفيهم عبد الله بن معاوية حتى دخلوا القصر بالكوفة، وبقيت الميسرة من مضر وربيعة ومن بإزائهم من أهل الشام، وحمل أهل القلب من أهل الشام على الزيدية فانكشفوا حتى دخلوا الكوفة وبقيت الميسرة وهم نحو من خمسمائة.
قالوا: كانت عاتكة بنت الملاءة تزوجت أزواجا منهم: العباس بن عبيد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ- ببة- بْن الحارث بْن نوفل بْن الحارث بْنِ عبد المطلب، فقتل أيام عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ في العصبية بالعراق، قالوا: وهو أخو عبد الله بن معاوية بن معاوية لأمه أمهما بنت عون بن العباس بن ربيعة بن الحارث.
واقبل عامر بن ضبارة: ونباتة بن حنظلة، وعطية بن عبد الرحمن التغلبي، والنضر بن سعيد بن عمر الحرشي، حتى وقفوا على ربيعة فقالوا لعمر بن الغضبان: أما نحن يا معشر ربيعة فما كنا نأمن عليكم ما صنع الناس بأهل اليمن، ونتخوف عليكم مثلها فانصرفوا، فقال عمر: ما كنت ببارح أبدا حتى أموت. فقال: إن هذا غير مغن عنك ولا عن أصحابك شيئا. فأخذوا بعنان دابته حتى أدخلوه بيوت الكوفة.
قال أبو عبيدة: دخل ابن معاوية وأخاه القصر، فلما أمسوا قال لعمر بن الغضبان وأصحابه: يا معشر ربيعة: قد رأيتم ما صنع الناس بنا، فإن كنتم مقاتلين معنا قاتلنا معكم، وإن كنتم ترون الناس خاذلينا وإياكم، فخذوا لنا ولكم أمانا، فقد رضينا لأنفسنا ما رضيتم به لأنفسكم، فقال عمر: ما نحن بتاركيكم من إحدى الخلتين. إما أن نقاتل معكم، أو نأخذ لكم أمانا. كما نأخذه لأنفسنا فطيبوا نفسا. فأقاموا في(8/226)
القصر والزيدية على أفواه السكك يغدوا عليهم أهل الشام ويروحون يقاتلونهم أياما، ثم إن ربيعة أخذت لأنفسها وللزيدية ولعبد الله بن معاوية أمانا ألا يتبعوهم، وأن يذهبوا حيث شاءوا.
وأرسل ابن عمر إلى عمر بن الغضبان يأمره بنزول القصر، وإخراج عبد الله بن معاوية، فأرسل إليه ابن الغضبان فرحله ومن معه من شيعته ومن تبعه من: أهل المدائن، وأهل السواد، وأهل الكوفة، فسارت بهم رسل ابن عمر حتى أخرجوهم من الجسر، ونزل ابن عمر القصر.
وكانت أم عبد الله بن معاوية ابنة عون بن العباس بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، فقال الفضل بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن الْعَبَّاس بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب:
لقد أنكرت أن تأتي بخير ... وأمك أخت يَعْقُوب بن عون
قال أبو عبيدة: وكان وفاة يزيد بن الوليد بدمشق لانسلاخ ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وهو ابن ست وأربعين سنة، فكانت ولايته ستة أشهر وليلتين، وبويع إبراهيم، وأمه أم ولد، بدمشق فلم يلبث إلا شهرا أو نحوه حتى أقبل مروان من الجزيرة، فدخل دمشق لثلاث خلون من صفر، فهرب إبراهيم وخلع، وبايع الناس مروان بن محمد، وأمه أم ولد، ويكنى أبا عبد الملك.
قال أبو عبيدة: فلما ظهر مروان، واستقام أمره، كتب إلى النضر بن سعيد بن عمرو الحرشي بولاية العراق، وإلى من معه من النزارية يأمرهم بالسمع والطاعة له، والنضر يومئذ مع عبد الله بن عمر مقيم بالحيرة، فقال من مع النضر من المضرية الشاميين: إنه لا طاقة لنا بمن مع ابن عمر من(8/227)
اليمانية إلا أن يأتيك مدد من قبل مروان يعلم به هؤلاء صحة أمرك وتولية مروان إياك، وغلبة مروان على الشام، واتساق الأمر له، فكتب النضر بذلك إلى مروان، وبلغ ذلك ابن عمر فبادر فأخرج النضر من الحيرة، فأتى الكوفة، فانطوت عليه ربيعة، وأنزلوه دار مصقلة بن هبيرة الشيباني، وتقوضت إليه مضر الشام فأتوه بالكوفة فأنزل عامر بن ضبارة دار المسور بن عطاء في بني شيبان، وأنزل أبان النميري إخوته دار حوشب بن يزيد بن رويم، وأنزل نباته ومن معه دار عتبة بن النهاس العجلي، وفرق بقية أصحابه في دور بكر بن وائل.
ولما بلغ كتاب النضر مروان وجه إليه خالد بن الغزيل الكلابي، أحد بني خويلد بن نفيل، في ثلاثمائة فارس، وأبان بن معاوية النميري ثلاثمائة، وبلغ ابن عمر مسيرهما فبادر إلى النضر ليقتله أو يخرجه من العراق قبل قدوم المدد، ووجه رجلًا من بني تميم إلى الغزيل وقد قرب من الكوفة فقال له:
أنا رسول النضر بن سعيد إليك وهو يقول لك: إنا قد توادعنا هذين اليومين لننظر في أمرنا، فأقم في مكانك وأجم خيلك، فإذا مضى اليومان فأقبل فإن ابن عمر قد وعدنا أن يصير إلى طاعة أمير المؤمنين مروان.
وأراد ابن عمر أن يربّثه ليخلو به فيقتله، أو يخرجه من الكوفة، فظن ابن الغزيل أن الخبر حق، فاستراح إلى المقام، فأقام، وأقبل ابن عمر إلى النضر فيمن معه من اليمانية والنزارية، وأتاه النضر في النزارية من أهل العراق والشام، وكانوا قليلا، فلم يقم لهم النضر، وأقبل منهزما حتى دخل الكوفة، وبقي أخوه مسلمة بن سعيد، وأبو أمية بن المغيرة الثقفي يحمون الناس على أفواه السكك.(8/228)
وحلف ابن عمر ليحرقن دور بكر بن وائل، وبلغ ابن الغزيل الخبر وهو بموضعه، فعلم أنه مكر به فأقبل مغذا في سرعان خيله حتى دخل الكوفة، فحمل ابن عمر وأصحابه، وحمل مسلمة بن سعيد عليهم أيضا فهزموهم حتى أدخلوهم الحيرة، ثم أن حنظلة بن نباته، وعامر بن ضبارة، والريان بن سلمة اجتمعوا فقالوا: إنما نطلب هذا الأمر لأهله من بني مروان، وأي رجل منهم ظفر بالملك فغير خارج منهم، فعلام تقتلون أنفسكم؟ فانصرفوا إلى عساكرهم، وبعث ابن عمر في جوف الليل إلى ابن الغزيل مائة ألف، ووعده إن غلب عدات أرغب له فيها، فتثاقل عن نصرة الحرشي، وخرج أيوب بن حوشب بن يزيد في رهط من أصحابه في طلب الحرشي، وكان قد صار إلى دير الأعور، فرده من ليلته، وأصبح في منزله.
ثم تغادوا للقتال وجعلوا يغدون ويروحون للقتال حتى بلغهم إقبال الضحاك بن قيس الخارجي في ثلاثة آلاف أو أربعة آلاف من الحرورية إلى العراق.
وقال الهيثم بن عدي: كتب مروان إلى النضر بن سعيد بولايته على العراق، فامتنع عليه ابن عمر، فصار الناس فرقتين: أهل اليمن، وخصائص من قريش مع ابن عمر، ومضر كلها من أهل العراق وأهل الشام مع النضر بن سعيد في طاعة مروان.
وتحول النضر: إلى دار مصقلة بن هبيرة الشيباني، وتحولت إليه المضرية كلها، وابن بشر بن عبد الملك بن بشر بن مروان، والحكم بن عبد الملك، وآل بشر بن مروان، فنهض إليهم ابن عمر يوم جمعة فهزمهم حتى دخلوا البيوت، ثم انصرف، فلما كانت ليلة السبت قدم ابن الغزيل من(8/229)
قبل مروان في أربعة آلاف من أهل الجزيرة وقنسرين، فدخلوا الكوفة ليلة السبت، ثم غدوا بغلس فأخذوا في أطراف الكوفة حتى انتهوا إلى الغريين.
وخرج ابن عمر في اليمانية إلى غربي الحيرة وكردس الكراديس، وكان منصور بن جمهور معه، وكان يومئذ على الميمنة، وأقبل الحرشي في القيسية حتى حمل على ابن عمر في اليمانية، فانكشفوا حتى بلغوا أدنى بيوت الحيرة، وانحدر منصور إلى غربي بيوت الحيرة، ثم أخذ على النجف حتى ظهر على الطريق الغربية من حيث تجري الخيل فصار من وراء القيسية، ثم حمل عليهم وهو في نحو من أربعمائة وهيأ له الحرشي جلد أصحابه: ابن الغزيل ومن معه.
قال الهيثم: فأزالهم منصور قدر غلوة، ثم ثبتوا له في الخصاصات [1] ، ثم حمل عليهم منصور مرة أخرى فقتل منهم نحوا من سبعين فانكفأوا حتى لجأوا إلى مصلى خالد بن عبد الله، ثم حمل عليهم فأدخلهم البيوت، ثم غدوا يوم الأحد فسألهم الحرشي الموادعة إلى أجل سماه.
وأقبل الضحاك بن قيس الحروري، فلما بلغ ابن عمر والنضر بن عمرو الحرشي إقباله اجتمعت كلمة ابن عمر والنضر على قتاله، ودخل ابن عمر قصر الكوفة، وتحولت اليمانية، فنزلت في عشائرها بالكوفة، وذلك في رجب سنة سبع وعشرين ومائة، وأقبل الضحاك حتى نزل النخيلة، وخندق
__________
[1] الخص: البيت من القصب، أو البيت يسقف بخشبة كالأزج، وحانوت الخمار، والخصاصة: ما يبقى من الكرم. القاموس.(8/230)
ابن عمر خندقا في أطراف الكوفة، وسنكتب أخبار الضحاك فيما بعد إن شاء الله.
وقال ابن الكلبي: لما ظهر مروان دعا عبد الله بن عمر إلى نفسه، وقال: أنا عين بن عين بن عين، أقتل ميم بن ميم بن ميم، فأظهر أهل العراق الرغبة فيه إذ كان ابن عمر بن عبد العزيز، وقالوا: هذا ابن الرجل الصالح، وهو أولى بالأمر من الجعدي، فقال فيه يحيى بن منصور الذهلي:
عليك بها يا بن عبد العزيز ... سر بلك الله سربالها
وولى عبد الله بن عمر: عمرو بن سهيل بن عبد العزيز البصرة، وهو كليجة.
ثم إن الضحاك بن قيس الشيباني الحروري أقبل من ناحية الموصل مما يلي شهرزور فيمن معه من الخوارج، فلما بلغ ابن عمر إقباله إليه وهو بالحيرة استعد له وتحول إلى قصر الكوفة، فنزل الضحاك بإزائه فواقعه فهزمه الضحاك، وقتل ممن معه: عاصم بن عمر أخوه، قتله البرذون بن مورق الشيباني أو غيره وجعفر بن العباس الكندي أخو عبيد الله بن العباس، قتله عبد الملك بن علقمة العبدي. وكان جعفر على شرطة ابن عمر، وكانت المعركة بين الكوفة والحيرة، ومضى عبد الله بن عمر نحو واسط، وسار النضر بن سعيد الحرشي يريد مدينة واسط، فلم يدخلها لمنع عامل ابن عمر إياه من دخولها ودفعه له عنها، وهو شبيب بن مالك الغساني، وكان شبيب لما بلغه قرب النضر من واسط أغلق أبواب المدينة وتحصن، وبدر ابن عمر فدخلها وتحصن بها، واتبعه الضحاك فحصره بها أشهرا حتى أظهر الجنوح إليه وصالحه على أربعة آلاف ألف درهم، وعلى أن يسير الضحاك إلى مروان(8/231)
فيحاربه، فإن هو ظفر بمروان سمع وأطاع له، وإلا فلا بيعة له عليه إن غلبه مروان. وتعاقدا على محاربة مروان وأصحابه.
وغلب الضحاك على الكوفة وسوادها، وتوجه الضحاك يريد مروان، وسار مروان يريد العراق لقتال الضحاك، فلما بلغه وهو بقرب قرقيساء أن سليمان بن هشام بن عبد الملك قد خرج عليه انصرف إليه فلقيه بخساف [1] أو قربها، فاستباح عسكره، وكان سليمان خليفة إبراهيم على عسكره، ثم أمنه مروان، ثم خرج أيضا عليه، وانصرف مروان إلى الرقة وأتى حران وكان سليمان في موال لهشام، فلقي الضحاك فصار معه وصلى خلفه، فقال بعض الخوارج:
ألم تر أن الله أنزل نصره ... وصلت قريش خلف بكر بن وائل
ويقال إن ذلك قيل في ابن عمر، حين جنح إلى السلم.
وبلغ مروان انتقاض أهل حمص عليه، فأتاها وأقام عليها حتى فتحها، وهدم حائطها، ثم إن الضحاك أتى الجزيرة فحاصر نصيبين فلم يظفر بها، فأتى حران ومنزل مروان بها فواقعه مروان ثلاثة أيام ثم قتل.
وولى مروان يزيد بن عمر بن هبيرة العراق فسار إلى واسط وعبد الله بن عمر بها وقد تهيأ للحصار، وانضم إليه قوم من الخوارج من قبل الضحاك، وعزم على قتال ابن هبيرة، ثم تفرقت الخوارج عنه، فتجمعت مضر ممن كان بواسط فردموا باب القصر على ابن عمر، وبعثوا العلاء بن مزروع إلى
__________
[1] خساف برية بين بالس (مسكنة) وحلب، مشهورة عند أهل حلب وبالس. معجم البلدان.(8/232)
ابن هبيرة يخبرونه أنهم قد حصروه فأقبل لا يلوي على شيء وحصره ثم أعطاه الأمان على حكم مروان، وكتب إلى مروان بذلك فكتب إليه مروان اقتله ولا تناظره. فراجعه في أمره فكتب إليه أن احمله إلي فقال: أنا ابن عمر بن عبد العزيز وأرجو ألا يقدم علي مروان.
فحمله ابن هبيرة فحبسه مروان، ثم بعث إليه من اغتاله بشربة سقيها، ويقال ديس بطنه، ويقال غم حتى مات.
وقتل ابن عمر وكان لابن عمر ابن يقال له بشر كان في صحابة المهدي أمير المؤمنين.
وأما منصور بن جمهور الذي قيل له، منصور بن جمهور أمير غير مأمور، فإنه خلع مروان وأقام بالجبل يجبي خراجه، ومال إلى شيبان خليفة الضحاك وولي عهده.
ثم مضي إلى السند فغلب عليها حتى قدم عليه مغلس العبدي واليا على السند من قبل أبي مسلم فحاربه حتى قتله وهزم جنده، فلما بلغ أبا مسلم قتل عامله عقد لموسى بن كعب التميمي على السند فقدمها وواقع منصورا فهزمه وجيشه وقتل أخاه منظور بن جمهور، وخرج منصور مفلولا هاربا حتى ورد الهل [1] فمات عطشا.
وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده قال: قتل مع ابن عمر: عاصم أخوه فدفنه إلى جانب الأشعث، قال: وقتل جعفر بن العباس بن يزيد الكندي مع ابن عمر حين قاتل الضحاك والخوارج بين
__________
[1] لم أقف على تعريف لهذا الموقع.(8/233)
الكوفة والحيرة، وكان عبيد الله بن العباس بن يزيد يقاتل مع أخيه، ثم جنح إلى الخوارج. فقال أبو عطاء السندي.
فقل لعبيد الله لو كان جعفر ... هو الحي لم يجنح وأنت قتيل
جنحت وقد ردوا أخاك وأكفروا ... أباك فماذا بعد ذاك تقول
فقال: أقول أعضك الله ببظر أمك.
وولي عبيد الله لأبي العباس أمير المؤمنين قنسرين، وللمنصور أرمينية.
وبها مات.
وقال امرأة من الصفرية:
نحن قتلنا عاصما وجعفرا ... والفارس الضبي حين أصحرا
ونحن جبنا الخندق المقعرا
- ومن ولد عبد العزيز بن مروان: أبو بكر،
وكان من خيار ولده وكان يقدر فيه إذا أفضت الخلافة إليه أن يوليه عهده، وله عقب. وعاصم بن عبد العزيز.
وكان من ولده: الأصبغ بن سفيان بن عاصم، وكان الأصبغ مخنثا وأمه ابنة عمر بن عبد العزيز.
ومن ولد عبد العزيز: الأصبغ بن عبد العزيز، وأمه أم ولد. وكان من ولده: دحية بن مصعب بن الأصبغ بن عبد العزيز، خرج أيام موسى أمير المؤمنين بمصر، فقتله عامله عليها بعد قتال، وهو الفضل بْن صالح بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العباس، وبعث برأسه، فنصب ببغداد على الجسر، ويقال أن الذي حاربه وبعث برأسه علي بن سليمان بن علي.(8/234)
فتنة ابن سهيل:
ومن ولد عبد العزيز بن مروان: سهيل بن عبد العزيز،
وكان ابنه عمرو بن سهيل بن عبد العزيز يدعى كيلجة لقصره، من رجال قريش، ولاه عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ البصرة. وكان الذي يلي شرط البصرة قبله المسور بن عباد بن عمرو بن الحصين الحبطي من بني تميم، فاستعمل عمرو بن سهيل رجلًا من بني سدوس، فحقد ذلك المسور عليه وجانبته تميم غضبا للمسور. وقتل عبد الله بن علي عمرو بن سهيل فيمن قتل وصلبه فيمن صلب من بني أمية.
المدائني وغيره قالوا: اجتمع الناس على يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فاستعمل على العراق عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ، فكتب عبد الله إلى عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي عُثْمَان بْن عَبْد الله بن أمية بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد بولاية البصرة، ولم يكن معه جند فضعف أمره، وكان أهل البصرة قد تراضوا به حتى قتل الوليد، وهرب عامل يوسف بن عمر عنها.
وقدم سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة المخزومي داعية لمروان بن محمد، فنزل عند أبي العسكر المسمعي مستخفيا، ودس إلى وجوه أهل البصرة يدعوهم إلى الدخول في طاعة مروان، وجعل يعدهم الأموال ويمنيهم أن تأتيهم من قبل مروان. فلما تأخر ذلك ولم يروا لقوله مصداقا جعل الصبيان يقولون في السككك: من يبايع بنسية ابن جعدة الشقية. ظنوا أن جعدة امرأة.
وبلغ ابن عمر بن عبد العزيز وهن أمر عبد الله بن أبي عثمان، فولي البصرة عمرو بن سهيل، ووجه معه جندا من النجارية من أهل الشام فيهم(8/235)
أبو بحر الجذامي، فهرب ابن جعدة، واستعمل عمرو على شرطه محمد بن وكيع بن أبي سود.
ومات يزيد بن الوليد الناقص في آخر ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، وكتب مروان إلى المسور بن عمر بن عباد، ووجوه بني تميم، يدعوهم إلى طاعته والوثوب بابن سهيل. ويقال بل كتب المسور إلى مروان مبتدئا ببيعته وطاعته واستأذنه في الوثوب بابن سهيل، وجعل المسور يبايع الناس لمروان ويدعوهم إليه حتى فشا ذلك والمسور في داره بالحبطات.
وبلغ ابن سهيل خبره فناهضه، ومعه الأزد، وربيعة، وقريش والنجارية ومن معه من أهل الشام، وكان مع ابن سهيل سفيان بن معاوية، وداود بن حاتم، وكان المسور في: بني تميم، وباهله، وبني عامر بن صعصعة، فكان يتقاتلان ثم يتحاجزان، ويصير المسور إلى داره.
فلامه حرب بن قطن الهلالي على مصيره إلى منزله وحذره أن يطرقه ابن سهيل ليلا، وقال: أخاف ألا يأتيك غياثك حتى يقضي القوم أربهم منك. فتحول إلى بني العنبر، وتحول من كان منزله نائيا عن بني تميم مثل: الحكم بن يزيد الأسيدي، والترجمان بن هريم بن أبي طحمة المجاشعي، والمغيرة بن الفزع، فكان يقاتلهم.
واتهم ابن سهيل محمد بن وكيع فعزله عن شرطته، وولاها المنهال بن حاتم بن سويد بن منجوف.
وخندق المسور على أبواب السكك لما رأى من احتفال الأزد، وربيعة مع ابن سهيل واختذال نجاريته ومن معه من الشاميين. وكان مع المسور عمرو بن قتيبة، فكانوا يقتتلون خلف الخنادق ويخرجون فيقتتلون.(8/236)
ثم إن بني سعد بن زيد مناة بن تميم قالوا: قد كتب مروان إلى وجوهنا، كما كتب إلى المسور فلا نرضى أن تكون رئيسا. ففارقوه ورأسوا عليهم القاسم بن محمد الثقفي، وتابعهم على ذلك: ضبة، وعدي، والرباب.
وبلغ ذلك ابن سهيل فوجه إليهم أبا بحر الجذامي في الخيول فلما ناوشهم استطرد لهم حتى باعدهم عن أفواه السكك، ثم كر عليهم فهزمهم وقتل منهم.
وكان رؤبة بن العجاج يركب فرسه ويجول في هذه الفتنة ويقول:
صبرا بني الكرام يا حماة الأدبار ... إن الفرار يا بني تميم عار [1]
ثم إنهم حكموا عبد الكريم بن سليط الحنفي في أن يجعل الرئاسة لمن يرى فحكم للمسور لبأسه، وكثرة ولده، ومواليه، وفرسانه، وكان الحكم مائلًا إلى المسور، فاقتتلوا فهزم ابن سهيل وأصحابه وكشفوا ووقعت العصبية، فنزل أبو الفيض الشامي وأصحابه فصار مع قيس، وكان أحد بني عبد الله بن غطفان، وجعل يرمي أصحاب ابن سهيل وهو يقول: اللهم اخز عدوك. ولم يزالوا يقتتلون حينا.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: اقتتلوا سبعة أشهر.
قالوا: وألقى القاسم الحنفي نارا في قصب وأتبان كانت على نهر بني جشم بن سعد فقال حرب بن قطن الهلالي للمسور: وجه إلى بني حنيفة من يحرقهم. فقال: فيهم قوم براء لا نؤاخذهم بفعلة فاسق سفيه.
__________
[1] ليس في ديوان رؤبة المطبوع.(8/237)
ثم مضى حرب مخالفا له فحرق على بني حنيفة ليلته حتى أصبح، قالوا:
فبيناهم على أمرهم هذا إذ أقبل مروان يريد العراق، والضحاك الشاري قد حصر عبد الله بن عمر في مدينة واسط، ومعه منصور بن جمهور فجنح منصور إلى الضحاك وهذا الثبت، وكلب تقول: لم يجنح إليه، وبايعه ابن عمر وسلم الأمر إليه على شريطة اشترطها.
قال أبو عبيدة: ولحق النضر بن عمرو بمروان، ووجه الضحاك إلى البصرة عمارا الحروري في أربعين رجلًا فنزلوا ببلاباذ [1] ونادى مناديهم: أيما رجل علق على بابه صوفة حمراء فقد جنح للسلم، وبايعته الأزد، وربيعة، وكانوا شيعة ابن سهيل، وثبتت مضر في مواضعها، فلما رأى ابن سهيل إن ابن عمر قد غلب، وأن مروان قد أقبل هرب ليلًا فأصبحت دار الإمارة وليس فيها أحد، وهرب عمار لهرب ابن سهيل، وإنما كان مجيئه للعقد بين ابن عمر والضحاك.
وغدا المسور، وكان قد اختضب، فسرح الحناء ولم يغسله، وكان شعره كأنه الليف طويلًا سبطا وهو على بغلة، فمنعه بنو سعد أن يدخل دار الإمارة حسدا له، فلما رأى ذلك عدل إلى بيضاء ابن زياد فنزلها.
وجاءت بنو سعد بعباد بن منصور الناجي فأنزلوه دار الإمارة، فكان يصلي بالناس، واصطلحوا عليه، ثم إن بني قيس بن ثعلبه أحدثوا أحداثا، فسار إليهم المسور فقاتلهم، ثم حرق دورهم وسوقهم التي بالمربد، ولم يزل المسور على هذه الحال حتى قدم سلم بن قتيبة عاملًا
__________
[1] قرية في شرقي الموصل من أعمال نينوى، بينها وبين الموصل رحلة خفيفة. معجم البلدان.(8/238)
ليزيد بن هبيرة على البصرة، ومات المسور بعد ذلك بقليل، وكان المسور قد خرب دور آل المهلب لما بلغه قدوم سلم، فلما قدم سلم حال بينه وبين ما بقي من دورهم. وكان عمرو بن سهيل حيا حتى قتله عبد الله بن علي فيمن قتل من بني أمية بالشام.
حدثني الحرمازي عن أبي عبيدة قال: قال عمر لابنه عبد الله: ما على خاتمك؟ قال: لكل عمل ثواب. قال عمر: فاستثب رب الأرباب.
قالوا: وكان عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ كتب إلى ابن سهيل يأمره أن يوفد إليه وفدا فأرسل إليه جماعة يأمرهم بذلك، وأرسل إلى عمرو بن عبيد فامتنع عليه، فأعاد إليه شبيب بن شيبة فقال عمرو لشبيب: قل له أن أول ما يسألني عنه عن سيرتك فما تراني قائلًا فيك؟ فكف عن عمرو، فخرج في الوفد: شبيب بن شيبة، وإسماعيل المكي، وواصل بن عطاء.
قال خالد بن صفوان: فدخلوا على عبد الله بن عمر وأنا عنده فتكلموا رجلًا رجلًا فما بقي فن من فنون الكلام إلا تكلموا فيه، وبقي واصل آخرهم وقد سبق إلى أبواب الفنون، فتكلم رجل ضئيل الصوت، خفي المنطق فلم يزل يعلو صوته ويرتفع، وكأنما جمعت له محاسن الأقوال فهو يتخيرها على بصيرة، فأمر لهم بألفين ألفين فقبلوا إلا واصلًا، فقال لهم واصل: والله لئن كنتم شخصتم لله فما فيما أعطيتم عوض مما شخصتم له، ولئن كنتم شخصتم للدنيا فما أعطيتم ما تستحقون.
وجعل يعطي واصلًا ويزيده حتى بلغ مائة ألف درهم، فقال واصل: إني لم آب ما أمرت به، ولا استقلالا له، ولا استزادة لك، ولو(8/239)
كنت إنما أتيت لذلك لقد بذلت ما مثله كفى وأقنع، ولكني شخصت لغير ما أعطيت.
وقال الأصمعي: قدم ابن هبيرة فأقر المسور على الأحداث، وعباد بن منصور على القضاء والصلاة، قال غيلان بن حريث الربعي:
أما ورب الكعبة المفضله ... على البيوت كلها المؤثله
إن بني الأعز أعني حنظله ... وآل عمرو ألحموا في المنزله
بمأزق يخاف فيه المقتله ... ضنك ترى أبطاله مجدله
تميميون [1] حول الترجمان قنبله ... حول أغر لم يكن يزمله
من آل سفيان كريم المعدله ... مرتفع الطرف طويل المحمله
يضرب في الغما ليوث الغيطله
في أبيات. وقال أيضا:
يا مسور بن عمر بن عباد ... يا سيد المصرين وابن الأسياد
وخير من غاب وخير الشهاد ... كم فيكم أبيض واري الأزناد
مقابل العم كريم الأجداد ... إنك يوم السبت غير حياد
بالسيف ضراب رؤوس الصداد
وقال رؤبة بن العجاج:
إن تميما تبتلى بأقوام ... ليسوا بأخوال ولا بأعمام
لا يتقون [2] لحدود الإسلام ... من رقة الدين وبعد الأرحام
__________
[1] بهامش الأصل: يمشون.
[2] بهامش الأصل: موقون.(8/240)
منهم لكيز وهي شر الأصرام ... والأزد والأزد صغار الأحلام
وقد رأوا في مستهل زمزام ... في لجب بحر كأركان الرام
كتيبة للترجمان المقدام ... والمسور السامي بغير إحجام
منازل تملأ عين المغتام ... إذا الكماة استمسكوا بالإعصام [1]
في أبيات.
وقال أبو عبيدة: لما قام مروان، وقدم يزيد بن عمر العراق شذب قتادة الخوارج ومن لحق بهم من شيعة يزيد بن الوليد، وطار آل المهلب تحت كل كوكب، وولى يزيد: سلما البصرة.
ومن ولد عبد العزيز بن مروان: أبو زبان، واسمه الأصبغ بن عبد العزيز، وكان عالما ينظر في النجوم والطب، وكان ذا قدر في بني أمية، وهلك بمصر قبل أبيه بخمس عشرة ليلة [2]
__________
[1] ديوان رؤبة ص 136- 139.
[2] بهامش الأصل: بلغ العرض ولله الحمد.(8/241)
أمر يزيد بن عبد الملك بن مروان [1]
يكنى يزيد أبا خالد، وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وإليها ينسب، بويع له بالخلافة سنة إحدى ومائة، وكان سليمان بن عبد الملك ولى عمر بن عبد العزيز العهد في مرضه ويزيد بعده.
وقال سليمان: لولا أني أخاف اختلاف بني مروان بعدي ووقوع الفتنة ما وليت يزيد ولاقتصرت على عمر بن عبد العزيز.
وقال عمر بن عبد العزيز حين احتضر: لو اخترت للإمامة غير يزيد كان أولى، ولكني أخاف أن أخرجتها من بني عبد الملك أن تقع في ذلك فتنة وفرقة، وأنا أولي سليمان ما تولى، والمسلمون أولى بالنظر في أمرهم، فكانت ولاية يزيد بن عبد الملك أربع سنين وشهرا، ودفن بالجولان من سواد الأردن وذلك سنة خمس ومائة، ويقال في أول سنة ست ومائة، وله سبع وثلاثون سنة وأشهر، ويقال ابن اثنتين وأربعين سنة، ويقال مات بالبلقاء من عمل دمشق.
__________
[1] بهامش الأصل: خلافة يزيد بن عبد الملك في سنة 101.(8/243)
قالوا: وكان يزيد جميلًا، حسن الشعر أهدل [1] ، وكان صاحب لهو وطرب وهزل، وهو أول من غالى بالقيان.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ عَنِ الْهَيْثَم بْن عدي عَن ابْن عياش الْهَمْدَانِيّ قال: كان يزيد صاحب طرب وفتوة، وهو أول من اشترى حلة بخمسة آلاف دينار.
قالوا: وكان نديمه الأحوص بن عبد الله بن محمد بن عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، واسمه قيس بن عصمة بن أمية بن ضبيعة بْن زيد بْن مَالِك بْن عوف بْن عَمْرو بْن عوف بْن مَالِك بْن الأوس، وكان يرمى بالأبنة، وكان منفيا، نفاه الوليد بن عبد الملك بشهادة عراك الغفاري إلى دهلك، فلما ولي يزيد بن عبد الملك أقدمه، ونفى عراكا فقال الأحوص:
الآن استقر الملك في مستقره ... وعاد لعرف أمره المتنكر
طريد تلافاه يزيد برحمة ... فلم يمس من نعمائه يتعذر [2]
حدثني أبو حسن المدائني عن أبي جزي قال: عمد يزيد بن عبد الملك إلى كل ما صنعه عمر بن عبد العزيز مما لم يوافقه فرده، ولم يرهب فيه شنعة عاجلة، ولا إثما آجلا.
المدائني قال: وظف محمد بن يوسف أخو الحجاج على أهل اليمن وظيفة جعلها عليهم خراجا، فكتب عمر بن عبد العزيز إِلَى عامله يأمره بإلغاء تلك الوظيفة والاقتصار على العشر، وقال: لأن لا يأتيني من اليمن حفنة كتم أحب إلي من أن تقر هذه الوظيفة.
__________
[1] أي مسترخي الشفة. القاموس.
[2] شعر الأحوص الأنصاري ص 45.(8/244)
فلما ولي يزيد بن عبد الملك بعد عمر أمر بردها، وكتب إلى عروة بن محمد عامله إن ابن عبد العزيز كان مغرورا منك ومن أشباهك، فأعد على أهل اليمن الضريبة التي كان عمر أسقطها ولو صاروا حرضا [1] .
حدثني أبو مسعود عن عوانة قال: أقر يزيد عدي بن أرطاة الفزاري عامل عمر بن عبد العزيز على البصرة، وولى عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري المدينة، فشكته فاطمة بنت الْحُسَيْن بْن علي، وهي أم عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن علي وإخوته وكتبت إليه كتابا وأرسلت رسولا وقالت إنه يدعوني إلى تزوجه وأنا امرأة لا حاجة لي في التزوج لأني مشبلة على ولدي ولا آمن من أن يتكذب على ولدي حتى يوقعهم فيما أكره ليغيظني بذلك، وأمير المؤمنين أحق من نظر في ودافع عني، فإني ابنة عمه وإحدى نسائه. فكان ذلك سبب غضبه عليه وعزله ومطالبته بمال أخرج عليه، فلما أراد الخروج من المدينة بكى ثُمَّ قَالَ: والله ما أبكي جزعا من العزل ولا أسفا عَلَى الولاية، ولكني أربأ بهذه الوجوه أن يهينها من لا يعرف لَهَا مثل الَّذِي أعرف، ولا يوجب من حقها ما أوجب. ثُمَّ أنشد:
فما السجن أضناني ولا القيد شفني ... ولكنني من خشية النار أجزع
على أن أقواما أخاف عليهم ... إذا غبت أن يعطوا الذي كنت أمنع
المدائني عن محمد بن خالد قال: كان لسعيد بن خالد بن أسيد قصر بحيال قصر يزيد بن عبد الملك، فكان يزيد إذا ركب إلى الجمعة توافيا في
__________
[1] أي حتى لو أشرفوا على الهلاك. القاموس.(8/245)
موضع واحد، فقال له يزيد في بعض الجمع: أما تخل بجمعة واحدة؟
فقال سعيد: إن قصري بحيال قصرك فإذا ركبتَ ركبتُ فالتقينا في هذا الموضع، فقال يزيد: فإن لي إليك حاجة. قال: إذا لا ترد عنها يا أمير المؤمنين. قال: قصرك. قال: هو لك. قال: فلك به خمس حوائج فاذكرها. قال: أولاهن أن ترد القصر علي. قال: قد فعلت فاذكر الأربع فذكرها فقضاها له.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ عوانة قَالَ: قال يزيد: لذة الدنيا في أربع: الغناء، والطلاء، ومجالسة من تحب، وإعطاء السائل.
حدثني محمد بن سعد كاتب الواقدي عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ: لما ولى يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس المدينة خطب فاطمة بنت عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طالب فأبت وقالت:
ما النكاح من حاجتي أنا مشبلة مقيمة على ولدي، فألح عليها الخطبة فقال: والله لئن لَمْ تفعلي لأخذن أكبر ولدك، يعني عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن علي بن أبي طالب في شراب، ثم لأضربنه على رؤوس الناس، ولأفعلن بعد هذا، ولأفعلن حتى أفضحك، فبعثت إلى يزيد بن عبد الملك رسولًا، وكتبت معه كتابا، فذكرت قرابتها ورحمها، وشكت عبد الرحمن وذكرت ما أرادها عليه، وبعثت به إليه وسألته أن يجيرها منه، وقالت: إنما أنا حرمتك واحدى نسائك، والله لو كَانَ التزويج من شأني ما كَانَ لي بكفء، وإن عمر بن الخطاب كان يقول عَلَى منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لأمنعن ذوات الأحساب إلا من الأكفاء.(8/246)
قال وكان ابن هرمز على الديوان بالمدينة، وأراد الخروج، فأرسلت إليه وأخبرته بما تلقى من ابن الضحاك، وسألته أن ينمي ذلك إلى يزيد، فلما دخل على يزيد سأله عن المدينة وأهلها فبينا هو يخبره، إذ أتى حاجب يزيد فأخبره بمكان رسول فاطمة، فذكر ابن هرمز ما حملته وأعلمه أنها أرسلت إليه، فألقت إليه أمرها وأمر ابن الضحاك، فدعا يزيد برسولها وقرأ كتابها فغضب غضبا شديدا، ونزل عَن سريره إلى الأرض، وضرب بقضيب كان معه الأرض حَتَّى أثار الغبار، وقال: ابن الضحاك يتزوج امرأة من بني عبد مناف؟ ثم قال: من يسمعني صوت ابن الضحاك بعذابه إياه وأنا على فراشي؟ قال ابن هرمز: أنا أدلك عليه. عبد الواحد بن عبد الله النصري، وهو بالطائف، فكتب إليه يزيد كتابا يأمره فيه بالمسير إلى المدينة وولايتها، وأن يغرم عبد الرحمن بن الضحاك أربعين ألف دينار، ويقفه للناس، وأمر لرسول فاطمة بجائزة وصرفه.
فمر الرسول الموجه إلى الطائف بابن الضحاك فوقع في نفسه خوف العزل، فأعطاه ألف دينار فأخبره الخبر وأحلفه أن لا يبرح المدينة. وجلس ابن الضحاك على رواحله حتى لحق بمسلمة بن عبد الملك فقال له: يا أبا سعيد كن لي جارا من أمير المؤمنين فإن لي رحما وقرابة، وإن خليتني من يديك افتضحت.
فلقي مسلمة يزيد في غبش الليل فكلمه فيه فقال يزيد: لا أرين وجهه ولا يخرج إلى عسكري حتى يرجع من حيث جاء فينفذ فيه أمري.
فرجع من دمشق حتى وافى المدينة فوجد النصري بها فأغرمه أربعين ألف(8/247)
دينار، فلم يصل إليها حتى سأل الناس فيها، وكان أخذ هذه الأربعين الألف الدينار من بيت المال ففرقها على نفر من قريش وغيرهم.
قال الواقدي: وحدثني عقبة بن سنان قال: لما رجع ابن الضحاك إلى المدينة اتبع الناس فأخذ ذلك المال منهم، فمنهم من وجد عنده ما أعطاه، ومنهم من لم يوجد عنده لأنه فرقه في غرمائه، فكان يطاف به في جبة صوف يسأل فيها:
وقال الواقدي: حدثني زفر بن محمد الفهري عن أشياخه قال: لما أحس عبد الرحمن بالعزل فرق هذا المال في قومه فكتب يزيد أن يحتسب ذلك ويغرمه.
قالوا: فتنازع محمد بن عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْن، وعبد الله بن حسن بن حسن، وزيد بن علي فَقَالَ عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن لزيد: يا بن السندية الساحرة، فيقال إنه قال له: يا بن الهندكانية، فانصرف زيد إلى عمته فاطمة بنت علي بن الحسين، وهي أم عبد الله بن حسن فقالت: إن سب أمك فسبني فعاد للخصومة فشتمه فقال له زيد: أتذكر ابن الضحاك حين كانت تبعث إليه أمك معك بالعلك الأخضر والأحمر والأصفر فتقول له:
فمك فمك فتطرح ذلك في فمه. فأتاها بنوها فأخبروها فغضبت وقالت:
كنتم فتيانا فكنت أداريه فيكم وأمنيه أن أتزوجه حتى كتبت فيه إلى يزيد فعزله.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَالْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ قالا: ثنا الواقدي قال:
وفد خالد بن المطرف، والمطرف بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بن عفان على يزيد بن عبد الملك، فخطب إليه أخته فَقَالَ لَهُ: إِن عَبْد اللَّهِ بْن عمرو بن(8/248)
عُثْمَان أَبِي قَدْ سن لنسائه عشرين ألف دِينَار فَإِن أعطيتنيها وإلا لَمْ أزوجك.
فَقَالَ له يزيد: أو ما ترانا أكفاء إلا بالمال؟ قَالَ: بلى والله إنكم لبنو عمنا وأشراف قومنا، فقال يزيد: إني لأظنك لو خطب إليك رجل من قريش لزوجته بأقل مِمَّا ذكرت من المال؟ قَالَ: أي لعمري لأنها تكون عنده مالكة مملكة، وهي عندك مملوكة مقهورة. وأبى أَن يزوجه، فأمر أَن يحمل على بعير صعب وينخس به إلى المدينة، وكتب إلى عبد الرحمن بن الضحاك بْن قَيْس الفهري وَهُوَ عامله عَلَى المدينة أن وكل بخالد بن عبد الله المطرف من يأخذه بيده كُل يَوْم وينطلق بِهِ إِلَى شيبة بْن نصاح المقرئ: ليقرأ عَلَيْهِ الْقُرْآن فَإِنَّهُ من الجاهلين.
فلما قرأ على شيبة قال حين قرأ: ما رأيت أحدًا أقرأ للقرآن منه، وإن الَّذِي جهله لأجهل منه. ثُمَّ كتب يَزِيد إِلَى عامله: بلغني أن خالدا يذهب ويجيء فِي سكك الْمَدِينَةِ، فمر بَعْض من معك أَن يبطش بِهِ، فضربوه حَتَّى مرض وَمَاتَ وله عقب بالمدينة.
وحدثني أبو مسعود عن عوانة قال: قال يزيد بن عبد الملك، وهو ابن عاتكة بنت يزيد بن معاوية: كان عمر بن عبد العزيز خيرا لنفسه، وأنا خير للناس.
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن عبد الله بن جعفر الزهري عن عبد الواحد بن أبي عون قال: لما ولي الوليد بن عبد الملك، استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة، ثم عزله وولي عثمان بن حيان المري على المدينة، فاستقضى أبا بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْمٍ، وكانت ولاة البلدان تستقضي القضاة من أهل الفضل والمروءة والهيئة والعلم، وكان القاضي(8/249)
لا يركب مركبا ولا يذهب لحاجة إلا استأذن أمير البلد لأن يطيب له الرزق، فقال أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْمٍ لابن حيان بعد العصر مساء عشرين يوما من رمضان، وعند عثمان أيوب بن سلمة المخزومي، فقال أبو بكر:
إن رأى الأمير أن يأذن لي غدا فأنام بعد الصبح ولا أجلس للناس لأن أقوى على قيام ليلة إحدى وعشرين، فإنه يذكر أنها ليلة القدر. فقال له ابن حيان: نعم. فلما ولى قال أيوب: ألا ترى إلى هذا الذي استأذنك فيما استأذنك فيه؟ فقال ابن حيان: والله ما هو إلا رياء، ولست لحيان إن لم أسأل عنه غدوة فإن وجدته نائما ضربته مائة، وحلقت رأسه ولحيته.
قال أيوب: فقال أمرًا سرني، فلما انصرفنا رجعت إلى منزلي مسرورا، فلما كان في السحر خرجت فإذا سراج في دار مروان فقلت:
عجل والله المري فأدخل الدار فإذا أنا بأبي بكر بن حزم وقد جاءته ولايته من قبل سليمان بن عبد الملك وهو جالس على المنبر والشمع بين يديه، وابن حيان جالس بين يديه وابن حزم يقول: صيروا هذه الكبول في رجل ابن حيان، قال أيوب: فنظرت إلى ابن حيان ونظر إلي فقال:
جاؤوا على أدبارهم كشفا ... والأمر يحدث بعده الأمر
فلما صلى وحضر الناس دعا بقوارير كانت في منزل ابن حيان، فقال: ما هذا الشراب؟ قال، شراب أشربه من الطلا. فقال أبو بكر لمن حضره: أنشدكم الله ما تقولون في هذا الشراب؟ قالوا: هو الخمر. قال:
أكنت تشرب من هذا الشراب؟ قال: نعم فأمر بتلك القوارير فكسرت وضربه الحد، وجاء عبد الله بن عمرو بن عثمان بالبينة أنه قال له: يا مخنث أو يا منكوح فضربه له حدا آخر. فلما ولي يزيد بن عبد الملك ولى على(8/250)
المدينة عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس الفهري، وخرج عثمان بن حيان مع مسلمة بن عبد الملك حين خرج يريد يزيد بن المهلب فحمل رأسه حين قتل يزيد [1] إلى يزيد بن عاتكه [2] فقال له يزيد: ما تحب أن أصنع بك يا بن حيان؟ قال: تقيدني من ابن حزم، قال: كيف أقيدك من رجل اصطنعه أهل بيتي وله فضل، ولكني أوليك المدينة فتفعل ما رأيت. قال: إن ضربته في سلطاني قال الناس إنما ضربه في سلطانه. قال: فاكتب إلى عبد الرحمن بن الضحاك كتابا ننتفع به، فكتب إليه يزيد: «أما بعد فإذا جاءك كتابي فانظر فيما ضرب ابن حزم ابن حيان فيه، فإن كان ضربه في أمر بين فلا تلتفت إليه، وأمض الحد- يعني على ابن حيان- وإن كان في أمر منكر مشكل يختلف فيه فأمض الحد أيضا، وإن كان في أمر لا يختلف فيه فأقده منه» .
فلما قرأ ابن الضحاك الكتاب رمى به من يده وقال: ما ضربك إلا في أمر بين وما لك في هذا الكتاب منفعة. فقال له عثمان: إنك إن أردت أن تحسن أحسنت. قال: الآن أصبت المطلب. قالوا: فأرسل إلى أبي بكر فلم يسأله عن حرف حتى ضربه حدين في مقام واحد، وانصرف أبو المغرى عثمان بن حيان وهو يقول: والله ما قربت النساء منذ ضربني ابن حزم فاليوم أقربهن.
وكان ابن حزم قَالَ:
نَحْنُ ضَرَبْنَا الْفَاسِقَ ابْنَ حَيَّانَ ... حَدَّيْنِ لمّا يخلطا ببهتان
__________
[1] المقتول المحمول رأسه: يزيد بن المهلب.
[2] بالأصل: يزيد بن أبي عاتكة، وأبي زائدة حذفتها.(8/251)
فقال ابن حيان:
نحن ضربنا الفاسق ابن حزم ... حدين لما يخلطا بإثم
قال الواقدي: ولما أغرم عبد الرحمن بن الضحاك أربعين ألف دينار نهى ابن حزم حاشيته ومن معه أن يعرضوا له بشيء يكرهه، وأمر له بجميع ما احتاج إليه، فكان ابن الضحاك يذكر ما صنع به، وما صنع ابن حزم فيعجب ويقول: كان والله خيرا مني.
حدثني عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عن رجل من آل الأهتم قال: كتب يزيد بن عبد الملك إلى عمر بن هبيرة، وهو عامله على العراق:
«إنه ليست لأمير المؤمنين بأرض العرب خوصة تمر على القطائع، فحز فضولها لأمير الْمُؤْمِنِين، فجعل عُمَر يأتي القطيعة فيسأل عنها ثُمَّ يمسحها حَتَّى وقف عَلَى أرض فقال: لمن هذه؟ قال صاحبها: لي. قال: ومن أين صارت لك؟ فقال:
ورثناهن عن آباء صدق ... ونورثها إذا متنا بنينا
ثُمَّ أن الناس ضجوا من ذلك فأمسك عمر بن هبيرة.
قالوا: وبعث يزيد بن عبد الملك رسولا في حمل ابن سريج [1] فلما انتهى إلى أداني مكة سمع رجلًا يغني:
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفتن ذا هوى
__________
[1] هو عبد الله بن سريج، وكنيته أبو يحيى، كان أحسن الناس صوتا وغناء، وكان يغني مرتجلا، ويوقع بقضيب، وهو أول من ضرب بالعود بمكة. مات في خلافة هشام بن عبد الملك وقد بلغ خمسا وثمانين سنة. جمهرة المغنين لخليل مردم بك. ط. دمشق 1964 ص 71- 72.(8/252)
وإذا الرجل ابن سريج، فقال الرسول: ما أجهل هؤلاء، بعثوا إلى غير هذا وتركوه، فأتى الوالي فبعث ابن سريج فإذا هو الذي رآه الرسول، فقال: لقد أنكرت أن يكون ابن سريج غيرك.
وقال الهيثم بن عدي وغيره: كان المغنون يأتون يزيد فيصلهم، وكان معبد [1] وابن سريج يزورانه فيقيمان عنده زمانا فيجيزهما، وكان الأحوص يزوره من المدينة فيجزل عطيته ويحسن جائزته، وكان ممن يتغنى بين يدي يزيد الغزيل الشامي، وقد غنى يزيد لنفسه ومن غنائه:
أضحى لسلامة الزرقاء في كبدي ... صدع مقيم طوال الدهر والأبد
وقال ابن الكلبي: هذا الغناء ليزيد والناس ينحلونه معبد والغزيل الشامي.
وَحَدَّثَنِي حَفْصُ بْن عُمَرَ الْعُمَرِيُّ عَن الْهَيْثَم بْنِ عدي عن ابن عياش قال: قدم عمر بن هبيرة على يزيد وهو عامله على العراق، وأهدى له هدايا كثيرة، وأتاه بغنائم وفيها مسك فأخذ ابن له من ذلك المسك وولى، فقال يزيد: أي بني إن هذا غلول، فقال ابن هبيرة: إن رجلًا من قراء أهل العراق كان بخراسان كان ينهى عن الغلول، ويغل المسك، فقيل له في ذلك فقال: إن الله يقول: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة) [2] أما والله
__________
[1] هو أبو عباد معبد بن وهب، مولى ابن قطر، وكان أبوه أسود، وكان هو خلاسيا، وكان مديد القامة أحول، غنى في أول دولة بني أمية ومات أيام الوليد بن يزيد. جمهرة المغنين ص 85- 86.
[2] سورة آل عمران- الآية: 161.(8/253)
لآتين طيب الريح خفيف المحمل. قال يزيد: يا بني أما إذا رخص القراء فيه فخذه.
وكان يزيد صاحب سلامة وحبابة اللتين ذكرهما أبو حمزة المختار بن عوف الأزدي الخارجي فقال، وذكره: أقعد سلامة عن يمينه، وحبابة عن يساره، ثم قال: أطير، ألا فطر إلى لعنة الله وحرقه.
[قصة سلامة]
- وكان من قصة سلامة أنها كانت لرجل من أهل مكة فاشتراها منه سهيل بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، ويقال إن سهيلًا هو رباها وعلمها، ولم يشترها مغنية. والأول أثبت.
وكان عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار- أحد بني جشم بن معاوية بن بكر بن هوازن، وقد أصابته منه من صفوان بن أمية الجمحي- ينزل مكة، وكان فقيها عابدا يسمى القس لعبادته واجتهاده، فمر يوما بمنزل مولى سلامة فسمع غناءها فتوقف يسمعه فرآه مولاها فقال له: هل لك أن تدخل فتسمع فأبى ذلك فقال له: هل لك في أن أخرجها إليك؟
فأبى ذلك، فلم يزل حتى أخرجها، فلما رآها وسمع غناءها ظاهره شغف بها، وهويته أيضا، وكان جميلًا فكان يأتي مولاها ويغشاه ليسمع غناءها ويراها، فزعموا أنها قالت له يوما على خلوة: أنا والله أحبك. قال: وأنا والله. قالت: وأحب أن أضع بطني على بطنك. قال: وأنا والله أحب ذلك. قالت: فما يمنعك؟ أن موضعنا خال. قال: إني سمعت الله يقول:
(الأَخِلاءُ يومئذ بعضهم لبعض عدو الا المتقين) [1] . وأنا أكره أن تؤول
__________
[1] سورة الزخرف- الآية: 67.(8/254)
خلتنا إلى عدوة. ثم قام فانصرف وعاد إلى عبادته، وقد كان قال فيها شعرا منه:
ألم ترها لا يبعد الله دارها ... إذا طربت في صوتها كيف تصنع
تمد نظام القول ثم ترده ... إلى صلصل من صوتها يترجع
ومنه أيضا
ما بال قلبك لا يزال يهيجه ... ذكر عواقب غيهن سقام
باتت تعللنا وتحسب أننا ... في ذاك أيقاظ ونحن نيام
حتى إذا سطع الصباح لناظر ... فاذا وذلك بيننا أحلام
قد كنت أعذل في السفاهه أهلها ... فاعجب لما تأتي به الأيام
فاليوم اعذرهم وأعلم أنما ... سبل الضلالة والهدى أقسام
ومنه:
ألا قل لهذا القلب هل أنت مبصر ... وهل أنت عن سلامة اليوم مقصر
ألا ليت أني حيث صارت بها النوى ... جليس لسلمى كلما عج مزهر
إذا أخذت في الصوت كاد جليسها ... يطير إليها قلبه حين ينظر
كأن حماما راعبيا معلما ... إذا نطقت من صدرها يتغشمر [1]
ومنه:
على سلامة القلب السلام ... تحية من زيارته لمام
أحب لقاءها وألوم نفسي ... كأنّ لقاءها منّي حرام
__________
[1] الغشمرة: اتيان الأمر من غير تثبيت، وركوب الإنسان رأسه في الحق والباطل لا يبالي ما صنع. القاموس.(8/255)
إذا ما عج مزهرها وعجت ... أصاخ إلى مقالتها الكرام
وأصغوا نحوها الآذان حتى ... كأنهم- وما ناموا- نيام
ومنه قوله:
سلام ويحك هل تحيين من ماتا ... أو ترجعين على المحزون ما فاتا
ادعي بمزهرك المحنوّ فاحتفلي ... ثم امنحي السمع مني منك أصواتا
ومنه:
سلام هل لي منكم ناصر ... أم هل لقلبي عنكم زاجر
قد سمع الناس بوجدي بكم ... فمنهم اللائم والعاذر
قال فشهر أمر عبد الرحمن القس حتى نسبها الناس إليه فقالوا: سلامة القس، وفي سلامة يقول عبد الله بن قيس الرقيات:
لقد فتنت ريا وسلامة القسا ... فلم تتركا للقس عقلا ولا نفسا
فتاتان أما منهما فشبيهة ... هلالا وأخرى منهما تشبه الشمسا
يكنان أبشارا رقاقا وأوجها ... عتاقا وأطرافا مخضّبة ملسا [1]
وغنى في الشعر مالك بن أبي السمح. وفيها يقول ابن قيس أيضا:
أختان إحداهما كالشمس طالعة ... في يوم دجن وأخرى تشبه القمرا [2]
أبو الحسن عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ عَنِ ابْنِ جُعْدُبَةَ قال: قدم يزيد بن عبد الملك المدينة في خلافة سليمان أخيه، فتزوج سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان على عشرين ألف دينار وربيحة بنت محمد بن
__________
[1] ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص 33- 35.
[2] ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص 138.(8/256)
عبد الله بن جعفر على مثل ذلك، فلما ولي الخلافة اشترى سلامة القس من سهيل بن عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف دينار، ويقال إن التي تزوج:
رقية بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان، وتزوجه سعدة أثبت.
[قصة حبّابة]
وقال المدائني: كانت حبابة تسمى الغالية، وكانت لرجل من الموالي بالمدينة، فلما قدم يزيد وتزوج ابنة عبد الله بن عمرو وربيحة بنت محمد، اشترى الغالية من مولاها بأربعة آلاف دينار. وبلغ ذلك سليمان فقال:
لأحجزن على هذا المائق السفيه، فلما بلغه قول سليمان استقال مولى الغالية فأقاله وشخص بها مولاها إلى إفريقية فباع الغالية هناك.
فلما استخلف يزيد واشترى سلامة من مولاها، قالت له ابنة عبد الله بن عمرو بن عثمان امرأته: هل بقي لك من الدنيا شيء مما تحبه لم تنله؟ قال: نعم الغالية، وقد بلغني أنها بيعت بإفريقية.
فبعثت بعض مواليها إلى إفريقية فاشتراها بأربعة آلاف دينار، وقدم بها فهيأتها ابنة عبد الله بن عمرو وأجلستها في البيت، وقالت ليزيد: إن رأيت الغالية تعرفها؟ قال: نعم لقد رأيتها فما أنساها، فرفعت الستر فرآها فقال: هي هذه. قالت: فهي لك، وأخلتها فسماها حبابة، وحظيت ابنة عبد الله بن عمرو عنده.
وخطب يزيد إلى خالد بن عبد الله بن عمرو وأخي مسعدة، ابنة أخ له فقال: أما يكفيه أن أختي عنده حتى يخطب إلي بنات أخي؟ فغضب يزيد من ذلك، فقدم خالد يسترضيه فبينا هو في فسطاطه أتته جارية لحبابة في خدمها فقالت: مولاتي تقرأ عليك السلام وتقول: قد كلمت أمير المؤمنين فيك فرضي عنك فارفع إليّ حوائجك، فرفع رأسه إلى من حضر فقال:(8/257)
ومن مولاتها؟ فقالوا: حبابة وحدثوه حديثها فقال للجارية: ارجعي إلى مولاتك فقولي لها إن للرضى عني سببا لست به.
فشكت حبابه ذلك إلى يزيد فغضب، وأرسل إلى خالد، أعوانا، ومعهم خدم حبابة فاقتلعوا فسطاطه وقطعوا أطنابه حتى سقط عليه وعلى من معه، فقال: ويلكم ما هذا؟ قالوا: رسل حبابة. فقال: ما لها أخزاها الله؟ ما أشبه رضاها بغضبها.
وذكروا أن يزيدا أقبل يوما يريد البيت الذي فيه حبابة، فقام من وراء الستر فسمعها ترنم وتقول:
كان لي يا يزيد حبك حينا ... كاد يقضي علي يوم التقينا
فرفع الستر فوجدها مضطجعة محولة وجهها إلى الحائط، فعلم أنها لم تعلم به ولم ترده بما قالت في ذلك الوقت ليسمعه فألقى نفسه عليها يقبلها وحركت منه.
قالوا: وجلس يزيد يوما وحبابة عن يمينه، وسلامة عن يساره، فغنتا فطرب، ثم قال لحبابة: غني صوتا. فغنت:
وبين التراقي واللهاة حرارة ... مكان الشجا [1] ما تطمئن فتبرد
فقال: أطير. ومد يديه. فقالت: كما أنت. إن لنا فيك حاجة.
فقال: والله لأطيرن. قالت: فعلى من تخلف الخلافة والملك؟ قال:
عليك والله.
__________
[1] بهامش الأصل: الحشا.(8/258)
المدائني قال: غنت حبابة يوما، فطرب يزيد طربا شديدا، فقال:
يا حبيبتي هل رأيت أطرب مني قط، قالت: نعم معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار، فكتب إلى عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس عامله على المدينة في إشخاصه إليه، فأشخصه مكرما، فلما بلغه ما أراده له قال: سوءة أعلى كبر السن يستدعى طربي.
فلما قدم على يزيد، دعا يزيد لنفسه بطنفسة خز ودعا له بمثلها، وأمر فأتي بجامين مملوئين مسكا فوضعت بين يديه واحدة، وبين يدي معاوية واحدة، ثم دعا بحبابة فغنت، فأخذ معاوية وسادة فوضعها على رأسه وجعل يدور في البيت ويصيح: الدجر [1] بالنوى، الدجر بالنوى، فأعجب به يزيد، فضحك وأمر له بثمانية آلاف دينار.
وحدثني صاحب لي عن الزبير بن بكار الزبيري أن يزيد بن عبد الملك قال لحبابة وسلامة: أيتكما غنتني ما في نفسي فلها حكمها، فغنته سلامة، فلم تصب إرادته، ثم غنته حبابة:
خلق من بني كنانة حولي ... بفلسطين يسرعون الركوبا
فأصابت ما في نفسه، فقال: احتكمي. قالت: تهب لي سلامة ومالها. قال: اطلبي غيرها، فأبت، فقال: خذيها ومالها ففعلت، فتداخل سلامة من ذلك أمر جليل، فقالت له حبابة: لن ترى مني خيرا، فسألها يزيد أن تبيعها منه بحكمها فقالت: اشهد أنها حرة فاخطبها إليّ حتى أزوجك إياها فأكون قد زوجتك مولاتي، فضحك.
__________
[1] الدجر: اللوبياء. والحيرة والهرج والسكر. القاموس.(8/259)
وذكر إسحاق بن إبراهيم الموصلي أن ابن كناسة أخبره أن حبابة وسلامة اختلفتا في صوت لمعبد وهو:
ألا حي الديار بسعد إني ... أحب لحب فاطمة الديارا
فبعث يزيد إلى معبد، فأتي به فسأله عما بعث له إليه فأخبر، فقال:
لأيتهما المنزلة؟ فقيل: لحبابة. فلما عرضتا الصوت عليه قضى لحبابة فقالت سلامة: والله ما قضى لها إلا لحظوتها، وإنه ليعلم أني المصيبة ولكن ائذن لي يا أمير المؤمنين في صلته فإن له حقا، فأذن لها. قال معبد، فكانت أوصل لي من حبابة.
قالوا: ودخلت حبابة ذات يوم على يزيد، وعلى يدها دف وهي تغني:
ما أحسن الجيد من مليكة واللبات ... إذ زانها ترائبها
يا ليتني والإله إذ هجع الناس ... ونام الكلاب صاحبها
في ليلة لا نرى بها أحد ... يخبر عنا إلا كواكبها
والغناء لابن سريج، فقام إليها يزيد فقبل يدها، فخرج بعض خدمه وهو يقول: سخنت عينك فما أسخفك.
وقال أبو الحسن المدائني: مرضت حبابة فقعد يزيد عند رأسها، وقال: كيف أنت بأبي؟ فلم تجبه، فبكى. ويقال كان يزيد وحبابة في بستان فضاحكها ومازحها فأخذ حبة من عنب فحذفها بها فدخلت في فمها فأصابها شرق، وكان ذلك سبب مرضها الذي ماتت منه.
وقال هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ عَن عوانة قَالَ: قَالَ مسلمة بن عبد الملك:
خرجت مع يزيد في جنازة حبابة فجعلت أعزيه وأسليه وهو ضارب بذقنه(8/260)
على صدره ما يجيبني بكلمة، فلما انصرفنا ودنا من باب القصر قال:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا ... فباليأس تسلو عنك لا بالتّجلّد [1]
ثم دخل قصره فو الله ما خرج منه إلا ميتا لحزنه وكمده عليها.
وقال أبو الحسن المدائني: لما دفن يزيد حبابة مرض فمات بعد أربعين ليلة، ويقال بعد خمس عشرة ليلة.
وقال رجل من أهل الشام: أتى يزيد من ناحية الأردن، وحبابة معه، فماتت فمكث ثلاثا لا يدفنها حتى أنتنت، وهو يشمها ويقبلها وينظر إليها ويبكي، فكلم في أمرها حتى أمر بدفنها، فحملت في نطع وخرج بها وهو معهم حتى أجنها، ثم أنشد قول كثير:
فإن تسل عنك النفس أو تدع الصبا ... فباليأس تسلو عنك لا بالتجلد
فما مكث إلا أياما حتى دفن إلى جانبها.
وروى الهيثم بْن عدي عَنِ ابْن عياش أَن يزيد أراد الصلاة على حبابة، فسأله مسلمة بن عبد الملك ألا يفعل وقال: أنا أكفيك الصلاة عليها، فتخلف يزيد، ومضى مسلمة فأمر بعض أصحابه فصلى عليها.
وقال بعضهم: نبئت أن يزيد ضعف حين ماتت حبابة، فلم يستطع الركوب من الجزع، وعجز عن المشي فأمر مسلمة فصلى عليها، ثم قال يزيد: إني لم أصل عليها فانبشوا عنها وأخرجوها حتى أصلي عليها، فقال له مسلمة: أنشدك الله أن تفعل فأمسك، ولم يزل كئيبا، ولم يأذن للناس عليه إلا مرة واحدة حتى مات، وصلى عليه مسلمة.
__________
[1] ديوان كثير ص 88.(8/261)
وقال المدائني: جعل يزيد يطوف في داره فيقف على المواضع التي كانت تقعد فيها، فبينا هو كذلك إذ سمع وصيفة كانت لها تنشد:
كفى حزنا للهائم الصب أن يرى ... منازل من يهوى معطلة قفرا
فبكى. وكان يجلس تلك الوصيفة عنده فيحدثها ويذاكرها أمر حبابة، ويأنس بها حَتَّى مات.
وَحَدَّثَنِي عباس بن هِشَام الكلبي عن أبيه قال: أراد يزيد أن يتشبه بعمر بن عبد العزيز في بعض أيامه، فبدا لحبابة هجران منه فأرسلت إلى الأحوص وكان مقيما عنده: أنشد أمير المؤمنين شيئا يدعوه إلى ترك ما أخذ فيه فأنشده:
ألا لا تلمه اليوم إن يتبلدا ... فقد غلب المحزون أن يتجلدا
بكيت الصبا جهدي فمن شاء لا مني ... ومن شاء آسى في البكاء وأسعدا
إذا كنت معزافا عن اللهو والهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا
هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنآن وفندا [1]
فقام يزيد وهو يقول: «هل العيش إلا ما تلذ وتشتهي» حتى دخل على حبابة، وعاد إلى أمره الأول، ثم ماتت فجزع عليها، وخرج حاملًا جنازتها حتى كلمه مسلمة في ذلك، فرجع إلى قصره، ومات بعدها بخمسة عشر يوما.
وقال المدائني: لم يعلم بموت يزيد بن عبد الملك حتى سمعوا صوت سلامة من فوق القصر وهي تقول:
__________
[1] شعر الأحوص الأنصاري ص 117- 122.(8/262)
قد لعمري بت ليلي ... كأخي الداء الوجيع
ويبيت الحزن مني ... دون من لي من ضجيع
كلما أبصرت ربعا ... خاليا فاضت دموعي
موحشا من سيد ... كان لنا غير مضيع
وا أمير المؤمنيناه قال: والشعر لبعض الأنصار إلا البيت الأخير.
وقال بعض الرواة: اشترى يزيد حبابة وسلامة بمائتي ألف دينار، والأول أثبت.(8/263)
أمر عمر بن هبيرة في أيام يزيد بن عبد الملك
حدثني جماعة من أهل العلم سقت حديثهم ورددت من بعضه عَلَى بعض قالوا: قدم عُمَر بْن هبيرة بْن مُعَية بْن [1] سكين بن حديج بْن بغيض بْن مالك بْن سعد بْن عدي بن فزارة بن ذبيان بْن بغيض بْن ريث بْن غطفان بْن سعد بن قيس من البادية فافترض مع مدد أمد به بعض ولاة الحرب. وكان يقول: إني لأرجو أن لا تنقضي الأيام حتى ألي العراق.
وكان شخص مع عمرو بن معاوية العقيلي في غزو الروم فأتي عمرو بفرس رائع إلا أنه كان إذا دنا منه من خلفه دان رمح، وإن دنا من بين يديه كدم، فكان لا يستطاع ركوبه، فقال عمرو بن معاوية: من ركبه فهو له، فقام ابن هبيرة فشد عليه ثوبه ثم تنحى عن الفرس وأقبل يحضر حتى إذا كان بحيث تناله رجلًا ذلك الفرس إن رمحه وثب فصار في سرجه، وطعنه في
__________
[1] بهامش الأصل: معية هو معاوية.(8/265)
بعض حروبه طاعن فأذراه [1] عن فرسه فسقط إلى الأرض، ثم إنه وثب فاستوى على ظهر فرسه.
ولما خلع مطرف بن المغيرة بن شعبة الحجاج، وأمر الحجاج عدي بن وتاد الإيادي بالمصير إليه من الري لمحاربته، كان عمر بن هبيرة بالري معه وهو مغمور يومئذ، فسار في جنده، فلما التقي عدي ومطرف، جنح ابن هبيرة إلى صف مطرف فحكم وتشبه بمن معه فآمنه مطرف وأمنه، فلما جال الناس ودخل بعضهم في بعض وثب ابن هبيرة على مطرف فضربه فقتله واحتز رأسه، ويقال بل قتله غيره واحتز رأسه ودفنه في خيمته، فلما أجلت الحرب وانهزم من بقي من أصحاب مطرف أتى عديا بالرأس فأعطاه مالًا وأوفده بالرأس إلى الحجاج، فأوفده الحجاج إلى عبد الملك، فأجاز عبد الملك ابن هبيرة وأقطعه قطيعة ببرزة [2] .
ورجع إلى الحجاج فحركه في أمور: وجهه إلى كردم بن مرثد الفزاري وهو على جازر [3] والمدائن في حمل مال فحمله وكان مبلغه ثمانين ألف درهم، ثم هرب فلحق بعبد الملك فقال: أنا عائذ بالله يا أمير المؤمنين من رجل يطلبني بترة وإحنة، قتلت ابن عمه مطرفا وأتيت أمير المؤمنين برأسه ثم رجعت فأراد قتلي، ولست آمن أن ينسبني إلى أمر يكون فيه هلاكي.
فقال: أنت في جواري فِأقام.
__________
[1] ذرت الريح الشيء ذروا وأذرته، وذرته: أطارته وأذهبته. القاموس.
[2] بأحواز مدينة دمشق، ما تزال تحمل الاسم نفسه.
[3] جازر: قرية من نواحي النهروان من أعمال بغداد، قرب المدائن، وهي قصبة طسوج الجازر. معجم البلدان.(8/266)
وكتب فيه الحجاج يحكي أمره وهربه بالمال ويسأل رده إليه، فكتب عبد الملك: أمسك عن ذكره واله عنه.
وزوج عبد الملك ابنا له ابنة للحجاج، فكان عمر بن هبيرة يلطفها بما يلطف به مثلها، ويشير عليها بالرأي، فكتبت إلى أبيها تثني عليه، فكتب إليه الحجاج كتابا لطيفا وأمره أن ينزل به حاجاته.
وروي أيضا أن ابن هبيرة قدم الشام في أيام ابن الأشعث يطلب الفريضة، وهو أعرابي، ففرض له مع خريم بن عمرو المري في ثلاثين درهما، ثم زيد عشرة مع من شهد الجماجم فكان في أربعين.
وكان يأتي كردما، وصار إليه بفارس، فلم يلق منه خيرا، فمر بالمهلب بن أبي صفرة فلما سلم عليه وكلمه قال: أرآك الحجاج؟ قال:
لا. قال: أما لو رآك لاستغنيت عن كردم وأشباهه، وأمر له بعشرة آلاف درهم. فكان يشكر المهلب على ذلك.
وقدم بأسراء آل المهلب على يزيد بن عبد الملك حين قدم بهم، فشفع فيهم، وقيل إن الحجاج وجه إلى مطرف قبل عدي بن وتاد علقمة بن عبد الرحمن أو خريم بن عمرو، وكان عمر بن هبيرة معه، وقال بعضهم: قاتل خريم مطرفا فقتله، وبعث برأسه إلى الحجاج مع ابن هبيرة والله أعلم.
حدثني علي بن المغيرة عن الأصمعي قال: بعث الحجاج خريما فقتل مطرفا وبعث برأسه مع ابن هبيرة فزاده الحجاج على رزقه عشرة فصار رزقه خمسين درهما، ثم أوفده الحجاج بالرأس إلى عبد الملك، فزاده في رزقه عشرة تتمة ستين، وأقام بالعراق حتى وليه يزيد بن المهلب فوصله بثلاثة آلاف درهم، دفعها إليه مروان بن المهلب.(8/267)
ثم أتى كردما وهو على خراج فارس من قبل الحجاج، والمهلب بإزاء الخوارج بشيراز، فلم يصنع به كردم خيرا فأتى المهلب فلما كلمه قال: أنت والله أحق بالعمل من ابن عمك، وأمر له بعشرة آلاف درهم وذلك قبل صلة يزيد إياه بالثلاثة الآلاف بحين.
قال: وهم ابن عاتكة بسبي نساء آل المهلب، فطلب إليه ابن هبيرة فيهن، فكتب كتبا كثيرة حتى كف، فكان ذلك مما يعد من شكر ابن هبيرة للمهلب ويزيد ابنه.
المدائني قال: غلبت حبابة على يزيد بن عبد الملك، وانقطع إليها عمر بن هبيرة، وكان يهدي إليها، فلطفت منزلته من يزيد حتى كان يدخل عليه في أي الأوقات شاء.
قال: وحسد قوم من بني أمية مسلمة بن عبد الملك وقدحوا فيه عند يزيد، وقالوا: وليته العراق فإن اقتطع من خراجه شيئا أجللته عن تكشيفه لسنه وبلائه وحقه، وقد علمت أن أمير المؤمنين عبد الملك لم يطمع أحدا من أهل بيته في ولاية الخراج، فوقع ذلك في نفس يزيد وعزم على عزله.
وعمل ابن هبيرة في ولاية العراق من قبل حبابة، فكانت تعمل له في ذلك حتى ولاه إياها يزيد.
وقال المدائني والهيثم بن عدي: كان الذي بين عمر بن هبيرة وبين القعقاع بن خليد العبسي سيئا وكانا يتحاسدان فقيل للقعقاع: إن ابن هبيرة قد أشرف على ولاية العراق. قال: ومن يطيق ابن هبيرة. حبابة بالليل وهداياه بالنهار، فلم تزل حبابة تعمل لابن هبيرة حتى ولي العراق.
وماتت حبابة فقال القعقاع:(8/268)
هلم فقد ماتت حبابة سامني ... بنفسك تقدمك الذرا والكواهل
أغرك أن كانت حبابة مرة ... تميحك فانظر كيف ما أنت فاعل
فأقسم لولا أن فيك نغالة ... وبخلا وغدرا سودتك القبائل
المدائني قال: قاول ابن هبيرة القعقاع فقال لابن هبيرة: يا بن اللخناء. فقال عمر: يا بن الفحواء [1] قدمتك أعجاز النساء وقدمتني صدور القنا.
وأراد مسلمة أن يفد إلى يزيد فقال له الأصم عَبْد العزيز بْن حاتم بْن النعمان الباهلي: إنك لذو عهد به قريب فأقم، فأبى فقال له عبد العزيز:
إن لم تقم فأول من يلقاك عامل على عملك، فلقيه ابن هبيرة مقبلًا إلى العراق فأعظم مسلمة وترجل له، فقال له: إلى أين يا بن هبيرة؟ قال بعثني أمير المؤمنين لاصطفاء أموال بني المهلب. فقال: في حفظ الله، فلما خرج قال له الأصم: والله ما هو إلا وال مكانك.
وولي العراق وخراسان فقال الفرزدق:
راحت بمسلمة البغال مودعا ... فارعى فزارة لا هناك المرتع
ولقد علمت إذا فزاره أمرت ... أن سوف تطمع في الإمارة أشجع
وأرى البلاد تنكرت أعلامها ... حتى أمية عن فزارة تنزع
نزع ابن بشر وابن عمرو قبله ... وأخو هراة لمثلها يتوقّع [2]
__________
[1] لعلة أراد: يا بن ذات الرائحة الفائحة، والفحواء: التوابل. القاموس.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 408 مع فوارق 8.(8/269)
عبد الملك بن بشر، ومحمد بن عمرو بن الوليد بن عقبة، وأخو هراة: سعيد بن عبد العزيز خدينة، فعارضه خليفة بن براز الأقطع مولى بني قيس بن ثعلبة فقال:
قل للفرزدق إن فزارة أرتعوا ... فانهوا قيون مجاشع أن يجزعوا
في أبيات. فعرض لخليفة حكم القرد مولى بني الهجيم فقال:
إلي هلم دون أبي فراس ... فقد لاقيت أشوس ذا مراس
قالوا: ولما قدم ابن هبيرة شخص عبد الملك بن بشر، واستخلف على البصرة شريك بن معاوية الباهلي أحد بني قتيبة بن معن، فأقره ابن هبيرة يسيرا ثم عزله، وولى سعيد بن عمرو الحرشي البصرة، فولى شرطه شريك بن معاوية، وكان شريك يلقب: مقابل الريح، وكان أدلم [1] طوالًا يقابل الريح فيقول: شمال جنوب، صبا دبور. فقيل مقابل الريح.
ثم عزل ابن هبيرة سعيد الحرشي، وولاه خراسان، واستعمل على البصرة حسان بن مسعود بن عبد الرحمن بن مسعود الفزاري، وكان فراس بن مسعود زوج أم ابن هبيرة، وكان ابن هبيرة زوج أم حسان بن مسعود، ثم عزل حسان وولى البصرة فراس بن سمي الفزاري فولى شرطته محمد بن رباط الفقيمي، فهجا الفرزدق ابن رباط فقال:
بكى المنبر الشرقي والناس إذ رأوا ... عليه فقيميا قصير القوائم
أليس عجيبا أن يسود محمد ... ألا تلك من إحدى الدواهي العظائم [2]
__________
[1] الأدلم: الشديد السواد. القاموس.
[2] ليسا في ديوانه المطبوع.(8/270)
وأرسل فراس بن سمي يطلب الفرزدق فحذره فهرب، فأرسل إلى النوار امرأته فحبسها، ولحق الفرزدق بالبادية، ثُمَّ لحق بيزيد بن عبد الملك، وقال ليزيد:
سبقت إليك الطالبين وإنهم ... لخلفي وقدامي على كل مرصد [1]
فأجاره ووصله وأحسن الأحوص محضره عنده.
قالوا: وعزل ابن هبيرة سعيد بن عمرو الحرشي عن خراسان، وولاها مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي، فلما قدم على سعيد قيده وحمله إلى ابن هبيرة، وكان ابن هبيرة أمره بذلك، فلما أدخل إليه قال له ابن هبيرة: يا بن نسعة فعلت وفعلت. قال: يا بن بسرة لم أفعل، فغضب ابن هبيرة فأمر به فضرب مائة سوط وعذب ثم نفخ في دبره بكير وأمر به فحبس.
بسرة بنت الحارث بن عمرو بن حرجة الفزاري.
وقال لمعقل بن عروة القشيري: قدمت العراق فوجدت سعيدا صعلوكا خاملا فوليته خراسان، فبعث إلي ببرذونين أعرجين ودعوته لأعاتبه وقلت له: يا بن نسعة فقال لي: يا بن بسرة، فقال معقل: أو فعل ابن الزانية؟. قال: نعم، فأتاه معقل وهو في السجن فقال له: يا بن نسعة التي اشتريت بثمن عنزة جرباء فكانت رافعة رجلها للصادر والوارد، أجعلتها إلى ابنة الحارث بن عمرو بن حرجة! فلما قدم خالد بن عبد الله واليا على العراق استعداه سعيد على معقل، فضربه له الحد، فقال رجل من بني كلاب لمعقل: يا بن عروة
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.(8/271)
كيف رأيت عاقبة الظلم، ظلمت ابن عمك فضربك حدا، وتركك لا تقبل لك شهادة أبدًا. فقال معقل: فهل لك أن ألتحك [1] بمثلها وتحدني؟.
قال: لا والله وما حاجتي إلى ذلك؟.
وقال سعيد لمعقل: والله لولا ما أوهى مني ابن هبيرة لثقبت عن جوفك بخمسة أسواط. وكان يقول: أوهى ابن هبيرة فعل الله به وفعل مني بصرا حديدا، وساعدا شديدا.
وقال عمر بن هبيرة لجلسائه: من رجل قيس الذي يقوم بأمرها إن اضطرب الحبل؟ قالوا: الأمير، قال: ما صنعتم شيئا. أما الذي تلقي إليه قيس مقاليدها فالأحمر الذي لو تورى ناره أتاه عشرون ألفا لا يسألونه لم دعوتنا، الهذيل بن زفر بن الحارث.
وأما فارسها فهذا الحمار المحبوس- يعني سعيد بن عمرو الحرشي، ولقد هممت بقتله، وأما لسانها فالأصم عَبْد العزيز بْن حاتم بْن النعمان الباهلي، وأما داهيتها فعثمان بن حيان المري، وأما أعطف قيس عليها وأبرها بها، فعسيت أن أكونه.
فقال له أعرابي من بني فزارة: ما أنت أيها الأمير كما وصفت. قال:
وكيف ويحك؟ قال: لأنك لو كنت أبرها لم تحبس فارسها، ثم تهم بقتله.
قالوا: وولى ابن هبيرة مسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة ثم عزله فقال له: أعزلتني عن خيانة أو تقصير في جباية؟. فقال: لا، فارجع إلى عملك. فقال: ما كنت لألي إلا أجل منه. فولاه أصبهان، ثم فعل به
__________
[1] لتح: ضرب، أو رمى. القاموس.(8/272)
مثل ذلك فقال له هذا القول حتى ولاه خراسان وقال له: لا تتخذن في عملك ضيعة فيصغر قدرك عند أهله، ولا تتجرن في عملك فتغش رعيتك، وإن اشتكي إليك عامل فاعزله.
قال المدائني: لقي رجل رجلًا من فزارة فقال له: من أين أقبلت؟.
فقال: من عند ابن عمنا عمر بن هبيرة، فو الله لقد كلمته في سيد قيس سعيد بن عمرو، وكلمته في سيد الموالي جبلة بن عبد الرحمن فو الله ما شفعني، ولقد حملني ووصلني بعشرة آلاف درهم، وإني لذام له.
المدائني قال: سأل رجل من عبس ابن هبيرة فمنعه، فلما كان الغد أتاه فسأله وقال: أنا العبسي الذي سألك أمس. قال: وأنا الفزاري الذي منعك أمس، فقال: والله ما ظننتك إلا ابن هبيرة المحاربي. قال: فقال:
والله أهون لك علي يموت مثله من قومك فلا تعلم بموته، وينشأ مثلي في قومك فلا تعرفه.
وولى عمر بن هبيرة أعرابيا من فزارة عملًا فلما رأى الناس يهدون في يوم النوروز أهدى إلى ابن هبيرة ضبا وقال:
حبا الجام عمال الخراج وحبوتي ... محذفة الأذناب صفر الشواكل
رعين الربا والهجل [1] حتى كأنما ... كساهن سلطاني ثياب المراجل
سيحل بمهديه لعمري فضيلة ... على كل حاف من معد وناعل
__________
[1] الهجل: المطمئن من الأرض. القاموس.(8/273)
وولى ابن هبيرة رجلًا همذان فأتى ما سبذان، فأخذ عاملها فقيده، فقال له العامل ووجوه أهل البلد: انظر في عهدك فنظر فإذا هو همذان فقال: خذوا عاملكم لا بارك الله لكم فيه.
وأتى همذان، فعمد إلى رجل عليه خراج فنصبه ثم رماه بسهم فقتله، فأعطوه خراجهم مبادرين، ولم يلتووا عليه في درهم فما فوقه.
المدائني قال: ألقى ابن هبيرة إلى مثجور بن غيلان بن خرشة الضبي فصا أزرق، فقال له: اجعله في خاتمك فإنه حسن- يريد قول الشاعر:
لقد زرقت عيناك يا بن مكعبر ... كما كل ضبي من اللؤم أزرق
فشد مثجور على الفص سيرا ثم رده عليه- يريد قول سالم بن دارة:
لا تأمنَنَّ فزاريًا خلوتَ بِهِ ... عَلَى قلوصك واكننها بأسيار
فقال ابن هبيرة: خرج منها.
قالوا: وتنبى في ولاية ابن هبيرة رجلان: ضبي يقال له الأخطل، ورجل من الموالي يقال له سعيد، فكتب إلى يزيد في أمرهما، فكتب:
اقتلهما، فقتلهما.
العمري عن الهيثم بن عدي عن عطاء قال: دخلت امرأة جميلة على عمر بن هبيرة، فشكت زوجها وهو شيخ كبير فقال الشيخ: والله إنهم ليعلمون أني أقضي حقوقها وأقوم بنوائبها. فقال للمرأة: يا عدوة الله أحين أدبر غزيره وأقبل هزيره [1] ، إن دخل ذل وإن خرج ظن نشزت عنه تريدين البدل منه؟. خذ عدوة الله فأدخلها أضيق بيوتك ثم أوجعها ضربا.
__________
[1] هزر: أكثر من العطاء، وضحك وأسرع في الحاجة، وأغلى في البيع. القاموس.(8/274)
المدائني عن المفضل بن فضالة قال: بعث ابن هبيرة إلى الحسن والشعبي، فاجتمعا عنده، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإن أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك عبد من عباد الله أخذ عهده لهم وأعطوه عهودهم أن يسمعوا له ويطيعوا، وإنه يأتيني منه أمور لا أجد من إنفاذها بدا، والحسن ساكت، فقال له: ما تقول يا أبا سعيد؟. قال: إن الله مانعك من يزيد، وإن يزيدا غير مانعك من الله، وإنه يوشك أن ينزل بك أمر من السماء فيخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك، فلا يوسعه إلا عملك، يا بن هبيرة إني أنهاك عن الله أن تتعرض له، فإن الله إنما جعل السلطان ناصرا لدين الله وعباده، فلا تركبوا عباد الله بسلطان الله فتذلوهم، وإنه لا طاعة لمخلوق في معصية خالق.
المدائني قال، أتي ابن هبيرة بقوم فأراد ضربهم فقال له عامر الشعبي:
أصلح الله الأمير إن أول من وضع الحبس كان حليما فمر بحبسهم إلى أن تنظر في أمرهم، فقال: صدقت، وحبسهم.
المدائني: لما ولي عمر بن هبيرة العراق أراد الخيانة فخاف وكان صالح بن عبد الرحمن عند يزيد بن عبد الملك، فقال لكاتبه ابن عبدة العنبري: هل إلى صالح سبيل؟. قال: لا والله وكيف وهو أعف الناس إلا أن تظلمه، قال: فكيف لي بظلمه؟. قال: إنه كان دفع إلى يزيد بن المهلب ستمائة ألف درهم ولم يأخذ بها منه براءة، فكتب ابن هبيرة إلى يزيد بن عبد الملك، إن لي إلى صالح حاجة فإن رأى أمير المؤمنين أن يوجهه إلي فعل، قال: فدعا يزيد صالحا فأخبره فقال: والله ما به إلي حاجة ولقد تركت العراق ولو أتاه أكمه أبكم عرف ما فيه، فكتب ابن هبيرة يذكر ما قبله(8/275)
من المال، فدعاه يزيد فأعلمه ذلك فانتفى منه وقال: والله ما بقي علي درهم، قال: فانطلق إليه ليحاسبك ثم تعود.
فانحدر إلى العراق فأمر به ابن هبيرة فعذب، فكان كلما عذب بنوع من العذاب قال: هذا القصاص قد كنت أعذب الناس بمثل هذا. حتى عذب بنوع من العذاب يدعى الفزاري فقال: هذا مما لم أعذب به.
وكان إياس بن معاوية المري دل ابن هبيرة على ذلك، فلما ألح ابن هبيرة على صالح بالعذاب جاء جبلة بن عبد الرحمن أخو صالح، وجيهان بن محرز، والنعمان الكسكري فضمنوا صالحا وما عليه فقال الكاتب: أحضروا المال، قالوا: أقبل الليل، فأعلم الكاتب ابن هبيرة ذلك فلم يخرج إليهم حتى أمسوا وانصرفوا، وأصبح صالح ميتا على مزبلة ألقي عليها ليلًا وبه رمق حتى مات.
وقال أبو عبيدة: كان محمد بن سعد، كاتب يزيد بن عبد الملك، هو الذي عمل في حدر صالح إلى ابن هبيرة، وذلك أن يزيد بن عبد الملك كان ولى صالحا خراج العراق، وخاف مسلمة على إقطاعه، فقال ابن سعد لصالح: احمل إلى مائتي ألف درهم. فقال: ومن أين أحملها فو الله ما في مالي سعة لها، وما كنت لأخون أمير المؤمنين.
فلما أفضى ابن سعد إلى صالح بذلك وجل منه، فعمل فيه حتى حدره إلى ابن هبيرة، وكان ابن سعد هذا مولى لبعض اليمانية وكان قد ولي قسمة أرزاق أهل اليمامة فأتاه جرير فحرمه، فقال جرير:
تظل عيالي لا فواكه عندهم ... وعند ابن سعد سكر وزبيب
وقد كان ظني بابن سعد سعادة ... وما الظن إلا مخطئ ومصيب(8/276)
فإن ترجعوا رزقي إلي فإنه ... متاع ليال والأداء قريب [1]
قالوا: وكان ابن هبيرة أول عمال العراق اختان، فقال يوما لإياس بن معاوية: ما يقول الناس في؟ قال: خيرا أيها الأمير، قال: أسألك بالله لما صدقتني. قال إياس: فقلت في نفسي: والله لأؤثرن الله عليك، فقلت له: يزعم الناس أن ثم أمير يصانع بالمال، فإذا أتي به جاءت فلانه جاريته فاحتملته. فقال ابن هبيرة: ما يخفى على الناس شيء. ولم يعزل يزيد ابن هبيرة حتى عزله هشام حين استخلف، وولى العراق خالد بن عبد الله القسري.
المدائني قال: أتى ابن سيرين واسطًا فسأله ابن هبيرة عن البصرة فقال: تركت العلم بها فاشيا. فغضب ابن هبيرة، وأبو الزناد عنده فجعل يقول إنه شيخ، ثم عرض شيء تكلم فيه فضحك ابن هبيرة، وأمر لابن سيرين بمال فلم يقبله، فقال إياس بن معاوية: ألا تقبل صلة الأمير؟
فقال: إن كان صدقة فلا حاجة لي فيها وإن كان لما علمني الله فلست آخذ عليه أجرا، فأعجب به ابن هبيرة.
المدائني قال: التقى عمرو بن مسلم وجبلة بن عبد الرحمن في طريق ضيقة من طرق واسط، لا يجوز فيها فارسان، فقال عمرو لجبلة: ارجع، فقال: بل ارجع أنت فإنك أقرب إلى السعة مني، فقال: ارجع وإلا وضعت السوط بين أذنيك، ثم ضرب رأس بغلة عمرو حتى رجعت، وتحدث أهل واسط بذلك وأرادوا الإيقاع به، فاستجار بالقصابين فحموه،
__________
[1] ديوان جرير ص 39.(8/277)
وقدم ابن هبيرة فحبسه، ثم دعا به فلما كلمه أعجب به وقال: قبح الله من ضيع مثلك، وأنشد:
أكمثرى يزيد الحلق لينا ... أحب إلي أم تين نضيج
يعرض له بولاية نهاوند أو كرمان. فقال: تين نضيج، فأطلقه وعقد له على كرمان، وعقد يومئذ لمسلم بن سعيد بن أسلم بن زرعة الكلابي على خراسان، فقال جبلة: كان هذا يتبعني طمعا في أن أولى عملًا أوليه بعضه قرية أو قريتين، ثم هو اليوم يعقد له على خراسان، ويعقد لي على كرمان.
وقال أبو عبيدة: أخرج جبلة إلى ابن هبيرة مقيدا فقال ابن هبيرة:
ولقد جريت لما ترى من غاية ... فاصبر لما جرمت يمينك حار
فقال جبلة:
لعمرك ما جنيت على سليم ... بأشعاري فيهجوني الشريد
وأودع ابن هبيرة قوما أموالا، فأخذ سيرا فلواه على عود ثم كتب عليه: عند فلان كذا وعند فلان كذا، فلما نشره ورمى بالعود جاء الكتاب مفرق الحروف لا تجتمع لقارئها، فكان يلوي ذلك السير على عود فتجتمع [1] .
__________
[1] بهامش الأصل: بلغت المعارضة بالأصل الثالث، ولله الحمد.(8/278)
أمر يزيد بن المهلب وقصته قبل ولاية يزيد بن عبد الملك وفي أيامه
حدثني عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عن أبي مخنف، وقال المدائني عن أشياخه وغيرهما قالوا: ولى الحجاج المهلب خراسان.
قال المدائني: وبعض ولد المهلب يقول: ولاه إياها عبد الملك بن مروان.
فمات المهلب بزاعول وهي قرية بمرو الروذ، وأوصى حبيب بن المهلب أن يسير بجيشه حتى يسلمه إلى يزيد ابنه وكان بمرو. وقال: يزيد خليفتي على خراسان، فتولى يزيد بن المهلب أمر خراسان بعد أبيه، وكان متجبرا متكبرا فبلغ الحجاج عنه ما يكرهه.
ويكتب المفضل بن المهلب وهو أخوه لأمه بهلة بخبره فيلقيه إليه، فكتب الحجاج إلى حبيب بن المهلب بعد سنة من ولاية يزيد يأمره بالقدوم عليه، فقدم فولاه كرمان، وكتب إلى يزيد أن ابعث إلي أوثق من قبلك في نفسك، فبعث إليه الخيار بن سبرة المجاشعي، وكان من رجال المهلب وخاصته، فقال له الحجاج: أخبرني عن يزيد، فقال: أخبر سرا أم أخبر علانية؟ قال: بل أخبر سرا، واستدناه فقال: لقد رأيت رجلًا إن أقررته(8/279)
ولم تهجه فبالحري أن يفي لك، وإن رمت عزله فلا أحسبه والله يعطيك طاعة أبدا. فقال الحجاج: صدقت، فاحتبسه الحجاج عنده ولم يزعجه للرجوع وولاه عمان وأوصاه بإذلال من بها من أهل بيت المهلب وقال: إن الخيار قدم علي فرأيت رجلًا جزلا ذا عقل فاحتجت إليه لولاية عمان فوليته إياها. ثم إنه كتب إلى يزيد بعد أشهر يعلمه حاجته إلى مشافهته بأمر لا يحتمله الكتاب، ولا تحمله الرسل، فكتب إليه يعتل بالعدو وبشدة شوكته وانتشاره، فكتب إليه إنه لا بد لك من القدوم، فاستخلف المفضل أخاك على عملك واقدم علي منبسط الأمل، واثقا برأي أمير المؤمنين فيك.
فأشار عليه حضين بن المنذر الرقاشي بالمقام والمدافعة، وأشار عليه المفضل بالقدوم على الحجاج وقال له: إن شيخنا أوصانا بالطاعة التي هي عزنا وبها كان نباتنا، وإليها تؤول أمورنا. فقال له: ويحك، لئن طمعك في ولاية خراسان فولاك إياها لم يقرك بعدي إلا يسيرا.
وفكر يزيد فقال: إنا قوم شرفنا بالطاعة وبورك لنا فيها، فإن خلعنا أيدينا منها غيرنا ما بنا، والله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يغيّروا ما بأنفسهم) [1] وأرجو أن لا يقدم الحجاج علي بسوء مع رأي أمير المؤمنين عبد الملك في المهلب وولده وحفظه ما كان من آثاره وبلائه، فاستخلف يزيد المفضل، وسار إلى الحجاج حتى إذا صار إلى اصطخر لقيه موت عبد الملك وقيام الوليد بن عبد الملك، فقال: الآن هلكنا. فلما قدم على الحجاج أظهر إكرامه وإعظامه وجعل يسايره إذا ركب ولا يحجب عنه.
__________
[1] سورة الرعد- الآية: 11.(8/280)
ثم كتب إلى حبيب بن المهلب، وهو الحرون، وكان قتيبة بن مسلم على الري ودستبى فكتب إليه بولاية خراسان، وأن يحمل المفضل بن المهلب إلى ما قبله، فقدم قتيبة عبد الرحمن بن مسلم أخاه خليفة له، وأمره بأخذ المفضل وعماله وكتابه والاستيثاق منهم إلى قدومه، فلم يشعر المفضل به حتى ورد عليه، فاستوثق منه ومن أصحابه، وقدم قتيبة خراسان فحمله إلى الحجاج فلما توافى عنده: يزيد، وحبيب، والمفضل، وعبد الملك وكان على شرطة البصرة حبسهم أربعتهم، وحبس أبا عيينة بن المهلب، وكان اتهمه بأن لهم أموالا عنده، وكان أبو عيينة هو الذي زوجه هند بنت المهلب فلم يعبأ بذلك.
وذكروا أن يزيد بن المهلب كان يهوى امرأة رجل كان معه من عبد القيس يقال له عليب، فدعاه إلى الشخوص إلى الحجاج فاعتل عليه، فدس إليه من سقاه شربة فقتله، وحول أهله وولده إليه، فكان يأتي المرأة، وبلغ الحجاج ذلك، فلما أراد حبسه بدأ بضربه حدا وقال له: أتزني وأنت والي خراسان؟ فقال الشاعر:
أيور الناس من عصب ولحم ... وأيرك يا بن دحمة من عظام
وأيرك يا يزيد على المخازي ... جريء حين يختلط اللطام
وقال أيضا:
أباح يزيد أيره عرس جاره ... وكان يزيد لا يخاف المخازيا
قالوا: وتحركت الأكراد بجبال الأهواز، فسار الحجاج حتى نزل رستقاباذ، وبنو المهلب معه، فعسكر بها وخندق على عسكره، وحبس بني المهلب في حظيرة من قصب بالقرب منه، وأمر فحفر حولها خندق وضربت(8/281)
عليهم فساطيط ووكل بهم حرس من أهل الشام، وأمر بعذابهم والبسط عليهم.
وكانت مع الحجاج امرأته هند بنت المهلب فسمعت أصواتهم فصرخت وولولت، فقال الحجاج: يا عدوة الله أتصيحين بحضرتي؟
فقالت له: لا حاجة لي فيك، فطلقها وبعث إليها بمائة ألف درهم فلم تقبلها. ثم إن يزيد بن المهلب بعث إلى يزيد بن أبي مسلم، وكان على خراجه واستخراجه بمال فلم يقبله، وكان صحيحا، وقال: لقد لجأت إلي فو الله لأعملنّ في أمرك عملا، لو كنت قبلت هذا المال منك ما زدت عليه، فكلم الحجاج في أن يكفل ولد المهلب ويوظف عليهم وظيفة جرما يؤدونها، فأجابه إلى ذلك، وسأل يزيد بأن يخرج عبد الملك بن المهلب ليسعى في أمرهم ويبيع خيلهم وغيرها، وأن يوجه حبيبا إلى البصرة ليلقى قوما من صنائعهم وأهل ودائعهم في إعداد ما لهم عندهم وليبيع عقدهم، وجعل يكتب إلى عرفاء الأزد ليأتوه ويجتمعوا عنده فكان كالمناظر لهم في أمر كفالته، وكان يهيئ لهم وللحراس الموكلين بهم طعاما فيعشّيهم، فتعشوا ذات ليلة وقد أظلموا، وأمر فاتخذت له لحية بيضاء مثل لحية طباخه، وللمفضل لحية صفراء كبعض لحى عرفاء الأزد. فلما تعشى الناس وأزعج الحرس من عند يزيد للانصراف لبس ثيابا مثل ثياب طباخه وربط اللحية، ووضع على رأسه جونة من جون الطعام، ووضع الخباز على رأسه قدرا أو طنجيرا فلم يؤبه لذلك، وخرج المفضل وقد اعتم ولحيته صفراء فبادر مع الناس، فخرجا، واحتال عبد الملك بحيلة حتى تخلص من أيدي الموكلين به الذين كانوا(8/282)
يدورون معه فاجتمعوا في موضع اتعدوا للاجتماع فيه، وواعدوا من يقوم بأمرهم وخدمتهم أن يعدوا لهم خيلا من الخيل التي كانوا يظهرون أنهم يريدون بيعها وأداء قيمتها فيما ألزمهم الحجاج إياه، وكان الذي ألزمهم ستة آلاف ألف درهم فساروا ليلتهم حتى صاروا إلى زورق قد أعد لهم بجوخى الأهواز، وانتهوا إلى مفتح دجيل الأهواز فركبوا سفينة أعدت لهم أخرى، ثم خرجوا إلى البطيحة، وتوجهوا إلى موضع كان فيه مروان بن المهلب وقد أعد لهم نجائب فركبوها وساروا إلى الشام، ودليلهم رجل من كلب يقال له عمارة، واستخفى حبيب بن المهلب بالبصرة في بني راسب، وانغمس مروان وبقي أبو عبيدة في يد الحجاج وطلب القوم فلم يقدر عليهم.
وكان المتوجهون إلى الشام: يزيد، والمفضل، وعبد الملك، وقيل إن مروان كان معهم. وصار هؤلاء إلى فلسطين، وبها سليمان بن عبد الملك بن مروان، وكان واليا عليها من قبل أخيه الوليد بن عبد الملك بن مروان، وكان ولي العهد بعده، فكتبوا إلى رجاء بن حيوة الكندي بخبرهم، وشرحوا له أمرهم، وكان أثيرا عند سليمان جريئا عليه آنسا به، فقال له: إن يزيد بن المهلب قد أتاك مستجيرا بك، فامتعض من ذلك، فقال له رجاء بن حيوة: من ذا يرجوك وأنت ولي عهد وقد استجار بك مثله فلم تجره، ولم يزل به حتى أجاره، ودعا به وبأخويه فأمنهم، وكتب إلى الوليد يعلمه ذلك، فكتب الوليد إليه فيه كتابا غليظا يعجزه فيه في أمرهم ويقول: لهممت أن ألزمك ما يطالب به يزيد، وكان كتاب الحجاج قد سبق إليه بخبرهم.(8/283)
وكتب الوليد إلى سليمان يعزم عليه أن يحملهم إليه مستوثقا منهم فوجه بيزيد ومعه ابنه أيوب، وقال له: إذا دخلت على أمير المؤمنين فكن أنت وهو في سلسلة. فلما رآه الوليد قال: إنا لله، لقد شققنا على سليمان. فحط عن آل المهلب ثلاثة آلاف ألف درهم من الستة الآلاف الألف وألزمهم دمشق، فيقال إن سليمان غرمها عنهم، ثم كتب يسأل ردهم إليه ففعل الوليد ذلك.
ويقال إن الوليد نجمها عليهم، فجمع لهم زمل بن عمرو السكسكي من أهل دمشق نجما، وجمع لهم يزيد بن حصين بن نمير السكوني نجما آخر، وسار عبد الملك إلى الشام فجمع لهم مالا عظيما فأدوا الأنجم.
ثم كتب سليمان إلى الوليد يسأله رد يزيد بن المهلب وأخويه إليه فردهم، فأقام يزيد عند سليمان مكرما يؤنسه ويخصه حتى مات الوليد، وولي سليمان الخلافة.
وقال حضين بن المنذر في مخالفة يزيد إياه حين أمره بترك القدوم على الحجاج:
أمرتك أمرا حازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما
وخاف أن يبلغ الحجاج بيته هذا فزاد فيه:
فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالما
وقال نهار بن توسعة التيمي من ربيعة، ويقال ابن سحبان الباهلي حين شخص يزيد من خراسان ثم حبس ومعه المفضل:
أبني بهلة إنما أخزاكما ... ربي غداة غدا الهمام الأزهر
أغدرتما بأخيكما فوقعتما ... في قعر مظلمة أخوها المغور(8/284)
عوذا بتوبة مخلصين فإنما ... يأبى ويأنف أن يتوب الأخسر
لله در الغافلين لقد عدا ... فيهم ندى جم وملك قسور
وتبدلت مرو به لخرابها ... والدهر يتعس بالجدود ويعثر
عوران باهلة الألى في ملكهم ... مات الندى فمضى وعاش المنكر
شتان من بالصنج أدرك والذي ... بالسيف أدرك والحروب تسعر
كان مسلم بن عمرو يضرب عند يزيد بن معاوية بالصنج. وقال الفرزدق:
أبا خالد ضاعت خراسان بعدكم ... وقال ذوو الحاجات أين يزيد
فلا أمطر المروان بعدك قطرة ... ولا اخضر بالمروين بعدك عود [1]
وقال الفرزدق حين هرب يزيد وإخوته من حبس الحجاج وأجارهم سليمان بن عبد الملك:
لم أر كالقوم الذين تتابعوا ... على الجسر والحراس غير نيام
مضوا وهم مستيقنون بأنهم ... إلى أجل يلقونه وحمام
فساروا إلى أوفى قريش لجاره ... وخيرهم من أيمن وشآم [2]
وقال عمارة الكلبي دليلهم:
وناس من أبناء الملوك هديتهم ... بلا علم باد ولا ضوء كوكب
ولا قمر إلا ضئيل كأنه ... سوار حناه صانع السور مذهب
ألا جعل الله الخلائق كلهم ... فداء على ما كان لابن المهلّب
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 137 مع فوارق.
[2] ديوان الفرزدق ج 2 ص 265 مع فوارق ولم يرد في الديوان البيت الثالث.(8/285)
حدثني عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عَن لوط بْن يَحْيَى وعوانة بْن الحكم أن سليمان كتب إلى الوليد في أمر يزيد بن المهلب: «أما بعد يا أمير المؤمنين فقد كنت أظن أني لو أجرت عدوا منابذا لأجرته ولم تخفر ذمتي، فكيف وإنما أجرت سامعا مطيعا له شرف وسلف، ولأبيه بلاؤه وآثاره، وله نصيحته ومكانفته، وقد بعثت به إليك، وأنا أعيذك بالله يا أمير المؤمنين من اجترار قطيعتي، وترك بري وصلتي بإخفار ذمتي وحلّ عقدي، فو الله ما تدري ما بقاؤنا، ومتى يفرق الموت بيننا، فإن رأى أمير المؤمنين أن لا يأتي علينا أجل الوفاة إلا وهو لي واصل، ولحقي راع، وعن مساءتي نازع، فليفعل وليصفح لي عن يزيد، وكل ما طالبه به الحجاج فإنه علي، فعل إن شاء الله، والسلام» .
وقام يزيد حين دخل على الوليد فقال: يا أمير المؤمنين إن بلاءكم عندنا أهل البيت أحسن البلاء، فمن ينس ذلك فلسنا بناسيه، ومن يكفر فلسنا بكافريه، وقد كان من آثارنا في طاعتكم والطعن في أعين أعدائكم ما المنة علينا فيه عظيمة. فقال له الوليد: اجلس يا يزيد اجلس، وأمنه وكتب إلى الحجاج: «إني لم أصل إلى يزيد بن المهلب وإخوته مع أخي سليمان فاكفف عن آل المهلب جميعا، ولا أعلمن ما راجعتني فيهم» . فكف الحجاج عنهم وخلى سبيل أبي عيينة، وظهر مستخفوهم فلحقوا بالشام.
وحج المفضل وعبد الملك، فولى الوليد يزيد بن أبي كبشة السكسكي- وكان صديق الحجاج- حرب العراق، وأقر يزيد بن أبي مسلم على الخراج.(8/286)
قالوا: ولما استخلف سليمان بن عبد الملك تتبع من كان بالشام وغير الشام من آل أبي عقيل [1] فدفعهم إلى يزيد، وكان يزيد أول من عزاه بالوليد وسلم عليه بالخلافة، وأمره أن يستأديهم ويبسط عليهم، فولى أمرهم أخاه عبد الملك بن المهلب، فعذب الحكم بن أيوب بْن الحكم بْن أَبِي عقيل بْن مَسْعُود بْن عامر بْن مُعَتّب بْن مالك بْن كعب بْن عَمْرو بْن سعد بْن عوف بن ثقيف حتى قتله بأمر سليمان.
وألح عبد الملك على يوسف بْن عُمَر بْن مُحَمَّد بْن الحكم بْن أَبِي عقيل بن مسعود وغضب عليه يوما فرماه بسفرجلة فشتر عينه، وكان عبد الملك يوكل به من يحفظه وهو يطوف في غرمه، فدفعه يوما إلى الحارث بن الجهضمي، فخرج يطوف به، وكان الحارث مغفلًا فقال له يوسف: أريد دخول هذه الدار فإن فيها عمة لي أسألها في غرمي شيئا، فتركه فدخل الدار ولها بابان فخرج من الباب الآخر فهرب.
وبعث يزيد بن المهلب إلى البلقاء من عمل دمشق، وبها خزائن الحجاج بن يوسف وعياله فنقلهم وما معهم إليه، وكان فيمن أتى به أم الحجاج بنت محمد بْن يُوسُف بْن الحكم بْن أَبِي عقيل، وهي بنت أخي الحجاج بن يوسف وكانت امرأة يزيد بن عبد الملك بن مروان، وأم الوليد بْن يزيد بْن عَبْد الملك المقتول، فكان عبد الملك يعذبها بأمر أخيه يزيد بن المهلب في منزله، فكلمه فيها فأبى أن يشفعه فيها، فقال: الذي وظفتم عليها علي، فأبى قبول ذلك فقال يزيد: أما والله لئن وليت من الأمر
__________
[1] بهامش الأصل: اسم أبي عقيل، عمرو.(8/287)
شيئا لأقطعن منك طابقا، فقال يزيد بن المهلب: وأنا والله- فلئن كان ذلك- لأرمينك بمائة ألف عنان.
وقال قوم: لم يفعل ذلك بأم الحجاج بنت محمد، وإنما فعله بأختها، فجرى هذا القول بينه وبين يزيد بسببها.
وقال أبو الحسن المدائني: زعم قوم أن يزيد بن عبد الملك حمل المال عنها، وكان مائة ألف، ويقال أكثر من ذلك.
قال: ولما مضت لسليمان بن عبد الملك أربعون ليلة من خلافته، ولى يزيد بن المهلب حرب العراق وخراجه فاستقال من الخراج، فأراد أن يولي الخراج يزيد بن أبي مسلم، وكان يزيد بن المهلب وصفه له بالعفاف لتسهيله أمره، فقال عمر بن عبد العزيز: أتولي يزيد بن أبي مسلم؟ فقال يزيد: هو عفيف عن الدراهم، فقال عمر: إن الشيطان أيضا عفيف عن الدراهم لم يأخذ درهما قط.
واستشار سليمان يزيد بن المهلب فيمن يوليه الخراج غير ابن أبي مسلم، فأشار عليه بصالح بن عبد الرحمن وكان صالح مع زاذانفروخ بن بيزى كاتب الحجاج، فلما قتل في أيام ابن الأشعث استكتب ابن زاذانفرّوخ، ثم استكتب صالحا وهو من سبي سجستان، مولى لبني تميم، وقوم يزعمون أنه مولى لباهلة.
وأمر يزيد وهو على العراق باتخاذ ألف خوان ليطعم عليها، فقال له صالح: بيت المال لا يقوم لهذا، ومنعه إياه.
وشخص يزيد بن المهلب إلى العراق وخراسان مضمومة إليه، وتخلف المفضل وعبد الملك عند سليمان، وكان بهما معجبا، فلما قدم يزيد واسطا(8/288)
وجد الجراح بن عبد الله الحكمي على البصرة من قبل يزيد بن أبي كبشة، فكتب إليه في المصير إليه، وولى البصرة رجلًا يقال له مروان بن المهلب، وولى سجستان مدرك بن المهلب، وولى عمان زياد بن المهلب، وأمره بقتل الخيار بن سبرة المجاشعي، فقتله فقال الفرزدق:
فلو كنت مثلي يا خيار تعسفت ... بك البيد ضرب العوهجي وداعر
ترى إبلا ما لم تحرك رءوسها ... وهن إذا حركن غير الأباعر [1]
في أبيات. وولى السند حبيب بن المهلب، وكان قتيبة بن مسلم مباينا لسليمان فخافه حين مات الوليد فخلعه، وذكر عمال خراسان وقبائل من قبائل العرب فعابهم وذمهم، فاجتمعوا عليه فقتلوه، وقلدوا أمرهم وكيع بن أبي سود التميمي.
وَحَدَّثَنِي عَلِي الأثرم عَنْ أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: أمر سليمان يزيد إن كان قتيبة لم يخلع أن يقتل وكيعا، وإن كان خلع فلا. وبلغت قتيبة ولاية يزيد بن المهلب العراق وخراسان فقال:
رماني سليمان بأمر أظنه ... سيحمله مني على شر مركب
رماني بجبار العراق ومن له ... على كل حي حد ناب ومخلب
فأصبحت للعبد المزوني خائفا ... وكان أبي قدما على دين مصعب
فقال حضين بن المنذر يرد عليه:
أقتيب قد كسبت يداك خطيئة ... فاهرب قتيبة أين منه المهرب
فلأنت أحقر والذي أنا عنده ... في عينه من بقّة تتذبذب
__________
[1] العوجهي وداعر فحلان من الإبل. ديوان الفرزدق ج 1 ص 237.(8/289)
وكتب سليمان إلى يزيد بن المهلب في الشخوص إلى خراسان لإصلاحها، وتسكين الناس بها، ولم ما انتشر من أمرها، فاستخلف الجراح على العراق، وأتى جرجان ففتحها، وفتح دهستان، وكتب إلى سليمان بفتحهما، وأن قد غنم غنائم عظيمة، فأدى إلى كل ذي حق حقه وبقي بعد ذلك عنده ستة آلاف ألف درهم، ويقال أربعة آلاف ألف درهم، فلم يصل الكتاب إلى سليمان حتى مات، وكان وروده على عمر بن عبد العزيز، وقد استخلف بعد سليمان، فكتب إليه عمر: «أما بعد فإن سليمان كان عبدا من عبيد الله قبضه إليه بعد نفاد أكله وانقضاء أجله، ثم وليت الأمر بتصييره إلي، ويزيد بن عبد الملك إن كان من بعدي، وليس الذي ولاني الله من ذلك بهين علي، ولو كانت رغبتي في اتخاذ الأزواج واعتقاد الأموال كنت قد بلغت من ذلك أفضل ما يبلغه أحد، وقد بايع من قبلنا، فبايع من قبلك، إن شاء الله» .
فلما قرأ يزيد الكتاب قال: الرجل عازلنا لا محالة، وكان عمر رأى يزيد يوما، وقد دخل على سليمان مختالا، فقال: إني لأحسب في رأسه غدرة. فقال سليمان: لا تقل هذا يا أبا حفص، وإن يزيد رجل منا، فأغلظ له يزيد، فلما أتى منزله قال: ماذا لقينا من لطيم الحمار.
ثم أتاه يزيد فاعتذر إليه، ولم يلبث يزيد أن كتب إليه عمر يأمره أن يستخلف رجلا ويقدم إلى ما قبله، فاستخلف ابنه مخلد بن يزيد وخرج ومعه وجوه أهل خراسان، وفيهم وكيع بن أبي سود وكان محبوسا قبله فحمله، وكان معه عبد الله بن هلال الهجري الذي يعرف بصديق إبليس،(8/290)
فيزعمون أنه قال له: والله لا تدخل البصرة أميرا أبدًا، فانتهى إلى واسط وهو أمير.
وقال معمر بن المثنى أبو عبيدة: قدم يزيد واسطا قبل موت سليمان، وكان مسيره على طريق الري وحلوان، فكتب إلى سليمان يسأله أن يأذن له في دخول البصرة فأذن له فانحدر وهو لا يعلم بموت سليمان، وقدم عدي بن أرطاة حين قدم واسطا بعد موت سليمان وهو أمير، ثم شخص إلى البصرة فلما دخل نهر معقل وأشرفت له البصرة ورأى الجنيدة التي تسمى الشهارطاق قال: أين ابن هلال قبحه الله وقبح علمه الذي يدعيه، ثم نظر فإذا سفينة كثيرة الجذافين ليس فيها وطاء، وفيها عدي بن أرطاة الفزاري، وقد ولاه عمر بن عبد العزيز العراق، فقدم واسطا بعد خروج يزيد منها ببعض يوم فاستعجل ليلحقه، فلما لحقه عدي خرج إليه فصار معه في السفينة، ودفع إليه كتاب عمر فقال: سمعا وطاعة، ثم خرجا عند الجسر، وقدمت إلى يزيد الدواب فركب، وأمر فقدمت لعدي ومن معه دواب فركبها.
وحشدت الأزد ليزيد وضربوا قباب الآس، وهم يرون أنه الأمير، وصار عدي إلى دار الإمارة ويزيد معه حتى دخلها، ثم دعا بيزيد فدخل، وكان صالح بن عبد الرحمن مع عدي فقال: قيده أصلح الله الأمير، فقيده عدي، فلم يزل محبوسا عنده حتى كتب عمر إليه بحمله.
وقال أبو عبيدة: بل كان في عهده أن يقيده ويحمله، قالوا: فحمله عدي إلى عمر مع موسى بن الوجيه الحميري، وكان يزيد أخذ موسى بتطليق امرأته، وهي أخت أم الفضل بنت غيلان بْن خرشة الضبي، امرأة يزيد بن المهلب، وقال: لا أرضي بمسالفتك، وضربه حتى طلقها تحت السياط،(8/291)
وذلك في أيام سليمان بن عبد الملك، فكان موسى يشتمه في طريقه ويزيد يقول له: يا دعيّ فقال له: يا بن المزونية، وأي دعي أبين دعوة منك، ألست مولى عثمان بن العاص الثقفي، أو لم يقل الشاعر:
نحن قطعنا من أبي صفرة ... قلفة من قد خالف الفطرة
لما رأى عثمان غرموله [1] ... أنحى له عثمان بالشفرة
ألم يكن أبو صفرة مجوسيا اسمه ... بسفروخ فقلتم أبو صفرة
وحدثني عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ النَّبِيلُ قال: لما احتبس سليمان بن عبد الملك يزيد بن المهلب عنده، ثم ولاه العراق، عزل خراسان عنه، فلم يوله إياها، وولى خراسان قتيبة بن مسلم، وكتب عهده عليها وبعث به إليه، فلما خلع وقتل ولاها يزيد بن المهلب.
قالوا: ولما وافى يزيد بن المهلب عمر بن عبد العزيز قال له: هذا كتابك وهذا خاتمك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، كتبته استعطافا لسليمان علي، وعلمت أنه لا يأخذني مع رأيه في بالمال. قال: فنحن آخذوك بإقرارك.
وولى عمر الجراح بن عبد الله خراسان، وحبس يزيد بن المهلب، فزعموا أنه مرض في محبسه فأمر عمر بقيوده ففكت عنه، وقدم بمخلد بن يزيد فأتي به عمر فلما دخل عليه وعليه كمة لاطية، وقد شمر ثيابه، قال عمر: ما هذا الزي؟ قال: شمرتم فشمرنا، ثم قال: يا أمير المؤمنين ليسعنا ما وسع الناس من عدلك، ولا نكن أشقى هذه الأمة بك، فقال:
__________
[1] الغرمول: الذكر، أو الضخم الرخو قبل أن تقطع غرلته.(8/292)
إن أباك قد أقر بهذا الكتاب. قال: فِأنا أضمن المال الذي فيه، قال: أنت وذاك. قال: فصالحني على بعضه قال: لا، لا. أنا أرى أن آخذه به كله أو أعلم أنه لا شيء عنده فأنظره إلى الميسرة.
فقال: يا أمير المؤمنين، إنما أراد استعطاف سليمان بما كتب إليه به، وهو يحلف، ثم أتى أباه فقال: أتحلف على ما قلت وادعيت؟. فقال:
لا والله لا تتحدث العرب بأني صيرت يميني على مال أبدا، فلم يزل محبوسا حتى مرض عمر، فخاف أن يلي يزيد بن عبد الملك فيناله بمعرة لما في نفسه عليه.
وكان يزيد بن المهلب في غرفة أسفلها بيت فاحتيل له- وقد تشاغلت الأحراس عنه- ويقال رشوا وصونعوا فملئ البيت تبنا، ثم نقب السقف وألقى نفسه ونكر لحيته ولباسه، وأعد له إخوته إبلا ناجية، فركب وركبوا معه، ومضى يؤم العراق، وكان عمر كلم في يزيد فقال: هو رجل سوء قتال، والحبس خير له.
وقال علي بن محمد المدائني: حمل الجراح بن عبد الله الحكمي مخلد بن يزيد من خراسان على البريد في سلسلة، فقدم به الكوفة ليحمل منها على البريد إلى عمر، فسأله قوم فوصلهم، فقال الناس: ما رأينا أسيرا أكرم من هذا، ما فعل كرام الأمراء إلا دون ما فعل.
وأتاه حمزة بن بيض الحنفي في حمالة فأمر له بها، وله يقول:
أتيناك في حاجة فاقضها ... وقل مرحبا تجب المرحب
ولا تكلنا إلى معشر ... متى يعدوا عدة يكذبوا(8/293)
وهمك فيها جسام الأمور ... وهم لداتك [1] أن يلعبوا
بلغت لعشر مضت من سنيك ... ما يبلغ السيد الأشيب
ثم حمل على البريد من الكوفة حتى ورد على عمر فدخل عليه فجرى بينهما ما ذكرناه، وشخص حمزة بن بيض إلى يزيد بن المهلب فمدحه فقال:
اصبح في قيدك السماحة والجود ... وحمل الديات والحسب
لا فرح إن تظاهرت نعم ... وصابر في البلاء محتسب
برزت سبق الجواد في مهل ... وقصرت دون شأوك العرب
فكتب له بخمسمائة دينار، وكتب له إلى وكيله بمال.
وقال الهيثم بن عدي: حبس عمر بن عبد العزيز يزيد بن المهلب في حصن حلب، فلما مرض عمر وهو بدير سمعان، وبلغ ذلك يزيد بن المهلب، دس إلى عامل حلب مالًا وإلى الأحراس، وقال: قد ثقل عمر فليس يرجى فلا تشيطوا بدمي، فإن يزيد إن ولي لم ينظرني فواقا [2] ، فأخرجوه فهرب وهم معه قد أعدوا له الدواب فركبها وأم البصرة، وكتب إلى عمر كتابا وقال: إن برئ فليدفع إليه. وكان فيه: «إني والله لو وثقت بحياتك ولم أخف وفاتك لم أخرج من محبسك، ولكني لم آمن أن تهلك ويلي يزيد فيقتلني شر قتلة» .
فورد الكتاب وبه رمق فقال: اللهم إن كان يريد بالمسلمين سوءا فأحقه به وهضه، فقد هاضني.
__________
[1] لداتك: تربك، أبناء جيلك.
[2] الفواق: الذي يأخذ المحتضر عند النزع، والريح التي تشخص من الصدر، أو بين فتح يدك وقبضها على الضرع. القاموس.(8/294)
قالوا: وتوفي عمر بن عبد العزيز بدير سمعان يوم الجمعة لخمس ليال بقين من رجب سنة إحدى ومائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة وأشهر، وذلك قول الواقدي.
وقال أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَنْ سُفْيَانَ الثوري: كان عمر حين توفي ابن أربعين سنة، ويقال ابن تسع وثلاثين.
وقال سفيان بن عيينة: قال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: مات عمر ابن تسع وثلاثين سنة، قلت: ابن تسع وثلاثين؟ قال: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ من فضله) [1] .
وولي يزيد بن عبد الملك، فلم يكن له همة إلا يزيد بن المهلب، فأخبر بهربه، وقد كان أشير عليه أن يأتي مسلمة وكان بالناعورة وهي من عمل حلب فيستجير به فلفته عن ذلك معاوية ابنه، وكان دليلهم يعدل بهم حتى كادوا يموتون عطشا.
ووجه يزيد في طلب يزيد بن المهلب الكوثر بن زفر بن الحارث، ويقال الهذيل بن زفر، ويقال الوثيق بن زفر، ويقال تميم بن عمير بن الحباب، ويقال عبد الرحمن بن سليم الكلبي في جماعة، ويقال إنه وجه كل واحد من هؤلاء في وجه، فلم يلحق، ولم يوقع له على أثر.
وكتب يزيد إلى عدي بن أرطاة وهو مقر على البصرة، وإلى عَبْد الحميد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن زَيْد بن الخطاب وهو مقر على الكوفة، يخبرهما بموت عمر، وبهرب يزيد، ويحذّرهما إياه، ويأمرهما بطلبه ويأمر عديا
__________
[1] سورة النساء- الآية: 54.(8/295)
بحبس من قبله من آل المهلب والاستيثاق منهم، ففعل عدي ذلك، وأشار عليه وكيع بن أبي سود بقتلهم جميعا للذي كان في نفسه على يزيد بن المهلب، فقال عدي: ما كنت لأفعل ذلك ولم يجلوا بأنفسهم، قال:
فأهدم دورهم فلا يجد يزيد ما يؤوي، فأبى، قال: فافتح بيت المال واعط الناس يقاتلوا عنك، قال: لم يؤذن لي في ذلك، قال: كأني بك وقد أخذت برقبتك. ومات وكيع في أيامه.
وقال بعضهم: كان الوثيق بن زفر قد كاد يظفر بيزيد فقيل له: إنك أمسكت عنه ولم تجاده، فقال: أجل، قلت إن أدركته فقتلته قتلت رجلًا واحدا، وإن بلغ أهله انقادوا له، ورجوت أن يخلع، فيقتله الله وأهل بيته، فإن في رأسه نزوة.
وقال أبو مخنف: أقبل يزيد بن المهلب حتى ارتفع فوق القطقطانية، فبعث عبد الحميد بن عبد الرحمن: هشام بْن مساحق بْن عَبْد اللَّهِ بْن مخرمة- أحد بني عامر بن لؤي- في شرطة الكوفة وأهل القوة منهم فقال هشام:
أصلح الله الأمير أآتيك به أسيرا، أم آتيك برأسه؟ فضحك عبد الحميد ثم قال: ذاك إليك، فسار ابن مخرمة حتى نزل العذيب، ومر يزيد قريبا منه فأخبر هشام بذلك فركب فحاد عنه متعمدا، ومضى نحو البصرة.
وقال أبو عبيدة: بعث عبد الحميد: سليمان بن سليم بن كيسان الكلبي لتلقي يزيد وأخذه، فلم يقدر عليه، وقيل إنه غيب عنه.
وقال الهيثم بن عدي: أدرك يزيد بن المهلب الطلب، ورأسه في حجر جاريته فهابته أن توقظه، فرمت غلاما له بحصاة وأومأت إليه أن نواصي الخيل قد طلعت فأيقظه غلامه، فقال: اطرد بغلتي في وجوههم فإذا(8/296)
سألوك: لمن هذه؟ فقل ليزيد، فإن قالوا: فأين هو؟ فقل هو ذا فإنهم إذا علموا بموضعي أحجموا، وإن هجموا علي استقلوا من معي فلم يرجعوا.
ففعل الغلام ذلك وسألوه فأخبرهم: فأقاموا ولم يقدموا عليه، وجاءه وصيف بالمصلى، والإبريق فتوضأ وما معه إلا برذون أدهم أبيض الأذنين، وعجلان وأبو فديك ومولى له آخر ومن على ثقله.
وقال المدائني: مر يزيد يحدث الرفاق، وهناك منزل الهذيل بن زفر، وكان يزيد خائفا من الهذيل، فلم يشعر إلا وقد دخل يزيد عليه، ثم دعا بلبن فشربه فاستحيا منه الهذيل وعرض عليه خيله وغيرها فلم يأخذ منه شيئا، ثم أتى الرصافة [1] وسار في البر حتى أتى القادسية، فوجه عبد الحميد في طلبه فأعجزه حتى دخل البصرة.
المدائني عن بشر بن عيسى أن يزيد بن المهلب دخل البصرة ليلة البدر من شهر رمضان سنة إحدى ومائة، وعليه درع وهو معتم، فمر بالحرس الذين في الأزد ليلًا وعليهم بدل بن نعيم من بني ثعلبة بن يربوع، وكان عدي بن أرطاة صيره هناك في جماعة من بني تميم، فقالوا: من هذا؟
قالوا: الأمير أبو خالد، قالوا: قدمتم خير مقدم ادخلوا بسلام.
فأتى يزيد دار المهلب فاستفتح، فقالوا: حتى يأتي المنهال بن أبي عيينة، وكان عدي صير أمر الدار إليه ليعلمه قدوم يزيد، فبسط له في الرحبة فجلس، وجاء المنهال فقال: افتحوا للأمير، ففتحوا له الباب فلم يدخل، وبعثت إليه هند بنت المهلب بطعام فلم يأكله ولم يقبله، ثم دخل
__________
[1] على مقربة من الرقة تبعد عنها قرابة الخمسة عشر ميلا.(8/297)
الدار بعد، وجاء بدل بن نعيم إلى عدي فقال له: قدم يزيد الساعة فسرح معي خيلًا حتى آخذه قبل أن يقوى أمره، فأبى عدي ذلك وتفرقت المسالح التي في الأزد.
وكتب يزيد من ليلته إلى يزيد بن عبد الملك يسأله الأمان وبعث إليه بكتابه مع خالد ابنه، وحميد بن عبد الملك بن المهلب، والمثنى بن عبد الملك بن الربعة. ويقال بعث به مع حميد ويزيد بن جديع والمثنى بن عبد الله، ويقال: بعثه مع حميد، ويزيد بن جديع، والمثنى بن عبد الله.
وبعث إلى عدي بن أرطاة: القاسم بن عبد الرحمن الهلالي، وأمه فاطمة بنت أبي صفرة، يسأله أن يخلي سبيل إخوته، وقال: أقره السلام وقل له: إني لم أخلع ولم أرد شقاقا، وقد كتبت إلى أمير المؤمنين أسأله أن يؤمنا، فخل سبيل إخوتي لنخرج عن المصر، فإن أتى كتاب أمير المؤمنين بما نحب فذاك وإلا كنت قد سلمت منا وسلمنا منك.
فأبلغ القاسم بن عبد الرحمن عديا رسالته، فقال عدي للقاسم:
ما ترى؟. قال: أرى أن تشد يدك بهم حتى يضع يزيد يده في يدك، ثم ترى من رأيك.
ورجع القاسم إلى يزيد فقال: قد أبى إلا أن تضع يدك في يده، فبعث يزيد إلى الأزد وربيعة فجاءت الأزد وأبطأت ربيعة، ثم جاؤوا فقال يزيد: لو كنا ندعوكم إلى معصية إن كان ليجب عليكم أن تجيبونا وأنتم إخواننا، فكيف وإنما ندعوكم إلى حق، علام يحبس هذا الرجل إخوتي بغير جرم.(8/298)
وأمر يزيد العرفاء أن يفرضوا للناس ففرضوا، وجعل يعطيهم قطع الفضة يقطعها لهم غلمان رجل من الصيارفة يقال له حريث، وأتى يزيد قوم من القراء والقصاص، وأرسل يزيد إلى الأسواق فحولها أو أكثرها إلى الأزد، واشترى السلاح واعتزل فنزل مقبرة بني يشكر. وكانت اليمانية والربعية تختلف إليه، وكانت مضر تأتي عديا، وكان سبرة بن نخف بن أبي صفرة يختلف إلى عدي معتصما بالطاعة، فبعث إليه يزيد: يا أبا عمرو إنك تأتي هذا الرجل ولا آمن أن يغتالك بعض المضرية فيذهب دمك، فترك عديا ولزم بيته.
وكان البختري بن معن بن المغيرة بن أبي صفرة يرى الطاعة أيضا ويكره ما صنع يزيد فخرج إلى الشام وأتى يزيد بن عبد الملك فقيل له: إنه عين ليزيد بن المهلب. فحبسه، فقال قصيدته التي يقول فيها:
فإن أكن مفردا بالشام مغتربا ... دوني رتاج له قفل وإقليد
وأصبحت بعد قرب الدار نازحة ... أم الخليل بأرض دونها البيد
وَحَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَنْ وَهْبِ بْن جرير بْن حازم عَنْ أبيه أن عديا حبس من بني الملهب: حبيبا الحرون، ومروان، والمفضل، وعبد الملك، واستخفى محمد بن المهلب في الحدان، وتغيب بقية ولد المهلب في قبائل الأزد، فلم يقدر عدي عليهم، وكانوا امتنعوا من المصير إليه، فبعث إليهم من وجوه أهل المصر قوم ناشدهم وقالوا: لا تخافوا أميركم فقالوا: قد مات عمر بن عبد العزيز ولا ندري ما فعله بنا، فلم يزالوا بهم حتى أتوا عديا فلما أتوه حبسهم.(8/299)
وحدثني رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ نصر الجهضمي عن مشايخهم أن عديا بعث الحسن بن أبي الحسن إلى ولد المهلب في عدة منهم:
عبد الله، وخالد ابنا عُثْمَان بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد فناشدوهم أن يأتوا أميرهم ولا يؤثروا على الطاعة شيئا، فقال عبد الملك بن المهلب: إنكم واطأتم عديا على هلاكنا وليست طاعته بواجبة علينا، فقال له الحسن:
كذبت. فغضب عبد الملك وقال للحسن: أتكذبني يا بن اللخناء، وأخذ بقائم سيفه وقال: والله لولا أن أعير بقتلك وأنت في منزلي لضربت عنقك، فأنك عبد تريد استذلال أهل المصر بتخاشعك، وقد حمقت نفسك وعدوت طورك وقدرك، فلم يزل المفضل أخوه يقسم عليه ويسكنه حتى سكن، ولم يجبه الحسن بشيء.
ثم قال له: يا حسن ألم تطمر نفسك من الحجاج حينا، وليس هذا سلطان بني أمية، وذلك سلطانهم، ولسنا نأتي عديا على هذه الحالة لأنا لا نأمنه على دمائنا كما لم تأمن الحجاج على دمك. قال الحسن: فإن عديا أمنكم من كل ما تكرهون، وأمرني أن أعقد لكم أمانا، وأضمن لكم عنه الوفاء.
فوثق المفضل بقوله ولم يزل بعبد الملك حتى مضى معه إلى عدي، وتخلف الآخرون. فلما دخلا على عدي أخفر الحسن وحبسهما مع حبيب ومروان، ثم بعث فأتي بأبي عيينة ومدرك فحبسهما فصاروا ستة فقيدهم جميعا.
فلما حبس بني المهلب صعد المنبر فنعى عمر وأخبر بقيام يزيد بن عاتكة، وكان المغيرة بن عبد الله الباهلي في خمسمائة فارس بالطف، قد(8/300)
جعلهم عدي هناك ليمنع يزيد من دخول البصرة، فلما دنا منه انهزم وأصحابه من غير قتال، فلما انتهى إلى محرس بني تميم قالوا: من هذا؟ قيل الأمير يزيد، فسلموا عليه بالإمرة ودعوا له ثم انصرفوا إلى عدي فأخبروه بمقدم يزيد، فغضب عليهم وشتمهم وقال: تركتموه حتى دخل، ثم جئتموني تخبروني عنه. قالوا: فعاجله الساعة قبل أن يغلظ أمره وتشتد شوكته فإنه إن أصبح لم تصل إليه.
وسأل يزيد عن إخوته الذين حبسهم عدي مع حبيب ومدرك فقال:
هب هذين وليا، فما بال الآخرين؟ وكان مدرك ولي ليزيد سجستان وولي حبيب السند، فلما عزلهما عدي حبسهما.
ولم يعط عدي الناس من بيت المال شيئا، وجعل يعطيهم في اليوم درهمين درهمين سلفا من مال يقترضه ويقول: خذوا هذا حتى يأتيني أمر أمير المؤمنين يزيد، فقد كتبت إليه أن يطلق لي إعطاءكم من بيت المال، وإن أقدمت على إعطائكم من بيت المال لم آمن لائمته وأن لا يحسب ما تأخذونه لي، فقال الفرزدق:
أظن رجال الدرهمين تقودهم ... إلى الموت آجال لهم ومصارع
وأحزمهم من كان في قعر بيته ... وأيقن أنّ الغرم لا بدّ واقع [1]
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا أَبُو عَاصِمٌ النبيل عن أبي عامر الخزاز قال: فرض عدي لأصحابه درهمين درهمين، فرأيت رجلًا من أصحاب
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 421.(8/301)
الحرس وقد طعن فخرج تربه [1] وإنه ليقال له: قل لا إله إلا الله فيقول هاتوا الدرهمين. حتى خرجت نفسه.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْن شَبَّةَ عَن أَبِي عَاصِمٍ عن أبي عامر الخزاز بِمِثْلِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عن أبي مخنف قال: جمع عدي لقدوم يزيد، أهل البصرة وخندق عليها، فبعث على خمس الأزد المغيرة بن زياد بن عمرو العتكي، وعلى خمس تميم محرز بن حمران السعدي أو جيهان ابنه، ويقال عبيد الله بن مضارب الدارمي، وعلى بكر بن وائل عمران بن عامر بن مسمع ويقال نوح بن شيبان المسمعي. والثبت أن رجلًا من بني قيس بن ثعلبة يقال له أبو منقذ قال: إن الراية لا تصلح إلا في بني مالك بن مسمع، فدعا عدي بن شيبان بن مالك بن مسمع فعقد له على بكر بن وائل، وعقد لمالك بن المنذر بن الجارود على عبد القيس، وعقد لعبد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بن عامر بن كريز على أهل العالية. وقال غير أبي مخنف: عقد لعبد الأعلى بن الفرات الأسدي على أهل العالية.
وأقبل يزيد لا يمر بخيل من خيلهم ولا قبيل من قبائلهم إلا تنحوا له عن الطريق حتى يمضي.
وحدثني روح بن عبد المؤمن عن علي بن نصر الجهضمي عن محمد بن أبي عيينة قال: غضب عمران بن عامر بن مسمع فمال إلى يزيد.
وقال أبو الحسن المدائني وأبو عبيدة: كان بالأهواز رجل من أهل الشام من السكاسك يكني أبا السكن، واسمه عبد الله بن هارون، فلما بلغه
__________
[1] الترب والترائب: عظام الصدر، أو ما ولي الترقوتين منه، أو ما بين الثديين والترقوتين، القاموس.(8/302)
أمر يزيد أقبل لينصر عدي بن أرطاة، فخاف عدي أن يعرض له يزيد، فبعث لمسور بن عمر بن عباد بن الحصين والزِّرد بن عبد الله السعدي ليمنعاه ممن أراده، فبعث يزيد إليه محمد بن المهلب- أخاه- والمهلب بن العلاء بن أبي صفرة، فالتقوا عند الجسر، ففر الزرد والتقى محمد والمسور فضرب محمد المسور فأصاب أنف البيضة، فجرحه على أنفه، وضرب المسور محمدا فتناول محمد السيف من المسور وجذبه فحز في أصابع محمد، والتقى ابن العلاء وأبو السكن فطعنه ابن العلاء ففقأ عينه وتحاجز القوم، فقال الشاعر:
وأفلت في يوم الخميس بنفسه ... وكاد يلاقي الموت زرد بني سعد
حززنا بحد السيف كف محمد ... ولم نبتئس إن فر زرد بني سعد
وقال قوم من الأزد: كانت ليزيد رمكة بالأهواز فوجه المهلب بن العلاء ليقدم بها، وبلغ ذلك عديا فسرح المسور لذلك، وأرسل يزيد أخاه ليمنع منه فالتقوا بصهر تاج [1] ووافاهم أبو السكن على تلك الحال فقاتل مع مسور ففقئت عين أبي السكن وجرح مسور على أنفه، وانهزموا.
وقال المدائني: ولى يزيد بكير الفراهيدي من الأزد الجسر، فأقام هناك، ونظم عدي ما بين دار الإمارة والمربد بالخيل والرجال.
قالوا: وسار يزيد لمحاربة عدي، وعدي في دار الإمارة، فأمر بظلال السوق فأحرقت وهدمت الدكاكين، فقال هريم بن أبي طحمة، واسمه
__________
[1] صهرتاج: موضع بالأهواز. معجم البلدان.(8/303)
عدي بْن حارثة بْن الشريد بْن مرة بن سفيان بن مجاشع بن دارم، وهو أبو الترجمان بن هريم، والمسور بن عمر بن عباد بْن الحصين الحبطي، من بَنِي تميم لعدي: ما تناظر من هذا المزوني وأنت أعز منه وأعد، فأمرهما أن يسيرا إلى المربد، وبث خيله في النواحي واستعد للحرب، وكتب إلى يزيد بن عبد الملك يعلمه خلع يزيد بن المهلب، وخرج هريم بن أبي طحمة في جمع كثيف من بني تميم ومن قيس إلى المربد، ووقف هو في القلب في حنظلة وسعد، فوجه يزيد إليهم محمد بن المهلب والمشمعل الشيباني، ودارس مولى حبيب بن المهلب فقاتل دارس وأصحابه بني تميم من أصحاب عدي، وكانوا في إحدى المجنبتين وهو يقول:
أنا غلام الأزد واسمي دارس ... إنّ تميما سماء ما تمارس
إذا دعونا فارسا لفارس
وقال الفرزدق
تفرقت الجعراء أن صاح دارس ... ولم يصبروا عند السيوف الصوارم
جزى الله قيسا عن عدي ملامة ... ألا صبروا حتى تكون ملاحم [1]
وقاتل محمد بن المهلب قيسا وهم في المجنبة الأخرى فهزمهم، وانكشف أصحاب عدي جميعا، وأعان بشر بن حاتم بن سويد بن منجوف أصحاب يزيد، وقاتل فأبلى، وأتاه محمد بن المهلب شاكرا له، وبعث إليه يزيد بصلة سنية مع عثمان بن المفضل بن المهلب، فزعموا أنه قيل لابن سيرين: أن بكرا أعانت الأزد فتمثل:
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 224 مع فوارق كثيرة.(8/304)
إذا كانت الأنصار بكر بن وائل ... فذلك دين ناقص غير زائد
وكان فيمن قاتل يومئذ سالم المنتوف فقال بعضهم:
إن تميما ساء ما تمارس ... ويل لها من سالم ودارس
وقال الفرزدق:
والأزد قد نظمت بالمربدين وقد ... حلوا بأرعن مثل الطود جرار [1]
وإنما كره محمد ودارس أن يصير أصحاب عدي إليه فيقوى بهم، وكره أصحاب عدي أن يولوا فيكب محمد ودارس عليهم.
قالوا: ولما كان من الغد بعث عدي هريم بن أبي طحمة المجاشعي إلى المسجد المعروف بمسجد الأنصار في خيل، فأرسل يزيد أخاه محمدا وهو ابن الطالقانية، فشد على هريم فاحتضنه وأخذ بمنطقته فقال هريم: عمك يا بن أخي، فتركه.
وقال أبو مخنف في بعض روايته: التقوا عند مسجد الأنصار ليلًا، فأهوى محمد لمنطقة هريم ليحمله فيقتلعه من السرج، فانقطعت منطقته فتركه، وأقبل مسور بربذ [2] فضربه محمد على أنفه وانهزم أصحاب عدي.
وقال أبو عبيدة: ضرب محمد بن المهلب مسورا، ضربة على أنفه، فقال خلف بن خليفة الأقطع:
كسروا راية ابن أم هريم ... وحذوا مسورا على الخرطوم
ووجه يزيد عثمان بن المفضل بن المهلب نحو عدي، وقد برز عدي إلى رحبة القصابين، فلقى عثمان خيل عدي فهزمهم وأسر منهم رجلين
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.
[2] الربذ: خفة، الخفيف القوائم في مشيه، وربذ العنان: منفرد منهزم. القاموس.(8/305)
أطلقهما يزيد، وأبلى عثمان يومئذ بلاء مذكورا فزوجه يزيد ابنته الفاضلة بنت يزيد.
وهزم أصحاب عدي في كل ناحية، وقتل خالد بن واقد العقيلي وغيره، وهرب عدي فدخل الدار.
وأخذ دينار السجستاني مولى آل المهلب في العطارين، ثم صار إلى الوزانين، فرمي بصخرة من سطح فأصابت ظهره فمات واحتز رأسه رجل من بني تميم فأتى به عديا، وقال: هذا رأس بعض بني المهلب، فبعث به عدي إلى المحبسين الذين عنده من ولد المهلب، فقالوا هذا رأس دينار مولانا.
وكان محمد بن المهلب ودارس ومن معهما مواقفين لهريم ومسور وأصحابها لا يقدم بعضهم على بعض، وذلك عند مسجد الأنصار حيث كانت وقعتهم، فلم يزالوا على تلك الحال حتى ظهر يزيد على عدي.
قالوا: والتقى عثمان بن المفضل وأصحاب عدي في الرحبة التي عند دار الإمارة فاقتتلوا، فصرع جيهان بن محرز السعدي، فحماه معاوية بن أبي سفيان بن زياد، فقال الفرزدق:
دعا ابن أَبِي سُفْيَان والخيل دونه ... تثير عجاجا بالسنابك ساطع
فكرّ عليه مثل ما كرّ مخدر ... من الأسد يحمي واردات المشارع [1]
وأم معاوية هذا أم أبان بنت حكيم بن قيس بن عاصم التميمي.
ودنا الناس إلى عدي وهو في دار الإمارة، وألصقوا بالدار، فجعلت نبالهم تقع في الدار، فقال عدي لحبيب بن المهلب: أجرني. قال: لا،
__________
[1] ليسا في ديوانه المطبوع.(8/306)
ولا كرامة. فقال لأبي عينية وعبد الملك: أجيراني. فقالا: نعم. وكانت الأصوات إذا خفيت دنا بنو المهلب إلى عدي كأنهم يتعوذون به، وإذا علت دنا عدي منهم متعوذا بهم.
وجاء عبد الله بن دينار مولى بني عامر وكان على حرس عدي منهزما، فدق الباب، وقال: افتحوا فقد أخزى الله ابن المهلب فلم يفتح له حتى أسر، ودعا عثمان بن المفضل بسلم فوضعه على بيت المال أو دار الديوان فصعد الناس ثم انحازوا وخرجوا إلى دار الإمارة فأخذوا عديا، وفتحوا الباب، وأرسل عثمان إلى يزيد رجلا أعلمه الخبر، فأقبل يزيد حتى وقف على باب الدار وأخرج إليه إخوته، فأمر بإطلاق قيودهم فأطلقت، ولم يدخل الدار ليكون الأمر- زعم- شورى ونادى مناديه: الناس آمنون إلا عديا وموسى بن وجيه الحميري، فقتل موسى، قتله رجل عطار، وقام أخو جرير بن حازم واسمه مخلد فاعتنق ابن وجيه وقال: اقتلوني وموسى فأصابه السيف، فحمل وهو مثقل فمات بعد أيام.
ويقال إن شقران مولى العتيك شد على موسى فعانقه، وقال: اقتلوني وموسى. وارتث شقران فحمل إلى العتيك فعاش أياما ثم مات.
وأمر يزيد فحول إليه عدي بن أرطاة وابنه، وحاضر بن أبي حاضر الأسدي ويقال أبو حاضر نفسه، وابن السمط بن شرحبيل بن السمط الكندي، وزياد بن الربيع الحارثي وغيرهم ممن أخذ من أصحاب عدي فقيدوا جميعا فقال له عدي: لا تغرنك نفسك يا يزيد فقد رأيت جنود الله من أهل الشام وبلاءه عندهم فتدارك أمرك قبل أن يشخصوا إليك، واعلم أن بقائي أبقى لك، ولئن طلبت الإقالة فهو خير لك.(8/307)
وقال الفرزدق:
أعطى عدي باسته واست أمه ... أبا خالد والخيل تدمى نحورها [1]
وأجمع قوم على الخروج من البصرة منهم: هريم بن أبي طحمة، والمسور، وعمر بن يزيد بن عمير الأسدي، ومحمد بن رباط الفقيمي، وهداب بن مسعود المازني، ومالك بن المنذر بن الجارود، والحواري بن زياد بن عمرو العتكي، فمضوا إلى الكوفة، فأكرمهم عبد الحميد بن عبد الرحمن الأعرج عامل الكوفة من قبل يزيد بن عبد الملك، وكان عاملا لعمر بن عبد العزيز، فأقره يزيد على الكوفة وأدنى مالك بن المنذر، فحسده عمر بن يزيد فسعى به وقال: هو عين ليزيد عليك. وقال السرادق الباهلي:
غاب العرانين من قيس ولو شهدوا ... يوم ابن أرطاة ما سبت به مضر
قالوا: ولما ظهر يزيد على عدي أقام يومه ذاك في دار بحيال المسجد الجامع، فلما أصبح أمر فنودي في الناس فحضروا المسجد وحشدوا، فخطبهم، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «يا أيها الناس إنا غضبنا لكم فانظروا لأنفسكم رجلًا يحكم فيكم بالعدل، ويقسم فيكم بالسوية، ويقيم فيكم الكتاب والسنة، ويسير بسيرة الخلفاء الراشدين» .
فقال الحسن بن أبي الحسن البصري: يا عجبا من يزيد إنه بالأمس يضرب أعناق هؤلاء الذين اتبعوه تقربا إلى بني مروان، حتى إذا منعوه شيئا من دنياهم، وأخذوه بحق الله عليه غضب فعقد خرقا على قصب ثم نعق
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.(8/308)
بأعلاج فاتبعوه، وقال: إني قد خالفت هؤلاء فخالفوهم، ثم يدعوهم إلى كتاب الله وسيره الخلفاء الراشدين، ألا وإن من سيرة الخلفاء الراشدين أن يوضع في رجله قيد ويرد إلى محبس عمر، فقال رجل للحسن: كأنك راض عن أهل الشام؟ فقال: قبح الله أهل الشام وترحهم. أليسوا الذين أحلوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام. وأباحوه أنباطهم وأقباطهم، لا يتناهون عن سيئة ولا انتهاك حرمة، ثم نصبوا المجانيق يرمون بيت الله، فلم يهج يزيد الحسن وكف عنه.
وحدثني أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، ثنا أَبُو دَاوُدَ الطيالسي، ثنا شعبة عن الحسن أنه قال في فتنة يزيد بن المهلب: كلما نعر لهم ناعر اتبعوه، هذا عدو الله ابن المهلب.
وحدثني عبد الواحد بن غياث عن جويرية بن أسماء قال: ذكر ابن المهلب عند الحسن فقال: فاسق قاتل الناس مع هؤلاء على غير هدى، ثم غضب غضبة، فعقد خرقا على قصب، ثم نعق بأعلاج وطغام فاتبعوه، فهو يزعم أنه يدعوهم إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وسيره الخلفاء الراشدين ألا وإن من سيرة الخلفاء الراشدين أن يوضع في رجله قيد ويرد إلى حبس عمر.
وحدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي، ثنا وهب بن جرير بن حازم، ثنا عمر بن يزيد قال: سمعت الحسن أيام ابن المهلب يقول: والله لو أن الناس إذا ابتلوا من قبل سلطانهم صبروا لم يلبثوا أن يفرج الله عنهم، ولكنهم يفزعون إلى السيف فيكلهم الله إليه، فو الله ما جاء الجازع إلى السيف بيوم خير قط.(8/309)
قالوا: وبايع الناس يزيد بن المهلب على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتحول إلى دار الإمارة، ووجد في بيت المال عشرة آلاف ألف درهم، وخندق على البصرة، وولى شرطته عثمان بن أبي الحكم الهنائي من الأزد، واستعمل محمد بن المهلب على فارس، وهلال بن عياض الهنائي على الأهواز، وزياد بن المهلب على عمان، والمهلب بن أبي عيينة على جزيرة ابن كاوان، والأشعث بن عبد الله بن الجارود أو مهزم بن القرن العبدي على البحرين، وولى مدرك بن المهلب خراسان، وولى وداع بن حميد اليحمدي من الأزد قندابيل، فقال له حبيب بن المهلب: لا توله فإن في رأسه وعينيه غدرة، فكان من أمره أنه أغلقها دونهم، فقال المفضل: رحم الله أبا بسطام- يعني حبيبا- لأنه كان يرى أمر وداع، ويقال إن وداعا كان قتل قبل هربهم إلى قندابيل.
قالوا: ولما كان يوم الفطر خرج يزيد بن المهلب إلى المصلى فخلع يزيد بن عبد الملك، وشتم بني مروان، ودعا إلى الرضا من بني هاشم، وذكر عبد الحميد بن عبد الرحمن فقال: وهذه الضبعة العرجاء مضطجعا بالكوفة، فأخذ الناس عليه قوله: الضبعة، وإنما هي الضبع والذكر ضبعان.
وأصاب الناس يومئذ مطر شديد، فانصرفوا وانصرف يزيد عن المصلى إلى الأزد وصحبه ناس قليل فغداهم وكساهم وأعطاهم مالا قسم بينهم، ثم رجع إلى دار الإمارة.
ووجه يزيد بن المهلب إلى بسطام بن مرّي المعروف بشوذب الشاري السميدع، ويقال حبيب بن خدرة يدعوه إلى نصرته، فقال شوذب للذي(8/310)
أرسله يزيد من هذين الرجلين: لولا مكانك من الدين لقتلتك. أتدعوني إلى نصر يزيد؟ وضربه عشرين سوطا. وكان السميدع وحبيب صفريين.
قالوا: وقدم عبد الملك ومالك ابنا مسمع بن مالك بن مسمع من السند، فكرها أن يقاتلا يزيد، فدعوا بني بكر إلى نصرة عدي، وكتبا إلى يزيد بن عبد الملك كتابا في أمر يزيد بن المهلب، فصار الكتاب إلى ابن المهلب فقال: أراهما يعينان علي ويبغياني الغوائل فحبسهما مع عدي وأصحابه.
قالوا: وكان قتادة بن دعامة السدوسي الفقيه ينتقص يزيد بن المهلب وينال منه، فبلغ ذلك يزيدا فأرسل يزيد إليه، وهو في الأزد، فلما دخل عليه شتمه، فأغلظ له قتادة فقال السميدع: دعني أبعج بطن هذا الأعمى، أعمى الله قلبه كما أنه أعمى البصر والقلب، فقال يزيد: أنا أراقب قومه، وأمر به فوجئ في عنقه ووضع فيها حبل وبعث به إلى الأهواز فحبس فيها.
وخرج قتادة وهو يبكي فقال له رجل: أتبكي يا أبا الخطاب؟ قال: نعم مما أرى. فلم يزل محبوسا حتى قتل يزيد فأخرجه صاحب السجن وكان من بني عجل.
وكتب ابن المهلب إلى زياد بن المهلب، وهو بعمان، أن يفرض ففرض لثلاثة آلاف رجل من أهل عمان، واستعمل عليهم المشماس بن عمرو الأزدي ثم الجديدي، فقدموا على يزيد، قالوا: وكان بالبصرة قاض يقال له زيد [1] . فشاور الحسن في صحبة يزيد فنهاه فصحبه، فأخبر يزيد
__________
[1] بهامش الأصل: زيدل: باللام.(8/311)
بقول الحسن فقال: يا قوم مالي وللحسن يخذل الناس عني، إني لأخاف والله نفسي عليه، فكان الحسن يقول: يأتينا أقوام فينتصحونا فننتصح لهم فيسيئون بنا. زيدل، وما زيدل. لعن الله زيدلا.
وقال يزيد وذكر الحسن: والله ما أدري ما استبقائي إياه فإنه شيخ جاهل، لهممت أن أضربه حتى يموت، فقال المفضل: أصلح الله الأمير.
إن له قدما وفضلًا وقدرا بالمصر، فكفه ذلك عنه.
وقال الشاعر:
لبئس ما أبلت تميم أمس ... عند ابن أرطاة وعند البأس
لم يصلحوا إلا للقم دحس ... وفلق البرني [1] والتحسي
ولت تميم بظهور قعس ... وأسلمت أدبارها للنخس
وقال يحيى بن أبي حفصة:
لو نال عقدا عدي من حبالهم ... ما حل بالسجن في قيد وأصفاد
إن يقتلوك فِإن الله قاتلهم ... ودون قتلك يوم شره باد
آل المهلب قوم خانة غدر ... لن يهدي الله كيد الخائن العادي
وحدثت عن مرحوم العطار عن أبيه قال: لما كانت فتنة يزيد اختلف الناس في أمره، فانطلقت ورجل آخر إلى محمد بن سيرين فقلنا: ما ترى يا أبا بكر؟ قال: انظروا حين قتل عثمان ما صنع ابن عمر فاقتدوا به، فإن عبد الله بن عمر كفّ يده.
__________
[1] الدحاس: الامتلاء والزحام، ودحس الصفوف لم يترك بينها فرجا. القاموس النهاية، والبرني من أنواع التمر الجيد.(8/312)
حدثني أبو الربيع الزهراني، ثنا حماد بن زيد عن كلثوم بن جبر قال.
قلت للحسن: إن أكرهني يزيد بن المهلب على الخروج معه فحمل علي رجل؟ قال: تناشده. قلت: فإن أبى؟ قال: فكن عبد الله المقتول.
قال: فخرجت إلى مكة فسألت مجاهدا فقال لي مثل قول الحسن.
ودعا يزيد للفضل بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن الْعَبَّاس بْن ربيعة بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْن هاشم وبايعه فتوارى، وهرب عبد الواحد من ولد ابن عامر بن كريز، وخالد بْن صفوان بْن عَبْد اللَّه بْن الأهتم المنقري الخطيب وجماعة من بني تميم وغيرهم. قالوا: ولما ورد حميد بن عبد الملك بن المهلب، وخالد بن يزيد بن المهلب على يزيد بن عبد الملك بكتاب ابن المهلب إليه في طلب الأمان استشار الناس في أمانة، فقالت المضرية:
لا تؤمنه فإنه أحمق غدار، وقالت اليمانية تؤمنه فتحقن الدماء ويستصلحه قومه. فأمر فكتب له أمان على أن يقيم ببلده، وأنفذه مع خالد بن عبد الله القسري، وعمر بن يزيد الحكمي، وصرف حميدا وخالدا معه، فتقدم خالد بن يزيد إلى أبيه بالبشارة.
وكان يزيد بن عبد الملك قد ولى عبد الرحمن بن سليم الكلبي خراسان، فلما كان ببعض الطريق مما يلي الكوفة بلغه ما صنع يزيد بن المهلب بعده، فأقام بمكانه، وورد خالد بن عبد الله القسري، وعمر بن يزيد الحكمي ومعهما حميد بن عبد الملك بن المهلب فلقيهم الحواري بن زياد بن عمرو العتكي، وكان قد صار إلى عبد الحميد فحمله من الكوفة على البريد إلى يزيد بن عبد الملك فأخبرهم بما فعل يزيد بن المهلب وقال: تركت عديا محبوسا مقيدا فقال حميد: إن هذا عدو لنا فهو يشنع علينا.(8/313)
وساروا حتى بلغوا الموضع الذي به عبد الرحمن بن سليم بقرب الكوفة فشد عبد الرحمن على حميد بن عبد الملك فاستوثق منه، وأخبر عبد الرحمن بن خالد بن عبد الله والحكمي بما فعل يزيد بن المهلب وقال:
لا تنفذا إليه.
وقال أبو مخنف: ولى يزيد بن عبد الملك عبد الرحمن بن سليم الكلبي خراسان، فلما كان بقرب الكوفة، بلغه ما كان من ابن المهلب، فأقام وكتب إلى يزيد بن عبد الملك: إن جهاد من خالفك أحب إلي من ولاية خراسان فاجعلني ممن تنهضه لقتال ابن المهلب، فقد عصا وخلع وحبس عديا.
وورد عليه خالد بن عبد الله، وعمر بن يزيد بالموضع الذي أقام به، ومعهما حميد فقال لهما: لا تنفذا، وشد عبد الرحمن على حميد فبعث به إلى يزيد بن عبد الملك فحبسه.
ووثب عبد الحميد بن عبد الرحمن على خالد بن يزيد بن المهلب حين قدم الكوفة يريد أباه ليبشره- زعم- بالأمان، فبعث به إلى يزيد أيضا فحبسه، فلم يفارق حميد وخالد الحبس حتى هلكا فيه بالطاعون ويقال بل قتلا فيه، ويقال إن ابن جهم بن زحر كان معه فحبسه عبد الحميد.
وورد الحواري على يزيد بن عبد الملك فصدقه عن خبر ابن المهلب فعندها أمر بتوجيه الجنود إليه، وبعث يزيد إلى أهل الكوفة رجالًا من أهل الشام يسكنونهم ويثنون عليهم بطاعتهم، ويعدونهم الزيادة في أعطياتهم، وفيهم القطامي بن جمال الكلبي واسم القطامي حصين.
وكان القطامي في حين بلغه أمر يزيد بن المهلب قال:(8/314)
لعل عيني أن ترى يزيدا ... يقود جيشا جحفلا رشيدا
نسمع للأرض به وئيدا ... لا برما جبسا ولا حسودا
ولا جبانا في الوغى رعديدا
ثم إنه بعد ذلك سار مع مسلمة بن عبد الملك فحارب يزيد بن المهلب، فقال يزيد: ما أبعد شعر القطامي بن جمال من فعله.
وَحَدَّثَنِي عُمَر بْن بُكَيْر عَنِ الْهَيْثَمِ بْن عَدِيٍّ عَنْ عوانة قال: مر يزيد بن المهلب بفرقد السبخي، ومع يزيد إخوته: عبد الملك، والمفضل، وأبو عيينة، فوقف على فرقد وعليه جبة صوف وعلى عاتقه منجل، فقال له:
يا أبا يعقوب إن بني أمية ابتزوا الناس أمورهم فلو خرجت سارع الناس إليك، فقال: هيه، اذهب عنا. فقال إخوته: من هذا؟ قال: فرقد السبخي. فقال المفضل: إنا لله وإنا إليه راجعون، بعد الأحنف بن قيس والمهلب، ومالك بن مسمع صرنا إلى فرقد السبخي؟ هلكنا ورب الكعبة.
قالوا: ووجه يزيد بن عبد الملك- وهو يزيد بن عاتكة- مسلمة بْن عَبْد الملك، والعباس بْن الْوَلِيد بن عبد الملك في جمع عظيم من أهل الشام والجزيرة يقال إن مبلغه سبعون ألفا، ويقال ثمانون ألفا.
وكان يزيد حين خلع قال: إني لأرجو أن أهدم مدينة دمشق حجرا حجرا. فقال الفرزدق:
تخبرك الكهان أنك ناقض ... دمشق التي قد كانت الجن جزت
لها من جبال الثلج صخرا كأنه ... قناعيس [1] حتى أشرفت واشمخرت
__________
[1] القناعيس جمع قنعاس وهو من الإبل: العظيم، والرجل الشديد المنيع، العظيم الخلق.
القاموس.(8/315)
أتتك خيول الشام تخطر بالقنا ... لها خرق كالطير لما استعلت
يقود نواصيها إليك مبارك ... إذا ما تصدى للكتيبة ولت
من آل أبي العاصي حوالي لوائه ... ثمانون ألفا كلها قد أظلت [1]
حَدَّثَنِي الْعُمَرِيُّ عَن الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنِ أَشْيَاخِهِ قَالَ: نَزَلَ مَسْلَمَةُ وَالْعَبَّاسُ النَّخِيلَةَ بِالْكُوفَةِ، فَقَالَ مَسْلَمَةُ: لَيْتَ هَذَا الْمَزُونِيَّ لا يُكَلِّفُنَا اتِّبَاعَهُ فِي هَذَا الْبَرْدِ، فَقَالَ حَسَّانٌ النَّبَطِيُّ: أَنَا أَضْمَنُ لَكَ أَنَّ يَزِيدَ لا يَبْرَهُ الأَرْصَةَ- يُرِيدُ: أَنَا أَضْمَنُ لَكَ أَنَّ يَزِيدَ لا يَبْرَحُ الْعَرْصَةَ- فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لا أُمَّ لَكَ أَنْتَ بِالنَّبَطِيَّةِ أَبْصَرُ مِنْكَ بِهَذَا، فَقَالَ حَسَّانٌ لَهُ: نَبَّطَ اللَّهُ وَجْهَكَ أَشْقَرَ أَحْمَرَ أَزْرَقَ لَيْسَ إِلَيْهِ طَابِئُ الْخِلافَةِ- يُرِيدُ أَشْقَرَ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ طَابَعُ الْخِلافَةِ، فَقَالَ مَسْلَمَةُ: يَا أَبَا سُفْيَانَ، لا يَهُولَنَّكَ قَوْلُ الْعَبَّاسِ. قَالَ: إِنَّهُ أَهْمَقُ لا يَأْرِفُ- يُرِيدُ أَحْمَقُ لا يَعْرِفُ-.
قَالُوا: وَقَدْ كَانَ جَرَى بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَمَسْلَمَةَ اخْتِلافٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ يَزِيدَ بْنَ عَاتِكَةَ، فَوَجَّهَ عُثْمَانَ بْنَ حَيَّانَ الْمُرِّيَّ لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمَا، وَضَمِنَ لَهُ يَزِيدُ بْنُ عَاتِكَةَ إِنْ فَعَلَ أَنْ يَفُكَّ عَنْهُ حَدَّيْنِ كَانَ حَدَّهُ إِيَّاهُمَا أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْمٍ الأَنْصَارِيُّ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَامِلُ سُلَيْمَانَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ عَلَى الْمَدِينَةِ، أَحَدُهُمَا لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ لَهُ: يَا مُخَنَّثُ، أَوْ يَا مَنْكُوحُ، وَالآخَرُ فِي شَرَابٍ.
فَلَمَّا أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا وَاسْتَقَامَ أَمْرُهُمَا عَزَلَ يَزِيدُ ابْنَ حَزْمٍ، وَكَانَ عَامِلُهُ بَعْدَ سُلَيْمَانَ وَعُمَرَ أَيْضًا، فَاقْتَصَّ عُثْمَانُ مِنْهُ الْحَدَّيْنِ. وَكَانَ شَاعِرَ الأنصار قال:
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 111- 112 مع فوارق كبيرة.(8/316)
نَحْنُ ضَرَبْنَا الْفَاسِقَ ابْنَ حَيَّانَ ... حَدَّيْنِ لَمْ نَخْلِطْهُمَا بِبُهْتَانٍ
فَقَالَ شَاعِرُ قَيْسٍ:
نَحْنُ ضَرَبْنَا الْفَاسِقَ ابْنَ حَزْمٍ ... حَدَّيْنِ لَمْ نَخْلِطْهُمَا بِإِثْمٍ
قَالُوا: وَلَمَّا بَلَغَ يَزِيدَ بْنَ الْمُهَلَّبِ إِقْبَالُ مَسْلَمَةَ وَالْعَبَّاسُ فِي جُنْدِ أَهْلِ الشَّامِ وَالْجَزِيرَةِ، كَتَبَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ الْمُهَلَّبِ فِي الْقُدُومِ مِنْ فَارِسَ، فَقَدِمَ عَلَيْهِ وَقِيلَ لَهُ: ائْتِ فَارِسَ فَإِنَّ بِهَا قِلاعًا مَنِيعَةً فَإِنْ أُعْطِيتَ مَا تُرِيدُ، وَإِلا أَتَيْتَ خُرَاسَانَ، فَقَالَ: أَمَعَ الْوُعُولِ بِفَارِسَ؟ فَقَالَ مُحَمَّدٌ: أَقِمْ فَقَاتِلْ بِأَهْلِ مِصْرِكَ. فَقَالَ حَبِيبٌ: لا تَخْدَعَنَّ فَإِنَّ أَهْلَ مِصْرِكَ غَيْرُ مُقَاتِلِينَ مَعَكَ، وَلَكِنِ احْمِلْ هَذَا الْمَالَ وَاخْرُجْ إِلَى الْمَوْصِلِ فَادْعُ عَشِيرَتَكَ بِهَا، فَقَالَ: يَا أَبَا بِسْطَامٍ أَرَدْتَ أَنْ تُقَرِّبَنِي مِنْ عَدُوِّي فَيُقَاتِلَنِي فِي بِلادِهِ؟ لا وَلَكِنِّي آتٍ وَاسِطًا ثُمَّ أَقْرَبُ مِنَ الْكُوفَةِ وَأَرْتَادُ مَكَانًا فِيهِ مَجَالٌ لِلْخَيْلِ، وَأَرْجُو أَنْ يَنْضَمَّ إِلَيَّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ مِثْلُ مَنْ مَعِي مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ.
فَعَسَّكَر بِالْبَصْرَةِ عِنْدَ الْجِسْرِ، وَأَمَرَ مَرْوَانَ بْنَ الْمُهَلَّبِ أَنْ يَسْتَنْفِر النَّاسَ، وَكَانَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ يُثَبِّطُ النَّاسَ عَنْهُ وَيُحَذِّرُهُمُ الْفِتْنَةَ، فَأَخَذَ مَرْوَانُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ الْحَسَنِ فَحَبَسَهُمْ فَكَفَّ عِنْدَ ذَلِكَ فَخَلاهُمْ مَرْوَانُ.
ثُمَّ وَجَّهَ يَزِيدُ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ الْمُهَلَّبِ فِي أَرْبَعَةِ آلافٍ إِلَى وَاسِطَ فَأَتَاهَا، وَخَرَجَ يَزِيدُ مِنَ الْبَصْرَةِ يَؤُمُّ وَاسِطًا، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْبَصْرَةِ مَرْوَانَ بْنَ الْمُهَلَّبِ، فَأُتِيَ مَرْوَانُ بِمُرْتَدٍّ فَاسْتَشَارَ فِيهِ الْحَسَنَ فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[ «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» ،] فَقَتَلَهُ.
وقدم يزيد واسطا في ستة عشر ألفا، وشخص معه بعدي بن أرطاة ومن حبسه معه، وتكلم الناس فعظموا أمر أهل الشام، فخطبهم فقال:(8/317)
رأيت ارتجاس هذا العسكر بقولهم جاء مسلمة، وجاء العباس، وجاء أهل الشام. وما أهل الشام هل هم إلا تسعة أسياف سبعة منها لي وسيفان علي؟
وما مسلمة؟ جرادة صفراء. وما العباس؟ نسطوس بن نسطوس أتاكم في برابرة وجرامقة وجراجمة وأنباط وأبناء فلاحين وأوباش أخلاط كاسلاء اللحم وأقباط. أليس لكم جنن [1] كجننهم، أوليسوا بشرا يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون، فأعيروني سواعدكم ساعة تصفعون بها خراطيمهم.
وكان خالد بن صفوان هرب من البصرة فلقيه يزيد بواسط وكانت بوجهه بثرة عليها دواء فاستأذنه وقال إنه وصف لي شرب التيادر [2] بطوس، فأذن له، فتنحى.
وقال يزيد بن الحكم بن أبي العاص أو غيره:
أبا خالد قد هجت حربا فلا تقم ... وقد شمرت حرب عوان فشمر
فقال يزيد حين بلغه هذا البيت: قد كان ذاك.
وإن بني مروان قد زال ملكهم ... فإن كنت لم تشعر بذلك فاشعر
فعش ملكا أو مت كريما وإن تمت ... وسيفك مشهور بكفك تعذر
فقال يزيد: أما هذا فنعم.
وقال عطية بن السائب الشني
أبا خالد إن المنايا مطلة ... فمت صابرا قدما كما مات مصعب
ولا تقبلن خسفا فما من سعادة ... لمن عاش مذموما يلام ويقضب
__________
[1] الجنن: القلب، والروع، والروح. القاموس.
[2] لم اهتد إلى التعريف بهذا الشراب.(8/318)
فلما سمع يزيد قوله: كما مات مصعب. قال: صدق فوك.
ووجه يزيد إخوته يرتادون له موضعا للمعسكر فاختاروه بالعقر، فخلف على واسط ابنه معاوية بن يزيد، وخلف عدي بن أرطاة ومن حبس معه عنده، وسار يزيد حتى نزل معسكره بالعقر بين المدائن والكوفة وهو من سوراء [1] ، وأتاه ناس من أهل الكوفة يعينونه.
ونزل عبد الحميد بن عبد الرحمن النخيلة وبثق الأنهار لئلا يصل أحد إلى الكوفة، وبعث مع سند بن هانئ الهمداني جيشا إلى مسلمة ليقاتلوا ابن المهلب معه، وقال الفرزدق:
هلا زجرت الطير إن كنت زاجرا ... غداة نزلت العقر إنك تعقر [2]
ولما قرب أهل الشام منه وجه أخاه محمدا، وكان يسمى المشؤوم، وابنه المعارك، في جمع كثيف فلقوا العباس بن الوليد بسوراء وهو في أربعة آلاف سوى من صار إليه من أهل البصرة مخالفين ليزيد، فالتقوا فانكشف أهل الشام، وصبر هريم بن أبي طحمة وأهل البصرة، فناداهم هريم:
يا أهل الشام لا تسلمونا. فعطفوا، وأقدم هريم وهو يقول:
لما رأوني في الكتيبة معلما ... أغشى الكريهة مثل ضوء الكوكب
فاستيقنوا مني بضرب صادق ... ليست عداوتنا كبرق خلب
فهزموا أصحاب يزيد حين بلغوا إليه، فقال الفرزدق:
أَحَلَّ هريمٌ يوم سَوراء بالقنا ... نذور نساء من تميم فحلّت [3]
__________
[1] سوراء: موضع يقال هو إلى جنب بغداد، وقيل هو بغداد نفسها. معجم البلدان.
[2] ليس في ديوانه المطبوع.
[3] ديوان الفرزدق ج 1 ص 111.(8/319)
وقال محمد بن المهلب ليزيد: لو وجهت إليهم خيلا فحركتهم. فعقد يزيد لعبد الله بن حيان العبدي على أربعة آلاف، وضم إليه فضيل بن هناد الأزدي ثم الفراصي في خيل، وضم إليه سالما المنتوف في خيل، وصيره على خيل بكر بن وائل فعبروا الصراة. ووجه إليهم مسلمة سعيد بن عمرو بن أسود بن مالك بن كعب بن وقدان بن الحريش بْن كعب بْن ربيعة بْن عامر بن صعصعة في أربعة آلاف، وكان لأهل الشام كمين فاقتتلوا فقتل عبد الله بن حيان، وفارس من أصحاب فضيل بن هناد، وجال أهل العراق وخرج كمين أهل الشام عليهم عند جولتهم فكانت الهزيمة فلم يلووا على أحد حتى أتوا يزيد، وعثر بسالم المنتوف فرسه فصرع فأخذوه أسيرا فقال لمسلمة: استبقني لقتال الروم، فقال: يا بن اللخناء طالما كفيناك قتال الروم وكفاناهم الله قبلك، وأمر به فقتل. فقال موسى بن حكيم السعدي:
وبالمنتوف عبدكم فخرتم ... فهلا بالصراة حمى الذمارا
ثم عبر مسلمة الصراة، وخلف الأثقال، وخندق خندقين، فقال المهلب بن العلاء بن أبي صفره: إن هؤلاء قد خندقوا خندقا بعد خندق ولا آمن من يصلوا بخندقهم إلى خندقنا فعاجلهم، فضحك يزيد وقال: إن وصلوا فمه. فما أظن العسكرين ضما رجلًا أضعف قلبا منك، فقال حبيب بن المهلب: أما والله إنك لتعرفه بغير الجبن وقد أشار عليك بالرأي ورماك به فبيتهم وعاجلهم.
فهم يزيد بذلك فقال بعض من معه من القراء: لا يحل لنا أن نبيتهم حتى ندعوهم، فأقاموا أياما ثم التقوا.(8/320)
قالوا: ولما كان اليوم الذي قتل فيه يزيد، وهو يوم الجمعة، لأربع عشرة ليلة خلت من صفر، سنة اثنتين ومائة، خرج منسر لأهل الشام ومنسر لأهل العراق فتهايجوا، فسمع يزيد ضجة فقال: ما هذا؟ فقيل:
الناس يقتتلون. فدعا يزيد بدرعه وثيابه فلبسها وخرج ووضع له كرسي على باب خندقه، ووضع لمحمد كرسي آخر وجعلا يتحدثان، وقد كانت أصابت يزيد خلفه [1] قبل ذلك فضعف، فأمر الناس فتقدموا وعلى ميمنته حبيب بن المهلب، وعلى الميسرة المفضل بن المهلب، والراية مع المهلب بن العلاء، وركب محمد فرسه فلحق بهم فصار ومن معه على حاميتهم.
وزحف أهل الشام، وفي ميمنتهم الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي، وفي الميسرة القعقاع بن خليل بن جزي العبسي، ويقال الوليد بن تليد العبسي، والوضاح البربري مولى عبد الملك في الوضاحية. ولوضاح هذا يقول جرير بن عطية:
لقد جاهد الوضاح بالحق معلما ... فأورث مجدا باقيا أهل بربرا [2]
فاقتتلوا وصبر الناس، فقال مسلمة للوضاح: انطلق إلى جسر الصراة فأحرقه وأحرق السفن التي في الصراة. فأحرق الجسر وبعض السفن فلما رأوا النار اضطرب عسكر يزيد فقال يزيد ما للناس؟ قيل: انهزموا.
قال: ولم؟ قيل: أحرق الجسر. فقال: لعنهم الله رعاج [3] نفخ فطار، بئس حشو الكتيبة والعسكر، كأنهم غنم شد في ناحيتها ذئب.
__________
[1] يقال أخذته خلفه: كثر تردده إلى المتوضإ. القاموس.
[2] ديوان جرير ص 187.
[3] الرعج: البرق تتابع لمعانه. القاموس.(8/321)
وصبر أهل الحفاظ، وفقئت عين المفضل، وجاء محمد وقد ضرب على جبهته بعمود فقال له يزيد: من ضربك؟ قال: لا أدري إلا أنه قال حين ضربني: أنا الغلام الحرشي فظننته سعيد بن عمرو الحرشي.
وكان يزيد جالسا على كرسيه ينقل من مكان إلى مكان، ووضع على نشز من الأرض فنظر فإذا فرس حبيب بن المهلب قد جاء غائرا. فقال:
هذا والله فرس أبي بسطام ولا أحسبه إلا قد قتل، وقال له بعض من معه:
إني لأظنه كما قلت وأنت تشم التفاح، وكان معه تفاحة يشمها لضعفه.
فدعا يزيد بفرسه الأشقر ثم ذكر قول القائل في الأشقر: إن تقدم نحر وإن تأخر عقر، فتطير وقال: ائتوني بفرسي الأشهب فأتي به فركبه وحمل فلما توسط المعركة لقيه القحل [1] بن عياش بن حسان بن سمير بن شراحيل بن عزين من ولد زهير بن جناب الكلبي، فاختلفا ضربتين فقتل كل واحد منهما صاحبه، وله يقول المسيب بن رفل بن حارثة بن جناب بن قيس بن أبي جابر بن زهير بن جناب الكلبي:
قتلنا يزيد بن المهلب بعد ما ... تمنيتم أن يغلب الحق باطله
وما كان في أهل العراق منافق ... عن الدين إلا من قضاعة قاتله
تخلله فحل بأبيض صارم ... حسام جلا عن شفرتيه صياقله
وقال أبو مخنف: جلس مسلمة على تل وحوله حماة أهل الشام، وقصد أصحاب يزيد التل فلما رآهم مقبلين انحدر، وركب يزيد فرسا له أشهب وقاتل فصدم أهل الشام أهل العراق صدمة منكرة واختلط الناس،
__________
[1] بهامش الأصل: اسم القحل عمرو.(8/322)
وفقد يزيد فقال المهلب بن العلاء: ويحكم اطلبوا محمد بن المهلب فإن فيه خلفا من يزيد إن كان يزيد قتل، فطلب يزيد فلم يوجد فألقى ابن العلاء اللواء وخنس في الناس.
ودخل أهل الشام عسكر يزيد فأسروا ثلاثمائة فسمي ذلك اليوم يوم التل، ويوم العقر لأن مسلمة كان على تل، فلما أقبل الناس نحوه نزل عنه.
وقتل في المعركة يزيد بن المهلب، وحبيب، ومحمد بنو المهلب، وعبد ربه، والحجاج بنو يزيد بن المهلب، وحرب بن محمد.
وقال قوم من قيس: قتل يزيد الهذيل بن زفر بن الحارث الكلابي، وقيل للهذيل: أنزل فاحتز رأسه فأنف وقال: أنا أنزل فأحتز رأسه؟ - استنكافا-.
وقدم فل يزيد بن المهلب واسطا على معاوية بن يزيد بن المهلب، فقدم عدي بن أرطاة ومن في الحبس معه فقتلهم، وأراد قتل نساء آل المهلب لئلا يؤسرون فأغلقن الباب دونه، فقال: أولى، أما والله لو ظفرت بكن ما أبقيت منكن واحدة، والله أولى بالعذر.
ومضى معاوية إلى البصرة، وتحمل منها ففي ذلك يقول ثابت قطنة.
وما سرني قتل الفزاري وابنه ... عدي ولا أحببت قتل ابن مسمع
ولكنها كانت معاوي زلة ... وضعت بها أمرًا على غير موضع
وكان الذين قتل معاوية بن يزيد بن المهلب: عدي بن أرطاة، وعبد الله بن عروة النصري، وابني مسمع.(8/323)
وقال أبو الحسن المدائني: لما قتل يزيد جاء قوم يقولون: جاء الفتح، ثم جاءت حقيقة الخبر، فقتل معاوية بن يزيد وهو على واسط عديا، وجميع من كان معه، وكان عدي قال ليزيد: استبقني فهو خير لك، فقال له: إني لخليق أن أشدك بالحديد وأضعك بيني وبين أهل الشام. فقال: إذا لا يمنعهم ذلك من الإغراق في النزع.
قال: وأسر من أصحاب يزيد في المعركة ألفان وثمانمائة، فبعث بهم مسلمة بن عبد الملك من العقر إلى ذي الشامة محمد بن عَمْرو بْن الْوَلِيد بْن عقبة بْن أَبِي معيط بن أبي عمرو بن أمية وكان عامله على الكوفة.
وَحَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِالْعَمْرِيِّ عَن الْهَيْثَم بْن عدي عَن ابْن عياش، وأخبرني الأثرم عن أبي عبيدة وقرأت على المدائني قالوا: لما قتل يزيد وأتى برأسه ورؤوس أصحابه إلى مسلمة أرسل بها مسلمة والعباس بن الوليد مع عذام بن شتير الضبي إلى يزيد بن عبد الملك وافدا وبشيرا، وبعث برأس يزيد خاصة مع محمد بن عمر المخزومي، فلما وردت الرؤوس على يزيد بن عبد الملك سجد ودعا بحجام فأخذ من ناصيته ونواصي من حضره، وكان ابن شهاب الزهري فيمن حضره، وكان أصلع شديد الصلع، فأخذ الحجام شعرات من قفاه.
وأقطع يزيد بْن عَبْد الملك مُحَمَّد بْن عُمَر المخزومي مهلبان [1] ، وأقطع عذام بن شتير أرض زياد بن المهلب. وقال الفرزدق.
__________
[1] لم يرد ذكر مهلبان في المصادر الجغرافية.(8/324)
لولا دفاعك يوم العقر ضاحية ... عن العراق ونار الحرب تلتهب
لولا دفاعك عنهم عارضا لجبا ... لأصبحوا عن جديد الأرض قد ذهبوا
لما التقوا وجنود الشام فاجتلدوا ... بالمشرفية فيها الموت والحرب
خلوا يزيد فتى المصرين منجدلا ... بالعقر منهم ومن ساداتهم عصب
حامي سنان عليه في كتيبته ... وأسلمته هناك العجم والعرب
[1] سنان مولى بني مسمع، كان صبر في أربعمائة من القراء.
قالوا: وكان سعيد بن عمرو الحرشي قال قبل القتال لمسلمة بن عبد الملك: إن محمدا كان لي ودا، فلو أذنت لي فلقيته فأعطيته أمانا، لعله يصرف يزيد عن رأيه، قال: فسر إليه فأعطهم جميعا الأمان، فدنا سعيد بن عمرو من عسكرهم ونوه بمحمد فأتاه فقال: يا أبا حرب أعن رأي ملئكم كان هذا؟ قال: إن يزيد خاف على نفسه، ففعل ما ترى، فأمنه، فأبى يزيد قبول الأمان.
وقال أبو الحسن المدائني: نظر الحسن بن أبي الحسن إلى النضر بن أنس بن مالك، أو موسى بن أنس، وهو يقول: أيها الناس ما تنقمون من أن يقام لكم كتاب الله، فقال الحسن: وهذا ابن أنس قد شمر، قاتل الله ابن المهلب، اطرقي وميّشي، خرقاء وجدت صوفا [2] .
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 92.
[2] اصل الطرق: ضرب الصوف ونحوه بالمطرقة وهي العصا التي يطرق بها الصوف أي ينفض لينتفش ويتداخل ويقال هذا المثل للذي يخلط في كلامه بين صواب وخطأ. انظر الأمثال لأبي عبيد ص 53.(8/325)
الطرق: الضرب ومنه قيل مطرقة الصانع، ومطرقة النجار وهي عوده. والميش: خلط الشعر بالصوف. ميشت، أميش، ميشا. وهذا مثل سائر.
ومن رواية أبي مخنف أن يزيد قام فحرض الناس على القتال فقال: إن هؤلاء قوم لن يردعهم عن غيهم إلا الطعن في أعينهم، والضرب على هامهم، إنه ذكر لي أن هذه الجرادة الصفراء- يعني مسلمة- وعاقر الناقة نسطوس بن نسطوس- يعني العباس- الذي كان سليمان بن عبد الملك عزم على نفيه فكلمته فيه حتى أقره على نسبه، ليس يهمهما إلا تشريدي في الأرض ولو جاؤوا بأهل الأرض جميعا ما برحت العرصة حتى تكون لي أو لهم. فقيل له: إنا نخاف أن تصنع كما صنع ابن الأشعث. قال: أن ابن الأشعث فضح الذمار وفضح حسبه، هل كان يخاف أن يفوت أجله.
المدائني عن رجل عن ابن عياش عن جعفر بن سليمان الأزدي قال:
لما انتهى يزيد إلى سوراء من أرض بابل نزل العقر فقال: ما اسم هذا المنزل؟ قيل: العقر. قال: إنا لله وإنا إليه راجعون. وتطير ثم دعا بدرعه فصبها عليه وتقلد بسيفه، ثم دعا بقباء محشو فلبسه، ثم دعا إسماعيل بن عطارد فقال: حدثني عن ابن الأشعث. قال: هزم من الزاوية، فأتى دير الجماجم فهزم، فأتى المدائن فهزم، فأتى مسكن وهي عند دجيل الأهواز فهزم، فأتى جنديسابور فهزم، فأتى سابور. فقال يزيد: سوءة له، أما استطاع أن ينغمس في الموت ثم يغمض إغماضه، فو الله ما هي إلا رقدة إلى يوم القيامة، فعلم أنه وطن نفسه على أنه لا يبرح حتى يموت- وتمثل بقول الشاعر:(8/326)
بأست امرئ لم يطب نفسا بميتته ... إن الكرام على ما نابهم صبر
فلما التقوا أغمض كما قال حتى قتل.
قال: ولما لبس سلاحه، دخلت عليه جاريته بسامة، وكانت من أحب الناس إليه، وقد تهيأت وتلبست فقالت: السلام عليك يا أمير المؤمنين. فكرة ذلك كراهة شديدة، وتبسم وقال:
رويدك حتى تنظري عم تنجلي ... غمامة هذا العارض المتألق
ثم خرج فقال لدارس: كن قريبا، ثم أطاف على رايات أهل الشام يسأل عن راية راية منها، فقال: أوه، يقاتلني بقومي من لا قوم له.
وقال أبو مخنف: لما قتل يزيد وانهزم الناس كان المفضل يقاتل أهل الشام، وهو لا يعرف خبر يزيد، ولا أنه قد قتل وأن الناس انهزموا، وإنه لعلى برذون له سمند [1] قريب من الأرض، وأمامه مجففة كلما حمل عليهم انكشفوا فيحمل ثم يرجع، حتى يكون من وراء أصحابه، وكان لا يلتفت من أصحابه أحد إلا قال له: لا تلتفت وأقبل بوجهك على عدوك.
وجعل عامر بن العميثل الأزدي يضرب بسيفه ويقول:
قد علمت أم الصبي المولود ... أني بنصل السيف غير رعديد
وانكشف جل ربيعة، فناداهم المفضل: الكرة، الكرة يا معشر ربيعة، نفسي لكم الفداء، اصبروا ساعة فما كنتم بكشف ولا لئام وما الفرار لكم بعادة ولا يؤتينّ أهل العراق من قبلكم.
__________
[1] السمند: الفرس. القاموس.(8/327)
فبينا هو كذلك إذ قيل له: ما تصنع ههنا وقد قتل يزيد، وحبيب، ومحمد، وانهزم الناس؟. فتفرق من مع المفضل، وأخذ المفضل الطريق إلى واسط، وجاء أهل الشام إلى عسكر يزيد بن المهلب.
وقال أبو الحسن المدائني: قال أبو اليقظان: لما قتل يزيد أقبل عبد الملك إلى المفضل فكره أن يخبره بقتل يزيد فيستقتل، وقال: إن الأمير قد انحدر إلى واسط، فانحدر المفضل بمن بقي من ولد المهلب إلى واسط، فلما علم بقتل يزيد حلف ألا يكلم عبد الملك أبدا، فما كلمه حتى قتل بقندابيل.
قال: وكانت عين المفضل فقئت في الحرب فقال: فضحني عبد الملك آخر الزمن، وما عذري عند الناس إذا نظروا إلى شيخ أعور مهزوم، ألا صدقتني فقتلت كريما؟.
وقال المفضل:
لا خير في طعن الصناديد بالقنا ... ولا في لقاء الحرب بعد يزيد
وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبيه محمد بن السائب: قتل يزيد بن المهلب يوم التل القحل بن عياش، واسم القحل عمرو، وقتله يزيد أيضا ضرب كل واحد منهما صاحبه.
وقال المدائني: يقال إن الهذيل بن زفر قتل يزيد، وأن القحل احتز رأسه، وجاء به إلى مسلمة. والخبر الأول أثبت.
المدائني عن سحيم بن حفص: أن يزيد بن عبد الملك لما قدم عليه برأس يزيد بن المهلب، ورؤوس من قتل معه من أهل بيته أمر أن يطاف بها(8/328)
في أجناد الشام، وكان الذي عرّفهم الرؤوس: الحواري بن زياد بن عمرو العتكي.
وبادر العباس بن الوليد فوجه بالبشارة إلى يزيد بن عاتكة عذام بن شتير، قبل أن يوجه بها مسلمة أحدا.
وقال الهيثم بن عدي: قال ابن عياش وعوانة: نزل يزيد العقر من سوراء ومعه ثلاثة آلاف من الأباضية عليهم جعفر بن شيمان الأزدي فقال يزيد. يا دارس كن مني قريبا.
وتقدم محمد بن المهلب فأنشب الحرب، وكان مشئوما فقتل أهل الشام من الاباضية نحوا من ألفين، وعطفوا على يزيد فقاتل فقتل، وطلبه أصحابه فلم يقدروا عليه، وأصيب دارس مقتولا، ونظروا فإذا في وجه يزيد وصدره نحو من عشرين ضربه وطعنة، واحتزوا رأسه.
وعمد معاوية بن يزيد بن المهلب، وهو على واسط، فقتل عديا، ومن حبس معه من الأسارى فقال ثابت بن قطنة الأزدي:
ما سرني قتل الفزاري وابنه ... عدي ولا أحببت قتل ابن مسمع
ولكنها كانت معاوي زلة ... وضعت بها أمرا على غير موضع
وأسر من أصحاب يزيد في المعركة، وممن كان في عسكره، ألفان وثمانمائة رجل، فبعث بهم مسلمة من العقر إلى ذي الشامة محمد بن عَمْرو بْن الْوَلِيد بْن عقبة بْن أَبِي معيط، وكان عامله على الكوفة، وعلى شرطه بالكوفة العريان بن الهيثم. فقال ذو الشامة للعريان: لست من هؤلاء في شيء فشأنك بهم. فميزهم فقال: يا أهل اليمن أنتم الشعار دون الدثار، وأنتم معشر ربيعة الإخوة والحلفاء، وأما هؤلاء- يعني بني تميم-(8/329)
فأعدى الأعداء. فكان يخرج في كل يوم عشرين من بني تميم فيضرب أعناقهم حتى قتل منهم ثمانين ومائة، ويقال قتل منهم خمسين ومائة، ويقال قتل عشرين ومائة. فقال حاجب بن ذبيان المازني:
رأيت المعيطيين خاضوا دماءنا ... بغير دم حتى انتهى بهم الوحل
فما حمل الأقوام أثقل من دم ... حرام ولا ذحل إذا اتبع الذحل
حقنتم دماء المصلتين عليكم ... وحر [1] على فرسان غيرهم القتل
وقي بهم العريان فتيان قومه ... فيا عجبا أين الأمانة والعدل
في أبيات.
وكان قتل يزيد في سنة اثنتين ومائة.
وقال أبو مخنف: أسر من عسكر يزيد بن المهلب ثلاثمائة رجل، فسرح بهم مسلمة إلى محمد بن عمرو بالكوفة، وجاء كتاب يزيد بن عاتكة إلى مسلمة بقتل الأسارى، فأمر محمد بن عمرو بذلك، فقال للعريان:
أخرجهم عشرين عشرين. فقام قوم من بني تميم فقالوا: نحن انهزمنا بالناس فابدأوا بنا قبل الناس، فما هو إلا أن فرغ من قتلهم حتى جاء كتاب مسلمة بالكف عن قتلهم، فكان العريان يقول: والله ما أردتهم حتى قالوا: ابدأوا بنا.
وقال المدائني: كانت هزيمة أصحاب يزيد من قبل الوضاحية، والوضاح مولى عبد الملك بن مروان، كانت معه خيل مفردة.
__________
[1] يقال: بالحرا أن يكون ذلك، وإنه لحري بكذا، وحر. القاموس.(8/330)
قالوا: ولما وصل رأس يزيد بن المهلب إلى يزيد بن عبد الملك بعث به إلى امرأته أم الحجاج بنت محمد بن يوسف التي عذبها، وكلمه يزيد بن عبد الملك فيها فلم يجبه إلى ما سأله في أمرها، فبصقت في وجهه وقالت: أراك شيخا أحمق تطلب الباطل، فقال يزيد بن عبد الملك، والله ما أشبهت أم الحجاج أمي عاتكة بنت يزيد حين أتيت برأس الحسين بن علي فأراد الرسول أن يضعه على الأرض فشتمته ودعت بوسادة فوضع عليها، ثم غسلته وطيبته.
وقال المدائني وغيره: خرج مروان بن المهلب من البصرة هاربا وخلاها فوثب عليها شبيب بن الحارث المازني فأخذها، ودعا ليزيد بن عبد الملك، وصلى بالناس حتى قدم عبد الرحمن بن سليم الكلبي من قبل مسلمة.
وكان جيهان بن محرز نازع شبيبا فيها فقهره شبيب ببني مازن، وكان جيهان قاتل مع عدي بن أرطاة.
وقام عطاء مولى بني شقرة- واسم شقرة مُعَاوِيَة بْن الْحَارِث بْن تميم- وكان عطاء أعور فجعل يقول: جاءكم الأمان. فقال الشاعر:
أليس عجيبا بحق الإله ... قيام عطاء على المنبر
يخبر عنهم بأخبارهم ... وما خبر الكاذب الأعور
المدائني عن الربيع بن صبيح قال: جاءتنا هزيمة يزيد بن المهلب ومقتله فلما كان نصف النهار قال أبو نضرة: من يصلي بالناس؟ وخرج شبيب بن الحارث إلى الأبلة، وأمر الحسن أن يصلي بالناس فقال أنس: إني عليل. فغضب أبو نضرة وقال: يا سبحان الله تأتي جمعة لا يصلي فيها بمصر(8/331)
من أمصار المسلمين، ودخل على الحسن فقال له: إن الناس لا يصلون حتى تخرج، فإذا الحسن قد جاء معتمدا على رجل، فقام على الأرض فخطب وقرأ في خطبته: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تقنطوا من رحمة الله) [1] ولم يقعد في الخطبة ثم أقام المؤذنون فقرأ: الجمعة، وسبح اسم ربك الأعلى.
قالوا: وصلب مسلمة بن عبد الملك جثة يزيد بن المهلب، وعلق معه خنزيرا ومرديا [2] وزق خمر وسمكة.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، ثنا أَبُو داود الطيالسي، ثنا الحكم بن عطية قال: سمعت الحسن سئل عن قول الله: (زخرف القول غرورا) [3] فقال: ألم تروا إلى عدو الله ابن المهلب يدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه وقد نبذهما وراء ظهره.
حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بن عدي عَنِ أَبِي بَكْر الهذلي قال: كُنَّا عند الْحَسَن فذكر يزيد فقال: عجبا لهذا الحمار النهاق يدعو- زعم- إلى كتاب الله وسنة نبيه وقد نبذهما وراء ظهره، اللهم اصرع ابن المهلب صرعة تجعله بها نكالا لما بين يديه وما خلفه وموعظة للمتقين. وا عجبا لهذا الحمار النهاق بينا هو يضرب أعناقنا بالأمس تقربا إلى بني أمية، إذ رأى منهم نبوة وأصابته جفوة فنصب قصبا عليها خرق، ثم قال: أدعوكم إلى السنة، ألا وإن من السنة أن تجعل رجلاه في قيد، ويجعل حيث جعله عمر بالأمس.
__________
[1] سورة الزمر- الآية: 53.
[2] دفع الملاح السفينة بالمردي، دفعها بخشبة للدفع. القاموس.
[3] سورة الأنعام- الآية: 112.(8/332)
خبر آل المهلب بقندابيل [1]
قالوا: وهرب آل المهلب بعيالاتهم إلى قندابيل، فحرقت منازلهم بالبصرة وهدمت، وأراد مسلمة أن يوجه تميم بن زيد القيني ليتيع فل يزيد وولد المهلب ثم قال له: لوجّهت رجلًا من بني تميم كان أبلغ فيما تريد، فوجه هلال بن أحوز المازني، وهو هلال بْن أحوز بْن أربد بْن محرز بن لأي بن سمير بن صباري بن حجية بن كايبة بْن حُرْقُوص بْن مازن بْن مالك بْن عمرو بْن غنم من بني تميم، فعقد له على اثني عشر ألفا من أهل الشام وأهل العراق، فسار وعلى مقدمته الحارث بن سليمان التجيبي فِأتى قندابيل، فنصب هلال رايته ونادى مناديه: من هرب فهو آمن، ومن أتى هذه الراية فهو آمن إلا أن يكون من ولد المهلب، فتسارع الناس إليه.
الْمَدَائِنِيّ عَن جهم بْن حسان السليطي قَالَ: التقى هلال بن أحوز وبنو المهلب بقندابيل وقد عبأ هلال ميمنة وميسرة، فخرج مدرك بن المهلب يطلب المبارزة، فخرج إليه سلم بن أحوز فقيل له: أنت أخو الأمير وليس
__________
[1] قندابيل: مدينة بالسند، كانت قصبة لولاية يقال لها البودهية. معجم البلدان.(8/333)
ينبغي أن تبارزه فرجع، فلامه أخوه هلال وشتمه فخرج فبارز مدركا فقتله سلم.
وكان لمدرك سيف قاطع فجعل ينبو فقال: إن هذا لأمر يراد، الله المستعان، خذلتنا سيوفنا أيضا.
ويقال إن هلالا آمن الناس إلا معاوية بن يزيد لقتله عديا وأبا حاضر الأسيدي، أو حاضر بن أبي حاضر، وإنما قتلهم وهم أسراء في يده، فانتدب معاوية بن يزيد فقال: أنا قاتل أبي حاضر الأسيدي، أو قال: قاتل حاضر بن أبي حاضر، وعدي وابنه، فحمل عليه رجل من أهل الشام فقتله، ويقال قتله رجل من بني كعب بن عمرو بن تميم كأنه سفود من شدة سواده.
وكان أمير آل المهلب بقندابيل المفضل بن المهلب وهو أعور، أصيبت عينه يوم العقر، وكان لواؤهم مع عمرو بن قبيصة بن المهلب.
ونادى هلال: من جاء برأس فله ألف درهم حتى أتي برأس المفضل فقيل له: هذا رأس المفضل رئيس القوم، فقال: ما عهدي به أعور، فقالوا: فقئت عينه يوم العقر، فنزل حتى جلس على بساط، وأسر عثمان بن المفضل وأتى به هلال فكان الذي يخبره عن رؤوس آل المهلب فحبسه وسهل عليه فهرب من الحبس.
ولما قتل ولد المهلب وكل هلال بالحرم من يحفظهم، وفر عثمان بن المفضل، وأبو عينية بن المهلب، وعمر بن يزيد بن المهلب. ونادى منادي هلال: ألا برئت الذمة ممن اتبع موليا. وأمر أن لا يعرض أحد للنساء وما في أيديهن وقال: من رفع سترا أو دخل على امرأة فلا ذمة له.(8/334)
وشكت امرأة من آل المهلب أن رجلًا دخل منزلها فضرب عنقه، وكان نساء آل المهلب يقلن: لو أن المهلب ولينا ما فعل بنا إلا دون ما فعل هلال بن أحوز. وأتته ميسون بنت المغيرة فسألته أن يأذن لها في دفن جثث رجالها فأذن لها.
وقال المدائني عن بشر بْن عِيسَى عن أَبِي صفوان قال: أخذت امرأة من آل المهلب صحيفة فأعطتها مولى لها فكتب قتل فلان، ثم فلان، ثم فلان. للميراث.
وحدثني خلف بن سالم المخزومي وأبو خيثمة عَنْ وهب بْن جرير بْن حازم عَنْ أبيه، ومحمد بن أبي عينية قالا: وجه مسلمة: عبد الرحمن بن سليم الكلبي فهدم دور آل المهلب، وولى على شرطته عمر بن يزيد الأسيدي.
قالوا: وفي عبد الرحمن بن سليم يقول الفرزدق:
أرى ابن سليم يعصم الله دينه ... به وأثافي الحرب تغلي قدورها
هو الحجر الرامي به الله من بغى ... إذا الحرب بالناس اقشعرت ظهورها [1]
في قصيدة.
ثم عزل مسلمة: الكلبي عن البصرة، وولاه عمان، واستعمل على البصرة عبد الملك بن بشر بن مروان، ووجه مسلمة مدرك بن ضب في اتباع فل آل المهلب، فلما انتهى إلى كرمان لقي بها مدرك بن المهلب مقبلا
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 258 مع فوارق.(8/335)
من خراسان وقد انضم إليه بعض فل يزيد من أهل الكوفة وغيرهم فاقتتلوا.
وقال أبو مخنف وغيره: لقي مدرك بن ضب: مدرك بن المهلب، ومعه النعمان، ومالك ابنا إبراهيم بن الأشتر، ومحمد، وعثمان ابنا إسحاق بن محمد بن الأشعث، وصول مولى يزيد بن المهلب، فاقتتلوا فقتل يومئذ النعمان بن إبراهيم ومحمد بن إسحاق، وجرح عثمان بن إسحاق جراحة فمضى متحاملا حتى انتهى إلى حلوان، فدل عليه فقتل، وبعث برأسه إلى مسلمة.
ومضى مالك بن إبراهيم بن الأشتر إلى الكوفة فطلب الأمان من مسلمة فأمنه، وأسر صول فبعث به ابن ضب إلى مسلمة فقال: أنت الذي كتبت على سهمك: صول يدعو إلى كتاب الله وسنة نبيه؟ وأمر به فضربت عنقه، وتخلص مدرك فقتل بقندابيل.
حدثني علي الأثرم عن أبي عبيدة عن يونس النحوي عن أم ولد معاوية بن يزيد بن المهلب قالت: كنا بقندابيل فما راعنا إلا خيل هلال بن أحوز، وإن معاوية لجالس يأكل شهدانج وسمسما، فقام متعجلًا فلبس سلاحه، ثم خرج فقتل هو وأهل بيته، وقتل المفضل وهو أميرهم، وعبد الملك أخوه لأمه بهلة، وزياد وكان- قيل- على عمان، ومروان وكان على البصرة، والمنهال بن أبي عيينة وعمرو والمغيرة ابنا قبيصة بن المهلب، وحملت رؤوسهم وفي آذانهم الرقاع بأسمائهم.(8/336)
وقال الهيثم بن عدي: أسر من آل المهلب ثلاثة عشر رجلًا، فقدم بهم على مسلمة، وهو بواسط فوجههم إلى يزيد بن عاتكة وعنده كثير بن عزة فأنشده:
حليم إذا ما نال عاقب مجملا ... أشد عقاب أو عفا لم يثرب
فعفو أمير المؤمنين وحسبة ... فما تأته من صالح لك يكتب
أساءوا فإنّ تعفو فإنك قادر ... وأفضل حلم حسبة حلم مغضب [1]
فقال يزيد: يا أبا صخر هيهات، أطت بك الرحم. لا سبيل إلى ذاك، إن الله أقاد منهم بأعمالهم الخبيثة. ثم قال: من يطلب آل المهلب بدم فليقم، فقام يزيد بن أرطاة فقال: يا أمير المؤمنين قتلوا أخي، وابن أخي.
فقال: خذ منهم رجلين فاقتلهما ففعل.
وقام ابن لعبد الله بن عروة البصري فقال: يا أمير المؤمنين قتلوا أبي، فقال: اقتل منهم رجلًا. ثم أمر ببقيتهم فقتلوا حتى كان آخرهم غلام، فقالوا: هذا غلام صغير. فقال: اقتلوني فما أنا بصغير، فقيل: انظروا أنبت؟ فقال: أنا أعلم بنفسي قد شوكت ووطئت النساء فقال يزيد:
اضربوا عنقه، فقتل.
وقال يزيد لرجل من اليمانية: كيف كانت غزاتكم بالعراق؟ قال:
قتلنا أشرافنا وجئناك فقال: أما يزيد فقد طلب عظيما ومات كريما.
وكتب يزيد في قبض آل المهلب وهدم دورهم ولم يكن ليزيد دار، إنما كان ينزل دار المهلب، وكان يزيد يقول: داري السجن أو دار الإمارة.
__________
[1] ديوان كثير ص 47- 48.(8/337)
قالوا: وبعث هلال بن أحوز إلى أم الفضل بنت غيلان بن خرشة، وهي أم مخلد بن يزيد أن اختاري من يخرج معك فاختارت قوما من مواليهم يخرجون معها ومع نساء آل المهلب، وبعث معهم بمشيخة من أهل الشام، وبعث بالرؤوس إلى مسلمة بن عبد الملك فورد العراق وقد عزل مسلمة بن عبد الملك، وولي عمر بن هبيرة، فأخذ ما كان في أثقالهن وبسط عليهن حتى استنطف ما كان عندهن فأخذ الرقيق لنفسه، وخاف أن يخرج النساء إلى الشام فيخبرن بما صار إليه فكتب إلى يزيد يستعفيه لهن من الشخوص فأعفاهن.
وقال أبو عبيدة: لما طيف برأس يزيد والرؤوس التي كانت مع رأسه بالشام، ردت إلى البصرة فنصبت بها.
قالوا: وأقام مسلمة بعد يزيد على العراق ثمانية أشهر، ويقال ستة أشهر، فقدح فيه عند يزيد بن عبد الملك، وقيل إنه غير مأمون على الخراج، وليس هو ممن يكشف عنه. فعزله وولى العراق عمر بن هبيرة.
قالوا: وجعلت طوائف من الأزد تقول بعد قتل يزيد إنه حي. فلما تزوج عمر بن يزيد امرأته عاتكة بنت الملاءة قال الفرزدق:
لقد بينت بنت الملاءة من نعى ... لأزد عمان جيفة ابن المهلب [1]
قال المدائني: ولم يزل هلال على السند وقندابيل حتى قدم ابن هبيرة العراق، وقدم نساء المهلب فقال لأم مالك بنت زياد بن المهلب: قد علمت أني الوالي وأني أقدر على مضرتكم ونفعكم، وقد قتل هلال رجالكم فلم
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.(8/338)
يبق، وأنا كاتب في هلال أذكر خيانته فصدقيني. وكتب إلى يزيد بن عبد الملك بذلك، وبعث بأم مالك وقرظها في كتابه إلى يزيد فكذبته، وأثنت على هلال وقالت: أحسن ولايتنا بعد أن بالغ في أمرك ولم يبق غاية في طاعتك، فكتب يزيد إلى ابن هبيرة يعنفه.
وقد قيل إن النساء أشخصن إلى يزيد أشخصهن ابن هبيرة فخلى سبيلهن.
قالوا: وبقي عيينة بن المهلب، وعثمان بن المفضل بن المهلب، وعمر بن يزيد بن المهلب، عند رتبيل بسجستان، فبعثت هند بنت المهلب إلى يزيد في طلب الأمان لأبي عيينة فأمنه فقدم العراق وبقي عمر بن يزيد، وعثمان بن المفضل عنده حتى قدم أسد بن عبد الله القسري أميرا على خراسان، فكتب إليهما بأمانهما فقدما خراسان.
وقال بعض الرواة: كان الأسراء الذين قدم بهم على يزيد بن عبد الملك فأمر بقتلهم: المعارك، وعبد الله، والمغيرة، بني يزيد بن المهلب، ودريد، والحجاج ابني حبيب بن المهلب، وغسان، وشبيب والفضل بني المفضل بن المهلب، والمفضل بن قبيصة بن المهلب، والفضل، والمنجاب ابني يزيد بن المهلب.
وقال الفرزدق حين قتل يزيد بن المهلب:
إذا ما المَزُونيّات أصبحن حُسَّرًا ... يُبكِّينَ أشلاء على عقر بابل
فكن طالبا بنت الملاءة إنها ... تذكّر ريعان الشباب المزايل [1]
__________
[1] ليسا في ديوانه المطبوع.(8/339)
المدائني قال: أتى الحسن يزيد بن المهلب في حاجة قبل محاربته عديا، فقام يزيد فأخذ بركابه فحدث بذلك سوار بن عبد الله، فقال: إن هذا الخبر صدق. في يزيد إعظامه أهل الدين والعلم.
وقال أبو الحسن المدائني: وجه يزيد بن عبد الملك على البصرة رجلًا من أهل الشام يقال له سفيان بن عمير الكندي، وهو الذي خطب فقال:
إن المرأة لا تجوز ذبيحتها، وقال: العارية ترد والمنحة ترد والعمرى لمن أعمرها.
حدثني هدبة بن خالد عن أبي هلال الراسبي عن قتادة قال: قلت لسفيان بن عمير وقال لي: ما تقول في امرأة زعمت أن زوجها لا يأتيها.
قلت: تستحلف بالله. فقال الحسن: ما تقول أنت. قال: يجرب بغيرها. فقال: أما إن قتادة قال بقول أهل الشام.
وقالوا: أتى سعيد بن عمرو الحرشي يزيد بن المهلب وهو محبوس، فأمر له بخمسين ألفا فقال عدي بن الرقاع العاملي:
لم أر محبوسا من الناس واحدا ... حبا زائرا في السجن غير يزيد
سعيد بن عمرو إذ أتاه أجازه ... بخمسين ألفا عجلت لسعيد [1]
وقال أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْن مُحَارِبٍ. مات هلال بن أحوز عند هشام فصلى عليه فقال له جميري أخوه: يا أمير المؤمنين لو دعوت له بالمغفرة. فقال رجل من أهل الشام: أو لم يغفر الله له وقد صلى عليه أمير المؤمنين؟
__________
[1] ليسا في ديوانه المطبوع.(8/340)
وقال الفرزدق:
لعمرك ما أنسى ابن أحوز ما جرى ... الرياح وما ناح الحمام وغردا [1]
وقال معن بن عمرو:
وباكية هبت بليل فراعني ... تحوبها تبكي على ابن المهلب
فقلت لها لما سمعت نحيبها ... ألا فاندبي البهلول غير المجدب
أعف وأحيا من فتاة حيية ... وأجرأ من ليث بخفان أغلب
الهيثم عن الضحاك بن زمل قال: لما قدم على يزيد بأسرى آل المهلب الذين بعث بهم مسلمة، شاور من حضره فقال: ما تقولون في هؤلاء؟
قال: بعض من حضر: قد قدرت يا أمير المؤمنين فاعف، فقام عثمان بن حيان المري فقال: والله (لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إلا فاجرا كفّارا) [2] فقال رجاء بن حيوة: بل نقول كما قال الله: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) [3] وكان يلعن يزيد بعد خلعه.
وقال رجاء لعثمان: ما دعاك إلى ما قلت؟ قال: أبا المقدام. إن الله خلق للنار أهلًا فجعلني منهم، وخلق للجنة أهلًا فجعلك منهم، فقال رجاء: ما أنا عند نفسي من أهل الجنة. ثم دفعهم يزيد إلى زيد بن أرطاة وإلى ابن النصري وغيرهما فقتلوا.
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 131.
[2] سورة نوح- الآيتان: 36- 37.
[3] سورة الأنعام- الآية: 164.(8/341)
قالت الحوراء بنت عروة النصري:
أيزيد حاربت الملوك ولم تكن ... تلقى المحارب للملوك رشيدا
لما وجدت عصابة أوردتها ... حوضا سيورث ورده التفنيدا
فالبيت ذا الحرمات لست بنائل ... والأكرمين شمائلا وجدودا
رهط النبي بنى الإله عليهم ... سقف الهدى ومن القرآن عهودا
قوم هم منوا عليك وأفضلوا ... حتى لبست من الطراز برودا
فكفرت نعمتهم هناك وإنما ... تلد العبيد المقرفون عبيدا
طلب الخلافة في هجان فلم يجد ... بهجان من شجر الخلافة عودا
حدثني هدبة بن المبارك بن فضالة قال: سمعت الحسن يقول:
وا عجبا من يزيد علج أهل هجان، وطائر من أطيار الماء، اتخذ سيفه برهة مخراقا في طاعة بني أمية حتى إذا منع لماظة من عيش نصب خرقا على قصب وقال: إني غضبت، فاغضبوا فاتبعه فراش نار، وذئبان طمع، يدعو إلى سنة العمرين، يا فاسق إن من سنتهما أن ترد إلى محبس عمر بن عبد العزيز.
وقال أبو النجم:
إن الذي مد علينا نقمه ... وقد ظلمنا أنفسا مظلمه
حين أحاطت بالعراق الدمدمة ... فالله نجّانا بكفّي مسلمة
من بعد ما وبعد ما وبعدمه ... كانت نفوس القوم عند الغلصمة
وكادت الحرة أن تدعى أمه
[شعر في مقتل بني المهلب]
وقال الأحوص بن محمد في شعر مدح به يزيد بن عاتكة وذكر ابن المهلب:(8/342)
ما زال ينوي الغدر والنكث راكبا ... لعمياء حتى استكّ منه المسامع
وحتى أبيد الجمع منه فأصبحوا ... كبعض الألى كانت تصيب القوارع
فأضحوا بنهري بابل ورؤوسهم ... تخب بها فيما هناك الخوامع [1]
وقال الفرزدق:
لقد عجبت من الأزدي جاء به ... يقوده للمنايا حين مغرور
حتى رآه عباد الله في دقل ... منكس الرأس مقرونا بخنزير
القلس أهون بأسا أن تعود به ... في الماء مطلية الألواح بالقير [2]
وقال الأسدي:
عجبت لهذي العلوج اللئام ... تمنى الخلافة في كل عام
تمنى الخلافة غلفانها ... ولما تناطح طول العلام [3]
وقال جرير:
آل المهلب جذ الله دابرهم ... أضحوا رمادا فلا أصل ولا طرف
إن الخلافة لم تجعل ليملكها ... عبد لأزدية في بطنها عقف
ما نالت الأزد من دعوى مضلهم ... إلا المعاصم والأعناق تقتطف
والأزد قد جعلوا المنتوف قائدهم ... فقتلتهم جنود الله وانتتفوا [4]
__________
[1] شعر الأحوص الأنصاري ص 190 مع فوارق.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 215 مع فوارق.
[3] العلام: الراية، وما يعقد على الرمح، وسيد القوم. القاموس.
[4] ديوان جرير ص 304- 308.(8/343)
وقال الفرزدق:
أَحَلَّ هريمٌ يوم سَوراء بالقنا ... نذور نساء من تميم فحلت
عشية لا يدري يزيد أينتحي ... على السيف أم يعطي يدا حين شلّت
وما كرّ إلا كان أول طاعن ... ولا أبصرته الخيل إلا اقشعرت
كأنّ رؤوس الأزد خطبان حنظل ... تحرز عن أكنافها حين ولت [1]
وقال أيضا:
كيف ترى بطشة الله التي بطشت ... بابن المهلب إن الله ذو نقم
قاد الجياد من البلقاء منصلتا ... شهرا تقلقل بالأرسان واللجم
حتى أتت أرض هاروت لعاشرة ... فيها بنو دحمة الحمراء كالحمم
فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم ... كأنهم من ثمود الحمر أو إرم [2]
وقال الطرماح ليزيد:
لحى الله قوما أسلموك ببابل ... أبا خالد تحت السيوف البوارق
فتى كان عند الموت أكرم منهم ... حفاظا وأعطى للجياد السوابق
وقائلة تنعى يزيد وقائل ... سقى الله جزل السيب عف الخلائق
ولما نعى الناعي يزيد تزلزلت ... بنا الأرض وارتجّت بمثل الصواعق [3]
في أبيات. وقال ذو الرمة:
لودت الأزد إذ رثت حبائلهم ... أن المهلب لم يولد ولم يلد
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 111- 112، والخطبان نبت كالهليون.
[2] ديوان الفرزدق ج 2 ص 252 مع فوارق.
[3] ديوان الطرماح- ط. دمشق 1968 ص 337- 339.(8/344)
كانوا ذوي عدد ثر وعائرة ... من السلاح وأبطالا ذوي نجد
فما ترى منهم من بعد كثرتهم ... إلا الأرامل والأيتام من أحد [1]
وقال الفرزدق من قصيدة له:
ونحن أرينا الباهلية ما شفت ... به نفسها من كل رأس معلق
ونحن أزحنا عن خويلة جحدر ... شجى كان منها في مكان المخنق
الباهلية أم عباد بن عطية، وكانت امرأة عدي بن أرطاة.
ونحن قتلنا بابن أرطاة منهم ... ثمانين تحت العارض المتألق
وكائن بقندابيل من جسد لهم ... وبالعقر من رأس تدهدى ومرفق
وذات حليل أنكحتها رماحنا ... حلالًا لمن يبني بها لم تطلق
جعلنا أثافي قدرنا رأس زوجها ... وكفيه في أيد سقطن وأسوق [2]
وقال الفرزدق:
تبكي على المنتوف بكر بن وائل ... وينهى عن ابني مسمع من بكاهما
غلامان شابا في الحروب وأدركا ... كريم المساعي قبل وصل لحاهما
فلو كان حيا مالك وابن مالك ... إذا أوقدا نارين يعلو سناهما [3]
وقال الفرزدق في هلال بن أحوز في أبيات:
جدعت عرانين المزون فلا أرى ... أذل وأخزى منهم حين صرّعوا
__________
[1] ديوان ذي الرمة- ط. بيروت 1993 ج 1 ص 181- 182 مع فوارق.
[2] ديوان الفرزدق ج 2 ص 37- 38 مع فوارق.
[3] ديوان الفرزدق ج 2 ص 203 مع فوارق كبيرة.(8/345)
وحمّلت أعجاز البغال رؤوسهم ... محذفة في كل بيداء تلمع
جماجم أشياخ كأن لحاهم ... ثعالب موتى أو ثعام مترع [1]
وقال رؤبة:
والأزد سوء صنيعها موصوف ... قد أزحفتها الفتية الزحوف
لو زادها يزيد والمنتوف ... عقلا وطير بابل العكوف [2]
يقول: لو كان يزيد قتيل هؤلاء عكوف الطير عليهم عقلا.
وقال حاجب بن ذبيان المازني:
لقد قرت بقندابيل عيني ... وساغ لي الشراب على الغليل
غداة بنو المهلب من أسير ... يقاد به ومصلوب قتيل
خلا سيف ابن أحوز عن نزار ... وشدات ابن أحوز كل قيل
بكل مقلص [3] يمشي العرضنى ... ظماء [4] اللحم مشرفة التليل
أبزن [5] بني المهلب في فواق ... وكل مهند عضب صقيل
تقطعت الأمور بهم وكانت ... عليهم مثل راعية الفصيل
أضلهم ابن دحمة [6] وازدهتهم ... مشبهة تضل ذوي العقول
أليس من العظائم أن يروموا ... وراثات الخلائف والرسول
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 407 مع فوارق.
[2] لم يرد هذا الرجز في ديوان رؤبة المطبوع.
[3] القلوص من الإبل: الشابة، أو الباقية على السير. القاموس.
[4] ظماء اللحم: قليلة اللحم. القاموس.
[5] البزز: الغلبة وأخذ الشيء بجفاء وقهر. القاموس.
[6] بهامش الأصل: ابن دحمة: يزيد بن المهلب.(8/346)
وقال ثابت قطنة:
وليوم قندابيل أورث ذلة ... قومي ويوم العقر شيب مفرقي
يا هند إن أخاك صادف حتفه ... بحبائل الأجل الذي لم يسبق
وتغيبت عنه الكماة وغاله ... زمن كظل السرجة المتصفق
والدهر لا يبقي على حدثانه ... عصم موقنة برأس محلق
كيف العزاء وقد أصيب ذوو الحجا ... منا وأهل النائل المتدفق
وقال أبو الحمراء المنقري:
أبا خالد لو خلد الجود واحدا ... أبا خالد كنت الجواد المخلدا
سقى الله أجسادا ببابل غودرت ... غداة رأينا الراعبي مقصدا
حبيبا وعبادا وذا الباع والندى ... يزيدا وأسقى الله ربي محمدا
أقول لهم لما أتاني نعيهم ... جزى الله خيرا ما أعفّ وأمجدا
[مقتل يزيد بن المهلب]
قالوا: وكان رجاء بن حيوة يلعن يزيد بن المهلب حين أتاه خبره، وقد قيل في آل المهلب شعر كثير جدًا.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةَ الأَثْرَمُ عَنْ أَبِي عبيدة قال: لما كتب يزيد بن المهلب إلى ابن عاتكة يطلب الأمان كتب له أمانا ووجه به خالد بن عبد الله، وأتاه كتاب عدي بخلع يزيد فبعث فرد رسل يزيد بن المهلب وقال: كذبتم أمير المؤمنين وأوطأتموه العشوة، فقالوا: أما عهدنا به فإنه لم يخلع ولم يسفك دما. فأمر بهم إلى السجن فلم يخرجوا منه حتى قدم بآل المهلب من قندابيل.
ومن رواية أبي عبيدة معمر بن المثنى أن الأسرى لما حملوا إلى يزيد بن عبد الملك قام خالد بن عبد الله القسري فذكر العفو والصفح، وكان مفوها، وقال: أنهم أحداث لا جرائم لهم ورققه عليهم بجهده حتى هم(8/347)
بالعفو عنهم، فقام عثمان بن حيان المري فقال: كلا يا أمير المؤمنين لا تعف عنهم واحصدهم بمعصيتك كما انبتّهم بطاعتك، فلعمري ما ترضى عشيرة منا أذنبت ذنبا وقد صفحت عن هؤلاء إلا أن تصفح عن ذنوبهم، فمن هؤلاء الأعلاج الذين لا أصل لهم ولا فرع. نكل بهم يرتدع غيرهم يا أمير المؤمنين.
وأشار عليه رجاء بن حيوة بالعفو عنهم وقال: إن اللَّه يَقُول:
(وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) فأبى يزيد بن عاتكة أن يعفو عنهم، ودفع بكل رجل ممن قتل مع عدي بن أرطاة رجلًا إلى وليه، ثم خلى الباقين ويقال قتلهم.
وقال أبو عبيدة: وجه مسلمة في إثر معاوية بن يزيد بن المهلب عبد الرحمن بن سليم الكندي، وكان معاوية قد أعد له سفينة في الزردات، فركبها حتى وافى الأهواز، فلم يلحقه عبد الرحمن وأقام بالبصرة فولاه مسلمة إياها، ثم عزله وولاه عمان، وولى البصرة ابن بشر بن مروان.
وقال أبو عبيدة: استأذنت بأهله في صلب يزيد بن المهلب، فأذن لها فصلبوه منكسا وشدوا على بطنه سمكة، ثم نزعوها وشدوا مكانها زقا من خمر، ثم نزعوه وشدوا إليه خنزيرة بيضاء كانوا يرونها في قرية عند موضع الوقعة.
وقال أبو عبيدة: أراد مسلمة ألا يواقع يزيد حتى يعرض عليه الأمان، فقال العباس بن الوليد: لا تؤمنه فلا يبقى أحد إلا خلع وأفسد وسفك الدماء ثم ركن إلى الأمان، فأبى وأمنه فلم يقبل يزيد أمانه.(8/348)
وقال أبو عبيدة في روايته: كان يزيد حين شهد الحرب في رجالة قد أطافت به فأصاب برذونه سهم فشب به وضرب بيده ورجله حتى عقر عدة ممن كان حوله، ثم صرعه أو نزل يزيد عنه فغار البرذون فعرفه بعضهم فقال:
هذه دابة يزيد، فثاروا يطلبونه وجعلت العمانية تقول: التل التل، لتل كان هناك عظيم عال قد وقف مسلمة عليه حين قصدت الأزد وربيعة له فنزل عنه، وكان يزيد بن المهلب أخرج قوما مستكرهين فخذلوه، ومالوا إلى مسلمة.
وقال أبو عبيدة: بعث مسلمة برأس يزيد مع سالم بن وابصة الأسدي، وكان سالم في الوفد الذي أوفدهم برأسه ورؤوس من حملت رؤوسهم معه، فقال سالم وقد وضع الرأس بين يدي يزيد بن عاتكة:
أتينا به ما نسمع الصوت في السرى ... ولا نشتكي شكوى أبين ولا قبر
نعرف أهل الحق بالشام رأسه ... من الذل مخطوم الخياشم والثغر
وقال أبو عبيدة: قال يزيد بن المهلب لدهقان برس [1] : أتدلني على أرض طيبة أغرس فيها النخل والشجر، فقال: يبقيك الله ويسلمك ثم تنظر في هذا فما أكثر الأرضين. ثم قال: أرأيتم أعجب من هذا، قد غشيه البلاء وهو يسال عن الأرضين.
وكانت بيزيد خلفة من داء أو هيضة، فكان ضعيف البدن، ومعه ريحان يشمه فقال له بعض أهله: قد قرب القوم منا وأنت تشم الريحان؟
فعندها ركب فقاتل.
__________
[1] برس: موضع بأرض باب. معجم البلدان.(8/349)
وقال أبو عبيدة: بعث يزيد إلى الخيار بن سبرة بن ذؤيب بن ناجية بْن عقال بْن مُحَمَّد بْن سُفْيَان بن مجاشع بن دارم، وهو على عمان من قبل عدي بن أرطاة، ولاه إياها بعد عامل كان له عليها، فنهاه عمر بن عبد العزيز عن توليته، والخيار لا يعلم بأمر يزيد حتى دخلت عليه رسله، وعليهم زياد بن المهلب فضربوا عنقه، وكان متحاملا على الأزد بعمان، فقال الفرزدق:
لو كنت مثلي يا خيار حزمتها ... بكل علاقي من الميس فاتر
فقد كنت فِي أرض المهاري مُسلطًا ... على كل بادٍ من عمان وحاضر
ترى إبلًا ما لم تحرك رءوسها ... فإن حركت أبصرت عين الأباعر [1]
قال أبو عبيدة: وكان على السند من قبل عدي: عمرو بن مسلم، فبعث إليه يزيد بن المهلب: وداع بن حميد وهو رجل من أهل اليمن في ستة نفر ويقال في أربعة نفر فقيل له: رسل الأمير على الباب. فظن أنهم رسل عدي فأذن لهم، فلما قرأ الكتاب الذي مع وداع قال: أتحبون أن أعطيكم حياتي؟. وراطن غلاما له طخاريا بالطخارية أن انطلق إلى بني وأهل بيتي فمرهم أن يلبسوا السلاح ويسرعوا فإن هؤلاء القوم أعداء، فدخلوا البيت مصلتين، وثار وداع وأصحابه نحو عمرو فاقتتلوا، فقتل وداع ومن معه، وأمر عمرو فاحتزت رؤوسهم وألقيت في السوق.
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 237 مع فوارق.(8/350)
وكان ليزيد بن عبد الملك بن مروان من الولد:
الوليد بن يزيد المقتول، ويحيى، وعاتكة، أمهم أم الحجاج بنت محمد بن يوسف أخي الحجاج بن يوسف الثقفي.
وعبد الله، وعائشة، أمهما سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان.
والغمر لأم ولد.
وهاشم وأبو سفيان لأم ولد.
فأما الوليد فسنكتب خبره إن شاء الله، وأما عبد الجبار فِإن ابنة محمد بن عبد الملك كانت عند روح بن الوليد بن عبد الملك، فأغضبها ففرق الوليد بن يزيد بينهما وزوجها عبد الجبار أخاه، فحقد ذلك بنو الوليد بن عبد الملك على الوليد بن يزيد.
وأما سليمان بن يزيد فكان ممن أعان على قتل أخيه الوليد بن يزيد، وأما الغمر فهو صاحب سيح الغمر باليمامة، وكان جلدا عاقلا عفيفا، وكان أعرج ولي الصائفة غير مرة فغنم ما لم يغنمه أحد قط، وكانت إحدى صوائفه في سنة ست وعشرين ومائة، وولي اليمامة وكانت له ضياع بالسواد، فقبضها بنو هاشم.
وقال إسماعيل بن يسار مولى بني تميم بن مرة:
إذا عدد الناس المكارم والعلى ... فلا يفخرن منهم على الغمر فاخر
فما مر من يوم من الدهر واحد ... على الغمر إلا وهو للناس غامر
أغر بطاحي كأن جبينه ... إذا ما بدا بدر على النجم باهر(8/351)
تراهم خشوعا إن رأوه مهابة ... كما خشعت يوما لكسرى الأساور
نماه إلى فرعي لؤي بن غالب ... أبوه أبو العاصي وحرب وعامر
فأضحى بإعطاء الجزيل كأنما ... رماه بوتر ماله فهو ثائر
قوله: حرب يعني حرب بن أمية، لأن أم أبيه عاتكة بنت يزيد بن معاوية بن صخر بن حرب، وأم عاتكة ابنة عبد الله بن عامر بن كريز.
وقتل الغمر عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بن عباس بالشام مع من قتل من بني أمية، فقال حين قدم ليقتل: ليسعني في عدلكم ما وسعكم في جورنا. فقال عبد الله: اقتلوه. فقال: إني شيخ مسن وإن تركتني كفتك إياي منيتي. فقال له: قد كان الحسين بن علي شيخا فقتلتموه.
وأما عبد الله بن يزيد فولدته سبعة خلفاء: أبوه يزيد، وجده عبد الملك، وجد أبيه مروان وأم أبيه عاتكة بنت يزيد بن معاوية، وأم عبد الله بن يزيد التي قامت عنه سعدة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان وأم عبد الله بن عمرو بن عثمان بنت عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب. وكان لعبد الله هذا ابن يقال له عبد المطلب عظيم القدر عند المهدي والرشيد.(8/352)
الخوارج في أيام يزيد بن عبد الملك
-
خبر عقفان:
قال أبو الحسن المدائني: خرج رجل يقال له عقفان بناحية دمشق في ثلاثين، فأراد يزيد بن عبد الملك أن يبعث إليه جندا فقيل له: إن قتل بهذه البلاد أتخذوها دار هجرة. قال: فما الرأي؟ قالوا:
تبعث إلى كل رجل رجلًا من أهل بيته يكلمه ويرده. فكان يبعث إلى كل رجل أخاه وابنه وابن عمه وأباه، فكلموهم وقالوا: إنا نخاف أن نؤخذ بكم وأومنوا فرجعوا، وبقي عقفان وحده فبعث يزيد إليه أخاه وكان أعرج يقال له ربيعة، فقال له: يا أخي إنا لا نأمن أن يجتاحنا الخليفة ويصطلمنا.
فرجع وأمنه يزيد بن عبد الملك.
فلما ولي هشام بن عبد الملك ولاه أمر العصاة فقدم ابنه تمة بن عقفان من خراسان عاصيا فشده وثاقا، وبعث به إلى هشام، فقال هشام: لو خاننا عقفان لكتم أمر ابنه ثم قال لتمه: قد وهبتك لأبيك فالحق بمكتبك، وولاه هشام الصدقة.
وكان لأخيه أربعون شاة فذبح شاة منها، ثم سأل أخاه الصدقة فقال له: قد كانت لي أربعون شاة فذبحتم شاة منها، وبقي لي تسع وثلاثون شاة(8/353)
فلا صدقة عليها، فلم يفارقه حتى أخذ منه الصدقة شاة. ومكث عقفان عشرين سنة واليا لهشام.
- أمر مسعود بن أبي زينب العبدي:
قالوا: خرج مسعود بن أبي زينب أحد ولد محارب بن عبد القيس بالبحرين على الأشعث بن عبد الله بن الجارود، فخرج الأشعث عن البحرين وأخذ مسعود عبد الرحمن بن النعمان العوذي [1] ، ومنصور بن أبي رجاء العوذي فقتلهما، ثم خرج إلى اليمامة وعليها سفيان بن عمرو العقيلي، ولاه إياها عمر بن هبيرة الفزاري في أيام يزيد بن عبد الملك، فخرج سفيان بن عمرو العقيلي بأهل اليمامة فلقي مسعودا بالخضرمة [2] فقاتله فانكشف أهل اليمامة عن سفيان، ثم كروا والتقى عضاض بن تميم بن محلم العدوي- عدي الرباب- ومسعود فاختلفا ضربتين فقتل عضاض مسعودا.
وقام بأمر الخوارج هلال بن مدلج فقاتلهم يومه كله فقتل ناس من الخوارج، وقتلت زينب أخت مسعود، فلما أمسى هلال تفرق عنه أصحابه، وبقي في عصبة، فدخل قصرا فتحصن فيه، فقال عبيد الله بن مالك عم تميم بن محلم: علام تدع هذا وقد حبس لكم نفسه، وقد تفرق أصحابه ولعل طائفة منهم تعود إليه. فطلبوا سلما فلما وجدوه أحجم الناس عنه وهابوا الإقدام، فرقى عبيد الله إلى حائط القصر وتلقاه هلال بن مدلج
__________
[1] بهامش الأصل: عوذ من الأزد.
[2] الخضرمة: بلد بأرض اليمامة لربيعة، وقيل: جو اليمامة: قصبة اليمامة، ويقال لبلدها خضرمة. معجم البلدان.(8/354)
الخارجي على الحائط فاختلفا ضربتين فقتل عبيد الله هلالا، وجرحه هلال فبرئ من جراحاته، واستأمن من بقي في القصر فأمنهم.
وقال الهيثم بن عدي: قتل مسعودا رقيب بن عبد الرحمن، مولى بني شيبان، واحتز رأسه رجل من بني سعد. والأول أثبت.
وقال الفرزدق:
لقد عض عضاض على السيف عضة ... بأنيابه قد أثكلت أم زينبا
كفت ضربة العضاض إذ سل سيفه ... رجالًا شهودا من تميم وغيبا [1]
وقال أيضا:
لعمري لقد سلت حنيفة سلة ... سيوفا أبت يوم الوغى أن تعيرا
تركن لمسعود وزينب أخته ... رداء وسربالا من الموت أحمرا
أرين الحروريين يوم لقائهم ... ببرقان يوما يجعل الجو أشقرا [2]
وقال الهيثم بن عدي: غلب مسعود على البحرين وناحية اليمامة تسع عشرة سنة، حتى قتله سفيان بن عمرو العقيلي، سار إليه ببني حنيفة.
- أمر سعيد بن أبي زينب أخي مسعود، وعون بن بشر:
قالوا: لما قتل مسعود قام سعيد أخوه بالبحرين، فقال سعيد: قال الله: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تعلموا ما تقولون) [3] فلا تحل الصلاة للسكران، وما حرم السكر، ففارقه عون بن بشر أحد بني الحارث بن عامر بن حنيفة
__________
[1] ليسا في ديوانه المطبوع.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 226 مع فوارق.
[3] سورة النساء- الآية: 43.(8/355)
وأكفره، فصار أصحاب سعيد فرقتين فرقة معه وفرقه مع عون، فخرج عون عن هجر فأتى القطيف [1] فجاءه ناس كثير، وبقي سعيد بهجر، فدس سعيد رجلين ليفتكا بعون أحدهما حبشي يقال له بكير، فقدما القطيف فوجأه بكير بخنجر في خاصرته، وأخذ بكير فدفع إلى الوالي فقيل له: من أمرك بهذا؟ قال: أنت. فدفعه إلى عون فقتله، ومات عون بن بشر، وأقام سعيد بن أبي زينب بهجر ولم يقتعد.
- أمر مصعب بن محمد الوالبي:
قالوا: طلب عمر بن هبيرة مصعب بن محمد، ومالك بن الصعب، وجابر بن سعد، وهم من رؤساء الخوارج، فتراسلوا والتقوا بالخورنق، فخرجوا وأمروا عليهم مصعبا ومعه أخته آمنة، فلما هلك يزيد بن عبد الملك وولي هشام بن عبد الملك وولي خالدين عبد الله القسري، وجه خالد إليهم سيف بن هانئ الهمداني فواقعهم فقتلوا بحزة [2] .
وقال بعض الرواة: قتلوا في آخر أيام يزيد، بعث ابن هبيرة إليهم سيفا فقال فيهم بعض الشراة:
__________
[1] الهجر بلغة حمير والعرب العاربة: القرية، وهجر مدينة، وهي قاعدة البحرين، والقطيف قصبة البحرين. معجم البلدان.
[2] حزة: موضع بين نصيبين ورأس عين على الخابور، وحزة أيضا قرب إربل من أرض الموصل. معجم البلدان.(8/356)
فتية تعرف التخشع فيهم ... كلهم حكم القرآن غلاما
قد برى لحمه التهجد حتى ... عاد جلدا مصفرا وعظاما
غادروهم بقاع حزة صرعى ... فسقى الغيث أرضهم يا إماما
قال الهيثم: لما أجمعوا على الخروج قال مصعب: إن شئتم كنت أميرا، وإن شئتم كنت وزيرا. قالوا: قد رضيناك أميرا.
قال: وقال أيوب بن خولي البجلي يرثي جابرا بقصيدة أولها:
كفى حزنا أني تذكرت جابرا ... على جابر صلت خيار الملائك
قتيل قضى إذ عاهد الله نحبه ... ولم ينتظر إذ قيل إنك هالك
- أمر سعيد بن بهدل:
قال الهيثم بن عدي: كان سعيد بن بهدل من أصحاب مروان الضعيف، وكان رأس الخوارج، وسمى الضعيف لأنه قيل له: ألا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فقال: والله ما بي ضعف عن ذلك، ولكني ضعيف البدن وإني لا أجد أعوانا، ثم جلس سعيد بن بهدل في أصحابه فقال: لقد خفت أن يأتيني الموت بغتة قبل أن أقضي حق الله علي، فكيف طيب أنفسكم بالموت؟ قالوا: ما أطيبها به.
وكان عنده البهلول الشيباني، والضحاك بن قيس، فأقام خمسا ثم اعتقد وبايعوه فمات بعد أيام، ولم يلق أحدا، فقال فيه الضحاك بن قيس:
سقى الله يا خوصاء قبرا وحشوه ... إذا رحل الشارون لم يترحل
فيا ملحق الأرواح هل أنت ملحقي ... بموتى مضى فيهم سعيد بن بهدل
ثم بويع البهلول بن بشر.(8/357)
وقال أبو الهيثم: هو أبو عمرو الشيباني، ويكنى أبا بشر، ويقال إن خروج ابن بهدل كان في أيام هشام بعد خروج البهلول.
قال: وزوج عمر بن هبيرة في أيام يزيد خارجية أتي بها من رجل من أصحابه، فقالت لزوجها: ممن أنت؟ قال: من قيس. فقالت: أنا على دين قيس، فلما أصبح قال له ابن هبيرة: كيف رأيت امرأتك فقال:
خلوت بها ليل التمام فأصبحت ... من الدين إلا دين قيس تخلت [1]
__________
[1] بهامش الأصل: بلغ العرض بالأصل الثالث من أول الكتاب، ولله كل حمد وفضل.(8/358)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر مسلمة بن عبد الملك
ومسلمة بن عبد الملك يكنى أبا سعيد، وأمه أم ولد، ولقبه الجرادة، لصفرة كانت تعلوه، وكان شجاعا، وقال عبد الملك في وصيته: أكرموا مسلمة فإنه نابكم الذي عنه تفترون. وله مغاز كثيرة بالروم وأرمينية، وافتتح طوانة من بلاد الروم، وولاه يزيد بن عبد الملك العراق فقتل يزيد بن المهلب، وقال لهشام في إمرته: كيف ترجو الخلافة وأنت بخيل جبان؟ قال: إني عفيف حليم.
وقال مسلمة: عجبت لمن قدر كيف لا يغفر، ولمن وسع عليه كيف لا يجود.
المدائني قال: قدم أعرابي الشام فلاحى رجلًا فقال له: يا ذا الذي يبول ابنه بول الحمار، فرفع إلى القاضي فلم يعرف ما قال الأعرابي فسأل مسلمة بن عبد الملك عنه فقال مسلمة: البول سفاد [1] الحمار، فجلده القاضي حدا فقال: وا عجبا أأضرب هكذا فلاطا، قال القاضي: والله
__________
[1] سفد: نزا. القاموس.(8/359)
ما أدري ما يقول وسأل عنها مسلمة فقال: الفلاط المفاجأة. فهجاه شاعر لهم فقال:
كيف وجدت ضربه فلاطا ... ينحط منه جلدك انحطاطا
لما رأيت فوقك السياطا ... خضعت خضعا أفزع الأشراطا
فقال الأعرابي: يا رابع الشعراء ما أغراك بي أظننت أني مفحم لا أنطق؟: الشعراء أربعة: شاعر مفلق، وشاعر مجيد، وشاعر متكلف، وشويعر ماص لبظر أمه.
فقال مسلمة: ويحك يا أعرابي ما أطرفك، ما سقط إلينا مثلك.
ووصله وماره [1] .
المدائني قال: كان لمسلمة صديق وأليف يقال له شراحيل فمات فجزع عليه مسلمة جزعا شديدا، وخرج فصلى عليه، فأتاه عبد الله بن عبد الأعلى الشيباني فعزاه فبكى وقال:
وهون وجدي عن شراحيل أنني ... إذا شئت لاقيت امرأ مات صاحبه
حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بن عدي عَنِ هشام التنوخي قال: كنا مع مسلمة بأرمينية أيام هشام فعرض الناس فمر به رجل ضخم، فأبلغ عنه أمرا وجب عليه عقوبته فقال له: ما اسمك: قال عبد الله بن عبد الرحمن.
قال: ممن أنت؟ قال: من بنو تغلب. قال: ارجع، وأمر بضربه. فلما ضرب سوطا قال: بسم الله. قال مسلمة: خلوا عنه قبحه الله فلو ترك اللحن في حال لتركه تحت السياط.
__________
[1] مارة: زوده بالميرة. القاموس.(8/360)
هشام ابن الكلبي عن عوانة قال: تكلم قوم فأكثروا الخطأ والخطل، ثم أتاهم رجل بليغ فجعل لا يخرج من لفظ حسن إلا إلى أحسن منه، فقال مسلمة: ما شبهت كلام هذا في أثر كلام القوم إلا بسحابة لبدت عجاجا.
وحدثني أبو مسعود الكوفي أن ابن كناسة الأسدي قال: قال مسلمة بن عبد الملك إنه لا عفة مع الشح، ولا مروءة مع الكذب.
المدائني: أن مسلمة بن عبد الملك كان يتنقص العباس بن الوليد بن عبد الملك حين بعث يزيد بن عبد الملك بهما لمحاربة يزيد بن المهلب بالعراق، ويحمقه فبلغ العباس ذلك فكتب إليه كتابا فيه هذه الأبيات، يقال إنها له، يقال إنها لابن سيار، وإنما تمثل بها:
ألا تقني الحياء أبا سعيد ... وتقصر عن ملاحاتي وعذلي
فلولا أن أصلك حين تنمى ... وفرعك منتهى فرعي وأصلي
وإني إن رميتك هضت عظمي ... ونالتني إذا نالتك نبلي
لقد أنكرتني إنكار خوف ... يقصر منك عن شتمي وأكلي
لقول المرء عمرو في القوافي ... أريد حياته ويريد قتلى
قالوا: وشتم رجل من أهل الشام يزيد بن المهلب، فقال له مسلمة: اسكت أتقول هذا لرجل سار إليه قريعا قريش؟ إن يزيد حاول أمرا جسيما ومات كريما.
المدائني قال: قيل لمسلمة بن عبد الملك: ما يمنعك من العمل ولو أردته لتوليت أجسمه؟ فقال: يمنعني منه ذل الطلب، ومرارة العزل، وهول الخطب، وقرع حلق البريد.(8/361)
المدائني قال: قال مسلمة بن عبد الملك: ما فرحت قط بفتح كان على غير تقدير.
المدائني: أن مسلمة قال لعمر بن عبد العزيز: أوص. فقال: مالي مال أوصي به، قال: فأنا آتيك بمائة ألف درهم توصي فيها بما أحببت.
قال: أفلا تفعل خيرا من ذلك، تردها إلى موضعها الذي أخذت منه، قال: رحمك الله يا أمير المؤمنين فقد لينت منا قلوبا قاسية، وزرعت لنا في قلوب الناس المحبة، وأبقيت لنا في الصالحين ذكرا.
المدائني عن خالد بن بشر قال: بلغ مسلمة بن عبد الملك أن رجلًا شتمه وعلم الرجل بذلك فانقبض عن إتيانه، وسأل مسلمة عنه فأتاه وأجاد الاعتذار إليه، فقال مسلمة: اللهم عفوا كف عن هذا رحمك الله، ولم ير منه تغيرا له.
قال: وشتم مسلمة قوم من أهل الأردن، وبلغه ذلك فبعث إليهم وأعطاهم وكساهم وكتب إلى الوالي عليهم يأمره بالإحسان إليهم.
المدائني عن عامر بْن حَفْص قَالَ: قَالَ أبو نخيلة السعدي: دخلت على مسلمة بن عبد الملك فقلت:
أمسلم يا منسوب كل خليفة ... ويا فارس الهيجا ويا جبل الأرض
تلافيتني لما أتيتك عاريا ... بخير لحاف سابغ الطول والعرض
وأنبهت لي ذكري وما كان خاملا ... ولكن بعض الذكر أنبه من بعض
فقال: أين أنت من الرجز يا أخا بني سعد؟ فقلت: أنا أرجز الناس، قال: فأنشدني بعض رجزك، فأذهب الله عني كل ما كنت أحفظه(8/362)
مما قلت، فأنشدته أرجوزة للعجاج، فلما أمعنت فيها قال: حسبك، أنا أعلم بها منك، وأعرض عني فظننت أنه مقتني على كذبي إياه.
وَحَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيد يقول: أخبرني من سمع مسلمة بن عبد الملك وذكر رجل فقيل هو قنوع. فقال: إن القناعة أحد اليسارين، أو قال أحد المالين.
وقال هشام بن محمد الكلبي: كانت عند مسلمة بن عبد الملك الرباب بنت زفر بن الحارث الكلابي، فكان يأذن لأخويها الهذيل وكوثر أول الناس، فقال عاصم بن عبد الملك، وهو أبو زفر بن عاصم الهلالي:
أمسلم قد منيتني ووعدتني ... مواعيد صدق إن رجعت مؤمرا
أيدعى الهذيل ثُمَّ أدعى وراءه ... فيا لك مدعا ما أذل وأحقرا
وكيف ولم يشفع لي الليل كله ... شفيع إذا ألقى قناعا ومئزرا
فلست براض عنك حَتَّى تحبني ... كحبك صهريك الهذيل وكوثرا
فقال الهذيل:
ما فخر فخار علي وإنما ... نشأنا وأمانا معا أمتان
أَبِي كان خير من أبيك وأفضلت ... عليك قديما جرأتي ولساني
ورثى عبد الله بن عبد الأعلى مسلمة فقال:
أبا سعيد أراك الله عافية ... فيها لروحك عند العسر تيسير
فقد أقمت قناة الحق فاعتدلت ... إذ أنت للدين مما نابه سور
فولد مسلمة بن عبد الملك: سعيد الأكبر وأمه أم ولد، وسعيدا الأصغر أمه الزعوم بنت قيس بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي.(8/363)
قالوا: ولما قتل مسلمة يزيد بن المهلب، جمع له يزيد بن عبد الملك العراقين، فولى ذا الشامة محمد بْن الوليد بْن عقبة بْن أَبِي معيط الكوفة.
وقال المدائني: أخذ مسلمة من عسكر بني المهلب ألفين وثمانمائة:
فبعث بهم إلى ذي الشامة وكان على الكوفة، وصاحب شرطه العريان بن الهيثم، فقال ذو الشامة: يا أبا الحكم لست من هؤلاء في شيء فشأنك بهم، فقتل منهم من كان من بني تميم، ولم يقتل اليمانية والربعية. فقال حاجب بن ذبيان المازني:
لعمري لقد خاضت معيط دماءنا ... بأسيافهم حتى انتهى بهم الوحل
وما حمل الأقوام أثقل من دم ... حرام ولا ذحل إذا اتبع الذحل
وقال أبو نعيم الفضل بن دكين عن موسى بن قيس: أقبل مسلمة حتى نزل الحيرة فأتاه مسلمة بن كهيل، وزبيد اليامي فأعطاهما خمسمائة خمسمائة.
حدثني عمر بن محمد عن أبي نعيم عن زهير بن معاوية قال: رأيت مسلمة يأكل هكذا بأربع أصابع.
وحدثني عمرو عن أبي نعيم قال: سمعت سفيان يقول: قال عمر بن عبد العزيز لمسلمة: إذا مت فارفع لبنة من قبري، فانظر ما خرجت به من الدنيا. قال: ففعل فلم يزل ذلك يعرف فيه.
وقال المدائني عن رجل عن ابن عياش قال: لم يرفع مسلمة بن عبد الملك من الخراج كبير شيء فأراد يزيد بن عبد الملك عزله فاستحيا منه فكتب إليه: استخلف على عملك وأقدم، ويقال: بل شاور مسلمة عَبْد العزيز بْن حاتم بْن النعمان الباهلي في الشخوص إلى يزيد زائرا، فقال: أمن(8/364)
شوق بك إليه، إنك لطروب، وإن عهدك به لقريب. قال: لا بد من ذلك. قال: فإنك لا تخرج من عملك حتى يلقاك وال مكانك.
فلما بلغ دورين [1] لقيه عمر بن هبيرة على خمس من دواب البريد فقال: إلى أين يا بن هبيرة؟ قال: وجهني أمير المؤمنين لحيازة أموال آل المهلب، فلما فارقه أتاه عبد العزيز بن حاتم فقال له: قد أنبأتك أن سيلقاك وال مكانك، قال: فإنه قال لي كذا. فقال: وا عجبا يصرف عن الجزيرة ويوجه لحيازة أموال آل المهلب وليس معه إليك كتاب بمعاونته على ما وجه له.
فلم يلبث أن جاءه عزل ابن هبيرة عماله وغلظته عليهم.
وقال ذو الشامة يرثي مسلمة:
ضاق صدري وعيل صبري فلا ... صبر دون ما أراه أتاكا
كل ميت قد اعتفرت فلم أجزع ... عليه إذا جاور الهلاكا
قبل ميت وقبل قبر على الخابور ... ولم استطع عليه اتّراكا
قالوا: ودخل أعرابي على مسلمة فقال: يا بن الخليفة زرتك وأنت غرة مضر وحسيبها حين تذكر، قد تعطفت عليك الأملاك فليس يخاف ضيفك الهلاك، وأنت في فرع نضار، ورثته عن ذوي الأخطار، ولك يد تمطر الندى، وأخرى تقتل العدى، وقد رزقت من الناس الحمد، فدل عليك فضلك، فقال مسلمة: يا أعرابي إنك لفصيح، قال: أجل وإني
__________
[1] دوران: موضع خلف جسر الكوفة، وهناك دوران أخرى من قرى فم الصلح من نواحي واسط. معجم البلدان.(8/365)
لصريح، فقال مسلمة: قلما تجد أعرابيا عاقلًا قال: وما يذهب عقله إذا كان كاملًا؟ قال: قلة مخالطته الناس. فقال: ذلك أكيد له عند الناس، قال مسلمة: وأني له بذلك وهو لا يرى القتال؟ قال: يكون غمرا فيجترئ على الأبطال، قال مسلمة: احتكم يا أعرابي. قال: عشر جلال تمر، وعشر أعنز، وقطيعة للعيال، وجملًا نحمل عليه متاعا وثلاثين درهما، فأمر له بضعف ما طلب.(8/366)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر هشام بن عبد الملك بن مروان
هشام بن عبد الملك بن مروان، ويكنى أبا الوليد، وكان أحول بخيلًا، وأمه أم هشام واسمها فاطمة بنت هِشَام بْن إِسْمَاعِيل بْن هِشَام بْن الوليد بْن المغيرة بْن عَبْد اللَّه بْن عمرو بن مخزوم، ويقال عائشة بنت هشام، ويقال مريم بنت هشام، وكانت أمه حمقاء أمرها أهلها ألا تكلم عبد الملك حتى تلد، وكانت تثني الوسادة ثم تركبها وتزجرها، وتشتري الكندر [1] فتمضغه وتجعل منه تماثيل، وتضع التماثيل على الوسائد، وقد سمت كل تمثال باسم وتنادي: يا فلانة يا فلانة، فطلقها عبد الملك، وسار إلى مصعب وهي حامل فلما قتله بلغه مولد هشام فسماه منصورا تفاؤلا بذلك، وسمته أمه هشاما باسم أبيها.
وولد هشام بن عبد الملك عام قتل مصعب سنة اثنتين وسبعين.
وولد هشام: مسلمة أبا شاكر، وأمه أم حكيم بنت يحيى بن الحكم، ويقال هي أم حكيم بنت الحارث بن الحكم.
__________
[1] الكندر: نوع من العلك. القاموس.(8/367)
وسعيدا، أمه أم ولد، ويقال أمه أم عثمان بنت سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بن عفان.
ومعاوية، وأمه عبدة بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد بْن معاوية بن أبي سفيان.
وعبد الملك، وأمه مخزومية.
محمدا، أمه الطليحة، ويقال أم ولد.
ومروان: درج صغيرا وأمه أم ولد.
وتزوج هشام من النساء: أم حكيم بنت يحيى بن الحكم. وحفصة بنت عمران بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّه، وعبدة بنت عبد اللَّه الأسوار بْن يزيد بْن مُعَاوِيَة. ورقية بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان وأمها أم عمر بنت مروان، ولدت له عائشة بنت هشام، تزوجها عبيد الله بن مروان بن محمد، ويقال عبد الله، وعبيد الله أصح.
وأم سلمة بنت عبد الرحمن بن سهيل بن عمرو. وأم عبد الملك المخزومية.
وأتت هشاما الخلافة وهو بالزيتونة [1] ، ومات هشام بالرصافة التي بقرب الرقة في شهر ربيع الآخر لست خلون منه سنة خمس وعشرين ومائة، وصلى عليه ابنه مسلمة، ويقال بعض ولده غير مسلمة، وكان خلافته عشرين سنة إلا خمسة أشهر. ويقال إنه مات ليلة الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة خمس وعشرين ومائة، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة.
__________
[1] الزيتونة: موضع كان ينزله هشام بن عبد الملك في بادية الشام.(8/368)
ويقال كانت خلافته تسع عشرة سنة وسبعة أشهر وأحدا وعشرين يوما، ومات وله أربع وخمسون سنة.
قال المدائني: كان على شرطة هشام كعب بن حامد العبسي ثلاث عشرة سنة ثم عزله وولاه أرمينية بعد الجراح بن عبد الله الحكمي، وولى الشرط يزيد بن يعلى بن الضخم العبسي.
وولى الرسائل سالم بن عبد الرحمن مولى سعيد بن عبد الملك بن مروان، أو المنذر بن عبد الملك.
وولى الحرس نصرا مولاه ثلاث سنين، ثم ولى الحرس الربيع مولى بني الحريش وهو الربيع بن شابور، وولاه أيضا خاتم الخلافة.
وولى ديوان الخراج والجند أسامة بن زيد، ثم عزله، وولى ابن الحبحاب، ثم ولى ابن الحبحاب مصر وصير مكانه على ديوان الخراج والجند سعيد بن عقبة مولى بني الحارث بن كعب.
وكان قاضي هشام نمير بن أوس الأشعري، ثم يزيد بن أبي مالك الهمداني.
قال أبو الحسن علي بن محمد المدائني: لما خلع يزيد بن المهلب وجه إليه يزيد بن عبد الملك مسلمة بْن عَبْد الملك والعباس بْن الْوَلِيد بن عبد الملك، وقال: أمير الجيش مسلمة فإن حدث به حدث فالعباس بن الوليد، فقال العباس بن الوليد ليزيد: يا أمير المؤمنين، إن أهل العراق قوم غدر كثير إرجافهم وأنت توجهني محاربا والأحداث تحدث ولا آمن أن يرجف أهل العراق ويقولوا: مات أمير المؤمنين، ولم يعهد فيفت ذلك في(8/369)
أعضاد أهل الشام ويدخلهم له الوهن والفشل، فلو بايعت لعبد العزيز بن الوليد، قال: غدا إن شاء الله.
وبلغ مسلمة بن عبد الملك ذلك فدخل على يزيد فقال: يا أمير المؤمنين، أولد عبد الملك أحب إليك أم ولد الوليد؟. قال: ولد عبد الملك إخوتي وأحب إلي، قال: فابن أخيك أحق بالخلافة من أخيك؟ قال: لا.
قال: أفتبايع لعبد العزيز؟ قال: لا، غدا أبايع لهشام أخي وبعده للوليد ابني.
وبلغ عبد العزيز قوله، وأتاه مولى له وهو لا يعرف الخبر فقال له:
يا أبا الأصبغ غدا نبايع لك. قال عبد العزيز: هيهات، أفسد ذلك علينا مسلمة ونقضه.
فلما كان الغد بايع يزيد لهشام، ومن بعده لابنه الوليد بن يزيد، فكان إذا نظر إلى الوليد قال: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك.
المدائني أن عبد الملك بن عياش قال لهشام قبل الخلافة، وكان يسحب ثيابه: قد أطلت قميصك يا أبا الوليد، قال: وما يضرك؟ قال، إنك تجره في الطين فارفعه. قال: وما ينفعك؟.
المدائني عن الحارث بن يزيد قال: حدثني مولى لهشام قال: بعث معي مولى لهشام كان على بعض ضياعه بطائرين ظريفين فدخلت عليه وهو جالس على سرير في عرصة الدار، فجعل ينظر إليهما، فقلت: يا أمير المؤمنين جائزتي. فقال: ويلك وما جائزة طيرين؟. فقلت: ما كان.
فقال: خذ أحدهما، فعدوت في الدار لآخذ أحدهما فقال: مالك؟.(8/370)
قلت: أختار أحدهما. فقال: أو تختار أيضا وتدع شرهما؟. قلت: نعم.
قال: دعهما ونعطيك خمسين درهما.
قال: وكتب سليمان بن هشام إلى أبيه: «إن بغلتي قد عجزت فإن رأى أمير المؤمنين أن يأمر لي بدابة فعل» ، فكتب إليه: «قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وقد ظن أمير المؤمنين أن عجز بغلتك عنك من قلة تعهدك لها، فإن علفها يضيع، فتعهد دابتك وقم عليها وسيرى أمير المؤمنين رأيه في حملانك إن شاء الله، والسلام» .
قال: وكتب بعض عمال هشام إليه: «إني قد بعثت إلى أمير المؤمنين بسلة فيها دراقن فليكتب إليّ بوصلها» . فكتب إليه: «قد بلغ أمير المؤمنين كتابك ووصل الدراقن وأعجبه، فزد أمير المؤمنين منه، واستوثق من الوعاء الذي توعيه إياه، والسلام» .
وكتب إلى بعضهم: «قد أتت أمير المؤمنين الكمأة التي بعثت بها وهي خمسون وقد تغير بعضها ولم يؤت ذلك إلا من قبل حشوها، فإذا بعثت إلى أمير المؤمنين بشيء من الكمأة فأجد الحشو في طرفه بالرمل حتى لا يضطرب ولا يصيب بعضه بعضا إن شاء الله، والسلام» .
قال: وكان سالم بن عبد الرحمن كاتبا لهشام، ثم إنه صير ابنه كاتبا له يخلفه عنده، فقال له: إن ابنك يا سالم لبيب فقال، يا أمير المؤمنين أخا يرك به أي بنيك شئت.
المدائني قال: قال هشام لأبي أيوب: أخرج فأنظر كيف ترى السحاب، فخرج فنظر فقال: قد تفرق وإن اجتمع فعسى.(8/371)
المدائني قال: قال هشام: إن لأهل العراق رائدين لا يكذبان دجلة والفرات.
المدائني قال، قدم علباء بن منظور الليثي على هشام فأنشده:
إنا أناس ميت ديواننا ... ومتى يصبه ندى الخليفة ينشر
فقال: ما أحسن ما قلت وسألت، وأمر له بخمسمائة درهم وأن يلحق له عيل، فقدم البصرة فقال الفرزدق: الحذيا [1] ، فأعطاه مائة درهم، فقال: اجعلها يا أمير المؤمنين لابنتي، قال: إنما حاولت الجريبين، وكان لكل واحد من الذرية في كل عام مائة درهم، وفي كل شهر جريبان، وإنما ذلك لعيال أهل الديوان.
وقال هشام للأبرش- وهو سعيد بن الوليد بن عمرو بن جبلة بن وائل بن قيس بن بكر بن عامر، وهو الجلاح بن عوف بن بكر بن بكر بن عامر الأكبر بن عوف بن بكر بْن عوف بْن عذرة بْن زيد اللات بن رفيدة بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان، وكان الأبرش جليسه وأنيسه-: كيف تكون أخص الناس بي وأنت أخص الناس بمسلمة أخي؟.
فتمثل الأبرش:
أؤاخي رجالًا لست أخبر بعضهم ... بأسرار بعض إن قلبي واسع
قال: وقال الأبرش لهشام: يا أمير المؤمنين، لو ينادى في عرض الناس يا مفلس فسمع رجل من جلسائك نداءه ما ظن أنه عنى غيره.
المدائني عن عمر بن يزيد عن الوليد بن خليد قال: رآني هشام على برذون طخاري فقال: ما هذا البرذون؟ قلت: حملني عليه الجنيد بن عبد
__________
[1] الحذيا: هدية البشارة، والقسمة من الغنيمة. القاموس.(8/372)
الرحمن المري. فحسدني وقال، لقد كثرت الطخارية، ولقد مات عبد الملك وما في دوابه إلا برذون طخاري، فتنافسه ولده أيهم يأخذه وما منهم أحد إلا وهو يرى أنه إن لم يأخذه لم يرث من أبيه شيئا، فصار لي فما ورثت من عبد الملك شيئا كان أحب إلي منه.
المدائني عن يزيد بن الحارث قال: كان هشام وبنو مروان كلهم لا يكسون الناس الخز الأحمر والأصفر ويكسونهم ما وراء ذلك من الألوان، ويدخرون الأحمر والأصفر لكسوتهم.
قال: وقسم هشام تمرا وجبنا، فقال إبراهيم بن يزيد بن هبيرة السكوني، أخي مالك بن هبيرة السكوني لمولى له: انطلق فجئنا بشيء من تمر العراق وجبنه، فأعطى قوصرة وجبنه، قال مولى ابراهيم: فألفيت القوصرة وما فيها إلا تمر قد سوس وفسد، وإذا الجبنة قد قشرها الفأر وأكل جانبها وثقبها.
ودخل أبو النجم العجلي على هشام فقال له: كيف رأيك في النساء فقال: ما لي عندهن خير ولا لهن عندي مير. قال: ما ظنك بأمير المؤمنين؟
قال: مثل ظني بنفسي، فبعث هشام إلى جواريه فأخبرهن بما قال أبو النجم، فقلن: كذب عدو الله ما منا جارية تصلي صلاة حتى تغتسل، فوهب لأبي النجم جارية، ثم سأله عما صنع فأنشده:
نظرت فأعجبها الذي في درعها ... من حسنه ونظرت في سر باليا
ورأت لها كفلًا ينوء بخصرها ... ثقلا وأجثم في المجسّة [1] رابيا
__________
[1] بهامش الأصل: في المحسة.(8/373)
ورأيت منتشر العجان مقلصا ... رخوا حمائلة وجلدا باليا
أدني له الركب الحليق كأنما ... أدنى إليه عقاربا وأفاعيا
المدائني قال: كان سهيل بن أبيض أبو البيضاء من أهل المدينة، وكان مضحكًا، وكان هشام والوليد يستملحان حديثه وشعره، فقال له هشام: كيف قلت لداود وامرأته؟. قال: قلت:
إنما دل عليه ... مركن كان استعاره
فله ما شاء عندي ... إن تخطى العود فاره
أو رآه المرء غضياء ... فلم يوجع فقاره
وقال غير المدائني: كان داود هذا استعار مركنا يزرع فيه شيئا: أو يستعمله في بعض الأمر، فرأته امرأته فأعجبها فضمها إليه بغير ولي ولا شهود، فلذلك قال إنما دل عليه هذا المركن، يقول: فله ما شاء إن لم يأخذه غضياء بن عياش بن الزبرقان بن بدر، وكان على شرطة المدينة، فيضربه. وقوله: تخطى العود، يعني بالعود العصا. والفار العضل.
وكان غضياء يكثر ضرب عضل الرجلين. والعرب تقول: أشبع جارك، وأوجع فارك، أي أوجع عضلك حتى يهزل. وقال لامرأة داود:
وجدوا جونة سوء ... بين هرشى والأصافر
وجدوا فيها متاعا ... ليس من زاد المسافر
وجدوا كارين فيها ... من أديم غير ظاهر
وجدوا فيها خطايا ... عجزت عنها الأباعر
قال أبو اليقظان: ولد عياش بن الزبرقان- واسم الزبرقان حصين بْن بدر بْن امرئ القيس بْن خلف بْن بهدلة بْن عوف بْن كعب بْن سعد:(8/374)
غضياء، وكان على شرطة المدينة لخالد بْن عَبْد الملك بْن الْحَارِث بن أبي الحكم بن أبي العاص في أول أيام هشام، وكانت أم عبد الملك بن الحارث ابنة الزبرقان بن بدر، وغضياء القائل:
غريب في ديار بني تميم ... ولا يخزي عشيرتي اغترابي
وعياش الذي قال له جرير بن عطية:
أعياش قد ذاق القيون مياسمي ... وأوقدت ناري فادن عياش فاصطلي [1]
فقال: إني إذا لمقرور.
وحدثني العمري عَنِ الهيثم بْن عدي قَالَ: دخلت جارية لهشام عليه، وعنده الأبرش فقال: يا أبرش أهبها لك؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين وهو يضحك ويغمز هشاما، فقالت وفطنت: أنت والله يا أبرش أطمع من أشعب. فقال هشام: ومن أشعب؟ فقيل: مضحك مليح يكون بالمدينة، وحدث حديثه. فقال: اكتبوا في أشخاصه، فقال له الأبرش:
أيتحدث الناس بأنك كتبت إلى عاملك على مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم فأشخصت منها مضحكًا لتلهو به؟ فقال: أمسكوا، أمسكوا فإنها وصمة عظيمة، ثم قال شيئا زعموا أنه لم يقل قط شيئا غيره، ويقال إنه إنما تمثل به:
إذا أنت لم تعص الهوى قادك الهوى ... إلى بعض ما فيه عليك مقال
المدائني عن إبراهيم بن سعيد القرشي قال: رأى عبد الملك بن مروان بن الحكم في منامه كأن ابنة هشام بن إسماعيل فلقت رأسه فلطعت
__________
[1] ديوان جرير ص 368 مع فوارق.(8/375)
منه عشرين لطعة، فغمه ذلك، فأرسل إلى سعيد بن المسيب من قصها عليه، فقال سعيد: تلد غلاما يملك عشرين سنة، فولدت هشاما.
قالوا: وأقطع هشام الضيعة التي تدعى دورين فأرسل في قبضها فإذا هي خراب، فقال لدويد وهو كاتب كان بالشام: ويحك كيف الحيلة؟.
قال: ما تجعل لي؟ قال: أربعمائة دينار. قال: فكتب دويد: وقرأها. ثم أمضاها في الدواوين فاتسعت الضيعة وفشت، فلما ولي هشام دخل عليه دويد كالمتقرب بما كان فعل، فلما وقعت عين هشام عليه قال: وقراها، لا يلي لي والله ولاية أبدًا، فأخرجه.
قال: وكان هشام يوما على باب يزيد بن عبد الملك، فنظر إلى بغال تعرض عليه وفيها بغل لم ير مثله حسنا وطهارة خلق، ولين سير فقال:
ما يصنع أمير المؤمنين بهذه الدواب كلها لو أن رجلًا اجتزأ بهذا البغل وحده كفاه، فلما ولي هشام اتخذ البراذين الطخارية والبغال فقال له الرجل الذي حضره على باب يزيد: أتذكر يوم قلت في البغل كذا وكذا؟. قال: نعم، وأنا عليه، ولكنا نرى شيئا نحسد الناس عليه فنحب أن نحويه دونهم.
قالوا: ولما أخرج دويد ثقله أخبر هشام أنه على أربعين جملًا، فأرسل فأخذه. وطلب هشام عسلًا من الخزانة التي هي بالهني والمري [1] والخزانة قرية، فقيل له إن الفقراء والمرضى كانوا يلعقونه فمنع الناس من تلك الكواير، وكتب بجمع العسل وطين الأبواب.
__________
[1] نهران كانا بالرقة.(8/376)
المدائني قال: كان هشام يتكلم بكلمات في العيدين في خطبته لا يقولهن في غير هذين اليومين، ثم يخطب بعد ذلك: «الحمد لله ما شاء صنع، وما شاء أعطى، وما شاء منع، ومن شاء خفض، ومن شاء رفع، ومن شاء ضر، ومن شاء نفع» .
المدائني عن عبد الله بن سلم القرشي عن خليد بن عجلان قال:
خرج هشام وليس بخليفة يريد بيت المقدس، وأتى دمشق، فدخل على محمد بن الضحاك بن قيس الفهري ودخلنا معه، فقال له محمد وراءه يسحب ثيابه: يا أبا الوليد أدركت أمير المؤمنين عبد الملك؟ فقال: نعم وكان والله مشمرا مهجرا. قال: فما يمنعك من ذلك؟. قال: يمنعني قول الشاعر لأبيك:
قصير الثياب فاحش عند بابه ... وشر قريش في قريش مركبا
حدثني العمري عَنِ الهيثم بْن عدي قَالَ: كان هشام يلاعب الأبرش بالشطرنج، وقد أشرف هشام على أن يغلب الأبرش، فاستأذن الحاجب لرجل من بني مخزوم من أخواله فأمر بإدخاله، وغطيت الشطرنج بمنديل، فلما دخل المخزومي سلم وجلس، فقال له هشام: يا خال أتقرأ كتاب الله؟ قال: ما أقرأ منه إلا ما أقيم به صلاتي. قال: أفتروي من الآثار شيئا؟ قال: لا. قال: أفتعرف من أحاديث العرب وأشعارها وأيامها ما يعرفه مثلك؟ قال: لا. قال: أفتنسب قريشا وسائر نزار؟ قال: لا أحسن من النسب شيئا. قال: يا غلام! ارفع المنديل فليس من خالنا حشمة، وأخذ في لعبه.(8/377)
وقال الهيثم: عرض هشام الجند يوما فنفر برجل من أهل حمص فرسه وقد دنا من هشام، فقال له: ويلك أتركب مثل هذه الفرس فإن نفر بك في حرب صرعك فهلكت، قال: والرحمن ما هذه عادته ولكنه شبهك بأبي جبرون البيطار، فقال له هشام: اغرب لعنك الله، وضحك.
المدائني وغيره قالوا: قال مسلمة بن عبد الملك لهشام- وتلاحيا في شيء: كيف ترجو الخلافة وأنت جبان بخيل؟ قال: لأني عفيف حليم.
وقال هشام ابن الكلبي: قال هشام لمن حضره: من أنعم الناس عيشا؟ فقال بعضهم: أمير المؤمنين، وقال بعضهم: ولد أمير المؤمنين.
فقال رجل من الحرس: أنعم الناس عيشا ابن كفيته أمر دنياه، وليس يهتم بأمر آخرته.
المدائني قال: كان المنصور يذكر هشاما فيقول: كان رجل القوم.
أبو الحسن المدائني عن محمد بن الفضل قال: بعث هشام إلى أبي حازم الأعرج فأبطأ عليه، ثم أتاه فقال: ما منعك من إتياني؟ فقال: والله لولا مخافة شرك ما أتيتك. قال: ما ترى في إنفاق هذا المال؟ قال: إن أخذته من حله ووضعته في حقه سلمت، وإلا فهو ما تعلم.
المدائني عن مسلمة بْن محارب قَالَ: كان هشام إذا أحدث قال: القوا عني مؤونة التحفظ. قال: ودخل سليمان بن سعيد الخشني [1] ، أو ابنه على هشام، ومعه كتب يريد عرضها، فقال هشام: أخّرها فإني محموم، وناوله
__________
[1] بهامش الأصل: حشن بن النمر بن وبره. واسم خشن وائل.(8/378)
يده فمس عرقه ثم قال: ما أرى بك حمى، ثم قال: يا بن اللخناء تكذبني. لا تقربني، وأمر بعزله عن الديوان.
المدائني عن شبيب بن شيبة قال: كان المنصور إذا ذكر بني مروان يقول: أما عبد الملك فكان جبارا لا يبالي ما أقدم عليه، وأما الوليد فكان مجنونا، وأما سليمان فكان همه بطنه وفرجه، وأما عمر بْن عَبْد العزيز فكان أعور بين عميان، ورجل القوم هشام.
قالوا: وكان الجعد بن درهم مؤدب مروان ومعلمه، وكان دهريا، ويقال كان معتزليا شهد عليه ميمون بن مهران أنه قال له ووعظه: لشَاةُ قياد أحَبّ إلي مِمَّا تدين بِهِ. فَقَالَ لَهُ: قتلك اللَّه وَهُوَ قاتِلُك، ويقال إن ميمون بن مهران وعدة شهدوا عند هشام على الجعد بن درهم بالكفر، فطلبه هشام فهرب إِلَى حران، ثُمَّ إنه ظفر بِهِ فحمل إلى هشام فأخرجه من الشام إِلَى العراق، وكتب إِلَى خَالِد بْن عَبْدِ الله القسري وهو عامله على العراق بأن يحبسه فلم يزل محبوسا حينا، ثم إن امرأته رفعت إلى هشام في أمره تعلمه طول حبسه وسوء حاله وحال عياله، فقال: أو حي هو؟ وكتب إلى خالد في قتله، فقال خالد في يوم أضحى: أيها النَّاس انصرفوا إِلَى أضاحيكم فَإِنِّي مُضَحٍّ بعدو الله الجعد بن درهم، وكان الجعد مولى سويد بن غفلة الجعفي.
قالوا: وكان غيلان يقول: كلمت الجعد فوجدته معطلًا.
المدائني عن ريسان الأعرجي عن عقال بن شبة قال: دخلت على هشام، وعليه قباء أخضر، فجعلت أتأمله، فقال: مالك تتأمل قبائي؟
قلت: رأيت عليك قبل الخلافة قباء أخضر شبهته بهذا القباء، قال: هو(8/379)
هو، والذي لا إله غيره، ومالي قباء سواه، وما ترون من جمعي المال وصونه إلا لكم.
وقال المدائني: كان عقال بن شبة مع هشام، وكان شبه أبو عقال مع عبد الملك، وكان عقال يقول: دخلت على هشام فدخلت على رجل محشو عقلًا.
قالوا: وقال هشام لنسطاس أبي الزبير: أترى الناس يرضون بعدي بالوليد بن يزيد؟ قال: قلت: يطيل الله عمرك يا أمير يا أمير المؤمنين ويبقيك بعده، قال: لا بد من الموت. أفترى الناس يرضون به؟ قلت:
يا أمير المؤمنين البيعة له في أعناق الناس، قال: لئن رضي الناس بالوليد إن الحديث الذي روي: «إن من ولي الخلافة ثلاثة أيام لم يدخل النار» ، باطل.
قال الهيثم بن عدي: بعث يوسف بن عمر إلى هشام ياقوته حمراء يخرج طرفاها من الكف، وحبة لؤلؤ أعظم ما يكون من الحب، قال الرسول: فدخلت على هشام فدنوت منه فلم أر وجهه من طول السرير وكثرة الفرش. فلما تناول الحجر والحبة قال: أكتب معك بوزنهما؟ قلت:
يا أمير المؤمنين هما أجل من أن يكتب بوزنهما، ومن أين يوجد مثلهما؟ قال:
صدقت.
وكانت الياقوتة للرائقة جارية خالد بن عبد الله القسري اشترتها بثلاثة وسبعين ألف دينار.(8/380)
المدائني وغيره أن هشاما أنشد بيت حسان بن ثابت الأنصاري:
أتانا رسول الله لما تجهمت ... له الأرض إذ يرميه كل مفوق [1]
وهو يروي «حين تنكرت له الأرض إذ يرميه كل مفوق» .
وأنشد أيضا شعر أبي قيس:
ثوى فِي قريش بضع عشرة حجة ... يذكِّر لو يلقى صديقا مؤاتيا
فقال: ما رأيت أحد أشد امتنانا على الله ورسوله من هؤلاء اليهود- يعني الأنصار-.
ومات هشام بالذبحة فروي عن سالم أبي العلاء أنه قال: خرج علينا هشام يوما وهو كئيب، يعرف ذلك فيه، مسترخي الثياب، وقد أرخى عنان دابته فقال: ادعو الأبرش، فدعي فسار بين الأبرش وبيني، فقال الأبرش: يا أمير المؤمنين لقد رأيت منك ما غمني. قال: ويحك كيف لا أغتم وقد زعم أهل العلم أني ميت إلى ثلاثة وثلاثين يوما، قال الأبرش:
فلما انصرفت إلى منزلي كتبت: زعم أمير المؤمنين أنه يسافر يوم كذا، فلما كانت ليلة اليوم الذي كمل الثلاثة والثلاثين أتاني رسول هشام فقال: أجب واحمل معك دواء الذبحة، وقد كانت الذبحة عرضت له مرة فتداوى بذلك الدواء فانتفع به فأتيته ومعي الدواء فتغرغر به، فازداد الوجع شدة، ثم سكن، فقال: قد سكن بعض السكون فانصرف إلى أهلك وخلف الدواء عندي، ففعلت، فما استقررت في منزلي حتى سمعت الصراخ فقالوا:
مات أمير المؤمنين، فلما مات أغلق الخزان الأبواب، فطلبوا قمقما يسخن فيه الماء لغسله فما وجدوه، حتى استعاروا قمقما.
__________
[1] ديوان حسان ج 1 ص 185.(8/381)
وكان الوليد شخص عن الرصافة لكثرة عبث هشام به، وخلف عياض بن مسلم مولى عبد الملك بن مروان، وهو كاتبه، بالرصافة، وأمره أن يكتب إليه بالأخبار، فعتب عليه هشام فضربه وحبسه وألبسه المسوح، فلما صار هشام إلى الحد الذي لا ترجى له فيه الحياة، أرسل عياض إلى الخزان أن احتفظوا بما في أيديكم فلا يصلن أحد منه إلى شيء.
وأفاق هشام إفاقة فطلب شيئا فمنعه، فقال: أرانا كنا خزانا للوليد.
ثم مات هشام من ساعته، فخرج عياض من الحبس، وختم أبواب الخزائن، وأمر بهشام فأنزل عن فرشه وحازها، فما وجد له كفن، حتى كفنه غالب مولى هشام.
وقال مروان بن شجاع مولى مروان: كنت مع محمد بن هشام، فأرسل يوما إلي فدخلت عليه وقد غضب وهو يتلهف، فقلت: مالك؟
قال: رجل نصراني شج غلامي، وجعل يسبه، فقلت: على رسلك.
قال: ما أصنع؟ قلت: نرفعه إلى القاضي، قال: أما غير هذا؟ قلت:
لا. فقال خصي له: أنا أكفيك. فذهب فضربه. وبلغ ذلك هشاما فطلب الخصيّ فعاذ بمحمد، فقال محمد بن هشام: لم آمرك، وقال الخصي: قد والله أمرني، فضرب هشام الخصي، وشتم ابنه وهجره أياما ثم رضي عنه.
قالوا: وكان في موكب هشام ثمانمائة فارس: أربعمائة من الشرط، وأربعمائة من الحرس، ولم يكن أحد يسير في موكب إلا مسلمة بن عبد الملك.(8/382)
ورأى هشام ذات يوم سالما كاتبه في موكب فزجره، وقال: لا أعلمن ما سرت في موكب، فكان يقدم الرجل الغريب فيسير معه، فيقف سالم ويقول: ما حاجتك، ويمنعه أن يسير معه.
وكان سالم عظيم القدر عند هشام، وكان يتمثل بشعر النعمان بن بشير في غلام له، كان يقال له سالم وهو:
يذودونني عن سالم وأذودهم ... وجلدة بين العين والأنف سالم
وكان حاجب هشام يسير وحده، ولم يكن أحد من بني مروان يأخذ عطاء إلا وعليه الغزو، فمنهم من يغزو بنفسه، ومنهم من يخرج بديلًا، وكان لهشام مولى يقال له يعقوب فكان يأخذ عطاء هشام، وهو مائتا دينار ودينار، يفضل بدينار، فيأخذ يعقوب ذلك ويغزو عنه.
وكانوا يصيرون أنفسهم في أعوان الديوان، وفي بعض ما يجوز لهم معه المقام، فيوضع عنهم الغزو. فكان دَاوُد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس، وعيسى بن علي، وهما لأم في أعوان السوق بالعراق لخالد بن عبد الله القسري، فأقاما عنده ووصلهما، ولولا ذلك لم يقدر على تصييرهما عنده، ولأخذا بالغزو فجعلهما في الأعوان، وكانا يسامرانه ويحدثانه.
قالوا: وكان هشام أراد أن يصير ابنه مسلمة ولي عهده بعد الوليد بن يزيد، فقال الكميت بن يزيد الأسدي:
إن الخلافة كائن أوتادها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم
قالوا: فأضر هشام بالوليد بن يزيد، فدخل عليه يوما فقال له العباس بن الوليد بن عبد الملك: يا أبا العباس كيف حبك للروميات؟
قال: إني لأحبهن، وكيف لا نحب من لا يزال يأتي بمثلك. فترك الوليد(8/383)
الرصافة وخرج، فكان بالأزرق من أرض بلقين وفزارة، فكان يزيد بن الوليد بن عبد الملك يكتب إلى الوليد بما أجمعوا عليه من خلعه.
قالوا: وضم هشام إلى ولده: سعيد بن عمرو بن جعدة بن هبيرة المخزومي، وقالوا: ولى هشام مولى له ضيعة فعمرها حتى جاءت بغلة كثيرة، وعمرها أيضا فأضعفت غلتها وحمل ما ارتفع من مالها مع ابنه، فقدم به على هشام فجزى أباه خيرا، فلما سمع ذلك انبسط فقال: يا أمير المؤمنين إن لي إليك حاجة. قال: وما هي؟ قال: زيادة عشرة دنانير في عطائي. قال: ما يظن أحدكم أن زيادة عشرة دنانير في العطاء إلا نقد الجوز، لا لعمري لا أفعل.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن سعد عن الواقدي عن ابن جعدبة قَالَ: قَالَ هِشَامٌ:
لَوْ أَشَاءُ أَنْ أَقُولَ الشِّعْرَ لَقُلْتُهُ، وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْهُ إِلا قَوْلُ مُعَاوِيَةَ، أَوْ قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: إِنَّ الشِّعْرَ أسرى خلال الدنيء، وَأَدْنَى خِلالِ السُّرَى، قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «أن مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً» ] فَهَلْ تَكُونُ حِكْمَةٌ مِنْ دنيء.
حدثني أبو محمد النحوي عن أبي عبيدة قال: حج هشام بن عبد الملك سنة ست ومائة، فأتى الكوفة فحج منها، فقال يزيد بن المر قال:
كنت في اكرياته، فلم يأمر لنا بشيء، فقلت لأصحابه: أنا أكلمه.
فوضعت غرائر وقمت عليها فقلت: يا أمير المؤمنين نحن أكرياؤك وخدامك. فأمر لنا بصلة.
قالوا: وقال إبراهيم بن هشام المخزومي: ما كان من هشام في حجة شيء أنكرناه، إلا حاديا حدا بين يديه وهو يسير فقال:(8/384)
إنَّ عليك أيها البختي ... أكرم من تحمله المطي
فقال: صدق فوك لعمر الله، وزوج ابنا له بالكوفة.
حدثني التوزي النحوي عن أبي عبيدة عن الزعبل بن الكلب العنبري قال: خازمت- يقول: عارضت- إلى هشام حين قدم يريد الحج فأهديت له ناقة فلم يقبلها، فلما قوضت سرادقاته ورفعت حجره واستوى في غرز [1] ناقته ناديت فقلت: يا أمير المؤمنين جعلت فداءك إنها مرباع هلواع مقراع حلباة ركباة. فضحك وأمر لي بصلة.
قال: المرباع: التي تربع إلى الصوت، مرباع: سريعة الحمل.
هلواع: حديدة القلب من الهلع. مقراع: تقر للفحل حتى يقرعها.
ويقال: ناقة حلباة ركباة وحلبانة ركبانة وحلبوت ركبوت.
حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن جده قال: قال هشام بن عبد الملك: اثنان يتعجلان النصب ولعلهما لا يظفرا بالبغية: الحريص في حرصه ومعلم البليد ما لا يبلغه فهمه.
المدائني قال: قال هشام لرجل متصل به سرقت له عشرة آلاف درهم: هل حدثت نفسك أن تفعل بها شيئا من أنواع البر؟ قال: لا.
قال: فهل حدثت نفسك أن تنفقها في شيء تتمتع به في الدنيا؟ قال: لا، قال: فخذ حجرا يزن عشرة آلاف درهم فضعه موضعها، فإن الحجر وتلك العشرة الآلاف سواء.
__________
[1] الغرز: الركاب.(8/385)
قالوا: وخطب هشام بنت القاسم بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بن عفان، وأم القاسم فاطمة بنت الحسين، وكان القاسم جلدا من رجال قريش فقال لرسوله: لا أزوجه حتى يقضي ديني ويأمر لي بعشرة آلاف درهم، ويعطي أخي عبد العزيز عشرة آلاف درهم، وآمنة أختي عشرة آلاف درهم.
فأدى الرسول قوله إلى هشام، فغضب هشام وشتمه، ثم بعث القاسم رسوله إلى هشام في حوائج له فقال: لا ولا نعمة عين لا تقضى له حاجة، فو الذي أكرمني بخلافته ما هممت بظلم مسلم ولا معاهد مذ وليتها ولا ظلم القاسم، ولم يقض حاجته.
فلما مات القاسم تزوج هشام امرأته، وزوج ابنه ابنة القاسم، وحملها إلى الشام، فبكى أهل المدينة جزعا على القاسم.
قالوا: وأهدى حسان النبطي لهشام بن عبد الملك هدايا كثيرة من ثياب وجوهر وغير ذلك فاستكثرها هشام، وقال: بيت المال أحق بهذه الهدايا، فأمر ببيعها فبلغ ثمنها خمسمائة ألف درهم فابتاعها حسان ممن اشتراها وحملها إلى هشام وقال: قد طابت لك فمر بقبضها. فأمر هشام فنودي: ألا إن حسان سيد موالي أمير المؤمنين.
قالوا: ودخل هشام الكوفة فنزل الحيرة فسمع أصوات المؤذنين بالكوفة للغداة فقال لخليفة خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسُري- وَكَانَ خَالِد عامل هشام على العراق، وخليفته بالكوفة العريان بن الهيثم-: ما هذه الأصوات؟
أتراهم فعلوها؟ قال: يا أمير المؤمنين هذه أصوات المؤذنين، فقال هشام:(8/386)
إن بلدا تبلغ أصوات مؤذنيه ما أسمع لبلد يجب حفظه وحفظ أهله. وكان جبانا.
وحج هشام فدخل عَلَى سَالِمِ بْنِ عَبْدَ اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّابِ وهو مريض فقال له: يا أبا عمر ألك حاجة؟ قال: اتق الله. قال: أوصني بأهلك. قال: هم في سعة من فضل الله. فمات في سنة ست ومائة وصلى عليه هشام.
حَدَّثَنَا الْعَمْرِيّ عَنِ الْهَيْثَم عَنِ ابن عياش قال: لما حج هشام فدخل المدينة قال لرجل من أصحابه: انظر من ترى في المسجد، قال: أرى رجلًا طوالًا أدلم. قال: هذا سالم بن عبد الله بن عمر، ادعه. فأتاه فقال: أجب أمير المؤمنين. فأرسل من يأتيك بثيابك. قال: ويحك يزور بيت الله زائره في ثوبين ولا أدخل على هشام فيهما. فلما دخل على هشام وصله بعشرة آلاف درهم.
ثم قدم المدينة منصرفا من الحج فقيل له إن سالما شديد الوجع، فدخل عليه فسأله عن حاله، ومات سالم فصلى عليه هشام وقال: ما أدري أي الأمرين أنا أشد به سرورا، إتمام حجي أم صلاتي على أبي عمر.
حدثني عُمَر بْن بكير عن هشام بْن مُحَمَّد الكلبي عن أبيه قال: حج هشام فلما قدم المدينة دعا سالم بن عبد الله فآنسه، ودعا له بصلة وقال: هذا بقية الناس وابن الفاروق وخير أهل زمانكم، ثم انصرف وقد حم فقال:
أترون الأحول لعقني بعينه، فكان هشام يقول: سروري بالصلاة على أبي عمر كسروري بتمام حجي أو كما قال.(8/387)
قالوا: وكان مما أنكر على هشام قوله لأشكون سليمان أخي يوم القيامة لاختياره يزيد بن عبد الملك علي.
قالوا: وأراد هشام أن يبايع لمسلمة بن هشام، ويخلع الوليد بن يزيد، فكاتب أهل الشام في ذلك فأجابه إلى إرادته خلق كثير، فكان ممن أجابه: سعيد بن عبد الملك، ومحمد، وإبراهيم ابنا هشام المخزومي، والوليد وعبد الملك ابنا القعقاع بن خليد العبسي، وغيرهم من بني أمية، فأضر بالوليد وأقصاه وكان يشتمه ويسفهه ويعيره بالشراب، وولى مسلمة بن هشام الموسم وأعطاه مالًا عظيما أمره أن يقسمه فقسمه فقال مولى من أهل المدينة:
يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا فاجر
يعرض بالوليد، وقال قوم أن هشاما عاب الوليد ووبخه في الشراب فقال:
يا أيها الباحث عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفا وممزوجة ... بالسخن أحيانا وبالفاتر [1]
فقال هشام لمسلمة: يعيرنا الوليد بشربك، فالزم الأدب، واحضر الصلوات، والزم مجلسي غدوة وعشية.
ويقال إن الذي قال هذا الشعر عبد الصمد بن عبد الأعلى أخو عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر.
__________
[1] شعر الوليد بن يزيد- ط. عمان 1979 ص 66.(8/388)
قالوا: وكان الخلفاء وأبناء الخلفاء من بني أمية يتبدون ويهربون من الطاعون، فينزلون البرية خارجا عن الناس، فلما أراد هشام أن يترك الرصافة قيل له: لا تخرجن فإن الخلفاء لا يطعنون ولم نر خليفة قط طعن، فقال: أبي تريدون أن تجربوا، الرصافة- وهي قرية- وابتنى قصرين وأقام بها، والرصافة رومية بناها بعض ملوك الروم، وهي تنسب إلى هشام.
ويقال إنه أراد أن يخرج من الرصافة إلى البادية فرارا من الطاعون، فقيل إنه لم يطعن بها أحد فقال: أبي تجربون.
قالوا: وأنشد أبو النجم هشاما أرجوزته اللامية حتى بلغ:
والشمس قد همت ولما تفعل ... فهي على الأفق كعين الأحول
فغضب هشام وأمر به فأخرج، وروي أيضا أن خالدا بعث إلى هشام بحاد فحدا بهذين البيتين فغضب هشام وطرده.
المدائني عن مسلمة أن الفرزدق حج عام حج هشام فوصله ابراهيم بن اسماعيل المخزومي بخمسمائة درهم فقال:
أميركم شر الولاة علمته ... وشر ولاة المؤمنين هشام [1]
فأراد إبراهيم أن يضربه فقيل: تضربه ثم تخلي عنه فيهجونا.
المدائني عن أبي عاصم عن رجل من بني ضبة قال: مر بي معاوية بن هشام وأنا في مزرعة لي قد اختبزت خبزة، فوقف علي فقلت: الغداء.
فنزل فأخرجتها ووضعتها في لبن فأكل، ثم جاء الناس فركب وثار بين يديه
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.(8/389)
ثعلب فركب في إثره، وعثر فرسه فسقط فاحتملوه ميتا. فقال هشام:
أرشحه للخلافة ويتبع كلبا.
وكانت عند معاوية امرأتان: أحداهما ابنة إسماعيل بن حربي فأخرج كل واحدة منهما من نصف الثمن بأربعين ألف درهم.
ورثى الكميت معاوية بقصيدة قال فيها:
سأبكيك للدنيا وللدين إنني ... رأيت يد المعروف بعدك شلت
المدائني قال: قال هشام لغيلان أبي مروان: ويحك يا غيلان قد أكثر الناس فيك، فتنازعنا في أمرك، فإن كان حقا اتبعناك، وإن كان باطلًا نزعت عنه.
وكان غيلان كاتبا من كتابهم، وهو مولاهم، فترك خدمتهم وبسط لسانه فيهم بسوء القول، فدعا هشام ميمون بن مهران ليكلمه فقال له:
يا ميمون سل فأقوى ما تكونون إذا سألتم، فقال ميمون: أشاء الله أن يعصى؟ قال: لا. قال: فعصي كارها؟ قال: هو كاره للعصيان الذي نهى عنه وليس هو بالمحمول على أمر يكرهه، ويقال إنه لم يجب بشيء وقال:
أقلني. فقال هشام: لا أقالني الله إن أقلتك، وأمر بقطع يديه ورجليه وسل لسانه، وألقي على مزبلة يراه الناس.
وكان من أصحاب الربيع [1] : خطبان، والوضين بن عطاء، وهما من أهل اليمن، فأما الربيع فرآه المنصور أمير المؤمنين بالبصرة عند عمرو بن
__________
[1] لعله الربيع بن صبيح السعدي المتوفي سنة 160 هـ. انظر: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار. طبعة الدار التونسية ص 93. وتهذيب التهذيب لابن حجر طبعة حيدر آباد 1302 هـ ج 3 ص 247.(8/390)
عبيد قبل الخلافة، فذكر محمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن فقال الربيع:
ما ندري ما محمد لم نره، وأما أنت فرجل منا نقول بما تقول به من الحق والتنزيه لله، قد عرفنا مذهبك وما أحد أحق بالخلافة منك.
فشكر له أبو جعفر ذاك فولاه دار الضرب بدمشق.
وكان عمر بن عبد العزيز ولاه [1] بيع خزائن بني مروان، فباع متاع عبد الملك، والوليد فنودي على جورب فبلغ مائة دينار، فقال غيلان:
ما لهؤلاء لعنهم الله، جورب بمائة دينار؟ فحقد ذلك عليه هشام.
وقال جعفر بن سليمان بن علي: قال لي عبد الله بن علي: جمعت بين دواوين بني مروان فلم أر ديوانا أصح ولا أصلح من ديوان هشام في أمر الخاصة والعامة والسلطان.
المدائني عن غسان بن عبد الحميد قال: لم يكن أحد من بني مروان أسد نظرا في أمر أصحابه ودواوينه، ولا أشد مبالغة في الفحص عن أموره من هشام.
قال: ودخل نسطاس على هشام، وعلى نسطاس جبة يسحبها، فقال له: من أين هذه الجبة لك؟ قال: بعث بها إلي فلان. قال: ولم بعث بها إليك؟ فما زال يبحثه ويفتشه عنها حتى علم أنها مصانعة، فحجبه أياما ثم كلم فيه فأذن له.
وقال الهيثم: خرج الفرزدق مع هشام حين حج في سنة ست ومائة، فأمر له هشام بخمسمائة درهم فقال:
__________
[1] الضمير عائد هنا إلى غيلان.(8/391)
تحبسني بين المدينة والتي ... إليها قلوب الناس يهوى منيبها
فقلت كفاكم لم تكن كف سيد ... وعينا له خوصاء جما عيوبها [1]
قالوا: وكان مع هشام حجر جوهر فقال: من شاء فليسبني ويأخذه، فقال له الأبرش الكلبي: هاته يا أحول. فقال: خذه لا بارك الله لك فيه.
وقال هشام: أنعم الناس عيشا رجل له امرأة صالحة قد غضت بصره عمن سواها، وسداد من عيش يقيمه، فهو مقبل على أمر معاده، ولا يعرفنا ولا نعرفه.
وقال هشام بن عمار: كان هشام بناحية من الشام، فوقع الطاعون هناك فقيل: يا أمير المؤمنين إنه لم يمت ههنا خليفة قط، قال: أفبي تجربون.
حدثنا محمد بن الأعرابي عن المفضل الضبي قال: دخل قرواش بن حبيب على هشام في غمار الناس فقال: إنا أنضاء سفر، وفل سنة [2] ، وعندكم أموال فإن تكن لله فبثوها في عباد الله، وإن تكن لهم فعلام تمنعونهم إياها، وإن تكن بينكم وبينهم فقد أسأتم الأثرة وتركتم النصفة. فقال هشام: نحن أقفال عند الله مفاتيحها، فإذا أذن في شيء فتحنا له.
المدائني عن عبد الله بن محمد القرشي قال: أتى إِبْرَاهِيمَ بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة بْن عُبَيْدِ الله هشام بن عبد الملك حين حج فمر بالمدينة فقال له:
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 47 مع فوارق.
[2] أنضاه جرده وهزله، والفل: ما ندر عن الشيء كبراده الحديد، والأرض الجدبة، والسنة: القحط القاموس.(8/392)
اعدني يا أمير المؤمنين على نافع بن علقمة فإنه أخذ داري. قال: أفلا رفعت ذلك إلى أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: قد فعلت فسلك غير طريق الحق.
قال: أفلا رفعت إلى الوليد. قال: قد فعلت فسلك بي طريق أبيه. قال:
فعمر بن عبد العزيز. قال: عوجل رحمه الله. فغضب هشام وقال:
لا يزال أحدكم يتكلم بما يستحق به أن يدق أنفه ويسحب برجله. فقال:
إذا يسبق خيرك شرك، وتقطع رحمك، وتكون يد الله فوق يدك، أما والله إن اقتضاء ليتعقب. فقال هشام: لو كان فيك مضرب لضربتك، قال:
في والله مضرب. فقال هشام: اكتمها علي.
وحدثني أبو عدنان عن الأصمعي قال: دخل أعرابي على هشام فقال: يا أمير المؤمنين إن يكن المال الذي في أيديكم لله فبثوه في عباد الله، وإن كان بينكم وبينهم فلقد أسأتم الأثرة عليهم، وأثمتم في حرمانكم إياهم، وإن كان لكم دونهم فتصدقوا فإن الله يحب المتصدقين. فقال:
والله ما ترك واحدة من ثلاث، فأعطاه فخرج وهو يقول: ما أكز يده بالمعروف.
حدثني أبو عدنان عن هشام بن محمد، والهيثم بن عدي عن عوانة قال: أتى خالد بن صفوان باب هشام، فطلب له مسلمة الإذن فقيل: قد ركب أمير المؤمنين متنزها. قال خالد: وكان العام عاما قد بكر وسميه [1] وتتابع وليه [2] ، فكأن على الأرض زرابي مبثوثة من نورها ووشيها، فأشار إلي
__________
[1] الوسمي: مطر الربيع. القاموس.
[2] الولي: المطر بعد المطر. القاموس.(8/393)
مسلمة أن تكلم، فنظرت إلى الثمار والشجر فو الله ما دريت ما أقول، فقلت: قاتل الله عدي بن زيد حيث يقول:
أَيْنَ كسرى كسرى الملوك أنوشروان ... أم أَيْنَ قبله سابور
وبنو الأصفر الكرام ملو ... ك الروم لم يبق منهم مذكور
وأخو الحضر [1] إذ بناه وإذ ... دجلة تجبى إليه والخابور
لم يهبه ريب المنون فباد ... الملك عنه فبابه مهجور [2]
قال هشام: قبح الله رأيك يا مسلمة فليس هذا بأول يوم غممتني فيه وقام مغضبا وتفرقوا، قال خالد: فأتاني بعض الشاميين فقال: أين هذا العراقي الذي أغضب أمير المؤمنين؟. قلت: خرج. فخرجوا يسعون فأخذت في ناحية أخرى، وكان هشام لا يكاد يذكر في مجلسه الموت تطيرا منه.
وحدثني أبو عدنان عن الهيثم بن عدي وهشام ابن الكلبي عن عوانة قال: وفد على هشام بن عبد الملك وفد كلهم من قريش، وكلهم خطيب، فتكلموا ثم قال إسماعيل بن محمد بن أبي الجهم بن حذيفة العدوي أو غيره من ولد أبي الجهم: يا أمير المؤمنين هذه خطباء قريش قد نطقت فأطنبت وتكلمت فأسهبت، فو الله ما بلغ متكلمهم قدرك، ولا جاوز أبلغهم فضلك أفأوجز أم أطيل؟. قال: بل أوجز. قال: تولاك الله يا أمير المؤمنين
__________
[1] كانت العرب تسمي ملك الحضر باسم الضيزن، ونشرت في بغداد دراسة جيدة عن الحضر وآثارها من اعداد: فؤاد سفر، ومحمد علي مصطفى- بغداد 1974.
[2] ديوان عدي بن زيد- ط. البصرة 1964 ص 87- 88.(8/394)
بالحسنى، وزينك بالتقوى، ويسرك لليسرى، وجمع لك خير الآخرة والأولى، إن لي يا أمير المؤمنين حوائج أفأذكرها؟. قال: نعم. قال:
كبرت سني، وكثر عيالي فإن رأى أمير المؤمنين أن يصلني بصلة يجبر بها كسرى، وينفي بها فقري فعل. قال: وما صلتك التي تفعل بك هذا الذي ذكرت؟. قال: ألف دينار، وألف دينار، وألف دينار. قال:
هيهات، هيهات، رمت مراما صعبا، هذا والله ما لا يحتمله بيت مال المسلمين.
ثم نكس هشام وإسماعيل ماثل بين يديه، فرفع رأسه ثم قال: هيه.
قال: وما هيه يا أمير المؤمنين كأنك آليت إلا تقضي لي حاجة في مقدمي هذا، أما والله إن الأمر لواحد، إلا أن الله آثرك بهذا المجلس، فإن تعطني فحقي أعطيت، وإن تمنعني فإني أسل الله الذي بيده ما حويت، فإن الله جعل العطية محبة والمنع مبغضة، وو الله لأن أحبك أحب إلي من أن أبغضك. قال: فألف دينار لماذا؟. قال: أقضي بها دينا، فدحني حمله، وأضر بي أهله. قال: نعم المسلك أسلكتها تؤدي حقا وتضع عنك ثقلًا، أو قال تؤدي عن أمانتك، وتحط حملًا ثقيلًا عن ظهرك. وألف لماذا؟ قال:
أزوج بها من أدرك من ولدي. قال: تغض بصرا، وتعف فرجا، وترجو نسلا، نعم المسلك أسلكتها. وألف لماذا؟ قال: أشتري بها أرضا يكون فضلها لنفقتي في حياتي ويبقى عقده لعقبي. قال: فإنا قد أمرنا لك بما سألت، قال: المحمود على ذلك الله، فلما ولى قال هشام: إذا كان القرشي فليكن مثل هذا، ثم قال هشام: أما والله ما نعطي تبذيرا، ولا نمنع تقتيرا، وإنما نحن خزان الله على بلاده، وأمناؤه على عباده، فإذا شاء(8/395)
أعطينا، وإذا منع أبينا، ولو كان كل قائل يصدق، وكل سائل يستحق ما جبهنا قائلًا، ولا رددنا سائلًا.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح عَنِ الهيثم، أخبرني الضحاك بن زمل قال: بلغ هشام قول الحسن البصري: لا يعدل أحد عن قصد، ولا يبقى كثير على إسراف، فقال هشام: صدق لله أبوه.
حدثني محمد بن أنس الأسدي عن ابن كناسة الأسدي قال: قدم رصافة هشام رجل من بني أسد، ثم من بني فقعس على هشام، فدخل عليه حين جلس للعامة، فقال: يا أمير المؤمنين أتت علينا سنون ثلاث أجحفت بالأموال ونحبت قلوب الرجال، فأما الأولى منهن فأذابت الشحم، وأما الثانية فنحضت [1] اللحم، وأما الثالثة فهاضت العظم، وفي أيديكم فضول أموال، فإن تكن لله فبثوها في عباد الله، وإن تكن لهم فعلام تحظرونها عنهم وتمنعونها ذوي خلتهم، وإن تكن لكم فتصدقوا ف (إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ) [2] قال هشام: هذه حاجتك في خاصتك، فما حاجتك في عامتك؟. قال: مالي حاجة في خاصة دون عامة، فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله أن أنفق على من أقحمته السنة حتى يأتي الله بالحيا والخصب. وكتب بمثل ذلك إلى إبراهيم بن هشام عامله بالمدينة فأنفقا، فاحتسب بألفي ألف درهم، واحتسب إبراهيم بسبعين ألف دينار فسميت السنة سنة خالد.
__________
[1] نحض: قل لحمه. القاموس.
[2] سورة يوسف- الآية: 88.(8/396)
ويروى عن الأصمعي أن عراقيا قال لبعضهم- هشام أو غيره-: إن كان هذا المال لكم فقد بخلتم به، وإن كان بينكم وبين رعيتكم فقد أسأتم الأثرة ومنعتم الحق، وإن كان لكم أن تعطوا ولكم أن تمنعوا فأنتم كما قال الله: (هَذَا عَطَاؤُنَا فامنن أو أمسك بغير حساب) [1] .
المدائني عن أبي محمد القرشي قال: كان يفطر عند هشام قوم في شهر رمضان فسأله رجل منهم حاجة فقال هشام: ألم أنهكم عن أن يكلمني أحد في حاجة في هذا الشهر؟. فقال له رجل يكنى أبا نوح من بني تميم، ممن كان يفطر معه: والله لقد أمر لي أمير المؤمنين بخصي فما منعني من تنجز ذلك إلا هذا الشهر. قال هشام: ما أعلمني أمرت لك بشيء، قال: بلى يا أمير المؤمنين قد أمرت لي به ولكنك نسيت. قال: فمن يعلم ذلك؟. قال:
إبراهيم بن هشام خالك، قال: أكذلك يا إبراهيم؟. قال: نعم يا أمير المؤمنين وما كنت أرى نسيانك يبلغ هذا، فأمر له هشام بالخصي. فلما خرج أبو نوح وقف لإبراهيم، فلما خرج إبراهيم قال: جزاك الله خيرا، قال:
لكن لا جزاك الله خيرا، ويحك ألا أعلمتني أنك تريد هذا قبل أن تقوله، ثم قال: إياك أن تعود لمثلها.
المدائني قال: استأذن المهاجر بن عبد الله هشاما في الحج فأذن له، وحج هشام فشكاه الناس، فراح إلى رواق هشام، فقال هشام لجارية له:
انظري من في الرواق، فخرجت ثم رجعت فقالت: فيه أجمل الناس وآدب الناس، فقال: انطلقي إلى هذا الذي زعمت أنه أجمل الناس فادعيه
__________
[1] سورة الأحزاب- الآية: 37.(8/397)
فخرجت إلى المهاجر فقالت: أجب أمير المؤمنين. قال: انطلقي فإن للأمير حاجبا غيرك، فأرسل إليه خصيا فدعاه فقال: دونك هذه الجارية فاطلب ولدها فإنها نعمت أم الولد.
قالوا: وكان المهاجر بن عبد الله يمر في مسجد دمشق فيعدل عن القناديل لئلا يكسرها بطوله، وقد مدحه جرير فقال:
إن المهاجر حين يبسط كفه ... سبط البنان طويل عظم الساعد
ولقد حكمت وكان حكمك مقنعا ... وجعلت بين منابر ومساجد [1]
وقالوا: قدم عمرو بن أمية بن عمرو بن سعيد بن العاص على هشام فجفاه فقال:
لعمرك للربيع أقل دينا ... وأكثر صامتا مني مرارا
وأكثر زائرا مني كثيرا ... وَأجدر بالرصافة أن يزارا
قالوا: وكان هشام يقف على القصاب فيسأله عن سعر اللحم، ورأى رجلًا من خاصته يبتاع لحما فغمزه فأتاه فقال: بكم تشتري؟. قال:
بدرهم، قال: أحسنت، وأكثر من هذا سرف، وقال هشام: لا يلام المرء على إصلاح ماله والقصد فيه.
قال المدائني: دخل هشام بستانا له فأقبل من معه يأكلون من ثمرته ويقولون: اللهم بارك لأمير المؤمنين، فقال: كيف يبارك في شيء تأكلون منه هذا الأكل، فقلع شجر ذلك البستان وجعل مكانه زيتونا.
__________
[1] ديوان جرير ص 100 مع فوارق.(8/398)
حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال: قال هشام: ما ندمت على شيء ندامتي على ما أهب. إن الخلافة تحتاج إلى الأموال كما يحتاج المريض إلى الدواء.
حَدَّثَنِي دَاوُد بْن عَبْدِ الحميد قَاضِي الرقة، حدثني أبي أن رجلًا من قريش دخل على هشام فقال له: ما أقدمك؟. قال: حاجة جليلة، وفضل أمير المؤمنين أجل منها. قال: وما هي؟. قال: تصلني بألف دينار وألف دينار وألف دينار. قال: ألف لماذا؟. قال: أصرفها في قضاء ديني. قال:
حسن جميل، تقضي حقا، وتحط ثقلًا، وتؤدي أمانة. وألف دينار لماذا؟
قال: أزوج بها ولدي. قال: حسن جميل. تعف فرجا، وتصل سببا، وترجو عقبا. وألف لماذا؟ قال: استعين بها على نوائب الزمان وجفوة الإخوان، قال: حسن جميل، تستر بها نفسك، وتصون وجهك، وتصلح معاشك. ثم سكت فخرج من عنده.
ثم عاد في اليوم الثاني فقال له: قد أمرنا لك بثلاثة آلاف دينار، وإنما نحن خزان الله، فإن أذن لنا في عطاء شيء أمضيناه، وإذا لم يأذن فيه منعناه.
قالوا: وكتب هشام بخطه: «من عبد الله هشام أمير المؤمنين إلى رياح مولى مسلمة ابن أمير المؤمنين، أما بعد، فقد قرئ على أمير المؤمنين كتابك بما ذكرت من تكلفك من المؤونة في القراطيس، وسيرى أمير المؤمنين في أمر القراطيس لك ولغيرك رأيه، إن شاء الله» .
وكتب هشام إلى يوسف بن عمر: أما بعد فقد وليت عبد الله بن نافع ما كان سعيد يليه من عمل بعلبك، وأمرته بقبض العهد الذي كان(8/399)
لسعيد، والأخذ بما فيه، فاعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين، وأحسن جوار عبد الله، وأعنه على ما استعانك عليه فيما وافق الحق، وما هو له، ولما تحت يده صلاح، ولا تجعل له إلى شكيتك سبيلا إن شاء الله» .
قالوا: بعث خالد بن عبد الله القسري إلى هشام بمال، وأرسل قوما يشهدون أنه طيب أخذ من حله، فصانع رجل بألفي درهم حتى جعل مع الشهود، وصير آخرهم، فقدموا على هشام فقال: أين المزكون، فدعا رجلًا رجلًا فحلفوا بالله أنه ما أخذ شيئا من ذلك المال إلا من حلال، ولا حمل إليه خالد إلا الفضل بعد أن أعطى كل ذي حق حقه، حتى قام ذلك الرجل المصانع بالألفين فحلف بالله لقد شهدوا بزور وفجور. فقال هشام: أراك مستأجرا؟ فقال: والله لقد صانعت بألفي درهم حتى ألحقت بالشهود، قال: أفأنت خارجي؟ قال: لا والله ما أنا بخارجي، ولكني نظرت لك فاتق الله. فقال هشام لمن حضره: ما ترون؟ فقالوا: نرى أن تقتله فإن له مذهب سوء، وإلا فلم صانع ليخبث بنفس أمير المؤمنين، ويجرح شهادات مثل هؤلاء فقتله وصلبه، ويقال بعث به إلى خالد فقتله وصلبه بواسط.
وقال بعضهم كان خالد بن عبد الله أبلغ عن الكميت بن زيد تنقصا له، وكان متهما بالرفض عندهم، وأنشد قصيدته الهاشمية التي يقول فيها.
إلى النفر الغر الذين بحبهم ... إلى الله فيما نابني أتقرب
وقالوا ترابي هواه ورأيه ... بذلك أدعى فيهم وألقّب [1]
__________
[1] الروضة المختارة ص 26- 28.(8/400)
فحبسه خالد فلبس ثياب النساء وخرج فعاذ بمسلمة بن هشام وقال:
خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل ... على الرغم من تلك النوابح والمشلي [1]
علي ثياب الغانيات وتحتها ... عزيمة رأي شبهت سلة النصل
فأصبحت مغبوطا ومحسود أمة ... بأبيض محسود على مثله مثلي
من النفر البيض الذين أكفهم ... سمام العدى والشافيات من النبل [2]
وأخبرني عباس بن هشام عن أبيه عن جده قال: بلغ هشام بن عبد الملك أمر عابه به، وأنشد قصيدته الهاشمية البائية، فكتب إلى خالد في حبسه، فحبسه فكان أبان بن الوليد يعده ويمنيه ويضمن له عن خالد ما يحب، وخالد يومئذ بواسط، وكان المستهل بن الكميت يعمل في أمره من قبل عبد الرحمن بن عنبسة، فجاء كتاب هشام بقطع يدي الكميت ورجليه ولسانه، فأخبر خالد بن عنبسة بذلك، فأخبر ابن عنبسة المستهل بذلك ليعلمه إياه فيوصي ويعهد، فأخبر المستهل أمه فلبست درعين وخمارين ونطاقين، ثم أتت الكميت فأخبرته فلبس أحد درعيها، وأحد خماريها، وأحد نطاقيتها، ثم خرج على البوابين فلم ينكروه ومضى من فوره إلى مسلمة بن هشام فأجاره مسلمة وأخواه. وقال في أبان بن الوليد:
أخلق وأبل أبا الوليد ... فقد لبست ثياب غادر
وكتب خالد إلى هشام بخبره، فكتب إليه هشام: أما امرأته فخاطرت بنفسها لزوجها فلا سبيل عليها فأطلقها. وأما أنت فقد ضيعت.
وقال الكميت:
__________
[1] المشل: الحلب القليل، ومشل مشولا: قل، وامتشل السيف: استله. القاموس.
[2] شعر الكميت ج 2 ص 50 مع فوارق.(8/401)
خرجت خروج القدح قدح ابن مقبل ...
الأبيات.
وقال الكميت يحذر هشاما غدر خالد- ويذكر ما تدعى اليمانية من مصير الأمر إليهم، فإن ابن الأشعث كان ادعى ذلك لنفسه، ثم يزيد بن المهلب بعده، وأن خالدا أطمع نفسه في ذلك- قصيدة، وقال في ذلك.
أنواما يقول بني لؤي ... عن الأمر المرشح ذي البزول
أرى أمرًا سيعظم أصغراه ... لتم لقاح مبسقة [1] حفول
دفوع للفصال بمنكبيها ... خبوط عند درتها ركول
كما لقيت ثمود ولا يكونوا ... لكم مثلا براغية الفصيل [2]
فيقال إن مسلمة بن هشام دخل على هشام فلم يفارقه حتى عزل خالدا، وأمسك عن الكميت لأنه كذب ما قيل فيه:
وقال الكميت في مسلمة أبي شاكر بن هشام:
إن الخلافة كائن أوتادها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم [3]
فقال خالد: أنا اكفر بخليفة يكنى أبا شاكر، فكأن مسلمة قد حقد ذلك عليه.
وقال الكميت في هشام قصيدة يقول فيها:
وكنا متى ما ندع مروان للتي ... نخاف نذد عن حوضنا أن يفجرا
وأنتم أناس يجمع الله دينه ... بكم ويقيم الله من كان أصورا [4]
__________
[1] البسوق: الطويلة الضرع من الشاء، وأبسقت الناقة: وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج.
القاموس.
[2] ليست في شعر الكميت المنشور.
[3] ديوان الكميت ج 2 ص 105.
[4] صور: مال. القاموس.(8/402)
وجدنا أبا العاصي أبا أبويكم ... ومجدكم المستقدم المتأخرا
كساه من المجد الهشامان حلة ... مغيرية منها ارتدى وتأزرا
وقال الكميت:
أبني أمية إنكم ... أهل الوسائل والأياصر
أنتم معادن للخلافة ... كابرا عن كل كابر
والى القيامة لا يزال ... لشافع منكم وواتر
الأطيبون الأكثرون ... من الأطايب والأكابر
الآن صرت إلى أمية ... والأمور إلى المصائر
يا مسلم ابن أبي الوليد ... لميت إن شئت ناشر
علقت حبالي من حبا ... لك ذمة الجار والمجاور
والناس قد علموا رجائي ... فيك من باد وحاضر
أنت المقابل في أمية ... في قوادمها الفواقر
الضامنين الدهر للحدثان ... والجار المجاور
حدثني عمرو بن أبي عمرو الشيباني الراوية، قال: لم يزل مسلمة بهشام حتى أمن الكميت وأنشده شعره فيه، وكان يحب أن يشرف ابنه مسلمة، ويرفع ذكره، فأظهر الرضا عنه، وتشفيع ابنه فيه.
وقال الكميت لعبد الملك بن هشام:
من عبد شمس لك السنام ... ومن عبد مناف لبيتك الطنب
وأنت في البيت ذي الدعائم ... من مخزوم في بيت علا به النسب
فما لحي مجد ولا مكرمة ... إلا لكم فوق مجده رتب
وقال في مسلمة بن هشام:(8/403)
أمسلم إن الحلم والحزم والندى ... ببابك ما يزداد إلا تجددا
وأنتم نجوم الناس والمهتدى بهم ... وأكرم أهل الأرض كهلًا وأمردا
وقال يرثي معاوية بن هشام تقربا بذلك إلى هشام وولده وقد كان ممن دفع عنه:
أتانا بموت ابن الخليفة حادث ... به نهلت منا القلوب وعلت
فإن تك أرض يا معاوي غيبت ... جداك وأرض منك أخرى تجلت
فنعم فتى الهيجا ونعم شهابا ... إذا البيض تحت المشرفيات صلت
ربيع إذا ضن الشتاء بقطرة ... وليث إذا ما المشرفية سلت
سأبكيك للدنيا وللدين إنني ... رأيت يد المعروف بعدك شلت
وغلق أبواب الندى وتنغصت ... إلى الناس أخرى عيشهم وتقلت [1]
المدائني عن زيد بن الحارث قال: كان سعيد بن هشام يركب متنزها فإذا برز عن الناس نزع ثيابه حتى يبقى في قميص فيضعه على عاتقه ويعدو فيقول: أرسلت كلبي يبتغي ما يأكله، فلا يلقى امرأة إلا غصبها نفسها، وكان ماجنا، وكان يخالف إلى امرأة عمرو بن قيس، وكان على حمص، فقال فيه الشاعر وهو من طيّئ ثم من بني بحتر:
بلغ لديك أمير المؤمنين فقد ... خصصتنا بأمير غير عنين
طورا يخالف عمرا في حليلته ... وعند تاجة يبغي البر في الدين
وقال الكلبي: عمرو بن قيس بن ثور بن حمران السكوني، وهو أبو عيسى عمرو بن قيس، وعيسى هو أبو الجمل الحمصي وتاجة بنت عمرو الغنوي امرأة عمرو بن السليل من الرباب.
__________
[1] ورد بيت واحد من هذه القصيدة في شعر الكميت ج 1 ص 147، وهو الخامس، وبالنسبة للشواهد المتقدمة في هذه الصفحة والتي تقدمتها فلم يرد أي منها في شعره المنشور.(8/404)
وقال يزيد بن الحارث: كنا نعرف شبهه في قوم بحمص نرى أنهم ولده، قال فخرج مرة متنزها فلم أخرج معه، وخرج معه صفوان بن عمرو الكلاعي، فلما رجع خرجت أتلقاه. فقال: ما منعك من الخروج معنا؟
فاعتذرت إليه، فسايرته ثم نزلنا فقال: أترى هذا الخلق ما فيهم أشبق مني. قلت: إن مثلك لا يقول مثل هذا. قال: اسكت أنا أعلم بنفسي منك.
ورفع عليه عند هشام أنه يزني فعزله وقال: لا تلي لي عملًا ابدًا لعنك الله، أيزني القرشي، إن مثلك لا يزني، أتدري ما فسق القرشي وفجوره، إنما هو أن يأخذ مال هذا فيعطيه هذا: ويقتل هذا ويظلم هذا.
قالوا: وخرج سعيد يوما بحمص في غب مطر يسير، وقد التحف بطيلسانه، وهو على فرسه: وقد كادت صنعة طيلسانة تصيب الأرض، فمر برجل وهو لا يعرفه، فقال: يا عبد الله قد أفسدت ثوبك وما يضرك لو رفعته؟ فقال: وددت أنك وثوبك في النار. فقال: وما ينفعك؟
وقال أبو محمد السفياني: حبس سعيد بن هشام معنا، فكان في بيت على حده فكنت أسمع صوت أوتار عود، فخرجت يوما إلى البيت الذي هو فيه، فإذا هو قد أخذ جفنة فثقبها، وعلق عليها أوتارا، فقلت: ويحك، على هذه الحال؟ قال: لا أبا لك لولا هذه لمت غما.
المدائني عن إسماعيل بن إبراهيم قال: سمعت شيخا يقول: خطب هشام حين ولي فقال: «الحمد لله الذي أنقذني من النار بهذا المقام» .
فأخبرت محمد بن عمرو بن حزم فقال: لكن عمر بن عبد العزيز كان إذا(8/405)
خطب بكى ثم قال: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ به) [1] .
حدثني العمري قال: ولى هشام ابنه سعيدا حمص، فكان يرسل إلى تاجة بنت عمرو الغنوي، وهي امرأة عمرو بن السليل من بني تيم الرباب، فشهد بذلك عند أبيه، فحده أبوه وقال: يا بن الخبيثة أتزني وأنت ابن أمير المؤمنين، لا جرم. لا وليتك عملًا أبدًا، إنما فجور قريش منع هذا ما يستحق، وإعطاء ذاك ما لا يستحق، فيقال إن سعيدا مات من ذلك الضرب، والثبت أنه بقي بعد موت أبيه.
قالوا: وقدم مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العَبَّاس على هشام فكره ذلك وأمر بفسطاطه فقوض وقال: قولوا له الحق بمنزلك، وانتظر دولتكم التي تتوقعونها. فقال له الأبرش الكلبي: يا أمير المؤمنين إن كان الذي يقال حقا فقد ينبغي أن تصانعهم، وإن كان باطلًا فعلام تقطع رحم هذا وقد قصد إليك.
حدثني حفص بن عمر عن الهيثم قال: كتب هشام لابنه محمد بن هشام، وأراد أن يبعثه على الصائفة كتابا نسخته: «إني رأيت أن أعهد إليك في أشياء من أمر خاصتك، أحب أن أحملك فيها على أدبي، ليكون حجة عليك وتأدية لحق الله علي لك، وأنا أرجو أن يتولى الله حفظك بالتنزيه عن كل قبيح، والعصمة من كل مكروه، والتحصين من كل آفة أخشاها عليك في دينك وبدنك ورأيك وعرضك، وأن يبليني في جميع ذلك أجمل ما عوّدني
__________
[1] سورة النساء- الآية: 123.(8/406)
فيك، فحميد هو على ما يولي، مشكور على ما يبلي، وليس امرؤ وإن ظوهرت له العظة ونخلت له النصيحة بمنتفع بشيء من ذلك حتى يكون له من توفيق الله داع، ومن نفسه عليه معين يبصره فضل ما يوعظ به على ما يوعظ عليه، فإنه لا يوفق للخير ويعين عليه إلا الله وحده لا شريك له.
وقد كان مما أحدث الله لي فيك من النعمة، ما أسأل الله تمامه، وحسن المزيد فيه، والعون على أداء شكره عليه، فإنه قد أراني فيك من معالم الفضل وأمارات الخير ما قذف به في نفسي توجيهك لما وجهتك له من الأمر الذي أرجو أن يجعله الله لك إلى قصوى غايات الفضل سببا وسبيلا، فيما يعرفنا من بصرك بالأمور واستقلالك بالقيام لله بالنصيحة، وحسن السياسة، والرفق في مستقبل أمرك، ومفتاح عملك، فليكن أول ما تبدأ به إيثار تقوى الله ربك بالاجتهاد في طاعته، والحيطة لدينه وعباده ليجزيك بذلك جزاء كريم سلفك الماضين، وصلحاء أهلك الباقين، فإن به تمام كل نعمة، وإليه منتهى كل رغبة» .
حدثني الأثرم عن أبي عبيدة قال: دخل أعرابي على هشام في غمار الناس، فقال هشام لحاجبه: أكل من شاء أن يدخل دخل؟ فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إن دخولي عليك لا ينقص من قدرك، وهو يزيد في قدري. فقال: لا بأس إذا، أذكر حاجتك، فتظلم من واليهم، فكتب بإنصافه.
ويقال إن هشاما- أو الوليد بن عبد الملك- كان يقف على البقال قبل الخلافة فيقول: ناولني تلك الحزمة، فيناوله حزمة من البقل فيقول: بكم هذه؟ فيقول: بفلسين، فيقول: زد فيها.(8/407)
وفي هشام يقول الشاعر:
باتصال دعوت يا عبد شمس ... بعد ما نابهن أو يا مغيرا
قمري مكة المضيء دجاها ... يجلوان الدجنة الديجورا
وقال الواقدي: خرج عشرون ألفا منَ الروم في سنة ثلاث وعشرين ومائة فنزلوا عَلَى ملطية، فأغلق أهلها أبوابها. وخرج رسولهم مستغيثا فلحق بهشام وهو بالرصافة، فندب هشام الناس إلى ملطية، وتقلد سيفا ثغريا، وركب يطوف على الناس بالرقة، وأتاه الخبر بأن الروم قد قفلوا فأخبر الرسول بذلك، وبعث معه بشرا ليرابطوا بملطية.
حدثني أبو الوليد هشام بن عمار قال: سمعت من يحدث أن هشاما قال: لسان المرء من خدم عقله وأول واحد يخبر ما عنده.
قال: وبلغني أن هشام بن عبد الملك قال: إن اللسان في حكايته صادق عن عقل صاحبه.
قال المدائني: كان عَبْد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الله بن عامر بن كريز يفد إلى هشام فيتكلم عنده، فيعجب مسلمة بن عبد الملك كلامه ويقول:
والله إني لأرفع كور العمامة عن أذني لاستفرغ كلام ابن عامر، وكان مسلمة يقول: إن الرجل ليكلمني في الحاجة يستوجبها فيلحن فكأنه يقضمني حب الرمان الحامض حتى يسكت فأرده عنها، ويكلمني الرجل في الحاجة ما يستوجبها فيعرب فأجيبه إليها.
قالوا: وحضر الوليد بن يزيد مجلس هشام: ثم خرج فوثب على فرسه وقال لأبي شاكر بن هشام: أيحسن أبوك أن يركب كذا؟ فقال: لأبي(8/408)
مائة عبد يفعلون أكثر من هذا. فقال هشام: لله مسلمة ابني ما أظرفه لولا مجونه.
المدائني قال: حج هشام: فأخذ الأبرش قوما معهم برابط، فقال:
احبسوهم وبيعوا متاعهم هذا وصيروا ثمنه في بيت المال، فإذا صلحوا فردوا الثمن عليهم.
وقال بشر مولى هشام: أتي هشام برجل عنده قيان وخمر وبربط، فقال: اكسروا الطنبور على رأسه، وضربه فجعل الشيخ يبكي. قال بشر: فقلت له عليك بالصبر، فقال: أتراني أبكي لضرب أمير المؤمنين إياي، إنما أبكي لاحتقاره العود حين سماه طنبورا.
وقال هشام بن محمد الكلبي: دخل الوليد بن يزيد المقتول على هشام بن عبد الملك وعنده ولده، وفيهم مسلمة بن هشام، المكنى أبا شاكر، فقال الوليد لمسلمة، وكان ظريفا: ما اسمك؟ - كأنه لا يعرفه- فقال: شارزنجي. يعرض بأنه يكثر شرب النبيذ إكثار الزنج ويطرب طربهم، وقد كتبنا خبر شارزنجي مع أخبار عبد الملك بن مروان.
وقال المدائني: استأذن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وأخوه عبد العزيز معه على هشام، فأذن لمحمد قبل عبد العزيز، فقال عبد العزيز: يرحم الله حسينا- من غير أن يجري للحسين ذكر- فأنكر هشام ذلك وقلب عينه وقال: ما ذاك؟ قال: ذاك لأني ومحمدا أبناء عبد الله، وأمي أموية بنت خَالِد بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد، وأم محمد فاطمة بنت حسين، وقد قدم علي وأنا أسن منه لأن فاطمة ولدته. فقال هشام لآذنه:
قدمه بعد مرته هذه.(8/409)
وحضر محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان، وعبد الله بن الحسن بن الحسن باب هشام فخرج الآذن فقال: محمد بن عبد الله. فلم يقم. فدنا الآذن فقال: ادخل، فقال: عبد الله بن الحسن ههنا. فرجع إلى هشام فأخبره بقوله، فقال: محمد بن عبد الله، فلم يقم. ففعل ذلك مرات، فقال هشام: ائذن لعبد الله، فخرج الآذن فقال: عبد الله بن حسن. فقام وقام معه محمد بن عبد الله.
المدائني: أن هشاما قال لمسلمة بن عبد الملك: يا أبا سعيد هل دخلك ذعر لحرب شهدتها، أو لعدو كادك؟ قال: ما سلمت من ذعر لا يذهلني عن حيلة ولم يغشني ذعر يسلبني رأيي، فقال هشام. هذه البسالة.
قال المدائني: قال إبراهيم بن هشام لهشام بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين أقبل عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص يوما، وعندي إبراهيم بن عبد الله بن مطيع، وعلى عبد الرحمن بن عنبسة ثياب خضر:
الجبة والمطرف والعمامة، فقال إبراهيم: قد أقبل ابن عنبسة في زينة قارون. فضحكت، فقال عبد الرحمن: ما أضحكك أيها الأمير؟ قلت:
قال إبراهيم حين أقبلت كذا وكذا. فقال عبد الرحمن: لولا أني أخافه علي وعليك وعلى المسلمين إن هو غضب لأجبته. قلت: وما تخاف من غضبه؟
قال: بلغني أن الدجال يخرج لغضبة يغضبها، وإبراهيم أعور وأنا أظنه الدجال، فقال إبراهيم: لولا أن له عندي يدا عظيمة لأجبته، قلت:
وما يده؟ قال: سعى عليه غلام بمدية فأصابه فأشواه، فلما نظر إلى الدم جعل لا يدخل عليه مملوك إلا قال له: أنت حر، ودخلت عليه عائدا له(8/410)
فقلت له: كيف تجدك؟ قال: أنت حر، قلت: أنا إبراهيم بن عبد الله، قال: أنت حر، فأعتقني في ظنه فهذه يده.
قالوا: وهرب هشام من الطاعون، فانتهى إلى دير فأدخله الراهب بستانا على أربعة أجربة، وجعل يأتيه بأطايب الفاكهة والبالغ منها، فقال هشام: أتبيعني بستانك؟ فسكت. فأعاد عليه القول وهو ساكت فقال:
مالك لا تتكلم يا راهب؟ قال: وددت أن الناس ماتوا غيرك. قال: ولم؟
قال: حتى تشبع إذا بقي كل شيء في الدنيا لك. فضحك وقال: أما تسمع يا أبرش. قال: ما لقيك حر غيره.
المدائني قال: دخل جديع الكرماني على هشام فقال له: من أنت؟
قال: جديع. قال: الكرماني؟ فكأنه كرهها، فقال هشام: لا تفعل وإذا شهرت بلقب تكرهه فإنه نسب.
قالوا: ووقف هشام يوما بحائط له فيه زيتون ومعه عثمان بن حيان، فسمع هشام نفض الزيتون، فقال لعثمان: انطلق إليهم فقل لهم: القطوه لقطا ولا تنفضوه نفضا فتتفقأ عيونه وتتكسر غصونه.
قالوا: وأدخلت على هشام جارية أعجبته، فاشتط صاحبها في الثمن، فأعطاه هشام عشرة آلاف فأبى فاشتراها الأبرش بحكم صاحبها وسومه، وبعث بها إلى هشام.
وأتي هشام بمال فقسمه على ولده وأهله، وقال لأم حكيم بنت يحيى بن الحكم، وقد عزل مائة وعشرين ألف درهم: من أحق بهذا المال؟
قالت: أنا. قال: قد أخذت قسمك.(8/411)
وقال لعبدة بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة: قولي فإنكم آل أبي سفيان تدعون الرأي؟ قالت: أحق الناس بهذا المال من جاد لك بما بخلت به على نفسك، قال: صدقت، وأمر بحمل ذلك المال إلى الأبرش، وقال: هذا الآن في هذا الموضع أحسن منه في ذلك الموضع.
قالوا: وقدم على هشام وفد وفيهم ابن عمار بن ياسر، فقال له هشام: من أنت؟ فأخبره. فقال:
ترجو الصغير وقد أعياك والده ... وفي أرومته ما ينبت العود
لا والله ما نال مني خيرا أبدًا ما بقيت.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ خالد بن صفوان: دخلت على هشام بن عبد الملك في يوم شديد الحر وهو في بركة ماؤها يغمر الكعبين، وقد وضع له كرسي فجلس عليه، فلما رآني دعا لي بكرسي، ثم جلس يسائلني فأقبلت أحدثه، ثم قال: يا خالد لرب خالد جلس مجلسك كان أحب إلي منك- يعني خالد بن عبد الله القسري- قال: فقلت: يا أمير المؤمنين، لو تفضلت عليه بصفحك وتغمدته بحملك؟ فقال: إن خالدا أدل فأمل، وأوجف فأعجف، فسكت.
حدثني العمري عن الهيثم قال: أهدى خالد بن عبد الله وهو على العراق إلى ولد هشام وحشمه هدايا، وأغفل خادما له، فأخذ الخادم ابنا له صغيرا فوقف به حيث يسمع هشام الكلام، ثم قرصه قرصة أبكته فقال:
والله لو كنت من ولد خالد بن عبد الله القسري ما عدا، فسمع هشام قوله فكان ذلك أول ما وقر في قلبه.(8/412)
قالوا: ولما غضب هشام على خالد أرسل إليه يذكره حرمته، فقال:
إن الإفراط في الدالة يفسد الحرمة.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ عوانة قَالَ: قال هشام: أرخى الناس بالا من تخلى عن الدنيا ومتاعها فدافع الأيام، وأصبح أجله أحب قادم إليه.
وقال هشام للأحوص: ما لنا وللفرزدق، حفر لنا خالد نهرا. فقال:
أنفقت مال الله في غير حقه ... على نهرك المشؤوم غير المبارك [1]
فقال الأحوص: ما هذا من كلامه. قال هشام: قاتلهم الله، إذا جاءت الحقائق نصر بعضهم بعضا.
المدائني عن سحيم بْن حَفْص قَالَ: مرَّ ابن هشام بن عبد الملك على إسماعيل بن يسار وقد اتخذ منزلًا وهو يصوره [2] ، فقال: يا إسماعيل ما هذا من منازلك، قال: بلى والله إنه لمن منازلي ومنازل آبائي ولكن منزلك خباء مضروب من شعر أو صوف على عمود من خشب.
قالوا: وتفقد هشام بعض ولده فلم يره يحضر الجمعة فقال له:
ما منعك من الصلاة في يوم الجمعة في مسجد الجماعة؟ فقال: نفقت دابتي فعجزت عن المشي إلى الجمعة.
وقال هشام لخالد بن صفوان: عظني وأوجز، فقال: أنت فوق الخلق وليس فوقك إلّا اللَّه، وأنت صائر إِلَى الله، فاتّق الله.
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 59.
[2] صار وجهه يصوره ويصيره: أقبل به، والشيء قطعة وفصله. القاموس.(8/413)
المدائني عن حمزة بن إبراهيم قال: قال الحجاج لمعبد الجهني: يا معبد أتتكلم في القدر؟ قال: نعم، زعم فساق أهل العراق أن الله قضى وقدر أن يقتل عثمان، فقلت: كذبتم. فقال: صدقت. فبلغ هشاما قوله فقال:
لقد قدر الله قتل عثمان لما كتب على قاتليه من الشقاء، وكذب معبد والحجاج.
قالوا: وقدم رواية الفرزدق وجرير والأخطل على هشام، فدخل رواية جرير في فرو، ودخل الآخر في خز، فأنشد رواية الفرزدق شعرا:
كأن مفالق الرمان فيه ... وجمر غضى قعدن عليه حام [1]
فغضب هشام ولم يصل راوية الفرزدق والأخطل، ووصل راوية جرير.
المدائني عن عبد الرحمن بن خالد قال: رأيت هشاما وهو يقول لغلمانه وهم يلقطون زيتونا في أرض له: القطوا لقطا، ولا تخبطوا خبطا، فإن الخبط يفقأ عيونه ويكسر غصونه، وكان معه عثمان بن حيان فوجهه من وجهه إلى العراق للمسألة عن خالد فقدم عليه فأخبره، فكان ذلك سبب عزل خالد.
حدثني هشام بن عمار قال: بلغنا أن هشاما حدث بأن خالدا يعطي من جاءه من قومه، فازداد غيظا عليه وغضبا وقال: إني أبخل بهذا المال عن نفسي وأهلي وولدي، وخالد يفرقه في قومه، فحدثه بعض حضره أن رجلًا من بجيلة دخل عليه فسأله فمنعه فقال:
__________
[1] هذا البيت ليس في ديوان الفرزدق المطبوع.(8/414)
إذا المرء أثرى ثم قال لقومه ... أنا السيد المفضى إليه المعمم
ولم يولهم خيرا أبوا أن يسودهم ... وهان عليهم رغمه وهو أظلم
فرده وأعطاه فقال هشام: والله لأنقضن كور عمامته، ولأدعنه وهو لا يفضى إليه.
حدثني أبو مسعود عن ابن كناسة قال: اختلف هشام ومسلمة في إعراب حرف أو معنى حرف من الغريب، فحكما رجلًا فقال: القول قولك يا أمير المؤمنين، فقال مسلمة: هذا حكم الجهال وقولهم.
حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال: هدم إبراهيم بن هشام المخزومي دار عبد الله بن عامر بن الزبير بأمر هشام، فمر به وهو يصلي فقال: اصبر، فقال: إني أعرضكم على الله في كل يوم خمس مرات- يعني الدعاء-.
أَبُو الْحَسَن المدائني عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عن عامر بن عبد الله قال: أراد هشام الحج فقال: من بقي من رجال قريش في المدينة ممن يتكلم؟ فقالوا: لم يبق أحد يرد على السلطان، فحج فأتاه عبد الله بن عروة بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على خالك إبراهيم بن هشام، فإنك وليته ما بين المدينة واليمن فلم يمنعه كثير ما في يديه عن قليل ما في أيدينا، فأنشدك الله أن تصل رحما بقطيعة أخرى.
قال: لا أعديك عليه قال: ولم فو الله ما منعنا أن نموت مع عبد الله إلا هذه الأموال، وقد أخذت ولأن يموت الرجل عزيزا خير له من أن يموت ذليلًا، فقال هشام: هذا واحد.(8/415)
ثم آتاه إِبْرَاهِيمَ بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة بْن عُبَيْدِ الله فقال: يا أمير المؤمنين أعدني على نافع بن علقمة، فإنه أخذ داري. قال: أفلا رفعت ذلك إلى أمير المؤمنين عبد الملك؟ قال: قد فعلت فسلك بي غير طريق الحق، قال:
أفلا أتيت الوليد؟ قال: قد فعلت فسلك بي طريق أبيه. قال: أفلا رفعت إلى سليمان؟ قال: قد فعلت فسلك بي طريق أبيه وأخيه. قال: فعمر بن عبد العزيز؟ قال: عوجل رحمه الله، فغضب هشام وقال: لا يزال الرجل يتكلم عند أمير المؤمنين بما يستحق من يتكلم بمثله أن يدق أنفه ويسحب على وجهه. قال: إذا يسبق خيرك شرك، وتقطع رحمك، وتكون يد الله فوق يدك، وأمر الله من ورائك، أما والله، أن القضاء ليتعقب وإن الفاسق ليصلح.
فقال هشام: قبح الله من زعم أن قومي قد ذهبوا، هذا زعم إن قضائي يرد، وابن عروة يتهددني.
ثم قال لإبراهيم: لو كان فيك مضرب لضربتك مائة، قال إبراهيم: في مضرب ألف، قال هشام: سوءة اكتمها علي. قال: فما أخبرت بها أحدا حتى مات، فلما مات حدثت بها لأنها مكرمة.
وقال الفرزدق وقد خاف خالدا.
ألم تعلموا يا آل مروان نعمة ... لمروان عندي مثلها تحقن الدما
وما كان عني رد مروان إذ طغى ... عليّ زياد بعد ما كان أقسما
ليقتطعن حرفي لساني الذي به ... لخندف أرمي عنهم من تكلما(8/416)
وكنت إلى مروان أسعى إذا جنى ... علي لساني بالمقال وأجرما
وما تركت كفا هشام مدينة ... بها عوج في الدين إلا تقوما [1]
وقال الكميت في خالد بن مسلمة:
الشمس أدتك إلا أنها مرة ... والبدر أداك إلا أنه رجل
الغالب النفس حلما عند طيرتها ... والمستثيب حلوم القوم إن جهلوا
ما أنت في الجود إذ عدت فواضله ... ولا ابن مامة إلا البحر والوشل
قال: ولم يقدم جرير على هشام فيمن أتاه من الشعراء عشر سنين، ثم تهيأ للخروج إليه وقال:
وكيف ولا أشد إليك رحلي ... أروم إِلَى زيارتك المراما [2]
فمات قبل أن يخرج إلى هشام.
قالوا: وقدم عروة بن أذينة الليثي على هشام، فسأله: ألست القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي ... أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى له فيعنيني تطلبه ... ولو صبرت أتاني لا يعنيني
وإني لأحسبك ممن يفضل قوله فعله، فقال عروة: فإني استغفر الله وأستقيله ولا أرغب إلا إليه، فخرج من عنده ولم يبت إلا في الطريق منصرفا إلى أهله.
وتذمم هشام مما استقبله به حين بلغه انصرافه، فبعث إليه بألف دينار، فلما أتاه بها رسوله قال: أقرئ أمير المؤمنين السلام وقل له إني
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 188 مع فوارق.
[2] ديوان جرير ص 409.(8/417)
رضيت بالله ورغبت إليه فأتاني برزقي على فراشي، فقال هشام: صدق.
إنما نحن خزان الله، فإذا أذن في شيء أمضيناه على محبة منا وكرامة.
المدائني قال: قال هشام لسعيد الأبرش: أوضعت أعنزك؟ قال:
أي والله قال: لكن أعنزي تأخر ولادها فاخرج بنا إلى أعنزك نصب من ألبانها، قال: نعم. وقدم خباء فضرب وغدا هشام والأبرش وغدا الناس فقعد هشام والأبرش على كرسيين، فقدموا إلى كل واحد منهما شاة فحلب هشام الشاة بيده ثم قال: يا أبرش إني لم أنس الحلب.
ثم أتي بخبزة أمر الأبرش بها فعملت بين يدي هشام، فأوقد هشام النار بيده وفحصها، وألقى الخبزة فيها وجعل يقبلها في النار بالمحراث ويقول: يا أبرش كيف ترى رفقي، حتى نضجت، ثم أخرجها فجعل يضربها بالمحراث ويقول: جنبيك، جنبيك والأبرش يقول: لبيك لبيك، وهذا شيء كان يقوله الصبيان إذا خبزت لهم الخبز، ثم تغدى وتغدى الناس وانصرف هشام.
المدائني قال: قال رجل من أهل المدينة: انتقص الناس بعد هشام، ما كان أحد يشد رحله إلى رجل إلا وجد عنده رأيا وعقلًا وسخاء، فلما مات هشام انتقص ذلك.
وسئل هشام يوما عن مكحول، فذمه فقال مسلمة: مه يا أمير المؤمنين فقد سمعته يقول: اللهم لا تبقني بعد هشام.
المدائني عن شيخ من جرم أنه قال: إني لباقريتين، وبينها وبين دمشق مرحلتان على الإبل، إذ نزلت قافلة جاءت من أرمينية فيها خلق، فجاء رجل من كلب من قبل هشام، ورجل آخر معه فقالا: أيتها النازلة(8/418)
أفيكم غيلان بن مسلم؟ فقام رجل أحمر عليه قباء نصيبي مجلد الأزرار فقال: أنا غيلان أبو مروان. فقالا: أين صالح، فقام رجل ربعة حسن الوجه فقال: أنا صالح أبو عبد السلام فشداهما في الحديد وحملاهما إلى هشام، فقال هشام لغيلان: ويلك ما هذا الذي يبلغني عنك من القول؟
فسبقه صالح فقال: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وسعها) [1] ، فقال له هشام:
أتركت أن تتلو كتاب الله محكمه، وتلوت متشابهه، إن هذا ليحقق ما قيل فيكما، قال: أو هذا متشابه؟ قال: أخرجوهما فاضربوهما سبعين سبعين، فضربا، وجاء قوم فشهدوا عليهما بأنهما قالا: ما ولى الله هشاما شيئا قط، وإن الناس يتغالبون على الأرزاق، وتأتيهم بالاتفاقات. فقال: لعلكم شهدتم لأمر وجدتم عليهما فيه، أو لعداوة واجبة؟ فقالوا: لا، ولكنك إمام وقد خرجنا إليك مما في أعناقنا، فقطع أيديهما وأرجلهما، فمر عليهما عثمان بن حيان المري فقال: يا غيلان، كان هذا بقضاء الله وقدره؟ فقال:
كان في علم الله.
ثم أمر هشام بإخراج ألسنتهما من أقفيتهما أو قطعها فلم يلبثا أن ماتا.
وقيل إن غيلان وصاحبه كانا بأرمينية يتكلمان في هشام، فلما شخصا عنها، وكان قد وضع عليهما عيونا فأخبر بنزولهما حيث نزلا، فدس شهودا شهدوا عليهما، فصنع بهما ما صنع ثم صلبهما.
قالوا: وعمل هشام منجنونا [2] وكتب إلى صاحب الرقة يأمره أن يبتاع
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 286.
[2] المنجنون: الدولاب يستقى عليه، أو المحاله يسنى عليها. القاموس.(8/419)
له ثور المنجنون فاشتراه بثلاثين درهما، وبعث به إليه مع بعض الشرط، فلما رأى هشام الثور أعجبه وقال: بارك الله فيك وفيمن وجه بك، أعطوا الرسول عشرة دراهم. فقال: يا أمير المؤمنين زدني في عطائي خمسة دنانير فقال: جئت بثور اشتري بثلاثين درهما وإنما بيننا وبين الرقة ثلاثون ميلًا، وأنت تنال خمسة دنانير في عطائك، أنت أحمق. إذهب بارك الله فيك.
المدائني قال: قال عمرو بن عتبة المخزومي: أذن هشام يوما إذنا عاما، فدخل أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين قد كبرت سني، ورق عظمي فأعني بالفرض لابني فإنهما كما يحب أمير المؤمنين في طاعتهما وجلدهما قال:
ما ذاك لك عندنا، قال: فأقطعني دارا إلى جانب داري كانت ليهودي هلك، ولا وارث له أوسع بها منزلي. قال: بيت المال أحق بها، قال:
فأزرعني مزرعة إلى جانبي تخفف من خراجها عني. قال: لا. فولى الرجل وهو يقول: ما رأيت كاليوم قط رجلًا أفحش بخلًا ولا أسوأ ردًا، وسمع هشام كلامه فنكس، ورفع الشرط عليه العمد، قال عمرو: فضممت إلي ثوبي مخافة أن يقتل فيصيبني دمه، أو يشدخ فينتضح علي من دماغه، فقال الأعرابي: ما ينبغي أن ألومك وإني لأعلم أنك عبد من عبيد الله لا تعطي ولا تمسك إلا بإذنه، قال هشام: ردوه، كيف قلت؟ فأعاد قوله فقال:
صدقت، أعد علي حوائجك، فقضاها.
قالوا: وأهدى إلى هشام حسان النبطي هدايا كثيرة، وركب هشام فعرضها عليه وأرضى حسان كل من يطيف بهشام غير خادمين له صغيرين احتقرهما، فدخل هشام المتوضأ وجاء الوصيفان بالماء، فقال أحدهما أما تعلم أمير المؤمنين أن حسان لم يهد ما أهدى حتى أخذ لنفسه مثله؟ قال(8/420)
الآخر: بل لنفسه عشرة أمثاله، أفمن بيت أمه أهدى هذا؟ وسمعهما هشام، فلما دخل عليه حسان قال: وهبت لهذين شيئا؟. قال: لا ولقد أغفلتهما. قال: فأحسن إليهما. فبعث إلى كل واحد منهما بألفي درهم.
وخلا به هشام وهما على باب البيت، فقال أحدهما: نحن نتكلم في أمر هذا الرجل بما لا نعلم، وأمير المؤمنين أعلم بنصيحته وتوفيره، وقال الآخر: ما صارت له عند أمير المؤمنين هذه المنزلة إلا بفضل نصيحته وما فعل أحد مثل فعله، عماله يأكلون الدنيا ولا يهدون شيئا. فقال هشام لحسان: أرضيتهما؟ قال: نعم. فضحك هشام وقال: ما أخبثهما قد رأينا أثر ذلك. المدائني قال: لما اشتد وجع هشام بكى نساؤه وولده، فقال جاد لكم هشام بالدنيا وجدتم له بالبكاء، فترك لكم ما جمع، وتركتم عليه ما كسب، ما أعظم منقلب هشام إن لم يغفر الله له، ثم فاظت نفسه.
المدائني قال: أتى هشاما محمد بن يزيد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب فسأله فقال: لست معطيك شيئا، فإياك أن يغرك الناس فيقولون إن أمير المؤمنين لم يعرفك، قد عرفتك، أنت محمد بن يزيد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب، فلا تقم فينفق ما معك، والحق بأهلك.
حدثني علي الأثرم عن الأصمعي قال: حج هشام فأراد سالم بن عبد الله الدخول عليه بالمدينة فقال له بنوه: لو اعتممت فاستعاروا له عمامة، ولما دخل على هشام قال له: يا أبا عمر العمامة لا تشبه الثياب.
قال: أنا استعرناها. قال: ما طعامك؟ قال: الخل والزيت. قال: أما تأجمهما؟ قال: إذا أجمتهما تركتهما حتى أشتهيهما. ثم قام فخرج فقال(8/421)
هشام: ما رأيت قط ابن سبعين أقوى كدنة [1] منه. فما وصل إلى بيته إلا محموما، فقال: أترون الأحول لعقني بعينه. ولم يبرح هشام المدينة حتى صلى عليه، وقد كتبنا خبره من جهة أخرى.
المدائني عَن عَبْد اللَّهِ بْن سَلْم الفهري قال: دخل زيد بن علي بن الحسين على هشام، فلما مثل بين يديه لم ير لنفسه موضعا يجلس فيه، فعلم أنه إنما فعل ذلك به على عمد، فقال: يا أمير المؤمنين إنه ليس أحد فوق أن يؤمر بتقوى الله، ولا أحد دون أن يأمر بها. قال: اسْكُتْ لا أُمَّ لَكَ.
قَالَ: أُمٌّ لَمْ تلدني؟ قال: أنت الذي تنازعك نفسك الخلافة وأنت ابن أمة؟. قال: يا أمير المؤمنين إن لك جوابا، قال: هاته فما أنت وجوابك.
قال: إن الأمهات لا يقعدن بالرجل دون بلوغ الغايات، كانت أم إسماعيل أمة، فلم يمنعه ذلك أن ابتعثه الله نبيا، وجعله أبا العرب وأخرج من صلبه محمدا صلى الله عليه وسلم، أفتقول هذا لي وأنا ابن فاطمة وجدي علي؟. قال: صدقت، ثم خرج فقال هشام لمن بقي عنده من أهل بيته: زعمتم أن أهل هذا البيت قد بادوا. لا لعمري ما انقرض قوم هذا خلفهم.
قالوا: وخرج زيد على هشام بالكوفة، وقتل ودفن ليلًا، فدل على قبره عامل الكوفة فنبش وصلب، وكان فيمن نبشه خداش بن حوشب أخو العوام بن حوشب المحدث.
__________
[1] الكدن: الشحم، واللحم، والقوة. القاموس.(8/422)
وكتب هشام إلى عامله بالعراق: إن زيدا قدم علي فرأيت حولًا قلبا خليقا لصوغ الكلام وتنميقه، وقد كتبت خبر زيد ومقتله في نسب آل أبي طالب وأخبارهم.
حدثني هِشَام بْن عمار عَنِ الوليد بْن مسلم قال: قال هشام: إني لأرى الرجل فأعرف عقله من حسن سماعه، وكان يقول: أنا أعرف الجاهل الأحمق بسرعة جوابه بالخطأ، وكثرة تلفته، وتدويمه نظره إلى جليسه بغير علة يصوب ويصعد فيه.
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن إسماعيل بن عبد الملك بن نافع عن أبي عبيدة بن محمد قال: شرق ما بين ربيعة الرأي وأبي الزناد وكانا قديما يجالسان القاسم بن محمد بن أبي بكر، فلما ولي خالد بن عبد الله بن الحارث بن الحكم المدينة من قبل هشام، ولى أبا الزناد الخراج وما وراء بابه، وكان خالد قد علم الذي بينهما، فأرسل إلى ربيعة، وخثيم بن عراك، ومحمد بن عطاء الليثي، وعبد الرحمن بن القاسم بن محمد، فوجد عبد الرحمن قد تغيب فضرب هؤلاء وحلقهم، وقال: إنهم يطعنون على الأئمة ويرون رأي الخوارج.
وكتب خالد إلى هشام يعلمه ضرب هؤلاء النفر، وأنه طلب عبد الرحمن فوجده قد تغيب، وتوجه إلى ابن شريح بخراسان يدعو إليه، فجاء الكتاب إلى هشام وهو يومئذ بالرصافة فقال: أي رجل عبد الرحمن بن القاسم؟. فقال إبراهيم بن هشام: يا أمير المؤمنين، من أهل السنة والجماعة، فرمى بالكتاب فقرأه فقال: باطل والله يا أمير المؤمنين، وما خرج ابن القاسم إلا إليك. فأفرخ روع هشام، فقال: أرى ذلك، ووكل(8/423)
إبراهيم غلاما له يتفقد عبد الرحمن عند مسلحة عليها طريق من قدم من المدينة إلى هشام، فكان مقيما عندها أياما، ثم طلع عليه عبد الرحمن على بغلة له وهو معتم فسلم فقالوا: من الرجل؟. قال: رجل من قريش.
قالوا: من أي قريش أنت؟ فأخبرهم، فأتى عبد الرحمن إبراهيم بن هشام، فأتى به إبراهيم هشاما، فأدخله إليه فقال: السلام عليكم يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: وعليك السلام، كيف أنت يا عبد الرحمن، كيف أهل بيتك؟. قال: بخير يا أمير المؤمنين. قال: أحب أن يكونوا بخير، فما أقدمك يا عبد الرحمن؟. قال: ظلامتي، خاصمت إلى خالد: ابن أبي عتيق، فمال علي ميلًا بينا، فرحلت إلى أمير المؤمنين مستغيثا به لينصرني.
فكتب إلى خالد: «أما بعد: فإذا أتاك كتابي هذا فأحضر رجالًا من أهل الفضل والستر والصدق والعفاف ممن يخيرهم عبد الرحمن بن القاسم، ثم اجمع بينه وبين خصمه، ثم مرهم أن يجزموا القضاء على أحدهما، ولا تعرض لعبد الرحمن في خصومة ولا غيرها، فإن لعبد الرحمن فضلًا، ومكان أبي بكر في الإسلام مكانه» .
ثم ختم الكتاب ودفعه إلى عبد الرحمن فقال عبد الرحمن: قد بررت وقضيت الحاجة وأعفيتني من الظلم وعليّ أربعمائة دينار. فقال: يا عبد الرحمن، لو جمعنا لأحد أن نرد ظلامته ونقضي دينه لفعلنا ذلك بك، ولكنا لا نفعله بأحد فامض لشأنك.
قال عبد الرحمن: فلحقني حسان النبطي فقال: قد سمعت كلامك في دينك، وهذه أربعمائة دينار من مالي فخذها واقض بها دينك. فقال عبد(8/424)
الرحمن: ما أستجيز أخذها منك وأنا استجيزه من الخليفة، وأنا أقبلها على أن تكون قرضا، فأخذها على هذه الجهة فقضاه إياها ورثة عبد الرحمن بعد ذلك.
قال ابن شوذب يمدح أبا الزناد نصر بن ربيعة وأصحابه:
حتى إذا ما دخيل الهم أرقني ... فوق الفراش وكاد النوم يمتنع
وقلت حين أناجي النفس من رجل ... والرأي مشترك والهم ملتفع [1]
فصرت نحوك من أرضي لتنفعني ... إذا بلغتك والمعروف متبع
أبا الزناد فلا تقعد بحاجتنا ... إن الكريم إذا ما هز ينخدع
تحوي من العلم ما يشقي السقيم به ... ويجبر العظم منه حين ينصدع
ما زلت بالحق إذ ضلت عقولهم ... حتى ردعت ألي الأهواء فارتدعوا
__________
[1] اللفاع: الملحفة أو الكساء أو النطع، أو الرداء، ولفع الشيب رأسه: شمله.
القاموس.(8/425)
[الجزء التاسع]
[تتمة بنو عبد مناف بن قصي بن كلاب]
[تتمة بنو عبد شمس]
[تتمة ولد أمية الأكبر]
[تتمة ولد أبي العاص بن أمية الأكبر]
[تتمة أيام هشام بن عبد الملك بن مروان بن حكم بن أبي العاص]
الخوارج في أيام هشام بن عبد الملك
أمر صبيح الخارجي [1] :
قال أبو الحسن المدائني: اشترى سَوّار بن الأسعر المازني غلامًا من سبي الأزارقة غُلامًا يُقالُ له صبيح، فكان عنده حينًا فلمّا صارَ رجلا أعتقه، وكان يرى رأي الخوارج، فخرج في حاجة لسوار وصحبه رجل من طيّئ فحضرت الصلاة فَصَلَّى صبيح ولم يصلّ الطائي فقال له: ألست مسلمًا؟ قال: بلى! قال: فما بالك لم تصلّ؟ فقال: وما أنت وهذا؟ أقبل على شأنك. فحكّم صبيح وقتل الطائي.
واجتمعَ إليه رجال فخرج وسار إلى هَرَاة وأغارَ على إبل لبني سعد وقتل رجالا، فأتى السعديون ضرار بن الهلقام بن نُعَيْم التميمي، وهو عامل للجنيد بن عبد الرحمن المريّ على بعض خراسان، فخرج ضرار إلى الخوارج فسار في المفازة ولقيه صبيح في أربعمائة، وضرار في جمع كثير من بني
__________
[1]- بهامش الأصل: بلغ العرض بالأصل الثالث ولله الحمد.(9/7)
تَميم وغيرهم، ومعهم البختي بن ضبيعة المرّي، فاقتتلوا فقتل من أصحاب صبيح خمسون، وقتل عامة من كان مع ضرار، ورجع صبيح إلى سجستان فقال سوار
لعمري لئن أغفلتُ من خشية الردى ... زرنَجَ [1] ولم أخرج حذار صبيح
لَبِئْسَ إذًا حامي الحقيقة بعدها [2] ... ولابس ثَوْبِي ذلةٍ وفضوح
فكتب خالد بن عبد الله إلى عبد الله بن أبي بُرْدَة بطلب صبيح رجاء أن يظفر به دون الجنيد، ونزل صبيح قرية كانت صلحًا، فأخذوه أسيرًا وأتوا به ابن أبي بردة، وقالوا: ما تجعل لنا إن أخذنا صبيحًا؟ قال: ما شئتم.
فاشترطوا عليه الحطيطة من الأتاوة وشيئًا غير ذلك، فدفعوهُ إليه فبعث به إلى خالد، وبعث به خالد إلى هشام، فأراد قتله وصلبه فقيل له: إذًا تتخذ الخوارج الرصافة [3] دار هجرة، فردّه إلى خالد فقتله وصلبه، وأخذ الجنيد الخوارج ممن كان مع صبيح وعلى رأيه بخراسان فجعل يقتلهم حتى قتل مائة.
ويُقال إن الجنيد أخذ رجلًا منهم أعمى فقال: أنا أدلك عليهم، فجعل يدله على رجل رجل من أهل السنة فيقتله حتى قتل مائة ثم قال:
لعنك اللهُ يا أحمق. تزعم أن دمي حلال لك، وأنا أدلك على قوم فتقتلهم، والله ما قتلتُ إلا أصحابك وما دللتك من أصحابي على أحد. فقدمه فقتله.
__________
[1] زرنج: مدينة هي قصبة سجستان، معجم البلدان.
[2] بهامش الأصل: يروى: لبئس إذا حامى الذمار ابن سعر.
[3] رصافة هشام على مقربة من الرقة، بقاياها قائمة.(9/8)
أمر خالد الخارجي
قال أبو الحسن المدائني: خرج خارجي من قبيل بُوشنج [1] وهراة في جمع عظيم فكان لا يأتي قرية إلا افتدوا منه بِمال، ومضى إلى مرو الروذ وعليها ضرار بن الهلقام فأراد أن يُعطيه شيئًا وينصرف عنه فجبَّنُوه وعجَّزُوهُ.
وكان عامة الناس غزاة فقال: دعوني أردّ هذا الخارجي عنكم بشيء ولا نقاتله فإن عامة الناس غزاة، قالوا: جبنت وضعفت. فقال: كأني بكم منهزمين تكسع [2] الريح أدباركم، وخرج إليهم وأخرج معه الوجوه والأشراف من العرب والموالي، فبيت خالد عسكرهم فقتل من صبر وعامة من هرب، فلم ينج منهم إلا القليل، وأسروا ضرارا ثم قتلوه وأصحابه الذين بقوا معه، فقال منصور بن هبيرة التميمي ثم المازني قصيدة طويلة يرثيهم ويقول فيها:
__________
[1] بلدة نزهة خصيبة في واد مشجر من نواحي هراة بينهما عشرة فراسخ. معجم البلدان.
[2] كسع: ضرب دبره بيده أو بصدر قدمه. القاموس.(9/9)
لقد تماصوا وقد آسوا أميرهم ... عند اللقاء حذار الذمّ والعار
وقال رجلٌ من بني العنبر في قصيدة له:
أَأُمام قد ذهب التجلد والأسى ... فانعي فوارس مازنٍ وضرارا
ثم إن خالدًا مات من جراح كانت به، ويُقالُ مات حتف أنفه.(9/10)
أمر عباد المعافري
قال أبو الحسن المدائني: خرج باليمن في أول سنة ست ومائة عباد المعافري فقابله مسعود بن عوف الكلبي، فلم يظفر به، فلم يزل باليمن حتى وليها يوسف بن عمر الثقفي فقتله.
[أمر زحّاف الحميري]
وخرج على يوسف زحّاف بن عباد الحميري الأباضي فبعث إليه يوسف كثيرًا أبا العاج السلمي فقتله فقال جرير بن عطية.
الله أهلكَ عبادًا وشيعته ... عادات ربك في أمثال عباد
لاقوا بعوث أمير المؤمنين لَهم ... كالريح إذْ بُعثتْ نحسًا على عاد
فيهم ملائكة الرحمن ما لهم ... إلا التوكل والتسبيح من زاد [1]
__________
[1] ديوان جرير ص 121.(9/11)
خبر الأشهب العَنزي
قالوا: خرج رجل من عنزة يُقالُ له الأشهب بناحية الفرات في ستين فارسًا، فوجه خالد بن عبد الله القسري: السمط بن مسلم البجلي في سبعمائة فلقيهم قريبًا من الكوفة فقاتلهم فضربَ السمط على يده فندر سيفه، وأسرعَ سيف الضارب في يده، وانهزمَ العنزي هو وأصحابه، فقتلوهم حتى دخلوا الكوفة، ورماهم الناس بالحجارة، ثم برئ السمط من الضربة وشلت يده، فكان يطلب سيفه عند قعد الخوارج بالكوفة.(9/13)
خوارج بموقوع [1] في أيام هشام ويوسف بن عمر على العراق
قالوا: خرج خوارج بموقوع وكانوا تسعة عشر رجلا وامرأة، والقاسم بن محمد الثقفي على البصرة، فقتلوا وأسرت الامرأة فلما قُدم بها على القاسم قالت: يا حسن الوجه إني خُدعت. قال عمر بن سعيد:
فأرسلني القاسم إلى يوسف بن عمر فقدمت عليه بالفتح وبالمرأة فقال:
ما استبقاؤه هذه؟ وقتلها. ثم أرسلني يوسف بالرؤوس إلى الشام.
وقال الهيثم: بعث بالرؤوس إلى الوليد، وكان هشام قد مات، فأقرَّ الوليد يوسف على العراق، فلمّا قدم رسوله على يوسف قال: كيف الوليد الفاسق؟ ثم قال: إياك أن يسمع هذا منك أحد، فحلف له رسوله بالطلاق ألا يسمعه منه أحد فضحك يوسف.
__________
[1] موقوع ماء بناحية البصرة. معجم البلدان.(9/15)
أمر خارجي بالموصل
قال المدائني: وخرج خارجي يذكر من عنزة بالموصل في ثلاثة عشر رجلا، في أيام هشام، فوجه إليه الحرّ بْن يُوسُف بْن يَحْيَى بْن الحكم:
المستنير بن عجلان العَنَزِي، أحد بني يذكُر، فقال المستنير: لا ألقاهُ إلا في عدَّة من معه، فقاتلهم فظهر عليهم، فأوفده الحرّ إلى هشام، فقال له: ألك حاجة؟ فقال: تَخرجنا من ربيعة وتردّنا إلى بني أسد، فقال: نعم. فقال بنو يقدُم بن عَنَزة: لا نتحوّل، وقالت يَذْكُر بن عنزة: بلى. فاصطلحوا على أن صُيِّروا سبعًا على حدة.(9/17)
خبر البهلول بن بشر الشيباني
ويُقال ابن عمرو، ويلقب كثارة.
قال أبو الحسن المدائني: خرج البهلول بن بشر الشيباني أيام خالد بن عبد الله القسري في سبعين رجلا كان من أهل الديوان معروفًا بالشجاعة، وكان سبب خروجه أنه حج، فلما كان ببعض قرى السواد أرسل غلامه ليأتيه بخلّ فأتاهُ بخمر فردّها فأبى الخمار أن يقبلها، فاستعدى عليه والي القرية وكان من أهل الشام فلم يُعده، وقال: خارجي خبيث، والله لهي خير منك وإني لأنْفَسُ بها على مثلك، فتركه ومضى لحجه، وجعل يُخبر من لقي من إخوانه ويعجبّهم، ويدعوهم إلى الخروج، فلمّا قضوا حجهم رجع إلى القرية التي كان بِهَا الشامي فقتله، ثم أتى الموصل فاتبعه قوم من أهلها وأهل الجزيرة.
وأقبلَ خالد من الكوفة فلمّا كان في موضع يُقالُ له قياض [1] ، وجه إليه
__________
[1] قياض موضع بنواحي بغداد، وقياض أيضا موضع بين الكوفة والشام، يرتحل منه إلى عين أباغ. معجم البلدان(9/19)
خالد: يزيد بن قيس بن ثمامة الأودي أبو عافية بن يزيد الأودي القاضي، وكان على شرطة خالد، وكان في خف فلم يقاتله، فقال البهلول: إن صاحبكم هذا الأشجع الخلق وأحمق الخلق.
ومضى البهلول إلى عين التمر ثم أتى لَعْلَعَ [1] فأقامَ بها وهو في مائة وستين من الخوارج، وأقبل إليه عشرة نفر من الكوفة من أهل راية [2] فعرض لَهم قوم فقتلوهم قبل أن يصلوا إليه. وبلغه ذلك فسار إلى القرية التي قتلوا بها فقال لهم: من قتل هؤلاء الرهط فله عشرة آلاف درهم. فادعى قتلهم جماعة فقتلهم، فتنكر له قوم من أصحابه وقالوا: غدرت بالقوم. فقال:
أما كان لي أن أقتلهم وقد قتلوا إخوانكم؟ قالوا: بلى ولكنك كذبتهم.
قال: إنا في دار حرب والحربُ خدعة. قالوا: تُبْ وإلا اعتزلناك. فتاب فقبلوا منه، ورجع فأقام بلعلع. وكان معه رجلٌ يُقالُ له أثال فتذكر أهله وولده فبكى، فقال بهلول:
بكى جزعًا بعبرته أثال ... وليس بحين مكبى للرجال
فلما أهل الديار لنا بأهلٍ ... ولا المالُ المراح لنا بِمال
وقال أيضًا:
من كان يكره أن يلقى منيته ... فالموتُ أشهى على قلبي من العسل
فلا التقدم في الهيجاء يعجبني ... ولا الحذار ينجيني من الأجل
فوجه إليه خالد رجلا من آل حوشب بن يزيد بن رويم الشيباني، فارتحلَ بهلول عن مكانه فسار يصبح بأرض ويُمسي بأخرى يجول بالسواد،
__________
[1] لعلع: منزل بين البصرة والكوفة. معجم البلدان.
[2] راية موضع في بلاد هذيل. معجم البلدان.(9/20)
حتى أحفى دوابهم، ثم لقيهم وقد ضجروا وكلّت خيولهم، فلم يكن بينهم كبير قتال حتى انكشفوا، وصبر الرويمي في نُفَيْرٍ قتلوا، وأهوى له بهلول ليطعنه فقال: أسألكَ بالرحم فاذكرك الله إني مستجير جانح، فأمسك عنه وأتى فَلَّهُم الكوفة، وقدم قائد من أهل الشام في تلك الأيام وهو من بلقين ليوجهه خالد إلى الهند، فقال له: سر إلى هذه المارقة فإن قتلتهم لم أغزكم الهند، فسار القيني في أصحابه وهم ألفان من أهل الشام، وضم إليه خالد جندًا من أهل الكوفة، فكان في خمسة آلاف، منهم ثلاثة آلاف من أهل الكوفة. فجعل البهلول ينتقلُ في السواد حتى قطع خيولهم، ثم أتى لعلع فالتقوا بها فقُتل القيني، طعنه البهلول طعنة هتكت سلاحه وأوجره الرمح، فقال: قتلتني. قال: أبعدك الله يا عدو الله، وانهزم الشاميون، فقال البهلول لأصحابه: عليكم بالشاميين فإن الكوفيين أخرجوا كرهًا.
فاتبعوهم فكانوا إذا لحقوا الشامي قتلوه وإذا لحقوا عراقيًا لم يقتلوهُ. فقال رجل ممن نجا من الشاميين:
ما كنتُ أدري ما السيوف ووقعها ... حتى لقيت فوارس البهلول
يُضْحي بأرضٍ والمبيتُ بغيرها ... هيهات من ممساك حيث تقيل
وقال البهلول لأصحابه لما قتل القيني: علام نقيم على خالد وندع الذي أَمَّرَهُ؟ فتوجه إلى الموصل وهو يريدُ الشام، فوجه إليه والي الموصل قائدًا يُقال له سفيان، فهزمه البهلول. فكتب صاحب الموصل إلى هشام يُخبره خبر البهلول ويستمده، فكتب هشام إلى عامل الجزيرة أن يُمده فسرح إليه قائدًا من أهل الجزيرة في خمسمائة، ووجه هشام من الرصافة جندًا، وكتب إليه أن ضم إليهم جند الموصل واستعملَ عليهم كثارة، وهو لا يعلم(9/21)
أن كثارة هو الخارجي، فتوافت الجنود بالموصل وبهلول نازل إلى جانب دير بالكحيل [1] . فجعل عامل الموصل عليهم رجلا يُقالُ له ابن أبي عطاء، فساروا حتى لقوا البهلول، فانهزمَ ابن أبي عطاء وأهل الشام، ولجأ بعضهم إلى الدير فحصرهم البهلول أيامًا. وقدم جند من أهل الشام، أيضًا مددًا، وانضم إليهم الفل فنزلوا بعقوة البهلول، وخرج إليهم من كان في الدير محصورا فتلا البهلول: يا أيها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [2] وحمل على أهل الشام فقتل منهم رجلا، ثم قال لأصحابه:
يا أخلاء إِنَّما خرجتم غضبًا لله فلا تجزعوا ولا تكبروا القتل في الله، وناهضهم وقال: إن أصبتُ فأميركم دعامة بن عبد الله الشيباني. فعاجلوهم وكثر القتلُ والجراح في الفريقين، ثم ترجل البهلول وأصحابه عند المساء فشدوا عليهم، فجال أهل الشام والبهلول يُقاتل ويقول:
من كان يكرهُ أن يلقى منيته ... فالموتُ أشهى إلى قلبي من العسل
وكمن له أبو الموت الجدلي- جديلة قيس- فمر به فطعنه فأثبته، ويُقال: الذي قتل البهلول عمرو بن ثوبان الحضرمي صاحب خيل الموصل، فقام بالأمر دعامة فانحازوا وتحاجزوا وقد أمسوا والجراح في الطائفتين فاشية، فقالت الخوارج لدعامة: فررت من الزحف وكفرت.
فقال: إِنَّما انحزت ولم أفرّ، فأبوا أن يرضوا به وبايعوا عمرو بن غالب اليشكري
__________
[1] الكحيل: موضع بالجزيرة، وقيل مدينة على دجلة بين الزابين فوق تكريت من الجانب الغربي. معجم البلدان.
[2] سورة الأنفال- الآية: 64.(9/22)
وأصبحوا فعاودهم القتال فقتل وقتل الخوارج غير نفير يسير انحازوا إلى العراق، وقال بعض الشعراء من الخوارج في دعامة:
لبئس أمير القوم معترفًا به ... دعامة في الهيجاء شر الدعائم
وكان الضحاكُ بن قيس- أحد بني مُحلم- جرح يومئذ فنزف وعطش، فرفع له خباء، فأتاهُ فوجد فيه امرأة، فاستسقى فسقته، وسقط فلم يقدر على النهوض، فلما أفاق مما كان به وبرئ أتى أصحابه من القعد فقالوا: فررت من الزحف. ولم يقرّ بالفرار واعتذر فلم يقبلوا عذره فكانوا لا يجالسونه ولا يكلمونه، فقال الضحاك: اللهم إني قد صدقتهم فكذبوني وبذلت نفسي فردّوني، اللهم أنت خير لي منهم. وقال:
لا تطردوني إذا ما جئت زائركم ... أرجو الفلاح وكونوا اليوم إخوانا
بُدّلت بعد أبي بشر وصحبته ... قومًا عليّ مع الأحزاب أعوانا
في أبيات.
ثم إنه أقرّ بالكفر واستتابوهُ فتاب.
قالوا: وكان بهلول لين السيرة لا يُقاتل إلا من قاتله ولا يعرض لأحد ولا يأخذ شيئًا إلا بثمن.(9/23)
أمر ابن شبيب بن يزيد: ويُكنى أبا الصُّحارى
قال أبو الحسن: وأتى ابن لشبيب بن يزيد الخارجي خالد بن عبد الله فقال: افرض لي، فقال: ابن شبيب ماله وللفريضة؟ فخرج وأرسلَ خالد في طلبه فأبى أن يرجع فتعلقوا به ومنعوهُ من المضي، فانتضى سيفه فهربوا، ومضى على فرسه إلى الفرات فعقر فرسه، وركب سفينة وأتى ناسًا من بني تيم اللات كانوا بجبل فدعاهم إلى الخروج فخرجوا، فوجه إليهم خالد خيلا فقتلوا جميعا.(9/25)
أمر وزير الخارجي
قال أبو الحسن المدائني وغيره: خرج عَلَى خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري وزير الخارجي، فحكّم بالكوفة في ثلاثة عشر رجلا، وخالد بالحيرة، فقتل من لقي وحرق وغلب على بيت المال، فتلقته الفرسان فقُتل بعض الخوارج وأُسرَ بعضهم وارتثّ وزير فأُتِيَ به خالد، فجعل يقرأ القرآن ويعظُ خالدًا حتى رقّ له واستبقاهُ، وأمر به فحبس فكان يخرجه من الحبس فيسامره، وبلغ ذلك هشامًا فكتبَ إلى خالد: أتستحيي فاسقًا مارقًا قد قتل وحرق وفرق بيت المال فأحرقه، فلمّا أتاهُ كتاب هشام أخرجه ومن كان بقي معه من أصحابه فصبّ عليهم النفط ثم حرقوا في طنان [1] القصب وقد أشعلت فيها النيران، فلم يجزع وزير ولم يتحرك وجعل يقرأ: قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حرا لو كانوا يعلمون [2] . وجزع أصحابه واضطربوا.
تمت أخبارُ الخوارج في أيام هشام.
__________
[1] طنان القصب: حزم القصب. القاموس.
[2] سورة التوبة- الآية: 81.(9/27)
ولد هشام
قال أبو اليقظان: ولد هشام:
مسملة، ويزيد، ومحمدًا، وأم هاشم، أمهم أم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص، وأمها زينب بنت عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام المخزومي.
وعبد الرحمن، ومروان، أمهما أم عثمان بنت سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، وأمها أم عمرو بنت مروان بن الحكم.
وعائشة أمها عبدة بنت عبد الله بن الإسوار بن يزيد بن معاوية.
ومعاوية، والوليد، وسليمان، وقريشًا، لأمهات أولاد شتى.
وكانت عائشة تسير مع هشام في موكبه لإعجابه بها، وكانت لها خيل تسبق، وتزوجها عبد الله بن مروان بن محمد، وأما معاوية فكان أكبر القوم.(9/29)
أمر خالد بن عبد الله القسري وغيره من ولاة العراق في أيام هشام
قالوا: كان ابن هبيرة عاملا ليزيد بن عبد الملك على العراق، وولي هشام فأقره، وكان خالد بن عبد الله بن أسيد بن كُرْز بن عامر بن عبد الله بن عبد شمس بن غمغمة بن جرير بن شق بن سعد بن يشكر بن رهم بن أفرك بن نذير بن قَسْر- واسم قسر: مالك- بن عبقر. وأخته بَجيلة ابنة صعب بْن سَعْد العشيرة بْن مَالِك بْن أدد بْن زيد بْن يشجب بْن عريب بْن زيد بن كهلان، ضرب وهو على مكة من قبل الوليد بن عبد الملك حبابة جارية ابن سهيل بن عبد الرحمن بن عوف، وكانت قينة تسمى العالية فصارت ليزيد بن عبد الملك وسماها حبابة.
فلما ولي يزيد خافه خالد، وخاف حبابة، وتبناها عمر بن هبيرة فسأله خالد أن يترضاها له وأهدى إليها هدايا ففعل. فقالت: قد وهبته لك، فلم يشكر له خالد ذلك وحبسه حين ولي العراق بعده.
قالوا: وعزل هشام: عمر بن هبيرة، وولى: خالد بن عبد الله العراق في أول سنة من ولايته.(9/31)
وقالوا: قال عمر بن يزيد الأسيلمي- من بني تَميم-: دخلتُ على هشام وخالد بن عبد الله القسري عنده يذكر طاعة أهل اليمن ووفاءهم، وذلك قبل ولايته العراق، وقال: فصفقت تصفيقة دوى منها البهو، وقلت: ما رأيتُ كهذا القول خطأ وخطلا، والله ما قبحت فتنة في الإسلام إلا باليمن فهم سعوا على عثمان أمير المؤمنين فقتلوهُ، وهم خلعوا أمير المؤمنين عبد الملك، وإن سيوفنا لتقطرُ من دماء آل المهلب.
فلمّا خرجت لحقني رجلٌ من أهل الشام. فقال: يا أخا بني تَميم وريت بك زنادي، قد شهدت مقالتك، وأميرُ المؤمنين مُوَلٍّ خالد العراق وليس هو لك بدار.
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى عن عبد الله بن أسيد الكلابي: إن إياس بن معاوية قال: كنتُ عند ابن هبيرة في يوم جمعة وقد أذنوا فجاء غلام له يعدو فقال: إن قومًا دخلوا علي البريد ووكلوا بالباب من يَحفظه، قال إياس: فقمتُ فخرجتُ فمنعني الحرس، فقال وهو فزع منبهر: هكذا تقوم القيامة.
وأقيمت الصلاة فصلى خالد بن عبد الله بالناس، وقرأ عهده، وكتبه، ثم أرسلَ إلينا فأتيناهُ، فقلتُ: أنا إياس بن معاوية، فأطلقني، وحبس ابن هبيرة.
وقال إسماعيل بن عمار يُعارض الفرزدق:
عَجِبَ الفرزدق من فزارة أنْ رأَى ... عنها أميةُ بالمشارق تنزع
فلقد رأى عجبًا وأُحدث بعده ... أمرٌ تراعُ له القلوب وتفزع(9/32)
بكت المنابرُ من فزارةَ شجوها ... فاليوم من قسر تضج وتَجزع
وملوك خندف أضرعتنا للعدى ... لله دَرّ ملوكنا ما تصنع
فلما حبس خالد قال الفرزدق:
لعمري لئن نابت فزارة نوبة ... لمن حدث الأيام تسجنها قَسْرُ
لقد حبس القسري فِي سجن واسط ... فتى شيظمى الا ينهنه الزجر
فتى لم تُوَرِّكْهُ الإماء ولم يكن ... غداءٌ له لحم الخنازير والخمر [1]
فقال ابن هبيرة: ما رأيتُ أكرمَ من الفرزدق: هجاني أميرًا ومدحني أسيرًا.
وكان الفرزدق هجا ابن هبيرة فقال في أيام يزيد:
أمير المؤمنين وأنت عفّ ... كريم لست بالطبع الحريص
أأطعمتَ العراق ورافديه [2] ... فزاريًّا أَحَدَّ يَدَ القميص
ولم يك قبلها راعي مخاضٍ ... ليأمنه على وركي قلوص
تفهق بالعراق أَبُو المثنى ... وعلَّم قومه أكل الخبيص [3]
وقال فيه بعد هذا الشعر:
يلين لأهل الدين من لين قلبه ... لَهم وغليظٌ قلبه للمنافق [4]
فقال خالد: فأينَ أبو فراس، وطمع في أن يقعَ في يده فيعاقبه فحذره الفرزدق.
__________
[1] ليست في ديوان الفرزدق المطبوع.
[2] بهامش الأصل: رافديه: دجلة والفرات.
[3] ديوان الفرزدق ج 1 ص 389.
[4] ديوان الفرزدق ج 2 ص 41.(9/33)
قالوا: وكتب هشام إلى خالد في عذاب ابن هبيرة والاستقصاء عليه.
وروي عن الصعق بن حَزَن أنه قال: رأيتُ خالدًا لَمّا قدم العراق يُعذب عمر بن هبيرة فأُخرج يومًا من السجن وعليه عباءة فألقي فتكشف فنظرت إليه وقد رفع إصبعه إلى السماء يدعو فعلمتُ أنه سينجو.
وقال أبو عبيدة: حدثني خالد بن جَبَلَة بن عبد الرحمن عن أبيه قال:
كنتُ مع ابن هبيرة في حبس خالد وكان ابن هبيرة قد ضربني قبل ذلك، فقال: يا جبلة، إن الْحَفظة تذهب الحقد وقد أمرتُ موالي أن يحفروا لي، وهم منتهون إليّ الليلة، فهل لك في الخروج؟ قلت: لستُ فاعلا. قال:
فأشر علي. قلت: لا تخرجنّ في دار قوم، قال: لا. وكان أمر مولى له فاستأجرَ دارًا إلى جانب السجن واتخذ فيها ألف نعجة فكانوا يحفرونَ الليل ويتخذونَ التراب في الدار فيصبح الشاء قد وطئته ولبدته بأبوالها فأفضوا بنقبهم إلى جبلة، فقال لهم: لست بصاحبكم فأتوا عمر بن هبيرة فقام حتى دخل النقب فخرج منه.
وكان جبلة أشار عليه أن يقدم كتابًا إلى هشام ويبعث معه رسولا، فوجه بكتابه أبا الفوارس الباهلي الأعرج، فقدم به إلى الرصافة غدوة، وقدم ابن هبيرة عشية.
المدائني قال: سمع ابن هبيرة في طريقه امرأة من قيس تقول:
لا والذي أسألهُ أن ينجي عمر بن هبيرة فقال: يا غلام اعطها ما معكَ وأعلمها أني قد نجوت.
ولما فقد الحرس ابن هبيرة من السجن أخبروا خالدًا، فوجه في أثره سعيد بن عمرو الحرشي، لأن ابن هبيرة عزل سعيدًا عن خراسان، وضربه(9/34)
حين قدم عليه مائة سوط ونفخَ في دبره بكير، وحبسه فكان سعيد بن عمرو إذا ذكره قال: قبح الله ابن هبيرة فإنه أوهى مني بصرًا حديدًا وساعدًا شديدًا، فلم يزل محبوسًا حتى قدم خالد فأكرمهُ فلم يقدر سعيد على ابن هبيرة، فترك خالدًا وتم على وجهه إلى الشام.
وقدم ابن هبيرة فأشارت عليه قيس بأن يستجير بأم حكيم بنت يحيى امرأة هشام، فقال: امرأة؟ قالوا: فاستجر بأبي شاكر مسلمة بن هشام.
قال: صبي، ولكني أستجيرُ بأبي سعيد مسلمة بن عبد الملك، قالوا:
أتستجيرُ به وقد وليت ما كان يليه ولم تبق عليه؟ فقال: هو كريم ولا يسلمني أبدًا، فتوجه إليه ومعه وجوه القيسية، فلمّا رآهُ مسلمة كره مصيره إليه، وانطلقَ إلى هشام فكلمه فيه وقال: هذا رجلٌ خاف تحامل خالد عليه للمُضريَّة، فأمنه هشام على أن يؤدي ما طولب به فأدّاه.
وقال عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: كنا في رصافة هشام ومعنا مسلمة بن عبد الملك وسليمان بن هشام وابن هبيرة، فخرج علينا رسول هشام فقال: إن أمير المؤمنين يعزم عليكم أن تتلقوا أبا الهيثم خالد بن عبد الله، وكان قدم على هشام للسلام عليه، ولمناظرته في أمور، لم تحتملها المكاتبة والرسل، وحمل معه أموالا وألطافًا، فقال ابن هبيرة: وأنا أيضًا؟
قال: ما أراد أميرُ المؤمنين غيرك، فركب الناس لتلقيه، وركب ابن هبيرة بغلته. قال عبد العزيز: فسرنا حتى لقينا خالدًا فسلم علينا وسلمنا عليه، فلم يسلم خالد على ابن هبيرة فتقدم على بغلته، فصاح خالد: إباقًا كإباق العبيد، قال ابن هبيرة: أنومًا كنوم الأمة، ويُقال إنه قال له: أبقْتَ أباق العبد، فقال له: نعم حين نِمت نوم الأمة.(9/35)
[أخبار خالد القسري]
وقال الفرزدق في هرب ابن هبيرة
لَمَّا رأيتَ الأرض قد سد ظهرها ... فلم تَرَ إِلَّا تَحتها لك مخرجا
دعوت الذي ناداهُ يونس بعد ما ... هوى في ثلاث مظلمات ففرّجا
خرجت ولم تمنن عليك شفاعة ... سوى ربذ [1] التعريب من آل أعوجا
وظلماء تحت الليل قد خُضتَ هولها ... ولونًا كَلَوْنِ الطيلساني أدعجا
هما ظلمتا ليل وأرض تلاقيا ... على جامح من همه ما تعوجا [2]
وقال:
قد ضَيَّعَ السجن والتضييعُ عادته ... حتى نَجَا سالِمًا من سجنه عمر
وانقضت من قوى القسريّ مرَّتَهُ ... وأحكمت من حبالٍ غيرها مرر [3]
وقال أيضًا:
أَلَا قَطَعَ الرحمنُ ظهر مطيَّة ... أتتنا تَخَطَّى من دمشق بِخالد
وكيف يؤمّ الناس من كان أمه ... تدين بأن الله ليس بواحد [4]
قال: وجلس هشام لينظر فيما بين ابن هبيرة وسعيد بن عمرو الحرشي، وتظلم سعيد منه فخرج الربيع بن شابور مولى بني الحريش وهو حاجبه، فقال عمرو بن سعيد: لا يقم غيرهما. فقال سعيد: ولاني خراسان ففعلت ما يجب علي، وحمدني أهل البلاد، فكافأني بأن ضربني فأوهى بصري وأخذ مالي.
__________
[1] ربذ: خفيف القوائم في مشيه. القاموس.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 117- 118.
[3] ليسا في ديوانه المطبوع.
[4] ليسا في ديوانه المطبوع.(9/36)
فقال هشام: ما تقولُ يا عمر؟ قال: وليت العراق فوجدت هذا صعلوكًا ليس له إلا فرسه ورمحه، لا يعرفه أحد إلا أن له حظًّا من نجدة، فوليته البصرة ثم عزلته ووليته خراسان، فسرق الفيء واحتجنه ولم يبعث إلي إلا ببرذونين حطمين، فعزلته وضربته، وأخذت ماله، ووضعته في بيت المال.
فقال: ألكَ يا سعيد حجة غير ما ذكرت؟ قال: لا. قال: فأنت يا عمر؟ قال: لا. قال: فليمسك كل واحد منكما عن صاحبه حتى يرى أمير المؤمنين رأيه، فأمسكا.
[الأبرش الكلبي يكيد لابن هبيرة عند هشام]
قالوا: وَلَمَّا قدم ابن هبيرة على هشام وأمنه، كاده الأبرش وأصحاب خالد بن عبد الله، فأعدوا مائة من خيل المضمار سياسها وقوامها فقدموها وأضمروها، وأمروا مجريها أن يعارضوا بها هشامًا إذا ركب يومًا، فعورض بها، فسأل عنها، ورأى خيلا لا يعرفها لنفسه، فقالوا: هذه لابن هبيرة. فاستشاط غضبًا، وقال: وا عجبا، اختان ما اختان ثم قدم؟ فو الله ما رضيت عنه بعد وهو يوائمني في الخيل، عليّ بعمر، فدعي به وهو يسير في عرض الموكب فجاء مسرعًا وقد بلغه الخبر، فقال له هشام: ما هذه الخيل؟ قال: خيل أمير المؤمنين اخترتها وطلبتها من مظانها حتى جمعتها لك فمر بقبضها، وكان ذلك سبب نقاء قلبه له، وانشراح صدره بالرضا عنه.
ثم لم يزل عمر يتأتى لِهشام حتى أنس به، فقال له يومًا: هل لك في أمر لم يطمع فيه أحد ولم يعرضه عليك قبلي أحد؟ قال: وما هو؟ قال:
اعمل لك من قبل الوليد بن يزيد في البيعة لمسلمة ابن أمير المؤمنين. قال:
أو تفعل؟ قال: نعم. قال: فإن فعلت وليتك العراق.(9/37)
فأتى ابن هبيرة الوليد فقال له بعد حديث طويل جرى بينهما: أيّها الأمير لم تزل تلقى مثل ما تلقى من هذا الأحوال فيك، قد علم خؤولتنا لك وميلنا إليك فهو يجرعنا الغيظ بسببك لتصغيره إياك مرة وتهدده مرة، ولست آمنة عليك، فإن أذنت لي عملت لك في أمر تتعجل نفعه وتأمن به، ثم الأمر فيه إليك.
قال: وما هو؟ قال: تدعو هشامًا إلى أن يعقد الأمر بعدك لابنه أبي شاكر وتتعجل لك منه مالا رغيبًا جليلا فإن حدث بِهشام حدث نظرت في أمرك فإن شئت خلعت مسلمة وعقدت الأمر لِمن أحببت، فقد علمت طاعتي في قيس وهم أخوالك، فالأمرُ منته إلى ما رأيت وأردت. قال:
فافعل.
[أخبار خالد القسري]
فأتى هشامًا فقال: قد حكمت الأمر فهات العهد على العراق فإذا بويع لمسلمة مضيت. فأعطاهُ عهدًا، وكان خالد يَخاف ابن هبيرة خوفًا شديدًا، فيُقال إنه دس رجلا فضرب مضربًا في طريق ابن هبيرة إلى هشام، فلمّا مرّ به قام إليه فقال: أنا مولاك وقد لغبتَ فهل لك في شربة عسل تخوض بِماء بارد، فشربها ثم نهض يريد منزله، وقوض الرجل مضربه وانشمر، ومات ابن هبيرة من يومه ويُقال أنه فلج فمات.
وقال المدائني: كان يُقال: رجل أهل الشام عمر بن هبيرة، ورجل أهل البصرة عمر بن يزيد الأسيدي، ورجل أهل الكوفة بلال بْن أَبِي بردة بْن أَبِي مُوسَى الأشعري. فذكر ذلك لعمر بن يزيد فقال: صدقوا ولكن بلالا حية، فقيل ذلك لبلال فقال: رمتني بدائها وانسلت.(9/38)
[عمال خالد القسري على البصرة]
وقال المدائني: لما ولي خالد بن عبد الله العراق ولي البصرة أبان بن ضبارة من أهل اليمن، ثم عزله وولي عقبة بن عبد الأعلى الكلاعي، من أهل الشام، ثم عزله وولي عامر بن نُفَيْل الكلاعي أو الكلابي، فكلهم كانوا على الصلاة بالبصرة. وعلى الشرط والأحداث مالك بن المنذر بن الجارود العبدي من قبل خالد [1] .
وقال المدائني: أخذ الفضل بن بُرْجَان اللص العُطَاردي من بني تَميم أخذه شعيب بن الحبحاب الفقيه في العتيك، فرفعه إلى مالك فضربه حتى مات ثم صلبه، وأخذ مالك بن المنذر سَهمًا الصُّبَيْرِي أحد بني صُبير بن يربوع بن حنظلة فقتله، وكان سهم لصًا، وقتل جَمَاعة من اللصوص فقال خليفة الأقطع:
إن كنتِ لم تسألي سهمًا وصاحبه ... عن مالك فسلي فضل بن بُرْجَان
في أبيات.
وذكروا أن ابن المنذر سأل الحسن عن امرأة عذبت جاريتها حتى ماتت، فأمرهُ أن يعزرها ولم ير عليها قودًا.
حدثني عمر بن شبه وغيره عن أبي عاصم النبيل قال: صلى مالك بن المنذر فِي ثوب رقيق، فَقَالَ لَهُ البتيّ [2] : لا تصلّ في ثوب واحد رقيق، فلمّا ولي أرسلَ إليه فضربه عشرين سوطًا فقال: علام تضربني؟ قال: لأنك تأمر الناس ألا يصلوا إلا في الحجاب.
__________
[1] بهامش الأصل: مالك بن المنذر.
[2] البتي هو عثمان، رأى أنس بن مالك وروى عن الحسن البصري. اللباب لابن الأثير.(9/39)
[ولاية مالك بن المنذر شرطة البصرة]
قالوا: وبعث مالك إلى الحسن: ما هذه الجموع؟ لئن جلست مجلسك لأضربنّك ثلاثِمائة سوط، فقال: يكفيني من ذلك سوطان، فجلس في بيته وأمسكَ عن ذكر الأمراء.
حدثنا خلف عن عَبْد الوارث عن مُحَمَّد بْن ذكوان قال كان مالك بن المنذر على الشرط، فضرب ثابتًا البُناني، وشتم الحسن وقال: اعتزلَ مجلسنا وإلا ضربتك مائة سوط على ظهرك وبطنك فإنك تعيب أمير المؤمنين، والأميرُ، وتحرم القبالات.
المدائني قال: كتب مالك بن المنذر إلى خالد يذكر له أمر الحسن وعيبه الأمراء، فكتب إليه: إنك لست من الشيخ في شيء، فَالْهُ عَنْ ذكره وإيّاكَ أن تعرض له، فأتاهُ رسول مالك فقال له: إن أبا غسان يقرئك السلام ويقول إن رأيت أن تأتي المقصورة. فجعل يقول: إن أبا غسان يقرئك السلام ويقول: إن رأيت أن تأتي المقصورة فافعل، يردد ذلك ثلاثًا: لا، لا، لا. ثم دخل على مالك فوعظه وقال: اتق الله ولا تترجح في هذه الأماني فإن أحدًا لم يُعْطَ شيئًا بأمنية دون عمل.
وقال هشام ابن الكلبي: ضرب مالك عمر بن يزيد الأسيدي بالسياط حتى قتله.
قالوا: وكان عمر لِمالك صديقًا فوشى بِهِ بالكوفة إلى عَبْد الحميد بْن عَبْد الرحمن في أيامه فأزعجه من عنده، ووشى بِهِ إِلَى الْعَبَّاس بْن الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك حتَّى أزعجه، ثُمَّ وشى بِهِ إلى مسلمة بْن عَبْد الملك فلم يقبل منه، فلما رأى عمر أن مسملة لا يقبل صالَحَ مالكًا، فلما ولي مالك أحداث البصرة ذكر عَبْد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الله بن عامر، فنفاهُ من أبيه وعنده(9/40)
عمر بن يزيد، وحفص بن عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وغيره، فأتى عُمَر بْن يزيد عَبْد الأعلى فأبلغه قول مالك، وقَالَ: أَنَا أشهد لَكَ عَلَيْهِ فشخص عَبْد الله إلى خالد وهو بواسط، وأشخصَ معه عُمَر بْن يزيد وحفص بْن عُمَر بْن مُوسَى بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر فشهدا على مالك بِمَا قال فكذبهما خالد وتهددهما وقال لعمر بن يزيد: أنا أعرفُ شرارتك ومحلك وحبسه عنده ودس شهودًا فشهدوا أنه يشرب الخمر فضربه خالد حَدًّا وَحَدرَه إلى مالك فضربه بالسياط حتَّى وقذه، ثُمَّ أمر بِهِ فحمل إلى السجن فلويت عنقه فمات، وادّعي أنه مصّ خاتمه فمات، وإنّما أشاعَ ذلك أصحاب خالد. فلمّا مات عمر جزعت بنو تَميم، وتنمرت لربيعة، وحدبت ربيعة على مالك ومالت إليه، واشرأب الناسُ للفتنة فقمعهم السلطان.
وحدثني عُمَر بْن شبه، حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن معاوية عن المشجع قَالَ:
دخلتُ عَلَى عُمَر بْن يزيد بْن عمير السجن فَقَالَ: ما فَعَلَتْ داري؟ قلت:
هُدمت. قَالَ: فَنَخْلي؟ قلت: قُطع. قَالَ: ما أهون ذلك عليّ إن سلمت نفسي.
المدائني عن سحيم بْن حَفْص قَالَ: قَالَ الحسن: إن مالكًا قتل عمر بن يزيد ليعزّ، فلم يزده الله إلا ذلا، وإن عُمَر بْن يزيد قُتل شهيدًا، وكان مالك شاور بشير بن عبد الله بن أبي بكر وعمرو بْن مُسْلِم الباهلي فِي أمر عُمَر بن يزيد، فَقَالَ لَهُ بشير: إن قَتَلْتَه قتلت عصفورًا، وإن تركته تركت أسدًا، وقال عمرو: أقتله، فقال الفرزدق:(9/41)
لله قومًا شاركوا فِي دمائنا ... وكنا لَهُمْ عونًا عَلَى العثراتِ
فجاهرنا بالغش عَمْرو بْن مسلم ... وأوقد نارًا صاحب البكرات [1]
وقال الفرزدق:
يا لتميمٍ ألا لله أمكم ... لقد رُميتم بإحدى المصمئلات
[2]
واستشعروا بثبات الذل واغتربوا ... إن لم تروعوا بني أفصى بغارات
أَوْ تقتلوا بفتى الفتيان قاتله ... وتقتلوا بصعيد غير أشتات
لله در فتى راحوا بِهِ أصلا ... مهشم الوجه مهشوم الثنيات [3]
فخرجت رجال تَميم وخرجت عاتكة بنت الملاءة امرأة عمر فدخلت على امرأة هشام، فجعلت لا ترى معها شيئًا حسنًا من جارية أو غيرها إلا قالت: ما أحسن هذا، فتقول: هو لك، فلما جهدت وجهد القومُ نزلوا على عثمان بن حيان المري.
قالت ابنة الملاءة: فأتيناهُ وهو في مزرعة له فشكونا إليه أمرنا، فقال: قد والله بلغنا أمركم فساءنا وأحفظنا، ولبس ثيابه ثم أقبلَ معنا إلى هشام وكان لا يُحجب عنه، وأَطَفْنَا به، فصاح عثمان: قبح الله طاعة لا تُعرف لأهلها، ونصيحة لا تُشكر لِمن عُرف بها، فأسمع هشامًا فخرج الخدم يقولون: من هذا؟ فقيلّ عثمان بن حيان. فدخلوا فأعلموا هشامًا ثم خرجوا إليه فقالوا: ليدخل عثمان، فدخلَ فأعلم هشامًا وكلمه فقال
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 116.
[2] المصمئلات: الدواهي.
[3] ديوان الفرزدق ج 1 ص 107- 108 مع فوارق.(9/42)
هشام: ويحك أتتهمني في أمر عمر؟ والله لولا أن السماء والأرض قامتا بالعدل لقتلتُ قاتل عمر وعشيرة قاتله.
ثم أقبل على الحر بْن يُوسُف بْن يَحْيَى بْن الحكم بن أبي العاص فقال:
ما رأيتُ الرجل الصبيح الفصيح عمر بن يزيد بن عمير الأُسيدي فإنه قتل، والله ما كنت أحب أن أمي ولدت رجلا من العرب غيره، قال: يا أميرَ المؤمنين فمثل هذا يقتل دونك، قال: قد كتبت في حمل قاتله.
قالت عاتكة بنت الملاءة: فقدمنا ومالك قاعد على ضفة النهر فأخبر بِمقدمنا ومقدم رسول هشام معنا فركب سفينة ثم أتى الكوفة فلم يفارقه الرسول حتى حمله إلى هشام.
حَدَّثَنِي عُمَر بْن شَبَّةَ عَن أَبِي عَاصِم النبيل، أخبرني العُذَافر بن يزيد قال: لَمّا قدم مالك بن المنذر واسطًا، أتيته أنا وأبي فجاءه رسول لأمير المؤمنين فكلمه على باب خالد، فقال: يا دُكين اكسر أنفه، فدخل الرسول على خالد فقال: كسر أنفي على بابك. فقال: مالك له يا مالك؟. قال:
منعني الدخول. فلمّا أراد الخروج قال: ما يسرني أن الله عافاني من النقرس ورجعني من وجهي سليمًا وإني لم أكن فعلت به الذي فعلت.
المدائني قال: لَما قتل مالك عمر دله أو كاد يدله [1] ، حتى كان يسلك الطريق من طرق البصرة فيقول: أين أنا؟. وكان عمر يقول لَمّا ضربه مالك: يا هشام يا هشام.
وقال الفرزدق:
__________
[1] الدله: ذهاب الفؤاد من هم ونحوه. القاموس.(9/43)
أَلَمْ يَكُ قَتْلُ عبد القيس ظلمًا ... أبا حفصٍ من الكُبر العظام
قتيل جماعة في غير جرمٍ ... ينادي وهو يُضرَبُ يا هشام [1]
المدائني وغيره قالوا: أُدخل مالك بن المنذر على هشام فقال:
لا مرحبًا ولا أهلا، لا قَرَّبَ اللَّه داركَ ولا سهلّ محلّتك، أقتلت عمر بن يزيد، فوالله لَهو كان خيرًا منك حسبًا ونسبًا وريشًا وعقبًا، فقال مالك: ولم يا أمير المؤمنين؟ ألست ابن المنذر بن الجارود ومالك بن مسمع؟. فأمرَ به فوجئت عنقه، ثم أمر بحبسه وإثبات البينة عليه، فمات فِي السجن، فيُقال إن القيسية دسوا إليه من قتله في السجن، ويُقال، مصَّ خاتمه، ويُقال:
مرض ومات حتف أنفه.
وقال الفرزدق:
لئن مالك أمسى قد انشعبتْ به ... شَعُوب التي يودي بها كل ذاهب
وإن مالكًا أمسى ذليلا لطالَما ... سعى في التي من صادفت غير آئب [2]
في أبيات. وقال أيضًا:
ألم تر أن الله ربي بحوله ... وقوَّته أخزى ابنَ عمرةَ مالكًا
فمن يك عنه سائلا بصنيعةٍ ... فقد ظلَّ في أرض الرصافة هالكًا
تظل الضباع العاويات بنشنه ... إذا جنّ مسودّ من الليل حالكا [3]
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 276 مع فوارق
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 31 مع فوارق.
[3] لم ترد هذه الأبيات في ديوان الفرزدق المطبوع.(9/44)
[أخبار خالد القسري]
وقال أبو اليقظان: كان مالك حبس الفرزدق، وذلك أن خالدًا حين كان على مكة من قبل الوليد بن عبد الملك ضرب محمد بن طلحة بن عبيد الله أو عبد الله بن شيبة مائة سوط، فكتب سليمان بن عبد الملك إلى طلحة بن داود الحضرمي، وكان على قضاء مكة يأمره أن يَقُصَّهُ منه، فضربه مائة سوط فمر به الفرزدق وهو يضرب فقال له: اضمم إليك جناحيك يا بن النصرانية، وقال:
لَعَمْرِي لقد صُبَّت على ظهر خالدٍ ... شآبيب ما استهللنَ من سَيَل القطر
وعمري لقد صالَ ابن شيبة صولة ... أرتك نجومَ الليل مُظْهَرَةً تجري
أتضرب في العصيان تزعم من عصى ... وتعصي أمير المؤمنين أخا قَسْر
فَنَفْسَكَ لُمْ فيما أتيتَ فإنها ... جزيتَ جزاء بالمجدرجة السُّمْر
ولولا يزيد بن المهلبِ حلقت ... بكفك فتخاءُ [1] الجناحِ إلى الوكر [2]
قالوا: وكان سليمان أمر بقطع يده، فسأله يزيد أن يُضرب كما ضرب الرجل.
قال هشام ابن الكلبي: هو عبيد الله الأعجم بن شيبة بن عثمان بْنِ أَبِي طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عثمان بن عبد الدار، ضربه القسري فضرب له.
وقال الفرزدق:
سلوا خالدًا لا أصلحَ الله خالدًا ... متى وَلِيَت قَسْرٌ قريشا بدينها
__________
[1] الفتخاء: العقاب.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 301.(9/45)
أَبَعْد رسول الله أم قبل عهده ... أم اضحت قريش قد أغثَّتْ سمينَها
أَرَدْنا هُداه لا هَدَى الله قلبه ... وما أمُّهُ بالأم يُهْدَى جنينها [1]
كانت أم خالد سوداء نصرانية، فكتب خالد إلى مالك: خذ الفرزدق فإنه هجا نهر أمير المؤمنين فأمر مالك أيوب بن عيسى الضبي فتلطف له حتى أخذه، فلما قيل لِمالك: قد أخذ الفرزدق، انتفخَ وريده غضبًا، فلمّا وقف بين يديه أنشده قوله:
أقول لنفسي حين غَصَّتْ برِيقها ... ألا ليت شعري ما لها عند مالك
لها عنده أن يُرجع الله روحها ... إليها وتنجو من عظام المهالك
وأنت ابن جَبَّارَي ربيعة أدركا ... بك الشمس والخضراء ذات الحبائك [2]
قال: فسكن غضبه وأمر به إلى السجن فقال وهو في السجن:
رأيتُ أبا غسان عَلَّق سيفه ... على عاتقي شغْب على من يشاغبه
ترى الناس كالدَّمْعَى له وقلوبهم ... تَنَزَّى وما فيهم عريب يُخاطبه
أذلّ به الله الذي كان ظالِمًا ... وَعَزَّ بِهِ المظلوم واشتد جانبه
وقد علم المصر الذي ضاع أنه ... سيُحْمَى وتَمشي بالسيوف كتائبه [3]
وقال في السجن:
يا مال هل لك في كبير قد أتت ... تسعونَ فوق يديه غير قليل
يا مال هل هو مهلكي ما لم أقل ... وليعرفنّ من القصائد قيلي
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 334.
[2] ديوان الفرزدق ج 2 ص 56.
[3] ديوان الفرزدق ج 1 ص 70- 71 مع فوارق كبيرة.(9/46)
لا تأخذن عليّ قول مُحَرِّشٍ ... ضغن عليّ وَتَرْتُه متبول
إني بذمة مالك وبِمنذرٍ ... أبويك محترسٌ لكل محول [1]
وأم مالك عمرة بنت مسمع، ولم يطلقه حتى حبس عمر بن يزيد معه ثم قتله وأشاعَ أنه مصّ خاتمه فمات، فقال له الفرزدق:
لقد قيل قد مَصَّ الأسيديّ خاتمًا ... وقد دُقَّ منه عظمه ومفاصله
وإني لأخشى مثلها منه إنه ... إذا علقت أنيابه وحبائله
بقرنٍ أصابَ القلب منه بِمخلبٍ ... تَرَمَّلَ منه أنفه وجحافله [2]
فلما حمل مالك قال الفرزدق:
ستعلم عبد القيس إن زال ملكها ... على أيّ حالٍ يستمر مريرها
وكان يجير الناس من سوط خالد ... فأصبح يبغي نفسه من يجيرها
وكنت كعنز السوء قامت لحينها ... إلى مديةٍ مدفونةٍ تستثيرها [3]
وقال الفرزدق:
وزهَّدني في شرطة الْمِصْر أنني ... رأيتُ عليها مالكًا عقب الكلب
وما مالك إلا عجوز كبيرة ... مضببة الأنياب توجف في الركب [4]
وقال أيضًا:
لعمرك ما أشبهت جدك مالكًا ... ولا جدك الجارود يا عقب الكلب [5]
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 122- 123 مع فوارق.
[2] لم ترد هذه الأبيات في ديوان الفرزدق المطبوع.
[3] ديوان الفرزدق ج 1 ص 198 مع فوارق.
[4] ليسا في ديوان الفرزدق المطبوع.
[5] ليس في ديوان الفرزدق المطبوع.(9/47)
ولم يزل الفرزدق محبوسًا حتى ولي النَّضْر بن عمرو فقال:
ألا طَالَ مَا رسّفتُ في قيد مالك ... فأصبح في رجليه فيدي محوَّلا
وأطلقني النَّضْرُ بن عمروٍ وربّما ... بكفيه قد فكّ الأسير المكبلا [1]
[ولاية بلال بن أبي بردة البصرة]
قالوا: وَلَمَّا هلك مالك ولى خالد بن عبد الله شرط البصرة:
بلال بْن أَبِي بردة بْن أَبِي مُوسَى [2] .
وولى صلاتها النضر بن عمرو، وذلك في سنة عشر ومائة.
المدائني عن الوضاح بن خيثمة قال: رأيتُ النضر بن عمرو، وبلال بن أبي بردة، يمشيان في جنازة الحسن بن أبي الحسن والنضر على الصلاة، وبلال على الأحداث.
قال أبو بكر الهذلي: بعثني النضر إلى الحسن أسأله عن يوم عرفة ما كان الناس يَصْنَعُونَ فيه، فقال: وما لِهذا وليوم عرفة؟ قلت: إنه لمن خيرهم، قال: صدقت إنه لمن خيرهم.
قالوا: ذكر الحسن من تقدم من هذه الأمة ثم أقبل على النضر بن عمرو فقال: قد أصبحت والله مخالفًا للقوم في هديهم وسيرتهم، وأنت تتمنى على الله الأماني، وتترجح فيها، فإن أخاكَ من صدقك ونصح لك في دينك، ولَمن صدقك ونصح لك في دينك خير لك ممن غشك وغَرَّكَ، وكان ثمامة بن أنس على القضاء من سنة ست ومائة إلى سنة عشر ومائة.
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 151.
[2] بهامش الأصل: بلال بن أبي بردة.(9/48)
قالوا: وكتب خالد إلى بلال بعهده على البصرة، وولاه القضاء، فولى بلال الأحداث عبد الأعلى من الأزد، وكان بلال يقضي بين الناس وهو أمير، فقال رؤبة بن العجاج:
بلال يا بن الشرف الأمحاض ... والثابت النعل على الإدحاض
أنت ابن كل سند فياض ... وأنت يا بن القاضيين قاض
معتزم على الطريق ماض [1]
وكان ثَمامة موضحًا [2] وكان مُخِلطًا استعدته امرأة على رجل ولم تقم البينة، فأراد إحلافه فقالت المرأة: إنه رجل سوء يحلف ليذهب حقي، ولكن استحلف إسحاق بن سويد فإنه جاره، فأرسل إلى إسحاق بن سويد ليستحلفه فقال خلف بن خليفة الأقطع يذكر بلالا:
وكنا قبل مقدمه علينا ... من الشيخ المولع في بلاء
يعني ثمامة بن أنس.
ومدح بلالا رؤبة، وذو الرمة، وكان رؤبة بخيلا، فقال رؤبة لبلال: علام تعطني؟ فقال ذا الرمة: والله ما يمدحك إلا بِمقطعاتنا هذه، يعمد إليها فيوصلها ثم يمدحك بها، فقال: لو لم أعطه إلا على تأليفها لأعطيته.
المدائني قال: بثق بلال نَهر معقل في الفيض، واحتفر نَهر بلال، وبنى عليه الحوانيت، ونقل إليه السوق وجعله ليزيد بن خالد القسري، ومدحه الفرزدق، فمن شعره:
__________
[1] ديوان رؤبة بن العجاج ص 81، 83 مع فوارق.
[2] الوضح: البرص. والمخلط: الذي فيه حمق. القاموس.(9/49)
ومظلمة علي من الليالي ... جلا ظلماءها عني بلال
بخير يمين مدعو لخير ... تعاونها إذا نهضت شمال
ترى الأبصار شاخصة إليه ... كما ينظرن حين يُرى الهلال [1]
حدثنا عُمَر بْن شَبَّةَ عَنْ أَبِي عَاصِم النَّبِيلِ قال: قال يزيد بن طلحة الطلحات لبلال، واستبطأهُ في عيادته، وعاد الزعل الجرمي:
أفي حُمَّى ثلاثٍ زرت جرمًا ... وتترك شيخ قومك يا بلال
وقال أبو عاصم: أوصى يزيد فجعل للإناث من ولده مثلي ما للذكور، ولعن في وصيته من غيرها، فأتي بها بلال فقال: أنا أول من غيرها فعلى يزيد لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
حدثنا عباس بن هشام الكلبي عن خراش بن إسماعيل قال: ولى خالد بلالا البصرة فانحدرَ إليها ابن بيض [2] وكان له صديقًا وأقامَ على بابه أيامًا لا يؤذن له فكتب إليه.
قل للأمير جزاهُ الله صالِحةً ... أهل التقى والذي يحيا به الدين
يا هل ترى حرجًا في شرب خابيةٍ ... صهباء يكسر عن خرطومها الطين
وهل ترى حرجًا في نيك أرملة ... مسكينة ناكها قوم مساكين
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 135.
[2] حمزة بن بيض الحنفي، شاعر اسلامي من شعراء الدولة الأموية، كوفي خلع ما جن، من فحول طبقته، وكان كالمنقطع إلى المهلب بن أبي صفرة وولده، ثم إلى أبان بن الوليد، وبلال بن أبي بردة، واكتسب بالشعر من هؤلاء مالا عظيما، ولم يدرك الدولة العباسية.
الأغاني ج 16 ص 202.(9/50)
فلمّا قرأها قال: هذا والله ابن بيض، أدخلوهُ الفاسق، فلما دخل عليه قال: والله يا فاسق ما كنت لأصل إليك إلا بالشر.
وأرسلَ بلال علي بن يزيد إلى هند بنت المهلب يخطبها فقالت: مالي عنه رغبة، وهذا كتاب خالد بن عبد الله يخطبني ولو أردت التزويج ما عدوته.
المدائني قال: كتب خالد بن عبد الله إلى بلال أَنْ وَلِّ نَصْر بن حسان العنبري ولاية، فأرسل إليه بلال يدعوهُ فقال للرسول: قل له أصلّي ثم آتيك. فقال للرسول: قل له: إن الذي كنت تصلي له قد جاءك فدع الصلاة وأقبل.
وقال رجل من بني صُبَيْر: جيء بابن عون إلى بلال فتحدثنا بيننا أنه إنّما جيء به بسبب قتادة فجاء قتادة فقام إليه ابن عون فقال: يا أبا الخطاب اتق الله فقد وجدتها بدار مَضْيَعَة.
تعدو الذئاب عَلَى من لا كلاب لَهُ ... وتتقي صولة المستأسد الحامي
ثم لم نلبث أن دخلنا على بلال فقال لنا: اخرجوا، فبقي ابن عون وقتادة فقال له بلال: طلقها، قال: هي طالق. قال: طلقها ثلاثًا.
قال: واحدة تبينها مني. قال: أتعلمني وأنا ابن أبي موسى صاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. قال: فهي طالق ثلاثًا. قال: يا أبا الخطاب في هذا شيء أكبر من هذا. قال: قد كانت الولاة تؤدب في هذا، أو قال: تعزر في هذا السوطين والثلاثة، فأمر بضربه ونحن نراهُ، فضربه أربعة وأربعين نعدّها ثم خرج والدم يسيل.(9/51)
قال أبو عبيدة: أخبرني يونس بن حبيب قال: زعم بلال أنه لو كان مكان أبي موسى ما خدعه عمرو بن العاص، وقد خدعه يوسف بن عمر مجنون من ثقيف، كتب إليه: لا سبيل عليك إنما وليت الصلاة والقضاء فأقم بمكانك وخذ العمال قِبَلَك بالاستخراج، فأقامَ واستخرجَ له ما أراد ثم عدا عليه فحبسه حتى مات في حبسه.
قالوا: وكان بلال إذا غربت الشمس، أو كادت تغرب، وضع طعامه، فإذا مدّ الناس أيديهم نودي بالصلاة فقام وقاموا، فنودي مرة بالصلاة وقتادة يأكل فلم يقم ولم يقم رجل آخر معه فلحظه، قال الرجل فلم يؤذن لي بعد ذلك أشهرًا، ثم إن امرأتي استعدته علي وادّعت أني أَضْرُبُها وأضر بها، فقال: صدقت وضربني أربعين سوطًا، وإنّما ضربني لأكلي طعامه مع قتادة.
وكان الناس يتفرقونَ عن طعام بلال للصلاة، فيأخذه العسس والخدم، فكان من حوله يشترون ذلك، فكان من قرب منه يقولون:
ما رأينا جارًا خيرًا من بلال.
وقال بكر بن حبيب الباهلي: حكمت بلالا في حاجة فقلت: أنت في كرمك وعدلك أحق من فعل هذا. فقال: وأنت في بلاغاتك وفصاحاتك لا تنقلبُ اليوم بِحاجاتك. فقلتُ: لو علمت أن اللحن ينفعني عندك لخضرمت خضرمة أبي شيخ الفقيمي وكان لحانا، فقال له أبو شيخ: كيف(9/52)
ذكرتني وتركت ابن عمك الذي يقرأ غير المغضوب عليهم ولا الضالون، ويُقال لحضجت بها حضجات [1] أبي شيخ.
وقال العريان بن الهيثم لبلال بن أبي بردة إنه ليريبني بياض راحتيك، ورَوْح قدميك، وانتشار منخريك، وجعودة شعرك- يُعرض له بالزنجية- فقال بلال: إني لأكرهُ أن أجعل أبا موسى ندًّا للأسود، وأبا بردة ندًّا للهيثم ونفسي ندًّا لك، ثم تمثّل:
أنا مسكين لمن يعرفني ... ولِمن ينكرني جد نطق
لا أبيع الناس عرضي إنني ... لو أبيعُ الناس عرضي لنفق
قالوا: ودخل مسلم بن الشمردل الباهلي على بلال فتربع، فقال له بلال: جلست جلسة بغي، فقال له مسلم: وإنك بجلوسهن لعالم.
فقال: يا بن اللخناء.
وقال أبو نوفل لبلال:
أبلال إني رابني من أمركم ... قولٌ تَزَيِّنُهُ وفعل مُنْكَرُ
ما لي أراكَ إذا أردت خيانةً ... جَعَلَ السجودُ بِحُرِّ وجهك يظهر
متخشعًا طبًّا بكل عظيمةٍ ... تتلو القران وأنت ذئب أغبر
وقال الجارود بن أبي سبرة لبلال: أتدري ما قال حارثة بن بدر لعبد الرحمن بن أم الحكم؟ قال: ما قال له؟. قال: قال:
نَهَارُهُ فِي قَضَايَا غَيْرِ عَادِلَةٍ ... وَلَيْلُهُ فِي هوى سعد بن عباد
__________
[1] التحضيج شبه التضجيع في الكلام المبتدإ، والاضجاع في القوافي كالاكفاء أو الإقواء، وفي الحركات: كالإمالة والخفض. القاموس.(9/53)
فأمر صاحب الجالية فأغرمني ثلاثمائة درهم وما في أرضي ذمي واحد.
وقال ابن نوفل:
أقولُ لِمَن يسائل عن بلال ... وعبد الله عند ثنا الرجال
بلالٌ كان ألأم مَنْ علمنا ... وعبد الله أَلأَمُ مِنْ بلال
هما أخوان أما ذا فَجَوْنٌ [1] ... وأما ذا فأحمر ذو سبال
وقال بلال وهو في حبس يوسف بن عمر: لو سئلت مائة ألفٍ، أو مائتي ألف، أو ألف ألف لأدّيتُها، ولكني دُفعتُ إلى مجنون، فقال لصاحب عذابه من آخر الليل: إن أدّى عشرة آلاف ألف درهم قبل طلوع الشمس وإلا فأزهق نفسه، فقلتُ: لو كان عندي بدرٌ مهيئة ما فرغت من استيفائها في هذه المدة.
وقال بعضهم: ما قتل بلالا إِلا دَهْيَه، قال للسجان: خذ مني مائة ألف وأَعْلِمْ يوسف بن عمر أني قَدْ مِتُّ.
وكان يوسف بن عمر إذا سمعَ بِموت محبوس قال: ادفعوهُ إلى أهله، فأتى السجان يوسف فقال: قد مات بلال، فقال: أرنيه ميتًا فإني أحبُّ أن أراهُ وهو ميت، فجاءه السجان فألقى عليه شيئًا غمه به حتى مات، ثم أراهُ يوسف.
قالوا: وخاصم عيسى بن عمر النحوي إلى بلال وجعل يُعرب وخصمه ينظر إليه متعجبًا، فقال بلال: أَقْبِل على حجتك ودَع النظر إلى خصمك فلأن يذهب حقه أحبُّ إليه من أن يلحن.
__________
[1] الجون: النبات يضرب إلى السواد من خضرته، والأحمر والأبيض والأسود. القاموس.(9/54)
قالوا: وحبس بلال بن أبي بردة ثلاثة نفر اتهمهم بالزندقة، فبلغ خبرهم ابن برهمة، وكان من أخص الناس بِخالد بن عبد الله، فاستأذنه في إتيان البصرة فقدمها فأتاهُ الناس ولم يأته بلال وجعل يوهم الناس أنه قدم ناظرًا من قبل خالد فأتاهُ ابن أبي العوجاء وعنده عبد الرحمن بن يزيد بن المهلب، فرفع ابن أبي العوجاء وعبد الرحمن جالس على البساط، فقال ابن صُديقة وكان ماجنًا: عبد الرحمن على البساط وابن أبي العوجاء على الفراش، ثم جاءه فكلمه في الذين حبسهم فخلاهم، فقال يحيى بن نوفل:
زعم الزاعمونَ أن حسين بن عبيد ... بن برهمة زنديق
ولعمري لئن هم زعموه ... ما اشتطّوا وإنّه لخليق
إن من يشرب الخمور ويزني ... في خلاء بِما رُمِي لَحقيق
قال: وكان بلال سكيرًا يعلن بشرب النبيذ.
قال أبو الحسن المدائني: أرسل بلال رسولا إلى قصاب في جواره بالسحر، قال: فدخلتُ عليه وبين يديه كانون، وفي صحن الدار تيس، فقال للقصاب: اذبحه. قال: فذبحه وسلخه وشَرَّحَهُ وأنا بين يديه فأكله إِلَّا عظامه، وبقيت مضغة على الكانون فقال لي: كلها، وجاءت جارية بقدر فيها دجاجتان وناهضان [1] وأرغفة فأكل ما فيها، ثم دعا بشراب فشرب منه أقداحًا ثم أمر لي بقدح فشربته ثم قال: الحق بأهلك.
قالوا: واتخذ بلال حوانيت كانوا يبيعونَ فيها النبيذ فقال بعضهم:
لله در عصابة نادمتهم ... في كل بيت من بيوت بلال
باتوا موتَّرةٌ عليَّ قسيّهم ... يرمونني رشقا بغير قتال
__________
[1] الناهض: فرخ الطائر. القاموس.(9/55)
الأصمعي عن أبي الزناد عن أبي الزناد عن أبيه قال: عاتبتُ ابن هبيرة في بلال بن أبي بردة، وقلت: أراك تَجفوهُ وتقصيه فقال: ويلك إن قربته أخذني فجعلني في كمه.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْن شَبَّةَ عَن أَبِي عَاصِمٍ، أخبرني أبي قال: كان كاتب يكتب خلف بلال فأقطر على ثوبه قطرة فقال: أتراني أحبك بعد هذا أبدًا.
المدائني قال: كان بلال يخاف الجذام، فوصف له السمن، فكان يستنقع فيه، ثم يبيعه فترك أهل البصرة أكل السمن إلا أن يسلأه رجل في بيته.
وروي عن الجارود بن أبي سبرة قال: قال لي بلال بن أبي بردة: أتأتي صديقك اليوم عَبْد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الله بن عامر؟ قلت: نعم.
قال: فما تصنعون؟ قلت: نأتيه وهو متصبّح [1] فنقعد حتى يستيقظ فإن حدثناهُ أحسن الاستماع، وإن سكتنا ساقطنا أحسن الحديث، ثم يأتي خبازه فيخبر بِما عنده مما أعد، فإذا وُضعت المائدة أخوى تخوية الظليم وَعَذَّر في الأكل، ويجيء من عند بناته ونسائه ألطافٌ، حتى إذا أمعنَ القوم في الأكل حسر عن ذراعيه وجثا على ركبتيه واستأنفَ الأكل.
علي بن محمد المدائني قال: استرضعَ أبو موسى لابنه أبي بردة في بني فُقَيم في العراق في آل الغَرِق، فلمّا قدم بلال البصرة قيل له: لو وليت أبا العجوز ابن أبي شيخ بن الغرق، فقال: رأيت منه ثلاثًا: رأيته يحتجم في بيوت أخوانه، ورأيتُ عليه مظلة وهو في الظل، ورأيته يبادر إلى بيض البُقيلة.
قال أبو الحسن المدائني: لَمّا ولي بلال قال خالد بن صفوان: «سحابة
__________
[1] الصبحة: نوم الغداة. القاموس.(9/56)
صيفٍ عن قليل تَقَشَّعُ» فدعا به فقال له: أنت القائل: سحابة صيف عن قليل تَقَشَّع؟. أما والله لا تقشع حَتَّى يصيبك منها شُؤبوب [1] بَرَدٍ فضربه مائة سوط.
ويُقالُ إن خالدًا كان يغشاهُ في سلطانه ويغتابه إذا غابَ عنه، ويقول:
ما في قلب بلال من الإيمان مثل ما في بيت أبي الزرد من الجوهر، وكان أبو الزرد الحنفي مفلسًا، فأخذه بلال، وخاف خالد أن يقتله، فقال بلال: والله لا أتركك إلا بكفالة عشرة فيهم نعيم أخوك، فكفلوا به على أنه إن غابَ فعليهم مائة ألف، فهرب خالد وأحضرهم فأخذ منهم بلال المائة الألف، فقال خالد:
فلا تحسبني يا بن واهصة [2] الخُصى ... ضعيف القوى لا يستطيع التحولا
أتيح لنا من أرضه وسمائه ... بلال أراحَ الله منه فَعَجَّلا
فلمّا أخذ يوسف بن عمر بلالا وثب عليه خالد فقال: أصلح اللَّه الأمير، هَذَا بلال بْن أَبِي بردة بن أبي موسى، وكان جده حلاقًا فاكتنى بموساه، وكانت جدته طهفة بنت ذمون حالكة الجلدة، قردة الشعر [3] ، وكانت أمه أَمَةً لأبيه يضربها في الدرهم، وتطوف في الأسواق وكأن رجليها حوافر حمار، يغمز العبيد شواكلها [4] . فقال بلال: أنت تكلمني والأمير عنك راض وعليّ ساخط، وأنا غريبٌ، وأنت على باب منزلك.
وكان يوسف بالحيرة يومئذ فنسبه إلى أنه من أهل الحيرة. قال: ألست
__________
[1] الشؤبوب من المطر: الدفعة من المطر. القاموس.
[2] الوهص: الجب والخصاء. القاموس.
[3] قرد الشعر: تجعد. القاموس.
[4] شكلت المرأة شعرها: ضفرت خصلتين من مقدم رأسها عن يمين القاموس.(9/57)
خالد بن صفوان بن الأهتم القائم على برثنه [1] ، وإنّما أنت بمنزلة الكلب يجترئ على باب أهله، علق أبوه وعمه محررتين من محررات أهل البصرة، حتى إذا خافَ أهلوهما فضيحتهما زوجوهما بِهما، فأنت ابن أمة بني زياد، فقال خالد ليوسف: أيها الأمير، هذا أحمق الناس والله ما يدري أين دار أعرابيته من دار هجرته، فقال بلال: بلى والله إن دار أعرابيتي اليمن ودار هجرتي المدينة، وأخبرك عن دار أعرابيتك وهجرتك، أما دار أعرابيتك فالحيرة وأما دار هجرتك فالبصرة.
ولم يزل بلال على البصرة حتى عزل هشام:
خالدًا [2] عن العراق في سنة عشرين ومائة، وولى يوسف بْن عُمَر بْن مُحَمَّد بْن الحكم بْن أَبِي عقيل بن مسعود الثقفي. وكان خالد جوادا.
[أخبار خالد القسري]
حدثني عمرو بن محمد الناقد وعمر بن شبه قالا: حدثنا أبو نعيم، أنبأ فضيل بن الزبير قال: سمعتُ خالدًا يقول: زمزم لا تُنزح ولا تَذَمّ، بلى والله إنَّها لتُنْزح وتُذَم، هذا أمير المؤمنين قد ساق لكم قناة بمكة من حالها وحالها.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ فِي إِسْنَادِهِ أن خالدًا قال: إن نبيّ الله إسماعيل استسقى ربه فسقاهُ ملحًا أُجاجًا، وسقي أمير المؤمنين عذبًا زلالا، بئرًا احتفرها له.
وقال أبو عاصم النبيل: ساق خالد الماء إلى مكة فنصب طستًا إلى جانب زمزم، ثم خطب فقال: قد جئتكم بِماء الغادية لا يشبه ماء أم الخنافس- يعني زمزم-.
__________
[1] البرثن: الكف مع الأصابع. القاموس.
[2] بهامش الأصل: خالد القسري.(9/58)
وخطب خالد فأُرتج عليه، فقال: إن الكلام يجيء أحيانًا ويَعْزُبُ أحيانًا، وربما طُلِبَ فأبى، وكوبر فعصى، والتأني لمجيئه أيسر من التعاطي لأبِيّه، وقد يختلج من الجريء جنانه، ويعتاص على الذرب لسانه، ثم قال:
لا يُكابَر القول إذا امتنع، ولا يُرَدُّ إذا اتّسع، وسأعودُ فأقول إن شاء الله.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعَجْلِيُّ عَنْ ابن كناسة قال: ارتجّ على خالد في خطبته فقال: أيها الناس إن الكلام يجيء أحيانًا ويذهبُ أحيانًا، فينطلقُ اللسان إذا أتى ويعجز إذا أبى، ولم يقصر بنا عن القول عي، ولا عَرَض لنا دون بلوغ الإرادة إفحام، وللجواد كبوة، وللصارم نبوة، وسنعود فنقول إن شاء الله.
حدثني عمرو بن محمد الناقد وغيره قَالُوا: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عن رجلٍ أخبره عن سفيان بن أبي عبد الله قال: سمعت خالدًا يقول اللهم العن عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بن هاشم زوج فاطمة وأبا الحسن والحسين، هل كنيت [1] .
المدائني قال: صعد خالد المنبر فأرتج عليه فقال: إن الكلام يعرض أحيانًا فيتيسر ويَمتنع عند عزوبه، وأولى من عذر على النبوة من عُرفت سهولته عليه. ثم نزل.
أبو عاصم النبيل عن عمر بن قيس أنه سمع خالدًا يقول حين أخذ سعيد بن جبير وطلق بن حبيب بِمكة: كأنكم أنكرتم ما صنعتُ، والله لو كتب إليّ أميرُ المؤمنين أن أنقضها حجرا حجرا لفعلت- يعني الكعبة-.
__________
[1] بهامش الأصل: عليك....... رضي الله عن علي وسائر الصحابة أجمعين.(9/59)
قالوا: وأمر خالد ببناء بيعة لأمه [1] فكلم في ذلك فقال: نعم يبنونَها فلعنهم الله إن كان دينها شرًّا من دينكم.
قالوا: وكلم في عامل له ضرب رجلا، وسئل أن يقتص منه، فقال:
أقتص من عامل؟ فو الله لئن اقتصصت منه لأقص من نفسي، ولئن اقتصصت من نفسي ليقصنّ أمير المؤمنين من نفسه، ولئن أقص أمير المؤمنين من نفسه ليقصن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من نفسه، ولئن أقص رسول الله من نفسه ليقصن هاه هاه- يريده تبارك وتعالى [2]-.
ويُقال إنه قال: أرسول أحدكم أكرم عليه أم خليفة؟. ويُقال إن الحجاج قال ذلك [3] .
حدثني عمر بن شبه عن أبي نعيم عن سفيان الثوري قال: كان أول سلطان خالد يُقال له العُرْس.
المدائني قال: لحن خالد في خطبته فقال: إن تكونوا رجبيّون فإنا رمضانيّون، وكان يقول: اللهم أصلح عبدك وخليفتك هشام أمير المؤمنين.
وقال خالد للفرزدق وقد مدحه: ما بالك لم تَقُلْ فيَّ كَما قلتَ في قوم سمّاهم من قريش وغيرهم؟ فقال: هات أنسابًا كأنسابِهم وشرفًا كشرفهم حتى أقولُ فيك كما قلت فيهم. فأرادَ السطوة به ثم كف عنه لكبر سنه.
قالوا: وكان عاصم ابن راعي الإبل أتى خالدًا ومعه ابنان له فوصله، ومات أحد ابنيه فدخلَ على خالد فقال: أتيناك ثلاثة ونؤوب
__________
[1] بهامش نسخة الملكية: لأنها كانت نصرانية سوداء، ولعنها الله ولعن ابنها.
[2] بهامش الملكية: كفر خالد القسري غير ما مرة، وهذه أقبحها وأشنعها.
[3] بهامش الأصل: ذبح الله من قال ذلك.(9/60)
اثنين. قال: وما ذاك؟ قال: مات ابني. قال: ذاك مالا أقدرُ على منعه. قال:
فَدِيَتُهُ تدفعها إليّ. قال: نعم. فدفع إليه دية فقال:
سننت من الموت الوداء ولم يكن ... مقاديره يودي لحيٍّ مثيلها
فما سنّها من حميري متوج ... ولا مِنْ مَعَدٍّ حيث يلقى فضولها
وقال الكميت ليوسف بن عمر:
حلفتُ بربّ البيت ما أم خالدٍ ... بأمك إذ أصواتنا الهالُ والهبُ
وإذ خالد يستطعم الماء قائمًا ... يرى الحرب والداعي إلى الموت يَنْعَبُ [1]
وهجاهُ زياد الأعجم فقال:
لعمرك ما أدري وإني لسائل ... أمختونة من بظرها أم خالد
فإن تكن الموسى جرت فوق بظرها ... فما خُتنت إلا ومَصّان قاعد
[2] المدائني قال: لَمَّا أتى رسول هشام خالد بن عبد الله لتوليه العراق قال:
رويدًا يجفّ قميصي، فقال الرسول: انطلق أيها الرجل فإنك تدعى إلى قمص كثيرة.
حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ حَمّاد بن سعيد الصنعاني عن زياد بن عبيد الله قال: أتيتُ الشام فبينا أنا على باب هشام إذ خرج رجلٌ من عند هشام فقال: من أنت يافتى؟ قلت: رجل من أهل اليمن، أنا زِيَاد بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ الحارثي. فتبسم وقال: قم معي، ثم قال لي: قل لأصحابي- وأشار إليهم-: إن أمير المؤمنين ولاني وأمرني بالمسير ووكل بي من يزعجني، قلت: من أنت رحمك الله؟. قال: خالد بن عبد الله القسري. ثم
__________
[1] شعر الكميت ج 1 ص 85- 86.
[2] شعر زياد بن الأعجم ص 16- 17.(9/61)
قال: يعطى منديل ثيابي وبرذوني الأصفر، فأُعطيتُ ذلك، وقال: إذا سمعت إني قد وليت العراق يومًا فالحق بي، فما أمسى بعسكر هشام أجود ثوبًا ولا أكرم مركبًا مني، ولم ألبث إلا يسيرًا حتى قيل: قد ولى هشام خالد بن عبد الله العراق فخرجت ووكلت العريف بقبض أرزاقي على أنها له إلى قدومي، وشخصت إلى العراق، فلما قدمت على خالد الكوفة وسلمت عليه أمر لي بدنانير وكسوة بقيمة ستمائة دينار.
وقال لي يومًا هل تكتب يا زياد؟ قلت: لا أنا أقرأ ولا أكتبُ. فضرب بيده على جبينه وقال: إنا لله، سقط تسعة أعشار ما كنت أريده بك وبقي لك واحد، واشترى غلامًا كاتبًا حاسبًا وبعث به إلي فعلمني الكتاب حتى قرأتُ قراءة جيدة وكتبتُ، فدفع إليّ كتابًا من عامله، عامل الري فقرأته فسرّ بذلك وقال: قد وليتك عمله، فخرجتُ حتى قدمتُ الريّ، فأخذتُ عامل الخراج فأرسلَ إليّ: إن أمير المؤمنين هشامًا لم يُوَلِّ قط عربيًّا الخراج، فتغطرست عليه، فقال: خذ مني ثلاثمائة ألف درهم وأمسك عني، وأقمتُ على عملي، ثم كتبتُ إلى خالد: إني قد اشتقتُ إلى الأمير فليرفعني إليه. فلمّا قدمتُ عليه ولاني شرطه.
قالوا: وكان خالد أقرّ الصقر بن عبد الله على شرطه أشهرًا، وكان ابن هبيرة ولاهُ الشرط ثم عزله، واستعمل خالد على الكوفة عبد الملك الأزدي، من أهل فلسطين، ثم عزله، وولى رجلا يُقالُ له عبد الله بن عمرو مِنْ بجيلة، ثم عزله، واستعمل أخاهُ عاصم بن عمرو، وولى زياد بن عبيد الله بعد عدَّة عزلهم، فلم يزل عليها إلى أن ولي يوسف بن عمر العراق.(9/62)
وقال بعضهم: كتب خالد بن عبد الله إلى أمه حين ولي العراق يدعوها إلى الإسلام ويسألها أن تقرب منه ليكون ذلك أقوى له على برّها، فلمّا قرئ عليها كتابه دعت بداوة وقرطاس وقالت للرسول: اكتب: «قد قرأتُ كتابك، فأمّا دعاؤك إيّاي إلى دينك فقد نصحت لي فيه بجهدك لأنك ارتضيتَ لي ما ارتضيت لنفسك، وديني لي ودينك لك.
وأمّا برّي فلعمري إنك قادرٌ عليه حيثما كنت، واعلم بأني قرأتُ في بعض الكتب أن الرجل إذا أتى كبيرة اسودّ ثلث قلبه، وإذا أتى أخرى اسودّ ثلثا قلبه، فإذا أتى الثالثة اسودّ قلبه كله، فأتى ما أتاهُ من قبيح وهو يراهُ حسنًا، وأكبر من ذلك كله الدماء» .
فلما جاءه كتابها يئس منها، فأرسلَ إليها بِمال اتخذت به بيعة بالشام تدعى بيعة أم خالد.
وحدثني عبد الله بن صالِح عن قوم من أهل الكوفة قالوا: اتخذ خالد طستًا في مسجد الكوفة ميضأة، وحفر لها قناة من الفرات، ثم أخذ بيد أسقف النصارى يمشي به في المسجد حتى وقف على الطست ثم قال للأسف: ادع لنا بالبركة، فو الله لدعاؤك أرجى عندي من دعاء علي بن أبي طالب.
قال: واتخذ كنيسة لأمه في قصر الإمارة، وكانت امتنعت من القدوم عليه فلم يزل بها حتى قدمت الكوفة، وأمر المؤذنين ألا يؤذنوا حتى يضرب النصارى بنواقيسهم.
وقال هشام ابن الكلبي والهيثم بن عدي: لما بنى خالد البيعة بالكوفة لأمه، كتب نصارى البصرة إلى من كلم أمه، فكتبت إليه أن يبني لهم بالبصرة بيعة، فكتب إلى بلال يأمره ببنائها فكتب بلال: إن أهل البصرة لا يقارّوني(9/63)
على ذلك، فكتب إليه: ابنها لَهم فلعنة الله عليهم إن كانوا شرًّا منهم دينًا، فبنى بيعة في اللبادين فقال الفرزدق.
بنى بيعة فيها الصليبُ لأمه ... وتهدم للبيعات فينا المساجد [1]
وحفر خالد النهر المعروف بالمبارك فقال الفرزدق، ويُقال الموج التغلبي:
كأنك بالمبارك بعد شهر ... تَخوضُ غموره بقع الكلاب
كذبت خليفة الرحمن عنه ... وسوف يرى الكذوبَ جزا الثواب [2]
وقال الفرزدق في شعر له:
أعطى خليفته بقوة خَالِد ... نَهرًا يفيضُ له عَلَى الأنهار
أن المبارك كاسمه يسقى به ... حرث السواد وناعم الْجَبَّارِ
وكأن دجلة حين أقبلَ مَدّها ... ناب نمد له بحبل قطار
إن كان أجرى ماء دجلة خالدٌ ... فلطالما أَعْيَتْ على الإجرار
يا دجل كنت عزيزة فيما مضى ... حتى أصابك خالد بصغار
[3] وكتب خالد إلى هشام يستأمرهُ في عمل منظرة عَلَى دجلة، فكتب إليه هِشَام: لو كان هذا ممكنًا لسبق الفرس إليه: فراجعه فكتبَ إليه هشام: إن تيقنت أنها تتم فاعملها. فعملها فلم يلبث أن قطعها الماء فأغرمه هِشَام ما أنفق عليها.
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 160 مع فوارق.
[2] ليسا في ديوان الفرزدق.
[3] ديوان الفرزدق ج 1 ص 269 مع فوارق.(9/64)
وكان الفرزدق قال حين لم يُثِبْهُ خالد على الشعر الذي قاله في المبارك:
أهلكت مال الله في غير حقه ... على نهرك المشؤوم غير المبارك
وتضربُ أقوامًا صحاحًا ظهورهم ... وتترك حق الله في ظهر مالك
أإنفاقُ مال الله في غير حقه ... وتركًا لِحق المرملات الضرائك [1]
يعني مالك بن المنذر بن الجارود.
حدثني أبو مسعود الكوفي قال: بنى خالد لأمه بيعة هي اليوم بسكة البريد بالكوفة، وكانت أمه نصرانية، فقال الفرزدق.
لعمري لئن كَانَتْ بجيلةُ زانها ... جرير لقد أخزى بجيلة خالد
بنى بيعةً فيها الصليبُ لأمه ... ولم تُبْنَ فينا إذ بناها المساجد
ويروى: وتُهدم للبيعات فينا المساجد.
قالوا: وبنى خَالِد حوانيت أنشأها، وجعل سقوفها أزاجا معقودًا بالآجر والجصّ وحفر خالد النهر المعروف بالجامع، واتخذ في القرية قصرًا يعرف به.
قال الأصمعي وغيره: خرج خالد يومًا يتصيد فإذا هو بأعرابي على أتان له ومعه عجوز، فقال له خالد: ممن الرجل؟. قال: من أهل المآثر والحسب.
قال: فأنتَ إذًا من مضر، فمن أيها؟ قال: من الطاعنين على الخيول، المعانقين في النزول. قال: فأنت إذًا من بني عامر، فمن أيها؟ قال: من الطالبين الثار، والمانعين الجار، قال: فأنتَ إذًا من بني كلاب، فمن أيها؟ قال: من بدرها وشمسها وليوثها في خيسها. قال: فأنت إذًا من بني
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 59 مع فوارق.(9/65)
الأحوص. قال: نعم. قال: فما أقدمك هذه البلاد؟. قال تتابع السنين وقلة الرافدين، قال: فمن أردت بِهذا البلد؟. قال: أميركم هذا الذي ترفعه إمرته، وتضعه أسرته. قال: وما أردت منه إذ كان كذلك؟. قال: كثرة دراهمه لا كَرَمَ آبائه. قال: أفتوصلتَ إليه بشعر؟ قال: نعم. قال:
فأنشدناهُ. فقال: يا أم جحش أنشديه. قالت: هيه كم تسومنا اليوم مدح اللئيم. قال: إنه لا بد منه. فأنشدت:
إليك ابنَ عبد الله للحمد جاوزت ... بنا البيد عيسٌ كالقِسيِّ عَياهِم
عليهنّ بيضٌ من ذؤابة عامرٍ ... حَدَتْهُم سِنُون مُجحفاتٌ مَشَائِمُ
يَزُرْنَ امرأ يعطي على الحمد ما له ... تهونُ عليه للثَّنَاءِ الدراهم
فإن يعطنا شيئًا فهذا ثناؤنا ... وإنْ تكن الأخرى فَمَا لكَ لائم
فقال خالد: ما أعجب أمرك، تقول فيه ما قلت ثم تَمدحه بِهذا الشعر، أفتعرفني؟
قال: لا. قال: أنا خالد وسأعطيك ولا أكافئك. فقال: يا أم جحش اصرفي وجه الأتان راجعةً. قال: إني مُغْنيك. قال: ما كنت لأسمع رجلا مكروها ثم أَرْزَؤُهُ شيئًا. فقال خالد: بِمثل صبر الشيخ أدرك آباؤه من الشرف ما أدركوا.
ويُقال إن خالدًا خرج ومعه بعض ولد المغيرة، وبعض ولد جرير بن عبد الله، فرأى هذا الأعرابي وكان مسنًا فقال لَهُ: ما تقولُ فِي المغيرة بْن شعبة؟
قال: أعور زَنّاء. قال: فما تقولُ في الأشعث؟ قال: لا يعتزى [1] قومه ما بقي
__________
[1] بهامش الأصل: يعزى.(9/66)
أحد من ولده. قال: فما تقولُ في خالد بن عبد الله؟. قال: ترفعه إمرته وتضعه أسرته. قال: فهذا من ولد المغيرة وهذا من ولد جرير وأنا خالد. فقال:
يا أم جحش انصرفي عنهم. فقالوا له: صر معنا إلى الكوفة نرفدك ونصلك ولا نؤاخذك بقولك. فقال: ما كنت لأستمنحَ قومًا أسمعتهم كلامًا. وانصرف [1] .
حدثنا عبد الله بن صالِح قال: بلغنا أنه دخل على خالد بالكوفة شيخٌ كبير فمثل بين يديه فقال: شيخ كبير ضرير، حدته إليك سنة أبدت العظام وألزمت الغني الإعدام، ذهب ماله، ودُعدت [2] آباله، وغيرت أحواله، فإن رأى الأمير أن يجبره بفضله، وينعشه بِسَجْلِه، ويردَّه إلى أهله. فقال خالد: مِمن الرجل؟ وإياك أن تكذب فإن الكذب عارٌ لازم وذل دائم. قال: رجل من بني تَميم. قال: لا قرب الله دارك، ولا سهل محلك، ولا حيّا مزارك. فقال الأعرابي: ما رأيتُ كاليوم منطقًا أقطعَ، ولا كلامًا أشنع، ولا ردًّا أوجع، لقد سمعتُ قولا أمرّ من الحنظل، وأيبس من الجندل، وأحرّ من المرجل، ما أعطيت من قُدرة ولا نَعَشْتَ من عثرة، ولا أقلتَ من صرعة.
قال خالد: هل لك في أن أقارعكَ وإن قرعتك لم أعطك شيئًا، وإن قرعتني أعطيتك؟. فقارعه خالد فقرعه فقال: أَقِلْنِي فأقاله. ثم قارعه فقرعه خالد فقال: أقلني فأقاله، ثم قارعه فقرع خالدًا فقال: أقلني. قال: لا أقالني الله إذًا. قال: أعطوهُ بدرةً يدخلها في حِر أمه، فقال الأعرابي: وأخرى في استها، فضحك وأمر له ببدرتين.
__________
[1] بهامش الأصل: قال ابن الأعرابي: هذا الخبران مصنوعان.
[2] التدعدع: مشية الشيخ الكبير. القاموس.(9/67)
وأتت امرأة من بني قشير خالدًا فمثلت بين يديه فقالت:
إليك يابن السادة الأماجد ... يعمد في الحاجات كل عامد
أشبهت يا خالد خير والد ... أشبهت عبد الله في المحامد
فالناس بين صادر ووارد ... مثل حجيج البيت نحو خالد
ليس طريف المجد مثل التالد
فقال لها خالد: من أنت؟. قالت: امرأة أكبَّ عليها الزمان فلم يدع لَها سبدًا ولا لبدًا ولا صافنًا ولا ماهنًا. فقيل لها: هل لك أن يتزوجك الأمير؟. قالت: والله لئن فقدتُ نشبًا ما فقدتُ حسبًا وما كنتُ لأتزوج دعيًّا، وإن كان مثريًا غنيًا.
الهيثم بن عدي قال: ألقيت بين يدي خالد تراسٌ فقال لِمن عنده:
اغمزوها أيها أصلب. فغمز رجل منهم يُقال له عامر ترسا فضرط، فقال خالد: ما على رجل أمر رجلا بأمر فأضرطه؟. قالوا: أربعون درهمًا. فأمر له خالد بأربعين ألف درهم فقال شاعر من بني تَميم:
أيضرط عامر من غمز ترس ... فيحبوه الأمير بها بدورا
فيا لَك ضرطة عادت بخير ... ويا لك ضرطة أغنت فقيرا
فَوَدَّ القوم لو ضرطوا جَميعًا ... فنالوا من عطيته عَشيرا
أتقبل ضارطًا ألفًا بألفٍ ... فَتَرخِصُ أصلح الله الأميرا
فقال: خالد: ما سررنا بواحدة لما جاءتنا فما حاجتنا إلى ألف. أعطوهُ ألفي درهم. وقد قيل إن هذا كان عند بشر بن مروان، وهو الثبت.
وقال بعضهم:
أيقبضُ أربعين معًا ألوفًا ... لقد أُعطي بضرطته كثيرا(9/68)
وقال خالد حين أُنشدَ قول الكميت:
إن الخلافة كائن أوتادها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم [1]
يعني مسلمة بن هشام أبا شاكر، فقال خالد: أنا كافر بكل خليفة يكنى أبا شاكر.
وبلغ أبا شاكر قوله فحقده عليه، فلما مات أسد بن عبد الله أخو خالد كتب مسلمة إلى خالد كتابا فيه شعر لا بن نوفل، وكان معه، لحق به هاربًا من خالد.
أراحَ من خالد وأهلكه ... رب أراحَ العباد من أسد
أما أبوه فكان مؤتشبا ... عبدًا لئيمًا لأعْبُدٍ قعد
يَرَى الزِّنَاءَ والصَّلْبَ والخمر ... والخنزير حِلا والغَيَّ كالرَّشدِ
وأمه هَمُّها وبُغْيَتُهَا ... هَمُّ الإماءِ الْمَواهِنِ الشرُّدُ
كافرةٌ بالنبيِّ مؤمنةٌ ... بِقَسِّهَا والصليبُ والعُمُد [2]
فلما قرأ خالد الكتاب قال: يا عباد الله من رأى كهذه تعزية رجل عن أخيه.
المدائني قال: بصق خالد يومًا فقصر عن حيث أراد، فقام عنبسة بن سعيد بن العاص فأخذ بصاقه بمطرفه حتى اقتلعه، فقال خالد: لحسنٌ والله ما صنع، ثلاثٌ لا تُعاب على الشريف: خدمته أميره وقيامه بنفسه، وخدمته ضيفه. ثم قال: ما مالك يا أبا خالد؟ فقال: وهل تركت لي دار أبي بالكوفة وواسط مالا. فقال خالد: والله لعلالتنا أمثلُ من علالتك،
__________
[1] شعر الكميت ج 2 ص 105.
[2] بهامش الأصل: يعني بالعمد، المعمودية.(9/69)
قد أمرنا لك في دارك بواسط بمائة ألف درهم وفي دارك بالكوفة بخمسين ألفًا.
المدائني وعبد الله بن صالِح قالا: قال خالد بن عبد الله يعرض بعَنَبَة بن عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هشام المخزومي، وكان عَنَبَة يستدين: إن الرجل لا يزال يستدين في ماله حتى إذا أنفده استدانَ في دينه.
فقال عَنَبَة: إن الرجل يكون ماله أكثر من مروءته فيبقى له ماله، وتكون مروءته أكثر من ماله فيفنى ماله وتبقى له مروءته، فقال خالد: صدقت وإنك لمنهم.
قال عبد الله بن صالِح: أراد عبد الرحمن بن عَنْبَسَة بناء داره بظاهر الكوفة، فركب معه خالد بن عبد الله القسري ومع خالد: العُرْيَان بن الهيثم، وهو يومئذٍ على شرطة خالد فجعل خالد يطوف ويقول: قدّم الحبل أيها الغلام، فيقول العريان: أنشدكَ الله أن تضيق على أحيائنا وأمواتنا.
فقال عبد الرحمن بن عنبسة: اسكت فو الله ما أنطقك إلا السيف الذي قلدناك. فقال العريان: بل سيف عمي الذي أخرج به أباك حتى ألحقه بالمدينة قال: أما والله لأَبْشُرَنَّكَ بشر الأديم، فقال: شفرتُك أَكَلُّ من ذاك.
فقام إسماعيل بن واسط البجلي فقال: يا عريان، أترفع صوتك على صاحب الأمير؟ فقال: اسكت.
يا مالكُ بن مالك بن سيف ... ذميم يجهل حقَّ الضيف
سلح حباري سلحت في صيف(9/70)
وتكلم عبد الله بن عياش فقال له العريان: إنما قيمة همدان كلها رغيف. فقال ابن عياش: اسكت فإنّما تشبع النخع في كل أضحى، وسارَ خالد وبني عبد الرحمن داره.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ النبيل، حدثني نصر بن أشرس الباهلي قال: دخل العريان على القسري فقال: مكرمة لم تُسْبَق إليها. قال: وما هي؟ قال: تَمنع الموالي من أن يشربوا في عساس الخلنج [1] ، وأن يتكلموا بالعربية، وأن يشربوا لبن اللقاح. فقال جبلة بن عبد الرحمن: أما الخلنج فإنا غرسناه في أرضنا رطبًا ونجرناه يابسًا فنحنُ أولى به، وأمّا ألبان العرب فإن لنا في البان البخاتي غنى عنه، وأما العربية فقد صدق هم أَوْلَى بها، ولكن لِيَدعُوا الخزّ، وركوب البراذين، وأكل الشبارقات [2] ، وأمّا الكلام فلن نتكلم إلا بالزنجية.
وقال يحيى بن نوفل للعريان:
أعريان ما يدري امرؤ سيل عنكم ... أَمِنْ مِذحج تُدْعونَ أَمْ لإياد
فإن قلتم من مذحجٍ إنّ مذحجًا ... لبيض الوجوه غير حر [3] جعاد
وأنتم صغار الهام سودٌ كأنّما ... وجوهكم مطلية برماد
وقال أيضًا:
سَمَّتْكَ أمك عُريانًا وقد صَدَقَتْ ... عُرِّيتَ من صالِح الأخلاقِ والدين
زعمتَ أنك عدلٌ في إمارتكم ... وأنت أسرق من ذئب السراحين
__________
[1] خلنج: شجر، فارسي معرب، يتخذ من خشبة الأواني. القاموس.
[2] الشبارقات: ما اقتطع من اللحم صغارا وطبخ. القاموس.
[3] الحر من الوجه: ما بدا. القاموس.(9/71)
وقال أيضًا:
هل أنتَ يا عُريان وَيْحَكَ مُخْبِري ... بأبيكَ دُونَ الهيثم بن الأسودِ
وله فيه شعر أيضًا. فحلف العريان ليضربنّه حتى يسلح من سوط أو أكثر، فلم بزل يحتال له حتى أتي به، وقد كان صار إلى مسلمة بن هشام، وبلغ ابن نوفل يمينه فضربه فجعل يقول: قد فعلت، فقال العريان: لا والله أو يفضح بها، فافتضحَ فقال: قد خريت أو قال قد سلحتُ فقال العريان:
محا السيف ما قال ابن دارة أجمعا
وقال العريان:
تَيَمَّمْ حميرًا واترك ثقيفا ... فهم جلدوك يوم الدار حدّ
فلمّا أنْ جُلدتَ وكنت فَسْلًا ... سلحتَ ولم تَجد من ذاك بُدَّا
قالوا: وأرسلَ بلال عون بن عبيد وآخر من أصحابه إلى هنادة بنت عيينة بن أسماء بن خارجة يخطبانها فقالت: والله ما كنت لأتزوج رجلا أنتما خِدناه وأليفاه من هذا المصر.
وهجا ابن نوفل خالدًا بصحبته عون هذا فقال:
ولو كنت عونيًا لأدنيت مجلسي ... إليكَ أخا قيسٍ ولكنني فَحْلُ
رأيتك تُدنى ناشئًا ذا عجيزة ... يحجر عينيه وحاجبه الكحل
فو الله ما أدري إذا ما خلوتما ... وأُرْخِيَت الأستار أَيّكُما البَعْلُ
أأنت الذي يعلو عليك إذا خلا ... بك الأقمر المولى أمَ أَنت الذي تعلو(9/72)
وقال ابن نوفل في خالد:
ألا أيهذا الذي نفسه ... إلى كل مُنْكِرَةٍ تائِقه
رضيت من العيش والعالمين ... بعون اليفا وبالرائقة
بضخم المآكم [1] في كمه ... دنىء مَوَدَّتُهُ مائِقَه
وكفاك كف تحوز العطاء ... وكفٌ لأرزاقنا سارقه
وقال ابن نوفل:
ونبِّئْتُ عونًا وتبًا له ... ونبئت عن خِدْنِهِ خالدِ
بأنهما عند وقت العشاء ... يبيتان في نمطٍ واحدِ
ويغتبقانِ الشراب الذي ... يُحَلُّ به الْجلْدُ للجالدِ
شرابًا يوافق شرب اليهود ... ويُكرهُ للناسكِ العابدِ
قالوا: وبعث خالد محمد بن عبد الرحمن بن اسعد بن زر الأنصاري إلى إسماعيل بن جرير بن عبد الله يخطب إليه ابنته أم إسحاق بنت إسماعيل، فقال: أبلغ الأمير السلام وأعلمه أن عمه جريرًا أوصى ألا تخرج واحدة من بناته إلا إلى رجل من قريش وهو أحق من لم يثرب وصية عمه، ولم يحاول نقضها مع أنا أمَّلْنَاهُ لعيالنا وأعقابنا، فو الله ما كان عنده ما ظننا به ما سهل في أذن ولا رفع من قدر، فلما أتت خالدا رسالته أمسك. وبلغ الخبر ابن نوفل فقال:
لعمري لقد أصبحت حاولت خطة ... ممنعة والدهر يقذف بالعجب
أتخطب جهلا إن وليت إمارة ... بنات جرير في المكارم والحسب
__________
[1] المأكمة: لحمة على رأس الورك، وهما اثنتان، أو لحمتان وصلتا بين العجر والمتنين، جمعه مآكم. القاموس.(9/73)
وأنت دعي ليس يعرف أصله ... منوط بقسر كالعلاقة في الحقب
فردك رد العبد إذ جئت خاطبا ... وهل ينكح الأحرار عبدا إذا خطب
في أبيات. وقال أيضًا:
أخالد لا جزاك الله خيرًا ... وأيرٌ في حر أمِّكَ من أميرِ
تمنى الفخر في أولاد قسرٍ ... كأنّك من سراة بني جرير
وكنت لدى المغيرة عبد سوءٍ ... تبولُ من المخافة للزبير
وقد قلت اطعموني الماء جُبنًا ... ولؤمًا إذ خريت على السرير(9/74)
وكان المغيرة بن سعيد [1]
هذا ظهر أيام خالد وكان يظهر التشيع لآل علي فروي عن جعفر بن محمد أن المغيرة بن سعيد كان يأتي محمد بن علي فيستفتيه ثم يمضي فيكذب عليه، فقتل بالكوفة، قتله خالد بن عبد الله القسري.
حدثنا محمد بن يزيد الرفاعي عن أبي بكر بن عياش عن عيسى بن المغيرة قال: كان الشعبي يقول للمغيرة بن سعيد مولى بَجيلة: ما فعل الإمام؟ فيقول: لا تهزأ به. فيقول: لست أهزأ به، إنما أهزأ بك.
ودخلَ المغيرة على عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن فَقَالَ: إنا نَجد المهدي ابنكَ محمدًا فأَرِنيه، فأراهُ إياهُ، فقال: هُوَ هُوَ.
حدثنا محمد بن الصباح البزار عن يحيى بن المتوكل عن كثير النَّواء قال: قال أبو جعفر: [فعل الله بالمغيرة وبيان فإنّهما كذابان علينا أهل البيت] .
__________
[1] بهامش الأصل: المغيرة بن سعيد.(9/75)
قالوا: وأتى المغيرة جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن فقال له: أقِرَّ بعلم الغيب حتى أجبي لك العراق. فقال: أعوذُ بالله. ثم أتى محمد بن علي بن الحسين فقال له مثل ذلك فزجره وشتمه.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ إدريس عن جار له قال: سمعتُ مغيرة بن سعيد يقول: مات عثمان بن عفان وهو يعبد سبعة آلهة، فأخبر خالد بن عبد الله بذلك، فأرسلَ إليه فأخذه فاعترضته فقلت: في أي شيء أخذت؟ قال: لا أدري إلا أن يكون حميمات لأنبي.
قالوا: وكثر تبع مغيرة وتنبأ، وتنبأ بيان فخرج على خالد فقتله وصلبه فيقال إن خالدًا أحرقهما. وقال خالد حين بلغه أمر المغيرة وبيان: اطعموني ماء. فقال ابن نوفل في ذلك ما قال. وقال مالك بن أسماء بن خارجة:
طال التجاوز من بيانٍ واقفًا ... ومن المغيرة فوق جسر العاشر
يا ليته قد سال جذعًا نخلةٍ ... بِبُنَيّ درٍّ وابن قيس الماصر [1]
[ولاية القسري مكة]
وقال الأصمعي وأبو عبيدة:
كان خالد على مكة.
ولاهُ الوليد بن عبد الملك سنة خمس وتسعين فكان عليها حتى مات الوليد، وولي سليمان فأقرّه أشهرًا ثَمانية أو سبعة ثم تنازعَ الأعجم عبيد الله بن شيبة بن عثمان ومصعب بن شيبة بن جبير بن شيبة بن عثمان
__________
[1] مصر الشاة أو الناقة: حلبها بأطراف الأصابع الثلاث، أو الإبهام والسبابة فقط، وهي ماصر: بطيئة خروج اللبن. القاموس.(9/76)
العبدريان، فكان هوى خالد مع مصعب، فكتب الأعجم إلى سليمان مع ابن ابنه محمد بن طلحة بن الأعجم يشكو تَحامل خالد عليه، وعلى ولده، فكتب سليمان إلى خالد أنه لا سبيلَ لك على الأعجم وولده، فقدم طلحة بالكتاب على خالد وهو بفخ مستنقع في ماء، فلما رآه قال: صيدك إن لم تحرمه [1] ، ثم ضربه مائة سوط، وقال أبو عبيدة: ضرب الأعجم نفسه فخرج بنفسه وثيابه التي ضُرِبَ فيها فألقاها بين يدي سليمان، وقال: إنه لما قرأ كتابك ضربني، فكتب سليمان إلى داود بن طلحة بن هدم الحضرمي، وكان عامله على قضاء مكة، بولايته على مكة وبقطع يد خالد. فكلم يزيد بن المهلب سليمان، وكان حاضرًا، فقال: إن كان ضربه قبل أن يقرأ كتابك ضُرب فكتب سليمان: إن كان ضربه بعد قراءته كتابي فاقطع يده، وإن كان ضربه قبل قراءته فاضربه مائة سوط كما ضربه، فقدم بالكتاب عشية عرفة وخالد واقف بالناس، فدفع الكتاب إلى داود الحضرمي، فقرأه وأمر بخالد فنحي عن مقامه، ووقف بهم داود. فلما انقضى الموسم وخالد محبوس قعد له وللأعجم، فادعى أنه ضربه بعد قراءته الكتاب فخافَ خالد على يده أن تقطع فجعل يصيح: نشدتُ الله رجلا شهد ضربي إيّاهُ قبل أن أقرأ الكتاب إلا قام بشهادته، فقام دَاوُد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العَبَّاس، وكان على السقاية يومئذ فشهد له بذلك، وشهد له عَبْد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الله بن عامر بن كريز، فأمر داود بن طلحة بجلد خالد فضرب مائة سوط، فجزع جزعًا شديدا وجعل يمد يده وو الفرزدق حاضر فقال: اضمم
__________
[1] ورد هذا المثل في: مجمع الأمثال للميداني تحت رقم (2088) بعنوان: صيدك لا تحرمه.(9/77)
إليك جناحك يا بن النصرانية. فضم خالد يده فكان ذلك أهون للضرب عليه. فقال: والله ما أراد الفرزدق نصيحتي.
وقال الفرزدق:
سلوا خالدًا لا قدس الله خالدا ... متى وليت قسر قريشا بدينها
في أبيات قد ذكرناها.
ويُقالُ إن خالدًا أمر الأعجم بفتح البيت فأبى ذلك عليه فكان ذلك في نفسه على الأعجم حتى ضربه به، وسمي الأعجم لرتَّةٍ كانت في لسانه.
وقالت أم الضحاك النضرية من بني نضر بن معاوية:
لعمري لقد باعَ الفرزدق عرضه ... بخسفٍ وصلّى عرضه حامي الجمر
وكيف يسامي خالدًا ويسبّه ... خميصٌ من التقوى بطين من الخمرِ
فلم يزل خالد محبوسًا بِمكة حتى حج سليمان سنة سبع وتسعين فكلمه فيه المفضل بن المهلب، فقال له سليمان: يا أبا عثمان، أطَّتْ بك الرحم ولا رحم بينكما، إنه قبحه الله قد جَرَّعَني غيظًا، قال: فلْيَهبَ ذلك أمير المؤمنين لي. قال: قد فعلت وأيم الله، ليخرجنّ إلى الشام راجلا، فمشى خالد إلى الشام وشكر ليزيد والمفضل ما كان منهما، فأجازَ عبد الرحمن بن يزيد حين ولي العراق بِمائة ألف.
وكتب هشام إليه يأمره أن يستنفرَ الناس إلى الغزو مع الجراح بن عبد الله، فقدم عليه ناس من آل المهلب فردّهم ولم يُغزِهِم إلا عثمان بن المفضل فإنه وصله وأغزاه، وقال: لولا مخافة ألا يحتملها لي أمير المؤمنين لعقدت له على البصرة.(9/78)
وقالوا:
كان أسد بن عبد الله على خراسان من قبل أخيه، وكان شديد العصبية لا يملك نفسه، فأخبر عن نصر بن سيار، ومنصور بن أبي الخرقاء السُّلمي، والبَخْتَري بن مجاهد مولى بكر بن وائل، وعبد الرحمن بن نعيم وسَوْرة بن الحرّ أنهم يُصَغّرونه ويقولون أُمَيْر، فدعا بِهم وضربَهم في جوانب مجلسه، وحلق رؤوسهم ولِحاهم، وأرسلَ بِهم إلى خالد، فلما أُتي بِهم خالد سَبَّ أسدًا أخاهُ حين لم يبعث برؤوسهم وقال: أشبه أمه. وكانت من عُرَيْنَة، ثم أمر بهم خالد فحبسوا، ثم أمر ابنه يزيد أن يكلمه فيهم ليشرفه بذلك فكلمه فأخرجهم وأجازهم وخيرهم أين ينزلون، فاختاروا أن يردهم إلى خراسان، إلا نصر بن سيار، فإنه قدم البصرة فابتنى مسجدًا بحضرة بني يشكر، وهو يعرف به، ولم يأت خراسان حتى عزل عنها أسد، وولي أشرس السلمي، فقال الفرزدق:
أخالد لولا الله لم تُعط طاعةً ... ولولا بني مروان لم توثقوا نَصْرا
إذًا لوجدتم دون شد وثاقه ... بني الموت لا كَشْفَ اللقاء ولا ضُجْرا
مصاليت أبطالا إذا الحرب شمرت ... أَمرّوا بأطراف القنا مررًا شَزْرا [1]
في أبيات.
قالوا: وبعث خالد إلى هشام بِمال، وبعث إلى علي بن عبد الله، ومحمدًا ابنه بِمال، وكان يتعهدهما بصلته.
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 323.(9/79)
[أخبار خالد القسري]
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح المقرئ عَن ابْن كُناسة وغيره قالوا: كتب خالد إلى مالك بن المنذر أن خذ الفرزدق فاحبسه، وكان يحقد عليه أشياء، وأظهرَ أنه إنَّما حبسه لأنه هجا نَهر هشام، فأمر مالك أيوب بن عيسى الضبي، فاحتالَ له حتى أخذه. وكانت ضبة أخوال الفرزدق فهجا أيوب بشعر فيه:
ستأتي ابن زبّ الخنفساء قصيدة ... يكونُ له مني عذابًا يُباشره
مَتَتُّ له بالرحم بيني وبينه ... فألفيتُه مني بعيدًا أواصره
وقلتُ امرؤٌ من آل ضَبَّة فاعتزى ... إلى غيرهم جلد استه ومناخره
فلو كنت ضبيًّا عرفت قرابتي ... ولكن زنجيًّا غليظًا مَشَافِرهُ [1]
فلما ورد بالفرزدق على مالك أمر أن يوقر حديدًا ويجلس فقال، وكان يصلي قاعدًا:
خذا بيديَّ فارفعاني إليكما ... لعليّ أصلّي قائِمًا غير قاعد
لئن قاربَ القسريّ خَطوي لطالما ... تناولتُ أطرافَ الهمومِ الأباعدِ
بِمأمومة الأعضاد خوص من السّرى ... خفاف الأداوي ناقصات المراود [2]
وقال أبو عبيدة: أخبرني أعين بْن لَبطة بْن الفرزدق عن أَبِيهِ قال:
كنتُ آتي مالك بن المنذر لأنشده شعر أبي فأحجب، ويرسل إليّ: إنّ أمر أبيكَ إلى غيري، فالتمسوا له وجهًا سواي. فكتب الفرزدق مع ابن أخ له، ومعي إلى هشام بشعر يقول فيه:
__________
[1] لم ترد هذه الأبيات في ديوان الفرزدق المطبوع.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 132- 133 مع فوارق كبيرة.(9/80)
بعثتُ إليك ابني يا خير من مشى ... ويا خير مطلوب إليه الخائف
فلو كنت أخشى خالدًا أن يروعني ... لطرتُ بوافٍ ريشه غير جاذف
كما طرتُ من مصري زيادٍ وإنه ... لتصرف لي أنيابه بالمتالف
ألم يك منكم آل مروان منعم ... عليّ بِنُعمى بادئٌ ثم عاطف
ألم يَكْفِني مروان لما أتيتُه ... زيادًا وَرَدَّ النفس بين الخوالف
عجبتُ لقومي إن رأوني تضرعوا ... وإن غبتُ كانوا بين واشٍ وقاذف [1]
وقال لسعيد بن الوليد الأبرش الكلبي:
إلى الأبرش الكلبي أسندت حاجةً ... تَوَاكَلَهَا حيا تَميم ووائل
على حين إن زَلَّتْ بي النعل زلَّةً ... وأخلف ظني كل حافٍ وناعلِ
فدونكها يابن الوليد فقم بها ... قيام امرئ في قومه غير حامل
فإنك من قوم كرام أعزة ... إذا عض يومًا شره بالكواهل [2]
فكلم فيه هشامًا، فكتب إلى خالد بتخلية سبيل الفرزدق، فقال الفرزدق:
لقد وثب الكلبي وثبة ماجد ... إلى خير خلق الله نفسًا وعنصرا
أبي حلف كلب في تَميم وعقدها ... لما سنَّتِ الآباء أن يتغيرا [3]
ويُقالُ إن هشام بن عبد الملك أنفذَ كتابه إلى خالد مع جرير بن عطية، فلما قدم عليه أنشده جرير:
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 7- 11 مع فوارق واضحة.
[2] لم ترد هذه الأبيات في ديوان الفرزدق المطبوع.
[3] ليسا في ديوانه المطبوع.(9/81)
لقد كان داء بالعراق فما لقوا ... طبيبًا شفى أدواءهم غير خالد
سقاهم برفقٍ خالط الْيُمْنَ والتُّقَى ... وسيرة مهديٍّ إلى الحق قاصد
فهل لك في عانٍ وليس بشاكرٍ ... فتنقذه من طول عض الحدائد
يعود وكان الخبث منه سجية ... وإن قال إني معتب غير عائد
بني مالك إن الفرزدق لم يزل ... كسوبًا لعار المخزيات الخوالد [1]
ويُقال: كان الرسول غير جرير.
ويُقال: وفد عمارة بْن عقيل بْن بلال بْن جرير في أمر الفرزدق إلى هشام حتى أخذ كتابًا بإطلاقه فقال الفرزدق: أنا أسير قسريّ، في حبس عبدي، طليق كلبيٍّ. وقال:
لا فضل إلا فضل أمٍّ على ابنها ... كفضل أبي الأشبال عند الفرزدقِ
تداركني من هوَّة كان قعرها ... ثَمانين باعًا للطويل الْعَشَنَّقِ [2]
وكان أسد حين ورد كتاب هشام خليفة أخيه بواسط، وذلك أن خالدًا كان غائبًا عن واسط، يُقال إنه حج في سنته. وقال في أسد:
وكم لأبي الأشبال من فضل نعمة ... تُعَدُّ وَأَيْدٍ أطلقتني سعودها
فأصبحت أمشي فوق رجلي قائمًا ... عليها وقد كانت طويلا قعودها
وكم يا بن عبد الله من فضل نعمة ... بكفيك عندي لم يغيّب شهودها [3]
في أبيات.
__________
[1] ديوان جرير ص 136- 140.
[2] ديوان الفرزدق ج 2 ص 52، والعشنق: المفرط الطول.
[3] لم ترد هذه الأبيات في ديوان الفرزدق المطبوع.(9/82)
حدثنا الرفاعي عَن عمه عَن عَبْد اللَّهِ بْن عياش الهمداني، والمجالد بن سعيد عن الشعبي قال: حضرت خالدًا وقد أُتي بقوم فأمر بضربِهم فقلت: أصلح الله الأمير، إن أول من جعل السجن كان حليمًا، فعليك بالتؤدة، وإياك والعجلة فإنك على فعل ما لم تفعل أقدر منك على رد ما فعلت، فأمر بحبسهم حتى يثبت في أمرهم. قال: أصبتَ أبا عمرو، وحبسهم.
وقال المدائني: هذا لعمر بن هبيرة.
حَدَّثَنِي حَفْص بْن عُمَر العُمري عَنِ الْهَيْثَمِ قال: كان خالد يزوج أقار به ويسوق عنهم المهر، فأراد أن يزوج بعضهم فذهبت عنه الخطبة فقال: إني والله أروي في النّكاح كذا وكذا خطبة، وما يحضرني الآن منها شيء، فاشهدوا إني قد زوجت فلانًا فلانة، وأصدقتها عنه كذا.
المدائني عن غير واحد قالوا: كان خالد سخيًّا بالمال شحيحًا على الطعام، ولم يكن له طعام إلا لنفسه خاصة، لا يحضره أحد يأكل معه، فأكلَ معه رجلٌ يومًا فأجاد الأكل فقال لحاجبه: لا يدخلن هذا علي.
وقال الهيثم بن عدي عن ابن عياش قال: كان مصقلة العبدي طويل اللحية عريضها، فدخل على خالد بن عبد الله فقال له: يا مصقلة، لو أخذت من لحيتك. فقال: أَعَزْمَةٌ فأُطيع أم مشورة فَأَقْبَلُ؟. قال:
لا واحدة منهما ثم قال: ما فعلَ ابنك الفضل؟ وكانت- أمه ابنة الغضبان بن القَبعثري- فقال: هلك رحمه الله فقد كان آخذًا لأربع تاركًا لثلاث، كان آخذًا لقلوب الرجال إذا حَدَّثَ، حسن الاستماع إذا حُدِّث،(9/83)
حسن البشر إذا هو لقي، جميل القول إذا خولف، تاركًا لمداعبة الأحمق ومقارفة المآثم، وإتيان ما يُعتذرُ منه.
قال الهيثم: وقال خالد بن عبد الله: إني لأحبّ قتل الرجل ما له عندي ذنب إلا استخفاف حاجبه بي وشدة حجابه لي.
وقال الأصمعي: قال خالد: كنت أطعم في الحَطْمَةِ ستة وثلاثين ألفًا في كل يوم تَمرًا وسويقًا.
قال أبو الحسن المدائني: إنّما أطعم الأعراب في حطمة أصابتهم في كل يوم ثلاثين ألف إنسان خبزًا وسويقًا وتَمرًا، فقيل لأعرابي: لو أتيت خالدًا فإنه يُطعم الأعراب فأبى وقال:
يقول ابن حجاج تجهز ولا تمت ... هزالا بحرّان تَعاوي ذئابها
فأقسم لا أبتاع رغفان خالدٍ ... بأرواح نجدٍ ما أقام ترابها
وقال الهيثم بن عدي: قال ابن عياش: كانت حطمة خالد، فجاءت قيس وتَميم وأسد وكلب وبَلي، فكان يطعمهم ثلاث أكلات: أكلة بلحم، وأكلة بعدس، وأكلة بلبن أو بخل وزيت، وكان يُحَسِّيهم السمن ويقول: لا تبدأوهم بالطعام فيموتوا فإن الأمعاء تضيق، ثم يُحَسُّونَ بعد السمن المرق، فأنفقَ عليهم تسعين ألف ألف درهم، وكتب إلى هشام:
إني أنفقتُ على الأعراب من مالك ليكثر لك الدعاء وعليك الثناء ويجب لك الأجر.
فكتب إليه هشام: يا بن أم خالد إيّاي والخدع، والله لا أحسبها لك أبدًا. فقال جُوانانبه ابن رأس البغل: لك عندي خمسة آلاف ألف درهم،(9/84)
وقال بعضُ الدهاقين: لك عندي عشرة آلاف ألف، وتبادر الدهاقين حتى حملوها عنه.
المدائني قال: دخل رجلٌ على خالد بن عبد الله فقال: أصلحَ الله الأمير، أكلمك بهيبة الآمل أم بجرأة اليائس؟ قال: بهيبة الآمل، وقضى حوائجه.
حدثني أحمد بن الحارث عن المدائني عن عوانه وأبي إسماعيل الهمداني قالا: كفل ابن بيض الحنفي بهشيم بن صفوان، وجميل بن حمران بألف ألف، فمات هشيم فجلس ابن بيض فكتب إلى أبان بن الوليد:
مستكين بألف ألف أسير ... هالك أو إخال إني مُودِ
لو بعشرين أو ثلاثين حبسي ... كان حبسي بالهين الموجود
فتذكرتُ من لروعات دهرٍ ... ذي بنات بيضٍ وحُمْرٍ وسُود
من لها يا سعيد قال أبان ... فاغتنمها أبان يابن الوليد
فأرادَ أبان أن يكلم خالدًا فيه فوافاهُ، وقد جاءه كتاب منه فيه:
ألم ترَ أني على عَيْلَتي ... تَحَمَّلْتُ للحين حملا ثقيلا
هُشَيْمًا تَحملتُ من شقوتي ... وَثنَّيْتُ بعد هُشيم جَميلا
فأودى هُشيم بِما عنده ... فأورثني ذاك هَمًّا دخيلا
وما بي تفرق أيتامه ... وإن أصبحوا بعد عيش كلولا
ولكن بني الألى عن قليل ... يرونَ أباهم وشيكًا قبيلا
أطعني فإني امرؤ ناصح ... وخذ من فزارة غيري كفيلا
عليك عيينة أو مالكًا ... وقيسًا تَجده وقورًا حمولا
فخذهم جَميعًا بِما عندهم ... فأهل القتيل يلون القتيلا(9/85)
وإن عدت في مثلها بعده ... وجئتك من عثرة مستقيلا
فمر بي عطاءً وأشياعه ... ينوطونَ رجليّ حتى أبولا
يعني عطاء بن مقدّم، كان على عذاب خالد بن عبد الله، واستخراجه.
وكان ابن هبيرة ولى هشيم بن صفوان الفزاري فارس، فلما ولي هشام وشى هشيم بابن هبيرة وزعم أنه اقتطعَ اثنا عشر ألف ألف درهم.
وأبانَ بن الوليد [1] بن عبيد الله بن مالك البجلي.
قالوا: وكان أبان بن الوليد يُجالس إبراهيم وابن شبرمه، فكان إبراهيم إذا نظر إليه قال: ويحه أي خارجي هو، فلما قدم خالد بن عبد الله الكوفة عرض على ابن شبرمه العمل فقال: لا حاجة لي فيه ولكن اجعلني من أعوانك وارفع عني النوبة والمكروه ففعل فكان في الديوان.
وقال المدائني: كان أبان كاتبًا لإياس بن معاوية بن قرة المزني، وكان إياس يلي سوق واسط والحسبة، أجبره ابن هبيرة على أن ولاه ذلك وضربه أربعين سوطًا حتى تقلده، فكان أبان يحمل الدواة والقرطاس لإياس، فلما قدم خالد ولاه الشرطة فقال ابن نوفل:
وهذا أبان بني الوليد ... خطيبًا إذا قام لم يحصر
أبعد الدواة وحمل الطروس ... وبعد الكتاب على الدفتر
ظللت أميرًا بأرض العراق ... للهفي على البيدق الأعور
__________
[1] بهامش الأصل: أبان بن الوليد.(9/86)
وحمل أبان الحربة يومًا، فجعل ينتظر خروج خالد ليحملها بين يديه، فقال له رجل: لو وضعت الحربة حتى يخرج الأمير أو دفعتها إلى من يمسكها، فقال: لوددت أن رجلا أعطاني حربة أخرى أسير بها بين يديه.
وكتب هشام إلى خالد: إنك وليت شرطتك رجلا حدثًا فلو وليتها ذا حنكة، ونقلت صاحبك إلى ما هو أجدى عليه منه، فقال خالد لأبان: قد جعل أمير المؤمنين أصلحه الله السبيل لي إلى ما أحب فيك، فولاهُ فارس وقال:
كلها هنيئًا مريئًا، وولى شرطته العريان بن الهيثم بن الأسود النخعي، فأتى علي بن زيد بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي مليكة، واسم أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان أبان بن الوليد بفارس فوصله بخمسة عشر ألف درهم، ويُقال بثلاثة عشر ألفًا فقال له: إن منيت بها على شيخ من قريش كانت إليها حاجة، قال يا أبا الحسين منَّتُكَ علينا في زيارتنا أعظم.
وقال ابن نوفل يَهجو أبان بن الوليد:
أخالد وليت امرأ حدّ سارق ... حكومة أهل المصر يا ضيعة الحكم
أليس أبان أمس بالري أُرسلتْ ... عليه سياط الجعفري بلا ظلم
فلا تضربنّ الدهر للخمر شاربًا ... فمن قبلهم أغلى بعاتقة الكرم
وقال ابن نوفل أيضًا:
ما سمعنا لابن الوليد أبان ... باب دون عامر بن قداد
فكان أبان يقول: قولوا لابن نوفل ينتسب إلى أبوين من حمير، فأمّا أبواهُ من موالي ثقيف فمعروفان.
وكان ابن نوفل يزعم في أيام الحجاج أنه من ثقيف، فلما كانت أيام خالد قال: أنا من حمير، فقال أبو عطاء السندي.(9/87)
يقول ابن نوفل فيما يقول ... أنا ابن الكلاعي من حمير
ودار الكلاعي عُلويَّة ... ودارُ ابن نوفل في نفر
وللكميت في أبان شعر منه قوله:
لا واضعٌ عن مطيّ الحمد أرجله ... يومًا ولا هو للعوراء منتدب
أحلامكم لسقام الجهل شافية ... كما دماؤكم تشفي من الكلب
وأتى أبان بن الوليد جندل بن الراعي عبيد بن حصين النميري فقال له:
نفس عصام سوَّدت عصاما
فأعرض عنه واستلقى فقال ابن نوفل:
رأيتُ أبا الوليد وفيه إحن ... إذا ما المرء واجهه الكلاما
أقر لِجندلٍ والقوم فوضى ... علانية وشبَّهه عصاما
ووقره لها جهلا وأَغْضَى ... عليه العين فاستلقى وناما
ولما حبس يوسف بن عمر عمال خالد حبس أبان بن الوليد وعذبه فقال:
طال في الحبس مجلسي وثوائي ... واصطباري للجهد والأواء
كل يوم يُعْدَى علي ولا قوة ... لي أو يراح بالعذراء
فإلى الله لا إلى الناس أشكو ... ما أرى من شماتة الأعداء
ربّ إني كُلّفتُ ما ليس عندي ... فعويلي إليك رب السماء
فلئن مت أو قتلت فمحمود ... كريم الصنع في الأحياء
كم وكم منه ستذكر إن مت ... لديهم ومن يدٍ بيضاء
فاندبيني إن مت أم حصين ... للندى والتقى وبذل العطاء(9/88)
[أخبار خالد القسري]
المدائني وغيره قالوا:
أُتِيَ خالد بن عبد الله برجلٍ تنبأ بالكوفة وقال إنه قد أُنزل علي قرآن فقال له خالد: ما قرآنك؟. قال: «إنا أعطيناك القاهر، فصل لربك وجاهر، ولا تطع كل فاجر، مغتر بالله كافر» . فأمر به خالد فضرب حتى أثخن، ثم أمر به فصلب، فقال له حمزة بن بيض الحنفي وهو يشد على الخشبة: إنا أعطيناك العمود، فأطل عليه الركود، وصلّ لربك على عود، وأنا ضامن ألا تعود» . ولم يلبث أن مات.
قالوا: وأتى محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان خالدًا يستمنحه فلم ير منه ما يُحب فقال: أما المنافع فللهاشميين، وأما نحنُ فما حبوتنا منه إلا شتمه عليًّا على منبره. فبلغ ذلك خالدًا فقال: إن أحبّ تناولنا له عثمان بشيء المدائني قال: كان عامة عمال خالد الدهاقين فقتل دهقان منهم بفارس، فأمر خالد بنفي العرب وعيالاتِهم من السواد، فقال ابن نوفل:
أَيُقْتَلُ عامل بدرابجردٍ ... فتنفونَ العباد من السواد
لعلك أن ترى عما قليل ... عيالك يُسْلَبُونَ بكل واد
المدائني قال: خطبَ أخو خالد إسماعيل بن عبد الله عند أبي العباس، ويُقال عند أبي الجهم بن عطية، أحد رجال الدولة، فذم عمال بني أمية والحجاج وابن هبيرة ويوسف بن عمر، ولم يذكر خالدًا، فقام بعض من حضر فقال: جزاك الله من خطيب خيرًا، ذكرت أهل بيت اللعنة وعمالهم وأحسنتَ في ذمهم، إلا أنك تركت خالدًا، وهو ابن زُوَينية اجتمعَ في بطن أمه الخمر(9/89)
ولحم الخنزير، وسلط أهل الذمة على المسلمات فعلقوهنّ بثديهن، وبنى البيع غير متحرج ولا مرتاب.
وقال ابن نوفل:
عليك أمير المؤمنين بخالدٍ ... وعماله إن كنت تطلب خالدا
بنى بيعة فيها الصليبُ لأمه ... وخرّب من بعد الصلاة المساجدا
وقال حمزة بن بيض بن يمن بن عبد الله بن شمر بن عمرو بن عبيد الله بن عمرو بن عبد العزيز بن سحيم بن مرة بن الدؤل بن حنيفة:
ليتني من بجيلة اللؤم حتى ... يعزل العامل الذي بالعراق
وإذا عامل العراق تولى ... عدت من أسرتي الكرام العتاق
وقال أبو نعيم الفل بن دكين، ثنا الفضل بن الزبير قال: أمسى خالد بالصلاة يومًا فقام إليه شاب من كندة فقال: الصلاة أصلحكَ الله.
فقال: لعنك الله، أو لسنا في الصلاة؟.
حدثني داود بن عبد الحميد عن مروان بن معاوية، حدثني عبيد الله بن الوليد قال: قلتُ لعطاء بن أبي رباح: ما تقول في صَاحِبٍ صَاحَبَ هؤلاء فلم يكتب معهم شيئًا مما يدخل ويَخرج؟ قال: من الرأس؟ قلت: خالد بن عبد الله. قال: أما تقرأ ما قال العبد الصالِح: رَبِّ بِمَا أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين [1] .
ومدح ابن بيض خالدًا فقال:
وأبوك آدم كان عند وفاته ... أوصاكَ وهو يجود بالحوباء
ببنيه أن ترعاهم فرعيتهم ... وكفيت آدم عيلة الأبناء
__________
[1] سورة القصص- الآية: 17.(9/90)
أخبرني عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح عَن ابْن كُناسة أن خالد بن عبد الله كان يقول: أيها الناس عليكم بالمعروف فإن فاعل المعروف لا يُعدم جوازيه، فمهما ضعف الناس عن أدائه قدر الله على جزائه.
وقال أيضًا: أيها الناس تنافسوا في المكارم فإنها أعظم المغانم واشتروا الحمد بالجود، ولا تكسبوا بالمطل ذمًّا.
وقال خالد: أيها الناس عليكم بالمعروف فإن المعروف لو كان رجلا لرأيتموهُ حَسَنًا بسنًا [1] ذا بشر ومروءة ولا تملوا النعم فتعود نقمًا.
وقال: أيها الناس لو رأيتم البخل لرأيتموهُ مشوهًا قبيحًا تنفر عنه القلوب وتُغَض دونه الأبصار، ومن لم يطب حرثه لم يَزْكَ نبتهُ.
حدثني محمد بن أنس الأسدي عن ابن كناسة قال: دخلَ الطرماح على خالد فقال: يا أبا نفر أنشدني، فقال: اجلس ثم أنشدك، فقال: لا إلا قائمًا وإلا فلا شيء لك عندنا فخرج وقال:
حرًّا أموتُ ولم يَشِني مطمعٌ ... إني نقيّ بطائن الأطمار [2]
وقال بعض قريش: إن أبا نفر لعظيم المروءة.
المدائني قال: لما أتى ابن الراعي خالدًا فماتَ ابنه وأعطاهُ خالد ديته، قال أبو الجويرية العبدي.
وَبَدْأَهُ مجدٍ لم تكن فاقترحتها ... إلى كل أفقٍ فاحتوتها القصائد
ضمنت ابن راعي الإبل أن حان يومه ... وشقّ له قبرٌ بأرضكَ لأحد
__________
[1] بسن: اتّباع لحسن وأبسن الرجل: حسنت سحنته. القاموس.
[2] ديوان الطرماح- ط. دمشق 1968 ص 240، وفيه «الإضمار» .(9/91)
خباء لمثوى زائر فوديته ... فدتك الأكفّ طلقها والجوامد
وقد كان مات الجود حتى نشرته ... وأذكيت نار الجودِ والجود خامد
فأعطاهُ ثَمانية آلاف، وقال: أنت أشعر من ابن الراعي.
وقال الفرزدق:
وما الشمس ضوء المشرقين إذا بدت ... ولكن ضوء المشرقين بِخالدِ [1]
قالوا: وكان طارق مولى خالد ابن أخت سعيد بن راشد، وسعيد مولى النخع، وكان طارق يأخذ من كل سفينة ذات شراع أربعة دراهم، ومن كل مصعدة ثَمانية دراهم، وكان متحاملا على عبد الله بن عبد الرحمن بن سعيد بن عتاب بن أسيد، وابن لعنبسة بن سعيد. فشكواه إلى خالد وقالا: هو يضربنا في أرضين لنا. فقال خالد: أما سمعتما قول القائل:
أسجد لقرد السوء في زمانه ... وارفق به مادام في سلطانه
وإن تلقّاكَ بقيروانه
قالا: بلى. قال: فأرضياهُ. فحملا عهدتي أرضيهما وأتيا طارقًا.
فقال: ما حاجتكما؟ فقالا: كنا ننازعكَ فيما تأخذه منا، وقد أتيناكَ بعهدتي أرضينا فاقبضهما هنيئًا مريئًا. فقال: فعلتما ما أنتما أهله في شرفكما. ودعا بأشربة عنده على ضياع فقال: دونكما هذه العُهَد وعُهدتيكما فدخلا على خالد بَعْدُ، فقال: أسجدتما للقرد؟ قالا: نعم وقد أحسن وأجمل.
حدثني أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنِ ابْن كناسة قَالَ: كان بين عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص وبين جعفر بن عمرو بن حريث
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 132.(9/92)
مماظة [1] ومعاتبه، فدخل جَعْفَر بْن عَمْرو عَلَى خالد، وعنده عبد الرحمن بن عنبسة، وعلى صدر خالد صبي يقبله ويلاعبه، فقال لعبد الرحمن وكان جالسًا إلى جنبه وخالد لا يسمع: من هذا الصبي؟ قال: ابني. قال:
أصلح الله الأمير، نح هذا الصبي عن صدرك فما رأيتُ أقذرَ منه وأنتَ تقبله، فقال خالد: أفي نفسك على أبي عبد الله موجدة أو شيء؟ قال: ومن أبو عبد الله؟ قال: أسد أخي. فقال: أصلحَ الله الأمير، ما عرفته ولكن هذا الفاسق خدعني وغرني وزعم أنه ابنه، فضحك خالد حتى فحص برجليه.
قالوا: وأتى خالدًا رجل من ولد السليل الشيباني فقال: أصلح الله الأمير إني حملت عشر ديات وأتيتكَ معتمدًا، قال: فاحتكم. قال:
نصفها. قال: قد فعلت. فخرج فلامه أصحابه وقالوا: حكّمك الأمير أفلا حكمت بها كلها، وسمع خالد ذَرْوًا [2] من قولهم فقال: ما يقولون؟
فأخبر به فقال: ردوه، فلما ردوهُ قال: قد أقلتك، وأمر له بالعشر كلها.
قال: فانصرف بألف بعير.
المدائني قال: دخل خالد بن عبد الله على عمر بن عبد العزيز في أيام خلافته فقال له: ما زينتك الخلافة، ولكنك زينتها، ولا شرفتك ولكنك شرفتها وإنك لكما قال الشاعر:
__________
[1] مظظته: لمته وماظظته مماظة ومظاظا: شاررته ونازعته، والخصم لازمته. القاموس.
[2] ذرت الريح شيئا: أطارته، والذرو من الحديث ما ارتفع إليك وترامي من حواشيه وأطرافه. النهاية لابن الأثير.(9/93)
وتزيدين طيب الطيب طيبا إن تمسيه ... أين مثلك أينا
وإذا الدُّر زان حُسْنَ وجوهٍ ... كان للدر حسنُ وجهك زينا
فقال عمر: أعطي هذا الرجل مقولا ولم يُعط عقلا.
حدثني العمري عَنِ الهيثم بْن عدي قَالَ: كان فروخ أبو المثنى على ضياع هشام متقبلا بها، وكان قد تقبل بنهر الرمان، فقيل له فروخ الرماني فثقل على خالد فقال لِحسان النبطي: ويحك اخرج إلى أمير المؤمنين فزد على فروخ، فزاد عليه ألف ألف، فثقل حسان على خالد فجعل يَضُرُّ به، فقال له: لا تفسدني فإني صنيعتك ولا تضرنّ بي، فأبى، فشخص حسان فقال لخادم من خدم هشام: إن تكلمت بكلمة أقولها لك حتى يسمعها أمير المؤمنين فلك عندي ألف دينار. قال: فعجلها، ففعل. فقال: بك صبيا من ولد هشام، فإذا بكى فقل: تبكي كأنك من ولد خالد القسري، غلته ثلاثة عشر ألف ألف لا يؤدي منها شيئًا وهو يأكل العراق، فسمعها هشام، ودعا بحسان فسأله عما سمع فقال: لعمري إن غلته هذا المال. فكانت في نفس هشام حتى عزله.
وكان خالد يقول لابنه يزيد: ما أنتَ بدون مسلمة بن هشام، وإنك لتفخر على الناس بثلاث لا يفخرُ أحد بمثلها: سَكَرتُ دجلة ولم يتكلف ذلك أحد، ولي سقاية بمكة، وولاية العراق.
المدائني قال: كان خالد كثيرًا مما يذكر هشامًا فيقول: ابن الحمقاء الورهاء [1] ، وكانت أم هشام كذلك فكتب مرة إلى هشام كتابًا غاظه فيه
__________
[1] الورهاء: الحمقاء. القاموس.(9/94)
فكتب إليه هشام: بلغني أنك تقول ما ولاية العراق بشرف لي، فيا بن اللخناء كيف لا تكون إمرة العراق شرفًا لك، وأنت من بجيلة، القليلة الذليلة، أما والله إني لأظن أول من يأتيك صقر من قريش يشد يدك إلى عنقك.
قالوا: وكتب هشام إلى خالد: بلغني أنك تقول أنا خالد بن عبد الله بن يزيد بن أسد بن كرز، وو الله ما أنا بأشرف الخمسة، أما والله لأردنّك إلى بغلتك وطبلسانك القيروي.
وبلغ هشام أن خالدًا يقول لابنه: كيف أنت إذا احتاجَ إليك ولد هشام، فأغضب ذلك هشامًا.
وأتى رجل هشامًا فسأله عن خالد فقال: لقد سمعته يقول فيك قولا عظيمًا فبحثه عنه فقال: هو أفظع من أن يواجه به أمير المؤمنين فقال: أقال لك الأحول؟ قال: أعظم من ذلك. ولم يزل يُبلغ هشامًا عنه ما يكره حتى تغير رأيه فيه، وكان أثيرًا عنده، والذي كان الرجل سمعه يقول ابن الورهاء.
وأتى دهقانٌ خالدًا فقال له: إن غلة ابنك اليوم عشرة آلاف ألف ولا آمن من أن يبلغ ذلك أمير المؤمنين فيستكثره، وإن الناس يُحبونَ جسدك، وأنا أحب روحك وجسدك، فقال: ويحك دع ابني فلربما طلب ألف درهم فلم يقدرُ عليها.
قالوا: وأتت امرأة خالدًا فقالت: أصلحَ الله الأمير، إني امرأةٌ مسلمة وإن عاملكَ فلان وثب علي وهو مجوسي فأكرهني على الفجور،(9/95)
وغصبني نفسي، فقال: كيف وجدتِ قلفته؟ فكتب حسان بذلك إلى هشام، فكان ذلك مما دعاهُ إلى عزل خالد، وولاية يوسف بن عمر.
وقال خالد: أن أكرم الناس عفوًا من عفا عن ذنب أخيه بعد قدرة، ومن لم يطب حرثه لم يزك نبته، والفروع على مغارسها تنمى، وعلى أصولِها تسمو
نشأ الصغير على أخلاق والده ... إن العروق عليها ينبت الشجر
[ولاية يوسف بن عمر الثقفي العراق]
قالوا: أخفى هشام عزل خالد بن عبد الله، وكان:
يوسف بن عمر الثقفي [1] عامله على اليمن، فكتب هشام إليه بِخطه يأمره أن يقبل في ثلاثين من أصحابه إلى الكوفة، وبعث بالكتاب بعهده على العراق، ووجه بذلك شَعْوَذيًا [2] . ويُقالُ بل كان عنده رسول ليوسف بعثه في حوائج له فحمله العهد، وكتب الولاية والتسليم، فخرج يوسف حتى صار إلى الكوفة في سبعة عشر يومًا فعرس [3] قريبًا منها، وقد ختن طارق خليفة خالد على الخراج ولده، فأُهدي له ألف عتيق وألف وصيفة سوى المال والثياب وغير ذلك، فجاء رجل إلى طارق فقال له: إني رأيت قوما أنكرتهم وزعموا أنهم سفار.
__________
[1] بهامش الأصل: يوسف بن عمر.
[2] الشعوذي: رسول الأمراء على البريد. القاموس.
[3] أي نزل بآخر الليل للإستراحة. القاموس.(9/96)
وصار يوسف إلى دور ثقيف فأمر بعضُ الثقفيين أن يَجمع له من قدر عليه من مضر ففعل، فدخل يوسف المسجد مع الفجر فأمر المؤذن بالإقامة، فقال: حتى يأتي الإمام. فانتهره فأقام، وتقدم يوسف فصلى وقرأ: إذا وقعت الواقعة [1] وسأل سائل [2] ، ثم أرسلَ إلى خالد وطارق وأصحابهما فأخذوا، وإن القدور لتغلي.
[عزل خالد القسري عن العراق وحبسه]
وقال أبو عبيدة: حبس يوسف خالدًا فصالَحه أبان بن الوليد عنه وعن أصحابه على تسعة آلاف ألف درهم، ثم ندم يوسف وقيل له: لو لم تقبل هذا المال لأخذت منه مائة ألف ألف درهم، فقال: ما كنت لأرجع عن شيء رهنت به لساني.
وأخبرَ أصحاب خالد خالدًا فقال: أسأتم حين أعطيتموهُ هذا المال في أول وهلة. ما يؤمنني أن يأخذها ثم يرجع عليكم فارجعوا إليه. فأتوه فقالوا: إنا أخبرنا خالدًا بِمَا فارقناك عليه من المال، فذكر أنه ليس عنده، فقال: أنتم أعلم وصاحبكم فأما أنا فلا أرجعُ عليكم وإن رجعتم لم أمنعكم، قالوا: فإنا قد رجعنا، قال: فو الله لا أرضى بتسعة آلاف ألف ومثلها ومثلها، فذكر ثلاثين ألف ألف ويُقال مائة ألف ألف.
وقال الكميت يَمدح يوسف ويَهجو خالدًا بقصيدة طويلة منها:
لأجري من الآلاء آل أبي عمر ... اللائي لَها كنت أضرب [3]
أناس يبارونَ الرياح فلا القرى ... بكيّ ولا الجاني لديهم مؤنّب
__________
[1] سورة الواقعة- الآية: 1.
[2] سورة المعارج- الآية: 1.
[3] عجز هذا البيت مضطرب الوزن.(9/97)
يظل اليتامى الشعث حول جفانهم ... عيالا عليهم والضريك المعصّب
فداهم من الأقوام أولاد خالد ... ومعشره أيام يرجّى ويُرْهَبُ
فأنتَ لدين الله فينا وطيده ... وأنت على الأحساب فينا المذبِّبُ
خرجت لَهم تَمشي البراح ولم يكن ... ليحصنه منه الرتاج المضبّب [1]
[أخبار خالد القسري]
حدثنا العمري عن ابن عياش قال: أجمع هشام على عزل خالد لأنه اتخذ بالعراق أموالا، وحفر أَنْهارًا حتى بلغت غلته عشرين ألف ألف درهم، منها نَهر خالد كان يغل خمسة آلاف ألف درهم، وباجوا، وبارمانا والجامع، والمبارك، ولوبة، وسابور، والصلح، وأمواله بالبصرة والبحرين، وكان يقول كثيرًا: ابني هذا مظلوم، ما تحت قدمي من شيء إلا وهو له، لأن عمر جعل لبجيلة ربع السواد، ثم صالَحهم عنه.
قال الهيثم: فحدثني الحسين بن عمارة عن العريان بن الهيثم قال:
قلتُ لخالد يومًا: إن الناس قد رمقوك بأبصارهم وحد جوك [2] ، وهي قريش وليس بينك وبينهم آل، وهم يَجدونَ منك بدًّا، وأنت لا تَجدُ منهم بدًّا، فأنشدكَ الله لما كتبت إلى هشام تُخبره خبر أموالك، وتعرض عليه ما أحب منها، فما أقدرك على اتخاذ مثلها ولا يستفسدك، وإن كان حريصًا، وأعطه طائعًا خير من أن تُعطيه كارهًا، وله عندك اليد الجليلة التي تحفظ ولا تنسى، وإنما نلت ما نلت في سلطانه، فإنه إن رفع عليك رافع، وسعى بك ساع لم آمن عليك أن يحوزها.
__________
[1] ليست في ديوانه المطبوع.
[2] حدج: ضرب بالتهمة، والتحديج: التحديق. القاموس.(9/98)
قال: ما (أنتُ بمتهم، ولا يكون ذاك أبدا. فقال: أطعني واجعلني رسولك إليه فو الله لا يحل عقدة إلا شددتها، ولا يشد عقدة إلا حللتها، قال: إني والله ما أعطي على الذل، فكان العريان يقول: كأنك بها قد أخذت منه على الذل والصغار.
حَدَّثَنَا الْعَمْرِيّ عَنِ الْهَيْثَم عَنِ ابن عياش أن بلال بن أبي بردة كتب إلى خالد، وهو عامله بالبصرة، حين بلغه تعتب هشام على خالد، يستأذنه في القدوم عليه، فأذن له فسار إلى الكوفة في يوم وليلة على الجمّازات [1] فقال له خالد: يا أبا عمرو لقد أتعبت نفسك فقال: لأنه بلغني تعتب أمير المؤمنين عليك، وما بغاكَ به ولده، وأهل بيته، فإن رأيتَ أن تعرض عليه بعض أموالنا ليأخذ من ذلك ما أحبّ فافعل، فإن أنفسنا طيبة بِما نعطيه، فقال:
يا بلال إني والله ما أعطي شيئًا قسرًا، فقال: أتكلم أيها الأمير؟ قال:
نعم، قال: يقول لك هشام وليتك ولا شيء لك فلم تر على نفسك من الحق أن تعرض علي بعض ما صار إليك، وأخاف أن يزين له حسان النبطي ما لا تستطيع تلافيه ولا تداركه، فاغتنم هذه الفترة. قال: أنظر في ذلك فانصرف راشدًا، فانصرف بلال وهو يقول: كأنكم بِهذا الرجل وقد بُعث إليه رجل بعيد الرحم، سخيف الدين، بغيض النفس، قليل الحياء، فأخذه بالإحن والترات، فكان كما قال.
وقال ابن عياش: كان بلال اتخذ داره بالكوفة، وإنّما استأذنَ لينظر إلى داره، فما نزلها إلا مقيدًا، ثم جعلت سجنا إلى اليوم.
__________
[1] جمز الإنسان والبعير، وثب، وهو عدو دون الحضر، وفوق العنق. القاموس.(9/99)
قال ابن عياش: كان خالد يَخطب فيقول: تزعمونَ أني أُغلي أسعاركم، فعلى من يغليها لعنة الله، وكان هشام بن عبد الملك كتب إلى خالد أَلَّا يُبَاعَنَّ من الغلات شيء حتى تُباع غلة ولد أمير المؤمنين، فبلغت الكيلجة [1] درهما.
[تولية يوسف بن عمر الثقفي العراق]
قالوا: ولَمّا غلب هشام، وقَلّ صبره على ما يبلغه عن خالد، أزمعَ عزله، وكتم ذلك سالِمًا كاتبه، لصداقة كانت بينه وبين خالد، فكتبَ إلى يوسف بن عمر بِخطّه بولاية العراق، وإلى خالد بالتسليم.
المدائني عن بشر بن عيسى عن أبيه عن الربيع بن شابور مولى بني الحريش قال: أتى هشامًا كتاب خالد، وقدم عليه في ذلك اليوم رسول ليوسف بن عمر، فقرأ هشام كتاب خالد، فلما صلى المغرب نَهض فصلى ركعتين ثم رفع يده يدعو، فقلتُ في نفسي: إنه ليستخيرُ الله في عزل خالد، فكتب عهد يوسف من ليلته مع الرسول، والرسول لا يدري ما معه.
[أخبار خالد القسري]
قال الهيثم: فسمعتُ أشرسَ مولى بني أسد، وكان تاجرًا ليوسف يُحدث الحسن بن عمارة قال: أتانا كتاب هشام فقرأه يوسف فكتمنا ما فيه، وقال: أريد العمرة، فخرج وأنا معه ودكين بن شجرة العاملي، وأخوه قرواش، وحجاج النصري، وكانوا أصحاب محمد بن يوسف الذين يؤانسهم، قال: فخرجنا واستخلف ابنه الصلت على اليمن، فما كلم أحدًا منا بكلمة حتى انتهى إلى العُذيب، فأناخَ وقال: يا أشرس، أين
__________
[1] الكيلجة: مكيال. القاموس.(9/100)
دليلك؟ قلت، هوذا، فسألهُ عن الطريق فقال: هذه طريق المدينة، وهذه طريق العراق. فقلتُ: والله ما هي بأيام عمرة، فلم يتكلم حتى أناخَ بين الحيرة والكوفة في بعض الليل، ثم استلقى على ظهره، ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال:
فما لبثنا العيس أن قذفت بنا ... نوى غربة والعهد غير قديم
يا أشرس ابغني إنسانًا أسائله، فأتيته برجل فقال: سله عن ابن النصرانية، فقلتُ: ما فعل خالد؟. قال: في الحمة، اشتكى فخرج إليها، قال: سله عن طارق، فقال: ختن بنيه وهو يطعم الناس بالحيرة وخليفته عطية بن مقلاص يطعم الناس بالكوفة، قال: خلِّ عن الرجل.
ثم ركب فأناخَ بالرحبة، ودخلَ المسجد، فصلى يوسف، ثم استلقى على ظهره فمكثنا ليلا طويلا، ثم جاء المؤذنون، وزياد بن عبيد الله الحارثي يومئذ على الكوفة خليفة لِخالد، فأذنوا ثم سلموا وخرج زياد وأقيمت الصلاة فذهب زياد ليتقدم فقال يوسف: يا أشرس نَحِّهِ. فذهب ليتقدم فقلت:
يا زياد تأخر، الأمير. فتأخر زياد، وتقدم يوسف وكان حسن القراءة فصيحًا فقرأ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ وإذا وقعت الواقعة فصلى الفجر وتقدم القاضي فحمد الله وأثنى عليه، ودعا للخليفة وقال: ما اسم أميركم؟ فأخبرَ فدعا له بالصلاح، فما تفرق أهل الصلاة حتى جاء الناس، ولم يبرح يوسف حتى بعث الحكم بن الصلت وعطاء بن مقدم إلى خالد، وبعث محمد بن منظور الأسدي إلى أبان بن الوليد بفارس، وبعث كثير بن عبد الله أبا العاج إلى بلال بن أبي بردة بالبصرة، وبعث إبراهيم بن عاصم العُقَيْلي إلى عبد الله بن أبي بردة بسجستان، وأمر هشام أن يُعزل عمال خالد(9/101)
جَميعًا إلا الحكم بن عوانة، وكان على السند فأقره حتى قتل هو وزيد بن علي في يوم واحد، قتله ناكهر، ولم يعرض يوسف لزياد بن عبيد الله، وبعث إلى محمد بن القاسم بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن عِضاه الْأَشْعَرِيّ، فقال له: من أنت؟. فانتسبَ له، وقال: إِنّما كنتُ على أعواد كَرْمَان، قال: نِعْمَ أهل البيت أنتم فَأَدِّ شيئًا. قال: قد أخبرتك أني لم أتولّ جباية، فقال: خليّا سبيله.
فلما أتى خالد قيل له: الأمير الأمير. قال: دعوني من أميركم، أحيٌّ أمير المؤمنين؟ قيل: نعم. قال: لا بأس عليّ. فلما قُدم بِخالد على يوسف حبسه وضرب يزيد بن خالد ثلاثين سوطًا، فكتب هشام إلى يوسف:
أُعطي الله عهدًا لئن شاكت خالد شوكةً لأضربنّ عنقك فخلّ سبيله بثَقَله وعياله. فأتى الشام فلم يزل مقيمًا بالشام يغزو الصوائف حتى مات هشام.
وقال غير الهيثم: كانت ولاية خالد العراق في شوال سنة خمس ومائة، ثُمَّ عزل في جمادى الأولى سنة عشرين، وقد قدم عليه يوسف واسطًا فحبسه بها ثم شخص إلى الحيرة، فلم يزل خالد محبوسًا بالحيرة ثَمانية عشر شهرًا، وحبس معه أخوه إسماعيل بن عبد الله، وابنه يزيد بن خالد، وابن أخيه المنذر بن أسد بن عبد الله.
واستأذنَ يوسف في البسط على خالد، فلم يأذن له هشام حتى ألحّ عليه بالرسل، واعتلّ بانكسار الخراج لما صار إليه وعماله منه، فأذن له فيه مرة واحدة، وبعث حرسيًا يشهد ذلك، وحلف لئن أتى على خالد أجله وهو في يده ليقتلنه، فدعا به يوسف وجلسَ على دكان بالحيرة، وحضر الناس وبسط عليه فلم يكلمه خالد حتى شتمه يوسف وقال: يا بن الكاهن- يعني(9/102)
شقّا أحد أجداد خالد وكان كاهنًا-. فقال له: إنك لأحمق، تعيّرني بشرفي لكنك ابن السبّاء، إِنَّما كان أبوكَ يسبي الخمر.
ثم ردّه إلى محبسه، فأقام ثَمانية عشر شهرًا، ثم كتب إليه هشام يأمره بتخليه سبيله في شوال سنة إحدى وعشرين ومائة. وأخذ يزيد بن خالد وحده على بلاد طيّئ حتى ورد دمشق، وخرج خالد ومعه إسماعيل أخوه وغيره، وقد جهزهم عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص، فسار خالد حتى نزل القُرّية، وهي من أرض الرصافة، فأقامَ بها بقية شوال، وذا القعدة، وذا الْحجَّة، وصفر لا يأذن له هشام في القدوم عليه والأبرش يُكاتب خالدًا.
قال الهيثم: وخرج زيد بن علي على يوسف بن عمر، فكتب يوسف، إن أهل البيت من بني هاشم قد كانوا هلكوا جوعًا حتى كانت همة أحدهم قوت يومه، فلما ولي خالد العراق قوّاهم بالأموال حتى تاقت أنفسهم إلى طلب الخلافة، وما خرج زيد إلا بإذن خالد، وما مقامه بالقرية إلا لأنها مدرجة الطريق، فهل تسأل عن أخباره؟ فقال هشام للرسول، وهو رجلٌ من بلقين: كذبتَ وكذب صاحبك ومهما اتهمنا به خالدًا فإنا لا نتهمه في طاعته وأمر بالرسول فوجئت عنقه.
وبلغ الخبر خالدًا فصار إلى دمشق فأقامَ بها حتى حضرت الصائفة، فخرج فيها ومعه يزيد وهشام ابنا خالد، وعبد الله بن يزيد بن خالد، وكان على دمشق يومئذ كلثوم بن عياض بن جُوح بن قيس القشيري، وكان متحاملا على خالد مطابقًا ليوسف على أمره، فلما أدربَ الناس ظهر في دور دمشق حريق في كل ليلة يلقيه رجل من أهل العراق يُقالُ له أبو المعرّس(9/103)
وأصحاب له، فإذا ارتفعت النار أغاروا يسرقونَ، وكان إسماعيل بن عبد الله، والمنذر بن أسد، وسعيد ومحمد ابنا خالد بالساحل لحدث كان من الروم، فكتب كلثوم إلى هشام يذكر الحريق، ويذكر أنه لم يكن قط قبل قدوم خالد، وأن موالي خالد يريدونَ الوثوبَ على بيت المال ونهب الناس.
فكتب هشام إليه يأمره بحبس آل خالد الصغير منهم والكبير، ومواليهم والنساء، وأخذ إسماعيل والمنذر ومحمدًا وسعيدًا من الساحل، فقدم بِهم في الجوامع ومن كان معهم من مواليهم وغلمانِهم، وحبس أم جرير بنت خالد والرائقة وجَميع النساء والصبيان.
ثم ظهر على أبي المعرّس، فأُخذ ومن معه، فكتب الوليد بن عبد الرحمن عامل الخراج بدمشق إلى هشام يُخبره ببراءة من حُبس من أهل خالد، وأخذ أبي المعرس وأصحابه.
فكتب هشام إلى كلثوم يشتمه ويعنّفه ويأمرهُ بتخليه من حبس من آل خالد ومواليه وغيرهم ممن هو منهم بسبب، فخلاهم جَميعًا.
ولَما قدم خالد قال: غزوت في سبيل الله سامعًا مطيعًا، فأخذ حُرَمي، وحرم أهل بيتي فحبسوا مع أهل الجرائم كما يفعل بأهل الشرك، فما منع عصابة منهم أن تقوم فتقول علام حبس حُرَم هذا الرجل، أخفتم أن تقتلوا جَميعًا؟. أخافكم الله.
ثم قال: ما لي ولِهشام يسوق بناتي وحُرمي كل يوم إلى السجون، لَيَكُفَّنَّ عني أو لأَدْعُوَنَّ إلى عراقي الهوى شامي الدار حجازي الأهل لو نخر نخرة، أو نعر نعرةً تداعت من أقطارها- يعني مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن(9/104)
عباس-. فبلغ قوله هشامًا فقال: خرف الرجل. وكتب إليه: إنك هُذَأَةٌ، هُذَرَةٌ، أببجيلةٌ القليلةُ الذليلة تتهددنا؟.
وقال رجل من عبس في خالد:
ألا إِنَّ بَحرَ الجودِ أصبح ساحيًا ... أسيرَ ثقيفٍ موثقًا في السلاسل
فإن يسجنوا القسريَّ لا يسجنوا اسمه ... ولا يسجنوا معروفه في القبائل
قال الهيثم: فأقامَ خالد بدمشق، ويوسف ملح على هشام في إشخاص يزيد بن خالد، فكتب إلى كلثوم يأمره بحمل يزيد إلى يوسف، فبعث إليه خيلا وهو في بعض النواحي فقاتلهم ولم يقدروا عليه، فحبس كلثوم خالدًا في سجن دمشق، وسار إسماعيل أخوه حتى أتى الرصافة، فدخل على ابن الزبير حاجب هشام فأخبره بحبس كلثوم خالدًا، فأنهى ذلك إلى هشام، فكتب إلى كلثوم يعنفه ويقول: عجزتَ عمن أمرتك بأخذه، وحبست من لم آمرك بحبسه، وكتب إليه في تخلية سبيل خالد فخلاه.
وقال الهيثم: أمر هشام الأبرش فكتب إلى خالد: بلغني أن عبد الرحمن الضبي قام إليك فقال: يا خالد إني أحبك لعشر خلال: إن الله كريم وأنت كريم، والله جواد وأنت جواد، والله حليم وأنت حليم، والله رحيم وأنت رحيم، وعدَّ عشر خلال، وأمير المؤمنين يقسم بالله لئن تَحقق ذلك عنده ليسفكنّ دمك، فاكتب بالأمر على وجهه لأخبر به أمير المؤمنين.
فكتبَ إليه خالد: إن ذلك المجلس كان أكثر أهلا من أن يَجوز لأحد من أهل البغي والفجور أن يحرّف ما كان فيه، قام إليّ عبد الرحمن بن ثويب الضبي فقال: إني لأحبك لعشر خلال: إن الله يُحب كل كريم، وأنت كريم فالله يحبك، وعَدَّدَ عشر خلال، ولكن أعظم من ذلك قيام ابن شفي(9/105)
الحميري وقوله: أمير المؤمنين خليفة الله، وهو أكرم على الله من رسوله فأنتَ خليفة ومحمد عليه السلام رسول، ولعمري لضلالة بجيلة بأسرها أهونُ على الخاصة والعامة من ضلالة أمير المؤمنين.
فلما قرأ الأبرش الكتاب على هشام قال: خرف أبو الهيثم، فأقامَ خالد بدمشق حتى مات هشام،
[حبس خالد القسري زمن الوليد بن يزيد]
ثم قام الوليد فقدم عليه خالد فيمن قدم من أشراف الأجناد فلم يأذن لأحد منهم، واشتكى خالد فاستأذنَ فأذن له فرجع إلى دمشق فأقامَ أشهرًا، ثم كتب إليه الوليد: إن أمير المؤمنين قد علم حال الخمسين الألف الألف التي تعلم فاقدم على أمير المؤمنين مع رسوله، فقد أَمَرهُ يُعجلك عن جهازك، فاستشارَ خالد ثقاته فأشيرَ عليه بالامتناع حتى يعطي أمانًا يثق به، فقال: إني لأكره أن تكون الفرقة والاختلاف على يدي، ولمسيري أصلح، وأنا أستعين بالله.
وخرج حتى قدم على الوليد، فلم يدع به، ولم يكلمه، وهو في بيته مع مواليه وخدمه حتى قدم برأس يحيى بن زيد بن علي من خراسان، فجمع الناس في رواق وجلس الوليد، وجاء الحاجب فأذن لثلاثة نفر ثم قال: قم يا خالد، فقال: قد تراني لا أقدرُ على المشي، إنّما أحمل حملا لعلّتي، فحُمل على كرسيه وأدخلَ إلى الوليد والموائد موضوعة والناس سماطان، وعقال بن شبة يَخطب، ثم انصرف الناس، وحمل خالد إلى رحله، ثم أتاهُ رسول الوليد فَرُدَّ فلما صارَ إلى باب السرادق وقف به، وخرج إليه رسول الوليد فقال: يقول لك أميرُ المؤمنين أين يزيد بن خالد؟. فقال: كان أصابه من هشام ظفر ثم طلبه فهرب منه، وكنا نراهُ عند أمير المؤمنين، ونحنُ نظن أنه في بلاد قومه بالشراة، فقال: ولكنك خلفته طلبًا للفتنة.(9/106)
فقال: قد علم أمير المؤمنين أنا أهل طاعة أنّا وأبي وجدي، فقال: والله لتأتين به أو لأزهقن نفسك.
فرفع خالد صوته، وكان الوليد بالقرب، فقال: قل له: هذا أردت، وإياهُ اعتمدت، وعليه دُرت، والله لو كان تَحت قدمي ما رفعتهما لك عنه فاصنع ما بدا لك.
فأمر الوليد غيلان صاحب حرسه بالبسط عليه وقال: أسمعني صوته. فأتى به غيلان رحله فعذبه بالسلاسل فلم يتكلم فأعلم الوليد بذلك وقال: لم أرَ أصبر منه، ما ينطق بشيء. فقال: احبسه عندك فحبسه حتى قدم يوسف بن عمر بِمال العراق، وجلس الوليد وأذن للناس ويوسف عنده فتكلم أبان بن عبد الله النميري في خالد فقال يوسف: إني أشتريه بخمسينَ ألف ألف درهم، فأرسل الوليد إلى خالد: إن يوسف يشتريك بخمسين ألف ألف درهم فإن ضمنتها وخرجت منها وإلا دفعتك إليه. فقال خالد:
ما عهدت العرب تباع، والله لو سألتموني أن أضمن هذا- وأخذ عودًا من الأرض- ما ضمنته فلير أمير المؤمنين رأيه، فدفعه إلى يوسف فنزع ثيابه ودَرَّعَهُ عباءة ولحفَه أخرى وحمله في محمل بغير وطاء ولا غطاء، وجعل زميله أبا قحافة المري ابن أخي الوليد بن تليد، وكان الوليد عامل هشام على الموصل، فانطلقَ به حتى نزلَ على مرحلة من عسكر الوليد ثم دَعَا به فشتمه وذكر أمه فقال: ما ذكر الأمهات لعنك الله، والله ما أكلمك كلمة أبدًا.
فبسط عليه وعذبه عذابًا شديدًا وهو لا يكلمه، ثم ارتحلَ به حتى إذا كان في بعض الطريق بعث إليه تَميم بن زيد القيني بشربة سويق حب الرمان مع مولى له يُقالُ له سالم، فبلغ ذلك يوسف فضرب تميما خمسمائة سوط،(9/107)
وضرب سالِمًا ألف سوط، وكان يوسف يُمْشي خالدا في طريقه كثيرا إضرارا به.
[مقتل خالد القسري]
ثم قدم يوسف الحيرة، فدعا بخالد وبإبراهيم ومحمد ابني هشام بن إسماعيل المخزوميين، وكانا ممن يشير بخلع الوليد، فبسط يوسف على خالد، فلم يكلمه بكلمة، وصبر إبراهيم بن هشام، وجزع محمد، ومكث خالد يومًا في العذاب، ثم وضع على صدره الدهق فقتل من الليل ودفن في ناحية الحيرة في عباءته التي كان فيها، وذلك في المحرم سنة ست وعشرين ومائة، فأقبل عامر بن سهلة الأشعري فعقر على قبره فرسًا، فضربه يوسف سبعمائة سوط.
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الفضل بن دُكين قال: حدثني رجلٌ كان مع يوسف بن عمر قال: شهدت خالدًا حين أتى به يوسف فدعا بعود فوضع على قدميه ثم قامت عليه الرجال حتى كسروا قدميه فو الله ما تكلم ولا عبس.
وقال الوليد بن يزيد لأبي الزناد: قد أمرت يوسف بعذاب ابني هشام بن إسماعيل، قال: سرور والله، فأخذ الوليد القرطاس وكتب إلى يوسف: إذا أتاكَ كتابي هذا فألحّ في العذاب على ابني هشام وخالد بن عبد الله حتى يموتوا، فكان يُقالُ: ما قتلهم إلا أبو الزناد.
وقال المدائني: قالها رجلٌ من قيس ونُحِّلَها الوليد وهو الثبت:
وهذا خالد أمسى أسيرًا ... ألا منعوهُ إن كانوا رجالا
عظيمهُمُ وسيِّدُهمْ قديمًا ... جعلنا المخزيات له ظِلالا(9/108)
فلو كانت قبائل ذات عز ... لما ذهبت صنائِعه ضلالا [1]
وقال عمران بن هلباء الكلبي في قصيدة له:
متى تَلْقَ السكون وتلق كلبًا ... بقيس تَخْشَ من ملك زوالا
لئن عيرتمونا ما فعلنا ... لقد قلتم وَجدُّكُم مقالا
وقال منصور بن جمهور:
يا قوم لا تُغلبوا عن رأيكُمْ فلقد ... جربتم الغدر من أولادِ مروانا
ما زال من قتلوا عَمْرًا بغدرهم ... يدعونَ غدرًا بعهد الله كَيْسَانا
حتى استباحوا سنام الأرض مملكة ... قَسْرًا فَوَلّوا أمور الناس ولدانا
وَوَحَّشُوا [2] بكتاب الله واتخذوا ... أهواءهم في معاصي الله قربانا
ألا ترى مُضَرًا أضحت تثير معًا ... حربًا وضربًا شتات الأمر وحدانا
يقطعون بنا أعناقَ سادتنا ... ويعلقونَ بنا أثواب ذبيانا
[تتبع عمال خالد القسري]
وقال المدائني: أخذ يوسف عمال خالد وهم ثلاثمائة وخمسونَ، وقال: قد بقي منهم كبش كبير الصوف ولا بد من أن يُجَزّ- يعني الحكم بن عوانة الكلبي، وكان على السند، وكان هشام تقدم فيه إلى يوسف-.
واستخرج منهم تسعين ألف ألف درهم ولولا عنفه لأخذ منهم أكثر من ذلك.
وأخذ يوسف مولى لِخالد يُقال له داود فسأله عن أموال خالد، فلم يقرّ له بشيء فضربه حتى مات، ودعا بسعيدانف وكان على طراز خالد فضربه
__________
[1] لم ترد هذه الأبيات في شعر الوليد بن يزيد المطبوع.
[2] وحش بثوبه: رمى به مخافة أن يلحق. القاموس.(9/109)
حتى قتله، وهو من بني تَميم، وكان المقفع- واسمه داذ به عذب في استيفاء مال، فتقفّع- على خراج فارس ولاه إياها خالد، فدعا به فدفعه إلى صاحب العذاب فكان يرفق به لأنه تعيَّن منه مائة ألف درهم، فدعا به يوسف فعذب بين يديه حتى مات.
وعُرِضَ على يوسف عماله فقال عامل منهم: جَبَيْتُ فلم أَدَعْ في البلاد درهما. فقال: كذبت وضربه ثلاثمائة سوط.
وقال آخر: جبيتُ فَبَقَّيْتُ بقايا ليقوى أهل البلاد بها، فقال: بل اجتبيتها، فضربه أربعمائة سوط.
وقال آخر: جبيتُ الخراج فازددتُ مالا، فقال: أخربت البلاد وضربه خمسمائة سوط.
المدائني قال: قيل لإسماعيل بن يسار: اطلب العمل ونحنُ نضمن عنك، قال: دعوني أنظر كيف معاملة يوسف عند رأس السنة وفعله بالعمال، فلمّا رآهُ يعذبهم قال:
رأيتُ صبيحة النوروز أمرًا ... فظيعًا عن إمارتكم نهاني
برئتُ من الولاية بعد يحيى ... وبعد النهشلي أبي أبانِ
أحاذر أن أُقَصِّرَ في خراجٍ ... وفي النوروز أو في المهرجان
[أخبار يوسف بن عمر الثقفي]
قالوا: وكان العريان بن الهيثم ضرب الجراح بن عبد الله بن عياش الهمداني بالسياط، وهو على شرطة خالد، فشكاه ابن عياش إلى خالد فلم يشكه، فلما عذب يوسف خالدا أتاه ابنا عياش فشتماه وقالا: أهكذا تضرب ابن النصرانية؟ إنّما كان ينبغي أن تضرب أمه حتى تسلح على وجهه، فقيل لهما: أتشتما رجلا أسيرا يعذب؟ فقالا: ضربنا أميرا ولا نشتمه أسيرا،(9/110)
فمنى ندرك بثأرنا؟. فقال لَهما خالد: يا بني لئيمي قومهما أفلا صبرتُما للسياط.
وغضب لِخالد قوم فضربوهما ومزقوا ثيابَهما فبلغ خبر الضاربين يوسف فقال: لم ضربتم هذين؟. قالوا: غَضبًا لخالد، فضرب كل واحد ألف سوط.
وقال المدائني: أمر يوسف ببلال فعذّب فضمن ثلاثمائة ألف وأخذ منه كفلاء، فأخفرهم وهرب إلى الشام، فيُقال إن غلامه أراد أن يشتري له دراجة فعُرِف، ويُقال: بل شرى له غلامه دراجة فأحرقها، فضربه فسعى به، فأُتي به هشام، فأمر به فأقيم في الشمس فقال: ادنوني من أمير المؤمنين فله عليّ ما طلب فأبى، وردّه إلى يوسف فعذبه حتى قتله.
وقال عبد الله بن أبي بُردة للسجان: ارفع اسمي في الموتى، فرفعه، فقال يوسف: أرنيه ميتًا، فَغَمَّه السجان حتى مات، ويُقالُ بل كان بلال الذي سأل السجان رفع اسمه في الموتى، والمقتول في العذاب عبد الله.
وقال يونس النحوي: ما قتل بلالا إلا دهيُّهُ في نفسه، سأل السجان أن يرفع اسمه في الموتى ويُعطيه مالا فرفع اسمه في الموتى، فقال يوسف:
اعرض الموتى عليّ فغمّه حتى مات وعرضه عليه ميتًا.
قالوا: وتداعت قيس وتغلب إلى الصلح بعد الذي كان بينهم، فحمل رجل من تغلب في ذلك حمالة، وقدم على خالد، فأمرَ خالد سليمان بن المهاجر مولى بجيلة أن يقول في ذلك أبياتًا فقالها، وأذن خالد إذنًا عامًا فدخل الناس والتغلبي معهم، فأنشدَ سليمان بن المهاجر أبياته:
أتغلب أم قيس ترى في بلادها ... من الحرب إذ عضّتهم الحرب أجزع(9/111)
وإن القبيلين اللذين تداعيا ... إلى الصلح والداعي إلى الصلح أضرعُ
أَيَنْسى بنو الغَلباء بالبِشْر وقعةً ... لِجحاف قيس [1] والقبائل تسمع
فقال التغلبي:
ألا لا ولا تنسى سليم وعامر ... مقام عمير حين ظل يقطع
فَدَعْ ذا ولكن ما تقولونَ في الذي ... أتيناكم فيه لنا فيه مطمع
فلم يصله ولم يعطه خالد شيئًا فمضى وتركه.
حدثني الأثرم عن أبي عبيدة قال: لما عذب يوسف خالدًا ادّعى أنه استودعَ زيد بن علي بن الحسين وداودَ بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس مالا عظيمًا، وكتب يوسف بذلك إلى هشام، فكتب هشام إلى خاله إبراهيم بن هشام وهو عامله على المدينة يأمره بحملهما إليه، فحلفا أنه ما أودعهما خالد شيئًا،، فقال: إنكما عندي صادقان ولكن أمير المؤمنين كتب إليّ في حملكما إليه فحُملا، فلما دخلا على هشام أحلفهما بأغلظ الأيمان ما أودعهما خالد شيئًا قط فحلفا، وقال داود: كنت قدمت عليه العراق فأمر لي بِمائة ألف، وقال زيد: كيف يودعني رجل كان يلعن جدي على المنابر؟. فقال هشام:
أنتما أصدق من ابن النصرانية، فاقدما على يوسف حتى يَجمع بينكما وبينه فتكذباهُ في وجهه، ففعلا.
وقال خالد: مسَّني العذاب ففزعتُ إلى هذه العلة، وقلتُ يفرج الله قبل قدومكما.
__________
[1] فيما يتعلق بالجحاف ومعركة البشر، انظر بغية الطلب ج 1 ص 431- 436.(9/112)
المدائني وغيره قالوا: بدأ يوسف بالكوفة، فدخلها ولم يُقم بها، وخرج إلى واسط فأقامَ بها سنة وأقرّ زياد بن عبد الله الحارثي على الكوفة، ثم ولي يوسف بن عمر: محمد بن القاسم.
وقال الكميت:
ولَما رأيت الدهر يقلب ظهره ... على بطنه فعل الممعِّكِ في الرملِ
أخذتُ بحبل لا أخافُ انجذامه ... من الحكم بن الصلت حَسْبي من حبلِ
في قصيدة له.
قالوا، ونظر يوسف يومًا إلى أسود مقيد قد جلس على مائدة من الموائد التي يطعمها الناس، وكان يأكل على موائده من أراد، فضرب رجل من الشاميين الأسود بنعل سيفه ليقيمه، فرآهُ يوسف، فدعا بالشامي فضربه مائة سوط، وقال للأسود: ما أنتَ؟. قال: عبد. فأمرَ بابتياعه وأعتقه وقال: احضر طعامنا في كل يوم.
وقال المدائني: كان يُقالُ إنه كانت في يوسف خلال حسنة: طول صلاة، وحسن هدي، ووفاء ولزوم للمسجد، وضبط لحشمه وأهل بيته عن الناس وجمال وانبساط لسان، وتواضع في منزله، وحُسن ملكة، وكثرة تضرع ودعاء، وكان يصلي الغداة فلا يزالُ مستقبلا للقبلة يُسبّح ويدعو ولا يكلم أحدًا حتى يصلي الضحى، ولزومٌ للسنة، وحفظ للقرآن واقتصاد، وبُعْد هِمَّةٍ، وبصر بالشعر والأدب.
وقال سعيد بن سَلْم: ذكر قوم يوسف فاغتابوه فقال لَهم يوسف بن سليم مولى أبي بكرة: أنصفوا يوسف فإن خالد بن عبد الله اصطنع من اليمن(9/113)
ومن العجم قومًا نحو أبان بن الوليد فأخملهم يوسف وأفناهم، وأفلتَ منهم واحد وهو ابن الكرماني، فقد رأيتم ما صنع بكم فكيف لو بقي الآخرون؟
حدثني عمر بن شبه عن حيان بن بشر عن جرير عن المغيرة قال: كان الإسلام ذليلا حتى قدم يوسف، وقال ابن نوفل يَمدح يوسف في شعر يقول فيه:
أتانا وأهل الشرك أهل زكاتنا ... وحكامنا فيما نُسِرُّ ونجهر
فلما أتانا يوسف الخير أشرقت ... له الأرض حتى كل وادٍ مُنَوَّرُ
وحتى رأينا العدل في الناس ظاهرًا ... وما كان من قبل العقيلي يظهر
في أبيات. ثم قال بعد ذلك فيه:
أرانا والخليفة إذ رمانا ... مع الإخلاص بالرجل الجديد
كأهل النار حين دُعوا أغيثوا ... جَميعًا بالحميم وبالصديد
قالوا: وقال يوسف لكلوب الصريمي: دلني على رجل أوليه كرمان، فدله على نميلة بن مرّة. فولاه فكسر خمسمائة ألف، فضرب كلّوب خمسمائة سوط وضرب نميلة.
وولي يوسف عبد الله بن طارق العنبري أمر أكراد فسا ودر أبجرد فقتله بعض الأكراد، فأخذ ابنه قدامة كتاب يوسف إلى عبد الكريم المازني وهو على فسا ودر أبجرد يأمره بدفعه إليه فقال له عبد الكريم: ثأرك ثأري وعلى الرجل من الخراج شيء كثير فدعني أستأديه ثم أدفعهُ إليك، فعجل قدامة فقتله، فكتب عبد الكريم بذلك إلى يوسف فضرب قدامة ضربًا مبرحًا، فلما عزل عبد الكريم رفع عليه قدامة وقال ليوسف: هذا الذي يقول له الشاعر:(9/114)
إذا زَفَنَتْ [1] عليك سَمَا بُذَخْشٍ [2] ... فقد أَزْجَتْ خراج دَرَابجرد
فقال يوسف لعبد الكريم: يا عدو الله وإذا أنت صاحب مثل هذا، فضربه ضربًا مبرحًا.
قالوا: وكان يوضع على موائد يوسف أنواع الطعام فيأكل كل امرئ ما يشتهي، فوضعت على مائدة منها سمكة، فقال رجل من أهل الكوفة يُقالُ له حَمَّاد بن أبي الدرداء، وهو من أهل بيت ينتمونَ إلى أبي الدرداء وليسوا منهم، وأهل الكوفة يقولون: بنو أبي الضرطاء، فقال حَمَّاد: أيها الأمير، هذا النون. فقال يوسف: والله لتضربنّ أو لتتكلمنّ بلسان أبيك.
فقال: هذا كوارًا وهو السمك بالنبطية، فتركه.
قال المدائني: وولي يوسف بن عمر صالِح بن كدين ولاية فخرجت عليه ثلاثونَ ألفًا فحبس بها وبلال يومئذ محبوس، فقال له بلال: إن على العذاب سالِمًا ويلقب رتبيل فإياكَ أن تقول له يا رتبيل، وجعل يردد عليه ذلك فعذبه سالِم فنسي اسمه وكنيته وجعل يقول له: يا رتبيل اتق الله، فيقول: اقتل. فلما خلَّى عنه قال له بلال: أَلم أَنْهَكَ عن رتبيل؟ فقال:
وهل ألقاني في رتبيل غيرك، وأنا لم أكن أعرف رتبيل لولا أنت وما تدع شرك في سراء ولا ضراء.
قال: وكان على شرط يوسف العباس بن سعد المريّ من مُرة غطفان وكان كاتبه قحذم بن سليمان بن ذكوان، وزياد بن عبد الرحمن مولى ثقيف، وكان على حرسه، وحجابته جندب وفيه يقول الشاعر:
__________
[1] الزفن: الرقص.
[2] بذخش: بلدة في أعلى طخارستان بينها وبين بلخ ثلاث عشرة مرحلة. معجم البلدان.(9/115)
أتانا أمير شديد النكال ... لحاجب حاجبه حاجب
وولى يوسف مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى القضاء، وكانت به حدَّة فقال له: إِنّما أنت أجير قوم فَوَفِّهم عملك إذا وفّوك أجرك، وإذا أردت الخروج فكل لا أشبع الله بطنك، وانكح لا أعفَّك الله، وإذا غضبتَ فقم.
المدائني وغيره: أن يوسف بن عمر قال في خطبته: إن أول من فتح على الناس باب الفتنة وسفك الدماء علي وصاحبه الزنجي- يعني عمار بن ياسر-.
قال: وكان في خضراء واسط زوج من البوم فقال: انظروا إليّ رجلا راميا بالبندق، فجيء برجل فرمى وكرهما فخرج أحدهما فرماهُ فقتله، ثم خرج الآخر فرماهُ فقتله فأمر بحبسه فحبس نحوًا من سنة، فلمّا تَحوّل عن واسط ذُكر له فأمر بتخلية سبيله.
المدائني عن الحكم بن النعمان قال: أراد الوليد بن يزيد بن عبد الملك عزل يوسف، واستعمال عبد الملك بن محمد بن الحجاج، فكتب إلى يوسف: إنك كتبت إلى أمير المؤمنين تذكر إخراب ابن النصرانية البلاد، وكنت مع ذلك تحمل إلى هشام ما تحمل، وقد ينبغي أن تكون قد عمرت البلاد حتى رددتها إلى ما كانت عليه فأشخصَ إلى أمير المؤمنين مصدقًا ظنته بك: ليعرف أمير المؤمنين فضلك على غيرك لكفايتك، ولَمّا جعل الله بينك وبينه من القرابة، فإنك خاله، وأحق الناس بالتوفير عليه، ولَمّا قد علمت مما أمر به أمير المؤمنين لأهل الشام وغيرهم من الزيادة في أعطياتِهم، وما وصل به أهل بيته لطول جفوة هشام لَهم حتى أضرَّ ذلك ببيوت الأموال.(9/116)
فخرج يوسف واستخلف ابن عمه يوسف بن محمد، وحمل معه من الأموال والأمتعة والآنية ما لم يحمل مثله من العراق قط، فقدم على الوليد، وخالد بن عبد الله محبوس، فلقيه حسان النبطي ليلا فأخبره أن الوليد على تولية عبد الملك بن محمد بن الحجاج، وقال له إنه لا بدّ لك من إصلاح أمر وزرائه وأصحابه، فقال: ليس عندي فضل درهم. قال: فعندي خمسمائة ألف فإن شئت فهي لك، وإن شئت فارددها إذا تيسرت فقال: أنتَ أعرف بالقوم وأقدارهم ومنازلهم ففرقها عليهم، ففعل فكان جَميع من على باب الوليد يعظمه ويُجله، فقال له حسان: لا تَغْدُ على الوليد ولكن رح إليه، واكتب على لسان خليفتك كتابًا إليك: «إني كتبت كتابي هذا ولستُ أملك إلا القصر، وأمر أبان بن عبد الله النميري أن يتضمن خالدًا بأربعين ألف ألف، ثم زد عليه عشرة آلاف ألف، وتسأل أن يُدفع إليك» . ففعل يوسف ذلك فقال له الوليد: ارجع إلى عملك، ودفع إليه خالدًا فحمله في محمل بغير وطاء، فقال محمد بن القاسم: فرحمته وقد جمعت ألطافًا من أخبصة يابسة وغيرها في منديل، ثم دنوتُ منه فرميت بالمنديل إليه فقال لي:
هذا من متاع عُمان لأن أخي الفيض كان عامل عُمان. فقلتُ في نفسي: هذا على هذه الحال وهو لا يدع شرارته. فقال يوسف وفَطَن: ما قلت لابن النصرانية؟ قلت: عرضت عليه الحاجة. فقال: أحسنت وهو أسير، ولو فطن بِمَا صنعت به للقيت منه شرًا.
وقالوا: أقرّ يوسف زياد بن عبيد الله الحارثي على الكوفة حتى أخذ له عمال خالد، ثم عزله، وولى العباس الهمداني، ثم الحكم بن الصلت، ثم عزله وولى عدة ثم أعاده، ثم ولى يوسف بن محمد بن القاسم الثقفي،(9/117)
وعلى شرطته ابن أراكة الثقفي، ثم ولى عبيد الله بن العباس الكندي، وعلى شرطه خراش بن حوشب أخي العوام بن حوشب، وهو تولى نبش زيد بن علي من مدفنه.
ولم يزل يوسف على العراق حتى قتل الوليد وولي يزيد بن الوليد، فهرب فظفر به فكان محبوسًا في أيام يزيد وإبراهيم أخيه، ثم قتله ابن خالد القسري في محبسه، وسنذكرُ خبره إن شاء الله.
وقال سلم بن قتيبة: أرسلَ إلى يوسف بن عمر، فلمّا دخلت عليه قال: لم أرك. فقلتُ: كنت عليلا. قال: كذبت، ما عليك أثر العلة، امض إلى منزلك فإذا كان مثل هذا اليوم من قابل فائتني. فانصرفتُ وأقمت في منزلي إلى ذلك الوقت ثم وافيته فأذن لي فدخلتُ عليه فسلمتُ فردّ وقال:
اجلس، فجلستُ فقال: إني قد هيأت لأمير المؤمنين ألطافًا وهدايا، وكتبتُ إليه أصفك له، وأخطب عليك ولاية خراسان، وأمرت الوفد بإطرائك وصيرتك عليهم، وفي الوفد قمير بن مسعود في نفر من بني تَميم، فلما قدمت على هشام وصفني الوفد، فقال هشام: له في سائر أعمال العراق مندوحة عن خراسان.
حدثني عمر بن شبه عن عبيد بن جناد عن عطاء بن مسلم الخفاف قال: لما قدم زيد بن علي على يوسف قال: يزعم خالد القسري أنه أودعني أموالا وكيف يودعني وهو يشتم آبائي على منبره، فأحضر يوسف خالدًا في عباءة فقال له: هذا زيد وهذا داود بن علي وقد حلفا أنك لم تودعهما مالا، فقال: كيف أودع زيدًا وأنا أشتمه وأباهُ، فشتمه يوسف وردّه.(9/118)
وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: قالا لِخالد: ما دعاكَ إلى ما صنعتَ؟
فقال: غلظ علي في العذاب فادعيت ما ادعيت مستريحًا، ورجوتُ أن يفرج الله قبل قدومكما.
المدائني قال: قدم عبد الكريم بن سليط الحنفي على يوسف فأمضاهُ إلى هشام، فقال له هشام: بلغني أن لك بخراسان علمًا، قال: أجل، قال: فمن ترى لها؟ قال: رجل أهلها الكرماني، قال: وممن هو؟ قال:
من الأزد. فتبينت الكراهة في وجه هشام. قال: ما اسمه؟ قال:
جديع بن علي، فتطير من اسمه وقال: لا حاجة لي فيه. قال: فأبو الميلاء يحيى بن نعيم بن هبيرة، ابن أخي مصقلة بن هبيرة الشيباني، فقال: إن ربيعة لا تسد بها الثغور. قال: فعقيل بن معقل الليثي. فأعجبه، فقال:
إن اغتفرت منه خصلة. قال: وما هي؟ قال: ليس هو بعفيف البطن والفرج، قال هشام: فلا حاجة لي فيه. قال: فالمجّرب الأديب منصور بن عمر بن أبي الخرقاء السلمي، فأعجبه. قال: إن اغتفرت منه واحدة.
قال: وما هي؟ قال: أشأم العرب، قال: لا حاجة لي فيه. قال:
فالمسن العاقل مجشر بن مزاحم السلمي. إن اغتفرت منه واحدة. قال:
وما هي؟ قال: أكذب العرب. فقال: أيّ عقل مع الكذب، لا حاجة لي فيه. قال: فابن ذي الطاعة يحيى بن الحضين بن المنذر. قال: ألم أقل أن ربيعة لا تسد بها الثغور. فقال: قَطن بن قتيبة بن مسلم على أنه ثائر بأبيه.
قال: لا حاجة لي فيه. فقال: نصر بن سيار، فتفاءل باسمه. قال: فإنه لا عشيرة له بخراسان. قال: أنا عشيرته، لا أبا لك، أتريد عشيرة أكرم(9/119)
مني، اكتب عهده يا غلام، وأمره في عهده أن يعامل يوسف بن عمر.
قال: فخرج بعهده ولم يمر على يوسف وأخذ طريق حلوان.
وقالوا: أقر يوسف بلال بن أبي بردة على البصرة ثَمانية أشهر، ثم كتب إليه أن احمل إليّ عمالك فحمل إليه سعيد بن راشد فقال له سعيد:
والله ما مثلي ومثلك إلا مثل حلاقين قيل لأحدهما: احلق رأس صاحبك حتى يفرغ فيحلق رأسك. فأقر يوسف بلالا أشهرًا بعد صرف سعيد.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ كُناسة والمدائني وغيرهما قالوا: كان يوسف قصيرًا عظيم اللحية، يلبس ثيابًا طوالا يجرها، وكان شديد العقوبة مسرفًا في ضرب الأبشار، وكان يأخذ الثوب اليوسفي فيمر ظفره عليه فإن تعلق به خيط ضرب صاحبه وربما قطع يده.
قالوا: وضرب يومًا جَماعة في درهم زائف اخرج من الدار، وفي درهم نقص حبة خمسة آلاف سوط، وأُتي يوسف يومًا بثوب فقال للحائك الذي تولى عمله: ما يُقال لِهذا؟ قال: سهر بسهر فقال: ما تقول ويلك؟
قال قحذم كاتبه: يقول أحمر في أحمر. فقال: لا جرم لأحمرنّ ظهره- فضربه ثلاثمائة سوط.
وقال يومًا لكاتبه وقد أتى بثوب: ما تقول في هذا الثوب؟ قال: كان ينبغي أن يكون أصغر أبياتًا من هذه. فقال للحائك: صدق، يابن اللخناء، فقال الحائك: نحن أعلم بهذا، فقال لكاتبه: صدق يا بن اللخناء هو أعلمُ بِهذا منك. فقال قحذم: هذا يعمل في السنة ثوبًا وأنا يمرُ على يدي في كل سنة مائة ثوب مثل هذا. فقال للحائك: صدق يا بن(9/120)
اللخناء، فلم يزل يكذب هذا مرة وهذا مرة حتى عَدَّ أبيات الثوب فوجدها تنقصُ بيتًا من أحد جوانب الثوب فضرب الحائك خمسمائة سوط.
قالوا: وكان له وصفاء صغار، فكانوا يأتون بالزنابير فيفلتونها في البيت الذي هو فيه فتطنّ فيخرج فيقول: يا خبثاء ما هذا؟ ثم يرجع.
قالوا: وأراد الخروج إلى بعض النواحي فدعا جواريه فقال لإحداهن: أتخرجين معي؟ قالت: نعم. قال: يا خبيثة هذا كله من حب النكاح، يا خادم، أو يا جديح اضرب رأسها. ثم قال لأخرى:
ما تقولين؟ قالت: أحب أن أقيم فأكون مع ولدك. فقال: يا خبيثة أكل هذا زهادة فيّ؟ اضرب يا جديح رأسها. ثم قال لأخرى: ما تقولين؟
قالت: ما أدري ما أقول، إن قلت ما قالت هذه أو هذه لم آمن عقوبتك.
قال: يا لخناء أو تناقضين وتحتجينَ عليّ فأمرَ بها فضربت.
قال الهيثم عن ابن عياش أن رجلا دخل على يوسف فقال له: لم أرك مذ أيام. قال: كنت خبيث البطن. فقال يوسف: والفرج- وإنَّما أراد وجع البطن-.
قالوا: وكان جالسًا في خضراء واسط فنظر إلى عش بومة فيها، فقال لبعض من معه: ارمها فرماها بِجُلاهق فصرعها فقال: إنك لغاوٍ أوجعوا رأسه ولا يحضرني مثله.
وقال سعيد بن راشد مولى النخع يومًا: لو فعل الأمير كذا. فقال:
يا بن اللخناء أتشيرُ عليّ، وكان سعيد ابن أخت طارق مولى خالد القسري وفيه يقول الشاعر:(9/121)
بكى الخز من إبطي سعيد بن راشد ... ومن دبره تبكي بغال المواكب
فواعجبًا حتى سعيد بن راشد ... له حاجب بالباب من دون حاجب
المدائني قال: ولى يوسف الوازع بن عبّاد بن قيس السُّلمي [1] البصرة فأخذ بلالا فحمله إلى يوسف بالكوفة ولم يدعه يوسف عليها إلا قليلا حتى عزله، ويُقال إنه لم يوله وإنّما وجهه في عمل بلال.
وولى يوسف: أبا العاج كثير بن عبد الله السلمي البصرة.
وكان سبب توليته إياه أن أبا العاج كان عند هشام يومًا وعنده خاله إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، فذكر يوسف فنالَ إِبْرَاهِيم مِنْهُ فَقَالَ لَهُ أَبُو العاج: يا بن السوداء أَيُوسُف يُذكر بِهذا؟ فلم يفهم هشام، وأشير إلى أبي العاج فسكت، ونَمَت إلى يوسف فشكرها له فكتب إليه فزاره فولاهُ البصرة، ويُقال أخرجه معه.
قال المدائني: ولى أَبُو العاج شرطته مُحَمَّد بْن واسع العابد، وكان أبو العاج أعرابيًا.
المدائني عن يونس النحوي أنه سمع أبا العاج يقرأ: «فأدبر يشتد، يريد: يسعى» [2] .
__________
[1] بهامش الأصل: أبو العاج السلمي.
[2] ثم أدبر يسعى- سورة النازعات الآية: 22.(9/122)
وولى أبو العاج رجلا بعض كور دجلة فقدم عليه فوصف له سيرته، وقال: لقد بلغ من رضا أهل عملي بي أَنْ نثروا عليَّ حتَّى كسروا قناديل المسجد الجامع فَقَالَ: لا جَرَمَ لَتُغْرَمَنَّ ثَمنها، أَوْ تشتري مثلها.
المدائني عن عمرو بن فائد قَالَ: حفر أَبُو العاج نَهرًا فكان يَمر إليه متنكبًا قوسًا عربية.
حَدَّثَنِي عُمَر بْن شَبَّةَ عَن أَبِي عَاصِم النَّبِيّل قَالَ: عدا رَجُل من باهلة عَلَى رجل من بني ضبيعة فضربه، فاستعدى الباهليونَ أبا العاج واستعانوا عَلَيْهِ بسَلْم بْن قُتَيْبَة، فَقَالَ أَبُو العاج: يأمرني ابْنُ قتيبة أن أتعصب على بني ضبيعة، فو الله ما أُحب أن النَّاس كلهم فِي الجنة إلّا بني ضبيعة، يا غلام ائتني بسياط عليها ثمارها. فقال الباهليونَ لسلم: أصلح أيها الرجل بيننا.
فأصلحَ سلم بينهم وانصرفوا وضُبيعة بْن ربيعة بْن نزار، فيُقال أن بُهْثَة سُليم هُوَ بُهْثَة ضُبيعة، والله أعلم.
قَالُوا: وكان أَبُو العاج يغضب من «أَبِي العاج» فَتَقَدَّم إِلَيْه رَجُل فَقَالَ: أصلحكَ اللَّه يا أبا العاج فقال أبو محمد: يا بن البظراء، فَقَالَ:
لا تقل هَذَا فإنها كانت مسلمة قد حجَّت، فقال: إن ذاكَ لا يمنعها من الحج.
وقيل لأبي العاج وأتي برجل مأبون: إن هَذَا يُمَكِّنُ من نفسه. قَالَ:
أفتريدون ماذا؟ أُوَكِّلُ بِهِ رجالًا يحفظونَ دبره، لقد وقعت إذًا في عناء.
أطلقوهُ فالاست استه يصنع بها ما شاء.
تولى أبو العاج البصرة نحوًا من سنة، ثُمَّ عزله يوسف، وولى:(9/123)
القاسم بن محمد بن القاسم البصرة
فانحدر إليها من واسط وكان واليًا عليها، وأقامَ على البصرة خَمس سنين وأشهرًا فاتخذ في مصلى البصرة بستانًا، واتخذ حوضين وبنى عليهما صومعة فكان يأمر بالحوضين في يومي العيدين فيملآن ماء يصب فيهما ألفا رواية، فإذا صلى وجلس في الجنيدة وضعت الآنية فيشرب الناس، وأقامَ مكانه حتى يخف الزحام، ثم يأتي دار الإمارة.
قالوا: وكتب يوسف إلى القاسم يأمره أن ينتخب له رجالا يجعلهم أمناء على عماله، فانتخبَ رجالا كانوا يُدعونَ القُصّاص لأنهم يقصّونَ أثر العمال، منهم: مطر بن فيل، والحارث الأحول فوجههم في أعماله فأما مطر بن فيل فامتنعَ من العمل فقال له يوسف: ما بالك لا تعمل؟ قال:
لا أصلح للعمل. قال: ولِمَ؟ أما تعلمت من جباية أبيك؟ قال: مات وأنا صغير. فقال: والله لأضربنّك ثم لأحبسنّك ثم لأولينّك. فضربه وحبسه فعُمل له بالشام حتى كُتب إلى يوسف فأطلقه. وقال القاسم بن محمد بعد ذلك بيتًا لم يقل قط غيره:
نقمتَ الجور مني في زماني ... فكيف تراهُ يا مطر بن فيل
وقال الشاعر:
عُذْ بالأمير إذا خشيت ظلامةً ... بالقاسم بن محمد بن القاسم
وقال حمزة بن بيض:
وأمتعنا بالقاسم بن محمد ... أميرًا وزاد الله في عمره عمرا
فلا خيرَ في الدنيا إذا لم يكن بها ... أميرٌ عقيلي يشبّهه البدرا(9/124)
[أخبار يوسف بن عمر الثقفي]
المدائني عن أَبِي بَكْر الهذلي قَالَ: خطبنا يوسف في مسجد الكوفة فتكلم إنسان مجنون فقال يوسف: يا أهل الكوفة ألم أنْهَكُم أن يدخلَ مجانينكم المسجد، اضربوا عنقه، فضربت عنق المجنون فقلتُ: لا أصلي والله خلفك أبدًا، وكان مع هذا طويل الصلاة كثير القراءة للقرآن.
المدائني قال: خلع رجل ثيابه ليغتسل وألقى هميانه [1] فجاءت عقاب فحملت الهميان تحسبه لحمًا فخرج الرجل يصرخ ويبكي فأخبر يوسف فقال: كم أكثر ما تطير العقاب؟ قيل: كذا. قال: انظروا أقرب القرى من هَذِهِ الغاية فضمنوا أهلها هميان الرجل.
المدائني قال: لَمّا قدم يوسف العراق قال لعامر بن يحيى بن عامر بن مسمع: إيه يا فاسق، أخربت مهرجانقذق. قال: إني لم أكن عليها إنّما كنت على ماه، وقد عمرت البلاد ووفرت الخراج. فأعاد عليه: أخربت مهرجانقذق، فأعاد عليه مثل قوله. فقال عامر: أشهد أنك مجنون.
فعذبه حتى قتله.
وقال يوسف يومًا لكاتب له: ما حَبَسَكَ؟ قال: اشتكيتُ بضرسي.
فدعا بِحجام فقلعه وضرسًا آخر معه.
وخطب يوسف فقال- ولم يذكر الله في أول خطبته-: يا أهل المدرة الخبيثة أترجفونَ في فهلا أرجفتم بابن النصرانية الذي قال لأجعلنّ [2] ملئها قمحًا بدرهم، هل نقمتم عليّ إِلا أني لم أَدَعْ جُنْدي يزدرعونَ فيكم.
__________
[1] حافظة النقود.
[2] بهامش الأصل: يعني ملء يده.(9/125)
وقال الواقدي: قدم المطلب بن عبد الله بن حنطب وأمه أم سلمة بنت الحكم بن أبي العاص بن أمية على هشام بسبب هذه الخؤولة، فقضى عنه سبعة عشرة ألف دينار، والبئر التي على طريق العراق تنسب إلى بئر المطلب وهي بئره [1] .
__________
[1] بهامش الأصل: بلغ العرض بالأصل الثالث، ولله كل حمد وفضل.(9/126)
بسم الله الرحمن الرحيم
خلافة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان
يكنى أبا العباس، ولي الخلافة بعد هشام وقد ذكرنا كيف كانت بيعته، وكانت أيامه سنة وثلاثة أشهر، وقتل لخمس ليال بقينَ من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة: وأمه أم الحجاج بنت محمد بن يوسف بن الحكم، والحجاج عمها، ولقب الوليد البيطار وذلك أنه كان يصيد حمير الوحش فيسمها بالوليد ثم يخليها.
[أخبار الوليد بن يزيد]
حَدَّثَنِي حَفْص بْن عُمَر العُمري عَن الْهَيْثَم بْن عدي عن أبيه وابن عياش أن الوليد نشأ في قصر أبيه على التَرَف فمجن وتهتك، وكان العهدُ له بعد هشام، فكان مسرفًا على نفسه معلنًا للفسوق والشرب واللذات، وكان هشام ينهاه عن ذلك فلا يَزَعَهُ نَهيه ولا يردعه حتى هم بخلعه، وكان شاعرًا وكانت عنده ابنة سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بن عفان، فزارتها أختها سلمى بنت سعيد، وكانت من أحسن الناس وجهًا، فبصر بها الوليد فأعجبته وذلك قبل الخلافة فطلق أختها ثم خطبها إلى أبيها فامتنعَ عليه وقال: إنّما تريد مني أن أتخذك فحلا لبناتي، فكان يَهجوه، وفيه يقول:(9/127)
من يك مفتاحًا لخير يريده ... فإنك قفل يا سعيد بن خالد [1]
وكان يقول في سلمى الأشعار فيغني بها المغنون وينشدها جلساءه ويشكو إليهم حبها حتى افتضحَ وسقط عند الناس. وفيها يقول:
تذكر شجوة القلب القريح ... فدمع العين منهل سَفُوح
أَلا طرقتكَ بالبلقاء سلمى ... هدوا والمطيُّ بنا جُنُوح
فَبِتُّ بها قريرَ العين حتى ... تكلم ناطق الصبح الفصيح [2]
وكان مستهترًا بشرب الخمر لا يكاد يصلي، وقال وبلغه أن هشامًا هَمَّ بخلعه:
خذوا ملككم لا ثَبَّتَ الله مُلْكَكُمْ ... ثَباتًا يساوي ما حييتُ قبالا
ذروا لي سلمى والطلاء وقينة ... وكأسا ألا حسبي بذلك مالا
أبا لملك أرجو أن أُعَمِّر فيكمُ ... ألا رُبَّ مُلْكٍ قد أُزيلَ فزالا
ألا رُبَّ دارٍ قد تَحَمَّل أهلها ... فأضحت قفارًا والبقاع تلالا
إذا ما صفا عيشي برملة عالج ... وعانقت سلمى لا أريد بَدالا [3]
المدائني والهيثم قالا: كان الوليد يلعب بالصوالجة في ملعب له، وهو يرتجز ويقول:
يا ربّ أمر ذي شؤون جحفل ... قاسيت فيه جالبات الأحول
[4]
__________
[1] شعر الوليد بن يزيد- ط. عمان 1979 ص 49.
[2] بهامش الأصل: يعني الديك. شعر الوليد بن يزيد ص 37.
[3] شعر الوليد بن يزيد ص 92.
[4] شعر الوليد ص 102 مع فوارق كبيرة.(9/128)
قال: ولما ولي الخلافة بعث إلى سعيد بن خالد فقسره على أن يزوجه سلمى ابنته، فلما حملت إليه من المدينة اعتلّت في الطريق وماتت ليلة أدخلت عليه، ولم يزل على مجونه حتى وثبت اليمانية فقتلوهُ وبايعوا ليزيد بن الوليد بن عبد الملك.
وقال أبو نخيلة السعدي في الوليد:
بين أبي العاص وبين الحجاج ... يا لَهما يُوري سراج وهَّاج
عليه بعد عمّه عقد التاج
قالوا: وكان وَلد الوليد: عثمان وأمه عاتكة من ولد محمد بن أبي سفيان بن حرب.
وسعيدًا وأمه أم عبد الملك بنت سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن عُثْمَان.
والعباس، ويزيد، والحكم وفهر، ولؤي، وقصي والعاص، ومؤمن، وواسط، ودوالة لأمهات أولاد شتى. والوليد، ومفتح لأم ولد.
درجوا كلهم.
المدائني قال: كان الوليد حين بايع له أبوه بعد هشام ابن إحدى عشرة سنة، قالوا: لَمّا بلغ الوليد الحنث [1] ، ندم أبوه على تولية هشام عهده وقال: لو انتظرت بلوغه ولكن مسلمة لم يدعني وكان إذا رآهُ قال: الله بيني وبين من جعل هشاما بيني وبينك.
وتوفي يزيد سنة خمس ومائة، وولي هشام فكان في بدء أمره مكرمًا للوليد فمكث بذلك أعوامًا، وكان مؤدب الوليد عبد الصمد بن عبد الأعلى
__________
[1] أي بلغ مبلغ الرجال. النهاية لابن الأثير.(9/129)
الشاعر، وكان فيما يزعمونَ زنديقًا فحمله على شرب الخمر والاستخفاف فاتخذ ندماء، وولاه هشام الموسم سنة عشرة ومائة فرأى الناس منه تَهاونًا واستخفافًا، فأمرَ مولى له يُقالُ له عيسى بن مقسم فصلى بالناس، وبلغ ذلك هشامًا فطمعَ في خلعه، فأراده على أن يخلعها ويبايع لابنه أبي شاكر مسلمة بن هشام فأبى، فتنكر له هشام وأضرّ به وجعل يشتمه ويتنقصه، وتَمادى الوليد في الشرب واللذات فأفرط فقال هشام: ويحك ما أظنك على الإسلام، فكتب إليه الوليد:
يا أيها الباحث عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
نشربها صرفا وممزوجة ... بالسخن أحيانا وبالفاتر [1]
ويُقال إن هذين البيتين لعبد الصمد بن عبد الأعلى قالهما فكتب بِهما الوليد إلى هشام.
وكان في أبي شاكر بن هشام أيضًا مجون، وكان يكثر الشرب ويدمنه، فغضب هشام على مسلمة وقال: يعيرني الوليد بك، وأنا أرشحك للخلافة؟. فألزمه الأدب وحضور الصلوات والجمعات، وولاهُ في سنة سبع عشرة ومائة الموسم فأظهر النسك ولين الجانب، وقسم بِمكة والمدينة أموالا، فقال مولى لبعض أهل المدينة يعرض بالوليد بن يزيد:
يا أيها السائل عن ديننا ... نحن على دين أبي شاكر
الواهب الجرد بأرسانها ... ليس بزنديق ولا فاجر
وقال الكميت بن زيد:
__________
[1] شعر الوليد بن يزيد ص 66.(9/130)
إن الخلافة كائن أسبابها ... بعد الوليد إلى ابن أم حكيم
فكان خالد بن عبد الله القسري يقول: أنا بريء من خليفة يُكنى أبا شاكر. فبلغ مسلمة قول خالد، فلما مات أسد بن عبد الله أخو خالد كتب إليه مسلمة:
أراحَ من خالد وأهلكه ... رب أراح العباد من أسد
أما أبوه فكان مؤتشبًا ... عبدًا لئيمًا لأعبد فقد
والبيتان لابن نوفل قالهما حين مات أسد، فلما قرأ خالد البيتين قال:
ما رأيتُ كاليوم تعزية أعجب.
المدائني عن أبي محمد القرشي قال: كان هشام يعيب الوليد ويتنقصه فدخل عليه يومًا وعنده جَماعة من بني مروان، وكانوا يعيبونَ الوليد قبل دخوله فيقولون: هو أحمق، فقال له العباس بن الوليد بن عبد الملك: يا أبا العباس كيف حبك للروميات فإن أباكَ كان معجبًا بهن، قال: إني لأحبهن، وكيف لا أحبُ من لا يزالُ يأتي بِمثلك- وأم العباس رومية- فقال: لست بالفحل يجيء عسبه بِمثلي. فقال له الوليد: يا بن البظراء.
فقال العباس: يا وليد أتفخرُ عليّ بما قطع من بظر أمك؟.
وقال هشام للوليد يومًا: ما شرابك؟. قال: شرابك يا أمير المؤمنين، وقام مغضبًا فقال هشام: هذا الذي يزعمونَ أنه أحمق، ما هو بأحمق ولكني أظنه على غير الملة.
المدائني عن أبي محمد القرشي قال: دخل الوليد يومًا مجلس هشام وفيه: سعيد بن هشام بن عبد الملك، وإبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي، خال هشام بن عبد الملك، وأبو الزبير مولى بني مروان، ولم(9/131)
يكن هشام بن عبد الملك حاضرًا في المجلس فأقبلَ على سعيد بن هشام فقال: من أنتَ؟ - وهو يعرفه-، فقال: سعيد ابن أمير المؤمنين. فقال:
مرحبًا بك، ثم قال لأبي الزبير: من أنت؟. قال: أبو الزبير. قال:
نسطاس، مرحبًا بك. ثم قال لإبراهيم بن هشام: من أنت؟. قال:
إبراهيم بن هشام. قال: من إبراهيم بن هشام؟ - وهو يعرفه-. قال:
إبراهيم بن هشام بن إسماعيل المخزومي. قال: ومن إسماعيل المخزومي؟. قال: أنا الذي لم يكن أبوك يرى أنه في شيء حتى زوجّه أبي.
قال: يا بن اللخناء. وإئتخذا [1] وأقبل هشام فقيل: أمير المؤمنين، فكفا وجلسا ودخل، فما كاد الوليد يتزحزح عن صدر المجلس، فزحل قليلا وجلس هشام فقال: كيف أنت يا وليد؟ قال: صالِح. قال: ما فعلت بَرابِطُك؟ قال: معلمة. قال: فكيف ندماؤك؟ قال: لعنهم الله إن كانوا شرا من جلسائك. وقام فقال هشام، يا بن اللخناء جؤوا في عنقه. فلم يفعلوا ودفعوهُ دفعًا رفيقًا، فقال الوليد:
أنا ابن أبي العاصي وعثمان والدي ... ومروان جدي ذو الفعال وعامر
أنا ابن عظيم القريتين وعزّها ... ثقيف وفهر والرجال الأكابر
نبيّ الهدى خالي ومن يك خاله ... نبي الهدى يعلو الورى في المفاخر [2]
وقال أيضًا:
أنا الوليد أبو العباس قد علمت ... علياء مَعْد مدى ذكري وأقدامي [3]
__________
[1] يقال: ائتخذوا: أخذ بعضهم بعضا. القاموس.
[2] شعر الوليد بن يزيد ص 60- 61.
[3] بالأصل: «وأقداري» وهو تصحيف قوّم من شعر الوليد بن يزيد ص 115.(9/132)
إني لدى الذروة العلياء إن نُسبوا ... مقابل بين أخوالي وأعمامي
بنى لي المجد بانٍ غير مدرك ... على منار مضيئات وأعلام
خلقت من جوهر الأعياص قد علموا ... في باذخ مَشْمَخِرِّ العزّ قَمْقام
صعب المرام يناغي النجم مطلعه ... يسمو إلى فرع مجدٍ شامخٍ سامِ
قالوا: فلما كثر عيب هشام للوليد وتعبّثه به وبأصحابه وخاصته، خرج في جَماعة منهم فنزل بالأزرق بين أرض بلقين وفزارة، وخلّف بالرصافة كاتبه عياض بن مسلم مولى عبد الملك، وأمره أن يكتب إليه بِمَا يحدث قبله.
قالوا: وكان سَعِيد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن حسان بْن ثابت الأنصاري وفد على هشام، وكان غلامًا وضيء الوجه فجعل يختلف إِلَى عَبْد الصمد بْن عَبْدِ الأَعْلَى الشيباني مؤدب الوليد بن يزيد [1] بسبب الأدب، فراوده عبد الصمد بن علي عن نفسه فأتى باب هشام فأذن له فدخل مغضبًا فَقَالَ:
إنه والله لولا أَنْتَ لَمْ ... ينجُ مني سالِمًا عبدُ الصمد
قَالَ هِشَام: ولَم ذاك؟. قَالَ:
إنه قَدْ رام مني خطة ... لَمْ يَرُمْهَا قبله مني أحد
فَهُوَ فيما كان منه كالذي ... يَتَبَغَّى الصيدَ في خيس الأسد
فأساء هشام القول في عبد الصمد وَهَمّ به ثم أمسك.
قالوا: وكان عبد الصمد بن عبد الأعلى عند الوليد وهم يشربونَ، فقال عبد الصمد:
__________
[1] بالأصل: «عبد الملك» وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه مما تقدم.(9/133)
أظن الوليد دنا ملكه ... فأمسى إليه قد استجمعا
وإنّا نؤمل في ملكه ... كتأميل ذي الجدب أن يمرعا
عقدنا له محكمات العهود ... طوعًا وكان لها موضعا
فبلغ الشعر هشامًا فأغضبه، وكتب إلى الوليد: إنك اتخذت عبد الصمد خدنًا وأليفًا ومحدثًا ونديمًا، وقد صح عندي أنه على غير الإسلام، فحقق ذلك ما يُقال فيك، ولم أرَ بك من سوء فاحمل إلى عبد الصمد مع رسولي مذمومًا مدحورًا. فلم يَجد بدًّا من إشخاصه إليه وأنشأ يقول:
لقد قرفوا أبا وهب بأمرٍ ... كبيرٍ أو يزيد على الكبير
وأشهد أَنَّهم كذبوا عليه ... شهادة عالِم بِهم خبير [1]
قال: فلما صار عبد الصمد إلى هشام أمر بإنفاذه إلى يوسف بن عمر، ومعه أخ له يُقالُ له عبد الرحمن، فبنى لهما يوسف بيتًا وجعلهما فيه وطيّن بابه وصير فيه كوة يرمي منها إليهما بالطعام، ووكل بِهما محمد بن نباتة بن حنظلة، ثم أعطشهما حتى برصا أو برص أحدهما، وماتا عطشًا.
وقال هشام لعبد الله بن عبد الأعلى أخيهما وقد كلمه فيهما: أأنت على دينهما؟ قال: أنا عليه، والله ما يدينان إلا بالإسلام. فأمر به فأخرج عنه، وقال: لا يساكنني ولا يكلمنه أحد، فأتى الوليد بن يزيد فلم يأذن له عليه.
وكان يجلس في المسجد وقد اجتنبه الناس.
المدائني عن مسلمة بن مُحارب عن رجلٍ من قريش قال: قدمتُ الشام فرأيتُ عبد الله بن عبد الأعلى فتمنيت أن يكون حالي مثل حاله، ثم غبت
__________
[1] شعر الوليد بن يزيد ص 65.(9/134)
أعوامًا وقدمتُ الشام فإذا هو مفرد لا يُجالسه أحد ولا يكلمه، فقلتُ له:
إني قدمتُ الشام مذ أعوام فرأيتك في حال تَمنيت أن أكون في مثلها، وأنت اليوم على ما أرى، فقال: إنه بلغ قومنا عن شيء فأخذوا بظاهر البلاغ، ولم يطلعوا على باطن الضمير، ومن ورائنا وورائهم الحساب.
المدائني عن أبي اليقظان قال: كان بالشام رجل مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن سهيل، وقد ولي دمشق أو شرطتها مرارًا، فكتب الوليد إلى هشام يُعلمه أنه قد فارق عبد الصمد ويسأله أن يأذن لابن سهيل في القدوم عليه، فضرب هشام ابن سهيل ونفاه، وأخذ عياض بن مسلم وبلغه أنه يكتب بالأخبار إلى الوليد فضربه وألبسه المسوح وقيده وحبسه، فغم ذلك الوليد فقال: من يثق بالناس أو يصطنع المعروف هذا الأحول المشؤوم قدَّمه أبي وولاه الخلافة وهو يصنعُ ما ترون.
وقال الوليد:
أنا النذير لمسدي نعمة أبدًا ... إلى المقاريف ما لَم يُخبر الدخلا
إن أنت أكرمتهم ألفيتهم بطرًا ... وإن أهنتهُمُ ألفيتَهُم ذُلُلا
أتشمخون ومنّا أصل نعمتكم ... ستعلمونَ إذا صِرْتُمْ لنا خَوَلا
أنظر فإن أنت لم تقدر على مثل ... لَهم سوى الكلب فاضربه لَهم مثلا
بينا يُسَمِّنُهُ للصيد صاحبُه ... عدا عليه فلو يَسْطيعُهُ أَكَلا [1]
قالوا: وبلغ الوليد أن العَبَّاس بْن الوليد بْن عَبْد الملك وعمر بن الوليد وغيرهما من بني مروان يعيبونه بشرب الشراب فقال:
__________
[1] شعر الوليد ص 92- 95.(9/135)
ولقد قضيتُ- وإن تَجَلَّلَ لَمَّتي ... شيب- على رغم العدى لذَّاتي
من كاعباتٍ كالدمى ومناصفٍ ... ومراكبٍ للصيد والنشواتِ
إن يَطلبوا بتراتهم يُعطونَها ... أو يُطلَبوا لا يُدركوا بترات [1]
قالوا: وقطع هشام عن الوليد ما كان يجري عليه، وأسقطَ أسماء أصحابه وحرسه، وقطع ما كان يجريه عليهم، فكتبَ إليه الوليد: «قد بلغني الذي أحدث أمير المؤمنين أصلحه الله في قطع ما قطع عني وعن أصحابي وحرسي وأهلي، ولم أكن خائفًا لأن يبتلي الله أمير المؤمنين بذلك، ولا يبتليني به منه، فإن يكن طلبي ابن سهيل علة ذلك فلم يبلغ أمر ابن سهيل وكتابي فيه ما بلغَ أمير المؤمنين من قطيعتي، وإن يكن ذلك لشيء في نفس أمير المؤمنين عليّ فقد سبب الله لي من العهد، وكتب لي من العمر، وقسم لي من الرزق ما لا يقدر أحد على قطع شيء منه بدون مدته، ولا صرف شيء منه عن مواقعه، فأقدار الله تجري بِما أحب الناس أو كرهوا، فلا تأخيرَ لعاجلها ولا تعجيل لآجلها، والناس بين ذلك مقترفونَ للآثام على أنفسهم» .
فكتب إليه هشام: «قد فهم أمير المؤمنين كتابك، وأمير المؤمنين يستغفر الله من إجرائه ما كان يجري عليك، فإنه للمأثم في ذلك أخوف منه على نفسه في قطعه ما قطعَ لأمرين: أما أحدهما فإيثار أمير المؤمنين إياكَ بِما كان يجريه عليك وهو يعلم المواضع التي تضعه فيها، وإنفاقك إياهُ في سبل المعصية، وأمّا الآخر فلأن أمير المؤمنين أثبتَ صحابتك وإدرار أرزاقهم وليس ينالهم ما
__________
[1] شعر الوليد ص 31.(9/136)
ينال المسلمين في كل عام من المكروه عند قطع البعوث وجهاد العدو، وإنماهم معك تجول بِهم في سِفْهك وبطلانك وفُسُوقك، ولأمير المؤمنين إلى التقصير في التغيير عليك أقرب منه إلى الاعتداء، ولقد بصر الله أمير المؤمنين من قطع ما قطعَ عنك وعن أصحابك المجان ما يرجو أن يكون كفارة لما سلف من إدرار ذلك عليكم وبالله الثقة. وأمّا ابن سهيل فهل زاد- لله أبوكَ- على أن كان زفانًا مغنيًا، قد بلغ في السفه غايته، وليس هو في ذلك بشر ممن تستصحبه مع الأمور التي يكرم أمير المؤمنين نفسه عن ذكرها، مِمّا أنت لعمر الله أهل للتوبيخ بها، فأمّا ما ذكرت مِمَّا سبب الله لك فإن الله قد ابتدأ أمير المؤمنين بذلك وأصفاه به، والله بالغ أمره، ولقد أصبح أمير المؤمنين على اليقين من ربه أنه لا يملك لنفسه فيما أعطاهُ الله من كرامته ضرًّا ولا نفعًا، وإن الله وَلَّى ذلك منه، وإنه أرأف بعباده وأرحم من أن يولي أمرهم غير الرضا منهم، وإن أمير المؤمنين لحسن ظنه بربه على أعظم الرجاء أن ييسر له تسبيب ذلك لِمَن هو أهله في الرضا به، فإن بلاء الله عنده أعظم من أن يبلغه ذكره، ويؤدي حقه فيه شكره إلا بعون منه له، ولئن كان قد قدر لأمير المؤمنين تعجيل وفاة إن في الذي هو مُفْضٍ إليه من كرامة ربه إن شاء الله لخلفًا من الدنيا، ولعمر أمير المؤمنين إن كتابك إلى أمير المؤمنين بِما كتبت به لغير مستنكر من سفهك وحمقك وسقوطك، فَارْبَع على نفسك وغلوائها، فإن لله سطوات وغيرًا يصيبُ بها من يشاء، وأمير المؤمنين يسأل الله العصمة والتوفيق لأحب الأمور إليه، وأرضاها له. والسلام» .
فكتب إليه الوليد:(9/137)
رأيتك تبني جاهدًا في قطيعتي ... فلو كنت ذا عقل لهدَّمْت ما تبني
ستترك للباقين مجنى ضغينة ... وَوَيْلٌ لَهم إن مِتُّ من شر ما تَجْنِي [1]
وقال الوليد:
أليس عظيمًا أن أرى كل واردٍ ... حياضكَ يومًا صادرًا بالنوافل
وأرجعَ مجذوذ الرجاء مُصَرَّدًا ... بتخليةٍ عن ورد تلك المناهل
فأُويسْتُ مِمَّا كنت آمل فيكم ... وليس يلاقي ما رجا كل آمل
كذي قبضةٍ يومًا على عرض هبوةٍ ... يشد عليها كفه بالأنامل [2]
وقال المدائني: ذكر الوليد عند لمهدي أمير المؤمنين فقيل: كان زنديقًا، فقال: خلافة الله أَجَلُّ وأكرم عليه من أن يوليها زنديقًا.
قال المدائني: وكانت عند الوليد أم عبد الملك بنت سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بن عفان، فمرض سعيد وهو مُتَبَدٍّ، فعاده الوليد بن يزيد، فدخل عليه ولم يعلموا به، فرأى أختها سلمى بنت سعيد لمحة، فوقعت في قلبه، فطلق أختها وخطبها فلم يزوجه إياها أبوها، وكانت أختها أم عثمان بنت سعيد عند هشام، فأرسلَ هشام إلى سعيد: إياك أن تزوجه، فقال: أيريد الوليد أن يكون فحلا لبناتك، يطلّق واحدة ويتزوج واحدة، فلم يزوّجه، فكتب إلى أبيها:
أبا عثمان هل لك في صنيع ... تصيب الرشد في صلبي هديتا
فأشكر منك ذا المسدى وتُحيي ... أبا عثمان مَيِّتَةً وميتا [3]
__________
[1] شعر الوليد ص 125 مع فوارق.
[2] شعر الوليد ص 104.
[3] شعر الوليد ص 27.(9/138)
فقال له عبد الصمد بن عبد الأعلى وهو بعد عنده، وليث وغيرهما من أصحابه: ما ترجو بها وقد ردك أبوها عنها، وسيزوجك إذا مات هشام فقال:
يعزيني أبو وهب وليث ... ويعذل مالك وأبو ركين
فقلت لَهم كلامكُم محالٌ ... دعوني من كلامكم دعوني [1]
وقال أبو اليقظان: خرج الوليد إلى فُدَين [2] ومنزل سعيد بن خالد بفدين، فرأى رجلا يبيع الزيت قريبًا من منزل سعيد فأخذ ثيابه ولبسها، وساق حمار الزيت حتى أدخله قصر سعيد، وهو ينادي: من يشتري الزيت. فخرج الجواري فنظرن فقالت جارية منهنّ لسلمى: يا سيدتي ما رأيتُ إنسانًا أشبه بالوليد من هذا الزيات ابن الخبيثة، انظري إليه، فاطلَعَتْ سلمى فقالت للجارية: ويحك هو والله الوليد، قد والله رآني فقولي له يا زيات أخرج لا نريد زيتك. فخرج وقد لمحها وقال:
إنني أبصرتُ شخصًا ... حَسَنَ الوجه مليح
لابسًا أثواب سوءٍ ... مِن عَبَاءٍ ومُسُوح
وأبيع الزيت بيعًا ... خاسرًا غير ربيح [3]
وبلغه أنها خرجت في يوم عيد فقال:
__________
[1] شعر الوليد ص 122.
[2] الفدين قرية من أرض حوران. معجم البلدان، وفي جبل العرب مجموعة تلال اسمها الفدين في منطقة شهبا على بعد 20 كم إلى الشمال الشرقي من بلدة الصورة الصغيرة. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري.
[3] شعر الوليد ص 36.(9/139)
خَبَّرُوني أنّ سلمى ... خرجت يوم الْمُصَلَّى
وإذا ثم غرابٌ ... فوق غصن يتفلّى
قلت بالله ادْنُ مني ... قال: ها ثم تدلى
قلت هل أبصرت سلمى ... قال: لا ثم تولّى [1]
وقال الوليد أيضًا:
ألا ليت الإله يحين سلمى ... فإن الله يفعل ما يشاء
فيخرجها فيطرحها بأرض ... ويرقدها وقد سقط الرداء
ويأتي بي فيطرحني عليها ... فأوقظها وقد قضي القضاء
ويرسلُ ديمةً سَحًّا علينا ... فيغسلنا فلا يبقى العناء [2]
وقال أيضًا:
يا من لقلب في الهوى متشعب ... أم من لقلب في الحبال عميد
سلمى هواه فليس يذكر غيرها ... دون الطريف ودون كل تليد
إن القرابة والمودة أَلَّفا ... بين الوليد وبين بنت سعيد [3]
وقال أيضًا:
شاع شعري في سليمى وظهر ... ورواهُ كل بادٍ وحضر
وتهادته العذارى بينها ... وتغنين به حتى انتشر
قلت قولا لسليمى معجبًا ... مثل ما قال جميلٌ وعمر
لو رأينا لسليمى أثرا ... لسجدنا ألف ألف للأثر
__________
[1] شعر الوليد ص 89.
[2] شعر الوليد ص 145.
[3] شعر الوليد ص 48.(9/140)
واتخذناها إمامًا مُرتضى ... ولكانت حجنا والمعتمر
إِنَّما بنت سعيد قمر ... هل حرجنا إن سجدنا للقمر [1]
وقال أيضًا:
رآني الله يا سلمى حياتي ... وفي يوم الحساب كما أراكِ
ألا تجزين من تَيَّمْتِ عُمرًا ... ومن لو تطلبينَ لقد أتاكِ
ومن إن مُتِّ مات ولا تموتي ... وإن ينسأ له أَجَلٌ بكاكِ
ومن لو قلتِ مُتْ وأَطَاقَ موتًا ... إذًا ذاق الممات وما عصاك
ومن حقًا لو أعطي ما تمنى ... من الأرض العريضة ما عداك
أثيبي هائمًا كلفًا معنى ... إذا خدرت له رجل دعاك [2]
وقال أيضًا:
أنا في يمنى يديها ... وهي في يسرى يديَّه
إن هذا لقضاء ... غير عدلٍ يا أُخَيَّه
ليت من لام محبًّا ... في الهوى لاقى المنيّه
فاستراحَ الناس منه ... ميتةً غير سويّه [3]
وقال أيضًا:
ويح سلمى لوتراني ... لعناها ما عناني
متلفًا في اللهو مالي ... عاشقًا حور الغواني
ولقد كنت زمانًا ... خالي الذرع لشاني [4]
__________
[1] شعر الوليد ص 53.
[2] شعر الوليد ص 87.
[3] شعر الوليد ص 140.
[4] شعر الوليد ص 121.(9/141)
وقال أيضًا:
أنا ابن يزيد بن عبد الملك ... وجدي مروان لا أم لك
فكيف إذا ما ملكت البلاد ... وقمت خطيبًا على منبرك
فَبَخّ بخٍ بخ ما أكرمك ... وبخٍّ بَخٍ بَخ ما أفخرك [1]
وقال أيضًا:
من لقلب أمسى كئيبًا حزينًا ... مستهامًا بين اللهى والتراقي
أمّ سَلَّام ما ذكرتك إلا ... شَرَقَتْ بالدموع مني المآقي
حذرا أن تبين لي دار سلمى ... وتجيء الدنيا لها بفراق [2]
وقال أيضًا:
نام من كان خليًا من ألم ... ولقد بتّ شجيًا لم أنم
احكمي في الوصل إذ وليته ... ليس قتل النفس من عدل الحكم
أرقب النجم كأني مسند ... بأكف القوم تغشاني الظُّلَم [3]
قالوا: ولم يزل الوليد مقيمًا بالأزرق في البرية حتى مات هشام، فلمّا كان غداة اليوم الذي جاءته فيه الخلافة أرسلَ إلى المنذر بن أبي عمرو فأتاهُ فقال له: يا أبا الزبير ما أتت عليّ ليلة مذ عقلتُ أطول من ليلتي هذه، ما زلت في هموم وحديث نفس واغتمام بأمر هذا الرجل الذي قد أولع بي- يعني هشاما-
__________
[1] شعر الوليد ص 85.
[2] شعر الوليد ص 83. ورواية الأغاني للبيت الثالث ج 7 ص 84:
حذرا أن تبين دار سليمى ... أو يصبح الداعي لها بفراق
أقوم وزنا.
[3] شعر الوليد ص 108.(9/142)
فاركب بنا نتنفس، فركبنا فبينا هو كذلك إذ نظر إلى رهج فقال: هؤلاء رسل هشام نسأل الله خيرهم.
[وفاة هشام بن عبد الملك]
وبدا له رجلان على البريد أحدهما مولى لأبي محمد السفياني، فلما بصرا بالوليد بن يزيد نزلا ثم دنوا منه فسلما عليه بالخلافة، فوجم ثم قال: أماتَ هشام؟. قالا: نعم. قال: فممن الكتاب؟ قالا: من مولاك سالِم بن عبد الله صاحب ديوان الرسائل، فقرأ الكتاب وانصرفا، ثم دعا مولى السفياني فسأله عن عياض فحدثه حديثه وإحرازه ما أحرز من الخزائن وغير ذلك
من أمره.
وكتب الوليد إِلَى الْعَبَّاس بْن الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك يأمره أن يأتي الرصافة فيحصي ما فيها من أموال هشام، وأموال ولده، ويأخذ عماله وحشمه إلا مسلمة بن هشام لأنه كان يكثر أن يكلم أباهُ فيه، ويكف عنه شرّه ويسأله الرفق به.
فقدم العباس الرصافة فأحكم للوليد ما كتب به إليه، وأتته أم سلمة بنت يعقوب المخزومية وهي امرأة مسلمة بن هشام فقالت: إن مسلمة لا يفيق من الشراب ولا يكترث لِموت أبيه وأمر إخوته. فأخبر العباس مسلمة بِما قالت ووبّخه، فطلقها مسلمة في ذلك المجلس، فشخصت تريد فلسطين، فتزوجها أبو العباس أمير المؤمنين.
وكتب العباس بن الوليد إلى الوليد بثبت ما أحصى من أموال هشام وما في خزائنه فقال الوليد:
ليتَ هشامًا عاش حتى يرى ... محلبه الأوفر قد أترعا
كِلْنَا له بالصاع إذا كالها ... وما ظلمناهُ بها أصوعا(9/143)
وما أتينا ذاك عن بدعةٍ ... أَحَلَّهُ القرآن لي أجمعا [1]
المدائني قال: كان هشام بن عبد الملك خطبَ إلى يزيد بن عمر بن هبيرة أخته أو ابنته على معاوية بن هشام، فأبى أن يزوجه إياها فجرى بعد ذلك بين يزيد بن عمر وبين الوليد بن القعقاع كلام بلغ هشامًا فبعث به هشام إلى الوليد بن القعقاع فضربه مائة سوط، وحبسه فقال ابن طَيْسلة:
ما فل خيس رجال لا عقول لَهم ... من يعدلونَ إلى المحبوس في حلب
إلى امرئ لم تصبه الدهر معضلة ... إلا استقلَّ بها مُسترخي اللَّبب [2]
فلما مات هشام كان البشير بموته إلى الوليد بن يزيد فقال له الوليد:
احتكم، فقال: ولاية قنسرين والتخلية بيني وبين الوليد بن القعقاع وأخيه عبد الملك بن القعقاع، فأجابه إلى ذلك، ويُقال إنه ولاه جند قنسرين، فهربَ الوليد وعبد الملك ابنا القعقاع فاستجارا بقبر مروان، فلم يجرهما الوليد وبعث بِهما إلى يزيد بن عمر، وكان على حبسه رجل من فزارة يُقالُ له نوفل بن سُكَين، فدفعهما إليه فحبسهما، فماتَ أحدهما في الحبس في العذاب، ويُقال ماتا جَميعًا، فقال عبد العزيز بن القعقاع:
أنوفل من يضمن دمًا من دمائنا ... وشيخًا يُشَقِّقْنَ الجيوبَ أقاربه
وقال أبو الشَّغب العبسي واسمه عِكْرِشَة بْن أَرْبَد بْن عُروة بْن مسحل بن شيطان بن جُذَيْم بن جُذَيْمَة:
__________
[1] شعر الوليد ص 74.
[2] لم يردا في شعره.(9/144)
أَمْسَتْ قبور بني مروان مُخْفَرَّةً ... لا يُستجارُ ولا يُرْعى لها الراعي
قبر التميمي [1] أَوْفَى من قبورهُمُ ... يَسْعَى بذمته في قومه الساعي
إنّ البريَّة قالت عند غدْرته ... أُفٍّ لقبر به عاذ ابن قعقاع
[أخبار الوليد بن يزيد]
وكان الكلام الذي وقع بينهما أن الوليد قال ليزيد: يا بن الفَرَّار- يعني أباهُ حين هرب من سجن خالد- فقال له يزيد: يا بن الضرّاط، فقال الوليد: يا بن اللخناء. فقال يزيد:
بل أنتَ نزوة خَوَّارٍ على أَمَةٍ ... لا يَسْبقُ الحلبات اللؤم والخَوَرُ
فقال: يا بن الفجواء [2] . قال يزيد: إِنَّما قدمتكم أعجاز النساء وقَدَّمَتْنا صدور العوالي- يعني أن ولَّادة أم الوليد وسليمان كانت منهم، وكان القعقاع بن خليد ضَرطَ عند الوليد، وذلك أن الوليد قال لابن رأس الجالوت: تزعمونَ أن في ولد داود علامة يُعرفونَ بها وهي أن يمد أحدهم يده فتنال ركبته، فقال القعقاع: فيدي تنال ركبتي، وقام لينال ركبته فضرط، فقال الشاعر لشيبة بن الوليد بن القعقاع:
يا شيب هل لك في ألف مدرهمة ... بضرطةٍ ليس في إرسالِها لها حَرَجُ
كَدَأْبِ شيخك إذ أهوى لركبته ... فخانَ فِقْحَتَهُ من ضَعفها الشَّرَجُ
المدائني عن الهيثم ومسلمة قالا: استعمل الوليد بن يزيد العمال.
وجاءته البيعة من الآفاق، فأجرى على زمني أهل الشام وعميانهم وكساهم.
وأمر لكل إنسان منهم بِجائزة وخادم يَخدمه، وأخرج لعيالات الناس الطيب
__________
[1] بهامش الأصل: قبر أبي الفرزدق.
[2] الفجا: تباعد ما بين الفخذين، أو الركبتين، أو الساقين. القاموس.(9/145)
والكُسَى، وزاد الناس في أعطياتِهم عشرات نقصهم إياها يزيد بن الوليد بعد ذلك، فسمي يزيد الناقص، وكان الوليد يُطعم الناس، وقال الوليد:
طابَ عيشي وطاب شرب المدامة ... إذ تَحَسَّيْتُها بغير ملامة [1]
وقال أيضًا:
طاب عيشي وطاب شرب السُّلافة ... إذ أتانا نعي من بالرّصافة
وأتانا البريد ينعى هشامًا ... وأتانا بخاتم للخلافة [2]
وقال أيضًا:
طال ليلي وبتُّ أسقى المداما ... إذ أتانا البريد ينعي هشامًا
وأتاني بحلة وقضيب ... وأتاني بخاتم ثم قاما
فجعلت الولي من بعد فقدي ... أفضل الناس ناشئًا وغلاما
ذاكُمُ ابني وذاك قرم قريش ... خير خَلْفٍ وخيرهم قُدَّاما [3]
وقال أيضًا:
إني سمعتُ خليلي ... نحو الرصافة رنّه
خرجت أسحب ذيلي ... أقول ما شَانَهُنَّه
إذا بنات هشامٍ ... يندبن والدهن
يندبن شيخا كبيرا ... قد كان يكرمهنّه
__________
[1] شعر الوليد ص 177.
[2] شعر الوليد ص 82.
[3] شعر الوليد ص 110.(9/146)
فقلن ويلي وعولي ... والويل حَلَّ بِهنَّه
أنا المخنث حقًّا ... إنْ لم أنيكهُنَّه [1]
قالوا: وكتب مروان بن محمد إلى الوليد بن يزيد: بارك الله لأمير المؤمنين فيما صار إليه من ولاية عبادة ووراثة بلاده، وقد كانت سكرة الولاية غشيت هشامًا فَصَغَّر ما عظم الله من حقِّ أمير المؤمنين ورامَ من الأمر المستصعب عليه الذي أجابه إليه المدخلون في آرائِهم وأديانِهم ما حالَ الله بينه وبينه، فزحمته الأقدار عنه بأشد مناكبها، وكان أمير المؤمنين بِمكان من الله حاطه فيه حتى ألبسه أكرم لباس الخلافة فنهضَ مستقلا بِما حمله فالحمدُ لله الذي اختار أمير المؤمنين لِخلافته واختصه بوثائق عرى كرامته وذبّ عنه ما كاده الظالِمون فيه، فرفعه ووضعهم، وأعزه وأذلهم، فمن أقام منهم على الخطيئة أوبق نفسه وأسخط ربه، ومن عدلت به التوبة نازعًا عن الباطل إلى الحق وجد الله توَّابًا رحيمًا، وإني نَهضتُ إلى منبري فأعلمت من قبلي من المسلمين ما امتنَّ الله به عليهم من ولاية أمير المؤمنين فاستبشروا ببيعتهم، وقد بسطتُ يدي للبيعة فوكدتها عليهم بالوثائق والعهود وتغليظ الأيمان فكل الناس حسنت إجابته وطاعته، فَأثِبْهُم يا أمير المؤمنين بطاعتهم من مال الله الذي أتاك فإنك أجود الناس جودًا وأبسطهم يدًا، فقد انتظروكَ راجينَ فَنَلْهُم بفضلك وأوسع عليهم برفدك وعَرِّفْهُم طَولك على من كان قبلك، وإن رأى أمير المؤمنين أن يأذن لي في القدوم عليه لأشافهه بأمور أكرهُ الكتاب بِها فَعَلَ إن شاء الله.
__________
[1] شعر الوليد ص 128.(9/147)
وقال الوليد:
هلك الأحول المشؤوم ... فقد أرسل المطر
وملكنا من بعد ذا ... ك فقد أَوْرَقَ الشجر
فاشكروا الله إنه ... زائدٌ كل من شكر [1]
ويُقال إن هذا الشعر لغير الوليد.
قالوا: وكتب الوليد حين ولي إلى الأطراف:
ضَمِنْتُ لكم إن لم تَغُلْنِي منيَّتي ... بأنّ سماء الضُرّ عنكم سَتُقْلَعُ
سَتُؤْتَوْنَ إلحاقًا معا وزيادة ... وأعطيةً تأتيكُمُ تَتَسرَّعُ [2]
فلما ظهر أمره وتهتكه قال حمزة بن بيض الحنفي [3] :
وصلت سماء الضرّ بالضرّ بعد ما ... زعمتَ سماء الضُّرِّ عنكم ستُقلع
فليتَ هشامًا كان حيًّا يسوسنا ... فكنا كما كنا نخافُ ونطمعُ
قالوا: وتهتك الوليد في الشراب وقال:
أحبُّ الغناء وشراب الطِّلا ... وأنس النساء وربِّ السُّوَر
ودل الغواني وعزف القيان ... بصَبح يمانٍ قُبيل السَّحَر
وأما الصباح فَهَمّي القداح ... وخيل شواح جياد حُضر
ونصف النهار عراك الجوار ... وحل الإزار إذا تنبهر [4]
وأمّا العشيُّ فأمر جليّ ... وقتل الكميّ بعضب ذكر
__________
[1] شعر الوليد ص 55.
[2] شعر الوليد ص 77 مع فوارق.
[3] كتب بهامش الأصل: «ناقص كراستين» .
[4] انبهر انقطع نفسه من الإعياء.(9/148)
سبتني البَغُوم [1] بدلٍّ رَخيم ... ووجهٍ نضير شبيه القمر
وردفٍ نبيلٍ وخد أسيل ... كسيفٍ صقيل يحير البصر [2]
وقال أيضًا:
علِّلاني بعاتِقاتِ الكروم ... واسقياني بكأس أُمِّ حَكِيم
إنّها تشربُ المدامة صرفًا ... في إناء من الزجاج عظيم [3]
وأم حكيم بنت يحيى بن الحكم بن أبي العاص وهي أم مسلمة بن هشام.
قال أبو الحسن المدائني: كسا الوليد الغُزَيِّل أبا كامل المغني قلنسوة برود كانت عليه فكان يصونَها ولا يلبسها إلا في يوم عيد ويقول: كسانيها أميرُ المؤمنين فقد أوصيتُ أهلي أن يضعوها في أكفاني، وقال فيه الوليد:
من مبلغ عني أبا كاملٍ ... إني إذا ما غابَ كالهامل
وزادني شوقًا إلى قُرْبه ... فيما مضى من دهرنا الحابل
إني إذا عاطيته مرَّة ... ظللت بيوم الفرح الجاذل [4]
وقال أيضًا:
لا عيش إلا بِمالك بن أبي السَّمْحِ ... فلا تَلْحَني ولا تَلُمْ
مثل ضياء المصباح أو قبس ال ... قابس في حالك من الظّلم [5]
__________
[1] البغوم: المرأة رخيمة الصوت.
[2] شعر الوليد ص 54.
[3] شعر الوليد ص 113 مع فوارق واضحة.
[4] شعر الوليد ص 101.
[5] شعر الوليد ص 158 مع فوارق.(9/149)
ويُقال إن البيتين لحسين بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه بْن العباس.
المدائني وغيره قالوا: لَمّا قام الوليد لم يكن له همة إلا تزوج سلمى، فأرسلَ فخطبها فتزوجها فقيل له: قد كنت حلفت بطلاقها إذا تزوجتها ثلاثا. فسأل عن يمينه فاختلفوا عليه، فقال بعضهم: طالق. وقال آخرون: لا طلاقَ إلا بعد نكاح، فَهَمَّ أن يدخل بها فقيل: أنت إمام وإن دخلتَ بها أخذ الناس ذلك سنَّة فأمسك، وزوجها أخوها من ابن أخي الوليد ودخل بها ثم طلقها ابن أخي الوليد، وقيل أن أباها زوجها من ابن أخي الوليد فلمّا زفَّت إليه وكل به الوليد من منعه من الدخول بها حتى طلقها، ويُقالُ إنه دخلَ بها ثم طلقها، وانتظر الوليد أن تنقضي عدتها فلمّا انقضت خطبها إلى أبيها فتزوجها وقال:
خَفَّ من دار جيرتي ... يا خليليَّ أُنسها
أفلا تَخرج العروس ... فقد طال حبسها
قد دنا الصبح أو بدا ... وهي لم يقض لبسها
خرجت كالمهاة في ليلة ... غاب نحسها
بين خَمس كواعبٍ ... أكرم الجنس جنسها [1]
وقال أيضًا:
أسُلمى تلك في العير ... قفي إن شئت أو سيري
فلمّا أن دنا الصبح ... وأصوات العصافير
__________
[1] شعر الوليد ص 70.(9/150)
خرجنا نَتَّقي الشمس ... مطايا القوم كالعور
إذا ما أَغْرضٌ حالَتْ ... سددناها بتصدير [1]
قال: وقالت ابنة سعيد: أبي يصلح للخلافة، فقالت ابنة الوليد:
فإنك والخلافة يا سعيد ... لكالحادي وليس له بعير
فقالت سلمى: ولم لا يطمعُ في الخلافة وهو ابن أمير المؤمنين عثمان، وغضبت فقال الوليد:
غضبتُ سلمى عليَّ سفاهًا ... أَنْ شَتَمْتُ اليوم فيها أباها [2]
قالوا: فماتت بعد دخوله عليها بأربعين يومًا ويُقال ليلة دخلت عليه أو بعدها بثلاث، ويُقال بسَنَة، فقال:
ألم تعلما سلمى أقامتْ بِمَهْمَهٍ ... مُضَمَّنَةٍ قبرًا من الأرض أُلْحِدا [3]
في أشعار.
وقالوا: عقد الوليد لابنه الحكم واستعمله على دمشق، وعقد لابنه عثمان بعده، واستعمله على حمص وضم إليه ربيعة الرأي بن أبي عبد الرحمن الفقيه.
وقال الهيثم بن عدي: وقال الوليد:
ولقد صدنا غزالا سانحًا ... فأردنا ذبحه لَما سَنَحْ
فإذا شِبْهُكَ ما ننكره ... حينَ أشجى طرفه ثم لمح
__________
[1] شعر الوليد ص 150.
[2] شعر الوليد ص 129.
[3] شعر الوليد ص 40 مع فوارق.(9/151)
فتركناهُ ولولا حبكم ... فاعلمي ذاك لقد كان ذُبِحْ
أنت يا ظبي طليقٌ آمِنٌ ... فَاغْدُ في الغزلانِ مسرورًا وَرُحْ [1]
وقال الهيثم بن عدي: سمي الوليد البيطار لأنه كان يصيدُ الحمر الوحشية فيسمها بالوليد ثم يخلّيها فوجدت في أيام أبي العباس السفاح والمنصور حمر موسومة باسمه.
وكان يحب دخول الحيرة والكوفة فخرج كالمتبدي، ثم أتى الكوفة فنادم شراعة بن أبي الزندبوذ، ومطيع بن إياس، وحماد الراوية، وحَمّاد عجرد وبعضُ آل أبي معيط، وقال يومًا لشراعة: أسألكَ عن الأشربة فقال: سل يا أمير المؤمنين. قال: ما تقول في الماء؟ قال: الحياةُ ويشركن فيه البقر والحمير والكلاب. قال: فاللبن؟ قال: ما رأيتُه قط إلا ذكرتُ ثدي أمي. قال: فنبيذُ التمر؟ قال: نبيذ الباعة والمهان ومن لا خلاقَ له، قال: فنبيذُ السكر؟ قال: الخمرة المنتنة. قال: فنبيذُ الزبيب والعسل؟
قال: «مرعى ولا كالسعدان [2] » . قال: فالخمرُ؟ قال: وَاهًا لَهَا، تلك صديقة روحي وحياة نفسي. قال: فعلى أي الوجوه تُحب أن تشربها؟ قال:
على وجه السماء.
ويُقال إنه لم يخرج إلى الكوفة ولكن أشخص ظرفاؤها إليه، وكان فيهم شراعة بن أبي الزندبوذ.
__________
[1] شعر الوليد ص 35.
[2] السعدان: نبت من أفضل مراعي الإبل، ومنه «مرعى ولا كالسعدان» وله شوك تشبه به حلمة الثدي. القاموس.(9/152)
وقال حَمّاد: أنشدته أشعار العرب فلم يهشّ لَها، وأنشدته شعرًا سخيفًا فطرب له واستعادنيه فقلتُ: هذا والله الإدبار، ثم دخلتُ بعد على أبي مسلم فقال: أنشدني قصيدة الأَفْوَه [1] فأنشدته إياها، وجعل يستعيدني قوله:
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تولت فبالأشرار تنقادُ
فقلتُ: هذا والله الإقبال.
وقالوا: وكان مما سمع الوليد بالكوفة- أو ممن أُشخص إليه من أهل الكوفة- فأعجبه، غناء قينتين لعبد الله بن هلال الهجري المعروف بصديق إبليس، وهو من حمير، فقال:
يا أهل بابل ما نَفَسْتُ عليكم ... من عيشكم إلا ثلاث خلال
خمر الفرات وليل قيظ باردٍ ... وسماع مسمعتين لابن هلال [2]
ويروى: ماء الفرات وخمرة حيرية وسورية.
قالوا: وكتب الوليد إلى خاله يوسف بن محمد بن يوسف- وكان عامله على مكة والمدينة- أن يأخذ ابني هشام بن إسماعيل: إبراهيم ومحمدًا ويحملهما إلى يوسف بن عمر ليحاسبهما ويأخذ للناس حقوقهم منهما، وكتب في أخذ عمال هشام وحشمه بِما عندهم إلا مسلمة ابنه.
وقال الوليد:
__________
[1] الأفوه لقب، واسمه صلاءة بن عمرو بن مالك بن عوف الأودي، كان من كبار الشعراء القدماء في الجاهلية، وكان سيد قومه وقائدهم في حروبهم، وكانوا يصدرون عن رأيه، والعرب تعده من حكمائها. الأغاني ج 2 ص 169.
[2] شعر الوليد ص 157.(9/153)
علّل القوم قليلا ... يا بن بنت الفارسيه
غَنِّهم أنت وبشر ... وابن بنت الهذلية
انهم قد عاقروا اليوم ... عقارا مقديّه [1]
عندنا مسك وريحان ... وعود المندليه [2]
وقال أيضًا:
عللاني واسقياني ... من شراب الأصبهاني
من شراب الشيخ كسرى ... وشراب القيرواني
وامزج الكأس ولا تكثر ... مزاج العسقلاني
إن بالكأس لمسكًا ... وبكفِّي من سقاني
إنّما الكأسُ ربيع ... يتعاطى بالبنانِ [3]
وقال أيضًا:
اسقنا يا زبيرُ بالقرقاره ... قد طربنا وحنت الزماره
اسقني اسقني فإنّ ذنوبي ... قد أحاطت فما لها كفاره [4]
وقال أيضًا:
أصبح اليوم وليد ... هائما بالغانيات
عنده طاس وابريق ... وراح بالفلاة
__________
[1] مقديه نسبه إلى قرية بالشام قيل بناحية حمص وقيل بناحية دمشق من أعمال أذرعات. معجم البلدان.
[2] شعر الوليد ص 139.
[3] شعر الوليد ص 123.
[4] شعر الوليد ص 68، والقرقارة: كوب من زجاج طويل العنق.(9/154)
ابعثوا خيلا لخيلٍ ... ورماة لرماة [1]
وقال أيضًا:
اسقني يا زيدُ صرفًا ... اسقني بالطرجهاره [2]
اسقنيها مزة تأخذني ... منها استداره
اسقنيها كي تُسلّي ... ما بقلبي من حراره [3]
وقال أيضًا:
امدح الكأس ومن أعملَهَا ... واهجُ قومًا قتلونا بالعطشْ
إنّما الكأسُ ربيع باكر ... فإذا ما غاب عنا لم نعشْ [4]
وقال أيضًا:
نزلتْ سلمى بقلبي ... منزلا ذا عَدَوَاءِ
فزجرتُ النفس عنها ... لو تناهتْ بانتهاءِ
نظرتْ سلمى وقالت ... حين صَدَّت يا نسائي
نظر الظبية ريعت ... وهي وسني في ظباءِ [5]
وقال أيضًا:
وجدتُ العيش يا سلمى ... مزاج الكاس بالكاسِ
إذا ما كأسنا دارت ... فهزّت فروة الراس
__________
[1] شعر الوليد ص 30.
[2] وعاء كالفنجان.
[3] شعر الوليد ص 67.
[4] شعر الوليد ص 151.
[5] شعر الوليد ص 13.(9/155)
وفتيانًا أنادمهم ... كرامًا غير أنكاسِ
فلولا رقبة الله ... وإني رهنُ أرماسِ
لقد زرتك يا سلمى ... على خوف وإيجاسِ
ولا والله يا سلماي ... ما بالحب من باسِ [1]
وقال أيضًا:
أم سلام لو لقيت من الوجد ... عُشَيْرَ الذي لقيتُ بَرَاكِ
فأثيبي بالودِّ صَبًّا عميدًا ... مُسْتَهامًا لم يشجْهِ ما شجاكِ
أنت تَفْدِينَ عَبْدَ [2] من كل خيرٍ ... ومن السّوء هي تكون فداك [3]
وقال يرثي مؤمنًا ابنه وكان محبًا له:
أتاني سنان بالوداع لِمؤمنٍ ... فقلتُ له إني إلى الله راجعُ
وكيف بكائي مؤمنًا ولقد أرى ... بأني له يا نفس لا بدّ تابع
ألا أيها الحاثي عليه ترابه ... تَعِسْتَ وشُلّت من يديك الأصابعُ [4]
قالوا: وبعث الوليد إلى المدينة فحمل إليه المغنون، فلمّا قربوا منه أمر أن يدخلوا العسكر ليلا كراهة أن يراهم الناس، فأقاموا حتى أمسوا غير محمد بن عائشة مولى كثير بن الصلْت فإنه دخل نهارًا فغضبَ عليه الوليد وأمر بِحبسه حتى شرب ذات يوم وطرب فكلمه فيه معبد فدعا به، فغناهُ حين دخل:
__________
[1] شعر الوليد ص 69.
[2] بهامش الأصل: يعني عبدة.
[3] شعر الوليد ص 86.
[4] شعر الوليد ص 76.(9/156)
أنت ابن مُسْلَنْطح [1] البطاح ... ولم نطرق عليك الحبيّ [2] والولج [3]
فرضي عنه.
المدائني قال: قدم الأحوص بن محمد الشاعر، ومعبد على الوليد فنزلا في بعض طريقهما على غدير وجارية تستقي منه فزلقت فانكسرت جرّتها فجلست تُغني:
يا بيت عاتكة الذي أَتَغزّلُ ... حذر العِدى وبه الفؤاد موكّلُ
إني لأمنحك الصدود وإنني ... قسمًا إليك مع الصدود لأَمْيَلُ [4]
فقالا لها: لِمن أنت يا جارية؟ قالت: كنتُ بالمدينة لآل الوليد فاشتراني مولاي وهو من آل الوحيد بن كعب بن عامر بن كلاب، قالا:
فلمن الشعر؟ قالت: سمعتُ أهل المدينة يقولون أن الشعر للأحوص، والغناء لِمعبد. فقال معبد للأحوص: قل في هذا شيئًا أغني به فقال:
إن زين الغدير من كسر الجر ... وغنى غناء فحل مجيد
قلتُ من أنت يا ظعين فقالت ... كنتُ فيما مضى لآل الوليد
ثم صرت بعد عزّ قريش ... في بني عامر لآل الوحيد
وغنائي لِمعبدٍ ونشيدي ... لفتى الناس أحوصِ الصنديد
فتضاحكْتُ ثم قلتُ أنا الأحوص ... والشيخ معبد فأعيدي
__________
[1] المسلنطح: الفضاء الواسع. القاموس.
[2] الحبيّ: السحاب يشرف من الأفق على الأرض، أو الذي بعضه فوق بعض.
[3] الولج: النواحي والأزقة. القاموس.
[4] شعر الأحوص الأنصاري ص 207- 208.(9/157)
فأعادتْ فأحسنت ثم ولَّت ... تتهادى فقلتُ أمَّ سعيد
يعجز المال عنك ولكن ... أنتِ في ذمة الإمام الوليد [1]
أم سعيد هَوًى كانت للأحوص بالمدينة، فلما قدما على الوليد غناهُ معبد بهذا الشعر وحدثاهُ الحديث.
وقال أشعب: قال لي الوليد: أما ترى خالي، كأن المحاجم بين عينيه، فإن أضحكْتَهُ فاحتِكم. فقلتُ: أخذني بطني مرة فخرجتُ فإذا الدنيا فسطاط واحد، فذكرتُ قول نبطي مرةً، قال: من حكمة فارس، إذا أخذك بطنك فَشُدَّ على لسانك، فإن لم يسكن فشد على فخذيك، فإن جاءك أكثر من ذاك فانتف من شعر أستك شعرتين أو ثلاثًا ففعلتُ ذلك فارتفعَ. فضحك وقال: أتفعلُ ذلك وأنت محرم؟ قلت: نعم. فضحك وأخذت الجائزة.
قالوا: وأرسلَ الوليد إلى البصرة فحمل إليه الهيثم القارئ:
وعبد الله بن عمر البكراوي فاستقرأ الهيثم فقرأ، ثم قال: غنني. فقال:
الغناء شيء قد نسيته.
المدائني عن العلاء بن المغيرة قال: قلتُ للوليد: إني أريدُ العراق أفلكَ حاجة يا أمير المؤمنين؟ قال: بَرْبَط من صنعة زربي.
قال: وكان محمد بن سليمان بن عبد الملك من أضرب الناس وأحسنهم صوتًا وغناء، فكان يدخل على الوليد فيغنيه.
__________
[1] شعر الأحوص ص 389 حيث أبدى المحقق شكوكه حول صحة الرواية.(9/158)
وقال أبو الحسن المدائني: قال العلاء بن المغيرة: وقف الوليد على غدير فأمر بضرب فسطاط له عليه، ثم قال: والله لا أبرحه أو يُشرب جَميع مائه. فجعل الناس ينقلون ماءه بالروايا والقرب حتى نفد ماؤه، فلمّا نظر إليه قال: أنا أبو العباس. وأمر الناس بالرحيل بعد ثالثة.
قالوا: وكتب الوليد في إشخاص أشعب الطمع إليه فألبسه سراويل من جلد قرد له ذنب، وقال له: ارقص وغنني صوتًا يُعجبني فرقص وأضحكه فأمرَ له بألف درهم، ويُقال بعشرة آلاف درهم.
وقال الكلبي: قال حماد الرواية: دعاني الوليد فقدمت عليه فقال:
أنشدني، فأنشدته جيد أشعار العرب فلم يرتح لشيء من ذلك، حتى جرى الحديث والمزاح فأنشدته قول ابن أبي كبار الهمداني وهو عمار بن عبيد بن يزيد بن عمرو بن ذي كبار السبيعي من همدان، وهو:
أشتهي منك مكانا مجنبذا ... حَبَّذا ثم حبذا حبذا
حبذا من شَذَا بذا
فضحك وطرب ووصلني، ثم صرت بعد ذلك إلى أبي مسلم فقال:
أنشدني شعر الأَفْوَه الذي يقول فيه:
تُهدى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فإن تَوَلَّتْ فبالأشرار تقتاد
لا يصلحُ القوم فوضى لا سراة لَهم ... ولا سراة إذا جهّالهم سادوا
فقلتُ: هذا والله الإقبال لا إدبار الوليد.
وقال هشام ابن الكلبي: لم يشخص الوليد إلى الكوفة كما قال بعضُ الناس ولكن فتيانها شخصوا إليه مثل شراعة بن أبي الزندبوذ، ومطيع بن إياس وحماد الراوية، وفتيان آل أبي معيط، وأُشخصت إليه قينتان(9/159)
لعبد الله بن هلال الهجري الذي يُقالُ له صديق إبليس، وحمل إليه خمر كثير من طيزناباذ والفلاليج، وسوار، وفرات بادقلي فقال في ذلك:
يا أهل بابل ما نفست عليكم ... من عيشكم إلا ثلاث خلال
خمر الفرات بِماء قيظ بارد ... وغناء مسمعتين لابن هلال [1]
وقال الحرمازي: سمعتُ من يحلف عن مشايخ الكوفيين أنه قدم متنكرًا، ثم انصرفَ ومعه ظرفاؤها. وسئل هشام بن عمار عن هذا وجرى حديث الوليد فقال: أما الشخوص إلى الكوفة فلا أدري، ولكنه كان يسير في طريقها المرحلتين والثلاثة ويُحمل إليه ما يحبه منها.
وقال هشام بن عمار عن أبيه: كان الوليد منهمكًا على لذاته مشغولا عن أمور الناس، يصطبح الأربعين يومًا وأقل وأكثر فلا يراهُ إلا ندماؤه وخواص خدمه.
وقال المدائني: قال الوليد:
لمن دِمْنَةٌ أقفرتْ بالجليل ... أنكرتُها بعد إيناسها
كخط الصحيفة بعد الزمان ... تبقى حُلُوكَة أنقاسها [2]
وأمر ابن عائشة فغنى بِهذا الشعر.
المدائني عن جويرية بن أسماء عن إسحاق بن محمد قال: دخلتُ على منصور بن جمهور وعنده جاريتان من جواري الوليد، فقال: اسمع ما يحدثانك به، فقالتا: كنا آثر جواريه عنده فوطئ هذه، وجاء المؤذن يؤذنه بالصلاة فأخرجها وهي جنب متلثمة فصلت بالناس.
__________
[1] شعر الوليد ص 157.
[2] الأنقاس: المداد. شعر الوليد ص 71.(9/160)
ولاعب الوليد بن يزيد رياح بن عثمان المرّي فضربه بقضيب كان معه. فقال: أوجعتني يا أمير المؤمنين، وأخذ رياح القضيب منه فضربه ضربة حمّرت فخذه فقال: أوجعتني ويلك يا رياح.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ أبي الزناد عن أبيه قال: كنت عند هشام، وعنده الزهري، فذكر الوليد فتنقّصاهُ وعاباهُ عيبًا شديدًا، ولم أعرض لشيء مما كانا فيه، وجاء الوليد فدخل وأنا أعرف الغضب في وجهه، فجلس قليلا ثم قام، فلما مات هشام أرسلَ إلي فحُملت إليه فرحب بي وقال: كيف كانت حالك، وألطفَ في المسألة وقال: أتذكرُ يا عبد الله بن ذكوان يوم الأحول وعنده الفاسق الزهري وهما يعيباني؟
قلت: أذكر ذاكَ ولم أعرض في شيء منه. قال: صدقت، أرأيت الغلام القائم على رأس هشام؟ قلت: نعم. قال: فإنه رفع إلي ما قالا، وايم الله لو بقي الفاسق الزهري لقتلته. قلت: قد عرفت الغضب في وجهك حين دخلت يومئذ، ثم قال: يا بن ذكوان ذهب الأحول بعمري. قلت:
يطيل الله عمرك يا أمير المؤمنين ويمتع الأمة ببقائك، ودعا بالعشاء فتعشى، وجاءت المغرب فصلينا وحدثنا حتى جاءت العشاء الآخرة فصلينا وجلس ثم قال: اسقني، فجاؤوا بإناء مغطى وجاء ثلاث جوار فصففن بيني وبينه حتى شرب ثم ذهبن فتحدثنا ثم استسقى فصنع الجواري الثلاث مثل ذلك، فلم يزل يتحدث ويستسقي على ذلك، حتى طلع الفجر، فأحصيت له سبعين قدحًا.
أبو الزناد عبد الله بن ذكوان مولى رملة بنت شيبة بن ربيعة بن عبد شمس، يكنى أبا عبد الرحمن، ومات بالمدينة سنة ثلاثين ومائة.(9/161)
قال: وأرسلَ الوليد إلى محمد الحداد وصارعه، فاحتمله محمد فوضعه على منكبيه، ثم أتى به السرير فوضعه عليه فلطمه الوليد وضحك.
المدائني عن أبي محمد القرشي قال: كان عمر الأزرقي مولى سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن عُثْمَان صريعًا للوليد فقال عمر: إني لجالسٌ يومًا على باب البيت الذي فيه الوليد وهو مضطجع ما عنده أحد، إذ قال: يا عمر، قلتُ: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: ويحك ما بقي منك؟ قلتُ: أغلبُ الأسدَ ولا تطيقني الرجال، فضحك وسكت، ثم وثب عن السرير فاحتملني على رأسه ثم ضرب بي الأرض فكاد يقتلني، ثم رجع إلى السرير واستلقى فضحك، قلت: يا أمير المؤمنين اغتررتني، أما لو أعلمتني لعلمتَ ما أصنع.
قالوا: وكان الوليد شديد البطش طويل أصابع اليدين والرجلين، توتد له سكة حديد وفيها خيط، ويشد الخيط في رجله، ويؤتى بالدابة فيثب عليها فينتزع السكة، ويركب وما يمسّ الدابة بيده.
هشام ابن الكلبي والمدائني قالا: خرج الوليد يتصيد ومعه حسين بن عبيد بن برهمة بن أذينة بن حارثة بنت جندلة بن عبيدة بن امرئ القيس بن عبد الله بن جناب الكلبي، فانفردا عن الناس حتى انقطعا عنهم، وتعالى النهارُ، وجاع الوليد فانتهى إلى قرية فرأى بها رجلا جالسًا فقال له: أعندك شيء نأكله؟ قال: نعم، وجاء بخبز شعير وربيثاء [1] وزيت وكراث فأكلَ الوليد وحسين بن برهمة الكلبي وكان ماجنا خليعا فقال:
__________
[1] لم أهتد إلى تعريف للربيثاء.(9/162)
إنَّ مَن يُطْعَمُ الرُّبَيْثَاء بالزيت ... بِهذا المكان والكراث
لخليقٌ بلطمة أو بثنتين ... لسوء الصنيع أو بثلاث
فقال الوليد: ويحك إنّما ينبغي أن تقول ببدرة أو بثنتين لحسن الصنيع أو بثلاث، وأقاما حتى لحقهما الناس، فأمر الوليد للرجل بثلاث بدر.
ولحسين يقول الشاعر:
زعم الزاعمونَ أن حسين بن ... عبيد بن برهمة زنديق
ولعمري لئن هم زعموه ... ما أشطّوا وإنّه لخليقْ
يشرب الخمر كل يوم ويزني ... ويواري قمدّه [1] الصندوق
قالوا: وكان الوليد يطأ جواري أبيه اللاتي كان وطئهن، فقالت جارية منهن: والله لقد نالنا بِمَا تعافه البهائم.
قال المدائني: كان للوليد مضحك يُقالُ له زبالة، فكتب الوليد بين عينيه بخضرة «حر» ، فكره الناس ذلك وتحدثوا به وعابوه.
ومن شعر الوليد:
قد كنتُ أحسب أنني جَلْدُ القوى ... حتى رأيت كواعبًا أترابًا
يرفلن في وشي البرود عشية ... مثل الظباء وقد ملئن شبابا [2]
وأنشدت مغنية للوليد:
أطربتني للصبح يوم صَبُوحي ... قينةٌ في يمينها إبريق
__________
[1] ذكر قمد: شديد الإنعاظ. القاموس.
[2] شعر الوليد ص 15.(9/163)
فقال: هو كذا فأتمي الأبيات. فقالت: لا أعرفُ منه غير هذا.
فقال: قد كان حَمّاد الراوية أنشدنيه مرة، فكتب في إشخاص حَمّاد على البريد فلمّا دخل عليه قال: قينة في يَمينها إبريق. وأنشد:
ثم نادوا ألا اصبحونا فقامت ... قينة في يَمينها إبريق
قدَّمَتْه على عقار كعين الديك ... صفى سلافها الراووق
مَزَّةٌ قبل مزجها فإذا ما ... مُزِجَت لَذّ طعمها من يذوق
وطفت فوقها طوافٍ من اليا ... قوت حمر يثيرها التصفيق
في أبيات فكساهُ وأجازه وأمر فأقفل من ساعته.
قالوا: وكان عبد الجبار بن يزيد بن عبد الملك أخو الوليد يُرمى بالتأنيث فتزوج ابنة محمد بن الوليد بن عبد الملك، فلم يصل إليها، فَفَرَّقَ هشام بينهما فخلف عليها بعده محمد بن روح بن الوليد، فغضب الوليد بن يزيد، وكان آل الوليد بن عبد الملك أعداء آل مروان فأساء بِهم، وتجنى على محمد بن روح فحبسه وحبس عدة منهم فيهم المؤمل بن العباس بن الوليد.(9/164)
مقتل الوليد بن يزيد
قالوا: وكان الناس يتحدثونَ في أيام يزيد بن عبد الملك أن الوليد شهيد بني مروان.
وحدثني هشام بن عمار قال: سمعتُ مشايخنا يحدثون أنه كان في نفس الوليد بن يزيد بن عبد الملك على سليمان بن هشام شيء وذلك أنه كان يساعد أباهُ على ذمه ويشير عليه بخلعه وقتله، فلمّا ولي دعا به فقال: ألستَ أعدى الناس لي؟، ألستَ القائل كذا، فأغلظَ له سليمان، فضربه الوليد مائة سوط ضربًا مبرحًا وحلقه وألبسه الصوف وثقله بالحديد، فكلم فيه فأخرجه، فكان أشد الناس تأليبًا عَلَيْهِ.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عن جده قال: كان سليمان عدوًا للوليد، فكان يسعى في قتله لا يألو، وكان يزيد بن الوليد بن عبد الملك رجلا حسن العقل، يظهر عفافًا وتورعًا إلا أنه كان ينسب إلى قول غيلان بن مُسلم الذي قتله هشام في القدر، وكان الوليد قد أقصاهُ وجَميع(9/165)
إخوته وأهل بيته، واستخفَ بِهم وحرمهم، وأغلظَ لَهم، وحبس بعضهم فرموا الوليد بالكفر وغشيان أمهات أولاد أبيه وباللواط، وقالوا: قد اتخذ جوامع كتب على كل جامعة منها اسم رجل من بني أمية ليقتله.
[أخبار الوليد بن يزيد]
قال المدائني عن رجاله: كان الوليد صاحب صيد وتهتك ولهو ولذات يتثقل فيها، فلمّا ولي الأمر جعل يكره المواضع التي يراهُ الناس فيها فلم يدخل مدينة من مدن الشام حتى قتل، وكان تحول فثقل على الناس وعلى جنده واشتد على بني هشام [1] حتى ضرب سليمان بن هشام مائة سوط وو حلق رأسه ولحيته وغرَّبه إلى عَمَّان من أرض الشام.
وأخذ الوليد جارية لآل الوليد بن عبد الملك، فكلمه عمر بن الوليد فيها، فقال: لا أردها، فقال عمر: إذًا تكثر الصواهل حول عسكرك.
وقال أبو الحسن المدائني: حبس الوليد يزيد بن هشام، وهو الأفقم، وفرّق بين روح بن الوليد وبين امرأته، وحبس عدة من ولد الوليد، وعذب بعضهم وعزم على البيعة لابنيه الحكم وعثمان وقال:
نأمل عثمان بعد الوليد ... أو حَكَمًا ثم نرجو سعيدا
كما كان من كان من قبلنا ... يزيد يرجّي لتلك الوليد [2]
وشاور الوليد في ذلك فأشار عليه ابن بيهس بن صهيب الجرمي ألا يفعل وقال: إنهما صغيران لم يحتلما، ولكن بايع لعتيق بن عبد العزيز بن الوليد بن عبد الملك، فغضب عليه وحبسه حتى مات في الحبس.
__________
[1] بالأصل: هاشم، وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه.
[2] شعر الوليد ص 147.(9/166)
قال المدائني: ودعا الوليد خالد بن عبد الله القسري إلى البيعة لابنيه فأبى فقال له بعض أهله: دعاك أمير المؤمنين فخالفته؟ فقال: ويحكم كيف أبايعُ من لا أصلي خلفه ولا أقبل شهادته؟ قالوا: فتقبل شهادة الوليد مع مجونه وفسقه. قال: أمر الوليد أمرٌ غاب عني فلا أتتبعه، وإنّما هي أخبار الناس. فغضب الوليد على خالد وقال: كان الأحول أعرف به.
[ما نقم الناس على الوليد بن يزيد]
وأراد الوليد الحج، فنهاهُ خالد عن ذلك لأنه خاف أن يفتك الناس به لإنكارهم أمره، فقال له: لم كرهت حجي؟ فقال: لا تحتاج إلى أن أخبرك. فازداد غضبًا وأمر بحبسه واستيدائه ما عليه من أموال العراق، ودفعه إلى يوسف بن عمر فعذبه حتى قتله، وكان من أمره ما قد ذكرناهُ.
المدائني عن عمر بن سعيد الثقفي قال: أوفدني يوسف بن عمر على الوليد، فلمّا قدمت عليه قال: كيف الفاسق- يعني الوليد- ثم قال: إياك وأن يسمع هذا منك أحد. فقلتُ: امرأتي طالق إن سمعه مني أحد ما دمتُ حيًّا، فضحك.
قالوا: فلمّا فعل الوليد ما فعل من قتل خالد بن عبد الله، وإبراهيم ومحمد ابني هشام بن إسماعيل حين قال: آخذهما بحق الله عليهما وحقوق الناس، وتجنّى عليهما، وما فعل ببني هشام وبني الوليد، وحبسه المؤمّل بن العباس بن الوليد، وبني القعقاع، وآل القعقاع واضْطَغَنَتْ عليه اليمانية لفعله بخالد بن عبد الله، ورمي بالزندقة، وكان أشدهم فيه قولا يزيد بن الوليد بن عبد الملك، وكان الناس مائلينَ إلى قوله لستره وإظهاره النسك، وجعل يقول: ما يسعنا الرضا بالوليد. حتى حمل الناس على الفتك به.(9/167)
[موقف الوليد بن يزيد من القدرية]
المدائني أن يزيد بن مصاد الكلبي قال: أخبرني عمرو بن شراحيل قال: سيّرنا هشام إلى دهلك، فلم نزل بِها إلى أن مات هشام وقام الوليد فكُلم فأبى ردّنا، ثم قال: والله ما عمل هشام عملا أرجى أن تناله به المغفرة من تسييره هؤلاء، وقتله القدرية- يعني غيلان وصاحبه- وقد كانت جماعة من اليمانية اجتمعت إلى خالد بن عبد الله القسري من أهل دمشق قبل حبسه، منهم: شبيب بن أبي مالك الغساني، ومنصور بن جمهور الكلبي، وحُميد بن نصر اللخمي، والأصبغ بن ذؤالة، وابن زياد بن علاثة، فدعوهُ إلى أمرهم فأبى ذلك، فسألوهُ أن يكتمَ عليهم ففعل، فلمّا حبس قال بعضُ الكلبيين شعرًا على لسان الوليد:
وهذا خالد أمسى أسيرا ... ألا منعوه إن كانوا رجالا
فلو كانت قبائل ذات عِزٍّ ... لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولا تركوهُ مسلوبًا أسيرًا ... يُعالج من سلاسلنا الثقالا
بِها سمنا البريَّة كل خسفٍ ... وهدّمنا السهولة والجبالا
فلا زالوا لنا أبدًا عبيدًا ... نسومهم المذلة والنكالا
فازداد الناس على الوليد حنقا، وقال حَمزة بن بيض الحنفي
يا وليدَ الخنا تركت الطريقا ... واضحًا وارتكبت فجًّا عميقًا
وتَماديتَ واعتديت وأسرفت ... وأغويت وانبعثت فسوقا
أبدًا هاتِ ثم هاتِ وهاتِ ... حتى تخرّ صعيقا
أنت سكرانُ لا تَفيق فما تَرْتِقُ ... فَتْقًا وقد فَتَقْتُ فُتُوقا
جاثليق أسقف كفر وفسقٍ ... ثمّ فقت الأسقف والجاثليقا(9/168)
[أخبار الوليد بن يزيد]
قالوا: وأتت اليمانية يزيد بن الوليد فأرادوه على أن يبايعوهُ، فقال عمر بن يزيد الحكمي ليزيد: إن العباس بن الوليد أخاكَ سيد أهل بيتك، فإن بايعك لم يُخالفكَ الناس، وإن أبى فالناس له أطوع، وإن أبيت مشاورته فأظهر بيعته لك.
وكانت أرض الشام في تلك الأيام وبيئة فخرج الناس إلى البوادي، وكان الوليد بن يزيد متبديًا، وكان العباس بن الوليد بالقسطل [1] فأتى يزيد أخاهُ فأخبره الخبر وشاوره وعابَ الوليد فقال له العباس: مهلا يا يزيد فإن في نقض عهد الله فساد الدين والدنيا. فرجعَ يزيد إلى منزله ودَبَّ في الناس فبايعوهُ سرًّا.
ودس يزيد بن عنبسة السكسكي رجلا من كلب وقومًا من ثقاته من وجوه الناس وأشرافهم يدعو الناس سرًّا، ثم عاود يزيد أخاهُ العباس، ومعه قطن مولاهم فشاوره وأعلمه أن قومًا يأتونه يريدونه على البيعة، فزبره العباس وقال: إن عدت لمثلها لأشدَّنك وثاقًا ولأحملنّكَ إلى أمير المؤمنين.
فخرج يزيد وقطن، وبعث العباس إلى قطن فقال له: ويحك أترى يزيد جادًّا، قال: جعلت فداءك ما أظن ذلك ولكنه قد دخله مما صنع الوليد بن يزيد ببني الوليد بن عبد الملك وبني هشام، وما يسمع من الناس من ذكر استخفاف الوليد وتَهاونه بالأمور ما ضاق به ذرعًا. قال: أما والله
__________
[1] هناك أكثر من قسطل، وقد يكون المراد هنا. قرية القسطل في جبل البلعاس- منطقة سلمية، لأن اعمارها قديم فيها آثار كثيرة وصآريج لخزن المياه، أو بلدة القسطل على حواف جبل القلمون بين حمص ودمشق. انظر مادة قسطل في المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري.(9/169)
إني لأظنه أشأم سخلة في بني مروان، ولولا ما أخاف من عجلة الوليد مع تحامله علينا لشددته وثاقًا وحملته إليه. فازجره عن أمره فإنه يسمع منك.
وسأل يزيد بن الوليد قطنًا عما جرى بينه وبين العباس فأخبره به فقال: والله لا أكف، ثم لا أكف. وأتى مُعَاوِيَة بْن عَمْرو بْن عتبة بْن أَبِي سفيان الوليد فقال له: إنك تبسط لساني بالأُنس بك وأنا أكفّه بالهيبة لك وأنا أسمعُ من خوض الناس ما لا تسمع، وأخافُ عليك ما لا أراكَ تأمن، أفأتكلم ناصحًا أم أسكت مطيعًا؟ قال: كل مقبول منك، ولله فينا علم غيب نحن إليه صائرون، ولو علم بنو مروان أنّهم إنّما يوفدونَ على رضفٍ [1] يُلقونه في أجوافِهم ما فعلوا ما يفعلون. ونعود فأسمع منك.
وبلغ مروانَ بن محمد وهو بأرمينية أن يزيد يؤلب الناس على الوليد بن يزيد ويدعو إلى خلعه، فكتب إلى سعيد بن عبد الملك بن مروان وكان متألهًا: «إن الله جعل لأهل كل بيت أركانًا يعتمدونَ عليها، ويتوقَّونَ المخاوفَ بها، وأنت بِحمد الله ركن من أركان أهل بيتك، وقد بلغني أن قومًا من سفهاء أهل بيتك قد أسسوا أمرًا إن تمّت لَهم رؤيتهم فيه على ما أجمعوا عليه استفتحوا بابا لن يُغلق عنهم حتى تسفك دماء كثيرة منهم، ولولا انشغالي بِهذا الفرج العظيم أمره، الشديد شوكة أهله لرمتُ فساد أمرهم بيدي ولساني، وأنت أقربُ إليهم مني فاحتل لعلم أمرهم بإظهار المتابعة لَهم، ثم تهددهم بإظهار أسرارهم، وخذهم بلسانك، وخوّفهم العواقب لعل الله يردّ إليهم ما عزب عنهم من دينهم وعقولهم، فإن فيما
__________
[1] الرضف: الحجارة المحماة يوغر بها اللبن، أو الداهية. القاموس.(9/170)
شرعوا فيه تغيير النعم وذهاب الدولة، فعاجل الأمر رحمك الله وحبل الأمة مشتد، وفي الناس سكون والثغور محفوظة، فإن للجماعة دولة من الفرقة، وللسعة دافعًا من الفقر» .
وذكر كلامًا بعد ذلك، فبعث سعيد بكتاب مروان إلى العباس، فدعا العباس يزيد فعذله وتهدده، فحذره يزيد وقال: يا أخي لم أفعل وهذا من إرجاف أهل الحسد لنا والسرور بزوال نعمتنا، وحلف له على ترك المعارضة فأمسكَ عنه.
وخرج يزيد بن الوليد يومًا على حمار وهو بناحية القريتين فرمى ذئبًا فقتله، فقال له مولى له متفائلا: قتلتَ والله الوليد إن شاء الله.
وأتى بشر بن الوليد أخاهُ العباس بن الوليد فكلمه في خلع الوليد وبيعة يزيد، فنهاهُ العباس، وقال: يا بني مروان إني أظن الله قد أذن في هلاككم، وقال:
إني أعيذكم بالله من فتن ... مثل الجبال تسامى ثم تندفعُ
أرى البرية قد ملّت سياستكم ... فأمسكوا بعمود الدين وارتدعوا
لا تبقرنّ بأيديكم بطونكمُ ... فَثَمَّ لا حسرةٌ تُغْنِي ولا جزع
قالوا: فلمّا اجتمعَ ليزيد بن الوليد أمره وهو متبدٍّ، أقبلَ إلى دمشق ليلا، وقد بايعَ ليزيد أكثر أهلها سرًّا، وبايع له أهل المزة وأكثرهم يقولونَ بقول غيلان أبي مروان الذي قتله هشام.
ولم يُبايع له ابن مصاد وهو سيد أهل المزة، فمضى يزيد من ليلته إلى معاوية ماشيًا في نفرٍ من أصحابه وقد أصابَهم مطرٌ شديد فضربوا الباب وقالوا: يزيد بالباب، ففُتح لهم فدخلوا فقال ليزيد: الفراش أصلحك(9/171)
الله، قال: إن في رجليّ طينًا وأكرهُ أن أفسدَ بساطكَ وفراشك. قال:
الذي تريدني عليه أَضَرُّ عليّ من فساد بساطي وفراشي، وكلمه يزيد فبايعه، ويُقال إن هشام بن مصاد بايعه أيضا.
[استيلاء أنصار يزيد بن الوليد على دمشق]
ورجعَ يزيد إلى دمشق على حمار، فنزل دار ثابت بن سليمان بن سعد الخشني، وكان على دمشق عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فخافَ الوباء، فخرج عن دمشق واستخلفَ عليها ابنه، وجعل على شرطته أبا العاج كثير بن عبد الله السلمي، فقيل له إن يزيد خارج عليكم فلم يصدق، وعزم يزيد على الخروج والظهور فأرسلَ إلى أصحابه بين المغرب والعشاء الآخرة من ليلة جمعة في سنة سبع وعشرين ومائة فمكثوا عند باب الفراديس بدمشق، ثم دخلوا المسجد فصلوا وفي المسجد حرس وقد وكلوا فيه بإخراج الناس منه بالليل، فلما قضى الناسُ الصلاة صاحَ بِهم الحرس فخرجوا وتباطأ أصحابُ يزيد فجعلوا يخرجونَهم من باب ويدخلونَ في آخر حتى لم يبق في المسجد غيرهم وغير الحرس، ثم أخذوا الحرس، ومضى يزيد بن عنبسة إلى يزيد بن الوليد فأخذه بيده وقال: قم يا أمير المؤمنين راشدا مهديا، وابشر بعون الله ونصره، فقام وقال: اللهم إن كان هذا رضًى فأعني عليه وسدّدني له، وإن لم يكن رضى فاصرفه عني بِموت عاجل.
وأقبل في اثني عشر رجلا، فلما كان عند سوق الحمر أتاهُ أربعونَ رجلا من أصحابه فانضموا إليه، ثم لَمّا كان عند سوق القمح لقيهم زهاء مائتي رجل فصاروا معهم، ثم مضى إلى المسجد وهو في مائتين ونيف وستين رجلا فدخله، وأتى أصحابه باب القصر فدقّوه وقالوا: رسل أمير المؤمنين الوليد(9/172)
ففتح لَهم فهجموا في القصر وأخذوا أبا العاج كثير بن عبد الله السلمي وهو سكران، وأخذوا خزّان بيت المال وصاحب البريد.
وأرسلَ يزيد بن الوليد من ليلته إلى عامل بعلبك وهو مولى لسعيد بن العاص فأُخذ، وأُرسلَ إلى عبد الملك بن محمد بن الحجاج بن يوسف فأخذ، وأمر يزيد ألا تفتح أبواب المدينة إلا لِمَن نادى بشعاره، وأصابَ أصحابُه سلاحًا كثيرًا، وجاء أهلُ المزة، ولم ينتصف النهار حتى تتابع الناسُ إلى يزيد، وتمثّل يزيد:
إذا استنزلوا عنهنَّ بالطعنِ أرقلوا ... إلى الموت إرقالَ الجمال المَصَاعِبِ
المدائني عن عمر بن مروان الكلبي عن زر بن ماجد قال: غدونا مع عبد الرحمن بن مصاد ونحن زهاء ألف وخمسمائة فلما انتهينا إلى باب الجابية وجدناهُ مغلقًا ووجدنا عليه رسولا للوليد فقال: ما هذه الجماعة والأُهْبَة، أما والله لأعلمنّ أمير المؤمنين- يعني الوليد- فقتله رجل من أهل المزة، فدخلنا من باب الجابية حتى وافينا المسجد الجامع، ودخلنا على يزيد فسلمنا عليه بالخلافة.
وكانت السكاسك في نحو ثلاثمائة فدخلوا من الباب الشرقي حتى دخلوا المسجد من باب جيرون، وأقبلَ يعقوب بن عمير بن هانئ في أهل داريا فدخلوا من الباب الصغير، وأقبل حميد بن حبيب اللخمي في أهل دير مُرَّان والأرزة فدخلوا من باب الفراديس، وأقبلَ ربعي وهشام الحارثي في جماعة من قومه ومن بني عُذرة وسلامان فدخلوا من باب توما، وتوافت جموعهم وتتامّتْ فقال الشاعر:(9/173)
وجاءتهم أنصارُهم حين أصبحوا ... سكاسكها أهل البيوت الصناددِ
وكلبٌ فجاءتُهْم بخيلٍ وعدَّةٍ ... من البيض والأبدانِ ثم السَّواعدِ
فأكرِم بها قومًا وأنصار سنَّةٍ ... فَهُمْ منعوا حوماتها كلَّ جاحدِ
فما أصبحوا إلا وهم أهل ملكها ... قد استوثقوا من كل عات ومارد
[أخبار الوليد بن يزيد]
قالوا: وأرسلَ يزيد بن الوليد إلى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان وأمرهُ أن يقف بباب الجابية، وقال لبني الوليد بن عبد الملك: تفرقوا في الناس وحضوهم، وقال: من كان له عطاء فليأت لقبض عطائه، ومن لم يكن له عطاء فله ألف درهم معونة.
وحدثني هشام بن عمار عن صدقة بن خالد قال: دعا يزيد إلى نفسه، فبايعه أهل المزة وأكثرهم غيلانية وقدرية، وبايعه أهل دمشق وجَميع من أنكرَ سيرة الوليد وشغله بلهوه ولعبه وبالشرب، ففتح يزيد بيت المال وأعطى الناس، وجاءت أموال من الكور ففرقها وَوَجَّهَ عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان في كثفٍ من الناس إلى الوليد وهو بالبخراء [1] وكان نزلها للعلاج، وشرب اللبن لوجعٍ وجده في كبده لإدمانه الشراب.
وقال أبو الحسن المدائني: أمر يزيد رجلا فنادى: من ينتدب للفاسق الوليد وله ألف درهم؟ فاجتمعَ أقل من ألف على أن يأخذوا ألفًا ألفًا، ثم أمر فنودي: من ينتدب وله ألف وخمسمائة؟ فانتدب يومئذ ألف وخمسمائة،
__________
[1] على مقربة من تدمر تعرف الآن باسم «البخرة» بسبب الروائح النتنة الناتجة عن الينابيع الكبريتية هناك.(9/174)
ويُقال إنه ندبهم إلى ألفين ألفين، فأتاهُ ألفان فعقد لِمنصور بن جمهور على طائفة، وليعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي على طائفة، وعقد لِحميد بن حبيب اللخمي على طائفة، وعقد لغيرهم على جماعة وجعل عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فخرج عبد العزيز فعسكر بالمزة.
قالوا: ودعا الوليد بن يزيد السفياني وهو أبو مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن يَزِيد بْن معاوية فأجازه ووجَّهَه إلى دمشق، فلمّا انتهى أبو محمد إلى قرب دمشق وجه إليه يزيد بن الوليد عبد الرحمن بن مصاد فسالمه أبو محمد وبايعَ ليزيد بن الوليد، وأتى الخبر الوليد وهو بالأزرق فقال:
يا ويحَ جندي الألى خاروا وما نظروا ... في غب أمر عمود الدين لو وقعا
ألقحتها ثم شالت عاقدًا أنفًا ... ما نَتّجُوها فيلقوا تَحتها ربعا [1]
ولا ارتقوا من صميم المحض آونة ... لكنهم يحتسونَ الصاب والعلقا
ما كنتُ أجزعهم من عرك كلْكَلِها ... حتى تدرّ نجيعًا أحمرًا دفقا
من كل ليث شتيم الوجه ذي زيرٍ ... ضرغامةٍ تحذر الآساد ما صنعا
غضنفرٍ أَهْرَتِ [2] الشّدقين قَسْوَرَةٍ ... كأنه ظالع نقبًا وما ظلعا
يلقاكَ في الليلة الظلماء منفردًا ... كأن في رأسه نجمين قد طلعا [3]
__________
[1] شالت الناقة: رفعت ذنبها للقاح، والعاقد: الناقة تعقد بذنبها عند اللقاح فيعلم أنها حملت، والأنف التي حملت لأول مرة، والربع: الفصيل.
[2] أهرت الشدقين: واسع الشدقين.
[3] شعر الوليد ص 73.(9/175)
وقال الوليد أيضًا:
ضمنتُ لكم إن سلَّم الله مهجتي ... عطاءً ورزقًا كاملا في المحرَّم
فلا تعجلوني لا أبًا لأبيكم ... فإني لكم كالوالد المترحّم [1]
قالوا: وقال بَيْهَس بن زميل الكلابي: يا أمير المؤمنين، سر حتى تنزل حمص فإنّها حصينة، ثم وجّه الخيل إلى يزيد فيقتل أو يؤسر، ويُقال بل قال له ذلك يزيد بن خالد بن يزيد بن معاوية، فقال عبد الله بن عنبسة بن سعيد بن العاص: ما ينبغي للخليفة أن يدفع عسكره وخزائنه وحرمه قبل أن يقاتل ويعذر، والله مؤيدٌ أمير المؤمنين وناصره. فأخذَ بقول عنبسة، فقال له الأبرش سعيد بن الوليد الكلبي: يا أمير المؤمنين تدمر حصينة وبها قوم يَمنعوك. فقال: ما أرى أن آتي تدمر وأهلها بنو عامر وهم الذين خرجوا عليّ، واسمها أيضًا اسمها. قال: فهذه البخراء. قال: ويحك ما أقبحَ أسماء هذه الأماكن. فنزل البخراء في قصر النعمان بن بشير وهو حصن كان للأعاجم، وقال:
إذا لم يكن خير مع الشر لم تَجد ... نصيحًا ولا ذا حاجة حيث تفزُع
إذا ما هُمُ هَمُّوا بأحدى هَنَاتِهِم ... حسرت لَهم رأسي فلا أَتَقَنَّعُ [2]
قال أبو الحسن: وكان بَيْهَس بن زُميل أشارَ عليه حين كره حمص بالبخراء فقال: أخافُ بها الطاعون. فقال: الذي يراد بك أشد من الطاعون.
__________
[1] شعر الوليد ص 116.
[2] شعر الوليد ص 79.(9/176)
وندب يزيد بن الوليد الناس إلى البخراء فتلقاهم ثقل الوليد فأخذوهُ، ونزلوا بالقربِ من الوليد، وأتى الوليد بن يزيد رسول العباس بن الوليد بن عبد الملك: إنني آتيكَ فيمن أجابني إلى نصرتكَ والاعتصام ببيعتك، فخرج في ناس من ولده ومواليه وخاصته، وأمر الوليد بسرير فأخرج فجلس عليه في وسط عسكره وقال: أعليّ يتوثب الرجال وأنا أثبُ على الأُسْدِ وأتخصّر بالأفاعي، وجعل ينتظرُ العباس بن الوليد بن عبد الملك. فقاتلهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك وعلى ميمنته عمرو بن حوي السكسكي، وعلى القلب منصور بن جمهور بن حصن بن عمرو بن خالد بن حارثة بن المتطرس أحد بني العبيد بن عامر الكلبي، وعلى الميسرة عمارة بن كلثوم الأزدي أو غيره، وركب عبد العزيز بغلا له أدهم وبعث إلى الوليد وأصحابه زياد بن حصين ليدعوهم إلى كتاب الله وسنة نبيه، فقتله مولى الوليد، فانكشفَ أصحاب يزيد فترجّل عبد العزيز وكرَّ أصحابه وقد قتل منهم عدة، وحملت رؤوسهم إلى الوليد، وأمر الوليد فأُخرج لواء مروان بن الحكم الذي عقده بالجابية لِمحاربة الضحاك بن قيس فجُعل بباب حصن البخراء وقتل من أصحاب الوليد عدة.
وبلغ عبد العزيز مسير العباس بن الوليد في خاصته وولده ومواليه ليكون مع الوليد، فأرسلَ منصور بن جمهور في خيل وقال: إنك تلقى العباس بن الوليد في الشعب ومعه جُميعة فَخُذْهُم، فنفذهم منصور في الخيل، فلما صارَ بالشِّعب إذا هو بالعباس في ثلاثينَ فارسًا فقال له: اعدل إلى عبد العزيز بن الحجاج، فأبى فقال له منصور بن جمهور: يا بن قسطنطين لئن أبيتَ لأضربنّ الذي فيه عيناك، فعدل معه إلى عسكر عبد العزيز وقال:(9/177)
بايع لأخيك يزيد بن الوليد فبايع، ووقف، ونصبوا راية وقالوا: هذه راية العباس وقد بايع لأخيه يزيد أمير المؤمنين، فقال العباس: إنا لله خدعة من خدع الشيطان، هلك بنو مروان، وكان عندهم كالأسير.
[مقتل الوليد بن يزيد]
قالوا: وتفرق الناس عن الوليد بن يزيد وأتوا عبد العزيز والعباس، فظاهر الوليد بين درعين، وأتوا بفرسين يُقال لَهما السندي والزائد فقاتلهم، فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قتلة قوم لوط ارموهُ بالحجارة، فلما سمعَ ذلك دخل القصر وأغلقَ الباب. فقال: أما فيكم رجل شريف ذو حسب أكمله، فقال له يزيد بن عنبسة السكسكي: تكلم. فقال: ومن أنت؟
قال: أنا يزيد بن عنبسة. قال: يا أخا السكاسك ألم أزد في أعطياتكم؟ ألم أرفع المؤن عنكم؟ ألم أعط فقراءكم؟ ألم أخذكم زمناكم؟ فقال له: ما ننقمُ عليك في أنفسنا ولكنا ننقمُ عليك انتهاكَ ما حرّم الله من شرب الخمر ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله، وإتيانكَ الذكور، قال: حسبك يا أخا السكاسك فلعمري لقد أغرقت وأكبرت، وإن في ما أحل الله لمندوحة عما ذكرت، والله لا يرتق فتقكم ولا يلمّ شعثكم ولا تجتمعُ كلمتكم، ورجع إلى الدار فجلس وأخذ مصحفًا وقال: يوم كيوم عثمان، ونشر المصحف يقرأه، فعلوا الحائط، وكان أول من علاهُ يزيد بن عنبسة، فنزل وسيف الوليد إلى جانبه فقال له يزيد: نحِّ سيفك، فقال الوليد: لو أردت السيف كانت لي ولك حال. فأخذ بيد الوليد وهو يريد أن يحبسه ويؤامر يزيد بن الوليد فيه، فنزل من الحائط عشرة فضربه واحد على وجهه وضربه آخر على رأسه، وجرّه خمسة منهم ليخرجوهُ فصاحت امرأة كانت معهم في الدار فكفوا عنه فلم يخرجوه.(9/178)
واحتزّ أبو علاقة القضاعي رأسه وأخذ عقبًا فخاطَ الضربة التي في وجهه وحمل الرأس إلى يزيد بن الوليد روح بن مقبل، وقال: أبشر يا أمير المؤمنين بقتل الوليد الفاسق، وكان يزيد يتغدى فسجد ومن كان معه، وأخذ يزيد بن عنبسة بيد يزيد بن الوليد وقال: قم يا أمير المؤمنين وابشر بنصر الله وصنعه، فاختلج يزيد يده من كفه وقال: اللهم إن كان هذا الأمر لك رضًى فسددني ووفقني.
قالوا: وكان على ميسرة الوليد بن يزيد الوليد بن خالد أخي الأبرش الكلبي في بني عامر، وكانت بنو عامر ميمنة عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك فلم تقاتل الميسرة والميمنة، ومالوا جَميعًا إلى عبد العزيز، وقال بعضهم: رأيتُ خدم الوليد وحشمه يأخذونَ بأيدي الرجال فيدخلونَهم عليه.
وقال الهيثم بن عدي: خرج الوليد وعليه قباء خز وقد تحزّم بريطة، فأتاهُ قوم من أهل حمص ينصرونه، عليهم عبد الرحمن بن أبي الجنوب البهراني، وأتاهُ بنو سليم بن كيسان صاحب باب كيسان بدمشق في ستة عشر فارسًا، وتلقاهُ بنو النعمان بن بشير الأنصاري في فوارس، ثم صار إلى الخبراء فضاق العلف على أصحابه، فاشترى زرع القرية فقالوا له:
لا حاجة لنا في البقل إنما تسترخي عليه دوابنا وتضعف، أعطنا دراهم.
وأُخبر بإقبال عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك من قبل يزيد الناقص، فلم يكترث لذلك، وكان العباس بن الوليد قد أقبل يريد الوليد كراهة لنقض بيعته فوجه إليه عبد العزيز فحازه إليه.(9/179)
وسمع الوليد تكبير أصحاب عبد العزيز بالبخراء فخرج خالد بن عثمان فعبأ الناس، ولم يكن بينهم قتال حتى طلعت الشمس.
وكان مع أصحاب الناقص كتاب معلق في رمح فيه: إنا ندعوكم إلى كتاب الله وسنة نبيه وأن يكون الأمر شُورَى، فاقتتلوا فقتل عثمان الخشبي وكان من أولاد بعض الخشبية الذين كانوا مع المختار بن أبي عبيد الثقفي، وقتل من أصحاب الوليد زهاء ستين رجلا. وكان الأبرش على فرس له فجعل يصيح بابن أخيه: يا بن اللخناء قدم رايتك، قال: لا أجدُ مُتَقَدِّمًا، إنها بنو عامر.
وقال هشام بن عمار: حُدثتُ أن العباس بن الوليد قاتل مع الوليد بن يزيد وفاء ببيعته، فطعنه رجلٌ من أصحاب عبد العزيز فأرداه عن فرسه، فعدل إلى عبد العزيز فسقط في يد أصحاب الوليد وانكسروا، ومكث العباس عند عبد العزيز أسيرًا، ثم إن أخاهُ يزيد بن الوليد صفح عنه وكان به بَرًّا.
قالوا: وكان الوليد بن يزيد أرسلَ إلى عبد العزيز بن الحجاج يعرضُ عليه أن يُعطيه خمسين ألف دينار ويَجعل له ولاية حمص طعمة ما بقي، ويؤمنه على كل أمر كان منه على أن ينصرفَ ويكفّ عنه، فلم يجبه إلى ذلك، وجعل أصحاب الوليد يستعجلونَ ويشترطونَ عليه الشروط فيجيبهم إلى ذلك فانتقض عسكر الوليد وانهزم أصحابه، ودخل الوليد القصر، وجاء رجل طوال كان على فرس له فدنا من حائط القصر ثم تسلقه، وكان الوليد قد ألقى سلاحه وأخذ مصحفًا يقرأُ فيه، ويقول: يوم كيوم أمير المؤمنين عثمان، فوجده الرجل وعليه قميص قصب وسراويل وشيء، ومعه(9/180)
سيف في غمده وإذا الناس يشتمونه وهو يسمع، فقام الوليد فضربه الرجل على رأسه، ودخل عبد العزيز والناس حين تسلق الرجل فتعاوروه بأسيافِهم، وأكبّ الرجل الطويل فاحتزّ رأسه. وكان يزيد قد جعل على رأسه مائة ألف درهم.
وجاء أبو الأسود مولى خالد بن عبد الله القسري، فسلخ من جلدة رأس الوليد قدر الكف فأتى بها يزيد بن خالد بن عبد الله، وكان محبوسًا في عسكر الوليد، حبسه حين دفع أباهُ إلى يوسف بن عمر، وانتهب الناس خزائن الوليد وما في عسكره.
وقال المدائني عن عمر بن مروان الكلبي: لَمَّا قتل الوليد قطعت كفه اليسرى وفيها خاتمه، وبُعث بها إلى يزيد بن الوليد فسبقت رأسه إليه بليلة، وقُدم برأسهِ من الغد فنصبه للناس بعد الصلاة.
وكان أهل دمشق قد أَرجفوا بعبد العزيز فلمّا نصب لَهم رأس الوليد سكتوا.
قالوا: ولَمّا أمر يزيد الناقص بنصب رأس الوليد قال له يزيد بن فروة مولى بني مروان: إِنَّما ينصب رأس خارجي وهذا ابن عمك وخليفة من الخلفاء ولا آمن إن نصبته أن ترقّ له قلوب الناس ويَغضب له أهل بيتك وتدركهم الحميَّة. فقال: والله لا نصبه غيرك. فنصبه على رمح ثم قال:
انطلق فطف به في مدينة دمشق وأدخله دار أبيه، ففعل فصاح النساء وأهل الدار، ثم رُدَّ إلى يزيد فقال: انطلق به إلى منزلك. فمكث عنده قريبًا من شهر ثم قال: ادفعهُ إلى أخيه سليمان بن يزيد، وكان سليمان ممن سعى على الوليد أخيه، فغسل ابن فروة الرأس ووضعه في سفط وأتى به سليمان فقال(9/181)
أخوه: أشهد أنه كان شروبا للحرام، ما جنا فسقا، ولقد أرادني على نفسي فأبيتُ، فخرج ابن فروة من الدار وتلقته مولاة الوليد فقال لها: ويحك، زعم أنه أراده على نفسه، فقالت: كذب والله لو أراده على نفسه لفعل، وما كان يقدر على الامتناع منه.
وقال هشام ابن الكلبي: خرج الوليد إلى البخراء لشرب الدواء والعلاج، وكان عليل الجوف من الصَبُوح والغبوق، وكان صاحب شُرَطه خالد بن عثمان بن بحدل الكلبي، وخليفته على الشرطة يزيد بن يعلى بن الضخم بن قرة العبسي، فلمّا أظهر يزيد بن الوليد أمره وبايعه أهل المزة والغيلانية وأهل دمشق والناس وفتح بيت المال فأعطي الناس، وَجَّهَ عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان في كثف من الناس نَهضوا احتسابًا وحنقًا، حتى نزلوا بالوليد فقاتلوا أصحابه حتى قتل، وكان الذي قتله مولى لَهم يُقالُ له وجه الفَلْس وكان طوالا صغير الوجه.
المدائني عن عمرو بن مروان قال: حدثني يزيد بن مصاد عن عبد الرحمن بن مصاد قال: بعثني يزيد بن الوليد إلى أبي محمد السفياني، وكان الوليد وجهه حين بلغه خبر يزيد بن الوليد واليًا على دمشق، فلقيته فسالمني، وبايع ليزيد فلم أفارقه حتى رُفع لنا شخص مقبل من ناحية المزة، فبعثت إليه فأتيت به فإذا هو أبو كامل الغُزَيّل المغني وإذا هو على بغلة للوليد فأخبرنا أن الوليد قد قُتِلَ، فأتيتُ يزيد فوجدت الخبر قد بلغه.
وكان يزيد بن مروان بن محمد يَغزو الصائفة مع الغمر بن يزيد، فلمّا قتل الوليد غلب على الجزيرة حتى قدم مروان بن محمد أرمينية.
وقال بشر بن هلباء الكلبي يوم قتل الوليد، وقد ضرب باب البخراء(9/182)
بسيفه، جوابًا لِمَا روي أن الوليد قاله في خالد بن عبد الله القسري:
سنبكي خالدًا بِمهنداتٍ ... ولم تذهب صنائعه ضلالا
المدائني قال: قال الحكم بن النعمان مولى الوليد: قَدِمَ برأس الوليد على يزيد الناقص منصور بن جمهور العامري من كلب في عشرة، منهم روح بن مقبل، فقال روح: يا أمير المؤمنين أبشر بقتل الفاسق، وأسر العباس، وكان في العشرة القادمين بالرأس عبد الرحمن بن وجه الفلس، وبشر مولى كنانة من كلب، فأعطى يزيد كل رجل منهم عشرة آلاف درهم.
قال: وكان يزيد قال: من جاء برأس فله خمسمائة درهم، فجاء قوم برؤوس فقال يزيد بن الوليد: اكتبوا أسماءهم، فقال رجل من مواليه جاء برأس ليس هذا بيوم يعمل فيه بنسيئة.
قالوا: وكان العباس بن الوليد لما صار يزيد إليه يستشيره قال: أنا أكتب إلى الوليد أمير المؤمنين بحجتك، فكتب إليه، فقال لرسوله: أترك صاحبك الصدق أي حجة لمن جاهر الله بعداوة خليفته وشق عصا المسلمين؟
قالوا: وكان مع الوليد مالك بن أبي السمح الطائي المغني وعمر الوادي فلما تفرق أصحاب الوليد عنه وحصر قال مالك لعمر: اذهب بنا، فقال عمر: ليس هذا من الوفاء وليس يُعرض لنا لأنّا ليس ممن يقاتل. فقال مالك: ويلك والله لئن ظفروا بنا لا يُقتل أحد قبلنا فيوضع رأس الوليد بين رأسينا، ليقول الناس انظروا من كان معه الفاسق في هذه الحال، ولا يُعاب بشيء أشد من هذا، فالنجاء عافاك الله، فهربا.(9/183)
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ أيوب السختياني حين بلغه خبر الوليد: ليتهم تركوا لنا خليفتنا ولم يقتلوهُ- وإنّما قال ذلك خوفًا من الفتنة-.
المدائني عن أبي عاصم الزيادي قال: ادّعى قتل الوليد عشرة فقال:
إني رأيتُ جلدة رأس الوليد في يد وجه الفلس، وقال: أنا قتلته وأخذت هذه الجلدة.
وقال أمير المؤمنين المهدي، وذكر الوليد: رحمه الله ولا رحم قاتله فإنه كان إمامًا مجتمعًا عليه، وقيل له: إن الوليد كان زنديقًا. فقال: إن خلافة الله أعزّ وأجلّ من أن يوليها من لا يؤمنُ به.
حدثني عمرو بن محمد الناقد، وعلي بن محمد المديني، ثنا سفيان بن عيينة قال: لَمّا قتل الوليد اجتمعَ مشيخة من مشيخة أهل الكوفة، إلى الأعمش فقالوا: إنّا نحب ألا نفترقَ إلا على أمر نعرفه، فقال الأعمش:
اتّقى امرؤ ربّه، وكفّ يده وحفظ لسانه، ولزم بيته، قوموا وأنا النذير لكم.
قالوا: وكان يزيد بْن خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري محبوسًا، حبسه الوليد حين وجّه أباهُ إلى العراق مع يوسف بن عمر، فلمّا تشاغل الناس وغفل عنه حفظته كسر قيده فخرج وأتى على الوليد، وهو صريع فضربه تسع ضربات وقال:
قتلتم خالدًا بالظلم قسرًا ... وما يبغي سوى الإسلام دينًا
قتلتُ إمامكم بأبي فحسبي ... وقد قتلوا سواه آخرينا(9/184)
وحدثني داود بن عبد الحميد قاضي أهل الرقة قال: سمعتُ أشياخنا يتحدثونَ أن الوليد خرج إلى البخراء للعلاج وشرب اللبن، وكان في عسكر عظيم، وصاحب شرطه خالد بن عثمان بن بحدل الكلبي، ويُقال زيد بن يعلى بن الضخم بن قرة العبسي. فدعا يزيد بن الوليد إلى نفسه وأظهره، وكان يقول: والله ما أريد بِهذا الأمر إلا إراحة الإسلام والمسلمين من هذا الرجل الذي لا يحلّ تركه. والله ما أريدُ أحفر فيكم نَهرًا ولا أبني قصرًا، ولا أجعلُ أموالكم وقفًا على اللذات والنشوات، وركوب ما لم يُحلّه الله، وما غايتي إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله. فبايعهُ الغيلانية، وصارت معه اليمانية طالبًا بثأر خالد القسري فغلب على دمشق.
وبعث يزيد إليه عبد العزيز بن الحجاج فقاتلوا الوليد وأصحابه بالبخراء، ودخل الوليد حصن البخراء فحصروهُ ورموه بالحجارة وهم يقولون: يا فاسق هذه سنَّة في اللواطين أمثالك، تهيئ الذكور بهيئة النساء وتفسق بِهم، وترتكبُ العظائم، ثم تسوَّروا عليه وهو مصطبح بشرابه، فعمد إلى مصحف ففتحه فلم ينفعه ذلك وقتل، وكان ممن تولى قتله مولى لهم يقال لهم وجه الفلس وقد كان بعض ولده مع عبد الله بن طاهر.
قالوا: وكانت ولاية الوليد سنة وشهرين وأيامًا، ويُقال سنة وثَمانية أشهر والأول أثبت، وقتل في جمادى الآخرة سنة ست وعشرين ومائة وله ست وثلاثون سنة، ويُقالُ تسع وثلاثون سنة، ويُقال اثنتان وأربعونَ سنة، ويُقالُ خمس وأربعونَ وأشهر، وكان الشيب قد وخطه. ولم يُصلّ عليه أحد، ودفن بالبخراء، ثم إنه حمل إلى دمشق سرًا فدفن في المقبرة التي عند باب الفراديس ليلا، وحمل رأسه إلى يزيد فنصب عند باب الفراديس.(9/185)
[أخبار الوليد بن يزيد]
قالوا: وتغيب عثمان والحكم ابنا الوليد بن يزيد في سَرَبٍ في القصر، فطلبهما عبد العزيز فوجدهما في السرب فأتى بِهما يزيد فدفعهما إلى عمهما سليمان بن يزيد بن عبد الملك فمكثا عشرة أيام ثم ردّهما وقال: قد كثر اختلاف الناس إليهما، وقد كان أبوهما بايع لَهما فأخافَ أن أغلب عليهما فإن في الناس غواة، فأمر يزيد بحبسهما فحبسا بالخضراء، فدخل عليهما الأفقم وهو يزيد بن هشام السجن، وكان الوليد قد ضربه وحلقه فشتم أباهما ولعنه، فبكى الحكم فزجره أخوه عثمان، وقال: اسكت، وقال للأفقم: ويحك تشتم أبي؟ قال: نعم فقال عثمان: لكني لا أشتمُ عمي هشامًا، وايم الله لو كنت من بني مروان ما شتمتُ أبي، ولكنك لست من بني الحكم فانظر إلى وجهك في المرآة، فإن رأيتَ حكميًّا يشبهك فأنت منهم، ولا والله ما في الأرض حكميّ مثل وجهك.
قال أبو الحسن المدائني: قال محمد بن راشد الخزاعي: دخلتُ على الحكم وعثمان وهما محبوسان بالخضراء فحادثتهما ساعة فقال الحكم:
ما أصابني في هذا الأمر شيء كان أغيظ لي من ذهاب بغلي المديزج [1] . قال:
قلتُ: قبح الله رأيك. قتل أبوك، وسُلبت ملكك فلم يعظم عليك ذلك، وتتلهف على بغل ذهب منك؟
قال أبو الحسن: قتل الوليد يوم الأربعاء ليومين بقيا من الشهر سنة ست وعشرين ومائة وكانت ولايته سنة ونصفًا، فلمّا قتل الوليد اختلف بنو مروان بينهم، وكان سليمان بن هشام محبوسًا بعَمَّان فخرج من السجن فأخذ
__________
[1] لم أهتد إلى ما يعرّف هذه السمة.(9/186)
جَميع ما كان بَعَمّان من المال، وأقبل إلى دمشق وجعل يلعن الوليد بن يزيد ومن يهوى هواه ويعيبه ويكفره.
[أبيات في رثاء الوليد بن يزيد]
وقال ابن ميّادة المرّي، وميادة أمه، واسمه الرمّاح بْن الأبرد بْن شريان بْن سُراقة بْن سامي بن ظالِم بن جذيمة:
أيا لَهفي على الملك المرجّى ... غداة أصابه القدر المتاحُ
ألا أبكي الوليد فتى قريشٍ ... وأسمحها إذا فقد السماح
وأجبرها لذي عظم مهيضٍ ... إذا ضَنَّت بدَرَّتها اللقاحُ
لقد فعلتْ بنو مروان فعلا ... ذميمًا ما يسوغ به القراحُ
فظلّ كأنه أسد عقيرٌ ... تكسر في مناكبه الرماحُ [1]
وقال بعضهم:
أُمُّ الوليد فشقّي الجيب وانتحري ... إن الوليد وربُّ البيت قد قُتلا
وقال أبو محجن مولى خالد بن عبد الله:
لو شاهدوا حدَّ سيفي حين أُدْخِلُهُ ... في است الوليد لَمَاتوا عندها كمدا
وكان أدخل سيفه في استه.
__________
[1] شعر ابن ميادة- ط. دمشق 1982 ص 95.(9/187)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان
قالوا: ولَمّا قتل الوليد بويع ليزيد بن الوليد بن عبد الملك وكان أقيل [1] ، ويُكنى أبا خالد، وأمه شاهفريد بنت فيروز بن يزدجرد بْن شهريار بْن كسرى أبرويز بْن هرمز بن أنوشروان كسرى بن قباذ بن فيروز بن يزدجرد بن بِهرام جور بن يزدجرد بن سابور ذي الأكتاف بن أزدشير.
وجعل أخاهُ إبراهيم بن الوليد ولي عهده، ومن بعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك لقيامه له بِما قام به من محاربة الوليد، فبويعا أيضًا في سنة ست وعشرين ومائة.
ونقص يزيد بن الوليد الناس العشرات التي كان الوليد زادهم إياها، فسمي يزيد الناقص.
__________
[1] لعل قوله أقيل محمول على لفظ أقيال، أي ملك بحكم نسبه من جهة أمه وأبيه أو لأنه كان فصيحا متمكنا من القول. انظر مادة «قيل» في النهاية لابن الأثير.(9/189)
قال المدائني: يُقال إنه سمي ناقصًا لأن مروان سماهُ ناقصًا حين ولي، قال: وكان ناقص العقل، والثبت أنه نقص الناس العشرات التي زادهم إياها الوليد فسمي ناقصًا والله أعلم.
وقال أبو الحسن المدائني: كان يزيد بن الوليد أسمر، مديد القامة، صغير الرأس، وكان جَميلا وفي فمه بعضُ السعة، وأمه أم ولد من ولد المخدج بن يزدجرد، وكان المخدج ولد بخراسان، فلما فتح قتيبة بن مسلم ما فتح من خراسان أصابَ جارية من ولد المخدج بن يزدجرد فبعث بها إلى الحجاج بن يوسف، فأهداها الحجاج إلى الوليد بن عبد الملك، فولدت له يزيد بن الوليد.
وكان ليزيد بن الوليد من الولد:
أبو بكر وعبد المؤمن وعلي، وأمهم من كلب من ولد زبان الكلبي.
وعبد الله، أمه أم ولد.
وخالد والوليد، قتلهما مروان حين أسرهما. ويزيد القائل:
أنا ابن كسرى وأبي مروان ... وقيصر جدي وجدي خاقان
وليس إبراهيم بأخي يزيد لأمه، إبراهيم لأم ولد أخرى.
قالوا: وكان يزيد يُعرف بالتنسك والتألّه والتواضع، وكان الوليد بن عبد الملك يذكر ولده فيقول: عبد العزيز سيدهم، والعباس أفرسهم، ويزيد ناسكهم، وروح عالِمهم، وعمر فحلهم، وبشر فتاهم.
قالوا: وكان الوليد بن يزيد قد حج في سنة ست عشرة أو سنة سبع عشرة، وحج أيضًا يزيد بن الوليد في تلك السنة فلمّا رآهُ يزيد وهو يطوف(9/190)
بالبيت قال: ورب هذه البَنِيَّةِ إن هذا الذي يطوف لكافر بِهذه البنيَّة ولئن ولي أمر الأمة وأنا حيّ لأجاهدنّه.
قالوا: ولقي يزيد بن الوليد أيوب السختياني في السنة التي حج فيها فكتب عنه، وكان يزيد كثير الصلاة طويل الليل.
قالوا: وعاتبته امرأته هند الكلبية فقالت: أوسِعْ علينا، وكانت تدعى ابنة الحضرمية لأن أمها التي قامت عنها من حضر موت، وذلك حين ولي، فقال: قد فسدت علي فيمن فسد، أما لو علمتُ أنكم تَميلونَ إلى الدنيا هذا الميل لكانَ أن أَخِرّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليّ من أن ألتبسَ بِما التبستُ به، ومالك في هذا المال إلا ما لسوداء أو حَمراء من المسلمين، ولكن يا قطن [1] ائتني بثيابي، فجاءت بتختٍ، فقالَ لها: هذه ثياب كنت أتزين بها فشأنك فخذيها فإنه لا حاجة لي اليوم فيها، فأما مال المسلمين فلا حق لي ولا لك فيه إلا مثل ما للمسلمين.
[خطبة يزيد الناقص عقب مقتل الوليد بن يزيد]
قالوا: ولَما قتل الوليد خطب يزيد فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وصلى على نبيه صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «أيها الناس، إني والله ما خرجتُ بطرًا ولا حرصًا على الدنيا ولا رغبةً في الملك، وما أقولُ هذا إطراء لنفسي، إني لظلوم لَها إن لم يرحمني ربي. ولكن خرجتُ غضبًا لله ولدينه، وداعيًا إلى الله وكتابه وسنة نبيه، لَمّا هُدمت معالم الدين، وعُفي أثر الحق وأُطفئ نور الهدى، وظهر الجبار العنيد المستحلّ لكل حرمة، والراكب لكل بدعة، مع أنه والله ما كان يصدّق بالكتاب، ولا يؤمنُ بيوم الحساب، وإنه لابن عمي في
__________
[1] القطن: الأمة، والمملوك، والحشم، والخدم والأتباع. وهو هنا اسم علم. القاموس.(9/191)
النسب، وكفئي في الحسب، فلمّا رأيتُ ذلك استخرتُ الله في أمره وسألته أن لا يكلني إلى غيره، ودعوتُ إلى مجاهدته، فأجابني من أجابني من أهل ولايتي، وسعيتُ عليه حتى أراحَ الله منه العباد بحول الله وقوته لا بحولي وقوتي.
أيها الناس إن لكم أن لا أضع حجرًا على حجر ولا لبنة على لبنة، ولا أكري فيكم نَهرًا، ولا أبني قصرًا ولا أكنزُ مالا، ولا أؤثر به زوجةً ولا ولدًا، ولا أنقلُ مالا من بلد إلى بلد حتى أسدّ ثغره وخصاصة أهله بِما يعينهم، فإن فَضَلَ فَضْلٌ نقلته إلى البلد الذي يليه مما هو إليه أحوج، ولكم علي ألا أُجمركم فأفتنكم، ولا أفتن أهليكم، ولا أغلقُ بابي دونكم فيأكل قويكم ضعيفكم، ولا أحملُ على أهل جزيتكم ما أجليهم به عن بلادهم، ولكم عندي إدرار أعطياتكم في كل سنة، وأرزاقكم في كل شهر حتى تستدر المعيشة بين المسلمين، فيكون أقصاهم كأدناهم، فإن أنا وفيت لكم بِما قلت فعليكم السمع والطاعة وحسن المؤازرة والمكانفة، وإن أنا لم أَفِ لكم أن تَخلعوني إلا أن تستتيبوني فإن تبتُ قبلتم مني، وإن علمتم مكان رجل يُعرف بالصلاح يعطيكم من نفسه ما أعطيتكم فبايعوهُ إن أردتم ذلك، فأنا أول من يبايعه ويدخل في طاعته.
أيُّها الناس إنه لا طاعة لمخلوق في معصية خالق، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» .
ودعا الناس إلى البيعة فجدد بيعة أخرى، فكان أول من بايعه يزيد الأفقم، وبعضهم يقول الأشدق بن هشام بن عبد الملك.(9/192)
وقام قيس بن هانئ العبسي فقال: يا أمير المؤمنين دُمْ على ما أنت عليه، فما قامَ مقامك أحد من أهلك، ولئن قالوا عمر بن عبد العزيز فإنك أخذتها بسبب صالِح، وأخذها بسبب سوء، فلمّا بلغ مروان بن محمد قوله قال: قاتله الله عابنا جَميعًا، فلما ولي مروان أمر أن يُطلب في المسجد فوُجد يصلي فأُتي به فقتله.
قالوا: وأتى يزيد بن حجوة الغساني يزيدًا، فقال: يا أمير المؤمنين إني لا أرى أحدًا من قيس غشيك ولا وقفَ ببابك، وما قلوبهم بالمنشرحة لك. فقال يزيد: لولا أني أكره البسط لعاجلتُ قيسًا بالمكروه. والله ما عزّتْ قيس قط إلا ذَلَّ الإسلام.
[مقتل يوسف بن عمر]
قالوا: ولى يزيد بن الوليد منصور بن جَمهور الكلبي العراق، ويُقال بعثه خليفة للحارث بن العباس بن الوليد بن عبد الملك، وأمره أن يحمل يوسف بن عمر إلى ما قبله.
وقال بعضهم: لم يولّه العراق ولا بعثه خليفة لأحد، ولكنه وجهه لحمل يوسف ولكنه وَرَّى بذكر خلافة الحارث عن أمره، فهرب يوسف بن عمر الثقفي، وكان عامل هشام والوليد من بعده على العراق وأتى دمشق فأُخذ وأُتي به يزيد فحبسه مع عثمان والحكم ابني الوليد.
وقال قوم إن منصور أتى العراق متغلبًا، فهرب منه يوسف، وليس ذلك بثبت.(9/193)
ويُقال إن يوسف أتى يزيد حتى وضع يده في يده، فقال له يزيد:
لست أطالبك بحقد ولا إحنة ولكني أريدُ أخذك بِمال المسلمين حتى أستخرج لَهم حقهم الواجب لَهم، وأمر بحبسه ومحاسبته.
وكانت اليمانية ويزيد بن خالد بن عبد الله حقدوا على يوسف عذابه خالدًا حتى قتله فدعا اليمانية يزيد [1] إلى الطلب بدم أبيه فوثبوا بيوسف فقتلوه ونصبوا رأسه بدمشق، وذلك في أيام يزيد بن الوليد.
وكانت ولاية يزيد الناقص ستة أشهر، ويُقال كانت خَمسة أشهر وأيامًا.
وقال الهيثم بن عدي: خرج سليمان بن هشام من مجلسه حين قتل الوليد، ونفذ منصور بن جَمهور على حاميته في خَمسة آلاف إلى العراق، فهربَ يوسف بن عمر إلى منزله بالبلقاء، فوجه إليه يزيد بْن خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري، وهو على شرطة يزيد بن الوليد: محمد بن سعيد الكلبي من أهل المزَّة فوجده في قرية له بأرض البلقاء، ففتش داره فاستخفى بين إمائه وبين الحائط، فأخذ ابنًا له فضربه فقال له: ذاك أبي، فأخذه وقدم به على يزيد بن الوليد فلم يزل محبوسًا في خلافته، وفي أيام إبراهيم بن الوليد أخيه حتى بلغَ يزيد بن خالد قدوم مروان بن محمد الجعدي للطلب بدم الوليد، فأخرجه يزيد بن خالد فقتله.
قالوا: ولَمّا قدم منصور بن جمهور العراق قال الناس: منصور بن جمهور أمير غير مأمور، أتى بالعهد منشور، وفيه الكذب والزور، وكان
__________
[1] أي يزيد بْن خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري.(9/194)
الصبيان والخدام يقولون هذا في الطرق، ثم ولى يزيد بن (الوليد) عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ العراق وقد كتبنا خبره مع نسبه.
[رسالة يزيد الناقص إلى أهل العراق]
قالوا: وكتب يزيد بن الوليد إلى أهل العراق وكان كاتبه ثابت بن سليمان بن سعيد: «أما بعد فإن الله اختار الإسلام وارتضاهُ وأظهره وطَهَّره، وافترضَ فيه حقوقًا أمر بها، ونَهى فيه عن أمور حرّمها ابتلاءً لعباده فأكمل فيه كل عدل، ختم كل فصل ثم تولاه الله فكان له حافظًا ولأهله المقيمين حدوده وليًّا وناصرًا، فلم يكرم الله بالخلافة أحدًا فيأخذ بأمر الله وحقه فيناوئه مشاقٌّ أو يُحاول صرف ما حباهُ الله به باغ إلا كان كيده الأضعف، ومكره الأهون، حتى يتم الله له ما أعطاهُ ويتولاه فيما ولاه، ويجعل عدوه الأضل سبيلا، والأخسر عملا، فتناسخت خلفاء الله وولاة دينه قاضين بحكمه متبعين لكتابه حتى أفضى الأمر إلى عدو الله الوليد المنتهك للمحارم، والراكب للعظائم التي لا يأتي مثلها مسلم، ولا يُقدم عليها كافر تكرّمًا عن غشيان مثلها، فلما استفاض ذلك وَعَلَن، واشتد فيه البلاء، وسُفكت الدماء، وأخذت الأموال بغير حقها مع أمور فاحشة لم يكن الله ليملي لِمن عمل بها، سرتُ إليه بعد انتظار مراجعته منكرًا لعمله، وما اجترأ عليه من معاصي الله، راجيًا من الله إتمام ما نويت في ذلك من اعتدال عمود الدين، والأخذ في أهله بِمَا هو لله رضى حتى وافقت جندًا قد وغرتْ صدورهم على عدو الله بِما رأوا منه مِمّا لا مرية فيه ولا شك، ولا عليه غطاء، ولا به خفاء، فدعوتهم إلى تغيير ما أحدث من الأحداث التي بدّل بها أمر الله وسنن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسرعوا إلى الإجابة وأحسنوا على الحق المعاونة، فبعثتُ عليهم عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فلاقى عدو الله ومن معه وهو بجانب(9/195)
قرية من قرى حمص تدعى البخراء، فدعاهُ إلى أن يجعل الأمر شورى ينظر فقهاء المسلمين وصلحاؤهم فيه لأنفسهم، فأبى ذلك متتابعًا في ضلالته، فقتله الله على شر عمله وأسوأ أثره بين عصبة من بطانته الخبيثة، فأطفأ الله جمرته، وأراحَ العباد منه فبعدًا له ولِمَن كان على طريقته، أحببتُ أن أعلمكم ذلك لتحمدوا الله عليه وتشكروهُ، فبايعُوا منصور بن جمهور لأمير المؤمنين فقد ارتضيته لكم ووليته أمركم، فإن العدل مبسوط لكم لا يُسار فيكم بخلافة إن شاء الله، نسأل الله ربنا وولينا حُسْن توفيقه وتسديده، وكُتب لليلتين خلتا- أو بقيتا- من رجب سنة ست وعشرين ومائة» .
[ولاة يزيد الناقص على بعض الأمصار]
المدائني قال: عامل الناقص على العراق: عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ، وعلى مكة والمدينة: عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز وعلى مصر: إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز. ويُقال إنه ولاه إياها فلم يقبل عهده على مصر.
قالوا: ولَمّا مات يزيد الناقص بن الوليد وثبَ الحكم بن ضبعان بن روح بن زنباع الجذامي بأرض فلسطين، فخلع واستمالَ لَخمًا وجذامًا ودعا لسليمان بن هشام بن عبد الملك.
وأقامَ منصور بن جمهور بالعراق، وكان قد انضم إلى عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ حين ولاه يزيد العراق فأكرمه وقدمه وصفح عما صار إليه من المال.
وقال الهيثم بن عدي: لَم يَصْفَ ليزيد بن الوليد إلا دمشق ومات بعد أشهر.(9/196)
وقال ابن الكلبي: أقام منصور مع ابن عمر، ثم وجه مروان يزيد بن عمر بن هبيرة على العراق فقدم واسطًا وبها ابن عمر، فحصر ابن هبيرة ابن عمر، ثُمَّ أخذه وبعث بِهِ إلى مروان فحبسه بحران.
وخالف منصور بن (جمهور) مروان وجعل يُجبي مال الجبل ويَحمله إلى شيبان الخارجي وهو بكرمان، ومضى إلى السند فغلب عليها حتى كانت دولة بني العباس.
وبعث أبو مسلم عامله فركب منصور المفازة حتى مات عطشًا، وقد كتبنا قصصهم على التمام فيما تقدم من الجزء الذي قبل هذا.
[وفاة يزيد الناقص]
وكان موت يزيد بدمشق وهو ابن ست وأربعين سنة، ويُقال ابن نيف وثلاثين سنة، ويُقال ابن ثلاثين سنة، وصلى عليه إبراهيم أخوه، وولي عهده، وكان أخوه العباس قد مات من جراحة أصابته يوم حروب الوليد، وقيل إنه بقي بعد ذلك معتزلا منفردًا حتى توفي.(9/197)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أمر إِبْرَاهِيم بْن الوليد بن عبد الملك
قالوا: بويع إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك، ويكنى أبا إسحاق، وأمه أم ولد- وهو المخلوع.. بالخلافة في أول سنة سبع وعشرين ومائة بعد موت أخيه يزيد الناقص، وكان مروان بْن مُحَمَّد بْن مروان بْن الحكم حين قُتل الوليد قدم الجزيرة فدعا إلى نفسه سرًّا، وسمّى الوليد الخليفة المظلوم، وأظهرَ أنه يطلب بدمه وقال: إنّما قتله قدرية غيلانية. فبايعه خلق من أهل الجزيرة، ثم أظهروا أمره بعد بيعة إبراهيم بن الوليد بشهر أو بأكثر منه بأيام بحرّان، وقال: أمري شبيه بأمر معاوية حين طلب بدم الخليفة المظلوم عثمان، ثم إنه سار بأهل الجزيرة وقنسرين وحمص يريدُ إبراهيم وبعث إلى الناس: «انهضوا لِمحاربة هذا القدري أخي القدري الغيلاني المبتزّ لأمور الناس، الآمر بالبدعة والضلالة، فإن جهاده واجب على كل مسلم، فقد كنتُ على مجاهدة أخيه فسبقني به أجله، وصار إلى نار الله وحرّ سعيره، مبتدعًا ضالا.
فوجّه إليه إبراهيم بن الوليد أخويه بشر بن الوليد ومسرور بن الوليد فأسرهما، وفض عسكرهما، فوجّه إليه إبراهيم: سليمان بن هشام بن عبد(9/199)
الملك في خيول أهل دمشق فالتقيا بعين الجر من البقاع من عمل بعلبك، وذلك في صفر سنة سبع وعشرين ومائة فتناوشوا يومهم، ثم بكروا على الحرب فاقتتلوا أشد قتال وأبرحه، فانهزمَ سليمان ومن معه، وكان محدودا [1] ، فلحقوا بابراهيم.
[توجه مروان بن محمد إلى دمشق]
وكتبَ مروان إلى وجوه أهل دمشق كتبًا يعلمهم فيها أن الذين بايعوا يزيد الناقص شرارهم ورعاعهم وغواتهم ويدعوهم إلى طاعته ويعدهم ويمينهم، ويحلف لَهم على الوفاء والإحسان فانتقضوا على إبراهيم.
ونزل مروان بن محمد الغوطة، فخرج إليه خلق من الناس فبايعوه، فلمّا رأى ذلك عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، ويزيد بن خالد بن عبد الله القسري أخذ عثمان والحكم، ابني الوليد بن يزيد فقتلاهما في محبسهما، وخافا أن يتخلصا، فكان الناس يقولون: يا معشرَ الفتيان أين الحكم وعثمان.
وقال بعضُ الرواة إنَّهما قتلا يومئذ يوسف بن عمر، وقال بعضهم قتل في أيام يزيد بن الوليد، قتله يزيد بن خالد واليمانية.
قال أبو الوليد هشام بن عمار: قَتْلُهُ في ولاية يزيد أثبت، لأنه بلغنا أن الناقص قال: عجلتم بقتله قبل أخذ ما عليه للمسلمين من الأموال.
قال هشام بن عمار: وسمعتُ من يقول أن الحكم وعثمان قتلا حين تحرك مروان من حران، وقبل نزوله الغوطة والله أعلم.
وقال الشاعر حين أقبل مروان:
__________
[1] المحدود: المحروم والممنوع من الخير. القاموس.(9/200)
أتاك مروان شبيه مروان ... يجر جيشًا غضبًا للرحمن
بتغلب الغلباء وقيس عيلان
فقال بعض أصحاب إبراهيم:
قد جاء مروان شبيه مروان ... يقود جيشًا غضبًا للشيطان
بتغلب اللؤم وقيسَ عيلان
[تنازل إبراهيم بن الوليد عن الخلافة]
قالوا: ولَما بويعَ مروان بالغوطة، وقوي أمره، ووهن أمر إبراهيم استخفى إبراهيم بن الوليد حتى أُخذ له الأمان فكان مع مروان وفي طاعته، ولم يزل حيًّا حتى قتله عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بن العباس سنة اثنتين وثلاثين ومائة مع من قتل من بني أمية.
ويُقالُ إنه أتى مروان خالعًا لنفسه حتى وضع يده في يده فاعتذرَ إليه، ويُقال أيضًا إن مروان ظفر به فقتله وصلبه. والخبر الأول أثبت.
وكانت أيام إبراهيم أربعة أشهر، ويُقال ثلاثة أشهر، وبعضهم يقول أربعونَ يومًا.
ولَمّا دخلَ مروان دمشق طلب عبد العزيز بن الحجاج، ويزيد بن خالد القسري فظفر بِهما فقتلهما بعثمان والحكم، وصلبهما على باب الجابية، ويُقالُ على باب الفراديس بدمشق، وقال هشام بن عمار: كان الذي ظفر بِهما زامل بن عمرو الجذامي عامل مروان، وبايعَ مروان لابنيه عبد الله وعبيد الله.(9/201)
أمر أبي محمد السفياني بعد مقتل الوليد
قالوا: ولَمّا قتل الوليد غضب له مروان بن محمد بن مروان، ومروان بن عبد الله بن عبد الملك، وأبو مُحَمَّد زِيَاد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن يَزِيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكان مروان بن عبد الله عاملا للوليد على حمص، وكان من سادة بني مروان نبلا وفضلا وكمالا، فأكبر قتل الوليد ودعا أهل حمص إلى الطلب بدمه فأجابوه، وتأهب للمسير إلى يزيد بن الوليد الناقص فوقع بينه وبين أبي محمد السفياني اختلاف، فقال أبو مُحَمَّد زياد بن عبد الله السفياني: يا أهل حمص إن مروان بن عبد الله يريد أن يريثكم عن الطلب بدم الخليفة، ووقع فيه، فوثبَ السَّمْط بن ثابت من ولد شُرَحْبيل بن السمط الكِنْدي، والصَّقر بن صفوان الكندي، وغالب بن ربعي الطائي في جَماعة فقتلوا مروان بن عبد الله بن عبد الملك، فلم يشعر أبو محمد السفياني إلا برأس مروان بن عبد الله على رمح، فاغتم وقال: لم أُرِد هذا، قالوا:
فقد كان.(9/203)
وبايعوا أبا محمد السفياني، وأقبل حتى نزل جوسكية [1] وهو حصن من حصون حمص، وبلغ يزيد بن الوليد الناقص أمره فوجه إلى أهل حمص سليمان بن هشام، وعبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك، فنزلا ثنية العقاب، وأقبل أبو محمد السفياني فنزل موضعًا يُعرف بقطيّفة [2] هشام، وكان هشام بن عبد الملك اتخذها فقصد سليمان بن هشام إلى أبي محمد فالتقوا بالسليمانية، وكان سليمان بن عبد الملك اتخذها فقاتلهم أبو محمد فخذله جنده فأُسرَ وقُدم به على يزيد الناقص فحبسه مع ابني الوليد الحكم وعثمان، ثم أمر أيضًا بحبس يزيد بن عثمان بن محمد بن أبي سفيان فحبس معهم.
وحدثني داود بن عبد الحميد عن أشياخه قالوا: لم يزل الغيلانية بيزيد الناقص حتى بايع لإبراهيم ولعبد العزيز بن الحجاج من بعده، ومات يزيد لعشر بقينَ من ذي الحجة سنة ست وعشرين ومائة، ولم يتم لإبراهيم بن الوليد أمر. كان يُسلّم عليه جمعة بالخلافة، وجمعه بالإمارة. وكان يُقال له: الصلتان، وكانت أمه بربرية، ولم تكن أم يزيد الناقص.
وقال بعضُ الشعراء:
نبايع إبراهيمَ في كل جمعةٍ ... ألا إنّ أمرًا أنتَ واليهِ ضائعُ
نبايع إبراهيم في كل جمعة ... فكم كم إلى كم كل يومٍ نبايعُ
فما زالَ على هذه الحال حتى قدم مروان فخلع نفسه، وقتل مروان عبد العزيز بن الحجاج، وإبراهيم الخشبي من أولاد المختارية.
__________
[1] تعرف الآن باسم «جوسية» .
[2] ما تزال تحمل الاسم نفسه وتبعد عن دمشق قرابة الأربعين كم. ويلاحظ أن تفاصيل هذه الرواية تتعارض مع الرواية المتقدمة ص 175/.(9/204)
قالوا: ولَما ولي مروان بن محمد نبش قبر يزيد بن الوليد بن عبد الملك واستخرجه وصلبه، فيزعمونَ أنّهم وجدوا كتابًا فيه: يا مبذّر الكنوز، يا سجاد الأسحار كانت ولايتك لَهم رحمة وعليهم حجة، أخذوك فصلبوك.
وقد ذكر بعضهم أن الناقص سئل أن يولي أخاه إبراهيم عهده، فلم يفعل فلما أغمي عليه أو مات كتب قطن كتابًا، وختمه بِخاتم الناقص عهدًا لإبراهيم بالخلافة.(9/205)
يوم القاع ويوم الفَلَج الأول [1] باليمامة
قالوا: لَمّا قتل الوليد كان على اليمامة من قبل يوسف بن عمر الثقفي:
علي بن المهاجر بن عبد الله الكلابي فقال له الْمُهَيْر بن سلمى بن هلال أحد بني الدئل بن حنيفة: أخل لنا بلادنا فأبى ذلك فجمع له المهير وسار إليه وهو في قصره بقاع حَجر فالتقوا بالقاع بسوق حجر، فهزمه المهير حتى أدخله قصره، وخرج من ناحية القصر فهرب إلى المدينة، وقتل المهير بن سلمى ناسًا من أصحابه، وكان يحيى بن أبي حفصة أشار على ابن المهاجر أن لا يُقاتلَ فَعَصَاهُ فقال:
بذلت نصيحتي لبني كلاب ... فلم تقبل مشوراتي ونصحي
فدى لبني حنيفة مَنْ سواهم ... فإنهم فوارس كل فتحِ
وقال شقيق بن عمرو السدوسي:
__________
[1] هناك أكثر من قاع لأن القاع ما انبسط من الأرض الحرة السهلة الطين التي لا يخالطها رمل فيشرب ماءها، وهي مستوية ليس فيها تطابق ولا ارتفاع. والفلج قيل هو اسم بلد، ومنه قيل لطريق تأخذ من طريق البصرة إلى اليمامة طريق بطن فلج، وقيل هو واد بين البصرة وحمى ضرية. معجم البلدان.(9/207)
إذا أنتَ سالَمت المهير ورهطهُ ... أَمِنْتَ من الأعداء والخوف والذعر
به دفع الله النفاق وأهله ... وأحيا به أهل المجاعة والفقر
فتى راحَ يوم القاع روحة ماجد ... أرادَ بها حسن السماع مع الأجر
وتأمَّر المهير على اليمامة، وكان على شرطه عبد الحكم بن حَكَّام العبيدي فركب المهير والناس معه فشدَّ قوم على عبد الحكم فقتلوهُ فقال القُحَيْف العُقيلي:
لقد جمَع المهير لنا فقلنا ... ألسنا نحن عرضتنُا الجموع
ثم مات المهير واستخلفَ عبد الله بن النعمان أحد بني قيس بن ثعلبة بن الدؤل.
قالوا: فاستعملَ عبد الله بن النعمان المندلث بن إدريس الحنفي على الفَلج- والفلج قرية من قرى بني عامر بن صعصعة، وقَالَ عمارة بْن عقيل بْن بلال بْن جرير بن عطية بن الخطفي: هي لبني نُمير- فجمع له بنو كعب بن ربيعة بن عامر ومعهم بنو عقيل، وأتوا الفلج فقاتلهم المندلث بالفلج فقُتل المندلث، قتله رَحّال بن فروة القشيري، وقتل أكثر أصحابه وظفرت بنو عامر ولم يُقتل منهم كبير أحد، وقتل يومئذ يزيد بن المنتشر، وأمه الطثرية من طثر بن عنز بن وائل، وكان معهم فقال القحيف:
إن تقتلوا منّا شهيدًا صابرًا ... فقد تركنا منكمُ مجازرا
خمس مئين [1] لم يدخلوا المقابرا
وقال ثور بن الطثرية يرثيه:
__________
[1] بهامش الأصل: خمس متن.(9/208)
أرى الأَثْلَ مَن نحو العقيق مجاوري ... مقيمًا وقد غالت يزيدًا غوائله
مضى فورثناهُ دلاصًا مفاضةً ... وأبيض هنديًّا طوالا حمائله
وقد كان يحمي المحجرين بسيفه ... ويبلغ أقصى حجرة الحيّ نائله
في أبيات. وقال القحيف:
أتانا بالعقيق صريخ كعبٍ ... فحَلَّ النبع والأسلُ النهال
يوم الفلج الثاني:
لَما أتى عبد الله بن النعمان خليفة المهين قَتْلَ المنْدَلث جَمع جَمعًا بلغ ألفًا من حنيفة وغيرها من ساكني اليمامة فغزا الفلج، فلمّا تصافّ الناس انهزمَ أبو لطيفة بن مسلم العقيلي فقال الراجز:
فرّ أبو لطيفةُ المنافق ... والْجَعْوَنِيان وفرّ طارق
لما أحاطت بِهم البوارق ... والموتُ حيث الخرَّق الخوافق
طارق بن عبد الله القشيري، والجعونيان من بني قشير، وتجللت بنو جُعدة البراذع وقاتلوا حتى قُتلوا إلا نفرًا منهم، وقُطعت يد زياد بن حيّان الجعدي فجعل يقول:
أنشُدُ كفًّا ذهبت وساعدا ... أنشُدها ولا أراني واجدا
ثم قتل.
وقال الأسوار بن عمرو مولى بني هزان:
سلوا الفَلَج العاديّ عنا وعنكم ... وأطمَةَ إذ سالت مدامعها دما
عشيَّة لو شئنا سبينا نساءكم ... ولكنْ صفحنا عفَّة وتكرّما(9/209)
وقال بعض الربعيّين:
سمَونا لكعبٍ بالصفائح والقَنَا ... وبالخيلِ شُعْثًا تنتحي في الشّكائم
فما غابَ قرن الشمس حتى رأيتنا ... نسوقُ بني كعبٍ كسوق البهائم
بضربٍ يزيلُ الهام عن سكناته ... وطعن كأفواه المزاد الشّواجم
وفر أبوك يا لطيفة هاربًا ... ولم ينج من أسيافنا وهو سالِم
- يوم معدن الصحراء:
وأغارت بنو عُقيل وقُشير، وجعدة بن كعب، ونُمير بن عامر بعد الفلج الثاني، وقد تجمعوا عليهم بنو سهلة النميري، على من كان من بني حنيفة بِمعدن الصحراء، فقتلوا من وجدوا من بني حنيفة، وسلبوا نساءهم، وكفّت بنو نُمير عن النساء، غير أن رباح بن جندل بن الراعي سبى امرأة واحدة مُخَصَّلَةً بخصل الفضَّة، فقال القحيف:
ورثنا أبانا عامرًا مشرفيَّةً ... صفائح فيها اليوم أنصاف ما بها
ضربنا بها أعناق بكر بن وائلٍ ... جهارًا وجاوزنا بها من ورائها
يوم النَشّاش [1] :
قالوا: ولَما أوقعَ بالعامرييّن يوم الفلج الثاني قال عمر بن الوازع الحنفي: لستُ بدون عبد الله بن النعمان وغيره ممن يغير، وهذه فترة يُؤْمَن فيها السلطان، فمضى يريد أُضاخ [2] ، فلمّا كان بأرض الشريف بثّ خيله فأغارت وأغارَ فملأ يده من الغنائم، وأقبلَ ومن معه حتى
__________
[1] النشاش: واد كثير الحمض كانت فيه وقعة بين بني عامر وبين أهل اليمامة. معجم البلدان.
[2] أضاخ: من قرى اليمامة: معجم البلدان.(9/210)
نزلوا النشاش، وأقبلت بنو عامر حاشدة حتى أغارت فلم يرعْ عمر بن الوازع إلا رغاء الإبل، فجمع ابن الوازع النساء في فسطاط وأقامَ عليهنّ حرسًا من ثقاته، ولقي القوم فقاتلهم فهزمت حنيفة ومن معها، وهرب ابن الوازع فلحق باليمامة، وتساقط منهم خلق في قلب النشاش من العطش وشدة الحر، فطُلب ابن الوازع فلم يُقدر عليه، ورجعوا بالأسرى والنساء. فقال بعض بني نُمير:
إذا عُدَّ الفعال وجدتُ قومي ... نُمَيْرًا بَذَّ فعلُهُمُ الفَعالا
هم قتلوا البهيم بِهَا وَجَوْنًا ... علانيةً وما قُتِلا اغتيالا
بهيم بن عَزَّة.
وقال حُدَيْج النميري:
كأن أبانا عامرًا لم يلد لنا ... أخًا غير نصل السّيف عند الشدائد
فنحنُ نداوي بالقنا صفحاتِهم ... وبالبيض نخليها مناط القلائد
وقال دَلَمُ بن صامت النُّمَيْري:
أنا النميري الذي يحمي مُضر ... يرفعُ من أبصارهم فوق البصرْ
مُبارك الراية مرزوق الظَّفرْ ... إنّ اليمانيين فرسان الحمر
لم يصبروا للمشرفيات البُتُرْ ... والطعن بالْمُرَّان أجواف البهر
لَما ضربناهُمْ بِصَيَّاحٍ ذكر ... طاير عنه القين شذّان [1] الشّرر
__________
[1] شذان: جمع شاذ، وهو المتفرق من الحصى وغيره. النهاية لابن الأثير.(9/211)
وقال القحيف أيضًا:
وبالنشّاش يومٌ طارَ فيه ... لنا ذكرٌ وَعُدَّ لنا فعال
وقال أيضًا:
فداءٌ خالتي لبني عقيلٍ ... وكعبٌ حين تزدحمُ الجدودُ
وهُم تُركوا على النشاش صَرْعى ... بضربٍ ثَمَّ أَهْوَنُه شديدُ
وقال حصين النميري:
يا دارَ جمل بلوى مُتَالِعِ [1] ... كأنّها بعد الجميع الرابعِ
سَحْقُ يمانٍ بَعْدَ لَوْنٍ ناصعِ [2] ... الله لَقَّى عمر بن الوازعِ
دائرة السوء بِفَجْعٍ فاجعِ ... لَما لقونا خلفه الطلائعِ
وَلّوا شلالا كالنَّعام الفازعِ
وقال بعضُ بني نُمَير:
فليتَ ابن المهير رأى نُميرًا ... بِنَشّاشٍ تواجهنا النّخيلُ
وفي أيماننا بَيْضٌ رقاقٌ ... صَوارم ما يقوم لَها قبيلُ
غزا يرجو الغنيمة من نُمير ... فلم يغنم وأعجزه القفول
__________
[1] متالع جبل بناحية البحرين بين السوده والأحساء، وقيل متالع ماء شرقي الظهران. معجم البلدان.
[2] الناصع: الخالص من كل شيء، وناصع: جبل أحمر بأسفل الحجاز مطل على الغور عن يسار ينبع. القاموس.(9/212)
وقال القحيف العقيلي:
مَن مبلغٌ عنا قريشًا رسالةً ... وأفناءَ قيسٍ حيث سارتْ وحَلَّتِ
بأنّا تركنا من حنيفة بعد ما ... أغارت على أهل الحمى ثم وَلَّتِ
تَسُكُّ نميرٌ بالقَنَا صفحاتِهم ... فكم ثَمَّ من نَذْرٍ لَها قد أَحَلَّتِ
في أبيات: وقال سعد بن عَيّاش الغَنَوي:
نحنُ صَبَحْنَا عمر بن الوازع ... ملمومةٌ ذات غبار ساطعِ
باكَرَهُ الْوِرْدُ بموتٍ ناقعِ ... تحت ظلال الخرَّقِ اللوامعِ
وقال القحيف:
تركنا على النشّاش بكر بن وائل ... بطونُ السّباع العاويات قبورها
قتلناهُمُ حتى رفعنا أكفّنا ... بِمشهورةٍ بيضٍ حِدادٍ ذكورها
وشيبان قد كانت لِحيْنٍ وشقوةٍ ... كباحثة عن شفرةٍ تستثيرها
قالوا: وكفّت قيس يوم النشّاش عن السلب، فجاءت عكل من الحلة فسلبتهم، ولم يكن لحنيفة بعد هذا اليوم جمع، غير أن عبيد الله بن مسلم الحنفي جمع جَمعًا وأغارَ على ماءِ لقشير يُقالُ له حلبان [1] فقال الشاعر:
لقد لاقتْ قشير يوم لاقتْ ... عبيد الله إحدى المنكراتِ
لقد لاقت على حلبان ليثا ... هزبرا لا ينام على التّرات
وأغارَ على عكل فقتل منهم عشرين رجلا، فقال نوح بن جرير بن عطية:
وَضَيَّعْتُمُ يا عكل بالسرّ نسوةً ... فباتت علوج القريتين تكومها [2]
__________
[1] حلبان: قليل الماء خبيثة، وهو لبني معاوية بن قشير. معجم البلدان.
[2] كام المرأة: نكحها. القاموس.(9/213)
[ولاية المثنى بن يزيد على اليمامة]
ثم قدم المثنى بْن يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة واليًا على اليمامة من قبل أبيه، حين ولي العراق من قبل مروان الجعدي، فوردها وهي سلْم فلم يُحارب، وتشاهدت بنو عامر على بني حنيفة فتعصب لَهم المثنى بالقيسية، فضرب عدة من بني حنيفة فقال بعضهم:
إن تضربونا بالسياط فإننا ... ضربناكم بالمرهفات الصوارم
وإن تحلقوا منا الرؤوس فإننا ... قطعنا رءوسًا منكم بالغلاصم
ثم إن المثنى جعل يرفعهم إلى قاضيه طلحة بن إياس العدوي، فلم يقبل شهادة عامريّ فهدأت البلاد وسكنت، ولم يزل عبيد الله بن مسلم مستخفيًا حتى قدم السريّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الحارث بْن عباس بن عبد المطلب واليًا على اليمامة، من قبل بني العباس فدُلّ عليه فقتله لما صنع، فقال نوح بن جرير:
فلولا السريّ الهاشمي وسيفه ... أعاد عبيد الله شرًّا على عكل(9/214)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر محمد بن مروان وولده
وأمّا محمد بن مروان بن الحكم، ويُكْنَى أبا عَبْد الرَّحْمَنِ، وأمه أم ولد، وَكَانَ من أشد ولد مَرْوَان وأشجعهم فِي حسن خلق، وهو الذي حارب مصعب بن الزبير بن العوام فقتله بِمسكن من أرض السواد، وقتل إبراهيم بن الأشتر النخعي وقد كتبنا خبره.
وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة متقدمًا محمد بن مروان عِنْدَ عَبْد الْمَلِك، وَذَلِكَ لأن أخته عاتكة بنت يزيد كانت عنده، وكان يحبها وكان يُقالُ إن عبد الملك كان يحسد محمدًا لأنه كان يرى جلد أخيه وبأسه وعارضته، ويحب أن يصغّر منه لا سيما بعد قتله المصعب، فعزم محمد على إتيان أرمينية فأمرَ بإبله فرحّلتْ، فدخل على عبد الملك مودّعًا وقال: إني أريدُ الغزو بأرمينية، وتمثّل:
فإنك لَنْ ترى طردًا لحرٍّ ... كإلزاقٍ به بعض الهوان
ولو كُنَّا بِمنزلةٍ جَميعًا ... جريتَ وأنت مضطرب العنانِ
فَقَالَ عَبْد الْمَلِك: أقسمت عليك يا أخي لَما أقمت في الرحب والسّعه، فو الله لا أقذي في عينك ولا أُقدم عليك غيرك ولا ترى مني سوءًا ما بقيتُ، وولاه الجزيرة وأرمينية.(9/215)
أمر مروان بن محمد بن مروان
فولد مُحَمَّد بْن مَرْوَان:
يَزِيد، وأمه أم يَزِيد بنت يَزِيد بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن شيبة بْن ربيعة.
وعَبْد الرَّحْمَنِ، وأمه أم جَميل من ولد عُمَر بْن الْخَطَّاب.
وعبد العزيز لأم ولد.
ومروان بن محمد، وهو الجعدي، وأمه كردية أخذها أبوهُ من عسكر ابن الأشتر، وكان مروان يُكنى أبا عبد الملك.
وقال أبو الحسن المدائني: وقوم يقولون إن أم مروان عربية من تنوخ، وذلك باطل. ويُقال: كانت أمه جارية لِمصعب أُخذت وبها حمل، ويُقال:
كانت جارية لزربي طباخ مصعب أو خبازه.
قالوا: وبويع مروان لأربع عشرة ليلة خلت من صفر سنة سبع وعشرين ومائة، وكان أبيض أحمر أزرق أهدل الشفة لا يخضب، ولم يكن بالذاهب طولا، وكنتُ إذا استدبرته ظننت أن على منكبيه رجلين جالسين، واسع الصدر. وكان يقول: اللهم لا تبلني بطلب ما لم تجعل لي فيه رزقا:(9/217)
وكان يقول في خطبته: اللهم إنك أعلم بولينا وعدونا منا، فكن لنا وليًا وحافظًا، وكان يقول: ما كان أبو بكر ولا عمر بأعفّ من هذا مني.
قال: وكان غيورًا، وجد كتابًا إلى جارية له من أمها فقال: من أدخلَ هذا الكتاب؟ فقال خصي: أنا رحمتُ أمها لبكائها. فقطع يد الخصي.
قالوا: وعرض مروان الجند فشكوّا في حلية رجل فأسقطه، فقال:
هلا بعين الجر حليتني ... لما توافى القوم في الخندق
فقال: أجيزوهُ، فأجازوهُ.
وكان مروان أول من حلّى الجند. وكان كاتبه عبد الحميد بن يحيى بن سعيد، مولى بني عامر بن لؤي ويُقالُ مولى بني مروان، ويُقال كان من أهل الأنبار، وكان على شرطه الكوثر الغنوي، وكانت حرسه نوائب. قال الشاعر:
يا أيها السائل عن مروانا ... دونكَ مروان بعسقلانا
يجيد ضرب القوم والطعانا ... حتى ترى قتلاهم ألوانا
وكان مروان بخيلا.
وولد مروان بن محمد: عبد الله وعبيد الله.
وقال أبو اليقظان: لا يُعلم له ولد غيرهما، وغير عبد الملك بن مروان وعبد الغفار.
وولي مروان بَعْد خلع إِبْرَاهِيم بْن الْوَلِيد بْن عَبْد الملك خمس سنين، وقتل بِمصر سنة ثَلاث وثلاثين ومائة، وَهُوَ ابْن تسع وستين سنة.
قالوا: وكان الجعدُ ساير يومًا مروان في أول خلافة هشام، وقبل تولية هشام إياهُ أرمينية فأصابت ركبته ركبة مروان فقال: أعجلتْني دابتي.
فقال: على نفسك فأبق.(9/218)
[أخبار مروان بن محمد]
قرأتُ على أبي الحسن المدائني، وحدثني غيره من أهل العلم، قالوا:
كان هشام بن عبد الملك ولى مروان بن محمد أرمينية وآذربيجان، فلمّا ولي الوليد بن يزيد أقره، فقتل الوليد ومروان بكُسال من أرض أرمينية، فأتاهُ خبره وهو بها، فعزم على إتيان الجزيرة والشام فقيل له: إن عطّلت الثغر اصطلم الخزر ومن فيه من الأمم أهله من المسلمين، فخطبَ مروان ودعا الناس إلى السمع والطاعة والبيعة لِمن يَجتمع الناس عليه، وأعطاهم أرزاقهم، وفرض لعشرة آلاف من الأبناء وغيرهم، وبعث إسحاق بن مسلم العقيلي، وثابت بن نعيم الجذامي إلى أهل الباب والأبواب وملوك الجبال وتفليس يدعوهم إلى بيعة من رضي المسلمون به، وولى آذربيجان حميد بن عبد الرحمن اللخمي، فلمّا رجع ثابت بن نعيم من حيث وجهه إليه مروان فارقَ مروان وخالفه، ودعا أهل الشام إلى الخروج معه، وقال: قد قتل الْوَلِيد بْن يَزِيد بْنِ عَبْدِ الْمَلِك فسيروا على راياتكم إلى الشام قافلين، فأجابوهُ وقالوا: قد قتل الخليفة فليس لأحد علينا سلطان، فالرأي أن نأتي الشام فنكونَ مع من يَجتمع الناس عليه ويرضونَ به، فعسكروا وبلغَ مروان ذلك فقال: إنكم إنَّما أردتم الإغارة على أهل الذمة فيما بينكم وبين الشام.
فاجتمعَ على قتالِهم ودعا أهل الجزيرة إلى ذلك فأجابوه، فترك أهل الشام ما أجمعوا عليه من أمر ثابت بن نُعيم ورفضوه، وأسلموا ثابتًا فأخذه مروان فحبسه وحبس بنيه وهم: نعيم، وبكر، ورفاعه، وعمران، وهَمَّ بقتلِهم.
فطُلب إليه فيهم فخلّاهم.
واستخلفَ مروان على أرمينية عاصم بْن عَبْد اللَّهِ بْن يزيد الهلالي، وتوجّه يريد الشام، وقَدمَ ابنه عبد الملك بن مروان بن محمد إلى الجزيرة،(9/219)
وبلغ يزيد بن عمر بن هبيرة الفزاري أن مروان قد عزم على إتيان الشام ليبايع ليزيد بن الوليد، فكتب إليه: العجب لك تبايع ليزيد وهو قتل الوليد فلم يبق أحد من بني مروان إلا وهو طامع في الخلافة وأنت سنهم وشيخهم.
فلما قرأ كتابه أقامَ بالجزيرة، فأرسلَ إليه يزيد بن الوليد الناقص يعقوب بن عبد الرحمن بن سليم الكلبي، وحميد بن نصر اللخمي، وعمارة بن كلثوم بن أبي كلثوم الأزرق ليأتوهُ ببيعته، وبيعه من قبله من أهل الجزيرة، وضمن له إن سارعَ إلى بيعته ولم يُقدّم ويؤخر أن يوليه أرمينية وآذربيجان والجزيرة، فيُقال إنه أبى ذلك ودسّ إلى من معه أن يأبوا بيعة يزيد. فقالوا: لا نبايع الناقص وقد قتل خليفتنا. فقال بعض رسل يزيد لمروان: إن هذا الأمر تحت كنفك وتدبيرك. فقال له: يا بن اللخناء لَهممتُ أن أضرب عنقك.
ويُقال إنه كتب إلى يزيد ببيعته مع رسله ثم ردهم، ثم جاءته وفاة يزيد، وقيام إبراهيم بن الوليد، فردّ الرسل الذين مضوا ببيعته من قنسرين، ودعا الناس إلى الطلب بدم الوليد، وأتى أهل حمص وأهل قنسرين بيعة إبراهيم وتحرزوا، فوجّه إبراهيم بشرًا ومسرورًا ابني الوليد بن عبد الملك إلى قنسرين في خمسة آلاف، ووجّه عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك إلى حمص، ونادى عبد العزيز: من وافى فله كذا. فقال الحنتف الضبي من بني ضبة بن سعد بن ليث بن زيد بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة:
لبيك لبيك ولي العهد ... أتاكَ قومي ضبَّة بن سعدِ
قد لبسوا الدروعَ فوقَ الزَّرْدِ ... وجرروا كل حصان ورد(9/220)
ونشروا للحرب كل نَهْدِ ... ونهدةٍ تزلّ تَحت اللّبد
إيها فداكم طار في وتلدي ... فجالدوا عن دينكم بجدِّ
وعن ذواتِ الحجل الممتد ... أتاكَ مروانٌ بكل عبدِ
مخالف ينصر دين الْجَعْدِ ... مُكَذّبٌ يَجْحد يوم الوعدِ
فسار مروان بجند أهل الجزيرة، فلقيه بشر ومسرور، ومالت قيس كلها، ويزيد بن عمر بن هبيرة إلى مروان، ومضى إلى حمص ومعه أهل الجزيرة وقنسرين، وكان عبد العزيز بن الحجاج محاصرًا لأهل حمص، فلمّا دنا منه مروان رجع عبد العزيز إلى دمشق، فوجه إبراهيم إلى مروان سليمان بن هشام، فأقبل في خلق من الخلق فنزل بعين الجرّ، ورجع إليه مروان بأهل الجزيرة وقنسرين، وهو في زهاء سبعين ألفًا، فنزل بدير الأبرش وسليمان بعين الجر وبينهما ثلاثة أميال وذلك في صفر سنة سبع وعشرين ومائة.
وكتب مروان كتابًا منه إلى أهل فلسطين: إني نزلت بدير الأبرش، وسليمان بعين الجر فطالعت عسكره بنفسي فرأيتُ جيشًا كثيفًا، وأنا متوجه إليكم في طريق كذا، ودفع الكتاب إلى رجل قال له: تعرّض لَهم. ففعل فأخذ وأُتي به سليمان بن هشام، فلمّا قرأ الكتاب قال: أنا أبو أيوب هرب مروان، والله لأَحُولَنَّ بينه وبين ذلك.
وقال مروان لابنه عبد الله: إني مرتحلٌ غدوة فإن ارتحلَ سليمان من هذا المنزل فانزله، وخَلّفه في غيضة هناك كامنًا في العين.
وأصبح مروان يوم الأربعاء فغدا متوجهًا في طريق المغرب، وخرج سليمان زعم يبادره إلى الطريق التي ذكر مروان في كتابه أنه يسلكها، وأقبل(9/221)
ابن مروان فنزل عسكره، وسرح إلى أبيه رسولا يُعلمه ذلك فلمّا أعلمه الرسول رجع وقد سار ستة أميال فصار في عسكر سليمان فقال سليمان: مكر بنا مروان، وإنّما فعل ذلك لأن عسكر سليمان أخصب وأحصن وأكثر مياهًا، فقاتلهم مروان فظفر بِهم وقتل منهم مقتلة عظيمة يُقال عشرة آلاف، وأخذ يزيد بن العقار الكلبي، والوليد بن مصاد فضربهما مروان بالسياط حتى ماتا.
ومضى سليمان منهزمًا إلى دمشق فأخذ مالها فقسمه بين أصحابه، وأتى عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك الخضراء في جَماعة منهم يزيد بن خالد القسري، وفيها الحكم وعثمان ابنا الوليد بن يزيد، وأبو مُحَمَّد زِيَاد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن يَزِيد السفياني، ويزيد بن عثمان بن محمد بن أبي سفيان وهو خال عثمان بن الوليد بن يزيد، ويوسف بن عمر الثقفي، فوثبت أبو الأسود مولى خالد بن عبد الله فقتل الحكم وعثمان ويوسف بن عمر، وكان الناس قد أحجموا عن قتل ابني الوليد وقالوا: هما صبيّان.
وقيل لرجل كان محبوسًا من الأعاجم: اقتلهما. فقال: أنا أقتل الفرسان ولا أقتلُ الصبيان، ويُقال إنه قتل ابني الوليد أبو الأسود، قتلهما بعمود، ثم دخل يزيد بن خالد إلى يوسف فأخذ بلحيته وكانت طويلة، فجذبه ونتره نترًا شديدًا، فقال له يوسف: ما هذا السّفه يرحمك الله؟
قال: أنت والله أسفه مني يا بن الحمقاء حين ضربتني بالعراق ألوف أسياط. فقال: فعلتموها، والله ما فعلتم هذا حتى أخزاكم الله ولقد انهزمتم، فأخرجه فضربه، وقال: لعلك يا بن الزانية ترى أنني أقتلك بأبي، وقال: ما أقتلك إلا بغلامنا غزوان أو طهمان، ثم رجعَ فأخذ بيد(9/222)
خال عثمان بن الوليد فقتله، وبقي أبو محمد السفياني فقام فردّ الباب وكان حديدًا وألقي محبسه وراءه واعتمد عليه، فدفع الباب فلم يقدر على فتحه.
وماج الناس حين قُتل الصبيّان ابنا الوليد وانهزمَ سليمان، وهرب عبد العزيز، ويزيد بن خالد ومن كان معهما.
وجاء مولى لأبي محمد السفياني يُقالُ له مهران فنادى من خوخة من ناحية المسجد: يا أبا محمد أبشر فقد أتاكَ الفرج، فقال: ويحك أما ههنا أحد؟ قال: بلى. قال: فجئني بِمَن قدرت عليه، فأتى بِجماعة ففتح أبو محمد الباب فاحتملوه في قيوده حتى وضعوه على المنبر، فدعا لِمروان وبايعه الناس فقال:
شَدَدْنَا ملكنا ببني نزار ... وَقَومْنَا بِهم ما كان مالا
وطحْطَحْنا بِهم قحطان حتى ... أقروا بالصّغار لنا ذلالا
وقال بعض شعراء بني عامر بن صَعْصَعَة:
ويوم بعين الجر يفخر جاثمًا ... سليمان كاليَعْفور جَمّ الهزائِم
وطار عليها المخلصونَ لربّهم ... سراعًا نَبيعات الأكفّ السلائم
فلما تمطّت في الغبار وواجهت ... دمشق شجرنا رأسها بالشكائمِ
يقول: حبسنا شجرته عن الأمر: حبستُه.
ومن زعم أن أبا محمد قتل في محبسه فقد غلط.
وأقبل مروان على اثني عشر ميلا من دمشق، وهرب سليمان بن هشام، وقال أبو محمد السفياني: من جاء برأس عبد العزيز بن الحجاج فله عشرة آلاف درهم، فطلبه الناس وأتوا داره فأحاطوا بها ليحرقوها فقال بعضهم: إنه ألقى إليهم بِدْرَةً نثرها فتشاغلوا بها، وخرج من باب آخر(9/223)
فرأته امرأة فعرفته، ومرّ بها قوم يطلبونه فدلّتهم عليه فوطئوه حتى قتلوه.
فقال الشاعر:
رجاء أخذها عبد العزيز بسيفه ... فصارَ قتيلا في الأزقة يُسلبُ
ويُقال إن مروان أقبل، فتلقاهُ أبو محمد السفياني، وعبد الله بن سفيان بن عتبة بن يزيد بن معاوية، فسلم عليه أبو محمد بالخلافة وعزّاهُ عن الوليد وابنيه وقال له: يا أمير المؤمنين إن الحكم وعثمان جعلا لك العهد بعدهما، وكان مع مروان حوثرة بن سهيل الباهلي، والكوثر الغنوي والوثيق بن الهذيل، وأبو الورد الكلابي، وعبد الرحمن بن الأشهب الجعدي، ونُباتة العُقيلي، وابن سعيد الحرشي فقال مروان: إن هذين الغلامين جعلا لي الأمر بعدهما، والله يعلم أنني لم أطلبها في ليل ولا نَهار.
ثم ارتحلَ فنزل مرج راهط فقال له ابن سُرَاقة الأزدي: هذا والله الموضع الذي ضرب فيه جدك مروان فسطاطه. فنظر إليه فسره ذلك.
وقيل لسراقة: كذبته وغررته فقال: اسكتوا، من كان يقوم فيردّ علي؟ فبويعَ مروان ثم دخل دمشق من باب الجابية فرأى عبد العزيز مقبلا فقال: يا كوثر من هذا؟ قال: السفيه عبد العزيز. فقال مروان: لا يزال صبي من آل مروان يتعرض للفتن، وطلب إبراهيم وسليمان ونادى بأمانهما فأتياهُ، فخلع إبراهيم نفسه فأمنه، وأمرّ سليمان بن هشام، واستعملَ مروان على حمص معاوية بن يزيد بن حصين بن نُمير السكوني، ثم اتهمه فعزله، واستعملَ عبد الله بن شجرة فناصحه ابن شجرة، واستعملَ على فلسطين ثابت بن نُعيم- وكان قد رضي عنه بعد حبسه إياه واستصلحه- ويُقال ولاهُ فلسطين والأردن، والأول أثبت.(9/224)
وولى قنسرين عبد الملك بن الكوثر، ووجه في طلب من شايع على قتل الوليد فأُتي بنحو من مائتي رجل، فقتل بعضهم، وقطع أيدي بعض.
وأمرّ إسحاق بن إبراهيم بن الوليد وسليمان بن يزيد بن عبد الملك فبايعاه.
ثم حمل مروان ما كان بدمشق وترك بها زامل بن عمرو السكسكي، وخلّف معه خالد بن يزيد بن هبّار في ألف فارس، فأقامَ في حران ثلاثة أشهر أو أربعة، ثم بلغه أن ثابت بن نعيم بن زرعة بن روح بن زنباع بن روح بن سلامة بن حُداد بن حديدة الجذامي قد خلع، وكان عامله على فلسطين، فسار يريده فكان من أمره دونه ما نحنُ ذاكروهُ إن شاء الله.(9/225)
[تمرد أهل حمص على مروان]
أمر حمص ودمشق وأمر يزيد بن خالد القسري قالوا: سار مروان يريد ثابت بن نعيم فنزل حماه من حمص ليلة الفطر سنة سبع وعشرين ومائة، وسليمان بن هشام بن عبد الملك معه آثر مَن عنده من بني مروان، وكان قدم عليه حران فأكرمه فصلّى مروان العيد بالناس، ومعه سليمان، وعبد الملك، وعبد الله، وعبيد الله وعبد الغفار بنوه، فلمّا صلى أتاهُ رجلٌ من أهل حمص فأعلمه أن أهل حمص قد غدروا وأن كلبًا دخلت المدينة وعليها الأصْبَغ بن ذؤالة، ومعه بنوه حمزة، وذؤالة، وفرافصة، ومعه عصمة بن المقشعر مولى كلب، وطفيل بن حارثة ومعاوية بن عبد الأعلى السكسكي، وقد بايع ابن ذؤالة من أهل حمص السمط بن ثابت بن يزيد بن شرحبيل بن السمط بن الأسود بن جبلة الكندي وغالب بن ربعي الطائي، فارتحلَ مروان من حماه فنزل على نَهر الأرنط، ثم سارَ على تعبئة إلى حمص فأتاها نصف النهار، وعلى الحائط جماعة من كلب، فأرسلَ مروان إليهم: ما بالكم؟ قالوا: نحنُ على طاعتك وهؤلاء سفهاء دخلوا مدينتنا، فقال: افتحوا بابًا ففتحوه، فاقتحم عمرو بن الوضاح في الوضاحية فقاتلهم وأصيبَ من الفريقين، وهرب(9/227)
الأصبغ بن ذؤالة، واتبعتهم خيل لِمروان فقتلوا منهم جماعة، ونجا الباقون وأُسرَ في المدينة رجال منهم ذؤالة بن الأصبغ بن ذؤالة، وأخوهُ فرافصة بن الأصبغ بن ذؤالة.
وكان الأصبغ قد وجّه ابنه حمزة إلى ثابت بن نُعيم يعلمه دخوله مدينة حمص فبلغته قبل وصوله إلى ثابت هزيمة أبيه وأسر أخويه فمضى إلى تدمر، وقتل مروان الأسرى، وقتل ابني الأصبغ أيضا، وكان الأسرى أربعمائة فصلبوا حول مدينة حمص، وهدم مروان من حائطها مائتي ذراع، وأقامَ بها ثمانية أيام.
وروي أيضًا أن اليمانية عصت لتقديم القيسية عليها، فَهَمّ بنو مصاد بن زهير الكلبي أن يفتكوا بمروان، فشاع أمرهم، وكان معهم معاوية بن عبد الأعلى السكسكي، فأتى حمص فدعا أهلها إلى خلع مروان فأجابوه، وأمّروا عليهم السَّمْط بن ثابت ويُقال الأصبغ، فخرج عبد الله بن شجرة عامل مروان على حمص إلى سلمية فقُتل بها، قتله رجلٌ من كلب يُقالُ له المنهال بن عبد الملك.
وخرج رجل من حمص يُقال له حُجر، ومروان محاصرهم إلى القرى يستنجدهم، فأخذ وأُتي به مروان فقال مروان: هيه يا حجر، خرجتَ تستنجد أهل القرى ثم تأتي حمص، أما إنك ستأتيها، وأمر به فوضع في المنجنيق ورمي به فصكوا به حائط المدينة فتفسّخ.
وأُخذ غلام من المدينة فأتي به مروان فخرجت أمه فقالت: يا أمير المؤمنين أذكرّك الله فإنه ما لي ولد غيره وقد نهيته عن السعي والقتال فعصاني.
فقال مروان: ذلك أحرى أن أقتله إذ عصاك، وأمر به فضربت عنقه.(9/228)
وكان أهل حمص ينادون ومروان محاصر لهم: يا بن مصعب فيقول:
شريف كريم، وينادون: يا بن الأشتر، يا بن زربي الخباز، يا بن الكردية. فيقول: خلطتم لعنكم الله. وكان الخوارج في أيامهم ينادونه:
يا بن الطنفسة [1] .
قالوا: وأمن مروان أهل حمص إلا سعيد بن هشام، والسمط بن ثابت، وكان سعيد مع أهلها، فنجا سعيد بن هشام حتى قتله عبد الله بن علي.
وثلم مروان حائط المدينة فقال بعض الحمصين:
يا حمص ويحك لا تجزعي ... قصصك [2] الجعدي سُكنينه [3]
وكلم الوليد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك، وكان عامل مروان على الأردن، مروان في السمط وعمل في أمره حتى أمنه مروان، وكان يختلف إلى إسحق بن مسلم العقيلي ونزل عليه، قال الحارث بن يزيد:
فقال لي الوليد بن معاوية: ألا تعجب من السمط ينزل على إسحاق بن مسلم ويدعني وقد قمتُ بأمره، قال الحارث: فلقيت السمط فقلتُ له في ذلك فقال: أنت عاجز، أنا أدع إسحاق وهو رجل إن غضب غضب لغضبه عشرة آلاف، قال: فأخبرته بذلك فأقعد للسمط رجلين فقتلاه وهو
__________
[1] بهامش الأصل: يريدون ألوان الطنفسة.
[2] القصص: تتبع الأثر، وأحسن البيان، والصدر أو رأسه أو وسطه، ومن الشاة ما قص من صوفها. القاموس.
[3] لم أقف بالمعاجم على ما يشرح هذه الكلمة.(9/229)
يريد مروان، ويُقال بل دسهما مروان، ويُقال دسهما عبد الله بن شجرة.
وقال الهيثم بن عدي: قتله مروان.
[تمرد أهل غوطة دمشق على مروان]
قالوا: ولَمَّا فرغ مروان من أمر حمص بلغه أن أهل غوطة دمشق دعوا إلى ثابت بن نُعيم، وحصروا عامله على دمشق، وهو زامل فوجه مروان إليهم أبا الورد الكلابي، وعمرو بن الوضاح في عشرة آلاف، فلمّا وردا دمشق أتاهم أبو علافة السكسكي، ويزيد بن خالد القسري، فانضما إليهم مخالفينَ لِمروان فاقتتلوا فانهزمَ أبو علافة ويزيد وظفروا بعسكرهما، ثم ظفر أبو الورد بيزيد وأبي علافة بالمزة فقتلهما، وبعث برءوسهما إلى مروان.
ويُقال إن يزيد لَما انهزموا خرج من باب الفراديس هاربًا فانتهى إلى برزة، فلقيه رجل من الأشعريين فقال له: ابغني منزلا أكونُ فيه فأدخله منزله، ثم فكرّ فخافَ فدلّ عليه فبعث به إلى مروان فدفعه إلى المضرية فحملوهُ على بغل بإكاف وجعلوا وجهه مما يلي ذنبه، وجعل رجل من محارب يقول: يا معشر الفرسان أين الحكم وعثمان؟
ويُقال إن مروان كتب إلى زامل: إنك لتعلم مكان يزيد بن خالد، وو الله لتأخذنّه، أو لأقتلنّك، فطلبه فأصيبَ في بيت لهيا فقال رجل من موالي بني سلول: تأتونَ به زاملا وهو يَمان فيحبسه ثم يشفع فيه ويستوهبه، فشدّ عليه فطعنه، وذلك لقتله يوسف بن عمر، وكان يزيد بن خالد لَمّا قتل يوسف أمر بحبل فشُدّ في مذاكيره وَجُرَّ بِهِ، فَفُعل بيزيد مثل ذلك.
[أخبار مروان بن محمد]
ويُقال إن رجلا من لَخم أتى زامل بن عمر فأخبره أن يزيد بن خالد يأتي زرّاعة لَهم بقرب الغوطة مستخفيًا، فأرسلَ زامل خيلا فأصابته في زرّاعة اللخمي، وعليه قميص سُنبلاني، فأخذوهُ وأقبلوا به على بغل بإكاف، وقد(9/230)
عرض عليه، فتلقاهم رجلٌ من بني نُمير فقتله واحتزّ رأسه وأتى به زامل بن عمر فقال: كُلْهُ بخلّ وخردل، فقال: الأمير أحق برأس ابن عمه.
وبعث زامل برأسه إلى مروان وعلق الناس في رجله حبلا فجرره الصبيان في السكك. ويُقال أيضًا إن النميري مر بقومٍ من بجيلة وقد قطع من لحم يزيد قطعًا فألقاها إليهم فقال: كلوا، فجعلوا يأكلون قسرا والسيوف على رؤوسهم، ثم مضى.(9/231)
أمر ثابت بن نعيم بن زرعة بن روح بن زنباع الجذامي:
قالوا: خلع ثابت بن نُعيم وقال: أنا الأصفر [1] القحطاني لستُ لنعيم إن لم أخل الشام من أولاد قيس، وكان مروان قد ولاه فلسطين مستصلحًا له بعد حبسه إياه بأرمينية.
وذكر قوم أن سبب خلعه أن عطية بن الأسود مولى كلب قال:
يا ثابت بن نُعيم دعوةً جزعًا ... عقَّتْ أباها وعقَّتْ أمها اليمنُ
أتاركٌ أنت مال الله يأكُلُه ... عَيْر الجزيرةِ [2] والأَشْراف تُمتهنُ
وكان يُقال لمروان حِمار الجزيرة.
أُوقِدْ على مُضَرٍ نارًا يَمانيةً ... تشفي الغليل وتحيي بعدها السُّنَنُ
ويُقال إنه قال هذا الشعر بعد خلعه.
قالوا: فلمّا فرغ مروان من أهل حمص، وثار ما ثار من أهل الغوطة، ومعهم أبو علافة، ويزيد بن خالد القسري فانقضى أمرهم، أقبلَ ثابت من
__________
[1] من أنواع المهدي المنتظر.
[2] أي مروان بن محمد.(9/233)
فلسطين في كنف من لَخم وغيرهم يكونونَ زهاء خَمسين ألفًا، فحصر الوليد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك بن مروان عامل مروان بطبرية مدينة الأردن، فسار إليه أبو الورد، فلمّا التقوا خرج إليهم الوليد بن معاوية في أهل الأردن فهزموا ثابتًا وقتلوا أصحابه، وتفرّق من بقي منهم عنه.
[تمرد أهل فلسطين على مروان]
ومضى ثابت إلى فلسطين واتبعه أبو الورد فلحقه، فأسر من بنيه ثلاثة: نعيمًا، وبكرًا، وعمران، فبعث بِهم إلى مروان فحبسهم. وغلب أبو الورد على فلسطين، ولحق ثابت بن نعيم وابنه رفاعة بجبال الشراة فظفرت به خيل لِمروان كان قد وجّهها مادةً لأبي الورد فأخذوهُ وأتوا به مروان وهو بدير أبوب [1] فقتله مروان، وقتل بنيه وقطع أيديهم وأرجلهم، وأفلتَ ابنه رفاعة بن ثابت، وأُخذ مع عثمان بن هلال الجهني وعمرو بن يزيد اللخمي فقتلهم مروان جَميعًا.
وقال بعضهم: لحق ثابت بِمصر، فوجّه إليه مروان الكوثر فهزم أصحابه وأخذه أسيرًا فبعث به إلى مروان فقطع يديه ورجليه وصلبه على باب دمشق، سمرَّه بمسامير. وقال بعضُ الشعراء قصيدة له ويُقال إنه الرمّاح بن ميّادة:
حذارك أن تلقاكَ يومًا بِموطنٍ ... فوارس يهديها أبو الورد والصّقرُ
فوارس صِدْقٍ لا يبالونَ مَنْ ثَوَى ... يجرّون أرماحًا حواملها حُمْرُ
وكوثرٌ المهدي لِمصْرَ جياده ... وأرماحه حتى استقامت له مِصْرُ
__________
[1] قرية كانت بحوران على مقربة من بلدة نوى. معجم البلدان.(9/234)
فمالكَ بالشام المقدس منزلٌ ... ولا لك في نجدٍ ذراع ولا شبرُ
بنجد ثبا [1] منا وبالشام مثلها ... متى تَعْصَنَا يغضب لنا البرّ والبحر
وأقام مروان بدير أيوب إلى هلال المحرم، وبايع به لابنيه: عبد الله وعبيد الله، وزوج عائشة بنت هشام من عبيد الله ابنه، وزوج أم بنت هشام عبد الله بن مروان ابنه، وأقبلَ فنزل الرصافة فأقام بها يوما [2] .
__________
[1] بهامش الأصل: ثبا: أي جماعات.
[2] بهامش الأصل: بلغ العراض ولله جزيل الحمد والمنة.(9/235)
أمر سليمان بن هشام بن عبد الملك
قالوا: ولَمَّا توجه مروان إلى الرصافة استأذنه سليمان بن هشام في المقام ليتجهز، فأذن له، ومضى فنزل الرقة، ثم أتى قرقيسياء، وأقبلَ عبد الرحمن بن أيوب الضبي إلى سليمان بن هشام وهو بالرصافة ومعه خيل لمروان كان ضمها إليه، فقال لسليمان بن هشام: أنت والله أحق بالخلافة من الجعدي. وكان في نفسه على مروان أشياء في يوم عين الجرّ وغير يوم عين الجرّ، فخلع مروان وصار إلى حمص فدخلها وبايع أهل حمص على الموت، فأقبلَ مروان زاحفًا بعد أن قَرُبَ من قرقيسياء وعلى مقدمته ابنه فألصق بحمص ووضع عليها المجانيق حتى فتحها، وهربَ سليمان بن هشام إلى تدمر، وأقام مروان حتى استقصى هدم حائط حمص.
قال أبو الحسن المدائني عن أشياخه وداود بن عبد الحميد قالوا: أظهرَ سليمان خلع مروان وقد فارقه بالرصافة، وقدم مروان الرقة فتوفي ابنه عبد الملك، فترك الانحدار إلى العراق.(9/237)
ومضى سليمان في خفّ من أصحابه إلى حمص، وبنى ثلمًا كان مروان ثلمه في حائطها. وكان في نَهر الهني [1] قصران يُقال لأحدهما الكامل والآخر العجب، فخلّف فيهما سليمان قومًا من الذكوانية وغيرهم وأكثرهم موالي هشام، وأمرهم أن يمنعوا من أراد مروان من أصحابه ومن يأتيه بالخبر، فبعث إليهم مروان: لئن أقمتم على ما أنتم عليه ثم ظفرت بكم لم أستبق منكم أحدا. فلم يقبلوا، فأمّا من كان في العجب فإنهم نزلوا على حكمه فأمنهم، وأمّا أهل الكامل فأبوا أن يقبلوا أمانه فبعث إليهم خالد بن عمير بن الحباب فعرض عليهم الأمانَ فلم يقبلوهُ، ورجع مروان ومرّ بِهم فشتموهُ، فأمر رجلا من أصحابه بقتالِهم، فنصب عليهم المجانيق فلم ينتصف النهار حتى أفضى إلى القصر فطلبوا منه أمانًا، فأبى أن يؤمنهم إلا على حكمه، فقطع مروان أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وهدم الحصن، وجعل الرجل يقول للرجل منهم: أيما أحب إليك، أقتلك شدخًا أم أفقأ عينك أم أقطع يديك ورجليك، فأُتي برجل منهم فقيل له ذلك فضحك وقال: ما أدري ما أختار من الشرور. فقتلوا بالعمد وبقطع الأيدي والأرجل، فقال بحر بن عمرو القشيري:
ظفرت بِهم إذ عاندوك سفاهةً ... فَنَكِّلْ بِهم حتى تدرَّهُمُ العَصبُ
فإنّك إذ تفعل تَجدْهُمْ أذلَّةً ... إذا نكبوا يومًا أذلّهُمُ النّكْبُ
وقتل مروان يعقوب مولى هشام غدرًا، خرج إليه من الكامل بأمان فقال: لا أعطي أهل الكامل الأمان إلا على حكمي فليس بيني وبينهم إلا السيف، وقتله.
__________
[1] في الرقة.(9/238)
وبايع أهل حمص سليمان، وتبايعوا على الموت، واستوثقوا من حائطهم وبنوا ثلمه، فتوجه إليه مروان فلمّا دنا من حمص جدّد فرسان أهل الشام مِمّن مع سليمان البيعة على الموت، وجدّدها أهل حمص أيضًا وقالوا:
اخرجوا إلى الجعدي فإمّا قتلنا وإما ظفرنا به، فانتدبَ منهم ستة آلاف مع معاوية بن عبد الأعلى السكسكي وثبيت البهراني فبلغ ذلك مروان فسار إليهم على تعبئة، وتحرزوا وكمنوا لِمروان في الزيتون فلم يشعر وهو يسير على تعبئته حتى ثاوروه فقاتلهم وصُرع معاوية بن عبد الأعلى وانهزمَ الآخرون، وقتل منهم أربعة آلاف، فقال مروان لِمعاوية: أنت مطاع في أهل حمص فادعهم إلى بيعتي وأؤمنك. قال: نعم. فأرسله إليهم في خيلٍ وأمرهم أن يحفظوهُ ولا يفارقوهُ حتى يردّوه، فأتاهم وهم مشرفونَ من المدينة فدعاهم إلى بيعته فقالوا: لا ولا كرامة، ولا نبايع لابن زربي الخباز. فقال: إذا لم تفعلوا فابعثوا إلى غلامي ميسرة الأسود وليكن معه ثيابي كلها، وانصرفَ إلى مروان، فقال للذين كانوا معه: ماذا قال؟، فأخبروهُ. فقال: أتدرونَ ما أراد؟. قالوا: لا. قال: إذا أمسيتم فاحملوا السلاح وبَيِّتُوهم واحملوا على الميسرة، فأمر بِمعاوية فقطعت يداهُ ورجلاهُ وشدخ بالعمد.
وقال بعضهم: إن رجلا من بني مُجاشع كان مع مروان يُقالُ له حُوَيّ أسر معاوية بن عبد الأعلى وأتى به مروان فقال: استبقني فإني أشد العرب.
فقال: الذي أسرك أشد منك. وقال مروان:
يا ربّ إبراهيم أَمْتِعْنَا بهِ ... إِنَّ حُوَيّا نِعْمَ مَا أَبْلَى بِهِ
والسّكْسَكيَّ صاغرًا جانا به(9/239)
فلمّا أمسى مروان صيّر الفرسان وحماة قيس في الميسرة، فلما مضى ثلث الليل بَيّتهُم أهل حمص وقد حذرهم مروان فاقتتلوا فلم يقدروا على ما أرادوا فرجعوا إلى سليمان، فرأى سليمان صلابة مروان وصعوبة الأمر في محاربته فخرج من حمص وخلّف أخاهُ سعيد بن هشام وأتى تدمر فنزلها، وأقام مروان على حمص يقاتلهم عشرة أشهر أو أقل، وبسط لَهم الأمانَ فقيلَ إنه أمّنَهُم، وقيل إنهم نزلوا على حكمه فلم يقتل إلا عبدًا أسود وشمّاسًا نصرانيًا كان شجاعًا وكان يقول: إن كان السكسكي ذهبَ فأنا السكسكي فقتله.
وقال: ما كان خطر ببالي أن أؤمّن شماسًا. ويُقال إنه لم يؤمّن سعيد بن هشام ورجلا من اليهود.
وأُتي بأمية بن معاوية بن هشام أسيرًا فقطع يديه ورجليه ثم شدخه، فغلظ الناس على مروان ولعنوهُ، وهدم مروان حائط حمص، وكُلّم في سعيد فأمّنه وكان معه وبقي حتى قتله ابن علي.
وقال المدائني: أمَّر مروان سليمان على إحداثه ومقاتلته إيّاه عن الناقص وإبراهيم، فركب سليمان يومًا مع مروان بعين الجرّ، فقال له مروان: يا أبا أيوب- ورفع حاجبيه كالمتوعد- فقال: يا أمير المؤمنين أعرض عن هذا. فلم يزل سليمان مضمرًا له على شر.
قالوا: وجمع سليمان بن هشام جَمعًا بتدمر وبايعهُ أهلها، ولجأ إليها كل لص وخارِبٍ [1] ، وعامة أهلها كلب، فصار إليهم مروان، فقال زُمَيْلُ بن سويد:
__________
[1] الخارب اللص. العين للخليل بن أحمد.(9/240)
يا ويح تدمر ويحها وعويلها ... ماذا يُرادُ بعامرية تدمرا
يا ويحها من كيد أبيض ماجدٍ ... أعطى بعذراء الجيوش وشمّرا
فلمّا أناخَ بها مروان سألوهُ الأمانَ وأن يضع لَهم كل دم أصابوه، فأمّنهم على أن يَهدم حائطها فلم يمكنه، وهرب سليمان حين قرب مروان منها فانحطّ إلى خُساف فنزلها، فوجّه إليه مروان عوف بن إسحاق بن مسلم فأسرته خيل لسليمان، فوجّه إليه مروان الكوثر فقاتله سليمان، وأتاهم مروان فتقاتلوا فاستعلاهم سليمان ثم إنه انهزمَ فاتبعه مروان فالتقوا أيضًا بمرج خلف صفّين، وقدّم مروان ابن الصحصح فاقتتلوا فهرب سليمان وأُسِرَ من أصحابه خلقًا فقتلهم مروان بالعمد بقرب ملاحَة هشام، وصار سليمان مع الخوارج، وقد كتبنا خبره بعد هذه القصص، حتى قتله أمير المؤمنين أبو العباس.
ويُقال إن مروان قتل سعيد بن هشام غيلة، ويُقال ضرب عنقه.
ويُقال إنه بقي حتى خرج في أيام بني هاشم فقتل، والله أعلم.
وأسر خالد بن هشام بن إسماعيل المخزومي أخو إبراهيم ومحمد يوم خُساف، أصابته خلفة [1] فنزل وستره مواليه وأخذ فأتي به مروان، فأمر فشُدخ بالعمد.
__________
[1] أخذته خلفة: كثر تردده إلى المتوضإ. القاموس.(9/241)
خبر يوم المنتهَب في أيام مروان
قال هشام ابن الكلبي، ثنا إبراهيم بن عبد الرحمن بن نعيم عن معدان بن عُبيد بن عدي بن عبد الله بن خيبري بن أفلت الطائي قال:
تزوجت امرأة من بني بدر من فزارة رجلا منا على نبيذ لَهم فأسرعَ فيهم النبيذ وجرت ملاحاة، فوثب رجل منا يُقال له يعقوب بن سلامة فضربَ شابًا منهم فشجّه، فمات من شجته، قال معدان: فقلتُ للبدريين: لك دية صاحبكم، فأبوا إلا أن ندفع إليهم قاتله، فأبيت دفعه.
وكنا حين قُتل الوليد بن يزيد ووقعت الفتنة منعنا الصدقة، فلم يؤدّها من بني طيّئ إلا بنو جَرم وبنو نَبهان أو أكثرهم، فأتى البدريونَ أمية بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بن عفان، وكان عامل الأعشار والصدقات بالمدينة، وإليه صدقات الجبلين [1] فأخبروهُ بخبر صاحبهم، فكتبَ أمية إلى مروان يُخبره بِمنعنا الصدقة، وبقتل البدري وامتناعي من دفع قاتله إليهم،
__________
[1] جبلا طيّئ: أجأ وسلمى.(9/243)
وأنا على خلاف ومعصية، فكتب مروان إليّ أن أمكنّ البدريين من صاحبهم، فأدُّوا الصدقة إلى أمية وسعاته، وإلا وجَّهْتُ إليك من حملك إلي، فإن امتنعت عليه أتاني برأسك، ثم والله لأُبِيلَنَّ الخيل في عَرَصَاتِكم.
قالوا: فأمر معدان بضرب عنق الرسول، فقال: إن الرسل لا تُقتل والأسير فيكم يا معاشر طيّئ يُسْتَحْيَى، فقال: صدقت، وخلّى سبيله وقال له: أدّيت إلي فأدّ عنّي، قل لابن زربي: أنت تُبِيلُ الخيل في عرصاتنا وبيننا وبينك رملُ عالج، وخلف ظهرك الجبلان، وحولي عديد طيّئ. اجْهَد جهدك واحشد حشدك، فلا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ، وَلا أَرْعَى عليك إن أرعيت. وكتب إليه:
ألا مَنْ مُبْلِغٌ مروان عني ... على ما كانَ مِنْ بُعْدِ الْمَزَارِ
ألمَ تَرَ للخلافة كيف ضاعت ... لأن صارت لأبناء السَّراري
وقال غالب بن الحر المعني:
لقد قلتُ للركبان من آل هاشم ... ومن عبد شمس والقبائل تسمعُ
قفوا أيها الركبان حتى يجيئنا ... وإياكم الأمر الذي ليس يُدفعُ
حتى تروا أين الإمام وتَشْعَبُوا ... عصا الملك إن الخيل رثّ مدعدعُ [1]
أرى ضيعةً للمال ألا يَضُمَّه ... إمامٌ وهل في غير أهليه يوضع
فأدّى رسوله إليه الرسالة والشعر فاستشاطَ ودعا عبد الحميد بن يحيى كاتبه فأمره أن يكتب منه إلى عَبْد الْوَاحِد بْن سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الْمَلِك عامله على
__________
[1] التدعدع: مشية الشيخ الكبير، ودعدع: عدا في بطء والتواء. والرث: البالي.
القاموس.(9/244)
المدينة، وإلى أمية بن عبد الله عامله على الأعراض [1] والأعشار والصدقات بها، وعلى صدقات طيّئ بالجبلين أن يسيرا بأهل المدينة وأهل البوادي من قيس وغيرها إلى معدان بن عبيد حتى يأخذا صدقات قومه، ويدفعا إلى البدريين قاتل صاحبهم، ويوطئا الخيل بلاده حتى يحملاهُ إليه، أو يقاتل فيقتل في المعركة.
وقال بعضهم: كان الكتاب إلى عبد الواحد بن سليمان النصري، فسارا بالناس حتى نزلا فَيْدًا، وبعث أمية إلى معدان بن عبيد بن عدي في أداء الصدقة، فبعث إليه وإلى عبد الواحد: إني غير دافع إليكما شيئًا مِمّا تطلبان، أما الصدقة فإني أحبسها حتى يستقيمَ أمر الناس، وأما وضع يدي في أيديكما فذلك ما لا يكون أو أؤسر أو أقتل، وكتب:
إنّ الفرائضَ لا فرائض فاصطبر ... حتى يقوم على البلاد أميرُ
فسار أمية وصاحبه في زهاء مائة ألف من أهل المدينة والبوادي من قيس وغيرها، وفي ألف من أهل الشام بعثهم مروان إلى عبد الواحد إعانةً بِهم، وبعث عبد الواحد على مقدمته رجلا من الضباب لحنق قيس على طيّئ واتبعه، ويُقال إنه لم يتبعه، وعسكروا بالمنتهب وهو من أجأ.
قال معدان: وكنت في اثني عشر ألفًا من بني معن بن عتود بن عتير بن سلامان بن ثعل، وبني جديلة وغيرهم من طيّئ فذهب يحيى بن الكروس بن زيد المعقلي منهم بستة آلاف، لأنه كره القتال، فبقيتُ في ستة آلاف، فلمّا انتهيت إلى عسكر الضبابي واسمه حزير بن يزيد بن كثيف، إذا
__________
[1] الاعراض. ج عرض وهو الناحية. النهاية لابن الأثير.(9/245)
جبال حديد، وإذا عسكر القوم لا يرى طرفاه، فرفعت النار على أجأ، فاجتمعوا فنحروا الجزر، وعملوا النبال والنشّاب، وقالوا: قبح الله أجزع الفريقين من الموت.
قال: فتصافنا فلمّا رموا بالنبل حملنا عليهم حملة رجل واحد، فما كان إلا كلا ولا، حتى قتل الضبابي وانهزمَ الناس أسوأ هزيمة، فقتلنا وانتهبنا، وكان عسكرهم أكبر عسكر رثة [1] ، وأُتيت بأمية أسيرًا فخلّيتُ سبيله، وأتيتُ بجارية له بعد ذلك فبعثتُ بها إلى المدينة وقلت: لا تتبعوا مدبرًا ولا تجهزوا على جريح. قال: ثم قُرئ علينا بعد ذلك كتاب مروان إليهم يأمرهم فيه إذا نشبت الحرب أن يقتلوا ويسبوا، ولو علمتُ ما في الكتاب قبل ذلك ما نجا منهم مخبر.
وكتب صاحب المدينة إلى مروان بالخبر فعزم مروان على توجيه عبدة بن رياح الغساني في عشرة آلاف من أهل الشام وقال: أهل المدينة أضعف قوم وأفشله، والأعراب كذلك ما لم يوتَروا ويَطلبوا الطوائل، فبينا هو على لك إذ كتب إليه ابن هبيرة عامله على العراق بقتل ابن ضبارة وإقبال قحطبة فقال: ما شغلنا عشرة آلاف بأعراب طيّئ، فصرف الجيش نَحو العراق، فلم نُعط الصدقة حتى استقامَ أمر الناس واستُخلفَ أبو العباس، والتجأ إلى معدان يومئذ عبد العزيز بن أبي دُهَيل بن يزيد بن الطفيل بن مالك بن جعفر هربا من الحرب.
__________
[1] حمل من المعركة رثيثا: أي جريحا وبه رمق. القاموس.(9/246)
وقتل يوم المنتهب الحُزَيْر، وسرحان مولى قيس، ومهلهل أحد بني بدر، ورجال من فزارة، وقتل من طيّئ المزرّ السنبسي، وسعيد بن الخليل المعني، وحرثان بن خالد الفزيري.
وقال معدان في انصراف يحيى بن الكروس عنه فيمن صَرَفَ معه من طيّئ كراهة للقتال:
ألا ما لمولى لا يزال كأنه ... أمِيمٌ يداوي رأسه بالمجارفِ
لعمرك ما المولى بِمولى حفيظة ... إذا لم يُؤَرَّق بالهموم الصوائفِ
فإنْ نحنُ أعطينا فزارة حقها ... بغير يمين أو قسامة حَالِفِ
فنحنُ إذًا أولاد قينٍ مُجَنَّبِ ... اليدين ضَروب للمُدى والكثائفِ
وأنتم بنو حرٍّ كريم نِجَارُهُ ... من السادةِ الشم الحماةِ الغطارفِ
وقال أُنَيْف بن حكيم بن أنيف أرجوزة أولها:
هل تعرف الدار بصحراء ريب ... إذْ أَنْتَ غَيْداق الصّبا جَمُّ الطَّرَب
يقول فيها:
لم أرَ يومًا مثل يوم المنتهب ... أكبر دعوى سالب ومُستلبْ
لَمَّا توافَتْ ثَمَّ أبناء العرب ... حتى إذا الجونة [1] كانت في صبب
نادى منادي طيّئ يا للحسب ... أين بنو البيض الكريمات النُجُب
يا قوم عاداتكم عند الغضب ... تغمغم الأبطالِ من بعدِ الصّخب
ضربًا وطعنًا بعد رمي كاللهب ... تحرّقُ النار بأطراف الْقَصَبْ
وقال أنيف في قصيدة له طويلة يقول فيها:
__________
[1] بهامش الأصل: الجونة: الشمس.(9/247)
ألا هل أتى أهل المدينة عرضنا ... خلالا من المعروف يعرف حالها
عَلَى عاملينا والسيوف مصونة ... بأغمادها ما زايلتها نصالها
عَرَضْنا كتاب الله والحق سنَّة ... هي النصف ما يخفى علينا اعتدالها
وجئنا إلى فرتاج [1] سمعًا وطاعة ... نؤدي زكاة كان حان عقالها
وفي فَيْد صُدِّقنا وجاءت وفودنا ... إلى فيد حتى ما تُعدّ رجالها
فلم نَدر حتى راعنا بكتيبةٍ ... يَرُوعُ ذوي الألباب والدين خالها [2]
جَمعنا لَهم من عمرو عوف ومالك ... كتائب يُردى الظالمين نكالها
ومن دونِ ما مَنَّى أمية نَفْسَهُ ... غمار حتوفٍ ليس يُرجى زوالها
وكانت امرأة أبي دُهيل وأمه من نبهان فقالت:
أصبحت من طيّئ حتى يقوم لنا ... أمر الإمام وما أصبحت من مُضر
الجاعلي بحمد الله إذ شرعت ... في الأسنة بين السمع والبصر
والمانعين فلا يُسطاع ما منعوا ... والمحمدين إذا لم يُحمد المطر
لقد نهيتُ جريرًا وهو في مَهَلٍ ... وقد أتته ولم يوقن بها النُّذُر
وقال الرمّاح بن ميادة:
لا تحسبوا أنا نسينا بحائلٍ ... جرير الندى والعسكر المتبددا
ولا تستريثوا أمرنا فكأنكم ... بصُمِّ العوالي فيكم اليوم أو غدا
فرد عليه معدان بن عبيد:
__________
[1] فرتاج: موضع في بلاد طيّئ. معجم البلدان.
[2] بهامش الأصل: الخال: الراية، ويقال ما يخيل منها.(9/248)
أتوعدنا قيس وإن تَلْقَ جَمعنا ... تكن كُشُفا قيس عن الموت حُيَّدَا
فلا تحمد القيسيَّ بالنَّفْج كلما ... رأى السَّلم أو أضحى من الزادِ أكبدا
إذا ما رأى الحرب اتقى الحرب باسْتِهِ ... وإن أمن القيسي غنَّى وأنشدا
ونحنُ أسلنا مُصعدًا بطن حائلٍ ... ولم يُرَ واد قبله سال مُصْعِدا
وظلت تُمَنيك است ميادة المنى ... لتجمع أمرًا فاسدًا قد تبددا
وقال أبو دهيل:
وإن امرأ في الحرب معدان خاله ... إذا ما اختبا من دونه لمنيع
قال المدائني: كان الناس يقولون: ما خُيِّرَ مروان بين أمرين إلا اختار أحزمهما، فلما لقي المسوَّدة جعل لا يختارُ شيئًا إلا كان عليه فيه الضرر والنقص.
قالوا: وكان مروان بخيلا شديد العقوبة مفرطًا فيها.
وقال بعضُ الشاميين: قال الحكم بن الوليد بن يزيد، أو قيلت على لسانه أبيات، فيها:
ألا فتيانُ من مُضَرٍ فيحموا ... أسارى في الحديد مكبلينا
أيذهبُ عامر بدمي ومُلْكي ... فلا غَثًّا أصبت ولا سمينا
فإن أهلك أنا ووليّ عهدي ... فمروانٌ أميرُ المؤمنينا
وكان مروان يقول: أنا أطلب الخلافة عن بيعة.
المدائني عن سليمان بن المغيرة: حدثني يزيد بن أسيد قال: كنا في غدير مستنقعين أنا وإسحاق بن مسلم، وعبد العزيز بن محمد بن مروان، ورجل آخر فبرد الماء على عبد العزيز بن محمد بن مروان فخرج فلم أر خلقًا قطّ أحسن من خلقه، فتعجبتُ فقال الرجل الذي معنا: أنا والله وضعته في(9/249)
رحم أمه، فقال إسحاق بن مسلم: والله لأخبرنَّ أمير المؤمنين، فأتاهُ فأخبرهُ فقال: أسَمِعَ هذا معك أحد؟ قال: سمعه يزيد بن أسيد، فدعا يزيد فسأله فأخبره فجعل يقرض لحيته غضبًا ثم قال: اجعلا لي موثقًا ألا يسمع هذا منكما أحد، فأعطيناه موثقًا فقال، أراد أن يفسد أخي فكذب عليه وعضهه [1] . وقال: قوما فلا يسمعنّ هذا منكما أحد. وتفقدناهُ فلم يتغير للرجل في مجلس ولا لسان ولا عطية.
المدائني عن أبي سلمة الغفاري قال: أتيتُ مروان أطالبُ بدم فقال لي: إن الوالي وكيل الغائب فإن شئت نازعتك، وإن شئت كتبت لك إلى عامل المدينة آمره بالنظر فيما تدّعي بحضرة الفقهاء، فإن ثبت لك حق أخذ لك به، فقلتُ: نازعني. فكان ينازعني ويناظرني، فأمر يومًا بالرحيل فرحل الناس وأبطأ خروجه فقيل له: إن الناس قد ركبوا وقد أبطأت.
قال: ويحك قبائي يُخاط فتقٌ فيه رأيته ولا والله ما عندي غيره.
قالوا: وقسم مروان قسمًا في قيس، فقال رجل من بني كلب: إذا كانت القسم ففي القيسية وإذا كان الطعان فللقحطانية، فضرب مروان عنقه، فما بقي قيسي ولا قحطاني إلا حمده وأثنى عليه، لأن هذا تَحريض منه واستدعاء للعصبية.
المدائني قال: أمر مروان مضمرًا له أن يوافي بخيله للنصف من المحرم فيُجريها، وكان أسود يُقال له دعيج وقال:
من كان في شكّ يُخادع نفسه ... فموعده حرّان نصف المحرّم
__________
[1] عضهه: كذب، وسحر، ونمّ. القاموس.(9/250)
بسم الله الرحمن الرحيم
الخوارج في ولاية عبد الله بن عمر العراق ليزيد بن الوليد الناقص إلى آخر أيام مروان بن محمد
أمر بسطام الشيباني في أيام مروان بن محمد:
قال علي بن محمد المدائني وغيره: خرج بسطام الشيباني، وكان يرى رأي البيهسية، ويقتل الأطفال، وكان يقول: أقتلُ المخلوق فألحقه بالخالق.
وكان خروجه في شعبان سنة ست وعشرين ومائة بآذربيجان في ثلاثة عشر فارسًا، فقتل عاملا لمروان، ومضى إلى الموصل فقدم الموصل ومعه أربعون فارسًا فقاتله يحيى- أو سلمة- بن الحرّ بْن يُوسُف بْن يَحْيَى بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ ببلد فهزمهم بسطام وأقامَ ببلد أيامًا، ثم أتى باقردى فأقامَ بها ما شاء الله، ثم سارَ إلى ألف فارس من أهل الشام كانوا بين نصيبين ورأس العين، فبيتهم فأصابَ منهم طرفًا، ثم أتى نصيبين وفيها المساور بن عقبة فأعطوهُ الرضا، ثم أتى بازبدى [1] ثم أتى الموصل فأعطوه
__________
[1] بازبدى وباقردى كورتان متقابلتان يفصل بينهما دجلة قرب جزيرة ابن عمر. معجم البلدان.(9/251)
الرضا، فنزل الربض الأعلى، وأقامَ شهرًا وأتته رسل مروان يدعونه إلى طاعته ونصرته فأبى عليهم، وسار بسطام إل بلد فأقامَ بِها شهرًا، فتركه ناس من أصحابه وأتوا مروان، فأتى بسطام آذربيجان فلقي اليمان الحميري، وهو من أصحاب الضحاك، وقد اعتقد وأرادَ أن يأتي مروان فقتله بسطام فسرّح إليه عاصم بن يزيد الهلالي وهو على أرمينية وآذربيجان رجلا يُقالُ له عبد الملك في ستة آلاف، فقتل عبد الملك وهزم أصحابه وقتل منهم بشر، ثم سار بسطام فأتى الحناية من أرض الموصل في يوم سوق فقتل ثمانين رجلا، وأقامَ عشرين يومًا، ثم أتى شهر زور فلقي عاملا لمروان يُقال له جدار بن قيس فلم يقاتله، وسار فلقي أكرادا فقتلهم، ثم سار إلى العراق وأتى المدائن فلقي بالمدائن عاملها غزير بن المتوكل وهو في ألفين فهزمه، وسرح إليه شجرة بن زهير أحد بني تَيم بن شيبان فهزمه بسطام، فوجه إليه مروان الخيبري فبيّته فقتل بسطام وعامة أصحابه وتفرق بقيتهم. فقال الشاعر:
حَيّا الإله الخيبريّ الذي ... ألحقَ روح الفاسق المارق
بالنار يصلاها كما أنه ... قد يلحق المخلوق بالخالق(9/252)
أمر الضحاك بن قيس بن حصين بن عبد الله بن ثعلبة الشيباني
من بني ذهل بن شيبان.
قالوا: بويع الضحاك بن قيس بعد سعيد بن بهدل، فأراد حين بايعوهُ أن يأتي الشام فأبى عليه أصحابه، فوجّه حَبناء بن عصمة الشيباني إلى تكريت فغلب عليها، ووجّه أبا الدبس أحد بني تيم الله بن شيبان إلى حولايا وأرضها، ورجلا آخر إلى الدَّسْكرة فلقي أبو الدبس جُمَيْع بن مقرن وحُرَيْث بن أبي الجهم الكلبيين، فقُتل جَميع بن مقرن، وانهزمَ حريث حتى أتى المدائن، ولقي الرجل الآخر الذي وجهه إلى الدسكرة سعيد التنوخي فقتل وانهزمَ أصحابه، فوجه عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ الأصبغ بن ذؤاله، ويُقال ابنه حمزة بن الأصبغ إلى المدائن فقاتل أبا الدبس، وارتجز الأصبغ فقال:
أَعْدَدْتُ للدبس ورهط الدبس ... طعنًا يُنَسِّيهم سؤال الحمس
وتَحاجزوا وجاء حبناء بن عصمة إلى المدائن فلما قدمها حبناء عبر الأصبغ دجلة وقطعَ الجسر وصارَ إلى الكوفة.
وأقبلَ الضحاكَ من شهر زور في ثلاثة آلاف ويُقال في أربعة آلاف(9/253)
وعلى مقدمته عبيدة بن سوار في أربعمائة فانتهى عبيدة إلى جسر النهروان، وعليه قائد لأهل الشام في ألفين، وقد قطعَ القائد الجسر فشتموا عبيدة وأصحابه، فقال عبيدة: إِنَّا لم ندع الأموال والأهلين ونحنُ نبالي ما قلتم فاختاروا واحدة من ثلاث: إما أن تجيبونَا إلى أمرنا وتجنحونَ إلينا، وإمّا أن تعقدوا الجسر وتعبروا إلينا ونعطيكم موثقًا ألا يعرض لأحد منكم حتى تتاموا قبَلنا فنحاكمكم إلى الله، أو تعطونا عهدًا- وما أنتم بثقة- ألا تهيجوا أحدًا منا حتى يعبر إليكم عشرة فيقاتلونكم، فإن قتلتموهم عبر إليكم مثلهم حتى تأتوا على آخرنا أو نظفر. فأبوا.
وعقد الضحاك بن قيس الجسر وعبر أصحابه إلى المدائن، فكتب إليه القعدُ الذين بالكوفة مع أَصْعَرَ بن عبد الرحمن، وكتب إليه عاصم بن الحدَثان فسرّه ذلك، وقال: قد آن لَهُم أن يكتبوا إليّ، وكان كتاب عاصم مع جميل العجلي:
«أمّا بعد فإني أوصيكَ بتقوى الله الذي يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وما تخفي الصدور [1] فإنه قال: وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ من قبلكم وإياكم أن اتّقوا الله [2] . واعلم يا أمير المؤمنين أن لكل عمل عند الله جزاء: إنْ حسنًا فحسنٌ، وإن سيّئًا فعقوبة، إلا ما عفا الله عنه، واذكر نعمة الله عليك وعلى المسلمين إذ كثركم بعد القلة وأعزكم بعد الذلة، كتبتُ إليك يا أمير المؤمنين وأنا ومن قِبلي من المسلمين في نعم علينا من الله سابغة، نسأل الله تَمام ذلك بِكمال الإسلام والعون والنصر، وقد وجهت إليك مع حُميد
__________
[1] سورة غافر- الآية: 19.
[2] سورة النساء- الآية: 131.(9/254)
عصابة من المسلمين نفروا رغبة في الجهاد، واعلم يا أمير المؤمنين أنك مسؤول عما استُرعيت ومحاسَب بِما كتبت يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وبينه أمدا بعيدا [1] .
فكتب إليه الضحاك:
«قد قدم علي حُميد العجلي بكتابك وفهمت ما أمرت به من طاعة الله فنسأل الله أن يجعلنا وإيّاك ممن يأمر بالمعروف ويَنْهَى عن المنكر، ويُسارع إلى الخيرات. وقد قدمت العصابة وهم على ما وصفت في الرغبة في الخير إن شاء الله، فجزاهم الله عن أنفسهم وإخوانَهم خيرًا ما جزى الغازين في سبيله، ونحنُ ومن قبلنا من المسلمين على أحسن حال، نسأل الله أداء شكره والسلام. وكتب بسطام بن المثنى» .
وأقام الضحاك بالمدائن أيامًا فكان رجل من أصحابه ينادي في كل صباح: يا خيل الله اركبي وأبشري بالجنة، وكان في أصحابه رجلٌ مريض فإذا سمع النداء قام إلى فرسه فأسرجه. فلما كثر ذلك قال:
ألا ليت شعري هل أبيتنَّ ليلة ... بعيدًا من اسم الله والبركاتِ
ثم سار الضحاك من المدائن وقدّم إلى الفرات مسكين بن الحسن المحلمي، فلقي على الفرات عبيد الله بن العباس بن يزيد بن الأسود بن سلمة بن حجر بن وهب بن ربيعة بْن مُعَاوِيَة بْن الْحَارِث بْن مُعَاوِيَة بْن ثور، وهو كندي، فلما رآهُ عبيد الله قطع الجسر ورجعَ إلى الكوفة، فأرادَ عبد الله بن عمران أن يوجه إليه الأصبغ بن ذؤالة ليمنعه من العبور، فقال له
__________
[1] سورة آل عمران- الآية: 30.(9/255)
عبيد الله بن العباس: عبوره أيسر علينا من طلبنا له فدعه فليعبر. فأخذ برأيه.
وسرّح مسكين الخارجي خيلا فصعدت بالسفن فعقدوا الجسر وعبروا، وقد خندق أهل الكوفة على أفواه السكك، فاقتحمَ مسكين الخندق ثم رجع، فسار الخوارج إلى النخيلة فنزلوها في سنة تسع وعشرين ومائة، وابن عمر بن عبد العزيز يومئذ يقاتل النضر بن سعيد الحرشي قبل ذلك أربعة أشهر في العصبية بين أهل اليمن والقيسية: أهل اليمن مع ابن عمر، والقيسية مع النضر بن سعيد، فلما نزل الضحاك النخيلة أرسلَ ابن عمر إلى النضر: إن هذا المارق يريدني ويريدك فهلمّ فلتكن اليدان عليه جَميعًا ثم ننظر.
وسفر بينهما العباس بن عبيد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ بَبَّةَ بْن الحارث بن عبد المطلب، فأصابه سهم فقتل، ويُقال إنه قتل قبل ذلك، وكان السفير غيره، فصاروا جَميعًا يدًا على الضحاك بن قيس.
قالوا: وأصبحوا غداة أربعاء فساروا إلى الخوارج، فالتقوا فقتل من الخوارج يومئذ أربعة عشر رجلا ونِسْوَة، ثم التقوا من الغد فاشتد الأمرُ بينهم وجعل رجل من الخوارج يرتجز ويقول:
يا نفسُ من طول الحياة ملّي ... وعيشك المقطع المولّي
عَلّي ألقى عاصمًا لعلّي ... في جنة عالية وخل
وبيهسٍ وكهمسِ المصلّي
فحمل عليه عبيد الله بن العباس بن يزيد فحاد عنه الخارجي فقال له عبيد الله: تتمنى الجنة وتحيد؟ فقال: أحيد لما هو شرٌّ لك يا عدو الله.(9/256)
وأبلى يومئذ عاصم بن عمر بن عبد العزيز فلم يعرض له فارس إلا قتله، فحمل عليه البرذون بن مؤرّق الشيباني فضربه عاصم على رأسه، وحمل رجل من الخوارج على عاصم فاختلفا ضربتين فقتل عاصم الخارجي ووقعت ضربة الخارجي في رأس عاصم فأثقلته، وبقي ثابتًا على فرسه، ونظر إليه البرذون بن مؤرق الشيباني فرماهُ بنفسه فطعنه فأرداهُ عن فرسه فسقط ميّتًا، وتناول البرذون عمودًا كان على سرجه فإذا عليه مكتوب عاصم بن عمر.
واشتد عليهم الحرّ وهم يقاتلونَ، فوضع جعفر أخو عبيد الله بن العباس بن يزيد بيضته عن رأسه يتنفس ويتروّح وهو على شرطة عبد الله بن عمر، فقال عبد الملك بن علقمة العبدي: إني لأحسبُ هذا من فراعنتهم، وحمل عليه فطعنه جعفر في فمه فكسر ثنيته وجرحه في طرف لسانه، فوحش ابن علقمة برمحه وانتضى سيفه وحمل عليه فضربه على هامته فاعتنقَ فرسه، ودعا ابن أخيه وابن عمه: يا هيثم. فأقبلَ نحوه فعرضه رجل من الخوارج فضربه فَفَلَقَ جبين هيثم، ثم برأ بعدُ فكان يُقال له ذا الوجهين.
واتبع عبد الملك جعفرًا فلحقه فعانقه فسقطا إلى الأرض فقتله، وانهزمَ ابن عمر وأهل الشام، فانتهى أهل الشام إلى حصّ قد أضجعته الريح فاقتحمه النضر بن سعيد في فوارس فلم يروا منفذًا فقالوا: هلكنا سيحرقونه علينا، ثم وجدوا منفذًا فخرجوا منه.
ولحق الخوارج هبيرة بن عبد الرحمن بن حسان بن المنذر بن حسان الضبيّ، وابنًا لأبي سماك فقتلوهما، وجاء الخوارج الخندق فوقفوا مليًّا ثم رجعوا إلى معسكرهم وحمل الناس قتلاهم ودفن آل الأشعث عاصم بن عمر بن عبد العزيز في دورهم.(9/257)
ثُمَّ التقوا يوم الجمعة، ولقيهم الأصبغ بن ذؤالة في عشرة آلاف فهزمهم الخوارج حَتَّى دخلوا حيطان الكوفة، فلما أمسوا خرج قواد من قواد ابن عُمَر من اليمانية: منصور بن جمهور، والأصبغ بن ذوالة، وخرجت القيسية مع النضر بن سعيد إلى واسط، وهو يريد أن يغلب عليها، فأصبح ابن عُمَر وقد تفرق الناس عنه فحمل الأموال وارتحل فسبقته القيسية إلى واسط، فأرسل إلى النضر بن شبيب بن مالك الغساني، وهو عامل ابن عُمَر عَلَى واسط فقال: افتح لنا باب المدينة لتكون أيدينا واحدة، فأرسل إليه:
يا بن السّقاء، يا بن نسعة، قد كنت أحسب أن لك عقلا، كيف أفتح لك باب المدينة وقد عرفت غدرك. الحق بطريق البريد مقعد أبيك فهو أشبه بك.
وقدم ابن عُمَر بأثقاله فدخل المدينة، ومات عامله شبيب بن مالك يوم دخل ابن عُمَر المدينة فقالت القيسية: لا ندعكم تعبرون به، فسفروا بينهم حَتَّى أذنوا لَهم أن يعبروا بالجنازة قوم لا سلاح عليهم ودخل الضحاك الكوفة فوجد فِي دار المختار قومًا من أهل الشام فَمَنَّ عليهم، ووجد قومًا فِي دار بلال بن أبي بردة فقاتلوه فقتلهم وأمن الناس.
وبعث أبا الرجال وحبناء بن عصمة وعكرمة فباعوا الغنيمة عِنْد قصر الكوفة، وذلك فِي أول يوم من شهر رمضان، وكان من رأي أصحاب الضحاك أن يستعرضوا أهل الكوفة، فمنعهم الضحاك ذلك، فلما دخلوا الكوفة تلقّوهم بالأسوقة، فقال الضحاك: ألم أخبركم بأن لكم بِهَا إخوانًا يكتمون إيمانهم فِي دار الكفر، فمر رجل من الخوارج برجل عَلَى باب داره وكان عظيم البطن فقال له الخارجي: أصائمٌ أنت؟ قَالَ: نعم. قَالَ:(9/258)
ما بطنك ببطن مؤمن ولولا أني أكرهُ أن أفسد سناني بِما فِي بطنك لأخرجته من ظهرك، وجنح إلى الضحاك عبيد الله بن عباس الكندي.
[استيلاء الخوارج على الكوفة]
وقال هشام ابن الكلبي: شهد عُبيد الله الخوارج بالكوفة وهم يقتتلونَ بين الحيرة والكوفة أيام الضحاك، مع جعفر بن العباس بن يزيد الكندي أخيه، فقتل جعفر، وجنح عبيد الله إلى الخوارج فقال أبو عطاء السندي:
ألا يا عبيد الله لو كان جعفر ... هو الحي لم يَجنح وأنت قتيلُ
ولم يتبع المرّاق والثأر فيهم ... وَفِي كفّه عضب الذباب صقيل
جنحت وقد أرادوا أخاك وأكفروا ... أباك فماذا بعد ذاك تقول
تركت أخا شيبان يسكب بزّه [1] ... ونجّاكَ خَوّار العنان رجيل
فلا وصلْتكَ الرحم من ذي قرابةٍ ... وطالب وَتْرٍ والذليل ذليل
فلما أنشده قوله: فماذا بعد ذاك تقول؟ قَالَ: أقول أعضّك الله ببظر أمك.
وقال رجل من الخوارج:
نحن عبرنا الخندق المقعّرا ... يوم لقيناكم وجزنا العسكرا
حَتَّى قتلنا عاصمًا وجعفرا ... والفاسق الضبيّ لَمّا أدبرا
واليمنيين ومن تنزّرا ... لا تحسبوا ضرب الشراة سكّرا
وقال عبدُ الله بن عمر يرثني أخاهُ عاصمًا:
لعمري لقد نادى المنادي فَأَسْمَعا ... بصوت رفيع حين نادى فأوجعا
غداة نعى يوم النخيلة عاصمًا ... فأبكى العيون الجامدات وأقطعا
في أبيات.
__________
[1] يسكب بزه: يضع سلاحه. انظر القاموس.(9/259)
وقال خلف بن خليفة يرثي عاصمًا:
ألم يك عَاصِم ذخري فدلّتْ ... مَنيَّتُهُ عَلَى ذخري المنونا
وكان من المودَّة نُصب عيني ... فأمسى غاب فِي المتغيّبينا
تقدمَ صابرًا وثوى شهيدًا ... فلستُ أَعدُّه فِي الميّتينا
فِي أبيات.
وقال ابن الكلبي: كَانَ ابن بيض الشاعر نديمًا لعمر بن الغضبان بن القبعثري الشيباني، وكان مع عَبْد الله بن عُمَر عَلَى شرطه، ثُمَّ صار مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ الله بن جعفر حين خرج، ثُمَّ أراد الجنوح إلى الضحاك فجاء حَمْزَة بن بيض الحنفي يستشيره، والخوارج يومئذ بالكوفة فأخبر ابن عُمَر أَنَّهُ قد عزم عَلَى الخروج معهم، فقال ابن بيض:
عُمَر الخير ما ترى يا بن غضبان فِي الشرا ... أترى لي نفسي فداؤك من نازل الردى
ترك سردابك المبلّط فِي طيب الثرى ... وشراب مشعشع جيد ليس يشترى
من فلان ولا فلان ولكن من القرى ... وجَوَارٍ بيضُ الوجوه دجوجية الذرَا
أنت خير من أن ترى ذاك يا بن القبعثرى
قَالَ عُمَر: فلم استشرتني يا فاسق إن كَانَ رأيك هذا؟
وقال ابن بيحان لابن بيض حين دخل الضحاك الكوفة: لو لقيته فأخبرته عَن أهل بلدك وقومك فإن لك لسانًا وبيانًا، فقال ابن بيض:
ألا لا تلمني يا بن بيحان إنني ... أخافُ عَلَى فخّارتي أن تحطما
فلو أنني لو شئت ابتاع مثلها ... من السوق ما باليتُ أن أتقدما
قَالَ أبو الكردي: لما غلب الضحاك عَلَى الكوفة ولاها ملحان بن معروف الشيباني، فخرج ابن الحرشي يريد الشام، فعارضه ملحان فقتله ابن الحرشي وهو النضر بن سعيد.(9/260)
قالوا: وأقام الضحاك بالكوفة إلى شوال، ثُمَّ استخلف عليها ملحان بن معروف التيمي وعداده فِي بني شيبان، وسار إلى واسط، فلمّا بلغ النضر بن سعيد الحرشي مسيره شخص يريد مروان بالشام فِي نحو من ألف من أهل الشام، ومعه أبو أمية الثقفي، وعطية البعلي، وأقام نباته وجماعة من القيسية فِي الجانب الشرقي، ووادعوا ابن عُمَر، وأعابوه فعرض ملحان بالقادسية للنضر والقيسية فناشدوه الله وقالوا: إنا لا نريدُ القتال.
وكان مع ملحان قادم الذكواني فقاتلهم فقتل ملحان، ورجع قادم إلى الكوفة فقال بعض الحرورية:
سقى الله ملحانًا وبيّض وجهه ... كما جاهد الأحزاب يوم القوادس
ورثاهُ حبيب بن جدرة، ورثى عَبْد الملك بن علقمة فقال:
كابن ملحان فينا من أخي ثقة ... أو كابن علقمة المستشهد الشاري
من صادق كنت أصفيه مخالصتي ... فباعَ دارًا بأغلى صفقة الدار
إخوان صدق أرجيهم وأخذلهم ... أشكو إلى الله خذلاني لأنصاري
فلمّا قدم الضحاك حصر ابن عُمَر، فقال ابن عمر لكاتبه الربيع بن سليمان: اعرض الناس فعرضهم فكانوا ثمانية آلاف فقال: ما هَؤُلَاء بشيء فما الرأي؟ قَالَ: إن بواسط خلقًا لا يلقاكَ الضحاك بِمثلهم. قَالَ:
فاعرض فعرض لعشرة آلاف.
وقاتل الضحاك فكان نباتة يوجه ابنه مُحَمَّد بن نباتة فِي القيسية فيقاتلونَ الضحاك ومعهم إسماعيل بن عَبْد الله البجلي فِي قوم من اليمانية، ثُمَّ يرجعونَ إلى المدينة الشرقية بواسط، ثُمَّ تركهم إسماعيل وشخص إلى البصرة.
وكتب نباتة إلى مروان بذلك فكتب إليه مروان كتابًا لطيفًا أمره فيه(9/261)
بالاستقامة عَلَى منهاجه، والمداومة عَلَى أمره، وندم إسماعيل عَلَى ما كَانَ منه فقاتلهم الضحاك ستة أشهر ويُقال سنة عَلَى باب المضمار، وباب الزاب، وكان يلي قتال الخوارج منصور بن جمهور، ولم تكن القيسية بِمناصحة لابن عُمَر فقتل منصور يومًا رجلا من عُبَّاد الخوارج فِي المعركة يُقال له عكرمة، وجُرح منصور جراحة خفيفة، فأمر له ابن عُمَر بثلاثين ألفًا.
ثُمَّ قاتلهم منصور عَلَى باب الزاب، فاستعلى الخوارج، وأكثروا القتل فِي اليمانية، وقتل من الخوارج عَبْد الملك بن علقمة العبدي، طعنه منصور فقتله، وحملت عليه أم العشنزر فأخذت بلجام دابته وضربته ضربة خفيفة، وضربها منصور ضربة شديدة، وقتل أبي جحشنة أخي الضحاك.
ودنا الخوارج من المدينة فأمر ابن عُمَر بدواب [1] مقاريف فألبست المشاقة [2] ، ثُمَّ أشعل فيها النار وأُرسلت فِي عسكر الخوارج فذعرتهم وأحرقت فساطيطهم وأخبيتهم، ولم تَمر بشيء إلا أحرقته، فتركوا خيولهم وتركوا عسكرهم، ونزلوا عَلَى أربعة فراسخ منه، ثُمَّ تدانوا فصاروا من ابن عُمَر عَلَى فرسخ أو فرسخين، وخرج منصور بن جمهور فقاتله الخيبري وأصحابه عَلَى باب البصريين أشد قتال حَتَّى تعانقوا، وقتل عَبْد الحميد الكلبي وهو ابن عَم منصور، وقاتل ابن عُمَر الضحاك من ناحية باب الزاب، ثُمَّ تحاجزوا، فقال منصور لابن عُمَر: ما قاتلت مثل هَؤُلَاء القوم عربًا ولا عجمًا. فقال ابن عُمَر: الرأي أن نعطيهم الرضا ونضرب بهم
__________
[1] المقرف من الفرس وغيره: ما يداني الهجنة، أي أمه عربية لا أبوه، لأن الاقراف من قبل الفحل والهجنة من قبل الأم. القاموس.
[2] المشاقة: ما سقط من الشعر أو الكتان عند المشط. القاموس.(9/262)
مروان.
[الضحاك بن قيس]
فأجمعَ ابن عُمَر عَلَى مصالحتهم، وبعث رسلا إلى الضحاك فدخلوا إليه وهو يتعشى فدعاهم إلى العشاء فأبوا فقال: إنه عدس طيب وخلّ وزيت، فكلّموهُ وسفروا بينه وبين ابن عُمَر فاصطلحا عَلَى أن يسير الضحاك إلى مروان فإن قُتل الضحاك فليس لأحد فِي عنق ابن عُمَر بيعة، وإن قتل مروان صار ابن عُمَر مع الضحاك. فقال الضحاك: لا بدّ من أن ألتقي وابن عُمَر. فالتقيا مع هذا فوارس، ومع هذا مثلهم، وكان سليمان بن هشام خرج عَلَى مروان فلقيه فأوقعَ به وحوى عسكره، وكانت وقعته بخُساف أو قربها فصار إلى العراق ومعه قومٌ من أهل بيته، وكان سليمان خليفة إِبْرَاهِيم بن الوليد عَلَى عسكره، ثُمَّ صار مع مروان فأكرمه ثُمَّ خرج عليه وحاربه فبايع سليمان بن هشام، وأبان بن معاوية بن هشام.
وداود بن سليمان بن عَبْد الملك الضحاك، وكان الذي تولى أخذ البيعة للضحاك عبيدة بن سوار.
قالت أم العشنزر لِمنصور: قطع الله يدك إذ لم تدخل النار عَلَى يدي.
وأرزق الشهادة عَلَى يدك.
وبايع ابن عُمَر اليمانية وأبت القيسية أن تبايع، ومضوا إلى الشام ابن نباتة وأصحابه، واستعملَ الضحاك عَلَى الكوفة المثنى بن عمران العائذي، من عائذة قريش.
[أبيات في رثاء قتلى الخوارج]
وقال شبيل بن عزرة:
ألم تر أن الله أنزل نصره ... وصلت قريش خلف بكر بن وائل
ولم يكن شُبيل يرى رأي الخوارج، ولكنه قَالَ هذا بالتقيَّة، بلغ الضحاك عنه شيء فخافه. وقال شبيل بن عزرة:(9/263)
حَمدنا الله ذا النعماء أنا ... نُحكم ظاهرين ولا نبالي
برغم الحاسدينَ لنا وكنا ... نسر الدين فِي الحجج الخوالي
مخافة كل جبارٍ عنيدٍ ... غشوم من جبابرة الرجال
ندين بدين ضحاك بن قيس ... ومسكين ودين أبي بلال
ومروان الضعيف وخيبريٍ ... أولئك منتهى النفر النبال
قالوا: فأقام الضحاك بواسط إلى شهر ربيع الآخر، ثُمَّ سار إلى المدائن، فقدم عليه عذار بن بيهس السدوسي فِي وفد من خراسان، فجمع لَهم من أصحابه شيئًا وصلهم به.
قالوا: وكان مروان متشاغلا بأهل حمص، وكان معه رجال من البيهسية من أصحاب بسطام، منهم عثعث التغلبي وابن عم له، فقالا لِمروان: اندب معنا قومًا إلى الضحاك، فندب خمسة آلاف فيهم الدبّ القيسي ومروان بن البختري القرشي.
وبلغ الضحاك مسيرهم فوجه الخيبري وَالْحَسَن بن منصور فِي خيل، وكان القطران بن أكيمة عَلَى الموصل، فنهى البيهسية من أصحاب مروان عَن قتال أصحاب الضحاك، فلم يقبلوا وأوقعوا بالبيهسية وأسر الدب فمنّ عليه الضحاك.
وأتى الْحَسَن بن منصور قطران، فقاتله قطران، ويُقال بل قتل الْحَسَن القطران، وكتب مروان إلى ابنه عَبْد الله، وهو عَلَى معونة الجزيرة يأمره بنزول نصيبين، وكتب مروان إلى الضحاك كتابًا يقول فيه: «قد كَانَ لك فِي نفسك شغل بإصلاح فسادها عَن سفك الدماء» ، فأجابه الضحاك بكتاب يقول فيه: «إن أعظم الشغل وأولاهُ بالإيثار أداء ما فرض الله من جهاد الكفار والمنافقين» .(9/264)
وتكاتبا مرات، وسار الضحاك وعلى مقدمته مسكين اليشكري وأتى نصيبين فحصر عَبْد الله بن مروان، وبث خيوله فِي أرض الجزيرة فضج أهلُ الجزيرة إلى مروان، فقال إسحاق بن مسلم العقيلي لِمروان: إن الخوارج قد انتشروا بأرض الجزيرة وأحرقوا واستعرضوا وأنا خائفٌ أن يرفض من معك مراكزهم ويلحقوا بحرمهم وأنت مقيمٌ عَلَى هَؤُلَاء.
فقال مروان: لو أحاطت الأعداء كلها بي ما برحتُ أو أفتح حمص أو أُقتل.
وكتب مروان إلى ابنه عَبْد الله أن اكتب إلى يزيد بن عُمَر بن هبيرة فليأتك، وابن هبيرة يومئذ بنهر سعيد [1] قد وفقه مروان هناك، فكتب إليه:
لا حاجة بنا إلى ابن هبيرة لأنا لا نأمنُ أن يكرّ الناس إلى ما قبلنا فيغلو السعر، وفيمن قبلنا كفاية وليسر ابن هبيرة إلى العراق فإنها شاغرة وقد خرج عنها الضحاك.
فأعجب مروان ذلك من رأي ابنه عَبْد الله وقال: بأبي أنت وأمي.
فكتب إلى ابن هبيرة أن يسير إلى العراق، ونصب مروان المجانيق عَلَى حمص حَتَّى طلبوا الأمان، فأمن الناس غير سعيد بن هشام والسمط بن ثابت، ورجل من بني سليم، ورجل يهودي، وهدم حائط المدينة فقال بعضُ الحمصيين.
يا حمص ويحك لا تجزعي ... قصصك الجعدي سكنينه
وارتحلَ مروان يريدُ الضحاك، فنزل بحران بباب التبن، وكتب إلى معاوية بن يزيد بن حصين بن نُمير السكوني بحمص، وإلى زامل بن عمرو
__________
[1] نهر سعيد نهر دون الرقة من ديار مضر. معجم البلدان.(9/265)
بدمشق، وإلى ثعلبة بن سلامة بالأردن، وإلى الرّماحس بن عَبْد الْعَزِيز الكناني بفلسطين أن يوجهوا إليه فرسان أهل الشام.
ونزل مروان كفرتوثا وقال: ما صنعَ أحد ما صنع عَبْد الله بن عُمَر، ضربني بعشرين ألف سيف واتكأ بواسط، إنه لأدهى العرب.
وقال أصحاب الضحاك له: قد اجتمعَ لك ما لم يَجتمع لرجل عَلَى رأيك منذ اختلف الناس، فلا تباشر القتال بنفسك، ووجّه الخيل وكن ردءًا للمسلمين تمدهم إن أرادوا المدد. فقال: مالي فِي الحياة أرب، وقد أعطيتُ الله عهدًا إن ضَمَّني وهذا الجبار معسكر لا أدع جهدًا، فقاتله ثلاثة أيام، ومع الضحاك سليمان بن هشام فِي ذكوانيته، ومن انضم إليه من أهل الشام، ورفاعه بن ثابت، وعصمة بن المقشعر الكلبي، فالتقوا ووقف الخوارج عَلَى تل فأزالهم أهل الشام عنه، ووقفوا عليه فقاتلهم الخيبري، فأزالَ أهل الشام عَن التل ووقفَ عليه سليمان بن هشام فِي الذكوانية، فكره مروان موقفه وقال: يتعلم غلمان بني أمية عَلَى الطعان، وانصرفَ إلى عسكره، ورجع الخوارج مسرورين، فلمّا أصبحوا قَالَ الضحاك: أما منكم أحد يشتاق إلى الجنة ويحب لقاء ربه؟. وأنشدهم شعرًا قيل فيمن مضى من الخوارج، وبكى فاقتتلوا طويلا والخيبري يقول:
أَيهن بني شيبان طعنًا تَتْرَى ... طعنًا يرى منه القنا محمرا
يترك ذا الضغْن به مزوَرّا ... يركب ردعا للردى مقرّا
فلعنة الله عَلَى من فَرَّا [1]
وباشر مروان القتال وهو يقول:
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 222.(9/266)
أربعة تَحمل شيخًا رائعًا ... مجربًّا قد شاهدَ الوقائعا
قد صادفت شيبان مُلْكًا ضائعا
ويروى: سُمًّا ناقعا.
وأصابت الضحاك جراحة، فقال: ليس كل من طلب الشهادة رُزقها.
وتَحاجزوا وخرجوا فِي اليوم الثالث وخرج الضحاك وقال: لا أرجع اليوم إلا أن يأبى ربي، ولستُ أملك إلا فرسي وسلاحي، وعليّ سبعة دراهم منها ثلاثة فِي كمي فاقضوها عني وقال: ليس أمير القوم بالخَبِّ الخدع، ثُمَّ ترجل وقال: إن قتلت فليصل بكم شيبان بن سلمة، ويُقاتل عدوكم الخيبري، ولم يعهد إلى أحد.
والتقوا نصف النهار وصبروا وصبر أهل الشام فكثرت بينهم القتلى، وهزمت الميمنة التي لِمروان ميسرة الضحاك، واقتتلوا حَتَّى أمسوا، وقتل من الخوارج خلق، وقتل الضحاك عِنْد المساء ولم يعلم مروان بقتله فلما كَانَ فِي الليل جاء مروان رجل من عسكر الضحاك فأخبره بقتله، فأرسلَ مروان من طلبه فِي القتلى فوجده وبوجهه ضربات فاحتزَّ رأسه وأتى به مروان.
قالوا: فقال الخيبري لشيبان: يا أبا الذلفاء ولّني قتال القوم، فإذا قُتلت فالمسلمونَ عَلَى رأيهم. قَالَ: نعم. فلم يقاتلهم ثلاثة أيام، وخرج فِي اليوم الرابع فحضّ الناس ثُمَّ لقيهم وعلى ميمنة مروان ابنه عَبْد الله، وعلى ميسرته إسحاق بن مسلم، فانهزمَ يومئذ مروان وضربه رجل ضربة قطعت حمائل سيفه، وضربه مروان فقطعَ يده.
ويُقال إنه قاتله فِي صبيحة الليلة التي قتل فيها الضحاك وكان يرتجز:(9/267)
إن تك مروان فإني الخيبري ... أضرب بالسيف عَلَى حكم النَّبِيّ
سابغة درعي حصين مغفري [1]
وهاجت ضبابة شديدة فلم يبصر بعضهم بعضًا، ودخل الخيبري عسكر مروان، وانجلت الضبابة وليس مروان فِي العسكر، وظن الخيبري أن مروان قد قتل، واعترضَ العسكر جماعة من أصحابه فقاتل ومعه أبو كيلة وهو يقول:
قد فَرَّ مروان عَن الرفاقْ ... نجّاه منا أعوجي باقْ
يظلّ يُمريه بعظم الساق [2]
ونادى سليمان بن مسروح البربري مولى مُحَمَّد بن مروان- وكان فِي حرس مروان-: كل عَبْد جاءنا فهو حر. فاجتمعَ إليه من العبيد والموالي وغيرهم خلق، فقتل الخيبري، دخلوا عليه وهو عَلَى فرش مروان فضربوهُ بالعمد.
وبُشّر مروان بِمقتله، وخرج مروان إلى الناس. وبايعت الخوارج يعقوب التغلبي فقتل، فبايعوا مسكين اليشكري فقتل، فبايعوا شيبان، ويُقال إنَّهم بايعوا شيبان حين قتل الضحاك فكان شيبان الذي ولّى الخيبري القتال.
وقال الشاعر فِي قتل الضحاك والخيبري ويعقوب:
هم ضربوا الجنود بكفرتوثا ... وهُمْ نزلوا وقد كُرَه الزحام
سقى بلدًا تضمّن خيبريا ... ومسكينا ويعقوب الغمام
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 223.
[2] ديوان شعر الخوارج ص 223.(9/268)
هُم ضربوا عَلَى فرع المنايا ... ولم يُفزعهُم الجيش اللهامُ [1]
وكان عَبْد الله بن عُمَر وجَّه أبا الرمح بن عُمَر، فأخبره الخبر. وقالت امرأة من الخوارج ترثي أخاها:
مَنْ لِعَيْنٍ رَيَّا من الدمع عَبْرَى ... ولنفس من المصائب حَرَّى
أفسدتْ عيشنا صروف الليالي ... ووقاع من الكتائب تَمْرَى
كلما سكنت حرارةُ وَجْدٍ ... مِنْ فَقيدٍ منا شُجِينا بأُخرى
فِي أبيات. وقالت أيضًا:
يا عين جودي بالدموع ... وابكي بِجهد المستطيع
يا موتُ ويحك ما تَزَالُ ... مفرقًا بين الجميع [2]
أبكي وما يُغني التلهف ... والبكاء عَن الجَزُوع
وقال حبيب بن خَدْرَة مولى بني هلال وقد صار بعد منهم.
أبكي الذين تبوأوا الْغُرَفَ الْعُلَى ... فَجَرَتْ لَهم من تحتها الأنهارُ
أبكي لنفسي لا لَهُمْ أبكيهم ... لا صبر حيث تعارف الأبرار [3]
فِي أبيات وقد قيل فيهم شعر كثير.
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 236، وكفرتوثا قرية كبيرة من أعمال الجزيرة بين دارا ورأس عين.
[2] ديوان شعر الخوارج ص 225.
[3] ديوان شعر الخوارج ص 230.(9/269)
أمر شيبان بن سَلَمة الأكبر الشيباني
قَالَ أبو الْحَسَن المدائني وغيره: لَمّا قتل الخيبري غادى شيبان أهل الشام فقاتلهم حَتَّى انتصف النهار، ثُمَّ رجعَ بعضهم عَن بعض فافترقَ الخوارج، فأتت فرقة منهم الجزيرة، وفرقة العراق، وأقامَ الباقون مع شيبان فقاتلهم مروان فانتصفوا، ثُمَّ تحاجزوا، فارتحلَ شيبان إلى الزابين، وسليمان بن هشام معه، فخندق شيبان وأتاهم مروان فخندق فقاتلهم عشرة أشهر، ويُقال تسعة أشهر، ومروان فِي ثلاثين ألفًا، وشيبان فِي خَمسة آلاف فأوسعهم شرا وهزموا مروان فِي تلك الأشهر نيفًا وسبعين مرة، وظفر يزيد بن عُمَر بن هبيرة بالجون بن كلاب بواسط لَمّا توجه من نَهر سعيد واليًا عَلَى العراق، وكان الجون بن كلاب الشيباني- وهو الثبت، بعضهم يقول ابن النعمان- نازلا بالسن [1] رتبه الضحاك بِهَا ليمده بالطعام والعلف، فكتبَ مروان إلى ابن هبيرة يستمده وهو بواسط فأمده بعبيد الله بن العباس بن يزيد الكندي فِي أربعة آلاف، ثُمَّ بعامر بن ضبارة فِي ستة آلاف، فأخذَ عبيد الله بن العباس فِي شرقي دجلة فوجه إليه شيبان ابن السحاج الأزدي
__________
[1] السن مدينة على دجلة فوق تكريت. معجم البلدان.(9/271)
فواقعه فانهزم عبيد الله ورجع إلى ابن هبيرة، فضم أصحابه إلى عَامِر بن ضبارة فأتى ضبارة السن فقاتله الجون بن كلاب الشيباني، وخندقَ ابن ضبارة وقاتل الجون شهرًا وجعل الخوارج يرتجزون:
نحن الشراة لا شراة غزَّة ... ولا شراة الكوفة المبتزَّة
غزة بعين التمر. ويقولون:
نحن بنو شيبان أهل الجنَّة ... نقتلكم على هدى لا ظنّه
[أخبار شيبان بن سلمة]
وأمد مروان ابن ضبارة بِمصعب بن الصحصح فِي ألفين، فقتل الجون، وقدم فَله عَلَى شيبان، وقوي مروان، وقطع ابن ضبارة عَن شيبان المادة من العراق، وقطع مروان عنهم مادة الشام فضاقَ الخوارج حَتَّى صار الرغيف فِي عسكرهم بدرهم.
وخاف شيبان أن يأتيه ابن ضبارة من خلفه فحضّ مروان أصحابه وخرج إليهم فِي يوم أربعاء فواقعهم، ثُمَّ أجمعَ عَلَى أن يغاديهم فِي يوم الخميس، وكان مع مروان رجل يرى رأي الخوارج، فكتبَ إلى شيبان إن القوم مصبحوكَ فاحذر واستعد، ففعل.
وزحف إليهم مروان فِي كراديس فشدوا عَلَى الحسن بن منصور اليشكري، وهو فِي ميمنة شيبان، أو فِي ميسرته فأزالوه، وقوّاه شيبان بِمدد فرجع إلى موقعه، وكشفت الخوارج خيل مروان وداست رجالته، وأكثر الخوارج فيهم القتل وصاروا إلى قصر مروان الذي فِي خندقه، فقال حبيب بن خدرة:
فلَم أَنْسَهُمْ يوم الخميس وكَرَّهُمْ ... عليه ويوم القصر إذ حُرِسَ الْقَصْرُ
ودفعُهُمُ الجعديَّ إذ يطردونه ... وأدركه التحكيم والقضبُ السّمر(9/272)
فِي أبيات.
وقال سليمان بن هشام، ويُقال بل نُحِلَها:
وسرتُ مع الضحاك لما تخاذلت ... معاشر أهل الشام شر المعاشر
جزى الله عنا الحي بكر بن وائل ... وتغلب خيرًا من محام وناصر
هم صبروا يوم الخميس وقد شفوا ... غليل النفوس من سليم وعامر
غداة غدا مروان فِي عارض له ... تحرد علينا حَرد أبلج قادر
سمونا له منا بجمعٍ معاودٍ ... قراع الأعادي واقتصاص العساكر
وفرَّ وفرَّتْ خيله مُبذعرَّةً ... وطارَ به قلب له غير صابر
وقال كهمس بن عُثْمَان الرفاعي من بني يشكر لشيبان:
وليت المسلمين بكفرتوثا ... عَلَى حالٍ يزلّ به القيام [1]
فِي أبيات. وقال رجل من الخوارج:
قد علمت خيلُك يا بن الصحصحْ ... بالزابيينِ والعيون تلمَحْ
إنا إِذَا صيح بنا لا نبرحْ ... إن الحديد بالحديد يُفْلح
لن نبرح الموصل حَتَّى تُفتح [2]
وقتل الحباب بن عمير بن الحباب، وقتل شقيق الغنوي فقال بعضُ الخوارج:
قَدْ عَلِمَتْ خيلك يا شقيق ... أنك من سُكرك لا تُفيق [3]
وقتل عَلَى لواء مروان سبعة عشر رجلا، وقال شيبان: قد ترون
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 241.
[2] ديوان شعر الخوارج ص 243.
[3] ديوان شعر الخوارج ص 244.(9/273)
ما نحنُ فيه من الضيق وقد رأيت أن نأتي بلدًا يتسع لكم به المعاش، فمن أراد الجهاد فليمض معي، فصبر معه قوم وتفرقت جماعة من الأعراب فلحقوا بأهاليهم، فأتى آذربيجان فِي أهل البصائر ومعه سليمان بن هشام بن عَبْد الملك، والمعمَّر بن شعبة، وكان ذا بصيرة فيهم، وانصرفَ مروان عَن الموصل وولاها عُثْمَان بن عَبْد الأعلى بن سراقة الأزدي، وهو الثبت، ويُقال زهير بن الأصم.
وكتب مروان إلى يزيد بن عُمَر بن هبيرة يعلمه خبر الخوارج، وأن طريقهم عليه، ويأمره بطلبهم وتوجيه الجنود إليهم.
قالوا: ووجّه مروان لطلب شيبان أبو سلمة مصعب بن الصحصح الأسدي فِي ألف، وشقيقًا السلمي فِي ألف، وصالِح بن حبيب فِي ألف، وعطيف بن بشر السلمي فِي ألف، وعليهم جَميعًا عَبْد الله بن عَبْد الْعَزِيز بْن حاتم بْن النعمان الباهلي، ووجه ابن هبيرة إليهم خيلا.
وأتى شيبان العراق منصرفًا من آذربيجان فنزل المدائن، فقال له المعمر بن شعبة: حَتَّى متى هذا الروغان؟ فقال شيبان: إن فِي مطاولتهم غيظًا لَهم ووهنًا عليهم، وخالفَ المعمر فِي بعض الأحكام ففارقه وصار مع المعمر عامة أصحاب شيبان. وقال المعمر:
رأيتُ اليشكري بنا فَرورًا ... فرار الْعَوْدِ لَجَّ به النداد [1]
وأتى شيبان الأهواز ومعه سليمان بن هشام ومنصور بن جمهور، ثُمَّ أتى فارس ومنصور معه فكانا مع عَبْد الله بن معاوية، وندم المعمر عَلَى فراق شيبان، وقال لأصحابه: قد وليته فتولوه فقد صدق ما كان قال.
__________
[1] العود: الجمل المسن، والنداد: الهرب. ديوان شعر الخوارج ص 242.(9/274)
ولقي المعمر عَامِر بن ضبارة فقاتله، فأصابت معمرًا جراحات مات منها، وتفرقَ أصحابُ ابن معاوية عنه، فمضى إلى هراة، ومضى سليمان إلى عُمان، ومنصور بن جمهور إلى السند، وتوجه شيبان إلى جزيرة ابن كاوان [1] فأقامَ بِهَا حَتَّى قدم عليه المسيح بن الحواري من قبل أبي العباس فقاتله فانهزمَ أصحاب المسيح والمسيح، وأتى شيبان عُمان فكره الجُلَنْدَي بن مسعود قدومه وقال: تركتُ مُهاجر الضحاك وجئت إلينا؟ فقال: يا أهل عُمان ما تكرهونَ مني؟ أما والله لئن ركبتُ المزنوق وشددتُ عليكم لأكثرنّ فيكم القتل، فنافرهُ الجلندي فقاتلهم حتى قتل.
[مقتل شيبان بن سلمة]
وكان يزيد بن سالِم الجحدري قَالَ له: هذا الليل فلا تقاتل. فأبى وقاتل ورُمِيَ، وأمسكوا عَن القتال فوُجد ميتًا. وقيل طعنه رجل فِي عينه، ثُمَّ جاءه سهم فمات فِي موضعه، واحتزّ رأسه رجل فنظر إليه يزيد بن سالِم فقال: ثكلتك أمك، أتدري أيّ رأس تحتزّ؟
وكان سليمان بن هشام قد تزوج ابنة شيبان فلمّا قتل شيبان رجع سليمان إلى البصرة، ثُمَّ تزوج امرأة بالكوفة واستؤمن له أبو العباس فأمنه، ثُمَّ أَنَّهُ قتل بعد ذلك.
المدائني قَالَ: قَالَ بشر بن محدوج: قد مت من عُمَان وشيبان بجزيرة ابن كاوان، فأُخذت فأُتي بي شيبان فإذا رجلٌ أهتم طويل عَلَى رأسه رجل يُظِله، ثُمَّ قَالَ: ما فعلَ الشيخُ الأزدي؟ - يعني الجلندي بن مسعود- قلتُ: عَلَى ما تحب فِي سمعه وطاعته. فتبسم ثُمَّ قَالَ: لئن بقيت له لأَلْقَيَنَّهُ بفتية يقولون اللهم لا ترجعنا إلى أهلينا.
__________
[1] ويقال لها جزيرة بني كان، وجزيرة لافت، بين عمان والبحرين. معجم البلدان.(9/275)
خبر يزيد بن عُمَر بن هبيرة والخوارج حين قدم العراق
قَالَ أبو الْحَسَن المدائني وغيره: كَانَ الضحاك ولى الكوفة سَعْدًا الخصي، وإِنَّما قيل له الخصي لأنه كَانَ أثَطّ [1] وهو من الأزد ثُمَّ عزله وولى الكوفة المثنى بن عمران العائذي من قريش وكان خارجيًّا.
ووجه مروان يزيد بن عُمَر بن هبيرة فِي ستين ألفًا وأمره أن ينزل نَهر سعيد، ثُمَّ إنه أمره بإتيان العراق وولاهُ إياه.
وبلغَ الضحاك ذلك فوجه الضحاك عبيدة بن سوار إلى الكوفة واليًا عليها ومعه منصور بن جمهور وغيره، وقال قوم: وجهه إلى العراق بعد قتل الضحاك، فبلغَ عبيدة مسيره إلى العراق فسرح إليه المثنى بن عمران ومنصور بن جمهور ومطاعن بن مطيع الأزدي وجحشنة العجلي، فقاتلوهُ بالأنبار وعليهم منصور بن جمهور، فهزمهم ابن هبيرة، وقتل المثنى بن عمران، وقال قوم: لم يقاتلهم بالأنبار ولكنه نزل الأنبار، ثُمَّ مضى إلى عين التمر فعارضه منصور، فالتقوا فقتل المثنى وانهزم منصور وأصحابه فدخلوا
__________
[1] الأثط: القليل شعر اللحية والحاجبين. القاموس.(9/277)
الكوفة، فجمع منصور جمعًا من اليمانية، ثُمَّ خرج إلى ابن هبيرة فالتقوا بالروحاء فقتل البرذون من مورق وانهزمَ منصور فدخلَ الكوفة، ثُمَّ خرج من ليلته فأتى عبيدة بن سوار وهو بالبصرة وأقامَ ابن هبيرة أيامًا ثُمَّ أقبل يريد الكوفة، فلقيه نَصْر بن فراس عامل عبيدة فقُتل نَصْر، قتله أبو عُثْمَان صاحب ابن هبيرة وانهزم أصحاب نَصْر، وظهر ابن هبيرة عَلَى الكوفة وأقامَ بالنخيلة أيامًا فبلغه أن عبيدة، يريد أن يسير إليه، فشخص من النخيلة وولى الكوفة رجلا ومضى يريد عبيدة، ووجه عبيدة مطاعن بن مطيع، فوجه إليه يزيد بن عُمَر بن هبيرة عطية التغلبي فالتقوا عَلَى قناطر السيب، فقتل مطاعن وابنه مجاهد، وقام بأمر عسكر مطاعن رجل يُقال له شيبان بن عَبْد الْعَزِيز الصغير، فقاتل عطية شهرًا وأتاهم عبيدة، واحتفرَ ابن هبيرة خندقًا بين عسكر عبيدة وشيبان هذا، وأظهرَ أَنَّهُ يتحول إليه فغلبه عبيدة وشيبان عَلَى ذلك الخندق فنزلاهُ، وعقدا جسرًا عَلَى الصراة.
وعزم ابن هبيرة عَلَى تبييتهم فلمّا صار إليهم وجدهم نيامًا، فكبّر أهل الشام فثار الخوارج إليهم وهم يحكّمون، وجعل أهل الشام يحكمون أيضًا. وقتل بعض الناس بعضًا ثُمَّ اقتتلوا أيامًا فقال عبيدة لأصحابه: حَتَّى متى نحن كذا قبّح الله العيش بعد مُطاعن، فقال له منصور: أذكرك الله فِي نفسك. فلم ينته وخرج هو وأصحابه، وعقر أصحاب عبيدة دوابهم ولم يعقر عبيدة فرسه ثم اقتتلوا وعلى ميمنة ابن هبيرة ابنه داود بن يزيد، عَلَى الميسرة نباتة بن حنظلة، فلقي أهل الشام منهم شرًّا حَتَّى كادوا يستعلونَ، وعبيدة عَلَى تل قد وقف عَلَى فرس له.
وقال داود بن يزيد لنباتة: يا أبا المقدام تأخر لي قليلا أحمل عليهم.(9/278)
فقال له: يا بن أخي أن الرجوع بعد التقدم قبيح بِمثلي، فتقدم داود فحملوا عليه فولّى، فأرسلَ ابن هبيرة إلى خالد بن الغزيل: اضرب داود ثلاثة أسواط فقنعه، ودنا نباتة من التل فانحدرَ عبيدة عَن التل ونزلَ عَن فرسه فغارَ الفرس، فلمّا رأوا الفرسَ غائرًا اضطربَ الناس فقاتلوا قليلا ثُمَّ جالوا فقتل عبيدة وقتل جحشنة العجلي، وانهزمَ فَلّ الخوارج نحو الكوفة، وهرب أبو طالب الحنفي نحو البصرة، وقدم ابن هبيرة وهرب منصور بن جمهور فأتى المدائن فنزل عَلَى عون بن عتاب الجرمي، فأودعه جارية له، وأودعَ حميدًا الأزرق مالا، وأقامَ بالمدائن حَتَّى قدم شيبان الأصغر المدائن، ثُمَّ رجعَ معه إلى فارس، ثُمَّ أتى منصور السند فغلب عليها، ثُمَّ هلك بِهَا.
وقال غيلان:
لقد جلبتَ الخيل من مغارها ... من غوطة الشام وأقصى دارها
فِي لجب أرعن من جرارها ... لا يعرف البلق من اعتكارها
كأنها الرايات فِي أقمارها ... عقبان دَجْن الظل فِي أقطارها
حَتَّى بعثت الخيل من مغارها ... إلى الصراة وإلى أنبارها
لشيخ شيبان وأصل دارها ... ولصّها الداعي إلى بوارها
فِي أبيات. وقال أيضًا:
يا صاحبي أبشر بِما مُنِّيتا ... من ملك لخيره دُعيتا
تريد يا بن الأربعينَ صيتا ... فِي بيت مجد تَجمع الشتيتا
سميت بالزائد إذ سميتا ... رآك مروان إذ انتضيتا
أهلا لما وُليت إذ وليتا ... نقاوة كنت لما انتقيتا
أبليتَ إحسانًا فما نسيتا ... إذ جئت بالصراة مستميتا(9/279)
جند ابن جمهور بهم أغريتا ... إِذَا خَبَت نارهم حميتا
حَتَّى ثُنوا قسرًا وما ثُنيتا ... يقول من مَرَّ به خُزيتا
إن كنت عطشانًا فقد رُوِيتَا
وكان منصور وقع فِي الماء ثُمَّ أخرج وقال غيلان:
لَما رأيت الملحدينَ أسرفوا ... وقادهم للحين دين أحنف
رميتهم بذي دهاء تزحف ... قواعد الأرض له وترجف
عَمْرًا أصابوا والمثنى أتلفوا ... وأم كردوس نساها ينطف [1]
ويوم روحاء العذيب ذففوا [2] ... عَلَى ابن موروق فأضحى ينزف
وهرب المجدول ركضًا يزحف
يعني منصور بن جمهور. وأم كردوس امرأة عبيدة.
وقال مسلم حاجب ابن هبيرة.
ألا هل أتى قيسًا وخندف وقعنا ... بأكناف عين التمر فِي حمير الحربِ
قتلنا بِها عَمْرو النفاق بكفره ... وأُبْنا بأسرى من تنوخ ومن كلبِ
وبالجسر أردينا المثنى وجمعه ... عَلَى حنقٍ والخيل تَجري عَلَى لجب
أَذَقْنَا ابن سوار عبيدة حتفه ... وألحقن منصورًا بمنقطع التُرب
وقال رجل من غَطَفَان:
إِذَا لواء أبي عُثْمَان صبحهُم ... ظنوا بأن المنايا تسبق القَدَرَا
لاقوا لدى الحرب آجالا مُعَجَّلةً ... وبالنخيلة ضربًا يجتلي القَصرا [3]
__________
[1] النسا: عرق من الورك إلى الكعب. ونطف الماء: سال. القاموس.
[2] أي أجهزوا.
[3] أي يزيل الأعناق.(9/280)
أمر شيبان الصغير بن عَبْد الْعَزِيز
ومضى شيبان إلى فارس فسار إليه عَامِر بن ضبارة لكتاب يزيد بن عُمَر بن هبيرة إليه فِي محاربته ومواقعته بأقاصي فارس، ثُمَّ صار شيبان إلى جيرفت من كرمان ففضّ عسكره، فهرب شيبان إلى سجستان، ثُمَّ صار من سجستان إِلَى خراسان، فكتب إِلَيْهِ جُديع بن عَليّ- ويُقال ابن سعيد- الأزدي وسعيد أثبت، وهو المعروف بابن الكرماني، وقد خالفَ عَلَى نَصْر بن سيار وخلع مروان. «إنك ونحنُ خالعونَ لمروان، فسر إليّ لنجتمع عَلَى محاربة أوليائه أولياء الشياطين» . فصار إليه فكانا يُحاربان نَصْر بن سيار، وأظهرَ أبو مسلم الميل إلى ابن الكرماني، وبعث إلى نَصْر بن سيار وإلى ابن الكرماني وشيبان: «إني رَجُل أدعو إِلَى الرضا من آل مُحَمَّد، ولستُ أعرض لكم، ولا أعين منكم أحدًا عَلَى صاحبه» .
وقوي أمر أبي مسلم، فوجه إلى ابن الكرماني- وقد كَانَ آنسه حَتَّى اغترّ به- من أتاهُ به فحبسه. وَكَانَ أَبُو مُسْلِم قَدْ وادعَ شَيْبَان إِلَى مدة، فوجّه إليه جيشًا فواقعوهُ فكشفوه، فصار إِلَى ناحية أبيورد وأهلها أول من سَوَّد،(9/281)
فكتب أَبُو مُسْلِم إِلَيْهِ أَن بايع للرضا من آل مُحَمَّد حَتَّى لا أعرض لَك، فبعث إِلَيْهِ: بَل بايعني أَنْتَ. فكتب أَبُو مُسْلِم إِلَى بسام بْن إِبْرَاهِيمَ مَوْلَى بَنِي ليث من كنانة وهو بأبيورد يأمره بِمناهضته فناهضه وقتله وأصحابه إلا عدَّة يسيرة تفرقوا فِي البلاد، ويُقال: بَل صاروا إِلَى نَصْر قبل هربه ثُمَّ تقطعوا.(9/282)
أمر عُمَر بن سالم الشيباني
قَالَ أبو الْحَسَن عَليّ بن مُحَمَّد المدائني وغيره: اعتقد عُمَر بن سالم بمسكن السواد وخرج إلى العامل بقطربلّ، وهو الحجاج بن عمارة، فهربَ فاتبعه فأخذه فقتله رجل من أصحاب عُمَر يقال له شنطيز، ورجع عُمَر إلى مسكن فأقام شهرين، فأتاه أهل الأنبار يشكونَ عاملهم عَليّ بن عمر الأسدي، وكان ابن هبيرة استعمله عليها فسار إليه، فلما عاينه العامل رمى بنفسه وفرسه فِي الفرات فهرب.
ثُمَّ أتى عُمَر بن سالِم كَرْخ بادُوريا، وعليها رجل يُقال له مروان، فقاتله فانهزمَ وتفرق أصحابه وقد قتل عُمَر منهم عشرين، وأصابَ عُمَر بالكرخ متاعًا فقسمه، وأقام بالكرخ في مائة، فبعث إليه ابن هبيرة أبا بكر الكلاعي فِي ألف فقاتله عُمَر بن سالِم فقُطعت يد عُمَر، فلم يزل ينزف حَتَّى مات، وقتل من أصحابه ثلاثونَ وانهزمَ الآخرون، واحتزَّ رأس عُمَر وحُملَ إلى يزيد بن عُمَر بن هبيرة فأنفذه إلى مروان.(9/283)
خبر عَبْد الله بن يحيى بن عَمْرو بن شرحبيل بن عَمْرو بن الأسود الكندي وعبد الله بن يحيى هو طالب الحق
أبو الْحَسَن المدائني وغيره عَن رجالِهم قالوا: كَانَ عَبْد الله بن يحيى الكندي، أحد بني عمرو بن معاوية بحضر موت، وكان مجتهدًا عابدًا، وكان أعور ورأيه رأي الإباضية يقول: قومنا كفار نعمة وليسوا بكفار بالله، نقاتلهم عَلَى بغيهم ولا نغنم لَهُم مالا، فرأى باليمن جورًا وعسفًا شديدًا وسيرة فِي الناس قبيحة، فقال لأصحابه: لا يحل لنا المقام عَلَى ما نرى ولا يسعنا احتماله والصبر عليه، فكتب إلى أبي عبيدة مسلم كورين مولى بني تَميم وإلى غيره من إباضية البصرة يشاورهم فِي الخروج فكتبوا إليه: إن استطعت ألا تقيم يومًا واحدًا فافعل، فإن المبادرة بالعمل الصالِح أفضل فإنك لا تدري متى يبلغ أجلك، ولله خيرة من عباده يبتعثهم إِذَا شاء لنصر دينه، ويخصّهم بالشهادة إكرامًا لَهُم بِهَا.
وشخص إليه أبو حَمْزَة المختار بن عوف بن عَبْد الله بن مازن بن مجاشر أحد بني سَليمة، وبلج بن عقبة، وكان قبل ذلك فِي الشرط بالبصرة وهو حُدّاني فِي رجال من الإباضية وهم أصحاب عَبْد الله بن إباض التميمي، فقدموا عليه حضرموت فحثّوهُ عَلَى الخروج، وأتوهُ بكتب أصحابه فقال:
إذا خرجتم فلا تَغُلّوا ولا تغدروا واقتدوا بسلفكم الصالِحين، وسيروا(9/285)
سيرتهم، فقد علمتم أَنَّهُ إنّما أخرجهم عَلَى السلطان العيب لأعمالهم فدعا أصحابه فبايعوهُ، فأتى دار الإمارة بحضرموت، وعلى حضرموت إِبْرَاهِيم بن جبلة بن مخرمة الكندي، فأخذوهُ فحبسوهُ يومًا، ثُمَّ أطلقوهُ فأتى صنعاء.
وأقامَ عَبْد الله بن يحيى بحضر موت، وكثر جمَعه، وسمّوه طالب الحق، ويُقال بل هو سمّى نفسه. وكتب إلى من بصنعاء من أصحابه: إني قادم عليكم، ثُمَّ استخلفَ عَلَى حضرموت عَبْد الله بن سعيد الحضرمي، وتوجه إلى صنعاء سنة تسع وعشرين ومائة فِي ألفين.
وبلغ القاسم بن عُمَر أخا يوسف بن عُمَر الثقفي، وهو عامل مروان عَلَى صنعاء مسير عَبْد الله بن يحيى، فاستخلفَ عَلَى صنعاء الضحاك بن زمل السَّكسكي، وخرج يريد ابن يحيى والإباضية، فلقوهُ بلحج، وهي قرية، وكان القاسم فِي عدد كثير، وعُدَّة ظاهرة، وسلاح شاك، فقتل من أصحاب القاسم بشر كثير، ومضى هو إلى صنعاء، ثُمَّ خرج منها واستخلفَ عليها ابن زمل، وأقبلَ عَبْد الله بن يحيى فنزل عَلَى ميلين من عسكر القاسم، فوجه إليه القاسم يزيد بن الفيض الثقفي فِي ثلاثة آلاف من أهل الشام واليمن فكانت بينهم مشاولة ثُمَّ تَحاجزوا، ثُمَّ قاتلهم الصَّلْت بن يوسف فقتل فِي المعركة، ثُمَّ قاتلهم يزيد بن الفيض ثُمَّ انهزم أهل صنعاء، فأراد أبرهة بن شرحبيل بن الصباح اتباعهم فمنعه عَبْد الله بن يحيى، ولحق يزيد بن الفيض بالقاسم فأخبره بقتل الصَّلْت فقال القاسم:
ألا ليت شعري هل أذودنَّ بالقنا ... وبالهندوانيات قبل مماتي
وهل أصبِحَنَّ الحارثين كلاهما ... بطعن وضرب يقطع اللهوات(9/286)
[خطبة عبد الله بن يحيى بأهل اليمن]
ودخل عَبْد الله بن يحيى صنعاء، فأخذ الضحاك بن زمل، وَإِبْرَاهِيم بن جبلة بن مخرمة الكندي فحبسهما، ثُمَّ جمع الخزائن والأموال فأحرزها، وأرسلَ إلى الضحاك وَإِبْرَاهِيم فأطلقهما، وقال: إِنّما حبستكما مخافة عليكما من العامة، وليس عليكما مكروه، فأقيما أو اشخصا، فخرجا.
ولَمّا استولى عَبْد الله بن يحيى عَلَى بلاد اليمن خطب فقال: «الحمد لله المتحمد بالآلاء، المنّان بالنعماء، ذي الأمر الغالب، والدين الواصب، أحمده فِي الضرّاء، وأشكره فِي السرّاء، وأستعينه عَلَى احتجاجه علينا، وأستهديه لِما يرضيه، وأؤمن به إسلامًا وإيمانًا، وأشهدُ أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله المصطفى ونبيّه المرتضى، أرسله بالحق عَلَى حين فترة من الرسل وكفر من الملل، واختلاف من الدول، والتباس من الحق، وانسحاق من الصدق، وظهور من الأعداء، وبُعْدٍ من الألفة، وأنزلَ عليه الكتاب، وشرع له الشرائع، وفرض له الفرائض، فقام بأمر الله صادعًا بالحق ناطقًا به، زاجرًا عَن الشبهات، داعيًا إلى النجاة، مجاهدا للمعاندين، رءوفا بالمؤمنين، عزيزًا عليه عَنَتُهم، حبيبًا إليه صلاحهم، حَتَّى كمل الإيمان، وأُخسئ الشيطان، وظهر النور، وزهق الباطل، وذل الكفر، وانقطعت الأحقاد، وسلمت الصدور، فجمعهم بعد التفرق، وأمنهم بعد الخوف، فأصبحوا عَلَى نعمٍ مذكورة، وكرامة مشهورة، ودين مقبول، وعلم محمول. ثُمَّ قبضه الله إليه فقيدًا، واختار له ما عنده حَميدًا، صلى الله عليه وعلى ذكره السلام، ورحمة الله وبركاته.(9/287)
أيها الناس إنكم حُذرتم عظيمًا، وخوفتم جسيمًا، لا تبلغه الصفات، ولا تُحيطُ به الأوهام، العذاب الأليم جهنم، وسعير ولظى والهاوية والحامية، وسقر التي لا تُبقي ولا تذر، نسألُ الله مولانا ولي الإحسان أن يجيرنا من عذابه الذي خوفنا، أيُّها الناس إنا نخيركم بين ثلاث خصال أيها شئتم فخذوا لأنفسكم، رحم الله امرأ أخذ الخيار لنفسه: إما قَالَ امرؤٌ بقولنا، ودان بالدين الذي دِنَّا فحملته نيته عَلَى أن يُجاهد معنا بنفسه، فيكون له من الأجر ما لأفضلنا، ومن قَسْم الفيء ما لبعضنا، أو قَالَ هذا القول ثُمَّ أقام فِي داره، فدعا الناس إليه بقلبه ولسانه فَعَلَهُ، إلا يكون ذلك أخسّ منازله، أو كرهنا فليخرج بأمان إلى ماله وأهله، ويكُفّ عنا يده ولسانه، فإن ظفرنا لم يكن عَرَض لنا نفسه، ولم يحملنا عَلَى سفك دمه، وإن قتلنا كَانَ قد كُفِيَ مؤونتنا، وعسى ألا يُعَمّر بعدنا إلا قليلا.
ندعو: إلى الله، وإلى كتابه، وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونجيبُ من دعا إليها، الإسلام ديننا وَمُحَمَّد نبينا والكعبةُ قبلتنا والقرآنُ إمامنا، رضينا بالحلال حلالا لا نبغي به بدلا، ولا نشتري به ثمنًا، ولا قوة إلا بالله، وإلى الله المشتكى وعليه المعَوّل.
ندعو: إلى فرائض بيّنات محكمات، وآثارٍ مقتدى بِهَا، ونشهدُ أن الله صادق فيما وعد، عدل فيما حكم.
ندعوا: إلى توحيد الرب، واليقين بالوعيد، وأداء الفرائض، والأمر بالمعروف، والنهي عَن المنكر، والولاية لأهل ولاية الله، وإن من رحمة الله أن جعل فِي كل فترة بقايا من أهل العلم يدعونَ من ضلّ إلى الهدى ويصبرونَ عَلَى الألم فِي حب الله، يُقتلونَ فِي سالف الدهر فما نسيهم ربّهم(9/288)
وما كان ربك نسيّا [1] ، أوصيكم بتقوى الله وحُسْن القيام عَلَى ما وكلكم بالقيام به، قابلوا الله حسنًا فِي أمره وزجره» .
[أبو حمزة الخارجي يستولي على مكة]
وأقامَ عَبْد الله بن يحيى بصنعاء أشهرًا حسن السيرة، لينّ الجانب كافًّا عَن الناس، فكثر جَمعه، وأتوهُ من كل وجه، فلمّا كَانَ فِي وقت الحج وجه أبا حَمْزَة المختار بن عوف السلمي، وبَلج بن عقبة الأزدي، وأبرهة بن الصباح الحميري إلى مكة في تسعمائة، ويُقالُ فِي ألف ومائة وأمره إِذَا صدر الناس أن يقيم بمكة، ويوجه بلجًا إلى الشام. فأقبلَ المختار إلى مكة فقدمها يوم التروية وعليها عَبْد الْوَاحِد بْن سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الْمَلِك، وأمه ابنة عَبْد الله بن خالد بن أسيد، فكره قتالهم، فقال لعبد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن بْن عَلِي بن أبي طالب: إني لا آمن أن تفسد هذه العصابة عَلَى الناس أمرهم، فلا يتم للناس فِي عامهم هذا حج فلو لقيتهم فسألتهم أن يكفّوا حَتَّى ينقضي الموسم وأخرج لَهم عَن مكة، فأتاهم عَبْد الله بن الْحَسَن فِي رهطٍ معه، فقال لأبي حَمْزَة: أيها الرجل إنك أتيت بلدًا حرامًا فِي يومٍ عظيمة حرمته فأم أصحابك، ويَؤُم الوالي أصحابه، فإذا أفاضَ الناس وقضوا مناسكهم رأيت رأيك فِي الحرب وخرج عنك. فأجابه إلى ذلك، فصلى عَبْد الواحد ووقف بالجماعة، وصلى أبو حَمْزَة بأصحابه ووقف بِهم، ولم يعرض لأحد حَتَّى صدر الناس، وخرج عَبْد الواحد بن سليمان إلى المدينة فقال مولى لعثمان بن عَفَّان- ويُقالُ قاله موسى شهوات- يعيبُ عَبْد الواحد لتركه البلاد وخروجه عنها:
جاء الذين يُخالفونَ بدينهم ... دين الإله ففر عبد الواحد
__________
[1] سورة مريم- الآية: 64.(9/289)
ترك القتال وما به من علة ... إلا الوهون وعرقه من خالد
وكان النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عَلَى آل خالد بن أسيد أن يُلزمَهم العجز ويحرمهم النصر.
لو أن والده تخيّر أمه ... لَصَفَتْ مضاربه لعرقٍ صاعد
وقال بعضهم أن هذا الشعر لابنة عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز.
وقال عَبْد الحميد بن يحيى بن فالح بن عباس بن مرداس السُّلمي:
طوى الخيل طي العصب حَتَّى إِذَا انطوت ... أياطل منها وهي وار فصيدها
فشد عَلَى أهل الحصاب وكاثروا ... ببطن منًى والْبُدْنُ صرعى خدودها
فِي أبيات.
وأقام أبو حَمْزَة بِمكة، ووجه رجلا إلى الطائف، فخرج أهل الطائف عَن القرية والحصن، فقال عامل الطائف: يا أهل الطائف أين رجالكم؟
فقال له أبو ولهية مولى بني علاج: أصلحكَ الله رجالنا غَيب ونحن مغيبات فاحفظنا فيهم، فأمنهم وقال: هم آمنون. فرجعوا إلى الطائف.
ونادى منادي أبي حَمْزَة أربعة أيام، فِي كل يوم: الناس آمنون إلا من حاربنا. ولم يزل مقيمًا حَتَّى خرج إلى قديد.
[خطبة أبي حمزة في أهل مكة]
ولَمّا أخذ أبو حَمْزَة مكة صعد المنبر متوكئًا عَلَى قوس عربية فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لا يُقدم ولا يحجم إلا بأمر الله ووحيه، أنزل عليه كتابه وبيّن له ما يأتي وما يتقي فيه، فلم يكن فِي شيء من دينه شبهةً حَتَّى قبضه الله إليه، وقد علّم المسلمين معالِم دينه، وولى أبا بكر صلاتهم وهي عماد دينهم، فولاهُ المسلمونَ أمر دنياهم فقاتلَ أهل الردة، وعمل بالكتاب والسنة حاسرًا عَن ذراعيه حَتَّى قبضه الله إليه رحمة الله عليه.(9/290)
وولي عُمَر بعده، فسار سيرة من كَانَ قبله، وجبى الفيء، وأعطى الأعطية، ومصر الأمصار، ودوّن الدواوين، وجمع الناس عَلَى قيام شهر رمضان، وجلد فِي الخمر ثَمانين، وغزا العدو فِي ديارهم، ثُمَّ مضى لسبيله عَلَى منهاج صاحبه، وقد جعلها شورى، فرحمة الله عليه.
ثُمَّ ولي عُثْمَان فسار دون سيرة صاحبيه ست سنين، ثُمَّ أحبط فيما مضى له ومضى لسبيله.
ثُمَّ ولي عَليّ بن أبي طالب، فكان عَلَى سداد، حَتَّى حكّم فِي كتاب الله، وشكّ فِي دينه فلم يبلغ من الحق قصدًا، ولم يرفع له منارًا.
ثُمَّ ولي معاوية لعين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن لعينه [1] ، فاتخذ عباد الله خَوَلا، ومال الله دُوَلا، ودينه دَغَلا، ثُمَّ مضى لسبيله ناكبًا عَن الحق، مداهنًا فِي الدين.
ثُمَّ ولي يزيد ابنه فصيص لعنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفاسق فِي بطنه وفرجه، فمضى عَلَى منهج أبيه، لا يعرف معروفًا ولا يُنكرُ منكرًا.
ثُمَّ ولي مروان وبنو مروان، فسفكوا الدم الحرام، وأكلوا المال الحرام، فأمّا عَبْد الملك فجعل الحجاج له إمامًا وإلى النار قائدًا. وأمّا الوليد فسفيه أحمق منهوك فِي الضلال يخبطها عشواء مظلمة. وسليمان وما سليمان همه بطنه وفرجه فالعنوهم لعنهم الله، إلا أَنَّهُ قد كَانَ منهم عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز هَمّ فلم يفعل وقصرّ عما همّ به.
ثُمَّ ولي بعده يزيد بن عَبْد الملك فاسق لم يؤنس منه رشد، وقال الله فِي
__________
[1] بهامش الأصل: استغفر الله من سب الصحابة، بل رضي الله عنهم.(9/291)
اليتامى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أموالهم [1] فأمر أمة مُحَمَّد أعظم من مال اليتيم، مأبون فِي بطنه وفرجه، حيك له بردان فارتدى بأحدهما واتزرَ بالآخر، ثُمَّ أقعد حبابة عَن يمينه وسلامة عَن يساره، وقال:
يا حبابة غنيني، ويا سلامة اسقيني حَتَّى ثمل سكرًا، وأخذت الخمر مأخذها منه شق ثوبيه، وقد اتخذ بألف دينار بعد أن ضُربت فيهما الأبشار، وحُلقت الأشعار، وهُتكت الأستار، وأُخذ ما أنفق عليهما من غير حِلّه، ووضع فِي غير حقه، ثُمَّ التفت إلى إحداهما فقال: ألا أطير. بلى، فطر إلى النار، أفهكذا صفة خلفاء الله؟! وقد حضرت كتابًا كتبه إليكم هشام فِي حَطْمَةٍ [2] كانت، أرضاكم به وأسخطَ ربه ذكر فيه أَنَّهُ قد ترك لكم صدقاتكم فزادت الغنيّ غنًى والفقير فقرًا، فقلتم جزاهُ الله خيرًا، بل لا جزاهُ الله إلا شرًا، فلقد كَانَ بخيلا بِماله سخيًّا بدينه، فهؤلاء بنو أمية، فرق الضلالة، بطشهم بطش جبرية يأخذونَ بالظن، ويحكمونَ بالهوى، ويقتلونَ عَلَى الغضب، ويقضونَ بالشفاعة، ويأخذونَ الصدقة من غير موضعها. ويجعلونَها فِي غير أهلها، وقد بيّن الله أصنافها الثمانية [3] ، فجاء صنف تاسع ليس له منها شيء، فأخذها كلها، فهي الفرقة الحاكمة بغير ما أنزلَ الله، وأمّا هذه الشيع فشيع جهلت كتاب الله، وأعظمت الفرية عَلَى الله، لم يقاربوا الناس بعمل بالغ
__________
[1] سورة النساء- الآية: 6.
[2] الحطمة: السنة الشديدة. القاموس.
[3] انظر قوله تعالى في سورة التوبة- الآية: 6: إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم.(9/292)
فِي الدين، ولا ببصر نافذ فِي القرآن، ينكرونَ المعصية عَلَى من عملها، ويرتكبونَ أعظم منها، يبصرونَ الفتنة ولا يعرفونَ المخرج منها، يؤملونَ الدول فيما بعد الموت، ويؤمنون ببعث إلى الدنيا قبل يوم القيامة، جُفاة عَن الدين أتباع كهان، قلدوا دينهم من لم ينظر لهم قاتلهم الله أنّى يؤفكون [1] .
يا أهل مكة إنكم تعيروني بأصحابي وتزعمونَ أَنَّهم شباب، وهل كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا شبابًا، أما إني عالم بتتابعكم فيما يضركم فِي معادكم، ولولا اشتغالي بغيركم ما تركتُ الأخذ فوق أيديكم، نعم شباب متكهلون فِي شبابِهم، غيبة عَن الشر أعينهم، بطيئة عَن الباطل أرجلهم، قد نظر الله إليهم فِي حنادس الليل منثنية أصلابهم بمثاني القرآن، إِذَا مرّ أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقًا، وإذا مرّ بآية فيها ذكر النار شهق شهقة حَتَّى كأن زفير جهنم فِي أذنيه، قد وصلوا كلالهم بكلالهم كلال ليلهم بكلال نَهارهم، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفّرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم، أنضاء عبادة مستقلونَ لذلك فِي الله، موفونَ بعهده ومتنجزونَ لوعده، إِذَا رأوا سهام العدو وقد فوقت ورماحهم قد أُشرعت وسيوفهم وقد انتُضيت، وبَرَقت الكتيبة، ورعدت بصواعق الموت، استهانوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، فمضى الشاب منهم قدمًا حَتَّى تختلف رجلاهُ عَلَى عنق فرسه، وقد زملت محاسن وجهه بالدماء، وعفر جبينه بالثرى، وأسرعت إليه سباع الأرض، فكم من عين فِي منقار طائرٍ طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من كف بائنة طالما اعتمد عليها
__________
[1] سورة التوبة- الآية: 30.(9/293)
صاحبها فِي سجوده فِي جوف الليل لله، وكم من خَدّ رقيق وجبين عتيق قد فُلق بعُمد الحديد، رحمة الله عَلَى تلك الأبدان، وأدخل أرواحها الجنان» .
- وقعة قديد:
قالوا: وكتب عَبْد الواحد بن سُلَيْمَان إلى مروان يعتذر من خروجه عَن مكة ويخبر أن الناس خذلوه، ويُقال بل خرج إلى مروان بن مُحَمَّد فشافهه بِهذا، فكتب مروان إلى عبد العزيز بن عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز، وَهُوَ عامله عَلَى المدينة يأمره أن يوجه جيشًا إلى مكة، فوجه ثَمانية آلاف من قريش والأنصار وغيرهم من التجار، واستعملَ عليهم عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بن عَفَّان، وأمه ابنة عَبْد الله بن خالد بن أسيد، فخرجوا فِي المصبغات ومعهم الملاهي لا يكترثون بالخوارج، ولا يرونَ إلا أَنَّهم فِي أكفهم.
وسقط لواء عَبْد الْعَزِيز حين خرج من المدينة فتطير الناسُ وغمّهم ذلك فقال رجلٌ من قريش: لو شاء أهلُ الطائف لكفونا أمر هذه المارقة، أما والله لئن ظفرنا لَنَسْبِيَنَّ أهل الطائف. من يشتري مني سَبْيَ أهل الطائف؟
فلمّا التقوا بقديد، حين التقوا، وانهزمَ أهل المدينة قَالَ لخادمته: غاق باق- يريد أغلقي الباب دهشًا وذلك بعد أربعة أيام يرى أَنَّهم خلفه- فلمّا كَانَ أهل المدينة بذي الحليفة عرضهم عَبْد الْعَزِيز، فمر به أمية بن عنبسة بن سعيد بن العاص فرحّب به وضحك فِي وجهه، ومَرَّ به حَمْزَة بن مصعب بن الزبير فلم يكلمه ولم يلتفت إليه، فقال له عمران بن عَبْد الله بن مطيع:
سبحان الله، مَرّ بك شيخ من شيوخ قريش فلم تلتفت إليه، ومَرَّ بك غلام(9/294)
من بني أمية فضحكت إليه وألطفته؟ أما والله لئن التقى الجمعان لتعلمن أيهما أصبر.
فلمّا التقوا وانهزمَ الناس قَالَ أمية بن عنبسة لغلامه: يا مُجنب أدن مني فرسي فلعمري لئن أجررت نفسي بسبب هَؤُلَاء الأكلب إني لعاجز، وركب فرسه فمضى، وصبر حَمْزَة حَتَّى قتل.
قَالَ الهيثم: وشد رجل من الخوارج فجعل يقاتل وهو يقول:
وخارج أخرجه حب الطمع ... فرَّ من الْمَوْت وَفِي الْمَوْت وقعْ
من كَانَ ينوي أهله فلا رجع
قالوا: وبلغ أبا حَمْزَة المختار بن عوف إقبال أهل المدينة إليه، فاستخلفَ عَلَى مكة أبرهة بن شرحبيل بن الصباح الحميري، وسار إليهم وعلى مقدمته بلج بن عقبة، وصار بإزائهم، وهو بقديد، فقال لأصحابه:
إنكم لاقونَ قومًا أميرهم عُثْمَان بن عَفَّان أول من خالف سيرة الخلفاء، وبدّل السنة، قد بين الصبح لذي عينين فأكثروا ذكر الله وتلاوة القرآن.
وصبَّحهم غداة الخميس لسبع- أو تسع- بقين من صفر سنة ثلاثين ومائة، فقال عَبْد الْعَزِيز لغلامه: ابغنا علفًا. قَالَ: هو غالٍ. قَالَ:
ويحكَ البواكي علينا غدًا أغلى.
وأرسلَ المختار إليهم بلج بن عقبة ليدعوهم، فأتاهم فِي ثلاثينَ راكبًا، فذكرهم الله، وسألهم أن يكفوا أيديهم عنهم حَتَّى يسيروا إلى مروان وقال: خلّو سربنا لنلقى من ظلمكم وجار فِي الحكم عليكم ولا تجعلوا حدّنا بكم، فإنا لا نريد قتالكم، فشتمهم أهل المدينة وقالوا: نخليكم وندعكم تفسدونَ فِي الأرض، فقالت الخوارج: يا أعداء الله، ونحنُ نفسد فِي الأرض؟ وإنما خرجنا لنكفّ الفساد، ونقاتلَ من استأثرَ بالفيء عليكم(9/295)
فانظروا لأنفسكم واخلعوا من لم يجعل الله له طاعة، فإنه لا طاعة لِمن عصى الله، وادخلوا فِي السلم وعاونوا أهل الحق.
فقال عَبْد الرزاق [1] : ما تقول فِي عُثْمَان؟ قَالَ: قد برئ المسلمونَ منه قبلي وأنا متبع آثارهم ومقتدٍ بهم وبِهديهم، فقال عَبْد الْعَزِيز: فارجع إلى أصحابك فليس بيننا إلا السيف فرجع إلى أبي حَمْزَة فأخبره فقال: كفّوا عنهم حَتَّى يبدءوكم بالقتال.
ورمى رجلٌ بسهم فِي عسكر أبي حَمْزَة فأصابَ رجلا، فقال أبو حَمْزَة:
شأنكم فقد حلّ قتالهم، فحملوا عليهم ولافّ بعضهم بعضًا ساعة ثُمَّ انكشفَ أهل المدينة فلم يتبعوهم، فكرّوا فاقتتلوا قليلا ثُمَّ هزمهم أبو حَمْزَة.
وقال رجلٌ من الأنصار من بني زريق: الحمد لله الذي أذلّ قريشًا.
وإلى جنبه عمارة بن حَمْزَة بن مصعب، فضربه عمارة فقتله.
وكانت راية قريش مع إِبْرَاهِيم بن عَبْد الله بن مطيع، وقتل من أهل المدينة من الأنصار ثَمانونَ، ومن قريش ثلاثمائة ويقال أربعمائة وخمسون، ومن القبائل والموالي ألف وسبعمائة. ويُقال كَانَ القتلى أربعة آلاف.
وعرض أبو حَمْزَة من أُسر فِي المعركة فمن كَانَ قريشا قتله، ومن كَانَ أنصاريًّا خلّوا سبيله، وأتوه بِمحمد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، وهو أخو عَبْد الْعَزِيز، فقال: أنا أنصاري، وشهد له قوم من الأنصار، فقال رجلٌ من اليمانية: والله ما هذا بَدَنُ أنصاري، وما هو إلا بدن قرشي.
وقتل من آل الزبير جَماعة، وهرب أمية بن عبد الله بن عمرو بن
__________
[1] كذا بالأصل وأرجح أنها تصحيف «عبد العزيز» .(9/296)
عُثْمَان، وهرب عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان أمير القوم، ومضى بلج إلى المدينة، فدخلوا جَميعًا فِي طاعته وبايعوه، فكف عنهم ورجعَ أبو حَمْزَة إلى مكة.
وخاصم بنو زُريق آل الزبير فِي صاحبهم الذي قتله عمارة بن حَمْزَة بن مصعب بن الزبير فقال لَهم آل الزبير: إن حَمْزَة قد قتل فِي المعركة ففيم الكلام، ولم يبق بيت فِي المدينة إلا وفيه مصيبة، فكانوا يقولون: لعن الله السراقي ولعن بلجًا العراقي فإنهما أهل شقاق، وضلال ونفاق. والسراقي أبو بكر مُحَمَّد بن عَبْد الله بن عَمْرو، من آل سراقة بْن المعتمر بْن أنس بْن أذاه بْن رِياح بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب من بني عدي بن كعب، كَانَ مع بلج بن عقبة، وكان السراقي عَلَى شرطة حَمْزَة.
وقال ابن الكلبي: كَانَ مع طالب الحق أبو بكر الأشل بْن مُحَمَّد بْنِ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَبْد اللَّهِ بْن مؤمل بن حبيب بن تَميم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن قرط بْن رزاح بن عدي بن كعب، وإنّما قيل السراقي لأن سراقة كَانَ شريرًا. قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيه [: «أشد النَّاس عذابا كُلّ جَعّار نَعّار صخاب فِي الأسواق مثل سراقة بن المعتمر» [1] ،] ويُقال إن اسم السراقي أيوب بن مُحَمَّد ويُكنى أبا بكر، ويُقال إنه أيوب بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عُثْمَان بْن عَبْد الله بن سراقة بن المعتمر.
وقالت نائحة تبكيهم:
ما للزمان ومالِيَهْ ... أفنى قديد رجالَيهْ
فلأبكينّ سريرةً ... ولأبكينّ علانيهْ
__________
[1] ترجم له ابن حجر بالاصابة وروي هذا الحديث عن البلاذري.(9/297)
ولأبكينّ إِذَا خلوت ... مع الكلاب العاويهْ
ولأثنينّ عَلَى قديد ... بسوء ما أبلانيهْ
وقال بعضهم:
أصابوا عَلَى وادي قديدٍ مناسرًا ... أتتها مناياها فَخَفَّتْ وفودها
جنائز صدق لَمْ تصب بجريرةٍ ... ولم تنتقض بعد الرسول عهودها
وقال عُمَرو بن الْحَسَن مولى من أهل الكوفة كَانَ إباضيًا:
وما بال همّك ليس عنك بعازب ... يمري سوابق دمعك المتساكبِ
وتبيت تكتلئ الهموم بمقلة ... عبرى تسرّ بكل نجم آئب
أخشى معاجلة المنون بداهةً ... لَم أقْضِ من دمع الشراة مآربي
فأقود فيهم للعدى شنج النسا ... محضُ الشوى أشرانَ ضَمّ الحالب [1]
متجددًا كالسيد أخلص لونُه ... ماء الحشيك من الجلال اللاتب [2]
أرمي به من جَمْع قومي معشرًا ... بورًا ألى جبرية ومعايب
فتجول نحن وهم وفيما بيننا ... كأس المنون تقول هل من شارب
فنظل نسقيهم ونشربُ من قَنَا ... سُمر ومرهفة الشفار قواضبِ
بينا كذلك نحن جالت طعنةٌ ... نجلاء بين رهائبي وترائبي [3]
جوفاء منهرة مرى تامورها [4] ... ظبتا سنان كالشهاب الثاقب
__________
[1] شنج النسا: متقبض العرق، يعني فرسا غير مترهل. عبل الشوى: ممتلئ الأطراف.
أشران: شديد المراح.
[2] السيد: الذئب. الحشيك: الحسيك. والجلال: الجل الذي يغطي به ظهر الفرس، واللاتب: اللاصق.
[3] الرهائب: عظام مشرفة على البطن، والترائب: أعالي الصدر.
[4] مرى: استدر واستخرج. التامور: الدم.(9/298)
يا رب أوجبها ولا تتعلّقَنْ ... نفسي المنون لدى أَكُفّ قرائبي
فِي فتية صبر أَلُفُّهُمُ بِهم ... لفّ القداح يد المفيض الضارب [1]
فِي أبيات:
وقعة وادي القُرى:
قالوا: وسار أبو حَمْزَة إلى المدينة، وولى مكة أبرهة بن شرحبيل بن الصباح، وبلغ مروان خبر قديد فوجه عَبْد الملك بن مُحَمَّد بن عطية، أحد بني سعد بن بكر فِي أربعة آلاف وفيهم فرسان أهل الشام، منهم رومي بن ماعز القيسي، ومنهم من أهل الجزيرة ألف اشترطوا عَلَى مروان فقالوا: إِذَا قتلنا الأعور قفلنا إلى الجزيرة، فقال الشاعر:
فلمّا أتى مروان بالصدق عنهم ... رصين من الأخبار لا يستزيدها
دعا أين من يحمي المساجد فاعترت ... مصاليت من قيس كرام جدودها
يداوونَ داءً أو يفيئونَ مغنمًا ... ومجدًا عليها حين تَنْدَى لُبودها
وسار عَبْد الملك وأصحابه مسرعين فَحَدا حاديهم:
حَرَّم مروان عليهنّ النوم ... إلا قليلا وعليهنّ القوم
حَتَّى تَبين أو يقلن بالدّوم [2]
وهاب الناس عَبْد الملك وأصحابه فتفرقوا فِي المياه، فلما أتى بلاد خثعم هربوا ومعهم غلام من كنانة، فلما أمنوا قالوا: من يغنينا ويسوق بنا؟. قَالَ الكناني: أنا. فنزل فساق وهو يقول:
__________
[1] القداح: السهام والمفيض: الذي يدفع السهام ويرمي بها. ديوان شعر الخوارج ص 251- 252 مع فوارق.
[2] الدوم: الظل الدائم. معجم البلدان.(9/299)
ألا إنني بالٍ عَلَى جمل بال ... يقود بنا بال ويحدو بنا بال
فتغيروا وقالوا: قبحك الله ويحك ما تريدُ بنا؟.
وقال أبو صخر الهذلي حين بلغهم قدوم عَبْد الملك بن مُحَمَّد وسرهم قدومه:
قل للذين استضعفوا لا تعجلوا ... أتاكم النصر وجيش جحفلُ
عشرونَ ألفًا كلّهم مسربل ... يقدمهم جلد القوى مستبسلُ
دونكم ذا أيمن فأقبلوا ... وواجهوا القوم ولا تستعجلوا
عبد المليك القلبي الحول ... أقسم لا يفلى ولا يرجل
حتى يبيد الأعور المضلل ... ويقتل الصباح والمفضل
الأعور: عَبْد الله بن يحيى طالب الحق.
وقال أبو وجزة:
قل لأبي وجزة هيد هيد [1] ... أتاكَ بالغادية الصنديد
فارجع كما قد جئت من بعيد
فبعث أبو حَمْزَة بلج بن عقبة فِي ستمائة ليقاتل عَبْد الملك، فلقيه بوادي القرى فِي جمادى الأولى سنة ثلاثين ومائة، وتواقفوا ودعاهم بلج إلى السنة والعمل بكتاب الله، وذكروا ظلم عَبْد الملك وحكمه بالهوى فشتمهم أهل الشام، وقالوا: أنتم أولى بِما ذكرتم.
ثُمَّ حمل عليهم بلج وأصحابه فانكشفَ أهل الشام، وصبر عَبْد الملك فِي عُصَيْبَةٍ ونادى: يا أهل الشام وأهل الحفاظ ناضلوا عَن دينكم وأميركم، فكرّوا وصبروا وقُتل بلج وأكثر أصحابه، واعتصم رجل من همدان يقال له
__________
[1] هيد هيد: زجر للإبل. القاموس.(9/300)
الصباح فِي مائة من الإباضية فجعل يقاتلهم عَبْد الملك ثلاثة أيام فقتل منهم سبعونَ، ورجعَ إلى المدينة ثلاثون، ونصب عَبْد الملك رأس بلج عَلَى رمح فقال أبو وجزة أحد بني ظفر:
ورأس بلج مجتلى محزوز ... في عمد من خشب مرزوز
[أخبار أبي حمزة]
وقالوا: قدم الذين فروا من وادي القرى إلى أبي حَمْزَة وقالوا: فررنا من الزحف، فقال أبو حَمْزَة: أنا لكم فيئة، وخرج أبو حَمْزَة عَن المدينة إلى مكة واستخلفَ عليها رجلا يُقالُ له المفضل، فقاتلهم العبيد وأهل السوق، فقتل المفضل وعامة أصحابه، وهرب الباقون فلم يبق من الإباضية بالمدينة أحد، فقال أبو البيضاء شميل مولى زينب، من ولد الحكم بن أبي العاص:
ليت مروان دنا ... يوم الاثنين عشيَّهْ
إذ غسلنا العار عنا ... وانتضينا المشرفيّهْ
ثُمَّ إن عَبْد الملك بن مُحَمَّد بن عطية قدم المدينة فأقام بِهَا شهرًا، ثُمَّ خرج إلى مكة والمختار بن عوف بِهَا فقال: يا أهل مكة، هَؤُلَاء الذين سألناكم عنهم فقلتم يجورونَ ويظلمونَ فلا تعينوهم علينا.
ولقي عَبْد الملك الخوارج من وجهين وقد جعل أصحابه فرقتين فصير طائفة بالأبطح، وصار هو والطائفة الأخرى بأسفل مكة، فاقتتلوا وهزم أهل الشام حَتَّى انتهوا إلى عقبة منى، ثُمَّ كرّوا فقاتلوهم وصبروا فقتل أبرهة، كَمَنَ له ابن هَبّار القرشي عِنْد بئر ميمون فقتله، ويُقال قتله بالأبطح، وتفرق الخوارج.
ولقي أبو حَمْزَة عَبْد الملك بن مُحَمَّد بأسفل مكة فاقتتلا فقتل المختار بن عوف أبا حَمْزَة عَلَى فم الشعب، وقتلت معه امرأته وهي تقول:(9/301)
أنا ابنة الشيخ الكريم الأعلم ... من سال عَن اسمي فاسمي مريمِ
بِعْتُ سواريَّ بسيفٍ مخذمِ [1]
وتفرق الخوارج، وأسر أهل الشام منهم أربعمائة فدعاهم عَبْد الملك فقال: ما دعاكم إلى الخروج؟ فقالوا: ضمن لنا أبو حَمْزَة الكنَّة- يريدون الجنة-. فقتلهم، وصلب المختار، وأبرهة بن شرحبيل بن الصباح الحميري عَلَى فم شعب الخيف.
ودخل عَليّ بن الحصين دارًا من دور قريش فأحاطَ أهل الشام بِهَا فأحرقوها فلما رأى ذلك رمى بنفسه من الدار، فقاتلهم فأُسرَ فقُتل وصُلب مع المختار، فلم يزل مصلوبًا حَتَّى استخلفَ أبو العباس أمير المؤمنين فحج المهلهل الهُجيمي فاستنزلهُ ليلا فدفنه.
وقال أبو وجزة:
الله أخزى أبرهًا وبلجا ... ومن طغى فِي دينه واعوجَّا
وتوارى السراقي فلم يظهر حَتَّى قام أمير المؤمنين أبو العباس، وقال بعضهم: قتل مع أبي حَمْزَة.
وكان بمكة مخنثان: يقال لأحدهما أُسَيْلِتٌ، وللآخر صَعْتَرة، فكان أسيلت يرجف بالإباضية فقتلوه، وكان صعترة يرجف بأهل الشام فأخبروا بخبره فقتلوه، وقال قبل أن يُقتل: يا ويلي إنما كنا نعبث ونتكاذب.
وطار دم صعترة من الفزع فكان يقال: أصفى دمًا من صعتره، لأن دمه كَانَ صافيًا من الفزع.
وقال المدائني: قاتل أبو حَمْزَة، وهو عليل وقد غسل رأسه، واعتمّ
__________
[1] المخذم: القاطع. ديوان شعر الخوارج ص 245.(9/302)
وهو يقول:
أحمل رأسًا قد مللتُ حملهْ ... وقد مللت دهنه وغسلهْ
ألا متى يطرح عني ثقلهْ
فأجابه أبو مُحَمَّد بن عطية:
أصبتَ من يطرح عنك ثقله ... يكفيكَ بالسيف الصقيل حَمْلَهُ
ويُقال إن الذي قَالَ هذا طالب الحق نفسه.
[مقتل عبد الله بن يحيى طالب الحق]
ومضى فَلُّ الإباضية إلى اليمن، وبعث عَبْد الملك عروة بن عطية بالفتح إلى مروان، وأقبل عَبْد الله بن يحيى الإباضي، وهو طالب الحق من صنعاء، وشخص إليه عَبْد الملك وقد استخلفَ بِمكة والطائف خلفاء، فالتقيا بكثبة [1] ، فأكثرَ أهل الشام فِي الخوارج القتل، وتشاغلَ أهل الشام بالغنيمة والنهب، وركبهم الإباضية، فذمرهم عَبْد الملك فكروا وقاتلوا أشد قتال، ثُمَّ تحاجزوا وباكروا للقتال فترجل عَبْد الله بن يحيى وترجل معه ألف رجل وقاتلوا، وجعل عَبْد الله بن يحيى يُقاتل وهو يقول:
أضرِبُ قومًا حَبِطتْ أعمالهم ... الله مولانا ولا مولى لَهم
فقُتل عَبْد الله بن يحيى، وكان أعور، وانهزمَ أصحابه، وقتلوا فِي كل وجه، ولحق فَلُّهم بصنعاء فقال أبو صخر الهذلي:
قتلنا دغيشًا والذي يكتني الكُنى ... أبا حَمْزَة الغاوي المضل اليمانيا
وأبرهة الكندي أردت رماحنا ... وبلجًا صبحناه الحتوف القواضيا
وما تركت أسيافنا يوم جُرِّدت ... لِمروان جبارًا من الناس عاديا
__________
[1] الكثبة: المطمئنة من الأرض بين الجبال. القاموس.(9/303)
خبر صنعاء وأمر يحيى بن عَبْد الله بن عَمْرو بن السَيّاق الحميري:
قَالَ أبو الْحَسَن عَليّ بن مُحَمَّد المدائني: بعث عَبْد الملك ابنه يزيد بن عَبْد الملك بن مُحَمَّد بن عطية السعدي بقتل عَبْد الله بن يَحْيَى إلى مروان، ورَجع عَبْد الملك إلى مكة، فكتب مروان إلى عَبْد الملك يأمره بالمصير إلى صنعاء، فلما كَانَ يزيد بن عَبْد الملك بن مُحَمَّد بالبلقاء منصرفًا إلى أبيه هلك، وقدم أصحابه بكتاب مروان إلى عَبْد الملك، فاستخلفَ ابنه مُحَمَّد بن عَبْد الملك بن عطية عَلَى مكة وعزل رومي بن ماعز الغطفاني أحد بني مرة، وبعضهم يقول هو كلابي، وأَقَرَّ عَلَى المدينة الوليد بن عروة بن عطية، وأمر مُحَمَّد بن عَبْد الملك ابنه أن يقيم للناس الحج سنة ثلاثين ومائة.
وأقفلَ أهل الجزيرة إلى الجزيرة، ووفى لَهم بِما اشترطوا إِذَا قُتل الأعور، وهو عَبْد الله بن يحيى طالب الحق، فلما شارف عَبْد الملك بلاد صنعاء خرج عاملها الذي كَانَ عَبْد الله بن يحيى ولاهُ إياها يريد حضرموت، واتبعه جمهور بن شهاب الخولاني فِي جَماعة من أهل صنعاء فقاتلهم وأصابَ حملين من مال وأثقالا لَهم، فقدم بِما أصابَ إلى صنعاء.
وقدم عَبْد الملك بن مُحَمَّد صنعاء، فتبع الخوارج يقتلهم فقتل ثلاثمائة منهم بصنعاء، وبعث عماله وفرقّهم فِي المخاليف، ودَرَّ له الخراج أشهرًا، ثُمَّ خرج عليه يحيى بن عَبْد الله بن عَمْرو بن السياق الحميري من آل ذي الكلاع بالجند [1] فِي جمع كثير، فبعثَ إليه عَبْد الملك عَبْد الرَّحْمَن بن يزيد بن عطية، فلقيه بالجند فهزمه وقتل عامة أصحابه، ورجع عَبْد الرحمن إلى
__________
[1] بهامش الأصل: «الجند بفتح الجيم والنون مدينة» . انظرها في معجم البلدان» .(9/304)
صنعاء، ولحق يحيى بن عَبْد الله بِعَدن واجتمع إليه ألفان، فسار إليه عَبْد الملك فواقعه فقتله وقتل عامة أصحابه، وتفرق الباقون، ورجع عَبْد الملك إلى صنعاء.
- أمر يَحْيَى بن كرب وعبد الله بن مَعْبَد:
وخرج يحيى بن كرب حميري- ويُقال هو مذحجي- بساحل البحر، وانضم إليه جمع من الإباضية، فبعث إليه عَبْد الملك أبا أمية الكندي، فالتقوا بالساحل، فقتل من الإباضية، وتحاجزوا عِنْد المساء، فمضت الإباضية إلى حضرموت وعليها عَبْد الله بن مَعْبد الحضرمي، عامل عَبْد الله بن يَحْيَى بن عمير الحميري، فصار يَحْيَى بن كرب معه، ورجع أبو أمية إلى عَبْد الملك بن مُحَمَّد، فاستخلفَ عَبْد الملك عَلَى صنعاء عَبْد الرَّحْمَن بن يزيد بن عطية وشخص إلى حضر موت.
[مصرع عبد الملك]
وبلغ عَبْد الله بن معبد مسير عَبْد الملك إليهم، فجمعوا الطعامَ وما يَحتاجونَ إليه في مدينة شبام، وفي حضر موت مخافة الحصار، ثُمَّ رأوا أن يلقوا عَبْد الملك فِي الفلاة، فخرجوا فنزلوا عَلَى أربع مراحل من حضر موت فِي عدد كثير فِي فلاة من الأرض، ووافاهم عَبْد الملك فقاتلهم يومه كله، فلما أمسى بلغه ما تجمعوا من الطعام بشبام، فحدّر عسكرا في بطن حضر موت إلى شبام ليلا فلما أصبح قاتلهم حَتَّى انتصفَ النهار، ثُمَّ تحاجزوا فلما أمسى عَبْد الملك اتبع العسكر الذي وجهه إلى شبام، وأصبح عَبْد الله بن معبد والإباضية فلم يروا من الشاميين أحدًا فاتبعوهم وقد سبقوهم فأخذوا ما كانوا جمعوا من الميرة، وأخذ عليهم عَبْد الملك الطرق بالمسالح وقطع عنهم المادة فلم يقدروا عَلَى الميرة، ثُمَّ جعل يقتل من قدر عليه ويسبي، ويأخذ الأموال.(9/305)
فلَمّا كَانَ فِي شوال سنة إحدى وثلاثين ومائة كتب مروان إلى عَبْد الملك يأمره أن يستخلفَ رجلا ويحضر الموسم فيقيم للناس الحج، فصالح عَبْد الملك أهل حضرموت عَلَى أن يستعمل عليهم رجلا منهم، فولى عَلَى حضرموت رجلا من أهلها تراضوا به، وردّ عليهم ما عرفوا من متاعهم، وكتب عليهم كتابًا، وكتب إلى الوليد بن عروة يأمره أن يوافي مكة من المدينة، فإن أبطأ قدومه أن يقيم أمر الموسم ويصلي بالناس، ووجه بكتابه إليه رجلا، وأمرَ بإغذاذ السير وإجذامه وترك الفتور فيه، فخرج الرجل يركض إلى الوليد بالمدينة.
وخلف عَبْد الملك عَبْد الرَّحْمَن بن زيد بن عطية عَلَى صنعاء، وخرج عَبْد الملك فِي اثني عشر فلمّا كَانَ بأرض مراد- وكان قد أصابَ منهم قومًا مع طالب الحق- عرض له قوم منهم فقال: هذا كتاب أمير المؤمنين إليّ فِي حضور الموسم، فكذبوه وقاتلوه فقتلوه وفتشوا ما معه فوجدوا كتاب مروان إليه فِي توليته الموسم، فجاء قوم من همدان فدفنوهُ.
ويُقال إنه خرج فِي أربعين فاتبعه قوم من همدان ومراد وظنوهُ منهزمًا فقتلوهُ، وكانوا خوارج وقالوا له: قتلت عَبْد الله بن يَحْيَى، والمختار وبلجًا، وأبرهة بن الصباح. وقتلوا أصحابه أيضًا، وبعثوا برأس عَبْد الملك إلى حضرموت.
وبلغ عَبْد الرَّحْمَن بن زيد بن عطية خبره وهو بصنعاء، فأرسلَ شعيبًا البارقي فِي الخيل فقتل الرجال والصبيان، وبقر بطون النساء، وأخذ الأموال، وأخرب القرى، وأقامَ الحج للناس أبو الوليد عروة، واستعملَ مروان عَلَى مكة والمدينة والطائف يوسف بن عروة بن عطية.(9/306)
وبعث الوليد بن عروة بن عطية إلى اليمن فقتل البري والنطف [1] ، ووجه إلى يَحْيَى بن كرب وعبد الله بن معبد من حاربهما فقتلهما، ويُقال إنه واقعها بنفسه فقتلهما، ولم يزل الوليد باليمن حَتَّى استخلفَ أمير المؤمنين أبو العباس.
قالوا: وكان مروان لَما بعث رسوله إلى عَبْد الملك بن مُحَمَّد ذكره بعد أيام فقال: إنا لله وإنّا إليه راجعونَ، أحسبني قد قتلت عَبْد الملك، يأتيه كتابي فيخافُ أن يفوته ما ندبته له فيخرج مخفًّا فِي قلَّة التماسًا للسرعة، وهو فِي بلاد قوم قد وترهم فيقتل، ثُمَّ قَالَ:
إن تنفري فقد وجدت نفرًا ... أمّ عويف وشياها عقرا
__________
[1] النطف: الرجل المريب. القاموس.(9/307)
أمر يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة عامل مَرْوَان عَلَى العراق
قالوا: ولَمّا قدم يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة العراق واليًا من قبل مروان، أشخص إليه وفدًا من أهل البصرة منهم داود بن أبي هند، وسعيد بن أبي عروبة فقال: انظروا ما نقمتم عَليّ فيه من أمرٍ فَعَرِّفُونيهِ أَدَعُه، وأيّ عامل رأيتم عزله فأشيروا عَليّ بذلك أعزله.
وكان عفيفًا متوقيًّا سخيًّا شجاعًا، وكان يعشي الناس فِي كل يوم: إِذَا صلى العصر توضع الكراسي، فإذا أخذ الناس مجالسهم أُتي بعساس اللبن والأشربة، ثُمَّ أُتي بالأطعمة فيأكلونَ إلى وقت المغرب. ثُمَّ يدعو بالمناديل فيتفرقونَ للصلاة.
وكان سُمّارهُ قومًا من الفقهاء منهم دَاوُد بْن أَبِي هند، وابن شبرمه، وابن أَبِي ليلى. فَقَالَ ابْن شبرمه:
إِذَا نَحْنُ أَعْتَمْنَا ومادَ بنا الكَرى ... أتانا بإحدى الراحتينِ عياضُ
- يعني حاجبه- وَكَانَ يقضي فِي كُل ليلة عشر حوائج، فإذا أصبح أنفذها.
حدثني عُمَر بن شبه عَن خلاد الأرقط عَن سلم بن قُتَيْبَة قَالَ: كَانَ(9/309)
يزيد بن عُمَر بن هبيرة ربما لَحَنَ فِي كلامه وذلك قليل، فقلتُ له يومًا: إنك ربما لحنتَ فلو تعهدت أيها الأمير نفسك. قَالَ فتحفَّظَ من ذلك وقال:
يا سلم، أَكُلُّ العلم علمت؟ قلت: ما منه شيء إلا وقد أخذتُ منه ما يكفيني. قَالَ: فما تقول فِي ابنتين وأبوين؟. قلت: للابنتين الثلثانِ وللأبوين السدسان، قَالَ: فإن إحدى الابنتين ماتت؟. قلت: فللأم الثلث وما بقي فللأب. قَالَ: يا سلم أهذا ما يكفيكَ من العلم؟
قالوا: وأخذ يزيد بن هبيرة الأصغر عُمَر بن النجم بن بسطام بن ضرار بن القعقاع ورجلا من بكر بن وائل بسبب رأي الخوارج، فأطلق البكري وحبس التميمي. فلمّا كَانَ يوم الفطر قام أبو نخيلة فأنشده:
أطلقت بالأمس أسير بكر ... فهل إلى حلّ القيود السُّمْرِ
عَن التميمي القليل العذر ... من سبب أو سلمٍ أو جسر
من كَانَ لا يدري فإني أدري ... ما زال مجنونًا عَلَى است الدَّهْرِ
فِي حَسَبٍ يَنْمى وعقلٍ يجري
وكان يزيد متعصبًا عَلَى صاحب خراسان، وهو نَصْر بن سيار، كَانَ يكتب إليه مستغيثًا به لما ظهر أمر أبي مسلم ودُعاة بني العباس فلا يغيثه، حَتَّى قَالَ:
أبلغ يزيد وخير القول أصْدَقُهُ ... وقد تبينت ألا خير فِي الكذب
إنّ خراسان أرض قَدْ رَأَيْت بِهَا ... بيضا لو أفْرَخَ قد حُدْثت بالعجب
فِي أبيات قد ذكرناها.
وكتب إلى مروان بأبيات يقول فيها:
فقلتُ من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام(9/310)
قالوا: وقال أبو عطاء السندي مولى بني أسد فِي ابن هبيرة:
أقام عَلَى الفرات يزيد حولا ... فقال الناس أيهما الفرات
فيا عجبًا لبحر بات يسقي ... جَميع الناس لم يبلل لَهاتي
قصائد حِكْتُهنّ لقرم قيس ... رجعنَ إليَّ صِفْرًا خائباتِ
رجعن إليّ لم يُورِينَ زندًا ... سوى أني وُعِدتُ التّرَّهَاتِ
فقال ابن هبيرة: يا أبا عطاء كم يَبُلُّ لَهاتك؟ قَالَ: عشرة آلاف درهم، فأَمَرَ له بِهَا.
وقال أيضًا:
قصائد حكتهنّ لقرم قيس ... رجوتُ بِهَا المودَّة والإخاءَ
رجعن عَلَى حواجبهنّ صوفٌ ... فعند الله ألتمسُ الرجاءَ
وقال بشار الأعمى فِي قصيدة طويلة:
إلى أمير الناس وجَّهْتُهَا ... تجري عَلَى عارٍ من الطحلبِ
إلى فتًى تَسقي يداهُ الندى ... حينًا وأحيانًا دمُ المذنبِ [1]
فوصله وكساهُ.
وقال يزيد بن عُمَر لأبي عطاء السندي وكان أبو عطاء ألثغ.
فما صفراء تكنى أمُّ عوفٍ ... كأن رُجَيَلتيْها منجلانِ
فقال: أيها الأمير.
أردتَ زرادةً وأردتَ أيضًا ... بِما عَايَبْتَ من هذا لِسَانِي
ويروى: أجريتَ من هذا. وقد ذكرنا أخبار يزيد بن هبيرة فِي حروبه ومقتله فيما تقدم من كتابنا هذا، وبعد هذا الموضع.
__________
[1] ديوان بشار ص 50.(9/311)
وقتل مروان ببوصير فِي ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة وهو ابن اثنتين وستين سنة، وورد خبر مقتله عَلَى أبي العباس بالكوفة.
وكان أول ولاته [1] عَلَى البصرة سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن المهلب، ثُمَّ عُزِلَ وولى حفص بن عُمَر بْن عُثْمَان بْن قَبِيصَة بْن أَبِي صفرة، وقصد ابن هبيرة فقتل بواسط.
__________
[1] أي ولاة أبي العباس السفاح، فقد كان سفيان بن معاوية أول من سود بالبصرة. تاريخ خليفة بن خياط ص 615.(9/312)
مقتل مروان بْن مُحَمَّد بْن مروان بْن الحكم
قالوا: قوي أمر أبي مسلم بخراسان وعلا شأنه وضعف أمر نَصْر بن سيار والي خراسان فيها، فكتبَ إلى مروان بشعر وهو:
أرى خلل الرماد وميض جمر ... خليقًا أن يكون له ضرام
فإن النار بالعودين تذكى ... وإن الحرب يَقْدُمُها الكلام
فقلتُ من التعجب ليت شعري ... أأيقاظ أمية أم نيام
فكتب إليه مروان: الشاهد يرى ما لا يرى الغائب فاحسم الثؤلول قبلك. فلما قرأ نص الكتاب قَالَ: أَمَّا هو فقد أعلمنا أَنَّهُ لا نَصْر عنده. وكتب إِلَى يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة، عامل مروان عَلَى العراق: أنشدك الله أن تضيع خراسان وكان يزيد حسودًا فَكَرِه أن يذهب نَصْر بسمعتها ولم يبل كيف وقع الأمر.
وكتب إليه نَصْر: أمدني بألف عمامة شامية، ووجه إلي فِي كل يوم رجلا أو رجلين ليرى أهل خراسان أن لي مددًا، فلم يفعل، وكان يستخف بكتبه إِذَا كتب، فقال نَصْر: والله إني لأَهُمُّ أن أكتب إليه: من نَصْر بن سيار الكناني إلى يزيد بن عُمَر الفزاري. وكتب إليه:(9/313)
أبلغ يزيد وخير القول أَصْدَقه ... وقد تبين ألا خير في الكذب
إن خراسان أرض قَدْ رَأَيْت بِهَا ... بيضا لو أفرخ قد حدثت بالعَجَب
فراخ عامين إلا أنها كبرت ... ولم تطر ولقد سُرْبلن بالزّغبِ
وإن يطرنَ ولم يُحْتَل لَهنّ بِهَا ... يُلهبن نيران حرب شأنها عجب
فكتب إليه ابن هبيرة: «لّاتكثرنّ، فما عندي رجل واحد» .
وكتب مَرْوَان إِلَى الْوَلِيد بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ الملك بن مروان عامله بدمشق يأمره بحمل إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بن عباس إلى ما قبله، وكتب إلى نَصْر ألا يدع بخراسان متكلمًا بالعربية إلا قتله، فقال نَصْر: هذا أحمق. وفَسَدت الأمور عَلَى نَصْر وهرب، وقد كتبنا هذا الخبر فيما تقدم من كتابنا هذا عِنْد ذكر أمر الدعوة.
وقالوا: استحكمت لأبي مسلم الأمور، فوجه قحطبة بْن شبيب بْن خَالِد بْن معْدان بْن شمس بْن قَيْس بْن أكلب بْن سَعْد بن عَمْرو بن عَمْرو بن الصامت، واسمه أيضًا عَمْرو بْن غَنْم بْن مَالِك بْن سَعْد بْن نبهان بن عَمْرو بن الغوث بن طيّئ بن أدد إِلَى العراق، ومعه أَبُو غانم عَبْد الحميد بن ربعي بن خالد بن معدان وغيره من وجوه أهل خراسان، وحمل قحطبة معه مالا عظيمًا.
وكان مقدمة قحطبة ابنه الْحَسَن، فلقي قحطبة نباتة بن حنظلة بجرجان فقتل نباتة، وانهزمَ أهل الشام.
ووجه ابن هبيرة أيضًا عَامِر بن ضبارة ومعه دَاوُد بْن يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة، فلقيهم قحطبة بأصبهان فقتل ابن ضبارة.
ووجه قحطبة أبا عون عَبْد الملك بن يزيد الأزدي من نهاوند إلى(9/314)
شهر زور فقتل عُثْمَان بن سُفْيَان، وكان مروان بعثه مقدمة له، فلما بلغه خبر مقتله أقبلَ مروان فنزل رأس العين، ثُمَّ أتى الموصل فنزل عَلَى الزابي وحفر خندقًا.
ووجه أبو سلمة الداعية إلى أبي عون عُيَيْنَة بن موسى بن كعب مددًا لأبي عون، وظهر أمير المؤمنين أبو العباس، فولّى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بن العباس حرب مروان، فلما ورد عَلَى أبي عون تحوّل له عَن سرادقه بِما فيه وخلاه له.
وصير عَبْد الله بن عَليّ عَلَى شرطه حبّاش بن حبيب الطائي صاحب الجوبة ببغداد، فِي ظهر ربض حميد بْن قحطبة، فلما كَانَ لليلتين خلتا من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين ومائة سألَ ابن عَليّ عَن مخاضةً بالزابي فَدُلَّ عليها، فوجه عُيَيْنَة بن موسى بن كعب فِي خمسة آلاف فانتهى إلى عسكر مروان فقاتلهم، ورُفعت النيران ثُمَّ تحاجزوا، ورجع عُيَيْنَة إلى عسكر عَبْد الله بن عَليّ، وخاضَ أصحابه تلك المخاضة.
وأصبحَ مروان فعقد جسرًا وسرح عليه ابنه عبيد الله بن مروان فحفر خندقًا أسفل من عسكر ابن عَليّ، فبعثَ عَبْد الله بن عَليّ المخارق بن عفّان فِي أربعة آلاف، فسرح إليه عبيد الله بن مروان الوليد بن معاوية فبيت المخارق وانهزمَ أصحابه وأُخذ أسيرًا فبعث به إلى مروان مع رؤوس من قُتل فقال مروان: أنت المخارق؟ قَالَ: لا ولكني عَبْد من عبيد أهل العسكر- وكان المخارق نحيفا دميما- فقال له مروان: أفتعرفُ المخارق؟ قَالَ:
نعم. قال: فانظر رأسه في هذه الرؤوس، فأومأ إلى رأس منها فقال: هو هذا. فخلى سبيله.(9/315)
وقال رجل من أصحاب مروان- ورأى المخارق-: لعن الله العبد أبا مسلم جاءنا بهؤلاء يقاتلنا بِهم.
وقال العماني وهو من بني فقيم:
صبّحهم مروان بالدهارس ... قبل الصباح والصقيع الجامس [1]
دَوْسَ الجراجير الحصاد اليابس
وبلغ ابن عَليّ خبر المخارق فدعا عَبْد الله بن عَليّ بن مُحَمَّد بن صول فاستخلفه عَلَى العسكر، وسار عَلَى ميمنته أبو عون، وعلى ميسرته موسى بن كعب، ويُقالُ عُيَيْنَة ابنه.
__________
[1] الدهارس: الدواهي والجامس: الجامد. القاموس.(9/316)
يوم الزابي من أرض الموصل
قالوا: لقي عَبْد الله بن عَليّ مروان وعلى ميمنة مروان عبيد الله ابنه، وعلى ميسرته الوليد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك بن مروان، وهو صهر مروان عَلَى ابنته. وقال مروان: إن زالت الشمس اليوم ولم يقاتلونا كنا الذين ندفعها إلى عيسى بن مريم، وإن قاتلونا قبل الزوال فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأرسلَ مروان إلى ابن عَليّ يسأله الموادعةَ إلى بعد صلاة الظهر، فقال: كذبت يا بن زربي، لا تزول الشمس حَتَّى أوطئكَ الخيل إن شاء الله. فقال مروان: قفوا وادفعوهم، فحمل الوليد بن معاوية بن مروان بن عَبْد الملك فغضبَ مروان وشتمه.
ونشبت الحرب، ونزل الناس وأشرعوا الرماح، وجثوا عَلَى الركب وقاتلوهم، وجعل أهل الشام يتأخرونَ كأنهم يُدفعونَ.
ومشى عَبْد الله بن عَلَى قدمًا وهو يقول: حَتَّى متى نُقتل فيك يا رب.
ونادى أهل خراسان: «يا لثارات إِبْرَاهِيم الإمام، يا مُحَمَّد يا منصور، يا لثارات الْحُسَيْن وزيد ويحيى، يا منصور أَمِتْ» . واشتد بينهم القتال.(9/317)
وروى قومٌ أن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز كَانَ مع مروان، وذلك باطل، ولكنه كَانَ معه غيره من ولد عُمَر وهو عَبْد الْعَزِيز.
وقال مروان لليمانية: انزلوا فقالوا: قل لقيس فلينزلوا- وذلك أنّهم حقدوا عليه تقديمه قيسًا وقتله ثابت بن نعيم الجذامي والسمط الكندي- فقال لصاحب شرطه الكوثر الغنوي: انزل. فقال: والله ما كنت لأجعل نفسي غرضًا. قَالَ: أما والله لأقتلنك ولأسوءنّك إن لم تنزل. فقال:
وددت والله أنك تقدر عَلَى ذلك.
ثُمَّ انهزمَ مروان وقطع الجسر فغرق ممن معه أكثر ممن قتل.
وقال بعضهم: عرض لِمروان وجع فِي بطنه فحركه للخلاء فرآهُ الناس موليًّا فقالوا: منهزم، وانهزموا فلم يقدر عَلَى ردّهم. فلمّا رأى ذلك عبر الجسر الذي للزابي، وأمر بقطعه لئلا يتبع، فغرق ستة عشر رجلا من ولد مروان بن الحكم وفيهم إِبْرَاهِيم بن الوليد المخلوع، ويُقال إن إِبْرَاهِيم بقي حَتَّى قتله ابن عَليّ مع من قتل، ويُقال أنه قتل بعد موت أخيه يزيد الناقص حين ظفر به مروان. والله أعلم. وأثبت ذلك أن عَبْد الله بن عَليّ قتله.
وكان عَبْد الله بن عَليّ فِي اثني عشر ألفًا، وأمر عَبْد الله بن عَليّ بإخراج الغرقى فأخرجوا فقرأ: وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تنظرون [1] .
وأقامَ فِي معسكره سبعة أيام فقال رجل من ولد سعيد بن العاص يعيب مروان:
لَجَّ الفرار بِمروان فقلتُ له ... عاد الظلوم ظليما همّه الهرب
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 50.(9/318)
ولي طريدًا ولم تُحمد عزيمته ... لدى القتال فلا دين ولا حسب
[هزيمة مروان بن محمد]
وكتب ابن عَليّ إلى أبي العباس بالفتح وبِهرب مروان، وأنه قد حوى عسكره فسجد أبو العباس، ثُمَّ صلى ركعتين وقرأ: فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بنهر [1] الآية.
وكتب إلى ابن عَليّ يأمره بأن يصوم سبعة أيام، وصامها أبو العباس، وأمر أبو العباس لمن شهد الوقعة بخمسمائة خمسمائة، ووهب ابن عَليّ لعيينة بن موسى بن كعب جارية كانت لِمروان.
وقال إسماعيل بن عَبْد الله القسري: قَالَ لي مروان بحرّان حين هرب بعد يوم الزابي: أبا هاشم إني قد أجمعتُ عَلَى حمل عيالي وقطع الدرب حَتَّى آتي مدينة من مدائن الروم أنزلها وأكاتب صاحب الروم، ولا يزالُ يأتيني الخائف والهارب، ويتلاحق بي الناس حَتَّى يكثر جمعنا، وكان ذلك رأيًا فكرهته لسوء صنيعه إلى أهل اليمن، وقتله من قتل منهم وتقديمه قيسًا، فقلتُ: أعيذك بالله أن يحكم فيك أهل الشرك وتملكهم أمرك، وأمر أهلك وحرمك ولكن استنفر الشام وكوره حَتَّى تصير إلى مصر، فإن رجالها كثير، وتكون بين الشام وإفريقية. فقال: سبحان الله، ومضى ومعه الكوثر الغنوي ومعه الحربة يسيرُ بِهَا بين يديه، فمر بقنسرين فوثبت به تنوخ وطيّئ فاقتطعوا مؤخر عسكره، ومر بِحمص فصنعوا مثل ذلك، ولم يدعوهُ يدخل مدينتهم، ثُمَّ مر بدمشق فروى قوم أنّهم منعوا عامله عليها من دخولها، وهو الوليد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك وكان معه. والثبت أن أهل دمشق لم يمنعوا عامله الوليد منها، فدخلها وأقام بِهَا حَتَّى قتله عَبْد الله بن علي،
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 249.(9/319)
ويُقال بل أسره وبعث به إلى أبي العباس فقتله وصلبه.
ومر مروان بالأردن، فوثبَ عليه هشام بن عَمْرو القيني، ومر بفلسطين فوثب به الحكم بن ضبعان بن روح بن زنباع، ثُمَّ مضى إلى مصر واتبعه الحجاج بن زمل السكسكي فصار معه، والرماحس بن عَبْد الْعَزِيز الكناني وكان عامله عَلَى الأردن، واتبعه ثعلبة بن سلامة وكان من عماله عَلَى ناحية قريبة من الأردن. فلما صار إلى فلسطين قَالَ: يا رماحس انفرج الناس عنا انفراج الرأس ولا سيما قيس التي وضعنا معروفنا عندهم فِي غير موضعه، وأخرجناهُ من قوم كانت دولتنا تقوم بِهِم، فما رأينا لقيس وفاءً ولا شكرًا.
وصار عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي إِلَى نَهر أَبِي فطرس [1] بعد أن غلب عَلَى دمشق، ووجه صالِح بن عَليّ بن عَبْد الله لِمحاربة مَرْوَان، وعلى مقدمته عَامِر بْن إِسْمَاعِيلَ بْن عَامِر بن نافع أحد بني مسلية بْن عَامِر بْن عَمْرو بْن عُلة بْن خلد، فحارب عَامِر بن إسماعيل مروان ببوصير فقتله.
وقال الهيثم بن عدي: كَانَ الذي قتل مروان مزاحم بن حسان الحارثي، وكان الكوثر الغنوي قد كاتب عَامِر بن إسماعيل فبلغَ مروان ذلك، وهو فِي أول حد مصر فقتله.
ويُقال إن قومًا من أصحاب مروان تيقنوا ذلك من فعل الكوثر فقتلوهُ وأتوا مروان برأسه، فقال: أبعده الله. وحمد القوم وقال فيهم خيرًا. وقال قوم: إن عَبْد الله بن عَليّ أتى مصر وذلك غير ثبت.
وقال المدائني عَن بعض أشياخه: نزل عَبْد الله بن عَليّ بباب دمشق
__________
[1] خارج الرملة في فلسطين.(9/320)
وبِهَا الوليد بن معاوية بن مروان بن عَبْد الملك بن مروان وكان مع مروان بالزابي، فلما صارَ مروان إلى دمشق خلّف بِهَا الوليد، وسار إلى مصر لأن أهل دمشق لم يخالفوه. فحصرهم عَبْد الله بن عَليّ، وقد أغلقوا أبوابها، ثُمَّ وقعت بينهم العصبية فسوَّدت اليمانية، وفتحت الأبواب، فدخلها ابن عَليّ والخراسانية فقتلوا كل مبيض، وأخذوا الوليد، فبعث به عَبْد الله إلى أبي العباس، فقتله وصلبه.
ويُقال بل وثبت به اليمانية فقتلوهُ، فبعث إلى أبي العباس برأسه، ويُقال بل قتله ابن عَليّ وبعث برأسه، والله أعلم.
[حصار دمشق]
وقدم عَبْد الصمد بن عَليّ من قبل أبي العباس فِي أربعة آلاف مددًا لعبد الله بن عَليّ، فوافاهُ بدمشق، وهدم عَبْد الله حائط دمشق، وصار إلى نَهر أبي فطرس فسار صالِح بن عَليّ عَلَى نَهر أبي فطرس إلى مصر فِي ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة ومعه عَامِر بن إسماعيل المسْلي، وأبو عون عَبْد الملك بن يزيد الأزدي، فيقال إن عَبْد الله وجّه صالِحًا، ويقال بل ولاه أبو العباس مصر وأمر ابن عَليّ أن يقلده محاربة مروان ويتشاغل هو بأمور الشام حَتَّى يحكمها، فَعَدَلَ صالِح من الرملة، فنزل ساحل البحر وجمع السفن وتجهز للقاء مروان وهو بالفرما من مصر، فجعل صالح يسير عَلَى الساحل والسفن بحياله حَتَّى نزل العريش. وبلغ ذلك مروان فأحرق ما حوله من الأعلاف، وأخذ صالح بعض أصحابه ممن يحرق تلك الأعلاف فقتلهم بالفسطاط.
ولَما وافى صالِح الفسطاط عبر مروان النيل وقطع الجسر، وقدّم صالح أبا عون وعامر بن إسماعيل فلقوا خيلا لِمروان فهزموهم وأسروا بعضهم(9/321)
فسألوهم عَن مروان فأخبروهم أَنَّهُ فِي كنيسة ببوصير وقد جَمع من بقي معه وضمّهم إليه فهم مطيفون به.
[مقتل مروان بن محمد]
وقال عَامِر بن إسماعيل: لقينا مروان ببوصير فِي السَّحَر، ونحنُ فِي عدة يسيرة لم يكن أصحابنا تلاحقوا بنا ولا تتامّوا إلينا، فشدّ أصحاب مروان إلينا فلجأنا إلى شجر ونخل هناك ولو يعلمونَ بقلّتنا لهلكنا، وذكرت أن بكير بن ماهان قَالَ لي: أنت والله تقتل مروان، فكأني أسمعكَ تقول:
دَهَاد يا جونكان [1] دَهاد يا أهل خراسان. فاشتد قلبي فكررنا عليهم فانهزموا وحمل رجل عَلَى مروان فطعنه بسيفه وكان من أهل البصرة فقتله.
وقال أبو الْحَسَن: قتله مُحَمَّد بن شهاب المازني من بني كابية بن حرقوص، واحتز رأسه فحمله إلى صالِح بن عَليّ، وكتب إلى عَبْد الله بن عَليّ، ويُقال إلى أمير المؤمنين أبي العباس بالفتح، وكان فِي كتابه: «إنا اتبعنا عدو الله الجعدي حَتَّى ألجأناه إلى أرض عدو الله فرعون شبيهه فِي كفره، فقتله الله ببوصير» . ثُمَّ رجعَ صالِح إلى الفسطاط.
وقال المدائني: يُقال إنه طعنَ مروان رجل نحيف يكنى أبا العود، وهو لا يعرفه فصرعه، وصاح صائح: أمير المؤمنين. فابتدروه، فسبق إليه رجل كوفي كَانَ يبيع الرمان فاحتز رأسه.
ويُقال أيضًا إنه قتله مزاحم بن حسان الحارثي، ويُقال بل قتله مُحَمَّد بن شهاب بن عقبة بن شهاب المازني، وأخذ رأسه، فبعث به عامر إلى أبي عون، وبعث به أبو عون إلى صالِح بن عَليّ، وبعث به صالِح إلى الخليفة، وهذا قول من قَالَ أن صالِحًا كان من قبل أبي العباس.
__________
[1] تقدموا يا شباب: تقدموا يا أهل خراسان.(9/322)
قَالَ الهيثم: وكان يُقال: إِذَا حملت مسلية الألوية دَهَت بني أمية الدويهية.
قالوا: وَلَمّا نفض رأس مروان ونُقب ليخرج دماغه قطع لسانه فأخذه هر، فقال صالِح: لو لم يرنا الدهر من عجائبه إلا لسان مروان فِي فم هر، لكان فِي ذلك عبرة وموعظة، ثُمَّ بعث برأسه وخاتمه مع يزيد بن هانئ الكندي إلى أبي العباس، وهو بالحيرة، فنصبه، وبعث به إلى خراسان.
ولم يزل صالح عَلَى مصر حَتَّى مات أبو العباس، وعصى عَبْد الله بن علي، وكان الحكم بن ضبعان بن روح بن زنباع من قبل عَبْد الله بن عَليّ عَلَى فلسطين، فسرح إليه صالِح: أبا عون، وَمُحَمَّد بن الأشعث الخزاعي فهربَ الحكم إلى بعلبك، فدلّ عليه بعد فأخذ وذلك فِي ولاية عَبْد الوهاب بن إِبْرَاهِيم الإمام، ولم يُخالف صالِح المنصور حين هرب عَبْد الله بن علي، وكان متمسكًا بطاعته غير متابع لعبد الله بن عَليّ معصيته وخلافه، فلمّا انقضى أمره قدم فلسطين ومعه ليث بن سَعْد وابن لهيعة.
وروي أن بنات مروان كُنّ فِي كنيسة عليهن خادم يقوم بأمرهن، فخرج الخادم شاهرًا سيفه وقال: إن مروان أمرني بقتل نسائه وبناته فمنع من ذلك، وأرادوا قتل الخصي فقال: إن قتلتموني ذهب ميراث النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيل: وما ذاك؟. فدلهم عَلَى القضيب والبرد والقعب المخضب، وكان مروان دفن ذلك أجمع فِي رمل فِي بعض المواضع لئلا يصير إلى بني العباس، وهذا خلاف قول من ذكر أن البرد اشتري من بعض النصارى. والله أعلم.(9/323)
أمر بني مروان بن مُحَمَّد
قالوا: لَمَّا التقى مروان وعامر بن إسماعيل ببوصير من أرض مصر، فاقتتلوا ليلا، وقف عَبْد الله وعبيد الله ابنا مروان فِي ناحية، فِي جمع من أهل الشام، فحمل عليهم أهل خراسان فأزالوهم عَن موقعهم، ثُمَّ كروا عليهم فهزموهم حَتَّى ردوهم إلى عسكرهم، وتفرق الناس عَن عَبْد الله وعبيد الله حين قيل قد قتل مروان، وجعل أهل خراسان يقتلونَ من لحقوهُ من الفَلّ فلم يكن لهما همة إلا الخلاص، فمضيا عَلَى وجوههما وذلك فِي السحر، وتفرقَ الشاميونَ فِي الرمال، فرجع أهل خراسان عنهم، فصار ابنا مروان إلى بلاد النوبة فِي عدة من أحشام أبيهما ومواليه وغيرهم، فأكرمهما صاحب النوبة وأجرى عليهما ما يصلحهما فأقاما بأرض النوبة شهرين، ثُمَّ أجمعا عَلَى إتيان اليمن فيمن معهما فنهاهما صاحب النوبة عَن ذلك وقال: إني لا آمنُ عليكما الهلكة، فشكروهُ وساروا فِي بلاد العدو فدخلوا بلاد جاوة فلم يُهجهُم صاحبها وكان يبيعهم ملء القربة من الماء بخمسين درهمًا حَتَّى أخذ منهم مالا كثيرًا، ثُمَّ شخصوا عن بلاده فلقيهم بعض العدو فقاتلوه ونجوا فساروا فعرض لَهم جبل بين طريقين، فسلك عَبْد الله- وقد باين أخاهُ لتنازع وقع(9/325)
بينهما- إحدى الطريقين، وسلك عبيد الله الطريق الأخرى فلم يلتقوا.
وعرض لعبيد الله بعض العدو فقاتلهم بِمن معه فسلبوهم ثُمَّ قتلوهم إلا جُميعةً لا يبلغ عددها الثلاثين، وقتل عبيد الله وأخذت ابنته أم الحكم وهي صبية، وبقي ممن معه قوم فكانوا يتنكبونَ العمران فهلكوا وهلكت دوابهم، وبلغ منهم العطش حَتَّى شربوا أبوال دوابهم وأبوال أنفسهم إلى أن وصلوا إلى البحر، ووافاهم عَبْد الله بن مروان فكانوا خمسة وأربعين فيهم الحجاج بن قُتَيْبَة بن مسلم، فركبوا البحر وصاروا إلى مكة، فيقال إن العامل علم بِهم فلم يعرض لَهم، ويُقال إنه لم يعلم بِهم.
وخرجوا مع الحُجاج وعليهم عمائم غلاظ وجباب الأكرياء حَتَّى مروا بقومٍ فرقوا لَهم فحملوهم. وفارق الحجاج بن قُتَيْبَة عَبْد الله بجدة، ثُمَّ أتى عَبْد الله بن مروان ومن معه تبالة بعد أن حج.
قالوا: وأتى عَبْد الله بن مروان اليمن مستترًا فأقامَ بِهَا ما شاء الله، فدلّ عليه نَصْر بن مُحَمَّد بن الأشعث الخزاعي، وكان واليًا عليها من قبل أمير المؤمنين المنصور فِي آخر خلافته فأخذه وبعث به إلى المنصور فحبسه فِي القصر، فلما استخلفَ أمير المؤمنين المهدي أراد إخراجه إلى الشام ليخلعَ نفسه عَلَى منابر الشام لأن أباهُ كَانَ ولاه عهده، وكان أبو العباس الطوسي عَلَى المدينة والمطبق والحبوس فبلغه ذلك، فقال: يا أمير المؤمنين من أشارَ عليك بِهذا الرأي؟ أأبو عبيد الله أَم ابن رغبان أم أبو سُمير؟. هذا رأي لا تؤمن عواقبه، أيدخل ابن مروان مدن الشام وله فِي أعناق أهلها بيعة؟
فيقال إن المهدي أراد تخلية عَبْد الله بن مروان، فقال له عيسى بن عَليّ:
يا أمير المؤمنين إن له فِي أعناقنا بيعة. فأمر به المهدي فثقل بالحديد وحوّل إلى المطبق، فلم يلبث أن مات.(9/326)
وكان أبو عبيد الله من أهل الشام وكذلك أبو سمير، وكان ابن رغبان مولى حبيب بن مسلمة الفهري شاميًا، وهو صاحب المسجد ببغداد.
حَدَّثَنِي حَمّاد بن يعسل الوراق عَن سلمويه أبي صالح قَالَ: لَمّا أقيم عَبْد الله بن مروان بين يدي المهدي- وكان عامل اليمن وجهه إلى أبي جعفر- فوافى فقال أبو جعفر: أيكم يعرف هذا؟ فتأمله عَبْد الْعَزِيز بن مسلم العقيلي فقال: آه أبا الحكم كيف كنت بعدي؟ نعم يا أمير المؤمنين هذا عَبْد الله بن مروان، فأمر به إلى المطبق فمات فيه.
قالوا: وكان عَلَى عَبْد الله فصّ ياقوت أحمر يساوي ألف دينار، فكان يقول وهو يمشي: ليت لي به دابة أركبها.
وقال بعضُ من كَانَ مع عَبْد الله بن مروان: ما رأينا مثله، قاتل فكان أشد الناس، ومشى فكان أقواهم عَلَى المشي، وجاعوا فكان أصبرهم عَلَى الجوع.
قالوا: وبلغ مروان وهو بِمصر قَتْلَ من قُتل بنهر أبي فطرس فبكى حَتَّى كاد يموت.
وقال بعضُ آل مروان: ما كَانَ شيء أنفعَ لنا فِي هربنا من الجوهر الخفيف الثمن ما يساوي خمسة دنانير فما دونَ، كَانَ يخرجه الصبي والخادم والامرأة فنبيعه، وكنا لا نستطيع إظهار الجوهر الثمين.
وقال الحجاج بن قُتَيْبَة: كنتُ مع نَصْر بن سيار، فلحقت بمروان، فصرتُ معه فقال وهو هارب: لقد عزبت عنا عقولنا حين لم نزوج نساءنا الأكفاء من قريش فنكفى مؤونتهم فِي هذه الحال، وأخذ لي سلم بن قُتَيْبَة أخي الأمان فقال لي أمير المؤمنين: أكنتَ مع مروان؟. فقلت: كنت مع(9/327)
قوم خلطوني بأنفسهم فلم تحسن لي مفارقتهم، فقال: هذا الوفاء.
وقيل إن المنصور- أو المهدي- دعا بعبد الله بن مروان فقال له:
حَدَّثَنِي حديثك. فَحَدَّثَهُ فَهَمَّ بتخليته، حَتَّى قَالَ عيسى بن عَليّ فيه ما قَالَ.(9/328)
ذكر من قتل من بني أمية وأتباعهم
المدائني وغيره قَالوا: جلس عَبْد الله بن عَليّ للناس فِي خضراء دمشق، فدخلت عليه قريش وغيرها فتكلم يزيد بن هشام، وهو الأفقم فأطرى بني هاشم وذكر فضلهم وقال: أهل السؤدد والأمانة، وأطنبَ. ثُمَّ تكلم بنو أمية فأثنوا عليه ودعوا ومَتُّوا بالقرابة، فقال ابن علي: صدقتم وبررتم، إن قرابتكم لقريبة، وإن حقكم لواجب، أنتم أكفاؤنا وبنو عمنا ونحنُ أهل وراثتكم، وأنتم أهل وراثتنا لو كان الثاني متلائما.
ثم قال: مالي لا أرى عتيق بن عَبْد الْعَزِيز بن الوليد فقيل له: ليس عنده ما تكرهه. فقال: إن أتاني ما بينه وبين ثالثة وإلا فلا أمان له عندي.
فأتاهُ ثُمَّ إنه قتله بعد.
ودعا عَبْد الله بالغداء، فتقدم من حضر إلا مُحَمَّد بن عَبْد الملك فقال له: اقترب يا مُحَمَّد. فقال: لستُ أطعم اليوم شيئًا، فجعل عَبْد الله ينظر إليه، فلما فرغوا من الغداء وخرج الناس فقيل له: دعاكَ إلى الغداء فلم تفعل، وتكلم أصحابك ولم تتكلم، وقد نظر إليكَ نظرًا شزرًا، وقتله بعد.(9/329)
ودخل عليه حَمْزَة بن الأصبغ بن ذؤالة الكلبي، وكان حَمْزَة ممن شهد قتل زيد بن عَليّ. فلما رآهُ تمثل عَبْد الله:
بسيف ابْن عَبَّاس وسيف ابْن زامل ... بَدت مقلتاها والبنانُ المخضبُ
ثُمَّ قتل حَمْزَة بعد أن خرج مع السفياني، وأخذ ابن عَليّ سُلَيْمَان بن سليم بن كيسان فحبسه، وقدم قوم من كلب برأس الفياض بن عنبسة بن عَبْد الملك من البادية، قتل بِهَا.
وقتل عَبْد الله بن عَليّ سُلَيْمَان بن سليم وأخوته: كلثومًا، ومسلمًا، ونصرًا، وبشرًا، وحمادًا، وصدقة، ويونس بني سليم، وأخذ ابن عَليّ بدمشق يزيد بن معاوية بن مروان بن عَبْد الملك، وعبد الله بن عَبْد الجبار بن يزيد بن عَبْد الملك فبعث بِهما إلى أبي العباس فقتلهما بالحيرة، أو بعث برءوسِهما أو حمل ابن عَبْد الجبار فقط.
وقتل عَبْد الله بن عَليّ صالِح بن عجلان الأفطس، مولى مُحَمَّد بن مروان بن الحكم سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وكان ينزل حران، وسالِم الأفطس الذي يحدث عَن ابن حبيب.
وأمر عَبْد الله بن عَليّ الضحاك بن زمل السكسكي بقتل بعض ولد نوح بن الوليد بن عَبْد الملك، وكان حين دعاهُ بلغه أَنَّهُ يريده لذلك فكسر يد نفسه فلم يزل الضحاك أثيرًا عِنْد أبي العباس حَتَّى مات ببغداد، فحضر المنصور دفنه وقام عَلَى قبره.
وولى أمير المؤمنين أبو العباس عَبْد الله بن عَليّ الصائفة سنة خَمس وثلاثين ومائة، فتجهز وشخص، وأقبل أبان بن معاوية بن هشام يريده ليعترضه فوجه إليه حميد بن قحطبة فالتقوا، فانهزم أبان وأصحابه وانكشفوا(9/330)
وتحصنوا فِي حصن كيسوم [1] ، فحصرهم حميد فطلبوا الأمان فأمنهم، وهرب أبان فدُلَّ عليه فأُخذ فِي غار فقطع عَبْد اللَّهِ يديه ورجليه وقتله، ومضى لوجهه.
ويُقال إنه كَانَ فِي الغار أمه وأخته وامرأته، فدُلّ عَبْد الله عليه، فوجّه إليه أربعينَ رجلا فلمّا نذر بهم أراد قتالهم فمنعته أخته وأمه فاستسلم، فقطعَ عَبْد الله يديه ورجليه وحشمه وأطافه بالشام ثُمَّ حبسه فحلّ يديه حَتَّى نزف ومات.
وتحصن عَبْد الصمد بن مُحَمَّد بن الحجاج بن يوسف فِي حصن، فبعث عَبْد الله من أخذه وأربعة عشر رجلا من آل أبي عقيل، ومع عَبْد الصمد سيف الحجاج فضرب به عنقه وأعناقهم. ويُقال إن صالِح بن عَليّ أخذهم.
وقتل ابن عَليّ ذيخ [2] قريش وهو أبو بكر بن عَبْد الملك، وقتل أبا القاسم بن الوليد بن عتبة بن أبي سُفْيَان.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الزِّيَادِيِّ قَالَ: قَالَ عبد الله بن علي بنهر أبي فطرس ومعه بنو أمية، خرجوا معه من دمشق، فأمر ألا يدخلوا عليه وعلى أحد منهم سيف، فانتزعوا سيوفهم، وأمر بالخيل فرتبت حول الحجر، فلما دخلوا من باب المضرب عزلوا ناحية ونودي رجل رجل باسمه فدخل اثنان وسبعون رجلا، ويُقال كَانوا نيفًا وثَمانين.
وجاء حباش بن حبيب الطائي صاحب شرطة عَبْد الله بن علي، فأمر
__________
[1] من حصون الثغور بينه وبين الحدث سبعة فراسخ. بغية الطلب ج 1 ص 265.
[2] الذيخ: الذئب الجريء، والفرس الحصان، وكوكب أحمر، وذكر الضباع. القاموس.(9/331)
بِهم فنزعت ثيابهم وكُتّفوا فجعل أهل خراسان يشقون أطراف أقبيتهم ويكتفونهم، فقال مُحَمَّد بن عَبْد الملك: يا بني أمية اصبروا فهذا يومكم الذي كنتم توعدون، ولم تأخذوا له أهبته. فضربوا بالخشب والعمد والأيدي والأرجل حَتَّى رضوا جَميعًا.
قالوا: ورأى خُفاف بن منصور فرسًا لسليمان بن داود بن عَبْد الله بن مروان فأعجبه فقال: لِمن هذا الفرس؟ فأخبر مولى لسليمان سُلَيْمَان بذلك، فبعث إليه بالفرس فقال: ما كنتُ لأقبله ولكن قل لصاحبك احذر أصحابنا، فحضر يومئذ فقُتل. وقُتل الغمر بن يزيد وقد ذكرنا خبره، وقتل إِبْرَاهِيم بن مسلمة بن عَبْد الملك.
وبعث عَبْد الله بن عَليّ إلى البلقاء من قتل سُلَيْمَان بن يزيد بن عَبْد الملك أخا الوليد المقتول، وبعث عبد الله بالرؤوس إلى أبي العباس مع سلمة بن مُحَمَّد الطائي، والوثيْق بن زُفر.
وكتب إلى عُثْمَان بن عبد الأعلى بن سراقة وهو بدمشق: إِذَا ورد عليك الوثيق فاقتله واجعل رأسه مع الرؤوس، وانفذ بِهَا سلمة بن مُحَمَّد وجَماعة معه يحفظونَها، فإن بني أمية أرادوا نقض ما جعل الله لنا فِي أعناقِهم فألحقتهم بأمهم الهاوية، والنار الحامية.
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لم يوجه عَبْد الله بن عَليّ الوليد بن معاوية بن مروان بن عَبْد الملك بن مروان حين أخذه بدمشق إلى أبي العباس، ولكنه بعثَ بأخيه زيد بن معاوية، فقتله أبو العباس وصلبه بالكوفة.
وقتل ابن عَليّ الوليد وبعث برأسه إلى امرأته، وهي ابنة مروان بن(9/332)
مُحَمَّد، فقالت: والذي ابتلاني بقتله ما تبينت صورة وجهه قط، وقال المدائني: كَانَ يُقال إنه من فتيان قريش.
وأما عَبْد الْوَاحِد بْن سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الْمَلِك فقتله صالِح بن عَليّ، دخل عليه وصالح يقرأ، ورجل يأخذ عليه فِي مصحف، فقال له:
ما منعكَ من إتيان أمير المؤمنين؟ قَالَ: كتابُ أمير المؤمنين. فقال للذي كَانَ يأخذ عليه: أطبق المصحف. وأمر به فضربت عنقه.
وقتل أبو العباس سُلَيْمَان بن هشام وقد كتبنا قصته وسبب قتله.
وقتل أبو العباس زيد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك بن مروان وصلبه بالحيرة.
وقال هشام ابن الكلبي: قتل ابن عَليّ بنهر أبي فطرس ثَمانين أو نيفًا وثَمانين من بني أمية، فقال حفص بن أبي النعمان مولى عبيد الله بن زياد:
أَيْنَ رَوْقًا عَبْد شمسٍ أين هُمْ ... أينَ أهلُ الباعِ منهم والحسبْ
قُل لِمن يسأل عنهم إنَّهم ... جثثٌ تلمع من فوق الخشب
احلبوا ما شئتم فِي صحنكم ... فستلقونَ صرى [1] ذاك الحلب
قَالَ: ويُقال لبني حرب بن أمية، وبني أبي العاص بن أمية:
الرّوْقَان. والرَوْق: القرن.
وقال ابن الكلبي: صلب عَبْد الله بن عَليّ عَمْرو بْن سهيل بْن عَبْد الْعَزِيز بْن مروان الذي كتبنا خبره بالبصرة.
قَالَ: ولَمّا افتتحَ ابن عَليّ دمشق أسر زيد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك بن مروان، وعبد الله بن عَبْد الجبار بن يزيد بن عبد الملك، فبعث بهما
__________
[1] لبن صرى: متغير الطعم، والصرى: البقية. القاموس.(9/333)
إلى أبي العباس فصلبهما بالحيرة.
وقتل أبو العباس سُلَيْمَان بن هشام وابنه وصلبهما.
قَالَ: وقال أبو عدي العَبْلي من بني أمية:
تقولُ أُمامة لَمّا رأت ... سهادي لدى هجعة النُّعسِ
أبي ما عَرَاك فقلت الهموم ... طرقْنَ أباكِ فلا تُبْلسي
لفقد العشيرة إذ نالها ... سهام من الحدث الموئِسِ
رَمَتها المنون بلا نصل ... ولا طائشاتٍ ولا نكس
أفاض المدامعَ قتلى كرى ... وقتلى بلوثة لم تُرْمَسِ
وقتلى بَوَجّ وباللابتينِ ... مِنْ يثرب خير ما أَنْفُسِ
وبالزابيين نفوسٌ ثَوَتْ ... وقتلى بنهر أبي فطرسِ
أولئكَ قومي أذاعت بِهم ... نوائب من زمن مُتْعَسِ
أَذَلَّتْ جبالي لِمن رامها ... وأنزلت الرُّغْمَ بالمعْطَسِ
فما أنْسَ لا أَنْسَ قتلاهُمُ ... ولا عاش بَعْدَهُمُ مَنْ نُسي
فقتله داود بن عَليّ.
وقال بعض الشعراء:
تَعْسًا أمية قد زَلَّتْ بكم قَدَمٌ ... فأصبح الْمُلْكُ من أيديكمُ نُزِعَا
ونالها من بني العباس مضطلع ... بالحمل لو حَمَّلُوها غيره ظَلَعَا
ميراث أَحْمَد كانوا يلعبونَ به ... يا رُبَّ محتصدٍ غير الذي زَرعا
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ الأوزاعي قَالَ: قَالَ لي عَبْد الله بن عَليّ: ما ترى فيمن قتلتُه من هَؤُلَاء؟ قلت: أمنتهم ولم يكن ينبغي أن تقتلهم، قَالَ: فما تقولُ فيمن قتلت ولم أؤمنه؟ قلت: لو لم تقتلهم كَانَ(9/334)
أحبُّ إليّ لك. قَالَ: والله لو كَانَ معنا ثالث من الناس ما رأيت الأحبة.
قالوا: وقتل داود بن عَليّ بالمدينة عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الجبار بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَرِيزٍ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد عَن الواقدي وغيره قالوا: كَانَ إسماعيل بن عَمْرو بن العاص من عُبَّاد الناس وخيارهم وهو صاحب الأعوص [1] فقال عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز: لو أن الأمر إليّ لوليتها القاسم بن مُحَمَّد أو إسماعيل صاحب الأعوص، وعرض له داود بن عَليّ فقيل ليست بك حاجة أن تُفزع إسماعيل للدعاء عليك فتركه ولم يعرض له، وعرض لإسماعيل بن أمية بن عَمْرو بن العاص، ولأيوب بن موسى بن عَمْرو بن سعيد فحبسهما بالمدينة.
وروى ابن أبي سبرة وسليمان بن بلال عَن إسماعيل صاحب الأعوص، وقيل لصاحب الأعوص ليالي قدم داود: لو تغَيَّبْتَ. فقال:
ولا طرفة عين. ولم يتغيب.
__________
[1] بهامش الأصل: «الأعوص موضع» على أميال من المدينة. معجم البلدان.(9/335)
أمر حبيب بن مُرَّةَ الْمُريّ
قالوا: وخرج حبيب بن مرة المري بحوران، فكتب ابن عَليّ إلى أبي غانِم عَبْد الحميد بن ربعي الطائي، وعثمان بن سراقة البارقي، وهما بدمشق يأمرهما بالمسير إلى حبيب، فتوجها إليه فغدر أصحاب عَبْد الحميد به وتفرقوا عنه، وذلك لأنهم كانوا يمانية فقالوا: لم نكن لنقاتل إخواننا، فكسر ذلك سائر الجند فرجعوا إلى دمشق منهزمين، فلما رأى ذلك أهل دمشق بَيَّضوا وخلعوا، فأتاهم حبيب بن مرة فأحاط بالمدينة، فبعث أبو غانم سلمة بن مُحَمَّد إلى باب الشرقي ومعه عَبْد الله الطائي فقاتلا أصحاب حبيب، وخرج أبو غانِم من باب الفراديس فمضى، فقال سلمة: غدر أبو غانم، وقاتل سلمة حَتَّى قُتل وناس من أصحابه، وطلب أصحاب حبيب أبا غانم ففاتهم بنفسه وما معه من الأموال والأثقال. وأتى بيروت فنزلها، وكتب إلى عَبْد الله بن عَليّ يُخبره، فكتب ابن عَليّ إلى أشراف ربيعة واليمن يَعِدهُم ويُمنيهم ويقول: إنكم أنصارنا مذ كانت هذه الدعوة. فاعْتزلُوا ورجعوا وخلّوا بينه وبين مضر.(9/337)
وخرج أهل دمشق، وهم زهاء ثَمانين ألفًا، فعسكروا يريدونَ قتال عَبْد الله بن عَليّ، فلمّا نَزَعت اليمانية والربعية عَن الحرب رجعوا وانكسروا.
وأتى عَبْد الله بن عَليّ دمشق فكُلّم فيهم. وقيل إنه لم يكن لَهم ذنب فأمنهم، ثُمَّ ارتحلَ فِي المحرم سنة ثلاث وثلاثين إلى حبيب بن مرة بحوران، فالتقوا فهربَ حبيب إلى البادية ويُقال بل هرب حين شارف ابن عَليّ.
وفتح عَبْد الله حوران، ودخلها لعشر بقين من صفر سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وقدم عَلَى عَبْد الله بن عَليّ مُحَمَّد بن خالد القسري، ومعن بن زائدة بفتح واسط، وقتل يزيد بن عُمَر بن هبيرة، ورجع أبو غانم بِما حمل إلى دمشق، ودسَّ لِحبيب فقُتل.
وكان قتل مروان بن مُحَمَّد فِي سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وله تسع وستون سنة، فكانت ولايته خَمس سنين.
تَمَّ أمر آل أبي العاص(9/338)
ولد أبي عَمْرو بن أمية
ولد أبو عَمْرو بن أمية:
أبا مُعيط، واسمه أبان، وأمه آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة.
ومسافر بن أبي عَمْرو.
وكُمَيْم بن أبي عَمْرو. ولا عقب لكميم.
وأبا وجزة واسمه تَميم.
وزينب، وصفية، أمهم ريطة بنت الحويرث. ثَقَفِيَّة.
وقال أبو اليقظان: يزعمونَ أَنَّهُ عَبْد كَانَ يسمى ذكوان، فاستخلفه أمية فكناهُ أبا عَمْرو فخلف عَلَى آمنة بعد أمية، وقال: بِمكة دار نُسبت إلى كميم ولا عقب له.
فأمّا أبو وجزة فله عقب ولَهم أموال بالبصرة.
وأُسر الحارث بن أبي وجزة يوم بدر، وسمعه عُمَر بن الخطاب بعد ذلك يمدح خالد بن الوليد فقال له: يا بن أبي وجزة لا يسمعنّ هذا خالد منك فإنه يحب الفخر، وحُبّ الفخر مفسدة فِي الدين.
وأما مسافر بن أبي عَمْرو
فكان من فتيان قريش جمالا وسخاءً وشعرًا، وكان نديمًا لأبي طالب بن عَبْد المطلب، وكان أتى الحيرة حين اتُّهِمَ بامرأة(9/339)
يُقالُ لَهَا هند هاربًا فأصابته الدُّبَيْلة [1] من شربه الخمر صرفًا، ويُقال لما ناله من الأسف إذ لم ينلها، فكواهُ رجل فضرط الكاوي فقال مسافر: قد يضرط العير والمكواة فِي النار.
ثُمَّ خرج متوجهًا إلى مكة فمات بهبالة [2] ، فقال أبو طالب حين جاءهم نعيه:
لَيْتَ شِعْرِي مُسَافِرَ بْنَ أَبِي ... عَمْرٍو وَلَيْتَ يقولها المحزونُ
رجع الركب سالِمين جَميعًا ... وخليلي فِي مَرْمَسٍ مَدفونُ
بوركَ الميت الغريب كما بو ... رك صنو الريحان والزيتون
ميت صدق عَلَى هَبالةَ قَدْ حالت ... فيافٍ من دونه وحزونُ
مدره [3] يدفع الخصوم بأيدٍ ... وبوجهٍ يزينه العرنين
رُبّ خال رُزئتُه وابن عم ... وخليل أتت عليه المنون
فتعزَّيت بالجلادة والصَّبْر ... وإني بصاحبي لضنين
ويُقال إن هذا الشعر لضرار بن عَبْد المطلب، والثبت أَنَّهُ لأبي طالب.
وزعم قومٌ أَنَّهُ كَانَ قد زُوِّج هذه المرأة فلم تُهْد إليه، وكان بينهما شيء فهربَ إلى الحيرة.
وقال مسافر حين زوّجت:
__________
[1] الدبيلة: داء في الجوف. القاموس.
[2] هبالة: من مياه بني نمير. معجم البلدان.
[3] دره: هجم وطلع، ولهم وعنهم دفع، والمدره: السيد الشريف، والمقدم في اللسان واليد عند الخصومة والقتال. القاموس.(9/340)
ألا إنّ هندًا أصبحت منك مَحْرمًا ... وأصبحت شيخًا من حُمُوتها حما
وأصبحت كالمسلوب جَفْن سلاحه ... يُقلب بالكفين قوسًا وأسْهُمَا
ولما مات مسافر نادمَ أبو طالب عَمْرو بن عَبْد ودّ، فلما بارزه عَليّ عليه السلام قَالَ له: إن أباكَ كَانَ لي صديقًا.
وقال مسافر:
غشيت الدار موحشةً ... فلم تُؤنس بِهَا أحدا
عفت آياتها إلا ... أواريًّا [1] ومنتضَدا
وأشعث ماثلا خَلِقًا ... وسعفًا حوله ركدا
لِهند إنّ ذكراها ... يَهيجُ لقلبك الكمدا
ملكتِ فاسْحجي وَعدي ... ومنّينا غدا فغدا
فإنّا معشر أنف ... نقيم الدّرء والصّيدا
ورثنا المجد عن آبائنا ... فسَموا بنا صُعدا
وقال مسافر لأبي أحيحة:
تَمُتُّ إلى الأقصى بثديك كله ... وأنت عَلَى الأدنى صروم مُجددُ
فإنك لو أصلحتَ من أنت مفسدٌ ... تودّدك الأقصى الذي تتودّدُ
أخوكَ الذي إن تَجْنِ يومًا عظيمةً ... يَبتْ ساهرًا إذ سائر الناس رقد
وإنّ ابن عم المرء يحمي ذماره ... ويَمنعه حين الفرائص تُرعِدُ
وقال عمارة بن عقبة:
خلق البيض الحسان لنا ... وجياد الرِّيطِ والأزر
كابرًا كنا أحقُّ به ... حين صيغ الشمس القمر
__________
[1] الأوار: حر النار والشمس والعطش والدخان واللهب. القاموس.(9/341)
فقال مسافر:
أعمار بن الوليد وقد يذكر ... الشعار من ذكره
هل أخو كاس مخفضها ... ومُوَقٍّ صحبه شكره
ومحيّيهُمُ إِذَا شربوا ... ومُقِلٍّ فيهُمُ هَذَرَهْ
خُلِقَ البيض الحسانُ لنا ... وجياد الرِّيط والحَبَرهْ
كابرًا كنا أحقّ به ... كل حيٍّ تابع كبرهْ
وقال مسافر يَهجو سعيد بن العاص أبا أحيحة:
فنحنُ البيض أشبهنا قصيا ... وأنتم شبه أستاه [1] المزاد
نَسَبَهُ إلى السواد.
وقال أبو اليقظان: مات مسافر بالحيرة، وموته بهبالة أثبت،
وكان عقبة بْن أَبِي معيط بْن أَبِي عَمْرو بن أمية
مطعامًا للطعام. قَالَ الشاعر:
مَنْ سَرَّهُ شحم ولحم داهن ... فليأتِ جفنة عقبة بن أبان
وقال ضرار بن الخطاب:
عينُ بَكي لعقبة بن أبان ... قرم فهر وفارس الفرسان
وكان عقبة من أشد الكفار عَلَى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأُسر عقبة يوم بدر فأمر عليًّا فقتله صبرًا بعرق الظبية، وقد كتبنا خبره فِي أول كتابنا.
وكانت لأبي معيط ابنتان: حكيمة وصفية وأمهما سالِمة بنت أمية بن حارثة بن الأوقص السلمي.
فولد عقبة بن أبي معيط:
الوليد بن عقبة.
وخالد بن عقبة. وهشام بن عقبة. وعُمارة. وأم
__________
[1] أي سافلة المزاد، واستي الثوب: سداه. القاموس.(9/342)
كلثوم، وأم حكيم، أمهم أرْوَى بنت كُريز بْن ربيعة بْن حبيب بْن عَبْد شمس.
وأبان بن الوليد. ويعلى بن الوليد. وعثمان.
فأمّا أم كلثوم فكان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرجها معه فِي المغازي فتداوي الجرحى ويضرب لَهَا سَهْمًا، وصافحَ رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدها بيده وبين يدها ويده ثوب، وخطبها إلى عُثْمَان عَلَى زيد بن حارثة مولاه فَتَكرَّه ذلك عُثْمَان وأباها فأخبرها فقالت: لو أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إن أتزوج زنجيًّا عظيم المشافر محدّد الأسنان لفعلتُ. فتزوجها زيد فقتل عنها، فتزوجها عَبْد الرَّحْمَن بن عوف الزهري، فهلك عنها، فتزوجها الزبير بن العوام، ثُمَّ طلقها الزبير فتزوجها عَمْرو بن العاص وكانت معه بِمصر.
وَحَدَّثَنِي مصعب بن عَبْد الله قَالَ: هاجرتُ أم كلثوم بنت عقبة إلى المدينة فِي الهدنة بين رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقريش، فأراد أن يردها فقالت: أتردني يا رسول الله إلى المشركين فيفتنوني عَن ديني؟ فأنزل الله عز وجلّ: إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات [1] الآية. فلم يدفعها وزوّجها زيد بن حارثة.
وولى عُثْمَان الوليد الكوفة فشهد عليه بشرب الخمر فَحُدَّ، وقد كتبنا خبره، وكان يُكنى أبا وهب، وكان النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثه إلى بني المصطلق مصدقًا فأتاهُ فقال: منعوني الصدقة كاذبًا، فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغزوهم فنزلت:
يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فعلتم نادمين [2] .
__________
[1] سورة الممتحنة- الآية: 10.
[2] سورة الحجرات- الآية: 6.(9/343)
ووقع بين الوليد وبين عَليّ بن أبي طالب كلام فِي أمر هذه الدعوة التي ادّعاها عَلَى بني المصطلق أو غير ذلك فقال: لأنا بالكتيبة وأَضْرِبُ لَهامة البطل المشيح منك. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كمن كان فاسقا لا يستوون [1] .
وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو والٍ عَلَى عمل كَانَ ولاهُ إياه، ولما استخلف عُمَر بن الخطاب ولاه صدقة تغلب فقال وكان شاعرًا:
إِذَا ما شددت الرأس مني بِمشوذٍ [2] ... فويلك مني تغلب ابنة وائل
فعزله. وكان جوادًا سخيًّا. وفيه يقول أبو زيد الطائي:
بِحمد الله ثُمَّ فتى قريشٍ ... أبي وهب غدتْ غلبًا غرارا
وقال الحطيئة:
أبي لابن أروى خلّتان اصطفاهما ... قتال إِذَا يلقى العدو ونائله
فتًى يملأ الشيزي ويروي بكفه ... سنان الرديني الأصمَّ وعامله [3]
وغزا الوليد أيام ولايته الكوفة آذربيجان فصارت إليه جارية خزرية، فقالت له يومًا ورأت فرسًا جوادًا: احملني عَلَى هذا الفرس. ففعل، فركضت ومضت فلم تُلحق، وكانت حاملا فجاء فتى إلى ولد الوليد فادعى أَنَّهُ ابن الوليد من الخزرية، وذكر أَنَّهُ نشأ بالباب والأبواب من أرمينية، فأنكروهُ ونفوهُ فكان يُسمى الدعيّ، واسمه الحارث، ويُقالُ عقبة. فقال لعمرو بن الوليد المعروف بأبي قطيفة:
__________
[1] سورة السجدة- الآية: 18.
[2] المشوذ: العمامة. القاموس.
[3] ديوان الحطيئة ص 78- 79، والشيزي: الجفان.(9/344)
يا عمرو يا بن أبي تلافوا أمركم ... حَتَّى متى ترمي بي الرجوان
يا ليتَ حظي من تراث أبيكم ... أن ترفعوا لي نسبتي ومكاني
وقال الحارث الدعيّ ليعلى بن الوليد بن عقبة:
كأنّ عَلَى مفارق رأس يَحيى ... خنافس مُوِّتَت زَمَن البطاح
وللوليد أشعار كتبناها فِي مواضع من هذا الكتاب، ولَمّا احتُضرَ قَالَ وهو بالبليخ: «اللهم إن كَانَ أهل الكوفة صَدَقوا عليّ فلا تُلْق روحي رَوْحًا ولا ريحانًا، وإن كانوا كذبوا عَليّ فلا تُرضهم بأمير، ولا ترضَ عنهم أميرًا، وانتقم لي منهم، واجعل قولهم كفارة لِما لا يعلمون من ذنوبي» .
وزارَ الوليد معاوية بالشام فقال له: يا أبا وهب ألستَ أكثر قريش مالا؟ قَالَ: بلى. قَالَ: فخرج وأنشأ يقول:
أعفّ وأستغني كما قد أمرتني ... فأعطِ سوائي ما بدا لك وابخلِ
سأصرف عنك الرّكز إن سجيتي ... إِذَا رابني رَيْبٌ كَسَلَّة منصل
وإني امرؤ فِي الدار منى تَطَرَّبٌ ... وليس شبا قفل عليّ بمقفل
ثُمَّ أتى الرقة فمات بِهَا، وقال بعضهم: نزل الوليد بالرقة فلم يأت صفين.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَن الواقدي قَالَ: اعتزلَ الوليد عَليّ بن أبي طالب ومعاوية، وأقامَ بالرقة حَتَّى مات بِهَا أو بالبليخ.
وقال أبو اليقظان: أعجبته البليخ فقال: منك المحشر فمات بالبليخ.
وولد الوليد بن عقبة: عمرًا، كَانَ يُكنى أبا قطيفة وكان شاعرًا.
وقال مصعب: كني أبو قطيفة بِهذه الكنية لأنه كَانَ كثير شعر الرأس(9/345)
والوجه والجسد [1] ، وسيره ابن الزبير من المدينة إلى الشام مع بني أمية فقال:
ليت شعري وأين مني ليت ... هل عَلَى العهد يلبن فبرام [2]
أم كعهدي البقيع أم بَدَّلَتْهُ ... بَعْدَنا المعصفاتُ والأَيَّام
خشيةً أن يصيبهم حدث الدهر ... وحرب يشيب منه الغلام
وبقومي بَدَّلت كلبًا ولخمًا ... وجذامًا وأين مني جذام
وقال أبو قطيفة:
بكى أحدٌ إن فارق اليوم أهله ... فكيف بذي وَجْدٍ من الْقَوْم آلفُ
من أجل أبي بكر جَلَتْ عَن بلادها ... أمية والأعلامُ عوجٌ عَواطِفُ
وذكره ابن القَلَمَّس الكناني فعابه عِنْد عَبْد الملك فقال:
أنبئتُ أن ابن القلمس عابني ... ومن ذا من الناس البريء الْمُسَلَّمُ
تبين سبيل الرشد سيد قومه ... فقد يُبصر الرشد الرئيس المعَمَّمُ
فَمَنْ أنتُمُ إنا نسينا من أنتُمُ ... وقد جعلت أشياء تُنْسي وتكْتَمُ
فولد عَمْرو بن الوليد وهو أبو قطيفة: ذا الشامة، وهو مُحَمَّد، وأمه ابنة أسماء بن خارجة، وكان صاحب قرآن، ومن قرآنه (إن الباقر تشابه علينا) [3] وكان به شامة، وولاهُ مسلمة بن عَبْد الملك الكوفة، فرماهُ أهلها بالزندقة، وقدم ذو الشامة عَلَى يوسف بن عُمَر، فأمر له بألف دينار فردّها وقال:
قد قلت حين تَيَّمَمتْ ... وبدا لها قصد السبيل
__________
[1] كتاب نسب قريش للمصعب الزبيري ص 146.
[2] يلبن: جبل قرب المدينة وبرام جبل عند الحرة من ناحية النقيع. المغانم المطابة.
[3] انظر سورة البقرة الآية: 70.(9/346)
قبح الإله قرابةً ... تُرجى من آل أبي عقيل
قومٌ إِذَا ما جئتهم ... بالحق والنسب الأصيل
لم يرغبوا أو يرهبوا ... يومًا رجعت بلا فتيل
وإذا أردت نَوالهم ... منهم فيعدل ألف ميل
وأمّا خالد بن عقبة:
فاستقضاهُ مروان بن الحكم عَلَى المدينة فِي أيام معاوية، فوثبَ غلمان لسعيد بن عُثْمَان عليه فقتلوا سعيدًا، فقال عَبْد الرَّحْمَن بن سيحان حليف بني أمية:
يلومونني فِي الدار أَن غبت عَنْهُم ... وَقَدْ فرّ عنهم خالدٌ وهو دارعُ
وقال خالد:
لعمري لقد أبصرتهم فتركتهم ... بعينيك إذ ممشاكَ فِي الدار واسع
فولد خالد: خالدًا ولقب أجَيح، ويكنى أبا العباس، وفيه يقول عَبْد الله بن الحجاج الغطفاني:
كأني إذ دخلتُ عَلَى أجيحٍ ... دخلتُ عَلَى مُقَوقِيةٍ تَبيضُ
إوزَّة غيطة لقحت كشافًا ... لقحقحها إِذَا ربضتْ نقيض [1]
فإنْ يَعْرِضْ أبو العباس عني ... ويرمي بي عروضًا عَن عروض
ويجعل ماله بخلا لغيري ... ويبغضني فإني من بغيض
فإن بمصر عبد الله يأسو ... ويجبر عظم ذي الكسر المهيض
عَبْد الله هو ابن عبد الملك بن مروان.
__________
[1] القحقح: العظم المطيف بالدبر، والنقيض: الصوت. القاموس.(9/347)
ومن ولد خالد بن عقبة:
هشام.
ولي الصائفة زمن الوليد بن عَبْد الملك وَفِي الجيش عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز.
قالوا: ولَمَّا خرج مروان بن الحكم من المدينة قَالَ خالد بن عقبة:
فو الله ما أدري وإني لسائل ... تعاجزت يا مروان أم أنت عاجزُ
فررتَ ولَمّا تُغن شيئًا وقد تَرى ... بأن سوف ينثو [1] الفعل حادٍ وراجز
فأجابه عَبْد الرَّحْمَن بْن الحكم بْن أَبِي العاص فقال:
أخالد أكثرت الملامة والأذى ... لقومك لَمّا هَزْهَزَتْكَ الهَزاهِزُ
أخالد إنّ الحرب عوصاء مُرَّةٌ ... لَهَا كفل ناب عَن الْكفلِ ناشزُ
يُعجز مولاك الذي لست مثله ... وأنت بتعجيز امرئ الصدق عاجزُ
هو المرء يوم الدار لا أنتَ إذْ دعَا ... إلى الموتِ يَمْشي حاسرًا من يُبارزُ
وقال ابن الكلبي: نزل خالد الجزيرة، فولده بِهَا اليوم.
قَالَ: وأبو قطيفة الذي يقول:
ألا ليتَ شعري هل تغير بَعدنا ... بقيع المصلّى أو كعهدي القرائن
أم الدور أكناف البلاط عوامر ... كما كُن أم هل بالمدينة ساكنُ
لعل قريشًا أن تُريعَ حلومها ... ويُزجر بعد الشؤم طير الأيامن
وأمّا عمارة بن عقبة بن أبي معيط، فإنه كَانَ مقيمًا بالكوفة، وبها ولده، وله يقول أخوه الوليد بن عقبة:
فإن يك ظنّي يا بن أمي صادقا ... عمارة لا لا تطلب بذحل ولا وتر
وقد ذكرنا هذا الشعر في موضع آخر.
__________
[1] ينث الخبر: يفشيه. القاموس.(9/348)
ومن ولده:
أم أيوب، وأم نافع، أمهما ابنة هانئ بن قبيصة. فأمّا أم أيوب فكانت عِنْد عبيد الله بن زياد، وكانت أم نافع عِنْد زياد بن أبي سُفْيَان.
وقال ابن الكلبي: ولى عَبْد الملك أبان بن الوليد بن عقبة حمص وقنسرين، وولى عُثْمَان بن الوليد بن عقبة أرمينية.
وقال ابن الكلبي: كَانَ الذي ذهبَ برأس يزيد بن المهلب إلى الشام خالد بن خالد بن الوليد بن عقبة. وقال ابن الكلبي:
ولد هشام بن الوليد:
معاوية.
فولد معاوية: هشام بن معاوية بن هشام بن الوليد، وهو أبو يعيش. ولي الصوائف فِي زمن الوليد بن عَبْد الملك.
قَالَ ابن الكلبي: قدم عقفان بن قيس بن عَاصِم، أو متمم بن نويرة المدينة، فنزل عَلَى أروى بنت كريز فأكرمته فقال:
خَلِّف عَلَى أروى سلامًا فإِنَّما ... جزاء الثواءِ أَنْ تعِفّ وتُحمدا
سلامًا أتى من وامقٍ غير عاشق ... أراد رحيلا ما أعفَّ وأمجدا
وكان جساس المعيطي من ولد عمارة، ويُكنى أبا الوليد، واسمه عمارة، شيخا ما جنا تملأ لحيته صدره، وكان يخضب، فمر ومعه صديق له بين منازل أبي معيط فقال لصديقه: ما أشد الحرّ يا أبا الوليد. قَالَ: أو ما تعلم أنك بين منازل الصبية الذي أوجبَ لَهم رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النار؟.
ورأى امرأة قد ضربت الحد، وقد حُملت عَلَى حمار، وهي تُنادي عَلَى نفسها: من رآني فلا يزني. فدنا منها ثُمَّ قَالَ: أَيْ زانية، إنك إذا لمطاعة.(9/349)
ومَرَّ بخمر قد صُبَّتْ، وطنبور قد كُسر، فقال: اللهم غَيِّرْ ما ترى.
وبات مع قوم من أهل الكوفة، فلمّا ناموا قام إلى غلام له ملتح ليفسق به، فلم يُخَلّ بينه وبين ذلك، وقال له: أما تستحي من الناس، ثُمَّ صار إلى غلام له آخر فطاوعه عَلَى ما أراد، فلما أصبح اشتري أثوابًا فجعل يقطع لنفسه منها ثوبًا ولغلامه الذي طاوعه ثوبًا، فقال له الغلام الذي التوى عليه: فأنا مالي؟ قَالَ: أنتَ يا بني تتكلم فِي النوم.
قَالَ ابن الكلبي: وكان يُقالُ للوليد بن عقبة: الأشعر بركا، وكان كثير شعر الصدر والجسد، والبرك: الصدر.
وقال الكلبي: كَانَ سعيد بن عَبْد الْعَزِيز بن خُدينة عَلَى خراسان من قبل مسلمة، وكان مقيمًا بِهراة فيما ذكر بعضهم، وكان عَبْد الملّك بْن بشر بْن مروان من قبله عَلَى البصرة. وكان ذو الشامة مُحَمَّد بن عَمْرو أبي قطيفة بن الوليد بن عقبة من قبله عَلَى الكوفة. فقال الفرزدق حين عزل مسلمة:
عزل ابن عُمَرو وابن بشر قبله ... وأخو هراة لمثلها متوقع [1]
قَالَ الحرمازي: قَالَ هراة ولم يقل خراسان لضرورة الشعر.
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 408 مع فوارق.(9/350)
ومن بني سُفْيَان بن أمية الأكبر بن عَبْد شمس
حكيم بن طليق بن سُفْيَان بن امية
وكان من المؤلفة قلوبهم، أعطاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حنين مائة من الإبل. وكان لسفيان ابن يُقالُ له:
المهاجر، فهلك.
وكان سُفْيَان أحد من تعلم الخط العربي من بشير أخي أُكيدر السكوني فِي الجاهلية، وعلّمه غيلان بن سَلمة الثقفي، وله ابنة تزوجها المغيرة بن زياد بن سُمَيَّة، ويُقال زياد نفسه، فَدرج عقب سُفْيَان.
وقال الكلبي: كَانَ لسفيان من الولد لصلبه:
طليق، والحارث، وحمنه، وَهِيَ أم سَعْد بْن أَبِي وقاص.
- ومن بَنِي أَبِي سُفْيَان بْن أمية:
سُفْيَان بْن أمية بْن أَبِي سُفْيَانَ بْن أمية
الذي ذهب بِموت عَليّ بن أبي طالب إلى الحجاز. ولا عقب له.(9/351)
وأمّا عَمْرو بن أمية
فولد:
يزيد. وأمه أم قتال بِنْت عَبْد اللَّه بْن الحارث بن زهرة. درج ولا عقب لعمرو بن أمية.
وأمّا أبو حرب بن أمية
فلا عقب له.(9/352)
ولد حبيب بن عَبْد شمس
وأمّا حبيب بن عَبْد شمس فولد:
ربيعة. وأمه فاطمة بنت الحارث بن شجنة.
وقال أبو اليقظان: أمه فاطمة بنت عِدّ بن أبي الحارث من عدوان.
وسمرة بن حبيب
لأم ولد سوداء يقال لها ربيبة. وأخوهُ لأمه أبو جمعة جدّ كثير بن عَبْد الرَّحْمَن بن أبي جمعة الشاعر.
وَعَمْرًا، وأمه من بني سهم.
فأمّا سمرة بن حبيب فولد: عَمْرًا. وأمه ريطة بنت عُثْمَان بْن عَمْرو بْن كعب بْن سَعْد بن تيم.
وعبد الرَّحْمَن بن سمرة
وأمه كنانية.
فأمّا عَمْرو بن سمرة فقطعه النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سرقة. وولده ينزلونَ البصرة، منهم: معاوية بن معاوية السمري. أمه من ولد زياد بن سُمَيَّة.
وكان من وجوه قريش وذوي المروءة منهم، وهلك بالبصرة وله عقب.
وأمّا عَبْد الرَّحْمَن بن سمرة فكان يُسمى عَبْد كلال. فسماهُ رَسُول اللَّهِ(9/353)
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد الرَّحْمَن، وقال له النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا عَبْد الرَّحْمَن لا تطلب الإمارة فإنك إن أُتيتها من غير مسألة أعنتَ عليها، وإن أتيتها عَن مسألة وُكلت إلى نفسك فيها» .
وكانت له صحبة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وولاهُ عَبْد الله بن عَامِر سجستان فافتتحها. وكان متواضعًا فإذا كَانَ اليوم المطير أخذ مسحاة وكسح الطريق.
وافتتح كابل، ونزل البصرة، وبنى بِهَا منزلا عَلَى بناء كابل، وقد حُدِّث عنه، ومات بالبصرة فحضر جنازته أبو بكرة، فسمع قائلا يقول:
رويدكم بالجنازة فعلاه بسوطه وقال: لقد كنا نهرول بِهَا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هرولة.
- فولد عَبْد الرَّحْمَن:
عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سمرة،
وكان أعور، وكان من رجال قريش، وكان مع عَبْد الملك بن مروان، فلما خرج عَبْد الرَّحْمَن بن الأشعث خرج معه ابناهُ فقال لعبد الملك: ائذن لي حَتَّى أخرج فأردّ ابنيّ، فأذن له فلحق بابن الأشعث فولاهُ البصرة. وقال فيه الشاعر:
يا أعور العين فديت العورا ... لا تحسبن الخندق المحفورا
يدفع عنك الْقَدَرَ المقدورا
ثُمَّ هرب فأتى خراسان فقال المثنى بن عبيد الأزدي:
وتثعلب الرَوّاض بعد مزاحه ... وانسلَّ بين غرارتين الأعورُ
الرواض: عَبْد الرَّحْمَن بن العباس الهاشمي، من بني الحارث بن عَبْد المطلب، وكان يركب البغال فيروّضها.(9/354)
ولما بلغ الحجاج أنه بخراسان تخوّف أن يؤمنه عَبْد الملك، فبعث إلى قُتَيْبَة بخرقة وقطنة وتراب وزبيبة فقال قُتَيْبَة: يأمرني أن أقتل ابن زبيبة وهذا كفنه ولباسه فِي تربته. فأخذه فقتله. وزبيبة أم سمرة.
وقتل الحجاج ابنه عتبة بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْد الرَّحْمَن بْنِ سمرة بواسط، وهو صاحب درب ابن سمرة بالبصرة.
وكان ولد عبيد الله: أبا بكر وهو عتبة، وعثمان، وكانا خرجا مع ابن الأشعث. ولأبي بكر عقب بالبصرة.
وأما ربيعة بن حبيب بن عَبْد شمس
فولد: كريزًا وأمه خزاعية.
فولد كريز: عَامِر بن كريز. وآمنة، وأروى. وأم طلحة وهي أرنب. أمهم البيضاء بنت عَبْد المطلب، وهي أم حكيم.
والحارث لأم ولد سوداء، وشهل بن كريز، وعُبَيس بن كريز، أمهما من عَبْد القيس، ويُقال أم ولد.
وفاختة. أمها هند بنت جُدعان أخت عَبْد الله بن جُدعان.
فأمّا أروى فتزوجها عَفّان بن أبي العاص بن أمية، فهي أم عُثْمَان بن عَفَّان. ثُمَّ خلفَ عليها عقبة بن أبي معيط.
وأمّا أم طلحة وهي أرنب فتزوجها عَامِر بن الحضرمي.
وأما آمنة فتزوجها الحكم بْن كيسان حليف بَنِي المغيرة، ثُمَّ عَبْد الله بن أبي سعيد، أو سعيد حليف بني أمية بن المغيرة.
وأمّا فاختة فتزوجها أَبُو العاص بْن نوفل بْن عَبْد شمس.
وأما عَامِر بن كريز فكان مضعوفًا، وأتى عَبْد المطلب فَمَسَّهُ فقال:
وأعظم هاشم، ما ولد فِي بني عَبْد مناف مولود أحمق منه. وفيه تقول أم(9/355)
حكيم:
إِذَا ذُكِّرْتُ أمركَ عامَ عندي ... أبيتُ بليلةٍ وُصِلَتْ بشهرِ
فلم تُشْبه أباكَ ولا أبانا ... ولكنْ أنت هذرٌ غير صفرِ
فلم آتيه سائلةً لشيءٍ ... ولا أدعو له أبدًا بغفرِ
فولد عَامِر: عَبْد الله. وأم رافع. أمهما: دجاجة بنت أسماء بن الصَّلْت بن حبيب بن حارثة بن سماك السلمي، وأمها: أميمة بنت الأخنس سلمية.
وأبا الصهباء. أمه رومية.
فأمّا أم رافع فتزوجها عَبْد الله بن الأسود بن عوف الزهري.
وأمّا أبو الصهباء فكانت عنده أم حبيب بنت زياد، فولدت له، وله عقب بالبصرة.
وأما عَبْد اللَّه بْن عَامِر [1] بْن كريز بْن ربيعة بن حبيب بن عَبْد شمس،
فإن أباهُ عَامِر أتى به النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحنّكَهُ، وقال: هذا أشبه بنا منكم فتثاءب فتفل فِي فيه فازدرد ريقه، فقال النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني لأرجو أن يكون مسقيًّا.
وكان يُكنى أبا عَبْد الرَّحْمَن، واستعمله عُثْمَان بن عَفَّان عَلَى البصرة وأعمالها، فافتتح اصطخر، وجور، وكورًا من فارس، وخراسان وسجستان، وكابل، واتخذ النباج [2] فِي طريق مكة، وغرس بِهَا نخلا وحفر آبارًا وعمر منازلَ واتخذ حياضًا، واتخذ بعرفات حياضًا وسقايات، واتخذ بالبصرة بالنجيب قصرًا يعرف بقصر ابن عامر، وحفر بالبصرة نهرين
__________
[1] بهامش الأصل: عبد الله بن عامر.
[2] النباج منزل لحجاج البصرة بين البصرة ومكة. معجم البلدان.(9/356)
أحدهما فِي السوق والآخر الذي يُعرف بأم عَبْد الله، وغرس عليهما غراسًا كثيرًا.
وأمر ابن عَامِر زيادًا- وقد استخلفه عَلَى البصرة- أن يحفر نَهر الأُبُلَّة فحفره.
وكان ابن عَامِر مسقيًا لَوْ مَسّ صخرة لأماهها- أي أخرج منها الماء- وقال ابن عَامِر: لو كنت تركت لخرجت المرأة فِي حُداجها عَلَى دابتها، ترد كل يوم عَلَى ماء، وسوق حَتَّى ترد مكة.
وكان ابن عَامِر أجود العرب وأسخاهم وأكرمهم. أعطى فِي ولاية البصرة أربعة وثَمانين ألف ألف درهم أجازَ بِهَا.
وسأل الوليد بن عقبة مروان وهو عَلَى المدينة فأعطاه عشرة آلاف درهم فلم يقبلها، ومر بالمغيرة بن شعبة فأعطاهُ عشرين ألفًا عَلَى يد ابنه عروة، وأما ابن عَامِر فشكا إليه دينه فقضاهُ عنه، وكان دينه مائة ألف، ووهب له مائة ألف أخرى. فقال:
ألا جعل الله المغيرة وابنه ... ومروان نعلي بذلة لابن عَامِر
لكي يقياه الحر والقرّ والأذى ... ولدغ الأفاعي واحتدام الهواجر
يفيض الفرات للذين يَلُونَهُ ... وسَيبك مالي كل بادٍ وحاضرِ
وكان يُقال: أفلحَ سائل ابن عَامِر. وقال الراجز لابنه عبد الأعلى:
يا بن الذي أفلحَ عفوًا سائله ... وأنجحت لما أتى وسائله
المدائني عَن مسلمة عَن الجارود بن أبي سبرة قَالَ: أَحْرَمَ عَبْد الله بن عَامِر من نيسابور شكرًا لله، فأحدث السقايات بعرفات وعَمَّر النباج، قَالَ: فالنباج يعرف بنباج ابن عامر.(9/357)
وقال أبو السنابل بن عَبْد الله:
أنا ابن مُصَدّر الحجاج ريًّا ... بمائهم وألبان اللقاح
وكان إذا أصابَ الناس جهد ... يباري الريح من فضل السماح
فلما قتل عُثْمَان أتى مكة فقدم مع طلحة والزبير وحضر يوم الجمل فقتل ابنه عَبْد الرَّحْمَن، ثُمَّ لحق بدمشق فقال الشاعر:
أتاني من الأنباء أن ابن عَامِر ... أناخَ وألقى فِي دمشق الرواسيا
فلما ولي معاوية الخلافة، ولى عَبْد الله بن عَامِر البصرة وأعمالها، وكان عقده عليها بالنخيلة بالكوفة، وزوج معاوية ابن عَامِر هند ابنة معاوية، وكانت ولايته لمعاوية خمس سنين، ثُمَّ عزله معاوية واستعملَ الحارث بن عَبْد الله الأزدي، ثُمَّ استعملَ زيادًا فتحاملَ عَلَى ابن عَامِر.
ثُمَّ ولى عبيد الله بن زياد فأضرّ به فِي مواليه وأمواله ودوره وأنهاره، ثُمَّ أتى مكة فماتَ بِهَا ودفن بعرفات، وأوصى إلى ابن الزبير.
وقال الواقدي: لَمّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةُ أتي بعبد الله بن عَامِر وهو ابن خمس أو ست فقال: «إن شبهنا لَفِيه. وَتَفَلَ فِي فمه وقال: لو أَنَّهُ قدح حجرًا أَمَاهَهُ» .
قالوا: قدم الأحنف البصرة من خراسان عَلَى فرسه الذي أبدى عليه وبغله الذي عليه ثقله إلا أن معه شيئًا سوى ذلك أتى به ابن عَامِر فقال:
هذا شيء ذكر لي أَنَّهُ هدية النوروز، فقال عَبْد الله بن عَامِر: هو لك.
قَالَ: لا حاجة لي فيه. قَالَ: فلابنك. قَالَ: ما كنتُ أرضى له إلا بِما أرضى لنفسي. قَالَ الْحَسَن: فضَمّ ذلك إليه رجل مضَمّ. قالوا: وأراد معاوية أن يصطفي أموال ابن عَامِر، فقال ابن عَامِر: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(9/358)
«المقتول دون ماله شهيد» ، والله لأقاتلنه حَتَّى أقتل دونَ مالي. فأعرضَ عنه معاوية.
وقال أبو الأسود فِي ابن عَامِر وعيب عليه:
ألم تر ما بيني وبين ابن عَامِر ... من الود قد بالت عليه الثعالبُ
فأصبح باقي الود بيني وبينه ... كما لم يكن والدهرُ جَمّ العجائبُ
فما أنا بالباكي عليه صبابةً ... ولا بالذي تأتيه عني المثالبُ
إِذَا المرءُ لَم يحببك إلا تكرهًّا ... بدا لك من أخلاقه ما تجانبُ [1]
وقال المدائني: كانت هند بنت معاوية أبرّ الناس بابن عَامِر، فجاءته يومًا بالمرآة والمشط وكانت تولي خدمته نفسها. فنظر فِي المرآة فالتقى وجهه ووجهها فِي المرآة، فرأى شبابها وجَمالها ورأى الشيب فِي لحيته قد ألحقه بالشيوخ فرفع رأسه إليها وقال: الحقي بأهلك وأبيك، فانطلقت حَتَّى دخلت عَلَى أبيها فأخبرته فقال: وهل يُطلق الحرَّةَ حُرٌّ؟! فأرسل إليه:
أكرمتك بابنتي فرددتها عليّ. فقال: إنّ الله مَنَّ عليّ بفضله وجعلني كريِمًا لا أحبُّ أن يتفضل أحد عليَّ، وإن ابنتك من أكرم صاحبة وقد أعجزتني مكافأتها لِحسن صحبتها، ونظرت فإذا أنا شيخ وهي شابة لا أزيدها مالا إلى مالها ولا شرفًا إلى شرفها، فرددتُها عليك لتزوّجها، وكان رجلا سخيا كريما.
وقال النابغة:
فياليت من يأتي ابن هند بحاجتي ... ومروان والأقباء تُهدى وتُجلبُ
يخبّر عني ما أقول ابنَ عامر ... فنعم الذي يأوي إليه المصعّب
__________
[1] ديوان أبي الأسود ص 158 مع فوارق.(9/359)
كريم ينال الصالِحين نواله ... ويروى بكفيه السّنان المجرّبُ [1]
وقال أبو الأسود:
يا خليلي ما الذي غَيَّرَ لي ... وُدَّهُ والنصح حَتَّى ودّعَهْ
لا تَهِنِّي بعد أن أكرمتني ... فشديدٌ عادَه مُنْتَزِعَهْ [2]
وقال ابن عَامِر لعبد الله بن عُمَر: اتخذت مصنعة كذا، وحفرت بئر كذا، وسقيتَ الناس الماء بمكان كذا، فقال له ابن عُمَر: إِذَا طابت المكسبة زَكَتِ النفقة، وسترد فتعلم.
وقال ابن الأعرابي: حَدَّثَنِي سعيد بن سلم عَن أبيه قَالَ: تخاصمَ رجلان من قريش إلى مروان بن الحكم بالمدينة فِي مال، فقال لبعض حرسه: انطلق بِهما إلى عَبْد الله بن عَامِر وقل له: انظر فِي أمر ابن عَمَّيْكَ، فقال: ما قيمة ما تتنازعان فيه؟ قالا: عشرة آلاف دينار. قَالَ: أيعجز مروان أن يغرم عشرة آلاف دينار فِي إصلاح بينكما. فغرمها، فقال مروان: أردنا أن نفضحه ففضحنا.
فولد عَبْد الله بن عَامِر:
عَبْد الرَّحْمَن الأكبر. وعبد الله الأعمى. وعبد الملك. أمهم كُبيشة بنت الحارث بن كُريز.
وعبد الحكيم. وعبد الواحد الأكبر. وأمهم أم حبيب بنت سُفْيَان، كنانية.
__________
[1] ديوان النابغة الجعدي- ط. دمشق 1964 ص 7- البيتان الأول والثاني دون الثالث مع فوارق.
[2] ليسا في ديوان أبي الأسود المطبوع.(9/360)
وعبد الحميد الأصغر. وعبد الْعَزِيز. أمهما من بني المطلب بن عَبْد مناف.
وعبد الْعَزِيز. وعبد المجيد لأم ولد.
وأبا النضر واسمه عَبْد الرَّحْمَن لأم ولد.
وعبد الجبار لأم ولد. وعبد ربه. وأم كلثوم وأمهما أمة الله من بني عدي بن كعب. وكانت أم كلثوم عِنْد يزيد بن معاوية. وفيها يقول:
إِذَا ظللتُ عَلَى الأنماط متكئًا ... بدير مروان عندي أم كلثوم
وأم رافع. وزينب- وكان أبان بن عُثْمَان بن عَفَّان تزوجها-. وأمهما ثقفية. وأمة الحميد وأمها هند بنت سهيل بن عَمْرو. وأم عَبْد الملك، أمها هند بنت أبي العاص بن نوفل بن عَبْد شمس، تزوجها عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عتاب بْن أسيد بْن أبي العاص بن أمية.
وعبد الكريم. وعبد الرَّحْمَن أبا السنابل لأم ولد.
وعبد السلام أمه من بني عَبْد الدار.
فأمّا عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الله فقتل يوم الجمل ولا عقب له.
وأما عَبْد الله الأعمى فولد: عَبْد الرَّحْمَن. وعبد الأعلى. وأمة الرَّحْمَن لأم ولد. وعبد القدير. وعبد الحميد. وعبد الواحد. وعبد الجبار. وحميدة. وأمهم خزاعية، وعبد الْعَزِيز أمه ابنة الحارث بن نوفل، وأمها هند بنت أبي سُفْيَان بن حرب. وعبد الملك، وأم عَبْد الله، أمهما من بني عقيل. وعبد الغفار، وأم عَبْد الملك أمهما من ولد قدامة بن مظعون.
وعبد الله وعبد القدوس أمهما كلبية.
فأمّا حميدة فكانت عِنْد مُحَمَّد بن يوسف أخي الحجاج.(9/361)
وأمّا عَبْد الرَّحْمَن فكان ينزل المدينة وعقبه بها.
وأمّا عَبْد الْعَزِيز فكان راوية للشعر، وكان يرمي بالكذب. عَلَى أَنَّهُ كَانَ له قَدْرٌ.
وأمّا عَبْد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الله بن عَامِر فكان يُكنى أبا عَبْد الرَّحْمَن، وكان من أفصح الناس وأسخاهم، وكان شجاعًا، وشهد يوم الزاوية مع الحجاج، ويوم رستقاباذ، وقال فيه رؤبة بن العجاج:
لأهديَنَّ مدحة لا تبلى ... إلى ابن عَبْد الله عَبْد الأعلى
قد سُربل المجد فتى وكهلا [1]
ومات بالبصرة. وكان سخيًّا، وعقبه بالبصرة كثير.
وقال بلال بن أبي بردة لرجل: أتأتي صديقك اليوم- يعني عَبْد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الله- فقال: نعم نأتيه وهو متصبح، ثُمَّ ينتبه فيقعد فإن حدثناه أحسن الاستماع، وإن سكتنا ساقطنا أحسن الحديث، ثُمَّ يأتي طباخه فيخبره بِما عنده مما أَعَدَّ له ثُمَّ يقدمه، ويؤتى من عِنْد نسائه بألطافٍ فيأكلُ ويمعن ثُمَّ يأكل معنا.
قَالَ: وقال الفضل بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن الْعَبَّاس بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب: لَكَرم عَبْد الأعلى وسخاؤه أنصعُ وأفضلُ من كرم عَبْد الله بن عَامِر، وسعيد بن العاص وسخائيهما، لأن ذينك كانا يعتمدان فِي إنفاقهما عَلَى بيت المال، وهذا يعتمدُ عَلَى صلب ماله.
وولى الرشيد أمير المؤمنين عُمَر بن عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الله البصرة، وكور دجلة.
__________
[1] لم ترد هذه الأبيات في ديوان رؤبة المطبوع.(9/362)
وَأَمَّا عَبْد الْمَلِك بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَامِر، فكان يقال له قفيز، وولي بعض فارس للقباع وهو الحارث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة أيام الزبير.
وقال ابن الكلبي: ولي البصرة أيام ابن الزبير وولده بالبصرة.
فولد عَبْد الملك: عَبْد الكبير. وأم عَبْد الغفار وأمهما حنفية، وكان البراء بن قبيصة الثقفي خطبها فقال:
أم عَبْد الغفار هاتي نَوَالا ... وَصِلِي حبل عاشق إرسالا
فتزوجها عَبْد الأعلى بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد الله بن عامر، وو ولد عَبْد الملك بالبصرة.
وولد عَبْد الكريم بن عَبْد الله بن عَامِر: عَبْد الحميد، فولد عَبْد الحميد: عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْد الحميد بْن عَبْد الكريم بن عَبْد الله بن عَامِر ولُقّب عبيد الله ترفل، قتله أبو مسلم، وقتل أخاهُ عَبْد الْعَزِيز بن عَبْد الحميد بن عَبْد الكريم، ولترفل يقول ثابت قطنة:
أيذهب هذا الدهر لم نَسْقِ ترفلا ... وأشياعه الكأس التي صَبَّحوا جَهْمَا
وقد ذكرنا خبر ترفل الذي قيل هذا الشعر فيه مع خبر خدينة سَعِيد بْن عَبْدِ الْعَزِيز بْن الْحَارِث بْن الحكم بن أبي العاص، وعبد الحميد بن عَبْد الكريم بن عَبْد الله بن عَامِر هو الذي قتل ابن ناشرة الحنظلي بسجستان، ويُقال بل قتله ابنه عَبْد الْعَزِيز بن عَبْد الحميد.
وقال المدائني عَن أبي اليقظان: قتل ابن ناشرة عَبْد الْعَزِيز بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ كَرِيزٍ، وكان سبب ذلك أن طلحة الطلحات الخزاعي لَمّا احتضرَ استخلفَ رجلا من بني يشكر عَلَى سجستان فأخرجته المضرية، وغلب كل امرئ منهم عَلَى ناحية، فكانوا كذلك حَتَّى قدم هذا الكريزي،(9/363)
فاتفقت عليه مضر وصالحوه، فدخل مدينة زرنج وقاتل رتبيل، وعاد المضريون إلى أماكنهم التي كانوا يأكلونَها، وأرسلَ إليه عَبْد الله بن ناشرة أن خذ ما فِي بيت المال وانصرف.
وغلب ابن ناشرة عَلَى زرنج، وبلغ ذلك وكيع بن أبي سود التميمي فلحقه فردّه، وأخرج ابن ناشرة إلى مكانه، ودلف إليه عَبْد الحميد أو عَبْد الْعَزِيز ابنه ومعه وكيع فتحاربا، وعثر بابن ناشرة فرسه، فاندقّت رجله وهزم أصحابه، وقتل فقال أبو حزابة أو حنظلة بن عرادة
لعمري لقد هدّت قريش عروشنا ... بأبيض نفّاح العشيَّات أزهرا
فلا صلح حَتَّى تنحط الخيل بالقنا ... بنا وبكم أو نُصدر الأمر مَصَدرا
ألا لا فَتى بعد ابن ناشرة الفتى ... ولا شيء إلا قد تولى وأدبرا
فتى حنظليٌّ ما تزالُ يَمينه ... تَجودُ بِمعروف وتُنكِرُ مُنْكَرا
أكانَ حصادا للمنايا ازْدَرَعْنَهُ ... فهلا تركْنَ النّبْتَ ما كَانَ أخضرا
فِي أبيات:
ولم يزل هذا الكريزي عَلَى سجستان حَتَّى قتل مصعب فولى عَبْد الملك مكانه رجلا.
وقال الكلبي: هذا الكريزي عَبْد الحميد.
وقال المدائني: هو عَبْد الْعَزِيز ابنه أخو تُرفُل.
وقال ابن الكلبي: اسم ترفل عَبْد الله.
وقال غيره: اسمه عَبْد الحميد، وقول الكلبي أثبت.
وأمّا أبو السنابل وهو عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الله بن عَامِر فولد:
عَبْد المجيد، أمه سلمة من ولد أسيد بن عَبْد العزى. وعبد الله لأم(9/364)
ولد. وأمة الواحد لأم ولد، ولأبي السنابل عقب، وحضر أبو السنابل- وكان شاعرًا- سيل الجحاف.
وأمّا عَبْد الجبار بن عَبْد الله بن عَامِر فولد أولادًا. وكذلك عَبْد الرَّحْمَن بن عَبْد الله بن عَامِر. وكذلك عَبْد الحميد بن عَبْد الله بن عَامِر.
وأمّا الحارث بن كريز، وأمه سوداء فولد:
عَبْد الله. وعثمان، أمهما من بني سامة بن لؤي. وكبشة، أمها عبدرية. فتزوج كبشة مسيلمة الكذاب، ثُمَّ تزوجها عَبْد الله بن عَامِر.
وأما عيسى بن كريز فولد:
مسلم بن عيسى، وكان له قدر بالبصرة، قتله الخوارج من الأزارقة وقد كتبنا خبره.
[أخبار عبد الله بن عامر]
وحدثني عباس بن هشام ابن الكلبي عَن أبيه- وذكره المدائني- قالا: كَانَ يقع بين ابن عَامِر وبين مروان الكلام فيظفر به ابن عَامِر، فقال معاوية لعبد الله بن عَامِر: إنه يكون بينك وبين مروان الشيء فتظفر به.
فقال: إنه يَجدني عضًا شديد الخصومة. فقال: لو لقيت رجلا عَرَّفَكَ نفسك. فقال ابن عَامِر: فَكُنْ أَنْتَ ذَلِكَ الرَّجُلَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ: أنا ابن هند بنت عتبة. قَالَ: وأنا ابن أم حكيم بنت عَبْد المطلب. قَالَ: ارتفعت جدًّا. قَالَ: وانخفضت يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: اذكر دجاجة بنت الصَّلْت. قَالَ: وأنت فاذكر حمامة- وحمامة امرأة من بني غفار نالت معاوية ولادتها وكان يُقالُ فيها.
قالوا: وضعف أمر ابن عَامِر، فكتب إليه معاوية فِي القدوم عليه، وذلك فِي سنة أربع وأربعين فاستخلفَ عَلَى البصرة قيس بن الهيثم وقدم فردّه عَلَى عمله، فلمّا ودّعه قَالَ له معاوية: إني سائلكَ ثلاثًا فقل هي لك. قال:(9/365)
هي لك وأنا ابن أم حكيم. قَالَ معاوية: تردّ عَليّ عملي ولا تغضب. قَالَ: قد فعلت. قَالَ: وتَهب لي مالك بعرفة. قَالَ: قد فعلت. قَالَ: وتَهب لي دارك بِمكة. قَالَ: قد فعلت، قَالَ: وصلتك رحم. فقال ابن عَامِر: يا أمير المؤمنين إني سائلكَ ثلاثًا. قَالَ: هي لك وأنا ابن هند. قَالَ: تردّ عَليّ مالي بعرفة.
قَالَ: قد فعلت. قَالَ: ولا تحاسب لي عاملا، قَالَ: قد فعلت. قَالَ: وأنكحني هند ابنتك. قَالَ: قد فعلت.
ويُقال إن معاوية قَالَ له: اختر بين أن أردكَ إلى عملك وأحاسبك فاتّبع عليك، وبين أن أسوّغك ما أصبت وأعزلك. فاختار أن يسوغه ذلك.
المدائني عَن مسلمة وغيره قَالَ: كَانَ ابن عَامِر ليّن الولاية لا يقطع فِي ولايته ولا يعاقب، وكان أَتْوَه أحمق. وشكا ابن عَامِر إلى زياد فساد الناس، فقال: جَرِّدْ فيهم سيفك. فقال: أصلحهم بفساد نفسي.(9/366)
بنو ربيعة بْن عَبْد شمس بْن عَبْد مَناف
ولد لربيعة بن عَبْد شمس:
عُتبَة. وشَيْبَة. وريطة. وعاتكة، أمهم خُنَاس من بني عَامِر بن لؤي.
وأبا عتبة. وصفية وعاتكة الصغرى. وهالة، وأمهم من بني زهرة يُقال لَهَا ضيزنة. فأما هالة فكانت عِنْد الأفقم بن أبي عَمْرو النصري.
وأمّا عتبة
فكان سيد قريش فِي زمانه وكان من المطعمين يوم بدر، رُوِيَ عَن عَبْد اللَّهِ بْنِ عُمَر أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عتبة سيد قريش في الجاهلية، وقيل:
ماساد قريشًا مملق غير عتبة، وأبي طالب.
وقتل عتبة عبيدة بن الحارث يوم بدر، ويُقال إنه شرك فِي قتله عَليّ بن أبي طالب، ويُقال قتله حَمْزَة. وقد كتبنا خبره فيما تقدم.
فولد عتبة:
الوليد.
قتل يوم بدر. وأبا هاشم بن عتبة وكان صالِحًا فقيهًا ومات بالشام. وهاشمًا. وآمنة. وأبا الحكم. والمغيرة. وعبد شمس.
وهندًا. وفاطمة. وعاتكة. وفاختة، وأمهم من ولد الأوقص السُّلَمي.
وأبا حذيفة بن عتبة.
وحفص بن عتبة، وأمهما أم حفص ويُقال أم صفوان بنت صفوان كنانية.(9/367)
ونعمان. وربيعة، أمهما بَرّه دوسيَّة.
والفارعة.
وقد كتبنا خبر هند بنت عتبة ومن تزوجها، وهي أم معاوية.
وتزوج أم أبان بنت عتبة: يزيد بن أبي سُفْيَان فهلكَ عنها، فخطبها عُمَر بن الخطاب فقالت: لا أتزوجه لأنه يدخل عابسًا، ويَخرجُ عابسًا، يغلقُ أبوابه ويُقلّ خيره.
ثُمَّ خطبها الزبير بن العوام فقالت: يَدٌ لَهُ عَلَى قروني، ويَدٌ لَهُ فِي السوط.
ثُمَّ خطبها عَليّ بن أبي طالب فقالت: ليس للمرأة منه حظ، إلا أن يقعد بين شعبها الأربع.
ثُمَّ خطبها طلحة بن عبيد الله فتزوجها فدخل عليها عَليّ فقيل: رددت هذا وتزوجت ابن الحضرمية؟ فقالت: القضاء والقدر. فقال: أما لقد تزوجت أجملنا أمرًا وأجودنا كفًّا، وأكثرنا خيرًا عَلَى أهله.
وأما عاتكة فتزوجها أبو أمية بن المغيرة المخزومي.
وأما فاطمة فتزوجها القاسم بن حبيب الثقفي.
وأما الفارعة فكانت عِنْد جندب بن عَمْرو بن حممة الدوسي.
وأما صفية فكانت عِنْد عَبْد شمس بن الشريد المخزومي.
وكان عتبة نديمًا لمطعم بن عدي.
وأما أبو حذيفة [1] بن عتبة بن ربيعة فأسلمَ واسمه هُشيم، ويُقال مهشم، وأم أبي حذيفة أم صفوان وهي فاطمة بنت صفوان بن أمية بن محرّث
__________
[1] بهامش الأصل: أبو حذيفة.(9/368)
الكناني، وبعضهم يقول أم حفص. والأول أثبت.
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بن عُمَر الْوَاقِدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدَ بْن رومان قَالَ: أسلمَ أبو حذيفة بن عتبة قبل دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم.
وقال الواقدي: نزل أبو حذيفة وسالِم مولى أبي حذيفة بالمدينة عَلَى عباد بن بشر، وآخى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أبي حذيفة وعبّاد وقتلا جَميعًا باليمامة.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْنُ سَعْدٍ عَن الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدَ أَبُو حُذَيْفَةَ بَدْرًا، فَدَعَا أَبَاهُ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ إِلَى الْبِرَازِ فَقَالَتْ هِنْدٌ أُخْتُهُ:
الأَحْوَلُ الأَثْعَلُ الْمَلْعُونُ طَائِرَهُ ... أَبُو حُذَيْفَةَ شَرُّ النَّاسِ فِي الدِّينِ
أَمَا شَكَرْتَ أَبًا رَبَّاكَ فِي صِغَرٍ ... حَتَّى شببت شَبَابًا غَيْرَ مَحْجُونِ
وَكَانَ عُتْبَةُ قَدْ حُمِلَ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَ قُرَيْشٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ يَكُنْ عِنْد أَحَدٍ مِنْهُمْ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الأَحْمَرِ» . فَذَكَرَ غَيْرُ الْوَاقِدِيِّ أَنَّ عُتْبَةَ دَعَا لِلْبِرَازِ فَتَعَرَّضَ أَبُو حُذَيْفَةَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَأْمُرَهُ بِمُبَارَزَتِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا قُتِلَ بَكَى أَبُو حُذَيْفَةَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَلَمْ أَرَكَ تَعَرَّضْتَ لِمُبَارَزَتِهِ فَمَا بَالُكَ تَبْكِي» ؟. أَوْ كَمَا قَالَ. فَقَالَ: لَوْ أَمَرْتَنِي لَفَعَلْتُ فِعْلا يُعْجِبُ النَّاسَ. وَلَكِنْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ مَا قُلْتَ فِيهِ، وَكَانَ رَجُلا عَاقِلا، فَلَمَّا قُتِلَ جَزِعْتُ لَهُ مِنَ النَّارِ.
وَكَانَ لَهُ قَوْلٌ فِي أَمْرِ الْعَبَّاسِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي خَبَرِ الْعَبَّاسِ.
قَالَ: وكان أبو حذيفة رجلا طوالا، حسن الوجه، مترادف الأسنان،(9/369)
وهو الثُّعَل [1] وكان أحول، شهدَ بدرًا وأُحدًا والخندق والمشاهد كلها، وقتل يوم اليمامة سنة اثنتي عشرة وهو ابن ثلاث أو أربع وخمسين سنة. وكان أبو حذيفة من مهاجرة الحبشة فِي المرتين جَميعًا، ومعه امرأته سهلة بنت سهيل بْن عَمْرو من بني عَامِر بْن لؤي.
فولد له بالحبشة: مُحَمَّد بن أبي حذيفة
وأمه سهلة. وعاصم بن أبي حذيفة وأمه بنت عَمْرو بن حرب بن أمية، ولا عقبَ له ولا لِمحمد أيضًا، فلما قتل أبو حذيفة كفله عُثْمَان بن عَفَّان وأحسنَ إليه ومانه [2] وأنفقَ عليه، فلمّا خرجَ عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن أَبِي سرح إلى مصر واليًا عليها من قبل عُثْمَان، خرج مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر وَمُحَمَّد بْن أَبِي حذيفة إلى مصر. فغزوا فِي البحر سنة أربع وثَمانين، فصلى عَبْد الله بن سَعْد فكبر مُحَمَّد بن أبي حذيفة خلفه تكبيرًا أفزعه فنهاهُ وقال: لولا أنك حدث أحمق لقاربت بين خطاك.
وكان يعيبه ويعيب عُثْمَان بتوليته إياه، ويقول: ولي عُثْمَان رجلا أباحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دمه يَوْم الفتح، ونزل الْقُرْآن بكفره. ثُمَّ أظهر الطعن عَلَى عُثْمَان وذم سيرته، فكتب عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن أَبِي سرح إِلَى عُثْمَان: «إِن مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر، وَمُحَمَّد بْن أَبِي حذيفة قد أنغلا عليك المغرب وأفسداه» .
فقال عُثْمَان: اللهم إني ربيته رحمة له وصلة لقرابته، وكتب إلى عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن أَبِي سرح: «أما مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر فإني أدعه لأبي بكر وعائشة، وأما ابْن أَبِي حُذَيْفَةَ فإنه ابني وَابْن أخي، وأنا ربيته وهو فرخ قريش» .
فكتب عَبْد الله بن سَعْد: «إن هذا فرخ قد استوى ريشه، ولم يبق
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 84- 85.
[2] مانه: قام بكفايته. القاموس.(9/370)
إلا أن يطير» ، فبعث عُثْمَان إلى مُحَمَّد بن أَبِي حذيفة بثلاثينَ ألف درهم وبجمل عَلَيْهِ كسوة، فأمر بذلك فوضع فِي المسجد ثُمَّ قَالَ: يَا معشر الْمُسْلِمِينَ ألا ترونَ إِلَى عُثْمَان يُخادعني عَن ديني ويرشوني عليه، فازداد الناسُ طعنًا عَلَى عُثْمَان واجتمعوا عَلَى ابن أبي حذيفة فرأسوه عليهم.
وكتب إليه عُثْمَان يذكره برّه به ويقول: «لقد كنت أنكث المخ عَلَى المائدة فأؤثرك به، فقد عاد ذلك بالمكروه عليّ أحوج ما كنت إلى شكرك» .
فلم يزل ابْن أَبِي حُذَيْفَةَ يحرض أَهْل مصر عَلَى عُثْمَان، حَتَّى سَرَّبَهُم إلى المدينة، فاجتمعوا مع أهل الأمصار إليه، فلمّا حوصر عُثْمَان، وثب هو عَلَى عَبْد الله بن أبي سرح فطرده عَن مصر وصلى بالناس.
فلما قُتِلَ عُثْمَان، وبويع لعلي بن أبي طالب ولي قيس بن سَعْد بن عبادة مصر، فَقَالَ ابْن أَبِي سرح: أبعد اللَّه ابْن أبي حذيفة، بغى عَلَى ابن عمه، وسعى عليه فجهز الرجال عليه ووثب بعماله، ثُمَّ ولي عليه من هو أبعد رحمًا فلم يمتّعه بسلطان بلده حولا وَلا شهرًا، ولم يره لذلك أهلا. وخرج ابن أبي سرح حَتَّى صارَ إلى معاوية.
ثُمَّ إن عَليّ بن أبي طالب اتهم قيس بن سَعْد بالميل إلى معاوية لكفه عَن قتال مسلمة بن مخلد الأنصاري ثُمَّ الخزرجي، وكان قد جمعَ وطلب بدم عُثْمَان، فولى مُحَمَّد بن أبي بكر مصر، فلما مضت صفين بلغ عليًّا التياث الأمر عَلَى ابن أبي بكر، فولى مصر الأشتر فهلك بالقلزم [1] ، وكان من أمر ابن أبي بكر ومقتله ما قد ذكرناه فيما مضى.
وأصيب مُحَمَّد بن أبي حذيفة فبعثوا به إلى معاوية وكان ابن خالة
__________
[1] السويس حاليا.(9/371)
معاوية بفلسطين فوَبّخه وعنّفه ثُمَّ حبسه فِي سجن له مُرَفَّهًا مُوَسَّعًا عليه فهربَ، وكان معاوية يهوى خلاصه ويكره إظهار ذلك لأهل الشام، وكان عُثْمَان حَدَّ مُحَمَّد بن أبي حذيفة فِي الشراب، ضربه ثَمانين.
وقال أبو مخنف وغيره: فَقَالَ رجل من خثعم يُقال لَهُ عبيد اللَّه بْن عَمْرو بْن ظلام- وَكَانَ عثمانيًا-: أنا أتبع محمدًا، فخرج فِي خيل فلحقه بحوران وقد دخلَ غارًا فكره أن يأتي به معاوية فيعفو عنه فضرب عنقه.
وقال هشام ابن الكلبي عَن أبيه: هرب مُحَمَّد بن أبي حذيفة من سجن معاوية بعد قتل معاوية حجر بن عدي الكندي، فطلبه مالك بْن هبيرة بْن خالد الكندي ثُمَّ السلولي، ووضع الأرصاد عليه فقتله غضبًا لحجر، وقد كَانَ التمس خلاص حجر فألفاهُ وقد قتل.
وقال ابن الكلبي: قد انقرضَ ولد أبي حذيفة وانقرض ولد عتبة بن ربيعة إلا ولد المغيرة بن عمار بن عَاصِم بن الوليد بن عتبة وهم بالشام.
وأسلم سالِم مولى أبي حذيفة [1] :
وهو فِي رواية موسى بن عقبة: سالِم بن نبتل، ونبتل من أهل اصطخر، وذكر أن سالِمًا مولى ثبيتة بنت يعار من الأنصار من الأوس، فسالم يذُكر مع الأنصار لأن ثبيتة أعتقته، ويذكر فِي المهاجرين لولاء أبي حذيفة.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بن أبي حبيبة من دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ: كَانَ سَالِمٌ لِثُبَيْتَةَ بِنْتِ يَعَارَ الأَنْصَارِيَّةِ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَأَعْتَقَتْهُ سَائِبَةً، فَتَوَلَّى أَبَا حُذَيْفَةَ وَتَبَنَّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ فَقَالَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ امْرَأَةُ أَبِي حُذَيْفَةَ: جِئْتُ إِلَى النبي
__________
[1] بهامش الأصل: سالم مولى أبي حذيفة.(9/372)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ [1] فقلت:
يا رسول الله إنما إِنَّمَا كَانَ سَالِمٌ عِنْدَنَا وَلَدًا. قَالَ: [ «فَأَرْضِعِيهِ خَمْسَ رَضَعَاتٍ وَيَدْخُلُ عَلَيْكُمْ» .] قَالَتْ: فَأَرْضَعْتُهُ وَهُوَ كَبِيرٌ. وَزَوَّجَهُ أَبُو حُذَيْفَةَ ابْنَةَ أَخِيهِ فَاطِمَةَ بِنْتَ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، فَلَمَّا قُتِلَ سَالِمٌ يَوْمَ الْيَمَامَةِ أَرْسَلَ أَبُو بَكْرٍ بِمِيرَاثِهِ إِلَى مَوْلاتِهِ فَأَبَتْ أَنْ تَقْبَلَهُ، وَقَالَتْ: إِنِّي سَيَّبْتُهُ. فَجَعَلَهُ أَبُو بَكْرٍ فِي بَيْتِ الْمَالِ.
قَالَ الواقدي: فحدثتُ ابن أبي ذئب بِهذا الحديث فقال: أَخْبَرَنِي يزيد بن أبي حبيب عَن سعيد بن المسيب قَالَ: كَانَ سالِم سائبة، فأوصى بثلث ماله فِي سبيل الله، وبثلثه فِي الرقاب وبثلثه لِمواليه.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَرَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ قَالا: حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفُضَيْلِ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، وَحَدَّثَنِي أَبُو الرَّبِيعِ الزَّهْرَانِيُّ، ثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، أنبأ أَيُّوبُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ أَعْتَقَتْهُ امْرَأَةٌ أَنْصَارِيَّةٌ سَائِبَةً وَقَالَتْ: وَالِ مَنْ شِئْتَ، فَوَالَى أَبَا حُذَيْفَةَ، فَكَانَ يَدْخُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ: إِنِّي أَرَى ذَلِكَ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ، فَقَالَ:
«أَرْضِعِيهِ» . قَالَتْ: إِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ. قَالَ: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ» . قَالَ:
فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَدُفِعَ مِيرَاثُهُ إِلَى الْمَرْأَةِ.
حَدَّثَنِي محمد بن سعيد، ثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ أَبُو نُعْيَمٍ، ثَنَا مَعْقِلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنَّ سَهْلَةَ بِنْتَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ مَعِي وَقَدْ أَدْرَكَ مَدْرَكَ الرِّجَالِ. فَقَالَ: [ «أَرْضِعِيهِ فَإِذَا فَعَلْتِ فَقَدْ حَرُمَ عَلَيْكِ] » .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: قالت
__________
[1] سورة الأحزاب- الآية: 5.(9/373)
أُمُّ سَلَمَةَ: أَبَى سَائِرُ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِنَّ أَحَدٌ بَعْدَ الرَّضَاعِ وَقُلْنَ: إِنَّمَا هَذِهِ رُخْصَةٌ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَالِمٍ خَاصَّةً.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَخَذَتْ بِذَلِكَ مِنْ بَيْنِ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بن سَعْد وَالْحَسَن بْنِ الأَسْوَدِ قَالا: ثَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْن موسى عَنْ إسرائيل عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كَانَ زيد بن حارثة معروف النسب، وكان سالِم مولى أبي حذيفة غير معروف النسب.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: « [خُذُوا الْقُرْآنَ عَنْ أَرْبَعَةٍ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ] » [1] .
وَحَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ مِثْلَهُ.
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ لَمَّا قَدِمُوا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ نَزَلُوا إِلَى جَنْبِ قُبَاءَ، فَأَمَّهُمْ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ لأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا، وَفِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ.
وقال الواقدي: كَانَ سالِم يَؤُمّ المهاجرين من مكة إلى المدينة ويؤمهم بقباء إلى قدوم النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينة لأنه كَانَ أقرأهم لكتاب الله.
حَدَّثَنِي محمد بن حاتم المرزوي، ثَنَا عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 85- 87.(9/374)
ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ مَكَّةَ مَقْدَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ نَزَلُوا الْعُصَبَةَ [1] فَكَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ يَؤُمُّهُمْ لأَنَّهُ كَانَ أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الأَسَدِ. قَالَ: وَآخَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ سَالِمٍ وَبَيْنَ أَبِي حُذَيْفَةَ وَبَيْنَ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ وَآخَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَاذِ بْنِ مَاعِصٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَهُوَ أَحَدُ مَنِ اسْتُشْهِدَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الظَّفَرِيِّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْن ثَابِتِ بْن قَيْسِ بْن شَمَّاسٍ قَالَ: لَمَّا انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ قَالَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عُتْبَةَ:
مَا هَكَذَا كُنَّا نَفْعَلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَحَفَرَ لِنَفْسِهِ حُفْرَةً وَقَامَ فِيهَا وَمَعَهُ رَايَةُ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا، وَذَلِكَ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَالَ غَيْرُ يُونُسَ: فَوُجِدَ رَأْسُ سَالِمٍ عِنْدَ رِجْلَيْ أَبِي حُذَيْفَةَ أَوْ رَأْسِ أبي حذيفة عند رجلي سالما.
حَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ، ثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ أَنَّ سَالِمًا مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَبَاعَ عُمَرُ مِيرَاثَهُ بَعْدُ فَبَلَغَ مِائَتَيْ دِينَارٍ، فَأَعْطَاهَا أُمَّهُ، وَقَالَ: كُلِيهَا [2] .
وقال ابن الكلبي: كَانَ لأبي حذيفة من الولد: عَاصِم بن أبي حذيفة،
وأمه آمنة بنت عُمَر بن حرب بن أمية وقد انقرض ولد أبي حذيفة، وانقرض ولد عتبة بن ربيعة إلّا ولد المغيرة بن
__________
[1] العصبة: موضع بقباء. المغانم المطابة.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 88.(9/375)
عمار بن عَاصِم بن الوليد بن عتبة وهم بالشام.
وقال أبو اليقظان: أسلم أبو هاشم بن عتبة وغزا بعض الشام.
وقال أبو اليقظان: ولد أبو هاشم عَبْد الله، وأمه ابنة شيبة بن ربيعة، وأم خالد أمها خثعمية. وسالِمًا لأم ولد، فكانت أم خالد عِنْد يزيد بن معاوية، ثُمَّ خلف عليها مروان بن الحكم وهي التي قتلته غمًّا.
ولا عقب لأبي هاشم بن عتبة.
وأمّا الوليد بن عتبة فقتل يوم بدر، فادعت هند بنت عتبة رجلا يقالُ له عَاصِم أَنَّهُ ابنه، فولاه معاوية المدينة يسيرًا فقال الشاعر:
كانت إمارة عَاصِم كسحابة ... بَرَقَت ولم تُمطر بَنوءِ العقرب
ولا عقب للوليد.
وأما هاشم بن عتبة فولد:
درة، وأمها صفية من بني كنانة.
وأما شيبة بن ربيعة،
ويُكنى أبا هاشم، فكان يؤذي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أذى كثيرًا، ولا يتولاه بنفسه، وإنما كَانَ يدسّ من يتولاه، فقتله عبيدة بن الحارث بن المطلب يوم بدر، وذفف عليه حَمْزَة وعلي، ويُقال قتله حَمْزَة، وقد كتبنا خبره فيما تقدم.
فولد شيبة:
عَبْد الله. وزينبًا، وأمهما الفارعة بنت حرب بن أمية.
ورملة، أمها من بني عَامِر بن لؤي، وكانت رملة عِنْد عُثْمَان بن عَفَّان فقتل عنها.(9/376)
وأما عبيد الله فولد:
يزيد، وأمه ثقفية. وعبد الرَّحْمَن، وأمه ابنة المطلب بن الحويرث من بني أسد بن عَبْد العزى.
وأما عَبْد الرَّحْمَن فولد:
أبا يسار، وأمه مخزومية، وكان أبو يسار يتيمًا لعثمان بن عَفَّان تبنّاهُ، فدخلَ عليه الزبير بن العّوام يومًا فسبَّه أبو يسار، فقال له الزبير: سُبَّهُ- يعني عُثْمَان- فقال: هذا أبي. فأوجعه الزبير ضربًا.
ثُمَّ إنه تزوج ابنة الزبير، واسمها خديجة، فولدت من أبي يسار:
عَبْد الرَّحْمَن. وأم عَبْد الله، وعقب أبي يسار بالشام.
وأما يزيد بن عبيد الله بن شيبة فولد: فاطمة، تزوجها عَليّ بن عَبْد اللَّه بْن الحارث بْن أُمَيَّة الأصغر. ورملة، تزوجها مُحَمَّد بن مروان بن الحكم.
وقال ابن الكلبي: منهم أبو يسار، وهو مُحَمَّد بن عَبْد الرَّحْمَن بن عبيد الله بن شيبة وولده بالبلقاء.(9/377)
بنو عَبْد العزى بن عَبْد شمس
ولد لعبد العزى بن عَبْد شمس: ربيع.
وربيعة، أمهما أم المطاع بنت أسد بن عَبْد العزى بن قصي.
وقال الشاعر:
فأدّى الله خفرتها إليها ... وأداها كنانة والربيعُ
هما لا أشعران إِذَا أكبّا ... ولا هبران لَحمهما يضيع
يعرض بعتبة وشيبة، يعني خفرة زينب بنت النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين سار معها هذان.
فولد الربيع بن عَبْد العزى: أبا العاص بن الربيع،
زوج زينب بنت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وابن خالتها هالة بنت خويلد، وَكَانَ أَبُو العاص يُلقب جرو البطحاء أي ابن البطحاء، واسمه لقيط، وذلك الثبت، وبعضهم يقول اسمه القاسم، وزعم بعض البصريين أنّ جَرْوَي البطحاء ربيعة بن عَبْد العزى وأبو العاص معًا. وقد كتبنا خبره فيما تقدم من ذكر أزواج رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأولاده.
وكان إسلام أبي العاص قبل الحديبية بِخمسة أشهر، ثُمَّ رجعَ إلى مكة ولم يشهد مع النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئًا، ومات فِي ذي الحجة سنة اثنتي عشرة.(9/379)
فولد أبو العاص: عليًّا.
قتل يوم اليرموك شهيدًا. وأمامة، تزوجها عَليّ بن أبي طالب، فقتل عنها، ويُقال إن عليًّا مات صغيرًا. ولا عقبَ للربيع.
ومن ولد عَبْد العزى بن عَبْد شمس: كنانة بن عدي بن عَبْد العزى
وهو الذي بُعث معه زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبيها، فعرض لَهَا هبار بْن الأَسْوَدِ بْن المطلب بْن أسد بن عبد العزى ونافع بن عبد قيس. وقد ذكرتُ خبرهما فيما تقدم أيضًا.
وكان ولد ربيعة بن عَبْد العزى: عديًّا. وحارثة. ويزيد، وأمهم سلمى بنت عَمْرو بن سُفْيَان الثقفي.
فأما عدي بن ربيعة فولد: العلاء. وكنانة الذي ذكرناهُ، وسعيدًا.
وربيعة بن ربيعة، أمهم من ولد الغوث بن مرّ.
وعليًّا، أمه كريمة كنانية.
والوفيّ أمه هالة بنت خويلد وهو أخو أبي العاص بن الربيع لأمه.
وأمّا حارثة فولد: محرزًا وحريزًا وحرازًا، وأمهم من بني الغوث بن مر وهي أم ولد عدي بن ربيعة الأربعة [1] ، وبقية ولد محرز بن حارثة بالكوفة.
واستخلفَ عتاب بن أسيد محرزًا عَلَى مكة فِي سفرة سافرها.
وكان من ولد محرز: العلاء بن عَبْد الرَّحْمَن بن محرز، وكان عَلَى الربع أيام ابن الزبير. وموضع داره بالكوفة دار عيسى بن موسى اليوم.
__________
[1] كذا بالأصول وهذا العرض فيه خلل تعذر تقويمه لأن جمهرة ابن الكلبي وجمهرة ابن حزم وكتب الأنساب الأخرى لم تقدم هذه التفاصيل.(9/380)
ومن ولد يزيد بن ربيعة:
عَبْد الله بن الوليد بن يزيد بن ربيعة، قتل يوم الجمل مع عائشة.
وقال أبو اليقظان: كَانَ ولد محرز بن حارثة:
عَبْد الله، وعبد الرَّحْمَن، وحرازًا، وأم السائب، أمهم هند بنت ربيعة بن عَبْد شمس، وبقيتهم بالكوفة يُقال لَهُم بنو محرز وسكتهم سكة محرز.
واستعملَ عُثْمَان بن عَفَّان عَلِيُّ بْنُ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ العزى، وهو ابن الكنانية عَلَى مكة، وشهد الجمل مع عائشة فقالت امرأة منهم:
يا ربّنا اعقر بعليٍّ جَمَلَهُ ... وَلا تُبَارِكْ فِي بَعِيرٍ حَمَلَهُ
إِلا عليّ بن عديّ ليس لَهْ
فقُتل يوم الجمل.
وكان عَبْد الله بن عَليّ بن عدي هذا عاملا لعبد الملك عَلَى سجستان، وكان كزّا بخيلا سيئ الخلق لم يُغْن، ولم يأمر بخير، فقال فيه أبو حزابة الحنظلي [1] :
يا بن علي بَرِحَ الخفاءُ ... قد علم الجيران والأكْفَاءُ
أنك أنت النذل اللقاءُ ... أنت لقبر طلحة الفداءُ
بنو عليٍّ كلهم سَواء ... كَأنَّهم زونية جراء [2]
__________
[1] أبو حزابة الوليد بن حنيفة، من شعراء الدولة الأموية، بدوي حضر وسكن البصرة.
الأغاني ج 22 ص 260.
[2] في الأغاني ج 22 ص 261 والحيوان ج 1 ص 255 «زينية جراء» والزينية كلاب قصيرة القوائم.(9/381)
وقال أيضًا:
يا طلحُ يا ليتك عنا تخبر ... حين أتانا الجعطريّ الجيدرُ
أقصرُ من شبرين حين يُشْبَرُ ... أنكرهُ سريرنا والمنبرُ
ودارنا والمسجد المطهر ... مثل أبي القعواء لا بل أقصر [1]
وولد العلاء بن عدي:
محمدًا. ويعلى. وبناتٍ، وأمهم أم الحكم بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن الْحَارِث بن أمية الأصغر.
وولد كنانة بن عدي:
محمدًا. وعبد الملك. وعلباء. وعثمان الأكبر. وعقبة. وَعَمْرًا.
وعثمان الأصغر. وبنات.
وقال ابن الكلبي: ومن بني عَليّ بن عدي: عَبْد الله بن عُمَر بن عَبْد اللَّه بْن عَلِيُّ بْنُ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ العزى بْن عَبْد شمس الشاعر، الذي يقول لهشام بن عَبْد الملك، وحج فقسم فِي أخواله من بني مخزوم مالا:
خَسَّ حظي إذ كنت من عَبْد شمس ... ليتني كنتُ من بني مخزوم
فأفوز الغداة منه بقسم ... وأبيع السَّنَاء مني بلوم
__________
[1] الأغاني ج 22 ص 262.(9/382)
بنو أمية الأصغر بن عَبْد شمس
وولد أمية الأصغر بن عَبْد شمس:
الحارث، وأمه عاتكة بنت عبد مناف بْن كعب بْن سَعْد بْن تيم بْن مرة، وكان الحارث شاعرًا وهو الذي يُقالُ له: ابن عَبْلَة، وقال فِي عَبْد الله بن جُدْعَان:
عطاؤك زين لامرئ إن حبوته ... بِنَيل وما كل العطاء يزينُ
وليس بشينٍ لامرئ بذل وجهه ... إليكَ كما بعض العطاء يشين
فولد الحارث: عَبْد الله، أمه زينب بنت نوفل بن عَبْد شمس، وأدرك عَبْد الله معاوية وهو شيخٌ كبير، وكان ورث دار عَبْد شمس بِمكة لأنه كَانَ أقعدهم. فلما حج معاوية دخل الدار لينظر إليها فوثبَ عَبْد الله بن الحارث إليه بِمحجنٍ ليضربه فقال: لا أشبعَ الله بطنكَ أما تكفيكَ الخلافة حَتَّى تطلبَ هذه الدار؟ فخرج وهو يضحك.
قالوا: ودخلَ عَلَى معاوية- وكان بدينًا- فقال: والله لقد شججت أخاكَ حنظلة فما أعطيتُ عقلا ولا أرشًا، فقال معاوية: إنك هربتَ إلى أخوالك بالطائف. قَالَ: إنه إِذَا مال بي أحد شَقيّ عدلْتُه بالآخر.(9/383)
وولد أيضًا: عَبْد الرَّحْمَن بن الحارث، وأمه بنت أسيد من ثقيف.
وعتبة. وعبد الله الأصغر. وحكيمًا، أمهم من بني مازن بْن مَنْصُور بْن عكرمة بْن خصفة.
وعقبة، أمه ثقفية.
فمن بني أمية الأصغر:
أبو جراب وهو مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ الله بن الحارث بن أمية الأصغر، قتله داود بن عَليّ بِمكة.
وقال بعضهم: كَانَ أبو جراب ينزل الفتق عَلَى ثلاث ليال من مكة، فبلغَ العَرْجي أن أبا جراب بِمكة فأقبلَ إلى قصره، فخرجت إليه جارية لأبي جراب بدوية ودفعته وجعلت ترميه، واستسقاها ماء فلم تسقه فقال:
ستعلمينَ. فقال أبياتًا، منها:
أمشي كما حركت ريح يَمانية ... غصنًا من البانِ رطبًا طلَّه الرَّهَمُ [1]
قالت رضيتُ ولكن جئت فِي قمرٍ ... ألا تَلَبَّثْت حَتَّى يدخل الظُّلَمُ
فاتهمها عِنْد أبي جراب حَتَّى حلفت له بين الركن والمقام عَلَى براءتها.
وقال أبو اليقظان: كَانَ أبو جراب من أفضل قرشي بِمكة وقد وليها فِي أيام بني مروان، وقتله داود بن عَليّ وهو عَلَى مكة وقال الشاعر لابن أبي جراب:
ثلاث طوابح [2] ولهنّ جئنا ... فيسِّرهُنَّ يا بن أبي جراب
فإنك ماجدٌ فِي بيت مجدٍ ... بقيّة معشر تحت التراب
__________
[1] الرهم: المطر الضعيف الدائم. القاموس.
[2] المطبح: السمين. القاموس.(9/384)
وله يقول الشاعر:
إِذَا مُتَّ لم يُوصَلْ بعُرفٍ قرابةً ... ولم يبق فِي الدنيا رجاء لسائل
وكانت أم أبي جراب رملة بنت العلاء بن طارق بن المرفع الكناني وهو الذي كانت بناته يقلن: نحن بنات طارق. ويقال إنهن أردن: نحن بنات النجم.
ومنهم: الثريا بنت عبد الله بن الحارث بن أمية التي كَانَ عُمَر بن أبي ربيعة المخزومي يشبب بِهَا وفيها يقول:
أحسن النجم فِي السماء الثريا ... والثريا فِي الأرض زين النساء [1]
وتزوجها سهيل بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف فَقَالَ عُمَر:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إِذَا استقل يَماني [2]
والثريا مولاة الغريض المغني، وكان يعرف بمولى العبلات، وكان يُسمى عَبْد الملك، ويُكنى أبا زيد.
وولد عَبْد أمية بن عَبْد شمس:
مَعقلا. وعقيلا. وكنود ولدت أبا محجن بن حبيب الثقفي الذي يقول:
لا تسألي القوم عَن مالي وكثرته ... وسائلي القومَ عَن مجدي وما خُلُقِي
هل أَطعنُ الطعنة النجلاء عَن عَرَضٍ ... وأكتم السر فيه ضربة العنق
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.
[2] ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 503.(9/385)
والأحوص بن عَبْد أمية، كَانَ عاملا عَلَى البحرين فِي أيام معاوية بن أبي سُفْيَان.
وقال ابن الكلبي: من ولد عَبْد أمية بن عَبْد شمس: منصور بن عَبْد الله بن الأحوص بن عَبْد أمية وهم بالشام.
وقال بعضُ العلماء: كَانَ الأحوص بن عَبْد أمية عَلَى البحرين، وسعى بِمروان بن الحكم.
وولد نوفل بن عَبْد شمس- وهو من العبلات-: أبا العاص وأمه فطيمة مخزومية، وقتل أبو العاص بن نوفل يوم بدر كافرًا.
فولد أبو العاص بن نوفل:
حاجبًا، وعثمانًا، وَهَبَّارًا، وحَزْنًا، وحزامًا، وعبيدًا، وعبدًا، وأمهم فاطمة بنت وهب مخزومية.
ومن ولد هبار:
خالد بن يزيد بن عُثْمَان بن هبار بن أبي العاص بن نوفل، قتله عَبْد الله بن عَليّ بالشام، وكانت أم أمية الأصغر. وعبد أمية. ونوفل بني عَبْد شمس عبلة بنت عبيد بن جادل من البراجم من بني تَميم، فلذلك سمي هَؤُلَاء العبلات.(9/386)
بنو المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب
قالوا: كَانَ بنو المطلب بن عَبْد مناف مع بني هاشم يدًا عَلَى جَميع الناس، قسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسمًا بين بني هاشم وبني المطلب، وجعل سهم ذي القربى فِي بني هاشم وبني المطلب، فأتاهُ عُثْمَان، وجبير بن مطعم، فقالا:
قرابتنا برسول الله، وقرابة بني عَبْد المطلب واحدة، فكيفَ أعطيتهم دوننا؟
فقال: [ «إنا وبني المطلب كذا وشبك أصابع يديه وكنا فِي الشعب معًا» ] .
ويُقال أَنَّهُ قَالَ: [ «كنا وهم فِي الشعب كذا وشبك أصابع يديه» ] .
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ وَوَهْبُ بُن بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ وَغَيْرُهُمَا قَالُوا:
ثنا يزيد بن هرون عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ وَعُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ كَلَّمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَهْمِ ذِي الْقُرْبَى، وَقَالا: قَسَمْتَهُ بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَنَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ إِلَيْكُمْ فِي النَّسَبِ سَوَاءٌ، فَقَالَ: [ «إِنَّا وَهُمْ لَمْ نَزَلْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَبِيرُنَا وَصَغِيرُنَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَكَانُوا مَعَنَا فِي الشِّعْبِ، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ» ] .
وَحَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنِ ابن اسحق عن الزهري عن سعيد بن جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ بِمِثْلِهِ.(9/387)
فولد المطلب بن عَبْد مناف: مخرمة، وأبا رهمٍ، أمهما هند بنت عَمْرو بن ثعلبة من الأنصار.
وهاشمًا، وأبا عَمْرو، وأمهما خديجة بنت سعيد بن سعيد بن سهم.
وأبا رهمٍ الأصغر، وعبادًا، وأمهما عنترة بنت عَمْرو بن طريف الطائي.
والحارث، وأبَا شمران، ومحصن، وأمهم حنظلية من بني تَميم.
وعلقمة وعمر، أمهما من بني ضبَّة بن أدٍّ.
فمن بني المطلب: عبيدة، والطفيل، والحصين، بنو الحارث بن المطلب بن عَبْد مناف.
وكان عبيدة يُكنى أبا الحارث، ويُقال أبا معاوية، وكان أكبرهم سنًا، وشهد بدرًا فبارزَ عتبة بن ربيعة يوم بدر فضربه عتبة عَلَى ساقه، وضربَ عبيدة عتبة، وأعانه عَليّ بن أبي طالب فقتلاهُ، فقالت هند بنت عتبة:
أعينيّ جودا بدمع سرب ... عَلَى خير خندف لم ينقلبْ
تداعى له قصرة [1] رهطه ... بنو هاشم وبنو المطلب
ومات عبيدة بالصّفراء [2] وبها دفن، ووجد من قبره ريح المسك فقيلَ للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنا وجدنا من قبره ريحُ المسك، فقال: [ «وما ينكر ذلك لأبي معاوية» ،] وكانت عنده زينب بنت خزيمة، من بني هلال، وهي أم المساكين، فخلف عليها النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ أبو اليقظان: ولا عقب لعبيدة.
__________
[1] القصرة: ما يبقى من المنخل، وهو ابن عمي قصرة: أي داني النسب. القاموس.
[2] الصفراء: واد قرب المدينة، بينه وبين بدر مرحلة. المغانم المطابة.(9/388)
قَالَ الواقدي: كانت زَينب عِنْد الطفيل، ولم تَكُن عِنْد عبيدة.
قَالَ الواقدي والكلبي: وأم عبيدة بن الحارث وأخوته سُخيلة بنت خزاعي بن الحارث من ثقيف، وكان لعبيدة من الولد: معاوية، وعون، ومنقذ، والحارث، وَمُحَمَّد، وَإِبْرَاهِيم، وريطة، وخديجة، وسخيلة، وصفية لأمهات أولادٍ شتى، وكان عبيدة أَسَنَّ من النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعشر سنين.
وقال الواقدي: كَانَ يُكنى أبا الحارث، والأول قول أبي اليقظان، وكان مربوعًا أسمر حسن الوجه.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ يَزِيدَ بْن رومان قَالَ: أسلم عبيدة بن الحارث قبل دخول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم بْن أبي الأرقم، وقبل أن يدعو فيها.
وقال الواقدي فِي إسناده خرج عبيدة، والطفيل، والحصين بنو الحارث بن المطلب، وَمِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ من مكة للهجرة، فاتعدوا بطن ناجح، فلدغ مسطح فتخلف بالحصاص فأتوه فحملوه، والحصاص وادٍ فِي ذي طوى، فلما قدموا المدينة نزلوا عَلَى عَبْد الله بن سلمة العجلاني، وأقطعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبيدة وأخوته موقع خطتهم بالمدينة فيما بين بقيع الزبير وبني مازن، وآخى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ عبيدة وبلال، وآخى بين عبيدة وعمير بن الحمام الأنصاري فقتلا ببدر، وَكَانَ أوّل لواءٍ عقده رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحمزة، ثُمَّ لعبيدة.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ الظَّفَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَتَلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَجُرِحَ فَدَفَنَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصَّفْرَاءِ، وَكَانَ يَوْمَ اسْتُشْهِدَ ابْنَ ثَلاثٍ وستين سنة.(9/389)
وأم الطفيل بن الحارث أيضًا سُخيلة بنت خزاعي الثقفية، وكان لطفيل من الولد: عَامِر بن الطفيل، وآخى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الطفيل والمنذر بن مُحَمَّد بن عقبة بن أحيحة بن الحلاج، هذا في رواية الواقدي.
وقال محمد بن اسحق: آخى بينه وبين سُفْيَان بن نسر بن زيد الأنصاري.
وقال الواقدي شهد الطفيل بدرًا، وأحدًا، وَالْمَشَاهِدَ كُلَّهَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتوفي سنة اثنتين وثلاثين، وهو ابن سبعين سنة.
وأم الحصين بن الحارث بن المطلب أيضًا سُخيلة، وهي أم عبيدة، والطفيل، وكان للحصين من الولد: عَبْد الله الشاعر، وأمه أم عَبْد الله بنت عدي بن خويلد بن أسد بن عبد العزى، وآخى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الحصين ورافع بن عَنْجَدة.
وقال مُحَمَّد بن اسحق: آخى بينه وبين عَبْد الله بن جبير أخي خوّات ابن جبير.
وقال الواقدي: شهد الحصين مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدرًا، وجَميع المشاهد، وتوفي بعد الطفيل بأشهر فِي سنة اثنتين وثلاثين [1] .
ومنهم:
أبو حذافة بن الحارث بن المطلب، قتل يوم الفجار فِي الجاهلية.
ومن بني المطلب أيضًا عَبْد اللَّه بْن قيس بْن مخرمة بْن المطلب، ولي مكة زمن عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز، وولاهُ أيضًا الحجاج حين فارق الحجاز المدينة أو مكة فقال له عَبْد الملك لقد وليته من أحمق بيت فِي قريش، وكان عَبْد الملك
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 50- 53.(9/390)
يقول: أحمق بيت فِي قريش آل قيس بن مخرمة، وكان قيس بن مخرمة يمكو ويصفر فيسمع صوته من حراء، وفيه نزلت: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وتصدية [1] والتصدية التصفيق أن يسمع لذلك صدى.
ومنهم:
مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب، وهو أحد من قَالَ الأفك فِي عائشة فحد، وأم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب بن عَبْد مناف، وأمها ريطة بنت صخر، خالة أبي بكر الصديق، وكان أبو بكر حلف أن يقطعَ عَن مسطح جراية كَانَ يجريها عليه، ونيلا كَانَ ينيله إيّاه، فنزل فيه: وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ والسعة أن يولوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لكم والله غفور رحيم [2] فرد عليه جرايته وما كَانَ ينيله، وكانت أم مسطح من المبايعات. وآخى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين يزيد بن المزين، في رواية محمد بن إسحق.
وقال الواقدي: شهد مسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب: بدرًا، وأحدًا، والمشاهد كلها مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأطعمه خَمسين وسقًا بخيبر، وتوفي مسطح سنة أربع وثلاثينَ، وهو ابن ست وخَمسينَ سنة، وكان قصيرًا غائرَ العينين شثن الأصابع يكنى أبا أثاثة [3] .
قالوا: ولَمّا نزلت الآية قَالَ له أبو بكر: مرحبًا برجل عاتبني فيه ربي.
ومنهم:
__________
[1] سورة الأنفال- الآية: 35. والمكاء: التصفير بالفم أو تشبيك الأصابع والنفخ فيها، القاموس.
[2] سورة النور- الآية: 22.
[3] طبقات ابن سعد ج 3 ص 53.(9/391)
ركانة بْن عبد يزيد بْن هاشم بْن المطلب كَانَ أشد العرب، صارعه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ فقال: يا معشر قريش ساحروا بِمحمد من شئتم.
وَحَدَّثَنِي عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن ابن خربوذ وغيره قَالُوا:
قَدِمَ رُكَانَةُ مِنْ سَفَرٍ، فَأُخْبِرَ خَبَرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَهُ فِي بعض جبال مكة، فقال:
يا بن أَخِي بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ وَلَمْ تَكُنْ عِنْدِي كَذَّابًا، فَإِنْ صَرَعْتَنِي عَلِمْتُ أَنَّكَ صَادِقٌ، فَصَرَعَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال هشام ابن الْكَلْبِيِّ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكَانَةَ بْن عَبْدِ يَزِيدَ بْن هَاشِمِ بْن الْمُطَّلِبِ، وَكَانَ أَشَدَّ الْعَرَبِ لَمْ يَصْرَعْهُ أَحَدٌ قَطُّ، فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الإِسْلامِ، فَقَالَ:
وَاللَّهِ لا أُسْلِمُ حَتَّى تَدْعُوَ هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَكَانَتْ سَمُرَةً أَوْ طَلْعَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَقْبِلِي بِإِذْنِ اللَّهِ» فَأَقْبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ خَدًّا، فَقَالَ رُكَانَةُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ سِحْرًا أَعْظَمَ فَمُرْهَا فَلْتَرْجِعْ، قَالَ: «ارْجِعِي بِإِذْنِ اللَّهِ» فَرَجَعَتْ، فَقَالَ لَهُ: «وَيْحَكَ أَسْلِمْ» فَقَالَ: إِنْ صَرَعْتَنِي أَسْلَمْتُ وَإِلا فَغَنَمِي لَكَ، وَإِنْ صَرَعْتُكَ كَفَفْتَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَرَعَهُ ثَلاثًا، فَقَالَ:
«أَسْلِمْ» ، قَالَ: لا، قَالَ: «فَإِنِّي آخُذُ غَنَمَكَ» قَالَ: فَمَا تَقُولُ لِقُرَيْشٍ؟ قَالَ:
«أَقُولُ صَارَعْتُهُ فَصَرَعْتُهُ فَأَخَذْتُ غَنَمَهُ» قَالَ: فَضَحْتَنِي وَخَزَيْتَنِي، قَالَ: «فَمَا أَقُولُ لَهُمْ» ؟ قَالَ: قُلْ قَمَرْتُهُ قَالَ: «إِذًا أَكْذِبُ» قَالَ: أَوَ لَسْتَ فِي كَذِبٍ مِنْ حِين تُصْبِحُ إِلَى أَنْ تُمْسِيَ، قَالَ: «خُذْ غَنَمَكَ» ، قَالَ: أَنْتَ وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنِّي وَأَكْرَمُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَأَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْكَ» .
وَقَالَ أَبُو الْيَقْظَانِ: قَالَ رُكَانَةُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَ لِيُسْلِمَ فِي الْفَتْحِ: وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ إِذْ صَرَعْتَنِي أَنَّكَ أُعِنْتَ عَلَيَّ مِنَ السَّمَاءِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ(9/392)
وَأَقَامَ بِهَا، وَمَاتَ بِهَا فِي أَوَّلِ أَيَّامِ مُعَاوِيَةَ، وَمَنَازِلُهُمْ فِي دَارِ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ.
ومنهم:
العُجَير بن عَبْد يزيد بن هاشم، أخو ركانة، بعثه عُمَر بن الخطاب فيمن بعث لإقامة أنصاب الحرم، وجلد عُمَر بن الخطاب ابنًا لعجير ثَمانين فِي شراب.
ومن بني المطلب:
ضعيفة بنت هاشم بن المطلب ولدت الحجاج من قبل النساء.
قالوا: وكان يزيد بن طلحة بن رُكانة ممن يحمل عنه الحديث، وماتَ أول أيام هشام بن عَبْد الملك.
وكان أخوه مُحَمَّد بن طلحة بن رُكانة محدّثًا، ومات فِي أول أيام هشام أيضًا.
وكان عَليّ بن يزيد بن ركانة بن عَبْد يزيد، من أشد الناس بطشًا فِي زمانه، فدخل عَلَى عُمَر بن عبد الْعَزِيز، وهو والي المدينة، فقال له: أرني من شدتك شيئًا، فدخل تَحت سريره فحمله من الأرض، ولَهم بقية بالمدينة، وكان لركانة بن يزيد مجذى يضرب به المثل فيقال: أثقل من مجذى ركانة وهو حجر له مقبض يرتج.
ومنهم:
السائب بْن عُبَيْد بْن عَبْدِ يَزِيد بْن هاشم بن المطلب، وقد كَانَ أسر يوم بدر، وهو أحد من كَانَ يشبه بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ومن ولده: عباس، وعلي، وشافع جد الشافعي الفقيه، وهو مُحَمَّد بن إدريس بن العباس بن(9/393)
عُثْمَان بن شافع بن السائب بْن عُبَيْد بْن عَبْدِ يَزِيد بْن هاشم بن المطلب.
وقال الكلبي: كَانَ يُقال لعبد يزيد بن هاشم المحض لا قذى فيه، لأن أمه الشفاء بنت هاشم بن عَبْد مناف.
وقال المدائني: ضرب خالد بن عجير بن عَبْد يزيد ثَمانين فِي الشراب.
ومن بني المطلب:
جُهيم بْن الصلت بْن مخرمة بْن المطلب بْن عَبْد مناف، أسلم بعد الفتح وتعلم الخط بالعربية فِي الجاهلية فجاء الإسلام وهو يكتب بِهَا، وقد كَتَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد ما أسلم، ورأى جهيم وهو بين النائم واليقظان أن رجلا أقبلَ عَلَى فرس ومعه بعير لَهُ فَقَالَ: قُتل عتبة بْن ربيعة، وشيبة بْن ربيعة، وأبو الحكم بْن هشام، وأمية بْن خلف وعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثُمَّ ضرب فِي لبة بعيره وأرسله فلم يبق خباء من أخبية عسكر المشركين إلا أصابه نضح من دمه، فبلغت الرؤيا أبا جهل فقال:
وهذا أيضًا نبيّ من بني المطلب، سيعلم غدًا من المقتول إِذَا التقينا.
ومن بني المطلب بن عَبْد مناف:
عَمْرو بن علقمة بن المطلب، وكان خداش بن عَبْد الله بن أبي قيس بن عَبْد وُدّ بن نَصْر بن مالك بن حسل بن عَامِر بن لؤي بن غالب خرج إلى الشام فِي تِجارة، وهو فِي ركب من قريش، فاستأجرَ عَمْرو بن علقمة بن المطلب، فلما كَانَ ببعض الطريق إِذَا هُم بركب يستمتعونَ بفضل حبل، أي يستعيرونه، وشردت أباعرهم، فطرح إليهم عَمْرو بن علقمة حبلا، وكان خداش قد مضى لبعض شأنه، فلما جاء قَالَ: ما حملكَ عَلَى ما صنعت وقد ترانا بأرض لا يوجد بِهَا شيء يُطلب فيشترى أو يستعار وضربه(9/394)
بعصًا معه، فضمن [1] من ضربته، فلما أحس بالموت كتب إلى أبي سُفْيَان بن حرب، وكان أكبر بني قصي يومئذ، فأخبره بخبره، وأنه لما به [2] حين كتب إليه، فلما قدم خداش من وجهه ذلك طلب بنو عَبد مناف العقل عنده، فأباهُ عليهم، وقال قد مكث أيامًا ليس به بأس، ثُمَّ اشتكى بعد ومات فلم يصدقوه، وأكبوا عَلَى العقل، وكان أبو طالب بن عَبْد المطلب أشد القوم فِي أمره، فقال أبو طالب لِخداش:
أفي فضل حبل لا أبا لك صدته ... بمنسأة [3] قد جاء حبل بأحبل
هلمّ إلى حكم ابن صخرة إنه ... سيحكم فيما بيننا ثُمَّ يعدل
كما كَانَ فِي أشياء كانت تنوبنا ... فيعمد للأمر الجسيم فيفصل
ابن صخرة الوليد بن المغيرة، وكانت قريش تتحاكم إليه وكانوا عَلَى أن يتحاربوا، فاستعدوا للحرب، ثُمَّ إنَّهم اصطلحوا بعد عَلَى أن تبرئ صدورهم بنو عَامِر بخمسين يَمينًا عِنْد الحطيم، فحلف منهم خَمسونَ رجلا وامتنعَ حويطب بن عَبْد العزى بن قيس بن عَبْد وُد من اليمين، فافتدى قومه يمينه بأربعين أوقية، والأوقية أربعونَ درهمًا.
قالوا: فمات جَميع من حلف وجاء الإسلام ولم يبق منهم أحد، وبقي حويطب وأسلم يوم الفتح وحسن إسلامه.
وقال قوم من العلماء، منهم أبو عمرو الشيباني: إنَّهم كانوا تَحاربوا ثُمَّ مشت السفراء بَيْنهم فاصطلحوا عَلَى خَمسينَ يَمينًا عِنْد الحطيم.
__________
[1] الضمنة: المرض والابتلاء في الجسد. القاموس.
[2] أي في وضع صحي خطر.
[3] المنسأة: العصا. القاموس.(9/395)
وقال العباس بن عَبْد المطلب:
أبا طالبٍ لا تقبل النصف منهم ... وإن أنصفوا حَتَّى تعقَ وتظلما
أبى قومنا أن ينصفونا فانصَفت ... قواطع فِي أيماننا تقطر الدما
إِذَا خالطت هام الرجال رأيتها ... كبيض نعامٍ فِي الوغى قد تحطما
تركناهم لا يستحلونَ بعدها ... لذي رحم يومًا من الناس محرما
ضربنا أبا عَمْرو خداشًا تخمّطا [1] ... وملنا عَلَى ركنيه حَتَّى تهدما
__________
[1] تخمط: تكبر وغضب، والمتخمط: القهار الغلاب، والشديد الغضب له جلبة من غضبه. القاموس.(9/396)
بَنو نَوْفَل بن عَبْد مَناف بن قصَيّ
ولد نوفل بن عَبْد مناف:
عدي بن نوفل، وأمه هند بنت نُسيب بن زيد من بني مازن بن منصور.
وعمرو بن نوفل. وعبد عَمْرو، وأمهما قلابة بنت جابر بن نَصْر بن مالك بن حسل بن عَامِر بن لؤي.
وعامر بن نوفل. وأمه كهيفة بنت جندل بن أبين بن نهشل بن دارم.
وزعموا أن بني نوفل كانوا يدًا مع عَبْد شمس عَلَى سائر بني عَبْد مناف فقال أبو طالب:
جزى الله عنا عَبْد شمس ونوفلا ... جزاء مسيء عاجلا غير آجل
فمن بني نوفل بن عَبْد مناف:
مطعم بْن عدي بْن نوفل بْن عَبْد مناف، ويُكنى أبا وهب، زعموا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَاهُ فقال: [ «يا عماه أجرني حتى حَتَّى أطوف حول البيت» ،] فأجاره حَتَّى طاف، وأعانَ مطعم بني هاشم وبني المطلب عَلَى نقض الصحيفة التي كتبتها قريش عليهم، وعلى إخراجهم من الشعب، وقال النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم بدر لابنه(9/397)
جبير بن مطعم: [ «لو كَانَ أبوكَ حيًّا فاستوهب مني هؤلاء الأسرى لوهبتم له» .] وفيه يقول أبو طالب:
أجرتُ رسول الله منهم فأصبحوا ... عبيدك ما حل الحجيج وأحرما
وقال أبو طالب أيضًا:
أمطعم إن القوم ساموكَ خطة ... وإني متى أوكل فلستُ بآيلِ
أمطعم لم أخذلكَ فِي يوم نجدة ... ولا مشهدٍ عِنْد الأمور الجلائل
ومات مطعم بن عدي فِي سنة اثنتين من الهجرة، قبل بدر، ودفنَ بالحجون، وله بضع وتسعونَ سنة، وأقيمَ النوح عليه سنة.
فولد مطعم، جبيرًا، وكان سيدًا عالِمًا نسابة للعرب، وكان إسلامه قبل الفتح، وشهد دفن عُثْمَان بن عَفَّان، وصلى عليه، وسأل عُمَر بن الخطاب جبيرًا، وأتى بسيف النعمان بن المنذر: ممن كَانَ النعمان؟ فقال:
من بني قنص بن معد، وذلك أن ولد قنص انتموا إلى لخم بن عدي، ومات جبير بن مطعم- ويُكنى أبا مُحَمَّد- بالمدينة فِي داره فِي أيام معاوية، وكان أول من لبس طيلسانًا بالمدينة.
وكان نافع بْن جُبَيْر بْن مطعم بْن عدي تائهًا، عظيم النخوة والكبر، وكان فصيحًا جهير الكلام يفخم كلامه، وكان المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام يلحن ويفخم كلامه، فقال سُلَيْمَان بن عَبْد الملك بن مروان: إن المغيرة بن عبد الرَّحْمَن ليفخم اللحن كما يفخم نافع بن جبير الأعراب، وكان جبير يتخذ سقاية من أدم يسقي فيها الناس، وكان لنافع بن جبير ابن من امرأته ابنة عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يقال له عَليّ، فقال له: يا بني أنتَ ابن السقايتين، يعني سقاية الحاج التي كَانَ(9/398)
يقوم بِهَا العباس، وسقاية جبير بن مطعم، فدخلَ عليّ عَلَى أمه فقال لَهَا:
إن أبي قال لي: يا بن السقايتين، فقالت يا بني ارجع إليه فأعلمه أن إحداهما ركوة.
المدائني قَالَ: تكلم عَبْد اللَّه بْن السائب بْن أبي حبيش فقال له نافع بن جبير: صه فقال له عَبْد الله: ألطه [1] قَالَ نافع: أنا ابن عَبْد مناف، قَالَ: أنا ابن بعثطها [2] ، قَالَ عَبْد الله: عَبْد مناف بيتان: هاشم وعبد شمس فأنت بين دارها والجية [3] .
ومن بني جبير بن مطعم:
مُحَمَّد بن جبير، ويُكنى أبا سعيد، كَانَ فقيهًا، وكان أبو سُلَيْمَان بن جبير بن مُحَمَّد بن جبير أيضًا فقيهًا.
قَالَ الكلبي: وقد كَانَ نافع بن جبير أيضًا فقيهًا.
وقال المدائني: جلد ابن لإبراهيم بن مُحَمَّد بن جبير بن مطعم فِي الخمر.
وقال الواقدي: مات مُحَمَّد بن جبير، وهو أبو سعيد بالمدينة فِي أيام عمر بن عبد العزيز.
__________
[1] لطى: لزق بالأرض. القاموس.
[2] أنا ابن بعثطها: كابن بجدتها. وابن بجدتها: العالم بالشيء والدليل الهادي والذي لا يبرح عن قوله. القاموس.
[3] الجية: مستنقع الماء. وورد هذا الخبر في كتاب نسب قريش للمصعب الزبيري ص 221:
«فقال له نافع: صه، صه، أنا ابن عبد مناف، فالطه، فقال أبو الحارث: أنف في السماء، وسرم في الماء، ذهبت عليك بنو هاشم بالنبوة، وبنو عبد شمس بالخلافة، وبقيت بين فرثها والجية» .(9/399)
قَالَ: ومات نافع أخوه ويُكنى أبا مُحَمَّد بالمدينة فِي أيام سُلَيْمَان بن عَبْد الملك، وكانا ينزلان دارًا واحدة بالمدينة بينهما.
ومنهم:
طعيمة بن عدي، أخو مطعم بن عدي، ويُكنى طعيمة أبا الريان، وكان مؤذيًا لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأسر يوم بدر، فأمر بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقتل بين يديه صبرًا، وتولى قتله حَمْزَة بن عَبْد المطلب، وقد ذكرنا خبره فيما تقدم.
ومن بني نوفل بن عَبْد مناف: الخيار بن عدي بن نوفل وكان عُبَيْد اللَّه بْن عدي بْن الخيار بْن عدي بن نوفل من رجال قريش وصلحائِهم، وهو الذي عقد مجلس القلادة، وكان يَجلسُ فيه أشراف قريش والأنصار وعلماؤهم المتخيرون، لا يجلس فيه غيرهم، فلم يزل كذلك حَتَّى وقع فيه شر ومشاتَمة، فافترقَ أهل ذلك المجلس وانتقض إلى اليوم.
ومنهم:
عمارة بن الوليد بْن عدي بْن الخيار بْن عدي بْن نوفل بْن عَبْد مناف الذي يقول:
تلكَ هند تصد للبين صدا ... أدَلالا أم صرم هند أجَدّا
يعلم الله أن قد أورثت مني ... غير مَنّ بذاكَ نصحًا وودّا
ما تقربت بالصّفا لأدنو منك ... إلا نأيت وازددت بعدا
ومن بني نوفل بن عَبْد مناف:
نافع بن ظُريف بن عَمْرو بن نوفل، الذي كتب المصاحف لعثمان بن(9/400)
عَفَّان، ويُقال لعمر بن الخطاب.
ومنهم:
الحارث بن عَامِر بن نوفل، كَانَ شريفًا عظيم القدر فِي الجاهلية، وهو أحد المطعمين يوم بدر، وله يقول ابن الزبعرى.
والحارث الوهاب أشرق وجهه ... كالبدرِ أشرقَ ليلة الإظلامِ [1]
وقتل يوم بدر كافرًا، وهو أحد سرقة غزال الكعبة، وَكَانَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ «مَنْ لقي الحارث بن عامر بن نوفل فليدعه لأيتام بني نوفل» ،] وفيهم نزلت: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أرضنا [2] .
وأبو سروعة بن الحارث بن عَامِر بن نوفل، وكان صاحب شراب، حده عَمْرو بن العاص، وحدّ معه ابنا لعمر بن الخطاب.
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ ثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ أَنَّ ابْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيَّ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خرجت أنا وأخي عبد الرحمن بن عمر غَازِيَيْنِ إِلَى مِصْرَ، فَشَرِبَ أَخِي وَأَبُو سِرْوَعَةَ شَرَابًا فَأُتِيَ بِهِمَا عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَجَلَدَ أَبَا سِرْوَعَةَ ظَاهِرًا وَجَلَدَ أَخِي فِي الدَّارِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ عُمَرُ أَنِ اجْمَعْ يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ وَجُبَّ عَلَيْهِ مِدْرَعَةً، وَاحْمِلْهُ إِلَيَّ عَلَى قِتْبٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى عُمَر جَلَدَهُ عَلانِيَةً على رؤوس الناس، وحلق رأسه وحبسه ستة أشهر فبرأ مِنْ جَلْدِهِ ثُمَّ أَغْزَاهُ، فَرَجَعَ فَمَاتَ، وَمَاتَ أَبُو سِرْوَعَةَ بِمَكَّةَ.
ومن بني نوفل:
مُسْلم بن قرظة بن عَبْد عَمْرو بن نوفل قتل يوم الجمل، وأخته فاختة
__________
[1] شعر عبد الله بن الزبعرى ص 47.
[2] سورة القصص- الآية: 57.(9/401)
بنت قرظة امرأة معاوية بن أبي سُفْيَان، وَفِي قرظة يقول أبو طالب، وكان قرظة يُكنى أبا عَمْرو:
وإن أبا عَمْرو أبى غير بغضنا ... ليطعننا فِي أهل شاءٍ وحائل [1]
وكان قرظة أعمى، وتزوج ابنة عتبة بن ربيعة، فولدت له فاختة بنت قرظة.
__________
[1] الحائل: الإبل. القاموس.(9/402)
بنو عَبْد الدار بن قصي
ولد عَبْد الدار بن قصي: عُثْمَان بن عَبْد الدار، ووهب بن عَبْد الدار درج، وكلدة درج، وعبد مناف، وأمهم هند بنت لُؤي بن ملكان من خزاعة، والسباق، وكان ولده أوّل من بغى بِمكة عَلَى قريش فأهلكوا، وأمه من هوازن.
فمن بني عَبْد الدار: طلحة، وعثمان الأوقص، وأبو سَعْد بنو طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عبد الدار، قتلوا يوم أحد ومعهم لواء المشركين، ومسافع. والجلاس. وكلاب. والحارث بنو طلحة بن أبي طلحة قتلوا يوم أحد كفارًا، ومعهم اللواء، وعثمان بن طلحة بن أبي طلحة، أَخَذَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه المفتاح يوم فتح مكة، فنزلت فيه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [1] وقد كَانَ دفع المفتاح إلى العباس فارتجعه منه ورده عليه.
وقال الواقدي قدم عُثْمَان بن طلحة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الفتح بأشهر هُوَ وخالد بْن الوليد، وعمرو بْن العاص، فأسلموا.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين دفع المفتاح إلى عُثْمَان: [ «دونكموها يا بني أبي
__________
[1] سورة النساء- الآية: 58.(9/403)
طلحة تالدة خالدة لا يظلمكموها إلا ظالِم» ،] وكانت الحجابة فيهم.
وقال الواقدي: أقام عُثْمَان بن طلحة بن أبي طلحة بالمدينة حين توفي النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ رجعَ إلى مكة ونزلها، ومات فِي أيام معاوية، ولعثمان عقب، فمن ولده: إِبْرَاهِيم بن عبيد الله بن عُثْمَان بن عَبْد الله بن عُثْمَان بن طلحة بن أبي طلحة، الذي يُقال له الحجبي، ولاه أمير المؤمنين هرون الرشيد بن أمير المؤمنين المهدي اليمن.
ومنهم:
يزيد بن مسافع بن أبي طلحة، قتل يوم الحرة.
وعبد الله بن مسافع قتل يوم الجمل مع عائشة.
ومنهم:
شيبة بن عُثْمَان الأوقص بن أبي طلحة، وشيبة الحاجب بعد عُثْمَان بن طلحة بن أبي طلحة، وكان شيبة هذا شديدًا عَلَى المسلمين، وكان ممن دخل فِي الأمان يوم فتح مكة، فلما كَانَ يوم حنين صار مع هوازن طمعًا فِي أن يصيب من النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غرة.
قَالَ شيبة: فدنوتُ مِنْهُ فإذا أهله محيطونَ بِهِ، ورآني فقال لي: «يا شيبُ إليّ» فدنوتُ مِنْهُ فمسح صدري ودعا لي فأذهبَ الله كل ما كَانَ فِيهِ وملأهُ إيمانًا، وصار أحبّ النَّاس إليّ، وكان شيبة يُكنى أبا صفية، واصطلحَ الناس عَلَى شيبة بن عُثْمَان بِمكة، فأقامَ لَهم الحج فِي أيام يزيد بن شجرة حين وجهه معاوية لإقامة الحج، وعلى الموسم من قبل عَليّ يومئذ: قثم بن العباس. ومن ولده: أم حجر بنت شيبة كانت عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد، ومسافع بن شيبة، ومات شيبة بِمكة فِي أيام يزيد بن معاوية.(9/404)
ومنهم:
عبيد الله بن الأعجم بن شيبة الذي ضربه خالد بن عَبْد الله القسري وهو عَلَى مكة، فضرب له خالد، فقالَ الفرزدق:
لعمري لقد صبت عَلَى ظهر خالد ... شآبيب ليست من سحاب ولا قطر [1]
هذا قول ابن الكلبي، وقال غيره ضرب مُحَمَّد بن طلحة بن عبيد الله، أو عبد الله بن شيبة، لأنه جرى بينهما كلام، وقد كتبنا خبره فِي خبر خالد القسري فيما تقدم من كتابنا هذا، والحجابة فِي بني شيبة والمفتاح عندهم إلى اليوم.
وقاسط بْن شريح بْن عُثْمَان بْن عَبْد الدار، قتل يوم أحد ومعه اللواء.
وعامر بْن هاشم بْن عَبْد مناف بْن عَبْد الدار، الذي عقد الحلف بين الأحلاف عَلَى المطيبين، وقد ذكرنا قصة المطيبين والأحلاف فِي أول كتابنا هذا.
والأسود بن الحارث بن عَامِر، أسر يوم بدر.
ومنهم: مصعب الخير بن عمير بْن هاشم بْن عَبْد مناف بْن عَبْد الدار.
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّدٍ الْعَبْدَرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ فَتَى مَكَّةَ شَبَابًا وَجَمَالا وَسَيْبًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ يُحِبَّانِهِ، وَكَانَتْ أُمُّهُ تَكْسُوهُ أَحْسَنَ الثِّيَابِ وَأَرَقَّهَا، وَكَانَ أَعْطَرَ أَهْلِ مَكَّةَ يَلْبَسُ الْحَضْرَمِيَّ مِنَ النِّعَالِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُهُ فَيَقُولُ: [ «مَا رَأَيْتُ بِمَكَّةَ أَحَدًا أَحْسَنَ لِمَّةً، وَلا أَرَقَّ حُلَّةً، ولا أنعم نعمة من
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 301 مع فوارق.(9/405)
مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ» ] فَبَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُو فِي دَارِ الأَرْقَمِ بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ إِلَى الإِسْلامِ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَصَدَّقَهُ وَخَرَجَ فَكَتَمَ إِسْلامَهُ خَوْفًا مِنْ أُمِّهِ، فَكَانَ يَخْتَلِفُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِرًّا، فَبَصُرَ بِهِ عُثْمَانُ بن طَلْحَةَ يُصَلِّي، فَأَخْبَرَ أُمَّهُ وَقَوْمَهُ بِذَلِكَ، فَخَرَجَتْ أُمُّهُ نَاشِرَةً شَعْرَهَا وَقَالَتْ: لا أَلْبَسُ خِمَارًا، وَلا أَسْتَظِلُّ، وَلا أَدَّهِنُ وَلا آكُلُ طَعَامًا، وَلا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى تَدَعَ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ، وَجَاءَ أَخُوهُ فَأَخَذَهُ فَحَبَسَهُ فَلَمْ يَزَلْ مَحْبُوسًا حَتَّى تَخَلَّصَ، وَخَرَجَ إِلَى أَرْضِ الْحَبَشَةِ فِي الْهِجْرَةِ الأُولَى وَالثَّانِيَةِ، ثُمَّ رَجَعَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ حِينَ رَجَعُوا، وَهُوَ مُتَغَيِّرُ الْحَالِ مُتَقَشِّفٌ، فَكَفَّتْ أُمُّهُ عَنْهُ مِنَ الْعَذْلِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَهُوَ مُصْعَبُ الْخَيْرِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيٍّ وَأُمُّهُ خُنَاسُ بِنْتُ مَالِكِ بْنِ الْمُضَرِّبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حُجَيْرِ بْنِ عَبْدِ بْنِ مَعِيصِ بْنِ عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، ويكنى أَبَا مُحَمَّدٍ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَمُظَفَّرُ بن مرجا قَالا: ثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الْعَزِيزِ الرَّبَذِيِّ عَنْ أَخِيهِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَقْبَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ ذَاتَ يَوْمٍ بِالْمَدِينَةِ، وَعَلَيْهِ قِطْعَةُ نَمِرَةٍ قَدْ وَصَلَهَا بِإِهَابٍ قَدْ رَدِنَهُ، ثُمَّ وَصَلَهُ إِلَيْهَا، فَلَمَّا رَآهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم نكسوا رؤوسهم رَحْمَةً لَهُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يُغَيِّرُونَ عَنْهُ، فَسَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحْسَنَ عَلَيْهِ الثَّنَاءَ وَقَالَ: [ «الْحَمْدُ للَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ هَذَا وَمَا بِمَكَّةَ فَتًى مِنْ قُرَيْشٍ أَنْعَمَ عِنْدَ أَبَوَيْهِ نَعِيمًا مِنْهُ، ثُمَّ أَخْرَجَتْهُ عَنْ ذَلِكَ الرَّغْبَةُ فِي الْخَيْرِ، وَحُبُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ» ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيِّ- مِنْ بَنِي عَنْزِ بن وائل-(9/406)
قَالَ: كَانَ مُصْعَبٌ لِي خِدْنًا وَصَاحِبًا مُذْ يَوْمِ أَسْلَمَ إِلَى أَنِ اسْتُشْهِدَ بِأُحُدٍ خَرَجَ مَعَنَا إِلَى الْهِجْرَتَيْنِ جَمِيعًا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، وَكَانَ رَفِيقِي مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ، فَلَمْ أَرَ رَجُلا قَطُّ كَانَ أَحْسَنَ خُلُقًا، وَلا أَقَلَّ خِلافًا مِنْهُ [1] .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ ثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَبُو الْوَلِيدِ ثَنَا شعبة أنبأنا أبو اسحق قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ عَلَيْنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ، يَعْنِي فِي الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وروى الواقدي فِي إسناده عَن مشيخته: أن أهلَ العقبة الأولى الاثني عشر لَما انصرفوا إلى المدينة، ففشا الإسلام فِي دور الأنصار، أرسلَ الأنصار إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه أن يبعثَ إليهم رجلا يفقههم فِي الدين ويقرئهم القرآن، فبعث إليهم مصعب بن عمير، فقدم عَلَى أسعد بن زُرارة، وكان يأتي الأنصار فِي قبائلهم ودورهم فيدعوهم إلى الإسلام ويقرأ عليهم القرآن، فيسلم الرجل والرجلان حَتَّى ظهر الإسلام، وكتب إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يستأذنه فِي التجميع بِهم، فأذن له، وكتب إِلَيْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يأمره أن ينظرَ إِذَا زالت الشمس يوم الجمعة فيصلي بِهم ركعتين، ويَخطب قبلهما، فجمع بِهم فِي دار سَعْد بن خيثمة، وهم اثنا عشر رجلا فهو أول من جَمع فِي الإسلام يوم جُمَعة.
قَالَ: وقد روى قومٌ من الأنصار أن أول من جمع بِهم أبو أمامة أسعد بن زُرارة. ثُمَّ خرج مصعب بن عمير من المدينة إلى مكة مع السبعين الذين وافوا العقبة من الأوس والخزرج، فقدم مكة فجاءَ منزل رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 116- 117.(9/407)
ولَم يأت منزله فجعل يُخبر رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الأنصار وسرعتهم إلى الإسلام واستبطائِهم قدوم رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سره، وبلغ أم مصعب قدومه، فأرسلت إليه: يا عاق تقدم بلدًا أنا فيه فلا تبدأ بي؟! فقال: ما كنتُ لأبدأ بأحد قَبْلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ ذهب إلى أمه فقالت: إنك عَلَى صبأتك بعد، قَالَ: أنا عَلَى دين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الدين الذي ارتضاهُ الله لنفسه ورسله، فقالت: ما شكرت تربيتي، مرة بأرض الحبشة ومرة بأرض يثرب فقال: أفر والله بديني، فبكت فدعاها إلى الإسلام، فقالت: والثواقب لا دخلت فِي دينك، ولكني أدعك وما أنتَ عليه، فأقامَ مصعب مع النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقية ذي الحجة والمحرم وصفر وقدم المدينة مهاجرًا قبل النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باثنتي عشرة ليلة.
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ ثنا رَوْحُ بْنُ عبادة عَن ابن جريج عَن عطاء قَالَ: أول من جمع بالمدينة رجل من بني عَبْد الدار، قلت: بأمر النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قَالَ: فبأمر مَنْ؟ وقال الواقدي: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مصعب بْن عمير وسعد بن أَبِي وقاص، وآخى بينه وبين أبي أيوب الأنصاري، ويُقال آخى بينه وبين ذكوان بن عَبْد قيس.
وكان لواء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأعظم، وهو لواء المهاجرين، مع مصعب ابن عمير، وكان لواء قريش فِي الجاهلية فِي قومه من بني عَبْد الدار، فلذلك خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم من بينهم.
وقال الكلبي والواقدي: شهد مصعب بن عمير بدرًا، وحمل اللواء يوم أحد، فلما جال المسلمونَ ثبت مصعب، فأقبلَ ابن قميئة، وهو فارس، فضرب يده اليمنى فقطعها، فأخذ اللواء بيده اليسرى وحنا عليه، فضرب يده اليسرى فقطعها فحنا عَلَى اللواء وضمه بعضديه إلى صدره، ثُمَّ حمل عليه(9/408)
الثالثة بالرمح فأنفذه فاندق الرمحُ ووقع مصعب وسقط اللواء، فأخذه أبو الروم أخوه، وكان اسمه عَبْد مناف، فلم يزل فِي يده حَتَّى دخل المدينة حين انصرفَ المسلمون.
ويُقال إنه لَمّا قتل مصعب وسقط اللواء أخذ اللواء ملك فِي صورة مصعب، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ له فِي آخر النهار: تقدم يا مصعب، فالتفتَ إليه الملك فقال: لستُ بمصعب، فعرف رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ملك أيّد به.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ الْعجلِيُّ ثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى ثَنَا عُمَرُ بْنُ صُهْبَانَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ عبد الله عن وهب بن فطن عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَهُوَ مُنْجَعِفٌ [1] عَلَى وَجْهِهِ، فَقَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ [2] ثُمَّ قَالَ: [ «أَنْتُمُ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: «زُورُوهُمْ وسلموا عليهم فو الذي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ مُسْلِمٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلا رَدُّوا عَلَيْهِ» ] .
وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بن محمد النَّاقِدُ ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَاهَدْنَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ فَمِنَّا مَنْ مَضَى لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ شَيْءٌ يُكَفَّنُ فِيهِ إِلا نَمِرَةٌ [3] ، فَكُنَّا إِذَا وَضَعْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَتْ رجلاه، وإذا وضعناها في رجليه
__________
[1] جعفه: صرعه. القاموس.
[2] سورة الأحزاب- الآية: 23.
[3] النمرة: الحبرة، وشملة فيها خطوط بيض وسود، أو بردة من صوف تلبسها الأعراب،(9/409)
خرج رأسه فقال لها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «اجْعَلُوهَا مِمَّا يَلِي رَأْسَهُ، وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإِذْخِرِ» ] [1] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الْوَاقِدِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ شُرَحْبِيلَ العبدري عن أبيه قال: كان مصعب بن عُمَيْرٍ رَقِيقَ الْبَشَرَةِ، حَسَنَ اللِّمَّةِ لَيْسَ بِالْقَصِيرِ وَلا بِالطَّوِيلِ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً أَوْ يَزِيدُ شَيْئًا، فَوَقَفَ عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فِي بُرْدَتِهِ مَقْتُولٌ فَقَالَ: [ «لَقَدْ رَأَيْتُكَ وَمَا بِهَا أَرَقُّ حُلَّةً، وَلا أَحْسَنُ لِمَّةً مِنْكَ، ثُمَّ أَنْتَ الْيَوْمَ شَعِثُ الرَّأْسِ فِي بُرْدَةٍ» ،] ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُقْبَرَ، فَنَزَلَ فِي قَبْرِهِ أَبُو الرُّومِ بْنُ عُمَيْرٍ أَخُوهُ، وَكَانَ أَسْلَمَ بَعْدَ إِسْلامِهِ حِينَ أَسْلَمَ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَنْزِيُّ مِنْ بَنِي عَنْزِ بْنِ وَائِلٍ وَسُوَيْبِطُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَرْمَلَةَ الْعَبْدَرِيُّ [2] .
وَكَانَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ ابْنَةٌ يُقَالُ لَهَا زَيْنَبُ تَزَوَّجَهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأُمُّهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، فَوَلَدَتْ لَهُ ابْنَةً.
وَقَالَ أَبُو الْيَقْظَانِ: كَانَ لِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ مِنْ حَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ ابْنَةٌ تَزَوَّجَهَا ابْنُ أَبِي عزيزِ بْنِ عُمَيْرٍ.
ومنهم: أبو الروم بن عمير، كَانَ اسمه عَبْد مناف، فدعي بكنيته، وكان من مهاجرة الحبشة فِي رواية الكلبي، وقد اختلفَ فِي هجرته فقيل: إنه لم يُهاجر إلى أرض الحبشة، ولكنه هاجر إلى المدينة، وقد ذكرناهُ فِي أول كتابنا هذا، وأبو عزيز بن عمير قتل يوم أحد كافرًا، وكان اسم أبي عزيز زرارة.
__________
[1] الاذخر: الحشيش الأخضر، وحشيش طيب الريح. القاموس.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 119- 122.(9/410)
[ولده عبد الدار قصي]
ومن ولده:
مصعب بن عمير بن أبي عزيز بن عمير بْن هاشم بْن عَبْد مناف بْن عَبْد الدار قتل يوم الحرة [1] .
ومن بني عَبد الدار:
سويبط بن حرملة- وبعضهم يقول حريملة- بن مالك الشاعر بن عُميلة بْن السباق بْن عَبْد الدار بْن قصي، وأمّه هنيدة بنت خباب خزاعية، وكان سويبط من مهاجرة الحبشة، شهد بدرًا وأحدًا، ومات ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوجه إلى تبوك، وكان يُكنى أبا حرملة.
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ ثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ عَنْ زَمْعَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَهْبٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَرَجَ فِي سَفَرٍ لَهُ وَمَعَهُ نُعَيْمَانُ الأَنْصَارِيُّ وَسُوَيْبِطُ بْنُ حَرْمَلَةَ وَكِلاهُمَا بَدْرِيٌّ، وَكَانَ سُوَيْبِطٌ عَلَى الزَّادِ فَجَاءَهُ نُعَيْمَانُ فَقَالَ: أَطْعِمْنِي قَالَ: لا حَتَّى يَأْتِيَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ نُعَيْمَانُ رَجُلا مَزَّاحًا مِضْحَاكًا، فَقَالَ: لأُغِيَظَنَّكَ، فَذَهَبَ إِلَى قَوْمٍ جَلَبُوا ظَهْرًا، فَقَالَ:
ابْتَاعُوا مِنِّي غُلامًا عَرَبِيًّا فَارِهًا ذَا بَيَانٍ وَلِسَانٍ، وَلَعَلَّهُ يَقُولُ بِالْمُرَاغَمَةِ لِي: أَنَا حُرٌّ فَإِنْ كُنْتُمْ تَارِكِيهِ لِذَلِكَ فَأَعْلِمُونِي وَلا تُفْسِدُوا عَلَيَّ غُلامِي وَتَكْسِرُوهُ، قَالُوا: بَلْ نَبْتَاعُهُ مِنْكَ بِعَشْرِ قَلائِصَ نَسُوقُهَا، وَأَقْبَلَ الْقَوْمُ مَعَهُ، وَهُوَ يَسُوقُ الْقَلائِصَ الْعَشْرَ حَتَّى عَقَلَهَا، ثُمَّ قَالَ: دُونَكُمُ الْمُوَلَّدَ فَقَالُوا لِسُوَيْبِطٍ: قُمْ فَقَدِ اشْتَرَيْنَاكَ، فَقَالَ سُوَيْبِطٌ: أَنَا رَجُلٌ حَرٌّ وَقَدْ كَذَبَكُمْ، فَقَالُوا عِنْدَنَا خَبَرُكَ وَأَلْقَوُا الْحَبْلَ فِي عُنُقِهِ وَمَضَوْا بِهِ، فَلَمَّا جَاءَ أَبُو بَكْرٍ أُخْبِرَ الْخَبَرَ فَذَهَبَ فِي أَصْحَابٍ لَهُ فَرَدَّ القلائص وأخذ سويبطا.
__________
[1] تاريخ خليفة ج 1 ص 296.(9/411)
ومن بني عَبْد الدار:
عكرمة بْن عَامِر بْن هاشم بْن عَبْد مناف بن عبد الدار وهو الذي باع دار الندوة من معاوية بن أبي سُفْيَان.
ومنهم:
بغيض بْن عَامِر بْن هاشم بْن عَبْد مناف بن عَبْد الدار الذي كتب الصحيفة بين قريش وبني هاشم وبني المطلب ابني عَبْد مناف فشلت يده.
وقال غير الكلبي: كتب الصحيفة عكرمة بن عَامِر.
وقال بعضهم: كتبها منصور بن عكرمة بْن عَامِر بْن هاشم بْن عَبْد مناف بن عَبْد الدار، والأول أثبت.
ومنهم:
جهم بن قيس بن شرحبيل بن هاشم، ويُقال: ابن عَبْد شرحبيل بْن هاشم بْن عَبْد مناف بْن عَبْد الدار، وكان فِي مهاجرة الحبشة.
ومنهم:
الحارث بن علقمة بن كلدة بن عَبْد مناف بن عَبْد الدار رهينة قريش عِنْد أبي يكسوم الحبشي حين دخل مكة قوم من تجارهم فِي حطمة [1] كانت، فوثبَ أحداث قريش عَلَى بعض ما كَانَ معهم فانتهبوه، فوقعت بينهم منافرة ثُمَّ اصطلحوا بعد أن مضت عدة من وجوه قريش إلى أبي يكسوم، فأرضوه واعتذرَوا إليه وسألوه أن لا يقطعَ تجار أهل مملكته عنهم فدُفع الحارث وغيره رهينة عنده فكان يكرمهم ويصلهم، وكانوا يبضعون البضائع إلى مكة لأنفسهم.
__________
[1] الحطمة: السنة الشديدة. القاموس.(9/412)
وابنه النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عَبْد مناف بن عَبْد الدار ويُكنى أبا فايد، وقد ذكرنا خبره فِي أول كتابنا وقتل يوم بدر كافرًا، أسره المقداد فقتله عَليّ بن أبي طالب صبرًا بَيْنَ يدي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأخوه النضير بن الحارث بن علقمة بن كلدة، وكان- فيما قَالَ الواقدي- من مسلمة الفتح، ومات بِمكة، وكان ممن أقام بِمكة فلم يُهاجر إلى المدينة، ولم يذكره مُحَمَّد بن إسحاق فِي الهجرة إلى الحبشة.
وقال الهيثم بن عدي: أسلم النضير، وهاجر إلى الحبشة، وقدم إلى مكة فارتد، ثُمَّ صحح الإسلام يوم الفتح أو بعيده، واستشهد يوم اليرموك بالشام.
ومنهم:
فراس بن النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عَبْد مناف، هاجر إِلَى الحبشة فِي المرة الثانية، وَكَانَ قدومه من أرض الحبشة بعد الهجرة إلى المدينة، وقتل يوم اليرموك شهيدًا ويُكنى أبا الحارث، ولم يذكر الكلبي فراسًا.
ومن بني عَبْد الدار:
مُحَمَّد بن المرتفع بن النضير بن الحارث بن علقمة صاحب البئر بِمكة، وهي تُعرف ببئر ابن المرتفع، ومات مُحَمَّد بن المرتفع بِمكة، وزعم أبو اليقظان أَنَّهُ من ولد عُثْمَان بن عَبْد الدار، والأول أثبت.
ومنهم:
عَبْد الله بن أبي مسرة بْن عوف بْن السباق بْن عَبْد الدار، قتل يوم دار عُثْمَان.(9/413)
ومنهم:
أبو السنابل بن بعكك بن الحارث بن السباق، وكان بعكك شريرًا شديد البغي، وقد بقي أبو السنابل حينًا بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو الذي قال لسبيعة بنت الحارث، من ولد مالك بن أفصى أخي أسلم، وهي تنسب إلى أسلم فيقال سبيعة الأسلمية، وقد ولدت بعد وفاة زوجها سَعْد بن خولة حليف بني عَامِر بن لؤي، ويُقال مولاهم: لا يحل لكَ النكاح حَتَّى يمضي عليك أربعة أشهر وعشر.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَعَبَّاسُ بْنُ يَزِيدَ الْبَحْرَانِيُّ قَالا: ثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عينية عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
وَضَعَتْ سَبِيعَةُ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِعِشْرِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، فَمَرَّ بِهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ فَقَالَ قَدْ تَصَنَّعْتِ للأَزْوَاجِ لا أَوْ يَأْتِي عَلَيْكِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، قَالَتْ سَبِيعَةُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ: فَقَالَ: [ «كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ قَدْ حَلَلْتِ لِلأَزْوَاجِ فَانْكِحِي» ] .
وَرَوَى قَوْمٌ أَنَّ أَبَا السَّنَابِلِ كَانَ خَطَبَهَا وَقَالَ الشَّاعِرُ:
إِنْ كُنْتَ تَسْأَلُ عَنْ عِزٍّ وَمَكْرُمَةٍ ... فَتِلْكَ دَارُ أَبِي السَّبَّاقِ بِالْبَلَدِ
قَالَ أَبُو الْيَقْظَانِ: وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ بَنُو جُبَيْرٍ، وَلَهُمْ بَقِيَّةٌ قَلِيلَةٌ بِالْبَصْرَةِ.
وَقَالَ: هُوَ بَعْكَكُ بْنُ أَصْرَمَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ السَّبَّاقِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ كَانَ: نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ فَقِيهًا، مَاتَ فِي فِتْنَةِ الْوَلِيدِ بْنِ يَزِيدَ، رَوَى عَنْهُ نَافِعُ وَلَيْسَ نُبَيْهٌ بِأَسَنَّ مِنْهُ.(9/414)
بَنو عَبْد بن قُصَيٍّ
ولد عَبْد بن قصي: وهب بن عَبْد، كَانَ أول من ولي الرفادة، والمنهب بن عَبْد، وهو أبو كبير وبُجير بن عَبْد.
منهم:
طليب بْن عمير بْن وهب بْن عَبْد بْن قصي، وأمّه أروى بنت عَبْد المطلب بن هاشم بن عَبْد مناف بن قصي، هاجر إلى الحبشة فِي المرة الثانية، وهاجر إلى المدينة مع أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستشهد يَوْم أجنادين بالشام وَهُوَ ابْن خمسٍ وثلاثين سنة، وكان يُكنى أبا عَدي.
وقال الواقدي هو طليب بن عمير بن وهب بن كبير بن عَبْد، والأول قول ابن الكلبي عندنا، وهو أثبت.
وقال الواقدي: كَانَ إسلام طُليب بن عمير فِي دار الأرقم، فلمّا أسلمَ دخل عَلَى أمه أروى فقال: قد تبعت محمدًا وأسلمت لله، فقالت: إن أحق من آزرْتَ وعضدت ابن خالك، والله لو كنا نقدر عَلَى ما يقدر عليه الرجال لمنعناه وذببنا عنه، فقال: يا أمه ما يمنعك من أن تسلمي وتتبعيه فقد أسلم(9/415)
أخوك حَمْزَة؟ فقالت: أنظر ما يصنعه أخواي [1] ثُمَّ أكون كأحدهم، ثُمَّ إنّها شهدت أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله، وكانت بعد تعضد النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلسانِها، وتحض ابنها عَلَى نصرته، والقيام بأمره.
وقال الكلبي والواقدي: شهد طليب بدرًا ولم يكن يذكر ذلك موسى بن عقبة وَمُحَمَّد بن إسحاق، وأبو معشر، وليس لطليب عقب وقالوا: لقي طليب بن عمير أبا أهاب بن عزيز التميمي، أحد بني عَبْد الله بن دارم، وكان أبوه هرب فحالف بني نوفل بن عَبْد مناف، وَقَدْ دُسّ للفتَّك برسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضربه بلحي جمل فشجه، فضرب وحمل إِلَى أمه فَقَالَتْ: مُحَمَّد ابْن خاله، وَهُوَ أولى من دافع عَنْهُ وغضب لَهُ، وَقَالَتْ أروى:
إن طُليبًا نَصْر ابنَ خاله ... آساه فِي دَمِهِ ومَاله
وَكَانَ المسلمونَ يصلونَ فِي شعبٍ فهجم عَلَيْهِم أَبُو جهل، وعقبة بْن أَبِي معيط، وجَماعة من سفهاء أهل مكة، فعمد طليب إِلَى أَبِي جهل فشجه، فأوثقوه فقام أَبُو لهب دونه فتخلصه، وشُكي إِلَى أروى فَقَالَتْ:
خير أيامه أَن ينصر محمدًا، وكانت قد أسلمت.
ومن بني عَبْد بن قصي:
الحويرث بن نقيد- بدال غير معجمة- ابن بجير بن عَبْد، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقتله من وجده يوم فتح مكة، فقتل كافرًا، وكان الذي قتله عَليّ عليه السلام.
ومن ولده:
__________
[1] بهامش الأصل: تعني أبا طالب وأبا لهب.(9/416)
جبير بن الحويرث بن نقيد بن عَبْد، أدركَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورآهُ ولم يرو عنه شيئًا، وروى عَن أبي بكر.
قَالَ أبو اليقظان: لم يبق من بني عَبْد بن قصي أحد، بادوا كلهم حَتَّى ورث آخرهم عَبْد الصمد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العباس بن عبد المطلب ورجل آخر من بني المطلب بن عبد مناف.(9/417)
بَنو عَبد الْعُزَّى بن قُصَيٍّ
وولد عَبْد العزى بن قصّي:
أسد بن عَبْد العزى،
وأمه ريطه، وهي الحظياء [1] بنت كعب بْن سَعْد بْن تيم بْن مرة، وهي التي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا [2] ، وكانت ورْهَاء [3] تَنقض ما تغزل.
فولد أسد بن عَبْد العزى:
خويلدًا: وأمّه زهرة بِنْت عَمْرو بْن حنثر من بَنِي كاهل بن أسد بن خزيمة، وإياها عني فضالة بن شريك الأسدي فِي قوله:
أقول لغلمتي أدنو ركابي ... أفارق بطن مكة فِي سواد
ومالي حِينَ أقطع ذَات عرق ... إِلَى ابْن الكاهلية من معاد
ونوفل بن أسد. وحبيب بن أسد، قتلا يوم الفجار الآخر، وصيفي بن أسد، درج، وأمهم خالدة بنت هاشم بن عَبْد مناف بن قصي، والحويرث وأمه ريطة بنت الحويرث الثقفي. وعمرو بن أسد، وهاشم بن
__________
[1] بهامش الأصل: الحظياء. بظاء معجمه.
[2] انظر سورة النحل الآية 92.
[3] الورهاء: الحمقاء التي ليس في عملها حذق. القاموس.(9/419)
أسد، ومهاشم بن أسد درجوا وأمهم ناهَية بنت سعيد بن سهم، وطالب بن أسد، وطويلب بن أسد، قتلا يوم الفجار، ولا عقب لَهما، وأمهما من الأوس، وخالد بن أسد لأم ولد، والمطلب بن أسد.
والحارث بن أسد لبرة بنت عوف بْن عُبَيْد بْن عويج بْن عدي بْن الحارث بن كعب.
فولد خويلد [بن أسد بن عَبْد العزي:]
العَوّام، وأمه من بني مازن بن منصور وحزامًا،
وخديجة بنت خويلد،
زوج النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونوفل بن خويلد، قتل يوم بدر كافرًا، وقتل حِزام يوم الفجار الآخر.
[العوام بن خويلد]
فمن بني خويلد بْن أسد بْن عَبْدِ العزى بْن قصي:
أبو عَبْد الله
الزبير بن العوّام بن أسد بن عَبْد العزى،
حواري رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي والسائب بن العوام، وأمه صفية، وبجير بن العوام، قتله سَعْد بن الدوسي بأبي أزيهر [1] ، لقيه باليمامة. وعبد الرَّحْمَن. وأسود. وأصرم وبعكك، وأمه من بني السباق.
فأمّا الزبير فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ قَالا: ثنا الواقدي عَنْ مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ قَالَ: كَانَ إِسْلامُ الزُّبَيْرِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، فَكَانَ رَابِعًا أَوْ خَامِسًا، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ إِلَى مَاذَا تَدْعُو؟ فَقَالَ: [ «أَدْعُوكَ إِلَى أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» ،] قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّه، وَأَنَّكَ رسول اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ شِئْتَ لَنُبَادِيَنَّهُمْ بِالإِسْلامِ وَلا نَسْتَسِرُّ بِهِ، فَإِنَّا عَلَى حَقٍّ وهم على
__________
[1] حول قضية أبي أزيهر، انظر نسب قريش للمصعب ص 323.(9/420)
بَاطِلٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا لَمْ نُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ» ، فَخَرَجَ الزُّبَيْرُ وَلَقِيَهُ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَهُوَ الْعَاصَ بْنَ هَاشِمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْن عبد العزى قال:
أفعلتها يا بن الْعَوَّامِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّا لا نُقِرُّكَ وَمَا تُرِيدُ مِنْ مُفَارَقَةِ دِينِ آبَائِنَا وَعَيْبِ آلِهَتِنَا. قَالَ الزُّبَيْرُ: اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ فَإِنَّمَا تَعْبُدُونَ حَجَرًا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ، وَلا يَنْفَعُ وَلا يَضُرُّ، قَالَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ: إِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بينهم فيما هم فيه يختلفون [1] .
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن مُصْعَبِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: شَهِدَ الزُّبَيْرُ بَدْرًا وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَقُتِلَ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعٍ وَسِتِّينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أُخْبِرْتُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ حَمَّادِ بْنِ أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَسْلَمَ الزُّبَيْرُ وَلَهُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَن غَزَاةٍ غَزَاهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [2] .
حَدَّثَنِي مُظَفَّرُ بْنُ مُرَجَّى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ بِنَحْوِهِ.
وَحَدَّثَنِي الوليد بْن صالِح وَمُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَة عَن عُرْوَة قَالَ: كنت ربما أخذت بالشعر الذي عَلَى منكبي الزبير، وأنا غلام، فتعلق به إلى ظهره.
وقال الواقدي: أَخْبَرَنِي غير واحد من آل الزبير أَنَّهُ كَانَ رجلا ليس بالقصير ولا الطويل، إلى الخفة ما هو في اللحم خفيف اللحية أسمر
__________
[1] سورة الزمر- الآية: 3.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 100- 102.(9/421)
اللون، أشعر لا يغير شيبه [1] .
وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبيه قال: قَاتَلَ الزُّبَيْرُ، وَهُوَ غُلامٌ بِمَكَّةَ، رَجُلا فَكَسَرَ يَدَهُ، وَضَرَبَهُ ضَرْبًا شَدِيدًا، فَمُرَّ بِالرَّجُلِ إِلَى صَفِيَّةَ وَهُوَ يُحْمَلُ، فَقَالَتْ: مَا شَأْنُهُ؟
قَالُوا: قَاتَلَ الزُّبَيْرَ فَقَالَتْ:
كَيْفَ رَأَيْتَ زَبْرًا ... أَأَقِطًا أَمْ تَمْرًا [2]
أَمْ مُشْمَعِلا صَقْرًا
وَكَانَتْ صَفِيَّةُ تَزْفِنُ الزُّبَيْرَ، وَهُوَ صَغِيرٌ، وَتَقُولُ:
إِنَّ ابْنِي الأَصْغَرَ جَبٌّ حَنْكَلٌ [3] ... أَخَافُ أَنْ يَعُقَّنِي وَيَبْخَلَ
يا رب أمتعني بِبَكْرِي الأَوَّل ... بِالْمَاجِدِ الْفَيَّاضِ وَالْمُؤَمَّلِ
حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَ هشام بن عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ صَفِيَّةَ كَانَتْ تَضْرِبُ الزُّبَيْرَ ضَرْبًا شَدِيدًا، وَهُوَ يَتِيمٌ، فَقِيلَ لَهَا: قَتَلْتِهِ، خَلَعْتِ فَؤَادَهُ، أَهْلَكْتِ هَذَا الْغُلامَ فَقَالَتْ:
إِنَّمَا أَضْرِبُهُ كَيْ يَلَبَّ ... وَيَجُرُّ الْجَيْشَ ذَا الْجلَب
قَالَ: فَكَسَرَ يَدَ غُلامٍ ذَاتَ يَوْمٍ فَجِيءَ بِالْغُلامِ إِلَيْهَا فَقَالَتْ:
كَيْفَ رَأَيْتَ زَبْرًا ... أَأَقِطًا أَمْ تَمْرًا
أَمْ مُشْمَعِلا صَقْرًا
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ ثنا عَمْرُو بْنُ عاصم الكلابي عن همام عن
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 107.
[2] في طبقات ابن سعد ج 3 ص 101 «أأقطا حسبته أم تمرا» والأقط: شيء يتخذ من المخيض الغنمي. القاموس.
[3] الحنكل: اللئيم والقصير، والجافي الغليظ، وحنكل في المشي: تثاقل وتباطأ. القاموس.(9/422)
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ عَلَى الزُّبَيْرِ رَيْطَةٌ قَدِ اعْتَجَرَ بِهَا يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَتْ صَفْرَاءَ، وَكَانَتْ عَلَى الْمَلائِكَةِ يَوْمَئِذٍ عَمَائِمُ صُفْرٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[ «نَزَلَتِ الْمَلائِكَةُ الْيَوْمَ عَلَى سِيمَاءِ الزبير» [1]] .
حدثنا اسحق بْنُ إِسْرَائِيلَ ثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ ثَنَا سُكَيْنُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ ثَنَا حَفْصُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ شَيْخٍ صَحِبَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، قَالَ: أَصَابَتِ الزُّبَيْرَ جَنَابَةٌ فِي أَرْضٍ قَفْرٍ، فَقَالَ لِي اسْتُرْنِي فَسَتَرْتُهُ، قَالَ: فَحَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ بِكَ آثَارًا مَا رَأَيْتُهَا بِأَحَدٍ قَطُّ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا مِنْهَا جِرَاحَةٌ إِلا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي سبيل الله.
حدثنا أبو يعقوب اسحق بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ ثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الأَسَدِيُّ عَنْ سَوَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ الزُّبَيْرَ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَشْتَكِي فَقَالَ: مَا أَكْثَرَ مَا تَعَمَّدَكَ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا تَرَكْتَ أَعْرَابِيَّتَكَ بَعْدُ» أَوْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: يَعْنِي فِي قَوْلِهِ «جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ» .
مُحَمَّدُ بْنُ سعيد [2] عَن الْوَاقِدِيِّ عَن ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: رَأَيْتُ طَلْحَةَ سَمَّى وَلَدَهُ بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ وَأَنَا أُسَمِّي بَنِيَّ بِأَسْمَاءِ الشُّهَدَاءِ لَعَلَّهُمْ يُسْتَشْهَدُونَ، فَسَمَّى عَبْدَ اللَّهِ: بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ، وَالْمُنْذِرَ: بِالْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ خُنَيْسٍ، وَعُرْوَةَ: بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيِّ، وَحَمْزَةَ: بِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَجَعْفَرًا: بِجَعْفَرِ بْنِ أَبِي طالب، ومصعب: بِمُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَعُبَيْدَةَ: بِعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ، وخالدا:
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 103.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 101.(9/423)
بِخَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ، وَعَمْرًا: بِعَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ قُتِلَ يَوْمَ الْيَرْمُوكِ.
حَدَّثَنِي يَحْيَى بن معين ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أنبأ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ حَرِيرٍ.
حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ ثَنَا يَزِيدُ بن هرون عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: سَمِعَ ابْنُ عُمَرَ رَجُلا يَقُولُ: أَنَا ابْنُ حَوَارِيِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنْ كُنْتَ مِنْ وَلَدِ الزُّبَيْرِ وَإِلا فَلا [1] .
حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُقْرِئُ، ثَنَا الْمُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ- أخو بهز بن أسد- مُحَمَّدُ بْنُ حُمْرَانَ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ الأَنْمَارِيِّ قَالَ:
كَانَ الزُّبَيْرُ عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الْيُسْرَى، وَالْمِقْدَادُ عَلَى الْمُجَنَّبَةِ الْيُمْنَى يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَلَمَّا هَدَأَ النَّاسُ جَاءَا بِفَرَسَيْهِمَا، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ الْغُبَارَ عَنْ وُجُوهِهِمَا بِثَوْبِهِ وَقَالَ: [ «إِنِّي جَعَلْتُ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، وَلِلْفَارِسِ سَهْمًا فَمَنْ نَقَصَهُمَا نَقَصَهُ اللَّهُ] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ ثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ ابْنُ عَمَّتِي» ] .
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قالا: ثنا أبو نعيم الفضل بن دكين ثنا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأَحْزَابِ: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ» ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ» [2]] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ أنبا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ أنبا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عن أبيه
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 106.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 104.(9/424)
أَنَّ الزُّبَيْرَ مَحَا نَفْسَهُ مِنَ الدِّيوَانِ لَمَّا قُتِلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ ثنا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بن دكين ثَنَا حَفْصٌ أَبُو غِيَاثٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ الزُّبَيْرَ جَعَلَ دَارًا لَهُ حَبِيسًا عَلَى كُلِّ مَرْدُودَةٍ مِنْ بَنَاتِهِ [1] .
حَدَّثَنَا عَفَّانُ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: فَدَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْر يَوْمَ الأَحْزَابِ بِأَبَوَيْهِ.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقَالَ: يَا بُنَيَّ إِنَّه لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لأَرَانِي إِلا مِمَّا قُتِلَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ أَكْبَرَ هَمِّي دَيْنِي، أَفَتَرَى دَيْنَنَا يُبْقِي مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟ ثُمَّ قَالَ: يَا بُنَيَّ بِعْ مَالِي وَاقْضِ دَيْنِي، قَالَ: وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَقَالَ: إِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثَلِّثْهُ لِوَلَدِكَ، وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ أُرِيَ [2] بَعْضُ بَنِي الزُّبَيْرِ: خُبَيْبٌ، وَعَبَّادٌ، وَقَالَ: إِنْ عَجَزْتَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ دَيْنِي فَاسْتَعِنْ بِمَوْلايَ- يَعْنِي اللَّهَ تَبَارَكَ وتعالى- قال: فو الله مَا دَرَيْتُ مَا عَنَى حَتَّى أَخْبَرَنِي بِهِ، فَمَا وَقَعْتُ مِنْ دَيْنِهِ فِي كُرْبَةٍ إِلا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ أَقْضِ عَنْهُ فَيَقْضِيَهُ، قَالَ: وَقُتِلَ الزُّبَيْرُ وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا إِلا أَرْضَيْنِ مِنْهَا الْغَابَةَ [3] ، وَأَحَدَ عَشَرَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ، وَدَارًا بِمِصْرَ، وَدَارًا بِالْكُوفَةِ، وَدَارًا بالبصرة، قال: وما ولي
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 105- 107.
[2] بهامش الأصل: «أرى أي وغر صدره» . وفي القاموس: إرى: انضم وألف والتصق.
[3] الغابة: بجوار أحد خارج المدينة المنورة.(9/425)
الزُّبَيْرُ إِمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايَةً وَلا خَرَاجًا وَلا شَيْئًا إِلا أَنْ يَكُونَ فِي غَزَاةٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ، أَوْ مَعَ عُمَرَ، أَوْ مَعَ عُثْمَانَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنَ الدَّيْنِ، وَإِنَّمَا كَانَ الرَّجُلُ يَسْتَوْدِعُهُ الْمَالَ فَيَقُولُ لَهُ الزُّبَيْرُ: هُوَ سَلَفٌ عَلَيْنَا إِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ، قَالَ: فَلَقِيَنِي حَكِيمُ بن حزام فقال: يا بن أَخِي كَمْ عَلَى أَخِي مِنَ الدَّيْنِ؟ قُلْتُ: مِائَةُ أَلْفٍ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى أَمْوَالَكُمْ تَتَّسِعُ لِهَذَا، قُلْتُ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: مَا أَرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ فَاسْتَعِينُوا بِي، قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ فَبِيعَتْ بألف ألف وستمائة أَلْفٍ. قَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ، قَالَ: فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ لَهُ على الزبير أربعمائة ألف، فقال لعبد الله: إن شتم تَرَكْتَهَا لَكُمْ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لا، فَقَالَ قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا يُؤَخَّرُ إِنْ أَخَّرْتُمْ شَيْئًا؟ قَالَ عَبْدُ اللَّه: لا، قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا، قَالَ: فَبَاعَ ذَلِكَ بِدَيْنِهِ فَاسْتَوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ فباعها بأربعمائة أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَكَانَ مَا بِيعَ قَبْلَ ذلك بتمام ألف ألف وستمائة أَلْفٍ، فَلَمَّا قَضَى دَيْنَ أَبِيهِ قَالَ وَلَدُ الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا فَقَالَ: لا وَاللَّهِ أَوْ أُنَادِي بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا نَقْضِهِ، فَنَادَى أَرْبَعَ سِنِينَ ثُمَّ قَسَمَ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ فَرَفَعَ الثُّلُثَ، وَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَصَابَ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْ ثَمَنِ عَقَارَاتِهِ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَةَ أَلْفٍ، فَكَانَ الثُّمُنُ: أَرْبَعَةَ آلافِ أَلْفٍ وأربعمائة أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَكَانَ ثُلُثَا الْمَالِ الَّذِي اقْتَسَمَهُ الْوَرَثَةُ خَمْسَةً وَثَلاثِينَ أَلْفِ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح الْمُقْرِئ قَالَ: سمعت سُفْيَان بن عُيَيْنَة(9/426)
يقول: اقتسم ميراث الزبير عَلَى أربعين ألف ألف درهم.
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن ابن أبي سبرة عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قيمة ما ترك الزبير أحد وخمسون أو اثنان وخمسون ألف ألف درهم.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ حَدَّثَنِي أَبُو حَمْزَةَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَتْ لِلزُّبَيْرِ خِطَطٌ بِمِصْرَ، وَالإِسْكَنْدَرِيَّةِ، وَبِالْكُوفَةِ، وَالْبَصْرَةِ دُورٌ، وَكَانَتْ لَهُ غَلاتٌ تَأْتِيهِ مِنْ أَعْرَاضِ الْمَدِينَةِ [1] .
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزُّبَيْرَ فِي شِرَاجِ [2] الْحَرَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ، ثُمَّ أرسل إلى جارك» .
حدثنا خلف البراز عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَقْطَعَ عُمَرُ خَوَّاتَ بْنَ جُبَيْرٍ الأَنْصَارِيَّ أَرْضًا مَوَاتًا، فَاشْتَرَيْنَاهَا مِنْهُ.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَقْطَعَ أَبُو بَكْرٍ الزُّبَيْرَ مَا بَيْنَ الْجُرْفِ إِلَى قَنَاةٍ [3] .
وَحَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ ثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ أنبا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ بَنِي النَّضِيرِ ذَاتَ نَخْلٍ وَشَجَرٍ.
وَرُوِيَ أَنَّ عمر اقطع الزبير العقيق أجمع.
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 109- 110.
[2] الشرجة مسيل الماء من الحرة إلى السهل، والشراج جمعها. النهاية لابن الأثير. الخراج ليحيى بن آدم ص 106- 107.
[3] الخراج ليحيى بن آدم ص 77.(9/427)
الْمَدَائِنِي عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ جُوَيْرِيَةَ قَالَ: أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزبير حضر [1] فرسه فركض حتى أعيى فَرَسَهُ، ثُمَّ رَمَى بِالسَّوْطِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ ثَنَا أَبُو أُسَامَةَ أَنْبَأَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أبي بكر قالت: تزوجني الزبير وماله فِي الأَرْضِ مَالٌ وَلا مَمْلُوكٌ وَلا شَيْءٌ غَيْرَ فَرَسِهِ، فَكُنْتُ أَعْلِفُهُ وَأَكْفِيهِ مُؤْنَتَهُ وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ [2] ، وَأَعْجِنُ، وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ الْخَبْزَ فَكُنَّ جَارَاتِي مِنَ الأَنْصَارِ يَخْبِزْنَ لِي، وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَأْسِي وَهِيَ عَلَى ثَلاثَةِ فَرَاسِخَ، قَالَتْ: فَجِئْتُ يَوْمًا وَعَلَى رَأْسِي نَوًى فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَدَعَانِي ثُمَّ قَالَ: إِخْ إِخْ لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ، قَالَتْ، فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسِيرَ مَعَ الرِّجَالِ، وَذَكَرْتُ الزُّبَيْرَ وَغَيْرَتَهُ، قَالَتْ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَغْيَرَ النَّاسِ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي قَدِ اسْتَحْيَيْتُ فَمَضَى، فَأَخْبَرْتُ الزُّبَيْر بِمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِاسْتِحْيَائِي مِنْهُ، وَقُلْتُ: عَرَفْتُ غَيْرَتَكَ، فَقَالَ: أَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارُ، وَاللَّهِ لَحَمْلُكِ النَّوَى كَانَ أَشَدَّ عَلَيَّ مِنْ رُكُوبِكَ مَعَهُ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَ ذَلِكَ بِخَادِمٍ فَكَفَتْنِي سِيَاسَةُ الْفَرَسِ، فَكَأَنَّمَا أَعْتَقَنِي.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ثَنَا عُبَيْدُ بْنُ مُوسَى أنبا الْفُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ حَدَّثَنِي شَقِيقِ بْنِ عُقْبَةَ عَنْ قُرَّةَ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَوْنِ بْنِ قَتَادَةَ.
قَالَ قُرَّةُ بْنُ الْحَارِثِ: كُنْتُ مَعَ الأَحْنَفِ يَوْمَ الْجَمَلِ وَكَانَ جَوْنُ بْنُ قَتَادَةَ ابْنَ عَمِّي مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ فَحَدَّثَنِي جَوْنٌ قَالَ: كُنْتُ مع الزبير فجاء
__________
[1] الحضر: ارتفاع الفرس في عدوه. القاموس.
[2] الغرب: الراوية، والدلو العظيمة. القاموس.(9/428)
فَارِسٌ، وَكَانُوا لا يُسَلِّمُونَ عَلَى الزُّبَيْرِ إِلا بِالإِمْرَةِ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، قَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمُ قَدْ أَتَوْا إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، فَلَمْ أَرَ قَوْمًا أَرَثَّ سِلاحًا، وَلا أَقَلَّ عَدَدًا، وَلا أَرْعَبَ قُلُوبًا مِنْهُمْ، ثُمَّ انْصَرَفَ، وَجَاءَ فَارِسٌ آخَرُ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، قَالَ: جَاءَ الْقَوْمُ حَتَّى أَتَوْا مَكَانِ كَذَا فَسَمِعُوا بِمَا جَمَعَ اللَّهُ لَكُمْ مِنَ الْعَدَدِ وَالْعُدَّةِ وَالْحَدِّ فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ:
إِيهًا عنك الآن، فو الله لَوْ لَمْ يَجِدِ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلا الْعَرْفَجَ لَدَبَّ إِلَيْنَا فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَجَاءَ فَارِسٌ وَقَدْ كَادَتِ الْخُيُولُ تَرِخُّ مِنَ الرَّهْجِ [1] فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، قَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، قَالَ: هَؤُلاءِ الْقَوْمُ قَدْ أَتَوْكَ، وَلَقِيتُ عَمَّارًا فَقُلْتُ لَهُ وَقَالَ لِي، قَالَ الزُّبَيْرُ: إِنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ، قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ إِنَّهُ لَفِيهِمْ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِمْ، قَالَ: بَلَى وَاللَّهِ لَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ فِيهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا رَأَى الرَّجُلَ يُخَالِفُهُ، قَالَ لِبَعْضِ أَهْلِهِ: ارْكَبْ فَانْظُرْ أَحَقًّا مَا يَقُولُ؟ فَرَكِبَ مَعَهُ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِمَا حَتَّى وَقَفَا فِي نَاحِيَةِ الْخَيْلِ طَوِيلا ثُمَّ رَجَعَا إِلَيْنَا، فَقَالَ الزُّبَيْرُ لِصَاحِبِهِ: مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: صَدَقَكَ الرَّجُلُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: يَا جَدْعَ أَنْفَاهُ، أَوْ يَا قَطْعُ ظَهْرَاهُ، قَالَ الْفُضَيْلُ: لا أَدْرِي أَيَّهُمَا قَالَ، قَالَ: ثُمَّ أَخَذَهُ أَفْكَلٌ [2] حَتَّى جَعَلَ السِّلاحُ يَنْتَفِضُ، قَالَ جَوْنٌ: فَقُلْتُ: ثَكِلَتْنِي أُمِّي، هَذَا الَّذِي كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أَمُوتَ مَعَهُ، أَوْ أَعِيشَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَرَى هَذَا إِلا مِنْ شَيْءٍ سَمِعَهُ، أَوْ رَوَاهُ، وَهُوَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَلَمَّا تَشَاغَلَ النَّاسُ انْصَرَفَ فَجَلَسَ عَلَى دَابَّتِهِ ثم ذهب، قال:
__________
[1] الرهج: الغبار. النهاية لابن الأثير، ترخ: تصب بالإنهاك. العين، القاموس.
[2] بهامش الأصل: أفكل: الرعدة.(9/429)
فَانْصَرَفَ جَوْنٌ فَجَلَسَ عَلَى دَابَّتِهِ فَلَحِقَ بِالأَحْنَفِ وَجَاءَ فَارِسَانِ حَتَّى أَتَيَا الأَحْنَفَ وَأَصْحَابَهُ فَنَزَلا فَأَكَبَّا يُنَاجِيَانِهِ، فَرَفَعَ الأَحْنَفُ رَأْسَهُ فَقَالَ:
يَا عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ، يَا فُلانٌ فَأَتَيَاهُ، فَأَكَبَّا عَلَيْهِ فَنَاجَاهُمَا سَاعَةً، ثُمَّ انْصَرَفَا ثُمَّ جَاءَ عَمْرُو بْنُ جُرْمُوزٍ إِلَى الأَحْنَفِ، فَقَالَ: أَدْرَكَتْهُ بَوَادِي السِّبَاعِ فَقَتَلَتْهُ، فَكَانَ قُرَّةُ يَقُولُ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ صَاحِبُ الزُّبَيْرِ الأَحْنَفَ.
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْرَائِيلَ ثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَزْدِيُّ أنبا ابْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ يَقُولُ:
سَمِعْتُ الزُّبَيْرَ يَقُولُ: أَنَا وَاللَّهِ أَقْرَعْتُ لِمِائَةٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ سُهْمَانَ بدر، فأسهمت لهم.
حدثنا اسحق بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ ثَنَا رِفَاعَةُ بْنُ إِيَاسٍ أَبُو الْعَلاءِ الضَّبِّيُّ حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَلِيًّا دَعَا الزُّبَيْرَ فَقَالَ: أَنْتَ آمِنٌ ابْرُزْ إِلَيَّ أُكَلِّمُكَ، فَبَرَزَ لَهُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ دَابَّتَيْهِمَا فَقَالَ: يَا زُبَيْرُ أَنْشُدُكَ اللَّهَ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، أَخَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ يَمْشِي وَخَرَجْنَا مَعَهُ أَنَا وَأَنْتَ فَقَالَ لَكَ:
[يَا زُبَيْرُ لَتُقَاتِلَنَّهُ ظَالِمًا،] وَضَرَبَ كَتِفَكَ؟ فَقَالَ: اللَّهُمَّ نَعَمْ، قَالَ: أَفَجِئْتَ تُقَاتِلُنِي؟ فَرَجَعَ عَن قِتَالِهِ وَسَارَ مِنَ الْبَصْرَةِ لَيْلَةً فَنَزَلَ بِمَاءٍ لِبَنِي مُجَاشِعٍ، فَلَحِقَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ثُمَّ مِنْ بَنِي سَعْدٍ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ جُرْمُوزٍ فَقَتَلَهُ، وَجَاءَ بِسَيْفِهِ إِلَى عَلِيٍّ فَقَالَ: [بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ] .
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى الأَشْيَبُ حَدَّثَنِي ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ هِلالٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ أَتَى الزبير فقال: يا بن صَفِيَّةَ بِنْتِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ جِئْتَ تُقَاتِلُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟(9/430)
قَالَ: فَرَجَعَ الزُّبَيْرُ فَلَقِيَهُ ابْنُ جُرْمُوزٍ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِعَلِيٍّ: إِنِّي رَأَيْتُ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ فَقَالَ: [إِلَى النَّارِ، إِلَى النَّارِ] .
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ رَجُلٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَقِيَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ فَدَعَوَاهُ إِلَى بَيْعَتِهِمَا عَلَى الطَّلَبِ بِدَمِ عُثْمَانَ وَمُخَالَفَةِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: أَنْتُمَا أمر تماني بِبَيْعَتِهِ؟
فَقَالا: أُفٍّ لَكَ إِنَّمَا أَنْتَ فَرِيسَةُ آكِلٍ وَتَابِعُ غَالِبٍ، فَتَرَكَهُمَا وَمَضَى.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بن أبان الواسطي ثَنَا جرير عَن الْحَسَن أَنَّهُ ذكر الزبير فقال: عجبًا للزبير أخذ بحقوي أعرابي من بني مجاشع: أجرني، أجرني، حَتَّى قتل، أما والله لقد كنت فِي ذمة منيعة.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنِي أَبُو حَكِيمٍ الْعَدَنِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا اقْتَتَلُوا يَوْمَ الْجَمَلِ فَكَانَتِ الدَّبْرَةُ عَلَى أَصْحَابِ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ، أَفْضَى عَلِيٌّ إِلَى النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا أَصْحَابُ الزُّبَيْرِ، فَلَمَّا رَآهُ وَاجَهَهُ قَالَ لَهُ عَلِيٌّ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَتُقَاتِلُنِي، وَقَدْ عَرَفْتَ مَا أَعْطَيْتَنِي مِنْ بَيْعَتِكَ، وَمَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَانْسَلَّ عَلَى فَرَسِهِ مُنْصَرِفًا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا صَارَ بِسَفَوَانَ [1] لَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مُجَاشِعٍ يُقَالُ لَهُ النعرُ بْنُ زمامٍ فَقَالَ لَهُ:
أَجِرْنِي، فَقَالَ النعرُ: أَنْتَ فِي جِوَارِي يَا حَوَارِيَّ رَسُولِ اللَّهِ، فَقَالَ الأحنف: وا عجبا لِلزُّبَيْرِ لَفَّ غَارَيْنِ [2] مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ قَدْ نَجَا بِنَفْسِهِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ ابْنُ جُرْمُوزٍ، فَاتَّبَعَهُ وَأَصْحَابُهُ فَقَتَلَهُ، وَأَخَذَ رَأْسَهُ فَأَتَى بِهِ عَلِيًّا، فَبَعَثَ عَلِيٌّ مَنْ دَفَنَهُ مَعَ بَدَنِهِ بِوَادِي السباع.
__________
[1] سفوان ماء على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة. معجم البلدان.
[2] الغار: الجمع الكثير من الناس. القاموس.(9/431)
حَدَّثَنِي روح بْن عَبْد المؤمن الْمُقْرِئ حَدَّثَنِي أبو عَامِر العقدي عَن الأسود بن شيبان عَن خالد بن سمير قَالَ: قتل الزبير عَمْرو بن جرموز، فقبر بوادي السباع.
حَدَّثَنِي عمرو النَّاقِدُ ثنا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ ثَنَا عِمْرَانُ بْنُ زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي خَالِدٍ الْوَالِبِيِّ قَالَ: دَعَا الأَحْنَفُ بَنِي تَمِيمٍ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، ثُمَّ دَعَا بَنِي سَعْدٍ فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَاعْتَزَلَ فِي رَهْطٍ فَمَرَّ الزُّبَيْرُ عَلَى فَرَسٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ ذُو النِّعَالِ، فَقَالَ الأَحْنَفُ: هَذَا الَّذِي أَلَبَ بَيْنَ النَّاسِ، قَالَ: فَاتَّبَعَهُ رَجُلانِ مِمَّنْ كَانَ مَعَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ أَحَدُهُمَا فَطَعَنَهُ، وَحَمَلَ عَلَيْهِ الآخَرُ فَقَتَلَهُ، وَجَاءَ بِرَأْسِهِ إِلَى بَابِ عَلِيٍّ، فَقَالَ: [بَشِّرْ قَاتِلَ ابْنِ صَفِيَّةَ بِالنَّارِ،] فَأَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ وَذَهَبَ.
حَدَّثَنِي عَمْرٌو ثَنَا قَبِيصَةُ ثَنَا سُفْيَانُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
قَالَ عَلِيٌّ: [إِنِّي لأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ:
أخوانا على سرر متقابلين] [1] .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ ثنا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ ثَنَا الأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ عَنْ خَالِدِ بْنِ سُمَيْرٍ قَالَ: قَالَ النَّاسُ: بَايِعُوا الزُّبَيْرَ عَلَى الْخِلافَةِ فَلَمَّا سَمِعَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ قَالَتْ: لا تُبَايِعُوا الزُّبَيْرَ عَلَى الْخِلافَةِ، وَلَكِنْ بَايِعُوهُ عَلَى الْقِتَالِ، فَإِنْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ فَسَتَرَوْنُ رَأْيَكُمْ، قَالَ: فَوَثَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَا زُبَيْرُ أَتَدْرِي مَا تُرِيدُ هَذِهِ؟ تُرِيدُ أَنْ تَجْعَلَ حَارَّ النَّاسِ بِكَ وَبَارِدَهُ لابْنِ عَمِّهَا طَلْحَةَ، اقْعُدْ عَلَى نَجَائِبِكَ ثُمَّ ارم بها مكة حتى تقلع سيوف
__________
[1] سورة الحجر- الآية: 47.(9/432)
العرب وقد أفنيت سراتها ووجوها فَتَرْكَبُ إِلَيْكَ سُعَاتُهَا، قَالَ: فَرَكِبَ الزُّبَيْرُ فَأَصَابَهُ أَخُو بَنِي تَمِيمٍ بِوَادِي السِّبَاعِ.
وقال أصحاب السيرة: لَمّا كَانَ يوم الجمل وهو يوم الخميس لعشر ليالي خلونَ من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين بعد القتال، انصرفَ الزبير يريد المدينة، فلقيه النعر بن زمّام المجاشعي فقال: يا حواري رسول الله إليّ فأنتَ فِي ذمتي، وبلغ الأحنف ذلك فقال: مَا أَصْنَعُ إِنْ كَانَ الزُّبَيْرُ لَفَّ بَيْنَ غارين من المسلمين فقتل أحدهما الآخر، ثُمَّ هو يريد اللحاق بأهله، فاتبعه عَمْرو بن جرموز بن قيس، أحد بني جشم بن ربيعة بْن كعب بْن سعد بْن زَيْد مناة بن تَميم، وفضيل بن عابس، ونفيل بن حابس التميميون، فلحقه ابن جرموز فطعنه، فحمل عليه الزبير، فلما ظن أَنَّهُ قاتله دعا صاحبيه وقال: الله الله يا زبير فأمسكَ الزبير، فحملا عليه وابن جرموز معهم فقتلوه، واحترز ابن جرموز رأسه، وأخذوا سيفه، فلما أتي به عَليّ قَالَ:
سيف طال ما جلى به عَن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الكرب، ولكنه الحين ومصارع السوء، فذلك قول جرير للفرزدق:
قتل الزُّبَيْر وأنتم جيرانه ... غيًا لِمن قتل الزبير طويلا [1]
قَالَت عَاتِكَةَ بِنْتِ زَيْدِ بْن عَمْرو بْن نُفيل امرأة الزبير، وهي التي كَانَ أهل المدينة يقولون: من أراد الشهادة فليتزوجها، وذلك أنها كانت عِنْد عَبْد الله بن أبي بكر، ثُمَّ عِنْد عُمَر بن الخطاب، ثُمَّ عِنْد الزُّبَيْر.
غدر ابْن جرموز بفارس بُهْمَةٍ ... يوم اللقاء وَكَانَ غير معرّد
يَا عَمْرو لو نبهته لوجدته ... لا طائشًا رعش السّنان ولا اليد
__________
[1] ديوان جرير ص 365 مع فوارق.(9/433)
شلت يمينك أن قتلت لمسلمًا ... حلت عليك عقوبة المتعمد
ثكلتك أمك هل أخرت بمثله ... فيمن مضى فيما تروح وتغتدي
كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عنها طرادك يا بن فقع الفدفد
وغزا الزبير مصر فصعد سور النوبة وحده، فقاتل عليه، فكان فتحها بصعوده.
وأمّا السائبَ بن العوام أخو الزبير
فإن أباهُ مات قبل المبعث، وقال بَعْضهم: قتل فِي الجاهلية، والسائب يرضع وكان السائب حين أسلمَ الزبير صغيرًا، استشهد يوم اليمامة فِي أيام أبي بكر.
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ ثَنَا حَمَّادُ بن سلمة عَن هشام بن عروة عَن أبيه فِي حديث طويل قَالَ: التقى المسلمونَ والمشركونَ باليمامة فَوَلّى المسلمونَ مدبرينَ حَتَّى بلغوا الرحال، فقال السائبُ بن العَوّام: أيُّها الناس إنّكم قد بلغتم الرحال لا مفرّ لامرئ بعد رحله، فهزم اللَّه المشركين، وقتل مسيلمة.
وقال أبو اليقظان البصري: كَانَ للعوام ابن يُقالُ له الأسود، وكان أكبر ولد العوام، وأمه من بني عَبْد الدار، فلما أسلمَ الزبير قيده واشتد عليه، ولا عقب له. قَالَ وكان له: أصرم وبعكك، أمهما من بني السباق بن عَبْد الدار درجا.
قالوا جَميعًا: كَانَ الزبير والسائب لصفية بنت عَبْد المطلب، خلف عليها العوام بعد الحارث بن حرب بن أمية بن عَبْد شمس.
وأمّا بجير بن العوام فقتل بأبي أزيهر باليمامة.(9/434)
وأمّا عَبْد الرَّحْمَن بن العوام
فاستشهد فِي أيام عُمَر فِي بعض المغازي، وقتل ابنه مع عُثْمَان يوم الدار.
وولد للزبير:
عَبْد الله بن الزبير وهو أول مولود فِي الإسلام بالمدينة من قريش، فكبر المسلمونَ حين بشروا به، وكان المشركونَ يقولونَ قد انقطعَ نسلهم.
وعروة والمنذر. وعاصم. والمهاجر. وخديجة الكبرى. وأم الحسن. وعائشة. أمهم أسماء بنت أبي بكر الصديق.
وخالد وعمرو. وحبيبة. وسودة وهند، أمهم أم خالد، وهي أمة بنت خَالِد بْن سَعِيد بْن العاص بْن أمية.
ومصعب. وحمزة. ورملة، أمهم الرباب بنت أنيف بن عبيد من بني عليم من كلب.
وعبيدة بن الزبير، وجعفر، أمهما زينب، وهي أم جعفر بنت مرثد بن عَمْرو من بَنِي قَيْس بْن ثعلبة بْن عكابة.
وزينب بنت الزبير، أمها أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ.
وخديجة الصغرى أمها الحلال بنت قيس من بني النضير بْن قعين بْن الحارث بْن ثعلبة بْن دودان بْن أسد.
حَدَّثَنِي الحرمازي عَن العتبي قَالَ: قَالَ بعضُ حشم زينب بنت الزبير لزينب: أهزل ما تكونين إِذَا قدم زوجك؟ فقالت: إن الحرة لا تضاجعُ زوجها بملء بطنها، وكانت عِنْد عنبسة بن أبي سُفْيَان.
قَالَ: وخطبَ عَبْد الملك رمْلة بنت الزبير، فقالت: إني لا آمن نفسي سوء ظن من قتل أخي، وكانت أخت مصعب لأمه.(9/435)
وَحَدَّثَنِي التوزي عَن أبي عبيدة قَالَ: قدمت ابنة للزبير مكة حاجَّة فخطبها رجل من بني أمية قد كانت أمها وأمه قبل ذلك عِنْد رجل من قريش فأبت وقالت: أأباه لِخصال ثلاث: لأني أكره أن أرجع إلى أرض هاجر منها أبي، ولأني قدمت حاجة عَلَى ظهر بعير ثُمَّ أتزوج، وأن أكون كنَّةً لِمن كانت لأمي ضرَّة.
قالوا: وأسلم مع الزبير حاطب بن أبي بلتعة اللخمي، ثُمَّ أحد بني خالفة بن أذب بن جزبلة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى «بني خالفة» حين وفدوا «بني راشدة» وكانت كنية حاطب أبا مُحَمَّد، وهو حليف الزبير، وقد شهد: يوم بدر، وأحد، والخندق والمشاهد كلها، وكان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرسله إلى المقوقس بالإسكندرية.
حَدَّثَنِي محمد بن حاتم بن ميمون المروزي ثنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ أنبأ حُصَيْنٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالزُّبَيْرَ، وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ لَنَا:
[ «انْطَلِقُوا حَتَّى تَبْلُغُوا رَوْضَةَ خَاخٍ [1] فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مَعَهَا صَحِيفَةٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فَأْتُونِي بِهَا،] قَالَ: فَأَدْرَكْنَاهَا حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْنَا: أَيْنَ الْكِتَابُ؟ قَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَأَنَخْنَا بَعِيرَهَا، وَفَتَحْنَا رَحْلَهَا فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا [2] وَعَلَيْهَا إِزَارٌ مِنْ صُوفٍ فَأَخْرَجَتِ الْكِتَابَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاطِبٍ: «مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ» ؟ فَقَالَ:
يَا رَسُول اللَّه مَا بِي أَلا أَكُونَ مُؤْمِنًا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنِّي أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي يد
__________
[1] موضع بين الحرمين، بقرب حمراء الأسد، من المدينة. المغانم المطابة.
[2] الحجزة: معقد الإزار، ومن السراويل موضع التكة. القاموس.(9/436)
عِنْدَ الْقَوْمِ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَمَّنْ بَيْنَ ظَهْرَيْهِمْ مِنْ أَهْلِي وَمَالِي، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِكَ أَحَدٌ إِلا وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَذُبُّ عَنْ مَالِهِ وَأَهْلِهِ سِوَايَ، فَقَالَ: «صَدَقَ وَلا تَقُولُوا لَهُ إِلا خَيْرًا» فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأْذَنْ لِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: [ «أو ليس هُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ، وَمَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّه قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ أوجبتُ لَكَم الْجَنَّةَ» ،] فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعلم، فنزلت: يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تلقون إليهم بالمودّة [1] .
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ بَهْرَامَ ثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ ثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّحَّانُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ: «إِنَّ مُحَمَّدًا سَائِرٌ إِلَيْكُمْ» ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوًا مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلٍ.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ أنبا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ قَالَ: كَتَبَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ مَعَ امْرَأَةٍ يُقالُ لَهَا سَارَّةُ- قَالَ الْكَلْبِيُّ: مَوْلاةُ عَمْرَو بْنِ هَاشِمٍ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ مَوْلاةُ قُرَيْشٍ- فَوَجَّهَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِهَا فَوُجِدَتْ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ وَقَدْ جَعَلَتْ كِتَابَ حاطب في عقصتها، فأخذ منها فنزلت: يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تلقون إليهم بالمودة.
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ ثَنَا شَبَابَةُ أنبأ لَيْثٌ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عَبْدًا لِحَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ جاء يشكوه فقال: ليدخلن حاطب النار
__________
[1] سورة الممتحنة- الآية: 1.(9/437)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «كَذَبْتَ لا يَدْخُلُهَا لأَنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا» ] .
قالوا: وانصرفت سارة إلى مكة مرتدة فقتلها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فتح مكة.
قَالَ الواقدي: كَانَ حاطب من الرّماة المذكورين من أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومات بالمدينة سنة ثلاثين، وهو ابن خمس وستين، وصلى عليه عُثْمَان.
قَالَ الواقدي: وَحَدَّثَنِي شيخٌ من ولد حاطب عن أبيه قالوا: كَانَ حاطب رجلا حسن الجسم، خفيف اللحية أجلى [1] ، إلى القصر ما هو، شثن الأصابع.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: تَرَكَ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ يَوْمَ مَاتَ أَرْبَعَةَ آلافِ دِينَارٍ وَدَرَاهِمَ وَدَارًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَانَ تَاجِرًا يَبِيعُ الطَّعَامَ وَغَيْرَهُ. قَالُوا: وَأَسْلَمَ سَعْدٌ مَوْلَى حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وَهُوَ سَعْدُ بْنُ خَوْلِيِّ بْنِ سَبْرَةَ بْنِ دُرَيْمِ بْنِ الْقوسَارِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ عُمَيْرَةَ بْنِ عَامِرِ بْنِ بَكْرِ بْن عَوْفِ بْن عُذْرَةَ بْن زَيْدِ اللاتِ بْن رُفَيْدَةَ بْن ثَوْرِ بْن كَلْبِ بْن وَبَرَةَ بْنِ قُضَاعَةَ، وَكَانَ أَصْلُهُ سِبَاءً، فَصَارَ إِلَى حَاطِبٍ فَأَنْعَمَ عَلَيْهِ وَشَهِدَ بَدْرًا، وَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ شَهِيدًا، وَفَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدٍ فِي الأَنْصَارِ.
قَالَ ابن الكلبي وَفِي امرأة من ولد القوسار يَقُول أيمن بْن خريم بْن فاتك الأسدي:
__________
[1] أي كان منحسر مقدم الشعر، أو نصف الرأس. القاموس.(9/438)
إن ابنة القوسار يا صاح دلني ... عليها قضاعي يحث جماليا
فأعطيت خولّي بن فروة ما اشتهى ... من المشمخرات الذرا والروابيا [1]
والقضاعي خولي بن فروة.
قَالَ: وخولي بن فروة بن القوسار دله عليها فروة بن القوسار هذا رجل من بني عميرة أيضًا.
وقال قومٌ: هو سَعْد بن خولي بن فروة بن القوسار، وذلك وهم.
وقال أبو معشر: هو من مذحج وذلك وهم. قالوا: وليس لسعد عقب.
قَالَ أبو اليقظان: كَانَ الزبير، حواري رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واحدًا ممن سمي للجنة، وقتل وهو ابن ستين سنة.
قَالَ: وتزوج رملة بنت الزبير عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حزام، ثُمَّ خلفَ عليها خالد بن يزيد بن معاوية وقد ذكرت قصتها وشعره فيها فيما مضى من كتابنا هذا.
وكانت خديجة بنت الزبير عِنْد أبي يسار بن شيبة بن ربيعة.
وكانت عائشة عِنْد الوليد بن عُثْمَان بن عَفَّان.
وكانت أم الْحَسَن بنت الزبير عِنْد عَبْد الرَّحْمَن بن الحارث بن هشام، وكانت إحدى بناته عِنْد عنبسة بن أبي سُفْيَان، وكانت أخرى من بناته عِنْد عَبْد الرَّحْمَن بن الأَسْوَدِ بن أبي البختري من ولد أسد بن عَبْد العزى.
وأمّا جعفر بن الزبير فكان من فتيان قريش وكان يتغزل وهو القائل:
ولِمجلس القرشي حق واجب ... فارعى له حق الكريم الأروع
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 114- 115.(9/439)
ما تأمرينَ بجعفر وبحاجة ... يستامها فِي خلوة وتضرع
ولِجعفر عقب بالمدينة.
وأمَّا: عبيدة بن الزبير وله عقب، ومن وَلده أبو بكر بن عبيدة، وكان له ابن معتوه يُقال له عَبْد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فكان خاله المغيرة بن عَبْد الرَّحْمَن بن هشام يقوم لشأنه، وكان لا يطعم شيئًا إلا رمى به، ولا يكسى ثوبًا إلا خرقه، فكان المغيرة قد اتخذ فِي منزل المعتوه كوى يَجعل فيها ألوان ما يؤكل من خبز ولَحم وفاكهة، وتَجعل الثياب عَلَى معاليق فيأكل المعتوه ويلبس، وهو الذي قالَ لعمرو بن الزبير حيث توجه لقتال عَبْد الله أخيه امض معي إليه وأنت فِي جواري فإن آمنك وإلا رددتك إلى مأمنك، فلم ينفذ عَبْد الله بن الزبير جواره، وقد كتبنا خبره فيما تقدم، فقال الشاعر فِي عبيدة بن الزبير:
أعبيد إنَك قد أجرت فجاركم ... تحت التراب تنوبه الأصداءُ
أعبيدُ لو كَانَ المجير لَوَلْوَلَتْ ... بعد الهدو برنة أسماءُ
اضرب بسيفك ضربة مذكورة ... فيها أداءُ أمانة ووفاء
وأما حَمْزَة بن الزبير فلا عقب له، وقتل مع عَبْد الله بن الزبير أخيه.
وأمّا خالد بن الزبير فاستعمله عَبْد الله عَلَى اليمن وله عقب، ومنهم:
خالد بن عُثْمَان بن خالد بن الزبير، وكان خرج مع محمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن بْن عَليّ بالمدينة، فقال أبو جعفر أمير المؤمنين المنصور: ما آل الزبير وآل عَليّ؟! وأخذه أبو جعفر فقتله وصَلبه.
وأمّا عَمْرو بن الزبير
فكان ذا تيهٍ وكبر وعجب، انتدبَ لقتال أخيه فكان من أمره وقتله إيّاه بالاقتصاص منه ما قد ذكرناهُ، وكان يُقال: من نخوته عَمْرو لا يكلم. من يكلمه يندم.(9/440)
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: قَالَ مالك بن أسماء المنى- وهي أمه-: أنا أغضب معاوية واستجعل عَلَى ذلك جعلا فأتى معاوية، وقد حضر الموسم، فقالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أَشْبَهَ عَيْنَيْكَ بِعَيْنَيْ أمك هند فقال: تانكَ عينان طالما أعجبتا أبا سُفْيَان فانظر ما أعطيت فخذه ولا تجعلنا متجرًا لك، فقال له رجل من قريش: لك مِثْلا جُعلك إن قلت لعمرو بن الزبير كَمَا قُلْتَ لِمُعَاوِيَةَ، وَكَانَ عَمْرٌو ذَا نَخْوَةٍ وكبر فَقَالَ لَهُ: مَا أَشْبَهَكَ بِأُمِّكَ يَا عَمْرُو، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَ حَتَّى مَاتَ، فَبَعَثَ مُعَاوِيَةُ إلى أمه بديته وَقَالَ:
أَلا قُلْ لأَسْمَاءَ الْمُنَى أُمِّ مَالِكٍ ... فإني لعمرو الله أقتلت مالكا
يقول: عرضته للقتل بحلمي عنه.
ولعمرو بن الزبير عقب، وَفِي ابنه عَمْرو بن (عَمْرو بن) الزبير يقول الشاعر:
لو أن اللؤم كَانَ مع الثريا ... تناول رأسَها عَمْرو بن عَمْرو
وقتل من قتل من ولد الزبير، وقتل العوام، وقتل خويلد، وقال الشاعر فِي قتل العوام يوم الفجار:
وعَوّامًا تركناه صريعًا ... عَلَى إثر الفوارس بالغريف [1]
وأمّا عروة بن الزبير
ويُكنى أبا عَبْد الله، وكان فقيهًا فاضلا، وقال لعبد الملك حين كتب الحجاج إليه فِي حمله، فأمره عَبْد الملك بذلك: ليس الذليل من قتلتموه، ولكنه من ملكتموه فلما قَالَ هذا القول استحيى عَبْد الملك فلم يهجه، وكتب إلى الحجاج: «أمسك عَن ذكر عروة، فما لك عليه سبيل» .
__________
[1] من أجل الغريف، انظر صفة جزيرة العرب للهمداني- ط 1974 ص 290.(9/441)
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح الْمُقْرِئ قَالَ: قَالَ الحجاج لعروة وَقَدْ أغلظ لعبد الملك فِي كلام: يابن العمياء ألا تسكت، فقال له عروة: يا بن المتمنية، يعني جدته أم أبيه، وكانت كنانية، وهي القائلة:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
فسمعها عُمَر فأخذ نصرًا فسيره إلى البصرة، وكان نَصْر جميلا.
وقال بعضهم: إن المتمنية أم الحجاج الفارعة بِنْت هَمّام بْن عروة بْن مَسْعُود الثقفي. واستودعَ عروة طَلْحَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن أبي بكر مالا، وأودعَ غيره، وشخص إلى الشام، فكان يسأل عَن طلحة، فيقال هو يبني الدور ويقسمُ الأموال، فخافَ أن يذهب بِماله، فلما قدم كابره قوم عَلَى ما أودعهم، وأعطاهُ طلحة ماله موفرًا، فقال متمثلا:
وما استخبأتُ فِي رجلٍ خبيئا ... كدين الصدق أو حسب عتيق
ذوو الأحساب أكرم من رأينا ... وأصبر عِنْد نائبة الحقوق
وقال هشام الكلبي: أصابت عروة الأكلة فِي رجله، وهو بالشام عِنْد الوليد بن عَبْد الملك، فقطعت رجله بميشار وهو يقرأ فما تتعتع ولا تَحرك، ولم يشعر الوليد بقطع رجله حَتَّى كويت، وكان ذلك بحضرة الوليد وبقي بعد ذلك ثَماني سنين ثُمَّ هلك فِي ضيعة له بقرب المدينة، وكان يقول: لقد أحسنَ بي ربي أخذ مني واحدة، وتركَ لي ثلاثًا، وأمتعني بسمعي وبصري ولساني، وكان له ابن يحبه فضربته دابة فسقط ميتًا وذلك قبل وقوع الأكلة فِي رجله، فقال حين قطعت رجله صبرًا واحتسابًا: لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سفرنا هذا نصبا [1] .
__________
[1] سورة الكهف- الآية: 62.(9/442)
وقال عروة: أعظم من المصيبة سوء العوض وروى ذلك عَن عَبْد الله بن الزبير أيضًا.
قَالَ المدائني: عزّى عيسى بن طلحة بن عبيد الله عروة فقال: يا أبا عَبْد الله ذهبَ أقلك وبقي أكثرك، فالحمدُ لله الذي بقي لنا سمعكَ وبصرك فقال: ما عزاني أحد بِمثل ما عزيتني به.
قَالَ: ووقعت الأكلة فِي رجله، وضرب برذون ابنه فقتله، وقطعت رجله بميشار وحسمت [1] فلم يقبض وجهه، ولم يُحرك عضوًا منه إلا أَنَّهُ غشي عليه عِنْد الحسم.
وأتي الوليد بقوم أصيبوا بمصائب عظيمة فقال ائتوا عروة بهؤلاء ليعلم أن مصائب الدنيا كثيرة.
وَحَدَّثَنِي مصعب الزبيري أن عروة صلى بالناس يومًا، وكانوا مقحطين، فقال لَهم: أقنطتم؟ قالوا: نعم قَالَ فتوقعوا الفرج فإن الله يقول:
وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وينشر رحمته وهو الوليّ الحميد [2] .
وكان عروة احتفر بئرًا بالمدينة فهي تعرف ببئر عروة، فلم يكن بالمدينة بئر أعذب منها، وفيها يقول الشاعر:
كفنوني إن مت فِي درع أروى ... واستقوا لي من بئر عروة مائي
وقال الواقدي: مات عروة فِي مال له بناحية الفرع [3] فِي سنة أربع وتسعين ودفن هناك.
__________
[1] حسمه: العرق قطعه ثم كواه لئلا يسيل دمه. القاموس.
[2] سورة الشورى- الآية: 28.
[3] الفرع قرية من نواحي الربذة، بينها وبين المدينة ثمانية برد. المغانم المطابة.(9/443)
وقال عروة: إِذَا رأيتم من الرجل خلَّة خير، وكان عندكم رجل سوء فلا تيأسوا منه فإن لَهَا عنده أخوات، وإذا رأيتم من رجل خلَّة شر فاحذروه، وإن كَانَ صالِحًا.
فولد عروة بن الزبير: عَبْد الله، أمه ابنة الأسود بن أبي البختري.
ومحمدًا، ويحيى بن عروة، ويُكنى أبا عروة وعثمان أمهم ابنة الحكم بن أبي العاص أخت مروان.
وَعَمْرًا. ومصعبًا، وعبيد الله. وأمهم ابنة سلمة بن عُمَر بن أبي سلمة المخزومي.
وهشام بن عروة لأم ولد.
فأمّا عَبْد الله فكان خطيبًا بليغًا، وكان خالد بن صفوان يشبه به فِي بلاغته، وعمي قبل موته، وله عقب بالمدينة.
وقتل صالِح بن عَبْد الله بن عروة بقديد [1] قتلته الخوارج.
وكان عُمَر بن عَبْد الله فقيهًا، حدث عنه ابن جريج، سمع من القاسم بن مُحَمَّد وغيره، وحج عَبْد الملك بن مروان فأتى المدينة، فدخل عَلَى عَبْد الله بن عروة بن الزبير فقال: يا أمير المؤمنين أعدني عَلَى إِبْرَاهِيم خالك فإنك وليته ما بين المدينة واليمن فلم يمنعه كثير ما فِي يده من قليل ما فِي أيدينا، فنشدتك الله أن تصل رحمك بقطيعة أخرى، فو الله ما يَمنعنا من أن نَموتَ مع عَبْد الله إلا مكان هذه الأموال.
وأمّا مُحَمَّد فلم يكن له عقب من الرجال، وكان من أجمل الناس وفيه يقول ابن يسار:
__________
[1] قديد: قرية بين خليص وعسفان، بقرب مكة، المغانم المطابة.(9/444)
وغنينا كابني نويرة حينًا ... بعد عيش ونعمة واتفاق
ثُمَّ صرنا لفرقة ذات يوم ... كل قوم مصيرهم للفراق
يعني مالكًا ومتمم بن نويرة.
وكانت لِمحمد بن عروة ابنة جميلة، تزوجها الحكم بن يَحْيَى بن عروة فطلقها، فتزوجها أميَّة بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، فطلقها فراجعها الحكم عَلَى أن كتبت عليه كتابًا بأربعين ألف درهم وبغلَّة أرضه وبعطائه ولا يغيرها ولا يُخالفها، فإن خالفَ شيئًا من شرطها فأمرها بيدها، فكان يُقال:
أثقل من شرط ابنة مُحَمَّد بن عروة.
وأما عُثْمَان بن عروة فكان فائق الجمال، وكان خطيبًا جلدًا ومات فِي أيام أبي جعفر المنصور، وله عقب بالمدينة.
وأما يَحْيَى بن عروة، فكان له علم بالنسب والناس، فنازع إِبْرَاهِيم بن هشام عامل هشام بن عَبْد الملك عَلَى المدينة فضربه بأمر هشام فمات بعد الضرب، وله عقب بالمدينة.
وأما عَمْرو بن عروة فقتل مع عَبْد الله بن الزبير، ولا عقب له.
وأما عبيد الله بن عروة فله عقب بالمدينة، وقد روى الزهري عَن عبيد الله بن عروة، ويُكنى أبا بكر، وعن يَحْيَى بن عروة، ويُكنى أبا عروة.
وأما هشام بن عروة، ويُكنى أبا المنذر، فكان فقيهًا نبيلا له عقب بالمدينة والكوفة والبصرة، وكان هشام فِي وسط من أيامه عَلَى تدينه يسمع الغناء، فواعد قومًا من أهل المدينة أن يأتوا منزل جارية تتغنى فسبقوه ومضى ليلحقهم، وجعل يقول:
قائمتي ألحقاني بالقوم ... لا تعداني كسلا بعد اليوم(9/445)
فلما سمع غناء الجارية قَالَ: أعيذك بالله إنه لينبغي أن يكتب عَلَى صدرك آية الكرسي، وبين كتفيك المعوذتين ثُمَّ خرج.
وقال هشام: ما تم دين لأحد حَتَّى يتم عقله.
وقال هشام: الغنى يجعل الغربة وطنًا، والفقرُ يجعل الوطن غُربة.
وقال هشام، ورأى رجلا يبني دارًا أسرفَ فِي النفقة عليها: عجبا لمن يبتني القصور وهو غدًا فِي القبور.
وقال هشام بن عروة: وجدت خير الدنيا والآخرة في التقى والغنى، وشرهما الفجور والفقر.
ومات هشام بن عروة ببغداد فِي سنة ست وأربعين ومائة قبل موت أبي حنيفة بأربع سنين.
وأما المنذر بن الزبير بن العوام، ويُكنى أبا عُثْمَان فكان سيدًا حليمًا وقتل مع عَبْد الله بن الزبير وله يقول ابن مُفرغ.
لابن الزبير غداة يذمر منذرًا ... أولى بغاية كل يوم وقاع
ليس الكريمُ من يغادر أمه ... وبناته بالمنزل العجّاع [1]
فمن ولده: مُحَمَّد بن المنذر، أمّه ابنة سعيد بن عَمْرو بن نُفيل العدوي، وعاصم بن المنذر لأم ولد، وكان ينزل البصرة، وعبيد الله بن المنذر أمه ابنة نَهشل بن حري التميمي، وَإِبْرَاهِيم بن المنذر وغيره.
المدائني قَالَ: ساب مُحَمَّد بن المنذر بن الزبير عَبْد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان، وهو المطرف، فقال له مُحَمَّد: لقد عشت زمانًا وأنا أظنك جارية أهم أن أخطبك إلى أبيك. قَالَ: أنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، قَالَ: عهدتك
__________
[1] بهامش الأصل: الجعجاع، وهو ما جاء في ديوان ابن مفرغ ص 162- 163.(9/446)
ولك اسم أحب إليك من هذا، وكان يدعى لجمالِه المطرف.
وأمّا: مُصْعَب بن الزبير
فكان يُكنى أبا عَبْد الله، ويُقال أبا عيسى، وولد له عيسى وعُكاشة، أمهما ابنة السائب بن أبي حُبيش، وعمر لأم ولد.
وجعفر لأم ولد. وحمزة لأم ولد، وَمُحَمَّد وخضير واسمه إِبْرَاهِيم لأمهات أولاد شتى. وقال بعضهم اسم خضير مصعب بن مصعب، والأول قول ابن الكلبي، وكان مصعب جوادًا عظيم المروءة وقد كتبنا خبره ومقتله، وكان يقول: أفضل النساء الفخمة الأسيلة، وشرّهن القفرة، وقتل ابنه عيسى معه، فقال الشاعر:
ليبك أبا عيسى وعيسى كلاهما ... موالي قريش كلها وصميمها
وقال الأصمعي: قدم مصعب البصرة عَلَى راحلته مضطبعًا [1] بردائه، فقال بعض من رآهُ من أشياخ العرب: لقد انتشطَ الملك انتشاطًا.
وقال مصعب عَلَى منبر البصرة لبعض بني أبي بكرة: إنما كانت أمكم مثل الكلبة ينزو عليها الأعفر، والأسود، والأبقع، فتودي إلى كل كلب شبهه.
ولا عقبَ لعيسى، ولعكاشة بن مصعب عقب بالمدينة، وتزوج عكاشة ابنة عَامِر بن عَبْد الله بن الزبير، فولدت له، فمن ولده مصعب بن عكاشة بن مصعب، قتل يوم قديد فِي أيام مروان بن مُحَمَّد، قتلته الخوارج، فقال الشاعر:
قل لأنواح قصيّ كلها ... ونساء موجعات من أسد
__________
[1] اضطباع المحرم: أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن، ويرد طرفه على يساره، ويبدي منكبه الأيمن ويغطي الأيسر. القاموس.(9/447)
قمن فاندبن رجالا قتلوا ... بقديد ولنقصان العدد
ثُمَّ لا تعدلن منهم مصعبًا ... حين يبكي بقتيل من أحد
إنه قد كَانَ فينا باسلا ... صادقًا يقدم إقدام الأسد
وأما عَمْرو بن مصعب فولده بالبصرة.
وأما جعفر بن مصعب، وكان سريًّا فتزوج مُليكة بنت الْحُسَيْن بن عَليّ، فولدت له حَمْزَة، فقتل وابن له يُقالُ له عُمارة يوم قُديد، وله بالمدينة عقب، وكان بعض عمال أهل المدينة أخذ حَمْزَة بن جعفر شاربًا فحده وأقامه للناس.
وأما إِبْرَاهِيم بن مصعب وهو خضير فكان عَلَى شرط مُحَمَّد بن عَبْد الله بن حسن حين خرج، ويُقال: اسم خضير مصعب بن مصعب، وله عقب، وقتل خضير مع مُحَمَّد بن عَبْد الله.
وقال الأصمعي: قَالَ مصعب لعبد الرَّحْمَنِ بْن عيّاش بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، وكانت عنده جويرية بنت زياد: أَتَثَأَّرَ الناسُ بسيوفهم واثّأرت بأيرك؟! وقال حين قدم البصرة: بلغني إنكم أهل البصرة تلقبونَ أمراءكم وإني أنا الجزار.
قالوا: وكتب كاتب مصعب: «من المصعب» فقال: ما هاتان الزائدتان؟!
وأمّا عَبْد الله بن الزبير،
فكان يُكنى أبا بكر، وأبا خبيب، وكان من أشد الناس قلبًا ولسانًا، وهو أول مولود ولد بالمدينة فِي الإسلام من أبناء المهاجرين، فكبر المسلمون لِمولده، وكان بخيلا قَالَ الشاعر:(9/448)
رأيت أبا بَكْر وربك غالبٌ ... عَلَى أمره يرجو الخلافة بالتمر
وقتل وَهُوَ ابْن ثَلاث وسبعين سنة، وقد كتبنا أخباره فيما تقدم من كتابنا هذا. فولد عَبْد الله بن الزبير: حَمْزَة وكان مضعوفًا، وخُبيبًا، وثابتًا، وعبادًا، أمهم تُماضر بنت منظور بن زبان الفزاري، وعامر أمه ابنة عَبْد الرَّحْمَن بن الحارث بن هشام، وعبد الله بن عَبْد الله، أمّه أم ولد، وقيسًا درج صغيرًا، وموسى.
فأمَّا حَمْزَة فكان جوادًا يُعطي يومًا فيباري الريح، ويَمنع يومًا شسعًا، وكان ابن سريج المغني صديقًا له، وكان حَمْزَة يكرمه ويعظمه، وهو الذي غنى فِي هذا الشعر:
حَمْزَة المبتاع حمدًا بالندى ... ويرى فِي بيعه أن قد غُبِنْ [1]
فكلم ابن سريج رجل من قريش فِي مسألة حَمْزَة إسلافه ألف دينار، فوهب له ألف دينار، ووهب لابن سريج ألفًا آخر، وقد كتبنا خبر حَمْزَة فِي ولايته العراق، وتزوج حَمْزَة بالبصرة أم عَبْد اللَّهِ بنت عَبْد اللَّهِ بْن عُثْمَان بْن أَبِي العاص الثقفي، وأمهما ضُبَاعة بنت الحارث بن نوفل أخت ببة، وكانت عِنْد حَمْزَة فاطمة بنت الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّد بْنِ جَعْفَر بْنِ أَبِي طالب، فقال لَهَا فِي مرضه، كأني بك قد تزوجت طَلْحَة بْن عُمَر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، فحلفت بصدقة مالها، وعتق رقيقها لا تفعل، فلما مات حَمْزَة خطبها طلحة وقال:
أنا أخلف عليك مكان كل شيء شيئين، فتزوجته فغرم عنها عشرين ألف دينار، وولدت له: إِبْرَاهِيم، ورملة، فزوج طلحة بن عمر ابنته رملة إسماعيل بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العَبَّاس على مائة ألف دينار، وكانت أجمل
__________
[1] الشعر لموسى شهوات. مولى بني سهم. انظر نسب قريش للمصعب الزبيري ص 240.(9/449)
الناس فقال إسماعيل بن يسار لطلحة: أنت أتجر الناس، تزوجت فاطمة عَلَى أربعين ألف دينار، وزوجت ابنتها عَلَى مائة ألف، فربحت إِبْرَاهِيم وستين ألف دينار.
وأمّا خبيب فكان عقيمًا، وكان الوليد بن عَبْد الملك غضب عليه لأمر بلغه عنه، فكتب إِلَى عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز، وَهُوَ عامله عَلَى المدينة، فضربه عُمَر فمات من ضربه إياه، فكان ذلك مما عيب عَلَى عُمَر بن عَبْد الْعَزِيز.
وأمّا ثابت بن عَبْد الله فكان يكنى أبا حكمة، وكان بذيئًا ذا لسن، وله عقب، وقيل لثابت: اشتم عَلِيًّا، فقال: ماذا أقول؟ قالوا: قل:
سم أبا بكر، ودس لعمر من قتله، وقتل عُثْمَان، فقال: والله ما علمت ذاك فأقوله.
قالوا: وأقامه هشام بن إسماعيل فقال: اشتم عليًّا، فقال لعن الله الفاسق الأشقى قَاتل أمير المؤمنين عُثْمَان، قَالَ: هيه اذكر عليًّا فقال: لعن الله الأشدق لطيم الشيطان خالع أمير المؤمنين عَبْد الملك، قَالَ: هيْه اشتم عليًّا الآن قَالَ: لم يبلغه الشتم حَتَّى أشتم غيره، ولم يزل يشاغله.
وقال له عَبْد الله بن عَمْرو بن عُثْمَان يومًا، وهو المطرف: يا ثابت لقد صرت خطيبًا، فقال: أما والله لولا أني أكره ذكر خويلك خويل السوء فأغم بذلك رجالا من ثقيف وقومًا من بني هاشم لذكرته، يعني المختار، لأن أم المطرف ابنة عَبْد الله بن عُمَر، وأمها صفية بنت أَبِي عبيد، أخت المختار.
ومن ولده: عَبْد الله بن مصعب بن ثابت الذي كان عامل هرون الرشيد أمير المؤمنين عَلَى المدينة، ثُمَّ عَلَى اليمن، وكان ابنه أبو بكر بكار بن عَبْد الله بن مصعب بن ثابت ولي بعد أبيه، وكان سيّئ الولاية، فلما مات(9/450)
جعل الناس يقولون: من يكتب إلى مالك؟ يعنون مالكًا خازن جهنم وكان مصعب بن ثابت بن عَبْد الله فقيهًا، ويُكنى أبا عَبْد الله مات بالمدينة سنة سبع وخمسين ومائة، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة.
وأمّا عامر بن عبد الله فكان من أبعد أهل المدينة فِي زمانه، وكان لا يزوج بناته، وخطب إليه يزيد بن عَبْد الملك، وَإِبْرَاهِيم بن هشام المخزومي فلم يزوجهما، وقتل ابنه عتيق بن عَامِر بقديد، وهدم إِبْرَاهِيم بن هشام دار عَامِر بن عَبْد الله، فقال إِبْرَاهِيم لعامر: اصبر قَالَ: أما إني أعرضك عَلَى الله فِي كل يوم خمس مرات، يقول أدعو عليك فِي أعقاب الصلوات الخمس.
وكان عَامِر يُكنى أبا الحارث، ومات قبل موت هشام بن عَبْد الملك بيسير، ومات هشام فِي سنة أربع وعشرين ومائة.
الْمَدَائِنِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نزل عَامِر بن عَبْد الله بمرّ [1] ، فمر به عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَليّ، فقال: يا عامَر نزلت بِمَرّ فمرر عليك عيشك، قَالَ: بل نزلت مرًّا فطاب لي به مأكلي إذ بالست بالس [2] بني مروان، فقال عَبْد الله: أمَا والله لولا عمتي لكنت كبعض الحميدات التوتيات فِي شعاب مكة، يعني صفية. قَالَ عَامِر: ولولا عمتي كنت كبعض ولد عقيل بن أبي طالب ملقى بالأبطح، يعني خديجة بنت خويلد أم فاطمة بِنْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم.
__________
[1] يرجح أنه قصد مرّ الظهران، وبينه وبين مكة خمسة أميال. معجم البلدان.
[2] بالس هي مسكنة حاليا على الفرات في سورية، وهي قريبة من رصافة هشام، والبلس:
من لا خير عنده، أو عنده ابلاس وشر القاموس.(9/451)
وأمّا عباد بن عَبْد الله، فله ولد بالمدينة، وكان يَحْيَى بن عبّاد بن عَبْد الله فقيهًا روى عَن عَبْد الله بن أبي بكر الحزمي، وَمُحَمَّد بن إسحاق، ومات بالمدينة وهو ابن ست وثلاثين سنة.
وقال أبو الزناد رأيته معتمًا، فما رأيت شابًّا أحسن فِي العمَّة منه وكانت له مروءة.
وأمّا موسى بن عَبْد الله فله عقب بالمدينة، ومن ولده صديق بن موسى بن عَبْد الله بن الزبير، كَانَ سريًا.
وأما عَبْد الله بن عَبْد الله، فكان فيما يُقال أشبه القوم بأبيه، وله عقب.
قالوا: وزوج عَبْد الله بن الزبير بناته من بني أخوته، وتَمثل قول الشاعر:
جعلت بناتي فِي موالي قَصْرةً ... وما راعني [1] ذو هيئة وجمال
ولا رزمَتا شكد [2] وبرد معضد [3] ... ولا درع نوبي أسك [4] طوال
وقال هشام ابن الكلبي: كَانَ مصعب بن الزبير قتل أبا أشعب الطمع، فكان أشعب يقول: أخذت من مال آل الزبير أضعاف دية أبي [5] .
فولد خويلد بن أسد بن عَبْد العزي أيضًا، سوى خديجة زوج النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، العوام بن خويلد،
وحزام بن خويلد،
ونوفل بن خويلد، وأمّه من
__________
[1] بهامش الأصل: وروي: ما غرني.
[2] الشكد: العطاء والشكر، وأشكد، أعطى، وافتني رذال المال. القاموس.
[3] ثوب له علم في موضع العضد. القاموس.
[4] الأسك: الأصم. القاموس.
[5] بهامش الأصل: بلغ العرض ولله الحمد.(9/452)
عدي قريش، قتله عَليّ بن أبي طالب يوم بدر كافرًا، وكان يُقال لنوفل بن خويلد أسد قريش.
وكان الأسود بن نوفل بن خويلد من مهاجرة المسلمين إلى الحبشة، فِي المرة الثانية، وقدم المدينة بعد قدوم النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياها.
وأمّا حزام فولد:
حكيم بن حزام،
وأمّه ابنة زُهَيْر بْن الْحَارِثِ بْن أَسَدِ بْن عَبْد الْعُزَّى، واسمها فاختة، وولدته فِي جوف الكعبة. وخالد بن حزام وله عقب بالمدينة، وكان قد أسلم وهاجر إِلَى الحبشة فِي المرة الثانية، فماتَ فِي طريقه قبل أن يصل، وكان حكيم بن حزام يُكنى أبا خالد وشهد بدرًا مع المشركين يوم بدر فنجا ولم يقتل ولم يؤسر، فقال حسان بن ثابت الأنصاري:
نجى حكيمًا يوم بدر بشده ... ونجا بِمهر من بنات الأعوج [1]
ثُمَّ أسلم فحسن إسلامه، وكان يُقال هو وجبير بن مطعم من سادة مسلمة الفتح، وكان حكيم بن حزام إِذَا بالغ فِي يمينه قَالَ: والذي نجاني يوم بدر.
وذكر أبو اليقظان أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لحكيم: [ «إن الدنيا خضرة حلوة فمن سألها بإسراف لم يبارك له فيها» .] فكان لا يقبل من أحد شيئًا، وكان لا يأخذ عطاءه فقال عُمَر بن الخطاب: يا معشر المسلمين إني أشهدكم عَلَى حكيم بن حزام أدعوه إلى عطائه فيأباه، وباع حكيم دارًا له بِمكة بعشرة آلاف درهم، فقيل له غبنت، فقال اشتريتها فِي الجاهلية براوية من خمر، وأما والله لتعلمن أني لم أغبن، اشهدوا أن ثمنها فِي سبيل الله فهل غبنت؟
__________
[1] ديوان حسان بن ثابت ج 1 ص 187 مع فوارق.(9/453)
ويُقال بل جعلها فِي سبيل الله، وقال بعضهم: هي دار الندوة، وذلك أعظم الخطأ لأن دار الندوة كانت لبني عَبْد الدار فباعها عكرمة بن عَامِر بن هاشم العبدري من معاوية، فقيل له: بعت شرفك فقال: إنما الشرف اليوم الإسلام والكفاف.
وقال حكيم بن حزام: الجواد المبرز من لم يختر مواضع المعروف ولم يبال من أصاب به، وعمر مائة وعشرين سنة، فكان يقول: طول العمر يذكر لك الناس.
وحضر حكيم أمر عُثْمَان ودفنه والصلاة عليه، فقال: إنكم سخطتم من أمر عُثْمَان ما سترضون من غيره بأعظم منه.
وقال حكيم: من بخل بمعروفه عَلَى صاحبه فإنّما بخل بالأجر عَلَى نفسه.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أنبأ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى، وَلْيَبْدَأْ أَحَدُكُمْ بِمَنْ يَعُولُ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» .] قَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ: ثُمَّ قَالَ أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادٌ: قَالَ هِشَامٌ: وَكَانَ حَكِيمٌ يَحْتَاجُ إِلَى الشَّيْءِ فَلا يَسْأَلُهُ أَحَدًا، وَيَقُولُ: لَوِ انْقَطَعَ شِسْعُ نَعْلِي مَا طَلَبْتُ مِنْ أَحَدٍ شِسْعًا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ أَبِي حَبِيبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ يَقُولُ: تَزَوَّجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّتِي خديجة وهي ابنة أربعين سنة، وَكَانَتْ أَسَنَّ مِنِّي بِسَنَتَيْنِ، وَوُلِدْتُ أَنَا قَبْلَ عَامِ الْفِيلِ بِثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَشَهِدْتُ الْفِجَارَ وَأَنَا(9/454)
ابْنُ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً، قَالَ: وَمَاتَ حَكِيمٌ سَنَةَ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ وَخَمْسِينَ.
وَقَالَ حَكِيمٌ: كَانَتْ عَمَّتِي أَسَنَّ مِنَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ بِالْمَدِينَةِ فِي دَارِهِ عِنْدَ بَلاطِ الْفَاكِهَةِ عِنْدَ زُقَاقِ الصَّوَّافِينَ.
المدائني عَن ابن جعدبة قَالَ: اشترى حكيم بن حزام حلّة من حلل ذي يزن بثلاثمائة دينار فقال: ما أرى أحدًا لَهَا أهلا إلا محمدًا، فأهداها لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الهدنة التي كانت بينه وبين قريش قبل الفتح، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[ «لو كنت قابلا هدية مشرك قبلت هديتك» ،] فأدخلها حكيم السوق ليبيعها، فَأَمَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاشتريت له ورآها حكيم عليه وقد خرج للصلاة فتمثل حكيم قول الحطيئة فِي علقمة بن علاثة:
فما ينظر الحكام بالفصل بعد ما ... بدا واضح ذو غرة وحجول [1]
فتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ إنه كساها أسامة بن زيد بن حارثة مولاه، فقال حكيم بخ، بخ يا أسامة عليك حلة ذي يزن، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[ «قل له: وما يمنعني وأنا خير منه، وأبي خير من أبيه» ] .
وولد حكيم بن حزام:
عَبْد الله بن حكيم، وأمه زينب بنت العوام بن خويلد.
وهشام بن حكيم. وأما عَبْد الله بن حكيم فقتل يوم الجمل مع عائشة، وكانت عِنْده ابنة الضحاك بن سُفْيَان الكلابي فولدت له عُثْمَان بن عَبْد الله بن حكيم، فولد عُثْمَان بن عَبْد الله بن حكيم:
عَبْد الله بن عُثْمَان بن حكيم، أمه رملة بنت الزبير، وكان عثمان بن
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.(9/455)
عَبْد الله بن حكيم ممن ضربه عَمْرو بن الزبير، فاقتص منه، فتزوج عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْن حكيم بن حزام سكينة بنت الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طالب، فولدت له قُرين واسمه عُثْمَان، وله عقب، وَفِي عَبْد الله بن عُثْمَان يقول الشاعر:
تزوجتها من عترة خير عترة ... أبوها ابن بنت المصطفى خاتم الرسل
به أنقذ الله البرية كلها ... وقد غمرتها الجاهلية بالجهل
فأكرم بِهَا إلفًا لديك وزوجة ... حويت بِهَا غُنما وفضلا إلى فضل
ويروى:
............... ... حويت بِهَا فضلا من الله ذي الفضل وأمّا: هشام بن حكيم بن حزام فكانت له صحبة، وروى عَن رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم أنه قال: [ «إن الله يعذب يوم القيامة الذين يعذبون الناس» ] .
حَدَّثَنِي شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ الآجُرِّيُّ الأبلي ثنا عبد العزيز بن مسلم القسملي ثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ أَنَّهُ رَأَى نَاسًا مَحْبُوسِينَ فِي الشَّمْسِ، فَدَخَلَ عَلَى عُمَيْرِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ لَهُ: مَا هَؤُلاءِ؟
قَالَ: قَوْمٌ حُبِسُوا فِي الْجِزْيَةِ، فَقَالَ هِشَامٌ أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أنه قال:
[ «إن الله يعذب يوم القيامة الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي دَارِ الدُّنْيَا» ] .
وقالوا: كَانَ عمير بن سَعْد الأنصاري يلي بعض الجزيرة.
وقالوا: كَانَ هشام بن حكيم عظيم القدر قويًّا عَلَى أمر الإسلام، وكان عُمَر بن الخطاب يقول- إِذَا ذكر أمر فيه وهن عَلَى الإسلام ومخالفة الحق أو سبله-: أما ما عشت وهشام بن حكيم فلا.
ولا عقب لِهشام بن حكيم.(9/456)
وأمّا خالد بن حزام بن خويلد
فنهشته أفعى وهو يريد الهجرة إلى الحبشة، ومن ولده:
الضحاك بن عُثْمَان بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن حزام، ويُكنى أبا عُثْمَان، ماتَ سنة ثلاث وخَمسين ومائة.
وولد نوفل بن أسد بن عَبْد العزى:
ورقة بن نوفل، وعدي بن نوفل، وعبيد الله بن نوفل درج صغيرًا.
فأمّا: ورقة
فترك عبادة الأوثان ومال إلى النصرانية، ويُقال طلب دين إِبْرَاهِيم، فمر يومًا ببلال بن رباح والمشركون يعذبونه، وبلال يقول:
أحد، أحد فقال ورقة: أحد، أحد، نعم ما قلت فاستغث به، وقد ذكرنا له فيما تقدم من كتابنا هذا أخبارًا، وكان ورقة شاعرًا وهو الذي يقول:
أجزيكَ أو أثني عليك وإن من ... أثنى عليك بِما فعلت كمن جزى
وقال فِي زيد بن عَمْرو بن نفيل، وكان زيد قد ترك عبادة الأوثان:
رشدت فأنعمت ابْن عَمْرو وإنما ... تجنبت تنورا من النارِ حاميا
وأمّا عدي بن نوفل
فمن ولده: الزبير بن عدي، وله عقب بالحجاز،
وعبيد الله بن نوفل بن عدي بن نوفل بن أسد،
قتل يوم الحرة.
وولد حبيب بن أسد بن عَبْد العزى: تويت بن حبيب،
فمن ولد تويت عُثْمَان بن عطاء، وكان سريًا ضربه عَمْرو بن الزبير فيمن ضرب، ولَهم عقب بِمكة، وكانت أم تويت أمة للعباس اسمها مجد.
وولد المطلب بن أسد بن عَبْد العزى:
الأسود بن المطلب بن أسد، وأبا حبيش بن المطلب بن أسد.
فأمّا الأسود
فكان يُكنى أبا زمعة، وهو أحد المستهزئين، وكان(9/457)
منيعًا، وقد كتبنا خبره فِي أول كتابنا هذا.
وعمي الأسود فلم يحضر يوم بدر، وله شعر فيها وقد كتبناهُ، أوّله:
تبكي أن يضل لَهَا بعير ... ويمنعها من النوم الشهود
فولد الأسود بن المطلب بن أسد بن عَبْد العزى:
زمعة بن الأسود، وهبار بن الأسود، والحارث بن الأسود،
فأمّا زمعة بن الأسود
فكان يُكنى أبا حكيمة، وفيه يقول أبو طالب بن عَبْد المطلب:
عظيم الرماد سيد وابن سيد وقتل يوم بدر كافرًا.
وقال معاوية بن أبي سُفْيَان: كَانَ زمعة فينا كهرقل فِي الروم، وكان يُقال له زاد الراكب، فولد زمعة: عَبْد الله، وعقيلا، ووهبًا ويزيد، قتل عقيل يوم بدر كافرًا، ولا عقبَ له.
وكان يزيد بن زمعة
من مهاجرة الحبشة، واستشهد يوم حنين، ويُقال يوم الطائف.
وكان عَبْد الله بن زمعة
ممن حضر دار عُثْمَان بن عَفَّان، وقاتل عنه، وقبض النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولعبد الله خمس عشرة سنة، وهو الذي خرج برسالة عُمَر إلى الناس يأمرهم بالصلاة حين قَالَ النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «مروا أبا بكر فليصل» ] .
فمن ولد عَبْد الله بن زمعة: يزيد بْن عَبْد اللَّه بْن زمعة بْن الأسود، وأمه زينب بنت أبي سلمة بن عَبْد الأسد المخزومي، وجدته أم سلمة زوج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شهد يوم الحرة فأخذ وأتي به مسلم بن عقبة، فدعاه إلى أن يبايع ليزيد عَلَى أَنَّهُ عَبْد قن فأبى وقال: أبايعه عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيّه، وعلى أني ابن عمه، فقدمه فضرب عنقه، فلمّا توجه أهل الشام نحو مكة فمات(9/458)
مسلم ودفن بالمشلل [1] ، أقبلت أمّ ولد ليزيد بجارية [2] فِي غلمة لَهَا فنبشت قبر مسلم واستخرجته فصلبته.
ومن ولد عَبْد الله بن زمعة: أبو عبيدة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن زمعة بْن الأسود، وله عقب وكانت هند بنت أبي عبيدة عِنْد عَبْد الله بن حسن بن حسن فيما ذكر أبو اليقظان، فولدت له: محمدًا، وَإِبْرَاهِيم، وكان أبو عبيدة سريًّا سخيًّا مطعامًا للطعام يعده للأضياف، ومن أتاهُ من إخوانه، وقد روي عنه الحديث، فلقي إِبْرَاهِيم بن هشام المخزومي أبا عبيدة وَإِبْرَاهِيم وال عَلَى المدينة من قبل هشام، فسأله عَن الطريق إلى موضع اعتمده، فقال: خذ عَلَى موضع كذا، ثُمَّ خذ عَلَى أنف مخزوم، فقال: بل عَلَى أنف زمعة، وضحك.
قالوا: ومرّ إِبْرَاهِيم بِمنزل أَبِي عبيدة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن زمعة مع طلوع الشمس، ويُقال فِي وقت طلوع الفجر، فدخل إليه وقال له: أنا والله جائع فهل من شيء حاضر، فأمر برؤوس كانت فِي مطبخه فأتي بِهَا من التنور، وقدمت إليه، فأكل، ثُمَّ قدمت إليه حلواء كانت معدة فِي منزله، فقال: تالله ما رأيتُ أكرمَ من هذا الرجل، فقيل: إن الرؤوس اتخذت بالأمس وهي رؤوس غنم ذبحت لضيفان له فأمّا الحلواء فشيء لا يفارق منزله، فقال: هذا والله أعجب.
ومنهم كبير بن عَبْد الله، وله عقب فمن ولده أبو البختري وهب بن وهب بن ركانة من بني عَبْد المطلب بن عَبْد مناف، وكان أبو البختري قاضيًا لأمير المؤمنين هارون الرشيد، ثُمَّ ولاه المدينة وكان الحديث يحمل عنه حتى
__________
[1] المشلل: جبل يهبط منه إلى قديد من ناحية البحر. معجم البلدان.
[2] أي أناس بالأجرة.(9/459)
دخل إلى بعض الكبار، وعنده حمام يسابق بِهَا، فقال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[ «لا سبق إلا فِي حافر أو خف أو جناح» ،] فأسقط حديثه وشُنئت كتبه.
وقال الكلبي: قتل عَبْد الله بن وهب بن زمعة يوم الحرة، وكان ابنه يعقوب بن عَبْد الله بن وهب بن زمعة أبو مُحَمَّد محدثًا، مات فِي آخر أيام أبي جعفر المنصور.
وأمّا هبار بن الأسود بن المطلب
فهو الذي أهوى إلى زينب بنت النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالرمح حين أخرجت من مكة إلى المدينة فألقت ما فِي بطنها، وقد ذكرنا خبره حين ذكرنا أولاد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سرية وقال: [ «إن لقيتم هبار فاجعلوهُ بين حزمتين من حطب وأحرقوه، ثُمَّ قَالَ:
سبحان الله، أبعذاب الله، إن لقيتموهُ فاقطعوا يده ثُمَّ رجله» ،] فلم تلقه السرية وقدم هبار مسلمًا وكان يُسابّ رجلا، فقال له النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «سُبّ من سبّك» ] .
فمن ولد هبار:
إسماعيل بن هبار
وأمه أم ولد.
قالوا: فاتفق إسماعيل بن هبار ومصعب بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف الزهري بالمدينة فِي حَمام، وكان ابن هبار يرمى بالذكور، وكان مصعب ذا عجيزة ضخمة وخلق حسن فمسح يده عَلَى رانفتيه [1] وظهره متعجبًا من عظم عجيزته وقال: ما يحمل النساء إلا دون ما حملت، فحقد مصعب ذلك عليه ولم يظهر له شيئًا مما في نفسه، ولا طفه حَتَّى أمنه، ثُمَّ إنه أتاه ومعه معاذ بن عبيد الله بن معمر التيمي، وعقبه بن جعونة الليثي، ويُقال خالد بن جعونة فدعاه إلى حش طلحة، وهو موضع نخل، فأجابه إلى الانطلاق معه فِي غد يومه ثم
__________
[1] الرانفة: أسفل الألية إذا كنت واقفا. القاموس.(9/460)
إنه بعث إليه عِنْد طلوع الفجر غلامًا له يُكنى أبا زيتونة ليسأله المصير إلى الحش للاجتماع به، فلمّا اجتمعوا حيث أراد، قام مصعب إلى نخلة قد دس فيها سيفًا قاطعًا فأخذه وعلاهُ به، وأعانه التيمي، والليثي وأبو زيتونة عليه فقتله وأخفى أمره، ويُقال إن مصعبًا دعاهُ إلى موضع يعرف بحش بني زهرة فقتله به، وجعل انصرافه إلى حميد بن عبد الرَّحْمَن أخيه فأخبره بما صنع به إسماعيل وبقتله إيّاه، فأخذ حميد ثياب أخيه فألقاها فِي تنور قد سجر وألبسه ثيابًا غيرها، وغدا به معه لصلاة الصبح وقال: إنك ستسمع قائلا يقول: كَانَ من الأمر كيت وذيت حَتَّى كأنه معكم فلا يروعنك ذلك ولا يتغيرنّ له وجهك، وأصبحَ الناس يتحدثونَ بقتل ابن هبار ويرون مصعبًا مع أخيه حميد فيكذبونَ عنه، وكان أخو إسماعيل بن هبار يقوم فِي دبر كل صلاة فيقول:
نشدت الله رجلا عنده من أخي علم إلا أخبرنيه، فقام عَبْد اللَّهِ بْن مطيع العدوي من قريش فقال: اللهم إنك تعلم أمره ونعلمه، فقال له: من هو؟
قَالَ: مصعب بن عَبْد الرَّحْمَن، فأدخله إلى مروان فتوقف عنه، وأخذ أبو زيتونة فأدخل إلى مروان فأنكر فضربه فأقر ثُمَّ أنكر، فقيل هذا إقرار منه حين ضرب ولا يقطع الحكم به، وأرسلت أخت إسماعيل إلى عَبْد الله بن الزبير فأخبرته خبرهم، فركب عَبْد الله، والمنذر ابنا الزبير وغيرهما من وجوه بني أسد بن عَبْد العزى إلى معاوية بالشام، وزعم قوم أن معاوية قدم المدينة حاجًا فلقيه عَبْد الله والمنذر ومن معهما فحكم بأن يحلف عشرة من بني أسد بن عَبْد العزى خَمسين يمينًا بالله أن مصعبًا قتله، فإن حلفوا ملكوا دمه، وإن نكلوا عَن اليمين حلف من بني زهرة عشرة بالله ما قتل مصعب إسماعيل وما يدرونَ من قتله فقال بعض آل عَبْد الرَّحْمَن بن عوف: يَختار للحلف عَلَى(9/461)
دمه المسور بن مخرمة، وبني سَعْد بن أبي وقاص، وَالْحَسَن وَالْحُسَيْن وعبد الله بن جعفر، ويزيد بن معاوية، ومروان بن الحكم، وسعيد بن العاص، وعمرو بن عُثْمَان بن عَفَّان، فقال من حضر من هَؤُلَاء: ما بالنا نحلف دون بني زهرة، فرد معاوية اليمين عَلَى بني زهرة. فقال مصعب: والله ما كنت لأحلفَ كاذبًا، وحلف خمسين يَمينًا عِنْد المقام، وحلف العشرة من بني زهرة أَنَّهم لا يعرفونَ قاتله.
وقال ابن الكلبي: قالت أخت إسماعيل بن هبار: ما قتل أبا فايد أخي- تعني ابن هبار- إلا مصعب والثلاثة الذين كانوا معه، ولقد جاء أبو زيتونة غلام مصعب فِي الليل فدعاهُ فما رجع، فأخذ مروان أبا زيتونة فضربه فكان يقر تَحت الضرب فإذا رفع عنه قَالَ: والله ما قلت، ما قلت إلا للضرب، وبعثت إلى عَبْد الله بن الزبير والمنذر بن المنذر وأعلمتهما الخبر وقالت:
قل لأبي بكر الساعي بذمته ... ومنذر فهو ليث الغابة الضاري
جدّا فدى لكما أمي وما ولدت ... ولا تَميلا إلى المخزاة والعار
فصارا إلى معاوية بالشام، ويُقال تلقياه بين المسجدين، وكان حاجًّا فكلماه فِي هذا الأمر فحكم بأن يحلف مصعبًا وعشرة معه من بني زهرة أَنَّهُ لم يقتل إسماعيل بن هبار فحلف مصعب وحلفوا خَمسين يمينًا، وكان ممن حلف مُحَمَّد، وأبو سلمة، وحميد بنو عَبْد الرَّحْمَن بن عوف، والمسور بن مخرمة، وبنو سَعْد بن أبي وقاص، وكانت يمين مصعب أَنَّهُ لم يقتل ابن هبار، وحلف الباقونَ أَنَّهم لا يعلمونَ من قتله، وتشاجروا فتدافع الحكم، فقال ابن قيس الرقيات:(9/462)
فلن أجيبَ بليل داعيًا أبدًا ... أخشى الغرور كما غُرّ ابن هبار
باتوا يجرونه فِي الحش منعفرًا ... بئس الهدية لابن العم والجار [1]
ويُقال إن ابن الزبير قَالَ: ليحلف مصعب والتيمي والكناني فحلفوا جَميعًا، وقال الهيثم بن عدي: قيل للأسديين احلفوا أن مصعبًا قتل صاحبكم فقالوا: اليمين عَلَى المنكرين، فحلف الزهريون.
وقال بعضُ أهل المدينة: لما اختلطَ الأمرُ وأَشْكَلَ ضُرِبَ المتهمونَ مائة مائة وسجنوا سنة ثُمَّ أخرجوا والله أعلم.
ومن ولد هبار بن الأسود: سَعْد بن هبار
وكان مع عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ الثقفي، وَهُوَ ابْن أم الحكم أخت معاوية بْن أَبِي سُفْيَان، وكان يشاربه ويُجامعه عَلَى هواه، فقال فيه حارثة بن بدر الغُداني:
نَهَارُهُ فِي قَضَايَا غَيْرِ عَادِلَةٍ ... وَلَيْلُهُ فِي هوى سعد بن هبار
يُعاب أصحابه فيما يسر به ... أخذًا بأخذ وتكرارًا بتكرار
لا يسمع الناس أصواتًا لَهم خفيت ... لَهَا دَوِيًّا دَوِيَّ النَّحْلِ فِي الْغَارِ
فَيُصْبِحُ الْقَوْمُ أطلاحًا [2] أضَرّ بِهم ... حث الْمَطِيِّ وَمَا كَانُوا بِسُفَّارِ
لا يَرْقُدُونَ وَلا يغفي عيونَهم ... ليل التمامِ وليل المدلج الساري
وأمّا الحارث بن الأسود بن المطلب
فقتل يوم بدر كافرًا.
وأمّا أبو حبيش بْن المطلب بْن أسد بْن عبد العزى
فمن ولده:
السائب بن أبي حبيش، وكان نديًّا ذا نخوة وقدر فِي نفسه وكان أبو حبيش ملازمًا الحجر، فكان يُقال له خيمة أبي حبيش، وقال عمر بن
__________
[1] ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص 183.
[2] طلح: أعيا. القاموس.(9/463)
الخطاب: ما أحد إلا وَفِي نسبه وصمة غير السائب بن أبي حبيش. وتزوج مصعب بن الزبير ابنة له عَلَى مائة ألف درهم. وكان عالي السن روى عَن عُمَر.
ومن ولد حويرث بن أسد بن عَبْد العزى:
عُثْمَان بن الحويرث الشاعر، وكان مخالفًا لقريش، وأسر ابنه الحارث بن عُثْمَان بن الحويرث يوم بدر كافرًا.
وقال الواقدي وغيره: كَانَ عُثْمَان بْن الحويرث بْن أسد بْن عَبْد العزى قد رفض الأوثان ومات عَلَى النصرانية، فقدم عَلَى قيصر فكان ترجمانه يحرّف ما يقول له فلا يرى عِنْدَ قيصر مَا يحب، فبينا هو ذات يوم يَمر فِي بعض الطريق إِذْ سمع رجلا فِي زي الروم يتكلم العربية ويُنشد بيت شعر فقال له: يا هذا إنك تتكلم بلساني فمن أنت؟ قَالَ: رجلٌ من بني أسد بن خزيمة فاكتم ما سمعت، فشكا إليه أمره وما يلقى من جفوة قيصر له، فَقَالَ: قَدْ بلغني خبرك وإِنَّما تؤتى من الترجمان، ثُمَّ إن عُثْمَان دخل عَلَى قيصر ودعا له الترجمان فقال عُثْمَان: قل للملك: إِن الكذوب الفاجر الغادر، قَالَ: هيه؟ فالتزم عُثْمَان الترجمان يريد أَنَّهُ الموصوف بِهذه الصفة. فقال قيصر: إن لِهذا العربي قصة فدعا له بترجمان آخر يكلم، وأدى عَنْهُ إِلَى قيصر فَقَالَ: إني ضارب للملك عَلَى قريش جزية يؤدونَها كل عام إِذَا وردوا الشام بتجاراتِهم، قَالَ:
فافعل، ثُمَّ أتى مَكَّة فَقَالَ لقريش وغيرها: إِن قيصر يأمركم أن تَجعلوا له عليكم ضريبة وخرجًا وإلا منعكم التجارة إلى الشام فزبروا عُثْمَان وقرصوه وعابوا دينه وأمره وقالوا: قبحك الله وما جئت به وكان أشدهم عليه أبو أحيحة سعيد بن العاص بن أمية والوليد بن المغيرة، ثُمَّ إن سعيد بن العاص(9/464)
قدم الشام ومعه أَبُو ذؤيب [1] هِشَام بْن شُعْبَة بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي قَيْس بن عَامِر بْن لؤي وَكَانَ أَبُو ذؤيب ابْن أخته فسعى بِهما عُثْمَان إِلَى قيصر وَقَالَ: إِن هذين اعترضا عَلِي وحملا قريشًا عَلَى إباء ما كانوا سمحوا به من الجزية والضريبة فحبسهما قيصر وقدم الوليد بن المغيرة فِي آخرين فسعى بِهم عُثْمَان أيضًا فحبسهم مع سعيد بن العاص وأبي ذؤيب، فمات أبو ذؤيب فِي حبس قيصر ثُمَّ إن عُثْمَان كلم قيصر فِي الباقين وأطلقهم، وَفِي ذلك تقول أروى بنت الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ:
أبلغ لديك بَنِي عمي مغلغلة ... حربا وعفان أهل الصيت والحسب
وانبي ربيعة والأعياص كلهم ... واعمم بَنِي عَبْد شمس سادة العرب
مالي أراكم قعودًا فِي بيوتكم ... وخيركم منكم للجار والجنب
أبو أحيحة محبوس لدى ملك ... بالشام فِي غَيْر مَا ذنب ولا ريب
لو كَانَ بعضكم فِي مثل محبسه ... ألفيتموهُ شديد الهم والنصب
إِن الَّذِي صدكم عنه وثبطكم ... عَبْد لعبدٍ لئيم حق مجتلب
لو كَانَ فيكم صميمًا فِي أرومتكم ... لشفَّه مَا عناكم غَيْر ما كذب
أما عَمْرو بن أسد
فهو زَوَّجَ خديجة بنت خويلد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ ابن عمها.
وأمّا الحارث بن أسد
فمن ولده
عَبْد اللَّه بْن حميد بْن زُهَيْر بْن لحارث بن أسد
قتل يوم أحد كافرًا، وبعضهم يقول قتل يوم بدر كافرًا.
وعبد الله بن معبد بن حُميد
قتل يوم الجمل، ويقال لبني تويتة بن
__________
[1] هو في نسب قريش ص 422- 423، والمنمق لابن حبيب ص 156 «أبو ذئب» وهذا ما أورده الزبير بن بكار في جمهرة نسب قريش ص 428.(9/465)
حبيب بن أسد بن عَبْد العزى ولبني حميد بن زهير التويتات والحميدات، وقال ذاك عَبْد الله بن عباس فِي كلام تكلم به.
وقال ابن الكلبي: كَانَ عَمْرو بن أمية بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى من مهاجرة الحبشة، وبِهَا مات.
ومن بني الحارث بن أسد بن عَبْد العزى: أبو البختري، وهو العاص ابن هاشم بن الحارث بن أسد،
قتل يوم بدر كافرًا، وكان الذي قتله المجذر بن زياد، وقد كتبنا خبره فيما تقدم من كتابنا هذا، وأمه من بني عَبْد الدار بن قصي، وولد أبي البختري يقولون نحن بنو قتيل الملائكة، فقال بعضهم لابن لِمصعب بن الزبير: أنا ابن عقير الملائكة فقال ابن مصعب، عُمَر بن مصعب: أنا ابن من نصرته الملائكة، يعني الزبير يعني حين قتله، وشر مقتول، فقال ابن أبي البختري: أنا ابن من سد البطحاء، فقال ابن مصعب: سدها أبوكَ بِسَلْحِهِ، وفتحها أبي برمحه.
ومن ولد أبي البختري:
الأسود بن أبي البختري
وكان من أشد قريش وشهد الجمل مع عائشة، وكان ابنه عَبْد الرَّحْمَن بن الأسود مع ابن الزبير، وكانت تَحته ابنة الزبير، وهو مِمّن كَانَ أعانَ عَلَى عَمْرو بن الزبير حَتَّى قتل يوم إقامه أخوه للناس، ولولد أبي البختري عقب بالمدينة.
قَالَ الكلبي: ومن ولد الأسود بن أبي البختري: طلحة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ بْن الأسود الذي يقول:
جدي علي وأبي البختري ... وطلحة التيمي والأسود
أم طلحة ابنة سعيد بن الأسود بن أبي البختري، وأمها فاطمة بنت(9/466)
علي بن أبي طالب، وسعيد بن أبي البختري وكان جميلا وله تقول المرأة:
ألا ليتني أشري سواري ودملجي ... بنظرة يوم من سعيد بن الاسود
قالوا: وكان من المحدثين أبو الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل من بني أسد بْن عبد العزى بْن قصي، يتيم عروة، مات في آخر سلطان بني أمية.
انقضى نسب بني قصي بن كلاب(9/467)
[الجزء العاشر]
بسم الله الرحمن الرحيم
[نسب ولد كعب بن لؤي]
[نسب ولد مرة بن كعب]
[نسب ولد كلاب بن مرة بن كعب]
نسب بني زهرة بْن كلاب بْن مرة بْن كعب
ولد زهرة بْن كلاب:
عبد مَنَاف بْن زهرة،
وأمه جمل بنت مالك بْن قصية بْن سعد من خزاعة. والحارث بْن زهرة أمه عقيلة بنت عَبْد العزى بْن غيرة من ثقيف، وبعضهم يقول عفيلة، وذلك تصحيف، وسوداء. وكانت كاهنة تقول: إن فِي نساء زهرة نجابة، فجعل اللَّه ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فولد عبد مَنَاف بْن زهرة:
وهب بْن عَبْدِ مَنَاف،
وَكَانَ من أشراف قُرَيْش، وَهُوَ جد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو أمه
آمنة بنت وهب بْن عَبْدِ مَنَاف،
وأهيب بْن عَبْدِ مَنَاف،
وقيس بْن عَبْدِ مَنَاف، وأبا قَيْس، وَهُوَ راكب البريد كَانَ لَهُ اتصال بملوك العراق والشام، فحمله بعضهم عَلَى البريد فِي أمر من الأمور، فسمي راكب البريد، وكانت الضيزنة ابنته عند عَبْد اللَّهِ بْن جدعان، ويزعمون أن روح بْن زنباع الجذامي ابنه، وأم أهيب، وقيس، وأبي قَيْس: هند بنت أَبِي قيلة وَهُوَ وجرة بْن غالب بْن خزاعة.
فمن بني عبد مَنَاف بْن زهرة: الأسود بْن عَبْدِ يغوث بْن وهب، وهو(10/7)
خال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكان من المستهزئين، وقد كتبنا خبره فِي أول هَذَا الكتاب.
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ، ثنا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدَائِنِيُّ، ثنا سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: أَخَذَ جِبْرِيلُ بِعُنُقِ الأَسْوَدِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ فَحَنَا ظَهْرَهُ حَتَّى احْقَوْقَفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَالِي خَالِي» . فَقَالَ جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ دَعْهُ.
وابنه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الأسود بْن عَبْدِ يغوث: وَكَانَ من خيار الْمُسْلِمِينَ وشهد يَوْم الحكمين [1] ، وقد روى عَن أَبِي بَكْر الصديق وله بالمدينة دار عند أصحاب الغرابيل والقباب، وَكَانَ المقداد بْن عُمَرَ البهراني ربيب الأسود بْن عَبْدِ يغوث، فنسب إِلَيْهِ، فقيل المقداد بْن الأسود، وَكَانَ خلف عَلَى أمه.
(ومنهم) : عَبْد اللَّهِ بْن الأرقم بْن عَبْد يغوث وكان على بيت مال عمر بْن الْخَطَّابِ، ثُمَّ عَلَى بيت مال عُثْمَان، وَكَانَ من الصالحين، ولما أنكر عَلَى عُثْمَان استسلافه مَا استسلف من بيت المال، ألقى مفاتيح بيت المال، واعتزله فولى عُثْمَان بيت المال زَيْد بْن ثَابِت الأَنْصَارِيّ وَلا عقب لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأرقم.
ومنهم: مخرمة بْن نَوْفَل بْن أهيب بْن عَبْد مَنَاف بْن زهرة، وَكَانَ من علماء قُرَيْش، وأمه ابنة صيفي بْن هِشَام بْن عَبْدِ مَنَاف بْن قصي، وَكَانَ أعمى أدرك الإِسْلام، وَكَانَ يكنى أبا مسور، ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين وله مائة وخمس عشرة سنة، وَقَالَ بعضهم: مات في أيام عثمان، والأول أثبت.
__________
[1] حكما صفين: أبو موسى وعمرو بن العاص.(10/8)
وَكَانَ ابنه الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ بْن نَوْفَل، وأمه أخت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف، أخبر عن يزيد بن معاوية، وقد قدم من عنده، بشر به الخمر، واعتكافه عَلَى اللذات فكتب إِلَى عامله عَلَى الْمَدِينَة أن يضربه حدا، فَقَالَ الشاعر:
أيشربها صرفا يفض ختامها ... أَبُو خَالِد ويضرب الحد مسور
وَقَالَ عقيل بْن أَبِي طالب للمسيب بْن حزن أَبِي سَعِيد بْن الْمُسَيِّبِ الفقيه: يا بن الزانية، فرفعه إِلَى عمر وكانت أم المسيب قد أسلمت، فَقَالَ عمر لعقيل: مَا تقول؟ قَالَ: عندي البينة عَلَى مَا رميتها من الزنا، فَقَالَ:
هلم بينتك فأتى بمخرمة بْن نَوْفَل بْن أهيب بْن عَبْد مَنَاف بْن زهرة، وبأبي جهم بْن حُذَيْفَة العدوي من قُرَيْش، فَقَالَ لهما عمر: مَا تشهدان؟ قَالا:
نشهد أنها زانية، قَالَ: وبأي شَيْء عرفتما ذَلِكَ؟ قَالا: نكناها فِي الجاهلية، فجلدهم عمر الحد ثمانين، ثمانين.
وَكَانَ الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ مع ابن الزبير بمكة، فأصابه حجر، فمات منه.
وَكَانَ المسور يكنى أبا عَبْد الرَّحْمَنِ، وَكَانَ موته بِمَكَّةَ يَوْم نعي يَزِيد بْن مُعَاوِيَة فِي شَهْر ربيع الأَوَّل سنة أربع وستين، وصلى عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، ودفن بالحجون، وَكَانَ حين مات ابْن اثنتين وستين سنة.
وَقَالَ الْهَيْثَم بْن عدي: مات ابْن سبعين، والأول أثبت.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وللمسور ثماني سنين، وقد حفظ عَن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَر عَنْ أُمِّ بَكْر(10/9)
بنت المسور قَالَت: ولد المسور بِمَكَّةَ بعد الهجرة بسنتين، وَكَانَ المسور عالما بأمور قُرَيْش، وله أحاديث قد مرت فِي هَذَا الكتاب، وَقَالَ الشاعر:
ومسورا وَابْن عوف مصعبا ضرعت ... هَذَا الشجاع وَهَذَا النَّاسك الفهم
يعني مصعب بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عوف قتل مَعَ ابْن الزُّبَيْر أَيْضًا.
ومن ولد الْمِسْوَر بْن مَخْرَمَةَ:
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن المسور، أمه ابنة شُرَحْبِيل بْن حسنة، وَكَانَ شُرَحْبِيل حليف بني جمح، ثُمَّ تحولوا فِي الإِسْلام إِلَى بني زهرة، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن المسور يكنى أبا المسور، وَكَانَ فقيها، ومات بالمدينة فِي سنة تسعين.
وهاشم بْن المسور أمه ابنة الزبرقان بْن بدر التميمي، وَكَانَ أَبُو بَكْر بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن المسور شاعرا وَهُوَ الذي يقول:
بينما نحن سائرون على الق ... اع سراعا والعيس تهوي هويا
خطرت خطرة عَلَى القلب من ذك ... راك وهنا فما استطعت مضيا
قلت لبيك إذ دعاني لك الش ... وق والحاديين كرا المطيا
وَقَالَ الشاعر، وَهُوَ الفضل بْن عَبَّاس بْن عتبة بْن أَبِي لهب فِي هاشم بْن المسور:
أودى بعيبة [1] راكب مستعجل ... يَوْم الرويثة هاشم بْن المسور
هلا رددت الفضل حين أخذتها ... فتكون معذرة وإن لم تعذر
ولقد أتيت عَلَى المشيب بسوءة ... شنعاء إن ذكرت وإن لم تذكر
وَكَانَ أخذ عيبة بعض أصحابه.
وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مخرمة محدثا يكنى
__________
[1] العيبة: زبيل من أدم، وما يجعل فيه الثياب. القاموس.(10/10)
أبا جَعْفَر، ومات سنة سبعين ومائة وَهُوَ ابن بضع وسبعين سنة.
وَكَانَ عَمْرو بْن عتبة بْن نَوْفَل بْن أهيب بْن عَبْد مَنَاف بْن زهرة عَلَى النَّاس يَوْم جلولاء [1] الوقيعة، وأمه عاتكة بنت أَبِي وقاص أخت سعد.
ومن بني عبد مَنَاف بْن زهرة:
أَبُو إِسْحَاقَ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ، واسمه مالك بْن أهيب بْن عَبْد مَنَاف بْن زهرة،
وَهُوَ أحد العشرة الذين وجبت لهم الجنة، ولما أسلم أَبُو بَكْر دعا سعدا إِلَى الإِسْلام فلم يبعد، وأتى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ أمره فأخبره بِهِ فأسلم، وأم سعد حمنة بنت سُفْيَان بْن أمية بْن عَبْدِ شمس.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ فِي إِسْنَادِهِ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يدعو إِلَى الإِسْلامِ مُسْتَخْفِيًا، فَلَقِيتُهُ بِشِعْبِ أَجْيَادَ [2] وَقَدْ صَلَّى الْعَصْرَ فَسَأَلْتُهُ عَمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ فَأَخْبَرَنِي، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّه، وأنك رسول الله.
قال سعد: فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ هَرَاقَ دَمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَوَّلُ مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي الإِسْلامِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ سَعْدٌ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ.
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن أَبِي بَكْرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ:
كُنْتُ ثَالِثًا فِي الإِسْلامِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي إسناده: كَانَ سعد قصيرا دحداحا غليظا ذا هامة
__________
[1] من أشهر معارك فتوح العراق.
[2] ما يزال يحمل الاسم نفسه في مكة المكرمة.(10/11)
شثن الأصابع، أشقر يخضب بالسواد، ومات فِي قصره بالعقيق وَهُوَ عَلَى عشرة أميال مِنَ الْمَدِينَةِ فحمل عَلَى رقاب الرجال إِلَى الْمَدِينَة.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِنْتُ سَعْدٍ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: أَسْلَمْتُ وَأَنَا ابْنُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَوُلِدْتُ عَامَ الْفِجَارِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي إسناده [1] عَن عَائِشَة بنت سعد: مات أَبِي سنة خمس وخمسين وصلى عَلَيْهِ مروان بْن الحكم وَهُوَ والي الْمَدِينَة وَكَانَ يَوْم مات ابْن بضع وسبعين سنة وَكَانَ يخضب بالسواد [2] .
وَقَالَ الْهَيْثَم بْن عدي: تُوُفِّيَ سعد بالمدينة، ودفن بالبقيع، وله نحو من ثمانين سنة.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ عَن أَبِي مخنف: تُوُفِّيَ سعد بالمدينة سنة خمس وخمسين، وله نيف وثمانون سنة.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «هَذَا خَالِي، فَلْيُرِنِي امْرُؤٌ خَالَهُ» ] .
وَحَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: لَقَدْ رَأَيْتُ سَعْدًا يُقَاتِلُ يَوْمَ بَدْرٍ وَهُوَ فِي الرِّجَالِ قِتَالَ الْفَارِسِ.
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ وَكِيعٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَدَّادٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] بالأصل: «في اسلامه» وهو تصحيف صوابه ما أثبتناه.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 139- 143.(10/12)
يَفْدِي أَحَدًا بِأَبَوَيْهِ إِلا سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ، سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: [ «ارْمِ سَعْدُ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي» ] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ قَيْسٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ اسْتَخْلَفَ خَالِدَ بْنَ عُرْفُطَةَ عَلَى الْكُوفَةِ فَأَسْلَمَتِ امْرَأَةٌ، فَأَتَتْهُ فَذَكَرَتْ أَنَّ زَوْجَهَا يَضْرِبُهَا عَلَى أَنْ تَعُودَ إِلَى النَّصْرَانِيَّةِ، وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً، فَضَرَبَهُ خَالِدٌ وَحَلَقَهُ وَفَرَّقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ، فَأَتَى النَّصْرَانِيُّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَشَكَا خَالِدًا فَأَشْخَصَ عُمَرُ خَالِدًا إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ، وَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ فَقَالَ عُمَرُ: الْحُكْمُ مَا حَكَمْتَ فِيهِ، وَكَتَبَ إِلَى الأَمْصَارِ أَنْ تُجَزَّ نَوَاصِيهِمْ وَأَنْ لا يَلْبَسُوا أَلْبِسَةَ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُعْرَفُوا.
وقيل فِي سعد:
رأيت سعودا من شعوب كثيرة ... فلم أر سعدا مثل سعد بْن مالك
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَشُرَيْحُ بْنُ يُونُسَ قَالا: ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: أَبِي وَاللَّهِ الَّذِي جَمَعَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأَبَوَيْنِ يَوْمَ أُحُدٍ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بن سعد، أنبأ معن بن عيسى عن بَعْضِ آلِ سَعْدٍ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهَا أَنَّهُ قَالَ:
أَلا أَبْلِغْ رَسُولَ اللَّهِ أَنِّي ... حَمَيْتُ صَحَابَتِي بِصُدُورِ نَبْلِي
أَذُودُ بِهَا عَدُوَّهُمُ ذِيَادًا ... بِكُلِّ حَزُونَةٍ وَبِكُلِّ سَهْلِ
فَمَا يُعْتَدُّ رَامٍ مِنْ مَعَدٍّ ... بِسَهْمٍ مَعَ رسول الله مثلي
[1]
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 142.(10/13)
وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: نُبِّئْتُ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: [ «اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ لَهُ إِذَا دَعَاكَ» ] .
وَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ مَالِك بْن أَنَس عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم دَعَا لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: [ «اللَّهُمَّ اسْتَجِبْ دَعْوَتَهُ وَسَدِّدْ رَمْيَتَهُ» .] وَكَانَ مِنْ مَعْدُودِي رُمَاةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَحَدَّثَنِي شجاع بْن مخلد الفلاس، ثنا جوير بْن عَبْدِ الحميد عَن مغيرة عَن أمه قَالَت: كانت امْرَأَة منا عند بعض آل سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ فزرناها فرأينا امْرَأَة قامتها قامة صبية فقلنا: مَا هَذِهِ؟ قَالُوا ابنة لسعد: وضع لسعد طهور فغمست يدها فِيهِ فطرف لها سَعْد وَقَالَ: قصع [1] اللَّه قرنك، فلم يزل عَلَى ذَلِكَ.
وحدثني عبيد اللَّهِ بْنُ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ، ثنا ابْن عون، حَدَّثَنِي مُحَمَّد الزُّهْرِيّ عَن عامر بْن سَعْد، قَالَ: رأى سَعْد النَّاس مجتمعين عَلَى رجل، وإذا هُوَ يسب عليا، وطلحة، والزبير فنهاه فكأنما أغراه، فَقَالَ ويلك مَا تريد إِلَى سب أقوام هم خير منك، لتنتهين عَن سبهم أو لأدعون اللَّه عليك، فَقَالَ: تخوفني كأنك نبي من الأنبياء، فصلى ودعا عَلَيْهِ فخرجت نجيبة نادة [2] فلم تزل تطأ بطنه حَتَّى طفئ، فجعل النَّاس يتبعون سعدا ويقولون: هنيئا، استجاب اللَّه لك يَا أبا إِسْحَاق.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنِي مَشَايِخُنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عن
__________
[1] قصع: مضع ودلك، ودفع، وقصع عطشه: إذا كسره بالري. النهاية لابن الأثير
[2] نادة: شاردة. القاموس.(10/14)
وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ يَلْبَسُ الْخَزَّ [1] .
حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، ثنا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثنا إِسْرَائِيلُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَلْبَسُ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ يَتَخَتَّمُ بِالذَّهَبِ، وَيَخْضِبُ بِالسَّوَادِ، وَيَلْبَسُ الْخَزَّ.
وَحَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ سَعْدٌ يُسَبِّحُ بِالْحَصَى وَكَانَ يَقُولُ: أَكْرَهُ أَنْ أَتَحَدَّثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ فَيَزِيدُوا عَلَيْهَا مِائَةً.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَسَدِيُّ، ثنا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ مُصْعَبٍ عَنْ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ الثَّوْمَ بَدَأَ بِهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أنبأ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنبأ شُعْبَةُ بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ يَحْيَى بْنِ الحضين قَالَ: سَمِعْتُ الْحَيَّ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ أَبِي قَالَ لِسَعْدٍ:
مَا يَمْنَعُكَ مِنَ الْقِتَالِ؟ قَالَ: لا، حَتَّى تَجِيئُونِي بِسَيْفٍ يَعْرِفُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ [2] .
حدثنا عفان بن مسلم، ثنا حماد بن زَيْدٍ، ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: صَحِبْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ فَمَا سَمِعْتُهُ حَدَّثَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حديثا حتى رجع.
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 143.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 143.(10/15)
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أنبأ حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لابْنِ عُمَرَ: هَلْ لَكَ فِي مَتْجَرٍ أَدُلُّكَ عَلَيْهِ تُصِيبُ مِنْهُ؟ فَقَالَ:
مَا عِنْدِي مَالٌ، قَالَ ائْتِ سَعْدًا فَاسْتَقْرِضْ مِنْهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَقْرَضَ خَمْسَةَ آلافِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَى بِهَا دِيبَاجًا مَنْسُوجًا بِالذَّهَبِ فَأَحْرَقَهُ فَأَصَابَ فَضْلا وَرَدَّ رَأْسَ الْمَالِ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ قَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَ بِهِ؟ فَأَخْبَرَهُ كَيْفَ صَنَعَ، فَقَالَ: أَكُلُّ الْمُسْلِمِينَ أَقْرَضَ كَمَا أَقْرَضَكَ؟
قَالَ: لا. قَالَ: فَإِنِّي أَعْزِمُ عَلَيْكَ لَمَا رَدَدْتَ هَذَا الْفَضْلَ إِلَيْهِمْ.
حَدَّثَنِي أَبُو حَسَّانٍ الزِّيَادِيُّ عَنِ الْمُبَارَكِ بْنِ سَعِيدٍ التَّوَّزِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: أَنِ اكْتُبْ لِي مَا أَحْدَثَتْ فُحُولُ الشُّعَرَاءِ فِي الإِسْلامِ، فَسَأَلَ لَبِيدًا فَقَالَ لَهُ: مَا أَحْدَثْتُ شَيْئًا، لَقَدْ شَغَلَنِي الْقُرْآنُ عَنِ الشِّعْرِ، فَزَادَهُ عُمَرُ فِي عَطَائِهِ.
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالا: ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ:
«مَرِضْتُ مَرَضًا أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَى الْمَوْتِ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُنِي فَقُلْتُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي مَالا كَثِيرًا أَفَأُوصِي بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ: لا. قُلْتُ فَالشَّطْرُ؟ قَالَ: لا. قُلْتُ: أَفَأُوصِي بِالثُّلُثِ؟ قَالَ: الثُّلُثُ، [وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ، لأَنَّكَ أَنْ تَتْرُكْ وَلَدَكَ أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ، وَإِنَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى اللُّقْمَةَ تَجْعَلُهَا فِي فِي امْرَأَتِكَ، وَلَعَلَّكَ أَنْ تُخَلَّفَ حَتَّى يَنْتَفِعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرَّ آخَرُونَ.] [اللَّهُمَّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلا تَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ مَاتَ بِمَكَّةَ» ] قَالُوا: يَقُولُ رَجَعَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي هَاجَرَ مِنْهَا.(10/16)
حَدَّثَنِي بَسَّامٌ الْحَمَّالُ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ أَنَّ عُمَرَ كَتَبَ إِلَى حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ أَنْ أَقْبِلْ إِلَيَّ، فَظَنَّ حُذَيْفَةُ أَنَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ سَعْدٍ، فَأَتَى سَعْدًا وَجَلَسَ عِنْدَهُ نَاحِيَةً وَقَالَ لِجُلَسَائِهِ: انْتَسِبُوا، فَانْتَسَبُوا، ثُمَّ قَالَ لِسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: انْتَسِبْ فَقَالَ: أَنَا سَلْمَانُ ابْنُ الإِسْلامِ، فَقَدِمَ حُذَيْفَةُ عَلَى عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ سَعْدٍ فَقَالَ: لا أَعْلَمُ إِلا خَيْرًا، غَيْرَ أَنِّي رَأَيْتُ عِنْدَهُ أَمْرًا كَرِهْتُهُ، وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى الأَشْعَثِ أَنْ أَقْدِمْ، وَكَانَ مِمَّنِ انْتَسَبَ عِنْدَ سَعْدٍ وَفَخَرَ بِآبَائِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: انْتَسِبْ.
فَقَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ مَعَ من انتسبت إِلَيْهِ، وَأَنَا وَسَلْمَانُ ابْنَا الإِسْلامِ.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَبِيبٍ أَنَّ سَعْدًا كَانَ يُصَلِّي الْعِشَاءَ، وَيُصَلِّي بَعْدَهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُصَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ رَكْعَةً يُوتِرُ بِهَا.
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ الْعَلافُ الْبَصْرِيُّ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْلَمَةَ يُحَدِّثُ أَنَّ سَعْدًا أَمَّهُمْ فِي الْعِشَاءِ الآخِرَةِ فَلَمَّا انْصَرَفَ تَنَحَّى فَرَكَعَ رَكْعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْصَرَفَ فَاتَّبَعْتُهُ فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ الرَّكْعَةُ يَا أَبَا إِسْحَاقَ؟ قَالَ: وِتْرٌ أَنَامُ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ فَقَالَ:
كَانَ سَعْدٌ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، ثنا سُرَيْجُ بن النعمان عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي صَالِحٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ سَعْدًا كَانَ يَقُولُ: إِنِّي لأُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّ الثَّلاثَ خَيْرٌ مِنَ الْوَاحِدَةِ، وَأَنَّ خَمْسًا خَيْرٌ مِنْ ثَلاثٍ، وَلَكِنِّي أُرِيدُ التَّيْسِيرَ عَلَى نَفْسِي.(10/17)
حَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، ثنا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمِّهِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قِيلَ لِسَعْدٍ إِنَّكَ تُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ، قَالَ نَعَمْ إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أُخَفِّفَ عَنْ نَفْسِي.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، ثنا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، أنبأ شُعْبَةُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ عَابَ عَلَى سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يُوتِرُ بِرَكْعَةٍ.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ، ثنا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ شَرِيكٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ قَالَ: أَنْكَرَ ابْنُ مَسْعُودٍ عَلَى سَعْدٍ رَكْعَةَ الْوِتْرِ، وَقَالَ: مَا أُخْبِرْتُ عَنْ أَحَدٍ قَطُّ بِرَكْعَةٍ، فَقَالَ: أَنْتَ الَّذِي تُوَرِّثُ حَوَّاءَ مِنْ بَنَاتِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُوَرِّثُ الْجَدَّاتِ.
وَحَدَّثَنِي الْعُمَرِيُّ عَنْ هشام ابن الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ سَعْدٌ لِعَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: إِنَّكَ لَمْ تُنْصِفْ عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيَّ قَالَ:
كَذَا، وَقُلْتُ: كَذَا، فَقَالَ عَمْرٌو: وَمَا أَنْتَ وَذَاكَ؟ فَغَضِبَ سَعْدٌ فَشَتَمَهُ وَاحْمَرَّتْ حَدَقَتَا عَمْرٍو وَانْتَفَخَتْ أَوْدَاجُهُ وَأَنْشَأَ يَقُولُ:
أَيُوعِدُنِي سَعْدٌ وَفِي الْكَفِّ صَارِمٌ ... سَيَمْنَعُ مني أن أذلّ وأخضعا
فو الله لَوْلا اللَّهُ لا شَيْءَ غَيْرُهُ ... لَجَلَّلْتُهُ إِيَّاهُ أَوْ يَتَقَطَّعَا [1]
فَبَلَغَ شِعْرُهُ سَعْدًا فَأَتَاهُ فَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أنبأ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنبأ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَمَرَتْ عَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُمَرَّ بِهِ عَلَيْهَا فَتَسْتَغْفِرُ لَهُ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سلمة عن
__________
[1] شعر عمرو بن معد يكرب ص 126.(10/18)
سماك بن حرب عن مصعب بن سعد قَالَ: كَانَ رَأْسُ أَبِي فِي حِجْرِي فَدَمِعَتْ عَيْنَايَ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ أَيْ بُنَيَّ؟ قُلْتُ: مَا أَرَى بِكَ. فَقَالَ: لا تَبْكِ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُعَذِّبُنِي، إِنِّي مِنْ أَهْلِ الْجِنَانِ، إِنَّ اللَّهَ يَدِينُ الْمُؤْمِنِينَ بِحَسَنَاتِهِمْ فَلْيَطْلُبْ كُلُّ عامل ثواب عمله ممن عمله لَهُ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَيُخَفَّفُ عَنْهُمْ بِحَسَنَاتِهِمْ [1] .
حَدَّثَنَا عَبَّاسُ بْنُ الْوَليِدِ النَّرْسِيُّ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ سَعْدًا أَكْرَمَ شرحبيل بن السمط الكندي وَفَضَّلَهُ عَلَى الأَشْعَثِ فَغَضِبَتْ كِنْدَةُ لِذَلِكَ، وَوَجَّهَهُ [2] سَعْدٌ عَلَى جَيْشٍ فَقَالَ: مَنْ أَتَى حَدًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلْيَأْتِنِي أُطَهِّرْهُ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِيهِ فَيَقُولُ: عَمِلْتُ كَذَا وَكَذَا فَيَجْلِدُهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ، فَقَالَ: لا يَتَأَمَّرُ عَلَى اثْنَيْنِ مَا بَقِيتُ. هَتَكَ أَسْتَارَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ: كَانَ بين الأشعث وشرحبيل بْن السمط الكنديين تباعد، فوفد جرير بْن عَبْدِ اللَّهِ الْبَجْلِيّ إِلَى عمر فَقَالَ لَهُ الأشعث:
إن قدرت أن تنال من شُرَحْبِيل عند عمر فافعل، وَكَانَ شُرَحْبِيل قد شرف بالكوفة، فلما قدم جرير عَلَى عمر سأله عَن النَّاس، فَقَالَ: هم كالقداح فِي حفيرها، فمنها الأعصل الطائش والمقوم الصائب، وسعد ثقافها يقيم أود ذي الأود مِنْهَا، ويغمز عصل ذي العصل، وقد قَالَ القائل:
أَلا ليتني والمرء سَعْد بْن مالك ... وزبراء وَابْن السمط فِي لجة البحر
فيغرق أصحابي وأخرج سالما ... عَلَى ظهر قرقور أنادي أَبَا بَكْر
فَقَالَ: قد فعلها فكيف طاعة النَّاس لَهُ؟ قَالَ: يقيمون الصلاة
__________
[1] طبقات ابن سعد: ج 3 ص 146- 148.
[2] بهامش الأصل: يعني شرحبيل.(10/19)
ويؤتون الزكاة. فَقَالَ: إذا أقيمت الصلاة وأديت الزكاة كانت الطاعة والجماعة، وكتب عمر إِلَى سَعْد فِي حمل شُرَحْبِيل بْن السمط وزبراء جارية سَعْد إِلَيْهِ فحملهما، فحبس زبراء بالمدينة، وأخرج شُرَحْبِيل إِلَى الشام، وَكَانَ أبوه كتب يطلبه وَكَانَ من غزاة الشام، فشرف شُرَحْبِيل بالشام، فلما قدم جرير بكتاب علي إِلَى مُعَاوِيَة فِي البيعة لعلي انتظر مُعَاوِيَة قدوم شُرَحْبِيل عَلَيْهِ فقدم، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة: قدم جرير فِي كَذَا وَكَذَا فما ترى؟ قَالَ: كَانَ عُثْمَان خليفتنا فإن قويت عَلَى الطلب بدمه وإلا فاعتزلنا. فانصرف جرير، فَقَالَ النجاشي فِي ذَلِكَ:
شُرَحْبِيل مَا للدين فارقت أمرنا ... ولكن لبغض المالكي جرير
وقولك مَا قد قلت عن أمر أشعث ... فأصبحت كالحادي بغير بعير
جرير بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جابر بْن مالك، فنسبه إِلَى مالك.
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارِ وَالْعَبَّاسُ بْنُ الْوَليِدِ النَّرْسِيُّ قَالا: ثنا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ سَعَوْا بِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ إِلَى عُمَرَ وَقَالُوا: إِنَّهُ لا يُحْسِنُ الصَّلاةَ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ صَلاةَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا أَخْرِمُ مِنْهَا أَرْكُدُ [1] فِي الأُولَيَيْنِ، وَأَحْذِفُ فِي الآخِرَتَيْنِ. فَقَالَ عُمَرُ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ أَبَا إِسْحَاقَ، وَأَرْسَلَ عُمَرُ رِجَالا يَسْأَلُونَ عَنْهُ بِالْكُوفَةِ فَجَعَلُوا لا يَأْتُونَ مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ الْكُوفَةِ إِلا قَالُوا خَيْرًا، وَأَثْنَوْا مَعْرُوفًا، حَتَّى أَتَوْا مَسْجِدًا مِنْ مَسَاجِدِ بَنِي عَبْسٍ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَعْدَةَ: أَمَّا إِذَا سَأَلْتُمُونَا عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ لا يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ. قَالَ: فَقَالَ سَعْدٌ: اللَّهُمَّ إن كان كاذبا
__________
[1] الركود: السكون. القاموس.(10/20)
فَأَطِلْ عُمُرَهُ، وَأَدِمْ فَقْرَهُ، وَأَعْمِ بَصَرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ:
فَأَنَا رَأَيْتُهُ يَتَعَرَّضُ لِلإِمَاءِ فِي السِّكَكِ، فَإِذَا قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَنْتَ يَا أَبَا سَعْدَةَ؟
قَالَ: كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، فَقِيرٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الزِّيَادِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَمْرَو بْنَ مَعْدِي كَرِبَ الزَّبِيدِيَّ وَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ بَعْدَ أَنْ فَتَحَ سَعْدٌ الْقَادِسِيَّةَ وَمَا فَتَحَ مِنَ السَّوَادِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْهُ وَعَنْ رِضَاءِ النَّاسِ بِهِ فَقَالَ: تَرَكْتُهُ يَجْمَعُ لَهُمْ جَمْعَ الذَّرَةِ وَيُشْفِقُ عَلَيْهِمْ شَفَقَةِ الأُمِّ الْبَرَّةِ، أَعْرَابِيٌّ في مرضه، نَبَطِيٌّ فِي جِبَايَتِهِ، يَقْسِمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَيَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ وَيُنْفِذُ بِالسَّرِيَّةِ. فَقَالَ عُمَرُ: كَأَنَّكُمَا تَقَارَضْتُمَا الثَّنَاءَ، وَكَانَ سَعْدٌ كَتَبَ يُثْنِي عَلَى عَمْرٍو.
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثنا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ مَرِضَ فَعَادَهُ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فَقَالَ: كَيْفَ نَجِدُكَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ فَبَكَى، فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَبْكِي حِرْصًا عَلَى الدُّنْيَا، وَلا جَزَعًا مِنَ الْمَوْتِ، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ وَعَهِدَ إِلَيْنَا: [ «لِيَكُنْ بَلاغُ أَحَدِكُمُ الدُّنْيَا كَزَادِ الرَّاكِبِ» ] فَأَخْشَى أَنْ نَكُونَ تَجَاوَزْنَا أَمْرَهُ، فَبَكَيْتُ، فَأَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الأَمِيرُ فَأُذَكِّرُكَ اللَّهَ عِنْدَ هَمِّكَ إِذَا هَمَمْتَ، وَعِنْدَ لِسَانِكَ إذا نطقت، وعند يدك إذا بطشت.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ الْوَقَّاصِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَعْدًا أَخَذَ خَمْسَ جَوَارٍ مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَ جَلُولاءَ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْهُنَّ فَقَالَ: خِفْتُ أَنْ يَفْتَتِنَ الْمُسْلِمُونَ بِهِنَّ فَبِعْتُهُنَّ وَجَعَلْتُ ثَمَنَهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ عُمَرُ عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدَهُ كَمَا قَالَ سَعْدُ.(10/21)
وَحَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَانَ قَالَ: رَأَى سَلْمَانُ مِنْ سَعْدٍ شَيْئًا أَنْكَرَهُ، فَأَقْسَمَ بِاللَّهِ لَيُبْلِغَنَّهُ عُمَرَ، فَأَرْسَلَ سَعْدٌ إِلَى سَلْمَانَ مِنْ كَلِمَةٍ فِي الإِمْسَاكِ عَنْ ذَلِكَ فَسَكَتَ سَلْمَانُ وَكَانَ لَهُ مَمْلُوكٌ لا يَمْلِكُ غَيْرَهُ فَقَالَ: أَنْتَ حُرٌّ لِوَجْهِ اللَّهِ ثُمَّ قَالَ: لَسْتُ بِذَاكِرٍ لِعُمَرَ شَيْئًا.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا عُثْمَانُ، ثنا وُهَيْبٌ، أنبأ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ:
لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَرْسَلْنَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ مُرُّوا بِجِنَازَتِهِ فِي الْمَسْجِدِ فَفَعَلُوا، وَوَقَفَ بِهَا حُجَرَهُنَّ فَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ، وَخَرَجَ بِهِ مِنْ بَابِ الْجَنَائِزِ الَّذِي كَانَ يَلِي الْمَقَاعِدَ فَبَلَغَهُنَّ أَنَّ النَّاسَ عَابُوا ذَلِكَ وَقَالُوا مَا كَانَتِ الْجَنَائِزُ تَدْخُلُ الْمَسْجِدَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَتْ: مَا أَسْرَعَ النَّاسَ إِلَى عَيْبِ مَا لا عِلْمَ لَهُمْ بِهِ مَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ الْبَيْضَاءِ إِلا فِي جَوْفِ الْمَسْجِدِ [1] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمَّا عَابَ النَّاسُ إِدْخَالَ جِنَازَةِ سَعْدٍ الْمَسْجِدَ قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسُوا، لَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سُهَيْلِ بْنِ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ.
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، ثنا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثنا خَالِدُ بْنُ إِلْيَاسَ عَنْ صَالِحِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ الْمُسَيِّبِ فَمَرَّ عَلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فَقَالَ: أَيْنَ صُلِّيَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ؟ فَقَالَ: شُقَّ بِهِ الْمَسْجِدُ إِلَى أَزْوَاجِ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُنَّ أرسلن: إنا لا نستطيع الخروج
__________
[1] طبقات بان سعد ج 3 ص 148.(10/22)
إِلَيْهِ، فَدَخَلُوا بِهِ، وَأَقَامُوا بِسَرِيرِهِ عَلَى رُؤُوسِهِنَّ فَصَلَّيْنَ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، ثنا فَرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ سَعْدٍ قَالَتْ: أَرْسَلَ سَعْدٌ بِزَكَاةِ عَيْنِ مَالِهِ إِلَى مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ، وَهِيَ خَمْسَةُ آلافِ دِرْهَمٍ، وَتَرَكَ سَعْدٌ يَوْمَ مَاتَ مِائَتَيْ أَلْفِ وَخَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، ثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَالِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عُمَرَ قَاسَمَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ مَالَهُ حِينَ عَزَلَهُ عَن الْعِرَاقِ [1] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ دَعَا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ حِينَ شَكَوْهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا تُرْضِ عَنْهُمْ أَمِيرًا وَلا تُرْضِهِمْ بَعْدِي بِأَمِيرٍ، فَهُمْ كَذَلِكَ.
قَالُوا وَكَانَ بِسَعْدٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ قَرْحٌ، فَلَمْ يُبَاشِرِ الْقِتَالَ فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ:
وَقَاتَلْتُ حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ نَصْرَهُ ... وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ يَعْصِمُ
فَرِحْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ ... وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ رَبِيعَةَ الْخَثْعَمِيُّ صَاحِبُ جَبَّانَةِ بِشْرٍ بِالْكُوفَةِ:
تَحِنُّ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ نَاقَتِي ... وَسَعْدُ بْنُ وَقَّاصٍ عَلَيَّ أَمِيرُ
وَسَعْدٌ أَمِيرٌ شَرُّهُ دُونَ خَيْرِهِ ... طَوِيلُ الأَذَى كَابِي الزِّنَادِ قَصِيرُ
تَذَكَّرْ هَدَاكَ اللَّهُ وَقْعَ سُيُوفِنَا ... بِبَابٍ قديسٍ وَالْمَكَرُّ عَسِيرُ
عَشِيَّةَ وُدِّ الْقَوْمِ لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ ... يُعَارُ جَنَاحَيْ طَائِرٍ فَيَطِيرُ
وَسَمِعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلا يُجَبِّنُ سَعْدًا، فَقَالَ أَتُجَبِّنُهُ وَقَدْ رَأَيْتَهُ يُقَاتِلُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قتال ليث مجرّب.
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 149.(10/23)
وَحَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَشَوْا بِسَعْدٍ إِلَى عُمَرَ وَقَالُوا: ذَهَبَ بِحُقُوقِنَا وَاعْتَدَى عَلَيْنَا فَعَزَلَهُ وَوَلَّى عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ، فَدَعَا سَعْدٌ عَلَيْهِمْ.
وَكَانَ وَلَدُ سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: إِسْحَاقَ الأَكْبَرَ، وَبِهِ كَانَ يُكَنَّى دَرَجَ، وَأُمَّ الْحَكَمِ الْكُبْرَى، وَزَيْنَبَ وَأُمَّهُمُ ابْنَةَ شِهَابِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ.
وعمر بْن سَعْد ويكنى أبا حفص وَهُوَ صاحب الْحُسَيْن بْن علي، والمتولي لمحاربته، قتله المختار بْن أَبِي عبيد وقد كتبنا خبره.
وَمُحَمَّد بْن سَعْد قتل يَوْم دير الجماجم، قتله الحجاج، وفيه يَقُول الفرزدق:
ولو شهد الخيل ابْن سَعْد لقنعوا ... عصابته الميلاء عضبا مذكرا [1]
وحفصة، وأم الْقَاسِم، وأم كلثوم. وأمهم مارية بنت قَيْس بْن معدي كرب الكندي ويقال ابنة أَبِي الكيسم الكندي، وأخيذة، وعامر، وإسحاق الأصغر، وإسماعيل، وأم عمران، وأمهم أم عامر بنت عَمْرو بْن كعب من بهراء. وإبراهيم، وموسى، وأم الحكم الصغرى، وأم عَمْرو، وهند وأم الزُّبَيْر، وأم مُوسَى وأمهم أم زبراء، وبنوها يزعمون أنها ابنة يعمر بْن شراحيل بْن عَبْدِ عوف من ولد قَيْس بْن ثَعْلَبَة بْن عُكابة مسبية.
وعَبْد اللَّهِ، وأمه سلمى من بني تغلب، ومصعب بْن سَعْد، وأمه خولة بنت عَمْرو بْن أوس تغلبية، وعَبْد اللَّهِ وبجير واسمه عَبْد الرَّحْمَنِ، وحميدة وأمهم أم هلال بنت ربيع بْن مرى من مذجح، وعمير بن سعد
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 240 مع فوارق.(10/24)
الأكبر هلك قبل أَبِيهِ، وحمنة وأمها أم حكيم بنت قارض من كنانة، وهم حلفاء فِي بني زهرة. وعمير الأصغر وعمرو، وعمران، ويحيى، وأم عَمْرو، وأم أَيُّوب، وأم إِسْحَاق، وأمهم سلمى بنت حفصة من بني تيم اللات بْن ثعلبة بْن عكابة.
وصالح بْن سَعْد كَانَ نزل الحيرة لشر وقع بينه وبين أخيه عمر بْن سَعْد ونزلها ولده، ثم انتقلوا إِلَى رأس العين من الجزيرة، وأمه ظبية بنت عامر بْن النمر بْن قاسط.
وعثمان، ورملة أمهما أم حجير.
وعمرة وَهِيَ العمياء تزوجها سهيل بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عوف.
وعائشة أمها من سبايا العرب.
وَكَانَ لمحمد بْن سَعْد ابْن يقال لَهُ إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّد بالمدينة، من فقهاء قُرَيْش ونبلهم، وَكَانَ لموسى بْن سَعْد ابْن يقال لَهُ بجاد ولم يكن بذاك، كَانَ بخيلا ضعيفا وضيعا، وفيه يَقُول الشاعر:
بجاد بْن مُوسَى وَابْن سَعْد بْن مالك ... كليب قطار لا يسوق وَلا يحمي
وقتل المختار حفص بْن عُمَرَ بن سعد مع أبيه.
وقال هشام ابن الْكَلْبِيّ: كَانَ عامر وَمُحَمَّد وعائشة، ومصعب، وإبراهيم، ويحيى، وعَبْد الرَّحْمَنِ، وعمر، بنو سَعْد محدثين جميعا، وَكَانَ إِسْمَاعِيل بْن مُحَمَّدِ بْنِ سَعْد فقيها أَيْضًا، ومات عامر بْن سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ فِي سنة اربع ومائة، ويقال فِي أيام الْوَليِد بْن عَبْدِ الملك، والأول قول الْوَاقِدِيّ، والثاني قول الْهَيْثَم بْن عدي، ومات مصعب بْن سَعْد فِي سنة ثلاث ومائة.(10/25)
ومن بني عبد مَنَاف بْن زهرة أَيْضًا
عتبة بْن أَبِي وقاص:
أخو سَعْد، وَهُوَ الَّذِي كسر رباعية النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أحد، فيقال أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عَلَيْهِ أَلا يأتي عَلَيْهِ الحول فمات بعد قليل. وَقَالَ قوم: أسلم فِي الفتح ومات بعد الفتح وموته قبل الفتح أثبت.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، ثنا مُطَرِّفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، مَوْلَى أَسْلَمَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدٍ أَنَّ ابْنَ وَلِيدَةَ زَمْعَةَ بْنَ قَيْسٍ أَخِي سَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ زَوْجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ، وَقَالَ: اقْبِضْهُ إِلَيْكَ، فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، وَقَالَ: ابْنُ أَخِي، قَدْ كَانَ أَخِي عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَمْعَةَ، وَيُقَالُ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِي وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَعْدٌ: ابْنُ أَخِي، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ، أَوْ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ- أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ، الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ» ، ثُمَّ قَالَ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ احْتَجِبِي عَنْهُ» ،] لَمَّا رَأَى مِنْ شَبَهَهُ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ.
ومن ولد عتبة بْن أَبِي وقاص
هاشم بْن عتبة بْن أَبِي وقاص: وَكَانَ هاشم يدعى المرقال
لأنه قَالَ: وَاللَّه لأرقلن إِلَى هَذَا العدو إرقال الجمل المصاعب، وفقئت عينه يَوْم اليرموك بالشام، وقتل يَوْم صفين مَعَ عَلِيّ بْن أَبِي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَكَانَ يقاتل ويقول يَوْم صفين:
أعور يبغي أهله محلا ... وقد عالج الحياة حَتَّى ملا(10/26)
لا بد أن يفل أَوْ يفلا ... قد أكثر القول وَمَا أقلا
وَكَانَ هاشم بْن عتبة المرقال قد أفطر فِي آخر يَوْم من شهر رمضان، فشهد عليه بذلك قوم عند سَعِيد بْن العاص بْن سَعِيد بْن العاص عامل عُثْمَان بْن عَفَّان عَلَى الكوفة، فقال له سَعِيد: كيف رأيته بعين واحدة، وعامة الخلق ينظرون بعينين ولم يروه؟ فَقَالَ لَهُ سببت خير عيني، فضربه سَعِيد عند ذَلِكَ حدا، فلما قتل عُثْمَان رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لحق هاشم بعلي عَلَيْهِ السلام، فاستعمله عَلَى الْكُوفَة، فلما قدمها أخذ سعيدا فضربه بضربة إياه مائة جلدة فَقَالَ هاشم وسعيد يضرب بين يديه:
صبرا سَعِيد فإن الحر مصطبر ... ضرب بضرب وتسحاب بتسحاب
وقتل المرقال بصفين، وَقَالَ بعضهم: كانت راية علي العظمى بصفين مَعَهُ.
ونافع بْن عتبة بْن أَبِي وقاص:
ومنهم: عمير بْن أَبِي وقاص
أخو سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ أسلم وَهُوَ غلام، وأمه أم سَعْد حمنة بنت سُفْيَان بْن أمية، وَكَانَ مَعَ أخيه حين هاجر إِلَى الْمَدِينَة، فلما عرض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاس يَوْم بدر جعل يتطاول خوفا من أن يرده رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويستصغره، فلما رآه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رده، فبكى فأجازه، واستشهد يومئذ قتله عَمْرو بْن عَبْدِ ود.
ومنهم: عامر بْن أَبِي وقاص،
ولم يزل سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ يدعوه إِلَى الإِسْلام حَتَّى أسلم، وأتى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأظهر إسلامه.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَرْوَزِيُّ ثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أنبأ شعبة(10/27)
حَدَّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: قَالَت لِي أُمِّي: أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ، وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لا أَكَلْتُ طَعَامًا وَلا شَرِبْتُ شَرَابًا حَتَّى تَكْفُرَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ فَكَانُوا يَفْتَحُونَ فَاهَا ثُمَّ يُلْقُونَ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فانبئكم بما كنتم تعملون [1] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ، ثنا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّد عَنِ ابْن جريج عَنْ مُحَمَّد بْن عباد في قول اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فانبئكم بما كنتم تعملون [2] . قَالَ: نزلت فِي سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ وفي والدته نذرت أن لا تكلمه حَتَّى يمس إسافا ونائلة.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنَا أَبُو بكر بن إسماعيل بن محمد بن سعد عَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ سمَارٍ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: لَقَدْ أَسْلَمْتُ وَمَا فُرِضَتِ الصَّلاةُ، كُنَّا نُصَلِّي الْعَصْرَ فَأَخْبَرْتُ أُمِّي بِذَلِكَ فَأَجِدُهَا عَلَى بَابِهَا فَتَصِيحُ: أَلا أَعْوَانُ يُعِينُونِي عَلَيْهِ مِنْ عَشِيرَتِي، أَوْ عَشِيرَتِهِ فَأَحْبِسُهُ فِي بَيْتٍ وَأُطَيِّنُ عَلَيْهِ بَابَهُ حَتَّى يَمُوتَ، أَوْ يَدَعَ هَذَا الدِّينَ الْمُحْدَثَ، فَرَجَعْتُ مِنْ حَيْثُ جِئْتُ وَقُلْتُ: لا أَعُودُ إِلَيْكِ وَلا أَقْرَبُ مَنْزِلَكِ، فَهَجَرْتُهَا حِينًا ثُمَّ أَرْسَلَتْ إِلَيَّ أَنْ عُدْ إِلَى مَنْزِلِكَ، وَلا تَتَضَيَّفِ النَّاسَ، فَتُلْزِمُنَا عَارًا، فَرَجَعْتُ إِلَى منزلي فمرة تلقاني بالشر،
__________
[1] سورة العنكبوت- الآية: 8.
[2] سورة لقمان- الآية 15.(10/28)
وَمَرَّةً بِالْبِشْرِ، وَهِيَ تَقُولُ فِي ذَلِكَ: لَكِنَّ ابْنِيَ الْبَرَّ لا يُفَارِقُ دِينَهُ وَلا يَكُونُ تَابِعًا يَعْنِي عَامِرًا، ثُمَّ إِنَّ عَامِرًا أَسْلَمَ فَلَقِيَ مِنْهَا مَا لَمْ يَلْقَ أَحَدٌ مِنَ الصِّيَاحِ وَالأَذَى حَتَّى هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جِئْتُ مِنَ الرَّمْيِ وَإِذَا النَّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَى أُمِّي حَمْنَةَ بِنْتِ سُفْيَان، وَعَلَى أَخِي عَامِرِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَكَانَ إِسْلامُهُ بَعْدَ عَشْرَةٍ أَوْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلا، فَقُلْتُ: مَا شَأُّن النَّاسِ؟ قَالُوا: هَذِهِ أُمُّكَ قَدْ آخَذَتْ أَخَاكَ عَامِرًا، فَهِيَ تُعْطِي اللَّهَ عَهْدًا أَلا يُظِلَّهَا ظِلٌّ وَلا تَأْكُلُ طَعَامًا وَلا تَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى يَدَعَ صَبْأَتَهُ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى صِرْتُ إِلَيْهَا، فَقُلْتُ: عَلَيَّ فَاحْلِفِي يَا أُمَّهُ: لا تستظلي، فو الله لا تَسْتَظِلِّينَ وَلا تَأْكُلِينَ وَلا تَشْرَبِينَ حَتَّى تتبوئين مَقْعَدَكِ مِنَ النَّارِ، فَقَالَتْ:
إِنَّمَا حَلَفْتُ عَلَى ابْنِي الْبَرِّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا معروفا الآية.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مسعود بْن القتات، حَدَّثَنِي الوقاصي أن عامر بْن أَبِي وقاص كَانَ سوغ [1] أخيه سَعْد وأصغر منه بنحو من سنتين وَكَانَ يكنى أبا عَمْرو، ووجهه عُمَر بْن الْخَطَّابِ إِلَى الشام بكتابه إِلَى أَبِي عبيدة بْن الجراح بالولاية مكان خَالِد بْن الْوَليِد، وإلى خَالِد بالعزل وأقام مَعَ الْمُسْلِمِينَ ومات فِي طاعون عمواس.
قَالَ أَبُو مسعود: سمعت من يَقُول: إنه شخص إِلَى مصر مَعَ من شخص إِلَيْهَا من الْمُسْلِمِينَ فمات بها.
__________
[1] وهذا سوغ هذا وسوغته، كلاهما في الذكر والأنثى: ولد بعده، ولم يولد بينهما. القاموس.(10/29)
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: وَكَانَ نافع بْن عتبة بْن أَبِي وقاص مَعَ أَبِيهِ يَوْم أحد وشهده كافرا.
[حارث بن زهرة]
وولد الْحَارِث بْن زهرة: عَبْد الْحَارِث، وعَبْد اللَّهِ بْن الْحَارِث، ووهب بْن الْحَارِث، وَهُوَ ذو الفرية، وَكَانَ إذا قاتل أعلم بفرية، أي قطعة فروة.
فمن ولد الْحَارِث:
عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف بْن عَبْدِ الْحَارِث بْن زهرة
وَكَانَ اسمه فِي الجاهلية عبد عَمْرو، فسماه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد الرَّحْمَنِ، ويكنى أبا مُحَمَّد، وأمه الشفاء بنت عوف بْن عَبْدِ الْحَارِث وَهِيَ ابنة عم أَبِيهِ، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ يدعى الأمين، وَكَانَ صديقا لأَبِي بَكْر بْن أَبِي قحافة، فدعاه أَبُو بَكْر إِلَى الإِسْلام فلم يبعد، وعرض لَهُ شغل فلما قضاه أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يدخل دار الأرقم ويدعو فِيهَا، فشهد أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ، وأن عبادة آبائه ضلال وجهل، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ صهر عُثْمَان بْن عَفَّان لأنه تزوج أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وأمها أروى أم عُثْمَان، خلف عَلَيْهَا عقبة.
حَدَّثَنَا الْوَليِدُ بْنُ صَالِحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ قَالَ: أَسْلَمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم بْنِ أَبِي الأَرْقَمِ الْمَخْزُومِيِّ، وَقَبْلَ أَنْ يَدْعُوَ فِيهَا [1] .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، ثنا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ اسْمُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 124.(10/30)
عَوْفٍ عَبْدَ الْكَعْبَةِ، فَسَمَّاهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: [ «كيف فَعَلْتَ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ فِي اسْتِلامِ الْحَجَرِ؟ قَالَ: اسْتَلَمْتُ وَتَرَكْتُ. قَالَ: أَصَبْتَ» ] .
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَرْعَرَةَ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّامِيُّ عَن الْعَقَدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ الْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ قَالَ لِي عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: يَا مِسْوَرُ، مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ خَالِكَ فِي الْهِجْرَةِ الأُولَى وَالآخِرَةِ فَقَدْ كَذَبَ.
حَدَّثَنَا الْوَليِدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا هَاجَرَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِنْ مَكَّةَ نَزَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: هَذَا مَالِي أُقَاسِمُكَ إِيَّاهُ، وَلِي زَوْجَتَانِ أَنْزِلُ عَنْ إِحْدَيْهِمَا، فَقَالَ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي مَالِكَ وَزَوْجَتِكَ وَلَكِنْ إِذَا أَصْبَحْتَ فَدُلَّنِي عَلَى سُوقِكُمْ فَدَلَّهُ فَرَجَعَ بِحَمِيتٍ [1] مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ [2] قَدْ رَبِحَهُ.
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَنْبَأَ حُمَيْدٌ وَثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: أَيْ أَخِي، أَنَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَالا، فَانْظُرْ شَطْرَ مَالِي فَخُذْهُ، وَتَحْتِي امْرَأَتَانِ فَانْظُرْ أَيُّهُمَا أَعْجَبُ إِلَيْكَ حَتَّى أُطَلِّقَهَا لَكَ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ، دُلُّونِي على السوق، فدلّوه
__________
[1] الحميت: الزق الصغير، أو الزق بلا شعر. القاموس.
[2] الأقط شيء يتخذ من المخيض الغنمي. القاموس.(10/31)
فَاشْتَرَى وَبَاعَ فَرَبِحَ، وَجَاءَ بِشَيْءٍ مِنْ سَمْنٍ وَأَقِطٍ ثُمَّ لَبِثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَأَتَى النبي صلى الله عليه وسلم عليه ردع [1] مِنْ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَهْيَمْ» ؟ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً قَالَ: «فَمَا أَصْدَقْتَهَا» ؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ. [قَالَ: «أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ» .] قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: فَرَأَيْتُنِي وَلَوْ رَفَعْتُ حَجَرًا لَرَجَوْتُ أَنْ أُصِيبَ تَحْتَهُ فِضَّةً أَوْ ذَهَبًا.
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، ثنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضَّبِّيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زياد عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى ثَلاثِينَ أَلْفًا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: خط رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لبني زهرة فِي ناحية مؤخر المسجد، فكان لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عوف الحش، والحش نخل صغار لا يسقى.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْطَعَنِي وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرْضَ كَذَا، فَذَهَبَ الزُّبَيْرُ إِلَى عُمَرَ فَاشْتَرَى نَصِيبَهُ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ لِعُثْمَانَ: إِنَّ ابْنَ عَوْفٍ قَالَ كَذَا؟ فَقَالَ عُثْمَانُ: هُوَ جَائِزٌ الشَّهَادَةُ لَهُ وَعَلَيْهِ [2] .
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الزَّاهِدُ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة
__________
[1] الردع: العنق، والزعفران، أو لطخ منه، وأثر الطيب في الجسد. القاموس.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 127 مع فوارق حيث جاء «فذهب الزبير إلى آل عمر فاشترى منهم نصيبهم» .(10/32)
فَسُئِلَ هَلْ أَمَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَلَمَّا كَانَ السَّحَرُ ضَرَبَ عُنُقَ رَاحِلَتِي فَظَنَنْتُ أَنَّ لَهُ حَاجَةً فَعَدَلْتُ مَعَهُ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى بَرَزْنَا عَنِ النَّاسِ فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ ثُمَّ انْطَلَقَ فَتَغَيَّبَ عَنِّي حَتَّى مَا أَرَاهُ فَمَكَثَ طَوِيلا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مَاءٌ؟ قُلْتُ:
نَعَمْ. فَقُمْتُ إِلَى قِرْبَةٍ أَوْ قَالَ سَطِيحَةٍ [1] مُعَلَّقَةٍ فِي آخِرِ الرَّحْلِ، فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ فَأَحْسَنَ غَسْلَهُمَا- قَالَ: أَشُكُّ، قَالَ: دَلِّكْهُمَا بِتُرَابٍ، أَمْ لا- ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثُمَّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ يَدِهِ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ ضَيِّقَةُ الْكُمِّ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَمَسَحَ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، ثُمَّ رَكِبْنَا فَأَدْرَكْنَا النَّاسَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلاةُ فَتَقَدَّمَهُمْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَةً وَهُمْ فِي الثَّانِيَةِ، فذهبت أؤذنه بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَلَّيْنَا الرَّكْعَةَ الَّتِي أَدْرَكْنَا وَقَضَيْنَا الَّتِي سُبِقْنَا بِهَا» .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ الْمُغِيرَةُ يَحْمِلُ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَدَّثَ بِنَحْوِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ: وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ صَلَّى خَلْفَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَذَلِكَ فِي غَزَاةِ تَبُوكَ: [ «مَا مَاتَ نَبِيٌّ قَطُّ حَتَّى يُصَلِّيَ خَلْفَ رَجُلٍ صَالِحٍ مِنْ أُمَّتِهِ» ] .
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَمَّمَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بِيَدِهِ بِعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ، وَأَرْخَى بَيْنَ كَتِفَيْهِ» .
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ، ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رَخَّصَ لِعَبْدِ الرحمن بن
__________
[1] السطيحة: المزادة. القاموس.(10/33)
عَوْفٍ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ فِي سَفَرٍ لِحَكَّةٍ كَانَ يَجِدُهَا بِجِلْدِهِ» .
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، ثنا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، أنبأ أَبُو جَنَّابٍ الْكَلْبِيُّ عَن أَبِيهِ عَن أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: «شَكَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثْرَةَ الْقَمْلِ وَاسْتَأْذَنَهُ فِي لِبْسِ قَمِيصِ حَرِيرٍ، فَأَذِنَ لَهُ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَقَامَ عُمَرُ أَتَى بِي أَبِي وَعَلَيَّ قَمِيصٌ مِنْ حَرِيرٍ، فَلَمَّا رَآهُ عُمَرُ قَالَ: مَا هَذَا؟ وَشَقَّهُ مِنْ جَيْبِهِ إِلَى أَسْفَلِهِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِي فِي لِبْسِ الْحَرِيرِ، أَوْ قَالَ أَحَلَّ لِي لِبْسَ الْحَرِيرِ، فَقَالَ إِنَّمَا أَحَلَّهُ لك لأَنَّكَ شَكَوْتَ إِلَيْهِ الْقَمْلَ، فَأَمَّا لِغَيْرِكَ فَلا» .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا عَفَّانُ، ثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، ثنا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «شَكَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ لَهُمَا الْقَمْلَ فَرَخَّصَ لَهُمَا فِي قُمُصِ الْحَرِيرِ» .
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْجُعْفِيُّ مُشْكَدانَةُ وَأَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ قَالا: ثنا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، ثنا مِسْعَرٌ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوف يلبس البرد والحلة تساوي خمسمائة وأربعمائة.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ سَعْدِ بْن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ إِذَا أَتَى مَكَّةَ كَرِهَ أَنْ يَنْزِلَ مَنْزِلَهُ الَّذِي نَزَلَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهَا، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: لأَنَّهُ هَاجَرَ مِنْ مَنْزِلِهِ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَأَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ الرَّقِّيُّ قَالا: ثنا ابْنُ جَعْفَرٍ(10/34)
الرَّقِّيُّ عَنْ أَبِي الْمُلَيْحِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي مَرْزُوقٍ قَالَ: قَدِمَتْ عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَكَانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ رَجَّةٌ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: مَا هَذَا؟ قِيلَ: عِيرٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَدِمَتْ، فَقَالَتْ: أَمَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: [ «كَأَنِّي بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ عَلَى الصِّرَاطِ يَمِيلُ مَرَّةً، وَيَسْتَقِيمُ أُخْرَى حَتَّى يُفْلِتَ وَلَمْ يَكَدْ» .] فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَقَالَ: هِيَ وَمَا عَلَيْهَا صَدَقَةٌ.
قَالَ: وَمَا كَانَ عَلَيْهَا أَفْضَلُ مِنْهَا، وهي يومئذ خمسمائة رَاحِلَةٍ [1] .
حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، ثنا أَبُو عَامِرٍ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عَمْرٍو الْعَقَدِيُّ مَوْلَى بَنِي قَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ بَاعَ أَرْضًا مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بَأَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَسَمَهَا فِي فُقَرَاءِ بَنِي زُهْرَةَ، وَفِي ذَوِي الْحَاجَةِ مِنَ النَّاسِ، وَفِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْمِسْوَرُ: فَأَتَيْتُ عَائِشَةَ بِنَصِيبِهَا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ: مَنْ أَرْسَلَ بِهَذَا؟ قُلْتُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ. فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «لا يَحْنُو عَلَيْكُنَّ بَعْدِي إِلا الصَّابِرُونَ» ،] سَقَى اللَّهُ ابْنَ عَوْفٍ مِنْ سَلْسَبِيلِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَجُلا طُوَالا، حَسَنَ الْوَجْهِ، رَقِيقَ الْبَشْرَةِ، بِهِ جَنَأٌ [2] أَبْيَضُ مُشْرَبًا حُمْرَةً، لا يُغَيِّرُ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أُمِّ بَكْرٍ بِنْتِ الْمِسْوَرِ عَنْ أَبِيهَا قَالَتْ: لَمَّا وَلِيَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الشُّورَى، كَانَ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى أَنْ يَلِيَ عَلِيٌّ، فإن فاته فسعد بن أبي
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 130- 132.
[2] جنأ: أشرف كاهله على صدره. القاموس.(10/35)
وَقَّاصٍ، فَلَحِقَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فَقَالَ: مَا ظَنُّ خَالِكِ بِاللَّهِ إِنْ وَلَّى هَذَا الأَمْرَ أَحَدًا يَعْلَمُ أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْهُ؟ فَقَالَ لِي: مَا أُحِبُّ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ لِي: مَنْ قَالَ لَكِ؟ قُلْتُ: لا أُخْبِرُكَ. قَالَ: إِذًا لا أُكَلِّمُكِ أَبَدًا، فَقُلْتُ: عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: وَاللَّهِ لأَنْ تُؤْخَذَ مُدْيَةٌ فَتُوضَعُ فِي حَلْقِي ثُمَّ تَنْفُذُ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنبأ أَبُو الْمَعَالِي الْجَزَرِيُّ عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ قَالَ لأَصْحَابِ الشُّورَى: هَلْ لكم أن أختار لكم وأتفصى [1] منها؟ فقال عليّ: نعم أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَرْضَى فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُول: [ «أَنْتَ أَمِينٌ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ وَأَمِينٌ فِي أَهْلِ الأَرْضِ» ] [2] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: هاجر عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ إِلَى الحبشة فِي المرتين جميعا، ثُمَّ قدم مَكَّة فهاجر مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهاجر مَعَهُ عامر بْن أَبِي وقاص، أخو سَعْد إِلَى الحبشة فِي المرة الثانية، وأقام حَتَّى قدم مَعَ جَعْفَر بْن أَبِي طالب، ومات عامر بالشام فِي أيام عُمَر بْن الْخَطَّابِ، وَكَانَ يكنى أبا عَمْرو.
حَدَّثَنِي محمد بن سعد عن الواقدي عن ابن أَبِي سَبْرَةَ فِي إِسْنَادِهِ عَنْ نِيَارٍ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: كَانَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ مِمَّنْ كَانَ يُفْتِي عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي روايته: لما استخلف عُمَر بْن الخطاب في سنة ثلاث
__________
[1] فصى الشيء من الشيء يفصيه: فصله، وأفصى: تخلص من خير أو شر. القاموس.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 134.(10/36)
عشرة بعث تلك السنة عَلَى الحج عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ، وحج بِالنَّاسِ أَيْضًا مَعَ عمر آخر حجة حجها عمر سنة ثلاث وعشرين، وأذن عمر فِي تلك السنة لأزواج النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الحج، فحملن فِي الهوادج، ووكل بهن عُثْمَان بْن عَفَّان، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ، فكان عُثْمَان يسير عَلَى راحلته أمامهن فلا يدنو منهن أحد، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ يسير عَلَى راحلته من ورائهن، فلا يدع أحدا يدنو منهن أَيْضًا، وكن ينزلن مَعَ عمر فِي كل منزل، وَكَانَ عُثْمَان وعَبْد الرَّحْمَنِ ينزلاهن فِي الشعاب وينزلان هما فِي أول كل شعب فلا يتركان أحدا يمر عليهن. ولما استخلف عُثْمَان سنة أربع وعشرين بعث تلك السنة على الحج عبد الرحمن فحج بالناس [1] .
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أُمِّهِ أُمِّ كُلْثُومٍ قَالَتْ: غَشِيَ عَلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ غَشْيَةٌ ظَنُّوا أَنَّ نَفْسَهُ فِيهَا فَخَرَجْتُ أَسْتَعِينُ بِمَا أمرت أن أستعين به من الصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.
قَالُوا: وَمَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي سَنَةِ اثْنَتَيْنِ وَثَلاثِينَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ مَوْلِدُهُ بَعْدَ الْفِيلِ بِعَشْرِ سِنِينَ وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن أبي شيبة ثنا وَكِيعٌ ثنا شُعْبَة بْنُ الْحَجَّاجِ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ عِنْدَ قَائِمَةِ سَرِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَهُوَ يَقُولُ: وَاجَبَلاهُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، ثنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ إِبْرَاهِيمَ بن عبد الرحمن بن عوف قال:
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 134.(10/37)
رَأَيْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ بَيْنَ عَمُودَيْ سَرِيرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أنبأ مَعْنُ بْنُ عِيسَى عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ مَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عوف يقول: [اذهب يابن عَوْفٍ فَقَدْ أَدْرَكْتَ صَفْوَهَا وَسَبَقْتَ رَنْقَهَا [1]] .
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا الأَسْوَدِ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى يَتِيمَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ يَقُولُ: أَوْصَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي السَّبِيلِ بِخَمْسِينَ أَلْفَ دِينَارٍ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ قَالَ: تَرَكَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَلْفَ بَعِيرٍ، وَثَلاثَةَ آلافِ شَاةٍ بِالْبَقِيعِ وَمِائَةَ فَرَسٍ، وَكَانَ يَزْرَعُ بِالْجَرْفِ على عشرين ناضح، فَكَانَ يُدْخِلُ قُوتَ أَهْلِهِ مِنْ ذَلِكَ لِسَنَتِهِ [2] .
حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُقْرِئ وَمُحَمَّد بْن سَعْد قَالا: ثنا عارم بْن الفضل، ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّد بْن سيرين أن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ تُوُفِّيَ، فكان فيما تركه ذهب قطع بالفؤوس حَتَّى مجلت [3] أيدي الرجال منه وترك أربع نسوة فخرجت كل امْرَأَة من ثمنها بثمانين ألفا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَن أسامة بْن زَيْد الليثي عَن صَالِح بْن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عوف قال: أصاب تماضر بنت الأصبغ
__________
[1] أي سبقت كدرها. القاموس.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 135- 136.
[3] المجل: أن يكون بين الجلد واللحم ماء، أو المجلة قشرة رقيقة يجتمع فيما ماء من أثر العمل. القاموس.(10/38)
الْكَلْبِيّ ربع الثمن فأخرجت بمائة ألف وَهِيَ إحدى أربع نسوة.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ حين وجهه إِلَى دومة الجندل ليدعو أهلها إِلَى الإِسْلام، فأسلم الأصبغ بْن عَمْرو الْكَلْبِيّ، وَكَانَ نصرانيا، فسأله عَبْد الرَّحْمَنِ أن يتزوج بابنته تماضر، فتزوجها وبنى بِهَا، ثُمَّ قدم بِهَا مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَة.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي نُعَيْمٍ الْفَضْل بْن دُكَيْنٍ حَدَّثَنَا كامل أَبُو العلاء قَالَ: سمعت أبا صَالِح قَالَ: مات عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ وترك ثلاث نسوة وبنات فأصاب كل واحدة مما ترك ثمانون ألفا [1] .
وقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ اسم عَبْد الرَّحْمَنِ فِي الجاهلية عبد عَمْرو، وَكَانَ صديقا لأمية بْن خلف الجمحي، فكان أمية يَقُول حين أسلم عَبْد الرَّحْمَنِ:
أنا لا أعرف عَبْد الرَّحْمَنِ، فكان يدعوه عَبْد الإله.
وَقَالَ أَبُو اليقظان: كَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ من العشرة الذين سموا للجنة وَكَانَ بِهِ برش وَكَانَ اسمه فِي الجاهلية عَبْد الْحَارِث فسماه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبد الرحمن وأذن له رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لبس الحرير، وأعتق فِي يَوْم واحد ثلاثين عبد وأوصى بسهم من ستة عشر من ماله لأبي بكرة مولى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأصاب كل امْرَأَة له من ميراثه ثمانون ألفا. وقتل أبوه فِي الجاهلية بالغميصاء قتله بنو جذيمة.
ومن بني الْحَارِث بْن زهرة بْن كلاب:
الأزهر بْن عَبْدِ عوف: عم عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ،
وقد أدرك الإِسْلام إِلَى زمن عمر فوجهه
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 136- 137.(10/39)
عمر مَعَ نفر لإقامة أنصاب الحرم، وَكَانَ ذا سن ومعرفة بِهَا وبقي إِلَى فتنة ابْن الزُّبَيْر وَكَانَ المطلب وطليب ابنا أزهر بْن عَبْدِ عوف فِي قول بعضهم من مهاجرة الحبشة فِي المرتين.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: هاجر المطلب فِي المرة الثانية، وولد لَهُ بالحبشة عَبْد اللَّهِ بْن المطلب.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: هاجرا جميعا فِي المرة الثانية، وماتا بالحبشة، وكانت مَعَ المطلب امرأته رملة بنت أَبِي عوف بْن صبيرة السهمي، وَكَانَ جابر بْن الأسود بْن عَبْدِ عوف عامل ابْن الزُّبَيْر عَلَى الْمَدِينَة، وَهُوَ الَّذِي ضرب سَعِيد بْن الْمُسَيِّبِ ستين سوطا إذ لم يبايع لابن الزُّبَيْر وتجنى عَلَيْهِ فِي امْرَأَة تزوجها.
ومنهم:
الأسود بْن عَبْدِ عوف أخو عَبْد الرَّحْمَنِ:
أسلم فِي الفتح وله صحبة، ووجده عُمَر بْن الْخَطَّابِ فِي مَكَّة شاربا فجلده الحد.
وَقَالَ غير الْوَاقِدِيّ: أمر عُبَيْد اللَّهِ بْن أَبِي مليكة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جدعان فجلده الحد، وَكَانَ الأسود مَعَ عَائِشَة يَوْم الجمل، فقتله جندب بْن زهير الأَزْدِيّ، وتزوج الأسود أم رافع بنت عامر بْن كريز أخت عَبْد اللَّهِ بْن عامر، وابنة عَبْد اللَّهِ بْن الأسود بْن عوف، رضي أهل البصرة بامرته حين نخسوا بعُبَيْد اللَّهِ بْن زياد، فَقَالَ دعوني أنظر فيما دعوتموني إِلَيْهِ ليلتي فأصبح ميتا، وله عقب بالبصرة.(10/40)
وقتل مُحَمَّد بْن الأسود يَوْم الزاوية مَعَ ابْن الأشعث، وعياش بْن الأسود قتل مَعَ ابْن الأشعث أَيْضًا.
ومنهم: حمنن بْن عَوْفٍ أخو عَبْد الرَّحْمَنِ، أسلم يَوْم الفتح، وكانت لَهُ صحبة، وأوصى إِلَى الزُّبَيْر بْن العوام، وله ولد بالبصرة، منهم: أَبُو المعتمر الزُّهْرِيّ، ومات حمنن بالمدينة فِي داره.
ومنهم: عَبْد اللَّهِ بْن عَوْفٍ أخو عَبْد الرَّحْمَنِ، وَكَانَ من سروات قُرَيْش، أسلم فِي الفتح وله دار بالمدينة وبها مات.
وابنه طلحة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْن عَبْدِ عوف، وعَبْد الرَّحْمَنِ عمه، وتكنى طلحة أبا عَبْد اللَّهِ، وَكَانَ سخيا جوادا مطعاما للطعام، وَكَانَ يلي سقايات الْمَدِينَة، ومات بالمدينة سنة سبع وتسعين، وَهُوَ ابْن اثنتين وسبعين سنة وقد حدث عَنْهُ، وفيه يَقُول الدكين:
من مبلغ طلحة عني قبلي ... هدية مني كما تهدي لِي
يَا طلح يَا خير فتى مسول ... أنك عين الماجد البذول
وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا:
يَا طلحة الكامل وَابْن الكامل ... أنت غياث خائف وسائل
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَ يقال لَهُ طلحة الندى لجوده، وفيه يَقُول حريث بْن عناب الطائي.
إِلَى طلحة الفياض أعملت نصها [1] ... تخب برحلي تارة ثُمَّ ترقل
إِلَى ماجد الجدين رحب فناؤه ... لَهُ فِي قديم الدهر مجد مؤثل
__________
[1] أي استخرج أقصى ما عند ناقته من السير. القاموس.(10/41)
إذا مَا أتاه سائل عَن جناية ... يكون شفيعيه هِشَام ونوفل
[1]
حليفين ليسا يبر حانك مَا بقى ... سنام وَمَا أرسى حراء ويذبل [2]
فلا الجود يخليه ولا البخل حاضر ... سجيس الليالي أو يؤوب المنخل [3]
وَكَانَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ من الولد
سالم الأكبر مات فِي الجاهلية، وأمه أم كلثوم بنت عُتْبة بْن رَبِيعَة بْن عَبْدِ شمس.
وأم الْقَاسِم ولدت فِي الجاهلية، وأمها بنت شيبة بْن رَبِيعَة.
وَمُحَمَّد وبه كَانَ يكنى، وإبراهيم، وحميد، وإسماعيل، وحميدة، وأمه الرحمن، أمهم أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ.
ومعن، وعمر، وزيد، وأمة الرحمن الصغرى، وأمهم سهلة بنت عَاصِم من بلي.
وعروة الأكبر قتل بإفريقية، وأمه بحرية بنت هَانِئ بْن قبيصة الشيباني.
وسالم الأصغر، قتل يَوْم فتح إفريقية، وأمه سهلة بنت سهيل بْن عَمْرو، أحد بني عَامِر بْن لؤي.
وَأَبُو بكر، وأمه أم حكيم بنت قارظ، حليف بني زهرة.
__________
[1] بهامش الأصل: هشام الجود ونوفل البحر.
[2] سنام: جبل بالحجاز بين ماوان والربذة. ويذيل: جبل مشهور بنجد. معجم البلدان.
[3] المنخل بن مسعود اليشكري: شاعر جاهلي، قتله النعمان بن المنذر، ضربت به العرب المثل في الغائب الذي لا يرجى إيابه، يقولون: لا أفعله حتى يؤوب المنخل. الأعلام للزركلي.(10/42)
وعَبْد اللَّهِ الأكبر، قتل بإفريقية يَوْم فتحت، وأمه أنصارية من الأوس.
وَأَبُو سَلَمَة بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، واسمه عَبْد اللَّهِ الأصغر، وأمه تماضر بنت الأصبغ الْكَلْبِيّ، وَهِيَ أول كلبية نكحها قرشي.
وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وأمه أسماء بنت سلامة بْن مخربة من بني تميم.
ومصعب بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ. وآمنة. ومريم وأمهم أم حريث من بهراء، سبية.
وسهيل بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ أَبُو الأبيض وأمه مجد حميرية، ويقال الأبيض.
وعثمان وأمه غزال من آل بيت كسرى من سبي سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ يَوْم المدائن.
وعروة الأصغر درج، ويحيى، وبلال، وسعد لأمهات أولاد درجوا.
وأم يَحْيَى وأمها زينب بنت الصباح من سبي بهراء.
وجويرية أمها بادية بنت غيلان الثَّقَفِيّ.
فأما مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ، فولد: عَبْد الْوَاحِدِ، وَكَانَ يضرب بِهِ المثل فِي الغيرة وله عقب بالمدينة.
وأما إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأمه أم كلثوم بنت عقبة، فكان سيدا وَكَانَ قصيرا، وتزوج سكينة بنت الْحُسَيْن فلم يرض بِذَلِكَ بنو هاشم فخلعت منه، ويقال إن بعض بني مروان خطبها فلم تتزوجه، فلما أراد أن(10/43)
يتزوجها إبراهيم منع من ذَلِكَ، وتوفي إِبْرَاهِيم فِي سنة ست وتسعين، وَهُوَ ابْن خمس وسبعين سنة، وَكَانَ يكنى أبا إِسْحَاق، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: كَانَ إِبْرَاهِيم فقيها.
فولد إِبْرَاهِيم: سَعْد بْن إِبْرَاهِيمَ، وأمه ابنة سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ، وولي قضاء الْمَدِينَة ليوسف بْن عُمَرَ. هَذَا قول الْكَلْبِيّ، وَقَالَ غيره: ولاه قضاء الْمَدِينَة إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّدِ بْنِ هِشَام بْن إِسْمَاعِيل فِي أيام هِشَام بْن عَبْدِ الملك، وَكَانَ سَعْد يَقُول: أنا ابْن ثلث الشورى: عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْفٍ وَسَعْدَ بْن أَبِي وَقَّاصٍ، وهجاه مُوسَى شهوات فَقَالَ:
يتقي النَّاس فحشه وأذاه ... مثل مَا يتقون بول الحمار
لا يغرنك سجدة بين عيني ... هـ حذاري مِنْهَا ومنه حذار
وَقَالَ أَبُو اليقظان: دخل عَلَيْهِ رجل، وَكَانَ سمجا، ورأى أنه يجب عَلَيْهِ عقوبة لأمر تحققه عَنْهُ، فضربه فَقَالَ: فيم ضربتني؟ قَالَ: فِي السماجة يَا شيخ. فَقَالَ الشاعر:
جلد الحاكم سَعْد ... ابْن سلم فِي السماجة
فقضى اللَّه لسعد ... من أَمِير كل حاجة
وقد روى شُعْبَة عَن سَعْد بْن إِبْرَاهِيمَ، وروى غيره. وَكَانَ سَعْد يكنى أبا إِسْحَاق بكنية أَبِيهِ أَيْضًا، ومات بالمدينة سنة سبع وعشرين ومائة وَهُوَ ابْن اثنتين وسبعين سنة. وَكَانَ صَالِح بْن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ ممن كتب الحديث عَنْهُ. وروى عَنْهُ: الزُّهْرِيّ، وعمرو بْن دينار، ومات بالمدينة فِي ولاية إِبْرَاهِيم بْن هِشَام فِي أيام هِشَام بْن عَبْدِ الملك، وَكَانَ إِبْرَاهِيم بْن سَعْد بْن إِبْرَاهِيمَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ يكنى أبا إِسْحَاق وَكَانَ محدثا وهو(10/44)
صاحب المغازي، ومات ببغداد سنة ثلاث وثمانين ومائة وَهُوَ ابْن أربع وسبعين، وَكَانَ عَلَى بيت المال للرشيد هَارُون أَمِير الْمُؤْمِنِينَ.
وأما حميد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ
فكان فقيها، وأمه أم كلثوم بنت عقبة وخاله عُثْمَان بْن عَفَّان، وَكَانَ يكنى أبا عَبْد الرَّحْمَنِ، ومات بالمدينة سنة خمس ومائة وَهُوَ ابْن ثلاث وسبعين سنة، وَكَانَ ذا مال، ومن ولده عَبْد الرَّحْمَنِ، وَكَانَ من سروات قُرَيْش ومات فِي أول خلافة أَبِي جَعْفَر.
وأما زَيْد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ فلا عقب لَهُ.
وأما أَبُو سَلَمَة بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، واسمه عَبْد اللَّهِ فكان فقيها، وولي شرط سَعِيد بْن العاص بالمدينة.
وَقَالَ الْهَيْثَم بْن عدي: مات سنة أربع وتسعين.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: مات سنة أربع ومائة وَهُوَ ابْن اثنتين وسبعين سنة.
وقد روى ابْن شهاب الزُّهْرِيّ عَن أَبِي سَلَمَةَ، وَكَانَ لأبي سَلَمَة بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْن يقال لَهُ عمر بْن أَبِي سَلَمَةَ، قتله عَبْد اللَّهِ بْن علي بالشام مع من قتل من بني أمية، فطالبه بِهِ، ويقال بل قتله وَابْن أخته.
وَحَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ وإبراهيم بْنِ عَرْعَرَةَ قَالا: ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أدركت من قُرَيْش أربعة بحور: ابْن الْمُسَيِّبِ، وعروة بْن الزُّبَيْر، وأبا سَلَمَة بن عبد الرحمن بن عوف، وعبيد الله بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عتبة.
أما مصعب بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ
فولي شرط الْمَدِينَة لمروان بْن الحكم، وَكَانَ يكنى أبا زرارة، وفيه يَقُول ابْن قَيْس الرقيات وَكَانَ شديدا(10/45)
عَلَى من وجده إذا طاف ليلا، ولم يكن يدع أحدا يخرج مِنَ الْمَدِينَةِ حَتَّى يصبح.
حال دون الهوى ودو ... ن سرى الليل مصعب
وسياط على أك ... فّ رجال تقلب [1]
وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان لرجل من أهل الشام: أي فارس لقيته أشد؟ فَقَالَ: مصعب بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ. وقتل مَعَ ابْن الزُّبَيْر.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد: مات فِي حصار ابْن الزُّبَيْر الأول بِمَكَّةَ سنة أربع وستين [2] .
وأما عمر بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ
فله عقب بالبصرة.
وَقَالَ أَبُو اليقظان: كَانَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ ابْن يقال لَهُ المسور قتل يَوْم الحرة.
وأما سهيل بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ
فله عقب بالمدينة، ومن ولده عتير بْن سهيل وَكَانَ صاحب شراب. وفيه يَقُول السري بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عويم بْن ساعدة الأَنْصَارِيّ:
إذا أنت نادمت العتير وذا الندى ... جبيرا ونازعت الزجاجة خالدا
أمنت بإذن بالله أن تقرع العصا ... وأن يوقظوا من نومه السكر راقدا
وفي سهيل يَقُول عُمَر بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي رَبِيعَةَ:
أيها المنكح الثريا سهيلا ... عمرك الله كيف يلتقيان
__________
[1] ديوان عبد الله بن قيس الرقيات ص 177.
[2] طبقات ابن سعد ج 5 ص 160.(10/46)
هي شامية إذا ما استقلت ... وسهيل إذا استقل يماني [1]
وَكَانَ سهيل تزوج الثريا بنت عبد اللَّه بْن الحارث بْن أُمَيَّة الأصغر.
ومن بني الْحَارِث بْن زهرة: عَبْد الجان بْن شهاب ابْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث بْن زهرة،
سماه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد اللَّهِ، وهاجر إِلَى الحبشة فِي المرة الثانية، وأقام مَعَ جَعْفَر بْن أَبِي طالب، وقدم مَعَهُ، وتوفي فِي أيام عُثْمَان.
ومن بني الْحَارِث بْن زهرة أَيْضًا: مُحَمَّد بْن مُسْلِم بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن شهاب بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِث بْن زهرة الفقيه الزُّهْرِيّ
ويكنى أَبَا بَكْر.
قَالُوا: وَكَانَ الزُّهْرِيّ سخيا لا يليق شَيْئًا، فاحتاج فِي بعض أيامه حاجة شديدة حَتَّى لزم بيته، فجمع مولى لَهُ دراهم وأتاه بِهَا وأشار عَلَيْهِ أن يشخص إِلَى الشام ويصرفها فِي نفقته ففعل، وأصاب مالا عظيما من الخليفة وولده، فلما قدم الْمَدِينَة جعل يقسم ذَلِكَ المال فِي أقربائه وإخوته وجيرانه فَقَالَ لَهُ مولاه: يَا أَبَا بَكْر اذكر مَا كنت فِيهِ، وإنه لم يكن أحد يلتفت إِلَيْك، وقد جربت حال العدم، فَقَالَ: يَا هَذَا، أمسك عني فإني لم أر كريما تحكه التجارب فِي ماله، ونحن بالله وله.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَن معمر عَنِ الزُّهْرِيِّ أنه قَالَ:
ذكر الزهد عند الزُّهْرِيّ فَقَالَ: ليس الزهد تقشف الجلد، وَلا شعث الشعر، ولكنه غلبة الهوى، وظلف النفس عَن الشهوات.
وَقَالَ ابْن الْمُبَارَكِ: حَدَّثَنِي يُونُس بْن يَزِيدَ عَنِ الزهري أنه قال:
__________
[1] ديوان عمر بن أبي ربيعة- ط. بيروت 1983 ص 503.(10/47)
لا يدرك أحد حَقِيقَةَ الإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمِرَاءَ فِي الْحَقِّ، والكذب والمزاح.
ومات الزُّهْرِيّ فِي مال لَهُ لسبع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان سنة أربع وعشرين ومائة، وَهُوَ ابْن اثنتين وسبعين سنة، وأوصى أن يدفن عَلَى قارعة الطريق.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ الأُوَيْسِيِّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَا أَرَى أَحَدًا بَعْدَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ مِنَ الْعِلْمِ مَا جَمَعَ ابْنُ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَن وهب عَن حَمَّاد بْن أَيُّوبَ قَالَ: مَا رأيت أحدا أعلم بسنة ماضية من الزُّهْرِيّ.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ بْن همام عَن معمر عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كنا نكره أن يكتب عنا العلم، حَتَّى أكرهنا عَلَيْهِ هَؤُلاءِ الأمراء فرأينا أَلا نمنعه أحدا من الْمُسْلِمِينَ.
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ معمر قَالَ:
كنا نرى أنا قد أكثرنا عَن الزُّهْرِيّ حَتَّى قتل الْوَليِد، فإذا الدفاتر قد حملت على الدواب.
حدثني محمد بن سعد، ثنا سفيان بن عينية قَالَ: قَالَ لِي أَبُو بَكْر الهذلي- وَكَانَ قد جالس الحسن، وَابْن سيرين، فذكر بعض حديث الزُّهْرِيّ- فَقَالَ: لم أر مثل هَذَا قط- يعني الزُّهْرِيّ-.
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْن معين، ثنا عَبْد الرَّزَّاقِ، أنبأ معمر قَالَ: قيل للزهري زعموا أنك لا تحدث عَن الموالي؟ فَقَالَ: إني لأحدث عنهم، ولكني إذا وجدت أبناء المهاجرين والأنصار فما أصنع بغيرهم؟(10/48)
المدائني قال: قيل للزهري ما العصبية الَّتِي يأثم صاحبها؟ فَقَالَ: أن يرى الرجل أن شرار قومه خير من خيار قوم آخرين.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي ذُؤَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «اطْلُبُوا الْخَيْرَ مِنَ الْحِسَانِ الْوُجُوهِ» ] [1] .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَاللَّهِ مَا عَنَى الْجَمَالَ، وَلَكِنْ مَنْ إِذَا سُئِلَ الْمَعْرُوفَ تَهَلَّلَ وَجْهُهُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالَ: حدثت عَن مَالِك بْن أنس ان قَالَ:
مَا أدركت بالمدينة فقيها محدثا غير واحد، فقيل: من هُوَ؟ قَالَ: ابْن شهاب الزُّهْرِيّ.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنِي عَبْد الرَّزَّاقِ قَالَ: سمعت عُبَيْد اللَّهِ بْن عُمَرَ قَالَ: لما نشأت وأردت طلب العلم جعلت آتي الأشياخ فأسأل عَن حديث سالم، فكلما أتيت رجلا منهم قَالَ عليك بالزهري فإنه كَانَ يلزمه، قَالَ: وَكَانَ ابْن شهاب بالشام، فلزمت نافعا فجعل اللَّه فِي ذَلِكَ خيرا كثيرا.
وَحَدَّثَنِي أَبُو زَكَرِيَّا يَحْيَى بْن معين، ثنا عَبْد الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنِي معمر عَن صَالِح بْن كيسان قَالَ: كنت أنا والزهري نطلب العلم فكتبنا مَا جاء عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: نكتب مَا جاء عَن الصحابة فكتب ولم أكتب فأنجح وضيعت.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ الضحاك بْن عُثْمَان عَن أَبِي الزناد قَالَ: اجتمعت والزهري عند هِشَام بْن عَبْدِ الملك فقال هشام:
__________
[1] انظر في كنز العمال- الحديث 16793، 16795.(10/49)
يَا زهري. أي شهر كَانَ شهر الزكاة؟ فَقَالَ الزُّهْرِيّ: حَدَّثَنِي السائب بْن يَزِيدَ أن عُثْمَان خطب فَقَالَ: هَذَا شهر زكاتكم، وَلا أدري أي شهر، فَقَالَ لِي هِشَام: يَا بن ذكوان مَا عندك؟ فقلت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أو بهذا إخفاء؟ إن عمر وعثمان كانا يجعلان شهر الزكاة المحرم وَمَا أحد يخالف فِي هَذَا، فَقَالَ هِشَام: استفد يَا زهري، فَقَالَ الزُّهْرِيّ: مجلس أَمِير الْمُؤْمِنِينَ المجلس الَّذِي يستفاد فِيهِ العلم.
قَالَ أَبُو الزناد: وَكَانَ الزُّهْرِيّ حين جلس لا يشك فِي أنه يسأل عَن شَيْء إِلا وجد عنده منه علم، فسئل عَن أيسر الأشياء فلم يعلمه.
الْمَدَائِنِيّ عَنِ ابْنِ جعدبة أن رجلا استشار الزُّهْرِيّ فِي بعض الأمر فَقَالَ: إن عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر كَانَ يَقُول: من الخرق اثنتان: الدالة عَلَى السلطان، والوثبة قبل الإمكان.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ عَن الوقاصي: قارف الزُّهْرِيّ ذنبا فجزع وكاد يهيم عَلَى وجهه، فَقَالَ لَهُ علي بن الحسين: لقنوطك من رحمة اللَّه الَّتِي وسعت كل شَيْء أشد عليك من ذنبك الَّذِي أتيته، فَقَالَ الزُّهْرِيّ: اللَّه أعلم حَيْثُ يجعل رسالاته.
وَكَانَ أخو الزُّهْرِيّ وَهُوَ عَبْد اللَّهِ بْن مسلم يكنى أبا مُحَمَّد، وَهُوَ أسن من الزُّهْرِيّ.
وَكَانَ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسلم يروي عَن عمه الزُّهْرِيّ، وَكَانَ يكنى أبا عَبْد اللَّهِ، قتله غلمانه بأمر ابنه، وَكَانَ ابنه سفيها شاطرا فأراد أن يحوي الميراث متعجلا لَهُ، ووثب الغلمان أَيْضًا عَلَيْهِ فقتلوه، وذلك فِي خلافة أَبِي جَعْفَر المنصور أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وقتل ابنه بعده بسنتين أو أكثر.(10/50)
نسب بني تيم بْن مرة بْن كعب
ولد تيم بْن مرة: سَعْد بْن تيم والأحب، درج.
وَقَالَ غير الْكَلْبِيّ أنهم خرجوا من بني تيم وانتسبوا فِي بني عامر بْن لؤي، وأمهما الطويلة بنت مالك بْن حسل بْن عامر بْن لؤي، فولد سَعْد:
كعب بْن سَعْد، وأمه نعم بنت وائلة بْن عَمْرِو بْنِ شيبان بْن محارب بْن فهر، وحارثة، والأحب، وأمهما بنت عائش بْن ظرب بْن الْحَارِث بْن فهر [1] .
فمن بني كعب بْن سَعْد
أَبُو بَكْر بْن أَبِي قحافة [2] ،
واسمه عَبْد اللَّهِ ولقبه عتيق، لقب بِذَلِكَ لرقة حسنه. واسم أَبِي قحافة عُثْمَان بْن عامر بْن عَمْرو بْن كعب بْن سَعْد بْن مرة.
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ الْمِصْرِيُّ، أنبأ أَبُو إِسْحَاقَ يَحْيَى بْنُ طَلْحَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: دخل
__________
[1] بهامش الأصل: بلغ العرض بالأصل الثالث، ولله الحمد.
[2] بهامش الأصل: أبو بكر الصديق، رحمت الله عليه، وعلى جميع الصحابة.(10/51)
أَبُو بَكْرٍ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [يَا أَبَا بَكْرٍ، «أَنْتَ عَتِيقُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ» ،] فَسُمِّيَ يَوْمَئِذٍ عَتِيقًا.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، ثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ بْن همام عَن معمر عَنِ ابْنِ سيرين قَالَ: اسم أَبِي بَكْر عتيق بْن عُثْمَان.
حَدَّثَنِي إِسْحَاق الفروي، أَبُو مُوسَى، ثنا المعافي بْن عمران عَن الْمُغِيرَةِ بْن زياد عَنِ ابْنِ أَبِي مليكة قَالَ: اسم أَبِي بَكْر عَبْد اللَّهِ بْن عُثْمَان ولقبه عتيق.
وَقَالَ بعض الرواة: اسم أَبِي بَكْر عَبْد اللَّهِ، وإنما لقب عتيقا لكرم أمهاته، وكرمه.
وَقَالَ أَبُو المنذر بن هشام ابن الْكَلْبِيّ: سمي عتيقا لرقة حسنه وجماله، وَهُوَ عَبْد اللَّهِ بْن عُثْمَان بْن عامر بْن عَمْرو بْن كعب بْن سَعْد بْن تيم بْن مرة بْن كعب بْن لؤي بْن غالب، وأمه أم الخير، واسمها سلمى بنت صخر بْن عَمْرِو بْنِ كعب بْن سَعْد بْن تيم، فصخر عم أَبِي قحافة عُثْمَان، وسلمى ابنة عمه.
حَدَّثَنَا الْوَليِدُ بْنُ صَالِحٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالا: أنبأ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الْوَاقِدِيُّ، حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ عَنْ أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ. أَسْلَمَ أَبِي أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ وَلا وَاللَّهِ مَا عَقِلْتُ أَبِي إِلا مُسْلِمًا يَدِينُ بِالدِّينِ [1] .
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ السَّائِبُ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَغَيْرِهِ قَالُوا: كَانَ سَبَبُ إِسْلامِ أَبِي بَكْر رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنه،
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 172.(10/52)
أَنَّهُ كَانَ صَدِيقًا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ غِشْيَانَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَمُحَادَثَتِهِ، وَيَعْرِفُ أَخْبَارَهُ، فَلَمَّا دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النُّبُوَّةِ أَتَى مَعَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَسَمِعَ قَوْلَهُ فِيهِ، فَكَانَ مُتَوَقِّعًا لِمَا اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ كَرَامَتِهِ، وَقَدْ كَانَ شَارَكَ حَكِيم بْن حِزَامِ بْن خويلد بْن أسد بن عبد العزى بن قُصَيٍّ فِي بِضَاعَةٍ، وَأَرَادَ السَّفَرَ مَعَهُ، فَإِنَّهُ ذَاتَ يَوْمٍ لَمَعَ حَكِيمٍ إِذْ أَتَى حَكِيمًا آتٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ عَمَّتَكَ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ تَزْعُمُ أَنَّ زَوْجَهَا نَبِيٌّ مِثْلُ مُوسَى، وَقَدْ هَجَرَتِ الآلِهَةَ، فَانْسَلَّ أَبُو بَكْرٍ انْسِلالا حَتَّى أَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ عَنْ خَبَرِهِ فَقَصَّ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ فَقَالَ: صَدَقْتَ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي وَأَهْلٌ لِلصِّدْقِ أنت: أنا أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّه، وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ أَتَى حَكِيمًا فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا خَالِدٍ، رُدَّ عَلَيَّ مَالِي فَقَدْ وَجَدْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَرْبَحَ مِنْ تِجَارَتِكَ، فَأَخَذَ مَالَهُ، وَلازَمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ هِشَامُ بْنُ محمد: فيقال أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ الصِّدِّيقَ، وَيُقَالُ بَلْ سَمَّاهُ الصِّدِّيقُ حِينَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، فَجَعَلَ يُخْبِرُهُ بِمَا رَأَى وَهُوَ يَقُولُ: صَدَقْتَ، صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
وَحَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنبا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ أَبِي وَهْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِجِبْرِيلَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ:
[ «إِنَّ قَوْمِي لا يُصَدِّقُونِي، فَقَالَ جِبْرِيلُ: يُصَدِّقُكَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ الصِّدِّيقُ] .
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ الأَسْوَدِ الْعَجْلِيُّ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ، ثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأَيْلِيِّ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ(10/53)
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ «مَا عَرَضْتُ الإِسْلامَ عَلَى أَحَدٍ إِلا كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ كَبْوَةٌ أَوْ تَرَدُّدٌ، غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ، فَإِنَّهُ لَمْ يَتَلَعْثَمْ» ] .
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بن أبي شيبة، ثنا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ ثنا جَرِيرُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَكَرِهْتَ إِمَارَتِي؟ قَالَ: لا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنِّي كُنْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ قَبْلَكَ.
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كَانَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ خِيَارِهِمْ وَيَسْتَعِينُونَ بِهِ فِيمَا نَابَهُمْ وَكَانَتْ لَهُ بِمَكَّةَ ضِيَافَاتٌ لا يَفْعَلُهَا أَحَدٌ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَفِينَةَ قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَضَ عَلَيْهِ الإِسْلامَ فَمَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ: [ «أَدْعُوكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ فَقُلْتُ:] قَدْ أَجَبْتُكَ إِلَى مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ، وَشَهِدْتُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّه وَأَنَّكَ رَسُول اللَّهِ» ، قَالَ: فَمَا أَمْسَى مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى أَسْلَمَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ دَعَاهُمْ أَبُو بَكْرٍ إِلَى الإِسْلامِ، وَقَالَ قَوْمٌ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ قَوْمُ زَيْد بْن حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ يَزِيدَ عَنْ شُرَحْبِيلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ بَيْنَا أَنَا فِي مَنْزِلِي بِمَكَّةَ وَأَنَا أُرِيدُ الطَّائِفَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ إِذْ دَخَلَ عَلَيَّ الْحَارِثُ بْنُ صَخْرٍ فَتَحَدَّثَ وَدَخَلَ حكيم بْنِ حِزَامٍ فَقَالَ لَهُ الْحَارِثُ: يَا أَبَا خَالِدٍ زَعَمَ نِسَاؤُنَا أَنَّ عَمَّتَكَ خَدِيجَةَ تَزْعُمُ أَنَّ زَوْجَهَا رَسُولُ(10/54)
اللَّهِ، فَأَنْكَرَ ذَلِكَ حَكِيمٌ، وَدَعَوْتُ لَهُمَا بِطَعَامٍ مِنْ سَفْرَةٍ أَمَرْتُ بِاتِّخَاذِهَا لِسَفَرِنَا، فَأَكَلا وَانْصَرَفَ الْحَارِثُ فَقُلْتُ لِحَكِيمٍ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِي وَجْهِكَ إِنْكَارَ مَا قَالَ لَكَ فِي عَمَّتِكَ، فقال حكيم: وَاللَّهِ لَقَدْ أَنْكَرْنَا حَالَهَا وَحَالَ زَوْجِهَا، وَلَقَدْ أَخْبَرَتْنِي صَاحِبَتِي أَنَّهَا تَسُبُّ الأَوْثَانَ، وَمَا تَرَى زَوْجَهَا يَقْرُبُ الأَوْثَانَ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَلَمَّا أَبْرَدْتُ خَرَجْتُ أُرِيدُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَابْتَدَأْتُ فَذَكَرْتُ مَوْضِعَهُ مِنْ قَوْمِهِ وَمَا نَشَأَ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ: هَذَا أَمْرٌ عَظِيمٌ لا يُقَارُّكَ قَوْمُكَ عَلَيْهِ، قَالَ: [ «يَا أَبَا بَكْرٍ أَلا أَذْكُرُ شَيْئًا إِنْ رَضِيتَهُ قُلْتَهُ وَإِنْ كَرِهْتَهُ كَتَمْتَهُ» ؟] قُلْتُ: هَذَا أَدْنَى مَالِكَ عِنْدِي، فَقَرَأَ عَلَيَّ قُرْآنًا، وَحَدَّثَنِي بِبِدَاءِ أَمْرِهِ، فَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنَّكَ صَادِقٌ، وَأَنَّ مَا دَعَوْتَ إِلَيْهِ حَقٌّ، وَأَنَّ هَذَا كَلامُ اللَّهِ. وَسَمِعَتْنِي خَدِيجَةُ فَخَرَجَتْ وَعَلَيْهَا خِمَارٌ أَحْمَرُ فَقَالَتْ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الذي هداك يا بن أَبِي قُحَافَةَ. فَمَا رُمْتُ مَكَانِي حَتَّى أَمْسَيْتُ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا مَجْلِسٌ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عبد العزى فيهم: الأسود بن الْمُطَّلِبِ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، فَقَالُوا: مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قُلْتُ: مِنْ عِنْدِ خَتَنِكُمْ وَابْنِ عَمِّكُمْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، ذَكَرْتُ لِي عِنْدَهُ سِلْعَةً يَبِيعُهَا بِنَسِيئَةٍ، فَجِئْتُ إِلَيْهِ لأَسُومَهُ بِهَا، فَإِذَا سِلْعَةٌ مَا رَأَيْتُ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِنَّكَ لَتَاجِرٌ بَصِيرٌ، وَمَا كُنَّا نَعْلَمُ مُحَمَّدًا يَبِيعُ السِّلَعَ بِنَسِيئَةٍ، وَأَتَانِي حَكِيمٌ يَقُودُ بَعِيرَهُ فَقَالَ: ارْكَبْ بِنَا، فَقُلْتُ: قَدْ بَدَا لِي أَنْ أُقِيمَ، إِنِّي وَقَعْتُ بَعْدَكَ عَلَى بِضَاعَةٍ بِنَسِيئَةٍ مَا عَالَجْتُ قَطُّ أَبْيَنَ رِبْحًا مِنْهَا، قَالَ: وَعِنْدَ مَنْ هِيَ فَمَا أَعْلَمُهَا الْيَوْمَ بِمَكَّةَ؟ قُلْتُ: بلى، وَأَنْت دَلَلْتَنِي عَلَيْهَا فَإِنْ سَمَّيْتُهَا لَكَ فَاللَّهُ لِي عَلَيْكَ أَنْ تَكْتُمَهَا وَلا تَذْكُرْهَا لأَحَدٍ؟ قَالَ:
نَعَمْ لَكَ اللَّهُ عَلَيَّ أَلا أَذْكُرَهَا لأَحَدٍ، قُلْتُ: فَإِنَّهَا عِنْدَ خَتَنِكَ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قُلْتُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَوَجَمَ سَاعَةً. فَقُلْتُ: مَالَكَ(10/55)
يَا أَبَا خَالِدٍ، أَتَتَّهِمُنِي عَلَى عَقْلِي وَدِينِي؟. قَالَ: لا، وَمَا أُحِبُّ لَكَ مَا فَعَلْتَ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ بَهْرَامَ عَنْ شعيب بن حرب، ثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ قَالَ عُمَرُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا، يَعْنِي بِلالا.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي جَزِيٍّ عَنِ الْجُرَيْرِيِّ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَعَدَ عَنْ بَيْعَةِ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ: مَا مَنَعَكَ مِنْ بَيْعَتِي وَأَنَا كُنْتُ فِي هَذَا الأَمْرِ قَبْلَكَ؟.
وَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
إِذَا تَذَكَّرْتَ شَجْوًا مِنْ أَخِي ثِقَةٍ ... فَاذْكُرْ أَخَاكَ أَبَا بَكْرٍ بِمَا فَعَلا
الْقَائِمَ الثَّانِيَ الْمَحْمُودَ مَشْهَدُهُ ... وَأَوَّلَ النَّاسِ مِنْهُمْ صَدَّقَ الرُّسُلا
خَيْرَ الْبَرِيَّةِ أَنْقَاهَا وَأَعْدَلَهَا ... إِلا النَّبِيَّ وَأَوْفَاهَا بِمَا حَمَلا
بَرًّا حَمِيدًا لأَمْرِ اللَّهِ مُتَّبِعًا ... يَهْدِي بِصَاحِبِهِ الْمَاضِي وَمَا انْتَقَلا
قَالَ: وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، أَنْشَدَ حَسَّانُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَثَانِيَ اثنين في الغار المنيف وقد ... طاف العدو بِهِ إِذْ صَعَّدُوا الْجَبَلا
وَكَانَ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ عَلِمُوا ... مِنَ الْبَرِيَّةِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ بَدَلا
[1] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صَدَقَ» .
وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنُ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: [ «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» ] .
__________
[1] ديوان حسان بن ثابت ج 1 ص 125 مع فوارق.(10/56)
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ الزُّهْرِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ هِلالٍ مَوْلَى رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» .] وَقَدْ كَتَبْنَا قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أَبِي بَكْرٍ وَأَمْرِهِ إِيَّاهُ بِالصَّلاةِ، وَخَبَرِ بَيْعَتِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ كِتَابِنَا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ سُئِلَ: مَنْ كَانَ يُفْتِي عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْرٌ وَعُمَرُ، وَمَا أَعْلَمُ غَيْرَهُمَا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، ثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ سَمْعَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: كَانَ: أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، يُفْتُونَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي إسناده: كَانَ أَبُو بَكْر أبيض نحيفا خفيف العارضين أجنأ لا يستمسك إزاره فِي حقويه معروق الْوَجْهِ غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ نَاتِئَ الْجَبْهَةِ عَارِيَ الأَشَاجِعِ.
وَقَالَ غير الْوَاقِدِيّ: كَانَ أَبُو بَكْر حسن الجسم معصوب اللحم مشربا صفرة، جعدا، يضرب شعره شحمة أذنيه، مسنون الوجه أكحل العينين سائل اللحية واضح الثنايا. حمش الساقين، هينا لينا متواضعا كريما، تعرف فِيهِ الخير حين تراه، وَكَانَ يمر فِي الطريق فيتعلق الصبيان بثوبه يقولون: يَا أبانا يَا أبانا، وَهَذِهِ رواية عَوَانَة بْن الحكم الْكَلْبِيّ.
ويقال: كَانَ أبيض تعلوه صفره، حسن القامة، نحيفا أجنأ، يسترخي إزاره عَن عاتقه وحقويه، أقنى معروق الوجه، يخضب بالحناء والكتم.(10/57)
ولما استخلف أَبُو بَكْر ارتدت العرب ومنعوا الصدقة باليمامة، فَقَالَ:
وَاللَّه لو منعوني عقالا لقاتلتهم، فلم يزل بهم حَتَّى أدوا الصدقة، وقتل مسيلمة الكذاب باليمامة، والأسود العنسي باليمن، وفتح فتوحا بالشام، وقد ذكرنا ذَلِكَ فِي كتاب البلدان.
حَدَّثَنِي شُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ الْفَلاسُ، ثنا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ عَنْ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سلمة الماجشون عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ بْنِ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَمَّتِهِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا، قَالَتْ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ بِأَبِي مَا لَوْ نَزَلَ بِالْجِبَالِ الرَّاسِيَاتِ لَهَاضَهَا، اشرأب النفاق بالمدينة، وارتدت العرب. فو الله مَا اخْتَلَفُوا فِي وَاحِدَةٍ إِلا طَارَ أَبِي بِحَظِّهَا وَغِنَائِهَا عَنِ الإِسْلامِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ بَهْرَامَ، ثنا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، ثنا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَنَظَرَ إِلَيْهِمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ «هَذَانِ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، إِلا النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ» ] [1] .
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِشَامٍ، ثنا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، ثنا سُفْيَان الثوري، عَن جامع بْن أَبِي راشد، وعن منذر الثوري، عن محمد بن الحنفية، قَالَ: قلت لأبي: يَا أبه، من خير هَذِهِ الأمة بعد نبيها؟ فَقَالَ: أَبُو بَكْر ثُمَّ عمر، فما منعني أن أسأله عَن الثالث إِلا أن يجيبني بعثمان. قلت: فما أنت يَا أبه؟ قَالَ: رجل من الْمُسْلِمِينَ.
حدثني أَحْمَدُ بْنُ هِشَامٍ، ثنا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، أنبأ سفيان الثوري،
__________
[1] بهامش الأصل: صوابه «والمرسلين» .(10/58)
عَنْ خَالِدِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: خَيْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، ثُمَّ إِنَّ أَقْوَامًا طَلَبُوا هَذِهِ الدُّنْيَا.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَرَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ قَالا: ثنا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، ثنا قُرَّةُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: سَمَّيْتُمُوهُ الصِّدِّيقَ وَأَصَبْتُمْ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ [1] .
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْد الْوَاحِدِ بْن زياد، حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن عُبَيْد اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيم النخعي، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْر يسمى الأواه، لرأفته ورحمته.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَنْبَأَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّقَفِيُّ، عَنْ كَثِيرُ النَّوَّاءُ، عَنْ أَبِي سَرِيحَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ:
[أَلا إِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَوَّاهٌ مُنِيبُ الْقَلْبِ، ألا إِنَّ عُمَرَ نَاصَحَ اللَّهَ فَنَصَحَهُ] [2] .
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، ثنا شُعْبَةُ، أَنْبَأَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ:
أَوَّلُ مَنْ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَبُو بَكْرٍ.
حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، ثنا وُهَيْبُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ هَارُونَ الْمُقْرِئِ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: [ «إِنَّ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ عِلِّيِّينَ لَيُشْرِفُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَتُضِيءُ الْجَنَّةُ لِوَجْهِهِ كَأَنَّهُ كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ وعمر لمنهم وأنعما» ] .
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 170.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 171.(10/59)
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، أنبأ مُغِيرَةُ، عَنْ عَامِرٍ الشَّعْبِيِّ، قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِبِلالٍ: مَنْ سَبَقَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ، قَالَ: فَمَنْ صَلَّى؟ قَالَ:
أَبُو بَكْرٍ. قَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا أَعِنِّي مِنَ الْخَيْلِ. قَالَ بِلالٌ: وَأَنَا أَعِنِّي فِي الْخَيْرِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ، أَنْبَأَنَا شُعْبَةُ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ:
«صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ خَلْفَ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرَضِهِ قَاعِدًا» .
حَدَّثَنِي أَبُو نَصْرٍ التَّمَّارُ، ثنا شَرِيكٌ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ عَامِرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ:
أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: [أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّكُمْ؟ أَبُو بَكْرٍ، أَلا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ النَّاسِ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ، عُمَرُ] .
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، أَنْبَأَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: [ «قَدْ أُمِرْتُ بِالْخُرُوجِ- يَعْنِي لِلْهِجْرَةِ- فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: الصُّحْبَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَكَ الصُّحْبَةُ» ،] فخرجا حتى أتيا ثورا فاختبا فِيهِ، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ يأتيهما بخبر مَكَّةَ بِاللَّيْلِ، ثُمَّ يُصْبِحُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَأَنَّهُ بَاتَ بِهَا. وَكَانَ عَامِرُ بْن فُهَيْرَةَ يَرْعَى غَنَمًا لأَبِي بَكْرٍ وَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا فَيَشْرَبَانِ مِنَ اللَّبَنِ، وَكَانَتْ أَسْمَاءُ تَصْنَعُ لَهُمَا طَعَامًا فَتَبْعَثُ بِهِ إِلَيْهِمَا، فَجَعَلَتِ الطَّعَامَ فِي سَفْرَةٍ، وَلَمْ تَجِدْ شَيْئًا تَرْبِطُهَا بِهِ، فَقَطَعَتْ نِطَاقَهَا وَرَبَطَتْهَا بِهِ، فَسُمِّيَتْ ذَاتَ النِّطَاقَيْنِ، وَكَانَ لأَبِي بَكْرٍ بَعِيرٍ، وَاشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعِيرًا، فَرَكِبَ النَّبِيُّ بَعِيرَهُ، وَرَكِبَ أَبُو بَكْرٍ بَعِيرَهُ، وَرَكِبَ ابْنُ فُهَيْرَةَ بَعِيرًا. فَكَانُوا يَتَنَقَّلُونَ عَلَى هَذِهِ الأَبَاعِرِ(10/60)
الثَّلاثَةِ، فَاسْتَقْبَلَتْهُمْ هَدِيَّةٌ مِنَ الشَّامِ مِنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فِيهَا ثِيَابٌ بِيضٌ مِنْ ثِيَابِ الشَّامِ، فَلَبِسَاهَا وَدَخَلا الْمَدِينَةَ فِي ثِيَابٍ بِيضٍ [1] .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، ثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ كَانَ يَخْتَلِفُ بِالطَّعَامِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَبِي بَكْر وَهُمَا فِي الْغَارِ.
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَبُو عُثْمَانَ، ثنا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، أنبأ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ حَدَّثَهُ قَالَ: قُلْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ فِي الْغَارِ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدَمَيْهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ: [يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّكَ بِاثْنَيْنِ، اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» ؟] حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، وَأَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ قَالا: ثنا شَبَابَةَ بْنُ سَوَّارٍ الْفَزَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْعُطُوفِ الْجَزَرِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ: «هَلْ قُلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا» ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَنْشَدَهُ:
وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ الْمُنِيفِ وقد ... طاف العدو به إذ صعدوا الجبلا
وَكَانَ حِبَّ رَسُولِ اللَّهِ قَدْ عَلِمُوا ... مِنَ الْبَرِيَّةِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ رَجُلا
قَالَ: فَضَحِكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قَالَ: «صَدَقْتَ يَا حَسَّانُ وَهُوَ كَمَا قُلْتَ» .
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ بَهْرَامَ، ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، ثنا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْمُرُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ اللَّيْلَةَ، وَكَذَاكَ فِي الأَمْرِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنَا مَعَهُ.
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 172- 173.(10/61)
حدثني محمد بن سعد، عن الواقدي، عن أسامة بْن زيد بْن أسلم، عن أبيه، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ مَعْرُوفًا بِالتِّجَارَةِ، لَقَدْ بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعِنْدَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَكَانَ يُعْتِقُ مِنْهَا وَيُقَوِّي الْمُسْلِمِينَ، حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ بِخَمْسَةِ آلافٍ، ثُمَّ فَعَلَ فِيهَا مِثْلَمَا كَانَ يَفْعَلُ بِمَكَّةَ [1] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ ابن أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ صَالِحِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الدَّوْسِيِّ، عَنْ أَبِي أَرْوَى الدَّوْسِيِّ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ مِنَ الرِّجَالِ، أَبُو بَكْرٍ [2] .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هِشَام بْنِ بَهْرَامَ، ثنا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، ثنا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا الْحَرُّ بْنُ صَبَاحٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الأَخْنَسِ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يَخْطُبُ، فَنَالَ عَلِيًّا، فَقَالَ لَهُ سَعِيدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو:
أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: [ «النَّبِيُّ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ،] وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أُسَمِّي الْعَاشِرَ لَفَعَلْتُ، فَلَمْ يَزَالُوا بِهِ حَتَّى ذَكَرَ نَفْسَهُ» .
وَقَالَ الواقدي: لَمَّا هَاجَرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، نزل أَبُو بَكْر عَلَى خارجة بْن زَيْد بْن أَبِي زُهَيْر الخزرجي، وتزوج ابنته حبيبة، فولدت لَهُ أم كلثوم بعد وفاته. ويقال بل نزل عَلَى خبيب بن أساف، ولم
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 172.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 171.(10/62)
يزل فِي بني الْحَارِث بْن الخزرج، حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] .
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنِي وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فَرَآهُمَا يَوْمًا مُقْبِلِينَ فَقَالَ: [ «إِنَّ هَذَيْنِ سَيِّدَا أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنَ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ، كُهُولُهُمْ وَشُبَّانُهُمْ، إِلا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» ] [2] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: مَا عَقِلْتُ أَبَوَيَّ، إِلا وَهُمَا يَدِينَانِ هَذَا الدِّينَ، وَمَا مَرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ قَطُّ إِلا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِينَا فِيهِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً [3] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ: لَمَّا أَقْطَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدُّورَ بِالْمَدِينَةِ، جَعَلَ لأَبِي بَكْرٍ مَوْضِعَ دَارِهِ عِنْدَ الْمَسْجِدِ، وَهِيَ الَّتِي صَارَتْ لآلِ مَعْمَرٍ [4] .
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، ثنا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ الْقُرَشِيُّ، ثنا زَيْدُ بْنُ وَاقِدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ عَائِذِ اللَّهِ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلانِيُّ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: «كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ، آخِذًا بطرف ثوبه حتى بدا عن رُكْبَتَيْهِ، فَسَلَّمَ وَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ الْخَطَّابِ شَيْءٌ، فَأَسْرَعْتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ نَدِمْتُ، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يَغْفِرَهَا لِي فَأَبَى عَلَيَّ وَتَحَرَّمَ مِنِّي بِدَارِهِ، فَأَقْبَلْتُ إِلَيْك يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: [يغفر
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 174.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 174.
[3] طبقات ابن سعد ج 3 ص 172.
[4] طبقات ابن سعد ج 3 ص 175.(10/63)
اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ، يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ،] ثَلاثًا، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ نَدِمَ، فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَثِمَ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا:
لَيْسَ هَاهُنَا. فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَلَّمَ، قَالَ: فَجَعَلَ وَجْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا، أَوْ قَالَ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أَظْلِمُ، أَنَا وَاللَّهِ كُنْتُ أَظْلِمُ، مَرَّتَيْنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
[أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ، فَقُلْتُمْ كَذَبَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، ثُمَّ آسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُوا لِي صَاحِبِي» .] مَرَّتَيْنِ. قَالَ: فَمَا أُوذِيَ بَعْدَهَا.
وَحَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ ثنا سَعْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَخِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: مَا حَدَّثَنِي مُحَدِّثٌ حَدِيثًا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِلا أَمَرْتُهُ أَنْ يُقْسِمَ بِاللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْهُ، إِلا أَبُو بَكْرٍ فَإِنَّهُ لا يَكْذِبُ، فَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ «مَا ذَكَرَ عَبْدٌ ذَنْبًا أَذْنَبَهُ فَقَامَ حِينَ يَذْكُرُهُ فَتَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ تَقَدَّمَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ لِذَنْبِهِ، إِلا غُفِرَ لَهُ» ] .
حَدَّثَنِي أَبُو عُمَرَ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْنُ عَبَّادٍ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
[ «أَرْحَمُ أُمَّتِي بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ، وَأَقْوَلُهَا بِالْحَقِّ بَعْدَ نَبِيِّهَا عُمَرُ، وَأَشَدُّهَا حَيَاءً بَعْدَ نَبِيِّهَا عُثْمَانُ، وَأَعْلَمُ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا بِالْقَضَاءِ وَالسُّنَّةِ عَلِيٌّ، وَأَعْلَمُهَا بِالْقُرْآنِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهَا بِالْحَلالِ وَالْحَرَامِ بَعْدَ نَبِيِّهَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَعْلَمُ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا بِمَا يَقُولُ، أَبُو الدَّرْدَاءِ،] وَإِنَّ [أَصْدَقَ مَنْ تُظِلُّهُ الْخَضْرَاءُ وَتُقِلُّهُ الْغَبْرَاءُ بَعْدَ نَبِيِّهَا لَهْجَةً] أَبُو ذَرٍّ، وَأَعْلَمُ [هَذِهِ الأُمَّةِ بِالْفَرَائِضِ(10/64)
بَعْدَ نَبِيِّهَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَإِنَّ أَمِينَ هَذِهِ الأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ» ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسَ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ أَبَا بَكْر إِلَى نَجْدٍ، وَأَمَّرَهُ عَلَيْنَا، فَأَغَارَ عَلَى نَاسٍ مِنْ هَوَازِنَ، فَقَتَلْتُ بِيَدِي مِنْهُمْ، وَكَانَ شِعَارُنَا: أمت! أمت! [1] .
حدثني مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، أَبُو نعيم، حَدَّثَنَا مسعر بْن كدام، عَن أَبِي عون، عَن أَبِي صَالِح قَالَ: قيل لأَبِي بَكْرٍ وعلي يَوْم بدر، مَعَ أحدكما جبريل، ومع الآخر ميكائيل أَوْ أسرافيل، ملك عظيم يشهد القتال، أَوْ قَالَ يشهد الصف [2] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو النَّاقِدُ، قَالا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [3] بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ [4] ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى كُلِّ خَلِيلٍ مِنْ خَلَّتِهِ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ قَدِ اتَّخَذَ صَاحِبَكُمْ خَلِيلا- يَعْنِي نَفْسَهُ- ولو كنت متخذا خليلا، لا تخذت أبا بكر خليلا» ] [5] .
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 175 وعنده «وقتلت بيدي سبعة أهل أبيات» .
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 175.
[3] في طبقات ابن سعد ج 3 ص 176: «عمرو بن مرة بن عبد الله المرادي (ت 116 هـ) تهذيب التهذيب لابن حجر ج 8 ص 102- 103.
[4] أي الصحابي عبد الله بن مسعود.
[5] طبقات ابن سعد ج 3 ص 176.(10/65)
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [قَالَ: «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا خَلِيلا مِنْ أُمَّتِي، لا تخذت أَبَا بَكْرٍ» ] .
حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: [ «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ» ] .
حَدَّثَنِي عَمْرٌو النَّاقِدُ، ثنا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ الْجَزِيرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: [ «عَائِشَةُ. قُلْتُ: إِنَّمَا أَعْنِي مِنَ الرِّجَالِ. قَالَ: أَبُوهَا» ] .
حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ، سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الزَّهْرَانِيُّ، ثنا حَمَّاد بْن زَيْد، عَن هِشَام، عَن مُحَمَّد بْن سيرين، قَالَ: أعبر هَذِهِ الأمة بَعْدَ نَبِيِّهَا، أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: يعني الرؤيا.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَعَمْرُو بْن مُحَمَّد النَّاقِد، وَأَحْمَدُ بْن إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيّ، قَالُوا: حَدَّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَن أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَن الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: [لَمَّا قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَظَرْنَا فِي أَمْرِنَا، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ قَدَّمَ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلاةِ، فَرَضِينَا لِدُنْيَانَا، مَا رَضِيَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِدِينِنَا، فَقَدَّمْنَا أَبَا بَكْر] [1] .
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بن سعيد، حدثنا
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 183.(10/66)
سُفْيَانُ [1] عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ قَيْسٍ الخارفي من همدان، قَالَ:
سَمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقُولُ: [سَبَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى أَبُو بَكْرٍ، وَثَلَّثَ عُمَرُ] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: شهد أَبُو بَكْر بدرا، وأحدا، والخندق، والمشاهد كلها مع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودفع إِلَيْه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رايته العظمى يَوْم تبوك، وكانت سوداء، وأطعمه بخيبر مائة وسق، وكان فيمن ثبت مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم أحد، حين ولى النَّاس.
وَحَدَّثَنِي روح بن عبد المؤمن، عن علي بن نَصْرٍ الْجَهْضَمِيِّ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «لَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلا، لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ، وَلَكِنَّهُ أَخِي وَصَاحِبِي فِي الْغَارِ» ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ عَلَى الْحَجِّ فِي أَوَّلِ حِجَّةٍ كَانَتْ فِي الإِسْلامِ، ثُمَّ حَجَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّنَةَ الْمُقْبِلَةَ، فَلَمَّا قُبِضَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، اسْتَعْمَلَ عَلَى الْحَجِّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ مِنْ قَابِلٍ، فَلَمَّا قُبِضَ أَبُو بَكْرٍ، وَاسْتُخْلِفَ عُمَرُ، اسْتَعْمَلَ عَلَى الْحَجِّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عُمَرُ يَحُجُّ سِنِيهِ كُلَّهَا حَتَّى قُبِضَ، فَاسْتُخْلِفَ عُثْمَانُ، فَاسْتَعْمَلَ عَبْدَ الرحمن بن عوف على الحج [2] .
__________
[1] بهامش الأصل: شقيق.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 177.(10/67)
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْن يُونُس، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ مُبَشِّرٍ (السَّعْدِيِّ عَنِ) [1] ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: «رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَا، فَقَصَّهَا عَلَى أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: رَأَيْتُ كَأَنِّي اسْتَبَقْتُ أَنَا وَأَنْتَ فِي دَرَجَةٍ، فَسَبَقْتُكَ بِمِرْقَاتَيْنِ وَنِصْفٍ. قَالَ: خَيْرٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ، يُبْقِيكَ اللَّهُ حَتَّى تَرَى مَا يَسُرُّكَ وَيَقَرُّ عَيْنَكَ. قَالَ: فَأَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَأَعَادَ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، ثُمَّ قَالَ: يَقْبِضُكَ اللَّهُ إِلَى رَحْمَتِهِ، وَأَعِيشُ بَعْدَكَ سَنَتَيْنِ وَنِصْفًا» .
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْن زَيْد، عَن سَعِيد بْن أَبِي صدقة، عَن مُحَمَّد بْن سيرين، قَالَ: لم يكن أحد بعد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهيب لما لا يعلم من أَبِي بَكْرٍ، ولم يكن أحد بعد أَبِي بَكْر أهيب لما لا يعلم من عمر، وأنه كانت إذا نزلت بأَبِي بَكْر قضية، فلم يجد لها فِي كتاب اللَّه أصلا وَلا فِي السنة أثرا، قَالَ: أجتهد رأيي، فإن كَانَ صوابا فمن اللَّه، وإن كَانَ خطأ فمني، وأستغفر الله.
حدثنا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ، قَالَ: قِيلَ لأَبِي بَكْرٍ: أَنْتَ خَلِيفَةُ اللَّهِ، فَقَالَ: أَنَا خَلِيفَةُ مُحَمَّدٍ، وَأَنَا بِذَلِكَ رَاضٍ.
حَدَّثَنِي شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ الآجُرِّيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مِقْسَمٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [ «اللَّهُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ صَاحِبِي فِي الْغَارِ، فَاجْعَلْهُ صَاحِبِي فِي الْجَنَّةِ» ] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَنْبَأَنَا عَبْدُ اللَّهِ الْحُمَيْدِيُّ الْمَكّيُّ، ثنا سفيان بن
__________
[1] أضيف ما بين الحاصرتين من طبقات ابن سعد ج 3 ص 177.(10/68)
عُيَيْنَةَ، عَنِ الْوَليِدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنِ (ابْنِ صَيَّادٍ) [1] عَن سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ:
لِمَا قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَجَّتْ مَكَّةُ، فَقَالَ أَبُو قُحَافَةَ: مَا هَذَا؟! قَالُوا:
قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ، فَمَنْ وَلِيَ النَّاسَ بَعْدَهُ. قَالُوا: ابْنُكَ. قَالَ:
أَرَضِيَ بِذَلِكَ بَنُو عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنُو الْمُغِيرَةِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنَّهُ لا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ. ثُمَّ ارْتَجَّتْ مَكَّةُ حِينَ مَاتَ أَبُو بَكْرٍ رَجَّةً هِيَ دُونَ الأُولَى. فَقَالَ أَبُو قُحَافَةَ: ما هَذَا؟ قالوا: مات ابنك. فقال: هَذَا خَبَرٌ جَلِيلٌ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَنْبَأَنَا هِشَامٌ الدَّسْتُوَائِيُّ، أَنْبَأَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، قَالَ: لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ، أَصْبَحَ غَادِيًا، إِلَى السُّوقِ، وَعَلَى رَقَبَتِهِ أَثْوَابٌ يَتَّجِرُ بِهَا، فَلَقِيَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، فَقَالا لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ:
السُّوقَ. فَقَالا: تَصْنَعُ مَاذَا وَقَدْ وُلِّيتَ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ!؟ قَالَ: فَمِنْ أَيْنَ أُطْعِمُ عِيَالِي؟ قَالا: انْطَلِقْ حَتَّى نَفْرِضَ لَكَ شَيْئًا، فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا فَفَرَضُوا لَهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ شَطْرَ شَاةٍ وَمَا كَسَوْهُ فِي الرَّأْسِ وَالْبَطْنِ. فَقَالَ عُمَرُ: إِلَيَّ الْقَضَاءُ، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: إِلَيَّ الْفَيْءُ. قَالَ عُمَرُ: فَلَقَدْ كَانَ يَأْتِي عَلَيَّ الشَّهْرُ مَا يَخْتَصِمُ إِلَيَّ فِيهِ اثْنَانِ [2] .
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ شَوْرٍ الْمُقْرِئُ، حَدَّثنا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ: أَنَّ رَجُلا رَأَى عَلَى عُنُقِ أَبِي بَكْرٍ عباءة.
__________
[1] أضيف ما بين الحاصرتين من طبقات ابن سعد ج 3 ص 184.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 184.(10/69)
فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ أَنَا أَكْفِيكَ حَمْلَهَا. فَقَالَ: لِتَدَعْنِي، لا تَغُرَّنِي أَنْتَ وَابْنُ الْخَطَّابِ مِنْ عِيَالِي.
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، أَنْبَأَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ قَالَ: لَمَّا وَلِيَ أَبُو بَكْرٍ، قَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: افْرِضُوا لِخَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ مَا يُغْنِيهِ، قَالُوا: نَعَمْ، بُرْدَاهُ إذا أخلقا، وَضَعَهُمَا وَأَخَذَ مِثْلَهُمَا، وَظَهْرُهُ إِذَا سَافَرَ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى أَهْلِهِ، كَمَا كَانَ يُنْفِقُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَخْلَفَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: رَضِيتُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْمُقْرِئُ، ثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَاحَ حِينَ اسْتُخْلِفَ إِلَى السُّوقِ، وَقَدْ حَمَلَ أَثْوَابًا لَهُ، وَقَالَ: لا تُغْرُونِي مِنْ عِيَالِي.
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ، ثنا أَبُو بكر بن عياش، عن عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا استخلف أبو بكر، جعل له ألف وخمسمائة، فَقَالَ: زِيدُونِي فَإِنَّ لِي عِيَالا، وَقَدْ شَغَلْتُمُونِي عن التجارة، فزادوه خمسمائة.
حَدَّثَنِي الْوَليِدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنِ صَالِحٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: أَخْبِرْنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ:
كَانَ وَاللَّهِ خَيْرًا كُلُّهُ عَلَى حِدَّةٍ كَانَتْ فِيهِ وَشِدَّةِ غَضَبٍ. قِيلَ فَعُمَرُ؟ قَالَ:
كَانَ كَأَنَّهُ طَائِرٌ قَدْ نَصَبْتَ لَهُ أُحْبُولَةً، فَهُوَ يُعْطِي كُلَّ يَوْمٍ بِمَا فِيهِ، عَلَى عُنْفٍ مِنَ السِّيَاقِ. قِيلَ فعثمان؟ قال: كان هينا لينا، صوّاما وقوّاما، يَخْدَعُهُ نَوْمُهُ عَلَى يَقَظَتِهِ. قِيلَ فَصَاحِبُكُمْ؟ قَالَ: كان مزكونا [1] حلما وعلما، وغره
__________
[1] زكنه: علمه وفهمه وتفرسه. القاموس.(10/70)
مِنْ أَمْرِهِ اثْنَتَانِ، سَابِقَتُهُ وَدَالَّتُهُ. قِيلَ: أَكَانَ مَحْدُودًا؟ قَالَ: أَنْتُمْ تَقُولُونَ ذَلِكَ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ بَهْرَامَ، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ: اطَّلَعْتُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَهُوَ آخِذٌ بِلِسَانِهِ يُنَضْنِضُهُ [1] ، فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! فَقَالَ: إِنَّ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعَجْلِيُّ: يُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهُ قَالَ: لِسَانِي سَبُعٌ فِي فِيَّ، إِنْ أَرْسَلْتُهُ أَتَى عَلَيَّ. وَأَنَّهُ قَالَ: بِحَسْبِ الْمَرْءِ شَرًّا أَنْ يَرَى أَنَّ لَهُ فَضْلا عَلَى مَنْ دُونَهُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الواقدي، عن أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سبرة، وغيره، قَالُوا: بُويِعَ أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، لاثْنَتَيْ عشرة ليلة خلت من شَهْرِ رَبِيعٍ الأَوَّلِ، سَنَةَ إِحْدَى عَشْرَةَ مِنَ الْهِجْرَةِ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِالسُّنُحِ [2] عِنْدَ زَوْجَتِهِ حبيبة بنت خارجة بن زيد بن أبي زُهَيْرٍ، مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. وَكَانَ قَدْ حَجَرَ عَلَيْهِ حُجْرَةً مِنْ شعْرٍ، فَمَا زَالَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَحَوَّلَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَقَامَ بِالسُّنُحِ بَعْدَ أَنْ بُويِعَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَغْدُو عَلَى رِجْلَيْهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَرُبَّمَا رَكِبَ فَرَسًا لَهُ، وَعَلَيْهِ إِزَارٌ وَرِدَاءٌ مُمَشَّقٌ- والمشق: المغرة- فيوافي المدينة فيصلي الصلوات بالناس، فإذا صلى العشاء رجع إلى أهله بالسنح. وكان يصلي بِالنَّاسِ إِذَا حَضَرَ، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ صَلَّى بهم عمر بن
__________
[1] أي يحركه.
[2] كانت السنح في محال المدينة في طرفها، تبعد عن المسجد النبوي مقدار ميل واحد. المغانم المطابة.(10/71)
الْخَطَّابِ. وَكَانَ يُقِيمُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَدْرَ نَهَارِهِ بِالسُّنُحِ، فَيَصْبُغُ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ، ثُمَّ يَرُوحُ فَيَجْتَمِعُ بِالنَّاسِ، وَكَانَ رَجُلا تَاجِرًا، يَغْدُو فِي كُلِّ يَوْمٍ إِلَى السُّوقِ فَيَبِيعُ وَيَبْتَاعُ، وَكَانَتْ لَهُ قِطْعَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَيْهِ، وَرُبَّمَا خَرَجَ هُوَ بِنَفْسِهِ فِيهَا، وَرُبَّمَا رَعَيْتَ لَهُ، وَكَانَ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُمْ، فَلَمَّا اسْتَخْلَفَ، قَالَتْ جَارِيَةٌ مِنَ الْحَيِّ: الآنَ لا يُحْلَبُ لَنَا مَنَائِحُ [1] دَارِنَا. فَقَالَ: بَلَى، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ لا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فِيهِ عَنْ خَلْقٍ كُنْتُ عَلَيْهِ، فَمَكَثَ كَذَلِكَ بِالسُّنُحِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَقَامَ بِهَا.
وَنَظَرَ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا يَصْلُحُ أَمْرُ النَّاسِ بِالتِّجَارَةِ، وَمَا يُصْلِحُهُمْ إِلا التَّفَرُّغُ لَهُمْ، وَالنَّظَرُ فِي أُمُورِهِمْ، وَمَا بُدٌّ لِعِيَالِي مِمَّا يُصْلِحُهُمْ، فَتَرَكَ التِّجَارَةَ، وَاسْتَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ مَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُ عِيَالَهُ يَوْمًا يَوْمًا، وَمَا يَحُجُّ بِهِ وَيَعْتَمِرُ، وَكَانَ الَّذِي فَرَضُوا لَهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ سِتَّةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: رُدُّوا مَا عِنْدَنَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنِّي لا أَخْلُفُ فِي مَنْزِلِي مِنْ ما لهم شَيْئًا. وَأَرْضِي الَّتِي بِمَكَانِ كَذَا لِلْمُسْلِمِينَ بِمَا أَصَبْتُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. فَدَفَعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، ولقوح، وعبد صيقل، وَقَطِيفَةً كَانَتْ تُسَاوِي خَمْسَةَ دَرَاهِمَ. فَقَالَ عُمَرُ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ [2] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: خطب أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ فِي خطبته: إياكم والمحقرات، فإن الصغير يدعو إِلَى الكبير.
قَالُوا: واستعمل أَبُو بَكْر عَلَى الحج سنة إحدى عشرة عمر بن
__________
[1] المنائح- جمع منيحة- والمنيحة هي الشاة أو الناقة التي فيها لبن.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 186- 187.(10/72)
الْخَطَّابِ، ثُمَّ اعتمر أَبُو بَكْر فِي سنة اثنتي عشرة، فدخل مَكَّة ضحوة، فأتى منزله وَأَبُو قحافة جالس عَلَى باب داره، ومعه فتيان أحداث يحدثهم، إِلَى أن قيل: هَذَا ابنك، فنهض قائما، وعجل أَبُو بَكْر إِلَيْهِ قبل أن ينيخ راحلته، فنزل عَنْهَا وَهِيَ قائمة، وجعل يَقُول يَا أبه لا تقم، فلاقاه فالتزمه، وقبل أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بين عيني أَبِي قحافة، وجعل الشيخ يبكي فرحا بقدومه، وجاءه والي مَكَّة عَتَّابَ بْن أُسَيْدِ بْن أَبِي الْعِيصِ، وسهيل بْن عَمْرو، وعكرمة بْن أَبِي جهل، والحارث بْن هِشَام، فسلموا عَلَيْهِ بالخلافة: سلام عليك يَا خليفة رَسُول اللَّهِ، وصافحوه جميعا، فجعل أَبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يبكي إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ سلموا عَلَى أَبِي قحافة. فَقَالَ أَبُو قحافة: يَا عتيق أحسن صحبة هَؤُلاءِ الملأ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لقد قلدت أمرا عظيما لا يد لِي بِهِ، وَلا قوة إِلا بالله، ثُمَّ دخل فاغتسل وخرج، فاتبعه أصحابه فنحاهم وَقَالَ: امشوا عَلَى رسلكم. ولقيه النَّاس يبهشون [1] إِلَيْهِ، ويعزونه عَن نبي اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يبكي حَتَّى انتهى إِلَى البيت، فاضطبع بثوبه- أَوْ قَالَ بردائه- حَتَّى استلم الركن، ثُمَّ طاف سبعا، وركع ركعتين، ثُمَّ انصرف إِلَى منزله. فلما كَانَ الظهر، خرج فطاف أَيْضًا بالبيت، ثُمَّ جلس قريبا من دار الندوة، فَقَالَ: هل من أحد يشكو ظلامة أَوْ يطلب حقا؟ فما أتاه أحد، وأثنى النَّاس عَلَى واليهم خيرا، ثُمَّ صلى العصر وجلس، فودعه النَّاس، ثُمَّ خرج راجعا إلى
__________
[1] أي يسرعون إليه.(10/73)
الْمَدِينَة. فلما كَانَ وقت الحج سنة اثنتي عشرة، حج أَبُو بَكْر بِالنَّاسِ، وأفرد الحج، وَكَانَ خليفته عَلَى الْمَدِينَة عُثْمَان بْن عَفَّان [1] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، ثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أُتِيَ بِتَمْرٍ وَزُبْدٍ فَأَكَلَ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ. فَقَالَ:
يَا فُلانُ، أَمَا سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ «إِنَّ الصَّدَقَةَ لا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ، وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» ] [2] ، فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ فَاسْتَقَاءَ.
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، وَغَيْرِهِ، قَالُوا: أَخَذَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ رَجُلا بِالْيَمَنِ قَدْ سَرَقَ فَقَطَعَ يَدَهُ، فَقَدِمَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَشَكَا إِلَيْهِ ظُلْمَهُ إِيَّاهُ، وَأَقَامَ بِبَابِهِ يُصَلِّي نَهَارَهُ وَلَيْلَهُ وَيَصُومُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِثْلُ هَذَا يُقْطَعُ بِظِنَّةٍ، وَهَمَّ بِابْنِ مُنْيَةَ، ثُمَّ إِنَّ الرَّجُلَ الْيَمَانِيَّ دَخَلَ إِلَى مَنْزِلِ أَبِي بَكْرٍ فَسَرَقَ مِنْهُ مَتَاعًا، فَكَانَ إِذَا سَمِعَ إِنْسَانًا يَذْكُرُ ذَلِكَ أَظْهَرَ التَّعَجُّبَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ سَرَقَ أَهْلَ هَذَا الْبَيْتِ الصَّالِحِينَ فَاسْتَدْرِكْهُ وَانْتَقِمْ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ بَعْضَ الْمَتَاعِ وُجِدَ، فَاسْتُدِلَّ عَلَى بَائِعِهِ، فَلَمَّا عُرِفَ دَلَّ عَلَى الْيَمَانِيِّ فَأُخِذَ فَقُطِعَ أَيْضًا.
وَقَالَ الرِّفَاعِيُّ: حَدَّثَنِي عَمِّي، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
قَطَعَ أَبُو بَكْرٍ سَارِقًا فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ.
حَدَّثَنَا بَسَّامٌ الْجَمَّالُ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَبَا بَكْر وعتاب بْن أسيد ماتا فِي يوم واحد، فكان يقال: إنهما سمّا.
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 187.
[2] كنز العمال- الحديث: 16501- 16546.(10/74)
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «مَنْ أَنْفَقَ زَوْجًا مِنْ مَالِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَكُلُّ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ يَدْعُوهُ: يَا مُسْلِمُ تَعَالَ» ] [1] .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ هَذَا لَعَبْدٌ لا تَوًى [2] عَلَيْهِ يَدَعُ بَابًا وَيَلِجُ فِي آخَرَ، فَضَرَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْكِبِهِ وَقَالَ: [ «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنِّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ» ] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أنبأ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ رَجُلا ضَعِيفَ اللَّحْمِ أَبْيَضَ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ شُعَيْبِ بْن طَلْحَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنَّهَا نَظَرَتْ إِلَى رَجُلٍ مَارٍّ وَهِيَ فِي هَوْدَجِهَا، فَقَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَجُلا أَشْبَهَ بأَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا. فَقُلْنَا: صِفِي أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: كَانَ رَجُلا أَبْيَضَ نَحِيفًا، خَفِيفَ الْوَجْهِ غَائِرَ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئَ الْجَبْهَةِ، عَارِيَ الأَشَاجِعِ [3] ، هَذِهِ صِفَتُهُ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، وَوَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ، قَالا: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، كَانَ يَخْضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ [4] .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ معاوية بن إسحاق،
__________
[1] كنز العمال- الحديث: 16291.
[2] أي لا بأس عليه، أو لا ضياع ولا خسارة.
[3] الأشاجع: اصول الأصابع.
[4] طبقات ابن سعد ج 3 ص 188.(10/75)
عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُغَيِّرُ شَيْبَهُ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، ثنا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ثَابِت، عَن أَبِي جَعْفَر الأَنْصَارِيّ، قَالَ: رأيت رأس أَبِي بَكْر ولحيته كأنهما جمر الغضا [1] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ، ثنا حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: أَخَضَبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: لَمْ يَشِنْهُ الشَّيْبُ، وَلَكِنْ خَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ، وَخَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنَّاءِ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَضَّبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ [2] .
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ، ثنا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْخَفَّافُ، حَدَّثَنَا ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «غَيِّرُوا وَلا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ» ] [3] . فَصَبَغَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ وَصَفَّرَ عُثْمَانُ، وَصَلُعَ عُمَرُ فَاشْتَدَّ صَلَعُهُ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ «أَجْمَلُ مَا تجمّلون به الحناء والكتم» ] [4] .
[وفاة أبي بكر]
حدثنا عمرو النَّاقِدُ، ثنا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إِنِّي لا أَعْلَمُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْئًا، غَيْرَ هَذِهِ اللَّقْحَةِ،
__________
[1] الغضا: من نبات الرمل واحدته غضاة. القاموس.
[2] طبقات ابن سعد ج 3 ص 189.
[3] كنز العمال- الحديث 17317.
[4] طبقات ابن سعد ج 3 ص 191.(10/76)
وَهَذَا الْغُلامِ الْصَيْقَلِ، كَانَ يَعْمَلُ سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ وَيَخْدُمُنَا، فَإِذَا مُتُّ فَادْفَعِيهِ إِلَى عُمَرَ، فَلَمَّا دَفَعَتْهُ إِلَى عُمَرَ، قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ.
الْمَدَائِنِيُّ، عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى (بْنِ) أَبِي الْمُسَاوِرِ، عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ طَيْرًا أَمْثَالَ الْبُخْتِ، يَرْعَيْنَ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ تِلْكَ لَنَا غُمَّةٌ، قَالَ: أجل، وأنت لمن يَأْكُلُ مِنْهَا يَا أَبَا بَكْرٍ» [1] .
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، قَالا: ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ: انْظُرُوا مَا زَادَ فِي مَالِي مُذْ دَخَلْتُ فِي الإِمَارَةِ، فَابْعَثُوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِي، قَالَت عَائِشَةُ: فَلَمَّا مَاتَ، نَظَرْنَا، فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ نُوبِيٌّ كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح [2] كان يسقى عَلَيْهِ بُسْتَانٌ لَهُ، قَالَتْ: فَبَعَثْنَا بِهِمَا إِلَى عُمَرَ، فَبَكَى وَقَالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى أَبِي بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ.
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، سَعْدَوَيْهِ، ثنا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: أَطَفْنَا بِغُرْفَةِ أَبِي بَكْرٍ فِي مَرْضَتِهِ الَّتِي قُبِضَ فِيهَا، فَقُلْنَا: كَيْفَ أَصْبَحَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ، قَالَ: فَاطَّلَعَ إِلَيْنَا- وَكَانَتْ عَائِشَةُ عِنْدَهُ، وَهِيَ الَّتِي مَرَّضَتْهُ- فَقَالَ: أَمَا إِنِّي قَدْ كُنْتُ حَرِيصًا على أن أوفر
__________
[1] كنز العمال- الحديث: 39273- 39274، والبخت الجمال ذات السنامين، طوال الأعناق.
[2] الناضح: الدابة التي يستقى عليها الماء.(10/77)
لِلْمُسْلِمِينَ فَيْئَهُمْ، مَعَ أَنِّي قَدْ أَصَبْتُ مِنَ اللحم واللبن، فانظروا إذا رَجَعْتُمْ عَنِّي، فَأَبْلِغُوا مَا كَانَ عِنْدَنَا لِعُمَرَ، قَالَ: وَمَا كَانَ عِنْدَهُ دِينَارٌ وَلا دِرْهَمٌ، وَمَا كَانَ إِلا خَادِمٌ وَلَقْحَةٌ وَمِحْلَبٌ، فَلَمَّا جِيءَ بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، قَالَ: يُرْحَمُ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ، لَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ [1] .
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ بَهْرَامَ، ثنا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا مَرِضَ أَبُو بَكْرٍ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ: انْظُرُوا مَا زَادَ فِي مَالِي مُذْ دَخَلْتُ فِي الإِمَارَةِ فَابْعَثُوا بِهِ إِلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِي فَإِنِّي قَدْ كُنْتُ أَسْتَعْمِلُهُ وَكُنْتُ أَصَبْتُ مِنَ الْوَدَكِ [2] نَحْوًا مِمَّا كُنْتُ أُصِيبُ مِنَ التِّجَارَةِ.
قَالَت عَائِشَةُ: فَلَمَّا مَاتَ نَظَرْنَا فَإِذَا ذَلِكَ عَبْدٌ نوبي كان يحمل صبيانه، وإذا ناضح كان يَسْقِي عَلَيْهِ فَبَعَثْنَا بِهِمَا إِلَى عُمَرَ، قَالَتْ: فَأَخْبَرَتْنِي جَارِيَتِي أَنَّ عُمَرَ بَكَى، وَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ أَتْعَبَ مَنْ بَعْدَهُ تَعَبًا شَدِيدًا.
حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ وَوَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ قَالا: ثنا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَنْبَأَ ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: تُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلَيْهِ سِتَّةُ آلافِ دِرْهَمٍ، كَانَ أَخَذَهَا مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قَالَ: إِنَّ عُمَرَ لَمْ يَدَعْنِي حَتَّى أَصَبْتُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ سِتَّةَ آلافِ دِرْهَمٍ، وَإِنَّ حَائِطِي بِمَكَانِ كَذَا مِنْهَا [3] ، فلما توفي ذكر ذلك لِعُمَرَ فَقَالَ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ أَحَبَّ أَلا يَدَعَ لأَحَدٍ بَعْدَهُ مَقَالا وَأَنَا والي الأمر بعده، وقد رددتها عليكم.
__________
[1] طبقات ابن سعد ج 3 ص 192- 193.
[2] الودك: الدسم.
[3] كذا بالأصل، ولعل الأفضل «فيها» .(10/78)
حَدَّثَنِي هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُمْ أَصْبَحَ صَائِمًا؟. قَالَ أَبُو بَكْرٍ أَنَا. قَالَ: أَيُّكُمْ عَادَ مَرِيضًا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا عُدْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ. قَالَ: أَيُّكُمْ تَصَدَّقَ الْيَوْمَ بِصَدَقَةٍ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَسَائِلٌ يَسْأَلُ وَابْنٌ لِعَبْدِ اللَّهِ- أَوْ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ- مَعَهُ كِسَرٌ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ فَأَخَذْتُهَا فَنَاوَلْتُهُ إِيَّاهَا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [دَخَلْتَ الْجَنَّةَ» ] [1] .
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي زَكَرِيَّا الْعَجْلانِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَمَعَهُ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ فَكَلَّمَ أَبُو سُفْيَانَ فَرَفَعَ صَوْتَهُ فَقَالَ أَبُو قُحَافَةَ: اخْفِضْ صَوْتَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ عَنِ ابْنِ حَرْبٍ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا أَبَا قُحَافَةَ. إِنَّ اللَّهَ بَنَى بِالإِسْلامِ بُيُوتًا كَانَتْ غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ، وَهَدَمَ بِهِ بُيُوتًا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَبْنِيَّةً، وَبَيْتُ أَبِي سُفْيَانَ مِمَّا هَدَمَ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ خَالِدٍ مَوْلَى خُزَاعَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ:
دَخَلَتْ فَاطِمَةُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ حِينَ بُويِعَ فَقَالَتْ: ان أم أيمن، ورباح يَشْهَدَانِ لِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَانِي فَدَكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا خَلَقَ اللَّهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَبِيكِ، لَوَدِدْتُ أن القيامة قامت يوم مات، ولئن تَفْتَقِرَ عَائِشَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَفْتَقِرِي، أَفَتَرَيْنِي أُعْطِي الأَسْوَدَ وَالأَحْمَرَ حُقُوقَهُمْ وَأَظْلِمُكِ وَأَنْتِ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ هَذَا الْمَالَ إِنَّمَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فَحَمَّلَ مِنْهُ أَبُوكِ الرَّاجِلَ وَيُنْفِقُهُ فِي السَّبِيلِ، فَأَنَا إِلَيْهِ بِمَا وَلِيَهُ أَبُوكِ، قَالَتْ: وَاللَّهِ لا أُكَلِّمُكَ قَالَ: وَاللَّهِ لا أَهْجُرُكِ. قَالَتْ وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ اللَّهَ عَلَيْكَ، قَالَ: لأَدْعُوَنَّ اللَّهَ لَكِ.
__________
[1] بهامش الأصل: فابشر بالجنة.(10/79)
حُدِّثْتُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: شَهِدَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [ «لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ» ] [1] .
الْمَدَائِنِيُّ عَن عُثْمَان بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كَانَ أَبُو عبيدة بسن أَبِي بَكْرٍ، وَكَانَ أَبُو بَكْر حليما ركينا، لَهُ وقار وحلم ورأي سديد، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يشاوره ويقدمه فِي المشورة، وكانت قُرَيْش تعظم أَبَا بَكْر لما يرون من تقديم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ، وَكَانَ صاحبه فِي الغار، ومعه فِي العريش يَوْم بدر وأرسلت الأسارى يوم بدر فبدءوا بأَبِي بَكْر يطلبون إِلَيْهِ.
حَدَّثَنِي هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، ثنا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ عَنْ رَبِيعَةَ الأَسْلَمِيِّ قَالَ: اخْتَلَفْنَا وَأَبُو بَكْرٍ فِي عِذْقٍ [2] ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ لِلأَنْصَارِيِّ كَلِمَةً نَدِمَ عَلَيْهَا فَطَلَبَ إِلَيْنَا أَنْ نَقُولَ لَهُ مِثْلَهَا لِيَكُونَ ذَلِكَ قَصَاصًا، فَانْطَلَقُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يَسْتَعْدُونَ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْتَمُّ لِغَمِّهِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْهُ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ إِلَيَّ وقال: «يا ربيعة، مالك وَالصِّدِّيقِ» ؟ قُلْتُ: قَالَ كَلِمَةً نَدِمَ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِي:
تَرُدُّ عَلَيَّ مِثْلَهَا لِيَكُونَ قَصَاصًا، فَأَبَيْتُ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [ «أَجَلْ، فَلا تَرُدَّ عَلَيْهِ، وَقُلْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ،] فَوَلَّى أَبُو بَكْرٍ يَبْكِي.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ وَغَيْرِهِ قَالُوا: كَانَ بِلالٌ يَحْمِلُ الْعَنَزَةَ [3] بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الأَعْيَادِ وَالْمَشَاهِدِ فَلَمَّا قَبَضَ اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ بِلالٌ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يَشْخَصَ إِلَى الشَّامِ، وَكَرِهَ الْمَقَامَ بِالْمَدِينَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَذِنَ لَهُ فَحَمَلَ الْعَنَزَةَ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرِ سَعْدٌ القرظ، وكان
__________
[1] كنز العمال- الحديث: 14097، 14101.
[2] العذق: النخلة بحملها، وقيل هو: القنو- العنقود- من النخل.
[3] رمح قصير له سنان وزج، أشبه بطوله بالحربة.(10/80)