فيمن حصره «1» خزاعة وسعد بْن بَكْر وهذيلا «2» وطوائف من جهينة ومزينة وأنباط يثرب، وبعثت بقميصه إِلَيْهِ، فَقَالَ قوم من أهل الشام: والله لنقتلن عليا.
1519- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادِ بْنِ أَنْعُمَ عَنْ مُسْلِمِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ هَلْ شَرَكَ عَلِيٌّ فِي دَمِ عُثْمَانَ؟ فَقَالَ: لا وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ ذَلِكَ فِي سِرٍّ وَلا عَلانِيَةٍ، وَلَكِنَّهُ كَانَ رَأْسًا يُفْزَعُ «3» إِلَيْهِ فَأُلْحِقَ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ.
1520- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ عَنِ ابْن أَبِي الزناد عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
خرجت نائلة امْرَأَة عُثْمَان ليلة دفن ومعها سراج وَقَدْ شقت جيبها «4» وَهِيَ تصيح وا عثماناه وا أمير المؤمنيناه، فقال لها حبير بن مطعم: أطفئي السراج فَقَدْ ترين من بالباب، فأطفأت السراج وانتهوا بِهِ (975) إِلَى البقيع فصلى عَلَيْهِ جُبَيْر وخلفه حَكِيم بْن حِزَامِ بْن خُوَيْلِدِ بْن أَسَدِ بْن عَبْد العزى وأبو جهم بْن حذيفة ونيار بْن مكرم ونائلة وأم البنين بنت عُيَيْنَة بْن حصن امرأتاه «5» ونزل فِي حفرته نيار وأبو جهم وجبير، وَكَانَ حَكِيم والامرأتان يدلونه عَلَى الرجال حَتَّى قبر، وَبَنِي عَلَيْهِ وعموا «6» قبره وتفرقوا.
وخرجت نائلة إِلَى الشام فخطبها مُعَاوِيَة فنزعت ثنيتيها وَلَمْ تجبه.
1521- وخلف أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى فاختة بنت غزوان وَهِيَ بسرة فكان يَقُول: كنت أجير ابْن عَفَّان بطعام بطني وعقبة رجلي أخدمهم إِذَا نزلوا وأسوق بِهِمْ إِذَا ركبوا، فغضب عَلِي يوما فقال: لتمشينّ حافيا، ثم تزوجت امرأته.
__________
1520- طبقات ابن سعد: 54 وقارن بالرياض 2: 132 وبعضه مرّ في ف: 1281 1521- قارن بابن سعد 4/ 2: 53
__________
(1) م: حصروه.
(2) ط م س: وهذيل.
(3) س: يفرع.
(4) س: جبينها.
(5) س: امرأته.
(6) ابن سعد: وغيوا، الرياض: وغيبوا.(5/593)
1522- وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي فِي روايته: طلق عُثْمَان ابنة عُيَيْنَة فِي حصاره وَكَانَ فِيهَا جفاء كجفاء أبيها، [بلغها أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مزينة وجهينة وأسلم وغفار خير من تميم وأسد «1» وعامر وغطفان،] فَقَالَ عُيَيْنَة: لأن أكون مَعَ هَؤُلاءِ فِي النار أحب إِلَى من أَن أكون مَعَ أولئك فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَتْ: والله مَا أبعد أَبِي.
1523- حَدَّثَنِي هدبة بْن خَالِد البصري حَدَّثَنَا المبارك بْن فضالة عَنِ الْحَسَن قَالَ:
أدركت عُثْمَان عَلَى مَا نقموا منه، وَمَا يَأْتِي عَلَى النَّاس يَوْم إلا وَهُمْ ينالون فِيهِ خيرًا ويقال:
اغدوا عَلَى أعطياتكم فيغدون فيأخذونها، ويقال: اغدوا عَلَى كسوتكم فيأخذونها، حَتَّى لربما أعطوا العسل والسمن، فالأعطيات دارة والعدو مقموع وذات البين صلح.
1524- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حرب حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْن زَيْد عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيد قَالَ: كانت الامرأة تجيء على عهد عثمان فيحمل «2» وقرها من الطعام والثياب وغير ذَلِكَ ثُمَّ تقول: اللَّهُمَّ بدل، فلما قتل عُثْمَان قَالَ حسان بْن ثابت:
مَا نقمتم من ثياب خلفة ... وعبيد وإماء وذهب
قَالَ، وَقَالَ أَبُو حميد الساعدي وَكَانَ بدريًا: والله مَا كُنَّا نرى أَنَّهُ يقتل، اللَّهُمَّ إِن لَك عَلِي ألا أفعل كَذَا ولا أضحك حَتَّى ألقاك.
1525- حَدَّثَنَا سُلَيْمَان بْن دَاوُد أَبُو الرَّبِيع حَدَّثَنَا حماد بْن زَيْد أَنْبَأَنَا هِشَام بْن حسان عَنِ ابْن سيرين قَالَ: لَقَدْ قتل عُثْمَان يَوْم قتل وَمَا أحد يتهم عليا فِي قتله.
1526- وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ بَهْرَامَ حَدَّثَنَا وكيع أَنْبَأَنَا الأَعْمَش عَنْ ثابت بْن عبيد عَنْ أَبِي جَعْفَر الأَنْصَارِيِّ قَالَ: [رَأَيْت عليا يَوْم قتل عُثْمَان وعليه عمامة سوداء وَهُوَ محتب بسَيْفه فِي ظلة النِّسَاء فسمعته يقول: تبّا لكم سائر الدهر] .
__________
1522- الحديث في البخاري 2: 385، 4: 260 1523- قارن بالامامة 1: 45 1524- شعر حسان في ديوانه: 122 وقول أبي حميد الساعدي في ابن سعد 3/ 1: 56
__________
(1) ط م س: وأسعد.
(2) م: فتحمل.(5/594)
1527- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ الْحَكَمِ بْنِ الصَّلْتِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: [رَأَيْتُ عَلِيًّا عَلَى منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانَ وَهُوَ يَقُولُ: مَا أَحْبَبْتُ قَتْلَهُ وَلا كَرِهْتُهُ، وَلا أَمَرْتُ بِهِ وَلا نَهَيْتُ عَنْهُ] .
1528- حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ أَبُو الْحَارِثِ الزَّاهِدُ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ أَنْبَأَنَا لَيْثٌ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا يَقُولُ [حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُ وَلا أَمَرْتُ وَلَكِنِّي غُلِبْتُ، يَقُولُهَا ثَلاثًا] .
1529- حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ أَبُو عُثْمَانَ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ أَنْبَأَنَا شَرِيكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عِيسَى عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: رَأَيْتُ عَلِيًّا عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَقُولُ: [اللَّهُمَّ إني أبرأ إليك من دم عثمان] .
1530- حدثني عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يُوسُفَ الأَزْرَقِ عَنْ مِسْعَرِ بْنِ كِدَامٍ عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي قَتْلِ عُثْمَانَ: [لَقَدْ نَهَيْتُ عَنْهُ وَلَقَدْ كُنْتُ كَارِهًا لِقَتْلِهِ وَلَكِنِّي غُلِبْتُ] .
1531- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ (976) عَنْ لَيْثٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ أَنَّ النَّاسَ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ لَرُمُوا بِالْحِجَارَةِ كَمَا رُمِيَ قَوْمُ لُوطٍ.
1532- حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جرير حدثنا أبي قال سمعت يعلى ابن عُبَيْدٍ يُحَدِّثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا زَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى عَنْ قَتْلِ عُثْمَانَ وَيُعَظِّمُ شَأْنَهُ حَتَّى جَعَلْتُ أَلُومُ نَفْسِي عَلَى أَنْ لا أَكُونُ قُلْتُ مِثْلَ مَا قَالَ.
1533- حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قالا حَدَّثَنَا وهب بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: ليتني كنت
__________
1528، 1529، 1531- طبقات ابن سعد: 57، 56.
1533- مصنف عبد الرزاق 11: 447(5/595)
نسيا منسيّا قبل أمر عثمان فو الله مَا أَحْبَبْتُ لَهُ شَيْئًا إِلا مُنِّيتُ بِمِثْلِهِ، حَتَّى لَوْ أَحْبَبْتُ أَنْ يُقْتَلَ لَقُتِلْتُ.
1534- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ أَنْبَأَنَا وَكِيعٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ الْحَجَّاجِ الْعَوْفِيَّةِ قَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ عَائِشَةَ وَعُثْمَانُ مَحْصُورٌ فَجَاءَ الأَشْتَرُ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنيِنَ مَا تَقُولِينَ فِي أَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ؟ فَتَكَلَّمَتِ امْرَأَةٌ صَيِّتَةٌ بَيِّنَةُ اللِّسَانِ فَقَالَتْ:
مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ آمُرَ بِسَفْكِ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَقَتْلِ إِمَامِهِمْ وَاسْتِحْلالِ حُرْمَتِهِمْ، فَقَالَ الأَشْتَرُ:
كَتَبْتُنَّ إِلَيْنَا حَتَّى إِذَا قَامَتِ الْحَرْبُ عَلَى سَاقٍ أنشأتنّ تنهيننا.
1535- وحدثني «1» أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ حَزْمِ الْقُطَعِيِّ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ عَنْ طَلْقِ بْنِ خُشَّافٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ بَعْدَ مَقْتَلِ عُثْمَانَ فَسَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنْ قَتْلِهِ فَقَالَتْ: لَعَنَ اللَّهُ قَتَلَتَهُ فَقَدْ قُتِلَ مَظْلُومًا، أَقَادَ اللَّهُ مِنِ ابْنِ أَبِي بَكْرٍ وَأَهْدَى إِلَى الأَشْتَرِ سَهْمًا مِنْ سِهَامِهِ وَهَرَاقَ دَمَ ابْنَيْ بُدَيْلٍ، فو الله مَا مِنَ الْقَوْمِ أَحَدٌ إِلا أَصَابَتْهُ دَعْوَتُهَا.
1536- المدائني عَنِ النضر بْن إِسْحَاق عَنْ قَتَادَة أَن رجلًا من بَنِي سدوس قَالَ:
كنت فيمن قتل عثمان فما منهم «2» رجل إلا أصابته عقوبة غيري، قَالَ قَتَادَة: فَمَا مَاتَ حَتَّى عمي، قَالَ أَبُو دَاوُد: وقتل ابنا بديل بصفّين.
1537- قال ثمامة بْن عدي، وَكَانَ أميرًا عَلَى صنعاء وكانت لَهُ صحبة: أقتل عُثْمَان؟ قَالُوا: نعم، فَقَالَ: هَذَا حِينَ انتزعت خلافة النبوة وصار الأمر ملكا وجبرية من غلب عَلَى شَيْء أكله.
1538- حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم حَدَّثَنِي عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَان عَنْ موسى الجهني عَنِ ابنة عَبْد اللَّهِ بْن عكيم «3» أَبِي معبد الجهني قَالَتْ: كَانَ أَبِي يحب عثمان
__________
1537- طبقات ابن سعد (نفسه) ، وقد سقط السند في هذه الفقرة.
1538، 1539- طبقات ابن سعد 6: 78 والثانية أيضا في 3/ 1: 55
__________
(1) ط س: وحدثنا.
(2) س: من.
(3) س: عليم.(5/596)
وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي ليلى يحب عليا، وكانا متآخيين، فَمَا سمعت أَبِي يَقُول لعَبْد الرَّحْمَنِ شَيْئًا قط فِي عَلِي إلا إني سمعته يوما يَقُول: لو أَن صاحبك صبر لأتاه النَّاس.
1539- حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم عَنِ ابْن إدريس عَنْ مُحَمَّد بْن (أَبِي) «1» أيوب عَنْ حُمَيْدُ بْن هِلالٍ «2» عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عكيم الجهني قَالَ: لا أعين عَلَى دم خليفة أبدًا بَعْد عُثْمَان، فقيل لَهُ: يا أبا معبد وأعنت عَلَى دمه «3» قَالَ: إني أعد ذكر مساويه إعانة عَلَى دمه «4» .
1540- حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي صَالِح قَالَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِذَا ذكر مَا صنع بعثمان بكى فكأني أسمعه يَقُول هاه هاه، ينتحب.
1541- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: دَخَلَ عَلِيٌّ يَوْمًا عَلَى بَنَاتِهِ وَهُنَّ يمسحن عيونهنّ فقال: [ما لكنّ تَبْكِينَ؟ قُلْنَ: نَبْكِي عَلَى عُثْمَانَ، فَبَكَى وَقَالَ: ابْكِينَ] .
1542- حَدَّثَنِي سُرَيْجُ «5» بْنُ يُونُسَ وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ قَالا حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانَ: تَرَكْتُمُوهُ كَالثَّوْبِ النَّقِيِّ مِنَ الدَّنَسِ ثُمَّ ذَبَحْتُمُوهُ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْشُ، فَهَلا كَانَ هَذَا قَبْلَ هَذَا؟ فَقَالَ مَسْرُوقٌ: هَذَا عَمَلُكِ، كَتَبْتِ إِلَى النَّاسِ تَأْمُرِينَهُمْ بِالْخُرُوجِ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: لا وَالَّذِي آمَنَ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ وَكَفَرَ بِهِ الْكَافِرُونَ مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِمْ بِسَوْدَاءَ «6» فِي بَيَاضٍ حَتَّى جَلَسْتُ مَجْلِسِي هَذَا، قَالَ الأَعْمَش: فَكَانُوا (977) يَرَوْنَ أَنَّهُ كُتِبَ عَلَى لِسَانِهَا.
__________
1540، 1542، 1543- طبقات ابن سعد 3/ 1: 56، 57، 58
__________
(1) زيادة من ابن سعد والتهذيب 9 رقم: 85
(2) ابن سعد (3/ 1: 55) حميد بن أبي هلال (لكن انظر التهذيب 3 رقم: 87) وعند ابن سعد (6: 78) قد تكون القراءة الصحيحة: هلال بن أبي حميد (قارن بالتهذيب 11 رقم: 122) .
(3) م: ذمه.
(4) م: ذمه.
(5) م: شريح.
(6) م: بسواد.(5/597)
1543- وَحَدَّثَنِي هدبة بْن خَالِد حَدَّثَنَا أَبُو الأشهب عَنِ الْحَسَن أَنَّهُ كَانَ لا يسمي مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر إلا بالفاسق.
1544- وَقَالَ مُصْعَب الزبيري: أوصى عُثْمَان إِلَى الزُّبَيْر إِلَى بلوغ عَمْرو ابنه.
1545- حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن خَالِد الطحان الواسطي حَدَّثَنَا يَزِيد بْن هَارُون عَنِ اليمان ابن المغيرة عَنْ إِسْحَاق بْن سويد قَالَ: رثى حسان بْن ثابت عُثْمَان رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ «1» :
أبكي أبا عَمْرو لحسن بلائه ... أمسى رهينا فِي بقيع الغرقد
وَكَأنَّ أَصْحَاب النَّبِيِّ عشية ... بدن تنحر عِنْدَ بَاب الْمَسْجِد
1546- وَقَالَ مُصْعَب بْن عَبْد اللَّهِ الزبيري: لقي الْوَلِيد بْن عقبة بجادا مولى عُثْمَان بْن عَفَّان بالمراض وَهُوَ صادر عَنِ الْمَدِينَةِ فسأله عَنِ الْخَبَر فأعلمه بقتل عُثْمَان فَقَالَ:
ليت أني هلكت قبل حَدِيث ... سل جسمي وريع منه فؤادي
يَوْم لاقيت بالمراض بجادا ... ليت أني هلكت قبل بجاد
وَقَالَ الْوَلِيد بْن عقبة بْن أَبِي معيط فِي أمر عُثْمَان «2» :
بَنِي هاشم ردوا سلاح ابْن أختكم ... ولا تنهبوه لا تحل مناهبه
هُمْ قتلوه كي يكونوا مكانه ... كَمَا غدرت يوما بكسرى مرازبه «3»
وكيف يرجون البراءة عندنا ... وعند عَلِي سَيْفه ونجائبه
فإلا تكونوا قاتليه فَإِنَّهُ ... سواء عَلَيْنَا ممسكاه وضاربه
في أبيات.
__________
1546- الأغاني 5: 137 وياقوت 4: 475 (وفيه الثاني فقط) .
__________
(1) ابن سعد: 56 والديوان: 118 والطبري 1: 3061 وابن الأثير 3: 150
(2) الأغاني 5: 110 والأبيات 1- 3 في المروج 4: 286 والكامل: 444 والبدء والتاريخ 5: 208، والبيتان 2، 4 في ربيع الأبرار: 286/ أ.
(3) ط س: مراذبه.(5/598)
وَقَالَ حسان بْن ثابت «1»
أَن تمس دار بني عفّان خاوية ... بَاب صريع وباب محرق خرب
فَقَدْ يصادف باغي الخير حاجته ... فِيهَا ويأوي إِلَيْهَا العزّ والحسب
يا أيّها النَّاس أبدوا ذَات أنفسكم ... لا يستوي الصدق عِنْدَ اللَّه والكذب
إلا تتوبوا إِلَى الرحمن تعترفوا ... بغارة عصب من خلفها عصب
فيهم حبيب إمام الْقَوْم يقدمهم ... مستلئما قَدْ بدا فِي وجهه الغضب
وَقَالَ حسان أيضًا «2» :
صبرا جميلا بَنِي الأحرار لا تهنوا ... قَدْ ينفع الصبر فِي المكروه أحيانا
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ... مَا كَانَ شأن عَلِي وابن عفانا
لتسمعن وشيكا فِي دياركم ... اللَّه أكبر يا ثارات عثمانا
وَقَالَ عَلِي بْن الغدير بْن المضرس الغنوي، ويقال إهاب بْن همّام بن صعصعة بن ناجية ابن عقال المجاشعي، ويقال ابن الغزيرة النهشلي «3» :
لعمر أبيك فلا تكذبي ... لَقَدْ ذهب الخير إلا قليلا
لَقَدْ فتن النَّاس فِي دينهم ... وخلَّى ابْن عَفَّان شرًا «4» طويلًا
وَقَالَ حبيب بْن عوف العبدي «5» :
أرى عيني تأوبها قذاها ... فَمَا تغفي فينفعها كراها
لَقَدْ كرهت قتال الشيخ إني ... أرى حربًا سيندم من جناها
__________
(1) الديوان: 120 والطبري 1: 3061 وابن الأثير 3: 151 والأبيات 1- 3 في العقد 4: 302
(2) الديوان: 96 والطبري 1: 3063 والعقد 3: 85، 4: 297 والبيت 3 في المروج 4: 285 والبدء والتاريخ 5: 207 والعقد 4: 284
(3) الطبري 1: 3065 (منسوبا لمجاشعي آخر) والكامل 3: 29 (منسوبا لابن الغريرة) والبرصان: 122 (لهميم بن صعصعة عم الفرزدق) .
(4) البرهان: حزنا.
(5) حبيب بن عوف من قواد المهلب (انظر الكامل 3: 411) .(5/599)
أتى الرحمن أمتنا بأمر ... وأقشع عَنْ جماعتها دجاها
وأصلح بينها حَتَّى نراها ... تقارع أمة أُخْرَى سواها
وَقَالَ الأعور الشني:
بكت عين من يبكي ابن عفّان بعد ما ... نفى ورق الفرقان كُل مكان
(978) ثوى تاركا للحق متبع الهوى ... وأورث حربا «1» حشها بطعان
برئت إِلَى الرحمن من دين نعثل ... ودين ابْن صخر أيها الرجلان
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحكم:
لَقَدْ شركت زريق «2» فِي ابْن أروى ... فقد ضلّت زريق أجمعونا
1547- حدثني الْمَدَائِنِي عَنِ ابْن جعدبة قَالَ: مر عَلِي بدار بَعْض آل أَبِي سُفْيَان فسمع بَعْض بناته تضرب بدف وتقول:
ظلامة عُثْمَان عِنْدَ الزُّبَيْر ... وأوتر منه لنا طلحه
هما سعراها بأجذالها ... وكانا حقيقين بالفضحه
يهران شر هرير الكلاب ... ولو أعلنا كانت النبحه
فَقَالَ عَلِي: [قاتلها الله ما أعلمها بموضع ثأرها.]
1548- وولد لعثمان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ:
عَبْد الله الأصغر، أمّه فاختة بنت غزوان أخت عتبة بْن غزوان، وعبد اللَّه الأكبر، أمه رقية بنت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقر عينه ديك فمات وَقَدْ ذكرناه «3» فيما تقدم، وعمرو، وأبان، وخالد، وعمر
__________
1548- في أولاد عثمان انظر المصعب: 104 وجمهرة ابن حزم: 83 وابن الكلبي: 23 والمعارف: 198
__________
(1) حربا: سقطت من ط س.
(2) زريق: بطن من الخزرج.
(3) م: وقد ذكرنا خبره.(5/600)
ومريم، أمهم أم عَمْرو بنت جندب بْن عَمْرو بْن حممة الدوسي من الأزد، وسعيد، والوليد، وأم سَعِيد، أمهم أم عَبْد اللَّهِ بِنْت الْوَلِيد بْن عَبْد شمس بْن الْمُغِيرَةِ المخزومي واسمها فاطمة، والمغيرة، أمه أسماء بنت أَبِي جهل بْن هِشَام، وعبد الْمَلِك، أمه مليكة بنت عُيَيْنَة بْن حصن الفزارية وَهِيَ أم البنين، قَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي «1» : تزوج عُثْمَان أم البنين بنت عُيَيْنَة بْن حصن فدخل عَلَيْهَا عُيَيْنَة ليلا وَهِيَ عِنْدَ عُثْمَان وَهُوَ يفطر فدعاه إِلَى العشاء فَقَالَ: إني «2» صائم فَقَالَ عُثْمَان: سبحان اللَّه أيصام بالليل؟ قال: إنّي ميّلت «3» بَيْنَ صوم الليل والنهار فوجدت صيام الليل أخف عَلِي، فتبسم عُثْمَان، وأم أبان، وأم عَمْرو «4» ، وعائشة، أمهن رملة بنت شيبة بْن ربيعة بْن عَبْد شمس وكانت من المهاجرات، وَلَهَا تقول هند بنت عتبة «5» .
عدمنا كُل صابئة بوج ... ومكة أَوْ بأطراف الحجون
تدين لمعشر قتلوا أباها ... أقتل أبيك جاءك باليقين
ومريم الصغري، وأمها نائلة بنت الفرافصة الكلبي، وأخوات لَهَا وهن أم خَالِد، وأروي، وأم أبان الصغرى.
1549- فأما أم عَمْرو فتزوجها سَعِيد بْن العاص بْن أمية فهلكت عنده فتزوج أختها مريم الكبرى بنت عُثْمَان ثُمَّ هلك عَنْهَا فخلف عَلَيْهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام المخزومي فهلكت عنده.
1550- وَأَمَّا عَائِشَةُ فتزوجها الْحَارِث بْن الحكم بْن أَبِي العاص ثُمَّ خلف عَلَيْهَا عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر.
1551- وَأَمَّا أم أبان فتزوجها مَرْوَان بْن الحكم بن أبي العاص.
__________
(1) الورقة 1158/ أ (من س) .
(2) ط م: أنا.
(3) ط م س: مثلت.
(4) م: عمر.
(5) الاصابة 8: 86 والمصعب: 105(5/601)
1552- وَأَمَّا أم سَعِيد فتزوجها عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد بْن أَبِي العيص.
1553- وَأَمَّا مريم الصغرى فتزوجها عَمْرو بْن الْوَلِيد بْن عقبة بْن أَبِي معيط.
1554- وَأَمَّا عَمْرو
فكان أكبر بَنِي عُثْمَان وأشرفهم ولدًا، دعاه مَرْوَان إِلَى أَن يشخص إِلَى الشام ليبايع لَهُ فأبى وَمَاتَ بمنى، وَكَانَ مَعَ أهل الْمَدِينَةِ حِينَ قدم مُسْلِم بْن عقبة لقتالهم بالحرة فدعا بِهِ فَقَالَ لَهُ: إيه يا فاسق إِذَا خرج أهل الْمَدِينَةِ قُلْت: أنا رجل منكم، وإذا ظهر أهل الشام قلت: أنا ابْن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عُثْمَان، ثُمَّ التفت إِلَى (979) من معه فقال: هذا الخبيث ابن الطيب، وإنما أتي من قبل أمه، لَقَدْ بلغني أَنَّهَا كانت تجعل الشيء «1» فِي فِيهَا ثُمَّ تقول لأمير الْمُؤْمِنيِنَ: حازيتك «2» مَا فِي فمي، وَفِي فمها مَا ساءها وناءها، ثُمَّ أمر فضرب بالسياط.
1555- فولد عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عَفَّان
عُثْمَان الأكبر، وخالدًا، أمهما رملة بنت مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان، وعبد اللَّه الأكبر، أمه حفصة بنت عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب وأمها صفية بنت أَبِي عبيد أخت المختار بْن أَبِي عبيد الثقفي وأمها عاتكة بنت أسيد بْن أَبِي العيص، وعثمان الأصغر بْن عَمْرو، وأمه بنت عُمَارَةَ بْن الْحَارِث بْن عوف بْن أَبِي حارثة المري، وعبد اللَّه الأصغر والمغيرة وَكَانَ شاعرًا، وعنبسة، وعمر «3» ، والوليد، لأمهات أولاد شتى.
1556- فأما «4» عَبْد الله الأكبر بْن عَمْرو بْن عُثْمَان فكان يسمى المطرف
لجماله، وفيه يقول الفرزدق:
__________
1554- الطبري 2: 421 وف: 848 في ما تقدم.
1555- طبقات ابن سعد 5: 111 1556- شعر الفرزدق في الديوان: 409 والبيتان 1، 2 في الأغاني 21: 425، والبيتان 2، 3 من شعر عباد في الكامل 1: 181 (دون نسبة) والثلاثة في المصعب: 113 لابن الرئيس الثعلبي.
__________
(1) الطبري: الجعل (وفي رواية: الخنفساء) .
(2) المصادر: حاجيتك.
(3) س: وعمرو.
(4) م: وأما.(5/602)
أعبد اللَّه إنك خير ماش ... وساع بالجراثيم الكبار
نمى الفاروق جدّك وابن أروي ... أبوك فأنت منصدع النهار
كلا أبويك عِنْدَ اللَّه حي ... شهيد فِي المنازل بالخيار
يعني عمر «1» وعثمان.
وَفِي المطرف يَقُول الثعلبي «2» عباد:
جميل المحيا واضح اللون لَمْ يطا ... بحزن وَلَمْ تألم لَهُ النكب إصبع
من النفر الشم الَّذِينَ إِذَا أتوا ... وهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا
إِذَا النفر الأدم اليمانون يسروا ... لَهُ حوك برديه أرقوا وأوسعوا
1557- وَأَمَّا خَالِد بْن عمرو
فولد سعيد بن خالد، وأمّه ابنة سعيد بن العاص وأمّها ابنة جَرِير بْن عَبْد اللَّهِ البجلي، وَكَانَ سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو هَذَا بخيلا وَلَهُ يَقُول موسى شهوات يذمه:
أبا خَالِد أعني سَعِيد بْن خَالِد ... أَخَا العرف لا أعني ابْن بنت سَعِيد
وَقَالَ كثير يمدحه:
اذكر سعيدا بخلات سبقن لَهُ ... ميراث والده والعرق منتسب
يا ابن الأكارم والمحمود سعيهم ... وابن الَّذِي عوقبت فِي قتله العرب
وكانت ابنة لَهُ عِنْدَ هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك وكانت أُخْرَى عِنْدَ الْوَلِيد بْن يَزِيد فطلقها قبل الخلافة ثُمَّ خلف عَلَى ابنة لَهُ أُخْرَى وَهُوَ خليفة، وَلَهُ يَقُول الفرزدق:
كُل امرئ يرضى وإن كَانَ كاملا ... إِذَا نال نصفا من سَعِيد بْن خالد
__________
155- شعر موسى شهوات في الشعر والشعراء: 482 والأغاني 3: 348، 350 وابن عساكر 6: 125، وانظر ديوان كثير: 271 وديوان الفرزدق رقم: 54 وابن عساكر 6: 125 وابن الكلبي: 27
__________
(1) ط م س: عمرا.
(2) ط: التغلبي، م: التعلبي.(5/603)
لَهُ من قريش طيبوها وقبصها «1» ... وإن عض كفي أمه كُل حاسد
وَكَانَ يَقُول إِذَا برقت السماء: أمطري حيث شئت فَمَا تمطرين إلا عَلَى بلد لي فِيهِ مال، وَهُوَ صاحب الفدين، وَكَانَ الديباج بْن المطرف يمر فيصله، فقيل لَهُ لَمْ تمر بِهِ وتعدل إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: إنه يصلني فِي كُل مرة بألف دِينَار فيقع مني موقعًا حسنًا.
1558- وَأَمَّا عُثْمَان بْن عَمْرو بْن عُثْمَان
فكان يلقب خرء الزنج وَكَانَ مضعوفًا وفيه يَقُول الشاعر:
لعمرك مَا يَأْتِي وإن كَانَ معرقًا ... خر الزنج عُثْمَان بْن عَمْرو بطائل
1559- وَأَمَّا عنبسة بْن «2» عَمْرو
فله يَقُول الشاعر:
يا قصر عنبسة الذي بالرايع «3» ... لا زلت تحيا بالحيا المتتابع
كم لذة قَدْ نلتها ومسرة ... بفنائك الْحَسَن الرحيب الواسع
1560- (980) حَدَّثَنِي «4» أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ سحيم بْن حفص وغيره قَالُوا: كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان يلقب المطرف لجماله وبهائه، وقيل سمي بِذَلِكَ لأنه قيل هَذَا حسن مطرف بَعْد عَمْرو بْن الزُّبَيْر، وَكَانَ (عَبْد اللَّهِ بْن) عَمْرو فائق الجمال فأتاه مدرك الفقعسي فَقَالَ لَهُ: أنا ابْن عمك قَالَ: ومن أَنْتَ؟ قَالَ: مدرك الفقسي من بَنِي أسد، فَقَالَ: إِنَّمَا بنو عمي من قريش، فَقَالَ مدرك «5» :
كأني إذ دخلت عَلَى ابْن عَمْرو ... دخلت عَلَى مخبأة كعاب
منعمة لَهَا آباء صدق ... تحل بيوتهم أعلى الروابي
__________
(1) س والديوان: وقبضها، ابن عساكر: وفيضها.
(2) بن: سقطت من س.
(3) الرايع: من أفنية المدينة.
(4) بهامش ط س: رجع المصنف إلى خبر عبد الله المطرف وولده.
(5) المعارف: 199 (واسم الشاعر مدرك بن حصن) والخزانة 3: 188 (بن حصين) .(5/604)
تخون بغيبهم ويكون «1» مِمَّا ... يعد عَلَيْهِم يَوْم السباب «2»
وَكَانَ عُثْمَان بْن حيان المري أَيَّام ولايته الْمَدِينَةَ أخذ مثجور بْن غيلان فِي قصر لعبد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَان المطرف لأنه كَانَ استخفى فِيهِ من الْحَجَّاج وَقَدْ هرب من العراق، فادعى المطرف دروعًا لَهُ، فَقَالَ لعثمان: ذهب بِهَا أَصْحَابك، فَقَالَ عُثْمَان بْن حيان: مَا دروعك إلا دروع النِّسَاء يا مخنث- ويقال قَالَ لَهُ يا منكوح- فلما استخلف سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك وعزل عُثْمَان بْن حيان وولى أَبُو بَكْر بْن عَمْرو بْن حزم جلد عُثْمَان لَهُ حدًا.
1561- وَكَانَ للمطرف من الولد
خَالِد، وعائشة، أمهما أسماء بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام بْن المغيرة المخزومي وأمها أم الْحَسَن بنت الزُّبَيْر بْن العوام وأمها أسماء بنت أَبِي بَكْر الصديق، وعبد الْعَزِيز، وأمية، وأم عَبْد اللَّهِ، أمهم أم عَبْد الْعَزِيز بنت عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد، ومحمد الأصغر، والقاسم، ورقية، أمهم فاطمة بنت حسين ابن عَلِي بْن أَبِي طَالِب، ومحمد الأكبر، لأم ولد وَهُوَ الحازوق، وعمرو، وسعدة، أمهما أم عَمْرو بنت أبان بْن عُثْمَان بْن عَفَّان.
1562- فأما عَائِشَةُ بنت المطرف
فتزوجها عَبْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك، وَأَمَّا سعدة فتزوجها يَزِيد بْن عَبْد الْمَلِك، وَأَمَّا أم عَبْد اللَّهِ فتزوجها الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك.
1563- وَكَانَ يقال لمحمد الأصغر بْن المطرف الديباج لجماله، وَكَانَ لَهُ قدر ونبل وصلاة طويلة، حَدَّثَنِي الزُّبَيْر بْن بكار عَن عمه مُصْعَب بْن عَبْد اللَّهِ قَالَ: أم الديباج- وَهُوَ محمد بن عبد الله بن عمرو بن عُثْمَان- فاطمة بنت حسين بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب، وَكَانَ الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب خطبها إِلَى الْحُسَيْن فزوجه إياها، فلما حضرت الْحَسَن بْن الْحَسَن الوفاة قَالَ لَهَا: كأني بك قَدْ نظرت إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان المطرف مرجلا جمته لابسا حلته معترضا لَك، فانكحي من شئت سواه، فحلفت أَن لا
__________
(1) م: بعيبهم وتكون.
(2) ط م س: السياب.(5/605)
تتزوجه وكانت جميلة يرغب فِيهَا، وَمَاتَ الْحَسَن بْن الْحَسَن وخرج بجنازته فحضرها المطرف عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، فنظر إِلَى فاطمة حاسرًا تلطم وجهها فأرسل إِلَيْهَا: إِن لنا فِي وجهك حاجة فارفقي بِهِ، فعرف فِيهَا الاسترخاء وخمرت وجهها، ثُمَّ خطبها حِينَ حلت للأزواج فَقَالَتْ: كَيْفَ أصنع بيميني؟ فَقَالَ: لَك مكان كُل شَيْء شيئان، فتزوجها وكفر عَنْ يمينها، فولدت لَهُ محمدًا الَّذِي يقال لَهُ الديباج. وَكَانَ جميل يَقُول لبثينة: مَا رَأَيْت عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان يخطر عَلِي البلاط قط إلا أخذتني الغيرة عليك خوفا أَن تريه أَوْ ترى مثله وإن بعدت دارك.
وَقَالَ موسى شهوات يمدحه «1» :
لَيْسَ فيما بدا لنا منك عيب ... عابة النَّاس غَيْر أنك فاني
أَنْتَ خير المتاع لو كنت تبقى ... غَيْر أَن لا بقاء للإِنْسَان
وَقَالَ فِيهِ رجل من ولد عويم بن ساعدة «2» :
يا ابن عُثْمَان وابن خير قريش ... أبغني مَا يقرني بقباء
رُبَّمَا بلني نداك وجلى ... عَنْ جبيني عجاجة الغرماء
1564- وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: كَانَ الديباج نبيلا فَقَالَ النَّاس: هُوَ سمي النَّبِي وابن سمي أَبِي النَّبِي ومن ذريته ونسل الخليفة المظلوم، فعظم فِي أعينهم وجل أمره عِنْدَ أهل الشام خاصة وهموا بأن يبايعوا لَهُ. وَكَانَ كثير التزويج كثير الطلاق فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَة من نسائه: إِنَّمَا مثلك مثل الدنيا لا يدوم نعيمها ولا تؤمن فجعاتها، فأخذه أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور مَعَ الطالبيين أَيَّام مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن بْن عَلِي فضربت عنقه صبرًا وبعث برأسه إِلَى الهند وأظهر أَنَّهُ رأس مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن الْحَسَن.
1565- قَالَ أَبُو اليقظان: زوج الديباج ابنته مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ او إبراهيم بن
__________
1565- قارن بالطبري 3: 183- 184، 188
__________
(1) البيان 3: 144 والأغاني 3: 356 والشعر والشعراء: 482 ومعجم المرزباني: 286
(2) الأغاني 20: 164 (واسم الشاعر السري بن عبد الرحمن) .(5/606)
عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِي، فدعا بِهِ الْمَنْصُور أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بالمدينة فعاتبه عَلَى ميله إِلَى ولد عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن وضربه ستين سوطا وأمر بحبسه، فلما خرج محمد بن ابراهيم دعا بِهِ فضرب عنقه صبرا بالهاشمية وَقَالَ: والله لا تقر «1» عينك بخروج صاحبيك، وبعث برأسه إِلَى خراسان، وَكَانَ الديباج أَخَا عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن لأمه أمهما فاطمة بنت حسين.
1566- وَكَانَ القاسم بْن المطرف شديد النفس واللسان، وخطب عَلَيْهِ هِشَام ابنته وَهُوَ خليفة عَلَى ابنه فأبى أَن يزوجه إلا عَلَى حكمه وشروط يشترطها، وَمَاتَ فِي خلافة هِشَام فزوج ابنه ابنته.
1567- وَأَمَّا خَالِد بْن المطرف
فكان نبيلا وفد إِلَى يَزِيد بْن عَبْد الْمَلِك فخطب إِلَيْهِ يَزِيد أخته فَقَالَ لَهُ: إِن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان أَبِي قَدْ سن لنسائه عشرين ألف دِينَار فَإِن أعطيتنيها وإلا لَمْ أزوجك، فَقَالَ يَزِيد: أوما ترانا أكفاء إلا بالمال؟ قَالَ: بلى والله إنكم بنو عمنا، قَالَ: إني لأظنك لو خطب إليك رجل من قريش لزوجته بأقل مِمَّا ذكرت من المال، قَالَ: أي لعمري لأنها تكون عنده مالكة مملكة وَهِيَ عندكم مملوكة مقهورة وأبى أَن يزوجه، فأمر أَن يحمل عَلَى بعير ثُمَّ ينخس بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، وكتب إِلَى ابْن الضحاك «2» بْن قَيْس الفهري وَهُوَ عامله عَلَى الْمَدِينَةِ أَن وكل بخالد من يأخذ بيده فِي كُل يَوْم وينطلق بِهِ إِلَى شيبة بْن نصاح المقرئ ليقرأ عَلَيْهِ الْقُرْآن فَإِنَّهُ من الجاهلين، فأتى بِهِ شيبة فقيل لَهُ: يَقُول لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ علمه الْقُرْآن فَإِنَّهُ من الجاهلين فَقَالَ شيبة حِينَ قرأ عَلَيْهِ: مَا رَأَيْت أحدا قط أقرأ للقرآن منه وإن الَّذِي جهله لأجهل منه. ثُمَّ كتب يَزِيد إِلَى عامله: بلغني أَن خالدا يذهب ويجيء فِي سكك الْمَدِينَةِ فمر بَعْض من معك أَن يبطش بِهِ، فضربوه حَتَّى مرض وَمَاتَ، وله عقب بالمدينة.
__________
1567- ابن عساكر 5: 66 والورقة 689 ب (من النسخة س) .
__________
(1) م: نقر، س: يقر.
(2) هو عبد الرحمن بن الضحاك.(5/607)
1568- وَأَمَّا عَبْد الْعَزِيز بْن المطرف
فكان عَلَى الجيش الَّذِينَ قاتلوا الإباضية بقديد، فسقط لواؤه يَوْم سار فتطيروا من ذَلِكَ، وانهزم، وقتل يَوْمَئِذٍ أمية بْن المطرف أخوه. وولى يَزِيد بْن الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك عَبْد الْعَزِيز هَذَا مَكَّة والطائف.
1569- الْمَدَائِنِي قَالَ، قَالَ المطرف: أنا ابْن أَبِي العاص، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بن المنذر ابن الزُّبَيْر: دُونَ ذَلِكَ مَا يدق «1» عنقك، يَعْنِي عَفَّان، كَانَ موضعًا.
1570- وَأَمَّا عُمَر (982) بْن عَمْرو بْن عُثْمَان
فمن ولده عَبْد اللَّهِ بْن عمر بن عَمْرو ابن عُثْمَان بْن عَفَّان
وأمه ابنة عُمَر بْن عُثْمَان بْن عَفَّان وَكَانَ ينزل عرج الطائف فكان يعرف بالعرجي، وَكَانَ شاعرًا سخيا لَهُ يسار وحال، فحدثت أَن عُمَر بْن أَبِي ربيعة المخزومي لما نعي وَكَانَ موته بالشام بكت عَلَيْهِ مولدة من مولدات مَكَّة كانت لبعض بَنِي مَرْوَان وجعلت توجع لَهُ وتفجع عَلَيْهِ وَقَالَتْ: من لأباطح مَكَّة بعده؟ وَكَانَ يصف حسنها وملاحة نسائها، فقيل لَهَا: إنه قَدْ حدث فتي من ولد عُثْمَان بْن عَفَّان يسكن بعرج الطائف شاعر يذهب مذهبه، فَقَالَتْ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل لَهُ خلفًا، سريتم والله عني.
وضرب العرجي الحد فِي السكر فِي أَيَّام هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك.
1571- قَالُوا: وَكَانَ العرجي من فتيان قريش، وَكَانَ فتيان قريش وغيرها يفدون إِلَيْهِ فيفضل عَلَيْهِم ويعطيهم، وغزا مَعَ مسلمة بْن عَبْد الْمَلِك فِي آخر خلافة سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك فَقَالَ: يا معشر التجار من أراد من الغزاة المعدمين شَيْئًا فأعطوه إياه، فأعطوهم عَلَيْهِ عشرين ألف دِينَار، فلما استخلف عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز قَالَ: بَيْت المال أولى بمال هَؤُلاءِ التجار من مال العرجي، فقضى ذَلِكَ من بَيْت المال.
وَلَمْ يزل العرجي فتى قريش حَتَّى حبسه إِبْرَاهِيم بْن هِشَام بْن إِسْمَاعِيل بْن هِشَام بْن الْوَلِيد بْن المغيرة المخزومي، وَهُوَ والي الْمَدِينَةِ من قبل هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك، وَكَانَ العرجي هجا إِبْرَاهِيم هذا فقال وقد حجّ بالناس «2» :
__________
1568- قارن بالأغاني 23: 119 1570- قارن بالأغاني 1: 365
__________
(1) س: يرق.
(2) الأغاني 1: 382، وديوان العرجي: 190(5/608)
كَانَ العام لَيْسَ بعام حج ... تغيرت المواسم والشكول
وَقَدْ بعثوا إِلَى جيدا رسولا ... ليخبرها فلا رجع الرسول
وجيداء أمه بعث إِلَيْهَا رسولا بسلامته، وَقَالَ أيضًا «1» :
حَتَّى دفعت «2» إِلَى جعداء «3» جالسة ... قَدْ تركت أهل بَيْت اللَّه فِي ضيق
فلم يزل فِي الحبس حَتَّى مَاتَ، وَقَالَ فِي حبسه «4» :
يا ليت شعري وليت الطير تخبرني ... هل أدخل القبة الحمراء من أدم
أسلمني أسرتي طرا وحاشيتي ... حَتَّى كأني من عاد ومن إرم
1572- وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي عَن عَبْد اللَّهِ بْن سَلْم «5» الفهري قال: كَانَ ابْن هِشَام بْن إِسْمَاعِيل واليا لهشام بْن عَبْد الْمَلِك عَلَى مَكَّة وَهُوَ ابْن خاله وأمه أم هِشَام بنت هِشَام بْن إِسْمَاعِيل بْن هِشَام بْن الْوَلِيد بْن المغيرة فحبس عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَمْرو بْن عُثْمَان «6» فِي تهمة دم مولى لعبد اللَّه بْن عُمَر ادعى عَلَيْهِ قتله، فلم يزل محبوسًا حَتَّى مَاتَ، وَكَانَ ابْن هِشَام متحاملًا عَلَيْهِ فَقَالَ فِي السجن «7» :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
قَالَ الْمَدَائِنِي: ويقال إِن هَذَا الْبَيْت لمحمد بْن القاسم الثقفي وإنما تمثل بِهِ العرجي.
1573- وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي: يقال إِن إِبْرَاهِيم بْن هِشَام حبس العرجي، ويقال بَل حبسه إِسْمَاعِيل بن هشام بن اسماعيل.
__________
(1) ديوان العرجي: 139
(2) الديوان: انتهيت.
(3) هامش ط والديوان: دعجاء.
(4) ديوان العرجي: 192 (عن الأنساب) .
(5) م س: أسلم.
(6) م: فياض.
(7) ديوان العرجي: 34 (وهو يرد في مصادر كثيرة) .(5/609)
1574- (983) قال مصعب الزبيري: وكلّ العرجيّ مولى به بحرمه فكان يخالف إليهن وصح «1» ذَلِكَ عِنْدَ العرجي فقتل مولاه ثُمَّ أحرقه، فاستعدت عَلَيْهِ امرأة مولاه محمد ابن هِشَام بْن إِسْمَاعِيل وَكَانَ حنقًا عَلَيْهِ بهجائه إياه، فحبسه وضربه وشهره.
1575- قَالَ: وَلَهُ فِي زوجة مُحَمَّد بْن هِشَام.
عوجي عَلَيْنَا ربة الهودج ... إنك إِن لا تفعلي تحرجي
نلبث حولا كاملا كله ... لا نلتقي إلا عَلَى منهج
وفيها يَقُول «2» :
عوجي عَلِي فسلمي جبر «3» ... فيم الوقوف وأنتم سفر
1576- وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ من قَوْل العرجي فِي سجن ابْن هِشَام «4» :
سينصرني الخليفة بَعْد ربي ... ويغضب حِينَ يخبر عَنْ مساقي
عَلِي عباءة برقاء ليست ... مَعَ البلوى تغيب نصف ساقي
ويغضب لي بأجمعها قصي ... قطين الْبَيْت والدمث الرقاق
قَالَ: فلما طال حبسه وَلَمْ يغث قَالَ «5» :
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ... ليوم كريهة وسداد ثغر
وخلوني بمعترك المنايا ... وَقَدْ شرعت أسنتها لصدري
كأني لَمْ أكن فيهم وسيطا ... وَلَمْ تك نسبتي في آل عمرو
__________
1574- الأغاني 1: 386 1575- الأغاني 1: 383 والخزانة 2: 429 والكامل 2: 260 وديوان العرجي: 17
__________
(1) س: فصح.
(2) ديوان العرجي: 42 والأغاني 1: 384 (ومواطن اخرى) .
(3) ط س: حبر، م: خير.
(4) ديوان العرجي: 137 والأغاني 1: 387
(5) ديوان العرجي: 34 والأغاني 1: 388 وابن خلكان 5: 399 وانظر الشعر والشعراء: 478 والمعارف: 200 والخزانة 1: 47 والمصعب: 118 والأوّل قد مرّ في ف: 1572 والعيني 1: 416(5/610)
يَعْنِي عَمْرو بْن عُثْمَان، وَقَالَ أيضًا «1» :
يا ليت سلمى رأتنا لا نزاع «2» لنا ... لما هبطنا جميعا أبطح السوق
وكشرنا وكبول القين تنكبنا «3» ... كالأسد تكشر عَنْ أنيابها الروق
والناس صفان من ذي بغضة حنق ... وممسك لدموع العين مخنوق
وَفِي السطوح كأمثال الدمى خرد ... يكتمن لوعة حب غَيْر ممذوق
من كُل ناشرة فرعا لرؤيتنا ... ومفرقا ذا نبات غَيْر مفروق
يضربن حر وجوه لا يلوحها ... لفح السموم ولا شمس المشاريق
كَأنَ أعناقهن التلع مشرفة ... من كُل جيز «4» كأعناق الأباريق
1577- ومن ولد عمر بن عمرو بْن عُثْمَان (سِوَى) العرجي عَاصِم بْن عُمَر
الَّذِي يَقُول فِيهِ الشاعر «5» :
سيرا فَقَدْ جن الظلام عليكما ... فيا بؤس من يرجو القرى عِنْدَ عَاصِم
فَمَا كَانَ لي ذنب إِلَيْهِ علمته ... سِوَى أنني قَدْ زرته غَيْر صائم
وَقَالَ أيضًا وَهُوَ من كنانة «6» :
فقل لابن عثمان بن عفّان عاصم ... إليك سرت عيس فطال سراها
أتتكم بنا ندلي بحق وحرمة ... ونقطع أرضا مَا يثار قطاها
فَقَدْ صادفت كز اليدين ملعنا «7» ... جبانا إِذَا مَا الحرب شب لظاها
بخيلا بِمَا فِي رحله «8» غَيْر أَنَّهُ ... إِذَا مَا خلت عرس الصديق قفاها
__________
(1) ديوان العرجي: 137 ومنها بيتان في المصعب: 118
(2) م: تراع، الأغاني: غير جازعة.
(3) ط م س: ينكبنا.
(4) س: حين.
(5) هو الحزين الكناني كما في الأغاني 15: 271 وانظر المعارف: 201
(6) الأغاني 15: 271
(7) الأغاني: مبخلا.
(8) س: رجله(5/611)
(984) فَقَالَ عَاصِم: الآن أنضج «1» الكي 1578- وحدثت أَن العرجي أَوْ غيره من قريش بعث إِلَى امْرَأَة فأتته عَلَى حمار ومعها جارية عَلَى أتان فوثب الحمار عَلَى الأتان وغلامه عَلَى جاريتها وقام فباضعها فَقَالَ: هَذَا يَوْم قَدْ غاب «2» عذاله.
1579- واتهم العرجي جارية أَبِي جراب أحد بني أميّة الأصغر عنده بشعر قاله فِيهَا فحملها أَبُو جراب عَلَى غرارتي بعير «3» إِلَى مَكَّة، فأحلفها بَيْنَ الركن والمقام عَلَى كذبه، فحلفت فرضي عَنْهَا.
1580- وَأَمَّا الْوَلِيد بْن عُثْمَان بْن عَفَّان
فكان من فتيان قريش سخاء وفتوة وشرفًا، قَالَ أَبُو اليقظان، قَالَ رجل من ولد عُثْمَان: قبح اللَّه الْوَلِيد فَإِن أباه عُثْمَان قتل وَهُوَ مخلق فِي حجلته.
وَفِي الْوَلِيد يَقُول عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أرطاة بْن سيحان المحاربي ورأى عنده إداوة كَانَ بعث إِلَيْهِ فِيهَا بشراب:
لا تبعدن إداوة مطروحة ... كانت قديمًا للشراب العاتق
بأبي الْوَلِيد وأم نفسي كلما ... طلع النجوم وذر قرن الشارق
لما أتيناه أتينا ماجدًا ... ضخم الدسائع ذا ندى وخلائق
أثوى وأحسن فِي الثواء وقضيت ... حاجاتنا من عِنْدَ أروع باسق
1581- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ ابْن سيحان حليف بَنِي حرب بْن أمية شاعرًا حلو الْحَدِيث وَهُوَ على ذلك
__________
1578- عيون الأخبار 4: 102 ومحاضرات الراغب 2: 124 1579- الأغاني 1: 372 والورقة 805 ب (من س) .
1580- قارن بالمعارف: 202 والمروج 4: 202 والشعر في الأغاني 2: 207، 211
__________
(1) م: أبضح.
(2) س: عاب.
(3) الأغاني: على بعير بين غرارتي بعر.(5/612)
يقارف الشراب، فكان ينادم أحداث بَنِي أمية، وَكَانَ يشرب مَعَ الْوَلِيد بْن عتبة بْن أَبِي سُفْيَان، وَكَانَ الْوَلِيد بْن عُثْمَان بْن عَفَّان ينادم الْوَلِيد بْن عتبة، وَهُوَ جاء بابن سيحان إِلَيْهِ، فأصاب الْوَلِيد بْن عتبة خمار «1» فدعا بابن سيحان فَقَالَ لَهُ: اشرب، فأتى بإداوة فِيهَا فضلة شراب فشربها، ثُمَّ أمدوه فَقَالَ:
بأبي الْوَلِيد وأم نفسي كلما ... كَانَ الصباح وذر قرن الشارق
أثوي فأحسن فِي الثواء وقضيت ... حاجاتنا من عِنْدَ أبيض باسق
كم عنده من نائل وسماحة ... وشمائل ميمونة وخلائق
وكرامة للمعتفين إِذَا اعتفوا «2» ... فِي ماله حقا وقول صادق
فإلى الْوَلِيد يدي «3» لكم ولغيركم ... رهن بصامت ماله والناطق
لا تبعدن إداوة مطروحة ... كانت زمانا للشراب العاتق
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: ويقال أَن أبا زبيد قَالَ هَذَا الشعر فِي الْوَلِيد بْن عقبة بن أبي معيط، والأوّل أثبت 1582- وكان للوليد بْن عُثْمَان بْن عَفَّان ابْن يظهر التأله يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن الْوَلِيد، وَكَانَ يلعن عليا وَيَقُول: قتل جدي عُثْمَان والزبير، وكانت أمه ابنة الزُّبَيْر بْن العوام، وقام إِلَى هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك وَهُوَ عَلَى المنبر عشية عرفة فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ إِن هَذَا يَوْم كانت الخلفاء تستحب فِيهِ لعن أَبِي تراب، فَقَالَ لَهُ: يا عَبْد الله «4» إنّا لم نأت ها هنا لسب النَّاس ولعنهم.
1583- وَأَمَّا خَالِد بْن عُثْمَان بْن عَفَّان
فتوفي فِي خلافة أَبِيهِ، ركض دابة فأصابه قطع فهلك منه، وَلَهُ عقب، وَهُوَ الَّذِي يقال لَهُ الكسير، وَكَانَ مصحف عثمان الذي قتل وهو في
__________
(1) ط م س: خمارا.
(2) م: للمعتقين ... أعتقوا.
(3) م: يدا، ط: يدي.
(4) م: أبا عبد الله.(5/613)
حجره عِنْدَ ولده «1» . وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ بالسقيا «2» فركب بغلة ليلحق صلاة الجمعة مَعَ أَبِيهِ عُثْمَان وأسرع السير فسقطت البغلة نافقة وأصاب خالدًا كسر.
1584- وَكَانَ زَيْد بْن عُمَر بْن عُثْمَان تزوج سكينة بنت الْحُسَيْن بْن عَلِي فنهاه سليمان ابن عَبْد الْمَلِك عَنْهَا فطلقها لأن عَبْد الْمَلِك خطبها بَعْد مُصْعَب بْن الزُّبَيْر فأبته.
1585- (985) وَأَمَّا سَعِيد بْن عُثْمَان بْن عَفَّان
ويكنى أبا عُثْمَان فَإِن مُعَاوِيَة ولاه خراسان ففتح سمرقند، وَكَانَ أعور نحيلا «3» أصيبت عينه بسمرقند، وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ الشاعر:
سَعِيد بْن عُثْمَان بْن عَفَّان لا يرى ... لصاحبه قرضًا عَلَيْهِ ولا فرضا
وفيه يَقُول ابْن مفرغ:
إِن تركي ندى سعيد بن عثما ... ن بْن عَفَّان ناصري وعديدي
واتباعي أَخَا الرضاعة واللؤ ... م لنقص وفوت شأو بعيد
قُلْت قَوْل المحزون والليل داج ... ليتني مت قبل ترك سَعِيد
هَذَا حِينَ تركه وخرج مَعَ ابْن «4» زِيَاد 1586- وَكَانَ عِنْدَ سَعِيد غلمان من أبناء ملوك السغد دفعوا إِلَيْهِ رهائن، فقدم بِهِمْ مَعَهُ حِينَ عزله مُعَاوِيَة لما خاف من طلبه الخلافة، فلما صار بِهِمْ إِلَى الْمَدِينَةِ جعل يأخذ كسوتهم ومناطقهم فيدفعها إِلَى غلمانه، وألبسهم جباب الصوف وألزمهم السواني والعمل
__________
1585- قارن بالطبري 2: 177- 80 والبرصان: 56، وشعر ابن مفرغ في الأغاني 18: 197 والشعر والشعراء: 277 والخزانة 2: 214، 515، وديوانه: 62 وابن عساكر 6: 155 1586- فتوح البلدان: 509 وانظر المعارف: 202 والأغاني 1: 46
__________
(1) المعارف: 201
(2) م: بالسقياء (وانظر ياقوت 3: 104) .
(3) م: نجيلا.
(4) ابن: سقطت من م س وهي بهامش ط.(5/614)
الصعب، فدخلوا عَلَيْهِ فِي مجلسه ففتكوا بِهِ ثُمَّ قتلوا أنفسهم، فَقَالَ الْوَلِيد بْن عقبة بْن أَبِي معيط «1» :
ألا إِن خير النَّاس نفسا ووالدا ... سَعِيد بْن عُثْمَان قتيل الأعاجم
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سيحان المحاربي «2» :
يلومونني فِي الدار أَن غبت عَنْهُم ... وَقَدْ فر عَنْهُم خَالِد وَهُوَ دارع «3»
فَإِن كَانَ نادى دعوة فسمعتها ... فشلت يدي واستك مني المسامع
يعنى خَالِد بْن عقبة بْن أَبِي معيط، وَكَانَ قاضيًا بالمدينة فِي أَيَّام مَرْوَان بْن الحكم.
فَقَالَ خَالِد «4» :
لعمري لَقَدْ أبصرتهم فتركتهم ... بعينك «5» إذ ممشاك فِي الدار واسع
1587- قَالُوا: ولما بويع يَزِيد بْن مُعَاوِيَة جعل صبيان أهل الْمَدِينَةِ وعبيدهم ونساؤهم يقولون:
والله لا ينالها يَزِيد ... حَتَّى ينال رأسه الحديد
إِن الأمير بعده سَعِيد
فقدم سَعِيد عَلَى مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ: يا ابْن أَخِي «6» مَا شَيْء بلغني يقوله أهل الْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَمَا تنكر من ذَلِكَ يا مُعَاوِيَة؟ والله إِن أَبِي لخير من أَبِي يَزِيد، وأن أمي لخير من أمه، وإني لخير منه، ولقد استعملناك فَمَا عزلناك، ووصلناك فَمَا قطعناك، وصار أمرنا فِي يدك فحلأتنا عَنْهُ أجمع، فَقَالَ مُعَاوِيَة: قَدْ صدقت فِي قولك إِن أباك خير منّي وأنّ امّك خير
__________
1587- ابن عساكر 6: 155
__________
(1) سيرد في ف: 1588
(2) سيرد في ف: 1588
(3) م: ذارع.
(4) سيرد البيت في الفترة التالية.
(5) م: بعينيك.
(6) أخي: سقطت من س.(5/615)
من أمه لأن أمك من قريش وأمه امرأة من كلب، وبحسب امْرَأَة أَن تكون من صالح «1» نسائها، وأمّا قولك إنّك خير منه فو الله مَا يسرني أَن بيني وبين العراق حبلا نظم لي فِيهِ أمثالك. ثُمَّ قَالَ لَهُ: الحق بعمك زِيَاد فَقَدْ أمرته أَن يوليك خراسان، وأن يولي الخراج رجلا حازمًا، فولاه زِيَاد خراسان، وولى أسلم بْن زرعة الكلابي خراجها، ثُمَّ عزله خوفًا منه.
1588- وَقَالَ مُصْعَب بْن عَبْد اللَّهِ الزبيري: لما قتل السغد سعيدًا كَانَ مَعَهُ فِي الدار عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أرطاة بْن سيحان، فَقَالَ خَالِد بْن عقبة بْن أَبِي معيط «2» :
يا عين جودي بدمع منك تهتانا ... وابكي سَعِيد بْن عُثْمَان بْن عفانا
إِن المواكل لَمْ تصدق مودته ... وفرّ عنه ابن أرطاة بن سيحانا
المواكل الضعيف، يعني بالمواكل ابن أرطاة لَمْ تصدق مودته وفر عَنْهُ، فَقَالَ ابْن سيحان «3» :
يَقُول خليلي قَدْ دعاك فلم تجب ... وَذَلِكَ من تلقاء مثلك رائع
(986) فَإِن كَانَ نادى دعوة فسمعتها ... فشلت يدي واستك مني المسامع
يلومونني أَن كنت فِي الدار حاسرًا ... وَقَدْ فر عَنْهُ خَالِد وَهُوَ دارع
وقال بعضهم لابن سيحان «4» :
فإنك لَمْ تسمع ولكن رأيته ... بعينك إذ مجراك فِي الدار واسع
فأسلمته للسغد تدمى كلومه ... وفارقته والصوت فِي الدار شائع
وَمَا كَانَ فِيهَا خَالِد اللؤم معذرًا ... سواء عَلَيْهِ صم أَوْ هُوَ سامع
فلا زلتما في حال سوء ذميمة ... ودارت عليكم بالبلاء القوارع
__________
(1) ط م س: صالحي.
(2) الأغاني 1: 46 وابن عساكر 6: 156 والمصعب: 111
(3) انظر المصادر في الحاشية السابقة.
(4) الأغاني 2: 218 وابن عساكر (نفسه) ، والأول مرّ آنفا (ف 1586) وسيمر في الورقة 798/ أ.(5/616)
قَالَ، وَقَالَ بَعْض ولد أَبِي معيط «1» :
يا نفس موتي حسرة ... وابكي هبلت عَلَى سَعِيد
وابكي لقرم ماجد ... بَيْنَ الخليفة والوليد «2»
ولقد أصبت بغدرة ... وحملت حتفك «3» من بعيد
قَالَ، وَقَالَ الْوَلِيد أَوْ خَالِد بْن عقبة «4» :
ألا إِن خير النَّاس نفسا ووالدا ... سَعِيد بْن عُثْمَان قتيل الأعاجم
فَإِن تكن الأيام أردت صروفها ... سعيدا فهل حي عَلَى الدهر سالم «5»
1589- الْمَدَائِنِي عَنْ سحيم بْن حفص قَالَ: لقي الْحُسَيْن بْن عَلِي سعيدًا وأبناء السغد مَعَهُ فَقَالَ متمثلًا «6» :
أبا عُمَارَةَ إِمَّا كنت ذا ثقل ... فَإِن قومك لَمْ تأكلهم الضّبعْ
وَكَانَ قوم من بَنِي عُثْمَان يقولون: مَا قتله إلا عين الْحُسَيْن، قَالَ: فبينا سَعِيد فِي حائط لَهُ وَقَدْ جعل أولئك السغد فِيهِ يعملون بالمساحي إذ أغلقوا بَاب الحائط ووثبوا عَلَيْهِ فقتلوه، فجاء مَرْوَان بْن الحكم يطلب المدخل عَلَيْهِم فلم يجده، وقتل السغد أنفسهم، وتسورت الرجال ففتحوا الباب وأخرجوا سعيدًا.
1590- وَأَمَّا أبان بْن عُثْمَان بْن عَفَّان
ويكنى أبا سَعِيد فشهد الجمل مَعَ عَائِشَةَ فكان أول من انهزم، وَكَانَ أبرص أحول أصم، وَقَالَ مالك بن الريب المازني «7» :
__________
1590- قارن بالمعارف: 201 والبرصان: 56
__________
(1) الأغاني 2: 219 (عجز الأول والثالث) والمصعب: 111
(2) أم سعيد بنت الوليد بن عبد شمس.
(3) م: حنقك.
(4) فتوح البلدان: 509 والأغاني (نفسه) وابن عساكر.
(5) الأغاني: فمن هذا عليها بسالم.
(6) ينسب البيت لعباس بن مرداس ولغيره (انظر ديوانه: 128) وهو شاهد نحوي ولذلك تتعدد مصادر تخريجه.
(7) الطبري 2: 179(5/617)
ولولا بنو حرب لطلّت دماؤكم ... بطون العظايا من كسير وأعورا
وَمَا كَانَ فِي عُثْمَان عيب علمته ... سِوَى عقبة من بعده حِينَ أدبرا «1»
يَعْنِي ببطون العظايا البرص 1591- الْمَدَائِنِي قَالَ: ولى عَبْد الْمَلِك علقمة بْن صفوان «2» بْن المحرث مَكَّة فشتم طَلْحَةَ والزبير عَلَى المنبر، فلما نزل قَالَ لأبان: أرضيتك فِي المدهنين فِي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عُثْمَان، قَالَ: لا والله ولكن سؤتني، بحسبي بلية أَن يكونا شركاء «3» فِي دمه.
وولى أبان الْمَدِينَةَ فِي أَيَّام عَبْد الْمَلِك فَقَالَ عروة بْن الزُّبَيْر: اللَّه أكبر جاء فِي الْحَدِيث إِن هلاك بَنِي أمية عِنْدَ ولاية رجل أحول وأرجو أَن يَكُون هَذَا، وإنما كَانَ الأحول هشامًا. وكانت عِنْدَ أبان أم كلثوم بنت عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر خلف عَلَيْهَا بَعْد الْحَجَّاج. وَكَانَ أبان صاحب رشوة وجور فِي عمله.
1592- وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: أصاب أبان فالج شديد قبل موته بسنة، فكانوا يقولون بالمدينة إذا دعوا: أصابك فالج أبان، وَمَاتَ فِي خلافة يَزِيد بْن عَبْد الْمَلِك.
1593- وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبان بْن عُثْمَان، وأمه بنت عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن الحارث بْن هِشَام المخزومي، مصليا يصلى (987) فِي كُل يَوْم ألف ركعة ويكثر الحج والعمرة، وَكَانَ لَهُ خطر ومروءة وصلاح وصدقة كثيرة، وَكَانَ إِذَا تصدق بصدقة قَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا لوجهك الكريم فخفف عني الْمَوْت، فانطلق حاجا فصلى الغداة ثُمَّ نام، فذهبوا يوقظونه للرحيل فوجدوه ميتا، فأقاموا عَلَيْهِ المأتم بالمدينة، وجاء أشعب أَبُو «4» العلاء الطمع وَقَدْ طين رأسه ووجهه- ويقال: بَل جعل عَلَى رأسه كمة من طين- فجعل يلتدم مع النساء، وكان اليه محسنا.
__________
1592- طبقات ابن سعد 5: 113
__________
(1) سقط البيت من م وهو بهامش ط.
(2) لعل الصواب: نافع بن علقمة بن صفوان.
(3) س: يكون شركا.
(4) ط م س: ابن.(5/618)
1594- وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أبان يخرج إِلَى مكة للحج ومعه أَصْحَابه فَيَقُولُ لغلامه: قدم لنا طعامنا يا خداش، عَلَى الطعام يقتل النَّاس النَّاس.
1595- ولأبان ولد بالأندلس. وَكَانَ لأبان ابْن يقال لَهُ مَرْوَان وَكَانَ رديًا فسلا، وَكَانَ مخنثًا مأبونا يجمع بَيْنَ الرجال والنساء عَلَى الريبة والفاحشة، فلما مَاتَ لَمْ يبق أحد بلغه موته مِمَّن فِي مَسْجِد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلا لعنه وذكره بسوء، فَقَالَ ربيعة الرأي: لو شاءوا لأخفوا موته فكان ذَلِكَ أجمل.
1596- وَحَدَّثَنِي بَعْض العدويين من قريش قَالَ: قدم الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك الْمَدِينَةَ وَهُوَ خليفة فوضع أربعة كراسي جلس عَلَيْهَا أربعة أشراف من قريش، أم كُل واحد مِنْهُم عدوية: عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عَفَّان المطرف، أمه حفصة بنت عَبْد اللَّهِ بْن عمر ابن الْخَطَّاب، ومحمد بْن المنذر بْن الزُّبَيْر، أمه عاتكة بنت سَعِيد بْن زَيْد بْن عَمْرو بْن نفيل، وطلحة الندى بْن عَبْد اللَّهِ بْنِ عَوْفِ بْن عَبْدِ عوف بن عبد بْن الْحَارِث بْن زهرة، وأمه ابنة مطيع بْن الأسود العدوي، ونوفل بْن مساحق بْن عَبْد اللَّهِ بْن مخرمة بْن عَبْد العزى بْن أَبِي قَيْس بْن عَبْد ود من بَنِي عامر بْن لؤي، (وأمه) ابنة «1» مطيع بْن الأسود العدوي أيضًا.
1597- ووقع بَيْنَ مُحَمَّد بْن المنذر وبين المطرف كَلام فَقَالَ مُحَمَّد: مَا كنت أظنك إلا جارية لَقَدْ هممت أَن أخطبك إِلَى أبيك، فَقَالَ: أنا عَبْد اللَّهِ أَبُو مُحَمَّد «2» بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، فَقَالَ: لَك اسم أحب إليك من هَذَا، يَعْنِي المطرف.
1598- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَن الْوَاقِدِيِّ قَالَ: كَانَ المغيرة بْن عَمْرو بْن عثمان ابن عَفَّان شاعرًا وَهُوَ الَّذِي يَقُول:
أرو سقيا لعهدك المعهود ... ولنا في ودادك المودود
__________
1597- الورقة 818 ب (من النسخة س) .
__________
(1) ط م س: وابنه (في موضع وأمه ابنة) .
(2) ط م س: بن محمد.(5/619)
ولشرب لديك يا أرو يشفي ... من جوى حائم لحين الورود
حذرا أَن نرد منك بيأس ... أَوْ صدود فتولعي «1» بالصدود
أرو إني سلم لأهلك أروي ... فصليني وأنجزي موعودي
1599- وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْر بْن بكار عَنْ عمه وغيره قَالُوا: زوّج بكير بن عمرو بن عثمان ابن عَفَّان ابنته «2» أم عُثْمَان بنت بُكَيْر، وأمها سكينة بنت مُصْعَب بْن الزُّبَيْر، عامر بْن حمزة بْن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، فبلغ ذَلِكَ إِبْرَاهِيم بْن هِشَام المخزومي وَهُوَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فبعث إلي بُكَيْر فَقَالَ لَهُ: مَا حملك عَلَى أَن زوجت ابنتك زبيريا وبالشام من بِهِ من فتيان بَنِي الحكم بْن أَبِي العاص لَمْ تعرضها عَلَيْهِم وَهُمْ بنو عمك، فَقَالَ لَهُ: إِن يد عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر عندنا يَوْم الدار مَا علمت، فسكت.
1600- وَحَدَّثَنِي «3» الزُّبَيْر بْن بكار قَالَ: لما زوجت فاطمة بنت الْحُسَيْن ابنتها من عَبْد اللَّهِ المطرف دخلت وسكينة بنت الْحُسَيْن عَلَى هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك فَقَالَ لفاطمة: صفي لنا يا ابنة «4» حسين ولدك من ابْن عمك- يَعْنِي حسن بْن حسن- وصفي لنا ولدك من ابْن عمنا- يَعْنِي المطرف- (988) فَقَالَتْ: أما عَبْد اللَّهِ بْن حسن فسيدنا وشريفنا والمطاع فينا، وَأَمَّا حسن بْن حسن بْن حسن فلساننا ومدرهنا، وَأَمَّا إِبْرَاهِيم بْن حسن فأشبه النَّاس برسول الله صلّى الله عليه وسلّم شمائل «5» ولونا وتقلّعا- كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مشى تقلع فلا تكاد تمس عقباه الأَرْض- وَأَمَّا اللذان من ابْن عمكم فَإِن مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ- تعني الديباج- جمالنا الَّذِي نباهي بِهِ، والقاسم عارضتنا الَّتِي نمتنع «6» بِهَا وأشبه النَّاس بأبي العاص بْن أمية عارضة ونفسًا، فَقَالَ: والله لَقَدْ أحسنت فِي صفاتهم يا بنت حسين، ووثب فجبذت سكينة بردائه وقالت: والله ما اقول «7» يا أحول
__________
(1) س: ترد ... فتولع.
(2) ابنته: سقطت من س.
(3) س: وحدثنا.
(4) ط: يا بنت.
(5) ط م س: شمائلا.
(6) س: نمنع.
(7) ما أقول: سقطت من ط م، ولعلها زائدة.(5/620)
لَقَدْ أصبحت تهكم بنا، أما والله مَا أبرزنا لَك إلا يَوْم الطف، فضحك وَقَالَ: أَنْتَ امْرَأَة كثيرة الشر، ولكنك كبيرة السن فنحن نكرمك.
1601- قَالَ الزُّبَيْر: وأنشدني عمي لأبي وجزة «1» السعدي فِي الديباج «2» مُحَمَّد بْن عَبْد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان:
وجدنا المحض الأبيض من قريش ... فتى بَيْنَ الخليفة «3» والرسول
أتاك المجد من هنا وهنا ... فكنت لَهُ بمعتلج السيول
فَمَا للمجد دونك من مبيت ... وَمَا للمجد دونك من مقيل
فدى لَك من يذود الحق عَنْهُ ... ومن يرضي أخاه بالقليل
فلولا أَنْتَ مَا رحلت ركابي ... محملة ولا حمدت رحيلي
1602- قَالَ الْمَدَائِنِي: وخطب الديباج مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان امْرَأَة، وخطبها عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد اللَّه بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب، وَكَانَ يقال لَهُ الديباج أيضًا، فجعلت تبحث عَنْ أحسنهما، فبينا هِيَ كَذَلِكَ إذ خرجت ليلة فرأت الديباجين جميعا يتعاتبان فِي أمرها أَوْ أمر غيره فِي ليلة مقمرة، وَكَانَ وجه عَبْد الْعَزِيز إِلَيْهَا فرأت بياضة وطوله فَقَالَتْ: حسبي بِهِ، فتزوجها ودعا مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ فِي وليمتها فأكرمه، فلما أكل برك لَهُ ثُمَّ خرج وَهُوَ يَقُول:
بينا أرجي أَن أكون وليها ... رضيت بعرق من وليمتها سخن
1603- وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْر قَالَ: أتى الرماح بْن ميادة، وَهُوَ ابْن أبرد، الْمَدِينَةَ وعليها عَبْد الْوَاحِد بْن سُلَيْمَان، فسمع عَبْد الْوَاحِد يَقُول: إني لأهم بالتزويج فابغوني أيمًا، فَقَالَ الرماح: أنا أدلك، فَقَالَ: عَلَى من يا أبا شُرَحْبِيل؟ فَقَالَ: دخلت مسجدكم فإذا
__________
1603- الأغاني 2: 287 وقية البيت.
__________
(1) انظر ف 818 حيث يختلط اسم «أبي وجزة» ب «أبي حرة»
(2) عمّى ... الديباج: سقط من س.
(3) هامش ط: يعني عثمان رضي الله عنه.(5/621)
أشبه شَيْء بِهِ وبمن فِيهِ الْجَنَّة وأهلها، فبينا أنا أمشي إذ قادتني رائحة عطر رجل، فلما وقعت عيني عَلَيْهِ استلهاني حسنه، وتكلم فكأنما قرأ قرآنا أَوْ زبورًا حَتَّى سكت، فلولا علمي بالأمير «1» لقلت: هو هُوَ، فسألت عَنْهُ فأخبرت أَنَّهُ بَيْنَ الحيين للخليفتين عُثْمَان وعلي رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا، وأنه قَدْ نالته ولادة من النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلها نور ساطع فِي غرته، فَإِن اجتمعت وَهُوَ عَلَى ولد بأن تتزوج ابنته ساد الْعِبَاد وجاب ذكره البلاد، فَقَالَ: ذاك مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عَفَّان لفاطمة بنت الْحُسَيْن يا أبا شُرَحْبِيل، فَقَالَ ابْن ميادة:
لَهُمْ نبوة «2» لَمْ يعطها اللَّه غيرهم ... وكل عَطَاء اللَّه فضل مقسّم
1604- قال: وكان محمد الأكبر ابن المطرف، وَهُوَ الحازوق، يلبس أسرى الحلل، فَإِذَا تعجب النَّاس من حلة قَالُوا: كَأَنَّهَا حلة الحازوق، وإذا فخر أحد بحلة قَالُوا:
لو كانت حلة الحازوق مَا عدا.
1605- قَالَ: وقتل أمية بْن المطرف بقديد وَكَانَ عَبْد الْوَاحِد بن سليمان (989) قد ولاه على أسد وطيّئ فجاءه سبعون من فزارة، وَذَلِكَ فِي أَيَّام مَرْوَان بْن مُحَمَّد، فسألوه أَن يخرج بِهِمْ معه ليغيروا على طيّئ لثأر كَانَ لَهُمْ فيهم، فخرج بِهِمْ وتجمع إليهم ناس من أهل المعادن طلبًا «3» للغنائم، فلقيه معدان الطائي بالمنتهب «4» فِي جَمَاعَة من طيّئ فهزموه، وَقَدْ كَانُوا عرضوا عَلَيْهِ أَن يرد فزارة ويأتي فيمن أحب لأخذ صدقة أموالهم، وَفِي ذَلِكَ يَقُول معدان يعتذر إِلَى عَبْد الْوَاحِد وأهل الْمَدِينَةِ ويذكر عرضهم عَلَى أمية أن يردّ فزارة ويعطوه صدقاتهم:
__________
1605- ابن عساكر 3: 310 الورقة 776 ب (من س) ونسبت الأبيات في الورقة 777/ ألأنيف بن حكيم النبهاني (وبين الروايتين بعض اختلاف في القراءة) .
__________
(1) س ط: بالأمر.
(2) ط م: نبزة، وما هنا رواية الأغاني.
(3) م: طالبا.
(4) خ بهامش ط: بالمسهب (وانظر ياقوت 4: 657) .(5/622)
ألا هل أتى أهل الْمَدِينَة عرضنا ... خصالا من المعروف يعرف حالها
عَلَى عاملينا والسيوف مصونة «1» ... بأغمادها مَا زايلتها نصالها
أتينا إِلَى فرتاج «2» سمعا وطاعة ... نؤدي الزكاة حِينَ حان عقالها
ومن قبل مَا صرنا وجاءت وفودنا ... إِلَى فيد «3» حَتَّى مَا يعدّ رجالها
فقالوا أغر بالناس تعطك طيّئ ... إِذَا وطئتها الْخَيْل واجتيح مالها
ودون الَّذِي منوا أمية هبوة ... من الضرب قدما لا تجلّى ظلالها «4»
دعوا بنزار فاعتزينا بطيّء ... هنا لك زلت فِي نزار نعالها
وولى يَزِيد بْن الْوَلِيد عَبْد الْعَزِيز بْن المطرف مَكَّة والطائف
__________
(1) مصونة: سقطت من س.
(2) ضبط في ط بضم الفاء، وانظر ياقوت 3: 867
(3) في تحديد فيد انظر ياقوت 3: 927
(4) روايته في الورقة 777/ أ.
ومن دونِ ما مَنَّى أمية نَفْسَهُ ... غمار حتوف ليس يرجى زوالها(5/623)
[الجزء السادس]
مروان بن الحكم [بن أبي العاص]
ومن بَنِي أَبِي العاص بْن أمية بْن عَبْد شمس أيضًا مَرْوَان بْن الحكم بْن أَبِي العاص، وَهُوَ ابْن عم عُثْمَان، ويكنى أبا عَبْد الْمَلِك، وأمه آمنة بنت علقمة بْن صفوان بْن أمية بْن المحرث بْن جمل بْن شق بْن رقبة بْن مخدج بْن عامر بْن ثعلبة بْن الْحَارِث بْن مَالِك بْن كنانة بْن خزيمة.
وَكَانَ الحكم أَبُو مَرْوَان مغموصًا عَلَيْهِ فِي إسلامه وَكَانَ إظهاره الإِسْلام فِي يَوْم فتح مَكَّة، فكان يمر خلف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيخلج بأنفه ويغمز بعينيه فبقي عَلَى ذَلِكَ التخليج وأصابته خبلة، فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حسان بْن ثابت الأَنْصَارِيُّ لمروان:
إِن اللعين أباك فأرم عظامه ... إِن ترم ترم مخلجا مجنونا
يضحى خميص البطن من عمل التقى ... ويظل من عمل الخبيث بطينا
وطلع الحكم ذَات يَوْم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ في بَعْض حجر نسائه فخرج إِلَيْهِ بعنزة [1] وَقَالَ: «من عذيري من هذه الوزغة» [2] ، وكان يفشي
__________
[1] رمح قصير.
[2] الوزغة: الرجل الحارض الفشل. القاموس.(6/255)
أحاديث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلعنه وسيره إِلَى الطائف ومعه عُثْمَان الأزرق، والحارث وغيرهما من بنيه وَقَالَ لا يساكني فلم يزالوا طرداء حَتَّى ردهم عُثْمَان رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ، فكان ذَلِكَ مِمَّا نقم فِيهِ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِي عَنْ أشياخه: كَانَ مَرْوَان من رجال قريش وَكَانَ من أقرأ النَّاس للقرآن وَكَانَ يَقُول: مَا أخللت بالقرآن قط، أي لَمْ آت الفواحش والكبائر قط.
وروي: أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ للحكم: [ «كأني ببنيه يصعدون منبري وينزلون» ] .
وَكَانَ مَرْوَان يكنى أبا القاسم ثُمَّ اكتنى أبا عَبْد الْمَلِك.
حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُقْرِئُ حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْجَزَرِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ الْجُهَنِيِّ قَالَ: اسْتَأْذَنَ الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فَقَالَ: «ائْذَنُوا لَهُ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ يَخْرُجُ مِنْ صُلْبِهِ إِلا الْمُؤْمِنِينَ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ، يُشَرَّفُونَ في الدنيا ويتّضعون فِي الآخِرَةِ» ] .
قَالَ الْمَدَائِنِي: نزل الحكم فِي الجاهلية على حاتم طيّئ فتناوله قوم من رهط أوس بْن حارث فغضب حاتم فَقَالَ:
الآن إذ مطرت سماؤكم دما ... ورفعت رأسك مثل رأس الأصيد [1]
قَالُوا: وَكَانَ مَرْوَان يلقب خيط باطل لدقته وطوله، شبه الخيط الأبيض الَّذِي يرى فِي الشَّمْس، فَقَالَ الشاعر، ويقال انه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحكم أخوة:
__________
[1] ديوان حاتم الطائي- ط. دار صادر بيروت ص 42 مع فوارق.(6/256)
لعمرك مَا أدري وإني لسائل ... حليلة مضروب القفا كَيْفَ يصنع
لحى اللَّه قوما أمروا خيط باطل ... عَلَى النَّاس يعطي مَا يشاء ويمنع
وَكَانَ ضرب يَوْم الدار عَلَى قفاه.
وكانت أم آمنة أم مَرْوَان وإخوته صفية، ويقال الصعبة، بنت أَبِي طَلْحَةَ العبدري، وأمها مارية بنت موهب كندية، وَهِيَ الزرقاء الَّتِي يعيرون بِهَا فيقال بنو الزرقاء وَكَانَ موهب قينا.
وولى مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان مَرْوَان بْن الحكم البحرين وولاه الْمَدِينَةَ مرتين، وَهُوَ الَّذِي كَانَ رمى طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بالبصرة، فمات من رميته.
وَقَالَ أَبُو مخنف والواقدي فِي روايتهما: كَانَ مَرْوَان بالمدينة حِينَ مَاتَ مُسْلِم بْن عقبة المري بَعْد إيقاعه بأهل الحرة، ثُمَّ أشخص إِلَى الشام فلم يزل بِهَا حَتَّى ولي الخلافة بَعْد مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة.
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: لَمْ يزل مَرْوَان بالمدينة حَتَّى كتب ابْن الزُّبَيْر بَعْد موت يَزِيد، وشخوص حصين بْن نمير السكوني، إلى ابن مطيع في تسير بَنِي أمية فسيره وسيرهم فورد الشأم ومعاوية بن يزيد قَدْ بويع، وَكَانَ مَرْوَان لما سيروا اكترى أبعرة ركبها وبنوه وأمر أَن يحث بِهِ وبهم، فَقَالَ راجزه:
حرم مَرْوَان عليهن النوم ... إلا قليلًا وتلاهن الْقَوْم
حَتَّى يقلن أَوْ يبتن بالدوم
والدوم عَلَى مسيرة ليلتين من الْمَدِينَة، وَكَانَ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان عليلا فَقَالَ للرسول الَّذِي وكل بإزعاجهم: قل لأبي خبيب: يصنع اللَّه، وَفِي ذَلِكَ يَقُول أَبُو قطيفة، واسمه عَمْرو بْن الْوَلِيد بْن عقبة بْن أَبِي معيط وإنما قيل لَهُ(6/257)
أَبُو قطيفة لأنه كَانَ كثير شعر الرأس ثائره عظيم اللحية، وَكَانَ مِمَّن سيره ابْن الزُّبَيْر إِلَى الشام.
بكى أحد لما تحمل أهله ... فكيف بذي وَجْدٍ من الْقَوْم آلفُ
وَقَالَ أيضًا، ويقال غيره:
ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن قطين اللَّه بعدك سيرا
ولما بنى مَرْوَان داره قَالَ لَهُ أَبُو هُرَيْرَة: ابْن شديدًا، وأمل بعيدا وعش قليلًا وكل خضما [1] والموعد اللَّه.
وَكَانَ مَرْوَان إِذَا سمع الأذان قَالَ مرحبًا بالقائلين عدلًا وبالصلاة مرحبًا وأهلها، ويروي هَذَا عَنْ مُعَاوِيَة أيضًا.
وأمر مَرْوَان عَبْد الْمَلِك حِينَ ولاه فلسطين بتقوى اللَّه، وَقَالَ لَهُ: مر حاجبك أَن يخبرك بمن يحضر بابك فِي كُل يَوْم فتأذن أَوْ تحجب، وآنس من يدخل عليك بالحَدِيث يبسطوا إليك، ولا تعجل بالعقوبة إِذَا أشكل عليك أمر فإنك عَلَى العقوبة إِذَا أردتها أقدر منك عَلَى ارتجاعها إِذَا أمضيتها، ويقال إنه أوصى بِهَذِهِ الوصية عَبْد الْعَزِيز حِينَ ولاه مصر، وَالأَوَّل أثبت.
ولما مَاتَ معاوية بن يزيد بْن مُعَاوِيَة أَبُو ليلى، علم ابْن الزُّبَيْر أَنَّهُ لَمْ يبق أحد يضاده فولى الضحاك بْن قَيْس الفهري دمشق، وَكَانَ صاغيًا إِلَيْهِ وَقَدْ كاتبه فبعث إِلَيْهِ بعهده وكتاب إِلَى من قبله يدعوهم إِلَى طاعته، وبعث إِلَى النعمان بعهده عَلَى حمص، وَكَانَ النعمان مائلا إِلَيْهِ، وولى ناتل بْن قَيْس بْن زَيْد الجذامي فلسطين وَكَانَ لناتل فِيهِ هوى، ويقال: بل كان عنده بمكة فقال
__________
[1] الخضم: الأكل، أو بأقصى الأضراس، أو ملء الفم بالمأكول، القاموس.(6/258)
لَهُ: ألا تكفيني قومك فخرج ناتل حَتَّى أتى فلسطين، وَكَانَ وإليها ووالي الأردن من قبل يَزِيد بْن مُعَاوِيَة حسان بْن مَالِك بْن بحدل، فبقيتا فِي يده وفيهما عماله فأرسل إِلَيْهِ ناتل: إِمَّا تخرج من بلاد قومي وإما أَن أدخل عليك فأقاتلك فعرف ابْن بحدل أَنَّهُ لا قوة لَهُ بِهِ وبقومه من جذام، فخرج ابْن بحدل إِلَى الأردن فنزل طبرية وبويع لابن الزُّبَيْر بفلسطين، وضبط لَهُ الضحاك بْن قَيْس دمشق، وأخذ لَهُ بيعة أهلها وفرق عماله فِيهَا، وأخذ لَهُ النعمان بْن بشير الأَنْصَارِي بيعة أهل حمص فاستقامت لابن الزُّبَيْر الشام كلها إلا الأردن وَهَذَا الثبت.
ويقال: إِن بَعْض أهل الأردن قَدْ كَانُوا مائلين إِلَى ناتل، ومنحرفين عَنْ حسان بْن مَالِك بْن بحدل وكانت الزبيرية بالشام تقول: ابْن الزُّبَيْر أولى أهل زمانه بالأمر لأنه ابْن حَوَارِيِّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والطالب بدم الخليفة المظلوم عُثْمَان، ورجل لَهُ شجاعة وسن وفضل، وولى ابْن الزُّبَيْر مصر عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عتبة بْن جحدم الفهري فضبطها لَهُ، وأظهر حسان بْن مَالِك بْن بحدل الدعاء لخالد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة وعزم عَلَيْهِ فسار فِي كلب حَتَّى نزل الجابية [1] فاجتمع إِلَيْهِ بها الحصين بن نمير السّكوني ومالك بن هبيرة السكوني، وروح بْن زنباع الجذامي وزمل بن عمرو العذري وعبد الله بن مسعدة الفزاري، وعبد اللَّه بْن عضاه الأشعري، وأبو كبشة حيويل بْن يسار السكسكي، وصار إِلَيْهِ مَرْوَان بْن الحكم وَهُوَ لا يفكر فِي الخلافة وخالد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، وعمرو الأشدق بْن سَعِيد بْن العاص وغيرهم من الأمويين ودعا قوما من أهل البلقاء وأذرعات فأجابوه، فقال له ابن عضاه الأشعري:
__________
[1] على مقربة من بلدة نوى بحوران سورية.(6/259)
أراك تريد هَذَا الأمر لخالد بْن يَزِيد، وَهُوَ حدث السن فَقَالَ: إنه معدن الْمَلِك ومقر السياسة والرئاسة، فأتى ابْن عضاه خالدًا في جماعة من نظرائه من الوجوه فوجده نائمًا متصبحًا، فَقَالَ: يا قوم أتجعل نحورنا أغراضًا للأسنة والسهوم بِهَذَا الغلام وَهُوَ نائم فِي هذه الساعة، وإنما صاحب هَذَا الأمر المجد المشمر الحازم المتيقظ، ثُمَّ أتى مَرْوَان بْن الحكم فألفاه فِي فسطاط لَهُ وإذا درعه إِلَى جانبه والرمح مركون بفنائه وفرسه مربوط إلى جانب فسطاطه، والمصحف بَيْنَ يديه وَهُوَ يقرأ الْقُرْآن، فَقَالَ ابْن عضاة يا قوم هَذَا صاحبنا الَّذِي يصلح لَهُ الأمر وَهُوَ ابْن عم عُثْمَان أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وشيخ قريش وسنها، فرجعوا إِلَى حسان بْن مَالِك فأخبروه بخبر خَالِد ومروان، وأعلموه أنهم مجمعون عَلَى مَرْوَان لأنه كبير قريش وشيخها، فَقَالَ ابْن بحدل: رأيي لرأيكم تبع، إِنَّمَا كرهت أَن تعدل الخلافة إِلَى ابْن الزُّبَيْر، وتخرج من أهل هَذَا البيت، ثم قام حسّان لأنه كبير قريش وشيخها، فَقَالَ ابْن بحدل: رأيي لرأيكم تبع، إِنَّمَا كرهت أَن تعدل الخلافة إِلَى ابْن الزُّبَيْر، وتخرج من أهل هَذَا الْبَيْت، ثُمَّ قام حسان خطيبًا فحمد الله وأثنى عليه، ثم ذكر مَرْوَان فَقَالَ: هُوَ كبير قريش وسنها، وابن عم الخليفة المظلوم والطالب بدمه قبل النَّاس أجمعين فبايعوه رحمكم اللَّه فَهُوَ أولى بميراث عُثْمَان وأحق بالأمر من الملحد ابْن الزُّبَيْر الَّذِي خلع الخلافة وجاهر اللَّه بالمعصية، فسارعوا إِلَى بيعته وماسحوه ودعوا لَهُ والتفت إِلَيْهِ بنو أمية فَقَالُوا: الحمد لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يخرجها منا.
وَقَالَ مَرْوَان أحييت ليلة كلها فلما طلع الفجر صليت الغداة ونمت فجاء عُمَر حِينَ أصبحت، فَقَالَ: مَا بال مَرْوَان لَمْ يحضر الصلاة؟ فقيل لَهُ:
أحيى ليلته ونام حِينَ صلى الغداة، فَقَالَ: لأن أصليهما فِي جَمَاعَة يَعْنِي العشاء والغداة أحب إِلَى من أَن أحيي مَا يميتهما.(6/260)
وَقَالَ مَرْوَان حِينَ ولي: لَقَدْ رأيتني عِنْدَ عُمَر فِي فتية من قريش كلهم يقرب دوني فَمَا زال إيثاري الحق حَتَّى كَانَ يبعثني فِي مهم أمره، ولو لَمْ يبق من أجلي إلا ظمء حمار ثُمَّ أخير بَيْنَ أمرين من الدنيا والآخرة لاخترت الآخرة.
وَكَانَ بَيْنَ مَرْوَان وعمرو بْن العاص منازعة فقال عمرو: يابن الزرقاء، فَقَالَ مَرْوَان: إِن كانت زرقاء فَقَدْ أنجبت وأدت الشبه إذ لَمْ تؤده النابغة.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: قَالَ مَرْوَان. لحبيش بْن دلجة: إني لأظنك أحمق فَقَالَ حبيش: أحمق مَا يَكُون الشيخ إِذَا أعمل ظنه.
الْمَدَائِنِي عَنْ مسلمة، قَالَ: كَانَ لمروان بأرضه بذي خشب غلام يقال لَهُ جريج، فَقَالَ لَهُ يوما: يا جريج أدرك شَيْء من غلاتنا؟ قَالَ: يوشك أَن يدرك، وكأنك بِهَا، فركب مَرْوَان إِلَى أرضه فتلقته أحمال، فَقَالَ: من أين هذه؟ قَالُوا: من ضيعتك بذي خشب، فأتى الأرض فقال: يا جريج أني أظنك خائنا؟ قَالَ: وأنا والله أظنك أيها الأمير عاجزًا اشتريتني وأنا فِي مدرعة صوف، ثم أنا اليوم موسر قد اتخذت الخدم وابتنيت المنازل والله إنى لأخونك، وإنك لتخون أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، وإن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ ليخون اللَّه فلعن اللَّه شر الثلاثة.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: قيل لمروان وَهُوَ بمكة إِن عمرا الكناني يبيت في دارك فبعث مروان ابن جحش الكناني وأمره أَن يحمل كُل من يجد فِي الدار، فسار من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة عَلَى ناقة لَهُ يقال لَهَا الزلوج، وَكَانَ يقال إِن فِي ظهرها زيادة فقارتين، فورد ليلا فحمل كُل من وجد فِي الدار من عيال مَرْوَان إِلَى مَكَّة ودخل الدار وَهُوَ يَقُول:(6/261)
يأيها الخالفة اللجوج ... أخرج فَقَدْ حان لَك الخروج
أنا ابْن جحش وَهِيَ الزلوج ... كأن فاها قتب معروج
وأتى أعرابي مَرْوَان فَقَالَ: أفرض لي، فَقَالَ: قَدْ طوينا الدفتر وفرغنا قَالَ الأعرابي أما إني الَّذِي أقول:
إِذَا مدح الكريم يَزِيد خيرًا ... وإن مدح اللئيم فلا يَزِيد
وَقَدْ كَانَ مدح مَرْوَان ثُمَّ هجاه فقال: أنت هو لا بدّ لَك من فرض ففرض لَهُ.
الْمَدَائِنِي قَالَ: قَالَ الجارود بْن أَبِي سبرة: دخلت عَلَى مَرْوَان فَإِذَا رجل أحمر أزرق كَأَنَّهُ من رجال خراسان لو أشاء أَن أدخل يدي فِي علابي عنقه لفعلت، وَكَانَ ضرب يَوْم الدار عَلَى قفاه وَلَهُ يَقُول عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحكم:
والله مَا أدري وإني لسائل ... حليلة مضروب القفا كَيْفَ يصنع
لحى اللَّه قوما أمروا خيط باطل ... عَلَى النَّاس يعطي من يشاء ويمنع
وَكَانَ عَلَى شرطة مَرْوَان يَحْيَى بْن قَيْس الغساني.
الْمَدَائِنِي عَنْ أَبِي مخنف، وعوانة، ومسلمة بْن محارب: أَن مَرْوَان قاتل أهل المرج [1] فظفر بِهِمْ وقتل الضحاك، ثُمَّ قدم دمشق فبايعه النَّاس بيعة جديدة فَقَالَ بَعْض الأنصار أَوْ غيرهم:
اللَّه أعطاك الَّتِي لا فوقها ... وَقَدْ أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حتى قلّدوك طوقها [2]
__________
[1] مرج راهط على مقربة من بلدة جوبر خارج دمشق إلى الشرق منها.
[2] ليسا في ديوان كثير عزة المطبوع.(6/262)
ويقال: ان هَذَا الشعر قيل فِي عَبْد الْمَلِك قاله كثير بْن عَبْد الرَّحْمَنِ.
قَالُوا: ودخل زِيَاد الأعجم عَلَى مَرْوَان بالمدينة فَقَالَ لَهُ يا أبا أمامة أنشدني فَقَالَ لَهُ: بألف دِينَار فأنشده:
رأيتك أمس خير بَنِي لؤي ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الضعف خيرا ... كذاك تكون سادة عبد شمس [1]
فأعطاه ألفي دينار، ويقال: إنه قَالَ هَذَا فِي غَيْر مَرْوَان.
قَالُوا: وَكَانَ عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد بْن أَبِي سُفْيَان لما أَخْرَجَهُ أهل البصرة بَعْد موت يَزِيد بْن مُعَاوِيَة قدم دمشق فبلغه خبر ابْن بحدل ونزوله الجابية، وَكَانَ الضحاك بْن قَيْس الفهري بدمشق، قَدْ بايعه النَّاس لابن الزُّبَيْر وتابعوه عَلَى أمره، فَقَالَ لَهُ ابْن زِيَاد قَدْ بويع صاحبك واستقامت لَهُ النواحي وأنت هاهنا قَدْ حصرت نفسك بدمشق فاخرج فعسكر ناحية يأتك النَّاس من كُل أوب فإنك كبير قريش والمنظور إِلَيْهِ منها، فخرج الضحاك إِلَى مرج راهط فعسكر فَمَا هُوَ الا أَن خرج حَتَّى دخلها عَمْرو بْن سعيد الأشدق فأعلقها عَلَى نَفْسه وَذَلِكَ أَنَّهُ كانت بلغت عمرا حركة الضحاك، وكتب إِلَيْهِ بِهَا ابْن زِيَاد فدنا من دمشق فاستعد لدخولها وأتى ابْن زِيَاد مَرْوَان وَهُوَ بالجابية فَقَالَ: إني قَدْ أخرجت الضحاك إِلَى الصحراء وأدخلتها عَمْرو بْن سَعِيد.
وَقَالَ عوانة بْن الحكم: لما مَاتَ يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، وأخرج عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد من البصرة، قدم دمشق وعليها الضحاك بْن قَيْس بْن خَالِد الفهري عاملًا لعبد اللَّه بْن الزُّبَيْر، وَقَدْ ثار زفر بْن الحارث الكلابي بقنّسرين
__________
[1] شعر زياد الأعجم- ط. دمشق 1983 ص 131.(6/263)
يبايع لابن الزُّبَيْر والنعمان بْن بشير بحمص عَلَى طاعته، وَكَانَ حسان بْن مَالِك بْن بحدل عاملًا ليزيد بْن مُعَاوِيَة عَلَى فلسطين، وكان بفلسطين ناتل بْن قَيْس وَهُوَ ممالئ لابن الزُّبَيْر وَكَانَ سيد أهل فلسطين فاستخلف حسان روح بْن زنباع الجذامي عَلَى فلسطين وأتى الأردن فوثب ناتل عَلَى روح بْن زنباع فأخرجه عَنْ فلسطين، واستولى عَلَيْهَا وبايع لابن الزُّبَيْر لهواه فِيهِ، وَقَدْ كَانَ ابْن الزُّبَيْر أمر بنفي بَنِي أمية عَنِ الْمَدِينَة فسيرهم عامله عَلَى الْمَدِينَة إِلَى الشام وفيهم مَرْوَان، وَكَانَ النَّاس فريقين حساني وزبيري فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحكم أَخُو مَرْوَان:
وَمَا النَّاس إلا بحدلي عَنِ الهوى ... وإلا زبيري عصى فتزبرا
فقام حسان بالأردن فَقَالَ: يا أهل الأردن مَا تَقُولُونَ فِي عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر وقتلى أهل الحرة قَالُوا: عَبْد اللَّهِ منافق وقتلى أهل الحرة فِي النار، قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ فِي يَزِيد بْن مُعَاوِيَة ومن قتل بالحرة من أهل الشام؟ قَالُوا يَزِيد فِي الْجَنَّةِ وقتلانا فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ: لئن كَانَ يَزِيد يَوْمَئِذٍ عَلَى حق إِن شيعته عَلَى حق، ولئن كَانَ ابْن الزُّبَيْر يَوْمَئِذٍ عَلَى باطل إنه اليوم لعلى باطل، قَالُوا: صدقت نبايعك عَلَى قتال من خالفك وأطاع ابْن الزُّبَيْر عَلَى أَن تجنبنا هذين الغلامين: خَالِد بْن يَزِيد، وأخيه عَبْد اللَّهِ فإنهما حَدِيثه أسنانهما، ونحن نكره أَن يَأْتِي النَّاس بشيخ ونأتيهم بصبي.
وَكَانَ الضحاك بدمشق يبايع النَّاس لابن الزُّبَيْر سرًا خوفًا من بَنِي أمية وكلب، فكتب إِلَيْهِ ابْن بحدل كتابًا يشتم فِيهِ ابْن الزُّبَيْر، ويعظم لَهُ حق بَنِي أمية ويذكره إحسانهم إِلَيْهِ واصطناعهم لَهُ وبرهم بِهِ، وأنفذ الكتاب إِلَيْهِ مَعَ رجل يقال لَهُ ناعصة من ولد تغلب بْن وبرة إخوة كلب. ودفع إِلَيْهِ(6/264)
نسخته وَقَالَ: إِن لَمْ يظهر الضحاك هَذَا الكتاب وكتمه فاقرأه أَنْتَ عَلَى النَّاس، فأوصل الكتاب إِلَيْهِ فقرأه وَلَمْ يظهره فقرأ ناعصة نسخته فقام الْوَلِيد بْن عتبة بْن أَبِي سُفْيَان فَقَالَ: صدق حسان وكذب ابْن الزُّبَيْر وشتمه، وقام يَزِيد بْن أَبِي النمس، واسم أَبِي النمس الأسود بْن المعد بْن شراحيل الغساني، فصدق مقالة حسان وكتابه وشتم ابْن الزُّبَيْر، وقام سُفْيَان بْن الأبرد الكلبي فَقَالَ مثل ذَلِكَ، ثُمَّ قام أَبُو رجاء عُمَر بْن زَيْد الحكمي فشتم حسان بْن مَالِك وكذبه وأثنى عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، واضطرب النَّاس بنعالهم، ثُمَّ أمر الضحاك بالوليد بْن عتبة ويزيد بْن أَبِي النمس وَسُفْيَان فحبسوا، وجال بَعْض النَّاس فِي بَعْض، ووثبت كلب عَلَى عُمَر بْن زَيْد الحكمي، وقام خَالِد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة عَلَى مرقاتين من المنبر فتكلم وسكن النَّاس، وجاءت كلب فأخرجت سفيان من الحبس، وجاءت غسان أخرجت ابْن أَبِي النمس، فَقَالَ الْوَلِيد بْن عتبة: لو كنت من كلب أَوْ غسان أخرجت فجاء خَالِد بْن يَزِيد، وعبد اللَّه بْن يَزِيد ومعهما أخوالهما من كلب فاخرجوا الْوَلِيد، فكان أهل الشام يسمون هَذَا اليوم يَوْم جيرون [1] ، وجيرون موضع بدمشق عِنْدَ الْمَسْجِد.
قَالَ: وخرج الضحاك بن قيس إلى مسجد دمشق فجلس فِيهِ فوقع فِي يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، فقام إِلَيْهِ شاب من كلب بعصًا فضربه بِهَا والناس جلوس فِي الحلق وعليهم سيوفهم، فقام بَعْضهم إِلَى بَعْض فاقتتلوا، وقيس تدعو إِلَى ابْن الزُّبَيْر ونصرة الضحاك، وكلب تدعو إِلَى بَنِي أمية وإلى خَالِد بْن يزيد
__________
[1] كان باب جيرون الباب الرئيسي لمسجد دمشق، وما زال قائما يعرف الآن باسم باب النوفرة.(6/265)
وتتعصب ليزيد بْن مُعَاوِيَة، قَالَ: ودخل الضحاك دار الإمارة وَلَمْ يخرج لصلاة الفجر وبعث إِلَى بَنِي أمية فاعتذر إليهم، وَقَالَ: لَمْ يقم منكم قائم، وكتب إِلَى هَذَا الرجل فولاني وذكر حسن بلائهم عنده، وأنه لا يريد شَيْئًا يكرهونه، وَقَالَ: اكتبوا ونكتب إِلَى حسان حَتَّى يوافي الجابية ونوافيه فنبايع لرجل منكم، فرضيت بنو أمية بِذَلِكَ، فكتب الضحاك إِلَى حسان وكتبوا، وخرج النَّاس وبنو أمية للميعاد، فجاء ثور بْن معن بْن يَزِيد السلمي، ويقال معن بْن يَزِيد بْن الأخنس نَفْسه، إِلَى الضحاك فَقَالَ لَهُ: عجبا لَك دعوتنا إِلَى طاعة رجل فبايعناك، ثُمَّ أَنْتَ الآن تسير إِلَى هَذَا الأعرابي من كلب ليستخلف ابْن أخته خَالِد بْن يَزِيد وَهُوَ صبي غمر قَالَ الضحاك: فَمَا الرأي؟ قَالَ: أَن تظهر مَا كُنَّا نستره من بيعة ابْن الزُّبَيْر، ونقاتل عَلَى طاعته فعرج الضحاك بمن مَعَهُ وعطفهم وأقبل حَتَّى نزل مرج راهط، وأظهر بيعة ابْن الزُّبَيْر وخلع بَنِي أمية.
وصار بنو أمية إِلَى الجابية، ووافى حسان فصلى بِهِمْ أربعين ليلة والناس يتشاورون، وكتب الضحاك إِلَى النعمان بْن بشير وَهُوَ بحمص والي زفر بْن الْحَارِث وَهُوَ عَلَى قنسرين، والي ناتل وَهُوَ بفلسطين فأمدوه فصار إِلَيْهِ خلق من الخلق بمرج راهط، وكانت الأهواء بالجابية مختلفة: حصين بْن نمير يهوى أَن يولى مَرْوَان، وَمَالِك بْن هبيرة يهوي أَن يولى خَالِد بْن يَزِيد، فَقَالَ مَالِك بْن هبيرة للحصين: هلم نبايع خَالِد بْن يَزِيد فَقَدْ عرفت منزلتنا كانت من أَبِيهِ، فقال الحصين: لا والله لا يأتينا النَّاس بشيخ ونأتيهم بصبي، فَقَالَ: مَا لَك ويحك إِن مَرْوَان وآل مَرْوَان يحسدونك عَلَى سوطك وشراك نعلك، وظل شجرة تستظل بِهَا، ومروان أَبُو عشرة وَأَخُو عشرة، وعم(6/266)
عشرة وإن بايعتموه كنتم عبيدًا لَهُمْ، ولكن عليكم بابن أختكم خَالِد فَقَالَ:
مَرْوَان شيخ قريش، والطالب بدم الخليفة المظلوم، وَهُوَ يدبرنا ويسوسنا ولا يحتاج إِلَى أَن ندبره ونسوسه، وغيره يحتاج إِلَى أَن يدبر ويساس! وذكر بَعْضهم عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب فَقَالَ روح بْن زنباع: إنكم تذكرون عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر وفضله وَهُوَ كَمَا ذكرتم إلا أَنَّهُ ضعيف وليس صاحب أمة مُحَمَّد بالضعيف، وتذكرون ابْن الزُّبَيْر، وَهُوَ والله ابْن حواري رَسُول اللَّهِ وابن أسماء بنت أَبِي بَكْر الصديق ذَات النطاقين، وَهُوَ بَعْد كَمَا ذكرتم فِي قدمه ولكنه منافق خلع خليفتين: يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، ومعاوية بْن يَزِيد، وسفك الدماء، وشق العصا، وَأَمَّا مَرْوَان فَمَا كَانَ فِي الإِسْلام صدع إلا كَانَ مِمَّن شعبه وَهُوَ الَّذِي قاتل عَنْ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عُثْمَان يَوْم الدار، وقاتل عَلِي بْن أَبِي طَالِب يَوْم الجمل، ورمى طَلْحَة فاستقاد منه لعثمان، أفنبايع الصغير وندع الكبير؟! فتم رأيهم عَلَى البيعة لمروان وأجمعوا عَلَيْهَا، ثُمَّ لخالد من بعده، ثم لعمرو بن سعيد الأشدق من بَعْد خَالِد، فبويع مَرْوَان، فلم يقع البيعة لغيره، وسار مَرْوَان حَتَّى نزل مرج راهط فصار بإزاء الضحاك وحاربه ودعا النَّاس فاجتمع إِلَيْهِ خلق.
وَحَدَّثَنِي عَمْرو بْن مُحَمَّد الناقد والقاسم بن سلام قالا: حدثنا محمد بن يَزِيد الواسطي عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ أيمن بْن خريم بْن فاتك الأسدي قَالَ: دعاني مَرْوَان إِلَى الْقِتَالِ مَعَهُ فَقَالَ: أَلا تَخْرُجُ فَتُقَاتِلُ معنا؟ قُلْت: لا لأن أَبِي وَعَمِّي شَهِدَا بَدْرًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد عهدا إلي أَن لا أُقَاتِلَ إِنْسَانًا يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا الله وأن محمدا رَسُول اللَّهِ، فَإِن أتيتني ببراءة من النار قاتلت معك، فَقَالَ: انطلق لا حاجة لنا بك فقلت:(6/267)
ولست مقاتلا رجلا يصلي ... عَلَى سلطان آخر من قريش
لَهُ سلطانه وعلي إثمي ... معاذ اللَّه من سفه وطيش
أأقتل مسلما فِي غَيْر ذنب ... فليس بنَافِعي مَا عشت عيشي
وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عَنْ جده قَالَ: سلم عَلَى حسان بْن مَالِك بْن بحدل أربعين ليلة بالخلافة، ثُمَّ سلمها إِلَى مَرْوَان وَقَالَ:
فإلا يكن منا الخليفة نَفْسه ... فَمَا نالها إلا ونحن شهود
وَقَالَ بَعْض الكلبيين:
نزلنا لكم عَنْ منبر الْمَلِك بَعْد مَا ... ظللتم وَمَا إِن تستطيعون منبرا(6/268)
خبر يَوْم مرج راهط
قَالَ عوانة بْن الحكم وغيره: جعل مَرْوَان عَلَى ميمنته عَمْرو بْن سَعِيد الأشدق، وعلى ميسرته عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد، وجعل الضحاك بْن قَيْس عَلَى ميمنته زِيَاد بْن عَمْرو بْن مُعَاوِيَة العقيلي، وعلى ميسرته زحر بْن أَبِي شمر الهلالي من أهل حمص، وثار يَزِيد بْن أَبِي النمس بدمشق، فغلب عَلَيْهَا وأخرج عامل الضحاك منها، وغلب عَلَى الخزائن وبيوت الأَمْوَال، وبايع بِهَا لمروان، وأمده بالأموال والرجال والسلاح، وأقبل عباد بْن زِيَاد من حوارين فِي ألفين من مواليه وغيرهم، وَكَانَ الضحاك فِي ستين ألفًا، فقاتل مَرْوَان الضحاك بالمرج عشرين ليلة، ثُمَّ هزم أهل المرج وقتلوا، وقتل من قَيْس من لَمْ يقتل مثلهم قط وقتل الضحاك، وقتل مَعَهُ من الأشراف ثمانون كلهم كَانَ يأخذ القطيفة، كَانَ لكل رجل مِنْهُمْ فِي العطاء ألفان وقطيفة يعطونها مَعَ عطائهم وقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة، وقتل ثور بْن معن السلمي، وجاء رجل من كلب برأس الضحاك فلما رآه مَرْوَان قَالَ: الآن حِينَ كبرت سني، ودق عظمي، وصرت فِي مثل ظمء الحمار، أقبلت أضرب الكتائب بالكتائب؟!(6/269)
قَالَ الهيثم: وَلَمْ يحضر عَبْد الْمَلِك يَوْم المرج تورعًا.
وَقَالَ ابْن مقبل:
يا جدع آنف قيس بعد همّام ... بعد المذنّب عَنْ أحسابها الحامي [1]
يَعْنِي همام بْن قَبِيصَة وَكَانَ مِمَّن قتل يَوْم المرج.
وَقَالَ الفرزدق:
ولولا بنو حسان أسياف عزكم ... لعاد نصاب الْمَلِك فِي آل هاشم
ولكن أبى مَرْوَان أَن يقبل الَّتِي ... يسب أَبُو العاصي بِهَا فِي المواسم [2]
ويقال: إنه قَالَ هَذَا حِينَ بايع مَرْوَان لابنيه عَبْد الْمَلِك وعبد الْعَزِيز بالعهد.
قَالَ الكلبي: مر رجل يَوْم المرج فقال:
وما ضرّهم غير حين النفو ... س أي رئيسي قريش غلب
ويقال: إِن مَرْوَان رأى رجلا يعرفه صريعًا فتمثل بِهَذَا الْبَيْت، ويقال: إِن ابنه عَبْد الْعَزِيز قَالَ لَهُ: يا أبه اللَّه اللَّه أَن يسمع هَذَا منك أحد، فَقَالَ: صدقت يا بَنِي استرها عَلَى أبيك.
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: أتي مَرْوَان برأس زِيَاد بْن عَمْرو العقيلي، وثور بْن معن السلمي، فتمثل بِهَذَا الْبَيْت، وَهُوَ لأيمن بْن خريم الأسدي.
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن يَزِيد البصري عَنْ عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد الحميد عَنْ عوانة قَالَ: وفد الوازع بْن ذؤالة الكلبي عَلَى الْحَجَّاج بْن يُوسُف، وكانت عينه أصيبت يَوْم المرج، فَقَالَ لَهُ الْحَجَّاج: مَا الشجاعة؟ قال: غرائز
__________
[1] ليس في ديوان ابن مقبل المطبوع.
[2] ليسا في ديوان الفرزدق المطبوع.(6/270)
يجعلها اللَّه فِي النَّاس، فَقَدْ تجد الرجل شجاعا لا رأى لَهُ، فتلك الشجاعة الضارة لصاحبها لأنها تقدم بِهِ فِي غَيْر حال الإقدام، وتحجم بِهِ فِي غَيْر وقت الإحجام فيهلك ويهلك، وَقَدْ تكون الشجاعة نَافِعة لصاحبها إِذَا أقدمت بِهِ حِينَ الإقدام، وأحجمت بِهِ فِي حِينَ الإحجام، والله أصلح اللَّه الأمير لَقَدْ رأيتني يَوْم مرج راهط وإن همام بْن قَبِيصَة النميري لواقف وَقَدِ انفض عَنْهُ أَصْحَابه، وَإِنَّهُ من شجاعته لواقف لا يدري مَا يصنع، لو فر لكان الفرار يمكنه، ولكن حمي أنفًا فحمل عَلِي وحملت عَلَيْهِ فبادرته بضربة عَلَى عاتقه فأرديته عَنْ دابته، ثُمَّ نزلت إِلَيْهِ لأحتز رأسه فتفل فِي وجهي ثم قال:
ألا يا بن ذَات النوف أجهز عَلَى امرئ ... يرى الْمَوْت خيرًا من فرار وأكرما
ولا تتركني بالحشاشة إنني ... أكر إِذَا مَا النَّاس مثلك أحجما
فأخذت رأسه وأتيت بِهِ مَرْوَان، وقلت: هَذَا رأس همام بْن قَبِيصَة، قَالَ: أأنت قتلته؟ قُلْتُ: نعم، قَالَ: فهل أعانك عَلَيْهِ أحد؟ قُلْتُ:
نعم اللَّه وانقضاء مدته، فَقَالَ: هُوَ والله كَمَا قَالَ الشاعر:
وفارس هيجا لا يقام لبأسه ... لَهُ صولة يزورّ عَنْهَا الفوارس
وشدة ليث ترهب الأسد وقعها ... وتذعر منها العاويات العساعس
جريء عَلَى الإقدام لَيْسَ بناكل ... ولا يزدهيه الأحوشي المغامس
قَالُوا: وَقَالَ مَرْوَان فِي حربه يَوْم المرج:
لما رَأَيْت الأمر أمرًا صعبًا ... يسرت غسان لَهُمْ وكلبا
ويروى:
لما رَأَيْت النَّاس مالوا جنبا ... والسكسكيين الرجال الغلبا
والقين تمشي فِي الحديد نكبا ... وطيئًا يأبون إلا ضربا(6/271)
ومن تنوخ مشمخرًا صعبًا ... لا يأخذون الْمَلِك إلا غصبًا
فَإِن دنت قَيْس فقل لا قربا
وَقَالَ أَبُو مخنف: جاء عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ الثقفي، وهو ابن أم الحكم أخت معاوية إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ:
يا مَرْوَان اجمع إليك موالي بَنِي أمية فأنا أسلحهم لَك أجمعين، وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد: وأنا أبذل لَك من المال والقوة عَلَى عدوّك ما شئت، واجتمع رؤوس أهل الشام ينظرون من يولّون، فقالوا: ما لكم فِي تولية الأحداث خير، وَهَذَا مَرْوَان شيخ قريش، وسيد بَنِي أمية، وَهُوَ ذو رأى وحيلة وتجربة للحرب، فقاموا إِلَى مَرْوَان فبايعوه، ثُمَّ بعثوا إِلَى أهل الأردن فجلبوهم وأقبلوا بِهِمْ يسيرون إِلَى الضحاك، وأصحر الضحاك حَتَّى عسكر بمرج راهط، واستمد عمال ابْن الزُّبَيْر فأمدوه من الأجناد، فبعث مَرْوَان عَلَى ميمنته الحصين بْن نمير السكوني، وعلى ميسرته عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أم الحكم، وعلى الْخَيْل حسان بْن مَالِك بْن بحدل، وَمَالِك بْن هبيرة بْن خَالِد السكوني، وعلى الرجالة عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد، ثُمَّ زحف بِهِمْ فاقتتلوا أيامًا، ثُمَّ قتل الضحاك بْن قَيْس.
وَقَالَ الكلبي والشرقي بْن القطامي: كَانَ الَّذِي قتل الضحاك زحنة بْن عَبْد اللَّهِ الكلبي، من بَنِي تيم اللَّه بْن رُفَيْدَةَ بْن ثَوْرِ بْن كَلْبِ بْن وبرة، وأخذ رأسه عليم بْن رقيم التميمي، فَقَالَ الشاعر، وَهُوَ رويفع البلوي:
ويوم لدى الضحاك حِينَ تألبت ... عَلَيْنَا العدى من كُل شرق ومغرب
حشاه ابْن تيم اللات زحنة ثعلبا ... طريرًا كقبس القابس المتلهب(6/272)
قَالُوا: وكانت بيعة مَرْوَان بالجابية يَوْم الأربعاء لثلاث ليال خلون من ذي القعدة سنة أربع وستين، ويقال: فِي رجب سنة أربع وستين، وكانت وقعة مرج راهط ومقتل الضحاك بْن قَيْس الفهري فِي سنة أربع وستين.
وَقَالَ ثمامة بْن قَيْس بْن حصن أحد بَنِي العبيد من كلب:
أشهدكم أني لمروان سامع ... مطيع وللضحاك عاص مخالف
قَالُوا: ولما برز مَرْوَان إِلَى المرج جعل النَّاس يقولون: أبا أنيس، أعجزًا بَعْد كيس؟ فَقَالَ: نعم قَدْ يَكُون العجز بَعْد الكيس.
قَالُوا: وكانت مَعَ بشر بْن مَرْوَان يَوْم المرج رأيه يقاتل بِهَا وَهُوَ يَقُول:
إِن عَلَى كُل رئيسٍ حقًا ... أَن يَخْضِبَ الصعدة أَوْ تندقًا
ورأى مَرْوَان رجلًا من محارب يقاتل فِي قلة فَقَالَ لَهُ: لو انضممت إِلَى النَّاس فإنك منفرد فِي قلة، فَقَالَ: إِن معنا مددًا من السماء، فسر مَرْوَان وضحك وأمر قومًا كَانُوا حوله أَن ينضموا إِلَيْهِ، وَقَالَ سهم بْن حنظلة:
نصر الإله بَنِي أمية إنه ... من يعطه سيب الخلافة ينصر
الوارثين محمدًا سلطانه ... وجواز خاتمه وعود المنبر
لما لقوا الضحاك ضل ضلاله ... فِي يَوْم موت للجبان محير
حطوا سيوفهم بحبل نخاعه ... وفلقن هامته وراء المغفر
ألق السلاح أبا خبيب إنه ... عار عليك وخذ وشاحي معصر
لو أدركت زفرَ الضلالة خيلُنا ... لتركنه لخوامع ولأنسر
وَقَالَ ضبثم الكلبي. وقفت مَعَ عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان ومعي راية قومي فَقَالَ:
أقدم بِهَا يا ضبثم ... فالموت قدما أكرم(6/273)
فَإِذَا رجل يفري الفري، فأقبل حَتَّى فرق جمعنا عَنْ عَبْد الْعَزِيز ثُمَّ طعنه فأرداه ثُمَّ نجله برمحه وَقَالَ خذها يدا مشكورة أَوْ مكفورة، ثُمَّ انصرف فسألت عَنْهُ فقيل: هَذَا خَالِد بْن الحصين الكلابي، وقتل خَالِد يَوْم المرج قتله بشر بْن مَرْوَان وعمرو بْن سَعِيد.
وهرب زفر بْن الْحَارِث الكلابي إِلَى قرقيسيا وبها عياض فمنعه من دخولها، فَقَالَ لَهُ زفر بْن الْحَارِث: أوثق لَك بالطلاق والعتاق إِذَا أنا دخلت الحمام بِهَا أَن أخرج منها، فأذن لَهُ فدخلها فلم يدخل الحمام وأقام بِهَا، وأخرج عياضًا عَنْهَا وتحصن بِهَا وثابت إِلَيْهِ قَيْس، وَهَذَا قَوْل من زعم أَن زفر لَمْ يحضر وقعة المرج.
وهرب ناتل بْن قَيْس الجذامي من فلسطين، فلحق بعبد اللَّه بْن الزُّبَيْر بالحجاز.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لما رأى قوم ناتل قوة أمر مَرْوَان قَالُوا: إنه لا طاقة لنا بمروان، فالحق بابن الزُّبَيْر لتأمن، ونأمن فشخص إِلَى ابْن الزُّبَيْر.
قَالَ الهيثم عَنْ عوانة: قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن صفوان الجمحي لأبي الْعَبَّاس الأعمى: أَخْبَرَنِي عَنْ مَرْوَان، ويوم المرج؟ فَقَالَ: لَمْ أسمع بمثله. وَإِنَّهُ لكما قَالَ حصين بْن الحمام المري [1] :
ترى الْمَوْت لا ينحاش عَنْهُ تكرمًا ... وصبرًا وإن كَانَ القيام عَلَى الجمر
حفاظًا عَلَى مَا أورثتنا جدودنا ... وصبرًا وَمَا فِي النَّاس خير من الصبر
بِذَلِكَ أوصانا ابْن عوف فلم نزل ... عَلَى ملك نمضي لا نضجّ من الدهر
__________
[1] شاعر جاهلي مقل، يعد من أوفياء العرب. الشعر والشعراء ص 410. الأغاني ج 14 ص 1- 16.(6/274)
فَقَالَ: مَا أبصرك بأبي عَبْد الْمَلِك وإن قدر اللَّه لابن الزُّبَيْر شَيْئًا فَهُوَ كائن، وإن أكبر ظني أَنَّهُ وبنيه سيملكون لأن عُثْمَان ضم عَبْد الْمَلِك إِلَى صدره وَقَالَ: رأيتني وَقَدْ أَخَذْتُ بُرْنُسِي فَوَضَعْتُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَدْ وَلَدَهُ أَبُو العاص مرتين.
قَالُوا: وقاتل عَبْد اللَّهِ بْن مُعَاوِيَة بْن أَبِي سُفْيَان، وأمه فاختة بنت قرظة بْن عَبْد عَمْرو بْن نوفل بْن عَبْد مناف، مَعَ الضحاك يَوْم المرج، وَكَانَ يحمق، فأخذ أسيرًا وأتي بِهِ عَمْرو بْن سَعِيد الأشدق فَقَالَ لَهُ عَمْرو: يا أبا سُلَيْمَان نحن نقاتل لنشدد ملككم، وأنت تقاتل لتضعفه؟ فَقَالَ لَهُ: اسكت يا لطيم الشَّيْطَان.
ومن رواية أَبِي مخنف أيضًا: أَنَّهُ لما قدم عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد من البصرة فنزل الشام وجد بَنِي أمية بتدمر قَدْ نفاهم ابْن الزُّبَيْر من مَكَّة والمدينة والحجاز كله، وألفى الضحاك بْن قَيْس أميرًا عَلَى الشام من قبل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، ووافى مَرْوَان وَهُوَ يريد الركوب إِلَى ابْن الزُّبَيْر ليبايعه بالخلافة، ويأخذ منه الأمان لبني أمية فَقَالَ لَهُ ابْن زِيَاد: أنشدك اللَّه أَن تفعل أتنطلق وأنت شيخ قريش إِلَى أَبِي خبيب فتبايعه وَهُوَ منافق مضطرب الرأي، ولكن ادع أهل تدمر فبايعهم وسر بِهِمْ وبمن معك من بَنِي أمية ومواليهم وأتباعهم إِلَى الضحاك حَتَّى تخرجه من الشام، فَقَالَ عَمْرو بْن سَعِيد: صدق والله عُبَيْد اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ عَمْرو: أَنْتَ سيد قريش وفرعها وأنت أحق النَّاس بِهَذَا الأمر، وإنما ينظر النَّاس إِلَى هَذَا الغلام يَعْنِي خَالِد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة فتزوج أمه فيكون فِي حجرك، قَالَ: ففعل مَرْوَان ذَلِكَ، ووعدها أَن يولي ابنها عهده، فتزوج أم خَالِد، وَهِيَ فاختة بنت أَبِي هاشم بْن عتبة بْن ربيعة ولقبها حبة،(6/275)
وجمع بَنِي أمية فبايعوه بالإمرة عَلَيْهِم، وبايعه مواليهم وأتباعهم، وبايعه أهل تدمر، ثُمَّ سار فِي جمع عظيم إِلَى الضحاك، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بدمشق، فلما بلغه خروج مَرْوَان إِلَيْهِ خرج بمن مَعَهُ من أهل دمشق وغيرهم، وفيهم زفر بن الحارث، فاقتتلوا بمرج راهط أشد قتال، فقتل الضحاك وعامة أَصْحَابه، وانهزم بقيّتهم وتفرقوا، ولحق زفر بقرقيسيا فاجتمعت إِلَيْهِ قَيْس ورأسوه عَلَيْهِم فذلك حِينَ يَقُول زفر بْن الْحَارِث.
أريني سلاحي لا أبا لَك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا
أتاني عَنْ مَرْوَان بالغيب أَنَّهُ ... مقيد دمي أَوْ قاطع من لسانيا
ففي العيس لي منجى وَفِي الأَرْض مهرب ... إِذَا نحن رفعنا لهن المثانيا
فلا تحبسوني إن تغيّبت غافلا ... ولا تفرحوا إن جئتكم بلقائيا
فَقَدْ ينبت المرعى عَلَى دمن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كَمَا هيا
أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... ونترك قتلى راهط وهي ماهيا
وَكَانَ مَعَهُ رجلان من سليم فلما حاص يَوْم المرج تركهما ونجا فلذلك يَقُول:
فلم تر مني نبوة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبي ورائيا
فأجابه جواس بْن القعطل، واسم القعطل ثابت، وَهُوَ أحد بَنِي حصن بْن ضمضم بْن جناب الكلبي فَقَالَ:
لعمري لَقَدْ أبقت وقيعة راهط ... عَلَى زفر داء من الداء باقيا
يبكي عَلَى قتلى سليم وعامر ... وذبيان معذورًا ويبكي البواكيا
دعا بسلاح ثُمَّ أحجم إذ رأى ... سِيُوف جناب والطوال المذاكيا
عَلَيْهَا كأسد الغاب فتيان نجدة ... إِذَا أشرعوا يَوْم الطعان العواليا(6/276)
قَالَ الكلبي: وَكَانَ هِشَام بْن عَبْد الْمَلِك فِي أيامه عزل حنظلة بْن صفوان الكلبي عَنْ إفريقية، ولاها عُبَيْدَة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ السلمي، فأضر بمن هناك من كلب وتعصب عَلَيْهِم، فَقَالَ أَبُو الخطار الحسام بْن ضرار:
أقادت بنو مَرْوَان قيسًا دماءنا ... وَفِي اللَّه إِن لَمْ تعدلوا حكم عدل
كأنكم لَمْ تشهدوا مرج راهط ... وَلَمْ تعلموا من كَانَ ثُمَّ لَهُ الفضل
وقيناكم ورد القنا بنحورنا ... وليس لكم خيل سوانا ولا رجل
قَالَ الكلبي: وكاد مَرْوَان يقتل يَوْم المرج فاستنقذه محرز بْن حزيب بْن مَسْعُود أحد بَنِي هزيم بْن عدي بْن جناب الكلبي، هُوَ والحراق بْن حصين بْن غرار أحد بَنِي نوفل بْن عدي بْن جناب، فرأى جواس بْن القعطل من عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان جفوة لَهُ وتقديمًا للحراق فَقَالَ لَهُ:
ألا بئس امرئ من ضرب حصن ... أضاع قرابتي وحبا الحراقا
يقال فِي بَنِي فُلان ضرب نساء من فُلان، وأم عَبْد الْعَزِيز كلبية من بَنِي حصن.
ومحترم عَلَى رأى أصيل ... إِذَا مَا شد حازمه النطاقا
أَبى لي أَن أقر الضيم قوم ... هُمْ راخوا لمروان الخناقا
وإني فاعلمن لذو انصراف ... إِذَا مَا صاحبي رام الفراقا
فإلا تقبل الأمراء عذلي ... ونصحي الغيب لا أهب [1] الشقاقا
قَالَ: وقتل همام بْن قَبِيصَة فرثته عميرة بنت عامر الجعونية فَقَالَتْ:
لَقَدْ فجعتني الحادثات بسيد ... كريم نشاه من نمير [2] بن عامر
__________
[1] بهامش الأصل: أهب من الهيبة.
[2] بهامش الأصل: تميم.(6/277)
أعز إِذَا ماشى الرجال علاهم ... بآباء صدق جدهم غَيْر عاثر
هُمْ يردون الْمَوْت إذ طاب ورده ... ببيض خفاف فِي الأكف بواتر
فَإِن كَانَ همام أتته منية ... فَمَا كَانَ وقافا غداة التغاور
ولا حائدا عَنْ قرنه إذ تبادرت ... فوارس قيس بالرماح الشواجر
لَقَدْ كر حَتَّى ناله الْمَوْت مقدما ... وحامى بمسنون الغرارين باتر
فَإِن تك كلب أقصدته فربما ... رمى حي كلب بالدواهي الفواقر
وغادرهم شتّى عزين فلولهم ... عَلَى كُل عد من مياه قراقر
حَدَّثَنَا خلف بْن سالم المخزومي، حَدَّثَنَا وَهْب بْن جَرِير بْن حازم عَنْ أَبِيهِ عَنْ أشياخهم قَالُوا: لما مَاتَ مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة وَلَمْ يستخلف اجتمع أهل الأردن فبايعوا خَالِد بْن يَزِيد، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غلام شاب، وأمه أم هاشم بنت هاشم بْن عتبة، وبايع أهل العراق والحجاز ابْن الزُّبَيْر، وأخرج أهل البصرة عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد فالحقوه بالشام، وذاك حيث أَخْرَجَهُ مَسْعُود بْن عَمْرو فيمن أَخْرَجَهُ من الأزد حَتَّى أبلغوه الشام، فقدم ابْن زِيَاد الأردن عَلَى بَنِي أمية وَقَدْ بايعوا خالدا فَقَالَ: إنكم قَدْ أخطأتم الرأي فِي بيعة خَالِد، وَقَدْ بايع النَّاس ابْن الزُّبَيْر وَهُوَ ابْن حَوَارِيِّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورجل لَهُ سن وصلاح فِي دينه وفضل وتبايعون أنتم غلاما حَدِيث السن ليست لَهُ حنكة وتريدون أَن تقارعوا بِهِ ابْن الزُّبَيْر؟ قَالُوا: فَمَا ترى؟ قَالَ: أرى أَن تبايعوا مَرْوَان بْن الحكم فإنّ لَهُ سنا وفقها وفضلًا، وتشترطون عَلَيْهِ أَن يبايع خَالِد بْن يَزِيد من بعده ففعلوا، وبعث ابْن الزُّبَيْر الضحاك بْن قَيْس الفهري فغلب عَلَى دمشق وناحية الشام والجزيرة، فحاربه مَرْوَان بمرج راهط فقتله.(6/278)
حَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار قَالَ: ذكروا أَن مَرْوَان قَالَ عجبت للضحاك يقاتلني، وإنما قتل أباه تيس حبلقي [1] ، فأدركوه وَمَا بِهِ حيص ولا بيص فقتل هَذَا عَبْد الرَّحْمَنِ ابنه فنال سوءة.
وَقَالَ مَرْوَان لابن زِيَاد: إياك والفرار يا بن زياد فقال ابن زياد:
سيعلم مروان ابن فسوة أنني ... إِذَا التقت الْخَيْلان غَيْر حيود
فَقَالَ مَرْوَان: وأي أمهاتي فسوة إنه لشديد العضيهة [2] ، رمتني بدائها وانسلت، وأقبل رجل يريد مروان، فقال: يا بن زِيَاد الرجل فشد عَلَيْهِ ابْن زِيَاد فقتله.
وَقَالَ حبيب بْن كرز: كانت معي رأيه مَرْوَان يَوْم المرج فدفع بنعل سَيْفه فِي ظهري، وَقَالَ: ادن بِهَا لا أبا لَك فَإِن هَؤُلاءِ لو قَدْ وجدوا ألم الجراح انفرجوا.
الْمَدَائِنِي عَنْ مسلمة بْن محارب عَنْ أَبِيهِ: أَن مَرْوَان غزا أهل مصر فامتنعوا منه، وتحصنوا فقاتلهم حَتَّى ظهر عَلَيْهِم، ثُمَّ رجع إِلَى الأردن فخطب أم خَالِد فدعت ابنها فذكرت لَهُ ذَلِكَ فنهاها، وَقَالَ: والله مَا لَهُ فيك حاجة وَمَا يريد إلا فضيحتي والتقصير بي وإسقاط منزلتي فِي النَّاس، فأبت إلا أَن تزوجه فلما كانت ليلة البناء وأدخلت عَلَيْهِ جلست مَعَهُ عَلَى فراشه، فأقبل ينظر إِلَى سقف الْبَيْت ويحدث نَفْسه وَلَمْ يكلمها حَتَّى أصبح، فخرج إِلَى الصلاة وأرسلت إِلَى صاحب شرطه ألا ترى إِلَى مَا صنع بي صاحبك من الاستخفاف، وَقَدْ عصيت النَّاس فِيهِ فدخل عَلَى مَرْوَان فذكر له ذلك،
__________
[1] الحبلق: غنم صغار لا تكبر، أو قصار المعز ودمامها. القاموس.
[2] العضيهة: الكذب، والسحر، والافك، والبهتان. القاموس.(6/279)
فَقَالَ: صدقت قَدْ فعلت، إني كنت وأنا شاب مقبلا عَلَى أمر آخرتي، ولا أوثر عَلَيْهَا شَيْئًا، فلما كبرت سني واقترب أجلي آثرت دنياي عَلَى آخرتي، فليس يعرض لي أمران أحدهما للدنيا إلا آثرته، فأتيت بِهَا وأنا فِي ذَلِكَ فشغلني عَنْهَا، ثُمَّ إِن مروان استخلف بابنها خَالِد وأقصاه فدخل عَلَيْهِ يومًا فكلمه فِي شَيْء فأغلظ لَهُ وتجهمه، فرد عَلَيْهِ خَالِد، فَقَالَ لَهُ مَرْوَان:
أراك تجيبني يا بن الرطبة. فَقَالَ لَهُ: أمين مختبر، وخرج الفتى إِلَى أمه فأخبرها فَقَالَتْ: أفعل؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فزعم بَعْض النَّاس أَنَّهَا سقته شربة لبن مسموم فقتلته، وزعم بعضهم أنّها ألقت عَلَى وجهه مرفقة حِينَ أخذ مضجعه بَعْد العشاء الآخرة، ووثبت عَلَيْهِ وَهِيَ وجواريها فغممته حَتَّى أتين عَلَى نَفْسه ثُمَّ صرخن وَقَالَتْ: مَاتَ فجاءة، وَكَانَ بَيْنَ بيعته وموته سنة وبايع لابنه عَبْد الْمَلِك، ولعبد الْعَزِيز من بعده، ونقض بيعة خَالِد، ولما ولي عَبْد الْمَلِك ولى أخاه عَبْد الْعَزِيز مصر، فلم يزل عَبْد الْعَزِيز عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ بِهَا.
الْمَدَائِنِي عَنْ خليد بْن عجلان، قَالَ: كَانَ من بَنِي طابخة كلب سبعة إخوة جاء كُل واحد مِنْهُم برأس يضعه فَيَقُولُ: أنا ابْن زرارة، فَقَالَ مَرْوَان: إِن زرارة كَانَ مخبثًا مكثرًا فقيل لَهُ: أمسك عَنْ هَذَا وإلا لَمْ يقاتل معك أحد.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي بَعْض روايته: كَانَ ابْن زِيَاد قَالَ لمروان حِينَ بويع:
إني ذاهب إِلَى الضحاك بْن قَيْس فمبايعه لابن الزُّبَيْر ومخبره إني قَدْ كرهتكم، فقدم ابْن زِيَاد عَلَى الضحاك فبايعه فسر بِذَلِكَ، وجعل ابْن زِيَاد يدب فِي النَّاس فيفسدهم ويدعوهم إِلَى مَرْوَان، وَكَانَ ابْن زِيَاد أعطى مَرْوَان مالا(6/280)
عظيما فأنفقه على جيشه، ولم يزل ابن زياد حَتَّى لطفت الحال بينه وبين الضحاك ووثق بِهِ، فَقَالَ لَهُ: والله العجب لرأيك فِي بيعتك ابْن الزُّبَيْر وأنت أولى بِهَذَا الأمر منه، أَنْتَ شيخ قريش اليوم وسيدها فادع النَّاس إِلَى بيعتك، فلم يزل بِهِ حَتَّى خلع ابْن الزُّبَيْر، ودعا إِلَى نَفْسه فاختلف عَلَيْهِ جنده، ثُمَّ عاد إِلَى أمره فكتب ابْن زِيَاد إِلَى مَرْوَان: إني قَدْ صدعت عَلَى الرجل أمره وأفسدته، فأقبل مَرْوَان حَتَّى نزل مرج راهط، فأراد الضحاك أَن يغلق أبواب مدينة دمشق ويتحصن فِيهَا، فَقَالَ لَهُ ابْن زِيَاد: ألا تستحي مِمَّا تريد أَن تصنع والناس كلهم معك، أخرج إِلَيْهِ فقاتله، وأنا معك فأخرجه، فلما التقوا انصرف ابْن زِيَاد إِلَى مَرْوَان بمن كَانَ تابعه فقتل الضحاك وقتلت قَيْس مَعَهُ يَوْمَئِذٍ قتلا ذريعا، وكانت قَيْس زبيرية إلا قليلًا مِنْهُم كَانُوا مَعَ مَرْوَان، فذلك حيث يَقُول القائل:
إِن تك قتلى راهط قَدْ تنوسيت ... فسقيا لأصداء هناك وهام
ودخل مَرْوَان دمشق فبايعه أهلها، واستوسقت لَهُ الشام والجزيرة وبايعه أهلهما.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ عوانة قَالَ: قتل الوازع بْن ذؤالة الكلبي همام بْن قَبِيصَة، فَقَالَ وعتب عَلَى بَعْض الأمراء:
أتنسى الَّذِي أسديته يَوْم راهط ... وَقَدْ ضاق عَنْك المرج والمرج واسع
وأقبل حادي الْمَوْت يحدو مشمرا ... بفرسان حرب لَمْ ترعها الروائع
عَلَيْهَا قروم من قضاعة سادة ... لَهُمْ شيم محمودة ودسائع
إِذَا لقحت حرب مرتها سيوفهم ... وأيد طوال لَمْ تخنها الأشاجع(6/281)
يرون ورود الْمَوْت حقا عَلَيْهِم ... إِذَا حاد عَنْ ورد المنايا المخادع
فكم من كريم قد تركنا ملحّبا ... وآخر قَدْ سدت عَلَيْهِ المطالع
قَالَ: ورثت هماما عميرة الجعونية فَقَالَتْ:
لعمري لَقَدْ قرت عيون كثيرة ... بمصرع همام وَمَا كَانَ مدبرا
لَقَدْ صادفت منه المنايا مجربا ... صبورًا عَلَى دفع الصوارم قسورا
أبيت فلم تلحق بعرضك سبة ... وغامرت فِي ورد من الْمَوْت أحمرا(6/282)
مقتل النعمان بْن بشير ابْن سَعْد بْن ثعلبة من بَنِي الْحَارِث بْن الخزرج
قَالُوا: لما بلغ النعمان بْن بشير الأنصاري رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ الهزيمة يَوْم مرج راهط، ومقتل الضحاك بْن قَيْس الفهري، وَهُوَ عَلَى حمص من قبل ابْن الزُّبَيْر خرج ليلا هاربًا منها يريد الْمَدِينَة، ومعه امرأته نائلة بنت عُمَارَةَ الكلبي، ومعه ثقله وولده فتحير ليلته كلها، وأصبح أهل حمص فطلبوه وَكَانَ الَّذِي جد فِي طلبه رجل من الكلاعيين يقال لَهُ عمرة بْن الخلي قَدْ كَانَ النعمان حده فِي الخمر ومعه غوغاء أهل حمص، فلحقه فقتله، فأقبل برأسه وبنائلة امرأته وولدها فألقى الرأس فِي حجر أم أبان بنت النعمان بْن بشير، وَهِيَ الَّتِي كانت عِنْدَ الْحَجَّاج بْن يُوسُف بَعْد فَقَالَتْ نائلة امْرَأَة النعمان: ألقوا الرأس إلي فإني أحق بِهِ فألقي الرأس فِي حجرها، ثُمَّ أقبلوا بِهِمْ إِلَى حمص فجاء من بحمص من كلب فأخذوا نائلة وولدها وبعثوا بثقله إِلَى الْمَدِينَة، ويقال: أنهم بعثوا بولده وامرأته نائلة إِلَى الْمَدِينَة.
وَكَانَ النعمان رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ أول مولود فِي الإِسْلام من الأنصار بالمدينة.(6/283)
وَقَالَ الضحاك بْن فيروز بْن الديلمي من أبناء اليمن:
أصحوت أم سلبت فؤادك دوسر ... أم أَنْتَ عَنْ أبيات دوسر أزور
زعموا بأن أخا التفضل والندى ... قتلته غدرا إذ تعاوت حمير
غدروا بنعمان بْن سَعْد غدرة ... ولرأس حمير مثلها أَوْ أَكْثَر
فِي أبيات.
وَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحكم:
إِن يمكن الله من خاء ومن حكم ... ومن جذام نقتّل صاحب الحرم
نفري جماجم أقوام عَلَى حنق ... فريا ينكل عنا سائر الأمم
وَقَالَ عَمْرو بْن مخلى الكلبي:
رددنا لمروان الخلافة بعد ما ... جرى للزبيريين كُل بريد
وَقَالَ أيضًا:
أصابت رماح الْقَوْم بشرًا وثابتا ... وثورا وكل للعشيرة فاجع
وأدرك همامًا بأبيض صارم ... فتى من بَنِي عَمْرو صبور مدافع
فأجابه زفر:
فخرت ابْن مخلاة الحمار بمشهد ... علاك بِهِ بالمرج من قَدْ تدافع
علاك بِهِ قوم كأنك بينهم ... إِذَا الحرب شبت ثعلب متضالع
وَقَالَ ابْن طرامة الكلبي:
وبادية الجواعر من نمير ... تنادي وَهِيَ حاسرة النقاب
قتلنا منكم ألفين صبرًا ... وألفا بالتلاع وبالروابي(6/284)
فتح مروان مصر
قالوا: وخرج مروان بعد ما اجتمع لَهُ أمر النَّاس بالشام إِلَى مصر وَذَلِكَ فِي جمادى سنة خمس وستين، واستخلف ابنه عَبْد الْمَلِك عَلَى دمشق، وَكَانَ والي مصر من قبل ابْن الزُّبَيْر عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عتبة بْن أَبِي إياس بْن الْحَارِث بْن عَبْد أسد بْن جحدم بْن عَمْرو بْن عابس بْن ظرب بْن الْحَارِث بْن فهر، فوجه ابْن جحدم إِلَى مَرْوَان ثلاثة آلاف فارس عَلَيْهِم السائب بْن هِشَام بْن عَمْرو بْن ربيعة العامري، وَكَانَ مَرْوَان لما مر بفلسطين أشار عَلَيْهِ روح بْن زنباع بأخذ ابنين لَهُ كانا هناك، ويقال: إنهما كانا برفح فكانا رهينة عنده، وَقَالَ قوم: إِن الغلامين كانا ابني ابْن جحدم، فلما لقي السائب مَرْوَان بجمعه دُونَ الفسطاط أمر أَن يوقف الغلامان بَيْنَ الْخَيْلين ويقال لَهُ:
يَقُول لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ: قَدْ ترى هذين الغلامين، والذي نفسي بيده لتصرفن خيلك إِلَى الفسطاط أَوْ لأضربن أعناقهما ولأرمين إليك برءوسهما فانصرف السائب راجعا إِلَى الفسطاط، فغضب ابْن جحدم فَقَالَ كريب بْن أبرهة الحميري: إنه لَمْ يبتل بمثل مَا ابتلي بِهِ السائب أحد إلا فعل مثل فعله(6/285)
فرضي، ووجه مَرْوَان عَمْرو بْن سَعِيد بْن العاص الأشدق إِلَى ابْن جحدم فِي أربعة آلاف، فأخرج إليه ابن جحدم خيلا فاقتلوا فهزم المصريون وصالح ابْن جحدم مَرْوَان عَلَى أَن يخلي مصر ويلحق بمأمنه، فلحق بابن الزُّبَيْر وصارت مصر فِي يد مَرْوَان، وَكَانَ الَّذِي سفر بَيْنَ ابْن جحدم وعمرو بْن سَعِيد كريب بْن أبرهة بْن الصباح الحميري.
وَقَالَ الكلبي: قتل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عتبة بْن أَبِي إياس بْن جحدم.
قَالَ جَرِير:
هلا سألت بِهِمْ مصر الَّتِي نكثت ... وراهطا يَوْم يحمي الرأيه البهم [1]
ودخل مَرْوَان الفسطاط حَتَّى فتحت مصر، وولى عقبة بْن نَافِع الفهري حربها وصلاتها وجباياتها، فلم يزل وإليها حَتَّى مَاتَ مَرْوَان، فولاها عَبْد الْمَلِك أخاه عَبْد الْعَزِيز، وَكَانَ مَرْوَان أوصاه بتوليته إياها عِنْدَ مصير الأمر إِلَيْهِ فيما يقال، وولى مَرْوَان عَبْد الْمَلِك فلسطين حِينَ صار إِلَى دمشق.
قَالُوا: ولما أقبل راجعًا يريد دمشق بلغه أن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر قَدْ بعث أخاه مصعبا نَحْو فلسطين حِينَ بلغه خبر ناتل وإقباله إِلَيْهِ هاربًا، فوجه إِلَيْهِ عَمْرو بْن سَعِيد فِي جيش لهام، فلقيه عَمْرو قبل أَن يدخل إِلَى الشام، فقاتله عَمْرو فهزم أَصْحَابه، فرجع ورجعوا إِلَى الحجاز ورجع عَمْرو بْن سَعِيد إِلَى مَرْوَان.
الْمَدَائِنِي عَنْ مسلمة وغيره: أَن مَرْوَان ولى عَبْد الْمَلِك فلسطين، وجعل روح بْن زنباع خليفة لعبد الملك عليها، وشخص مروان يريد
__________
[1] ديوان جرير ص 415.(6/286)
دمشق، فلما كَانَ بالصنبرة [1] من عمل الأردن بلغه أَن مَالِك بْن هبيرة السكوني يَقُول: شرط لي مَرْوَان بالمرج أَن يجعل لي ولقومي كورة البلقاء، وَكَانَ عَمْرو يَقُول: الأمر لي بَعْد مَرْوَان، وَذَلِكَ أَن مَرْوَان كَانَ يعده ذَلِكَ ليستنزل بِهِ طاعته ونصيحته، وَكَانَ خَالِد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة يَقُول: الأمر لي بَعْد مَرْوَان، فَقَالَ مَرْوَان لحسان بْن مَالِك بْن بحدل: إِن قومًا يزعمون أني اشترطت لَهُمْ شروطًا ووعدتهم عدات مِنْهُم: عطارة مكحلة مخضبة، يَعْنِي مَالِك بْن هبيرة، فَقَالَ مَالِك: هَذَا وَلَمْ تفتح تهامة وَلَمْ يبلغ الحزام الطبيين [2] ، فَقَالَ مَرْوَان: يا أبا سُلَيْمَان إِنَّمَا داعبناك، وَمِنْهُم عَمْرو بْن سَعِيد يزعم أني جعلت لَهُ الخلافة ويطمع نَفْسه فِيهَا، وَمِنْهُم خَالِد بْن يَزِيد، وَقَالَ: إني أريد البيعة لعبد الْمَلِك ولعبد الْعَزِيز من بعده بالعهد فقال حسّان: أنا أكفيك هَذَا الأمر، فلما اجتمع النَّاس عِنْدَ مَرْوَان قام ابْن بحدل فَقَالَ: إنه يبلغنا أَن رجالًا يتمنون أماني ويدعون أباطيل، فقوموا فبايعوا لعبد الْمَلِك ابْن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بالعهد، ولعبد الْعَزِيز من بعده، فقام النَّاس فبايعوا مسارعين من عِنْدَ آخرهم. وَكَانَ مَرْوَان قَالَ لحسان بْن مَالِك بْن بحدل:
بلغني أنك تقول: إني اشترطت عَلَى مَرْوَان أَن يولي خَالِد بْن يَزِيد الخلافة بعده، فحداه ذَلِكَ عَلَى الجد فِي بيعة ابنيه ليكذب مَا أبلغ مروان عَنْهُ، ولقي عَمْرو بْن سَعِيد حسان بْن مَالِك فَقَالَ: مَا أسرع مَا خرت! فَقَالَ:
اسكت يا لطيم الشَّيْطَان، ثُمَّ إِن مَرْوَان عقد لعبيد اللَّه بْن زِيَاد بدمشق ووجهه
__________
[1] قرب بحيرة طبرية.
[2] جاوز الحزام الطبيين: اشتد الأمر وتفاقم. القاموس.(6/287)
إِلَى الجزيرة والعراق فقتل بالموصل، قتله إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، وسنذكر خبره فيما يستقبل إِن شاء اللَّه.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: خرج مَرْوَان إِلَى مصر فقتل حمام بْن أكدر اللخمي، وهلال بْن عَمْرو، وفتحها ثُمَّ انصرف، فلما كَانَ بالأردن بايع لعبد الْمَلِك وعبد الْعَزِيز، وخلع خَالِد بْن يَزِيد، وعمرو بْن سعيد [1] .
__________
[1] بهامش الأصل: بلغ العرض ولله الحمد.(6/288)
خبر يَوْم الربذة
قَالُوا: ووجه مَرْوَان جيشا من فلسطين أَوْ غيرها مَعَ حبيش بْن دلجة القيني أحد بَنِي وائل بْن جشم إلى ابن الزبير، في ستّة آلاف وأربعمائة فيهم يُوسُف بْن الحكم الثقفي ومعه ابنه الْحَجَّاج بْن يُوسُف، وكانوا يتنزلون عَلَى النَّاس ولا يعطون أحدًا لشيء ثمنًا، فلما صاروا إِلَى وادي القرى هرب عامل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر منها فوضعوا عَلَى أهلها ضريبة أدوها إليهم، ونزلوا بذي المروة فلقي أهلها مِنْهُم عنتًا.
وبلغ أهل المدينة خبر جيش حبيش بْن دلجة، فتغيب بشر من الصالحين، وقيل لسعيد بْن الْمُسَيِّب: لو تغيبت أَوْ أتيت البادية، فَقَالَ: فأين فضل الْجَمَاعَة، والله لا رآني اللَّه والناس أخوف عندي منه، وهرب عامل ابْن الزُّبَيْر وَهُوَ المنذر، ويقال: عُبَيْدَة بْن الزُّبَيْر، ويقال: جَابِر بْن الأسود بْن عوف، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر لما بلغته حركة هَذَا الجيش حِينَ أنفذ، كتب إِلَى الْحَارِث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة، والحارث هُوَ القباع، وَكَانَ عامله على البصرة، يأمره أَن يوجه إِلَيْهِ جيشًا كثيفًا، وكتب إِلَى ابْن مطيع وَهُوَ عامله(6/289)
عَلَى الكوفة بمثل ذَلِكَ، فوجه الْحَارِث الحنتف بْن السجف التميمي، ثُمَّ أحد بَنِي العجيف بْن ربيعة بْن مَالِك بْن حنظلة فِي ثلاثة آلاف، ويقال فِي ألفين، ووجه ابْن مطيع مُحَمَّد بْن الأشعث بْن قَيْس فِي ألفين من أهل الكوفة، ووجه ابْن الزُّبَيْر من مَكَّة مسروقا النصري، وقدم حبيش بْن دلجة فعسكر بالجرف، وَكَانَ مَرْوَان أمره أَن لا يعرض لأهل الْمَدِينَة، وأن لا يَكُون صمده وقصده إلا لمن يوجهه ابْن الزُّبَيْر للمحاربة، فالتقى النصري وحبيش بالمنبجس [1] ، فاقتتلوا قتالا شديدًا، وَكَانَ أول الوقعة لابن الزُّبَيْر ثُمَّ صارت الدولة لحبيش وأهل الشام، فقتلوا من أَصْحَاب النصري خلقا، وهزموهم، فأمر ابْن دلجة بدفن من قتل من أَصْحَابه وبقي أَصْحَاب النصري بالعراء تأكلهم السباع والطير، وقدم مُحَمَّد بْن الأشعث بْن قَيْس، فلما بلغه خبر الوقعة تداخله وأَصْحَابه رعب وهيبة، فانكفأ منصرفا إِلَى الكوفة، وكتب ابْن الزُّبَيْر إِلَى ابْن مطيع بتولية مُحَمَّد بْن الأشعث الموصل إِذَا وافاه، وَقَدْ رُوِيَ: أَن محمدًا كَانَ بالموصل وإليها وأن القادم بالجيش والمنصرف عَنْ حبيش عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، والله أعلم.
قَالُوا: ودخل حبيش الْمَدِينَة، فنزل دار مروان وخطب عَلَى منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يا أهل الْمَدِينَة نفاقكم قديم بقول الله: لَئِنْ لَمْ ينتَهِ المُنفِقُون والذِينَ فِي قُلوبِهِم مَرَضٌ والمُرْجِفُونَ فِي المَدينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قليلًا [2] كَيْفَ رأيتم صنع اللَّه بكم، والله لا يتكلّم
__________
[1] المنبجس: وادي العرج، أو أدناه، فيه عين. المغانم المطابة، والعرج هنا بين مكة والمدينة. معجم البلدان.
[2] سورة الأحزاب- الآية: 60.(6/290)
أحد منكم بكلمة إلا ضربته بسَيْفي هَذَا.
قَالَ الهيثم بْن عدي: كَانَ حبيش بْن دلجة يأكل التمر عَلَى منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويحذف أهل الْمَدِينَة بالنوى، وَيَقُول إني لأعلم أَنَّهُ لَيْسَ بأكل تمر، ولكنّني أحببت أن أعلمكم هو انكم عَلِي، وقيل لَهُ: إِن بِهَا الأنصار وَلَهُمْ بك قرابة فَقَالَ: إنهم خذلوا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عثمان.
وبلغ حبيشا قرب الحنتف بْن السجف، فأشير عَلَيْهِ أَن يتلقاه ولا يمهله حَتَّى يصير إِلَى الْمَدِينَة فيعينه أهلها ومن حولها، ويأتيه مدد عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، فجمع حبيش أَصْحَابه وقواهم بالسلاح والعدة، وسار ليلقي الحنتف فيحاربه دُونَ يثرب، فسار فِي أربعة آلاف من أَصْحَابه، وخلف بالمدينة سائر من مَعَهُ وولى أمرهم رجلا من أهل الشام يقال لَهُ ثعلبة، وخرج مَعَهُ من أهل الْمَدِينَة يَزِيد بْن يَزِيد أَخُو السائب بْن يَزِيد الَّذِي يعرف بابن أخت النمر، وَهُوَ كندي حليف فِي قريش، وذكوان مولى مَرْوَان، وكعب مولى سَعِيد بْن العاص، وعبيد اللَّه بْن إياس بْن أَبِي فاطمة فِي آخرين، فلما انتهى إِلَى الربذة وجد الحنتف قَدْ وردها قبله بيوم، فجعل حبيش يدعو إِلَى طاعة مَرْوَان، والحنتف يدعو إِلَى طاعة عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، ثُمَّ إنهما التقيا فِي وقت الظهر، وَكَانَ للحنتف ألف فارس قَدْ أكمنهم فِي غيابة من الأَرْض، أي هبطة، وعليهم رجل من قومه يقال لَهُ رباح، فاقتتل البصريون والشاميون ساعة والشاميون ظاهرون، ثُمَّ إِن كمين الحنتف خرج عَلَيْهِم، فلم يشعروا إلا وَهُمْ من ورائهم فانهزم أَصْحَاب حبيش فِي كُل وجه وقتل حبيش بْن دلجة عِنْدَ حوافر الْخَيْل وتقطع أَصْحَابه، ويقال: إِن أَصْحَاب حبيش كروا بَعْد الهزيمة، وثابوا فنادى رجل من أصحاب(6/291)
الحنتف: هل من مبارز فبارزه رجل من الشاميين، فلم يلبث أَن قتله البصري وأخذ هميانا مَعَهُ وجرده فأغضب ذَلِكَ حبيشا فَقَالَ: هل من مبارز، فبارزه الرجل الَّذِي قتل الشامي وأخذ هميانه، فضرب حبيشا ضربة أثخنته، ثُمَّ ثنى بأخرى فقتله، وانهزم الشاميون فقتلوا قتلا ذريعا، وأسر منهم خمسمائة، ويقال أكثر، وهرب منهم ثلاثمائة فأتوا المدينة فاستخفوا بِهَا، ثُمَّ قدر عَلَيْهِم فخلطوا بالأسرى، وهرب يُوسُف بْن الحكم وَقَدْ أردف الْحَجَّاج ابنه خلفه، فلم يعرج دُونَ نخل، فكان الْحَجَّاج يَقُول: مَا أقبح الهزيمة، لَقَدْ كنت ورجل آخر- يَعْنِي أباه- فِي جيش حبيش بْن دلجة فانهزمنا فركضنا ثلاثين ميلا حَتَّى قام الفرس، وإنّه ليخيّل إلينا أَن رماح الْقَوْم فِي أكتافنا.
قَالُوا: وَلَمْ يقتل رجل من أَصْحَاب ابْن دلجة إلا كَانَ أقل مَا وجد مَعَهُ مائة دِينَار.
وَقَالَ توسعة من بَنِي تيم اللَّه بْن ثعلبة بْن عكابة:
ونجى يُوسُف الثقفي ركض ... دراك بَعْد مَا سقط اللواء
ولو أدركنه لقضين نَحْبًا ... بِهِ ولكل مخطأة وقاء
يريد لكل نفس مخطأة، وَكَانَ مَعَ يُوسُف لواء، ويقال: أراد أَنَّهُ حِينَ قتل حبيش سقط لواء الْقَوْم عِنْدَ الهزيمة.
قَالُوا: وقدم الحنتف بْن السجف بالأسارى إِلَى الْمَدِينَة، فتطلع أهل الْمَدِينَة إِلَى قدومه وتلقوه واستبشروا بِهِ وجعل قوم يقولون: لَيْسَ هُوَ الحنتف إِنَّمَا هُوَ الحتف، وهرب ثعلبة حليفة حبيش، ويقال طرده أهل الْمَدِينَة، ويقال إِن قوما من أهل الْمَدِينَة وثبوا بِهِ فقتل والله أعلم، وبعث عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر أخاه مصعبًا لقتل الأسارى لا غَيْر، وقوم يقولون: ولاه الْمَدِينَة، فلما قدم(6/292)
الْمَدِينَة قتل أولئك الأسارى، ثُمَّ انصرف إِلَى مكة، وكان جميع من قتل ثمانمائة أسير، وَكَانَ قتله إياهم بالحرة فِي مصارع ابْن الغسيل وأَصْحَابه، وجعل مُصْعَب لمن جاء بيوسف بْن الحكم وابنه أَوْ أحدهما جعلا فلم يقدر عليهما، وَكَانَ يَزِيد بْن يَزِيد أَخُو السائب بْن يَزِيد فِي الأسارى، فدعا بِهِ مُصْعَب أول الأسارى فَقَالَ: أي عدو اللَّه ألست الَّذِي صنعت بالحرة مَا صنعت، فلم ترض بِذَلِكَ حَتَّى عدت الثَّانِيَة مَعَ ابْن دلجة، ألدين طلبت ذَلِكَ أم لدنيا، إنك لصفر منهما، وأمر بِهِ فقتل فِي الموضع الَّذِي قتل فِيهِ مُسْلِم بْن عقبة أسراء الحرة، فكان السائب أخوه يَقُول: لَقَدْ مر بنا من صياح من صاح بنا من النِّسَاء والصبيان بالشماتة والفرح بمقتل يَزِيد مَا كَانَ أشد عَلَيْنَا من قتله، وقيل لسعيد بْن الْمُسَيِّب ألا تعزي السائب عَنْ أخيه؟
فَقَالَ: لا رحمه اللَّه، والله إني لأحسب السائب قَدْ سر بقتله، وأخذ فِي المعركة يَوْم الربذة ذكوان مولى مَرْوَان، وكعب مولى سَعِيد بْن العاص وابن أَبِي فاطمة، فَقَالَ مُصْعَب: السَيْف أروح لَهُمْ، فضربهم بالسياط ضربا شديدًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: جعلت المرأة من أهل الْمَدِينَة تأتي الحنتف فتقبل رأسه وتقول شفيت النفوس وثأرت لنا بقتلى أهل الحرة، وَكَانَ انصراف الحنتف إِلَى البصرة مَعَ مُصْعَب حِينَ ولاه إياها أخوه عَبْد اللَّهِ بَعْد. يّام الربذة، ويقال: إِن ابْن الزُّبَيْر أمره أَن ينفذ إِلَى الشام فيغير عَلَى أطرافه، فمات بوادي القرى وأهل الْمَدِينَة يقولون: أمر ابْن الزُّبَيْر حنتفا أَن يقيم بالمدينة ليعاضد عامله فلم يزل مقيما حَتَّى وجه عَبْد الْمَلِك طارقا مولى عُثْمَان إِلَى وادي القرى فلقيه(6/293)
الحنتف بموضع يقال لَهُ شبكة الدوم فقتله طارق، وَقَالَ بَعْضهم: واقعه بوادي القرى والله أعلم.
قَالُوا: وخطب المصعب بالمدينة فَقَالَ: يا أهل الْمَدِينَة احمدوا اللَّه عَلَى مَا أبلاكم وأولاكم من نفي عدوكم عَنْ ساحة بلادكم واتقوا اللَّه واسمعوا وأطيعوا فَقَدْ غضبنا لما انتهك من حرمتكم حَتَّى أقادكم اللَّه من عدوّكم، فأعينوا رحمكم الله ولاتكم، وليبلغ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أصلحه اللَّه مَا يحب عنكم، وأقام بالمدينة خمسة أَيَّام ثُمَّ رجع إِلَى مَكَّة، وشخص مَعَهُ الحنتف ثُمَّ ولاه أخوه العراق، فشخص إِلَى البصرة، وولى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر الْمَدِينَة عَبْد اللَّهِ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن أَبِي ثور حليف بَنِي عَبْد مناف، وَهُوَ الَّذِي خطب ذَات يَوْم فَقَالَ: اتقوا اللَّه وخافوه فَإِن عقابه شديد، وَقَدْ علمتم مَا صنع بالقوم الَّذِينَ عقروا ناقته، وإنما قيمتها خمسمائة درهم فسمي مقوم الناقة.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي وغيره: وجه مَرْوَان عُبَيْد اللَّهِ بْن الحكم أخاه مَعَ حبيش، وَقَالَ: إِن حدث بحبيش حدث فأنت عَلَى الجيش، فقتله الحنتف يَوْم الربذة فِي المعركة.
حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِيُّ، وأبو خيثمة زهير بْن حرب قالا:
حَدَّثَنَا وهب بْن جرير بْن حازم عَن ابْنِ جُعْدُبَةَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ:
بعث ابْن الزُّبَيْر جيشا فلقي ابْن دلجة بوادي القرى فهزمه ابْن دلجة، وقدم الحنتف بن السجف في ثمانمائة، وابن دلجة فِي أربعة آلاف، فاقتتلوا بالربذة فقتل حبيش وعامة أَصْحَابه، ولحق باقوهم بالشام.
وَقَالَ أَبُو مخنف فِي بَعْض رواياته: انتهى ابْن دلجة إِلَى الْمَدِينَة، وعليها جَابِر بْن الأسود بْن عوف الزُّهْرِيُّ، فهرب جَابِر، ولما سمع ابْن دلجة بمسير(6/294)
الحنتف إِلَيْهِ سار من الْمَدِينَة نحوه ووجه عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر عَبَّاس بْن سهل بْن سَعْد الساعدي إِلَى الْمَدِينَة وأمره أَن يسير فِي طلب ابْن دلجة ويحاربه إِلَى قدوم الحنتف وأهل البصرة، فأسرع فِي إثره وَهُوَ متوجه نَحْو الربذة، لأنه أشير عَلَى ابْن دلجة بأن يتلقى الحنتف ولا يواقعه بالمدينة، فلحقه بالربذة وَقَدْ وافى الحنتف وأهل البصرة، وَكَانَ بَعْض أَصْحَاب ابْن دلجة قَالَ لَهُ: لا تعجل إِلَى قتال أهل البصرة، فَقَالَ: لا والله لا أنزل حَتَّى أشرب من مقندهم يَعْنِي سويقهم، فاقتتلوا فجاء ابْن دلجة سهم غرب فقتله، وقتل المنذر بْن قَيْس الجذامي، وتحرز من الشاميين فِي عمود الربذة نَحْو من خمسمائة، فحصرهم عَبَّاس بْن سهل والحنتف، فعرض عَلَيْهِم الحنتف أَن ينزلوا عَلَى حكمه فلم يفعلوا، فَقَالَ لَهُمْ عَبَّاس: انزلوا عَلَى حكمي، وكانوا لَهُ أرجى مِنْهُم للحنتف للأنصارية وأنه يماني الأصل، فنزلوا فضربت أعناقهم ورجع الفل إِلَى الشام.
وَحَدَّثَنِي زهير بْن حرب، وخلف بْن سالم، وأحمد بن إبراهيم الدورقي قالوا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أسماء قَالَ: سمعت المدنيين تحدثوا قَالُوا: لما رجع حصين بْن نمير واستوسقت البلاد كلها لابن الزُّبَيْر والشام أيضًا غَيْر طبرية مدينة الأردن، بلغ عَمْرو بْن سَعِيد أَن الضحاك بْن قَيْس وَهُوَ عامل ابْن الزُّبَيْر لَيْسَ بمناصح لَهُ، فَقَالَ لمروان:
مَا يمنعك من طلب الخلافة وأنت شيخ قريش وكبيرها وسيدها، وأحق بهذا الأمر من غيرك فقال مروان: ليست لي بالضحاك طاقة، قَالَ: بلى إِن شئت نكحت أم خَالِد بْن يَزِيد فيصير موالى مُعَاوِيَة وأتباعهم معك، قَالَ: فدونك فأتاها عَمْرو بْن سَعِيد، فَقَالَ لَهَا: أما تريدين أَن يرجع ملك أهل بيتك؟(6/295)
فَقَالَتْ: بلى، قَالَ: فَمَا الَّذِي يمنعك من شيخ قريش وسيدها فلم يزل بِهَا حَتَّى فعلت، فقوي أمر مَرْوَان، واشتد عَلَيْهِ الضحاك فِي البيعة لابن الزُّبَيْر فَقَالَ اخرج إِلَى المرج حتى أشترط عليك على رؤوس النَّاس أشياء ثُمَّ أبايعك، وَقَدْ كَانَ مَرْوَان أراد أَن يبايع لابن الزُّبَيْر قبل ذَلِكَ، فاتعدوا المرج عَلَى أَن يغدوا إِلَيْهِ فَقَالَ مَرْوَان لعمرو: اركب فرسك الفلاني- وَكَانَ ذَلِكَ الفرس خبيث الخلق لا يمشي إلا معترضا ويكدم كُل دابة تكون إِلَى جانبه- ثُمَّ سر بيني وبين الضحاك فإني سأتأذى بك وبفرسك فآمرك أَن ترجع فتركب غيره، فَإِذَا رجعت فأغلق أبواب الْمَدِينَة عليك، وخل بيني وبين العبد حَتَّى يحكم اللَّه ثُمَّ بيني وبينه، وخرج مَرْوَان وعمرو والضحاك فلما جاوز الْمَدِينَة جعل فرس عَمْرو يكدم ويعترض ولا يستقيم فَقَالَ لَهُ مَرْوَان: مَا هَذَا الشَّيْطَان تحتك؟ ارجع فاركب غيره، فرجع، وَكَانَ محببًا فِي أهل الشام، فأغلق عَلَيْهِ أبواب دمشق، ومضى مَرْوَان وصاحبه وجعل الضحاك يَقُول ساعة بَعْد ساعة: يا مَرْوَان أين عَمْرو؟ فَيَقُولُ: يلحقنا. حَتَّى نزل المرج، فَقَالَ: هلم حَتَّى يلتئم النَّاس، وينزلوا، فأمر الضحاك بمنبره فنصب وانخزل مَرْوَان فانضمت إِلَيْهِ كلب وسائر السفيانية وَقَدْ واطأهم، وبعث إِلَى الضحاك: مَالِك ولهذا الأمر لا أم لَك، وأنت رجل من محارب بْن فهر، وإنما هَذَا الأمر فِي بَنِي عَبْد مناف، وأنت وإن أظهرت الدعاء لابن الزُّبَيْر، فَإِنَّهُ رجل من بَنِي أسد بْن عَبْد العزى، فتزاحفوا بالمرج، ومع مَرْوَان أهل اليمن، ومع الضحاك قَيْس، فاقتتلوا فقتل الضحاك وهزمت قَيْس، وَفِي ذَلِكَ يَقُول زفر بْن الْحَارِث:
لعمري لَقَدْ أبقت وقيعة راهط ... لدى المرج صدعا بيننا متباينا(6/296)
ووجه مَرْوَان حبيش بْن دلجة فِي جيش إِلَى ابْن الزُّبَيْر، وبلغ ابْن الزُّبَيْر أَنَّهُ قَدْ يسر لَهُ جيش، فكتب إِلَى عامله عَلَى البصرة فِي توجيه جيش إِلَيْهِ، فوجه الحنتف التميمي، فقيل لحبيش: قاتله قبل دخوله الْمَدِينَة، فلقيه بالربذة فقتله الحنتف وقتل الشاميين.
وَحَدَّثَنِي أَبُو خيثمة وَأَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم عَنْ وهب بْن جَرِير عَنْ جويرية قَالَ: بلغني أَن زفر بْن الْحَارِث قَالَ ذَات يَوْم: أي المصائب أشد؟ فَقَالَ بَعْض الْقَوْم: المصيبة بالولد، وَقَالَ بَعْضهم: المصيبة بالوالد، وَقَالَ بَعْضهم: المصيبة بالأخ، فَقَالَ زفر: مَا مصيبة أشد من مصيبة فِي مال، لَقَدْ رأيتني عشية راهط وانهزمنا ومعي بنون لي أربعة، ولي مَعَ الأكبر مائتا دِينَار وعطفت عَلَيْنَا الْخَيْل، فَقُلْتُ للأكبر حِينَ غشيتنا الْخَيْل: ادفع النفقة التي معك إِلَى أخيك فُلان ورد عنا الْخَيْل، فدفع الدنانير إِلَى أخيه وقاتل حَتَّى أصيب، ثُمَّ لحقتنا الْخَيْل، فَقُلْتُ: يا فُلان ادفع النفقة إِلَى أخيك فُلان ورد عنا الْخَيْل، فَمَا زلت أقول هَذَا القول حَتَّى أصيب الثلاثة، ثُمَّ قُلْت للرابع:
ادفع النفقة إِلَى فُلان مولانا ورد عنا الْخَيْل، ففعل وقاتل حَتَّى قتل، وقتل مولانا، فَمَا وجدت عَلَى أحد من ولدي كَمَا وجدت عَلَى مولاي فِي ذَلِكَ لمكان نفقتي.
واجتمع أهل الشام لمروان فعاش ثمانية أشهر ثُمَّ هلك، فبلغني أَنَّهُ كَانَ بينه وبين خَالِد كَلام فقال له مروان: يا بن الرطبة فَقَالَ خَالِد: والله لئن كَانَ أؤتمن فَمَا أدى الأمانة ولا أَحْسَن، ودخل عَلَى أمه فَقَالَ لَهَا مَا صنعت بي، قَالَ لي مروان على رؤوس النَّاس كَذَا، فَقَالَتْ: أما والله لا تسمع منه(6/297)
شَيْئًا تكرهه أبدًا فسقته شرابًا فيما يزعمون مسمومًا فلم يزل يضطرب حَتَّى مَاتَ.
قَالَ جويرية: وبلغني أَن مَرْوَان قَدْ كَانَ بايع لعَبْد الْمَلِك ولعَبْد الْعَزِيز من بعده، واشترط عَلَى عَبْد الْمَلِك أَن مصر لعبد الْعَزِيز حياته لَيْسَ لعبد الْمَلِك أَن يعزله.
وَحَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار الدمشقي قَالَ: أقصى مَرْوَان خَالِد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة وجفاه فدخل عَلَيْهِ يومًا وَهُوَ يتمثل:
وَمَا النَّاس بالناس الَّذِينَ عهدتهم ... وَمَا الدار بالدار الَّتِي كنت تعرف
فشتمه مَرْوَان وَقَالَ: مَا الَّذِي تنكر وتعرف يا بن الرطبة؟ وأخبر أمه بِذَلِكَ. فقتلته غمًا.
الْمَدَائِنِي عَنْ مسلمة بْن محارب، وعامر بْن حفص عَنْ عَبْد الحميد، أَن ناتل بْن قَيْس الجذامي كَانَ من شيعة ابْن الزُّبَيْر فلما مَاتَ الحنتف بوادي القرى، أَوْ قتل، وَقَدْ وجهه ابْن الزُّبَيْر إِلَيْهَا وأمره أَن يصير منها إِلَى نواحي الشام، ويقال: بَل أمره أَن يَكُون مسلحة بِهَا، بعث ناتلًا لما بعث الحنتف لَهُ فدخل الشام فلقيه عَبْد الْمَلِك بأجنادين [1] فحاربه فقتل ناتلًا، وَكَانَ مَعَ ناتل قوم من الرماة وكانت سهامهم تكاد تصل إِلَى عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان، ثُمَّ إِن عَبْد الْمَلِك مضى إِلَى بطنان حبيب [2] وهو يريد الجزيرة والعراق، فلم ينفذ
__________
[1] بهامش الأصل: «ويقال بكسر الدال» . وتقع أجنادين في أراضي خربتي «جنابة» الفوقا «وجنابة» التحتا في ظاهر قرية عجور الشرقي في منطقة الخليل. معجم البلدان فلسطين لمحمد شراب.
[2] على مقربة من حلب، وتوجه عبد الملك إلى بطنان حبيب بعد نيله الخلافة وعزمه على قصد مصعب بن الزبير بالعراق، وهكذا يبدو أن أصل الرواية مبتور.(6/298)
فِي مرته ورجع إِلَى دمشق لمحاربة عَمْرو بْن سَعِيد حِينَ أغلقها عَلَى نَفْسه، فَقَالَ الشاعر وَهُوَ من كلب:
قتلنا بأجنادين يا قوم ناتلا ... قصاصا بِمَا لاقى حبيش بَنِي القين
وَقَالَ أيضًا:
بشر بَنِي القين وخص وائلا ... أنا أبأنا بحبيش ناتلا
غداة نقريه القنا الذوابلا ... حَتَّى أذقناه حمامًا عاجلا
ويقال: إِن مَرْوَان لما مَاتَ أمر ابْن الزُّبَيْر ناتلا أَن يَأْتِي فلسطين فيغلب عَلَيْهَا وَقَدْ خرج منها، فغلب ناتل عَلَى فلسطين، وبلغ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِك فسار كُل امرئ إِلَى صاحبه فالتقوا بأجنادين ومع عَبْد الْمَلِك عَمْرو الأشدق، فقتل ناتل وصار عَبْد الْمَلِك إِلَى بطنان حبيب ومضى فانسل عَمْرو من عسكره، وصار إِلَى دمشق فأغلق أبوابها، فرجع عَبْد الْمَلِك إِلَيْهِ فقتله.
وَقَالَ هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي: كانت ولاية مَرْوَان بْن الحكم سنة وشهرين، وَقَالَ غيره: سنة إلا شهرين، وَقَالَ بعضهم: سنة، وقال الكلبي: كان سبب وفاته أَنَّهُ تزوج أم هاشم بنت (أَبِي) هاشم بْن عتبة بْن ربيعة، واسمها فاختة ولقبها لقصرها حبة، وغدر بابنها خَالِد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة فيما وعده من ولاية العهد ودخل عَلَيْهِ خَالِد عَلَى مرحلة من دمشق، فَقَالَ لَهُ: مَا أدخلك عَلِي في هذا الوقت يا بن الرطبة؟ فَقَالَ خَالِد: أمين مختبر أبعدها اللَّه وأسحقها، وأتى أمه فأخبرها بِمَا قَالَ لَهُ مَرْوَان، فَقَالَتْ لَهُ:
لَنْ تسمع منه مثلها أبدًا، ودخل مَرْوَان عَلَى أم خَالِد فتركته حَتَّى نام ثُمَّ عمدت إِلَى مرفقه محشوة ريشا فجعلتها عَلَى وجهه وجلست وجواريها عَلَيْهَا(6/299)
حَتَّى مَاتَ غما، ثُمَّ صرخت وجواريها وولولن وقلن مَاتَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فجاءة.
وَقَالَ عوانة: كَانَ اللبن يعجبه فجاءته بلبن مسموم فَقَالَ: ائتوني بِهِ إِذَا أفطرت، فلما أفطر أتوه بِهِ فشربه فاعتقل لسانه فصرخت وجواريها وأقبل يشير إِلَى من اجتمع إِلَيْهِ من ولده وغيرهم إنها قتلتني، وجعلت تقول: أما ترونه يوصيكم بي ويشير إليكم بحفظي.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: أَخْبَرَنِي عَبْد اللَّهِ بْن عياش الهمداني وغيره قَالُوا: مَاتَ مَرْوَان فِي سنة خمس وستين فِي شَهْر رمضان وَلَهُ ثَلاث وستون سنة، وصلى عَلَيْهِ ابنه عَبْد الْمَلِك.
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: صلى عَلَيْهِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أم الحكم، وَكَانَ خليفته بدمشق.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: قبض النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومروان ابْن ثماني سنين، وَمَاتَ بدمشق سنة خمس وستين، وَهُوَ ابْن ثَلاث وستين سنة، ودفن بمقبرة الباب الصغير وصلى عَلَيْهِ عَبْد الْمَلِك ابنه وَكَانَ حاضره.
وَقَدْ رُوِيَ مَرْوَان عَنْ عُمَر، وعن عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمَا، وَفِي مَرْوَان يَقُول الراجز:
مَرْوَان نبع [1] وسعيد خروع ... مَرْوَان يعطي وسعيد يمنع
يعني سعيد بن العاص بن سعيد.
__________
[1] النبع شجر جبلي أصفر العود ثقيله في اليد، إذا تقادم احمر، يتخذ للقسي. معجم أسماء النباتات الواردة في تاج العروس للدمياطي.(6/300)
وولد الحكم بْن أَبِي العاص سِوَى مَرْوَان
عُثْمَان الأزرق وَهُوَ أكبر ولده، وعَبْد الرَّحْمَنِ، والحارث، وصالح بْن الحكم، وأم البنين، وزينب، أمهم آمنة بنت علقمة الكنانية، وَهِيَ أم مَرْوَان، وأمها صفية بنت أَبِي طَلْحَة من بَنِي عَبْد الدار، وأمها مارية بنت موهب الكندي وَهِيَ الزرقاء الَّتِي يعيرون بِهَا، وعثمان الأصغر، وَيَحْيَى ولاه عَبْد الْمَلِك الْمَدِينَة، وأبان، وعمر، وحبيبًا، وأم يَحْيَى، وأم سلمة، وأم عُثْمَان، أمهم مليكة بنت أوفى بْن الْحَارِث بْن عوف المرية، وأمها من بَنِي عوف بْن أَبِي حارثة المري وأمها مليكة بنت قَيْس بْن زحل بْن ظَالِم المري، ويوسف، وأمه أم يُوسُف بنت هاشم بْن عتبة بْن ربيعة بْن عَبْد شمس، والنعمان، وأوسًا، وعمرًا، وأم الحكم، وأم أبان، وأمامة، وسهيلًا، أمهم أم النعمان بنت حذيفة ثقفية، وعبيد اللَّه، وعبد اللَّه، والحكم، أمهم أم ولد، وخالدًا، وعَبْد الرَّحْمَنِ الأصغر، لأم ولد، ومسلمًا، لأم ولد.
فتزوج أم البنين سَعِيد بْن العاص، وتزوج زينب أسيد بْن الأخنس الثقفي، وتزوج أم يَحْيَى عروة بْن الزُّبَيْر بْن العوام، وَهِيَ أصغر ولد(6/301)
الحكم، وتزوج أم أبان عَبْد اللَّهِ بْن المطلب بْن حنطب المخزومي، ثُمَّ خلف عَلَى أختها أم الحكم، وتزوج أمامة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن أَبِي ذئب من بَنِي عامر بْن لؤي.
وَأَمَّا خَالِد بْن الحكم فكان حضر عَبْد الْمَلِك يَوْم قتل عَمْرو بْن سَعِيد الأشدق، فانتدب قوم يقاتلون عَنْ عَمْرو، فبعث عَبْد الْمَلِك إليهم من يقاتلهم فكان خالد عَلَيْهِم.
وَأَمَّا أبان بْن الحكم فتزوج أم عُثْمَان بنت خَالِد بْن عقبة بْن أَبِي معيط، فولدت لَهُ، فتزوج سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك من ولده أم أبان بنت أبان.
وَأَمَّا عُبَيْد اللَّهِ بْن الحكم فقتله الحنتف بْن السجف يَوْم الربذة وَأَمَّا الْحَارِث بْن الحكم فتزوج مفداة بنت الزبرقان بْن بدر، فولدت لَهُ، وولى هِشَام خَالِد بْن عَبْد الْمَلِك بْن الْحَارِث بْن الحكم الْمَدِينَة فكان مذموم السيرة ولقب فرقدًا.
وَأَمَّا عَبْد الْعَزِيز بْن الْحَارِث بْن الحكم فولد سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز خدينة، ولاه مسلمة بْن عَبْد الْمَلِك فِي أَيَّام يَزِيد بْن عَبْد الْمَلِك خراسان، حِينَ ولي مسلمة العراق، ولقب خدينة لأن بَعْض دهاقين مَا وراء نهر بلخ دَخَلَ عَلَيْهِ وعليه معصفرة وَقَدْ رجل شعره فَقَالَ: هَذَا خدينة، وَهِيَ الدهقانة والقيمة بمنزل زوجها بكلامهم، وَكَانَ سَعِيد صهر مسلمة عَلَى ابنته، وقدم خدينة سورة بْن أبجر الحنظلي من ولد أبان بْن دارم بْن مَالِك بْن حنظلة، ثُمَّ اتبعه فتوجه إِلَى مَا وراء نهر بلخ فنزل إشتيخن [1] وَقَدْ صارت
__________
[1] إشتيخن: من قرى صغد سمرقند، بينها وبين سمرقند سبعة فراسخ. معجم البلدان.(6/302)
الترك إِلَيْهَا، فحاربهم وهزمهم ومنع النَّاس من طلبهم جبنًا وخوفًا من أَن تكون لَهُمْ كرة، ثُمَّ لقي الترك بَعْد فهزموه وأكثروا القتل فِي أَصْحَابه وولى خدينة نصر بْن سيار طخارستان، وَكَانَ يَقُول سميت خدينة لأني لَمْ أطاوع عَلَى قتل اليمانية فضعفوني، وَقَالَ الشاعر فِي سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز خدينة:
وسرت إِلَى الأعداء تلهو بلعبة ... وأيرك مشهور وسَيْفك مغمد
ويروي: تسعين ليلة وأيرك.
وأنت امرؤ عاديت عرس حفية ... وأنت عَلَيْنَا كالحسام تجرد
وكلم خدينة بَعْض الأسديين فِي شَيْء فَقَالَ لَهُ: يا ملط، فَقَالَ:
زعمت خدينة أنني ملط ... ولخدنة المقراض والمشط
ومكاحل ومجامر وَلَهَا ... من دلها فِي خدها خط
وشخص قوم من أهل خراسان إِلَى مسلمة، فشكوا سَعِيد بْن عَبْد الْعَزِيز، خدينة، فعزله وولى سَعِيد بْن عَمْرو الحرشي خراسان.
وَفِي أَيَّام خدينة قتل جهم بْن زحر بْن قَيْس الجعفي، سعى بِهِ إِلَيْهِ ترفل، وَهُوَ عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْد الحميد بْن عَبْد الكريم بْن عامر بْن كريز، الَّذِي قتله أَبُو مُسْلِم بخراسان، وسعى بعدة مَعَهُ من اليمانية، وَقَالَ إنهم قَدْ ولوا ليزيد بْن المهلب وعندهم أَمْوَالٌ قَدِ احتجنوها واختانوها وسماهم لَهُ، فأرسل إليهم فحبسهم فِي قهندز مرو فقيل لَهُ: إنهم لا يؤدون بالحبس دُونَ البسط عَلَيْهِم، فأمر بإحضار جهم فجيء بِهِ عَلَى حمار فقام إِلَيْهِ الفيض بْن عمران فوجأ انفه فقال له جهم: يا فاسق هلا فعلت هَذَا حِينَ ضربتك فِي الخمر، فغضب سَعِيد عَلَى جهم وَقَالَ أتجترئ عَلِي أَن تكلمه بِهَذَا الْكَلام بحضرتي، وحمل عَلَيْهِ فضربه مائتي سوط، فكبر أهل السوق ثُمَّ دفع جهما(6/303)
وأولئك اليمانية إِلَى الزُّبَيْر بْن نشيط مولى باهلة ليستأديهم فعذبهم، فمات جهم فِي الحبس فَقَالَ ثابت قطنة الأزدي، وَكَانَ أعور يضع عَلَى عينه قطنة:
أتذهب أيامي وَلَمْ أسق ترفلا ... وأشياعه الكأس الَّتِي صبحوا جهما
وَلَمْ تقرها السعدي عَمْرو بْن مَالِك ... فيشعب من حوض المنايا لَهَا قسما
وَكَانَ خدينة يَقُول قبح اللَّه الزُّبَيْر قتل جهما.
وولى عَبْد الملك عبد الواحد بن الحارث بن الحكم الْمَدِينَة وفيه يَقُول القطامي:
أهل الْمَدِينَة لا يحزنك شأنهم ... إِذَا تخطأ عَبْد الْوَاحِد الأجل
وَأَمَّا يَحْيَى بْن الحكم فكان واليا عَلَى الْمَدِينَة لعبد الْمَلِك، وَكَانَ يكنى أبا مَرْوَان، وَلَهُ يَقُول أيمن بْن خريم بْن فاتك الأسدي:
تركت بَنِي مَرْوَان تندى أكفهم ... وصاحبت يَحْيَى ضلة من ضلاليا
لَقَدْ كَانَ فِي ظل الخليفة وابنه ... وظل ابْن ليلى مَا يسد اختلاليا
يَعْنِي عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان:
أمير إذا ما جئت طَالِب حاجة ... تهيا لشتمي أَوْ أراد قتاليا
فإنك لو أشبهت مَرْوَان لَمْ تقل ... لقومي هجرًا إذ أتوك ولا ليا
وَقَالَ فِيهِ عَمْرو بْن أحمر بْن العمرد الباهلي:
يحيى أيا بْن ملوك النَّاس أحرقنا ... ظلم السعاة وباد الماء والشجر
إن تنب يا بن أَبِي العاصي بحاجتنا ... فَمَا لحاجتنا ورد ولا صدر
وتزوج زينب بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام فَقَالَ عَبْد الْمَلِك أدركوا بَيْت المال. وولاه أيضًا فلسطين.(6/304)
وَكَانَ الحر بْن يُوسُف بْن يَحْيَى بْن الحكم عَلَى الموصل فمات وَهُوَ عَلَيْهَا فَقَالَ أَبُو ماوية حِينَ دفن: لا رحم اللَّه متوفاكم ولا أكرم ممشاكم.
وكانت أم يَحْيَى بْن الحكم مرية.
وَأَمَّا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحكم ويكنى أبا مطرف، ويقال أبا حرب، فكان شاعرًا، وهاجى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حسان، وَهُوَ الَّذِي يَقُول لمروان بْن الحكم.
تجبرت واستكبرت حَتَّى كأنما ... نرى بك فينا قيصرا وابن قيصرا
فذا العرش لا يغفر لمروان إنني ... أراه بأخلاق المكارم أعسرا [1]
وَقَالَ فِي ابنته واسمها زينب:
لعمرك مَا زنيبة أم عَمْرو ... بحمد اللَّه من قزم الجواري
ألم تر أَنَّهَا كرمت وطابت ... وكانت من قريش فِي النضار
وتزوجها يَحْيَى بْن سَعِيد بْن العاص، وكنية زينب هذه أمّ عمرو.
__________
[1] بهامش الأصل: من العسرة.(6/305)
ولد مَرْوَان بْن الحكم
ولد مَرْوَان بْن الحكم: عَبْد الْمَلِك، ومعاوية، وأم عَمْرو تزوجها سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عَفَّان، وأمهم عَائِشَةُ بنت مُعَاوِيَة بْن المغيرة بْن أَبِي العاص بْن أمية وأمها جمحية، ومعاوية بْن المغيرة وَهُوَ الَّذِي جدع أنف حمزة بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ يَوْم أحد فقتل عَلَى أحد بَعْد انصراف قريش بثلاثة أَيَّام قتله عَلِي بْن أَبِي طَالِب بأمر رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ تخلف بَعْد مضي قريش فظفر بِهِ.
وعبيد اللَّه، وأبان، وَدَاوُد أمهم أم أبان بنت عُثْمَان بْن عَفَّان.
وعبد الْعَزِيز، وعَبْد الرَّحْمَنِ مَاتَ صغيرًا، وأم عُثْمَان تزوجها الْوَلِيد بْن عُثْمَان بْن عَفَّان، أمهم ليلى بنت زبان بْن الأصبغ الكلبي، وفيها يَقُول عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحكم وَكَانَ يشبب بنساء أخيه:
ليلى وهل فِي النَّاس أنثى كمثلها ... إِذَا ما اسبكرّت [1] بين درع ومجسد
__________
[1] اسبكرت: اعتدلت واستقامت. القاموس.(6/307)
وعمرو بْن مَرْوَان، أمه زينب بنت عُمَر بْن أَبِي سَلَمَةَ بْن عَبْد الأسد المخزومي.
وبشر بْن مَرْوَان، وأمه قطية بنت بشر بْن عامر بْن مَالِك بْن جَعْفَر بْن كلاب، ولقطية يَقُول عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحكم:
قطية كالتمثال أَحْسَن نقشه ... وأم أبان كالشراب المبرد
ومحمد بْن مَرْوَان، لأم ولد.
فأما عَبْد الْمَلِك فولي الخلافة وسنذكر أخباره إِن شاء اللَّه.
وَأَمَّا مُعَاوِيَة بْن مَرْوَان:
ويكنى أبا المغيرة، فكان من أحمق النَّاس، طار لَهُ بازي فأمر بغلق أبواب دمشق، ومر بحقل لَهُ وَقَدْ سمع أهل الشام يقولون: لا يفلح حقل لا يرى است صاحبه، فنزل وأحدث فِيهِ.
ثُمَّ ركب ومر ذَات يَوْم بديراني وَهُوَ فِي غرفة لَهُ فصعد إليه فوجده يقرأ كتابًا، فَقَالَ لَهُ: مَا تقرأ؟ قَالَ لَهُ: إنجيل وجعل الديراني يَقُول مرة بَعْد مرة: حر، فَقَالَ لَهُ: أفي الإنجيل حر؟ قَالَ: لا، ولكن حمارًا لي يطحن أسفل هذه العلية وَفِي عنقه جلجل، فَإِذَا لَمْ أسمع صوت الجلجل علمت أَنَّهُ قَدْ وقف فأزجره فَقَالَ لَهُ وَمَا يدريك لعله يقف ثُمَّ يحرك رأسه فَقَالَ الديراني لو كَانَ لَهُ مثل عقل الأمير لفعل هَذَا.
وَقَالَ يوما لعبد الْمَلِك: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ مَتَى يَكُون الأضحى فِي شَهْر رمضان؟ فغمز عَبْد الْمَلِك أبا الزعيزية فأقامه.(6/308)
وَقَالَ هِشَام بْن عمار: بلغني أَن مُعَاوِيَة بْن مَرْوَان زوج امْرَأَة من كلب، فلما رأى أباها قَالَ لَهُ: أخذت ابنتك فخجأتها بأير كَأَنَّهُ عمود المنبر، فملأتني دما، فَقَالَ: إنها من نسوة يحفظن ذاك لأزواجهن، ولو كنت عنينا لما زوجتك.
الْمَدَائِنِي: قَالَ لَهُ رجل: يا أبا المغيرة أَنْتَ ابْن مَرْوَان، وأمك عَائِشَة فأنت مقابل مدابر فِي بَنِي أَبِي العاص، قَالَ: فأنا كَمَا قَالَ القائل: مردد فِي بَنِي اللخناء ترديدًا.
فولد لمعاوية بْن مَرْوَان: عَبْد الْمَلِك، والمغيرة، وبشر، وقوم يقولون: كَانَ الْوَلِيد بْن مُعَاوِيَة بْن مَرْوَان عَلَى دمشق من قبل مَرْوَان بْن مُحَمَّد الجعدي فحصره عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْعَبَّاس ثُمَّ فتح دمشق وقتل الْوَلِيد وهدم عَبْد اللَّهِ سور مدينة دمشق.
وَقَالَ ابْن الكلبي وأبو اليقظان: ولد مُعَاوِيَة هَذَا: عَبْد الْمَلِك، والمغيرة، وبشرًا فَقَط، والثبت أَن صاحب دمشق كَانَ الْوَلِيد بْن معاوية بن مروان بن عبد الملك بن مَرْوَان، وَالأَوَّل قَوْل قوم لا علم لَهُمْ.
وَقَالَ أَبُو اليقظان: قَالَ خَالِد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لمعاوية بْن مَرْوَان:
يا أبا المغيرة لا أرى أخاك يوليك، ولا يعتد بك فَقَالَ: لو أردت ذَلِكَ لولاني قَالَ فسله أَن يوليك بَيْت لهيا [1] ، فغدا عَلَى عَبْد الْمَلِك فَقَالَ: يا أمِير ألست أخاك؟ قَالَ: بلى وشقيقي، قَالَ: فولني، قَالَ: وَمَا تريد؟ قَالَ بَيْت لهيا، قَالَ: مَتَى لقيت خَالِد بْن يَزِيد؟ قَالَ: عشية أمس، قَالَ:
__________
[1] بيت لهيا: قرية معروفة بغوطة دمشق. معجم البلدان.(6/309)
لا تكلمه، ودخل خَالِد فَقَالَ: كَيْفَ أصبحت أبا المغيرة؟ قَالَ: قَدْ نهانا هَذَا عَنْ كلامك.
وَقَالَ لَهُ خَالِد بْن يَزِيد يومًا: لو كَانَ لَك قلب كنت أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، قَالَ: كَيْفَ؟ قَالَ: إِذَا دَخَلَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ المقصورة فاسبقه إِلَى المنبر فاصعده فَإِنَّهُ إِذَا رآك عَلَى المنبر كنت أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، ففعل ذَلِكَ، فالتفت عَبْد الْمَلِك إِلَى خَالِد فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ أمرته؟ قَالَ: نعم، قَالَ: قَدْ علمت فلا تعد إِلَى مثلها.
قَالُوا: وسرق لمعاوية بْن مَرْوَان برذون فَقَالَ لغلام لَهُ: انظر من سرقه؟ قَالَ الغلام: لو علمت من سرقه لأتيتك بِهِ.
وَأَمَّا أبان بْن مَرْوَان فولي فلسطين لأخيه عَبْد الْمَلِك، وَكَانَ الْحَجَّاج بْن يُوسُف عَلَى شرطه، وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ ابْن أقرم النميري، وَكَانَ أبان أخذه فأفلت منه:
طليق اللَّه لَمْ يمنن عَلَيْهِ ... أَبُو دَاوُد وابن أَبِي كبير
ولا جزء ولا ابْن أَبِي شريف ... ولا أهل الأمير مَعَ الأمير
ولا الْحَجَّاج عينا بنت ماء ... تقلب طرفها حذر الصقور
أَبُو دَاوُد يَزِيد بْن هبيرة المحاربي، وابن أَبِي كبير رجل من ولد أَبِي كبير المنهب بْن عَبْد [1] بْن قصي بْن كلاب، وَكَانَ الْحَجَّاج أخفش فشبّه عينه بعين طائر ماء.
__________
[1] بهامش الأصل: عدي.(6/310)
وَأَمَّا دَاوُد بْن مَرْوَان فولد سُلَيْمَان وَكَانَ أعور فتزوج فاطمة بنت عَبْد الْمَلِك بْن عَبْد الْعَزِيز بَعْد زوج كَانَ لَهَا فقيل: نذل أعور.
وَأَمَّا بشر بْن مَرْوَان
فكان يكنى أبا مَرْوَان وشهد المرج فقتل خَالِد بْن حصين الكلابي ومعه عَمْرو بْن سَعِيد، فقال الشاعر يرثيه:
ثوى خالد بالمرج غير ملوم ... ولا برم عام الرياح الصوارد
لعمري لَقَدْ أرداه بشر لحينه ... وعمرو فَقَدْ نالا كريم المشاهد
هلا بَنِي العاصي ذكرتم بلاءه ... وَمَا شاكر المعروف يوما كجاحد
براهط إذ عَبْد الْعَزِيز معفر ... لدى مسند منكم وآخر ساجد
فلا صلح أَوْ تزقو لمروان هامة ... عَلَيْهِ بأيدينا بواء لخالد
وَكَانَ خَالِد صرع عَبْد الْعَزِيز يَوْم المرج ثُمَّ استبقاه، وَهُوَ من بَنِي (أَبِي) بَكْر بْن كلاب.
وَكَانَ بشر منقطعًا إِلَى عَبْد الْعَزِيز قبل ولاية عَبْد الْمَلِك الخلافة، فلما ولي الخلافة استجفاه بشر فَقَالَ:
أتجعل صَالِح الغنوي دوني ... ورَحْلي منك فِي أقصى الرحال
سيغنيني الَّذِي أغناك عني ... ويُفْرج كربتي ويرب مالي
إِذَا أبلغتني وحملتَ رحلي ... إِلَى عَبْد الْعَزِيز فَمَا أبالي
فولاه عَبْد الْمَلِك الكوفة، ثُمَّ أضاف إِلَيْهِ البصرة، فكتب إِلَى عَبْد الْعَزِيز:
غنينا فأغنانا غنانا وعاقنا ... مآكل عما عندكم ومشارب(6/311)
فكتب إِلَيْهِ عَبْد الْعَزِيز: هلا كتبت بأحسن من هَذَا، وَهُوَ قَوْل عَبْد الْعَزِيز بْن زرارة الكلابي:
فأصبحت قَدْ ودعت نجدا وأهله ... وَمَا عهد نجد عندنا بذميم
فَقَالَ بشر: صدق أَبُو الأصبغ رعاه اللَّه فَمَا عهده بذميم.
وَكَانَ بشر لين الولاية، سهل الحجاب، طلق الوجه كريمًا، وَكَانَ صاحب شراب ينادم عليه. وقال كثيّر يمدح بشرًا:
أبا مَرْوَان أَنْتَ فتى قريش ... وكهلهم إِذَا عدوا الكهولا [1]
وَقَالَ الأخطل:
إِذَا أتيت أبا مَرْوَان تسأله ... وجدته حاضنيه المجد والحسب
ترى إِلَيْهِ رفاق النَّاس سائلة ... من كُل أوب عَلَى أبوابه عصب
لا يبلغ النَّاس أقصى وادييه ولا ... يعطي جواد كَمَا يعطي ولا يهب [2]
وَقَالَ أيضًا:
إني دعاني إِلَى بشر فواضله ... والخير قَدْ علم الأقوام متبع
يا بشر لو لَمْ أكن منكم بمنزلة ... ألقى عَلِي يديه الأزلم الجذع
أنتم خيار قريش عِنْدَ نسبتها ... وأهل بطحائها الأثرون والفرع [3]
__________
[1] ديوان كثير عزة- ط. بيروت 1993 ص 167 وفيه: «وكهلهم إذا عدّ الكهول» .
[2] ديوان الأخطل- ط. بيروت 1986 ص 42.
[3] ديوان الأخطل ص 204. والأزلم الجذع: الدهر الكثير البلايا.(6/312)
وَقَالَ أيضًا:
إِذَا وزن الأقوام لَمْ تلق فيهم ... كبشر ولا ميزان بشر يعادله
أغر عليه التاج لا متعبّس ... ولا زبرج الدنيا عَنِ الحق شاغله
إِذَا انفرج الأبواب عَنْهُ رأيته ... كصدر اليماني أخلصته صياقله [1]
قَالَ الهيثم بْن عدي: وَكَانَ الفرزدق هجا خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد وأمية أخاه، فطلبه خَالِد وَهُوَ يتقلد البصرة قبل بشر فآلى أن يقتله إِن ظفر بِهِ، ووضع عَلَيْهِ الأرصاد فكان منطمرًا لا يظهر، فلما قدم بشر البصرة استبطأه فبلغه أَنَّهُ وجد عَلَيْهِ ثُمَّ إِن بَنِي تميم وجهوا مَعَهُ من أبلغه البصرة فَقَالَ:
لو أنني كنت ذا نفسين إِن هلكت ... إحداهما بقيت أُخْرَى لمن غبرا
إِذَا لجئت على مَا كَانَ من حذر ... وَمَا رَأَيْت حذارًا يغلب القدرا
كُل امرئ آمن للموت آمنه ... بشر بْن مَرْوَان والمذعور من ذعرا
تغدو الرياح وتمسي وَهِيَ فاترة ... وأنت ذو نائل يمسي وَمَا فترا [2]
فِي قصيدة، فحباه بشر وأكرمه وحمله عَلَى فرس رائع وكساه، وَكَانَ الفرزدق إِذَا حمل حمالة أداها بشر عَنْهُ، وإذا سأل حاجة قضيت لَهُ فِي نَفْسه ومن شفع لَهُ، ويدخل دار بشر فيدعو بشهوته من الطعام فيؤتى بِهَا، حَتَّى قيل إنّه نادم بشرا.
__________
[1] ديوان الأخطل ص 244.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 233 مع فوارق.(6/313)
وَقَالَ جَرِير أَوْ غيره يذكر لين حجابه:
بعيد مراد الطرف لَمْ يثن طرفه ... حذار الغواشي بَاب دار ولا ستر
ولو شاء بشر حل من دُونَ بابه ... طماطم سود أَوْ صقالبة حمر
ولكن بشرا سهل الباب للتي ... يَكُون لَهُ فِي غبها الحمد والأجر [1]
أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي، قَالَ: أقحط النَّاس فِي أَيَّام بشر فاستسقوا وَهُوَ معهم فمطروا فَقَالَ سراقة بْن مرداس البارقي بالكوفة:
دعا الرحمن بشر فاستجابا ... لدعوته فأسقانا السحابا
وَكَانَ دعاء بشر صوب غيث ... يعاش بِهِ ويحيي من أصابا
ومر بشر بَعْد استسقائه بسراقة وَقَدْ دَخَلَ الماء داره فَقَالَ: مَا هَذَا يا سراقة؟
قَالَ: قَدْ نرى أيها الأمير هَذَا وَلَمْ ترفع يديك بالدعاء، فلو رفعتهما لجاءنا الطوفان فضحك بشر.
وَقَالَ أعشى بَنِي شيبان:
رأينا مَا خلا أخويه بشرا ... من الفتيان سيد عَبْد شمس
وسيد من سواهم من قريش ... فيصبح خيرهم أبدًا ويمسي
إِذَا خلى أخوك إِلَى أخيه ... خلافته لسعد غَيْر نحس
فأنت الثالث الموصى إِلَيْهِ ... وصية حازم فِي غَيْر لبس
وَلَهُ يَقُول أيمن بْن خريم بْن فاتك الأسدي:
ركبت من المقطم فِي جمادى ... إِلَى بشر بْن مَرْوَان البريدا
فلو أعطاك بشر ألف ألف ... رأى حقا عليه أن يزيدا
__________
[1] ليست في ديوان جرير المطبوع.(6/314)
وقال أعشى بَنِي أَبِي ربيعة بْن ذهل بْن شَيْبَان:
لعمري لَقَدْ أمست معدا وأصبحت ... تحبك يا بشر بْن مَرْوَان كلها
تمنى وترجو أَن تكون خليفة ... وترجوك للدنيا وللدين جلها
فِي أبيات.
وَقَالَ هِشَام بْن مُحَمَّد الكلبي: قام بشر بْن مَرْوَان عَلَى المنبر فقام عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أرطاة بْن شراحيل الجعفي، فَقَالَ لَهُ وَقَدْ تكلم بشيء: اتق اللَّه فانك ميت ومحاسب، فأمر بِهِ فضرب أسواطًا مَاتَ منها.
قَالُوا: وأمر بشر بْن مَرْوَان سراقة البارقي بهجاء جَرِير فهجاه سراقة، ويقال: بَل هجاه مبتدئًا فَقَالَ جَرِير:
يا بِشْرُ حقَّ لوجهك التبشير ... هَلَّا غضبت لَنَا وأنت أمِير
قَدْ كَانَ حقًا أَن تقول لبارقٍ ... يا آل بارق فيم سُبَّ جَرِير
أسراق إنك قد كسبت لبارق ... أمرا مطالعة عليك وعور
لا يدخلون عليك إِن دخولهم ... رجس وإن خروجهم تطهير
تعطى النِّسَاء مهورهن سياقة ... ونساء بارق مَا لهن مهور [1]
فلما سمع قَوْله
قَدْ كَانَ حقًا أَن تقول لبارقٍ ... يا آل بارق فيم سب جَرِير
قَالَ: أخزاه اللَّه أما وجد وكيلًا غيري.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الأعرابي قَالَ: لقي سراقة جريرا فَقَالَ لَهُ جَرِير:
من أَنْتَ؟ قَالَ: بَعْض من أخزاه اللَّه عَلَى يدك، قَالَ: أيهم أَنْتَ؟ قال:
__________
[1] ديوان جرير ص 232- 234.(6/315)
سراقة، قَالَ: البارقي؟ قَالَ: نعم، فَقَالَ: والله لو ظننت بك مَا رَأَيْت منك لعفوت عَنْ زلتك.
قَالَ: وولى بشر شرطته بالكوفة عكرمة بْن ربعي من بني تيم اللَّه بْن ثعلبة.
وَقَالَ هِشَام ابْن الكلبي: بعث بشر بْن مَرْوَان إِلَى موسى بْن طَلْحَة بمال وأمره أَن يقسمه بَيْنَ قراء أهل الكوفة، فأما مرة الهمداني فلم يقبل من المال شَيْئًا وَمَا فِي بيته مَا يساوي عشرة دراهم، ورد أَبُو رزين العقيلي مَا بعث بِهِ إِلَيْهِ، وامتنع منه، وقبل عَمْرو بْن ميمون الأودي مَا بعث بِهِ إِلَيْهِ، وقبل أَبُو جحيفة السوائي واسمه وهب بْن عَبْد اللَّهِ.
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا هَشِيمُ بْنُ حضين قَالَ: أول من أحدث الأذان فِي العيدين بالكوفة بشر بْن مَرْوَان، فلما سمع الناس ذلك أنكروه واستشرفوا له، وجعلوا يرفعون رؤوسهم تعجبًا.
عبيد اللَّه بْن مُعَاذٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ شُعْبَة عَنْ حصين بْن عَبْد الرَّحْمَنِ عَنْ عُمَارَةَ بْن رويبة الثقفي: أَنَّهُ رأى بشر بْن مَرْوَان فِي يَوْم جمعة يرفع يده للدعاء، وَهُوَ عَلَى المنبر، فَقَالَ: انظروا إِلَى هَذَا الفاسق لَقَدْ رأيتُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا يَزِيد عَلَى هَذَا، وأشار بإصبعه السبابة.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: عزل عَبْد الْمَلِك خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ عَنِ البصرة، وضمها إِلَى بشر بْن مَرْوَان، وبعث إِلَيْهِ بعهده عَلَيْهَا، فجمع لَهُ العراق(6/316)
كله، وَقَدْ كَانَ شرب التياذريطوس [1] ، فلم يزل بالبصرة عليلًا، ولما قدم ولى المهلب قتال الأزارقة.
قَالَ: وقدم الأخطل البصرة عَلَيْهِ وَقَدْ حمل ديات عَنْ قومه، فأتى بَنِي سدوس وفيهم سويد بْن منجوف، ورجل من بَنِي أسعد بْن همام فسألهم، فَقَالَ لَهُ الأسعدي: ألست القائل:
إِذَا مَا قُلْت قَدْ صالحت بكرًا ... أبى الأضغان والنسب البعيد
وأيام لنا وَلَهُمْ طوال ... يعض الهام فيهن الحديد [2]
لا لعمر اللَّه لا نرفدك ولا نعينك وإنك منا للهوان لأهل فَقَالَ:
مَتَى آت الأراقم لا يضرني ... نتيت الأسعدي وَمَا يَقُول
فَإِن تمنع سدوس درهميها ... فَإِن الريح طيبة قبول
وإن بَنِي أمية ألبستني ... ظلال كرامة ليست تزول
سيحملها أَبُو مَرْوَان بشر ... فذاك لكل مثقلة حمول
ويكفيني الَّتِي استكفيت منها ... بفعل لا يمن ولا يحول [3]
فَقَالَ لَهُ بشر: يا أبا مَالِك وكم حمالتك؟ قَالَ: خمسون ألفا، فأمر لَهُ بِهَا، وَقَالَ أنا أحق برفدك من بَنِي سدوس وَبَنِي أسعد.
ولبشر يَقُول أعشى بَنِي أَبِي ربيعة
يا سيد النَّاس من عجم ومن عرب ... وأفضل النَّاس في دين وفي حسب
__________
[1] أصيب بشر بالاستسقاء، ولعل هذا اسم الدواء الذي تناوله. انظر الفتوح لابن الأعثم- ط. بيروت 1992 ج 2 ص 442.
[2] ديوان الأخطل ص 95.
[3] ديوان الأخطل ص 293- 295.(6/317)
قَالُوا: وَكَانَ بشر صاحب شراب، فدخل البصرة بَيْنَ الحكم بْن المنذر بْن الجارود ورجل آخر كَانَ مدمنا للشراب، فعلم النَّاس أَنَّهُ لا يدع الشراب فلم يزالا نديميه حَتَّى مَاتَ.
وَكَانَ بشر يَقُول الشعر فلما اشتدت علته قَالَ لعبد الْمَلِك:
إِذَا مت يا خير البرية لَمْ تجد ... أَخَا لَك يغني عَنْك مثل غنائيا
يواسيك فِي الضراء واليسر جهده ... إِذَا لَمْ تجد عِنْدَ الحفاظ مواسيا
شريجان لوني من سواد وحمرة ... تبدلته من واضح كَانَ صافيا
وكم من رَسُول قَدْ أتاني بعثته ... إلي ورسل يكتمونك مَا بيا
وَحَدَّثَنِي الأثرم عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: كَانَ بشر إِذَا سكر يَقُول خضبوا يدي، وَيَقُول ائتوني برأس عُبَيْد اللَّهِ بْن أَبِي بكرة، فلما بلغت أبيات بشر هذه ابْن أَبِي بكرة قَالَ: مَالِك بْن الريب كَانَ أشعر منه حِينَ يَقُول:
لعمري لئن غالت خراسان هامتي ... لَقَدْ كنت عَنْ بابي خراسان نائيا
وَلَمْ يكترث لموته بَل كَانَ هينا عَلَيْهِ، ويقال: إِن عَبْد الْمَلِك قَالَ ذَلِكَ حَدَّثَنَا روح بْن عَبْد المؤمن حَدَّثَنَا أَبُو عوانة عَنْ مغيرة عَنْ إِبْرَاهِيم عَنْ شريح: أَنَّهُ حبس رجلا فِي السجن، فأرسل إِلَيْهِ بشر أَن أَخْرَجَهُ فَقَالَ:
السجن سجنك والبواب عاملك، وَأَمَّا أنا فإني رَأَيْت فِي الحق أَن أحبسه.
وَحَدَّثَنَا عَنْ سَعِيدٍ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ خَيْثَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ:
شَهِدْتُ بِشْرَ بْنَ مَرْوَانَ وَأَتَاهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي خُلْعٍ فَأَبَى أَنْ يُجِيزَهُ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ شِهَابٍ: شَهِدْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَأَتَاهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فِي خُلْعٍ فَأَجَازَهُ، وَقَالَ: إِنَّمَا طَلَّقَكِ بِمَالِكِ.(6/318)
الْمَدَائِنِي، قَالَ: بينا بشر، وخالد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد، وخالد بْن عتاب بْن ورقاء، وعكرمة بْن ربعي فِي شربهم. أمرت امْرَأَة بشر وصيفة لَهَا أَن تخبرهم أَن الشراب قَدْ نفد، فجعل بشر يَقُول:
اسقي ابْن ربعي قعيبا واحدا ... وخالدًا من بعده وخالدا
أما ترين الليل ليلا باردا ... ولا تقولنّ لشيء نافدا
حَدَّثَنَا العمري عَن الْهَيْثَم بْن عدي، عَن مجالد، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
كانت إلي مظالم بشر بْن مَرْوَان، فأتيته يوما لأمر فَإِذَا أعين مولاه جالس، وَكَانَ حاجبه وصاحب حرسه فَقُلْتُ: أبا عُمَر استأذن لي عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِن الأمير لا يؤتى بالعشي، فَقُلْتُ: أَنَّهُ امر لا بدّ من ذكره لَهُ. فأعلمه مكاني فِي رقعة رفعها إِلَيْهِ، فأذن لي فدخلت فَإِذَا هُوَ جالس عَلَى فرش صفر وعن يمينه وشماله وخلفه مرافق، وعلى رأسه إكليل ريحان، وعنده عِكْرِمَة بْن ربعي، وخالد بْن عتاب بْن ورقاء فَقَالَ: يا شعبي لو غيرك من النَّاس مَا أذنت لَهُ، فَقُلْتُ: إِن عندي لَك خلالًا ثلاثا: الستر لما يجب أَن يستر، والشكر لما تولي، والدخول معك فيما يحل ويجمل، ثُمَّ التفت فَإِذَا حنين بْن بلوع العبادي [1] المغني جالس عَلَى كرسي، وعليه قباء حشك شوي [2] وَقَدْ لاث رأسه بمنديل مصري فتغنى، فَقُلْتُ: يا حنين أرخ من البم [3] ، واشدد من الزير [4] ، فَقَالَ بشر: وَمَا يدريك مَا هَذَا؟ قُلْت: ظننت أَن الأمر هناك
__________
[1] ترجم له صاحب الأغاني في ج 2 ص 341- 358.
[2] أي قباء ضيق من جلود الغنم.
[3] البم: من أوتار العود، وهو الوتر الذي يلي المثلث ويدعى الأبح لغلظ صوته. معجم الموسيقى العربية لحسين محفوظ- ط. بغداد 1964.
[4] الزير: من أوتار العود، وهو الدقيق من الأوتار. معجم الموسيقى العربية.(6/319)
ووجدته فِي نفسي، قَالَ: فَهُوَ والله هناك، ثُمَّ قَالَ: من يلومني عَلَى الشَّعْبِيِّ، قم يا نَافِع فأعطه عشرة آلاف درهم وثلاثين ثوبًا، قَالَ الشَّعْبِيُّ:
فلا أظن أحدًا انصرف إِلَى أهله بمثل مَا انصرفت بِهِ أعطيت مَا أعطيت، وَلَمْ أدخل معهم فِي شَيْء مِمَّا هُمْ فِيهِ.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنِ ابْن كناسة قَالَ: لما قدم بشر بْن مَرْوَان الكوفة قَالَ لأبي بردة بْن أَبِي موسى: إني أكره أَن أبيت ليلة عزبا فهل من امْرَأَة أتزوجها؟ قَالَ: نعم هند بنت أسماء بْن خارجة، قَالَ: فاخطبها عَلِي، قَالَ: فَقَالَ لأبيها: إني أتيتك خاطبًا لهند، قال: على نفسك، فإنّك كفء كريم؟ قَالَ: لا بَل عَلَى من هُوَ خير لَهَا مني، الأمير بشر بْن مَرْوَان، فقالت هند: زوّجه فأرسل إلى رجلين فأشدهما أَنَّهُ قَدْ زوجها بشرا، قَالَ:
ودخل بِهَا فأقام عندها ثلاثا وأرسل إِلَيْهَا بمائة ألف درهم منها خمسون ألفا صداقها وخمسون ألفا صلة، ثُمَّ قعد عَنْهَا أيامًا فَقَالَتْ: مَا لَهُ؟ قَالُوا: إنه يصيب الشراب، وأنت لا تشربين، فأرسلت إِلَى مولى لَهَا بالسليحون [1] فحمل إِلَيْهَا شرابًا جيدًا، وأمرت فعمل لَهُ سمك وجعل فِي محسي، ثُمَّ أرسلت إِلَيْهِ ليكن غداؤك عندي فأتاها فتغدى فاستطاب غداءه ثُمَّ قَالَ: لِهَذَا مَا يصلحه، فدعت بالشراب فوجده أجود من شرابه، فَقَالَ بقيت واحدة، فَقَالَتْ: مَا هِيَ؟ قَالَ: من يحادثنا، فأرسلت إِلَى أخويها: مَالِك بْن أسماء، وعيينة فنادماه، فحظيت عنده وولدت لَهُ عَبْد الْمَلِك بْن بشر.
__________
[1] بلدة قرب الحيرة. معجم البلدان.(6/320)
قَالُوا: وكانت لحجار بْن أبجر الْعِجْلِيِّ منزلة من بشر، فبينا هُوَ جالس عَلَى سريره إذ دَخَلَ المتوكل الليثي عَلَيْهِ فأنشده أبياتًا فِيهَا:
تجرم لي بشر غداة أتيته ... فَقُلْتُ لَهُ يا بشر ماذا التجرم
فَقَالَ بشر: ويلك لو صرت إِلَى ذَلِكَ لضربت عنقك، فقال: أصلح الله الأمير هَذَا كَلام تسقط منه الحبالى، فَقَالَ حجار: أو حبلى أنت يا متوكّل، فقال: مَا إياك أخاطب، ولا عليك أدل، فَقَالَ حجار: والله لو سألتني بمثل هَذَا الشعر درهما مَا أعطيتك إياه، ولا رأيتك لَهُ أهلًا، فَقَالَ: صدقت والله لو أتاك عيسى بْن مريم فطلب مثل ذَلِكَ لمنعته إياه، فلما خرج حجار قَالَ لَهُ بشر: ويلك يا متوكل كَيْفَ جئت بعيسى بْن مريم من بَيْنَ الأنبياء؟ قَالَ: لأن أباه كَانَ نصرانيا، وَهُوَ يرق للنصرانية، فضحك بشر وَقَالَ: أتراه فطن لما أردت؟ قَالَ: نعم والله وَمَا أقامه إلا ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةَ الأَثْرَمُ عَنْ أَبِي عُبَيْدَة مَعْمَر بْن المثنى قَالَ: قَالَ بشر بْن مَرْوَان لسراقة: أجرير أشعر أم الفرزدق؟ قَالَ: الفرزدق، قَالَ: فقل فِي ذَلِكَ أبياتًا فَقَالَ:
أَبلغْ تميمًا غثها وسمينها ... والحكم يَقْصُدُ مَرَّةً ويجور
أَن الفرزدق برزت آباؤه ... عفوًا وغُودر فِي الغبار جَرِير
مَا كنتَ أول مقرف عثرت بِهِ ... أعراقه إِن اللئيم عثور
ذهب الفرزدق بالفضائل والعلى ... وابن المراغة مفحم محسور
فكتبها بشر، وبعث بِهَا إِلَى جَرِير مَعَ رَسُول، وَقَالَ: لا تبرح حَتَّى ينقضها فذلك حِينَ يَقُول جرير:(6/321)
يا بِشْرُ حقَّ لوجهك التبشير ... هَلَّا غضبت لَنَا وأنت أمِير
قَدْ كَانَ حقًا أَن تقول لبارقٍ ... يا آل بارق فيم سُبَّ جَرِير
أسراق إنك قَدْ كسبت لبارق ... أمرًا مَطَالِعُهُ عليك وعور
تعطى النِّسَاء مهورهنَّ سياقة ... ونساء بارق مَا لهن مهور
لا يدخلن عليك إن دخولهم ... رجس وإن خروجهم تطهير
إِن الكريمة تنصر الكرم ابنها ... وابن اللئيمة للئام نصور
فلما قرئت القصيدة عَلَى بشر قَالَ: أما وجد ابْن المراغة رسولًا غيري وَقَالَ جَرِير:
يا رُبَّ قائلة تقول وقائلٍ ... أسراقُ إنك قَدْ غويت سراقا
إِن الَّذِينَ عووا عواءك قَدْ لقوا ... مني صواعق تقطع الأعناقا
ولقد هممت بأن أدمر بارقا ... فحفظت فيهم عمنا إسحاقا [1]
قَالُوا: وجعل جَرِير يوما ينشد، وسراقة يَقُول: أحسنت والله، فَقَالَ لَهُ: يا فتى من أَنْتَ؟ قَالَ بَعْض من أخزى اللَّه عَلَى يدك، قَالَ: وأيهم أَنْتَ؟ قَالَ: سراقة البارقي، قَالَ: لو علمت أنك عَلَى مَا شاهدت لعفوت عَنْك.
وَقَالَ ابْن قَيْس الرقيات فِي بشر بْن مَرْوَان:
يا بشر يا بن الجعفرية مَا ... خلق الإله يديك للبخل
جاءت بِهِ عجز مقابلة ... مَا هن من جرم ولا عكل
فَقَالَ لَهُ بشر: احتكم، قَالَ: أعطني عشرين ألف درهم، قَالَ:
قبحك اللَّه لَك عشرون وعشرون، وعشرون وعشرون، فأعطاه مائة ألف
__________
[1] ديوان جرير ص 313- 314 مع فوارق وتقدم هذا في ص 2583.(6/322)
درهم، وَقَدْ قَالَ قوم: إِن هَذَا الشعر لابن الزُّبَيْر الأسدي، وقيل: لأعشى بَنِي أَبِي ربيعة، وفيها
أَنْتَ ابْن الاشياخ الَّذِينَ لَهُمْ ... فِي بطن مَكَّة عزة الأصل [1]
وَقَالَ ابْن الزبير:
كأنّ بني أمية حول بشر ... نجوم وسطها قمر منير
هُوَ الفرع المقدم فِي قريش ... إِذَا أخذت مآخذها الأمور
فأمر له بخمسة آلاف درهم.
وَكَانَ بشر يغري بَيْنَ الشعراء، قَالُوا: أنشد أعشى بَنِي أَبِي ربيعة بشرا:
أمست أمية بَعْد اثنين قَدْ علموا ... لو يوزنون ببشر كلهم غلبوا
فَقَالَ مَا صنعت شَيْئًا فَقَالَ:
وجدنا مَا خلا أخويه بشرا ... من الأحياء سادة عَبْد شمس
وجدتك أمس خير بَنِي معد ... وأنت اليوم خير منك أمس
وأنت غدا تزيد الخير ضعفا ... كذاك تزيد سادة عَبْد شمس
فَقَالَ مَا صنعت شَيْئًا فَقَالَ:
مكثت زمانا ثالثا ثُمَّ لَمْ يزل ... بك الجري حَتَّى كنت أَنْتَ المصليا [2]
قَالَ: نعم، قَالَ: إِن شئت جعلتك سابقا؟ قَالَ: أما هَذَا فلا، وأعطاه عشرة آلاف درهم وكساه.
__________
[1] ديوان ابن قيس الرقيات- ط. دار صادر بيروت ص 191
[2] المصلي: الثاني بحلبة السباق.(6/323)
حَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة قَالَ: أعوز بشر بْن غالب حَتَّى لزم بيته فأتت امرأته عِكْرِمَة بْن ربعي فَقَالَتْ: هل أَنْتَ مسلفي خمسمائة درهم، فدفعها إِلَيْهَا وبعث رسولا ليعلم اين صارت، فلما عرف الَّذِي لَهُ استسلفت الخمس المائة الدرهم أخذ ألف دِينَار وقرع عَلَى بشر بْن غالب الأسدي بابه ليلا وَقَالَ: هذه ألف دِينَار فاقبضها، وَقَالَ إِن تيسر رددت وإن تعذر فَهُوَ لَك، قَالَ ومن أَنْتَ؟ قَالَ: إِذَا قبضت المال أخبرتك فلما قبضه قَالَ: أنا عِكْرِمَة بْن ربعي جَابِر عثرات الكرام، فدخل بشر بيته مهموما فَقَالَتْ لَهُ امرأته: مَالِك؟ فأخبرها خبر عِكْرِمَة وَمَا صنع وَقَالَ: لا أزال متضائلا حَتَّى أرد ماله أَوْ أكافيه، قَالَتْ: فمنه والله أخذت الخمس المائة، فلما قدم بشر بْن مَرْوَان الكوفة أرسل إِلَى بشر بْن غالب الأسدي يسأله أَن يلي شرطته، وَكَانَ إِذَا ولى رجلا شرطته أمر لَهُ بمائة ألف درهم، فَقَالَ: لست أضبط أمر الشرطة ولا أقوم بِهِ ولكني أشير عليك برجل؟ قَالَ: ومن هُوَ؟
قَالَ: عِكْرِمَة بْن ربعي فولاه شرطته وأمر لَهُ بمائة ألف درهم.
قَالَ الْمَدَائِنِي: كَانَ أيمن بْن خريم بْن فاتك عِنْدَ عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان بمصر، فدخل عَلَيْهِ نصيب فأنشده مديحًا امتدحه بِهِ فَقَالَ لأيمن: نصيب أشعر منك، قَالَ: لا والله ولكنك ظرف ملول، فَقَالَ: أتقول إنني ملول وأنا أؤاكلك مذ كَذَا وكذا، وَكَانَ بأيمن بياض فِي يده فغضب، ولحق ببشر بْن مَرْوَان وَقَالَ:
ركبت من المقطم فِي جمادى ... إِلَى بشر بْن مَرْوَان البريدا
فلو أعطاك بشر ألف ألف ... رأى حقا عَلَيْهِ أَن يزيدا
فأمر لَهُ بمائة ألف درهم.(6/324)
قَالَ: ومر بِهِ نصيب بالكوفة فَقَالَ لَهُ: إني تركت غديرًا ناضبًا وأتيت بحرا زاخرًا.
وَكَانَ بشر لا يؤاكل أيمن واشتهى يوما لبنا وَقَالَ للحاجب اخرج فانظر لي من يأكل معي، فخرج فأدخل أيمن بْن خريم فلما رآه بشر ساءه، فَقَالَ:
إني اشتهيت البارحة لبنا فهيئ لي، وأصبحت أنوي الصوم فأتيت باللبن فلما وضع بَيْنَ يدي ذكرت أني صائم وليس أحد بأحق بأكله منك، فدونكه فلم يلبث أَن صفره وَكَانَ يغير بياض يده بالزعفران.
حَدَّثَنِي الْحَسَن الوراق عَنْ هِشَام ابن الكلبي قَالَ: كَانُوا يقولون إِن دِيَة الضرطة أربعون درهمًا وقطيفة، فأتى بشر بْن مَرْوَان بتراس فأمر جلساءه بغمزها، فغمز رجل من بَنِي هلال ترسا منها فضرط، فضحكوا منه فغضب بشر وَقَالَ: وكم دِيَة الضرطة؟ قَالُوا: أربعون درهما وقطيفة، فأمر للهلالي بأربعين ألفا وأربعين قطيفة خز، فَقَالَ الشاعر:
أيضرط ضارط من غمز ترس ... فيعطيه الأمير لَهَا بدورا
فيا لَك ضِرطةً عادت بخير ... ويا لَك ضرطة أغنت فقيرا
فود الْقَوْم أَن ضرطوا جميعا ... فنالوا من عطيته عشيرا
أيقبل ضارطا ألفًا بألف ... ليرخص أصلح اللَّه الأميرا
فلما أنشد الشعر قَالَ: لا حاجة لنا فِي ضراطه، وأمر له بأربعة آلاف درهم وهذا الثبت، وقوم يزعمون: أنّ الضارط كَانَ عِنْدَ خَالِد القسري.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: دَخَلَ الأخطل عَلَى بشر وعنده الراعي عبيد بْن حصين فَقَالَ بشر: أأنت أشعر أم هَذَا؟ قَالَ: أنا أشعر منه وأكرم، فَقَالَ للراعي: مَا تقول؟ قَالَ: أما شعره فلا أدري، وَأَمَّا قَوْله أكرم فَإِن كَانَ فِي(6/325)
أمهاته من ولدت مثل الأمير فَقَدْ صدق، فلما خرج الأخطل من عِنْدَ بشر قَالَ لَهُ رجل: ويلك أتقول لخال الأمير أنا اكرم منه؟ قال: إنّ أبانسطوس الخمار وضع فِي جمجمتي، أكؤسًا لا والله مَا أعقل معها مَا أقول، وللأخطل فِي بشر شعر.
وَقَالَ الكلبي: كَانَ مِمَّن ينادم بشرًا بالبصرة الهذيل بْن عمران بْن الفضيل التميمي ثُمَّ الحنظلي.
قَالَ: وَلَمْ يزل بشر عَلَى الكوفة حَتَّى ضمت إِلَيْهِ البصرة سنة أربع وسبعين، فانحدر إِلَى البصرة واستخلف عَلَى الكوفة عَمْرو بْن حريث المخزومي، فكان عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَ بشر بالبصرة، وولى الْحَجَّاج العراق.
وَقَالَ مَالِك بْن دِينَار: لما مَاتَ بشر ودفن مَاتَ أسود فدفن إِلَى جانبه فتبعنا جنازته ودفن عِنْدَ قبر بشر بْن مَرْوَان، فلما أتت عَلَيْهِ أَيَّام مررت فلم أعرف قبر هَذَا من قبر هَذَا، فذكرت قَوْل الشاعر:
وسواء قبر مثر ومقل
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: كَانَ مقام بشر بالبصرة شهرين، ويقال: أربعة أشهر، وَكَانَ شرب التياذريطوس فأمرضه حَتَّى هلك، وَكَانَ أول أمِير بالبصرة مَاتَ بِهَا، ودفن بشر إِلَى جانب قبر سلم بْن زِيَاد ومشى الفرزدق فِي جنازته ومعه فرس كَانَ حمله عليه، وهو يقوده حتى إِذَا فرغ من دفنه عقر الفرس عَلَى القبر وأنشأ يَقُول:
أقول لمحبوك السراة معاود ... سباق الجياد قَدْ أمر عَلَى شزر
ألست شحيحا إِن ركبتك بعده ... ليوم رهان أَوْ غدوت معي تجري
حلفت لَهُ لا أركب الدهر بعده ... صحيح النسا حَتَّى يكوس عَلَى القبر(6/326)
وَقَالَ الفرزدق يرثيه:
أعيني إلا تسعداني ألمكما ... فَمَا بَعْد بشر من عزاء ولا صبر
فلو أَن قوما دافعوا الْمَوْت بعده ... بشيء لدافعت المنية عَنْ بشر
ولكن فجعنا والرزيئة مثله ... بأبيض ميمون النقيبة والأمر
فإلا تكن هند بكته فَقَدْ بكت ... عَلَيْهِ الثريا فِي كواكبها الزهر
أغر أَبُو العاصي أبوه كأنما ... تفرّجت الأبواب عن قمر بدر
على ملك كاد النجوم لفقده ... تدهدى وتلك الراسيات من الصخر
سيأتي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ مصابه ... وعبد الْعَزِيز للإمارة فِي مصر
بأن أبا مَرْوَان بشرا أخاهما ... ثوى غَيْر متبوع بعجز ولا غدر
[1] فِي قصيدة.
ولما احتضر بشر استخلف خَالِد بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد بْن أَبِي العيص عَلَى البصرة فكان عَلَيْهَا بَعْد وفاة بشر حَتَّى ولي الْحَجَّاج العراق، فولى الحكم بْن أيوب، ويقال: وجه ابْن أَبِي بكرة، حَتَّى قبض العمل من خَالِد ثُمَّ ولى الحكم بعده.
وَقَالَ أَبُو اليقظان: قدم بشر البصرة فأقام بِهَا ستة أشهر ويقال أربعة أشهر، فشرب التياذريطوس فاشتد وجعه، ويقال: شربه بالكوفة ثُمَّ شخص إِلَى البصرة فأمرضه السعب [2] فمات بالبصرة بعد أشهر.
__________
[1] ديوان الفرزدق: ج 1 ص 217- 218.
[2] يقال سال فمه سعابيب: امتد لعابه كالخيوط، والسعب كل ما تسعب من شراب وغيره.
القاموس.(6/327)
قَالَ: ولما قدم بشر جعل يسأل عَنِ الأشعار والشعراء وَكَانَ جوادًا.
وَقَالَ ابْن الكلبي وغيره: كتب ابْن الزُّبَيْر بَعْد مقتل مُصْعَب بْن الزُّبَيْر إِلَى أهل العراق يدعوهم إِلَى طاعته مَعَ رجل من الأنصار، فنزل الرجل عَلَى نعيم بْن القعقاع بْن معبد بْن زرارة بْن عُدُس بْن زَيْد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن دارم، وَكَانَ نعيم يذم بشرا وينسبه إِلَى الفسق والأفن، ويقرظ ابْن الزُّبَيْر، ويدعو إِلَى طاعته سرا، ويقال: إنه كَانَ مَعَ الأَنْصَارِي كتاب إِلَى نعيم، فعلم حوشب بْن يَزِيدَ بْن الحارث بْن يَزِيدَ بْن رويم الشيباني بخبر الأَنْصَارِي ونعيم، فسعى بنعيم إِلَى بشر فقتل الأَنْصَارِي وقتل نعيمًا، وَقَالَ بَعْضهم:
سعى بنعيم يَزِيد بْن الْحَارِث، وَذَلِكَ وَهُمْ لأن يَزِيد قتل بالري حِينَ لقيته الخوارج، وَقَالَ بَعْضهم: إِن الأَنْصَارِي لما قتل جعل نعيم يذكر ابْن الزُّبَيْر بخير ويذكر بشرا بشر، فسعى بِهِ يَزِيد فدعا بِهِ بشر فقتله صبرًا، وأنه لَمْ ينزل عَلَى نعيم ولا كَانَ مَعَهُ كتاب، والله أعلم.
قَالُوا: وَكَانَ بشر بْن مَرْوَان يطعم خاصته وحرسه، ولا يطعم العامة، وَكَذَلِكَ كَانَ مُصْعَب بْن الزُّبَيْر قبله.
فولد بشر بْن مَرْوَان:
الحكم. وأمه أم كلثوم بنت أَبِي سَلَمَةَ بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ، وعبد الْعَزِيز بْن بشر بْن مَرْوَان، وأمه ابنة خَالِد بْن عقبة بْن أَبِي معيط، وعبد الْمَلِك بْن بشر، أمه هند بنت أسماء بْن خارجة الفزاري، وَكَانَ عَبْد الْمَلِك سخيًا مطعامًا للطعام.(6/328)
فحدثني عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ بالكوفة فتيان يطعمون الطعام مِنْهُم: عَبْد الْمَلِك بْن بشر بْن مَرْوَان، وَكَانَ أكثرهم طعامًا وأسخاهم بِهِ، وعبد اللَّه بْن عُمَارَةَ بْن عقبة بْن أَبِي معيط، وخالد بْن الْوَليِد بْن عُقْبَةَ بْن أَبِي معيط، وعمران بْن موسى بْن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ، فقدم الْمُغِيرَة الأعور بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بن هشام بن المغيرة المخزومي الكوفة فغمرهم، وَكَانَ يتخذ فيما يقال حيسة يأكل منها الراكب، وتجعل عَلَى الأنطاع، وَكَانَ ينفق فِي كُل يَوْم عَلَى مائدته دنانير كثيرة، فَقَالَ الأقيشر:
أتاك البحر طم عَلَى قُرَيْش ... مغيري فَقَدْ راغ ابْن بشر
وراغ الجدي جدي التيم لما ... رأى المعروف منه غَيْر نزر
ومن أولاد عقبة قَدْ شفاني ... ورهط الحاطبي ورهط صخر [1]
وَكَانَ مسلمة بْن عَبْد الْمَلِك ولى عَبْد الْمَلِك بْن بشر البصرة، ثُمَّ عزله فَقَالَ الفرزدق
عزل ابْن بشر وابن عَمْرو عَنْهُم ... وَأَخُو هراة لمثلها يتوقّع [2]
ورأى عبد الملك بن بشر ابن عبدل الشاعر فَقَالَ لَهُ: مَا أغضبك عَلِي؟ قَالَ: جفاؤك لي، وَقَدْ رَأَيْت رؤيا قَالَ: وَمَا هِيَ؟ قَالَ فأنشده:
مَا بال عينك لا يجف سجامها ... أقذى بِهَا أم عادها تهمامها
حتى بلغ قوله:
__________
[1] ليست في ديوان الأقيشر المطبوع.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 408 مع فوارق.(6/329)
أغفيت عِنْدَ الصبح نوم مسهد ... فِي ساعة مَا كنت قبل أنامها
فرأيت أنك جدت لي بوصيفة ... مغنوجة حسن عَلِي قيامها
وببدرة حملت إلي وبغلة ... شقراء ناجية يصل لجامها
فدعوت ربي أَن يثيبك جنة ... عني ينالك بردها وسلامها
فبعث إِلَيْهِ بِذَلِكَ كله، وزاده وَقَالَ: هَذَا كَانَ فِي رؤياك فنسيت أَن تذكره، ويقال: إنه قَالَ: كُل هَذَا عندي إلا البغلة فَمَا عندي شقراء، ولكن دهماء فَقَالَ الطلاق لازم لَهُ إِن كَانَ رآها إلا دهماء ولكن غلط.
وولد عَبْد الْمَلِك بْن بشر أبان والحكم كانا مَعَ ابْن هبيرة وقتلا مَعَهُ بواسط يَوْم قتل.
وَقَالَ خلف بْن خليفة الأقطع من بَنِي قَيْس بْن ثعلبة بْن عكابة، وذكر فِي شعره من كَانَ يدخل عَلَى ابْن هبيرة.
وقامت قريش قريش البطاح ... هِيَ العصب الأَوَّل الداخلة
يقودهم الفيل والزندبيل ... وذو الضرس والشفة المائلة
الفيل والزندبيل أبان والحكم ابنا عَبْد الْمَلِك بْن بشر، وذو الضرس خَالِد بْن سلمة المخزومي، وَهُوَ ذو الشفة المائلة أيضًا.
قَالُوا: وتزوج عَبْد الْمَلِك بْن بشر أم سَعِيد بنت سَعِيد بْن خَالِد بْن عقبة بْن أَبِي معيط، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن الْوَلِيد بْن عقبة:
أسعدة هل إليك لنا سبيل ... وهل حَتَّى الْقِيَامَة من تلاق
بلى ولعل ذَلِكَ أَن يوافى ... بموت من حليلك أَوْ طلاق
فطلقها فلست لَهَا بكفء ... ولو أعطيت هندا فِي الصداق(6/330)
قَالُوا: ولى مسلمة بْن عَبْد الْمَلِك البصرة عَبْد الْمَلِك بْن بشر، فولى شرطته شريك بْن مُعَاوِيَة الباهلي، وولى الْقَضَاء موسى بْن أَنَس بْن مَالِك، وأقام مسلمة بالعراق ثمانية أشهر، ويقال ستة أشهر، فلما ولي عُمَر بْن هبيرة وعزله عَبْد الْمَلِك قَالَ:
جئت بشرا زائرا ... فوجدته والله سحا
فِي أبيات.
وَقَالَ ابْن عبدل الأسدي:
إني امرؤ نزه يعصى الهوى كرمي ... فمربضي مربض الوحشي ذي الزمع
وَقَدْ تركت ابْن بشر أَن ألم بِهِ ... وَمَا تركت أبا مَرْوَان من شبع
فِي أبيات.
وَقَالَ ذو الرمة:
إِذَا مَا عددنا يا بن بشر ثقاتنا ... عددتك فِي نفسي بأولى الأَصَابِع [1]
__________
[1] ديوان ذي الرمة- ط. بيروت 1993 ص 818.(6/331)
وَأَمَّا عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان
ويكني أبا الأصبغ، فَإِنَّهُ كَانَ جوادًا كريمًا، ولي العهد بَعْد عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان فمات قبله بمصر، وَكَانَ عَبْد الْمَلِك أراد خلعه وتولية الْوَلِيد ابنه فمات قبل ذَلِكَ، وفيه يَقُول كثير:
شهدت ابْن ليلى فِي مواطن جمة ... يَزِيد بِهَا ذا الحلم حلما حضورها
فلا هجرات القول تؤثر عنده ... ولا كلمات النصح مقصى مشيرها [1]
وَقَالَ كثير:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا سبقت منه الإلية برت [2]
وَقَالَ أيمن بْن خريم بْن فاتك فِي عَبْد الْعَزِيز حِينَ ولاه أخوه مصر:
فبشر أهل مصر فَقَدْ أتاهم ... مَعَ النيل الَّذِي فِي مصر نيل
فتى لا يرزأ الخلان إلا ... مودتهم ويرزؤه الخليل
__________
[1] ديوان كثير- ط. بيروت ص 108 مع فوارق.
[2] ديوان كثير ص 59. والألايا جمع ألوه وهي اليمين وما يقسم به.(6/333)
وَقَالَ أيضًا:
أما يستحي النَّاس أَن يعدلوا ... بعبد الْعَزِيز ابْن ليلي أميرا
وَقَدْ جرب النَّاس عَبْد الْعَزِيز ... صغيرًا وَقَدْ جربوه كبيرا
ترى قدره معلما بالفناء ... تلقم بَعْد جزور جزورًا
وَقَالَ رجل من كلب:
إِلَى عَبْد الْعَزِيز فتى قريش ... رحلنا العيس عشرًا بَعْد عشر
وَقَالَ رجل من خثعم زار عَبْد الْعَزِيز فجفاه:
أرى عَبْد الْعَزِيز يصد عني ... بأنف مثل فيشلة الحمار
فَمَا عَبْد الْعَزِيز لنا برب ... وَمَا دار الهوان لنا بدار
وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بْن قَيْس الرقيات:
أعني ابن ليلى عبد العزيز ببا ... ب اليون [1] تأتي جفانه رذما
الواهب البخت والوصائف ... كالغزلان والْخَيْل تألك اللجما [2]
فوهب لَهُ من كُل مَا ذكره وأعطاه مالا.
وَقَالَ كثير يرثيه:
أبعد ابْن ليلى يأمل الخلد واحد ... من الناس أو يرجو الثراء مثمر [3]
__________
[1] باب اليون حيث أقيمت الفسطاط.
[2] ديوان ابن قيس الرقيات ص 152- 155 مع فوارق.
[3] ديوان كثير ص 100.(6/334)
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي جهم بْن حذيفة العدوي:
أبعدك يا عَبْد الْعَزِيز لحاجة ... وبعد أَبِي الزبان يستعتب الدهر
فلا صلحت مصر لحي سواكما ... ولا سقيت بالنيل بعدكما مصر
ولا زال مجرى النيل بعدك يابسا ... يموت بِهِ العصفور واستبطئ القطر
أَبُو الزبان الأصبغ بْن عَبْد الْعَزِيز، مَاتَ قبل أَبِيهِ بخمس عشرة ليلة.
وَقَالَ الْمَدَائِنِي وغيره: كَانَ عَمْرو بْن سَعِيد الأشدق، ويقال:
مُصْعَب بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف حد عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان فِي الشراب فَقَالَ الشاعر:
وددت وَبَيْت اللَّه أني فديته ... وعبد الْعَزِيز حِينَ يجلد فِي الخمر
قَالُوا: فوجد عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز إِسْحَاق بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر فِي بَيْت خليدة العرجاء فجلده عُمَر الحد، فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق: يا عُمَر عَلَى ودك النَّاس كلهم مجلودون يعرض بأبيه عَبْد الْعَزِيز.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: خطب عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان أم عَاصِم بْنت عَاصِم بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب فزوجها، وحملت إِلَيْهِ وَهُوَ بمصر واليها فتوفيت عنده، فتزوج حفصة بنت عَاصِم وَكَانَ زوجها قبله إِبْرَاهِيم بْن نعيم النحام العدوي، فقتل عَنْهَا بالحرة وحملت إِلَيْهِ إِلَى مصر أيضًا وكانت أم عَاصِم حِينَ مرت بأيلة أهدى لَهَا معتوه كَانَ هناك، يقال لَهُ شرشير هدية فأثابته وأحسنت إِلَيْهِ، فلما مرت بِهِ حفصة أهدى لَهَا كَمَا أهدى لأم عَاصِم أختها فدنت فيما وهبت لَهُ، أَوْ أغفلته فَقَالَ: هيهات ليست حفصة من رجال أم عَاصِم.(6/335)
وولد عَبْد الْعَزِيز
عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز
ولي الخلافة وسنذكر خبره إِن شاء اللَّه، وأبا بَكْر بْن عَبْد الْعَزِيز، وعَاصِما، أمهما أم عَاصِم بنت عَاصِم بْن عُمَر الْخَطَّاب، وأمها عُمَارَةُ ثقفية، والأصبغ لأم ولد، وسهلًا، وسهيلًا، وأم الحكم، أمهم أم عَبْد اللَّهِ بنت عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن العاص، وزبان، وأم البنين كانت عِنْدَ الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك، أمهما ليلى بنت سهيل جعفرية.
وَكَانَ أَبُو بَكْر من خيار الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز عَلَى توليته عهده وَكَانَ معجبا بِهِ.
وَأَمَّا عَاصِم بْن عَبْد الْعَزِيز
فكان مخنثًا.
وَأَمَّا سهيل فولد عَمْرو بْن سهيل، وَكَانَ يلقب كيلجة لقصره، وَكَانَ عَمْرو من رجال قريش ولاه عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز البصرة، فعزل المسور عَنْ شرطته وولاها رجلا من بَنِي سدوس، وَكَانَ المسور يتولى الشرطة لمن قبله فجانبه المسور ودب فِي بَنِي تميم فكان فِي فتنة حَتَّى عزل ابْن سهيل، وسنذكر خبره فِي موضعه إِن شاء اللَّه.
وَكَانَ الأصبغ بْن عَبْد الْعَزِيز، وَهُوَ أَبُو الزبان، عالما، وَكَانَ لَهُ قدر فِي بَنِي أمية يتعاطى الزجر والنجوم، هلك بمصر قبل أَبِيهِ بخمس عشرة ليلة. ومن ولده دحية بْن مُصْعَب بْن الأصبغ، خرج عَلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ موسى الهادي بْن الْمَهْدِي، فقتله الفضل بْن صَالِح بْن عَلِي بمصر بَعْد قتال، وبعث برأسه إِلَى الهادي، ويقال: بَل حاربه وقتله عَلِي بْن سُلَيْمَان بْن عَلِي.(6/336)
وَأَمَّا مُحَمَّد بْن مَرْوَان
ويكنى- فيما أَخْبَرَنِي بِهِ هِشَام بْن عمار- أبا عَبْد الرَّحْمَنِ، وأمه أم ولد، وَكَانَ من أشد ولد مَرْوَان وأشجعهم فِي حسن خلق، وَكَانَ عَبْد الْمَلِك يحسده عَلَى شجاعته، ويحب أَن يضع منه، وَكَانَ وجهه لمحاربة مُصْعَب فقتله وقتل إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، فازداد عَبْد الْمَلِك حسدًا لَهُ، وفيه يَقُول الشاعر:
جمع ابْن مَرْوَان الأغر محمد ... بين ابن أشترهم وبين المصعب
وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة متقدمًا محمدًا عِنْدَ عَبْد الْمَلِك، وَذَلِكَ لأن أخته عاتكة بنت يَزِيد كانت عنده، وَكَانَ يحبها، فَقَالَ ابْن وابصة:
لا تجعلن مثديًا ذا سرة ... ضخما سرادقه عظيم الموكب
كأغر يتخذ السيوف معاقلا ... يمشي بسكته كمشي الأنكب
وَقَدْ كتبنا الشعر فِي خبر مصعب.(6/337)
الْمَدَائِنِي، قَالَ: كَانَ عَبْد الْمَلِك يحسد محمدًا لما يرى من جلده وبأسه وعارضته، ولا سيّما بَعْد قتله مُصْعَب بْن الزُّبَيْر، فعزم مُحَمَّد عَلَى إتيان أرمينية لغزو العدو بِهَا فأمر بإبله فرحلت وعزم عَلَى الشخوص إِلَيْهَا، فدخل عَلَى عَبْد الْمَلِك مودعا فَقَالَ: إني أريد أرمينية والغزو بِهَا وتمثّل:
فإنك لَنْ ترى طردًا لحرٍّ ... كإلزاقٍ بِهِ طرف الهوان
ولو كُنَّا بِمنزلةٍ جَميعًا ... جريتَ وأنت مضطرب العنانِ
فَقَالَ عَبْد الْمَلِك: أقسمت عليك يا أخي لمّا أقمت فو الله لا أقذيت عينك أبدًا، ولا رَأَيْت مني مكروها أبدًا، وولاه الموصل والجزيرة وأرمينية.
وغزا مُحَمَّد بْن مَرْوَان فِي سنة خمس وسبعين فهربت الروم منه.
وَفِي هذه السنة غزا يَحْيَى بْن الحكم كلبا فنال مِنْهُم.
فولد مُحَمَّد بْن مَرْوَان:
يَزِيد، وأمه أم يَزِيد بنت يَزِيد بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن شيبة بْن ربيعة، وعَبْد الرَّحْمَنِ، وأمه أم جَميل من ولد عُمَر بْن الْخَطَّاب، وعبد الْعَزِيز بْن مُحَمَّد، لأم ولد،
ومروان بْن مُحَمَّد،
ويكنى أبا عَبْد الْمَلِك وأمه كردية أخذها أبوهُ من عسكر ابن الأشتر، فيقال: إنه أخذها وبها حبل، فولدت عَلَى فراشه، ومروان هُوَ الجعدي، وَقَدْ ولي الخلافة وسنذكر خبره إِن شاء اللَّه.
وَكَانَ مَرْوَان قَدْ ولي الجزيرة وأرمينية لهشام بْن عَبْد الْمَلِك، وللوليد بْن يَزِيد بْن عَبْد الْمَلِك من بعده، فلما بلغه مقتل الْوَلِيد انصرف إِلَى الجزيرة، ثُمَّ طلب بدم الْوَلِيد وسماه الخليفة المظلوم، وَقَالَ: أمري شبيه بأمر معاوية(6/338)
فِي طلبه بدم عُثْمَان، وَكَانَ مَرْوَان رجلا من الرجال، إلا أَنَّهُ كَانَ بخيلًا، فولي الأمر بَعْد خلع إِبْرَاهِيم بْن الْوَلِيد بْن عَبْد الْمَلِك خمس سنين، وقتل بمصر فِي سنة ثَلاث وثلاثين ومائة، وَهُوَ ابْن تسع وستين سنة، وسنذكر أخباره إِن شاء اللَّه تعالى.(6/339)
أمر عبد الله بن الزبير في أيام مَرْوَان وعبد الْمَلِك بْن مَرْوَان والأحداث فِي فتنة
حَدَّثَنِي جَمَاعَة من الْعُلَمَاء سقت حَدِيثهم قَالُوا: لما دعا ابْن الزُّبَيْر النَّاس إِلَى بيعته بَعْد موت يَزِيد بْن مُعَاوِيَة بايعوه عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الصالحين، وَكَانَ مِمَّن بايعه عُبَيْد اللَّهِ بْن عَلِي بن أبي طالب، وقبض ابن مطيع يده، فقام مُصْعَب بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف فبايع، فَقَالَ النَّاس: أبى ابْن مطيع أَن يبايع، وبايع مُصْعَب أمر فِيهِ صعوبة، وبايعه عبد الله بن جعفر، وأراد ابن الحنفية عَلَى البيعة فأبى، وأبى ابْن عُمَر أَن يبايع، وَقَالَ: أنا لا أعطي صفقة يميني فِي فرقة، ولا أمنعها فِي جَمَاعَة، وَقَالَ لَهُ الزم الْمَدِينَةَ حيث بويع الخلفاء فلم يفعل.
وَقَالَ أَبُو حرة مولى خزاعة لما دعا لنفسه: ألهذا نصرناك إِنَّمَا كنت تدعو إِلَى الرضى والشورى، أفلا صبرت وشاورت فنختارك ونبايعك وَقَالَ:
أبلغ أمية عني إِن عرضت لها ... وابن الزبير وأبلغ ذلك العربا
أن الموالي أضحت وهي عاتبة ... على الخليفة تشكو الجوع والحربا
إخوانكم إن بلاء حل ساحتكم ... ولا ترون لنا فِي غيره نسبا
نعاهد اللَّه عهدا لا نخيس بِهِ ... أَن نقبل اليوم شورى بَعْد من ذهبا(6/341)
وأتت ابْن الزُّبَيْر بيعة الأفاق إلا الأردن، وأخرج ابْن زِيَاد من البصرة وتراضى أهلها بببة، ثُمَّ كثر الخوارج وتحازب أهل البصرة فِي العصبية بَيْنَ مضر، وربيعة، والأزد، فاعتزل أمرهم فكتبوا إِلَى ابْن الزُّبَيْر يسألونه أَن يستعمل عَلَيْهِم رجلًا، فكتب إِلَى أَنَس بْن مَالِك فصلى بالناس أربعين يومًا، ثُمَّ بعث ابْن الزُّبَيْر إِلَى عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن مَعْمَر القرشي ثُمَّ التَّيْمِي بعهده عَلَى البصرة فوافقه وَهُوَ يريد العمرة، فكتب إِلَى أخيه عُبَيْد اللَّهِ بْن مَعْمَر فصلى بالناس، وقام بأمرهم حَتَّى قدم.
وبايع لابن الزُّبَيْر باليمن بجير بْن ريسان، وَكَانَ قبله عاملًا ليزيد بْن مُعَاوِيَة.
ودعا لَهُ بخراسان عَبْد اللَّهِ بْن خازم السلمي.
وولى جَابِر بْن الأسود بْن عوف الْمَدِينَةَ.
وأصابت النَّاس بالمدينة مجاعة، وَكَانَ عَلَيْهَا ابْن أَبِي ثور حليف بَنِي عَبْد مناف، من قبل ابْن الزُّبَيْر، فكان النَّاس فِي جهد ينالون من ليل إِلَى ليل حسى من حنطة مطبوخة وعدس فوعظهم وأمرهم بالتناهي عَنِ المعاصي، وَقَالَ: إِن اللَّه أهلك قوم صَالِح فِي ناقة قيمتها خمسمائة درهم فسمي مقوم الناقة.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: ولى ابْن الزُّبَيْر الْمَدِينَةَ جَابِر بْن الأسود ثُمَّ عُبَيْدَة بْن الزُّبَيْر، وبعث بمصعب بْن الزُّبَيْر لقتل الأسرى من أَصْحَاب حبيش بْن دلجة، وولى بَعْد عُبَيْدَة ابْن أَبِي ثور ثُمَّ عزله، وولى الحارث بن حاطب الجمحي ثم عزله، وولى جَابِر بْن الأسود، ويقال جَعْفَر بْن الزُّبَيْر، ثُمَّ وهب بْن معتب مولى الزُّبَيْر، ثُمَّ رجلا يكنى أبا قَيْس، فَقَالَ الناس: كان(6/342)
ليزيد أَبُو قَيْس لا يضر ولا ينفع، يعنون قرد يَزِيد الَّذِي كَانَ يكنيه أبا قَيْس، ولابن الزُّبَيْر أَبُو قَيْس يضر ولا ينفع.
الْمَدَائِنِي عَنْ عامر بْن أَبِي مُحَمَّد، قَالَ: قاتل مَعَ ابْن الزُّبَيْر أربعون امْرَأَة فقتلت امْرَأَة يقال لَهَا شعثاء، فَقَالَ رجل من أهل الشام:
وكانت لشعثا فِي القتال بصيرة ... بَل كَانَ بغية أهلها بالأردن
وأخذت مريم بنت طَلْحَةَ سَيْفا وَقَالَتْ: لئن دَخَلَ عَلَيْنَا أهل الشام لنقاتلنهم.
وأعطي ابْن الزُّبَيْر الأمان فِي بَعْض أيامه، إِمَّا فِي أَيَّام يَزِيد أَوْ فِي أَيَّام عَبْد الْمَلِك فَقَالَ: والله لا أخلعها حَتَّى يخلعها الْمَوْت، ولو فعلت مَا بقيت إلا قليلا حَتَّى أموت وتمثل:
الْمَوْت أكرم من إعطاء منقصة ... إلا نمت عبطة فالغاية الهرم
قَالَ: وبلغ ابْن الزُّبَيْر أَن الْحَجَّاج كَانَ يَقُول: احذروا أَن يفر كَمَا فر أبوه فَقَالَ: هُوَ عدو اللَّه الفرار بْن الفرار يَوْم الربذة.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر يشمر إزاره، ويحمل الدرة يتشبه بعمر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، فَقَالَ أَبُو حرة:
لَمْ نر من سيرة الفاروق عندكم ... غَيْر الإزار وغير الدرة الخلق [1]
قَالَ: وكانت عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر قهطم بنت منظور بْن زبان، ويقال تماضر، فولدت لَهُ حمزة وماتت، فتزوج أختها أم هاشم، فَقَالَ الْحَجَّاج عجبًا لرجل تزوج امْرَأَة لَمْ تنجب ثُمَّ تزوج أختها، وخرج حمزة بن
__________
[1] بهامش الأصل: يعني الإزار الخلق.(6/343)
عَبْد اللَّهِ بْن (الزُّبَيْر) يريد الْحَجَّاج فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر لأم هاشم: من الخارج؟
قَالَتْ: حمزة، قَالَ أي الحمزتين، يَعْنِي حمزة هَذَا وحمزة بن الزبير، أمّه كلبية، وَهُوَ أَخُو مُصْعَب لأمه الرباب بنت أنيف، قَالَتْ: ابْن الكلبية فَقَالَ كذبت ولو ولدت الكلبية النَّاس جميعا مَا كَانُوا إلا صبرا، ولكنه ابْن أختك.
قَالُوا: واصطلح أهل الكوفة عَلَى عامر بْن مَسْعُود بَعْد موت يَزِيد وهرب ابْن زِيَاد إِلَى الشام، فأقره ابْن الزُّبَيْر أشهرًا ثُمَّ عزله وولى عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد الْخَطْمِيّ من الأنصار الصلاة، وإبراهيم بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَةَ الخراج، وَكَانَ يقال لعامر بْن مَسْعُود دحروجة الجعل لقصره، وَهُوَ عامر بْن مَسْعُود بْن أمية بْن خلف بْن وهب بْن حذافة بْن جمح بْن عَمْرو بْن هصيص بْن كعب.
فخطب أهل الكوفة فَقَالَ إِن لكل قوم أشربة ولذات فاطلبوها فِي مظانها وعليكم بِمَا يجمل ويحل منها، واكسروا شرابكم بالماء، وتواروا عني بِهَذِهِ الجدران، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن همام السلولي:
إشرب شرابك وأنعم غَيْر محسود ... واكسره بالماء لا تعص ابْن مَسْعُود
إِن الأمير لَهُ فِي الخمر مأربة ... فاشرب هنيئا مريئا غَيْر تصريد [1]
وَقَالَ آخر:
من ذا يحرم ماء المزن خالطه ... فِي قعر خابئة ماء العناقيد
إني لأكره تشديد الرواة لنا ... فِيهَا ويعجبني قَوْل ابْن مسعود
فلما بلغ ابن مَسْعُود قَوْل ابْن همام قَالَ: قطع اللَّه لسان عدل الحمار، فقد أساء القول، وذهب إلى قول الأخطل:
__________
[1] الصرد: الخالص من كل شيء. القاموس.(6/344)
بئس الفوارس عِنْدَ مختلف القنا ... عدلا الحمار محارب وسلول [1]
وَحَدَّثَنِي العمري عَنِ الهيثم بْن عدي قَالَ: خطب عامر بْن مَسْعُود فَقَالَ: يا أهل الكوفة لأنسينكم سيرة عُمَر بْن الْخَطَّاب، قَالَ: وَقَالَ يومًا:
يا أهل الكوفة إني قَدْ تزوجت امْرَأَة من بَنِي نصر بْن مُعَاوِيَة فأعينوني بأرزاقكم شهرًا فَقَالَ قائل: نعم، فأخذ أرزاقهم كلها لشهر، قَالَ:
وحصب ذَات يَوْم عَلَى المنبر فغطى وجهه بكمه وَقَالَ: لَمْ ذا حسبكم الآن.
وَقَالَ ابْن همام السلولي:
ما زلت أرجو أبا حفص وسيرته ... حَتَّى نكحت بأرزاق المساكين
أنكحتم يا بَنِي نصر فتاتكم ... وجها يشين وجوه الربرب [2] العين
أنكحتم لا فتى دنيا يعاش بِهِ ... ولا شجاعا إِذَا شقت عصا الدين
يا بن الزُّبَيْر لَقَدْ وليته شبقا ... كز اليدين بخيلًا غَيْر عنين
لا يستطف لَهُ مال فيتركه ... ولا يَقُول لما يعطاه يكفيني
قَالُوا: وولى عامر عمالًا فأساءوا السيرة ومالوا إِلَى الخيانة، فَقَالَ ابن همّام في ذلك:
يا بن الزُّبَيْر أمِير الْمُؤْمِنيِنَ ألم ... يبلغك مَا فعل العمّال بالعمل
باعو التجار طعام الأرض واقتسموا ... صلب الخراج شحاحا قسمة النفل
وقدموا لَك شيخا كاذبا خذلا ... مهما يقل لَك شيخ كاذب يقل
الشيخ هُوَ مرثد بْن شراحيل كَانَ أمينًا عَلَى التجار في بيع الطعام.
__________
[1] ديوان الأخطل ص 302.
[2] الربرب: القطيع من بقر الوحش. القاموس.(6/345)
وفيك طَالِب حق ذو مزابنة [1] ... جلد القوى لَيْسَ بالواني ولا الوكل
أشدد يديك بزيد إِن ظفرت بِهِ ... واشف الأرامل من دحروجة الجعل
زَيْد خازنه وَهُوَ مولى عتاب بْن ورقاء.
إنا منينا بضب من بَنِي خلف ... يرى الخيانة شرب الماء بالعسل
يَعْنِي عامرًا.
خذ العصيفير فانتف ريش ناهضه ... حَتَّى ينوء بشر بَعْد مقتبل
يَعْنِي عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي عصيفير الثقفي، وَكَانَ عَلَى المدائن، وَهُوَ الَّذِي مَاتَ الأحنف فِي داره بالكوفة.
وَمَا أمانة عتاب بسالمة ... لا غمز فِيهَا ولكن جمة السبل
يعنى عتاب بْن ورقاء كَانَ عَلَى أصبهان.
وقيس كندة قَدْ طالت إمارته ... بسرّة الأرض بين السهل والجبل
قال هشام ابن الكلبي: هُوَ قَيْس بْن يَزِيد بْن عَمْرو بْن شراحيل بْن النعمان بْن المنذر بْن مالك بْن الْحَارِث الكندي، وَبَعْض من لا علم لَهُ يَقُول: هُوَ قَيْس بْن الأشعث.
وخذ حجيرا فأتبعه محاسبة ... ومن عذرت فلا تعذر بَنِي قفل
يَعْنِي حجير بْن حجار بْن الحر، ويقال: حجير بْن جعيل الجمحي، كَانَ عَلَى الزوابي أَوِ الزاذانات [2] ، وبنو قفل من تيم اللَّه بْن ثعلبة كَانَ مِنْهُم قوم عَلَى صدقات بَكْر بْن وائل.
__________
[1] المزابنة: بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر.
[2] زاذان: موضع الرقة. معجم البلدان.(6/346)
مَا رابني مِنْهُم إلا ارتفاعهم ... إِلَى الخبيص عَنِ الصحناة والبصل
وَمَا غلام عَلَى أرض مسالمة ... كمن غزا دستبي غَيْر مجتمل
يجبى إِلَيْهِ خراج الأَرْض متكئا ... مستهزئا بغناء القينة الفضل
والوالبي الَّذِي مهران أمره ... فزال مهران مذموما وَلَمْ يزل
مهران مولى زِيَاد، كَانَ شفع فِي هَذَا الرجل، فصار فِي عداد العمال، والرجل سَعِيد بْن حرملة بْن الكاهل الوالبي، ويقال: هُوَ أَبُو هياج عَمْرو بْن مَالِك الوالبي:
ودونك ابْن أَبِي عش وصاحبه ... قبل السبيع فَقَدْ أجرى عَلَى مهل
ابْن أَبِي عش همذاني قدم الكوفة، فَقَالَ من سيد قومي؟ فَقَالُوا:
الْحَجَّاج بْن عَمْرو الزبيدي فَقَالَ: أنا لا أقيم ببلدة يسود فِيهَا زبيدي، وَكَانَ عَلَى الدينور، وصاحبه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سَعِيد بْن قَيْس الهمداني
لا تجعلن بَيْت مال اللَّه مأكلة ... لكل أزرق من همدان مكتحل
والدارمي يطيف البهرمان [1] بِهِ ... فِي شارب بدلت من رعية الإبل
الدارمي لبيد بْن عطارد، ويقال مَسْعُود بْن قَيْس بْن عطارد.
ومنقذ بْن طريف من بَنِي أسد ... أنبئت عاملهم قَدْ راح ذا ثقل
يَعْنِي منقذ بْن طريف بْن عَمْرو بْن قعين بْن الحارث بْن ثعلبة بْن دودان بْن أسد، وأخبر أَن عاملهم، وَهُوَ رجل مِنْهُم، قَدْ حسنت حاله للخيانة، وَقَالَ ابْن الكلبي: وَكَانَ عاملهم نعيم بْن دجاجة وَكَانَ عَلَى أسفل الفرات.
__________
[1] بهامش الأصل: والدارمي القهرمان.(6/347)
وَمَا أخينس جعفي يمانعه ... من المتاع قيام الليل بالطول
يَعْنِي زحر بْن قَيْس، ويقال مُحَمَّد بْن أَبِي سبرة كَانَ عَلَى جوخى
وآخران من العمال عندهما ... بَعْض المنالة إِن ترفق بِهَا تنل
مُحَمَّد بْن عمير وَالَّذِي كذبت ... بَكْر عَلَيْهِ غداة الروع والوهل
مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد ويزيد بْن رويم حِينَ أمر بِهِ عَمْرو بْن حريث.
وَمَا فرات وإن قيل امرؤ ورع ... إِن نال شَيْئًا بذاك الخائف الوجل
فرات بْن زحر قتله المختار يَوْم جبانة السبيع.
والحارثي سيرضى أَن تقاسمه ... إِذَا تجاوزت عَنْ أعماله الأَوَّل
الحارثي السرى بْن وقاص وَكَانَ عَلَى نهاوند
وادع الأقارع فأقرعهم بداهية ... واحمل خيانة مَسْعُود عَلَى جمل
مَسْعُود من بَنِي أسد
كَانُوا أتونا رجالا لا ركاب لَهُمْ ... فأصبحوا اليوم أهل الْخَيْل والإبل
لَنْ يعتبوك ولما يعل هامهم ... ضرب السياط وشد بَعْد فِي الحجل
جمع حجل.
إِن السياط إِذَا عضت غواربهم ... أبدوا ذخائر من مال ومن حلل
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي عَنْ سحيم بْن حفص عَنْ أشياخه قَالُوا: كَانَ ابْن الزُّبَيْر يكنى أبا بَكْر وأبا خبيب، وَكَانَ شديد القلب واللسان، وَهُوَ أول مولود بالمدينة فِي الإِسْلام، وَكَانَ بخيلًا فَقَالَ فِيهِ الشاعر:
رأيت أبا بَكْر وربك غالبٌ ... عَلَى أمره يبغي الخلافة بالتمر
وقتل وَهُوَ ابْن ثَلاث وسبعين، ويقال: اثنتين وسبعين وأشهر.(6/348)
وَقَالَ لعامله عَلَى وادي القرى: أكلت تمري وعصيت أمري، وجعل يضربه.
وَقَالَ لأعراب أتوه: إن سلاحكم لرث، وإن حديثكم لغث، وإنكم لعيال فِي الجدب، وأعداء فِي الخصب.
وأتاه أعرابي يستفرضه فَقَالَ: افرضوا لَهُ، فَقَالَ: أعطني، قَالَ:
قاتل أولا، فَقَالَ الأعرابي: دمي نقد ودراهمك نسيئة.
قَالُوا: ولما طال الحصار عَلَى ابْن الزُّبَيْر حبس الطعام وَقَالَ إِن أخرجته فني ولكنكم تنظرون إِلَيْهِ فتقوى قلوبكم وتطيب أنفسكم، ومتى أكلتموه نفد، ولا يأتيكم ميرة فتلقون بأيديكم.
قَالُوا: وشكت امْرَأَة من أهل مَكَّة إِلَى ابْن الزُّبَيْر فَقَالَتْ: غررت سفهاءنا وأخذت رباعنا، فأقل سفهاءنا واردد رباعنا، فَقَالَ: مَا تقول هذه الهرة الثرماء [1] .
قَالُوا: وَقَالَ صحير بْن أَبِي الجهم: دخلت عَلَى ابْن مطيع وَهُوَ عاتب عَلَى ابْن الزُّبَيْر، وعلي سَيْفي، فَقَالَ ضع سَيْفك وأرح نفسك فَمَا عِنْدَ ابْن الزُّبَيْر خير لدين ولا دنيا، قَالَ: فأتيت الْحَجَّاج فأعطاني الأمان.
الْمَدَائِنِي عَنْ عوانة، قال: نادى أهل الشام يا بن الزبير يا بن الحواري فَقَالَ لمولى لَهُ: أجبهم فَقَالَ: هل تعيبون من حواري رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا؟ قالوا: يابن ذَات النطاقين فَقَالَ أتعيبونها بالنطاق الَّتِي كانت تحمل بِهِ الطعام إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى الصديق أم بالنطاق الذي تنطّق به المرأة الحرّة
__________
[1] الثرماء: التي انكسر لها سن من الثنايا أو الرباعيات. القاموس.(6/349)
في بيتها وقد قال لها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: [ «لَك نطاقان في الجنة» ] فقالوا: يا بن الزُّبَيْر يا مشؤوم فسكت، فَقَالَ لَهُ ابْن الزُّبَيْر، أجبهم، قَالَ: كَيْفَ أجيبهم وَقَدْ صدقوا.
الْمَدَائِنِي عَنِ المثنى بْن عَبْد اللَّهِ عَنْ عوف، قَالَ: قَالَ ابْن عُمَر: كنت أتمنى ألا أموت حَتَّى أعلم إِلَى مَا يصير أمر ابْن الزُّبَيْر، فيرحم اللَّه أبا بَكْر طلب دراهم العراق، ورحم اللَّه مَرْوَان طلب دراهم الشام.
الْمَدَائِنِي عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن فائد، قَالَ: نظر ثابت بْن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر إِلَى أهل الشام فَقَالَ: إني لأبغضهم فَقَالَ سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بْن عُثْمَان: تبغضهم لأنهم قتلوا أباك؟ قَالَ: صدقت قتل أَبِي علوج الشام وجفاته، وقتل جدك المهاجرون والأنصار.
الْمَدَائِنِي عَنْ عَلِي بْن حماد، قَالَ: قَالَ مُصْعَب بْن الزُّبَيْر لابن عُمَر:
يا أبا عَبْد الرَّحْمَنِ أنسيت حق اللَّه عليك فِي هَذَا الأمر؟ قَالَ: نعم كتبت إِلَى عَبْد الْمَلِك آمره بتقوى اللَّه وأن يكف نَفْسه، فكتب إلي: أنا أخرج نفسي إِن أخرج ابْن الزُّبَيْر نَفْسه ويجعل الأمر شورى، وكتبت إِلَى أخيك فكتب إلي:
إنك لست من هَذَا الأمر فِي شَيْء.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: قَالَ ابْن أَبِي مليكة: مَا رَأَيْت أحدا أَحْسَن مناجاة لربه فِي عقب الصدر من عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر.
الْمَدَائِنِي قال: كان مصعب بن الزبير جوادا، فكتب إِلَى أخيه عَبْد اللَّهِ: من سألك شَيْئًا فاكتب إلي لَهُ فَإِن أعطيته كَانَ حمده لَك، وإن منعته كَانَ ذمه عَلِي، فلم يكتب لأحد إِلَيْهِ إلا أعطاه، فأمسك عَنِ الكتاب لأحد إِلَيْهِ.(6/350)
قَالَ: وَقَالَ عَلَى بْن زَيْد: كَانَ عَبْد اللَّهِ طويل الصلاة، كثير الصيام، شديد البأس، كريم الجدات والأمهات والخالات، وكانت فِيهِ خلال مباينة لما حاول من الخلافة: بخل وضيق وسوء خلق، ولجاج.
الْمَدَائِنِي عَنْ أَبِي زكرياء العجلاني عَنِ ابْن نجيح عَنْ مجاهد عَنِ ابْن عَبَّاس أَنَّهُ قَالَ: إِن هَذَا الأمر بدأ بنبوة ورحمة، وخلافة، وَإِنَّهُ اليوم ملك عقيم، فمن سمع مقالتي فليهرب من بَنِي أمية وآل الزُّبَيْر فإنهم يدعون إِلَى النار.
الْمَدَائِنِي عَنْ سُفْيَان عَنْ عَمْرو بْن دِينَار: ان ابْن الزُّبَيْر أقاد من لطمة.
الْمَدَائِنِي عَنْ أَبِي هلال الراسبي: إِن الْحَسَن [1] كتب إِلَى ابْن الزُّبَيْر:
إِن لأهل الخير علامات يعرفون بِهَا ويعرفونها من أنفسهم، فمنها الصبر عَلَى البلاء، والرضى بالقضاء، وإنما الإِمَام سوق فَمَا نفق فِيهَا حمل إِلَيْهَا فانظر أي سوق سوقك.
الْمَدَائِنِي عَنِ ابْن المبارك قَالَ: قَالَ أَبُو برزة الأسلمي: إنكم معشر العرب كنتم عَلَى الحال الَّتِي علمتم من القلة والذلة والضلالة، وإن اللَّه رفعكم بالإسلام وبمحمد عَلَيْهِ السَّلام حَتَّى بلغتم مَا ترون، وإن هذه الدنيا قَدْ أفسدت مَا بينكم، أما الَّذِي بالشام- يَعْنِي مَرْوَان- فإنما يقاتل عَنِ الدنيا، وَكَذَلِكَ الَّذِي بمكة- يَعْنِي ابْن الزُّبَيْر- وَمَا يقاتل الَّذِينَ تدعونهم قراءكم إلا عَلَى الدنيا، وَمَا نرى خير النَّاس إلا عصابة لابدة خماص البطون من أَمْوَالِ النَّاس، خفاف الظهور من دمائهم.
__________
[1] الحسن البصري.(6/351)
حَدَّثَنِي هدبة حَدَّثَنَا حماد بْن سلمة عَنْ أَبِي حمزة قَالَ: قُلْت لابن عَبَّاس: إني بايعت ابْن الزُّبَيْر فأعطاني وحملني عَلَى فرس، أفأقاتل مَعَهُ؟
قَالَ: لا تقاتل مَعَهُ، ورد عَلَيْهِ مَا أعطاك واشتر بغلا أَوْ بغلين، وغلاما واغز المشركين، فَإِن قتلت عَلَى ذَلِكَ كنت شهيدًا إِن شاء اللَّه تَعَالَى، قَالَ:
فرددت عَلَى ابْن الزُّبَيْر مَا أخذت منه.
الْمَدَائِنِي عَنْ قَيْس بْن الرَّبِيع عَنِ ابْن أَبِي ليلى عَنْ عَطَاء، قَالَ: أتى ابْن الزُّبَيْر برجل فأمر بضرب عنقه فَقَالَ امرأته طالق ثلاثا فورثها منه.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: بعث يَزِيد بْن مُعَاوِيَة الضحاك بْن قَيْس ليأخذ بيعة ابْن الزُّبَيْر فأبى أَن يبايع فَقَالَ الضحاك إنك إِن لَمْ تبايع طائعا بايعت كارها، فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: إنك يا ثعلبة بْن ثعلبة تيس بحيرة تبيع الصربة [1] بالقبضة، أردت الحقحقة فأخطأت استك الحفرة.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: جاء رجل إِلَى ابْن عُمَر فَقَالَ: هذه خيلنا، قَالَ:
أية خيل؟ قَالَ: خيل ابْن الزُّبَيْر، قَالَ: مَا هِيَ لنا بخيل، وجاءه آخر فَقَالَ: بايعت ابْن الزُّبَيْر عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، فأبى ذَلِكَ، فَقَالَ:
صدق ولو أعطاك ذَلِكَ لَمْ يف لَك بِهِ، قَالَ: وجاءه آخر فَقَالَ: بِمَاذا تأمر يا أبا عَبْد الرَّحْمَنِ؟ قَالَ: بطاعة اللَّه، والجماعة وأنهاك عن الفرقة، قال:
ثم بماذا؟ قَالَ: إِن كانت لَك ضيعة فالحق بضيعتك.
المدائني عن عبد الله بن فائد، قال: كَانَ ابْن الزُّبَيْر لا يتكلم يَوْم الجمعة إلا بالمواعظ، إلا أَنَّهُ كَانَ يشتم ثقيفًا فَيَقُولُ قصار الخدود. لئام الجدود. سود الجلود. بقيّة ثمود.
__________
[1] الصربى: البحيرة لأنهم كانوا لا يحلبونها إلّا للضيف. القاموس.(6/352)
الْمَدَائِنِي عَنْ يَزِيد بْن زريع عَنْ حبيب بْن الشهيد: أَن عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر لقي ابْن الزُّبَيْر فَقَالَ لَهُ ابْن الزُّبَيْر: أَتَذْكُرُ يَوْمَ لَقِينَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّا وأنت وأحد ابني فاطمة؟ فقال: نعم، فحملنا وتركك، فسكت ولو علم ابْن الزُّبَيْر أَنَّهُ يَقُول حملنا وتركك مَا سَأَلَهُ.
الْمَدَائِنِي عَنِ ابْن فائد، قَالَ: سمع مُعَاوِيَة رجلا من كلب يَقُول:
ومن رقاش ماجد سميدع ... يأبى فيعطي عَنْ يد ويمنع
فَقَالَ ذاك منا، ذاك عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر.
الْمَدَائِنِي عَنْ مسلمة وغيره: ان فضالة بْن شريك الأسدي أتى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر فَقَالَ لَهُ: إني جشمت إليك سفرا بعيدا، أتعبت فِيهِ نفسي وأنفدت نفقتي، وأنقبت فِيهِ راحلتي، فَقَالَ ارقعها بسبت، واخصفها بهلب، وأنجد بِهَا العصرين يبرد خفها، فَقَالَ: لعن اللَّه ناقة حملتني إليك، فَقَالَ: إِن وراكبها، وانصرف وَلَمْ يصله فَقَالَ:
أقول لغلمتي أدنوا ركابي ... أفارق بطن مَكَّة فِي سواد
فَمَا لي حِينَ أقطع ذَات عرق ... إِلَى ابْن الكاهلية من معاد
سيبعد بيننا حث المطايا ... وتعليق الأداوى والمزاد
أرى الحاجات عِنْدَ أَبِي خبيب ... نكدن ولا أمية بالبلاد
وكيف بأن يسوس الأمر مِنْهُم ... أغر مقابل واري الزناد
من الأعياص أَوْ من آل حرب ... أغر كغرة الفرس الجواد
فلما بلغ ابن الزُّبَيْر الشعر فمر بِهِ قَوْله إِلَى ابْن الكاهلية قَالَ: لو علم أَن لي جدة الأم من عمته لسبني بِهَا، وكانت أم خويلد بْن أسد بْن عَبْد العزى،(6/353)
جدة العوام بْن خويلد، زهرة بِنْت عَمْرو بْن حنثر [1] ، من بَنِي كاهل بْن أسد بْن خزيمة.
وَقَالَ بَعْض قضاعة:
عدمت قريشا أَن رضوا بك سيدا ... وأنت بخيل الكف غَيْر جواد
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْحَجَّاج:
أتطلب شأو ابْن الزُّبَيْر وَلَمْ تكن ... لتدركه مَا حج لِلَّهِ راكب
تكلفت أمرًا لَمْ تكن لتناله ... طوال الليالي أَوْ تنال الكواكب
فمهلًا بَنِي مَرْوَان لستم بذادة ... إِذَا مَا التقت يَوْم اللقاء الكتائب
إِذَا التقت الأبطال كنتم ثعالبا ... وأسد الشرى فِي السلم عِنْدَ الكواعب
الْمَدَائِنِي، قَالَ: قَالَ وهب بْن منبه: استعمل ابْن الزُّبَيْر عَلَى اليمن رجلا دميما، وَكَانَ يلقب عجوز اليمن، فكتب إِلَيْهِ ابْن الزُّبَيْر يأمره بالجباية، فَقَالَ: لي أرضيكم مجرودة فانطلقوا إلى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فادفعوا عَنْ أنفسكم، فقدمت فِي وفد، ودخلت عَلَيْهِ وعنده عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد، فَقَالَ لي: كيف عجوز اليمن؟ فقلت: أَسْلَمَتْ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [2] ولكن مَا فعلت عجوز قريش أم حبل حمالة الحطب؟
فضحك ابْن الزُّبَيْر وَقَالَ لابن خَالِد: أسأت المسألة وأحسن الجواب.
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عن جده قَالَ: أهدى أَبُو حمل- أحد بَنِي حصين بْن سعدانة بْن حارثة الكلبي- إِلَى عَبْد الله بن الزبير
__________
[1] بهامش الأصل: كان عمرو بن حنثر يلقي الحجر ويقول: لا أفر حتى يفر. من الإكمال لابن ماكولا. انظر الإكمال ج 2 ص 24.
[2] سورة النمل- الآية: 44.(6/354)
فطرأ فأتاه بِهِ وعنده زفر بْن الْحَارِث الكلابي، فَقَالَ زفر يحرض ابْن الزُّبَيْر عَلَى صلته:
ألا أبلغ أبا حمل رسولًا ... فَقَدْ أهديت فطرك من بعيد
فأنت المرء يعطى كُل خير ... ويحبى بالولائد والعبيد
فَقَالَ ابْن الكلبي: قَالَ خَالِد بْن سعيد: فو الله مَا أثابه عَلَيْهِ شيئًا، وَقَدْ أتاه بِهِ من السماوة، فلقيه زفر بْن الْحَارِث بَعْد ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: يا أبا الكوثر، أَوْ: يا أبا الهذيل، والله مَا أعطاني قيمة الفطر، فكيف يحبوني بالولائد والعبيد.
وَقَالَ هِشَام ابْن الكلبي: أَخْبَرَنِي خَالِد بْن سَعِيد عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حمل بْن سعدانة الَّذِي يَقُول:
لبث قليلا يلحق الهيجا حمل
وَكَانَ حمل بْن سعدانة بْن حارثة العليمي وفد إِلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعقد لَهُ لواء.
وَقَالَ أَبُو دهبل واسمه وهب بْن وهب بْن زمعة الجمحي:
أتاركة عَلِيًّا قريش سراتها ... وساداتها عند المقام تذبّح
هم عوذ بالله جيران بيته ... بِهِ يعصمون أَن يباحوا ويفضحوا
وَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: لا تزال قريش تعرف العز وإنكار الضيم مَا رأتني حيًا.
الْمَدَائِنِي قَالَ: بعث الزُّبَيْر ابنه عَبْد اللَّهِ إِلَى خاله الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ فوافقه يتغدّى فقال: ادن يا بن أختي فأكل أكلا ضعيفا ثُمَّ أتي(6/355)
بقعب من لبن فَقَالَ اشرب فشرب شربا ضعيفا فقال يا بن أختي أضواك [1] آل أَبِي بَكْر.
حَدَّثَنِي أَبُو مسلم الأحمري عن هشام ابن الكلبي عَنْ أَبِيهِ وعوانة قَالا:
خطب النوار بِنْت أعين بْن ضبيعة بْن ناجية بْن عقال رجل من بَنِي مجاشع بْن دارم بْن مَالِك فَقَالَتْ للفرزدق بْن غالب بْن صعصعة بْن ناجية: أَنْتَ وليي واشهدت لَهُ برضاها بِمَا صنع فِي تزويجها، فلما خرج الشهود قَالَ لَهُمْ:
حفظتم الشهادة؟ قَالُوا: نعم، قَالَ: واشهدوا أني قَدْ تزوجتها عَلَى خمسة آلاف وبلغها الْخَبَر فلم ترض، وأتت ناجية بْن عقال، فأعانوها عَلَى الفرزدق، وحولوها إِلَى بَنِي عَاصِم من بَنِي منقر بْن عبيد واكتروا لَهَا كريا من بَنِي عدي بْن عَبْد مناة بْن أد بْن طابخة أحد بَنِي ملكان بْن عدي، ومعه أجير لَهُ خراساني يقال لَهُ زهير، وخرجت إِلَى ابْن الزُّبَيْر مستغيثة بِهِ، ويقال:
إنهم حولوها إِلَى بَنِي عَاصِم بْن عبيد بْن ثعلبة بْن يربوع فَقَالَ الفرزدق:
ولولا أَن يَقُول بنو عدي ... أليست أم حنظلة النوار
أم حنظلة بْن مَالِك بْن زَيْد مناة بْن تميم، النوار بنت جل بْن عدي بْن عَبْد مناة، فَيَقُولُ لولا أَن يقولوا أليست جدتكم منا
إِذَا لأتى بَنِي ملكان مني ... بضائع لا يقسمها التجار [2]
ملكان بْن عدي بْن عَبْد مناة أخو جلّ بن عديّ، وقال:
__________
[1] الضوى: دقة العظم وقلة الجسم خلقه، أو الهزال، وأضوى: دق وأضعف.
القاموس.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 273 مع فوارق.(6/356)
لَقَدْ أهدت وليدتنا إليكم ... عزائز لا يقسمها التجار
لبئس العبء يحمله زهير ... عَلَى أعجاز صرمته نوار
وَقَالَ أيضًا:
ولولا أَن أمي من عدي ... وأني كاره سخط الرباب
لصلت عَلَى بَنِي ملكان منى ... بجيش غَيْر منتظر الإياب [1]
وَقَالَ يهجو بَنِي قَيْس بْن عَاصِم:
بَنِي عَاصِم إِن تلجئوها فإنكم ... ملاجئ للنسوان دسم العمائم
بَنِي عَاصِم لو كَانَ حيا لديكم ... للام بنيه الشيخ قَيْس بْن عَاصِم [2]
فَقَالُوا للفرزدق: والله لئن زدت عَلَى هذين البيتين لنقتلنك، وخرج الفرزدق إِلَى ابْن الزُّبَيْر، فنزلت النوار بِنْت أعين عَلَى أم هاشم بِنْت منظور بْن زبان، ونزل الفرزدق عَلَى بَنِي عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر وسألهم أَن يشفعوا له، وشفعت أمّ هاشم للنوار فشفّعها، فَقَالَ الفرزدق:
أما بنوه فلم يَقبل شفاعتهم ... وشُفِّعَتْ بِنْت منظور بْن زبانا
لَيْسَ النجي الَّذِي يأتيك مؤتزرا ... مثل النجي الَّذِي يأتيك عريانا [3]
فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر للنوار: إِن شئت فرقت بينكما وقتلته فلا يهجونا، وإن شئت سيرته إِلَى بلاد العدو؟ فَقَالَتْ: مَا أريد واحدة منهما، قَالَ: فَإِنَّهُ ابْن عمك، وَهُوَ راغب فيك فأزوجك إياه؟ فَقَالَتْ: نعم فزوجها إيّاه،
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 95 مع فوارق.
[2] ليسا في ديوانه المطبوع.
[3] ليسا في ديوانه المطبوع.(6/357)
فكان الفرزدق يَقُول: خرجنا متباغضين ورجعنا متحابين والله يفعل مَا يشاء.
وَقَالَ قوم: نزل الفرزدق عَلَى حَمْزَة بْن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر وَقَالَ:
اليوم قَدْ نزلت بحمزة حاجتي ... إِن المنوه باسمه الموثوق
بأبي عُمَارَةَ خير من وطيء الحصا ... ونمت بِهِ فِي الصالحين عروق
بَيْنَ الحواري الأغر وهاشم ... ثُمَّ الخليفة بعده الصديق [1]
وَقَالَ أيضًا:
يا حمز هل لَك فِي ذي حاجة عرضت ... أنضاؤه بمكان غَيْر معمور
وأنت أحرى قريش أَن تقوم بِهَا ... وأنت بَيْنَ أَبِي بَكْر ومنظور [2]
وكانت أمة قهطم بنت منظور، وَقَالَ بَعْضهم: تماضر بنت منظور.
حَدَّثَنِي بَعْض النوفليين من ولد عَبْد اللَّهِ بْن الْحَارِث ببة قَالَ: وقع بَيْنَ ببة وبين عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر كَلام فعيره بلقبه، وَقَالَ: ألست ببة وَمَا ببة، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن الْحَارِث: ألست الضبابي وَكَانَ ابْن الزُّبَيْر فِي صغره جلس عَلَى حجر ضب ففسا حَتَّى خرج الضب، فكان يعير بِذَلِكَ ويقال لَهُ الضبابي، فترضى ابْن الزُّبَيْر ببة عندها وصالحه.
حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد التوزي النحوي عَنْ أَبِي زَيْد الأَنْصَارِي عَنْ أَبِي عَمْرو بْن العلاء قَالَ: خطب ابْن الزُّبَيْر يومًا، فتكلم رجل من ناحية الْمَسْجِد، فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: من المتكلم؟ فسكت، فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: مَا لَهُ قاتله اللَّه ضبح ضباح الثعلب، وقبع قباع القنفذ.
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 34 مع فوارق.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 252 مع فوارق.(6/358)
قَالُوا: وَكَانَ ابْن الزُّبَيْر يَقُول عالجت لحيتي لتكثر فلما بلغت سنين يئست منها وَكَانَ معصوبا خفيف اللحم، فكان الزُّبَيْر يَقُول: عَبْد اللَّهِ يشبه أبا بَكْر، فَهُوَ ابنه ومنعني ابني. وَقَالَ الْحَارِث بْن ضب العتكي فِي ابْن الزُّبَيْر، ويقال إنها قيلت فِي مُصْعَب، وَذَلِكَ الثبت:
فردّ الخلافة يا بن الزُّبَيْر ... إِلَى أهلها قبل أَن تخلع
أخاف عليك زياد العراق ... وأخشى عليك بني مسمع
ولا تأمن المكر من حارث ... فثم امرؤ سمّه ينقع
ذكرت لك المعشر الأكرمين ... ذوي المجد والحسب الأرفع
الْحَارِث بْن قَيْس الجهضمي، وَزِيَاد بْن عَمْرو العتكي، وَمَالِك بْن مسمع وإخوته.
الْمَدَائِنِي عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن فائد: أَن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر أتى الطائف واستخلف ابنه عباد بْن عَبْد اللَّهِ، فأتى عباد بخالد بْن المهاجر بْن خَالِد بْن الْوَلِيد وَقَدْ شرب وشهد عليه بأنّه يعانق النساء في الطواف، فأمر بضربه الحد، فجلد فأتى بنو مخزوم أباه فكلموه فَقَالَ: مَا أصنع بِهِ، وَكَانَ يتحدث عِنْدَ امْرَأَة من قريش، فقيل لابن الزُّبَيْر فحبسه وقيده فَقَالَ:
تذكار ليلي لَيْسَ يق ... صر مده طول النهار
فلئن خطاي تقاربت ... رسف المقيّد في الحصار
لبما أمشّي بالأبا ... طح يقتفي أثري إزاري
فِي أبيات، ثُمَّ أَخْرَجَهُ وسيره إِلَى الشام، فتزوج ابنة النعمان بْن بشير فنازعها يوما فَقَالَ:(6/359)
لظباء بَيْنَ الحطيم إِلَى الحثمة ... فِي مظلمات ليل وشرق
قاطنات الحجون أشهى إِلَى القلب ... من الساكنات دور دمشق
فَقَالَتْ:
كهول دمشق وشبانها ... أحب إلينا من الجاليه
إِذَا مَا أتى وافد مِنْهُم ... كنسنا لَهُ داره الخاليه
لقمل يدب دبيب الدبى ... أكاريس أعيت عَلَى الغالية
وريحهم مثل ريح التيو ... س عفت عَلَى البان والغاليه
فبلغ عَبْد الْمَلِك الشعر فَقَالَ: يا خَالِد جعلتك من الجالية؟ قَالَ: وأنت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ أيضًا من الجالية، فأقام بالشأم فانكسرت فخذه، فقيل لعبد الْمَلِك: فَقَالَ: لا جبرها اللَّه، وَمَاتَ من وجعه فقيل لعبد الْمَلِك فَقَالَ:
لا رحمه اللَّه.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَ خالد بْن المهاجر مع ابْن الحنفية بالشعب، فعلق عَلَيْهِ ابْن الزُّبَيْر زكرة [1] خمر، ثُمَّ ضربه الحد.
ورثته هند ابنة النعمان فقالت:
ألا يا بن المهاجر قَدْ ... دهاني طارق طرقا
دعاك فَمَا أبيت ولا ... سددنا دونك الغلقا
ألا عيني جودا بالدموع عَلَيْهِ واستبقا ... أعيناني بفيضكما
ومجّا الدمع والعلقا
__________
[1] الزكرة: زق للخمر والخل. القاموس.(6/360)
وَقَالَ عقبة الأسدي حِينَ ضرب خَالِد بْن المهاجر:
ما زلت مذ حجج بمكة ملحدا ... فِي حيث يأمن قاطن وحمام
أبنو المغيرة مثل آل خويلد ... يال الرجال لخفة الأحلام
فلينهضن لخالد من قومه ... مثل الأغر الْحَارِث بْن هِشَام
المشترين الحمد من أموالهم ... فِي كُل صامتة وكل سوام
ولتنهرن العيس تنفح فِي البرى ... تجتاب عرض مكارم الأعلام
بالدارعين عَلَيْهِم أبدانهم ... لتجاب دعوة واصل صرام
الْمَدَائِنِي، قَالَ: قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر: لَقَدْ أَعْظَم النَّاس ولادة صفية بنت عَبْد الْمُطَّلِبِ لنا حَتَّى لَقَدْ هممت أَن اطلق بنت الْحُسَيْن، فبلغ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِك فَقَالَ: الكلب أضن بالشحمة.
قَالُوا: وذكر مَرْوَان طَلْحَةَ فأثنى عَلَيْهِ وذكر الزُّبَيْر فلم يقل فِيهِ شَيْئًا وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر حاضرًا فَقَالَ إِن أبا مُحَمَّد أهل لما ذكرته لكني أعرف من لَمْ يذكر بخير قطّ، قال: ومن هو؟ قال: أبوك، فوثب إِلَيْهِ مَرْوَان فاضطربا حَتَّى حجز موسى بْن طَلْحَةَ بينهما فَقَالَ لَهُ: دعني أصك عين ابْن لعين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(6/361)
أمر التوابين وخبرهم بعين الوردة
وَهِيَ رأس العين من الجزيرة.
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام عَنْ أَبِيهِ عَنْ جده، وأبي مخنف قَالُوا: لما فرغ مروان من مرج راهط قصد قصد مصر ومر بفلسطين وَقَدْ هرب منها ناتل، فولاها مَرْوَان روح بْن زنباع، ثُمَّ سار نَحْو مصر فغلب عَلَيْهَا، ثُمَّ قدم الشام فَإِذَا زفر بْن الْحَارِث الكلابي قَدْ غلب عَلَى قرقيسيا وتحصن بِهَا، وبلغه خبر مُصْعَب بْن الزُّبَيْر، وأنه يريد الشام فوجه مَرْوَان: عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد إِلَى الجزيرة والعراق، فسار فِي ستين ألفًا فيهم الحصين بْن نمير، وابن ذي الكلاع الحميري، وعمير بْن الحباب السلمي، وَكَانَ عمير قَدْ بايع مَرْوَان وصار فِي حيزه، فسار ابْن زِيَاد حَتَّى أوقع بالتوابين بعين الوردة، ثُمَّ أتى قرقيسيا فرام زفر فلم يقدر عَلَيْهِ، فسار يريد العراق فقتل عَلَى الخازر وَهُوَ نهر بأرض الموصل، وكانت وفاة مَرْوَان من قبل نفوذ ابْن زِيَاد إِلَى الجزيرة، فكتب إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِك بوفاته، وأخذ البيعة لَهُ، ولعبد الْعَزِيز بْن مَرْوَان من بعده، وأن يتولى من أمر الجيش مَا كَانَ وليه.(6/363)
حَدَّثَنِي عَبَّاس عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مخنف وغيره قَالُوا: لما قتل الْحُسَيْن بْن عَلِي عليهما السَّلام ودخل عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد من معسكره بالنخيلة إِلَى الكوفة تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم، ففزعوا إلى خمسة نفر من رؤوس الشيعة وَهُمْ: سُلَيْمَان بْن صرد الخزاعي، وكانت لَهُ صحبة، والمسيب بْن نجبة الفزاري، وَكَانَ من خيار أَصْحَاب عَلِي، وعبد اللَّه بْن سَعْد بْن نفيل الأزدي، وعبد اللَّه بْن وال التَّيْمِي، ورفاعة بْن شداد البجلي ثُمَّ القتباني، فاجتمع هَؤُلاءِ الخمسة النفر فِي منزل سُلَيْمَان بْن صرد، ومعهم ناس من وجوه الشيعة، فابتدأ الْمُسَيِّب بْن نجبة الْكَلام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد فإنا قَدِ ابتلينا بطول العمر فنرغب إِلَى ربنا فِي أَن لا يجعلنا مِمَّن يَقُول لَهُ غدا: أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتذكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ [1] وَقَدْ بلا اللَّه أخبارنا فوجدنا كاذبين فِي أمر ابْن ابنة نبينا، وَقَدْ بلغتنا كتبه، وَقَدْ أتتنا رسله، وسألنا نصره عودا وبدءًا، وعلانية وسرًا، فبخلنا عَلَيْهِ بأنفسنا حَتَّى قتل إلى جانبنا، فلا نحن نصرناه بأيدينا ولا خذلنا عَنْهُ ألسنتنا، ولا قويناه بأموالنا، ولا طلبنا لَهُ النصرة من عشائرنا، فَمَا عذرنا عِنْدَ ربنا لا عذر والله أَوْ نقتل قاتليه والموالين عليه، وإنّه لا بدّ لكم من أمِير تفزعون إِلَيْهِ، وترجعون إِلَى أمره، ورأيه تحفون بِهَا مَعَهُ.
ثُمَّ تكلم رفاعة بْن شداد البجلي، فحمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
دعوت إِلَى جهاد الفاسقين، والتوبة من الذنب العظيم، فمسموع ذَلِكَ عَنْك، ومقبول منك، وقلت: ولوا أمركم رجلا تفزعون اليه وتطيفون برايته
__________
[1] سورة فاطر- الآية: 37.(6/364)
وتطيعون لَهُ، فَإِن تكن ذَلِكَ الرجل تكن عندنا مرضيا متنصحًا، وإن رَأَيْت ورأى أَصْحَابنا ولينا هَذَا الأمر شيخ الشيعة، وصاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذا السابقة والقدم سُلَيْمَان بْن صرد، المحمود فِي دينه وبأسه، الموثوق برأيه وتدبيره.
ثُمَّ تكلم عَبْد اللَّهِ بْن وال وعبد اللَّه بْن سَعْد بْن نفيل بنحو من كَلام رفاعة بْن شداد، وذكرا الْمُسَيِّب بْن نجبة وفضله، وذكرا سُلَيْمَان بْن صرد لسابقته ورضاهما بِهِ، فَقَالَ الْمُسَيِّب: أصبتم ووفقتم، وأنا أرى مثل الَّذِي رأيتم، فولوا سُلَيْمَان أمركم.
فولوه عَلَيْهِم، وقلدوه رئاستهم، فخطب سُلَيْمَان بْن صرد فَقَالَ: إني أخاف ألا نكون أخرنا إِلَى هَذَا الدهر الَّذِي نكدت فِيهِ المعيشة، وعظمت فِيهِ الرزية لما هُوَ خير لنا، نمد أعناقنا إِلَى قدوم آل نبينا، ونعدهم نصرنا، ونحثهم عَلَى المصير إلينا فلما قدموا عَلَيْنَا ونينا وعجزنا وداهنا وتربصنا، حَتَّى قتل ولد نبينا وسلالته وبضعة من لحمه، فأتخذه الفاسقون غرضا للنبل ودرية للرماح، فلا ترجعوا إِلَى الحلائل والأبناء حَتَّى يرضى اللَّه عنكم بأن تناجزوا من قتله وتبيروه، ألا ولا تهابوا الموت، فو الله مَا هابه أحد قط إلا ذل، وكونوا كتوابي بَنِي إسرائيل إذ قَالَ لَهُمْ نبيهم إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتّخَاذِكُمْ العِجْل فَتُوبوا إِلى بَارِئكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكمْ ذلِكُم خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئكُمْ [1] ، فَمَا فعل الْقَوْم جثوا والله للركب، ومدوا الأعناق، ورضوا بالقضاء حين
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 54.(6/365)
علموا أَنَّهُ لا ينجيهم من عظم الذنب إلا الصبر عَلَى القتل، فكيف بكم لو قَدْ دعيتم إِلَى مثل مَا دعي الْقَوْم إِلَيْهِ، اشحذوا السيوف، وركبوا الأسنة وأعدوا لعدوكم مَا استطعتم من قوة.
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن نفيل، أَوْ أخوه خَالِد: أشهد اللَّه ومن حضر من الْمُسْلِمِينَ أني قَدْ جعلت مالي الَّذِي أصبحت أملكه، سِوَى سلاحي الَّذِي أقاتل بِهِ عدوي، صدقة عَلَى الْمُسْلِمِينَ أقويهم بِهِ عَلَى قتال القاسطين، وقام أَبُو المعتمر حنش بْن ربيعة الكناني فَقَالَ: وأنا أشهدكم عَلَى مثل ذَلِكَ، وتصدق حجر بْن عوضة الكندي بماله عَلَيْهِم أيضًا، وتصدق الأسود بْن ربيعة بْن مَالِك بْن ذي العينين الكندي بماله عَلَيْهِم أيضًا.
وكتب سُلَيْمَان بْن صرد إِلَى سَعْد بْن حذيفة يدعوه ومن قبله إِلَى التوبة، والطلب بدم الْحُسَيْن، فأجابوه إِلَى ذَلِكَ، وَهُمْ شيعة بالمدائن، وكانوا انتقلوا إِلَيْهَا من الكوفة، وَقَالَ لَهُمْ سَعْد بْن حذيفة: إنكم كنتم عَلَى نصرة الْحُسَيْن لولا أَن خبر قتله ومعاجلة الْقَوْم إياه أتاكم، فانهضوا لقتال قتلته.
وكتب سُلَيْمَان بْن صرد إِلَى المثنى بْن مخربة العبدي، ومن قبله من شيعة البصرة، بمثل ذَلِكَ، فأجابوه إِلَى النهوض مَعَهُ.
وَكَانَ ابتداء أمر التوابين فِي آخر سنة إحدى وستين، فكانوا يتداعون ويستعدون ويرتأون، وَكَانَ مهلك يَزِيد بْن مُعَاوِيَة فِي شَهْر ربيع الأَوَّل سنة أربع وستين وَكَانَ أجل الشيعة الَّذِي ضربوه لمن كتبوا إِلَيْهِ فِي شَهْر ربيع الآخر سنة خمس وستين، عَلَى أَن يتوافوا ويجتمعوا بالنخيلة.(6/366)
وَكَانَ عُبَيْد اللَّهِ حِينَ أتاه موت يَزِيد بالبصرة وثب بِهِ أهلها حَتَّى استخفى، ثُمَّ لحق بالشام، فلم يزل مَعَ مَرْوَان بْن الحكم إِلَى أَن عقد لَهُ مَرْوَان عَلَى مَا غلب عَلَيْهِ وفتحه من أرض الجزيرة والعراق، ووثب أهل الكوفة بعامله عَمْرو بْن حريث أيضًا فأخرجوه واصطلحوا عَلَى عامر بْن مَسْعُود الجمحي دحروجة الجعل، فكان يصلي بِهِمْ ويدعو لابن الزُّبَيْر حَتَّى عزله ابْن الزُّبَيْر، وولى عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد الخطمي، فقدمها ابْن يَزِيد لثماني بقين من شَهْر رمضان سنة أربع وستين، ويقال: بَعْد ذَلِكَ بأشهر.
وقدم المختار بْن أَبِي عبيد الكوفة بَعْد عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد بثمانية أَيَّام، فكان المختار إِذَا دعا الشيعة إِلَى نَفْسه، وإلى الطلب بدم الْحُسَيْن قَالُوا: هَذَا سُلَيْمَان بْن صرد شيخ الشيعة وَقَدْ أطاعته الشيعة وانقادت لَهُ وولته أمرها، فَيَقُولُ: إِن سُلَيْمَان رجل لا علم لَهُ بالحروب وسياسة الرجال، وَقَدْ جئتكم من قبل الْمَهْدِي مُحَمَّد- يَعْنِي ابْن الحنفية- مؤتمنا منتجبا ووزيرًا مناصحًا، فلم يزل حَتَّى انشعبت إِلَيْهِ طائفة مِنْهُم، وعظمهم مَعَ ابْن صرد، فكان سُلَيْمَان أثقل النَّاس عَلَى المختار.
وأتى يَزِيد بْن الْحَارِث بْن يَزِيد بْن رويم الشيباني عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد الخطمي فأخبره بخبر سُلَيْمَان بْن صرد والمختار بْن أَبِي عبيد وَمَا يدعوان إِلَيْهِ من الطلب بدم الْحُسَيْن بْن عَلِي، وأنه لا يأمن أَن توليه الشيعة، فخطب النَّاس فَقَالَ: إِن قوما اجتمعوا للطلب بدم الْحُسَيْن، فرحم اللَّه الْحُسَيْن، ورحم هَؤُلاءِ الْقَوْم، والله لَقَدْ دللت عَلَى أماكنهم وعليهم، فأبيت أَن أهيجهم، والله مَا قتلت الْحُسَيْن، ولا مالأت عَلَى قتله وما أحببته، فلعن الله قتلته، فليظهر هَؤُلاءِ الْقَوْم آمنين، ثُمَّ ليسيروا إِلَى قاتل الْحُسَيْن وقاتل خياركم وأماثلكم،(6/367)
فَقَدْ أقبل إليكم فَإِن عهد العاهد بِهِ عَلَى مسيرة ليلة من منبج فقتاله والاستعداد لَهُ أحزم وأرشد من أَن تجعلوا بأسكم بينكم، وَكَانَ عامل ابْن الزُّبَيْر عَلَى الخراج دُونَ عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد: إِبْرَاهِيمَ بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّهِ، فقام حِينَ فرغ ابْن يَزِيد من كلامه فَقَالَ: لا يغرّنّكم مقالة هذا المداهن، فو الله لئن خرج عَلَيْنَا خارج لنقتلنه، أَوْ كَمَا قَالَ، فقطع عَلَيْهِ الْمُسَيِّب بْن نجبة كلامه فَقَالَ: أأنت تتهددنا بالقتل إنك لأذل من ذَلِكَ، وَأَمَّا أَنْتَ أيها الأمير فجزاك اللَّه خيرًا، فَقَدْ قُلْت قولا سديدًا، وكلم الْقَوْم إِبْرَاهِيم بكلام شديد غليظ، وَقَالُوا لابن يَزِيد خيرًا، ثُمَّ إِن أَصْحَاب سُلَيْمَان بْن صرد انتشروا يشترون السلاح، ويتجهزون ظاهرين لا يخافون أحدًا [1] .
فلما أهل هلال شَهْر ربيع الآخر سنة خمس وستين، خرج سُلَيْمَان إِلَى النخيلة فِي أَصْحَابه فعسكر بِهَا، وبعث حَكِيم بْن منقذ والوليد بْن غضين بْن مُسْلِم الكناني ثُمَّ الغفاري فِي خيل فناديا بالكوفة: يا لثأرات الْحُسَيْن فتلاحق بِهِ بَعْد النداء قوم، وَكَانَ مبلغ من أثبت فِي ديوانه ستة عشر ألفًا، ويقال:
أثنا عشر ألفًا، فعرض أَصْحَابه ومن اجتمع إِلَيْهِ من أهل الكوفة فوجدهم أربعة آلاف، فَقَالَ: يا سبحان اللَّه أما وافاني من ستة عشر ألفًا إلا أربعة آلاف؟ ويقال إنه قَالَ أما وافاني من اثني عشر ألفًا إلا أربعة آلاف؟! فقيل لَهُ إِن المختار ثبط النَّاس عَنْك، وَقَدْ صار مَعَهُ ألفان فَقَالَ: سبحان اللَّه أما تذكر هَؤُلاءِ الله وما أعطونا من الميثاق.
__________
[1] بهامش الأصل: قيام سليمان بن صرد في أخذ ثأر الحسين بن علي عليه السلام.(6/368)
وَكَانَ مقامه بالنخيلة ثلاثا، ثُمَّ بعث إِلَى من تخلف عَنْهُ يذكرهم اللَّه وَمَا أعطوه من العهود، فخرج إِلَيْهِ مِنْهُم ألف أَوْ نَحْو ألف، فقام إِلَيْهِ الْمُسَيِّب بْن نجبة، فقال: يرحمك الله إنّه لا ينفعك المكره، ولا يقاتل معك إلا من أخرجته النية والحسبة، ومن فر إِلَى ربه من ذنبه، فَقَالَ سُلَيْمَان: أيها النَّاس إنا والله مَا نطلب من الغنيمة إلا رضوان اللَّه، وَمَا معنا من ذهب ولا فضة ولا خز ولا حرير، وَمَا هِيَ إلا سيوفنا عَلَى عواتقنا، ورماحنا بأيدينا وزاد قدر البلغة إِلَى لقاء عدونا، فمن لَمْ يرض بِهَذَا فلا يصحبنا، فنادى النَّاس من كُل جانب: إنا لا نطلب الدنيا، وليس لَهَا خرجنا.
وأجمع سُلَيْمَان المسير فأشار عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن نفيل بأن يطلب بدم الْحُسَيْن عُمَر بْن سَعْد بْن أَبِي وقاص، ومن بالمصر فإنهم الَّذِينَ شركوا فِي دمه وتولوا أمره، فَقَالَ سُلَيْمَان: إِن هَذَا لكما قُلْت، ولكن ابْن زِيَاد هُوَ الَّذِي سرب إِلَيْهِ عُمَر بْن سَعْد والجنود، وعبأهم عَلَيْهِ، وَقَالَ: لا أمان لَهُ عندي، فسيروا إِلَيْهِ فإنكم إِن رزقتم الظفر بِهِ فأمر من دونه أهل مصركم أيسر من أمره.
وعرض عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد الخطمي أَن ينظر إِلَى قدوم ابْن زِيَاد ليكون أمرهم وأمره فِي محاربته واحدًا، فكره ذَلِكَ، فعرض عَلَيْهِ أَن يوجه مَعَهُ جيشًا، وَقَالَ: إنكم أعلام أهل مصركم فَإِن أصبتم أختل مصركم فحاجزه، وأجمع عَلَى الشخوص واستقبال ابْن زِيَاد.
ووعظ سُلَيْمَان النَّاس، ثُمَّ سار من النخيلة، فلما صار إِلَى دير الأعور عرض أَصْحَابه فَإِذَا قَدْ تخلف مِنْهُم نَحْو من ألف، فَقَالَ لأَصْحَابه:
مَا أحب من تخلف عنكم معكم ولو خرجوا فيكم مَا زادوكم إلا خبالا، ولما(6/369)
انتهى سُلَيْمَان وأَصْحَابه إِلَى قبر الْحُسَيْن صرخوا صرخة واحدة، وبكوا وَقَالَ سُلَيْمَان: اللَّهُمَّ ارحم الشهيد بْن الشهيد ونادوا: يا لثأرات الْحُسَيْن، وأظهروا التوبة من خذلانه، ثُمَّ إِن سُلَيْمَان سار فأخذ عَلَى الجصاصة، ثُمَّ عَلَى الأنبار، ثُمَّ صندوداء قرية الأنصار ثُمَّ عَلَى القيارة وبعث سُلَيْمَان عَلَى مقدمته كريب بْن مرثد الحميري.
فلما انتهى إِلَى قرقيسيا أخرج إليهم زفر بْن الْحَارِث الكلابي أنزالا وسوقًا وأهدى إِلَى وجوههم الجزر، ونحر لسائر أهل العسكر، وأمر ابنه الهذيل بْن زفر فأقام لَهُمْ كُل مَا احتاجوا إِلَيْهِ، وزودهم، وَقَالَ لَهُمْ: إِن عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد قَدْ أقبل ومعه حصين بْن نمير السكوني، وَشُرَحْبِيلُ بْن ذي الكلاع الحميري، وأدهم بْن محرز الْبَاهِلِيُّ وربيعة بن المخارق الغنوي، وحملة بن عبد اللَّهِ الخثعمي، وَهُمْ فِي الشوك والشجر، وَقَدْ وردوا الرقة فسيروا إِلَى عين الوردة فاجعلوها فِي ظهوركم فيكون الماء والمادة فِي أيديكم، وَمَا بيني وبينكم فأنتم لَهُ آمنون، وعرض عَلَيْهِم أَن يقيموا عنده فيقاتل معهم، وَقَالَ: إنه يريدني فلا تبرحوا حَتَّى يَكُون أمرنا واحدًا، فلم يفعلوا، فَقَالَ: أما والله لو أَن خيلي كرجالي لأمددتكم.
فأغذوا السير وانتهوا إلى قول زفر بْن الْحَارِث ورأيه وساروا إِلَى الشمسانية وإلى السكير، ثُمَّ إِلَى التنينيرين وساعا، ثُمَّ إِن سُلَيْمَان عبأ الكتائب ووجه إِلَى أول عسكر أهل الشام، وَقَدْ فصلوا من الرقة، وعسكر ابن ذي الكلاع أربعمائة عَلَيْهِم الْمُسَيِّب بْن نجبة، فقاتلوهم قتالا شديدًا فنالوا مِنْهُم وهزموهم وغنموا غنيمة حسنة، فبلغ الْخَبَر ابْن زِيَاد فسرح إليهم الحصين بْن نمير فِي اثني عشر ألفًا، فخرج إليهم سُلَيْمَان فِي التعبئة، فلما(6/370)
تواقفوا دعاهم الحصين إِلَى طاعة عَبْد الْمَلِك، وَكَانَ مَرْوَان قَدْ هلك، ودعاهم سُلَيْمَان إِلَى أَن يسلموا إليهم عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد ويخلعوا عَبْد الْمَلِك، ويخرج عمال عَبْد اللَّهِ بن الزبير، ويسلم الأمر إلى أَهْلِ بَيْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاقتتلوا أشد قتال سمع بِهِ، فهزم أهل الشام يومهم، وحجز الليل بينهم، ثُمَّ قاتلوهم من الغد وَقَدْ أمد ابْن زِيَاد الحصين بابن ذي الكلاع فِي ثمانية آلاف فاقتتلوا قتالا لَمْ ير مثله، ثُمَّ تحاجزوا وَقَدْ فشت فِي الفريقين الجراح، ووافاهم أدهم بْن محرز الْبَاهِلِيُّ فِي عشرة آلاف فالتقوا فقتل سُلَيْمَان بْن صرد الخزاعي، رماه يَزِيد بْن الحصين بسهم، ثُمَّ أخذ الرأيه بعده الْمُسَيِّب بن نجبة الفزاري فقتل، ثُمَّ أخذها عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن نفيل وَهُوَ يَقُول:
فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَنْ يَنْتَظِر [1] رحمكما اللَّه فَقَدْ صدقتما ووفيتما وقاتل فحمل وحمل عليه ربيعة بن المخارق ابن جأوان الغنوي فاختلف هُوَ وعبد اللَّه بْن سَعْد بْن نفيل ضربتين فلم يصنع سَيْفاهما شيئًا، وطعن ابْن أَخِي ربيعة بْن المخارق عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن نفيل فِي ثغره نحره فقتله، وأخذ الرأيه عَبْد اللَّهِ بْن وال التَّيْمِي فقتل، ويقال: بَل دعي ابْن وال حِينَ قتل عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد لتدفع الرأيه إِلَيْهِ فوجدوه قَدِ استلحم فحمل رفاعة بْن شداد، فكشف النَّاس عَنْهُ ثُمَّ إنه أقبل إِلَى الرأيه وَقَدْ أمسكها عَبْد اللَّهِ بْن حازم الكبيري من بَنِي كبير من الأزد، فَقَالَ لابن وال: خذ رأيتك فأخذها وقاتل ابْن وال حَتَّى قتل، وقتل ابْن حازم إِلَى جنب ابْن وال.
وجاء الليل فنظر رفاعة إِلَى كُل جريح، فدفعه إِلَى قومه، وسار بالناس حَتَّى أصبح بالتنينيرين فعبر الخابور، ثُمَّ مضى لا يمر بمعبر إلّا قطعه،
__________
[1] سورة الأحزاب الآية: 23.(6/371)
ودلف أهل الشام لمحاربتهم حِينَ أصبحوا فوجدوهم قَدْ مضوا فلم يتبعوهم، وسار رفاعة بالناس فأسرع وخلف وراءهم أبا الجويرية العبدي فِي سبعين فارسًا لحمل من سقط من الرجال، وقبض مَا وجد من المتاع وحفظه عَلَى أهله وتعريفه، فلما مروا بزفر بْن الْحَارِث بقرقيسيا بعث إليهم من الطعام والعلف بمثل الَّذِي كَانَ بعث بِهِ فِي بدأتهم، وأرسل إليهم الأطباء والأدوية، وَقَالَ: أقيموا عندنا إِن أحببتم فَإِن لكم الكرامة والمواساة، فأقاموا ثلاثًا، ثُمَّ زودهم وساروا فأقبل ابْن زِيَاد يريد زفر بْن الْحَارِث.
وجاء سَعْد بْن حذيفة بْن اليمان من المدائن حَتَّى انتهى إِلَى هيت، فاستقبله الأعراب فأخبروه بِمَا لقي النَّاس فانصرف، ولقي سَعْد المثنى بْن مخربة بصندوداء فأخبره الْخَبَر، فأقاما فيمن معهما حَتَّى قيل لهما إِن رفاعة قَدْ أظلكما فاستقبلوه فبكى بَعْضهم إِلَى بَعْض، وانصرف سَعْد بْن حذيفة بمن مَعَهُ إِلَى المدائن، وانصرف أهل الكوفة إِلَى الكوفة، وانصرف ابْن مخربة إِلَى البصرة.
وقوم يزعمون: إِن سَعْد بْن حذيفة كَانَ وجه إِلَى أهل عين الوردة ابْن الحصل يبشرهم بإقبالهم إليهم ليقووا منتهم وتطيب أنفسهم، وأن ابْن مخربة وافاهم بقبر الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلام فِي بدأتهم وشهد حربهم والله أعلم.
وقال هشام ابن الكلبي عَنْ أَبِيهِ: قتل بعين الوردة حجر بْن عوضة بْن حجر بْن مَالِك بْن ذي العينين، واسم ذي العينين مُعَاوِيَة بْن مَالِك بْن الْحَارِث بْن بداء الكندي، وَبَعْض الرواة يَقُول عوضة وَذَلِكَ خطأ.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: بعث حصين بْن نمير إِلَى سُلَيْمَان بْن صرد حِينَ التقوا إنى أعرف لَك حقك وسنك وقرابتك، وأنا اكره قتالك، فبعث إليه(6/372)
والله مَا خرجت وأنا أحب الحياة، فوجه إِلَيْهِ سُلَيْمَان بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الكلاعي فِي خمسة آلاف فقتل ابْن صرد، ثُمَّ أخذ الرأيه ابْن نجبة فقتل، ثُمَّ ابْن سَعْد بْن نفيل فقتل.
قَالُوا: وأتى أدهم بْن محرز عَبْد الْمَلِك ببشارة الفتح، فصعد عَبْد الْمَلِك الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أما بَعْد فَإِن اللَّه قَدْ أهلك من أهل العراق ملقح الْفِتْنَة، ورأس الضلالة سُلَيْمَان بْن صرد، ألا وإن السيوف تركت رأس ابن نجبة خذاريف. ألا وَقَدْ قتل اللَّه مِنْهُم رجلين ضالين مضلين: عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد أَخَا الأزد، وابن وال أَخَا بَكْر بْن وائل، فلم يبق بَعْد هَؤُلاءِ أحد عنده دفاع ولا امتناع ثُمَّ نزل.
ولما قدم رفاعة بْن شداد وأَصْحَابه الكوفة، كَانُوا يقولون إِذَا ذكر لَهُمْ أَصْحَابهم: صبروا والله، وفررنا، وخفنا أَن نلقي بأيدينا إِلَى التهلكة، وأن نؤكل أهل الشام لحومنا، وقلنا لعل الأيام تبقى لَهُمْ منا شرًا.
وَكَانَ عُمَر بْن سَعْد بْن أَبِي وقاص، وشبث بْن ربعي الرياحي، ويزيد بْن الْحَارِث بْن يَزِيد بْن رويم يقولون لعبد اللَّه بْن يَزِيد الخطمي، وإبراهيم بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّه عاملي ابْن الزُّبَيْر عَلَى الكوفة، بَعْد خروج ابْن صرد: إِن المختار بْن أَبِي عبيد أشد عليكم من ابْن صرد، وَهُوَ يَقُول إِذَا ذكر ابْن صرد: إنه عشمة من العشم وحفش من الأحفاش بال، لَيْسَ بذي تجربة للأمور، ولا علم بالحروب وأنا رجل أعمل عَلَى مثال مثل لي، وأمر تقدم فِيهِ إلي، ويدل بنفسه غَيْر إدلال ابْن صرد، وليس البلد والمختار فِيهِ لكم ببلد، فأودعوه الحبس حَتَّى يجتمع النَّاس عَلَى رجل، فأخذاه فحبساه مقيدا.(6/373)
وقدم رفاعة وأَصْحَابه الكوفة من عين الوردة، وَهُوَ محبوس، فكتب إليهم: أما بَعْد فمرحبا بالعصبة الَّذِينَ حكم اللَّه لَهُمْ بالأجر حِينَ رحلوا، ورضي انصرافهم حِينَ أقبلوا، إِن سُلَيْمَان بْن صرد رحمه اللَّه تَعَالَى قضى مَا عَلَيْهِ وتوفاه اللَّه إِلَيْهِ، فجعل روحه مَعَ أرواح الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وَلَمْ يكن بصاحبكم الَّذِي تنتظرون، ولكني الآمر والمأمور وقاتل الجبارين فأعدوا واستعدوا فإني أدعوكم إِلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه والطلب بدماء أهل الْبَيْت، والدفع عن الضعفة وجهاد المحلّين فأجابوه إلى مَا دعاهم إِلَيْهِ، وَقَالُوا: إِن شئت أخرجناك من محبسك، فَقَالَ: أنا أخرج فِي أيامي هذه، وكانت صفية بنت أَبِي عبيد أخته امْرَأَة عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب، فكتب إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر يعلمه أَن ابْن يَزِيد وابن مُحَمَّد بْن طَلْحَةَ حبساه لغير جناية، فكتب إليهما يسألهما إخراجه، فأخرجاه، فكان من أمره ما كان [1] .
__________
[1] بهامش الأصل: بلغ العرض الثالث ولله كل حمد وفضل.(6/374)
أمر المختار بْن أَبِي عبيد الثقفي وقصصه
قَالُوا: ولد الْمُخْتَار بْن أَبِي عُبَيْد بْن مَسْعُود بْن عَمْرو بْن عمير بْن عوف بْن عقدة بْن غيرة بْن عوف بْن قسي- وَهُوَ ثقيف- بْن منبه بْن بَكْر بْن هوازن فِي السنة الَّتِي هاجر فِيهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَةِ، وتزوج أبوه دومة بنت عَمْرو بْن وهب بْن معتب، وَكَانَ قبل تزوجه إياها يختار نساء قومه فرأى فِي منامه قائلا يَقُول لَهُ: تزوج دومه. فإنها عظيمة الحومه.
لا يسمع فِيهَا من لائم لومه، فتزوجها فلما اشتملت عَلَى المختار رأت فِي منامها قائلا يَقُول لَهَا: أبشري بولد. أشد من الأسد. إِذَا الرجال فِي كبد. يتغالبون عَلَى بلد. لَهُ فِيهِ الحظ الأسد، فلما ولد قيل لَهَا إِن ابنك قبل أَن يتسعسع [1] . وبعد أَن يترعرع. كثير التبع. قليل الهلع. خنشليل [2] غَيْر ورع. يدان بِمَا صنع.
__________
[1] السعسعة: اضطراب الجسم كبرا والهرم والفناء. القاموس.
[2] الخنشليل: السريع، الماضي، والضخم الشديد. القاموس.(6/375)
وَكَانَ مَعَ أَبِيهِ أَبِي عبيد بْن مَسْعُود حِينَ وجهه عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ إِلَى العراق فِي الثقل، وَكَانَ لَهُ يَوْم قتل أبوه ثَلاث عشرة سنة، وَكَانَ يَقُول: والله لأعلون منبرًا بَعْد منبر. ولأفلن عسكرًا بَعْد عسكر ولأخيفن أهل الحرمين. ولأذعرن أهل المشرقين والمغربين. وإن خبري لفي زبر الأولين.
وَكَانَ المختار مَعَ عمه بالمدائن حِينَ جرح الْحَسَن بْن عَلِي فِي مظلم ساباط أشار عَلَى عمه بدفعه إِلَى مُعَاوِيَة، والتقرب إِلَيْهِ بِهِ، طلبه قوم من الشيعة مِنْهُم الْحَارِث الأعور، وظبيان بْن عُمَارَةَ التميمي ليقتلوه، فكلم عمه الْحَسَن فسألهم الإمساك عَنْهُ فأمسكوا وَكَانَ المختار عِنْدَ الشيعة عثمانيًا.
فلما بعث الْحُسَيْن بْن عَلِي مُسْلِم بْن عقيل نزل دار المختار، فبايعه المختار فيمن بايعه سرًا، وخرج ابْن عقيل يَوْم خرج والمختار فِي ضيعة لَهُ بخطرنيه [1] ، وَلَمْ يكن خروج مُسْلِم عَنْ مواعدة لأَصْحَابه، إِنَّمَا خرج بداهة حِينَ كَانَ من أمر هانئ مَا كَانَ وقدم المختار الكوفة مسرعًا، فوقف عَلَى بَاب الْمَسْجِد الَّذِي يعرف بباب الفيل فِي جَمَاعَة، فمر بِهِ هانئ بْن أَبِي حية الوادعي فقال له يا بن أَبِي عبيد لا أَنْتَ فِي منزلك ولا مَعَ الْقَوْم- يَعْنِي أهل الكوفة من أَصْحَاب ابن زياد- فقال: أمسى رأيي مرتجنا عليّ لعظيم خطبكم، فأتى هانئ عَمْرو بْن حريث، وَهُوَ خليفة ابْن زِيَاد فأخبره بقول المختار فأرسل إِلَيْهِ عَمْرو بْن حريث رسولا وَقَالَ لَهُ: استنهه عَنْ نَفْسه، وحذره أَن يجعل عَلَيْهَا سبيلا، فقام زائدة بْن قدامة الثقفي فقال: آتيك به على أنّه
__________
[1] خطرنيه: ناحية من نواحي بابل العراق. معجم البلدان.(6/376)
آمن وإن رقي إِلَى الأمير عُبَيْد اللَّهِ فِيهِ شَيْء قمت بشأنه عنده؟ فَقَالَ عَمْرو بْن حريث: أما مني فَهُوَ آمن، وَأَمَّا الأمير فإن بلغه عنه شيء ءأقمت لَهُ بمحضره الشهادة وشفعت عنده أَحْسَن الشفاعة، فأبلغ المختار رسالة عَمْرو بْن حريث فأتى حتى جلس تحت رأيته وبات ليلته، ثُمَّ إِن ابْن زِيَاد جلس لِلنَّاسِ وفتح بابه فدخل المختار عَلَيْهِ فلما رآه قَالَ لَهُ: أَنْتَ المقبل فِي الجموع لنصر ابْن عقيل؟ فَقَالَ: والله مَا بت إلا تَحْتَ رأيه عَمْرو، فرفع ابْن زِيَاد قضيبا كَانَ فِي يده فاعترض بِهِ وجه المختار فشتر عينه، وشهد لَهُ عَمْرو عَلَى مَا قَالَ، فَقَالَ ابْن زِيَاد لولا شهادة عَمْرو لَك لضربت عنقك، وأمر بِهِ فحبس فلم يزل محبوسًا حَتَّى قتل الْحُسَيْن.
ثُمَّ إِن المختار سأل زائدة بْن قدامة الثقفي أَن يسير إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر فيسأله الكتاب إِلَى يَزِيد بْن مُعَاوِيَة فِي استيهابه منه، وكانت صفية بنت أَبِي عبيد أخت المختار عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر، فسار ابْن قدامة إِلَى ابْن عُمَر فكتب إِلَى يَزِيد بِمَا سأل المختار، فكتب يَزِيد إِلَى ابْن زِيَاد بتخلية سبيل المختار فخلاه وأجله فِي المقام بالكوفة ثلاثًا، فخرج فِي اليوم الثالث إِلَى الحجاز، فلقيه ابْن الغرق من وراء واقصة، فلما رأى شتر عينه استرجع فَقَالَ المختار:
شتر عيني ابْن الزانية بالقضيب، قتلني اللَّه إِن لَمْ أقطع أنامله وأباجله وأعضاءه إربا إربًا، فاحفظ هَذَا الْكَلام عني، ثُمَّ ذكر ابْن الزُّبَيْر فَقَالَ: إِن سمع مني وقبل عني كفيته أمر النَّاس، وإلا فلست بدون رجل من العرب، إِن الْفِتْنَة قَدْ برقت ورعدت، وكأن قَدِ انبعثت فوطئت فِي خطامها، فروي عَنِ ابْن الغرق أَنَّهُ قَالَ: حدثت بِهَذَا الْحَدِيث الْحَجَّاج بْن يُوسُف، وضحك وذكر سجع المختار فَقَالَ: كَانَ يَقُول: ورافعة ذيلها. وصائحة ويلها.(6/377)
بدجلة أو حولها. فو الله مَا أدري مَا كَانَ يَقُول، إلا أَنَّهُ كَانَ رجلًا دينًا، ومقارع أعداء، ومسعر حرب.
قَالَ: وقدم المختار عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، فرحب بِهِ وأوسع لَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا حال العراق يا أبا إِسْحَاق؟ قال: هم لسلطانهم فِي العلانية أولياء، وَفِي السر أعداء، فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: هذه صفة عبيد السوء إِذَا رأوا أربابهم خدموهم وأطاعوهم، وإذا غابوا عَنْهُم شتموهم وعابوهم، وعرض عَلَى ابْن الزُّبَيْر أَن يقلده أمره ويستكفيه إياه فلم يفعل، فقام عَنْهُ ولحق بالطائف فتصرف فِي أموره وغاب عَنِ ابْن الزُّبَيْر سنة، وجعل يَقُول: أنا مبير الجبارين، فبلغ ذَلِكَ ابْن الزُّبَيْر فَقَالَ: إِن يهلك اللَّه الجبارين يكن المختار أحدهم، قاتله اللَّه كذابا متهكمًا.
وأقبل المختار بَعْد سنة حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِد وابن الزُّبَيْر فِي ذكره فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: اذكر غائبًا تره، وأقبل المختار فطاف بالبيت وصلى عِنْدَ الحجر ركعتين، ثم جلس واجتمع إليه قوم يسلّمون عليه، واستبطأه ابْن الزُّبَيْر فَقَالَ لَهُ بَعْضهم: قم إِلَيْهِ فَقَدِ استبطأك؟ فَقَالَ أتيته عامًا أول فعرضت عَلَيْهِ نفسي فرأيته منحرفًا عني، والله إنه إلي لأحوج مني إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عَبَّاس بْن سهل بْن سَعْد الساعدي: إنك أتيته نهارًا، وَهَذَا أمر تضرب عَلَيْهِ الستور، فأته ليلًا، فَقَالَ: أنا فاعل، فلما كَانَ الليل أتاه عَبَّاس، فمضيا جميعًا حَتَّى دخلا عَلَى ابْن الزُّبَيْر فسلم عَلَيْهِ ابْن الزُّبَيْر وصافحه، فابتدأ المختار القول فَقَالَ: إنه لا خير في الإكثار من المنطق، ولا حظّ فِي التقصير عَنِ الحاجة، وَقَدْ جئتك لأبايعك عَلَى أَن لا تقضي أمرًا دوني، وعلى أَن أكون أول من تأذن لَهُ، وإذا ظهرت استعنت بي عَلَى أفضل عملك؟ فَقَالَ ابن(6/378)
الزبير: أُبَايِعُكَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ؟ فَقَالَ المختار: لو أتاك شر غلماني لبايعته هذه المبايعة العامة، والله لا أبايعك إلا عَلَى هذه الخصال، فبسط ابْن الزُّبَيْر يده فبايعه.
ومكث المختار مَعَهُ حَتَّى شهد حصار ابْن الزُّبَيْر الأَوَّل، وَهُوَ حصار حصين بْن نمير السكوني، وقاتل فِي جَمَاعَة مَعَهُ أشد القتال وأغني أَعْظَم الغناء، ولما كَانَ آخر يوم قاتل فيه الحصين بن نمير ابن الزُّبَيْر نادى: يا أهل الشام أنا المختار بْن أَبِي عبيد، أنا الكرار غَيْر الفرار، أنا المقدم غَيْر المحجم إِلَى يا أهل الحفاظ وحماة الأدبار، وَكَانَ آخر أيامهم فِي القتال اليوم الَّذِي علم أهل الشام فِيهِ بموت يَزِيد، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن بحدج بْن ربيعة أحد بَنِي عامر بْن حَنِيفَة فِي عصابة من الخوارج من أهل اليمامة يقاتل مدافعة عَنِ الْبَيْت، لا غضبًا لابن الزُّبَيْر.
وأقام المختار مَعَ ابْن الزُّبَيْر حَتَّى انصرف عَنْهُ الحصين بْن نمير وأهل الشام إِلَى الشام، فلما رأى أَن ابْن الزُّبَيْر لا يوليه شيئًا أقبل يسأل النَّاس عَنْ خبر الكوفة وأهلها، فيقال لَهُ إنهم أخرجوا عَمْرو بْن حريث عامل ابْن زِيَاد واصطلحوا عَلَى عامر بْن مَسْعُود بْن أمية بْن خلف، فَيَقُولُ: أنا أَبُو إِسْحَاق، أنا لَهَا إذ لَيْسَ لَهَا أحد غيري، أنا راعيها إِذَا أظل راعيها، ثُمَّ ركب رواحله وأتى الكوفة، فلما صار بنهر الحيرة اغتسل وادهن، ولبس ثيابه، واعتم وتقلد بسَيْفه وركب راحلته فمر بمسجد السكون، وجبانة كندة، وجعل لا يمر بمسجد إلا سلم عَلَى أهله حَتَّى مر ببني بداء من كندة، فسلم عَلَى عُبَيْدَة بْن عَمْرو البدي، وَقَالَ: يا أبا عَمْرو أبشر بالنصر واليسر والفرج إنك عَلَى رأى تستر مَعَهُ العيوب، وتغفر الذنوب، وَكَانَ عبيدة من(6/379)
أشد النَّاس تشيعا وحبا لعلي، وَكَانَ شجاعًا، فَقَالَ للمختار: بشرك اللَّه بخير، قَالَ: القني رحمك اللَّه وأهل مسجدك، ودار عَلَى الشيعة من همدان وغيرها يبشرهم ويبلغهم السَّلام عَنِ ابْن الحنفية.
فيقال: إنه لما أراد الشخوص إِلَى الكوفة أتى ابْن الحنفية فَقَالَ لَهُ إني عَلَى الشخوص للطلب بدمائكم، والانتصار لكم، فسكت ابْن الحنفية فلم يأمره وَلَمْ ينهه فَقَالَ إِن سكوته عني إذن لي وودعه، فَقَالَ لَهُ ابْن الحنفية:
عليك بتقوى اللَّه مَا استطعت، ويقال: إنه لما قَالَ لَهُ: إني عَلَى الشخوص للطلب بدمائكم والانتصار لكم قَالَ: إني لأحب أَن ينصرنا ربنا ويهلك من سفك دماءنا ولست آمر بحرب ولا إراقة دم، فَإِنَّهُ كفى بالله لنا ناصرًا، ولحقنا أخذًا وبدمائنا طالبًا.
وَحَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّهِ بْن صَالِح بْن مُسْلِم الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ- وسئل هل كَانَ أمر المختار عَنْ رأي محمد ابن الحنفية- فَقَالَ: كَانَ لِذَلِكَ سبب، إلا أَنَّهُ أمره بِمَا لَمْ يعمل بِهِ.
وَقَالَ أَبُو مخنف فِي روايته: لما اجتمعت الشيعة إِلَى المختار حَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بعد فإنّ المهديّ ابن الوصي مُحَمَّد بْن عَلِي بعثني إليكم أمينًا ووزيرًا ومنتجبًا وأميرًا، وأمرني بقتال المحلين والطلب بدماء أهل بيته الطيبين، فكان أول من بايعه عُبَيْدَة بْن عَمْرو، وَقَدْ كانت الشيعة مجتمعة لسليمان بْن صرد الخزاعي، فجعل يثبطها عَنْهُ وَيَقُول هَذَا رجل عشمة هامة اليوم أَوْ غد، وإنما يريد أَن يقتلكم ونفسه، فَإِنَّهُ لا علم لَهُ بالحروب وسياسة الأمور حتى مال إِلَيْهِ كثير مِنْهُم، وَكَانَ ابْن الزُّبَيْر قَدْ جعل مكان عامر بْن مَسْعُود عَلَى صلاة الكوفة وحربها عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد الأَنْصَارِي،(6/380)
ثُمَّ أحد بَنِي خطمه، وعلى الخراج إِبْرَاهِيم الأعرج بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّه فأتاهما عُمَر بْن سَعْد بْن أَبِي وقاص ويزيد بْن الْحَارِث بْن يَزِيد بْن رويم الشيباني، وشبث بْن ربعي الرياحي فَقَالُوا لهما: إِن سُلَيْمَان بْن صرد يريد قتال أعدائكما، وإن المختار يريد الوثوب بكما فِي مصركما والإفساد عليكما، فأخذاه فحبساه وقيداه.
فكان يَقُول فِي السجن: أما ورب البحار. والنخل والأشجار.
والمهامه والقفار. والملائكة الأبرار. والمصطفين الأخيار. لأقتلن كُل جبار.
بكل لدن خطار. ومهند بتار. فِي جموع من الأنصار. ليسوا بميل أغمار.
ولا عزل أشرار. حَتَّى إِذَا أقمت عمود الدين. ورأبت صدع الْمُسْلِمِينَ.
وشفيت غليل صدور الْمُؤْمِنيِنَ. وأدركت ثأر أبناء النبيين. لَمْ يكبر عَلِي فراق الدنيا وَلَمْ أحفل بالموت إِذَا أتى.
وَكَانَ يسجع بَعْد خروج ابْن صرد إِلَى الجزيرة فَيَقُولُ: عدوا لغزيكم أَكْثَر من عشر. وأقل من شَهْر. فليأتينكم نبأ هتر. وطعن نتر. وضرب هبر.
وقتل جم. وأمر قَدْ حم. فمن لَهَا يَوْمَئِذٍ، أنا لَهَا.
وكتب من الحبس إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر: «أما بَعْد فَقَدْ حبست مظلومًا، وظن بي ولاة المصر ظنونًا، وحملت عني أكاذيب، فأكتب رحمك اللَّه إِلَى هذين الواليين الظالمين فِي أمري لعل اللَّه يتخلصني ببركتك» ، فكتب ابْن عُمَر إليهما: «أما بَعْد فَقَدْ علمتما الَّذِي بيني وبين المختار بْن أَبِي عبيد من الصهر، وَمَا أنا عَلَيْهِ لكما من الود فأقسمت عليكما بِمَا بيني وبينكما لما خليتما سبيله» ، فلما أتى الكتاب عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد، وإبراهيم بْن مُحَمَّد دعوا المختار وَقَالُوا: هات بكفلاء يضمنونك فضمنه زائدة بْن قدامة الثقفي، وعبد(6/381)
الرحمن بن أَبِي عمير الثقفي، والسائب بْن مَالِك الأشعري وقيس بْن طهفة النهدي، وعبد اللَّه بْن كامل الشاكري من همدان، ويزيد بْن أَنَس الأسدي، وأحمر بْن شميط البجلي ثُمَّ الأحمسي، وعبد اللَّه بْن شداد الجشمي ورفاعة بْن شداد البجلي، وسليم بْن يَزِيد الكندي ثُمَّ الجوني، وسعيد بْن منقذ الهمداني ثُمَّ الثَّوْرِي أَخُو حبيب بْن منقذ، ومسافر بْن سَعِيد بْن عمران الناعطي وسعر بْن أَبِي سعر الحنفي، فلما ضمنوه دعا بِهِ عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد وإبراهيم بْن مُحَمَّد فأحلفاه ألا يبغيهما غائلة ولا يخرج عليهما مَا كَانَ لهما سلطان، فلما خرج من عندهما قَالَ: أما حلفي لهما بالله فإنّه ينبغي لي أن اكفّر يميني فإنّ خروجي عليهما خير، ومن حلف عَلَى يمين فرأى غيرها خيرًا منها أتى الَّذِي هُوَ خير وكفر عَنْ يمينه، وَأَمَّا حلفي بعتق مماليكي فوددت أني نلت الَّذِي أريد وأني لا أملك مملوكا أبدًا وَأَمَّا هدي ألف بدنه فذلك أهون عَلِي من بصقة.
ثُمَّ إنه صار إِلَى داره فتداكت عَلَيْهِ الشيع يبايعونه، فلم يزل أَصْحَابه يكثرون وأمره يقوى حَتَّى عزل ابْن الزُّبَيْر عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد وإبراهيم بْن مُحَمَّد وولى عَبْد اللَّهِ بْن مطيع بْن الأسود الكوفة، فقدمها فِي شَهْر رمضان سنة خمس وستين وبعث ابْن الزُّبَيْر الْحَارِث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة المخزومي، وَهُوَ القباع، عَلَى البصرة، وخرج إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد إِلَى الْمَدِينَةِ وكسر الخراج عَلَى ابْن الزُّبَيْر، وَقَالَ: إنها كانت فتنة، وقبل خروجه حبسه ابْن مطيع، فكتب إِلَيْهِ إِسْمَاعِيل بْن طَلْحَةَ: «والله لتطلقنه أَوْ لتعلمن أني لَك بئس الشعار وأنها لَك بئس الدار» ، فأطلقه.(6/382)
ودعا ابْن مطيع النَّاس إِلَى البيعة لابن الزُّبَيْر، وَلَمْ يسمه، وَقَالَ:
بايعوا لأمير الْمُؤْمِنيِنَ فكان مِمَّن بايعه فضالة بْن شريك الأسدي، ويقال: ابْن همام السلولي وَقَالَ:
دعا ابْن مطيع للبياع فجئته ... إِلَى بيعة قلبي لَهَا غَيْر عارف
فأخرج لي خشناء حيث لمستها ... من الخشن ليست من أكف الخلائف
من الشثنات الكزم أنكرت مسها ... وليست من البيض السباط اللطائف
معاودة ضرب الهراوي لقومها ... فرورًا إِذَا مَا كَانَ يَوْم التسايف
وَلَمْ يسم إذ بايعته من خليفتي ... وَلَمْ يشترط إلا اشتراط المجازف
قَالُوا: وخطب ابْن مطيع فَقَالَ إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بعثني عَلَى مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم ولا أحمل شَيْئًا مِمَّا يفضل عنكم إلا أَن ترضوا بحمل ذَلِكَ، فاتقوا اللَّه واستقيموا ولا تختلفوا، وخذوا فَوْقَ أيدي سفهائكم فو الله لأوقعن بالسقيم العاصي، ولأقيمن درء [1] الأصعر المرتاب، ولأبالغن للمحسن فِي الإحسان، ولأتبعن سيرة عُمَر وعثمان، فَقَالَ لَهُ السائب بْن مَالِك: أما سيرة عُثْمَان فكانت هوى وأثره فلا حاجة لنا فِيهَا، وَأَمَّا سيرة عُمَر فأقل السيرتين ضررًا عَلَيْنَا لكن عليك بسيرة عَلِي بْن أَبِي طَالِب، فإنا لا نرضى بِمَا دونها، فَقَالَ ابْن مطيع: نسير فيكم بكل مَا تهوون وتريدون، وَكَانَ عَلَى شرط ابْن مطيع إياس بْن مضارب الْعِجْلِيِّ، وَقَالَ لَهُ حِينَ ولاه:
عليك بحسن السيرة والشدة عَلَى أهل الريبة.
__________
[1] الدرء: الميل والعوج في القناة ونحوها.(6/383)
قَالُوا: وبعث ابْن مطيع إياسًا إِلَى المختار ليأتيه بِهِ فتمارض المختار ودعا بقطيفة وَقَالَ: إني لأجد قفقفة، وجعل المختار يبعث إِلَى أَصْحَابه فيجمعهم فِي الدور حوله، وأراد الوثوب بالكوفة فِي المحرم، فجاء رجل من شبام يقال لَهُ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن شريح إِلَى وجوه الشيعة فَقَالَ لَهُمْ: إِن المختار يريد الخروج بنا ولا ندري لعل مُحَمَّد بْن عَلِي لَمْ يوجهه إلينا، فانهضوا بنا إِلَيْهِ لنخبره خبره فَإِن رخص لنا فِي اتباعه اتبعناه، وإن نهانا عَنْهُ اجتنبناه فَمَا ينبغي أَن يَكُون شَيْء آثر عندنا من أدياننا، فخرج عَبْد الرَّحْمَنِ بْن شريح الشبامي، والأسود بن جراد الكندي، وسعر بْن أَبِي سعر الحنفي فِي عدة معهم إِلَى ابْن الحنفية، فلما لقوه قَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ: إنكم أهل بَيْت قَدْ خصكم اللَّه بالفضيلة، وشرفكم بالنبوة، وعظم حقكم عَلَى الأمة فلا يجهله إلا غبين الرأي مخسوس الحظ، وَقَدْ أصبتم بحسين رحمه اللَّه، وأتانا المختار بْن أَبِي عبيد يزعم أَنَّهُ جاء من تلقائك يطلب بدمه، فمرنا بأمرك، فَقَالَ ابْن الحنفية: إِن الفضل بيد اللَّه يؤتيه من يشاء، فالحمد لِلَّهِ عَلَى مَا آتانا وأعطانا، وَأَمَّا المصيبة بحسين فَقَدْ خصت أهله، وعمّت المسلمين، وما دعاكم المختار إليه، فو الله لوددت أَن اللَّه انتصر لنا بمن شاء من خلقه، فَقَالُوا: هَذَا إذن منه، ورخصة، ولو شاء لقال: لا تفعلوا حَتَّى يبلغ اللَّه أمره، فلم تكن إلا زيادة أَيَّام على الشهر حتى وافوا الكوفة فبدءوا بالمختار، وَكَانَ ظنه ساء، وخاف أَن يَأْتِي الْقَوْم بأمر يخذلون بِهِ الشيعة عَنْهُ، فَقَالَ لَهُمْ حِينَ قدموا: ارتبتم وتحيرتم، فَمَا وراءكم؟ قَالُوا: أذن لنا فِي نصرتك، فَقَالَ: اللَّه أكبر أنا أَبُو إِسْحَاق، اجمعوا إلي الشيعة، فاجتمعوا فقال: إنّ نفرا منكم أحبّوا أن يعلموا مصداق مَا جئت بِهِ، فرحلوا إِلَى إمام الهدى.(6/384)
والنجيب المرتضى. وابن خير من جلس ومشى. بعد النَّبِي المصطفى.
فسألوه عما قدمت لَهُ. فأنبأهم أني وزيره وظهيره ورسوله، فقام عَبْد الرَّحْمَنِ بْن شريح فَقَالَ: إنا قدمنا عَلَى الْمَهْدِي بْن عَلِي فأمرنا بمظاهرة المختار ومؤازرته، وإجابة دعوته، فأقبلنا طيبة أنفسنا منشرحة صدورنا، قَدْ أذهب اللَّه عنا الشك والغل والريب، واستقامت لنا بصيرتنا فِي قتال عدونا، فليبلغ ذَلِكَ شاهدكم غائبكم، وقام الوفد رجلا رجلا فتكلموا بنحو مَا تكلم بِهِ عَبْد الرَّحْمَنِ، فاستجمعت لَهُ الشيعة، وَقَالُوا: إِن أشراف أهل الكوفة مجمعون عَلَى قتالك مَعَ ابْن مطيع فَإِن جاء معنا إِبْرَاهِيم بْن الأشتر عَلَى أمرنا رجونا القوة بإذن اللَّه عَلَى عدونا، فَإِنَّهُ فتى بئيس، وابن رجل شريف وَلَهُ عشيرة ذَات عز وعدد.
فروي عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: فخرج إِلَيْهِ وجوه الشيعة، وأنا فيهم فكلموه ودعوه إِلَى الطلب بدم الْحُسَيْن، وأهل الْبَيْت، وَقَالُوا: إِن هَذَا أمر جسيم إِن أجبتنا إِلَيْهِ، عادت لَك منزلة أبيك فِي النَّاس، وأحييت شرفه وَمَا كَانَ مشهورًا بِهِ من الفضل، ونصرة الحق، والغضب لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأهل بيته فَقَالَ: قَدْ أجبتكم إِلَى مَا دعوتموني إِلَيْهِ من الطلب بدم الْحُسَيْن وأهل بيته عَلَى أَن تولوني الأمر.
فَقَالُوا: أَنْتَ لِذَلِكَ أهل، ولكن الْمَهْدِي مُحَمَّد بْن عَلِي وجه المختار إلينا فَهُوَ الآمر والمأمور بالقتال، وَقَدْ شخص إِلَيْهِ نفر منا اختبارًا لما جاء بِهِ فأمرنا بطاعته، ثُمَّ إِن المختار أتاه فِي جَمَاعَة من الشيعة بَعْد أَيَّام كثيرة، فأقرأه كتابًا من مُحَمَّد بْن عَلِي إِلَيْهِ نسخته:
«من مُحَمَّد الْمَهْدِي بْن عَلِي إِلَى إِبْرَاهِيم بْن مالك.(6/385)
أما بَعْد: فإني بعثت إليكم المختار بْن أَبِي عبيد، نصيحي ووزيري، وثقتي وأميني المرضي عندي، للطلب بدماء أهل بَيْتِي، فانهض مَعَهُ بنفسك وعشيرتك وأتباعك ومن أطاعك، فإنك إِن نصرتني، وساعدت وزيري، كانت لَك عندي بِذَلِكَ فضيلة، ولك الأعنة والمنابر، وكل بلد ظهرت عَلَيْهِ فيما بَيْنَ الكوفة وأقصى بلاد الشام» .
فَقَالَ ابْن الأشتر: قَدْ كاتبت مُحَمَّد بْن عَلِي، وكاتبني فَمَا رأيته كتب إلي قط إلا باسمه اسم أَبِيهِ، لا يَزِيد عَلَى ذَلِكَ، وَقَدِ استربت بِهَذَا الكتاب، فقام يَزِيد بْن أَنَس، وأحمر بْن شميط، وعبد اللَّه بْن كامل بْن عَمْرو الهمداني ثُمَّ الشاكري، وورقاء بْن عازب الأسدي، فشهدوا أَنَّهُ كتاب ابْن الحنفية، فتنحى إِبْرَاهِيم عَنْ صدر المجلس وأجلس المختار فِيهِ وبايعه.
فمكثوا يدبرون أمرهم حَتَّى أجمع رأيهم عَلَى أَن يخرجوا ليلة النصف من شَهْر ربيع الأَوَّل سنة ست وستين، ووطنوا عَلَى ذَلِكَ شيعتهم ومن معهم، فلما كَانَ عِنْدَ غروب الشَّمْس ليلة النصف وَهِيَ ليلة الميعاد، قام إِبْرَاهِيم بْن الأشتر فصلى المغرب حِينَ قَالَ القائل: أخوك أم الذئب؟ ثُمَّ أتى المختار، قَالَ الشَّعْبِيُّ: فأقبلنا مَعَهُ وَعَلَيْنَا السلاح فلم يمكن فِي تلك الليلة الخروج، فاتعدوا لليلة الخميس.
الْمَدَائِنِي فِي إِسْنَادِهِ، قَالَ: كَانَ للمختار مجلس يجلس فِيهِ بالطائف ليلًا فرفع رأسه إِلَى السماء ثُمَّ قال متمثّلا:(6/386)
ذو مناديح [1] وذو ملتبط [2] ... وركاب حيث وجهت ذلل
لا تذمن بلدا تكرهه ... وإذا زلت بك النعل فزل
قَدْ والله مَاتَ يَزِيد، فَمَا لبثوا أَن جاء موته.
الْمَدَائِنِي فِي إِسْنَادِهِ، قَالَ: ركب المختار يومًا مَعَ المغيرة بْن شُعْبَة، فمر بالسوق فَقَالَ المغيرة: أما والله إني لأعرف كلمة لو دعا بِهَا أريب لاستمال بِهَا أقوامًا فصاروا لَهُ أنصارًا، ثم لا سيّما العجم الَّذِينَ يقبلون مَا يلقى إليهم، قَالَ المختار: وَمَا هِيَ يا عم؟ قَالَ: يدعوهم إِلَى نصرة آل مُحَمَّد والطلب بدمائهم، فكانت في نفس المختار حتى دعا.
__________
[1] الندح: الكثرة والسعة، وما اتسع من الأرض. القاموس.
[2] التبط البعير: خبط بيديه وهو يعدو، وفلان سعى وتحير واضطرب، والقوم أطافوا به ولزموه. القاموس.(6/387)
مقتل إياس بْن مضارب وابنه راشد بْن إياس
قَالُوا: وبلغ ابْن مطيع إجماع المختار بالخروج فأخبر إياسًا بِذَلِكَ وَهُوَ عَلَى شرطه، فخرج إياس فِي الشرط، وبعث ابنه راشد إِلَى الكناسة وأقبل يسير حول السوق فِي الشرط، وأشار عَلَى ابْن مطيع أَن يبعث إِلَى كُل جبانة عظيمة رجلا من ثقاته فِي جَمَاعَة من أهل الطاعة لَهُ، فوجه ابْن مطيع عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سَعِيد بْن قَيْس الهمداني إِلَى جبانة السبيع فَقَالَ: أكفني قومك، وبعث كعب بْن أَبِي كعب الخثعمي إِلَى جبانة بشر بْن ربيعة الخثعمي، وبعث زحر بْن قَيْس الجعفي إِلَى جبانة كندة، وبعث شمر بْن ذي الجوشن الكلابي إِلَى جبانة سالم، وبعث عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف إِلَى جبانة مراد، وأمر كُل امرئ مِنْهُم أَن يتحفظ ويحكم أمره وَمَا يليه، وبعث شبث بْن ربعي إِلَى السبخة، فخرج إِبْرَاهِيم بْن الأشتر إِلَى المختار ليلة الأربعاء فِي جَمَاعَة عظيمة عَلَيْهِم الدروع وَهُمْ متقلدو السيوف وَقَدْ كفروا الدروع بالأقبية، وستروا السيوف، وفيهم شراحيل وابنه عامر بْن شراحيل الشَّعْبِيُّ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
كَانَ إِبْرَاهِيم فتى حدثا شجاعًا لا يكره أَن يلقى أحدًا من أَصْحَاب ابْن(6/389)
مطيع، فمر بدار عَمْرو بْن حريث المخزومي فلقيه إياس بْن مضارب فِي الشرط، فَقَالَ: من أنتم؟ قَالَ إِبْرَاهِيم: أنا إِبْرَاهِيم بْن مَالِك الأشتر، فَقَالَ: مَا هَذَا الجمع لَقَدْ رابني أمرك، ولست بتاركك حَتَّى آتي بك الأمير وَكَانَ مَعَ إياس رجل همداني يكنى أبا قطن، وَفِي يده رمح لَهُ طويل، وَكَانَ صديقًا لإبراهيم فاستدناه إِبْرَاهِيم فدنا منه وَهُوَ يظن أَنَّهُ يكلمه فِي مسألة ابْن مضارب الإمساك عَنْهُ، فكلمه إِبْرَاهِيم بشيء، ثُمَّ استلب الرمح منه وحمل عَلَى إياس فطعنه فِي ثغرة نحره، فصرعه وأمر رجلا مِمَّن مَعَهُ فاحتز رأسه، وتفرق أَصْحَاب ابْن مضارب، فبعث ابْن مطيع راشد بْن إياس بْن مضارب مكان أَبِيهِ عَلَى الشرطة، وصير مكان راشد بالكناسة سويد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن بجير المنقري أبا القعقاع بْن سويد، وبعضهم يَقُول: هُوَ سويد بْن عَمْرو، وَالأَوَّل أصح، وأقبل إِبْرَاهِيم بْن الأشتر إِلَى المختار فَقَالَ إنا اتعدنا للخروج القابلة، وَهِيَ ليلة الخميس وَقَدْ حدث أمر لا بدّ لنا مَعَهُ من الخروج الليلة، وأخبره خبر ابْن مضارب وألقى رأسه بَيْنَ يديه، فَقَالَ المختار: بشّرك اللَّه بخير فهذا أول الفتح، ثُمَّ لبس المختار سلاحه وأمر فنودي: «يا مَنْصُور أمت» وأمر أيضًا فنودي: «يا لثارات الْحُسَيْن» وجعل يَقُول:
قَدْ علمت بيضاء حسناء الطلل ... واضحة الخدين عجزاء الكفل
أني غداة الروع مقدام بطل
وَقَالَ ابْن الأشتر: إِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ رتبهم ابْن مطيع فِي المواضع يمنعون إخواننا من المصير إلينا وإتياننا، فالرأي أَن آتي قومي فِي كتيبتي هذه الَّتِي جئتك فِيهَا ليجتمعوا، ثُمَّ أدور فِي نواحي الكوفة، وأنادي بشعارنا فيخرج(6/390)
إِلَى من أراد الخروج، فَقَالَ المختار: استخر اللَّه، ففعل إِبْرَاهِيم، وجعل كلما تسرعت إِلَيْهِ خيل كشفها، ثُمَّ عاد يخترق السكك ويجتنب منها سكك الأمراء.
وخرج المختار فِي جَمَاعَة أَصْحَابه حَتَّى نزل عِنْدَ السبخة، ونادى أَبُو عُثْمَان النهدي فِي شاكر: ألا إِن وزير آل مُحَمَّد قَدْ خرج وبعثني إليكم، فخرجوا من الدور ينادون: «يا لثأرات الْحُسَيْن» وضاربوا كعب بْن أَبِي كعب الخثعمي وَهُوَ بجبانة بشر حَتَّى خلى لَهُمُ الطريق، فأتوا عسكر المختار، وجاء حجار بْن أبجر الْعِجْلِيُّ فعبأ لَهُ المختار أحمر بْن شميط الأحمسي، فقاتله وأقبل إليهم ابْن الأشتر فلما أحس بِهِ حجار هرب وأَصْحَابه، وتوافى إِلَى المختار من كُل قبيل المائة والمائتان، وكانوا يحملون عَلَى من عرض لَهُمْ حَتَّى تتام إِلَيْهِ ثلاثة آلاف وثمانمائة رجل، فعبأهم المختار وكتبهم، وتوجه ابْن الأشتر إِلَى راشد بْن إياس بْن مضارب فلقيه فِي جبانة مراد وَهُوَ فِي أربعة آلاف، فاقتتلوا، فقتل خزيمة بن نصر العبسي، أبو نصر بْن خزيمة المقتول مَعَ زَيْد بْن عَلِي بْن الْحُسَيْن، راشد بْن إياس ونادى: قتلت راشدًا ورب الْكَعْبَة، وانهزم أَصْحَاب راشد، فَقَالَتْ أخته ترثيه:
لحى اللَّه قوما أسلموا أمس راشدًا ... بجبانة الدارين عِنْدَ مراد
فلا ولدت عجلية بَعْد راشد ... غلامًا ولا حلت بصوب رعاد
وجعل إِبْرَاهِيم يحرض أَصْحَابه فَيَقُولُ إنه لَيْسَ مَعَ الحق قلة، ولا مَعَ الباطل كثرة فكَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّه واللَّه معَ الَّصابرين [1] .
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 249.(6/391)
أمر حسان بْن فائد وحصار ابْن مطيع وهربه
قَالُوا: وأقبل إِبْرَاهِيم بْن الأشتر بَعْد قتل راشد بْن إياس نَحْو المختار وقدم البشراء بَيْنَ يديه بقتل راشد، فقويت أنفس أَصْحَابه ودخل ابْن مطيع وأَصْحَابه الفشل والوهن، فسرح ابْن مطيع حسان بْن فائد بْن بُكَيْر بْن إساف العبسي فِي نَحْو من ألفين فاعترض لَهُ إِبْرَاهِيم ليرده عمن بالسبخة من أَصْحَابه، فزحف إِبْرَاهِيم إِلَيْهِ فِي أَصْحَابه، فَمَا تطاعنوا برمح ولا تضاربوا بسَيْف حَتَّى انهزم أَصْحَاب حسان وظفروا بِهِ فكلم فِيهِ خزيمة بْن نصر العبسي إِبْرَاهِيم وَقَالَ: ابْن عمي فحمله إِبْرَاهِيم عَلَى فرس وَقَالَ: الحق بأهلك.
وقصد إبراهيم بن الأشتر لشبث بْن ربعي فاعترضه يَزِيد بْن الْحَارِث بْن يَزِيد بْن رويم ليصده عَنْهُ، فأمر إِبْرَاهِيم خزيمة بْن نصر أَن يصمد لَهُ، فهزم خزيمة يَزِيد وكشف إِبْرَاهِيم شبثا وأَصْحَابه، فانهزموا إِلَى ابْن مطيع وولى ابْن مطيع شرطته بَعْد إياس وابنه سويد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ المنقري أبا القعقاع واستخلف عَلَى المصر شبث بْن ربعي، وضم إِلَى مساحق بْن عَبْد اللَّهِ بْن مخرمة القرشي ثُمَّ العامري، ويقال إِلَى ابنه نوفل بْن مساحق، خمسة آلاف فاجتمعت مقاتله ابْن مطيع إِلَيْهِ، وَقَدْ صار إِلَى الكناسة، فدلف إليهم ابْن الأشتر وَقَالَ لأَصْحَابه: انزلوا ولا يهولنكم آل فُلان، وآل فُلان، فَإِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ ترون لو قَدْ وجدوا وقع السيوف انفرجوا عَنِ ابْن مطيع انفراج المعزى، ثُمَّ أخذ أسفل قبائه فأدخله فِي منطقة لَهُ حمراء من حواشي البرود، ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه: شدوا عَلَيْهِم فداكم عمي وخالي، فَمَا لبثوا أَن انهزموا، وركب بَعْضهم بَعْضًا عَلَى أفواه السكك،(6/392)
وازدحموا وانتهى ابْن الأشتر إِلَى مساحق، أَوِ ابْن مساحق، فرفع عَلَيْهِ بالسَيْف فَقَالَ لَهُ: يا بن الأشتر هل بيني وبينك إحنة أَوْ عداوة، أَوْ لَك قبلي ثأر تطلبني بِهِ؟ فخلى سبيله، فكان بَعْد ذَلِكَ يشكره.
وأتى ابْن مطيع القصر، واتبعه ابْن الأشتر وجاء المختار حَتَّى دَخَلَ الْمَسْجِد وولى حصار ابْن مطيع فِي القصر إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، وأحمر بْن شميط، ويزيد بْن أَنَس الأسدي، فصار كُل امرئ مِنْهُم فِي ناحية من القصر، ومكث ابْن مطيع ثلاثا يرزق أَصْحَابه الدقيق، ومعه أشراف النَّاس إلا عَمْرو بْن حريث، فَإِنَّهُ دَخَلَ القصر مَعَهُ، ثُمَّ كره الحصار فخرج من الكوفة، وأشار شبث بْن ربعي عَلَى ابْن مطيع أَن يأخذ لنفسه أمانًا، ويخرج فأبى ذَلِكَ، قَالَ: الأمر مستقيم بالحجاز لأمير الْمُؤْمِنيِنَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر وبالبصرة، فكيف أرضى بِهَذِهِ المنزلة؟ فَقَالَ: فإذ كرهت هذه فصر إِلَى بَعْض من تثق بِهِ سرًا فاستخف عنده، ثُمَّ الحق بأمير الْمُؤْمِنيِنَ، فَقَالَ لأسماء بْن خارجة بْن حصن الفزاري، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف، وأشراف أهل الكوفة: مَا ترون فيما أشار بِهِ شبث؟ قَالُوا: هُوَ الرأي، قَالَ: ننتظر المساء، واطلع من القصر رجل فشتم المختار، فرماه عَمْرو بْن مَالِك النهدي أَبُو نمر بسهم فعقره وَلَمْ يقتله فَقَالَ:
خذها من ابْن مَالِك ... من فاعل كَذَلِكَ
ولما أمسى ابْن مطيع جمع الأشراف الَّذِينَ مَعَهُ فَقَالَ: جزاكم اللَّه عَنِ الطاعة خيرًا، أما إني سأعلم أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بِمَا كَانَ محاماتكم وجدكم واجتهادكم، فَقَالَ شبث: جزاك الله من أمير خيرا، فَقَدْ عففت عَنْ أموالنا وأكرمت أشرافنا، ونصحت لإمامك وقضيت الَّذِي عليك وَمَا(6/393)
كُنَّا لنفارقك إلا بإذن منك، فَقَالَ: ليذهب كُل امرئ منكم إِلَى حيث أحب، ثُمَّ احتال للخروج فخرج من ناحية دار الروميين، حَتَّى أتى آل أَبِي موسى وخلى القصر، واستأمن أصحابه فآمنهم ابْن الأشتر، وخرجوا فبايعوا المختار.
قَالُوا: ودخل المختار القصر فِي اليوم الرابع من حصار ابْن مطيع فَقَالَ: «الحمد لِلَّهِ الَّذِي وعد وليه النصر. وعدوه الخسر. وجعله فِيهِ إِلَى آخر الدهر. وعدا مفعولا. وقضاء مقضيا. وَقَدْ خاب من افترى. إنه رفعت لنا رأيه. ومدت لنا غاية. فقيل لنا فِي الرأيه. ارفعوها ولا تضعوها. وَفِي الغاية اجروا إِلَيْهَا ولا تعتدوها. فسمعنا دعوة الداعي.
وإهابة الراعي. فكم من ناع وناعية. لقتيل فِي الواغية. وبعدًا لمن طغى. وكذب وتولى. ألا ادخلوا أيّها الناس فبايعوا بيعة هدى. فو الذي جعل السماء سقفًا ملفوقًا. وَالأَرْض فجاجًا سبلا. مَا بايعتم بَعْد بيعة أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عَلِي وآل عَلِي بيعة أهدى منها» ، فبايعه النَّاس عَلَى كتاب اللَّه وسنة نبيه، والطلب بدماء أهل الْبَيْت، وجهاد المحلين، والدفع عَنِ الضعفاء، وقتال من قاتله، وسلم من سالمه، والوفاء بعهده وبيعته لا يقيل ولا يستقيلون، فكان الرجل إِذَا عرض عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَالَ: نعم، ماسحه، فجاء المنذر بْن حسان بْن ضرار الضبي ليبايع ومعه ابنه فرآهما جَمَاعَة من الشيعة، كَانُوا وقوفا مَعَ سَعِيد بْن منقذ الهمداني، فَقَالُوا: هَذَا والله من رؤساء الجبارين فشدوا عَلَيْهِ وعلى ابنه فقتلوهما، فصاح بِهِمْ سَعِيد: لا تعجلوا، وبلغ ذَلِكَ المختار فكرهه حَتَّى استبينت فِي وجهه كراهته، وبعث المختار إِلَى ابْن مطيع: إني قَدْ عرفت مكانك وَقَدْ ظننت أَن بك عجزًا عَنِ النهوض، وقد(6/394)
بعثت إليك بمائة ألف درهم، فقبلها ابْن مطيع وشخص عَنِ الكوفة، وَكَانَ المختار قَدْ وجد فِي بَيْت مال الكوفة تسعة آلاف ألف درهم، فأعطى أَصْحَابه ومن بايعه، وأحسن المختار مجاورة أهل الكوفة والسيرة فيهم، وأكرم الأشراف، وولى شرطته عَبْد اللَّهِ بْن كامل الشاكري، وولى حرسه كَيْسَان مولى عرينة، ويكنى أبا عمرة، وَهُوَ صاحب الكيسانية وولى المختار عماله، وولى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سَعِيد بْن قَيْس الموصل.
وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر كتب إلى ابن مطيع فِي تولية مُحَمَّد بْن الأشعث الموصل فولاه إياه فلما وردها عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سَعِيد انحاز ابْن الأشعث إِلَى تكريت، وكتب بخبره إِلَى ابْن الزُّبَيْر، فكتب إِلَيْهِ ابْن الزُّبَيْر قَدْ فهمت كتابك ولا عذر لَك عندي فيما فعلت، أتخلي أرض الموصل وخراجها وحصونها من غَيْر جهاد ولا إعذار وَقَدْ خرطتك عَلَيْهَا فأنت تأكل منها الكثير وتبعث إلي بالقليل، فو الله لو لَمْ تقاتل مناصحة لإمامك ولا طلبا لثواب ربك لكنت حريا بأن تقاتل عَنْ بلد أَنْتَ أميره لَك خيره وعليك عيبه فلم تفعل ذَلِكَ غضبًا ولا محاماة عَلَى سلطانك، فلست فِي أمر دنياك بالحازم القوي ولا أمر آخرتك بالخائف التقي، فَقَدْ عجزت عَنْ عدوك وضيعت مَا وليتك والسلام.
وأتاه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد ابنه فَقَالَ لَهُ: عَلَى ماذا نقيم فِي غَيْر عز ولا منعة ولا انتظار قوة، وَلَمْ يزل بِهِ حَتَّى قدم الكوفة ودخل عَلَى المختار فسلم عَلَيْهِ ودعا لَهُ وهنأه وعرض عَلَيْهِ أَن يجلس للقضاء فأبى ذَلِكَ، فأجلس المختار شريحًا للقضاء، ثُمَّ إنه تمارض فقيل للمختار: إنه عثماني فصير عَلَى(6/395)
الْقَضَاء عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْن مَسْعُود، ثُمَّ مرض فصير مكانه عَبْد اللَّهِ بْن مَالِك الطائي.
وَكَانَ ابْن همام السلولي الشاعر عثمانيًا، وَكَانَ سمع رجلا من الشيعة نال من عُثْمَان فعنفه فاستخفى حِينَ ظهروا، وقوي أمرهم، ثُمَّ قَالَ فِي المختار شعرًا وأتاه وأنشده إياه فحمله المختار عَلَى فرس وَقَالَ لأَصْحَابه إنه قَدْ أثنى عليكم فأعطاه قَيْس بْن طهفة النهدي فرسًا ومطرفًا، ووثب بِهِ قوم من الشيعة فأجاره ابْن الأشعث فامتنعوا منه، وسمع المختار الضوضاء فخرج إليهم فَقَالَ: إِذَا قيل لكم خير فأقبلوا وإذا قدرتم عَلَى مكافأة فافعلوا، وإلا فتنصلوا واتقوا لسان الشاعر فَإِن شره حاضر وقوله جارح، ومضى بِهِ إِبْرَاهِيم بْن الأشتر إِلَى منزله فأعطاه ألف درهم وفرسًا، وَكَانَ ابْن همام حِينَ حصر ابْن مطيع فِي القصر فتدلى منه مَعَ ناس تدلوا أيضًا فَقَالَ:
لما رَأَيْت القصر أغلق بابه ... وتعلقت همدان بالأسباب
ورأيت أفواه الأزقة حولنا ... ملئت بكل هراوة وذياب
ورأيت أَصْحَاب الدقيق كأنهم ... حول البيوت ثعالب الأسراب
أيقنت أَن إمارة ابْن مضارب ... لَمْ تبق منها قَيْس أثر ذباب
وَكَانَ عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد حِينَ أوقع بالتّوابين بعين الوردة، وحاول الظفر بزفر بْن الْحَارِث فلم يمكنه فِيهِ شَيْء، أقبل نَحْو الموصل فكتب عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سَعِيد بْن قَيْس الهمداني إِلَى المختار يعلمه أَن خيل عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد قَدْ أشرفت عَلَى الموصل، وأنه لَيْسَ مَعَهُ خيل ولا رجال، وأنه خائف أَن يعجز عَنْهُ وانحاز إِلَى تكريت، فولى المختار يَزِيد بْن أَنَس بْن كلاب الأسدي الموصل، وأمره أَن لا يناظر عدوه وأن ينتهز الفرصة منه إِذَا(6/396)
أمكنته، وَقَالَ لَهُ: إني ممدك بمدد بَعْد مدد، وإن ذَلِكَ أشد لعضدك، وأعز لجندك، وأهد لعدوك، ثُمَّ ضم إِلَيْهِ ورقاء بْن عازب الأسدي وسعر بْن أَبِي سعر الحنفي، وبعث ابْن زِيَاد بَيْنَ يديه ربيعة بْن المخارق الغنوي، وعبد اللَّه بْن حملة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الخثعمي فِي ستة آلاف، هَذَا فِي ثلاثة آلاف، وَهَذَا فِي ثلاثة آلاف، وسبق ربيعة إِلَى يَزِيد، فخرج إِلَيْهِ يَزِيد بالناس وَهُوَ مريض لما بِهِ وَذَلِكَ فِي ذي الحجة سنة ست وستين، فجعل يحرض النَّاس ويأمرهم بالصبر والجد والعزم، ثُمَّ التقوا من لدن طلوع الشَّمْس إِلَى ارتفاع الضحاء فهزم المختارية ربيعة وأَصْحَابه، وحووا عسكرهم، وقتل ربيعة بْن المخارق، قتله عَبْد اللَّهِ بْن صبرة، وَلَمْ يمس يَزِيد حَتَّى مَاتَ فانصرف أَصْحَابه كراهة أَن يقيموا بَعْد أميرهم.
فولى المختار إِبْرَاهِيم بْن الأشتر الموصل وأمره أَن يرد جيش يَزِيد بْن أَنَس مَعَهُ إِلَى الموصل، فلما خرج من الكوفة أرجف أهلها بالمختار وطمعوا فِيهِ، فكتب إِلَى إِبْرَاهِيم فِي الرجوع.
وَكَانَ أَصْحَاب المختار يسمون الخشبية، لأن أكثرهم كَانُوا يقاتلون بالخشب، ويقال إنهم سموا الخشبية لأن الَّذِينَ وجههم المختار إِلَى مَكَّة لنصرة ابْن الحنفية أخذوا بأيديهم الخشب الَّذِي كَانَ ابْن الزُّبَيْر جمعه ليحرق بِهِ ابْن الحنفية وأَصْحَابه فيما زعم، ويقال بَل كرهوا دخول الحرم بسيوف مشهورة فدخلوه ومعهم الخشب وَلَمْ يسلوا سيوفهم من أغمادها.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أتي يَزِيد بن أنس الأسدي بأسرى وهو لمابه، فجعل يَقُول: أقتل أقتل حَتَّى ثقل لسانه فجعل يومىء بيده حتى ثقلت يده، فجعل يومىء بحاجبيه حَتَّى مَاتَ عَلَى تلك الحال.(6/397)
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: لما وجه المختار يَزِيد بْن أَنَس الأسدي توجه إِلَيْهِ حصين بْن نمير، فقدم أمامه حملة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الخثعمي فالتقوا بباتلى [1] فقتل حملة وأتي يَزِيد بستة آلاف أسير فضرب أعناقهم، وَهُوَ يكيد بنفسه ثُمَّ مَاتَ.
وقدم مُصْعَب عَلَى البصرة والكوفة في أوّل سنة سبع وستين فتوقف عَنْ قتال المختار حينًا.
يَوْم جبانة السبيع
قَالُوا: لما سار ابْن الأشتر يريد الموصل تواطأ أهل الكوفة عَلَى حرب المختار وَقَالُوا: إِنَّمَا هَذَا كاهن، فخرج عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سَعِيد بْن قَيْس الهمداني بجبانة السبيع، وخرج زحر بْن قَيْس الجعفي، وإسحاق بْن الأشعث فِي جبانة كندة، وخرج كعب بْن أَبِي كعب الخثعمي فِي جبانة بشر، وخرج عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف فِي الأزد، وخرج شمر بْن ذي الجوشن فِي جبانة بَنِي سلول وخرج شبث بْن ربعي بالكناسة فِي مضر، وخرج حجار بْن أبجر الْعِجْلِيُّ، ويزيد بْن الْحَارِث بْن يَزِيد بْن رويم فِي ربيعة بناحية السبخة، وخرج عَمْرو بْن الْحَجَّاج الزبيدي فِي جبانة مراد، وبلغ من فِي جبانة السبيع أَن المختار قَدْ عزم عَلَى معاجلتهم، فأقسموا عَلَى من فِي النواحي من الأشراف اليمانية أَن يصيروا بأَصْحَابهم إليهم، فتواقف اليمانية جميعًا فِي جبانة السبيع، ويقال أَن عَمْرو بْن الْحَجَّاج الزبيدي وحده أقام فيمن مَعَهُ بجبانة مراد وَلَمْ يأتهم.
__________
[1] في تاريخ الطبري ج 6 ص 42 «بنات تلى» ولم يذكر ياقوت ما يساعد على الضبط.(6/398)
وأقبل إِبْرَاهِيم بْن الأشتر من المدائن مجدًا فِي السير مجذما لَهُ حَتَّى قدم الكوفة، ووافى المختار فرأى المختار أَنَّهُ إِن وجه إِبْرَاهِيم لقتال قومه بجبانة السبيع لَمْ يبالغ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: ازحف أَنْتَ إِلَى شبث بْن ربعي، فقاتل المضرية بالكناسة وأمضي أنا إِلَى جبانة السبيع، فنفذ إِبْرَاهِيم لأمره ومضى هُوَ حَتَّى صار فِي طرف الجبانة، ووجه أحمر بْن شميط [1] ، وعبد اللَّه بْن كامل إِلَى من بِهَا، وأمرهما بقتالهم، وانتهى ابْن الأشتر إلى مضر واليمن فقاتلهم قتالا شديدا فهزمهم، ولقي ابن شميط وابن كامل أهل اليمن بجبانة السبيع، وَقَدْ صار إليهم شمر بْن ذي الجوشن، ويقال إنه لَمْ يصر إليهم ولكنه صار إِلَى مضر فهزم ابْن شميط حَتَّى لحق وأَصْحَابه بالمختار، وصبر ابْن كامل فِي جَمَاعَة من أصحابه فأمدّه المختار بثلاثمائة رجل مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن قراد الخثعمي ثُمَّ ثابت إِلَى ابْن شميط ثائبة من أَصْحَابه، فقاتل وقاتلوا، وبعث المختار بأبي القلوص ومعه جَمَاعَة من شبام، فدخلوا الجبانة، وَهُمْ ينادون:
يا لثأرات الْحُسَيْن ونادى أيضًا أَصْحَاب ابْن شميط وابن كامل يا لثأرات الْحُسَيْن وحملوا فلم يلبثوا أَن هزموا من بجبانة السبيع فلما هزمت مضر واليمن تفرقت ربيعة، وكل من اعتزى إِلَى اليمن ومضر، ويقال بَل أتى أولئك أَصْحَاب المختار فقاتلوهم أيضًا قتالا خفيفًا حَتَّى تفرقوا، وَقَالَ قوم: بَل قاتل يَوْمَئِذٍ بجبانة السبيع رفاعة بْن شداد البجلي مَعَ المختار، وَهُوَ يَقُول:
أنا ابْن شداد عَلَى دين عَلِي ... لست لعثمان بْن أروي بولي
لأصلين اليوم فيمن يصطلي ... بحر نار الحرب غير ملتوي
__________
[1] بهامش الأصل: بالشين المعجمة.(6/399)
وَقَالَ آخرون: أَنَّهُ قاتل يَوْمَئِذٍ مَعَ أهل الكوفة فقتل، ويقال: إنه بقي بَعْد المختار وَذَلِكَ الثبت [1] .
حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ حَدَّثَنِي رِفَاعَةُ بْنُ شَدَّادٍ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ عَلَى رَأْسِ الْمُخْتَارِ، فَلَمَّا عَرَفْتُ كِذَابَتَهُ هَمَمْتُ وَايْمُ اللَّهِ أَنْ أَضْرِبَ عُنُقَهُ، فَذَكَرْتُ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [ «مَنْ أَمِنَ رَجُلا عَلَى نَفْسِهِ فَقَتَلَهُ أُعْطِيَ لِوَاءَ غَدْرٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [2]] .
حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الرقِيُّ الْمُعَلِّمُ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ عَنْ نُصَيْرِ بْنِ أَبِي نُصَيْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ عَنْ رِفَاعَةَ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْمُخْتَارِ وَإِذَا وِسَادَتَانِ مُلْقَاتَانِ فَقَالَ: يَا فُلانُ ائْتِ فُلانًا، لِرَجُلٍ دَخَلَ، بِوِسَادَةٍ، قُلْتُ:
وَمَا هَاتَانِ الْوِسَادَتَانِ؟ فَقَالَ: قَامَ عن إحداهما جبريل وعن الأخرى ميكائيل [3] ، فو الله إِنْ مَنَعَنِي مِنْ أَنْ أَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ إِلا حَدِيثُ حَدَّثَنِي بِهِ عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: [ «مَنِ ائْتَمنَهُ رَجُلٍ عَلَى دَمِهِ فَقَتَلَهُ فأنا منه بريء وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا» [4]] .
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: كَانَ المختار يَقُول: العجب كُل العجب.
بَيْنَ جمادى ورجب، وَكَانَ يَقُول: أحياء وأموات. وجميع وأشتات.
والموجبة الواجبة. جبا كذا جبه، فقاتله النعمان بْن صهبان يَوْم جبانة السبيع فقتل، قَالَ: وقاتل رفاعة بن شدّاد مع أهل الكوفة.
__________
[1] بهامش الأصل: أخبار المختار.
[2] كنز العمال الحديث 10943.
[3] بهامش الأصل: زعم المختار أنه كان يأتيه جبريل وميكائيل.
[4] كنز العمال- الحديث 10930.(6/400)
قَالُوا: وقتل المختارية يَوْم جبانة السبيع النعمان بْن صهبان الراسبي، وَكَانَ ناسكا شيعيًا قدم من البصرة ليقاتل مَعَ الشيعة ويطلب بدم الْحُسَيْن، فسمع من المختار كلامًا أنكره فقاتله مَعَ أهل جبانة السبيع حَتَّى قتل، والفرات بْن زحر وعمرو بْن مخنف وَمَالِك بْن حزام بْن ربيعة، وَهُوَ ابْن أَخِي لبيد بْن ربيعة الشاعر، ويقال بَل قتل مَعَ المضرية، وَقَالُوا: ولما هزم أهل جبانة السبيع استخرج من دور الوادعيّين من همدان خمسمائة أسير، فأتى بِهِمُ المختار فقتل مِنْهُم من كَانَ شهد مقتل الْحُسَيْن فكانوا مائتين وثمانية وأربعين، ويقال كَانُوا مائتين وخمسين.
وَكَانَ سراقة بْن مرداس البارقي صنع أشعارًا فجعل يَقُول:
أمنن عَلِي اليوم يا خير معد ... وخير من لبى وحيا وسجد
فأمر بِهِ فحبس ليلة ثُمَّ خلاه فَقَالَ شعرا ذكر فِيهِ أَنَّهُ رأى الملائكة تقاتل مَعَ المختار عَلَى خيل بلق، فأمره المختار أَن يصعد المنبر فيعلم النَّاس مَا رأى ففعل، ثُمَّ هرب إِلَى مُصْعَب بْن الزُّبَيْر وَهُوَ بالبصرة وَقَالَ:
ألا أبلغ أبا إِسْحَاق أني ... رأيت البلق دهما مصمتات
كفرت بوحيكم وجعلت نذرًا ... عَلِي قتالكم حَتَّى الممات
أري عيني مَا لَمْ تبصراه ... كلانا عالم بالترهات
وأخذ المختار سحيما مولى عتبة بْن فرقد السلمي، وَكَانَ يكثر الْكَلام فِيهِ فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ القائل قاتلوا الكذاب، وَمَا علمك أني كذاب، فضرب عنقه.
وَقَالَ عُبَيْد اللَّهِ بْن همام السلولي رحمه الله تعالى:(6/401)
وَفِي ليلة المختار مَا يذهل الفتى ... ويلهيه عَنْ رؤد [1] الشباب شموع
دعا يا لثارات الْحُسَيْن فأقبلت ... كتائب من همدان بَعْد هزيع
ومن مذحج جاء الرئيس ابْن مَالِك ... يقود جموعا عبئت لجموع
ومن أسد وافى يَزِيد لنصره ... بكل فتى ماضي الجنان منيع
وزعم بَعْضهم أَن شبث بْن ربعي قتل يَوْمَئِذٍ واحتجّ بشعر أعشى همدان حِينَ يَقُول:
جزى اللَّه إِبْرَاهِيم عَنْ أهل مصره ... جزاء امرئ عَنْ وجهه الحق ناكب
سما بالقنا من أرض ساباط مرقلا ... إِلَى الْمَوْت إرقال الجمال المصاعب
فصب عَلَى الأحياء من صوب ودقه ... شآبيب موت عقبت بالحرائب
فأضحى ابْن ربعي قتيلا مجدلًا ... كأن لَمْ يقاتل مرة ويحارب
فأما أَبُو إِسْحَاق فانصاع سائرًا ... إِلَى عسكر جم القنا والكتائب
فلما التقينا بالسبيع وأنسلوا ... إلينا ضربنا هامهم بالقواضب
فَمَا راعنا إلا شبام تحسنا ... بأسيافها لا أسقيت صوب هاضب
أيقتلنا المختار ظلما بكفره ... فيا لَك دهرا مرصدا بالعجائب
ومن نفى قتل شبث يَوْمَئِذٍ رُوِيَ هَذَا الْبَيْت.
فأضحى ابْن صهبان قتيلا مجدلًا
وَذَلِكَ الثبت وَالأَوَّل غلط وإنما مَاتَ شبث حتف أنفه، وكانت وقعة الجبانة فِي ذي الحجة سنة ست وستين، فلما فرغ المختار منها أمر إِبْرَاهِيم بْن الأشتر بالمسير للقاء عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد وطلب قتله الْحُسَيْن وأهله.
__________
[1] ترأد: اهتز نعمة.(6/402)
وجعل يَقُول فِي سجعه: أما ومنشئ السحاب. شديد العقاب.
سريع الحساب. منزل الكتاب. الْعَزِيز الْوَهَّاب. القدير الغلاب. لننبشن قبر كثير بْن شهاب. المفتري الكذاب. المعيب المعتاب. المجرم المرتاب.
ثُمَّ لابعثن الأحزاب. إِلَى بلاد الأعراب. ثُمَّ لأورثن دورهم وقصورهم وأموالهم الصابرين الصادقين السامعين المنيبين.
وَكَانَ يَقُول:
ورب البلد الأمين. وحرمة طور سينين. لأقتلن الشاعر الهجين.
أعشى الناعطيين. وسوء برق البارقين. ابن الأمة جلولاء خانقين.
الَّذِي مننت عَلَيْهِ فكفر. وتابعني فغدر. وغدا يلقي فينحر. ثُمَّ يصير إِلَى سقر. فيذوق فِيهَا العذاب الأكبر. وويل لابن همام اللعين. وَأَخِي الأسديين. أولئك أولياء الشياطين. وإخوان الكافرين. الَّذِينَ قرفوا عَلِي الأباطيل. وتقولوا عَلِي الأقاويل. فسموني كذابا وأنا الصادق المصدوق.
وكاهنا وأنا المجيب الفاروق. وطوبى لعبد اللَّه وعبيدة [1] . وَأَخِي ليلي الطريدة. ذوي الأخلاق الحميدة. والمقالة السديدة. والأنفس السعيدة.
وَقَالَ أيضًا: أما والذي خلقني بصيرًا. ونور قلبي تنويرًا. لأحرقن بالمصر دورا. ولأنبشن قبورًا. ولأقتلن جبارًا كفورًا.
وَقَالَ أيضًا: فِي صفر الأصفار. يقتل كُل جبّار. على يد المختار.
__________
[1] بهامش الأصل: يعني ابن كامل وعبيدة بن عمرو الكندي.(6/403)
وَكَانَ يَقُول: أما ورب الجبال الشم. الشوامخ الصم. لأقتلن أزد عمان. بكل شيعي يمان. من مذحج وهمدان. ولأبيرن عبسا وذبيان وتميما أولياء الشَّيْطَان. حاشا النجيب ظبيان [1] .
وَقَالَ: أما ورب القلم. واللوح ذي الكرم. لتدينن لي العرب والعجم: ولاتخذن من تميم خدم.
وَقَالَ: أما والسميع العليم. العزيز الكريم. لأعركنّ عمان عرك الأديم. ثُمَّ لاتخذن خدما من تميم.
وَكَانَ يمسح رأس ابنته ثُمَّ يَقُول: صلى اللَّه على عيسى بْن مريم، لأنه فيما يزعمون كَانَ يَقُول سيتزوجها المسيح بْن مريم عليه السلام.
__________
[1] بهامش الأصل: ظبيان بن عبادة.(6/404)
مقتل عُمَر بْن سَعْد بْن أَبِي وقاص ومن شرك فِي دم الْحُسَيْن عَلَيْهِ السَّلام
حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن عوانة قَالَ: كَانَ لعمر بْن سَعْد بْن أَبِي وقاص جعبة فِيهَا سياط قَدْ كتب على سوط منها عشرة وعلى آخر عشرين إلى خمسمائة، فغضب على غلام له فضرب بيده إِلَى الجعبة فخرج سوط المائة فجلده مائة، فأتى الغلام سَعْد بْن أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ وَهُوَ يبكي وَقَدْ سال دمه على عقبيه، فقال سعد: اللهم اقتل عُمَر وأسل دمه عَلَى عقبيه، فمات الغلام وقتل المختار عُمَر بْن سَعْد وَكَانَ سَعْد مستجاب الدعوة.
قَالُوا: ولما هزم النَّاس يَوْم جبانة السبيع خرج أشراف أهل الكوفة فلحقوا بمصعب بْن الزُّبَيْر، وَقَدْ قدم البصرة واليا عَلَى العراقين، فَقَالَ المختار: لَيْسَ من ديننا أَن ندع قومًا قتلوا الْحُسَيْن يمشون عَلَى الأرض.
ويقال إنّه بلغه أَن ابْن الحنفية قَالَ: عجبًا للمختار يزعم أَنَّهُ يطلب بدمائنا وقتلة الْحُسَيْن جلساؤه وحداثة يحترفون في المصر. فحرّكه ذلك تحريكا(6/405)
شديدًا، فَقَالَ ذَات يَوْم: والله لأقتلن رجلا عظيم القدمين. غائر العينين.
مشرف الحاجبين. أسر بقتله الْمُؤْمِنيِنَ والملائكة المقربين. وكانت هذه صفة عُمَر بْن سَعْد، فسمعها الهيثم بْن الأسود وَهُوَ عِنْدَ المختار فدس ابنه العريان بْن الهيثم إِلَى عُمَر فأخبره بقول المختار، وَقَدْ كان المختار سأل عن ابن سعد فأخبر بأنه مستخف فكتب لَهُ أمانًا عَلَى نَفْسه وأهله ولا يؤخذ بحدث كَانَ منه مَا لزم مصره ومنزله، فلما أبلغ العريان عُمَر بْن سَعْد رسالة أَبِيهِ هُمْ عُمَر بالخروج عَنِ المصر، ثُمَّ قيل لَهُ إِن هَذَا قَوْل باغ فأقام فِي منزله، فبعث المختار أبا عمرة كَيْسَان مولى عرينة وَهُوَ عَلَى حرسه إِلَيْهِ سرًا وأمره أَن يأتيه برأسه، فدخل أَبُو عمرة عَلَيْهِ داره، وعنده أهله فضرب عنقه وأتى المختار برأسه، وعند المختار حفص بْن عُمَر بْن سَعْد وَهُوَ لا يعرف القصة، فَقَالَ لَهُ المختار: يا حفص أتعرف هَذَا الرأس؟ قَالَ: نعم هَذَا رأس أَبِي حفص فقبح اللَّه العيش بعده، قَالَ: فإنك لا تعيش بعده، وأمر بِهِ فضربت عنقه، ثُمَّ بعث برأسيهما إِلَى ابْن الحنفية، وَقَالَ هَذَا بالحسين، وَهَذَا بعلي بْن الْحُسَيْن ولا سواء، فقيل لَهُ آمنته عَلَى أَن لا يحدث حدثا وَلَمْ يحدث؟ فَقَالَ: سبحان اللَّه ألم يدخل الخلاء مذ آمنته.
ثُمَّ بعث معاذ بْن هانئ الكندي، وأبا عمرة، ومعبد بْن سلمة الحضرمي فأحاطوا بدار خولي بْن يَزِيد الأصبحي صاحب رأس الْحُسَيْن فاختبأ فِي مخرجه فطلبوه فخرجت إليهم امرأته فَقَالُوا لَهَا أين زوجك؟
قَالَتْ: لا أدري، وأشارت بيدها إلى المخرج، فدخلوا عليه فوجدوا عَلَى رأسه قوصرة [1] فأخرجوه وأقبل المختار حِينَ بلغه أخذه فقتله إلى جانب
__________
[1] القوصرة: وعاء التمر. القاموس.(6/406)
منزله، ثُمَّ أمر بِهِ فأحرق فلم يبرح حَتَّى صار رمادًا، وكانت امرأته تسمى العيوف، وكانت حِينَ أتاها برأس الْحُسَيْن قَدْ نفرت منه فكانت لا تكتحل ولا تطيب وَقَالَتْ: والله لا يرى مني سرورًا أبدًا.
ولما هزمت مضر يَوْم الجبانة خرج شمر بْن ذي الجوشن يركض فرسه خارجًا من الكوفة، واتبعه غلام للمختار يقال لَهُ زربي فعطف عَلَيْهِ شمر فقتله ولحق ببعض القرى فنزلها، وكتب إِلَى المصعب كتابًا، ووجه فيجا فأخذت الفيج مسلحة للمختار، فسألوه عَنْ صاحب الكتاب، فدل عَلَى القرية الَّتِي هُوَ فِيهَا فأنهي الأمر إِلَى المختار فوجه إِلَى شمر خيلًا فلم يشعر إلا وَقَدْ أحاطوا بالقرية فخرج إليهم فقاتلهم وَهُوَ يرتجز وَيَقُول:
نبهتم ليث عرين باسلًا ... لَمْ ير يوما عَنْ عدو ناكلا
إلا كَذَا مقاتلا أَوْ قاتلا
فقيل: قتله عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ الهمداني طعنة فِي ثغرة نحره، ونادى يا لثأرات الْحُسَيْن ثُمَّ أوطأة الْخَيْل وَبِهِ رمق حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ احتز رأسه وأتى بِهِ المختار ونبذت جيفته للكلاب.
وَكَانَ حَكِيم بْن طفيل الطائي سلب الْعَبَّاس بْن عَلِي ثيابه ورمى الْحُسَيْن بسهم، فكان يَقُول: تعلق سهمي بسرباله وَمَا ضره، فبعث إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن كامل فأخذه، فاستغاث أهله بعدي بْن حاتم فكلم فِيهِ ابْن كامل فَقَالَ: أمره إِلَى الأمير المختار، وبادر بِهِ إِلَى المختار قبل شفاعة ابْن حاتم لَهُ إِلَى المختار فأمر بِهِ المختار فعري ورمي بالسهام حَتَّى مَاتَ.
وَكَانَ زَيْد بْن رقاد الجنبي يَقُول رميت فتى من آل الْحُسَيْن ويده عَلَى جبهته فأثبتها فِي جبهته، وَكَانَ ذَلِكَ الفتى عَبْد اللَّهِ بْن مُسْلِم بْن عقيل بْن أَبِي(6/407)
طَالِب، وَكَانَ رماه بسهم فلق قلبه فكان يَقُول نزعت سهمي من قلبه وَهُوَ ميت وَلَمْ أزل أنضنض سهمي الَّذِي رميت بِهِ جبهته فِيهَا حَتَّى انتزعته وبقي النصل، فبعث إِلَيْهِ المختار ابْن كامل فِي جَمَاعَة فأحاط بداره فخرج مصلتا سَيْفه فقاتل، فَقَالَ ابْن كامل: لا تضربوه ولا تطعنوه، ولكن ارموه بالنبل والحجارة ففعلوا ذَلِكَ حَتَّى سقط، ودعا لَهُ ابْن كامل بنار فحرقه بِهَا وَبِهِ حياة حَتَّى صار رمادًا، ويقال: انه سلخه وَهُوَ حي حَتَّى مَاتَ.
وَكَانَ عُمَر بْن صبيح يَقُول: طعنت فيهم وجرحت وَمَا قتلت أحدًا، ويقال: إنه رمى عَبْد اللَّهِ بْن مُسْلِم بالسهم فِي جبهته، وأن زَيْد بْن رقاد فلق قلبه، فبعث المختار إِلَى عَمْرو فأتى بِهِ ليلًا، فلما أصبح أدخل إِلَيْهِ مقيدًا وحضر النَّاس فأمر بِهِ فعري، ثُمَّ طعن بالرماح حَتَّى مَاتَ ثُمَّ أحرق، ولما نزعت ثيابه جعل يَقُول: أما والله لو أَن سَيْفي معي لعلمتم أني بنصل السَيْف غَيْر رعيش ولا رعديد، وَمَا يسرني أني إذا كانت منيتي القتل أَنَّهُ قتلني غيركم السحرة الكفرة.
وَكَانَ مَالِك بْن النسير البدي الَّذِي ضرب الْحُسَيْن بْن عَلِي عَلَى رأسه وعليه برنس، فامتلأ دما فألقاه فجاء فأخذه، فبعث المختار إِلَيْهِ مَالِك بْن عَمْرو النهدي وَقَدْ دل عَلَيْهِ، فجاء بِهِ فأمر بنار فأججت فِي الرحبة عظيمة ثُمَّ أمر فقطعت يده وألقيت فِي تلك النار، ثُمَّ قطعت رجله فألقيت فِيهَا وَهُوَ ينظر فلم يزل يفعل ذَلِكَ بعضو منه بَعْد عضو حَتَّى مَاتَ.
ودلّ المختار أيضا على عبد اللَّهِ بْن أسيد الجهني، وحمل بْن مَالِك المحاربي فجاءه بهما مَالِك بْن عَمْرو النهدي، فأمر بهما فضربت أعناقهما، ودل المختار أيضًا عَلَى عمران بْن خَالِد العنزي، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي(6/408)
خشكارة البجلي، وعبد اللَّه بْن قَيْس الخولاني، وَهُمْ أَصْحَاب الحلل والورس وعدة كَانُوا أخذوها معهم، فبعث إليهم ابْن كامل فأتاه بِهِمْ، فلما أدخلوا إِلَيْهِ قَالَ: يا قتلة الصالحين وأبناء النبيين لَقَدْ أقاد اللَّه منكم، ثُمَّ قَالَ:
اضربوا أعناقهم لَقَدْ جاءكم الورس بيوم نحس، فضربت أعناقهم فِي السوق، وبعث المختار السائب بْن مَالِك الأشعري فِي خيل فأخذ عَبْد اللَّهِ وعَبْد الرَّحْمَنِ ابني وهب الهمداني وهما ابنا عم أعشى همدان فأمر بهما المختار فقتلا فِي السوق، وطلب حميد بْن مُسْلِم فنجا وَقَالَ:
ألم ترني عَلَى دهش ... نجوت وَلَمْ أكد أنجو
رجاء اللَّه أنقذني ... وَلَمْ أك غيره أرجو
ووجه المختار فِي طلب عُثْمَان بْن خَالِد الجهني ونسر بْن شوط القابضي من همدان، وهما قاتلا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عقيل بْن أَبِي طَالِب فظفر بهما فضربت أعناقهما ثُمَّ أحرقا، فَقَالَ أعشى همدان، وهو عبد الرحمن بن الحارث بن نظام الهمداني:
يا عين بكي فتى الفتيان عثمانا ... لا يبعدن الفتى من آل دهمانا
واذكر فتى ماجدًا عفا شمائله ... مَا مثله فارس فِي آل همدانا
وبعث المختار إِلَى مرّة بن منقذ قاتل عَلِي بْن الْحُسَيْن عليهما السَّلام ابْن كامل، فأحاط بداره، وَكَانَ منقذ شجاعًا، فخرج عليهم وبيده الرمح وهو على فرس جواد، فطعن عبيد الله بن ناجية الشبامي فصرعه وَلَمْ يضره، وضربه ابْن كامل فشلت يده ونجا فلحق بمصعب.
وهرب عَمْرو بْن الْحَجَّاج الزبيدي فمات بواقصة عطشًا.(6/409)
وَحَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَان عَمْرو بْن مُحَمَّد قَالَ: سمعت أبا نعيم الفضل بْن دكين يَقُول: هرب عَمْرو بْن الْحَجَّاج فسقط من العطش، فلحقه أَصْحَاب المختار وَبِهِ رمق فذبحوه واحتزوا رأسه.
وهرب سنان بْن أَنَس النخعي الَّذِي كَانَ يدعى قاتل الْحُسَيْن فلحق.
بالبصرة فهدم المختار داره.
قَالُوا: فبينا الْحَجَّاج يخطب ذَات يَوْم إذ قَالَ: ليقم كُل ذي بلاء وغناء فيتكلم، فقام سنان فَقَالَ: أنا قاتل الْحُسَيْن بْن عَلِي فَقَالَ الْحَجَّاج: بلاء لعمر اللَّه حسين، واعتقل لسان سنان، وَمَاتَ بَعْد خمس عشرة ليلة.
وهرب حرملة الأسدي وعبد اللَّه بْن عقبة الغنوي الَّذِي ذكره ابْن (أَبِي) عقب فَقَالَ:
وعند غني قطرة من دمائنا ... وَفِي أسد أُخْرَى تعد وتذكر
فيقال إنهما أدركا فقتلا، ويقال بَل ماتا عطشا.
وبعث المختار حوشبا اليرسمي إِلَى مُحَمَّد بْن الأشعث الكندي وَقَالَ:
ستجده قائما متلددا. أَوْ كامنا معتمدا، أَوْ لاهيا متصيدا، وَكَانَ فِي قرية لَهُ عِنْدَ القادسية فهرب ولحق بالبصرة.
وَكَانَ أسماء بْن خارجة مستخفيا فَقَالَ المختار ذَات يَوْم وعنده أَصْحَابه: أما ورب الأَرْض والسماء. والضياء والظلماء. لينزلن من السماء. نار دهماء. أَوْ حمراء أو سحماء. فلتحرقنّ دار أسماء، فأتى الْخَبَر أسماء فَقَالَ: سجع أَبُو إِسْحَاق بنا، لَيْسَ عَلَى هَذَا مقام، فخرج هاربًا حَتَّى أتى البادية فلم يزل بِهَا ينزل مرة فِي بَنِي عبس، ومرة فِي غيرهم حَتَّى قتل(6/410)
المختار وهدم المختار لَهُ ثلاثة آدر، فَقَالَ عبد الله بن الزبير الأسدي في قصيدة لَهُ:
تركتم أبا حسان تهدم داره ... منبذة أبوابها وحديدها
فلو كَانَ من قحطان أسماء شمرت ... كتائب من قحطان صعر خدودها
فأجابه أيّوب بن سعنة النخعي وَقَالَ:
رمى اللَّه عين ابْن الزُّبَيْر بلقوة ... فخلخلها حَتَّى يطول شهودها
بكيت عَلَى دار لأسماء هدمت ... مساكنها كانت غلولا وشيدها
وَلَمْ تبك بَيْت اللَّه إذ دلفت لَهُ ... أمية حَتَّى هدمته جنودها(6/411)
أمر الكرسي
قَالُوا: وَقَالَ المختار لآل جعدة بْن هبيرة، وأم جعدة أم هانئ بنت أَبِي طَالِب: ائتوني بكرسي عَلِي بْن أَبِي طَالِب فَقَالُوا: لا والله مَا لَهُ عندنا كرسي، قَالَ: لا تكونوا حمقى وائتوني بِهِ، فظن الْقَوْم عِنْدَ ذَلِكَ أنهم لا يأتونه بكرسيّ فيقولون هَذَا كرسي عَلِي إلا قبله مِنْهُم، فجاؤوه بكرسيّ فقالوا: هذا هو، فخرجت شبام وشاكر ورؤوس أَصْحَاب المختار وَقَدْ عصبوه بخرق الحرير والديباج، فكان أول من سدن الكرسي حِينَ جيء بِهِ موسى بْن أَبِي موسى الأشعري، وأمه ابنة الفضل بْن الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ إنه دفع إِلَى حوشب اليرسمي، يرسم بْن حمير وَهُمْ فِي همدان، فكان خازنه وصاحبه حَتَّى هلك المختار، وَكَانَ أَصْحَاب المختار يعكفون عَلَيْهِ ويقولون: هُوَ بمنزلة تابوت موسى فيه السكينة، ويستسقون به يستنصرون، ويقدمونه أمامهم إِذَا أرادوا أمرًا فَقَالَ الشاعر:
أبلغ شبامًا وأبا هانئ ... أني بكرسيهم كافر
وَقَالَ أعشى همدان:(6/413)
شهدت عليكم أنكم خشبية ... وأني بكم يا شرطة الكفر عارف
وأقسم مَا كرسيكم بسكينة ... وإن ظلّ قد لفّت عليه الفائف
وأن لَيْسَ كالتابوت فينا وإن سعت ... شبام [1] حواليه ونهد وخارف
وإن شاكر طافت بِهِ وتمسّحت ... بأعواده أَوْ أدبرت لا يساعف
وإني امرؤ أحببت آل مُحَمَّد ... وآثرت وحيا ضمنته الصحائف
وَكَانَ لَهُ عم يكنى أبا أمامة، وَكَانَ من أَصْحَاب المختار، فكان يَأْتِي مجلس قومه فَيَقُول: أتانا اليوم بوحي مَا سمع النَّاس بِمِثْلِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عن جده قَالَ: قيل لابن عُمَر إِن المختار يعمد إِلَى كرسي عَلِي، فيحمله عَلَى بغل أشهب ويحف بِهِ الديباج ويطيف بِهِ أَصْحَابه يستسقون بِهِ ويستنصرون فَقَالَ: فأين جنادبة الأزد عنه لا يعقر به بَعْضهم؟ قَالَ: وَهُمْ جندب بْن زهير، وجندب بْن كعب من بَنِي ظبيان، وجندب بْن عبد الله وهو جندب الخير.
__________
[1] بهامش الأصل: شبام من همدان.(6/414)
أمر المثنى بن مخربة العبدي وأمر عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام المخزومي بالبصرة
قَالُوا: وَكَانَ المثنى لقي المختار عِنْدَ انصراف من انصرف من التوابين من عين الوردة بالكوفة، فبايعه فَقَالَ لَهُ المثنى: إِن لنا بالبصرة شيعة فأذن لنا فِي القدوم عَلَيْهِم والدعاء لَهُمْ، فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، فخرج إِلَى البصرة فلم يزل بِهَا حَتَّى بلغه ظهور المختار، وَكَانَ ابْن مطيع لما أخذ المائة الألف من المختار ليشخص إِلَى الْمَدِينَة استحيا من الرجوع إِلَى ابْن الزُّبَيْر، فعدل إِلَى البصرة فأقام بِهَا، وَكَانَ المختار خائفًا من أَن يوجه إِلَيْهِ ابْن الزُّبَيْر جيشا لما فعل بابن مطيع ولإخراجه إياه، فكتب إِلَيْهِ: «أما بَعْد فَقَدْ عرفت مناصحتي كانت لَك واجتهادي فِي طاعتك ونصرتك، وَمَا كنت أعطيتني من نفسك، فلما وفيت لَك خست لي وَلَمْ تعترف لي بِمَا عاهدتني فكان مني مَا كَانَ، فَإِن تراجعني أراجعك، وإن ترد مناصحتي أنصح لَك» .
فلما قرأ ابْن الزُّبَيْر كتابه دعا عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام فَقَالَ لَهُ: قَدْ وليتك الكوفة فسر إِلَيْهَا، فَقَالَ: وكيف وبها المختار؟ قَالَ:
قَدْ كتب لي أَنَّهُ سامع مطيع لي، فسار عُمَر إِلَيْهَا وبلغ المختار خبره، فوجه(6/415)
زائدة بْن قدامة الثقفي ومعه مسافر بْن سعيد بن نمران الناعطي في خمسمائة دارع ورامح، ومعه سبعون ألف درهم وَقَالَ: إِذَا لقيته فقل لَهُ عني: بلغني أنك قَدْ تكلفت لسفرك خمسة وثلاثين ألف درهم، وَهَذِهِ سبعون ألف درهم فخذها وانصرف، فَإِن أبى ذَلِكَ فأره أَصْحَاب مسافر وحذره إياهم، فلما لقيه زائدة أدى إِلَيْهِ رسالة المختار فقال: ما أنا بقابل مالا ولا بدّ لي من النفوذ لأمر أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فدعا زائدة بالْخَيْل وَقَدْ كَانَ أكمنها فَقَالَ: إني محاربك بمن ترى ووراءهم مثلهم ومثلهم، فَقَالَ عُمَر: أما الآن فَقَدْ وجب العذر، وَهَذَا أجمل بي، فأخذ السبعين الآلف فاستحيا من الرجوع إِلَى مَكَّة فصار إِلَى البصرة فأقام بِهَا وَذَلِكَ فِي إمارة القباع الْحَارِث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة وقبل قدوم مُصْعَب بْن الزُّبَيْر البصرة.
قَالُوا: واتخذ المثنى بْن مخربة مسجدًا يصلي فِيهِ بأَصْحَابه، واجتمعت الشيعة فبعث إليهم القباع عباد بْن الحصين الحبطي فِي الْخَيْل فبعث المثنى رجلًا من أَصْحَابه فلقيه فهزم عباد، فبعث القباع الأحنف عَلَى خيل مضر ورجالها، فصاروا إِلَى عَبْد القيس، فخرج مَالِك بْن مسمع فِي بَكْر بْن وائل مانعا لعبد القيس مِنْهُم بالربعية لأنه كَانَ يرى رأى المثنى، وبعثت ربيعة إِلَى الأزد فأجابوهم، ورئيس الأزد يَوْمَئِذٍ زِيَاد بْن عَمْرو العتكي فكانوا يقتتلون قتالا ضعيفًا، وكلهم يهوى الصلح فكان عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام المخزومي وعبد اللَّه بْن مطيع يختلفان بَيْنَ الفريقين فَقَالَ لَهُمْ عُمَر:
يا معشر بَكْر والأزد ألستم عَلَى طاعة ابْن الزُّبَيْر؟ قَالُوا: بلى غَيْر أنا نكره أَن نسلم إخواننا من عَبْد القيس، فقال ابن مطيع: قالوا لإخوانكم فليذهبوا حيث شاءوا فهم آمنون، ولا يدخلن بينكم وبين أهل مصركم فرقة، فأتى(6/416)
مَالِك بْن مسمع، وَزِيَاد بْن عَمْرو: عَبْد القيس فقالا: إنّ هؤلاء القوم قد دعوا إِلَى الصلح، وأعطوا النصف، وَلَمْ نأتكم حِينَ أتيناكم ونحن نرى رأيكم، ولكنا حمينا لكم أن تضاموا وتوطأوا، ثم أخذا بيد المثنى فقالا لَهُ:
إِن الَّذِينَ يرون رأيك قبلنا قليل، فخذ أمانا لنفسك والحق بأَصْحَابك، فقبل ذَلِكَ، وجاء ابْن مطيع وعمر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ فعرضا الصلح فقبله الْقَوْم وأجابوا إِلَيْهِ، وَأَمَّا الأحنف فقالا لَهُ: إِن الْقَوْم قَدْ أحبوا الصلح ودعوا إِلَيْهِ، فكأن الأحنف كره ذَلِكَ وتأرب [1] فلم يجب إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ: إني لأعجب مِمَّن يزعم أنكم حليم، قبل الْقَوْم الصلح وأجابوا إِلَى النصف وتأبي إلا الفرقة وَمَا تسفك فِيهِ الدماء وتنتهك الحرمة؟
فَقَالَ الأحنف: هلمّ يا بن أَخِي إِلَى خالك، يَعْنِي نَفْسه، وَذَلِكَ أَن أم الْحَارِث جده من ولد نهشل بْن دارم فتميم أخواله، فَقَالَ لَهُ: إِن ربيعة والأزد كثير عددهم بالمصر وَقَدْ تحالفوا وصاروا يدًا عَلَيْنَا، فَإِن أريناهم الهيبة لَهُمْ ركبونا، والله مَا هُمْ بأحرص عَلَى السلم والصلح منّي، اذهب يا بن أخي فاصنع مَا أحببت، فاصطلح الْقَوْم ورجع المثنى وخرج من البصرة.
وكتب المختار إِلَى الأحنف وَهُوَ عَلَى مضر: «أما بَعْد فويل أم ربيعة ومضر. من أمر سوء قد حضر. وإن الأحنف قَدْ أورد قومه سقر. وإني لا أملك القدر. وَمَا خط فِي الزبر. ولعمري لئن قاتلتموني وكذبتموني لَقَدْ كذب من كَانَ قبلي وَمَا أنا بخيرهم» .
وكتب المختار أيضًا إِلَى مَالِك بْن مسمع وَزِيَاد بْن عَمْرو: «أما بَعْد فاسمعا وأطيعا وداومًا. عَلَى أَحْسَن مَا أتيتما أوتيكما من الدنيا ما شئتما.
__________
[1] تأرب: تأبى وتشدد. القاموس.(6/417)
وأضمن لكما الْجَنَّة إِذَا توفيتما» ، فلما قرأ مَالِك الكتاب ضحك وَقَالَ لزياد:
لَقَدْ أَكْثَر لنا أَخُو ثقيف، وأوسع، أعطانا الدنيا والآخرة، فضحك زِيَاد وَقَالَ: نحن لا نقاتل بالنسيئة من عجل لنا النقد قاتلنا مَعَهُ.
وَحَدَّثَنَا عَلِي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيل الهمداني عَنِ الشَّعْبِي قَالَ: جلست يوما إلي الأحنف، فَقَالَ رجل من جلسائه يا كوفي استنقذناكم من عبيدكم، يَعْنِي يَوْم قتل المختار، قُلْت قَدْ عفونا عنكم يَوْم الجمل فلم تشكروا، وأنشدته شعر أعشى همدان:
أفخرتم أَن قتلتم أعبدًا ... وكفرتم نعمة اللَّه الأجل
نحن سقناكم إليهم عنوة ... وجمعنا أمركم بَعْد الفشل
فَإِذَا فاخرتمونا فاذكروا ... مَا فعلنا بكم يَوْم الجمل
فَقَالَ: يا كوفي أنتم أَصْحَاب أنبياء، يَعْنِي المختار، قَالَ: فأجبته بجواب كرهه الأحنف وقلت: تكذبون عَلَيْنَا فِي أشياء، فقام فجاء بصحيفة صفراء فقال اقرأ آنفا فإذا فيها: «من المختار بْن أَبِي عبيد إِلَى الأحنف ومن قبله سلم أنتم، أما بَعْد فويل لربيعة ومضر. وإن الأحنف مورد قومه سقر. حِينَ لا يستطيع لَهُمُ الصدر. وإني لا أملك لكم إلا مَا خط فِي الزبر، وبلغني أنكم تكذبوني وَقَدْ كذبت الأنبياء مثلي ولست بخير من كثير» فَقَالَ الأحنف: يا شعبي أكوفي هَذَا أم بصري؟ ثُمَّ ضحك، وَقَالَ لأَصْحَابه: أحسنوا مجالسة أخيكم.(6/418)
خبر شُرَحْبِيل بْن ورس المدعي من حمير وَهُمْ فِي همدان
قَالُوا: لما بلغ المختار إقبال أهل الشام نَحْو العراق، وعلم أَنَّهُ يبدأ بِهِ خاف أَن يأتيه أهل الشام من شامهم، وأهل البصرة من بصرتهم، فأظهر الميل إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر ومداراته وكتب إِلَيْهِ: «بلغني أَن ابْن مَرْوَان قَدْ بعث إِلَى الحجاز جندًا فَإِن أحببت أَن أمدك أمددتك» فكتب إِلَيْهِ ابْن الزُّبَيْر:
«إِن كنت عَلَى طاعتي فبايع لي، وخذ بيعة من قبلك، فَإِنَّهُ إِن جاءتني بيعتك صدقت مقالتك، وكففت الجنود عَنْ بلادك، وسرح الجيش الَّذِي أَنْتَ باعث بِهِ إِلَى وادي القرى ليلقوا من بها من جند ابْن مَرْوَان إِن شاء اللَّه» .
فدعا المختار شرحبيل بن ورس المدّعي فسرّحه في ثلاثة آلاف أكثرهم موال لَيْسَ فيهم من العرب إلّا سبعمائة، وَقَالَ لَهُ: سر حَتَّى تدخل الْمَدِينَة فَإِذَا دخلتها فاكتب إِلَى بِذَلِكَ، ودبر أَن يدخل شُرَحْبِيل الْمَدِينَة، ثُمَّ يبعث إِلَيْهَا عاملًا من قبله، ثُمَّ يأمره أَن يسير إِلَى مَكَّة فيحاصر ابْن الزُّبَيْر، ووقع فِي نفس ابْن الزُّبَيْر مَا دبر المختار وظن بِهِ مكيدته، فبعث عَبَّاس بْن سهل بْن سَعْد الساعدي من مَكَّة فِي ألفين، وَقَالَ لَهُ: الق جيش ابْن ورس فَإِن كَانَ(6/419)
فِي طاعتي وإلا فحاربهم حَتَّى تهلكهم، وأمره أَن يستنفر الأعراب ففعل، وأقبل حَتَّى لقي ابْن ورس بالرقم [1] ، وَقَدْ عبأ ابْن ورس أَصْحَابه وأَصْحَاب عَبَّاس منقطعون عَلَى غَيْر تعبئة، فَقَالَ لَهُ عَبَّاس: ألست عَلَى طاعة عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر؟ قَالَ: نعم، قَالَ فسر بنا إِلَى عدوه بوادي القرى، قَالَ:
نعم ولكن أريد الْمَدِينَة أولًا ثُمَّ أرى رأيي، فتركهم ابْن سهل حَتَّى نزعوا سلاحهم وشغلوا بأثقالهم، ثم قصد قصْد ابْن ورْس فِي ألف من كماة أَصْحَابه وشجعانهم، وجعل ابْن ورس يَقُول: يا شرطة اللَّه إلي قاتلوا الملحدين. أولياء الشياطين. فإنكم عَلَى الحق المبين. وَقَدْ غدر الْقَوْم وفجروا، فانتهى إِلَيْهِ عَبَّاس بْن سهل وَهُوَ يَقُول:
أنا ابْن سهل فارس غَيْر وكل ... أروع مقدام إِذَا النكس نكل
فلم يطل القتال بينهم حَتَّى قتل ابْن ورس فِي سبعين، ورفع عَبَّاس رأيه أمان لأَصْحَابه فأتوها إلّا نحوا من ثلاثمائة انصرفوا مَعَ سُلَيْمَان بْن حمير الثَّوْرِي، فظفر ابْن سهل مِنْهُم بنحو من مائتين فقتلهم، وأفلت الباقون.
فلما بلغ المختار خبر شُرَحْبِيل بْن ورس وأَصْحَابه قَالَ: إِن الفجار الأشرار. قتلوا الأخيار الأبرار. ألا وإن الفاسق النجس. القذر الرجس.
قتل ابْن ورْس. وَكَانَ أمرًا مأتيًا. وقضاء مقضيًا.
وكتب المختار إِلَى ابْن الحنفية: «إني كنت بعثت جندا ليحووا لَك البلاد، ويدوخوا الأعداء، فلما صاروا بطيبة لقيهم جند الملحد فخدعوهم وغروهم فَإِن رَأَيْت أَن ابعث إِلَى الْمَدِينَة خيلًا وجندًا كثيفًا وتبعث من قبلك
__________
[1] موضع شرق الحناكية، ويعتقد أن الحناكية هي بطن نخل، قرية من قرى المدينة على طريق البصرة. المغانم المطابة- مادتا: بطن نخل، ورقم.(6/420)
رسلًا يعلمونهم أني فِي طاعتك وأني بعثت من بعثت عَنْ أمرك فافعل فإنك ستجدهم بحقك أعرف، وبكم أهل الْبَيْت أرأف مِنْهُم بآل الزُّبَيْر الظلمة الملحدين والسلام» ، فكتب إِلَيْهِ ابْن الحنفية: «إِن أحب الأمر إلي مَا أطيع اللَّه فِيهِ فأطعه مَا استطعت فيما أعلنت وأسررت، وأعلم أني لو أردت القتال وجدت الناس إليّ فِيهِ سراعا، وعليه أعوانا، ولكني أعتزلهم وأصبر حَتَّى يحكم اللَّه، وَهُوَ خير الحاكمين» .(6/421)
مسير إِبْرَاهِيم بْن مَالِك الأشتر إِلَى الموصل ومقتل عُبَيْد اللَّه بْن زِيَاد وحصين بْن نمير السكوني
قَالُوا: لما فرغ المختار من أمر من خرج من أهل الكوفة وانقضت حربهم بجبانة السبيع والكناسة لَمْ يكن لَهُ همة إلا إمضاء جيش إِبْرَاهِيم بْن الأشتر للوجه الَّذِي وجهه لَهُ، فشخص إِبْرَاهِيم من الكوفة لست ليال خلون من ذي الحجة سنة ست وستين، ويقال: لثمان خلون من ذي الحجة، وَكَانَ مَعَهُ قَيْس بْن طهفة عَلَى ربع أهل الْمَدِينَة، وعبد اللَّه بْن جندب عَلَى مذحج وأسد، والأسود بْن جراد الكندي عَلَى كندة وربيعة وحبيب بْن منقذ عَلَى تميم وهمدان، فَقَالَ شاعرهم:
أما ورب المرسلات عرفا ... لنقتلن بَعْد صف صفا
وبعد ألف قاسطين ألفا
فخرج فِي زهاء تسعة آلاف، وشيعه المختار، فلما صار إِلَى القنطرة إِذَا أَصْحَاب الكرسي قَدْ وقفوا يستنصرون ويدعون فَقَالَ ابْن الأشتر ربنا لا تؤاخذنا بِمَا فعل السفهاء منا، سنة بَنِي إسرائيل والذي أنا له.(6/423)
وانتهى ابْن الأشتر إِلَى المدائن فلقي من كَانَ انصرف من أَصْحَاب يَزِيد بْن أَنَس، فردهم مَعَهُ، فلما تجاوز الكحيل من أرض الموصل جعل لا يسير إلا بتعبئة.
وسبق ابْن زِيَاد إِلَى الموصل، وبادر دخوله العراق واجتمعا عَلَى الخازر إِلَى جنب قرية تدعى باريتا، بينها وبين مدينة الموصل خمسة فراسخ، فنزل ونزل عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد قريبًا منه عَلَى شاطئ الخازر، وَهُوَ نهر قريب من الزابي، فأرسل إِلَيْهِ عمير بْن الحباب السلمي: إني أريد لقاءك الليلة، وكانت قَيْس الجزيرة مضطغنة عَلَى بَنِي مَرْوَان لما كَانَ من مَرْوَان إليهم فِي وقعة مرج راهط، فأتاه ابْن الحباب فجرى بينهما كَلام كثير وَقَالَ: مَا أحد أبغض إلي ظفرًا من آل مَرْوَان، فاعلم أني منهزم بالناس إِذَا قامت الحرب، فأراد ابْن الأشتر أَن يبلو صدق ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ أترى أَن أخندق عَلَى نفسي وأتلوم يومين أَوْ ثلاثة؟ فَقَالَ عمير: لا تفعل فَإِن الْقَوْم أضعافكم فَإِن طاولوك وماطلوك خبروا أمركم واجترأوا عليكم لكثرتهم وقلتكم، وخرج مَا فِي قلوبهم من الهيبة لكم فَإِن فِي أنفسهم منكم روعة، وَهُمْ من لقائكم عَلَى وجل، فعاجلهم وناجزهم، فَإِن القليل لا يطيق الكثير عَلَى المطاولة، ولا آمن إِن شاموكم يوما بَعْد يَوْم، ومرة بَعْد مرة أَن يقهروكم، فَقَالَ ابْن الأشتر: الآن علمت أنك ناصح، كَانَ عمير بْن الحباب عَلَى ميسرة عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد، فأذكى ابْن الأشتر تلك الليلة حرسه، وَلَمْ يدخل الغمض عينه.
فلما كَانَ فِي السحر عبأ أَصْحَابه، فجعل سُفْيَان بْن يَزِيد بْن المغفل عَلَى ميمنته، وعلي بْن مَالِك الجشمي عَلَى ميسرته، وصلى الغداة بغبش،(6/424)
ثُمَّ صف أَصْحَابه والحق كُل صاحب رأيه برأيته، وجلس عَلَى تل عظيم ووجه من عرف خبر الْقَوْم فقيل لَهُ إنهم عَلَى دهش، فأخبره بَعْض رسله وعيونه أَنَّهُ لقي مِنْهُم رجلا مَا لَهُ هجيرًا إلا: يا شيعة أَبِي تراب. يا شيعة المختار الكذاب، وجعل ابْن الأشتر يحرض النَّاس فَيَقُول: يا أَنْصَار الدين، يا شيعة الحق، يا شرطة اللَّه هَذَا قاتل الْحُسَيْن فَمَا الَّذِي تبقون لَهُ جدكم واجتهادكم بعده، هَذَا الَّذِي حال بَيْنَ الْحُسَيْن وبين ماء الفرات، ومنعه الذهاب فِي الأَرْض العريضة حَتَّى قتله وأهل بيته، فو الله مَا كَانَ عمل فرعون ببني إسرائيل إلا دُونَ عمل هَذَا الفاجر، وزحف الشاميون وعلى ميمنة ابْن زِيَاد الحصين بْن نمير، وعلى ميسرته عمير بْن الحباب السلمي، وعلي خيله شُرَحْبِيل بْن ذي الكلاع الحميري، ومشى ابْن زِيَاد فِي رجاله، فلما تدانى الصفان حمل حصين بْن نمير عَلَى ميسرة أهل الكوفة فقتل عَلِي بْن مَالِك الجشمي فأخذ الراية ابنه فقتل فِي رجال من أهل الحفاظ، وانهزمت ميسرة ابْن الأشتر فصير عَلَيْهَا عَبْد اللَّهِ بْن ورقاء السلولي فثابت الميسرة إِلَيْهِ، وجعل ابْن الأشتر يَقُول: يا شرطة اللَّه إلي أنا إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، إِن خير فراركم كراركم وحملت ميمنة ابْن الأشتر عَلَى عمير بْن الحباب وأَصْحَابه فثبتوا، وَكَانَ عمير أنف من الفرار فقاتل قتالًا شديدًا، فلما رأى ابْن الأشتر ذَلِكَ قَالَ لأَصْحَابه أموا السواد الأعظم فَإِن فضضتموه لَمْ يكن للقوم ثبات بعده، ففعلوا ذَلِكَ، وتضاربوا بالسيوف وتطاعنوا بالرماح، فإبراهيم يشد بسَيْفه فلا يضرب أحدًا إلا صرعه والقوم يهربون من بَيْنَ يديه كأنهم الغنم، وجعل إِذَا حمل برأيته حمل أَصْحَابه حملة رجل واحد لا يثنيهم شَيْء، فكانوا(6/425)
عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ إِن أهل الشام انهزموا بَعْد قتال شديد وقتلى بَيْنَ الفريقين كثيرة، ويقال إِن عميرا أول من انهزم بالقوم بَعْد تعذير منه.
ووصل إِبْرَاهِيم إِلَى عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد فقتله وَهُوَ لا يثبته فَقَالَ: يا قوم لَقَدْ قتلت رجلًا وجدت منه رائحة المسك شرقت يداه وغربت رجلاه، فطلب فَإِذَا هُوَ ابْن زِيَاد، فأمر برأسه فأخذ وأحرقت جثته بالنار، وحمل شريك بْن جَرِير التغلبي عَلَى الحصين بْن نمير السكوني وَهُوَ يظنه ابْن زِيَاد فقتله، وقتل شُرَحْبِيل بْن ذي الكلاع، فادعى قتله سُفْيَان بْن يَزِيد بْن المغفل الأزدي وورقاء بْن عازب الأسدي وعبد اللَّه بْن زهير السلولي، ولما هزموهم اتبعوهم فكان من غرق مِنْهُم أَكْثَر مِمَّن قتل، واحتووا عَلَى عسكرهم.
وأرجف النَّاس بالكوفة بمقتل ابْن الأشتر فخرج المختار إِلَى المدائن فلما صار بِهَا تلقته البشارات بقتل عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد وفض عسكره، وَقَالَ عامر الشَّعْبِي: كنت فِي عسكر المختار بالمدائن، فكان يحرضنا ويحضنا وَيَقُول إِن شيعة اللَّه يقتلونهم بنصيبين أَوْ قرب نصيبين، فَقَالَ لي بَعْض الهمدانيين حِينَ جاء قتل ابْن زِيَاد: يا شعبي ألا تبوء وتقر للمختار؟ قُلْت: بِمَا أبوء لَهُ أقول إنه يعلم الغيب والله مَا يعلم الغيب إلا اللَّه، قَالَ: ألم يقل إنهم يهزمون؟ قُلْت: إنه قَالَ: بنصيبين أَوْ قرب نصيبين، وإنما كانت الوقعة بالخازر، فَقَالَ لا تؤمن يا شعبي حَتَّى ترى العذاب الأليم.
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ سَالِمٍ وَأَبُو خَيْثَمَةَ قَالا: حَدَّثَنَا وهب بن جرير عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن الأشتر قَالَ: مر بي ابْن زِيَاد يَوْم الخازر فسطع منه المسك وأنا لا أعرفه فظننت أَنَّهُ رجل لَهُ منزلة فِي الْقَوْم وحال، فقصدت لَهُ فضربته(6/426)
على رأسه بالسيف فخرّ بين قوائم برذونه يخور كخوار الثور، فنظرت فَإِذَا هُوَ ابْن زِيَاد.
وانصرف المختار إِلَى الكوفة، ومضى إِبْرَاهِيم بْن الأشتر إِلَى الموصل، وبعث عماله عَلَيْهَا وعلى نصيبين، وسنجار ودارا، وَمَا والاها من أرض الجزيرة.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: ولى ابْن الأشتر زفر بْن الْحَارِث قرقيسيا، وحاتم بَيْنَ النعمان الْبَاهِلِي حران والرها، وسميساط وناحيتها، وعمير بْن الحباب كفرتوثا وطور عبدين، وليس ذَلِكَ بثبت عِنْدَ الكلبي.
وَقَالَ عمير بْن الحباب حِينَ قتل ابْن زِيَاد:
مَا كَانَ جيش يجمع الخمر والزنا ... محلا إِذَا لاقى العدو لينصرا
وَقَالَ ابْن المفرغ حِينَ قتل ابْن زِيَاد:
إِن المنايا إِذَا مَا زرن طاغية ... هتكن أستار حجاب وأبواب
أقول بعدا وسحقا عِنْدَ مصرعه ... لابن الخبيثة وابن الكودن الكابي
لا أَنْتَ زاحمت عَنْ ملك فتمنعه ... ولا متت إِلَى قوم بأسباب
لا من نزار ولا من جذم ذي يمن ... جلمودة ألقيت من بَيْنَ ألهاب
لا تقبل الأَرْض موتاهم إِذَا قبروا ... وكيف تقبل رجسا بَيْنَ أثواب [1]
قَالُوا: ولحق جَمِيع من كَانَ هرب من المختار من أهل الكوفة أَوْ أكثرهم بمصعب بْن الزُّبَيْر بالبصرة، وَقَدْ قدمها واليا عَلَى المصرين، فقدم شبث بْن ربعي التميمي عَلَى بغلة قَدْ قطع ذنبها وطرفي أذنيها وشقّ قباءه،
__________
[1] ديوان يزيد بن مفرغ ص 82- 84.(6/427)
ووقف ينادي وا غوثاه، واغوثاه، فدخل عَلَى المصعب فأخبره بِمَا لقي النَّاس من المختار، وَهَذَا أصح من قَوْل من قَالَ إِن شبثا قتل بالكوفة، وأخبره أيضًا وجوه أهل الكوفة بِمَا نالهم وسألوه نصرتهم والمسير معهم، وقدم عَلَيْهِ مُحَمَّد بْن الأشعث وَلَمْ يكن شهد وقعة الكوفة، فاستحث المصعب بالشخوص إِلَى الكوفة، فَقَالَ: لست فاعلا حَتَّى يقدم المهلب عَلِي، وَكَانَ بفارس، فكتب إِلَيْهِ يأمره بالقدوم، فاعتل بالخراج، فَقَالَ مُحَمَّد بْن الأشعث: وجهني إِلَيْهِ آتك بِهِ، فسار مُحَمَّد حَتَّى قدم فارس فلما رآه المهلب قَالَ: يا مُحَمَّد أما وجد المصعب بريدا غيرك؟ فَقَالَ: يا أبا سَعِيد والله مَا أنا إلا بريد نسائنا وأبنائنا، فأقبل المهلب مَعَهُ فِي جموع وهيئة وعلاج لَيْسَ لأحد مثلها حَتَّى قدم البصرة، وَكَانَ المهلب أتى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر فكتب لَهُ عهده عَلَى خراسان فلما صار إِلَى البصرة، طلب إِلَيْهِ أهلها أَن يقاتل الخوارج وكانوا قَدْ ظهروا وأبزوا [1] عَلَيْهِم، فأقام لقتالهم فاتبعهم إِلَى فارس، فكان يحاربهم، وقدم المصعب فولاه فارس خراجها وحربها.
وحدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حَدَّثَنَا وهب بْن جَرِير عَنْ أَبِيهِ عَنْ صعب بْن زَيْد، وصعب عم جَرِير بْن حازم قَالَ: قدم المهلب بعهده عَلَى خراسان من قبل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، وَقَدْ نزلت الحرورية بَيْنَ الجسرين بالبصرة فقتلوا وحرقوا، وغلبوا عَلَى كور الأهواز، وشاطئ دجلة فأتى الأحنف وأشراف أهل البصرة المهلب فسألوه أَن يتولى قتال الأزارقة، فَقَالَ: لست أقدر عَلَى ذَلِكَ هَذَا عهد أمير المؤمنين إليّ على خراسان،
__________
[1] ابزى: وثب، بغى. القاموس.(6/428)
قالوا: فإنّا نخرج إِلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فنسأله أَن يعفيك من خراسان ويوليك قتال الأزارقة، قَالَ: فرأيكم. فخرج من خرج مِنْهُم فجاؤوا بكتاب ابْن الزُّبَيْر بتوليته قتال الأزارقة، وَقَالَ بَعْض النَّاس: افتعلوه عَلَى لسان ابْن الزُّبَيْر، وَقَالَ آخرون: بَل خرج ناس فجاؤوا بكتابه، فنفى الخوارج إِلَى الأهواز.
قَالَ جَرِير بْن حازم: ثُمَّ صاروا إِلَى فارس فاتبعهم، وكتب عَبْد اللَّهِ إِلَى مُصْعَب بْن الزُّبَيْر بتوليته فارس، وَكَانَ قدوم المصعب البصرة واليا عَلَيْهَا بَعْد القباع فِي سنة سبع وستين.
خبر يَوْم المذار ومقتل أحمر بْن شميط وابن كامل
قَالُوا: قدم المهلب بْن أَبِي صفرة من فارس، واستخلف المغيرة ابنه، ويقال غيره، وَقَالَ بَعْضهم: قسم فارس بَيْنَ أَصْحَابه وأمرهم أَن يجتمعوا عَلَى قتال الخوارج مَعَ صاحب الناحية الَّتِي تكون فِيهَا، فلما دَخَلَ عَلَى مُصْعَب أمره بالعسكرة عِنْدَ الجسر الأكبر، وَلَمْ ير المصعب أحدًا إعظامه لَهُ، ودعا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف فَقَالَ لَهُ: ائت الكوفة مستخفيا حَتَّى تخرج إلي من استطعت إخراجه وخذل النَّاس عَنِ المختار، فمضى حَتَّى نزل منزله سرا فلم يظهر، وخرج مُصْعَب بْن الزُّبَيْر، وَقَدْ جعل المهلب عَلَى ميسرته، وعمر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن مَعْمَر عَلَى ميمنته وقدم عباد بْن الحصين التميمي أمامه عَلَى مقدمته، وَكَانَ مَالِك بْن مسمع عَلَى جيش بَكْر بْن وائل، وَمَالِك بْن المنذر بْن الجارود عَلَى جيش عَبْد القيس، والأحنف بْن قَيْس عَلَى جيش العالية، وبلغ المختار ذَلِكَ، فَقَالَ لأَصْحَابه: يا أهل الدين وأعوان الحق،(6/429)
وأنصار الضعيف، وشيعة الرسول وآل الرسول وشرطة اللَّه إِن هَؤُلاءِ الَّذِينَ هربوا من أسيافكم أتوا أشباها لَهُمْ من أهل البصرة من الفاسقين فاستنفروهم ليمات الحق وينعش الباطل، ويدال أولياء اللَّه فِي الأَرْض فانتدبوا يرحمكم اللَّه مَعَ أحمر بْن شميط الأحمسي.
فعسكر ابْن شميط بحمام أعين، وضم إِلَيْهِ المختار النَّاس، وبعث عَلَى مقدمته عَبْد اللَّهِ بْن كامل الشاكري من همدان فسار أحمر بْن شميط حَتَّى ورد المذار، وأقبل مُصْعَب فنزل قريبا منه وعبأ كُل واحد منهما جنده، فجعل ابْن شميط ابْن كامل عَلَى ميمنته وعبد اللَّه بْن أَنَس بْن وهب بْن نضلة الجشمي عَلَى ميسرته، وجعل عَلَى الْخَيْل رزين بْن عَبْد السلولي وعلى الرجال كثير بْن إِسْمَاعِيل بْن كثير الكندي، وجعل أبا عمرة عَلَى الموالى، وأقر المصعب المهلب عَلَى ميسرته، وعبيد اللَّهِ عَلَى ميمنته، وجعل عَلَى الرجال مقاتل بْن مسمع، وعلى الْخَيْل عباد بْن الحصين، فالتقوا وحمل عباد عَلَى ابْن شميط وأَصْحَابه، فلم يزل مِنْهُم رجل عن موقفه، وحمل ابْن كامل عَلَى المهلب فلم يزالوا كَذَلِكَ يحمل بَعْضهم عَلَى بَعْض، ثُمَّ حمل أهل البصرة جميعا عَلَى ابْن شميط حملة واحدة فقاتل حَتَّى قتل، وتنادى أهل الكوفة: يا معشر بجيلة وخثعم الصبر الصبر، فنادى بِهِمُ المهلب: الفرار الفرار عَلَى مَا تقاتلون أضل اللَّه سعيكم، ثُمَّ مالت الْخَيْل عَلَى رجالة ابْن شميط فاصطلموا، وقتل عَبْد اللَّهِ بْن كامل.
وسرح المصعب مُحَمَّد بْن الأشعث فِي خيل عظيمة من أهل الكوفة مِمَّن هرب من المختار ومن بعث بِهِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف، وَقَالَ دونكم الطلب(6/430)
بثأركم، فكانوا أشد عَلَيْهِم من أهل البصرة لا يتركون رجلًا إلا قتلوه فلم ينج من ذَلِكَ الجند إلا شرذمة قليلة من أَصْحَاب الْخَيْل.
وروي عَنْ مُعَاوِيَة بْن قرة المزني أَبِي إياس بْن مُعَاوِيَة أنه قَالَ: انتهيت إِلَى رجل مِنْهُم فأدخلت سنان الرمح في عينه وجعلت أخضخضه، فقيل له: أو فعلت ذَلِكَ؟ قَالَ: نعم والله إنهم كَانُوا أحل عندنا من الترك والديلم، وَكَانَ مُعَاوِيَة قاضيا بَيْنَ أهل البصرة، وَقَالَ أعشى همدان:
أما نبئت والأنباء تنمي ... بِمَا لاقت بجيلة بالمذار
أتيح لَهُمْ بِهَا ضرب طلخف [1] ... وطعن صائب وجه النهار
فبشر شيعة المختار إِمَّا ... مررت عَلَى الكويفة بالصغار
وَمَا إِن سرني إهلاك قومي ... وإن كَانُوا وجدك فِي خسار
ولكني أسر بِمَا يلاقي ... أَبُو إِسْحَاق من خزي وعار
وَكَانَ عَلَى البصرة حِينَ شخص المصعب إِلَى المذار عُبَيْد اللَّهِ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن مَعْمَر التَّيْمِي ولاه إياها المصعب، وَهُوَ كَانَ عَلَيْهَا أيضًا (حِينَ) خرج لقتال المختار، والثبت أَنَّهُ كَانَ خليفة أخيه عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ لأن أمرها كَانَ إِلَى عُمَر، وَكَانَ عُمَر خليفة المصعب عَلَيْهَا فِي ظعنه ومقامه.
وبلغ المختار ومن مَعَهُ خبر ابْن شميط وابن كامل ووجوه رجاله وحماته، فَقَالَ من كَانَ بالكوفة من الأعاجم كلامًا بالفارسية تفسيره: لم يصدق أبو إسحاق المرة.
__________
[1] أي ضربا شديدا. القاموس.(6/431)
وَقَالَ بَعْض الشعراء فيما ذكر الْمَدَائِنِي:
ونحن قتلنا أحمرا وجموعه ... وَقَدْ كَانَ قتال الكماة مظفرا
غداة علا الإسكاف بالسَيْف رأسه ... فخر صريعا لليدين معفرا
قَالَ: والإسكاف مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الإسكاف.
حَدَّثَنَا خلف بْن سالم وأحمد بْن إِبْرَاهِيمَ قالا: حدثنا وهب بن جَرِير حَدَّثَنَا جويرية حَدَّثَنِي الصقعب بْن ثابت عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سمعت المختار بالمدائن وَهُوَ يَقُول: والذي كرم وجه أَبِي القاسم ليدخلن ابْن شميط البصرة فِي عافية صافية. قضاء مقضيا. وَقَدْ خاب من افترى، وَقَدْ بعثت مَعَهُ برأيه مَا غزلتها يد ولا نسجها نساج، وَكَانَ أدرجها ولف عَلَيْهَا خرقة ثُمَّ ختمها، وَقَالَ: لا تفتحها حَتَّى تبلغ ساعة كَذَا من النهار، ثُمَّ انشرها فان الْقَوْم إِذَا نظروا إِلَيْهَا انهزموا.
وحدثاني قَالا: حَدَّثَنَا وهب بْن جَرِير بْن حازم حَدَّثَنِي أَبِي عَنِ الأزرق قَالَ: بعث المختار ابْن شميط فدفع إِلَيْهِ سفطًا مختومًا، وَقَالَ إِن فِيهِ راية لم ينسجها إنس ولا جن فأخرجها فإنك تظفر عَلَيْهِم، وإياك أَن تخرجها من أول النهار فقتل، ومضى مُصْعَب إِلَى الكوفة فانحاز المختار إِلَى داره فحصره فِيهَا، فخرج ليلا فعرفه النَّاس فقتلوه وقتل أَصْحَابه وَقَدْ نزلوا عَلَى حكمه، وَهُمْ سبعة آلاف.(6/432)
خبر قدوم المصعب بْن الزُّبَيْر الكوفة ويوم حروراء ومقتل المختار بْن أَبِي عبيد
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن يَزِيد أَبُو هِشَام الرفاعي، حَدَّثَنِي عمي كثير بْن مُحَمَّد عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عياش المنتوف عَنْ مجالد عَنِ الشَّعْبِي قَالَ: ولي عُبَيْد اللَّهِ بْن مَعْمَر المسمى القباع، وإنما سمي القباع لأنه رأى مكيالا لأهل البصرة فَقَالَ مَا هَذَا القباع؟ يَعْنِي الأجوف، فلقبوه قباعًا، وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ أَبُو الأسود الديلي لعبد اللَّه بْن الزُّبَيْر.
أَبَا بَكْر جزاك اللَّه خيرا ... أرحنا من قباع بَنِي المغيره [1]
فعزله ابْن الزُّبَيْر، وولى البصرة والكوفة جميعا مُصْعَب بْن الزُّبَيْر أخاه، فقدم البصرة وَكَانَ المختار بالكوفة وَقَدْ أخرج عَنْهَا ابْن مطيع عامل ابْن الزُّبَيْر.
فلما قدم أَصْحَاب المختار المذار ليغلبوا عَلَى البصرة فيما دبروا زحف إليهم المصعب بوجوه أهل البصرة، واستخلف عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَيْهَا عبيد الله بن عبيد الله بن معمر أخاه ويكنى أبا معاذ بكنية أَبِيهِ، فقتل المصعب ابْن شميط وأَصْحَاب المختار وفض عسكره، ثُمَّ إِن عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ استخلف أيضًا عَلَى البصرة أخاه بأمر المصعب، وسار المصعب إلى الكوفة فقتل المختار.
__________
[1] ديوان بي الأسود الدولي ص 220.(6/433)
وولى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر حمزة ابنه البصرة بَعْد أشهر، وَذَلِكَ بمشورة رجل شخص إِلَيْهِ من أهل العراق مولى لبني عجل، يقال لَهُ إِبْرَاهِيم بْن حيان فأخبره أن أهل البصرة يحبون ولايته، وكتب إِلَى مُصْعَب فِي ضم من قبله من رجال البصرة إِلَى حمزة، فغضب مُصْعَب وشخص إِلَى مَكَّة وحمل مَعَهُ مالا من مال الكوفة واستخلف عَلَيْهَا القباع.
وقدم حمزة البصرة فِي سننه فكان جوادا إلا أنه كَانَ أحمق، شخص إِلَى الأهواز فدعا بدهقانها واسمه مردانشاه فأمره أن يحمل الخراج فاستأجله، فشد عَلَيْهِ فضرب عنقه وعنده الأحنف فَقَالَ لَهُ إِن سَيْف الأمير لحاد، ونظر حمزة إِلَى جبل الأهواز فَقَالَ كَأَنَّهُ قعيقعان يعنى جبلا بمكة، فسموه قعيقعان، وسموا الجبل أيضًا قعيقعان.
ولما ورد مُصْعَب عَلَى عَبْد اللَّهِ أخيه قَالَ لَهُ: من استخلفت عَلَى الكوفة؟ قَالَ الْحَارِث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة، وَقَالَ لَهُ: مَا رَأَيْت فِي حمزة ابنك حَتَّى عزلتني ووليته؟ قَالَ: مَا رأى عُثْمَان فِي ابْن عامر حِينَ عزل أبا موسى وولاه وَلَمْ أعزلك تفضيلًا لَهُ عليك، ورده عَلَى المصرين جميعا، فأقر القباع بالكوفة عَلَى خلافته، وأقر عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى أمر البصرة، ثُمَّ ولاه فارس.
وَقَالَ ابْن عياش: كَانَ حمزة يعطي الكثير من لا يستحقه، ويمنع القليل من يستحق الكثير، وَكَانَ يعطي مائة ألف ويمنع شسعا، ورأى فيض البصرة فَقَالَ: إِن هَذَا غدير إِن رفق بِهِ أهله كفاهم ضيعتهم، وركب إِلَى فيض البصرة فِي الجزر، فَقَالَ: لو اقتصدوا فِيهِ لَمْ ينقص هَذَا النقصان.(6/434)
ومدحه موسى شهوات فَقَالَ:
حمزة المبتاع حمدا باللهى ... ويرى فِي بيعه أَن قَدْ غبن
وإذا أعطى عَطَاء فاضلًا ... ذا إخاء لَمْ يكدره بمن
وإذا مَا سنة مجدبة ... برت المال كبرى بالسفن
انجلت عَنْهُ نقيا ثوبه ... وتولت ومحياه حسن
نور صدق نير فِي وجهه ... لَمْ يصب أثوابه لون الدرن
ولجأ الفرزدق إِلَيْهِ وَهُوَ بالحجاز فِي امرأته، وَقَدْ كتبنا قصته فِي خبر ابْن الزُّبَيْر.
قَالُوا: ولما صنع حمزة مَا صنع بدهقان الأهواز كتب الأحنف ووجوه أهل البصرة فِي عزله وإعادة مُصْعَب، فعزله واحتمل حمزة مالًا من مال البصرة فعرض لَهُ مَالِك بْن مسمع وَقَالَ: لا ندعك تخرج بأعطياتنا فضمن لَهُ عُبَيْد اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّهِ بْن معمر العطاء كاملًا فكف وَقَدْ كَانَ عسكر فِي ربيعة، وتخلص حمزة بالمال فترك أباه وأتى الْمَدِينَة فأودع المال رجالًا فذهبوا بِهِ إلا يهوديا وفى لَهُ، وَقَالَ أبوه: أبعده اللَّه أردت أن أباهي بِهِ بَنِي مَرْوَان فنكص.
قَالُوا: وَكَانَ حمزة محبا لابن سريج المغني، وَهُوَ غنى فِي قَوْل موسى شهوات.
حمزة المبتاع حمدا باللهى
وَكَانَ حمزة لا يخالفه، فسأله رجل أَن يكلمه فِي إسلافه ألف دِينَار، ففعل وأسلف الرجل ألفا وأعطى ابْن سريج ألفا.(6/435)
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ عَنْ وَهْبِ بْنِ جَرِير عَنْ أَبِيهِ عَنْ صعب بْن زَيْد قَالَ: بعث ابْن الزُّبَيْر ابنه حمزة وَكَانَ فِيهِ ضعف وحمق، فخرج إِلَى الأهواز فلما رأى جبلها قَالَ إِن هَذَا الجبل لشبيه بقعيقان فسمي لِذَلِكَ قعيقعان، قَالَ صعب: وفرغنا يوما من الخوارج ونحن بالأهواز فخرج عَلَى فرسه مطلقا برحات قبائه فكأني انظر إِلَى تكة سراويله قَدْ بدت عَلَى قربوس سرجه وَهُوَ يركض فكان وجهه إِلَى البصرة وَلَمْ يلق قتالا، وَكَانَ خليفته بالبصرة عُبَيْد اللَّهِ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن مَعْمَر وأقام بالبصرة سنة، وَكَانَ عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ عَلَى فارس.
قَالُوا: ولما انقضى أمر يَوْم المذار أقبل المصعب نَحْو واسط القصب، وَلَمْ تكن يَوْمَئِذٍ إِنَّمَا كَانَ أحدثها الْحَجَّاج بَعْد، فأخذ فِي كسكر وحمل الضعفاء فِي السفن فخرجوا فِي نهر يقال لَهُ قوسان منه إِلَى الفرات، فكان أهل البصرة يخرجون فيجرون سفينهم ويقولون:
عودنا المصعب جر القلس ... بالزنبريات [1] الطوال الملس
ويقال: إنهم قَالُوا ذَلِكَ حِينَ شخص إِلَى الكوفة ثُمَّ إِلَى مسكن.
قَالُوا: وبلغ المختار مسيرهم فخرج حتى نزل السيلحون بالكوفة وسكر الفرات عَلَى نهر السيلحون، ونهر يُوسُف، وجعل يذكر ابْن شميط وأَصْحَابه فَيَقُول: حبذا مصارع الكرام، وبقيت سفن البصريين تجر عَلَى الطين، فلما رأوا ذَلِكَ وجهوا خيلا إِلَى السكر فكسروه وصمدوا صمد الكوفة، فلما رأى المختار ذَلِكَ أقبل حَتَّى نزل حروراء وحال بينهم وبين
__________
[1] الزنبري: الضخم من السفن. القاموس.(6/436)
الكوفة، وَقَدْ كَانَ حصن القصر والمسجد واستخلف بالكوفة عَبْد اللَّهِ بْن شداد الجشمي، وجعل المختار يَوْمَئِذٍ عَلَى ميمنته سُلَيْمَان بْن يَزِيد الكندي وعلى ميسرته سَعِيد بْن منقذ الهمداني، وَكَانَ عَلَى شرطته يَوْمَئِذٍ عَبْد اللَّهِ بْن قراد الخثعمي، وَكَانَ عَلَى ميمنة المصعب المهلب بْن أَبِي صفرة، وعلى ميسرته عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن مَعْمَر، وعلى الْخَيْل عباد بْن الحصين، وعلى الرجال مقاتل بْن مسمع، وعلى أهل الكوفة مُحَمَّد بْن الأشعث بْن قَيْس، وعلى بَكْر بْن وائل مَالِك بْن مسمع.
فلما رأى المختار ذَلِكَ وجه إِلَى كُل خمس من أخماس أهل البصرة رجلًا، فبعث إلى بكر بن وائل سَعِيد بْن منقذ صاحب ميسرته وإلى عَبْد القيس وعليهم مَالِك بْن المنذر بْن الجارود عَبْد الرَّحْمَنِ بْن شريح الشبامي من همدان، وَكَانَ عَلَى بَيْت ماله، وبعث إِلَى أهل العالية وعليهم قَيْس بْن الهيثم السلمي عَبْد اللَّهِ بْن جعدة بْن هبيرة المخزومي، وبعث إِلَى الأزد وعليهم زِيَاد بْن عَمْرو العتكي سُلَيْمَان بْن يَزِيد الكندي، وَكَانَ عَلَى ميمنته، وبعث إِلَى مُحَمَّد بْن الأشعث السائب بْن مَالِك الأشعري، ووقف فِي بقية أَصْحَابه، وَكَانَ المهلب فِي خمسين كثيري العدد والفرسان، وَهُمُ الأزد، وتميم، وَكَانَ الأحنف حاضرًا، وَلَمْ يحب أَن يشهر نَفْسه فحمل بَعْض الْقَوْم عَلَى بَعْض، والمهلب واقف فقيل لَهُ: ألا تحمل؟ فَقَالَ: مَا كنت لأجزر الأزد وتميما خشبية أهل الكوفة حَتَّى أرى فرصتي، وحمل ابْن جعدة عَلَى أهل العالية فكشفهم حَتَّى الحقهم بمصعب، فجثا المصعب عندها على ركبتيه ورمى سهمه فرمى النَّاس سهامهم، وبعث إِلَى المهلب: مَا تنتظر لا أبا(6/437)
لغيرك احمل على من يليك، فحمل بخمسمائة عَلَى أَصْحَاب المختار فحطموهم، وحمل النَّاس بأجمعهم فانهزم أَصْحَاب المختار.
وَقَالَ عَمْرو بْن عَبْد اللَّهِ النهدي: اللَّهُمَّ إني أبرأ إليك من فعل هَؤُلاءِ، يَعْنِي أَصْحَابه حِينَ انهزموا، وأبرأ إليك من هَؤُلاءِ، يَعْنِي أَصْحَاب مُصْعَب، اللَّهُمَّ إنّي على ما كنت عليه بصفين، ثُمَّ قاتل حَتَّى قتل، وَقَالَ مَالِك بْن عَمْرو النهدي وَكَانَ عَلَى الرجالة وأتي بفرسه ليركبه: والله لا فعلت ولأن أقتل فِي أهل الصبر أحب إلي من أَن أقتل فِي بَيْتِي، أين أهل الصبر اليوم؟ فثاب إِلَيْهِ خمسون رجلًا، فشد وشدوا عَلَى مُحَمَّد بْن الأشعث بْن قَيْس وأَصْحَابه، وَكَانَ بالقرب منه، فقتل مُحَمَّد بْن الأشعث، فبنو نهد يدعون قتله يقولون قتله مَالِك، وكندة تقول قتله عَبْد الْمَلِك بْن أشاءة الكندي، وخثعم تقول قتله ابْن قراد الخثعمي، ويقال إِن المختار مر فِي أَصْحَابه عَلَى ابْن الأشعث فَقَالَ لَهُمْ: يا شرطة اللَّه كروا عَلَى الثعالب الرواغة، فحملوا فقتل مُحَمَّد بْن الأشعث فَقَالَ أعشى همدان:
وَمَا عذر عين على ابن الأش ... ج فِي أَن يفتر تقطارها
فلا تبعدن أبا قاسم ... فَقَدْ تبلغ النفس مقدارها
بشط حرورا إِذَا استجمعت ... عليك ثقيف وسحارها
وقتل سَعِيد بْن منقذ فِي سبعين راكبا من قومه، وقتل سُلَيْمَان بْن يَزِيد الكندي فِي تسعين، ونزل المختار عَلَى فم سكة شبث بْن ربعيّ فقاتل عامّة ليلته وقتل معه بشر من همدان وغيرها، وانصرف البصريون عَنِ المختار فعمد إِلَى قصر فنزله، وَكَانَ وقعتهم يَوْم الأربعاء، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن ثوب لما خرج يريد حروراء جعل يَقُول: اليوم يَوْم الأربعاء. تربعت السماء. ونزل(6/438)
الْقَضَاء. بهزيمة الأعداء، فلما كانت الوقعة ضرب عَلَى وجهه فقيل لَهُ أين مَا كنت تقول؟ قَالَ: يَمْحُو اللَّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتَابِ [1] ويقال: إِن المختار قَالَ ذَلِكَ، وَكَانَ عُبَيْد اللَّهِ بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب مَعَ المصعب فقتل يَوْمَئِذٍ، ويقال: إنه قتل يَوْم المذار فَقَالَ المصعب للمهلب:
يا أبا سَعِيد أعلمت أنهم قتلوا عُبَيْد اللَّهِ بْن عَلِي وَهُمْ يعرفونه ويزعمون أنهم شيعة أَبِيهِ؟ فَقَالَ المهلب للمصعب: أصلح اللَّه الأمير أي فتح لو لَمْ يكن مُحَمَّد بْن الأشعث قتل؟ فَقَالَ: نعم، فرحم اللَّه محمدًا.
قَالُوا: وسار مُصْعَب يَوْم الخميس بمن مَعَهُ فأتى السبخة فقطع عَنِ المختار المادة، وبعث عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الأشعث وزحر بْن قَيْس إِلَى جبانة مراد، وبعث عُبَيْد اللَّهِ بْن الحر الجعفي إِلَى جبانة الصائديين من همدان، وبعث عباد بْن الحصين إِلَى جبانة كندة، فكانوا كلهم يقطعون عَنْهُ المادة، وأمر المصعب المهلب أَن يتخذ عَلَى الكوفة دروبًا ففعل فلم يقدر المختار عَلَى الماء، فجعل يشرب وأَصْحَابه من ماء البئر ويعطيهم من عسل عنده فيديفونه بِهِ ليطيب الماء، واقترب مُصْعَب وأَصْحَابه من القصر ورتبهم فِي مواضع وقفهم بِهَا، وأقبل أحداث يصيحون يا بن دومة، فأشرف عَلَيْهِم فَقَالَ: إِن الَّذِي تعيرونه ابن رجل من القريتين [2] عظيم، وكانت أم المختار دومة بنت وهب بْن معتب بْن وهب بْن كعب الثقفي، ثُمَّ خرج المختار فِي مائتين فحمل عَلَى أَصْحَاب مُصْعَب فقاتلهم وضرب يحيى بن ضمضم وكان
__________
[1] سورة الرعد- الآية: 39.
[2] بهامش الأصل: عظيم احدى القريتين مسعود بن عمرو وجده.(6/439)
فارسًا شجاعا إِذَا ركب خطت الأَرْض رجله، فأطار قحف رأسه فخر ميتا، ثُمَّ تتابع النَّاس عَلَيْهِ وكثروه، فلم يكن لَهُ بِهِمْ طاقة، فدخل القصر واشتد عَلَيْهِ الحصار، فَقَالَ لأَصْحَابه: انزلوا بنا نقاتل حَتَّى نقتل كراما، والله مَا أنا بآيس إِن صدقتم أَن تنصروا، فضعف أَصْحَابه وعجزوا، فَقَالَ:
أما والله لا أعطي بيدي ولا أحكم فِي نفسي، فلما رأى عَبْد اللَّهِ بْن جعدة مَا يريد المختار تدلى من القصر فلحق بناس من إخوانه فاستخفى عندهم.
ثُمَّ إِن المختار أرسل إِلَى امرأته أم ثابت بنت سمرة بْن جندب فبعثت إِلَيْهِ بطيب فاغتسل، وتحنط، ووضع الطيب فِي رأسه ولحيته، ثُمَّ خرج فِي تسعة وعشرين رجلًا من أَصْحَابه فيهم السائب بْن مَالِك الأشعري، فَقَالَ للسائب: مَا ترى؟ قَالَ السائب: أنا أرى أم أَنْتَ؟ قَالَ المختار: بَل اللَّه يرى، أَنْتَ ويحك أحمق، إِنَّمَا أنا رجل من العرب رَأَيْت ابْن الزُّبَيْر انتزى عَلَى الحجاز، ومروان عَلَى الشام، ونجدة عَلَى اليمامة، فلم أكن دُونَ أحدهم فقاتل عَلَى حسبك، فَقَالَ السائب: وَمَا كنت أصنع بالقتال عَلَى حسبي، وتمثل المختار بقول ابْن الزبعرى:
كُل بؤس ونعيم زائل ... وسواء قبر مثر ومقل [1]
ثُمَّ قَالَ لأَصْحَابه لما رأى مَا بِهِمْ من الروع والفشل، والامتناع من أَن يتابعوه عَلَى الخروج والقتال مَعَهُ: إني والله إِن قتلت لَمْ تزدادوا إلا ضعفا وذلا. ثُمَّ إِن أخذتم ذبحتم كَمَا يذبح الغنم يقولون: هَذَا قاتل أَبِي، وَهَذَا قاتل أَخِي، وإن قاتلتم صابرين فقتلتم متّم كراما.
__________
[1] شعر عبد الله بن الزبعرى ص 41 مع فوارق واضحة.(6/440)
ثُمَّ خرج فقاتل وَهُوَ يَقُول:
إِن يقتلوني يجدوا لي جزرا ... محمدا قتلته وعمرا
والأبرص الجاهل لما أدبرا
فقتل السائب بْن مَالِك، ثُمَّ قتل المختار عِنْدَ الزياتين قتله أخوان من عنزة يقال لهما طرفة وطريفة، وبنو تميم يدعون أَن مولى لبني عطارد يقال لَهُ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ قتل المختار.
وَقَالَ أَبُو اليقظان: قتله فيما تقول ربيعة: طراف بْن يَزِيد الحنفي.
ونزل الباقون من أَصْحَابه عَلَى الحكم، فجعل عباد بْن الحصين ينزلهم مكتفين وَكَانَ فيهم عَبْد اللَّهِ بْن قراد فمروا بِهِ عَلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث وَهُوَ يَقُول:
مَا كنت أخشى أن أرى أسيرًا ... إِن الَّذِينَ خالفوا الأميرا
قَدْ خسروا وتبروا تتبيرا
فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ: ائتوني بِهِ فقدموه إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ابْن قراد: أما إني عَلَى دين جدك الَّذِي آمن بِهِ ثُمَّ كفر، يَعْنِي الأشعث إِن لَمْ أكن الَّذِي ضربت أباك بسَيْفي حَتَّى فاضت نَفْسه، فدنا منه فقتله، فغضب عباد بْن الحصين من قتله إياه دُونَ أمر مُصْعَب.
وأتي مُصْعَب برجل من بَنِي مسلية فقال: الحمد لله الَّذِي ابتلانا بالأمير وابتلاه بنا، إِن من عفا عفا اللَّه عَنْهُ، ومن عاقب لَمْ يأمن القصاص، يا بن الزُّبَيْر نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم ونحن قومكم لسنا بروم ولا ديلم، لَمْ نعد أَن خالفنا إخواننا من أهل مصرنا، فإما أَن نكون أصبنا وأخطأوا، أَوْ أصابوا وأخطأنا فاقتتلنا بيننا كَمَا اقتتل أهل الشام بينهم وكما(6/441)
اقتتل أهل البصرة بينهم، فَقَدِ افترقوا ثُمَّ اجتمعوا، وقد ملكتم فأسجحوا، وقدرتم فاعفوا، فرق لَهُ مُصْعَب وللأسرى، فقام عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث فَقَالَ: أيها الأمير اخترنا عَلَيْهِم أَوِ اخترهم عَلَيْنَا، وقام مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سَعِيد بْن قَيْس الهمداني فَقَالَ: قَدْ قتل أبي وأشرافنا وخمسمائة أَوْ أَكْثَر منا وتخلي سبيلهم ودماؤنا ترقرق فِي أثوابهم، اخترنا أَوِ اخترهم فأمر بِهِمْ أَن يقتلوا، فَقَالَ بَعْضهم: قَدْ أمرنا المختار أَن لا نموت هذه الميتة الدنية فأبينا، وَكَانَ من أخرج من القصر نحوًا من ستة آلاف.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود عَنْ عَلِي بْن مجاهد قَالَ: لما ظفر مُصْعَب بأَصْحَاب المختار، بعثت إِلَيْهِ عَائِشَة بنت طَلْحَة فِي أمرهم الحارث بن خالد المخزومي فوجدهم قَدْ قتلوا.
وَقَالَ مسافر بْن سَعِيد بْن نمران الناعطي: ما تقول يا بن الزُّبَيْر غدا وَقَدْ قتلت أمة من الْمُسْلِمِينَ حكموك فِي أنفسهم ودمائهم صبرًا وإن فينا لرجالًا مَا شهدوا حربنا وحربكم إلا اليوم؟! فقتل وقتل الْقَوْم.
حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح المقرئ عَنِ الهيثم عَنْ عوانة قَالَ: لما أراد المصعب قتل أَصْحَاب المختار ونزلوا عَلَى حكمه شاور الأحنف بْن قَيْس فيهم، فَقَالَ: أرى أَن تعفو عَنْهُم فَإِن العفو أَقْرَبُ للتقوى [1] ، فَقَالَ أشراف أهل الكوفة: اقتلهم وضجوا فَلَمَّا قتلوا، قَالَ الأحنف: مَا أدركتم بقتلهم ثأرًا فليته لا يَكُون فِي الآخرة وبالا.
__________
[1] انظر سورة البقرة- الآية: 237.(6/442)
وَكَانَ المصعب قَالَ: اقتلوا الموالي واعفوا عمن كَانَ صليبة مَعَ المختار، فقام ابْن الأَصْبَهَانِي وابن الإسكاف، صاحب الدار بالبصرة فقالا: مَا هَذَا بحكم الإِسْلام، فقتل الجميع.
قَالُوا: وبعث المصعب إِلَى أم ثابت بنت سمرة بْن جندب الفزاري، وعمرة بنت النعمان بْن بشير الأَنْصَارِي، امرأتي المختار، فأحضرتا فَقَالَ لهما مَا تقولان فِي المختار؟ فأما أم ثابت فَقَالَتْ: مَا عسينا أَن نقول فِيهِ إلا مثل مَا تَقُولُونَ من الكذب وادعاء الباطل فخلى سبيلها، وَقَالَتْ عمرة: مَا علمته رحمه اللَّه إلا مسلما من عباد اللَّه الصالحين، فحبسها المصعب فِي السجن، وكتب إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر: «إنها تزعم أَنَّهُ نبي» فكتب إِلَيْهِ أَن أخرجها فاقتلها، فأخرجها إِلَى مَا بَيْنَ الحيرة والكوفة بَعْد العشاء الآخرة، فأمر بِهَا رجلا من الشرط يقال لَهُ مطر، فضربها بالسَيْف ثَلاث ضربات، وَهِيَ تقول: يا أبتاه، يا أهلاه، يا عشيرتاه، فرفع رجل يده فلطم مطرا وقال:
يا بن الزانية عذبتها فقطعت نفسها ثُمَّ تشحطت وماتت، وتعلق مطر بالرجل فأتى بِهِ مصعبا فَقَالَ: خلوه رأى أمرًا عظيما فظيعًا، وَكَانَ لقب مطر هَذَا تابعه.
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر الأسدي، ويقال عُمَر بْن أَبِي ربيعة:
إِن من أعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حرة عطبول
قتلوها ظلما عَلَى غَيْر ذنب ... إِن لِلَّهِ درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جرّ الذيول [1]
__________
[1] ديوان عمر بن أبي ربيعة ص 498 مع فوارق.(6/443)
وَقَالَ الأحوص، ويقال غيره:
ألم تعجب الأقوام من قتل حرة ... من الجامعات العقل والدين والحسب
من العاقلات المؤمنات برية ... من الشك والبهتان والإثم والريب
كأنهم إذ أبرزوها فقطعت ... بأسيافهم فازوا بمملكة العرب [1]
وَكَانَ مقتل المختار فِي شَهْر رمضان سنة تسع وستين.
وبعث المصعب برأسه ورؤوس وجوه أَصْحَابه إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر بمكة، وسمر المصعب يد المختار عَلَى حائط الْمَسْجِد الجامع، فلم تزل مسمورة حَتَّى قدم الْحَجَّاج الكوفة فأمر بِهَا فانتزعت ثُمَّ دفنت.
ولما قتل المصعب المختار أنفذ عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن مَعْمَر إِلَى البصرة وأقام بالكوفة لإصلاح أمرها، فكان يَوْم الجفرة بالبصرة فِي أَيَّام عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ هذه، ثُمَّ لحق بِهِ مُصْعَب وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فيما تقدم من نسب بَنِي أَبِي العيص.
حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بن عدي عَنِ عوانة وغيره قَالُوا: وفد مُصْعَب عَلَى أخيه عَبْد اللَّهِ ثَلاث مرات أولاهن من الكوفة حين قتل المختار ومعه إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، وَالثَّانِيَة من البصرة بمال العراق حِينَ عزله وولى حمزة بْن عَبْد اللَّهِ البصرة فقدمها غلام معجب حريص، فقصر بالإشراف وبسط يده ففزعوا إِلَى مَالِك بْن مسمع فأمر بحمل سرادقة فضرب عَلَى الجسر، ثُمَّ أرسل إِلَى حمزة يا بن أَخِي الحق بأبيك فأخرجه عَنِ البصرة، فَقَالَ العديل بن فرخ العجلي:
__________
[1] شعر الأحوص ص 263.(6/444)
إِذَا مَا خشينا من أمِير ظلامة ... دعونا أبا غسان يوما فعسكرا
فَمَا فِي معد كلها مثل مَالِك ... أغر إِذَا سامى وأهيب منظرا
بَنِي مسمع لولا الإله وأنتم ... بَنِي مسمع لَمْ ينكر النَّاس منكرًا
بَنِي مسمع أنتم ذؤابة وائل ... وأكرمها فِي أول الدهر جوهرا
فرد عبد الله مصعبا عَلَى الكوفة والبصرة، ثُمَّ إنه احتاج إِلَى مشافهة أخيه عَبْد اللَّهِ بشيء فِي أمر عَبْد الْمَلِك حِينَ بلغه عزمه عَلَى إتيان العراق فشخص إِلَيْهِ فلم يقم قبله إلا يومًا، ثُمَّ ركب رواحله إِلَى البصرة.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هشام عن أَبِيهِ عن أبي مخنف وعن عوانة قَالا: لما قدم مُصْعَب عَلَى أخيه بعد قتل المختار، قال له ابن عمر: أأنت الذي قتلت ستّة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة على دم؟ فقال: إنّهم كَانُوا سحرة كفرة، فَقَالَ لَهُ: والله لو كَانُوا غنما من تراث الزُّبَيْر لَقَدْ كَانَ مَا أتيت عظيمًا.
قَالُوا: وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر لابن عَبَّاس- وأخبره بأمر المختار- فرأى منه توجعا وإكبارًا لقتله أتتوجع لابن (أَبِي) عبيد وتكره أَن تسميه كذابا؟
فَقَالَ لَهُ: مَا جزاؤه ذَلِكَ منا، قتل قتلتنا، وطلب بدمائنا وشفى غليل صدورنا.
قَالُوا: ومر عروة بْن الزُّبَيْر عَلَى ابْن عَبَّاس فَقَالَ يا أبا عَبَّاس إِن ربك قتل المختار الكذّاب وهذا رأسه قَدْ جيء بِهِ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس قَدْ بقيت لكم عقبة إِن صعدتموها فأنتم أنتم يَعْنِي، عَبْد الْمَلِك وأهل الشام.
حَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة عَن مُوسَى بْن إِسْمَاعِيل عَنْ أَبِي هلال عَنْ أَبِي يَزِيد المدني قال: ذكر ابن عمر الدجالين والكذابين فَقَالَ وَمِنْهُم ذو صهري هَذَا، قَالَ: قُلْت: ومن ذو صهرك؟ قَالَ: المختار.(6/445)
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا قَيْسٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ: قِيلَ لابْنِ الزُّبَيْرِ إِنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ قَالَ صَدَقَ ثُمَّ قَرَأَ: هَلْ أُنَبِئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ. تَنَزَّلُ عَلَى كُلّ أَفَّاك أَثِيمٍ [1] .
حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْن عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ عَن أَبِيهِ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ:
قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ إِنَّ الْمُخْتَارَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ. فَقَالَ: صَدَقَ إِنَّهُمَا وَحْيَانِ وَحْيُ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَحْيُ الشياطين، وقرأ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُون إلى أَوْلِيَائِهِمْ [2] .
وحدثني عَبَّاس بْن هشام عن أَبِيهِ عن جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي الْمُخْتَارِ: طَلَبَ بِثَأْرِنَا، وَقَتَلَ قَتَلَتَنَا، فَنَهَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ وَقَالَ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهِ فَلا تَقُلْ فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ شَيْئًا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ ذُكِرَ عِنْدَهُ الْمُخْتَارُ، فَقَالَ: صَلَّى عَلَيْهِ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ.
حَدَّثَنَا بسام الحمال وغيره قَالُوا: حَدَّثَنَا حماد بْن سلمة عَنْ يَحْيَى بْن سَعِيد عَنْ أَبِيهِ: إِن المختار لما دعا النَّاس لبيعته، رَأَيْت الْحَارِث بْن سويد يذهب مرقلا، فَقُلْتُ: إِلَى أين تذهب، أما تدري مَا هذه البيعة؟ قَالَ:
بلى ولكني سمعت ابْن مَسْعُود يَقُول مَا كَلام أتكلم بِهِ يرد عنّي ضربتين بسوط إلّا كنت متكلّما.
__________
[1] سورة الشعراء- الآيتان: 221- 222.
[2] سورة الأنعام- الآية: 121.(6/446)
الْمَدَائِنِي قَالَ: وجد المختار فِي بَيْت مال الكوفة تسعة آلاف ألف درهم، ويقال: ألف ألف وتسعمائة ألف.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: كتب المختار إِلَى ابْن الزبير، إنّ ابن مطيع خالفك، وكاتب عَبْد الْمَلِك، وأنت أحب إلينا من عَبْد الْمَلِك، فوجه عُمَر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحارث فما كره المختار وَقَدْ كتبنا خبره.
قَالَ: وكتب المختار إِلَى ابْن الزُّبَيْر إني اتخذت الكوفة دارا، فَإِن سوغتني ذَلِكَ وأمرت بألف ألف درهم سرت إِلَى الشام وكفيتك أمره، فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: إِلَى مَتَى أماكر كذاب ثقيف ويماكرني ثُمَّ تمثل:
عاري الجواعر من ثمود أصله ... عَبْد ويزعم أنه من يقدم
وكتب إِلَيْهِ: لا والله ولا درهمًا، وَقَالَ:
ولا أمتري بالهون حَتَّى يدرني ... وإني لآبى الخسف مَا دمت أسمع
فجاهره المختار عندها ونصب لَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: أعظمت ربيعة قتل إياس وابنه، وَقَالُوا: نقتل بهما إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، فَقَالَ سراقة البارقي:
أتوعدنا ربيعة فِي إياس ... وَمَا تدري ربيعة مَا تقول
ولولا رفعنا عَنْهُم لكانوا ... كمن غالته فِي الأيام غول
لإبراهيم أمنع من سهيل ... إِذَا طارت من الفزع العقول
وأمنع جانبا من ليث غاب ... جريء دونه أجم وغيل
وأصدق عدوة منه إِذَا مَا ... تدمى من فريسته التليل
حَدَّثَنِي رَوْحُ بْن عَبْد الْمُؤْمِنِ عَنْ غُنْدَرٍ عَنْ شُعْبَة عَنِ الحكم قَالَ:
صليت خلف أَبِي عَبْد اللَّهِ الجدلي، زمن الكذاب، وَكَانَ الكذاب استخلفه(6/447)
فقرأ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيمِ فلما قرأ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ: كفى بالله هاديا ونصيرا، ثُمَّ قَالَ بِسْمِ اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيمِ.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: قَالَ المختار: من جاءنا من عَبْد فَهُوَ حر، فبلغ ذَلِكَ ابْن الزُّبَيْر فَقَالَ: قَدْ كَانَ يَقُول إني لأعرف كلمة لو قلتها كثر تبعي، وَهِيَ هذه، ليكثرن تبعه.
قَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي: أتى عباد بْن زِيَاد دومة الجندل بَعْد مرج راهط طالبا للعزلة وهاربًا من الْفِتْنَة، فوجه المختار إِلَيْهِ شُرَحْبِيل بْن ورس الهمداني فِي أربعة آلاف، فأرسل إِلَيْهِ عباد إني إِنَّمَا هربت إِلَى دومة الجندل بديني واعتزلت الْفِتْنَة، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابه: هُوَ رأس الْفِتْنَة وأولها وآخرها فلا يبرح حَتَّى يسفك دمه، فعزم ابْن ورس عَلَى قتاله، فقال عبّاد لأصحابه، وهم سبعمائة من عبيده ومواليه وأتباعه: اخرجوا بنا إِلَى هَؤُلاءِ الْقَوْم فَإِنَّهُ لَمْ يحصر قوم قط إلا وهنوا وذلوا فقاتلهم، فقتل من أَصْحَاب ابْن ورس أَكْثَر من ألف وَلَمْ يقتل من أَصْحَاب عباد إلا الْوَلِيد بْن قَيْس مولى عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد، وانهزم ابْن ورس فوثب الأعاريب عَلَيْهِ فانتهبوه وقتلوا جَمَاعَة من أَصْحَابه، فصار فيمن بقي مَعَهُ إِلَى بلاد طيّئ، فجمع لَهُ معدان الطائي، وَهُوَ معدان بْن سلمة بْن حنظلة، فقاتله ابْن ورس وَهُوَ يَقُول:
أنا ابْن ورس فارس غَيْر وكل ... أروع مقدام إِذَا النكس نكل
وأعتلي راس الطرماح البطل ... بالسَيْف يَوْم الروع حَتَّى ينجدل
وجعل معدان يَقُول:
إيه بَنِي معن ذوي العديد ... فجردوا البيض من الحديد
ولا تعيدوهن فِي الغمود ... وانتزعوا سرادق العبيد(6/448)
فقتلوا منهم سبعمائة ودخل ابْن ورس الكوفة.
فَقَالَ الأخطل:
وأنت يا بن زِيَاد عندنا حسن ... منك البلاء وأنت الناصح الشفق
المستقل أمورًا لَيْسَ يحملها ... غمر من الْقَوْم رعديد ولا خرق [1]
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: مال عمير بْن الحباب يَوْم الخازر وَقَالَ: يا لثأرات المرج فقتل: ابْن زِيَاد وحصين بْن نمير وَشُرَحْبِيل بْن ذي الكلاع.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي: أقام عُبَيْد اللَّهِ بْن زِيَاد حِينَ وجهه مَرْوَان عَلَى قرقيساء سنة فلم يقدر عَلَى شَيْء، فتوجه يريد العراق فلقي التوابين، ثُمَّ سار يريد العراق فقتل بالخازر وَقَالَ عمير بْن الحباب:
جزيناهم بيوم المرج يوما ... كسوف الشَّمْس أسود ذا ظلال
فلم ينفك أَعْظَم سكسكي ... أمام الجسر مَا اختلف الليالي
وَقَالَ الفرزدق:
ألا رب من يدعى الفتى لَيْسَ بالفتى ... ولكنما كَانَ الفتى ابْن زِيَاد [2]
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: بعث المختار برأس ابْن زِيَاد إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، فبعث بِهِ عَبْد اللَّهِ إِلَى ابْن الحنفية فَقَالَ: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُماتُ قِصَاصٌ [3] قَالَ: ويقال إنه بعث برأس ابْن زِيَاد إِلَى ابْن الحنفية، ويقال: إِن مصعبا بعث برأس المختار إِلَى ابْن الزُّبَيْر فبعث بِهِ ابْن الزُّبَيْر إِلَى ابْن الحنفية فتلا ابْن الحنفيّة الآية، وذلك أشبه بالحقّ.
__________
[1] ديوان الأخطل ص 214 مع فوارق.
[2] ليس في ديوان الفرزدق المطبوع.
[3] سورة البقرة- الآية: 194.(6/449)
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: قتل المختار عَبْد اللَّهِ بْن شداد الجهني، وأبا عُثْمَان بْن خَالِد بْن أسيد، وزيد بْن رقاد الحيني، وعمرو بْن الحجّاج الزبيدي فقد فمات عطشا، وهرب مساكين بْن عامر الدارمي، وَكَانَ مِمَّن قاتل قبل المختار بالكوفة، ولحق بمحمد بْن عمير بْن عطارد بأذربيجان وَقَالَ فِي أبيات لَهُ:
لهف نفسي عَلَى قريع قريش ... يَوْم يؤتى برأسه المختار
ليتنا قبل ذَلِكَ اليوم متنا ... أَوْ فعلنا مَا يفعل الأحرار [1]
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: هرب أسماء بْن خارجة إِلَى البادية، فنزل عَلَى رجل من بَنِي عبس وَكَانَ للعبسي كلب يقال لَهُ وقاع فَقَالَ العبسي: إني أخاف عَلَى كلبي، فَقَالَ أسماء: أنا لَهُ ضامن، فكان يأمر بإطعامه حَتَّى تناهى سمنه، ثُمَّ رحل أسماء فنزل بلاد كلب ونزل بالعبسي رجل من بَنِي ثعلبة بْن سَعْد يكنى أبا حيان، فجاء الكلب والطعام موضوع فرماه أَبُو حيان بسهم فقتله، وأمن أسماء فرجع ونزل بالعبسي فَقَالَ: مَا فعل وقاع؟ فأخبره فَقَالَ: قَدْ كنت ضمنته، قَالَ: فاحتكم فَقَالَ: ألف درهم، فأعطاه أربعة آلاف درهم.
حَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة حَدَّثَنِي حيان بْن بشر عَنْ يَحْيَى بْن آدم عَنْ عَلِي بْن هِشَام عَنْ أَبِي الجحاف قَالَ: قَالَ لي مُعَاوِيَة بْن ثعلبة: لما خرج المختار كرهت الخروج مَعَهُ، فأتيت مُحَمَّد ابْن الحنفية فسألته فَقَالَ إني آمرك بِمَا آمر بِهِ نفسي لا تخرج مَعَهُ، فإنا أهل الْبَيْت لا نبتز هذه الأمة أمرها، وإن عليا لَمْ يقاتل حتى كانت له بيعة.
__________
[1] ديوان مسكين الدارمي ص 43.(6/450)
وذكر الأصمعي عَن أَبِي عَمْرو بْن العلاء قَالَ: أراد ابْن الحنفية أَن يقدم الكوفة، فَقَالَ المختار إِن فِي الْمَهْدِي علامة وَهِيَ أَن يضربه رجل بالسَيْف ضربة فلا تضر فبلغ ابْن الحنفية ذَلِكَ فأقام.
وَقَالَ نصر بْن عَاصِم الليثي:
فارقت نجدة وَالَّذِينَ تزرقوا ... وابن الزُّبَيْر وشيعة الكذاب
والصفر الآذان حِينَ تخيروا ... دينا بلا فقه ولا بكتاب
حَدَّثَنَا سَعِيد بْن سُلَيْمَان سعدويه وعمرو بْن مُحَمَّد الناقد قَالا: حَدَّثَنَا هُشَيْم عَنِ المغيرة عَنْ إِبْرَاهِيم قَالَ: مَا كَانُوا يقرأون خلف الإِمَام حَتَّى كَانَ المختار فاتهموه، فقرأوا خلفه، وَكَانَ يصلي بِهِمْ صلاة النهار، ولا يصلي بِهِمْ صلاة الليل.
حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح حَدَّثَنَا أشياخنا: أَن الشَّعْبِي كَانَ يَقُول للخشبية: يا شرطة اللَّه قعي وطيري.
حَدَّثَنِي عَمْرو بْن مُحَمَّد الناقد عَنْ حفص بْن غياث عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: كانت هدايا المختار تأتي ابْن عُمَر وابن عَبَّاس، وابن الحنفية فيقبلونها.
حَدَّثَنِي هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ وُهَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ مَا رَدَّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْوُلاةِ هَدِيَّتَهُ- أَوْ قَالَ: صِلَتَهُ- إِلا الْمُخْتَارَ، فَإِنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَرَدَّهَا.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: مَا رَدَّ ابْنُ عُمَرَ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْوُلاةِ صِلَتَهُ إِلا الْمُخْتَارَ فَإِنَّهُ بَعَثَ إِلَيْهِ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَرَدَّهَا.(6/451)
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: قدم مُحَمَّد بْن الأشعث البصرة وَهُوَ ينادي:
واغوثاه تركنا السيوف تنطف وقلف العبيد فِي الأحراح، وَكَانَ عَلَى البصرة القباع، فقدم المصعب عَلَى بقية ذاك.
وَقَالَ ابْن قَيْس الرقيات يمدح مصعبًا:
والذي نغص ابن دومة ما يو ... حي الشياطين والسيوف ظماء
فأباح العراق يضربهم بالسي ... ف صلتا وَفِي الضراب جلاء
ملكه ملك رحمة لَيْسَ فِيهِ ... جبروت منه ولا كبرياء [1]
وَقَالَ ابْن الكلبي: بعث مُصْعَب إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن حجر بْن عدي وعبد رب بْن حجر، وعمران بْن حذيفة بْن اليمان، فقتلهم صبرا. وكانوا خرجوا مَعَ المختار.
حَدَّثَنِي يُوسُف بْن مُوسَى الْقَطَّان عَنْ جَرِير بْن عَبْد الحميد عَنِ المغيرة قَالَ: قتل عُبَيْد اللَّهِ بْن عَلِي مَعَ مُصْعَب يَوْم المختار.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هشام عن أَبِيهِ عن عوانة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لما وفد مُصْعَب عَلَى أخيه بَعْد قتل المختار قَالَ لابن عُمَر: مَا تقول فِي قوم خلعوا ربقة الطاعة، وسفكوا الدماء وقاتلوا فقوتلوا، حَتَّى إِذَا غلبوا دخلوا حصنا فسألوا الأمان عَلَى الحكم، فأعطوا ذَلِكَ ثُمَّ أخرجوا فقتلوا؟ قَالَ: وكم العدة؟ قَالَ: خمسة آلاف، قَالَ فسبح ابْن عُمَر، ثم قال: عمّرك الله يا بن الزُّبَيْر، لو أَن رجلا أتى ماشية لآل الزُّبَيْر فذبح منها خمسة آلاف ألم تكن تراه مسرفًا؟ قَالَ: فسكت فلم يجبه، فَقَالَ: ألم يكن فيهم من ترجى لَهُ التوبة، ألم يكن فيهم مستكره.
__________
[1] ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات- ط. دار صادر بيروت، ص 90- 91 مع فوارق.(6/452)
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام عَنْ أَبِيهِ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْر بْن عياش حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاق السبيعي قَالَ: مَا زال شراب أهل الكوفة الزبيب حَتَّى كَانَ زِيَاد فشربوا التمر.
قَالَ وَحَدَّثَنَا أَبُو بَكْر قَالَ: أول مَا قرئ خلف الإِمَام فِي زمن المختار، لأنهم اتهموه.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِير عَنْ أَبِيهِ عَنْ صعب بْن زَيْد قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر استعمل مصعبا عَلَى البصرة ثُمَّ عزله، واستعمل ابنه حمزة وَذَلِكَ بَعْد قتل المختار، فلما رأى أهل البصرة ضعف حمزة طلبوا إِلَى ابْن الزُّبَيْر أَن يرد إليهم المصعب، وَكَانَ المصعب رجلا لَهُ نجدة وشجاعة وسخاء وبصر بِمَا يَأْتِي ويذر، فلما قدم البصرة جبى خراج الأهواز، وشاطئ دجلة، وجعل يعطي النَّاس العطاء فِي كُل سنة مرتين فِي أولها وآخرها، فلم يزل المصعب بالبصرة إِلَى أَن خرج إلى مسكن.
حدثنا أبو خيثمة (و) أحمد بْن إسرائيل (قَالا) : حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: استعمل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر عَبْد اللَّهِ بْن مطيع العدوي عَلَى الكوفة، فَقَالَ المختار لابن الزُّبَيْر وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عنده إني لأعلم قوما لو أَن لَهُمْ رجلا لَهُ رفق وعلم بِمَا يَأْتِي ويذر، لاستخرج لَك مِنْهُم جندًا تقاتل بِهِمْ أهل الشام، قَالَ: من هُمْ؟ قَالَ: شيعة عَلِي وَبَنِي هاشم بالكوفة، قَالَ: فكن أَنْتَ ذَلِكَ الرجل، فبعثه إِلَى الكوفة فنزل ناحية منها، وجعل يبكي عَلَى الْحُسَيْن، ويذكر مصابه حَتَّى ألفوه وأحبوه فنقلوه إِلَى وسط الكوفة، وأتاه مِنْهُم بشر كثير، فلما غلظ أمره وقوي شأنه سار إِلَى ابْن مطيع فأخرجه من الدار.(6/453)
وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم حَدَّثَنَا وهب عَنْ أَبِيهِ عَنْ عدة حدثوه: أَن المختار لما غلب عَلَى الكوفة ابتنى لنفسه من بَيْت المال دارًا أنفق عَلَيْهَا مالا عظيما، واتخذ بستانا من بَيْت المال، وأعطى عطايا كثيرة وأنفق نفقات وكتب إِلَى ابْن الزُّبَيْر: إِن سوغتني مَا أنفقت من بَيْت المال فإني فِي طاعتك وإنما حملني عَلَى إخراج ابْن مطيع مَا رَأَيْت من وهنه وضعفه وأنه لَمْ يكن صاحب مَا هُوَ فِيهِ، فأبى ابْن الزُّبَيْر أَن يفعل فخلعه المختار، وكتب إِلَى عَلِي بْن الْحُسَيْن بْن عَلِي يريده عَلَى أَن يبايع لَهُ، وبعث إِلَيْهِ بمال فأبى أن يقبله وأن يجبيه، وخرج إِلَى الْمَسْجِد فشتمه وعابه وذكر كذبه، فكتب المختار إِلَى ابْن الحنفية يريده عَلَى ذَلِكَ، فأتاه عَلِي بْن الْحُسَيْن فأشار عَلَيْهِ أَن لا يقبل، وأن يخرج إِلَى النَّاس فيتبرأ منه ويعيبه ويذكر كذبه، فأتاه ابْن عَبَّاس فَقَالَ: لا تفعل فإنك لا تدري عَلَى مَا أَنْتَ من ابْن الزُّبَيْر، فأطاع ابْن عَبَّاس، وسكت عَنْ عيب المختار، وغلظ أمر المختار بالكوفة، وكثرت خشبيته، فجعل يخبرهم أَن جبريل يأتيه وتتبع قتله الْحُسَيْن فقتلهم، وَكَانَ مِمَّن قتل عُمَر بْن سَعْد بْن أَبِي وقاص، وَهُوَ الَّذِي كَانَ لقي الْحُسَيْن فقتله، فازداد أهل الكوفة إعظامًا لَهُ وحبا وطاعة، فخرج النعمان بْن صهبان الراسبي من البصرة، وَكَانَ يرى رأى الشيعة، حَتَّى قدم الكوفة فدخل عَلَى المختار ذَات يَوْم، فَقَالَ لَهُ المختار: هنا مجلس جبريل قام عَنْهُ آنفًا، فخرج النعمان وأَصْحَابه فقاتلوه فقتلوا اجمعين.
حدثنا أبو خيثمة حدثنا وهب بن جرير حَدَّثَنِي أَبِي ومحمد بْن أَبِي عُيَيْنَة: أَن المختار وجه أحمر بْن شميط ليأخذ البصرة فخرج فِي أربعين ألفا فنزل المذار واستنفر المصعب النَّاس، وخرج إِلَيْهِ بالبصرة، وَقَدْ كَانَ(6/454)
مُصْعَب لما قدم العراق كتب إِلَى المهلب حِينَ قتل ابْن الماحوز الخارجي أَن يصير إليه، فأتاه فسار المصعب بالناس حتى نزل بإزاء ابن أبي صفرة بالمذار، واستعمل على ميمنة الناس المهلّب بن أبي صفرة، وعلى ميسرتهم عمر بن عبيد الله بن معمر وكانت في الميمنة تميم والأزد، وفي الميسرة ربيعة، وكان المصعب في القلب ومعه أهل العالية من أخلاط الناس، فلما زحف بعض الناس إلى بعض حمل عمر بن عبيد الله على ميمنتهم فهزمهم، وقتل ابن شميط وأصحابه.(6/455)
[الجزء السابع]
[تتمة أمر مروان بن الحكم]
عمال ابْن الزُّبَيْرِ
قَالَ علي بْن مُحَمَّد أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ وغيره: اصطلح أَهْل الْكُوفَة بعد موت يَزِيد، وهرب ابْن زياد عَلَى عامر بْن مسعود، فأقره عبد اللَّه بْن الزُّبَيْرِ أشهرا ثُمَّ عزله وولى الحرب والصلاة عبد اللَّه بْن يَزِيدَ الخطمي، وولى الخراج إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن طلحة.
فَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: خَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ [1] يَسْتَسْقِي، وَخَرَجَ مَعَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، وَخَرَجْتُ مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ فَخَطَبَ عَلَى رِجْلَيْهِ عَلَى غَيْرِ مِنْبَرٍ، فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ وَاسْتَسْقَى وَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ وَنَحْنُ خَلْفَهُ، وَلَمْ يُؤَذِّنْ يومئذ وَلَمْ يُقِمْ.
وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ: أَنَّهُ دَفَنَ ميّتا فسلّه من قبل رجليه.
__________
[1] بهامش الأصل: عبد الله بن يزيد صاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(7/7)
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ وَطَيْلَسَانًا مُدَبَّجًا.
وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ الأَنْصَارِيِّ: أَنَّهُ كَانَ عَلَى النَّاسِ، فَقَامَ مِنَ الْعَشِيِّ قَبْلَ الْعِيدِ فَقَالَ: إِنَّا خَارِجُونَ وَإِنَّا مُصَلُّونَ قَبْلَ الْخُطْبَةِ.
حَدَّثَنَا عَفَّانُ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الْخَطْمِيُّ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: دُعِيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ إِلَى طَعَامٍ فَلَمَّا جَاءَ وَجَدَ الْبَيْتَ مُنَجَّدًا فَقَعَدَ خَارِجًا يَبْكِي، فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا شَيَّعَ جَيْشًا فَبَلَغَ عَقَبَةَ الْوَادِي قَالَ: « [أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَكُمْ وَخَوَاتِمَ أَعْمَالِكُمْ] » فَرَأَى ذَاتَ يَوْمٍ رَجُلا قد رفع بُرْدَةً لَهُ بِقِطْعَةِ فَرْوٍ فَقَالَ « [أَأَنْتُمُ الْيَوْمَ خَيْرٌ أَمْ إِذَا غَدَتْ عَلَيْكُمْ قَصْعَةٌ وَرَاحَتْ قَصْعَةٌ، وَغَدَا أَحَدُكُمْ فِي حُلَّةٍ وَرَاحَ فِي حُلَّةٍ، وَسَتَرْتُمْ بُيُوتَكُمْ كَمَا تُسْتَرُ الْكَعْبَةُ] » .
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ وغيره: وعزل ابْن الزُّبَيْرِ عَبْد اللَّهِ وصاحبه، وولى الْكُوفَة عَبْد اللَّهِ بْن مطيع، فأخرجه المختار منها، ثُمَّ ولى أخاه مصعبا البصرة والكوفة، وَقَالَ لَهُ: إذا فتحت الْكُوفَة فأنت أميرها وأمير ثغورها، فقتل المختار بالكوفة سنة تسع وستين، ثُمَّ استخلف عَلَى الْكُوفَة القباع وهو الحارث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة المخزومي، وولى المهلب بْن أَبِي صفرة الموصل والجزيرة وأرمينية، وَقَالَ لَهُ: إنما وليتك لتكون بيني وبين عَبْد الْمَلِكِ وجيوشه لثقتي بحزمك، ووجه إِلَى البصرة عمر بْن عبيد اللَّهِ بْن معمر، ولم يزل خليفته عَلَيْهَا، ثُمَّ ولاه فارس بعد مصير والي الْكُوفَة إليها.(7/8)
وَقَالَ بعضهم: إن مصعبا استخلف القباع، وأمره أن يجعل عَمْرو بْن حريث خليفته وعزل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ أخاه بعد سنة من مقتل المختار، أو أقل، عَن البصرة، وولى البصرة ابنه حمزة، وأمر مصعبا أن يلحق بمن مَعَهُ من رجال البصرة، فعزل المهلب عَن الموصل ونواحيها فلحق بحمزة بالبصرة، وخرج المصعب إِلَى أخيه فرده عَلَى البصرة والكوفة، فكانت ولاية حمزة نحوا من سنة، وأقر حمزة عمر بْن عبيد اللَّه عَلَى فارس، وكلم فِي توجيه المهلب لقتال الأزارقة ففعل.
قالوا: وولى القباع شرطه بالكوفة شبث بْن ربعي الرياحي.
فذكر عَبْد اللَّهِ بْن المبارك عَن مسعر عَن عبيد اللَّه بْن القبطي: أن الحارث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة القباع فاتته الركعتان قبل الفجر فأعتق رقبة.
وَحَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُغِيرَةَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: أَنَّهُ أَجَّلَ الْعِنِّينَ سَنَةً.
وَرُوِيَ أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ يُؤَجَّلُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ.
وَحَدَّثَنِي عَمْرو بْن مُحَمَّد النَّاقِد حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَد الزبيري عَن سفيان عَن حماد عَن الشَّعْبِيّ قَالَ: ماتت أم الحارث بْن أَبِي ربيعة، وهي نصرانية فشهدها مَعَهُ قوم مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كانت أمه نصرانية سوداء، وكانت أكلت حمامة من حمام مَكَّة، فكان يعير بِذَلِكَ.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: تقدم شبث بْن ربعي ليصلي عَلَى جنازة رجل من بني حميري بْن رياح، وهو عَلَى شرط القباع بالكوفة فمنعوه، فوثب ابنه عَبْد(7/9)
السلام عَلَى رجل فقطع أذنه فدفعه شبث إليهم ليقطعوا أذنه فَقَالُوا: هو ابْن أمة وصاحبنا ابْن مهيرة، فدفع إليهم ابنه عَبْد المؤمن فأبوه، فدفع إليهم عَبْد القدوس فقطعوا أذنه، فعزله القباع وَقَالَ هذا أعرابي، وولى شرطته سويد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ المنقري، فَقَالَ شبث:
أبعد القباع آمن الدهر صاحبا ... عَلَى سوءه إني إذا لغبين
وأمك سوداء الجواعر جعدة ... لها شبه فِي منخريك مبين
وَقَالَ الهيثم بْن عدي والمدائني: أتى بني تميم مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد فِي حمالة فَقَالَ: يقسم عَلَى بني عَمْرو كذا، وعلى حنظلة كذا، وعلى بني سعيد كذا، فَقَالَ شبث: بل كلها عليَّ، فَقَالَ ابْن عمير: نِعْمَ العون عَلَى المروءة المال.
قَالَ: وَكَانَ شبث علويا والهيثم بْن الأسود أَبُو العريان عثمانيا، وكانا متصافيين، فَقَالَ الهيثم لشبث: إني أخاف عليك من يوم صفين، قَالَ العريان بْن الهيثم بْن الأسود: فمرض شبث فأتيته فقلت لَهُ: يقول لك أَبِي كيف تجدك؟ قَالَ: أنا فِي آخر يوم من الدنيا وأول يوم من الآخرة فأخبر أباك أني لم أندم عَلَى قتال مُعَاوِيَة يوم صفين، وتمثل قول لبيد:
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما ... وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر [1]
ولم يلبث شبث أن مات، فلم أبلغ إِلَى أَبِي حَتَّى سمعت الصياح، فَقَالَ أبي يرثي شبثا:
__________
[1] ديوان لبيد- ط. الكويت 1984 ص 213.(7/10)
إنني اليوم وإن أملتني ... لقليل المكث من بعد شبث
عاش تسعين خريفا همه ... جمع مَا يملك من غير خبث
لم يخلف فِي تميم سبة ... ينكس الرأس ولا عهدا نكث
فِي أبيات.
وجاءت الخوارج تريد الْكُوفَة فخطب (القباع) فَقَالَ: إن أول القتال السباب، ثُمَّ الرميا، ثُمَّ الطعان، ثُمَّ السلة، فَقَالُوا: مَا أحسن صفة الأمير، وسار من الْكُوفَة إِلَى باجوا [1] شهرا فَقَالَ الشاعر:
سار بنا القباع سيرا نكرا ... يسير يوما ويقيم شهرا
وزعم قوم أن حمزة بْن عَبْد اللَّهِ ولي البصرة والكوفة فعزل المهلب عَن البصرة ونواحيها، وأنه ولى القباع الْكُوفَة وليس ذَلِكَ بثبت، والثبت أنه ولي البصرة فقط، وأن مصعبا عزل المهلب عَن عمله ذَلِكَ، وألحقه بحمزة كما أمره أخوه، وولى عمل الموصل ونواحيها إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، فكان عَلَيْهَا حَتَّى قدم المصعب وواليا عَلَى البصرة، وبعد ذَلِكَ إِلَى أن أحضره قتال عَبْد الْمَلِكِ.
وَقَالَ قوم: استخلف مكان المهلب عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، وَكَانَ إِبْرَاهِيم بْن الأشتر بالكوفة مشرفا عَلَى القباع.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: ولى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ البصرة بعد ابنه عمر بْن عبيد اللَّه، فكان سخيا شجاعا ممدحا، وَقَالَ المهلب مَا رأيت مثل أحمر قُرَيْش فِي شجاعته، مَا لقينا خيلا قط إلا وَكَانَ فِي سرعان خيلنا، ولما ولاه مصعب فارس، بلغه ذَلِكَ، فَقَالَ: رماها بحجرها، لقد ولاها شريفا شجاعا.
__________
[1] موضع ببابل من أرض العراق في ناحية القف. معجم البلدان.(7/11)
وقد مدحه الفرزدق، ومدحه نصيب وغيرهما، وفيه يَقُول يَزِيد بْن الحكم بْن أَبِي العاص الثَّقَفِيّ:
فما كعب بْن مامة وَابْن سعدي ... بأجود منك يَا عمر الجوادا
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كانت لمغيرة بْن حبناء التميمي جارية نفيسة، فاضطر إِلَى بيعها فجعل يمسك حَتَّى قَالَت لَهُ: لو بعتني فانتفعت بثمني كَانَ أمثل مما أراك تلقى، قَالَ: أفعل عَلَى كره، فعرضها عَلَى عمر بْن عبيد اللَّه وقد بلغته خلته وخبره فاشتراها منه بمائة ألف، وذلك أضعاف مَا تساوي، وقبض الثمن وَقَالَ:
لولا قعود الدهر بي عنك لم يكن ... يفرقنا شَيْء سوى الموت فاعذري
أروح بهم فِي الفؤاد مبرح ... أناجي بِهِ قلبا قليل التصبر
عليك سلام لا زيارة بيننا ... وَلا وصل إِلا أن يشاء ابْن معمر
فلما بلغ الشعر عمر بْن عبيد اللَّه قَالَ: فقد شاء ابْن معمر، فخذ بيدها والمال لك.
قالوا: وعزل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ عمر بْن عبيد الله بن معمر عَن البصرة وولاها القباع، فحبس عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر وطالبه بمال، فجزع من الحبس فَقَالَ لَهُ القباع: يَا أبا حفص لا تجزع فإنك أول من سن هذا، حبست عَبْد اللَّهِ بْن الحارث يعني ببة، وَكَانَ حبسه وطالبه بمال.
وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان من ولى ابْن الزُّبَيْرِ البصرة؟ فَقَالُوا:
الحارث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة، فَقَالَ: لا حر بوادي عوف. ووقع بين الحارث وبين يَحْيَى بْن الحكم بْن أَبِي العاص كلام، فَقَالَ لَهُ يَحْيَى: يابن السوداء يابن آكلة حمام مَكَّة، وكانت حبشية.(7/12)
وزعموا أنه لما مات قَالَ الوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ: مات سيد بني مخزوم، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ بل سيد قريش.
وَقَالَ أَبُو الأسود الديلي، وسأل القباع حاجة فلم يقضها:
أَبَا بَكْر جزاك اللَّه خيرا ... أرحنا من قباع بني المغيرة
بلوناه فلمناه وأعيا ... عَلَيْنَا مَا يمر لنا مريره
عَلَى أن الفتى نكح أكول ... ومسهاب مذاهبه كثيره [1]
وَكَانَ عباد بْن الحصين عَلَى شرطه بالبصرة، وفيه يقول زياد الأعجم:
فإن تك يَا عباد وليت شرطة ... فباست زمان صرت فيه تكلم [2]
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: تواقف جرير والفرزدق بالمربد فِي ولاية القباع فأرسل إليهما عبادا فهربا فهدم دورهما وطلبهما، فَقَالَ الفرزدق:
أفي قملي من كليب هجوته ... أَبُو جهضم تغلي علي مراجله
فما كَانَ شيء كنت فينا تحبه ... من الشر إلا قد أبانت شواكله
وقبلك مَا أعييت كاسر عينه ... زيادا فلم يقدر علي حبائله
وقد عاش لم يعقد لسيف حمالة ... ولكن عصام القربتين حمائله
أحارث داري مرتين هدمتها ... وكنت ابْن أخت مَا تخاف غوائله [3]
فِي أبيات، وكانت أسماء بنت مخربة النهشلية عند أَبِي ربيعة خلف عليها بعد هشام بن المغيرة.
__________
[1] ديوان أبي الأسود ص 220- 221، ومسهاب لأن كان خطيبا.
[2] شعر زياد الأعجم ص 172.
[3] ديوان الفرزدق ج 2 ص 171- 172.(7/13)
وَقَالَ جرير:
فما فِي كتاب اللَّه هدم بيوتنا ... كتهديم ماخور خبيث مداخله
ففي مخدع منه نوار وسربها ... وفي مخدع أكياره ومراجله
أحارث خذ مَا شئت منا ومنهم ... فأنت كريم مَا تغب فواضله [1]
وَقَالَ يَزِيد بْن نهشل الدارمي:
لولا حواجز قربى لست راعيها ... وخشية اللَّه فيمن قد يعاديني
لقد بريتك بريا لا اجتبار لَهُ ... إني رأيتك لا تنفك تبريني
فِي أبيات.
وَقَالَ الأشهب بْن رميلة:
أحار بْن عَبْد اللَّهِ يَا خير مطلب ... لذي خلة أو أن أتاه نسيب
إذا مت مات الجود وانقطع الندى ... وعادت أكف السائلين تخيب
فِي أبيات.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ وغيره: كَانَ ببة أول من وجه لقتال الأزارقة، وَكَانَ القباع أول النَّاس عقد للمهلب عَلَى قتال الأزارقة، وكانوا قد غلبوا عَلَى الأهواز، ولم يزل القباع عَلَى البصرة من قبل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ حَتَّى قدم المصعب واليا عَلَى البصرة والكوفة.
قالوا: قدم المصعب البصرة فدخل المسجد فصلى ركعتين ثُمَّ أرسل إِلَى عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، وَكَانَ محبوسا عند القباع فأطلقه وجعله خليفته بينه وبين الناس.
__________
[1] ديوان جرير ص 389.(7/14)
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: وولى شرطته مطرف بْن سيدان الباهلي ثُمَّ عزله، وولاه الأهواز وولى شرطه بشر بْن غالب الأسدي.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كَانَ عمر بْن سرج مولى ابْن الزُّبَيْرِ يحدث قَالَ: كنت فِي الذين قدموا مَعَ مصعب من مَكَّة إِلَى البصرة، فقدم متلثما حَتَّى أناخ عَلَى باب المسجد ودخل فصعد المنبر، وَقَالَ النَّاس: أمير، أمير، وجاء الحارث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة فسفر المصعب فعرفوه وقالوا: مصعب بْن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ للحارث: اظهر فصعد حَتَّى جلس عَلَى المنبر دونه بدرجة، ثُمَّ قام المصعب فحمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ وقرأ: طسم- تِلكَ آيَات الْكِتَابِ الْمُبِينِ- نتلو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ- إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ويستحيي نساءهم إنّه كان من المفسدين وأشار نحو الشام وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين وأشار بيده نحو الحجاز وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كانوا يحذرون [1] وأشار إِلَى الشام.
حَدَّثَنِي أَبُو هِشَام الرفاعي عَن عمه عَن ابْن عياش الهمداني عَن الشَّعْبِيّ أنه قَالَ:
مَا رأيت أميرا قط عَلَى منبر أحسن من مصعب بْن الزُّبَيْرِ.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: وجد مصعب عَلَى رجال أَهْل البصرة فيهم أنس بْن مالك، وصعصعة بْن مُعَاوِيَةَ فضرب صعصعة محمولا عَلَى استه، ثُمَّ أمر بأنس فَقَالَ لَهُ أنس: أنشدك اللَّه وخدمتي رسول الله ووصيّته بالأنصار،
__________
[1] سورة القصص- الآيات: 1- 6.(7/15)
فخر مصعب من المنبر حَتَّى ألصق خديه بالأرض وَقَالَ: سمعا وطاعة لله ولرسوله، وحمله وكساه وأمر لَهُ بعشرين ألف درهم.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: وجد مصعب عَلَى الفرات بْن مُعَاوِيَةَ البكائي فحلق رأسه ولحيته فِي غداة يوم فراح إِلَيْهِ الفرات من يومه وقد أعتم فسلم عَلَيْهِ فتذمم مصعب وَقَالَ: رجل فعلت بِهِ مَا فعلت وأتاني فِي عشية يومه فأحسن إِلَيْهِ وأكرمه ووصله وولاه.
وقيل لعَبْد الْمَلِكِ إن مصعبا ينال الشراب فَقَالَ: والله لو علم مصعب منذ حارب أن شرب الماء يفسد مروته مَا شربه فكيف يشرب الشراب، مَا عرفت لَهُ زلة مذ حارب.
مُحَمَّد بْنُ سَعْدٍ عَن الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: كَانَ مصعب وعَبْد الْمَلِكِ، وعَبْد اللَّهِ بْن أَبِي فروة أخلاء لا يكادون يفترقون، فكان عَبْد الْمَلِكِ وابن أَبِي فروة يتباريان فِي الكسوة، ولم يكن مصعب يقدر عَلَى مَا يقدران عَلَيْهِ، فاكتسى ابْن أَبِي فروة حلة واكتسى عبد الملك مثلها وبقي مصعب لا شيء لَهُ فذكر عَبْد اللَّهِ، فلما ولي مصعب العراق استكتب عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي فروة، فإنه لعند المصعب إذ أتي المصعب بعقد جوهر قد أصيب فِي بعض بلاد العجم لبعض ملوكهم، فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ أيسرك أن أهبه لك؟ قَالَ: نعم فدفعه إِلَيْهِ، وَقَالَ: والله لسروري بالحلة لو كسوتمونيها أشد من سرورك بهذا العقد فبارك اللَّه لك فيه، قَالَ: فلم يزل العقد عنده حَتَّى أخذ أخوه عمران فِي إمرة عمر بْن عَبْد العزيز عَلَى المدينة شاربا، فأمر عمر باستنكاهه فوجدت منه رائحة الشراب فأمر بحبسه فجاء عَبْد اللَّهِ بالعقد فدسه تحت مصلى عمر، ثُمَّ قام، فرفع عمر المصلى فرأى العقد فقال:(7/16)
ردوه مَا هذا قَالَ: هذا أهديته إليك، فَقَالَ لَهُ لو كنت تقدمت إليك لأحسنت أدبك، ثُمَّ أمر بعمران فضرب الحد، وَكَانَ عمران صديقا لعَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عثمان مَعَ الولاء، فجاء عَبْد اللَّهِ راكبا ومعه بغل يجنب فلما ضرب عمران حمله عَلَى البغل المجنوب، ويقال: عَلَى البغل الَّذِي كَانَ راكبا عَلَيْهِ وركب هو المجنوب، وانطلق بِهِ إِلَى منزله.
قالوا: وَكَانَ مصعب يعطي أَهْل العراق فِي كل سنة عطاءين فِي الشتاء عطاء، وفي الصيف عطاء، فأحبه النَّاس حبا شديدا، فَقَالَ عَمْرو بْن يَزِيدَ النهدي:
ألم تر أن الجود إذ مات مصعب ... دفناه واسترعي الأمانة ذئب
فهبنا أناسا أوبقتنا ذنوبنا ... أما لثقيف حوبة وذنوب
فأتي بِهِ الحجاج، فَقَالَ لَهُ: أنت القائل مَا قلت؟ فَقَالَ: فقدنا والله مصعبا ففقدنا بِهِ عدلا شاملا، وعطاء جزيلا وخسنا بِهِ، فجعلنا أحاديث، ومزقنا كل ممزق، فأمر بِهِ فضربت عنقه.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: قدم مصعب البصرة وماء البطيحة يفيض عَلَى السباخ حَتَّى كاد يصير فِي نهر معقل، فاتخذ المسناة التي نسبت إِلَيْهِ وحاز تلك الأرضين لنفسه، فأقطعها عَبْد الْمَلِكِ النَّاس فحفروا الأنهار فهي اليوم قطائع عَبْد الْمَلِكِ.
الْمَدَائِنِيُّ وَأَبُو مَسْعُودٍ عَنْ عَوَانَةَ، قَالَ: كَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ إِلَى مُصْعَبٍ لِرَجُلٍ مِنْ قُرَيْشٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاسْتَقَلَّ ذَلِكَ وَاسْتَحْيَا مِنَ الرَّجُلِ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلامَةٌ أَنَّهُ إِذَا كَتَبَ إِلَيَّ بِأَلْفٍ فَهِيَ مِائَةُ أَلْفٍ، فَأَعْطَاهُ مِائَةَ أَلْفٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَغَضِبَ مِنْهُ، وَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ(7/17)
إِلَى مُصْعَبٍ فِي قَوْمٍ، فَوَصَلَهُمْ بِخِلْفَةِ ذَلِكَ، فَلَمْ يَكْتُبْ إِلَيْهِ فِي أَحَدٍ.
الْمَدَائِنِيّ والحرمازي قالا: خطب مصعب أَهْل البصرة، فَقَالَ: يَا أَهْل البصرة بلغني أنكم تلقبون أمراءكم، وقد لقبت نفسي الجزار.
واستخلف مصعب عَلَى البصرة عبيد الله بن عبيد الله بن معمر عَلَى أن الولاية لعمر بْن عبيد اللَّه، وإياه كَانَ يكاتب، وسار إِلَى المختار فقتله وأنفذ عمر بْن عبيد اللَّه إِلَى البصرة حين قتل المختار فصار إِلَى البصرة فحدث بِهَا مَا حدث من أمر الجفرة، فقدم مصعب البصرة فتلافى ذَلِكَ الأمر، ثُمَّ إن ابْن الزُّبَيْرِ ولى حمزة ابنه البصرة سنة أو نحوها، وَكَانَ خليفة مصعب عَلَى الْكُوفَة القباع فأقره، ومضى إِلَى أخيه، ثُمَّ قدم بولاية المصرين فِي سنة تسع وستين، فأقر مصعب القباع عَلَى الْكُوفَة حَتَّى شخص إِلَى مسكن، فانصرف القباع إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ بِمَكَّةَ.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: لما قدم المصعب بعد عزل ابْن الزُّبَيْرِ حمزة ابنه، وقد أعاده عَلَى المصرين، بدأ بالبصرة فقدمها فتزوج وهو بالبصرة سكينة بنت الْحُسَيْن عَلَيْهِ السلام، فولدت لَهُ جارية سماها فاطمة، وصير عَلَى شرطه عباد بْن الحصين، فلما بلغ عَبْد اللَّهِ أخاه تزويجه قَالَ: إن مصعبا غمد سيفه وسل أيره.
قَالَ: ولما سار مصعب إِلَى الْكُوفَة أخذ مَعَهُ مالك بْن مسمع، وزياد بْن عَمْرو، فاستأذناه فِي الرجوع فأذن لهما وَقَالَ: إنّهما لا يريدان خيرا، فقال الشاعر:
ألحق أمية بالحجاز وخالدا ... واضرب علاوة مالك يَا مصعب
فلئن فعلت لتحرمن بقتله ... وليصفون لك بالعراق المشرب
وقال آخر:(7/18)
أخاف عليك زياد العراق ... وأخشى عليك بني مسمع
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ عَن جهم بْن حسان السليطي قَالَ: كلم الأحنف مصعبا فِي قوم حبسهم فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير إن كنت حبستهم بحق فالعفو يسعهم، وإن كنت حبستهم بباطل فالحق يخرجهم، فَقَالَ: صدقت وأخرجهم.
الْمَدَائِنِيّ عَن مسلمة بْن محارب قَالَ: دخل أسقف نجران عَلَى مصعب فكلمه بشيء فأغضبه فرماه بقضيب كَانَ مَعَهُ فأدماه، فَقَالَ الأسقف: إن أذن لي الأمير فِي الكلام تكلمت. قَالَ: تكلم بما شئت، قَالَ إن المسيح قَالَ لا ينبغي للإمام أن يكون سفيها ومنه يلتمس الحلم، ولا جائرا ومنه يلتمس العدل، فقضى حاجته.
حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عدي، فذكره الْمَدَائِنِيّ عَن ابْن جعدبة: إن المصعب بْن الزُّبَيْرِ قَالَ لحبى المدينية: ابغيني امْرَأَة أتزوجها، فَقَالَتْ: بأبي أنت وأمي عَائِشَة بِنْت طَلْحَة عَلَى عظم فِي أذنيها وقدميها، فَقَالَ المصعب: أما الأذنان فيغطيهما الخمار، وأما القدمان فيغطيهما الخف فتزوجها، وأصدقها خمسمائة ألف درهم وأهدى لها خمسمائة ألف درهم.
فَقَالَ أنس بْن أَبِي أناس، وبعضهم يقول: ابْن همام، والأول أثبت:
أبلغ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ رسالة ... من ناصح مَا إن يريد متاعا
بضع الفتاة بألف ألف كامل ... وتبيت قادات الجيوش جياعا
فلو أنني الفاروق أخبر بالذي ... شاهدته ورأيته لارتاعا(7/19)
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: قيل هذا الشعر حين تزوج مصعب سكينة بنت الْحُسَيْن بْن علي عليهما السلام.
وَقَالَ مُحَمَّد بْن سلام الجمحي: كانت عائشة بنت طلحة عند عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي بكر، ثُمَّ عند مصعب، ثُمَّ عند عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر التيمي، وأم عَائِشَة أم كلثوم بِنْت أَبِي بَكْرٍ رضي اللَّه تعالى عنه، وأمها ابنة خارجة الأَنْصَارِيّ.
حَدَّثَنِي الحرمازي عَن الشَّعْبِيّ: أنه ركب مَعَ المصعب يوما فلما نزل أمره بالنزول وأخذ بيده، قَالَ: فلم أزل أدخل مَعَهُ حَتَّى صرت إِلَى بيت قد سدلت ستوره، فترك يدي ودخل فبقيت لا أقدر عَلَى تقدم وَلا تأخر، ثُمَّ نادى من وراء الستر ادخل يَا شعبي فدخلت فإذا هُوَ وعائشة بِنْت طَلْحَة عَلَى سرير، فو الله مَا شبهت بوجهها إِلا القمر طالعا فكلمني، ثُمَّ قَالَ انصرف فقالت: والله لا ينصرف إلا بجائزة، فأمر لِي بعشرة آلاف درهم، وأمرت لِي بمثلها، فلما كَانَ الغد دخلت عَلَيْهِ والنَّاس عنده، وَهُوَ عَلَى سريره، فاستدناني فدنوت حَتَّى ألصقت صدري بالسرير، فَقَالَ: أدن، فمددت إِلَيْهِ عنقي، فَقَالَ كيف رأيت ذاك الإنسان؟ قَالَ: قلت: وَاللَّه مَا رأيت مثله قط، فبارك اللَّه للأمير، ثُمَّ رجعت إِلَى مقعدي.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي عَن مجالد قَالَ: لما دخل الشَّعْبِيّ عَلَى مصعب ومعه عائشة قَالَ: أنا وهذه كما قَالَ الشاعر:
وَمَا زلت فِي ليلى لدن طر شاربي ... إِلَى اليوم أبدي إحنة وأواحن
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: قيل هذا الشعر:
أبلغ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ رسالة(7/20)
حين تزوج مصعب سكينة بنت الْحُسَيْن عَلَيْهِ السلام.
حَدَّثَنِي عمر بْن شبة عَن مخلد بْن يَحْيَى: أن مصعب بْن الزُّبَيْرِ ولى مطرف بْن سيدان الباهلي أحد بني جئاوة شرطته فِي بعض الأيام التي ولي فيها العراق لأخيه عَبْد اللَّهِ، فأتي مطرف بالنابئ بْن زياد بْن ظبيان أحد بني عائش بْن مَالِك بْن تيم اللَّه بْن ثعلبة، وبرجل من بني نمير وقد قطعا الطريق، فقتل النابئ بأمر مصعب وضرب النميري بالسياط وتركه، فلما عزل مطرفا عَن الشرطة ولاه الأهواز فجمع عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان جمعا وخرج يريده فالتقيا فتواقفا وبينهما نهر، فعبر مطرف بْن سيدان إِلَيْهِ فعاجله ابْن ظبيان فطعنه فقتله، فبعث مصعب ابْن مطرف فِي طلبه فلم يلحقه، ولحق ابْن ظبيان بعَبْد الْمَلِكِ، وقاتل مصعبا مَعَهُ، قَالَ البعيث اليشكري:
لما رأينا الأمر نكسا صدوره ... وهم الهوادي أن تكون تواليا
صبرنا لأمر اللَّه حَتَّى يقيمه ... ولم نرض إلا من أمية واليا
ونحن قتلنا مصعبا وابن مصعب ... أخا أسد والأشتري اليمانيا
سقينا ابْن سيدان بكأس روية ... كفتنا وخير الأمر مَا كَانَ كافيا
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قدم مصعب بامرأته عائشة البصرة، وكانت أجمل النَّاس، فكانت تسأل عَن أجمل نساء البصرة، فأخبرت عَن أم الفضل بنت غيلان بْن خرشة الضبي، وكانت تحت دَاوُد بْن قحذم أحد بني قيس بْن ثعلبة، وَكَانَ مصعب يطالبه بمائة ألف درهم من خراج غلته، فكانت عائشة تحب أن تراها، فقيل لابن قحذم لو بعثت بِهَا إِلَى عائشة فكلمتها فِي أن تكلم مصعبا فِي إسقاط مَا يطالبك بِهِ عنك، فَقَالَ: إنه من فتيان قريش مترف قد أسكره السلطان فأخاف منه مَا يخاف من مثله، فلم يترك حَتَّى(7/21)
أرسلها إِلَى عائشة فوجدتها فِي بركة لها فِي دارها، فقالت لها عائشة انزلي فنزلت، فظلّتا في البركة مليا، ثم خرجتا فدخلتا بيتا وتحدثتا، وكلمتها فِي زوجها فلم تلبثا أن جاء مصعب فأدخلتها الحجلة ودخلت مَعَهَا ونزع مصعب ثيابه فقالت عائشة: إن معي فِي الحجلة فلانة، وقد جاءت فِي أمر زوجها وضمنت لها عنك قضاء حاجتها، فأسقط مَا عَلَى ابْن قحذم ووهبه لَهُ وانصرفت أم الفضل، فدخلت عَلَى زوجها فقالت لَهُ: والله مَا جئتك حَتَّى دخلت الحجلة، وأرخيت علي الستور، واغتسلت ثُمَّ قضيت حاجتي، فَقَالَ: وا سوءتاه لمصعب إن كَانَ فعل، قالت: لا ترع وحدثته الحديث.
الْمَدَائِنِيّ عَن ابْن جعدبة، قَالَ: جلس ابْن عمر ومصعب وعروة وعَبْد الْمَلِكِ بالمدينة يتحدثون فتمنى ابْن عمر الجنة، وتمنى مصعب ولاية العراق وأن يتزوج سكينة بنت الْحُسَيْن، وعائشة بنت طلحة، وتمنى عروة أن يفقه فِي الدين ويحمل عنه العلم، وتمنى عَبْد الْمَلِكِ الخلافة.
الْمَدَائِنِيّ عَن ابْن جُعْدُبَةَ عَن صَالِحِ بْن كيسان، قَالَ: كَانَ يقال ليس فِي الدنيا زوج أحسن من مصعب وعائشة.
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: وَكَانَ مصعب يحسد النَّاس عَلَى الجمال فبينا هو ذات يوم يخطب إذ رأى رجلا جميلا من بني حمان مستقبلا لَهُ فأعرض عنه، ثُمَّ أقبل ابْن جودان الأزدي، وَكَانَ جميلا فأعرض عنه، ثُمَّ دخل الحسن بْن أَبِي الحسن البصري فلما رآه نزل مبادرا.
قَالَ: وكانت عائشة سيئة الخلق، فغاضبها مصعب فِي بعض الأمر فتهاجرا، فبلغ ذَلِكَ من كل واحد منهما مبلغا شديدا، فأقبل مصعب من حرب وعليه سلاحه فقالت لها حاضنتها وقد شكت إليها وجدها: قومي إليه(7/22)
فأمسحي وجهه من الغبار، وانزعي سلاحه، فقامت إِلَيْهِ فَقَالَ: بأبي أنت إني مشفق عليك من ريح الحديد والصدأ، فقالت: والله لهو أطيب ريحا من المسك الأذفر فقبلها وصالحها.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: خرج مصعب من البصرة إِلَى الْكُوفَة للقاء عَبْد الْمَلِكِ، وخلف عَلَى البصرة سنان بْن سلمة بْن المحبق الهذلي، وكانت لأبيه صحبة وولد سنان أيام حنين، فحنكه النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلم يزل عَلَى البصرة حَتَّى قدم المصعب.
وخلف عباد بْن الحصين مَعَهُ عَلَى شرطته وقتل مصعب يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى- أو الآخرة- سنة اثنتين وسبعين، ولما قتل مصعب وثب حمران عَلَى البصرة.
الْمَدَائِنِيّ وغيره، قالوا: لما قدم مصعب الْكُوفَة دخل إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ الأسدي فَقَالَ أنت القائل:
إِلَى رجب أو ذَلِكَ الشهر قبله ... توافيكم بيض المنايا وسودها
ثمانون ألفا دين عثمان دينهم ... مسومة جبريل فيها يقودها
فخافه، ثُمَّ قَالَ: نعم أنا قلته، قَالَ: فإنا قد عفونا عنك وأمرنا لك بمائة ألف، فخرج من عنده وهو يقول:
جزى اللَّه عني مصعبا إن سيبه ... ينال بِهِ الجاني ومن ليس جانيا
ويعفو عَن الذنب العظيم تكرما ... ويعطي من المعروف مَا لست ناسيا
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: أتى رسول مصعب عَمْرو بْن النعمان بْن مقرن بمال فَقَالَ لَهُ: الأمير يقرئك السلام، ويقول: إنا لم ندع بالكوفة قارئا إلا وقد ناله معروفنا فاستعن عَلَى نفقة شهر رمضان بهذا، فَقَالَ: وعلى الأمير(7/23)
السلام، قل لَهُ: إنا والله مَا قرأنا القرآن لنطلب بِهِ الدنيا ورده عَلَيْهِ، وَكَانَ يؤم النَّاس فِي شهر رمضان.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَن يَحْيَى بْن زكرياء عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ (أَبِي) خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: مَا رأينا أميرا قط عَلَى منبر أحسن من مصعب.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حيان الحراني حَدَّثَنَا زهير بْن مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا عطاء بْن السائب عَن أَبِي البختري قَالَ: كَانَ مصعب إذا سلم فِي الصلاة كلها قَالَ:
لا إِلَهَ إِلا اللَّه وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له، له الملك وله الحمد وهو عَلَى كل شيء قدير، لا إله إلا اللَّه والله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله، ويرفع بِذَلِكَ صوته، فَقَالَ عبيدة: ماله قاتله اللَّه نعار [1] بالبدع.
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: وَكَانَ عبيد اللَّه بْن الحر الجعفي يغشى مصعبا بالكوفة فيراه يقدم أَهْل البصرة فَقَالَ:
لقد ساءني من مصعب أن مصعبا ... أرى كل ذي غش لَهُ هو صاحبه
إذا مَا أتيت الباب يدخل مسلم [2] ... ويمنعني أن أدخل الباب حاجبه
وَقَالَ أيضا:
بأي بلاء أو بأية نعمة ... يقدم دوني مسلم والمهلب
ويدعى ابْن منجوف سويد كأنه ... خصي أتى للماء من غير مشرب
وَقَالَ أيضا:
ألم تر قيسا قيس عيلان برقعت ... لحاها وباعت نبلها بالمغازل
__________
[1] نعر: صاح وصوت بخيشومه. القاموس.
[2] بهامش الأصل: هو مسلم بن قتيبة بن مسلم بن عمرو.(7/24)
وكتب زفر بْن الحارث إِلَى مصعب: أنا قد كفيتك قتال ابْن الزرقاء، يعني عَبْد الْمَلِكِ، ثُمَّ أن نفرا من بني سليم أخذوا ابْن الحر فخافهم فَقَالَ:
إنما قلت:
ألم تر قيسا قيس عيلان أقبلت ... إلينا وسارت بالقنا والقبائل
فقتله رجل منهم يقال لَهُ عباس، فَقَالَ زفر:
لما رأيت النَّاس أولاد علة ... وأغرق فينا نزعه كل نائل
فلو يسئل ابْن الحر أخبر أنها ... يمانية لا تشترى بالمغازل
وَقَالَ ابْن همام السلولي:
ترنمت يَا ابْن الحر وحدك خاليا ... بقول امرئ نشوان أو قول ساقط
أتذكر قوما أوجعتك رماحهم ... وذبوا عَن الأحساب يوم المآقط
وتبكي لما لاقت ربيعة منهم ... وما أنت فِي أحساب بكر بواسط
فهلا لجعفي طلبت ذحولها ... ورهطك دنيا فِي السنين الفوارط
فِي أبيات.
وقد أنكر أن ابْن الحر قتل هذه القتلة وقد ذكرت خبره بعد هذا.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: كَانَ ابْن (أَبِي) عصيفير الثقفي محبوسا بمائة ألف، ويقال بخمسمائة ألف، وقد كَانَ وجه من يقيم الأنزال للأحنف منذ فصل من البصرة إِلَى أن دخل الْكُوفَة مَعَ مصعب ثُمَّ أنزله داره، فسأل عنه فقيل محبوس، فكلم مصعبا فيه، وَكَانَ أكرم النَّاس عَلَيْهِ، فَقَالَ: إن عَلَيْهِ كذا وكذا فَقَالَ: مثل الأمير سئلها، ومثلي ترك لَهُ مثلها، فَقَالَ لَهُ: هي لك ومثلها فلما أتي الأحنف بماله بعث بِهِ إِلَى ابْن أَبِي عصيفير أيضا.(7/25)
وَكَانَ عبيد اللَّه بْن الحر محبوسا، فكلم الأحنف مصعبا فيه، فلما أخرجه قَالَ لَهُ: يَا أبا بحر جعلني اللَّه فداك مَا أدري مَا أكافئك بِهِ إلا أن أقتلك فتدخل الجنة وأدخل النار فضحك الأحنف، وَقَالَ: لا حاجة لي في مكافأتك يابن أخي.
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: وجلس الأحنف فِي مسجد الْكُوفَة، وقد أطافت بِهِ بنو تميم، فكلمهم فِي شيء فَقَالُوا: لا، فَقَالَ: إن بني تميم خيل صعاب تضطرب عَلَى سائسها ساعة ثُمَّ تتبعه.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: دخل الأحنف عَلَى مصعب فِي بعض الأيام فأنكر تكبره، ويقال: إنه مد رجليه بين يديه وهو جالس مَعَهُ عَلَى السرير، فَقَالَ عجبا لمن يتكبر ويتجبر، وقد جرى فِي مجرى البول مرتين، وبلغ قوله عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ: لله هو وتمثل.
وأضمر فِي ليلى لقوم ضغينة ... وتضمر فِي ليلى علي الضغائن
قَالَ: وكلم الأحنف مصعبا فِي رجل فَقَالَ: أبلغني عنه الثقة أنه قَالَ كذا وكذا، فَقَالَ: اللهم غفرا إن الثقة لا يبلغ.
قَالَ: وحضر الأحنف مصعبا وقد أتي برجل فجعل الشرط يقولون لَهُ اصدق الأمير. فَقَالَ الأحنف: إن بعض الصدق معجزة.
قالوا: ولما بلغ عَبْد الْمَلِكِ قول الأحنف عجبا لمن يتكبر وقد جرى فِي مجرى البول مرتين بعث إِلَيْهِ: إنه بلغني تنكر صاحبك لك فهلم إلينا فلك عندنا ولاية الشام، فَقَالَ الأحنف: يَا عجبا لابن الزرقاء يدعوني إِلَى نفسه وأهل الشام والله لوددت أن بيننا وبينهم بحرا من نار لا يعبره إلينا منهم أحد(7/26)
إلا احترق، ثُمَّ قَالَ: اللهم أمت الأحنف قبل أن يرى لأهل العراق غدرا فمات بالكوفة بعد يسير.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صالح حدثني ابْن كناسة عَن الأشياخ قالوا: لما حضرت الأحنف الوفاة بالكوفة قَالَ: لا تندبني نادبة ولا تبكيني باكية، ولا يعلمن بموتي أحد، وأسرعوا إخراجي، فأرسل مصعب: إذا حضر إخراجه فأعلموني ففعلوا، فأرسل من أخذ بأفواه السكك لئلا تخرج امرأة فانتفجت عليهم امرأة من بني منقر فِي رحالة وهي تقول:
قل لأميري مصعب إنني ... سأندب المدفون بالقاع
أندبه بالخير لا أبكي ... بخير مَا ينعى بِهِ الناعي
فَقَالَ مصعب: دعوها، فلما دفن قامت عَلَى قبره فقالت: أيها النَّاس أنتم خول اللَّه فِي بلاده، وشهداؤه عَلَى عباده. وإنا قائلون ومثنون صدقا، رحمك اللَّه من مجن فِي جنن ومدرج فِي كفن. فقد كنت من أعظم النَّاس حلما وأكرمهم فعلا، فلن يرثى بعدك مثلك إنا لله وإنا إِلَيْهِ راجعون، فَقَالَ مصعب: صدقت والله كذلك كَانَ أَبُو بحر وبكى وبكى النَّاس، وَقَالَ مصعب: مات سيد العرب، قَالَ: ومشى مصعب أمام جنازته متسلبا إعظاما لموته.
قَالَ: وقدم بموت الأحنف البصرة رجل من بني يشكر، فكذبه رجل من بني تميم، ثُمَّ علم الخبر فَقَالَ:
أمات فلم تبك السماء لفقده ... ولا الأرض أو تبدو الكواكب بالظهر
كذبت إذا مَا قر فِي بطن حامل ... جنين ولا أمسى عَلَى الأرض من شفر
ولما أتيت اليشكري وجدته ... بأمر أَبِي بحر بْن قيس أخا خبر(7/27)
وَكَانَ موته بالكوفة، وقد شخص مصعب إليها يريد عَبْد الْمَلِكِ، فشخص منها إِلَى مسكن وقد دخلها مَعَهُ فِي أيام المختار أيضا وشهد مقتله.
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام الْكَلْبِيّ عَن أبيه قَالَ: كَانَ عقيبة بْن هبيرة الأسدي فاتكا، وكانت لَهُ ابنة صغيرة فلاعبت ابن عمّ له يقال له تميم، فكسرت الصبية ثنية ابنة عقيبة فجاءت أباها تبكي، فدخل عَلَى تميم داره فقتله، فرفع إِلَى مصعب فأقر بالقتل فحبسه فأعطى ابْن تميم جماعة من الأشراف الدية كاملة لئلا يقتل عقيبة، وأعطى مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد دية فأبى ابْن تميم إلا قتل عقيبة، فلما جيء بِهِ ليقتل قَالَ: يَا أَهْل الْكُوفَة اسمعوا والله مَا قتلته لما جنت ابنته عَلَى ابنتي، ولكن سمعت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ علي بْن أَبِي طالب يقول، وعن لَهُ تميم هذا في جانب المسجد [من سره أن ينظر إِلَى جذل من أجذال جهنم فلينظر إِلَى هذا، رحم اللَّه قاتله،] فما زالت فِي نفسي حَتَّى قتلته، فَقَالَ النَّاس: رحمك اللَّه، ثُمَّ قَالَ لابنة تميم لقد ضربت أباك ضربة حَتَّى رأيت ضوء الثريا فِي سلحه، قالت وأنت يَا فاسق ستضرب ضربة حَتَّى أرى ضوء بنات نعش فِي سلحك، ثُمَّ قدم فضربت عنقه.(7/28)
أمر عبيد اللَّه بْن الحر
ابْن عَمْرو بْن خالد بْن المجمع بْن مالك بْن عوف بْن حريم بْن جعفي بْن سعد العشيرة.
حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ الأَحْمَرِيُّ- أَبُو مُسْلِمٍ- أنبأنا هشام بن محمد الكلبي حدثنا جرير بن عمرو الجعفي- وَكَانَتْ أُمُّهُ الْعَالِيَةُ بِنْتُ الأَسْعَرِ بْنِ عُبَيْدِ الله بن الحرّ- قَالَ: وَحَدَّثَنِي لُوطُ بْنُ يَحْيَى- أَبُو مِخْنَفٍ- بِبَعْضِهِ عَنْ أَشْيَاخِهِ قَالَ: شَهِدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْحُرِّ الْقَادِسِيَّةَ مَعَ خَالَيْهِ زُهَيْرٍ وَمَرْثَدٍ ابْنَيْ قَيْسِ بْنِ مَشْجَعَةَ بْنِ الْمَجْمَعِ، وَكَانَ شُجَاعًا فَاتِكًا لا يُعْطِي الأُمَرَاءَ طَاعَةً، ثُمَّ إِنَّهُ صَارَ مَعَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَكَانَ يُكْرِمُهُ، فَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ يَجْتَمِعُ إِلَيْهِ جُمُوعٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَسَأَلَهُ عَنْهُمْ فَقَالَ: بِطَانَتِي وَأَصْحَابِي وَإِخْوَانِي أَتَّقِي بِهِمْ إِنْ نَابَنِي أَمْرٌ أَوْ خِفْتُ ظُلَامَةً مِنْ أَمِيرٍ جَائِرٍ، فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: لَعَلَّ نَفْسَكَ قَدْ تَطَلَّعَتْ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: إِنَّ عَلِيًّا لَعَلَى الْحَقِّ وَأَنْتَ بِذَلِكَ عَالِمٌ، فَقَالَ عَمْرُو بن العاص: كذبت يا بن الْحُرِّ فَقَالَ: أَنْتَ وَأَبُوكَ أَكْذَبُ مِنِّي، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ مُعَاوِيَةَ مُغْضَبًا يُرِيدُ الْكُوفَةَ فِي خَمْسِينَ فَارِسًا(7/29)
مِمَّن كَانَ يَنْتَابُهُ، وَسَأَلَ مُعَاوِيَةُ عَنْهُ فَقِيلَ قَدْ خَرَجَ، وَسَارَ ابْنُ الْحُرِّ يَوْمَهُ حَتَّى إِذَا أَمْسَى مَنَعَهُ بَعْضُ مَسَالِحِ مُعَاوِيَةَ مِنَ المسير، فشدّوا أصحابه عَلَيْهِمْ فَقَتَلُوا مِنْهُمْ نَفَرًا، وَهَرَبَ الْبَاقُونَ وَأَخَذُوا مِنْ دَارِهِمْ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ، وَأَخَذُوا سِلاحًا مِنْ سِلاحِهِمْ، وَمَضَى عُبَيْدُ اللَّهِ لا يَمُرُّ عَلَى قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الشَّامِ إِلا أَغَارَ عَلَيْهَا حَتَّى قَدِمَ الْكُوفَةَ، وَبَلَغَ مُعَاوِيَةَ خَبَرُهُ فَقَالَ لِعَمْرٍو: هَذَا مَا هِجْتَ عَلَيْنَا مِنَ ابْنِ الْحُرِّ.
وكانت لابن الحر بالكوفة امرأة يقال لها الدرداء، وهي كبشة بنت مالك، فلما فقده أهلها زوجوها من عكرمة بْن الحنبص، فقاضاهم إِلَى علي فقضى لَهُ بأمرأته، وأقام عبيد اللَّه منقبضا عَن كل أمر من أمور علي وغيره حَتَّى توفي علي عَلَيْهِ السلام، وولي مُعَاوِيَة ويزيد ابنه، وَكَانَ من أمر الْحُسَيْن مَا كَانَ.
وَقَالَ أَبُو مخنف: لما أقبل الْحُسَيْن من المدينة، وقتل مسلم بْن عقيل.
خرج ابْن الحر فنزل قصر بني مقاتل الَّذِي صار لعيسى بْن علي متحرجا من أن يتلطخ بشيء من أمر الْحُسَيْن أو يشرك فِي دمه، فلما صار الْحُسَيْن إِلَى قصر بني مقاتل رأى فسطاطا فسأل عنه فقيل هو لعبيد اللَّه بْن الحر، فبعث إِلَيْهِ الحجاج بْن مسروق الجعفي يدعوه إِلَى نصرته فَقَالَ للحجاج: قل لَهُ: إني إنما خرجت إِلَى هاهنا فرارا من دمك ودماء أَهْل بيتك لأني إن قاتلتك كَانَ ذَلِكَ عظيما وإن قاتلت معك ولم أقتل بين يديك فقد قصرت، وأنا أحمى أنفا من ذَلِكَ، وليس لك بالكوفة شيعة، ولا أنصار يقاتلون معك، فلما ابلغه الحجاج الرسالة تمشى إِلَيْهِ الْحُسَيْن، فلما رآه قام من مجلسه فسأله الخروج مَعَهُ فاستعفاه من ذَلِكَ، واعتل عَلَيْهِ، وعرض فرسا لَهُ يقال لها(7/30)
الملحقة، وبعضهم يقول: المحلقة، وَقَالَ لَهُ انج عَلَيْهَا حَتَّى تلحق بمأمنك، وأنا وأصحابي لك بالعيالات فانصرف عنه، ويقال: إنه دفع الفرس إِلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ ابْن الحر: أأنت تخضب أم هو سواد لحيتك؟ فَقَالَ:
عجل علي الشيب فاختضبت، وخرج ابْن الحر من منزله بشاطئ الفرات فنزله حَتَّى أصيب الْحُسَيْن بكربلاء، وَكَانَ ابْن الحر رجلا لا يقاتل لديانة، وإنما كَانَ همه الفتك والتصعلك والغارات.
ثُمَّ إن ابْن الحر أتى الْكُوفَة فَقَالَ لَهُ عبيد اللَّه بْن زياد، وَكَانَ قد تفقد أَهْل الْكُوفَة: أكنت معنا أم مَعَ عدونا؟ قَالَ: لا والله مَا كنت مَعَ عدوك، ولو كنت مَعَهُ لبلغك ذَلِكَ ولكني كنت مريضا، قَالَ: مريض القلب، قَالَ:
مَا مرض قلبي قط، وقد وهب اللَّه لي فِي بدني العافية.
وَكَانَ ابْن الحر يغير عَلَى مال الخراج فيقتطعه ويعطي منه أصحابه وَكَانَ سخيا متلافا، وقد كان من أهل الديوان والعطاء.
قالوا: فخرج من عند ابْن زياد مغضبا، فبات عند أحمر بْن يَزِيدَ بْن الكبشم الطائي، ثُمَّ خرج من عنده فأتى المدائن، وَقَالَ يرثي الْحُسَيْن عَلَيْهِ السلام:
يقول أمير جائر حق جائر ... ألا كنت قاتلت الشيهد ابْن فاطمة
ونفسي عَلَى خذلانه واعتزاله ... وبيعة هذا الناكث العهد سادمه
فيا ندمي ألا أكون نصرته ... ألا كل نفس لا تسدد نادمه
سقى اللَّه أرواح الذين تأزروا ... عَلَى نصرة سقيا من اللَّه دائمه
فِي أبيات.(7/31)
وَقَالَ أيضا:
يَا لك حسرة مَا دمت حيا ... تردد بين حلقي والتراقي
وله فيه شعر غير هذا.
قالوا: فلما خرج المختار بالكوفة أبى ابْن الحر أن يبايعه، وبعث المختار فِي طلبه، أتاه بعد فبايعه تعذيرا، فكان المختار يهم أن يسطو بِهِ ثُمَّ تمسك عَن ذَلِكَ لمكان إِبْرَاهِيم بْن الأشتر مَعَهُ، وجعل ابْن الحر يتعبث بالنواحي، كما كَانَ يصنع بِهِ إِبْرَاهِيم، ففارقه وأقبل فِي أصحابه وهم نحو من ثلاثمائة فأغار عَلَى الأنبار، فأخذ مَا كَانَ فِي بيت مالها فقسمه بين أصحابه بلقنسوة دلهم المرادي، وكانت ضخمة، وَكَانَ دلهم جسيما عظيم الرأس، شديد البأس وفي ذَلِكَ يقول ابْن الحر:
أنا الحر وابن الحر يحمل شكّتي ... طوال الهوادي مشرفات الحوانك
فمن يك أمسى الزعفران خلوقه ... فإن خلوقي مستشار السنابك
إذا مَا غنمنا مغنما كَانَ قسمة ... ولم نتبع رأي الشحيح المتارك
أقول لهم كيلوا بكمة بعضكم ... ولا تجعلوني فِي الندى كابن مالك
يعني إِبْرَاهِيم بْن الأشتر.
ثُمَّ أغار عَلَى كسكر فأخذ مَا كَانَ فِي بيت مال عاملها وقتله وقسم بين أصحابه قبل أن يستبيحوه، ولما بلغ المختار غارته عَلَى الأنبار بعث عَبْد اللَّهِ بْن كامل الشاكري فهدم داره، وأخذ امرأته أم سلمة بنت عبدة بْن الحليق الجعفية فحبسها فِي السجن، فبلغ ابْن الحر فقال:(7/32)
أشد حيازيمي لكل كريهة ... وإني عَلَى مَا نابني لجليد
هم هدموا داري وساقوا حليلتي ... إِلَى سجنهم والمسلمون شهود
فلست إذا للحر إن لم أرعكم ... بخيل عَلَيْهَا الدارعون قعود
فِي أبيات.
وسار حَتَّى أتى ساباط المدائن فتلقى بِهَا أصحاب الزُّبَيْر بْن علي، وهو من الأزارقة، فظنوا أصحابه جيشا سرح إليهم، وظن أنهم جيش سرح إِلَيْهِ فحكموا، فلما سمع تحكيمهم قاتلهم قتالا شديدا فقتل يومئذ بشر مولى الزُّبَيْر وكاتبه وناس من أصحابه، ثُمَّ أديل ابْن الحر عليهم فقتل منهم وغنم، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شعرا منه قوله:
أقدم مهري فِي الوغى ثُمَّ أنتحي ... عَلَى قربوس السرج غير صدود
دعوني إِلَى مكروهها فأجبتهم ... وما أنا إذ يدعونني ببعيد
إذا مَا التقوني بالسيوف غشيتهم ... بنفس لما يخشى النفوس ورود
فأقلعت الغماء عنا وفرجت ... ونحن بِهَا من غانم وشهيد
وَقَالَ أيضا:
أقول لفتيان الصعالك أسرجوا ... عناجيج [1] أدنى سيرهن وجيف
دعاني بشر دعوة فأجبته ... بساباط إذ سيقت إِلَيْهِ حتوف
فلم أخلف الظن الَّذِي كَانَ يرتجى ... وفي بعض أخلاق الرجال خلوف
__________
[1] العناجيج: جياد الخيل والإبل. القاموس.(7/33)
ثُمَّ أتى ابْن الحر وهو فِي مائة وثلاثين فارسا الْكُوفَة، ومعهم الفؤوس والكلاليب لمكاثرة أصحاب السجن فأتى السجن فدخله فأخرج امرأته وكل من كَانَ فِي السجن. فقاتله ابْن كامل صاحب شرطة المختار فهزمه ابْن الحر وانطلق ابْن الحر بامرأته حَتَّى أدخلها بيوت جعفي، فتوارت عند كريب بْن سلمة الجعفي، ولم يزل ابْن الحر يقاتل قومه بالكوفة ويقول:
ألم تعلمي يَا أم توبة أنني ... أنا الفارس الحامي حقائق مذحج
وأني أتيت السجن فِي رونق الضحى ... بكل فتى يحمي الذمار مدجج
ثُمَّ أغار ابْن الحر عَلَى شبام من همدان فقاتله عَبْد اللَّهِ بْن أريم وجعل يقول:
لقد منيتم بأخي جلاد ... ليس بفرار ولا حياد
ثبت المقام مقعص الأعادي
فشد عَلَيْهِ ابْن الحر فصرعه وظن أنه قد قتله ثُمَّ عولج فبرئ وهزم من لقيه من شبام وشاكر وَقَالَ:
سائل بي المختار كم قد ذعرته ... وشردت أطرافا لَهُ وجموعا
وقاتلته والناس قد أذعنوا لَهُ ... وقد أقشع الأحياء عنه جميعا
فلم يزل مخالفا للمختار حَتَّى قتله المصعب.
وتكلم أَهْل الْكُوفَة فِي قتل أصحاب المختار فَقَالَ ابْن الحر: أما أنا فأرى أن يرد الأمير كل قوم ممن كَانَ مَعَ هذا الكذاب إِلَى قومهم، فإنه لا غناء بنا عنهم فِي ثغورنا، ويرد عبيدنا عَلَيْنَا فإنهم لأراملنا وضعفائنا وأن نضرب أعناق الموالي فقد بدا كفرهم وعظم كبرهم وقل شكرهم ولا آمنهم(7/34)
عَلَى الدين، فضحك المصعب ودفعهم إِلَى ابْن الحر فضرب أعناقهم وكانوا سبعمائة.
وقاتل ابْن الحر المختار مَعَ مصعب، وبعث المصعب إِلَى ابْن الحر.
إن لك ولأصحابك خراج بادوريا [1] عَلَى أن تقاتل معي عَبْد الْمَلِكِ وأهل الشام فَقَالَ: أوليس لي خراج بادوريا وغيرها، لست فاعلا وأنشأ يقول:
أترجو ابْن الزُّبَيْرِ اليوم نصري ... لعاقبة ولم أنصر حسينا
فِي أبيات.
وقيل لمصعب: إن ابْن الحر غير مأمون عَلَى أن يصنع فِي سلطانك مَا كَانَ يصنع فِي سلطان من كَانَ قبلك، ويفسد عليك، فلم يزل مصعب يتلطف لَهُ ويعده حَتَّى أتاه، فأمر بحبسه فَقَالَ فِي السجن.
من يبلغ الفتيان أن أخاهم ... أتى دونه باب منيع وحاجبه
بمنزلة مَا كَانَ يرضى بمثلها ... إذا قام غنته كبول تجاذبه
فِي أبيات.
وَقَالَ أيضا:
بأي بلاء أم بأية نعمة ... تقدم قبلي مسلم والمهلب
وكتب ابْن الحر إِلَى الأحنف وغيره يسألهم الكلام لمصعب فيه، فكلمه فيه الأحنف فأخرجه من الحبس، وأطعمه خراج كسكر، فصار إِلَيْهِ فقسمه فِي أصحابه، ثُمَّ أتى ابْن الحر نفر [2] فأخذ خراجها فقسمه ولحق ببرس [3] ،
__________
[1] طسوج بالجانب الغربي من بغداد. معجم البلدان.
[2] بلد من نواحي بابل- بأرض الكوفة. معجم البلدان.
[3] موضع بأرض بابل. معجم البلدان.(7/35)
فبعث إِلَيْهِ المصعب الأبرد بْن قرة التميمي، فقاتله وقد صار مَعَ ابْن الحر خلق، فهزم الأبرد وضربه ضربة عَلَى جبينه، فبعث إِلَيْهِ حريث بْن زيد الخيل الطائي فقتله عبيد اللَّه بْن الحر بمبارزة وهزم أصحابه، فبعث إِلَيْهِ المصعب الحجاج بْن حارثة الخثعمي فقاتله حَتَّى حجز الليل بينهم، وقاتله بسطام بْن مصقلة بْن هبيرة الشيباني وهو وال عَلَى عين التمر، فدعا رجل من أصحاب بسطام يقال لَهُ يونس بْن عاهان ابْن الحر للمبارزة فَقَالَ عبيد اللَّه: شر دهرك آخره فذهبت مثلا مَا كنت أظن أني أعيش حَتَّى يدعوني مثل هذا إِلَى البراز، وهزم أصحاب بسطام فافتدى نفسه بماله وَقَالَ:
لو أن لي مثل جرير أربعه ... صبحت بيت المال حَتَّى أجمعه
ولم يهلني مصعب ومن مَعَهُ
يعني جرير بْن كريب، وَكَانَ صاحب ميسرته، وأتى ابْن الحر شهرزور وأخذ مَا كَانَ فِي بيت مالها وقاتله عاملها فهزمه وظفر بِهِ فضرب عنقه، وَكَانَ من قبل المهلب، لأنه كَانَ عَلَى الموصل وأعمالها والجزيرة وما يليها من قبل المصعب، وَقَالَ ابْن الحر:
يخوفني بالقتل قومي وإنما ... أموت إذا جاء الكتاب المؤجل
لعل القنا تدمي بأطرافها الغنى ... فنحيا كراما نجتدى ونؤمل
ألم تر أن الفقر يزري بأهله ... وأن الغنى فيه العلى والتجمل
وإنك إن لا تركب الهول لا تنل ... من المال مَا يرضي الصديق ويفضل
وبايع ابْن الحر عَبْد الْمَلِكِ مراغمة للمصعب واجتمع إِلَيْهِ بشر من أَهْل الموصل بتكريت، فبعث إِلَيْهِ المهلب عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ بْن المغفل الأزدي، وبعث إِلَيْهِ مصعب الأبرد بْن قرة التميمي والجون الهمداني فقاتلهم فلم يزل(7/36)
ينتصف منه، ثُمَّ إنه بيتهم فقتل منهم بشرا، وأصاب منهم خيلا وسلاحا وقاتلوه من الغد، فجرح ابْن الحر وانهزم أصحابه، فلم يبق إلا فِي خمسين من أَهْل الحفاظ وحجز بينهم الليل، فخرج من تكريت، وأتى ناحية من الْكُوفَة، فبعث إِلَيْهِ المصعب جماعة فيهم حجار بْن أبجر فأصيب صاحب راية ابْن الحر، فدفعها إِلَى أحمر طيئ، ومضى إِلَى نفر فأخذ مَا كَانَ بِهَا من مال، ويقال: إن المصعب بعث إِلَيْهِ عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر فقاتله فضربه فِي وجهه ضربة لم يزل أثرها باقيا حتى مات، وليس ذلك بثبت، وَقَالَ بعضهم وأحسبه الهيثم بْن عدي: بعث بِهِ حين دخل البصرة بعد الجفرة، وقبل توليته فارس.
ومضى ابْن الحر إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، ومعه جماعة من أصحابه، فلما قدم عَلَيْهِ أذن لَهُ وأجلسه مَعَهُ عَلَى السرير، وأمر لَهُ بمائة ألف درهم، ولكل رجل من أصحابه الذين دخلوا مَعَهُ بمال، فَقَالَ لَهُ ابْن الحر: إني أتيتك لتوجه معي جندا إِلَى مصعب لأحاربه، فأمر لَهُ بمائة ألف درهم أخرى، ولأصحابه بمال فرقه عليهم، وَقَالَ: سر وأجمع من قدرت عليهم وأنا ممدك بالخيل والرجال، فسار ابْن الحر فنزل بقرية يقال لها بيت فارط إِلَى جانب الأنبار، وهي عَلَى شاطئ الفرات، فاستأذنه أصحابه فِي دخول الْكُوفَة، فأذن لهم وأمرهم أن يؤذنوا من كَانَ بالكوفة من أصحابهم ليسيروا إِلَيْهِ، وبلغ خبره عبيد اللَّه بْن عباس السلمي، فاغتنم الفرصة فسأل الحارث بْن عبيد اللَّه بْن أَبِي ربيعة القباع، وَكَانَ خليفة مصعب عَلَى الْكُوفَة يومئذ، والمصعب بالبصرة، أن يبعثه إِلَى ابْن الحر، وأخبره بمكانه وتفرق أصحابه، فسار إِلَيْهِ فِي خيل كثيفة من قيس، فنزل عَلَى حاتم بْن النعمان الباهلي وهو(7/37)
نازل فِي قصر عند كويفة ابْن عمر بين كوثا وبزيقيا [1] ، واستمدّه فأمدّه بخمسمائة من قيس، فسار حَتَّى لقي ابْن الحر، وهو فِي عدة يسيرة من أصحابه، فَقَالُوا: هذا جيش لا طاقة لنا بِهِ، فَقَالَ: مَا كنت لأدعهم، وحمل عليهم حملات وهو يقول:
يَا لك يوم فات فيه نهبي ... وغاب عني ثقتي وصحبي
ثُمَّ عطفوا عَلَيْهِ وكشفوا أصحابه، وحاولوا أن يأسروه، فَقَالَ لأصحابه:
انصرفوا سالمين، ودعوني أقتل، فَقَالُوا: والله لا نسلمك، فقاتلوا طويلا حَتَّى أثخنوا بالجراح، ثُمَّ أذن لهم بالذهاب فذهبوا ولم يعرض لهم، وجعل يقاتل وحده، فحمل عَلَيْهِ رجل من باهلة يكنى أبا كدينة فطعنه وجعلوا يرمونه ولا يدنون منه، وجعل يقول: هذه نبل أم مغازل، فلما أثخنته الجراح خلص إِلَى معبر فدخله ولم يدخل فرسه فنسف عرقوبة ومضى بِهِ الملاح حَتَّى توسط بِهِ الفرات، فأشرفت عَلَيْهِ الخيل وفي المعبر نبيط، فَقَالُوا لهم: إن الَّذِي فِي السفينة بغية أَمِير الْمُؤْمِنِينَ والأمير، فإن فاتكم قتلناكم، فوثب ابْن الحر ليقع فِي الماء فوثب إِلَيْهِ رجل عظيم طوال فقبض عَلَى عضديه وجراحاته تشخب دما وضربه الآخرون بالمجاذيف، فلما رأى ابْن الحر أنه يمال بِهِ نحو القيسية قبض عَلَى الَّذِي كَانَ يمنعه، وأخذ بعضده فعالجه حَتَّى سقطا جميعا إِلَى الفرات فغرقا، فَقَالَ أَبُو كدينة الباهلي: إني لأنظر إِلَى شيخ عَلَى شاطئ الفرات يصيح ويبكي وينتف لحيته ويقول: يَا بختيار، يَا بختيار، فقلنا: مَا لك يا شيخ، ما لك يا شيخ؟ فقال: ابني بختيار،
__________
[1] قرية قرب حلة بني مزيد من أعمال الكوفة. معجم البلدان.(7/38)
كَانَ يقتل الأسد، ويخرج هذا المعبر من الماء وحده ثُمَّ يرده، حَتَّى وقع عَلَيْهِ هذا الشيطان الَّذِي دخل المعبر فغرقه، ولما بلغ عَبْد الْمَلِكِ خبره جزع عَلَيْهِ وندم عَلَى بعثته فِي أصحابه من غير أن يضم إِلَيْهِ جندا، وَقَالَ: أي مدره [1] حرب وسداد ثغر كَانَ عبيد اللَّه لا يبعدنك الله يا بن الحر، والله مَا وجدوك خوارا ولا فرارا.
قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: وَكَانَ ابْن الحر لما صار إِلَى الأنبار بلغه أن حبشيا يقال لَهُ الغداف، يقطع الطريق للعدة من الشجعاء فيهزمهم ويسلبهم، ويدخل القرية نهارا فلا يعجبه امرأة إلا افترشها وقضى حاجته منها، لا يقدر أحد عَلَى منعه ولا دفعه، فمضى إِلَيْهِ وحده، فلما رآه عرفه بالنعت فسايره ابْن الحر، فَقَالَ لَهُ: من أين أقبلت يَا صاحب الفرس؟ قَالَ: من الأنبار، قَالَ: فإنه بلغني أن ابْن الحر نزلها فما تراه يريد؟ قَالَ: إياك يريد، أنا ابْن الحر فخذ حذرك أيها الكلب، ثُمَّ حمل عَلَيْهِ فطعنه فصرعه، ثُمَّ نزل فضرب رجله فأبانها، فأخذ الأسود رجله فرمى بِهَا ابْن الحر، فمشى إِلَيْهِ ابْن الحر فقتله، وأخذ فرسه وجعل ابْن الحر يقول:
أم الغداف فشقي الجيب وانتحبي ... إن الغداف وربي وافق الأجلا
دهدهته بين أنهار وأودية ... لا يعلم الناس غيري ما الذي فعلا
__________
[1] المدره: السيد الشريف، والمقدم في اللسان واليد عند الخصومة والقتال. القاموس.(7/39)
أمر زفر بن الحارث الكلابي
وهو الحارث بْن عبد عَمْرو بْن معاز بْن يَزِيدَ بْن عَمْرو بْن خويلد بْن نفيل بْن عَمْرو بْن كلاب.
حَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار الدمشقي عَن الوليد بْن مسلم عَن مروان بْن جناح عَن يونس بْن مسرة: أن مروان بْن الحكم أنفذ مَعَ عُبَيْد اللَّهِ بْن زياد بْن أَبِي سُفْيَان جيشا إِلَى الجزيرة والعراق، وَقَالَ لَهُ: كل بلد افتتحته فأنت أميره، فسار فِي زهاء ستين ألفا فلم يبلغ الجزيرة حَتَّى مات مروان، فقلده عَبْد الْمَلِكِ مَا قلده أبوه وأعطاه مثل الَّذِي أعطاه من الولاية، فلما صار إِلَى الرقة وهو يريد زفر بْن الحارث بقرقيساء وقد تحصن بِهَا، بلغه خبر قوم خرجوا من الْكُوفَة يطلبونه بدم الْحُسَيْن بْن علي، وعليهم سليمان بْن صرد، فعرج إليهم وسرب للقائهم جيشا بعد جيش حَتَّى قتلهم فقلّ من أفلت منهم، وأتى قرقيسياء. فحاصر زفر بْن الحارث، فلم يمكنه فيه شيء، فمضى يريد العراق ليواقع المختار بْن أَبِي عبيد الكذاب ومصعب بْن الزُّبَيْرِ، فلما صار بالموصل لقيه إِبْرَاهِيم بْن مالك الأشتر النخعي، فقاتله فقتل ابْن زياد،(7/41)
وحصين بْن نمير، وابن ذي الكلاع، فاستخلف عَبْد الْمَلِكِ عَلَى دمشق عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ بْن أسد بْن كرز أبا خالد القسري وشخص، فلما شارف الفرات انخزل عَمْرو بْن سعيد الأشدق من عسكره وصار إِلَى دمشق، فبايعه عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ، وأغلق أبواب دمشق، فانكفأ عَبْد الْمَلِكِ راجعا إِلَيْهِ حَتَّى قتله بعد أن آمنه، واستخلف عَلَى دمشق عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ الثقفي، وأمه أم الحكم أخت مُعَاوِيَة وبها يعرف، وصار إِلَى زفر فحصره حَتَّى صالحه، وَكَانَ بالجزيرة رجل من بني تغلب يقال لَهُ جدار بْن عباد قد تحصن فِي بعض مدنها، وَكَانَ ابْن زياد عَلَى محاربته وحصاره بعد الفراغ من أمر زفر، فلما حدث من أمره مَا حدث قَالَ زفر:
تمسك ويح أمك يَا جدار ... أتاك الغوث وانقطع الحصار
فوجه عَبْد الْمَلِكِ أخاه مُحَمَّد بْن مروان إِلَى جدار بْن عباد فحصره، ثُمَّ صالحه وبايع جدار لعَبْد الْمَلِكِ وقد مدحه الأخطل.
قَالَ: وأقبل طاغية الروم يريد الشام، وخرج أيضا قائد من قواد الضواحي فِي جبل اللكام، فاتبعه خلق من الجراجمة والأنباط وأباق عبيد المسلمين وغيرهم، ثُمَّ صار إِلَى لبنان، فأقبل عَبْد الْمَلِكِ مغذا للسير حين أتاه كتاب ابْن أم الحكم بِذَلِكَ، فلما ورد دمشق وجه حميد بْن حريث بْن بحدل الْكَلْبِيّ بهدايا وألطاف إِلَى طاغية الروم، وكتب إِلَيْهِ مَعَهُ يسأله الموادعة عَلَى إتاوة وأعطاه إياها كما فعل مُعَاوِيَة حين أراد إتيان العراق فقبل الطاغية الهدايا وما بذل لَهُ عَبْد الْمَلِكِ من الإتاوة وأعطاه رهناء من أبناء الروم صيرهم ببعلبك، وَكَانَ مَعَ حميد أيضا (كريب) بْن أبرهة بْن الصباح الحميري ووادع عَبْد الْمَلِكِ (الذين خرجوا) بلبنان وجعل لهم فِي كل جمعة(7/42)
ألف دينار، فركنوا إِلَى ذَلِكَ ولم يعيثوا بفساد، ثُمَّ دس إليهم سحيم بْن المهاجر فتلطف حَتَّى وصل إِلَى رئيسهم متنكرا فأظهر ممالأته وتقرب إِلَيْهِ بذم عَبْد الْمَلِكِ وشتمه ووعده أن يدله عَلَى عوراته وما هو خير لَهُ من الصلح الَّذِي بذل لَهُ، ثُمَّ عطف عَلَيْهِ وهو وأصحابه غارون غافلون بجيش من موالي عَبْد الْمَلِكِ وبني أمية وجند من ثقات جنده وكماتهم كَانَ أعدهم لمحاربته وأكمنهم فِي مكان بالقرب منه خفي، فقتل أولئك الروم وبشرا من الجراجمة وغيرهم، ثُمَّ نادى بالأمان فيمن بقي من الجراجمة ومن سواهم فتفرقوا فِي قراهم ومواضعهم، فلما أصلح عَبْد الْمَلِكِ أموره استخلف ابنه الوليد عَلَى دمشق، ومعه سعيد بْن مالك بْن بحدل، ويقال: إنه خلف ابْن أم الحكم أيضا، وأنفذ عَبْد العزيز إِلَى مصر، وسار إِلَى مسكن، فقتل مصعب بْن الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ هِشَام: قَالَ الوليد: وقد سمعت أن خروج هؤلاء الذين خرجوا بلبنان كَانَ مَعَ مخالفة عَمْرو الأشدق، وإغلاقه أبواب دمشق، وحديث ابْن جناح أصح.
وَقَالَ الوليد: وبلغني أن عَبْد الْمَلِكِ أمر فنودي: من أتانا من العبيد يعني الذين كانوا مَعَ أولئك القوم فهو حر وله أن نثبته فِي الديوان، فانفض إِلَيْهِ خلق منهم، فكانوا ممن قاتل مَعَ سحيم، وأنه وفى لهم وجعل لهم ربعا عَلَى حدة، فهم يسمون الفتيان إِلَى الآن.
حدثني عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عَن لوط بْن يَحْيَى فِي إسناده قَالَ: التقى مروان والضحاك يوم مرج راهط، وَكَانَ مَعَ الضحاك خلق من(7/43)
أهل اليمن إلا أنّ قيسا كانوا رؤوس النَّاس مَعَهُ عددهم، فلما قتل الضحاك مضى زفر فأتى قنسرين فاحتمل مَا كَانَ لَهُ بِهَا إِلَى قرقيسياء.
قَالَ الْكَلْبِيّ: ويقال بل كَانَ عاملا عَلَيْهَا من قبل الضحاك، فأمده وسرب الخيول إِلَيْهِ، فلما قتل هرب إِلَى قرقيسياء. ولما أتى قرقيسياء ضوى إِلَيْهِ خلق من قيس فرسان ورجال، وَكَانَ عياض بْن عَمْرو الحميري بقرقيساء وقد غلب عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ زفر: إني إنما جئت لدخول الحمام لعلة عرضت لي، ثُمَّ أنا منصرف عنك فخاف عياض أن لا يفعل فأحلفه فحلف لَهُ زفر ليخرجن منها بعد دخول الحمام بقرقيسياء، فلما صار بالمدينة أخرج عياضا منها ولم يدخل الحمام بِهَا أيام مقامه كلها، وَكَانَ دخوله إياها فِي المحرم سنة خمس وستين، وذلك قبل مرور التوابين بِهِ بأشهر.
قَالَ: وتشاغل مروان بمصر حَتَّى غلب عَلَيْهَا، ثُمَّ وجه عبيد اللَّه بْن زياد وَقَالَ لَهُ: أنت أمير كل بلد أهله عَلَى غير طاعتي تفتتحه، فسار فِي ستين ألفا فقتل من قتل من التوابين بعين الوردة، وقتل بالخازر، وأقبل عَبْد الْمَلِكِ يريد زفر بْن الحارث، ثُمَّ العراق، فخلعه عمرو بن سعيد، فعاد إلى دمشق، ثُمَّ أتى قرقيسياء بعد قتله عَمْرو بْن سعيد، فوضع المجانيق عَلَى قرقيسياء، فأمر زفر أن ينادى أَهْل عسكر عَبْد الْمَلِكِ، فيقال لهم: لم وضعتم المجانيق عَلَيْنَا؟ ففعلوا فَقَالُوا: لنثلم ثلمة نقاتلكم عَلَيْهَا، فَقَالَ زفر: قولوا لهم إنا لا نقاتلكم من وراء الحيطان والأبواب، ولكنا نخرج إليكم، قالوا: وثلمت المجانيق من المدينة برجا مما يلي حسان بْن مالك بْن بحدل، وحميد بْن حريث بْن بحدل، فَقَالَ زفر أو غيره:
لقد تركتني منجنيق ابْن بحدل ... أحيد عَن العصفور حين يطير(7/44)
وَكَانَ خالد بْن (يَزِيدَ بْن) مُعَاوِيَةَ يقاتل أَهْل قرقيسياء مَعَ كلب، وهم أخواله لأن أم يَزِيد ميسون بنت بحدل، ويقال: إنه كَانَ يقاتلهم من ناحية أخرى فِي موالي مُعَاوِيَة وغيرهم فألح عليهم بالقتال والرمي حَتَّى كاد يظفر فَقَالَ رجل من بني كلاب: لأسمعن خالدا قولا لا يعود بعده إِلَى مَا يصنع، ولأكسرنه بِهِ، فلما غدا خالد للمحاربة أشرف الكلابي عَلَيْهِ وهو يقول:
ماذا ابتغاء خالد وهمه ... إذ سلب الملك ونيكت أمه
فانكسر واستحيا ولم يعد إِلَى الحرب حتى انقضى أمر زفر.
وقال زفر خالد وَكَانَ يكنى أبا هاشم:
أَبُو هاشم عطارة فارسية ... مكحلة العينين براقة الفم
أَبُو هاشم يرمي فوارس قومه ... وأما العدو الأبعدين فما يرمي
وَقَالَ الصقعب المري.
نحن بنو مرة نرمي زفرا ... يهدي إلينا حجرا فحجرا
لما رأينا دينه تغيرا ... وأصبح المعروف منه منكرا
وَقَالَ أيضا:
كيف ترى قيسا ترامي قيسا ... حمقا ترى ذاك بِهَا أم كيسا
تدوسهم بالمنجنيق دوسا
وقيل لعَبْد الْمَلِكِ: إن قيسا تنهزم بالناس فاجعلها ترمي بالمجانيق، فَقَالَ الصقعب:
فباست من قَالَ ألا لا ينصح ... وقد فتحنا حولها مَا يفتح
فِي كل وجه وخصي ترجح(7/45)
وقالت كلب لعَبْد الْمَلِكِ: إنا إذا لقينا زفر انهزمت القيسية فلا تشب جمعنا بأحد من قيس ففعل، فكتبت القيسية عَلَى نبلها ليس يقاتلكم غدا مضري، ورموا بنبلهم إِلَى المدينة، فلما أصبح زفر دعا الهذيل ابنه- وبه كَانَ يكنى، ويقال إنه كَانَ يكنى أبا الكوثر والأول أثبت- فَقَالَ: اخرج إليهم فشد عليهم شدة لا تنثني عنها حَتَّى تضرب فسطاط عبد الملك، أسمعت يابن اللخناء، والله لئن رجعت دون أن تطأ طنب فسطاطه لأضربن الَّذِي فيه عيناك.
فخرج عَبْد الْمَلِكِ وتقدمت اليمانية، فجمع الهذيل بْن زفر خيله، ثُمَّ رماهم فصبروا قليلا، ثُمَّ انكشفوا وتبعهم الهذيل بخيله حَتَّى وطئوا أطناب الفسطاط، وقطعوا بعضها، ثُمَّ كروا راجعين فقبل زفر رأس ابنه الهذيل، وقال: يا بنيّ لا يزال عَبْد الْمَلِكِ يحبك بعدها أبدا فَقَالَ الهذيل: والله لو شئت أن ادخل فسطاطه لفعلت فَقَالَ زفر:
ألا لا أبالي من أتاه حمامه ... إذا مَا المنايا عَن هذيل تجلت
تراه أمام الخيل أول فارس ... ويضرب فِي أعجازها إن تولت
حَدَّثَنَا أَحْمَد بن إبراهيم الدورقي، وَأَبُو خَيْثَمَةَ قَالا: حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ حدثنا محمد بن أبي عيينة قَالَ: جعل بشر بْن مروان يرسل إِلَى قيس أتقتلون أنفسكم مَعَ رجل ليس منكم، وإنما هو من كندة، فبلغ ذَلِكَ زفر بْن الحارث فَقَالَ:
لعلك يَا بشر بْن مروان لائمي ... عَلَى حين أبدت عَن نواجذها الحرب
فتخبر قومي أنني لست منهم ... وتزعم أنا معشر من بني وهب
أتجعل أجلافا عَلَيْهَا عباؤها ... ككندة تمشي فِي المطارف والعصب(7/46)
وَقَالَ زفر أيضا:
أبا اللَّه أما بحدل وابن بحدل ... فيحيا وأما ابْن الزُّبَيْرِ فيقتل
كذبتم وبيت اللَّه لا تقتلونه ... ولما يكن يوم أغر محجل
ولما يكن للمشرفية فيكم ... شعاع كقرن الشمس حين ترجل
الْمَدَائِنِيّ عَن أبي زياد بن يزيد بْن قحيف الكلابي قَالَ: قاتل عَبْد الْمَلِكِ زفر بْن الحارث أربعين يوما، ورمى المدينة بالمجانيق حَتَّى ثلم عامة بروجها، فَقَالَ أبناء الكلبيات من قريش واليمانية: إنك قد هدمت مدينتهم فناهضهم غدا ساعة، فخرج الهذيل بْن زفر، ويزيد بْن حمران، ومسلم العقيلي، وهو أَبُو إِسْحَاق بْن مسلم، وعَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ الهلالي فصاروا عَلَى برج المدينة، وأقبلت قضاعة مَعَ شروق الشمس فاقتتلوا إِلَى الظهر، ثُمَّ جالت قضاعة وانكشفت، ووقفت القيسية عَلَى البروج، وأقبل روح بْن زنباع الجذامي عند المساء إِلَى برج منها فَقَالَ: من صاحب هذا البرج؟
قيل: عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ الهلالي، فَقَالَ روح: نشدتك اللَّه كم قتلنا منكم اليوم؟ قَالَ: إذ نشدتني اللَّه، فلم يقتل منا أحد، ولم يجرح إلا الرجل الواقف صاحب الكردوس الأيمن فإنه طعن طعنة في صدره، وأرجو أن لا يكون عَلَيْهِ بأس، فنشدتك اللَّه كم قتلنا منكم؟ قَالَ: عدة فرسان، وجرحتم مَا لا يحصى، فلعن اللَّه ابْن بحدل، ورجع روح إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: إن ابْن بحدل يمنيك الباطل فأعرض عَن هذا الرجل.
علي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِيّ وغيره: أن رجلا من كلب يقال لَهُ الذيال كَانَ يخرج فِي حصار زفر بقرقيسياء فيشتم، فَقَالَ زفر للهذيل أو لبعض من مَعَهُ من قيس، أما تكفيني هذا؟ فَقَالَ: أنا أجيئك بِهِ، فدخل عسكر عَبْد(7/47)
الْمَلِكِ ليلا فجعل ينادي من يعرف بغلا من صفته كذا وكذا حَتَّى انتهى إِلَى خباء الرجل وقد عرفه (فَقَالَ) الرجل: رد اللَّه عَلَيْنَا ضالتك، فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّهِ إني قد أعييت فلو أذنت لي فاسترحت قليلا، قَالَ: ادخل فدخل والرجل وحده فِي خبائه فرمى بنفسه ونام صاحب الخباء، فقام إِلَيْهِ فأيقظه فَقَالَ والله لئن تكلمت لأقتلنك، ولن سكت وجئت معي إِلَى زفر فلك عهد اللَّه وميثاقه أن أردك إِلَى عسكرك بعد أن يصلك زفر ويحسن إليك، فخرجا وهو ينادي من دل عَلَى بغل ويصف حَتَّى أتى زفر بْن الحارث والرجل مَعَهُ، فأعلمه أنه قد آمنه، فوهب لَهُ زفر دنانير وحمله عَلَى راحلة، وألبسه ثياب النساء، وبعث مَعَهُ رجالا حَتَّى دنوا من عسكر عَبْد الْمَلِكِ فنادوا هذه جارية بعث بِهَا زفر إِلَى عَبْد الْمَلِكِ.
وانصرفوا، فلما نظر إِلَيْهِ أَهْل العسكر عرفوه، وأخبروا عَبْد الْمَلِكِ خبره فضحك وَقَالَ: لا أبعد اللَّه رجال مضر، والله إن قتلهم لذل، وإن تركهم لحسرة، وكف الرجل فلم يعد لشتم زفر وأصحابه، ويقال إنه هرب من العسكر.
قالوا: وَقَالَ عبد الملك وهو محاصر لزفر بْن الحارث:
إنا وجدنا زفر بْن الحارث ... فِي هذه الهنات والهيائث
[1]
خبيثة من أخبث الخبائث
قالوا: وكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى زفر بْن الحارث كتابا يدعوه فيه إِلَى الطاعة ولزوم الجماعة ويرغبه ويرهبه، وبعث بالكتاب مع رجاء بن حيوة
__________
[1] المهايثة: المكاثرة، والهيثان: إصابة الحاجة من المال والإفساد فيه. القاموس.(7/48)
الكندي والحجاج بْن يوسف الثقفي، فأتيا زفر بالكتاب وكلّماه فأبى الصلح، وحضرت الصلاة فصلّى رجاء مَعَ زفر، وصلى الحجاج وحده، وَقَالَ: لا أصلي مَعَ مشاق منافق، فلما انصرفا قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لرجاء: كيف لم تفعل مَا فعل الحجاج؟ قَالَ: مَا كنت لأدع الصلاة مَعَ قوم يقيمونها وأصلي وحدي.
وَقَالَ الهذيل بْن زفر لأبيه: لو صالحت هذا الرجل فقد أكلتك وقومك الحرب وأنت مذ سنون فِي هذه المدينة وقد أعطى النَّاس الرجل طاعتهم، واجتمعوا عَلَيْهِ، وهو خير لك من ابْن الزُّبَيْرِ، وأمر عَبْد الْمَلِكِ مُحَمَّد بْن مروان أن يعرض عَلَى زفر وابنه الهذيل الأمان عَلَى أنفسهما ومن معهما، وأن يعطيا مَا أحبا، ففعل مُحَمَّد ذَلِكَ فأجاب الهذيل، وكلم أباه فأجاب عَلَى أن لَهُ الخيار عَلَيْهِ، فبينا الرسل تختلف فِي ذَلِكَ، إذ جاء رجل من كلب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قد هدمت أربعة أبرجة، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
لا أصالحهم وناهضهم فهزموا أصحابه حَتَّى دخلوا عسكره، وأزالوه عَن موقعه، فَقَالَ: أعطوهم مَا أرادوا، فَقَالَ زفر: كَانَ هذا قبل هذه الحال أمثل، قَالَ: واستقر صلح زفر عَلَى أن آمنه عَبْد الْمَلِكِ وابنه وكل من كَانَ مَعَ زفر وعلى وضع الدماء والأموال، وأن لا يقاتل زفر مَعَ عَبْد الْمَلِكِ، ولا يقاتل لَهُ حَتَّى يموت عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ لبيعته لَهُ، وأن يعطى مالا يقسمه فِي أصحابه، وخاف زفر أن يغدر بِهِ عَبْد الْمَلِكِ كما غدر بعمرو بْن سعيد الأشدق، فتوقف عَن إتيانه حَتَّى بعث إِلَيْهِ بقضيب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمانا لَهُ.
وَحَدَّثَنِي حَفْصُ بْن عُمَرَ الْعُمَرِيُّ عَن الْهَيْثَم بْنِ عدي عن يعقوب بن داود قال: لما تم الصلح بين عَبْد الْمَلِكِ (وزفر) خرج إِلَيْهِ فرأى قلة أصحابه(7/49)
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: لو علمت أنه فِي هذه القلة لحاصرته أبدا حَتَّى ينزل عَلَى حكمي فبلغ زفر قوله فَقَالَ: إن شئت رجعت ورجعنا إِلَى أمرنا فَقَالَ: بل نفي لك يَا أبا الهذيل.
قَالَ: ودخل زفر عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فأجلسه مَعَهُ عَلَى سريره فَقَالَ ابْن عضاة الأشعري: أنا كنت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أحق بهذا المجلس، فَقَالَ زفر:
كذبت لست هناك إني عاديت فضررت، وواليت فنفعت.
ودخل الأخطل غياث بْن غوث عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، فرأى زفر بْن الحارث مَعَهُ عَلَى سريره، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أيقعد زفر هذا المقعد وقد قاتلك وحاول زوال نعمتك وسلبها؟ فَقَالَ زفر: إنا كنا قاتلناك بالأمس ثُمَّ أرانا اللَّه خيرا مما كنا فيه فواليناك ودخلنا فِي أمرك فنحن اليوم فِي طاعتك عَلَى أشد مما كنا فيه من معصيتك، فلا تسمعن مَا يقول هذا الفدوكسي النصراني ولا قول قومه، فإنا أمس بك قرابة، وأوجب عليك حقا.
قالوا: ودخل زفر عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وقد مد رجله، ولم يقبل عَلَيْهِ كما كَانَ يقبل لكلام النَّاس فِي إجلاسه إياه عَلَى سريره، فلما دنا زفر من السرير قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقبض رجلك عَن مجلس خالك، وفه لي بما أخذت عَلَيْهِ صفقتي ونلت بِهِ طاعتي فقبض رجله وجلس زفر.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: قوله خالك يعني أن أم عبد شمس من بني سليم، وأم أبيه آمنة بنت أبان بن كليب بن ربيعة بن عامر.
قالوا: وَكَانَ ممن يتكلم فِي أمر زفر عند عَبْد الْمَلِكِ خالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ فَقَالَ زفر:(7/50)
أبا هاشم لست الحليم فترتحبى ... ولست أبيا صابرا حين تجهل
ستمنعني قيس من الضيم والقنا ... وتمنعني بيض تحد وتصقل
أبعد سعيد يوم قام بخطبة ... أزال بِهَا عنك الخلافة تجذل
سعيد بْن مالك بْن بحدل.
قالوا: وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لزفر: بلغني أنك من كندة؟ فَقَالَ: وما خير من لا ينفي حسدا ولا يدعى رغبة.
قالوا: وساير زفر عَبْد الْمَلِكِ يوما، فلما كَانَ بالمرج طعن فِي جنبه بمخصرته ثُمَّ قَالَ:
أبكاها اللَّه ولا ذهبت، فغضب زفر وخنس من موكبه، فافتقده وَقَالَ: أين أَبُو الهذيل؟ فَقَالُوا: تخلف فوقف فدعي، فَقَالَ: يَا أبا الهذيل إنما مزحت معك قَالَ: فهلا بغير هذا.
وَقَالَ الجحاف بْن حكيم السلمي:
وكنت زبيريا فأصبحت شيعة ... لمروان وأرتد الهوى لابن بحدل
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كانت الرباب بنت زفر بْن الحارث عند مسلمة بْن عَبْد الْمَلِكِ، فكان يؤذن عَلَيْهِ لأخويها الهذيل وكوثر فِي أول النَّاس، فَقَالَ عاصم بْن عَبْد اللَّهِ الهلالي لمسلمة:
أمسلم قد منيتني ووعدتني ... مواعيد خير إن رجعت مؤمرا
أيدعى الهذيل ثُمَّ أدعى وراءه ... فيا لك مدعى مَا أذل وأحقرا
فلست براض عنك حَتَّى تحبني ... كحبك صهريك الهذيل وكوثرا
وكيف ولم يشفع لي الليل كله ... شفيع إذا ألقى قناعا ومئزرا
فَقَالَ الهذيل وفخر عَلَى عاصم:(7/51)
مَا فخر ذي فخر علي وإنما ... نشأنا وأمانا معا أمتان
أَبِي كَانَ خيرا من أبيك وأفضلت ... عليك قديما جرأتي وبياني.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: لما أتى زفر قرقيساء ومات مروان، كتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى أبان بن عقبة بن أبي معيط وهو عَلَى حمص يأمره أن يسير إِلَى زفر، فسار وعلى مقدمته عَبْد اللَّهِ بْن زميت الطائي، فواقع زفر بْن الحارث فقتل من أصحاب ابن زميت ثلاثمائة فلامه أبان عَلَى عجلته، وأقبل أبان فوقع زفر بْن الحارث فقتل ابنه وكيع بْن زفر، وأدركت طيّئ ثقل زفر ونساء لَهُ فاستوهب مُحَمَّد بْن حصين بْن نمير النساء، فألحقهن بقرقيساء، وَقَالَ زفر:
علقنا بحبل من حصين لو أنه ... تغيب حالت دونهن المصاير
أبوكم أبونا فِي القديم وإنني ... لغابركم فِي آخر الدهر شاكر
وَكَانَ يقال إن زفر بْن الحارث من كندة [1] .
__________
[1] بهامش الأصل: بلغ العرض ولله الحمد.(7/52)
خبر عصبية قيس وكلب ويوم بنات قين
قَالَ هِشَام بْن الْكَلْبِيّ وغيره: صار زفر بْن الحارث إِلَى قرقيسياء فتحصن بِهَا، وجعل يغير منها على بلاد كلب لأن كلبا كانوا مروانية، وكانت قيس زبيرية، فكان يقتل ويسوق الأموال، وكانت كلب تفعل مثل ذَلِكَ بقيس، وَكَانَ عمير بْن الحباب السلمي يغير مَعَ زفر أيضا ببني تغلب وذلك بعد انصراف عمير من جيش عبيد اللَّه بْن زياد حين قتل وقبل وقوع الحرب بين قيس وتغلب، وغزا زفر تدمر وعليها عامر بْن الأسود الْكَلْبِيّ من بني عامر الأجدار بْن عوف بْن كنانة بْن عوف بْن عذرة بْن زيد اللات، ومعه ابنه الهذيل بْن زفر فقتلهم جميعا ففي ذَلِكَ يقول زفر:
يَا كلب قد كلب الزمان عليكم ... وأصابكم مني عذاب تنزل
إن السماوة لا سماوة فالحقوا ... بمنابت الأشنان [1] وابني بحدل
فأجابه جواس بْن القعطل الكلبي.
__________
[1] بهامش الأصل: الزيتون.(7/53)
دسنا ولم نفشل هوازن دوسة ... تركت هوازن كالفريد الأعزل
من بعد مَا دسنا ترائق هامها ... بالمشرفية والوشيج الذبل
وأذل معطسكم وأضرع خدكم ... قتلى فزارة إذ سما ابنا بحدل
قالوا: فلما رأت كلب المدار مَا لقيته كلب البوادي من زفر بْن الحارث، وعمير بْن الحباب أمروا عليهم حميد بْن حريث بْن بحدل الْكَلْبِيّ، فخرج حَتَّى نزل بتدمر، وعَبْد الْمَلِكِ يومئذ يريد أن يزحف إِلَى زفر بْن الحارث، ثُمَّ يأتي العراق لمحاربة مصعب بْن الزُّبَيْرِ، وَكَانَ من شهد المرج من بني نمير بْن عامر بناحية الشام بقرب تدمر، وبينهم وبين أَهْل تدمر عهد وعقد، فأرسل إليهم حميد بْن حريث عَن نفسه، وعن أَهْل تدمر: إنا قد نقضنا عهدكم فالحقوا بمأمنكم من الأرض، ثُمَّ سار إليهم فقتلهم، ويقال: إنه وجه إليهم جماعة من كلب فأتت عليهم، وإن حميدا لم يكن مَعَهُمْ، وسار حميد يريد بني تغلب لمظاهرتهم عمير بْن الحباب وقيسا عَلَى كلب، فوجد عميرا قد أغار عَلَى قوم من كلب فمضى فِي طلبه ودليلاه العكبش بْن حليطة الْكَلْبِيّ والمأموم بْن زيد الْكَلْبِيّ، فلم يلحقه ولحق قوما من قيس ممن كَانَ مَعَ عمير فقتلهم، ولم ينج منهم إلا رجل عريان ركب فرسه وأتى عميرا فَقَالَ عمير: مَا زلت أسمع بالنذير العريان حَتَّى رأيت، ولحق عمير بقرقيسياء وانطلق حميد إِلَى من قتل من أولئك القيسية الذين كانوا مَعَ عمير، فقطع آذانهم ونظمها فِي خيط ومضى بِهَا إِلَى الشام.
وانتهى الخبر إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، وعَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ يومئذ بِمَكَّةَ، وَكَانَ عند عَبْد الْمَلِكِ حسان بْن مالك بْن بحدل الْكَلْبِيّ، وعَبْد اللَّهِ بْن مسعدة بْن حكمة بْن مالك بْن حذيفة بْن بدر الفزاري، فأتي عَبْد الْمَلِكِ بالغداء فَقَالَ(7/54)
عَبْد الْمَلِكِ لعَبْد اللَّهِ بْن مسعدة: ادن فكل، فَقَالَ ابْن مسعدة: والله لقد أوقع حميد بسليم وعامر وأخلاط قيس وقعة لا ينفعني مَعَهَا غداء، ولا يسوءني بعدها شراب حَتَّى يكون لها غير، فَقَالَ حسان بْن مالك: يا بن مسعدة غضبت لقيس إن قتلت، وأنسيت دخولهم قرقيسياء يغيرون عَلَى أَهْل البادية منا قوم ضعفاء لا ذنب لهم، فلما رأى حميد مَا نزل بقومه وما نالهم طلب بثأره فأدركه، وبلغ حميدا قول ابْن مسعدة فَقَالَ: والله لأوقعن بفزارة وقعة تشغل ابْن مسعدة عَن الغضب لعامر وسليم، فتجهز وخرج حَتَّى أتى فزارة ومعه دليل من كلب يقال لَهُ العكبش بْن حليطة وآخر يقال لَهُ المأموم بْن زيد بْن مضرس الْكَلْبِيّ، ومعه كتاب قد افتعله عَلَى لسان عَبْد الْمَلِكِ بتوليته صدقاتهم، فلما اجتمعت إِلَيْهِ وجوههم قال: يا بني فزارة هذا كتاب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وعهده، وقد كَانَ ضرب فسطاطا وخباء فجعل يدعو الرجل منهم فيدخل الفسطاط، ثُمَّ يخرج من مؤخرة فيقتل، وعلم قوم من خارج الفسطاط بما يفعل بأصحابهم فامتنعوا من الدخول، فكثرهم بمن مَعَهُ فقتلهم فكان جميع من قتل منهم: من بني بدر خمسين رجلا، سوى من قتل من غيرهم، وأخذ أموالهم ثُمَّ رجع حميد إِلَى الشام.
فلما قتل عَبْد الْمَلِكِ مصعب بْن الزُّبَيْرِ بالعراق وقدم النخيلة بالكوفة، كلمه أسماء بْن خارجة بْن حصن، وبنو فزارة، وذكروا مَا صنع حميد بْن حريث بْن بحدل، وحدثوه بأنه ادعى أنه مصدقه وقالوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أقدنا منه فأبى عَبْد الْمَلِكِ ذَلِكَ وَقَالَ: كنتم فِي فتنة، والفتنة كالجاهلية ولا قود فيها، ولكني صانع بكم مَا لا أصنعه بغيرهم أدي كل قتيل منكم بدية من أعطيه قضاعة وحمير ممن بأجناد الشام، فقبل القوم الديات، فَقَالَ(7/55)
عَمْرو بْن المخلى، وبعضهم يقول: ابْن المخلاة، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: هو المخلى.
خذوها يَا بني ذبيان عقلا ... عَلَى الأحياء واعتقدوا الخزاما
مواعد من بني مروان دينا ... ندافعكم بِهَا عاما فعاما
فلما قبضوا الديات، مضى قوم منهم إِلَى اليمن، فاشتروا الخيل والسلاح، فلما قدموا أغارت بنو فزارة عَلَى بني عبد ود وبني عليم من كلب وهم عَلَى ماء يقال لَهُ بنات قين، وَقَالَ غير أَبِي مخنف: هو ماء عند جبل يقال لَهُ بنات قين، فقتلوا منهم مائة وثمانين، ويقال: نيفا وخمسين، وَكَانَ قائدا القوم: سعيد بْن عيينة بْن حصن، وحلحلة بْن قيس بْن الأشيم بْن سيار من بني العشراء من فزارة.
فَقَالَ عويف القوافي ابْن مُعَاوِيَةَ:
فسائل جحجبى وبني عدي ... وتيم اللات من عقد الحزاما
فإنا قد جمعنا جمع صدق ... يفرج عَن مناكبه الزحاما
فِي أبيات.
وبلغ عَبْد الْمَلِكِ أن كلبا جمعت لتغير عَلَى قيس وفزارة خاصة، فكتب إليهم يقسم لهم بالله لئن قتلوا من بني فزارة رجلا ليقيدنهم بِهِ، فكفوا وكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الحجاج بْن يوسف، وهو عامله عَلَى الحجاز يأمره بأن يحمل إِلَيْهِ سعيد بْن عيينة، وحلحلة بْن قيس الفزاريين، فبعث بهما إِلَيْهِ فحبسهما، وقدم عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وفد كلب فعرض عليهم الديات فأبوها، فَقَالَ: إنما قتل منكم الشيخ الكبير والصبي الصغير، فَقَالَ لَهُ النعمان بْن فرية: قتل منا من لو كَانَ أخاك لاختير عليك، فغضب عَبْد الْمَلِكِ، وأراد(7/56)
ضرب عنقه فقيل لَهُ: إنه شيخ كبير خرف فأمسك، وَقَالَ أبناء القيسيات، وهم: الوليد وسليمان ابنا عَبْد الْمَلِكِ، وأبان بْن مروان لعَبْد الْمَلِكِ:
لا تجبهم إلا إِلَى الديات، وَقَالَ خالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ وأبناء الكلبيات:
لا إلا القتل واختصموا، وتكلم النَّاس فِي ذَلِكَ فِي المقصورة حَتَّى علت أصواتهم، وكاد يكون بينهم شر، فلما رأى عَبْد الْمَلِكِ ذَلِكَ أخرج سعيد بْن عيينة وحلحلة بْن قيس، فدفع حلحلة إِلَى بني عبد ود من كلب، وحلحلة يقول:
إن أك مقتولا أقاد برمتي ... فمن قبل قتلي مَا شفى نفسي القتل
وقد تركت حربي رفيدة كلها ... مجاورها فِي داهرها الخوف والذل
ومن عبد ود قد أبرت قبائلا ... فغادرتهم كلا يطيف بِهِ كل
وَقَالَ أيضا:
إن يقتلوني يقتلوني وقد شفى ... غليل فؤادي مَا أتيت إِلَى كلب
فقرت بِهِ عيني وأفنيت جمعهم ... وأثلج لما أن قتلتهم قلبي
شفى النفس مَا لاقت رفيدة كلها ... وأشياخ ود من طعان ومن ضرب
ووقف حلحلة بين يدي عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لعَبْد الْمَلِكِ: مَا تنتظر بنا يا بن الزرقاء فو الله لو ملكناها منك مَا أنظرناك طرفة عين، فلما قدم ليقتل قيل لَهُ: اصبر يَا حلحلة فَقَالَ:
أَصْبَرُ مِنْ عود بجنبيه جلب ... قد أثرت فيه الغروض والحقب
أصبر من (ذي) ضاغط عركرك [1] ... ألقى بوابي زوره للمبرك
__________
[1] العركرك: الركب الضخم، والجمل الغليظ. القاموس.(7/57)
ومد عنقه وهو يقول: اجعلها خير الميتتين فقتل، وَكَانَ الَّذِي تولى قتله شعيب بْن سويد، ودفع سعيد بْن عيينة بْن حصن إِلَى بني عليم من كلب فقتلوه، ويقال إن سعيدا هو الَّذِي قَالَ لعَبْد الْمَلِكِ: يابن الزرقاء مَا تنتظر بنا؟.
وَقَالَ حين حبس:
فإن أقتل فقد أقررت عيني ... وقد أدركت قبل الموت ثأري
وما قتل عَلَى حر كريم ... أباد عدوه يوما بعار
فإن أقتل فقد أهلكت كلبا ... ولست عَلَى بني بدر بزار
وَقَالَ حلحلة وهو فِي الحبس:
لعمري لئن شيخا فزارة أسلما ... لقد حزنت قيس وقد ظفرت كلب
فلا تأخذوا عقلا وخصوا بغارة ... بني عبدود بين دومة والهضب
سلام عَلَى حيي هلال ومالك ... جميعا وخصوا بالسلام أبا وهب
أَبُو وهب زبان بْن سيار بْن عَمْرو، أحد بني العشراء من فزارة، ومالك بْن سعد بْن عدي بْن فزارة، وَقَالَ زبان حين بلغه شعر حلحلة:
رحم اللَّه أبا ثوابة قد كفانا النار والعار، وأدرك بالثأر، ولنا فِي القوم فضل فلم يحرضنا عليهم، وَقَالَ بعض الفزاريين: لقد وفى أَبُو الذبان [1] لكلب وآثرهم عَلَى بني عمه.
وَقَالَ علي بْن الغدير الغنوي في قتل سعيد وحلحلة:
__________
[1] أي عبد الملك بن مروان.(7/58)
وحلحلة القتيل مَعَ ابْن بدر ... وأهل دمشق أنجية عزين
فبعد اليوم أيام طوال ... وبعد خمود فتنتكم فتون
خليفة أمة قسرت عَلَيْهِ ... تخمط [1] فاستخف بمن يدين
وَقَالَ أرطاة بْن سهية:
ألا أبلغ بني مروان عنا ... فقد أعطيتم كرما وخيرا
أيقتل شيخنا ويرى حميد ... رخي البال يستبئ الخمورا
فناكت أمها قيس جهارا ... وعضت بعدها مضر الأيورا
ولا والله مَا كرمت ثقيف ... ولا كانوا عَلَى كلب نصيرا
يقول حين حمل الحجاج سعيدا وحلحلة.
وَقَالَ رجل من كلب:
ونحن قتلنا سيديهم بشيخنا ... سويد فما كانا وفاء بِهِ ذما
سويد بْن زمان بْن ماطل.
حرب قيس وتغلب
قالوا: لما انقضى أمر مرج راهط، وصار زفر بْن الحارث إِلَى قرقيسياء صار مَعَهُ عمير بْن الحباب بْن جعدة السلمي، وهو ابن الصمعاء، والصمعاء أمّة أوجدته، وكانت سوداء، فجعلا يطلبان كلبا واليمانية بقتلى مرج راهط وَكَانَ معهما قوم من بني تغلب يدلونهما ويقاتلون معهما إذا أغارا، فطلبت كلب قوما أغاروا عليهم من بني تغلب مَعَ زفر، ففي ذَلِكَ يقول غياث الأخطل بن غوث:
__________
[1] تخمط: تكبر وغضب. القاموس.(7/59)
نبئت كلبا تمنى أن تحاربنا ... وطال مَا حاربونا ثُمَّ مَا ظفروا
[1] وَحَدَّثَنِي دَاوُد بْن عَبْد الحميد قاضي الرقة عَن مشايخ القيسيين قالوا:
لما انقضى أمر المرج بايع عمير مروان بْن الحكم وفي نفسه مَا فيها من أمر قتلى قيس يوم المرج، فلما عقد مروان لعبيد اللَّه بْن زياد وجهه إِلَى الجزيرة والعراق، وشخص عمير فِي جيشه، فجعله عَلَى إحدى مجنبتيه وهي الميسرة، وَكَانَ مَعَهُ يوم لقي ابْن صرد بعين الوردة، وأتى مَعَهُ قرقيسياء فكان عمير يثبطه عَن المقام عَلَيْهَا ويشير عَلَيْهِ بتلقي جيش المختار بْن أَبِي عبيد الثقفي قبل أن يدخل الجزيرة، فأغذ ابْن زياد السير حَتَّى لقي إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، فمال عمير مَعَ ابْن الأشتر حَتَّى فض عسكر عبيد اللَّه بْن زياد وقتل عند نهر يقال لَهُ الخازر بقرب الزابي، وكره عمير أن يصير إِلَى المختار، فأتى قرقيسياء، فأقام بِهَا مَعَ زفر بْن الحارث، فكانا يغيران عَلَى كلب واليمانية، وشغل عَبْد الْمَلِكِ عَن زفر فلم يسر إِلَيْهِ، ولم يوجه جيشا، ومل عمير المقام بقرقيسياء فطلب الأمان من عَبْد الْمَلِكِ فآمنه وَكَانَ عَلَيْهِ فِي نفسه مَا كَانَ، ووشى بِهِ إِلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ واش فحبسه فاحتال حَتَّى هرب من الحبس، فيقال:
انه اتخذ سلما من خيوط قنب وتسلق بِهِ حَتَّى تخلص من حبسه عَلَى سلم من خيوط من كوة البيت وأنشأ يقول:
عجبت لما تظنته الموالي ... بخرّاج من الغمرات ناج
ونَوَّمَ شرطة الريان عني ... كميت اللون صافية المزاج
__________
[1] ديوان الأخطل ص 188 مع فوارق.(7/60)
والريان مولى عَبْد الْمَلِكِ وصاحب حرسه، وَكَانَ عمير محبوسا عنده، فسقى أعوانه نبيذا حَتَّى أسكرهم ونجا، ويقال: بل كلم فيه فخلاه، والأول أثبت، فعاد إِلَى الجزيرة وَكَانَ منزله عَلَى النهر المعروف بالبليخ، فاجتمعت إِلَيْهِ قيس فكان يغير بهم عَلَى كلب واليمانية، وَكَانَ من مَعَهُ من القيسية يسيئون جوار بني تغلب ويسخرون مشايخهم من النصارى، فهاج ذَلِكَ بينهم شرا لم يبلغ الحرب وذلك قبل شخوص عَبْد الْمَلِكِ إِلَى زفر والمصعب بْن الزُّبَيْرِ، وكانت قيس زبيرية وتغلب مروانية.
وَقَالَ أبو عمرو الشيباني الراوية فيما أخبرني عنه ابنه عَمْرو بْن أَبِي عَمْرو: أغار عمير بْن الحباب عَلَى كلب، ثُمَّ انكفأ راجعا فنزل ومن مَعَهُ من قيس بثني من أثناء الفرات، ويقال: عَلَى الخابور، والخابور نهر يخرج من رأس العين ويصب فِي الفرات، وكانت منازل بني تغلب فيما بين الخابور والفرات ودجلة، وكانت بحيث نزل عمير وأصحابه امرأة من بني تميم ناكح فِي بني تغلب يقال لها أم دوبل ولها غنيمة، فأخذ غلام من بني الحريش بْن كعب بْن ربيعة بْن عامر عنزا منها فذبحها، فشكت ذَلِكَ إِلَى عمير فلم يشكها، وَقَالَ: هذا من مغمرة الجيش فلما رأى الحرشيون أن عميرا لم يغير عَلَى صاحبهم شدوا عَلَى باقي الغنيمة فذبحوها وأكلوها، ومانعهم قوم من بني تغلب حضروهم فقتل رجل منهم يقال لَهُ مجاشع التغلبي، وجاء دوبل وهو من بني مالك بم جشم بْن بكر بْن حبيب، وَكَانَ من فرسان بني تغلب، فأخبرته أمه بما أصيبت بِهِ، فسار فِي قومه، فشكا إليهم مَا صنع بغنم أمه، وجعل يذكرهم تعالي قيس عليهم، وسوء جوابهم لهم، فاجتمعت منهم جماعة، وأمروا عليهم شعيث بْن مليل التغلبي، ثُمَّ أغاروا(7/61)
عَلَى بني الحريش، ومع بني الحريش حينئذ قوم من إخوتهم بني قشير بْن كعب، فقتلوا منهم واستاقوا ذودا لامرأة من بني الحريش يقال لها أم الهيثم، فلم يقدر القيسيون عَلَى تخلصه من أيديهم، فَقَالَ الأخطل وبلغه الخبر وهو براذان [1] :
أتاني ودوني الزابيان كلاهما ... ودجلة أنباء أمر من الصبر
أتاني بأن ابني نزار تضاغنا ... وتغلب أولى بالوفاء وبالغدر [2]
وَقَالَ الأخطل أيضا:
فإن تسألونا بالحريش فإننا ... بلينا بنوك منهم وفجور
غداة تحامتنا الحريش كأنّها ... كلاب بدت أنيابها لهرير
وجاؤوا بجمع ناصري أم هيثم ... فما رجعوا من ذودها ببعير
[3] وَقَالَ عَمْرو بْن الأهتم التغلبي:
وإنا يوم سار بنا شعيث ... قريناهم وأي قرى قرينا
نصصنا الخيل والرايات حَتَّى ... قضينا من هوازن مَا قضينا
وما أبقين من قيس شريدا ... وما غادرن للجشمي دينا
فرد عَلَيْهِ نفيع بْن صفار المحاربي بعد مقتل شعيث بْن مليل فَقَالَ:
وإنا يوم لاقينا شعيثا ... قريناه فأيّ قرى قرينا
في أبيات.
__________
[1] راذان الأسفل وراذان الأعلى: كورتان بسواد بغداد. معجم البلدان.
[2] ديوان الأخطل ص 175.
[3] ديوان الأخطل ص 152.(7/62)
وَقَالَ القطامي وهو عمير بْن شييم.
وإنا يوم نازلهم شعيث ... كليث الغيل أصحر ثُمَّ ثارا
وتغلب جدعوا أشراف قيس ... وذاقوا من تخمطها البوارا
بضرب يقعص الأبطال منهم ... ويمتكر اللحى منه امتكارا
[1] المكر المغرة.
ومن رواية أَبِي عبيدة فيما أخبرني عنه علي بْن المغيرة الأثرم: أن غنم أم دوبل، وهي فيما ذكر تغلبية، نفشت فِي زرع لرجل من قيس فِي بعض الليالي، فشكا القيسي ذَلِكَ إليها فلم تشكه وضحكت بِهِ، ثُمَّ نفشت فِي زرعه ليلة أخرى، فأخذ عنزا منها فذبحها، فلما جاء ابنها دوبل أعلمته ذَلِكَ فأتى وأخ لَهُ وعدة معهما من بني تغلب الرجل القيسي فذبحوه عَلَى دم العنز، فأغار قومه عَلَى بني تغلب فقتلوا منهم اثني عشر رجلا فيهم مجاشع التغلبي، وأغارت بنو تغلب وعليها شعيث بْن مليل عَلَى قوم من بني قشير فقتلوا منهم خمسة وعشرين رجلا، ولم يذكر أَبُو عبيدة بني الحريش البتة.
وقوم يزعمون: أن شعيثا كَانَ بآذربيجان وَكَانَ يرى رأي الخوارج، فأرسلت إِلَيْهِ تغلب تستنجده، فأقبل فِي ألفي فارس ومعه ثعلبة بْن نياط فعبر دجلة إِلَى لبى وهي بين تكريت والموصل، وأتى الثرثار فوجد قيسا مجتمعين عَلَيْهِ وتغلب بإزائهم وعليهم ابْن هوبر التغلبي، فكره أن يسير تحت لواء ابْن هوبر، فقصد قصد قيس، وأتت عمير بْن الحباب طلائعه فأخبرته بخبر شعيث، فانفرد لَهُ فِي جمع كبير من قيس، وخلّف من يكيفه أمر ابن هوبر
__________
[1] امتكر: اختضب. القاموس.(7/63)
والتغلبيين، فلقي شعيثا، فاقتتلا فظهر عمير عَلَى شعيث، فقتل وأصحابه فلم ينج منهم إلا عدة يسيرة لحقوا ببني تغلب، وَكَانَ ثعلبة بْن نياط فارق شعيثا ولحق ببني تغلب فقاتل مَعَهُمْ، والخبر الأول أثبت، والشعر عَلَى صحته أدل.
يوم ماكسين
قالوا: استحكم الشر بين قيس وتغلب، وعلى قيس عمير بْن الحباب وعلى تغلب شعيث بْن مليل، فغزا عمير بني تغلب وجماعتهم بماكسين وهي قرية من قرى الخابور، بينها وبين رأس العين يوم أو يومان، فاقتتلوا قتالا شديدا، وهي أول وقعة لهم تزاحفوا فيها، فقتل من بني تغلب خمسمائة، وقتل شعيث بْن مليل، وكانت الوقعة عند قنطرة هناك، فَقَالَ نفيع بْن صفار المحاربي:
وأيام القناطر قد تركتم ... رئيسكم لنا غلقا رهينا
تركنا الباكيات عَلَى شعيث ... سواجم عبرة مَا ينقضينا
وَكَانَ زفر بْن الحارث قَالَ حين أغارت تغلب عَلَى بني الحريش ومن مَعَهُمْ من قشير: شغلت قيس بغزل نسائها عَن هؤلاء النصارى، فَقَالَ عمير بْن الحباب:
مَا همنا يوم شعيث بالغزل ... يوم انتضيناهن أمثال الشعل
وهن يردين كعقبان الخيل ... من بين دهماء وطرف ذي خصل
وزعموا أن رجل شعيث قطعت يومئذ، فجعل يقاتل حَتَّى قتل وهو يقول:(7/64)
قد علمت قيس ونحن نعلم ... أن الفتى يقتل وهو أجذم
وَقَالَ نفيع بْن صفار:
وبشاطئ الخابور صبحناكم ... بالمرهفات البيض يفرين الذرى
وَقَالَ جرير بْن عطية:
تركوا شعيث بني مليل مسندا ... والآسين وأقعصوا شعرورا
[1] وَقَالَ نفيع بْن صفار المحاربي:
مَا بعد قتل شعيث فِي سراتكم ... وبعد قتل أَبِي أفعى وشعرور
وَقَالَ تميم بْن أَبِي (بْن) مقبل العجلاني:
قل لابنة الأخطل المسلوب مئزرها ... يوم الفوارس لما راث فاديها
ولست سائلها إلا بواحدة ... مَا رد تغلب عنها إذ تناديها
[2] وَقَالَ عبيد بْن حصين النميري الراعي:
أبا مالك لا تنطق الشعر بعدها ... وأعط القياد القائدين عَلَى كثر
ونحن تركنا تغلب ابنة وائل ... كمنكشر الأنياب منقطع الظهر
[3] يعني بما كَانَ بينهم يوم الخابور ويوم ماكسين.
__________
[1] ديوان جرير ص 225 مع فوارق.
[2] ليسا في ديوانه المطبوع،
[3] ديوان الراعي النميري- ط. بيروت 1980 ص 116- 117.(7/65)
يوم الثرثار الأول
والثرثار نهر ينزع من هرماس نصيبين ويفرغ فِي دجلة بين الكحيل ورأس الإيل [1] .
قالوا: استمدت تغلب بعد يوم ماكسين وحشدت واجتمعت إليها النمر بْن قاسط، وأتاها المجشر بْن الحارث من ولد أَبِي ربيعة بْن ذهل بْن شيبان، وَكَانَ من سادات بني شيبان بالجزيرة، وأتاها زمام بْن مالك الشيباني فِي جمع، وأتت جماعة منهم مالك بْن مسمع قبل يوم الجفرة وقبل مصيره إِلَى ناحية اليمامة والبحرين، فشكوا إِلَيْهِ قيسا وما كَانَ منهم يوم ماكسين وقبله، فَقَالَ: مَا أحسبكم إلا من نبيط تكريت، ولو كنتم من بني تغلب لدافعتم عَن أنفسكم وحرمكم، فَقَالُوا: إنا حي فينا مَا قد علمت من النصرانية، ومضر مضر وأي السلطانين غلب فهو مَعَ قيس، فَقَالَ مالك:
اذهبوا فإن أمدهم السلطان بفارس فلكم علي فارسان، وإن أمدهم برجل فلكم رجلان، إن السلطان اليوم لفي شغل عنكم وعنهم، فانطلقوا وقد غضبوا وجعلوا عليهم بعد شعيث بْن مليل زياد بْن هوبر، ويقال يَزِيد بْن هوبر التغلبي، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: هو حنظلة بْن قيس بْن هوبر أحد بني كنانة بْن تيم بْن أسامة بْن مالك بْن بكر بْن حبيب، وَكَانَ عَلَى قيس عمير بْن الحباب السلمي، فلما رأى من مَعَ بني تغلب، استنجد تميما وبني أسد فلم يأته منهم أحد فقال عمير:
__________
[1] بهامش الأصل: رأس الأيل، اسم جبل.(7/66)
أيا أخوينا من تميم هديتما ... ومن أسد هل تسمعان المناديا
ألم تعلما إذ جاء بكر بْن وائل ... وتغلب ألفافا تهز العواليا
إِلَى قومكم قد تعلمون مكانهم ... وكانوا جميعا حاضرين وباديا
وزعموا أن عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان البكري ممن أنجدهم من ربيعة، فلذلك حقد عليهم المصعب بْن الزُّبَيْرِ حَتَّى قتل أخاه النابئ ولم يقتل صاحبه، وكانت القيسية زبيرية، وأنجد بني تغلب أيضا ركضة بْن النعمان الشيباني.
قالوا: ثُمَّ إن الربعيين والقيسيين التقوا عَلَى الثرثار فاقتتلوا قتالا شديدا وجعل بنو تغلب يقولون:
ننعى بأطراف القنا المجاشعا ... فإنه كَانَ كريما فاجعا
وابن مليل شيخنا المدافعا
ثُمَّ إن قيسا انهزمت وقتلت بنو تغلب وألفافهم منهم مقتلة عظيمة، وبقروا بطون ثلاثين امرأة من بني سليم.
وقالت ليلى بنت الحمارس التغلبية، ويقال قالها الأخطل:
لما رأونا والصليب طالعا ... ومار سرجيس وسما ناقعا
والخيل لا تحمل إلا دارعا ... والبيض فِي أيماننا قواطعا
خلوا لنا الثرثار والمزارعا ... وحنطة طيسا وكرما يانعا [1]
كأنما كانوا غرابا واقعا
ويروى: زاذان والمزارعا
__________
[1] ديوان الأخطل ص 198- 199 مع فوارق.(7/67)
وَقَالَ الأخطل.
عتبتم عَلَيْنَا آل عيلان كلكم ... وأي عدو لم نبته عَلَى عتب [1]
فِي قصيدة لَهُ.
فأجابه جرير بْن عطية فِي قصيدة لَهُ:
ستعلم مَا يغني الصليب إذا غدت ... كتائب قيس كالمهنأة الجرب
لعلك يَا خنزير تغلب فاخر ... إذا مضر يوما تسامت بِهَا الحرب [2]
وَقَالَ الأخطل فِي شعر طويل:
لعمري لقد لاقت سليم وعامر ... إِلَى جانب الثرثار راغية البكر
وَقَالَ نفيع بْن صفار المحاربي:
أبا مالك لا تدع الفخر بالمنى ... فما بسفاه القول يغضب للوتر
ولكن بحد المشرفية ينتمى ... بِهَا للمعالي والمثقفة السمر
فيقال: إنه بهته بهذا الشعر، بل قاله لَهُ وقد ادعى الأخطل باطلا فِي بعض أيامهم.
يوم الثرثار الثاني
قالوا: ثُمَّ إن قيسا تجمعت واستمدت واستعدت، وعليها عمير بْن الحباب وهم فِي عسكر، فأتاهم زفر بْن الحارث من قرقيسياء وعَبْد الْمَلِكِ مشغول عنه، فكان فِي عسكر آخر، وَكَانَ رئيس بني تغلب والنمر ومن معهما ابْن هوبر، فالتقوا بالثرثار فاقتتلوا أشد قتال اقتتلته الناس، فانحازت
__________
[1] ديوان الأخطل: ص 27.
[2] ديوان جرير ص 55 مع فوارق.(7/68)
بنو عامر وكانت فِي إحدى المجنبتين، وصبرت بنو سليم وأعصرت حَتَّى انهزمت بنو تغلب، وقتل ابنا عبد يسوع بْن حرب ومحكان، وعَبْد الحارث من بني الأوس بْن تغلب، فَقَالَ عمير بْن الحباب:
فدى لفوارس الثرثار نفسي ... وما جمعت من أَهْل ومال
وولت عامر عنا فأجلت ... وحولي من ربيعة كالجبال
أكاوحهم [1] بدهم من سليم ... وأعصر كالمصاعيب النهال
وَقَالَ زفر بْن الحارث:
ألا من مبلغ عني عميرا ... رسالة ناصح وعليه زار
أتترك حي ذي يمن وكلبا ... وتجعل حد نابك فِي نزار
كمعتمد عَلَى إحدى يديه ... فخانته بوهن وانكسار
يوم الدين
قالوا: وأغار عمير بْن الحباب عَلَى الفدين، وهي قرية عَلَى شاطئ الخابور ولها حصن، فاكتسح مَا فيها وقتل عامة أهلها، ويقال: بل قاتل فيها جميع بني تغلب، وكانوا بِهَا مزاحفة مهزمهم، فَقَالَ ابْن صفار:
لو تسأل الأرض الفضاء بأمركم ... شهد الفدين بهلككم والصوّر
كذبتك شيبان الأخوّة وأنّفت ... أسيافكم بكم سدوس ويشكر
والعامة تسمي هذه القرية الصور، وهي قريبة من الفدين بينهما نحو من أربعة فراسخ.
__________
[1] كوحه: قاتله فغلبه، وأذله ورده وشاتمه. القاموس.(7/69)
يوم السكير
وهو يسمى اليوم سكير العباس، قَالَ: ولقي عمير بْن الحباب تغلب والنمر وعليهم ابْن هوبر بالسكير، وهي قرية تشرع عَلَى الخابور، ومنها ناحية تشرع عَلَى الفرات فاقتتلوا فانهزمت تغلب والنمر، وهرب عمير بْن جندل وَكَانَ من فرسان تغلب، وَقَالَ عمير بْن الحباب:
وأفلتنا يوم السكير ابْن جندل ... عَلَى سابح غوج اللبان [1] مثابر
ونحن كررنا الخيل قبا شوازبا ... دقاق الهوادي داميات الدوائر
وَقَالَ ابْن صفار:
صبحناكم بهن عَلَى سكير ... فلاقيتم هناك الأقورينا
يوم المعارك
والمعارك بين الحضر والعقيق من أرض الموصل، قَالَ: اجتمعت تغلب يوم السكير بهذا المكان، فالتقوا وقيس بِهِ، واشتد قتالهم فانهزمت تغلب، فَقَالَ ابْن صفار:
ولقد تركنا بالمعارك منكم ... والحضر والثرثار أجسادا جثا
فيقال: إن يوم المعارك والحضر واحد، هزموهم إِلَى الحضر فقتلوا منهم بشرا، وَقَالَ بعضهم: هما يومان مختلفان كانا لقيس والله اعلم.
__________
[1] فرس غوج اللبان: واسع جلد الصدر. القاموس.(7/70)
يوم لبى
قالوا: والتقوا أيضا بلبى عند ديرها، ولبى فوق تكريت من أرض الموصل، فتناصفوا فقيس تقول كَانَ الفضل لنا وتغلب تقول كَانَ الفضل لنا.
يوم بلد
وَقَالَ أَبُو الوليد الكلابي: كانت بين قيس وتغلب وقعة ببلد تكافأوا فيها، وَقَالَ أَبُو عيسى القيسي: كانت لقيس.
يوم الشرعبية
قالوا: التقوا بالشرعبية وعلى قيس عمير بْن الحباب، وعلى تغلب وألفافها ابْن هوبر، فكان بينهم قتل شديد وقتل يومئذ عمار بْن المهزم وعاصم السلميان وَكَانَ يوم الشرعبية لتغلب عَلَى قيس، فَقَالَ الأخطل:
ولقد بكى الجحاف لما أوقعت ... بالشرعبية إذ رأى الأهوالا [1]
والشرعبية من بلاد بني تغلب، وبناحية منبج أيضا شرعبية.
فبعضهم يقول إن هذه الواقعة كانت بناحية منبج وذلك غلط.
يوم البليخ
قالوا: اجتمعت تغلب وسارت إِلَى البليخ وهناك عمير والقيسية، والبليخ نهر بين الرقتين، فالتقوا، وعلى قيس عمير، وعلى تغلب ابْن
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.(7/71)
هوبر، فهزمت تغلب وقتلت وبقرت بطون نساء من نسائهم كما فعلوا يوم الثرثار، وفي ذَلِكَ يقول ابْن صفار:
زرق الرماح ووقع كل مهند ... زلزلن قلبك بالبليخ فزالا
وأنشدني أَبُو الوليد الكلابي لبعضهم:
تسامت جموع بني تغلب ... إلينا فكنا عليهم وبالا
بقرنا النساء غداة البليح ... إذا جئننا وقتلنا الرجالا
يوم الحشاك ومقتل عمير بْن الحباب السلمي
قالوا: لما رأت تغلب إلحاح عمير بْن الحباب عَلَيْهَا، جمعت حاضرتها وباديتها وصاروا إِلَى الحشاك، وهو نهر يأخذ من الهرماس، وعلى الحشاك تلال وقور [1] وبقربه الشرعبية وإلى جنبه براق ويقال براق، ودلف إليهم عمير فِي قيس ومعه زفر بْن الحارث والهذيل ابنه، وعلى تغلب ابْن هوبر، فاقتتلوا عند تل الحشاك أشد قتال وأبرحه حَتَّى جن عليهم الليل ثُمَّ تفرقوا، فاقتتلوا من الغد إِلَى الليل، ثُمَّ تحاجزوا، وأصبحت تغلب فِي اليوم الثالث فتعاقدوا ألا يفروا، فلما رأى عمير جدهم وأن نساءهم مَعَهُمْ قَالَ لقيس:
يَا قوم أرى لكم أن تنصرفوا عَن هؤلاء فإنهم مستقتلون، فإذا اطمأنوا وصاروا إِلَى سرحهم وجهنا إِلَى كل قوم منهم من يغير عليهم، فَقَالَ لَهُ عَبْد العزيز بْن حاتم بْن النعمان الباهلي: يا بن الصمعاء قتلت فرسان قيس أمس وأول من أمس ثُمَّ ملئ سحرك وجبنت، ويقال: إن عيينة بن أسماء بن
__________
[1] بهامش الأصل: قور جمع قارة.(7/72)
خارجة الفزاري، وَكَانَ أتاه منجدا لَهُ، قَالَ ذَلِكَ، فغضب عمير من قوله وَقَالَ كأني بك لو حمس الوغى أول فار، فنزل عمير وجعل يقاتل راجلا وهو يقول:
أنا عمير وَأَبُو المغلس ... قد أحبس القوم بضنك المحبس
وانهزم زفر يومئذ وهو اليوم الثالث فلحق بقرقيسياء، وذلك أنه بلغه أن عَبْد الْمَلِكِ قد عزم عَلَى الحركة إِلَيْهِ بقرقيسياء، فبادر لإحكام أمره والتأهب بما يحتاج إِلَيْهِ، ويقال: أنه ادعى ذاك حين فر تحسنا بِهِ، وركبت تغلب ومن مَعَهَا أكساء [1] القيسية وجعلوا يقولون:
أما تعلمون أن تغلب تغلب
وشد عَلَى عمير جميل بْن قيس من بني كعب بْن زهير فقتله، فَقَالَ الأخطل لزفر:
لعمر أبيك يَا زفر ابْن ليلى ... لقد أنجاك جد بني معاز
وركضك غير منقلب إلينا ... كأنك ممسك بجناح بازي [2]
ويقال: بل تعاوى عَلَى عمير غلمان من بني تغلب فرموه بالحجارة وقد أعيا حَتَّى أثخنوه، وكر عَلَيْهِ ابْن هوبر فقتله، وأصابت ابْن هوبر يومئذ جراحة فلما انقضت الحرب أوصى بني تغلب وهو لمآبه من جراحته بأن يولوا أمرهم مرار بْن علقمة الزهيري.
وروي أيضا: أن ابْن هوبر جرح فِي اليوم الثاني من أيامهم هذه الثلاثة، فأوصى بني تغلب بأن يؤمروا عليهم مرارا، ومات من ليلته فكان
__________
[1] ركب اكساءه: سقط على قفاه. القاموس.
[2] ديوان الأخطل ص 194.(7/73)
مرار رئيسهم فِي اليوم الثالث، فعبأهم عَلَى راياتهم، وأمر كل بني أب أن يجعلوا نساءهم خلفهم، فلما أبصرهم عمير قَالَ لأصحابه: يَا معشر قيس إن تغلب حي كثير العدد، وقد اجتمعوا لقتالكم ونساؤهم مَعَهُمْ فأطيعوني وانصرفوا فإذا تفرقوا شددنا عليهم حيا حيا، فقيل لَهُ القول الَّذِي قيل لَهُ وفعل مَا فعل حَتَّى قتله جميل الزهيري، قَالَ المشاعر:
أرقت بأثناء الفرات وشفني ... نوائح أبكاها قتيل ابْن هوبر
ولم تظلمي إن نحت أم مغلس ... قتيل النصارى فِي نوائح حسر
وَقَالَ بعض الشعراء ينكر قتل ابْن هوبر عميرا:
وإن عميرا يوم لاقته تغلب ... قتيل جميل لا قتيل ابْن هوبر
قالوا: وكانت ابنة الحمارس تنشر شعرها وتحرض النَّاس وهي تقول:
إيها بني تغلب إيها إيها ... نحن بنو الحرب نشأنا فيها
واستحر القتل يومئذ ببني سليم وغني خاصة، وقد قتل من غيرهم من قيس بشر كثير.
وَقَالَ عمير فِي أول يوم لاقى بني تغلب فيه فصابروه فيما ذكر بعضهم:
وكنا حسبنا كل بيضاء [1] تمرة ... ليالي لاقينا جذاما وحميرا
فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه ... ببعض أبت عيداننا أن تكسرا
وإنا لقينا من ربيعة معشرا ... يقودون خيلا للمنية ضمرا
سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ... عَلَى أنهم كانوا عَلَى الموت أصبرا
ويقال: أنّه لغيره والله أعلم.
__________
[1] بهامش الأصل: سوداء.(7/74)
وَقَالَ زفر:
ألا يَا كلب غيرك أوجعوني ... وقد ألصقت خدك بالتراب
ألا يَا كلب فانتشري ونامي ... فقد أودى عمير بني الحباب
وبعثت بنو تغلب برأس عمير بْن الحباب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ وهو بغوطة دمشق مَعَ وفد منهم، فأعطى الوفد وكساهم، فلما صالح عَبْد الْمَلِكِ زفر بعد ذَلِكَ واجتمع النَّاس عَلَيْهِ، قَالَ الأخطل شعرا يقول فيه:
بني أمية قد ناضلت دونكم ... أبناء قوم هم آووا وهم نصروا
وقيس عيلان حَتَّى أقبلوا رقصا ... فبايعوا لك قسرا بعد مَا قهروا
ضجوا من الحرب إذ عضت غواربهم ... وقيس عيلان من أخلاقها الضجر
فلا هدى اللَّه قيسا من ضلالتها ... ولا لعا لبني ذكوان إن عثروا
ولم يزل لسليم أمر جاهلها ... حَتَّى تعايا بِهَا الإيراد والصدر
فقد نصرت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بنا ... لما أتاك بمرج الغوطة البقر
يعرفونك رأس ابْن الحباب فقد ... أضحى وللسيف فِي خيشومه أثر [1]
وَقَالَ الأخطل فِي قصيدة لَهُ:
ألا من مبلغ قيسا رسولا ... فكيف وجدتم طعم الشقاق
فإن يك كوكب الصماء نحسا ... بِهِ ولدت وبالقمر المحاق
ولاقى ابْن الحباب لَهُ حميا ... كفته كل حازية وراق
فأضحى رأسه ببلاد عك ... وسائر خلقه بجبا براق
__________
[1] ديوان الأخطل ص 100- 110 مع فوارق.(7/75)
وإلا تذهب الأيام نرفد ... جميلة مثلها قبل الفراق
ملأنا جانب الثرثار منهم ... وجهزنا أميمة لانطلاق
أميمة امرأة عمير بْن الحباب.
يوم الكحيل من أرض الموصل فِي عبر دجلة المغربي
قالوا: لما قتل عمير بْن الحباب تجمعت قيس بناحية حدث الرقاق وهي بناحية قيس، فَقَالَ الأخطل:
ضربناهم عَلَى المكروه حَتَّى ... حدوناهم إِلَى حدث الرقاق [1]
قالوا: ثُمَّ إن تميم بْن الحباب أتى زفر بْن الحارث، فسأله أن يطلب لَهُ بثأره فامتنع من ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ الهذيل ابنه: والله لئن ظفر بهم إن ذَلِكَ لعار عليك، وإن ظفروا وقد خذلتهم إن ذَلِكَ لأشد، فاستخلف زفر عَلَى قرقيسياء أخاه أوس بْن الحارث، وعزم عَلَى أن يغير عَلَى بني تغلب ويغزوهم، فوجه يَزِيد بْن حمران فِي خيل إِلَى بني فدوكس، فقتل رجالهم واستباح أموالهم، حَتَّى لم يبق غير امرأة واحدة يقال لها حميدة أعاذها ابْن حمران وقد استعاذت بِهِ، وبعث الهذيل بْن زفر إِلَى بني كعب بْن زهير، فقتل فيهم قتلا ذريعا، وبعث مسلم بن ربيعة أخا بني عقيل إِلَى قوم من بني تغلب مجتمعين فأكثر فيهم القتل، ثُمَّ قصد لبني تغلب وقد اجتمعوا بالعقيق من أرض الموصل، فلما أحست بِهِ بنو تغلب ارتحلت تريد عبور دجلة، فلما
__________
[1] ديوان الأخطل ص 207- 210.(7/76)
صارت بالكحيل، لحقهم زفر بْن الحارث فِي القيسية فاقتتلوا قتالا شديدا، وترجل أصحاب زفر أجمعون وبقي زفر عَلَى بغل لَهُ فقتلوهم ليلتهم وبقروا بطون نساء منهم، وغرق فِي دجلة أكثر ممن قتل بالسيف، وأتى فلهم لبى، فوجه زفر إليهم الهذيل بْن زفر فأوقع بهم إلا من عبر فنجا، وأسر زفر منهم مائتين فقتلهم صبرا، فَقَالَ زفر:
ألا يَا عين جودي بانسكاب ... وبكي عاصما وابن الحباب
فإن تك تغلب قتلت عميرا ... ورهطا من غني فِي الحراب
فقد أفنى بني جشم بْن بكر ... ونمرهم فوارس من كلاب
قتلنا منهم مائتين صبرا ... وما عدلوا عمير بْن الحباب
فقتلانا نعدهم كراما ... وقتلاهم تعد مَعَ الكلاب
وَقَالَ أيضا:
قتلنا من بني جشم جموعا ... فما عدلت جموعهم عميرا
وقال ابن صفّار المحاربي:
ألم تر حربنا تركت حبيبا ... محالفها المذلة والصغار
وقد كانوا أولى عز فأضحوا ... وليس بهم من الذل انتصار
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام الْكَلْبِيّ عَن أبيه حَدَّثَنَا ابْن الجصاص قَالَ:
وقف عكرمة بْن ربعي التيمي من ربيعة عَلَى أسماء بْن خارجة الفزاري بالكوفة فَقَالَ:
قتلت بنو تغلب عمير بْن الحباب، فَقَالَ أسماء: لا بأس إنما قتل فِي ديار القوم مقبلا غير مدبر، ثُمَّ قال:(7/77)
يدي لك رهن عَن سليم بغارة ... تشيب لها أصداع بكر بْن وائل
وتترك أولاد الفدوكس عالة ... يتامى أيامى نهزة للقبائل
وَحَدَّثَنِي الأثرم عَن خالد بْن كلثوم عَن المفضل الضبي وغيره قالوا:
أسر القطامي فِي يوم من أيامهم، وأخذ ماله، فقام زفر بأمره حَتَّى رد عَلَيْهِ ماله وجميع مَا أخذ منه ووصله فَقَالَ فيه:
إني وإن كَانَ قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلا ضربة الهادي
مثن عليك بما أوليت من حسن ... وقد تعرض مني مقتل بادي
فِي شعر طويل.
وَقَالَ أيضا:
فمن يكن استلام إِلَى ثوي ... فقد أحسنت يَا زفر المتاعا
أأكفر بعد دفع الموت عني ... وبعد عطائك المائة الرتاعا
وَقَالَ عوانة بْن الحكم وغيره: لما ولى مصعب المهلب بْن أَبِي صفرة الموصل والجزيرة بعث إِلَى بني تغلب وكانوا مروانية: إن تبايعوا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ وإلا أتاكم جيش ينسيكم قيسا ويلحقكم بمن قتلتم منهم وقتلوا منكم فعزل قبل أن يحدث فيهم حدثا، فلذلك قَالَ القطامي:
أتاني من الأزد النذيرة بعد مَا ... تناشد قولي بالحجاز المجالس
فَقَالُوا عليك ابْن الزُّبَيْرِ فعذ بِهِ ... أبى اللَّه أن أخزى وعز خنابس [1]
وما جعل اللَّه المهلب فارسا ... ولكن أمثال الهذيل الفوارس
__________
[1] الخنابس: الكريمة المنظر، والأسد، والقديم الشديد الثابت، ومن الليالي الشديد الظلمة. القاموس.(7/78)
يوم البشر
والبشر جبل فِي عبر الفرات الغربي قالوا: وفد الأخطل عَلَى عَبْد الْمَلِكِ بن مروان فدخل عَلَيْهِ الجّحاف بْن حكيم بْن عاصم بْن قيس السلمي، والأخطل عنده فَقَالَ له عبد الملك: أتعرف هذا يا أخطل؟ قَالَ: نعم هذا الَّذِي أقول فيه:
ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر [1]
وأنشد القصيدة حَتَّى فرغ منها فتغالظا فِي الكلام، فنهض الجحاف يجر مطرفا كَانَ عَلَيْهِ حَتَّى أتى الديوان فنظر إِلَى مقادير القراطيس التي تكتب فيها العهود، ثُمَّ لطف لبعض الكتاب حَتَّى كتب لَهُ عهدا مفتعلا عَلَى صدقات بكر وتغلب بالجزيرة وَقَالَ لأصحابه: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قد ولاني هذه الصدقات فمن أراد اللحاق بي فليفعل وسار حَتَّى أتى الموضع الَّذِي يدعى اليوم برصافة هِشَام، وهو بقرب الرقة فاجتمع إِلَيْهِ أصحابه بِهَا، فَقَالَ لهم: إن الأخطل أتعبني وأسمعني، ولست بوال فمن كَانَ يحب أن يرحض عني العار وعن نفسه فِي فليصحبني فإني آليت أن لا أغسل رأسي أو أوقع ببني تغلب، فرجعوا غير ثلاثمائة قالوا لَهُ: نموت معك ونحيا، فسار ليلته حَتَّى أصبح الرحوب وهو ماء لبني جشم بْن بكر قوم الأخطل فصادف عَلَيْهِ جماعة عظيمة من بني تغلب فقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذ الأخطل وعليه عباءة وسخة فظن آخذه أنه عبد وسئل فَقَالَ: أنا عبد فخلى سبيله فرمى بنفسه فِي جب من جبابهم مخافة أن يراه من يعرفه من قيس فيقتل، وقتل أبوه يومئذ،
__________
[1] ديوان الأخطل ص 130.(7/79)
فلما انصرفت القيسية خرج من البئر وجعلت عبلة امرأته تسله أن يعود إِلَى البئر خوفا عَلَيْهِ من كرتهم وعودتهم فَقَالَ:
يَا عبل أكرم حرة فِي قومها ... حسبا وأرعاها لكهل سيد
قامت تتبعنا دموعا قرة ... منها بطرف غضيضة لم تبرد
ثُمَّ إن الجحاف استخفى فطلبه عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان فمضى حَتَّى دخل بلاد الروم مما يلي أرمينية.
وأرادت بنو تغلب دفن موتاهم فَقَالَ لهم الشمرذى: إنكم إن دفنتموهم، فرأى النَّاس كثرتهم غزوكم استقلالا لكم واجترأوا عليكم فأحرقوهم.
وَقَالَ الجحاف للأخطل:
أبا مالك هل لمتني إذ حضضتني ... عَلَى القتل أم هل لامني لك لائم
ألم أفنكم قتلا وأجدع أنوفكم ... بفتيان قيس والسيوف الصوارم
بكل فتى ينعي عميرا بسيفه ... إذا أعتصمت أيمانهم بالقوائم
فإن يطرودني يطردوني وقد جرى ... بي الورد يوما فِي دماء الأراقم
نكحت بسيفي من زهير ومالك ... نكاح اغتصاب لا نكاح الدراهم
لقد أوقدت نار الشمرذى بأرؤس ... عظام اللحى معرنزمات [1] اللهازم
تحش بأوصال من القوم بينها ... وبين الرجال الموقديها محارم
فلا تحمدوا إلا الإمام لترككم ... تمشّون بالخابور دسم العمائم
في أبيات.
__________
[1] لم أقف لها على معنى في معاجم اللغة.(7/80)
وَقَالَ نفيع بْن صفار المحاربي:
لقد رفعت نار الشمرذى لقومه ... شنارا وخزيا طار كل مطار
ولم يزل الجحاف ببلاد الروم حَتَّى طلب لَهُ الأمان من عَبْد الْمَلِكِ فآمنه، وسمعت مشايخ من أَهْل أرمينية يذكرون: أن الجحاف أقام بطرا بزندة ثُمَّ أتى كمخ ثُمَّ أتى قاليقلا وبعث إِلَى بطانة عَبْد الْمَلِكِ من القيسيين حَتَّى أخذوا لَهُ أمانا.
قالوا: فلما صار إِلَيْهِ حمله ديات من قتل، وأخذ منه الكفلاء، وأمره بالسعي والاضطراب فَقَالَ: أسأل قومي، فأتى الحجاج بْن يوسف فحجبه فلقي أسماء بْن خارجة فَقَالَ لَهُ: إني لا أعصب لومها إلا بك، فدخل عَلَى الحجاج بْن يوسف فكلمه فأذن لَهُ، فلما دخل عَلَيْهِ حمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إني أعملت المطي إليك من الشام لأنه ليس أمامك مذهب ولا وراءك مطلب وليست يد دون اللَّه تحجزك، وأنت أمير العراق، وسيد قيس ففك رهني وتلاف أمري، فيقال أن الحجاج قَالَ لَهُ: يَا جحاف أعملت المطي من الشام فقلت آتي الحجاج فإن أعطاني شكرت وإن منعني بخلت وذممت، والله مَا أعطيك مال اللَّه فَقَالَ: تعطيني عمالتك، فَقَالَ: هذا نعم فتركها لَهُ، ويقال إن الحجاج قَالَ لَهُ: أعهدتني خائنا؟ فَقَالَ: لا ولكنك سيد قومك، ولك عمالة واسعة، فَقَالَ: لقد ألهمت الصدق، ونظرت بنور اللَّه، فأمر لَهُ بمائة ألف درهم، وكانت عمالة الحجّاج خمسمائة ألف درهم، ثُمَّ أقبل الحجاج عَلَيْهِ يضاحكه ويسأله عَن خبره وخبر بني تغلب والأخطل، فلما ولى قَالَ: لله رجال قيس! وَقَالَ الجحّاف:(7/81)
رحلت إِلَى الحجاج أطلب رفده ... عَلَى ثقة بالله والرهن قد غلق
فأحفى سؤالي ثُمَّ أقبل ضاحكا ... إلي وأعطاني الوفاء من الورق
فلما أدى الجحاف مَا ألزمه عَبْد الْمَلِكِ أظهر التوبة وأصحابه ومضى حاجا، فذكروا أن مُحَمَّد بْن سوقة قَالَ: مر بي الجحاف وأنا فِي دكاني فِي السوق فاشترى مني خزا قسمه فِي أصحابه، وإذا هو وأصحابه قد زموا [1] أنفسهم. قلت: مَا هذا الَّذِي أراك وأصحابك صنعتموه فَقَالَ: جعلنا مَا ترى لنذكر خطيئتنا فِي قتل القوم الذين قتلناهم، ونحن نريد الحج فلعل اللَّه يرحمنا ويتوب عَلَيْنَا، وقدم الجحاف مَكَّة وأصحابه مَعَهُ فتعلق بأستار الكعبة فجعل ينادي اللهم اغفر لي وما أظن أن تفعل، فسمعه مُحَمَّد بْن الحنفية فَقَالَ: يَا شيخ القنوط شر من الذنب، ثُمَّ سأل عنه فقيل: هذا الجحاف.
وَقَالَ الأخطل:
لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ... إِلَى اللَّه منها المشتكى والمعول
فإلا تغيرها قريش بملكها ... يكن عَن قريش مستماز ومرحل
فإن تحملوا عنهم فما من حمالة ... وإن ثقلت إلا دم القوم أثقل [2]
وزعموا أن عَبْد الْمَلِكِ قَالَ لَهُ لما أنشده:
يكن عَن قريش مستماز ومرحل
قَالَ: إِلَى أين ويلك؟ قال: إلى النار.
__________
[1] أي شدوا أنوفهم. القاموس.
[2] ديوان الأخطل ص 230- 231.(7/82)
خبر مصعب بْن الزُّبَيْرِ بْن العوام ومقتله
حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا وهب بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنِ صعب بْن زيد: أن المصعب بْن الزُّبَيْرِ لما فرغ من قتال المختار، كَانَ إِبْرَاهِيم بْن الأشتر عَلَى الموصل والجزيرة وآذربيجان وأرمينية فعزله ووجهه لقتال الأزارقة، ووجه المهلب بْن أَبِي صفرة عَلَى عمله، ثُمَّ عزل المهلب ورد إِبْرَاهِيم بْن الأشتر عَلَى العمل، ووجه المهلب لقتال الأزارقة.
قَالَ: وبلغ المصعب إقبال عَبْد الْمَلِكِ نحوه وهو يومئذ بالبصرة قد قدم من عند أخيه بعد أن وفد عَلَيْهِ، فسأل أَهْل البصرة النهوض مَعَهُ وكانت الحرورية قد نزلت سوق الأهواز وعليهم قطري بْن الفجاءة، فَقَالُوا:
أصلح اللَّه الأمير كيف نسير معك فهذه الحرورية مطلة عَلَيْنَا وعلى ديارنا وأموالنا، وَقَالَ المهلب للمصعب: اعلم أن أهل البصرة والكوفة قد كاتبوا عَبْد الْمَلِكِ وكاتبهم وأنه إنما اجترأ عَلَى المسير إِلَى العراق بكتبهم، فقال له المهلّب: لا تنحني عنك واجعلني منك قريبا، فَقَالَ لَهُ المصعب: إن أَهْل(7/83)
البصرة قد أبوا أن يسيروا حَتَّى ابعثك لقتال الحرورية، وأنا أكره إذا أقبل عَبْد الْمَلِكِ إلي ألا أسير إِلَيْهِ فاكفني هذا الثغر، فَقَالَ المهلب: إني لست آمن غدر القوم بك، وإن فعلوا فأبعدهم اللَّه.
وَحَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَأَحْمَدُ بْن إِبْرَاهِيمَ قالا: حَدَّثَنَا وهب بْن جرير عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ عَن مُعَاوِيَة بْن صعصعة بْن مُعَاوِيَةَ وهو ابْن أخي الأحنف بْن قيس- قَالَ: والله إني لواقف مَعَ عمي بالحيرة فِي ظل قصر بني بقيلة، إذ أقبل زياد بْن عَمْرو العتكي حَتَّى وقف إِلَى جنب الأحنف فذكر المصعب وسوء رأيه فيما بينه وبينه وعابه، فَقَالَ لَهُ الأحنف: أظنك والله يَا زياد وأصحابك ستدخلون عَلَيْنَا ذلا وبلاء عظيما، أحسبكم والله ستدخلون عَلَيْنَا أَهْل الشام فيقتلونا وينزلون دورنا، فمهلا يَا زياد! فَقَالَ زياد: إن حالي قد اشتدت وإن علي دينا، فَقَالَ الأحنف: وهل تكفيك عشرة آلاف أكلم المصعب فيأمر لك بِهَا، وأيم اللَّه إني لأعلم أنها لا تنفعه عندك، فكلمه الأحنف فأمر بِهَا لَهُ فكان زياد عند ذَلِكَ أسوأ مَا كَانَ رأيا وأشده عَلَى المصعب.
قَالَ أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيمَ: قَالَ وهب: قَالَ أَبِي: هذا حين دخل مصعب الكوفة لقتال عبد الملك، وفي تلك الأيام مات الأحنف بالكوفة، ألا ترى أن الأحنف قد كَانَ رجع إِلَى البصرة بعد مقتل المختار، وكتب فِي حمزة بْن عَبْد اللَّهِ مَعَ من كتب فيه من أَهْل البصرة.
حَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالا: حَدَّثَنَا وهب بن جرير عن أبيه، قَالَ وهب: ولا أعلمه إلا عَن صعب بْن زيد: إن أشراف أَهْل العراق(7/84)
كتبوا إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يدعونه إِلَى أنفسهم، ويخبرونه أنهم مبايعوه، فلم يبق بالبصرة شريف إلا كاتبه غير المهلب.
وَحَدَّثَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ وَخَلَفُ بْنُ سَالِمٍ الْمَخْزُومِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالُوا:
حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي عيينة قَالَ: سار المصعب يريد عَبْد الْمَلِكِ حَتَّى انتهى إِلَى باجميرا، ثُمَّ التقى هو وعَبْد الْمَلِكِ فغدر أَهْل البصرة بالمصعب فقتل، واجتمع النَّاس عَلَى عَبْد الْمَلِكِ.
وَحَدَّثَنَا خلف وأحمد بْن إِبْرَاهِيمَ قالا: حَدَّثَنَا وهب حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ:
كتبوا إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يسألونه المسير إليهم ويخبرونه أنهم لو قد رأوه مالوا إِلَيْهِ بمن تبعهم، فأقبل عَبْد الْمَلِكِ وخرج إِلَيْهِ مصعب فلما صفوا للقتال مال أَهْل العراق إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، وبقي المصعب فِي خف من النَّاس، فَقَالَ لابنه عيسى: أي بني انصرف، فأبى وَقَالَ: والله لا آتي قريشا فأخبرهم عَن مصرعك أبدا، قَالَ: فتقدم إذا فتقدم فقتل.
وأقبل عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان فَقَالَ للمصعب كيف ترى اللَّه صنع بك وأخزاك، قَالَ: بل أخزاك، والمصعب راجل وابن ظبيان راكب، قَالَ: فقتل ابْن زياد المصعب، واحتز رأسه فأتى بِهِ عَبْد الْمَلِكِ فألقاه بين يديه وهو يقول:
نعاطي الملوك الحق مَا قسطوا لنا ... وليس عَلَيْنَا قتلهم بمحرم
فخر عَبْد الْمَلِكِ ساجدا، فكان ابْن ظبيان يقول: مَا ندمت عَلَى شيء قط ندامتي عَلَى ألا أكون ضربت رأس عَبْد الْمَلِكِ حين أتيته برأس المصعب، فأرحت النَّاس، وأكون قد قتلت ملكي العرب فِي يوم واحد.(7/85)
وحدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي حدثنا وهب بن جرير حدثنا الأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ عَنْ خَالِدِ بْنِ سُمَيْرٍ بِحَدِيثٍ طَوِيلٍ فَاخْتَصَرْتُهُ قَالَ: لَمْ يَكُنْ لأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ مِثْلُ مَنْزِلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ عِنْدَ الْمُصْعَبِ، فَلَمَّا قُتِلَ الْمُصْعَبُ رَحَلَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، فَجَعَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ لِمَنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ مِائَةَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بن الزبير: يا بن أَبِي فَرْوَةَ أَخْبِرْنِي عَنِ النَّاسِ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خَرَجْنَا حَتَّى إِذَا وَاقَفْنَا عَبْدَ الْمَلِكِ مَالَ دَاوُدُ بْنُ قَحْذَمٍ بِرَايَةِ بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ، وَمَالَ فُلانٌ بِرَايَةِ بَنِي فُلانٍ، فَلَمَّا رَأَيْتُ الْمُصْعَبَ قَدْ بَقِيَ فِي رِقَّةٍ مِنَ النَّاسِ أَتَيْتُهُ بِأَفْرَاسٍ قَدْ أَضْمَرْتُهَا فَهِيَ مِثْلُ الْقِدَاحِ فَقُلْتُ لَهُ: ارْكَبْ فَالْحَقْ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فَدَثَّ فِي صَدْرِي دَثَّةً وَقَالَ: لَيْسَ أَخُوكَ بِالْعَبْدِ، وَأَحْبَبْتُ الْحَيَاةَ فَانْصَرَفْتُ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ:
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ثَلاثَ مِرَارٍ.
حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بن عدي عَنِ مجالد عَن الشَّعْبِيّ قَالَ: قدم مصعب حين ولي العراقين فبدأ بالبصرة، وولى القباع الْكُوفَة، وَكَانَ خليفة القباع بِهَا عَمْرو بْن حريث، ثُمَّ شخص إِلَى الْكُوفَة فقتل المختار ومعه الأحنف بْن قيس، ثُمَّ عزله أخوه عَن البصرة، وولاها حمزة ابنه فغضب وأقر عَلَى خلافته القباع ومضى إِلَى أخيه فرده عَلَى المصرين، وأقام بالبصرة حَتَّى شخص منها إِلَى الْكُوفَة واستخلف عباد بْن الحصين، ويقال: إنه استخلف سنان بْن سلمة، وجعل عبادا عَلَى شرطه وَكَانَ الأحنف مَعَ مصعب، فمات الأحنف بالكوفة، ثُمَّ إن مصعبا شخص إِلَى مسكن فقتل بها.(7/86)
وَقَالَ الهيثم: ثُمَّ خرج عَبْد الْمَلِكِ يريد العراق لمحاربة مصعب فِي خمسين ألفا فقصد لزفر بْن الحارث حَتَّى آمنه وخرج مَعَهُ إلى مصعب فشهد حربه ولم يقاتل، وَقَالَ غيره، لما صالح عَبْد الْمَلِكِ زفر بْن الحارث رجع إِلَى دمشق ثُمَّ شخص قصدا فواقع مصعبا.
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَن الوليد بْن مُسْلِم وغيره أن عَبْد الْمَلِكِ صالح زفر بْن الحارث، ثُمَّ قدم دمشق فأصلح أمر ملك الروم والجراجمة الذين خرجوا عَلَيْهِ، ثُمَّ استشار فِي المسير إِلَى مصعب بْن الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَهُ بعض من مَعَهُ: إنك قد واليت بين سنتين، شخصت فيهما فخسرت خيلك ورجالك، وعامك هذا عام جدب فأرج الأمر سنة أو سنتين، واسترح ثُمَّ اشخص فَقَالَ: الشام بلد قليل المال، ولا آمن نفاده، وقد كتب إلي أشراف أَهْل العراق يدعوني إليهم.
قَالَ: وَكَانَ يشاور يَحْيَى بْن الحكم بْن أَبِي العاص، ثُمَّ يخالفه ويقول: من أراد صواب الرأي فليخالف يَحْيَى بْن الحكم فيما يشير بِهِ عَلَيْهِ، فدعاه فاستشاره فَقَالَ: أرى أن ترضى بالشام وتقيم بِهِ، وتدع مصعبا والعراق، فلعن اللَّه العراق، فضحك عَبْد الْمَلِكِ، ودعا بخالد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد فشاوره فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ غزوت مرة فنصرك اللَّه، ثُمَّ ثانية فزادك اللَّه عزا، فأقم عامك هذا، ثم قَالَ لمحمد بْن مروان أخيه: مَا ترى؟ قَالَ: أرجو أن ينصرك اللَّه أقمت أو غزوت فاغز عدوك وشمر فِي طلب حقك، فأمر النَّاس بالاستعداد للمسير، وقدم مُحَمَّد بْن مروان ومعه خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد، وبشر بْن مروان وَقَالَ: قد استعملت عليكم سيد النَّاس مُحَمَّد بْن مروان أخي ونصيحي.(7/87)
وحدثني عَبَّاس بْن هشام عن أَبِيهِ عن عوانة قَالَ: بعثت عاتكة بنت يَزِيد، امرأة عَبْد الْمَلِكِ، وهي أم يَزِيد ابنه: مَا رأيت خليفة قط غزا بنفسه فوجه النَّاس وأقم، فَقَالَ: والله لو بعثت إِلَى مصعب جميع أَهْل الشام لفضهم وفلهم مَا لم أكن مَعَهُمْ، وتمثل:
ومستخبر عنا يريد بنا الردى ... ومستخبرات والعيون سواكب
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ والهيثم قَالَ عوانة: لما بلغ مصعبا إقبال عَبْد الْمَلِكِ إِلَيْهِ وأن قد قدم مقدمته وهو بالبصرة، أراد المسير إِلَيْهِ بأهل البصرة، فأبوا أن يسيروا مَعَهُ وقالوا: عدونا من الخوارج مطل عَلَيْنَا، فأرسل إِلَى المهلب وهو عامله على الموصل والجزيرة فولاه قتال الخوارج وخرج فَقَالَ بعض الشعراء:
أكل عام لك باجميرا ... تغزو بنا ولا تفيد خيرا
وباجميرا موضع كَانَ إذا بلغ مصعبا إقبال الملك نحوه خرج إليه من الكوفة، فبلغه انصراف عَبْد الْمَلِكِ فينصرف.
وَقَالَ أَبُو مخنف: ولى عَبْد اللَّهِ مصعبا أخاه العراقين ثُمَّ إن مولى لبني عجل أتى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ بعد مقتل المختار فأشار عَلَيْهِ باستعمال حمزة ابنه على البصرة وَقَالَ لَهُ: إن ذَلِكَ يعجب أهلها ويحبونه فولاه إياها، فأراد المصعب الامتناع من تسليمها، فَقَالَ الأحنف: إن رأيت أن لا يكون بينك وبين أخيك مَا تتضاران فيه فافعل فإن ضرر ذَلِكَ ينالنا، فقدم حمزة البصرة فأقام سنة أو نحوها، فكان إذا عرض عَلَيْهِ مَا يرتفع من الخراج قَالَ: فأين خراج الزاوية؟ فكان الأحنف بْن قيس ومالك بْن مسمع يقولان: أما الفتى فيخبرنا أنه لا يستوفي عندنا سنة حَتَّى يعزل، وخرج مصعب مغضبا إِلَى أخيه(7/88)
فرده عَلَى المصرين، فأشخص حمزة إِلَى أبيه، ويقال بل قدم حمزة إِلَى أبيه فرد مصعبا، فكتب مصعب من الْكُوفَة إِلَى المهلب وهو عامله بالموصل والجزيرة أن يقدم، فقدم عَلَيْهِ فضمه إِلَى حمزة فولاه قتال الخوارج وسار إِلَى الْكُوفَة وَكَانَ خليفته بِهَا القباع، وَكَانَ سبب خروجه إِلَى الْكُوفَة أنه بلغته حركة عَبْد الْمَلِكِ فأقام بِهَا والأحنف مَعَهُ، فمات بالكوفة قبل مصير مصعب إِلَى مسكن، ومشى فِي جنازته، وظفر مصعب بإبراهيم بْن حيان فقطع يده ونفاه، فصار إِلَى الروم فجنى هناك جناية فقطعوا رجله.
قَالَ عوانة: وَكَانَ إِبْرَاهِيم بْن الأشتر عاملا للمختار حين قتل عَلَى الموصل ونواحيها، فكتب إِلَيْهِ المصعب يدعوه إِلَى طاعته والبيعة لعَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ فسارع إِلَى ذَلِكَ، وقدم عَلَيْهِ فولى المهلب مَا كَانَ يليه من الموصل والجزيرة ثُمَّ عزله وأعاد إِبْرَاهِيم بْن الأشتر إِلَى عمله.
فلما صح عنده وصول عَبْد الْمَلِكِ يريده بعث إِلَى ابْن الأشتر فأقدمه عَلَيْهِ، فجعله عَلَى مقدمته وسار حَتَّى أتى دمما، وهي من عمل الأنبار، ثُمَّ قطع منها حَتَّى نزل بقرب أوانا وهناك دجيل ودير الجاثليق وباجميرا فعسكره وموضع وقعته بين هذه المواضع، وكاتب عَبْد الْمَلِكِ وجوه أَهْل الْكُوفَة والبصرة ورغبهم فِي الأموال والأعمال، وكتب إِلَيْهِ جماعة منهم يستجعلونه عَلَى نصرتهم إياه وانحرافهم عَن المصعب ولاية أصبهان، فكان يسأل عنها ويقول: مَا أصبهان هذه أتنبت الذهب والفضة، لقد كتب إلي فيها أربعون كتابا، وكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى إِبْرَاهِيم بْن الأشتر فجعل لَهُ ولاية العراقين، فأخذ كتابه فدفعه إِلَى المصعب وَقَالَ لَهُ: أصلح اللَّه الأمير إن عَبْد الْمَلِكِ لم يكتب إلي بهذا الكتاب إلا وقد كتب إِلَى هؤلاء الوجوه بمثله وقد أفسدهم(7/89)
عليك، فأنا أرى أن تأخذ وجوه أَهْل المصرين فتشدهم بالحديد، فَقَالَ لَهُ:
يَا أبا النعمان أتأخذ النَّاس بالظنة؟ قَالَ: فاجمعهم فِي أبيض المدائن لئلا يشهدوا الحرب معك، قَالَ: إذا أفسد قلوب عشائرهم، قَالَ: فابعث بهم إِلَى أخيك بِمَكَّةَ، فَقَالَ: ليس هذا برأي، قَالَ: فإن لقيت العدو فلا تمدني بأحد منهم وأتهمهم.
قالوا: وبكت عاتكة بنت يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ حين أراد عَبْد الْمَلِكِ المسير نحو العراق، وبكى جواريها فَقَالَ، كأن كثير عزة كَانَ يرى مَا نحن فيه حين يقول:
إذا مَا أراد الغزو لم تثن رأيه ... حصان عَلَيْهَا نظم در يزينها
نهته فلما لم تر النهي عاقه ... بكت فبكى مما شجاها قطينها [1]
فسار عَبْد الْمَلِكِ حَتَّى نزل الأحيونية وهي بين مسكن وتكريت، ونزل مصعب دير الجاثليق وهو بمسكن، وبين العسكرين ثلاثة فراسخ، ويقال:
فرسخان، وخندق مصعب خندقا عَلَى عسكره وعسكره اليوم يعرف بخربة مصعب، وَقَالَ مصعب: رحم اللَّه أبا بحر- يعني الأحنف بْن قيس- لقد كَانَ يقول لي: لا تلق بأهل العراق عدوا فإنهم كالمومسة تريد كل يوم بعلا، وهم يريدون كل يوم أميرا.
وَكَانَ عكرمة بْن ربعي أحد بني تيم اللَّه بْن ثعلبة، وحوشب بْن يَزِيدَ بْن الحارث بْن يَزِيدَ بْن رويم الشيباني يتباريان فِي إطعام الطعام فَقَالَ مصعب: دعوهما فلينفقا من خيانتهما وفجورهما.
__________
[1] ديوان كثير- ط. بيروت ص 231.(7/90)
وأرسل عَبْد الْمَلِكِ إِلَى مصعب رجلا من كلب فَقَالَ لَهُ: أقرئ ابْن أختك السلام وقل لَهُ: يدع دعاءه إِلَى أخيه، وأدع دعائي إِلَى نفسي ونصير الأمر شورى، فَقَالَ مصعب: قل لَهُ: السيف بيننا.
فقدم عَبْد الْمَلِكِ مُحَمَّد بْن مروان ومعه بشر بْن مروان وَقَالَ: اللهم انصر محمدا، اللهم انصر خيرنا لهذه الأمة، وقدم مصعب إِبْرَاهِيم بْن الأشتر للقائه فالتقيا وبين عسكر مصعب وبين عسكر ابْن الأشتر فرسخ، فتناوش الفريقان فقتل صاحب لواء مُحَمَّد، وجعل عَبْد الْمَلِكِ يمد محمدا، وجعل المصعب يمد إِبْرَاهِيم، وجعل مُحَمَّد يكف أصحابه عَن مناجزة القوم فوجه إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ يشتمه، فوقف مُحَمَّد رجلا فِي جماعة وأمره أن يمنع من يأتيه من جهة عَبْد الْمَلِكِ من دخول عسكره، فوجه عبد الملك خَالِد بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد فرده أشد الرد حَتَّى إذا كَانَ قرب المساء قَالَ مُحَمَّد للناس حركوهم فتهايج القوم.
ووجه المصعب إِلَى إِبْرَاهِيم بْن الأشتر عتاب بْن ورقاء الرياحي، وَكَانَ قد بايع عَبْد الْمَلِكِ ووعده أن يكيد لَهُ المصعب، فلما رآه إِبْرَاهِيم غمه أمره وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون قد سألته أن لا يمدني بهذا ونظرائه، وانهزم عتاب عَلَى مواطأة منه لأهل الشام، فوقعت الهزيمة وقتل ابْن الأشتر وهو يقول: قد قلت: أعفني من عتاب وذوي عتاب، وَكَانَ الَّذِي قتل ابْن الأشتر مولى لبني عذرة لَهُ عبيد بْن ميسرة، واحتز رأسه وأتى بِهِ عَبْد الْمَلِكِ، وأحرق جثته موالي حصين بْن نمير، وَقَالَ عوانة: لما واقع مُحَمَّد بْن مروان ابْن الأشتر قَالَ ابْن الأشتر لأصحابه: لا تنصرفوا حَتَّى ينصرف أَهْل الشام عنكم، فَقَالَ عتاب بْن ورقاء: ولم لا ننصرف، فانصرف وانهزم النَّاس(7/91)
حَتَّى أتوا مصعبا، وصبر إِبْرَاهِيم بْن الأشتر حَتَّى قتل، فلما أصبح مُحَمَّد بْن مروان وجه إِلَى عسكر مصعب رجلا وَقَالَ: انظر كيف تراهم فلم يعرف الطريق، فدله عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم بْن عربي الكناني فأتى العسكر ثُمَّ انصرف، فَقَالَ: رأيتهم منكسرين، وقاتل مَعَ مصعب شعيث بْن ربيع بْن حشيش العنبري فصبر.
قالوا: وأصبح مصعب فدنا من مُحَمَّد، ودنا منه حَتَّى التقوا فنزل قوم من أصحاب مصعب، وأتوا محمدا، فدنا مُحَمَّد من المصعب، وناداه: أنا ابْن عمك مُحَمَّد بْن مروان فأقبل أمان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فقد بذله لك، فَقَالَ:
أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بِمَكَّةَ، يعني عَبْد اللَّهِ أخاه، فقال: يا بن عم إن القوم خاذلوك، فأبى مَا عرض وجعل يقول:
إن الألى بالطف من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
والشعر لابن قتة.
ودعا مُحَمَّد عيسى بْن مصعب، فَقَالَ لَهُ مصعب: انظر مَا يريد عمك فدنا منه فَقَالَ: إني لكم ناصح، ولك ولأبيك الأمان وناشده، فرجع إِلَى أبيه فأخبره بما قَالَ لَهُ، فَقَالَ: إني أظن القوم سيفون فإن أحببت أن تأتيهم فافعل، فَقَالَ: لا تتحدث نساء قريش بأني خذلتك ورغبت بنفسي عنك، قَالَ: فتقدم حَتَّى احتسبك، فتقدم وناس مَعَهُ فقتل وقتلوا، ونظر مصعب إِلَى عتاب بْن ورقاء فَقَالَ: لا يبعد اللَّه ابْن الأشتر فقد كَانَ حذرنيك، وترك النَّاس مصعبا وخذلوه حَتَّى بقي فِي سبعة نفر، وجاء رجل من أَهْل الشام ليحتز رأس عيسى بْن مصعب فشد عَلَيْهِ مصعب فقتله، وشد على الناس(7/92)
فانفرجوا عنه، ثُمَّ جاء إِلَى مرفقة ديباج فجلس عَلَيْهَا، ثُمَّ قام فشد عَلَى النَّاس فانفرجوا عنه.
وبذل لَهُ عَبْد الْمَلِكِ الأمان، وَقَالَ لَهُ: إنه يعز علي أن تقتل فاقبل أماني ولك حكمك فِي المال والولاية، فأبى وجعل يضارب، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: هذا والله كما قَالَ القائل:
ومدجج كره الكماة نزاله ... لا ممعن هربا ولا مستلئم
هذا والله الَّذِي لا يجيبنا إِلَى أماننا، ولا يصدف عنا، ودخل مصعب سرادقه، فيقال: إنه تحنط، فرمى السرادق حَتَّى سقط، وخرج فقاتل.
وأتاه عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان فدعاه إِلَى المبارزة، فَقَالَ لَهُ: يَا كلب اغرب مثلي يبارز مثلك، لعمري لقد ألجأني الدهر إِلَى مبارزتك، وشد عَلَيْهِ مصعب فضربه عَلَى البيضة فهشمها وجرحه، فرجع عبيد اللَّه فعصب رأسه، وأتى عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي فروة مصعبا، وَكَانَ كاتبه فَقَالَ لَهُ: جعلت فداك تركك النَّاس وهذا الرجل، يعني عَبْد الْمَلِكِ، مستديم لك لعلك تقبل أمانه وعندي خيل مقدحة فاركب أيها شئت وانج بنفسك فدث فِي صدره، ورجع ابْن ظبيان إِلَى مصعب فحمل عَلَيْهِ، فضربه مصعب وهو مثخن لما أصابته من الجراحة، فلم تعمل ضربته فيه، وضربه عبيد اللَّه بْن ظبيان حَتَّى مات، ويقال: إن ابْن ظبيان ضربه وزرقه زائدة بْن قدامة الثقفي أو رماه، ونادى يَا لثارات المختار فسقط ميتا واحتز ابْن ظبيان رأسه، ويقال: بل أمر غلاما لَهُ ديلميا فاحتز رأسه وحمله إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، فوضعه بين يديه وهو ينشد.
نعاطي الملوك الحق مَا قسطوا لنا ... وليس عَلَيْنَا قتلهم بمحرّم(7/93)
فسجد عَبْد الْمَلِكِ، فكان ابْن ظبيان يقول: لقد هممت أن أضرب رأس عَبْد الْمَلِكِ وهو ساجد، فأكون قد قتلت ملكي العرب وأرحت النَّاس منهما، وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لقد هممت أن أقتل ابْن ظبيان فأكون قد قتلت أفتك النَّاس بأشجع النَّاس.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: كتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، وهو مَعَ مصعب، كتابا فأتى بِهِ المصعب قبل أن يقرأه، فلما قرأه قَالَ لَهُ: يَا أبا النعمان أتدري مَا فيه؟ قَالَ: لا، قَالَ يعرض عليك مَا سقت دجلة أو مَا سقى الفرات، فإن أبيت جمعهما لك، وإن هذا لما يرغب فيه، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: مَا كنت لأتقلد الغدر والخيانة، وما عَبْد الْمَلِكِ من أحد بأيأس منه مني، وما ترك أحدا ممن معك إلا وقد كتب إِلَيْهِ، فابعث إليهم فاضرب أعناقهم، وإلا فأوقرهم حديدا، ثُمَّ ألقهم فِي أبيض كسرى ووكل بهم حفظة، فإن ظفرت عفوت عنهم أو عاقبت، فَقَالَ: يَا أبا النعمان إني أخاف في هذا القالة، وو الله لو لم أجد إلا النمل لقاتلت بِهِ أَهْل الشام.
قَالَ: فلما اصطف النَّاس مال عتاب بْن ورقاء فذهب، وَكَانَ عَلَى خيل أَهْل الْكُوفَة، وجعل إِبْرَاهِيم يقول لرجل رجل: تقدم فيأبون عَلَيْهِ، فيتقدم هو فيقاتل فلم يزل يفعل ذَلِكَ حَتَّى قتل، ثُمَّ تقدم مصعب فخذله الناس، فقال الحجّار بْن أبجر: تقدم يَا أبا أسيد إِلَى هؤلاء الأنتان، قَالَ:
مَا تتأخر إِلَيْهِ أنتن، ثُمَّ قَالَ للغضبان بْن القبعثري: تقدم يَا أبا السمط، فَقَالَ مَا أرى ذاك، فالتفت إِلَى قطن بْن عَبْد اللَّهِ الحارثي، وهو عَلَى مذحج، وأسد فَقَالَ: تقدم فَقَالَ: أسفك دماء مذحج فِي غير شيء، فَقَالَ: أف لكم، ثُمَّ أقبل فِي عدة، فلما برز قَالَ زياد بْن عَمْرو العتكي(7/94)
لعَبْد الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن أبا البختري إسماعيل بْن طلحة بْن عبيد اللَّه كَانَ لي صديقا، وقد خفت أن يقتل فآمنه، قَالَ: هو آمن.
ودنا مُحَمَّد بْن مروان فأعطى مصعبا الأمان، فأباه ورمي مصعب من كل جانب فأثخن، وقاتل ابنه عيسى حَتَّى قتل، وقتل ابْن ظبيان مصعبا، ويقال: ضربه غلام لَهُ عَلَى جبينه واعتوره النَّاس فقتل ووقف ابْن ظبيان فاحتز رأسه وأتى بِهِ عَبْد الْمَلِكِ.
قالوا: وقتل يَحْيَى بْن جعدة فأتي عَبْد الْمَلِكِ برأسه فَقَالَ: مَا لآل جعدة وآل الزُّبَيْر، وقتل عَبْد اللَّهِ بْن شداد بْن الهاد الكناني، ويقال: لم يقتل ولكنه مات فِي تلك السنة، وقتل يَحْيَى بْن مبشر اليربوعي، وشد رجل عَلَى مسلم بْن عَمْرو الباهلي فطعنه فأذراه عَن فرسه، فمر بِهِ رجل وهو مرتث فَقَالَ: هذا صنيعة من صنائع بني أمية يقتل تحت رايات آل الزُّبَيْر، وَقَالَ عوانة: أتي بِهِ عَبْد الْمَلِكِ وقد طلب لَهُ منه الأمان وهو مثقل فَقَالَ: يَا مسلم ويحك نسيت بلاء يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ عندك.
قالوا: وَكَانَ قتل مصعب فِي سنة اثنتين وسبعين.
قَالَ ابْن الزُّبَيْرِ الأسدي فِي إِبْرَاهِيم بْن الأشتر:
سأبكي وإن لم تبك فتيان مذحج ... فتاها إذا الليل التمام تأوبا
فتى لم يكن فِي مرة الحرب جاهلا ... ولا بمطيع فِي الوغى من تهيبا
أبان أنوف الحي قحطان قتله ... وأنف نزار قد أبان فأوعبا
فمن يك أمسى خائنا لأميره ... فما خان إِبْرَاهِيم فِي الموت مصعبا
ولما قتل مصعب قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: متى تغذو النساء مثل مصعب لقد حرصنا عَلَى استبقائه ولكن اللَّه أبى ذلك.(7/95)
وَقَالَ عدي بْن الرقاع العاملي، ويقال البعيث اليشكري:
ونحن قتلنا ابْن الحواري مصعبا ... أخا أسد والمذحجي اليمانيا
ومرت عقاب الموت قصدا بمسلم ... فأهوت لَهُ ظفرا فأصبح ثاويا [1]
يعني مسلم بْن عَمْرو الباهلي.
ولعدي بْن الرقاع قصيدته التي يقول.
لعمري لقد أصحرت خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب
إذا شئت نازلت مستقدما ... إِلَى الموت كالجمل الأجرب
فمن يك منا يكن آمنا ... ومن يك من غيرنا يهرب [2]
وَقَالَ عبيد اللَّه بْن قيس الرقيات:
لقد أورث المصرين خزيا وذلة ... قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما قاتلت فِي اللَّه بكر بْن وائل ... ولا صبرت عند اللقاء تميم [3]
فِي أبيات.
وَقَالَ ابْن قيس أيضا:
إن الرزية يوم مسكن ... والمصيبة والفجيعه
بابن الحواري الَّذِي ... لم يعده يوم الوقيعه
يَا لهفتي لو أنّ لي ... بالدير يوم الدير شيعه [4]
__________
[1] ليسا في ديوان عدي المطبوع.
[2] ديوان عدي بن الرقاع العاملي- ط. بيروت 1990 ص 58- 60 مع فوارق.
[3] ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص 196- 197.
[4] ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص 184.(7/96)
وَقَالَ الأقيشر الأسدي:
حمى أنفه أن يقبل الضيم مصعب ... فمات كريما لم تذم خلائفه
ولو شاء أعطى الضيم من رام هضمة ... فعاش ملوما فِي الرجال طرائقه
ولكن مضى والموت يبرق خاله ... يساوره مرا ومرا يعانقه
تولى كريما لم تنله مذلة ... ولم يك رغدا تطبيه نمارقه [1]
وَقَالَ عرفجة بْن شريك أحد بني قيس بْن ثعلبة
مَا لابن مروان أعمى اللَّه ناظره ... ولا أصاب رغيبات ولا نفلا
يرجو الفلاح ابْن مروان وقد قتلت ... خيل ابْن مروان خرقا ماجدا بطلا
يَابْن الحواري كم من نعمة لكم ... لو رام غيركم أمثالها شغلا
حملتم فحملتم كل معضلة ... إن الكريم إذا حملته احتملا
وَقَالَ الحارث بْن خالد المخزومي:
هلا صبرتم بني السوداء أنفسكم ... حَتَّى تموتوا كما ماتت بنو أسد
وَقَالَ سويد بْن منجوف السدوسي من أَهْل البصرة يحذر مصعبا غدر أَهْل الْكُوفَة:
ألا ابلغ مصعبا عني رسولا ... ولن تلقى النصيح بكل واد
تعلم أنّ أكثر من تناجي ... وإن أذنيتهم فهم الأعادي
وَقَالَ الأقيشر فِي أبيات لَهُ، ويقال: ابْن الزُّبَيْرِ:
من كَانَ أمسى خائنا لأميره ... فما خان إِبْرَاهِيم فِي الحرب مصعبا [2]
__________
[1] ليست في ديوان الأقيشر المطبوع.
[2] ليس في ديوان الأقيشر المطبوع.(7/97)
وَقَالَ موسى شهوات:
قد مضى مصعب فولى حميدا ... وابن مروان آمن حيث سارا
مصعب كَانَ منك أورى زنادا ... حين تغشى القبائل الأقتارا
وَقَالَ سالم بْن وابصة الأسدي:
أبلغ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ رسالة ... ليس المبلد كالجواد المسهب
لا تجعلن مؤنثا ذا سرة ... ضخما سرادقة وطئ المركب
يغدو إذا مَا الحرب أطفئ نارها ... ويروح مزهوا عظيم الموكب
كأغر يتخذ السيوف سرادقا ... يمشي برايته كمشي الأنكب
ومشهر فِي الحرب فرج سيفه ... غمرات مخشي الردى متهيب
فاذكر ولا تجعل بلاء مُحَمَّد ... والخاذليه لدى الحروب كجندب
يدعى إذا مَا الحيس أحسن أدمه ... وإذا تكون عظيمة لم يندب
وإلى ابن مروان الأغرّ محمّد ... بين ابن أشتر هم وبين المصعب
نفسي فداءك يوم ذَلِكَ من فتى ... يكفي بمشهده حضور الغيب
وهي فِي ديوانه طويلة.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: سار مصعب وحوله نفر يسير وقد خذله أَهْل العراق، لعدة عَبْد الْمَلِكِ إياهم، وعد حجار بْن أبجر ولاية أصبهان، ووعدها غضبان بْن القبعثرى، وعتاب بن ورقاء، وقطن بن عبد الله الحارثي، ومحمد بْن عمير بْن عطارد.
قَالَ: وَقَالَ عروة بْن المغيرة: خرج مصعب يسير فوقعت عينه علي فَقَالَ:
يَا عروة كيف صنع الْحُسَيْن فأخبرته بإبائه النزول عَلَى حكم ابْن زياد وعزمه عَلَى الحرب فَقَالَ:(7/98)
إن الألى بالطف من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
والبيت لسليمان بْن قته.
قَالَ: وَقَالَ قيس بْن الهيثم لأهل البصرة ويحكم لا تدخلوا أهل الشام عليكم فو الله لئن تطعّموا بعيشكم ليضيّقنّ عليكم منازلكم ادفعوهم عن داركم، فو الله لقد رأيت سيد أَهْل الشام عَلَى باب الخليفة يفرح بأن أرسله فِي حاجة، ولقد رأيتنا فِي الصوائف وإن زاد أحدنا عَلَى عدّة أجمال وإن أحدهم ليغزو عَلَى فرسه وزاده خلفه.
قَالَ: والتقى القوم فقتل مسلم بْن عَمْرو الباهلي، وقتل يَحْيَى بْن مبشر أحد بني ثعلبة بْن يربوع فقال جرير:
صلّى الإله عليك يا بن مبشر ... إما ثويت بملتقى الأجناد
مأوى الضريك إذا السنون تتابعت ... وفتى الطعان عشية العصواد
والخيل ساطعة الغبار كأنها ... قصب تحرق أو رعيل جراد [1]
قالوا: ولما أخبر ابْن خازم بمسير مصعب يريد عَبْد الْمَلِكِ قَالَ: أمعه عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر؟ قالوا: لا استعمله على فارس، قال: أفعمه المهلب؟ قيل: لا استعمله عَلَى الموصل، قَالَ: أفمعه عباد بْن الحصين؟
قيل: لا استخلفه عَلَى البصرة، قَالَ: وأنا بخراسان.
خذيني فجريني ضباع وأبشري ... بلحم امرئ لم يشهد اليوم ناصره
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: لما أخبر بأن ابْن معمر والمهلب غائبان عَن مصعب، قَالَ:
__________
[1] ديوان جرير ص 98 مع فوارق.(7/99)
فلو بهما حكت رحا الحرب بركها ... لقاما ولو كَانَ القيام عَلَى رجل
وَحَدَّثَنِي الْعُمَرِيُّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَوَانَةَ قال: قال عبد الملك يوما لجلسائه، من أشد النَّاس؟ قالوا: أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: اسلكوا غير هذه الطريق، قالوا: عمير بْن الحباب، قَالَ: قبح اللَّه عميرا لص ثوب ينازع عَلَيْهِ أعز عنده من نفسه ودينه قالوا: فشبيب، قَالَ: إن للحرورية طريقا، قالوا: فمن؟ قَالَ: مصعب كانت عنده عقيلتا قريش: سكينة بنت الْحُسَيْن، وعائشة بنت طلحة، ثُمَّ هو أكثر النَّاس مالا، جعلت لَهُ الأمان، وضمنت أن أوليه العراق، وعلم أني سأفي لَهُ لصداقة كانت بيني وبينه فأبى وحمي أنفا وقاتل حَتَّى قتل، فَقَالَ رجل: كَانَ يشرب الشراب، قَالَ: ذاك قبل أن يطلب المروءة، فأما مذ طلبها فلو ظن أن الماء ينقص من مروءته مَا ذاقه.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: أتي عَبْد الْمَلِكِ بجيفة مصعب فجعل ينظر إلى جسده ويقول: متى تغذو النساء مثلك عَلَى نفاقك، وكانت عَلَى رأسه جارية تذب عنه فبدا لها ذكره، وأول مَا يعظم من الميت ويستمد جردانه [1] فقالت يَا سيدي: مَا أغلظ أيور المنافقين فَقَالَ: اغربي قبحك اللَّه.
حَدَّثَنَا أَبُو بكر الأعين حَدَّثَنَا أَبُو نعيم الفضل بْن دكين حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ [2] عَن عَبْد اللَّهِ بْن شريك العامري قَالَ: إني لواقف إِلَى جنب مصعب فأخرجت إِلَيْهِ كتابا من قبائي فقلت: هذا كتاب عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ: اصنع ما شئت.
__________
[1] الجردان: قضيب ذوات الحافر. القاموس.
[2] بهامش الأصل: هذا أبو أبي أحمد الزبيري.(7/100)
وأخذ رجل من أَهْل الشام جارية لَهُ فصاحت: وا ذلاه، فنظر إليها فأعرض عنها.
قَالَ أَبُو نعيم: وقتل مصعب وهو ابْن ست وثلاثين سنة.
وَقَالَ الهيثم عَن ابْن عياش: استأمن زياد بْن عَمْرو العتكي لإسماعيل بْن طلحة، وَقَالَ: إنه كَانَ يدفع شر المصعب عني فآمنه، فدنا فصاح بِهِ وَكَانَ زياد ضخما فأتاه وَكَانَ إسماعيل نحيفا فضرب بيده إِلَى منطقته، وكانت مناطقهم حواشي محشوة فاقتلعه من سرجه فَقَالَ: انشدك اللَّه أبا المغيرة فإن هذا ليس بوفاء لمصعب، فَقَالَ زياد: هذا والله أحب إلي من أن أراك غدا مقتولا.
قَالَ: خرج عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان، وداود بْن قحذم القيسي، وبسطام بْن مصقلة بْن هبيرة الشيباني، وعمر بْن ضبيعة إِلَى عَبْد الْمَلِكِ برأس إِبْرَاهِيم بْن الأشتر.
وَقَالَ الهيثم: لما قتل عَبْد الْمَلِكِ مصعبا نزل النخيلة أربعين ليلة، فوجه الحجاج إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ، وولى بشرا الْكُوفَة، وولى خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد البصرة، ووجه أمية إِلَى أَبِي فديك فهزمه، فقدم البصرة فِي ثلاث، فوجه عَبْد الْمَلِكِ عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر إِلَى أَبِي فديك، ووجه مَعَهُ ابْن عضاه الأشعري وأفرشه ديوان المصرين فانتخب منه، فقتل أبا فديك، وكتب بالفتح إِلَى بشر بْن مروان، فَقَالَ العجاج:
لقد شفاك عمر بْن معمر ... من الحروريين يوم العسكر
وقع امرئ ليس كوقع الأعور [1]
__________
[1] ليست في ديوان العجاج المطبوع.(7/101)
يعني عَبْد اللَّهِ بْن عمير الليثي، وَكَانَ وجه إِلَى نجدة فلم يصنع شيئا.
وَقَالَ غير الهيثم: وجه خالد أخاه أمية، ووجه عَبْد الْمَلِكِ إِبْرَاهِيم بْن عربي إِلَى اليمامة أميرا عَلَيْهَا، فخرج عَلَيْهِ نوح بْن هبيرة، وَكَانَ مَعَهُ من أَهْل الشام ألف فقتلهم.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: لله مصعب لو كَانَ لأخيه سخاؤه، وله شجاعة أخيه، وشدة شكيمته مَا طمع فيهما، عَلَى أن مصعبا كَانَ شجاعا أبيا لقد أعطيناه أمانا لو قبله لوفينا لَهُ بِهِ، ولكنه آثر الموت صابرا عَن الحياة.
وَحَدَّثَنِي الحرمازي عَن أَبِي زَيْد عَن أَبِي عَمْرو بْن العلاء قَالَ: ذكر رجل مصعبا عند عَبْد الْمَلِكِ، فوقع فيه وصغر شأنه فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: اسكت فإن من صغر مقتولا صغر قاتله.
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عن عَوَانَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ قَالَ: لَمَّا أَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ مَقْتَلَ مُصْعَبٍ أَضْرَبَ عَن ذِكْرِهِ أَيَّامًا، ثُمَّ تَحَدَّثَ بِهِ الإِمَاءُ بِمَكَّةَ فِي الطَّرِيقِ، ثُمَّ صَعَدَ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ عَلَيْهِ مَلِيًّا لا يَتَكَلَّمُ، وَإِذَا الْكَآبَةُ بَادِيَةٌ فِي وَجْهِهِ وَجَبِينِهِ يَرْشَحُ عَرَقًا، قَالَ: فَقُلْتُ لِصَاحِبٍ لِي: أَلا تَرَاهُ، أَتُرَاهُ يَهَابُ الْمَنْطِقَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لَخَطِيبٌ جَرِيءٌ فَمَا تَظُنُّهُ تَهَيَّبَ، قَالَ: أُرَاهُ يُرِيدُ ذِكْرَ مُصْعَبٍ سَيِّدِ الْعَرَبِ، فَهُوَ يَفْظَعُ ذِكْرَهُ، ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ، وَمُلْكُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، يُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [1] ، أَلا وَإِنَّهُ لَمْ يُذَلَّ امرؤ كان معه الحقّ وإن كان
__________
[1] انظر سورة آل عمران- الآية: 26.(7/102)
فَرْدًا وَلَمْ يُعَزَّ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْبَاطِلِ ولو كان الناس معه طرّا، إنّه أَتَانَا خَبَرٌ مِنَ الْعِرَاقِ حَزَنَنَا وَأَفْرَحَنَا، وَسَاءَنَا وَسَرَّنَا، أَتَانَا قَتْلُ مُصْعَبِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَحِمَهُ اللَّهُ، فَأَمَّا الَّذِي حَزَنَنَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ لِفِرَاقِ الْحَمِيمِ لَوْعَةٌ يَجِدُهَا حَمِيمُهُ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ، ثُمَّ يَرْعَوِي ذَا الرَّأْيِ وَالدِّينِ وَالْحِجَى وَالنُّهَى إِلَى جَمِيلِ الصَّبْرِ، وَكَرِيمِ الْعَزَاءِ، وَأَمَّا الَّذِي سَرَّنَا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّا قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ قَتْلَهُ شَهَادَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ ذَلِكَ لَنَا وَلَهُ خِيرَةً، إِنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ أَهْلُ الْغَدْرِ وَالنِّفَاقِ أَسْلَمُوهُ وَبَاعُوهُ بِأَقَلِّ ثَمَنٍ وَأَخَسِّهِ فَقُتِلَ. وَإِنَّ قُتِلَ فَمَهْ، قَدْ قُتِلَ أَبُوهُ وَعَمُّهُ [1] وَهُمَا مِنَ الْخِيَارِ الصَّالِحِينَ، إِنَّا وَاللَّهِ مَا نَمُوتُ حَبَجًا، مَا نَمُوتُ إِلا قَتْلا قَعْصًا بِأَطْرَافِ الأَسِنَّةِ وَظِبَاةِ السُّيُوفِ، لَيْسَ كَمَا يَمُوتُ بنو مروان في حجالهم، فو الله مَا قُتِلَ مِنْهُمْ رَجُلٌ قَطُّ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَلَئِنِ ابْتُلِيتُ بِالْمُصِيبَةِ بِمُصْعَبٍ، لَقَدِ ابْتُلِيتُ قَبْلَهُ بِالْمُصِيبَةِ بِإِمَامِي عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، أَلا وَإِنَّمَا الدُّنْيَا عَارِيَةٌ مِنَ الْمَلِكِ الْجَبَّارِ الَّذِي لا يَزُولُ مُلْكُهُ، وَلا يَبِيدُ سُلْطَانُهُ فَإِنْ تُقْبِلْ عَلَيَّ لا آخُذُ الأَشِرَ الْبَطَرَ، وَإِنْ تُدْبِرْ عَنِّي لا أَبْكِ عَلَيْهَا بُكَاءَ الْخَرِفِ الْهَتِرِ [2] ، ثُمَّ نَزَلَ وَهُوَ يَقُولُ:
خُذِينِي فجريني ضباع وأبشري ... بلحم امرئ لم يشهد الْيَوْمَ نَاصِرُهْ
قَالُوا: وَتَمَثَّلَ عَبْدُ اللَّهِ حِينَ قُتِلَ مُصْعَبٌ:
لَقَدْ عَجِبْتُ وَمَا بِالدَّهْرِ مِنْ عجب ... أنّي قتلت وأنت الحازم البطل
__________
[1] بهامش الأصل: يعني السائب بن العوام قتل يوم اليمامة.
[2] الهتر: ذهاب العقل من كبر أو مرض أو حزن. القاموس.(7/103)
وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: إن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ لو كَانَ خليفة كما يقول لخرج فآسى بنفسه، ولم يغرز ذنبه فِي الحرم، ثُمَّ قَالَ: لله درك يَا مصعب مَا كَانَ أسخى نفسك بنفسك.
وَقَالَ أعشى همدان، وهو عبد الرحمن بن الحارث بن نظام قصيدة طويلة أولها:
ألا من لهم آخر الليل منصب ... وأمر جليل فادح لي مشيب
وفيها:
ألا بهلة [1] اللَّه الَّذِي عز جاره ... عَلَى الغادرين الناكثين بمصعب
جزى اللَّه حجارا هناك ملامة ... وفرخ عمير من مناج مؤلب
وما كَانَ عتاب لَهُ بمناصح ... ولا كَانَ عَن سعي عَلَيْهِ بمغرب
ولا قطن ولا ابنه لم يناصحا ... فتبا لسعي الحارثي المخبب
وضاربهم يَحْيَى وعيسى ذمامة ... وضارب تحت الساطع المتنصب
وأدبر عنه المارق ابْن القبعثرى ... فما كان بالحامي ولا بالمذبّب
ولا العتكي إذ أمال لواءه ... فولى بِهِ عنه إِلَى شر موكب
ولا ابْن رويم لا سقى الغيث قبره ... فباء بجدع آخر الدهر موعب
وما سرني من هيثم فعل هيثم ... وإن كَانَ فينا ذا غناء ومنصب
ولا فعل دَاوُد القليل وفاؤه ... فقد ظل محمولا عَلَى شر مركب
ولكن عَلَى فياض بكر بْن وائل ... سأثني وخير القول مَا لم يكذب
يعني بفرخ عمير مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد، ويعني بالهيثم الهيثم بْن الأسود بْن الهيثم النخعي، ويعني بفياض بكر عكرمة بن ربعيّ من بني تيم
__________
[1] البهل: اللعن. القاموس.(7/104)
اللَّه بْن ثعلبة بْن عكابة وَكَانَ جوادا، ويعني بعيسى عيسى بْن مصعب وبيحيى يَحْيَى بْن مبشر اليربوعي من بني تميم، ويعني بحوشب حوشب بْن يَزِيدَ بْن رويم، ويعني بداود دَاوُد بْن قحذم.
وَقَالَ أَبُو السفاح من ولد عميرة بْن طارق اليربوعي:
صلى على يحيى وأشياعه ... ربّ غفور وشفيع مطاع
يَا سيدا مَا أنت من سيد ... موطّا الرحل رحيب الذراع
قوال معروف وفعاله ... عقار مثنى أمهات الرباع
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كَانَ أَبُو العباس الأعمى يهجو آل الزُّبَيْر ويمدح مصعبا من بينهم، ويمدح بني أمية، وَكَانَ عثمانيا فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: أنشدني شعرك فِي مصعب فإنا لا نتهمك فأنشده:
رحم اللَّه مصعبا إنّه عا ... ش جوادا وَكَانَ فينا كريما
طلب الملك ثُمَّ مات فقيدا ... لم يعش باخلا ولا مذموما
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: صدقت والله كذا كَانَ.
وَقَالَ هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ: تزوج مصعب فاطمة بنت عَبْد اللَّهِ بْن السائب، أحد بني أسد بْن عَبْد العزى، فولدت لَهُ عيسى بْن مصعب وعكاشة فقتل عيسى يوم دجيل، ونجا عكاشة بنفسه فَقَالَ الشاعر:
ولو كَانَ صلب العود أو ذا حفيظة ... رأى مَا رأى فِي الموت عيسى بْن مصعب
والثبت أن البيت قيل فِي حوشب بْن يَزِيدَ بعد هذه الأيام وهو:
ولو كَانَ حرا حوشب ذا حفيظة ... رأى مَا رأى فِي الموت عيسى بْن مصعب
وقالوا: قَالَ عوانة: اشترط زفر فِي صلحه ألا يقاتل مَعَ عَبْد الْمَلِكِ وابن الزُّبَيْر حي، ولم يدخل الهذيل فِي الشرط، فلما سار عَبْد الْمَلِكِ إلى مصعب(7/105)
سار الهذيل بْن زفر مَعَهُ، ثُمَّ تحول إِلَى مصعب وقاتل مَعَ إِبْرَاهِيم بْن الأشتر يوم دجيل، فلما قتل استخفى بالكوفة فِي قومه، ثُمَّ إن زفر طلب لَهُ الأمان فآمنه عَبْد الْمَلِكِ وبايعه.
ويقال: إنه قدر عَلَيْهِ بغير أمان فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: مَا ظنك بي؟
قَالَ: ظني أنك قاتلي، قَالَ: فقد أكذب اللَّه ظنك بل قد عفوت عنك، وَكَانَ يحبه لشجاعته.
قالوا: وبويع عَبْد الْمَلِكِ بدير الجاثليق، ودفنت جثة مصعب هناك فقبره معروف بمسكن بقرب أوانا، ويعرف موضع عسكره ووقعته بخربة مصعب، وبصحراء مصعب، وزعموا أنها لا تنبت شيئا.
وبعث عَبْد الْمَلِكِ برأس مصعب إِلَى الْكُوفَة، أو حمله مَعَهُ، ثُمَّ بعث بِهِ إِلَى عَبْد العزيز بمصر، فلما رآه وقد حذى السيف أنفه قَالَ: رحمك اللَّه أما والله لقد كنت من أحسنهم خلقا، وأشدهم بأسا، وأسخاهم نفسا، ثُمَّ رد رأسه إِلَى الشام فنصب بدمشق، وأرادوا أن يطوفوا بِهِ فِي نواحي الشام، فأخذته عاتكة بنت يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ وهي أم يَزِيد بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فغسلته وطيبته ودفنته، وقالت: أما رضيتم بأن صنعتم مَا صنعتم حَتَّى تطوفوا وتنصبوه فِي المدن هذا بغي.
قالوا: وَكَانَ مُحَمَّد بْن مروان أخذ جارية لإبراهيم بْن الأشتر كردية فواقعها فولدت عَلَى فراشه مروان بْن مُحَمَّد الجعدي، فلذلك قيل لمروان ابْن أمة النخع.
وَحَدَّثَنِي عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده، وأبي محنف، أن مصعب بْن الزُّبَيْرِ قتل فِي سنة اثنتين وسبعين، فشخص عَبْد الْمَلِكِ إلى الكوفة(7/106)
وجعل عَلَى شرطه قطن بْن عَبْد اللَّهِ بْن الحصين الحارثي، فكان قائما بأمرها، ثُمَّ ولاها عَبْد الْمَلِكِ بشر بْن مروان، وولى خَالِد بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد البصرة، وَكَانَ قطن عثمانيا لم يمل إِلَى عَبْد الْمَلِكِ أحد ميله، ومضى عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الشام، ثُمَّ إنه جمع العراقين لبشر، فأتى البصرة فأقام بِهَا أربعة أشهر، ويقال: ستة أشهر، وهو عليل ومات، فولى عَبْد الْمَلِكِ الحجاج العراق ومات عَبْد الْمَلِكِ فِي سنة ست وثمانين، فكانت ولايته بعد قتل مصعب أربع عشرة سنة.
وَقَالَ أَبُو اليقظان: عاش عَبْد الْمَلِكِ بعد قتل المصعب أربع عشرة سنة.
الْمَدَائِنِيّ عَن مسلمة بْن محارب وعوانة: أن عَبْد الْمَلِكِ قدم الْكُوفَة حين قتل المصعب فَقَالَ للهيثم بْن الأسود: كيف رأيت صنع اللَّه؟ قَالَ: صنع يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خيرا، فخفف الوطء وأقل التثريب، فو الله مَا نيل فضل قط إلا بعفو وصبر واحتمال.
وتقدم رجل من الأنصار فأنشده:
اللَّه أعطاك التي مَا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبى الله إلا سوقها ... إليك حَتَّى قلدوك طوقها
وحملوك ثقلها وأوقها
[1] قالوا: وهيأ عَمْرو بْن حريث- وَكَانَ خليفة المصعب عَلَى الْكُوفَة حين شخص إِلَى مسكن، وَكَانَ مائلا إِلَى عَبْد الْمَلِكِ وقد كاتبه فيمن كاتبه-
__________
[1] الأوق: الثقل: القاموس.(7/107)
لعَبْد الْمَلِكِ طعاما فدخل عَبْد الْمَلِكِ قصر الْكُوفَة من النخيلة فَقَالَ لَهُ عَمْرو تأذن لخاصتك أم تجعله إذنا عاما؟ فَقَالَ: بل اجعله إذنا عاما، فأذن للناس ووضعت الموائد فأكل عَبْد الْمَلِكِ وأكلوا، ويقال: إن عَبْد الْمَلِكِ اجلس عمرا مَعَهُ عَلَى المائدة فَقَالَ لَهُ: أي الطعام أحب إليك وأطيب عندك؟ فَقَالَ:
عناق حمراء قد أجيد تمليحها وأحكم نضجها فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: مَا صنعت يَا أبا سعيد رحمك اللَّه شيئا، فأين أنت عَن عمروس [1] راضع قد أجيد سمطه، واحكم شيه إذا اختلجت منه عضوا تبعك العضو الَّذِي يليه، فلما فرغوا من طعامهم أقبل عَبْد الْمَلِكِ يدور فِي القصر ومعه عَمْرو بْن حريث، وجعل يسأله عما أحدث فيه رجل رجل، ويسأله أيضا عما أشرف عَلَيْهِ من قصور الْكُوفَة فيقول: هذا لفلان، وهذا لفلان، وأحدث هذا فلان، وجعل عَبْد الْمَلِكِ ينشد:
فكل جديد يَا أميم إِلَى بلى ... وكل امرئ يوما يصير إِلَى كَانَ
ثُمَّ استلقى عَلَى فراشه وأنشد
اعمل عَلَى مهل فإنك ميت ... واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن مَا قد كَانَ لم يك إذ مضى ... وكأن مَا هو كائن قد كَانَ
وَقَالَ بعضهم: إن عَبْد الْمَلِكِ أمر فاتخذ لَهُ الطعام ووضعت الموائد فجاء عَمْرو بْن حريث يتريبل [2] فِي مشيته فاستدناه وأكل مَعَهُ وسأله عَن أطيب الطعام فأجابه بما ذكرنا، وأن الطعام كان بالخورنق، قال: فلما أكل
__________
[1] بهامش الأصل: حمل.
[2] يقال لص ريبال وذئب ريبال وهو من الجرأة وارتصاد الشر، والريبال الأسد، والمقصود أنه جاء يمشي على حذر. انظر اللسان.(7/108)
عَبْد الْمَلِكِ وأكل النَّاس أقبل يطوف ويسأل عمرا عَن الخورنق، وعما أشرف عَلَيْهِ من الأبنية فيخبره بِذَلِكَ ثُمَّ أنشد الشعر.
وولى عَبْد الْمَلِكِ الحجاج بْن يوسف محاربة عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ، وأنفذه من الْكُوفَة.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ والهيثم بْن عدي وغيرهما: لما دخل عَبْد الْمَلِكِ الْكُوفَة قصد إِلَى المسجد فخطب خطبة ذكر فيها صنع اللَّه لَهُ، ووعد المحسن، وتوعد المسيء وَقَالَ: إن الجامعة التي وضعت فِي عنق عَمْرو بْن سعيد عندي، والله لا أضعها فِي عنق رجل فأنزعها إلا صعدا لا أفكها عنه فكا، فلا يتقين امرؤ إلا عَلَى نفسه ولا يولغني دمه.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: دعا عَبْد الْمَلِكِ بالنخيلة إِلَى البيعة، فجاءت قضاعة فرأى قلتها فَقَالَ: يَا معشر قضاعة كيف سلمتم من مضر مَعَ قلتكم؟ فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن يعلى النهدي: نحن أعز منهم وأمنع، قَالَ: بمن؟ قَالَ: بمن معك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ثُمَّ جاءت مذحج وهمدان فَقَالَ: مَا أرى لأحد مَعَ هؤلاء بالكوفة شيئا، ثُمَّ جاءت جعفي، فلما رآهم قَالَ: يَا معشر جعفي اشتملتم عَلَى ابْن أختكم وواريتموه، يعني يَحْيَى بْن سعيد بْن العاص؟ قالوا: نعم قَالَ: فأتوني بِهِ، قالوا: وهو آمن؟ قَالَ: وتشترطون أيضا؟! فَقَالُوا: إنا والله مَا نشترط جهلا بحقك، ولكنا نتسحب عليك تسحب الولد عَلَى والده، قَالَ: أما والله لنعم الحي أنتم إن كنتم لفرسانا فِي الجاهلية والإسلام، نعم هو آمن، فجاءوا بِهِ، فَقَالَ لَهُ- وَكَانَ يكنى أبا أيوب-:
بأي وجه تلقى ربك وقد خلعتني؟ قَالَ: بالوجه الَّذِي خلق فسوى، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: لله دره أي ابْن زوملة هو، يعني عربية.(7/109)
وتقدم رجل من عدوان فَقَالَ لَهُ: ممن أنت؟ قَالَ: من عدوان، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
غدير الحيّ من عدوا ... ن كانوا حَيَّةَ الأرض
بغى بعضهم بعضًا ... فلم يرعوا على بعض
ومنهم كانت السادا ... ت والموفون بالقرض
ثُمَّ قَالَ للرجل: إيه؟ فَقَالَ: لا أدري، فَقَالَ معبد بْن خالد الجدلي
ومنهم حكم يقضي ... فلا يُنقض مَا يقضي
ومنهم من يجيز الحج ... بالسنة والفرض
فَقَالَ للرجل: لمن هذا؟ قَالَ: لا أدري، قَالَ معبد: هو لذي الإصبع العدواني واسمه حرثان بْن مُحرَّث بْن الحارث بْن شَباب، فَقَالَ للرجل: كم عطاؤك؟ قال: سبعمائة، وَقَالَ لمعبد: فِي كم أنت؟ قَالَ فِي ثلاثمائة، فأمر فحطّ الرجل أربعمائة، وزيدها معبد، فصار في سبعمائة، والآخر في ثلاثمائة وَقَالَ: هذا لجهلك، ثُمَّ أوصى بِهِ عَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق بْن الأشعث، وَقَالَ لبشر: اجعله فِي صحابتك.
وولى عَبْد الْمَلِكِ قطن بْن عَبْد اللَّهِ الْكُوفَة أربعين يوما، ثُمَّ عزله وولى بشرا وَقَالَ: قد وليت عليكم بشرا وأمرته بالإحسان إِلَى محسنكم، واللين لأهل الطاعة والشدة عَلَى أَهْل المعصية والريبة منكم، فاسمعوا لَهُ وأطيعوا وأحسنوا مكانفته ومعاونته، وولى مُحَمَّد بْن عمير همدان وحوشب بْن يَزِيدَ بْن رويم الري، وبعضهم يقول: ولى يَزِيد بْن رويم الري، وذلك وهم، لأن يَزِيد قتل قبل مقتل الزُّبَيْر بْن علي الخارجي، وخروج قطري، وذلك(7/110)
قبل قتل مصعب، وَقَالَ بعضهم: ولى الري وهمدان مُحَمَّد بْن عمير، وهو أشبه، وفرق العمال ولم يف لأحد وعده بولاية أصبهان.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: لجأ عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ بْن أسد إِلَى علي بْن عَبْد اللَّهِ بْن العباس، ولجأ إِلَيْهِ أيضا يَحْيَى بْن معيوف الهمداني، ولجأ الهذيل بْن زفر بْن الحارث وعمرو بْن يَزِيدَ الحكمي إِلَى خالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ، فآمنهم عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْدٍ عَن أَبِي نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: كنت أنا والأسود بْن يَزِيدَ فِي الشرط أيام مصعب، قالوا:
ولما أراد عَبْد الْمَلِكِ الشخوص إِلَى الشام خطب النَّاس فعظم عليهم حق السلطان، وَقَالَ لهم هو ظل اللَّه فِي الأرض، وحثهم عَلَى الطاعة والجماعة، وذكر ابْن الزُّبَيْرِ وخلافه وخروجه مما دخل النَّاس فيه من بيعة يَزِيد وغيره وحكم اللَّه لَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: إنه لو كَانَ خليفة كما يزعم لأبدى صفحته وآسى أنصاره بنفسه ولم يغرز ذنبه فِي الحرم، ثُمَّ أعلمهم أنه قد ولي مصرهم أخاه بشرا وآثرهم بِهِ وأمره بالإحسان إِلَى محسنهم ومطيعهم، والشدة عَلَى أَهْل المعصية والريبة منهم وأمرهم بالسمع والطاعة لَهُ، وأن يحسنوا موازرته ومكانفته ويخفوا لما أهاب بهم إِلَيْهِ، وولى خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد البصرة.
وأنشدني مُحَمَّد بْن الأعرابي الراوية فِي بيعة عَبْد الْمَلِكِ لرجل من بلقين:
بدير الجاثليق عَلَى دجيل ... عقدنا بيعة الملك الهمام
عقدنا بيعة لا إثم فيها ... سيحوي فخرها أَهْل الشآم(7/111)
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
أمر عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ فِي أيام عَبْد الْمَلِكِ ومقتله
قَالَ الواقدي وغيره: لما بويع عَبْد الْمَلِكِ وهو بالشام بعث إِلَى المدينة عروة بْن أنيف فِي ستة آلاف من أَهْل الشام وأمره أن لا ينزل عَلَى أحد وأن لا يدخل المدينة، وأن يعسكر بالعرصة [1] ففعل، وَكَانَ عامل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ عَلَى المدينة الحارث بْن حاطب بْن الحارث بْن معمر الجمحي، ولاه إياها بعد عزله مقوم الناقة لتشاؤم النَّاس بمقوم الناقة، وغلاء السعر فِي ولايته، حَتَّى بلغ مد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ درهمين، فهرب الحارث وَكَانَ ابْن أنيف يدخل فيصلي الجمعة بالناس ثُمَّ يعود إِلَى معسكره، فأقام وأصحابه شهرا لا يبعث إليهم ابْن الزُّبَيْرِ أحدا، ولم يلقوا كيدا، فكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى ابْن أنيف ومن مَعَهُ فِي القفول إِلَى الشام فلم يتخلف منهم أحد، وَكَانَ يصلي بالناس بعده عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سعد القرظ ثُمَّ عاد الحارث بْن حاطب إِلَى المدينة، ووجه ابْن الزُّبَيْرِ سليمان بْن خالد الزرقي من الأنصار، وكان رجلا
__________
[1] عرصة عقيق المدينة، من أفضل بقاعها وأكرم نواحيها وأنزه أصقاعها. المغانم المطابة.(7/113)
صالحا، وجده ممن شهد العقبة، إِلَى الحارث، وأمره بتوليته خيبر وفدك، فخرج سليمان فنزل فِي عمله.
وبعث عَبْد الْمَلِكِ عَبْد الواحد بْن الحارث بْن الحكم بْن أبي العاص، ويقال عَبْد الْمَلِكِ بْن الحارث بْن الحكم وهو الثبت، فِي أربعة آلاف إِلَى المدينة فلما نزل أول عمل ابْن الزُّبَيْرِ مما يلي الشام، هرب عماله، وسار عَبْد الْمَلِكِ حَتَّى نزل وادي القرى ووجه منها خيلا عَلَيْهَا أَبُو القمقام إِلَى سليمان بْن خالد فوجدوه قد هرب، فطلبوه حَتَّى لحقوه فقتلوه ومن مَعَهُ، فلما بلغ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِكِ اغتم وَقَالَ: قتلوا رجلا مسلما محرما صالحا بغير ذنب، ودخل عَلَيْهِ قبيصة بْن ذؤيب بْن حلحلة بْن عَمْرو الخزاعي، وَكَانَ يتولى خاتم عَبْد الْمَلِكِ، وروح بْن زنباع الجذامي فنعاه إليهما فارتاعا لِذَلِكَ، وترحما عَلَيْهِ.
وعزل ابْن الزُّبَيْرِ ابْن حاطب الجمحي، وولى مكانه جابر بْن الأسود بْن عوف الزهري، فوجه جابر أبا بكر بْن أَبِي قيس فِي ستّمائة وأربعين فارسا إِلَى خيبر، فوجدوا أبا القمقام ومن معه وهم الخمسمائة الذين قتلوا سليمان الزرقي مقيمين بفدك يعسفون الناس ويأخذون أموالهم، فقاتلوهم وانهزم أصحاب أبي القمقام، وأخذ منهم ثلاثون رجلا أسرى فقتلهم أَبُو بكر صبرا، ويقال: بل قتل الخمس المائة أو أكثرهم، وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ قد وجه طارق بْن عَمْرو مولى عثمان بْن عفان، وهو الَّذِي يقول فيه الشاعر:
ولو تكلمن ذممن طارقا ... والدهر قد أمر عبدا آبقا
وأمره أن ينزل بين أيلة ووادي القرى، فيمنع عمال ابْن الزُّبَيْرِ من الانتشار، ويحفظ مَا بينه وبين الشام، ويسد خللا إن ظهر لَهُ، فوجه طارق إِلَى أَبِي بكر خيلا فاقتتلوا، فأصيب أَبُو بكر فِي المعركة، وأصيب من أصحابه(7/114)
أكثر من مائتي رجل، وَكَانَ ابْن الزُّبَيْرِ قد كتب إِلَى القباع أيام كَانَ عامله عَلَى البصرة فِي البعث إِلَيْهِ بألفي رجل ليعينوا عامله عَلَى المدينة، ويقيموا مَعَهُ بِهَا فوجه رجلا فِي ألفين فكان مَعَ جابر.
فلما قتل أَبُو بكر بْن أَبِي قيس، كتب ابْن الزُّبَيْرِ إِلَى القادم من البصرة يأمره أن يخرج فِي أصحابه فيلقى طارقا، وبلغ طارقا الخبر، فصار نحو المدينة فالتقيا بموضع يعرف بشبكة الدوم، فقتل البصري وقتل أصحابه قتلا ذريعا، فطلب مدبرهم وأجهز عَلَى جريحهم ولم يستبق أسيرهم ولم ينج منهم إلا الشريد، فلما بلغ ابْن الزُّبَيْرِ مقتله كتب إِلَى عامله عَلَى المدينة يأمره أن يفرض لألفي رجل من أَهْل المدينة وما والاها ليكونوا رداء لها، ففرض الفرض ولم يأته مال فبطل فسمي ذَلِكَ الفرض فرض الريح.
قَالَ الواقدي: ويقال إن هذا الفرض كَانَ فِي ولاية ابْن حاطب.
ورجع طارق إِلَى وادي القرى فكان سيارة فيما بين المدينة ووادي القرى وأيله، وَكَانَ عامل ابْن الزُّبَيْرِ مقيما بالمدينة، قَالَ: وعزل ابْن الزُّبَيْرِ جابر بْن الأسود وولى فِي صفر سنة سبعين طلحة بْن عَبْد اللَّهِ بْن عوف، الَّذِي يعرف بطلحة الندى، فلم يزل عَلَى المدينة حَتَّى أخرجه طارق بْن عَمْرو، وقد قدمها يريد الحجاج والحجاج بِمَكَّةَ، وَكَانَ طارق حسن العفو والتقية لَهُ رفق.
وَقَالَ الواقدي: لما قتل عَبْد الْمَلِكِ مصعب بْن الزُّبَيْرِ وأتى الْكُوفَة، وجه منها الحجاج بْن يوسف إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ فِي ألفين، ويقال: فِي ثلاثة آلاف، ويقال فِي خمسة آلاف من أَهْل الشام، وذلك فِي سنة اثنتين وسبعين، فلم يعرض للمدينة ولا طريقها، وسار عَلَى الربذة حتى أتى(7/115)
الطائف، فكان يبعث البعوث إِلَى عرفة، ويبعث ابْن الزُّبَيْرِ إِلَيْهِ أصحابه فيقتتلون هناك وكل ذَلِكَ تهزم خيل ابْن الزُّبَيْرِ، وترجع خيل الحجاج إِلَى الطائف.
وَقَالَ عوانة بْن الحكم: دخل عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان الْكُوفَة حين قتل مصعبا فأقام بِهَا أياما، ثُمَّ وجه جيشا إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ، وهو بِمَكَّةَ واستعمل عَلَيْهِ الحجاج بْن يوسف الثقفي، فأقبل عَلَيْهِ الهيثم بْن الأسود النخعي فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أوص هذا الغلام الثقفي بالكعبة، ومره أن لا ينفر أطيارها، ولا يهتك أستارها، ولا يرمي أحجارها، وأن يأخذ عَلَى ابْن الزُّبَيْرِ بشعابها وفجاجها وأنفاقها، حَتَّى يموت فيها جوعا أو يخرج عنها مخلوعا، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ للحجاج: افعل ذَلِكَ واجتنب الحرم وانزل الطائف.
فسار الحجاج حَتَّى نزل الطائف، ثُمَّ إنه كتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ إنك متى تدع ابْن الزُّبَيْرِ وتكف عنه ولا تأمر بزحمه ومصادمته يكثر عدده وعدده وسلاحه فأذن لي فِي قتاله ومناجزته فكتب إِلَيْهِ: افعل مَا ترى، فأمر أصحابه أن يتجهزوا للحج، ثُمَّ أقبل من الطائف، وقدم مقدمته، فنصبوا المنجنيق على أبي قبيس، فلما هبطوا إِلَى منى رأى من فِي عسكر الحجاج المنجنيق منصوبة فَقَالَ الأقيبل بْن شهاب الْكَلْبِيّ، وهو ينسب فِي القين بْن جسر، فيقال القيني:
لعمر أَبِي الحجاج لو خفت مَا أرى ... من الأمر مَا ألفيت تعذلني نفسي
فلم أر جيشا غر بالحج قبلنا ... ولم أر جيشا مثلنا غير مَا خرس(7/116)
يقول لا يتكلم ولا ينكر:
خرجنا لبيت اللَّه نرمي ستوره ... وأحجاره زفن الولائد فِي العرس
دلفنا لَهُ يوم الثلاثاء من منى ... بجيش كصدر الفيل ليس بذي رأس
فإلا ترحنا من ثقيف وملكها ... نصل لأيام السباسب والنحس
فبلغ الحجاج الشعر، فطلبه ليقتله، فهرب حَتَّى لحق بدمشق، فضرب عَلَى قبر مروان بْن الحكم خيمة مستجيرا بِهِ، فدعا بِهِ عَبْد الْمَلِكِ، فلما صار بين يديه أنشده:
إني أعوذ بقبر لست مخفره ... ولا أعوذ بقبر بعد مروانا
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: وأنا لا أعوذ بِهِ أحدا بعدك، وأمر كاتبه أن يكتب لَهُ إِلَى الحجاج بأن يمسك عنه، ويعلمه أنّه قد آمنه، فَقَالَ لَهُ الكاتب: عد إلي، فلما خرج أمره عَبْد الْمَلِكِ أن يكتب إِلَيْهِ إني قد صرفت إليك الأقيبل فاعمل فيه بما ترى فإنك محمود الرأي موفق للصواب فكتبه وختمه، فلما أخذه وانطلق بِهِ متوجها يريد مَكَّة فكر فِي أمره، فَقَالَ لعل الكتاب مثل صحيفة المتلمس ففتحه ودفعه إِلَى من قرأه لَهُ فأنشأ يقول:
لأطلبن حمولا قد علت شرفا ... كأنها فِي الضحى نخل مواقير
فقد علمت وعلم المرء ينفعه ... أن انطلاقي إِلَى الحجاج تغرير
مستحقبا صحفا تدمى طوابعها ... وفي الصحائف حيات مناكير
لئن أتيتك يَا حجاج معتذرا ... إذا فلا قبلت تلك المعاذير
وإن ظهرت لحجاج ليقتلني ... إني لأحمق من تحدى بِهِ عير
ثُمَّ لحق بقومه فِي باديتهم، فلم يزل مَعَهُمْ حَتَّى هلك.(7/117)
وحصر الحجاج ابْن الزُّبَيْرِ فِي المسجد، وألح عَلَيْهِ بالمنجنيق، وصير عَلَى رماتها رجلا من خثعم فجعل يرمي البيت وهو يقول:
خطارة مثل الفنيق المزبد ... نرمي بها عواذ هذا المسجد
وقد كَانَ رماة المنجنيق يقولون مثل هذا فِي حصار حصين بْن نمير أيام يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ.
وَقَالَ الواقدي: كتب الحجاج من الطائف إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يسأله المدد ويستأذنه فِي حصار ابْن الزُّبَيْرِ ودخول الحرم ويعلمه أنه قد روخي لَهُ فِي خناقه، وأنه فِي فسحة من أمره، فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، وكتب إِلَى طارق بْن عَمْرو يأمره باللحاق به، فقدم المدينة في ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، فخرج عامل ابْن الزُّبَيْرِ عنها، وصير عَلَيْهَا طارق بْن عَمْرو رجلا من أهل الشام يقال له ثعلبة، فكان ثعلبة ينكت المخ عَلَى منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويأكله، ويأكل التمر عَلَى المنبر ليغيظ بِذَلِكَ أَهْل المدينة، وَكَانَ مَعَ ذَلِكَ شديدا عَلَى أَهْل الريبة، فأمنت الطرق وَكَانَ أصحابه يتعبثون فيضربهم بالسياط، وأخذ قوما تناولوا من شعير لرجل قد دقّ شعيره فضرب كل امرئ منهم خمسمائة سوط، وأتي برجل اغتصب امرأة نفسها فضربه بالسياط حَتَّى مات، ثُمَّ صلبه عَلَى باب المرأة، وَقَالَ جابر بْن عَبْد اللَّهِ لما رأى صنيعه عَلَى منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: رحم اللَّه عثمان أنكروا من أمره مَا قد رأوا أعظم منه أضعافا، وإن كانت سيرة طارق صالحة.
قَالَ: وكانت العير تحمل إِلَى أَهْل الشام من عند عَبْد الْمَلِكِ السويق والكعك والدقيق، لا تفتر حَتَّى أخصبوا.(7/118)
قَالَ: ونحر ابْن الزُّبَيْرِ ونفر مَعَهُ البدن عند المروة إذ لم يقدروا عَلَى إتيان منى وعرفة، وسأل الحجاج ابْن الزُّبَيْرِ أن يطوف بالبيت فلم يأذن لَهُ فِي ذَلِكَ إذ لم يأذن لَهُ الحجاج فِي حضور عرفة.
وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ ينكر رمي البيت فِي أيام يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ، ثُمَّ أمر بِذَلِكَ، فكان النَّاس يتعجبون منه ويقولون خذل فِي دينه، وحج عَبْد اللَّهِ بْن عمر فِي تلك السنة، فأرسل إِلَى الحجاج أن اتق اللَّه واكفف هذه الحجارة عَن النَّاس، فإنك فِي شهر حرام، وبلد حرام، وقد قدمت وفود اللَّه من أقطار الأرض يضربون آباط الإبل ويمشون عَلَى أقدامهم ليؤدوا فريضة أو يزدادوا مزداد خير، فإن المنجنيق قد منعتهم من الطواف، فكف عَن الرمي حَتَّى قضوا مَا يجب عليهم بِمَكَّةَ.
وخرجوا إِلَى مني وعرفة فوقف بالناس بِهَا وشهد مَعَهُمُ المشاهد ولم يعرض ابْن الزُّبَيْرِ للحجاج فِي الزيارة وغيرها، ونادى منادي الحجاج فِي النَّاس أن انصرفوا إِلَى بلادكم، فإنا نعود بالمنجنيق عَلَى الملحد ابْن الزُّبَيْرِ، وتحلب النَّاس إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ ليقاتلوا مَعَهُ إعظاما للبيت وحرمته، وقدم عَلَيْهِ قوم من الأعراب تقعقع وفاضهم، وقالوا: قدمنا لنقاتل معك فأعنّا على قتال أعدائك، فإذا مَعَ كل امرئ منهم سيف كأنه شفرة قد خرج من غمده فَقَالَ: يَا معشر الأعراب لا قرّبكم الله، فو الله إن سلاحكم لرث، وإن حديثكم لغث، وإنكم لعيال فِي الجدب، وأعداء فِي الخصب فتفرقوا عنه.
وَقَالَ الواقدي فِي روايته: قدم عَلَى ابْن الزُّبَيْرِ حبشان من الحبشة فقاتلوا مَعَهُ، فكانوا يرمون بمزاريقهم فلا يقع لهم مزراق إلا فِي رجل، فقتلوا من الشاميين جماعة ونهكوا، فحمل عليهم أَهْل الشام فانكشفوا(7/119)
وجعلوا يعتذرون إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ ويقولون: لسنا بأصحاب مواجهة، ولكنا أصحاب اتباع بالمزاريق إذا ولوا، فلم يزل بعد ذَلِكَ يواجه الشاميين أصحاب السيوف ويتقدم، وإذا ولى القوم أمر أصحاب المزاريق فرموهم، ثُمَّ إنهم فارقوه لضيق الأمر عليهم.
قَالَ: وَكَانَ مَعَ ابْن الزُّبَيْرِ قوم قدموا مَعَ ابْن عديس من مصر، ثُمَّ صاروا خوارج ذوو شجاعة وبأس فقاتلوا مَعَهُ دافعين عَن البيت معظمين لحرمته وكانت لهم نكاية فِي أَهْل الشام، فبلغه عنهم مَا يقولون فِي عثمان رضي اللَّه تعالى عنه فَقَالَ: والله مَا أحب أن أستظهر عَلَى عدوي بمن يبغض عثمان، ولا بأن ألقي اللَّه إلا ناصرا لَهُ، وجعل يماكرهم، فَقَالُوا: والله مَا نرى أن نقاتل مَعَ رجل يكفر أسلافنا، وما قاتلنا إلا لحرمة هذا البيت، وأن نردها شورى فتفرقوا عنه فاختل عسكره وعريت مصافه ودنا منه عدوه حَتَّى قاتلوه فِي جوف المسجد، فَقَالَ عبيد بْن عمير: عجبا لك ولما صنعت لهؤلاء القوم، وهم أَهْل البلاء الحسن والأثر الجميل هلا سكت عنهم واحتملتهم إِلَى أن يصنع اللَّه وتضع الحب أوزارها، وقد قلت: لو أن الشياطين أعانتني عَلَى هؤلاء القوم لقبلتهم وقد كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستعين فِي حربه بالمنافقين واليهود.
قَالَ: وأصابت النَّاس مجاعة شديدة حَتَّى ذبح ابْن الزُّبَيْرِ فرسا لَهُ وقسم لحمه فِي أصحابه.
وَقَالَ الواقدي: حَدَّثَنِي ابْن جريج عَن عطاء قَالَ: رأيت العباد من أصحاب ابْن الزُّبَيْرِ يأكلون لحوم البراذين فِي حصر ابن الزبير.(7/120)
وَقَالَ الواقدي فِي روايته: وبيعت الدجاجة بعشرة دراهم، ومد الذرة بعشرين درهما، وإن بيوت ابْن الزُّبَيْرِ لمملوءة قمحا وشعيرا وذرة وتمرا.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ وغيره: كَانَ أَهْل الشام ينتظرون فناء مَا كَانَ عند ابْن الزُّبَيْرِ من الطعام، فكان يحوط ذَلِكَ ولا ينفق منه إلا مَا يمسك الرمق ويقول: أنفسهم قوية مَا لم يفن، يعني أنفس أصحابه.
قالوا: ولما صدر النَّاس عَن الحج أعاد الحجاج الرمي بالمنجنيق، فلقد كَانَ الحجر يقع بين يدي عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ وهو يصلي فلا يبرح.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْنُ كَثِيرٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ حَجَرُ الْمَنْجَنِيقِ يَجِيءُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَيُقَالُ لَهُ تَنَحَّ فَيَقُولُ:
سَهِّلْ عَلَيْكَ فَإِنَّ الأُمُورَ ... بِكَفِّ الإِلَهِ مَقَادِيرُهَا
فَلَيْسَ بِآتِيكَ مُنْهِيهَا ... وَلا قَاصِرٌ عَنْكَ مَأْمُورُهَا
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ ابن أبي الزناد عن هِشَام بْن عروة عَن أبيه قَالَ: رأيت حجارة المنجنيق يرمى بِهَا الكعبة حَتَّى كأنها جيوب النساء، ولقد رميت بكلب فكفأ قدرا لنا فيها جشيشة [1] فأخذناه فوجدناه كثير الشحم، فكان أشد إشباعا لنا من الجشيشة.
وَقَالَ عوانة: رميت الكعبة حَتَّى ارتجت ووهت فارتفعت سحابة ذات برق ورعد فسقطت صاعقة عَلَى المنجنيق فأحرقتها وقتلت من أصحابها اثني عشر رجلا، فذعر أَهْل الشام من ذَلِكَ، وكفوا عن القتال، فقال الحجاج
__________
[1] الجشيش: السويق وحنطة تطحن جليلا فتجعل في قدر ويلقى فيها لحم أو تمر فيطبخ.
القاموس.(7/121)
إنها تهامة، وهي بلاد كثيرة الصواعق فلا يروعنكم مَا ترون فإن من قبلكم كانوا إذا قربوا قربانا بعثت نار فأكلته، فيكون ذَلِكَ علامة تقبل ذَلِكَ القربان، فأتي بمنجنيق أخرى وعاود الرمي.
الْمَدَائِنِيّ عَن مسلمة عَن أشياخ لَهُ قَالَ: رمى الحجاج البيت، فسقطت عَلَى المنجنيق صاعقة فِي يوم مطير فَقَالَ: لا يروعنكم فإنها صواعق تهامة.
قَالَ: وجعل أهل الشام يقولون وهم يرمون:
يا بن الزُّبَيْرِ طال مَا عصيكا ... وطال مَا عنيتنا إليكا
لتجزين بالذي أتيكا ... لنضربن بسيفنا قفيكا
وجعلوا يقولون كقولهم فِي أيام حصار حصين بْن نمير:
كيف ترى صنيع أم فروه ... تقتلهم بين الصفا والمروة
وَكَانَ مَعَ الحجاج ممّن مع الحصين.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ قالا: حَدَّثَنَا الواقدي حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن يَحْيَى بْن يوسف قَالَ: رمي بالمنجنيق فرعدت السماء وبرقت فتهيب ذَلِكَ أَهْل الشام فرفع الحجاج بيده حجرا ووضعه فِي كفة المنجنيق ورمى بعضهم، فلما أصبحوا جاءت صاعقة فقتلت من أصحاب المنجنيق اثني عشر رجلا فانكسر أَهْل الشام، فَقَالَ الحجاج: يَا أَهْل الشام لا تنكروا مَا ترون فإنما هي صواعق تهامة، وعظم عندهم أمر الخلافة، وطاعة الخلفاء.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: أصابت النَّاس مجاعة فِي أيام ابْن الزُّبَيْرِ وَكَانَ عامله عَلَى وادي القرى الجراح بْن الحصين بْن الحارث الجعفي، وَكَانَ لابن الزبير(7/122)
بِهَا تمر كثير من تمر الصدقة، فأنهبه فلما قدم عَلَيْهِ جعل يضربه بدرته ويقول:
أكلت تمري وعصيت أمرى، فلما كَانَ حصار الحجاج إياه، دعا الحجاج الجراح بْن الحصين فقال له حدثني حديث الملحد وحديثك فدعا وجوه من مَعَهُ فَقَالَ: اسمعوا أهذا ممن يرجى لخير؟! قَالَ: وقدم عَبْد اللَّهِ بْن دراج، مولى مُعَاوِيَة مَكَّة، فاتهمه ابْن الزُّبَيْرِ فقتله، فَقَالَ ابْن الزُّبَيْرِ الأسدي:
أيها العائذ فِي مَكَّة كم ... من دم أجريته فِي غَيْر دم
أيد عائذة معصمة ... ويد تقتل من جاء الحرم
قالوا: ولما كَانَ قبل مقتل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ بيوم، خطب الحجاج أصحابه وحضهم وَقَالَ: هذا الفتح قد حضر، وقد ترون خفة من مَعَ الملحد ابْن الزُّبَيْرِ من الرجال وقلتهم وما فيه أصحابه من الضيق والجهد، ففرحوا واستبشروا وملأوا مَا بين الحجون إِلَى الأبواب.
وقالت أسماء بنت أَبِي بكر، أم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهم: والله مَا أنتظر إلا أن تقتل فأحتسبك، أو تظفر فأسر بظفرك فإن كنت عَلَى حق وبصيرة فِي أمرك فما أولاك بالجد ومنازلة هؤلاء القوم، وإلا فالسلم منهم أولى بك، فَقَالَ: يَا أمه إني أخاف إن قتلني أَهْل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، فقالت: يا بنيّ إن الشاة إذا ذبحت لم تألم السلخ، فامض عَلَى بصيرتك فاستعن بالله ربك فخرج ابْن الزُّبَيْرِ، فدفع أَهْل الشام دفعة منكرة، وقتل منهم ثُمَّ انكشف وأصحابه فرجع، وبلغ أمه الخبر فقالت:
خذلوه وأحبوا الحياة ولم ينظروا لدنياهم ولا آخرتهم، ثُمَّ قامت تصلي وتدعو فتقول: اللهم إن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ كَانَ معظما لحرمتك، وقد جاهد فيك(7/123)
أعداءك وبذل مهجة نفسه لرجاء ثوابك فلا تخيبه، اللهم أظهره وانصره، اللهم ارحم طول ذَلِكَ السجود والنحيب، وذلك الظمأ فِي الهواجر، وما أقول هذا القول تزكية لَهُ، ولكنه الَّذِي أعلمه منه وأنت أعلم بسريرته وعلانيته، اللهم إنه كَانَ برا بوالديه فاشكر ذَلِكَ لَهُ، فلما كَانَ يوم الثلاثاء، وهو اليوم الَّذِي قتل فيه، جاء إِلَى أمه وعليه درعه ومغفره فودعها وقبل يدها فقالت: لا تبعد إلا من النار، وَقَالَ يَا أمه خذلني النَّاس إلا ولدي وأهل بيتي، وَكَانَ الحجاج قد بسط الأمان للناس، فاستأمن إِلَيْهِ خلق واعتزلوا ابْن الزُّبَيْرِ.
قالوا: وخرج ابْن الزُّبَيْرِ من عند أمه فقاتل أشد قتال وضرب رجلا من أَهْل الشام فَقَالَ: خذها وأنا ابْن الحواري، فقتله، وضرب آخر وَكَانَ حبشيا فقطع يده وَقَالَ: اصبر أبا حممه، اصبر ابْن حام.
وَقَالَ أَبُو مخنف: جعل يقاتل يومئذ قتالا لم ير مثله وهو يقول:
صبرا عفاق إنه شر باق قبلك سن النَّاس ضرب الأعناق قد قامت الحرب بنا عَلَى ساق الْمَدَائِنِيُّ عَن يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ عَن صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: بَرَزَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فِي الْيَوْمِ الَّذِي قُتِلَ فِيهِ فَدَمِيَ وَهُوَ يَقُولُ:
لَسْنَا عَلَى الأَعْقَابِ تَدْمَى كُلُومُنَا ... وَلَكِنْ عَلَى أَقْدَامِنَا يَقْطُرُ الدَّمَا
وَهَذَا الْبَيْتُ لِخَالِدِ بْنِ الأَعْلَمِ. حَلِيفِ بَنِي مَخْزُومٍ، وَهُوَ عَقِيلِيٌّ، وَكَانَ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ لأَبِي عَزَّةَ الْجُمَحِيِّ.(7/124)
قالوا: ورأى الحجاج النَّاس يخيمون عَن ابْن الزُّبَيْرِ، فغضب وترجل، وأقبل يسوق النَّاس ويصمد بهم صمد صاحب علم ابْن الزُّبَيْرِ، وهو بين يديه فتقدم ابْن الزُّبَيْرِ صاحب علمه، وضاربهم فانكشفوا، وعرج فصلى ركعتين عند المقام فحملوا عَلَى صاحب علمه فقتلوه عند باب بني شيبة، وصار العلم فِي أيدي أصحاب الحجاج فلما فرغ من صلاته تقدم فقاتل بغير علم، والحجاج يذمر النَّاس، وقد شحنت الأبواب ولم يتخلف من أَهْل عسكر الحجاج أحد من أصحابه وأصحاب طارق، فأصابت ابْن الزُّبَيْرِ رمية فسقط، وصاحت امرأة: وا أمير الْمُؤْمِنِينَاه، وتعاووا عَلَيْهِ فقتلوه.
وَقَالَ أَبُو مخنف وغيره: أتى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زيد بْن الخطاب ابْن الزُّبَيْرِ ليلة الثلاثاء فعرض عَلَيْهِ أن يخرج إِلَى الحجاج عَلَى أن يأخذ لَهُ أمانا، وَقَالَ:
خرجت منكرا للظلم، متبعا لهدي الصالحين، وقد قتل عَلَى ذَلِكَ قوم معي مستبصرين، فإن قتلت فإني سأجتمع وقاتلي بين يدي الحكم العدل، فلما أصبح سمع الحجاج يقول: خذوا الأبواب لا يهرب، فَقَالَ: لقد ظن ابْن الخبيثة بي ظنه بأبيه ونفسه يوم فر من الحنتف بْن السجف.
وَقَالَ أَبُو مخنف فِي روايته: دخل ابْن الزُّبَيْرِ عَلَى أمه فقبل يدها وعانقها، وكانت عمياء، فلما مست الدرع قالت: هذه تثقلك فنزعها وشمر ثيابه وأدرج كمه، فقالت: والله مَا أحب أن أموت يومي هذا حَتَّى أعلم إِلَى مَا يصير أمرك إِلَيْهِ من الظفر الَّذِي أرجوه، أو الأخرى، فأحتسبك وتمض لسبيلك عَلَى بصيرتك ونيتك.(7/125)
وجعل أهل الشام ينادونه: يا بن العمياء يا بن ذات النطاقين فأنشد:
وعيرها الواشون أني أحبها ... وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
وقاتل وهو يقول:
شيخ كبير عل ... قد عاش حَتَّى مل
وَقَالَ ابْن الزُّبَيْرِ- وأخبر أن بني سهم قد مالوا برايتهم إِلَى الحجاج فدخلوا فِي أمانه، وأنه قَالَ: من دخل دار الحارث بن خالد ودار شيبة الجحبي فهو آمن- فَقَالَ:
فرت سلامان وفرت النمر ... وقد تلاقى مَعَهُمْ فلا تفر
وفي رواية الواقدي: أن أسماء كانت تقول: وابن الزُّبَيْر يقاتل الحجاج: لمن كانت الدولة اليوم، فيقال: للحجاج، فتقول: ربما أمر بالباطل، فإذا قيل هي لعَبْد اللَّهِ قالت: اللهم انصر أَهْل طاعتك، ومن غضب لك.
وفي روايته أيضا: أن إِسْحَاق بْن عبيد اللَّه الأسلمي قَالَ: شهدت حصار ابْن الزُّبَيْرِ الآخر، فكان يباشر القتال بنفسه، ولقد رأيته يقتل بيده مثل جميع من يقتله أصحابه، ورأيته اليوم الَّذِي قتل فيه وهو يوم الثلاثاء، وإنه لبين الركن والمقام يقاتلهم أشد القتال حَتَّى إنهم ليغشونه من كل ناحية حَتَّى قتل، وَكَانَ يدعى إِلَى تبييت الحجاج، فيقول: البيات لا يصلح ولا نستحله.
قالوا: وعرض عَلَى ابْن الزُّبَيْرِ أن يدخل الكعبة، فَقَالَ: والله إني لأكره أن أدخلها فأوخذ كما تؤخذ الضبع من وجارها، ولكني أقاتل بسيفي هذا حَتَّى أقتل، والله مَا باطن الكعبة عند الحجاج إلا كظاهرها، وَكَانَ(7/126)
يحمل عَلَى رجليه حَتَّى يبلغ الأبطح كأنه أسد فِي أجمة، ثُمَّ يرجع إِلَى المسجد، وقد جعل الحجاج يومئذ عَلَى كل باب أَهْل جند من أجناد الشام، وجعل ابْن الزُّبَيْرِ يقول:
إني إذا أعرف يوم أصبر ... والصبر أولى بالفتى وأعذر
وبعضهم يعرف ثُمَّ ينكر
وَقَالَ أَبُو مخنف وعوانة فِي روايتهما: قَالَ حمزة بْن الزُّبَيْرِ لعَبْد اللَّهِ: لو رقيت فوق الكعبة يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قاتلنا حولك حَتَّى نقتل جميعا قبلك، فَقَالَ ابْن الزُّبَيْرِ:
أبى لابن سلمى أنه غير خالد ... حذار المنايا أي وجه تيمما
فلست بمبتاع الحياة بسبة ... ولا مرتق من خيفة الموت سلما
ثُمَّ قَالَ لأصحابه: أيكم طلبني، فإني فِي الرعيل الأول.
وقيل لَهُ لو لحقت بموضع كذا؟ فَقَالَ: لبئس الشيخ أنا فِي الإسلام لئن أوقعت قوما فقتلوا، ثُمَّ فررت عَن مثل مصارعهم، وَقَالَ لمن بقي مَعَهُ:
غضوا أبصاركم عَن البارقة، وعضوا عَلَى النواجذ، ولينظر رجل كيف يضرب، ولا تخطئوا مضاربها فتكسروها، فإن الرجل إذا كَانَ أعضب لا سيف مَعَهُ أخذ أخذا كما تؤخذ المرأة وَكَانَ يقول:
لا عهد لي بغارة مثل السيل ... لا ينقضي غبارها حَتَّى الليل
قالوا: وقاتل ابْن مطيع حَتَّى قتل وهو يقول:
أنا الَّذِي فررت يَوْم الحرة ... والحر لا يفر إِلا مرة
فاليوم أجزي فرة بكرة
ويقال: إنه أصابته جراح فمات منها بعد أيام، وذلك أثبت.(7/127)
قالوا: وشرب ابْن الزُّبَيْرِ الصبر أياما، ثُمَّ المسك مخافة أن يصلب فيشم نتنه وَقَالَ طارق، ورأى ابْن الزُّبَيْرِ: مَا ولدت النساء أذكر من هذا، فَقَالَ الحجاج أتقرظ مخالفا لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ وطاعته؟ قَالَ: ذَلِكَ أعذر لنا فِي محاصرته سبعة أشهر ونصفا، أو قَالَ: ستة أشهر ونصفا، وهو فِي غير حصن ولا منعة، فبلغ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِكِ ذَلِكَ فصوب طارقا.
وَقَالَ الواقدي: حصر ابْن الزُّبَيْرِ فِي غرة ذي القعدة سنة اثنتين وسبعين، وقتل يوم الثلاثاء فِي جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين، وَكَانَ الحصار ستة أشهر وسبع عشرة ليلة، وحج الحجاج بالناس فِي سنة ثلاث وسبعين حجا تاما، وقتل ابْن الزُّبَيْرِ وهو ابْن ثلاث وسبعين سَنَةٍ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: رَمَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ رَجُلٌ مِنَ السَّكُونِ بِآجِرَةٍ فَأَثْبَتَهُ فَوَقَعَ، وَتَوَلَّى قَتْلَهُ رَجُلٌ مِنْ مُرَادٍ وَحَمَلَ رَأْسَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ، فَسَجَدَ الْحَجَّاجُ وَأَوْفَدَ السَّكُونِيَّ وَالْمُرَادِيَّ إِلَى عَبْدِ الملك فأعطى كلّ واحد منهما خمسمائة دِينَارٍ، وَفَرَضَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِائَتَيْ دِينَارٍ، وَنَصَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ رَأْسَ ابْنِ الزُّبَيْرِ، وَأَمَرَ فَبُعِثَ بِهِ إِلَى النَّوَاحِي.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الواقدي عَنْ خَالِدِ بْنِ إِلْيَاسَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَبَيْنَ يَدَيْهَا كَفَنٌ قَدْ أَعَدَّتْهُ وَنَشَرَتْهُ وَدَخَنَتْهُ، وَأَمَرَتْ جَوَارِيَ لَهَا أَنْ يُقِمْنَ عَلَى أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ فَإِذَا قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ صِحْنَ، فَلَمَّا قُتِلَ سَمِعْتُ صِيَاحَهُنَّ فَأَرْسَلَتْ لِتَحْمِلَهُ، فَوَجَدَتِ الْحَجَّاجَ قَدْ حَزَّ رَأْسَهُ فَبَعَثَ بِهِ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ وَصَلَبَهُ مُنَكَّسًا، وَإِذَا هِيَ تَقُولُ: قَاتَلَ اللَّهُ الْمُبِيرَ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ جُثَّتِهِ أَنْ أُوَارِيَهَا.(7/128)
وَحَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ حَدَّثَنَا عَارِمُ بْن الْفَضْلِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْن زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ مَرَّ بِجِذْعِ ابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقَالَ: أَهُوَ هُوَ، قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: لَقَدْ كَانَ عَنْ هَذَا غَنِيًّا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ شُرَحْبِيل بْن أَبِي عَوْنٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا أَحَسَّ ابْنُ الزُّبَيْرِ بِالْقَتْلِ تَمَسَّكَ، وَكَانَتْ لَهُ سَجَّادَةٌ كَرُكْبَةِ الْعَنْزِ، فَلَمَّا قَتَلَهُ الْحَجَّاجُ صَلَبَهُ عَلَى الثَّنِيَّةِ الْيُمْنَى بِالْحَجُونِ، فَأَرْسَلَتْ أَسْمَاءُ إِلَيْهِ:
قَاتَلَكَ اللَّهُ عَلَى مَاذَا صَلَبْتَهُ؟ فَقَالَ: إِنِّي اسْتَبَقْتُ أَنَا وَهُوَ إِلَى هَذِهِ الْخَشَبَةِ، فَكَانَتِ اللُّبْجَةُ [1] بِهِ، فَسَبَقَنِي إِلَيْهَا، فَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي تَكْفِينِهِ، وَدَفْنِهِ فَأَبَى وَوَكَّلَ بِجُثَّتِهِ مَنْ يَحْرُسُهَا، وَكَتَبَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِصَلْبِهِ إِيَّاهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَلُومُهُ عَلَى صَلْبِهِ، وَيَقُولُ: أَلا خَلَّيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ فَأَذِنَ لَهَا الْحَجَّاجُ فَوَارَتْهُ بِمَقْبَرَةِ الْحَجُونِ، وَصَلَّى عَلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ، وَيُقَالُ غَيْرُهُ.
وَقَالَ عوانة بْن الحكم: مر عَبْد اللَّهِ بْن عمر حين أخبر بصلب ابْن الزُّبَيْرِ فجعلت ناقته تحتك بخشبته، أو قَالَ: بجذعه، ورائحة المسك تسطع منه فَقَالَ: رحمك اللَّه أبا خبيب، رحمك اللَّه أبا خبيب، والله لقد كنت صواما قواما، ولكنك رفعت الدنيا فوق قدرها وأعظمتها، ولم تكن لذلك بأهل، وإنّ قوما أنت من شرارهم لقوم صدق أخيار.
وَقَالَ عوانة: بلغني أن الحجاج ربط إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ هرة ميتة، ويقال: كلبة ميتة، فكانت رائحة المسك تغلب عَلَى ريحها، قَالَ: وتوفيّت أمّه بعده بقليل.
__________
[1] لبج: صرع وبالعصا ضرب. القاموس.(7/129)
قَالَ: ولما قتل ابْن الزُّبَيْرِ كبر أَهْل الشام، فَقَالَ ابْن عمر: لمن كبر من الأخيار لمولده أكثر ممن كبر من الأشرار لقتله، وَكَانَ أول مولود ولد بالمدينة من أبناء المهاجرين.
وَقَالَ عوانة وغيره: لما قتل الحجاج ابْن الزُّبَيْرِ وصلبه بعث إِلَى أمه أسماء بنت أَبِي بكر ذات النطاقين لتأتيه، فأبت أن تفعل، فبعث إليها لتقبلن أو لأبعثن إليك من يجرك بقرونك فقالت لرسوله: قل لابن أَبِي رغال:
لست أفعل أو تبعث إلي من يجرني بقروني، فلبس سبته وجعل يتوذف [1] فِي مشيته حَتَّى دخل عَلَيْهَا فقال: كيف رأيت ما صنعت بطاغيتك؟ قالت: من عنيت؟ قال: عبد الله، قالت: رأيتك أفسدت عَلَيْهِ دنياه، وأفسد عليك آخرتك، وإن أعجب مما فعلت تعييرك إياي بالنطاقين، فليت شعري بأي نطاقي عيرتني، أبالذي كنت أحمل بِهِ الطعام إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو فِي الغار، أم بنطاقي الَّذِي تنتطق الحرة بمثله فِي بيتها، أَمَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: « [يكون في ثقيف مبير وكذّاب] » ، فأما الكذاب فقد رأيناه، وأما المبير فأنت هو، فانصرف وهو يقول: مبير المنافقين، مبير المنافقين، قالت: بل عمودهم.
قالوا: وكتب الحجاج إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يسأله أن يبعث إِلَيْهِ بعروة بْن الزُّبَيْرِ، وَكَانَ عروة بْن الزُّبَيْرِ قد شخص إِلَى عَبْد الْمَلِكِ حين قتل أخوه وذكر أن أموال عَبْد اللَّهِ عنده، فلما وصل الكتاب إليه قال للخرسيّ: خذ بيده، وَكَانَ عروة فِي مجلسه، وقد آمنه فَقَالَ عروة: مَا عَلَى هذا أتيتك؟! فقال: لا بدّ
__________
[1] يتوذف: يقارب الخطو، ويحرك منكبيه متبخترا، أو يسرع. القاموس.(7/130)
من الحجاج فنهض عروة وهو يقول: ليس الذليل من قتلتموه، ولكن الذليل من ملكتموه، فاستحيا عَبْد الْمَلِكِ وَقَالَ للحرسي: خل عنه، وكتب إِلَى الحجاج ينهاه عَن الكتاب فيه فكف عنه، وكانت أم عروة أيضا أسماء.
المدائني عن عبد الله بن فائد، قال: ركب عروة ناقة لم يدرك مثلها، فقدم الشام قبل قدوم رسل الحجاج بقتل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، فأتى باب عَبْد الْمَلِكِ فاستؤذن لَهُ، فلما دخل سلم عَلَيْهِ بالخلافة فرد عَلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ ورحب بِهِ وعانقه وأجلسه عَلَى السرير، ثُمَّ قَالَ عروة:
نمت بأرحام إليك قريبة ... ولا قرب للأرحام مَا لم تقرب
ثُمَّ تحدث حَتَّى جرى ذكر عَبْد اللَّهِ، فَقَالَ عروة: إن أبا بكر بان، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: وما فعل؟ قَالَ: قتل رحمه اللَّه، فخر عَبْد الْمَلِكِ ساجدا، فَقَالَ عروة: فإن الحجاج صلبه فهب جثته لأمه، قَالَ: نعم، وكتب إِلَى الحجاج يعظم مَا بلغه من صلبه، وكتب إِلَيْهِ إياك وعروة فقد آمنته فكان مسيره من الشام راجعا إِلَى مَكَّة ثلاثين يوما، فأنزل الحجاج جثة عَبْد اللَّهِ عَن خشبته، وبعث بِهَا إِلَى أمه فغسلته فلما أصابه الماء تقطع، فَقَالَ: قيل لي فِي المنام يَا أم المقطع، فكنت أظنه المنذر لأنه جدع بالسيوف، ولم أظنه ابني فغسلته عضوا عضوا فاستمسك ودفنته، وصلى عَلَيْهِ عروة.
الْمَدَائِنِيّ عَن عامر بْن حفص، قَالَ: صلب الحجاج ابْن الزُّبَيْرِ وقرن بِهِ كلبا ميتا.
قَالَ: وكتب الحجاج فِي عروة إن عروة كَانَ مَعَ أخيه، فلما قتل عدو اللَّه أخذ مالا من مال اللَّه، وهرب فكتب إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ: إنه لم يهرب ولكنه(7/131)
أتاني مبايعا، وقد آمنته وحللته مما كَانَ، وهو قادم عليك فإياك وعروة فعاوده، فكتب إِلَيْهِ أعرض عنه ولا ترادني فيه.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: قَالَ عوانة: أكثر الحجاج الكتب فِي عروة حَتَّى هم عَبْد الْمَلِكِ أن يشخصه إِلَيْهِ، فَقَالَ عروة: ليس الذليل من قتلتموه، ولكنه من ملكتموه.
قَالَ أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ: ويقال إن عروة قَالَ: ليس بملوم من صبر حَتَّى مات كريما، ولكن الملوم من خاف من الموت، وسمع مثل هذا الكلام فَقَالَ: لن تسمع أبا عَبْد اللَّهِ منا شيئا تكرهه.
قَالَ عامر بْن حفص: ووفد عروة مَعَ الحجاج فَقَالَ يوما: قَالَ أَبُو بكر، فَقَالَ الحجاج: لا أم لك أتكني منافقا عند أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ لَهُ:
ألي تقول لا أم لك، وأنا ابْن عجائز الجنة، أمي أسماء بنت أَبِي بكر الصديق، وجدتي صفية بنت عَبْد المطلب، وخالتي عائشة وعمتي خديجة بنت خويلد؟! وَقَالَ الواقدي فِي بعض روايته: ركبت أسماء دابتها ووقفت عَلَى ابنها مصلوبا، فقالت: لأثنين عليك بعلمي لقد قتلوك مسلما محرما ظمآن الهواجر، مصليا فِي ليلك ونهارك، ودعت لَهُ طويلا وما تقطر من عينها قطرة، ثُمَّ انصرفت وهي تقول: من قتل عَلَى باطل، فلقد قتلت عَلَى حق، وأنت منيع بسيفك فلا تبعد.
وفي بعض رواية الواقدي: أن الحجاج وقف عَلَى أسماء فَقَالَ: كيف رأيت نصر اللَّه الحق؟ قالت: إنه ربما أديل الباطل عَلَى الحق ليجعل اللَّه ذَلِكَ فتنة للقوم الظالمين، قَالَ: إن ابنك ألحد فِي البيت، وَقَالَ اللَّه:(7/132)
وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عذاب أليم [1] وقد أذاقه اللَّه ذَلِكَ العذاب، قالت: كذبت لقد كَانَ أول مولود فِي الإسلام بالمدينة، فسر بِهِ المسلمون، وكبروا يوم ولد، ولقد سررت أنت وأصحابك بقتله، فلمن فرح بِهِ يومئذ خير منك ومن أصحابك، ولقد كَانَ صواما قواما تعوذ بالبيت فما أعذتموه وانتهكتم حرمته، يا بن أم الحجاج إن اللَّه للظالمين بمرصاد، وبلغ عَبْد الْمَلِكِ مَا جرى بينه وبين أسماء فكتب إِلَيْهِ: مَا لك ولابنة الرجل الصالح.
وَقَالَ الواقدي: شخص عروة مستأمنا إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، وَكَانَ لَهُ صديقا ومجالسا فِي مسجد المدينة أيام تنسك عَبْد الْمَلِكِ، فآمنه عَبْد الْمَلِكِ وطلبه الحجاج منه، فأراد أن يبعث بِهِ إِلَيْهِ، ثُمَّ تذمم فتركه وأرسل مَعَهُ رسولا إِلَى الحجاج فِي ترك التعرض لَهُ، وأن لا يراجعه فيه بكتاب وأن ينزل عَبْد اللَّهِ من خشبته، ويخلي بين أهله وبين دفنه، فأنزل وصلى عَلَيْهِ عروة.
قَالَ الواقدي: وقد سمعت أنه أنزل وعروة غائب، فصلى عَلَيْهِ غيره، والأول أثبت.
قَالَ الواقدي: وأما أَبُو الزناد فكان يقول: حال الحجاج بينهم وبين الصلاة عَلَيْهِ وَقَالَ: إنما أمر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بإنزاله ودفنه.
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ قَالَ: حَدَّثْتُ عَنْ الزُّبَيْرِيِّ عَنْ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ مِنْ أَعْظَمِ مَا أَنْكَرَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ تَرْكُهُ ذِكْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في خُطْبَتِهِ، وَقَوْلُهُ حِينَ كُلِّمَ فِي ذَلِكَ: إِنَّ لَهُ أُهَيْلَ سُوءٍ إِذَا ذُكِرَ اسْتَطَالُوا وَمَدُّوا أعناقهم لذكره.
__________
[1] سوره الحج- الآية: 25.(7/133)
وَقَالَ الواقدي: قتل مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ عروة بْن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ، ومعاوية بْن المنذر بْن الزُّبَيْرِ، وحمزة بْن الزُّبَيْرِ، مات من جراح أصابته، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيُّ، وعَبْد اللَّهِ بْن مطيع العدوي، مات من جراح بعد المعركة، وصلّى الحجاج عليه، فقيل أتصلي عَلَيْهِ وأنت قتلته؟ فَقَالَ: أتدرون مَا قلت، إنما قلت: اللهم إنه كَانَ يعادي أولياءك ويوالي أعداءك فأصله النار، وعمارة بْن عمرو بن حزم الأنصاري، وبعث الحجاج برؤوس: عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ، وعَبْد اللَّهِ بْن صفوان، وعمارة بْن عَمْرو بْن حزم إِلَى المدينة، فنصبت بِهَا، ثُمَّ أنفذت إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، فلما رأى رأس ابْن صفوان قَالَ: ألم يكن أعرج حائنا [1] ؟.
وَقَالَ جابر بْن عَبْد اللَّهِ الأَنْصَارِيّ لعَبْد اللَّهِ بْن عمير بعد مقتل ابْن الزُّبَيْرِ: كيف أنت يَا أبا عاصم؟ فَقَالَ: بخير من رجل قتل إمامه وظهر عَلَيْهِ عدوه، فَقَالَ جابر: اللهم لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين [2] .
الْمَدَائِنِيّ فِي إسناده، قَالَ: نظر ثابت بْن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ إِلَى أَهْل الشام فشتمهم، فَقَالَ لَهُ سَعِيد بْن خَالِد بْن (عَمْرو بْن) عُثْمَان بْن عفان: إنما تبغضهم لأنهم قتلوا أباك، قَالَ: صدقت لقد قتلوا أَبِي، ولكن المهاجرين والأنصار قتلوا أباك.
وَقَالَ الواقدي: لما فرغ الحجاج من أمر ابْن الزُّبَيْرِ، كنس المسجد الحرام من الحجارة والدم، وأتته ولاية مَكَّة والمدينة، وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ حين
__________
[1] الحائن: الأحمق، والحائنة: النازلة المهلكة. القاموس.
[2] سورة يونس- الآية: 85.(7/134)
بعثه لقتال عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ عقد لَهُ عَلَى مَكَّة، ولكنه أحب تجديد ولايته إياها، فشخص الحجاج إِلَى المدينة واستخلف عَلَى مَكَّة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن نافع بْن عَبْد الحارث الخزاعي، فلما قدم المدينة أقام بِهَا شهرا أو شهرين فأساء إِلَى أهلها واستخف بهم، وَقَالَ: أنتم قتلة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عثمان، وختم يد جابر بْن عَبْد اللَّهِ برصاص وأيدي قوم آخرين كما يفعل بالذمة، ثُمَّ عاد فبنى الكعبة عَلَى مَا هي عَلَيْهِ اليوم وذلك لورود كتاب من عَبْد الْمَلِكِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وغير بناءها الَّذِي بناها عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ بعد حصاره الأول، فكان عَبْد الْمَلِكِ يقول بعد ذَلِكَ: لوددت أني قلدت ابْن الزُّبَيْرِ من أمر الكعبة مَا تقلد، وَكَانَ المتولي لبنائها والنفقة عَلَيْهَا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن نافع، ويقال: إنه كتب إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ من المدينة أن يأخذ فِي بنائها، فابتدأه ثُمَّ قدم الحجاج مَكَّة فاستتم بحضرته.
وَقَالَ الواقدي: استخلف نافع بن علقمة الكناني، خال مروان، ولما رجع إِلَى مَكَّة استخلف عَلَى المدينة عَبْد اللَّهِ بْن قيس بْن مخرمة بْن المطلب بْن عَبْد مناف، وَكَانَ إِلَيْهِ القضاء.
وروي: أن الحجاج لما فرغ من أمر ابْن الزُّبَيْرِ وبناء الكعبة شخص إِلَى عَبْد الْمَلِكِ واستخلف عَلَى مَكَّة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن نافع، وعلى المدينة عَبْد اللَّهِ بْن قيس، وأشخص مَعَهُ مُحَمَّد ابْن الحنفية بأمر عَبْد الْمَلِكِ، فأمره أن لا يكون لَهُ عَلَيْهِ أمر ورده مكرما، وسأله عمن استخلف بالمدينة فَقَالَ:
عَبْد اللَّهِ بْن قيس، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: استخلفته من أحمق أَهْل بيت من قريش، ثُمَّ رجع الحجاج بعد ذَلِكَ فلم يزل واليا عَلَى الحجاز حَتَّى أتته ولايته عَلَى العراق حين مات بشر بْن مروان بالبصرة.(7/135)
وَقَالَ قوم: كَانَ الحجاج قد وفد إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، فأتاه نعي أخيه وهو عنده، فولاه العراق، فشخص من الشام إِلَى الْكُوفَة، وذلك فِي سنة خمس وسبعين، وولى عَبْد الْمَلِكِ مَكَّة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن نافع أقره عَلَيْهَا، وولى المدينة يَحْيَى بْن الحكم بْن أَبِي العاص، ثُمَّ بعده أبان بْن عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ فِي إِسْنَادِهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ الْحَجَّاجُ مِنَ الْمَدِينَةِ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَخْرَجَنِي مِنْ أُمِّ نَتَنٍ، أَهْلُهَا أَخْبَثُ أَهْلٍ، أَغْشَهُ لأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْسُدُهُ لَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَاللَّهِ لَوْلا مَا كَانَ يَأْتِينِي مِنْ كُتُبِ أَمِيرِ المؤمنين فيهم لجعلتها مثل جوف الحمار أعواد يَعُوذُونَ بِهَا، وَرِمَّةً قَدْ بَلِيَتْ، يَقُولُونَ مِنْبَرَ رَسُولِ اللَّهِ وَقَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ، فَبَلَغَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَوْلَهُ فَقَالَ: إِنَّ أَمَامَهُ مَا يَسُوءُهُ، قَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ مَا قَالَ، ثُمَّ أَخَذَهُ اللَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْظَرَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: لما قتل الحجاج ابْن الزُّبَيْرِ دخل المسجد فصلى ركعتين، ثُمَّ وقف عَلَى ابْن الزُّبَيْرِ فرآه صريعا فأمر بِهِ فصلب منكسا، قَالَ:
وَكَانَ الحجاج رأى كأنه أخذ ابْن الزُّبَيْرِ فسلخه، ويقال: بل رأى أنه نكحه، فذلك كَانَ سبب تولية عَبْد الْمَلِكِ الحجاج حربه.
قَالَ: وَقَالَ ابْن الزُّبَيْرِ يوم قتل أنا ابْن اثنتين وسبعين سنة وأشهر، ثُمَّ قاتل وهو يقول:
أنا ابْن أنصار النَّبِيّ أَحْمَد ... عَبْد الإله والرسول المهتدي
أضرب منهم كل وغد قعدد
قَالَ: وقاتل عروة يوما فَقَالَ:
أبى الحواريون إلا مجدا ... من يقتل اليوم يلاق رشدا(7/136)
وَقَالَ ابْن الزُّبَيْرِ:
فما ميتة إِن متُّها غَيْر عاجز ... بعارٍ إِذَا مَا غالت النفس غولها
أرى الموت يغشاني عيانا وإنما ... رأيت منايا النَّاس يشقى ذليلها
قالوا: وأخر الحجاج الصلاة يوما فَقَالَ ابْن عمر: إن الشمس لا تنتظرك. ووطيء ابْن عمر زج رمح، فكان ذَلِكَ سبب موته فَقَالَ الحجاج: من بك؟ قَالَ: أنت قتلتني وأصحابك.
وَقَالَ النهشلي
نحن وفينا مقتل الإمام ... بابن الزُّبَيْر وبني هِشَام
حَتَّى جعلناهم مَعَ الحمام ... بين مصلى النَّاس والمقام
الْمَدَائِنِيّ عَن عامر بْن حفص وغيره، قالوا: قاتل عطاء بْن أَبِي رباح مَعَ ابْن الزُّبَيْرِ.
قالوا: وَقَالَ عروة لعَبْد اللَّهِ: قد دعاك هؤلاء القوم إِلَى الأمان وخيروك نزول أي بلد شئت من البلدان، وخيروك من الولاية مَا أحببت، وقد صالح الحسن فكن مثله، قَالَ: أفلا أكون مثل الْحُسَيْن مات كريما.
قالوا: وكتب ابْن الزُّبَيْرِ بعد مقتل مصعب إِلَى أَهْل العراق يدعوهم إِلَى طاعته وبعث بكتابه إليهم مَعَ رجل من الأنصار، فرفع ذَلِكَ إِلَى بشر بْن مروان فأخذ الأَنْصَارِيّ فقتله، وَكَانَ هذا الأَنْصَارِيّ نازلا عَلَى نعيم بْن القعقاع بْن معبد بْن زرارة بْن عدس وَكَانَ نعيم يذم بشرا وينسبه إِلَى الفسق والأفن، ويقرظ ابْن الزُّبَيْر، ويدعو إِلَى طاعته سرا، ويقال: إنه كَانَ مَعَ الأَنْصَارِي كتاب من ابْن الزُّبَيْرِ إِلَيْهِ فِي معاونته عَلَى أمره، فسعى بالأنصاري(7/137)
وبنعيم إِلَى بشر بْن مروان حوشب بْن يَزِيد بْن الْحَارِث بْن يَزِيد بْن رويم الشيباني فقتله وقتل الأَنْصَارِيّ.
وَقَالَ بعض الرواة: سعى بهما يَزِيد بْن الحارث نفسه، وذلك غلط، لأن يَزِيد قتل بالري فِي أيام مصعب، قتله الزُّبَيْر بْن علي الحارثي.
وبعث بشر بالكتاب الَّذِي كتبه ابْن الزُّبَيْرِ إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، فكتب إِلَى الحجاج، والحجاج بالطائف أن سر إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ فانزل مَعَهُ وأشغله، فقدم مَكَّة وحصره ورماه بالمنجنيق.
وَقَالَ جواس بْن القعطل الْكَلْبِيّ:
إن الخلافة يَا أمية لم تكن ... أبدا تدر لغيركم ثدياها
فخذوا خلافتكم بأمر حازم ... لا يحلبن الملحدون صراها
سيروا إِلَى البلد الحرام وشمروا ... لا تصلحوا وسواكم مولاها
لا تتركن منافقين ببلدة ... إلا أملتم بالسيوف طلاها
قالوا: ووجد الحجاج في بيت مال ابْن الزُّبَيْرِ عشرة آلاف ألف درهم فأخذها.
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن زهير بْن أَبِي أمية لابن الزُّبَيْر: إن النَّاس قد خذلوك فإن أحببت أن نأخذ لك أمانا أخذناه؟ فَقَالَ: خذ لنفسك أمانا إن أردت، فأما أنا فلا حاجة لي فِي أمانهم، وَقَالَ لَهُ الحارث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة، وهو القباع: أما والله لو قبلت أمان القوم كَانَ خيرا لك مما أنت فيه، فَقَالَ: يَا ابْن آكلة حمام مَكَّة ألي تقول هذا، ويحك إن موتا فِي عز خير من حياة فِي ذل، وطلب عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عثمان الأمان من الحجاج فأومن، وأتى حمزة بْن عَبْد اللَّهِ وخبيب بْن عَبْد اللَّهِ الحجاج، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ لابنه الزُّبَيْر:(7/138)
إن أردت أن تذهب فاذهب فلأن تحيوا أحب إلي من أن تقتلوا، فَقَالَ:
لبئس الولد أنا لك إن لم أواسك بنفسي حَتَّى يصيبني مَا أصابك، فقتل مَعَ أبيه.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: قاتل غلام لابن الزُّبَيْر، أو مولى لَهُ، وهو يقول:
العبد يحمي ربه ويحتمي
وقتل ابْن صفوان، وحمزة بْن الزُّبَيْرِ، وابناه عروة، والزبير، وأم عطاء بْن أَبِي رباح من ضربة ضربتها.
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: لما بلغ عَبْد الْمَلِكِ مقتل ابْن الزُّبَيْرِ سجد ودعا بمقص فأخذ من ناصيته، وأخذ من نواصي صغار أولاده، وأخذ من ناصية روح بْن زنباع، وَقَالَ أنت منا.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي طَالِبِ بْنِ مَيْمُونٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ، قَالَ: كَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مُضْطَجِعًا فِي الْمَسْجِدِ وَوَلَدُهُ وَأَهْلُ مَكَّةَ يَخْرُجُونَ إِلَى الْحَجَّاجِ، وَأَنَا عِنْدَ رِجْلِهِ فَقَالَ: مَا هَذِهِ الأَصْوَاتُ، أَيْنَ يَذْهَبُونَ؟ قُلْتُ: إِلَى الْحَجَّاجِ، قَالَ: فَمَا يَمْنَعُهُمْ أَنْ يَكُفُّوا أَصْوَاتَهُمْ فَقَدْ مَنَعُونَا النَّوْمَ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي:
أَتُرَاهُ جَادًّا، ثُمَّ سَمِعْتُ غَطِيطَهُ، قَالَ: وَوَقَفَ الْحَجَّاجُ عَلَى جُثَّةِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَمَعَهُ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، فَقِيلَ لِنَافِعٍ: مَا قَالَ لَكَ؟ قَالَ: أُرِيدُ صَلْبَهُ، فَنَهَيْتُهُ.
وَقَالَ أَبُو دهبل
أتاركة عَلِيًّا قريش سراتها ... وساداتها عِنْدَ المقام تذبح
وهم عوّذ بالله لجيران بيته ... بِهِ معصمون أن يباحوا ويفضحوا(7/139)
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: كتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى ابْن عمر أن بايع الحجاج فإن فيك خصالا لا تصلح لك مَعَهَا الخلافة، منها: البخل، والعي، فَقَالَ ابْن عمر: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غفرانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيكَ المَصِير [1] يعيّرني ابن مروان بالبخل والعي، فو الله لو وليت فأعطيت النَّاس حقوقهم مَا كَانَ ذَلِكَ من مالي، وما من قرأ كتاب اللَّه وترك القول فيما لا يعنيه بعيي.
وَقَالَ جرير بْن عطية فِي ابْن الزُّبَيْرِ
دعوت الملحدين أبا خبيب ... جماحا هل شفيت من الجماح
[2] وَقَالَ الراعي:
مَا إن أتيت أبا خبيب راغبا ... أبدا أريد لبيعتي تحويلا
ولا أتيت نجيدة بْن عويمر ... أبغي الهدى فيزيدني تضليلا
[3] وَقَالَ سليمان بْن سلام الحنفي:
إنا دعونا سميعا فاستجاب لنا ... وما بِهِ حين يدعو العبد من صم
أراحنا من بني العوام إذ قسطوا ... واستخلف اللَّه عدلا من بني الحكم
مجرب الوقع لا تنبو مضاربه ... يمسي العدو لَهُ لحما عَلَى وضم
بابن الزُّبَيْر جنون لا شفاء لَهُ ... إلا سريجية تشفي من اللمم
رام الأمور فأعيته مطالعها ... حَتَّى أحل بركن البيت والحرم
وغرنا بكتاب اللَّه يدرسه ... ولم يدع بطنه تمرا لمجترم
وغال أعطية المصرين يأكلها ... ولم يخف نقمة الرحمن ذي النّقم
في أبيات.
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 285.
[2] ديوان جرير ص 78.
[3] ديوان الراعي ص 233 مع فوارق.(7/140)
الْمَدَائِنِيّ، قَالَ: قَالَ ابْن عمر: أَهْل الحجاز أسرع النَّاس إِلَى فتنة، وأهل الشام أطوع النَّاس لمخلوق فِي معصية الخالق، وأهل العراق أسأل النَّاس عَن صغيرة، وأركبهم للكبيرة، يسألون عَن قتل جرادة وقد قتلوا ابْن بنت نبيهم.
وتزوج عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ أم الحسن بنت الحسن بْن علي وعائشة بنت عثمان بْن عفان، فولدت بكرا، وتزوج قهطم بنت منظور فولدت حمزة، وخبيبا، والزبير، ومنذرا، وثابتا، وعبادا، ثُمَّ خلف عَلَى أختها أم هاشم، وتزوج ريطة بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام، فولدت لَهُ عَبْد الرَّحْمَنِ، وتزوج حنتمة بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام، فولدت لَهُ موسى، وعامرا. وسودت أم الحسن وجواريها عَلَى عَبْد اللَّهِ حين قتل.(7/141)
أمر الخوارج فيما بين موت يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ وولاية عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان
الأزارقة ومقتل نافع
قالوا: كَانَ نافع بْن الأزرق من بني حنيفة، ويقال: إنه كَانَ مقيما مَعَهُمْ فنسب إليهم، وَكَانَ يكنى أبا راشد، وَكَانَ مَعَ نجدة بْن عامر ففارقه.
حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عدي قَالَ: كَانَ نافع مَعَ نجدة بْن عامر، فأحدث المحنة، وقتل فِي السر، فعابت ذَلِكَ الخوارج وقالوا: أحدثت مَا لم يكن عَلَيْهِ السلف من أَهْل النهروان وأهل القبلة، فَقَالَ:
هذه حجة قامت علي لم تقم عليهم، ففارقه الخوارج، فسموا أَهْل الوقوف، لأنهم وقفوا عند الشبهة. وَكَانَ ابْن الأزرق ممن حبس من الخوارج، فدل ابْن زياد علي رجل اتهم برأي الخوارج فحبسه، فَقَالَ لَهُ نافع: لم حبسك ابْن زياد؟ قَالَ حبسني فِي ظنة الحرورية لعنهم اللَّه ولعن من كَانَ عَلَى دينهم، فَقَالَ لَهُ نافع أنت والله ظالم مظلوم ولم يزل نافع محبوسا حَتَّى مات يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ وهرب ابْن زياد.
وَقَالَ أَبُو الحسن علي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِيّ: بايع أَهْل البصرة ابْن زياد بعد موت يزيد، وفي السجن أربعمائة من الخوارج، فكلم فيهم ابْن زياد(7/143)
فأخرجهم فأفسدوا النَّاس حَتَّى نكثوا بيعته، فتحول عبيد اللَّه بْن زياد إِلَى الأزد، وأقبل الخوارج يأتون المربد كل يوم فيقفون بِهِ فيعيبون الظلم ويدعون إلي قتال السلطان والجبابرة وليس لهم رأس منهم، حَتَّى قتل مسعود الأزدي، وحاربت الأزد وبكر تميما، ثُمَّ أمروا عليهم نافع بْن الأزرق، وأمر النَّاس يومئذ بالبصرة إلي عَبْد اللَّهِ بْن الحارث بْن نوفل بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، الَّذِي يعرف بببه، وخرجوا إِلَى الأهواز فِي آخر شوال سنة أربع وستين، فتوافوا بالأهواز وهم ثلاثمائة وخمسون فيهم نجدة بْن عامر بْن عَبْد اللَّهِ بْن سيار بْن المطرح بْن ربيعة من بني حنيفة وبنو الماحوز التميميون ثُمَّ السليطيون فأخرجوا عمال الأهواز، وأقاموا شهرا لا يهيجون أحدا، وليس بينهم اختلاف، ثُمَّ إن مولى لبني هاشم كلمهم فَقَالَ: إن الاستعراض وقتل الأطفال لنا حلال، فمال نافع بْن الأزرق إلى مقالته فقال: اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم [1] ورأى قتل الأطفال (وَقَالَ بالاستعراض) وتأول قول اللَّه تعالى: إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا [2] وضيق التقية لقول اللَّه عز وجل فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس [3] وقوله يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لومة لائم [4] وبريء من القعد واستحل قتلهم تأولا لقول اللَّه جل وعز: وجاء المعذرون من
__________
[1] سورة التوبة- الآية: 5.
[2] سورة نوح- الآية: 27.
[3] سورة النساء- الآية: 77.
[4] بالأصل: يقاتلون في سبيل الله، وهو خطأ. سورة المائدة- الآية: 54.(7/144)
الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ ورسوله [1] . وامتحن المهاجر وَقَالَ لا يحل لنا مناكحة قومنا ولا موارثتهم ولا أكل ذبائحهم، والدار دار كفر.
فخالف نجدة نافعا، فَقَالَ نجدة: البقية واسعة، والمقام فِي دار الكفر حلال، وليس لنا أن نمتحن من جاء مقرا بالإيمان، فبايع نجدة قوم فصار نجدة إلي اليمامة، وبريء وأصحابه من نافع بْن الأزرق ونزل بإباض [2] ، وَكَانَ أَبُو طالوت سالم بْن مطر بالخضارم [3] وقد بايعه قوم فخلعوه وبايعوا نجدة.
وَأَبُو طالوت فِي قول ابْن الْكَلْبِيّ مطر بْن عقبة بْن زيد بْن جهينة بْن الفند، وهو سهل بْن شيبان. قَالَ: ويقال سالم بْن مطر، وقد قَالَ غيره: هو سالم بْن مطر مولى بني زمان.
وَقَالَ الهيثم: هو حنفي.
وكتب نجدة إلي نافع كتابا يدعوه فيه إِلَى معاودة مَا كَانَ من قوله الأول وترك مَا أحدث وَقَالَ: إنه قد قعد عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوم فلم يكفروا، وأنزل اللَّه جل وعز: لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلَى قوله وَكُلًّا وَعَدَ الله الحسنى [4] فكتب نافع
__________
[1] سورة التوبة- الآية: 90.
[2] إباض: اسم قرية بالعرض، عرض اليمامة، لها نخل لم ير نخل أطول منها. معجم البلدان.
[3] الخضارم: واد بأرض اليمامة، أكثر أهله بنو عجل، وهم أخلاط من حنيفة وتميم، ويقال له جو اليمامة. معجم البلدان.
[4] سورة النساء- الآية: 95.(7/145)
إِلَى نجدة كتابا يقول فيه إن الْمُؤْمِنِينَ من أَهْل مَكَّةَ كانوا يومئذ مقهورين لا يستطيعون أن يعلنوا دينهم، وقد أظهر اللَّه الدين، وقمع النفاق، وقد قعد قوم عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فسماهم كفارا فَقَالَ جل وعز: وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا الله ورسوله وَقَالَ حين شكوا الضعف فَقَالُوا: كنا مستضعفين فِي الأرض: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فتهاجروا فيها [1] وكتب نافع إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ يدعوه إِلَى أمره ويقول لَهُ: إنك تتولى عثمان، وَكَانَ أبوك وعلي وطلحة أشد النَّاس عَلَيْهِ حَتَّى قتل، وأنت تتولى أباك وطلحة فكيف تجتمع ولاية قاتل ومقتول فِي دين اللَّه، وقد بايع أبوك وطلحة عَلِيًّا، ثُمَّ نكثا بيعته وحارباه فاتق اللَّه الَّذِي إِلَيْهِ المصير ولا تتول الظالمين.
وكتب نافع إِلَى من بالبصرة من الحرورية يدعوهم إِلَى الجهاد، ويرغبهم فيه، ويحذرهم الدنيا وغرورها، وينهاهم عَن القعود، فلما أتاهم الكتاب قَالَ أَبُو بيهس هيصم بْن جابر الضبعي بقوله: فِي أن الدار دار كفر والاستعراض مباح وإن أصيب الأطفال فلا حرج عَلَى من أصابهم.
وقالت الصفرية وهم أصحاب عبيد اللَّه بْن قبيص، ويقال إنهم أصحاب عبيد الله بْن صفار التميمي، وإنما سموا صفرية لصفرة وجوههم:
لا يحل قتل الأطفال تعمدا، ولا الاستعراض، وَقَالَ نصر بْن عَاصِم الليثي:
فارقت نجدة وَالَّذِينَ تزرقوا ... وابن الزُّبَيْر وشيعة الكذاب
والصفر الآذان حين تخيروا ... دينا بلا علم ولا بكتاب
__________
[1] سورة النساء- الآية: 97.(7/146)
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن إباض: القوم كفار بالنعم، وليسوا بمشركين، فَقَالَ لَهُ ابْن بيهس أما نافع فغلا فِي الدين فكفر بغلوه، وأما أنت فقصرت فكفرت بتقصيرك، إن آخر هذا الأمر كأوله وعدونا كعدو رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد تحل لنا التقية ومناكحة قومنا وموارثتهم لما تمسكوا بِهِ من الدعوة وكفروا بما أنزل من الأعمال.
قَالَ: فأقام نافع بالأهواز، ونجدة باليمامة، وكتب ابْن إباض والصفرية إِلَى نافع ينكرون عَلَيْهِ شهادته عَلَى القعد بالكفر، واستحلاله المال قبل المحاربة، وقتل الأطفال، وما كَانَ عنده من أمانة، وقالوا: إنما أحل لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دماء عدوه وأموالهم إذا ناصبوا القتال، فأما عَلَى وجه الأمانة وقبل الحرب فلا، قد قتل رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كعب بْن الأشرف فِي داره فلم يغنم ماله والأمانة مؤداة إِلَى البر والفاجر.
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بْن جرير عَن أبيه إن أصحاب نافع بْن الأزرق ونافعا خرجوا بعد مقتل مسعود بْن عَمْرو الأزدي إِلَى الأهواز فغلبوا عَلَيْهَا، فبعث إليهم عبيد الله بن عبيد الله بن معمر، وَكَانَ خليفة أخيه عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، أخاه عثمان بْن عبيد اللَّه فِي جيش، فلقيهم بدولاب، وهي قرية دون سوق الأهواز، فقتل عثمان، وهزم جيشه وقتل منهم ناس كثير.
وَحَدَّثَنِي أَبُو خَيْثَمَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالا: حَدَّثَنَا وهب بْن جَرِير عَنْ مُحَمَّد بْن أَبِي عيينة عَن سبرة بْن نخف أن ابْن الأزرق خرج فِي أربعين وصار إِلَى دولاب، فبعث إليهم عبيد اللَّه أخاه عثمان فِي سبعة آلاف من أَهْل البصرة فهزموا جنده وقتلوه فَقَالَ ابْن سهم التميمي.(7/147)
فلو شهدتنا يوم دولاب أبصرت ... طعان امرئ فِي الحرب غير سؤوم
غداة طفت فِي الماء بكر بْن وائل ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وَحَدَّثَنِي أَبُو خيثمة وأحمد قالا: حَدَّثَنَا وهب عَن أبيه إن أَهْل البصرة بعثوا إليهم جيشا بعده عليهم حارثة بْن بدر الغداني فلما نظر إليهم عرف أنه لا طاقة لَهُ بهم فَقَالَ لأصحابه:
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فأذهبوا
وانتدب فِي الجيش القراء، والفقهاء والأغنياء، والفقراء، وأنفقوا أموالهم، واستعملوا عليهم مسلم بْن عبيس الكريزي.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: لما بلغ أَهْل البصرة قول نافع بْن الأزرق، وما دان بِهِ من القتل والاستعراض فزعوا إِلَى الأحنف بْن قيس فَقَالُوا: ليس بيننا وبين هذا العدو إلا ثلاث ليال، وقد جرد السيف، وعاث فِي الأرض، فَقَالَ الأحنف:
حكمهم فِي مصركم كحكمهم فِي سوادكم، فاستعدوا لجهادهم وحض الأحنف النَّاس فتسارعوا إِلَيْهِ، واجتمع عشرة آلاف فكلم وجوه أَهْل البصرة عَبْد اللَّهِ بْن الحارث ببة، فأمر عليهم مسلم بْن عبيس بْن كريز بْن ربيعة بْن حبيب بْن عبد شمس فخرجوا فِي جمادى الآخرة سنة خمس وستين، فلما كانوا بجسر البصرة قَالَ لهم مسلم: أيها النَّاس إنا لسنا نخرج بالذهب ولا بالفضة، إنما نسير إِلَى قوم إن ظهرنا عليهم كانت غنائمهم أطراف الأسنة، وإنما يقدمون عَلَى الموت ويلقون المنايا، فمن أحب المضي فليمض ومن كرهه فلينصرف من قريب، فتفرقت عنه جماعة، وخرج فيمن بقي مَعَهُ، فلقي نافعا بالأهواز، ونافع في ستمائة، فاقتتلوا فقتل مسلم بْن عبيس، وقد كَانَ قَالَ لأصحابه: إن قتلت فأميركم ربيع بْن عَمْرو الغداني، وهو(7/148)
الأجذم جذمت يده بكابل مَعَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سمرة، فقاتل نافعا وأصحابه بدولاب فكانت بينهم قتلى، وقتل رجال من بني تميم قدموا عَلَى الخوارج، وقتل رجال من بني سدوس فزمرهم رجل من بني سدوس وَقَالَ: يا بني سدوس مَا بال هؤلاء أجد فِي باطلهم منكم فِي حقكم، أراهم سراعا إِلَى النار وأنتم بطاء عَن الجنة، وحمل وكسر النَّاس، فقتل نافع بْن الأزرق وقام بأمر الخوارج حين قتل ابْن الأزرق عبيد اللَّه بْن بشير بْن الماحوز السليطي، فقاتلهم ربيع بْن عَمْرو عشرين يوما، ثُمَّ قتل وأخذ الراية الحجاج بْن ناب بعد أن طلب إِلَيْهِ فِي أخذها فلم يفعل، وَقَالَ: إنها مشؤومة، فقاتل الحجاج بْن ناب حَتَّى قتل، وأخذ الراية بعده حارثة بْن بدر الغداني.
وَقَالَ هِشَام بْن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ: قول من قَالَ حارثة بْن بدر غلط، إنما هو حارثة بْن بدر بْن ربيعة بْن بدر بْن سيف بْن جارية بْن سليط بْن الحارث بْن يربوع، وهو الَّذِي قَالَ:
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا
وجاءت خيل المحكمة من ناحية اليمامة، تكون أربعين، ويقال مائتين، فمشي ابْن بدر برايته القهقرى، وعدل نحو دجيل فغرق يومئذ دغفل بْن حنظلة أحد بني شيبان، وصار ابْن بدر بناحية نهر تيري، ولم يتبعه الخوارج لما بهم من الجراح، وأقام عبيد اللَّه بْن بشير بْن الماحوز بالأهواز ثلاثة أشهر، فَقَالَ صالح بْن عَبْد اللَّهِ العبشمي:
لعمرك إني فِي الحياة لزاهد ... وَفِي العيش مَا لم ألق أم حكيم
لعمرك إني يوم ألطم وجهها ... لمستسرع فِي الغي غير حليم
رأت فتية باعوا من اللَّه عهدهم ... بجنات عدن عنده ونعيم(7/149)
فلو شهدتني يوم دولاب أبصرت ... طعان امرئ فِي الحرب غير مليم
غداة طفت فِي الماء بكر بْن وائل ... وألفافها من يحمد وسليم
ومال الحجازيون نحو بلادهم ... وعجنا صدور الخيل نحو تميم
وكان بعبد القيس أول حدها ... وولت شيوخ الأزد ثُمَّ تعوم
فلم أر يوما كَانَ أكثر مقعصا ... يمج دما من كاظم وكليم
قالوا: وَكَانَ عَلَى الأزد يوم ابْن عبيس قبيصة بْن أَبِي صفرة، جد هزار مرد، وَقَالَ بعض الشعراء:
يرى من جاء ينظر فِي دجيل ... شيوخ الأزد طافية لحاها
وَقَالَ الشاعر يرثي مسلم بْن عبيس والحجاج بْن ناب الحميري:
ألا يَا عين ويحك أسعديني ... بدمعك ليس ذا حين الجمود
عَلَى النفر الألى قتلوا جميعا ... بدولاب علي دين المجيد
هم صبروا عَلَى حر المنايا ... ولما يرهبوا جمع الجنود
ثوى ابْن عبيس الماضي حميدا ... إله النَّاس صل عَلَى الشهيد
إذا نسبت قريش كَانَ فرعا ... قديم العز فِي البيت المشيد
وما ألفوا ربيعا ثُمَّ نكسا ... ولا رعديدة عند الورود
غلام من غدانة فِي ذراها ... بحيث النَّاس فِي الحسب التليد
وحجاج بْن ناب غادرته ... رماح القوم ملقى بالصعيد
غلام حميري لم يخنه ... قراف الأمهات ولا الجدود
وَقَالَ بعض الخوارج فِي مقتل نافع بْن الأزرق:
شمت ابن بدر والحوادث جمة ... والجائرون [1] بنافع بن الأزرق
__________
[1] بهامش الأصل: ويروى «والحائرون» .(7/150)
قد مات غير مداهن فِي دينه ... ومتى يمر بذكر نار يصعق
والموت حتم لا محالة واقع ... من لا يصبحه نهارا يطرق
فلئن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أصابه ... ريب المنون فمن يصبه يعلق
وقالت عمرة أم عمران بْن الحارث الراسبي وَكَانَ عمران بْن الحارث الراسبي مَعَ ابْن الأزرق فقتل:
اللَّه أيد عمرانا وأسعده ... وَكَانَ عمران يدعو اللَّه فِي السحر
يدعوه جهرا وإسرارا ليرزقه ... شهادة بيدي ملحادة غدر
ولى صحابته التسعون إذ دهموا ... وشد عمران كالضرغامة الهصر
أعني ابْن عمرة إذ لاقى منيته ... يوم ابْن ناب يحامي عورة الدبر
فِي أبيات قالوا: وقتل مَعَ ابْن الأزرق عوف بْن أحمر الضبعي فبكاه الحارث بْن كعب الشني فَقَالَ:
أجيهان [1] قد أبلى عظامي وشفها ... وأسهر ليلي ذكر عون بْن أحمر
فتى كَانَ لا يخشى سوى اللَّه وحده ... ويطمع فِي معروفه كل معتر
يجاهد فِي اللَّه ابْن أحمر صادقا ... إذا مَا ارتضى بالجور كل مقصر
فِي أبيات:
وَكَانَ عوف ممن شهد النهر فاعتزل، ثُمَّ شهد النخيلة فنجا، فقتل مَعَ نافع، وَكَانَ الحارث بْن كعب الشني مَعَ نافع فنجا، ثُمَّ أخذه الحجاج بن
__________
[1] جيهان بالفارسية الدنيا.(7/151)
يوسف بعد فقطع يديه ورجليه وصلبه، فطرق حرسه الخوارج ليلا فاستنزلوه، ولم يعرضوا للحرس حَتَّى مضوا بِهِ فدفنوه.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بْن جرير عَن مُحَمَّد ابْن أَبِي عيينة قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَة بْن قرة قَالَ: خرجنا مَعَ ابْن عبيس ونحن نحو من عشرين ألفا، فقام ابْن عبيس خطيبا، فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاس إنا إنما خرجنا حسبة، فمن كَانَ منكم عَلَى مثل رأينا فلينهض معنا، ومن لا يك عَلَى مثل رأينا فليرجع عنا، فحصلنا فِي ألفين فسرنا حَتَّى لقيناهم بدستوا فاقتتلنا، فقتل منا خمسة أمراء، وكانت الحرورية خمسمائة، فلما أمسينا بقيت شرذمة نحو من ستين، وقتل ابْن الأزرق وابن عبيس، قَالَ: فقمنا وقاموا ينظرون إلينا وننظر إليهم مَا منا رجل يبسط يده للقتال من اللغوب، فَقَالَ النَّاس: أمسكوا عنهم حَتَّى يسود عليهم الليل، وَقَالَ بعضهم: لا نقتلهم عَلَى غرة، فاستقام رأيهم عَلَى تركهم حَتَّى يصبحوا.
قَالَ: وطرقهم مدد من اليمامة، وَكَانَ نافع يبقر النساء، ويقتل الصبيان.
وَقَالَ الْهَيْثَم بْن عَدِيٍّ عَنِ ابن عياش والمجالد ويونس بن أبي إسحق قَالُوا: قَالَ الشَّعْبِيُّ: خَافَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ نَافِعَ بن الأزرق وأصحابه حين جاؤوهم، فَقَرَّبُوا الإِبِلَ لِيَرْتَحِلُوا عَنْهَا، وَالْمُتَوَلِّي لأَمْرِ الْبَصْرَةِ إِذْ ذَاكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بَبَّةُ، وَذَلِكَ عِنْدَ هَرَبَ ابْنِ زِيَادٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ كَتَبُوا إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ بِارْتِضَائِهِمْ إِيَّاهُ، فَأَقَرَّهُ سَنَةً ثُمَّ عَزَلَهُ، وَكَانَ يكنى أبا مُحَمَّد، فعقد ببة لمسلم بْن عبيس، ووجه مَعَهُ القراء والمستبصرين فِي قتال الحرورية، فأتوا دولاب، فاقتتلوا فقتل مسلم وقتل نافع أيضا، فرأس أَهْل البصرة(7/152)
عليهم ربيعا الأجذم، أحد بني سليط ورأست الأزارقة عليهم عبيد اللَّه بْن الماحوز التميمي، فقتل الأجذم، فرأسوا عليهم الحجاج بْن ناب الحميري حليف قريش فقتلا جميعا، فرأس أَهْل البصرة عليهم حارثة بْن بدر، ورأست الحرورية الزُّبَيْر بْن الماحوز فَقَالَ حارثة بْن بدر:
كرنبوا ودولبوا يَا أَهْل البصرة وحيث شئتم فاذهبوا.
فلست لكم بصاحب، وقتل من أَهْل البصرة بشر كثيرا فَقَالَ عبيد بْن هلال:
لعمرك إني فِي الحياة لزاهد
[1] الشعر الَّذِي قد كتبناه وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: الأزارقة لا يكفرون من أَهْل الكبائر فِي دار هجرتهم إلا القاتل، فيقولون: القاتل قصد قطع الحجة لأن المسلم حجة.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: حدث أَبُو عمران الجوني واسمه عَبْد الْمَلِكِ بْن حبيب عَن أَبِي الجلد جيلان بْن فروة الجوني قَالَ: أتاني نافع بْن الأزرق قبل أن يخرج، فَقَالَ: أريد الخروج، فقلت: لا تفعل فَقَالَ: قد طال مقامنا بين هؤلاء الذين أماتوا السنة، وأحيوا البدعة، قَالَ: فقلت لَهُ: أما إذ أبيت إلا الخروج، فإني رويت أن لجهنم سبعة أبواب باب منها للحرورية فاخرج إن شئت أو دع، فخرج إِلَى الأهواز.
الْمَدَائِنِيّ عَن عامر بْن عَبْد الْمَلِكِ قَالَ: جاء نافع بْن الأزرق إِلَى مالك بْن مسمع وعليه سيف عريض قصير، فقام إِلَيْهِ ابْن مسمع فأخذ
__________
[1] نسبه من قبل لصالح بن عبد الله العبشمي.(7/153)
بحمائل سيفه فَقَالَ لَهُ: يَا مالك خل عَن سيف ابْن عمك، فَقَالَ مالك:
يَا نافع ألا تعيننا عَلَى أمرنا هذا؟ فَقَالَ: إني لا أرى القتال معكم.
وروي عَن الجارود بْن أَبِي سبرة قَالَ: خرج نافع إِلَى الأهواز فأقام وأصحابه سبعة أشهر لا يستعرضون النَّاس وسيرتهم حسنة، ثُمَّ استعرضوا وبسطوا، فقتل نافع فِي جمادى الآخرة سنة خمس وستين، فقام بأمر الخوارج عبيد اللَّه بْن بشير بْن الماحوز، وعلى أَهْل البصرة ربيع الأجذم.
الْمَدَائِنِيّ عَن هِشَام بْن قحذم قَالَ: خرج قوم من الأزارقة بموقوع [1] ، فقيل لببة: إن بموقوع خوارج، فَقَالَ: دعونا نمسي ونرى رأينا، فأرسل إليهم خيلا ليلا فالتقطوا.
قَالَ: ومات الأزرق أَبُو نافع، وَكَانَ رجلا سنيا صالحا، فقدم نافع من سفر لَهُ وقد مات أبوه فلم يصل عَلَيْهِ وَقَالَ: دونكم صاحبكم، فلما بلغ ابْن زياد ذَلِكَ أخذه فحبسه، فَقَالَ لرجل محبوس مَعَهُ: لأي شيء حبسك ابْن زياد؟ فَقَالَ أخذني بظنة الخوارج لعنهم اللَّه، فَقَالَ نافع: هذا الظالم المظلوم يحبسه ابْن زياد ويشتم الخوارج.
قَالَ: ولقي نافع امرأة عَلَى حمار لها، وذلك فِي أيام الطاعون فَقَالَ لها:
أين تريدين؟ قالت: أفر من الطاعون قَالَ: ويلك أتفرين من اللَّه عَلَى حمار؟!.
وَقَالَ سلامة الباهلي: قتلت نافعا فطالبتني بثأره امرأة كانت تدعوني إِلَى البراز ونحن نقاتل عبيد اللَّه بْن الماحوز.
__________
[1] موقوع: ماء بناحية البصرة. معجم البلدان.(7/154)
أمر عثمان بْن عبيد اللَّه ابْن معمر فِي قتال ابْن بشير ابْن الماحوز
قالوا: أقام عبيد اللَّه بْن بشير بْن الماحوز بالأهواز بعد مقتل مسلم وأصحابه ثلاثة أشهر، وهاب النَّاس بالخوارج وكره ببة القتال، فلزم منزله فكتب أَهْل البصرة إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ فِي ذَلِكَ، فكتب إِلَى أنس بْن مالك فِي تولي الصلاة، فصلى أربعين يوما، ثُمَّ ولى ابْن الزُّبَيْرِ البصرة عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، وكتب إِلَيْهِ بعهده عَلَيْهَا وَكَانَ يريد العمرة، فقلد خلافته عبيد اللَّه بْن عبيد اللَّه أخاه، وندب عمر بْن عبيد اللَّه لقتال الأزارقة وهم بالأهواز، أخاه عثمان، ويقال إن عبيد اللَّه ندبه وبلغ الخوارج ذَلِكَ فأقبلوا من الأهواز يريدون البصرة، فَقَالَ حارثة بْن بدر: مَا عذرنا عند أَهْل مصرنا إن وصل إليهم الخوارج ونحن دونهم إليهم، فأقبل من نهر تيرى، وَكَانَ بِهَا، فعبر دجيلا، وأقبل الخوارج فقاتلهم حَتَّى رجعوا إِلَى دولاب، وقدم عثمان بْن عبيد اللَّه بْن معمر فِي عشرة آلاف من أَهْل البصرة، فسار ومعه ابْن بدر إِلَى ابْن بشير بْن الماحوز. فلما التقى العسكران قَالَ عثمان لحارثة بْن بدر: أما الخوارج إلا من أتاني؟ فَقَالَ حارثة: حسبك هؤلاء، فَقَالَ: لا جرم لا أطعم(7/155)
طعاما حَتَّى أناجزهم، فَقَالَ حارثة: أذكرك اللَّه إن هؤلاء لا يقاتلون بالتعسف، فاستبق نفسك وجندك فَقَالَ: أبيتم يَا أَهْل العراق إلا جبنا وما هؤلاء الأكلب، فَقَالَ حارثة: أنا أعلم بهؤلاء منك، فَقَالَ عثمان: أنت بغير الحرب أعلم، فغضب حارثة واعتزل، وناهضهم عثمان بعد الظهر فاقتتلوا حَتَّى غابت الشمس، وقد قتل عثمان قتله ابْن برز مولى عَبْد القيس، ويقال إنهم: تحاجزوا عند المساء، ثُمَّ بيتهم الخوارج فقتل عثمان، وَقَالَ حارثة: أيها النَّاس أنا حارثة بْن بدر، فقاتل الخوارج ومنعهم من اتباع الناس، وبلغ قتل عثمان أَهْل البصرة وذلك فِي ذي القعدة سنة خمس وستين، ورجع الخوارج إِلَى الأهواز، ورجع حارثة إِلَى نهر تيرى فَقَالَ رجل يرثي عثمان بْن عبيد اللَّه، وَكَانَ مقتله بدولاب أيضا:
ونال الشهادة منهم فتى ... بدولاب كالقمر الأزهر
طويل النجاد رفيع العماد ... كهمك من فارس مسعر
أطاع الكتاب رجاء الثواب ... وقاتل عَن دبر المدبر
ليعذره اللَّه والمسلمون ... ومعذرة اللَّه للمعذر
فِي أبيات:
وَقَالَ رجل من بني تميم:
مضى ابْن عبيس صابرا غير عاجز ... وأعقبنا هذا الحجازي عثمان
فأرعد من قبل اللقاء ابْن معمر ... وأبرق والبرق اليماني خوان
فلم ينك عثمان جناح بعوضة ... فأضحى عداة الدين حربا كما كانوا
فلولا ابْن بدر للعراقين لم يقم ... بما قام فيه للعراقين إنسان
إذا قيل من حامي الحقيقة أومأت ... إِلَيْهِ معد بالأكف وقحطان(7/156)
قالوا: ثُمَّ عزل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، وولى البصرة الحارث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة المخزومي، وهو القباع، سنة ست وستين وحارثة بْن بدر بنهر تيرى، فكتب إِلَى القباع يسأله توليته قتال الخوارج، وأن يمده بجيش فهم أن يفعل ثُمَّ أنشد فيه:
ألم تر أنَّ حارثة بْن بدر ... يُصلّي وهو أكفر من حمار
وأن المال يَعْرف من وعاه ... ويعرفك البغايا والغفار
[1] فكتب إِلَيْهِ القباع: أن اشخص إِلَى مصرك فإني مول هذا الأمر غيرك، فَقَالَ: لا أبرح حَتَّى يقدم من يقوم مقامي، فرفضه أصحابه، وقفلوا حَتَّى بقي فِي عصيبة من قومه فَقَالَ: لا صحبكم اللَّه:
كرنبوا ودولبوا ... وحيث شئتم فاذهبوا
وَقَالَ حارثة:
أير الحمار فريضة لنسائكم ... والخصيتان فريضة الأعراب
ولدى الموالي جلد أير أبيهم ... والأنثيان قلادة وسخاب
[2] ولما علم الخوارج خفة من مَعَ حارثة قطعوا إِلَيْهِ دجيلا فبيتوه، وأتى دجيلا فركب سفينة ولحق بِهِ قوم من بني تميم فرسبت السفينة فغرقوا جميعا.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: قَالَ أَبُو أمية بْن يعلى: ركب حارثة سفينة فجاء شكيم التميمي وقد دفع الملاح فناداه يَا حارثة إن مثلي لا يضيع، فَقَالَ للملاح: أدن سفينتك فقربها إِلَى جرف فرمى بنفسه من الجرف وعليه سلاحه، فمالت السفينة ودخلها الماء فرسبت وغرقت، وغرق حارثة ومن معه.
__________
[1] الغفار: القفا. القاموس.
[2] السخاب: قلادة. بلا جوهر. القاموس.(7/157)
قالوا: وأقام عبيد اللَّه بْن بشير بْن الماحوز بعد غرق حارثة بنهر تيرى يجبي مَا حوله، وبعث الزُّبَيْر بْن علي، وهو ابْن عمه، إِلَى الفرات فجباه، وَكَانَ فِي جماعة، ثُمَّ إنه أتي الجسر الأكبر بالبصرة، فقطع النَّاس الجسر الأكبر فعقده، وعبر فصار بين الجسرين، وخرج النَّاس إِلَيْهِ فِي السفن وعلى الدواب، فلما انتهوا إِلَيْهِ خرج النَّاس من السفن فاسودت الأرض، فلما رأى كثرة النَّاس قَالَ: أبى قومكم إلا كفرا، ورجع حَتَّى عبر الجسر.
وفزع النَّاس إِلَى الأحنف بْن قيس فأتى الأحنف القباع، فشكا إِلَيْهِ مَا النَّاس فيه، فَقَالَ: أشيروا علي بمن أولي؟ فأشار قوم بمالك بْن مسمع الجحدري، وأشار قوم بزياد بْن عَمْرو العتكي، فَقَالَ الأحنف: لا أرى لهم غير المهلب، فكلم القباع المهلب وَقَالَ لَهُ: إن أَهْل مصرك قد ارتضوك ورجوك وأملوا أن يقمع اللَّه هذا العدو بك، فَقَالَ المهلب: لا حول ولا قوة إلا بالله إني عند نفسي لدون مَا قالوا، وقد ولاني أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ خراسان، وأمرني بأمر فأنا أكره ترك أمره، فَقَالَ الأحنف: يَا أبا سعيد لو أتيت عملك لم تنتفع بِهِ مَعَ هؤلاء لا طلالهم عَلَى مصرك ومن تخلف من أهلك، ونحن نكتب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فيعفيك مما ولاك، وتكتب إِلَيْهِ فتستعفيه وتعلمه مَا رغبنا فيه إليك، فكتبوا وكتب فأجابهم ابْن الزُّبَيْرِ إِلَى مَا سألوا، ويقال إنهم زوروا كتابا، واشترط المهلب أن ينتخب من أحب من المقاتلة فَقَالُوا لَهُ: ذاك لك، وأن يكون والي كل بلد تغلب عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ القباع: ذاك لك، ويقال: إنه سأل أيضا خراج مَا غلب عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ القباع:
ذاك للمسلمين، فإن أخذته كنت وعدوهم سواء، ولكن لك مَا فضل من أعطيات أصحابك، فكتب لَهُ بما سأل كتاب وضع عَلَى يد الصلت بْن حريث(7/158)
الثقفي، فانتخب المهلب اثني عشر ألفا من جميع الأخماس، وعسكر بالجسر، وأعان المهلب النَّاس، واتخذ ألوية ورايات، وقاتل الخوارج فهزمهم، وعقد الجسر، وأمر أن لا يتبعوا، فصاروا إِلَى نهر تيرى وانضموا إِلَى عبيد اللَّه بْن بشير بْن الماحوز فَقَالَ رجل من الأزد:
أبا سعيد جزاك اللَّه صالحة ... عَن العراق ليالي الحرب تلتهب
والناس فِي فتنة عمياء مظلمة ... والدين مهتضم والمال منتهب
لولا دفاعك إذ حل البلاء بهم ... لأصبحوا عَن جديد الأرض قد ذهبوا
وجبى المهلب خراج الفرات وغيره، وأعطى النَّاس وانضم إِلَيْهِ مُحَمَّد بْن واسع الأزدي الناسك، وَأَبُو عمران الجوني، وعَبْد اللَّهِ بْن رياح الأَنْصَارِيّ، وَكَانَ مَعَهُ مُعَاوِيَة بْن قرة المري، ووعظ المهلب النَّاس فَقَالَ: هذا عدوكم الَّذِي لا ريبة فِي أمره، ولا توقف عنه، وقد لقيهم قبلكم مسلم بْن عبيس الصابر المحتسب، وعثمان بْن عبيد اللَّه بْن معمر العجلي المفرط، وحارثة بْن بدر العاصي المخالف فالقوهم رحمكم اللَّه بصبر وعزم، وجعل المهلب عَلَى تميم الحريش بْن هلال، وسار حَتَّى نزل بنهر تيرى، وقد صار الخوارج إِلَى الأهواز، فجبى خراج السوس ومناذر، واستخلف أخاه المعارك، فبعث عبيد اللَّه بْن بشير إِلَى المعارك مولى لأبي صفرة يقال لَهُ فايد من سبي الجاهلية فِي خمسين من الخوارج، فيهم صالح بن مخراق، فقتلوا المعارك وصلبوه، فبعث المهلب ابنه المغيرة فأنزل عمه ودفنه، وسار المهلب فأتى سولاف من مناذر، وقد صار الخوارج إليها، فقاتلهم فكشف المهلب، وقتل عَبْد الرَّحْمَنِ الإسكاف مولى الأزد، ويقال من أنفسها، وَكَانَ فارسا راميا، رمى طائرين فشكهما، فقيل خرزهما فسمي إسكافا فَقَالَ الشاعر:(7/159)
بسولاف أضعت دماء قوم ... وطرت عَلَى مواشلة [1] درور
ثُمَّ إن بعض المنهزمة رجعوا، وأتى المهلب سلى وسلبرى وهما من مناذر الصغرى وقد ثاب النَّاس إِلَيْهِ، فأقام المهلب ثلاثا بسلى وسلبرى فَقَالَ عبيد اللَّه بْن بشير للخوارج: مَا تنتظرون بعدوكم، فحاربهم المهلب ثلاثة أيام، وقاتل بيديه أشد قتال، وقدم ابنه المغيرة فقاتل ومر عَلَى القبائل يحضهم عَلَى القتال ويحرضهم، وأمر أصحابه أن يكثروا الرمي بالحجارة، فجعلت تصرع الراجل، وترد الفارس، فقتل عبيد اللَّه بْن بشير بْن الماحوز، وَكَانَ أمره ستة عشر شهرا، وَكَانَ مقتله فِي شوال سنة ست وستين، وقتل من أصحاب المهلب أكثر ممن قتل من الخوارج وقام بأمر الخوارج الزُّبَيْر بْن عَلِيِّ بْن الماحوز، وكان المهلب ربما افتعل الحديث ينشط بِهِ النَّاس إِلَى القتال فَقَالَ الشاعر:
أنت الفتى كل الفتى ... لو كنت تصدق مَا تقول
وسماه بعضهم الكذاب وقال بعض الخوارج:
كم من قتيل تنقر الطير عينه ... بسولاف غرته المنى والجعائل
وَقَالَ مجاهد المنقري:
تبعنا الأعور الكذاب نمشي ... نزجي كل أربعة حمارا
فيا لهفي علي تركي عطائي ... معاينة وأخذيه ضمارا
كأن دموع عينك يابن عصم ... خرير المنجنوق [2] سقي الديارا
__________
[1] وشل يشل وشلا- سال أو قطر. القاموس.
[2] المنجنوق: هو المنجنيق، القاموس.(7/160)
وَقَالَ ابْن قيس الرقيات:
ألمت وعرض السوس بيني وبينها ... ورستاق سولاف حمته الأزارقة
إذا نحن شئنا قارعتنا كتيبة ... حرورية فيها من الموت بارقة
[1] وَقَالَ بيهس بْن صهيب:
بسلى وسلبرى مصارع فتية ... كرام وعقرى من كميت ومن ورد
وَقَالَ آخر:
قل للأزارقة الذين تمزقوا ... بسلى وسلبرى لقيت نحوسا
قتل المهلب جمعكم وأخذتم ... من رسله بعد المساء رءوسا
وَكَانَ المهلب بعث برأس عبيد اللَّه بْن بشير بن الماحوز ورؤوس قوم من أصحابه إِلَى القباع مَعَ رسول لَهُ من الأزد، فلقيه بنو بشير فَقَالُوا: هل من خبر؟ فَقَالَ: نعم قتل هذا المارق، وهذا رأسه معي، فأخذوا رأس أبيهم فدفنوه، وحفروا حفيرة فدفنوا الرؤوس الباقية فيها، وأخذوا الأزدي فقتلوه ومن مَعَهُ وهربوا، فلما كَانَ الحجاج أخذ ابنا لعبيد اللَّه بْن بشير فقتله، وقد أتاه مسلما عَلَيْهِ، ودفع ابنين لَهُ آخرين إِلَى ورثة الأزدي.
وكتب المهلب إِلَى القباع مَعَ الرقاد بْن عَبْد اللَّهِ والصعب بْن زيد عم جرير بْن حازم: «إنا لقينا الأزارقة بسلى وسلبرى فكانت فِي النَّاس جولة، ثُمَّ ثاب أَهْل الدين والعزم والحفاظ، فرزقنا اللَّه النصر عليهم، ونزل القضاء بأمر اللَّه فجازت النعمة فيه الأمل فصاروا دريئة رماحنا، وضرائب سيوفنا، وقتل اللَّه صاحبهم عبيد اللَّه بْن بشير بن الماحوز في رجال من فرسانهم
__________
[1] ديوان ابن قيس الرقيات- ط. دار صادر بيروت ص 162 مع فوارق.(7/161)
وحماتهم، وبقيت منهم بقية شذوا عَن عسكرهم ليلا، وأرجو أن يكون آخر هذه النعمة كأولها. فكتب إِلَيْهِ القباع: «هنيئا لك يَا أخا الأزد، شرف الدنيا وعزها، وثواب الآخرة وفضلها. قَالَ المهلب: مَا أجفا أَهْل الحجاز أما تراه عرف اسمي.
وَقَالَ بعض الخوارج فِي المهلب:
أتانا بأحجار ليقتلنا بِهَا ... وهل تقتل الأقران ويحك بالحجر
وَكَانَ المهلب قَالَ: ارموهم بالحجارة فإنها تنفر الخيل، وتصرف وجوهها، وتحير الرجالة وتعقرهم، وَكَانَ الخوارج أكثر سلاحا من البصريين وطعن رجل من الخوارج رجلا من أَهْل البصرة فذكر أمه فَقَالَ الخارجي:
أمك خير لك مني صاحبا ... تسقيك محضا وتعل رائبا
وَقَالَ بعضهم فِي قتل عبيد اللَّه بْن بشير بْن الماحوز:
ويوم سلى وسلبرى أحاط بهم ... منا صواعق لا تبقي ولا تذر
حَتَّى تركنا عبيد اللَّه منجدلا ... كما تجدل جذع مال منعقر
قَالَ أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ: عبيد اللَّه بْن بشير بْن يَزِيدَ- وهو الماحوز طعن رجلا فقيل: محزه محزا كما يمحز الحمار- ابْن مساحق بْن زبيد بْن ضباب بْن سليط، والزبير بْن عَلِيِّ بْن يَزِيدَ بْن مساحق ويزيد أخو الحارث بْن مساحق.(7/162)
أمر الزُّبَيْر بْن علي من آل الماحوز
قالوا: لما قتل عبيد اللَّه بْن بشير، استخلف من الخوارج الزُّبَيْر بْن علي، فرأى جزع أصحابه عَلَى ابْن بشير ومن قتل منهم فَقَالَ: لا تجزعوا عَلَى من صار إِلَى الجنة واذكروا أيامكم: قتلتم ابْن عبيس. وربيع الأجذم والحجاج بْن ناب. وحارثة بْن بدر. والمعارك والحرب سجال والعاقبة للمتقين [1] وخرج فنزل فِي تخوم أصبهان فأقام شهرا ثُمَّ أتى السوس فقاتله المهلب، ثُمَّ أتى تستر فقاتله المهلب وصار إِلَى أرجان من فارس، وقدم مصعب بْن الزُّبَيْرِ عَلَى البصرة والكوفة من قبل عَبْد اللَّهِ أخيه فِي أول سنة سبع وستين، والزبير بْن علي بأرجان، فكتب مصعب إِلَى المهلب فِي القدوم عَلَيْهِ، ووجه بكتابه مَعَ مُحَمَّد بْن الأشعث فقدم واستخلف ابنه المغيرة بْن المهلب، وَقَالَ لأصحابه: إنكم لا تفقدوني مَا كَانَ المغيرة عليكم، فإنه أَبُو صغيركم فِي الشفقة، وابن كبيركم فِي البر والطاعة، فلتحسن طاعتكم لَهُ، فما أردت صوابا
__________
[1] سورة القصص- الآية: 83.(7/163)
قط إلا سبقني إِلَيْهِ. وقدم المهلب البصرة وكتب مصعب إِلَى المغيرة: «إنك إلا تكن كأبيك، فإنك بحمد اللَّه كاف لما وليت، وعليك بالجد فِي أمرك والحذر لعدوك» ، وسار مصعب ومعه المهلب وعمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر إِلَى المذار، فقتل أحمر بْن شميط، ثُمَّ أتى الْكُوفَة وهما مَعَهُ، فقتل المختار بْن أَبِي عبيد، ثُمَّ وجه عمر بْن عبيد اللَّه إِلَى البصرة فشهد الحيرة. وولى المهلب بْن أَبِي صفرة الموصل والجزيرة وأرمينية. وأتى البصرة فتلافى أمر أصحاب الجفرة، وولى البصرة عباد بْن زياد. ويقال ولاها سنان بْن سلمة بْن المحبق الهذلي، وجعل عبادا عَلَى شرطه، وولى عمر بْن عبيد اللَّه فارس، فألفى الزُّبَيْر بْن علي بإصطخر فعسكر عَلَى أربعة فراسخ من معسكره، فبيته الزُّبَيْر والخوارج فقاتلهم فرجعوا ولم يظفروا، وأصاب منهم طرفا، ثُمَّ إنه قدم إليهم عبيد اللَّه ابنه، وأمه من ولد قيس بْن عدي السهمي من قريش فِي خيل فقتلوه، وأبوه لا يعلم، لأنه كَانَ مشغولا بإصلاح قنطرة هناك تهدمت، ثُمَّ سال عَن ابنه فقيل قتل والله كريما صابرا، فاحتسبه فاسترجع، وترحم عَلَيْهِ وَقَالَ: عند اللَّه أحتسبه.
وَقَالَ قطري بْن الفجاءة للزبير بْن علي: لا تقاتل عمر اليوم فإنه موتور، فأبى وقاتله فقتل من فرسان الخوارج تسعون وطعن عمر بْن عبيد اللَّه صالح بْن محزاق فشتر عينه، وضرب قطريا عَلَى جبينه ففلقه، وانهزم الخوارج، واستشهد يومئذ رجل من ولد معبد بْن العباس بْن عَبْد المطلب، يقال لَهُ عباس بْن عَبْد اللَّهِ، وستة من ولد الحارث بْن عَبْد المطلب، وكتب عمر إِلَى مصعب «إني لقيت هذه العصابة المارقة، فاستشهد عبيد الله بن(7/164)
عمر، ورجال صالحون، ثُمَّ إن اللَّه منحنا أكتافهم فقتلنا من كَانَ يومه حان وكل إِلَى حين وخسران» .
وصار الزُّبَيْر بْن علي إِلَى سابور، فلقيه عمر بكازرون، وَكَانَ مَعَهُ مجاعة بْن سعر، فقتل مجاعة بعمود كَانَ بيده من الخوارج أربعة عشر رجلا، ودافع عَن عمر يومئذ، فوهب لَهُ تسعمائة ألف درهم، وَكَانَ مجاعة اجتباها من خراج إصطخر، ويقال أكثر من ذَلِكَ فَقَالَ يَزِيد بْن الحكم:
ودعاك دعوة مرهق فأجبته ... عمر وقد نسي الحياة وضاعا
فرجعت حين دعاك غير معتم ... تحمي وكنت لمثلها رجاعا
فرددت عادية الكتيبة عَن فتى ... قد كاد يترك لحمه أقطاعا
وولى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ ابنه حمزة البصرة، وكتب إِلَى المصعب أن يلحق بِهِ من مَعَهُ من رجال أَهْل البصرة، فألحق بِهِ المهلب، وولى مكانه إِبْرَاهِيم بْن الأشتر، فوجه حمزة المهلب لقتال الخوارج لمسألة أَهْل البصرة إياه ذَلِكَ.
وَقَالَ قوم: عزل حمزة المهلب عَن الموصل ووجهه لقتال الخوارج وهذا قول من زعم أن حمزة ولي البصرة والكوفة، وذلك غلط.
وأتى الخوارج رامهرمز فِي أيام حمزة، فقاتلهم المهلب، فأتوا أرجان ومضوا إِلَى أصبهان، وغضب مصعب، فمضى إِلَى أخيه وعامله عَلَى الْكُوفَة القباع، وعلى الموصل ابْن الأشتر، فرده أخوه عَلَى البصرة والكوفة وعزل حمزة ابنه فقدم مصعب البصرة ولم يعزل حمزة عمر بْن عبيد اللَّه عَن فارس، وأقبل الزُّبَيْر بْن علي من أصبهان إِلَى الأهواز، فَقَالَ مصعب: «العجب لعمر بْن عبيد اللَّه، قطع هذا العدو أرض فارس فلم يقاتلهم، ولو قاتلهم لكان أعذر(7/165)
له» وكتب إليه: «يابن معمر مَا أنصفتني، تجبي الفيء وتحيد عَن العدو، فاكفني أمرهم» ، فأقبل عمر من فارس، وخرج مصعب من البصرة ومعه المهلب يريدان جميعا الزُّبَيْر وأصحابه، فبلغهم ذَلِكَ، وانحازوا إِلَى السوس ثُمَّ أتوا الكلتانية وخرجوا إِلَى كسكر، وأتوا المدائن وعليها كردم بْن مزيد الفزاري، فتحصن فِي القصر فأتوا ساباط فقتلوا أحمر طيّئ، وَكَانَ من فرسان عبيد اللَّه بْن الحر فقال الشاعر:
تركتم فتي الفتيان أحمر طيّئ ... بساباط لم يعطف عَلَيْهِ خليل
فلو كنت من خلانه لحميته ... ولكن خلان الصفاء قليل
وقتل يومئذ كاتب الزُّبَيْر بْن علي ومولاه، وبسط الخوارج فِي القتل، فقتلوا النساء، والصبيان، والأطفال، وقتلوا أم ولد ربيعة بْن ناجذ الأزدي وغيرها، وقالت لهم أم ولد ربيعة: أتقتلون أومن ينشّؤوا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [1] فَقَالَ لهم رجل منهم: استحيوها، فَقَالُوا: لقد أعجبتك وفتنتك، فأمسك. وسرحوا صالح بْن مخراق إِلَى بكر بْن مخنف، وَكَانَ عامل مصعب على إستان العال وهو بادوريا والأنبار، وقطربل ومسكن، فلقوه بكرخ بغداد فقتلوه، فَقَالَ سراقة يرثيه:
ألا يَا لقوم للهموم الطوارق ... وللحدث الجاري بإحدى البوائق
لحى اللَّه قوما عردوا عنك بكرة ... ولم يصبروا للامعات البوارق
تولوا فأجلوا بالضحى عن عميدهم ... وسيدهم بالمأزق المتضايق
__________
[1] سورة الزخرف- الآية: 18.(7/166)
وَكَانَ مَعَ الأزارقة رجل من بني العم يقال لَهُ راشد، شديد البأس، فقاتلهم راشد، وانحاز الخوارج فحماهم فَقَالَ الشاعر:
وعبأ راشد العمي خيلا ... إِلَى خيل فقاتلهم جهارا
وحامى راشد العمي عنا ... وقد جازت فوارسنا المذارا
فِي أبيات.
وأقبل الزُّبَيْر وأصحابه يريدون الْكُوفَة، وعليها من قبل مصعب القباع، فخرج إِلَى النخيلة متثاقلا، فكلمه شبث بْن ربعي، وإبراهيم بْن الأشتر وغيرهما- ويقال إن ابْن الأشتر كَانَ بالموصل- فِي أمر العدو، وقالوا:
قد أظلنا، فخرج تجرجرا، فصار إِلَى دير عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ يومئذ عَلَى الموصل وَقَالَ الشاعر:
إن القباع سار سيرا نكرا ... يسير يوما ويقيم شهرا
وجعل يتردد بين دباها ودبيرا.
فَقَالَ الشاعر:
إن القباع سار سيرا ملسا ... يسير يوما ويقيم خمسا
ثُمَّ سار إِلَى الصراة وَقَالَ: إذا لقيتم عدوكم فأحسنوا القتال، فإن أول الحرب المشاتمة، ثُمَّ الرمي بالنبل، ثُمَّ إشراع الرماح والطعان، ثُمَّ السلة [1] ، فَقَالُوا: لقد أحسن الأمير الصفة.
وأتى الخوارج الصراة فقتلوا سماك بْن يَزِيدَ السبيعي وابنيه، والقباع معسكر فِي ستة آلاف، فقطع الجسر، ورجع الخوارج، وانصرف القباع إلى
__________
[1] يقال: أتيناهم عند السلة: أي استلال السيوف. القاموس.(7/167)
الْكُوفَة، وأتى الخوارج المدائن، ومضوا إِلَى جوخى فأغاروا ببراز الروز [1] فقتلوا وأصابوا أموالا، وأتوا البندنيجين، ثُمَّ حلوان، ومضوا إِلَى أصبهان، فنزل الزُّبَيْر بْن علي بعقوة عتاب بْن ورقاء الرياحي، وَكَانَ مصعب ولاه إياها، ويقال كَانَ الَّذِي ولاه إياها أَبُو يَزِيد الْخَطْمِيّ وابن مطيع، فأقره مصعب، ثُمَّ عزله ليحضر مَعَهُ حرب عَبْد الْمَلِكِ، فحقد عَلَيْهِ ذَلِكَ، وكاتب عَبْد الْمَلِكِ، فبعث إِلَيْهِ عتاب مَا أغراك بي وأنا ابْن عمك؟ فَقَالَ: إن البعيد والقريب من المشركين عندنا سواء.
فحصره الخوارج أشهرا، ثُمَّ إن الخوارج أتوا الري وعليها يزيد بْن الحارث بْن يزيد بْن رويم الشيباني، وَكَانَ المصعب ولاه إياها، وأقره عَلَيْهَا، فحصره شهرا، ثُمَّ قاتله، فقتله الزُّبَيْر بْن علي، ونادى يَزِيد ابنه حوشب بْن يَزِيدَ، فهرب ولم يلو عَلَى أحد، وقتل الخوارج لطيفة أم حوشب، وَكَانَ علي بْن أَبِي طالب صلوات اللَّه عَلَيْهِ دخل عَلَى يَزِيد يعوده، فَقَالَ لَهُ علي: إن عندي جارية لطيفة الخدمة فبعث بِهَا إِلَيْهِ فسماها لطيفة، وَقَالَ بعض الشعراء بعد قتل مصعب:
مواطننا فِي كل يوم كريهة ... أسر وأسنى من مواطن حوشب
دعاه يَزِيد والأسنة شرع ... فلم يستجب إن الفتى غير محرب
ولو كَانَ حرا حوشب ذا حفيظة ... رأى مَا رأى فِي الموت عيسى بْن مصعب
وَقَالَ بشر بْن مروان ذات يوم، ومعه حوشب بْن يَزِيدَ، وعكرمة بْن ربعي: من يدلني عَلَى فرس جواد؟ فَقَالَ عكرمة: فرس حوشب فإنه نجا
__________
[1] من طساسيج السواد ببغداد من الجانب الشرقي. معجم البلدان.(7/168)
عَلَيْهِ يوم الري فضحك بشر، وَقَالَ: بشر يوما: من يدلني عَلَى بغلة قوية ظهيرة؟ فقال حوشب: بغلة واصل بْن مساور بْن رياب حملت مساورا وواصلا، وَكَانَ عكرمة يتهم بامرأة واصل، وإنما عناها بقوله: «بغلة واصل» فضحك بشر، وَقَالَ: لقد انتصف.
وقيل فِي حوشب بْن يَزِيدَ:
نجى حليلته وأسلم شيخه ... تحت الأسنة حوشب بْن يَزِيدَ
وقيل أيضا:
نجى حليلته وأسلم شيخه ... لما رأى وقع الأسنة حوشب
وأتي الزُّبَيْر أصبهان منحطا من الري، فحارب عتاب بْن ورقاء أشهرا.
وَقَالَ رجل من أصحاب عتاب يكنى أبا هريرة:
قل لابن ماحوز وللأشرار ... كيف ترون يَا كلاب النار
شد أَبِي هريرة الهرار
فكمن لَهُ عبيدة بْن هلال فضربه فصرعه، ثُمَّ حامى عَلَيْهِ أصحابه، فسلم فكان الخوارج ينادونهم: مَا فعل الهرار؟ فيقولون: مَا عَلَيْهِ بأس وخرج إليهم فَقَالَ:
أنا أَبُو هريرة الهرار
ثُمَّ إن عتاب بْن ورقاء عقد لواء لياسمين جاريته، وَقَالَ: من أراد الهوينا فليأت لواء ياسمين، ومن أراد الصبر فإلي، وخرج إِلَى الخوارج فقاتلهم وهو فِي ألفين، ويقال ألفين وسبعمائة، فاقتتلوا أشد قتال وقتل الزُّبَيْر بْن علي وبشر مَعَهُ وفشت فيهم الجراح، ومضى فله، فلم يتبعوا، وَقَالَ(7/169)
الأعشى فِي قتل الزُّبَيْر- وذكر أن الحارث بْن عميرة الهمداني قتله- فِي قصيدة أولها:
إن المكارم أكملت أسبابها ... لابن القيول الزهر من قحطان
حَتَّى تداركهم أغر سميدع ... فحماهم إن الكريم يمان
الحارث بْن عميرة الليث الَّذِي ... يحمي العراق إِلَى قرى نجران
[1] وَقَالَ رجل من ضبة:
خرجت من الكتيبة [2] مستميتا ... ولم أك فِي كتيبة ياسمينا
وآثرت الحياء عَلَى حياتي ... ولم أترك لها حسبا ودينا
ولم أك فِي المدينة ديدبانا ... أرجم فِي نواحيها الظنونا
أعاذ اللَّه قومي أن يكونوا ... مَعَ السمك الَّذِي بالفارقينا
وَقَالَ ابْن حسان [3] يَزِيد:
صبحنا بزار [4] الروز منا بغارة ... كورد القطا فيها الوشيج المقوم
وملنا عَلَى جابي المدينة كردم ... فأفلتنا فوت الأسنة كردم
ونجى ابْن ورقاء الرياحي سابح ... شديد مناط القصرتين [5] عثمثم
ونحن شفينا من يَزِيد صدورنا ... ومن خيله وصاحب الحرب مغشم
وَقَالَ رجل من أصحاب عتاب:
__________
[1] ليست في ديوان الأعشى المطبوع.
[2] بهامش الأصل: المدينة.
[3] ديوان شعر الخوارج ص 98- 99.
[4] بزار: قرية على فرسخين من نيسابور. معجم البلدان.
[5] القصرة: العنق وأصل الرقبة، والعثمثم: القوي الشديد. النهاية لابن الأثير.(7/170)
نحن قتلنا الزُّبَيْر مارقكم ... فأصبح الفل منكم مزقا
وذلك الفعل فعلنا أبدا ... إذا جهول من قومنا مرقا
وولى الخوارج بعد قتل الزُّبَيْر بْن علي قطري بْن الفجاءة، واسم الفجاءة مازن بْن زياد بْن يَزِيدَ بْن حَنْثَر بْن كابية بْن حُرْقُوص بْن مازن بْن مالك بْن عمرو بْن بْن تميم، ويقال مازن بْن زياد بْن يَزِيدَ بْن حنثر بْن حارثة بْن صعير بْن خزاعي بْن مازن.
وَقَالَ الشرقي بْن القطامي: اسم الفجاءة جعونة.
وكانوا قد أرادوا تولية أمرهم عبيدة بْن هلال، فَقَالَ لهم: أنا أدلكم عَلَى من هو خير مني، قطري، فبايعوه سنة إحدى وسبعين. فسار قطري، ويكنى أبا نعامة من أصبهان حَتَّى أتى الأهواز، ثُمَّ رفع إِلَى كرمان فَقَالَ بعض أصحابه:
هربنا نريد الخفض من غير كلة ... وللحرب ناب لا يفل ومخلب
فلما بلغه البيت انحط إلي إيذج من كور الأهواز.
وبلغ مصعبا أن عَبْد الْمَلِكِ مجد فِي الحركة إِلَيْهِ، فكتب إِلَى عماله فِي النواحي من الوجوه فجمعهم إِلَيْهِ غير المهلب، وعمر بْن عبيد اللَّه، ويقال إن المهلب كتب إِلَيْهِ يسأله أن يكون بقربه، وَقَالَ لَهُ: قد بلغني أن وجوه المصرين قد كاتبوا عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ: إن أَهْل المصر سألوني أن لا أصرفك عَن وجهك، وأبوا أن يخرجوا معي إن أخليت هذا الوجه منك.
وواقع المهلب قطريا فنحاه عَن إيذج وعن الأهواز كلها وَقَالَ الأحنف وهو بالبصرة، قبل أن يدخل مصعب الْكُوفَة للتوجه إِلَى مسكن وقد ذكر(7/171)
قطري أنه أَبُو نعامة: إن ركب بنات سجاح وقاد بنات صهال [1] وأمسي بأرض وأصبح بأخرى، وجبى المال، طال أمره فأبلغ قطريا ذَلِكَ رسول كَانَ لَهُ بالبصرة، فنادى فِي عسكره: ألا لا يصحبنا إلا رجل مَعَهُ بغل، فكان ذَلِكَ مما ينكر عَلَى الأحنف، وقاتل قطري عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر بفارس، ثُمَّ أتى أصبهان، ثُمَّ الأهواز، وقتل مصعب فِي سنة اثنتين وسبعين والخوارج برامهرمز، والمهلب بإزائهم.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي والمدائني: برز المصعب لحرب عَبْد الْمَلِكِ، والمهلب فِي وجوه الخوارج وهو يحمي البصرة والأهواز منهم، وعمر بْن عبيد اللَّه بفارس، وعباد بْن الحصين بالبصرة، فبلغ ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بْن خازم فاسترجع، وَقَالَ: أنا بخراسان، وفي إبراهيم ابن الأشتر ماسد بعض المسد وأنشد:
خذيني فجريني ضباع وأبشري ... بلحم امرئ لم يشهد العام ناصره
وَكَانَ مقتل قطري فِي أيام الحجاج، وسأذكر ذَلِكَ فِي موضعه إن شاء اللَّه.
قَالَ: وَكَانَ الخوارج يسألون أصحاب المهلب عَن ابْن الزُّبَيْرِ فيقولون إمام هدى، فلما قام عَبْد الْمَلِكِ سألوهم عنه فَقَالُوا: إمام هدى، فَقَالُوا لهم:
يَا كفرة قلتم بالأمس قولا تقولون اليوم خلافه، لعنكم الله يا عبيد الدنيا.
__________
[1] لم أقف لسجاح على اسم في كتب أنساب الخيل، وذكر الغندجاني في كتابه أسماء خيل العرب وأنسابها وذكر فرسانها- ط. بيروت 1402 هـ ص 149 «الصهال- لرجل من غطفان يقال له أنيف الذئب» .(7/172)
أمر نجدة ابن عامر الحنفي
قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: هو نجدة بْن عامر بْن عَبْد اللَّهِ بْن سيار بْن المطرح بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد الحارث بْن عدي بْن حذيفة، وسمي المطرح لأن بني كلاب أصابوه وهو غلام فأخذوه، وَكَانَ شهاب بْن حبيب بْن الحارث بْن عَبْد الحارث يغير عَلَى القبائل فَقَالَ لَهُ ربيعة بْن الحارث: أنت تغير، وابني فِي بني كلاب مطرح.
وَكَانَ نجدة مَعَ نافع بْن الأزرق ففارقه مَعَ قوم فارقوه لتبرئه من القعد، وامتحانه المهاجر إِلَيْهِ، وتحريمه التقية فِي دار قومه، وصار نجدة إِلَى اليمامة فنزل بإباض، ودعا أبا طالوت، وهو فِي قول الْكَلْبِيّ مطر بْن عقبة بْن زيد بْن جهينة بْن الفند، وهو شهل بْن شيبان بْن ربيعة بْن زمان بْن مالك بْن صعب ودعا سالم بْن مطر مولى بني مازن بْن مالك بْن صَعب بْن عَلِيِّ بْنِ بَكْر بْن وائل إِلَى نفسه، فبايعه خمسون عَلَى أنهم إن وجدوا من هو خير لهم منه بايعوه وبايعه معهم.(7/173)
ثُمَّ إن أبا طالوت صار إِلَى الخضارم وكانت لبني حنيفة، فأخذها مُعَاوِيَة بْن أَبِي سفيان، فصير فيها رقيقا مبلغهم ومبلغ أولادهم ونسائهم أربعة آلاف، ويقال كانوا أربعة آلاف بيت، فأخذ سالم ذَلِكَ الرقيق فقسمه فِي أصحابه وأقام أشهرا، وذلك فِي سنة خمس وستين، وأتاه النَّاس، وكثر أصحابه، وخرجت عير من البحرين أربعين راحلة تحمل مالا وغير ذَلِكَ يراد بِهَا ابْن الزُّبَيْرِ، فخرج نجدة في عشرة آلاف فلحقهم بجبلة من أرض بني تميم، وهي عَلَى خمس ليال من هجر فأخذ العير بما فيها، وَقَالَ بعضهم:
خرجت العير من البصرة يراد بِهَا عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ، وفيها ثلاثون رجلا من شيعته وأكرياؤهم من بني تميم، فخرج إليهم نجدة فِي ستين راكبا، ومعهم ثور بْن حليلة بْن ثور الحنفي، فساق العير حَتَّى أتى بِهَا أبا طالوت بالخضارم، فَقَالَ نجدة: اقتسموا هذا المال واجعلوا غلة هذه الشيوخ لكم ولمن لحق بكم، وردوا هذا الرقيق فدعوهم كما كانوا يعتملون الأرض ويعمرونها، فإن ذَلِكَ أرد وأنفع، فاقتسموا المال، وقالوا لأبي طالوت: إنا كنا بايعناك عَلَى أنا إن وجدنا خيرا منك بايعناه وبايعته، ونجدة خير لنا منك، فبايعوه عَلَى مَا يبايع عَلَيْهِ الخلفاء أن لا يخلع إلا عَن جور ظاهر، ولم يبايعوه عَلَى مَا بايعوا عَلَيْهِ أبا طالوت، وبايعه أَبُو طالوت أيضا وذلك فِي سنة ست وستين ونجدة يومئذ ابن ثلاثين سنة.
وخرج سراج بْن مجاعة الحنفي إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ ليأخذ لقومه أمانا، فَقَالَ لَهُ ابْن الزُّبَيْرِ: يَا سراج ألم تر مَا صنع قومك والله لأوجهن إليهم جيشا، فَقَالَ: والله مَا صنع هذا إلا حرورية.(7/174)
قالوا وأقام نجدة أشهرا، وكثر أصحابه فَقَالُوا: لو غزونا، فسرح نصر بْن مبارك الحنفي في ثلاثمائة إِلَى البحرين، وَقَالَ: إن قتل فأميركم أَبُو سعدة العجلي، وعلى البحرين يومئذ سعيد بْن الحارث الأَنْصَارِيّ، وَكَانَ من قبل يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ فبقي بِهَا، فمنعهم سعيد بْن الحارث من دخولها، فوجه نجدة قدامة بْن المنذر بن النعمان في ثلاثمائة وَقَالَ: إن قتل فأميركم أَبُو سعدة، فإن قتل فأميركم إساف اليشكري، فإن قتل فأميركم المطرح بْن نجدة، فإن قتل فأميركم أَبُو سنان حيي بْن وائل اليشكري.
وَقَالَ بنو كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، لكلاب بْن قرة بْن هبيرة القشيري: إنها فتنة فلو أتينا سوق المجاز فأغرنا، فإن بِهَا بزا منشورا، وتمرا منثورا، فأجابهم كلاب ومعه أخوه غطيف، فكتب نجدة إِلَى ابْن المنذر، وأبي سعدة والذين وجههم إِلَى البحرين فردهم، ووجه حر بْن وائل إِلَى ابْن كعب وهم بالمجاز، وقدامة بْن النعمان فِي ثلاثمائة، واتبعهم نجدة في أربعمائة، ويقال خمسمائة، فالتقوا بذي المجاز، فهزمهم نجدة، وقتلهم قتلا ذريعا، وصبر كلاب وغطيف ابنا قرة، وجعل كلاب يقول لأخيه:
صبرا غطيف إنها الشهادة ... كل امرئ مفارق أولاده
وصبرا حَتَّى قتلا وانهزم قيس بْن الرقاد الجعدي، فلحقه أخوه لأمه مُعَاوِيَة بْن قرة، فسأله أن يحمله ردفا فلم يفعل، وقدم جفينة بْن قرة عَلَى أهله خفية، فأتته امرأته بزبد وتمر- فجعل يأكل وهي تسأله عَن إخوة لها وإخوته فلم يجبها فقالت: اجتحف وأخبر فَقَالَ:
لا يستوي الجحفان جحف بزبدة ... وجحف حروري بأبيض صارم(7/175)
فلما فرغ قَالَ: سلي، فلم تسأله عَن أحد من إخوته وإخوتها إلا نعاه، فشقت جيبها وقالت: ويحك ألا صبرت حَتَّى تقتل مَعَهُمْ، وَقَالَ مُعَاوِيَة:
يَا قاتل اللَّه قيس الجعد كيف دعا ... كعبا لأسباب أمر غير ميمون
حَتَّى إذا التقت الأبطال وأطعنوا ... فعل الديافية المطلية الجون
طرح رايتنا قيس وبرزه [1] ... عَن الطعان طويل الشخص ملبون
[2] فِي أبيات وَقَالَ قيس:
أسأل مُعَاوِيَة بْن قرة إذ دنت ... منه الأسنة أي فعل يفعل
فإذا أتيت أباك فاشتر مثله ... إن الرداف عَن الأحبة يشغل
يريد مثل فرسه.
وَقَالَ جفينة- وهو جفنة- يحرض ابْن الزُّبَيْرِ:
عَلَى أي شيء أنت بالركن واقف ... مقيم وقد سارت بهن الركائب
ولا شيء إلا الموت إذ برزت لنا ... حنيفة أرباب السيوف القواضب
فِي أبيات قالوا: ورجع نجدة إِلَى اليمامة وكثر أصحابه، فصاروا ثلاثة آلاف، فخاف أن يطأ الجنود اليمامة، وأن يغزى أهلها، فاستخلف باليمامة عمارة بْن سلمى من ولد الدول بْن حنيفة، وهو عمارة الطويل وأتى البحرين فِي سنة سبع وستين، فقالت الأزد: نجدة أحب إلينا من ولاتنا، لأنه منكر للجور،
__________
[1] برزه تبريزا: أظهره وبينه. القاموس.
[2] الملبون: من به كالسكر من شرب اللبن. القاموس.(7/176)
وولاتنا يجورون، فعزموا عَلَى مسالمته، واجتمعت عَبْد القيس ومن بالبحرين غير الأزد عَلَى محاربته، فَقَالَ بعضهم: نجدة أقرب إليكم منه إِلَى الأزد فلا تحاربوه، وَقَالَ بعضهم: أندع نجدة وهو حروري مارق تجري أحكامه عَلَيْنَا، فالتقوا بالقطيف، وأقبل وكيع أحد بني جذيمة من عَبْد القيس يرتجز ويقول:
يَا أم يعقوب تجنبيني ... لا تحذري علي واحذريني
إن علي واقيا يقيني ... أنا وكيع لست بالهجين
اليوم أحمي حسبي وديني ... مَا ملكت قائمة يميني
فقتل وكيع وجماعة من العبديين، وسبى نجدة من قدر عَلَيْهِ من أَهْل القطيف.
قَالَ الشاعر:
نصحت لعَبْد القيس يوم قطيفها ... وما نفع نصح قيل لا يتقبل
وأقام نجدة بالقطيف، ووجه ابنه المطرح إِلَى فل أَهْل القطيف من عَبْد القيس، فقاتلوه بالثوير [1] فقتل المطرح وجماعة من النجدية، فَقَالَ جمال بْن سلمة الشاعر:
إن تقتلونا بالقطيف فإننا ... قتلناكم يوم الثوير وصحصحا
وإن تقتلوا منا وكيعا وعاصما ... فإنا قتلنا طارقا والمطرحا
__________
[1] موقع وعر من جبال حمى ضرية، وضرية: قرية في طريق مكة من البصرة من نجد. معجم البلدان.(7/177)
ووجه نجدة رجلا من عكل يقال لَهُ ذواد إلى الخطّ [1] فطفر بهم، فَقَالَ سويد بْن كراع العكلي:
صبحت الخط بنا صباحا ... تحمل من عكل فتى وضاحا
مهرية ترى بِهَا مراحا
وأقام نجدة بالبحرين، فلما قدم مصعب بْن الزُّبَيْرِ البصرة سنة تسع وستين، بعث إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن عمير الليثي الأعور فِي أربعة عشر ألفا، ويقال فِي عشرين ألفا، ويقال إن حمزة بْن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ الموجه لَهُ حين ولي البصرة، فجعل ابْن عمير يقول: اثبت يا أبا المطرح فإنا لا نفر، فقدم ونجدة بالقطيف فنزل عَلَى ميل من عسكره، وصير البحر خلفه، والأثقال أمامه، وأناخ الإبل أمام الأثقال، وَقَالَ لآخذن نجدة أخذا، وحض نجدة أصحابه، فرغبهم فِي الشهادة والجنة، وزهدهم فِي الدنيا، واعتزل قوم من أصحابه منهم ذواد العكلي فلم ينهض مَعَهُ، فَقَالَ نجدة: إن إخوانكم هؤلاء أحبوا البقاء وثبت نجدة فيمن بقي مَعَهُ وأتى ابْن عمير فِي عسكره وهو غار فقاتلهم طويلا، وأصبح ابْن عمير فهاله أمر من رأى فِي عسكره من القتلى والقطعى والجرحى، وتشاغل ومن فِي عسكره بموتاهم وجرحاهم، فأتاهم نجدة فحمل عليهم فلم يلبثوا أن انهزموا فلم يلو أحد منهم عَلَى أحد، وحوى نجدة العسكر، وأصاب جواري لابن عمير وفيهن أم ولد لَهُ، فعرض نجدة عَلَيْهَا أن يردها عَلَيْهِ، فقالت: لا حاجة لي فيمن فر عني، وورد ابْن عمير البصرة فارا، فقال الفرزدق:
__________
[1] الخط- كما يبدو- خط عبد القيس بالبحرين، وهو كثير النخل. معجم البلدان.(7/178)
مَا فر من جيش أمير براية ... فيدعي طوال الدهر إلا منافقا
تمنيتهم حَتَّى إذا مَا لقيتهم ... تركت لهم دون النساء السرادقا
وأعطيت مَا تعطي الحليلة بعلها ... وكنت حبارى إذ رأيت البوارقا
[1] وَقَالَ العجاج حين قتل عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، أبا فديك:
لقد شفاك عمر بْن معمر ... من الحروريين يوم العسكر
وقع امرئ ليس كوقع الأعور
[2] يعني عَبْد اللَّهِ بْن عمير فِي حرب نجدة.
وبعث نجدة بعد هزيمة ابْن عمير عطية بْن الأسود الحنفي إِلَى عمان وقد غلب عَلَيْهَا عياذ بْن عَبْد اللَّهِ وهو شيخ كبير، وابناه سعيد وسليمان يعشران السفن ويجيبان البلاد، فمانعوه وقاتلوه فقتل عياذ وغلب عطية عَلَى عمان فأقام بِهَا أشهرا، ثُمَّ خرج منها واستخلف رجلا يكنى أبا القاسم فقتله سعيد وسليمان ابنا عياذ وأهل عمان، وخالف عطية نجدة فعاد إِلَى عمان فلم يقدر عَلَيْهَا فركب البحر وأتى كرمان، وضرب دراهم كَانَ يقال لها العطوية، وأقام بكرمان، فيقال إن المهلب بعث إِلَيْهِ جيشا فلحق بسجستان، ثُمَّ صار إِلَى السند فقتلته خيل المهلب بقندابيل، ويقال إن الخوارج قالوا لَهُ: هاجر فَقَالَ أنا مهاجر عَلَى ديني فقتلوه.
وسمع أبو حزابة امرأة كانت مَعَ عطية تقول وهو بكرمان: هل من سيف هل من رمح، فَقَالَ: أتريدين نيزكا فرفعته إِلَى عطية فضربه أسواطا، وقال الفرزدق لبني حنيفة:
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 47 مع فوارق كبيرة. والحباري: طائر. القاموس.
[2] ليس في ديوان العجاج المطبوع.(7/179)
وهم من بعيد فِي الحروب تناولوا ... عياذ بْن عَبْد اللَّهِ والخيل شحب
[1] قالوا ووجه نجدة بعد هزيمة ابْن عمير إِلَى البوادي من يأخذ من أهلها الصدقة، فكانوا يدعون القوم فإذا أجابوهم أخذوا الصدقة منهم، فقاتل أصحابه بنو تميم بكاظمة وأعانهم أَهْل طويلع [2] ، وقتلوا رجلا من الخوارج، فوجه نجدة إِلَى أَهْل طويلع من أغار عليهم وقتل منهم نيفا وثلاثين رجلا وسبى، ثُمَّ إنه دعاهم بعد ذَلِكَ فأجابوه وأخذ منهم الصدقة، وَقَالَ الفرزدق:
لسنا بأقوام يبيعون دينهم ... إذا علموا أن لا سبيل إِلَى التمر
وما كنت مذ شدت على السيف قبضتي ... لانقض بيعا بين زمزم والحجرة
[3] يعني بيعة ابْن الزُّبَيْرِ.
قَالَ علي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِيّ: وخرج نجدة إِلَى صنعاء فِي خف فبايعه أهلها، وخافوا أن يكون وراءه جمع كثير، فلما أقام أياما ولم يروا مددا يأتيه ندموا عَلَى بيعته، وبلغه ذَلِكَ فَقَالَ: إن شئتم أقلتكم بيعتكم وجعلتكم فِي حل منها وقاتلتكم، فقالوا: ما كنا لنستقيل بيعتنا، فبعث إِلَى مخاليفها، فأخذ منهم الصدقة، ووجّه نجدة أبا فديك إلى حضرموت فجبى صدقات أهلها، وحج نجدة فِي سنة ثمان وستين، ويقال فِي سنة سبعين، وهو الثبت، وقد كَانَ فِي أيام يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ قاتل مَعَ ابْن الزُّبَيْرِ غضبا للبيت، وما انتهك من حرمته، فلما حج مرته هذه كان في ثمانمائة وستين رجلا، ويقال في ألفين
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 74 مع فوارق.
[2] طويلع: ماء لبني تميم. معجم البلدان.
[3] ليسا في ديوانه المطبوع.(7/180)
وستمائة، فصالح ابْن الزُّبَيْرِ عَلَى أن يصلي كل واحد بأصحابه ويقف بهم ويكف بعضهم عَن بعض عَلَى مثال مَا كانت الأزارقة عَلَيْهِ أيام مقاتلتها مَعَهُ.
فلما صدر نجدة عَن الحج توجه إِلَى المدينة، فتأهب أهلها لقتاله، وتقلد عَبْد اللَّهِ بْن عمر السيف، فلما كَانَ نجدة بنخل، وأخبر بلبس ابْن عمر السلاح رجع نجدة إِلَى الطائف وأصاب ابْن بحدج ابنة لعبد الله بن عمرو بن عثمان كانت عند ظئر لها، فضمها نجدة إِلَيْهِ، فَقَالَ بعضهم: إن نجدة ليتعصب لهذه الجارية، فامتحنوه بأن سأله بعضهم بيعها منه، فَقَالَ:
قد أعتقت نصيبي منها فهي حرة، قَالَ: فزوجني إياها، قَالَ: هي بالغ، وهي أملك بنفسها، فأنا أستأمرها، فقام من مجلسه ثُمَّ قَالَ قد استأذنتها فكرهت الزوج، وقيل إن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ كتب إِلَيْهِ: «والله لئن أحدثت فيها حدثا لأطأن بلادك وطأة لا يبقي بِهَا مَعَهَا بكري» ، وكتب نجدة إِلَى ابْن عمر يسأله هل ساروا بَيْنَ يدي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالحربة واللواء، وعن الرجل يغشى المرأة فِي الحيض، فَقَالَ: سلوا ابْن عباس، فَقَالَ: يرحم اللَّه أبا عَبْد الرَّحْمَنِ أين كَانَ يوم حنين قد سير بِذَلِكَ بَيْنَ يدي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مرجعه من حنين، وأما الَّذِي يغشى المرأة فِي الحيض فِي أوله فدينار وَالَّذِي يغشى فِي الكدرة [1] فنصف دينار، فبعث إِلَيْهِ نجدة: فإن لم يجد؟ قَالَ: يقوم الَّذِي يلزمه طعاما، ويصوم لكل مد يوما، وَقَالَ ابْن عباس: قاتله اللَّه يقتل المسلمين، ويسأل عَن المحقرات.
__________
[1] الكدرة في اللون نقيض الصفاء. القاموس.(7/181)
ولما رجع نجدة من نخل وقرب من الطائف أتاه عاصم بْن عروة بْن مسعود فبايعه عَن قومه، فلم يدخل نجدة الطائف، فلما قدم الحجاج الطائف لمحاربة ابْن الزُّبَيْرِ قَالَ لعاصم: يا ذا الوجهين بايعت نجدة؟! فَقَالَ:
أي والله وذو عشرة أوجه أعطيت نجدة الرضا، ودفعته عَن قومي وبلدي.
قالوا: وأتى نجدة تبالة ثُمَّ شخص عنها واستعمل الحازوق الحنفي وهو- حزاق- عَلَى الطائف وتبالة والسراة، واستعمل سعد الطلائع على مايلي نجران، ووجه إِلَى بعض أصحابه يقال إنه عَمْرو بْن همام العقيلي، ووجه حاجب بْن خميصة لقبض صدقات بني هلال ونمير، فمنعوه إياها، فقاتلهم فقتل منهم رجلان، وتولى قتلهما رجلان من بني كلاب، فطالبوا بدمهما فهرب الكلابيان، ورجع نجدة إِلَى البحرين فقطع الميرة عَن أَهْل الحرمين من اليمامة والبحرين، فكتب إِلَيْهِ ابْن عباس: إن ثمامة بْن أثال لما أسلم قطع الميرة عَن أَهْل مَكَّةَ وهم مشركون حَتَّى أكلوا العلهز [1] ، فكتب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى ثمامة: «إن أَهْل مَكَّةَ أَهْل اللَّه فلا تمنعهم الميرة فخلهم وإياها» وإنك قطعتها عنا ونحن مسلمون، فخلى لهم نجدة الميرة، وأقام عمال نجدة فِي النواحي حَتَّى وقع الاختلاف بينه وبين أصحابه، فاجترأ النَّاس عليهم، فأما الحازوق فطلبوه بالطائف فهرب، فلما كَانَ فِي عقبة فِي طريقه إذا قوم يطلبونه فرموه حَتَّى قتلوه وهو يقول: أتقتلوني قتلة الزناة، ليبارزني منكم من شاء، وأخذوا فرسه فقالت أخته، أو ابنته تبكيه:
__________
[1] العلهز: القراد الضخم، وطعام من الدم والوبر كان يتخذ في المجاعة. القاموس.(7/182)
أعيني جودا بالدموع عَلَى الصدر ... عَلَى الفارس المقتول بالجبل الوعر
فإن تقتلوا الحازوق وابن مطرف ... فإنا قتلنا حوشبا وأبا جسر
أقلب عيني فِي الركاب فلا أرى ... حزاقا فعيني كالحجاة من القطر
ومن يغنم العام الوشيك ولا حقا ... وقتل حزاق لا يزل عالي الذكر
فِي أبيات وَقَالَ هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن النعمان الدوسي سيد الأزد بالسراة، وهو قتل الحازوق الحنفي أيام نجدة، وَكَانَ أوغل فِي بلاد الأزد، وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ حين بلغه قتل الحازوق: إن الأزد هم الأسد قتلوا الحازوق وإن من خثعم سلمى، أوتدرون من هي؟ هي امرأة فِي الجاهلية كانت.
وقالوا: قتل سعد الطلائع ناجية الجرمي، وأراده عَلَى الصدقة، فمنعه إياها وقاتله فقتله ناجية.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: لقيت رسل نجدة لطلب الصدقة بهدل بْن مالك بْن الطفيل بْن حبيب بْن منيف الطائي، ومعه رجال من طيّئ فاقتتلوا، فقتل نويرة بْن بحير الطائي منهم بالأجفر سبعة خوارج، وكانت راية طيّئ يومئذ مَعَ زيد بْن حبال بْن بشر الطائي، فقتل يومئذ عبس بْن سمي بْن الأغر الطائي، ونافذ بْن زهير بْن ثعلبة الطائي، وله يقول المعنى الطائي:
يَا عين بكي نافذا وعبسا ... يوما إذا كَانَ البراء نحسا
قَالَ: وَكَانَ أميرهم فِي الحرب زياد بْن جد بْن وبرة قتل من الخوارج اثني عشر، وكانوا يقاتلون أياما.(7/183)
قالوا: وخالف نجدة أَبُو سنان حي بْن وائل، وذلك لأنه أشار عَلَيْهِ بالبسط عَلَى من كَانَ أجابه وتابعه تقية فنهره وشتمه نجدة، فهم بالفتك بِهِ وحي هو القائل:
أما أقاتل عَن ديني عَلَى فرس ... ولا كذا رجلا إلا بأصحاب
لقد لقيت إذا شرا وأدركني ... مَا كنت أزعم فِي قومي من العاب
ويروي فِي خصمي من العاب.
فبعث إِلَيْهِ نجدة من ناظره فَقَالَ: أكلف اللَّه أحدا علم الغيب؟ قَالَ:
لا، قَالَ: فإنما عَلَيْهِ أن يحكم بما ظهر، فقبل منهم ورجع إِلَى نجدة. وَحَدَّثَنِي الكردي وغيره قالوا: كَانَ سبب خلاف عطية بْن الأسود عَلَى نجدة لأن نجدة وجه سرية برا وسرية بحرا، فأعطى سرية البر أكثر مما أعطى سرية البحر، فنازعه حتى أغضبه فشتمه نجدة فغضب وألب النَّاس عَلَيْهِ، وقد كَانَ كلم نجدة فِي رجل فأعطاه فرسا فَقَالَ: ألا ترونه يعطي عَلَى الشفاعة؟!.
وأعطى نجدة مالك بْن مسمع حين هرب إِلَى ثأج [1] مالا. وكلم فِي رجل شرب الخمر فِي عسكره، فَقَالَ هو شديد النكاية، وقد استنصر رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمشركين.
قالوا: وكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى نجدة يدعوه إِلَى طاعته وبيعته، عَلَى أن يهدر لَهُ مَا أصاب من الدماء والأموال، وأن يوليه اليمامة وما حولها، فطعن عَلَيْهِ عطية وَقَالَ: مَا كاتبه عَبْد الْمَلِكِ حَتَّى علم منه إدهانا فِي الدين، فخرج عطية إِلَى عمان مفارقا لَهُ، وخالف نجدة أيضا قوم استتابوه فحلف أن لا يعود ثم
__________
[1] ثأج: عين من البحرين على ليال. معجم البلدان.(7/184)
ندموا عَلَى استتابته وتفرقوا، وخالف عَلَيْهِ عامة من كَانَ مَعَهُ وانحازوا عنه وولوا أمرهم أبا فديك عَبْد اللَّهِ بْن ثور، أحد بني قيس بْن ثعلبة، وكانوا حين فارقوا نجدة بايعوا ثابتا التمار، ثُمَّ قالوا: لا يقوم بأمرنا إلا رجل من العرب، وجعلوا الاختيار إِلَيْهِ، فاختار لهم أبا فديك عَبْد اللَّهِ بْن ثور، واستخفى نجدة، وأرسل أَبُو فديك فِي طلبه جماعة من أصحابه وَقَالَ: إن ظفرتم بِهِ فجيئوني بِهِ، وأتى أَبُو فديك إباض وبريء وأصحابه من نجدة وقيل لأبي فديك أنك إن لم تقتل نجدة تفرق النَّاس عنك، فألح في طلبه، وكان نجدة مستخفيا فِي قرية من قرى حجر، ويقال بين حجر وجو، وَكَانَ للقوم الذين أخفوه جارية يخالف إليها راع لهم، فأتاها ليلا وقد غسل نجدة رأسه ودعا بطيب فأخذت الجارية من الطيب شيئا فمسته، فسألها الراعي عَن أمر الطيب فأخبرته خبر نجدة، وغدا الراعي إِلَى أصحاب أَبِي فديك فدلهم عَلَى مكانه فطرقوه، فنذر بهم، فأتى أخواله من بني تميم فاستخفى عندهم، وَقَالَ آتي عَبْد الْمَلِكِ فأضع يدي فِي يده، فَقَالُوا: لك عندنا زاد وحملان قَالَ:
فأعهد إِلَى أم المطرح عهدا فأتاها فنذروا بِهِ، فأذنوا أصحاب أَبِي فديك بموضعه، فسبق إِلَيْهِ رجل من بني عقيل من الفديكية فخرج نجدة مصلتا بالسيف فضن بِهِ العقيلي عَن القتل، فنزل عَن فرسه ومشى مَعَهُ، وَقَالَ: إن فرسي هذا فرس لا يدركه شيء، فلعلك تنجو عَلَيْهِ، فإن الخيل طالعة عليك، فَقَالَ: مَا أحب البقاء وقد تعرضت للشهادة فِي مواطن مَا هذا الموطن بأخسها، وغشية الوازع أخو أَبِي فديك لأمه، وَأَبُو طالوت وَأَبُو هاشم مولى بني مازن، واسمه راشد فِي ثمانية عشر رجلا فيهم ثابت التمار وجههم أَبُو فديك لقتل نجدة، فطعنه أَبُو هاشم، ويقال طعنه رجل من بني عدي بْن(7/185)
حنيفة، وضربه القوم فقتلوه، وبقي الحنفي الَّذِي يقال إنه طعن نجدة، فلقيه حصين بْن نجدة بدمشق فقتله، فوجدوه مقتولا فاتهموا حصينا بقتله فحبسوه، ثُمَّ أخرج، وَقَالَ رجل من جرم يرثي نجدة:
أبعد أَبِي المطرح يوم حجر ... يقوم بسوقها أبدا مجير
فليت سيوفكم يَا أَهْل حجر ... أتاها يوم نجدة مستعير
فأصبحت اليمامة بعد عز ... أذل رقابها الأسد العقير
فلم يستبدلوا منه ابْن ثور ... فقد ضاعت بكاظمة الثغور
فِي أبيات.
وَكَانَ الجرمي وقوم مَعَهُ من بني جرم، نزلوا قريبا من ذي المجاز، فأغار عليهم بنو قشير فأصابوا لهم أموالا، فلما ظفر نجدة ببني كعب، رد عَلَى الجرميين مَا أخذ منهم، فلذلك رثاه الجرمي، وَكَانَ نجدة ذا شجاعة وسخاء، فَقَالَ نصر بْن سيار يوما لرجل من بني حنيفة: من كَانَ سيدكم؟ قَالَ:
مجاعة، قَالَ: مَا أدري مَا مجاعتكم من عصيدكم، والله مَا كَانَ فيكم قط أكرم كرما ولا أعظم سؤددا من نجدة وهو الَّذِي يقول:
وإن جر مولانا عَلَيْنَا جريرة ... صبرنا لها إن الكرام الدعائم
وَقَالَ أَبُو الحسن: كَانَ نجدة استخلف عَلَى البحرين هميان بْن عدي السدوسي، فلما وافى مالك بْن مسمع ثأج بعد الجفرة، كتب هميان إِلَى نجدة إنه قد ورد عَلَيْنَا قوم لهم شرف وقديم، لو قدموا عَلَى أَبِي بكر وعمر لعرفا مكانهم، فإن رأيت أن أعطيهم من سهم المؤلفة فعلت، فكتب نجدة: ليس فِي عطية المؤلفة وقت معلوم، فأعطهم مَا ترى أنه يحل أن يعطى مثلهم،(7/186)
فأعطاهم هميان كل مَا كَانَ فِي بيت المال ثُمَّ لحق بهم، وحمل نجدة مالكا عَلَى ناقة وحمل ابنه عَلَى فرس، فكان ذَلِكَ مما أنكروه عَلَيْهِ.
قالوا: وفارق أبا فديك قوم حين قتل نجدة، فقتل بِهِ مسلم بْن جبير، وهو من أَهْل الحجاز فوجأه اثنتي عشرة وجأة، وَقَالَ:
وخالفت قومي فِي دينهم ... خلاف صبا حين جاءت جنوبا
أرجي الإله وغفرانه ... ويرجون درهمهم والجريبا
قالوا: فقتل مسلم، وحمل أَبُو فديك جريحا فبرأ. وسنكتب خبر أَبِي فديك ومقتله فِي موضعه إن شاء اللَّه. وَكَانَ أَبُو فديك من الجرميين من ولد قَيْس بْن ثَعْلَبَة بْن عُكابة.(7/187)
خبر عَبْد الرَّحْمَنِ ابْن بحدج بْن ربيعة بْن سمير بْن عاتك ابْن قيس من بني عامر بْن حنيفة
قالوا: فارق عَبْد الرَّحْمَنِ بْن بحدج نجدة ناقما عَلَيْهِ، فأتى فارس فَقَالَ الأعلم- وهو نعمان بْن عبادة بْن فياض بْن شراحيل النكري من عَبْد القيس- لعمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، وهو عَلَى فارس: إن دخول هؤلاء بلدا أنت فيه وهن، فندب ابْن معمر قوما مَعَ النعمان ووجهه إِلَى ابْن بحدج، فصير النعمان عَلَى مقدمته أبا المنازل، وسار الأعلم، وكتب إِلَى عمر بْن عبيد اللَّه:
فلا أعرفنكم بعد ما تقرع العصا ... ترومون أمرا منكم متفاقما
فلما قرأ عمر البيت قَالَ: أما النعمان فلا يرجع حَتَّى يظفر أو يموت.
قالوا: وأصاب النعمان كسر في فخذه فأبطأ في السير، وتقدم أبو المنازل فلقي الخوارج فقاتلهم وصبروا جميعا، ثُمَّ تحاجزوا وانحاز الخوارج، ولزموا الطريق، فلقوا النعمان بذي القاف، فقاتلهم النعمان، فانكشف أصحابه وصبر فحمل عَلَيْهِ حسان بْن بحدج فضربه فلم يصنع شيئا، وعانقه النعمان فصارا إِلَى الأرض، فضغطه النعمان إِلَى الأرض بصلبه حَتَّى قتله النعمان، وحمل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن بْن بحدج عَلَى النعمان فقتل كل واحد منهما صاحبه(7/189)
ويقال بل حمل عَبْد الرَّحْمَنِ عَلَى النعمان فقتل النعمان وأتاهم أَبُو المنازل فقاتلهم وهو يقول:
اصبر عَلَى حظك فيما مضى ... فإنما النصر مَعَ الصابر
فقتل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن بحدج، وانهزم الخوارج وتفرقوا.
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: ذو القاف بين فارس والبحرين، وبعمان أيضا موضع يقال لَهُ ذو القاف، وقوم يقولون: إن أبا فديك وجه ابْن بحدج، والخبر الأول أثبت.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: ولم يزل النعمان النكري مقيما بفارس، ولم يكن هاجر إِلَى البصرة، فلما قدم عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر فارس واليا للمصعب تلقاه النعمان، وَكَانَ جسيما طويلا، فَقَالَ عمر: إن هذا لخليق للبأس والنجدة، فَقَالَ: من أنت؟ قَالَ: النعمان بْن عبادة النكري، قَالَ: أصحبني، فأكرمه وولاه شرطته، فلما وجهه إِلَى ابْن بحدج ولى مجاعة شرطته، وتزوجت امرأة النعمان بعده رجلا من قريش، فَقَالَ لها رجل من عَبْد القيس:
إنك لن تستبدلي أم أيمن ... طوال الليالي فانكحي أو تأيمي
فكان يمر زوجها فِي الطريق فينشدون هذا البيت.
وَقَالَ الهيثم: ولي عَبْد الْمَلِكِ حين قتل مصعبا يَزِيد بْن هبيرة المحاربي اليمامة، فخرج عَلَيْهِ خارجي يقال لَهُ سوار بْن عبيد، فخرج إِلَيْهِ بأهل اليمامة فقتله، وتزوج يَزِيد امرأة من آل قيس بْن عاصم، فأدخلت عَلَيْهِ وقد ألبست العصب والثياب الرقاق فَقَالَ:(7/190)
للبس عباءة وتقر عيني ... أحب إِلَى من لبس الشفوف
وبكر يتبع الأظعان صعب ... أحب إِلَى من بغل زفوف
وبيت تخفق الأرواح فيه ... أحب إلي من قصر منيف
وولى بعده أدهم بْن عربي.(7/191)
أمر عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان
[1] وأما عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ بْن عبد شمس بْن عبد مناف، فأمه عَائِشَةُ بنت مُعَاوِيَة بْن المغيرة بْن أَبِي العاص بْن أمية، وَهُوَ الَّذِي جدع أنف حمزة بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ يَوْم أحد، فقتل عَلَى أحد بَعْد انصراف قريش بثلاث، قتله علي بْن أَبِي طالب بأمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وأمها فاطمة بنت عامر بْن حزيم من بني جمح، وأمها سكينة بنت أَبِي معيط.
بويع لَهُ فِي شهر ربيع من سنة خمس وستين بدمشق، ولعَبْد العزيز أخيه، واستخلف فِي شهر رمضان سنة خمس وستين وكانت ولايته بعد مقتل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ ثلاث عشرة سنة سنة وثمانية أشهر، وقتل ابْن الزُّبَيْرِ فِي سنة ثلاث وسبعين، وكانت فتنته تسع سنين، ومات عَبْد الْمَلِكِ وله اثنتان وستون سنة، وصلى عَلَيْهِ الوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ، ودفن بمقبرة الباب الصغير وذلك فِي سنة ست وثمانين، وكنيته عبد الملك أبو الوليد.
__________
[1] بهامش الأصل: «خلافة عبد الملك بن مروان» .(7/193)
وَقَالَ الواقدي: مات وله ثلاث وخمسون سنة، وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ يلقب «رشح الحجر» لبخله، و «أبا الذبان» لنتن فمه وفساد عمور أسنانه، واجتماع الذبّان عَلَيْهَا وعلى شفتيه، ولم يزل يتنسك قبل الخلافة، وقد روى الحديث عَن عثمان وأبي هريرة وأبي سعيد الخدري، وَكَانَ مُعَاوِيَة ولاه ديوان المدينة بعد زيد بْن ثابت الأَنْصَارِيّ، ولما ولى عثمان مروان البحرين، ولاه هجر فَقَالَ فيه الشاعر:
وبدارين [1] من قريش أمير ... عبشمي نفاعه ضرار
ويقال إنه ولد لسبعة أشهر، وَقَالَ فيه ابْن قيس الرقيات:
أنت ابْن عائشة التي ... فضلت أروم [2] نسائها
لم تلتفت للداتها ... ومضت علي غلوائها
[3] وَقَالَ أَبُو اليقظان: العرب تسمي الأبخر أبا الذبان، فلذلك قيل لعَبْد الْمَلِكِ أَبُو الذبان:
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كَانَ عَبْد الْمَلِكِ آدم جميلا أقنى كأنه من رجال يهوذ فِي تمامه.
وَقَالَ فيه ابْن قيس الرقيات:
يعتدل التاج فوق مفرقه ... عَلَى جبين كأنه ذهب
[4]
__________
[1] دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند. معجم البلدان.
[2] الأرومة: الأصل.
[3] البيت الأول فقط في ديوان ابن قيس الرقيات ص 118.
[4] ديوان ابن قيس الرقيات ص 5.(7/194)
فسمعه رجل فَقَالَ: يعلم والله أنه قد رآه.
فولد عَبْد الْمَلِكِ: الوليد، وسليمان، ومروان الأكبر، وداود، درجا.
وعائشة تزوجها خالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ، وأمهم ولادة بنت العباس بن جزء بن بْن الحارث بْن زُهَيْر بْن جذيمة بْن رواحة بْن ربيعة بْن مازن بْن الحارث بْن قطيعة بْن عبس، ولها يقول العجاج:
من بين مروان قريع الإنس ... وابنة عباس قريع عبس
[1] وَقَالَ بعض الشعراء:
لقد أنجبت لَهُ إمامي بلاده ... فإنهما مستخلف ومؤمل
ويزيد ومروان الأصغر ومعاوية أمهم عاتكة بنت يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ.
وهشاما أمه أم هِشَام واسمها عائشة بنت هِشَام بْن إِسْمَاعِيل بْن هِشَام بْن الوليد بْن المغيرة بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن مخزوم.
وأبا بكر أمه عائشة بنت موسى بْن طلحة بْن عبيد اللَّه.
والحكم وأمه أم أيوب بنت عَمْرو بْن عثمان بْن عفان.
وعَبْد اللَّهِ، ومسلمة، والمنذر، وعنبسة، ومحمدا، وسعيد الخير، وَكَانَ حين استنزل بنهر سعيد (حفر النهر وعمر غيضته فلقب بِهِ) وَكَانَ يَزِيد يقول: إن سعيد الخير لأهل لأن أستخلفه.
والحجاج وقبيصة لأمهات أولاد شتى.
وفاطمة أمها أم المغيرة بنت المغيرة بْن خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةَ تزوجها عمر بْن عَبْد العزيز.
__________
[1] ديوان العجاج- ط. بيروت 1971 ص 481.(7/195)
وَقَالَ أَبُو اليقظان: سمي عَبْد الْمَلِكِ المنذر باسم رجل من أَهْل الشام كَانَ ناسكا، وقد شهد المنذر هذا قتال حبيش بْن دلجة الحنتف بالربذة، ولا أعلم لَهُ عقبا، قَالَ وسمي قبيصة باسم قبيصة بْن ذؤيب الخزاعي، وَكَانَ قبيصة عَلَى خاتم عَبْد الْمَلِكِ وبيت ماله، وولد لَهُ الوليد بْن قبيصة، فدرج ولا عقب لَهُ، قَالَ: وسمى الحجاج باسم الحجاج بْن يوسف، وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
سميته الحجاج بالحجاج ... بالناصح المعاون الدماج
نصحا لعمري غير ذي مزاج
فوهب الحجاج بْن يوسف للحجاج بْن عَبْد الْمَلِكِ دارا بدمشق تعرف بدار الحجاج، وَكَانَ أَبُو بكر ضعيفا، فكان يسمى بكارا، حج من المدينة حين وردها ماشيا عَلَى اللبود، وقتله بعد عَبْد اللَّهِ بْن علي، وولد لعنبسه بْن عَبْد الْمَلِكِ الفيض بْن عنبسة لا عقب لَهُ. ووجه عَبْد الْمَلِكِ عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الحجاج أيام ابْن الأشعث، وإلى أَهْل العراق، فعرض عليهم عزل الحجاج فلم يقبلوا، فأمر الحجاج بقتالهم، وولاه أخوه الوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ حمص، وغزا الصائفة وولاه مصر فمرض، فكتب إِلَيْهِ الوليد أن اكتب لي أموالك فَقَالَ: اكتبوها لَهُ فليتني لم أعرف الوليد ولا أباه، ومات فَقَالَ الوليد:
رحم اللَّه عَبْد اللَّهِ خاف التبعة فِي الآخرة وتحرج مما أصاب وقد جعلته من ذَلِكَ فِي حل، فبكاه الشاعر وَقَالَ:
فهلا عَلَى قبر الوليد أخي الندى ... وقبر سليمان الَّذِي عند دابق
وقبر أَبِي عَمْرو أخي وأخيهم ... بكيت لحزن في الجوانح لا حق(7/196)
وفيه يقول الشاعر:
فإن بمصر عَبْد اللَّهِ يأسو ... ويجبر عظم ذي الكسر المهيض
وأوفد مسلمة بْن عَبْد الْمَلِكِ مروان بْن عَبْد الْمَلِكِ إِلَى يَزِيد بْن عَبْد الْمَلِكِ بقتل يَزِيد بْن المهلب، وأوصى عَبْد الْمَلِكِ الوليد وسليمان أن يستخلفا أحد ابني عاتكة يَزِيد أو مروان وهو الأصغر فمات مروان وَكَانَ ضعيفا وله يقول كثير:
أبا خالد فارقت مروان عَن رضا ... وَكَانَ يزين الأرض أن تنزلا معا
[1] وولد لمروان هذا: مُعَاوِيَة بْن مروان، فولد مُعَاوِيَة الوليد بْن مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ من رجالهم ولي دمشق وله عقب.
وللحكم بْن عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان يقول رؤبة [2] :
يَا حكم الوارث عَن عَبْد الْمَلِك ... ميراث أحساب وجود منسلك
إليك أشكو عض دهر منتهك ... بالمنكبين والجران مبترك
وقد علمنا ذاك علما غير شك ... أنك بعد اللَّه إن لم تدرك
مفتاح حاجات أنخناهن بك ... فالذكر فيها عندنا والأجر لك
مَا بعدها من طلب ولا درك
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.
[2] ديوان رؤبة بن العجاج- ط. لا يبزغ 1903 ص 118 مع فوارق.(7/197)
وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ فِي بنية:
يَزِيد زيادة الرحمن فينا ... وصاحب عزوة الأمر الشديد
ومروان الصفي صفي نفسي ... شبيه النفس مني والجدود
وعَبْد اللَّهِ صاحب كل حرب ... وغزو تحت أبدان الحديد
فقد علقت حبهم جميعا ... عَلَى أن الخلافة للوليد
سليمان الشعار شعار قلبي ... أحب إِلَى من ذوب الشهود
ورأيي فِي هِشَام أن فيه ... حياة للجنود وللوفود
وقالوا: تزوج عَبْد الْمَلِكِ شقراء بنت مسلمة بْن حنظلة الطائي، وصفت لَهُ، وَكَانَ الواصف لها ابْن معرض الطائي، فَقَالَ: والله لوددت أن الله جعل حظ طيّئ كلها من نار جهنم فِي حر شقراء ليلتها هذه وكانت عظيمة الركب، ويقال بل خرج عَبْد الْمَلِكِ متنزها، فرأى خباء حريدا فوقف عَلَيْهِ، فخرج إِلَيْهِ أَبُو شقراء فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: مَا أنزلك متنحيا؟ فَقَالَ إن لي ابنة لها بهاء قرشية، وحسن غطفانية، وفم طائية، وجسم عامرية، فتزوجها فماتت عنده فصالحهم من ميراثها عَلَى ألف ألف درهم.
وكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى هِشَام بْن إسماعيل وهو بالمدينة اخطب علي امرأة من قريش من كمالها ومن طولها ومن بياضها فكتب إِلَيْهِ: إني لا أعلم هذه الصفة إلا فِي بنات المغيرة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحارث بْن هِشَام، وَكَانَ المغيرة جميلا، وكن بناته ذوات جمال وكمال، وللمغيرة يقول الشاعر:
ألا يا أيها الأعراب سيروا ... فما بعد المغيرة من مقام(7/198)
المدائني عن إبراهيم بن سعد أن عَبْد الْمَلِكِ رأى فِي منامه كأن امرأته المخزومية قلعت رأسه، ثُمَّ لطعت منه عشرين لطعة [1] ، فبعث إِلَى سعيد بْن المسيب من سأله عَن الرؤيا، فَقَالَ: تلد منه ولدا يملك عشرين سنة، فولدت هشاما فملك عشرين سنة، ويقال إنه رأى أيضا كأنه وتدت فِي ظهره أوتاد، فقصت رؤياه عَلَى سعيد، فَقَالَ: يخرج من صلبه أولاد يلون الخلافة.
وتزوج عَبْد الْمَلِكِ ابنة لعلي بْن أَبِي طالب، وتزوج أم أبيها بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر فطلقها، وقد ذكرنا قصتها فيما تقدم من أخبار آل أَبِي طالب.
وتزوج أم الحكم بنت ذؤيب بْن حلحلة بْن عَمْرو الخزاعي، وهي أخت قبيصة بْن ذؤيب صاحبه.
وأما مسلمة بْن عَبْد الْمَلِكِ فسنذكره بعد هذا الموضع إن شاء اللَّه، وَكَانَ صاحب رأيهم، وفتح الطوانة وغزا الصوائف غير مرة ومات بالحانوتة من مضر [2] سنة إحدى وعشرين ومائة وَكَانَ مولده عام أخرج ابْن الزُّبَيْرِ بني أمية من المدينة.
__________
[1] اللطع: اللحس، وأن تضرب الإنسان برجلك، ولطعه بالعصا: ضربه. القاموس.
[2] الحانوته أو الناعورة على الفرات قرب الرقة كان فيه قصر لمسلمة بن عبد الملك من حجارة صلدة. بغية الطلب في تاريخ حلب لابن العديم- ط. دمشق 1988 ج 1 ص 64.(7/199)
مَا قيل فِي عَبْد الْمَلِكِ وأخباره بعد مقتل ابْن الزُّبَيْرِ
الْمَدَائِنِيُّ عَن مَسْلَمَةَ قَالَ: رَأَى مُعَاوِيَة عَبْدَ الْمَلِكِ فَقَالَ: هَذَا أَبُو الْمُلُوكِ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَكْرٍ السَّهْمِيِّ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ:
كُنْتُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَبْدُ الْمَلِكِ، فَلَمَّا قَامَ أَتْبَعَهُ بَصَرَهُ، ثُمَّ قَالَ لِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْفَتَى مَا أَعْظَمَ مُرُوءَتَهُ.
الْمَدَائِنِيّ عَن المنهال بْن عَبْد الْمَلِكِ قَالَ نظر رجل إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، وكانت فِي رأسه شامة مدورة، فَقَالَ: أما ليملكن فَقَالَ: ليت لنا من عرفج خوصة [1] .
الْمَدَائِنِيّ وغيره قالوا دخل عَبْد الْمَلِكِ عَلَى يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن لك أرضا بوادي القرى ليست لها غلة فإن رأيت أن تأمر لي بها
__________
[1] العرفج شجر وقيل هو ضرب من النبات، له ثمرة خشناء كالحسك. معجم أسماء النباتات الواردة في تاج العروس لمحمود مصطفى الدمياطي- ط. القاهرة 1965. وانظر المثل في معجم الأمثال العربية لرياض مراد. ط. الرياض 1986. ج 3 ص 153.(7/201)
فَقَالَ يَزِيد: إنا لا نخدع عَن صغير ولا نبخل بكبير، قَالَ: فإن فيها كذا وكذا، قَالَ: هي لك، قَالَ: فلما ولى قَالَ يَزِيد: هَذَا الَّذِي يقال إنه يلي بعدنا، فإن كَانَ ذَلِكَ باطلا فقد وصلناه، وإن كَانَ حقا فقد صانعناه.
الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ رَأَى عُثْمَانُ عَبْدَ الْمَلِكِ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَقَالَ: رَأَيْتُنِي أَخَذْتُ بُرْنُسِي فَوَضَعْتُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَدْ وَلَدَهُ أَبُو الْعَاصُ مَرَّتَيْنِ، وَلَئِنْ خَرَجَتْ مِنِّي إِلَيْهِ مَا ذَاكَ بِكَبِيرٍ.
الْمَدَائِنِيُّ وَالْحِرْمَازِيُّ عَنِ الْعُتْبِيِّ قَالا: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ عَمْرُو بن العاص: لله درّ عبد الملك مازلت أَعْرِفُهُ آخِذًا بَأَرْبَعٍ تَارِكًا لِثَلاثٍ، آخِذًا بِقُلُوبِ الرجال إذا حَدَثٍ، وَبِحُسْنِ الاسْتِمَاعِ إِذَا حَدَّثَ، وَبِتَرْكِ الْجِدَالِ إِذَا خُولِفَ، وَبِإِظْهَارِ الْبِشْرِ إِذَا لَقِيَ، تَارِكًا لِخِلَّةِ الظَّنِينِ فِي دِينِهِ، وَمُلاحَاةِ الْغَلِقِ خَوْفًا لِشِذَّاتِهِ، وَلِلدُّخُولِ فِيمَا لا يَعْنِيهِ هَذَا مَعَ حِلْمٍ وَعِلْمٍ.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: وصف رجل عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ: إنه ليترك مخالفة الجليس توقيا لسوء المجالسة، ويدع مماراة اللجوج كراهة لعداوته.
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي هاشم الحراني، كاتب بشر بْن مروان قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ للشعبي، حين وفد عَلَيْهِ وحدثه: لقد حدثتني بأحاديث قد مرت بمسامعي، ولكني أنصت حَتَّى تظن أني لم أسمعها، وإن ذَلِكَ لطرفا من الأدب.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدم، عَنْ وكيع قَالَ: حَدَّثَنَا الأعمش عَن ذكوان قَالَ: كَانَ فقهاء المدينة يعدون أربعة، منهم عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان.(7/202)
حَدَّثَنِي روح بْن عَبْد المؤمن قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بْن جرير عَن أبيه عَن نافع قَالَ: لقد رأيت المدينة وما بِهَا شاب أشد تشميرا، ولا أملك لنفسه، ولا أظهر مروءة من عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان.
قَالَ: وَكَانَ يقال لعَبْد الْمَلِكِ بالمدينة حمامة المسجد لعبادته.
قَالَ: وشكي بعض العمال إِلَى ابْن عمر، وعَبْد الْمَلِكِ يصلي إِلَى سارية، فَقَالَ ابْن عمر: لو وليهم عَبْد الْمَلِكِ هذا مَا رضوا بِهِ، يضرب بِهِ المثل فِي الفضل والصلاح.
الْمَدَائِنِيّ وغيره إن عَبْد الْمَلِكِ قَالَ حين وجه يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ الجيش إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ: ليت السماء وقعت عَلَى الأرض، إعظاما لِذَلِكَ، ثُمَّ إنه ابتلي بعد ذلك بأن وجه الحجاج فقتله بِمَكَّةَ ورمى البيت.
وحدثني العمري عَنِ الهيثم بْن عدي عَنِ مجالد عَن الشَّعْبِيّ قَالَ:
دخلت عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فقلت: أنا الشَّعْبِيّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: لو لم نعرفك لم نأذن لك، فلم أدر مَا أقول، فَقَالَ: علم بني الشعر، فإنه ينجدهم ويمجدهم.
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مر ابْن زمل العذري بسعيد بْن المسيب فدعاه فجاءه، وهو فِي المسجد، فَقَالَ: بلغني إنك مدحت عَبْد الْمَلِكِ فأنشدني مَا قلت فيه فأنشده:
فما عابتك فِي خلق قريش ... بيثرب حين أنت بِهَا غلام
فَقَالَ: صدقت كذا كَانَ وهو عندنا.(7/203)
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ عَن الأشياخ: بايع مروان بْن الحكم لأبنيه: عَبْد الْمَلِكِ، وعَبْد العزيز حين رجع من مصر بالصنبرة [1] ، أو بدمشق وولى عَبْد الْمَلِكِ فلسطين، فلما مات مروان أتاه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أم الحكم، فسلم عَلَيْهِ بالخلافة. وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: لما قتل عَبْد الْمَلِكِ عَمْرو بْن سعيد قَالَ ابْن الزُّبَيْرِ:
إن أبا الذبان قتل لطيم الشيطان وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون [2] وبلغ ذَلِكَ ابْن الحنفية فَقَالَ: فَمَنْ نَكَثَ فإنما ينكث على نفسه [3] يرفع لَهُ يوم القيامة لواء بغدرته، ويلعنه اللَّه والملائكة.
وَقَالَ الواقدي: كَانَ عَبْد الْمَلِكِ يكنى أبا الوليد عابدا ناسكا قبل الخلافة، وسمع من عثمان، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، ومات بالشام سنة ست وثمانين، وقبض وله ثمان وخمسون سنة.
وروى مروان عَن عمر وعثمان وهاجر النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ وله ثمان سنين، ومات سنة خمس وستين وله ثلاث وسبعون سنة.
وقالوا: كتب عَبْد اللَّهِ بْن عمر حين قتل ابْن الزُّبَيْرِ إِلَى عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان: «من عَبْد اللَّهِ بْن عمر، سلام عليك، فإني مقرّ لك بالسمع والطاعة عن سنة اللَّه عز وجل وسنة رسوله مَا استطعت» .
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: كَتَبَ ابْنُ عُمَرَ إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْبَيْعَةِ، فَقِيلَ لِعَبْدِ الْمَلِكِ: أَتَرْضَى بِأَنْ يُكْتَبَ إِلَيْكَ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا مِنْ أَبِي عَبْدِ الرحمن كثير.
__________
[1] قرب طبرية.
[2] سورة الأنعام- الآية: 129.
[3] سورة الفتح- الآية: 10.(7/204)
وكتب ابْن الحنفية ببيعته، وقد كتبنا خبره وخبر عَبْد الْمَلِكِ والحجاج فيما تقدم من خبر ابْن الحنفية.
قالوا: ووفد الحجاج إِلَى عَبْد الْمَلِكِ بعد قتل ابْن الزُّبَيْرِ، وأوفد مَعَهُ ابْن الحنفية، وعَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عثمان، وعمر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف، وعيسى بْن طلحة، ومحمد بْن سعد بْن أَبِي وقاص فِي رجال آخرين، قالوا: فدخل عيسى بْن طلحة عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فِي هذه الوفادة، ويقال فِي غيرها، فسأله أن يخليه، فَقَالَ: إنه ليس دون الحجاج سر، فَقَالَ: والله لئن لم تخلني لا قبلت صلتك ولأرجعن ساخطا، قد قطعت رحمي فأخلاه، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سلطت عَلَيْنَا هذا الغلام من ثقيف، لا يعرف لقومك حقا، فَقَالَ: إنكم مَا تعرفون منه شيئا إلا وأنا عارف بِهِ، وأنا عازله عنكم عزلا جميلا، فلا يسمعن هذا منك أحد فإني أخبره أنك أثنيت عَلَيْهِ، وخرج فأخبر عَبْد الْمَلِكِ الحجاج أن عيسى أثنى عَلَيْهِ، فأتى الحجاج عيسى فوقف عيسى عَلَى بابه ووصله. وَقَالَ بعضهم: إن المتكلم بهذا الكلام وَالَّذِي أخلاه عَبْد الْمَلِكِ عمر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف.
حَدَّثَنِي حَفْص بْن عُمَر العُمري عَن الْهَيْثَم بْن عَدِيٍّ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأَيْلِيِّ عَن الزهري قَالَ: سمع عَبْد الْمَلِكِ بعض أَهْل الشام ممن توجه إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ أيام يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ يقول: والله لنرمين البيت بالحجارة والنار إن أقام الملحد ابْن الزُّبَيْرِ عَلَى مَا هو عَلَيْهِ، عَلَى رغم أنف من رغم، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: فإني أشهد اللَّه أن أنفي إن كَانَ ذَلِكَ، وأعوذ بالله، أول راغم، قَالَ:
فلم يلبث أن رماه الحجاج وهو عامله وصاحبه بأمره.(7/205)
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ الْكُوفِيُّ عَنْ عَوَانَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَبْد الْمَلِكِ أول خليفة بخل، وَكَانَ يقول: إعطاء الشعراء من السرف، ولكنهم قوم يتأتى لهم من الذم الباقي السائر مَا لا يتأتى لغيرهم فأنا أتقيهم ببعض النوال ولا أتجاوز القصد.
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُسْلِمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: لما مات مروان صلى عَلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ ودفنه، ثُمَّ صعد المنبر فَقَالَ: إني والله مَا أنا بالخليفة المصانع، ولا الخليفة المستضعف، ولا الخليفة المطعون عَلَيْهِ [1] ، إنكم تأمرونا بتقوى اللَّه وتنسون ذَلِكَ من أنفسكم، والله لا يأمرني أحد بعد يومي هذا بتقوى اللَّه عز وجل إلا ضربت عنقه ثُمَّ نزل.
الْمَدَائِنِيّ عَن عوانة قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: زينة الكهل العلم، وجنته الحلم.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: تزوج عَبْد الْمَلِكِ ولادة بنت العباس العبسي فولدت لَهُ الوليد وسليمان، فَقَالَ عثمان بْن مسعود العبسي يوما للحضين بْن المنذر:
يَا حضين أنت عجوز بكر بْن وائل، فَقَالَ: لا ولكني كبيرها وسيدها، وأنت من قوم سادهم فِي الجاهلية عبد يعني عنترة وتقدمهم فِي الإسلام بحر إن ندى نديتم، وإن جف جففتم.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِي بكر بْن عياش عَن حصين قَالَ: قَالَ الشَّعْبِيّ: وفدت عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، فما أخذت فِي حديث أرى أنه لم يسمعه إلا سبقني إِلَيْهِ، وربما غلطت فِي الشيء وقد علمه فيتغافل عنّي تكرّما.
__________
[1] بهامش الأصل: عنى بالمصانع معاوية، وبالمستضعف عثمان، وبالمطعون عليه يزيد.(7/206)
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: أتى رجل عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: إن لك عندي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نصيحة فِي فلان، فَقَالَ لَهُ: نسمعها منك عَلَى أنك إن كنت صادقا مقتناك، وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن أحببت أن نقيلك أقلناك؟ قَالَ:
فأقلني، قَالَ: قد فعلت.
الحرمازي عَن جهم السليطي قَالَ: دخل أعرابي عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فسأله فَقَالَ: إن عَلَيْنَا فِي مالنا حقوقا هي أوجب من حقك، فَقَالَ: والله لو كنت مثلك مَا منعت راغبا، فَقَالَ: أعطوه، فأبى قبول عطيته وخرج، فقيل لَهُ: لم امتنعت من قبول صلته؟ فَقَالَ: إن يد البخيل ثقيلة.
[وصية عبد الملك إلى مؤدب ولده]
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عن عوانة قَالَ: دعا عَبْد الْمَلِكِ بمؤدب ولده فَقَالَ: إني قد اخترتك لتأديب ولدي وجعلتك عيني عليهم وأميني، فاجتهد فِي تأديبهم ونصيحتي فيما استنصحتك فيه من أمرهم، علمهم كتاب اللَّه عز وجل حَتَّى يحفظوه وقفهم عَلَى مَا بين اللَّه فيه من حلال وحرام حَتَّى يعقلوه، وخذهم من الأخلاق بأحسنها، ومن الآداب بأجمعها، وروهم من الشعر أعفه، ومن الحديث أصدقه، وجنبهم محادثة النساء، ومجالسة الأظناء، ومخالطة السفهاء، وخوفهم بي، وأدبهم دوني، ولا تخرجهم من علم إِلَى علم حَتَّى يفهموه، فإن ازدحام الكلام فِي السمع مضلة للفهم، وأنا أسأل اللَّه توفيقك وتسديدك، ثُمَّ أسمى له الرزق، وبدأه بصلة حسنة.
[وصية معاوية إلى بني أمية]
حَدَّثَنِي أَبُو أيوب الرقي المؤدب عَن أبيه قَالَ: دعا عَبْد الْمَلِكِ مؤدب ولده فَقَالَ لَهُ: رو ولدي مَا فِي هذا القرطاس، وإذا فيه وصية مُعَاوِيَة فكانت:(7/207)
«بسم الله الرحمن الرحيم يا بني أمية إنه لما قرب مني مَا كَانَ بعيدا، وخفت أن يسبق الموت إلي، ويسبقكم بي سبقته إليكم بالموعظة، لأبلغ عذرا، وإن لم أرد قدرا، إن الَّذِي أخلفه لكم من دنياي أمر تشاركون فيه، أو تقبلون عَلَيْهِ، وإن الَّذِي أخلف لكم من رأيي مقصور عليكم نفعه إن فعلتموه، مخوف عليكم ضرره إن ضيعتموه فاجعلوا مكافأتي قبول نصيحتي، وإن قريشا شاركتكم فِي أنسابكم وتفردتم دونها بأفعالكم، فقدمكم مَا تقدمتم فيه إذ أخر غيركم ما تأخروا له، ولقد جهر لي فعلمت، ونعم لي ففهمت حَتَّى كأني أنظر إِلَى أولادكم بعدكم كنظري إِلَى آبائهم قبلهم، إن دولتكم ستطول وكل طويل مملول، وكل مملول مخذول، فإذا انقضت مدتكم كَانَ أول ذَلِكَ اختلافكم بينكم، واتفاق المختلفين عليكم، فيدبر الأمر بضد مَا أقبل بِهِ، فلست أذكر عظيما ينال منكم ولا حرمة تنتهك لكم إلا وما أكف عَن ذكره أعظم منه، فلا معول عَلَيْهِ عند ذَلِكَ أفضل من الصبر واحتساب الأجر، فيا لها دولة أنست أهلها الدول فِي الدنيا، والعقوبة فِي الآخرة، فيمادكم القوم دولتكم تماد العنانين فِي عنق الجواد، فإذا بلغ اللَّه بالأمر مداه، وجاء الوقت الَّذِي حده رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ضعفت الحيلة، وعزب الرأي وصارت الأمور إِلَى مصائرها فأوصيكم عندها بتقوى اللَّه عز وجل الَّذِي يجعل لكم العاقبة إن كنتم متقين» .
حَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار عَن الوليد عَن روح بْن جناح عَن الزهري أن عَبْد الْمَلِكِ رأى عند بعض ولده حديث المغازي، فأمر بِهِ فأحرق، وَقَالَ:
عليك بكتاب اللَّه فاقرأه، والسنة فاعرفها واعمل بها.(7/208)
[ما قيل في عبد الملك وأخباره]
وَكَانَ المنصور أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يقول الخلفاء ثلاثة: مُعَاوِيَة وكفاهُ زِيَاد، وعَبْد الْمَلِك وكفاه الحجاج، وأنا ولا كافي لي.
وَقَالَ المنصور أيضا وذكر ملوك بني أمية: كَانَ عَبْد الْمَلِكِ أشدهم شكيمة، وأمضاهم عزيمة، وَكَانَ هِشَام رجلهم.
حَدَّثَنِي الحرمازي عَن أَبِي عبيدة قَالَ: كانت عبس تستطيل بتزويج عَبْد الْمَلِكِ ولادة بنت العباس العبسي، فَقَالَ الوليد بْن القعقاع العبسي ليزيد بن عمر بن هبيرة: يابن الفرار، فقال يابن الضراط، قال الوليد: يابن اللخناء، قَالَ:
بل أنت نزوة خوار عَلَى أمة ... لا يدرك الحلبات اللؤم والخور
قَالَ ابن هبيرة: يابن الفجواء [1] لقد قدمتك أعجاز النساء وقدمني صدور الخيل والقنا.
وَحَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار قَالَ: حَدَّثَنِي الوليد بْن مسلم قَالَ: سمعت شيخا من أَهْل دمشق مسنا يحدث عَن أَبِي الزعيزعة قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ للهذيل بْن زفر، وحاتم بْن النعمان الباهلي: إني أريد اختصاصكما ومجالستكما، فلا تمدحاني فِي وجهي، فإني أعلم بنفسي منكما، ولا تطريا عندي ظنينا فأستغشكما، ولا تكذباني فليس لمكذوب رأي، ولا تغتابا عندي أحدا، وقولا مَا شئتما.
وَحَدَّثَنِي عُمَر بْن بُكَيْر عَنِ الْهَيْثَمِ بْن عَدِيٍّ عَن ابْن عياش الهمذاني قَالَ: دعا عَبْد الْمَلِكِ الهذيل بْن زفر بْن الحارث الكلابي، وحاتم بن النعمان
__________
[1] التفجية: الكشف والتنحية، والفجا: تباعد ما بين الفخذين أو الركبتين، أو الساقين.
القاموس.(7/209)
الباهلي، فَقَالَ: إني قد عزمت عَلَى أن تجالساني وتسامراني، فلا تمدحاني فِي وجهي فإني أعلم بنفسي منكما، ولا تطريا عندي فاسقا فأمقتكما، ولا ظنينا فأستغشكما، ولا تكذباني فإنه لا رأي لمكذوب، ولا تغتابا عندي أحدا، وقولا بعد ذَلِكَ ما شئتما.
قَالَ: فكان الهذيل يتبع هواه فيما لَهُ وعليه مما يشينه ويزينه، وَكَانَ حاتم بْن النعمان يخالفه فيما خاف عَلَيْهِ عاقبته وضرره، فَقَالَ لَهُ الهذيل: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنما يخالفك حاتم ليري النَّاس جرأته عليك، فوقع ذَلِكَ فِي نفس عَبْد الْمَلِكِ فجفاه وحجبه، فبينا عَبْد الْمَلِكِ يسير فِي مسير لَهُ: إذ بصر بحاتم فِي الموكب فدعا بِهِ، وَقَالَ لَهُ: مالي لا أراك فِي مسيري إذا سرت، ونزولي إذا نزلت؟ فَقَالَ: مَا أبرح من عسكر أمير المؤمنين أصلحه اللَّه، ولا أخرج عنه، وَقَالَ:
إن مسيري فِي المسير ومنزلي ... لبالمنزل الأقصى إذا لم أقرب
ولست وإن أدنيت يوما بقائل ... مقالة ذي غش لكم لتحبب
وقد عدها قوم كثير تجارة ... ويمنعني من ذاك ديني ومنصبي
وإني أرى حق الإمام ونصحه ... وطاعته فرضا كما هي للأب
فدعاه وأدناه وسمع منه.
[وصية عبد الملك إلى أخيه عبد العزيز]
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مصفى الحمصي عَن الوليد عَن بعض ولد عمر بْن عَبْد العزيز قَالَ: قدم عَبْد العزيز بْن مروان علي أخيه عَبْد الْمَلِكِ من مصر فِي بعض الأمور، فلما أراد الشخوص إليها قَالَ لَهُ: انظر مَا أوصيك بِهِ فاجعله لك إماما: ابسط بشرك، وألن كنفك، وآثر الرفق فِي الأمور فهو أبلغ بك، وانظر حاجبك فليكن من خير أهلك، فإنه وجهك ولسانك، ولا يقفنّ أحد(7/210)
ببابك إلا أعلمك مكانه لتكون أنت الَّذِي تأذن لَهُ أو ترده، وإذا خرجت إِلَى مجلسك فابدأ جلساءك بالكلام يأنسوا بك، وتثبت فِي قلوبهم محبتك، وإذا انتهى إليك أمر مشكل فاستظهر عَلَيْهِ بالمشاورة فإنها تفتح مغاليق الأمور المبهمة، واعلم أن لك نصف الرأي، ولأخيك نصفه، ولن يهلك امرؤ عَن مشورة، وإذا سخطت عَلَى أحد فأخر عقوبته فإنك عَلَى العقوبة بعد التوقف عنها أقدر منك على ردها بعد إمضائها.
[ما قيل في عبد الملك وأخباره]
حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن عوانة قَالَ: كَانَ عَبْد الْمَلِكِ جالسا وعنده قوم من الأشراف، فَقَالَ لعبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان البكري:
يَا عبيد اللَّه بلغني أنك لا تشبه أباك؟ فَقَالَ: بلى والله إني لأشبه بِهِ من الماء بالماء، والقتة بالقتة، والتمرة، بالتمرة، والغراب بالغراب، ولكن إن شئت أخبرتك بمن لم تنضجه الأرحام، ولم يولد لتمام، ولم يشبه الأخوال والأعمام.
قَالَ: ومن هو؟ قَالَ: سويد بْن منجوف فلما خرج عبيد اللَّه وسويد، قَالَ سويد: والله مَا يسرني بمقالتك لَهُ حمر النعم، قَالَ عبيد اللَّه: وما يسرني والله باحتمالك إياي وسكوتك عني سودها، وإنما عرض بعَبْد الْمَلِكِ، وَكَانَ ولد لسبعة أشهر.
قالوا: ودخل أَبُو العباس الكناني الأعمى عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ:
أخبرني عَن مصعب فأنشده قوله فيه:
يرحم اللَّه مصعبا إنه مات ... كريما ورام أمرا عظيما
طلب الملك ثُمَّ مات حفاظا ... لم يعش باخلا ولا مذموما
ليت من عاش بعده من قريش [1] ... موتوا قبله وعاش سليما
__________
[1] بهامش الأصل: من بني العوام.(7/211)
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: صدقت كَانَ مصعب نابا من أنياب قريش، وصنديدا من صناديدها.
حدثني أبو هشام الرفاعي عَن عمه كثير بْن مُحَمَّد عَن ابْن عياش المنتوف قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: شممت الطيب حَتَّى مَا أبالي رائحة مَا وجدت، وأتيت النساء حَتَّى مَا أبالي رأيت امرأة أم حائطا، وأكلت الطعام حَتَّى مَا أبالي مَا أكلت، وما بقيت لي لذة إلا فِي محادثة رجل ألقي التحفظ بيني وبينه.
وَحَدَّثَنِي أَبُو أيوب الرقي عَن الحجاج بْن أَبِي منيع الرصافي قَالَ:
أوصى عَبْد الملك ولده، وأهل بيته، فقال: يا بني مروان ابذلوا معروفكم، وكفوا أذاكم، واعفوا إذا قدرتم ولا تبخلوا إذا سئلتم، ولا تلحفوا إذا سألتم، فإنه من ضيق ضيق عَلَيْهِ، ومن وسع وسع عَلَيْهِ.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قيل لعَبْد الْمَلِكِ: قد شبت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ: وكيف لا أشيب وأنا أعرض عقلي عَلَى النَّاس فِي كل جمعة- يعني الخطبة-.
[خطبة عبد الملك في أهل الحجاز]
حَدَّثَنِي أَبُو صالح الأنطاكي عَن الْحَجَّاجُ بْن مُحَمَّد عَن ابْنُ جُرَيْجٍ عَن إسماعيل بْن مُحَمَّد قَالَ: قدم عَلَيْنَا عَبْد الْمَلِكِ حاجا فِي سنة خمس وسبعين، فصعد الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أما بعد ذلكم أيها النَّاس فلست بالخليفة المستضعف- يعني عثمان- ولا بالخليفة المداهن- يعني مُعَاوِيَة- ولا بالخليفة المأفون- يعني يَزِيد- ألا وإن من قبلي من الولاة كانوا يأكلون ويؤكلون، وإني والله لا أداويكم إلا بالسيف، فمن أحب أن يبدي صفحته فليفعل، فلا تكلفونا أعمال المهاجرين، ولستم تعملون أعمالهم، فو الله مَا زلتم تزدادون استجراحا ونزداد لكم عقوبة، حَتَّى التقينا نحن وأنتم عند السيوف، هذا عَمْرو بْن سعيد قَالَ براسه كذا، فقلنا بسيفنا كذا، ألا فليبلغ(7/212)
الشاهد الغائب إنه ليست من لعبة إلا ونحن نحتملها، مَا لم تبلغ أن تكون صعود منبر أو نصب راية، ألا وإن جامعة عَمْرو بْن سعيد التي جعلناها فِي عنقه عندنا، وإني أعطي اللَّه عهدا أن لا أجعلها فِي عنق أحد فأخرجها منه إلا صعدا، أقول قولي هذا وأستغفر اللَّه لي ولكم.
الْمَدَائِنِيّ عَنْ مسلمة قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: إن الخلفاء قبلي كانوا يداوونكم بأدوائكم، فيأكلون ويؤكلون، وإني والله لا أداويكم، إلا بالسيف، إن اللَّه عز وجل فرض فرائض وحد حدودا، فما زلتم تزدادون فِي الذنوب ونزداد فِي العقوبة حَتَّى اجتمعنا نحن وأنتم عند السيف، فليبق امرؤ عَلَى نفسه.
الْمَدَائِنِيُّ عَنِ ابْن جُعْدُبَةَ قَالَ: هَدَمَ ابْنُ الزُّبَيْرِ الدُّورَ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ: أَنْتُمْ حَلَلْتُمْ عَلَى الْكَعْبَةِ وَلَمْ تَحِلَّ عَلَيْكُمْ، وَلَمْ يُعْطِهِمْ أَثْمَانَ دُورِهِمْ، فَلَمَّا قُتِلَ تَظَلَّمُوا إِلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: إِنْ كَانَ أَخَذَ حَقًّا فَلَيْسَ لَكُمْ عَلَيْهِ سَبِيلٌ، وَإِنْ كَانَ ظَلَمَكُمْ، فَإِنِّي لا أُحِبُّ إِخْرَاجَهُ مِنَ الظُّلْمِ.
قالوا: دخل حميد بْن ثور الهلالي عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أقدمك يَا حميد؟ فَقَالَ:
أتاك بنا اللَّه الَّذِي فوق من ترى
قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: وماذا؟ قَالَ:
وفضل ومعروف عليك دليل
قَالَ: وماذا؟ قَالَ:
ومطوية الأقراب أما نهارها ... فسير وأما ليلها فذميل
فوصله وأعطاه.(7/213)
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: خطب عَبْد الْمَلِكِ أَهْل المدينة. وقد قدمها يريد الحج فَقَالَ: إني لأعلم أني لا أحبكم مَا ذكرت قتل عثمان، وأنكم لا تحبوني مَا ذكرتم الحرة وحبيش بْن دلجة، فأنا وأنتم كما قَالَ الشاعر:
أبى لي قبر لا يزال مواجهي ... وضربة فأس فوق رأسي فاقره
[عبد الملك يتهدد أقاربه]
قَالَ: وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ يتهدد أَهْل بيته بمثل مَا صنع بعمرو بْن سعيد، فكتب إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عثمان: «إنك قد عرفت بلاء عثمان عندك، وعند أَهْل بيتك، ورفعه أقداركم، وما أوصاك بِهِ مروان من قضاء دين عَمْرو بْن عثمان، وتأخيرك ذَلِكَ، فإن تؤثر مَا أوصاك بِهِ أبوك فأهله نحن، وإلا تفعل فسيغني اللَّه عنك والسلام» .
وَكَانَ مروان أوصى عَبْد الْمَلِكِ بقضاء دين عَمْرو، فكتب إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ: قد أتاني كتابك، وعمرو بْن سعيد كَانَ أقرب منك رحما، وأوجب علي حقا، فأخطأ موضع قدمه، ففرقت بين رأسه وجسده، وقد هممت بأن الحقك بِهِ.
فكتب إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو: أتاني كتابك بما ذكرت مما هممت، فإن تفعل فإني رجل معرق لي فِي الشهادة، أنا ابْن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عثمان، وابن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عمر، وكانت أمه حفصة بنت عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر.
الْمَدَائِنِي عَنْ عَلِي بْن حماد قَالَ: قَالَ عَبْد الملك السياسة هيبة الخصاصة، مَعَ صدق مودتها، وإفساد قلوب العامة بالإنصاف لها، واحتمال هفوات الصنائع، فإن شكرها لأقرب الأيادي إليها.
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام الْكَلْبِيّ عَن أبيه عَن أَبِي مخنف وغيره أن عَبْد الْمَلِكِ كَانَ فاسد الفم، فوقعت فيه الإكلة، فكان ينادي يَا أَهْل العافية(7/214)
لا تستقلوها، فيسمع صوته بِذَلِكَ من عدة منازل، فلما اشتدت بِهِ العلة دعا بنية فقال لهم حين حضروا: يا بني أوصيكم بتقوى اللَّه فإنها عصمة باقية وجنة واقية، وقروا كبيركم وارحموا صغيركم، وابذلوا للناس معروفكم، وجنبوهم أذاكم، وأكرموا مسلمة بْن عَبْد الْمَلِكِ فإنه سنكم الَّذِي بِهِ تتزينون، ونابكم الَّذِي عنه تفترون، وسيفكم الَّذِي بِهِ تصولون، فاقبلوا قوله، واصدروا عَن رأيه، وأسندوا جسيم أمركم إِلَيْهِ، وأكرموا الحجاج بْن يوسف، فإنه وطأ لكم المنابر ودوخ لكم البلاد، قد عرفتم بلاءه فِي الملحد ابْن الزُّبَيْرِ، وفي طغاة أَهْل العراق، واجتهاده فِي طاعتنا، ومحاماته عَلَيْنَا ولم يلبث أن مات، فصلى عَلَيْهِ الوليد.
[وصية عبد الملك إلى ولده قبيل وفاته]
الْمَدَائِنِيّ عَن عامر بْن حفص قَالَ: مرض صديق لعَبْد الْمَلِكِ بْن مروان من جرح كَانَ بِهِ، فَقَالَ لروح بْن زنباع الجذامي: أتيت فلانا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فأين جرحه؟ قَالَ فِي عجانه، قَالَ: مه، ثُمَّ قَالَ لشبة بْن عقال: اذهب فانظر أين جرحه، فمضى ثُمَّ أتاه فَقَالَ: جرحه بين الثنة والصفنة، وهي جلدة الخصيتين، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لروح: قل كذا.
الْمَدَائِنِيّ عَن خالد بْن يَزِيدَ بْن بشر عَن أبيه: إن عَبْد الْمَلِكِ أتي برجل من قيس فَقَالَ لَهُ: زبيري عميري يعني عمير بْن الحباب، فَقَالَ لَهُ: والله لا يحبك قلبي أبدا، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنما يبكي عَلَى الحب المرأة، ولكن عدلا وإنصافا.
حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عدي عَن عوانة وابن عياش قالا: دخل الهيثم بْن الأسود النخعي عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، وقد أتي بخارجي من النخع، وعَبْد الْمَلِكِ يحلف ليقتلنه فَقَالَ للهيثم: هذا رجل من(7/215)
قومك، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فهب جاني قوم لوافدهم، قَالَ: هو لك، فخرج الهيثم والخارجي مَعَهُ وهو يقول: تألى عَلَى اللَّه فكذبه، وغالب اللَّه عز وجل فغلبه. وقوم يزعمون أن الهيثم قَالَ هذا لمعاوية، وقوله إياه لعبد الملك أثبت.
[رأي المنصور في بعض خلفاء بني أمية]
الْمَدَائِنِيّ عَن شبيب بْن شبة قَالَ: قَالَ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ المنصور- وذكر بني أمية- أما عبد الملك فكان جبارا لا يبالي ما أقدم عليه، وأما الوليد فكان مجنونا، وأما سليمان فكان همه بطنه، وأما عمر بْن عَبْد العزيز فكان أعور بين عميان، وأما يَزِيد بْن عَبْد الْمَلِكِ فكان ركيكا ماجنا، ورجل القوم هِشَام.
الْمَدَائِنِيّ عَن مسلمة قَالَ: وفد الحجاج بْن يوسف عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، فدخل عَلَيْهِ وعنده خَالِد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ خالد: إِلَى كم هذا البسط، إِلَى كم هذا القتل؟ فَقَالَ الحجاج: مادام بالعراق رجل يزعم أن أباك كَانَ يشرب الخمر، فأسكته.
حَدَّثَنِي أَبُو مسعود الكوفي عَنِ ابْنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ عَوَانَةَ قَالَ: دَخَلَ ولد مسلم بْن عقبة المري عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ لهم: إن أباكم كَانَ جلدا لئيما، فمضى بجلده وخلف فيكم لؤمه فلا حاجة لنا بكم.
الْمَدَائِنِيّ عَن عوانة إن حسان بن مالك بن بحدل الكلبي، ومنظور بْن زبان بْن سيار مرضا، فعادهما عَبْد الْمَلِكِ، وهو خليفة فبدأ بحسان، ثُمَّ بمنظور، ثُمَّ خرج وهو يقول:
فما لي فِي دمشق ولا قراها ... مبيت إن عرضت ولا مقيل
وما لي بعد حسان سمير ... وما لي بعد منظور خليل(7/216)
[ما قيل في عبد الملك وأخباره]
وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عَن عوانة قَالَ: مرض حسان بْن مالك بْن بحدل، ومنظور بْن زيد بْن أفعى الْكَلْبِيّ أحد بني حارثة بْن عبد ود، فعادهما عَبْد الْمَلِكِ وَقَالَ:
فما لي فِي دمشق ولا قراها ... مبيت إن عرضت ولا مقيل
وما لي بعد حسان سمير ... وما لي بعد منظور خليل
وهذا أثبت وأصح.
الْمَدَائِنِيّ عَن زيد بْن عياض بْن جعدبة قَالَ: حج عَبْد الْمَلِكِ، فلقيه عُمَر بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة بْن المغيرة بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن مخزوم الشاعر، فلما سلم عَلَيْهِ قَالَ: ويحك أما ترعوي من فتونك، لقد علمت قريش أنك من أطولها صبوة، وأبطأها توبة، وجفاه فَقَالَ عمر: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بئست التحية من ابْن العم لابن عمه عَلَى طول النوى. وقيل لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سلم عليك ابْن أَبِي ربيعة، وهو فتى قريش وشاعرها فلقيته بالغلظة والجفوة، فلو دعوته فآنست وحشته، وبسطته، فدعاه، فدخل عَلَيْهِ، وجارية تغمز رجله، وأخرى تغمز رأسه، فَقَالَ لَهُ: إني كنت ضجرا فأسمعتك مَا لم أكن أحب أن أقول مثله لك فسلني حوائجك، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قد علمت قريش أني من أكثرها مالا وأحسنها حالا، وأنضها عينا، وأقلها دينا، وأعظم حوائجي بقاؤك. ثُمَّ انصرف، فقيل لَهُ: يَا أبا الخطاب دعاك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فعرض عليك الحوائج فلم تسأله شيئا؟ فَقَالَ: إنه أجلس القمر عند رجله، والشمس عند رأسه، ثُمَّ قَالَ: تصدق، وما كَانَ ذاك ليكون أبدا.(7/217)
قَالَ القاسم بْن سلام: يقال أن مُعَاوِيَة أو عَبْد الْمَلِكِ قَالَ: مَا غضبي عَلَى من أملك فأنا أقدر عَلَيْهِ وما غضبي عَلَى من لا أملك ويدي لا تناله.
وَحَدَّثَنِي عمر بْن بكير عَن هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ عَن ابْن مسكين المديني عَن أبيه قَالَ: حج عَبْد الْمَلِكِ فمر بمنزل حبى المدينية بالمدينة، وَكَانَ فتيان قريش يجلسون إليها فيتحدثون عندها، فأشرفت عَلَيْهِ ونظر إليها وهي تدعو لَهُ، فوقف وَقَالَ: يَا حبي أنا عَبْد الْمَلِكِ، فقالت: قد علمت فبأبي أنت وأمي، الحمد لله الذي أراني وجهك قبل موتي، كيف أنت يَا سيدي؟ قَالَ:
بخير يَا حبي كيف ماؤك المبرد، ومن كَانَ يغشاك من فتيان قريش؟ قالت:
بخير يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أقتلت أخاك عَمْرو بْن سعيد؟ قَالَ: نعم والله ويعز علي، ولكنه أراد قتلي، قالت: فلا أحاله، فأمر لها بخمسمائة دينار وأهدت لَهُ أشياء فقبلها.
حَدَّثَنِي الْعُمَرِيُّ عَن الهيثم بْن عدي عَنِ ابن عياش عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
دَخَلَ مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: ابْنُ كَمْ كَانَ أَبُوكَ حِينَ عَقَدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْجَيْشِ؟ قَالَ ابْنَ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، قَالَ: فَهَؤُلاءِ يَعِيبُونَنَا حِينَ عَقَدْنَا لِلْوَلِيدِ وَهُوَ ابْنُ بِضْعٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: ظلم النَّاس عروة بْن الورد حين قدموا عليه حاتم طيّئ فِي السخاء، لقد كَانَ سخيا حازما.
حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد النحوي المعروف بالتوزي عَن الأصمعي عَن أَبِي عَمْرو بْن العلاء قَالَ: نازع رجل من قريش رجلا من بني تميم، فَقَالَ التميمي: أما قريش فلها فضلها ولكن منا الأحنف بْن قيس أحلم النَّاس، وإياس بْن قتادة أحمل النَّاس، حمل دماء الأزد، وفارس العرب الحريش بْن(7/218)
هلال، فبلغ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان، فَقَالَ: قد كَانَ الأحنف حليما، وَكَانَ إياس حمولا، وأما الحريش فإن عباد بْن الحصين أولى بما وصفه بِهِ منه.
الْمَدَائِنِيّ إن عَبْد الْمَلِكِ حج فنزل بالمدينة دار مروان، فمر الحجاج بخالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ وهو قاعد فِي المسجد وعلى الحجاج سيف مجلجل وهو يخطر، فَقَالَ رجل لخالد: من هذا الخطار؟ قَالَ خالد: بخ بخ هذا عَمْرو بْن العاص، فَقَالَ الحجاج: أقلت هذا عَمْرو بْن العاص؟ مَا يسرني أن العاص ولدني ولكني إِلَى الأشياخ من ثقيف والعقائل من قريش، وأنا الَّذِي جمعت مائة ألف سيف بسيفي هذا وكلهم يشهد أن أباك كَانَ يشرب الخمر، ويضمر الكفر. ثُمَّ ولى وهو يقول: بخ بخ هذا عَمْرو بْن العاص.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حبيب مولى بني هاشم عَن أَبِي فراس السلمي عَن هِشَام ابن الْكَلْبِيّ عَن عوانة قَالَ: ولى عَبْد الْمَلِكِ الحجاج مَكَّة سنتين ثُمَّ ضم إِلَيْهِ المدينة وَكَانَ يتولاها قبله طارق ثُمَّ ولاه العراق، فاستخلف عَلَى مَكَّة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن نافع بْن الحارث بْن جبالة بْن عمير الخزاعي، وَكَانَ نافع قد ولي مَكَّة لعمر بْن الخطاب، وولى المدينة عَبْد اللَّهِ بْن قيس بْن مخرمة بْن عَبْد المطلب بْن عبد مناف، فأما عَبْد اللَّهِ بْن قيس فعزله عَبْد الْمَلِكِ، وَقَالَ للحجاج: وليته وهو من أحمق أَهْل بيت من قريش؟ وولى المدينة يَحْيَى بْن الحكم بْن أَبِي العاص وأقر عَبْد الرَّحْمَنِ بْن نافع عَلَى مَكَّة مَا شاء اللَّه عز وجل.
وَقَالَ أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ: كَانَ الحجاج عَلَى مَكَّة سنتين، وَكَانَ طارق عَلَى المدينة ثُمَّ ضمها عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الحجاج فاستخلف عَلَيْهَا عَبْد اللَّهِ بْن قيس بْن مخرمة، ثُمَّ ولى الحجاج العراق فاستخلف عَلَى مَكَّة والمدينة عَبْد(7/219)
اللَّهِ بْن قيس بْن مخرمة، فبعث عَبْد الْمَلِكِ عَلَى مَكَّة نافع بْن علقمة بْن صفوان الكناني، وولى المدينة يَحْيَى بْن الحكم، ثُمَّ ولى عَبْد الْمَلِكِ المدينة أبان بْن عثمان، وولى عَبْد الْمَلِكِ اليمامة يَزِيد بْن هبيرة المحاربي، ثُمَّ إِبْرَاهِيم بْن عربي، وولى الموصل يوسف بْن الحكم بْن أَبِي العاص، ولما مات عَبْد العزيز بمصر ولاها عَبْد الْمَلِكِ ابنه عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الْمَلِكِ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: بلغ عَبْد الْمَلِكِ أن بعض عماله يقبل الهدايا فأشخصه إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أقبلت هدية مذ وليت؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بلادك عامرة، وخراجك زاج وافر، ورعيتك عَلَى أفضل حال، قَالَ: أجب عما سألتك عنه؟ قَالَ: نعم قد قبلت، فَقَالَ لئن كنت قبلت هدية ولم تعوض عَلَيْهَا إنك للئيم ولئن كنت أنلت مهديها مَا كافأته بِهِ من مال المسلمين، أو قلدته من عملك مَا لم تكن لتقلده إياه قبل هديته إنك لخائن جائر، ولئن كنت عوضت المهدي إليك من مالك مَا أتهمك عند من ائتمنك، وأطمع فيك أَهْل عملك إنك لأحمق، وإن من أتى أمرا لم يخل فيه من لؤم أو حمق لحقيق أن لا يصطنع ثُمَّ عزله.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: وفد إِلَى عَبْد الْمَلِكِ رجل من أَهْل المدينة كَانَ يألفه أيام تنسكه فأذن لَهُ وأدخل إِلَيْهِ أسراء فأمر بضرب أعناقهم قبل أن يناظرهم فَقَالَ لَهُ الرجل: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لقد أقست الخلافة قلبك بعد أن كنت رءوفا، قَالَ: كلا إن الخلافة لم تقس قلبي، ولكنه أقساه احتمال الضغن بعد الضغن.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: خاض جلساء عَبْد الْمَلِكِ فِي قتل عثمان فَقَالَ رجل منهم:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أي سنك كنت يوم قتل عثمان؟ قَالَ: دون المحتلم، قَالَ: فما(7/220)
بلغ من حزنك عَلَيْهِ؟ قَالَ: شغلني الغضب لَهُ عَن الحزن عَلَيْهِ.
وَقَالَ: قدم عَلَى عَبْد الْمَلِكِ عقيل بْن علفة المري فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ:
مَا أحسن أموالكم عندكم؟ قَالَ: مَا ناله أحدنا عَن صاحبه تفضلا، قَالَ: ثُمَّ أيها؟ قَالَ: مواريثنا، قَالَ: فما أسرها لكم؟ قَالَ مَا استفدناه فأكسبنا نعما، وأفادنا عزا، قَالَ: فما مبلغ عزكم؟ قَالَ: لم يطمع فينا ولم تؤمن بوادرنا، قَالَ:
فما مبلغ جودكم؟ قَالَ: أحب أموالنا إلينا مَا اعتقدنا بِهِ منة وأبقي لنا ذكرا، قَالَ: فما بلغ من حفاظكم؟ قَالَ: يدافع الرجل منا عَن جاره كدفاعه عَن نفسه، قَالَ: عَبْد الْمَلِكِ مثلك فليصف قومه.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قدم المساور بْن هند بْن قيس بْن زهير بْن جذيمة العبسي عَلَى الوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ، وأمه ولادة بنت العباس بن جزي بن الحارث بن زهير بن جذيمة، فنزل عَلَى رجل من قومه يدعى برزا فأقام أشهرا فلم يصنع الوليد بِهِ خيرا، فارتحل وَقَالَ:
ثلاثة أشهر فِي دار برز ... أرجي نائلا عند الوليد
فلا تشكي الكلال بدار برز ... ولكن إن نجوت فلا تعودي
وإن ضن الوليد كما زعمتم ... فما نال الضنانة من بعيد
فبلغت أبياته عَبْد الْمَلِكِ، فبعث فِي أثره فرده وَقَالَ لَهُ: أمن قبلنا جاءته الضنانة، أم من قبلكم؟ قَالَ: لا بل من قبلنا، فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: هات حاجتك، قَالَ: علي ثلاثة عشر ألف درهم للتجار فقضاها عنه وَقَالَ للوليد:
أكانت هذه تفقرك لو دفعتها إِلَيْهِ قبل أن تسمع مَا سمعت؟!.(7/221)
حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بْن عدي عَنِ ابْن عياش قَالَ: كَانَ علي شرط عَبْد الملك ابن أَبِي كبشة السكسكي، ثُمَّ أَبُو نائل رياح الغساني، ثُمَّ عَبْد اللَّهِ بْن زيد الحكمي، ثُمَّ كعب بْن حامد العبسي، فمات وهو عَلَى شرطه، وَكَانَ عَلَى حرسه الريان فمات، فصير مكانه خالد بْن الريان، وَكَانَ كاتبه عَلَى الخراج والجند سرجون الرومي، وعلى رسائله أَبُو الزعيزعة مولاه، وعلى الخاتم قبيصة بْن ذؤيب فمات قبيصة سنة ست وثمانين، ويكنى أبا إسحق فصير مكانه عَمْرو بْن الحارث مولى بني عامر بْن لؤي.
قالوا: وكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الحجاج بعد يوم دير الجماجم أن يعطي النَّاس عطاءهم، فكتب إِلَيْهِ: «إنهم نكثوا العهد، ونقضوا البيعة، وفارقوا الجماعة، وطعنوا عَلَى الأئمة» ، فكتب إِلَيْهِ: «إنما تجب طاعتنا عليهم، بأن نعطيهم حقوقهم» .
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: أتي عَبْد الْمَلِكِ بأسارى، فهم بقتلهم فَقَالَ لَهُ رجاء بْن حيوة: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أذكرك آلاء اللَّه عندك بالعفو، فعفا عنهم، وأمر بتخليتهم.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: أراد الحجاج قتل من بقي فِي ديوان ابْن الأشعث من أصحابه حين ظفر بهم، فَقَالَ لَهُ قتيبة بْن مسلم: أصلح اللَّه الأمير إن اللَّه قَدْ أعطاك مَا تُحبّ من الظفر، فأعطه مَا يحب من العفو، فبلغ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ: لله در قتيبة لقد أبلغ فِي الموعظة، ولقد أحسن الحجاج فِي القبول.
الْمَدَائِنِيّ عَن مسلمة قَالَ: كتب الحجاج إِلَى عَبْد الْمَلِكِ إنه بلغني أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عطس فشمته من حضر، فأجابهم أن يهديكم اللَّه ويصلح بالكم، فيا ليتني كنت مَعَهُمْ فأفوز فوزا عظيما.(7/222)
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي اليقظان عَن جويرية بْن أسماء قَالَ: قام رجل من أَهْل اليمن إِلَى عَبْد الْمَلِكِ وهو يخطب، فَقَالَ: إن مُحَمَّد بْن يوسف- يعني أخا الحجاج، وَكَانَ عَلَى اليمن- يسفك الدم الحرام، ويأخذ المال الحرام، فَقَالَ:
اجلس فجلس، ثُمَّ قام فَقَالَ مثل مقالته، فَقَالَ لَهُ: ويحك اجلس فجلس، ثُمَّ قام فَقَالَ مثل مقالته فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: لقد هممت أن أقتلك، قَالَ:
مَا قمت هذا المقام إلا وبطن الأرض أحب إلي من ظهرها إني سمعت أنه تكون نبوة، ثُمَّ خلافة ورحمة، ثُمَّ ملك وجبرية، فقد ذهبت النبوة والخلافة، وهذه الجبرية.
المدائني قال: قال عبد الملك بن مروان لأمية بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد: مالك ولابن حرثان؟ قَالَ: إنه أتى حدا فأقمته عَلَيْهِ، قَالَ: أفلا درأت عنه بالشبهة؟ قَالَ: كَانَ الأمر أظهر من ذَلِكَ، قَالَ: أما والله لقد أوجعك ولوددت أنك كنت سلمت منه، وما سرني أني هجيت، وأن لي مثل كل شيء أصبحت أملكه، وَكَانَ الَّذِي قَالَ فيه ابْن حرثان:
أضاع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ثغورنا ... وأطمع فينا المشركين ابْن خالد
وبات عَلَى حور الحشايا [1] ممهدا ... يعانق أمثال المها فِي المجاسد
وبتنا قياما فِي الحديد وتارة ... سجودا نناجي ربنا فِي المساجد
إذا هتف العصفور ريع فؤاده ... وليث حديد الضرس عند الثرائد
وَقَالَ أَبُو اليقظان: حَدَّثَنَا جويرية بْن أسماء قَالَ: كَانَ لعَبْد الْمَلِكِ بيت مال لا يدخله إلا مال طيب لم يظلم فيه مسلم ولا معاهد وقد عرف وجوهه،
__________
[1] أي بيض الحشايا. القاموس.(7/223)
فكان يشتري منه الإماء اللاتي يتخذهن أمهات أولاد ويتزوج منه، ويقول لا أستحل إلا طيبا فإن ذَلِكَ فِي الأولاد.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: كَانَ عَبْد الْمَلِكِ يلبس جبة ورداء، ويجلس للناس، وينظر فِي أمورهم، ويقف عَلَى بنيه فِي الكتاب فيقول للمعلم: أحسن تأديبهم ويكلمهم، قَالَ: وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لإسماعيل بْن مهاجر، مؤدب مسلمة، ويزيد، وعنبسة: علم بني القرآن، وخذهم بمكارم الأخلاق، وحثهم عَلَى صلة الأرحام، ووقرهم فِي الملأ، وأخفهم فِي السر، فإن الأدب أملك بالغلام من الحسب، وتهددهم بي، وأدبهم دوني ولا تخرجهم من علم إِلَى علم حَتَّى يفهموه فإن ازدحام الكلام فِي السمع مضلة للفهم.
الْمَدَائِنِيّ عَن بكر بْن عَبْد العزيز قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لإسماعيل [1] مؤدب بنيه: علم بني الصدق حَتَّى إن قتل أحدهم قتيلا اعترف بِهِ عَلَى نفسه، والصق بابن عاتكة- يعني- يَزِيد فإن مهر أمه من عرق جبيني. قَالَ:
وَكَانَ مَعَ سعيد بْن عَبْد الْمَلِكِ معَبْد الجهني.
الْمَدَائِنِيّ عَن علي بْن حماد قَالَ: قام رجل إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قطعت إليك القفر لأمر ضاق بِهِ الصدر، قَالَ: وما هو؟ قَالَ: ابني بثغر كذا، وقد اشتد إِلَيْهِ شوقي، وطال توقي، قَالَ: فكتب فِي رده فأقفل.
الْمَدَائِنِيّ عَن عَبْد الحليم الأشج عَن أَبِي قرة أن عَبْد الْمَلِكِ خطب زينب بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام فقالت: والله لا يتزوجني أبو الذّبّان،
__________
[1] كتب تحتها بالهامش: هو مولى بني مخزوم.(7/224)
فتزوجها يَحْيَى بْن الحكم، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: لقد تزوجته أسود أفوه، فَقَالَ يَحْيَى أما إنّها أحبت مني ما كرهت منه.
[عبد الملك أول خليفة بخل]
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَن عَبْد اللَّهِ بْن عياش وأبي جناب قَالَ: رأى الغضبان بْن القبعثرى صبيا يلعب عند عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان، فَقَالَ: من هذا الصبي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: ابني من عائشة بنت موسى بْن طلحة، قَالَ: سيناله السخاء بولادة طلحة لَهُ، فَقَالَ لَهُ: ويحك أو بخيل أنا؟ قَالَ: أي والله الذي لا إله إلا هو لا أستثني، فضحك. وَقَالَ ابْن عياش: كَانَ عَبْد الْمَلِكِ أول خليفة بخل.
الْمَدَائِنِيّ عَن مُحَمَّد بْن عيسى قَالَ: سأل رجل عَبْد الْمَلِكِ فألح عَلَيْهِ، وألحف فِي المسألة، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: قد ألحفت فِي المسألة؟ فَقَالَ إنك والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لترد السائل الملح بالمنع المصرح.
أراد عَبْد الْمَلِكِ أن يتزوج زينب بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام فتزوجها يَحْيَى بْن الحكم فغضب، واصطفى كل شيء لَهُ فَقَالَ يَحْيَى: كعكة وزينب، فلما رأى عمر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف أسف عَبْد الْمَلِكِ عَلَيْهَا، قَالَ لَهُ: أدلك عَلَى أجمل منها بنت إسماعيل بْن هِشَام، وهو عندك، فخطبها فتزوجها.
الْكَلْبِيّ عَن عوانة قَالَ: دخل مسلمة بْن زيد بْن وهب الفهمي عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: أي الزمان أدركت أفضل وأي من أدركت من الملوك أكمل؟ قَالَ: أما الملوك فلم أر منهم أحدا إلا وله ذام ومادح، وأما الزمان فرأيته يرفع أقواما ويضع آخرين، وكل النَّاس إذا صدق نفسه ذم الزمان، لأنه يبلي الجديد ويهرم الصغير، وكل مَا فيه منقطع إلا الأمل، فإنه أبدا(7/225)
جديد، قَالَ: فأخبرني عَن فهم، قَالَ: هم كما قَالَ القائل:
درج الليل والنهار عَلَى فه ... م بْن عَمْرو فاصبحوا كالرميم
وخلت دارهم فصارت يبابا ... بعد عز وثروة ونعيم
وكذاك الزمان يذهب بالنّا ... س وتبقي ديارهم كالرسوم
قَالَ فمن الَّذِي يقول:
رأيت النَّاس قد خلقوا جميعا ... يحبون الغني من الرجال
وإن كَانَ الغني قليل خير ... بخيلا بالقليل من النوال
فما أدري علام وفيم هذا ... وماذا يرتجون من البخال
[ما قيل في عبد الملك وأخباره]
قَالَ الْكَلْبِيّ: فهم بْن عَمْرو بْن قيس بْن عَيْلان، وَكَانَ الحارث أخو فهم عدا عَلَيْهِ فقتله فسمي عدوان.
الْمَدَائِنِيّ عَن سفيان الثوري قَالَ: قدم الحجاج عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وافدا، ومعه معاوية بن قرة أبو إياس، فسأله عَبْد الْمَلِكِ عَن الحجاج فَقَالَ: إن صدقناكم قتلتمونا، وإن كذبناكم خشينا اللَّه عز وجل، فنظر إِلَيْهِ الحجاج فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: لا تعرض لَهُ يَا حجاج فغربه إِلَى السند.
الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم بْن حَفْص قَالَ: كَانَ الحجاج يقول سألت قبل أن أقدم العراق عَن وجوه رجاله، فذكروا زياد بْن عَمْرو العتكي، فما كَانَ أحد أثقل علي منه، فقدمت عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وهو معي فِي ناس من الأشراف، فأثنوا علي فما كَانَ أحد منهم أحسن صفة لي منه، ولا قام أحد منهم مثل مقامه. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن الحجاج سيفك الَّذِي لا ينبو، وسهمك الَّذِي لا يطيش، وخادمك الَّذِي لا تأخذه فِي أمرك لومة لائم، فلقد رأيتني وما أحد من الخلق بعد ذَلِكَ اليوم يعدله عندي.(7/226)
[المواضع التي كان يقيم عبد الملك فيها صيفا وشتاء]
هِشَام بْن عمار والمدائني عَن أشياخهم قالوا: كَانَ عَبْد الْمَلِكِ يشتو بالصنبرة من الأردن، فإذا انسلخ الشتاء نزل الجابية، وأمر لأصحابه بأنزال ويفرق أغناما عَلَى قدر منازلهم، فإذا مضت أيام من آذار دخل دمشق فنزل دير مران [1] ، حَتَّى إذا جاءت حمارة القيظ أتى بعلبك فأقام بِهَا حَتَّى تهيج رياح الشتاء، فيرجع إِلَى دمشق فإذا اشتد البرد خرج إِلَى الصنبرة.
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: وبها مات يوم مات.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ تغدي شبة بْن عقال يوما عند عَبْد الْمَلِكِ فأتي بخزيرة [2] ، فضحك شبة، فغضب عَبْد الْمَلِكِ وَقَالَ: مَا أضحكك؟ قَالَ: تعيير جرير مجاشعا بالخزيرة، وهي مائدة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وإنما ضحك من السخينة التي تعير بِهَا قريش.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: دعا عَبْد الْمَلِك عبيد اللَّه بْن زِيَاد بْن ظبيان أو غيره إِلَى الغداء فأكل مَعَهُ، فجعل يتناول مما بين يديه فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ- ويقال بعض من كَانَ عَلَى رأسه: كل مما بين يديك، فَقَالَ: أو فِي مائدة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ حمى؟ فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: لا كل من أيها شئت.
حَدَّثَنِي بعض الشاميين قَالَ: خطب عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان وأعرابي يسمع خطبته، فَقَالَ لَهُ رجل من قريش: كيف مَا تسمع؟ فَقَالَ لو كان كلام يؤتدم به لكان هذا.
__________
[1] خارج دمشق عند خانق الربوة حيث قصر الشعب الجديد.
[2] الخزيرة: شبه عصيدة بلحم وبلا لحم، عصيدة أو مرقة من بلالة النخالة، والسخينة: طعام رقيق يتخذ من دقيق ولقب لقريش لاتخاذها إياه، وكانت تعير به. القاموس.(7/227)
[قصة عن حلم عبد الملك وأخباره]
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: تكلم عَبْد الْمَلِكِ بْن عمير عند عَبْد الْمَلِكِ وأعرابي حاضر فَقَالَ: لو أن كلاما يؤتدم بِهِ لكان هذا الكلام.
الْمَدَائِنِيّ وغيره قالوا: كتب عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان إِلَى عَبْد الْمَلِكِ:
إنه قد كَانَ من بلائي مَا قد رأيت ولم يكن من جزائك لي إلا مَا علمت فأنا كما قَالَ الجعدي:
كفينا بني كعب فلم نر عندهم ... لما كَانَ إلا مَا جزى اللَّه جازيا [1]
قالوا: وبلغ عَبْد الْمَلِكِ قول عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان، حين قَالَ لما خر عَبْد الْمَلِكِ ساجدا، حين أتاه برأس مصعب: هممت بضرب رأسه، فأكون قد قتلت ملكي العرب، فحجبه، ثُمَّ أذن لَهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنا والله مَا نكره سخط من رضاه الجور، فإن يكن لك عَلَيْنَا طاعة فيما أحببت، فإن لنا عليك العدل فيما وليت، فلست مستكملا طاعتنا إلا بعدلك، فآثر طاعة اللَّه عز وجل فينا تسلم لك نصائحنا، وتخلص نياتنا، ولا تبغ الفساد فِي الأرض، إِنَّ اللَّهَ بصير بعملك وإليه مصيرك، فغضب عَبْد الْمَلِكِ غضبا شديدا وَقَالَ: لولا أن خير الأمور مغبة، وأكرمها عاقبة، كريم العفو بعد القدرة لأعلمت هذا الجلف أي مورد تورده الجهالة والاستطالة، فَقَالَ الوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، ولم تستبقي مثله، ولم ير لك هيبة الخلافة، وجلالة السلطان، وواجب الطاعة وإن كَانَ ذا غناء ودالة ولم يوقرك توقير المسلمين إياك، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: مَا كل شيء تعلمه، وأنشد عبد الملك:
__________
[1] ديوان النابغة الجعدي- ط. دمشق 1964 ص 175.(7/228)
ترى النَّاس أخلاطا جميعا وإنهم ... عَلَى ذاك شتى والهوى يتفرق
ترى المرء إن جالسته ذا صناعة ... وسائر مَا فيه سوى ذاك أخرق
وتلقى أصيل اللب ليس لسانه ... بمخرج ما في قلبه حين ينطق
[ما قيل في عبد الملك وأخباره]
أَبُو الْحَسَن المدائني عَن عَبْد اللَّهِ بْن سَلْم الفهري: أن عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ بْن أسد بْن كرز القشيري من بجيلة، دخل عَلَى عَبْد الْمَلِكِ ومعه ابنه خالد بْن عَبْد اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: هذا ابنك؟ قَالَ: نعم، قَالَ مَا أشبهه بك. قَالَ: ذاك أحب إلي، وأبرأ لساحة أمه.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قدم الحارث بْن خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةَ بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن مخزوم الشاعر عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فلم يصله ويقال إنه أقام ببابه شهرا لا يأذن لَهُ فانصرف وهو يقول:
تبعتك إذ عيني عليها غشاوة ... فلما انجلت قطعت نفسي ألومها
فما بي إن أقصيتني من ضراعة ... ولا افتقرت نفسي إِلَى من يسومها
عطفت عليك النفس حَتَّى كأنما ... بكفيك بؤسي أو لديك نعيمها
فبلغه ذَلِكَ، فأرسل إِلَيْهِ فرده، فَقَالَ: يَا حارث أترى عَلَى نفسك غضاضة فِي وقوفك ببابي؟ فَقَالَ: لا والله، ولكن طالت غيبتي، وانكسرت ضيعتي، ووجدت فضلا من قول فقلت، وعلي دين فَقَالَ: وكم دينك؟
قَالَ: ثلاثون ألفا، قَالَ: أقضاء دينك أحب إليك، أم ولاية مَكَّة؟ قَالَ: ولاية مَكَّة، فولاه إياها فبعثت عائشة بنت طلحة بْن عبيد اللَّه بْن الحارث وهي بِمَكَّةَ، وقد أقيمت ذات يوم الصلاة، وهي تطوف: إني لم أقض طوافي، فتوقف بالناس حَتَّى فرغت من طوافها، ثُمَّ صلى، فبلغ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِكِ فعزله، وَقَالَ: إني لم استعملك لتنتظر بالناس فِي صلاتهم طواف عائشة.(7/229)
قالوا: وَكَانَ الحارث يحب عائشة، وكانت تحبه، فخطبها فلم تتزوجه، فقيل لها أحبك رجل وأحببتيه عشرين سنة، ثُمَّ خطبك فلم تتزوجيه؟
فقالت: كان في عيب ما يسرني أن لي طلاع الأرض، وأنّه اطلع عَلَيْهِ، فكان يظن أنه سوء الخلق.
حَدَّثَنِي الحرمازي عَن الحسن بْن علي الْعُتْبِيّ عن أبيه عن أبي المقدام عن رجل من أَهْل مَكَّةَ قَالَ: قدمت المدينة فإذا غلمان بيض، عليهم ثياب بياض يدعون النَّاس إِلَى الغداء، وكانت بي إِلَيْهِ حاجة فدخلت، فإذا عائشة بنت طلحة عَلَى السرير، وإذا النَّاس يطعمون، قَالَ: فلما أكلت، قالت لي:
كأنك غريب؟ قلت: نعم، قالت: فمن أين بك؟ قلت: من مَكَّة، قالت:
كيف تركت الأعرابي قلت بخير، فلما خرجت قلت: عَن من سألتني؟ قالوا:
عَن الحارث بْن خالد، فلما قدمت مَكَّة أخبرته فأنشأ يقول:
من كَانَ يسأل عنا أين منزلنا ... فالأقحوانة منا منزل قمن
إذ نجعل العيش صفوا مَا يكدره ... طول الحياة ولا ينبو بنا الزمن
قَالَ الحرمازي: وبناحية من الشام موضع يعرف بالأقحوانة [1] أيضا.
الْمَدَائِنِيّ عَن عَبْد اللَّهِ بْن سلم وغيره قالوا: قدم عُمَر بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، فسأله أن يصير إِلَيْهِ صدقة علي بْن أَبِي طالب، فتمثل عَبْد الْمَلِكِ قول ابْن الحقيق اليهودي:
إنا إذا مالت دواعي الهوى ... وأنصت السامع للقائل
واعتلج القوم بآرائهم ... نقضي بحكم عادل فاضل
__________
[1] بلدة كانت قرب عقبة أفيق في وادي الأردن ليس بعيدا عن طبرية، أما الأقحوانة الأولى فموضع قرب مكة. معجم البلدان.(7/230)
ولا نجعل الباطل حقا ولا ... نلظ [1] دون الحق بالباطل
نخاف أن تسفه أحلامنا ... فنخمل الدهر مَعَ الخامل
لا لعمري لا أخرجها من ولد الْحُسَيْن إليك، ووصله عَبْد الْمَلِكِ ورجع من عنده.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ للهيثم بْن الأسود: مَا مالك؟ قَالَ:
قوام من عيش وغنى عَن النَّاس، فقيل لَهُ: لو أخبرته، فَقَالَ لو أعلمته مالي لحسدني إن كَانَ كثيرا، أو حقرني إن كَانَ قليلا، وقوم يقولون أن الهيثم قَالَ هذا لمعاوية، والثبت أنه قاله لعَبْد الْمَلِكِ.
وَقَالَ الهيثم: كَانَ يقال لا تخبروا قريشا بمالكم، فإن كَانَ كثيرا حسدوكم، وإن كَانَ قليلا حقروكم.
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي مُحَمَّد المقرئ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لرجل من ثقيف:
مَا المروءة فيكم؟ قَالَ: إصلاح المال والمعاش والفقه فِي الدين، وسخاء النفس، وصلة الرحم، فَقَالَ: كذلك هي فينا.
قالوا: وتزوج بكر بْن حصين من بني عامر بْن لؤي رقية بنت سعيد بْن نوفل بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، فتقدمت إِلَى عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان حين حج وَهُوَ بالمدينة، فتكلمت فِي أمر زوجها، فَقَالَ ومن زوجك؟
قَالَتْ: بَكْر بْن حُصين، قَالَ: انسبي لي أبا آخر فإن عهدي بالقوم بعيد، قالت: ابْن أويس، قَالَ: ويحك أو تنكح المرأة عبدها؟ فقالت: يا أمير المؤمنين:
__________
[1] اللظ: اللزوم والإلحاح.(7/231)
إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى
المرء لا تبقى لَهُ السلامى
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: رأيت الفجور فِي بني الروميات، ورأيت الفارسيات أذلق [1] النساء، وأمنع جانبا، ورأيت بني الهنديات أصبر لصدور العوالي.
ودخل جرير عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وعنده عدي بْن الرقاع العاملي [2] ، ولم يكن جرير رآه قبلها، فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: يَا جرير أتعرف هذا؟ قَالَ:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فمن هو؟ قَالَ: رجل من عامله، قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هذا من الذين قَالَ اللَّه عز وجل: عاملة ناصبة [3] ؟ قَالَ: لا ويلك، فأنشأ جرير يقول:
ويقصر باع العاملي عَن العلى ... ولكن أير العاملي طويل [4]
فَقَالَ ابْن الرقاع:
أأمك يَا ذا أخبرتك بطوله ... أم أنت امرؤ لم تدر كيف تقول [5]
فَقَالَ: بل لم أدر كيف أقول.
__________
[1] أذلق: أحدّ، وأقلق، وأضعف. القاموس.
[2] شاعر كبير من أهل دمشق، كان مقدما عند بني أمية، مداحا لهم، خاصا بالوليد بن عبد الملك. الأعلام للزركلي.
[3] سورة الغاشية: الآية: 88.
[4] ليس في ديوان جرير المطبوع.
[5] ديوان عدي بن الرقاع العاملي- ط. بيروت 1990 ص 94.(7/232)
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن ابْنِ جُعْدُبَةَ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ أَنَّ عَبْد الْمَلِكِ كتب إِلَى الحجاج جنبني دماء آل أَبِي طالب فإن بني حرب لما قتلوا حسينا نزع الملك منهم.
الْمَدَائِنِيّ عَن يَزِيد بْن عياض [1] قَالَ: أراد عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر أن يفد إِلَى عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان، وعلى المدينة أبان بْن عثمان بْن عفان، فأرسل إِلَيْهِ بديحا يستأذنه، فَقَالَ أبان: قل لَهُ: فليبعث إِلَى جاريته فلانة، فرجع فأخبره بقوله فَقَالَ ابْن جعفر: لا، ولا كرامة، وَقَالَ لَهُ: ارجع إِلَى بقيع- وَكَانَ أبان أبرص أبقع- فقل لَهُ: أما الجارية فلا، قَالَ: فليبعث إلي بغلامه الزامر، فبعث بِهِ إِلَيْهِ، وَقَالَ: هو شبيهه، ثُمَّ أذن له، فوفد عَلَى عَبْد الْمَلِكِ.
الْمَدَائِنِيّ عَن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ قَالَ: دخل عَبْد اللَّه بْن جعفر عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فحثه عَلَى صلة ابْن أَبِي عتيق، وهو مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ الرحمن بن أبي بكر الصديق وذكر لَهُ خلته، فدخل ابْن أَبِي عتيق عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لَهُ: يا بن أَبِي عتيق، أخبرني عنك عَبْد اللَّهِ بضيق من الحال؟
قَالَ: كذب يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، مَا بي من حاجة وما أنا فِي ضيقة، فدخل ابْن جعفر عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فأخبره بقول ابْن أَبِي عتيق، فلقيه ابْن أَبِي عتيق، فَقَالَ لَهُ ابْن جعفر: ويحك أتركت حظك من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وقد عطفته عليك، وحثثته علي برك؟ فَقَالَ: إني دخلت عَلَيْهِ وعنده جارية لَهُ، مَا رأيت شيئا
__________
[1] هو ابن جعدبه المتقدم ذكره.(7/233)
قط أحسن منها، فأخبرني بقولك وهي تسمع وتنظر إلي، أفكنت ترى لي يابن أم أن أقر بالفقر بين يديها؟! الْمَدَائِنِيّ وغيره قالوا: نذر عَبْد الْمَلِكِ دم ابْن قيس الرقيات لقوله:
إنما مصعب شهاب من الل ... هـ تجلت عَن وجهه الظلماء [1]
قَالَ ابْن قيس: فسألت عَن من أستعين بِهِ عَلَيْهِ، فقيل لي روح بْن زنباع، فأتيت روحا فَقَالَ: مَا ذاك عندي، فأتيت عَبْد اللَّهِ بْن جعفر، فاستجرت بِهِ، فَقَالَ: لي أقم، فإن لي فِي كل ليلة رجلا أدخله معي إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فكن ذَلِكَ الرجل، فلما كَانَ الليل أدخلني، وأمرني أن أجيد الأكل وآخذ مَا بين يديه، وبين يدي عَبْد الْمَلِكِ، فنظر إلي، فَقَالَ: من هذا؟ قَالَ ابْن جعفر هذا القائل
مَا نقموا من بَنِي أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا
وإنهم سادة الملوك فما ... تصلح إلا عليهم العرب [2]
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: ابْن قيس؟ قَالَ: نعم: فَقَالَ أما دمه فقد حقنه اللَّه عز وجل، وأما العطاء فلا عطاء لَهُ عندي، فَقَالَ ابْن جعفر لابن قيس:
اللهم غفرا، إذا خرج العطاء فلك عندي عطاؤك.
وَقَالَ كثير يمدح عَبْد الْمَلِكِ:
يحيون بسامين طورا، وتارة ... يحيون عباسين شوس الحواجب
من النفر البيض الذين إذا انتجوا ... أقرت لنجواهم لؤي بن غالب
__________
[1] ديوان ابن قيس الرقيات ص 91.
[2] ديوان ابن قيس الرقيات ص 91.(7/234)
كريم يؤول الراغبون ببابه ... إِلَى واسع المعروف جزل المواهب
إمام هدى قد سدد اللَّه رأيه ... وقد أحكمته ماضيات التجارب [1]
وَقَالَ فيه أيضا:
قضى نحبه مروان ثُمَّ وليتنا ... فكن يا بن مروان تجود وتدفع [2]
وَقَالَ كعب بْن جعيل:
أمير المؤمنين هدى ونور ... كاجلى دجى الظلم النهار
قريع بني أمية من قريش ... هم السر المهذب والنضار
وَقَالَ أَبُو قطيفة عَمْرو بْن الْوَلِيد بْن عقبة بْن أَبِي معيط:
نبئت أن ابْن القلمس عابني ... ومن ذا من النَّاس الصحيح المسلم
فأبصر سبل الرشد سيد قومه ... وقد يبصر الرشد الرئيس المعمم
فمن أنتم ها خبرونا من أنتم ... فقد جعلت أشياء تبدو وتكتم
فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: مَا كنت أرى أن مثلنا يقال لهم من أنتم؟ أما والله لولا مَا تعلم، لقلت قولا يلحقكم بأصلكم الجلائب، ولضربتك حَتَّى تموت.
وَقَالَ أعشى بني شيبان:
عرفت أمية كلها ... لبني أَبِي العاص الإمارة
لأبرها وأحقها ... عند المشورة بالإشارة
المانعين لما ولوا ... والنافعين ذوي الضرارة
وهم أحقهم بِهَا ... عند الحلاوة والمرارة
__________
[1] ديوان كثير ص 44- 46. وفيه الممدوح: يزيد بن عبد الملك.
[2] ليس في ديوانه المطبوع.(7/235)
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: قَالَ قبيصة بْن ذؤيب ووشى بِهِ قوم إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، فجفاه وكانت لَهُ منزلة عنده:
إن مسيري فِي المسير ومنزلي ... لبالمنزل الأقصى إذا لم أقرب
وما أنا إن قربت يوما ببائع ... خلاقي وديني لابتغاء التحبب
ولكن أرى حق الإمام ونصحه ... وطاعته حقا كما هي للأب
وهذا باطل وقد نسبنا الشعر إِلَى صاحبه الَّذِي قاله، وذكرنا حديثه فيما مضى من أحاديث عَبْد الْمَلِكِ.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: أمر عَبْد الْمَلِكِ مسلم بن ربيعة أبا إسحق بْن مسلم أن يقتل رجلا من قيس فأبى فحبسه فَقَالَ:
ألا أبلغ سراة الحي قيسا ... شآميهم ومن هو بالعراق
بأني بالرهاء بِهَا مقيم ... قصير الخطو مشدود الوثاق
وما كانت عقوبتهم بسجني ... لمعصية وما خافوا شقاقي
ولكني كرهت دماء قومي ... وما لي بعد قومي من تلاق
ويقال أن مُحَمَّد بْن مروان أمره بِذَلِكَ.
الْمَدَائِنِي عَنْ عَلِي بْن حماد قَالَ: قَالَ الأخطل لعَبْد الْمَلِكِ بْن مروان:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ زعم ابْن المراغة أنه يبلغ مدحك فِي ثلاثة أيام وقد أفنيت فِي مدحك حولا بقصيدة قلتها فما بلغت كل الَّذِي أردته، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
فأنشدني قصيدتك فأنشده:
خف القطين فراحوا عنك أو بكروا ... وأزعجتهم نوى فِي صرفها غير [1]
__________
[1] ديوان الأخطل- ط. بيروت 1986 ص 100.(7/236)
فجعل عَبْد الْمَلِكِ يتطاول، ثُمَّ قَالَ: ويحك يَا أخطل أتريد أن أكتب إِلَى الآفاق بأنك أشعر العرب؟ قَالَ: أنا أكتفي بقولك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فأمر لَهُ بقصعة مملوءة دنانير ودراهم، وألقى عَلَيْهِ خلعته وخرج بِهِ مولى لعَبْد الْمَلِكِ وهو يقول: هذا شاعر أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فائد قَالَ: قَالَ سعيد بْن المسيب لعَبْد الْمَلِكِ:
بلغني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أنك شربت الطلاء؟ قَالَ: والدماء يَا أبا مُحَمَّد فنستغفر اللَّه.
الْمَدَائِنِيّ عَن عَبْد اللَّهِ بْن مسلم الفهري قَالَ: دخل الأخطل عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وهو سكران فَقَالَ لَهُ: يَا أبا مالِك مالك؟ قَالَ: إن أبا نسطور وضع فِي جمجمتي ثلاثا وأنشد:
إذا شرب الفتى منها ثلاثا ... بغير الماء حاول أن يطولا
مشي قرشية لا عيب فيها ... وأرخى من مآزره ذيولا [1]
المدائني قَالَ: دخل عَلَى عَبْد الْمَلِكِ رجل فتكلم فأحسن حَتَّى سكت، فأراد أن يسبر عقله ليعرف مَا عنده، فإذا هو مضعوف فَقَالَ: زيادة منطق عَلَى عقل خدعة، وزياد عقل عَلَى منطق هجنة، وأحسن ذَلِكَ مَا زين بعضه بعضا، وبعضهم يروي هذا عَن سليمان بْن عَبْد الْمَلِكِ، وهو عَن عَبْد الْمَلِكِ أثبت.
وَقَالَ: وذكر تشقيق الخطب والإسهاب عند عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ: من أكثر فأحسن قدر على أن يقل فيحسن.
__________
[1] ليسا في ديوانه المطبوع.(7/237)
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ عوانة قَالَ: كتب عبد الملك إلى الحجاج: أما بعد فإنه بلغ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أنك تنفق فِي اليوم مَا ينفق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي الجمعة، وتنفق فِي الجمعة مَا ينفق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي الشهر، وتنفق فِي الشهر مَا ينفق أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي السنة، وهذا مَا لا قوام مَعَهُ يَا حجاج.
عليك بتقوى اللَّه فِي كل حالة ... وكن لوعيد اللَّه ربك تخشع
ووفر خراج المسلمين وفيئهم ... وكن لهم حصنا يذود ويمنع
فكتب إِلَيْهِ الحجاج:
أتتني كتب للخليفة ضمنت ... قراطيس تطوى كي تصان وتطبع
ومنها كتاب فيه لين وشدة ... وذكر وفي الذكرى لذي اللب منفع
وكانت بلادا جئتها ذات فتنة ... بِهَا كل نيران الحوادث تلمع
فما زلت فيها أعمل الحزم جاهدا ... فاعطي عَلَى حين العطاء وأمنع
فلا تتهمني إنني لك ناصح ... ولست مَعَ النصح المبين أضيع
فرد عَبْد الْمَلِكِ عَلَيْهِ كتابه، وكتب فِي حاشيته: «صدقت يَا أبا مُحَمَّد وبررت.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: أي الشعراء أشجع شعرا؟ قالوا:
عَمْرو بْن معد يكرب، قَالَ وكيف وهو يقول:
وجاشت إلي النفس أول مرة ... فردت عَلَى مكروهها فاستقرت [1]
فقيل ابْن الإطنابة؟ فَقَالَ وكيف وهو القائل:
أقول لها وقد جشأت وجاشت ... مكانك تحمدي أو تستريحي
__________
[1] شعر عمرو بن معدي كرب- ط. دمشق 1974 ص 54.(7/238)
فَقَالُوا عنترة؟ فَقَالَ: وكيف وهو يقول:
إذ يتقون بي الأسنة لم أخم ... عنها ولكني تضايق مقدمي [1]
قيل: فعامر بْن الطفيل؟ فَقَالَ: وكيف وقد قَالَ:
أقول لنفس لا يجاد بمثلها ... أقلي مراحا إنني غير مدبر [2]
ولكن أشجع الناس شعرا المزني الذي يقول:
وإني لدى الحرب العوان موكل ... بتقديم نفس لا أحب بقاءها
وعباس بْن مرداس حين يقول:
أقاتل فِي الكتيبة لا أبالي ... أحتفي كَانَ فيها أم سواها
الْمَدَائِنِيّ عَن عوانة قَالَ: كتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الحجاج فِي أمر استشاره فيه واستكتمه إياه فانتشر وبلغ عَبْد الْمَلِكِ ذَلِكَ، فكتب إِلَيْهِ كتابا عاتبه فيه، وتمثل بهذين البيتين فِي كتابه:
ألم تر أن وشاة الرجا ... ل لا يتركون أديما صحيحا
فلا تفش سرك إلا إليك ... فإن لكل نصيح نصيحا
العمري عَن الهيثم عَن ابْن عياش قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ للشعبي: لله در ابْن قميئة حيث يقول:
كأني وقد خلفت تسعين حجة ... خلعت بِهَا عني عذار لجام
رمتني بنات الدهر من حيث لا أرى ... فكيف بمن يرمى وليس برام
فلو أنها نبل إذا لا تقيتها ... ولكنني أرمى بغير سهام
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.
[2] ديوان عامر بن الطفيل- ط. دمشق 1994 ص 92.(7/239)
فَقَالَ الشَّعْبِيّ: وقد أحسن لبيد أيضا حين يقول:
كأني وقد خلفت تسعين حجة ... خلعت بِهَا عَن منكبي ردائيا [1]
قَالَ: ففكر عَبْد الْمَلِكِ ثُمَّ أنشد:
إذا مَا سلخت الشهر أهللت مثله ... كفى قاتلا سلخي للشهور وإهلالي
قَالَ: ولما قتل مصعب واستقام الأمر لعَبْد الْمَلِكِ دخل عَلَيْهِ عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، وسويد بْن منجوف، ونعيم بْن مسعود التميمي، وقيس بن الهيثم السلمي بعد أن حبسهم عَلَى بابه حينا، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
إنكم سعيتم مَعَ الشيطان فكنتم حزبه، فلما نكص نكصتم، ولم يبق أحد ممن شب نار الفتنة وسعى فِي الفرقة، وشتت الألفة إلا أحدث من جرمه توبة، وظهرت منه إنابة غير قتادة فكففنا عنه العقوبة أفما ترضون أن تكونوا إسوة من أبصر بعد العمى، وعرف بعد الجهل واستحق بالإنابة العفو؟
فتكلم سويد بْن منجوف فَقَالَ: إنا كنا وزراء فأصبحنا أعجازا، فخذ بالتي هي أحسن ذكرا، وأبقى جمالا.
ثُمَّ قَالَ عمر بْن عبيد اللَّه: والله مَا نعتذر إليك من معصية، ولا نتوسل إليك بطاعة، ولقد ولينا لعدوك الأعمال، وكسبنا الأموال، وقتلنا الرجال ولأن نكون كنا عَلَى ضلال، فأصبحنا عَلَى هدى، خير من أن نكون عَلَى هدى ثُمَّ نصبح عَلَى ضلال فإن تصطنعنا نكن لك كما كنا لمن كَانَ قبلك.
__________
[1] ليس في ديوان لبيد المطبوع.(7/240)
ثُمَّ تكلم نعيم بْن مسعود فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنا كنا أمس زبيريين فقد أصبحنا مروانيين، فأقلل العتاب، وأكرم الغلبة، وأقل بعفوك العثرة.
ثُمَّ تكلم قيس بْن الهيثم فَقَالَ: إنا لسنا بالحلو المأكول، ولا بالمر الملفوظ، ولا عفوك بمنكر، ولا عقابك بحتم، قد والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قارعناك عَن الدين والدنيا جميعا، فليسعنا مَا لم يضق عَن غيرنا من عفوك، فمثلنا أسديت إِلَيْهِ العارفة فشكرها، واتخذت عنده الصنيعة فعرفها قَالَ:
فرضي عنهم وأسني جوائزهم.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: أنشد عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ قول أنس بْن زنيم فِي مصعب حين تزوج عائشة:
بضع الفتاة بألف ألف كامل ... ويبيت أرباب الجيوش جياعا
لو أنني عمرا أقول مقالتي ... وأبثه مَا قد أرى لارتاعا
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: صدق إن مصعب قدم أيره وأخر خيره، فبلغ عَبْد الْمَلِكِ قوله فَقَالَ: لكنه أخر أيره وخيره.
الْمَدَائِنِيّ عَن علي بْن حماد قَالَ: أجرى عَبْد الْمَلِكِ الخيل فحمل مسلمة عَلَى فرس، وكانت أمه أم ولد فجاء سابقا، فَقَالَ لمصقلة بْن رقبة العبدي:
إن صاحبكم لقليل المعرفة بأولاد أمهات الأولاد حين يقول:
نهيتكم أن تحملوا هجناءكم ... عَلَى خيلكم يوم الرهان فتدركوا
وما يستوي المرآن هذا ابْن حرة ... وهذا ابْن أخرى بطنها متشرك
ترعد كفاه ويسقط سوطه ... وتفتر فخذاه فلا يتحرك
وتدركه أعراق سوء ذميمة ... ألا إن عرق السوء لا بد مدرك(7/241)
قَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إن من الإماء ذوات شرف فيمن هن منه، وليس أولئك عنى، وقد يشتري الرجل الجارية فيعتقها ويحصنها فتكون كالحرة، وإنما عنى جمهور الإماء اللواتي لا مواضع لهن ولا هيئات.
أخبرني عَبَّاس بْن هِشَام الْكَلْبِيّ عَن أبيه قَالَ: سقى عَبْد الْمَلِكِ رجلا من كلب شرابا يَزِيد فِي الباه، ثُمَّ انصرف من عنده فأصابه شبق شديد، فلم يصل إِلَى منزله حَتَّى أتبعه بجارية وَقَالَ لرسوله: قل لَهُ: إنا سقيناك شرابا تحتاج مَعَهُ إِلَى مَا بعثنا بِهِ إليك، وقد كفيت أشتراءها [1] فدونكها.
الْمَدَائِنِيّ عَن بكر بْن حبيب السهمي قَالَ: ولد لعَبْد الْمَلِكِ ابْن فَقَالَ لَهُ روح بْن زنباع: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اسقه لبن الإبل، فاشترى عَبْد الْمَلِكِ لظئر الصبي لقحة، فكانت تحلب وتشرب الظئر لبنها وَقَالَ الحالب: كيف أحلبها أخنفا، أم مصرا، أم فطرا، والخنف ضم اليد عَلَى الضرع، والفطر أن يحلب كما يعقد ثلاثين والمصر بأطراف الأصابع؟ فَقَالَ بل أحلبها مصرا، ويقال الخنف باليد كلها والفطر أن يحلب يعقد ثلاثين، والمصر أن لا يقبض عَلَى الضرع.
حَدَّثَنِي عباس بْن هِشَام الْكَلْبِيّ عَن عوانة قَالَ: توفي أمية بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد بالصنبرة من الأردن، ومات خالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ، وروح بْن زنباع فِي عام واحد، فكان يسمى عام الملوك، فأرسل عَبْد الملك فأحصى أضياف أمية، فوجدهم خمسمائة فوصلهم عبد الملك.
__________
[1] بهامش الأصل: استبراءها.(7/242)
وَكَانَ أمية لما قدم الشام قَالَ النَّاس: قدم أمية أخو خالد فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: أراك ببلد لا تعرف فيه إلا بخالد، وأنت أعز من بِهَا، فجعل لَهُ حاجتين فِي كل يوم، فأصبح النَّاس عَلَى بابه يسألونه الحوائج إِلَى عَبْد الْمَلِكِ ولما مات هؤلاء الثلاثة رثاهم عَبْد الْمَلِكِ:
لعمرك لا أنسى أمية أظلمت ... علي بِهِ أرضي معا وسمائيا
ومن يوم روح قد علتني كآبة ... وبل دموعي بالرشاش ردائيا
وقد كاد ينسينيهما يوم خالد ... أَبِي هاشم إذ كدت أنسى حيائيا
ألاك الأخلاء المصافون مَا بقوا ... وكنت لهم مَا صاحبوني مصافيا
فقد أوحشت أوطانهم وبلادهم ... وأوحش منهم مجلسي وفنائيا
أشد بهم ركني سريري وموكبي ... فكيف بصبري بعدهم وعزائيا
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: مر عَبْد الْمَلِكِ عَلَى قبر مُعَاوِيَة، ومعه عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، وابن بحدل الْكَلْبِيّ فَقَالَ: هذا قبر رجل كَانَ يسكته الحلم، وينطقه العلم، هذا قبر أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مُعَاوِيَة ثُمَّ أنشد:
وَمَا الدهر والأيام إلا كَمَا أرى ... رزية مالٍ أو فراق حبيب
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْن محارب قَالَ: دَخَلَ عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عباس عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فِي يَوْم شديد البرد وَقَدْ حال بينه وبينه دخانُ العود فَقَالَ:
يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ احْمدِ اللَّه عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ من الدفء، مَعَ مَا النَّاس فِيهِ من البرد، ودعا لَهُ بالبقاء، فَقَالَ لَهُ: يَا أبا مُحَمَّد أَبَعْدَ ابْن هند- وَكَانَ أميرا عشرين سنة وخليفة مثلها- أصبحت تهز عَلَى قبره ينبوته مَا هو إلا كما قَالَ الشاعر:(7/243)
وَمَا الدهر والأيام إلا كَمَا أرى ... رزية مال أو فراق حبيب
وإن امرأ قد جرب الدهر لم يخف ... تقلب عصريه لغير أريب
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي بكر الهذلي قَالَ: ركب عَبْد الْمَلِكِ فتلقاه مُحَمَّد بْن جُبَيْر بْن مطعم بْن عدي بْن نوفل بْن عبد مناف، فمرا يتسايران حَتَّى إذا بلغا المقابر، عدل عَبْد الْمَلِكِ فوقف، ومحمد بْن جبير مَعَهُ عَلَى قبر مُعَاوِيَة، وإذا عَلَيْهِ ثمامة أو عوسجة تهتز، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ يرحمك اللَّه أبا عَبْد الرَّحْمَنِ والتفت إِلَى مُحَمَّد بْن جبير فَقَالَ: يَا أبا سَعِيد مَا كَانَ علمك بِهِ قَالَ: كَانَ علمي بِهِ والله أنه كَانَ ممن ينطقه العلم، ويسكته الحلم، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: كذلك والله كَانَ ثُمَّ ولى وهو يَقُول:
وما الدهر والأيام إلا كما أرى ... رزية مال أو فراق حبيب
ابْن الْكَلْبِيّ عَن عوانة قَالَ: لما أنشد عَبْد الْمَلِكِ قول خريم بْن فاتك الأسدي:
لقيت من الغانيات العجابا ... ليالي أدركن مني شبابا
علام يكحلن حور العيون ... ويحدثن بعد خضاب خضابا
ويبرقن إلا لما تعلمون ... فلا تحرموا الغانيات الضرابا
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: نعم الشفيع لهن خريم.
الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم بْن حفص، وعلي بْن مجاهد قالا: مات عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر بضمير [1] وهي قرية من قرى دمشق، فخرج عَبْد الْمَلِكِ فصلى عَلَيْهِ وقعد عَلَى قبره، فقالت امرأة: يا سيد العرب، تعني عمر،
__________
[1] ما تزال تحمل الاسم نفسه خارج دمشق على الطريق الموصل إلى تدمر.(7/244)
فقال لها رجل من أهل الشام: اسكتي تقولين هذا وأَمِير الْمُؤْمِنِينَ حاضر؟
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: مه دعها فقد صدقت وَقَالَ:
ألا ذهب العرف والنائل ... ومن كَانَ يعتمد السائل
ومن كَانَ يطعم [1] فِي سيبه ... غني العشيرة والعائل
ثُمَّ قام عَبْد الْمَلِكِ عَلَى قبر عمر فَقَالَ: رحمك اللَّه أبا حفص، فقد كنت لا تحسد غنينا ولا تحقر فقيرنا.
الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم بْن حفص قَالَ: أخذ إِبْرَاهِيم بْن عربي إبلا للبعيث المجاشعي، فخرج إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ: من تحب أن نأمره بجمع إبلك وردها عليك؟ فَقَالَ: حصين بْن خليد العبسي، وَكَانَ عَلَى بادية قيس، فأمره بجمعها، وردها فَقَالَ البعيث:
إني لأبواب الملوك قروع
وَقَالَ أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ: ويقال إن البعيث أتى شبة بْن عقال، فأدخله عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، فدخل رجل أحمر أزرق فسلم سلاما جافيا، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: أهو هو؟ فَقَالَ: إي والله لأنا هو، قد قلت وقيل لي وأنا الَّذِي أقول:
إذا شئت عاطتني الزلال خريدة ... من البيض شنباء اللثاث شموع
سمت بجدود فِي العرانين وانتمت ... بحيث تنمى حاجب ووكيع
قَالَ: فما فرغ من كلامه حتى سرني، وإني لأستحيي من رثاثة هيئته ومحمد بْن عمير جالس، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: يَا أبا عَمْرو زوجتموه؟ قَالَ:
نعم امرأة شبيهة بِهِ وهي ابنة خاله.
__________
[1] بهامش الأصل: يطمع.(7/245)
الْمَدَائِنِيّ عَن مُحَمَّد بْن عدي بْن النهاس بْن قهم قَالَ أصابت النَّاس قحمة، أو قَالَ حطمة، فخرجوا إِلَى الشام يطلبون الريف، فصارت جارية من العرب إِلَى بيت من يهود تخدمهم، فوقع عَلَيْهَا رجل منهم غصبها نفسها، فضرب عَبْد الْمَلِكِ عنق اليهودي، وأخذ ماله فأعطاه أَهْل الجارية، ويقال إنه صلب اليهودي حين قتله.
الْمَدَائِنِيّ عَن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُعَاوِيَةَ الزيادي قَالَ: حج عَبْد الْمَلِكِ فجعل يطوف بالبيت ومعه الحارث بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي ربيعة المخزومي، فلما كَانَ فِي الطواف السابع دنا من البيت ليلتزمه فجذبه الحارث فقال: مالك يَا حار؟
قَالَ: أتدري أول من فعل هذا؟ قَالَ: لا، قَالَ: عجوز من قومك عَلَى غير سنة، فمضى ولم يلتزمه.
الْمَدَائِنِيّ عَن مُحَمَّد بْن صالح عَن موسى بْن عقبة أن عَبْد الْمَلِكِ حج فلقيه رجل من ولد عمر، قد نالته ولادة من أَبِي بكر، فسأله فحرمه، وَقَالَ متمثلا:
ومن لا يذد عَن حوضه بسلاحه يهدم فَقَالَ الرجل: إذا ذدت عَن حوضك ابْن الفاروق، وابن الصديق فمن تورده؟ قَالَ: بني عبد مناف.
الْمَدَائِنِيّ عَن حباب بْن موسى عَن الشَّعْبِيّ قَالَ: سمعت عَبْد الْمَلِكِ يدعو: اللهم إن ذنوبي قد عظمت وجلت، وهي صغيرة يسيرة فِي جنب عفوك فاغفرها لي برحمتك، فحسدته.
المدائني عن أبي اسحق بْن ربيعة قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لموسى بْن طلحة: يَا أبا عيسى مَا بقي من ظنك؟ قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا زالت قريش(7/246)
تزنني وإياك بِذَلِكَ ونحن غلمان، فضحك عَبْد الْمَلِكِ.
الْمَدَائِنِيّ عَن بشر بْن أَبِي عيسى قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ للأبرش الْكَلْبِيُّ- واسمُه سَعِيد بْن الْوَلِيد بْن عَبْدِ عَمْرو- وهو يتغدى مَعَهُ: يَا أبرش إن أكلك لأكل معدي. قَالَ: تأبى ذَلِكَ قضاعة.
حَدَّثَنِي العباس بْن هِشَام الْكَلْبِيّ عَن أبيه قَالَ: أصحب عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان ذبيان بْن نعيم بْن حصين بْن سعدانة الْكَلْبِيّ، أخاه عَبْد العزيز، حين شخص إِلَى مصر، فرأى منه جفوة فكتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ.
أبلغ أَمِير المؤمنين ودونه ... فراسخ تطوي الطرف وهو حديد
بأني أرى عَبْد العزيز مؤخرا ... يقدم قبلي راسب وسعيد
وقد كنت أدنى فِي القرابة منهما ... وأشرف إن كنت الشريف تريد
فكتب إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ فِي أمره، فبره وسهل أذنه وأدنى مجلسه.
الهيثم عَن ابْن عياش عَن أبيه قَالَ: سمعت عَبْد الْمَلِكِ يقول لعَبْد اللَّهِ بْن مسعدة الفزاري: إن أفضل النساء السواحر اللاتي يقول أَهْل الرجل: قد سحرنه، وغلبن عَلَى عقله.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: بينا بنو عَبْد الْمَلِكِ عنده إذ مد الوليد رجله فِي حجر أخيه عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الْمَلِكِ، فنبذها وَقَالَ: اقبض رجلك، فَقَالَ الوليد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ألا ترى إِلَى ابْن البربرية؟ فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: أجل والله، إني لابن البربرية، وإنها لابنة أملاك كرام، وليست كأمك ابنة الأعرابي الجلف البائل عَلَى عقبيه، فَقَالَ الوليد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ألا تسمع؟ فقال عبد الملك: إيها الآن اعرضا عَن هذا، فكفا.(7/247)
وعَبْد اللَّهِ القائل حين احتضر وجاءه مال من مصر: مَا لي وله، ليته والله كَانَ بعرا حائلا بنجد.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: رأى عَبْد الْمَلِكِ كأنه بال فِي الكعبة، فبعث إِلَى سعيد بْن المسيب من سأله عَن ذَلِكَ، وَقَالَ لَهُ: لا تخبره من صاحب الرؤيا، فَقَالَ لَهُ الرجل: رأيت كذا، فَقَالَ لَهُ سعيد مثلك لا يرى هذه الرؤيا، فرجع إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فأخبره فَقَالَ: ارجع إِلَيْهِ فأخبره أني رأيتها فرجع إِلَيْهِ فأخبره فَقَالَ:
يخرج من صلبه من يلي الخلافة.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ عبد الله بن جعفر عن حبيب بن قنيع قَالَ: جلست إِلَى سعيد بْن المسيب يوما والمسجد خال، فجاءه رجل فَقَالَ: يَا أبا مُحَمَّد رأيت فِي النوم كأني أخذت عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان فوتدت فِي ظهره أربعة أوتاد، وتدا بعد وتد، فَقَالَ: مَا أنت رأيت هذه الرؤيا فأخبرني من رآها؟ قال: أرسلني إليك ابن الزبير بهذه الرؤيا لتعبرها، فَقَالَ: إن صدقت الرؤيا قتل عَبْد الملك عبد الله بن الزبير، وخرج من صلب عَبْد الْمَلِكِ أربعة كلهم يكون خليفة، قَالَ: فرحلت إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فدخلت عَلَيْهِ وهو فِي الخضراء بدمشق فأخبرته الخبر، فسره وسألني عَن سعيد وحاله، وسألني عَن ديني فقلت: أربعمائة دينار، فأمر لي بِهَا من ساعته ومائة دينار أخرى، وحملني طعاما وزيتا وكسيا، فانصرفت راجعا إِلَى المدينة.
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي عَبْد الرَّحْمَنِ الطائي قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لعمرو بْن حريث: إني أراك ظاهر الدم لين البشرة، فليت شعري مم ذاك؟ فَقَالَ طعامي لباب البر، وصغار المعز، ولباسي الكتان، ودهني البنفسج.(7/248)
الْمَدَائِنِيّ عَن عَبْد اللَّهِ بْن سلم عَن أبيه قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ للعجاج:
أتحسن الهجاء؟ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هل رأيت صانعا إلا وهو عَلَى الإفساد أقدر منه عَلَى الإصلاح، قَالَ فما يمنعك من الهجاء؟ قَالَ إن اللَّه عز وجل أعطانا عزا منعنا من الظلم وحلما منعنا من أن نظلم، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
الهجاء أشد من المديح وحرك رأسه.
هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ عَن عوانة قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: أي النساء يا بن مسعدة أفضل؟ قَالَ: الساحرة، يعني قول الرجل: قد سحرتني فَقَالَ صدقت.
الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم بْن حَفْص قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان: إن من وثائق الحزم أن تحمل النَّاس بالمال فإنهم أتباعه.
قَالَ: وَقَالَ عَبْد الملك: الحلم يحيا بحياة السؤدد.
حدثني أَبُو مسعود الكوفي قَالَ: دخل كثير بْن الرحمن عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ: أنشدك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ بكم؟ قَالَ كثير.
بطرف ومذعان وألف وحلة ... وسيف عتيق من جياد الصفائح [1]
فَقَالَ: يَا غلام عجل بجميع مَا قَالَ الساعة، فأتي بفرس رائع، وناقة مذعان، وحلة وسيف، ثُمَّ أنشده شعره الَّذِي مدحه بِهِ فأمر لَهُ بمال.
الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم بْن حَفْص قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لأسيلم بْن الأخيف [2] ، أبي اليقظان، وكان مضموما إلى الوليد: أخبرني عن الوليد؟
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.
[2] في هامش الأصل: ما جاء في اللحن.(7/249)
قَالَ: أعفني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: لتقولن قَالَ يلحن لحنا فاحشا يعرفه من لا يبصر العربية، ويظن ظنا سيئا أخاف أن يوبقه [1] ويوثقه ويستحيي أن يسأل فيعلم، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ للوليد: بلغني أنك تلحن لحنا فاحشا وتسيء الظن وتستحيي أن تسأل فتعلم، فَقَالَ: أما السؤال فما أدعه للحياء منه، ولكني لا أرى أحدا أهلا لأن أسأله عَن شيء، وأما سوء الظن فمن ذا ينبغي لَهُ أن يحسن الظن بالناس بعد قتل مروان، وأما اللحن فمر الفصحاء بتقويم لساني.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لربيعة بْن الغاز: إني أحب الوليد، وأريد توليته؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن وليته الجباية فاستقصى ذم، وإن قصر عجز، ولكن وله الصوائف فيكون ذَلِكَ لَهُ شرفا وذكرا.
قالوا: وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لأسيلم بْن الأخيف: كيف ترى الوليد:
فَقَالَ: إنه ليلحن لحنا قبيحا، قَالَ: إنه كَانَ أحب ولدي إلي، فلم تطب نفسي بمفارقته فأسترضع لَهُ بالبادية، كما استرضعت لسليمان.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لخالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ: ألا تقيمون لسان عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ صعب عَلَيْنَا من تقويم لسانه مَا صعب عليكم من تقويم لسان الوليد، قَالَ: وَكَانَ الوليد رديء اللسان، قَالَ يوما: يَا غلام رد الفرسان الصادان عن الميدان.
__________
[1] بهامش الأصل: يوقعه.(7/250)
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي مُعَاوِيَة بْن عامر قَالَ: تكلم عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة عِنْدَ عَبْد الْمَلِكِ فلحن، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: اللحن من الشريف أقبح من الجدري فِي الوجه الحسن.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان: إن المغيرة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحارث بْن هِشَام ليفخم اللحن كما يفخم نافع بْن جبير الإعراب.
وَكَانَ المغيرة يلحن ويتشدق.
الْمَدَائِنِيّ عَن علي بْن إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: اللحن هجنة فِي الشريف والعجب آفة للرأي والخرس خير من البيان بالكذب، لأن الكذب فساد كل شيء.
الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم بْن حفص قَالَ: صحف عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان فَقَالَ لقوم من كندة: من كَانَ الميل منكم؟ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هو المثل بْن مُعَاوِيَةَ الأكرمين.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: لما أنشد الأخطل عَبْد الْمَلِكِ قوله:
فإلا تغيرها قريش بملكها ... يكن عَن قريش مستمال ومرحل [1]
فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: إِلَى أين يابن اللخناء؟ قَالَ: إِلَى النار. قَالَ: لو قلت غيرها قطعت لسانك.
__________
[1] ديوان الأخطل ص 231.(7/251)
الْمَدَائِنِيّ عَن الوليد بْن مسلم قَالَ: كَانَ الحارث الأشعري قاضي عَبْد الْمَلِكِ، فأخبر عَبْد الْمَلِكِ أن امرأته كلمته فِي رجل فقضى لَهُ بقضية وأن الرجل أهدى إِلَى امرأة الأشعري هدية، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
إذا رشوة من باب بيت تقحمت ... لتسكن فيه والأمانة فيه
سعت هربا منه وولت كأنها ... حليم تولى عَن جوار سفيه(7/252)
بيعة الوليد وسليمان
قالوا: كَانَ مروان بايع لعَبْد الْمَلِك ولعَبْد الْعَزِيز من بعده، وولى عَبْد العزيز مصر، فأراد عَبْد الْمَلِكِ أن يخلع عَبْد العزيز ويبايع لابنه الوليد، فكتب إِلَى عَبْد العزيز: «إن رأيت أن تصير هذا الأمر لابن أخيك وولدك» ، فأبى فكتب إِلَيْهِ يسأله أن يجعلها للوليد من بعده ويقول له: لولا أن الوليد أعز الخلق علي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لم يسألك هذا لَهُ، فكتب إِلَيْهِ: «إني أرى فِي أَبِي بكر بْن عَبْد العزيز، مثل الَّذِي ترى فِي الوليد» . فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: اللهم إنه قد قطعني فاقطعه، وكتب إِلَيْهِ: «احمل إلي خراج مصر» ، فكتب إِلَيْهِ عَبْد العزيز: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنا قد بلغنا سنا لم يبلغها أحد من أَهْل بيتك، إلا كَانَ بقاؤه بعدها قليلا، وإنا لا ندري أينا يأتيه الموت أولا، فإن رأيت أن لا تغثث علي بقية عمري فافعل» ، فرق لَهُ عَبْد الْمَلِكِ وَقَالَ: لعمري لا فعلت ذاك ولا سؤت أخي، وَقَالَ لبنيه إن يرد اللَّه أن يعطيكم إياها لا يقدر أحد من العباد عَلَى ردها عنكم، وَقَالَ لابنيه الوليد وسليمان: هل قارفتما حراما قط؟ قالا: لا والله، قَالَ: اللَّه أكبر وليتماها ورب الكعبة.(7/253)
قالوا: وشاور عَبْد الْمَلِكِ قبيصة بْن ذؤيب الخزاعي، فَقَالَ:
لا تعجل، فلعل اللَّه سيكفيك، ولم تظهر غدرا ولم يسؤ عنك السماع، وَكَانَ يلي السكة والخاتم، فلم يشعر ذات يوم إلا وقد كتب بنعي عَبْد العزيز، فأدخل الكتاب علي عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قد جاءك مَا كنت أردت، ولم تقطع رحم عَبْد العزيز ولم تأت أمرا يعاب.
وَقَالَ أعشى بني أَبِي ربيعة شعرا يحث فيه عَبْد الْمَلِكِ عَلَى بيعة الوليد وخلع أخيه عَبْد العزيز:
ابنك أولى بملك والده ... وعمه إن عصاك مطرح
ورثت عثمان وابن حرب ومر ... وإن وكل لله قد نصحوا
فعش حميدا واعمل بسنتهم ... تكن بخير وأكدح كما كدحوا
فِي قصيدة.
وأراد عَبْد الْمَلِكِ البيعة للوليد قبل أمر عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، وكتب الحجاج إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يزين لَهُ بيعة الوليد، وأوفد وفدا فيهم عمران بْن عصام العنزي من بني هميم بْن عَبْد العزى بْن ربيعة بْن تيم بْن يقدم بْن عنزة بْن أسد بْن ربيعة الشاعر، وقد قتله الحجاج بدير الجماجم بعد، فَقَالَ عمران:
أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إليك نهدي ... عَلَى النأي التحية والسلاما
أجبني فِي بنيك يكن جوابي ... لهم أكرومة ولنا قواما
فلو أن الوليد أطاع فيه ... جعلت لَهُ الخلافة والزماما
شبيهك حول قبته قريش ... بِهِ يستمطر النَّاس الغماما
ومثلك فِي التقى لم يصب يوما ... لدن خلع القلائد والخداما(7/254)
فإن تؤثر أخاك بِهَا فإنا ... وجدك مَا نطيق لها اتهاما
ولكنا نحاذر من بنيه ... بني العلات إن نسقى السماما
ونخشى إن جعلت الملك فيهم ... سحابا أن يكون لها جهاما
فِي أبيات.
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: إنه عَبْد العزيز يَا عمران، فَقَالَ احتل لَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
قالوا: وَكَانَ الحجاج كتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يشير عَلَيْهِ باستكتاب مُحَمَّد بْن يَزِيدَ الأَنْصَارِيّ، وكتب إِلَيْهِ:
إن أردت رجلا عاقلا فاضلا وديعا مأمونا مسلما كتوما للسر، تتخذه لنفسك، وتضع عنده سرك، وما لا تحب أن يظهر من أمرك، فاستكتب مُحَمَّد بْن يَزِيدَ، فكتب عَبْد الْمَلِكِ: أن احمله إلي، فحمله إِلَيْهِ فاستكتبه.
قَالَ مُحَمَّد: فلم يكن يأتيه كتاب إلا دفعه إلي، فإني لجالس يوما نصف النهار إذا أنا ببريد قد قدم من مصر، فَقَالَ: الإذن، قلت: ليست هذه ساعة إذن فأعلمني مَا الَّذِي قدمت لَهُ، فأبى فقلت: هل معك كتاب؟ فَقَالَ: لا، فدخل بعض من حضرني عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فأخبره، فأذن للرجل، وصرت إِلَيْهِ فَقَالَ حين دخل: آجرك اللَّه يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي عَبْد العزيز، فاسترجع وبكى، ووجم ساعة وَقَالَ: رحم اللَّه عَبْد العزيز، فقد مضى لسبيله، ولا بد للناس من علم يسكنون إِلَيْهِ، وقائم يقوم بالأمر من بعدي، فما ترى؟ قلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ سيد الناس، وأرضاهم عندهم، وأفضلهم الوليد بن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: صدقت وفقك اللَّه، فمن ترى أن يكون بعده؟ قلت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أين تعدل عَن سليمان فتى العرب؟! قال:(7/255)
صدقت والله ووفقت، أما إنا لو تركنا الوليد وإياها جعلها لبنيه، اكتب عهدا للوليد ولسليمان من بعده، قَالَ: فغضب الوليد علي حين أشرت بسليمان بعده، وَكَانَ أول من تجبر من الخلفاء، قَالَ وصير عَبْد الْمَلِكِ مَعَ ابنيه حين بايع لهما عبيدة بْن قيس العقيلي.
الْمَدَائِنِيّ عَن ابْن جعدبة قَالَ: كتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى هِشَام بْن إسماعيل المخزومي، وهو بالمدينة، يأمره أن يدعو النَّاس إِلَى بيعة الوليد وسليمان، فبايعوا غير سعيد بْن المسيب، فإنه قَالَ: لا أبايع لأحد وعَبْد الْمَلِكِ حي، فضربه هِشَام ضربا مبرحا، وألبسه المسوح، وحمله إِلَى ثنية بالمدينة كانوا يقتلون عندها ويصلبون، فظن أنهم يريدون قتله، فلما انتهوا إليها ردوه، فَقَالَ: لو ظننت أنهم لا يصلبوني مَا لبست سراويل مسوح، ولكن قلت يسترني. وبلغ عَبْد الْمَلِكِ خبر سعيد فَقَالَ: قبح اللَّه هشاما، إنما كَانَ ينبغي لَهُ إذ أبى أن يضرب عنقه، وكتب إِلَى هِشَام يلومه ويقول: إن سعيدا لم يكن ممن تخافه، وقد كَانَ ينبغي لك أن تدعه.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ أَبُو المقدام: مروا بسعيد بْن المسيب عَلَيْنَا، وإنا فِي الكتاب، وعليه تبان شعر.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الواقدي قَالَ: ضرب هِشَام بْن إسماعيل فِي سنة ست وثمانين سعيد بن المسيب ستين سوطا، وطاف به فِي ثياب من شعر حَتَّى بلغ بِهِ رأس الثنية، فلما كروا بِهِ قَالَ: إِلَى أين تكرون بي؟ قالوا: إلى السجن، قال: والله لولا إني ظننته الصلب ما لبست هذا التبان أبدا، فرده إِلَى السجن، وحبسه، وكتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ بخلافه وتركه البيعة للوليد وسليمان من بعده وذلك حين مات عَبْد العزيز بْن مروان بمصر، فكتب عَبْد(7/256)
الْمَلِكِ إِلَيْهِ يلومه فيما صنع ويقول: كَانَ سعيد والله أحوج إِلَى أن تصل رحمه من أن تضربه، وإنا لنعلم أنه مَا عند سعيد شقاق ولا خلاف.
قَالَ الواقدي: وَكَانَ الَّذِي دخل بالكتاب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فِي ضرب سعيد قبيصة بْن ذؤيب، وَكَانَ عَلَى السكة والخاتم، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ كيف يفتات عليك هشام بمثل هذا، ويضرب ابْن المسيب، ويطوف بِهِ والله لا يكون أبدا أمحك ولا ألج منه حين فعل بِهِ مَا فعل، أو سعيد ممن يخاف فتفه وغوائله؟ قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: قد كتبت إِلَيْهِ أعلمه بكراهتي لما صنع بِهِ، وكتبت إِلَى سعيد أعتذر إِلَيْهِ، فلما قرأ سعيد كتاب عَبْد الْمَلِكِ قَالَ: حكم اللَّه بيني وبين من ظلمني، قَالَ: وصنعت لسعيد ابنته طعاما كثيرا حين حبس، وبعثت بِهِ إِلَيْهِ، فأرسل إليها لا تعودي لمثل هذا، فإني لا أدري مَا قدر حبسي، وإنما غاية هِشَام بْن إسماعيل أن يذهب بمالي فلا تزيديني علي القوت الَّذِي كنت آكله فِي بيتي، وكان يصوم الدهر، وكان الوليد سيئ الرأي فِي هِشَام، فلما ولي عزله عَن المدينة، وأمر أن يوقف للناس، فدعا سعيد ولده ومواليه فقال: إن هذا الرجل قد كَانَ أساء إلينا، فلا يذكرنه أحد منكم بسوء، ولا يعرضن لَهُ ولا يؤذينه بكلمة، فقد تركنا مجازاته لله والرحم، وإن كَانَ ما علمته سيئ النظر لنفسه، فأما كلامه فلا أكلمه أبدا.
قَالَ: وأرسل هِشَام إِلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْن هِشَام:
أكفني أمر ابْن المسيب فإنه رجل عند النَّاس كما علمت، فَقَالَ: لا بأس عليك منه، فَقَالَ: إنه حقود قَالَ: أما مَا صنعت بِهِ فلن يخرج من قلبه، ولكنك لن ترى منه سوءا.(7/257)
وَقَالَ مُحَمَّد بْن سعيد لأبيه: خل بيننا وبينه، فَقَالَ سعيد: لا يعرض لَهُ، فإنك إن فعلت لم أكلمك بكلمة أبدا، وحج الوليد، فدخل مسجد المدينة، فأخرج النَّاس ولم يجترئ أحد عَلَى إخراج سعيد، وقيل لَهُ هذا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لا والله لا قمت إلا فِي الوقت الَّذِي كنت أقوم فيه، وجعل عمر بْن عَبْد العزيز يعدل بالوليد عنه، وإن عَلَيْهِ لريطتين [1] مَا تساويان خمسة دراهم، وذلك لكراهة عمر أن يراه فينكر جلوسه، وحانت من الوليد التفاتة، فَقَالَ: من الجالس؟ قيل: سعيد بْن المسيب، ولو علم بمكان أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لقام إِلَيْهِ، فَقَالَ الوليد: قد عرفت حاله، ونحن نأتيه، فنسلم عَلَيْهِ، فجاء الوليد حَتَّى وقف عَلَى رأسه وَقَالَ: كيف أنت أيها الشيخ وهو جالس فقال: بخير والحمد لله، فكيف أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وكيف حاله؟ فقال الوليد: خير حال والحمد لله، فانصرف وَهُوَ يَقُول لعمر: هذا بقية النَّاس، فكان عمر إذا حلف يقول: لا وَالَّذِي صرف عَن سعيد شر الوليد مَا كَانَ كذا، ولأفعلن كذا، وَحَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هشام عن أَبِيهِ عن جده قَالَ: لما ضرب سعيد بْن المسيب لامتناعه من بيعة الوليد، أقيم للناس، فمرت بِهِ أمة لبعض أَهْل المدينة فقالت لَهُ: يَا شيخ لقد أقمت مقام خزي فَقَالَ لها: من مقام الخزي فررت.
ولما مات عَبْد العزيز قَالَ الشاميون: رد عَلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أمره، فدعا عَلَيْهِ فاستجيب لَهُ، لقول عَبْد الملك: إنّه قطعني فاقطعه.
__________
[1] الريطة: كل ملاءة غير ذات لفقين كلها نسج واحد، وقطعة واحدة، أو كل ثوب لين رقيق.
القاموس.(7/258)
الْمَدَائِنِيّ وغيره أن عَبْد الْمَلِكِ قَالَ لأسماء بْن خارجة الفزاري: بلغني عنك خصال كريمة، فأخبرني بِهَا، فَقَالَ وصفها من غيري أحسن، فَقَالَ:
لتقولن، قَالَ: أما إذ أبيت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إلا أن أخبرك فإني لم أمد رجلي بين يدي جليس لي قط كراهة أن يظن أني أرى أن لي عَلَيْهِ طولا، ولا دعوت رجلا قط إِلَى طعام فأجابني إلا لم أزل أعرف لَهُ الفضل علي ولا سألني رجل حاجة قط فرأيت أن شيئا من الدنيا عوض من بذل وجهه إلي فيها واختياره إياي لها، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: يحق لك أن تكون سيدا.
وَقَالَ الوليد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بلغني أنه أتاه الأخطل فِي ناس من قومه يسألونه دية، فلقيهم ببشر وطلاقة، وأمر لهم بثلاث بدر فَقَالَ: بدرة لممشاكم، وبدرة لإيثاركم إياي علي غيري، وبدرة لصاحبكم، ثُمَّ قَالَ لابنيه: مرا للقوم من مالكما بما أحببتما فأمرا لهم بعشرين ألف درهم فَقَالَ الأخطل:
إِذَا مات ابْن خارجة بْن حصن ... فلا مطرت عَلَى الأرض السماء
ولا رجع البشير بغنم جيش ... ولا حملت عَلَى الطهر النساء
فيوم منك خير من رجال ... كثير حولهم نعم وشاء
فبورك فِي بنيك وفي أبيهم ... إذا ذكروا ونحن لك الفداء [1]
فأعجب عَبْد الْمَلِكِ حديث الوليد لَهُ، وروايته مَا روى من شعر الأخطل وَقَالَ لَهُ: معرفتك بفضل أهل الفضل فضيلة يا بني.
__________
[1] ليست في ديوان الأخطل المطبوع.(7/259)
حَدَّثَنِي ابْن أَبِي شيخ الكوفي عَن عُبَيْد اللَّه بْن مُوسَى قَالَ: بلغني أن عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان قَالَ للحجاج: إنه ليس أحد إلا وهو يعرف عيبه، فعزمت عليك لما خبرتني بما فيك من العيوب، فَقَالَ: أنا حسود حقود لجوج قَالَ: حَسْبُك فما فِي الشيطان إلّا دون هذه الخلال.
الْمَدَائِنِيّ عَن علي بْن مجاهد قَالَ: حبس عَبْد الْمَلِكِ يَحْيَى بْن سعيد بْن أَبِي العاص بعد قتل أخيه أربعين يوما، ثُمَّ دعا بِهِ فاستشار من حضره فِي أمره، فَقَالَ بعضهم: أقتله، وَقَالَ بعضهم من عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن مسعدة بْن حكمة الفزاري: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن لَهُ رحما وقرابة والعفو أقرب للتقوى، فمن عَلَيْهِ وسيره إِلَى عدوك فلعل اللَّه يكفيك إياه بخيل من خيلك، فلحق بعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْرِ، فقال له: إنّ أخاك كان سيئ البلاء عندي فالحق بمصعب، فلحق بالعراق فولده بالكوفة وواسط.
حدّثني عَلِيُّ بْنُ حَمَّادٍ عَنِ الْحِزَامِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَافِعٍ قَالَ: وَفَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَأَهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَلْطَافِ الْمَدِينَةِ فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بِأَلْطَافِ وَكِسِيٍّ وَفَرَسِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْيُعْسُوبُ، وَكَانَ قُتِلَ عَنْهُ، فَقَبِلَ الْهَدَايَا، وَرَدَّ الْفَرَسَ، فَبَعَثَ إِلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ يَعْزِمُ عَلَيْهِ لَيُخْبِرَنَّهُ لِمَ رَدَّ الْفَرَسَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا كُنْتُ لا قدم عَلَى قَوْمِي بِأَسْلابِهِمْ.
قالوا: وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لأسماء بْن خارجة: زدني من صفة مذاهبك وأخلاقك، قَالَ: مَا شتمت رجلا قط، ولا شتمني إلا حلمت عنه إن كَانَ كريما، فأنا أولى من غفر زلته، وإن كَانَ لئيما لم أجعل عرضي خطرا لَهُ، فَقَالَ: أحسنت والله مَا شئت.(7/260)
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: دخل تميم بْن الحباب السلمي أخو عمير بْن الحباب عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فقال: أنشدني بعض مارثيت بِهِ أخاك عميرا، فأنشده:
وذي ميعة لا يستطاع قياده ... مَعَ الخيل إلا ممسكا بلجام
وزعت بِهِ الغارات حَتَّى تركته ... حزوز [1] الضحى من نهكة وسآم
فكم من دم يوما هرقت ومن دم ... حقنت ومن وفد حبوت كرام
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: مَا كَانَ كما وصفت يابن الحباب، فَقَالَ: بلى والله، وإن رغم الراغمون.
الْمَدَائِنِيّ عَن عوانة قَالَ: قدم عَلَى عَبْد الْمَلِكِ قادم من العراق، فَقَالَ لَهُ: كيف تركت بشرا- يعني أخاه؟ قَالَ: تركته لينا فِي غير ضعف، قويا فِي غير عنف، يعرف موضع العقوبة فيعاقب عَلَى قدر الذنب، قَالَ: ذاك ابْن حنتمة- يعني عمر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه-.
وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لأعرابي: إنك لحسن الكدنة، فَقَالَ: ذاك عنوان نعمة اللَّه علي، إني أدفئ رجلي فِي الشتاء، وآكل عند الشهوة وأذود غاشية الهم يعني بالشراب.
قالوا: وبعث عَبْد الْمَلِكِ روح بْن زنباع إِلَى أم البنين، وهي عاتكة بنت يَزِيد يسألها أن تجعل مالها لابنيها يَزِيد ومروان الأصغر، فقد أدركا، فقالت: علي بشهود عدول فلما دخلوا عَلَيْهَا قالت: اشهدوا أني قد تصدقت بمالي عَلَى فقراء آل أَبِي سفيان صدقة بتة بتلة، وقالت لروح: يَا أبا زرعة أتراني أخاف عَلَى ولدي العيلة وهما ابنا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟! فأتى عَبْد الملك فأخبره،
__________
[1] أي حين أو وقت.(7/261)
فغضب فَقَالَ لَهُ روح: لا تغضب يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فإنها لم تخط فيما صنعت، ولا فِي الاتكال عَلَى من اتكلت عَلَيْهِ.
وَقَالَ الواقدي: كَانَ النَّاس يصلون ركعات بعد الظهر، وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ أول من مد الصلاة من الظهر إِلَى العصر، وَكَانَ أول خليفة بخل.
الْمَدَائِنِي عَنْ عامر بْن أَبِي مُحَمَّد قَالَ: تنبأ رجل يقال لَهُ خالد أيام عَبْد الْمَلِكِ، فأمر بِهِ فصلب حيا، فَقَالَ: أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ [1] فطعنه رجل فانثنت الحربة، فسجد أصحابه، فنكت عَبْد الْمَلِكِ فِي الأرض، ثُمَّ تلا: مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رسول الله وخاتم النبيين [2] يَا أبا زرعة اطعن فِي الجانب الأيسر فإن الشيطان يدفع عَن الجانب الأيمن، فطعنه تحت الخاصرة فأخرج السنان من ظهره، فَقَالَ عبد الملك:
جاء الحق وزهق الباطل [3] .
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: السياسة هيبة الخاصة مَعَ صدق مودتها، واقتياد قلوب العامة وإنصافها، والإحسان إليها.
الْمَدَائِنِيّ عَن عمر بْن الحباب قَالَ دخل زفر بْن الحارث عَلَى عَبْد الْمَلِكِ بعد الصلح، فَقَالَ لَهُ: يَا أبا الهذيل مَا بقي من حبك الضحاك بْن قيس؟
قَالَ: مَا لا ينفعه، ولا يضرك، قَالَ: لشد مَا أحببتموه معاشر قيس، قَالَ:
أحببناه، ولم نواسه ولو كنا فعلنا لأدركنا مَا فاتنا منه، قَالَ: مَا منعك من مواساته يوم المرج؟ قَالَ: مَا منعك من مواساة عثمان يوم الدار.
__________
[1] سورة غافر- الآية: 28.
[2] سورة الأحزاب- الآية: 40.
[3] سورة الأسراء- الآية: 81.(7/262)
وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لزفر: بلغني أنك من كندة قَالَ: وما خير من لا ينفي حسدا ولا يدعى رغبة.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: دَخَلَ عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عباس عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فتغديا جميعا ثُمَّ دعا بشراب فأتي بِهِ فِي عس، فبدا بعلي فسقاه ثُمَّ شرب، وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ اللحن هجنة الشريف والعجب آفة، والكذب فساد كل شيء والخرس خير من الكذب.
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي خالد التميمي عَن أَبِي لؤلؤة المازني أن عياش بْن الزبرقان دخل عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، وعنده روح بْن زنباع، وَأَبُو الزعيزعة مولى بني مروان فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: يَا عياش أما ترى هذا اليماني- يعني روحا- يفخر بملوك اليمن؟ فَقَالَ عياش: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نحن بنو إسماعيل بْن إِبْرَاهِيمَ فملك إخوتنا بني اسحق بْن إِبْرَاهِيمَ أعظم من ملكهم، ملك سليمان بْن دَاوُد مَعَ النبوة، ونحن بنو إسماعيل ففينا النبوة والملك، فملكنا وملك إخوتنا أعظم من ملكهم، والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لو مت ولم أدع وارثا، لكان أَبُو الزعيزعة أولى بي من روح فقام أَبُو الزعيزعة فقبل رأس عياش وألقى عَلَيْهِ مطرفه فأسكت روح.
قالوا: وقاد عياش بْن الزبرقان إِلَى عَبْد الْمَلِكِ خمسة وعشرين فرسا، فلما نظر إِلَى الخيل نسب كل فرس منها إِلَى أبيه، وحلف عَلَى كل فرس منها بيمين غير اليمين التي حلف بِهَا عَلَى الفرس الآخر، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: مَا أعجب من نسبته للخيل ولكن أعجب من حلفه عَلَى كل فرس بيمين غير الأخرى.(7/263)
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: دخل أسيلم بْن الأخيف الأسدي عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فأدناه، ثُمَّ قَالَ لَهُ: أنشدني بعض مَا قيل فيك، فامتنع فعزم عَلَيْهِ فأنشده شعرا:
ألا أيها الركب المجدون هل لكم ... بسيد أَهْل الشام تحبوا وترجعوا
أسيلم ذاكم ليس يخفى مكانه ... عَلَى مقلة ترنو وأذن تسمع
جلا المسك والحمام والبيض كالدمى ... وفرق المذاري [1] رأسه فهو أنزع
فضحك عَبْد الْمَلِكِ، ثُمَّ قَالَ: مَا قَالَ قيس بْن الأسلت خير مما قلته، قَالَ: وقد حصبت البيضة [2] رأسي فما أطعم نوما غير تهجاع.
وزعموا أن رجلا من الأعراب أهدى إِلَى عَبْد الْمَلِكِ شيئا، فَقَالَ:
كيف أقبل هديتك وأنا أظنك لا تحسن أن تطاف [3] ، فَقَالَ: مهلا يا أمير المؤمنين، فو الله لأطيل المشي حَتَّى أتوارى كراهة أن أرى، وأستقبل الريح، واشتم النسيم، وأقدم رجلا وأؤخر أخرى، وأخوي تخوية الظليم، وأمسح بالحجر، وأجتنب المدر، فضحك منه وقبل هديته، ووهب لَهُ.
حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ مالك بْن أنس قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان لسعيد بْن المسيب: يَا أبا مُحَمَّد صرت أعمل الخير فلا أسر بِهِ، وأفعل الشر فلا أسله، قَالَ: الآن تكامل فيك موت القلب.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سعد عَن الواقدي عَن مسلم بْن حماد عَن عمر بْن حَفْص عَن الزهري عَن قبيصة بْن ذؤيب بْن حلحلة قَالَ: كنا فِي خلافة مُعَاوِيَة فِي آخرها نجتمع فِي حلقة في مسجد بالليل أناو مصعب بن الزبير،
__________
[1] النزع من الرأس: هو انحسار الشعر من جانبي الجبهة وهو أنزع. ومذره تمذير فتمذر:
فرقه فتفرق. القاموس.
[2] الحصبة: بثور.
[3] طاف: ذهب ليغوط. القاموس.(7/264)
وعروة بْن الزُّبَيْرِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَام، وعَبْد الْمَلِكِ بْن مروان، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن المسور بْن مخرمة وإبراهيم بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوف، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وكنت أنا آتي زيد بْن ثابت حَتَّى مات، وَكَانَ عروة يغلبنا بدخوله عَلَى عائشة رضي اللَّه عنها، وكانت أعلم النَّاس.
الْمَدَائِنِي قَالَ: قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر وسمع رجلا يشتم الحكم بْن أَبِي العاص: لا تسب الحكم فإنه كَانَ رجلا وديعا، ولكن سب مروان وابن مروان، ثُمَّ قَالَ: أيخوفني عَبْد الْمَلِكِ بالحرب، وأنا ابْن الحرب وأخوها، فيها ولدت، وفيها غذيت.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِحِ بْن مُسْلِمٍ العجلي أخبرني الثقة عَن مجالد عَن الشَّعْبِيّ قَالَ: دخلت عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فصعد فِي بصره وصوبه ثُمَّ قَالَ:
يَا شعبي إنك لضئيل، فقلت: زوحمت فِي الرحم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَكَانَ توأما، قَالَ: ثُمَّ أنشأت أقول متمثلا:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
وكأين ترى من صامت لك معجب ... زيادته أو نقصه فِي التكلم
قَالَ وَكَانَ الأخطل حاضرا فَقَالَ:
لا يعجبنك من جليس خطبة ... حَتَّى يكون مَعَ المقال أصيلا
إن الكلام من الفؤاد وإنما ... جعل الكلام على العقول دليلا [1]
__________
[1] ليسا في ديوانه المطبوع.(7/265)
قَالَ الشَّعْبِيّ: فأنشدته فِي هذا المعنى غير شعر، فَقَالَ الأخطل: أنا أفرغ من وعاء واحد وأنت تفرغ من أوعية كثيرة.
الْمَدَائِنِيّ عَن ثور بْن يَزِيدَ قَالَ: ذكرت خطباء أَهْل الشام الخلافة فعظموها، ثُمَّ أطروا عَبْد الْمَلِكِ، فالتفت إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زرعة الحميري فقال: يا بن زرعة مَا منزلتي عند اللَّه عز وجل؟ قَالَ: أما ترضى أن تكون منزلتك منزلة دَاوُد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّه عز وجل: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تتبع الهوى [1] الآية قَالَ: فهذا قول اللَّه عز وجل لنبيه، فكيف بك، فأطرق عَبْد الْمَلِكِ فلم يتكلم.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: دخل رجل من بني تميم عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن لي بلاء، أصيبت عيني يوم الدار فوصله.
وَكَانَ لرجل من جلساء عَبْد الْمَلِكِ وأحبائه ابْن أعور فَقَالَ لَهُ: إني مدخلك عَلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فقل لَهُ كما قَالَ فلان التميمي وأراد أن يضحك عَبْد الْمَلِكِ منه، فأدخله عَلَيْهِ فَقَالَ كما قَالَ الرجل الأول، فَقَالَ: ومن يعلم صدقك؟ قَالَ: هذا- يعني ابْن عمه-. قَالَ: كذب والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أصيبت عينه إلا يوم المرج مَعَ الضحاك بْن قيس فطرده عَبْد الْمَلِكِ، فَقَالَ الرجل الَّذِي أدخله: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هذه ورطة قد وقعت فيها، قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: وكيف؟ قَالَ: إن لَهُ أربع بنين كالأسود مَا آمنهم أن يفتكوا بي فأمر لَهُ عَبْد الْمَلِكِ بمال، وَقَالَ كفهم عَن نفسك بهذا، فلما خرج من عند عبد
__________
[1] سورة ص- الآية: 26.(7/266)
الْمَلِكِ تلقاه بنو الرجل فَقَالُوا: غررت أبانا وغررت بِهِ، قَالَ: لا تعجلوا فالذي صنعت خير هذه صلة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فدفعها إِلَى أبيهم فكفوا عنه.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ عَبْد الْمَلِكِ لأبي الزعيزية مولاهم: هل أتخمت قط؟
قَالَ: لا، قَالَ: وكيف ذاك؟ قَالَ: لأنا إذا طبخنا أنضجنا، وإذا مضغنا أدققنا ولا نكد المعد ولا نخليها.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: لما بلغ عَبْد الْمَلِكِ خروج ابْن الأشعث، قَالَ لمحمد بْن عمير بْن عطارد، وهو عنده: من بالعراق ممن إن دعا أجيب؟ قَالَ:
لا أعلمه إلا أن يكون عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: اللحن فِي الرجل الشريف كالجدري فِي الوجه الحسن.
وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لابن لَهُ لحن بين يديه: اخز من اللحن كما تخزي من الفاحشة يعلمها النَّاس. قَالَ: وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لعَبْد العزيز أخيه حين أمره بقتل عَمْرو بْن سعيد الأشدق، فلم يفعل: لقد أشبهت أمك الأعرابية البائلة عَلَى عقبيها، فحلف عَبْد العزيز أن لا يعطي شاعرا يمدحه حَتَّى يذكر أمه فِي مديحه، فَقَالَ ابْن قيس الرقيات:
أمك بيضاء من قضاعة في ال ... بيت الَّذِي يستظل فِي طنبه
وأنت فِي الجوهر المهذب من ... عبد مناف يداك فِي سببه [1]
المدائني عن عبد الله بن فائد قال: كَانَ يقال: مُعَاوِيَة أحلم وعَبْد الْمَلِكِ أحزم.
__________
[1] ديوان عبيد الله بن قيس الرقيات ص 14.(7/267)
الْمَدَائِنِيّ عَن جويرية بْن أسماء قَالَ: كتب مروان إِلَى مُعَاوِيَة يسأله أن يصير إِلَى عَبْد الْمَلِكِ ديوان المدينة فصيره، فلم يزل عَلَيْهِ حَتَّى كانت الفتنة.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ عَبْد الْمَلِكِ: مَا رأيت هذا البربط الأقنى الَّذِي يذكرونه قط، فَقَالَ بعضهم: صدق لم يرتفع إلي البربط إنما رأى الطنبور وَقَالَ آخر:
كذب والله إني لأراه يضرب بِهِ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَمٍ قَالَ: فرش لعَبْد الْمَلِكِ عَلَى سطح وهو يشتكي فمه، فلما استلقى عَلَى فراشه قَالَ: يَا دنيا مَا أطيبك مَعَ العافية، وَكَانَ يصيح حَتَّى يسمع صياحه من خارج القصر: يَا أَهْل العافية لا تستقلوها.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: ركب عَبْد الْمَلِكِ فِي يوم شديد البرد، وعليه جباب خز مظاهرة، فلقيه علي بْن عَبْد اللَّهِ بْن عباس فَقَالَ: يَا أبا مُحَمَّد تدق أم دفر [1] دقا، يعني الدنيا، فما أتت عَلَيْهِ جمعة حَتَّى مات.
الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم بْن حفص قَالَ: أوصى عَبْد الْمَلِكِ بنيه فِي مرضه الَّذِي مات فيه فَقَالَ: أوصيكم بتقوى اللَّه فإنها أزين حلية، وأحصن كهف، ليعطف الكبير منكم عَلَى الصغير، وليعرف الصغير حق الكبير، وانظروا مسلمة فاصدروا عَن رأيه فإنه نابكم الَّذِي عنه تفترون، ومجنكم الَّذِي عنه ترمون، وأكرموا الحجاج فإنه الَّذِي وطأ لكم المنابر، ودوخ لكم البلاد، وأذل الأعداء، وكونوا بني أم بررة لا تدب بينكم العقارب، وكونوا فِي الحرب أحرارا، فإن القتال لا يقرب منيه قبل وقتها، وكونوا للمعروف
__________
[1] أم دفر: الدنيا.(7/268)
منازل فإن المعروف شيء يبقى آخره وذخره وذكره، وضعوا معروفكم عند ذوي الأحساب، فإنهم أصون لَهُ، وأشكر لما يؤتى إليهم منه، وتغمدوا ذنوب أَهْل الذنوب، فإن استقالوا فأقيلوا، وإن عادوا فانتقموا.
المدائني عن أبي إسحق الزيادي قَالَ: قَالَ بعض أطباء عَبْد الْمَلِكِ:
إن شرب الماء مات، فاشتد عطشه فَقَالَ: يَا وليد اسقني قَالَ: لا أعين عليك، فَقَالَ: يَا فاطمة اسقيني، فقامت لتسقيه فمنعها الوليد فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ لتدعنها أو لأخلعنك، فَقَالَ: لم يبق بعد هذا شيء فسقته فخمد.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: جعل عَبْد الْمَلِكِ يقول حين احتضر [1]
إن بني صبية صيفيون ... أفلح من كَانَ لَهُ ربعيون
إن بني صبية صغار ... أفلح من كان له كبار
فَقَالَ عمر بْن عَبْد العزيز وهو عنده: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فصلى [2] قالوا: ودخل الوليد عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وعند رأسه فاطمة ابنته وهي تبكي، فَقَالَ: كيف أَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟ قالوا: هو صالح، فلما خرج قَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
ومستخبر عنا يريد أخا الردى ... ومستخبرات والدموع سواجم
قالوا: وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ يقول: أخاف الموت فِي شهر رمضان، فيه ولدت، وفيه فطمت، وفيه جمعت القرآن، وفيه بايع لي الناس، فمات
__________
[1] تحكى هذه القصة عن سليمان بن عبد الملك وقت إحتضاره.
[2] سورة الأعلى- الآيتان: 14- 15.(7/269)
للنصف من شوال حين أمن الموت فِي نفسه، وَكَانَ موته فِي سنة ست وثمانين، وهو ابْن ثلاث وستين، بدمشق، وكانت ولايته بعد مقتل ابْن الزُّبَيْرِ ثلاث عشرة سنة وثلاثة أشهر، وخمسة عشر يوما، ودفن خارج باب الجابية بدمشق، وصلى عَلَيْهِ الوليد فتمثل هِشَام أو سليمان:
فَمَا كَانَ قيسٌ هَلْكُهُ هَلْكُ واحدٍ ... ولكنه بنيان قوم تهدما
فَقَالَ لَهُ الوليد: اسكت فإنك تتكلم بلسان شيطان ألا قلت كما قَالَ أوس بْن حجر:
إذا مقرم منا ذرا حد نابه ... تمخط منا ناب آخر مقرم [1]
وقيل إن سليمان المتمثل بالبيت الأول، لأن هشاما كَانَ يوم مات أبوه ابْن أربع عشرة سنة، ولد عام قتل مصعب.
قالوا: ولما أخرج عَبْد الْمَلِكِ احتزم الوليد ومشى بين يدي سريره، وَكَانَ فِي طريقهم إِلَى المقابر دار إذا هدمت كَانَ الطريق أقرب إِلَى المقابر، فأمر الوليد بهدم الدار قبل أن تخرج الجنازة، فهدمت [2] .
وخطب الوليد حين رجع من الجنازة، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ: لم أر مثلها مصيبة، ولم أر مثله ثوابا، فإن لله وإنا إِلَيْهِ راجعون لعظم المصيبة، والحمد لله عَلَى حسن العطية، إني قد كفيت مَا كانت الخلفاء قبلي تتكلم بِهِ، فمن كَانَ فِي قلبه شك فليمت بدائه، من أمال أذنه أملنا أذنيه.
__________
[1] ديوان أوس بن حجر: ط. بيروت 1979 ص 122.
[2] بهامش الأصل: بلغ العراض بالأصل الثالث ولله الحمد. نصف الكتاب.(7/270)
قَالَ الشاعر يرثي عَبْد الْمَلِكِ:
سقاك ابْن مروان من الغيث مسيل ... أحش شمالي يجود ويهطل
فما فِي حياة بعد موتك رغبة ... لحر وإن كنا الوليد نؤمل
ورثاه كثير وغيره.(7/271)
خبر رستقاباذ فِي أيام عَبْد الْمَلِكِ وولاية الحجاج ابْن يوسف بْن الحكم بْن أَبِي عقيل العراق
حَدَّثَنِي عباس بْن هِشَام، عَن أبيه، عَن لوط بْن يَحْيَى، وعن عوانة:
أن بشر بْن مروان هلك بالبصرة وهو عَلَى الْكُوفَة والبصرة واستخلف خَالِد بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد بن أبي العاص عَلَى البصرة، فمكث نحوا من شهرين، ثُمَّ ولى عَبْد الْمَلِكِ الحجاج بْن يوسف العراق كله، غير خراسان وسجستان، فإنه كَانَ عليهما أمية بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد، فأقره عَبْد الْمَلِكِ سنتين بعد قدوم الحجاج من الحجاز، وأبى عَبْد الْمَلِكِ أن يقر خالدا عَلَى عمله، وكلم فِي ذَلِكَ فلم يجب إِلَيْهِ، وَقَالَ: أساء التدبير، وعجز عَن العراق، وضعف عَن أَهْل المصر، فقدم الحجاج من الحجاز، وَكَانَ واليا عَلَيْهِ، فأقبل حَتَّى دخل الْكُوفَة متلثما فقصد إِلَى المنبر، فصعده، ثُمَّ جلس ساعة لا يتكلم، فَقَالَ مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد للهيثم بْن الأسود: مَا لَهُ- ترحه اللَّه- لا يتكلم؟ مَا أعياه وأشنأه وأدمه! والله إني لأظن خبره أسوأ من مرآته، ثُمَّ أخذ كفا من حصى ليحصبه، فلم يفعل حَتَّى قام الحجاج، فحسر نقابه ثم قال:(7/273)
[خطبة الحجاج في أهل الكوفة]
أَنَا ابْن جلا وطلاع الثنايا ... مَتَى أضع العمامة تعرفوني
إني لأرى رءوسا قد أينعت وحان قطافها.
قد شمرت عَن ساقها فشمري ... ليس هذا أوان عشك فادرجي
هذا أوان الشد فاشتدي زيم ... قد لفها الليل بسواق حطم
ليس براعي إبل ولا غنم ... ولا بجزار عَلَى ظهر وضم
قد لفها الليل بعصلبي ... مهاجر ليس بأعرابي
إني والله يَا أَهْل العراق لا أحلق إلا فريت ولا أعد إلا وفيت، والله إني لأحمل الشر بثقله وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله. إن اللَّه ضرب مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يصنعون [1] . فأنتم أولئك، أو أشباه أولئك، فاستوسقوا واستقيموا ولا تميلوا، فقد بين الصبح لذي عينين، والله لأمرينكم بالهوان حَتَّى تدوروا، ولأعصبنكم عصب السلمة حَتَّى تذلوا، ولأقرعنكم قرع المروة حَتَّى تلينوا، ولأضربنكم، ضرب غريبات الإبل حَتَّى تنقادوا، إنه والله مَا يقعقع لي بالشنان، ولا أغمر تغماز التين، ولا أجلس عَلَى الدبر، إني امرؤ فررت عَن ذكاء، وجريت إِلَى الغاية وانتضيت عَن تجربة، إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَبْد الْمَلِكِ نكت كنانته، ونثلها
__________
[1] سورة النحل- الآية: 112.(7/274)
بين يديه، وعجم عيدانها، فوجدني أمرها معجما، وأشدها مكسرا، فوجهني إليكم، ورمى بي فِي نحوركم، فأنتم أَهْل بغي وخلاف، وشقاق ونفاق، طالما أوضعتم فِي الضلال، وسننتم سنن الغي تسائلون ماذا قَالَ أميركم؟ وماذا يقول؟ وها، وها. وإياي وهذه الزرافات والجماعات، وَكَانَ ويكون، وما أنتم وذاك؟ إني أرى الدماء بين العمائم واللحى، وَالَّذِي نفس الحجاج بيده لتسلكن طريق الحق، ولتستقيمن عَلَيْهِ، أو لأجعلن لكل امرئ منكم شغلا فِي جسده، فاقبلوا الإنصاف، ودعوا الإرجاف، وقول القائل منكم: أخبرني فلان عَن فلان، قبل أن أوقع بكم إيقاعا يترك النساء أيامى، والولدان يتامى، فتقلعوا وقد جنيتم العافية، وغنمتم حظوظكم من السلامة، إلا ولا يركبن رجل إلا وحده، ولا يحفظن إلا نفسه. فَقَالَ مُحَمَّد بْن عمير: لله أبوه! لقد كدنا نقع منه فِي شر، وجعل الحصا يتناثر من بين أصابعه.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ فِي إسناده: قدم الحجاج فِي سنة خمس وسبعين فِي رجب، فبدأ بالكوفة، فخطب أهلها وتوعدهم، وأرسل إِلَى وجوههم، وإلى كثير من العامة، فَقَالَ: أخبروني عَن الولاة قبلي، مَا كانوا يعاقبون بِهِ العصاة؟ قالوا: الضرب والحبس، قَالَ: لكني لا أعاقبهم إلا بالسيف، إن المعصية لو ساغت لأهلها مَا قتل عدو، ولا جبي فيء، ولا عز دين، ولو لم يغز المسلمون المشركين، لغزاهم المشركون. وقد أجلتكم ثلاثا، فمن وجدته بعد ثالثة من جيش ابْن مخنف، فبرئت منه الذمة.
وَقَالَ ليزيد بْن علاقة السكسكي صاحب شرطه: اجعل سيفك سوطا، فمن وجدته بعد ثالثة عاصيا فاقتله.(7/275)
وقيل إن الحجاج قَالَ فِي خطبته:
جاءت بِهِ والقلص الأعلاط [1] ... تهوي هوي سائق الغطاط [2]
ليس هذا أوان عشك فادرجي.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعَجْلِيُّ عَنْ ابن كناسة الأسدي، قَالَ:
حَدَّثَنَا أشياخنا قالوا: قدم الحجاج الْكُوفَة، فخطب خطبته التي توعد النَّاس فيها، ثم قال: إياي وهذه الجماعات والزرافات والإخبار والاستخبار وسوء الأراجيف، لا يركبن أحد منكم إلا وحده ولا يخافن إلا ذنبه، إنه لو ساغت لأهل المعصية معصيتهم، مَا جبي فيء، ولا قوتل عدو، ولعطلت الثغور، وأهملت الأمور، ولولا أنكم تغزون كرها مَا غزوتم طوعا، وقد بلغني رفضكم المهلب، وإقبالكم إِلَى مصركم، عصاة مخالفين، وأقسم بالله:
لا أجد أحدا بعد ثالثة ممن أخل بمركزه، إلا ضربت عنقه، ثُمَّ دعا بالعرفاء فَقَالَ لهم: ألحقوا النَّاس بالمهلب، وأتوني بكتبه بموافاتهم ولا أستبطئكم فأضرب أعناقكم.
فلما كَانَ اليوم الثالث من مقدمه، سمع فِي السوق تكبيرا عاليا، فصعد المنبر، فَقَالَ: يَا أَهْل العراق يَا أَهْل الشقاق والنفاق، ومساوئ الأخلاق، إني سمعت تكبيرا ليس بالتكبير الَّذِي يراد بِهِ اللَّه فِي الترغيب، ولكنه تكبير يراد بِهِ الترهيب، وقد عرفت أنها عجاجة تحتها قاصف، أيا بني اللكيعة، وعبيد العصا، وأبناء الأيامى، إلا يربع أحدكم على ظلعه، ويحسن حمل
__________
[1] العلاط: الطوال من النوق. القاموس.
[2] البعير يغط غطيطا: هدر. القاموس.(7/276)
رأسه ويحقن دمه، ويبصر موضع قدمه، فأقسم بالله ليوشك أن أوقع بكم، وقعة تكونون بِهَا نكالا لما قبلها، وأدبا لمن بعدها. فقام عمير بْن ضابئ التميمي ثُمَّ البرجمي، فسأله أن يقبل منه بديلا، وكان وطيء عَلَى بطن عثمان وهو مقتول فضرب عنقه. قالوا: ولقي رجل أعرابيا من بني تميم، فَقَالَ مَا الخبر؟ قَالَ: قدم الْكُوفَة رَجُل من شر أحياء العرب، من هذا الحي من ثمود، حمش الساقين [1] ، ممسوح الجاعرتين [2] ، أخفش العينين [3] ، فقدم سيد هذا الحي، فضرب عنقه.
وَقَالَ ابْن الزُّبَيْرِ لإبراهيم بْن عامر الأسدي:
أقول لإبراهيم لما لقيته ... أرى الأمر أمسى منهبا متشعبا
تحرز فأسرع والحق الجيش لا أرى ... سوى الجيش إلا فِي المهالك مذهبا
تخير فإما أن تزور ابْن ضابئٍ ... عُميرًا، وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا سوء، نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فأمسى ولو كَانَتْ خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
قالوا: وأتي الحجاج بعاص من بني سعد، فَقَالَ أما سمعت جريرا يقول:
إِذَا ظَفَرتْ يداه بحبل عاصٍ ... رَأَى العاصي من الأجل اقترابا [4]
__________
[1] حمش الساقين: دقيق الساقين. القاموس.
[2] الجاعرة: الاست، أو حلقة الدبر. القاموس.
[3] الخفش: صغر العين، وضعف البصر خلقة، أو فساد في الجفون بلا وجع، أو أن يبصر بالليل دون النهار. القاموس.
[4] ديوان جرير ص 21 مع فوارق.(7/277)
ثُمَّ أمر بِهِ فضربت عنقه.
وَقَالَ أَبُو عبيدة معمر بْن المثنى: كَانَ الحجاج يفرض في ثلاثمائة، ففرض للحرنفش- أحد بني ثعلبة بْن سلامان وَكَانَ يأخذ من فرض لَهُ بفرس جواد، وسلاح شاك فَقَالَ الحرنفش:
يُكلفني الحجاج درعًا ومغفرًا ... وطِرفًا كُمَيْتًا رائعًا بثلاث
وستين سهمًا صنعة يثربية ... وقوسًا طروح النبل غير لباث
ففي أي هذا أجعلن دراهمي ... فربي من هذا الحديث غياثي
الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم بْن حَفْص قَالَ: كَانَ قدوم الحجاج الْكُوفَة يوم جمعة فخطب ونزل فصلى، وقرأ: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ [1] . وَقَالَ فِي خطبته: أقسم بالله لتقبلن الإنصاف ولتتركن الإرجاف، وَكَانَ وَكَانَ، وأخبرني فلان عن فلان، والهبر والهبر لأهبرنكم بالسيف هبرا يدع النساء أيامى، والولدان يتامى، وحتى تمشوا السمهى [2] ، وتقلعوا عن ها، وها، وإياي وهذه الزرافات والجماعات.
وَقَالَ أَبُو مخنف: لما خطب الحجاج خطبته، أمر مناديه فنادى: أن برئت الذمة من عاص مخل بمركزه، وجدناه بالكوفة بعد ثلاث، فألحقوا ببعث المهلب، وبمكاتبكم [3] من الثغور، ومغازيكم للخوارج.
__________
[1] سورة المعارج- الآية: 1.
[2] سمه سموها: جرى جريا لا يعرف الإعياء، وذهبت إبله السمهى: تفرقت في كل وجه.
القاموس.
[3] أي حيث كتبت أسماؤهم في ديوان الجند.(7/278)
[خبر رستقاباذ]
وجاءه عمير بْن ضابئ بْن الْحَارِث بْن أرطاة البرجمي، من بني تميم، فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير إني شيخ كبير عليل، وهذا ابني حنظلة وليس فِي بني تميم رجل أشد منه ظهرا وبطشا، فإن رأيت أن تخرجه مكاني بديلا فافعل.
فَقَالَ الحجاج: والله لهذا خير لنا من أبيه، فَقَالَ لَهُ عنبسة بْن سعيد، أخو عَمْرو بْن سعيد الأشدق، وَكَانَ أليف الحجاج وجليسه: إن هذا الَّذِي فعل بعثمان كذا، وَقَالَ كذا، وحدثه حديث ضابئ، وأنشده شعره، وقد كتبناه فِي مقتل عثمان، فَقَالَ الحجاج: أفهلا بعثت حين أردت غزو عثمان بديلا.
أضربوا عنقه. فضربوا عنقه، فلما ضربت عنق عمير، تطايرت عصاة الجيوش إِلَى مكاتبهم التي رفضوها. ولم يبق من أصحاب المهلب أحد إلا لحق بِهِ، وكان بإزاء الخوارج برا مهرمز من الأهواز، فركب العراض حين عرفوا حضورهم وعرضوهم، ولحق كل مخل بثغره ومركزه، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ الأسدي شعره المقدم ذكره وهو:
تخير فإما أن تزور ابْن ضابئٍ ... عُميرًا وإما أن تزور المهلبا
هما خطتا سوء نجاؤك منهما ... ركوبك حوليا من الثلج أشهبا
فجاء ولو كَانَتْ خراسان دونه ... رآها مكان السوق أو هي أقربا
وَكَانَ الحجاج أول من ضرب أعناق العصاة.
ثُمَّ خرج إِلَى البصرة فولاها الحكم بْن أيوب بْن الحكم بْن أَبِي عقيل، وخطب فَقَالَ: إن العوان لا تعلم الخمرة، فالزموا الطاعة، تحسن لكم بِهَا العائدة، ومن كَانَ بالبصرة من جيش المهلب، فليلحق بِهِ فإني إن وجدت منهم أحدا بعد ثالثة ضربت عنقه، فأتاه شريك بْن عَمْرو اليشكري، وَكَانَ(7/279)
بِهِ فتق، وَكَانَ أعور يضع عَلَى عينه قطنة، فسمي ذا الكرسف، فَقَالَ لَهُ:
أصلح اللَّه الأمير إني عرضت عَلَى بشر بْن مروان، فأمر العراض أن يوقعوا عَلَى اسمي «زمنا» وأعطوني، فهذا عطائي قد جئتك بِهِ، لترده إِلَى بيت المال، فَقَالَ الحجاج:
إن لها لسائقا عشنزرا [1] ... عَلَى نواحيها مزخا [2] مزجرا
إذا ونين ونية تغشمرا
ثُمَّ أمر بِهِ فضربت عنقه لاستعفائه، وَكَانَ عريفا، فلم يبق بالبصرة عاص إلا لحق بالمهلب وبمكتبه، وقيل أن الحجاج أنشد هذه الأبيات:
«إن لها لسائقا» بالكوفة فِي خطبته بِهَا. وَقَالَ الفرزدق ويقال كعب الأشعري:
لقد ضرب الحجاج بالمصر ضربة ... تقرقر منها بطن كل عريف [3]
وبلغ المهلب خبر الحجاج، فَقَالَ: لقد أتى القوم وال ذكر.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: كَانَ الحجاج يغدي النَّاس، إذ أتى قوم من بني سليم برجل فَقَالُوا: هذا عاص فَقَالَ: والله مَا شهدت عسكرا قط، ولا أثبت لي اسم قط فِي ديوان، وإنما نساج، فضرب عنقه فأمسك النَّاس عَن الطعام، فَقَالَ الحجاج مَا لي أراكم قد اصفرت وجوهكم، وخلت أيديكم من قتل
__________
[1] العشنزر: الشديد الخلق، العظيم من كل شيء. القاموس.
[2] أي الحادي: سار سيرا عنيفا. القاموس.
[3] ليس في ديوان الفرزدق المطبوع.(7/280)
رجل واحد؟ كلا والله، إن الذئب يكنى أبا جعدة، وإنه من لا يذد عَن حوضه يهدم [1] .
وخرج الحجاج إِلَى رستقاباذ ومعه أَهْل الْكُوفَة وأهل البصرة وبين رستقاباذ والأهواز ثمانية فراسخ، وبينها وبين المهلب يومئذ ثمانية عشر فرسخا، وإنما أراد أن يشد ظهره وظهور أصحابه بمكانه وأن لا يبرح حَتَّى يهلك اللَّه الخوارج. وبعث بالعراض إِلَى المهلب برامهرمز، فَقَالَ الشاعر:
قل للمهلب قد أتتك معاشر ... حشروا إليك كحشر أَهْل البرزخ
طاروا إليك برأس كل طمرة ... جرداء تحمل كل قرم أبلخ
إني أرى الحجاج يقطع أذرعا ... بأكفها ورؤوس قوم تشدخ
أخذ البريء بما جناه غيره ... إن السعيد هناك من لم يلطخ
أودى عمير والقتال سبيله ... قل للعصاة تحرزي أو دربخي [2]
وَقَالَ سوار بْن المضرب أحد بني ربيعة بْن كعب بْن سعد، وَكَانَ عاصيا:
أقاتلي الحجاج إن لم أزر لَهُ ... دراب وأترك عند هند فؤاديا
يريد درابجرد [3]
إذا جاوزت قصر المجيزين ناقتي ... فباست أَبِي الحجاج لما ثنائيا
__________
[1] من قول زهير:
ومن لا يذد عَن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
[2] دربخ: طأطأ الرجل رأسه وسط ظهره. القاموس
[3] در أبجرد: كورة بفارس نفيسة معناه دراب كرد، دراب اسم رجل، وكرد معناه عمل، فعرب بنقل الكاف إلى الجيم. معجم البلدان.(7/281)
فإن كنت لا يرضيك حَتَّى تردني ... إِلَى قطري مَا إن إخالك راضيا
أترجو بنو مروان سمعي وطاعتي ... ودوني تميم والفلاة أماميا
قَالَ: المجيزون كانوا يحفظون الطريق ويجيزون السابلة، ولهم قصر بسفوان البصرة، يعرف بهم، كانوا ينزلونه.
قالوا: وقام الحجاج برستقاباذ حين نزلها خطيبا، فحمد اللَّه عز وجل وأثنى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْل المصرين، هذا المكان والله مكانكم، جمعة بعد جمعة، وشهرا بعد شهر، وسنة بعد سنة، حَتَّى يهلك اللَّه عز وجل هؤلاء الخوارج المطلين عليكم. فَقَالَ لَهُ النَّاس: ولم تحبسنا أصلح اللَّه الأمير بهذا المكان، سر بنا إِلَى هؤلاء الكلاب فما هم إذا اجتمع أَهْل المصرين عليهم بشيء. ودخل عَلَيْهِ الوجوه ذات يوم فرأى الهذيل بن عمران بْن الفضيل البرجمي، وَكَانَ من أشراف أَهْل البصرة، وَكَانَ ينادم بشر بْن مروان، وكانت لَهُ منه منزلة، وهو يجر ثوبه، فَقَالَ: يَا هذيل ارفع ثوبك، فَقَالَ: إن مثلي أيها الأمير لا يقال لَهُ هذا القول فَقَالَ الحجاج:
بلى والله، وتضرب عنقه، فخرج الهذيل وهو يقول: قاتله اللَّه جذيا [1] مَا أتيهه فِي نفسه وفي الهذيل يقول الشاعر:
يا أيها السائل فِي الرفاق ... إن الهذيل سيد العراق
[خطبة للحجاج في رستقاباذ]
ثُمَّ إن الحجاج خطب يوما فَقَالَ: إن الزيادة التي زادكم إياها ابْن الزُّبَيْرِ، إنما هي زيادة ملحد منافق فاسق، ولسنا نجيزها. وَكَانَ مصعب قد زاد النَّاس مائة مائة فِي العطاء، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن الجارود، واسم
__________
[1] جذيا: يقال رجل جاذ أي قصير الباع. العين.(7/282)
الجارود بشر بْن عَمْرو بْن حنش بْن المعلى العبدي: أيها الأمير، ليست بزيادة ابْن الزُّبَيْرِ، إنما هي زيادة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَبْد الْمَلِكِ، إذ أنفذها وأجازها، وجرت لنا عَلَى يد بشر بْن مروان. فَقَالَ لَهُ الحجاج: مَا أنت والكلام لتحسن حمل رأسك أو لأسلبنك إياه. فَقَالَ: ولم؟ والله إني لك لناصح، وإن قولي هذا لقول من ورائي فنزل الحجاج، ومكث أشهرا لا يذكر الزيادة، ثُمَّ أعاد القول فيها، فرد عَلَيْهِ ابْن الجارود مثل رده الأول، فقام مصقله بْن كرب بْن رقبة بْن خوتعة العبدي، وهو أَبُو رقبة بْن مصقلة، الَّذِي يتحدث عنه [1] ، فَقَالَ: إنه ليس للرعية أن ترد عَلَى راعيها، وقد سمعنا مَا قَالَ الأمير، فسمعا وطاعة، فيما أحببنا وكرهنا، فَقَالَ لَهُ عَبْد الله بن الجارود: يا بن الجرمقانية، وما أنت وما هاهنا؟ ومتى كَانَ مثلك يتكلم وينطق فِي مثل هذا؟ وأتى الوجوه عَبْد اللَّهِ بْن الجارود، فصوبوا قوله ورأيه، فِي رده عَلَى الحجاج، وإبائه مَا أتى بِهِ، وَقَالَ لَهُ الهذيل بْن عمران البرجمي، وعَبْد اللَّهِ بْن حكيم بْن زياد المجاشعي، وغيرهم: نحن معك ويدك وأعوانك، إن هذا الرجل غير كاف أو ينقصنا هذه الزيادة، فهلم نبايعك عَلَى إخراجه من العراق، ثُمَّ نكتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ نسأله أن يولي عَلَيْنَا غيره، فإن أبى خلعناه، فإنه هائب لنا مَا دامت الخوارج، فبايعه النَّاس سرا، وأعطوه المواثيق عَلَى الوفاء، وأخذ بعضهم عَلَى بعض العهود، وبلغ الحجاج مَا هم فيه، ففرق بين أخماس أَهْل البصرة، وأرباع أَهْل الْكُوفَة، وجعل بينهم طرقا، وصير فيها حرسا،
__________
[1] كتب فوقها بالأصل: الذي يروى عنه الحديث.(7/283)
وأحرز بيت المال، والناس في أمرهم.
[تمرد في رستقاباذ ضد الحجاج]
فلما استتب لهم أمرهم أظهروه، وذلك فِي شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين، وأتى عَبْد اللَّهِ بْن الجارود عَبْد القيس، فأخرجهم عَلَى راياتهم، وخرج النَّاس مَعَهُ حَتَّى بقي الحجاج وليس مَعَهُ إلا خاصته وأهل بيته.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كَانَ خروجهم قبل الظهر فَقَالَ رجل من بني عجل لعَبْد اللَّهِ بْن الجارود:
أخلق بعَبْد اللَّهِ إن يسوسا ... وأن يقود جحفلا خميسا
أهل العراقين الكرام الشوسا ... ويخلعوا الخليفة المتعوسا
إذ قلدوا أمرهم الرئيسا ... أكرم بِهِ من قائد قدموسا
نحن قتلنا مصعبا وعيسى ... وكم قتلنا منهم بئيسا
وقطع ابْن الجارود ومن مَعَهُ الجسر، وكانت خزائن الحجاج من ورائه، وغلبوا عَلَى السلاح، وأرسل الحجاج أعين صاحب حمام أعين وهو فِي قول الْكَلْبِيّ مولى بشر بْن مروان، وفي قول أَبِي اليقظان مولى سعد بْن أَبِي وقاص إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الجارود، فأتى الصف، فرد، فَقَالَ: إنما أنا رسول، فأذن لَهُ، فَقَالَ: أجب الأمير، فَقَالَ ابْن الجارود: ومن الأمير ولا نعمة عين لابن أَبِي رغال؟ ولكن ليخرج عنا مذموما مدحورا، وإلا قاتلناه.
فَقَالَ أعين: أما إذ لم تجبه فأنه أمرني أن أقول لك: أتطيب نفسا بقتلك(7/284)
وقتل أَهْل بيتك وعشيرتك، وَالَّذِي نفس الحجاج بيده لئن لم تأتني لأدعن قومك عامة، وأهل بيتك خاصة كأمة قد بادت، وحديثا للغابرين. وَكَانَ الحجاج قد حمل أعين هذه الرسالة، وَقَالَ لَهُ: إن لم يأتني فأوردها إليه، فقال ابن الجارود لأعين: والله يابن الخبيثة لولا أنك رسول لضربت عنقك، وأمر فوجئ فِي عنقه، وأخرجوه.
قالوا: واجتمع النَّاس لابن الجارود، فأقبل بهم زحفا نحو الحجاج، وَكَانَ رأيهم أن يخرجوه عنهم ولا يقاتلوه، فلما صاروا إِلَيْهِ انتهبوا مَا فِي فسطاطه وأخذوا مَا قدروا عَلَيْهِ من متاعه ودوابه، وجاء أَهْل اليمن حَتَّى احتملوا امرأته، ابنة النعمان بْن بشير الأَنْصَارِيّ، وجاءت مضر فاحتملوا امرأته الأخرى أم سلمة بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سهل بْن عَمْرو القرشي أخي سهيل فحصنوها مخافة السفهاء.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ وَأَبُو اليقظان: هي أم سلمة بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سهل بْن سهيل بْن عَمْرو، وكانت عند الحجاج، ثُمَّ خلف عَلَيْهَا الوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ، ثُمَّ سليمان بْن عَبْد الْمَلِكِ، ثُمَّ هِشَام بْن عَبْد الْمَلِكِ.
ثُمَّ إن القوم انصرفوا عَن الحجاج وتركوه، وأتاه قوم من أَهْل المصرين، فصاروا مَعَهُ، مستوحشين من محاربة السلطان ومخالفته، فجعل الغضبان بن القبعثرى الشيباني يقول لعَبْد اللَّهِ بْن الجارود: تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك أما ترى من قد أتاه منكم؟ ولئن أصبح ليكثرن ناصره وليضعفن مدتكم. فَقَالَ: قد قرب المساء، ولكنا نعاجله بالغداة. وَكَانَ مَعَ الحجاج عثمان بْن قطن بْن عَبْد اللَّهِ الحارثي، وزياد بْن عَمْرو العتكي، وَكَانَ زياد عَلَى شرطه بالبصرة، فَقَالَ لهما: مَا تريان؟ فَقَالَ زياد: أرى أن(7/285)
آخذ لك من القوم أمانا، وتخرج حَتَّى تلحق بأَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فقد أرفض جمهور النَّاس عنك، ولا أرى لك أن تقاتل بمن معك، ولا أحب لك أن تضيع نفسك وتهلكها، فَقَالَ عثمان بْن قطن: لكني لا أرى ذَلِكَ، إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قد أشركك فِي أمره، وخلطك بنفسه، واستنصحك وسلطك وملكك، فسرت إِلَى ابْن الزُّبَيْرِ، وهو أعظم النَّاس خطرا فقتلته، فولاك اللَّه عز وجل شرف ذَلِكَ، وسناه وذخره وأجره، وولاك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الحجاز، ثُمَّ رفعك إِلَى ولاية العراقين. أفالآن حين جريت إِلَى المدى، وأصبت الغرض الأقصى وهابتك العرب، تخرج عَلَى قعود تدأدى [1] يوجف بك إِلَى الشام والله لئن فعلتها لا نلت من عَبْد الْمَلِكِ مثل الَّذِي أنت فيه من السلطان أبدا، وليتضعن شأنك، ولتسقطن عنده، ولتهونن عَلَى كل عدو، ولكني أرى أن نمشي بسيوفنا معك، فنضارب هؤلاء القوم، حَتَّى نلقى ظفرا أو نموت كراما. فَقَالَ لَهُ الحجاج: قرعتني بما فِي قلبي قرعا، الرأي مَا رأيت. فحفظ هذه لعثمان بْن قطن، واحتمل تلك عَلَى زياد بْن عَمْرو.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ عَن أَبِي الْيَقْظَانِ: إِنَّ عُثْمَانَ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْقِتَالِ، وَإِنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عُبَيْدِ بْنِ طَارِقٍ الْعَبْشَمِيَّ، وَكَانَ عَلَى شَرْطِهِ، قَالَ لَهُ: إِنَّمَا نَحْنُ فِي عُصْبَةٍ وَقَدْ حِيلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ السِّلاحِ. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْقَلِيلَ الطَّيِّبَ خَيْرٌ مِنَ الْكَثِيرِ الْخَبِيثِ وَكَثِيرًا مَا يَنْصُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقَلِيلَ عَلَى الكثير.
__________
[1] دأدأ: عدا أشد العدو، أو أسرع. القاموس.(7/286)
قالوا: وأتى الحجاج مالك بْن مسمع فَقَالَ إني قد أخذت لك من النَّاس أمانا فجعل الحجاج يرفع صوته ليسمع الناس فيقول: والله لا أو منهم أبدا حَتَّى يأتوا بالهذيل وعَبْد اللَّهِ بْن حكيم فإنهما سعرا هذه الفتنة، ودعا الحجاج ابن الغرق مولاه فَقَالَ لَهُ: ائت عبيد بْن كعب النميري فقل لَهُ وَكَانَ عَلَى خمس أهل العالية: هلم إلي فامنعني فَقَالَ: قل لَهُ: إن أتيتني منعتك، فَقَالَ: لا والله ولا كرامة. وبعثه إِلَى مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد بْن حاجب بْن زرارة بْن عدس فَقَالَ لَهُ مثل ذَلِكَ، فَقَالَ ابْن عمير: إن أتاني منعته، فَقَالَ: إنه لا يأتيك ولكنك تأتيه فِي قومك، فَقَالَ: لا ناقة لي فِي هذا الأمر ولا جمل، ثُمَّ أرسل إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن حكيم المجاشعي، وهو رأس تميم، يسأله النصر فَقَالَ مثل قول أصحابه: يأتيني. وَقَالَ لَهُ سحيم بْن شعيب الحنفي: إن شئت أخذت لك أمانا ولحقت بصاحبك فلم يجبه الحجاج بشيء، وَقَالَ: إن تكلم أو تحرك فاضربوا عنقه، ثُمَّ تكلم الحجاج رافعا صوته فَقَالَ: إن هؤلاء القوم أرسلوا إلي يطلبون مني الأمان، ولا والله لا أؤمنهم فلم ينطق الحنفي وجلس.
قالوا: ومر عباد بْن الحصين الحبطي بابن الجارود والهذيل بْن عمران وعَبْد اللَّهِ بْن حكيم وهم يتناجون فَقَالَ: أشركونا فِي نجواكم، فَقَالُوا:
هيهات أن يدخل فِي نجوانا أحد من بني الحبط، فغضب وصار إِلَى الحجاج فِي مائة، فَقَالَ لَهُ الحجاج: أعلي أم لي؟ فَقَالَ: لك أيها الأمير، فَقَالَ الحجاج: مَا أبالي من تخلف بعدك، وتخاذل النَّاس وسعى قتيبة بْن مسلم فِي أعصر وَقَالَ: والله لا أدع قيسيا عَلَى الحجاج يقتل وينتهب ماله وأظاهر ابْن الجارود عَلَيْهِ، فأقبل فِي نحو من ثلاثين فسلم عَلَى الحجاج بالإمرة، فَقَالَ:(7/287)
أقتيبة بْن مسلم؟ فَقَالَ: نعم، قَالَ: تقدم، وَكَانَ الحجاج قد يئس من الحياة فلما جاءه هؤلاء اطمأن وقد كَانَ هم باللحاق بعَبْد الْمَلِكِ عَلَى كل حال، ثُمَّ أتاه سبرة بْن علي الكلابي فسلم وانتسب، فَقَالَ لَهُ خيرا، ثُمَّ جاء سعيد بْن أسلم بْن زرعة الكلابي فسلم عَلَيْهِ، فَقَالَ: هاهنا ادن مني، وأتاه جعفر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الأزدي فسلم ثُمَّ انتسب، فَقَالَ لَهُ: قف مكانك أما والله لنعم القوم قومك، وأرسل إليه مسمع بن مالك بْن مسمع إن شئت أتيتك، وإن شئت أقمت فثبطت النَّاس عنك، فبعث إِلَيْهِ: أن أقم فثبطهم.
فلما رأى الحجاج إنه قد اجتمع إِلَيْهِ عدد يمتنع بمثله خرج إليهم، فكتبهم وعبأهم، وجعل لهم حرسا، وتحارس الآخرون أيضا، وتلاحق النَّاس بالحجاج فلما أصبح وطلعت الشمس نظر فإذا حوله نحو من ستة آلاف وذلك الثبت، وقوم يقولون ألف وستمائة، وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الجارود لعبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان: مَا الرأي؟ قَالَ: تركت الرأي أمس حين قَالَ لك الغضبان تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك وقد ذهب الرأي وبقي الصبر فدعا ابْن الجارود بدرع فلبسها مقلوبة فتطير، وحرض الحجاج أصحابه وَقَالَ: لا يهولنكم مَا ترون من كثرة عدد عدوكم فإنه ليس بكم بحمد اللَّه قلة ولا ذلة، فشدوا عليهم يتطايروا تطاير الأجم [1] المنفر، إنهم أخور من اليراع وإن صدقتموهم الضرب سألوكم الأمان، فتزاحف القوم وعلى ميمنة ابْن الجارود الهذيل بْن عمران، وعلى ميسرته عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان
__________
[1] الآجام: الضفادع. القاموس.(7/288)
وعلى ميمنة الحجاج قتيبة بْن مسلم ويقال عباد بْن الحصين وعلى ميسرته سعيد بْن أسلم بْن زرعة الكلابي، وحمل ابْن الجارود وأقدم أصحابه حَتَّى جاز أصحاب الحجاج، وعطف عَلَيْهِ الحجاج بأصحابه فاقتتلوا ساعة، ثُمَّ إن سهم غرب جاء يهوي حَتَّى أصاب عَبْد اللَّهِ بْن الجارود وإنه لكالظاهر عَلَى الحجاج فوقع ميتا، ويقال إنه لما خرج دخل ديرا قريبا منه ومعه قوم من الهجريين، فأحرق الدير عليهم، فخرجوا فقتل ابْن الجارود والهجريون، ونادى منادي الحجاج بإيمان الناس إلا الهذيل وعبد الله بن حكيم، وأمر أن لا يتبعوا، وَقَالَ الأتباع لهم من سوء الغلبة.
ولما هلك ابْن الجارود قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن فضالة الأزدي لعكرمة بْن ربعي من بني تيم اللَّه بْن ثعلبة، ولابن ظبيان: قد هلك هذا الرجل، وما أرى لي إلا اللحاق بخراسان، فَقَالَ عكرمة: أما أنا فلاحق بالشام فقد كَانَ لي عند عَبْد الْمَلِكِ بلاء هو راع لَهُ، وَقَالَ ابْن ظبيان: وأنا سأمضي إِلَى بعض النواحي، فحملوا حَتَّى إذا اختلط النَّاس وثار الغبار أخذ كل واحد منهم نحو الوجه الَّذِي أراده، فأتى عكرمة يَزِيد بْن أَبِي النمس الغساني واستجار بِهِ فكلم فيه عَبْد الْمَلِكِ وذكر لَهُ بلاءه، وَقَالَ: هفا وزل، فآمنه عَبْد الْمَلِكِ، وَكَانَ ابْن أَبِي النمس أثيرا عند عَبْد الْمَلِكِ سمعه يوما يقول هممت أن أقطع كل حبلة بالشام، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ من أحب أن يعصى عصي فضحك عَبْد الْمَلِكِ.
وأتى ابْن ظبيان سعيد بْن عباد بْن زيد بْن عبد بْن الجلندى الأزدي بعمان، فقيل لسعيد: إنه رجل فاتك فأحذره، فلما جاء البطيخ بعث إِلَيْهِ بنصف بطيخة قد سمها وَقَالَ لرسوله: قل لَهُ: هذا أول شيء رأيناه من(7/289)
البطيخ العام، فأكلت نصف بطيخة، وبعثت إليك بنصفها فأكل عبيد اللَّه بْن زياد بْن ظبيان نصف البطيخة فقتلته، ولما أحس بالسم قَالَ:
أردت أن أقتله فقتلني.
وخرج عَبْد اللَّهِ بْن فضالة إِلَى أمية بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد إِلَى خراسان، فكان عنده، ثُمَّ أخذه حبيب بْن المهلب فبعث بِهِ إِلَى الحجاج فخرجت امرأته فكلمت امرأة عَبْد الْمَلِكِ فيه، فكلمته فكتب إِلَى الحجاج فِي أمره فآمنه، وكلم عكرمة بْن ربعي روح بْن زنباع فِي الغضبان بْن القبعثرى، فسأل عَبْد الْمَلِكِ أن يؤمنه فآمنه.
وأتي الحجاج برأس عَبْد اللَّهِ بْن الجارود فَقَالَ اغسلوه ثُمَّ عمموه، ففعلوا ذَلِكَ بِهِ فَقَالَ: هو هو.
وَقَالَ عباد بْن الحصين، وسعيد بْن أسلم بْن زرعة، وقتيبة بْن مسلم للهذيل بْن عمران، وعَبْد اللَّهِ بْن حكيم: نحن نكلم الحجاج فيكما فعجلا إِلَى الحجاج فأتياه وهما يجران مطرفيهما فلما نظر إليهما قَالَ: اضربوا عدوي اللَّه، اقتلوهما، فمشى عبيدة مولى الحجاج إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن حكيم، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن حكيم:
علي عهد ذي القرنين كانت مجاشع ... حتوفا عَلَى الأعداء لدا خصومها
فضربه بالسيف فعثر فِي مطرفه وَقَالَ: إن الراحة منكم لراحة، وَكَانَ أمر الله قدرا مقدورا [1] ، وقتل سريع مولى الحجاج الهذيل بْن عمران، ثُمَّ أمر الحجاج بصلبهم فصلب ابْن الجارود بين ابن حكيم
__________
[1] سورة الأحزاب- الآية: 38.(7/290)
والهذيل، وبعث برأس ابن الجارود ورؤوس هذين ورؤوس سواها إِلَى عسكر المهلب، مَعَ حاتم بْن سويد بْن منجوف لييأس الخوارج مما بلغهم من فساد أمر الحجاج، ويقوي متن المهلب وأصحابه.
ونادى الحجاج فِي النَّاس أن يلحقوا بأمصارهم ففرقهم، وأقبل حَتَّى دخل البصرة، فقتل أشيم بْن شقيق بْن ثور الهذلي، ويقال إنه دخل فِي أمانه من آمن، فرآه فِي مجلسه فَقَالَ لَهُ: يَا أشيم أخرجت مَعَ ابْن الجارود؟
قَالَ: نعم وقد أتى عفوك عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مَعَ الحجاج كراز بْن كراز العبدي، وهو صاحب لواء ابْن الجارود، وراشد بْن عوف العبدي، ومسلم مولى مالك بْن مسمع، وعبيد اللَّه بْن كعب النميري، والغضبان بْن القبعثرى الشيباني، أخذهم برستقاباذ، فحبسهم عنده، ثُمَّ حبسهم بالبصرة أيضا، ثُمَّ قَالَ لعبيد بْن كعب: أنت القائل قل للحجاج يأتيني فإني لا آتيه؟ ومن أنت يا بن اللخناء، هل أنت إلا عبد من أَهْل هجر وحبسه وعذبه حَتَّى مات، وَقَالَ لمحمد بْن عمير بْن عطارد بْن دهمان: أنت القائل لا ناقتي فِي هذا ولا جملي؟ لا كانت لك فِي مثلها ناقة ولا جمل ولا رحل وأنشد:
ثعالب فِي السنين إذا أحصت ... وأسد حين تمتلئ الوطاب
وَكَانَ يقال: أن عميرا أباه كَانَ صدر عَن عكاظ، فمر ببني دهمان فعرضوا لامرأته فأخذوها، ثُمَّ ردوها حاملا.
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم وغيره قالوا: رأى أَبُو جابر العبدي وَكَانَ جسيما ابْن الجارود مصلوبا بين الهذيل وبين حكيم وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن الجارود(7/291)
قصيرا يسمى لقصره بظير العناق فَقَالَ: ليتني كنت بينهما فقد فضحنا هذا بقصره.
قالوا: وكتب الحجاج إلى عَبْد الْمَلِكِ: «أما بعد فالحمد لله الَّذِي حفظ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، إني لما نزلت منزلي من رستقاباذ وثب علي أَهْل العراق فخالفوني ونابذوني، ودخل فسطاطي، وانتهبت أموالي، وقالوا اخرج من بلادنا إِلَى من بعثك إلينا، ففارقني البعيد، وأسلمني القريب، ويئس مني الشفيق، فشددت عليهم بسيفي، ولقيتهم بشيعتي، وقلت الموت قبل البراح، فو الله مَا رمت العرصة حَتَّى جعل اللَّه لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ منهم أنصارا، فضربت بمقبلهم مدبرهم وبمطيعهم عاصيهم، فقتل اللَّه عز وجل طاغية القوم عدو اللَّه ابْن الجارود، وثمانية عشر من رؤوسهم، وضرب اللَّه عز وجل وجوههم، فأخذوا شرقا وغربا، ثُمَّ إني آمنت النَّاس غائبهم وشاهدهم، فتراجعوا واجتمعوا وألحقت النَّاس بأمصارهم، ولله الحمد كثيرا، والسلام» .
فكتب إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ: «أما بعد فقد بلغني كتابك، وأنت الناصح النجيب الأمين بالغيب القليل العيب، فإذا رابك من أَهْل العراق ريب فاقتل أدناهم، يرعب منك أقصاهم والسلام» .
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: أتي الحجاج بخليفة بْن خالد بْن الهرماس وقد ضرب عَلَى وجهه، فَقَالَ لَهُ الحجاج: من أنت؟ قَالَ: أحد الكفرة الفجرة، قَالَ:
خلوا سبيله، فَقَالَ لَهُ سويد بْن صامت العجلي هذا الَّذِي يقول:
فلله حجاج بْن يُوسف حاكمًا ... أراق دماء المسلمين بلا جرم
فأمر بخليفة فقتل.(7/292)
قالوا: وبعث عَبْد الْمَلِكِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مسعود الفزاري إِلَى الحجاج، وأهل العراق لينظر فِي مظالمهم، وما يشكون من الحجاج، وأمر بإطلاق كراز وقد كَانَ قد كلم فيه، فبلغ الحجاج ذَلِكَ فعجل عَلَى كراز وراشد بْن عوف، ومسلم مولى مالك بْن مسمع فقطع أيديهم وأرجلهم، فدخل ابْن مسعود ودماؤهم تشخب، ولما قدم ابْن مسعود عَلَى الحجاج صعد الحجاج المنبر، وصعد ابْن مسعود درجتين أو ثلاثا، ثُمَّ قَالَ: ألا من كَانَ يطلب الحجاج بمظلمة فليقم، فَقَالَ الحجاج: مه، فَقَالَ: لا والله مَا من مه، ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْل العراق جمع اللَّه لكم خير الدنيا والآخرة فإياكم والشقاق والفتنة، إني قد تركت ورائي خيلا من حديد وقوما لهم دين وليست لهم دنيا، فإياكم أن تجمعوا دنياكم إِلَى دينهم، ثُمَّ إنه انصرف إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فأخبره بسوء سيرة الحجاج وظلمه وعذابه النَّاس، فبلغ ذَلِكَ الحجاج فكتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ: «إن ابْن مسعود امرؤ ظنين علي، قد بلغني أنه أساء علي الثناء، وإن شيعة ابْن الزُّبَيْرِ لن تحبني أبدا، وهو من شرارها وفجارها، وليس مثله قرب ولا صدق، والسلام» ، فكتب إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ: «أما بعد فقد بلغني كتابك فِي ابْن مسعود، وليس مثله اتهم، ولا ظن به ظن السوء، والسلام» .
وَكَانَ ابْن مسعود صديقا لحضين بْن المنذر، فلقيه فسلم عَلَيْهِ فَقَالَ الحضين: ومن أنت عافاك اللَّه؟ فأعلم الحجاج ذَلِكَ، فَقَالَ الحجاج:
يَا حضين أتعرف هذا، قَالَ: لا، قَالَ: كذبت ولكنك خفت أن يبلغني أنك سلمت عَلَيْهِ فأظن بك أنك تبلغه الأخبار قَالَ: صدق الأمير وبر، قَالَ:
فلا تخف، فسلم عَلَيْهِ حضين وكلمه.(7/293)
وَقَالَ الحكم بْن المنذر بْن الجارود:
أبا مطر أقررت عين عدونا ... وكل إِلَى مَا صرت سوف يصير
أبا مطر لو يدفع الموت بالفدا ... لكان رجال مشفقون كثير
أبا مطر لو يدفع الموت بالرشا ... لقد كَانَ مال سارح وبدور
وَقَالَ الشاعر:
بكر النعي بسيد الأمصار ... حامي الذمار وناقص الأوتار
بابن المعلى ذي السماحة والندى ... كهف الضعيف وطالب الآثار
عثرت بِهِ بعض الجدود وهدنا ... يَا للرجال لجدنا العثار
قالوا: وَكَانَ غضبان بْن القبعثرى محبوسا عند الحجاج فكلم عكرمة بْن ربعي روح بْن زنباع فِي أمره فكلم عَبْد الْمَلِكِ فِي إيمانه فكتب بِذَلِكَ إِلَى الحجاج فدعا بِهِ الحجاج فَقَالَ له: قد سمنت يَا غضبان وصفا لونك؟ قَالَ:
القيد والرتعة، ومن يكن ضيف الأمير يسمن، قَالَ: أنت القائل لابن الجارود: تعش بالجدي قبل أن يتغدى بك؟ قَالَ: مَا نفعت من قالها ولا ضرت من قيلت لَهُ قال: أتحبني قال: أو فرق خير من حب، قَالَ: ولم لا تحبني؟ قَالَ: لأنك أخذت مالي ووضعت شرفي قَالَ: فإن رددت مالك ورفعت قدرك؟ قَالَ: الرضا مَعَ الإحسان والسخط مَعَ الغضب قَالَ:
لأحملنك عَلَى الأدهم قَالَ: مثل الأمير حمل عَلَى الأدهم والكميت، قَالَ:
إنه حديد، قَالَ: يكون حديدا خير من أن يكون تليدا فحمل من بين يديه ليطلق من حديده، فلما استقل بِهِ من حمله قَالَ: الحمد لله الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مقرنين [1] فضحك الحجاج.
__________
[1] سورة الزخرف- الآية: 13.(7/294)
[قصة أنس بن مالك والحجاج]
قالوا: [1] وقتل مَعَ ابْن الجارود عَبْد اللَّهِ بْن أنس بْن مالك الأَنْصَارِيّ، وَكَانَ شجاعا شديد البطش، حمل بخراسان بدرة بفمه فعبر بِهَا نهرا، فلما بلغ الحجاج خبر مقتله قَالَ: لا أرى أنسا يعين علي، فلما دخل البصرة استصفى مال أنس، فأتاه فلما دخل عَلَيْهِ قَالَ: لا مرحبا ولا أهلا إيها يَا خبيث، شيخ ضلالة جوال فِي الفتن، مرة مَعَ أَبِي تراب، ومرة مَعَ ابْن الزُّبَيْرِ، ومرة مَعَ ابْن الجارود أما والله لأجردنك جرد القضيب، ولأعصبنك عصب السلمة، ولأقلعنك قلع الصمغة، فَقَالَ أنس: من يعني الأمير؟ قَالَ إياك أصم اللَّه صداك فرجع أنس فأخبر ولده بما لقيه الحجاج بِهِ فأشاروا عَلَيْهِ بأن يكتب بِذَلِكَ إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، فكتب إِلَيْهِ كتابا شكا فيه الحجاج وما صنع بِهِ وما قَالَ لَهُ، فأجابه جوابا لطيفا، وكتب إِلَى الحجاج:
«أما بعد يَا ابْن أم الحجاج فإنك عبد طمت بك الأمور فعلوت فيها حَتَّى عدوت طورك وتجاوزت قدرك، وأيم اللَّه يَا ابْن المستفرمة [2] بعجم الزبيب لأغمزنك غمزة كبعض غمزات الليوث الثعالب، ولأخبطنك خبطة تود لها أنك رجعت فِي مخرجك من بطن أمك، أما تذكر حال آبائك بالطائف حيث كانوا ينقلون الحجارة عَلَى ظهورهم، ويحتفرون الآبار بأيديهم فِي أوديتهم ومناهلهم، أم نسيت حال آبائك فِي اللؤم والدناءة فِي المروءة والخلق، وقد بلغ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِي كَانَ منك إِلَى أنس بْن مالك جرأة وإقداما، وأظن أنك أردت أن تسبر مَا عند أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي أمره، فتعلم إنكاره ذلك أو إغضاءه
__________
[1] بهامش الأصل: قصة أنس بن مالك مع الحجاج.
[2] الفرم والفرمة: دواء تتضيق به المرأة. القاموس.(7/295)
عنه، فإن سوغك مَا كَانَ منك مضيت عَلَيْهِ قدما، فعليك لعنة اللَّه من عبد أخفش العينين أصك الرجلين، ممسوح الجاعرتين ولولا أن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يظن أن الكاتب كثر فِي الكتاب من الشيخ إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فيك لأتاك من يسحبك عَلَى ظهرك وبطنك حَتَّى يأتي بك أنسا، فيحكم فيك، فأكرم أنسا وأهل بيته، وأعرف لَهُ حقه وخدمته رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا تقصر فِي شيء من حوائجه، ولا يبلغن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عنك خلاف مَا تقدم فيه إليك من أمر أنس وبره وإكرامه، فيبعث إليك من يضرب ظهرك ويهتك سترك، ويشمت بك عدوك، والقه فِي منزله متنصلا إِلَيْهِ، وليكتب إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ برضاه عنك إن شاء اللَّه، والسلام» . وبعث بالكتابين مَعَ إسماعيل بْن عَبْد اللَّهِ مولى بني مخزوم، فأتى إسماعيل أنسا بكتاب عَبْد الْمَلِكِ إِلَيْهِ فقرأه، ثُمَّ أتى الحجاج بالكتاب إِلَيْهِ، فجعل يقرأه ووجهه يتغير ويتمعر وجبينه يرشح عرقا وهو يقول: يغفر اللَّه لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فما كنت أظنه يبلغ مني هذا كله، ثُمَّ قَالَ لإسماعيل: انطلق بنا إِلَى أنس، قَالَ إسماعيل: فقلت: بل يأتيك، قَالَ: فنعم، فأتى أنسا فأقبلا جميعا حَتَّى دخلا عَلَى الحجاج فرحب بِهِ الحجاج وأدناه وَقَالَ يَا أبا حمزة عجلت يرحمك اللَّه باللائمة والشكية إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ قبل أن تعلم كل الَّذِي لك عندي، إن الَّذِي فرط مني إليك عَن غير نية ولا رضا بما قلت، ولكني أردت أن يعلم أَهْل العراق إذ كَانَ من ابنك مَا كَانَ أني إذا بلغت منك مَا بلغت، كنت إليهم بالغلظة والعقوبة أسرع، فَقَالَ أنس: مَا شكوت حَتَّى بلغ مني الجهد، وحتى زعمت أننا الأشرار، وقد سمانا اللَّه جل وعز الأنصار، وزعمت أننا أَهْل النفاق ونحن الذين تبوأوا الدار والإيمان وسيحكم اللَّه عز وجل بيننا وبينك، فهو أقدر عَلَى الغير(7/296)
لا يشبه الحق عنده الباطل، ولا الصدق الكذب، وزعمت أنك اتخذتني ذريعة وسلما إلي مساءة أَهْل العراق باستحلال مَا حرم اللَّه عز وجل عليك مني، ولم يكن بي عليك قوة، فوكلتك إِلَى اللَّه عز وجل، وإلى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فحفظ من حقي مَا لم تحفظه، فو الله لو أن النصارى عَلَى كفرهم رأوا رجلا خدم المسيح عيسى بْن مريم يوما واحدا لعرفوا من حقه مَا لم تعرفه من حقي، وقد خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشر سنين، وبعد، فإن رأينا خيرا حمدنا اللَّه عز وجل وأثنينا بِهِ، وإن رأينا غير ذَلِكَ صبرنا والله المستعان، فرد الحجاج عَلَيْهِ مَا كَانَ قبض من أموالهم.
[انتقام الحجاج من الثائرين عليه]
قالوا: وأتي الحجاج بدينار صاحب حفرة، وَكَانَ هدم قصر الحجاج فأخذه ببنائه، فلما بناه ضرب عنقه بين شرفتين منه، ويقال ذبحه بينهما، وقتل زياد بْن مقاتل بْن مسمع فِي المعركة، ويقال قتل مَعَ ابْن الأشعث فبكته أخته فقالت:
أعيني جودي ولا تجمدي ... وبكي زعيم بني جحدر
وقتل الحريش بْن هلال، ويقال قتل يوم (دير) الجماجم، وقتل عَبْد اللَّهِ بْن رزام فقالت فيه امرأة:
عَلَى ابْن رزام تبكي العيون ... ومثل الحريش الفتى الأزهر
وَقَالَ بعضهم: قتل أَبُو رهم بْن شقيق بْن ثور، والثبت أنه خرج مَعَ ابْن الأشعث، فرآه الحجاج فِي مجلسه، فَقَالَ لَهُ: أخرجت علي؟ فَقَالَ: أتى عفوك على ذنوبنا، فَقَالَ لبعض من مَعَهُ: ضع هذا المنديل فِي عنقه وأخرجه فاضرب عنقه.(7/297)
قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ دخل البراء بْن قبيصة الثقفي عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، وَكَانَ الحجاج يطلبه لخروجه مَعَ ابْن الأشعث فأنشده قوله:
أرى كل جار قد وفى بجواره ... وجار أمين اللَّه فِي الأرض يخذل
ويروى: وجار أَمِير الْمُؤْمِنِينَ المؤمل.
وفي ابْن أَبِي النمس اليماني بجاره ... وروح بْن زنباع، وجارك يؤكل
وراح الفتى البكري ينفض عطفه ... وذا ابْن عمير آمنا مَا يزلزل
فما هكذا كنتم إذا مَا أجرتم ... وما هكذا كانت أمية تفعل
فَقَالَ لَهُ: صدقت وآمنه، وأمر الحجاج أن يمسك عنه.(7/298)
أمر شارزنجي [1] والزنج الذين خرجوا بفرات البصرة
حَدَّثَنِي روح بْن عَبْد المؤمن المقرئ قَالَ: سمعت علي بْن نصير الجهضمي يحدث عَن جرير بْن حازم عَن عمه الصعب قَالَ: تجمع الزنج بفرات البصرة فِي آخر أيام مصعب بْن الزُّبَيْرِ، ولم يكونوا بالكثير فأفسدوا، وتناولوا الثمار، وولي خالد بْن عَبْد اللَّهِ بْن أسيد البصرة وقد كثروا فشكا النَّاس مَا نالهم منهم، فجمع لهم جيشا كثيفا، فلما بلغهم ذَلِكَ تفرقوا، وقدر عَلَى بعضهم فقتلوا وصلبوا، فلما كَانَ من أمر عَبْد اللَّهِ بْن الجارود وخروجه عَلَى الحجاج مَعَ وجوه أَهْل العراق مَا كَانَ، وهو برستقاباذ، خرج الزنج أيضا، فاجتمع منهم خلق من الخلق بالفرات وصيروا عليهم رجلا منهم يقال رياح شيرزنجي، ومعنى شارزنجي أسد الزنج فلما فرغ الحجاج من أمر من خرج عَلَيْهِ برستقاباذ وعاد إِلَى البصرة وجه إليهم فقتلوا،
__________
[1] شار بالفارسية: لقب ملك الحبشة، وتعني أيضا: دولة، مملكة، مدينة وسياق الخبر قد يرجح هذا التفسير على الذي سيقدمه المصنف بعد قليل.(7/299)
وَحَدَّثَنِي روح بْن عَبْد المؤمن عَن عمه- يعني أَبِي هِشَام قَالَ حَدَّثَنِي سحيم بْن حفص وغيره أن الزنج خرجوا أيام الحجاج بالفرات وعلى شرطة البصرة زياد بْن عَمْرو العتكي، فوجه إليهم زياد حفصا ابنه فِي جيش من مقاتلة البصرة، وذلك بأمر الحجاج فواقعهم فقتلوه وهزموا أصحابه، وَكَانَ عَلَى الأبلة كراز بْن مالك السلمي ثُمَّ البهزي.
وَحَدَّثَنِي روح بْن الوليد بْن هِشَام بْن قحذم قَالَ: خرج شيرزنجي بالفرات واتبعه خلق من الزنج ومعهم لفيف من أَهْل الكلاء [1] وغيرهم بيضان، فغلب عَلَى كورة الفرات، وَكَانَ عَلَى الأبلة والفرات يومئذ كراز السلمي وذلك فِي أيام خروج الحجاج إِلَى رستقاباذ، فكتب شيرزنجي إِلَى كراز السلمي: «من أَمِير الْمُؤْمِنِينَ رياح شيرزنجي إِلَى كراز السلمي، أما بعد: فقد حضرت ولادة سكة أم الْمُؤْمِنِينَ، فابعث إليها امرأتك لتقبلها، والسلام» . فهرب كراز وأخلى عمله ودخل البصرة، ثُمَّ إن زياد بْن عَمْرو العتكي وجه إِلَيْهِ وهو عَلَى شرطة البصرة، وخلافة الحجاج بِهَا جيشا عَلَيْهِ ابنه حفص بْن زياد، فقاتله أشد قتال، فقتل حفصا وهزم أصحابه، وقوي أمر شيرزنجي، فلما قدم الحجاج البصرة قَالَ: يَا أَهْل البصرة إن عبيدكم وكساحيكم رأوا معصيتكم فتأسوا بكم، وأيم اللَّه لئن لم تخرجوا إِلَى هؤلاء الكلاب فتكفوني أمرهم لأعقرن نخلكم، ولأنزلن بكم مَا أنتم لَهُ أَهْل باستخراجكم وفسادكم، فانتدب النَّاس من كل خمس من أخماس البصرة،
__________
[1] الكلاء: هو مكان ترفأ فيه السفن، وهو ساحل كل نهر، والكلاء: اسم محلة مشهورة وسوق بالبصرة. معجم البلدان.(7/300)
ووجه عليهم وعلى جماعة من المقاتلة كراز بْن مالك السلمي فلم يزل يقاتل الزنج حَتَّى صاروا إِلَى صحارى دورق [1] ، فواقعهم هناك فقتل شيرزنجي والزنج، فقل من أفلت منهم، قَالَ فلما قَالَ جرير للأخطل:
لا تطلبن خؤولة فِي تغلب ... فالزنج أكرم منهم أخوالا [2]
انبرى لَهُ سنيح بْن رياح مولى بني سامة بْن لؤي فَقَالَ:
إن الفرزدق صخرة عادية ... طالت فليس ينالها الأوعالا [3]
ورميت تغلب وائل في دراهم ... فأصبت عند التغلبي نضالا
والزنج لو لاقيتهم فِي حربهم ... لاقيت ثُمَّ حجاجا أبطالا
قتلوا ابْن عَمْرو حين رام رماحهم ... ورأى رماح الزنج ثُمَّ طوالا
هذا ابْن عجل قد علمتم منهم ... غلب الرجال سماحة وفعالا
وبنو الحباب مطاعم ومطاعن ... عند الشتاء إذا تهب شمالا
وبنو زبيبة عنتر وهراسة ... وسليك المتحمل الأثقالا
والزنج قد شهد النَّبِيّ بجودهم ... وببأسهم إن حاربوا الأقتالا
يعني بابن عَمْرو زياد بْن عَمْرو، وبابن عجل عَبْد اللَّهِ بْن خازم السلمي كانت أمه سوداء يقال لها عجل، وكانت أم عمير بْن الحباب سوداء، وكانت أم سليك سلكة سوداء، وقوله: شهد النَّبِيّ بجودهم، ذهب إِلَى الحديث الَّذِي روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السودان: [إن فيهم
__________
[1] دورق: بلد بخوزستان. معجم البلدان.
[2] ديوان جرير ص 363.
[3] بهامش الأصل: أي طالب الأوعال، فليس ينالها، يعني حفص بن زياد بن عمرو.(7/301)
لخلتي صدق: السماحة والنجدة] » ، وروى سفيان بْن عيينة وعمرو بْن عوسجة مولى ابْن عباس قَالَ: ذكر الحبش عِنْدَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: [ «لا خير فِي الحبش وإن فيهم لخلتين إطعام الطعام، وبأس عند البأس [1]] .
وَحَدَّثَنِي حفص بْن عمر عَن الهيثم ابْن عدس وهشام بْن الْكَلْبِيّ قالا:
دخل الوليد بن يزيد بن عبد الملك على هِشَام وعنده ولده، وفيهم مسلمة بْن هِشَام المكنى أبا شاكر، فقال الوليد لمسلمة، وكان ظريفا: مَا اسمك؟
قَالَ: شيرزنجي يعرض بأنه يكثر شرب النبيذ إكثار الزنج، ويطرب طربهم، وَكَانَ شيرزنجي خرج بفرات البصرة فِي خلق من الزنج فقتل، فلما قام الوليد ليخرج قام مَعَهُ أَبُو شاكر فوثب الوليد عَلَى فرسه ولم يمس السرج ولا المعرقة، فأعجبه فعله، فَقَالَ لأبي شاكر: أيصنع أبوك مثل هذا؟ فَقَالَ أَبُو شاكر: لأبي مائة عبد يصنعون مثل هذا وأكثر منه، فبلغ هشاما ذَلِكَ، فَقَالَ: مَا لَهُ قاتله اللَّه وما أظرفه، عَلَى أنه قد غلبني مجونا.
__________
[1] انظره في كنز العمال- الحديث 25094.(7/302)
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
أمر عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد ابْن الأشعث بْن قيس الكندي
حَدَّثَنِي روح بْن عَبْد المؤمن المقرئ، مولى باهلة قَالَ: حَدَّثَنِي عمي عَن سحيم بْن حفص عَن شيخ من كندة قَالَ: كَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث بْن قيس معجبا عظيم الكبر وَكَانَ شخص إِلَى سجستان مَعَ خال لَهُ فِي طلب ميراث، فجعل يختلف إِلَى بغي يقال لها ماهنوس فأخذ مَعَهَا، فشهد عَلَيْهِ كردم الفزاري الَّذِي يقول النَّاس فيه: كل النَّاس بارك فِيهِ، وكردم لا يبارك فيه، وَكَانَ أَبُو كردم مرثد بْن نجبة مَعَ خالد بْن الوليد فقتل عَلَى سور دمشق، وشهد عَلَيْهِ مَعَهُ زفر بْن عَمْرو الفزاري، ومحمد بْن قرظة، ويزيد بْن زهير، فضرب حدا، ولم تذهب الأيام حَتَّى صار هؤلاء النفر فِي جنده، وقد ولي سجستان فأساء بهم ودس إليهم قوما شهدوا عليهم بالزنا، فحدهم فَقَالَ قائلهم:
شهدنا بحق وانتقمت بباطل ... فأبنا بأجر واشتملت عَلَى وزر
فلما كانوا بدير الجماجم خرج عيينة بْن أسماء الفزاري إِلَى الحجاج وفارق ابْن الأشعث، ثُمَّ إنه رفع عَلَى هؤلاء النفر أنهم كانوا موافقين لابن(7/303)
الأشعث، وعلى رأيه، فحبسهم الحجاج وَقَالَ: لا تقتلوهم فيقول عدونا أنا نقتل أصحابنا، فأتاهم بعض أصحابه ليلا فقتلهم.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا وهب بْن جرير بْن حازم عَن أبيه عَن عمه، أن المهلب بْن أَبِي صفرة لما فرغ من قتال الأزارقة قدم عَلَى الحجاج فأكرمه وأجلسه عَلَى سريره ووصله وأهل الغناء ممن كَانَ فِي جيشه، وَقَالَ: هؤلاء أَهْل الفعال والاستحقاق للأموال، هؤلاء غياظ الأعداء وحماة الثغور وولاه خراسان وسجستان، فَقَالَ: ألا أدلك عَلَى من هو أعلم بسجستان مني؟ قَالَ: بلى قَالَ: عبيد اللَّه بْن أَبِي بكرة، فقد كَانَ وطيء هذا الثغر وعرف أموره، فولى ابْن أَبِي بكرة سجستان.
وَحَدَّثَنِي عباس بْن هِشَام الْكَلْبِيّ عَن أبيه، وحفص بْن عمر عَن الهيثم بْن عدي عَن المجالد بْن سعيد قَالَ: بعث الحجاج عُبَيْد اللَّه بْن أَبِي بكرة إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، ليطلب لَهُ ولاية خراسان وسجستان، وَكَانَ عَلَى الثغرين أمية بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: لست بنازع أمية عَن الثغرين للحجاج، وَكَانَ لَهُ محبا، ولكن إن شئت وليتك إياهما، فَقَالَ: مَا كنت لأخون الحجاج وقد أرسلني ووثق بي، ثُمَّ إن عَبْد الْمَلِكِ استقصر أمية بْن خالد وأمره، واستبطأه فِي جباية الأموال وأتته جبايات الحجاج كثيرة موفرة، فكتب إِلَى الحجاج بولاية الثغرين، وبعث إِلَيْهِ بعهده عليهما فِي سنة ثمان وسبعين، فولى الحجاج المهلب خراسان، وعبيد اللَّه بْن أَبِي بكرة سجستان.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ وغيره لما قدم عبيد اللَّه بْن أَبِي بكرة سجستان منعه رتبيل الإتاوة التي كَانَ يؤتيها، فكتب عبيد اللَّه بِذَلِكَ إِلَى الحجاج فكتب الحجاج(7/304)
إِلَيْهِ يأمره بغزوه وأن لا يبرح حَتَّى يستبيح أرضه، ويهدم قلاعه، ويقتل مقاتلته، ويسبي حريمه، فغزاه بمن مَعَهُ من أَهْل الْكُوفَة والبصرة، وَكَانَ عَلَى أَهْل الْكُوفَة شريح بْن هانئ الحارثي، فسار ابْن أَبِي بكرة متوغلا فِي بلاد العدو، فأصاب من الغنيمة مَا شاء اللَّه عز وجل، فَقَالَ لَهُ شريح: إن اللَّه عز وجل قد غنمنا وسلمنا وأذل عدونا، فارجع بنا من مكاننا ونحن وافرون معافون، فإني أتخوف إن كاثرت رتبيل وأهل بلده، والتمست فتح مدائنهم وقلاعهم فِي غزوة واحدة أن لا تطيق ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: اصبر أيها الرجل ودع هذا، فَقَالَ (ابْن) هانئ: إنه ليس لقصير أمر، والله إنك لتعمل فِي هلاك نفسك وجندك، وسار حَتَّى قرب من كابل، وجعل لا يظهر لَهُ أحد، وتفرق أصحابه يطلبون العلف وانتهى بهم إِلَى شعب فأخذه عليهم الترك ولحقه رتبيل، وليس بالقوم قتال، فبعث ابْن أَبِي بكرة إِلَى شريح إني مرسل إِلَى هؤلاء فمصالحهم ومعطيهم مالا عَلَى أن يخلوا بيننا وبين الخروج، فَقَالَ شريح: إنك لا تصالحهم عَلَى شيء إلا حسبه الحجاج عليكم من أعطياتكم فَقَالَ ابْن أَبِي بكرة: حرمان العطاء أيسر عَلَيْنَا من الهلاك، وبعث إِلَى رتبيل يطلب منه الصلح على أن يعطيه خمسمائة ألف درهم، ويقال سبعمائة ألف درهم، وعدة من وجوه من مَعَهُ وثلاثة من ولده يكونون عنده، وأن لا يغزوهم مَا كَانَ واليا، وَكَانَ الثلاثة من ولده: نهار، والحجاج، وَأَبُو بكرة، ومعهم العاقب بْن سعيد فَقَالَ لَهُ شريح: اتق اللَّه عز وجل وقاتل هؤلاء القوم، ولا تشتر الكفر بالإيمان، وزيادة خمسمائة ألف درهم، ويقال سبعمائة ألف، وتدفع قوما من المسلمين إِلَى المشركين، ثُمَّ تشترط لهم أن لا تقاتلهم ولا تجبيهم خراجا هربا من الموت الَّذِي أنت إِلَيْهِ صائر، هذا(7/305)
وأنت لا تدري مَا يكون من سخط الحجاج، ثُمَّ قَالَ شريح: والله لقد فني عمري وذهب، ولقد تعرضت للشهادة فِي غير موطن، فأبى اللَّه عز وجل أن يبلغني إرادتي منها ثُمَّ قاتل وقاتلت مَعَهُ جماعة مطوعة من مذحج وهمدان فقتل، وقتل مَعَهُ من أَهْل المصرين ومن أَهْل الشام جماعة، وبعث ابْن أَبِي بكرة إِلَى رتبيل حين استعد شريح لقتال العدو وزحف لِذَلِكَ: إني عَلَى صلحك وما فارقتك عَلَيْهِ، وهذا رجل واحد من أصحابي عصاني ولست أنصره عليك، فخذله وجرأ رتبيل عَلَيْهِ، وَقَالَ شريح وهو يمشي إِلَى الكفار:
أصبحت ذا بث أقاسي الكبرا ... قد عشت بين المشركين أعصرا
ثمت أدركت النَّبِيّ المنذرا ... وبعده صديقه وعمرا
ويوم مهران ويوم تسترا ... والجمع فِي صفينهم والنهرا
هيهات مَا أطول هذا عمرا
وَكَانَ شريح من شيعة علي.
قالوا: واجتنب بنو عبيد اللَّه بْن أَبِي بكرة مَا كَانَ رتبيل يعرضه عليهم من النساء والخمر، فعظموا فِي عينه وأعين أصحابه.
وخرج ابْن أَبِي بكرة من بلاد العدو، وجعل جنده يؤتون بالطعام فإذا أكلوه ماتوا، ثُمَّ إنهم أطعموا السمن فلانت أمعاؤهم، فلم يصلوا إِلَى بست إلا وهم خمسة آلاف.(7/306)
وَكَانَ ابْن أَبِي بكرة حين رأى مَا النَّاس فيه من القحط وهم يأكلون دوابهم فِي بلاد العدو يشتري الطعام ثُمَّ يبيعه جيشه حساب القفيز بدرهم، حَتَّى أصاب النَّاس ضر شديد ومرض، وَكَانَ يبعث إِلَى الحصرم فيضعه فِي أسواقهم ويبيعهم إياه يقول: هذا صالح لمرضاكم، وباعهم التبن غربالا بدرهم، ففي ذَلِكَ يقول عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الحارث، وهو أعشى همدان فِي قصيدة لَهُ أولها:
مَا بال حزن فِي الفؤاد مولج ... ولدمعك المتحدر المتهيج
أسمعت بالجيش الذين تمزقوا ... وأصابهم ريب الزمان الأعوج
حبسوا بكابل يأكلون جيادهم ... بأضر منزلة وشر معرج
لم يلق جيش فِي البلاد كما لقوا ... فلمثلهم قل للنوائح تنشج
واسأل عبيد اللَّه كيف رأيتهم ... عشرين ألف مجفف ومدجج
بعثا تخيره الأمير جلادة ... بعثا من المصرين غير مزلج
وليت شأنهم وكنت أميرهم ... فأضعتهم والحرب ذات توهج
مَا زلت نازلهم كما زعموا لنا ... وتفلهم وتسير سير الأهوج
وتبيعهم فيها القفيز بدرهم ... فيظل جيشك بالملامة ينتجي
ومنعتهم أتبانهم وشعيرهم ... وتجرت بالعنب الَّذِي لم ينضج
ونهكت ضربا بالسياط جلودهم ... ظلما وعدوانا ولم تتحرج
والأرض كافرة تضرم حولكم ... حربا بِهَا لقحت ولما تنتج
فتساقطوا جوعا وأنت صفندد [1] ... شبعان تصبح كالايد الأفحج
__________
[1] لم أجد لهذه الكلمة معنى.(7/307)
رخو النسا والحالبين ملثما ... فِي مثل جحفلة الحمار الديزج [1]
وظننت أنك لم تعاقب فيهم ... والله يصبح من أمام المدلج
حَتَّى إذا هلكوا وباد كراعهم ... رمت الخروج وأي ساعة مخرج
وأبى شريح أن يسام دنية ... حرجا وصحف كتابهم لم تدرج
وبقيت فِي عدد يسير بعدهم ... لو سار وسط مراغة لم يرهج
لا تخبر الأقوام شأنك كله ... وإذا سئلت عَن الحديث فلجلج
فِي أبيات.
قالوا: فمات ابن أبي بكرة كمدا، ويقال اشتكى أذنيه فمات، وبلغ الحجاج خبر ابْن أَبِي بكرة وأنه قد استخلف ابنه أبا برذعة، فكتب إِلَى المهلب أن يوجه إِلَى سجستان من قبله رجلا فوجه وكيع بْن بكر، فَقَالَ كعب الأشعري:
مَا زال أمرك يَا مهلب صالحا ... حَتَّى ضربت سرادقا لوكيع
وجعلته ربا عَلَى أربابه ... ورفعت منه غير جد رفيع
فلما قدم عَلَى أَبِي برذعة أهدى إِلَيْهِ أَبُو برذعة ثلاثمائة ألف درهم، وهدايا سوى ذَلِكَ، وأقام أَبُو برذعة بسجستان حَتَّى قدم عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث من وجه الخوارج فولاه الحجاج كرمان.
وَقَالَ أَبُو مخنف وعوانه: لما هلك عبيد اللَّه بْن أَبِي بكرة بسجستان، غم الحجاج مهلكه غما شديدا، وكتب إِلَى عبد الملك يعلمه ذلك ويستطلع
__________
[1] الجحفلة: بمنزلة الشفة للخيل والبغال والحمير. والديزج- معرب ديزه: اللون الأسود، الرمادي. القاموس.(7/308)
رأيه فِي تولية هذا الفرج رجلا فكتب إِلَيْهِ: «بلغني كتابك بما ذكرت من مصاب المسلمين بسجستان حَتَّى لم ينج منهم إلا الشريد، وجرأة العدو لِذَلِكَ وقوتهم عَلَى أَهْل الإسلام، فأولئك قوم كتب القتل عليهم فبرزوا إِلَى مضاجعهم وعلى اللَّه عز وجل ثوابهم، فأما مَا استطلعت فيه الرأي، فإن رأيي أن تمضي ولاية من رأيت توليته موفقا رشيدا.
قالوا: وَكَانَ الحجاج مبغضا لعَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ رجلا معجبا، ذا نخوة وأبهة، وَكَانَ الحجاج يقول: مَا بالعراق رجل أبغض إلي منه وما رأيته قط ماشيا أو راكبا إلا أحببت قتله، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ يقول: مَا رأيت قط أميرا فوقي إلا ظننت أني أحق بإمرته منه، وَكَانَ أيضا يقول: لو قد رأيت البياض، وقرأت القرآن، وماتت أم عمران- يعني أمه- لطلبت الغاية التي لا مذهب بعدها.
حَدَّثَنِي حَفْص بْن عمر عَن الهيثم عَن مجالد عَن الشَّعْبِيّ قَالَ: إني لعند الحجاج إذ دخل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث يتمشى فَقَالَ:
انظروا إِلَى مشية المقيت والله لهممت أن أضرب عنقه، فلما سلم عَلَيْهِ قَالَ:
إنك لمنظراني، قَالَ: ومخبراني أصلح اللَّه الأمير، ثُمَّ جعل يقول: أنا منظراني أنا منظراني.
قَالَ الشَّعْبِيّ: فحدثت عَبْد الرَّحْمَنِ بما قَالَ الحجاج حين رآه يتمشى، فَقَالَ: اكتم علي والله لأحاولن إزالة سلطانه إن طال بي وبه عمر.
قالوا: ثُمَّ إن الحجاج انتخب اثني عشر ألفا ويقال عشرة آلاف من أَهْل الجلد والقوة والهيئة، فأعطاهم وجهزهم وقواهم واستعمل عليهم عطارد بْن عمير بْن عطارد بْن حاجب، ويقال بعض ولد ذي الجوشن الضبابي، وسار(7/309)
بهم إِلَى البصرة وانتخب من أَهْل البصرة مثلهم، وجعل عليهم عطية بْن عَمْرو العنبري الَّذِي يقول فيه أعشى همدان:
فابعث عطية فِي الخيول ... تكبهن عَلَيْهِ كبا
فإذا جعلت دروب فا ... رس خلفنا دربا فدربا
فلما تتاموا واجتمعوا سمي ذلك الجيش جيش الطواويس، ويقال إن النَّاس سموهم بِذَلِكَ لتكامل أهبتهم وعدتهم ونبلهم وشجاعتهم، وأمر فأمضى ذَلِكَ الجيش إِلَى الأهواز وكتب إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث بولاية سجستان وضم إِلَيْهِ ذَلِكَ الجيش، وَكَانَ الحجاج قد وجه عَبْد الرَّحْمَنِ لقتال الخوارج، فشخص بهم عَبْد الرَّحْمَنِ حَتَّى قدم سجستان ثُمَّ نزل بست، فأتته رسل رتبيل، وأتى إسماعيل بْن الأشعث الحجاج فأشار عَلَيْهِ أن لا يولي عَبْد الرَّحْمَنِ وَقَالَ: إني والله أخاف خلافه، والله مَا جاز جسر الفرات قط فرأى أن لأحد عَلَيْهِ سلطانا، فَقَالَ: ليس هناك إني لست كأولئك هو لي أهيب، وفيما لدي أرغب من أن يخالفني أو يخرج يدا من طاعتي فقدم سجستان فِي آخر سنة تسع وسبعين.
وَقَالَ أَبُو عبيدة: كَانَ الحجاج وجه هميان بْن عدي السدوسي إِلَى كرمان، وجعله مسلحة بِهَا ليمد عامل سجستان إن احتاج إِلَى ذَلِكَ، فعصى بمن مَعَهُ، فوجه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الأشعث لمحاربته فحاربه فهزمه، وأقام بموضعه، فلما مات ابْن أَبِي بكرة ضم إِلَيْهِ جيشا أنفق عَلَيْهِ ألفي ألف درهم، وكتب إِلَيْهِ فِي محاربة رتبيل بمن مَعَهُ وبذلك الجيش.
وَقَالَ أَبُو مخنف: خطب ابْن الأشعث النَّاس حين دخل سجستان فَقَالَ: إن الأمير الحجاج ولاني ثغركم، وأمرني بجهاد عدوكم الَّذِي استباح(7/310)
بلادكم، وأباد خياركم، ثُمَّ عسكروا وأخرجت لَهُ الأسواق، وبلغ ذَلِكَ رتبيل فكتب إِلَيْهِ: إنه ليست أمة من الأمم أعظم فِي أنفسنا، ولا أحق بالإجلال والإكرام والتبجيل عندنا منكم، وقد كان من مصاب إخوانكم مَا علمتم وما كَانَ ذَلِكَ عَن هوى مني، ولا إرادة وقد كنا صالحناكم عَلَى صلح فيما مضى، ولولا أن ابْن أَبِي بكرة نقض وبدل لجرينا فِي أمره مجرانا فِي أمر غيره، ونحن نسألك أن تصالحنا وتقبل منا مَا كَانَ غيرك ممن قبلك يقبله، وأهدى إِلَيْهِ خاله العاقب بْن سعيد، وَكَانَ ابْن أَبِي بكرة رهنه مَعَ ولده، ثُمَّ اتبعه جميع الرهن الذين كانوا قبله، فلم يجبه حَتَّى أعد لَهُ القاسم بن محمد بن الأشعث أخاه، وَكَانَ ورد عَلَيْهِ من طبرستان فِي خيل عظيمة، وأمره أن يغير عَلَيْهِ بمكانه الَّذِي هو بِهِ، وَكَانَ مَعَ رتبيل رجل من بني تميم يقال لَهُ عبيد بْن سبع بْن أَبِي سبع، ويقال عبيد اللَّه بْن سبع، وَكَانَ يرى رأي الخوارج فيما يقال، وَكَانَ مقيما بسجستان فِي ولاية زياد بْن أَبِي سفيان وبعد ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: قد جاءك أغدر العرب وأشدهم أبهة وكبرا، فتحول من مكانك فإني لا آمن عليك أن يأتيك وأنت غار، فخرج من مكانه مسرعا، وورد القاسم فلم يجد إلا عجائز وشيوخا وقتلى من المسلمين فكفنهم وصلى عليهم ودفنهم ثُمَّ لم ينشب أن سار إِلَيْهِ فِي الجنود.
أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ عَن أشياخه قالوا: قدم عَبْد الرَّحْمَنِ سجستان، فأقام حَتَّى استمر النَّاس وأراحوا، وحضر الغزو فخرج من بابشير [1] ، فعرض النَّاس وخطبهم، وحرضهم، ثُمَّ لما كان في أول المفازة عرضهم فلم
__________
[1] قرية على مقدار فرسخ من مرو. معجم البلدان.(7/311)
يتخلف عنه أحد منهم، وقطع المفازة ونزل بست [1] ، فتلقاه رتبيل واعتذر إِلَيْهِ من مصاب المسلمين وَقَالَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى كره مني، وعرض عَلَيْهِ الفدية وسأله أن يقبل منه مَا كَانَ يقبله من قبله، وبعث بالرهن وفيهم خاله العاقب بْن سعيد، فأخذ الرهن ولم يجبه إِلَى شيء مما يريد، وقدم القاسم أخاه أمامه ثُمَّ سار، وجعل رتبيل يدع البلاد حصنا حصنا طمعا فِي أن ينال منه مَا نال من غيره، وحذر ابْن الأشعث فكان لا يأتي حصنا ولا يجاوز عمرانا إلا خلف فيه قائدا فِي كثف من المسلمين، ورتب الرجال فأنزل القاسم أخاه الرخج ونزل هو بست وكره التوغل فِي البلاد وكتب إِلَى الحجاج بِذَلِكَ، فكتب إليه: يابن الحائك الغادر، كتابك إلي كتاب رجل يحب الهدنة والموادعة لعدو قليل ذليل، ولعمري يابن أم عَبْد الرَّحْمَنِ إنك حين تكف عَن ذَلِكَ العدو ومعك جندي وحدي لسخي النفس عمن أصيب من المسلمين، إني لم أعدد رأيك مكيدة، ولكني عددته ضعفا وجبنا، والتياث رأي، فأمض لما أمرتك بِهِ من الوغول فِي أرضهم والهدم لحصونهم، فإنها داركم حَتَّى يفتحها اللَّه عز وجل عليكم» .
فأغضب عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد ذَلِكَ، وَقَالَ: يكتب إلي ابْن أَبِي رغال بمثل هذا الكتاب، وهو والله الجبان، وأبوه من قبله، وعزم عَلَى خلع الحجاج، وَكَانَ مَعَهُ سوى جند الْكُوفَة والبصرة الذين جعله الحجاج عليهم بالأهواز، جند قدموا مَعَ الصباح بْن مُحَمَّد، والقاسم بْن مُحَمَّد أخويه، كانوا بطبرستان، فكتب الحجاج فِي إشخاصهم إليه معهما، وبعث الحجاج
__________
[1] بست: مدينة بين سجستان وغزنين وهراة، من أعمال كابل. معجم البلدان.(7/312)
أيضا إلى عبد الرحمن: اسحق بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، فِي جند آخر، وكتب إِلَيْهِ: «إن توقفت عَن المسير فِي بلاد العدو، وليت إسحق بْن مُحَمَّد بْن الأشعث جندك، وصيرتك من تحت يده كبعض أَهْل المصر.
فأظهر خلع الحجاج وَقَالَ أيها النَّاس إني والله لكم ناصح، ولصلاحكم محب، وفيما يعمكم نفعه ناظر، وقد استشرت ذوي أحلامكم والتجربة منكم، فأشاروا علي بما علمتم من ترك التوغل فِي بلاد العدو، وإن الحجاج كتب إلي بإنكار ذَلِكَ وكراهته إياه، وأمرني أن أتوغل بكم تغريرا لجماعتكم، كما غرر بإخوانكم بالأمس، فَقَالُوا: لا بل نأبى عَلَى عدو اللَّه عز وجل أمره ولا نسمع لَهُ ولا نطيع، فإن ابْن أَبِي رغال لا يريد بنا خيرا، وعقد لمن وثق بِهِ، وحل ألوية من أَبِي منهم، وافتعل كتابا من الحجاج فِي تولية قوم، وعزل آخرين، ليفسد قلوبهم، وكانوا وجوها أشرافا.
قالوا: وَكَانَ أول من تكلم عامر بْن واثلة الكناني، وَكَانَ خطيبا شاعرا: فَقَالَ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ: أما بعد، فإن الحجاج والله مَا يرى لكم إلا مَا يرى القائل الأول: احمل عبدك عَلَى الفرس فإن هلك هلك، وإن نجا فهو لك، والله مَا يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلادا كثيرة اللهوب والعقارب والأشب، فإن ظفرتم وغنمتم جبى وحاز الأموال، وإن ظفر بكم كنتم الأعداء البغضاء، فاخلعوه وبايعوا أميركم فإني والله أول خالع للحجاج عدو اللَّه.
ثُمَّ قَالَ عَبْد المؤمن بْن شبث بْن ربعي: إنكم إن أطعتم الحجاج جعلها بلادكم مَا بقيتم وجمركم تجمير فرعون لجنده، والله مَا يبالي أن تهلكوا(7/313)
أو تقتلوا، فنادى النَّاس من كل جانب: خلعنا الحجاج عدو اللَّه ووثبوا إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ يبايعونه فيقول لهم: تبايعون عَلَى خلع عدو اللَّه الحجاج، وعلى نصرتي، وعلى جهاد عدو اللَّه وعدوي معي حَتَّى ينفيه اللَّه عز وجل من أرض العراق، فبايعه النَّاس، ولم يذكروا خلع عبد الملك.
وقال أَبُو مخنف: كانت بيعته عَلَى كتاب اللَّه، وخلع أئمة الضلال، وجهاد المحلين.
قَالَ: فلما بايعوا ابْن الأشعث قالوا: ننصرف إِلَى العراق فنخرج الحجاج عدو اللَّه من العراق فإن جهاده أولى.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: أخبرني عمر بْن ذر الهمداني أن أباه ذر بْن عَبْد اللَّهِ بْن زرارة كَانَ مَعَ ابْن الأشعث، وأنه ضربه وحبسه لانقطاعه إِلَى أخويه القاسم وإسحق ابني مُحَمَّد، وضرب، وحبس مَعَهُ عدة منهم:
عمران بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، وقتادة بْن قيس، فلما خلع دعا بهم فحملهم وكساهم وأعطاهم، وأقبلوا مَعَهُ فيمن أقبل، فأما ذر بْن عَبْد اللَّهِ فكان قاصا خطيبا، فثبت مَعَهُ وناصحه وأما عمران بْن عَبْد الرَّحْمَنِ فناصحه وثبت مَعَهُ وأما قتادة ففارقه ولحق بالحجاج.
قالوا: ولما خلع الحجاج عَبْد الرَّحْمَنِ وأصحابه، وادع رتبيل وكتب بينه وبينه كتابا وعاهده أن لا يرزأ منه شيئا، فإن ظفر بالحجاج لم يسأله خراجا أبدا مَا بقي، وإن قوي عَلَيْهِ الحجاج لجأ ومن مَعَهُ إِلَيْهِ فمنعهم، ثُمَّ انصرف ابْن الأشعث إِلَى بست فاستعمل عَلَيْهَا عياض بْن عَمْرو السدوسي، وهو الثبت، ويقال عياض بْن همام، وَكَانَ عياض قاتل عَبْد الرَّحْمَنِ حين قدم سجستان فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة. وبعث إِلَى(7/314)
الحجاج برؤوس من قتل وهرب حَتَّى لحق برتبيل فلما بلغه خلعه الحجاج أتاه فبايعه، وولى عَبْد اللَّهِ بْن عامر التميمي ثُمَّ المجاشعي ولقبه البعّار زرنج، وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ البعار علقمة بْن حوي بْن سفيان بْن مجاشع.
وأقبل عَبْد الرَّحْمَنِ بن محمد يريد العراق، فهرب منه إسحق بْن مُحَمَّد، والقاسم، والصباح، والمنذر إخوته، فأما القاسم فانه رأى إسحق يناجي الصباح دونه، فغضب فعاد إِلَى أخيه، وأما الآخرون فلحقوا بالحجاج، وجعل أعشى همدان يجري عَلَى فرس لَهُ، وقد خرج عَبْد الرَّحْمَنِ عَن سجستان مقبلا إِلَى الحجاج وهو يقول:
شطت نوى من داره بالإيوان ... إيوان كسرى ذي القرى والريحان
فالبندنيجين إِلَى طرازاستان [1] ... فالجسر فالكوفة فالغريان
من عاشق أمسي بزابلستان ... إن ثقيفا منهم الكذابان
كذابها الماضي وكذاب ثان ... إنا سمونا للكفور الخوان
حين طغى فِي الكفر بعد الإيمان ... بالسيد الغطريف عَبْد الرَّحْمَنِ
سار بجمع كالدبا من قحطان ... ومن معد قد أتى ابْن عدنان
بجحفل جم كثير الأركان ... فقل لحجاج ولي الشيطان
أثبت لجمع مذحج وهمدان ... والحي من بكر وقيس عيلان
فإنهم ساقوك كاس ذيفان [2] ... أو ملحقوك بقرى ابن مروان
__________
[1] طراز: بلد من ثغور الترك. والبندنيجين: بلدة مشهورة في طرف النهروان. معجم البلدان.
[2] الذيفان: السمّ.(7/315)
وقال أبو جلدة اليشكري وكان مع ابْن الأشعث:
نحن جلبنا الخيل من زرنجا ... مَا لك يَا حجاج منا منجى
لتبعجن بالرماح بعجا ... أو لتفرن وذاك أنجى
حَدَّثَنِي خلف بْن سالم وأحمد بْن إِبْرَاهِيمَ قالا: حَدَّثَنَا وهب بْن جرير عَن ابْن عيينة أن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث لما خلع كتب إِلَى المهلب يسأله الخلع مَعَهُ، فَقَالَ المهلب: مَا كنت لأغدر بعد سبعين سنة، ثُمَّ قَالَ: مَا أعجب هذا يدعوني إِلَى الغدر من بعض ولدي أكبر منه، وَقَالَ لرسوله: قل لَهُ: اتق اللَّه فِي دماء المسلمين ولم يجبه عَن كتابه، وبعث بِهِ إِلَى الحجاج.
وَحَدَّثَنِي عباس بْن هشام الكلبي عن أبيه عن جده قال: لما عاهد عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث رتبيل وكتب بينه وبينه كتاب الوثيقة، وثب رجل من همدان يقال لَهُ فندش بْن حيان الهمداني عَلَى رجل من الكفار من أصحاب رتبيل جرى بينه وبينه خلاف فِي شيء فضربه فندش بعود مَعَهُ فشجه شجة خفيفة فبعث رتبيل إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بفندش ولم يقتله، فأمر عَبْد الرَّحْمَنِ بقتله، فَقَالَ أعشى همدان، وَكَانَ فندش صديقا ونديما لَهُ:
تعوذ إذا مَا بت من بعد هجعة ... من المرء فِي سلطانه المتفحش
ومن رجل لا تعطف الرحم قلبه ... جريء عَلَى أخواله متحمش
لجوج شديد بطشه وعقابه ... متى يأته ساع بعمياء يبطش
أفي خدشة بالعود لم يدم كلمها ... ضربت بمصقول علاوة فندش
وأزهقت فِي يوم العروبة [1] نفسه ... بغير قتيل صاحيا غير منتش
__________
[1] أي يوم الجمعة. القاموس.(7/316)
أَبِي رتبيل قتله فقتلته ... وأنت عَلَى خوارة وسط مفرش
وباكية تبكي عَلَى قبر فندش ... فقلت لها أذري دموعك واخمشي
وإنا لنجزي الذحل بالذحل مثله ... ونضرب خيشوم الأيل الغطمش
فتى كَانَ مقداما إذا الخيل أجحمت ... ضروبا بنصل السيف ليس بمرعش
ويقال أن فندشا والأعشى ورجلا آخر، كانوا عَلَى شراب لهم، وهم فِي عسكر ابْن الأشعث فنودي يوما بالسلاح، فمر بهم المنادي فأمرهم باللحاق بالناس، فَقَالَ فندش: لا نريم حَتَّى نفرغ من شرابنا، فعلاه المنادي بالسوط، فوثب فندش عَلَيْهِ فضربه بعصا عَلَى رأسه فانطلق إِلَى ابْن الأشعث فأعلمه، فأمر بقتل فندش، فقتل، والأول أثبت.
قالوا: وَكَانَ مَعَ ابْن الأشعث أَبُو جوالق أحد بني غسل بْن عَمْرو اليربوعي، وقوم يقولون عسل، والأول قول ابْن الْكَلْبِيّ، وَكَانَ أَبُو جوالق شجاعا وفيه يقول الشاعر:
سبعون ألفًا كلهم مُفارق ... مثل الحريش وأبي جوالق
يعني الحريش بْن هلال القريعي.
قالوا: وأقبل عَبْد الرَّحْمَنِ يسير بالناس، وسأل عَن أبي إسحق السبيعي، فقيل لَهُ: ألا تأتيه فقد سأل عنك، فكره أن يأتيه ونزل أبو إسحق بفارس، ولم يدخل فِي الفتنة حَتَّى انقضت، وأتى عَبْد الرَّحْمَنِ كرمان فولاها عَمْرو بْن لقيط العبدي ثُمَّ أتى فارس فولاها خرشة بْن عَمْرو التميمي.
وَحَدَّثَنِي علي بْن المغيرة عَن أَبِي عبيدة قَالَ: كتب المهلب إِلَى ابن الأشعث من خراسان: «يا بن أخي إنك قد وضعت رجليك فِي ركابين(7/317)
طويل غيهما عَلَى أمة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تركت قتال المشركين، وأقبلت لقتال المسلمين، أما تذكر بلاء الحجاج عندك حين جمع لك الجندين جميعا.
قالوا: وَقَالَ أعشى همدان:
من مبلغ الحجاج أ ... ني قد نبذت [1] إليه حربا
حربا مذكرة عوا ... نا تترك الشبان شهبا
وصفقت فِي كف امرئ ... جلد إذا الأمر عبا
لابن الأشج قريع كن ... دة لا أبين فيه عتبا
أنت الرئيس بْن الرئيس ... وأنت أعلى القوم كعبا
فِي قصيدة.
قَالَ: وتمثل ابْن الأشعث حين أقبل يريد الحجاج بشعر مغفر بْن حماد البارقي:
سائل مجاور جرم هل جنيت لهم ... حربا تزيل بين الجيرة الخلط
وهل تركت نساء الحي ضاحية ... فِي باحة الدار يستوقدن بالغبط [2]
وتمثل أيضا:
خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام
قَالَ: وأخرج ابْن الأشعث لأي بْن شقيق بْن ثور عامل الحجاج عَن كرمان، وأخذ مَا فِي بيت مالها وقدم لأي بْن شقيق بْن ثور عَلَى الحجاج فأخبره خبره، فكتب مَعَهُ إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يستمده قَالَ: وقالت ابنة سهم بْن غالب الهجيمي:
__________
[1] بهامش الأصل: ندبت.
[2] الغبط: القبضات المحصورة المصرومة من الزرع. القاموس.(7/318)
يَا أيها السائل عما قد كَانَ ... أبشر أتاك الغوث من سجستان
ابنا نزار وسراة قحطان ... وفيهم المنصور عَبْد الرَّحْمَنِ
يقود جيشا جحفلا ذا أركان ... سبعين ألفا لا بسين الأبدان
قد ذهب الملك عَن آل مروان ... والثقفي زال عنه السلطان
قالوا: فلما صار ابْن الأشعث ومن مَعَهُ بفارس قَالَ بعضهم لبعض:
إذا خلعنا الحجاج، فقد خلعنا عَبْد الْمَلِكِ، فاجتمعوا إِلَى ابْن الأشعث فكان أول النَّاس قَالَ خلعت عَبْد الْمَلِكِ: تيحان بْن أبجر أحد ولد ربيعة بْن نزار، ثُمَّ أحد بني بكر بْن وائل، قام فَقَالَ: يَا أيها النَّاس إني قد خلعت أبا ذبان كخلعي قميصي هذا، فخلعه النَّاس، وَكَانَ أَبُو حزابة وهو الْوَلِيد بْن حنيفة بْن سُفْيَان بْن مجاشع بْن ربيعة بْن وهب بْن عبدة بْن ربيعة بْن حنظلة بْن مالك بكرمان، فلما وردها ابْن الأشعث تعرض له فقال:
يا بن قريع كندة الأشج ... أما تراني فرسي فِي المرج
وما هنوش ذهبت بسرجي ... فِي فتنة النَّاس وهذا الهرج
فضحك وَقَالَ: افتكوا سرجه قبحه اللَّه، وَكَانَ قد رهنه عَلَى خمسين درهما عند بغي يقال لها ماهنوش وبات ليلته عندها. والأشج قيس بْن معد يكرب، شج فِي بعض أيامهم.
وَحَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح الْعِجْلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي القاسم بْن سهل النوشجاني قَالَ: حَدَّثَنِي عدة من آل المهلب أن المهلب كتب إِلَى ابْن الأشعث حين بلغه خلعه: «إنك يا بن مُحَمَّد قد وضعت رجلك فِي غرز طويل الغي، فالله الله يا بن أخي انظر لنفسك ولا تهلكها، واتق اللَّه(7/319)
عز وجل فِي دماء المسلمين أن تسفكها، والبيعة فلا تنكثها، والجماعة فلا تفارقها، فإن قلت أخاف النَّاس عَلَى نفسي فالله أحق أن تخافه والسلام» .
قَالَ: وقالوا: كتب المهلب إِلَى الحجاج: «أما بعد فإن أَهْل العراق قد أقبلوا إليك وهم مثل السيل المنحط من عل ليس يرده شيء حَتَّى ينتهي إِلَى قراره، ولأهل العراق شرة فِي أول مخرجهم، وبهم صبابه إِلَى أبنائهم ونسائهم فليس يبلى بردهم دون أهليهم فلا تستقبلهم وخل لهم الطريق حَتَّى يأتوا البصرة فيواقعوا نساءهم ويتنسموا أولادهم، فترق قلوبهم، ويخلدوا إِلَى المقام في منازلهم، فيتفرقوا عَن ابْن الأشعث، ثُمَّ واقع من حاربك منهم فإن اللَّه عز وجل ناصرك عليهم» ، فلما قرأ الحجاج كتابه قَالَ: ويلي عَلَى المزوني والله مَا لي نظر ولكن لابن عمه نصح، ثُمَّ إنه نظر بعد ذَلِكَ فِي كتابه فَقَالَ: رحم اللَّه المهلب، فقد كَانَ ناصحا للإسلام وأهله.
وَحَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة عن هارون بْن معروف عن ضمرة بْن ربيعة عَن ابْن شوذب قَالَ: كتب عمال الحجاج إِلَيْهِ: «إن الخراج قد انكسر، وإن أَهْل الذمة قَدْ أسلموا ولحقوا بالأمصار» .
فكتب إِلَى أَهْل البصرة وغيرها: «إن من كَانَ لَهُ أصل فِي قرية فليخرج إليها فخرج النَّاس فعسكروا وجعلوا يبكون ويقولون: وا محمداه، وجعلوا لا يدرون أين يذهبون، فجعل قراء أَهْل البصرة يخرجون إليهم متقنعين فيبكون مَعَهُمْ، وقدم ابْن الأشعث عَلَى بغتة ذَلِكَ فاستبصر أَهْل البصرة فِي قتال الحجاج مَعَ ابْن الأشعث:(7/320)
وَقَالَ أَبُو مخنف وعوانة: ورد عَلَى الحجاج أمر ابْن الأشعث وهو نازل بلعلع [1] فَقَالَ إنها لغليقة من الأمر، وكتب إلي عَبْد الْمَلِكِ يخبره وسأله إمداده بالجنود، وأتى الحجاج موضع واسط حين فصل من لعلع فابتنى بِهِ مسجدا، وَقَالَ: هذا مكان واسط، فسميت واسط القصب، ثُمَّ بناها بعد ذَلِكَ.
قالوا: ولما ورد الكتاب عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فِي أمر ابْن الأشعث، نزل عَن سريره، وبعث إِلَى أَبِي هاشم خالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ فأقراه الكتاب، فلما رأى خالد مَا بِهِ من الجزع والارتياع قَالَ: إنما يخاف الحدث من خراسان، وهذا الحدث من سجستان فلا تخفه، ثُمَّ خرج عَبْد الْمَلِكِ عَلَى النَّاس فحمد اللَّه عز وجل وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن أَهْل العراق قد استطالوا عمري فاستعجلوا قدري فسلط اللهم عليهم سيوف أَهْل الشام حَتَّى تبلغ رضاك.
وصار الحجاج إِلَى البصرة فأقام بِهَا، وعزم عَلَى لقاء ابْن الأشعث، وَكَانَ المهلب كتب إِلَيْهِ يشير عَلَيْهِ أن لا يقاتله حَتَّى يرد النَّاس منازلهم، فيركنوا إلي الدعة وتمنعهم الرقة عَلَى أولادهم وعيالاتهم من المحاربة، وتحدث لهم آراء غير آرائهم وينتقصوا عند التفرق عَن أمرهم، ويعظ الرجل أخوه، والرجل قومه، فينفسح عزمه، فلم يلتفت إِلَى كتابه ومشورته، وَكَانَ الحجاج أقدم سفيان بْن الأبرد الْكَلْبِيّ من طبرستان، وأخذه بالحساب، فكان محبوسا عنده، فلما حدث هذا الحدث دعا بِهِ خاليا فشاوره فيه، فرأى لَهُ أن يستقبل ابْن الأشعث ويجعله عَلَى خيله، وأحب بِذَلِكَ التخلص من الغرم، فقبل قوله لموافقته هواه، ورفض رأى المهلب، وجعل
__________
[1] لعلع: منزل بين البصرة والكوفة. معجم البلدان.(7/321)
فرسان أَهْل الشام يأتونه من قبل عَبْد الْمَلِكِ أرسالا، يأتيه فِي اليوم المائة والعشرة، وأكثر من ذَلِكَ وأقل، فبعضهم يأتي عَلَى البريد، وبعضهم عَلَى الخيل العتاق المقدحة، وبعضهم عَلَى الإبل الناجية، وكانت أخبار ابْن الأشعث تأتيه بنزوله مكانا مكانا وسار الحجاج بأهل الشام حَتَّى نزل تستر الأهواز، وقدم بين يديه عَبْد اللَّهِ بْن زميت الطائي ومظهر بْن حيي العكي وجعل ابْن زميت من تحت يده.
يوم دجيل وهو يوم تستر
قالوا: وقدم عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث مُحَمَّد بْن أبان بْن عَبْد اللَّهِ الحارثي في ثلاثمائة فوجه إِلَيْهِ مظهر بْن حيي العكي عَبْد اللَّهِ بْن زميت، فهزم ابْن أبان وأصحابه حَتَّى اضطرهم إلي دجيل الأهواز، فوجه مظهر مولى لَهُ يقال لَهُ منقذ إِلَى الحجاج بالفتح وعظم الأمر، وأخبر أنه لقي مقدمة ابْن الأشعث فهزمهم وقتل أكثرهم، ولما رأى ابْن الأشعث مَا فعل بأصحابه جمع النَّاس وعبأهم، ثُمَّ قَالَ: اعبروا إِلَى أصحاب الحجاج، فأقحم النَّاس خيولهم فِي دجيل حَتَّى صاروا إلي موضع الوقعة ومظهر فِي سبعة آلاف من أَهْل الشام، وذلك فِي يوم ضباب لا يكاد الرجل يتبين فيه صاحبه، فحمل عليهم عطية بْن عَمْرو العنبري فضعضعهم، ثُمَّ حمل عليهم جرير بْن هاشم بْن سعد بْن قيس الهمداني، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثُمَّ أتاهم الحريش بْن هلال القريعي من خلفهم، وحمل النَّاس عليهم من بين أيديهم، فهزموا هزيمة قبيحة، وقتلوا قتلا ذريعا، وركب أصحاب الخيول(7/322)
فِي طلبهم فقتلوهم وأسروهم أنى شاءوا، وَكَانَ فِي الأسرى رجل من همدان فَقَالَ لابن الأشعث: أصلح اللَّه الأمير أنا أحد أخوالك، فَقَالَ: ابدأوا بخالي فقدم وقتل وذلك يوم النحر سنة إحدى وثمانين يوم الجمعة، ويقال عشية عرفة، واستباحوا عسكرهم، وَكَانَ الحجاج حين جاءه رسول مظهر صعد المنبر فخطب وَقَالَ: أحمدوا اللَّه عَلَى هلاك عدوكم، فما نزل حَتَّى جاءه بخبر هذه الوقعة عبيد بْن سرجس مولاه، فَقَالَ: أيها النَّاس ارتحلوا بنا إِلَى البصرة، فإن هذا مكان لا يحتمل الجند، وانصرف حَتَّى نزل الزاوية، وبعث إِلَى طعام التجار بالكلاء فأخذه فحمله إِلَيْهِ، فَقَالَ: من كَانَ منهم وليا لنا رددنا عَلَيْهِ، ومن كَانَ عدوا فماله ودمه حلال لنا، وخلى البصرة لأهل العراق وَكَانَ عامله عليهم الحكم بْن أيوب الثقفي الَّذِي يقول فيه الشاعر:
قَدْ كَانَ عندك صيد لو قنعت بِهِ ... فِيهِ غنًى لَكَ عَن دراجة الحكم
وفي عوارض مَا تَنْفَكّ تأكلها ... لو كَانَ يشفيك أكل اللحم من قرم
وَكَانَ الحكم بن أيوب بن الحكم بن أبي عقيل هذا أبخل الخلق، وكانت لَهُ دراجة يؤتى بِهَا بعد الطعام، وَكَانَ استعمل رجلا من بني تميم يقال لَهُ العظرت عَلَى بعض الفروض فقدم عَلَيْهِ والدراجة بين يديه، فدعاه إِلَى الأكل فأكل مَعَهُ من دراجته، فعزله وَقَالَ لَهُ الحق بأهلك، والعوارض مَا أنكسر فنحر، يقال: أهذا لحم عبيط، أم لحم عارضة؟
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: هزم ابْن الأشعث صاحب الحجاج يوم دجيل وقتل من أصحابه ثمانية آلاف، وَقَالَ غيره: قتل ألفين.(7/323)
قال وجاء ابْن الأشعث وأهل العراق حَتَّى دخلوا البصرة فبايعه أهلها عَلَى حرب الحجاج وخلع عَبْد الْمَلِكِ، وسارع إِلَيْهِ القراء والكهول، وَكَانَ الحجاج أمر سفيان بْن الأبرد الْكَلْبِيّ حين أقبل إِلَى البصرة أن يكون فِي أخريات النَّاس فيهدم القناطر، ويقطع الجسور، وضم إِلَيْهِ جماعة ففعل سفيان ذَلِكَ، وَكَانَ نزول الحجاج الزاوية يوم الخميس لسبع ليال بقين من ذي الحجة سنة إحدى وثمانين، وَكَانَ عياش بْن الأسود بْن عوف الزهري حين بلغه أمر ابْن الأشعث جمع بسوق الأهواز رجالا ثُمَّ أتاه ومحمد بْن الأسود فكانا مَعَهُ، وَكَانَ أول من دخل البصرة هميان بْن عدي السدوسي، وَكَانَ شجاعا، وَكَانَ الحجاج قد حبس امرأته فِي قصر المجيزين، وهي أم بكر من ولد شقيق بْن ثور السدوسي، وَكَانَ مَعَهُ قوم نصروه فأخرجوها وقوما كانوا محبوسين مَعَهَا، فَقَالَ الشاعر:
فمن للمرهقين إذا استجاروا ... ونادى المحصنات أبا جرير
وهي كنية هميان، وعارض سفيان بْن الأبرد هميان حين أخرج امرأته من محبسها فقاتله حَتَّى دخل ابْن الأشعث والناس.
وَقَالَ زادا نفروخ بْن تيرى المجوسي كاتب الحجاج: إنك إن منعتهم من دخول البصرة حاربوك بجد واجتهاد لطول غيبتهم عَن أوطانهم، وإن أنت تنحيت وتركتهم فرجعوا إِلَى أهليهم قل من يحاربك منهم.(7/324)
يوم الزاوية
قالوا: ودعا ابْن الأشعث بعباد بْن الحصين وقد كبر وفلج فَقَالَ: أشر علي بالرأي فَقَالَ:
يَا ليتني فيها جذع ... أخب فيها وأضع
أرى أن تخندق عَلَى المربد وما يليه، ثُمَّ تدعهم حَتَّى يخرجوا من معسكرهم بالزاوية فيأتوك معيين كالين، ويخرج النَّاس إليهم نشاطى جامين، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عامر بْن مسمع، وَكَانَ قد صار إِلَيْهِ وَكَانَ قبل قدومه عَلَى شرطة البصرة، وبشر بْن مُحَمَّد بْن الجارود وعَبْد الحميد بْن منذر بْن الجارود: أنخندق عَلَى تميم ونترك دورنا ودور الأزد، فخندق ناس من النَّاس عَلَى مَا يليهم، وخندق ابْن الأشعث، ولم يبلغ فِي الحفر وخندق الحجاج عَلَى عسكره، وخرج سورة بْن أبجر إِلَى الحجاج فصار مَعَهُ، وخرج إِلَى ابْن الأشعث رجل من أَهْل الشام يقال لَهُ نويرة الحميري، وَكَانَ شجاعا، فصار مَعَهُ، وَكَانَ قوم من أصحاب الحجاج يخرجون فيناوشون قوما من أصحاب ابْن الأشعث، ثُمَّ إن الحجاج ضم إِلَيْهِ خيله، وجعلت الرجال تأتيه من عند عَبْد الْمَلِكِ عَلَى البريد والإبل والدواب، وكتب كل واحد منهما ترد عَلَى صاحبه فِي كل يوم، وَقَالَ الحريش بْن هلال السعدي لعَبْد الرَّحْمَنِ: علام تدع الحجاج يأتيه كل يوم مدد من أَهْل الشام، عاجله.
قبل أن يكثر جمعه، فَقَالَ ابْن الأشعث: إن اللَّه جل وعز قد جمع كلمتكم، وأعز دعوتكم فاخرجوا إليهم فجاهدوهم عَلَى اسم اللَّه عز وجل، فخرج(7/325)
وخرج النَّاس، فجعل عَلَى الميمنة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوسجة الهمداني وعلى الميسرة الحريش بْن هلال السعدي وعلى مجففته [1] طفيل بْن عامر بْن واثلة وتيحان البكري ثُمَّ التميمي، وعلى الرجالة زياد بْن مقاتل بْن مسمع، وخرج الحجاج إليهم وعلى ميمنته سفيان بْن الأبرد الْكَلْبِيّ وعلى ميسرته أيوب بْن الحكم بْن أَبِي عقيل الثقفي، فَقَالَ الحجاج لأصحابه: يَا أَهْل الشام إنكم عَلَى الحق، فاصبروا صبر المحق، فإن اللَّه عز وجل مَعَ الحق، والناكث المبطل أولى بالفرار، ثُمَّ إنهم اقتتلوا قتالا شديدا، فجعل الشاميون يقولون للحجاج: لو صبرت حَتَّى يجيء مدد أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، فيقول: لو كنت مبطلا انصرفت، وجعل العراقيون يدخلون عسكر الحجاج حَتَّى بلغوا بيت ماله وسجنه، وانهرم عنه أَهْل بيته ثُمَّ رجعوا إِلَيْهِ، وجاء مولى لقيس بْن الهيثم السلمي يقال لَهُ توبة إِلَى الحجاج وهو يظنه ابْن الأشعث لكثرة من رأى فِي عسكره من العراقيين. فَقَالَ: أقر اللَّه عينك أيها الأمير، الحمد لله الَّذِي أخزى الحجاج، فَقَالَ الحجاج: اقتلوه لعنه اللَّه فقتل، ثُمَّ إن الحجاج جثا عَلَى ركبتيه، وثاب أصحابه إِلَيْهِ، وحمل سفيان عَلَى النَّاس فهزمهم، فَقَالَ: زباد بْن عَمْرو العتكي للحجاج: قد هزموا والحمد لله عَلَى عونه، وَكَانَ مَعَهُ.
وقتل فِي المعركة يوم الزاوية عَلَى مَا ذكر هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ: عياش بْن الأسود بْن عوف الزهري، ويقال بل أسر بهراة من خراسان وأتي بِهِ الحجاج
__________
[1] أي الذين لبسوا التجافيف جمع تجفاف، والتجفاف آلة للحرب، يلبسه الفرس والإنسان ليقيه في الحرب. القاموس.(7/326)
فقتله وقتل مُحَمَّد بْن الأسود أخوه، وقتل عقبة بْن عَبْد الغافر الأزدي، وقتل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوسجة أَبُو سفيان، وقتل عَبْد اللَّهِ بْن عامر بْن مسمع، وقد كَانَ عَلَى شرط الحجاج بعد زياد بْن عَمْرو، حين غضب عَلَى زياد، فلما أتي الحجاج براسه قَالَ: والله مَا كنت أرى هذا فارقني، وقتل الطفيل بْن عامر بْن واثلة الكناني، وَكَانَ قد قَالَ:
ألا أبلغ الحجاج أن قد أظله ... عذاب بأيدي الْمُؤْمِنِينَ مصيب
فمر بِهِ الحجاج، وهو فِي القتلى، وقد كَانَ بلغه شعره، فَقَالَ: تمنيت لنا أمرا كَانَ فِي العلم أنك أولى بِهِ، فعجل اللَّه عز وجل ذَلِكَ لك فِي الدنيا، وهو معذبك فِي الآخرة وَكَانَ قتالهم يوم الأحد، وَكَانَ البراء بْن قبيصة بْن أَبِي عقيل مَعَ الحجاج فانهزم مَعَ من انهزم من أَهْل بيته، وفارقوه فِي صدر يوم الأحد فرجعوا إِلَيْهِ جميعا، إلا البراء فإنه مضى إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فعاذ بِهِ، فَقَالَ الحجاج: والله لا آمنته إلا أن أضربه ضربة بالسيف أخذت مَا أخذت، وأبقت مَا أبقت، فَقَالَ البراء فِي أبيات:
أخوف بالحجاج يومأ ومن يكن ... طريدة ليث بالعراقين يفرق
كأن فؤادي بين أظفار طائر ... من الخوف في جو السماء محلق
وكان امرأ قد كنت أعلم أنه ... مَتَى مَا يَعِدْ من نفسه الشر يصدق
وصبر آل سعيد بْن العاص مَعَ الحجاج، فَقَالَ ابْن موهب، كاتب الحجاج ومولاه، واسمه عبيد:
لعمري لقد فر البراء وابن عمه ... وفرت قريش غير آل سعيد
يعني مصعب بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي عقيل، وَكَانَ عنبسة بْن سعيد أيضا جال جولة، ثُمَّ رجع إِلَى الحجاج من ساعته فلم يفقده، وظفر الحجاج(7/327)
بأهل الزاوية حين فاء الفيء يوم الأحد، وأقبل إِلَى البصرة فقاتله النَّاس قتالا شديدا عَلَى أفواه السكك، فَقَالَ الحجاج: دعوهم فإنهم منهزمون والآن يتفرقون، وانصرف عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، واستخلف عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب وَقَالَ لَهُ: قاتل بالناس فإن عندهم قتالا شديدا، ولهم نشاط، فإني منصرف إِلَى الْكُوفَة وممدك بالرجال ووثب أَهْل البصرة إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس فبايعوه عَلَى الصبر، فقاتل بهم الحجاج، ثُمَّ انصرف وكانت تلك الفعلة من ابْن الأشعث هزيمة، وَكَانَ يقول: إنما انصرفت وفي الناس فضل، وعندهم قتال لأنه بلغني أن مطر بْن ناجية الرياحي وثب بالكوفة، فغاظني أن أكون فتحت بابا دخل مطر منه، وأن يكون إنما قدر عَلَى الوثوب بي فيكون لَهُ صوت معي، فأريد أن ألحقه فأحول بينه وبين إرادته، فأقبل عَبْد الرَّحْمَنِ نحو الْكُوفَة فِي ألف من أهلها، وقاتل ابْن العباس آخر يوم الأحد، ويوم الاثنين، ويوم الثلاثاء ويوم الأربعاء، وليلة الخميس وهي ليلة الهرير، وصبر أَهْل البصرة عَلَى قتال الحجاج عَلَى أفواه السكك، وفقد ابْن الأشعث فأمر الحجاج فرفعت راية أمان وناداهم أصحاب الحجاج بأمره: ثكلتكم أمهاتكم علام تقاتلون وقد ترك صاحبكم القتال ومضى، فدخلوا فِي الأمان وتفرقوا، وخرج ابْن العباس ومن مَعَهُ من أَهْل الْكُوفَة والأقوياء من أَهْل البصرة حَتَّى لحق بابن الأشعث، وجاء الحجاج حَتَّى دخل البصرة، فنادى مناديه: يَا أَهْل الشام لا تنزلوا البصرة، ونزل هو دار المهلب فرأى عندها جماعة نسوة، فَقَالَ: إن هؤلاء النسوة لجأن إلي وخشين أن يدخل عليهن، فليرجعن فنحن أغير عليهن من أزواجهن وَقَالَ حميد الأرقط فِي ابْن عبد(7/328)
الرَّحْمَنِ بْن سمرة، وَكَانَ أعور، وذلك فِي أيام الزاوية.
يَا أعور العين فديت العورا ... لا تحسبن الخندق المحفورا
يدفع عنك القدر المقدورا ... ودائرات الدهر أن تدورا
وصعد الحجاج المنبر فذكر اللَّه عز وجل بما هو أهله، ثُمَّ قَالَ: إن اللَّه عز وجل لم ينصركم يَا أَهْل الشام عَلَى عدوكم، لأنكم أكثر منهم عددا، وأظهر قوة، ولقد كانوا أثرى منكم وأقوى وهم فِي بلادهم، ومادتهم تأتيهم من مصرهم وبيوتهم، فهم يستندون إِلَى ذَلِكَ ويعتصمون بِهِ، ولكنكم كنتم أَهْل الطاعة، وكانوا أَهْل المعصية، فنصركم اللَّه عز وجل بغير حول منكم ولا قوة فاحمدوا اللَّه عز وجل عَلَى نعمه ولا تبغوا ولا تظلموا، وإياكم أن يبلغني أن رجلا منكم دخل بيت امرأة فلا يكون لَهُ عندي عقوبة إلا السيف، أنا الغيور ابْن الغيور لا أداهن فِي الريبة، ولا أصبر عَلَى الفاحشة.
قالوا: وأصابت الحريش يومئذ جراحة، وَكَانَ يقاتل قتالا شديدا ويقول:
أنا الحريش وَأَبُو قدامه ... أضرب بالسيف مقيل الهامة
أشجع من ذي لبد ضرغامه
وأتى سفوان [1] فمات من جراحته.
__________
[1] سفوان: ماء على قدر مرحلة من باب المربد بالبصرة.(7/329)
وقالت حميدة ابنة مقاتل ترثي أخاها زياد بْن مقاتل بْن مسمع:
يَا عين جودي ولا تفتري ... وبكي رئيس بني جحدر
ولما تولت جموع العراق ... وأسلم من كَانَ فِي العسكر
وحامى زياد عَلَى قومه ... وفر محامي بني العنبر
فسمعها البلتع وَكَانَ يبيع سمنا لَهُ عند بعض بني العنبر فأتزر بكسائه، وجاء حَتَّى قام عندها وهو يقول:
علام تلومين من لم يلم ... تطاول ليلك من مقصر
فقد تبطح الخيل تحت العجاج ... غير الشهيد ولا المعذر
ونحن منعنا لواء الحريش ... وطاح لواء بني جحدر
ورجع إِلَى أصحابه فقال: قد شفيتكم منها.
وَقَالَ عامر بْن واثلة، أَبُو الطفيل يرثي ابنه:
خلى طفيل عَلَى الهم فانشعبا ... فهد ذَلِكَ ركني هدة عجبا
وابني سهيمة لا أنساهما أبدا ... فيمن نسيت وكل كَانَ لي نصبا
وأخطأتني المنايا لا تطالعني ... حَتَّى كبرت فلم يتركن لي شذبا
فِي أبيات.
وولى الحجاج الحكم بْن أيوب البصرة فِي صفر، واتبع ابْن الأشعث، وسلك طرق البر وَكَانَ زادا نفروخ بْن تيرى مستخفيا بالبصرة، فخرج من دار إِلَى دار فقتله بعض من رآه من أصحاب ابْن الأشعث، فاستكتب الحجاج مكانه ابنه مردانشاه.(7/330)
أمر مطر بْن ناجية الرياحي
قالوا: وَكَانَ مطر عامل الحجاج على المدائن وناحيتها، فأتى الْكُوفَة فَقَالَ حين نزل من المنبر: إن ابْن الأشعث قد هزم أَهْل الشام، فهلموا نخرج من عندنا منهم، فكثرت تابعته، وجاء حَتَّى أحاط بالقصر، وفيه عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ بْن عامر الحضرمي، عامل الحجاج عَلَى الْكُوفَة، وهو فِي أربعة آلاف من أَهْل الشام، ويقال فِي ألفين، فأشرفوا عليه وصالحوه على أن يجلوا ويخلوا القصر والمصر، وكان يونس بن أبي إسحق يحدث أن مطرا لما أراد دخول القصر زحمه بغل فضربه بسيفه فقطع جحفلته، ثُمَّ قَالَ: اللهم أخزه زحمني وقد آمنت صاحبه، فأعطاه بغلا مكانه، وأسلف النَّاس مائتي درهم مائتي درهم، وصحت عنده هزيمة ابْن الأشعث، فخطب النَّاس فَقَالَ: إن ابْن مُحَمَّد قد هزم، وأنا لكم مكانه، أقوم مقامه، فبايعه نفر من قومه قليل، وأمسك النَّاس، فلم يبايعوه، فلما رأى ذَلِكَ دخل القصر، ثُمَّ خرج بالعشي فَقَالَ: أيها النَّاس إن ابْن مُحَمَّد لقي الحجاج بالزاوية إِلَى جانب البصرة، فاقتتلوا قتالا شديدا، ثُمَّ تحاجزوا فنظروا فإذا ابْن مُحَمَّد مفقود، لا يدري أفي الأحياء هو أم فِي الأموات، فثار(7/331)
النَّاس عند ذَلِكَ إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب فبايعوه، فعهد العاهد بِهِ وقد حصر الحجاج وظهر عَلَيْهِ، فقوموا فبايعوا لَهُ، فإنه رجل من قريش ثُمَّ من بني هاشم من أَهْل بيت نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقام إِلَيْهِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي ليلى فبايعه، ثُمَّ بايعه حمزة بْن المغيرة بْن شعبة، ثُمَّ إنه دخل وأمر مطر بْن أَبِي ليلى أن يبايع النَّاس ففعل، فَقَالَ صدقة وتوبة ابنا عبيد اللَّه بْن الحر الجعفي: مَا هذه البيعة؟ نحن عَلَى بيعتنا الأولى، ويقال إنهما ضربا وجه ابْن أَبِي ليلى بحصى كَانَ معهما وقالا: نحن عَلَى بيعتنا التي بايعنا عَلَيْهَا صاحبنا حَتَّى ننظر مَا صنع، وقام ناس كثير فَقَالُوا مثل ذَلِكَ وصاحوا بابن أَبِي ليلى أنزل فنزل، وسمع ابْن ناجية الصوت فَقَالَ: مَا هذا؟ قالوا لَهُ: قد اختلف النَّاس، فرجع إليهم فَقَالَ: أيها النَّاس أنا رجل منكم فمن استقمتم لَهُ ورضيتم بِهِ وبايعتموه بايعته، فسكن النَّاس، وأقبل ابْن الأشعث وسمع النَّاس بمجيئه، فخرجوا إِلَيْهِ يستقبلونه.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: أقبل ابْن الأشعث من سجستان وقد خلع فنزل الخريبة بالبصرة، فخندق عَلَى عسكره، واقتتل هو والحجاج بالزاوية، وبلغ ابْن الأشعث أن مطر بْن ناجية قد أخذ الْكُوفَة، فدعا خاصته فأعلمهم أنه يريد الْكُوفَة، واستخلف عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس بْن ربيعة، وسار فِي نحو من ألف ففقد وقاتل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عباس بالبصرة خمسة أيام، ثُمَّ انهزم وقدم ابْن الأشعث الْكُوفَة.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ عَن أَبِي مخنف وغيره: لما خرج النَّاس لتلقي ابْن الأشعث فرأى كثرة من استقبله عدل عَن الطريق كراهة أن يروا من مَعَهُ من(7/332)
الجرحى، وجعل أصحابه يقولون: إن اللَّه عز وجل قد أخزى الحجاج وهزمه وفرق جمعه، وأقبل حَتَّى نزل عند دار فرات بْن مُعَاوِيَةَ وَقَالَ: لا والله لا أبرح ولا أدخل منزلي حَتَّى أستنزل مطرا، ثُمَّ جلس فِي أصحاب الخلقان، فرآه رجل من بني أسد يقال لَهُ عَبْد اللَّهِ فَقَالَ: مَا أخلق هذا الرجل لأن يخلق أمره، وجاء النَّاس إِلَيْهِ من كل مكان، وسبقت إِلَيْهِ همدان بالناس، وكانوا أخواله وتفرق النَّاس عَن ابْن ناجية، وأراد قوم من بني تميم أن يقاتلوا عنه، فلم يطيقوا ذَلِكَ، فأمسكوا، وَقَالَ ابْن الأشعث: كفوا عنه ولا تقتلوه وأتوني بِهِ سليما، فدعا النَّاس بالسلاليم، فوضعت عَلَى القصر، وصعدوا فأخذ فأتي بِهِ ابْن الأشعث، فَقَالَ لَهُ: استبقني فإني أفضل فرسانك وأعظمهم غناء عنك، فأمر بِهِ إِلَى الحبس ثُمَّ دعا بِهِ بعد ذَلِكَ فبايعه: فَقَالَ الأقيشر الأسدي:
ابني تميم مَا لمنبر ملككم ... لا يستقر فعوده يتمرمر
يبكي إذا مطر علا أعواده ... شم الكرام وَقَالَ مَا قد ينكر
إن المنابر أنكرت أشباهكم ... فادعوا خزيمة يستقر المنبر
قوم رأيت اللَّه ينصر دينهم ... عند اللقاء ودينكم لا ينصر
خلعوا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وبايعوا ... أحواك كندة بيعة لا تظفر
بايعتم مطرا وكانت هفوة ... خلف لعمرك من أمية أعور [1]
قالوا: ودخل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث القصر، وجاءه النَّاس من كل أوب، وأتاه أَهْل البصرة، وتقوضت إِلَيْهِ المسالح، وجاءه
__________
[1] ديوان الأقيشر الأسدي- ط. بيروت 1991 ص 39، وورد في الديوان أربعة أبيات فقط مع فوارق.(7/333)
قوم من الثغور، ولحق بِهِ عَبْد الرَّحْمَنِ بن العباس بْن ربيعة بْن الحارث بْن عَبْد المطلب فِي جماعة من فرسان أَهْل البصرة ووجوههم ممن لم يأمن الحجاج، ولم يثق بأمانه، وتلاحق بِهِ أصحابه، وقام الحجاج بالبصرة خطيبا فَقَالَ: إنكم خالفتم وعصيتم وأحللتم بأنفسكم، فعفوت عنكم، وقد قدرت، وأنا أقسم لكم بالله لئن عدتم لمثل فعلكم لأقتلن مقاتلتكم ولأحربنكم بأموالكم.
وأقام فيما يقال بالبصرة نحوا من شهر، ثُمَّ خرج منها إِلَى الْكُوفَة ومعه زياد بْن عمرو العتكي، فرفع إِلَى الحجاج أن عند زياد ثقل عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ بْن المغفل ونجائبه وإبله، فسأله الحجاج عَن ذَلِكَ فأقر بِهِ، وَقَالَ:
أصلح اللَّه الأمير كَانَ رجلا من قومي، فو الله مَا شعرت بشيء حَتَّى رأيته فِي داري وثقله، فاستحييت منه، وخرج هاربا، وكانت مليكة بنت يَزِيد بْن المغفل أخته امرأة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، قَالَ: أفتؤوي ثقله، وقد عرفت عداوته لي وللمسلمين، فأين ثقله الآن؟ قَالَ: ألحقته بِهِ، إلا مَا لا بال بِهِ، فشده فِي الحديد، وخرج بِهِ مَعَهُ، فبعث زياد ابنه الحواري بْن زياد إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فأعلمه علمه، فكتب إِلَى الحجاج: «أما بعد فإنه بلغني أنك حبست زياد بْن عَمْرو العتكي، وليس مثل زياد حبس، ولا ظن بِهِ سوء، فخل سبيله حين يأتيك كتابي، فإنه من أَهْل السمع والطاعة والمناصحة قديما، والسلام» .
فخلى سبيله وهو بدير الجماجم.(7/334)
خبر دير الجماجم
قالوا: سار الحجاج من البصرة فِي البر فمر بين القادسية والعذيب، فبعث ابْن الأشعث إِلَيْهِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس فِي خيل أَهْل الْكُوفَة والبصرة. وَكَانَ ابْن الأشعث جمع بالبصرة سلاحا كثيرا وتجافيف، فسار ابْن العباس إِلَيْهِ فِي خلق من المجففة فمنعوه من نزول القادسية، وبلغه كثرة من مَعَ ابْن الأشعث واجتماعهم عَلَى قتاله فارتفع عنهم، وسايروه حَتَّى نزل دير قرة [1] . وَكَانَ قد عزم عَلَى الارتفاع نحو الجزيرة ليقرب من عَبْد الْمَلِكِ ولا يكون بينه وبينه أحد يتخوفه، فلما صار إِلَى دير قرة قَالَ: والله مَا بهذا المنزل بين أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وأهل الشام بعد، ولا أحد يحول بيني وبينهم ولا أتخوف أن يأتيني من ورائي أحد، وإني لفي رساتيق من الفلوجة وبالقرب من عين التمر، وأرجو أن تحملنا هذه الرساتيق، ولنزولي مَعَهُمْ فِي بلادهم أشد عليهم من نزولي نائيا عنهم.
__________
[1] قريب من دير الجماجم، على طرف من البر، ودير الجماجم مما يلي الكوفة. معجم البلدان.(7/335)
فنزل بدير قرة، ونزل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس بدير الجماجم، وخرج ابْن الأشعث حَتَّى صار إِلَى دير الجماجم فعسكر فَقَالَ الحجاج: نزلنا بدير قرة ونزل عدو اللَّه بدير الجماجم أفما أتفاءل بهذا، وخندق الحجاج عَلَى نفسه، وخندق ابْن الأشعث أيضا عَلَى نفسه.
واجتمع قراء أَهْل الْكُوفَة إِلَى جبلة بْن زحر الجعفي فجعلوه رئيسا عليهم، وَكَانَ الحجاج كتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ حين قدم من البصرة فخبره بكثرة أَهْل العراق وجدهم واجتماعهم عَلَى حربه، فسرح إِلَيْهِ عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الْمَلِكِ ابنه فِي عشرين ألفا من أَهْل الشام، ومحمد بْن مروان أخاه فِي عشرين ألفا من أَهْل الجزيرة، فوافوا الحجاج بدير قرة بعد تضييق أَهْل العراق عَلَيْهِ، فلما قدموا عَلَيْهِ قوي أمره وروخي من خناقه.
ولم يكن بين الفريقين قتال قبل قدوم عَبْد اللَّهِ ومحمد، إلا أن أَهْل العراق كانوا يأتون عسكر الحجاج فيكون بينهم تناوش عَلَى خندقه عند أبوابه فِي غير تزاحف.
وَكَانَ من قبل عَبْد الْمَلِكِ من وجوه النَّاس من قريش وغيرها قالوا لَهُ:
إذا كَانَ رضا أَهْل العراق بعزل الحجاج فاعزله عنهم تخلص لك طاعتهم وتحقن دماءهم ودماء أَهْل الشام. فَقَالَ لابنه: إذا اجتمعت ومحمدا عمك فاعرض عَلَى أَهْل العراق أن تعزل الحجاج عنهم، وتجري عليهم أعطياتهم كما تجري عَلَى أَهْل الشام، وتجري عَلَى ذريتهم كما تجري عَلَى ذرية أَهْل الشام، وأن ينزل ابْن الأشعث أي بلد شاء ويكون عَلَيْهِ واليا مَا دام حيا، فإن قبلوا ذَلِكَ كَانَ مُحَمَّد بْن مروان الأمير عليهم، وإن أبوا فالحجاج أمير عليك وعلى مُحَمَّد والناس.(7/336)
وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ كتب إِلَى مُحَمَّد بْن مروان فِي المسير إِلَى العراق من الجزيرة لأنه كَانَ عامله عَلَيْهَا، وكتب إِلَيْهِ بمثل مَا أوصى بِهِ ابنه عَبْد اللَّهِ، وقوم يزعمون أن محمدا كَانَ حاضرا فأوصاه مشافهة، والأول أثبت.
قالوا: فلما قدم عَبْد اللَّهِ ومحمد عَلَى الحجاج، وقد أوصيا بما أوصيا بِهِ، اشتد ذَلِكَ عَلَى الحجاج فكتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ: والله لئن أعطيت أَهْل العراق مَا يحبون من نزعي، وعرفوا أنك تحب مداراتهم لم يلبثوا إلا قليلا حَتَّى يخالفوك ويسيروا إليك، ألم تسمع بوثوب أَهْل الْكُوفَة عَلَى عثمان، فلما سألهم عما يريدون قالوا: نزع سعيد بْن العاص، فلما نزعه لم تتم لهم السنة حَتَّى ساروا إِلَيْهِ فقتلوه، وإن بعض الشدة أبلغ فِي السياسة وأحزم فِي الرأي فإن الحديد بالحديد يفلح، خار اللَّه لك فيما ارتأيت.
وأبى عَبْد اللَّهِ إلا عرض هذه الخلال عَلَى أَهْل العراق طلبا للعافية، فخرج عَبْد اللَّهِ ومحمد حَتَّى وقفا عَلَى عسكر أَهْل العراق فَقَالَ لهم: أنا عَبْد اللَّهِ ابْن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، وهذا عمي مُحَمَّد بْن مروان، وإن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يعطيكم كذا وكذا، وأدى رسالة أبيه، فَقَالُوا: ترجع العشية لنعرفك رأينا.
ثُمَّ اجتمعوا إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، فَقَالَ لهم: إنكم قد أعطيتم مَا سمعتم فاقبلوا مَا عرض عليكم وأنتم أعزاء أقوياء، إن كانوا قد نالوا منكم يوم الزاوية قبلا فقد نلتم منهم يوم تستر مثله، وهذه فرصة لكم فانتهزوها.(7/337)
فوثب النَّاس من كل جانب فَقَالُوا: إن اللَّه قد أهلكهم فأصبحوا فِي الأزل والضنك والمجاعة والقلة والذلة، ونحن ذوي العدد الكثير والمادة القريبة، لا والله لا نقبل، وأعادوا حلفا ثانيا.
وَكَانَ إجماعهم عَلَى خلع عَبْد الْمَلِكِ بدير الجماجم أكثر من اجتماعهم عَلَى خلعه قبل ذَلِكَ، فرجع عَبْد اللَّهِ ومحمد إِلَى الحجاج فقالا: شأنك بعسكرك وجندك فاعمل برأيك فإنا قد أمرنا أن نسمع ونطيع لك، فكانا يسلمان عَلَيْهِ بالإمرة ويسلم عليهما بالإمرة أيضا، وخلياه والحرب، فعبأ جنده، وعبأ ابْن الأشعث جنده فجعل عَلَى خيله عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس الهاشمي، وعلى القراء جبلة بْن زحر الجعفي، وَكَانَ فِي القراء عامر الشَّعْبِيّ وسعيد بْن جبير مولى بني أسد وقوم يقولون إنه مولى سعيد بْن العاص وذلك باطل.
وَكَانَ الحجاج وجهه عَلَى نفقات جيش الطواويس، فصار مَعَ ابْن الأشعث بعد، وَأَبُو البختري الطائي واسمه سعيد بن فيروز مولى بني نبهان.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: اسمه سعيد بْن جبير، وَقَالَ علي بْن المديني:
اسمه سعيد بْن عمران. وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي ليلى الأَنْصَارِيّ، ومسلم بْن يسار مولى طلحة بْن عبيد اللَّه من بني تيم من قريش، وعَبْد اللَّهِ بْن غالب الجهضمي من الأزد، وعقبة بْن وساج البرساني من الأزد، وَأَبُو صالح ماهان الحنفي، ومحمد بْن سعد بْن أَبِي وقاص، فجعلوا يتزاحفون فمرة ينتصفون ومرة يكون لهؤلاء ومرة لهؤلاء، وَكَانَ أَهْل العراق فِي خصب وأهل الشام فِي غلاء من السعر وضر، وَكَانَ ابْن الأشعث قد بعث عَبْد اللَّهِ بْن(7/338)
إِسْحَاق بْن الأشعث، لحشر النَّاس من الْكُوفَة، فأخرج جعفر بْن عَمْرو بْن حريث، وبعض آل أَبِي معيط إِلَى عسكر ابْن الأشعث، وأمر كميل بْن زياد أن يحرض النَّاس فأخرج وهو شيخ كبير فحمل حَتَّى أقعد عَلَى المنبر دون عَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق بدرجتين فخطب خطبة طويلة يقول فيها: إنكم قد غلبتم عَلَى فيئكم وبلادكم، ولقد فتح اللَّه عليكم الموصل وأداني الجزيرة وجميع آذربيجان وأرمينية ثُمَّ انتزعها منكم مُعَاوِيَة، فجعل عليكم غزوها وجعل لأهل الشام خراجها، إنه والله لا ينفي عنكم الظلم والعدوان إلا التناصح والتأسي، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البين، والصبر عَلَى الطعان بالرماح والضرب بالسيوف، إنكم يَا أَهْل العراق منيتم بشر أَهْل بيتين فِي العرب: بآل الحكم بْن أَبِي العاص بْن أمية وآل أَبِي عقيل، فتباذلوا وتناصحوا وتواسوا بالأنفس والأبدان.
قالوا: ولم تكن كتيبة أشد عَلَى أصحاب الحجاج من كتيبة القراء، لأنهم كانوا يحملون فلا يكذبون، ويحمل عليهم فلا يبرحون.
ثُمَّ إن الفريقين تعبوا فعبأ الحجاج لكتيبة القراء ثلاث كتائب وبعث عَلَيْهَا الجراح بْن عَبْد اللَّهِ الحكمي، فحمل أَهْل الشام عليهم ثلاث حملات، ثُمَّ قَالَ ابْن أَبِي ليلى: إن الفرار قبيح، وليس هو بأحد من النَّاس أقبح بِهِ منكم فإني سمعت عَلِيًّا رفع اللَّه درجته فِي الصالحين وأثابه أحسن ثواب الشهداء الصديقين يقول: [من أنكر منكرا بقلبه فقد برئ منه، ومن أنكره بلسانه أجر، ومن أنكره بالسيف فقد أصاب سبيل الهدى، ونور قلبه باليقين، قاتلوا هؤلاء المحلين المبتدعين الذين جهلوا الحق فليس يعرفونه، وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.](7/339)
وقال أبو البختري الطائي: قاتلوهم فو الله لئن ظهروا عليكم ليفسدن دينكم وليغلبنكم عَلَى دنياكم.
وَقَالَ الشعبي: قاتلوهم فو الله مَا أعلم أحدا عَلَى بسيط الأرض أجور منهم فِي حكم، ولا إغلاء فِي ظلم لا تركا ولا ديلما.
وَقَالَ سعيد بْن جبير: قاتلوهم بنية ويقين ولا تتأثموا فِي قتالهم، فعلي كل إثم يدخل عليكم فِي ذَلِكَ، قاتلوهم عَلَى جورهم فِي الحكم وتجبرهم فِي الدين واستذلالهم الضعفاء، وإماتتهم الصلاة.
قَالَ: ثُمَّ تهيأوا للحملة، فَقَالَ جبلة بْن زحر: احملوا حملة صادقة.
فحملوا فضربوا الكتائب الثلاث حَتَّى أزالوهم، فوجد جبلة بْن زحر صريعا لا يدري من قتله فهدهم ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو البختري: إنما كَانَ ابْن زحر رجلا منكم فاعتصموا بالصبر وارجعوا إِلَى اللَّه فِي الأمر. ويقال إن الحارث بْن جعونة العامري طعن جبلة فقتله.
وحمل الحجاج رأس جبلة عَلَى رمحين وَقَالَ: مَا كانت فتنة قط فخبت حَتَّى يقتل فيها رجل من أَهْل اليمن، وقتلت جماعة من القراء.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ عَن أَبِي مخنف وعوانة: كَانَ قتالهم بالدير مائة يوم، ثُمَّ اقتتلوا فهزموا، وضعف أمر ابْن الأشعث، وقتل أَبُو عيسى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي ليلى، ويقال إنه قتل يوم دجيل الأهواز، وَأَبُو البختري وابن شداد بْن الهاد، ويقال يوم دجيل أيضا، ويقال إن أبا البختري قتل يوم دجيل أيضا.
قالوا: وَكَانَ بسطام بْن مصقلة بْن ميسرة الشيباني بالري فلما بلغه خلع النَّاس وابن الأشعث، قام ابْن مصقلة خطيبا فَقَالَ: إن عبد(7/340)
الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث قد خلع الحجاج وعَبْد الْمَلِكِ وأخرج الحجاج من العراق فانصرفوا إِلَى نسائكم وأولادكم، فتصدع النَّاس وتركوا قتيبة، ووثبت ربيعة إِلَى بسطام، وصار أَهْل اليمن إِلَى جعفر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف فبقي قتيبة ليس مَعَهُ أحد، وخاف أن يحارب فلما انصرفوا عنه وتركوه ولم يقاتلوه سر بِذَلِكَ.
وأقبل بسطام مسرعا حَتَّى أتى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بالجماجم، فيقال إن قتيبة استخلف عَلَى عمله وسار يستقري الجبال ويسكن النَّاس والدهاقين حَتَّى صار إِلَى عكبرا، وكتب إِلَى الحجاج يعرفه خبره فكتب إِلَيْهِ، قد وفيت وسمعت وأطعت ونصحت فأقبل إلي، فصار إِلَيْهِ، ثُمَّ رده حين كثرت عنده الأمداد.
ويقال: إنه لم يبرح من الري، وَكَانَ بسطام بدير الجماجم عَلَى ربيعة، فاقتتلوا فحمل حَتَّى دخل عسكر الحجاج فسبى نحوا من ثلاثين امرأة من بين أمة وسرية، فلما دنا من عسكر ابْن الأشعث خلاهن، فَقَالَ الحجاج: أولى لَهُ، أما والله لو لم يفعلها لسبيت غدا نساءهم إذا ظهرت عليهم.
وَكَانَ أَبُو البختري وسعيد بْن جبير يقولان: وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نؤته منها وسنجري الشاكرين [1] ثم يحملان.
__________
[1] سورة آل عمران- الآية: 145.(7/341)
حَدَّثَنِي يوسف بْن موسى، ثنا جرير بْن عَبْد الحميد عَن معين عَن البزيغ بْن جبلة وخالد الضبي قَالَ: سمعت الحجاج خطب عَلَى المنبر فَقَالَ: أخليفة أحدكم فِي أهله أكرم عَلَيْهِ أم رسوله فِي حاجته؟ فَقَالَ:
قلت: علي لله ألا أصلي خلفك أبدًا، وإن رَأَيْت قومًا يجاهدونك أن أجاهدك. فخرج فِي الجماجم فقتل.
وَقَالَ أَبُو المخارق الراسبي: قاتلناهم مائة يوم أعدها، نزلنا دير الجماجم مَعَ ابْن الأشعث غداة يوم الثلاثاء فِي شهر ربيع الأول سنة ثلاث وثمانين، وهزمنا يوم الأربعاء لأربع عشرة مضت من جمادى الآخرة عند ارتفاع الضحى، وما كنا قط عليهم أجرأ منا فِي ذَلِكَ اليوم، خرجوا إلينا فاقتتلنا قتالا شديدا ونحن للهزيمة آمنون، وعليهم ظاهرون، ثُمَّ خرج عَلَيْنَا سفيان بْن الأبرد الْكَلْبِيّ من قبل ميمنة أصحابه، فانحط عَلَى ميسرتنا وفيها الأبرد بْن قرة التميمي فانكشف، فظن النَّاس أنه كوتب واستميل لأن الفرار لم يكن من عادته فتقوضت الصفوف لفعله، وركب النَّاس رؤوسهم بِهِ وصعد عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد منبره وجعل ينادي: عباد اللَّه، أنا عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد. وجاءه قوم فأحاطوا بِهِ فيهم بسطام بْن مصقلة وهو فارس النَّاس، وأتاه عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ بْن المغفل أخو امرأته فَقَالَ لَهُ: انزل فإن النَّاس قد ذهبوا، وإن أَهْل الشام قد كثروا، وأنا أخاف إن لم تنزل أن تؤسر، ولعلك إن انصرفت عنهم أن تجمع لهم جمعا يهلكهم اللَّه بِهِ.
وَقَالَ الحجاج حين انهزموا: لا تتبعوهم، فنزل ابْن الأشعث فخلى أَهْل العراق والعسكر ومضى مَعَ بني جعدة حَتَّى جاؤوا بِهِ قرية بني جعدة بالفلوجة، فعبروا وانتهى إليهم بسطام بْن مصقلة فَقَالَ: أفيكم ابن محمد؟(7/342)
أفيكم الأمير؟ فلم يكلموه، فأتى أهله فأوصاهم ثُمَّ خرج من الْكُوفَة فأتى المدائن ثُمَّ أتى مأمنه.
واستقبل مطر بْن ناجية النَّاس فحمل عَلَى أصحاب الحجاج فِي خيل لبني حنظلة فخرقهم حَتَّى جازهم، ثُمَّ حمل عليهم راجعا فَقَالَ الحجاج:
دعوهم لا تتبعوهم.
ثُمَّ إن النَّاس مضوا منهزمين، وجال أصحاب الخيل فِي متونها، واسودت الأرض من الرجالة، وتنحى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عباس بْن ربيعة فِي ناس، ناس كثير فقاتلوا مَعَهُ قتالا شديدا بعد ما ذهب أكثر النهار، وشغل الحجاج وأهل الشام عَن النَّاس حين انهزموا وكثرت عليهم الأسراء فقتل بعضهم وعفا عَن بعض كراهة أن يفنيهم، وَقَالَ من لثغورهم إذا ذهبوا؟
وأمر الحجاج فنودي: إن من رجع فهو آمن، ومضى حَتَّى نزل دير النساء [1] ، وَكَانَ عَلَى الْكُوفَة من قبل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد: عَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق بْن الأشعث فهرب حَتَّى لحق بعَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد، ومضى عَبْد الرَّحْمَنِ إِلَى المدائن، ثُمَّ أتى مسكن الأهواز وهي بقرب تستر، واجتمعت إِلَيْهِ فلوله من أَهْل الْكُوفَة وغيرهم وتلاوموا فِي الفرار.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي وغيره: أتى ابْن الأشعث بعد الجماجم الْكُوفَة فحمل ولده ونساءه وماله، ثُمَّ أتى المدائن فزحف إِلَيْهِ الحجاج فمضى نحو البصرة فقاتله الحجاج بفج دجيل.
__________
[1] لعل المعني هنا هو دير العذارى الذي ذكره الشابشتي في كتابه الديارات- ط. بغداد 1966 ص 107- 108.(7/343)
مقتل بسطام
وقد كَانَ بسطام بْن مصقلة لحق بِهِ، ثُمَّ إن بسطاما حلق رأسه وَقَالَ:
حَتَّى متى تكون الحياة، وقاتل وخلق مَعَهُ تبايعوا عَلَى الموت حَتَّى قتلوا جميعا، فهد ذَلِكَ ابْن الأشعث.
قالوا: وفصل ابْن الأشعث من مسكن فأمر بقنطرة وشاذروان هناك فهدما فلم تصلح القنطرة إِلَى هذه الغاية.
قالوا: ورجع مُحَمَّد بْن مروان إِلَى الجزيرة وعَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الشام، وخلوا الحجاج والعراق، فجاء حَتَّى نزل الْكُوفَة فحمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: يَا أَهْل العراق، إن الشيطان قد استبطنكم، فخالط اللحم منكم والعصب والأعضاء والأطراف، وجرى مجرى الدم ومضى إِلَى الأمخاخ والأصماخ فحشاها شقاقا ونفاقا وسوء رعة، ثُمَّ عشش فيها وباض وفرخ ودب ودرج، اتخذتموه دليلا تتابعونه وقائدا تطاوعونه فلن ينفعكم مَعَهُ تجربة ولا تعظكم وقعة ولا يحجزكم إسلام ولا يكفكم بيان، ألستم أصحابي بالأهواز حين رمتم النكر وسعيتم بالغدر واجتمعتم عَلَى الكفر، فأقسم بالله إني لأرميكم بطرفي وإنكم لتسللون متفرقين كل امرئ منكم ناكس رأسه عَلَى عنقه حذار السيف رعبا وجبنا وذلا مكنه اللَّه فِي قلوبكم، ويوم الزاوية وما يوم الزاوية بما كَانَ فشلكم وتخاذلكم وبراءة اللَّه منكم ونكوص وليكم بعد أن غركم فوليتم أستاهكم السيوف هاربين لا يسأل الشيخ عَن بنيه، ولا يلوي امرؤ عَلَى أخيه حَتَّى عضكم السلاح وأقعصتكم الرماح، ويوم دير الجماجم وما دير الجماجم، كانت الملاحم والمعارك العظام بضرب يزيل الهام(7/344)
عَن مقيله ويذهل الخليل عَن خليله، فما الَّذِي اذكر منكم يَا أَهْل العراق وما الَّذِي أتوقع وما الَّذِي استبقيكم لَهُ، إن بعثتكم إِلَى الثغور جبنتم، وإن أمنتم رجعتم، وإن خفتم نافقتم، لا تجزون بحسنة ولا تشكرون نعمة، هل استنبحكم نابح واستغواكم غاو واستخفكم ناكث واستفزكم عاص إلا بايعتموه وتابعتموه وكيفتموه وأجلبتم حوله؟! وهل شغب شاغب، ونعب ناعب، وظهر كاذب إلا كنتم أشياعه وأنصاره، يَا أَهْل العراق لم تنفعكم التحارب وتحكمكم المواعظ عَن سوء مَا أتيتم واجتنيتم، ولا انتفعتم بالعبر فِي الوقائع، ولا وزعتكم موارد الأمور ومصادرها، ثُمَّ يَا أَهْل الشام أنا لكم كالظليم المحافظ عَلَى فراخه ينفي عنهن القذر، ويباعد المدر، ويكنفهن عند المطر، ويحرسهن من الذباب. أنتم العدة والجنة إن حارب محارب وجانب مجانب، وما أنتم إلا كما قَالَ نابغة بني جعدة:
تحين المنايا بأيديكم ... ومن يك ذا أمل يكذب [1]
قالوا: ولم يدخل فِي الأمان إلا نحو من ألف، فأمر الحجاج مصقلة بْن كرب بْن رقبة العبدي بتوبيخهم وتصغير أنفسهم إليهم فجلس عَلَى كرسي يبايعهم ويوبخهم ويشتمهم، حَتَّى جاء زهير بْن مسلم الأزدي، وَكَانَ قد ولاه قبل ذَلِكَ ميسان، فَقَالَ الحجاج: يَا هؤلاء ألا أعجبكم هذا الَّذِي عهدي فِي يده ولم يجف خاتمه، ثُمَّ خرج علي.
وركب النَّاس وجوههم إِلَى المدائن حَتَّى اجتمعوا إِلَى ابْن الأشعث بمسكن وهو من الأهواز.
__________
[1] في ديوان النابغة ص 30:
وحانت منايا بأيديكم ... ومن يك ذا أجل يجلب(7/345)
وَقَالَ الهيثم: صار الحجاج إِلَى البصرة فوجه جيشا لمحاربة ابْن الأشعث وضمه إِلَى ابنه مُحَمَّد بْن الحجاج فواقعه بمسكن فقتل بسطام بْن مصقلة وجماعة بايعوه عَلَى الموت ثُمَّ بعد مسكن بالسوس ساعة من نهار، ثُمَّ إن ابْن الأشعث انهزم وأصحابه حَتَّى صاروا إِلَى سابور من فارس فاجتمعت إِلَيْهِ مَعَ أصحابه الأكراد فقاتلهم عمارة قتالا شديدا ثُمَّ إن ابْن الأشعث انهزم ومن مَعَهُ. وقاتلت الأكراد بعد مضي ابْن الأشعث عمارة قتالا شديدا عَلَى العقبة.
وأتى ابْن الأشعث كرمان فتلقاه عَمْرو بْن لقيط العبدي، وَكَانَ خلفه عَلَيْهَا، فهيأ لَهُ نزلا، وَقَالَ رجل من عَبْد القيس لابن الأشعث: والله لقد بلغنا أنك كنت جبانا؟ فَقَالَ: والله مَا جبنت، ولقد دلفت بالرجال إِلَى الرجال ولففت الخيل بالخيل، وقاتلت فارسا وراجلا وما تركت العرصة للقوم حَتَّى لم أجد مقاتلا، ولكن زاولت ملكا مؤجلا لَهُ مدة.
وأمد الحجاج عمارة بْن تميم بخيل كثيفة، وأمر محمدا ابنه بالانصراف إِلَيْهِ، وولى عمارة بْن تميم سجستان، ثُمَّ إن ابْن الأشعث فوز بمن مَعَهُ فِي مفازة كرمان، وأهل الشام يتبعونه، فدخل بعض الشاميين فضل فِي المفازة، فإذا فيه شعر كتبه بعض أصحاب ابْن الأشعث فِي صحيفة، ويقال فِي حائط:
أيا لهفي ويا حزني جميعا ... ويا حر الفؤاد لما لقينا
تركنا الدين والدنيا جميعا ... وأسلمنا الحلائل والبنينا
ألا كنا أناسا أَهْل دين ... فنصبر للبلاء إذا ابتلينا(7/346)
ألا كنا أناسا أَهْل دنيا ... فنمنعها وإن لم نرج دينا
تركنا دورنا لطغام عك ... وأنباط القرى والأشعرينا
ثُمَّ إن ابْن الأشعث سار إِلَى مدينة زرنج بسجستان وفيها رجل من بني تميم كَانَ خلفه عَلَيْهَا يعرف بالبعار، فلما علم أن ابْن الأشعث منهزم، أغلق باب المدينة دونه ومنعه من دخولها التماسا للتقرب بِذَلِكَ إِلَى الحجاج وتلافي أمره عنده، فأقام عنده، فأقام ابْن الأشعث عَلَيْهَا أياما فلما لم يصل إليها أتى بست فاستقبله عياض بْن عَمْرو السدوسي صاحبه بِهَا وَقَالَ لَهُ: انزل، فجاء حَتَّى نزل، فلما تفرق أصحابه فِي المنازل وأغفلوه وثب عَلَيْهِ فأوثقه ليأمن بِهَا عند الحجاج ويتخذ لديه مكانة.
وعلم رتبيل بمقدم ابْن الأشعث فاستقبله فِي جنوده، فلما أوثق ابْن الأشعث ذهب رجال من أصحابه يركضون حَتَّى استقبلوا رتبيل فأخبروه بما ركب عياض صاحبه منه، فجاء رتبيل حَتَّى أحاط ببست، ثُمَّ نزل وبعث إِلَى عياض فَقَالَ: والله لئن أقذيت عينه أو ضررته أدنى مضرة أو رزأته حبلا من شعر، لا أبرح حَتَّى أقتلك وجميع من معك، ثُمَّ أسبي ذراريكم.
فأرسل إِلَيْهِ: أعطنا أمانا عَلَى أنفسنا وأموالنا، ونحن ندفعه إليك سالما موفورا، فأمنهم ففتحوا الباب لابن الأشعث وخلوا سبيله.
واستأذن ابْن الأشعث رتبيل فِي قتل عياض فَقَالَ: قد أمنته، قَالَ:
فأذن لي فِي الاستخفاف بِهِ فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، فأمر أن يوجأ عنقه ثُمَّ تركه، ويقال إن رتبيل وجه من يخلص ابْن الأشعث وقدم إِلَيْهِ بعياض، ولم يتول أمره.(7/347)
ولما صار ابْن الأشعث إِلَى رتبيل أعظمه وأكرمه وقام لَهُ الأتراك ولمن مَعَهُ، ووفى بما كَانَ بينه وبينه قبل شخوصه عَن سجستان.
وقدم فلال ابْن الأشعث عَلَيْهِ من كل وجه، فاجتمع إِلَيْهِ منهم عشرون ألفا فأمروا عليهم عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس الهاشمي، وحاولوا فتح زرنج، وكتبوا إِلَى ابْن الأشعث فأتاهم فلما صار بزرنج وفتحها أخذ البعار فضربه وحبسه.
وَقَالَ أصحاب ابْن الأشعث حين قرب منهم عمارة بْن تميم بْن فروة اللخمي: أخرج بنا من سجستان ودعها لأصحاب الحجاج وائت خراسان، فَقَالَ: إن بخراسان يَزِيد بْن المهلب وهو رجل شاب شجاع ولن يترك لكم سلطانه لو دخلتموها، ولن يدع أَهْل الشام أيضا اتباعكم فأكره أن يجتمع عليكم أَهْل الشام وجند خراسان.
فَقَالُوا: إنما أَهْل خراسان منا، نرجو إن دخلتها أن يكون من يتبعك منهم أكثر ممن يقاتلك. وهي أرض طويلة عريضة نتنحى منها إِلَى حيث شئنا إن أردنا التنحي، ونقيم بِهَا إِلَى أن يهلك اللَّه عَبْد الْمَلِكِ والحجاج ونرى من رأينا.
فَقَالَ: سيروا عَلَى اسم اللَّه، فسار ابْن الأشعث بأصحابه حَتَّى قرب من هراة فلم يشعر حَتَّى فارقه عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سمرة القرشي فِي ألفين، وأخذ طريقا غير طريقهم، وجعل يفسد النَّاس عَلَى ابْن الأشعث.
وَقَالَ بعضهم: أتى البصرة بعد ذَلِكَ فغلب عَلَيْهَا ثُمَّ هرب.
وَقَالَ ابْن الأشعث لأصحابه إني قد شهدت بكم هذه المواطن فليس منها مشهد إلا وأنا أصبر لكم فيه نفسي حَتَّى لا يبقى معي منكم أحد، فلما(7/348)
رأيت أنكم لا تقاتلون ولا تصبرون أتيت ملجأ ومأمنا، فكنت بِهِ فجاءتني كتبكم بأن أقبل إلينا فقد اجتمعنا بزرنج، وأمرنا واحد، وكلمتنا مجتمعة، فأبيتم قتال عدوكم ورأيتم أن نمضي إِلَى خراسان، وزعمتم أنكم مجتمعون لي وأنكم لن تتفرقوا عني، وهذا عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سمرة قد صنع مَا رأيتم فحسبي منكم فاصنعوا مَا بدا لكم فإني منصرف إِلَى صاحبي الَّذِي أتيتكم من عنده، فمن أحب منكم أن يتبعني فليفعل، ومن كره ذَلِكَ فليذهب إِلَى حيث أحب فِي خيار من اللَّه.
فتفرقت منهم طائفة، وخرجت مَعَهُ منهم طائفة حَتَّى أتوا مَعَهُ رتبيل، وبقي عظم العسكر فوثبوا إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس الهاشمي فبايعوه.
وانتهوا إِلَى هراة فلقوا بِهَا الرقاد الأزدي فقتلوه.
وسار إليهم يَزِيد بْن المهلب فلقي عَبْد الرَّحْمَنِ بْن العباس ومعه خلق كثير فقاتلهم بهراة فهزمهم يَزِيد وفلهم وقتل خلقا منهم فما أحصوا إلا بالقصب، وأخذ رؤوس من مَعَهُمْ أسرى فكان فيهم مُحَمَّد بْن سعد بْن أَبِي وقاص وعمر بْن موسى بْن عَبْد اللَّهِ بْن معمر التيمي، وَكَانَ عَلَى شرطته بعد الجماجم، وعتبة بْن عُبَيْدِ اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سمرة بْن حبيب بْن عبد شمس، وعاصم بْن قيس التميمي.
وأسر يومئذ الهلقام بْن نعيم بْن القعقاع بْن معبد بْن زرارة بْن عدس، وعياض بْن الأسود بْن عوف الزهري، ويقال إنه قتل بالزاوية.
وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن طلحة الطلحات الخزاعي، ويقال يَزِيد بْن طلحة الطلحات. وفيروز حصين المنسوب إِلَى حصين العنبري، وَكَانَ مولاه فحبس ابْن طلحة الطلحات عنده وأمنه، وبعث بالباقين إِلَى الحجاج،(7/349)
ويقال إنه صفح عن جميع الأسراء اليمانية وبعث بمن سواهم فَقَالَ الحجاج لمحمد بْن سعد حين رآه، وَكَانَ أحول أسود: هذا ظل الشيطان، وثاب فِي كل فتنة، ألست صاحب يوم الحرة تقتل أصحابك كما تقتل عدوك، قال:
أو ليس ذاك كَانَ أحب إليك، قَالَ: أما والله لا تقاتل بعدها فِي فتنة أبدا ثُمَّ ليصلينك اللَّه نارا كلما خبت زيدت سعيرا. فَقَالَ: إن اللَّه قد أعدها لك ولقومك أكباد الحمر، وأما أنا فقد والله حشدت عليك فيمن حشد وجهدت مَعَ من جهد، وايم اللَّه مَا أعطيت بيدي طائعا، ولكني ضربت بسيفي حَتَّى انقطع. فأمر بِهِ الحجاج فقتل.
ويقال إنه قَالَ: يَا ظل الشيطان أنت أعظم النَّاس كبرا وتيها، تأبى بيعة يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ تشبها بابن عمر والحسين ثُمَّ تتابع حواك كندة؟ فَقَالَ لَهُ: ملكت فأسجح، فضرب عنقه.
ثُمَّ دعا بعمر بْن موسى بْن عَبْد اللَّهِ فَقَالَ: أنت صاحب شرطة عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عباس؟ فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير، كانت فتنة شملت البر والفاجر، فدخلنا فيها وقد أمكنك اللَّه منا فإن عفوت فبحلمك وفضلك، وإن عاقبت عاقبت ظلمة مذنبين.
فَقَالَ: أما قولك: شملت البر والفاجر فقد كذبت فيه، مَا شملت إلا الفجار ولقد عوفي منها الأبرار، أما اعترافك بذنبك فعسى أن ينفعك، فعزل ناحية ورجا لَهُ النَّاس السلامة.
وَقَالَ للهلقام: مَا رجوت من اتباع ابْن الأشعث؟ أظننت أنه يكون خليفة؟ قَالَ: نعم قد رجوت أن يكون خليفة وطمعت فِي ذَلِكَ، وأن ينزلني منه بمنزلتك من عَبْد الْمَلِكِ، فغضب وَقَالَ: اضربوا عنقه.(7/350)
ونظر إِلَى عمر بْن موسى وقد نحي، فَقَالَ: اضربوا عنقه فقتل، ويقال إنه قَالَ لعمر بْن موسى:
أتقوم بالعمود عَلَى رأس ابْن الأشعث الحائك، وتشرب مَعَهُ الشراب، يَا فرزدق أنشده مَا قلت فيه فانشده.
أخضبت أيرك للزناء ولم تكن ... يوم الهياج لتخضب الأبطالا [1]
قال: فو الله لقد أكرمته عَن عقائل نسائكم.
وقتل عتبة بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سمرة وجميع الأسراء.
وَكَانَ يَزِيد بْن المهلب أمر حين انهزم عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن عَبَّاس بْن ربيعة بْن الحارث بْن عبد المطلب ومن مَعَهُ أن لا يتبعوا، فهرب عَبْد الرَّحْمَنِ إِلَى السند فمات بِهَا.
وَكَانَ ممن خرج مَعَ ابْن الأشعث: ببة، وهو عَبْد اللَّهِ بْن الحارث بْن نوفل بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، فلحق بعمان وهو شيخ كبير فمات بِهَا.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ فِي إسناده: لما خرج ابْن الأشعث من هراة، أشار عَلَيْهِ مودود بْن بشر العنبري ألا يأتي رتبيل وأن يتحصن ويقاتل حَتَّى يظفر أو يؤمن أو يموت كريما فأبى، وأتى رتبيل وأقام مودود متحصنا فِي مدينة زرنج، فأتاه عمارة بْن تميم اللخمي فِي أَهْل الشام فحصره حينا ثُمَّ أمنه وأصحابه فوفى لهم الحجاج وَقَالَ لمودود: أي الأرض أحب إليك؟ قَالَ: البصرة. قَالَ: فأيها أبغض إليك قَالَ: عمان. فسيره إِلَى عمان. وفي مودود يقول بعض همدان ممن كان مع عمارة:
__________
[1] ليس في ديوان الفرزدق المطبوع.(7/351)
لله عينًا من رَأَى مِنْ فوارسٍ ... أكَرُّ عَلَى المكروه منهم وأصبرا
فما برحوا حَتَّى أعضوا سيوفهم ... بذي الهام منا والحديد المسمرا
فلو أنهم لاقوا قواما مقاربا ... ولكن لقوا موجا من البحر أخضرا
مقتل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث
قالوا: ولما صار عَبْد الرَّحْمَنِ إِلَى رتبيل منصرفه من خراسان وأقام عنده. كتب الحجاج إِلَى رتبيل: «أما بعد فإن الكذاب الشرود عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث بْن قيس بْن معدي كرب، فأما معدي كرب فإنه عاهد مهرة فغدر بهم فظفروا بِهِ فجدعوا أنفه وأذنيه، وشقوا بطنه وملأوه حصى، وأما قيس فإنه عاهد مذحج ثُمَّ غدر بهم فقتلوه، وأما الأشعث فإنه كفر بعد إيمانه وغدر بقومه فأسلمهم لينجو، وأما مُحَمَّد فغدر بأهل طبرستان وهذا رجل غدار فاجر مائق معرق لَهُ فِي الغدر والفجور، فلا تثق بِهِ ولا تمنعه ولا تؤوه» .
وتتابعت كتب الحجاج إِلَى رتبيل فِي ابْن الأشعث بالوعيد والترغيب والترهيب، حَتَّى كَانَ خوفه أكثر من رجائه، وَقَالَ فِي بعض كتبه: «لئن لم تسلمه وتبعث بِهِ إلي أو تخرجه من بلادك إِلَى غير حرز لأبعثن إليك مائة ألف ومائة ألف من أَهْل الشام والجزيرة وأرمينية وأهل خراسان، ولئن أسلمته أو أخرجته لأضعن عنك الأتاوة سبع سنين.
وَكَانَ عند رتبيل رجل من بني يربوع يقال لَهُ عبيد بْن سبع بْن أَبِي سبع، فَقَالَ لرتبيل: أنا آخذ لك من الحجاج أمانا وكتابا بوضع الخراج عَن أرضك سبع سنين، ولا تغزى، عَلَى أن تدفع عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد إِلَيْهِ.(7/352)
فسفر بينه وبينه عمارة بْن تميم، ويقال إنه أتى الحجاج فتوثق منه لرتبيل.
وبعث رتبيل إِلَى الحجاج برأس ابْن الأشعث، فوفى لَهُ الحجاج بالصلح، فيقال أن ابْن الأشعث مات حتف أنفه، فلما أرادوا دفنه احتز رتبيل رأسه وبعث بِهِ إِلَى الحجاج، ويقال بل دس لَهُ شربة أضنته وقتلته، فأخذ رأسه حين مات وبعث بِهِ إِلَى الحجاج فكانت امرأته مليكة- كما زعموا- تقول: مات ورأسه عَلَى فخذي، فلما أرادوا دفنه أمر رتبيل فاحتز رأسه، وَكَانَ قد أصابه السل.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي عَن أشياخه: كَانَ عبيد بْن سبع مولى بني تميم تاجرا يدخل بلدان رتبيل وَكَانَ عاقلا، وهو كَانَ الداخل بين ابْن الأشعث ورتبيل فِي الصلح، فبلغ ابْن الأشعث عنه شيء فأراد قتله، فصار عَلَيْهِ، فلم يزل يحذر رتبيل الحجاج ووفاءه بما كَانَ يتوعده بِهِ، ويخوفه أَهْل الشام، وَقَالَ: ابعثني أتوثق لك وعمارة ففعل، واشترط لَهُ عمارة ألا تؤخذ الجزية منه عشر سنين ولا يغزى.
فكتب عمارة بِذَلِكَ إِلَى الحجاج فأنفذه الحجاج وأجازه، فلما هم رتبيل بالغدر بابن الأشعث قَالَ لَهُ: فرق أصحابك فإن البلاد لا تحملهم، ففعل، ثُمَّ صنع طعاما فحضره وجعل يعظمه، وأمر أساورته فكفروا لَهُ، وأقبل عَلَى طعامه، ثُمَّ أشار إِلَى أساورته بأن يأخذوه ومن مَعَهُ فِي البيت من آل الأشعث.
وتسامع أصحاب ابْن الأشعث بِذَلِكَ فهربوا عَلَى وجوههم، وأخذ من أَهْل بيته جماعة يقال ثمانية عشر، ويقال سبعة وعشرين فبعث بهم إِلَى(7/353)
عمارة فقتلهم جميعا، وبعث بابن الأشعث إِلَى الحجاج فرمى بنفسه من قصر أنزله فِي طريقه فمات فأخذ رأسه.
وَقَالَ أَبُو الحسن علي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِيّ فِي إسناده: أتى عبيد بْن سبع عمارة وهو ببست فَقَالَ: مَا تجعلون لي ولرتبيل إن دفع إليكم ابن الأشعث؟
فجعل له ثلاثمائة ألف درهم وجعل لرتبيل ألا يؤخذ منه الخراج سبع سنين ولا يغزى.
وكتب إِلَى الحجاج أن عبيد بْن سبع أحد بني يربوع ذكر كذا وسأل كذا. فكتب إِلَيْهِ: أعطه مَا سأل لنفسه، وأعط رتبيل ما سأل له.
ثُمَّ قدم عَلَى رتبيل فَقَالَ لَهُ: مَا كنت صانعا فاصنعه فقد توثقت لك وإلا أتاك مَا لا قبل لك بِهِ من جنود أَهْل الشام والمصرين والجزيرة وخراسان، وهيبه الحجاج، وأخبره بغدر ابْن الأشعث، فأجابه إِلَى إسلام ابْن الأشعث.
وجاء ابْن الأشعث فدخل عَلَى رتبيل فلما جلس قام رتبيل فَقَالَ: قد جاشت نفسي. وترك ابْن الأشعث فِي المجلس فقام إِلَيْهِ النعار، وقد كَانَ أخرج من محبسه فضرب رأسه بعمود حديد كَانَ مَعَهُ فشجه وأثخنه، فَقَالَ:
ويلك أخذت لها جعلا.
ثُمَّ أخذوا ابْن الأشعث فأوثقوه وناسا من آل ابْن الأشعث، وقيل لأصحابه إنكم آمنون فاذهبوا حيث شئتم، وبعث بابن الأشعث ومن مَعَهُ من حرمه إِلَى عمارة بْن تميم اللخمي لينفذهم إِلَى الحجاج ووكل بهم جماعة من جند رتبيل فسلموهم إِلَى عمارة بْن تميم.(7/354)
وصير عليهم عمارة رجلا من بني تميم وسير مَعَهُ رجلا من بني ربيعة بْن حنظلة كَانَ أتى عنزا فلقب أبا العنز، فجعل مَعَ ابْن الأشعث فِي سلسلة واحدة. فلما صار بالرخج رمى ابْن الأشعث نفسه من جبل، ويقال من فوق سطح عال كَانَ إِلَى الطريق وَأَبُو العنز فوقه فتدهدى وَأَبُو العنز يقول لَهُ:
أنشدك اللَّه والصحبة، فلما وافيا الأرض مات أَبُو العنز، ثُمَّ لم يلبث ابْن الأشعث أن مات.
واحتز رأسه وحمل إِلَى الحجاج، وقدم بالقاسم بْن مُحَمَّد وأهل بيته ومليكة بنت يَزِيد الأزدي امرأة عَبْد الرَّحْمَنِ وأمه عَلَى عمارة فحملهم، فَقَالَ الحجاج: يَا مليكة: أسلطاننا خير أم سلطان رتبيل فظنت أنه عرض بِهَا فقالت: مَا كنت فحاشا. فَقَالَ: إني لم أذهب إِلَى حيث ذهبت. فقالت:
سلطانك خير لنا.
وَقَالَ الحجاج لأم عَبْد الرَّحْمَنِ: ويقال لأمرأته: أخذت مال اللَّه فوضعته تحت ذيلك، فَقَالَ عنبسة بْن سعيد بْن العاص: لقد أعففت المنطق، قَالَ: أفكنت تراني أقول الأخرى؟
ولما رأى الحجاج رأس ابن الأشعث قَالَ: لقد كنت عالما بتيهه وموقه وسخافة عقله، ولكن اللَّه أراد أن يهلك بِهِ جيلا من خلقه كانت لَهُ فيهم نقم. وتمثل:
أبى حينه والموت إلا تهورا ... فلاقاه عبل الساعدين شتيم
كريه المحيا باسل ذو عرامة ... فروس لأعناق الكماة أزوم(7/355)
فَقَالَ ناعصة بْن يَزِيدَ القيني. ويقال إنه من غير القين: لا يبعد اللَّه إلا من عصاك. قالوا: وبعث برأسه إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، فبعث بِهِ عَبْد الْمَلِكِ، إِلَى عَبْد العزيز بمصر، فَقَالَ الشاعر:
هيهات موقع جثة من رأسها ... رأس بمصر وجثة بالرخج
قتلوه قسرا ثُمَّ قالوا بايعوا ... وجرى البريد برأس قرم أبلج
وقدم بالقاسم بْن مُحَمَّد ومن مَعَهُ من أهله عَلَى الحجاج فاستبقى القاسم ولم يقتله.
قَالَ: ولم يقتل من آل ابْن الأشعث أحدا يعرف غير عَبْد الرَّحْمَنِ وعَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق بْن الأشعث. وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد ولى عَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق الْكُوفَة فلما هزم عَبْد الرَّحْمَنِ خرج وهو يريد عَبْد العزيز بمصر وَكَانَ ابْن خالته، فأخذ طريق السماوة فانتهى إِلَى ماء من مياه كلب. فنزله فوجد الأعراب منه ريح الطيب فَقَالُوا: إن لهذا شأنا، ولم يعلمهم من هو فأخذوه فأتوا بِهِ عَبْد الْمَلِكِ فضرب عنقه.
وكانت أم عَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق الشعثاء بنت زبان بْن الأصبغ الْكَلْبِيّ، وأم عَبْد العزيز ليلى بنت زبان.
وَقَالَ هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ: خرج الحجاج فِي أيامه تلك ومعه حميد الأريقط وهو يقول:
ما زال يبني خندقا ويهدمه ... هيهات من مصعده منهزمه
إن أخا الكظاظ [1] من لا يسأمه.
__________
[1] الكظاظ: الشدة والتعب. وطول الملازمة والممارسة الشديدة في الحرب. القاموس.(7/356)
فَقَالَ الحجاج: هذا أصدق من قول الفاسق أعشى همدان:
إن بني يوسف للزل انزلق، وقد تبين من زال وتب. ومن دحض فانكب.
ورفع صوته ففرغ الأريقط فَقَالَ لَهُ: مالك؟ قَالَ: إن سلطان اللَّه عزيز، ورأيتك قد غضبت فأرعدت خصائلي واسترخت مفاصلي وأظلم بصري. فَقَالَ: صدقت. إن سلطان اللَّه عزيز فعد إِلَى مَا كنت فيه.
وَقَالَ أَبُو الحسن علي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِيّ: كَانَ صلح رتبيل سنة ثلاث وثمانين والمدة سبع سنين ويقال تسع، ويقال عشر سنين.
قالوا: وَكَانَ مَعَ ابْن الأشعث عَبْد الرَّحْمَنِ اليحصبي، وَكَانَ أطول النَّاس صلاة، فهرب إِلَى خراسان ودخل حائطا ليصلي وبعث غلامه إِلَى السوق ليبتاع لَهُ مَا يصلحه فجاء ناس فجلسوا إِلَى جنبه وظنوا أن مَعَهُ مالا فوثبوا عَلَيْهِ وهو قائم يصلي فقتلوه ثُمَّ نظروا فإذا ليس مَعَهُ شيء.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كَانَ عباد بْن الحصين الحبطي مَعَ ابْن الأشعث وأشار عَلَيْهِ بأشياء بلغت الحجاج، فهرب إِلَى سجستان وصار إِلَى ناحية كابل، واعتزل فِي قرية هناك، وَكَانَ صاحب القرية شابا فكان يراسل أمة لَهُ، فسقى عبادا يوما شيئا فقتله فوثب ابنه جهضم، وبه كَانَ يكنى. عَلَى العلج فقتله فاجتمع أَهْل تلك القرية عَلَى بنيه ومن مَعَهُ فقاتلوهم فقتلوا بعضهم، فيقال إن جهضما قتل يومئذ، ويقال أن الحجاج ظفر به فقتله لخروجه مَعَ ابْن الأشعث.
وَقَالَ عوانة وغيره: بدأت فتنة ابْن الأشعث فِي سنة اثنتين وثمانين وانقضت سنة ثلاث وثمانين، ومات عَبْد الْمَلِكِ سنة ست وثمانين.(7/357)
قالوا: وكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الحجاج: «أن جمر أَهْل العراق وتابع عليهم البعوث واستعن عليهم بالفقر فإنه جند اللَّه الأكبر. ففعل ذَلِكَ بهم سنتين. ثُمَّ إنه كتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ كتابا يقول فيه: «إن اللَّه إنما نصرنا بطاعته والوفاء ببيعة خليفته، وإنما هلك أَهْل العراق. بمعصيتهم وخلافهم ونكثهم. وإن لهم فِي هذا الفيء حقا ونصيبا، وإني أخاف إن حبسناه عليهم أن ينصروا عَلَيْنَا، فإن رأى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أن يأمر لهم بحقوقهم فليفعل. وإلا فلا يحرمن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ الذرية الذين لا ذنوب لهم» .
فكتب إِلَيْهِ أن: «آمر للناس جميعا من أَهْل المصرين مقاتلتهم وذريتهم بحقوقهم» ، فوضع للحجاج سريره فِي المسجد، ثُمَّ دعا النَّاس بعد الجماجم بسنتين فأعطاهم عطاءين للسنة الأولى والثانية.
وعزل الحجاج عمارة بْن تميم اللخمي وولى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سليم الْكَلْبِيّ ثغر سجستان فظفر عَبْد الرَّحْمَنِ بعطية بْن عَمْرو العنبري وخرشة، وكانا متحصنين فِي القلعة وبعث بهما إِلَى الحجاج، فقتلهما وصلبهما عَلَى بابي منزليهما.
قالوا: وَكَانَ منادي الحجاج حين هزم أَهْل دير الجماجم نادى: من لحق بقتيبة بْن مسلم فهو آمن، فلحقت بِهِ جماعة.(7/358)
أمر الشَّعْبِيّ
وَكَانَ منهم عامر بْن شراحيل الشَّعْبِيّ وَكَانَ قتيبة بالري، وسأل الحجاج عَن الشَّعْبِيّ فأخبره يَزِيد بْن أَبِي مسلم، مولى الحجاج، بمصيره إِلَى قتيبة، فكتب إِلَى قتيبة بإشخاصه فلما قدم بِهِ استشار ابْن أَبِي مسلم فِي أمره فَقَالَ: مَا أدري مَا أشير بِهِ، غير أن أعتذر مَا استطعت، فلما دخل عَلَى الحجاج سلم بالإمرة ثُمَّ قَالَ: أيها الأمير إن النَّاس أمروني أن أعتذر إليك بغير الحق، وأيم اللَّه لا قلت فِي مقامي هذا إلا حقا، قد والله سعرنا عليك الحرب واجتهدنا كل الجهد فما ألونا، ولقد نصرك اللَّه عَلَيْنَا وظفرك بنا، فإن سطوت عَلَيْنَا فبذنوبنا وما كسبت أيدينا، وإن عفوت فبحلمك عنا وبعد الحجة عَلَيْنَا.
فَقَالَ: أنت والله أحب إلي قولا ممن يدخل عَلَيْنَا وسيفه يقطر من دمائنا فيقول والله مَا فعلت ولا شهدت، فقد أمنت عندنا يَا شعبي فانصرف، قَالَ الشَّعْبِيّ: ثُمَّ دعاني فارتعت حَتَّى ذكرت قوله أنت آمن عندنا فاطمأننت، فلما دخلت عَلَيْهِ قَالَ: هيه يَا شعبي. فقلت: أصلح اللَّه الأمير، أوحش الجناب وأحزن المنزل ونبا بنا، واستشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر، واستحلسنا(7/359)
البلاء، وفقدنا الصالحين من الإخوان- أو قَالَ صالحي الإخوان- وشملتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، وما أعتذر إِلَى الأمير إلا أكون شيعت عَلَيْهِ، وقد كنت أكتب إِلَى يَزِيد بْن أَبِي مسلم بعذري وأعلمه حالي فصدقه يَزِيد. فَقَالَ الحجاج: قد قبلت عذرك يَا شعبي، وأمر بعطائه فرد عَلَيْهِ وَقَالَ: انصرف مصاحبا.
حَدَّثَنَا يوسف بْن موسى القطان عَن جرير عَن مغيرة قَالَ: دخل الشَّعْبِيّ عَلَى الحجاج فَقَالَ لَهُ: مَا الَّذِي نقمت؟. قَالَ: لا يسألني الأمير مَا نقمت ولكن ليسلني لم بطرت.
حَدَّثَنِي عمر بْن شبة، ثنا حفص بْن إسماعيل عَن عيسى الحناط قَالَ:
لما ظهر الحجاج عَلَى ابْن الأشعث، جعل يؤتى بالناس فأتي بالشعبي فَقَالَ:
هيه يَا شعبي. قَالَ: أصلح اللَّه الأمير، أجدب الجناب واعترانا السهر، وامتلأنا رعبا، وأتينا فتنة لم نكن فيها أبرارا أتقياء ولا فجارا أقوياء. قَالَ:
صدق الشَّعْبِيّ، خلو سبيله.
وروي عَن مخلد بْن الحسن عَن أسماء بْن عبيد عَن الشَّعْبِيّ قَالَ: هربت من الحجاج فأتيت المدينة.
حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عدي عن مجالد عَن الشَّعْبِيّ قَالَ: لما انهزم ابْن الأشعث ضاقت بي الأرض وكرهت ترك عيالي وولدي، فأتيت يَزِيد بْن أَبِي مسلم، وَكَانَ لي صديقا، وكانت الصداقة تنفع عنده، فقلت: قد صرت إِلَى مَا ترى؟ قَالَ: إن الحجاج لا يكذب ولا يخدع ولكن قم بين يديه وأقر بذنبك واستشهدني عَلَى مَا شئت، قال: فو الله مَا شعر الحجاج إلا وأنا قائم بين يديه فَقَالَ: أعامر؟ قلت: نعم أصلح اللَّه الأمير. قال: ألم أقدم(7/360)
العراق فأحسنت إليك ووفدتك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ واستشرتك؟ قلت:
بلى. قَالَ: فأنى كنت فِي هذه الفتنة؟ قَالَ: استشعرنا الخوف، واكتحلنا السهر، وأحزن بنا المنزل وأوحش الجناب وفقدنا صالحي الإخوان وشملتنا فتنة لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أقوياء، وقد كنت أكتب إِلَى يَزِيد بْن أَبِي مسلم بعذري. فصدقه يَزِيد، فَقَالَ الحجاج: هذا، لا من ضربنا بسيفه ثُمَّ جاءنا بالأحاديث كَانَ وَكَانَ.
حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُعَلَّمِ الرَّقِّيِّ عَنْ عِيسَى بْنِ يُونُسَ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ مُوسَى عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: أَتَى بِي الْحَجَّاجُ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَى الْبَابِ لَقِيَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ، فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ يَا شَعْبِيُّ لِمَا بَيْنَ كَفَّيْكَ مِنَ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ بِيَوْمِ شَفَاعَةٍ، بُؤِ الأَمِيرَ بِالشِّرْكِ وَالنِّفَاقِ عَلَى نَفْسِكَ فَبِالْحَرِيِّ أَنْ تَنْجُوَ، ثُمَّ لَقِيَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَجَّاجِ فَقَالَ مِثْلَ مَقَالَةِ يَزِيدَ. فَقَالَ لِي الْحَجَّاجُ: وَأَنْتَ يَا شَعْبِيُّ فِيمَنْ خَرَجَ عَلَيْنَا؟. فَقُلْتُ: أَصْلَحَ اللَّهُ الأَمِيرَ، أَحْزَنَ بِنَا الْمَنْزِلُ، وَأَجْدَبَ الْجِنَابُ، وَضَاقَ الْمَسْلَكُ، وَاكْتَحَلْنَا السَّهَرَ وَاحْتَلَسْنَا الْخَوْفَ وَوَقَعْنَا فِي خِزْيَةٍ لم نكن فيها بررة أتقياء ولا فجرة أَقْوِيَاءَ.
فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ، مَا بَرُّوا بِخُرُوجِهِمْ وَلا قَوَوْا بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَيْنَا إِذْ فَجَرُوا، أَطْلَقَ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ: مَا تَقُولُ فِي أُمٍّ وَأُخْتٍ وَجَدٍّ. قُلْتُ: اخْتَلَفَ فِيهَا خَمْسَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ. قَالَ: مَا قَالَ فِيهَا ابْنُ عَبَّاسٍ إِنْ كَانَ لَمُتْقِنًا؟. قُلْتُ:
جَعَلَ الْجَدَّ أَبًا فَأَعْطَى الأُمَّ الثُّلُثَ وَلَمْ يُعْطِ الأُخْتَ شَيْئًا. قَالَ: فَابْنُ مَسْعُودٍ؟
قُلْتُ: جَعَلَهَا مِنْ سِتَّةٍ فَأَعْطَى الأُخْتَ النِّصْفَ ثَلاثَةً، وَالْجَدَّ الثُّلُثَ اثْنَيْنِ،(7/361)
وَالأُمَّ سُدُسًا. قَالَ: فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانُ؟ قُلْتُ: جَعَلَهَا أَثْلاثًا. قَالَ: فَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ؟ قُلْتُ: جَعَلَهَا مِنْ تِسْعَةٍ، أَعْطَى الأُمَّ الثُّلُثَ ثَلاثَةَ وَالْجَدَّ أَرْبَعَةً، وَالأُخْتَ اثْنَيْنِ. قَالَ: فَأَبُو تُرَابٍ؟ قُلْتُ: جَعَلَهَا مِنْ سِتَّةٍ، أَعْطَى الأُخْتَ النِّصْفَ ثَلاثَةً، وَالأُمَّ الثُّلُثَ، وَالْجَدَّ السُّدُسَ. فَقَالَ: مُرُوا الْقَاضِيَ أَنْ يُمْضِيَهَا عَلَى قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَان.
وَقَالَ الْهَيْثَم بْن عدي: فارق ابْن الأشعث عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سمرة فأتى زابلستان فأقام بِهَا برهة من دهره، ثُمَّ صار إِلَى خراسان فحبسه قتيبة بْن مسلم، وخرج ابنه أَبُو بكر بْن عبيد اللَّه إِلَى عَبْد الْمَلِكِ فطلب لَهُ الأمان فأمنه وكتب بِذَلِكَ إِلَى الحجاج، فرتب الحجاج أمره، وبعث إِلَى قتيبة رسولا ودفع إِلَيْهِ زبيبة وَقَالَ: ضعها فِي يد قتيبة ثُمَّ اغمز عَلَيْهَا، ففعل، فبعث قتيبة إِلَى عبيد اللَّه من غمه حَتَّى قتله- وكتب الحجاج إِلَى عَبْد الْمَلِكِ أن رسوله وافاه وقد مات.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: لما هزم ابْن الأشعث من مسكن هرب عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سمرة إِلَى خراسان فاستخفى بِهَا فعلم بِهِ يَزِيد بْن المهلب فأخذه وحبسه، وَكَانَ قد فارق ابْن الأشعث. فلما عزل يَزِيد وولي المفضل بْن المهلب كتب إِلَيْهِ الحجاج فِي قتله، فكتب إِلَيْهِ: «إنه لما بِهِ، وستكفاه بغير قتله» ، فلما ولي قتيبة خراسان ومات عَبْد الْمَلِكِ خرج أَبُو بَكْر بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْد الرَّحْمَنِ إِلَى الوليد فكلمه فِي أبيه فكتب إِلَى الحجاج بأمانه، وبلغ الحجاج الخبر فسبق بتوجيه رجل إِلَى قتيبة فقتله ودفنه.(7/362)
أمر سعيد بْن جبير
حَدَّثَنِي عدة من المشايخ قالوا: سمعنا أبا نعيم الفضل بْن دكين يقول: خرج مَعَ ابْن الأشعث من أَهْل الْكُوفَة: سعيد بْن جبير، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي ليلى، وعَبْد الرَّحْمَنِ بْن عوسجة، والشعبي، وذر، وطلحة بْن مصرف، وعَبْد اللَّهِ بْن شداد، وَأَبُو البختري الطائي، والحكم بْن عتيبة، وعون بْن عَبْد اللَّهِ فيما يقال، ومن أَهْل البصرة: مُسْلِم بْن يسار، وجابر بْن زَيْد أَبُو الشعثاء الأزدي، وعقبة بْن عَبْد الغافر، وقتل مَعَهُ، وَأَبُو الجوزاء وقتل مَعَهُ، وعَبْد اللَّهِ بْن غالب وقتل مَعَهُ، وعقبة بْن وساج، وطلق بْن حبيب، وَأَبُو شيخ الهنائي، من الأزد، واسمه خيوان بْن خالد.
وَقَالَ أَبُو نعيم: كَانَ مَعَ ابْن الأشعث ثمانون ألف فارس ومائة واثنان وعشرون ألف راجل. قالوا: وَكَانَ خالد بْن عَبْد اللَّهِ القسري عامل الوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ بِمَكَّةَ، وَكَانَ سعيد بْن جبير هرب إِلَى مَكَّة فاستخفى بِهَا حَتَّى مات عَبْد الْمَلِكِ ثُمَّ ظهر، فكتب الحجاج إِلَى خالد فِي إشخاصه وإشخاص طلق بْن حبيب العنزي، فأشخصهما إليه فقتلهما.(7/363)
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: أخذ سعيد بْن جبير خالد بْن عَبْد اللَّهِ القسري بِمَكَّةَ فحمله إِلَى الحجاج مَعَ إسماعيل بْن أوسط البجلي، فَقَالَ لَهُ: ألم أقدم العراق فأكرمتك؟ وذكر لَهُ أشياء فعلها بِهِ، فَقَالَ: بلى، قَالَ: فما أخرجك علي.
قَالَ: كانت لابن الأشعث بيعة فِي عنقي وعزم علي، فغضب وَقَالَ: رأيت لعدو اللَّه الحائك عزمة لم ترها لله ولخليفته ولي؟ والله لا أرفع قدمي حَتَّى أقتلك وأعجل بك إِلَى النار، قَالَ: إذا أخاصمك بين يدي اللَّه، قَالَ: أنا أخصمك، قَالَ: إن الحاكم يومئذ غيرك، فأمر بقتله، فقام إِلَيْهِ مسلم الأعور ومعه سيف عريض حنفي، فضرب بِهِ عنقه.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن أبان الواسطي عَن جرير بْن حازم، وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ عَنْ وَهْبِ بْنِ جرير عَنْ أَبِيهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْحَنْظَلِيِّ أن الحجاج وجه سعيد بْن جبير فِي جيش الطواويس وأعطاه ألفي ألف درهم، وولاه نفقات الجيش وَقَالَ لَهُ: إذا رأيت خللا فسده، ومن كَانَ من ضعيف فاحمله، ومن جريح فانفق عَلَيْهِ، وولاه أمر الغنائم إذا غنم الجيش، فخرج عَلَيْهِ مَعَ ابْن الأشعث، وَكَانَ يقول: مَا خرجنا عَلَيْهِ حَتَّى كفر بالله.
الْمَدَائِنِيّ عَن جرير بْن حازم قَالَ: قَالَ سعيد بْن جبير: أليس كافر بالله من زعم أن عَبْد الْمَلِكِ أكرم عَلَى اللَّه من مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الْمَدَائِنِيّ عَن يَحْيَى بْن زكرياء عَن سالم الأفطس قَالَ: لما قتل الحجاج سعيد بْن جبير عرفوا تغير عقله لأنه قتله، ثُمَّ قَالَ: قيود، ثُمَّ دعا بِهَا ليقيده.
حَدَّثَنِي روح بْن عَبْد المؤمن الْمُقْرِئ، حَدَّثَنِي علي بْن نصر الجهضمي قَالَ: كَانَ خالد بْن خليفة يحدث عَن بواب الحجاج قَالَ: ضربت عنق سعيد بْن جبير فبدر رأسه وهو يقول: لا إله إلا الله.(7/364)
الْمَدَائِنِيّ عَن عَبْد اللَّهِ بْن مروان قَالَ: لما أمر الحجاج بقتل سعيد بْن جبير جاءت خالة لَهُ فدفع إليها يده فقبلتها، وَقَالَ لَهُ الحجاج حين أدخل عَلَيْهِ: أنت شقي بْن كسير. قَالَ: لا بل سعيد بْن جبير. قَالَ: ألم أصنع بك؟ ألم أكرمك، ألم أولك ألم أأتمنك؟. قَالَ: بلى. قال: فواله لأقتلنك.
قَالَ: إذا أخاصمك غدا. قَالَ: إذا أخصمك يَا عدو اللَّه. فضحك سعيد، فَقَالَ: مَا يضحكك؟. قَالَ: التعجب من جرأتك عَلَى اللَّه.
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي مريم صاحب الدستوائي قَالَ: رأيت سعيد بْن جبير مقيدا بِمَكَّةَ، واستأذن خالد بْن عَبْد اللَّهِ فِي توديع البيت، فأذن لَهُ فطاف أسبوعا وهو مقيد، وقد اتكأ علي، أو قَالَ عَلَى رجل، فَقَالَ: اللهم إن كنت قضيت للحجاج قتلي فاجعل ذَلِكَ كفارة لذنوبي.
الْمَدَائِنِيّ عَن مُحَمَّد بْن ذكوان قَالَ: أخذ سعيدا عَبْد اللَّهِ بْن أسد ابْن أخي خالد فَقَالَ لَهُ: قد كنت أكره أن يجري أمرك عَلَى يدي. قَالَ: فهلا إذ كرهت ذَلِكَ قلت كما قَالَ العَبْد الصالح: إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ليقتلوك [1] .
وَكَانَ الكرى [2] الَّذِي حمل سعيد بْن جبير زيد بْن مسروق اليربوعي، وَالَّذِي أدخله إِلَى الحجاج إسماعيل بْن أوسط البجلي.
الْمَدَائِنِيّ عَن رجل عَن عَمْرو بْن أَبِي وحشية قَالَ: رأيت رأس سعيد بْن جبير فِي فم كلب يعدو به بين الأطناب.
__________
[1] سور- القصص- الآية: 20.
[2] الكرى مفرد الأكرياء. القاموس.(7/365)
الْمَدَائِنِيّ عَن عَمْرو بْن هِشَام قَالَ: قيل لسعيد بْن جبير: إن الحجاج إذا أخذ رجلا كان مع ابْن الأشعث فأقر لَهُ بالكفر، خلى سبيله، وإن الحسن [1] قَالَ يدفع عَن نفسه، فَقَالَ سعيد بْن جبير: يرحم اللَّه أبا سعيد، لا تقية فِي الإسلام.
الْمَدَائِنِيّ عَن جرير بْن حازم عَن واصل عَن عَبْد اللَّهِ بْن سعيد بْن جبير قَالَ: قتل أَبِي وله تسع وأربعون سنة.
وَحَدَّثَنَا عفان بْن مسلم، ثنا هشيم، أَنْبَأَنَا أَبُو بشر عَن سعيد بْن جبير قَالَ: أنا ممن أنعم اللَّه عَلَيْهِ ببني أسد.
الْمَدَائِنِيّ عَن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق عَن عَبْد الْمَلِكِ بْن أَبِي سُلَيْمَان قَالَ: رأى خالد بْن عَبْد اللَّهِ سعيد بْن جبير وطلق بْن حبيب العنزي ورجالا يطوفون بقيودهم فَقَالَ: مَا هؤلاء؟ قَالَ: الأسراء الذين أمرت بحملهم قَالَ:
امنعوهم من الطواف.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْن شَبَّةَ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ النبيل عَن رجل عَن جرير عَن مغيرة أن الحجاج كَانَ يعرف سعيد بْن جبير فسأله مالخبر، فَقَالَ سعيد:
تركت الخمر تباع بالكوفة ظاهرة، ويباع الحكم بالرشا، فَقَالَ الحجاج: والله لئن وليت لأغيرن، فلما قدم رد شريحا عَلَى القضاء، ومنع أن تباع الخمر.
الْمَدَائِنِيّ عَن جرير بْن حبيب بْن أَبِي عمرة أن الحجاج أمر سعيد بْن جبير أن يصلي بالناس فِي شهر رمضان، فصلى بهم فكساه الحجاج برنوس خزّ أسود فلبسه.
__________
[1] الحسن البصري.(7/366)
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ، ثنا أَبُو عَاصِمٍ النبيل، أَنْبَأَنَا عَمْرو بْن قيس قَالَ:
كتب الحجاج إِلَى الوليد: «إن قوما من أَهْل الشقاق والنفاق قد لجأوا إِلَى مَكَّة، فإن رأى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ أن يأذن لي فيهم» ، فكتب الوليد إِلَى خالد بْن عَبْد اللَّهِ القسري فيهم، فأخذ عطاء، وسعيد بْن جبير، ومجاهدا، وطلق بْن حبيب، وعمرو بْن دينار. فأما عطاء وعمرو فخليا، وأما الآخرون فبعث بهم إِلَى الحجاج، فمات طلق فِي الطريق، وحبس مجاهد حَتَّى مات الحجاج، وقتل الحجاج سعيد بْن جبير.
حَدَّثَنِي عَمْرو بْن مُحَمَّد النَّاقِد عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْن أَبِي سُلَيْمَان قَالَ: أخذ خالد القسري سعيد بْن جبير، وطلق بْن حبيب، وحبيب بْن أَبِي ثابت، وأصحابهم فقيدوا، فكانوا يطوفون بالبيت فِي قيودهم.
قالوا: وبعث إِبْرَاهِيم إِلَى سعيد فِي السر: إن القوم لن يستحيوك فاصلب لهم.
حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْن الْوَلِيدِ النَّرْسِيُّ، ثنا عَبْدُ الْوَاحِدِ بن زياد عَن الربيع بْن أَبِي صالح قَالَ: دخلت عَلَى سعيد بْن جبير حين جيء بِهِ فبكيت فَقَالَ: مَا يبكيك؟ قلت: الَّذِي أرى بك، قَالَ: فلا تبك فإن هذا كَانَ فِي علم اللَّه، وقرأ: مَا أَصَابَ مِنْ مصيبة إلى قوله: نبرأها [1] .
الْمَدَائِنِيّ عَن أَبِي بكر بْن عياش، عَن عاصم بْن بهدلة قَالَ: مَا تكلم سعيد بشيء وذلك أنه كره المثلة.
__________
[1] سورة الحديد- الآية: 22.(7/367)
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِي بكر بْن عياش عَن يَزِيد بْن أَبِي زياد قَالَ: لما جيء بسعيد جعل يحدثنا لا ننكر منه شيئا، حَتَّى جاءت ابنته فتحرك فانكشفت قيوده، فبكت الجارية فَقَالَ سعيد: اسكتي يا بنية، لا تغمي أباك. فهذا أكثر مَا رأينا منه.
حَدَّثَنِي حفص عَن الْهَيْثَم بْن عدي عَن ابْن عياش قَالَ: قَالَ الحجاج لسعيد: أكفرت بخروجك؟ قَالَ: مَا كفرت مذ آمنت. قَالَ: اختر أي قتلة أقتلك. قَالَ: اختر أنت لنفسك أي القصاص شئت فإن القصاص أمامك، فقتله، فما قتل أحدا بعده.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، ثنا وَهْبُ بْن جرير عَن أبيه عَن المفضل بْن سويد قَالَ: جيء بسعيد بْن جبير فقمت عَلَى رأس الحجاج، فَقَالَ لَهُ الحجاج: ألم أشركك فِي أمانتي، ألم أستعملك، ألم أفعل ألم أفعل؟.
قَالَ: بلى. قَالَ: فما حملك عَلَى خروجك علي؟ قَالَ: عزم علي الرجل.
فَقَالَ: رأيت لعزمة عَبْد الرَّحْمَنِ حقا ولم تر لله ولا لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ ولا لي عليك حقا؟!! اضرب عنقه، فضربت عنقه فندر رأسه وعليه كمة بيضاء لا طية صغيرة.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ سَلم بْن قُتَيْبَة: كنت عند الحجاج فَقَالَ لسعيد:
أخرجت علي؟ قَالَ: كانت للرجل فِي عنقي بيعة. قَالَ: أتفي لعدو اللَّه ولا تفي لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟. اضرب عنقه، فضربت عنقه فسال منه دم كثير.
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، ثنا سُفْيَانُ بْن عيينة عَن سالم بْن أَبِي حفص قَالَ: لما أدخل سعيد بْن جبير عَلَى الحجاج قَالَ: أنت شقي بْن كسير؟. قَالَ: لا بل أنا سعيد بْن جبير. قَالَ: أما والله لأقتلنك، قَالَ: إني(7/368)
إذا لكما سمتني أمي سعيد، دعوني أصلي ركعتين. فَقَالَ: وجهوه إِلَى قبلة النصارى. قَالَ: أينما تولوا فثم وجه الله [1] .
وَحَدَّثَنِي علي بْن الْحُسَيْن بْن عرفة عَن أبيه عَن الحارث بْن أَبِي الزُّبَيْر المدني عَن عَبْد العزيز بْن زمعة العامري حديثا طويلا اختصرته، أن الحجاج أرسل إِلَى سعيد بْن جبير فأتي بِهِ فلما دخل عَلَيْهِ قَالَ: أنت شقي بْن كسير؟
قَالَ: أنا سعيد بْن جبير. قَالَ: أنت شقي بْن كسير. قَالَ: أمي كانت أعلم باسمي منك، فَقَالَ لصاحب عذابه: أسمعني صوته فعذبه صاحب العذاب فلم يسمع لَهُ الحجاج صوتا فَقَالَ لَهُ: ألم آمرك أن تصب عَلَيْهِ العذاب حَتَّى تسمعني صوته؟ قَالَ: قد عذبته بألوان العذاب فلم أر أصبر منه قط. فدعا بِهِ الحجاج فَقَالَ: أو تصبر عَلَى عذابي؟. قَالَ: إن من ذكر عذاب اللَّه هان عَلَيْهِ عذابك. فَقَالَ: لألحقنك بأمك الهاوية، فَقَالَ سعيد: لو علمت أن ذَلِكَ إليك لاتخذتك إلها دون اللَّه. ثُمَّ أمر بِهِ أن يقتل فتبسم، فَقَالَ لَهُ: ألم تقل لي أنك لم تضحك قط؟. قَالَ: ضحكت للتعجب من جرأتك عَلَى اللَّه واغترارك بحلمه. وانحرف إِلَى القبلة فعدل بِهِ عنها فَقَالَ: أينما تولوا فثم وجه الله.
وَقَالَ سعيد: اللهم لا تمهله، فقدم فضربت عنقه، ويقال ذبح ذبحا، فأخذ الحجاج الزمهرير، وقرح جوفه حَتَّى كانت القديدة تدلى فِي حلقه ثُمَّ تجبذ فيخرج فيها الدود وهو يصيح: مالي ولسعيد بْن جبير، فلم يزل كذلك حَتَّى مات.
__________
[1] سورة البقرة- الآية: 115.(7/369)
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ عَنِ أَبِي بكر بْن عياش عَن يَزِيد بْن أَبِي زياد قَالَ: لما دخل سعيد بْن جبير عَلَى الحجاج أمر بِهِ أن يقتل فنهض رجل من أَهْل الشام فَقَالَ لَهُ: ألصق بالمنكبين.
حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد النحوي المعروف بالتوزي عَن أَبِي عبيدة عَن يونس النحوي قَالَ: لما أتي بسعيد بْن جبير قَالَ الحجاج: لعن اللَّه ابْن النصرانية- يعني خالد بْن عَبْد اللَّهِ- والله لقد كنت أعرف مكانه ولوددت أنه بعث بغيره ولم يبعث بِهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: مَا أخرجك علي؟. فَقَالَ: أنا رجل من النَّاس أخطئ وأصيب. قَالَ: ألم أكرمك؟. قَالَ: بلى. قَالَ: فما حملك علي مَا فعلت؟ قَالَ: كانت للرجل فِي عنقي بيعة. فاستشاط الحجاج غضبا وَقَالَ:
أفلم تكن لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ فِي عنقك بيعة ثُمَّ، أخذتها عليك بالكوفة؟. قَالَ:
بلى. قَالَ: فنكثت بيعة أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ووفيت ببيعة ابْن الحائك. اضربا عنقه.
فذلك قول جرير بْن عطية:
يَا رب ناكثِ بَيْعَتَيْنِ تركتَه ... وخضاب لحيته دم الأوداج [1]
وَقَالَ أَبُو عبيدة: أتي الحجاج بسعيد بْن جبير وهو يريد الركوب، فَقَالَ:
والله لا أركب حَتَّى تتبوأ مقعدك من النار، اضربوا عنقه. فضربت عنقه، فخولط والتبس عقله مكانه فجعل يقول: قيودنا قيودنا. فظنوا أنه يقول:
القيود التي عَلَى سعيد، فقطعوا رجليه من أنصاف ساقيه وأخذوا القيود.
حَدَّثَنِي شجاع بْن مخلد الفلاس، ثنا جَرِير بْن عَبْد الحميد عَنِ المغيرة قَالَ: كَانَ الحجاج يقول حين قتل سعيد بْن جبير: ولع يا لك من ولع [2] .
__________
[1] ديوان جرير ص 74.
[2] ولع: استخف، وكذب، وبحقه ذهب. القاموس.(7/370)
حَدَّثَنِي عمر بْن شبه، ثنا عبيد بْن جناد عَن عطاء بْن سالم قَالَ: لما قتل سعيد بْن جبير قَالَ ميمون بْن مهران: مَا أدري بما أكافئ أخي إلا بأن أتزوج ابنته، فأقدم عَلَى سيف الحجاج. وانطلق فتزوج ابنة سعيد بالكوفة، وقدم بِهَا الرقة. قَالَ عطاء: فمضيت حَتَّى رأيتها فإذا امرأة مسنة جليلة عابدة قاعدة فِي مسجدها، فالتمست عندها حديثا فلم أجده.
وَقَالَ عبيد بْن جناد: وَكَانَ فِي الطريق أَهْل مسلحة يمنعون النساء فجلس إليهم ميمون فألقى تحت مصلى لهم ثلاثمائة درهم ثُمَّ قَالَ: معي امرأة، فَقَالُوا: وهل يمنع مثلك، امض راشدا.
حَدَّثَنَا أَبُو أيوب المؤدب الرقي، حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مصفى عَن الوليد بْن مسلم، ثنا عَبْد الْمَلِكِ بْن مُحَمَّد قَالَ: سمعت ثابت بْن مُحَمَّد يقول: هرب سعيد بْن جبير من الحجاج فكان عندي سنين أو قَالَ سنتين.
حَدَّثَنَا عُمَر بْن شَبَّةَ عَنْ أَبِي عَاصِم النَّبِيلِ، حَدَّثَنِي شيخ من أَهْل مَكَّةَ قَالَ: كَانَ رجل من أَهْل مَكَّةَ ضعيفا فمازحه سعيد وهو يطوف، أو قَالَ:
زحمه. فَقَالَ: أنت تفر من الحجاج وتجيء إِلَى ههنا. فضربه عكرمة بْن خالد وناس من قريش حَتَّى كاد ينبسط.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْنُ عَلِيٍّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ: قيل ليزيد بْن زياد: هل كَانَ سعيد يحدث؟ قَالَ: نعم ويضحك غير أني رأيت ابنته جاءت فجلست فِي حجره فسمعت حركة القيود فبكت فَقَالَ: مه، قَالَ:
وأخذ بكفلاء لئلا يلقي نفسه فِي الفرات إذا مر بِهِ فكنت من كفل بِهِ فِي آخرين.(7/371)
حَدَّثَنِي عمر بْن شبه عَن مُحَمَّد بْن حاتم: عَن القاسم بْن مالك، ثنا أَبُو الجهم قَالَ: دخل عَلَيْنَا سعيد بْن جبير الديماس [1] ولم يكن لكل واحد منا فيه مقعد إلا قدر مَا يمد رجله، فأوسعت لَهُ إِلَى جنبي فلما كَانَ يوم أخرج ليقتل قَالَ لي: شد علي ثيابي، قَالَ: فشددت عَلَيْهِ بركتي [2] قباء كَانَ عَلَيْهِ من خلفه وخرج بِهِ فقتل.
حَدَّثَنِي عمر بْن شبه عَن عَبْد الْمَلِكِ بْن عَبْد اللَّهِ القطان عن هلال بن جناب قال: جيء بسعيد إِلَى الحجاج فَقَالَ لَهُ: والله لأقتلنك. قَالَ: إني إذا لسعيد كما سمتني أمي. قَالَ: فقتله فلم يلبث بعده إلا نحوا من أربعين يوما فكان إذا نام يراه فِي منامه يأخذ بمجامع ثوبه ويقول: يَا عدو اللَّه فيم قتلتني؟ فيقول: مَا لي ولسعيد بْن جبير.
وَحَدَّثَنِي عمر عَن مُحَمَّد بْن حاتم عَن القاسم بْن مالك عَن رجل من أَهْل هجر عَن عَبْد الْمَلِكِ بْن سعيد بْن جبير قَالَ: لما قدم سعيد بْن جبير عَلَى الحجاج قَالَ: أنت شقي بْن كسير؟ قَالَ: أنا سعيد بْن جبير. قَالَ: والله لأقتلنك. قَالَ: إذا ألقى اللَّه بعملي وتلقاه بدمي، لقد أصابت أمي إذا إذ سمتني سعيدا، فَقَالَ الحجاج: يَا حرسي اضربه ضربة عَلَى حبل عاتقه تخالط رئته، قَالَ: فأذن لي أصلي ركعتين، قَالَ: صل. فلما توجه إِلَى القبلة فَقَالَ اللَّه أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، قَالَ الحجاج: لا، إلا إِلَى قبلة النصارى، فَقَالَ سعيد: أينما تولّوا فثمّ وجه الله فصلى، ثُمَّ ضربه الحرسي ضربة خالطت رئته.
__________
[1] الديماس سجن للحجاج لظلمته. القاموس.
[2] البركة: برد يماني. القاموس.(7/372)
وقال الفضل بْن دكين أَبُو نعيم: قتل سعيد فِي سنة خمس وتسعين وهو ابْن تسع وأربعين سنة.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مسعود الْكُوفِيّ عَن عوانة قَالَ: لما أخذ الأعراب عَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق بْن الأشعث فأتوا بِهِ عَبْد الْمَلِكِ قَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ وقد أدخل عَلَيْهِ بحمص: ألم أقدم الْكُوفَة حين قتلت مصعبا فوجدتك في ستمائة من العطاء فبلغت بك ألفين، ووليت بشرا أخي الْكُوفَة فأمرته أن يجعلك فِي صحابته، وحملتك عَلَى دابة من دواب رجلي وخلعت عليك ثيابا من ثياب بدني؟. قَالَ: بلى. قَالَ: ثُمَّ بلغني أن بشرا غضب عليك فِي حمقة من حمقاتك، فإنك من أَهْل بيت حمق ولؤم، فأغزاك أصبهان فكتبت إِلَيْهِ أعزم عَلَيْهِ أن يقفلك ويعيدك إِلَى حالك ففعل؟ قَالَ: بلى، قَالَ: فلعنتني عَلَى منبر البصرة وشتمتني عَلَى منبر الْكُوفَة وأخذت رسولي فقطعت يديه ورجليه وصلبته منكوسا؟ قَالَ: بلى. قَالَ: فأنت ترجو الهوادة عندي لا أم لك.
وتمثل:
أبعد الذي بالنعف نعف كويكب [1] ... رهينة رمس من تراب وجندل
أذكر بالبقيا عَلَى من أصابه ... وبقياي أني جاهد غير مؤتل
أنختم عَلَيْنَا كلكل الحرب مرة ... فنحن منيخوها عليكم بكلكل
__________
[1] النعف: ما انحدر من حزونة الجبل، وارتفع من منحدر الوادي، ومن الرملة: مقدمها وما استرق منها. وكويكب: مسجد بين تبوك والمدينة للنبي صلى الله عليه وسلم.
القاموس.(7/373)
قم يَا عتاب بْن مسروق فاضرب عنقه، ودع عَلَيْهِ من ثيابه مَا يواري عورته. فَقَالَ: قد أمنني عَبْد العزيز، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: مَا يقول؟ فأخبر بِهِ، فَقَالَ: كذب ولو أمنه لم أجز أمانه، فضربت عنقه.
قَالَ ابْن شبه فِي روايته: وأتي عَبْد الْمَلِكِ بالمسور بْن مخرمة بْن عوف الْكَلْبِيّ فَقَالَ: ألم يأتني بك الأصبغ يدعيك عبدا، فقلت أرى جلدة عربية ولأن يكون لك ابْن عم خير من أن يكون لك عبدا، فأثبت نسبك وفرضت لك في أربعمائة، ثُمَّ أصحبتك للوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ حين أغزيته وأمرته أن يجعلك من البشراء؟. قَالَ: بلى. قال: قم يا أبا العباس فاضرب عنقه.
ففعل.
ثُمَّ أتي بابن عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد الْخَطْمِيّ، من الأنصار، فَقَالَ لَهُ: من أنت؟ قَالَ: أنا ابْن عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيدَ الْخَطْمِيّ. قَالَ: من أَهْل بيت سبابة؟
قَالَ: اقبل فِي وَصِيَّةُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأنصار أن يقبل من محسنهم ويعفى عَن مسيئهم. فَقَالَ: خلوا سبيله.
وأتي بغطيس الجهني ومعه ابْن لَهُ يتعلق بِهِ وهو يقول: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَبِي، فرحمه وَقَالَ: قد وهبتك لابنك.(7/374)
(من)
(أخبار عَبْد الْمَلِكِ
) الْمَدَائِنِيّ عَن سحيم قَالَ: دخل عروة بْن الزُّبَيْرِ عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وعنده الحجاج، فكلم عروة عَبْد الْمَلِكِ بكلام فيه بعض الغلظة، فَقَالَ لَهُ الحجاج: يا بن العمياء، أتقول هذا لأَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟ فَقَالَ عروة: وما أنت وهذا يا بن المتمنية، يعني أن الفارعة بِنْت همّام بْن عروة بْن مَسْعُود، وهي أم الحجاج تمنت أنها عَلَى سطح فياح وعندها نصر بْن حجاج فقالت:
هل من سبيل إِلَى خمر فأشربها ... أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج
الْمَدَائِنِيّ عَن علي بْن سليم عَن مُحَمَّد بْن علي الكناني قَالَ: حج عَبْد الْمَلِكِ فأتى الطائف فسايره أَبُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هشام، وعبد الرَّحْمَنِ بْن أم الحكم أخت مُعَاوِيَة، فذكر ابْن أم الحكم الطائف ففضلها وفضل أهلها، وَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، جاء الإسلام وفينا من قريش عدة نساء فكثر، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لأبي بكر: مَا تقول؟ فَقَالَ: إذا لا تجد فيهن مغيرية، فَقَالَ ابْن أم الحكم: نحن أعلم بقومنا، إنا نعتام الكرام لمناكحنا، ونأتي الأودية من ذروتها ولا نأتيها من أذنابها. فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: قاتلك اللَّه فما أسبّك.(7/375)
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: جرت بين عَبْد الْمَلِكِ وبين عَمْرو بْن سعيد منازعة فِي شيء، فأغلظ لَهُ عَمْرو بْن سعيد، فَقَالَ خالد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ: إن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ لا يكلم مثل هذا الكلام، فقال: اسكت، فو الله لقد سلبوك ملكك وغلبوك عَلَى أمرك فما كَانَ عندك نكير فما هذه النصيحة لَهُ، أنت والله كما قَالَ الشاعر:
ومرضعة أولاد أخرى وضيعت ... بنيها فلم ترفع بِذَلِكَ مرفعا
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: لما أمر عَبْد الْمَلِكِ بقتل عَمْرو بْن سعيد شاور خالد بْن يَزِيدَ فيه فَقَالَ لَهُ: اقتله، فَقَالَ عمرو: اسكت فو الله لقد سلبت ملكك ونيكت أمك فما عندك نكير، فما هذه النصيحة؟ فَقَالَ: أما أنت فقد وقعت فِي الأنشوطة فانظر كيف تخلص، وإنما أنت كما قَالَ الأول:
أهم بأمر الحزم لو أستطيعه ... وقد حيل بين العير والنزوان
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ لثابت بْن عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ: أبوك كَانَ أعلم بكم حيث كَانَ يشتمكم. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أتدري لم كَانَ يشتمني؟، إني نهيته أن يقاتل بأهل مَكَّة وأهل المدينة، لأن أَهْل مَكَّةَ أخرجوا رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأخلفوه، ثُمَّ جاؤوا إِلَى المدينة فأخرجهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منها وسيرهم، يعرض بالحكم بْن أَبِي العاص. وأما أَهْل المدينة فخذلوا عثمان حَتَّى قتل بينهم لم يروا أن يدفعوا عنه.
المدائني عن مسلمة بن محارب عن بشير بْن عبيد اللَّه إِن عُمَر بْن عُبَيْدِ اللَّهِ بْن مَعْمَر دخل عَلَى عَبْد الْمَلِكِ وعليه جبة حبرة مصدأة، عَلَيْهَا أثر الحمائل فَقَالَ لَهُ أمية بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد: يَا أبا حفص أي رجل أنت لو كنت من غير من أنت منه من قريش؟ قَالَ: مَا أحب أني من غير من(7/376)
أنا منه، إن منا لسيد النَّاس فِي الجاهلية عَبْد اللَّهِ بْن جدعان، ومنا سيد النَّاس فِي الإسلام بعد رسول اللَّه أَبُو بكر الصديق، وما هذه يدي عندك، إني استنقذت أمهات أولادك من عدوك وهن حبالي فولدن فِي حجالك، يعني استنقاذه إياهن من أَبِي فديك بالبحرين.
وَقَالَ أمية لعَبْد الْمَلِكِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن هذا دهره الامتنان علي، وهو كما قال الشاعر:
فو كنت كذئب السوء لما رَأَى دمًا ... بصاحبه يومًا أحال عَلَى الدم
وأنشد عمر:
ولو كنت صلب العود أو كابن معمر ... لخضت حياض الموت والليل مظلم
فتبسم عَبْد الْمَلِكِ وَقَالَ: قل لَهُ كما قَالَ لك.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: أجرى عَبْد الْمَلِكِ الخيل فسبق عباد بْن زياد فَقَالَ الشاعر:
سبق عباد وصلى [1] وثلث ... بخيله تلك الخفيفات الجثث
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ:
سبق عباد وصلت لحيته ... وَكَانَ خرازا يجود قربته
قَالَ: ويقال! إن عبادا كَانَ خرازا ثُمَّ ادعاه زياد بعد، وَكَانَ باع أمه وهي حامل بِهِ ثُمَّ أقر بعد أنه ولده، فشكا عباد قول عَبْد الْمَلِكِ إِلَى خَالِد بْن يَزِيدَ بْن مُعَاوِيَةَ فَقَالَ خالد: والله لأضعنك منه بحيث يكره، فزوجه أخته، فكتب الحجاج إِلَى عَبْد الْمَلِكِ: إن مناكح آل أبي سفيان قد ضاعت،
__________
[1] أي جاء تاليا للسابق. القاموس.(7/377)
فأخبر عَبْد الْمَلِكِ خالدا بكتاب الحجاج فَقَالَ خالد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أعلم امرأة منا ضاعت ولا اغتربت إلا عاتكة بنت يَزِيد بْن مُعَاوِيَةَ فإنها عندك، وما عنى الحجاج غيرك، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: بل عنى الدعي بْن الدعي عبادا.
فَقَالَ خالد: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أفأدعي رجلا لا أزوجه، إنما كنت ملوما لو زوجت دعي غيري.
قالوا: واستعمل عَبْد الْمَلِكِ نافع بْن علقمة بْن صفوان بْن محرث عَلَى مَكَّة فخطب ذات يوم وأبان بْن عثمان تحت المنبر فشتم طلحة والزبير، فلما نزل قَالَ لأبان: أأرضيتك فِي المدهنين فِي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لا ولكن سؤتني فحسبي أن يكونا شركاء فِي أمره، فبلغ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ: صدق أبان، وكتب إِلَى نافع ينهاه عَن مثل مَا كَانَ منه.
الْمَدَائِنِيّ عَن عَبْد الحكيم الأشج عَن أَبِي قرة أن عَبْد الْمَلِكِ خطب زينب بنت عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الْحَارِث بْن هِشَام فأبت أن تتزوجه وقالت: والله لا يتزوجني أَبُو الذبان، فتزوجها يَحْيَى بْن الحكم بْن أَبِي العاص، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: والله لقد تزوجته أسود أفوه، فَقَالَ يَحْيَى: أما إنها إذا أحبت مني مَا كرهت منه.
وَكَانَ عَبْد الْمَلِكِ رديء الفم، كَانَ يدمى فيقع عَلَيْهِ الذباب.
الْمَدَائِنِيّ أن ليلى الأخيلية استأذنت عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فأمر حاجبه أبا يوسف أن يدخلها، ويقال بل كانت بثينة صاحبة جميل، فدخلت امرأة طويلة يعلم أنها قد كانت جميلة، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: يَا أبا يوسف ألق لها كرسيا. ففعل، فَقَالَ لها عَبْد الْمَلِكِ: ويحك مَا رجا ثوبة- أو قَالَ جميل- منك؟ فقالت: رجا مني الَّذِي رجته منك الأمة حين ولتك أمرها.(7/378)
وروى الأصمعي عَن نافع بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي نعيم المقرئ قَالَ:
قَالَ عَبْد الملك للحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وهو القباع: مَا كَانَ الكذاب- يعني ابْن الزُّبَيْرِ- يقول فِي كذا؟ قَالَ: مَا كَانَ كذابا. فَقَالَ لَهُ يَحْيَى بْن الحكم: من أمك يَا حار؟ فَقَالَ: هي من تعلم. فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: اسكت فإنها أنجب من أمك.
وكانت أم الحارث نصرانية فلما ماتت أتاه قوم من المسلمين يحشدون لَهُ ويجلسون مَعَهُ فَقَالَ: رحمكم اللَّه انصرفوا فإن لها ولاة غيركم، وكانت سبية سباها أبوه من اليمن.
الْمَدَائِنِيّ عَن مسلمة بْن علقمة المازني أن عَبْد الْمَلِكِ قَالَ: العجب لخالد بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد، وليته البصرة وأمرته أن يجرد السيف ويمنع المال، فبذل المال وأغمد السيف. فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن فضالة الزهراني:
يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لو جرد السيف لوجد سيوفا مجردة، ولو منع المال لوجد أيديا تنازعه.
الْمَدَائِنِيّ عَن الفضل بْن سليمان أن عَبْد اللَّهِ بْن خالد بْن أسيد تزوج امرأة من مراد فولدت لَهُ جارية تزوجها عَبْد اللَّهِ بْن مطيع العدوي، فدخلت المرادية عَلَى عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ لها: خدعتم الشيخ حَتَّى زوج ابْن مطيع فما رجا ابْن مطيع وما رجوتم منه؟ فقالت: مَا رجا أبوك من بني حنطب وقالت:
وما لي لا أبكي وتبكي قرابتي ... وقد نكح البيض الأوانس حنطب
بني لسوداء المغابن جعدة ... لها نسب فِي آل دومة مطنب
الْمَدَائِنِيّ عَن إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ، عَن عجلان مولى عباد قَالَ: كنت عند عَبْد الملك فأتاه أبو يوسف حاجبه فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هذه بثينة جميل(7/379)
بالباب. فَقَالَ: أدخلها، فدخلت امرأة أدماء طويلة يعلم أنها كانت جميلة، فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: يَا أبا يوسف ألق لها كرسيا. فألقاه لها، فَقَالَ لها عَبْد الْمَلِكِ: ويحك مَا رجا جميل منك؟ قالت: الَّذِي رجت منك الأمة حين ولتك أمرها.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: اصطرع مُحَمَّد وهشام ابنا عَبْد الْمَلِكِ بين يديه فصرع هِشَام محمدا وقعد عَلَى صدره فَقَالَ هِشَام: أنا ابْن الوحيد. وكانت أمه مخزومية. فغاظ ذَلِكَ عَبْد الْمَلِكِ فَقَالَ: عودا، فصرع مُحَمَّد هشاما فقعد عَلَى صدر هِشَام وَقَالَ: سأرهقه صعودا، فضحك عَبْد الْمَلِكِ وضم محمدا إليه.
المدائني قال: ضرب يحيى بن سعيد بْن العاص يوم قتل عَبْد الْمَلِكِ عَمْرو بْن سعيد الوليد بْن عَبْد الْمَلِكِ عَلَى إليته، فحبسه عَبْد الْمَلِكِ أربعين يوما ثُمَّ قَالَ لَهُ: يَا أبا قبيح، لو قتلت الوليد بأي وجه كنت تلقى ربك؟ قَالَ:
بالوجه الَّذِي خلق، وَكَانَ يكنى أبا قبيح لقبح وجهه. وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: لله دره أي ابْن زوملة هو، يعني عربية، وكانت كنيته أبا أيوب.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: حرم الحجاج أَهْل العراق أعطيتهم لمظاهرتهم ابْن الأشعث، وكتب إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يعلمه ذَلِكَ فكتب إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ: «إنا إنما نستوجب طاعتهم بإدرار أرزاقهم، فأعطهم إياها فإن فِي ذَلِكَ أعظم الحجة لنا عليهم، وهبك حرمت المقاتلة لسوء الطاعة فما بال الذراري؟! قالوا: وأتى الحجاج بحطيط الحرامي الزيات وحرام بْن كعب بْن سعد بْن زَيْد مناة بن تميم، فسأل الحجاج حطيطا عَن أَبِي بكر فَقَالَ خيرا، ثُمَّ عَن عمر فَقَالَ خيرا، ثُمَّ سأله عَن عثمان فَقَالَ: لم أولد إذ ذاك. قال الحجاج: يابن اللخناء، أولدت زمان أَبِي بكر وعمر ولم تولد زمان عثمان؟(7/380)
فقال: يا بن اللخناء لا تعجل علي، إن النَّاس أجمعوا عَلَى أَبِي بكر وعمر، واختلفوا فِي عثمان، فوسعني أن أكله إِلَى اللَّه.
قَالَ: أما والله لألحقنك بالنار. قَالَ: أما ترضى أن تكون مالكا فِي الدنيا حَتَّى تكون مالكا فِي الآخرة، فَقَالَ الحجاج: علي بصاحب العذاب، فدفعه إِلَيْهِ وَقَالَ: أسمعني اليوم صوته. قَالَ: نعم. فَقَالَ حطيط:
كذب. فجعل يعذبه حَتَّى وضع الدهق عَلَى ساقيه وَكَانَ ثقيلا فكسر إحدى ساقيه وَقَالَ: أنا فلان، فَقَالَ حطيط: لعنك اللَّه تتكنى علي لئن كسرت ساقي. فجعل يعذبه هو ساكت لا يتكلم فأخبر الحجاج بأمره، فدعا بِهِ فحمل حَتَّى وضع بين يديه فَقَالَ لَهُ الحجاج. أتقرأ من القرآن شيئا؟ فَقَالَ حطيط: بل أنت تقرأ. فقرأ الحجاج: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حَتَّى بلغ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا [1] فَقَالَ حطيط: وأنت تقتلهم.
قَالَ: فبينا هو يحاوره إذ وقع ذباب عَلَى بعض جراحاته فقال:
حس، فقال الحجاج: يابن اللخناء أتجزع من ذباب ولا تجزع من العذاب؟ قال: يابن اللخناء إني عاهدت اللَّه عليك ولم أعاهده عَلَى الذباب. عاهدت اللَّه لأجاهدنك بيدي ولساني وقلبي، فأما يدي فما أجد عليك أعوانا، وأما لساني فقد تسمع، وأما قلبي فالله أعلم بما فيه.
فَقَالَ الحجاج: علي بمسال الحديد فجعلت تدخل فيما بين الظفر واللحم وهو ساكت، فَقَالَ بعض جلساء الحجاج: مَا أصبره، فقال
__________
[1] سورة الأنسان- الآيات: 1- 8.(7/381)
حطيط: أو مَا علمت أن اللَّه عز وجل يفرغ الصبر إفراغا، فأمر بِهِ فأدرج فِي عباء وضرب بالخشب حَتَّى قتل.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ عَنِ مُحَمَّد بْن فضيل بْن غزون عَن إِبْرَاهِيم المؤذن قَالَ: لما صلب ماهان الحنفي طعن وهو يسبح وفي يده أربع وعشرون، فرأيته عَلَى الخشبة والعقد فِي يده، وكنا نرى السرج بالليل عند خشبته.
وروى أَبُو بكر بْن عياش عَن عمار الدهني قَالَ: لما صلب ماهان أَبُو صالح، اجتمع النَّاس فنظر إلي فَقَالَ: يَا عمار، وأنت ههنا أيضا.
قالوا: وَكَانَ الحجاج بعث إِلَى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي ليلى فَقَالَ: بلغني أنك تشتم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عثمان، فَقَالَ: إنه ليمنعني من ذَلِكَ ثلاث آيات فِي كتاب اللَّه، قوله: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ إِلَى قوله: الصادقون. وقوله: والذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم إلى قوله: رؤوف رحيم [1] وأنا منهم. فأعجب الحجاج قوله.
ثُمَّ إن ابْن أَبِي ليلى أدخل عَلَى الحجاج بعد ذَلِكَ فَقَالَ: يَا أَهْل الشام إن أردتم رجلا يشتم أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عثمان فدونكم هذا. فَقَالَ عَبْد الرَّحْمَنِ مثل قوله الأول، فَقَالَ الحجاج: صدق.
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ عَن هشيم، ثنا الأَعْمَشِ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي ليلى وقد ضربه الحجاج ووقفه على باب المسجد. فجعلوا
__________
[1] سورة الحشر- الآيات: 8- 10.(7/382)
يقولون لَهُ: العن الكذابين، فيقول: لعن اللَّه الكذابين ويسكت، ثُمَّ يبتدئ فيقول: عَليّ بْن أَبِي طَالِب وعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر والمختار بْن أَبِي عبيد.
فجعلت أعرف حين سكت ثُمَّ ابتدأ أنه لا يريدهم.
وحدثت عَن أَبِي بكر بْن عياش، وحفص بْن غياث عَن الأَعْمَشِ قَالَ: رَأَيْتُ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن أَبِي ليلى عَلَى المصطبة. وكأن ظهره مسح أسود لضرب الحجاج إياه، وهم يقولون لَهُ: العن الكذابين، فيقول: لعن اللَّه الكذابين ثُمَّ يسكت، فيقول: عَليّ بْن أَبِي طَالِب وعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر والمختار بْن أَبِي عبيد، وأهل الشام حوله كأنهم حمير مَا يعقلون مَا يقول.
وقوم يقولون: غرق ابْن أَبِي ليلى بدجيل، وآخرون يقولون: قتل يوم الجماجم، وَكَانَ الحجاج أقامه قبل ذَلِكَ.
قالوا: وأتي الحجاج بالفضيل بْن بزوان العدواني فَقَالَ لَهُ: فضيل؟
قَالَ: فضيل! قَالَ: ألم أكرمك؟ قَالَ: بل أهنتني. وَكَانَ قد ولاه حين قدم العراق عملا فهرب.
قَالَ: ألم أقربك؟ قَالَ: بل باعدتني. قَالَ: والله لأقتلنك. قَالَ:
بغير جرم ولا فساد فِي الأرض؟ قَالَ: كل ذَلِكَ قد أتيت بمعصيتي، فقتله.
ويقال إنه قَالَ لَهُ: إذًا أُخاصمك فِي دمي. قَالَ: إذًا أخصمك.
قَالَ: إن الحاكم يومئذ غيرك.
قالوا: ودخل الحسن بْن أَبِي الحسن عَلَى الحجاج بعد قتل ابْن الأشعث فَقَالَ: حملت علي السلاح؟ قَالَ: والله مَا فعلت، فأخرج(7/383)
الحجاج إِلَيْهِ كفه فمسح عَلَيْهَا ثُمَّ لم يأمنه فتوارى، فيقال إنه توارى تسع سنين، وَكَانَ يتنقل فِي منازل النَّاس ثُمَّ لزم منزله فتوارى فيه.
حَدَّثَنِي خلف بْن هِشَام وعفان قالا، ثنا هشيم بْن بشر: أَنْبَأَنَا العوام بْن حوشب أنه لما انطلق بإبراهيم التيمي إِلَى السجن قَالَ لَهُ أصحابه: هل توصي إِلَى إخوانك بشيء تحب أن نبلغهم إياه عنك، ألك حاجة؟. قَالَ: نعم تذكروني عند غير الرب الَّذِي عناه يوسف.
قَالَ خلف: يقول تدعون اللَّه لي ولا تشفعون لي إِلَى السلطان. وإن إِبْرَاهِيم لم يسأل العافية مما هو فيه حَتَّى مات فِي محبسه، وَكَانَ يقول: اللهم هذا بعينك، اللهم قد ترى.
وَحَدَّثَنَا عَمْرو النَّاقِد عَن سفيان بن عينية عَن أَبِي سعد قَالَ: دخل عَلَيْنَا إِبْرَاهِيم التيمي السجن فتكلم، فَقَالَ أَهْل السجن: مَا يسرنا أنا خارجون منه.
حَدَّثَنِي عمر بْن شبه عَن الأصمعي قَالَ: قَالَ يَزِيد بْن أَبِي مسلم:
هاتوا إِبْرَاهِيم فقيل: إنهما إبراهيمان التيمي والنخعي. قَالَ: هاتوهما جميعا.
فمات التيمي فِي الحبس واستخفى النخعي.
حَدَّثَنَا خلف البزار، ثنا أَبُو شهاب عَن الحسن بْن عَمْرو قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم النخعي ليالي الحجاج متواريا وَكَانَ المسجد عَلَى بابه، فكان لا يخرج فيصلي فيه.
الْمَدَائِنِيّ عَن عامر بْن حفص قَالَ: حبس الحجاج إِبْرَاهِيم التيمي فجاءت ابنته فلم تعرفه حَتَّى كلمها، وَكَانَ الحجاج يطعم أَهْل السجن دقيق الشعير والرماد مخلوطين.(7/384)
ومات إِبْرَاهِيم التيمي فِي السجن فرأى الحجاج فِي الليلة التي مات فيها قائلا يقول: مات فِي هذه الليلة رجل من أَهْل الجنة، فلما أصبح قَالَ: من مات الليلة بواسط؟. قالوا: إِبْرَاهِيم التيمي قَالَ: نزغة من نزغات الشيطان، وأمر بِهِ فألقي.
وَقَالَ الأصمعي: مات الحجاج وَأَبُو عَمْرو بْن العلاء مستخف فسمع أعرابيا يقول: مات الحجاج. وأنشد:
ربما تشفق النفوس من الأم ... ر لَهُ فرجة كحل العقال
فَقَالَ أَبُو عَمْرو: مَا أدري أبموت الحجاج كنت أسر أم بقوله فرجة، إنما كنا نرويها فرجة. وأتي الحجاج برجل من ثقيف كَانَ فِي الأسرى فشهق فمات.
قالوا: وأتي الحجاج بأعشى همدان فقال له: يابن اللخناء ألست القائل:
أمكن ربي من ثقيف همدان ... يوما إِلَى الليل تخلي مَا كَانَ
فقد أمكن اللَّه ثقيفا من همدان، أو لست القائل [1] :
وسألتني بالمجد أين محله ... فالمجد بين مُحَمَّد وسعيد
بين الأشج وبين قيس في الذرا ... بخ بخ لوالده وللمولود
والله لا تبخبخ لأحد بعد اليوم أبدا، ثم أمر بضرب عنقه.
__________
[1] الأغاني ج 6 ص 46. مع فوارق.(7/385)
قالوا: وأتي بابن القرية فَقَالَ: أئذن لي فِي الكلام. فَقَالَ: لا تكلمني.
قَالَ: ائذن لي جعلت فداك فِي ثلاث كلمات كالدهم الواقفات، فأمر بِهِ فضربت عنقه.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: قتل الحجاج أيوب بْن السائب بْن النمر بْن قاسط وأمه القرية.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: أمره أن يكتب كتابا إِلَى ابْن الأشعث فكتبه، وَقَالَ:
انطلق بِهِ إِلَيْهِ، فأتاه بالكتاب، فَقَالَ: أنت كتبته؟ قَالَ: لا. قَالَ: بلى والله لا جرم لتكتبن جوابه فكتبه، وأتى الحجاج فلما قرأه قَالَ: هذا كتابك. قَالَ:
أكرهني عَلَيْهِ. فقتله.
وَقَالَ عليّ بْن مُحَمَّد أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِيّ عَن أشياخه: قتل زياد بْن مقاتل بْن مسمع مَعَ ابْن الأشعث فقالت امرأته بنت شقيق بْن ثور:
وما كنت أخشى أن أقوم سوية ... لأبغي زيادا لا أموت وأكمد
وحبس الحجاج مسمع بْن مالك، فكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الحجاج:
قد كَانَ من بلاء مالك بْن مسمع عندنا مَا يعفي عَن ذنب مسمع ابنه، فخل عنه ووله سجستان. فولاه إياها فظهر أَبُو جلدة اليشكري فِي ولايته، وَكَانَ مستخفيا من الحجاج، فكتب إِلَيْهِ الحجاج فِي حمله، فكتب إِلَيْهِ: إنه قد مات، فكتب إِلَيْهِ: لا رحمه اللَّه، ابعث إلي بشعره. فأراد أَبُو جلدة أن يشخص إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أتكذبني ويلك، أقم ولا تظهر. وبعث إِلَى الحجاج بشعره، ثُمَّ عتب أَبُو جلدة عَلَى مسمع فقال:(7/386)
إذا كَانَ خير قلت قيس عشيرتي ... تميل عَلَيْنَا جائرا فِي قضائكا
وإن كانت الأخرى فبكر بْن وائل ... تخاف عَلَيْهَا ردها من ورائكا
قضية سوء مَا قضيت ابْن مالك ... أما إن ستجزى فاعلمنّ بذلك
فأعطاه عشرة آلاف درهم فَقَالَ:
يَا مسمع بْن مالك بْن مسمع ... أنت الجواد والخطيب المصقع
فاصنع كما كَانَ أبوك يصنع
فَقَالَ: لعنه اللَّه أمرني أن أفعل بأمي مَا كَانَ يفعل أَبِي، ويقال أن الفرزدق قَالَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: أتي الحجاج بطفيل بْن حكيم بمسكن، فَقَالَ لَهُ: ألم أجعلك عريفا، ألم أفعل، ألم أفعل؟ قَالَ: بلى. قَالَ: فما أخرجك علي؟
قَالَ: يَا أبا مُحَمَّد، إن رأيت أن تأذن لي فألحق بأهلي؟ قَالَ: نعم، الحق بهم.
فلما ولى قَالَ الحجاج: مَا كنت أرى أن بِهِ البائس من الضعف كل هذا.
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: قدم إِلَى الحجاج قيس بْن مسعود فَقَالَ: مَا كنت أظنك إلا عند أَبِي حفص، يعني عمر بْن مُحَمَّد بْن أَبِي عقيل، وَكَانَ بالبلقاء، فَقَالَ يَزِيد بْن أَبِي كبشة: أَكُفَّارُكُمْ خير من أولئكم [1] قَالَ الحجاج: كأنك ترى أن مَا قلت لَهُ ينجيه، وأمر بِهِ فقتل، وكانت ابنته عند عمر بْن مُحَمَّد بْن أَبِي عقيل فلذلك قَالَ لَهُ مَا قَالَ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: قتل مَعَ ابْن الأشعث عَبْد اللَّهِ بْن رزام، والحريش بْن هلال، وعمر بْن عتبة بْن أَبِي سفيان، ويزيد بْن كعب العدوي الشاعر، ونويرة الحميري وَكَانَ لَهُ هوى فِي أهل العراق فأعلمهم بمكانهم فقتل
__________
[1] سورة القمر- الآية: 43.(7/387)
وطفيل بْن عامر بْن واثلة، وغرق ابْن أَبِي ليلى بدجيل الأهواز، ويقال قتل يوم الجماجم.
وقتل مرة بْن شراحيل الهمداني الَّذِي يقال لَهُ مرة الطيب. وَقَالَ لَهُ الحجاج: أما فِي الفتنة فأنت صحيح تحض وتأمر، وأما فِي الجماعة فأنت مريض سقيم ثُمَّ تسعى عَلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عثمان.
قَالَ: وقتل بالكوفة رجالا من أَهْل الشام رأوا رأي ابْن الأشعث فأعانوه ويقال تعصبوا لَهُ باليمانية.
وغرق عَبْد اللَّهِ بْن شداد بْن الهاد الليثي يوم مسكن فِي دجيل الأهواز.
ويقال قتل يوم دير الجماجم.
وأتي الحجاج بعمران بْن عصام العنزي الشاعر أحد بني هميم، فَقَالَ:
يَا عمران ألم أوفدك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ فوصلك، ثُمَّ قدمت فوصلتك؟ قَالَ: بلى ولكن باذام مولى ابْن الأشعث أخرجني. قَالَ: أما كَانَ فِي حجلة [1] امرأتك مقعد لك؟ قَالَ: قد فعلت فأخرجني باذام بالسيف. فهم بالعفو عنه فنظر إِلَى رأسه فإذا هو محلوق فقتله.
ويقال إن الحجاج أتي بعمران بْن عصام فَقَالَ لَهُ: أقررت بالكفر؟.
قَالَ: مَا كفرت مذ آمنت، فقتله.
قَالَ: وأخذ ماهان الحنفي بِمَكَّةَ فحمل إِلَى الحجاج فشد عَلَيْهِ قصبا قد شق ثُمَّ أمر بِهِ فجذب فقطع جلده فكان يقول أخذت فِي حرم اللَّه، وأنا بعين اللَّه، ونعم القادر اللَّه، فألقي وقد ذهب مَا عَلَى عظامه من اللحم، فرق له
__________
[1] الحجلة: كالقبة، وموضع يزين بالثياب والستور للعروس. القاموس.(7/388)
أصحابه وبكوا فَقَالَ: لا تجزعوا فإن كانت النار فما أيسر هذا فيما يراد بي، وإن كانت الجنة فهذا محتمل.
قَالَ: وقتل الحجاج فيروز حصين فِي العذاب وَكَانَ مَعَ ابْن الأشعث، وَكَانَ الحجاج جعل فِي رأسه عشرة آلاف درهم وجعل هو فِي رأس الحجاج مائة ألف. فلما قدموا بِهِ فِي الأسرى من خراسان قَالَ: احبسوا أبا عثمان، فحبس واستأداه فَقَالَ: إن أمنني عَلَى دمي لم أكتمه شيئا. فلم يؤمنه وعذبه فَقَالَ: أخرجوني فإن لي عند النَّاس ودائع فأخرج وكثر النَّاس فَقَالَ: أيها النَّاس. أنا فيروز حصين فليبلغ الحاضر الغائب، إن من كَانَ لي عنده مال فهو لَهُ. فَقَالَ لصاحب العذاب: اقتله. فوضع الدهق عَلَى صدره حَتَّى قتله.
قَالَ: ويقال إن فيروز كتب ماله ولم يسم من هو عنده وَقَالَ: لا أسميهم أو تؤمنني عَلَى دمي، فلم يؤمنه وقتله.
وقتل الحجاج عُمَر بْن مُوسَى بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر وَقَالَ لَهُ: ألست صاحب ليلة سابور مَعَ ابْن الأشعث وقد خضبت أيرك؟ فَقَالَ: لقد كنت أرغب بِهِ عَن عقائل نساء قومك. فقتله.
وقتل الحجاج عتبة بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن سمرة حين حمل إِلَيْهِ.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: أتي بعمران بْن عصام فَقَالَ لَهُ: ألم أقدم العراق وأنت خامل فنوهت باسمك وزوجتك مولاتك ابنة مقاتل بْن مسمع ولست لها بكفء، وأوفدتك إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ؟
قَالَ: بلى. قَالَ: فخرجت علي تضربني بسيفك مَعَ ابْن الحائك؟.
قَالَ: قد فعلت. قَالَ: أكفرت بخروجك علي؟. قَالَ: مَا كفرت مذ(7/389)
أسلمت. فأمر بِهِ فضربت عنقه، فَقَالَ عَبْد الملك: أقتل عمران بْن عصام بعد قوله:
وبعثت من ولد الأغر معتب ... صقرا يلوذ حمامه بالعوسج
مهما طبخت بناره أنضجته ... وإذا طبخت بغيرها لم ينضج
قَالَ: وَكَانَ ممن خرج مَعَ ابْن الأشعث: يُوسُف بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُثْمَان بْن أَبِي العاص الثقفي فهرب، ثُمَّ مثل بين يدي الحجاج فلما رآه قَالَ:
ثكلتك أمك. قَالَ: وأبي مَعَ أمي. قَالَ: أين ألقتك الأرض بعدي؟ قَالَ:
مَا قمت مقاما أوسع من مقامي، إن اللَّه استعملك عَلَيْنَا فأبينا فأبى عَلَيْنَا.
فأمنه.
وقتل الحجاج آدم بْن عَبْد الرَّحْمَنِ أخا صالح بْن عَبْد الرَّحْمَنِ. ويقال بل قتله لأنه كَانَ يرى رأي الخوارج.
الْمَدَائِنِيّ عَن سَعِيد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ عَن مالك بْن دينار قَالَ: حبس الحكم بْن أيوب الثقفي علي بْن زيد بْن عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي مليكة بْن عَبْد اللَّهِ بْن جدعان التيمي، والحسن يومئذ مُستخفٍ ونحن مَعَهُ مُسْتَخْفُون فأتاه الحسن ليلا وأتيناه فأجلسه مَعَهُ عَلَى السرير، فما كنا عنده ليلتنا إلا مثل الفراريج.
فذكر يوسف وإخوته فَقَالَ: باعوا أخاهم وحزنوا أباهم، ومكانهُ من أبيه مكانه، ثُمَّ لقي يوسف عَلَيْهِ السلام مَا لقي من الحبس وكيد النساء ثُمَّ أداله اللَّه منهم وأعلى كعبه. فلما أكمل أمره وجمع أهله وأقر عينه بأبويه قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ(7/390)
لكم وهو أرحم الراحمين [1] قَالَ الحكم: وأنا أقول: لا تثريب عليكم، لو لم أجد إلا ثوبي هذا لسترتكم بِهِ، وأطلق عَلِيًّا.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: وأخذ الحجاج عَبْد اللَّهِ بْن شريك الأعور وَكَانَ خرج مَعَ ابْن الأشعث فقتله، ويقال: كَانَ هرب إِلَى سجستان فبعث بِهِ إِلَى الحجاج.
وأتي بالمساور بْن رئاب السليطي فقتله، وَقَالَ: ادفعوه إِلَى أهله فأهل القتيل يلون القتيلا. ويقال: قتل يوم الزاوية فِي المعركة.
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: وَكَانَ الحجاج إِذَا قتل رجلًا فتزوجت امرأته كف عنها، وإذا لم تتزوج حبسها فِي قصر المسيرين، فحبس من قدر عَلَيْهِ من نساء أصحاب الأشعث.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: لما أتي الحجاج برأس ابْن الأشعث سجد وَقَالَ: كنت أحب أن أوتي بِهِ أسيرا فأقيمه فيخطب عَلَى حزبه خطبة إبليس عَلَى أَهْل النار: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ [2] الآية.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَائِدٍ، وَسُحَيْمِ بْن حفص قالا: عرض الحجاج أَهْل البصرة بعد هزيمة ابْن الأشعث عَلَى الإقرار بالكفر والنفاق فمن أقر ختم فِي يده، ومن أبى قتله فما أبى ذَلِكَ إلا ثلاثة قتلهم، فكان ابْن سيرين يلبس رداء وإزارا ولم يكن ختم فيمن ختم، فقيل لَهُ: لو لبست قميصا ليكون أستر ليدك فمن رآك ظن أنك قد ختمت فأبى ذلك.
__________
[1] سورة يوسف- الآيتان: 91- 92.
[2] سورة إبراهيم- الآية: 22.(7/391)
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ شَبَّةَ عَنْ أَبِي دَاوُدَ عَنْ شعبة عَن عَمْرو بْن مرة قَالَ: لما كَانَ يوم الجماجم أراد القراء أن يؤمروا عليهم أبا البختري الطائي فَقَالَ: إني مولى فأمروا رجلا من العرب.
وروى سفيان بْن عيينة عَن العلاء بْن عَبْد الكريم قَالَ: رآني طلحة بْن مصرف وأنا أضحك، فَقَالَ: أما هذا فلم يشهد الجماجم.
حَدَّثَنَا عَمْرو النَّاقِد عَن أَبِي أَحْمَد عَن عَبْد الجبار الهمداني عَن عطاء بْن السائب قَالَ: قَالَ لي أَبُو البختري الطائي يوم الجماجم: أين تفر؟. النار أشد حرا من السيف، فقاتل حَتَّى قتل.
أخبرنا عَمْرو عَن أَبِي نعيم عَن إسرائيل بْن الحكم قَالَ: سمعت ذرا بالجماجم يقول: هل هي إلا حديدة فِي يد كافر مفتون. قَالَ: وَقَالَ زادان:
وددت أن دماء أَهْل الجماجم فِي كسائي هذا وأنا خصمهم عند اللَّه.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن علي، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عياش عَن الأعمش قَالَ: قلت لإبراهيم: مالك لا تخرج، قد خرج ابْن أَبِي ليلى، وسعيد بْن جبير، وَأَبُو البختري. وعددت عَلَيْهِ، فَقَالَ: إني رجل جبان- يقول عما أقدموا عَلَيْهِ [1]-.
قالوا: وأتي الحجاج بكميل بْن زياد، أتى بِهِ قومه، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْد النخع كنت ممن سار إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عثمان فعفا عنك مُعَاوِيَة، ثُمَّ عفا عنك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عَبْد الْمَلِكِ، فأقمت فِي بيتك مقعدا لا تشهد للمسلمين جمعة ولا جماعة حَتَّى إذا خلع حواك كندة خرجت فقعدت عَلَى المنبر ثُمَّ قلت: إنّ شرّ
__________
[1] بهامش الأصل: كميل بن زياد.(7/392)
بيتين تحت أديم السماء الحكمين: الحكم بْن أَبِي العاص، والحكم بْن أَبِي عقيل، ثُمَّ أمر بِهِ فضربت عنقه، وهو شيخ كبير.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: التقى الحجاج وابن الأشعث بمسكن من أبرقباذ فقتل عَبْد اللَّهِ بْن شداد بْن الهاد فِي عسكر ابْن الأشعث، وقتل مَعَهُ بسطام بْن مصقلة بْن ميسرة الشيباني، وعمير بْن ضبيعة الرقاشي، وبشر بْن المنذر بْن الجارود، والحكم بْن مخربة العبدي، فجعل الحجاج ينظر إِلَى رأس بسطام بْن مصقلة ويقول:
إِذَا مررتَ بوادي حيةٍ ذكرٍ ... فاذهب ودعني أمارس حية الوادي
قَالَ: وبكى مسمع بْن مالك بْن مسمع فَقَالَ الحجاج: أجزعا عليهم؟
قَالَ: لا ولكن جزعا لهم من النار.
قَالَ الهيثم: وَكَانَ قبل مولى زياد عاملا لابن الأشعث عَلَى الأبلة، فأعد سفينة بحرية، فلما صار ابْن الأشعث إِلَى الأبلة حمله فِي السفينة، وركب مَعَهُ فمر بعباد بْن الحصين وهو فِي ضيعته بعبادان فناداه: يَا أبا مالك احملني معك فإني أخاف الحجاج، فَقَالَ ابْن الأشعث: إياك أن تدنو منه فإنما يريد أن يتقرب بك إِلَى الحجاج، فلما لم يطمع فيه نادى: ويلك لا يغلبنك ابْن الأشعث، تقرب بِهِ إِلَى الحجاج تأمن عَلَى نفسك وولدك، فأتوا جنابا [1] ثُمَّ ركبوا الدواب إِلَى سابور، ثُمَّ مضى إِلَى سجستان.
قَالَ الهيثم: وَكَانَ ممن تبع ابْن الأشعث: سوار بْن مرواريذ.
__________
[1] جنابة: بلدة صغيرة بساحل فارس- معجم البلدان.(7/393)
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: قَالَ ابْن عون: رأيت ابْن الأشعث يخطب عَلَى منبر البصرة متربعا مَا رأيت متربعا قط عَلَى منبر غيره، فجعل يوعد الذين ينهون عَن اتباعه، فقيل: إنما يعني الحسن. قَالَ: فأتيت الحسن فما دخل عَلَيْهِ أحد إلا نهاه عَن اتباعه.
حَدَّثَنَا عبيد الله بن معاذ عن أبيه، ثنا أَبُو معدان عَن مالك بْن دينار قَالَ: شهدت الحسن بْن أَبِي الحسن، ومسلم بْن يسار وسعيدا ومسلما يأمرون بقتال الحجاج مَعَ ابْن الأشعث فَقَالَ الحسن: إن الحجاج عقوبة جاءت من السماء، أفتستقبل عقوبة اللَّه بالسيف؟. ولكن استغفروا وادعوا وتضرعوا.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قيل لابن الأشعث: إن أردت أن يقاتل معك أَهْل البصرة جميعا فأخرج الحسن. فيقال إنه أخرجه كرها.
حَدَّثَنَا أَبُو الربيع الزهراني عَن حماد بْن زيد قَالَ: حَدَّثَنِي أيوب أنه أخرج كرها وَكَانَ ينهي عنه.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: حمل عياش بْن الأسود بْن عوف الزهري إِلَى الحجاج أسيرا، حمله يَزِيد بْن المهلب، وَكَانَ شيخا فَقَالَ الحجاج: هذا والله الأشمط الغمت [1] الغفل، أتى بالعراق مذ كذا لم أوله وجها قط، ولم أسمع لَهُ بذكر، حَتَّى إذا كانت الفتنة خرج فيها تابعا لابن الحائك. ثُمَّ أمر بِهِ فقتل.
قَالَ: وقتل مُحَمَّد بْن الأسود أخوه يوم الزاوية. قَالَ: وحمل إِلَيْهِ أيضا ابْن لعَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن رستم فإذا غلام حدث فقال: أصلح الله الأمير
__________
[1] غمته: ثقل على قلبه فصيره كالسكران. القاموس.(7/394)
ما لي ذنب. كنت غلاما صغيرا مَعَ أَبِي وأمي لا أمر لي ولا نهي. قَالَ: وكانت أمك مَعَ أبيك فِي هذه الفتن كلها؟ قَالَ: نعم. قَالَ: عَلَى أبيك لعنة اللَّه.
وروى عَبْد اللَّهِ بْن المبارك قَالَ: كَانَ مطرف بْن المغيرة بْن شعبة مَعَ ابْن الأشعث، ثُمَّ اعتزله فأتي بِهِ الحجاج بعد ذَلِكَ فَقَالَ: يَا مطرف: أكفرت؟
فَقَالَ: لم نبلغ ذَلِكَ، ولو نصرنا الحق وأهله كَانَ خيرا لنا.
حَدَّثَنَا الحرمازي، أخبرني أَبُو عبيدة معمر بْن المثنى أن الهلقام بْن نعيم التميمي قَالَ للحجاج حين أدخل عَلَيْهِ، وقد حمله إِلَيْهِ يَزِيد بْن المهلب:
لعنك اللَّه يَا حجاج إن فاتك هَذَا المزوني [1] وقد قدم قومك وأخر قومه، فوقر ذَلِكَ فِي قلب الحجاج وَقَالَ: أتخذني ابْن المهلب جزارا أجزر مضر وترك قومه اليمانية، وَكَانَ قد أمسك عَن حمل اليمانية، وحمل غيرهم من خراسان.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: لما قتل عَبْد الْمَلِكِ عَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق بْن الأشعث أصابوا فِي ثقله جارية فقالت: أنا لنافع كاتب الحجاج استودعني قوما بالبصرة، فلما خرج الحجاج عَن البصرة دلوا ابْن الأشعث علي فأخذني فصرت إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن إِسْحَاق. فبعث بِهَا إِلَى الحجاج فَقَالَ الحجاج لنافع:
هذه جاريتك وقد وطئها ابْن إِسْحَاق المنافق فلا تقربها، فأعتقها ابْن نافع وعوضه الحجاج منها خمسة آلاف درهم فتتبعتها نفسه فتزوجها وأحبلها، وغضب الحجاج عَلَيْهِ فِي سر أفشاه إِلَى صالح بْن عَبْد الرَّحْمَنِ فِي كتاب أقرأه إياه وفي مائة ألف درهم ارتشاها. وبلغه أن الجارية حبلى فأرسل إليه فقطع يديه ورجليه، وسأله عَن كتب كانت عنده، فقال: أين تلك الكتب؟ فقال:
__________
[1] أي يزيد بن المهلب.(7/395)
في حرامك. فقطع لسانه وَقَالَ: قطعت لسانك لإفشائك سري، وقطعت يديك ورجليك للرشوة، وزعمت أنك تزوجت هذه الجارية ولم تقم البينة عَلَى تزويجك فأنا أرجمك. فرجمه، وقيل: مات قبل أن يرجم.
وَكَانَ أيضا تزوج أم ولد للحجاج بغير علمه، وَكَانَ نافع مولى لمصعب، فانضم إِلَى الحجاج حين ولي العراق فاستكتبه.(7/396)
خبر مطرف بْن المغيرة بْن شعبة الثقفي وخروجه عَلَى الحجاج
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْمُغِيرَةَ الأَثْرَمُ عَنْ أَبِي عبيدة قَالَ: سمع مطرف الحجاج يقول: أرسول أحدكم أكرم أم خليفته؟ فوجم وَقَالَ: كافر والله، والله إن قتله لحلال.
وَحَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بْن عدي عَن ابْن عياش الهمداني قَالَ:
قدم الحجاج الْكُوفَة فاستعان بولد المغيرة، فولى عروة الْكُوفَة وأمه أمة كانت لمصقلة بْن هبيرة، فلم يزل عَلَى الْكُوفَة حَتَّى رجع إليها الحجاج بعد رستقباذ.
وولى حمزة بْن المغيرة المدائن، وأرسل إِلَى مطرف بْن المغيرة وَكَانَ يتأله فَقَالَ لَهُ يوما: إن عَبْد الْمَلِكِ خليفة اللَّه وهو أكرم عَلَى اللَّه من رسله. فوقرت فِي نفس مطرف، وَكَانَ يعتقد إنكار المنكر ولا يبلغ قول الخوارج، فمر شبيب بْن يَزِيدَ الخارجي بالمدائن ومطرف بِهَا فناظره فخالفه فِي رأيه ووافقه عَلَى الخروج.
وَقَالَ هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ عَن أَبِي مخنف وغيره: كَانَ بنو المغيرة صلحاء نبلاء، فاستعمل الحجاج عروة بْن المغيرة عَلَى الْكُوفَة فكتب إِلَى عبد الملك(7/397)
كتابا ذم فيه الحجاج ونسبه إِلَى العجلة والتسرع إِلَى القتل. فبعث عَبْد الْمَلِكِ كتابه إِلَى الحجاج فضربه بالسياط حَتَّى مات وذلك بالكوفة.
وَقَالَ أَبُو عبيدة: كتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى عروة وإلى مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد يسألهما عَن سيرة الحجاج. فأما مُحَمَّد بْن عمير فأتى الحجاج بكتابه فأقراه إياه وكتب جوابه برضاء الحجاج وإرادته. وأما عروة فكتب ينسب الحجاج إِلَى التجبر والعجلة فِي الأمور، والتسرع إِلَى العذاب، والإقدام عَلَى الدماء، فضربه حَتَّى قتله بالتجني عَلَيْهِ.
وَقَالَ هِشَام ابْن الْكَلْبِيّ: استعمل الحجاج حمزة بْن المغيرة عَلَى همذان واستعمل مطرفا عَلَى المدائن ونواحيها.
وخرج شبيب بْن يَزِيدَ الخارج عَلَى الحجاج، فجاء حَتَّى نزل مدينة بهرسير [1] ، فَقَالَ بشر بْن الأجدع الهمداني لمطرف:
إني أعيذك بالرحمن من نفر ... حمر السبال كأسد الغابة السود
فرسان شيبان لم يسمع بمثلهم ... أبناء كل كريم النجر صنديد
شدوا عَلَى ابْن حصين فِي كتيبته ... وغادروه صريعا ليلة العيد
وابن المجالد إذ أودت رماحهم ... كأنما زل عَن خلفاء منجود
سعيد بْن المجالد بْن عمير بْن ذي مرار الهمداني يعني أصحاب شبيب الخارجي. فقطع مطرف الجسر بينه وبين شبيب، وبعث إِلَى شبيب أن ابعث إلي رجالا من صلحاء أصحابك لأناظرهم فيما تدعو إِلَيْهِ، فبعث إِلَيْهِ قعنبا وسويد بْن سليمان فِي آخرين.
__________
[1] بهرسير: إحدى المدائن السبع التي سميت بها المدائن.(7/398)
واحتبس شبيب رسل مطرف ليكونوا رهناء عنده بأصحابه، فلما دخلوا عَلَى مطرف قَالَ سويد: السلام عَلَى من خاف مقام ربه وعرف الهدى وأهله. قَالَ مطرف: أجل فسلم اللَّه أولئك فقصوا عَلَيْنَا أمركم وخبرونا إِلَى مَا تدعون.
فحمد اللَّه سويد وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: الَّذِي ندعو إِلَيْهِ كتاب اللَّه وسنة نبيه، وقد نقمنا عَلَى قومنا الاستئثار بالفيء، وتعطيل الحدود، والتسلط بالجبرية. فَقَالَ مطرف: مَا دعوتم إلا إِلَى حق، ولا أنكرتم إلا منكرا، ولا نقمتم إلا جورا ظاهرا، وأنا لكم عَلَى مثل هذا متابع فأجيبوني إِلَى مَا أدعوكم إِلَيْهِ يجتمع أمري وأمركم، وتكن يدي وأيديكم واحدة.
قالوا: هات اذكر مَا تريد أن تذكر، قَالَ مطرف: أدعوكم إِلَى أن نقاتل هؤلاء الظلمة الغاصبين عَلَى مَا أحدثوا وندعوهم إِلَى الكتاب والسنة، وأن يكون هذا الأمر شورى بين المسلمين يولون من ارتضوه عَلَى مثل الحال التي تركهم عَلَيْهَا عمر بْن الخطاب، فإن العرب إذا علمت أنه إنما يراد الرضا من قريش رضوا وقنعوا، فإنما الأئمة من قريش. فَقَالُوا: هذا ما لا نجيبك إليه يا بن المغيرة، ولو كَانَ القوم يريدون غدرا كنت قد أمكنتهم من نفسك ففزع لها وَقَالَ: صدقت وإله موسى.
ومضى القوم فأخبروا شبيبا بقول مطرف، فطمع فيه، وبعث إِلَيْهِ من الغد سويدا، فانطلق ومعه رجل آخر، فَقَالَ لَهُ مطرف: من هذا الَّذِي ليس لك دونه سر؟ قَالَ: هذا الشريف الحسيب، هذا ابْن مالك بْن زهير بْن جذيمة العبسي. قَالَ مطرف: بخ بخ استكرمت، فاربط، إن كَانَ دينه عَلَى قدر حسبه فهو الكامل.(7/399)
ثُمَّ أقبل سويد عَلَى مطرف فَقَالَ لَهُ: قد ألقينا إِلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مَا قلت، وهو يقول لك: إنا لا نرى قريشا أحق بهذا الأمر منا، فكما اختارت قريش أفضلها بعد وفاة رسول اللَّه فكذلك لنا أن نختار أفضلنا.
وانصرف الرجلان، ثُمَّ إن مطرفا دعا رجالا من ثقاته ونصحائه فيهم الربيع بْن يَزِيدَ الأسدي فَقَالَ لهم: إنكم نصحائي وأهل مودتي ومن أثق بصلاحه وحسن رأيه، ولم أزل لأعمال هؤلاء الظلمة كارها أنكرها بقلبي، فلما عظمت خطيئتهم، ورأيت هؤلاء يجاهدونهم لم أرهم أولى بمجاهدتهم مني، ولم يسعني إلا مخالفتهم ومحاربتهم إن وجدت أعوانا عليهم، ولو كَانَ هؤلاء الخوارج أجابوني إِلَى الشورى، ولم يركبوا أهواءهم لقاتلت مَعَهُمْ، وخلعت عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان والحجاج.
فَقَالَ لَهُ يزيد بن أبي زياد مولاه: إني لا آمن أن يؤدى مَا كَانَ منك إِلَى الحجاج، ويزاد عَلَى كل كلمة مما تتكلم بِهَا عشرة أمثالها، وأرى لك أن تطلب دارا غير المدائن فإن أصحاب شبيب سيتحدثون بما دار بينك وبينهم حَتَّى يفشو خبرك وخبرهم، ونحن مجيبون لك إِلَى دعوتك. فَقَالَ: إني أشهدكم أني قد خلعت عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان والحجاج بْن يوسف، فمن أحب صحبتي فليصحبني ومن أباها فليذهب حيث شاء فإني لا أحب أن يتبعني من لا نية لَهُ فِي جهاد أَهْل الجور، وأني أدعوكم إِلَى قتالهم، فإذا جمع اللَّه لنا أمرنا كَانَ هذا الأمر شورى بين المسلمين يرتضون من قريش من أحبوا.
فوثب إِلَيْهِ أصحابه فبايعوه، وأتاه قوم من أَهْل المدائن فبايعوه أيضا، وارتحل حَتَّى أتى الدسكرة، ثُمَّ خرج منها متوجها نحو حلوان وقد صارت مَعَهُ جماعة يرون رأيه.(7/400)
وبلغ الحجاج بْن حارثة خروج مطرف فاتبعه وصار مَعَهُ فِي ثلاثين، ودخل مطرف حلوان فقاتله عامل حلوان قتالا خفيفا عذر فيه، ثُمَّ بعث إِلَيْهِ العامل أن اخرج من حلوان فإني أكره أن ينالك وأصحابك مني مكروه، فمضى وعرض لَهُ الأكراد فأوقع بهم، فلما دنا من همذان كره أن يدخلها فيتهم أخوه حمزة عند الحجاج، فبعث إِلَيْهِ يسأله إعانته بمال وسلاح، وَكَانَ رسوله يَزِيد بْن أَبِي زياد، فصرفه إِلَيْهِ بما سأله.
وبلغ الحجاج ذَلِكَ فعزل حمزة، وكتب إِلَى قيس بْن سعد العجلي، وهو عَلَى شرطة حمزة بْن المغيرة، بولايته همذان، وأمره أن يحبس حمزة فحبسه، فيقال إنه مات فِي الحبس.
وسار مطرف حَتَّى نزل بقرب أصبهان، ثُمَّ صار إِلَى ناحية قم وقاشان وعلى أصبهان البراء بْن قبيصة بْن أَبِي عقيل الثقفي، وهو الَّذِي يقول فيه الشاعر.
حوى الملك حجاج عليك كما حوى ... عليك الندى والمكرمات براء
فبعث الحجاج نحوا من ألف رجل من موالي الإمارة عليهم عبيد مولاه إِلَى البراء، وأمره أن ينهض إِلَى مطرف، فأنهضهم وعدة مَعَهُمْ ممن قبله إِلَيْهِ، فقاتلوه فهزمهم حَتَّى لحقوا بالبراء وهو بجي [1] .
وَكَانَ مطرف قد كتب كتبه بالدعاء، وبث دعاته فِي النواحي فأجابه خلق من النَّاس، فكتب البراء إِلَى الحجاج: إن كانت لك فِي أصبهان وغير أصبهان حاجة فابعث إِلَى مطرف جيشا كثيفا يستأصله،. فإنه لا تزال
__________
[1] جي: اسم مدينة ناحية أصفهان القديمة. معجم البلدان.(7/401)
العصابة بعد العصابة تأتيه فقد كثرت تابعته، واستفحل أمره، واشتدت شوكته، فكتب إِلَيْهِ الحجاج: إذا أتاك كتابي فاخرج بمن معك، ومن بعثت بِهِ إليك من الموالي، فعسكر حَتَّى يصير إليك عدي بْن وتاد الأيادي من الري فقد كتبت إِلَيْهِ أن ينهض إليك ثلاثة أرباع أَهْل الري، فإذا صار إِلَى مَا قبلك كَانَ أمير الجيش كله فسمعت لَهُ وأطعت.
فوافاه عدي فيمن نهض مَعَهُ، واجتمعا عَلَى قتال مطرف، والأمير:
عدي بْن وتاد ومعه عَمْرو بْن هبيرة الفزاري عَلَى إحدى مجنبتيه، وهو فِي حد دستبى. فلما تدانوا وعظهم مطرف ودعاهم إِلَى مجاهدة الظلمة، ثُمَّ أمر بعض أصحابه فنادى: يَا أَهْل قبلتنا أسألكم بالله الَّذِي لا إله غيره لما أنصفتمونا وصدقتمونا فإن اللَّه شهيد عَلَى نياتكم أخبرونا عَن عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان والحجاج بْن يوسف، ألا تعلمونهما جبارين يتبعان الهوى ويزيغان عَن الحق ويأخذان بالظنة ويقتلان عَلَى الغضب؟. فَقَالُوا من كل جانب:
كذبت يَا عدو اللَّه، فَقَالَ مطرف: قل لهم: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بعذاب وقد خاب من افترى [1] قد استشهدتكم فكتمتم الشهادة، وَقَالَ اللَّه عز وجل: وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثم قلبه [2] .
وَكَانَ الرجل بكير بْن هارون البجلي، فخرج إِلَيْهِ صارم مولى عدي بْن وتاد فقتله بكير وجعل يقول:
صارم قد لاقيت سيفي صارما ... غير كهام يختلي الجماجما
__________
[1] سورة طه- الآية: 61.
[2] سورة البقرة- الآية: 283.(7/402)
ثُمَّ لقي القوم فاقتتلوا قتالا شديدا، فانكشفت ميسرة مطرف حَتَّى انتهت إِلَيْهِ، فجعل يقول: يا أهل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مسلمون [1] .
وقاتل أشد قتال حَتَّى قتل واحتز رأسه عَمْرو بْن هبيرة الفزاري، وذكروا أنه هو قتله، وقيل إن الَّذِي قتله غير ابْن هبيرة، وإن ابْن هبيرة احتز رأسه فأوفده بِهِ عدي بْن وتاد إِلَى الحجاج وبذلك حظي وذكر.
وقتل يَزِيد بْن أَبِي زياد مولى المغيرة، وَكَانَ صاحب راية مطرف.
ثُمَّ انصرف عدي وأصحابه إِلَى الري، وطلبت بجيلة الأمان لبكير بْن هارون فأمنه عدي، وَكَانَ رجال من أصحاب مطرف لما أحيط بهم فِي عسكره نادوا: يَا براء خذ لنا الأمان، يَا براء اشفع لنا. فشفع لهم، فنزلوا.
وأسر عدي خلقا فخلى سبيلهم وبسط للناس الأمان فسلموا.
وأتى الحجاج بْن حارثة الري فطلب إِلَى عدي بْن وتاد فيه وهو مستخف، فَقَالَ: هذا رجل مشهور مَعَ صاحبه، وهذا كتاب الحجاج فيه أن أحمله إِلَيْهِ إن كَانَ حيا، ولا بد من السمع والطاعة له، ولولا كتابه لم أعرض لَهُ ولم أطلبه ولآمنته. فلم يظهر الحجاج ولم يزل خائفا حَتَّى عزل عدي بْن وتاد عَن الري، وقدم خالد بْن عتاب بْن ورقاء الرياحي واليا على الري، فكلم فيه فأمنه وظهر.
__________
[1] سورة آل عمران- الآية: 64.(7/403)
وَقَالَ بعضهم: كَانَ مطرف يرى رأي الخوارج، وذلك باطل، إنما كَانَ رأيه كرأي من خرج مَعَ ابْن الأشعث من القراء. قَالَ الشاعر:
فيا فرحه مَا يغرمن عدونا ... إذا لم يكن فِي دستبى مطرف
فنعم الفتى تعشو إِلَى ضوء ناره ... ونعم الفتى عند القنا المتقصف
وَقَالَ بعضهم: وجه الحجاج إِلَى مطرف أولا علقمة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ، ويقال خريم بْن عَمْرو المري. وَكَانَ عمر بْن هبيرة فِي جنده، ثُمَّ كتب إِلَى ابْن وتاد أن يلقاه وولاه الجيش الَّذِي بعثه إِلَيْهِ وَقَالَ قوم: تولى حرب مطرف خريم، وهو أوفد ابن هبيرة إِلَى الحجاج، وأمر ابْن وتاد أثبت.
حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن صالح العجلي قَالَ: كتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى أَبِي يعقوب عروة بْن المغيرة، وإلى مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد: إنكما من سراة أَهْل العراق فاكتبا إلي بسيرة الحجاج وأمره وأصدقاني عنه. فأما مُحَمَّد بْن عمير فأتى الحجاج بالكتاب وَقَالَ: آمرني بأمرك فكتب إِلَيْهِ بما أملاه الحجاج. وأما عروة فكتب: إن فِي الحجاج عجلة، وإن فِي لسانه ذربا.
فبعث عَبْد الْمَلِكِ بالكتاب إِلَى الحجاج، فدعا بعروة فضربه بالسياط حَتَّى مات وذلك بالكوفة.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كتب عروة: إن فيه غربا وتسرعا وإقداما عَلَى الدماء. فضربه الحجاج حَتَّى قتله.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام عَن أَبِيهِ عَن عوانة قَالَ: كانت الفارعة بِنْت همّام بْن عروة بْن مَسْعُود بْن معتب أم الحجاج بْن يوسف عند المغيرة بْن شعبة، فولدت لَهُ ابنة فماتت فخاصم الحجاج فِي ميراثها عروة بْن المغيرة إِلَى ابْن زياد، فأغلظ لَهُ عروة بن المغيرة وقال: مالأختك عندنا ميراث. فكان(7/404)
يحقد ذَلِكَ عَلَى عروة. فلما كتب فيه إِلَى عَبْد الْمَلِكِ بما كتب بِهِ قدم رسول عَبْد الْمَلِكِ إِلَى الحجاج بكتابه وعروة عنده فَقَالَ لَهُ: مَا هذا الكتاب؟ فلم يجبه. فضربه الحجاج وهو شيخ فمات تحت السياط. وَقَالَ قوم: أخرج من الْكُوفَة فمات بظهر الْكُوفَة من ذَلِكَ الضرب.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ قَالَ: ابْتَاعَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ مِنْ مَصْقَلَةِ بْنِ هُبَيْرَةَ جَارِيَةً لَهُ، وَكَانَ بِهَا حَبَلٌ، فَوَلَدَتْ لَهُ مُطَرِّفَ بْنَ الْمُغِيرَةِ فَتَنَازَعَا فِيهِ، وَاخْتَصَمَا إِلَى مُعَاوِيَةَ، فَقَضَى بِالْوَلَدِ لِلْمُغِيرَةِ، وَقَذَفَ مَصْقَلَةَ الْمُغِيرَةَ فَقَالَ لَهُ: يَا زَانٍ. فَيُقَالُ إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَرَادَ أَنْ يَحِدَّ مَصْقَلَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ إِنَّهُ حَدَّهُ وَوَلَّاهُ بَعْدَ ذَلِكَ طَبَرِسْتَانَ.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: قدم مصقلة يريد طبرستان فرأى قبر المغيرة فَقَالَ:
إن تحت الأحجار حزما وعزما ... وخصيما ألد ذا مصداق
حية فِي الوجار أربد لا ين ... فع منه النفوس رقي الراقي
وَقَالَ أَبُو عبيدة: هلك مصقلة بطبرستان فقدم بثقله إِلَى الْكُوفَة وفيه جارية لَهُ حامل، وكانت وضيئة، فأخذها المغيرة بمال كَانَ لَهُ عَلَيْهِ، فولدت لَهُ مطرفا فكان الحجاج يقول: لو كَانَ مطرف من ولد المغيرة مَا خرج عَلَى السلطان ولكان ذا سمع وطاعة واستقامة وسلامة كما سمع حمزة أخوه وأطاع، ولكنه ابْن مصقلة كما قيل وهذا الدين معروف لبني شيبان وليس فينا شيء منه بحمد اللَّه ونعمته. وَكَانَ يقول أيضا: مَا لثقيف وهذا الرأي، إنما هذا الرأي لبني شيبان.(7/405)
أمر الخوارج فِي أيام عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان
أمر قطري بْن الفجاءة:
قالوا: لما قتل الزُّبَيْر بْن علي بأصبهان أراد الخوارج أن يولوا أمرهم عبيدة بْن هلال، فَقَالَ عبيدة: أنا أدلكم عَلَى من هو خير مني. قطري بن الفجاءة. فبايعوه، وَكَانَ قطري يكنى أبا نعامة. فلما بلغ الأحنف خبره ومسيره من أصبهان قَالَ: إيه أبا نعامة، إن ركب بنات سجاح وقاد بنات صهال، وأمسي بأرض وأصبح بأخرى وجبى المال، وأعطى الرجال طال أمره، فبلغ ذَلِكَ قطريا فنادى فِي عسكره: ألا لا يصحبنا إلا رجل مَعَهُ بغل فكان ذَلِكَ مما ينكر عَلَى الأحنف. واسم الفجاءة فيما ذكر الْكَلْبِيّ عَن شرقي القطامي جعونة.
وَقَالَ غيره أن اسمه مازن بْن زياد بْن يَزِيدَ بْن حنثر بْن حارثة بْن صعير بْن خزاعي بْن مازن بْن مالك بْن عَمْرو بْن تميم.
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: غاب مازن بْن زياد باليمن دهرا ثُمَّ أتاه فجاءة فسمي الفجاءة، وَكَانَ اعتقاد قطري وبيعته فِي سنة إحدى وسبعين.(7/407)
وأتى قطري فارس وعليها عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر فاقتتلا، ثُمَّ صار قطري والخوارج إِلَى رام هرمز وَكَانَ المهلب بْن أَبِي صفرة بالبصرة، وقد أراد المصعب بْن الزُّبَيْرِ المصير إِلَى باجميرى [1] للقاء عَبْد الْمَلِكِ فسأله المهلب أن يكون مَعَهُ أو بقربه فأبى وَقَالَ: إن أَهْل مصرك محتاجون أن تدفع عنهم هذا العدو المطل عليهم فأنا أؤثرهم بك لأني خائف أن تسبيهم الحرورية فسار المهلب لقتال الخوارج فلما بلغ ذَلِكَ قطريا صار إِلَى كرمان فَقَالَ بعض أصحاب قطري:
هربنا نريد الخفض من غير علة ... وللحرب ناب لا يفل ومخلب
فقولا لأصحاب القرآن نصيحة ... دعو الظن إن الظن بالناس يكذب
عسى أن تقولوا أن فينا منافقا ... يعيب أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ويقصب
فلا وَالَّذِي أرسى ثبيرا مكانه ... ورضوى بأكناف الحجاز وكبكب
لقد قلت هذا غير طالب عيبه ... وفي عيبه لو عبت جذع موعب [2]
فلما بلغ قطريا الشعر رجع إِلَى رامهرمز، فسار إِلَيْهِ المهلب فقاتله ثلاثة أشهر أو أكثر، وقتل مصعب بْن الزُّبَيْرِ فبلغ خبر قتله قطريا قبل أن يبلغ المهلب، فناداهم الخوارج: مَا تقولون فِي مصعب؟ قالوا: إمام هدى.
قالوا: فما تقولون فِي عَبْد الْمَلِكِ؟ قالوا: ضال مضل. فمكثوا يومين أو ثلاثة ثُمَّ أتى المهلب قتل مصعب واجتماع النَّاس عَلَى عَبْد الْمَلِكِ، وورد عَلَى المهلب كتاب عَبْد الْمَلِكِ بتوليته قتال الخوارج فضجوا في عسكره، وأقبل
__________
[1] باجميرى: موضع دون تكريت. معجم البلدان.
[2] أوعب: جمع والجذع استأصله، والشيء في الشيء أدخله فيه كله. القاموس.(7/408)
الخوارج فوقفوا عَلَى الخندق فَقَالُوا: مَا تقولون فِي مصعب بْن الزُّبَيْرِ؟ قالوا:
لا نخبركم، قالوا: فعَبْد الْمَلِكِ؟ قالوا: إمام هدى. قالوا: يَا أعداء اللَّه كَانَ بالأمس عندكم ضالا وهو اليوم إمام هدى. لعنكم اللَّه يَا فساق يَا عبيد الدنيا. وهذا أثبت الأخبار ولم يأت قطري فارس لمكان عمر بْن عبيد اللَّه، فقتل مصعب وقطري برامهرمز.(7/409)
ولاية خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد
قالوا: قدم خالد البصرة واليا من قبل عَبْد الْمَلِكِ بْن مروان، وجهه من الْكُوفَة وَقَالَ لَهُ: أكرم جفريتك- يعني من نصره يوم الجفرة- فعزل خالد المهلب عَن قتال الأزارقة: قطري وأصحابه، وولاه الأهواز وكور دجلة، وولى فارس ابنيه، فجعل أحدهما فِي بعض كورها، والآخر عَلَى باقيها، وبعث أخاه عَبْد العزيز بْن عَبْد اللَّهِ عَلَى قتال قطري وأصحابه، فسار إِلَى قطري ومعه فرسان أَهْل البصرة، ومعه مقاتل بْن مسمع، وَكَانَ مَعَهُ ابْن قيس الرقيات.
وَقَالَ أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ: لما قدم خالد وذكر عزل المهلب عَن قتال الأزارقة قَالَ لَهُ ابْن النعمان بْن صبهان الراسبي: إن أَهْل البصرة قد كانوا أمنوا العدو والمهلب بالأهواز وابن معمر بفارس، وقد عزلت معمرا عَن فارس فإن عزلت المهلب لم تأمن العدو.
فَقَالَ خالد: ذهب المهلب بحظ هذا المصر فأعزله وأوجه عَبْد العزيز إِلَى هذه المارقة، فَقَالَ لَهُ أمية أخوه: لا تعزل المهلب فإن ظفره لك وهزيمته عَلَيْهِ. فأبى إلا عزله. وكتب إِلَى المهلب فقدم عَلَيْهِ.(7/411)
وتجهز خالد وشخص إِلَى الأهواز، وأقبل قطري والخوارج إِلَى الأهواز فخرج إليهم خالد ومعه المهلب فالتقوا بكريج دينار، فقاتلوا خالدا ومنعوه من حط أثقاله وصبر لهم يومه كلّه فقتل الربيع بْن زياد اليشكري، وهو يومئذ عَلَى شرطته.
وتحاجزوا عند المساء فَقَالَ لَهُ المهلب: إنك لا تدري أتطول حربك أم تقصر وما ههنا لا يحمل متعلقك وسرحك، فاقطع دجيلا فتصير بين مناذر والسوس وجنديسابور ونهرتيرى. ففعل وارتحل قطري فنزل مدينة نهرتيرى، وَكَانَ الخوارج قد بنوها وخندقوا وعقدوا جسرا وجعلوا كرسيه فِي الخندق.
ونزل خالد رستاقا من مناذر يقال لَهُ برتا، فَقَالَ المهلب: إن قطريا قد تحصن وأنت أولى بهذا منه فخندق وفرغ سفنك وأدخلها الزايذان فإني لا آمن البيات، قَالَ: يَا أبا سعيد الأمر أعجل من ذَلِكَ، فَقَالَ المهلب لبعض أصحابه: أخرجوا مَا كَانَ لكم من متاع فِي هذه السفن فإني أرى أمرا ضائعا، وَقَالَ لزياد بْن عَمْرو: خندق فخندق.
ودعا المهلب فيروز حصين إِلَى التحول إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا أبا سعيد الرأي رأيك ولكني أكره مفارقة أصحابي. قَالَ: فكن يَا أبا عثمان قريبا منا إذا رأيت مفارقة أصحابك، فَقَالَ: أما هذا فنعم. وَكَانَ زياد يومئذ عَلَى شرطة خالد بْن عَبْد اللَّهِ، وقاتلهم الخوارج أربعين يوما لا ينفسونهم.
وكتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى بشر بْن مروان أن يمد خالدا بجيش عَلَيْهِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث الكندي ففعل، وَقَالَ بشر لعَبْد الرَّحْمَنِ: إذا فرغتم من الحرب فسر إِلَى الري. فقدم عَبْد الرَّحْمَنِ عَلَى خالد، وَقَالَ(7/412)
المهلب لخالد: أصلح اللَّه الأمير إنك قد أبيت أن تخندق وأن تدخل سفنك الزايذان فحول مَا فِي سفنك فأبى.
وأقبل الخوارج يريدون أن يبيتوا خالدا، فأخذوا سفنا فيها قصب فألهبوا فيها النيران وحدروها عَلَى سفن خالد، وأقبلوا هم عَلَى خيولهم، وأحرقت النيران سفن خالد، وأقبل الخوارج حَتَّى خالطوا عسكر خالد لا يلقون أحدا إلا قتلوه ولا دابة إلا عقروها ولا فسطاطا إلا هتكوه وألهبوا فيه النار، فبعث المهلب يَزِيد ابنه فِي مائة فارس فخرج من الخندق، وجاء الصلت بْن الغضبان الجذعي فِي مائة، وجاء فيروز حصين فِي مائة من مواليه، وجاء عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في مائة، فحمل الخوارج عليهم فصرع يَزِيد بْن المهلب فقاتلوا عنه حَتَّى ركب، وأبلى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن الأشعث فصرع، وحامى عَلَيْهِ قوم من همدان، وأبلى الصلت، ورماهم فيروز بالنشاب حَتَّى أخرجوهم من العسكر، فانصرفوا عَلَى حاميتهم إِلَى عسكرهم، ونادى ملاحو قطري ملاحي خالد: تعالوا إِلَى خير النَّاس وأوفاهم فَقَالَ أعشى همدان لعَبْد الرَّحْمَنِ بْن الأشعث فِي قصيدة.
ويوم أهوازك لا تنسه ... ليس الثنا والمدح بالبائد
وأصبح عسكر خالد كأنه حرة سوداء من الرماد، فنادى الخوارج خالدا: ذهبت سفنك لولا هذا الساحر المزوني لأهلكك اللَّه وأخزاك.
وَقَالَ خالد للمهلب لما رأى مَا بعسكره من القتلى والجرحى: كدنا نفتضح. فَقَالَ: إن لم تخندق عادوا إليك. فَقَالَ: اكفني أمر الخندق فقام المهلب بالخندق حَتَّى أحكمه فقاتل قطري خالدا بعد أن خندق ثلاث(7/413)
مرات، ثُمَّ ارتحل إِلَى كرمان. ورجع خالد إِلَى البصرة وخلف أخاه عَلَى الأهواز عاملا عَلَيْهَا.
وَقَالَ قطري لما بلغه انصراف خالد: إن أتاكم عتاب بْن ورقاء أتاكم شجاع يلقاكم فِي سرعان الخيل، وإن أتاكم حجازي فهو مَا تريدون، وإن أتاكم ابْن معمر فليست ثُمَّ مناظرة، هي دفعة إما لَهُ وإما عَلَيْهِ وفيها الموت.
وإن جاءكم المهلب فإن ناجزتموه ناجزكم وإن طاولتموه طاولكم وهو البلاء.
قَالَ أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ: أقام قطري وأصحابه بكرمان خمسة أشهر ثُمَّ أتوا فارس فَقَالَ لَهُ مقاتل بْن مسمع: ول عَبْد العزيز قتال الأزارقة وانتخب لَهُ، ففعل.
وشخص عَبْد العزيز فِي ثلاثين ألفا ويقال فِي خمسة وعشرين ألفا وعلى شرطه هراسة بْن الحكم، أحد بني ضبيعة بْن قيس بْن ثعلبة، وعلى بكر بْن وائل مقاتل بْن مسمع، وعلى بني تميم عبس بْن طلق، وحمل عَبْد العزيز مَعَهُ امرأته ابنة المنذر بْن الجارود، واستعمل خالد المهلب عَلَى الأهواز، فأقام بها في ثلاثمائة.
وَقَالَ عَبْد العزيز حين سار للقاء الخوارج: زعم البصريون أن هذا الأمر لا يقوم لَهُ إلا المهلب، وسيعلمون.
وَكَانَ الخوارج بأزدشيرخره، فلما قرب عَبْد العزيز منهم قيل لَهُ: إن الخوارج منك قريب فانزل النَّاس عَلَى غير تعبئة، فما حطوا الأثقال حَتَّى طلع عليهم سعد الطلائع في سبعمائة وهم عَلَى غير تعبئة فناوشوهم ثُمَّ ولى الخوارج منهزمين مكيدة منهم، وَقَالَ سعد: استطردوا لهم، واتبعهم عَبْد(7/414)
العزيز والناس فقيل لَهُ: ارجع واتركهم حَتَّى يحط النَّاس أثقالهم. فَقَالَ:
لا حَتَّى أخرجهم من هذا الرستاق فانتهوا إِلَى عقبة فصعدوا فيها ولهم بِهَا كمين، ثُمَّ انحدروا من العقبة واتبعهم عَبْد العزيز وأصحابه، وخرج الكمين عليهم فحكموا، وعطف قطري والخوارج فقاتلوهم فَقَالَ عَبْد العزيز لعبس بْن طلق: انزل. فنزل وهو أعرج فقتل، وصبر النَّاس فقتل مقاتل بْن مسمع وهراسة بْن الحكم وسليم بْن سلمة الليثي وجعفر بْن دَاوُد بْن قحذم أحد بني قيس بْن ثعلبة، وانحاز عَبْد العزيز والناس واتبعوهم فقتلوهم حَتَّى فرسخين وأسروا منهم أسرى فشدوهم وثاقا وألقوهم فِي غار، وسدوا عليهم بابه فماتوا فيه.
وحوى قطري عسكر عَبْد العزيز وأخذوا امرأته أم حفص بْن المنذر بْن الجارود. وأخذوا امرأة سليم بْن سلمة وغيرها. وساقوا النساء إِلَى عسكرهم، وضربت امرأة منهن الرجل الَّذِي أخذها بسوارها فشجته فقتلها وَكَانَ يقال لها ريمة، ونادوا عَلَى أم حفص فتزايد عَلَيْهَا قوم أسلموا من المجوس وصاروا خوارج ففرض لهم الخوارج في خمسمائة خمسمائة فسموا البنجكية حَتَّى بلغوا بِهَا سبعين ألفا، فغم ذَلِكَ قطري بْن الفجاءة وَقَالَ:
مَا ينبغي لرجل من المسلمين المهاجرين أن يكون لَهُ سبعون ألف درهم، وإن هذه لفتنة، فضربها أَبُو الحديد العبدي فقتلها فأخذوه فَقَالَ قطري:
مهيم يَا أبا الحديد. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ خشيت الفتنة عليهم فِي هذه المشركة، قَالَ: أحسنت، وَقَالَ آل الجارود: مَا ندري أنذم أبا الحديد أم نشكره؟ فَقَالَ رجل من الخوارج:(7/415)
كفانا فتنة عظمت وجلت ... بحمد اللَّه سيف أَبِي حديد
تغالى المسلمون بِهَا وقالوا ... عَلَى فرط الهوى هل من مزيد
فزاد أَبُو الحديد بنصل سيف ... رقيق الحد فعل فتى رشيد
وجاء يومئذ العلاء بْن مطرف بْن شهاب التميمي من بني عبشمس ومعه امرأتان لَهُ إحداهما عبشمية من بني ملادس والأخرى ضبية يقال لها أم جميل وهي مطلقة، وَقَالَ:
ألست كريما إذ أقول لفتيتي ... قفوا فاحملوها قبل بنت عقيل
بنت عقيل يعني العبشمية المطلقة
ولم لم يكن عودي نضارا لغودرت ... بخسف غداة الروع أم جميل
فقلت لبئس الفحل فحلك إن نجا ... وآل ولما يذعروا بقتيل
وما سر لي من والد ترك عرسه ... فكيف إذا غب الحديث أقول
وحممتها عند الفراق ببكرة ... حفاظا وإخوان الحفاظ قليل
العلاء ابْن عم عَمْرو القنا الخارجي، وَكَانَ قطري يقدمه أمامه، وَكَانَ العلاء يتمنى أن يلقاه عَمْرو فلقيه فتمثل عَمْرو:
تمناني ليلقاني لقيط ... وذاك عَلَيْهِ لو يدري بلاء
ثُمَّ قَالَ لَهُ: النجاء يَا أبا الصدي.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: كَانَ عَلَى عَبْد العزيز سلاح مظاهر، فضرب ثلاثين ضربة فلم تحكم فيه، وفر فَقَالَ بعضهم: قبح اللَّه ابْن السوداء، فر وإن الدولة لَهُ.(7/416)
قَالَ: وَقَالَ ابْن قيس الرقيات:
عاهد اللَّه إن عدته المنايا ... ليعودن بعدها حرميا
مرة يسكن الصفاح ونعمان [1] ... ن ومرا ومرة فِي حديا
حيث لا يشهد الصفوف ولا يسم ... ع يوما لركز خيل دويا [2]
حَدَّثَنِي خلف بْن سالم عَنْ وهب بْن جرير عَن أبيه عَن عمه صعب بْن زيد قَالَ: لما توجه عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد إِلَى قطري أتاني كردوس حاجب المهلب وأنا بالأهواز فَقَالَ: أجب. فأتيته فَقَالَ: يَا صعب كأني أنظر إِلَى هزيمة عَبْد العزيز ولا أدري من يفجأنا وليس معي جند فأعلم أين مستقر عَبْد العزيز، فخرجت حَتَّى علمت مكانه وما بينه وبين الخوارج، ثُمَّ خلفت عمران بْن عزيز البرساني ليكتب بخبرهم، وإذا كردوس قد دعاني بعد مقدمي بثلاث، فأتيت المهلب وأقرأني كتاب عمران بْن عزيز بهزيمة عَبْد العزيز، فَقَالَ: اخرج حَتَّى تلقى الفل وتعلم العلم، فخرجت عَلَى فرسي فسمعت بالليل كلام عَبْد اللَّهِ بْن قيس الجهضمي فناديته فعرفني فقلت: مَا وراءك؟ قَالَ: الشر. قلت: أين عَبْد العزيز؟ قَالَ: أمامك. فانتهيت إِلَى ماهزويان [3] فإذا خمسون فارسا مَعَهُمْ لواء فجاءني رجل يركض فقلت: لمن هذا اللواء؟ فقال: لعبد العزيز. فدنوت
__________
[1] نعمان: قرب الكوفة من ناحية البادية والصفاح: موضع بين حنين وأنصاب الحرم، ولم أقف على تحديد للموقعين الآخرين. معجم البلدان.
[2] لم ترد هذه الأبيات في ديوان ابن قيس الرقيات المطبوع.
[3] ماه اسم القمر كانوا يقحمونه على اسم كل بلد ذي خصب، لأن القمر هو المؤثر في الأنداء والمياه التي منها الخصب معجم البلدان، هذا ولم يذكر ياقوت هذا الماه في معجمه.(7/417)
منه فسلمت عَلَيْهِ ثُمَّ قلت: أيها الأمير لا يعظم عندك مَا لقيت فإنك كنت فِي شر جند كلهم متأمر مقاتل وهراسة والهذيل بْن عمران وأشباههم، ثُمَّ تركتهم وأقبلت إِلَى المهلب فقلت: الخبر مَا يسرك، هزم الرجل وافتضح.
فَقَالَ: ويحك، وما يسرني فِي فضيحة رجل من قريش وفل جيش المسلمين، فوجهني إِلَى خالد فامتنعت وقلت أهديك إذا إِلَى بيت اللَّه، فوجه عمران بْن عزيز وَقَالَ: أنا بينه وبين أخيه فلا أجد بدا من أن أبعث إِلَيْهِ بخبره قَالَ: فلما أتى خالدا فأخبره قَالَ: كذبت وكذب من بعث بك والله لهممت أن أضرب عنقك.
قَالَ عمران: ورد علي رجل من قريش وَقَالَ: كذبت فقلت: أصلح اللَّه الأمير إن كنت كاذبا فاقتلني وإن كنت صادقا فأعطني مطرف هذا المتكلم. قَالَ: لهان مَا أخطرت بِهِ دمك.
قَالَ صعب: وقدم عَبْد العزيز عَلَى المهلب فوصله وكساه وبره وشخص مَعَهُ إِلَى البصرة، واستخلف بالأهواز ابنه حبيب بْن المهلب وَقَالَ:
لا تبرح موضعك حَتَّى ترى الخيل فإن رأيتها فصر إِلَى مناذر ثُمَّ اقطع الجسر وخذ عَلَى نهر تيرى حَتَّى تقدم إِلَى البصرة، ففعل حبيب ذَلِكَ حين رأى الخوارج وقدم البصرة فغضب خالد فتوارى حبيب حَتَّى كلمه فيه المهلب فرضي. وتزوج حبيب فِي تواريه أم عباد بْن حبيب وهي من بني هلال.
قَالَ صعب: وكتب خالد إِلَى عَبْد الْمَلِكِ يعتذر لعَبْد العزيز وَقَالَ للمهلب: مَا تراه صانعا فِي؟ قَالَ: يعزلك. قَالَ: تراه قاطعا رحمي؟.
قَالَ: نعم قد علم أمر أمية وانهزامه عَن أَبِي فديك، وعلم أمر عَبْد العزيز وأخذ خالد مَا كَانَ فِي بيت المال.(7/418)
وَقَالَ الهيثم: لما أمد المهلب بعَبْد الرَّحْمَنِ بن محمد بن الأشعث قال له:
يابن أخي خندق عَلَى أصحابك. قَالَ: يَا أبا سعيد أنا أعلم بهم منك، والله لهم أهون عليّ من ضرطة جمل. فقتل من أصحابه ولقوا شرا ولقب ضرطة الجمل. فَقَالَ الشاعر:
تركت فرساننا تدمى نحورهم ... وجئت منهزما يَا ضرطة الجمل
وَقَالَ أَبُو عبيدة معمر بْن المثنى: أخذ خالد بْن عَبْد اللَّهِ مَا كَانَ فِي بيت المال بالبصرة وهو خمسة عشر ألف ألف درهم.
وَقَالَ أَبُو الحسن الْمَدَائِنِيّ وغيره: كتب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى خالد: إني عهدت إليك أن تولي المهلب قتال الخوارج، فلما ملكت أمرك آثرت هواك عَلَى طاعتي فعزلت المهلب ووليته الجباية، ووليت أخاك عَبْد العزيز قتال الأزارقة فقبح اللَّه هذا الرأي، أتبعث أخاك وهو رجل من أَهْل مَكَّةَ وتدع المهلب وقد مارسهم وقد قَالَ الأول: يَا عجبا من ضأن يطأن الرحض [1] ولعمري لو عاقبتك عَلَى قدر جرمك لأتاك مالا بقية بعده، ولكني ذكرت الرحم فحجزني ذَلِكَ فجعلت عقوبتك عزلك.
وانتشر الخوارج وَقَالَ بعض الشعراء:
بعثت غلاما من قريش فروقة ... وأخرت ذا الرأي الأصيل المهلبا
أبى الذم واختار الوفاء وجربت ... مكيدته عند الأمور وجربا
وَقَالَ أَبُو الحديد:
__________
[1] الرحض: الشنة والمزادة الخلق. القاموس.(7/419)
عَبْد الْعَزِيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل سبيل
من بين ذي رمق يجود بنفسه ... وملحب [1] وسط الغبار قتيل
هلا صبرت مَعَ الشهيد مقاتل ... إذ رحت منتكث القوى بأصيل
وتركت جيشك لا أمير عليهم ... فارجع بعار فِي الحياة طويل
ونسيت عرسك إذ تقاد سبية ... تبكي العيون برقة وعويل
وَقَالَ أيضا:
عَبْد الْعَزِيز فضحت جيشك كلهم ... وتركتهم صرعى بكل مكان
لما رأيت أبا نعامة مقبلا ... نجيت نفسك والرماح دوان
ورأيت سعدا فِي الطلائع معلما ... ولصالح شغبا عَلَى الأقران
أسلمت عرسك والبلاء موكل ... بالقول عند تشاجر المران [2]
وَقَالَ آخر:
ألا ليت شعري مَا يقولن خالد ... إذا الخيل جالت والقنا يتشاجر
أتصبر إن الصبر ليس سجية ... لآل أسيد يوم تسبى الحرائر
وَقَالَ الفرزدق:
فر اللئيم عَن اللقاء مبادرا ... وثوى بمنزله الكريم مقاتل [3]
وَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: نكس خالد الرماح عَلَى عواليها، وترك المهلب المعروف بالنجدة والعلم بمكيدة الخوارج فجعله جابيا، وولى أخاه قتال الخوارج.
__________
[1] الملحب: المضروب بالسيف. القاموس.
[2] بهامش الأصل: المران: الرماح، واحدها مرانة.
[3] ليس في ديوان الفرزدق المطبوع.(7/420)
[بشر بن مروان]
قالوا: ولما عزل عَبْد الْمَلِكِ خالدا جمع لبشر بْن مروان الْكُوفَة والبصرة وكتب إِلَى بشر: إنك أخو أَمِير الْمُؤْمِنِينَ يجمعك وإياه مروان، وإن خالدا يجمعني وإياه أمية فانظر لنفسك وانظر المهلب فإنه حازم صارم فوجهه إِلَى هذه المارقة، وأمده من أَهْل الْكُوفَة بثمانية آلاف.
فغم بشرا كتابه فِي المهلب وقال: والله لأقتلنه فإنه زبيري. فَقَالَ لَهُ موسى بْن نصير: أصلح اللَّه الأمير. إن للمهلب بلاء وطاعة ووفاء. فسار بشر من الْكُوفَة إِلَى البصرة فِي آخر سنة أربع وسبعين وأول سنة خمس وسبعين، فكتب موسى بْن نصير وعكرمة بْن ربعي، وَكَانَ عكرمة وادا للمهلب، إِلَى المهلب: أن ألق الأمير متذللا. فلقيه عَلَى بغل أو حمار وسلم مَعَ العامة ثُمَّ انصرف.
ودخل بشر البصرة وعن يمينه الهذيل بْن عمران البرجمي وعن يساره الحكم بْن المنذر بْن الجارود. فَقَالَ المهلب: أميركم يشرب. قد كنا نكتفي بشاهد واحد وهذان شاهدان، وكانا يشربان.
ولما نزل بشر دار الإمارة سأل عَن المهلب وَقَالَ: لم أره. فقيل: بلى، قد أتاك وهو شاك. فأراد أن يوجه إِلَى قطري وأصحابه عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن مَعْمَر أَوْ غيره فشاور، فَقَالَ لَهُ أسماء بْن خارجة: مَا ولاك أَمِير الْمُؤْمِنِينَ إلا لتعمل بما ترى. فَقَالَ لَهُ عكرمة: لا تفعل ولكن راجع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وأعلمه شكاة المهلب. فأوفد بشر إِلَى عَبْد الْمَلِكِ وفدا يخبرونه بوجع المهلب وأن قوما من أَهْل البصرة يغنون أكثر من غنائه.
فخلا بعَبْد اللَّهِ بْن حكيم المجاشعي فَقَالَ لَهُ: إن لك عقلا ورأيا فمن ترى لمحاربة هذه المارقة؟(7/421)
قَالَ: المهلب. قَالَ: إنه وجع. قَالَ: ليس وجعه مما يمنعه النهوض.
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: أرى بشرا يريد أن يعمل بما عمل بِهِ خالد.
فكتب إِلَيْهِ يعزم عَلَيْهِ أن يوجه المهلب، فأرسل بشرا إِلَى المهلب أن انتخب من أحببت. فَقَالَ: أنا عليل لا أقدر عَلَى الاختلاف، فأمر فحمل إِلَيْهِ الديوان فانتخب فلم يجز لَهُ بشر عامة من انتخب، وكلمه فِي قوم فخلفهم.
واستقرض المهلب مالا من التجار وغيرهم وبلغت الجعالة بين النَّاس أربعة آلاف، وسار إليهم المهلب فلقوه فأبلى يَزِيد بْن المهلب وهو ابْن إحدى وعشرين سنة فنفاهم عَن الأهواز، فأتوا فارس، فوجه إليهم المهلب ابنه المغيرة فقيل لَهُ: طاول هؤلاء الكلاب وإلا فإنك ستلزم بيتك إن فرغت من أمرهم. فَقَالَ: ليس هذا من الوفاء.
ثُمَّ رجع الخوارج إِلَى رامهرمز فكتب بشر بْن مروان إِلَى خليفته بالكوفة أن اعقد لعَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف عَلَى ثمانية آلاف، فلما قدم عَلَيْهِ قَالَ لَهُ: قد علمت حالك عندي فكن عند ظني بك، انظر هذا المزوني فخالفه وأوعده، فخرج ابْن مخنف وهو يقول: سبحان اللَّه، مَا طمع فيه هذا الغلام مني؟
يأمرني بتصغير شيخ من شيوخ قومي وساداتهم.
ونزل ابْن مخنف رامهرمز، ومات بشر واستخلف خالد بْن عَبْد اللَّهِ بْن أسيد فرفض أَهْل الْكُوفَة وقدموا إِلَى بلدهم، وأراد أَهْل البصرة أن يفعلوا مثل ذَلِكَ فَقَالَ لهم المهلب: لستم تقاتلون لبشر ولا لخالد إنما تقاتلون عَن بلادكم فلا تصنعوا كما صنع أَهْل الْكُوفَة فتحربوا عدوكم عليكم. فأقام بعضهم ورجع بعض عصاة إِلَى البصرة، وأقام المهلب فِي البصريين وأقام عَبْد الرَّحْمَنِ فِي ناس من أَهْل بيته لم يكن بقي معه أحد غيرهم.(7/422)
[المهلب والخوارج]
فلما قدم الحجاج العراق واليا فِي سنة خمس وسبعين بدأ بأهل الْكُوفَة فخطبهم وتهددهم وتوعد العصاة بالقتل وقتل بعضهم، وخطب أيضا بالبصرة وألحق النَّاس بالمهلب.
وكتب الحجاج إِلَى المهلب: «إن بشرا رحمه اللَّه بعثك مستكرها لنفسه عليك وأراك غناءه عنك، وإنى أعرفك حاجتي إليك فناهض عدوك ودع العلل، فو الله لأحشرن النَّاس إليك حشرا، فإني آخذ السمي بالسمي، والولي بالولي، حَتَّى يكون قليل من يأتيك ككثير من فارقك، واقتل من خفته على المعصية فإني قاتل من قبلي من أَهْل الطبقة، فإن العاصي يجمع خلتين: إنه أخل بمركزه ووعر المسلمين من نفسه، وهو أجير لهم ليس لَهُ أن يأخذ إلا بقدر مَا عمل» .
فكتب إِلَيْهِ المهلب: «ليس معي إلا مطيع، وإن النَّاس إذا أمنوا العقوبة صغروا الذنوب، وإذا يئسوا من العفو كفرهم ذَلِكَ، فهب لي الذين سميتهم عصاة، وإنهم فرسان أرجو أن يقتل اللَّه بهم هذا العدو، إن شاء اللَّه» .
وَقَالَ المهلب لجنده: «لقد جاءكم وال ذكر، ولولا هو كنا بمضيعة، فعليكم بالجد والحزم فإني رأيت البقاء مَعَ الحزم، واستشعروا الصبر واعلموا أنه ليس كل غاز يؤوب إِلَى أهله، ولا كل سلامة تدوم لأهلها، وهؤلاء القوم يقاتلونكم عَن دينكم ودنياكم، فأكرموا الخيل تنفعكم عند اللقاء، وأطيلوا الرماح فإنها قرون الخيل، وعيروا الجبان يأنف، فلقد رأيتني مَعَ الحكم بْن عَمْرو بخراسان وإنا لنعد فِي سرعان النَّاس رجالا مَا يعابون إلا بالجبن وإن(7/423)
خلفهم لرجالا مَا يحتملون إلا عَلَى النَّاس، فما رجع مستقدم، ولا تقدم مستأخر، والرجال يحمل غثها سمينها، والشجاعة ضراوة» .
فلما كثر النَّاس قَالَ قطري وهو برامهرمز: من يأتي سردن [1] فإنها حصينة. قَالَ عبيدة: بل نأتي سابور، ونخرج إِلَى كرمان، فنمضي منها إِلَى حيث نشاء.
فأتى قطري سابور، ونزل المهلب أرجان، وبعث خيلا إِلَى سردن، وخاف أن يأتيها الخوارج فيتحصنون بِهَا، وليست بمدينة، ولكنها جبال وعقاب منيعة.
وأتى المهلب كازرون فخندق، وأقبل عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف فِي جند أَهْل الْكُوفَة فنزل ناحية، وذلك أن الكوفيين أبوا أن يخالطوا البصريين، فأرسل إِلَيْهِ المهلب: إما أن تنزل معنا وإما أن تخندق عَلَى نفسك، فأرسل إِلَيْهِ: خنادقنا سيوفنا.
وكتب الحجاج إِلَى المهلب وهو بكازرون: إنك أقبلت عَلَى جباة الخراج وأبطأت عَن قتال العدو، وقد هممت أن أولي عباد بْن حصين أو عبيد اللَّه بْن حكيم المجاشعي مَا وليتك قبل خروج النَّاس عليك.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: استبطأ الحجاج المهلب فكتب إِلَيْهِ: «إنك مزوني وابن مزوني [2] ، وللعجب منك حين تهاب قتال الأزارقة، كأنك ترى
__________
[1] سردن: كورة بين فارس وخوزستان من أعمال فارس. معجم البلدان.
[2] بهامش الأصل: في حاشية الأصل بغير الخط: قد صحف الناسخ وإنما هو: مزوي- ومزون قبيلة من الأزد سكنت أرض مزون.(7/424)
أنك ترث الأرض، وأيم اللَّه لئن لم تناجزهم لأبعثن إليك من يحملك عَلَى مكروه أمرك والسلام» .
فكتب إِلَيْهِ: «أما بعد فقد جاءني كتابك وإني لمزوني وابن مزوني مَا أنكر ذَلِكَ، وإنما مزون عمان سمعتها العجم بِذَلِكَ ولكن الأمير أصلحه اللَّه من قبيلة قد ادعت إِلَى حمير وعدة قبائل وما استقر قرارها بعد، كانوا بقية ثمود ثُمَّ انتموا إِلَى وحاظة من حمير، ثُمَّ إِلَى أياد، ثُمَّ إِلَى عدوان، ثُمَّ إِلَى قسي بْن منبه» .
فلما قرأ الحجاج الكتاب تبسم ثُمَّ قَالَ: أفحشنا للرجل فأفحش.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كتب إِلَيْهِ الحجاج: «إنك تشاغلت بالجباية عَن الحرب» . فكتب إِلَيْهِ: «إن من ضعف عَن الجباية فهو عَن القتال أضعف، ولو وليت غيري ممن سميت لرجوت أن يكونا للولاية أهلا فِي فضلهما وجرأتهما، وذكرت أني رجل فِي الأزد من أَهْل عمان وإن شرا من الأزد قبيلة تنازعتها ثلاث قبائل، ثُمَّ لم يستقر لها بيت فِي واحدة منهن» .
وناهض المهلب قطريا وأصحابه بكازرون فِي شهر رمضان سنة خمس وسبعين، وقاتل مَعَهُ جعفر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف فِي رجال من أَهْل الْكُوفَة، وجعل عبيدة يقاتل وهو يرتجز.
إني لمذك للشراة نارها ... ومانع مما أتاها دارها
وغاسل بالطعن عنها عارها
ثُمَّ تراجعوا، وأبلى يومئذ عياش الكندي، وَكَانَ من الفرسان، فلما هلك قَالَ المهلب: لا وألت أنفس الجبناء بعد عياش، وَكَانَ من رجال المهلب.(7/425)
وقتل مرة الكنان فبكى قطري حين أتي برأسه. فقيل لَهُ: أتبكي عَلَى رَجُل من أَهْل النار؟ فَقَالَ: إنما يبكى عَلَى أَهْل النار. وَكَانَ من قومه.
وأبلى أَهْل الْكُوفَة يوم كازرون حَتَّى عرف مكانهم، وحذر المهلب الحريش ومن مَعَهُ من بني تميم البيات فَقَالَ الحريش للمغيرة بْن المهلب:
يَا أبا خداش، لا تخافن البيات من قبلنا. وأراد الخوارج أن يبيتوهم فلم يقدروا. وَقَالَ الحريش:
وجدتمونا وقرا أنجادا ... لا كشفا ميلا ولا أوغادا
وترجل أَبُو الأحوص صاحب مسعود وخزيمة بْن نصر العبسي وغيره، وقاتلوا فقتل ابْن مخنف وارتث جعفر ابنه.
وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف يلقب فِي قول بعضهم ضرطة الجمل، ويقولون إنه القائل مَا حكي عَن ابْن الأشعث من قوله: هم علي أهون من ضرطة جمل.
وَقَالَ حميد بْن مسلم يرثي ابْن مخنف:
إن يقتلوك أبا حكيم غرة ... فيما يشد ويقتل الأبطالا
ولمثل قتلك هد قومك كلهم ... من كَانَ يحمل عنهم الأثقالا
فِي أبيات.
وَقَالَ سراقة بْن مرداس البارقي:
أعيني جودا بالدموع السواكب ... وكيفا كراس شنة [1] مع راكب
__________
[1] وكف: قطر. والشن: القربة الخلق الصغيرة. القاموس.(7/426)
وكونا بخير قبل قتل ابْن مخنف ... وكل فتى يوما لبعض المذاهب
أمات دموع الشيب من أهل مصره ... وعجل في الشبان شيب الرواسب
وَقَالَ أيضا:
ثوى سيد الأزدين أزد شنوءة ... وأزد عمان وهو رمس بكازر
وصابر حَتَّى مات أكرم ميتة ... بأبيض من بيض الحديد البواتر
فِي أبيات.
وواقع المهلب الخوارج مرات صابرهم فيها وصابروه، وَكَانَ الحجاج يوجه إِلَيْهِ من يأخذه بالقتال والمناجزة، ووجه إِلَيْهِ أمينا فكتب بخبره، فَقَالَ الشاعر فِي أبيات لَهُ:
فمن مبلغ الحجاج أن أمينه ... زيادا أصابته رماح الأزارق
وكتب الحجاج إِلَى عتاب بْن ورقاء، فصار إِلَى المهلب، فكان عَلَى جيش عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: بعث الحجاج الجراح بْن عَبْد اللَّهِ إِلَى المهلب مستحثا بالمناجزة، فَقَالَ المهلب: يَا أبا عقبة مَا تركت حيلة أبلغ بِهَا مكيدة إلا وقد أعملتها، وقد انتهيت فِي قتال هذا العدو إِلَى العذر، ولكن البلاء أن يكون الرأي لمن يملكه دون من يعمله.
وكتب الحجاج إِلَى المهلب: «إنك أقمت فِي خندق احتجارا من قتال هؤلاء المارقة» ، فكتب إِلَيْهِ المهلب: «أتاني كتابك تعتب فيه علي عَلَى الخندقة، والخندقة حرز وحصن، وقد خندق رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأمر اللَّه، وذكرت أنك لا تظن في جبنا وعاتبني معاتبة الجبناء، وأوعدتني كما يوعد العاصي، فسل الجراح عما رأى» . فلما سأل الجراح قَالَ: لم أر كما رأيت،(7/427)
اقتتلوا ثلاثة أيام ضربا بالسيوف وطعنا بالرماح وخبطا بالعمد، فَقَالَ: لشد مَا مدحته أبا عقبة، فَقَالَ: كلا ولكنه يحتمل المصيبة ويلقى كثيرا بقليل.
ولم يزل عتاب بْن ورقاء مَعَ المهلب حَتَّى بعث إِلَيْهِ الحجاج فِي القدوم للقاء شبيب، فأعطي المهلب أَهْل البصرة ولم يعط أَهْل الْكُوفَة، فسأله عتاب إعطاءهم فلم يفعل فَقَالَ لَهُ: حدثت إنك شجاع فرأيتك جبانا، وحدثت أنك جواد فرأيتك بخيلا. فَقَالَ المهلب: يابن اللخناء. فَقَالَ:
إنها لمعمة مخولة، فغضبت بكر بْن وائل للمهلب فشتم بسطام بْن نعيم بْن هبيرة أخو مصقلة عتابا للحلف، وَكَانَ المهلب كارها لحلف بكر والأزد، فلما رأى أن بكرا قد نصرته سره ذَلِكَ الحلف، فلم يزل بعد ذَلِكَ يشدده ويقويه.
وغضبت تميم البصرة لعتاب، وأزد الْكُوفَة للمهلب. فمشى المغيرة فيما بين أبيه وعتاب حَتَّى أصلحه وكلم أباه فأعطى الكوفيين، فَقَالَ رجل من أَهْل هجر:
ألا أبلغ أبا ورقاء عنا ... فلولا أننا كنا غضابا
عَلَى الشيخ المهلب إذ جفانا ... للاقت خيله منا ضرابا
وَكَانَ عتاب وبنو تميم يحمدون المغيرة، وَقَالَ عتاب: إني لأعرف فضله عَلَى أبيه.
وَكَانَ مقام عتاب مَعَ المهلب ثمانية أشهر يقاتل مَعَهُ الخوارج بفارس وكرمان، واتخذ المهلب ركب الحديد، وكانت ركب النَّاس الخشب. فكان الفارس يضرب ركابه فيقطع الركاب وقدمه، فَقَالَ عمران بْن عصام العنزي من عنزة:(7/428)
ضربوا الدراهم فِي إمارتهم ... وضربت للحدثان والحرب
حلقا ترى منه مراكلها ... كمناكب الحمالة الحرب
وقالوا: كَانَ قتال المهلب قطريا وأصحابه بسابور وما حولها ثمانية عشر شهرا. ووجه المهلب بشر بْن مالك إِلَى الحجاج وأمر لَهُ بجائزة فردها وَقَالَ:
إنما الثواب بعد الاستحقاق، فلما ورد عَلَى الحجاج قَالَ لَهُ: كيف تركت المهلب؟ قَالَ: أدرك مَا أمل وأمن مَا خاف. فَقَالَ: كيف هو لجنده؟
قَالَ: والد رؤوف. قَالَ: كيف جنده لَهُ: قَالَ: ولد بررة. قَالَ: هذه السياسة.
وَكَانَ مَعَ قطري رجل حداد يقال لَهُ أبزي يتخذ نصالا مسمومة.
فذكر ذَلِكَ للمهلب فَقَالَ: أكفيكموه. فكتب المهلب إِلَى أبزي: «إنه قد أتتنا نصالك، وقد بعثت إليك بألف درهم فزدنا نصالا» . وبعث بالكتاب فألقي فِي عسكر قطري فأخذ الكتاب فدفع إِلَى قطري، فسأل أبزي عَن الخبر فَقَالَ: لا أدري ولا أعلم مَا هذا الكتاب. فأمر بِهِ فقتل. فَقَالَ لَهُ عبد ربه: قتلت رجلا بغير ثقة ولا بيان يحل بِهِ دمه؟ فَقَالَ: يمكن هذا أن يكون حقا، ويمكن أن يكون باطلا. فرأيت فِي قتله صلاح الدين أمثل، وللإمام أن يحكم بما يرى فيه الصلاح، وليس للرعية أن ترد عَلَيْهِ. فتنكر لَهُ عبد ربه وجماعة وخالفوه فِي القول ولم يفارقوه.
وأرسل المهلب رجلا نصرانيا وَقَالَ لَهُ: إذا رأيت قطريا فاسجد لَهُ فإن نهاك فقل إنما سجدت لك، ففعل النصراني ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ قطري: مه. إنما السجود لله. قَالَ: مَا سجدت إلا لك، فَقَالَ رجل من أصحابه: قد عبدك من دون اللَّه، وقرأ: إِنَّكُمْ وَمَا تعبدون من دون الله حصب(7/429)
جهنم [1] . فَقَالَ قطري: قد عَبْد النصارى المسيح ابْن مريم، وإنما عنى اللَّه الأصنام، فقام رجل فقتل النصراني فَقَالُوا: قتلت ذميا، فاختلفوا.
ودس المهلب أيضا إِلَى عسكر قطري رجلا فَقَالَ: أرأيتم إن خرج إليكم رجلان مهاجران فمات أحدهما قبل أن يصل إليكم، وأتاكم الآخر فامتحنتموه فلم يجز المحنة فما تقولون فِي الميت؟
فَقَالَ بعضهم: الَّذِي مات مؤمن وهذا كافر حَتَّى يجيز المحنة. وَقَالَ آخر: هما كافران. واختلفوا فارتحل قطري إِلَى اصطخر فِي سنة سبع وسبعين فِي صفر.
وَقَالَ المهلب: الاختلاف أشد عليهم وأسرع فِي هلاكهم فلا تشغلوهم بالقتال عَن الجدال، فتركهم شهرين، ثُمَّ أتاهم باصطخر، فتركهم شهرا وهم يخوضون فِي اختلافهم. فَقَالَ لهم صالح بْن محزاق مولى قريش، ويقال مولى آل مصقلة الشيباني: إن المسلم يغضي عينه عَلَى مَا يقذيها، ويدع حسنا لقبيح، وصغيرا لمخافة كبير، والله إن الأمر الذي أتيتموه لقبيح، وفي الفتنة الحق، فاتقوا اللَّه وراجعوا سلامة صدوركم فقد أطمع اختلافكم عدوكم فيكم.
وخرج عَمْرو القنا فنادى: يَا معشر المحلين، هل لكم فِي الطراد فلا عهد لنا بِهِ منذ حين. وَقَالَ:
ألم تر أنا مذ ثلاثون ليلة ... قريب وإعلاء الكتاب على خفض
__________
[1] سورة الأنبياء- الآية: 98.(7/430)
فتصايحوا، وأبلى المغيرة بْن المهلب وصرع فاستنقذه فرسان من الأزد، واستاق الخوارج سرح المهلب فَقَالَ الرجل الَّذِي كَانَ يسوق السرح:
نحن خدعناكم بسوق السرح ... وقد نكأنا القرح بعد القرح
فلحق ذَلِكَ الرجل بنو المهلب فردوا السرح.
وأراد الخوارج هدم فسا، فاشتراها أزادمرد بْن الهربذ منه بمائة ألف درهم، وارتحل الخوارج يريدون كرمان فنزلوا صاهك [1] الصغرى وهي من اصطخر، فاتبعهم المهلب فقاتلهم، فَقَالَ غلام لأكتل بْن منجب السدوسي:
اليوم آتيك بجارية من جواريهم. فَقَالَ أكتل:
أخلاج إنك لن تعانق طفلة ... سرحا بِهَا الحادي كالتمثال
حَتَّى تلاقي فِي الكتيبة مقدما ... عَمْرو القنا وعبيدة بْن هلال
وترى المقعطر فِي الكتيبة معلما ... فِي عصبة قسطوا مَعَ الضلال
والمقعطر عبدي.
قالوا: ومضى قطري إِلَى السيرجان، ورجع المهلب إِلَى فارس، وبعث الحجاج كردما عَلَى فارس فسأل المهلب الحجاج أن يجعل لَهُ كورا سماها ففعل، فكان المغيرة والرقاد يجبيان ولا يعطيان الجند فَقَالَ رجل من بني ضبة:
ولو علم ابن يوسف ما نلاقي ... من البلوى بمنزلة الطراد
بكت عيناه من شفق عَلَيْنَا ... وأصلح مَا استطاع من الفساد
قرونا أرض فارس فِي جمادى ... إِلَى شعبان نقطع كل واد
__________
[1] صاهك: مدينة بفارس لها عمل برأسها، دخلت في كورة اصطخر. معجم البلدان.(7/431)
ترى الشيخ البجال عَلَى حمار ... يسوق بِهِ فتى رخو النجاد
ألا قل للأمير جزيت خيرا ... أرحنا من مغيرة والرقاد
وفي كردم يقال:
لو رآها كردم لكردما ... كردمة العير أحسّ الضيغما
[خطبة قطري في الخوارج]
قَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: وهو كردم بْن مرثد الفزاري:
وأتى المهلب السيرجان فقاتل قطريا بِهَا فصعد قطري المنبر [1] فخطب فَقَالَ: «أما بعد فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة نضرة، حفت بالشهوات ورامت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا يدوم خيرها، ولا تؤمن فجيعتها، غرارة ضرارة، وحائلة زائلة، ونافذة بائدة، أكالة غوالة، لا تعدو إذا هي تناهت إِلَى أمنية أَهْل الرغبة فيها، والرضى عنها أن تكون كما قَالَ اللَّه تبارك وتعالى: كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ على كل شيء مقتدرا [2] . مع أنّ امرأ لم يكن منها فِي حيرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا، ولم يطله فيها رخاء إلا هطلت عَلَيْهِ مزنة بلاء، وحري إذا أصبحت لَهُ منتصرة أن تمسي لَهُ خاذلة متنكرة. وإن جانب منها اعذوذب وحلا، أمر منها جانب وأوبأ، وإن أتت امرأ من غضارتها ورقا أردفته من نوائبها تعبا، ولم يمس امرؤ منها فِي جناح أمن
__________
[1] بهامش الأصل: خطبة قطري.
[2] سورة الكهف- الآية: 45.(7/432)
إلا أصبح منها فِي قوادم خوف. غرارة غرورها فيها، فانية فان من عَلَيْهَا، لا خير فِي شيء من زادها إلا التقوى. من أقل منهما استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه ويبكي عينه، كم من واثق بِهَا قد فجعته، وذي طمأنينة قد صرعته، وذي احتيال قد خدعته، وكم ذي أبهة فيها قد صيرته حقيرا، وذي نخوة قد ردته ذليلا، ومن ذي تاج قد أكبته لليدين والفم. سلطانها ذل وعيشها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام، حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام، ملكها مسلوب وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب وجارها مخروب، مَعَ أن وراء ذَلِكَ سكرات الموت وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [1] ألستم فِي مساكن من كَانَ أطول منكم أعمارا وأوضح منكم آثارا وأعد عديدا وأكثف جنودا، وأشد عنودا، تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، فظعنوا عنها بالكره والصغار، فهل يعلم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما أهلكتهم بخطب، بل قد أرهقتهم وضعضعتهم بالنوائب، وقد رأيتم شكرها لمن دان لها وآثرها وأخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد إِلَى آخر المسند، هل زودتهم إلا الشغب أو أحلتهم إلا الضنك أو توردت بهم إلا الظلمة أو أعقبتهم إلا الندامة؟. فهذه تؤثرون؟ أم على هذه تحرصون أم إليها تطمئنون؟
__________
[1] سورة النجم- الآية: 31.(7/433)
يقول اللَّه تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وهم فيها لا يبخسون [1] . فبئست الدار لمن أقام فيها، فاعملوا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لأبد، فإنما هي كما وصفها اللَّه عز اسمه باللعب واللهو، وقد قال: أتبنون بكل ربع آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذَا بطشتم بطشتم جبارين [2] . وقد قالوا من أشد منا قوة [3] ثُمَّ حملوا إِلَى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وأنزلوا فلا يتركون ضيفانا. وجعل لهم من الضريح أجنانا ومن التراب أكفانا. ومن الرفات جيرانا. وهم جيرة لا يجيبون داعيا ولا يمنعون ضيما. إن أخصبوا لم يفرحوا وإن قحطوا لم يقنطوا جميع وهم آحاد، جيرة وهم أبعاد متناؤون لا يتزاورون.
حلماء قد ذهبت أضغانهم. وجهلاء قد ماتت أحقادهم. لا يخشى فجعهم ولا يرجى دفعهم. وكما قَالَ اللَّه عز اسمه: فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلا قليلا وكنا نحن الوارثين [4] استبدلوا بظهر الأرض بطنا، وبالسعة ضيقا، وبالأهل غربة، وبالنور ظلمة، فجاؤوها كما فارقوها حفاة عراة فرادى غير أن ظعنوا بأعمالهم إِلَى الحياة الدائمة وإلى خلود الأبد. يقول اللَّه عز وجل: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فاعلين [5]
__________
[1] سورة هود- الآية: 15.
[2] سورة الشعراء- الآيات: 128- 130.
[3] سورة فصلت- الآية: 15.
[4] سورة القصص- الآية: 58.
[5] سورة الأنبياء- الآية: 104.(7/434)
فاحذروا مَا حذركم اللَّه، واشفعوا بمواعظه، واعتصموا بحبله، عصمنا اللَّه وإياكم بطاعته، ورزقنا وإياكم أداء حقه» .
[الملهب والخوارج]
ثُمَّ ارتحل قطري إِلَى جيرفت واتبعه المهلب فنزل عَلَى ليلتين منه، واختلفوا فَقَالَ المهلب: الاختلاف خير لنا وشر لهم، وإنما اختلفوا لأنهم اتهموا عبيدة بْن هلال بامرأة رجل قصار رأوه يدخل إليها بغير إذن متفضلا فأخبروا قطريا فَقَالَ لهم: إنه عبيدة وموضعه من الدين والعسكر مَا علمتم، فَقَالُوا: لا نصالح عَلَى الفاحشة. فَقَالَ قطري لعبيدة: إني عَلَى أن أجمع بينك وبينهم فلا تكاشف مكاشفة البذيء ولا تخضع خضوع المريب.
ثُمَّ جمع قطري بينهم وبينه فقرأ عبيدة: إِنَّ الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم [1] الآية. فبكوا وقاموا إِلَيْهِ فعانقوه وقالوا: استغفر لنا. فَقَالَ عبد ربه الصغير مولى بني قيس بْن ثعلبة: والله لقد خدعكم، وإنه لكما ظننتم. فبايع عبد ربه منهم قوم وتنكروا لقطري وخالفوه فِي أمور فعلها نقموها عَلَيْهِ، فصار مَعَ عبد ربه نصف عسكر قطري، فحارب عبد ربه قطريا فقتل من أصحابه قوم، وقتل صالح بْن مخراق مَعَ عبد ربه، فكره قطري أن يقيم بين عسكرين يقاتلانه، فخرج يلتمس منزلا، فجاء المهلب حَتَّى نزل فِي معسكره، وقاتل عبد ربه وكتب إِلَى الحجاج بالخبر وأشار عَلَيْهِ أن يوجه إلى قطري من يتبعه ويحاربه.
__________
[1] سورة النور- الآية: 11.(7/435)
وألصق المهلب بعبد ربه، وَقَالَ عبد ربه: يَا معشر المهاجرين إن قطريا وعبيدة هربا رجاء البقاء ولا سبيل إِلَيْهِ فالقوا عدوكم غدا فإن غلبكم عَلَى الحياة فلا يغلبنكم عَلَى الموت.
فقاتلوا المهلب فقتل عبد ربه، وطلب بعض أصحابه الأمان، ومضى عَمْرو القنا إِلَى خراسان فمات بِهَا، ومضى بعضهم إِلَى سجستان.
وحوى المهلب عسكر الخوارج وأصاب بِهِ جرحى فدفع كل جريح إِلَى قومه، ورجع المهلب إِلَى جيرفت فَقَالَ: الحمد لله الَّذِي ردنا إِلَى الخفض والدعة فما كَانَ عيشنا بعيش.
قالوا: ونظر المهلب فِي مجلسه إِلَى قوم لا يعرفهم فَقَالَ: مَا أشد عادة السلاح. قالوا: فقام فِي الحين فلبس سلاحه وَقَالَ: خذوا هؤلاء فأخذوا فَقَالَ: من أنتم؟ قالوا: أردنا غرتك لنقتلك. فقتلهم.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: اعتزل عبد ربه الصغير فِي أربعة آلاف، والصغير مولى بني قيس، واعتزل عبد ربه الكبير فِي سبعة آلاف، والكبير مولى بني يشكر. فقاتل المهلب الصغير فقتله وأصحابه، ومضى قطري وبقي الكبير فقاتله المهلب فقتله أيضا.
قالوا: وكتب المهلب إِلَى الحجاج: «أما بعد فالحمد لله الكافي بالإسلام فقد مَا سواه، الَّذِي أوجب المزيد بالشكر، وقد كَانَ من أمرنا وأمر عدونا مَا قد انتهى إليك خبره بعد مطاولة نلنا فيها منهم مَا لم ينالوه منا، وأدنيت السواد من السواد حَتَّى تعارفوا بالوجوه وقاتلت الأغمار، وكان(7/436)
مَا يسوءهم منا دون مَا يسرهم [1] ، وما يسرنا منهم فوق الَّذِي يسوءنا حَتَّى وقع بينهم الاختلاف ففرق اللَّه أهواءهم وألقى بأسهم بينهم، ولم يزل اللَّه يمحصنا [2] ويمحقهم، وينصرنا ويخذلهم حَتَّى بلغ بنا وبهم الكتاب أجله، فقطع دابر الكافرين والحمد لله رب العالمين [3] » .
فكتب إِلَيْهِ الحجاج: «إن اللَّه صنع بالمسلمين خيرا، وقد فرغتم من عدوكم وأراحكم من كثير مما كنتم فيه، فاقسم مَا أفاء اللَّه عليك فيمن معك. فأما قطري وعبيدة فنحن كافوك إياهم بعون اللَّه وتوفيقه، فأقبل وليكن معك بنوك وفرسانك ولا تطمعن أحدا فِي اللحاق بأهله دون قدومك علي، واستخلف عَلَى كرمان» .
فاستخلف ابنه يَزِيد وأوصاه بالقصد والمبالغة فِي الأمور، وَكَانَ قد بعث بكتاب الفتح مَعَ كعب الأشقري، ومرة بْن تليد الأزدي، أزد شنوءة، فأنشد كعب الحجاج قوله:
يَا حفص إني عداني منكم السفر..
فَقَالَ الحجاج: أخطيب أنت أم شاعر؟ فَقَالَ: خطيب شاعر.
قَالَ: فأخبرني عَن بني المهلب. قَالَ: المغيرة سيدهم وأشجعهم وحسبك بيزيد فارسا وما يستحي شجاع أن يصد عَن مدرك، وما لقي الأبطال مثل حبيب، وعَبْد الْمَلِكِ موت ناقع، وكفاك ببأس مفضل ونجدته، وأسخاهم قبيصة، ومحمد ليث عاد. ثُمَّ قَالَ لابن تليد: أخبرني
__________
[1] بهامش الأصل: وكان ما يسرهم منادون ما يسوءهم.
[2] التمحيص: الابتلاء والاختبار. القاموس.
[3] الآية في سورة الأنعام (45) (فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.(7/437)
كيف كانت حالكم. قَالَ: كنا إذا لقيناهم بعفونا وعفوهم يئسنا منهم وإذا لقيناهم بجدنا طمعنا فيهم، قَالَ: فكيف كَانَ بنو المهلب؟ قَالَ: حماة السرح نهارا وفرسان البيات. قَالَ: فأين السماع من العيان؟ قَالَ: السماع دون العيان. قَالَ: فأيهم أفضل؟ قَالَ: هم الحلقة المفرغة لا يعرف طرفاها. فوصل بني المهلب وأهل البلاء والغناء ممن كَانَ مَعَهُ وزادهم فِي الأعطية.
وولى الحجاج المهلب خراسان، وَكَانَ المهلب يقول: مَا أحب أن لي مكان بيهس بْن صهيب ألف فارس. فقيل إنه ليس بشجاع؟ قَالَ: لكنه سديد الرأي عاقل حذر فهو لا يدع الاحتراس والسؤال، ولو وجد مكانه ألف فارس شجاع لناموا حَتَّى يحتاج إليهم.
قالوا: وعقد الحجاج لسفيان بْن الأبرد الْكَلْبِيّ عَلَى خمسة آلاف، وضرب عَلَى أَهْل الْكُوفَة بعثا فخرجوا فِي عشرة آلاف عليهم الصباح بْن مُحَمَّد بْن الأشعث، ويقال إِسْحَاق بْن عَبْد اللَّهِ بْن الأشعث. وجعل عَلَى جماعة النَّاس سفيان بْن الأبرد وَقَالَ لَهُ الحجاج: أتدري إِلَى أين تسير؟
قَالَ: نعم إِلَى كلاب النار. قَالَ: اعلم أنك تسير إِلَى أسد الشرى وسباع العرب، يرون الموت قربة إِلَى اللَّه ويعدون الفرار كفرا فعليك بالصبر والعزم، والقوم أصحاب مناجزة فإياك والعجلة.
فصار سفيان وجعل عَلَى ساقته البختري بْن عامر العاملي، فمر بالأخضر بْن ورقاء الْكَلْبِيّ ومصاد بْن زياد القيني والوازع بْن دوالة الْكَلْبِيّ وهم سكارى فشتموا البختري، فَقَالَ لَهُ سفيان: هلا ضربت أعناقهم.
وبلغ الحجاج أمرهم فحلق عَلَى أسمائهم فكتب فيهم فردها.(7/438)
[مقتل قطري بن الفجاءة]
قالوا: ومضى قطري وأصحابه نحو مكران وما وراءها، فأوقع ببعض من كَانَ بأطراف بلاد السند، ومضى بعض أصحابه إِلَى سجستان، وأتى عبيدة بْن هلال قومس فصار بِهَا، ومضى قطري فِي طريق خراسان ثُمَّ عدل يريد الأصبهبذ بطبرستان.
وبلغ الإصبهبذ ذَلِكَ فبعث إِلَى قطري والخوارج يسألهم عَن أمرهم فَقَالَ قطري: نحن قوم أنكرنا جور سلطاننا فتنحينا عنه، ونحن قوم لا نظلم أحدا ولا نغصبه ولا ننزل عَلَيْهِ إلا برضاه. فأذن لَهُ الإصبهبذ فِي دخول بلاده، فدخل قطري طبرستان فِي أصحابه، فلما استقر بعث إِلَى الإصبهبذ يدعوه إِلَى الإسلام أو الجزية فَقَالَ الإصبهبذ لرسله: قولوا لَهُ أنت رجل دخلت بلادنا طريدا فآويناك وأحسنا إليك فتبعث إلي بمثل هذه الرسالة. فأرسل اليه: إنه لا يسعني فِي ديني غير هذا. فصار الإصبهبذ إِلَيْهِ ليخرجه عَن بلده فأوقع بِهِ قطري وهزمه وقتل ابنه وأخوه، فخرج حَتَّى أتى الري.
وغلب قطري عَلَى طبرستان وأتى الطبري سفيان بْن الأبرد وقد وافى الري فوضع يده فِي يده، وحدثه بما صنع قطري وَقَالَ لَهُ: أنا أدخلك عَلَيْهِ فِي طريق مختصرة حَتَّى توافيه وهو لا يشعر بك ففعل، فقاتل سفيان ومن مَعَهُ قطريا وأعانه الإصبهبذ وأساورته، وجعل قطري يقول:
أنا أَبُو نعامة الشيخ الهبل ... أنا الَّذِي ولدت فِي أخرى الإبل.
فطعنه رجل من أَهْل الشام فِي صدغه وانهزم أصحابه، فاتبعهم أَهْل الشام فقتلوا منهم خلقا.(7/439)
وعثر بقطري فرسه فاندقت فخذه ووقع بين صخرتين، وانتهى إِلَيْهِ باذام مولى عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مُحَمَّد بْن الأشعث فَقَالَ باذام: الساقط بين الصخرتين والله قطري. فَقَالَ قطري: يَا فاسق أنا غزيلكم، أو قَالَ:
أرينبكم الَّذِي تطلبون، فاختلف وباذام ضربتين فكانت ضربه قطري ضعيفة. وضربه باذام فأبان يده ثُمَّ احتز رأسه، وادعى سورة بْن الحر التيمي أنه قتله مَعَهُ.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: انهزم قطري فإذا هو قد دفع إِلَى غيضة، فنزل عَن فرسه فقاده حَتَّى انتهى إِلَى موضع فيه ماء فأقام عنده وذلك فِي الصبح.
وأقبل سورة بْن الحر، وباذام مولى الأشعث بن قيس وشنظيز الثعلبي أحد بني ثعلبة بْن يربوع يطلبون قطريا فأخبروا بأن رجلا دخل الغيضة فطلبوه فيها فوجدوه قائما يصلي وقد نزف دمه وضعف. فَقَالَ لهم: أنا غزيلكم الَّذِي تطلبون، فَقَالَ سورة لباذام إن شئت أتيته أنا من بين يديه وأتيته أنت من خلفه، وإن شئت فأنا آتيه من خلفه وأنت من بين يديه. فتلقاه سورة من بين يديه وأتاه باذام من خلفه فقتلاه واحتزا رأسه فاختصما فيه، ووافاهم أَبُو الجهم الْكَلْبِيّ فأخذ الرأس وأتى بِهِ سفيان فبعث بِهِ إِلَى الحجاج.
ويقال إن سورة كَانَ يقول: رأيت قطريا وهو عَلَى فرس وخلفه امرأة عَلَى بغل فاتبعته أنا وباذام ونحن لا نعرفه فحملت عَلَى المرأة فلما غشيتها نادت: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فعطف علي وشددت عَلَيْهِ فعانقته فسقطنا إِلَى الأرض فصار تحتي، وندر سيفه من يده فزحف يريد السيف وصارت إبهامه فِي يدي فرضضتها حَتَّى فتر، وجاء باذام فضرب بالسيف بطنه واقتتلت أنا وباذام على رأسه.(7/440)
ويقال إن الَّذِي قتل قطريا عثمان بْن أَبِي الصلت.
الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَة بْن محصن الكندي: رأيت قطريا وقد صرع فِي الشعب وهو يهوي ولا أعرفه، وحوله نسوة وفيهن عجوز، فحملت عليهن فانتضت العجوز السيف فضربتني فجرحتني فِي عنقي فضربتها فقتلتها.
وأتى علج قطريا وهو لا يعرفه فَقَالَ لَهُ: اسقني ولك سلاحي، فمضى العلج فحدر عَلَيْهِ صخرة فأوهنت فخذه، وأتاه سورة فقتله، واختصم فِي رأسه سورة وباذام وشنظيز الثعلبي، وعثمان بْن أَبِي الصلت، وجعفر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن مخنف، والصباح بْن مُحَمَّد بْن الأشعث.
وَقَالَ جعفر بْن عَبْد الرَّحْمَنِ: إني لما عرفته لم تكن لي همة إلا قتله لأنه قتل أَبِي.
قالوا: ولما قتل قطري وبعث سفيان برأسه، أتى قومس وبها عبيدة بن هلال فحصره ثلاثة أشهر، ويقال خمسة أشهر، ووضع عَلَيْهِ المنجنيق، فضاقوا وضجروا وصاروا إِلَى ذبح دوابهم وأكل لحومها، وأكلوا الجيف، فذلك حين قَالَ عبيدة:
إِلَى اللَّه أشكو مَا نرى بجيادنا ... بقومس هزل مخهن قليل
فإن يك أفناها الحصار فربما ... تشحط فيما بينهن قتيل
وأشرف عبيدة عليهم فَقَالَ: أقرأ عليكم أو أنشدكم؟ فَقَالُوا:
أنشد. فَقَالَ: يَا فسقة. قد علمت أنكم تؤثرون الشعر عَلَى القرآن.
ونادى سفيان: من خرج فهو آمن. فهم قوم بالخروج كثير.
وَقَالَ الهيثم: نادى سفيان: يَا معشر الأزارقة لا أمان عندي إلا لمن(7/441)
جاء برأس صاحبه فكان الرجل منهم يخاف ابنه وأخاه عَلَى قتله لما هم فيه من الجهد.
وخرج عبيدة فاقتتلوا فِي يوم الجمعة إِلَى المساء، ثُمَّ دخل عبيدة القصر، وانهزم قوم من أصحابه فلم يدخلوا فاتبعهم سفيان، فأخذ منهم أسرى فقتلهم. وَقَالَ عبيدة:
وما زالت الأقدار حَتَّى قذفنني ... بقومس بين الفرخان وصول
إِلَى اللَّه أشكو لا إِلَى النَّاس أشتكي ... بقومس إذ فيها الشراة حلول
ووعظ أصحابه فَقَالَ: إنما هي ساعة حَتَّى تظفروا أو تستشهدوا، فخرجوا وشدوا عَلَى سفيان وأصحابه وقالوا الحصن لمن غلب، فكشف أصحاب سفيان، ثُمَّ بقي فِي جماعة من أَهْل الشام ليسوا بالكثير فَقَالَ سفيان: يَا أَهْل الشام، يَا أَهْل الصبر والحفاظ، يَا حماة الأدبار أعن هؤلاء الأكلب تفرون، فتراجع النَّاس فَقَالَ سفيان: الأرض، فنزلوا جميعا وصبروا فَقَالَ عبيدة: يَا إخوتي روحوا إِلَى الجنة، وقاتل فقتل عبيدة وعامة أصحابه واستأمن الباقون، فأمنهم سفيان، وَكَانَ من المستأمنة حطان الأعسر فَقَالَ شعرا:
بليت وأبلاني الجهاد وساقني ... إِلَى الموت، إخوان لنا وأقارب
شريت فلم أقتل وما زلت لم أصب ... كذاك صروف الدهر فينا عجائب
واستأمن قيس الأصم وهو قيس بْن عسعس ويلقب الخشبي، ثُمَّ كف بصره فمر بقومس فَقَالَ لقائده: أي موضع هذا؟ فأخبره. فَقَالَ:
قف بي أبكي إخواني. وَقَالَ:
ذكرت الشراة الصادقين بقومس ... وذكري لهم مما يهيج شجوني(7/442)
وَكَانَ الحجاج كتب إِلَى سفيان يستبطئه فِي أمر عبيدة ويصغر مَا عمل فَقَالَ: أن أبا مُحَمَّد لا يرضي حَتَّى جعل المحسن مسيئا والمطيع عاصيا.
قالوا: وكانت عند قطري العيوف بنت يَزِيد بْن حبناء التميمي فولدت ابنتين: مزنة والفجاءة فأخذ سفيان الفجاءة فبعث بِهَا إِلَى عَبْد الْمَلِكِ، فصارت إِلَى العباس بْن الوليد فولدت لَهُ الحارث والمؤمل فلما ولي عمر بْن عَبْد العزيز وأمر برد سبايا الأزارقة قَالَ للعباس: خل سبيلها أو تزوجها إن رضيت، فتزوجها برضى منها، ويقال: إنه كانت عند العباس نعامة بنت قطري.
قَالَ الْمَدَائِنِيّ: وفد عَلَى عمر بْن عَبْد العزيز قوم من بني مازن فِي أمر بنت قطري، فَقَالَ شاعرهم:
أتيناك زوارا ووفدا إِلَى التي ... أضاءت فما يخفى عَلَى النَّاس نورها
أبوها عميد الحي عَمْرو وأمها ... من الحنفيات الكرام قبورها
فإن تك كانت حيث كانت فإنها ... لها أسرة منا كرام نفيرها
فَقَالَ عمر: قد تزوجها برضاها. وَقَالَ رجل للحارث بْن العباس، أنت ابْن الخلائف الأربعة. قَالَ: ويحك من الرابع؟ قَالَ: قطري.
وَقَالَ الهيثم: بعث سفيان برأس قطري ورؤوس أعلام من مَعَهُ إِلَى الحجاج مَعَ الوليد بْن بخيت الْكَلْبِيّ.(7/443)
أمر أَبِي فديك عَبْد اللَّهِ بْن ثور أحد بني قَيْس بْن ثعلبة بْن عكابة
قالوا: ولما خالف نجدة بْن عامر من خالفه من أصحابه، ولوا أمرهم أبا فديك عَبْد اللَّهِ بْن ثور [1] ، وكانوا بايعوا قبله ثابتا التمار، وكانت أخته عند أَبِي فديك، ثُمَّ قالوا: لا يقوم بأمرنا إلا رجل من العرب، وجعلوا الاختيار إِلَيْهِ فاختار لهم أبا فديك.
فلما ولي خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد البصرة، وجه أخاه أمية بْن عَبْد اللَّهِ إِلَى أَبِي فديك وهو بالبحرين فهزمه أَبُو فديك وفضحه فَقَالَ الفرزدق:
جاؤوا عَلَى الريح أَوْ طاروا بأجنحة ... ساروا ثلاثا إِلَى الجلحاء من هجرا [2]
حَدَّثَنَا أَبُو خلف بْن سالم المخزومي، ثنا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ عَنْ أبيه عَن عمه صعب بْن زَيْد ومحمد بْن أَبِي عُيَيْنَة قَالا: خرج أَبُو فديك بالبحرين فلقيه أمية بْن عَبْد اللَّهِ فهزمه، فركب أمية فرسا لَهُ جوادًا كَانَ يقال
__________
[1] بهامش الأصل: بلغ العرض بالأصل الثالث.
[2] ديوان الفرزدق ج 1 ص 310 وفيه: «إلى البحار من هجرا» .(7/445)
لَهُ المهرجان فدخل البصرة عَلَيْهِ فِي ليلتين أو ثلاث. فَقَالَ يوما وَهُوَ بالبصرة: لَقَدْ سرت عَلَى المهرجان إِلَى البصرة فدخلتها فِي ليلتين أو قَالَ ثلاث، فَقَالَ لَهُ بَعْضهم: هَذَا المهرجان، فلو ركبت النوروز لَمْ تسر ليلة حَتَّى تدخلها.
حَدَّثَنَا خلف بْن سالم وَأَحْمَد بْن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِيّ قالا، ثنا وهب بْن جَرِير عَنْ أَبِيهِ عَنْ صعب بْن زيد وغيره قالوا: خرج أَبُو فديك بالبحرين فبعث إِلَيْهِ خَالِد أخاه أمية فهزم، فبعث إِلَيْهِ عمر بْن عَبْد اللَّهِ بْن معمر فقتله، وقالوا: هزم أَبُو فديك أمية، وهزم قطري عَبْد العزيز بْن عَبْد اللَّهِ بالأهواز بعد ذَلِكَ وفضحه، فَقَالَ الفرزدق:
كُل بَنِي السوداء قَدْ فر فرة ... فلم تبق إلا فرة عِنْدَ خَالِد
فضحتم قريشا بالفرار وأنتم ... لدى الحرب أنكاس قصار السواعد [1]
قَالَ الهيثم: هزم أَبُو فديك أمية بْن عَبْد اللَّهِ، فندب عَبْد الْمَلِكِ عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر وضم إِلَيْهِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عضاه الأشعري، ومعه وجوه أَهْل الشام، وقدم الْكُوفَة فأجلسه بشر عَلَى سريره وأكرمه، فسار فواقع أبا فديك فانهزم أَهْل البصرة، وقاتل فِي أَهْل الشام والكوفة فقتل أبا فديك.
وَكَانَ لقاؤه إياه بالبحرين، وَكَانَ أَبُو فديك فِي اثني عشر ألفا. وَكَانَ عَلَى جند البصرة عباد بْن الحصين، ونصب رأس أَبِي فديك في رحبة البصرة.
__________
[1] ليسا في ديوانه المطبوع.(7/446)
قَالَ ودعا عمر أعشى همدان فَقَالَ لَهُ: يَا أبا المصفح [1] سر إِلَى بشر بالفتح، وقل فيه شعرا.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَ مُحَمَّد بْن موسى بْن طلحة بْن عَبْد اللَّهِ التيمي، وعمر بْن مُوسَى بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر يتباريان فِي فعلهما وكانا فِي جيش عمر بْن عبيد اللَّه. فقال عبد الله بن شبل البجلي يفضل عُمَر بْن مُوسَى بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر، وهو الَّذِي خرج مَعَ ابْن الأشعث بعد، فقتله الحجاج:
تباري ابن موسى يابن موسى ولم تكن ... يداك جميعا تعدلان لَهُ يدا
تباري امرأ إحدى يديه مفيدة ... وإحداهما تبني بناء مشيدا
ووجه مُحَمَّد بْن موسى بعد إِلَى شبيب فقتله شبيب.
وَقَالَ أَبُو اليقظان: كَانَ عَلَى جيش أَهْل البصرة مَعَ عمر بْن عبيد اللَّه حين توجه إِلَى أَبِي فديك: عُمَر بْن مُوسَى بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر، وَكَانَ أخا عَبْد اللَّهِ بْن عامر لأمه، أمهما: دجاجة بنت الصلت، وعلى جيش أَهْل الكوفة: محمد بْن موسى بْن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ.
وَقَالَ العجاج:
لقد شفاك عَمْرو بْن معمر ... من الحروريين يوم العسكر
وقع امرئ ليس كوقع الأعور
يعني عَبْد اللَّهِ بْن عمير الليثي، وَكَانَ قد وجه إِلَى بعض الخوارج نجدة أو غيره فهزم.
وَقَالَ العجاج في أرجوزته في عمرو أولها:
__________
[1] بهامش الأصل: أبا صبح.(7/447)
قد جبر الدين الإله فجبر ... هذا أوان الجد إذ جد عمر
وصرح ابْن معمر لمن ذمر [1]
الْمَدَائِنِيّ عَن أشياخه قالوا: بويع عَبْد اللَّهِ بْن ثور أَبُو فديك أحد الحرقيين، والحرقيان: تيم وسعد ابنا قيس بْن ثعلبة بْن عكابة سنة إحدى وسبعين، فأقام باليمامة ستة أشهر، ثُمَّ فتك بِهِ مسلم بْن جبير وهو من أَهْل الحجاز لمخالفته إياه فِي رأيه، وقوله بقول نجدة فوجأه اثني عشرة وجأة، وَقَالَ:
خالفت قومي فِي دينهم ... خلاف صبا الريح جاءت جنوبا
أرجى الإله وغفرانه ... ويرجون درهمهم والجريبا
فقتل مسلم وحمل أَبُو فديك فبرئ من جراحاته، وقيل لأبي فديك: لا خير لك فِي المقام باليمامة مَعَ بني حنيفة لأنا لا نأمنهم عليك، فخرج أَبُو فديك إِلَى البحرين فأقام بجواثا، فوجه إِلَيْهِ مصعب بْن الزُّبَيْرِ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الإسكاف، فَقَالَ أَبُو فديك: «يَا معشر المسلمين إن اللَّه قد أذهب عنكم نزغ الشيطان وأنقذكم من فتنة نجدة وصيركم إِلَى أنصاركم فأنتم تناضلون عَن دين اللَّه، أو مَا سمعتم مَا أعد اللَّه للمجاهدين فِي سبيله حين قَالَ: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [2] فمن كَانَ اللَّه مَعَهُ فهو المفلح المنجح. وَقَالَ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [3] . فاشروا
__________
[1] ديوان العجاج ص 4- 9.
[2] سورة العنكبوت- الآية: 69.
[3] سورة آل عمران- الآية: 169.(7/448)
أنفسكم تنالوا الفوز كما وعدكم واصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا اللَّه لعلكم تفلحون، وإياكم والفرار من الزحف فتبوءوا بسخط من اللَّه ويحل عليكم غضبه، ثُمَّ ناهضهم.
وَكَانَ البصريون يرون أن ابْن الإسكاف إذا عاين أبا فديك قتله. فلم ينتصف النهار حَتَّى انهزم البصريون، ومضى ابْن الإسكاف منهزما.
وأقام أَبُو فديك بالبحرين، وسار مصعب إِلَى الْكُوفَة، وتشاغل بأمر عَبْد الْمَلِكِ ولقائه، فجمع زياد بْن القرشي جمعا من أَهْل البحرين ومن أَهْل البصرة، ولقي أبا فديك محتسبا فَقَالَ لَهُ السائب بْن الأخرس من ولد اللبوء بْن عَبْد القيس: ويحك يا بن القرشي لا تخرج إليهم، فأبى وسار إليهم، فلقيه عمارة الطويل، وهو عمارة بْن عقبة بْن مليل، وعمير بْن سلمى من ولد زيد بْن يربوع بْن ثعلبة بْن الدؤل بْن حنيفة، فقتل ابْن القرشي، وتفرق أصحابه فَقَالَ الشاعر:
تمتع قبل جيش أَبِي فديك ... وقبل عمارة الرجل الطويل
أغر صميدع يمشي إذا مَا ... تتابع مشية الجمل الصؤول
وقبل الطير ينهش لحم قوم ... بمعترك البياذق والخيول
وقبل معرس [1] لا شك فيه ... سينأى بالخليل عن الخليل
فما لك حين تقطع صرّتاج [2] ... إِلَى البيض العباهر من سبيل
لقاء الأسد أهون من لقاء ... بِهِ التحكيم يشهر بالأصيل
__________
[1] المعرس: السائق الحاذق السياق، إذا نشطوا سار بهم، وإذا كسلوا عرس بهم، أي نزل بهم في آخر الليل، والموضع معرس ومعرّس. القاموس.
[2] لعل صرتاج اسم مكان، والعبهر: الممتلئ الجسم والعظيم، والناعم الطويل من كل شيء. القاموس.(7/449)
قالوا: وقتل مصعب فِي سنة اثنتين وسبعين، وقدم خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد بْن أَبِي العيص واليا عَلَى البصرة من قبل عَبْد الْمَلِكِ، فوجه أخاه أمية بْن عَبْد اللَّهِ فِي سنة ثلاث وسبعين إِلَى أَبِي فديك فِي اثني عشر ألفا، وأبو فديك في سبعمائة. فلما تواقف الجمعان وتراءيا قَالَ أَبُو فديك: قد ترون عدوكم والقليل المنصور خير من الكثير المخذول فاستنصروا ربكم واصبروا لعدوكم.
فاقتتلوا ثُمَّ تحاجزوا عَلَى السواء، ثُمَّ عاودوا القتال فقاتلوهم حَتَّى زالت الشمس، فكمن لهم ثابت التمار فِي مائة واستطرد الخوارج، واتبعهم أمية فلما جاوز موضع الكمين خرجوا عليهم وهم يحامون من خلفهم، وكر أَبُو فديك وأصحابه فصبر البصريون ساعة ثُمَّ انهزموا، وصرع أمية فحماه عون بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سلامة التيمي، وحوى أَبُو فديك عسكرهم.
ومضى أمية والناس منهزمين إِلَى البصرة، وأصاب أمية فِي طريقه ضر، ولم يجد طعاما، فلقي أعرابيا فَقَالَ لَهُ عون: مَا معنا دراهم ولكني أعطيك درعي هذه وتبيعني ناقتك؟ قَالَ: لا أب لك، أتراها تساوي ناقتي؟ قَالَ: والله لهي خير منك ومن أبيك ومن ناقتك، فأخذ الدرع ونحروا الناقة فأصابوا منها، فأكثر أمية الأكل فَقَالَ عون: ألم ينهك الطبيب عَن لحم الجزور؟ قَالَ: ويحك اسكت فليس هذا بموضع مزاح.
فلما قدموا البصرة لزم أمية بيته استحياء من النَّاس حين هزم وفر، فأتاه خَالِد بْن صفوان بْن عَبْد اللَّهِ بْن الأهتم التميمي فَقَالَ: الحمد لله الَّذِي خار لنا عليك ولم يخر لك عَلَيْنَا، أما والله لقد كنت حريصا عَلَى الشهادة(7/450)
طالبا لها، ولكن اللَّه أبى إلا أن يزين بك مصرنا ويؤنس بك وحشتنا، ويجلو بك غمنا.
وَقَالَ الفرزدق يذم أمية:
أمي هلا صبرت النفس إذ جزعت ... فتبلي اللَّه عذرا مثل من صبرا
طاروا سراعا وما سلوا سيوفهم ... وخلفوا فِي جواثا سيدي مضرا
ساروا عَلَى الريح أَوْ طاروا بأجنحة ... ساروا ثلاثا إِلَى الجلحاء من هجرا
لو كنت إذ جشأت ربطت جرونها ... ولم تولهم يوم الوغى الدبرا [1]
يعني بسيدي مضر: عَبْد اللَّهِ بْن الحشرج الجعدي، والحارث بْن عَبَّاس بْن ربيعة بْن الحارث بْنِ عَبْد المطلب، ارتث بجواثا فحمل إِلَى البصرة فمات بِهَا ودفن، ويقال بل مات هناك فحمل فِي صندوق إِلَى البصرة.
وَقَالَ بعض الشعراء:
يوما بني خالد يومان قد فضحا ... يوم بفسا ويوم كَانَ فِي هجرا
وَقَالَ آخر لأمية:
أما القتال فلا أراك مقاتلا ... ولئن فررت ليعرفن الأبلق
وَقَالَ أَبُو الحسن علي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِيّ وغيره: بلغ عَبْد الْمَلِكِ أمر أمية بْن عَبْد اللَّهِ فَقَالَ لعمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر بْن عُثْمَان بْن عَمْرو بْن كعب بْن تيم بْن مرة، وهو عنده: اكفني أبا فديك. فَقَالَ: لا يمكني.
فَقَالَ عَبْد الْمَلِكِ: والله لتسيرن إِلَيْهِ. قَالَ: والله لا أفعل. قال: فارفع
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 310، مع فوارق.(7/451)
حسابك لفارس وصححه. قَالَ: نعم. وقام فاتبعه روح بْن زنباع الجذامي فَقَالَ: يَا أبا حفص. ترد عَلَى أَمِير الْمُؤْمِنِينَ ويقسم فتقسم. قَالَ: يَا أبا زرعة إن أخاه بشرا بالكوفة وابن عمه خالد بْن عَبْد اللَّهِ بالبصرة وهما حائلان بيني وبين مَا أريد من النخبة، وأن يندبا معي إلا ضعفة النَّاس من لا يحامي عَلَى دين ولا حسب، فإن صبرت قتلت ضيعة وإن أنحزت افتضحت.
فرجع روح إِلَى عَبْد الْمَلِكِ بقول عمر، فأرسل إِلَيْهِ عَبْد الْمَلِكِ فرده وَقَالَ: يَا أبا حفص، لو رأيت بين عيني أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وتدا أما كنت نازعه وواقيا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ مكروهه؟ قَالَ: بلى والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بنفسي وأهلي ومالي. قَالَ: فإن أبا فديك وتد بين عيني فاكفني أمره. قَالَ: نعم إن أعفيتني من عنت بشر وخالد قَالَ: فليس لأحد عليك سلطان فِي بلد تنزله وليس لك أن تصلي بالناس ولا تجبي الخراج وأنت مسلط عَلَى الدواوين فانتخب من شئت وكم شئت، وكتب لَهُ بِذَلِكَ إِلَى بشر، فسار حَتَّى قدم الْكُوفَة عَلَى بشر، فأكرمه وأقعده مَعَهُ عَلَى السرير وَقَالَ: والله لو لم يكتب إلي أَمِير الْمُؤْمِنِينَ بما كتب فيك، لقويت، فهذه الدواوين فانتخب من شئت، وهذا المال فأعطهم، فانتخب من كل ربع ألفين وأعطاهم أعطياتهم، فلم يكلمه بشر فِي تخليف أحد، وَقَالَ لهم: سيروا إِلَى البصرة، واستعمل عليهم مُحَمَّد بْن موسى بْن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ.
وساروا وتزوج عمر بالكوفة عائشة بنت طلحة فأقام عندها أياما، ثُمَّ اتبع مُحَمَّد بْن موسى وحمل مَعَهُ عائشة فقدم البصرة وأوصل كتاب عَبْد الْمَلِكِ إِلَى خالد، وانتخب من أَهْل البصرة ثلاثة عشر ألفا، فكلمه خالد فِي قوم ليخلفهم فأبى ذَلِكَ فمنعه خالد الديوان، فَقَالَ بيهس بْن صهيب الجرمي:(7/452)
إن بشر بْن مروان لم يكلمه فِي تخليف أحد، وهو أخو أَمِير الْمُؤْمِنِينَ، ولم يطمع فِي ذَلِكَ. فَقَالَ: إنه لم يدع لي محدثا ولا سميرا.
فكف خالد حَتَّى استكمل مَا أراد فَقَالَ العجاج:
لقد سما ابْن معمر لما اعتمر ... مغزى بعيدا من بعيد وصبر
فِي نخبة النَّاس الَّذِي كَانَ افتخر ... ثلاثة وستة واثني عشر
ألفا يجرون من الخيل العكر [1]
فَقَالَ عمر بْن عبيد اللَّه: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وَكَانَ المهلب بالبصرة قد عزله خالد عَن قتال الأزارقة وولى قتالهم عَبْد العزيز أخاه، فأثبته عمر فيمن يخرج مَعَهُ، وأثبت عباد بْن الحصين، فَقَالَ لَهُ المهلب: إني رمد العين فاختر أي بني شئت ليخرج معك واعفني. قَالَ:
لا.
وعسكر عمر، وأخذ النَّاس فِي الجهاز، وأعطاهم أعطياتهم ورأى المهلب فَقَالَ لَهُ: مر ابنك المغيرة بالتجهز والخروج مكانك فإن أَهْل مصرك محتاجون إليك يَا أبا سعيد.
وبعث خالد إِلَى عمر بمال فَقَالَ: اقسمه فِي فرسانك، فقسمه فيهم وفضل المغيرة بْن المهلب، وَقَالَ: أما والله لأربحن عَلَيْهِ ربحا رغيبا.
فتجهز النَّاس بجهاز حسن وأداة كاملة، وخرجوا إِلَى المعسكر بالنحيت [2] ، وخرج المغيرة فِي ثلاثين مجففا فعرضهم عمر، فجاءه الصلتان
__________
[1] ديوان العجاج ص 50- 51 مع فوارق.
[2] بهامش الأصل: النحيت: موضع على أربعة أميال من البصرة.(7/453)
العبدي فَقَالَ: حاجتك؟. قَالَ: أنشدك. قَالَ: إياك أن تكلمني فِي أن أعفي أحدا من وجهه هذا. قَالَ: مَا كنت لأرغب بأحد عنك. قَالَ:
هات. فأنشده:
لن يعدم الخابط المؤمل إن ... حل بدار ابْن معمر ورقا
لا يخلف الوعد حين تسأله ... ولا يرى عابسا ولا غلقا
فِي أبيات.
فَقَالَ: حاجتك؟ قَالَ: مَا تركت لي حاجة غير صحبتك. قَالَ:
مَا أرغبني فِي أن تصحبني ولكني أكره أن أعرضك فَقَالَ الصلتان:
رأيت صروف الدهر ليس يفوتها ... صغير ولا ذو حنكة يتفكر
فكم من شجاع طاول الحرب قد نجا ... ومن حائد عَن عمره لم يعمر
قَالَ: صدقت، وأمر لَهُ بأربعة آلاف درهم وحمله عَلَى فرس وأعطاه سلاحا، وصير عمر بْن عبيد اللَّه عَلَى أَهْل الْكُوفَة جميعا وهم ثمانية آلاف مُحَمَّد بْن موسى بْن طلحة، وعلى ربع أَهْل المدينة: بشر بْن جرير بْن عَبْد اللَّهِ البجلي، وعلى ربع كندة وربيعة: إِسْحَاق بْن الأشعث وعلى ربع تميم وهمدان: مُحَمَّد بْن عمير بْن عطارد ويقال مطر بْن ناجية ويقال عَبْد الرَّحْمَنِ بْن سَعِيد بْن قَيْس الهمداني، وعلى ربع مذحج وأسد: زياد بْن النضر الحارثي وابنه، ويقال زحر بْن قيس الجعفي، وَكَانَ عَلَى جماعة أَهْل البصرة: عُمَر بْن مُوسَى بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر، وعلى خمس أَهْل العالية:
سنان بْن سلمة بْن المحبق الهذلي، ويقال سعيد بْن أسلم بْن زرعة الكلابي. وعلى بكر بْن وائل: أَبُو رهم بْن شقيق بْن ثور السدوسي. وعلى(7/454)
تميم: عباد بْن الحصين، وإليه الخيل كلها. وعلى عَبْد القيس: الحكم بْن مخربة. وعلى الأزد: المغيرة بْن المهلب.
وحمل عمر بْن عبيد اللَّه مَعَهُ عائشة بنت طلحة، وخلف رملة بنت عَبْد اللَّهِ بْن خلف فلم يحملها مَعَهُ، فَقَالَ الشاعر:
أنعم بعائش فِي عيش لَهُ أنق ... وانبذ برملة نبذ الجورب الخلق
ويروى:
عيش بعائش عيشا غير ذي رنق.
وَقَالَ أيضا:
من يجعل الديباج عدلا للزيق ... بين الحواري وبين الصديق
كبكرة مما تباع فِي النوق
قالوا: وسار بالناس فلما نزل الوفراء [1] وجه خمسمائة فارس وبعث مَعَهُمُ الفعلة وَقَالَ: احفروا لي خندقا فإذا فرغتم فأعلموني.
فتقدموا فحفروا لَهُ خندقا وأعلموه فارتحل فنزل الخندق وقدمهم ليحفروا فِي المنزل الآخر خندقا، فلم يزل يصنع ذَلِكَ وتحفر لَهُ الخنادق وينزلها حَتَّى أتى هجر ونزل جواثا فِي خندق وَأَبُو فديك بالمشقر [2] فِي جمع كثير من الأعراب كانوا ضووا إِلَيْهِ بعد هزيمة أمية، فَقَالَ أَبُو فديك لأصحابه: قد أتاكم هؤلاء القوم فمن أحب لقاء اللَّه فليقم ومن أراد الدنيا فليذهب حيث شاء فهو في حل.
__________
[1] اكتفى ياقوت بقوله: الوفراء: اسم موقع.
[2] المشقر حصن بالبحرين عظيم قبل مدينة هجر. معجم البلدان.(7/455)
فتفرقوا عنه، وبقي فيما بين التسعمائة إِلَى الألف، وعمر فِي أحد وعشرين ألفا. وَقَالَ رجل لأبي فديك: إن عطية بْن الأسود بريء من نجدة فإن كنا مخطئين فنجدة محق، وإن كنا محقين فعطية لنا ولي فما تقول؟. قَالَ:
ليس هذا يوم نظر. عدونا قد نزل فنجتمع عَلَى حربه حَتَّى يحكم اللَّه بيننا، ثُمَّ ننظر فيما سألت عنه، قَالَ: فعلام أسفك دمي؟ ولحق باليمامة.
وجعل عمر عَلَى الحرس: عباد بْن الحصين الحبطي فخرج ليلة فتلقاه المغيرة بْن المهلب فَقَالَ عباد: من هذا؟ وَقَالَ المغيرة: من هذا؟ فضربه عباد فشجه. فقيل لَهُ: هذا المغيرة فكف عنه، فغضبت الأزد للمغيرة ولبسوا السلاح فجاء رجل من هناءة من الأزد وَكَانَ متألها فَقَالَ لَهُ رجل من قومه: اتق اللَّه. فَقَالَ: اغرب، تقول لي اتق اللَّه وقد ضرب ابْن المهلب؟.
وبلغ عبادا فَقَالَ: أعلى هذه الحال ونحن بإزاء العدو، ولئن كانت بيننا صيحة ليهلكن هذا الجيش. فمشى إِلَى المغيرة فاعتذر إِلَيْهِ، ويقال إنه إنما كان هذا أيام مايرْنا بنهر تيرى وهم يقاتلون الأزارقة، وضرب عباد المهلب فغضبت الأزد، والأول أثبت.
وأقام عمر بْن عبيد اللَّه ثلاثة أيام ثُمَّ أتاهم أَبُو فديك فنزل بإزائهم وخندق خندقا دون خندق وخرج عمر من معسكره ينظر ومعه رجلان من بني حنيفة فلقوا رجلا من أصحاب أَبِي فديك فحملوا عَلَيْهِ فَقَالَ: سبحان اللَّه أما تستحيون؟ ثلاثة عَلَى فارس واحد؟ ليبرز إِلَى رجل رجل. فبرز إِلَيْهِ أحد الحنفيين فلم يصنع شيئا، وطعنه الخارجي فقتله.(7/456)
وخرج إِلَيْهِ عمر بْن عبيد اللَّه بنفسه فوقف لَهُ الخارجي فلما دنا منه وحش بالرمح ثُمَّ ضربه بالعمود عَلَى رأسه فصرعه ونزل إِلَيْهِ فأجهز عَلَيْهِ.
ورجع عمر إِلَى أصحابه فَقَالَ: مَا يئست من الحياة قط إلا يومي هذا فدفع اللَّه، رأيت الحنفيين جميعا قد أحسنا القتال وطعناه فلم يصنعا شيئا فعلمت أن عَلَى جسده شيئا يقيه الطعن فقلت لا يقتله إلا العمود، فلما قتله نظرت فإذا عَلَيْهِ سنون [1] .
فلما كَانَ اليوم الرابع من مقام عمر قَالَ أَبُو ماعز الحارثي: لو خرج منا إِلَى هؤلاء القوم فوارس فذاقوهم، فخرج أَبُو ماعز فِي ثلاثمائة فارس حَتَّى أتى خندق أَبِي فديك فأشرفوا عليهم فخرج إليهم فوارس من الخوارج فاستطرد لهم أَبُو ماعز وأصحابه حَتَّى إذا انقطعوا عطفوا عليهم فصرعوا من الخوارج أربعة أو خمسة.
وبلغ ذَلِكَ عمر فأقبل فِي النَّاس وقد تحاجزوا وانصرف الخوارج فلام عمر أبا ما عز وَقَالَ: كدتم تفضحونا، لو قتل منكم رجل واحد لهد العسكر، فَقَالَ مجاعة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ العتكي: قد وقى اللَّه مَا حذرت.
ورجع عمر إِلَى عسكره فلما كَانَ الغد نهض عمر للقتال وصف النَّاس وقدم الرجالة، وخرج الخوارج من عسكرهم فركزوا رماحهم واستتروا بالبراذع فَقَالَ أَهْل البصرة للرجالة: حركوهم. فَقَالَ عباد: إن خلف هذه البراذع أذرعا شدادا وأسيافا حدادا وأنفسا سخية بالموت، وهم شادون عليكم شدة لا يقوم لها شيء، فإن كانت فيكم جولة فليكن انصرافكم على
__________
[1] لم أقف على معنى محدد لهذه الكلمة في المعاجم، مع أن المقصود منها واضح هنا.(7/457)
حامية يمنع بعضكم بعضا فإنهم يتبعونكم وأكثرهم رجالة فإذا لغبوا فكروا عليهم.
قَالَ: وَقَالَ رجل من الخوارج: شدوا عليهم واحذروا تخطئة الحمار [1] .
يقول احذروا قول عباد حين قَالَ ليكن انصرافكم عَلَى حامية فإذا لغبوا فكروا عليهم فنحوا البراذع وأصلحوا رماحهم وسيوفهم وشدوا عَلَى الميسرة وفيها أَهْل البصرة فكشفوهم فذهبوا فِي الأرض.
وصرع المغيرة فحماه الكوثر بْن عبيد، ويقال عبد بْن معمر، واعتزل المغيرة بْن المهلب ومجاعة بْن عَبْد الرَّحْمَنِ الأزدي فِي فوارس فقاتلوهم، وتراجع النَّاس فردوا الخوارج وحازوهم إِلَى موقعهم، ومر أصحاب عمر بْن عبيد اللَّه بعمر بْن موسى جريحا فاحتملوه وشدوا عَلَى الخوارج حَتَّى أدخلوهم عسكرهم وأحرقوا فيه تبنا، وهاجت الريح فأمالت الدخان فِي وجوههم فقتلوا منهم ثلاثة ويقال ثمانية وذلك الثبت، وأسروا ثلاثة نفر فقتلهم عمر صبرا.
فلما كَانَ اليوم الثالث من هذا اليوم باكرهم أَبُو فديك بالقتال، فَقَالَ لأصحابه: إن قتلت فأميركم أَبُو طالوت. وزحفوا جميعا مستميتين، فشدوا عَلَى النَّاس شدة أزالت الميمنة والميسرة والقلب من أَهْل العراق، فبقي عباد بْن الحصين وسنان بْن سلمة والمغيرة بْن المهلب، فأمر عباد غلمانه:
مهيرا ووازعا، وميسرة فجثوا وأشرعوا رماحهم، ونادى عباد: أيها النَّاس أنا عباد. فَقَالَ لَهُ غلامه الوازع: يَا سيدي لا تنوه باسمك فيقصدوا إليك،
__________
[1] في هامش الأصل: سمّوا عبّادا.(7/458)
قَالَ: ويحك، إني إن ثبت ولم أنوه باسمي أقدموا علي فإذا عرفوني لم يقدم علي منهم أحد.
فرجع مجاهد بْن بلعاء فِي الخيل، وَكَانَ عباد صيره خليفته عَلَى الخيل، فرجع فِي عدة من البصريين وجماعة من أَهْل الْكُوفَة من بني تميم، ومضى الباقون فلم يكن لهم ناحية دون البصرة، فَقَالَ عباد لمجاهد: احمل عليهم، فَقَالَ: إني عليك لهين حين تأمرني بالإقدام بالخيل وليس معي رجالة تقيها.
فَقَالَ عباد: فليترجل بعضهم، فترجلوا، وَقَالَ عمر لعباد:
مَا ترى؟ فقد ذهب النَّاس. قَالَ: الصبر. فَقَالَ: مَا شاورتك إلا وأنا أريد أن أسألك أي موتة ترى أن أموت قَالَ: انزل، فنزل عَن برذون لَهُ أشهب أبيض وأقدموا عليهم، فكان عباد يحمل عليهم فيطاعنهم ثُمَّ يرجع فيقول: إنا لله.
وصبروا مليا فسمعوا صارخا يقول: صرع أَمِير الْمُؤْمِنِينَ- يعني أبا فديك- وأطافوا بِهِ فأقبل عمر كأنه جمل هائج قاصدا لمصرع أَبِي فديك وحماه أصحابه حوله، فشدوا عَلَيْهِ بأسيافهم فما انثنى حَتَّى أخذ برجل أَبِي فديك فسحبه والدم يسيل من كمه والسيوف تأخذه، فذب عنه عباد بْن الحصين والمغيرة بْن المهلب وسنان بْن سلمة ومحمد بْن موسى ومجاهد بْن بلعاء حَتَّى أفرجوا عنه وانحازوا وإن رجل أَبِي فديك لفي يده، فَقَالَ: احتزوا رأسه فاحتزوه وبعث بِهِ من ساعته إِلَى البصرة.
واتبع ابْن بلعاء الخوارج، ثُمَّ رجع ومضى الخوارج إِلَى المشقر، فوجه عمر بْن عبيد اللَّه إليهم مجاهد بْن بلعاء وبيهس بْن صهيب الجرمي(7/459)
وعرفطة بْن رجاء اليشكري، فحصروا الخوارج حَتَّى نزلوا عَلَى حكم عمر فقتل الموالي واستحيى العرب.
وَكَانَ عَلَى خيل أَبِي فديك عَبْد اللَّهِ بْن صباح الزماني، فلما طلب الأمان كلم قوم من بني حنيفة عمر وقالوا إنا قد آمناه. فَقَالَ: لا ولا نعمة عين، وأرسل إِلَيْهِ فحبسه فهرب من السجن فلقي أعرابيا مَعَهُ بعيران فَقَالَ: أتكريني إِلَى اليمامة؟ فَقَالَ: نعم بكذا وكذا. فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: بل أضعفه لك عَلَى أن ترفق بي فِي السير. قَالَ: ذاك إليك، فحمله.
وطلبه عمر بْن عبيد اللَّه بْن معمر، وبلغ الأعرابي أن عمر يطلب ابْن صباح الزماني، فلما سار بقية يومه قَالَ للأعرابي: أتدري من أنا؟. قَالَ:
لا. قَالَ: أنا عَبْد اللَّهِ بْن صباح الزماني هربت من السجن وعمر يطلبني وإن يأخذني هلكت وذهب بعيرك فأنت أعلم.
قَالَ: غررتني. قَالَ: أتراني أضعفت لك كراءك وأنا آمن. فطرد بِهِ شلا حَتَّى قدم اليمامة، ثُمَّ أتى البصرة فاستجار بعامر بْن مسمع فأخذ لَهُ عامر بْن مسمع الأمان من خالد، فكان يغدو إِلَى خالد.
وتزوج ابْن صباح ابنة عطية بْن الأسود، فأقام بالبصرة حَتَّى قدم الحجاج بْن يوسف فدخل عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: من أنت؟. فَقَالَ: رجل من ربيعة. قَالَ: هات نسبا أقرب من هذا. قَالَ: من بني بكر بْن وائل.
قَالَ: من أيهم؟. قَالَ: من بني مازن. قَالَ: فمن أنت؟ قَالَ: عَبْد اللَّهِ بْن صباح. قَالَ: صاحب خيل أَبِي فديك؟. قَالَ: نعم. قَالَ: لئن تغيبت عني لأقطعن يدك ورجلك، ولأضربن عنقك.(7/460)
فخاف وهرب إِلَى اليمامة فكان فِي أصحاب إِبْرَاهِيم بْن عربي، وأظهر التوبة من رأي الخوارج، فرأى يوما رءوسا تشيط فغشي عَلَيْهِ، فعلم أنه عَلَى رأيهم.
قالوا: وقدم المنهزمة من أصحاب أَبِي فديك إِلَى البصرة، فكان أول من دخلها منهم عَبْد اللَّهِ بْن عُثْمَان بْن أَبِي العاص الثقفي، ثُمَّ تتابعوا فسر ذَلِكَ خالد بْن عَبْد اللَّهِ، ودعا بسرير لَهُ فجلس عَلَيْهِ وأعلم النَّاس أن عمر قد انهزم، وأرسل إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عمير الليثي وَكَانَ قد انهزم عَن بعض الخوارج فبشره بانهزام عمر، فأعتق كل مملوك لَهُ.
وبعث خالد يوم جاء خبر هزيمتهم رسولا إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عبيد اللَّه بْن معمر فأخبره بأن أخاه قد انهزم فَقَالَ: إنا لله وإنا إِلَيْهِ راجعون، إني لأنتظر من اللَّه إحدى الحسنيين الشهادة أو الظفر، فأما الهزيمة فلا أخافها عَلَيْهِ لا سيما ومعه ابنة عمه.
ودخل المهلب عَلَى خالد فَقَالَ لَهُ: يَا أبا سعيد مَا عندك من خبر أَبِي حفص؟. فَقَالَ: عندي أن أبا فديك قد قتل ورأسه يأتيك. قَالَ:
وما علمك؟ قَالَ: وجهت مَعَ المغيرة ابني غلامين فقلت: إن ظفر عمر فوجه إلي فلانا، وإن ظفر أَبُو فديك فوجه فلانا، ولا ترسل واحدا منهما حَتَّى يتبين لك الظفر. فبعث بالذي أمرته أن يرسله إذا ظفر عمر. قَالَ: مَا أتاك الغلام إلا منهزما. قَالَ: مَا بِذَلِكَ أخبرني.
قالوا: فإنه ليحدث إذ دخل رسول عمر بْن عبيد اللَّه برأس أَبِي فديك فألقاه بين يديه فَقَالَ: ويحك كيف كَانَ الأمر؟ قَالَ: انهزم النَّاس وصبر عمر وعباد ونفير يسير معهما ساعة ثُمَّ كر أَهْل الحفاظ فقاتلوا الخوارج فقتل(7/461)
أَبُو فديك، وأخذ الرسول بأذنيه ثُمَّ هزه وَقَالَ: يَا أبا فديك كيف رأيت ضرب بني عُثْمَان بْن عَمْرو بْن كعب بْن سَعْد بْن تيم بْن مرة بْن كعب بْن لؤي؟ وذلك أن عمر بْن عبيد اللَّه من ولده.
فتناول خالد نعليه فانتعل وَقَالَ: أف، ودخل مغموما. فكان عباد بْن الحصين يقول: مَا رأيت أحدا يقاتل يوم أَبِي فديك غير المغيرة بْن المهلب وسنان بْن سلمة بْن المحبق.
وقالت عائشة بنت طلحة يومئذ: من الرجل الَّذِي كَانَ إذا صاح كادت الأرض تتصدع من صوته؟ فَقَالَ لها عمر: ذاك عباد بْن الحصين.
وَقَالَ خير بْن حبيب بْن عطية، أحد بني مالك بْن سعد: استأذنت عَلَى عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر بالبحرين فَقَالَ آذنه: من أنت؟ قلت:
خير. فدخل ثُمَّ رجع إلي فَقَالَ: أي خير؟ قلت: خير بْن حبيب.
وعلمت أنه قد عرفني وتفاءل باسمي، فدخل ثُمَّ رجع فأذن لي فدخلت عَلَيْهِ وجاريته تشد عَلَيْهِ جيب الدرع وهي تبكي. فكلمته بحاجتي ثُمَّ خرجت وخرج، فقتل يومئذ أَبُو فديك.
قَالَ: ثُمَّ أرسل إلي بعد ذَلِكَ بأيام فدخلت عَلَيْهِ وعائشة إِلَى جنبه فلم أر زوجا قط أحسن منهما. فَقَالَ: مَا قلت فِي عائشة؟ قلت: من يجعل الديباج عدلا للزيق. وبين يديه لؤلؤ منثور، فَقَالَ: تناول من هذا اللؤلؤ.
وحفن لي حفنات منه. فبعت ذَلِكَ اللؤلؤ واشتريت بثمنه أرضا وكانت عائشة بنت طلحة تقول لعمر: أي اليومين كَانَ أشد عليك؟ يوم أَبِي فديك أو يوم فارقت رملة؟ فيضحك.(7/462)
ويقال إنها قالت: أو يوم كنت تزور فيه رملة فترى خلقتها وعظم أنفها؟ وَكَانَ مقتل أَبِي فديك فِي سنة أربع وسبعين.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيّ: كانت هزيمة عَبْد العزيز بْن عَبْد اللَّهِ بعد مقتل أَبِي فديك، وأوفد عمر إِلَى عَبْد الْمَلِكِ ببشارة الفتح وفدا فيهم الصلتان وهو قثم بْن خبية بْن قثم العبدي، ويقال هو تميم بْن خبية بْن قثم. فَقَالَ لَهُ عَبْد الْمَلِكِ: يَا صلتان لعمر ثناؤك وعليه جزاؤك. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إني لأعيش من جدواه وأتقلب فِي نعماه، وإن خيره علي لكثير وقد أدرك فِي عدوك مَا أدرك وهو محمود. فَقَالَ: صدقت، وأمر لَهُ بألفي درهم.
وَقَالَ بعض الشعراء:
ضجت جواثا ولم تفرح بمقدمنا ... لما قدمنا وماذا ينفع الضجر
كانت لنا هجر أرضا نعيش بِهَا ... فأرسل النار فِي حافاتها عمر
وَقَالَ أعشى همدان فِي قصيدة لَهُ طويلة يذكر فيها قتالهم بجواثا ويفخر بصبر الكوفيين، ويذم البصريين فِي هزيمتهم، فمنها قوله:
ألم يأت بشرا مَا أفاءت رماحنا ... وبشر بْن مروان بِذَلِكَ أسعد
فإنك قد جهزت جيشا مباركا ... ومثل أَبِي مروان بالخير يحمد
أطعت أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وإنما ... جعلت غياثا كل خير تغمد
وأعطيتنا منك العطاء مضاعفا ... وزودتنا حَتَّى جعلنا نحسد
ولما رأينا القوم ليس لديهم ... لمن زار إلا المشرفي المهند
مشينا إليهم فِي الحديد كأننا ... سحاب يضيء البرق فيه ويخمد
ولما رأى أَهْل البصيرة حزمهم ... تولوا سراعا خيلهم ثُمَّ تطرد
وما قاتلت فرسانهم عَن رجالهم ... وما منعوا قتلاهم أن يجردوا(7/463)
ولكنهم حاصوا من الموت حيصة ... فهم فِي أصول النخل شتى وموحد
وأهلك جمع المارقين فأصبحوا ... أحاديث إذ جاروا عَن الحق واعتدوا
حدثني العمري عن الهيثم بن عدي أن سعيد بْن خالد من ولد عثمان بْن عفان قَالَ لبيهس بْن صهيب الجرمي: يَا أبا المقدام، أمية أفضل أم عمر بْن عبيد اللَّه؟. فَقَالَ: أو كلما نشأ ناشئ من بني أمية أردتم أن تجعلوه مثل عمر؟ لا والله لعمر أجود منه جودا، وأكرم منه نفسا وأشد منه بأسا، فغضب سعيد وَقَالَ: مَا أنت وذاك يَا أخا جرم. فَقَالَ: اسكت فما أنت بالأول ولا الثاني ولا الثالث، ولقد كنت الرابع فربحت.(7/464)
[الجزء الثامن]
[تتمة أمر عبد الملك بن مروان بن الحكم]
[تتمة أمر الخوارج في زمان عبد الملك]
أمر صالح بن مسرح [1] أحد بني امرئ القيس بْن زَيْد مناة بْن تميم:
قال الهيثم بن عدي: خرج صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس بْن زيد مناة وكان من مخابيث الخوارج، وكان لا يرفع رأسه خشوعًا، وكان يكني أبا مالك، فخرج ومعه فرسان من فرسانهم منهم ثور بن البطين بن سويد، ومرة، وخطامة، وشوذب، وشبيب، وهم من بني شيبان، فخرج بجوخي، ثم أتى النهروان فصلى في مصارع أصحابه وقال: اللهم ألحقنا بهم فإنهم مضوا على طاعتك، ثم أتى قرية بين الموصل والعراق وفيها قصر فنزله، فبعث إليه بشر بن مروان زفر بن عمرو الفزاري فنكص عنه، وبعث إليه الحارث بن عميرة بن ذي المشعار الهمداني فواقعه فقتله، وقتل للحارث ابنان، وكان الذي طعن صالحا فقتله: الأشعث بن الحارث بن عميرة.
__________
[1] بهامش الأصل: مسرّح بفتح الراء(8/7)
وقال هشام بن محمد الكلبي عن أبي مخنف: كان صالح بن مسرح أحد بني امرئ القيس بْن زَيْد مناة بْن تميم ويكني أبا مالك متخشعا، فأتاه شبيب بن يزيد الشيباني، فقال له صالح: إن الحكيم السعيد إذا سمع الحق نور الله قلبه وجلا العمى عن بصره.
ثم إن شبيبا أتى الموصل وهو يريد الشام في أمر من أموره، فقدم صالح بن مسرح الموصل وهو بها، وصالح يريد نصيبين للقاء قوم من أصحابه بها، فصار صالح إلى نصيبين، ومضى شبيب إلى عبد الملك بن مروان بالشام، ثم أتى دار صالح بن مسرح بها فقال لصالح: يا أبا مالك رحمك الله، أخرج بنا فو الله ما تزداد السنة إلا دروسا ولا يزداد المجرمون إلا طغيانا واستجراحا.
فبعث صالح الرسل إلى أصحابه فتواعدوا للخروج في صفر سنة ست وسبعين ليلة أربعاء، فاجتمعوا جميعا للميعاد، فقال شبيب لصالح:
أرى أن نستعرض الناس فإن الكفر قد علا وإن الظلم قد فشا. فقال صالح: بل ندعوهم فإن الدعاء أقطع للحجة، ولا نريد أن نعيب على قوم أعمالًا ندخل فيها، وكان رأي صالح البسط بعد الدعاء، فأقاموا بأرض دارا [1] بضع عشرة ليلة، فتحصن منهم أهل دارا ونصيبين وسنجار.
وكان خروج صالح في مائة وعشرين فأخذوا دواب من دواب محمد بن مروان كانت بقربهم، وقد كان أمرهم بلغ محمدا فاستخف به وهو على الجزيرة ونواحيها من قبل أخيه عبد الملك بن مروان، فوجه محمد إليهم
__________
[1] دارا: بلدة في لحف جبل بين نصيبين وماردين. معجم البلدان.(8/8)
عدي بن عدي بن عميرة الكندي في خمسمائة، ثم أمدّه بخمسمائة فصار في ألف، فأتى الخوارج وهم بدوغان [1] من حران، وقد جعل صالح على ميمنته شبيبا وعلى ميسرته سويد بن سليم.
وكان عدي متنسكا متوقيا للدماء، فأرسل إلى صالح: إني لست على رأيك ولكني أكره سفك الدماء، فواقعه، فكب عدي رايته وهرب فحوى صالح عسكره فغضب محمد بن مروان، وبعث مكانه الحارث بن جعونة العامري في ألف وخمسمائة، وبعث أيضا خالد بن جزي السلمي في ألف وخمسمائة وقال: أيكما سبق فهو الأمير، فتوافيا جميعا، فوجه صالح شبيب إلى (الحارث بن) جعونة العامري في شطر أصحابه، وتوجه هو إلى خالد بن جزي في النصف الثاني، فاقتتلوا بآمد [2] حتى حجز المساء بينهم وقد قتل من الخوارج ثلاثون ومن أصحاب محمد بن مروان سبعون، وسار صالح فيمن بقي معه حتى أتى الموصل ثم أتى إلى الدسكرة.
ووجه بشر بن مروان الحارث بن عميرة بن مالك بن حمزة بن أنفع بن زبيب بن شراحيل، وكان يقال لحمزة: ذو المسعار الهمداني في ثلاثة آلاف من أهل الكوفة، وصالح في تسعين، ويقال بل وافاه في أربعة آلاف من مقاتلة أهل الكوفة وستة آلاف من الفرض.
وكان على ميمنة الحارث بن عميرة أبو الرواع الشاكري من همدان، وعلى ميسرته الزبير بن الأروج التميمي، فثبت صالح فقتل، وضارب
__________
[1] دوغان: قرية كبيرة بين رأس عين ونصيبين، كانت سوقا لأهل الجزيرة يجتمع إليها أهلها في كل شهر مرة. معجم البلدان.
[2] آمد: بلد قديم حصين ركين، مبني بالحجارة السود على نشز دجلة. معجم البلدان.(8/9)
شبيب حتى صرع عن فرسه فوقع في الرجالة، فلما رأى صالحا قتيلًا قال:
إليّ يا معاشر المسلمين. فلاثوا به واجتمعوا إليه وحامى بعضهم على بعض حتى دخلوا حصنا بجواثا [1] فقال لهم شبيب: بايعوني أو من شئتم منكم، ثم اخرجوا بنا حتى نبيتهم فإن الليل أخفى للويل، وهم آمنون لكم.
فبايعوا شبيبا وأتوا باللبود فبلوها بالماء ثم ألقوها على الجمر وخرجوا فلم يشعر ابن عميرة وأصحابه إلا والخوارج يضربونهم بالسيوف في جوف عسكرهم، وضارب الحارث بن عميرة حتى صرع فاحتمله أصحابه وانهزموا وخلوا لهم العسكر وما فيه ومضوا إلى المدائن.
ومات ابن عميرة، ويقال أن صالحا جرح جراحات مات منها في ليلته، وأمر أن يبايع شبيب بعده واستخلفه والأول أثبت.
وكان قتل صالح بن مسرح في أيام بشر بن مروان، وقال قوم: كان قتله في سنة ست وسبعين يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة خلت من رجب، ويقال يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة.
وقال الجعد بن ضمام:
أيا عين فابكي صالحا إن صالحا ... شرى نفسه لله يبغي بها الخلدا
وقد كان ذا رأي ثخين ورأفة ... صفوحا عن العوراء يدفعها عمدا
وقد كان في الحرب العوان يشبها ... ويسعرها بالخيل محبوكة جردا
في أبيات.
__________
[1] المعروف أن جواثا حصن في البحرين، ولم أقف على ذكر جواثا أخرى في الجزيرة، أو العراق.(8/10)
وَقَالَ أعشى همدان، وهو عَبْد الرَّحْمَنِ بْن بسطام، أحد بني مالك بن حاشد بن جعشم بن خيران بن نوف بن همدان:
إلى ابن عميرة تحدي بنا ... على أينها [1] القلص الضمر
ولابن المسرح في جحفل ... دلفت وفرسانه حضر
شبيب وقعنبهم والبطين ... وعمرو وفارسهم أبجر
ليوث عرين هم ما هم ... إذا حكموا وإذا كبروا
فلم ير تحت ظلال السيو ... ف مثلك محتسبا أصبر
ولا مثل أشبالك الضاريا ... ت ولا مثل معشركم معشر
وقال رجل من بني تميم يرثي صالحا، واسمه المنهال:
أمنهال إنّ الموت غاد وروائح ... ولا خير في الدنيا وقد مات صالح
إذا قلت أنسى صالحا عاد ذكره ... جديدا لما انضمت عليه الجوانج
لئن كان أمسى صالحا ثل عرشه ... لقد كان لا تخشى عليه الفضائح
في أبيات.
وقال الحويرث الراسبي:
أقول لنفسي في الخلاء ألومها ... هبلت دعيني قد مللت من العمر
ومن عيشة لا خير فيها دنية ... مذممة عند الكرام ذوي الصبر
سأركب حدباء الأمور لعلني ... ألاقي التي لاقى المحرق في القصر
وما كان غمرا صالح غير أنه ... رمته صروف الدهر من حيث لا يدري
__________
[1] الأين: الإعياء. القاموس.(8/11)
أمر يزيد بن بعثر
قال الهيثم: خرج يزيد بن بعثر السعدي من تميم بجوخى [1] ، فوجه إليه بشر بن مروان خيلا فقتل. فقال عمران بن حطان:
لقد كان في الدنيا يزيد بن بعثر ... حريصًا على الخيرات حلوا شمائله
في أبيات.
وقال الهيثم بن عدي: خرج في أيام ابن عربي وولايته اليمامة خوارج من السجن، وكانوا مقيدين فحكموا، فقال لهم رجل منهم: اطلقوا قيودكم. قالوا: ولم؟ لسنا نريد الفرار. فلم يخرج إليهم إبراهيم بن عربي وأخرج رجلًا يقال له عطية بن جناب من أصحابه، ومعه رجل من موالي آل أبي مرثد الغنوي فقاتلاهم فقتل الخوارج.
__________
[1] جوخى: اسم نهر عليه كورة واسعة في سواد بغداد.(8/13)
أمر هدبة الطائي بن عمرو
من بني جدعاء، وأمه شيبانية وكان فيهم.
وقال: وخرج هدبة الطائي بجوخي على بشر بن مروان في جماعة فقتله سيف بن هانئ، وكان على مسالح جوخي والطريق، وكان موكلًا بقتال الخوارج في نواحيه، فقال أيوب بن سعفة:
إن يك خلي هدبة اليوم قد مضى ... فإني بآلاء الفتى أنا نادبه
فيا هدب للهيجا وللسّيف والقنا ... ويا هدب يوما للخصيم يجاذبه
في أبيات.
ويقال: إن هدبة شيباني وهو هدبة بن عبد عمرو من ولد قيس بن خالد الشيباني، وقال المدائني: قتل هدبة سيف في أيام الحجاج.(8/15)
أمر شبيب بن يزيد الشيباني
قال ابن الكلبي عن لوط وغيره: غزا يزيد بن نعيم بن قيس بْن عمرو بْن قَيْس بْن شراحيل بْن هَمام بْن مُرة بْن ذُهْلِ بْن شَيْبَان بن ثعلبة بن عكابة الروم فابتاع جارية من السبي ووقع عليها فولدت له شبيب بن يزيد في سنة خمسة وعشرين في يوم النحر، فقال أبوه: ولد في اليوم الذي تهراق فيه الدماء، وأحسبه سيكون صاحب دماء، وكان اسم أم شبيب جميرة.
وقال الهيثم بن عدي: كان اسم أمه غزالة واسم امرأته جهيزة بنت عمرو.
قال الكلبي: وانتقل يزيد من الكوفة إلى الموصل وكان شبيب صاحب فتك وغارات وكان يبيت الأكراد، فقال الشاعر:
لم أر أياما كأيام مالك ... ولم أر ليلًا مثل ليل شبيب
وكان مالك رجلًا يغير بالنهار فيأخذ ما استطف [1] له، وكان شبيب في الديوان فرض له حين أدرك. ثم إنه تنسّك وارتدع، وذلك أنه سمع رجلا
__________
[1] خذ ما طف لك واستطف: ما ارتفع لك وأمكن ودنا منك. القاموس.(8/17)
يقرأ: وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا. إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا. فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ) إلى قوله:
ولا يكتمون الله حديثا [1] ، فقال: ما أغفل شبيب عما خلق له وعما يراد به، فأعجب أباه ما رأى من حاله.
ثم إن شبيبا حج فأتى الكوفة فنزل على القعقاع بن شور الذهلي في بدأته فبره وأكرمه، ثم سار فلما قضى حجته وصار بالربذة أيدع به [2] وانقطع بقوم معه أيضا فمرت بهم هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري فقاموا إليها فسألوها فأمرت لهم بزاد وحملان. ثم إن شبيبا قدم الكوفة فجعل يسأل عن أهل العبادة والصيام فدل على صالح بن مسرح، فسمع منه وقبل قوله.
ومضى شبيب بعد أن لقي صالحا إلى الموصل، وسار صالح يريد نصيبين للقاء أصحاب له هناك، ثم أتى دارا ومضى شبيب إلى عبد الملك بن مروان وقد كان اسمه سقط من الديوان لكثرة غيبته وتخلفه عن الاعتراض من العراض فحلق على اسمه فكلم الناس عبد الملك في الفك عن اسمه وإدرار أرزاقه عليه فأبى وقال إن بكر بن وائل وبني تميم حيان كثير شرهما وما أحب أن يكثروا بهذه البلاد. فأخبر شبيب بقول عبد الملك فقال: والله لأسوءنه فأبلغوه عني فله مني يوم أرونان [3] .
__________
[1] سورة النساء- الآيات: 39- 42.
[2] أيدع الحج على نفسه: أوجبه. القاموس.
[3] الأرونان: الصعب من الأيام. القاموس.(8/18)
ثم قدم على صالح بن مسرح وهو بدارا فكان منه ما ذكرنا، وقتل صالح فبايعه أصحابه.
وقال الهيثم بن عدي: كان بنو مروان لا يفرضون لبكر ولا تميم بالشام فخرج شبيب يطلب الفريضة وقد سبقه صالح بن مسرح بالخروج والخوارج يرون من خرج منهم، ثم خرج بعده آخران الثاني تبع للأول فكان شبيب معه حتى قتل فبويع بعده فوجه إليه بشر بن مروان خيولا فهزمها شبيب.
وأقام على ذلك نحوا من سنة حتى مات بشر بن مروان، وقدم الحجاج العراق، فأقام سنة لا يعرض لشبيب حتى كثف أمره واشتدت شوكته.
وبلغ قطري بن الفجاءة خروج شبيب في أيام الحجاج فقال: إن الله قد قيض للفاسق أخي ثمود رجلًا من الصفرية سيشجيه ويخزيه، والله ما نبالي في أي الفريقين كان الفتح.
وقال ابن الكلبي: لما اعتقد شبيب ارتفع إلى أرض الموصل، فدعا سلامة بن سيار الشيباني إلى الخروج معه، وكان فضالة بن سيار أخوه يقول: الفضل بن سيار قد خرج قبل خروج صالح بن مسرح فقتلته عنزة، ففرض لهم عبد الملك وأنزلهم بانقايا من حرة الموصل- فاختار سلامة من أصحابه ثلاثين فأغار بهم على عنزة فقتل منهم بشرا، وقال شعرا يقول فيه:
فصبحتهم قبل الشروق بفتية ... مساعير لا كشف اللقاء ولا عزل
وليست دماء اليقدميين بالتي ... توازي دماء الحي شيبان في القتل
لعل جيادي أن تعود عليهم ... فتنزلهم دار الصغار مع الذّلّ(8/19)
فيقال: إن سلامة كان معه، ويقال إنه اعتذر بشغل له.
وأقبل شبيب في أصحابه نحو زاذان [1] ومعه أمه في مظلة من مظال الأعراب، وكان حملها من الموصل معه، وانضم إليه قوم، منهم أبو الصقر إبراهيم المحلمي وكان نازلًا في بني تميم بن شيبان، وكان الحجاج قد ولى سفيان بن أبي العالية الخثعمي طبرستان فكتب إليه أن ينكفئ راجعًا لمواقعة شبيب، ونادى في جيش الحارث بن عميرة الهمداني بالكوفة والمدائن فساروا عليهم سورة بن أبجر بن نافع بن العرباض أحد بني أبان بن دارم فلم يتخلف منهم كثير أحد.
وعجل سفيان بن أبي العالية إلى محاربة شبيب بخانقين قبل مصير سورة إليه، وأكمن شبيب لابن أبي العالية مصاد بن يزيد أخاه، واستطرد لهم حتى ظنوا أنهم قد هزموه، ثم خرج عليهم الكمين فقاتلوهم من ورائهم، وكر شبيب فواجههم فانهزموا، وثبت سفيان بن أبي العالية في نحو من مائتين فقاتلهم فأحاط به أصحاب شبيب فقاتل دونه غلام له يقال له غزون.
وأقبل سفيان إلى مهروذ [2] فنزل بها وكتب إلى الحجاج بخبره ومواقعته شبيبا بخانقين، وكتب الحجاج إلى سورة يعنفه ويأمره أن يأتي شبيبا، فبعث سورة إلى المدائن فانتخب له منها خمسمائة رجل من جندها فتوافوا إليه مع من معه وخرج لطلب شبيب وهو يجول (بجوخي) وأتى شبيب المدائن فقتل من ظهر له وأخذ دواب من دواب الجند ولم يدخل البيوت.
__________
[1] موضع قرب الرقة في ديار مضر.
[2] مهروذ: من طساسيج سواد بغداد. معجم البلدان.(8/20)
ثم إن شبيبا أتى النهروان فوقف أصحابه على قبور من قتله علي بن أبي طالب فاستغفر لهم وكان في مائة، فلقيه سورة في نخبة من معه فقاتله شبيب وهو يقول: «من ينك العير ينك نياكا» . فهزمه شبيب واتبعه حتى بلغ المدائن ودنا من بيوتها، فرمي وأصحابه من فوق البيوت.
ثم أتى شبيب كلواذي [1] ، ثم أقبل يسير إلى أرض جوخي وصار إلى جبال تكريت ولحق الجند بالكوفة فغضب الحجاج على سورة بن أبجر وقال:
والله لأسوءنه، ووجه الجزل وهو سعيد بن شرحبيل بن عمرو بن الأرقم الكندي، وبعضهم يقول سعيد بن عمرو. والأول أثبت.
وضم إليه أربعة آلاف مقاتل، وأقبل الجزل يطلب شبيبا في أرض جوخي وشبيب يريه الهيبة له فيخرج من طسوج إلى طسوج، وكان يومئذ في ستين ومائة.
واستبطأ الحجاج الجزل فولى سعيد بن المجالد بن عمير بن ذي مران الهمداني- جد المجالد بن سعيد المحدث- جيشه وضمه إليه فصار من تحت يده وقال له: لا تفعل كما فعل الكندي يطلب طلب السبع ويحيد حياد الضبع.
وأتى شبيب براز الروز [2] فالتقوا وعلى ميمنة ابن المجالد عياض بن أبي لينة وعلى ميسرته عبد الرحمن بن عوف الرؤاسي أبو حميد بن عبد الرحمن، فهزمهم شبيب وحمل على سعيد بن المجالد فضربه ضربة خالطت دماغه فقتله شبيب.
__________
[1] كلواذى: طسوج قرب بغداد. معجم البلدان.
[2] براز الروز: من طساسيج السواد ببغداد. معجم البلدان.(8/21)
وقاتل الجزل قتالًا شديدا حتى صرع فسقط بين القتلى، فحمل إلى المدائن ولحق الجيش بالكوفة، وكتب الجزل إلى الحجاج بالخبر فأجابه بجواب لطيف، وفيه يقول بعض الكنديين:
جاؤوا بشيخهم وجئنا بالجزل ... شيخ إذا ما لقي القوم نزل
ولم يلبث الجزل أن مات، وقال المحلّ بن وائل:
كيف رأيت يا بن ذي مران ... جلادنا عند قرى الهروان
أذاقك العلقم والذيفان ... والموت أسياف بني شيبان
وبعث الحجاج إلى الجزل ابن أبجر الطبيب ليعالجه وبألف درهم.
وأقبل شبيب إلى كرخ بغداد ولم يعرض لأهل سوقها العتيق، ثم سار شبيب جوادا حتى أتى الكوفة فنزل عند دار الرزق وقد أمر الحجاج أهل الكوفة فعسكروا بالسبخة وعليهم عثمان بن قطن الحارثي.
ووجه الحجاج سويد بن عبد الرحمن السعدي للقائه فحمل عليه شبيب حملة منكرة، ومضى حتى قطع بيوت الحيرة، ثم مضى شبيب إلى الأنبار ثم أتى دقوقا، ثم مضى إلى آذربيجان وناحية أرمينية، فتركه الحجاج وخرج إلى البصرة واستخلف على الكوفة عروة بن المغيرة.
ثم إن شبيبا أقبل يريد الكوفة وبلغ الحجاج ذلك فأقبل من البصرة جوادًا إلى الكوفة وأتى شبيب حربي [1] وهي دجلة فعبر منها، وقال لأصحابه: ليس الحجاج بالكوفة فما دون دخولها بإذن الله شيء.
__________
[1] بليدة في أقصى دجيل بين بغداد وتكريت.(8/22)
فخرج مبادرا ونزل الحجاج الكوفة العصر، ونزل شبيب السبخة المغرب، فلما صلى المغرب والعشاء الآخرة جاء حتى ضرب باب القصر بعمود وتمثل.
عاري الجواعر من ثمود أصله ... عَبْد ويزعم أنه من يقدم
ثم إنه اقتحم المسجد الأعظم وعلا المنبر وأقعد غزالة وهي امرأته وهي من سبي أصبهان على المنبر لئلا يصيبها الرمي، ويقال بل كانت نذرت أن تصعد المنبر فصعدته.
وقال بعضهم: لم تكن امرأته ولا أمه ولكنها كانت من الخوارج ثم خرج.
ونادى الحجاج في الناس فكان أول من أتاه: عثمان بن قطن بن عبد الله، ثم وجه الحجاج بشر بن غالب الأسدي في ألفين وزائدة بن قدامة الثقفي وأبا الضريس مولى بني ثعلبة بن يربوع تميم في ألف، وأعين مولى بشر بن مروان- ويقال مولى سعد بن أبي وقاص- في ألف، ووجه محمد بن موسى بن طلحة التيمي، وزياد بن عمرو العتكي فنزل هؤلاء الأمراء أسفل الفرات فتجنبهم شبيب وأخذ نحو القادسية.
وبعث الحجاج زحر بن قيس الجعفي في ألف وثمانمائة جريدة وقال:
اتبعه فإن لم يعطف إليك فلا تقاتله.
وبلغ شبيبا خبره فأقبل إليه والتقيا فهزم أصحاب زحر ونزل فقاتل حتى صرع، فلما أمسى تحامل حتى دخل الكوفة وبه بضع عشرة ضربة، فأكرمه الحجاج وبره وقال: من أراد أن يرى شهيدا يمشى على الأرض وهو من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.(8/23)
ويقال إن زائدة لقيهم وعلى ميمنته بشر بن غالب وعلى ميسرته زياد بن عمر العتكي، فصير شبيب سويد بن سليم في كردوس حيال الميمنة، وصير أخاه حيال الميسرة، ووقف بحيال القلب، فشد سويد على زياد فصابره ساعة ثم انهزم زياد وقد أحاط به ثلاثون سيفا، وقتل زائدة، وبلغ شبيبا مكان الأمراء بأسفل الفرات فسار إليهم ودافعهم وأفرد بإزاء كل أمير منهم جماعة من أصحابه وعليهم رجل يسوسهم، فقتل زائدة بن قدامة، وقاتل زياد بن عمر العتكي من يليه فصابرهم ثم هزموه.
وقاتل محمد بْن موسى بْن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ فقتل، ودخل أبو الضريس جوسقا هناك فقال شبيب لأصحابه: ارفعوا السيف، فبايعه قوم منهم عبد الرحمن بن جندب وأبو بردة بن أبي موسى، ثم خرج شبيب بأصحابه إلى نفر [1] ثم أتى خانيجار [2] فأقام بها، فوجه إليه الحجاج عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في كثف ومعه من كندة خمسمائة فارس فدخل على الجزل وهو يعالج الموت فقال له: إنك تقاتل قوما كأنهم قد خلقوا من أضلاع الخيل وبنوا على ظهورها أسود غاب يستطعمون الموت، هجهجوا [3] أقدموا وإن كف عنهم لم يكفوا.
فأقبل شبيب حتى نزل جولايا [4] ونزل ابن الأشعث بقربه وذلك في أيام
__________
[1] نفر: بلد من نواحي بابل بأرض الكوفة. معجم البلدان.
[2] خانيجار: بليدة بين بغداد وإربل قرب دقوقا. معجم البلدان.
[3] هجهج بالسبع: صاح، وبالجمل: زجره، والهجهاج: النفور، والشديد الهدير الجمال، والداهية. القاموس.
[4] ليس في معجم البلدان.(8/24)
العشر، فبعث إليه شبيب: إن هذه أيام عيد فإن رأيت أن توادعنا حتى تمضي. وكان يحب المطاولة فوادعه فكتب عثمان بن قطن بذلك إلى الحجاج وبإقبال عبد الرحمن على الجباية واستيكاله الرعية، فولاه جيش عبد الرحمن، وولى المدائن مطرف بن المغيرة بن شعبة مكانه.
وكان ابن أبي عصيفير الثقفي على المدائن فعزله الحجاج وولى المدائن عبد الرحمن، وخرج ابن أبي قطن فتسلم عسكر عبد الرحمن بن الأشعث، وواقع شبيبا، وهو في مائة وأحد وثمانين، فترجل عثمان وكان على ميسرته عقيل بن شداد السلولي فجعل يقول:
لأضربن بالحسام الباتر ... ضرب شجاع بطل معاور
فحمل عليه شبيب فقتله، ووقع عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث في نهر جولايا، فدفع إليه رمح فتعلق به، وقال له محمد بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الحنفي: اركب. فقال: أينا الردف؟. فبلغ الحجاج فقال: أنخوة وهو منهزم؟
وظهر شبيب عليهم، فأمر برفع السيف، ودعا إلى البيعة فبايعة قوم من الرجالة، وقتل من كندة يومئذ مائة وعشرون ومن سائر الناس ألف، وقتل عثمان بن قطن، قتله مصاد أخو شبيب ثم أتى شبيب سفح ساتيدما [1] فقتل قوما من بكر بن وائل لم يتبعوه، ثم أتى المدائن فناظر حذيفة بن اليمان فقال الحجاج لمن قبله: والله لتقاتلن عن فيئكم أو لأبعثن إلى قوم هم أسمع وأطوع وأصبر على اللأواء منكم، فليقاتلن عدوكم وليأكلنّ فيئكم.
__________
[1] جبل ساتيدما ميافارقين وسعرت قرب أرزن. معجم البلدان.(8/25)
فقام زهرة بن حوية التميمي فقال: إني كبير السن ضعيف، ولكن أبعث رجلًا، وأكون معه وأشير عليه، فقال الحجاج: جزاك الله خيرا عن أول أمرك وآخره.
وكان زهرة ممن شهد القادسية، فكتب إلى عبد الملك يخبره أن أهل الكوفة قد عجزوا وضعفوا عن شبيب، ويسأله أن يبعث إليه رجلًا ذا شجاعة ونصيحة، فوجه إليه سفيان بن الأبرد الكلبي في أربعة آلاف، وحبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ألفين، ويزيد بن هبيرة المحاربي معهما، وبعث الحجاج قبل قدومهم إلى عتاب بن ورقاء الرياحي وهو مع المهلب، فقدم عليه فجعله على أهل الكوفة وضم إليه زهرة بن حوية.
وكان بشر بن مروان وجه عتابا إلى المهلب وهو بالأهواز فحارب قطري بن الفجاءة، وأتى شبيب بهرسير [1] فنزل مدينتها، وبعث إليه مطرف بن المغيرة أن ابعث إليّ من أناظره فكان من أمره ما كان مما قد ذكرناه في كتابنا هذا.
ووجه الحجاج عتاب بن ورقاء، وشبيب يومئذ في ستمائة فواقعه عتاب فقاتل وصبر فقتل عتاب، قتله رجل يقال له عمرو بن عبد عمرو من بني تغلب ويقال الفضل بن عامر الشيباني ويقال عامر بن عمرو، ووطيء زهرة بن حوية فجعل يذب بسيفه وهو شيخ ضعيف البصر لا يستطيع القيام، فجاء الفضل بن عامر الشيباني فقتله وذلك بسوق حكمة على ستة فراسخ من المدائن، فلما رأى شبيب زهرة قال: لئن كنت قتلت ضالا لربّ
__________
[1] بهرسير: من نواحي سواد بغداد قرب المدائن. معجم البلدان.(8/26)
يوم من أيام المسلمين قد حسن فيه بلاؤك وعظم فيه غناؤك، ولرب خيل للمشركين قد هزمتها، وسرية لهم قد ذعرتها.
واستمكن شبيب من أهل العسكر فقال: ارفعوا عنهم السيف، ودعاهم إلى البيعة فبايعوه ثم هربوا من تحت ليلتهم، ودخل سفيان بن الأبرد الكلبي وحبيب بن عبد الرحمن الكوفة فيمن معهما.
وخطب الحجاج أهل الكوفة فقال: لا أعز الله من أراد العز بكم، لا تشهدوا معنا قتال عدونا والحقوا بالنصارى واليهود.
وأقبل شبيب إلى الكوفة فقتل عامل سوراء [1] ، وأخذ ما كان عنده من المال، وزحف إليه الحجاج نفسه ومعه سفيان بن الأبرد، فجعل أهل الكوفة يقولون:
دبوا دبيبا ... واحذروا شبيبا
وسار شبيب إلى السبخة فوجه إليه الحجاج غلمانا له فقتلهم، ووجه إليه عمارة الطويل فاستعلى عليه، فقال شبيب: قاتلني رجل ما أحسبه ولا أراه إلا طويل بني المجنون.
وأخذ أهل الكوفة بأفواه السكك وأشرعوا الرماح في وجوههم، وقاتل خالد بن عتاب بن ورقاء الخوارج فقتل مصاد أخا شبيب وجهيزة أم شبيب وكانت قد قاتلت قتالًا شديدا، وقال الناس:
أم شبيب ولدت شبيبا ... هل تلد الذّيبة إلا ذيبا
__________
[1] سوراء: موضع إلى جانب بغداد. معجم البلدان.(8/27)
وقتلت غزالة وأحتز رأسها فقال الحجاج: والله ما قوتل شبيب قبل يومه هذا ومرته هذه.
وهرب شبيب فبعث الحجاج في إثره حبيب بن عبد الرحمن الحكمي في ثلاثة آلاف من أهل الشام فقاتله بالأنبار حتى كره بعضهم بعضا.
وأتى شبيب واسطا من ناحية أرض جوخى، ثم أتى الأهواز وتجاوزها إلى فارس حتى إذا قوي واستراش عاد إلى الأهواز فلقيه سفيان بن الأبرد وحبيب والشاميون عند جسر دجيل بالأهواز، فاقتتلوا قتالا شديدا حتى اضطر الخوارج إلى الجسر فلم يجدوا عنه محيصا، فلما انتهى شبيب إلى الجسر نزل ونزل معه مائة فقاتل أشد قتال، فلما رأى سفيان صعوبة أمرهم أمر الرماة فرشقوهم بالنبل، وكر شبيب على الرماة فصرع منهم أكثر من ثلاثين، ثم قال لأصحابه: اعبروا رحمكم الله. وقدمهم وبقي في أخريات الناس.
ورأى فرسه رمكة [1] بعض أصحابه فتحصن [2] فزلت رجل فرسه فسقط في الماء وهو يقول: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا [3] .
ويقال إنه لما قاتلهم قال لأصحابه في المساء: قد انصرف عنكم عدوكم فاعبروا بنا فإذا أصبحنا قاتلناهم، ومر وهو يركض فلما سار في وسط الجسر قطعه قوم من بني شيبان كانوا حقدوا عليه قتل من قتل في ساتيدما، فغرق.
__________
[1] الرمكة: الفرس الأنثى والبرذونة تتخذ للنسل. القاموس.
[2] أحصن: تزوج، والمحصن: الفرس الذكر والمقصود أن حصانه أراد أن ينزو.
القاموس.
[3] سورة الأنفال- الآية: 42.(8/28)
ويقال إنه لما حجز بينهم الليل عبر شبيب الجسر، وبصر بهم قوم من أصحاب سفيان فقطعوا الجسر فماج بهم فغرق شبيب وجماعة معه، قالوا:
فأمر سفيان فاستخرج شبيب بالشباك وشق بطنه فوجد قلبه كأنه صخرة يضرب به الأرض فلا يثبت وينبو عنها نبو الحجر، وكان غرقه ليلًا. والشراة يقولون كان على قلبه شعر وذلك باطل.
وقال معمر بن المثنى: خرج شبيب في أيام بشر بن مروان حين قتل صالح بن مسرح، وكان معه فلم يزل يتنقل في جوخي حتى ولي الحجاج فبعث إليه عبيد بن المخارق القيني من أهل الشام، فهزمه شبيب، ثم بعث إليه زحر بن قيس فهزم أصحابه وارتث وبه ثلاثون طعنة، وضربه حتى حمل في القطن، ثم بعث إليه عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن الأشعث فهزمه، ثم عتابا فقتله، ثم الجزل الكندي فقتله، ثم بعث إليه زياد بن عمرو العتكي فانهزم، ثم بعث محمد بْن موسى بْن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ فقتله، فقال قطري حين بلغه أمر شبيب: إن الله قد قيض للفاسق أخي ثمود رجلًا من الصفرية قد أشجاه، والله ما نبالي بأي الفريقين كان الفتح.
ووجه الحجاج إلى شبيب يزيد بن هبيرة المحاربي فهزمه.
وحدثني الْعُمَرِيُّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَوَانَةَ وابن عياش وغيرهما قالوا: لما قتل صالح بن مسرح وبويع شبيب بعده في ولاية بشر، بعث إليه بشر خيلا ففضها، ومكث شبيب ينتقل بجوخى والسواد سنة، ثم وجه الحجاج إليه عبيد بن أبي المخارق القيني فهزمه شبيب، ثم وجه إليه يزيد بن هبيرة المحاربي فهزمه، ثم بعث إليه زحر بن قيس الجعفي فهزمه وارتث وبه ضربات وطعنات وكان يحمل في القطن وكانت ضربة منها قد فلقت عينه،(8/29)
فقال الحجاج: من أحب أن ينظر إلى الشهيد الحي فلينظر إلى زحر بن قيس.
ثم بعث عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث فهزمه، ثم بعث عتاب بن ورقاء فلقيه بالفلوجة فقتله شبيب، ثم بعث إليه الجزل الكندي فوجه إليه شبيب المهذب السكوني والبطين الشيباني فقال شاعر أهل العراق:
جاؤوا بشيخهم وجئنا بالجزل ... شيخا إذا ما عاين الموت نزل
فقتل الجزل، ثم بعث إليه عثمان بن قطن الحارثي فقتله شبيب، ثم بعث إليه طهمان مولى آل عقبة بْن أَبِي معيط بْن أَبِي عَمْرو بن أمية.
وقال غير الهيثم: هو مولى عثمان. وكان على فرس للحجاج فشد عليه شبيب وهو يظنه الحجاج فقتله.
ثم بعث إليه أبا الورد مولاه فقتله ثم بعث إليه زياد بن عمرو العتكي فصابره يوما وليلة ثم انهزم زياد، ومع زياد يومئذ النضر بن القعقاع بن شور الذهلي. فلما رآه شبيب منهزما كف عن جري فرسه ليد كانت لأبيه عنده، ثم قال: أيا نضر، لا حكم إلا الله، قلها لتنجو، فقال الخوارج:
أتعصبا في دين الله؟ قال: لا، ثم حمل على النضر فقتله.
ثم بعث إليه محمد بْن موسى بْن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ فقتله شبيب، ثم بعث إليه أبا الضريس مولى تميم فقتله.
ومكث شبيب أربع سنين، ثم ضرب الحجاج البعث على أهل الكوفة، وخرج حتى عسكر بالسبخة، وجعل شبيب يتنقل فيما بين السواد والجبل، وبعث إليه الحجاج عبد الله بن زميت فما شعر الحجاج وهو في(8/30)
عسكره بالسبخة إلا وقد أقبل شبيب، وقد سبق أصحابه في ثلاثين فارسًا، ففرقهم في نواحي عسكر الحجاج ثم حكموا، فانذعر الناس ودخل عامتهم الكوفة، وقتل من أصحاب الحجاج نحو من مائة وثلاثين، ولم يقتل من أصحاب شبيب إلا رجلان.
ثم انصرف شبيب فلقي أصحابه على الطريق فردهم، ثم أقبل فأتى الفلوجة فأقام بها خمس عشرة ليلة، ثم أتى كوثي، فبعث إليه الحجاج علقمة بن عبد الرحمن الحكمي فكسره ثم انحاز إلى الأنبار وكتب الحجاج إلى عبد الملك: «الغوث الغوث يا أمير المؤمنين، وجه إلى أهل الشام فإنه لا غناء عند أهل الكوفة» . فبعث إليه أربعة آلاف رجل فقدموا عليه وشبيب بالأنبار، فقال شبيب: لنذعرن ابن أبي رغال. فأقبل وقد قرط [1] فرسه عنانه، وقرّط الخوارج خيلهم أعنّتها حتى دخلوا الكوفة ليلا بعد ما صليت العشاء الأخيرة ومعه مائة وخمسون رجلًا، ومعه جهيزة امرأته وغزالة أمه وكانت من سبي أصبهان، وفي المسجد أصحاب الأساطين والبرانس يصلون والأحراس في السكك، فقال شبيب لأصحابه: ليقم على كل باب رجلان فلا يمر بهما أحد إلا قتلاه، وقال لأمه وامرأته: اقعدا على المنبر لا تصبكما معرة.
ثم اعترض من في المسجد فقتلوا، وقتل أصحابه من شد فأراد الخروج وقتل أبو سليم، وهو أبو ليث بن أبي سليم المحدث في عدّة من النسّاك.
__________
[1] قرط الفرس: ألجمها، أو جعل أعنتها وراء آذانها عند طرح اللجم. القاموس.(8/31)
وطلب حوشب بن يزيد فاستخفى، وأخذ ميمون العذاب مولى حوشب بن يزيد بن رويم الشيباني، وكان حوشب يومئذ على الشرطة والاستخراج، وميمون خليفته على الاستخراج وطلب حوشبا فلزم منزله ولم يبرح، وجعل أصحاب شبيب يضربون باب القصر ويقولون: يا عدو الله، يابن أبي رغال، يا أخا ثمود، أخرج. ففي ذلك يقول وصيلة بن عتبان الشيباني:
لعمري لقد نادى شبيب وصحبه ... على الباب لو أن الأمير يجيب
فأبلغ أمير المؤمنين رسالة ... وذو النصح لو تصغي إليه قريب
أتذكر إذ دارت عليك رماحنا ... بمسكن والكلبي ثم غريب
فلا صلح ما دامت منابر أرضنا ... يقوم عليها من ثقيف خطيب
فإنك إلا ترض بكر بن وائل ... يكن لك يوم بالعراق عصيب
فلا ضير إن كانت قريش عدى لنا ... يصيبون منا مرة ونصيب
فإن يك منهم كان مروان وابنه ... وعمرو، ومنهم هاشم، وحبيب
فمنا سويد والبطين وقعنب ... ومنا أمير المؤمنين شبيب
غزالة ذات النذر منا حميدة ... لها في سهام المسلمين نصيب
يقال إنها نذرت أن تصعد منبر الكوفة.
ومنا سنان الموت وابن عويمر ... ومرة فانظر أي ذاك تعيب
فقال عبد الملك: كلهم والله أعيب.
فلما طلع الفجر قال شبيب لبعض أصحابه: أذن، فأذن وأقام وتقدم شبيب فصلى بهم الغداة وقرأ بهم بسورة البقرة وآل عمران حتى كادت الشمس تطلع، ثم جلس وسط المسجد ساعة وأقبلت الخيول فقال(8/32)
لأصحابه: اركبوا. ونادى منادي الحجاج: يا خيل الله اركبي. وأقبل الناس فجالدهم شبيب وأصحابه في المسجد ثم خرج شبيب وأصحابه واتبعه الناس واضطربوا في موضع السوق ساعة ثم زاحفهم الحجاج في أربعة آلاف من أهل الشام وقال: لا يخرجن من أهل الكوفة أحد إلا خالد بن عتاب بن ورقاء فإنه ثائر بأبيه، وغير جهم بن زحر بن قيس.
وكان الحجاج أشد الناس انقطاعا في الحرب إنما كان مولاه أبو كعب هو الذي يأمر وينهى، فصابرهم شبيب وأصحابه يومهم الأطول في السبخة، وكان قتيبة يومئذ مع الحجاج، وأحجم الناس عن شبيب، وعلا شبيب مزبلة كانت هناك يشرف منها على الكوفة فجالدوه حتى أزالوه عنها، وصاروا جميعا بالأرض فتقاتلوا حتى كثرت الجراح في الفريقين، وولى شبيب وأصحابه منهزمين واتبعهم علقمة بن عبد الرحمن الحكمي وأصحابه حتى انتهوا إلى القرب من دار الرزق، وخرج شبيب من وجهه إلى الأنبار، فقال عبد الواحد الأزدي من الخوارج:
يا ليتني في الخيل وهي تدوسهم ... في السوق يوم الظفر بالحجاج
بأخي ثمود وقرب ما أخطانه ... ولقد بلغن العذر في الادلاج
أصبحن بالأنبار ثم أتينه ... مثل السعالي تحت ليل داج
فبطحن ميمون العذاب لوجهه ... وتركنه متقطع الأوداج
ولقد تخطأت المنايا حوشبا ... فنجا إلى أجل وليس بناج [1]
وقال أسامة بن زيد الأحمسي: - وقال بعضهم الأبيات لعمران بن حطان. فطلبه الحجاج فهرب إلى الشام:
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 202.(8/33)
صدعت غزالة قلبه بكتيبة ... تركت شراسته كأمس الدابر
أسد علي وفي الحروب نعامة ... خرجاء تنفر من صفير الصافر
هلا خرجت إلى غزالة فِي الوغى ... بل كَانَ قلبك في جوانح طائر
ألق السلاح وخذ وشاحي معصر ... واعمد لمنزلة الجبان الكافر
فقال الحجاج: لا أمان له عندي.
وكان شبيب أصاب بجوخي رمكة فحمل عليها رجلًا من أصحابه وقال: اركبها حتى يقسم ثمنها، فبلغ ذلك خوارج الكوفة فركب إليه مسلم بن أبي الجعد، أخو سالم بن أبي الجعد الأشجعي، ودجاجة الحنفي، وكانا من رؤوس الخوارج حتى أتياه وهو بالأنبار فقالا: أعطيت مسلما الغلول، ما كان هذا من سيرة من مضى من المسلمين. فقال: إنما أعطيته إياها ليركبها ثم نقسم قيمتها. قالا: فلو نفقت، فتب فكره أن يتوب فيخلع. فبرئ منه مسلم ودجاجة.
وبعث الحجاج إلى شبيب علقمة بن عبد الرحمن الحكمي وأمره بطلبه، فلحقه واقتتلا يوما وليلة ثم ولى شبيب منهزما فكان وجهه بادرايا وباكسايا، ثم توجه منها إلى الأهواز.
ووجه الحجاج في طلبه سفيان بن الأبرد الكلبي فطلبه حتى بلغ إلى دجيل الأهواز، فأقبل شبيب نحوه وسفيان في ألفي رجل، فلما ذهب ليجوز إلى سفيان أمر سفيان بقطع جسر دجيل فاستدارت به السفن فغرق، فاستخرجه سفيان بالشباك فاحتز رأسه، وقتلت أمه وامرأته وعدة من أصحابه، وانصرفت فرقة منهم إلى الجزيرة وتفرقت فرقة في السواد.(8/34)
قال الهيثم: فأخبرني مخبر [1] عن ابن عياش أنه حارب سفيان حتى حجز المساء بينهما، فلما عاد سفيان إلى معسكره قال شبيب لأصحابه:
اعبروا بنا، فعبر فتحصن فرسه فسقط في دجيل فقال أصحابه: غرق أمير المؤمنين.
ويقال: بل قطع الجسر قوم من بني بكر بن وائل وكانوا قد تبرأوا منه لما فعل بالرمكة التي حمل عليها صاحبه.
ويقال إنه لم يكن لهم هزيمة إلا على الجسر، فقطعه سفيان، فغرق شبيب ومن كان على الجسر. وقال أيمن بن خريم في قصيدة له:
رأيت غزالة إذ طرحت ... بمكة هودجها والغبيطا
سمت للعراقين في سومها ... فلاقى العراقان منها أطيطا
أبى الجبناء من أهل العراق ... على الله في الحرب إلا قسوطا
أيهزمهم مائتا فارس ... من السافكين الدماء العبيطا
وخمسون من مارقات النساء ... يجررن للمبديات المروطا [2]
في قصيدة طويلة.
وقال أعشى بني أبي ربيعة:
صب أبو يحيى على كل مارق ... كما صب بزيار [3] على صيده صقرا
ألا انظر هداك الله في شأن حاجتي ... فمثلك أعطى الخير واحتسب الأجرا
__________
[1] بهامش الأصل: غير واحد.
[2] لم يرد هذا البيت في نسخة الأصل.
[3] البازيار: مدرب البزاة.(8/35)
وقال المدائني: دخل شبيب الكوفة ثلاث مرات، واجتمع له ستمائة رجل فأتى منبج وذعر أهل الشام، وأتى أرمينية.
ورثى الفرزدق محمد بن موسى بن طلحة فقال:
وإذا ذكرتك يا بن موسى أسبلت ... عيني بدمع دائم الهملان
ما كنت أبكي الهالكين لفقدهم ... ولقد بكيت وعز ما أبكاني [1]
وقال أعشى همدان [2] :
أعيني ما بعد ابن موسى ذخيرة ... فجودا إذا أبعدتما الدمع بالدم
قال: وولى الخوارج بعد شبيب: البطين، فغلب على سوق الأهواز فسار سفيان إلى البطين فقاتله أياما فطلب أصحابه الأمان فأمنهم وتفرقوا، وهرب البطين فظفر به الحجاج بعد ذلك فقتله في دار قومه فقال جرير:
قد نصر الحجاج والله نصر ... أخزى شبيبا والبطين إذ كفر [3]
وقال أَبُو عُبَيْدة معمر بْن المثنى: لما صعدت غزالة منبر الكوفة قَالَ أيمن بْن خريم بْن فاتك الأسدي:
أبي الجبناء من أهل العراق ... على الله والناس إلا قسوطا
أيهزمهم مائتا فارس ... من السافكين الدماء العبيطا
وخمسون من مارقات النساء ... يجررن للمبديات المروطا
وهم مائتا ألف ذي قونس [4] ... يئطّ العراقان منها أطيطا
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 2 ص 325.
[2] كذا وهو للفرزدق كما سيمر بعد قليل.
[3] ليس في ديوان جرير المطبوع.
[4] القونس: أعلى الرأس. القاموس.(8/36)
رأيت غزالة إذ طرحت ... بمكة هودجها والغبيطا
سمت للعراقين في سومها ... فلاقى العراقان منها البطيطا [1]
الا يتقي الله أهل العراق ... إذا قلّدوا الغانيات السّموطا
وخيل غزالة تحوي النهاب ... وتسبي السبايا وتجبي النبيطا
وتحجرهم في حجال النساء ... كما تحجر الحيّة العضرفوطا [2]
وقد قال أهل الوفاء اهبطوا ... نقاتل فلم يستطيعوا هبوطا
من الغش إما شقاق الأمير ... وإما نفاقا وإما قنوطا
ولكنهم يمنعون الفرار ... إذا ما غزالة غطت غطيطا
كأنهم في الصعود الكؤود ... نعام نوافر لاقت حطوطا
أقامت غزالة سوق الضراب ... لأهل العراقين حولًا قميطا
وأنتم دبا الأرض عند العطاء ... وفي الحرب تأبون إلا شطوطا
أهابوا غزالة أم قد رضوا ... غزالة إذ خالطوها خليطا
في أبيات.
وقال عبيدة: قال حبيب بن حدرة في قتل عتاب بن ورقاء:
ألوت لعتاب شوازب [3] خيلنا ... ثم انثنت لكتائب الحجاج
لأخي ثمود فربّما أخطانه ... ولقد بلغن العذر في الإدلاج
__________
[1] بهامش الأصل: أمر بطيط، أي عظيم.
[2] من دواب الجن وركائبهم. القاموس.
[3] الشوازب: الضمر. القاموس.(8/37)
حتى تركن أخا الضلال مسهدا ... متمنعا بحوائط ورتاج
ولعمر أم العبد لو أدركنه ... لسقينه صرفا بغير مزاج
ولقد تخطأت المنايا حوشبا ... فنجا إلى أجل وليس بناج [1]
قال أبو عبيدة: وجه عبد الملك بن مروان محمد بْن موسى بْن طَلْحَةَ بْن عُبَيْدِ اللَّهِ أميرا على سجستان، فمر بالكوفة فقال له الحجاج: إن هذا المارق قد أفسد البلاد وأخاف السبل وهو بالأهواز، فقاتله لعل الله يظفرك به فيكون أجر ذلك وذخره لك، ثم تسير إلى عملك.
فمضى محمد إلى الأهواز وسار إلى شبيب فقال له شبيب: لا يغرنك هذا العبد من نفسك، فامض لشأنك وما بعثت له، فأبى إلا مباكرته بالقتال فقال شبيب: لا يدعه صلفه وعجبه حتى يحارب.
فأمر البطين بالخروج إليه فخرج، فقال له: قل لشبيب فليبارزني، فبرز له شبيب فتجاولا ساعة لا يقدر أحدهما على صاحبه، ثم إن محمدا غفل غفلة فضربه شبيب بعمود على بيضته فهشم رأسه في البيضة، وانهزم عسكر محمد، وأمر شبيب بالكف عنهم. فقال الفرزدق يرثي محمد بن موسى:
نام الخلي وما أغمض ساعة ... أرقا وهاج الشوق لي أحزاني
فإذا ذكرتك يا بن موسى أسبلت ... عيني بدمع دائم الهملان
ما كنت أبكي الهالكين لفقدهم ... ولقد بكيت وعز ما أبكاني
لا حيّ بعدك يا بن موسى فيهم ... يرجونه لنوائب الحدثان
أودى ابن موسى والمكارم والندى ... والعز عند تحفظ السلطان
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 228- 229.(8/38)
جمع ابن موسى والمكارم والندى ... في القبر بين سبائب الكتان
ما كان فيهم بعد طلحة مثله ... للسائلين ولا ليوم طعان
ولئن جيادك يا بن موسى أصبحت ... ملس الظهور يجلن في الأشطان
لبما [1] تقاد إلى العدو ضوامرا ... جردا مجنبة مع الركبان [2]
وقال الفرزدق:
أعيني ما بعد ابن موسى ذخيرة ... فجودا إذا أنفدتما الدمع بالدم
وهيجا إذا نام الخلي وأسعدا ... عليه بنوح منكما كل مأتم
كريم رأى أن الحياة قليلة ... وأن المنايا ترتقي كل سلم [3]
في أبيات.
وقال رجل من بجيلة:
قتلنا شبيبا واستلبنا عقابه ... وأفلتنا فوت الرماح بطين
وقال بعض بني عذرة:
لاقيت منا يا شبيب خادرا ... وفتية يهدون موتا حاضرا
يزجى إليك رائحا وباكرا ... ضربا هذا ذيك وموتا فاقرا [4]
حدثني أبو مسعود القتات عن ابن كناسة عن أبيه، أن قوما من الخوارج تجمعوا والحجاج بواسط، وعلى شرطة الكوفة حوشب بن يزيد بن رويم الشيباني، ودخلوا الكوفة فأخذوا على أهلها بأفواه السكك مما يلي
__________
[1] بهامش الأصل: لهما.
[2] ديوان الفرزدق ج 2 ص 325.
[3] ديوان الفرزدق ج 2 ص 253 مع فوارق.
[4] الفاقرة: الداهية وهذاذيك: قطعا بعد قطع. القاموس.(8/39)
الحيرة، فقال إياس بْن حصين بْن زياد بْن عُقفان بْن سُوَيْد بْن خَالِد بْن أسامة بْن العنبر بْن يربوع بْن حنظلة، لبنيه وقومه: ليخرج إلى هؤلاء الخوارج عدتهم منكم. فخرجوا فقتلوا الخوارج إلا من هرب منهم، وبلغ الخبر الحجاج ففرض لهم في ثلاثمائة. فقال:
ما في ثلاث ما يجهزن غازيا ... ولا في ثلاث متعة لفقير
فقال الحجاج: افرضوا له في شرف العطاء، ففرضوا له في ألفين.(8/40)
أمر أبي زياد المرادي
قال الهيثم: لما قتل شبيب أبو زياد، وهو رجل من مراد، وكان بنهر الملك من السواد فخرج بجوخي، وكان الجراح بن عبد الله الحكمي يومئذ ببابل والفلّوجتين، فبعثه الحجاج على محاربته في ثمانمائة فلما تواقفا قال الجراح لأصحابه: الأرض. فقال أبو زياد: نحن والله أولى بالأرض والصبر منكم يا فسقة، فعرقبت الخوارج دوابهم، فلما رأى الجراح ذلك قال لأصحابه: موتوا يا بني الحرائر، ثم شدوا عليهم فقتلوهم جميعا. وتمثل الجراح:
قالوا الركوب فقلنا تلك عادتنا ... أو النزول فإنا معشر نزل(8/41)
أمر أبي معبد الشني من عبد القيس
قالوا: ثم خرج بعد أبي زياد المرادي رجل من عبد القيس يقال له أبو معبد، قدم من ناحية البحرين، وكان خروجه بموقوع [1] ، فبعث إليه الحكم بن أيوب خليفة الحجاج على البصرة الشرط فقتل هو وأصحابه.
قال أبو الحسن المدائني: يقال كان خروج أبي معبد في أيام عبد الملك، ويقال في أيام الوليد بن عبد الملك.
وقال أبو الحسن المدائني: قال بعض الشرط: ما لناو الخوارج؟ فقال له بعضهم: وما لنا لا نقاتلهم؟ أليست أعطياتنا دارة علينا؟ فقال عمران بن حطان:
فلو بعثت بعض اليهود عليهم ... يؤمهم أو بعض من تنصرا
لقالوا رضينا إن أقمت عطاءنا ... وأجريت ذاك الفرض من برّ كسكرا [2]
__________
[1] موقوع: ماء بناحية البصرة. معجم البلدان.
[2] ديوان شعر الخوارج ص 175، وجاء بهامش الأصل: بلغ العرض بالأصل الثالث، ولله كل حمد.(8/43)
خبر المصل الطائي
قال الهيثم بن عدي: لما هرب الناس من الحجاج أيام الجماجم، تجمع ناس من الخوارج بالفلوجة، فقال رجل من جديلة طيّئ يقال له المصل: لولا مكان ابنتي هذه لسريت إلى سيف بن هانئ وكان سيف على جوخي وجولايا في رابطة أعدوا للخوارج تدفعهم عن الناس، فقال له رجل من الخوارج: هي مع بناتي لا يسعني بيتي ويعجز عنها.
قال: فاشترى حمارا، وأعطي نفقته، فخرج إلى راذان فرآه سيف في الصف الأول وعليه أطمار فاستراب به فقال لأصحابه: خذوه حتى أصلي.
وفتش فوجد معه خنجر فضرب سيف عنقه وصلبه. ولما قدم للقتل قال:
الحمد لله لا حكم إلا لله ثم أنشد:
يا لهف نفسي على سيف وشيعته ... لو كنت ألحقت سيفا بالخبيثينا
أبرا إلى الله من سيف وشيعته ... ومن علي ومن أصحاب صفينا
ومن معاوية الغاوي وشيعته ... أخزى إله الورى تلك العتانينا(8/45)
خبر خارجي من عبد القيس بالبحرين
قال علي بن محمد أبو الحسن المدائني: خرج رجل من بني محارب بْنِ عَمْرِو بْنِ وَدِيعَةَ بْنِ لُكَيْزِ بْنِ أفصى بن عبد القيس بالبحرين على محمد بن صعصعة، في سنة ثمان وسبعين، قبل أن يقتل قطري، فكتب الحجاج إلى عبد الملك: «إن قطريا قد شغل من قبلي من المقاتلة، فَإِن رأى أمير الْمُؤْمِنِينَ أن يكتب إِلَى إبراهيم بن عربي في أمر هذا الخارجي» ، فكتب إلى إبراهيم وهو باليمامة: «أن سر إلى البحرين، فإن ظفرت بالمحاربي فلا تقتله وأحسن إليه، واحفظ له بلاءه، عند أمير المؤمنين مروان، فإنه لجأ إليهم يوم الجمل، ثم تحول إلى بني هميم» .
فخرج إبراهيم إلى البحرين في ألفين فهزم الخوارج وتفرقوا، ورجع إبراهيم إلى اليمامة.(8/47)
أمر الريان النكري
قال أبو الحسن: وخرج بعد هذا المحاربي على محمد بن صعصعة الكلابي: ريان النكري، نكرة بني لكيز بن أفصى سنة سبع وسبعين على فراسخ من سوق الخط [1] . وقدم ميمون الخارجي من عمان في أصحابه فنزلوا دارين [2] ، فكتب إليه الريان أن أقبل إلي. فصار ميمون إلى الزارة [3] ، وأتاه الريان، فندب محمد بن صعصعة الناس، فأبطأ عنه العبديون، وأتاه قوم من أهل الخط فوجه إلى الخوارج رجلًا من الأزد ويقال وجه إليهم عبد الله بن عبد الملك العوذي، فهزمهم الخوارج وقتلوا أميرهم، ورجع الفل إلى محمد بن صعصعة، فخافهم محمد ولم يكن معه جند سواهم.
__________
[1] الخط: خط عمان، وهو سيف البحر، خط عبد القيس بالبحرين، وهو كثير النخل، وهو المراد هنا معجم البلدان.
[2] دارين: فرضة بالبحرين يجلب إليها المسك من الهند. معجم البلدان.
[3] الزارة: قرية كبيرة بالبحرين. معجم البلدان.(8/49)
وخذله العبديون فخرج من البحرين، وأقام ميمون بالبحرين أربعين يوما، ثم انصرف إلى عمان، وأقام الريان بالزارة.
وبلغ الحجاج الخبر فبعث يزيد بن أبي كبشة السكسكي وهو يزيد بن حيويل بن يسار بن حي بن قرط بن شبل بن المقلد، مددا لمحمد بن صعصعة، فسار يزيد وقدم محمد على الحجاج فهم بقتله فقال: إن الناس خذلوني ولم يكن معي أحد من أهل الشام، وانهزم من وجهت إلى الخوارج وفروا عن أميرهم حتى قتل، فحبسه في السجن حتى مات.
وقدم يزيد بن أبي كبشة البحرين في اثني عشر ألفًا، وكان الريان في ألف وخمسمائة فالتقوا، وقتل الريان وهزم أصحابه، وأسر منهم أسرى فقتلهم يزيد وصلبهم، وصلب الريان، وكتب الى الحجاج بالفتح وبعث بالرؤوس، فولى الحجاج زياد بن الربيع بن زياد على البحرين، وقدم ابن أبي كبشة والشاميون على الحجاج.(8/50)
أمر داود بن محرز العبقسي
قال أبو الحسن: وخرج داود بن محرز أحد بني عبد القيس ومعه جماعة، فأنزلوا الريان وأصحابه ودفنوهم وأعانهم أهل البحرين على إنزالهم ودفنهم، ثم أقام داود بالقطيف فلقيه أبو الفضل خليفة أبي البهاء صاحب الشرطة فهزم داود أبا الفضل، فخرج إليهم أبو الحر عبد الرحمن بن النعمان العوذي، من الأزد ثم من بني عوذ بن مسود بن الحجر بن عمران، أخوة زهران بن الحجر، فقاتلهم في سوق القطيف في موقف الإبل وهو يرعى المراغة [1] ، فعقر بعبد الرحمن فحماه ابن عمه عنبسة بن عبد الرحمن، وتحاجزوا فلما أصبحوا اجتمع الناس وكثروا فقتل الخوارج.
وكان أهل بيت عبد الرحمن قوم لهم نية في قتل الخوارج فقد لقوهم مرارا، فقال أبو البهاء في فرار خليفته:
__________
[1] المراغة: الروضة، أو الكثيرة النبات. القاموس.(8/51)
لولا أبو الحر ولولا عنبسة ... أودى أبو الفضل وخلى الطنفسه
ولى حثيثا وهو يغزو الكعنشه [1] ... إذ كثرت تحت السيوف الوسوسه
وغضب الحجاج على أهل البحرين، وأخذ عم عبد الله بن سوار العبدي وكان يقال له عميرة بن حصين، وقال: لعن الله عبد القيس قبيلتك فإنما أنتم لص أو خارجي أو نصراني فمر به زاني فقطع يده، وأخذ يزيد بن الفضل فحبسه في قصر المسيرين.
وذكر بشر بن عاصم الليثي الخوارج فشتمهم، فسمعه رجل منهم، فمكث أياما ثم أتاه فقال له: أصب لي سيفا قاطعا.
وكان لبشر غلام صيقلي، ويقال عدة غلمان صياقلة، فاشترى له من بعضهم سيفا فتناوله الخارجي وهزه ثم قال لبشر: كيف ترى هذا في هامة الشيخ الكافر؟ فوقع في نفس بشر إنه أراده لعيبه الخوارج وشتمه إياهم.
فقال: أرى فيه شيئا يحتاج إلى إصلاحه فناولنيه. فلما أخذه أدخله في غمده ودخل البيت هاربا من الخارجي، ثم ألقى إليه بسيفه فأخذه الخارجي وقال: أولى لك، وحكم على الناس وهو يقول:
وأبيض من سر الحديدة صارم ... يخبره الليثي بشر بن عاصم
أقود جياد الخيل قبا بطونها ... أرجي ثواب الله يوم التخاصم
إلى ابن زياد خيب الله سعيه ... إلى شر وال من معدّ وحاكم [2]
__________
[1] تكعنش الطائر: نشب في الشبكة، وفي الشيء غرق. القاموس.
[2] ديوان شعر الخوارج ص 204.(8/52)
خبر الخطار النمري من النمر بن قاسط
قالوا: وخرج الخطار النمري، وكان نصرانيا فأسلم، ودعته الخوارج فأجابها، وخرج على سفيان بن هانئ الهمداني، فحاربه سفيان فقتله وأصحابه، فقال سلامة بن عامر القشيري:
ألا خبراني بارك الله فيكما ... متى العهد بالخطار يا فتيان
يذكرني الخطار كل منطق ... يجول به عند اللقاء حصان
فيا حزني ألا أكون شهدته ... بزاذان والخيلان تصطفقان
فتى لا يرى نوم العشاء غنيمة ... ولا ينثني من رهبة الحدثان
فما طمعت عيناي نوما للذة ... وما زالتا من ذكره تكفان [1]
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 204.(8/53)
خبر داود بن النعمان العبدي
قالوا: كان داود بن النعمان أحد بني أنمار بْنِ وَدِيعَةَ بْنِ لُكَيْزِ بْنِ أَفْصَى بْنِ عَبْدِ الْقَيْسِ بْنِ أَفْصَى بْنِ دَعْمِيِّ بْنِ جديلة بْن أسد بن ربيعة، عابدا مجتهدا، وكان يقول لأصحابه: إني مللت الدنيا والمقام في دار الكفر مع الظلمة الكفرة، وقد انقطع العذر. فقال له أصحابه: فما يمنعك من الخروج؟ قال: مكان أبي بهذه البلاد.
ثم حج ورجع فقال لأصحابه: اخرجوا بنا إلى البصرة فإن لنا بها إخوانا، فأجابه أربعون رجلًا. وبلغ أباه أمره فقال: يا بني إني أخاف أن يشفي بك أمرك هذا على أمر يفسد دينك ودنياك فاتق الله وانظر لنفسك فإن الناس قد اختلفوا، فقال: يا أبت فإن الله أكرم من أن يضل طالبه.
فقال: يا بني إن لي مالًا كثيرا عينا قد ذخرته لك، قال: لا حاجة لي فيه، إن الله يقول: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سبيل الله) [1] الآية.
__________
[1] سورة التوبة- الآية: 34.(8/55)
فقال: يا بني. إني أصرم نخل أربعة آلاف جريب. فقال: يا أبت إن في حائطك بعوضا وأنا أريد حائطا لا بعوض فيه.
ثم خرج ومعه أخته، وخرج معه أربعون رجلًا، فودعه أبوه وهو يبكي، فقدم البصرة فأقام بها حتى فرغ من جهازه، ولقي من أراد، ثم خرج إلى موقوع سنة ست وثمانين فوجه إليه الحكم بن أيوب عبد الملك بن المهلب.
وقال قوم: كان الحكم غائبا عن البصرة وخليفته عبد الملك بن المهلب، فوجه إليهم عبد الملك: عبد الله بن كرمان الجهضمي، فالتقوا فقال داود لأخته: تقدمي فإني أخاف أن تبقي بعدي فتسبين وتسترقين، فتقدمت فقاتلت فقتلت، وقتل أصحابه وبقي وحده وأحاطوا به قرب البلد وألجأوه إلى حائط ثم رموه بالنبل وطعنه رجل وقال: ذق بما قدمت يداك فقال: ويحك، حر النار أشد من هذا، ومات فقال زياد الأعسم:
سقى الله أجسادا تلوح عظامها ... بفرضة موقوع سحابا غواديا
فإن يك داود مضى لسبيله ... فقد كان ذا شوق إلى الله تاليا
وقد كان ذا أهل ومال وغبطة ... وكان لما يغني من العيش قاليا
كأن الفتى داود لم يك فيكم ... ولم نره يوما من الصوم باليا
أقيم على الدنيا كأني لا أرى ... زوالا لها أو أحسب العيش باقيا [1]
وقال سعيد المرادي:
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 207.(8/56)
ألا يا في سبيل الله شالت ... بداود وإخوته الجذوع
مضوا قتلا وتشريدا وصلبا ... تظل عليهم طير وقوع
إذا ما الليل أظلم كابدوه ... فأسفر عنهم وهم ركوع
يعالون النحيب إليه شوقا ... وإن خفضوا فربهم سميع [1]
قال أبو الحسن: يقال ان داود قتل في أول سنة ست وثمانين قبل موت عبد الملك، ويقال إنه قتل في أيام الوليد بن عبد الملك في سنة سبع وثمانين.
وقال أبو الحسن: كان داود بالبصرة فكان يأتي سوق الإبل فينادي:
لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيرا، إنكم لفي أمر مريح. ثم يقول: مكذبين ورب الكعبة.
وطلب فرسا فقيل له: لا تشتره فإن بظهره شامة ولم يكن بظهر فرس شامة إلا قتل فارسه فقال: وكيف لي بالقتل؟ لقد رغبتموني فيه، فاشتراه.
__________
[1] نسب هذه الأبيات في ديوان شعر الخوارج ص 70، إلى عيسى بن فاتك الخطي مع فوارق.(8/57)
أمر مطر بن عمران بن شور
وهو ابن أخي القعقاع بن شور الذهلي.
قال الهيثم بن عدي: خرج على محمد بن مروان، وهو والي الجزيرة والموصل مطر بن عمران بالموصل، فقتلته خيل الموصل، وعليها ثوبان الحضرمي، وقد انحاز إلى باجرمى، فقتل بباجرمى وبعث ثوبان بأسراء من أصحابه إلى الحجاج فقتلهم، وكانوا يكرهون أن يقتلوا خارجيا بالجزيرة والشام مخافة أن تتخذ الخوارج ما هناك دار هجرة.
وقال المدائني: خرج مطر قبل خروج صالح بن مسرح، فقتلته خيل محمد بن مروان بناحية باجرمى أو بدقوقا من أرض الموصل، فبلغ امرأته خبره وكان أهلها منعوها من الخروج فماتت أسفا، فقال الجعد بن أبي ضمام الدوسي:
أرى مطرا قد باع لله نفسه ... بما ظل يعطى للشراة ويوعد
فأصبح قد نال الكرامة كلها ... بما كان يسعى في بغاها ويجهد
فإن يك قد لاقى مقادير قومه ... فقد بان منا الخاشع المتعبّد [1]
__________
[1] ديوان شعر الخوارج ص 197.(8/59)
في قصيدة.
وقال محمد بن دثار:
على حميد صلوات الأبرار ... ومطرا فاغفر له يا غفار
قد كان صواما طويل الأسحار
قال: وخرج على محمد في أيام عبد الملك خارجي يقال له: سكين المجملي، فوجه إليه قائدا من أهل الجزيرة فحاربه فأسره وأتى به محمدا، فبعث به إلى الحجاج ليقتله. فقال له: أجمعت القرآن؟ فقال: أو كان متفرقا فأجمعه ولكني أقرأه وأحفظه. قال: ما تقول في أمير المؤمنين؟
قال: ومن أمير المؤمنين؟ قال: عبد الملك! قال: لعنة الله عليه وعليك معه. قال: إنك مقتول. قال: إذا ألقى الله بعملي وتلقاه بدمي.
فأمر الحجاج به فقتل وصلبه.
[أمر أبو الحريرة]
قال الهيثم: وكان باليمامة رجل يكنى أبا الحريرة من بني حنيفة، وكان متعبدا، فرأى قوما يكلمون امرأة فقال: ما هذا؟ قالوا: إنّا اكتريناها نهارا وليلا. فقال: هبكم اكتريتمونها نهارا للخدمة فما بال الليلة؟ قالوا:
ننكحها. ثم عمد إلى سيف له ثم هجم على القوم وهم سبعة عشر رجلًا وقال: إمّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سواء إن الله لا يحب الخائنين) [1] .
فأخذوا سلاحهم وقاتلهم فقتلهم ثم حكم بسوق حجر فقتل عدة، ثم قتل.
__________
[1] سورة الأنفال- الآية: 58.(8/60)
أمر جواز الضبي
قال الهيثم: أتى جواز الضبي الشام، وكان من رؤساء الخوارج، مع من شهد حصار ابن الزبير، وكان هاربا من الحجاج، فنزل بالشام على عبد الله بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، وكانوا يضيفون من يعرفون ومن لا يعرفون، وكان عبد الله بن يزيد، وروح بن زنباع، أكرم من بالشام إضافة، وكانا يتعديان مع عبد الملك ويتعشيان، فإذا انصرفا دعوا بطرف ما عندهما فأكلاه مع أضيافهما [1] .
وكتب الحجاج إلى عبد الملك يعظم فيه أمر الخلافة، ويذكر أن الخليفة أعظم منزلة عند الله من الملائكة المقربين لأنه جعل آدم خليفته، ثم أمر الملائكة بالسجود له، وجعلهم رسلًا إليه.
فحسن موقع ذلك من عبد الملك وأعجبه وازدهاه، فقال: وددت أن عندي بعض الخوارج فأخاصمه بكتاب الحجاج، فلما انصرف عبد الله بن
__________
[1] بحاشية الملكية: قف. تعظيم الحجاج لعبد الملك على الملائكة والمرسلين، وجواب جواز الضبي.(8/61)
يزيد حدث أضيافه بما كان، فقال له جواز: توثق لي منه ثم أعلمني. فراح إليه فتوثق له ثم أعلمه ذلك، فلما أصبح جواز اغتسل وتحنط ولبس ثوبين أبيضين، وأدخله إلى عبد الملك فدعا بكتاب الحجاج فقال: اقرأه. فقال جواز: جعلك: مرة ملكا، ومرة نبيا، ومرة خليفة، فإن كنت ملكا فخبرنا متى نزلت، وإن كنت نبيا فأعلمنا متى نبئت، وإن كنت خليفة فأعلمنا أعن ملأ من المسلمين استخلفت أم عن ابتزاز لأمورهم؟
وكان أمية بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد حاضرًا فقال: هو الله منهم.
فقال جواز: يا أمية لو كنت منهم عرفتني يوم أبي فديك حين هزمك.
فقال عبد الملك: قد أعطيناك عهدا وموثقا فلا سبيل لنا إلى قتلك، ولكنك والله لا تساكني في بلد، الحق بحيث شئت. قال: فإني أختار مصر، فنزل مصر وأتى المغرب فأفسد أهله، وكان يرى رأي الصفرية.
فلما مات عبد الملك كتب الحجاج إلى الوليد: «إن ذمة أمير المؤمنين عبد الملك قد وفت ولا أمان لعدو الله جواز الضبي، فإن رأى أمير المؤمنين أن يبعث إليّ به» ، وكانت بنو أمية لا تقتل خارجيا بالشام والجزيرة لئلا يتخذ دار هجرة.
فكتب الوليد إلى قرة بن شريك: أن ابعث إليّ بجواز الضبي فبعث به إليه، فلما دخل عليه قال: انطلقا به إلى الحجاج، فقال: إني في أمان أبيك وذمته. قال: لا بدّ من الحجاج، فقال: مثلك والله أخفر أباه، واستخف بذمته وأخفرها.(8/62)
فلما قدم به على الحجاج قال: بلغ من أمرك يا جواز أن ترد على أمير المؤمنين؟ قال: (اقض مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدنيا) [1] .
وكان صالح بن عبد الرحمن الكاتب السجستاني عدوا ليزيد بن أبي مسلم (كاتب) [2] الحجاج، وكان جبلة أخو صالح خارجيا، فدعا صالحًا فأدخله في رأيه، فأشار على الحجاج أن يأمر صالحا بقتل جواز، فقال له:
يا صالح قم فاقتله، قال صالح: فأردت أن أطرح السيف ثم خفت الحجاج أن يسبي بناتي فقتلته، ثم لم يزل خائفا من الخوارج.
فلما عذبه عمر بن هبيرة أيام يزيد بن عبد الملك وطرح على مزبلة على باب دار العذاب وبه رمق، كان وهو على المزبلة يقول: لا حكم إلا الله، استغفر الله من قتل جواز، اللهم اغفر لي ولا أراك فاعلا.
وقال بعض الخوارج:
لا بارك الله في قوم أجاز لهم ... حكامهم ان أصابوا المرء جوازا
إن يقتلوه فما فازوا بمقتله ... وقد أصاب الذي رجى وقد فازا [3]
وقال ابن الكلبي: خرج سكين أحد بني محلم بن ذهل بن شيبان بدارا، فأصابته خيل محمد بن مروان، وهو يلي الجزيرة، فبعث به إلى الحجاج، فكلمه كلامًا شديدًا، فضرب الحجاج عنقه.
وقال سليمان بن عبد الملك لأبي حازم الأعرج وهو بالمدينة يريد الحج:
__________
[1] سورة طه- الآية: 72.
[2] زيد ما بين الحاصرتين من تاريخ خليفة بن خياط ص 411 حيث جاء عنده: «قالوا:
وكاتب الخراج زاذان فروخ، فمات فولى الحجاج يزيد بن أبي مسلم» .
[3] ديوان شعر الخوارج ص 209- 210.(8/63)
ما بالنا نكره الموت؟ قال: لأنكم أخربتم آخرتكم، وعمرتم دنياكم، فكرهتم أن تنقلوا من العمران إلى الخراب.
وقال أبو حازم لسليمان- وقال له لم لا تأتينا؟ -: إن الأمراء كانت تأتي العلماء رغبة فيما عندهم، فقد صار العلماء يأتون الأمراء فسقطوا من أعين الناس. فقال الزهري: إياي تعني يا أبا حازم- وذلك أنه كان عند سليمان- فقال: ما تعمدتك ولكنه ما تسمع.
وقال سليمان: يا أبا حازم، أي الناس أكرم على الله؟ فقال: أهل المروءة والنهي، قال: فأيهم أكيس؟ قال: رجل عمل بطاعة الله ودل الناس عليها. قال: فكيف نحن يا ليت شعري؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله تعلم ذلك. فبعث سليمان إليه بصلة فلم يقبلها [1] .
__________
[1] بهامش الأصل: ... ينبغي أن يكون في أخبار سليمان لا هاهنا. وجاء بهامش الملكية من هنا إلى الترجمة لا مناسبة له بهذا المحل، إنما ينبغي أن يكون في أخبار سليمان(8/64)
أمر الوليد بن عبد الملك بن مروان
أم الوليد: ولادة بنت العباس بن جزي بْن الحارث بْن زُهَيْر بْن جذيمة بْن رواحة بْن ربيعة بْن مازن بْن الحارث بْن قطيعة بْن عبس بْن بغيض بْن رَيْث بْن غطفان بْن سَعْد بْن قيس، وأم ولادة سوداء.
قال القعقاع بن خليد بن جزي للعباس: غششت أمير المؤمنين يا عدو الله حين زوجته ابنة السوداء. وكانت عند الوليد نفيسة بنت زيد بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، وأمها لبابة بنت عبد الله بن العباس بن عبد المطلب، فتوفيت وهي حامل فجعل ولدها يركض في بطنها. فهم الوليد بأن يبقر بطنها، حرصا على أن يكون له منها ولد يبقى بعده، فلم يفعل.
وكانت عند الوليد: آمنة بنت سعيد بن العاص، ثم تزوجها خَالِد بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد بن أبي العيص. وأم البنين بِنْت عَبْد العزيز بْن مروان، وأمها ليلى بنت سهيل بن عامر من بني جعفر بن كلاب.
وأم عَبْد اللَّهِ بنت عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بن عثمان، وهي أم عبد الرحمن. وامرأة من بني فزارة وهي أم أبي عبيدة. وعاتكة بنت عبد الله بن مطيع.(8/65)
قال المدائني: كان الوليد تزوج في خلافته ثلاثا وستين امرأة، فكان يطلق الثلاث والاثنتين والواحدة، فقالت عاتكة بنت عبد الله بن مطيع لما تزوجها: إنّا اشترطنا على الحمالين الرجعة فما رأيك؟ قال: أقيمي. فصبر عليها أربعة أشهر ثم طلقها، فولد الوليد بن عبد الملك: عبد العزيز، ومروان، وعنبسة، ومحمد، أمهم أم البنين بنت عبد العزيز، وأمها ليلى بنت سهيل بن حنظلة بن طفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب. وعبد الرحمن أمه أم عَبْد اللَّهِ بنت عَبْد اللَّهِ بْن عمرو بن عثمان بن عفان.
والعباس وكان أكبرهم وبه كان يكنى الوليد.
ويزيد، وإبراهيم، وروحا، وبشر، ومبشر، وصدقة، ومسرورا وعمر، ومسلمة، وخالدا، وتماما، وجزي، ويحيى، ومنصور لأمهات أولاد شتى.
وأبا عبيدة أمه من ولد سيار الفزاري. وأبا بكر.
قال المدائني: كان أبو عبيدة ضعيفا، وكان يقول الشعر، فأرسل إليه هشام بن عبد الملك: لئن بلغني أنك قلت بيتا لأزحمنك زحمة سوء، ويقال إنه قال لأحلقنّ جمّتك جمة السوء. وفيه يقول الشاعر:
أبو عبيدة سراق الفراريج
وكان أجمل ولد الوليد، فلما كانت أيام أبي العباس لجأ إلى أخواله من فزارة فأخذ فقتل.
وأما إبراهيم بن الوليد فولي شهرا أو شهرين ثم خلع وسنذكر خبره إن شاء الله.
وأما يزيد بن الوليد فإنه ولي أشهرًا ثم مات وسنذكر خبره أيضا.(8/66)
قال المدائني: وأما يحيى بن الوليد فقتل حاجب بن حميضة الكلابي من ولد ملاعب الأسنة، وكان يشرب عنده فقال له: لم جلد الوليد أباك؟
فسكت، فأعاد عليه فقال له: في أمك، فأمر به فألقي من فوق البيت.
فاستعدي بنو كلاب هشاما، فكتب هشام إلى عامل دمشق: أحلف خمسين رجلًا من بني الوليد بالله ما قتلوا ولا علموا قاتلًا، فلم يحلفوا وحملوا الدية.
قال أبو الحسين: ولم يعقب تمام، وقال فيه الشاعر:
بنو الوليد كرام في أرومتهم ... نالوا المكارم قدما غير تمّام
وكان مسرور ناسكا، كتب إلى قتادة بن دعامة، فجعل قتادة يقول:
كتب إليّ ابن أمير المؤمنين. وكانت عنده ابنة الحجاج.
وكان بشر من فتيانهم، وكان روح من غلمانهم، وكان عمر بن الوليد من رجالهم، كتب إلى عمر بن عبد العزيز فأغلظ له، فكتب إليه عمر، فوضع ذلك منه، فقال الفرزدق يمدح عمر بن الوليد:
إليك سمت يا بن الوليد ركابنا ... وركبانها كانوا أجد وأجهدا
إلى عمر أقبلت معتمدا به ... فنعم مناخ الركب حين تعمدا
فلم تجر إلا كنت في الخير سابقا ... ولا عدت إلا كنت في العود أحمدا [1]
وقال الفرزدق:
كفى عمر ما كان يخشى انعتاقه ... إذا نزلت بالدين إحدى البوائق
يلين لأهل الدين من لين قبله ... لهم وغليظ قلبه للمنافق [2]
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 148 مع فوارق واضحة.
[2] ديوان الفرزدق ج 2 ص 41، وقال ذلك في مدح عمر بن هبيرة.(8/67)
وكان لعمر بن الوليد ستون ابنا يركبون معه إذا ركب، وكان يقال له: فحل بني مروان.
وقال المدائني: كان أبو بكر بن الوليد مائقا، قال يوما لرجل من كلب: ما أحسن الغرة التي في يد فرسك.
وكان العباس بن الوليد فارسهم، وله يقول الفرزدق:
إن أبا الحارث العباس نأمله ... مثل السماك الذي لا يخلف المطرا [1]
وله يقول جرير بن عطية:
إن الندى حالف العباس إن له ... بيت المكارم ينمي جده صعد
يعطي الجزيل بلا من ولا نكد ... يكفي العيون إذا شؤبوبها وقدا
إن العدو إذا راموا قناتكم ... لم يلق من رامها وصما ولا أودا [2]
فولد العباس: المؤمل، والحارث، وأمهما ابنة قطري بن الفجاءة فلما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة قال: خل سبيلها وإلا رجمتك أو تزوجها. فتزوجها، وقد ذكرنا أمرها في خبر قطري.
قال: وكان محمد بن الوليد سخيا يقول: إني لا أحب أن أسأل. وله عقب.
وقال المدائني: كان لبني الوليد غاشية يأتونهم فيعطونهم.
قالوا: وكان عبد العزيز سيد ولد الوليد بن عبد الملك، وأراد الوليد أن يبايع لعبد العزيز بعد سليمان، وزوجه أم أيوب بنت سليمان، وزوج بعض بني سليمان بعض بناته وقال له: اهد ابنتك إلى عبد العزيز في داري لتكون
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 341، وفيه «نائله» .
[2] ديوان جرير ص 126 مع فوارق.(8/68)
عندي، وحول بيتك إليّ لتضم إليهم بناتي استعطافا له، فأبى سليمان عليه إرادته.
وقال الراجز: وهو من عذرة للوليد:
يا ليتها قد خرجت من فمه ... إن ولي عهده ابن أمه
ثم ابنه ولي عهد عمه ... قد رضي الناس به فسمه
خليفة الله ولا تعمه ... أبرز لنا يمينه من كمه
أصبح فيضا يستقى بجمه ... به استقام الأمر في أسطمه
فرد عليه رجل من الأزد يقال له المثنى:
عذريهم عض ببظر أمه ... إذ جعل الدّرص إلى خضمّه
فلما ولي سليمان تلقاه عبد العزيز فقال: دفنت أم أيوب بنت سليمان ثم جئتني؟ فقال: يا أمير المؤمنين إن المصيبة بها علي أعظم. قال: ونازعت الحارث ابن أمير المؤمنين الصلاة عليها؟ قال: لم يبلغ من سفهي هذا كله.
وقال سليمان لعبد العزيز بن الوليد: والله لو كنت بايعت لك لقطعت يدك، فلم يزل عبد العزيز طامعا في الخلافة، فلما مات سليمان وهو بالشام عقد ألوية وشخص إلى طبرية ودعا إلى نفسه فقيل له: إن خالك قد استخلف، فحل ألويته ورجع، فقال له عمر حين بايعه: أيا عبد العزيز أردت أن تشق عصا المسلمين. وتضرب بعضهم ببعض، لقد كنت أربا بك عن هذا الرأي.
فقال: يا أمير المؤمنين الحمد لله الذي استنقذني بك، لولا مكانك ما ملكها عليّ أحد.(8/69)
وكان يقال: لو وضع بنو الوليد في كفه ميزان وعبد العزيز في كفة لرجح بهم عبد العزيز، وكان سخيا وكان يقول لخاصته: والله لا يرمقني رجل ببصره ولا يبسط إليّ لسانه إلا أعطيته فامنعوني أو دعوا. وله يقول الشاعر:
وأنت ابن ليلى الخير خير ظعينة ... وليلى عدي لم تلدك الزعانف
وليلى عدي، أم عَبْد العزيز بْن مروان: ليلى بِنْت زبان بن الأصبغ، وليلى الأخرى: أم أم البنين.
وقال المدائني: قال الجرمي عن أبيه: كنا مع عبد العزيز بن الوليد:
وهو مريض، فخرج إلى منزل كان ينزله، ومعنا حجر بن عقيل الرياحي، فأنشده:
فما أخرجتنا رغبة عن بلادنا ... ولكن ما قد قدر الله كائن
لحين نفوس لم تجد متأخرا ... فلا تبعدن تلك النفوس الحوائن
فقلت: قطع الله لسانك. فهلك عبد العزيز في وجهه ذلك في خلافة هِشَام بْن عَبْد الملك.
وكان الوليد بن عبد الملك ضم إلى عبد العزيز أبا عبيدة محمد بن عمار بن ياسر، وكان لعبد العزيز بن الوليد من الولد، عتيق، وعبد الملك، أمهما من ولد أبي بكر الصديق، وكان له قدر. وكان لعبد الملك قدر وكان يكني أبا مروان. وقال الشاعر:
إني رأيت بني أم البنين لهم ... مجد طويل وفي أعمارهم قصر
مات الهمام أبو مروان فاختشعت ... كلب وأي بلاء يبتلى مضر(8/70)
فقال الوليد ليزيد بن الحصين بن نمير السكوني: بايع لعبد العزيز، فقال: أما يميني فبايعت بها لسليمان وإن شئت بايعت لعبد العزيز بشمالي.
قالوا: وكان الوليد بن عبد الملك يقول: إذا احتلم الصبي من ولدي فضموا إليه مؤدبا له صلاح وفضل وشرف، وضموا إليه عشرة يجالسونه ويكونون عيونا عليه يحولون بينه وبين من يجالسه من أهل الدناءة والسخف.
وكان يقول: سيدنا عبد العزيز، وفتانا بشر، وعالمنا روح، وفارسنا العباس، وفحلنا عمر.
وقال الوليد: من رأى مثل ولدي: عبد العزيز على دمشق، والعباس على حمص، وبشر على قنسرين، وعمر على الأردن. فقال له عباد بن زياد: كان عبيد الله بن زياد على العراق، وأخوه عثمان خليفته على أحد المصرين، وعباد على سجستان، وعبد الرحمن على خراسان.
فسكت.
قالوا: وكان بنو الوليد ثمانية عشر سراة، فكانوا يركبون، فإذا رجعوا مضوا مع أكبرهم إلى منزله، فإذا دخل انصرفوا مع الذي يليه إلى آخرهم.
قالوا: وكان على شرط الوليد كعب بن حامد ثم عزله وولى أبا ناتل رياح بن عبدة الغساني، ثم عزله وأعاد كعبا.
واستقضى سليمان بن حبيب المحاربي، وولى عمر بن عبد العزيز المدينة وأمره أن يبني مسجدها ويجعله مائتي ذراع في مائتي ذراع، وبعث من الفعلة من الشام، وكتب إلى ملك الروم يعلمه أنه قد أمر بهدم مسجد(8/71)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويسأله أن يعينه في بنائه، فبعث إليه بمائة ألف مثقال ذهبا وبمائة فاعل، وبأربعين حملًا فسافسا، فبنى عمر المسجد وبنى الوليد مسجد دمشق فقال لأصحابه: أقسمت عليكم لما أتاني كل واحد منكم بلبنة.
فجعل رجل من أهل العراق يأتيه بلبنتين، فقال له: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق. فقال: يا أهل العراق تفرطون في كل شيء حتى في الطاعة.
قالوا: وأعطى الوليد المجذمين، وقال: لا تسألوا الناس، وأعطى كل مقعد خادما، وكل ضرير قائدا.
وكان الوليد صاحب بناء واتخاذ للمصانع، وكان عند أهل الشام أفضل خلفائهم، فلما ولي سليمان كان صاحب نكاح وطعام، فكان الناس يتلاقون في زمن الوليد فيسألون عن البناء والمصانع وما أشبه، ويسألون في زمن سليمان عن التزويج والجواري والطعام.
وولي عمر بن العزيز فكان الناس يسألون عن الفقه والقرآن، فيقول هذا: متى ختمت، ويقول هذا: كم تصوم من الشهر.
المدائني قال: كتب الوليد إلى بعض عمال أبيه: «أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر ما أختص الله به أمير المؤمنين من خلافته، وأنك بايعت من قبلك فحسنت إجابتهم وسارعوا إلى الطاعة، وأمير المؤمنين يحمد الله على ما أكرمه به واصطنع، ويسأله العون على ذلك، وذكرت أنك بعثت إلى أمير المؤمنين ببيعة من قبلك مع أبان بن سويد وهو في صالحي أهل بلاده، وقد قدم على أمير المؤمنين بكتابك، فأحسن صلته، والسلام.
وكتب جناح مولى أمير المؤمنين» . وكان جناح على رسائله وهو مولاه.(8/72)
المدائني قال: خطب الوليد يوم جمعة فأتت الصلاة فناداه رجل:
الصلاة، وجلس فلم يعرف، فقال الوليد: أيها الناس والله ما نعاتبكم على العلانية وإنما نعاتبكم على أن تسروا لنا العداوة.
وقال الوليد: أنا أنفق على الكعبة وأكسوها وأطيبها فعلام يأخذ بنو شيبة هداياها، لأمنعنهم إياها العام، فبلغهم ذلك فأرمضهم، وخرج الوليد حاجا فخرجوا يتلقونه فوجدوا الحجاج معه فقالوا له: أنت وإن كنت معزولا عنا، فأنت محمود عندنا ورحمنا وحرمتنا ما لا تنكر، وقد بلغنا كذا وفزعنا إليك، قال: إذا دخلتم على أمير المؤمنين فتحينوني عنده، ثم سلموا عليه خالي الوجه ودعوني أكفيكموه ففعلوا، فلما خرجوا قال الحجاج: علام تدع هؤلاء وهدايا الكعبة؟ قال: قد أجمعت على أخذها، قال، افعل فإني كنت أشرت بهذا على أمير المؤمنين عبد الملك فلم يفعل، فقال: أنا أبرأ إلى الله مما برئ منه أمير المؤمنين عبد الملك. وتركها لهم.
المدائني قال: قام رجل من أهل حمص إلى الوليد فقال: يا أمير المؤمنين إني أتيت ذنبا فاستغفر لي غفر الله لك. فقال بعضهم: مقادي [1] يقوم أمير المؤمنين بنفسه.
وقال المدائني: قدم ذبيان بن نعيم بن حصين العليمي من كلب على الوليد فقال: يا أمير المؤمنين: إني قد فرضت لنفسي فسلم ذلك لي. قال:
وفي كم؟. قال: في ستين دينارا. قال: قد أجزناها لك، ثم بعثه إلى عبد
__________
[1] أي حسب أمير المؤمنين أن يقوم بنفسه. وكلمة: / قد/ (مخففة) مرادفة ل: يكفي. أو ل: بحسب. القاموس.(8/73)
العزيز بن الوليد، وهو على قنسرين وأوصاه به، فكان يأذن لرجلين من قيس يقال لهما راسب وسعيد قبله فغضب وكتب إلى الوليد فقال:
أبلغ أمير المؤمنين ودونه ... فراسخ تطوي الطرف وهو حديد
بأني لدى عبد العزيز مؤخر ... يقدم قبلي راسب وسعيد
فكتب إلى عبد العزيز إن يقدمه.
وقال هشام ابن الكلبي عن أبيه: إنما ضمه عبد الملك إلى عبد العزيز بن مروان فجفاه، فكتب إلى عبد الملك، فكتب عبد الملك إلى عبد العزيز ببره وصلته وتقديمه.
المدائني أن الوليد قال لعباد بن زياد: أين كان زياد من الحجاج؟
فقال: إن الحجاج لمقدام. قال: أين تدبيره من تدبيره قال: قدم زياد العراق على راحلته فضبطه بمداراة ورفق وحسن سياسة، وقدم الحجاج فكسر الخراج وأفسد قلوب الناس ولم يضبطهم بأهل الشام وأهل العراق، ولو رام منهم ما رام زياد لم يفجأك شيء دون قدومه عليك يوجف على قعوده.
وقالوا: استعمل الوليد عبد العزيز على بعض الشام فأتاه رجل فقال:
نصيحة. قال: إن كانت لك رددناها عليك، وأن كانت لنا فلا حاجة لنا فيها. قال: جار لي أخل بمركزه، قال: بئس الجار أنت نحن ناظرون فيما ذكرت فإن كنت صادقا مقتناك وإن كنت كاذبا عاقبناك، وإن أحببت أن نعفيك أعفيناك. قال: اعفني. قال: قد فعلت.
وقال المدائني: كان عبد الملك استعمل أخاه محمدا على قنسرين والجزيرة وأرمينية وآذربيجان، فلما ظهر محمد على أرمينية وأذربيجان عزله(8/74)
عبد الملك عن قنسرين فلما مات عبد الملك استعمل الوليد على عمل محمد:
مسلمة بن عبد الملك، فأضر مسلمة بمحمد، فدخل محمد على الوليد ومعه ابنه مروان يتوكأ عليه، فقال: إن أخي عبد الملك كان يصلني ويشركني في سلطانه حتى ذهب لسبيله، وقد بلغت من السن ما ترى وأنا لك بمنزلة الوالد، فطأطأ الوليد ثم تمثل:
إن تصبرا فالصبر خير مغبة ... وإن تجزعا فالأمر ما تريان
فقام محمد وهو يتمثل:
فإن جزعنا فمثل الشر أجزعنا ... وإن صبرنا فإنا معشر صبر
ثم انصرف إلى الرها [1] ، فأقام بها حتى مات.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: إِنَّ ابْنَ شِهَابٍ حَدَّثَ الْوَلِيدَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: [ «لا يَنْبَغِي لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُنَاشَدَ» ،] فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ:
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى ابْنِ شِهَابٍ، إِنْ كَانَ حَدَّثَ بِهَذَا، لَقَدْ أَعْظَمَ الدُّنْيَا. أَيُحَدِّثُ الْوَلِيدَ بِمِثْلِ هَذَا وَهُوَ يَعْرِفُ الْوَلِيدَ؟. وَيْحَهُ أَمَا سَمِعَ قَوْلَ أخي بني كعب حين قال:
لا هم إِنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا ... حِلْفُ أَبِينَا وَأَبِيهِ الأَتْلَدَا
أَفَيُنَاشِدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا يُنَاشِدُ الْخَلِيفَةَ؟.
الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: قَالَ أُسَيْلِمُ بْنُ الأَخْيَفِ لِلْوَلِيدِ قَبْلَ أَنْ يَلِيَ: إِذَا ظَنَنْتَ ظَنًّا فَلا تُحَقِّقْهُ، وَإِذَا سَأَلْتَ الرِّجَالَ فَاسْأَلْهُمْ عَمَّا تَعْلَمُ، فَإِنَّهُمْ إِذَا رَأَوْا سُرْعَةَ
__________
[1] هي أورفا حاليا في تركيا.(8/75)
فَهْمِكَ ظَنُّوا أَنَّكَ فِيمَا لا تَعْلَمُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ، وَأَقِلَّ الْكَلامَ يَقِلَّ لَحْنُكَ.
وَكَانَ الْوَلِيدُ لَحَّانًا.
المدائني عن عامر بن عبد الأعلى قال: حدث الوليد أنه جمع بين هند بنت الحسن الإيادي، ويقال العمليقي وبين جمعة بنت عابس الإيادي، فقيل لجمعة: أي الرجال أحب إليك؟. قالت: «الغليظ الكبد، الظاهر الجلد، الشديد الجذب بالمسد» .
ثم قيل لهند: أي الرجال أحب إليك؟ قالت: «القريب الأمد، الواسع البلد، الذي يوفد إليه ولا يفد» ، فقال الوليد: من هذا الرجل؟
فقال له هاشم بن عبد الأعلى الفزاري: أنت يا أمير المؤمنين.
قالوا: وكتب الوليد بن عبد الملك- ويقال سليمان- إلى عثمان بن حيان المري، وهو عامله على المدينة يأمره أن يحصي المخنثين قبله، فصحف الكاتب فقرأ: اخص المخنثين فخصى عدة منهم فيهم الدلال، فقال:
الآن تمّ لي الخنث.
المدائني عن شراحيل بن علي قال: أمر الوليد وهو على المنبر بقراءة كتاب جاءه من الحجاج يذكر فيه طاعته ونصيحته ويقول: «إني أرجو بصدق نيتي وخلوصها لأمير المؤمنين شفاعته لي» . فقال أبو معتمر الحمصي: مقادي أمير المؤمنين ينجو بنفسه.
قالوا: خرج الحجاج من العراق حاجا أو معتمرا، فمر بالمدينة وعليها عمر بن عبد العزيز فقال: كيف أميركم؟ فأثنوا عليه خيرا. فقال:
كيف هيبتكم له مع ما تذكرون من حسن سيرته؟ قالوا: ما نقدر أن نملأ عيوننا منه إذا جالسناه. قال: فما عقوبته؟. قالوا: ما بين الخمس عشرة(8/76)
ضربة إلى الثلاثين، فقال: أهذه الهيبة مع هذه العقوبة؟ قالوا: نعم.
قال: الأمر إلى الله، لقد حذرت أمير المؤمنين إياه، وإن الوليد لأهل للنصيحة.
فكتب الحجاج إلى الوليد: إن أهل المدينة قد اتخذوا عمر بن عبد العزيز كهفا، وقد تحبب إلى أهل المدينة، فما يتقدمه عندهم أحد. فعزل الوليد عمر عن المدينة، وولى عليها عثمان بن حيان المري.
وأخبر عمر بن عبد العزيز بلحن الوليد فقال: إنه وإن لحن لأجد الجدين.
وقرأ الوليد في الحاقة: (يَا لَيْتَهَا كانت القاضية) [1] ، فقال سليمان:
وأنا والله وددتها، وكان سليمان يسمع الوليد يلحن في خطبته فيقول: الله المستعان.
المدائني قال: مرض الوليد بن عبد الملك فرهقته غشية، فمكث عامة يومه عندهم ميتا، فبكى عليه وخرجت البرد بموته، فقدم رسول على الحجاج بمثل ذلك، فاسترجع ثم أمر بحبل فشد في يده ثم أوثق إلى أسطوانة وقال: اللهم لا تسلط علي من لا رحمة له. فطالما سألتك أن تميتني قبل أمير المؤمنين، فبينا هو كذلك إذا قدم عليه بريد بإقامته فخر ساجدا وأعتق كل مملوك له.
ويقال إنه قال: اللهم إني لم أدعك في موطن أصابني فيه سوء إلا استجبت لي، وقد سألتك أن تقدم يومي قبل يوم الوليد، فلما جاءه البريد بعافيته خر ساجدا، وأعتق كل مملوك له، وتصدق بصدقة كثيرة.
__________
[1] سورة الحاقة- الآية: 27.(8/77)
قالوا: ولما أفاق الوليد قال: ما أحد أسر بعافية أمير المؤمنين من الحجاج، فورد كتابه بعد أيام بتهنية الوليد بالعافية، وبعث إليه بأنبجات [1] من أنبجات الهند.
ثم لم يمت الحجاج حتى ثقل على الوليد، فقال خادم للوليد: إني لأوضئه يوما لصلاة الغداة إذ مد يده فجعلت أصب عليها الماء وهو ساه والماء يسيل ولا أقدر أن أتكلم، ثم نضح الماء في وجهي وقال: أناعس أنت؟ ثم رفع رأسه إليّ فقال: ويلك أتدري ما جاء الليلة؟ قلت: لا. قال: ويلك مات الحجاج. فاسترجعت فقال: اسكت فما يسر مولاك أن في يده تفاحة يشمها وأنه لم يمت.
المدائني قال: قال الماجشون: لما مات الحجاج أتيت عمر بن عبد العزيز فأخبرته فقال: رغم أنفي لرب لم يقطع مدتي حتى أراني موت الحجاج، فأتى الوليد فأخبره فترحم عليه، ثم قال لعمر: أما لقد كان حسن القول فيك يا أبا حفص، وهل كان إلا منا أهل البيت.
وحدثني الحرمازي عن أبي عمرو المديني قال: لما مات الحجاج والوليد بن عبد الملك جعل الإماء والصبيان بالمدينة يقولون: يا مهلك الاثنين أهلك ذاك الإنسان- يعنون عثمان بن حيّان-
__________
[1] الانبج: ثمرة شجرة هندية، وهو معرب أنبة وزان رغبة، قال أبو حنيفة: شجر الأنبج كثير بأرض العرب من نواحي عمان، يغرس غرسا، ويعظم شجره حتى يكون كشجر الجوز، وورقة كورقه. تاج العروس.(8/78)
وكان الوليد عزل عمر بن عبد العزيز وولاه المدينة، فلما عزل عثمان قالوا: يا مهلك الإثنين أهلك ذاك الإنسان، ومن ذاك الإنسان، عثمان بن حيان.
الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ لِلْوَلِيدِ: إِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: وَدِدْتُ أَنِّي أَنْجُو مِنَ الْخِلافَةِ كفافا لا عليّ ولالي، فَقَالَ: كَذَبْتَ أَوْ قَالَ: كَذَبْتُ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ الْوَلِيدُ: لا تُحَدِّثُونَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَإِنَّ حَدِيثَهُ طُعِنَ عَلَيْنَا.
قال: وحج الوليد وحج محمد بن يوسف أخو الحجاج من اليمن، وحمل هدايا للوليد، فَقَالَتْ أم البنين بِنْت عَبْد الْعَزِيز امْرَأَة الوليد: اجعل لي هدية محمد بن يوسف، فأمر بصرفها إليها، فجاءت رسل أم البنين إلى محمد بن يوسف لقبض الهدايا فأبى وقال: لا أسلمها حتى يراها أمير المؤمنين، فغضبت ودخلت على الوليد فقالت: لا حاجة لي في هدايا محمد فإنه بلغني أنه أخذها من الناس ظلما وغصبا وسخّرهم لعملها.
فلما حملها إلى الوليد قال له: بلغني أنك اغتصبتها الناس وكلفتهم عملها وظلمتهم. فقال: معاذ الله. فأحلفه خمسين يمينا بين الركن والمقام أنه ما ظلم أحدا ولا أصابها إلا من طيب فحلف، فقبلها الوليد، وبعث بها إلى أم البنين. ومات محمد بن يوسف باليمن، أصابه داء تقطع منه.
قالوا: وقدم على الوليد أَبُو بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حَزْمٍ في رجال من الأنصار، وكان له فضل ودين ورأي، وكان عظيم اللحية طويلها، فقال له الوليد: أما تعمل طول لحيتك فقد غمتني لك، اقبض قبضة ثم(8/79)
أخرى، وأمر أن يجز منها بعد قبضتين. ففعل وكأنه لم يجز شيئا، فاغتمت الأنصار لذلك، وبلغ الوليد اغتمامهم فاعتذر إليهم وقال: ما فعلت هذا استخفافا، وأجازه ووصله.
وكان قد أهدى إلى الوليد رطبا كثيرا، يقال إنه بأربعين ألف درهم، فقبله ثم رده عليه وقال: إن في لحيتك له موضعا فاقسم منه ما شئت في أصحابك.
قالوا: وأتى الوليد رجل من بني مخزوم يسأله في دية، فقال: نعم إن كنت مستحقًا لذلك. قال: يا أمير المؤمنين وكيف لا أكون مستحقا لذلك مع قرابتي؟. قال: أقرأت القرآن؟. قال: لا. قال: ادن، فدنا منه فنزع عمامته بقضيب كان في يده وقرعه بالقضيب قرعات ثم قال لرجل:
ضم إليك هذا فلا يفارقك حتى يقرأ القرآن.
ثم قام إليه بعض ولد خَالِد بْن عَبْد اللَّه بْن خَالِد بْن أسيد فقال:
يا أمير المؤمنين إن علي دينا، فقال: أقرأت القرآن؟ قال: نعم. فاستقرأه عشر آيات من الأنفال، وعشرا من براءة، فقال: نعم نقضي دينكم، ونصل أرحامكم على هذا.
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْوَلِيدِ قَالَ: مر الوليد يوما بكتاب فيه وصيفة فقال للمعلم: ما هذه؟ قال: أعلمها الكتاب والقرآن. قال:
ويحك، ليكن الذي يعلمها من الغلمان أصغر سنا منها.
المدائني قال: كان الوليد يمر بالبقال فيقف عليه فيتناول حزمة من البقل فيقول: بكم هذه؟ فيقال: بفلسين. فيقول: زد فيها فإنك تربح.(8/80)
قال المدائني: أتى رجل الوليد فقال: يا أمير المؤمنين إنك تعيش أربعين سنة خليفة، فقال الوليد: إن أمير المؤمنين لا يرضى بضعف ذلك.
المدائني عن عقبة بن رؤبة قال: قال رؤبة: أوفد إبراهيم بن عربي وفدا من اليمامة أنا وأبي وجرير فيهم إلى الوليد، فلما كنا بحوارين قال أبي:
يا بني إنا قد أتينا هذا الرجل وقد ولدته كريمة من كرائم العرب ولم تذكرها بشيء، فقلت:
إلى ابن مروان قريع الإنس ... وبنت عباس قريع عبس [1]
وقلت أبياتا. فضرب خيشوم راحلتي وقال: أنا أحق بها منك. قال فدعي بنا قبل جرير، ثم خرجنا ومالنا عند جرير ذنب فقال: أما والله يا بني أم العجاج لئن وضعت كلكلي عليكما لأطحننكما طحنا لا يغني معه مقطعاتكما هذه شيئا. ويقال إن هذه الوفادة كانت إلى عبد الملك.
المدائني قال: كان عند الوليد رجل من أخواله بني عبس فجعل يقع في بني أسد، فثقل ذلك على الوليد، فقال الوليد لحاجبه: ابغني رجلًا من بني أسد ظريفا يكفيني هذا العبسي فأتاه برجل منهم شاعر، وأخبره بأمر العبسي والذي يريده، فقال العبسي: ممن الرجل؟ قال: من بني أسد، فانبرى العبسي يقع في بني أسد، ثم قال: من أيهم أنت؟ قال: من بني الصيداء، قال: أتعرفون قول الشاعر:
إذا ما اللؤم حل بدار قوم ... هداه إلى بني الصّيداء غاد
__________
[1] ديوان العجاج- ط. بيروت، مكتبة دار الشرق ص 481 مع فوارق.(8/81)
فقال الأسدي: ممن أنت؟ قال: من بني رواحة من عبس، فقال الأسدي: ما أدري ما قال الشاعر ولكني أقول:
فإن اللؤم لم يضلل ولكن ... أذاعته رواحة في البلاد
إذا عبسية ولدت غلاما ... فبشرها بلؤم مستعاد
حدثنا أبو عدنان البصري عن الهيثم بن عدي أن الوليد قال لعبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أزوجت الحجاج ابنتك؟ قال: أبوك زوجها، لم يقض ديني فزوجتها، وتمثل:
من يك نائبا ويكن أخوه ... أبا الضحاك ينتشج الشمالا
فكتب الوليد إلى الحجاج يأمره بطلاقها، فقال لها الحجاج: إن أمير المؤمنين قد كتب إليّ يأمرني بطلاقك، فقالت: هو والله أبر بي ممن زوجنيك، فطلقها الحجاج فكان يجري عليها في كل شهر ألفي درهم، وبعث إليها بأحمال كسى وعطر.
وقال المدائني وغيره: إن الوليد خطب يوما وتحت سريره أعرابي فسمعه يقول: «إن علي بن أبو طالب كان لصا من لصوص صب عليه شؤبوب [1] » . فقال الأعرابي: ما يقول صاحبكم هذا؟
وقال الحرمازي: قال الوليد: «إن الزبير كان لص من لصوص، وكان علي بن أبو طالب حمار من حمر» فقال أعرابي: ما يقول؟ فقال له صاحبه: يذكر أضغانا كانت بينه وبينهم.
__________
[1] الشؤبوب: الدفعة من المطر، وحد كل شيء وشدة دفعه. القاموس.(8/82)
أَبُو الْحَسَن المدائني عن عَبْد اللَّهِ بْن عبد الملك، مولى قريش، قال:
أجرى الوليد يوما الخيل فقال: رد الفرسان الصادان عن الميدان، فقال عباد بن زياد: الفرسين الصادين.
قال: وقال رجل لعبد الملك: أفسدت لسان الوليد فقال: ما ذاك إلا من حبي له، أشفقت عليه فلم أسترضع له في البادية.
وقال الوليد لسالم بن عبد الله بن عمر: ما أدمك؟ قال: الخل والزيت. قال: أفما تأجمهما [1] ؟ قال: بلى ولكني إذا أجمتهما تركتهما وأكلت خبزا قفارا حتى أشتهيهما.
وقال المدائني: أغزى الوليد جيشا في الشتاء فسلموا وغنموا فقال لعباد بن زياد: كيف ترى؟ وكأنه عرض بقول زياد: جنبوني عدوين لا يقاتلان. الشتاء وبطون الأودية. فقال: يا أمير المؤمنين قد سلموا وأخطأت، وما كل عورة تصاب.
وقال المدائني: ركب الوليد فحدا به الحادي وهو من عذرة
يا أيها البكر لقد أراكا ... تحل سهل الأرض في ممشاكا
ويحك هل تعلم من علاكا ... خليفة الله الذي امتطاكا
فقدم الوليد مكة وطاف بالبيت ثم استند إلى حائط يلي زمزم، والفضل بن العباس بن أبي لهب يستقي من زمزم ويقول:
أيها السائل عَنْ عليِّ ... تسأل عَنْ بدرٍ لنا بدري
مردد في المجد أبطحي ... زمزمُ يَا بوركت من طوي
بوركت للساقي وللمسقي ... اسقي على مأثرة النّبيّ
__________
[1] أجم الطعام وغيره: كرهه مله. القاموس.(8/83)
ثم أتي الوليد بماء فشربه ومسح منه على وجهه.
حدثنا محمد بن الأعرابي قال: قال الأخطل للوليد بن عبد الملك:
يا أمير المؤمنين أصلح بين ابني نزار، فقال بيهس بن صهيب الجرمي:
لا أصلح الله بينهم. فقال الأخطل: والله ما أدري ما تكره من ذاك؟
فقال: بهيس: وأنا والله ما ادري ما ينفعك من ذاك.
وقال كعب بن جعيل يمدح الوليد:
أرجو الخليفة إذ رحلت أريده ... والنفس تبلغ بالرحيل مناها
وإذا علقت عن الوليد بذمة ... سكنت إلي جوانحي وحشاها
أنت الإمام ابن الإمام لأمة ... أضحى بكفك فقرها وغناها
وقال رجل من غطفان في الوليد يمدحه:
إني وإن قال أقوام تكلفني ... نفسي لأذكر منه فوق ما ذكروا
قالوا الفرات وما أرضى به شبها ... ولن يوازي جاري سيبه البحر
في أبيات، فلم يعطه شيئا فقال:
أتيت الوليد فألفيته ... كما قد علمت غبيّا بخيلا
بطيء العطاء عسير القضاء ... لا يفعل الخير إلا قليلا
وقال أيضا:
أتيت الوليد فألفيته ... كما يعلم الناس وخما وبيلا
فليت لنا خالدا بالوليد ... وعبد العزيز بيحيى بديلًا
يعني خالد بن يزيد بن معاوية، وعبد العزيز بن مروان، ويحيى بن الحكم.
وقال أبو قطيفة للوليد:(8/84)
ألا ابلغ أمير المؤمنين رسالة ... فغير التي تأتي من الأمر أصوب
أفي الله أن ندنى إذا ما فزعتم ... ونقصى إذا ما تأمنون ونحجب
ويجعل دوني من تود لو أنكم ... ضرام بكفي قابس يتضرم
فها أنتم داويتم الكلم ظاهرا ... فمن لقروح في الصدور تخرب
ومدحه الأخطل بشعر يقول فيه:
لقد ولدت جذيمة من قريش ... فتاها حين تحزبها الأمور
وأسرعها إلى الأعداء سيرا ... إذا ما استبطئ الفرس الجرور [1]
وقال خالد بن خيار:
وعند الوليد إن أردنا عطاءه ... نوال كثير دونه الباب يقفل
إذا ما رجونا أن يجود سحابه ... بخير أبت كف تضن وتبخل
المدائني أن أخا الأحوص شهر على أخيه السيف بالمدينة، فكتب عمر بن عبد العزيز إلى الوليد، فكتب إليه الوليد أن اقطع يده. فقطع عمر يده فتعلق على عمر بذلك.
قال وكتب الوليد إلى عمر أن اضرب خبيبا لأنه كان يقول ملك بني مروان زائل عن قريب، وكانت عنده أحاديث، فضربه عمر لذلك فمرض وبرئ، ثم مرض فمات، فظن أنه مات من ضربه، فأعتق ثلاثين رقبة.
ويقال إنه ضربه أربعين سوطا، وصب عليه جرة ماء، فمات فأعتق ثلاثين رقبة.
قال: وقال بعضهم: لما قتل عبد الله بن الزبير بايع عبد الله بن خازم السلمي صاحب خراسان لخبيب بن عبد الله بن الزبير، فكان ذلك في نفس
__________
[1] ديوان الأخطل ص 183.(8/85)
عبد الملك والوليد، فلما ولي الوليد أراد فضيحة خبيب، فكتب إلى عمر بن عبد العزيز بضرب خبيب فضربه.
قال المدائني: وهذا غلط لأن ابن خازم قتل قبل مقتل ابن الزبير.
المدائني قال: أدخل بعض الخوارج على الوليد بن عبد الملك فكلمه فشتمه الخارجي وشتم أباه، فقال الوليد لعمر بن عبد العزيز: ما ترى؟
قال: أظنه مغلوبا على عقله فإن فعلت بما يشبهك ويشبه من أنت منه خليته. فقال الوليد لعمر: حروري والله. قال عمر: مجنون والله.
فاخترط خالد بن الريان سيفه وهو يرى أن الوليد يأمره بقتل عمر، فقام الوليد مغضبا فدخل على أم البنين أخت عمر فقال: ألا ترين إلى ما قال لي أخوك الحروري الأحمق، قالت: أنت أولى بما قلت له، ما أسقط عمر سقطة مذ كان غلامًا. وقال لعبد العزيز ابنها: اخرج إلى خالد بن الريان فاصرفه.
وقال عمر لخالد: أكنت قاتلي لو أمرك الوليد؟ قال: أي والله.
قال: إنك لجرىء على طاعة المخلوق في معصية الخالق.
وأرسلت أم البنين إلى خالد أن اخرج من العسكر، فخرج فكان مع سليمان في عسكره.
المدائني قال: خطب الوليد يوم جمعة وكان لحانا فقال أعرابي: لقد خلط بين وبر وصوف- أي أخطأ وأصاب-.
وقال الكلبي: كان الوليد وسليمان وليي عهد عبد الملك، فأراد الوليد حين ولي أن يبايع لابنه عبد العزيز ويخلع سليمان، فأبى سليمان،(8/86)
فأراده على أن يجعله بعده، فأبى سليمان أيضا، فبذل له الوليد أموالًا عظيمة كثيرة على أن يفعل ذلك.
وكتب الوليد إلى عماله أن يبايعوا لعبد العزيز، ودعا الناس إلى ذلك فلم يجيبوا إلا الحجاج وقتيبة بن مسلم، وخواص من أصحابه، فقال له عباد بن زياد: إن الناس لا يجيبونك إلى هذا ولو أجابوك لم تأمنهم على الغدر بابنك، فاكتب إلى سليمان فمره بالقدوم عليك فإن لك عليه طاعة فإذا قدم فأرده على البيعة لعبد العزيز من بعده، فإنه لن يقدم على الامتناع عليك وهو عندك، فإن أبى كان الناس عليه.
فكتب الوليد إلى سليمان يأمره بالقدوم عليه، فأبطأ وتثاقل، فعزم الوليد على المسير إليه وخلعه فأمر الناس بالتأهب، وأمر بحجره فأخرجت، ومرض الوليد فمات قبل أن يسير.
وقال الوليد ليزيد بن حصين بن نمير السكوني: بايع لعبد العزيز، فقال: أما يميني فقد بايعت لسليمان، فإن شئت بايعت لعبد العزيز بشمالي.
وقال جرير بن عطية للوليد:
إذا قيل من أهل الخلافة بعده ... أشارت إلى عبد العزيز الأصابع [1]
فوصله عبد العزيز وأمه، فلما قام سليمان خافه فأتاه ممتدحا لأيوب فعفا عنه سليمان وقال كثير:
جمعت هوانا يا بن بيضاء حرة ... رجا ملكه لما استهل القوابل [2]
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.
[2] ليس في ديوانه المطبوع.(8/87)
المدائني عن أبي اليقظان عن هشام بن حسان قال: أرسل الوليد إلى رجل من أهل الشام كان ذا فضل وعقل فقال له: ما عطاؤك؟ قال: كذا.
فأضعفه له وأمر أن يلحق عياله بشرف العطاء، وقضى دينه ثم قال له: إن أمير المؤمنين قد أحب أن يضمك إلى ولده ليأخذوا بهديك وينتفعوا بأدبك، فامتنع عليه وقال: لست أفرغ لهم. قال: فيصيرون إليك في الجمعة يوما. قال: لا يمكني. فأسقط رزقه فلقيه رجل من أصحاب الوليد فقال:
يا عبد الله ما دعاك إلى الامتناع مما سألك أمير المؤمنين؟ فقال ونظر إلى دابة ميته: والله لأن آتي هذه الجيفة غدوة وعشية فأتمعك عليها أحب إلي من أن أجيبه إلى ما سأل. قال: وكم يكفيك في كل شهر؟ قال: خمسون درهما.
قال: فهي لك ما بقيت.
قال المدائني: وقال في الوليد أبو عدي عَبْد اللَّهِ بْن عدي بْن حارثة بْن ربيعة بْن عَبْد العزى بْن عَبْد شمس:
عبد شمس أبوك وَهُوَ أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد
والقرابات بيننا واشجات ... محكمات القوى بعقد شديد
فأنبني ثواب مثلك مثلي ... تلقني للثواب غير جحود
حدثني الحرمازي عن أبي زبالة وغيره قال: كانت أم البنين بِنْت عَبْد العزيز بْن مروان أخت عمر بن عبد العزيز عند الوليد، وكان معجبا بها محبا لها، وكانت امرأة برزة عفيفة تحب الشعر فبعثت إلى كثير أن صفني وامدحني فكره ذلك، فقالت له: قل الشعر في غاضر جاريتي فذلك حين يقول:
أغاضر لو ترين غداة بنتم ... جنود العائدات على وسادي(8/88)
قصة وضاح اليمن مع أم البنين بنت عبد العزيز زوج الوليد بن عبد الملك.
أو أم البنين بنت المخترم، والأول أصح.
وحجت مع الوليد فرأت وضاح اليمن الشاعر، أحد الأبناء، وهو ينشد، فأعجبها فأرسلت إليه أن اصحبنا، وأمرته فقال فيها شعرا، فبعثت إليه بكسوة وجائزة، فلما صارت إلى الشام وهو معهم جعلت ترسل إليه فيدخل عليها سرا وهي من وراء الستر فينشدها ويحادثها.
وبلغ ذلك الوليد فغمه فأمر خادما أن يدخل عليها فإن وجد وضاحا عندها قتله، فلما أحست أم البنين بالخادم أدخلت وضاحا صندوقا وأقفلته، فأخذ الخادم الصندوق وحفر حفرة ثم دفن الصندوق فيها.
وحدثني الأثرم عن أبي عبيدة عن ابن جعدبة قال: كان وضاح من أبناء اليمن وكان جميلًا وهو الذي يقول:
مالك وضاح دائم الغزل ... ألست تخشى تقارب الأجل
وكانت أم البنين بنت المخترم امرأة جميلة فعشقها وأحبته وكان زوجها من حمير فسمعها تقول:
يا وجه وضاح لقد ... أورثت قلبي حزنا
وكان وضاح لنفسي ... ويح قلبي شجنا
فطلقها. ولها يقول وضاح:
وأنت التي كلفتني البرد شاتيا ... وأوردتنيه فانظري أي مورد
وحجت أم البنين، فبلغ الوليد أمرها وهو حاج، فبعث فتزوجها وحملها فاتبعها وضاح.(8/89)
قال أبو عبيدة: وحدثني جماعة من أهل العلم أن التي قتل وضاح بسببها أم البنين بِنْت عَبْد العزيز بْن مروان.
قال: وقال ابن ذئب: أم البنين بنت المخترم امرأة كانت للوليد بن عبد الملك، تزوجها من أهل البادية، وكان وضاح اليمن قدم على الوليد قدوم الشعراء فعلقته أم البنين، وبلغ الوليد أمره ففعل به خادمه ما فعل بأمره. والأول أثبت.
ووضاح الذي يقول:
مالك وضاح دائم الغزل ... ألست تخشى تقارب الأجل
وحدثني الحرمازي قال: أم البنين التي قتل الوضاح بسببها ابنة عبد العزيز بن مروان وابنة المخترم غيرها، وهي التي قال فيها عمر بن أبي ربيعة:
فلو كنت إذ عبتني في الجمال ... كأم البنين ابنة المخترم [1]
المدائني قال: حج الوليد فنظر إلى عمر بن أبي ربيعة فقال له: من أنت؟ قال: عمر بن أبي ربيعة قال: الشاعر؟ قال: مثلي يا أمير المؤمنين لا ينسب إلى الشعر وإنما إلى بيته وآبائه. قال: فأنشدنا فأنشده، فبره.
المدائني قال: ناضل الوليد نوفل بن عبد الله فنضله نوفل، فقال الوليد: رمية من غير رام، قال: إنها من رام أكثر.
قال: وقدم الوليد بن عبد الملك بيت المقدس فنزل على قوم من غسان فذبحوا له الغنم، والبقر، والدجاج، والفراخ، والأوز، والحجل،
__________
[1] ليس في ديوانه المطبوع.(8/90)
ونحروا الجزور، فجعلوا يلقون في قدور لهم عظام من كل ما ذبحوا ونحروا ويخلطون ذلك- فسمي ذلك الطبخ: الغسانية مذ ذاك.
وقوم يقولون أَنَّ عُمَر بْن الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لما قدم الشام أتي بطعام فجعل يخلط بعض الألوان ببعض فسمي ما خلط الغسانية. والأول أثبت.
المدائني عن علي بن سليم قال: كانت ابنة سعيد بن العاص عند الوليد، فمات عبد الملك فلم تبك عليه، فقال لها: ما منعك من البكاء على أمير المؤمنين؟ فقالت: ما أقول له إلا أن أدعو الله أن يحييه ويزيد في سلطانه حتى يقتل أخا لي آخر؟ فقال: أي والله لقد قتلناه وكسرنا ثناياه. قالت:
قد علمت من شقت استه، فقال: الحقي بأهلك. قالت: ألذ من الرفاء والبنين.
قالوا: وقال الوليد لبديح غلام عبد الله بن جعفر: يا بديح خذ بنا في التمني فو الله لأغلبنك، قال: ستعلم. فقال الوليد: ابدأ أنت فتمنى فإني سأتمنى ضعف ما تتمنى. فقال بديح: فإني أتمنى سبعين كفلًا من العذاب، وأن يلعنني الله لعنًا كثيرًا، فقال: غلبتني قبحك الله.
قالوا: ودخل على الوليد رجل من العرب يشكو ختنه فقال: إن ختني أخذ مالي وظلمني، قال: ومن ختنك فظن أن يسأله عمن أعذره، فلم يجبه. فقال عمر بن عبد العزيز: من ختنك؟ قال: فلان بن فلان.
وقال الوليد لرجل دنا منه: قبلك قبلك، يريد: مكانك.
حدثني هشام بن عمار الدمشقي عن مدرك بن حجوة أن قومًا دخلوا على الوليد وعنده أخوه مسلمة فشكوا أمرًا من أمرهم، فلم يبينوا(8/91)
ولا أحسنوا العبارة عما في أنفسهم، فتكلم رجل منهم فأفصح وأوضح وعبر عن نفسه وعن القوم، فقال مسلمة: ما شبهت كلام هذا الرجل في إثر كلام القوم إلا بسحابة لبدت عجاجا.
قالوا: ومرض الوليد فذكر له موسى بن نصير طبيبا قدم به من المغرب روميا فأدخله إليه، وعنده ابن رأس البغل، ويقال ابن رأس الحمار، وكان يعالجه، وكان طبيب عبد العزيز بن مروان، وكان من أهل الإسكندرية، فتراطنا بالرومية فقال أحدهما لصاحبه: ما داؤه؟ قال: السل. قال:
صدقت.
ودعا له صاحب موسى بفرخ فطبخ وألقي على مرقه دواء وحساه منه جرعا فلم يلبث في جوفه وقاءه، فقال: لا أرى هذا وافقك وعندي ما هو أسهل منه وأنا آتيك به في غد، فخرج من عنده وقال: والله لا يصبح حيا، فمات في السحر.
وتوفي الوليد ويكني أبا العباس في سنة ست وتسعين وهو ابن تسع وأربعين، وملك تسع سنين، ودفن خارج الباب الصغير بدمشق، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، فرثاه جرير فقال:
إن الخليفة قد وارت شمائله ... غبراء ملحدة في حالها زور
أضحى بنوه وقد جلت مصيبتهم ... مثل النجوم هوى من بينها القمر
كانوا جميعا فلم يدفع منيته ... عبد العزيز ولا روح ولا عمر [1]
__________
[1] ديوان جرير ص 229 مع فوارق.(8/92)
وقال المدائني: لما قدم ابن حيان المدينة واليا دخل دار مروان فقال:
هذه المحلال المظعان، ثم قال:
مجرب قد حلبت الدهر أشطره ... مجرس [1] سد رأي منه تعليم
فقيل له: إن الوليد ثقيل فقال: إن كان أمير المؤمنين ثقيلًا، فإن سليمان لأخوه لأبيه وأمه وولي عهده، ولقد هد ما ذكرتم ركني.
وقال هشام ابن الكلبي: ولي الوليد بن عبد الملك في شوال لعشر خلون منه سنة ست وثمانين وولي تسع سنين وتسعة أشهر، وتوفي يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين، وهو ابن ثلاث وأربعين سنة.
المدائني قال: كان القعقاع بن خليد عند الوليد بن عبد الملك، وعنده ابن رأس الجالوت، فقال الوليد: إنكم تزعمون أن في ولد داود علامة يعرفون بها فما هي؟ قال: تنال يد أحدنا ركبته وهو قائم، فقال القعقاع: فيدي تنال ركبتي. فقال الوليد: فافعل، فذهب يفعل فضرط فعيّر بذلك شيبة بن الوليد بن القعقاع فقال الشاعر:
يا شيب هل لك في ألف مدرهمة ... بضرطة ليس في إرسالها حرج
كذاك شيخك إذ هوى بركبته ... فحاز فقحته من ضعفها الشّرج
__________
[1] التجريس: التحكيم والتجربة. القاموس.(8/93)
الخوارج في أيام الوليد بن عبد الملك بن مروان
أمر زياد الأعسم:
قال أبو الحسن المدائني عن أصحابه: كان زياد الأعسم من بني عصر بن عوف بن عمر بن عبد القيس من أنفسهم، ويقال كان مولى لهم يرى رأي الأزارقة، وكان يبيع بسوق الزيادي، فلما قدم داود بن النعمان البصرة للتجهز قال لأصحابه: أريد أن أشتري غلالة تكون تحت درعي أجعلها كفنا، فأتى سوق الزيادي فقال: من عنده غلالة رقيقة؟ فقال له زياد الأعسم وهو لا يعرفه، وظن أنه بعض فتيان أهل البصرة، وكان داود جميلًا: يا فتى عندي غلالة فإن شئت أن أبيعك إياها أرق من دينك فعلت.
فلم يكلمه داود ومضى، فقال رجل لزياد: أتعرف هذا؟ قال: لا. قال:
هذا داود فاتبعه زياد فاعتذر إليه وواعده مكانا يلقاه فيه، فاتعدا قصر أوس [1] ، فالتقيا من غد فكلمه داود فأجاب داود ورجع عن رأيه، وأتى
__________
[1] قصر أوس بالبصرة، ينسب إلى أوس بن ثعلبة، وكان سيد قومه، وكان قد ولي خراسان في الأيام الأموية. معجم البلدان.(8/95)
المسجد الذي كان يصلي فيه بالأزارقة من أصحابه فأخذوه، ويقال إنه كان أباضيا.
وخرج الأعسم في جماعة، فيقال إن ابن رباط خرج إليهم فقتلهم، وقال زياد الأعسم حين خرج:
تعاتبني عرسي على أن أطيعها ... وقبل سليمى ما عصيت الغوانيا
فكفي سليمى واتركي اللوم إنني ... أرى فتنة صماء تبدي المخازيا
وكيف قعودي والشراة كما أرى ... عزين [1] يلاقون البلايا الدّواهيا
في قصيدة.
__________
[1] العزين: الحلقة المتجمعة من الناس، وأصلها عزوة فحذفت الواو، وجمعت جمع السلامة على غير قياس. النهاية لابن الأثير.(8/96)
خبر الهيصم بن جابر
وهو أبو بيهس أحد بني سعد بْن ضبيعة بْن قيس بْن ثعلبة.
وقَالَ أبو الحسن علي بن محمد عن أصحابه: طلب الحجاج أبا بيهس الهيصم بن جابر فهرب إلى المدينة، فطول شعره، ولعب بالحمام واختضب، فلم يعرفه بها أحد.
وطلبه الحجاج وسأل عنه فأعياه وجوده، وبلغ الوليد بن عبد الملك أنه بالمدينة فكتب إلى عثمان بن حيان المري فيه ووصف له صفته وحلاوة، فقرأ عثمان الكتاب على الناس والهيصم جالس فنظر إليه رجل إلى جنبه فقال: إنك لصاحب الصفة وما أنا بمخليك. قال: إنك إن فعلت أثمت، واقترفت ذنبا عظيما، فأخذه وأتى به عثمان فأقر أنه الهيصم فأعجبه ما رأى منه فحبسه، وكتب إلى الوليد بأخذه إياه.
وكان عثمان بن حيان يرسل إليه في كل ليلة فيسامره ويحدثه، وكان معجبا به، فأتاه كتاب الوليد أن اقطع يديه ورجليه واقتله، فقال له عثمان:
اعهد عهدك فقد كتب أمير المؤمنين يأمر بقتلك. فقال: أجميعا أم(8/97)
متفرقا؟. قال: متفرقا. قَالَ: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال له عثمان:
هل لك من حاجة؟ فأوصى ببنية له بالمدينة أن ترد إلى أهله.
وأنفذ فيه أمر الوليد، فمر به رجل حين قطعوا يديه ورجليه فشتمه، فقال له أبو بيهس: إن كنت عربيا فإنك من هذيل، فإنهم أسوأ قوم أخلاقا، وإن كنت من العجم فإنك بربري.
ومر به عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان فقال: اصبر أبا بيهس، فقال: أما إن أمرت بالصبر إنك لجميل المزداة [1] عظيم، حسن القدم في الإسلام.
وقتله عثمان بن حيان، فقال عويف القوافي أو غيره:
إن ابن حيان شفى الصدورا ... أصبح في يثرب مستنيرا
قد أدرك الله به الثؤورا [2] ... أتبع رأس هيصم مثجورا [3]
لصين كانا عليا فجورا
وقال الهيثم: هرب نبراس بن مالك العنزي من الحجاج، وقد طلبه فبينا الحجاج يخطب إذ مثل بين يديه فأنشد شعرًا له يظهر فيه التوبة، فقال له الحجاج: الزم بابي ودع الطعن على الولاة، فكان يضرب أعناق الخوارج بين يدي الحجاج.
__________
[1] أزدى: صنع معروفا. القاموس.
[2] جمع ثأر. القاموس.
[3] الثجرة: الوهدة من الأرض، ومجتمع أعلى الحشا أو وسطه، وما حول الثغرة، وثجر الثمر: خلطه بثجير البسر: أي ثفله. القاموس.(8/98)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر سليمان بن عبد الملك
وسليمان بن عبد الملك وأمه وأم الوليد ولّادة بنت العباس بن جزي، ويكنى أبا أيوب، وكان فصيحا، نشأ في أخواله بني عبس، وكان أبيض جعدا، ولي سنة ست وتسعين، وكان جميل المذهب، حسن السيرة، أخرج المحبسين، ورد المسيرين، وأنصف من المظالم.
وكان الوليد أخوه ولاه فلسطين، فأحدث مدينة الرملة وبنى مسجدها، وأتاه نعي الوليد، وكان ولي العهد بعده فخرج من فلسطين إلى دمشق، فكانت ولايته سنتين وثمانية أشهر، ومات بدابق [1] ، ودفن بها، وصلى عليه عمر بن عبد العزيز، وذلك في سنة تسع وتسعين، وكان يوم مات ابن خمس وأربعين سنة.
فولد سليمان بن عبد الملك: أيوب وأمه أم أبان بنت خالد بن الحكم بن أبي العاص، وأمها أم عُثْمَان بنت خَالِد بْن عقبة بْن أبي معيط.
__________
[1] دابق قرية في هضبة حلب، منطقة عزاز، فيها تل أثري في شمال القرية، أقيم عليه ضريح سليمان بن عبد الملك. المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري.(8/99)
ويحيى، وعبد الله، أمهما عائشة بنت عبد الله بن عمرو بن عثمان.
ويزيد، والقاسم، وسعيدا، أمهم أم يزيد بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة.
وعبد الواحد، وعبد العزيز، أمهما أم عمرو بنت عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد.
وداود، ومحمدا، وعمر، وعمرا، وعبد الرحمن، لأمهات أولاد شتى، والحارث لأم ولد.
وأم أيوب كانت عند عبد العزيز بن الوليد فهلكت، فجاء عبد العزيز إلى سليمان أبيها، فقال له سليمان: أدفنت أم أيوب ثم تأتيني؟. فقال:
يا أمير المؤمنين أنا بها أعظم مصيبة منك. قال: وبلغني أنك نازعت الحارث ابن أمير المؤمنين في الصلاة عليها، فقال: ما بلغ بي الجهل أن أفعل ذلك.
فأما أيوب بن سليمان، فكان من فتيان قريش عفافا وأدبا، وكان أبوه قد بايع له بالعهد، وكان مؤدبه وحاضنه عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، وقال فيه جرير:
إن الإمام الذي ترجى فواضله ... بعد الإمام ولي العهد أيوب [1]
وهلك في حياة أبيه.
وقال الفلتان أخو بني عبد الله بن دارم:
من يك جارا لقوم لا وفاء لهم ... فإن جاري ولي العهد أيوب
ورثاه عبد الله بن عبد الأعلى بقصيدة يقول فيها:
__________
[1] ديوان جرير ص 34 مع فوارق.(8/100)
ولقد عجبت لذي الشماتة إن أري ... جزعي ومن يذق الفجيعة يجزع
فاشمت فقد قرع الحوادث مروتي ... واجذل بمروتك التي لم تقرع
إن تبق تفجع بالأحبة كلهم ... أو تردك الأحداث إن لم تفجع
من لا تخرمه المنية لا يرى ... منها على خوف لها وتوقع
قد بان أيوب الذي لفراقه ... سر العدو غضاضتي وتخشعي
أيوب كنت تجود عند سؤالهم ... وتظل منخدعا وإن لم تخدع
ولا عقب لأيوب.
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، أَبُو الْوَلِيدِ، عن مسلم بن أبي سليم الحمصي قال: خرج سليمان إلى دابق ليغزي الناس، فأغزاهم وعليهم ابنه أيوب بن سليمان، ومعه مسلمة بن عبد الملك.
وكان أيوب ولي عهده، فلما احتضر سليمان قال: إن ابني أيوب بإزاء عدو ولا أدري ما يحدث به فإن أهمل الأمر إلى قدومه ضاع وانتشر ولم تؤمن الفتنة على الناس في جميع الأقطار، ولعل الحدثان أن يكون قد غاله، على أني وليته العهد وأنا أظن أن عمري يطول. وهو حدث.
فولى عمر بن عبد العزيز، ويزيد بن عبد الملك من بعده، وأيوب إن كان بعد يزيد، وكره أن يخرجها من ولد عبد الملك فيختلفوا ويحدثوا أحداثا تدعو إلى الفتنة.
وصوب رجاء بن حيوة رأيه في ذلك، وقوى عزمه. وتوفي أيوب في غزاته وقد أقبل، وذلك حين شارف الثغر خارجا أو داخلًا.
وقال هشام: وقد تقول قوم أن نعي أيوب أتى سليمان يوم مرض ففعل ما فعل.(8/101)
وقال المدائني، وأبو اليقظان: مات بالشام.
وأما محمد بن سليمان فكان صاحب فتوة وباطل، وقد أدرك الوليد بن يزيد.
وأما عبد الواحد فولاه مروان بن محمد بن مروان مكة والمدينة فصلى بالناس بالموسم، ثم هرب من الإباضية حيث خرجوا عليه، فقال الشاعر:
جاء الذين يخالفون بدينهم ... دين النبي ففر عبد الواحد
ترك القتال وما به من علة ... إلا الوهون وعرقة من خالد [1]
وقتله صالح بن علي بن عبد الله، وأخذ ماله بالشام. وله عقب.
ومدحه ابن هرمة فقال:
إِذَا قيل من خيرُ من يُرتجى ... لمعتِّر فهر ومحتاجها
ومن يعجل الخيل عند الوغى ... بألجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بَنِي مَالِك ... إليه به قبل أزواجها [2]
وأما عبد الرحمن بن سليمان فهلك وهو شاب.
وأما الحارث بن سليمان فكان من رجالاتهم جلدا وذكرا، وأدرك قتل الوليد بن يزيد، وقال فيه الشاعر:
كأنك برد ذو حواش مسهم ... به حرق قد شابه وهو واسع
بلوناكم حتى عرفنا خياركم ... فخيركم رث المروءة واضع
__________
[1] بهامش الأصل: يعني خالد بن أسيد.
[2] ديوان ابراهيم بن هرمة ص 85- 86.(8/102)
فقال هشام بن عبد الملك لهذا الشاعر: ويلك عممت بني مروان.
فقال: لا ولكني عنيت بني سليمان.
وأما يزيد بن سليمان فمات قبل المسودة، وقتل ابنه عبد الله بن علي.
وأما داود بن سليمان فهو الذي قال له رجل: هلك أبوك بشما [1] ، وهلكت أمك بغرا [2] ، وكانت أم داود عطشت في طريق مكة، فشربت فأكثرت فماتت.
قالوا: وكان الحجاج بن يوسف وقتيبة بن مسلم أشارا على الوليد بتولية ابنه عبد العزيز العهد مكان سليمان أو بعده، فحقد على قتيبة سليمان، فلما استخلف سليمان قال قتيبة وهو بخراسان: أيها الناس قد وليكم هبنقة القيسي، وذلك أن سليمان كان يعطي أهل الشرف واليسار والنباهة ولا يرفع خسيسة ولا يصطنع خاملًا، وذلك أن هبنقة كان يخص سمان إبله بالمرعى والعلف ويضرب المهازيل، ويقول: أنا لا أصلح ما أفسد اللَّه، ولا أفسد ما أصلح، فنسب إلى الحمق، وكان ذلك سبب مخالفة قتيبة حتى قتل بخراسان:
وفي سليمان يقول الفرزدق:
وإلى سُلَيْمَان الَّذِي سكنتْ ... أروى الهضاب له من الذعر
وتراجع الطرداء إذ وثقوا ... بالأمن من رتبيل والشحر [3]
__________
[1] انظر خبر وفاة سليمان بسبب إكثاره من الطعام في المعمرين والوصايا لأبي حاتم السجستاني- ط القاهرة 1961 ص 165- 168.
[2] بغر: شرب ولم يرو فأخذه داء من الشرب. القاموس.
[3] الشحر ساحل مهرة باليمن.(8/103)
كنا نناجي الله نسأله ... في الصبح والأسحار والعصر
ألا يميتك أو يكون لنا ... أنت الإمام ووالي الأمر
فأجاب دعوتنا وأنقذنا ... بخلافة المهدي من ضر
إني لأرجو أن يقيم لنا ... سنن الخلائف من بني فهر [1]
والقصيدة طويلة. وقال فيه أيضًا:
وكم أطلقت كفاك من قيد بائس ... ومن عقدة ما كان يرجى انحلالها [2]
المدائني عن عوانة قال: خرج سليمان بن عبد الملك يستسقي فسمع أعرابيا يقول:
يا ربنا رب العباد مالكا ... قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا الغيث لا أبا لكا
فقال سليمان: صدق والله فما لله أب ولا صاحبة ولا ولد.
المدائني عن أبي اليمان القرشي قال: خطب سليمان بن عبد الملك فقال: «اتخذوا كتاب الله إماما، وارضوا به حكما، واجعلوه لكم قائدا، فإنه ناسخ لما قبله، ولن ينسخه كتاب بعده» . فما سمعت خطبة أوجز منها.
حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بْن عدي عَنِ ابن عياش قال: قال سليمان بن عبد الملك يوما: يا غلام ادع صالحا، فقال بعض الحرس:
__________
[1] ديوان الفرزدق ج 1 ص 262- 265.
[2] ديوان الفرزدق ج 2 ص 76.(8/104)
يا صالحا. فقال سليمان: أنقض من صالحك ألف، فقال عمر بن عبد العزيز: وأنت يا أمير المؤمنين فزد في ألفك ألفا.
المدائني عن الفضل بن تميم قال: دخل رجل على سليمان فتكلم فأراد أن يسبر عقله فإذا هو مضعوف، فقال سليمان: زيادة منطق على عقله خدعة، وزيادة عقل على منطق هجنة، وأحسن من ذلك ما زان بعضه بعضا.
وَحَدَّثَنِي حفص بْن عمر عَن الْهَيْثَم عَن ابن عياش قال: تقدم أبو السمال إلى سليمان بن عبد الملك فقال: إن أبينا هلك، فوثب أخانا على مالنا فأخذه، فانظر في أمرنا. فقال سليمان: لا رحم الله أباك ولا عافى أخاك، ولا رد عليك مالك. نحوه عني.
وقال المدائني: دخل أبو السربال الكلبي على سليمان قبل الخلافة، وهو يتغدى، فدعاه للغداء فقال سليمان: ادن يا أبا السربال. فقال:
لا والله أو أعرف من أكلائي، قال: هذا. قال: ومن هذا؟ قال:
روح بن زنباع. قال رجل: والله ما اعتركت الأضياف على باب أبيه قط.
قال: فمن هذا؟ قال: فلان. قال: إنه لصغير القمة، ونظر إلى رجل من قريش أحمر أقشر، فقال أبو السربال: أما هذا فلا أسال عنه، هذا قيصر. فضحك سليمان.
وجلس أبو السربال يأكل، وجاؤوا بفالوذجة، فجعل سليمان يأكل بأصابعه كلها فقال: يا أبا السربال دونك فإن هذا يزيد في الدماغ، فقال:
أصلح الله الأمير، لو كان هذا كما قلت لكان رأسك مثل رأس البغل.(8/105)
حدثني العمري عن الهيثم عن ابن عياش قال: تقدم رجل إلى سليمان وهو بدابق فقال: يا أمير المؤمنين، هلك أبينا، وظلمنا أخينا، فانظر في أمرنا، نظر الله إليك، فقال سليمان: نحوه لعنه الله. فنحي.
حدثني هشام بن عمار عن الوليد عن أشياخ لهم أن سليمان قال:
الحسود لا يسود.
المدائني عن عامر بن حفص ومسلمة: أن سليمان بن عبد الملك قال ليزيد بن أبي مسلم: لعن الله رجلًا ولاك فأجرى رسنك [1] واختارك لأمر من أمور المسلمين، فقال: يا أمير المؤمنين! إنك رأيتني والأمر عني مدبر ولو رأيتني وهو علي مقبل عظم عندك ما استصغرت، وحسن ما استقبحت من أمري. فقال: ما تقول في الحجاج؟. فقال: يأتي يوم القيامة بين أبيك وأخيك فضعه حيث شئت.
حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن هشام الكلبي عن أَبِيهِ عن الجريري قَالَ: شكا سَعِيد بْن خَالِد بْن عَمْرو بن عثمان موسى شهوات إِلَى سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك، وأمه آمنة بنت سَعِيد بْن العاص بْن سَعِيد بن أبي أحيحة، وقال: هجاني، فقال لا أم لك بم هجوته؟ قال: يا أمير المؤمنين إنما فضلت عليه سَعِيد بْن خَالِد بْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد، وذلك أني عشقت جارية بدمشق فسألته أن يبتاعها لي بمائتي دينار فقال لي: بورك فيك، فقال سليمان: ليس هذا موضع بورك فيك. قال: وأتيت سعيد بن خالد بن عبد الله فدعا بمطرف
__________
[1] الرسن: الحبل، وما كان من زمام على أنف. القاموس.(8/106)
خز وأمر جاريته فصرت في كل زاوية منه مائتي دينار فمدحته. فقال: قل ما شئت بعد هذا واستنشده ما قال فأنشده:
عقيل الندى ما عاش يرضى بِهِ الندى ... فَإِن مات لم يرض الندى بعقيد
سعيد الندى أعني سَعِيد بْن خَالِد ... أَخَا العرف لا أعني ابْن بنت سَعِيد
ولكنني أعني ابْن عَائِشَة الَّذِي ... كلا أبويه خَالِد بْن أسيد
عائشة بنت عبد الله بن خلف أخت طلحة الطلحات، فقال سعيد بن خالد:
إذا كان الأمير عليك خصما ... فلا تكثر فقد غلب الأمير
وأنشد:
ونستعدي الأمير إذا ظلمنا ... فمن يعدى إذا ظلم الأمير
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعَجْلِيُّ عَنْ ابن كناسة قال: بعث يزيد بن المهلب سريعا مولى عمرو بن حريث إلى سليمان. قال سريع: فعلمت أنه سيسألني عن المطر، ولم أكن ارتق بين كلمتين، فأعطيت أعرابيا درهما وقلت: كيف أقول إن سئلت عن المطر؟ فقال: قل جاء مطر غزير درير، فعمد الثرى واخضر العمير، واستأصل العرق، ولم أر واديا إلا داريا.
فلما دخلت على سليمان سألني عن المطر فقلت هذا الكلام. فقال:
هذا كلام لست بأبي عذره فأصدقني. فحدثته فضحك، وضرب برجليه، وقال: لقد أصبت ابن بجدتها.
المدائني عن مسلمة قال: زحل أيوب بن سليمان وهو عند أبيه فقال له: مالك يا بني؟ قال: خدرت رجلي. فقال سليمان: يا بني، اذكر أحب الناس إليك، فقال: صلى الله على محمد. فقال سليمان: ابني سيد، وإني عنه لفي غفلة، وولاه عهده.(8/107)
المدائني قال: كان محمد بن يزيد الأنصاري مع سليمان فوجهه إلى العراق حين ولي، فأطلق أهل السجون، وقسم الأموال، وضيق على يزيد بن أبي مسلم، وحمله إلى سليمان فظفر به يزيد بإفريقية عند المغرب في شهر رمضان، فجعل محمد يقول: اللهم احفظ لي إطلاقي الأسرى وإعطائي الفقراء، فقال له يزيد: أمحمد طال والله ما سألت الله أن يمكنني منك بلا عهد ولا عقد، قال: وأنا والله قد سألته أن يجيرني منك، قال يزيد: فو الله ما أجارك ولا أعاذك ولا أجابك. والله لا أريم مكاني حتى أقتلك.
وأقيمت الصلاة فبادر إليها، وكان أهل إفريقية قد أجمعوا على قتله، فضربه رجل منهم بعمود على رأسه فقتله، وقال لمحمد: اذهب حيث شئت.
قالوا: وكان سليمان نهما بخيلًا على الطعام فمد رجل يده إلى دجاجة كانت بين يديه، فقال له: كل مما بين يديك. فقال: أو ههنا حمى؟! فرمى إليه بالدجاجة وقال: كلها لا بارك الله لك فيها.
المدائني قال: قال سليمان ليزيد بن المهلب: أكره منك ثلاثا، خفك أبيض مثل ثوبك، وطيبك يرى وطيب الرجل يوارى، وأنك تكثر مس لحيتك. فغير الخف والطيب، ولم يدع مس لحيته.
وكان يزيد يقول: ما رأيت عاقلًا قط إلا ومعوله إذا فكر على لحيته.
المدائني قال: ضم سليمان بن عبد الملك عون بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ إلى ابنه أيوب، فأتاه فحجبه، فجلس في بيته فتعتب أيوب عليه(8/108)
فعاتبه عون فغضب فشكاه إلى أبيه فلامه فقال: ضممتني إلى رجل إن أتيته حجب، وإن جلست عنه عتب، وإن عاتبته غضب.
حدثني أبو مسعود القتات عن ابن الكلبي أن قوما وفدوا إلى سليمان فقال متكلمهم: إنا والله ما أتيناك رغبة ولا رهبة، أما الرغبة فدخلت علينا منازلنا، وأما الرهبة فآمنناها فضلك وعدلك، ولقد حببت إلينا الحياة، وهونت علينا الموت، لأنا نثق بإحسانك لأنفسنا، ونرجوك لمن تخلف بعدنا من أعقابنا، فأحسن صلتهم والنظر لهم.
قالوا: وكان سليمان أكولا يؤتي في كل يوم من صلاة الغداة بعشر رقاقات وخروفين عظميين، ودجاجتين سمينتين، فيأكل ذلك كله بخل فيه الجذان ومرى [1] .
وقال الواقدي: غزا سليمان الصائفة مسلمة بن عبد الملك وعلى الصائقة أيوب ابنه فلما جاوزوا الدرب مات، ومات سليمان، وقد نفذ مسلمة، فأقفله عمر بن عبد العزيز.
المدائني قال: حج سليمان فقال لقيمه على طعامه: أطعمني من خرفان المدينة، أو قال من جداء المدينة، ودخل الحمام ثم خرج وقد شوي له أربعة وثمانون خروفا أو جديا، فجعل القيم يأتيه بواحد واحد فيتناول
__________
[1] كذا بالأصول، ولعله أراد الجذاذ ومره، والجذاذ: السويق الجذيذ، والجذيذة: جشيشة تعمل من السويق الغليظ لأنها تجذ، أي تقطع قطعا وتجش، والمرة: بقلة تنفرش على الأرض لها ورق مثل ورق الهندبا أو أعرض، ولها نورة صفراء، وأرومة بيضاء، وتقلع فتغسل ثم تؤكل بالخل والخبز، وفيها عليقمة يسيرة، ولكنها مصحة. اللسان.(8/109)
جرمازجة [1] ويضرب بها شحم كليته، فأكل أربعة وثمانين جرمازجة بشحم أربعة وثمانين كلية، ثم قال: ادع يا غلام عمر بن عبد العزيز، وأذن الناس.
ووضع الغداء فأكل معهم كما أكلوا.
وقال المدائني: حج سليمان وأتى الطائف فلقيه ابن أبي زهير الثقفي رجل من أهلها فسأله أن ينزل عليه فقال: إني أخاف أن أبهظك. فقال:
قد رزق الله خيرا كثيرا، فنزل عليه فجعل يأتيه من حائطه، وهو فيه، بخمس رمانات خمس رمانات حتى أكل مائة وسبعين رمانة.
ثم أتى بخروف، وست دجاجات فأكل ذلك، ثم أتي بمكوك زبيب فأكله، ثم وضع الطعام فأكل وأكل الناس. وفتح ابن أبي زهير أبواب الحيطان فأكل الناس من الفاكهة، فقال سليمان: قد أضررنا بالرجل.
وأقام بالطائف سبعا ثم صار إلى مكة وقال لابن أبي زهير: الحقني.
فلم يفعل فقيل له: لو لحقته، قال: أقول ماذا؟ أعطني ثمن طعامي؟! وقال المدائني: خرج سليمان من منزله يريد منزل يزيد بن المهلب فقال يزيد: الغداء يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم. فأكل أربعين دجاجة جردناج سوى ما أكل سوى ذلك من الطعام.
وقال المدائني: أكل سليمان اثنين وثمانين ناهضا [2] ، وفخّارة فيها هريسة.
__________
[1] المرجح أن الجرزمانة من الطيور المذبوحة والمسموطة. انظر الأغاني ج 14 ص 113، وانتبه للتصحيف وكما سيأتي في خبر غداء يزيد بن المهلب.
[2] الناهض: فرخ الطائر الذي وفر جناحه وتهيأ للطيران. القاموس.(8/110)
قال: وأتاه وهو بدابق رجل من النصارى كان منقطعا إليه من قبل الولاية فقال له: هل أهديت لي شيئا؟. قال: نعم أهديت تينا وبيضا، فأتاه بزبيل مملوء بيضا مطبوخا، وبزبيل مملوء تينا فجعل يقشر البيض ويأكل بيضة بتينة حتى أتى على الزبيلين، ثم أتوه بقصعة مملوءة مخا مخلوطا بسكر فأكل ذلك فأتخم ومرض فمات.
المدائني قال: كان حنظلة بن عقال أكولا فأكل عند سليمان وهو يرتجز:
أعددت للفم عظيم الفلق ... تكاد أطراف الرغيف تلتقي
حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بن عدي عَنِ الضحاك بن زمل أن سليمان أتي بطبق عليه ثلاثمائة عيون البقر [1] ، وهو الساهلوج، فأكل جميع ما في الطبق، ثم دعا بالغداء فأمعن كأنه لم يأكل شيئا.
وقال الضحاك بن زمل: قال سليمان حين نزل من عقبة أفيق: هل عندكم شيء؟ فأتي بست دجاجات وفرخين وعشرة أرغفة، في كل رغيف رطل فأكل وهو على بعير، إذا رجل يصيح: يا أمير المؤمنين إن عاملك على كذا ظلمني، وهو يقول: كذبت لا أم لك ويأكل، فلما فرغ فهم عنه، فأمر فكتب بإنصافه.
قال: وقال الضحاك: قال سليمان وذكر عنده تشقيق الخطب والإسهاب في الكلام: من أكثر القول فأحسن، قدر على أن يقل فيحسن، وليس من قصر فأحسن بقادر على أن يطيل فيحسن.
__________
[1] عيون البقر: ضرب من العنب أسود كبير غير صادق الحلاوة، وعيون البقر بفلسطين يطلق على نوع من الاجاص، وهو المرجح هنا. معجم أسماء النباتات الواردة في تاج العروس.(8/111)
وحدثني العمري عَنِ الهيثم بْن عدي عَنِ مولى لسليمان قال: كان سليمان يأكل بخمس أصابع، ويجعل له منديل على صدره ومنديل على فخذيه، وكان لا يرفع رأسه إذا أكل حتى يشرب عسا ضخما فيه عسل، تعتري [1] ربما استعان عليه بركبتيه أحيانا، فإذا شربه تكلم.
فقام إليه رجل وهو يأكل فقال: يا أمير المؤمنين إني زوجت ابني وليس عندي ما أجمع به أهله إليه فأسلفني عطائي من بيت المال، فقال: ما يزال عاض لبظر أمه يقوم إلينا فيفسد علينا طعامنا، فتنحى الشيخ وجلس، فلما فرغ من طعامه قال: قلت ماذا لله أبوك؟. فرد عليه مسألته فقال: وكم عطاؤك لله أبوك؟. قال: مائتا دينار. قال: يا قسامة أعطه مائتي دينار ومائتي دينار ومائتي دينار. وطول نفسه حتى انقطع فنظر فإذا جميع ذلك قيمة اثنين وسبعين ألف درهم.
ثم قال: أبا زجي رضيت؟ قال: نعم فرضي الله عنك يا أمير المؤمنين. قال: يا قسامة فأضعفها له، فأخذ مائة وأربعة وأربعين ألف درهم.
حدثني الحرمازي وأبو مسعود الكوفي قال: قال سليمان بْن عَبْدِ الملك لسالم بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن الْخَطَّاب: يا أبا عمر اذكر لي حوائجك، فقال: إني لا أسأل في بيت الله غيره.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَن الواقدي قَالَ: انصرف سليمان من صلاة الجمعة فأكل شحم كلى أربعين جديا وصحفة مملوءة مخا وغير ذلك، ثم
__________
[1] لعله أراد أن العس له عروة أي مقبض.(8/112)
جامع وقام عن الجارية موعوكا فمات بدابق، وكان جميل الوجه، حسن الخلق، يقول: أنا الملك الشاب.
قال الحزين:
فيا قوم ما بالي وبال ابن نوفل ... وبال بكائي نوفل بن مساحق
ولكنها كانت سوابق عبرة ... على نوفل من كاذب غير صادق
فهلا على قبر الوليد سفحتها ... وقبر سليمان الذي عند دابق
وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده وعوانه قالا: لما مات الحجاج، وكان قد استخلف على حرب العراق يزيد بن أبي كبشة، وعلى خراجها يزيد بن أبي مسلم مولاه فأقرهما الوليد حتى مات، وأقر عمال الحجاج، وكان الوليد يقول: الحجاج جلدة ما بين عيني، لا بل جلدة وجهي كله.
وكان موت الوليد للنصف من جمادي الآخرة سنة ست وتسعين، فلما ولي سليمان بن عبد الملك، وهو بالرملة، ولى يزيد بن أبي كبشة صلاة العراق وحربها، وصالح بن عبد الرحمن السجستاني مولى بني مرة بن عبيد خراج العراق، وولى سليمان بعد أربعين يوما من خلافته يزيد بن المهلب حرب العراق وخراجه فاستعفاه من الخراج، فأراد تولية يزيد بن أبي مسلم الخراج، وقد كان ابن المهلب وصفه له بالعفاف، فقال عمر بن عبد العزيز: أتولي ابن أبي مسلم؟ فقال: نعم إنه عفيف عن الدرهم، فقال عمر: إن الشيطان أيضا عفيف عن الدرهم لم يأخذ درهما قط.
فاستشار يزيد بن المهلب فيمن يوليه خراج العراق فأشار عليه بصالح بن(8/113)
عبد الرحمن، وكان صالح كاتبا للحجاج بعد زاذانفروخ بن بيزي كاتبه المجوسي.
وشخص يزيد بن المهلب إلى العراق وخراسان مضمومة إليه، فلما قدم واسطا وجد الجراح بن عبد الله الحكمي على البصرة من قبل ابن أبي كبشة، فكتب إليه في القدوم عليه، وولى البصرة رجلًا من أصحابه، وكتب سليمان إلى يزيد بن المهلب في الشخوص إلى خراسان لإصلاحها، وتسكين الناس بها بعد أن كان من أمر قتيبة ما كان، فاستخلف يزيد بواسط: الجراح بن عبد الله.
المدائني: أن يزيد بن المهلب كان عامل سليمان على العراق، فولى البصرة سفيان بن عمير الكندي فجاءته امرأة بزوجها تطالبه بصداقها فقال:
ما لها عندي شيء، قال: فأين صداقها؟ قال: أكله الذئب. قال: فأنت والله ذلك الذئب، أعطها صداقها.
المدائني أن سليمان بن عبد الملك قال لعمر بن عبد العزيز: يا أبا حفص أيكون المؤمن في حال يعتدل فيها سرورة ومكروهه؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا يستوي عند أحد السراء والضراء ولكن معول المؤمن الصبر.
المدائني قال: قال سليمان بن عبد الملك لمحمد بن مالك الهمداني:
قد رأيت ولد المهلب فكلهم جزل، فأخبرني عن المهلب، فقال: كان لا يستنهض عن عجز ولا يكفكف عن جهل، ولم أر بالعراق مثله.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ عوانة قَالَ: قال سليمان بن عبد الملك:
لله كلمة ما قالها إلا حكيم وهي: لا ينفعك رأي من لم ينفعك ظنه.
حدثني أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَر المنصور: أما الوليد(8/114)
فكان مجنونا، وأما سليمان فكان نهما همه بطنه وفرجه، ورجل القوم هشام.
المدائني عن خالد بن يزيد قال: جزع سليمان بن عبد الملك على ابنه أيوب فقال رجل: يا أمير المؤمنين إن من حدث نفسه بطول البقاء لعازب الرأي، فكأن ذلك عرف في سليمان.
المدائني قال: وقع بين سليمان بن عبد الملك وبين أخيه مروان بن عبد الملك في حياة عبد الملك شر، فقال سليمان لمروان: يا بن اللخناء. ففتح فمه ليجيبه وإلى جانبه عمر بن عبد العزيز فأمسك على فمه وقال: أخوك يا أبا عبد الملك، وله السن عليك، فقال: يا أبا حفص رددت في جوفي أحر من الجمر ومال لجنبه فمات، وكان أخا يزيد بن عبد الملك لأمه عاتكة بنت يزيد، وفيه يقول جرير:
أبا خالد فارقت مروان عن رضى ... وكان يزين الأرض أن ينزلا معا
فسيروا فلا مروان للحي إذ شتوا ... ولا الركب إن أمسوا مخيفين جوعا [1]
ونظر إليه عبد الملك وهو يكفن فقال: الحمد لله الذي رضانا بموت أبنائنا ودفنهم.
وكتب إلى عبد الملك بعض ولد الحكم يعزيه بمروان فكتب إليه عبد الملك.
كتبت تسأل عن صبري لتعلمه ... على الرزية بالمأمول مروان
فقد صبرت بعون الله محتسبا ... لموعد الله من فوز ورضوان
__________
[1] ليسا في ديوان جرير المطبوع.(8/115)
المدائني قال: الثبت أن أيوب بن سليمان توفي بالشام ولم يكن غازيا، وإنما كان الغازي مسلمة بن عبد الملك، وكان سليمان أراد أن يغزيه على الجيش فمرض. قال: فلما احتضر أيوب دخل عليه وهو يجود بنفسه، ومعه عمر بن عبد العزيز، ورجاء بن حيوة، فجعل ينظر في وجهه فتخنقه العبرة فيردها، ثم نظر إلى عمر فقال: إنه والله ما يملك أحد أن يستبق إلى قلبه الوجد عند المصيبة والناس في ذلك أصناف: فمنهم من يغلب صبره جزعه، فذلك الجلد الحازم المحتسب، ومنهم من يغلب جزعه صبره، فذلك المغلوب الضعيف، وإني أجد في قلبي لوعة إن أنا لم أبردها بعبرة خفت تتصدع كبدي كمدا وأسفا.
فأما عمر فنهاه عن البكاء وأمره بالصبر، وأما رجاء فقال: افعل ولا تفرط فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما هلك إبراهيم ابنه قال: « [تدمع العين ويفجع الْقَلْبُ، وَلا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، وَإِنَّا عليك يا إبراهيم لمحزونون» .] فلما دفن أيوب وقف سليمان على قبره وقال:
وقفت على قبر مقيم بقفرة ... متاع قليل من حبيب مفارق
ثم قال: عليك السلام يا أيوب. كنت لنا أنسا ففارقتنا، فالعيش من بعدك مر المذاق. ثم ركب دابته وقال:
فإن صبرت فلم ألفظك من جزع ... وإن جزعت فعلق منفس ذهبا
فقال عمر: الصبر يا أمير المؤمنين فإنه أقرب الوسائل إلى الله.
قال: وعزى رجل سليمان عن أيوب فقال له: إن رأيت يا أمير المؤمنين أن تجعل آخر أمرك أوله فافعل. فقال سليمان: لقد أوجزت في التعزية وسكنت من اللوعة، عند الله أحتسب أيوب.(8/116)
حدثني الحرمازي الحسن بن علي عن العتبي قال: دخل سليمان بن عبد الملك على طاووس يعوده فلم يعظمه ولم يجبه بما يجاب به الخلفاء، فعوتب طاووس على ذلك فقال: أحببت أن يعلم ان في الناس من يستصغر ما يستعظمه المغرون مما هو فيه.
قالوا: بينا سليمان يمشي في بستان ومعه جماعة يمشون حوله من أهل بيته وغيرهم، ومعهم يزيد بن المهلب فنظر فقال: يا يزيد ارتدف فأنا أكرم ردافة من النعمان. قال: يا أمير المؤمنين بل أمشي. فقيل ليزيد: ما منعك من الإرداف خلف أمير المؤمنين فتسيران والناس جميعا يمشون؟ فقال:
ما غبيت عن ذلك ولكني خشيت أن أثب فأقصر عن الركوب، وكرهت أن أدعو من يرفعني، وأن تنال أمير المؤمنين يدي.
قالوا: وكان عمير الهجري رواية لخطب الحجاج، فقدم فلسطين ويزيد بها عند سليمان وذلك بعد موت الحجاج، فجلس إليه عمير فذكر شيئا منها فأمر به يزيد فأقيم ثم قال: احبسوه، ثم قال: خلوه. فقيل لعمير:
ماذا دعاك إلى ما قلت؟ ألم تعلم ما بين يزيد والحجاج؟ قال: لم أعلم أن ههنا أميرين.
وحج سليمان فقدم الطائف فارتفعت سحابة فرعدت وبرقت وهو مشرف على عقبة، ثم أمطرت وانجلت فقال سليمان لعمر: يا أبا حفص كاد قلبي ينصدع. فقال: يا أمير المؤمنين كان ما رأيت من قدرة الله مع رحمته، لو كانت مع عذاب؟!(8/117)
الخوارج في أيام سليمان بن عبد الملك
أمر داود بن عقبة العبدي:
قال أبو الحسن المدائني: كان داود بن عقبة العبدي من عباد الخوارج والمجتهدين، فطلب بالبصرة، وكان كبيرا فتوارى عند رجل من بني تميم على رأيه، فأمر امرأته أن تتعهده، وخرج لبعض شأنه فغاب أربعين ليلة، وكان داود مخفض الطرف لا ينظر إلى شيء، فقدم التميمي بعد أربعين ليلة فقال لداود: كيف رأيت خدمة الزرقاء؟ فقال داود: والله ما أدري أزرقاء هي أم كحلاء. ثم خرج داود بالبصرة في سنة تسعين ومروان بن المهلب على البصرة خليفة يزيد، فوجه إليه خيلا فقتل وأصحابه بموقوع.
وداود الذي يقول:
إلى الله أشكو فقد فتيان غارة ... شهدتهم يوم النخيلة والنهر
شهدتهم أسدا إذا الحرب شمرت ... مساميح منهم بالمهندة البتر
أولئك إخواني منيت بفقدهم ... فلهفي عليهم أن يروا آخر الدهر
مضوا سلفا قبلي وأخرت بعدهم ... وحيدا لأقوام تنابلة خزر
ويقال إن الذي قتله وأصحابه: زاذويه الأسواري.(8/119)
وقال أبو عبيدة: وجه إليهم وهم بموقوع: دبيق الأزدي، ثم أتبعه زاذويه الأسواري في أساورة فرماهم بالبنجكان [1] ، وقال للأزدي بالفارسية: أظننت أن القتال أكل الزبد؟
قال: وخرج أيام سليمان خمسة من الخوارج بعسفان التي بناحية البصرة، فوجه إليهم خمسمائة من الشرط فهزمهم الخوارج، فوجه إليهم مروان بن المهلب زاذويه، ويقال ازذويه الأسواري. فلما رآهم خمسة قال لأصحابه: قفوا، وقال لغلامه: ناولني خمس نشابات، ودنا منهم فحملوا عليه فاستطرد لهم ثم عطف فرمى رجلًا فصرعه، ثم استطرد، ورمى آخر فصرعه فلم يزل يصنع مثل ذلك حتى قتلهم جميعا، وأمر فاحتزت رؤوسهم.
وخرج خوارج فوجه إليهم مسلم بن الشمردل الباهلي في خيل، فلما التقوا كسروا جفون سيوفهم ونثروا دقيقا كان معهم فقال الباهلي، قد نثرتم الدقيق خار الله لكم. وترك قتالهم وانصرف. فوجه إليهم غيره فقتلهم.
المدائني قال: دخل سليمان المدينة، فرأي عبد الله بن عوف بن أبي عوف من آل أبي وداعة السهمي، فتوهم أنه من قريش فأشار إليه فتقدم، فقال: ممن أنت؟ فأخبره، فجعل يسأله عن دار دار حتى صار إلى دار ابن بديل بن ورقاء الخزاعي فقال: لمن هذه الدار؟ قال: لابن بديل. قال:
ما أعرفك بدور قتلة عثمان، ثم مضى وتركه، فبعث إليه بعد ثالثة فقال:
__________
[1] البجنكان في الفارسية المعاصرة: بندقية ذات خمس طلقات. ومن هذا يتضح أن البجنكان أداة رمي للبندق أو لسواه.(8/120)
يا بن أبي عوف، أبطأ عليك رسولنا حتى ساء ظنك. فقال: القلوب إلى حسن الظن بك أميل منها إلى سوء الظن فيك. وإذا رزمة وخريطة فيها خمسمائة دينار ووصيف عليه ثياب بياض. فقال للوصيف: احمل هذه الخريطة والرزمة وانطلق مع سيدك فأنت له وما حملت.(8/121)
بسم الله الرحمن الرحيم
أمر عبد العزيز بن مروان بن الحكم وولده
ومن ولد مروان بن الحكم: عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان ويكني أبا الأصبغ وأمه ليلى بنت زبان بن الأصبغ بن عمرو بن ثعلبة بن الحارث بن حصن بن ضمضم بن عدي بن جناب الكلبي، ولاه مروان أبوه العهد بعد عبد الملك.
وكان عبد الملك قد هم بخلعه وتولية الوليد ابنه العهد، فقال له قبيصة بن ذؤيب الخزاعي: لا تفعل فلعل الله سيكفيكه. فلم يلبث إلا يسيرا حتى أتاه خبر موت عبد العزيز، فقال له قبيصة: سلمت من الغدر والنكث وبلغت إرادتك وفي الصبر خير كثير. فولى حينئذ عهده الوليد وسليمان. وكان قبيصة الخزاعي على خاتم عبد الملك وبريده وكان أنسا به قابلًا لقوله.
وكان عبد العزيز جوادا كريما، وفيه يَقُول أيمن بْن خريم بْن فاتك الأسدي حين ولاه أخوه عبد الملك مصر:
بشر أهل مصر فَقَدْ أتاهم ... مَعَ النيل الَّذِي فِي مصر نيل
فتى لا يرزأ الخلان إلا ... مودتهم ويرزؤه الخليل(8/123)
وقال فيه كثير:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا سبقت منه الألية برت [1]
وقال ابن قَيْس الرقيات:
أعني ابْن ليلى عَبْد الْعَزِيز ... بباب اليون تأتي جفانه رذما
الواهب البخت والوصائف كالغزلان ... والخيل تألك اللجما [2]
وقال عبد العزيز: أنا أخبركم عن نفسي بغير تزكية لها. ما رجل رغب إلى فوضعت معروفي عنده إلا رأيت أنّ يده عندي مثل يدي عنده.
وما رجل استجار بي من خوف فلم ابذل دمي دون دمه إلا رأيتني مقصرا بحبسي ولو لم يدخل على البخلاء من بخلهم إلا سوء ظنهم بربهم في الخلف لكان ذلك عظيما.
وقال رجل من خثعم يهجوه:
أرى عَبْد الْعَزِيز يصد عني ... بأنف مثل فيشلة [3] الحمار
فَمَا عَبْد الْعَزِيز لنا برب ... ولا دار الهوان لنا بدار
وَقَالَ كثير يرثيه:
أبعد ابْن ليلى يأمل الخلد واحد ... من الناس أم يرجو الثراء مثمر
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن أبي جهم بن حذيفة العدوي:
__________
[1] الألايا: جمع ألوة وهي اليمين وما يقسم به، والألية: القسم. ديوان كثير ص 59.
[2] ديوان ابن قيس الرقيات ص 152، وبابليون حاضرة مصر قبل الفتح، وقام في موقعها مدينة الفسطاط.
[3] الفيشلة: الحشفة. القاموس.(8/124)
أبعدك يا عَبْد الْعَزِيز لحاجة ... وبعد أَبِي الزبان يستعتب الدهر
فلا صلحت مصر لحي سواكما ... ولا سقيت بالنيل بعدكما مصر
ولا زال مجرى النيل بعدك يابسا ... يموت بِهِ العصفور واستبطئ القطر
أبو زبان: الأصبغ بن عبد العزيز.
فمن ولد عبد العزيز بن مروان:
عمر بن عبد العزيز [1] :
ويكنى أبا حفص، وأمه أم عَاصِم [2] بْنت عَاصِم بْن عُمَر بْن الخطاب، خطبها عبد العزيز من أبويها وحملت إليه، فولدت لَهُ: أَبَا بَكْرٍ، وعمر ابني عَبْد العزيز. وتوفيت عنده، فتزوج حفصة بنت عاصم وكانت عند إبراهيم بن نعيم بن عبد الله النحام من بني عدي بن كعب بن لؤي، فقتل عنها يوم الحرة، وحملت أيضا إلى عبد العزيز.
وكانت أم عاصم حين حملت مرت بأيلة فأهدى إليها مجنون هناك يقال له شرشير هدية فأثابته وكسته.
ومرت حفصة فأهدى لها فأغفلته فقال: ليس حفصة من رجال أم عاصم. وحكى بعض البصريين أن حفصة لم تحظ عنده كحظوة أم عاصم فقال: ليست حفصة من رجال أم عاصم، والأول أثبت.
__________
[1] بهامش الأصل: خلافة عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيزِ رضي اللَّه عنه.
[2] بهامش الأصل: قال ابن الأثير في كتابه جامع الأصول: اسم أم عاصم: ليلى.(8/125)
وقال الكلبي: كان ولد عبد العزيز: عمر، وأبا بكر، وعاصما، ومحمدا أمهم أم عاصم بنت عاصم بن عمر. والأصبغ وهو أبو زبان لأم ولد.
وسهلًا وسهيلًا وأم الحكم أمهم أم عَبْد اللَّهِ بنت عَبْد اللَّهِ بْن عمرو بن العاص السهمي.
وزبان وأم البنين أمهما ليلى بنت سهل بن حنظلة بن الطفيل الجعفري.
وقالوا: ولى سليمان بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز الخلافة، وكتب كتابا سماه فيه، ويزيد بن عبد الملك إن كان بعده. فلما مات سليمان بن عبد الملك أخرج رجاء بن حيوة الكتاب وأظهر اسمه وبايعه الناس، فقال لرجاء: ذبحتموني بغير سكين.
وكان عمر بن عبد العزيز أشج، ضربه حمار وهو بمصر، فلما رآه أخوه الأصبغ قال: هذا والله أشج بني أمية، يملأ الأرض عدلًا.
وكانت خلافته ثلاثين شهرا، ووفاته وهو ابن تسع وثلاثين سنة.
وتوفي في سنة إحدى ومائة، ودفن بدير سمعان [1] ، وكان نزوله بخناصرة من عمل جند قنسرين، وصلى عليه رجاء بن حيوة. ويقال مسلمة بن عبد الملك.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ الْعَجْلِيُّ، ثنا إسماعيل بن أبان عن أبي الأحوص عن ضرار بن مرة الشيباني قال: لما ولي عمر بن عبد
__________
[1] على مقربة من معرة النعمان، أعيد ترميمه حديثا.(8/126)
العزيز صَعَدَ الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «أيها الناس من صحبنا فليصحبنا بخمس: يبلغنا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ويدلنا من العدل على ما لم نهتد له، ويؤدي الأمانة إذا حملها، ويعيننا على الخير، ويدع ما لا يعنيه. فمن كان كذلك فحي هلابه، ومن لم يكن كذلك فلا يقربنا» .
قال أبو سنان: فحجبوا والله دونه، قال: وهذا أول كلام تكلم به حين استخلف.
حدثني هشام بن عمار عن أشياخه قالوا: لما ترعرع عمر بن عبد العزيز استأذن أباه في إتيان المدينة وقال: أحب أن أكتب العلم، وأحضر قبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقرب على الحج، فأذن له في ذلك، فأتى المدينة.
حدثني عبد الله بن صالح عن عبثر أبي زبيد قال: أراد عمر بن عبد العزيز توليه ابن شهاب الزهري الصدقة، فبلغه عنه ما كان منه حين ولي السعاية على الصدقة من قبل رجل كان ضربه، فكره توليته. وولى الكوفة عَبْد الحميد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن زَيْد بن الخطاب.
وقال الواقدي: أذن له أبوه في إتيان المدينة وقال له: اجتنب آل عبد الرحمن بن عوف، وآل سعيد بن العاص فإن ثم شرارة وشراسة وسوء أخلاق، فكان يجالس أهل العفة والورع.
المدائني عن أبي اليقظان قال: أوصى عبد العزيز لعمر بأربعين ألف دينار، ودفعها إلى رجل من أهل المدينة يقال له ابن رمانة، وكان مولى لبعضهم، فلما توفي عبد العزيز أتاه بالمال فقبضه ثم ذهب ابن رمانة فحدث بذلك أبا بكر بن عبد العزيز، فغضب وكتب إلى عمر: إنك أخذت هذا المال دوننا.(8/127)
ثم شخص عمر من المدينة فقدم الشام، فلما استخلف الوليد بن عبد الملك- وهو صهره، كانت أم البنين بنت عبد العزيز عنده، فولدت له عبد العزيز بن الوليد، ومروان بن الوليد، وعنبسة، ومحمدا- ولاه الوليد المدينة فأحسن السيرة، إلا أنه كان لباسا عطرا، وإنما تقشف بعد ذلك، فكان يعمل له ثوب الخز بمائة دينار فيستخشنه، ثم إنه كان يؤتي بالثوب الخشن بأقل من دينار أو بدينار فيقول: ما أصنع بهذا ائتوني بأخشن منه وأقل ثمنا.
وكان ابن رمانة لمغاضبته إياه يرفع على عماله، ويقع فيهم حين عزل عن المدينة، فقال عمر: لو أشاء أن آخذ كتاب الوليد إلى عامل المدينة في ضرب ابن رمانة مائة سوط، وحلق رأسه ولحيته فعلت، ولكني رأيت متقي الله منجى.
وفي ولاية عمر بن عبد العزيز يقول الأحوص بن محمد الأنصاري:
وأرى المدينة إذ وليت أمورها ... أمن البريء بها وخاف المذنب [1]
وقال أيضا:
وأرى المدينة حين كنت أميرها ... أمن البريء بها ونام الأعزل
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم ... مذق اللسان يقول ما لا يفعل [2]
الكلبي عن عوانة قال: أنشد رجل عمر:
أعوذ برب الناس من كل نعمة ... تقر بها عيناي فيها أذاهما
فقال عمر: أعاذك الله ورحمك، ما أحسن ما قلت.
__________
[1] ليس في ديوان الأحوص المنشور.
[2] شعر الأحوص الأنصاري- ط. القاهرة 1990 ص 214.(8/128)
حدثني هشام بْن عمار قَالَ: بلغنا أن عُمَر بن عبد العزيز كان يساير سليمان بن عبد الملك، فرعدت السماء وبرقت، فقال عمر: يا أمير المؤمنين، هذه قدرة الله عند الرحمة، فكيف بها عند العذاب.
المدائني قال: قال عمر بن عبد العزيز لرجل: من سيد قومك؟
قال: أنا. لو كنت كذلك ما قلته.
قال: وقال سليمان بن عبد الملك ليزيد بن المهلب: من أعز أهل البصرة؟. فقال: نحن وحلفاؤنا من ربيعة، فقال عمر بن عبد العزيز:
من تحالفتم عليه أعز.
المدائني وغيره قالوا: كان جل من هرب من الحجاج لجأ إلى عمر بن عبد العزيز، فكتب الحجاج إلى الوليد إن عمر بن عبد العزيز قد صار كهفا لمنافقي أهل العراق، فما أحد يهرب منهم إلا لجأ إليه. فكان ذلك سبب عزل عمر.
وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عن جده قال: كان عون بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ الهذلي من القراء، وكان عمر بن عبد العزيز يكرمه، فدخل عليه يوما، وجرير بن عطية الخطفى بالباب فسأله أن يستأذن على عمر، وكان عون معتما فأذن له فسلم وخرج ولم يقبل عليه عمر، ويقال إنه لم يؤذن له فقال جرير:
يا أيها القارئ المرخي عمامته ... هذا زمانك إني قد مضى زمني
أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه ... إني لدى الباب كالمصفود في قرن [1]
__________
[1] ديوان جرير ص 486.(8/129)
المدائني عن أبي اليقظان قال: جمع عمر بني مروان فقال لهم: يا بني مروان إني أظن نصف جميع مال الأمة عندكم فأدوا بعض ما عندكم إلى بيت مال المسلمين. فقال هشام: لا يكون والله ذاك حتى تذهب أرواحنا.
فغضب عمر وقال: أما والله يا بني مروان إن لله فيكم ذبحا ولولا أن تستعينوا علي بمن أطلب هذا المال له لأضرعت [1] خدودكم.
حدثني هِشَام بْن عمار عَنِ الوليد بْن مسلم، وقال أبو اليقظان أيضًا:
كتب بعض عمال عمر بن عبد العزيز إليه: إن مدينتنا تحتاج إلى مرمة فكتب إليه: «أما بعد فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه فحصن مدينتك بالعدل ونقها من الظلم، والسلام» .
المدائني قال: كتب عمر إِلَى عَبْد الحميد بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن زَيْد بن الخطاب عامله على الكوفة: «اجتنب الحاجات عند حضور الصلوات، والسلام» .
وَحَدَّثَنِي مَنْصُور بْن أَبِي مزاحم عَنْ شُعَيْب بن صفوان: ولى عمر رجلًا من قريش من أخواله القضاء فأتاه خصمان فلم يتجه له الحكم بينهما، فغرم للمدعي ما ادعى، فكتب إليه: «يا خال إنا لم نولك لتغرم» ، وعزله، وولى غيره.
المدائني قال: ولى عمر رجلًا من أخواله عملًا فتحاكم إليه رجلان في دينار فلم يحسن القضاء بينهما، وغرم دينارا أصلح به بينهما، فكتب إليه عمر: «إني لم أولك لتغرم» ، وولى غيره.
__________
[1] ضرع: خضع وذل واستطان. القاموس.(8/130)
حدثني هشام بن عمار. أنبأنا الوليد عن سعيد بن واقد قال: قيل لعمر بن عبد العزيز: أي الجهاد أفضل؟ قال: جهاد المرء هواه.
المدائني عن أبي بكر عن رجل عن رجاء بن حيوة قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز فكاد المصباح يطفأ فقمت لأصلحه فقال: مه، إن جهلًا بالرجل أن يستخدم ضيفه، ثم قام فوجد غلامه نائما فلم يوقظه وتولى إصلاح المصباح ثم عاد فقال: قمت وأنا عمر بن عبد العزيز وقعدت وأنا عمر بن عبد العزيز.
قالوا: وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز زاهدا خيرا فقال له:
يا بني لأن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك. فقال: ولأن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب.
فلما مات عبد الملك خرج عمر إلى الناس وقد اكتحل فسئل عنه فقال: قد سكن علزه [1] ورجاه أهله، وما كان في حال أحب إلي من حاله، ثم علم بموته فقيل له: قد فعلت ما فعلت وقد مات، فقال: أحببت أن أرغم الشيطان.
وانصرف من جنازته فرأى قوما ينتضلون فقال لبعضهم أخطأت فافعل كذا. فقيل له في ذلك فقال: ليس في موت عبد الملك ما يشغل عن نصيحة المسلم.
وقال أبو اليقظان: كتب إلى عمر عامله على عمان وهو عامر بن عبد الله بن أبي طلحة، يعلمه أن من كان قبله كانوا يستعينون بالجند، وأن قد
__________
[1] العلز: قلق وخفة وهلع يصيب المريض، والأسير والحريص والمحتضر. القاموس.(8/131)