وَكَانَ يخرج إِلَى البادية فيطيل المقام بِهَا، ثُمَّ يظهر أحيانا ويستتر أحيانا، فلم يزل عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بويع أَبُو العباس أمير المؤمنين، ومحمد يومئذ في بلاد عطفان عند آل أرطاة بن شبهية (كذا) وجعل ينتقل بالبادية وتسمى المهدي.
وَكَانَ مروان بْن مُحَمَّد بْن مروان يخوف من مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ، فيقول:
لا تهيجوه فليس هُوَ بالذي يخاف ظهوره علينا.(3/79)
93- قَالُوا: ولما بويع أَبُو العباس وظهر أمره استخفى مُحَمَّد، وتمارض أبوه وأظهر أن ابنه محمدا قد مات، فكتب أَبُو العباس إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الحسن بأمره بالقدوم عليه، فقدم (عليه) في رجال من أهله فأكرمهم (ظ) أَبُو العباس وبرهم ووصلهم وَقَالَ لَهُ: يَا أبا مُحَمَّد إني أرضى من ابنك مُحَمَّد(3/80)
بأن يبايع بالمدينة/ 456/ وَلا يشخص إلي. فَقَالَ: والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا أدري أين مستقره. فقال: أما إني لا أطلبه وو الله ليقتلن مُحَمَّد، وليقتلن إبراهيم، فلما خرج من عنده قال لأخيه حسن بن حسن بن حسن: ما يمتنا [1] بإكرام هَذَا الرَّجُل لنا مَعَ كثرة ذكره محمدا وإبراهيم [2] .
وسمعه أبو العباس (يوما) يقول: مَا رأيت ألف ألف درهم قط مجتمعة. فدعا لَهُ بألف ألف درهم فوصله بِهَا، فَقَالَ: إنما أعطانا بعض حقنا [3] وَكَانَ لا يمتنع من إظهار حسده [4] فأطافه ذات يوم في مدينة يريد بنا (ء) ها فجعل ينشد:
ألم تر حوشبا أمسى يبني ... منازل نفعها لبني بقيلة [5]
__________
[1] كلمة «يمتنا» غير مبينة، ويحتمل رسم الخط أن يقرأ: «ما يمننا» أو «ما نتمنى» .
[2] ورواه مع زيادة في الذيل في ترجمة حسن بن حسن من تاريخ بغداد: ج 7 ص 294 وكذا في مقاتل الطالبيين ص 173.
[3] وقريبا منه رواه الصولي في كتاب الأوراق كما في تذكرة الخواص ص 217.
[4] ما كان يظهره عبد الله وبنو أبيه لم يكن من باب الحسد، بل من باب التظلم وإظهار اغتصاب حقهم وحرمانهم عنه، لأن الحسد هو تمني زوال نعمة الغير وإرادة إزالتها عنه، وبنو العباس كإخوانهم بني أمية لم يكونوا مستحقين لنعمة الخلافة وما يتبعها كي تكون إرادة إزالتها عنهم وتمني حرمانهم عنها حسدا، وإنما هي حق لبني طالب للأخبار المتواترة الدالة على استخلاف رسول الله صلى الله عليه وآله علي بن أبي طالب وإيصائه إليه، ولقوله تعالى في الآية: (72) من سورة الأنفال: «والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا» وقوله صلى الله عليه: لا هجرة بعد الفتح!! وهذا غير خفي على البلاذري ولكن المسكين تفوه بالباطل حذرا من أن يجازى بمثل ما جازوا نصر بن علي الجهضمي وغيره!!!
[5] وفي مقاتل الطالبيين ص 175: «بيوتا نفعها لبني نفيلة» . وفي تذكرة الخواص، ص 216 نقلا عن الواقدي: «قصورا نفعها لبني نفيلة» .(3/81)
يؤمل أن يعمر ألف عام ... وأمر اللَّه يطرف كُلّ ليله [1]
فتطير أَبُو العباس من إنشاده وقال: أفّ لك قلّ ما يملك الحسود لسانه. فَقَالَ: أقلني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فإني لم أرد سوءًا. فَقَالَ: لا أقالني اللَّه إذا. وهجره أياما واشتد عَلَيْهِ في طلب ابنيه، فَقَالَ: تغيبا فما أدري أين هما، فَقَالَ: أنت غيبتهما. ثُمَّ أظهر الرجوع لَهُ وبره فدخل عَلَيْهِ ذات يوم وبين يديه مصحف. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اعطنا ما في هذا المصحف نجوما. فَقَالَ: أعطيك مَا أعطاك أبوك حين ولي الأمر.
ثُمَّ إنه استأذنه فِي إتيان الْمَدِينَة، فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، ووصله ومن مَعَهُ وقضى حوائجهم، وأقطع عَبْد اللَّهِ قطائع، وأقطع أخاه الحسن بْن الحسن بْن الحسن عين مروان بذي خشب، ولم يمت عَبْد اللَّهِ حَتَّى بلغت غلته مائة ألف درهم.
وَكَانَ عثمان بن حيان المري من قبل الوليد عَلَى الْمَدِينَة، فأساء بعبد اللَّه والحسن، فلما عزل أتياه فعرضا عَلَيْهِ الحوائج فجزاهما خيرًا وَقَالَ: «اللَّه أعلم حيث يجعل رسالاته» [2] .
وكان الحسن إذا كلم عاملا فِي حاجة فلم يقضها عمل فِي عزله!!! وَقَالَ لبنيه: إياكم ومعاداة الرجال فإنكم لن تعدموا فِيهَا أمرًا من أمرين:
مكر حليم أو مبارات جاهل.
__________
[1] ومثله في مقاتل الطالبيين ص 175، ولكن ذكر ذيل الكلام على وجه آخر، وفي الأغاني: ج 18، ص 206 وزهر الآداب ج 1 ص 122: «يؤمل أن يعمر عمر نوح» .
ومثلهما في تذكرة الخواص غير أن فيه: «وأمر الله يأتي كل ليلة» . وذكرها أيضا في تاريخ الطبري:
ج 9 ص 184، والمعارف ص 93.
[2] كذا في الأصل.(3/82)
وقال عبد الله بن الحسن:
آنس حرائر ما هممن بريبة [1] ... كظباء مَكَّة صيدهن حرام
يحسبن من أنس الحديث زوانيا ... ويصدهن عَن الخنا الإسلام
وولي أَبُو العباس الْمَدِينَة دَاوُد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العَبَّاس عمه، فألفى [2] بِهَا دَاوُد دعاة لمحمد فتغيبوا.
وتوفي دَاوُد بالمدينة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وقام بأمر الْمَدِينَة مُوسَى بْن دَاوُد بْن علي بعد أَبِيهِ، ثُمَّ قدم زياد بْن عبيد اللَّه الحارثي من قبل أَبِي العباس عَلَى الْمَدِينَة، فِي شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وثلاثين ومائة، وداهن (زياد) بأمر المدينة [3] فقدمها مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ من البادية، فدعا زياد الناس للبيعة ودعاه معهم ليبايع (ظ) مَعَ النَّاس. وأراد أن يحضر النَّاس بيعة مُحَمَّد وحده [4] فطلب لذلك فاستخفى فتكلم النَّاس فَقَالَ قائل: بايع. وَقَالَ آخر: لم يبايع.
وكتب أَبُو العباس إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن الحسن [5] :
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «غرائر» . ومثله في ترجمة عبد الله بن الحسن من تاريخ دمشق: ج 9/ الورق 65/ أ/ نقلا عن الزبير بن بكار، إلا ان فيه: «ويكفهن عن الخنا ... » .
[2] ويحتمل رسم الخط أن يقرأ: «فأنفى» .
[3] جملة: «وداهن بأمر المدينة» كأنها ضرب عليها الخط، وكلمة «داهن» أيضا غير مقرءوة على سبيل القطع واليقين.
[4] كذا.
[5] ورواه مسندا في الأغاني: ج 18، ص 206 ومقاتل الطالبيين ص 176، ورواه أيضا في ترجمة عبد الله بن الحسن من تاريخ دمشق: ج 9/ الورق 66/ أ/ من النسخة الظاهرية.(3/83)
أريد حبا (ء) هـ ويريد قتلي ... عذيرك من خليلك من مراد
فكتب إليه (عبد الله) :
وكيف أريد ذاك وأنت مني ... وزندك حين يقدح من زناد؟!
وكيف أريد ذاك وأنت مني ... بمنزلة النياط من الفؤاد؟!
وكيف أريد ذاك وأنت مني ... وأنت لغالب رأس وهاد؟!
وَقَالَ بعضهم: كتب بهذا البيت إِلَى مُحَمَّد حين ظهر، فكتب إِلَيْهِ (محمّد) بهذه الأبيات، ثُمَّ كَانَ بين الظاهر والمستخفي [1] .
94- حَدَّثَنِي الأثرم، عَن الأصمعي عَن نافع بْن أَبِي نعم قال:
قدم عبد الله بن الحسن عَلَى عمر بْنِ عَبْدِ العزيز فَقَالَ لَهُ عمر: إنك لن تغنم غنيمة ولا يغنمها أهلك خير من نفسك. فرجع (عبد الله) فأتبعه حوائجه.
وَكَانَ عَبْد اللَّهِ يقول لبنيه: اصبروا فإنما هي غدوة أَوْ روحة حَتَّى يأتي الله بالفرج.
__________
[1] قال السيد أبو طالب أخبرنا أبو العباس الحسني، قال: حدثنا عبد العزيز بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن عطية الصفار، قال: حدثني جعفر بن محمد السدوسي قال: حدثني أبو خالد الواسطي قال:
لقيت مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَسَن بْن الحسن عليهم السلام قبل ظهوره فقلت: يا سيدي وسر (ني) بأمر تجري به متى يكون هذا الأمر؟ فقال لي: وما يسرك منه يا أبا خالد؟
فقلت له: يا سيدي وكيف لا أسر بأمر يخزي الله به أعداءه وينصره به أولياءه؟ فقال: يا أبا خالد أنا خارج وأنا والله مقتول!! والله ما يسرني أن الدنيا بأسرها لي عوضا عن جهادهم!!! يا أبا خالد إن امرأ مؤمنا لا يصبح حزينا و (لا) يمسي حزينا مما يعاين من أعمالهم إنه لمغبون. قال: قلت:
يا سيدي والله إن المؤمن لكذلك!!! ولكن كيف بنا ونحن مقهورون مستضعفون خائفون لا نستطيع تغييرا. فقال: إذا كنتم كذلك فلا تكونوا لهم جميعا وانفذوا من أرضهم.(3/84)
95- قَالُوا: ولما توفي أَبُو العباس واستخلف أمير الْمُؤْمِنِينَ المنصور كتب إِلَى زياد بْن عبيد اللَّه يأمره بالتشدد عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن الحسن حَتَّى يأتيه بابنه مُحَمَّد، فلم يفعل وجعل يعذر، وَكَانَ كاتب زياد يتشيع. فبلغ ذَلِكَ المنصور فكتب إِلَيْهِ: أن نح كاتبك حفصًا. فنحاه عَنْهُ ثُمَّ كتب زياد إِلَى عيسى بْن مُوسَى فكلم المنصور فِي رده فرده، واستبطأ المنصور زيادًا وشخص إِلَى الْمَدِينَة سنة أربعين ومائة، فأعطى اهل المدينة إعطاء كاملا، وقسم فيه مالا، وتحول زياد حين قدم المنصور عَن دار الإمارة، ونزل داره الَّتِي أقطعه إياها أَبُو العباس، وهي بالبلاط وهي الَّتِي يقال لَهَا دار مُعَاوِيَة.
ودخل زياد عَلَى المنصور فلم يأمره بالجلوس ولم يرد عليه السلام!! فلم يزل قائما حَتَّى انتصف الليل ثُمَّ رفع رأسه إِلَيْهِ فَقَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتلك!!! حذرت ابني عَبْد اللَّهِ حَتَّى هربا من بعد ما ظهرا، وقلت لمحمد: اذهب إِلَى حيث شئت. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وجهت عقبة بْن سلم فِي أمرهما فشخص من الْكُوفَة، فلم ينزل منزلا إِلا أظهر فِيهِ سفطا مَعَهُ فيه سكاكين وقال: أمرني أمير المؤمنين أن أذبح فلانا وفلانا. فلما بلغهما ذَلِكَ حذرا، فلو تركتني لرجوت أن أترفق بهما حَتَّى يظهرا.
ثُمَّ إنه أمر زيادًا بأخذ عبد الله بن الحسن، فأخذه وحبسه في دار مروان.
وكان منصور قبل قدومه الْمَدِينَة بعث عقبة بْن سلم بن الملة [1] إلى المدينة ليعلم علم محمد، فقد مها متنكرا فجعل يبيع العطر [2] ويدس غلمانا
__________
[1] رسم الخط في هذه الكلمة غير واضح، ولعله يساعد على ان يقرء: الملد. ثم إن هذا المعنى ذكره مسندا في مقاتل الطالبيين ص 211.
[2] لعل هذا هو الصواب، ولكن ظاهر رسم الخط: «الفطر» وكذا فيما بعده.
وقال السيد أبو طالب: حدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسيني قال: أخبرنا أبو علي الحسين بن علي بن بزرج (ظ) قال: سمعت محمد بن يحيى الصولي يقول: سمعت محمد بن القاسم أبا العيناء يقول- وقد تذاكرنا ذهاب بصره- قال: كان أبو جعفر- يعني الدوانيقي- دعا جدي وكان في نهاية الثقة به والعقل عنده، فقال له: قد ندبتك لأمر عظيم عندي موقعه كما قال أبو ذويب:
ألكني إليها وخير الرسو ... ل أعلمهم بنواحي الخبر
ثم عرفه ما يريد منه وأطلق له مالا خطيرا، وقال: كل شيء تريده من المال بعد هذا فخذه وصر إلى المدينة فافتح بها دكان عطار، وأظهر أنك من خراسان (وأنك) شيعة لعبد الله بن الحسن بن الحسن وأنفق على أقربائه واهدلهم وله ما يقربك منهم وكاتبني مع ثقاتك بأنفاسهم وتعرف لي خبر ابنيه محمد وإبراهيم. فمشى جدي ففعل ذلك كله، فلما أخذ أبو جعفر عبد الله بن الحسن وإخوته جعل يوبخ عبد الله على شيء من قوله وفعله ويأتيه بما ظن عبد الله أنه ليس أحد يعلمه، فقال عبد الله لبعض ثقاته: من أين أتينا؟ قال: من جهة العطار. قال: اللهم أبله في نفسه وولده بما يكون نكالا له وردعا لغيره وبلاءا ليشهر به. قال: فعمي جدي وعمي بعده أبي وولده!!! وأنا على الحال التي ترون وكذلك ولدي من دعاء عبد الله بن الحسن إلى يوم القيامة.
هكذا ارواه عنه في الباب «8» من تيسير المطالب ص 117.(3/85)
يبيعون العطر ويسألون عَن الأخبار، وَكَانَ يبذل ويعطي فِي طلبه ويكتب بالأخبار.
وَكَانَ المنصور يدس قوما يتجرون فِي البلدان ويتعرفون الأخبار، ودس رجلا أعطاه مالا، فأتى عَبْد اللَّهِ بن الحسن، فأظهر (له) التشيع وَقَالَ: إن معي مالا أدفعه أليكم. فوثق بِهِ!!! وبعث مَعَهُ من أوصله إِلَى مُحَمَّد وَهُوَ فِي جبل جهينة، ثُمَّ علم عَبْد اللَّهِ بعد ذَلِكَ أنه عين فبعث إِلَى مُحَمَّد رجلا من مزينة يحذره إياه، فقيده محمد وحبسه عند بعض الجهنيين (ظ) ثم إنه احتال فهرب في عزارة محيطة [1] ولم يعرف ذَلِكَ العين اسم الرسول المزني فبعث
__________
[1] كذا في الأصل، والظاهر ان في الكلام تصحيفا، وقال ابن الأثير، في حوادث سنة 144، من كتاب الكامل: ج 5 ص 515: فمر به الأعراب معهم حمولة إلى المدينة فقال لبعضهم فرغ هذه الغرارة وأدخلنيها أكن عدلا لصاحبها ولك كذا وكذا. ففعل وحمله حتى أقدمه المدينة ...(3/86)
أَبُو جعفر المنصور من حمل إِلَيْهِ مائة رجل من المزنيين، فكان صاحبه فِيهِمْ فلما رآه أشار إِلَيْهِ، فضرب تسع مائة سوط.
وأراد المسيب الضبي (ظ) ضرب عنق عَبْد اللَّهِ فمنعه المنصور من ذَلِكَ [1] .
96- قَالُوا: وشخص المنصور من الْمَدِينَة إِلَى الْكُوفَةِ راجعا وعبد اللَّه محبوس، وأمر زيادًا بطلب محمد وإبراهيم فعبب [2] وقصر، وبلغ ذَلِكَ المنصور فعزله، ويقال: إنه أغرمه مالا وولي الْمَدِينَة عَبْد العزيز بْنِ عَبْدِ المطلب من آل كثير بْن الصلت، ثُمَّ عزل عَبْد العزيز واستعمل مُحَمَّد بْن خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري عَلَى الْمَدِينَة، فقدمها فِي رجب سنة/ 457/ إحدى وأربعين ومائة، فاستبطأه [3] فِي أمر مُحَمَّد، وبلغه أنه وجد فِي بيت مال الْمَدِينَة ألف ألف درهم وسبعين ألف دينار فأسرع فِي إنفاقها، فعزله فِي سنة أربع وأربعين ومائة، وولي الْمَدِينَة رباح بْن عُثْمَان بْن حيان المري [4] فأخذ كاتب محمد ابن خالد- وَكَانَ يقال لَهُ رزام فضربه وعذبه، وحبس محمدا.
(واختفى محمد بن عبد الله) فبعث بابنه عَلِيًّا داعية إِلَى مصر، فدل عَلَيْهِ وحمل إِلَى المنصور فأمر بحبسه [5] .
وَكَانَ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ قدم إِلَى الْبَصْرَة، فأرسل إلى عَمْرو بْن عبيد صاحب الحسن فلقيه فطالت النجوى بينهما فلم يجبه عَمْرو إِلَى شَيْء، ووعظه وحذره
__________
[1] وهذا لذيل ذكره في مقاتل الطالبيين ص 213 في قصة أخرى.
[2] كذا في ظاهر رسم الخط ويمكن أن يقرأ: «فعيب» .
[3] وهنا كان تكرار في العبارة قد ضرب الخط على بعضها دون بعض فحذفناها كلها، والأمر جلي في كون ما حذفناه زائدا.
[4] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: رباح بن عفان ...
[5] ما بين المعقوفين زيادة تقتضيها السياق، ويجيء في أواخر ترجمة أولاد الإمام الحسن ان علي بن محمد بن عبد الله مات في حبس المنصور ببغداد.(3/87)
الدماء وسوء العواقب [1] .
وقدم المنصور الْبَصْرَة، فأرسل إِلَى عَمْرو أن النَّاس مجمعون عَلَى أنك قد بايعت محمدًا. فَقَالَ عَمْرو: والله لو قد قلدني النَّاس أمرهم عَلَى أن أختار لهم إماما مَا اخترته فكيف أبايع محمدًا؟! وكتب المنصور عَلَى لسان مُحَمَّد كتابا إِلَى عَمْرو بْن عبيد، فلما قرأه قَالَ للرسول ليس لَهُ جواب عَلَى ذاك، قل لَهُ: دعنا عافاك اللَّه نعيش فِي هَذَا الظل ونشرب هَذَا الماء البارد حَتَّى يأتينا الموت. فلما رجع الرسول إلى المنصور (و) أخبره فقال: هذه ناحية قد كفيناه.
97- قالوا: وضيق رباح عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن الحسن، وأخذ أخاه حسن ابن حسن، وعدة من أهلهما فحبسهم، وحج المنصور سنة أربع وأربعين ومائة فتلقاه رباح بالربذة، فأخبره بما صنع بعبد اللَّه ومن مَعَهُ، وقد كَانَ حملهم يتلقى المنصور بهم، فدعا المنصور بعبد اللَّهِ فأغلظ عَبْد اللَّهِ لَهُ، فأمر ببيع متاعه واصطفاه ماله فبيع متاعه وصير فِي بيت المال بالمدينة، فأخذ مالك بْن أنس الفقيه رزقه من ذَلِكَ المال بعينه اختيارًا منه [2] .
ودعا المنصور بعقبة بْن سلم (ظ) فَقَالَ لعبد اللَّه: أتعرف هَذَا؟ فسقط فِي يده
__________
[1] قال في مقاتل الطالبيين ص 209: أخبرني عمر بن عبد الله، قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني غير واحد من أصحابنا:
أن محمدا دعا عمرو بن عبيد فاعتل عليه، وكان عمرو حسن الطاعة في المعتزلة، خلع نعله فخلع ثلاثون ألفا نعالهم!!! وكان أبو جعفر يشكر ذلك له، وكان عمرو يقول: لا أبايع رجلا حتى أختبر عدله.
[2] وبهذا العمل ونظائره أصبح الرجل من فقهاء الأمة!!! وسعى العباسيون وراء نشر كتبه وفتاويه في ارجاء العالم الإسلامي لا سيما في الآفاق البعيدة عن أهل الخبرة والتحقيق!!!(3/88)
وَكَانَ يراه فلا يدري أنه عين عَلَيْهِ وعلى ولده.
وأمر المنصور بحمل عَبْد اللَّهِ ومن أخذ مَعَهُ- ومحمد يومئذ بجبال رضوى- وَكَانَ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ المطرف بْن عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عفان، قد زوج ابنته من إبراهيم بْن عَبْدِ اللَّهِ، فأخذه المنصور بأن يدله عَلَى إبراهيم فأبي، فضربه بالربذة ستين سوطًا، فَقَالَ لَهُ قولا غليظا تعدى فِيهِ، فضربه مائة وخمسين سوطًا، وحمل مع القوم، وكان يقال لمحمد هَذَا الديباج.
وبعث المنصور عيسى بْن علي عمه إِلَى عَبْد اللَّهِ- وَهُوَ بالربذة- فَقَالَ لَهُ:
أذكرك اللَّه فِي نفسك وأهل بيتك أظهر ابنيك وخذ عَلَى أمير الْمُؤْمِنِينَ مَا شئت من عهد وميثاق! فَقَالَ إني لا أجيب بِشَيْءٍ إِلا أن يأذن لي أمير الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ فأكلمه. فأبي المنصور أن يأذن لَهُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: يسحرني بلسانه كما سحر غيري!!! 98- وَقَالَ بعض الرواة: إن عَبْد اللَّهِ وأهل بيته لم يكونوا مَعَ رياح بالربذة، ولكن المنصور وجه أبا الأزهر فحملهم من الْمَدِينَة إِلَى الربذة، ومضى بالقوم ومضى مَعَهُ إلى مكة، ثم انصرف إلى العراق وهم مَعَهُ، فلم يزل عَبْد اللَّهِ بْن حسن محبوسا عنده حَتَّى مات فِي محبسه بهاشمية الكوفة، وهو يومئذ ابْن اثنتين وتسعين سنة [1] ودفن عندها بقرب قنطرة الْكُوفَة عَلَى الفرات.
99- وتوفي حسن بْن حسن بْن حسن بْن علي بالهاشمية أَيْضًا فِي حبس أَبِي جعفر سنة خمس وأربعين ومائة [2] وكان حسن صاحب جد فقدم
__________
[1] كذا في الأصل، وفي مقاتل الطالبيين ص 184: «وهو ابن خمس وسبعين» . وانظر الاغاني ج 18، ص 205 والإصابة ج 5 ص 133.
[2] ومثله في ترجمة الحسن من الطبقات الكبرى: ج 5 ص 235 وتاريخ بغداد: ج 7 ص 294 ومقاتل الطالبيين ص 186، وقال كان الحسن بن الحسن بن الحسن متألها فاضلا ورعا، يذهب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى مذهب الزيدية.(3/89)
السيالة [1] فِي أيامه وبها إِبْرَاهِيم بْن هرمة فيشرب/ 458/ فِي أصحاب لَهُ وقد نفد مَا مَعَهُ [2] فكتب إِلَيْهِ يعلمه أن قوما أتوه وأنه لا شَيْء عنده وكتب فِي أسفل كتابه:
إني أجلك أن أقول لحاجتي ... فَإِذَا قرأت صحيفتي فتفهّم
وعليك عهد الله إن أخبرتها ... أَهْل السيالة إن فعلت وإن لم
قَالَ: وعلي عهد اللَّه إن لم أخبرهم!!! فأخبر العامل بخبره وخبر أصحابه، فلما بلغ ابْن هرمة ذَلِكَ فرق أصحابه.
100- ولما بلغ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ حبس أَبِيهِ- ويقال موته- خرج بعد أيام بالمدينة، وصار إِبْرَاهِيم إِلَى البصرة وأتى الأهواز، فأمر المنصور بالعثماني فقتل!!! 101- وقال أبو اليقظان: ضرب المنصور عنقه صبرًا وشهر رأسه وأظهر أنه رأس مُحَمَّد، وبعث بِهِ إِلَى خراسان.
102- وقال المدائني: وجد المنصور كتابا للعثماني إلى محمد بن عبد الله فاحتفظه ذلك (ظ) فدعا به فضربت عنقه وبعث برأسه إِلَى خراسان.
103- وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح الْمُقْرِئ قَالَ: مر المنصور بعبد اللَّه بْن حسن وَهُوَ مغلول مقيد فِي محمل بلا وطاء!!! فَقَالَ لَهُ: يا أمير المؤمنين
__________
[1] قال في باب السين من معجم البلدان: ج 3 ص 292 ط 2: السيالة- بفتح أوله وتخفيف ثانيه وبعد اللام هاء-: أرض يطؤها طريق الحاج. قيل: هي أول مرحلة لأهل المدينة إذا أرادوا مكة.
قال ابن الكلبي: مرتبع بها بعد رجوعه من قتال أهل المدينة، وواديها يسيل فسماها السيالة.
[2] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «وقد تقدما معه» .(3/90)
ما فعل رسول الله هَذَا بأسارى بدر؟! فلم يكلمه بِشَيْءٍ [1] .
104- وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابُنَا عَن الزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ، عَن أحمد بن محمد، عن محمد بن حرب (ظ) قال: قال عبد الله بن الحسن لابنه مُحَمَّد حين أراد الاستخفاء من المنصور: يَا بني إني مؤد إِلَى اللَّه حقه فِي نصيحتك فأد إِلَى اللَّه حقه فِي الاستماع والقبول، يَا بني كف الأذى واستعن عَلَى السلامة بطول الصمت، فِي المواطن الَّتِي تدعوك نفسك إِلَى الكلام فِيهَا، فَإِن الصمت خير (حسن «خ» ) عَلَى كُلّ حال إذا لم يكن للكلام موضع، وللمرء أوقات يضر فيها خطا (ؤ) هـ وَلا ينفع صوابه. واعلم أن من أعظم الخطاء العجلة قبل الإمكان، والإناءة بعد الفرصة، واحذر الجاهل وإن كان (لك) ناصحا!!! كما تحذر العاقل إذا كَانَ لك عدوا [2] .
__________
[1] وفي تذكرة الخواص ص 219: فناداه عبد الله بن حسن: يا أبا جعفر (أ) هكذا فعلنا بكم يوم بدر؟!! فلم يكلمه (المنصور) .
(قال سبط ابن الجوزي) يشير إلى فعل النبي صلى الله عليه وآله بالعباس لما أسر يوم بدر وبات يئن في قيوده أو في قده- فقال: لقد منعني أنين العباس الليلة أن أنام. ثم حل عنه (قيده) .
[2] ورواه أيضا ابن عساكر في ترجمة عبد الله بن حسن من تاريخ دمشق ج 9/ الورق 66 ب/ قال: أخبرنا أبو الحسن ابن الفراء، وأبو غالب وأبو عبد الله أبناء البناء، قالوا: أنبأنا أبو جعفر ابن المسلمة، أنبأنا أبو طاهر المخلص أنبأنا أحمد بن سليمان، أنبأنا الزبير بن بكار، قال: وحدثني أحمد بن محمد، عن محمد بن حرب قال:
قال عبد الله بن حسن بن حسن لابنه مُحَمَّد بن عَبْد الله بن حسن حين أراد الاختفاء ...
وساق الكلام بمغائرة قليلة في بعض الألفاظ وزيادة جمل في آخره.(3/91)
خروج مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن ومقتله
105- قالوا: وأقبل مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن فِي ولاية رياح [1] ابن عثمان بن حيان بن معبد المري المدينة في مائة وخمسين، وهو على حمار.
ويقال: أتى بني سلمة من الأنصار فأقام (فيهم) وتوافى إِلَيْهِ أصحابه [2] ثُمَّ أتى السجن فأخرج من فِيهِ، فأقبل حَتَّى أتى بيت عاتكة بنت يزيد بْن مُعَاوِيَة الَّذِي يقول فِيهِ الأحوص بْن مُحَمَّد الأَنْصَارِيّ:
يا بيت عاتكة الذي أَتَغزّلُ ... حذر العِدى وبه الفؤاد موكل
فجلس عَلَى بابه وَهُوَ يقول: لا تقتلوا أحدًا وادخلوا المقصورة. فدخلوها وأحرقوا باب الخوخة ودخلوا دار مروان وفيها رياح- وَكَانَ رياح يقول:
أبدا هَذِهِ الدار محلال مظعان [3] وأنا أول ظاعن عَنْهَا- فصعد رياح مشربة فِي الدار وهدم الدرجة فصعدوا إليه فأنزلوه، وأمر بحبسه وحبس أم (ولد) لَهُ.
وأخرج مُحَمَّد بن (عبد الله بن) خالد القسري من المحبس وَكَانَ المري حبسه وَابْن أخيه نذير بْن يزيد بْن خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ، وأصبح مُحَمَّد فبايعه النَّاس وخطبهم فَقَالَ:
يَا أَهْل الْمَدِينَة إني والله مَا خرجت فيكم للتعزز بكم ولغيركم (ظ) أعز منكم وما أنتم بأهل قوة وَلا شوكة ولكنكم أهلي وأنصار جدي فجبوتكم
__________
[1] في جل الموارد من الأصل كان لفظ: «رباح» مكتوبا بالباء الموحدة بعد الراء وفي قليل من المواضع كان مكتوبا فيه بالياء المثناة التحتانية بعد الراء.
[2] هذا هو الظاهر، من السياق، وفي النسخة: «أصحاب» .
[3] كذا في تاريخ الكامل، ورسم خط هذه الكلمة في الأصل غامض وكأنها قد صورت في النسخة بصورة كلمتين وشطب عليهما.(3/92)
(كذا) بنفسي والله مَا من مصر يعبد اللَّه فِيهِ إِلا وقد أخذت لي دعاتي فِيهِ بيعة أهله، ولولا مَا انتهك مني ووترت به ما خرجت!!! [1] .
ووجّه (محمد) حسن بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر [2] إِلَى مَكَّة فقدم حسن بْن معاوية عَلَى مقدمته أبا عدي عَبْد اللَّهِ بْن عدي بْن حارثة بْن ربيعة بْنِ عَبْدِ العزى بْن عَبْد شمس الَّذِي يقول للوليد:
إن/ 459/ سيري إليك من قن أرضي ... لمن الحزم والفعال السديد
عبد شمس أبوك وهو أبونا ... لا نناديك من مكان بعيد
والقرابات بيننا واشجات ... محكمات القوى بعقد سديد
فأثبني ثواب مثلك مثلي ... تلفني للثواب غير جحود
فكان أَبُو عدي يقدم مولى لبعض أَهْل الْمَدِينَة يقال لَهُ: سلجم أمامه حَتَّى قدموا مَكَّة وعليها السريّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَارِث بْن الْعَبَّاس بْنِ عبد المطلب، فكان سلجم ينادي ابرز يا ابن أبي عضل- وكان الحرث بْن العباس يلقب أبا عضل فكانت فِيهِ لكنة- فتنحى السري عن مكة.
__________
[1] وقال السيد أبو طالب: أخبرنا أحمد بن محمد البغدادي المعروف بالآبنوسي قال:
حدثنا عبد العزيز بن إسحاق، قال: حدثنا محمد بن سليمان بن خالد، قال: حدثنا أبو موسى قال: حدثنا أبو روح، قال: حدثنا مسعدة بن صدقة قال:
خطب مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَسَن بْن الحسن عليهما السلام عَلَى منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم فقال: أما والله لقد أحيا زيد بن علي ما دثر من سنن المرسلين وأقام عمود الدين إذ اعوج، ولن ننحو إلا اثره، ولن نقتبس إلا من نوره، وزيد إمام الأئمة، وأولى من دعا إلى الله بعد الحسين بن علي عليهما السلام.
[2] وقد عقد له في مقاتل الطالبيين ص 300 ترجمة، كما أن له أيضا ذكر في كتاب المعارف ص 90 وفي تاريخ الطبري ج 9 ص 232 وفي تاريخ الكامل ج 5 ص 222.(3/93)
وَكَانَ خروج مُحَمَّد ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة- ويقال لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان فِي عامه ذَلِكَ- سنة خمس وأربعين (ومائة) .
وسارع أَهْل الْمَدِينَة إِلَى بيعة مُحَمَّد وَقَالُوا: هَذَا الَّذِي كنا نسمع بِهِ «العجب كُلّ العجب بين جمادى ورجب» .
وأمر مُحَمَّد بْن عبد الله، إبراهيم بْن مُحَمَّد بْن إبراهيم بْن طَلْحَة بن عمر ابن عبيد اللَّه بْن معمر ببيعته فأباها وَقَالَ: قد بايعت لأبي جعفر المنصور أمير الْمُؤْمِنِينَ!!! فكان المنصور يقول له- بعد قتل مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ-: لو كَانَ بالمدينة آخر مثلك لم يقتل مُحَمَّد نفسه.
وَكَانَ الَّذِينَ خرجوا مَعَ مُحَمَّد جهينة ومزينة وأهل الْمَدِينَة.
وقدم الْكُوفَة رجل فِي تسع ليال فأخبر بخروج مُحَمَّد، فلما تبين المنصور صدقه أمر له بتسعة آلاف درهم لكل ليلة ألف، ولما ورد ذَلِكَ الرَّجُل الْكُوفَة كتب إِلَى المنصور بخبره وَهُوَ ببغداد يقدر بناء مدينته بِهَا، فشخص من يومه حتى أتى الكوفة وقال أطاء أصمختهم!!! [1] وأقطعهم عن إمداد محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن فإنهم سراع إِلَى أَهْلِ هَذَا البيت.
وغدر مُحَمَّد بْن خالد القسري بمحمد بْن عَبْدِ اللَّهِ!!! وَقَالَ لَهُ: إن لك (علي) هَذِهِ اليد، بإخراجك إياي من الحبس فسم لي من بايعك من أهل العراق
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «أسمختهم» .
والأصمخة- كالأصموخ والصمخ على زنة أرغفة وأسبوع وعنق- جمع الصماخ- بكسر الصاد-: الأنف أو خرق الأذن الباطن الماضي إلى الرأس.
وهذا المضمون يأتي أيضا في الحديث: (119) في ص 117.(3/94)
حَتَّى أكتب إِلَى موالي هناك وأهل بيتي ومعاضدتهم [1] ومكانفتهم فِي أمرهم.
فسمى لَهُ من بايعه فكتب إلى المنصور بأسمائهم!!! فظفر مُحَمَّد بالكتاب والرسول وَكَانَ قد قَالَ لَهُ أَيْضًا: إني مطاع بالشام فابعث أخاك مُوسَى بْن عَبْدِ اللَّهِ مَعَ ابْن أخي نذير بن يزيد بن خالد، ومولاي رزام ليدعوا النَّاس بالشام إِلَى طاعتك ويأخذ لك مُوسَى البيعة عليهم. ففعل، فخلفاه بدومة الجندل وقالا لَهُ: انتظرنا حَتَّى نحكم لك الأمور ثُمَّ نشخص!! ثُمَّ مضيا إِلَى المنصور فأخبراه خبره ليوجه إِلَيْهِ من يحمله!!! فلم يقم مُوسَى وانصرف إِلَى الْمَدِينَة، لاسترابته بهما حين فارقاه، وأخذ محمد بن عبد الله، محمد بن خالد القسري فحبسه.
106- قالوا: وكتب المنصور إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ حين خرج: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا، وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ، عَذابٌ عَظِيمٌ. إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فا (علموا أ) ن اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (32- 34/ المائدة) فَإِن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك، فلك أن أومنك وجميع إخوتك وولدك وأهل بيتك وأتباعك، وأعطيك ألف ألف درهم [2] .
__________
[1] كذا في الأصل، ولعل الصواب: في معاضدتهم. أو بمعاضدتهم.
[2] والكتاب رواه أيضا سبط ابن الجوزي في كتاب تذكرة الخواص، ص 127، طبع ايران وفي طبع النجف ص 221، وإليك نصه: قال:
قال هشام بن محمد: ولما بلغ أبا جعفر (المنصور) خروج محمد كتب إليه:
من أمير المؤمنين أبي جعفر إلى محمد بن عبد الله، قال الله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ في الأرض فسادا- إلى قوله- إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عليهم فاعلموا ان الله غفور رحيم» . ولك علي عهد الله وميثاقه وذمته وذمة رسوله إن تبت ورجعت من قبل أن أقدر عليك فأنت آمن وجميع ولدك وإخوتك وأهل بيتك ومن اتبعك على دمائهم وأموالهم وأعطيك ألف ألف درهم وأنزلك أي البلاد أحببت، وأطلق من في حبسي من أهلك، وإن شئت أن تستوثق لنفسك فابعث إلي من شئت لنأخذ لك الأمان والعهود والسلام.
فكتب إليه محمد بن عبد الله: من محمد بن عبد الله المهدي إلى عبد الله بن محمد «طسم تلك آيات الكتاب المبين، نتلو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كانوا يحذرون» . وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علي، وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا وخرجتم له بشيعتنا وخطبتم بفضلنا!!! وإن أبانا علي كان الوصي وهو الإمام فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟ ثم قد علمت أنه لم يطلب هذا الأمر أحد له نسبنا وشرفنا، لسنا من أبناء الطلقاء ولا الطرداء ولا اللعناء ولا يمت أحد من بني هاشم بمثل ما نمت به من القرابة والسابقة والفضل، وإنا بنو أم رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله في الإسلام، فوالدنا علي أول الناس إسلاما وأول من صلى مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وجدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وجدتنا خديجة الطاهرة، وإن هاشما ولد أبانا مرتين مرة من قبل أبيه ومرة من قبل أمه فاطمة بنت أسد، وكذا ولد حسنا مرتين فأنا أوسط بني هاشم نسبا وأشرفهم أبا، لم ينازع في أمهات الأولاد، ولم يعرق في العجم!!! ولك من الأمان على مثل ما ذكرت إن دخلت في طاعتي وأجبت دعوتي أن أؤمنك على نفسك وولدك ومالك وأهلك وعلى كل حدث أحدثته إلا حدا من حدود الله (أ) وحقا لمسلم أو معاهد!!! وأما قولك عن الأمان فأي الأمانات تعطيني؟ (أ) أمان عمك عبد الله بن علي؟ أو أمان أبي مسلم؟ أو أمان ابن هبيرة والسلام؟!!(3/95)
فكتب إِلَيْهِ مُحَمَّد:
طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ، نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَ(3/96)
عَلَى الَّذِينَ/ 460/ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ مَا كانُوا يَحْذَرُونَ» (1- 4/ القصص) .
وقال في كتابه: [1] إن اختارنا واختار لنا، فوالدنا من النبيين مُحَمَّد أفضلهم مقاما، ومن السلف أولهم إسلاما (علي) ومن الأزواج خيرهم خديجة الطاهرة، وأول من صلى القبلة، ومن البنات خيرهن فاطمة سيدة نساء أَهْل الجنة، ومن المولودين فِي الإسلام الحسن والحسين، وهما سيدا شباب أَهْل الجنة.
وإن هاشما ولد عليا مرتين، وإن عبد المطلب ولد حسنا مرتين، فأنا أوسط بني هاشم نسبا وأصرحهم أما وأبا، لم تعرّق في العجم [2] وأنا ابن أرفع
__________
[1] وقبله في تاريخ الكامل- بعد قوله: «ما كانوا يحذرون» هكذا: «وأنا أعرض عليك من الأمان مثل ما عرضت علي فإن الحق حقا وإنما ادعيتم هذا الأمر بنا (لنا «خ» ) وخرجتم له بشيعتنا وحظيتم بفضلنا (ظ) !!! فإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟!! ثم قد علمت أنه لم يطلب الأمر أحد (له) مثل نسبنا وشرفنا وحالنا وشرف آبائنا، لنا من أبناء اللعناء ولا الطرداء ولا الطلقاء، وليس يمت أحد من بني هاشم بمثل الذي نمت به من القرابة والسابقة والفضل، وإنا بنو أم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاطمة بنت عمرو في الجاهلية، وبنو بنته فاطمة في الإسلام دونكم. إن الله اختارنا واختار لنا ... » .
[2] لعل هذا هو الصواب بقرينة ما يأتي في جواب المنصور لهذا الكتاب، وبقرينة رواية الكامل: ج 5 ص 537: «لم تعرق (لم تعرف «خ» ) في العجم، ولم تنازع في أمهات الأولاد» .
ورسم الخط من النسخة هاهنا غير واضح وربما يقرأ: «لم نفرق ... » .(3/97)
النَّاس درجة فِي الجنة، وَابْن أهونهم عذابا فِي النار [1] .
ولك الأمان إن دخلت فِي طاعتي فأنا أولى بالأمر منك، وأولى بالوفاء بالعهد، فأي الأمانات- ليت شعري- أعطيتني أأمان ابْن هبيرة؟!! أم أمان عمك عَبْد اللَّهِ بْن علي؟! [2] فكتب إِلَيْهِ المنصور:
قد بلغني كتابك فإذا جلّ فخرك بقرابة النساء لتغر [3] (ظ) بِذَلِكَ الجفاة والغوغاء، ولم يجعل اللَّه النساء كالعمومة والعصبة [4] وقد جعل اللَّه العم أبا وبدأ بِهِ قبل الوالد، فَقَالَ: «نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ» (133/ البقرة: 2) فسمى إسماعيل أبا وهم عم يعقوب [5] ولقد بعث اللَّه نبيه محمدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وله عمومة أربعة، فدعاهم وأنذرهم فأجابه
__________
[1] هذه الجملة من زيادات دعاة السوء وأيناء السياسة وآكلي الرشاء والأقلام المستأجرة، وشهود الزور، والنفس الزكية أجل وأزكى من أن ينسب إلى جده ما هو مباين لمقام جده وكريم منزلته ومشكور سعيه في تربية رسول الله والدفاع عنه، ومرضي ايمانه بالله وإخلاصه في توحيد الله تعالى.
[2] وزاد في تاريخ الكامل بعده: «أم أمان أبي مسلم؟!!» .
[3] رسم خط هذه الكلمة في الأصل غامض هكذا: «لما» ؟ وفي تاريخ الكامل: ج 5 ص 538: لتضل به الجفاة ...
[4] هذا أحد تقولات المخذول وافترآته على الله، ومنه أخذ قضاة الجور والحاكمون بغير ما أنزل الله!!! وجميع أدلة حقوق القرابة وارث ذوي الأرحام على خلافة منه قوله تعالى: «وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ» . ثم إن المخذول تجاهل عن جواب قول محمد: «فإن أبانا عليا كان الوصي وكان الإمام فكيف ورثتم ولايته وولده أحياء؟» .
[5] للشيطان شره يتمسك بدليل لو تم دلالته يكون شموله لخصمه أتم وأجلى فإن أبا طالب كان عم النبي وأخا أبيه من قبل الأب والأم بخلاف العباس فإنه كان أخا لعبد الله أبي النبي من قبل الأب فقط.(3/98)
أثنان أحدهما أَبِي، وأبى الإسلام اثنان أحدهما أبوك [1] فقطع الله وراثتهما وولايتهما منه.
__________
[1] هذا أيضا من أباطيل المخذول، وأبيات أبي طالب المروية من طريق أولياء الدوانيقي تشهد ببطلان ما اختلقه عليه!!! مع أن ما قاله في حد ذاته لا وزن له لأنه ادعاء محض من خصم ألد لم يأت لما ادعاه بشاهد، وأما إسلام أبيه العباس فكان بعد ما فاز أهل السبق بالفضائل ونالوا الفواضل وأسروه ببدر فآمن حذرا من علاء الصمصامة عليه كما يدل عليه ما رواه البلاذري في الحديث (5) من ترجمة العباس من انساب الأشراف: ج 2/ الورق 262 ب/ قال: قال: حدثني أبو مشعر (معشر «خ» ) رجل من أهل اليمن، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن عباس ان رجلا من قريش رأى العباس فقال: هذا عم النبي ما أسلم حتى لم يبق كافر!!! فشكى العباس إلى النبي ...
ولو سلم أنه آمن حقيقة لا خوفا فلا ينفع أيضا للمخذول شيئا، لقوله تعالى في الآية: «72» من سورة الأنفال: «والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا» .
ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: لا هجرة بعد الفتح.
وأما إسلام أبي طالب وايمانه بالنبي وما جاء به من عند الله تعالى فهو صريح كثير من أبياته وأقواله المروية من طريق أولياء المنصور وشيعته مع شدة حذرهم عن رواية أمثالها!!! أليس من قول أبي طالب ما تقدم عن المصنف تحت الرقم: (14) من ترجمته: ج 2 ص 31:
منعنا الرسول رسول المليك ... ببيض تلألأ مثل البروق
أذب وأحمي رسول الإله ... حماية عم عليه شفيق
أليس من صريح الإيمان قوله:
ليعلم خيار الناس أن محمدا ... وزير لموسى والمسيح بن مريم
أتانا بهدي مثل ما أتيا به ... فكل بأمر الله يهدي ويعصم
أليس من صريح الاعتراف بنبوته وما جاء به قوله:
أمين حبيب في العباد مسوم ... بخاتم رب قاهر في الخواتم
نبي أتاه الوحي من عند ربه ... ومن قال: لا يقرع بها سن نادم
أليس من أوضح الاقرار برسالة النبي قوله:
ألم تعلموا أنا وجدنا محمدا ... رسولا كموسى خط في أول الكتب
أليس من أظهر مصاديق الاعتراف بنبوة النبي قوله:
وظلم نبي جاء يدعو إلى الهدى ... وأمر أتى من عند ذي العرش قيم
أو ليس من خالص الإيمان قوله:
ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية دينا
أليس من أكد الإيمان والدعوة إلى رسول الله قوله:
أو تؤمنوا بكتاب منزل عجب ... على نبي كموسى أو كذي النون
أليس من أقوى أنحاء الاقرار بنبوة النبي قوله:
والله لا أخذل النبي ولا ... يخذله من بني ذو حسب
نحن وهذا النبي ننصره ... نضرب عنه الأعداء بالشهب
أليس من أوثق أقسام التصديق لنبي الله والحث على الإيمان به قوله في حث حمزة لحماية النبي:
فصبرا أبا يعلى على دين أحمد ... بصدق وعزم لا تكن حمز كافرا
فقد سرني ان قلت: إنك مؤمن ... فكن لرسول الله في الله ناصرا
هذه نبذة قليلة من أقوال أبي طالب الصريحة في إيمانه برسول الله، ومن أراد المزيد فعليه بكتاب الغدير: ج 7 ص 331 وتواليها، وص 370 وما بعدها منه.(3/99)
وزعمت أنك ابْن أخف النَّاس عذابا يوم القيامة، وَابْن خير الأشرار وليس من الكفر بالله صغير، وما من شيء من عذاب اللَّه بخفيف!!! وليس فِي فِي الشرار خير، وليس ينبغي لمسلم يؤمن بالله أن يفخر بأهل النار [1] .
وأما مَا فخرت بِهِ من أن عَلِيًّا ولده هاشم مرتين وأن عَبْد المطلب أبوه أَبُو طالب وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم ولد حسنا مرتين. فخير الأولين
__________
[1] قد تقدمت الإشارة إلى نزاهة النفس الركية عن أمثال هذه الأباطيل، وانها من اختلافات أعداء أهل البيت وأبناء الدنيا الذين يتقربون إلى الملوك والأثرياء بالأكاذيب، واختلاق ما يعاضدهم في استدامة ظلمهم واستمرارهم على العتو واضطهاد المحقين والدليل على الزيادة هو تواتر ابيات أبي طالب الصريحة في إيمانه وإجماع أهل البيت على أن أبا طالب رضوان الله عليه، من أسبق السابقين إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله.(3/100)
والآخرين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يلده هاشم ولا عبد الله المطلب إلا مرة مرة.
وفخرت بأنك لم تلدك العجم ولم تعرق فيك أمهات الأولاد. فقد فخرت عَلَى من هو خير منك نسبا وأبا وأولا وآخرًا إِبْرَاهِيم بْن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت أمه مارية القبطية [1] وما ولد (فيكم بعد وفات رسول الله) أفضل من عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وَهُوَ لأم ولد، وهو خير من جدك حسن بْن حسن، وما كَانَ فيكم بعده مثل ابنه مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وأمه أم ولد [2] .
وأما قولك أنكم بنو رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِن اللَّه تبارك وتعالى يقول: «مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ» ولكنكم بنو بنته وهي رحمها اللَّه لا تحرز الميراث ولا ترث الولاء ولا يحلها أن تؤمّ فكيف يورث بهذا إمامة [3] .
__________
[1] هذا أيضا من جملة تلبيسات المخذول إذا النفس الزكية لم يفخر علي ابراهيم ومن هو بمزاياه، بل فخر على من هو فاقد لمزايا ابراهيم ويريد التقدم على من هو بمزايا ابراهيم ظلما وعدوانا!!! مع أن ما ذكره أيضا غير صحيح حتى بالنسبة إلى ابراهيم لأن نسبهم من طرف الأب واحد، لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبوهم كما هو أب لإبراهيم أيضا ويزيدون عليه من جهة الأم وقداستها وسموها، نعم ابراهيم أقرب منهم ولكن أبوه أبوهم وأوله أولهم وهم آخره لا آخر لإبراهيم غيرهم.
[2] وفي تاريخ الكامل «ما كان فيكم بعده مثل محمد بن علي وجدته أم ولد ولهو خير من أبيك ولا مثل ابنه جعفر وجدته أم ولد وهو خير منك.
أقول تقدم في التعليق السابق أن النفس الزكية محمد بن عبد الله لم يستدل بما ذكره للتقدم على إبراهيم ابن رسول الله أو على علي بن الحسين وأبناءه ممن هو على منزلتهم أولهم خصائص كريمة، بل ذكره ليستدل به على أحقيته بالأمر ممن استولى عليه بالظلم وهو فاقد للمكارم الموجودة فيه، مثل المنصور وذويه الذين ركنوا إلى الدنيا وهضموا حق أهل البيت عليهم السلام، فقد تحقق أن هذا أيضا من تلبيسات المخذول.
[3] صدق الله العلي العظيم إن رسول الله ليس أبا حقيقيا لأحد من رجال الأمة ممن لا يتصل ميلاده به، فليس أبا حقيقيا للمنصور ومن على شاكلته، ولكن هو أب حقيقي لرجاله وابنائه ممن تولد منه بلا فصل أو مع الفصل كإبراهيم وفاطمة وابنائها!!! فإن أنكر المنصور وذنابته كون الأولاد مع الواسطة أولادا فاللازم من إنكاره هذا أن لا يكون هو هاشميا بل ولا قرشيا فلا أولوية له على أحد من آحاد الأمة للخلافة، فلماذا يدعي الأولوية؟!! بل لازم إنكاره أن لا يكون هو من البشر ومن بني آدم!! فبأي مبرر يدعي خلافة أشرف ولد آدم والإمامة على ولده وأمته؟!!(3/101)
وأما مَا ذكرت من أمر علي فقد حضرت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوفاة فأمر غيره بالصلاة [1] . فِي كلام طويل.
107- قَالُوا: وكانت أم عَلِيّ بْن الْحُسَيْن سجستانية تدعى سلافة [2] فزوجها، فكان عَبْد الملك بْن مروان يقول: أن علي بن الحسين ليرتفع من حيث تتضع الناس.
__________
[1] هذا أيضا مما اختلقه المخذول ومن على شاكلته وأرباب دعايتهما للقضاء على خصائص أهل البيت عليهم السلام، إن الرجل المشار إليه كان مأمورا بأن يكون في جيش أسامة، فأين كان حتى يؤمر بالصلاة؟! فلو فرض أنه تمرد عن أمر رسول الله وتخلف اعن الجيش فإذا انه كان من المبغوضين والملعونين لقول النبي صلى الله عليه: لعن الله من تخلف عن جيش أسامة.
فكيف يفوض النبي أمر الصلاة إليه؟! ومع الإغماض عن ذلك كله نقول: إن الأمامة في الصلاة بفتوى المنصور ودعاته لا تدل على علو منزلة وفخامة، لأنهم لا يشترطون في إمامة الجماعة والصلاة أي شرط إلا التظاهر بالإسلام وصحة القراءة.
[2] والمعروف في أخبار أهل البيت عليهم السلام انها بنت يزدجرد آخر ملوك الساسانية، وان اسمها شهربانو، أو شاه زنان.
قال المبرد في الكامل: ج 2 ص 93 ط محمد على صبيح بمصر سنة 1347:
كان اسم أم علي بن الحسين عليهما السلام سلافة من ولد يزدجرد معروفة النسب، من خيرات النساء. وقيل: (اسمها) خولة.
وقد روى في كتاب عيون أخبار الرضا: ج 2 ص 128، عن الحسين بن محمد البيهقي عن محمد بن يحيي الصولي عن عون بن محمد، عن سهل بن القاسم النوشجاني قال:
قال لي الرضا عليه السلام بخراسان: إن بيننا وبينكم نسب. قلت: وما هو؟ قال: إن عبد الله بن عامر بن كريز لما أفتتح خراسان أصاب ابنتين ليزد جرد ابن شهريار ملك الأعاجم فبعث بهما إلى عثمان بن عفان فوهب إحداهما للحسن والأخرى للحسين عليه السلام فماتتا عندهما نفساوين.
وكانت صاحبة الحسين عليه السلام نفست بعلي بن الحسين- عليهما السلام- فكفل عليا بعض أمهات ولد أبيه فنشأ وهو لا يعرف أما غيرها، ثم علم أنها مولاته وكان الناس يسمونها أمه وزعموا أنه زوج أمه ...(3/102)
108- قَالُوا: وأقام مُحَمَّد بالمدينة حسن السيرة، وبلغه خروج إِبْرَاهِيم أخيه بالبصرة، فكان يقول لأصحابه: ادعوا اللَّه لإخوانكم بالبصرة واستنصروه عَلَى عدوكم.
109- قَالُوا: وكتب المنصور فِي حمل سلم بْن قتيبة (اليه) - وَكَانَ بالري مَعَ المهدي- فلما قدم عَلَيْهِ قَالَ: كيف تركت أبا عَبْد اللَّهِ؟ قَالَ: أكمل النَّاس لو بسطت من يده. قَالَ يا (أ) با قتيبة أَبِي وأباك رجلان، ليس الفساد من شأننا؟!!.(3/103)
ثُمَّ قَالَ لَهُ: قد خرج مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بالمدينة. قَالَ: ليس بِشَيْءٍ خرج بأرض ليس بِهَا حلقة وَلا كراع/ 462/ أو 231/ أ/ قَالَ: وقد خرج إِبْرَاهِيم بالبصرة. قَالَ: قد خرج بأرض لو شاء أن يقيم بِهَا سنة يبايعه كُلّ يوم ألف رجل، ويضرب لَهُ فِيهَا كُلّ يوم ألف سيف لا يعلم بِهِ أحد لأمكنه ذَلِكَ!!! ثُمَّ قَالَ: انو يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ العفو تظفر. قَالَ هُوَ رأيي. قَالَ: فأبشر يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ بالظفر والنصر.
110- قَالُوا: ووجه المنصور عيسى بْن موسى إلى المدينة للقاء محمد ابن عبد الله، فقال له: يا (أ) با موسى إنك تسير إلى حرم الله، وأهله ثلاث طبقات: فطبقة قريش وهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقومه وبيضتي التي تفلقت عني وطبقة المهاجرون (كذا) والأنصار، وطبقة تجار جاوروا قبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقاموا فِي حرمه، فَإِذَا قتل مُحَمَّد فارفع السيف وَلا تتبعوا موليا وَلا تجهزوا عَلَى جريح وَلا تذبحوا فِيهَا طائرًا، وان طلب مُحَمَّد الأمان فأعطوه إياه، أفهمت يا (أ) با مُوسَى- ثلاث مرات يرددها- قَالَ: نعم. فَقَالَ المنصور: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد [1] .
__________
[1] لو صح هذا فهو أيضا من جملة تلبيساته على سواد الناس وأعمامه تشهد بأنه من الكاذبين.(3/104)
فتوجه (عيسى) فِي أربعة آلاف [1] ومعه مُحَمَّد بْن أمير الْمُؤْمِنِينَ أَبِي العباس، وفي الجيش مُحَمَّد بْن زيد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وغيره من ولد علي عليهم السلام، ثُمَّ قَالَ: أَبُو جعفر لعيسى بْن مُوسَى إني أعيد عليك الوصية إن قتلت محمدًا أَوْ أسرته أسرًا فلا تقتل أحدًا، وإن قتل مُحَمَّد بْن أبي العباس- فضلا عمن سواه- أحدًا بعد قتل مُحَمَّد أَوْ أسره فأقده بِهِ، وإن فاتك مُحَمَّد واشتمل عَلَيْهِ أَهْل الْمَدِينَة، فاقتل كُلّ من ظفرت بِهِ من أَهْل الْمَدِينَة.
وَكَانَ مَعَ عيسى بْن موسى حميد بن قحطبة الطائي.
فسار عيسى بِذَلِكَ الجيش وبلغ محمدًا خبره فخندق عَلَى الْمَدِينَة، وخندق عَلَى أفواه السكك، فلما كَانَ عيسى بفيد، كتب إِلَى مُحَمَّد يعطيه الأمان، وكتب إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَة يعرض عليهم الأمان أَيْضًا، وبعث بالكتاب مَعَ مُحَمَّد بْن زيد بْن علي، والقاسم بْن حسين بْن زيد، فلما قدما بِهِ قَالَ محمد ابن زيد: يَا أَهْل الْمَدِينَة تركنا أمير الْمُؤْمِنِينَ أصلحه الله حيا معافا، وهذا عيسى ابن موسى قد أتاكم (وآمنكم) فاقبلوا أمانه. فقالوا: اشهد (ا) أنا قد خلعنا أبا الدوانيقي.
وأقبل عيسى إِلَى الْمَدِينَة، فكان أول من لقيه إِبْرَاهِيم بن جعفر الزبيري على بنية واقم [2] فعثر بإبراهيم فرسه فسقط فقتل، وسلك عيسى بطن
__________
[1] قال في تاريخ الكامل: ج 5 ص 544: وقال المنصور لما سار عيسى: لا أبالي أيهما قتل صاحبه؟!! ...
[2] كذا في الأصل، والظاهر أنه مصحف والصواب: «ثنية وأقم» .
قال في حرف الواو من معجم البلدان: ج 5 ص 354:
وأقم: أطم من آطام المدينة، كأنه سمي بذلك لحصانته، ومعناه: انه يرد عن أهله. وحرة وأقم إلى جانبه نسبت إليه.(3/105)
قناة [1] حَتَّى ظهر عَلَى الجرف فنزل قصر سُلَيْمَان بْنِ عَبْدِ الملك صبيحة اليوم الثاني عشر من شهر رمضان، سنة خمس وأربعين ومائة وَهُوَ يوم السبت، وأراد تأخير القتال حَتَّى يفطر، فبلغه أن محمدًا يقول: أَهْل خراسان عَلَى بيعتي وحميد بْن قحطبة قد بايعني ولو قد تأنى [2] انقلب إلي.
وَكَانَ المنصور أمر القواد أن يكاتبوا محمدًا ويطمعوه فِي أنفسهم لأنه كَانَ على المضي إلى اليمن، فلما فعلوا أقام ولم يبرح الْمَدِينَة.
ويقال: أن حميدا خاصة قد كان بايعه بمصر، أَوْ وعده مبايعته.
111- قَالُوا: وعاجله عيسى فلم يشعر أَهْل الْمَدِينَة يوم الاثنين للنصف من شهر رمضان إِلا بالخيل قد أحاطت بهم حين أسفر الصبح، وَقَالَ عيسى لحميد: أراك مداهنا، وأمره بالتجريد لمحمد فالتقوا فقاتلهم عيسى بن زيد،
__________
[1] هذا هو الصواب، وفي الأصل: يظن فتاة» ولا ريب انه مصحف.
قال في حرف القاف من معجم البلدان: ج 4 ص 401 ط بيروت:
قناة: واد بالمدينة وهي أحد أوديتها الثلاثة عليه حرث ومال. وقد يقال: وادي قناة.
قالوا: سمي قناة لأن تبعا مر به فقال: هذه قناة الأرض.
وقال أحمد بن جابر: أَقْطَعَ أَبُو بَكْرٍ الزُّبَيْرَ مَا بَيْنَ الْجُرْفِ إلى قناة.
وقال المدائني: وقناة واد يأتي من الطائف ويصب في الأرحضية وقرقرة الكدر، ثم يأتي بئر معاوية، ثم يمر على طرف القدوم في أصل قبور الشهداء بأحد، قال أبو صخر الهذلي:
قضاعية أدنى ديار تحلها ... قناة وأنى من قناة المحصب
وقال النعمان بن بشير وقد ولي اليمن يخاطب زوجته:
أنى تذكرها وغمرة دونها ... هيهات بطن قناة من برهوت
كم دون بطن قناة من متلدد ... للناظرين وسرنح مروت
[2] كذا في الأصل، ولعل الصواب: «ولو قد أتاني» ...(3/106)
ومحمد جالس بالمصلى واشتد الأمر بينهم ثُمَّ نهض مُحَمَّد فباشر القتال [1] فكان بازاء حميد بْن قحطبة. وَكَانَ بازاء كثير بْن الحصين العبدي يزيد وصالح ابنا مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جعفر، وَكَانَ مُحَمَّد بْن أمير الْمُؤْمِنِينَ أَبِي العباس وعقبة بْن سلم من ناحية جهينة، فطلب صَالِح ويزيد الأمان من كثير فأمنهما وأعلم عيسى ذَلِكَ فلم ينفذ أمانهما!! فَقَالَ لهما كثير: امضيا إِلَى حيث شئتما فهربا- وكانت أم يزيد وصالح فاطمة بنت الحسن (بن الحسن) بْن علي، فكان عَبْد اللَّهِ بْن حسن خالهما، ومحمد ابْن خالهما- واقتتلوا إِلَى قريب من الظهر، ورماهم/ 463/ أو 231 ب/ أَهْل خراسان بالنشاب فأكثروا فِيهِمُ الجراح فتفرق النَّاس عَن مُحَمَّد!!! ورجع إِلَى دار مروان فصلى فِيهَا الظهر، واغتسل وتحنط، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن جعفر بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن المسور بْن مخرمة الزُّهْرِيّ:
إنه لا طاقة لك بمن ترى فالحق بِمَكَّةَ. فَقَالَ: إن فقدت من الْمَدِينَة قتل أهلها كما قتل أَهْل الحرة!! وأنت مني فِي حل يا (أ) با جعفر فاذهب حيث شئت.
__________
[1] قال السيد أبو طالب: حدثنا أبو العباس الحسيني رحمه الله تعالى قال: أخبرنا محمد ابن بلال، قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز، قال: حدثنا محمد بن مخلد بن أحمد بن أبي راشد قال:
لما حمي الوطيس عند قتال محمد بن عبد الله النفس الزكية عليه السلام خرج في قباطاق (كذا) وهو يقول:
قاتل فما بك ان جلست بدومة ... في ظل عرقتها إذا لم تخلد
أي امرئ يرضى الهوان بأهله ... قصرت مروءته إذا لم يردد
وقال أيضا: أخبرنا أبو العباس رحمه الله (قال) وأنشدني سالم بن حسن البغدادي المقرئ لمحمد ابن عبد الله عليه السلام:
متى أرى (ظ) للعدل نورا وقد ... أسلمني ظلم إلى ظلم
منية طال عذابي بها ... كأنني فيها أخو حلم(3/107)
وخرج محمد إلى ثنية فقاتلوه، فَقَالَ: يَا حميد أتقاتلني وتنكث بيعتي؟
فهلم أبارزك. فقال حميد: يا (أ) با عَبْد اللَّهِ لا أبارزك وبين يدي هَؤُلاءِ الأغمار إذا فرغت منهم برزت لك.
112- وحدثني بعض ولد حميد بْن قحطبة قَالَ: كانت هَذِهِ المقالة من مُحَمَّد مكيدة لحميد.
113- قَالُوا: وجثا مُحَمَّد عَلَى ركبتيه وجعل يذب بسيفه (عن نفسه) ويقول: ويحكم إني محرج مظلوم. وجعل النَّاس يتفرقون (عنه) !!! فقال له إبراهيم بن خضير- (وخضير) هَذَا هُوَ مصعب بْن مصعب بْن الزُّبَيْرِ، لقب خضيرًا، وكانت أمه أم ولد-: لو شئت لحقت بأخيك إِبْرَاهِيم بالعراق؟
فَقَالَ: ما كنت لأخيف أَهْل الْمَدِينَة مرتين مرة فِي خروجي و (مرة) بعده.
ومضى إِبْرَاهِيم بْن خضير إِلَى السجن فذبح رياح بْن عُثْمَان المري ولم يجهز عَلَيْهِ فلم يزل يضطرب حَتَّى مات، وَكَانَ إِبْرَاهِيم بْن خضير عَلَى شرطة مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ، ومضى إِبْرَاهِيم بْن خضير إِلَى مُحَمَّد بْن خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري ليقتله فِي محبسه فنذر بِهِ فردم باب البيت دونه فعالجه ابْن خضير فأعياه فتركه- ونجا مُحَمَّد وقدم الْكُوفَة- ورجع ابْن خضير إِلَى مُحَمَّد فقاتل بين يديه حَتَّى قتل ابْن خضير، وقتل مَعَهُ عَلِيّ بْن مالك بْن خثيم بْن عراك الغفاري وسعيد بْن أَبِي سُفْيَانَ الصيرفي فِي آخرين.
وصابرهم مُحَمَّد إِلَى العصر، ثُمَّ جعل النَّاس يتفرقون عَنْهُ!! وَهُوَ يقول:
يَا بني الأحرار إِلَى أين؟! وقتل بيده اثنا عشر رجلا، وولي حميد بْن قحطبة قتاله عند المساء، فَقَالَ لَهُ: اتق اللَّه واذكر بيعتك. فيقال: إن حميدًا قَالَ لَهُ:
وأنت أَيْضًا فافش سرك إِلَى الصبيان.(3/108)
وولده يقولون: أنه قَالَ لَهُ: أبهذا يكاد مثلي؟ وَقَالَ غيرهم: قَالَ لَهُ إنما خدعناك.
وعرض لمحمد رجل فضرب ذقنه فسقطت لحيته عَلَى صدره فرفعها بيده وَقَالَ ناولوني شَيْئًا أشدها بِهِ. فرمي إِلَيْهِ من سطح هناك بشقة شطوية فشد بِهَا لحيته، ورمى بنشابة فِي صدره وطعنه رجل من خلفه فأرداه عَن دابته، فسقط عَلَى يديه ثُمَّ استقل قائما، ورماه رجل بصخرة فأصابت منكبه فأثخنته، وطعنه حميد فِي صدره فصرعه مثبتا ونزل إليه فاحتز رأسه وأتى به عيسى ابن مُوسَى وعنده القاسم بْن حسن بْن زيد وغيره، فَقَالُوا: هَذَا رأس مُحَمَّد بعينه وانهزم النَّاس!!! وانتهى عيسى إِلَى مَا أمره بِهِ المنصور، وبعث بعدة ألوية فنصبت في مواضع متفرقة ونادى مناديه من أتى لواء من الألوية المنصوبة (المنصورية «خ» ) فهو آمن.
وبقي مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ فِي مصرعه بقية يومه وليلته، وأصبح وقد سلب وَهُوَ ملقى عَلَى وجهه، ومطرت السماء تلك الليلة مطرا جودا!!! [1] وأرسلت أخته زينب بنت عَبْد اللَّهِ إِلَى عيسى: قد قضيتم أربكم منه فأذنوا لنا في دفنه، فأذن لهم فدفنوه بالبقيع.
وبعث عيسى إلى المنصور برأس مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ مَعَ ابْن أبي الكرام محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب، فدخل به على
__________
[1] أي غزيرا، يقال: «جاد المطر- من باب قال- جودا وجؤدا» : غرز فهو جائد والجمع جود كصاحب وصحب.(3/109)
المنصور وَهُوَ عاض عَلَى أنفه [1] .
114- حَدَّثَنِي أَبُو مسعود الكوفي وغيره قالوا: (و) جعل محمد بن عبد الله- ويكنى أبا عَبْد اللَّهِ- يقول يوم قتل:
منخرق الخفين يشكو الوجا [2] ... تنكثه أطراف مرو حداد
أفردني/ 464/ أو 232/ أ/ الخوف فلا أمن لي ... كذاك من يكره حر الجلاد
قد كَانَ فِي الموت لَهُ راحة ... والموت حتم فِي رقاب العباد
115- وَحَدَّثَنِي مصعب بْن عَبْدِ اللَّهِ الزبيري قَالَ: قَالَ محمد بن عبد الله للغاضري: البشر (ى) : فقد بويع لي بالشام وخراسان والمصرين. فَقَالَ:
يَا ابْن أم اجعل الأرض كلها لك وَهَذَا عيسى بالأعوص [3] مَا ينفعك مِنْهَا، والله مَا أصبح قوم يعرفون آجالهم غيرنا!!! 116- قَالُوا: وَكَانَ أَبُو العباس زوج محمدًا ابنه زينب بنت محمد ابن عبد الله، فلما قتل (محمّد) أرسل ابْن أَبِي العباس إِلَى عمتها زينب بنت عبد الله ابن الحسن إني أريد أن أدخل عَلَى أهلي فافرغوا من أمرها [4] فأرسلت عمتها
__________
[1] قبح الله قسوة أبناء أبي لهب وتعللهم في استيصال من يستشمون منه الكراهة لملكهم أيؤمر الأرحام لتمشية هذه الأعمال البربرية؟!!
[2] كذا.
[3] قال في باب الألف من معجم البلدان: ج 1، ص 223 ط بيروت:
أعوص- بفتح الواو، والصاد المهملة-: موضع قرب المدينة جاء ذكره في المغازي قال ابن إسحاق: خرج الناس يوم أحد حتى بلغوا المنقي دون الأعوص وهي على أميال من المدينة يسيرة. والأعوص: واد في ديار باهلة لبني حصن منهم ويقال: الأعوصين.
[4] للشيطان شر أبناء أبي لهب ما أشد قساوتهم وأسوأ سيرتهم؟ قد بلغوا في قبح السيرة وسوء الروية ما لم يبلغه بنو أمية معشاره!!!(3/110)
إِلَى عيسى بْن مُوسَى سبحان اللَّه أرسل مُحَمَّد إلي بِكَذَا وقد قتلتم أباها بالأمس ويعرس بِهَا اليوم؟ والله مَا رقأ دم أبيها بعد!!! فأرسل إِلَيْهَا عيسى: يَا ابنة عم مَا علمت بهذا، ولكنه غلام حديث السن سيئ الأدب، وأرسل إِلَى مُحَمَّد بْن أَبِي العباس يسفهّه، ولما لقيه تناوله بسوطه وقال له: يا مائق أما والله ما هي بضعيفة فما كَانَ يؤمنك أن يحضرها عقلها فتطلب بثأرها وتشتمل على سكين فإذا أفضت إِلَيْهَا قتلتك فتكون قد أخذت قود أبيها قبل جفوف دمه!! ثُمَّ تزوجها عيسى بعد، ويقال ضمت إِلَى مُحَمَّد بعد ذَلِكَ، فلما مات تزوجها عيسى بعده، ثُمَّ خلف عَلَيْهَا محمد بن ابراهيم الإمام ثم إبراهيم ابن إِبْرَاهِيمَ بْن حسن بْن زيد بْن حسن بْن علي، ثُمَّ عَبْد اللَّهِ بْن حسن بن إبراهيم ابن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن فتوفيت عنده.
وكان مقتل محمد لأربعة عشر ليلة خلت من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة.
وأمن عيسى النَّاس وخرج يريد مكة صبيحة تسع عشر ليلة من شهر رمضان، فلما كَانَ بملل [1] أتاه كتاب المنصور بخروج إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بالبصرة، وأمره بالقدوم عَلَيْهِ، ويقال: بل أتاه كتاب المنصور
__________
[1] قال في حرف الميم من معجم البلدان: ج 5 ص 194، ط بيروت:
ملل- بالتحريك ولامين بلفظ الملل- من الملال وهو اسم موضع في طريق مكة بين الحرمين ...
وهو منزل على طريق المدينة إلى مكة على ثمانية وعشرين ميلا من المدينة. وملل واد ينحدر من ورقان جبل مزينة حتى يصب في الفرش فرش سويقة وهو مبتدأ ملك بني الحسن بن علي بن أبي طالب وبني جعفر بن أبي طالب ثم ينحدر من الفرش حتى يصب في إضم وإضم واد يسيل حتى يفرغ في البحر فأعلى إضم القناة التي تمر دوين المدينة ... وبين ملل والمدينة ليلتان.(3/111)
بالعرج، فرجع إلى المدينة فبات بها، ثم استخلف كثير بن حصين العبدي وخرج فبات بالأعوص، ثم سار فقدم على أمير المؤمنين المنصور.
وكان حسن بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر بِمَكَّةَ، فلما قتل مُحَمَّد، خرج من مَكَّة، وظهر السري بْن عَبْدِ اللَّهِ.
وَكَانَ هشام بن عروة وأيوب بن سلمة المخزومي قد بايعا محمد بن عبد الله، فأومنا حين اعتذراه (كذا) .
(و) قال ابْن هرمة الفهري ودعاه مُحَمَّد فلم يجبه:
عجبت لأحلام الأولى ضل رأيهم ... وكانوا عَلَى وجه من الحق لاجب
دعوني وقد شالت لإبليس راية ... وأوقد للغاوين نار الحباحب
فقلت لهم: هَذَا من الشر نفسه ... ثنايا المنايا [1] لست فيها بلاعب
أفالليث تغترون يحمي [2] عرينه ... ويلقون جهلا أسده بالثعالب
فما أحكمتني السن إن لم يبذكم ... وما يقضنني [3] ماضيات التجارب
ولما أتى إِبْرَاهِيم مقتل أخيه محمد قال:
يا با المنازل يا زين الفوارس [4] ... من يفجع بمثلك فِي الدنيا فقد فجعا
__________
[1] لعل هذا هو الصواب، وفي النسخة: «ثنامني المنايا» .
[2] كلمة «يحمى» غير واضحة بحسب رسم الخط، ويمكن أن تقرء «يحمحم» .
[3] كذا.
تم الظاهر أن إنشاد الأبيات مؤخر عن استشهاد محمد عليه السلام، وانه أنشدها حين ورد على المنصور كي يستعين به على توفير ثمن الخمر، وإباحته له، وأن لا يجعل لأحد عليه سلطانا إذا رآه يشرب أو وجده سكرانا!!!
[4] هذا هو الظاهر الموافق لما في تاريخ الكامل، غير أن فيه خير الفوارس.
وفي الأصل: «يا أبا المبارك يا زين الفوات من ... » .
والأبيات رواها أيضا في أواخر ترجمة إبراهيم بن عبد الله- عليهما السلام- من مقاتل الطالبيين ص 342 و 374، وذكر الشطر الأول هكذا: «أبا المنازل يا خير الفوارس ... » .(3/112)
اللَّه يعلم أني لو خشيتهم ... وأوجس القلب من خوف لهم فزعا
لم يقتلوه [1] ولم أسلم أخي لهم ... حَتَّى نعيش جميعا أَوْ نموت معا
وَكَانَ مُحَمَّد يقول: إني لم أخرج حَتَّى بايعني أَهْل الْكُوفَةِ وأهل الْبَصْرَة وواسط، والجزيرة والموصل، ووعدوني أن يخرجوا فِي الليلة التي خرجت فيها.
وخرج/ 465/ أو 232 ب/ عُثْمَان بْن إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيّ إِلَى اليمامة ليأخذها لمحمد، فلم يصل إِلَيْهَا حَتَّى بلغه قتل مُحَمَّد.
117- قَالُوا: وَكَانَ مُحَمَّد أسمر أرقط، مخضوب الرأس بصفرة، من أبناء ستين، وكان إبراهيم أخوه شابا قد وحظه الشيب حلوا الوجه خفيف اللحية فأفاء وكان أيّدا [2] شديدا البطش، وكان يكنى أبا إسحاق. ويقال:
__________
[1] هذا هو الظاهر من السياق الموافق لما في مقاتل الطالبيين، وفي النسخة: «لم اقتلوه» .
[2] الأيد- كسيد-: القوي. قال في أول ترجمة إبراهيم من مقاتل الطالبيين ص 316:
أخبرنا عمر (بن عبد الله) قال: حدثنا عمر بن شبة، قال: حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة العمري وسعيد بن هريم:
أن محمدا وإبراهيم كانا عند أبيهما فوردت إبل لمحمد فيها ناقة شرود لا يرد رأسها شيء، فجعل إبراهيم يحد النظر إليها فقال له محمد: كأن نفسك تحدثك أنك رادها؟ قال: نعم. قال: فان فعلت فهي لك. فوثب إبراهيم فجعل يتغير لها ويتستر بالإبل حتى إذا أمكنته جاءها وأخذ بذنبها فاحتملته وأدبرت تمخض بذنبها حتى غاب عن عين أبيه، فأقبل (أبوه) على محمد وقال له: قد عرضت أخاك للهلكة. فمكث هويا ثم أقبل مشتملا بإزاره حتى وقف عليهما فقال له محمد: كيف رأيت؟
(أما) زعمت أنك رادها وحابسها؟ قال: فألقى (ابراهيم) ذنبها وقد انقطع في يده!!! فقال (محمد) : ما أعذر من جاء بهذا.
أنساب الأشراف (م 8)(3/113)
أبا الحسن [1] .
118- وَحَدَّثَنِي بعض أشياخنا قَالَ: أرسل المنصور قبل خروج مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ إِلَى عِيسَى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِي فلما دخل عَلَيْهِ ذكر لَهُ أمر مُحَمَّد وإبراهيم، فَقَالَ: قد بهضني أمرهما وظننت أني إذا أخذت أباهما وعمومتهما وقراباتهما أظهرا لي سلم أو حرب، وقد هدءا في مربضهما وقرّا في مكنسهما يلتمسان لي الغوائل، ويتربصان بي الدوائر، وترك إطفاء جمرة الشيطان قبل تأججها من تضييع أسباب الدولة!!! وفي تضييع أسباب الدولة حلول البلاء، وأنا أريد أن أبعثهما من مربضهما وأستنهضهما من مكنسهما وأنصب الحرب لهما، فإني أرجو أن ينصر الله ورثة نبيه [2] ويعزهم بالحق
__________
[1] قال في أول ترجمة إبراهيم من مقاتل الطالبيين ص 315:
حدثنا يحي بن علي المنجم قال: سمعت عمر بن شبة يقول:
إبراهيم بن عبد الله (كنيته) أبو الحسن، وكل إبراهيم في آل أبي طالب كان يكنى أبا الحسن، أما قول سديف لإبراهيم بن عبد الله:
أيها أبا إسحاق هنئتها ... في نعم تترى وعيش طويل
أذكر هداك الله وتر الأولى ... سير بهم في مصمتات الكبول
فإنما قال ذلك على مجاز الكلام وما يعرف شكلا للأسماء من الكني ولضرورته في وزن الشعر إلى ذلك.
قال المحمودي ويحتمل أنه عليه السلام في أيام اختفائه كان يكنى بأبي إسحاق حذرا من شر الخناسين من آل العباس، أو لأنه كان له ابن ولد في أيام اختفائه بالبصرة، فسماه بإسحاق وقتل أو مات ولم ينشر خبره.
[2] قد تحقق مما تقدم أن هذا من تحكمات المخذول ومن أجلى موارد تطييب الخواطر بالزور والبهتان، وأن ولاية منصور وآباءه وأبناءه منقطعة بقوله تعالى في الآية: (72) من سورة الأنفال:
«والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا» وبقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا هجرة بعد الفتح» . وإن ولاية على وأبنائه ووراثتهما عن رسول الله ثابتة بخبر يوم الدار المجمع عليه، وحديث الغدير وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: «إن هذا وصيي ووارثي» . وغيرها من الأدلة الحاصرة للوراثة والخلافة في علي وأبناء علي عليهم السلام.(3/114)
الَّذِي جعله لهم وأكرمهم بِهِ!!! وينتقم لنا أَهْل البيت من الحاسدين الساخطين لما جرى لنا بِهِ قضاؤه فما الرأي فيما ذكرت لك؟ وكيف وجه العمل فيما أعلمتك؟ فَقَالَ عيسى: إن من سوء التدبير ترك (تركك «خ» ) الاستعداد للأمر المخوف قبل وقوعه، فأرشد اللَّه أمير الْمُؤْمِنِينَ وأدام توفيقه، ومن الصواب أن تولي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْمَدِينَة رجلا من أَهْل بيتك لَهُ مكر ونكر، وتأمره بطلبهما والبحث عنهما وإذكا (ء) العيون عَلَيْهِمَا حَتَّى يظفرك اللَّه بهما. فَقَالَ: يا (أ) با مُوسَى إن عداوتهما لنا باطنة لم يظهروها فَإِن استكفيت أمرهما رجلا من أَهْل بيتي منعته الرحم من مكروههما وحجزته القرابة من طلبهما. قَالَ فول الْمَدِينَة رجلا من أَهْل خراسان كان له حد وجد، ومره يقعد لهما (ظ) بكل مرصد وَلا يفتر عَن طلبهما حَتَّى يظفر بهما. فَقَالَ: يَا أبا مُوسَى إن محبة آل أَبِي طالب فِي قلوب أَهْل خراسان ممتزجة بمحبتنا، وإن ولّيت أمرها رجلا من أَهْل خراسان حالت محبته لهما بينه وبين طلبهما والفحص عنهما!!! ولكن أَهْل الشَّامِ قاتلوا عَلِيًّا عَلَى أن لا يتأمر عليهم لبغضهم إياه، ثُمَّ مات علي وهلك الذين قاتلوه، فقام بنوه من بعده يطلبون الأمر، فقام أبناء أَهْل الشَّامِ الَّذِينَ قاتلوه فمنعوا بنيه الأمر وسفكوا دماءهم للبغض الَّذِي ورثوه عَن آبائهم!!! فالرأي أن أولي الْمَدِينَة رجلا من أَهْل الشَّامِ [1] .
فولى رياح بْن عثمان بن حيان المري الْمَدِينَة وشحذه عَلَى طلب مُحَمَّد وإبراهيم، فلما قدم (رياح) الْمَدِينَة صعد المنبر فَقَالَ: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا أنبأ (ءنا) أنا ابْن عم مسلم بْن عقبة، الشديد الوطأة!!! كان عليكم، الوبين الواقعة بكم [2] الخبيث السيرة فيكم وأنتم اليوم (ظ) عقب الَّذِينَ حصدهم السيف، وايم اللَّه لأحصدن منكم عقب الَّذِينَ حصد، ولألبسن الذل عقب من ألبس.
__________
[1] للشيطان شره ومكره، ما أشبه صنع من عد الله- بزعمه- أبا لهب أباه بصنيع أبناء أبي سفيان؟!! وما أقر عيني معاوية ويزيد بعمله هذا؟!!.
[2] كذا.(3/115)
ثُمَّ وضع عَلَى مُحَمَّد وإبراهيم الأرصاد، حَتَّى خرج محمّد في أهل المدينة وقتل رباح، فلما قتل فِي محبسه خرج صبيان أَهْل الْمَدِينَة يكبرون حول جثته ويقولون:
سلحت أم رباح فأتينا برباح ... فأتينا بأمير ليس من أَهْل الصلاح
مَا سمعنا بأمير قبل هَذَا من سفاح
119- قَالُوا: ولما جاء المنصور خبر خروج مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
ألا تعجبون لهذا القاطع المشاق؟! ترك هَذَا الأمر وَهُوَ لبني أمية مستقيم، فلما فتقناه عليهم وثلمناه فوهن عراه [1] واسترخى طنبه وضعف عموده فصار لنا شديد العرى/ 466/ أو 233/ أ/ محكم العقد والقوى عرض فِيهِ للحين والردي، وبالله استعين عَلَيْهِ وعلى كُلّ باغ.
قَالَ: [2] وَكَانَ المنصور حين أتاه خبر مُحَمَّد نازلا بالدير الَّذِي عَلَى الصراة من بغداد [3] وَهُوَ يرتاد لَهُ منزلا فاختار الموضع الَّذِي يعرف بالخلد،
__________
[1] هذا هو الظاهر من رسم الخط في النسخة، ويحتمل أيضا أن يقرأ: «فوهى عراه» .
[2] كذا في الأصل هاهنا، ومثله يأتي أيضا في ذيل هذا الحديث، فإن صح فالضمير المستتر في «قال» راجع إلى ما تقدم في قوله: «حدثني بعض أشياخنا» وعلى هذا فما تقدم قبل أسطر بلفظ الجمع «قالوا» : مصحف، وعلى فرض صحته فالتاليان مصحفان، وصحة الجميع بعيد في غاية البعد.
[3] قال في حرف الصاد من معجم البلدان: الصراة: نهران ببغداد: الصراة الكبرى والصراة الصغرى ولا أعرف أنا إلا واحدة وهو نهر يأخذ من نهر عيسى- من عند بلدة يقال لها المحول بينها وبين بغداد فرسخ- ويسقي ضياع بادوريا ويتفرع منه أنهار إلى أن يصل إلى بغداد فيمر بقنطرة العباس ثم قنطرة الصبيبات، ثم قنطرة رحا البطريق ثم القنطرة العتيقة ثم القنطرة الجديدة ويصب في دجلة، ولم يبق عليه الآن إلا القنطرة العتيقة، والجديدة يحمل من الصراة نهر يقال له خندق طاهر بن الحسين أوله أسفل من فوهة الصراة يدور حول مدينة السلام مما يلي الحربية، وعليه قنطرة باب الحرب، ويصب في دجلة أمام باب البصرة من مدينة المنصور ...(3/116)
فلما قرأ الكتاب الوارد عَلَيْهِ بخبره استوى قاعدًا فتلا قول اللَّه عز وجل «وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، كُلَّما أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ، وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ» (64/ المائدة) ثُمَّ أمر فنودي فِي النَّاس بالرحيل، وحملت الأثقال وَقَالَ: آتي الْكُوفَة فأطأ أصمختهم [1] وأنزل عَلَى رقابهم وأكون مكبحة لهم [2] ثُمَّ دعا بثيابه ودابته. فلما قربت ليركبها تمثل قول جذل الطعان الكناني.
سيروا إلى القوم بإخزاع ولا ... تأخذكم من لقائهم وجل
فالقوم أمثالكم لهم شعر ... فِي الرأس لا ينشرون إن قتلوا
ثُمَّ ركب دابته فبات بنهر صرصر، ثُمَّ غدا متوجها إِلَى الْكُوفَةِ فنزل قصر أَبِي الخصيب مولاه.
قَالَ: [3] فلما قتل مُحَمَّد بْن عَبْدِ الله بالمدينة، وإبراهيم بالبصرة أقبل (المنصور) إِلَى بغداد، ومعه عَبْد اللَّهِ بْن الربيع الحارثي يسايره، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن الربيع: لقد كَانَ عَبْد الملك حازما. قَالَ: أجل كَانَ رجل قومه فما بلغك عَنْهُ؟ قَالَ عَبْد اللَّهِ: بلغني عَنْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أنه لما أنشد قول الأخطل:
قومٌ إِذَا حاربوا شدوا مآزرهم ... دُونَ النِّسَاء ولو باتت بأطهار [4]
__________
[1] الأصمخة: جمع الصماخ- بكسر الصاد-: الأنف.
وقد جازاهم الرجل وذووه جزاء السنمار!!! فقتلوا كبيرهم أبا سلمة بن الخلال وأوطئوا أصمخة صغارهم مع أنهم هم الذين آووا المخذول وإخوته وبني أبيه ونصروهم واستنقذوهم من بني أمية، فلو كانوا على شيء من الحق والإنسانية لما قتلوا كبيرهم ولما أوطئوا أصمختهم!!!
[2] يقال: «كبح الدابة باللجام- واكبحها من باب منع وأفعل- كبحا وإكباحا» جذبها به لتقف ولا تجري. وكبحه عن الحاجة: رده عنها. وكبحه بالسيف: ضربه به.
[3] كذا في الأصل، ومثله ما قبله كما أشرنا إليه في التعليق المتقدم.
[4] هذا هو الصواب، وفي الأصل: «ولو باتوا بأطهار» .(3/117)
قَالَ: لا والله مَا أتيت امرأة منذ وقعت حرب عبد الرحمان بن محمد ابن الأشعث حَتَّى انقضت. فَقَالَ المنصور: وأنا والله يا (أبا) الربيع فما كسدت لامرأة كنفا [1] منذ وقعت حرب مُحَمَّد وإبراهيم حَتَّى انقضت.
120- وَقَالَ السندي بْن شاهك: كنت أيام حرب مُحَمَّد وإبراهيم وصيفا [2] أقوم عَلَى رأس المنصور، فلما غلظ أمرهما مكث عَلَى مصلى بضعا وخمسين ليلة لا يتنحى عَنْهُ ولا يجلس وَلا ينام إِلا عَلَيْهِ، وعليه جبة ملونة فتدنست واتسخ جيبها وما تحت لحيته منها (كذا) فما غيرها حَتَّى فتح اللَّه عَلَيْهِ!! وَكَانَ إذا جلس للناس لبس فوقها سوادًا، وَقَالَ: لا أغيرها حَتَّى أدري أهي لمحمد وإبراهيم أم لي [3] .
وقال السندي: وأتته ريسانه قيمة جوارية فِي تلك الأيام وأنا قائم عَلَى رأسه- وقد قدم عَلَيْهِ إِسْحَاق الأزرق مولاه بامرأتين من قريش، كَانَ بعثه فِي خطبتهما، إحداهما فاطمة بنت مُحَمَّد من ولد عيسى بْن طَلْحَة بْن عبيد الله، وثانيتهما أمة الكريم بنت عَبْد اللَّهِ، من ولد خَالِد بْن أسيد- فقالت لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إن هاتين المرأتين قد خبثت أنفسهما وساءت ظنونهما لما ظهر لهما من جفائك إياهما. فانتهرها وزبرها وَقَالَ: أهذه الأيام من أيام النساء؟ لا سبيل إليهما حَتَّى أعلم أرأس إبراهيم لي أم رأسي له!!!
__________
[1] كذا في الأصل، فما كسدت بمعنى ما روجت، والكنف هنا الناحية أي ما لاحظت جانب نسائي بالاستئناس بهن والمباشرة لهن إلا بعد ما انقضت الحرب.
[2] الوصيف: الغلام الذي بلغ أو ان الخدمة، وهو دون المراهق. ورسم خط هذه الكلمة من الأصل غير واضح.
[3] إن صح هذا عنه، فمن أجل أنه كان يرى شخصه مبتلى إما بملك مسلوب ونار ملهبة، أو بأحدهما. مع أن تقريض ابن شاهك في أمثال المقام كتقريض الزانية بنته المولعة بالفحشاء!!!(3/118)
121- قَالُوا: وأتي المنصور برجل مَعَهُ كتب إِلَى أهل الكوفة من محمد أو إبراهيم، فأمر بضرب عنقه، فذكر أنه مجبر (كذا) مقهور محتاج كثير العيال، فأمر بتخلية سبيله فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إني استحلفت أن أوصل الكتب إِلَى أصحابها إِلا أن يحاط بي وقد منّ أمير المؤمنين علي. فَقَالَ: خذها هبلتك أمك. فتناول الكتب ومضى فأوصلها. فلم يزل منازل من كتبت إِلَيْهِ بطون الأرض [1] حَتَّى توفي المنصور فبقي منهم بعد ذَلِكَ رجل أَوْ رجلان، 122- قَالُوا: وخرج مُحَمَّد ثُمَّ خرج إِبْرَاهِيم فَقَالَ المنصور:
تفرقت الظباء عَلَى خداش ... فما يدري خداش ما يصيد
وقال حين قتلا:
فألقت/ 467/ عصاها واستقرت بِهَا النوى ... كما قر عينا بالإياب المسافر
123- قَالُوا: ولما قدم إِبْرَاهِيم بْن هرمة عَلَى المنصور، وقد بلغه أن محمدًا دعاه فلم يجبه وَقَالَ فِي ذَلِكَ شعره الَّذِي قاله- قَالَ المنصور: يَا إِبْرَاهِيم سلني حوائجك. فَقَالَ: إن فِي هَذِهِ الأرواح المصنية [2] وإنما دواؤها شرب النبيذ، فَإِن رأى أمير المؤمنين أن يكتب إلى عامله أ (ن) لا يحدني فِيهِ فعل!!! قَالَ: لا سبيل إِلَى هَذَا، ولكن اكتبوا لَهُ أن يجلد من أخذه مائة ويجلده ثمانين [3] فقال: قد قنعت، فكان يقول إذا سكر بالمدينة: من يشتري ثمانين بمائة!!!
__________
[1] وهذا كان الغرض من إطلاق الرجل، وإلا من عد- بزعمه- أبا لهب في آبائه لم يكن موصوفا بالصفح، ولعله بعد ذلك قتل الرجل أيضا ونسب قتله إلى الخوارج أو إلى الجن!!! كما فعلوا ذلك في قتل أبي سلمة الخلال وغيره!!!
[2] كذا في الأصل، ولعل المصنية- هاهنا- بمعنى الشرهة.
[3] وهذا هو التلاعب بالقوانين الإلهية والنواميس الشرعية!!! وهذا برهان ساطع على كون الرجل سرا لعمه أبي لهب وليس من الدين في شيء!!!(3/119)
124- وَحَدَّثَنِي الحسن بْن علي الحرمازي وأبو العباس الفضل بْن العباس الهاشمي عَن الزُّبَيْر بْن بكار، عَن عمه مصعب بْن عَبْدِ اللَّهِ وغيرهما- فسقْتُ حديثهم ورددت من بعضه عَلَى بعض- أن أبا بكر ابن أبي سبرة، كان عاملا لرباح بن عثمان على مسعاة أسد وطيّئ، فلما خرج مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ، دفع إِلَيْهِ مَا كَانَ مَعَهُ من المال، وَقَالَ: أستعن بِهِ عَلَى أمرك، فلما قتل مُحَمَّد، قيل لأبي بكر: (عليك بالفرار) فَقَالَ: ليس مثلي هرب!! فأخذ أسيرًا فطرح فِي حبس الْمَدِينَة، وَكَانَ الحابس لَهُ عيسى بْن مُوسَى- ويقال: خليفته كثير بْن الحصين العبدي- وولي الْمَدِينَة بعد عيسى بْن مُوسَى عَبْد اللَّهِ بْن الربيع الحارثي ويكنى أبا الربيع، فعاث جنده وأفسدوا، فوثب بهم أَهْل الْمَدِينَة فقتلوا منهم وطردوا باقيهم وأخرجوا عَبْد اللَّهِ عن المدينة، وانتهبوا متاعه، فنزل بئر المطلب يريد الْعِرَاق، واجتمع سودان ورعاع وقلدوا أمرهم ورئاستهم أسود يقال لَهُ:
أوتيوا، فكان السودان- فيما ذكر الحرمازي- يدعونه أمير الْمُؤْمِنِينَ!!! وجاءوا فكسروا باب السجن وأخرجوا من فِيهِ، وأخرجوا أبا بكر ابن أَبِي سبرة، فأرادوا فك حديده فأبي ذَلِكَ، وقام فخطب ودعا إِلَى طاعة المنصور وحذر الفتنة، فقيل لَهُ: تقدم فصل فَقَالَ: إن الأسير لا يؤم. ورجع إِلَى السجن فأقام بِهِ!!! واجتمع القرشيون فخرجوا إِلَى ابْن أَبِي الربيع مما ذهب لَهُ أَوْ أكثره وأرضوا من بقي من جنده، ورأى ابن أبي ذيب أولئك السودان، فَقَالَ:
لبعضهم: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا أوتيوا أميرنا وَهُوَ أمير الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ ابن أبي ذئب- وهو يتبسم-: يَا رب إن كَانَ فِي سابق علمك أن يلي أمرنا أوتيوا هَذَا فارزقنا عدله!!! وأتى مُحَمَّد بْن عمران بْن إِبْرَاهِيمَ بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة بْن عُبَيْدِ اللَّه أوتيوا وقد خف من معه (كذا) فلم يزل يخدعه حَتَّى أمكنته الفرصة منه، فقبض(3/120)
عَلَيْهِ وأمر بِهِ فأوثق، وتفرق السودان بعد أن أخذ أوتيوا، وقبض كُلّ رجل عَلَى أسود منهم، ومات أوتيوا فِي السجن وَكَانَ مثقلا بالحديد، ويقال:
إنه مات جوعا،. وَقَالَ الحرمازي: قتل قتلا.
125- وَقَالَ: هِشَام بْن الْكَلْبِيّ: ولى المنصور مُحَمَّد بْن عمران بْن إِبْرَاهِيمَ بْن إِبْرَاهِيمَ بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة قضاء الْمَدِينَة، ثُمَّ ولي المنصور جعفر بْن سُلَيْمَان الْمَدِينَة، فأمره بإطلاق ابْن أَبِي سبرة، وَقَالَ: ان كان أساء (أوّلا) فقد أحسن (أخيرا) بما كَانَ منه.(3/121)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أمر إِبْرَاهِيم بْن عبد الله ومقتله [1]
126- قالوا: قدم محمد وابراهيم الْبَصْرَة فنزلا عَلَى أَبِي حفص مولى آل كدير المازني، ثُمَّ رجع مُحَمَّد إِلَى الْمَدِينَة فتحول ابراهيم فنزل عند المغيرة ابن الفزع بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن ربيعة بْن جندب، أحد بني بهدلة بْن عوف بْن كعب ابن سعد بْن زَيْد مناة بْن تميم، ثُمَّ تحول إِلَى بني راسب ثم جعل ينتقل.
وهو الذي (كان) يقول لرجل معلم يقال لَهُ: ابْن مسعدة- وَكَانَ يخدم بعض من استخفى عنده-:
زعم/ 468/ ابْن مسعدة المعلم أنه ... سبق الرجال براعة وبيانا
وَهُوَ المبين عَن الحمامة شجوها ... وَهُوَ الملحّن بعده الغربانا
وَكَانَ يقول: إن الحمامة تقول كَذَا فيفسر معنى تغريدها، ويقول:
__________
[1] بدأنا بكتابة ما هاهنا من الأصل المخطوط، في أول ليلة المولود: (17) من شهر ربيع الأول من سنة 1392.
ثم ان لإبراهيم عليه السلام هذا ترجمة مفصلة في مقاتل الطالبيين ص 315 والأغاني ج 18، ص 208. وقال السيد أبو طالب: أخبرنا أبو العباس الحسني قال: حدثنا عبد العزيز بن إسحاق ابن جعفر، قال: حدثني أحمد بن يحيى قال: حدثنا محمد بن إسحاق، قال: حدثنا نصر بن حماد، قال:
جاء قوم إلى شعبة، فسألوه عن ابراهيم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن عليهم السلام!! قال شعبة تسألونني عن ابراهيم وعن القيام معه؟ تسألونني عن أمر قام به ابراهيم بن رسول الله والله لهو عندي بدر الصغرى!!! هكذا رواه عنه في الباب (8) من تيسير المطالب ص 122.(3/122)
الغراب ملحن إنما ينبغي أن يقول: غاق غاق [1] .
فكان خروجه فِي أول يوم من شهر رمضان سنة خمس وأربعين ومائة، ولم يكن أراد الخروج ذَلِكَ اليوم، ولكنه حذر أن يسعى بِهِ، فقيل: أخرج والا بعث إِلَيْك فأخذت. فخرج في عشرين أو أكثر منهم المغيرة بن الفزع، وعبيد الله بن المسور بن عمر بْن عباد بْن الحصين التَّمِيمِيّ، وعبد الواحد بن زياد بن عمرو العتكي.
فأتى مغيرة بني يشكر فأقام بِهَا ساعة، فاجتمع إِلَيْهِ قوم ثُمَّ سار حَتَّى أتى دار الإمارة، وبها سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة بْن يَزِيد بْن المهلب وَهُوَ عامل الْبَصْرَة، وقد كَانَ خاف خروج إِبْرَاهِيم فتحصن واتخذ عدة للحصار، ومع سُفْيَان فِي الدار ستة عشر رجلا، فنزل ابراهيم عند مسجد الأنصار، ثُمَّ عسكر عند مسجد الْحَرُورِيَّة.
وقدم البصرة قائد أمد (المنصور) بِهِ سُفْيَان قبل خروج إِبْرَاهِيم بليلة، فبعث إليه إبراهيم المضاه بن القاسم التغلبي فلقي القائد فهزمه المضاه.
__________
[1] وقال في ترجمة عبد الله الأشتر بن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَسَن بْن الحسن عليهم السلام من مقاتل الطالبيين ص 311:
و (عبد الله بن محمد) ابن مسعدة هذا كان مؤدبا لولد عبد الله بن الحسن، وفيه يقول إبراهيم بن عبد الله بن الحسن على سبيل التهكم:
زعم ابْن مسعدة المعلم أنه ... سبق الرجال براعة وبيانا
وهو الملقن للحمامة شجوها ... وهو الملحن بعده الغربانا
وكان ابن مسعدة سمع غرابا ينعق فقال له: أتلحن ويحك يا غراب؟ تقول: غاق غاق.
قيل: فكيف (يصح أن) يقول؟ قال: يقول: غاق غاق.(3/123)
وأرسل إبراهيم لبطة بن الفرزدق إلى نميلة بْن مرة بْنِ عَبْدِ العزيز التَّمِيمِيّ [1] ثُمَّ أحد بني ملادس (ظ) بْن عبد شمس بْن سعد، يدعوه إِلَى بيعته فأباها، فَقَالَ لَهُ لبطة: أمن خوف سياط أَبِي جعفر تمسك عَن مبايعته؟ فأتاه فبايعه.
واعتزل سوار بْن عَبْدِ اللَّهِ العنبري (عن) القضاء في أيام إبراهيم، فولاه عباد بْن منصور.
127- قَالُوا: وأخرج جعفر ومحمد ابنا سُلَيْمَان بْن علي سلاحا واجتمعا ومواليهما فِي كتيبة خشناء فقاتلوا أصحاب إِبْرَاهِيم المبيضة، وجعل محمد بن سليمان يعبئ الكراديس (ظ) فِي المربد، فَقَالَ لَهُ عَبْد الجبار بْن قطري مولى باهلة. إن هَذِهِ التعبئة لا يكون فِي السكك، ولكن أقم بمكانك فَإِن رأيت خللا فسده، فلم يقبل منه والتقوا فانهزم مُحَمَّد وجعفر، قبل أن يكون بينهما وبين القوم كبير قتال، وَكَانَ مُحَمَّد يومئذ عَلَى فرس كَانَ لملبد الخارجي يقال لَهُ الملبدي.
وأمر إِبْرَاهِيم المغيرة بْن الفزع أن يأتي السجن فيخرج من فِيهِ ففعل.
ووقف إِبْرَاهِيم عند القصر، فطلب سُفْيَان منه الأمان، فأمنه فخرج، ثُمَّ أظهر أنه يخافه عَلَى أنه يشغب ويفسد فحبسه، ودخل إِبْرَاهِيم دار الإمارة فنزلها أياما، ثم تحول (عنها) فنزل الخريبة وبيضت القبائل.
وبعث إِبْرَاهِيم رجلا (إلى المدينة) فوجد أخاه محمدا قد قتل.
__________
[1] الظاهر أن هذا كان في أيام اختفاء ابراهيم قبل الدعوة العلنية والمبايعة العامة، وأما فيها فقد روى في أول ترجمة إبراهيم من مقاتل الطالبيين ص 318، وفي ط ص 215: ان إبراهيم دعا الناس وهو في دار أبي فروة وكان أول من بايعه نميل بن مرة ...(3/124)
وولي إِبْرَاهِيم شرطه مُعَاوِيَة بْن حرب، ووجه مغيرة بْن الفزع عَلَى حرب الأهواز، وولي خراجها عفو اللَّه بْن سُفْيَان الثَّقَفِيّ فقاتلهم محمد بن الحصين العبدي فغلبوا عَلَى الأهواز وهزموا محمدًا، وغلب محرز الحنفي عَلَى كرمان، فلما قتل إِبْرَاهِيم هرب إِلَى السند. وأقام أَهْل عمان والبحرين عَلَى طاعة المنصور، وأراد قثم بْن الْعَبَّاس بْن عُبَيْد اللَّه بْن العباس أن يخرج عَن اليمامة، فَقَالَ لَهُ أهلها: نحن، فِي طاعة المنصور. فأقام.
وبلغ إِبْرَاهِيم قتل مُحَمَّد وَهُوَ يمضغ قصب سكر ويمصه فلم يظهر جزعا وتجلد، ثُمَّ عزاه الناس [1] .
وغلب له برد بن لبيد اليثكري على كسكر، وسار إلى واسط ومعه
__________
[1] قال في مقاتل الطالبيين ص 309: وقال إبراهيم بن عبد الله يرثي أخاه:
أبكيك بالبيض الرقاق وبالقنا ... فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
وإنا أناس لا تفيض دموعنا ... على هالك منا ولو قصم الظهرا
ولست كمن يبكي أخاه بعبرة ... يعصرها من جفن مقلته عصرا
ولكنني أشفي فؤادي بغارة ... ألهب في قطري كتائبها جمرا
وقال في كتاب إشراق النيرين: ولما عزم محمد على الخروج واعد أخاه إبراهيم على الظهور في يوم واحد، فذهب محمد إلى المدينة وإبراهيم إلى البصرة، فاتفق أن ابراهيم مرض بالبصرة، فخرج أخوه بالمدينة وهو مريض، ولما خلص من مرضه وظهر أتاه خبر أخيه أنه قتل، وهو على المنبر يخطب- ويقال: بل إنه متوجه إلى الكوفة لحرب المنصور- فأنشد:
سأبكيك بالبيض الصوارم والقنا ... فإن بها ما يدرك الطالب الوترا
ولست كمن يبكي أخاه بدمعة ... يعصرها من ماء مقلته عصرا
وإنا أناس لا نفيض دموعنا ...
أقول: والأبيات ذكرها أيضا عنه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة.(3/125)
حفص بن عمر من ولد الحرث بْن هِشَام المخزومي فكان يصلي بالناس والحرب إِلَى برد بْن لبيد، فبعث المنصور حرب بن عبد الله وأسد بن المرزبان، وعمر ابن العلاء مولى بني مخزوم، وبعث إِبْرَاهِيم عَبْد الخالق الخلقاني ومعه المفضل ابن مُحَمَّد الضبي الراوية- وَكَانَ المفضل يراعي إِبْرَاهِيم ويتعرف خبره قبل خروجه، فلما قرب خروجه خرج إِلَى الْبَصْرَة، فجعل النَّاس يتكلمون فِي قدومه أياما [1] ولا يدرون/ 469/ أو 234 ب/ أنه إذا قدمها، حَتَّى خرج إِبْرَاهِيم فخرج مَعَهُ- فقاتل أصحاب المنصور بردًا وعبد الخالق ومن معهما، فانهزم برد وعبد الخالق وأصحابهما وكف الخراسانية عنهم.
129- وَحَدَّثَنِي الأثرم عَن أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: كَانَ سفيان مد (ا) هنا في أمر إِبْرَاهِيم [2] وجعل أصحاب إِبْرَاهِيم حين خرج ينادون سُفْيَان وَهُوَ محصور: اذكر بيعتك يوم كَذَا. وَقَالَ لَهُ خليفته عَلَى الشرطة: إني مررت بمقبرة بني يشكر فرميت بالحجارة. فَقَالَ: أَوْ مَا كَانَ لك طريق غير مقبرة بني يشكر؟!! وكان كردم السدوسي تعدوا على سفيان وتروح إلى إبراهيم فلا تعرض لَهُ هَذَا وَلا هَذَا.
وَقَالَ سُفْيَان لقائد من قواد إِبْرَاهِيم: أقم عندي فليس كُلّ أصحابك يعلم مَا كَانَ بيني وبين إِبْرَاهِيم.
وقدم عَلَى المنصور جعفر بْن سُلَيْمَان بْن علي فولاه الْبَصْرَة، وكتب لَهُ عهده عَلَيْهَا، وبعث سلم بْن قتيبة وكتب لَهُ أيضًا عهدا على البصرة، وقال له
__________
[1] رسم الخط في الأصل خفي ويصلح أن يقرأ: «في قدومه إياها» .
[2] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «في ابن ابراهيم» .(3/126)
سلم: اجعل لي أيمان أَهْل الْبَصْرَة. فَقَالَ: إئمانهم إِلَيْك.
وقدم عِيسَى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِي من الحجاز، فسرحه المنصور لحرب إِبْرَاهِيم والمبيضة، فيقال: إنه أمره أن يمضي على سننه وَلا يدخل الْكُوفَة، وأمر المنصور بأعطاء النَّاس أعطياتهم.
وبلغ إِبْرَاهِيم الخبر فأجمع عَلَى المسير إلى عيسى فقال له المضاه: لا تفعل وأقم بمكانك ثُمَّ وجه الجنود. (فلم يرتض قوله) فسار واستخلف ابنه الحسن بْن إِبْرَاهِيمَ عَلَى البصرة، وسير (كذا) عَلَى شرطه نميلة بْن مرة، فلما انتهى ابراهيم إلى قناطر ابن دارا، أقام فِي باخمرى وقد اجتمع إِلَيْهِ أصحابه.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم لما حبس سُفْيَان قيده بقيد خفيف ليترا (ء) [1] عند أبي جعفر من ممالات إِبْرَاهِيم، وَكَانَ ذَلِكَ عَن إرادة من سُفْيَان، وحمل سُفْيَان إِلَى باخمري.
130- قَالُوا: وَكَانَ جعفر بْن سُلَيْمَان، قد جمع الطعام والعلف فِي معسكر لَهُ، ومعه سلم بْن قتيبة، وأبو دفافة العبسي، فارتحل إِبْرَاهِيم يريد عيسى، واتبعه جعفر، فقال المضاه لإبراهيم: سر إلى عسكر جعفر الَّذِي كَانَ فِيهِ فتحصن بِهِ، فأبي ذَلِكَ وأبته الزيدية أيضًا، وَكَانَ مَعَ إِبْرَاهِيم أحد عشر ألفا [2] سبعمائة فارس والباقون رجالة، فجعل إِبْرَاهِيم عَلَى ميمنته عَبْد الْوَاحِد بْن زِيَاد بْن عَمْرو العتكي، وعلى ميسرته برد بن لبيد اليشكري
__________
[1] هذا ظاهر رسم الخط، ويحتمل بعيدا أن يقرأ: «ليتبرأ» .
[2] هذا هو الظاهر من السياق، وفي النسخة: «أحد عشر أخا» .(3/127)
وحملوا عَلَى أَهْل عسكر عيسى حَتَّى خالطوه، فتضعضع أَهْل عسكر عيسى وجالوا ثُمَّ انهزموا.
وجاء جعفر بْن سُلَيْمَان وأصحابه من خلف أصحاب إِبْرَاهِيم، وذلك أنهم عبروا نهرًا كَانَ وراءهم وَكَانَ أول من عبره سلم بْن قتيبة وأصحابه فنادي النَّاس: الكمين الكمين وانهزم أصحاب إِبْرَاهِيم، وكر أصحاب عيسى بْن مُوسَى فوضعوا سيوفهم فِيهِمْ فقتلوا من جهتين، وقتل إِبْرَاهِيم وصبر بعض الزيدية فقتلوا، وقتل برد، وعبد الواحد بْن زياد، وعبد الوارث بْن الحواري.
ونادى منادى عيسى: أن من ألقى سلاحه فهو آمن، وأمر برفع السيف عن فلهم، فادعى عقبة ابن مسلم أنه قتل إِبْرَاهِيم- وإنما قتله غيره- وَكَانَ الحر اشتد عَلَى إِبْرَاهِيم فِي الحرب فألقى درعه وقاتل فأصابته نشابة مات مِنْهَا، ويقال إنه نزع ثيابه ليقع فِي الماء فأدرك فقتل، ووجه عيسى من احتز رأسه فبعث بِهِ إِلَى المنصور، فأمر فطيف بِهِ فِي الْكُوفَة، وَقَالَ المنصور:
يَا أَهْل الْكُوفَةِ يا أهل المدرة الخبيثة- يقولون إنه سمع فِي عسكر إِبْرَاهِيم قائل يقول: أقدم حيزوم. تشبهونه بعسكر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ووبخهم وَقَالَ: لعنك اللَّه من بلدة ولعن أهلك [1] والله للعجب لبني أمية كيف لم يقتلوا مقاتلتكم و (لم) يسبوا ذريتكم!!! [2] .
__________
[1] هذا جزاء أهل الكوفة ومكافاتهم على إحسانهم على المنصور وذويه حيث نصروهم وآووهم ونجوهم من الاستيصال عند فرارهم من بني أمية؟!! وقد جزاهم كما يجزى السنمار!!!
[2] ولعل الله صرفهم عن ذلك، ومكن من هو أخبث منهم لينظر كيف يعملون، وليعرف الناس أنهم مبطلون في دعاويهم وأنّهم كافرون لنعمة الله، جاحدون لحق الله معادون لأولياء الله، مناصحون لأعدائه، فهم من طواغيت الأمة وفراعنتها!!! قال السيد أبو طالب: أخبرني أبي قال: أخبرنا محمد بن الحسن بن أحمد بن أدريس، عن سلمة بن الخطاب (ظ) عن معاوية بن الحكم عن محمد بن موسى عن الطيالسي قال:
لما قتل أبو جعفر محمدا وإبراهيم وجه شيبة بن عقال إلى الموسم لينال من آل أبي طالب فحمد اللَّه وأثنى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: إن علي بن أبي طالب شق عصى المسلمين وخالف أمير المؤمنين وأراد هذا الأمر لنفسه فأخر الله أمنيته وأماته بغيظه!!! ثم هؤلاء (ولده) يقتلون وبالدماء يحصون!!! فقام إليه رجل فقال: الحمد لله رب العالمين وصلى الله (ظ) على محمد وأنبيائه المرسلين، أما ما قلت من خير فنحن أهله، وأما ما قلت من شر فأنت به أولى وصاحبك به أحرى يا من ركب غير راحلته وأكل (غير) زاده أرجع مأزورا!!! ثم أقبل على الناس فقال: (ألا) أخبركم بأبخس الناس ميزانا وأبينهم خسرانا؟ من باع آخرته بدنيا غيره وهو هذا!!! ثم جلس فقال الناس: من هذا؟ فقيل: (هو) جعفر بن محمد عليهما السلام. هكذا رواه عنه في الباب الثامن من تيسير المطالب ص 114، وكان فيه تصحيفات أصلحناها.(3/128)
ولما قتل إِبْرَاهِيم أخرج جعفر عهده، وأخرج سلم عهده، فَقَالَ لَهُ جعفر بْن سُلَيْمَان: عهدي قبل عهدك فدعني أدخل البصرة/ 470/ أو 235/ أ/ أميرًا ثُمَّ تأتي بعدي. فأقام سلم ودخل جعفر فأمن النَّاس، ثُمَّ قدم سلم فأقام أشهرًا، ثُمَّ ولي المنصور الْبَصْرَة مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان بْن علي وَقَالَ:
إنما وليت جعفرًا وسلما وإبراهيم بالبصرة ليقاتلاه ويؤمنا النَّاس فتقاعدا عَنْهُ.
131- ويقال: إن المنصور كتب إِلَى سلم فِي قطع نخيل أَهْل الْبَصْرَة ممن خرج مع إبراهيم!!! فغيب عنهم فعزله.
132- وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح الْمُقْرِئ قَالَ: لما خرج إِبْرَاهِيم سنة خمس وأربعين ومائة، كتب المنصور إِلَى جعفر ومحمد ابني سُلَيْمَان بْن علي يعجزهما ويوبخهما عَلَى نزول إِبْرَاهِيم مصرًا هما بِهِ لا يعلمان بأمره، وتمثل:
أبلغ هديت بني سعد مغلغلة ... فاستيقظوا إن هذا فعل لوام
تعدوا الذئاب عَلَى من لا كلاب لَهُ ... وتتقي صولة المستنفر الحامي(3/129)
ولما جاء المنصور خبر مُحَمَّد وإبراهيم جعل ينكت على الأرض بمحضرته وَيَقُول:
ونصبتُ نفسي للرماح دريَّة ... إِن الرئيس لمثل ذاك فعول
وَكَانَ المنصور يقول: إنما جد إِبْرَاهِيم عَلَى المسير إِلَى الْبَصْرَة اجتماع أَهْل الْكُوفَةِ وأهل السواد عَلَى الخلاف والمعصية والميل إِلَيْهِ. وقد رميت كُلّ ناحية بحجرها وكل كورة بسهمها، ووجهت إِلَيْهِ الميمون النجد عيسى بْن مُوسَى واستعنت بالله واستكفيته.
وَكَانَ هارون بْن سعد العجلي شيعيًا فعاب خروج إِبْرَاهِيم وقال:
يَا من لَهُ كَانَ ذو الروية ... والهيئة منا في الدين متبعا
أبينما نلت منتهى أمل الأمة ... (كذا) إذ قيل صار مبتدعا
يا لهف نفسي على تفرق ما (ظ) ... قد كَانَ مِنْهَا عليك مجتمعا
133- قَالُوا: ووجه المنصور أبا خزيمة خازم بْن خزيمة التَّمِيمِيّ إِلَى المغيرة بْن الفزع وَهُوَ بالأهواز، فواقعه فهزمه وهزم أصحابه، وهرب المغيرة إِلَى الْبَصْرَة فاستخفى بِهَا.
وَكَانَ حسان مولى أمير الْمُؤْمِنِينَ على بريدها فافتعل أمانا من المنصور لابن الفزع [1] جعل لَهُ فِيهِ ذمة اللَّه وذمة رسوله أ (ن) لا يهيجه وَلا يروعه وَلا يعرض لَهُ بسوء فِي نفسه وشعره وبشره وماله وولده، وَلا يؤاخذه بما كَانَ منه، وأن يجزل صلته ويرفع قدره، ويقو (د) هـ على من أحب الفريضة من قومه.
__________
[1] الظاهر أن الأمان كان من المنصور نفسه، وهذا ليس ببديع منه، وقد فعل مثله بأبي مسلم وعمه عبد الله بن علي وابن هبيرة وابن المقفع!!! وإنما قالوا: افتعله حسان دفعا للعار والشنار، وتقليلا للذم واللوم عن المنصور!!(3/130)
ودعا رجلا من موالي بني قريع فاقرأه الأمان وكتابا كأنه ورد عَلَيْهِ من المنصور فِي أمره، وَقَالَ لَهُ: أنا أعلم أن المغيرة يسمع منك ويقبل قولك، وأنك إن شئت أن تعرف موضعه واتصل إِلَيْهِ فِيهِ عرفته ولقيته!! فخذ هَذَا الكتاب وَهَذَا الأمان واقرأهما عَلَيْهِ، فلما صار الرَّجُل إِلَيْهِ قرأ عَلَيْهِ الكتاب والأمان، وأشار عَلَيْهِ بالظهور، فدعا المغيرة قومه فناظرهم فكلهم رأى لَهُ أن يظهر، فقبل ذَلِكَ منهم وخرج حَتَّى أتى حسان!!! وقد أعلم حسان مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان أمره فاعترضه رسل مُحَمَّد فأخذوه وأتوه بِهِ، فحبسه وكتب إِلَى المنصور فِي أمره، فوجه المنصور أسد بن مرزبان ومعه الريان مولى أمير الْمُؤْمِنِينَ لقتله، فأخرج من السجن وسلمه مُحَمَّد إليهما، فقطع أسد يديه ورجله (كذا) ثم قتله وصلبه في القافلانين (كذا) .
وَقَالَ بعضهم: أخذه مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان بأمان ثُمَّ قتله.
وأخذ المسيب بْن زهير الضبي الأمان للمفضل الضبي الراوية بعد أن استخفى وتنقل فِي البوادي.
134- وأخذ أصحاب إِبْرَاهِيم وعماله فقتلوا فِي البوادي والنواحي.
وقتل هِشَام بْن عَمْرو التغلبي الحسن بْن إِبْرَاهِيمَ بْن الحسن بالسند، وَكَانَ قد هرب إِلَيْهَا.
وقتل عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بالسند أيضا.
وتوارى المضا (هـ) بن القاسم التغلبي، وَكَانَ نميلة قد أطلق سُفْيَان وأخرجه من محبسه فأومن وصار بعد في أصحابه/ 471/ أو 235 ب/.
وبلغ المنصور أن سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة كَانَ يقول: مَا سرني أني شركت فِي دم إبراهيم وأن لي سود النعم وحمرها. فكان المنصور يقول: مَا رأيته إِلا أظلم مَا بيني وبينه.(3/131)
وولي المنصور سوار بْن عَبْدِ اللَّهِ إيمان النَّاس وتسكينهم ففعل.
135- وحدثت عَن أَبِي عاصم النبيل أنه قَالَ: لما دخل إِبْرَاهِيم الدار وخرج سُفْيَان مِنْهَا، بسط لَهُ حصير فقلبته الريح فتطير له من ذلك [1] .
وبعث (إبراهيم) إِلَى مُحَمَّد وجعفر ابني سُلَيْمَان- وكانت أمهما أم الْحَسَن بِنْت جَعْفَر بْن حسن بْن حسن-: يقول لكما خالكما: إن أحببتما جواري ففي الأمن والسعة والرحب، وإن كرهمتماه فاذهبا إِلَى حيث شئتما، وَلا تسفكا بيننا دما.
136- وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح الْعِجْلِيُّ قَالَ: خرج إبراهيم بالبصرة فأخذها، ووجّه إل الأهواز وفارس، وولي خراج الأهواز عفو اللَّه بْن سُفْيَان الثَّقَفِيّ، وحصر سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة، ثُمَّ أمنه فخرج عَن دار الإمارة، فوجه المنصور عامر بن اسماعيل السلمي (المسلى «خ» ) فِي جيش عظيم فنزل واسطا، ووجه إِلَى الْبَصْرَة جيشا، ثُمَّ إن إِبْرَاهِيم خاف غدر أهل البصرة واختلافهم وعصبيتهم فأقبل نحو واسط فحاربه عامر بْن إِسْمَاعِيل، ثُمَّ مضى إِبْرَاهِيم يريد الْكُوفَة وقد قدمها [2] عيسى بْن مُوسَى من الحجاز، ووجهه المنصور لمحاربته، فالتقيا بقرية تدعى باخمري فهزم إِبْرَاهِيم عيسى هنيئة [3] وَكَانَ جل أصحاب إِبْرَاهِيم رجالة، ثُمَّ عطفت عليه خيل عيسى ورجاله فقتل (إبراهيم) ورجع عيسى إِلَى الْكُوفَةِ.
137- وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عَن أَبِيهِ قَالَ: كَانَ المغيرة
__________
[1] وذكره مع التالي مسندا في مقاتل الطالبيين ص 322.
[2] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «وقدومها» .
[3] كذا.(3/132)
ابن الفزع من أشد النَّاس فِي أمر إِبْرَاهِيم فأخذ وقتل، وَكَانَ الَّذِي تولى قتله أَبُو الأعور الكلبي فقال أَبُو زياد الكلبي:
(أ) من مبلغ عليا تميم بأننا ... نصبنا عَلَى الكلاد بالمشط معْلَمَا [1]
نصبنا لكم رأس المغيرة بائنا ... وجثمانه بالجذع عريان ملحما
138- قَالُوا: تزوج إِبْرَاهِيم بهكنة بنت عمر بْن سلمة الهجيمي، فكان يونس النحوي يقول: جاء إِبْرَاهِيم ليزيل ملكا فألهته امرأة بطيبها وخضابها، وأتي المنصور بالتيميّة فتركها بمزجر الكلب [2] حَتَّى فرغ من أمر إِبْرَاهِيم.
وَكَانَ عمر بْن سلمة عَلَى فرس أبلق فَقَالَ إِبْرَاهِيم:
أما القتال فلا أراك مقاتلا ... ولئن فررت ليعرفن الأبلق
139- قَالُوا: وحمل رأس مُحَمَّد ورأس إِبْرَاهِيم إِلَى خراسان، ثُمَّ ردا فدفنهما الَّذِي حملهما تحت درجة فِي منزله بدرب أَبِي حنيفة فِي مدينة أَبِي جعفر ببغداد.
وَقَالَ بعض بني مجاشع للمنصور:
ابرز فقد لاقيت هبرزيا ... أبيض يدعو جده عَلِيًّا
وجده من أمه النبيا
140- قَالُوا: وَكَانَ إِبْرَاهِيم يذكر بني العباس فيقول: عظّموا ما صغّر (هـ) الله، وصغّروا ما عظّم الله [3] .
__________
[1] كذا.
[2] إن يونس المسكين كان مبتلى بشوم النحو فسلبه مشاعره وأوقعه فيما ليس من شأنه.
[3] ورواه أيضا في مقاتل الطالبيين ص 336 بسندين والظاهر أن المراد مما عظمه الله هو ما للعلويين من فخامة الرتبة وزعامة الأمة بجعل من الله ورسوله، ومراده مما صغره الله هو قرابة العباس المجردة عن جميع المعالى. أو المراد مما صغره الله هو ما فعله بنو أمية بابراهيم المعروف عند بني العباس وشيعتهم بالإمام، وما عظمه الله هو ما فعلوه بأهل البيت عليهم السلام؟!!(3/133)
141- وَقَالَ بشار الأعمى فِي إِبْرَاهِيم:
أقول لبسام عَلَيْهِ جلالة ... غدا أريحيا فِي الرجال الأكارم
من الفاطميين الدعاة إِلَى الهدى [1] ... قياما وما يهديك مثل ابْن فاطم
142- حَدَّثَنِي الحسن بْن علي الحرمازي وغيره قالوا: كان سديف ابن ميمون مولى بني هاشم مائلا إِلَى مُحَمَّد بن عبد الله، وقبل ذلك كان (ظ) مائلا إِلَى المنصور قبل خلافته، فوصله المنصور حين استخلف بألف دينار، فلما خرج مُحَمَّد دفع الألف الدينار إِلَيْهِ تقوية لَهُ، وخرج مَعَهُ وأجلب عَلَى المنصور، وهجا ولد العباس، فلما قتل مُحَمَّد صار إلى إبراهيم أخيه بالبصرة/ 472/ أو 236/ أ/ فلما قتل خاف سديف على نفسه فهجا بني الحسن فَقَالَ [2] :
بني حسن أحدثوا توبة ... فليس الحديث كما تزعمونا
أقلتم يكون لنا قائم ... فنحن بقائمكم كافرونا
وَقَالَ أَيْضًا:
كذبت بنو حسن ورب مُحَمَّد ... مَا العم كابن العم فِي الميراث
وَكَانَ المنصور يقول: كأني بسديف يتهكم عند إِبْرَاهِيم.
143- قَالُوا: وَقَالَ سديف وقد صعد إِبْرَاهِيم المنبر:
إيها أبا إِسْحَاق هنئتها [3] ... فِي صحة منك وعمر طويل
اذكر هداك الله ذحل الأولى ... سير بهم في مصمتات الكبول
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «من الفاطميين من الدعاة إلى الهدى» .
[2] الأبيات لا تلائم نزعة سديف فليتثبت.
[3] هذا هو الظاهر الموافق لما في ترجمة ابراهيم من مقاتل الطالبيين ص 315، ورسم الخط من مخطوطة أنساب الأشراف غامض ويمكن أن يقرأ «منيتها- أو- ملئتها» .(3/134)
يعني أباه ومن حمل مَعَهُ.
فلما قتل إِبْرَاهِيم هرب سديف واستخفى وكتب إِلَى المنصور:
أيها المنصور يا خير العرب ... يا خير من ينميه عَبْد المطلب
أنا مولاك وراج عفوكم ... فاعف عني اليوم من قبل العطب
واحتال الكتاب (كذا) حتى وصل إليه فوقع (المنصور) فِيهِ:
مَا نماني مُحَمَّد بْن علي ... إن تشبهت بعدها بولي [1]
ثُمَّ إنه قتل [2] .
144- وَقَالَ إِبْرَاهِيم بْن عَلِيّ بْن هرمة يعتذر إِلَى إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ:
يَا ابْن الفواطم خير النَّاس كلهم ... عند الفخار وأولاهم بتطهير
إني لحامل عذري ثُمَّ ناشره ... وليس ينفع عذر غير منشور
وحالف بيمين غير كاذبة ... بالله والبدن إذ كبت لتنحير
لقد أتاك العدى عني بفاحشة ... منهم فروها بإسراف وتكثير
لا تسمعن بنا إفكا وَلا كذبا ... يا ذا المعالي ويا ذا المجد والخير
ويقال: إنما اعتذر إِلَى غيره منهم فِي أمر بلغه عَنْهُ.
145- وَكَانَ قرة الصيرفي عينا لأبي جعفر المنصور عَلَى إِبْرَاهِيم، فضربه إِبْرَاهِيم وحبسه، فلما قتل إِبْرَاهِيم قَالَ لَهُ أبو جعفر: مرحبا بك يَا قرة، ما زلت أدعو اللَّه لك بالسلامة. ووصله.
__________
[1] كذا.
[2] سيأتي في ترجمة آل العباس أن المنصور أمر بإلقائه في البئر حيا فألقي فيها فمات فيها رحمه الله!!!(3/135)
(قبسة من ترجمة بقية الشرفاء من أحفاد الإمام الحسن، وما جرى عليهم بعد استشهاد النفس الزكية وإبراهيم صلوات الله عليهم أجمعين)
[خروج يحيى بن عبد الله بن حسن]
146- قالوا: وخرج يحي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بالجبل وصار إِلَى ناحية الديلم، فتوجه إِلَيْهِ الفضل بْن يحي بْن خالد بْن برمك وزير الرشيد هارون أمير الْمُؤْمِنِينَ، فجعل لملك الديلم ألف ألف فسلمه إِلَيْهِ عَلَى أن أعطاه الرشيد الأمان من القتل، فكان محبوسا عند السندي بْن شاهك فمات فِي الحبس [1] .
[خروج الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن حسن بْن حسن بْن الحسن بن علي بفخ]
وخرج فِي سنة تسع وستين ومائة الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن حسن بْن حسن بْن الْحَسَن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب بالمدينة تم أتى مكة، فلقيه موسى بن عيسى ابن مُوسَى والعباس بْن مُحَمَّد بْن علي، ومحمد بن سليمان بن علي، وسليمان ابن أَبِي جعفر- وَهُوَ عَلَى الموسم- فقتل بفخ وبعث برأسه إِلَى مُوسَى الهادي أمير الْمُؤْمِنِينَ فنصب على الجسر ببغداد [2] .
وصار عَلِيّ بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن إلى مصر [3] فحمل منها (إلى أبي جعفر المنصور، فأمر بحبسه مع أهله) فمات ببغداد (في حبس أبي جعفر المنصور) .
__________
[1] من الجوع والعطش لأن الشقي أمر بالضيق عليه وحبس الطعام عنه!!! وليحي هذا ترجمة مبسوطة في مقاتل الطالبيين ص 364 وتاريخ الطبري: ج 10، ص 54 والكامل:
ج 6 ص 44 وتاريخ بغداد: ج 14، ص 110، والاستقصاء: ج 1، ص 67 والوزراء والكتاب ص 189، والفخري ص 174، وشرح شافية أبي فراس ص 188، وشرح المختار: «300» من الباب 3 من النهج من شرح ابن أبي الحديد: ج 4 ص 352.
[2] ولصاحب الفخ هذا ترجمة تفصيلية في مقاتل الطالبيين ص 431. وله أيضا ترجمة في تاريخ الطبري: ج 10، ص 24 وتاريخ الكامل: ج 6 ص 32، ومروج الذهب: ج 2 ص 183، والفخري ص 171، والبداية والنهاية: ج 10، ص 40 والمعارف ص 166، والمحبر ص 37 وشرح شافية أبي فراس ص 169.
[3] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «فصار علي بن محمد ... » . ولعلي بن محمد هذا ترجمة في مقاتل الطالبيين ص 201 وفي ط ص 140، وفي تاريخ الطبري ج 9 ص 192.(3/136)
وَكَانَ إدريس بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن [1] فِي وقعة فخ مَعَ الْحُسَيْن بْن علي فهرب فِي خلافة الهادي إِلَى مصر، وعلى بريدها يومئذ واضح مولى صالح بن منصور، الَّذِي يعرف بالمسكين، وَكَانَ واضح يتشيع، فحمله عَلَى البريد إِلَى المغرب فوقع إِلَى أرض طنجة، وأتى بعض مدنها فاستجاب لَهُ من بِهَا من البربر، فلما استخلف الرشيد بعد مُوسَى الهادي أعلم ذَلِكَ فضرب عنق واضح، ودس الشماخ مولى المهدي وكتب لَهُ إِلَى ابراهيم ابن الأغنب [2] وَهُوَ عامله عَلَى إفريقية، فأنفذه إِلَى بلاد طنجة، فدعا الشماخ الطب، فدعاه إدريس ليسأله عَن وجع عرض له في أسنانه/ 473/ أو 236 ب/ فأعطاه سنونا [3] فِيهِ سم كَانَ مَعَهُ، ثُمَّ هرب فطلب فلم يقدر عَلَيْهِ، ومات إدريس وصار مكانه ابْن لَهُ يقال لَهُ إدريس أيضا، قال الشاعر [4] :
أتظن [5] يَا إدريس أنك مفلت ... كيد الخليفة أَوْ يقيك حذار
إن السيوف إذا انتضاها سخطه ... طالت وقصر عندها الأعمار
__________
[1] وقد عقد له رضوان الله عليه، ترجمة في مقاتل الطالبيين ص 487، وتاريخ الطبري ج 10، ص 29 وفي البدء والتاريخ: ج 6 ص 100، والاستقصاء في أخبار المغرب الأقصى:
ج 1، ص 67، وشرح شافية أبي فراس ص 171، والدر النفيس في مناقب ادريس ص 99 وتاريخ أبي الفداء: ج 2 ص 12، وابن خلدون: ج 4 ص 12.
[2] ويساعد رسم الخط على أن يقرأ: «الأغلب» . ومثله في ط مصر، من مقاتل الطالبيين ص 490.
[3] السنون- بفتح السين-: ما يستاك به. أو هو المسحوق الذي تدلك به الأسنان لتنجلي.
[4] وفي تاريخ الطبري: ج 10، ص 29: فقال في ذلك بعض الشعراء أظنه الهنازي.
وقال في مقاتل الطالبيين ص 491: قال ابن عمار: وهذا الشعر عندي يشبه شعر أشجع بن عمرو السلمى وأظنه له. قال أبو الفرج الإصبهاني: هذا الشعر لمروان بن أبي حفصة، أنشدنيه علي بن سليمان الأخفش له.
[5] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «أتضرنا إدريس» .(3/137)
وَكَانَ مُوسَى بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن ذا عارضة وبيان، فأخذه المنصور (ثُمَّ) عفا عَنْهُ، وفيه يقول الشاعر: [1]
إنك أما كنت جونا أنزعا ... أخاف أن تضرهم وتنفعا
وتسلك العيش طريقا مهيعا ... فردًا من الأصحاب أَوْ مشيعا
وَكَانَ مُوسَى آدم وولدته أمه ولها ستون سنة.
وَكَانَ موسى أحدث عينا فكر (هـ) ذَلِكَ أصحاب الأنضاح فَقَالَ:
يَا ويحهم من هَذِهِ المسفوحة ... إذا غدت أطباؤها مفتوحة
وأصبحت وجوههم مقبوحة
فَقَالَ لَهُ رجل من ولد مطيع من بني عدي بْن كعب يقال له: محمد بن إسماعيل: يا (أ) با حسن أذففت [2] فيما صنعت وقلت. فقال له موسى (ظ) : ومن أنت؟ إنما أنت ذنب فِي قريش!! فحلم عَنْهُ المطيعي وسكت فلم يجبه، ثُمَّ التقيا بعد ذَلِكَ فأحد مُوسَى النظر إِلَيْهِ فَقَالَ المطيعي: أتحد النظر إلي وتستطيل بالخيلاء علي؟ أغرك حلمي عنك وعفوي عما كَانَ منك؟ ولخير لك أن تربع عَلَى ظلعك وتقيس فترك [3] بشبرك وتعرف حالك من حال غيرك!!! فقال:
له موسى: والله لما أعدك ولا أعتد بك، والله إنك للغوي الغبي القريب من
__________
[1] قال في ترجمة موسى من مقاتل الطالبيين ص 390 ما معناه: الأبيات لأمه هند بنت أبي عبيدة ... أقول: ولموسى هذا ترجمة في تاريخ بغداد: ج 13، ص 25، وزهر الآداب:
ج 1، ص 129.
[2] رسم الخط غير مبين في هذا اللفظ فيحتمل أن يقرأ: «أوقفت» .
[3] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «قبرك» . والفتر كحبر-: ما بين طرف الإبهام وطرف السبابة إذا فتحتها.(3/138)
كل سوء، البعيد من كل خير، وأما ذكرك شبري وفتري فان فتري من شبري وشبري من فتري من كف رحبة الذراع طويلة الباع، يقيمها مَا يقعدك ويرفعها مَا يخفضك، ومهما جهلت عني فأني عالم بأني خير منك أما وأبا ونفسا وإن رغم أنفك وتصاغرت إِلَيْك نفسك.
وكان موسى شاعرا، حظيت [1] عنده أم سلمة بنت محمد بن طلحة ابن عبد الله بن عبد الرحمان بْن أَبِي بكر الصديق وهي الَّتِي يقال لَهَا:
يعجبني من فعل كُلّ مسلمه ... مثل الَّذِي تفعل أم سلمة
إقصاؤها عَن زوجها كُلّ أمه ... لأنها قدما تسامي المكرمه
وكتب موسى إليها يأمرها بالشخوص إليه إلى الْعِرَاق فأبت فكتب إِلَيْهَا:
إني زعيم أن أجي بضرّة ... قراسية فراسة للضرائر
[2] فَقَالَ الربيع بْن سُلَيْمَان مولى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن:
أبنت أَبِي بكر تكيد بضرة ... لعمري لقد حاولت إحدى الكبائر
[3]
__________
[1] هذا هو الظاهر، والفعل كفرحت لفظا ومعنى أي صارت ذات حظوة ومكانة عندها.
وفي الأصل: «حذيت» .
[2] كذا في مقاتل الطالبيين ص 395، وفي الأصل: «فراسية فراصية ... » . وفي مقاتل الطالبيين بعده هكذا:
فتكرم مولاها وترضي خليلها ... وتقطع من أقصى أصول الحناجر
[3] وبعده في مقاتل الطالبيين هكذا:
تغط غطيط البكر شد خناقه ... وأنت مقيم بين صوحى عبائر
قال: وعبائر: ما كان لموسى بن عبد الله.
أقول: قال في معجم البلدان: ج 6 ص 104: عبائر: نقب منحدر من جبل جهينة سلكه من خرج من اضم يريد ينبع.(3/139)
فكتب مُوسَى إِلَيْهَا:
لا تتركيني فِي الْعِرَاق فإنها ... بلاد بِهَا أَهْل الخيانة والغدر
فإني زعيم أن أجيء بضرة ... مقابلة الأجداد طيبة النشر
إذا انتسبت من آل شيبان في الذر ... ى ومرة لم تحفل بفضل أَبِي بكر
وَكَانَ جعفر بْن الحسن بْن الحسن- أخو عَبْد اللَّهِ بْن الحسن، وعم مُحَمَّد وإبراهيم- من رجال بني هاشم ووجوههم، واختصم ولد الحسن والحسين فِي وصية علي فَقَالَ كُلّ قوم: هي فينا، فكان زَيْد بْن عَلِي بْن الْحُسَيْن بْن عَلِي يخاصم لولد الْحُسَيْن، وَكَانَ جعفر بْن الحسن يخاصم لولد الحسن.
وتزوج سُلَيْمَان بْن علي أمّ الحسن بنت جعفر، فولدت محمدا وجعفرا ابني سليمان/ 474/ أو 237/ أ/ ومات جعفر بالمدينة.
وَكَانَ بالرقة مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ بْن إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيمَ بْن حسن بن حسن ابن علي، وتلقب إِبْرَاهِيم بْن حسن طباطبا [1] .
وقدم أبو السّرايا: السري بن منصور الشيباني مغار [2] والهرثمة بن أعين القائد في سبعمائة من قومه، فدعاه مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ فأتاه فبايعه عَلَى الدعاء إِلَى الرضا من آل مُحَمَّد، وشخصا حَتَّى دخلا الْكُوفَة، فصار أَبُو السرايا إلى قصر (الفضل بن) العباس بن موسى فأغلقوا دونه أبوابه وزمي ومن وجه [3] .
__________
[1] وتفصيل قصته في مقاتل الطالبيين ص 518 وتاريخ الطبري: ج 10، ص 227 وتاريخ الكامل: ج 6 ص 111، ومروج الذهب ج 2 ص 224.
[2] كذا في الأصل، والظاهر ان فيه تصحيفا ولعل الصواب: مفارقا لهرثمة بن أعين ...
[3] كذا في الأصل، والظاهر أن فيه حذفا وتصحيفا.(3/140)
وَكَانَ مَعَ أَبِي السرايا رجل يكنى أبا الشوك فرمي خادما كَانَ بين شرفتين فانقلب عَلَى رأسه ودخلوا القصر، فأخذوا مَا كَانَ فيه وبايعه أهل الكوفة، وذلك في سنة تسع وتسعين ومائة، فوجه إِلَيْهِمُ الحسن بْن سهل- وَهُوَ خليفة المأمون ببغداد-، وَكَانَ ينزل الشماسية- زهير بْن المسيب الضبي فِي أربعة آلاف فهزمه أَبُو السرايا عند قنطرة الْكُوفَة، وأخذ مَا كَانَ مَعَهُ، وصار زهير إِلَى بغداد.
ثُمَّ إن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ الطالبي مات بالْكُوفَة بعد قدومه إياها بأقل من شهر، ويقال: بأربعين ليلة [1] .
__________
[1] هذا تمام ترجمة ولد الإمام الحسن عليه السلام من النسخة التركية من أنساب الأشراف وتليه ترجمة الإمام الحسين عليه السلام في الورق 237/ أو ص 474، وانتهى بي الكتابة هاهنا وفرغت من كتابة ترجمة الإمام الحسن وولده عليهم السلام بعد ظهر يوم الثلثاء: (18) ربيع الأول من سنة 1392. ومن أراد بقية خبر أبي السرايا، وأخبار بقية من استشهد من آل أبي طالب فعليه بكتاب مقاتل الطالبيين ص 513 وتواليها.(3/141)
أمر الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طالب عَلَيْهِمَا السلام
1- قَالُوا: كَانَ الحسن أسن من الحسين بسنة. ويقال: بأقل مِنْهَا.
وَكَانَ الْحُسَيْن يكنى أبا عَبْد اللَّهِ، وَكَانَ شجاعا سخيا. وَكَانَ يشبّه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا أن الحسن كَانَ أشبه وجها بوجه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منه. ويقال: إنه كَانَ يشبه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من سرته إِلَى قدميه.
2-[وَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حسين مني وأنا منه أحب اللَّه من أحب حسينا، حسين سبط من الأسباط] [1] .
__________
[1] وقريبا منه رواه الترمذي والطبراني كما في باب: «ما اشترك فيه الحسن والحسين من الفضل» من كتاب مجمع الزوائد: ج 9 ص 181، قال: واسناده حسن.
أقول: وللكلام مصادر كثيرة، وقد ورد في شأنه- وشأن أخيه- عليهما السلام عن جده صلى الله عليه وآله وسلم فضائل ومناقب بين فيها صلى الله عليه وآله وسلم مكارمه ومعاليه وما يجري عليه من ناحية الطغاة، وقد أخل البلاذري بذلك إخلالا فاحشا ولعله من أجل خوفه من طواغيت عصره، وقد أشبعنا الكلام في ذلك في كتابنا «عبرات المصطفين» ولنتبرك هاهنا بذكر حديثين:
قال السيد أبو طالب: أخبرنا أبي قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن محمد بن يحي بن الحسن قال: حدثني محمد بن يحيى بن الحسن العقيقي قال: حدثنا سعيد بن نوح، قال:
حدثنا مصعب القرقساني قال: حدثنا الأوزاعي عن عبد الله بن شداد:
عن أم الفضل بنت الحرث أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله إني رأيت حلما منكرا الليلة. قال: وما هو؟ قالت: شديد. قال: وما هو؟ قالت:
رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
خيرا رأيت، تلد فاطمة غلاما فيكون في حجرك!!! (قالت) فولدت فاطمة الحسين فكان في حجري كما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت به يوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته في حجره، ثم كان مني التفاتة فإذا عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تهريقان الدموع!!! فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله مالك؟ قال: أتاني جبرئيل فأخبرني بأن أمني ستقتل ابني هذا!!! وأتاني بتربة من تربته حمراء.
وقال أيضا: حدثنا أبو محمد عبد الله بن محمد الأسدي القاضي ببغداد، قال: حدثنا علي بن الحسن العبدي قال: حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحي ابن سفيان، قال: حدثني عاصم، عن عبد الله بن أبي رافع عن أبيه قال:
رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أذن في أذن الحسين عليه السلام حين ولدته فاطمة عليها السلام.
هكذا رواهما عنه في الباب: (6) و (8) من تيسير المطالب ص 90 و 126، ط 1.(3/142)
3- حدثنا محمد بن مصفى الحمصي حدثنا العباس بن الوليد، عن شعبة عن يزيد بْنِ أَبِي مَرْيَمَ:
عَنْ أَبِي الْحَوْرَاءِ السَّعْدِيِّ قال: قَالَ: قُلْتُ لِحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ [1] : مَا تَذْكُرُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمْرٍ مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَأَخَذْتُ مِنْهُ تَمْرَةً فَجَعَلْتُ أَلُوكُهَا فَأَخَذَهَا (مني) بِلُعَابِهَا حَتَّى أَلْقَاهَا فِي التَّمْرِ [وَقَالَ: إِنَّ آلَ مُحَمَّدٍ لا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ] .
قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: [دَعْ مَا يُرِيبُكَ إِلَى مَا لا يُرِيبُكَ، فَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ، وَإِنَّ الصِّدْقَ طمأنينة] .
[شبر وشبير ومشبر]
4- وَحَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار، حَدَّثَنَا عيسى بْن يونس، حدثنا الأوزاعي عن يحي بن أبي كثير قال:
__________
[1] كذا قال، والصواب «الحسن بن علي» كما رواه الدولابي في الحديث (127) من كتاب الذرية الطاهرة ص 24 وكذلك رواه في الحديث: (180) وما بعده من ترجمة الإمام الحسن عليه السلام من المعجم الكبير: ج 1، ص 30 بطرق وفيهما: «بريد بن أبي مريم» بالباء الموحدة التحتانية والراء المهملة.
وقوله: «إِنَّ آلَ مُحَمَّدٍ لا تَحِلُّ لَهُمُ الصَّدَقَةُ» أيضا له مصادر وأسانيد، وقد ذكره ابن عساكر بسند آخر في ترجمة زينب الكبرى من تاريخ دمشق: ج 19/ الورق 215 ب/ من النسخة الظاهرية.(3/143)
سمع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُكَاءَ حَسَنٍ أَوْ حُسَيْنٍ فَقَامَ فَزِعًا فَقَالَ: [أيها الناس إن الْوَلَدُ فِتْنَةٌ، لَقَدْ قُمْتُ إِلَيْهِ وَمَا أَعْقِلُ!!! [1]] .
5- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ هَانِئٍ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ قَالَ:
وُلِدَ لِي ابْنٌ سَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَقَالَ [رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟
قُلْنَا: سَمَّيْنَاهُ حَرْبًا. فَقَالَ: هُوَ حَسَنٌ. ثُمَّ وُلِدَ لِي آخَرُ فَسَمَّيْتُهُ حَرْبًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: حَرْبًا. قَالَ: هُوَ حُسَيْنٌ. ثُمَّ وُلِدَ لِي ابْنٌ آخَرُ فَسَمَّيْتُهُ حَرْبًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ قُلْنَا: حَرْبًا. قَالَ: هُوَ مُحْسِنٌ إِنِّي سَمَّيْتُ بَنِيَّ هَؤُلاءِ بِأَسْمَاءِ ولد هارون: شبر وشبير ومشبر] [2] .
__________
[1] وروى الطبراني عن يزيد بن أبي زياد، قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيت عائشة فمر على بيت فاطمة فسمع حسينا يبكي فقال: ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني؟!! ورواه عنه في باب مناقب الإمام الحسين من مجمع الزوائد: ج 9 ص 201.
[2] وقال السيد أبو طالب: أخبرنا ابن بندار، قال: حدثنا الحسن بن سفيان، قال: حدثنا علي بن الحسن بن سليمان، قال: حدثني يحي الرملي قال: حدثني الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن علي عليه السلام قال:
كنت رجلا أحب الحرب، فلما ولد الحسن هممت أن أسميه حربا فسماه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن، فلما ولد الحسين عليه السلام هممت أن أسميه حربا فسماه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحسين وقال: إني سميتهما باسم ولدي هارون شبر وشبير.
هكذا رواه عنه في الباب: (6) من تيسير المطالب ص 95 ط 1.
أقول: أكثر رواة الحديثين وما في معناهما من شيعة آل الحرب، وهم غير موثوقين عندنا، والظاهر أنهم أرادوا تطييب خواطر معاوية وجلب توجهه إليهم بأن عليا كان مولعا بالحرب وقتل الناس لا شأن له غيره!!! وهذا المضمون لم يرد في روايات أهل البيت عليهم السلام، ومعناه بعيد عن سجية أمير المؤمنين عليه السلام لا سيما ما في المتن وما هو بسياقه، فإنه عليه السلام ما كان يسبق رسول الله بشيء من أعماله كما هو مدلول كثير من الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام بعضها يتعرض موضوعنا هذا، كما يتبين ذلك لكل من يراجع أترجمة الإمامين ريحانتي رسول الله من بحار الأنوار وغيره من روايات أهل البيت عليهم السلام.
ومما يعاضد روية أمير المؤمنين عليه السلام وسيرته ما رواه في آخر الباب (6) من تيسير المطالب عن السيد أبي طالب قال:
أخبرنا محمد بن عمر بن محمد الدينوري قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد الله القاضي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي قال: حدثنا محمد بن طريف، قال: حدثنا محمد بن فضيل عن علي بن مبشر بن عمر بن عبيد، عن عروة بن فيروز:
عن سودة قالت: كنت فيمن شهد فاطمة عليها السلام حين أخذها المخاض فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: كيف ترينها؟ فقلنا: إنها لتجهد. قال: إذا وضعت فلا تسبقيني فيه بشيء. قالت: فوضعت غلاما فسددته ولففته في خرقة صفراء، فجاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: قد ولدت غلاما ولففته في خرقة صفراء. فقال: قد عصيتني ودعا بالخرقة (كذا) فألقى عنه الصفراء ولفه في خرقة بيضاء وبزق فيه بريقه، وجاء علي عليه السلام فقال: بم تسميه؟
فقال: يا رسول الله لو سميته جعفر؟ فقال: لا بل هو حسن وبعده الحسين وأنت أبو حسن وحسين.
فالحديث يبطل جميع ما هو بخلافه من روايات آل أمية وشيعتهم إذ يدل بصريحه على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد سماه الحسين وعين له هذا الاسم الكريم قبل ولادته عند ولادة أخيه عليه السلام فكيف يمكن مع ذلك أن يقال: إن أمير المؤمنين سماه حربا أو أحب أن يسميه حربا؟!! ورواه الطبراني بإسنادين كما في باب: «ما جاء في الحسن بن علي» من مجمع الزوائد:
ج 9 ص 174، قال: وفي أحدهما (أي أحد الإسنادين) عمر بن فيروز، وعمر بن عمير (كذا) ولم أعرفهما، وبقية رجاله وثقوا.
وراجع أيضا ما رواه أحمد في أواخر مسند أمير المؤمنين تحت الرقم: (1370) من مسنده: ج 2 ص 352 ط 2، وذكره أيضا تحت الرقم: (337) من باب فضائل علي من كتاب الفضائل، ورواه عنه وعن أبي يعلى والبزار، والطبراني في مجمع الزوائد:
ج 8 ص 53 فإن فيهما أيضا شاهد.
أنساب الأشراف (م 10)(3/144)
(أسامي ولد الإمام الحسين عليه السلام)
6- فولد (الحسين) عليا الأكبر- وأمه ثقفية (ظ) - قتل بالطف وَكَانَ يقاتل وَهُوَ يقول:
أنا عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن علي ... أنا وبيت اللَّه أولى بالنبي
من شمر وشبث وَابْن الداعي [1] .
و (ولد أيضا) عليا الأصغر- وَهُوَ الَّذِي أعقب- وأمه أم ولد تسمى سلافة [2] .
قَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا رأيت قرشيا قط/ 475/ أو 237 ب/ أفضل من عَلِيّ بْن الْحُسَيْن.
ومات بالمدينة وَهُوَ ابْن ثماني وخمسين سنة. ويقال ابْن ستين. ويكنى أبا مُحَمَّد. وكانت وفاته فِي سنة أربع وتسعين. ودفن بالبقيع. ويقال: مات في سنة اثنتين وتسعين.
و (ولد أيضا) فاطمة بنت الْحُسَيْن أمها أم إِسْحَاق بنت طَلْحَة بن عبيد الله.
و (ولد أيضا) سكينة أمها الرباب بنت امرؤ القيس وقد ذكرنا أمرها فيما تقدم [3] .
وكانت فاطمة بنت الْحُسَيْن عند الْحَسَن بن الْحَسَن بْن علي ثُمَّ خلف عَلَيْهَا عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن عثمان بن عفان.
__________
[1] وأيضا قال البلاذري في ترجمة معاوية من أنساب الأشراف ج 2/ الورق 77 ب:
وروى جرير بْنِ عَبْدِ الحميد، عَن مغيرة، قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ بْن أبي سُفْيَان: من أولى الناس بهذا الأمر؟ قالوا: أنت!! قَالَ: لا ولكنه علي بن الحسين أمه ابنة أبي مرة بْن مسعود، وأمها بنت أبي سُفْيَان، فيه شجاعة بني هاشم وحلم بني أُمَيَّة ودهاء ثقيف.
(قال البلاذري) : كذا روي هذا، والثبت أن غير مُعَاوِيَة قال ذلك.
[2] المشهور أنه عليه السلام هو علي الأوسط، وأمه من بنات كسرى تسمى «شهر بانوية» وتقدم في ترجمة نفس الزكية من هذا الجزء، تحت الرقم: (106) ص 102، ما ينفع المقام. وأما علي الأصغر فاستشهد رضيعا في وقعة كربلاء.
[3] ذكر نبذا من أمرها وأمر أختها فاطمة، في الحديث: (238) من ترجمة أمير المؤمنين قبيل عنوان: «بيعة عَلِيّ بْن أَبِي طالب عَلَيْهِ السلام» من ج 2 ص 195، ط 1.(3/146)
(تعداد ولد الإمام علي بن الحسين عليهم السلام وأسماؤهم)
فولد عَلِيّ بْن الْحُسَيْن محمدًا وعبد اللَّه وحسينا، وأمهم أم عَبْد اللَّهِ بنت الحسن بْن علي، وعمرًا وزيدًا لأم ولد.
وعليا وخديجة لأم ولد.
وأم مُوسَى وأم حسن وكلثم ومليكة لأمهات أولاد شتى.
فولد مُحَمَّد بن علي جعفرا وعبد الله أمهما أم فروة بنت القاسم بن محمد ابن أَبِي بكر، فإلى جعفر بْن مُحَمَّد بْن علي تنسب الجعفرية، وهو أبو موسى ابن جعفر. وَكَانَ يكنى أبا عَبْد اللَّهِ ومات بالمدينة.
وأما عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد، فكان يلقب دورقا، مات بالمدينة وله عقب.
وأما زيد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن فكان يكنى أبا الْحُسَيْن، قتل بالْكُوفَة، وكانت ميمونة بنت حسين بْن زيد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن عند المهدي وكان حسين ابن زيد أعمى وَكَانَ لزيد ابْن يقال لَهُ عيسى مات بالْكُوفَة.
وأما عَلِيّ بْن علي بْن الْحُسَيْن فكان يلقب الأفطس وله عقب.
7- حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عن إبراهيم بن ميسرة، عن طاووس:
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَشَارَنِي الْحُسَيْنُ فِي الْخُرُوجِ فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَوْلا أَنْ يُزْرِي ذَلِكَ بِي وَبِكَ لَنَشَبْتُ يَدِي فِي رَأْسِكَ!!! فَقَالَ: [وَاللَّهِ لأَنْ أُقْتَلَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا أَحَبُّ إليّ من أن يستحل بي هذه الحرمة غدا] [1] .
__________
[1] والحديث رواه الطبراني وزاد في آخره: «قال (ابن عباس) : فذلك الذي سلى بنفي عنه» . كما رواه عنه في باب مناقب الإمام الحسين من مجمع الزوائد: ج 9 ص 192، قال:
ورجاله رجال الصحيح.
أقول: المراد من الحرمة هي حرمة الكعبة المعظمة، ولهذا الكلام شواهد ذكرناها في كتابنا «عبرات المصطفين» . وهذا يدل على أنه عليه السلام لو كان بقي في مكة المكرمة، لكان قتل فيها ولو كان متعلقا بأستار الكعبة، ويشهد له أيضا سيرة بني أمية وما فعلوه في أيام ابن الزبير من نصب المنجنيق على الكعبة، ورمي اللائذين بالكعبة!!!(3/147)
8- حدثني يوسف بن موسى حدثنا حكام (ظ) أنبأنا عَمْرُو بْنُ مَعْرُوفٍ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ:
[قَالَ عَلِيٌّ وَهُوَ بِالْكُوفَةِ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا أَتَاكُمْ أَهْلُ بَيْتِ نَبِيِّكُمْ يَحْمِلُ قَوِيُّهُمْ ضَعِيفَهُمْ؟ قَالُوا: نَفْعَلُ وَنَفْعَلُ. فَحَرَّكَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: تُورَدُونَ ثم قال: تَعْرِدُونَ [1] ثُمَّ تَطْلُبُونَ الْبَرَاءَةَ وَلا بَرَاءَةَ لَكُمْ!!!]
[موقف الحسين بن علي من صلح الحسن ومعاوية]
9- قَالُوا: وَكَانَ الْحُسَيْن بْن علي منكرًا لصلح الحسن مُعَاوِيَة [2] فلما وقع ذَلِكَ الصلح دخل جندب بْن عَبْدِ اللَّهِ الأزدي والمسيب بْن نجبة
__________
[1] كذا في ظاهر رسم الخط، ولعل الصواب: «توردون ثم تعردون» . يقال: «عرد زيد- من باب علم- عردا» : هرب وفر.
والحديث رواه الطبراني تحت الرقم: (57) من ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من المعجم الكبير: ج 1/ الورق 236 بسند آخر وزيادة شعر في آخره.
ورواه أيضا في باب مناقب الحسين عليه السلام من مجمع الزوائد: ج 9 ص 191، وقال:
رواه الطبراني وفيه سعد بن وهب متأخر ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.
[2] أي كان شاقا عليه، والاعتراف به والقيام بلوازمه صعبا وعسرا عليه، كتجرع المريض دواء شديدة المرارة الذي لا يشرب عادتا، وكإقدام من وقع في أسفل رجله الأكلة والطبيب الحاذق يأمره بقطع رجله من موضع الكعبين كي لا تسرى إلى ما فوقهما فتهلكه، فيقطع رجله من موضع الداء وهو منكر للقطع متألم منه غاية التألم. وهذا المعنى لم يكن مختصا بالإمام الحسين بل كان موجودا في إمام الحسن عليه السلام أيضا بل ابتلى به قبلهما أبو هما أمير المؤمنين عليه السلام مرارا فانظر إلى ما وقع بينه وبين الخوارج في يوم الهرير من صفين كيف أكرهوه على قبول التحكيم أولا، ثم ألجئوه إلى تعيين أبي موسى للحكومة دون غيره ثانيا!!! وانظر إلى ما يذكره أمير المؤمنين عليه السلام في كلمات كثيرة له يحكى حاله فيما جرى عليه من معاصريه!!! فتارة يقول: فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجى ... ومرة يقول: فنظرت فإذا ليس لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت وأغضيت على القذى وشربت على الشجى وصبرت على أخذ الكظم وعلى أمر من طعم العلقم!!! وله عليه السلام أمثال هذه الكلمات كثيرة مذكورة في نهج البلاغة وغيره.(3/148)
الفزاري وسليمان بْن صرد الخزاعي وسعيد بْن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي عَلَى الْحُسَيْن وَهُوَ قائم في قصر الْكُوفَة يأمر غلمته بحمل المتاع ويستحثهم فسلموا عَلَيْهِ، فلما رأى مَا بهم من الكآبة وسوء الهيئة، تكلم فَقَالَ: [إن أمر اللَّه كَانَ قدرًا مقدورًا، إن أمر اللَّه كان مفعولا. وذكر كراهيّته لذلك الصلح، وقال:
لكنت طيّب النفس بالموت دونه! ولكن أخي عزم علي وناشدني فأطعته وكأنما يحز أنفي بالمواسي ويشرّح قلبي بالمدى!!! وقد قَالَ اللَّه عز وجل: «فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» (19/ النساء) وَقَالَ: «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» (215/ البقرة) . فَقَالَ لَهُ جندب: والله مَا بنا إِلا أن تضاموا وتنتقصوا فأما نحن فإنا نعلم أن القوم سيطلبون مودتنا بكل ما قدروا عليه، ولكن حاش لله أن نوازر الظالمين، ونظاهر المجرمين ونحن لكم شيعة ولهم عدو!!! وَقَالَ سُلَيْمَان بْن صرد الخزاعي: إن هَذَا الكلام الَّذِي كلمك بِهِ جندب هُوَ الَّذِي أردنا (أن) نكلمك بِهِ كلنا. فَقَالَ: رحمكم اللَّه صدقتم وبررتم] .
وعرض لَهُ سُلَيْمَان بْن صرد، وسعيد بْن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي بالرجوع عَن الصلح!! فَقَالَ: هَذَا مَا لا يكون ولا يصلح. قالوا: فمتى أنت سائر؟ قَالَ:(3/149)
غدًا إن شاء اللَّه. فلما سار خرجوا مَعَهُ، فلما جاوزوا دير هند، نظر الْحُسَيْن إِلَى الْكُوفَةِ فتمثل قول زميل بْن أبير الفزاري وَهُوَ ابْن أم دينار/ 476/ أو 238/ أ/:
[فما عَن قلى فارقت دار معاشر ... هم المانعون باحتي وذماري
ولكنّه ما حمّ لا بدّ واقع ... نظار ترقب مَا يحم نظار
] 10- قَالُوا: ولما بايع الحسن مُعَاوِيَة ومضى تلاقت الشيعة بإظهار الحسرة والندم عَلَى ترك القتال والإذعان بالبيعة، فخرجت إليه جماعة منهم فخطّئوه فِي الصلح وعرضوا لَهُ بنقض ذَلِكَ، فأباه وأجابهم بخلاف مَا أرادوه عَلَيْهِ.
ثُمَّ إنهم أتو الْحُسَيْن فعرضوا عَلَيْهِ مَا قَالُوا للحسن وأخبروه بما رد عليهم فَقَالَ: [قد كَانَ صلح وكانت بيعة كنت لها كارها، فانتظروا ما دام هَذَا الرَّجُل حيا، فَإِن يهلك نظرنا ونظرتم.] فانصرفوا عَنْهُ، فلم يكن شَيْء أحب إِلَيْهِمْ وإلى الشيعة من هلاك مُعَاوِيَة، وهم يأخذون أعطيتهم ويغزون مغازيهم.
11- قَالُوا: وشخص مُحَمَّد بْن بشر الْهَمْدَانِيّ وسفيان بْن ليلى الْهَمْدَانِيّ [1] إِلَى الحسن وعنده الشيعة الَّذِينَ قدموا عَلَيْهِ أولا فَقَالَ لَهُ سُفْيَان- كما قَالَ لَهُ بالعراق-: السلام عليك يا أمير المؤمنين [2] فَقَالَ لَهُ: [اجلس لله أبوك؟! والله لو سرنا إِلَى مُعَاوِيَةَ بالجبال والشجر مَا كَانَ إِلا الَّذِي قضي] .
ثُمَّ أتيا الْحُسَيْن فَقَالَ: [ليكن كل امرئ منكم حلسا من أحلاس بيته ما دام هَذَا الرَّجُل حيا، فَإِن يهلك وأنتم أحياء رجونا أن يخير اللَّه لنا ويؤتينا رشدنا ولا يكلنا إلى أنفسنا، فإنّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ] .
__________
[1] كذا في النسخة، وفي كثير من المصادر: «سفيان بن ليل» ؟
[2] كذا في الأصل، وفي كثير من المصادر: «يا مذل المؤمنين» .(3/150)
12- قَالُوا: وَكَانَ حجر بْن عدي أول من يذم الحسن عَلَى الصلح [1] وَقَالَ لَهُ قبل خروجه من الْكُوفَة: خرجنا من العدل ودخلنا فِي الجور، وتركنا الحق الَّذِي كنا عَلَيْهِ ودخلنا فِي الباطل الَّذِي كنا نذمه؟! وأعطينا الدنية ورضينا بالخسيسة، وطلب القوم أمرًا وطلبنا أمرا، فرجعوا بما أحبوا مسرورين، ورجعنا بما كرهنا راغمين!!! فَقَالَ لَهُ: [يَا حجر: ليس كُلّ النَّاس يحب مَا أحببت، إني قد بلوت النَّاس فلو كانوا مثلك فِي نيتك وبصيرتك لأقدمت] .
وأتى الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ: يَا أبا عَبْد اللَّهِ شريتم العز بالذل؟ وقبلتم القليل بترك الكثير؟ أطعني اليوم واعصني سائر الدهر!!! دع رأي الحسن واجمع شيعتك ثُمَّ ادع قَيْس بْن سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ وابعثه فِي الرجال، وأخرج أنا فِي الخيل فلا يشعر ابْن هند إِلا ونحن مَعَهُ فِي عسكره فنضاربه حَتَّى يحكم اللَّه بيننا وبينه وَهُوَ خير الحاكمين، فإنّهم الآن غارّون. فقال [ (له) : إنا قد بايعنا وليس إِلَى مَا ذكرت سبيل] .
13- قَالُوا: فلما توفي الحسن بْن علي اجتمعت الشيعة، ومعهم بنو جعدة بْن هبيرة بْن أَبِي وهب المخزومي- وأم جعدة أم هانئ بنت أَبِي طَالِب فِي دار سُلَيْمَان بْن صرد، فكتبوا إِلَى الْحُسَيْن كتابا بالتعزية وَقَالُوا فِي
__________
[1] لو صح صدور هذا الكلام منه، فمعناه أنه كان يتحسر ويذكر ما يترتب على هذا الصلح من سوء النتيجة ووخامة العاقبة بالنسبة إلى أهل البيت واللائذين بهم عليهم السلام!!! ولكن رضوان الله عليه، كان غافلا عما كان الإمام عليه السلام يعلمه من أن المحاربة بلا ناصر مع الخصم الألد العاري من مزايا الإنسانية، تؤل فورا إلى اجتثاث أهل البيت والمتمسكين بهم كحجر وأمثاله رضوان الله عليهم وأما المصالحة معه فإنها لا تتعقب الفناء الكلي الفوري فرجع الإمام عليه السلام الفناء التدريجي على الفناء الكلي الدفعي الفوري.(3/151)
كتابهم: إن اللَّه قد جعل فيك أعظم الخلف ممن مضى ونحن شيعتك المصابة بمصيبتك، المحزونة بحزنك، المسرورة بسرورك، المنتظرة لأمرك.
وكتب إِلَيْهِ بنو جعدة يخبرونه بحسن رأي أَهْل الْكُوفَةِ فِيهِ، وحبهم لقدومه وتطلعهم إِلَيْهِ، وأن قد لقوا من أنصاره وإخوانه من يرضى هديه ويطمأن إِلَى قوله ويعرف نجدته وبأسه، فأفضوا إليهم ما هم عليه من شنآن ابن أَبِي سُفْيَانَ، والبراءة منه، ويسألونه الكتاب إِلَيْهِمْ برأيه.
فكتب (الحسين عليه السلام) إِلَيْهِمْ: إني لأرجو أن يكون رأي أخي رحمه الله- في الموادعة، ورأيي فِي جهاد الظلمة رشدًا وسدادًا، فالصقوا بالأرض وأخفوا الشخص واكتموا الهوى [1] واحترسوا من الأظّاء (ظ) مَا دام ابْن هند حيا، فَإِن يحدث بِهِ حدث وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله.
وكان رجال من أهل العراق وأشراف (ظ) أَهْل الحجاز يختلفون إِلَى الْحُسَيْن يجلونه ويعظمونه ويذكرون فضله ويدعونه إلى أنفسهم/ 477/ أو 238 ب/ ويقولون: إنا لك عضد ويد. ليتخذوا الوسيلة إِلَيْهِ، وهم لا يشكون فِي أن مُعَاوِيَة إذا مات لم يعدل النَّاس بحسين أحدًا، فلمّا كثر اختلافهم (ظ) إِلَيْهِ، أتى عَمْرو بْن عُثْمَان بْن عفان، مروان بْن الحكم- وَهُوَ إذ ذاك عامل مُعَاوِيَة عَلَى الْمَدِينَةِ- فَقَالَ لَهُ: قد كثر اختلاف الناس إلى حسين، والله (إني) لأرى أن لكم منه يوما عصيبا. فكتب مروان ذَلِكَ إِلَى مُعَاوِيَةَ، فكتب إِلَيْهِ معاوية: أن اترك حسينا ما تركك ولم يظهر لك عداوته، و (ما لم) يبد (لك) صفحته، واكمن عنه كمون الشّرى [2] إن شاء الله والسلام.
__________
[1] أي الذي تهوون وتحبون من إحقاق حقوق أهل البيت وقطع يد الظالمين ومجازاتهم بظلمهم.
[2] الظاهر أن هذا هو الصواب أي راقبه في خفاء وموارات كمراقبة الأسد للصيد ونهوضه عليه غفلة. وفي الأصل: «الثرى» .(3/152)
وكتب مُعَاوِيَة إِلَى الْحُسَيْن: أما بعد فقد أنهيت إِلَى عنك أمور إن كانت حقا فإني لم أكن أظنها بك رغبة عَنْهَا، وإن كانت باطلا فأنت أسعد النَّاس بمجانبتها، وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد اللَّه توفي فلا تحملني عَلَى قطيعتك والإساءة إِلَيْك، فإني متى أنكرك تنكرني ومتى تكدني أكدك فاتق اللَّه يَا حسين فِي شق عصا الأمة، وأن تردهم فِي فتنة!!! فكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن كتابا غليظا يعدّد عَلَيْهِ فِيهِ مَا فعل فِي أمر زياد، وفي قتل حجر، ويقول لَهُ: إنك قد فتنت بكيد الصالحين مذ خلقت؟! فكدني مَا بدا لك!!! وكان آخر الكتاب: وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى [1] .
__________
[1] أقول: وهذا الكتاب قد ذكره جماعة من الأعلام فروى قطعة منه في المحبر الكبير ص 479. وقطعة أخرى منه ذكرها في دعائم الإسلام ج 2 ص 131 ط 1، وذكره أيضا في الأخبار الطوال ص 224، والإمامة والسياسة ص 131، والاحتجاج: ج 2 ص 20 ط النجف، وترجمة الإمام الحسين عليه السلام من عوالم العلوم ص 100، وذكره الكني- رحمه الله- في ترجمة عمرو بن الحمق من رجاله ص 48 ط النجف بالتفصيل، وذكره أيضا ابن سعد في ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من الطبقات الكبرى كما في الحديث: (254) من ترجمة الإمام الحسين من تاريخ دمشق: ج 13، ص 68 وذكره المصنف تفصيلا في الحديث: (303) من ترجمة معاوية من أنساب الأشراف: ج 2/ الورق 73 ب/ أو ص 744، وبالتأمل فيه وما ذكره المصنف هاهنا يعلم أن ما هاهنا مروي بطريق مستقل وبسند مغاير لما رواه في ترجمة معاوية، وحيث أن جل المصادر المتقدمة مطبوع، وبعضها لم يذكر فيه مؤلفه تمام الكتاب بل ذكر منه ما يمس حاجته أو ما لم يناقض منه مذهبه أو غرضه فنحن نذكره برواية المصنف في ترجمة معاوية إنقاذا له من التلف، وإيفاء للفائدة وتعدد الهدف فنقول:
قال البلاذري في الحديث: (303) من ترجمة معاوية من أنساب الأشراف ج 2 ص 744:
قالوا: وكتب معاوية إلى الحسين بن علي رضي الله تعالى عنهم!!!:
أما بعد فقد انتهت إلى أمور أرغب بك عنها، فإن كانت حقا لم أقارك عليها- ولعمري إن من أعطى صفقة يمينه وعهد الله وميثاقه لحري بالوفاء- وإن كانت باطلا فأنت أسعد الناس بذلك وبحظ نفسك تبدأ، وبعهد الله توفي فلا تحملني على قطيعتك والإساءة بك، فإني متى أنكرك تنكرني ومتى تكدني أكدك فاتق شق عصا هذه الأمة، وأن ترجعوا على يدك إلى الفتنة!!! وقد جربت الناس وبلوتهم، وأبوك كان أفضل منك، وقد كان اجتمع عليه رأي الذين يلوذون بك، ولا أظنه يصلح لك منهم ما كان فسد عليه (ظ) فانظر لنفسك ودينك ولا يستخفنك الذين لا يوقنون.
فكتب إليه الحسين: أما بعد فقد بلغني كتابك تذكر أنه بلغك عني أمور ترغب (بي) عنها فإن كانت حقا لم تقارني عليها. ولن يهدي إلى الحسنات و (لا) يسدد لها إلا الله، فأما ما نمي إليك، فإنما رقاه الملاقون المشاءون بالنمائم المفرقون بين الجميع، وما أريد حربا لك ولا خلافا عليك، وأيم الله لقد تركت ذلك وأنا أخاف الله في تركه!!! وما أظن الله راضيا مني بترك محاكمتك إليه، ولا عاذري دون الاعتذار إليه فيك وفي أوليائك القاسطين الملحدين، حزب الظالمين وأولياء الشياطين!!! ألست قاتل حجر بن عدي وأصحابه المصلين العابدين؟ - الذين (كانوا) ينكرون الظلم ويستعظمون البدع ولا يخافون في الله لومة لائم- ظلما وعدوانا بعد إعطائهم الأمان بالمواثيق والأيمان المغلظة!!! أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أبلته العبادة وصفرت لونه وانحلت جسمه؟! أو لست المدعي زياد ابن سمية المولود على فراش عبيد عبد ثقيف؟ وزعمت أنه (ابن) أبيك!!! وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش وللعاهر الحجر. فتركت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخالفت أمره متعمدا واتبعت هواك مكذبا بغير هدى من الله، ثم سلطته على العراقين فقطع أيدي المسلمين وسمل أعينهم وصلبهم على جذوع النخل!!! كأنك لست من الأمة؟
وكأنها ليست منك؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ألحق بقوم نسبا ليس لهم فهو ملعون.
أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب إليك ابن سمية أنهم على دين علي. فكتبت إليه اقتل من كان على دين علي ورأيه. فقتلهم ومثل بهم بأمرك!!! ودين علي دين محمد صلى الله عليه وسلم الذي كان يضرب عليه أباك، والذي انتحالك إياه أجلسك مجلسك هذا، ولولا همو (كذا) كان أفضل شرفك تجشم الرحلتين في طلب الخمور!!! وقلت: انظر لنفسك ودينك والأمة واتق شق عصا الألفة (كذا) وان ترد الناس إلى الفتنة. فلا أعلم نظرا لنفسي وديني أفضل من جهادك!!! فإن أفعله فهو قربة إلى ربي وان أتركه فذنب استغفر الله منه في كثير من تقصيري وأسأل الله توفيقي لأرشد أموري.
وأما كيدك إياي فليس يكون على أحد أضر منه عليك، كفعلك بهؤلاء النفر الذين قتلتهم ومثلت بهم بعد الصلح من غير أن يكونوا قاتلوك ولا نقضوا عهدك، إلا مخافة أمر لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوه، أو ماتوا قبل أن يدركوه، فأبشر يا معاوية بالقصاص، وأيقن بالحساب، واعلم أن لله كتابا لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
وليس الله بناس لك أخذك بالظنة، وقتلك أولياءه على الشبهة والتهمة، وأخذك الناس بالبيعة لابنك غلام سفيه يشرب الشراب ويلعب بالكلاب، ولا أعلمك إلا قد خسرت نفسك وأوبقت (ظ) دينك وأكلت (كذا) أمانتك وغششت رعيتك، وتبوأت مقعدك من النار!!! فبعدا للقوم الظالمين.(3/153)
فكان مُعَاوِيَة يشكو مَا كتب بِهِ الْحُسَيْن إِلَيْهِ إِلَى النَّاس!! فقيل لَهُ: اكتب إِلَيْهِ كتابا تعيبه وأباه فِيهِ. فَقَالَ: مَا عسيت أن أقول فِي أَبِيهِ إِلا أن أكذب ومثلي لا يعيب أحدًا بالباطل!!! وما عسيت أن أقول فِي حسين ولست أراه(3/154)
للعيب موضعا [1] إِلا أني قد أردت أن أكتب إليه فأتوعّده وأتهدّده، ثمّ رأيت أ (ن) لا أجيبه.
ولم يقطع مُعَاوِيَة عَن الْحُسَيْن شَيْئًا (ممّا) كَانَ يصله ويبره بِهِ، وَكَانَ يبعث إِلَيْهِ فِي كُلّ سنة ألف ألف درهم وعروض وهدايا من كل ضرب.
[شخوص الحسين بن علي إلى مكة]
فلما توفي مُعَاوِيَة- رحمه اللَّه!!! - للنصف من رجب سنة ستين وولي يزيد بْن مُعَاوِيَة الأمر بعده، كتب يزيد إِلَى عامله الوليد بْن عتبه بْن أَبِي سُفْيَانَ، فِي أخذ البيعة عَلَى الْحُسَيْن وعبد اللَّه بْن عُمَر، وعبد اللَّه بْن الزُّبَيْرِ، فدافع الْحُسَيْن بالبيعة ثُمَّ شخص إِلَى مَكَّة فلقيه عَبْد اللَّهِ ابن مطيع العدوي مع (من «خ» ) قريش فَقَالَ لَهُ: [جعلت فداك أين تريد؟ قال: أمّا الآن فأريد
__________
[1] فويل للذين يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها!!!(3/155)
مَكَّة، وأما بعد أن آتي مَكَّة فإني أستخير اللَّه.] فَقَالَ: خار اللَّه لك يَا ابْن بنت رَسُول اللَّهِ وجعلني فداك، فَإِذَا أتيت مكة فاتّق الله ولا تأتي الكوفة، فإنّها بلدة مشومة بِهَا قتل أبوك وطعن أخوك، وأنا أرى أن تأتي الحرم فتلزمه فإنك سيد العرب، ولن يعدل أهل الحجاز بك أحدا، وو الله لئن هلكت لنسترقن بعدك!!! ويقال: إنه كَانَ لقيه عَلَى ماء فِي طريقه حين توجه إِلَى الْكُوفَةِ من مَكَّة، فَقَالَ لَهُ: إني أرى لك أن ترجع إِلَى الحرم فتلزمه وَلا تأتي الْكُوفَة.
ولما نزل الْحُسَيْن مَكَّة، جعل أهلها يختلفون إليه و (كذا) من كَانَ بِهَا من المعتمرين وأهل الآفاق، وَابْن الزُّبَيْر بِمَكَّةَ، قد لزم جانب الكعبة يصلي ويطوف ويأتي الْحُسَيْن وَهُوَ أثقل النَّاس عَلَيْهِ.
14- وَحُدِّثْتُ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ مُسَاحِقٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ [1] قَالَ: [رَأَيْتُ حُسَيْنًا يَمْشِي بَيْنَ رَجُلَيْنِ حِينَ دَخَلَ مَسْجِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول:
لا ذعرت السوام في وضح الصب ... ح مغيرا ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي خافة الْمَوْتِ ضَيْمًا ... وَالْمَنَايَا تَرْصُدْنَنِي أَنْ أَحِيدَا
] فَعَلِمْتُ أَنَّهُ لا يَلْبَثُ إِلا قَلِيلا حَتَّى يَخْرُجَ، فما لبث أن خرج (حتى) لحق بمكة، ثم خرج منها إلى العراق/ 478/ أو 239/ أ/.
15- وقال العتبي: حجب الوليد بْن عتبة أهل العراق عَنِ الحسين فقال [ (له) الْحُسَيْن: يَا ظالمًا لنفسه عاصيًا لربه علام تحول بيني وبين قوم
__________
[1] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «المقري» .(3/156)
عرفوا من حقي مَا جهلته أنت وعمك؟!] فَقَالَ الوليد: ليت حلمنا عنك لا يدعو جهل غيرنا إليك، فجناية لسانك مغفورة لك ما سكنت يدك فلا تخطر بها [1] فتخطر بك، ولو علمت مَا يكون بعدنا لأحببتنا كما أبغضتنا.
[المراسلات بين الحسين وأهل العراق]
16- وبلغ الشيعة من أَهْل الْكُوفَةِ موت مُعَاوِيَة، وامتناع الْحُسَيْن من البيعة ليزيد فكتبوا إِلَيْهِ كتابا صدوره:
من سُلَيْمَان بْن صرد والمسيب بْن نجبة ورفاعة بْن شداد، وحبيب بْن مظهر- وبعضهم يقول: مطهّر (كذا) - وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أَهْل الْكُوفَةِ. أما بعد فالحمد لله الَّذِي قصم عدوك الجبار العنيد الَّذِي انتزى على هذه الأمة، فابتزّها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عَلَيْهَا بغير رضى مِنْهَا ثُمَّ قتل خيارها واستبقى شرارها وجعل مال اللَّه دولة بين أغنيائها فبعدًا لَهُ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ، وليس علينا إمام فاقدم علينا لعل اللَّه يجمعنا بك على الحق [2] .
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «فلا يخطر بها» بالياء.
[2] وقال ابن الجوزي- في كتاب الرد على المتعصب العنيد-: أخبرنا ابن ناصر، قال: أنبأنا أبو محمد ابن السراج، أنبأنا أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف، أنبأنا أبو الحسين ابن أخي ميمي حدثنا أبو علي ابن صفوان، حدثنا أبو بكر ابن أبي الدنيا، حدثني محمد بن صالح القرشي حدثنا علي بن محمد القرشي:
عن يونس بن أبي إسحاق قال: لما بلغ أهل الكوفة نزول الحسين بمكة وأنه لم يبايع ليزيد ابن معاوية خرج منهم وفد إليه، وكتب إليه سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة ووجوه أهل الكوفة يدعونه إلى بيعته وخلع يزيد، وقالوا: إنا تركنا الناس متطلعة أنفسهم إليك، وقد رجونا أن يجمعنا الله بك على الحق وأن ينفي عنهم بك ما هم فيه من الجور، فأنتم أولى بالأمر من يزيد (وأبيه معاوية) الذي غصب الأمة فيأها وقتل خيارها.
فدعا (الحسين عليه السلام) مسلم بن عقيل وقال (له) : اشخص إلى الكوفة فإن رأيت منهم اجتماعا فاكتب إلي.(3/157)
واعلم أن النعمان بْن بشير فِي قصر الإمارة، ولسنا نجمع مَعَهُ جمعة وَلا نخرج مَعَهُ إِلَى عيد، ولو بلغنا إقبالك إلينا أخرجناه فألحقناه بالشام والسلام.
وَكَانَ مُعَاوِيَة ولي النعمان الْكُوفَة- بعد عبد الرحمان بْن أم الحكم- وَكَانَ النعمان عثمانيا مجاهرًا ببغض علي سيّئ القول فِيهِ!!! وبعثوا بالكتاب مَعَ عَبْد اللَّهِ بن سبيع الْهَمْدَانِيّ وعبد اللَّه بْن وال التَّيْمِيّ فقدما بالكتاب عَلَى الْحُسَيْن لعشر ليال خلون من شهر رمضان بمكة.
ثم سرّحوا بعد ذَلِكَ بيومين قَيْس بْن مسهر بْن خليد الصيداوي من بني أسد، وعبد الرحمان بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الكدر الأرحبي وعمارة بْنِ عَبْدِ السلولي فحملوا معهم نحوًا من خمسين صحيفة، الصحيفة من الرَّجُل والاثنين والثلاثة والأربعة (ثم لبثوا يومين آخرين ثم سرحوا إليه هانئ بن هانئ السبيعي وسعيد بن عبد الله الحنفي) [1] وكتبوا معهما:
أما بعد فحيّهلا [2] فإن الناس منتظرون (لك) لا إمام لهم غيرك فالعجل ثُمَّ العجل ثم العجل والسلام.
17- قالوا: وكتب إليه (من) أشراف الْكُوفَةِ شَبَث بْن رَبْعِيّ اليربوعي ومحمد بْن عمير بن عطارد بن حاجب التميمي (كذا) وحجار بن أبجر العجلي ويزيد بن الحرث بْن يزيد بْن رويم الشيباني وعزرة بْن قيس الأحمسي وعمرو ابن الحجاج الزبيدي:
أما بعد فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار وكلمت الجمام [3] فإذا
__________
[1] ما بين المعقوفين لا بد منه كما يدل عليه ما في تاريخ الطبري. ولا أدري أنه سقط من قلمي أو من الأصل المنقول منه، ولا يحضرني الآن نسخة الأصل كي أراجعها.
[2] حي هلا- مثل حي وحيهل- اسم فعل بمعنى الأمر مبني على الفتح، ومعناه:
أقبل وعجل.
[3] هذا هو الظاهر من رسم الخط من الأصل الموجود عندي، ويحتمل أيضا ضعيفا أن يقرء «وكلهت» بالهاء المهملة بين اللام والتاء.
ويأتي في الحديث: (34) في 188، من مطبوعتنا هذه، وص 488 من الأصل بخط واضح:
«وطمت الجمام» .(3/158)
شئت فأقدم علينا فإنما تقدم عَلَى جند لك مجند!!! والسلام.
فتلاحقت الرسل كلها واجتمعت عنده فأجابهم عَلَى آخر كتبهم وأعلمهم أن قد قدم مسلم بْن عقيل بْن أَبِي طالب ليعرف طاعتهم وأمرهم ويكتب إِلَيْهِ بحالهم ورأيهم.
ودعا مسلما فوجهه مَعَ قَيْس بْن مسهر، وعمارة بن عبد (كذا) وعبد الرحمان بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن ذي الكدر.
فكتب إِلَيْهِ مسلم من الطريق [1] إني توجهت مَعَ دليلين من أَهْل الْمَدِينَةِ فضلا عَن الطريق، واشتد عَلَيْهِمَا العطش حَتَّى ماتا، وصرنا إِلَى الماء فلم ننجو إِلا بحشاشة أنفسنا، وقد تطيرت من وجهي هَذَا، فَإِن رأيت أن تعفيني منه وتبعث غيري فافعل.
فكتب إِلَيْهِ الْحُسَيْن أما بعد فقد خشيت أن يكون الَّذِي حملك عَلَى الكتاب إلي بالاستعفاء من وجهك الجبن فامض لما أمرتك به.
فمضى (مسلم) لوجهه. وكان من خبر مقتله [2] مَا قد ذكرناه فِي خبر ولد عقيل بْن أَبِي طالب [3] .
وَكَانَ مخرج مسلم بالْكُوفَة، يوم الثلاثاء لثمان ليال خلون من ذي الحجة سنة ستين.
__________
[1] وهاهنا في الكلام حذف أي فأخذ مسلم دليلين فساروا، فضل الدليلان عن الطريق فمات عطشا، وانتهى مسلم إلى الماء بعد ما كاد أن يموت من العطش، فكتب إلى الحسين ...
[2] كلمة: «خبر» في النسخة مصحفة، وصححناها على مقتضى السياق.
[3] وقد ذكره قبل ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام، متصلا بها، في ج 1، ص 308 من النسخة المخطوطة، وفي المطبوعة ج 2 ص 77 ط 1.(3/159)
ويقال يوم الأربعاء لتسع خلون من ذي الحجة سنة ستين يوم عرفة بعد خروج الْحُسَيْن- من مَكَّة مقبلا إِلَى الْكُوفَةِ- بيوم.
وَكَانَ الْحُسَيْن خرج من الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّة يوم الأحد، لليلتين بقيتا من رجب سنة ستين، ودخل مَكَّة ليلة الجمعة لثلاث ليال خلون من شعبان/ 479/ أو 239 ب/ فأقام بمكة شعبان وشهر رمضان وشوال وذي القعدة، ثم خرج منها يوم الثلاثا (ء) لثمان ليال خلون من ذي الحجة يوم التروية وَهُوَ اليوم الَّذِي خرج فِيهِ مسلم بالْكُوفَة.
وقد يقال إنه خرج بالْكُوفَة يوم الأربعاء وَهُوَ يوم عرفة.
18- وَحَدَّثَنِي بعض قريش أن يزيد كتب إِلَى ابْن زياد: بلغني مسير حسين إِلَى الْكُوفَةِ، وقد ابتلى بِهِ زمانك من بين الأزمان، وبلدك من بين البلدان، وابتليت بِهِ من بين العمال، وعندها تعتق أو تعود عبدا كما يعتبد العبيد [1] .
__________
[1] وهذا رواه أيضا في الحديث: (259) من ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق مسندا.(3/160)
خروج الحسين بن علي (عليهما السلام) من مَكَّة إِلَى الْكُوفَةِ
19- قَالُوا: ولما كتب أَهْل الْكُوفَةِ إِلَى الْحُسَيْن بما كتبوا بِهِ فاستحفّوه للشخوص، جاءه عمر (و) بن عبد الرحمان بن الحرث بْن هِشَام المخزومي بِمَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ: بلغني أنك تريد الْعِرَاق وأنا مشفق عليك من مسيرك؟! لأنك تأتي بلدا فيه عماله وأمراؤه ومعهم بيوت الأموال، وإنما النَّاس عبيد الدينار والدرهم!! فلا آمن عليك أن يقاتلك من وعدك نصره ومن أنت أحب إِلَيْهِ ممن يقاتلك مَعَهُ!!! [فَقَالَ لَهُ: قد نصحت ويقضي اللَّه] .
وأتاه عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن عم إن النَّاس قد أرجفوا بأنك سائر إِلَى الْعِرَاق؟ فقال: نعم. قَالَ ابْن عَبَّاس: فإني أعيذك بالله من ذَلِكَ أتذهب رحمك اللَّه إِلَى قوم قد قتلوا أميرهم وضبطوا بلادهم ونفوا عدوهم؟! فَإِن كانوا قد فعلوا فسر إِلَيْهِمْ، وإن كانوا إنما دعوك إِلَيْهِمْ وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله يجبون خراج بلادهم فإنما دعوك إلى الحرب والقتال!!! فلا آمن أن يغروك ويكذبوك، ويستنفروا إليك فيكونوا أشد الناس عليك!!! ثم عاد ابن عباس (مرة أخرى) إِلَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْن عم إني أتصبر فلا أصبر!!! إني أتخوف عليك الهلاك، إن أَهْل الْعِرَاق قوم غدر فأقم بهذا البلد، فإنك سيد أَهْل الحجاز، فَإِن أرادك أَهْل الْعِرَاق وأحبوا نصرك فاكتب إِلَيْهِمْ أن ينفوا عدوهم ثم سر إِلَيْهِمْ، وإلا فَإِن فِي اليمن جبالا وشعابا وحصونا ليس بِشَيْءٍ من الْعِرَاق مثلها، واليمن أرض طويلة عريضة ولأبيك بها شيعة، فأتها ثم اثبت دعاتك وكتبك يأتك النَّاس.(3/161)
فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن: [يَا ابْن عم أنت الناصح الشفيق ولكني قد أزمعت المسير ونويته [1]] فَقَالَ ابْن عَبَّاس: فَإِن كنت سائرًا فلا تسر بنسائك وأصبيتك، فو الله إني لخائف أن تقتل كما قتل عُثْمَان ونساؤه ينظرن إِلَيْهِ!! ثُمَّ خرج ابْن عَبَّاس من عنده فمر بابن الزُّبَيْر [2] فَقَالَ لَهُ: قرت عينك يَا ابْن الزُّبَيْر بشخوص الْحُسَيْن عنك وتخليته إياك والحجاز ثُمَّ قَالَ:
يا لك من قبرة بمعمر ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونفري ما شئت أن تنفري
20- وروي أن ابن عباس خرج من عند حسين وَهُوَ يقول:
واحسيناه أنعي حسينا لمن سمع!!
__________
[1] قد تقدم في الحديث (7) ص 475 من الأصل المخطوط، وفي مطبوعنا هذا ص 147، انه عليه السلام أجاب ابن عباس بما أقنعه وانه لو لم يخرج لكانوا يستحلون به حرمة الكعبة!!! ولذلك قال ابن عباس: فذلك الذي سلا بنفسي عنه.
[2] ورواه أيضا ابن أبي الحديد- في شرح المختار: (400) من الباب الثالث من نهج البلاغة ج 4 ص 491 قال:
لما خرج الحسين عليه السلام من مكة إلى العراق ضرب عبد الله بن عباس بيده على منكب ابن الزبير وقال:
يا لك من قبرة بمعمري ... خلا لك الجو فبيضي واصفري
ونقري ما شئت أن تنقري ... هذا الحسين سائر فأبشري
خلا الجو- والله- لك يا ابن الزبير وسار الحسين إلى العراق!!! فقال ابن الزبير: يا ابن عباس والله ما ترون هذا الأمر إلا لكم ولا ترون إلا أنكم أحق به من جميع الناس؟! فقال ابن عباس: إنما يرى من كان في شك ونحن من ذلك على يقين!!! ولكن أخبرني عن نفسك بماذا تروم هذا الأمر؟ قال: بشرفي. قال: وبماذا شرفت؟ إن كان لك شرف فإنما هو بنا، فنحن أشرف منك لأن شرفك منا!!! وعلت أصواتهما فقال غلام من آل الزبير: دعنا منك يا ابن عباس فو الله لا تحبوننا يا بني هاشم ولا نحبكم أبدا!!! فلطمه عبد الله بن الزبير وقال: أتتكلم وأنا حاضر؟! فقال ابن عباس: لم ضربت الغلام والله أحق بالضرب منه من مزق ومرق!!! قال:
ومن هو؟ قال: أنت!!! واعترض بينهما رجال من قريش فأسكتوهما.(3/162)
21- وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوَّارٍ، عَنْ رَجُلٍ- قَالَ: أَحْسَبُهُ يَحْيَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ سَالِمٍ الأَزْدِيَّ- عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ:
لَمَّا أَرَادَ الْحُسَيْنُ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْكُوفَةِ، قَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ- حِينَ أَرَادَ تَوْدِيعَهُ-: أَطِعْنِي وَأَقِمْ وَلا تَخْرُجْ فو الله مَا زَوَاهَا اللَّهُ عَنْكُمْ إِلا وَهُوَ يُرِيدُ بِكُمْ خَيْرًا. فَلَمَّا وَدَّعَهُ قَالَ: أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ من مقتول (من قتيل «خ» ) .
22- وحدثني/ 480/ أو 240/ أ/ غير (ظ) أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ شَبَابَةَ، عَنْ يَحْيَى بن إسماعيل:
عن الشعبي [1] (قال) إن ابن عمر كان بماء له فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأُخْبِرَ بِخُرُوجِ الْحُسَيْنِ، فَلَحِقَهُ عَلَى مَسِيرَةِ ثَلاثِ لَيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ: أَيْنَ تُرِيدُ؟
قَالَ: الْعِرَاقَ. قَالَ: لا تَأْتِهِمْ لأَنَّكَ بِضْعَةٌ مِنْ رَسُولِ (اللَّهِ) وَاللَّهِ لا يَلِيهَا مِنْكُمْ أَحَدٌ أَبَدًا، وَمَا صَرَفَهَا اللَّهُ عنكم إلا (لما) هو خير لكم.
فقال (له الحسين) : هَذِهِ بَيْعَتُهُمْ وَكُتُبُهُمْ. فَاعْتَنَقَهُ ابْنُ عُمَرَ وَبَكَى وَقَالَ:
أَسْتَوْدِعُكَ اللَّهَ مِنْ قَتِيلٍ وَالسَّلامُ.
23- وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ:
عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَيَّاشٍ قَالَ: كَتَبَ الأحنف (بن قيس) إلى الحسين وبلغه أنه على الخروج: اصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون [2] .
24- قَالُوا: وَعَرَضَ ابْنُ الزُّبَيْر عَلَى الْحُسَيْنِ أَنْ يقيم بمكة فيبايعه
__________
[1] كلمة: «الشعبي» رسم خطها غير واضح من الأصل، وكأنها ضرب عليها الخط.
[2] وقال في مادة: «أول» من كتاب الفائق- بتقديم وتأخير منا-: كتب الحسين رضي الله عنه إلى الأحنف فقال (الأحنف) للرسول: قد بلونا فلانا وآل أبي فلان فلم نجد عندهم ابالة للملك ولا مكيدة في الحرب.(3/163)
ويبايعه الناس. وإنما أراد بذلك أ (ن) لا يَتَّهِمَهُ وَأَنْ يُعْذَرَ فِي الْقَوْلِ!!! [فَقَالَ الْحُسَيْنُ:
لأَنْ أُقْتَلَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ بِشِبْرٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ فِيهَا!!! وَلأَنْ أُقْتَلَ خَارِجًا مِنْهَا بِشِبْرَيْنِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ خَارِجًا مِنْهَا بِشِبْرٍ!!! [1]] .
25- قَالُوا: وَاعْتَرَضَتِ الْحُسَيْنَ رُسُلُ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ الأَشْدَقِ وَعَلَيْهِمْ أخوه يحيى بن سعيد بن العاصي (كذا) بْنِ أَبِي أُحَيْحَةَ، فَقَالُوا لَهُ: انْصَرِفْ إِلَى أَيْنَ تَذْهَبُ؟ فَأَبَى عَلَيْهِمْ وَتَدَافَعَ الْفَرِيقَانِ فَاضْطَرَبُوا بالسياط.
ثم إن حسينا وأصحابه امتنعوا منه امْتِنَاعًا قَوِيًّا، وَمَضَى الْحُسَيْنُ عَلَى وَجْهِهِ، فَنَادَوْهُ يا حسين ألا تتقي الله أتخرج من الْجَمَاعَةِ؟!! 26- قَالُوا: وَلَقِيَ الْحُسَيْنُ بِالتَّنْعِيمِ عِيرًا قَدْ أُقْبِلَ بِهَا مِنَ الْيَمَنِ، بَعَثَ بِهَا بُجَيْرُ بْنُ رَيْسَانَ الْحِمْيَرِيُّ إِلَى يَزِيدِ بْنِ مُعَاوِيَةَ- وَكَانَ عَامِلَهُ عَلَى الْيَمَنِ- وَعَلَى الْعِيرِ وَرْسٌ وَحُلَلٌ وَرُسُلُهُ فِيهَا يَنْطَلِقُونَ إِلَى يَزِيدَ، فَأَخَذَهَا الْحُسَيْنُ فَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ [وَقَالَ لأَصْحَابِ الإِبِلِ: لا أُكْرِهُكُمْ مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَمْضِيَ مَعَنَا إِلَى الْعِرَاقِ وَفَّيْنَاهُ كِرَاهُ وَأَحْسَنَّا صُحْبَتَهُ، وَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُفَارِقَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا أَعْطَيْنَاهُ من الكرا (ء) عَلَى قَدْرِ مَا قَطَعَ مِنَ الأَرْضِ. فَأَوْفَى مَنْ فَارَقَهُ حَقَّهُ بِالتَّنْعِيمِ، وَأَعْطَى مَنْ مَضَى مَعَهُ وَكَسَاهُمْ.] فَيُقَالُ إِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ كَرْبَلاءَ مِنْهُمْ إِلا ثَلاثَةُ نَفَرٍ فَزَادَهُمْ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، وَأَعْطَاهُمْ جَمَلا جَمَلا وَصَرَفَهُمْ.
ولما صار الحسين إلى الصفاح، لقيه الفرزدق بن غالب الشاعر، فسأله عن
__________
[1] هذا الحديث أيضا دال على أنه عليه السلام كان يعلم بأنه يقتل، وإنما خرج من مكة لئلا يقتل فيها فيستحل به حرمة الحرم!!! ولمصالح أخر قد أشير إليها في بعض الأخبار.(3/164)
أمر النَّاس وراءه، فَقَالَ لَهُ الفرزدق: الخبير سألت، إن قلوب النَّاس معك وسيوفهم مَعَ بني أميّة!!! والقضاء من السماء والله يفعل مَا يشاء. فَقَالَ الْحُسَيْن: صدقت.
27- وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ أَبُو مُوسَى عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ لبطَةَ بْنِ الْفَرَزْدَقِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
لَقِيَنِي الْحُسَيْنُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ مَكَّةَ فِي جَمَاعَةٍ عَلَيْهِمْ يَلامِقُ الدِّيبَاجِ، فَقَالَ:
ما وراؤك؟ فقلت: أَنْتَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى النَّاسِ، وَالسُّيُوفُ مَعَ بَنِي أُمَيَّةَ، وَالْقَضَاءُ مِنَ السَّمَاءِ.
28- حَدَّثَنِي أَبُو مسعود الكوفي عن عوانة بن الحكم، عن لبطة بْن الفرزدق قَالَ: أخبرني أَبِي قَالَ:
لقيت الْحُسَيْن فقلت لَهُ: القلوب معك والسيوف مَعَ بني أمية، وإذا فِي لسانه ثقل من برسام كَانَ عرض لَهُ بالعراق.
29- حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بن إبراهيم الدورقي حَدَّثَنَا وهب بْن جَرِير، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ قَالَ:
سَمِعْتُ الْفَرَزْدَقَ قَالَ: لَقِيتُ الْحُسَيْنَ بِذَاتِ عِرْقٍ وهو يريد الكوفة، فقال له: [مَا تَرَى أَهْلُ الْكُوفَةِ صَانِعِينَ؟ فَإِن مَعِي حملا مِنْ كُتُبِهِمْ!!!] قُلْتُ: يَخْذِلُونَكَ فَلا تَذْهَبْ!!! فَإِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا قُلُوبُهُمْ مَعَكَ وَأَيْدِيهِمْ عَلَيْكَ، فَلَمْ يُطِعْنِي.
30- قَالُوا: ولحق الْحُسَيْن عون بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جعدة بْن هبيرة بذات(3/165)
(عرق) بكتاب من أَبِيهِ يسأله فِيهِ الرجوع/ 481/ أو 240 ب/ ويذكر ما يخاف عليه في مسيره فلم يعجه [1] .
وبلغ ابْن الحنفية شخوص الْحُسَيْن وَهُوَ يتوضأ، فبكى حَتَّى سمع وقع دموعه فِي الطست.
31- وحدّثنا عبّاس بن هشام الكلبي حدثنا معاوية بن الحرث، عَن شمر أَبِي عَمْرو، عَن عروة بْن عَبْدِ اللَّهِ الْجُعْفِيّ قَالَ:
كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن يسار- ويسار هُوَ أَبُو عقب- قدم علينا فَقَالَ: إن حسينا قادم فانصروه. وجعل يحض عَلَى القتال مَعَهُ.
وَكَانَ يقول: يقتلني رجل يقال لَهُ: عبيد اللَّه. فتطلبه ابْن زياد فتوارى وتزوج امرأة من مراد، فأتاه عبيد اللَّه بْن الحر [2] فاستخرجه ثُمَّ أتى بِهِ السبخة فقتله.
32- قَالُوا: ولما بلغ عبيد اللَّه بْن زياد إقبال الْحُسَيْن إِلَى الْكُوفَةِ، بعث (ظ) الحصين بْن أسامة التَّمِيمِيّ ثُمَّ أحد بني جشيش (ظ) بن مالك ابن حنظلة صاحب شرطة حَتَّى نزل القادسية، ونظم الخيل بينها وبين خفان، وبينها وبين القطقطانة إِلَى لعلع.
وكتب الحسين حين بلغ الحاجز مَعَ قَيْس بْن مسهر الصيداوي من بني أسد إلى أهل الكوفة:
__________
[1] كذا في الأصل، ولعل الصواب أن يكون بالسين يقال: «عجسه عن حاجته من باب ضرب- عجسا» : حبسه وأبطأه عنها. أو أنها بالباء من قولهم: «أعجب» بالشيء إعجابا سره وارتضاه.
[2] كذا.(3/166)
أما بعد فَإِن كتاب مسلم بْن عقيل جاءني يخبرني فيه بحسن رأيكم واجتماع ملئكم عَلَى نصرنا والطلب بحقنا، فأثابكم اللَّه عَلَى ذلك أعظم الأجر، فأكمشوا (في) أمركم [1] وجدوا فِيهِ فإني قادم عليكم فِي أيامي إن شاء اللَّه والسلام.
وقد كَانَ مسلم (بن عقيل) كتب إِلَيْهِ قبل أن يقتل ببضع وعشرين ليلة: أما بعد فَإِن الرائد لا يكذب أهله، إنّ جميع (كذا) أَهْل الْكُوفَةِ معك، فأقبل حين تنظر فِي كتابي [2] .
فلما صار قَيْس بْن مسهر بالقادسية، أخذه الحصين بْن تميم فبعث بِهِ إِلَى ابْن زياد، فأمره أن يصعد القصر فيلعن عَلِيًّا ويكذب الْحُسَيْن عَلَى القصر، فلما رقيه قَالَ: أيها النَّاس إن الْحُسَيْن بْن علي خير خلق الله (قادم إليكم) وقد فارقته بالحاجز فأجيبوه وانصروه.
ثُمَّ لعن زيادًا وابنه واستغفر اللَّه لعلي فأمر ابْن زياد فرمي بِهِ من فوق القصر فتقطع ومات رحمه اللَّه.
33- قَالُوا: وَكَانَ زهير بْن القين البجلي بِمَكَّةَ- وَكَانَ عثمانيا- فانصرف من مَكَّة متعجلا فضمه الطريق وحسينا، فكان يسايره وَلا ينازله، ينزل الْحُسَيْن فِي ناحية وزهير فِي ناحية، فأرسل الْحُسَيْن إِلَيْهِ فِي إتيانه، فأمرته امرأته ديلم بنت عَمْرو أن يأتيه فأبي فقالت: سبحان الله أيبعث إليك ابن
__________
[1] يقال: «أكمش زيد في العمل أو السير إكماشا» : أعجل. و «كمش الحادي تكميشا» :
جد في السوق.
[2] ولعل الأقرب بحسب رسم الخط أن يقرء: «فأقبل حين النظر في كتابي» .(3/167)
بنت رسول الله فلا تأتيه؟!! (فصار إليه) فلما صار إِلَيْهِ ثُمَّ انصرف إِلَى رحله، قال لامرأته: أنت طالق فالحقي بأهلك فإني لا أحب أن يصيبك بسببي إلّا خير!!! ثُمَّ قَالَ لأصحابه: من أحب منكم أن يتبعني (فليتبعني) وإلا فإنه أخر العهد. وصار مَعَ الْحُسَيْن!!! ولقي الْحُسَيْن ومن مَعَهُ رجل يقال لَهُ: بكر بْن المعنقة بْن رود [1] فأخبرهم بمقتل مسلم بْن عقيل وهانئ وَقَالَ: رأيتهما يجران بأرجلهما فِي السوق!!! فطلب إِلَى الْحُسَيْن فِي الانصراف، فوثب بنو عقيل فَقَالُوا:
والله لا ننصرف حَتَّى ندرك ثأرنا أَوْ نذوق مَا ذاق أخونا. [فقال الحسين:
مَا خير فِي العيش بعد هَؤُلاءِ؟ فعلم أنه قد عزم رأيه عَلَى المسير، فَقَالَ له عبد الله بن سليم والمدرئ بن الشمعل (كذا) الأسديان: خار اللَّه لك.
فَقَالَ: رحمكما اللَّه] .
ثُمَّ سار إلى زبالة وقد استكثر من الماء، وَكَانَ كلما مر بماء اتبعه منه قوم.
وبعث الْحُسَيْن أخاه من الرضاعة- وَهُوَ عَبْد اللَّهِ بْن يقطر- إِلَى مسلم قبل أن يعلم أنه قتل، فأخذه الحصين بن تميم وبعث به إلى ابن زياد، فأمر به أن يعلى بِهِ القصر ليلعن الْحُسَيْن وينسبه وأباه إِلَى الكذب، فلما علا القصر قَالَ:
(أيها الناس) إني رَسُول الْحُسَيْن ابْن بنت رَسُول اللَّهِ إليكم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سمية/ 482/ أو 241/ أ/ الدعي وابن الدعي لعنه الله.
__________
[1] أقول: رسم خط هذه الكلمة غير جلي ويحتمل احتمالا ضعيفا أن يقرأ: «المصنقة- أو- المعلقة» . وقرأه الطباطبائي- أعزه الله- «المعنفة» بالفاء.(3/168)
فأمر بِهِ فألقي من فوق القصر إِلَى الأرض فتكسرت عظامه، وبقي بِهِ رمق فأتاه رجل فذبحه!!! فقيل لَهُ: ويحك مَا صنعت؟ فَقَالَ: أحببت أن أريحه!! فلما بلغ الْحُسَيْن قتل ابن يقطر خطب فَقَالَ: أيها النَّاس قد خذلتنا شيعتنا وقتل مسلم وهانئ وقيس بن مسهر، و (عبد الله بن) يقطر [1] فمن أراد منكم الانصراف فلينصرف.
فتفرق النَّاس الذين صحبوه ليرى شيئا، فأخذوا يمينا وشمالا حَتَّى بقي فِي أصحابه الذين جاؤا معه من الحجاز.
وأقبل الحسين حتى نزل اشراف [2] فلما كان السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثُمَّ سار من أشراف فرسموا صدر يومهم [3] حَتَّى انتصف النهار، فما كَانَ بأسرع من أن طلعت عليهم هوادي الخيل [4] فلما رأوها من بعيد حسبوها نخلا ثُمَّ تبينوها (فإذا هي الخيل) فأمر الْحُسَيْن بأبنيته فضربت [5] وجاء القوم وهم ألف فارس مَعَ الحر بْن يزيد التَّمِيمِيّ وذلك فِي حر الظهيرة، فَقَالَ الْحُسَيْن لفتيانه: [أسقوا القوم وارووهم ورشفوا الخيل ترشيفا [6] ففعلوا] .
__________
[1] ما بين المعقوفين كان قد سقط من الأصل.
[2] كذا في الأصل، ولم أجد الكلمة بهذه الخصوصية في معجم البلدان، لا في باب الشين المعجمة ولا في باب السين المهملة.
[3] يقال: «رسم زيد- من باب ضرب- رسما ورسيما» : ذهب ومشى مسرعا.
[4] هوادي الخيل: أوائل الخيل أو أعناقها.
[5] وفي تاريخ الطبري وغيره ما معناه أنه لما تبين لهم أن الخيل يستقبلهم قال الإمام عليه السلام لأصحابه: هل هاهنا من ملجأ نجعله وراء ظهرنا ونستقبل القوم من وجه واحد؟ قالوا: نعم هاهنا «ذو حسم» . فتبادر عليه السلام إليه وسبق القوم فأمر بأبنيته فضربت ...
[6] أي بالغوا في سقاية الخيل حتى يشرب بهدوء وعلى توءدة، يقال: «رشف وأرشف وترشف وارتشف الماء: بالغ في مصه» .(3/169)
وَكَانَ مجيء الحر إِلَيْهِ من القادسية، قدمه الحصين بْن تميم بين يديه فِي ألف. فلم يزل (الحر) مواقفا [1] للحسين، وصلّى الحسين فصلّى خلفه!!! ثم (خطب الحسين و) قال للحر وأصحابه:
إن تتقوا اللَّه وتعرفوا الحق لأهله يكن ذلك أرضى لله، وإن أنتم كرهتمونا وجهلتم حقنا، وَكَانَ رأيكم غير مَا أتتني بِهِ كتبكم وقدمت بِهِ علي رسلكم انصرفت عنكم.
فَقَالَ لَهُ (الحر) : أما والله مَا ندري مَا هَذِهِ الكتب الَّتِي تذكرها!!! فأخرج الحسين خرجين مملوئين صحفا فنشرها بين أيديهم!!! فَقَالَ الحر:
فإنا لسنا [2] من هَؤُلاءِ الَّذِينَ كتبوا إِلَيْك، وقد أمرنا إن نحن لقيناك أن لا نقاتلك [3] وأن نقدمك الْكُوفَة عَلَى عبيد اللَّه بْن زياد. فَقَالَ الْحُسَيْن: [الموت أدنى إِلَيْك من ذَلِكَ!!!] ثم قال لأصحابه: قوموا فاركبوا. فركبت النساء ثُمَّ أراد الانصراف وأمر بِهِ أصحابه، فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين ذَلِكَ، [فَقَالَ الْحُسَيْن للحر: ثكلتك أمك مَا تريد؟ فَقَالَ الحر: والله لو غيرك يقولها ما تركت ذكر أمه، ولكنه والله ما إلي ذكر أمك من سبيل إِلا بأحسن مَا أقدر عَلَيْهِ. فَقَالَ الْحُسَيْن: فما تريد؟ قَالَ: أريد أن أقدمك عَلَى عبيد اللَّه بْن زياد: قَالَ: فإني والله لا أتبعك.] فَقَالَ الحر: وأنا والله لا أدعك!!! فلما تراد الكلام قال له الحر: (إني) لم أومر بقتالك وإنما أمرت أن أقدم بك الْكُوفَة فَإِذَا أبيت فخذ طريقا لا يدخلك الْكُوفَة، وَلا يردك إِلَى الْمَدِينَة، يكون بيني وبينك نصفا حَتَّى أكتب إِلَى الأمير عبيد اللَّه بْن زياد، وتكتب أنت إِلَى يزيد بْن مُعَاوِيَة إن أحببت ذَلِكَ، أَوْ إِلَى ابْن زياد إن شئت
__________
[1] ويحتمل رسم الخط على أن يقرأ «موافقا» بتقديم الفاء.
[2] هذا هو الظاهر من السياق، وفي النسخة: «فإنا ليس من هؤلاء.»
[3] كذا في الأصل، وفي بعض المصادر: «أن لا نفارقك ... » .(3/170)
فلعل اللَّه أن يرزقني العافية من أن أبتلى بِشَيْءٍ من أمرك. فتياسر الْحُسَيْن إِلَى طريق العذيب والقادسية وبينه- حينئذ- وبين العذيب ثمانية وثلاثون ميلا.
ثُمَّ إن الْحُسَيْن سار فِي أصحابه والحر بْن يزيد يسايره، وخطب الْحُسَيْن عَلَيْهِ السلام فَقَالَ:
إن هَؤُلاءِ قوم لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمان، فأظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء وأنا أحق من غير، وقد أتتني كتبكم وقدمت علي رسلكم فَإِن تتموا علي بيعتكم تصيبوا رشدكم.
ووبخهم بما فعلوا بأبيه وأخيه قبله.
فقام زهير بْن القين فَقَالَ: والله لو كنا فِي الدنيا مخلدين لآثرنا فراقها فِي نصرتك ومواساتك!!! فدعا له الحسين بخير/ 483/ أو 241 ب/.
وأقبل الحر بْن يزيد يقول: يَا حسين أذكرك اللَّه فِي نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقاتلن، ولئن قوتلت لتهلكن.
فَقَالَ الْحُسَيْن: [أبا الموت تخوفني؟ (أنا) أقول كما قَالَ أخو الأوس:
سأمضي فما بالموت عار عَلَى الفتى ... إذا مَا نوى حقا وجاهد مسلما
وآسا الرجال الصالحين بنفسه ... وفارق مثبورا وحالف محرما
فَإِن عشت لم أذمم وإن مت لم ألم ... كفى لك ذلا أن تعيش وترغما
] فلما سمع ذَلِكَ الحر بْن يزيد تنحى بأصحابه فِي ناحية عذيب الهجانات- وهي الَّتِي كانت هجائن النعمان بْن المنذر ترعى بِهَا- وإذا هم بأربعة نفر مقبلين من الْكُوفَة عَلَى رواحلهم يجنبون [1] فرسا لنافع بْن هلال- يقال له:
__________
[1] أي يقودون بجنبهم فرسا لنافع، يقال: «جنب زيد البعير- من باب نصر- جنبا ومجنبا» : قاده بجنبه.(3/171)
الكامل- وَكَانَ الأربعة النفر: نافع بْن هلال المرادي وعمرو بْن خالد الصيداوي وسعد مولاه، ومجمع بْن عَبْدِ اللَّهِ العائذي من مذحج. فقال الحر: إن هؤلاء ليسوا ممن أقبل معك فأنا حابسهم أورادهم. [فَقَالَ الْحُسَيْن: إذا أمنعهم مما أمنع منه نفسي إنما هَؤُلاءِ أنصاري وأعواني وقد جعلت لي أن لا تعرض لي حَتَّى يأتيك كتاب ابْن زياد.] فكف (الحر) عنهم.
وسألهم الحسين عن (ظ) النَّاس فَقَالُوا: أما الأشراف فقد أعظمت رشوتهم وملئت غرائرهم [1] ليستمال ودهم وتستنزل نصائحهم فهم عليك إلبا واحدا [2] وما كتبوا إليك إلا ليجعلوك سوقا ومكسبا!!! وأما سائر النَّاس بعد فأفئدتهم تهوي إِلَيْك وسيوفهم غدًا مشهورة عليك!!! وَكَانَ الطرماح بْن عدي دليل هَؤُلاءِ النفر فأخذ بهم عَلَى الغريين ثم طعن بهم فِي الجوف وخرج بهم عَلَى البيضة [3] إلى عذيب الهجانات، وكان (الطرماح) يقول وَهُوَ يسير:
يَا ناقتي لا تذعري من زجري ... وشمري قبل طلوع الفجر
بخير ركبان وخير سفري ... حَتَّى تجلي بكريم النجر
أتى بِهِ اللَّه بخير أمري ... ثمت أبقاه بقاء الدهر
فدنا الطرماح بْن عدي من الْحُسَيْن، فَقَالَ لَهُ: والله إني لأنظر فما أرى معك كبير أحد (كذا) ولو لم يقاتلك إلا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أراهم ملازمين لك مَعَ الحر لكان ذلك بلاءا فكيف وقد رأيت قبل خروجي من الْكُوفَة بيوم
__________
[1] غرائر: جمع الغرارة- بكسر الغين المعجمة-: الجوالق.
[2] الإلب- كحبر-: القوم تجمعهم عداوة شخص أو تجمعهم وحدة الغرض والهدف.
[3] كذا.(3/172)
ظهر الْكُوفَة مملوءا رجالا، فسألت عنهم فقيل: عرضوا ليوجهوا إِلَى الْحُسَيْن- أَوْ قَالَ: ليسرحوا (إلى الحسين) !!! - فنشدتك اللَّه إن قدرت أن لا تتقدم إليهم شبرا إلا فعلت.
وعرض (الطرماح) عَلَيْهِ أن ينزله أجأ أَوْ سلمي أحد جبلي طيّئ فجزاه (الحسين) خيرًا، ثُمَّ ودعه ومضى إِلَى أهله ثُمَّ أقبل يريده فبلغه مقتله فانصرف.
34- حدثنا سعدويه، حدثنا (ظ) عباد بْن العوام، حَدَّثَنِي حضين، حَدَّثَنِي هلال بن إساف قال:
أمر ابن زياد فأخذ مَا بين واقصة، إِلَى طريق الشَّام إِلَى طريق الْبَصْرَة، فلا يترك أحد يلج وَلا يخرج، فانطلق الْحُسَيْن: يسير نحو طريق الشَّام يريد يزيد بْن مُعَاوِيَة [1] فتلقته الخيول فنزل كربلاء، وَكَانَ فيمن بعث إِلَيْهِ عمر ابن سعد بن أبي وقاص، وشمر ابن ذي الجوشن، وحصين بْن نمير، فناشدهم الْحُسَيْن أن يسيروه إِلَى يزيد فيضع يده فِي يده فأبوا إِلا حكم ابْن زياد.
وَكَانَ ابْن زياد ممن بعث إِلَيْهِ الحر بْن يزيد الحنظلي فَقَالَ: ألا تقبلون مَا يسألكم من إتيان يزيد؟ فو الله لو سألكم هَذَا الترك والديلم مَا كَانَ ينبغي أن تمنعوهم إياه!!! فضرب الحر وجه فرسه وصار مَعَ الْحُسَيْن فلما دنا منه سلم عَلَيْهِ وعلى أصحابه وقاتل أصحاب ابْن زياد/ 484/ أو 242/ أ/ فقتل منهم رجلين ثم قتل.
__________
[1] الحديث ضعيف السند غير جامع لشرائط الحجية، فما تفرد به ساقط، ولو لم يكن فيه إلا سعدويه سعد بن سعد الجرجاني لكان كافيا لسقوطه عن درجة الاعتبار والحجية، قال البخاري:
لا يصح حديثه. وقال ابن عدي: دخلته غفلة الصالحين ولم أر للمتقدمين فيه كلاما وهو من أهل بلدنا ونحن أعلم به.(3/173)
35- قالوا: ومضى الحسين إلى قصر بني مقاتل [1] فنزل بِهِ، فَإِذَا هُوَ بفسطاط مضروب فسأل عن صاحبه فقيل له: (صاحبه) عبيد اللَّه بْن الحر الْجُعْفِيّ فبعث إِلَيْهِ رسولا يدعوه، فَقَالَ للرسول: إني والله مَا خرجت من الْكُوفَة إِلا كراهة أن يدخلها الْحُسَيْن وأنابها!!! فَإِن قاتلته كَانَ ذَلِكَ عند اللَّه عظيما، وإن كنت مَعَهُ كنت أول قتيل في غير غناء عنه، وو الله لا أراه ولا يراني.
(فرجع الرسول وأخبره بما قال) فانتعل الْحُسَيْن وأتاه فدعاه إِلَى الخروج مَعَهُ. فأعاد عليه القول الذي قاله لرسوله!! [فَقَالَ الْحُسَيْن: فَإِذَا امتنعت من نصرتي فلا تظاهر علي.] فَقَالَ: أما هَذَا فكن آمنا منه.
ثُمَّ إنه أظهر الندم عَلَى تركه نصرة الْحُسَيْن، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شعرًا سنكتبه في موضعه إن شاء الله تعالى [2] .
__________
[1] هذا هو الصواب الموافق لما ذكره المصنف في ج 5 ص 290 ط 1، ومثله في غير واحد من كتب التواريخ والمقاتل، وفي الأصل هاهنا: «ابن مقاتل» .
[2] وقال المؤلف في ترجمة عبيد الله بن الحر، من ج 5 ص 290 ط 1: قال أَبُو مخنف:
لما أقبل الْحُسَيْن من المدينة وقتل مسلم بْن عقيل، خرج ابْن الحر فنزل قصر بني مقاتل- الَّذِي صار لعيسى بْن علي- متحرجا من أن يتلطخ بشيء من أمر الْحُسَيْن أو يشرك فِي دمه، فلما صار الْحُسَيْن إِلَى قصر بني مقاتل رأى فسطاطا فسأل عنه فقيل: هو لعبيد اللَّه بْن الحر. فبعث إِلَيْهِ الحجاج بْن مسروق الجعفي يدعوه إلى نصرته، فقال (ابن الحر) للحجاج قل لَهُ: إني إنما خرجت إِلَى هاهنا فرارا من دمك ودماء أَهْل بيتك، لأني إن قاتلتك كَانَ ذَلِكَ عظيما، وإن قاتلت معك ولم أقتتل بين يديك فقد قصرت وأنا أحمى أنفا من ذلك!! وليس لك بالكوفة شيعة ولا أنصار يقاتلون معك.
فلما أبلغه الحجاج الرسالة تمشى إليه الحسين، فلما رآه قام عن مجلسه (وأجلسه فيه) فسأله (الحسين) الخروج معه، فاستعفاه من ذلك واعتل عليه، وعرض فرسا له يقال له الملحقة- وبعضهم يقول: المحلقة- وقال له: انج عليها حتى تلحق بمأمنك وأنا وأصحابي لك بالعيالات. فانصرف عنه (الحسين) ويقال: إنه دفع الفرس إليه. وقال له ابن الحر: أأنت مختضب أم هو سواد لحيتك؟ فقال: عجل علي الشيب فاختضبت. وخرج ابن الحر فأتى منزله بشاطئ الفرات فنزله حتى أصيب الحسين.
وكان ابن الحر رجلا لا يقاتل لديانة، وإنما كان همه الفتك والتصعلك والغارات.
ثم إن ابن الحر أتى الكوفة فقال له عبيد الله بن زياد- وكان قد تفقد أهل الكوفة-: أكنت معنا أم مع عدونا؟ قال: لا والله ما كنت مع عدوك ولو كنت معه لبلغك ذلك، ولكني كنت مريضا.
قال: مريض القلب!!! قال: ما مرض قلبي قط (و) قد وهب الله لي في بدني العافية.
وكان ابن الحر يغير- على مال الخراج فيقتطعه ويعطي منه أصحابه، وكان سخيا متلافا وقد كان من أهل الديون والعطاء.
قالوا: فخرج من عند ابن زياد مغضبا فبات عند أحمر بن يزيد بن الكيشم الطائي ثم خرج من عنده فأتى المدائن وقال يرثي الحسين (عليه السلام) :
يقول أمير جائر حق جائر ... ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمة
ونفسي على خذلانه واعتزاله ... وبيعة هذا الناكث العهد سادمة
فيا ندمي ألا أكون نصرته ... ألا كل نفس لا تسدد نادمة
سقا الله أرواح الذين تآزروا ... على نصره سقيا من الله دائمة.
في أبيات. وقال أيضا:
أيا لك حسرة ما دمت حيا ... تردد بين حلقي والتراقي.
وله فيه شعر غير هذا. أقول: والقصة ذكرها أيضا في ترجمة ابن الحر من تاريخ دمشق وذكرها أيضا في أواخر حوادث سنة 68 من تاريخ الكامل- لابن الأثير-: ج 4 ص 287 مع الأبيات كاملة ومرسلة.
وقد ذكرناها في كتابنا «عبرات المصطفين» عن مصادر.(3/174)
وكان أنس بن الحرث الكاهلي سمع مقالة الْحُسَيْن لابن الحر- وَكَانَ قدم من الْكُوفَة بمثل مَا قدم لَهُ ابْن الحر- فلما خرج من عند ابْن الحر سلم على الحسين وقال: والله مَا أخرجني من الْكُوفَة إِلا مَا أخرج هَذَا من كراهة قتالك أَوِ القتال معك، ولكن الله قد قذف فِي قلبي نصرتك وشجعني عَلَى المسير معك!!! فَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن فاخرج معنا راشدًا محفوظًا.
وأقبل الْحُسَيْن حَتَّى دخل رحله فخفق برأسه خفقة فرأي فِي منامه قائلا يقول: القوم يسرون والمنايا تسري إليهم.(3/175)
ثُمَّ سار فلم يزل يتياسر حَتَّى صار إِلَى «نينوى» فَإِذَا راكب قد أقبل عَلَى نجيب لَهُ من الْكُوفَة، فلما انتهى إِلَيْهِمْ سلم عَلَى الحر بْن يزيد، ولم يسلم على الحسين ثم دفع إلى الحر كتابا من ابن زياد (و) فِيهِ: «أما بعد فجعجع بحسين [1] حيث يبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي وَلا تنزله إِلا العراء فِي غير حصن وعلى غير ماء» . فقال الحر (للحسين) : هذا كتاب الأمير عبيد الله. وقرأه (عليهم) وأخذهم بالنزول فأنزلهم فِي غير قرية وعلى غير ماء!!! وسألوه أن ينزلوا بنينوى والغاضرية، فأبي ذَلِكَ عليهم!!! فأشار عَلَيْهِ زهير بْن القين بن الحرث البجلي أن يقاتلهم فَقَالَ: هَؤُلاءِ أيسر علينا (ممن يأتي بعد ذلك) فنقاتلهم حَتَّى ننحاز إِلَى بعض هَذِهِ القرى التي على الفرات.
فلم يفعل (الحسين) ونزل (في مكانه) وذلك (في) يوم الخميس لليلتين خلتا من المحرم سنة إحدى وستين.
فلما كَانَ من الغد قدم عليهم عمر بْن سعد بْن أَبِي وقاص من الْكُوفَة فِي أربعة آلاف.
وَكَانَ عبيد اللَّه بْن زياد أراد توجيه عمر بْن سعد إلى الدستبي لأن الديلم كانوا خرجوا إِلَيْهَا وغلبوا عَلَيْهَا، فولاه الري ودستبي فعسكر (عمر) للخروج إليها بحمام أعين.
فلما ورد أمر الْحُسَيْن عَلَى ابْن زياد، أمره أن يسير إِلَى الْحُسَيْن، فإذا فرغ
__________
[1] قال في مادة: «جعجع» من كتاب الفائق: كتب ابن زياد إلى عمر: أن جعجع بالحسين.
أي أنزله بجعجاع وهو المكان الخشن الغليظ، وهذا تمثيل لإلجائه إلى خطب شاق وإرهاق. وقيل:
المراد إزعاجه لأن الجعجاع مناخ سوء لا يقر فيه صاحبه، ومنه: جعجع الرجل: قعد على غير طمأنينة.(3/176)
منه سار إِلَى عمله، فاستعفاه عمر من قتال الحسين، فقال (ابن زياد) : نعم أعفيك عَلَى أن ترد عهدنا عَلَى الري وودستبي. فقال له (عمر) : أنظرني يومي هَذَا.
فجاءه حمزة بْن المغيرة بْن شعبة- وَهُوَ ابْن أخته- فَقَالَ لَهُ: يَا خال إن سرت إِلَى الْحُسَيْن أثمت بربك وقطعت رحمك، فو الله لأن تخرج من دنياك وما لك خير من أن تلقى اللَّه بدم الْحُسَيْن!!! ثم أتى عمر بن سعد ابن زياد فقال (له ابن زياد) : إما أن تخرج إِلَى الْحُسَيْن بجندنا، وإما أن تدفع إلينا عهدنا. فألح عليه (عمر) بالاستعفاء وألح ابْن زياد بمثل مقالته.
فشخص عمر بْن سعد إِلَى الْحُسَيْن فِي أربعة آلاف حَتَّى نزل بإزائه، ثُمَّ بعث إِلَيْهِ يسأله عن سبب مجيئه!!! فقال (الحسين) : كتب إلي أهل الكوفة في القدوم (إليهم) فأما إذ كرهوني فإني أنصرف (عنهم) .
وَكَانَ رَسُول عمر إِلَيْهِ قرة بْن قَيْس الحنظلي فَقَالَ لَهُ حبيب بْن مظهر:
ويحك يَا قرة أترجع إِلَى القوم الظالمين؟ فَقَالَ: أسير إِلَى صاحبي بالجواب ثُمَّ أرى رأيي.
وكتب عمر بْن سعد إِلَى ابْن زياد بقول الْحُسَيْن فَقَالَ ابْن زياد:
الآن إذ علقت مخالبنابه ... ترجو النجاة ولات حين أوان
[1] وكتب/ 485/ إِلَى عمر: اعرض عَلَى الْحُسَيْن أن يبايع يزيد بْن مُعَاوِيَة هُوَ وجميع أصحابه، فَإِذَا فعل ذَلِكَ رأينا رأينا!!! فلم يفعله (عمر) .
__________
[1] كذا في الأصل، والمعروف في كتب التاريخ: «حين مناص» .(3/177)
33- قَالُوا: ولما سرح ابْن زياد عمر بْن سعد من حمام أعين، أمر النَّاس فعسكروا بالنخيلة، وأمر أن لا يتخلف أحد منهم، وصعد المنبر فقرّض مُعَاوِيَة وذكر إحسانه وإدراره الأعطيات وعنايته بأمور الثغور، وذكر اجتماع الألفة بِهِ وعلى يده، وَقَالَ: إن يزيد ابنه المتقيل لَهُ [1] السالك لمناهجه المحتدى لمثاله، وقد زادكم مائة مائة فِي أعطيتكم فلا يبقين رجل من العرفاء والمناكب والتجار والسكان إِلا خرج فعسكر معي فأيما رجل وجدناه بعد يومنا هَذَا متخلفا عَن العسكر برئت منه الذمة.
ثُمَّ خرج ابْن زياد فعسكر وبعث إِلَى الحصين بْن تميم وَكَانَ بالقادسية فِي أربعة آلاف، فقدم النخيلة فِي جميع من مَعَهُ.
ثُمَّ دعا ابْن زياد كثير بْن شهاب الحارثي ومحمد بْن الأشعث ابن قيس والقعقاع بن سويد بن عبد الرحمان المنقري وأسماء بْن خارجة الفزاري وَقَالَ:
طوفوا فِي النَّاس فمروهم بالطاعة والاستقامة، وخوفوهم عواقب الأمور والفتنة والمعصية، وحثوهم على العسكرة (كذا) فخرجوا فعزروا وداروا بالْكُوفَة.
ثُمَّ لحقوا بِهِ غير كثير بْن شهاب فإنه كَانَ مبالغا يدور بالْكُوفَة يأمر النَّاس بالجماعة، ويحذرهم الفتنة والفرقة ويخذل عَن الْحُسَيْن!!! وسرح ابْن زياد أيضًا حصين بْن تميم فِي الأربعة الآلاف الَّذِينَ كانوا مَعَهُ إِلَى الْحُسَيْن بعد شخوص عمر بْن سعد بيوم أَوْ يومين.
ووجه أَيْضًا إِلَى الْحُسَيْن حجار بْن أبجر العجلي فِي ألف.
وتمارض شَبَث بْن رَبْعِيّ فبعث إِلَيْهِ فدعاه وعزم عَلَيْهِ أن يشخص إِلَى الْحُسَيْن فِي ألف ففعل.
__________
[1] أي المشبه له المتخلق بأخلاقه وسجيته.(3/178)
وَكَانَ الرَّجُل يبعث فِي ألف فلا يصل إلا في ثلاث مائة وأربع مائة وأقل من ذَلِكَ كراهة منهم لهذا الوجه.
ووجه أيضا يزيد بن الحرث بْن يزيد بْن رويم فِي ألف أَوْ أقل.
ثُمَّ إن ابْن زياد استخلف عَلَى الْكُوفَة عَمْرو بْن حريث، وأمر القعقاع بْن سويد بن عبد الرحمان بْن بجير المنقري بالتطواف بالْكُوفَة فِي خيل فوجد رجلا من همدان قد قدم يطلب ميراثا لَهُ بالْكُوفَة، فأتى بِهِ ابْن زياد فقتله، فلم يبق بالْكُوفَة محتلم إِلا خرج إِلَى العسكر بالنخيلة.
ثُمَّ جعل ابْن زياد يرسل العشرين والثلاثين والخمسين إِلَى المائة، غدوة وضحوة ونصف النهار وعشية من النخيلة يمد بهم عمر بن سعد.
وكان عمر يكره أن يكون هلاك الْحُسَيْن علي يده فلم يكن شَيْء أحب إِلَيْهِ من أن يقع الصلح.
ووضع ابْن زياد المناظر عَلَى الْكُوفَة [1] لئلا يجوز أحد من العسكر مخافة لأن يلحق الْحُسَيْن مغيثا لَهُ، ورتب المسالح حولها [2] وجعل على حرس الكوفة زحر بْن قَيْس الْجُعْفِيّ.
ورتب بينه وبين عسكر عمر بْن سعد خيلا مضمرة مقدحة [3] فكان خبر مَا قبله يأتيه فِي كُلّ وقت.
__________
[1] المناظر: جمع المنظرة: القوم يصعدون إلى أعلى الأماكن ينظرون ويراقبون. ما ارتفع من الأرض أو البناء، ويعبر عن الأول في لسان الفرس ب «ديدبان» .
[2] المسالح: جمع المسلحة: المرقب أو قوم ذوو السلاح يحرسون ويراقبون.
[3] مقدحة من قولهم: «قدح الفرس» : ضمره. ويقال: «أضمر الفرس إضمارا وضمره تضميرا» أي صيره هزا لا خفيف اللحم كي يكون عند الجري سريعا يسبق أقرانه إلى الهدف أو ينجو براكبه عن محل الخطر والتلف.(3/179)
وهم عَمَّار بْن أَبِي سلامة الدالاني أن يفتك بعبيد الله ابن زياد فِي عسكره بالنخيلة فلم يمكنه ذَلِكَ، فلطف حَتَّى لحق بالحسين فقتل مَعَهُ.
وَقَالَ حبيب بن مظهر للحسين: إن ها هنا حيا من بني أسد أعرابا ينزلون النهرين، وليس بيننا وبينهم إِلا روحه أفتأذن لي في إتيانهم ودعائهم؟! لعل الله أن يجربهم إِلَيْك نفعا أَوْ يدفع عنك مكروها. فإذن لَهُ فِي ذَلِكَ فأتاهم فَقَالَ لهم: إني أدعوكم إِلَى شرف الآخرة وفضلها وجسيم ثوابها أنا أدعوكم إِلَى نصر ابْن بنت نبيكم فقد أصبح مظلوما، دعاه أَهْل الْكُوفَةِ لينصروه، فلما أتاهم خذلوه وعدوا عَلَيْهِ ليقتلوه!!! فخرج معه (ظ) منهم سبعون (فارسا) وأتى/ 486/ عمر بْن سعد رجل ممن هناك يقال لَهُ: جبلة بْن عَمْرو فأخبره خبرهم!! فوجه (عمر) أزرق بن الحرث الصيداوي في جيل [1] فحالوا بينهم وبين الحسين ورجع (حبيب) بن مظهر إلى الحسين فأخبره الخبر [فقال (الحسين) : الحمد لله كثيرًا] .
وَكَانَ فراس بْن جعدة بْن هبيرة المخزومي مَعَ الْحُسَيْن، وَهُوَ يرى أنه لا يخالف، فلما رأى الأمر وصعوبته هاله ذَلِكَ، فأذن لَهُ الْحُسَيْن فِي الانصراف فانصرف ليلا!!! وجاء كتاب ابْن زياد إِلَى عمر بْن سَعْدٍ: أن حل بين حسين وأصحابه وبين الماء فلا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي المظلوم عثمان!!! فبعث (عمر بن سعد) خمس مائة فارس فنزلوا عَلَى الشريعة وحالوا بين الحسين وأصحابه ومنعوهم أن يستقوا منه!!! وذلك قبل قتل الحسين بثلاثة أيام.
__________
[1] أي في طائفة من الجند. وذكره في النسخة بالباء الموحدة.(3/180)
وناداه عبد الله بن حصين الأزدي: يَا حسين ألا تنظر إِلَى الماء كأنه كبد السماء؟ والله لا تذوق منه قطرة حَتَّى تموت عطشًا!!! [فَقَالَ الْحُسَيْن: اللَّهُمَّ اقتله عطشا وَلا تغفر لَهُ أبدًا] .
فمات (ابن حصين) بالعطش، كَانَ يشرب حَتَّى يبغر فما يروى [1] فما زال ذاك دأبه حَتَّى لفظ نفسه [2] .
فلما اشتد عَلَى الْحُسَيْن العطش بعث العباس بْن عَلِيّ بْن أَبِي طالب- وأمه أم البنين بنت حزام من بني كلاب- فِي ثلاثين فارسا وعشرين راجلا وبعث معهم بعشرين قربة فجاؤا حَتَّى دنوا من الشريعة، واستقدم أمامهم نافع ابن هلال المرادي ثُمَّ الجملي فَقَالَ لَهُ عَمْرو بْن الحجاج الزبيدي- وَكَانَ عَلَى منع الماء-: من الرَّجُل؟ قَالَ: نافع بْن هلال. قَالَ: مجيء مَا جاء بك؟
قَالَ: جئنا لنشرب من هَذَا الماء الَّذِي حلأتمونا عَنْهُ [3] قَالَ: اشرب هنيئا. قَالَ: أفأشرب والحسين عطشان؟!! ومن ترى من أصحابه؟!! فقال (عمرو) : لا سبيل إِلَى سقي هَؤُلاءِ إنما وضعنا بهذا المكان لنمنعهم الماء. فأمر (نافع بن هلال) أصحابه باقتحام الماء ليملئوا قربهم فثار إِلَيْهِمْ عَمْرو بْن الحجاج وأصحابه فحمل عليهم العباس ونافع بْن هلال فدفعوهم ثم انصرفوا إلى رحالهم وقد ملئوا قربهم.
ويقال إنهم حالوا بينهم وبين ملئها فانصرفوا بشيء يسير من الماء.
ونادى المهاجرين أوس التَّمِيمِيّ: يَا حسين ألا ترى إِلَى الماء يلوح كأنه
__________
[1] أي كان يشرب إلى أن يمتلئ جوفه من الماء فما يروي ولا يسكن عطشه.
[2] أي حتى مات، يقال: «لفظ فلان نفسه- من باب ضرب وعلم- لفظا» : مات
[3] يقال: «حلاه عن الماء تحليئا وتحلئة» : طرده عنه ومنعه عن وروده.(3/181)
بطون الحيات [1] والله لا تذوقه أَوْ تموت!!! فقال (الحسين) : [إني لأرجو أن يوردنيه الله ويحلئكم عَنْهُ] .
ويقال أن عَمْرو بْن الحجاج قَالَ: يا حسين هَذَا الفرات تلغ فِيهِ الكلاب وتشرب منه الحمير والخنازير، والله لا تذوق منه جرعة حتى تذوق الحميم في نار جهنم!!! [2] 34- قالوا (ظ) : وتواقف الْحُسَيْن وعمر بْن سعد خلوين، فَقَالَ الْحُسَيْن: [اختاروا مني الرجوع إِلَى المكان الَّذِي أقبلت منه، أَوْ أن أضع يدي فِي يد يزيد فهو ابْن عمي ليرى رأيه فِي [3] وإما أن تسيروني إِلَى ثغر من ثغور المسلمين فأكون رجلا من أهله لي مَا لَهُ وعلي مَا عَلَيْهِ!!!] ويقال إنه لم يسأله إِلا أن يشخص إِلَى الْمَدِينَة فقط.
فكتب عمر بْن سعد إِلَى عبيد اللَّه بْن زياد بما سأل (الحسين) فأراد عبيد اللَّه أن يجيبه إِلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ شمر بْن ذي الجوشن الكلابي ثُمَّ الضبابي: لا تقبلن (منه) إِلا أن يضع يده فِي يدك فإنه إن لم يفعل ذلك كان أولى بالقوة
__________
[1] كذا في الأصل، والمضبوط في جل المصادر والمقاتل: «الحيتان» وهو جمع حوت، والكلام كناية عن شعشعة الماء وتموجه.
[2] قال في أحوال المختار في أواخر حوادث سنة (66) من كتاب الكامل: ج 4 ص 236:
وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين، فركب راحلته وأخذ طريق واقصة فلم ير له خبر حتى الساعة. وقيل: أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدة العطش فذبحوه وأخذوا رأسه.
[3] هذا الكلام لو أريد به لازمه- وهو إتمام الحجة على عمر بن سعد، وكشف سرائر شيعة آل أبي سفيان، وخبث ضمائرهم للعالم- يمكن صدوره من الإمام، ولكن المنقول عن عقبة ابن سمعان غلام الرباب زوج الإمام الحسين عليه السلام أنه قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكة، ومن مكة إلى كربلا، ولم أفترق عنه في حال من الحالات إلى أن استشهد فلم أسمع منه الإقرار بوضع يده في يد يزيد أو ما هو بمعناه. ثم الحديث مرسل، ورواته مجهولة فلا يمكن الاستدلال به لضعفه وعدم حجيته.(3/182)
والعز، وكنت أولى بالضعف والعجز فلا ترض (منه) إِلا بنزوله عَلَى حكمك هُوَ وأصحابه!!! فَإِن عاقبت كَانَ ذَلِكَ لك، وإن غفرت كنت أولى بما يفعله، لقد بلغني أن حسينا وعمر يجلسان ناحية من العسكر يتناجيان ويتحادثان عامة الليل.
فَقَالَ له ابْن زياد: نعم مَا رأيت فاخرج بهذا الكتاب إلى عمر بن سعد فلنعرض/ 487/ علي حسين وأصحابه النزول عَلَى حكمي فَإِن فعلوا بعث بهم إلي سلما، وإن هم أبوا قاتلهم فَإِن فعل فاسمع لَهُ وأطعه، وإن أبى أن يقاتلهم فأنت أمير النَّاس وثب عَلَيْهِ فاضرب عنقه وابعث إلي برأسه.
وَكَانَ كتابه إِلَى عمر: أما بعد فإني لم أبعثك إلى حسين لتطاوله وتمنيه السلامة وتكون له عندي شافعا، فانظر فإن نزل حسين وأصحابه على الحكم (كذا) فابعث بهم إلي سلما، وإن أبوا فازحف إِلَيْهِمْ حَتَّى تقتلهم وتمثل بهم فإنهم لذلك مستحقون!!! وإن قتلت حسينا فأوطئ الخيل صدره وظهره لنذر نذرته وقول قلته!!! فإنه عاق مشاق قاطع ظلوم، فَإِن فعلت ذَلِكَ جزيناك جزاء السامع المطيع، وإن أنت أبيت فاعتزل عملنا وجندنا وخل بين شمر بْن ذي الجوشن وبين العسكر وأمر النَّاس، فإنا قد أمرناه فيك بأمرنا والسلام.
فلما أوصل شمر الكتاب إِلَيْهِ قَالَ عمر: يَا أبرص لا قَرَّبَ اللَّه داركَ ولا سهلّ محلّتك وقبحك وقبح مَا قدمت لَهُ، والله إني لأظنك ثنيته عَن قبول مَا كتبت بِهِ إليه، فقال له شمر: أتمضي لأمر الأمير؟ وإلا فخل بيني وبين العسكر وأمر النَّاس. فَقَالَ عمر: لا وَلا كرامة ولكني أتولى الأمر. قَالَ:
فدونك.
فجعل عمر شمرا على الرجالة ونهض بالناس عشية الجمعة، ووقف شمر (على مخيّم الحسين) فَقَالَ: أين بنو أختنا؟ - يعني العباس وعبد الله(3/183)
وجعفر وعثمان بني عَلِيّ بْن أَبِي طالب وأمهم أم البنين بنت حزام بن ربيعة الكلابي الشاعر- فخرجوا إِلَيْهِ فَقَالَ: لكم الأمان. فقالوا له: لعنك اللَّه ولعن أمانك!!! أتؤمننا وَابْن بنت رَسُول اللَّهِ لا أمان لَهُ؟!! ثُمَّ إن عمر بْن سعد نادى يا خيل اللَّه اركبي وأبشري!! فركب النَّاس وزحف نحو الْحُسَيْن وأصحابه بعد صلاة العصر، والحسين جالس أمام بيته محتبيا بسيفه، فقال (له) العباس بن علي: يا أخي (قد) أتاك القوم. فنهض (الحسين) فَقَالَ: يَا عَبَّاس أركب- بنفسي أنت يَا أخي- حَتَّى تلقاهم فتقول لهم: مَا بدا لكم؟ وما تريدون؟ فأتاهم العباس فِي عشرين فارسا فِيهِمْ زهير بْن القين وحبيب بْن مظهر فسألوهم عَن أمرهم؟! فَقَالُوا: جاء أمر الأمير أن نعرض عليكم النزول عَلَى حكمه أو نناجزكم. فانصرف العباس راجعا فأخبر الحسين بقولهم.
(ووقف أصحاب العباس أمام القوم ناصحين لهم) وقال لهم حبيب ابن مظهر: والله لبئس القوم عند الله غدا قوم قتلوا ذرية نبيهم وعترته وعباد أَهْل المصر. فَقَالَ لَهُ عزرة بْن قَيْس: أنك لتزكي نفسك.
وَقَالَ عزرة لزهير بْن القين: كنت عندنا عثمانيا فما لك؟! فَقَالَ:
والله ما كتبت إِلَى الْحُسَيْن وَلا أرسلت إِلَيْهِ رسولا، ولكن الطريق جمعني وإياه فلما رأيته ذكرت بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفت ما تقدم إليه من غدركم ونكثكم وميلكم إلى الدنيا، فرأيت أن أنصره وأكون فِي حزبه حفظا لما ضيعتم من حق رَسُول اللَّهِ.
فبعث الْحُسَيْن إِلَيْهِمْ يسألهم أن ينصرفوا عَنْهُ عشيتهم حَتَّى ينظر فِي أمره، وإنما أراد أن يوصي أهله ويتقدم إِلَيْهِمْ فيما يريد. فأقبل عمر بْن سعد عَلَى النَّاس فَقَالَ: مَا ترون؟ فقال عمرو بْن الحجاج بْن سلمة الزبيدي:(3/184)
سبحان الله لو كان هَؤُلاءِ من الديلم ثُمَّ سألوك هَذِهِ المنزلة لكان ينبغي أن تجيبهم إِلَيْهَا.
وَقَالَ لَهُ قَيْس بْن الأشعث بْن قَيْس: أجبهم إِلَى ما سألوه، فلعمري ليصبحنك بالقتال غدا. فقال (عمر) : والله لو أعلم أنهم يفعلون ما أخرتهم! فانصرفوا عنه تلك العيشة.
وعرض الْحُسَيْن عَلَى أهله ومن مَعَهُ أن يتفرقوا (عنه) ويجعلوا الليل جملا، وقال: [إنما (القوم) يطلبونني وقد وجدوني وما كانت كتب من كتب إلي- فيما أظن- إِلا مكيده لي وتقربا إِلَى ابْن مُعَاوِيَة بي!!!] فَقَالُوا: قبح اللَّه العيش بعدك.
وَقَالَ مسلم بْن عوسجة: أنخليك ولم نعذر إلى الله فيك/ 487/ (و) فِي أداء حقك؟! لا والله حَتَّى أكسر رمحي فِي صدورهم وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه فِي يدي ولو لم يكن سلاحي معي لقذفتهم بالحجارة دونك!!! وَقَالَ لَهُ سعيد بن عبد الله الحنفي نحو ذلك، فتلكم أصحابه بشبيه لهذا الكلام.
وَكَانَ مَعَ الْحُسَيْن حوي مولى أَبِي ذر الغفاري فجعل يعالج سيفه ويصلحه ويقول:
[يا دهر أف لك من خليلي ... كم لك بالإشراق والأصيل
من طالب وصاحب قتيل ... والدهر لا يقنع بالبديل
وإنما الأمر إلى الجليل ... وكل حي سالك سبيل
] [1]
__________
[1] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «سبيلي» .(3/185)
ورددها حَتَّى حفظت، وسمعتها زينب بنت علي فنهضت إِلَيْهِ تجر ثوبها وهي تقول: واثكلاه ليت الموت أعدمني الحياة، اليوم (مات جدي رسول الله و) ماتت فاطمة أمي وعلي أَبِي والحسن أخي يا خليفة الماضين وثمال الباقين [1] . فَقَالَ الْحُسَيْن: [يَا أخية لا يذهبن حلمك الشيطان!!!] قالت: أتغتصب نفسك اغتصابا؟! ثُمَّ لطمت وجهها وشقت جيبها، وَهُوَ يعزيها ويصبرها.
ثُمَّ أمر أصحابه أن يقربوا بعض بيوتهم من بعض، وأن يدخلوا بعض الأطناب فِي بعض وأن يقفوا بين البيوت فيستقبلوا القوم من وجه واحد، والبيوت من ورائهم وعن أيمانهم وشمائلهم وقد حفت بهم البيوت إِلا الوجه الَّذِي يأتيهم عدوهم منه.
ولما جن الليل عَلَى الْحُسَيْن وأصحابه قاموا الليل كله يصلون ويسبحون ويستغفرون ويدعون ويتضرعون.
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «يا خليفة الماضي وتمال الباقي» . وما بين المعقوفين زيادة مأخوذة من مصادر أخر.(3/186)
مقتل الْحُسَيْن بْن علي عَلَيْهِمَا السلام
34- قَالُوا: فلما صلى عمر بْن سعد الغداة وذلك يوم السبت- ويقال:
يوم الجمعة- عاشوراء خرج فيمن مَعَهُ من النَّاس.
وعبأ الْحُسَيْن أصحابه (عند) صلاة الغداة وَكَانَ مَعَهُ اثنان وثلاثون فارسا وأربعون راجلا، فجعل زهير بْن القين فِي ميمنة أصحابه، وحبيب ابن مظهر فِي ميسرة أصحابه وأعطى رايته العباس بْن علي أخاه وجعل البيوت فِي ظهورهم.
وَكَانَ الْحُسَيْن أمر فأتي بقصب وحطب إِلَى مكان من ورائهم منخفض كأنه ساقية وكانوا حفروه فِي ساعة من الليل فصار كالخندق ثُمَّ ألقوا فِيهِ ذَلِكَ القصب والحطب وَقَالُوا: إذا غدوا فقاتلو (نا) ألهبنا فِيهِ النار لئلا يأتونا من ورائنا ففعلوا.
وجعل عمر بْن سعد عَلَى ميمنته عَمْرو بْن الحجاج الزبيدي وعلي ميسرته شمر بْن ذي الجوشن الضبابي وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي وعلى الرجالة شَبَث بْن رَبْعِيّ الرياحي وأعطى الراية دريدًا مولاه.
وأمر الْحُسَيْن بفسطاط فضرب فأطلى فِيهِ بالنورة، ثُمَّ أتى بجفنة- أَوْ صحفة- فميث فِيهَا مسك وتطيب منه، ودخل برير بْن خضير الْهَمْدَانِيّ فأطلى بعده ومس من ذلك المسك.
وتحنط الْحُسَيْن وجميع أصحابه وجعلت النار تلتهب خلف بيوت الْحُسَيْن وأصحابه فَقَالَ شمر بْن ذي الجوشن: يَا حسين تعجلت النار؟!! فَقَالَ:
[أنت تقول هَذَا يَا ابْن راعية المعزى؟ أنت والله أَوْلى بِها صِلِيًّا.] فقال مسلم(3/187)
ابن عوسجة: يَا ابْن رَسُول اللَّهِ ألا أرميه بسهم فإنه قد أمكنني؟ فَقَالَ الْحُسَيْن:
[لا ترمه فإني أكره أن أبدأهم] .
وَكَانَ مَعَ الْحُسَيْن فرس يدعى لاحقا- يقال: إن عبيد اللَّه بْن الحر أعطاه إياه حين لقيه- فحمل عَلَيْهِ أبنه عَلِيّ بْن الْحُسَيْن ثُمَّ دعا براحلته فركبها ونادى بأعلى صوته: أيها النَّاس اسمعوا قولي.
فتكلم بكلام عدد/ 488/ فِيهِ فضل أَهْل بيته ثُمَّ قَالَ:
أتطلبوني بقتيل؟ أَوْ بمال استهلكته؟ أَوْ بقصاص من جراحة جرحتها؟
فجعلوا لا يكلمونه، ثم نادى (عليه السلام) : يَا شَبَث بْن رَبْعِيّ يَا حجار بْن أبجر، يَا قَيْس بْن الأشعث يَا يزيد بن الحرث ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار؟! واخضر الجناب وطمت الجمام وإنما تقدم عَلَى جندلك مجند؟!! قالوا: لم نفعل!!! ثم قال (عليه السلام) :
[أيها النَّاس إذ كرهتموني فدعوني أنصرف إِلَى مأمني!!!] فَقَالَ لَهُ قَيْس بْن الأشعث: أولا تنزل عَلَى حكم بني عمك. فإنهم لن يروك إلا ما تحب!!! فقال (له) : إنك أخو أخيك أتريد أن يطلبك بنو هاشم بأكثر من دم مسلم بْن عقيل الَّذِي غره أخوك؟!! [والله لا أعطي بيدي إعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد!!! عباد الله إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ، وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ] فبكين أخواته فسكتهن ثُمَّ قَالَ: لا يبعد اللَّه ابْن عَبَّاس وَكَانَ نهاه أن يخرجهن مَعَهُ.
وَقَالَ لهم زهير بْن القين: عباد اللَّه إن ولد فاطمة أحق بالنصر والود(3/188)
من ابن سمية، فَإِن لم تنصروهم فلا تقتلوهم وخلوا بين هذا الرجل وبين ابن عمه يزيد فلعمري أن يزيد ليرضى من طاعتكم بدون قتل الْحُسَيْن!!! فرماه شمر بسهم وَقَالَ: اسكت أسكت اللَّه نأمتك. فَقَالَ لَهُ زهير:
ابشر بالحر في يوم القيامة. فَقَالَ لَهُ شمر: إن اللَّه قاتلك وقاتل أصحابك عَن ساعة.
وكلمهم برير بْن خضير وغيره ووعظوهم وذكروا غرورهم الْحُسَيْن بكتبهم.
وَقَالَ الحر بْن يزيد اليربوعي- وَهُوَ الذي كان يساير الحسين ويواقفه-:
والله لا أختار النار على الجنة. ثم ضرب بفرسه وصار إِلَى الْحُسَيْن فقتل مَعَهُ، وَقَالَ لَهُ الْحُسَيْن- حين صار إِلَيْهِ-: [أنت والله الحر فِي الدنيا والآخرة] .
وفي الحر بْن يزيد يقول الشاعر:
لنعمَ الحرُّ حرُّ بني رياح ... وحر عند مختلف الرماح
وأقبل الحر عَلَى أَهْل الْكُوفَةِ وَهُوَ عند الْحُسَيْن فَقَالَ: لأمكم الهبل والعبر دعوتموه حَتَّى إذا أتاكم أسلمتموه فصار فِي أيديكم كالأسير!!! قد حلأتموه ونساءه وأصحابه عَن ماء الفرات الجاري الَّذِي يشربه اليهود والنصارى والمجوس ويتمرغ فِيهِ خنازير السواد، لبئسما خلفتم بِهِ محمدًا فِي ذريته، فدعوا هَذَا الرَّجُل يمضي فِي بلاد اللَّه، أما أنتم مؤمنون؟ وبنبوة محمد مصدقون؟ وبالمعاد موقنون؟
فحملت عَلَيْهِ رجالة لهم فرمته بالنبل، فأقبل حَتَّى وقف أمام الْحُسَيْن.(3/189)
وزحف عمر بْن سعد نحوهم ونادى يَا دريد [1] أدن رايتك، فأدناها، ثُمَّ وضع عمر سهما فِي كبد قوسه ورمى وَقَالَ: اشهدوا أني أول من رمى!!! فلما رمى عمر ارتمى النَّاس.
وخرج يسار مولى زياد، وسالم مولى ابن زياد فدعوا إِلَى المبارزة، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بن عمير الكلبي (للحسين عليه السلام) : أبا عَبْد اللَّهِ رحمك اللَّه إئذن لي (أن) أخرج إليهما. (فأذن له) فخرج رجل آدم طوال شديد الساعدين بعيد مَا بين المنكبين فشد عَلَيْهِمَا فقتلهما وَهُوَ يقول:
إن تنكروني فأنا ابْن كلب ... حسبي بيتي في كليب حسبي
إني امرؤ ذو مرة وعصب ... ولست بالخوار عند النكب
إني زعيم لك ام وهب ... بالطعن فِيهِمْ مقدما والضرب
ضرب غلام مؤمن بالرب
فأقبلت إِلَيْهِ امرأته فقالت: قاتل بأبي أنت وأمي عَن الْحُسَيْن ذرية مُحَمَّد.
فأقبل (إليها) يردها نحو النساء.
وحمل عَمْرو بْن الحجاج الزبيدي- وَهُوَ فِي الميمنة- فلما دنا من الْحُسَيْن وأصحابه/ 489/ جثوا لَهُ عَلَى الركب وأشرعوا الرماح نحوه ونحو أصحابه فلم يقدم خيلهم عَلَى الرماح ورجعت فرشقوهم بالنبل فصرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين.
وحمل شمر من قبل الميسرة فِي الميسرة فاستقبلوهم بالرماح فلم يقدم الخيل عَلَيْهَا فانصرفوا فرموهم بالنبل حَتَّى صرعوا منهم رجالا وجرحوا آخرين.
__________
[1] هذا هو الظاهر الموافق لما تقدم عن المؤلف في ص 187، وها هنا في النسخة: «يا دويد» بالواو بعد الدال.(3/190)
وكان رجل من بَنِي تَمِيمٍ يقال لَهُ عَبْد الله بن حوزة [1] فجاء حَتَّى وقف بحيال الْحُسَيْن فَقَالَ: أبشر يَا حسين بالنار!!! فقال (الحسين عليه السلام) :
[كلا إني أقدم عَلَى رب رحيم وشفيع مطاع. ثُمَّ قَالَ: من هَذَا؟ قَالُوا: ابْن حوزة. قَالَ: حازه اللَّه إِلَى النار.] فاضطرب به فرسه في جدول فتعلقت به رجله بالركاب ووقع رأسه فِي الأرض ونفر الفرس فجعل يمر برأسه كُلّ حجر وأصل شجرة حَتَّى مات!!! ويقال: بقيت رجله اليسرى فِي الركاب فشد عَلَيْهِ مسلم بْن عوسجة الأسدي فضرب رجله اليمنى فطارت ونفر بِهِ فرسه يضرب بِهِ كُلّ شيء حَتَّى مات.
وبارز يزيد بْن معقل برير بْن خضير فضرب بريرًا ضربة خفيفة، وضربه برير ضربة قدت المغفر وجعل ينضنض سيفه فِي دماغه.
وحمل رضي بْن منقذ العبدي فاعتنق بريرًا فاعتركا ساعة، ثُمَّ إن بريرًا (صرعه و) قعد عَلَى صدره فَقَالَ رضي: أين أَهْل المصاع والدفاع [2] . فحمل كعب بْن جابر بْن عمرو الأزدي بالرمح (على برير) فطعنه فِي ظهره، فلما وجد برير مس الرمح عض أنف رضي فقطع طرفه، وشد عَلَيْهِ كعب فضربه بسيفه حَتَّى قتله.
فلما رجع كعب بْن جابر قَالَت لَهُ أخته النوار بنت جابر: أعنت علي ابْن فاطمة وقتلت بريرا سيد القراء؟!! لقد أتيت (أمرا) عظيما، والله لا
__________
[1] وقريبا منه رواه الطبراني ورواه عنه في باب مناقب الحسين عليه السلام من مجمع الزوائد:
ج 9 ص 193، وفيه: (ابن جويرة أو جويزة» ؟
[2] أي أين المحامي عني والمقاتل دوني؟ والمصاع والدفاع مصدرا باب مفاعلة من «دافعه وماصعه» : حامى عنه ودفع عنه الأذى. وقاتل وجالد قرنه.(3/191)
أكلمك أبدًا [1] .
وخرج عَمْرو بْن قرظة بْن كعب الأنصاري يقاتل دون الْحُسَيْن وَهُوَ يقول:
قد علمت كتيبة الأنصاري ... إني سأحمي حوزة الدمار
أضرب غير نكس (و) شار
وقاتل حَتَّى قتل.
وَكَانَ الزُّبَيْر بْن قرظة بْن كعب أخوه مَعَ عمر بْن سَعْدٍ، فنادى: يَا حسين يَا كذاب يَا ابْن الكذاب!!! أضللت أخي وغررته حَتَّى قتلته. فَقَالَ حسين:
[إن اللَّه لم يضل أخاك ولكنه هداه وأضلك.] فَقَالَ: قتلني اللَّه إن لم أقتلك!!! وحمل على الحسين فاعترضه نافع بْن هلال المرادي فطعنه فصرعه فاستنقذ وبرأ بعد.
وقال بعضهم: اسم ابْن قرظة الَّذِي كَانَ مَعَ عمر بْن سعد علي. والأول قول الْكَلْبِيّ.
وقتل الحر بْن يزيد رجلين بارزاه، أحدهما من شقرة من بَنِي تَمِيمٍ يقال لَهُ: يزيد بْن سُفْيَان، والآخر من بني زبيد، ثُمَّ من بني قطيعة (وكان) يقال لَهُ: مزاحم بْن حريث.
فَقَالَ عَمْرو بْن الحجاج- حين رأى ذَلِكَ-: يَا حمقى أتدرون من تقاتلون؟ إنما تقاتلون نقاوة فرسان أهل المصر، وقوما معتقين مستقتلين مستميتين!!! فلا يبرزن لهم منكم أحد فإنهم [2] قليل وقل مَا يبقون، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم.
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: (والله لا أطمك أبدا) .
[2] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «بأنهم» .(3/192)
فقال عمر: صدقت هذا (هو) الرأي، ونادى ألا لا يبارزن رجل منكم رجلا من أصحاب الْحُسَيْن.
ثُمَّ إن عَمْرو بْن الحجاج حمل عَلَى الْحُسَيْن من نحو ميمنة عمر بْن سعد مما يلي الفرات، واضطربوا ساعة فصرع مسلم بْن عوسجة الأسدي أول أصحاب الْحُسَيْن، فلم يلبث أن مات، فصاحت جارية له: يا ابن عوسجتاه يا سيداه/ 490/ أو 245 ب/.
وَكَانَ الَّذِي قتله مسلم بْن عَبْدِ اللَّهِ الضبابي وعبد الرحمان بْن خشكارة البجلي.
وسر أصحاب عَمْرو بْن الحجاج بقتل مسلم، فَقَالَ لهم شَبَث بْن رَبْعِيّ: ويحكم أتفرحون بقتل مسلم؟ والله لقد رأيته يوم سلق أذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تتام خيول المسلمين، أفيقتل منكم مثله وتفرحون؟!! 35- وَحَدَّثَنَا عمر بن شبّة، حدثنا أَبُو أَحْمَد الزبيري حَدَّثَنِي عمي الفضيل بْن الزبير، عن عَن أَبِي عمر البزار:
عَن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن الحسن بْن علي قَالَ: كنا مَعَ الْحُسَيْن بنهري كربلاء فجاءنا رجل فَقَالَ: أين حسين؟ قال: [ها أنا ذا. قَالَ: أبشر بالنار تردها الساعة!!! قَالَ: بل أبشر برب رحيم وشفيع مطاع، فمن أنت؟ قَالَ:
مُحَمَّد بْن الأشعث. ثُمَّ جاء رجل آخر فقال: أين الحسين؟ قال: ها أنا ذا. قَالَ:
أبشر بالنار تردها الساعة!!! قَالَ: بل أبشر برب رحيم وشفيع مطاع فمن أنت؟ قَالَ: شمر بْن ذي الجوشن. فَقَالَ الْحُسَيْن: اللَّه أكبر قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إني رأيت كان كلبا أبقع يلغ فِي دماء أَهْل بيتي] .
قَالَ: ثُمَّ قتل الْحُسَيْن فحمل رأسه إِلَى يزيد وحملنا (إليه) فأقعدني يزيد(3/193)
فِي حجره وأقعد ابنا لَهُ فِي حجره ثُمَّ قَالَ لي: أتصارعه؟ فقلت: اعطني سكينا وأعطه سكينا ودعني وإياه. فقال: ما تدعوا عداوتنا صغارًا وكبارًا.
وحمل شمر فِي الميسرة فثبتوا لَهُ وطاعنوه، ونادى أصحابه فحمل عَلَى الحسين وأصحابه من كُلّ جانب وقتل عَبْد اللَّهِ بْن عمير الْكَلْبِيّ فجعلت امرأته تبكي عند رأسه فأمر شمر غلاما لَهُ يقال (لَهُ) رستم فضرب رأسها بعمود حَتَّى شدخه فماتت مكانها.
36- قَالُوا: وركب الحسين دابة ووضع المصحف فِي حجره بين يديه، فما زادهم ذَلِكَ إِلا إقداما عَلَيْهِ.
ودعا عمر بْن سعد الحصين بْن تميم، فبعث مَعَهُ المجففة وخمس مائة من المرامية، فرشقوا الْحُسَيْن وأصحابه بالنبل حتى عقروا (عامة) خيولهم فصاروا رجالة كلهم.
واقتتلوا نصف النهار أشد قتال وأبرحه، وجعلوا لا يقدرون عَلَى إتيانهم إِلا من وجه واحد لاجتماع أبنيتهم وتقاربها، ولمكان النار الَّتِي أوقدوها خلفهم.
وأمر عمر بتخريق أبنيتهم وبيوتهم فأخذوا يخرقونها برماحهم وسيوفهم.
وحمل شمر في المسيرة حَتَّى طعن فسطاط الْحُسَيْن برمحه ونادى علي بالنار حَتَّى أحرق هَذَا البيت عَلَى أهله!! فصحن النساء وولولن وخرجن من الفسطاط، [فَقَالَ الْحُسَيْن: ويحك أتدعو بالنار لتحرق بيتي عَلَى أهلي؟!!] وقال شبث بن ربعي (لشمر) : يَا سبحان اللَّه مَا رأيت موقفا أسوأ من موقفك وَلا قولا أقبح من قولك. فاستحيا شمر منه، وحمل عَلَيْهِ زهير بْن القين في عشرة فكشفه وأصحابه عَن البيوت.
وشد الحصين بْن تميم على حبيب بْن مظهر، فشد حبيب عَلَى الحصين فضرب(3/194)
وجه فرسه بالسيف فشب (الفرس) [1] ووقع (حصين) عَنْهُ فاستنقذه أصحابه، وجعل حبيب يقول:
أنا حبيب وأبي مظهر ... فارس هيجاء وحرب تسعر
وأنتم منا لعمري أكثر ... ونحن أوفى منكم وأصبر
ونحن أعلا حجة وأظهر ... حقا وأبقي منكم وأعذر
فقاتل قتالا شديدًا، وحمل عَلَى رجل من بَنِي تميم يقال له: بديل ابن صريم فضربه بالسيف عَلَى رأسه فقتله. وحمل عَلَيْهِ رجل من بَنِي تَمِيمٍ آخر فطعنه فوقع ثُمَّ ذهب ليقوم، فضربه الحصين بْن تميم بالسيف عَلَى رأسه فسقط، ونزل إِلَيْهِ التَّمِيمِيّ فاحتز رأسه وأخذه الحصين فعلقه فِي عنق فرسه ساعة ثُمَّ دفعه إِلَى التَّمِيمِيّ ليتقرب به إلى ابن زياد، فأتى (التميمي) بِهِ الْكُوفَة، فرآه القاسم بْن حبيب بْن مظهر فسأله/ 491/ أو 246/ أ/ أن يدفع إليه رأس أبيه ليدفنه فأبى (أن يدفع إليه) فحقد ذلك عليه حتى قتله في أيام مصعب بْن الزُّبَيْرِ، وَهُوَ قائل نصف النهار، ضربه بسيفه حَتَّى برد.
وقاتل الحر بْن يزيد وَهُوَ يقول:
أضرب فِي أعراضهم بالسيف ... عَن خير من حل مني والخيف
فقاتل هُوَ وزهير بْن القين قتالا شديدًا، وشدت رجاله عَلَى الحر فقتل.
وحضرت الصلاة فصلى الْحُسَيْن بأصحابه صلاة الخوف، فلما فرغوا شد عليهم العدو، فاقتتلوا بعد الظهر قتالا شديدا، ووصل (العدو) إلى الحسين
__________
[1] يقال: شب الفرس من باب مد وفر- شبيبا وشبابا وشبوبا» : رفع يديه. وقف مكانه ولم يفارقه..(3/195)
فاستهدف دونه سعيد بْن عَبْدِ اللَّهِ الحنفي فما زال يرمي حَتَّى سقط. ويقال إنه استهدف دونه رجل من بني حنيفة غير سعيد بْن عَبْدِ اللَّهِ.
وقاتل زهير بْن القين وَهُوَ يقول:
أنا زهير وأنا ابْن القين ... أذودهم بالسيف عَن حسين
وجعل يقول (للحسين عليه السلام) :
أقدم هديت هاديا مهديا ... فاليوم تلقى جدك النبيا
وحسنا والمرتضى عَلِيًّا
فشد عَلَيْهِ مهاجر بْن أوس التَّمِيمِيّ وكثير بْن عَبْدِ اللَّهِ الشَّعْبِيّ فقتلاه.
وقاتل حوي مولى أَبِي ذر بين يدي الْحُسَيْن وَهُوَ يقول:
كيف ترى الفجار ضرب الأسود ... بالسيف صلتا عَن بني مُحَمَّد
أذب عنهم باللسان واليد ... أرجو بِهِ الجنة يوم المورد
فلم يزل يكد [1] حَتَّى قتل.
وقاتل بشير بْن عَمْرو الْحَضْرَمِيّ وهو يقول:
اليوم يا نفس ألاقي للرحمن ... واليوم تجزين بكل إحسان
لا تجزعي فكل شيء (قد) فان ... والصبر أحظى لك عند الديان
وجعل عبد الرحمان بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الكدن يقول:
إني لمن ينكرني ابْن الكدن ... إني عَلَى دين حسين وحسن
وقاتل حتى قتل.
__________
[1] أي يبذل كده وجهده ويسعى ويجتهد في القتال.(3/196)
وَكَانَ نافع بْن هلال قد سوم نبله- أي أعلمها- فكان يرمي بِهَا ويقول:
أرمي بِهَا معلما أفواقها ... والنفس لا ينفعها إشفاقها
فقتل اثنى عشر رجلا من أصحاب عمر بْن سَعْدٍ. ثُمَّ كسرت عضده وأخذ أسيرًا فضرب شمر عنقه.
37- قَالُوا: فلما رأي بقية أصحاب الْحُسَيْن أنهم لا يقدرون عَلَى أن يمتنعوا ولا (على أن) يمنعوا حسينا تنافسوا في أن يقتلوا، فجعلوا يقاتلون بين يديه حَتَّى يقتلوا.
وجاء عابس بْن أَبِي شبيب فَقَالَ: يا (أ) با عَبْد اللَّهِ والله مَا أقدر عَلَى أن أدفع عنك القتل والضيم بِشَيْءٍ أعز علي من نفسي فعليك السلام! وقاتل بسيفه فتحاماه النَّاس لشجاعته، ثُمَّ عطفوا عَلَيْهِ من كُلّ جانب فقتلوه [1] .
ولما رأى الضحاك بْن عَبْدِ اللَّهِ المشرقي من همدان أنه قد خلص إِلَى الْحُسَيْن وأهل بيته وقتل اصحابه، قال له (يا أبا عبد الله) كنت رافقتك عَلَى أن أقاتل معك مَا وجدت مقاتلا، فأذن لي فِي الانصراف فإني لا أقدر عَلَى الدفع عنك وَلا عَن نفسي!!! فأذن له (الحسين فانصرف) !!! فعرض لَهُ قوم من أصحاب عمر بْن سعد من اليمامة (كذا) ثم خلوا سبيله فمضى.
وبرك أبو الشعشاء يزيد بْن زياد بْن المهاصر بْن النعمان الكندي بين يدي الْحُسَيْن فرمى ثمانية أسهم أصاب مِنْهَا بخمسة قتلت خمسة نفر وَقَالَ:
أنا يزيد وأبي المهاصر ... أشجع من ليث بغيل خادر
يَا رب إني للحسين ناصر/ 492/ وَلابْن سعد رافض مهاجر
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «فقتل» .(3/197)
وكان أبو الشعشاء مَعَ من خرج مَعَ عمر بْن سَعْدٍ، ثم مال إلى الحسين حين ردوا (عليه) ما سأل ولم ينفذوه، فقاتل حَتَّى قتل.
وقتل مَعَ الْحُسَيْن زياد بْن عَمْرو بْن عريب الصائدي من همدان، وكان يكنى أبا ثمامة.
وقاتل مَعَ الْحُسَيْن جياد بن الحرث السلماني من مراد فقتل.
وقتل (أيضا) معه سوار بن أبي خمير أحد بني فهم الجابري من همدان أصابته جراحة فمات منها.
(وأيضا قتل مع الحسين عليه السلام) سيف بن الحرث بْن سريع الْهَمْدَانِيّ ومالك بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن سريع وَهُوَ ابْن عمه وأخوه لأمه.
وقاتل بدر بْن المغفل بْن جعونة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حطيط بْن عتبة بْن الكداع الْجُعْفِيّ [1] وجعل يقول:
أنا ابْن جعفي وأبي الكداع ... وفي يميني مرهف فزاع [2]
ومازن ثعلبة لماع
__________
[1] قال في مادة: «كدع» من القاموس: الكداع ككتاب- جد لمعشر بن مالك بن عوف الذي قتل مع الحسين (عليه السلام) .
وقال في تاج العروس: والذي قاله الليث أن الكداع لقب لمعشر المذكور لا جد له. والذي قتل مع الحسين بن علي بالطف من كربلا إنما هو من ولده (وهو) بدر بن المعقل (كذا) بْن جعونة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حطيط بن عتبة بن الكداع، كما في العباب وهو القائل يوم الطف.
أنا ابن جعف (كذا) وأبي الكداع ... وفي يميني مرهف قراع
وزاد ابن الكلبي في جمهرة (ظ) نسب جعفي: «ومارن ثعلبة لماع» .
[2] وفي يميني مرهف قطاع «خ» .
أقول: وهذا كان في المتن بدلا عن قوله: «وفي يميني مرهف فزاع» وإنما أثبتناه في الهامش، لأنه أوفق بالأسلوب الحديث.(3/198)
فقتل (رحمه الله) .
وقتل (أيضا) مَعَ الْحُسَيْن الحجاج بْن مسروق بْن مالك بن كثيف بن عتبة بن الكداع الجعفي.
أيضا وقتل (مع الحسين عليه السلام) مجمع بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن مجمع، من عائذ الله بن سعد العشيرة.
وقتل (أيضا) مَعَهُ عَبْد الأعلى بْن زيد بْن الشجاع الكلبي.
وقتل معه (أيضا) عبد الله وعبد الرحمان ابنا عزرة الغفاري.(3/199)
(مقتل آل أبي طالب وأهل بيت النبي صلى الله عليه وعليهم أجمعين)
38- قَالُوا: وَكَانَ أول قتيل من آل أَبِي طالب علي الأكبر ابن الْحُسَيْن بْن علي قتله مرة بْن منقذ بْن الشجاع العبدي.
ورمى عَمْرو بْن صبيح الصيداوي عَبْد اللَّهِ بْن مسلم بْن عقيل واعتوره النَّاس فقتلوه.
ويقال: إن رقاد الجنبي [1] كَانَ يَقُول: رميت فتى من آل الْحُسَيْن ويده عَلَى جبهته فأثبتها فِيهَا وجعلت أنضنض سهمي حَتَّى نزعته من جبهته وبقي النصل فِيهَا!!! وحمل عَبْد اللَّهِ بْن قطبة الطائي عَلَى عون بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن أَبِي طالب فقتله.
وشد نشر بن شوط العثماني (كذا) وعثمان بن خالد الجهني على عبد الرحمان بْن عقيل فقتلاه.
وحمل عامر بْن نهشل من بني تيم اللَّه بْن ثعلبة عَلَى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن أَبِي طالب فقتله.
ورمى عَبْد اللَّهِ بْن عروة الخثعمي جعفر بن عقيل بسهم ففلق قلبه.
__________
[1] وهاهنا في الأصل هامش هكذا: «زياد بن «خ» . والظاهر ان الأصل كان هكذا:
«ويقال: إن زياد بن رقاد الجنبي كان يقول» «خ» ... ولكن العلامة التي وضعها الكاتب غير واضحة.(3/200)
وقتل عمرو بن سعيد (كذا) بْن نفيل الأزدي القاسم بْن الحسن فصاح يا عماه. فوثب الْحُسَيْن وثبة ليث فضرب عمرا فأطن يده، وجاءه أصحابه ليستنقذوه، فسقط بين حوافر الخيل فتوطأته حَتَّى مات.
ورمى عَبْد اللَّهِ بْن عقبة الغنوي أبا بكر ابن الحسن بْن علي بسهم فقتله ففي ذَلِكَ يقول ابْن أَبِي عَقَب:
وعند غني قطرة من دمائنا ... وَفِي أسد أخرى تعد وتذكر
39- وَقَالَ بعضهم: قتل حرملة بْن كاهل الأسدي ثم الوالبي العباس ابن عَلِيّ بْن أَبِي طالب مَعَ جماعة وتعاوروه [1] وسلب ثيابه حكيم بْن طفيل الطائي.
ورمى الْحُسَيْن بسهم فتعلق بسرباله.
ورمى حرملة بْن كاهل الوالبي عَبْد اللَّهِ بْن حسين بسهم فذبحه.
وشد هانئ بْن ثبيت الْحَضْرَمِيّ عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن علي فقتله وجاء برأسه.
وقتل عُثْمَان بْن علي أَيْضًا، رماه خولى بْن يزيد بسهم ثُمَّ شد عَلَيْهِ رجل من بني أبان بْن دارم فقتله.
40- قَالُوا: واشتد عطش الْحُسَيْن بْن علي- عَلَيْهِمَا السلام- فدنا ليشرب من الماء، فرماه حصين بْن تميم بسهم فوقع فِي فمه فجعل يتلقى الدم من فمه ويرمي بِهِ [ثُمَّ جعل يقول: اللَّهُمَّ أحصهم عددًا واقتلهم بددا، وَلا تذر عَلَى الأرض منهم أحدًا] .
41- ويقال: إنه لما فض عسكره مضى يريد الفرات، فرماه رجل من بني أبان بْن دارم فأصاب [حنكه فَقَالَ: اللَّهُمَّ إني أشكو إِلَيْك مَا يفعل بي] .
42- قالوا/ 493/ 247/ أ/: ثُمَّ إن شمر بْن ذي الجوشن أقبل في عشرة أو
__________
[1] يقال تعاور القوم الشيء واعتوروه وتعاوروه: تعاطوه وتداولوه.(3/201)
نحوهم من رجال أَهْل الْكُوفَةِ قبل منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله، فمشى (الحسين) نحوهم فحالوا بينه وبين رحله، فَقَالَ لهم: [ويحكم إن لم يكن (لكم) دين فكونوا فِي أمر دنياكم أحرارًا، امنعوا أهلي من طغامكم وسفهائكم!!!] فَقَالَ لَهُ شمر: ذاك لك يَا ابْن فاطمة، وأقدم عَلَيْهِ بالرجالة [1] منهم أبو الجنوب عبد الرحمان بن زياد بن زهير الجعفي وحولي بن يزيد الأصبحي والقشعم بْن عَمْرو بْن نذير الْجُعْفِيّ- وَكَانَ فيمن اعتزل عَلِيًّا- وصالح بْن وهب اليزني وسنان بْن أنس النخعي فجعل شمر يحرضهم عَلَيْهِ، فَقَالَ لأبي الجنوب: أقدم عَلَى حسين. فَقَالَ له: وما يمنعك أنت من ذلك؟ قال: ألي تقول هذا؟ فقال (له) أَبُو الجنوب: هممت أن أخضخض سناني فِي عينك.
وانصرف عَنْهُ شمر، وَكَانَ أَبُو الجنوب شجاعا مقداما.
ثُمَّ إن شمرًا أقبل فِي خمسين من الرجالة، فأخذ الْحُسَيْن يشد عليهم فينكشفون عَنْهُ حَتَّى إذا أحاطوا به فضاربهم حتى كشفهم عن نفسه.
وشد بحر (كذا) بْن كعب بْن عبيد اللَّه عَلَى الْحُسَيْن، فلما أهوى إِلَيْهِ بالسيف غدا غلام ممن (كان) مَعَ الْحُسَيْن إِلَى الْحُسَيْن فضمه الْحُسَيْن إِلَيْهِ فقال الغلام (لبحر بن كعب) : يا ابن الخبيثة أتقتل عمي؟ فضربه (اللعين) بالسيف فاتقاه الغلام بيده فعلقها بجلدة مِنْهَا.
ولما بقي الْحُسَيْن فِي ثلاثة نفر أَوْ أربعة دعا بسراويل محشوة فلبسها!!! فذكروا أن بحر بْن كعب التَّيْمِيّ سلبه إياها حين قتل. فكانت يداه فِي الشتاء تنضحان الماء وفي الصيف ييبسان فكأنهما عودان.
وَكَانَ الْحُسَيْن يحمل عَلَى الرجالة عن يمينه وشماله حتى ابذعروا [2] وعليه قميص من خز أَوْ جبة وَهُوَ معتمّ.
__________
[1] كذا.
[2] كذا في الأصل، ولعل الصواب: «انذعروا» : فزعوا.(3/202)
فما رأى النَّاس أربط جأشا وَلا أمضى جنانا منه (كانوا) ينكشفون عَنْهُ انكشاف المعزى إذا شد فِيهَا الذئب!!! 43- قَالُوا: ومكث الْحُسَيْن طويلا كلما انتهى إِلَيْهِ رجل فأمكنه قتله انصرف عَنْهُ كراهة أن يتولى قتله.
ثُمَّ إن رجلا يقال لَهُ مالك بْن النسير الكندي- وَكَانَ فاتكا لا يبالي عَلَى مَا أقدم- أتاه فضربه عَلَى رأسه بالسيف وعليه برنس فقطع البرنس وأصاب السيف رأسه فأدماه حَتَّى امتلأ البرنس دما، فألقى (الحسين) البرنس ودعا بقلنسوة فلبسها و [قال للرجل: لا أكلت بِهَا وَلا شربت وحشرك اللَّه مَعَ الظالمين] .
وأخذ الكندي البرنس فيقال: إنه لم يزل فقيرا وشلت يداه.
وقالت زينب بنت علي لعمر بْن سعد: يَا عمر أيقتل أَبُو عَبْد اللَّهِ وأنت تنظر؟!! فبكى (عمر) وانصرف بوجهه عَنْهَا.
ونادى شمر فِي النَّاس: ويلكم ما بالكم تحيدون عَن هَذَا الرَّجُل؟ ما تنتظرون؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم!!! فحملوا عَلَيْهِ من كُلّ جانب فضربه زرعة بْن شريك التَّيْمِيّ عَلَى كفه اليسرى وضرب علي عاتقه ثُمَّ انصرفوا عَنْهُ وَهُوَ ينوء ويكبوا.
وحمل عَلَيْهِ- وَهُوَ فِي تلك الحال- سنان بْن أنس بْن عَمْرو النخعي فطعنه بالرمح فوقع ثم قال (سنان) : لخولي بْن يزيد الأصبحي: احتز رأسه.
فأراد (خولى) أن يفعل فضعف وأرعد، فَقَالَ لَهُ سنان: فت اللَّه فِي عضدك وأبان يدك!!! ونزل إِلَيْهِ فذبحه ثُمَّ دفع رأسه إِلَى خولي.
وكان (الحسين عليه السلام) قد ضرب قبل ذلك بالسيوف، وطعن (بالرماح) فوجد بِهِ ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة.(3/203)
44- ويقال: أن خولي بْن يزيد هُوَ الَّذِي تولى احتزاز رأسه بإذن سنان.
وسلب الْحُسَيْن ما كان عَلَيْهِ!!! فأخذ قَيْس بْن الأشعث بْن قَيْس الكندي قطيفة له وكانت من خز- فسمي قيس قطيفة-.
وأخذ نعليه رجل من بني أود يقال له الأسود/ 494/ أو 247 ب/ وأخذ سيفه رجل من بني نهشل بْن دارم.
ومال النَّاس عَلَى الورس والحلل والإبل فانتهبوها وأخذ الرحيل (ظ) ابن زهير الْجُعْفِيّ وجرير بْن مسعود الْحَضْرَمِيّ وأسيد بْن مالك الْحَضْرَمِيّ أكثر تلك الحلل والورس.
وأخذ أبو الجنوب الجعفي جملا وكان يستقي عَلَيْهِ الماء وسماه حسينا!!! وَكَانَ سويد بْن عَمْرو بْن أَبِي المطاع قد صرع فانجن [1] فسمع قائلا يقول: قتل الْحُسَيْن. فنهض بسكين مَعَهُ فقاتل بِهِ!!! فقتله عزرة بْن بطان التغلبي وزيد بْن رقاد الجنبي فكان آخر قتيل.
وجاذبوا النساء ملاحفهن عن ظهورهن!!! فمنع عمر بْن سعد من ذَلِكَ فأمسكوا.
ونادى عمر بْن سعد فِي أصحابه من ينتدب للحسين فيوطئه فرسه!!! فانتدب عشرة منهم إِسْحَاق بْن حياة الْحَضْرَمِيّ- وَهُوَ الَّذِي سلب الْحُسَيْن قميصه فبرص- فداسوا الْحُسَيْن بخيولهم حَتَّى رضوا ظهره وصدره!!! وَكَانَ سنان بْن أنس شجاعا وكانت بِهِ لوثة.
45- وَقَالَ هِشَام بْن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ: قَالَ لي أبي محمد بن السائب: أنا
__________
[1] كذا في الأصل، ولعله بمعنى: اختلط بالقتلى وخفي عليهم أمره.(3/204)
رأيته وَهُوَ يحدث فِي ثوبه، وَكَانَ هرب من المختار بن أبي عبيدة الثَّقَفِيّ إِلَى الجزيرة، ثُمَّ انصرف إِلَى الْكُوفَةِ.
46- قَالُوا: وأقبل سنان حَتَّى وقف عَلَى باب فسطاط عمر بْن سَعْدٍ ثُمَّ نادى بأعلى صوته:
أوقر ركابي فضة وذهبا ... أنا قتلت الملك المحجبا
قتلت خير النَّاس أما وأبا ... وخيرهم إذ ينسبون نسبا
وخيرهم في قومهم مركبا
فقال عمر بْن سعد: أشهد أنك مجنون مَا صححت قط، أدخلوه إلي، فلما دخل حذفه بالقضيب [1] ثُمَّ قَالَ: يَا أحمق أتتكلم بهذا؟ والله لو سمعك ابْن زياد لضرب عنقك.
وَكَانَ مَعَ الْحُسَيْن عَلَيْهِ السلام عقبة بْن سمعان مولى الرباب بنت امرئ القيس الكلبية أم سكينة بنت الْحُسَيْن، فَقَالَ لَهُ عمر بن سعد: من أنت؟ قال:
(أنا) مملوك فخلى سبيله.
وَكَانَ المرقع بْن قمامة الأسدي [2] مع الحسين فجاء (هـ) قوم من بني أسد فأمنوه فخرج إِلَيْهِمْ!!! فلما قدم به عمر (بن سعد) إلى ابْن زياد أخبره خبره، فسيره إِلَى الزارة من البحرين.
47- قَالُوا: وَكَانَ جميع من قتل مع الحسين من أصحابه اثنتين وسبعين رجلا.
ودفن أَهْل الغاضرية من بني أسد، جثه الحسين ودفنوا جثث أصحابه رحمهم الله بعد ما قتلوا بيوم.
__________
[1] أي ضربة أو رماه به. والفعل من باب ضرب.
[2] كذا.(3/205)
وقتل من أصحاب عمر بْن سعد ثمانية وثمانون رجلا سوى من جرح منهم فصلى عمر عليهم ودفنهم.
وبعث عمر برأس الْحُسَيْن من يومه مَعَ خولي بْن يزيد الأصبحي من حمير، وحميد بْن مسلم الأزدي إِلَى ابن زياد، فأقبلا به ليلا فوجدا باب القصر مغلقا، فأتي خولي بِهِ منزله فوضعه تحت أجانة فِي منزله، وَكَانَ فِي منزله امرأة يقال لَهَا النوار بنت مالك الْحَضْرَمِيّ فقالت لَهُ: مَا الخبر؟ قَالَ جئت بغني الدهر؟!! هَذَا رأس الْحُسَيْن معك فِي الدار!!! فقالت: ويلك جاء النَّاس بالفضة والذهب وجئت برأس ابْن بنت رَسُول اللَّهِ؟ والله لا يجمع رأسي ورأسك شَيْء ابدًا.
وأقام عمر بْن سعد يومه والغد، ثُمَّ أمر حميد بْن بكير الأحمري فنادي فِي النَّاس بالرحيل إِلَى الْكُوفَةِ، وحمل مَعَهُ أخوات الْحُسَيْن وبناته ومن كان من الصبيان، وعلي بْن الْحُسَيْن الأصغر مريض.
فلطمن النسوة وصحن حين مررن بالحسين، وجعلت زينب بنت علي تقول: يَا محمداه صلى عليك مليك السماء، هذا حسين بالعراء، مرمل بالدماء مقطع الأعضاء/ 495/ أو 248/ أ/ يَا محمداه وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفي عَلَيْهَا الصبا!!! فأبكت كُلّ عدو وولي.
واحتزت رؤس القتلى فحمل إِلَى ابْن زياد اثنان وسبعون رأسا مع شمر ابن ذي الجوشن وقيس بْن الأشعث وعمرو بْن الحجاج الزبيدي وعزرة بن ابن القيس الأحمسي من بجيلة، فقدموا بالرءوس عَلَى ابْن زياد.
48- وَحَدَّثَنِي بعض الطالبيين أن ابْن زياد جعل فِي عَلِيّ بْن الْحُسَيْن جعلا فأتي به مربوطا، فقال له: (ما اسمك؟ قال: علي بن الحسين. قال:) ألم(3/206)
يقتل اللَّه عَلِيّ بْن الْحُسَيْن؟! فَقَالَ: كَانَ أخي يقال لَهُ: عَلِيّ بْن الْحُسَيْن وإنما قتله الناس. قال: بل قتله الله (فأمر اللعين بقتله) فصاحت زينب بنت علي يَا ابْن زياد حسبك من دمائنا فَإِن قتلته فاقتلني مَعَهُ!!! فتركه.
49- وروى حماد بن زيد، عن يحي بْنِ سعيد، قَالَ: مَا رأيت قرشيا أفضل من عَلِيّ بْن الْحُسَيْن. قَالَ: وَكَانَ يقول: [يا (أ) يها النَّاس احببتمونا [1] حب الإسلام فما برح حبكم حَتَّى صار علينا عارًا!!!] 50- وَقَالَ أَبُو مخنف. لما قتل الْحُسَيْن جيء برءوس من قتل مَعَهُ من أَهْل بيته وأصحابه إِلَى ابْن زياد، فجاءت كندة بثلاثة عشر رأسا وصاحبهم قَيْس بْن الأشعث.
وجاءت هوازن بعشرين رأسا وصاحبهم شمر بْن ذي الجوشن.
وجاءت بنو تميم بسبعة عشر رأسا.
وجاءت بنو أسد بستة عشر رأسا.
وجاءت مذحج بسبعة أرؤس.
وجاءت قَيْس بتسعة أرؤس.
51- قَالُوا: وجعل ابْن زياد ينكت بين ثنتي الْحُسَيْن بالقضيب فَقَالَ لَهُ زيد بْن أرقم: اعل بهذا القضيب غير هاتين الشفتين فو الله لقد رأيت شفتي رسول الله عليهما يقبلهما. ثم جعل الشيخ يبكي فقال له (ابن زياد) : أبكى الله عينيك فو الله لولا أنك شيخ قد خرفت لضربت عنقك!! فنهض (زيد) وَهُوَ يقول للناس: أنتم العبيد بعد اليوم!!! يَا معشر العرب قتلتم ابْن فاطمة وأمرتم
__________
[1] الظاهر ان هذا هو الصواب، وفي النسخة ذكرها باليائين المثناتين من تحت.
ثم الحديث كأنه وقع فيه الحذف فليحقق.
وبالسند المتقدم في تعليق الحديث 15 ص 157- عن ابن الجوزي قال: قال ابن أبي الدنيا:
وأخبرني احمد بن عباد الحميري عن هشام بن محمد، عن شيخ من الأزد قال:
لما (أ) دخل برأس الحسين وصبيانه وأخواته ونسائه على ابن زياد لبست زينب ابنة علي أرادأ ثيابها وتنكرت وحف بها النساء، فقال ابن زياد: من هذه؟ فلم تكلم. فقال ذلك ثلاثا كل ذلك لا تكلمه! فقال بعض نسائها: هذه زينب ابنة عَلِيّ بْن أَبِي طالب- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقال ابن زياد: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأكذب أحدوثتكم!!! فقالت زينب: الحمد لله الذي أكرمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم وطهرنا تطهيرا، لا ما تقول (و) إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر!!! قال: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت: كتب الله عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتتحاكمون عنده.
وأيضا بالسند المتقدم قال ابن الجوزي: قال ابن أبي الدنيا: وحدثني عبد الرحمان بن صالح العتكي قال: حدثنا مهدي بن ميمون، عن حرام بن عثمان الأنصاري عن سعيد بن ثابت بن مرداس عن أبيه:
عن سعيد بن معاذ، وعمرو بن سهل انهما حضرا عبيد الله بن زياد (حين كان) يضرب بقضيبه (في) أنف الحسين وعينيه، ويطعن به في فمه، فقال زيد بن أرقم: أرقع قضيبك إني (طالما) رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا شفتيه على موضع قضيبك. فقال له: إنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك!!! فقال زيد: أحدثك حديثا هو أغلظ عليك من هذا: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعد حسنا على فخذه اليمني وحسينا على فخذه اليسري ثم وضع يده على يافوخ كل واحد منهما ثم قال: اللهم استودعك إياهما وصالح المؤمنين. فكيف كانت وديعتك رسول الله (كذا) صلى الله عليه وسلم؟!! وقريبا منه رواه الطبراني ورواه عنه في باب مناقب الإمام الحسين عليه السلام من مجمع الزوائد: ج 9 ص 194 و 195.
وقال الخطيب البغدادي في عنوان: «عبد الله بن أبي سلمة» من كتاب المتفق والمفترق:
ج 10/ الورق 10: أخبرنا أبو الحسن محمد بن عبد الواحد بن محمد بن جعفر، أنبأنا علي بن عمر الحافظ، حدثنا محمد بن القاسم بن زكريا، حدثنا عباد بن يعقوب، حدثنا علي بن هاشم عن محمد بن عبيد الله بن أبي رافع، عن سلمة بن عبد الله بن أبي سلمة عن أبيه:
عن أم سلمة قالت: دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليا وفاطمة وحسنا وحسينا يوم توفي فحنا عليهم ثم قال: اللهم إني أستودعكهم وصالح المؤمنين.
وهذا رواه أيضا بسند آخر في الحديث: (167) من ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق.(3/207)
ابْن مرجانة؟!! فهو يقتل خياركم ويستعبد شراركم فبعدا لمن رضي بالعار والذل!!! ولما أدخل أَهْل الْحُسَيْن عَلَى ابْن زياد، نظر إِلَى علي بن الحسين فقال:
انظروا (أ) أنبت. قيل: نعم. قَالَ أضربوا عنقه. [فَقَالَ (علي بن الحسين) :
إن كانت بينك وبين هَؤُلاءِ النسوة قرابة فابعث معهن رجلا يحافظ عليهن؟] فَقَالَ: أنت الرَّجُل!!! فبعث بِهِ معهن.(3/208)
52- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْن العوام، عَن أَبِي حصين قَالَ:
لما قتل الْحُسَيْن مكثوا شهرين أَوْ ثلاثة وكأنما يلطّخ الحيطان بالدم، من حين صلاة الغداة إِلَى طلوع الشمس [1] .
53- وَحَدَّثَنِي عُمَر بْن شبة، عَن موسى بْن إِسْمَاعِيل، عن حماد ابن سلمة، عَن سالم القاص قَالَ:
مطرنا أيام قتل الْحُسَيْن دما.
54- حَدَّثَنِي عمر بْن شبه، عَن عفان، عَن حماد، عَن هِشَام، عَن مُحَمَّد بْن سيرين قَالَ:
لم تر هَذِهِ الحمرة فِي آفاق السماء حَتَّى قتل الْحُسَيْن.
55- حَدَّثَنَا عَمْرو، عَن ابْن وهب، عَن ابْن لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي قَبِيلٍ (قَالَ) : أن السماء أظلمت يوم قتل الْحُسَيْن حَتَّى رأوا الكواكب.
__________
[1] وقريبا منه- ومما بعده- رواه الطبراني ورواه عنه في باب مناقب الإمام الحسين عليه السلام من مجمع الزوائد: ج 9 ص 197.
أنساب الأشراف (م 14)(3/209)
56- قالوا: وخطب ابن زياد فقال: الحمد لله الَّذِي قتل الكذاب ابْن الكذاب الْحُسَيْن وشيعته. فوثب عَبْد اللَّهِ بْن عفيف الأزدي ثُمَّ الغامدي وَكَانَ شيعيا وكانت عينه اليسرى ذهبت يوم الجمل واليمنى يوم صفين، وَكَانَ لا يفارق المسجد الأعظم، فلما سمع مقالة ابْن زياد قَالَ لَهُ: يَا ابْن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت وأبوك والذي ولاك وأبوه!!! يَا ابْن مرجانة أتقتلون أبناء النبيين وتتكلمون بكلام الصديقين؟! فَقَالَ ابْن زياد: علي بن فنادي بشعار الأزد: مبرور يَا مبرور. وحاضروا الكوفة من الأزد يومئذ سبعمائة فوثبوا/ 496/ أو 248 ب/ فتخلصوه حَتَّى أتوا بِهِ أهله، فَقَالَ ابْن زياد للأشراف:
أما رأيتم مَا صنع هَؤُلاءِ؟ قَالُوا: بلى. قَالَ: فسيروا أنتم يا أهل اليمن حتى تأتوني بصاحبكم- وامتثل صنيع أَبِيهِ فِي حجر حين بعث (إليه) أَهْل اليمن-.
وأشار عَلَيْهِ عَمْرو بْن الحجاج بأن يجلس (كذا) كُلّ من كَانَ فِي المسجد من الأزد. فحبسوا وفيهم عبد الرحمان بن مخنف وغيره، فاقتتلت الأزد وأهل اليمن قتالا شديدًا، واستبطأ (ابْن) زياد أَهْل اليمن، فَقَالَ لرسول بعثه إِلَيْهِمْ:
انظر ما بينهم؟ (فأتاهم) فرأى أشد قتال فَقَالُوا: قل للأمير إنك لم تبعثنا إِلَى نبط الجزيرة وَلا جرامقة الموصل، إنما بعثتنا إِلَى الأزد إِلَى أسود الأجم ليسوا ببيضة تحسى وَلا حرملة توطأ.
فقتل من الأزد عبيد اللَّه بْن حوزة الوالبي ومحمد بْن حبيب البكري [1] وكثرت القتلى بينهم وقويت اليمانية عَلَى الأزد، وصاروا إلى خص في ظهر دار ابن عفيف فكسروه واقتحموا (عليه داره) فناولته ابنته سيفه فجعل يذب به (عن نفسه) وشدوا عليه من كل جانب (حتّى أخذوه) فانطلقوا بِهِ إِلَى ابْن زياد وَهُوَ يقول:
__________
[1] هذا هو الظاهر وفي النسخة: الكبرى.(3/210)
أقسم لو يفسح لي من بصري ... شق عليكم موردي وصدري
وخرج سُفْيَان بْن يزيد بْن المغفل ليدفع عَن ابْن عفيف فأخذوه معه، فقتل ابن عفيف وصلب بالسبخة.
وأتي بجندب بْن عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ ابْن زياد: والله لأتقربن إِلَى اللَّه بدمك!!! فَقَالَ: إنما تتباعد من الله بدمي؟!! وقال (ابن زياد) لابن المغفل: قد تركناك لابن عمك سُفْيَان بْن عوف فإنه خير منك.
وجعل عمر بْن سَعْدٍ يقول: مَا رجع أحد إِلَى أهله بشر مما رجعت بِهِ!!! أطعت الفاجر الظالم ابْن زياد، وعصيت الحكم العدل، وقطعت القرابة الشريفة! 57- حَدَّثَنِي عُمَرُ بْن شَبَّةَ، عَن أَبِي عَاصِمٍ، عَن قرة بْن خالد، عَن أبي رجاء (العطاردي) قَالَ: قَالَ جار لي حين قتل الْحُسَيْن:
ألم تر كيف فعل اللَّه بالفاسق ابْن الفاسق؟!! فرماه الله بكوكبين في عينيه [1] .
__________
[1] ورواه أيضا في الحديث: (96) من باب فضائل علي عليه السلام من كتاب الفضائل- تأليف أحمد بن حنبل- قال: عبد الله: حدثني أبي (قال) حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال: حدثنا قرة قال:
سمعت أبا رجاء يقول: لا تسبوا عليا ولا أهل هذا البيت، إن جارا لنا من بلهجيم قدم من الكوفة فقال: ألم تروا إلى هذا الفاسق ابن الفاسق!!! إن الله قتله- يعني الحسين عليه السلام- قال: فرماه الله بكوكبين في عينيه فطمس الله بصره.
ورواه أيضا الطبراني في الحديث: (64) من ترجمة الامام الحسين من المعجم الكبير: ج 1/ الورق 237 ب/ قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا بكر بن خلف، حدثنا أبو عاصم.
وحدثنا محمد بن عبد الله الحضرمي حدثنا ابراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو عامر العقدي- كلاهما- عن قرة بن خالد قال:
سمعت أبو رجاء العطاردي يقول: لا تسبوا عليا ولا أهل هذا البيت، فإن جارا لنا من بلهجيم قال: ألم تروا إلى هذا الفاسق الحسين بن علي قتله الله؟!! فرماه الله بكوكبين فطمس الله بصره.
ورواه أيضا في الحديث: (309- 310) من ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من تاريخ دمشق بسندين. ورواه أيضا الطبراني ورواه عنه في باب مناقب الحسين من مجمع الزوائد: ج 9 ص 196، قال: ورجاله رجال الصحيح.
ورواه أيضا الشيخ المفيد رحمه الله- لكن في قضية اخرى- قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد ابن عمران، حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عيسى حدثنا أبو عبد الرحمان عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني أبي حدثنا عبد الملك بن عمرو، قال:
سمعت أبا رجاء العطاردي يقول: لا تسبوا عليا ولا أهل هذا البيت فان جارا لنا من بلهجيم قدم الكوفة بعد قتل هشام بن عبد الملك زيد بن علي عليهما السلام ورآه مصلوبا فقال: ألا ترون إلى هذا الفاسق!!! فرماه الله بقرحتين في عينيه فطمس الله بهما بصره.
هكذا رواه عنه في الحديث: (46) من الجزء الثاني من أمالي الطوسي ص 55.(3/211)
58- قَالُوا ونصب ابْن زياد رأس الْحُسَيْن بالْكُوفَة!!! وجعل يدار بِهِ فِيهَا!!! ثُمَّ دعا زحر بْن قَيْس الْجُعْفِيّ فسرح مَعَهُ برأس الْحُسَيْن ورؤس أصحابه وأهل بيته إِلَى يزيد بْن مُعَاوِيَة، وَكَانَ مَعَ زحر أَبُو بردة بْن عوف الأزدي وطارق بْن أَبِي ظبيان الأزدي. فلما قدموا عَلَيْهِ قَالَ: لقد كنت أرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين!!! لعن الله بني سمية (كذا) أما والله لو كنت أنا صاحبه لعفوت عَنْهُ!!! رحم اللَّه الْحُسَيْن فقد قتله رجل قطع الرحم بينه وبينه قطعا. ولم يصل زحر بْن قَيْس بِشَيْءٍ.
59- العمري عَن الْهَيْثَم، عن عبد الملك بن عمر (عمير «خ» ) انه قال: رأيت في هذا القصر (يعني قصر الكوفة) عجبا: رأيت رأس الْحُسَيْن عَلَى ترس موضوعا بين يدي ابْن زياد، ثُمَّ رأيت رأس ابن زياد بين يدي(3/212)
المختار، ثُمَّ (رأيت) رأس المختار بين يدي مصعب، ثُمَّ رأس مصعب بين يدي عَبْد الملك بْن مروان [1] .
60- وَقَالَ الْهَيْثَم بْن عدي عَن عوانة: لما وضع رأس الْحُسَيْن بين يدي يزيد تمثل ببيت الحصين بن الحمام المري:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعقّ وأظلما
__________
[1] وها هنا كان في النسخة تصحيفا، وصححناه على الحديث الآتي تحت الرقم: (80) ص 223 وعلى غيره، والقصة مشهورة واضحة.
وروى ابن عساكر في ترجمة خالد بن غفران، من تاريخ دمشق ج 15، ص 98 قال:
أخبرنا أبو محمد عبد الجبار بن محمد بن أحمد البيهقي في كتابه- وحدثنا أبو الحسن على بن سليمان ابن أحمد عنه- قال: أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي، أنبأنا أبو عبد الله الحافظ، قال: سمعت أبا الحسين علي بن محمد الأديب يذكر بإسناد له: أن رأس الحسين بن علي لما صلب بالشام أخفى خالد ابن غفران- وهو من أفاضل التابعين- شخصه عن أصحابه، فطلبوه شهرا حتى وجدوه، فسألوه عن عزلته فقال: أما ترون ما نزل بنا؟ ثم أنشأ يقول.
(و) أخبرنا (هـ) أبو عبد الله الفراوي أخبرنا أبو عثمان الصابوني قال: أنشدني الحاكم أبو عبد الله الحافظ في مجلس الأستاذ أبي منصور الحشادي على حجرته (كذا) في قتل الحسين:
جاؤا برأسك يا ابن بنت محمد ... متزملا بدمائه تزميلا
وكأنما بك يا ابن بنت محمد ... قتلوا جهارا عامدين رسولا
قتلوك عطشانا ولم يترقبوا ... في قتلك التنزيل والتأويلا
ويكبرون بأن قتلت وإنما ... قتلوا بك التكبير والتهليلا
أقول ورواه أيضا في الحديث (3) من الفصل (13) من مقتل الخوارزمي ج 2 ص 125، قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أحمد العاصمي أخبرني شيخ القضاة اسماعيل بن أحمد البيهقي أخبرني شيخ السنة أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي أخبرني أبو عبد الله الحافظ (قال) : سمعت أبا الحسن (كذا) علي بن محمد الأديب يذكر بإسناد له ...(3/213)
61- حدثني عمرو الناقد، وعمرو بن شبّة، قالا: حدثنا أَبُو أَحْمَد الزبيري عَن عمه فضيل بْن الزُّبَيْرِ، عَن أَبِي عمر البزار عَن مُحَمَّد بن عمرو ابن الحسن قَالَ: لما وضع رأس الْحُسَيْن بْن علي بين يدي يزيد قَالَ متمثلا:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
62- قَالُوا: وأمر عبيد اللَّه بْن زياد بعلي بْن الْحُسَيْن فغل بغل إِلَى عنقه، وجهز نساءه وصبيانه/ 497/ أو 249/ أ/ ثُمَّ سرح بهم مَعَ محفز بْن ثعلبة، من عائذة قريش، وشمر ابن ذي الجوشن.
وقوم يقولون: بعث مَعَ محفز برأس الْحُسَيْن أَيْضًا. فلما وقفوا بباب يزيد رفع محفز صوته فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا محفز بْن ثعلبة أتاك باللئام الفجرة!!! فَقَالَ يزيد: مَا تحفزت عَنْهُ أم محفز ألأم وأفجر.
وبعث يزيد برأس الْحُسَيْن إِلَى نسائه فأخذته عاتكة ابنته- وهي أم يزيد ابن عَبْدِ الملك- فغسلته ودهنته وطيبته فَقَالَ لَهَا يزيد: مَا هَذَا؟ قَالَت: بعثت إلي برأس ابن عمي شعثا فلممته وطيبته (كذا) .
ودفن رأس الْحُسَيْن فِي حائط بدمشق، إما حائط القصر، وإما غيره.
وَقَالَ قوم: دفن فِي القصر حفر لَهُ وأعمق.
63- قَالُوا: وجعل يزيد ينكت بالقضيب ثغر الحسين [1] حين وضع
__________
[1] هذا هو الصواب، وذكره وما بعده في النسخة بالثاء المثلثة. يقال: «نكت الأرض- من باب نصر- بالقضيب نكتا» : ضربها به فأثر فيها.
وقال ابن الجوزي- في كتاب الرد على المتعصب العنيد-: أنبأنا عبد الوهاب بن المبارك قال: أنبأنا أبو الحسين بن عبد الجبار، قال: أنبأنا الحسين بن علي الطناجيري قال: حدثنا عمر بن أحمد بن شاهين، قال: حدثنا أحمد بن عبد الله بن سالم، قال: حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا خالد بن خداس، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن جميل بن مرة:
عن أبي الوضيء قال: نحرت الإبل التي حمل عليها رأس الحسين عليه السلام وأصحابه فلم يستطيعوا أكلها كانت لحومها أمر من الصبر.
فلما وصلت الرؤس إلى يزيد، جلس ودعا أشراف الشام حوله ثم وضع الرأس بين يديه وجعل ينكت بالقضيب على فيه ويقول:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
(و) أخبرنا محمد بن ناصر قال: حدثنا جعفر بن أحمد السراج، قال: حدثنا أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف، قال: أخبرنا أبو الحسين ابن أخي ميمي قال: أنبأنا الحسين ابن صفوان، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي الدنيا القرشي قال: حدثنا محمد بن صالح، قال: حدثنا علي بن محمد، عن خالد بن يزيد بن بشر السكسكي عن أبيه:
عن قبيصة بن ذويب الخزاعي قال: قدم برأس الحسين فلما وضع بين يدي يزيد ضربه بقضيب كان في يده ثم قال:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
قال أبو بكر ابن أبي الدنيا: وحدثني ابراهيم بن زياد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال: حدثنا عبد العزيز الدراوردي عن حرام بن عثمان، عن أحد ابني جابر بن عبد الله الأنصاري:
عن زيد بن أرقم قال: كنت عند يزيد بن معاوية فأتي برأس الحسين بن علي فجعل ينكت بالخيزران على شفتيه وهو يقول:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقلت له: ارفع عصاك. فقال: (هذا) ترابي!!! فقلت: أشهد لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واضعا حسنا على فخذه اليمنى (و) واضعا حسينا على فخذه اليسرى واضعا يده اليمنى على رأس: الحسن (و) واضعا يده اليسرى على رأس حسين وهو يقول: اللهم اني استودعكهما وصالح المؤمنين. فكيف كان حفظك يا يزيد وديعة رسول الله؟!! قال ابن أبي الدنيا: وحدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا خالد بن يزيد بن أسد، قال:
حدثني عمار الدهني:
عن أبي جعفر قال: (لما) وضع رأس الحسين بين يدي يزيد وعنده أبو برزة فجعل ينكت بالقضيب على فيه و (هو) يقول:
يفلقن هاما من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
فقال أبو برزة: ارفع قضيبك فو الله لربما رأيت فا (هـ) النبي صلى الله عليه وسلم على فيه يلثمه.
قال ابن أبي الدنيا: وحدثني سلمة بن شبيب قال: حدثني الحميدي عن سفيان، قال: سمعت سالم بن أبي حفصة يقول:
قال الحسن: جعل يزيد بن معاوية يطعن بالقضيب موضع في رسول الله صلى الله عليه وسلم وا ذلاه!!! قال سفيان: وأخبرت أن الحسن في أثر هذا الكلام قال:
سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وبنت رسول الله ليس لها نسل
وأيضا قال ابن الجوزي: أنبأنا علي بن عبد الله الزاغوني قال: أنبأنا محمد بن أحمد الكاتب قال: أنبأنا عبد الله بن أبي سعد الوراق، قال: حدثنا محمد بن يحي الأحمري قال: حدثنا الليث:
عن مجاهد، قال: جيء برأس الحسين بن علي فوضع بين يدي يزيد بن معاوية فتمثل (ب) هذين البيتين:
ليت أشياخي ببدر شهدوا ... جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلوا واستهلوا فرحا ... ثم قالوا لي بغيب: لا تشل
قال مجاهد: نافق فيها!!! ثم والله ما بقي في عسكره أحد إلا تركه أي عابه وذمه.
أقول ومن أراد المزيد فعليه بمراجعة كتابنا المسمى ب «عبرات المصطفين» في مقتل الإمام الحسين عليه السلام.(3/214)
رأسه بين يديه!!! فَقَالَ أَبُو برزة الأسلمي أتنكت ثغر الْحُسَيْن؟ لقد أخذ(3/215)
قضيبك من ثغره مأخذًا!!! ربما رَأَيْتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرشفه [1] أما إنك يَا يزيد تجيء يوم القيامة وشفيعك ابْن زياد، ويجيء الْحُسَيْن وشفيعه مُحَمَّد. ثُمَّ قام (وخرج من مجلس يزيد) .
ويقال: إن هَذَا القائل رجل من الأنصار.
64- وَحَدَّثَنِي ابْن برد الأنطاكي الفقيه، عَن أَبِيهِ قال: ذكروا أن
__________
[1] يقال: «رشف فلان الماء- من باب ضرب ونصر- رشفا ورشيفا وترشافا، ورشفه من باب علم- رشفا ورشفانا» : مصه بشفتيه. و «رشف وأرشف وترشف وارتشف الماء» :
بالغ في مصه.(3/216)
رجلا من أَهْل الشَّامِ نظر إِلَى ابنة لعلي فَقَالَ ليزيد: هب لي هَذِهِ!!! فأسمعته زينب كلاما فغضب يزيد وَقَالَ: لو شئت أن أهبها لَهُ فعلت أَوْ نحو ذَلِكَ!!! وَقَالَ يزيد- حين رأى وجه الْحُسَيْن-: مَا رأيت وجها قط أحسن منه؟! فقيل: إنه كَانَ يشبه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. فسكت (يزيد) .
وصيح نساء من نساء يزيد بْن مُعَاوِيَة وولولن حين أدخل نساء الْحُسَيْن عليهن وأقمن عَلَى الْحُسَيْن مأتما!!! 65- ويقال: إن يزيد أذن لهن فِي ذَلِكَ [1] وأعطى يزيد كُلّ امرأة من نساء الْحُسَيْن ضعف مَا ذهب لَهَا، وقال: عجل (عليه) ابْن سمية لعنة اللَّه عَلَيْهِ.
وبعث يزيد بالنساء والصبيان إِلَى الْمَدِينَة مَعَ رَسُول وأوصاه بهم فلم يزل يرفق بهم حَتَّى وردوا المدينة.
وقال لعليّ بن الحسين: إن أحببت أن تقيم عندنا بررناك ووصلناك.
فاختار إتيان الْمَدِينَة، فوصله وأشخصه إِلَيْهَا.
ولما بلغ أَهْل الْمَدِينَة مقتل الْحُسَيْن كثر النوائح والصوارخ عَلَيْهِ، واشتدت الواعية فِي دور بني هاشم فقال عمرو بن سعيد الأشدق: واعية بواعية عُثْمَان!!! وَقَالَ مروان حين سمع ذَلِكَ:
عجت نساء بني زبيد عجة ... كعجيج نسوتنا غدات الأرنب
وَقَالَ عَمْرو بْن سعيد: وددت والله أن أمير الْمُؤْمِنِينَ لم يبعث إلينا برأسه فَقَالَ مروان: بئس ما قلت هاته!!! (ثم أخذ الرأس وقال) :
يَا حبذا بردك فِي اليدين ... ولونك الأحمر في الخدين
66- وحدثنا عمر بن شبة (قال) : حدثني أبو بكر عيسى بن عبيد الله بن محمد بْن عُمَر بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب عن أبيه قال:
__________
[1] ومنه يستنتج ويستفاد أن من منع من إقامة المآتم على الحسين، أو كره الصياح والولولة في عزام ريحانة رسول الله، فهو ألأم من نساء يزيد، وأقسى قلبا وأفظ طبيعة وأشقى من يزيد!!!(3/217)
رعف عَمْرو بْن سعيد عَلَى منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بيار الأسلمي- وَكَانَ زاجرًا-: إنه ليوم دم. قَالَ: فجيء برأس الحسين فنصب فصرخ نساء (آل) أبي طالب فقال مروان:
عجت نساء بني زبيد عجة ... كعجيج نسوتنا غداة الأرنب
ثم صحن أيضا فقال مروان:
ضربت دوشر فيهم ضربة ... أثبتت أركان ملك فاستقر
[1] وقام ابن أبي حبيش وعمرو يخطب فقال: رحم الله فاطمة. فمضى (عمرو) في خطبته شيئا ثم/ 498/ أو 249 ب/ قال: وا عجبا لهذا الألثغ [2] وما أنت وفاطمة؟ قَالَ: أمها خديجة- يريد أنها من بني أسد ابن عَبْدِ العزى- قَالَ: نعم والله وابنة مُحَمَّد أخذتها يمينا وأخذتها شمالا!! وددت والله أن أمير المؤمنين كان نحاه عني ولم يرسل به إلي، ووددت والله أن رأس الْحُسَيْن كَانَ عَلَى عنقه وروحه كان فِي جسده.
67- وَقَالَ عوانة بْن الحكم: قتل الْحُسَيْن بكربلاء قتله سنان بْن أنس واحتز رأسه خولي بْن يزيد، وجاء بِهِ إِلَى ابْن زياد، فبعث بِهِ إِلَى يزيد مَعَ محفز بن ثعلبة.
ويقال إن الحجاج سأله كيف صنع بالحسين؟ فقال: دسرته بالرمح
__________
[1] هذا هو الصواب، وذكره في النسخة مصحفا هكذا:
ضربت ذو شر فِيهِمْ ضربة ... أثبتت أن كان ملكا فاستقر
[2] الألثغ: من كان بلسانه لثغة أي ينطق بالسين كالثاء أو بالراء كالغين أو كالياء أو كاللام.
ثم إن من اعتراض ابن أبي حبيش في أثناء خطبة عمرو يستفاد، انه نال من ريحانة رسول الله أو أظهر الفرح والسرور من قتله أو جمع بين الأمرين على ما كان معتادا عند طواغيت بني أمية.(3/218)
دسرًا وهبرته بالسيف هبرًا [1] فَقَالَ الحجاج: لا يجتمعان فِي الجنة والله أبدًا!!! وَقَالَ: ادفعوا إِلَيْهِ خمس مائة درهم. فلما خرج قَالَ: لا تعطوه شَيْئًا.
قَالَ: وَكَانَ الْحُسَيْن يوم قتل ابْن ثمان وخمسين سنة، وذلك فِي سنة إحدى وستين يوم عاشوراء () .
68- وَقَالَ الواقدي: قتل الحسين شمر بن ذي الجوشن وقد فصل خضاب لحيته وَكَانَ يخضب بسواد.
وأوطأه شمر فرسه وذلك في يوم عاشوراء سنة إحدى وستين وَهُوَ ابْن ثمان وخمسين سنة. ويقال: ابْن ست وخمسين.
69- وَقَالَ الْكَلْبِيّ: ولد الحسن فِي سنة ثلاث من الهجرة، والحسين في سنة أربع.
قال: فبعث يزيد رأسه إِلَى الْمَدِينَة، فنصب عَلَى خشبة ثُمَّ رد إِلَى دمشق فدفن فِي حائط بِهَا. ويقال (دفن) في دار الإمارة. ويقال: (دفن) فِي المقبرة.
70- حَدَّثَنِي شجاع بْن مخلد الفلاس، عَن جرير، عَن مغيرة، قَالَ:
قَالَ يزيد- حين قتل الْحُسَيْن-: لعن اللَّه ابْن مرجانة لقد وجده بعيد الرحم منه.
__________
[1] يقال: «دسرت زيدا- من باب نصر- دسرا» : طعنته. دفعته. ويقال: «هبرت اللحم- من باب نصر- هبرا» : قطعته.
والحديث رواه أيضا الطبراني بمغايرة طفيفة، ورواه عنه في باب مناقب الحسين عليه السلام من مجمع الزوائد: ج 9 ص 194، قال: ورجاله ثقات.(3/219)
71- حَدَّثَنِي هِشَام بْن عَمَّار، حَدَّثَنِي الوليد بْن مسلم عَن أَبِيهِ، قَالَ:
لما قدم برأس الْحُسَيْن عَلَى يزيد بْن مُعَاوِيَة، وأدخل أهله الخضراء بدمشق تصايحن بنات معاوية ونساءه فجعل يزيد يقول:
يَا صيحة تحمد من صوائح ... مَا أهون الموت عَلَى النوائح
إذا قضى اللَّه أمرًا كَانَ مفعولا، قد كنا نرضى من طاعة هَؤُلاءِ بدون هَذَا.
ولما أدخل عَلِيّ بْن الْحُسَيْن عَلَى يزيد قَالَ: يَا حبيب إن أباك قطع رحمي وظلمني فصنع اللَّه بِهِ مَا رأيت!!! فَقَالَ عَلِيّ بْن الْحُسَيْن: « [مَا أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها» (22/ الحديد: 57) .] فَقَالَ يزيد لخالد ابنه: أجبه فلم يدر (خالد) مَا يقول فَقَالَ يزيد: قل لَهُ: «وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» (30/ الشورى 42) .
72- وَحَدَّثَنِي العمري عَن الْهَيْثَم بْن عدي عَن مجالد بْن سعيد، قَالَ:
كتب يزيد إِلَى ابْن زياد: أما بعد فزد أَهْل الْكُوفَةِ أَهْل السمع والطاعة فِي أعطياتهم مائة مائة.
73- قال هيثم بن عدي: قال سليمان بن قتة:
(و) إن قتيل الطف من آل هاشم ... أذل رقابا من قريش فذلت
وكانوا لنا غنما فعادوا رزية ... لقد عظمت تلك الرزايا وجلت
وعند غني قطرة من دمائنا ... سنجزيهم يوما بِهَا حيث حلت(3/220)
مررت عَلَى أبيات آل مُحَمَّد ... فألفيتها [1] أمثالها يوم حلت
74- وَقَالَ أَبُو دهبل [2] الجمحي:
يبيت السكارى من أمية نوما ... وبالطف قتلى مَا ينام حميمها [3]
75- وقالت زينب بنت عقيل ترثي قتلى أَهْل الطف وخرجت تنوح بالبقيع:
ماذا تقولون إن قَالَ النَّبِيّ لكم ... ماذا فعلتم وأنتم آخر الأمم
بأهل بيتي وأنصاري أما لكم ... عهد كريم أما توفون بالذمم
ذريتي/ 499/ وبنو عمي بمضيعة ... منهم أسارى وقتلى ضرجوا بدم
مَا كَانَ ذاك جزائي إذ نصحتكم ... أن تخلفوني بسوء في ذوي رحم
فكان [4] أبو الأسود الدؤلي يقول: «رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ» (23/ الأعراف: 7) .
وكانت زينب هَذِهِ عند عَلِيّ بْن يزيد بْن ركانة من بني المطلب بْن عبد مناف، فولدت لَهُ ولدا، منهم عبدة ولدت وهب بْن وهب أبا البختري القاضي.
76- وَقَالَ المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب:
__________
[1] كذا في الأصل، والظاهر أنها صحفها بعض كتاب آل أمية، إذ لا ملائمة لها مع بقية الأبيات، والصواب ما هو المعروف في كتب المقاتل: «فلم أرها أمثالها يوم حلت» .
[2] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «أبو ذهبل» .
[3] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «ما ينام قتيلها» .
[4] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «فقال أبو الأسود الدئلي ... » .
والحديث رواه أيضا الطبراني. ورواه عنه في باب مناقب الإمام الحسين عليه السلام من مجمع الزوائد: ج 9 ص 200.(3/221)
أضحكني الدهر وأبكاني ... والدهر ذو صرف وألوان
يَا لهف نفسي وهي النفس ... لا تنفك من هم وأحزان
عَلَى أناس قتلوا تسعة ... بالطفّ أمسوا رهن أكنان
وستة مَا إن أرى مثلهم ... بني عقيل خير فرسان
77- وقال عبد الرحمان بْن الحكم أخو مروان بْن الحكم بْن أَبِي العاص:
لهام بجنب الطف أدنى قرابة ... من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغل
سمية أمسى نسلها عدد الحصى ... وبنت رَسُول اللَّهِ ليس لَهَا نسل
فذكر أنه أنشد يزيد هَذِهِ الأبيات فضرب صدره فقال: اسكت [1] .
78- وَقَالَ الْهَيْثَم: خرج رجل من الأزد في من وجه إِلَى الْحُسَيْن فنهته امرأته فلما رجع قَالَ:
ألم تخبري عني وأنت ذميمة؟ ... غداة حسين والرماح شوارع
ألم آت أقصى مَا كرهت؟ ولم أغب ... علي غداة الروع مَا أنا صانع
79- حَدَّثَنِي أحمد بن إبراهيم الدورقي حَدَّثَنَا وهب بْن جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ:
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا جِيءَ بِرَأْسِ الْحُسَيْنِ إِلَى ابْنِ زياد، وضع بين يديه في طشت فجعل ينكت في وجهه بقضيب ويقول: ما رأيت مثل هذا
__________
[1] وهذا رواه أيضا الطبراني- بزيادة فقرات من الحديث: (71) المتقدم.
ورواه عنه في باب مناقب الحسين عليه السلام من مجمع الزوائد: ج 9 ص 198.(3/222)
الْوَجْهِ قَطُّ!!! فَقُلْتُ: إِنَّهُ كَانَ يُشْبِهُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] .
80- حَدَّثَنَا حَفْصُ بْن عُمَرَ، عَن الْهَيْثَم بْن عدي عَن أَبِي يعقوب، عَن عَبْد الملك بْن عمير قَالَ: [2] لقد رأيت فِي قصر الْكُوفَة عجبا: رأيت رأس الْحُسَيْن بين يدي ابْن زياد عَلَى ترس، ثُمَّ رأيت رأس ابْن زياد بين يدي المختار عَلَى ترس، ثُمَّ رأيت رأس المختار بين يدي مصعب عَلَى ترس، ثُمَّ رأيت رأس مصعب بين يدي عَبْد الملك بْن مروان عَلَى ترس.
81- وَقَالَ سراقة البارقي:
عين بكي بعبرة وعويل ... واندبي إن ندبت آل الرسول
خمسة منهم لصلب علي ... قد أبيدوا وسبعة لعقيل
82- قَالَ المدائني: قتل الْحُسَيْن والعباس وعثمان ومحمد- لأم ولد- بنو علي.
وعلي بْن الْحُسَيْن وعبد اللَّه وأبا بكر والقاسم بنو حسين [3] . وعون ومحمد ابنا عَبْد الله بن جعفر.
__________
[1] انظر إلى اللئيم كيف يحضر هذا المحضر ثم يرى ما يفعل عدو الله برأس ريحانة رسول الله ثم لا ينكر عليه بما يمكن لكل عاجز أن يستنكر؟! أهذا جزاء النبي على من شرف به وبكونه بوابا له؟ يا ويله أما تمكن من الضجة والولولة؟ أما تمكن من القيام والخروج عن المجلس؟ أما تمكن من تسكاب الدموع والتأوه؟ أكان أعجز وأقل من امرأة؟!!
[2] وهذا تقدم أيضا تحت الرقم: (59) ص 212 بسند آخر.
[3] كذا في الأصل، ولعل الصواب: بنو حسن وحسين.(3/223)
وعون وعبد الرحمان وعبد الله بنو عقيل، وعبد اللَّه بْن مسلم بْن عقيل ومحمد بن أبي سعيد ابن عقيل.
83- حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عَبَّادُ بْن العوام، عَن حصين:
أن أَهْل الْكُوفَةِ كتبوا إِلَى الْحُسَيْن: إنا معك ومعنا مائة ألف سيف.
فبعث (الحسين) إليهم مسلم بن عقيل فنزل بالكوفة (في) دار هانئ بْن عروة، فبعث إِلَيْهِ ابْن زياد فأتي به فضربه بقضيب كان معه ثم أمر به فكتف وضربت عنقه، فبلغ/ 500/ أو 250 ب/ ذلك مسلم بن عقيل فخرج في أناس كثير- قَالَ حصين: فحدثني [1] هلال بْن إساف قال: (ثم إنهم) لقد تفرقوا عنه فلما قلت الأصوات فقيل (كذا) لابن زياد: مَا نرى مَعَهُ كبير أحد. فأمر فرفعت جرادي فِيهَا النار [2] حَتَّى نظروا فَإِذَا ليس مَعَ مسلم إِلا قدر خمسين فَقَالَ ابْن زياد للناس: تميزوا أرباعا فانطلق كُلّ قوم إِلَى رأس ربعهم فنهض إِلَيْهِمْ قوم قاتلوا مَعَ مسلم فجرح مسلم جراحة وقتل ناس من أصحابه، ولجأ (مسلم) إِلَى دار من دور كندة، فجاء رجل إِلَى مُحَمَّد بْن الأشعث وَهُوَ جالس عند ابن زياد فأخبره بذلك، فقال (ابن الأشعث) لابن زياد: إنه قَالَ لي: أن مسلما فِي دار فلان. فَقَالَ: ائتوني بِهِ. فدخل (ابن الأشعث) عَلَيْهِ وَهُوَ عند امرأة قد أوقدت نارًا فهي تغسل عَنْهُ الدم، فَقَالُوا لَهُ: انطلق إِلَى الأمير.
فَقَالَ عفوا. قَالُوا: مَا نملك ذَلِكَ. فانطلق معهم فلما رآه أمر بِهِ فكتف وَقَالَ:
أجئت يَا ابْن حلية لتنزع سلطاني؟ وأمر بِهِ فضربت عنقه. قَالَ: وحلية أم مسلم بْن عقيل وهي أم ولد.
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «يحدثني»
[2] كذا في النسخة، ولعل الصواب: الجرائد: جمع الجريدة: قضبان النخل. أو الصواب:
الحرادي- بفتح الحاء المهملة على زنة الجواري وهي جمع الحردي بضم الحاء-: أطيان القصب وهو نبطي معرب.(3/224)
ثم أمر (ابن زياد) بأخذ مَا بين واقصة إِلَى طريق الشَّام إِلَى طريق الْبَصْرَة.
وأقبل الْحُسَيْن وَهُوَ لا يشعر بِشَيْءٍ حَتَّى لقي الأعراب فسألهم فَقَالُوا:
والله مَا ندري غير أنا لا نقدر عَلَى أن نخرج أَوْ نلج. فانطلق يسير نحو الشام إلى يزيد، فلقيته جنود بكربلاء فناشدهم اللَّه.
وَكَانَ بعث إِلَيْهِ عمر بْن سَعْدٍ، وشمر بْن ذي الجوشن وحصين بن تميم، فناشدهم اللَّه أن يسيروه إِلَى يزيد فيضع يده فِي يده [1] فَقَالُوا: لا إِلا عَلَى حكم ابْن زياد! وَكَانَ فيمن بعث إِلَيْهِ الحر بْن يزيد الحنظلي فَقَالَ لهم: يَا قوم لو سألتكم هَذَا الترك والديلم مَا حل لكم أن تمتنعوا منه!!! فأبوا إِلا أن يحملوه عَلَى حكم ابْن زياد، فركب (الحر) وصار مَعَ الْحُسَيْن، ثُمَّ كر عَلَى أصحاب ابْن زياد فقاتلهم فقتل منهم رجلين ثُمَّ قتل.
وذكر (وا) أن زهير بْن القين العجلي [2] لقي الْحُسَيْن وكان حاجا فأقبل معه.
84- قالوا: و (أ) خرج إليه ابن زياد، ابن أبي حريرة المرادي وعمرو بْن الحجاج ومعنا السلمي.
قَالَ حصين: فحدثني سعد بْن عبيدة، قَالَ: إن أشياخنا من أَهْل الْكُوفَةِ لوقوف عَلَى تل (ظ) يبكون ويقولون: اللَّهُمَّ أنزل عَلَيْهِ نصرك. فقلت:
يا أعداء الله ألا تنزلون فتنصرونه؟!!
__________
[1] هذا من مختلقات رواة آل أمية، وقد ذكرنا قبل عن عقبة بن سمعان غلام رباب زوج الإمام الحسين عليه السلام انه قال: صاحبت الحسين من المدينة إلى ان استشهد في كربلاء ولم أفارقه في حال من الحالات، ولم أسمع منه أن يطلب من القوم أن يسيروه إلى يزيد حتى يضع يده في يده.
[2] كذا في الأصل.
أنساب الأشراف (م 15)(3/225)
قَالَ: وأقبل الْحُسَيْن يكلم من بعث إِلَيْهِ ابْن زياد، وإني لأنظر إِلَيْهِ وعليه جبة برد، فلما أبوا مَا قَالَ لهم انصرف إلى مصافه وإنهم لمأة رجل أَوْ قريب من مائة، فِيهِمْ من صلب علي خمسة، وستة عشر من الهاشميين، وفيهم رجل من سليم حليفا لهم ورجل من كنانة حليفا لهم.
قَالَ حصين: وأخبرني سعد بْن عبيدة، قَالَ: إنا لمستنقعون فِي الماء مَعَ عمر بن سعد إذ أتاه رجل فساره فَقَالَ: بعث إِلَيْك ابْن زياد ابن حويزة ابن بدر التَّمِيمِيّ وأمره إن أنت لم تقاتل أن يضرب عنقك. قَالَ: فخرج فوثب عَلَى فرسه ثم دعا بسلاحه فصار إليهم فقاتلهم فقتلهم فجيء برأس الْحُسَيْن إِلَى ابْن زياد، فوضع بين يديه وجعل ينكته بقضيب لَهُ [1] ويقول:
أرى أبا عَبْد اللَّهِ قد كَانَ شمط.
وأمر ببناته ونسائه فكان أحسن مَا صنع بهن أن أمر لهن بمنزل في مكان معتزل فأجرى عليهن رزقا وأمر لهن بكسوة ونفقة.
ولجأ ابنان لعبد اللَّه بْن جعفر إِلَى رجل من طيّئ فضرب أعناقهما وأتى ابْن زياد برءوسهما!!! فهم (ابن زياد) بضرب عنقه وأمر بداره فهدمت.
قَالَ حصين: فلما قتل الحسين لبثوا شهرين أو ثلاثة وكأنما متلطخ الحوائط بالدماء من صلاة الصبح إِلَى ارتفاع الشمس.
قَالَ حصين: فحدثني مولى ليزيد بْن مُعَاوِيَة قَالَ: لما وضع رأس
__________
[1] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «وجعل ينتكثه ... » . وقوله بعد ذلك: «شمط» أي خالط سواد شعره بياض. أو انتشر شعره، يقال: «شمط الرجل- من باب فرح- شمطا» .
خالط بياض رأسه سواد، فهو أشمط، والمؤنث. شمطاء. و «شمط الشجر- من باب ضرب- شمطا» انتشر ورقه.(3/226)
الْحُسَيْن بين يدي يزيد رأيته يبكي ويقول: ويلي على ابن مرجانة فعل/ 501/ أو 251/ أ/ اللَّه بِهِ كَذَا، أما والله لو كانت بينه وبينه رحم مَا فعل هَذَا.
85- حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَائِشَةَ، عَنْ مَهْدِيِّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ الضَّبِّيِّ:
عَنِ ابْنِ أَبِي نُعَيْمٍ قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ يُصِيبُ الْمُحْرِمَ؟ فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ أَنْتَ؟ قال: أنا (رجل) من أهل العراق.
فقال: وا عجبا مِنْ قَوْمٍ يَسْأَلُونَ عَنْ دَمِ الْبَعُوضِ وَقَدْ سفكوا دم ابن بنت نبيهم؟!! 86- وحدثني أبو خيثمة، حدثنا وهب بن جرير، عن أَبِيهِ [1] قَالَ:
بعث ابْن زياد عمر بْن سعد عَلَى جيش وبعث مَعَهُ شمر بْن ذي الجوشن وَقَالَ لَهُ: اذهب مَعَهُ فَإِن قتل الْحُسَيْن والا فاقتله وأنت عَلَى النَّاس. فلقوه فِي تسعة عشر من أَهْل بيته فقال (لهم الحسين) : يَا أَهْل الْكُوفَةِ كتبتم إلي فِي القدوم ثُمَّ صنعتم مَا أرى؟ فأنا أنزل عَلَى حكم يزيد؟ قَالُوا: انزل عَلَى حكم الأمير. قَالَ: مَا كنت لأنزل عَلَى حكم ابْن مرجانة. وقاتل (عليه السلام) ومن معه حتى قتلوا. فقال الشاعر:
فأي رزيّة عدلت حسينا ... غداة سطت بِهِ كفا سنان
87- وحدثنا عمر بن شبة، حدثنا الصلت بن مسعود الجحدري حدثنا عاصم بْن قرهد:
عَن أَبِي بكر الهذلي عَن الحسن أنه لما قتل الْحُسَيْن بكى حتى اختلج جنباه
__________
[1] هذا هو الظاهر الموافق لما يرويه المصنف في هذا الكتاب عن زهير بن حرب أبي خيثمة، وفي الأصل هاهنا هكذا: «حدثنا وهب بن جرير، عن أبيهم أبيه ... » . ويحتمل أيضا أن يكون لفظ: «أبيهم» مصحفا عن «حازم» ؟.(3/227)
ثُمَّ قَالَ: واذل أمة قتل ابْن دعيها ابن نبيّها [1] .
88- وحدثنا عن أبي عاصم النبيل، عن أبي جريج (كذا) عَنِ ابْنِ شهاب قَالَ:
مَا رفع حجر بالشام يوم قتل الْحُسَيْن إِلا عَن دم [2] .
89- حدثنا يوسف بن موسى، عن جرير، عن الأعمش: أن رجلا أحدث عَلَى قبر الْحُسَيْن فجذم وبرص وجنّ، فولده يتوارثون ذلك [3] .
__________
[1] ورواه أيضا السيد أبو طالب يحيى بن الحسين الحسني قال: حدثنا القاضي عبد الله بن محمد بن ابراهيم، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن يحيي الصولي قال: حدثنا محمد بن العوام، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سليمان بن سليمان الواسطي قال: حدثنا واضرة، قال: قال أبو بكر الهذلي (ظ) :
قيل للحسن- يعني البصري-: يا أبا سعيد قتل الحسين بن علي عليهما السلام- فبكى حتى اختلج جنباه وقال: وا ذلاه لأمة قتل ابن دعيها- يعني ابن زياد لعنه الله- ابن نبيها!!! هكذا رواه عنه في الحديث الأول من الباب (6) من تيسير المطالب ص 98 ط 1.
[2] ورواه أيضا الطبراني، وروى عنه في باب مناقب الحسين عليه السلام من مجمع الزوائد ج 9 ص 156، قال: ورجاله رجال الصحيح، وقريبا منه رواه عنه من طريق آخر، وقال: ورجاله ثقات.
والحديث التالي رواه أيضا الطبراني بمغايرة قليلة، ورواه عنه في باب مناقب الإمام الحسين من مجمع الزوائد: ج 9 ص 197، وقال: ورجاله رجال الصحيح.
[3] هذا تمام ترجمة الإمام الحسين عليه السلام من أنساب الأشراف- وقد شرعنا في تجديد كتابتها في الكويت في اواسط شهر شوال سنة 1394، وفرغنا منه في طهران في بيت الشيخ محمد جواد سدده الله تعالى في (8) من محرم الحرام سنة 1395- ويليها قوله: «أمر زيد بن علي بن الحسين ابن علي ... » .(3/228)
أمر زَيْد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طالب عليهم السلام
1- كَانَ زيد بْن علي لسنا خطيبا [1] دخل عَلَى هِشَام بْنِ عَبْدِ الملك فَقَالَ: إنه ليس أحد بدون أن يوصي بتقوى اللَّه، وَلا أحد فوق أن يوصى بها [2] .
__________
[1] وكان رضوان الله عليه سيدا فقيها وعدلا رضيا، وعند رسول الله وأهل بيته حبيبا، وقد ورد في شأنه وعظمته أخبار كثيرة، روى ابن عساكر في ترجمة زيد من تاريخ دمشق: ج 6/ الورق 323 ب/ من النسخة الظاهرية، وفي نسخة: ج 19/ 139- وذكره أيضا في تهذيبه:
ج 6 ص 18- قال: أخبرنا أبو القاسم زاهر بن طاهر، أنبأنا أبو سعد محمد بن عبد الرحمان أنبأنا أبو الحسن محمد بن علي بن الحسين بن الحسن بن القاسم- قدم علينا- أنبأنا علي بن محمد ابن عامر النهاوندي- وأنا سألته- أنبأنا أحمد بن حيان الرقي، عن طارق بن شهاب:
عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر يوما إلى زيد بن حارثة وبكى وقال:
المظلوم من أهل بيتي سمي هذا، والمقتول في الله والمصلوب من أمتي سمي هذا- وأشار إلى زيد بن حارثة- ثم قال: ادن مني يا زيد زادك الله حبا عندي فإنك سمي الحبيب من ولدي زيد.
وقال أيضا: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن عبد الله بن أحمد، أنبأنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا محمد بن الحسين القطان، أنبأنا جعفر الخلدي أنبأنا قاسم بن محمد الدلال، أنبأنا إبراهيم ابن الحسن التغلبي أنبأنا شعيب بن راشد، عن محمد بن سالم:
عن (الإمام) جعفر (بن محمد) أنه ذكر زيدا فقال: رحم الله عمي كان والله سيدا، لا والله ما ترك فينا لدنيا ولا لآخرة مثله.
وقال أيضا: أخبرنا أبو الغنائم محمد بن علي بن ميمون في كتابه، أنبأنا أبو علي محمد بن أحمد ابن عبد الله بن برة، أنبأنا أبو الطيب محمد بن الحسين بن جعفر بن النحاس التيملي، أنبأنا أبو جعفر محمد بن الحسين بن حفص بن عمر الخثعمي الأشناني، أنبأنا أبو سعيد عباد بن يعقوب الأسدي:
أنبأنا عمرو بن القاسم قال: دخلت على جعفر بن محمد، وعنده أناس من الرافضة، فقلت:
إن هؤلاء يبرءون من عمك زيد!!! قال: يبرءون من عمي زيد؟! قلت: نعم. قال: برء الله ممن يبرأ منه، كان والله أقرؤنا لكتاب الله وأفقهنا في دين الله وأوصلنا للرحم، والله ما تراء فينا لدنيا (ولا) لآخرة مثله.
ومن أراد المزيد فعليه بترجمة الإمام الباقر، والإمام الصادق عليهما السلام من بحار الأنوار.
[2] وهذا ذكره مسندا ومفصلا في الباب (7) من تيسير المطالب ص 105، ط 1.(3/229)
وأقام قبله في خصومة (كذا) فلما شخص عَن بابه كتب إِلَى عامله عَلَى الْمَدِينَةِ: «أما بعد فَإِن زيد بْن علي قدم علي فرأيته رجلا حولا قلبا خليقا لصوغ الكلام وتمويهه» وأمره بتفقده والإشراف عَلَيْهِ وحذره إياه.
2- وَحَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْن عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ عَن أَبِيهِ قَالَ: نازع مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طالب، عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن فِي صدقات عَلِيّ بْن أَبِي طالب، فوكل مُحَمَّد أخاه زيد بْن علي بالخصومة، فكان مُحَمَّد وعبد اللَّه يتنازعان عند عامل الْمَدِينَة إِبْرَاهِيم بْن هِشَام، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ لزيد- وكانت أمه سندية-: يَا ابْن السندية الساحرة أتطمع فِي الخلافة؟ فانصرف زيد فدخل عَلَى عمته فاطمة بنت الْحُسَيْن بْن علي- وهي أم عَبْد الله ابن حسن وأخويه إِبْرَاهِيم، وحسن بْن حسن بْن حسن- فشكى فبكى إِلَيْهَا فقالت: إن سب أمك فسبني. فعاد للخصومة، فعاد لَهُ عَبْد اللَّهِ فشتم أمه فَقَالَ لَهُ زيد: أو تذكر عَبْد اللَّهِ بْن الضحاك بْن قَيْس حين كانت أمك تبعث إِلَيْهِ بالعلك الأحمر، والأخضر والأصفر، فتجيئه فتقول لَهُ: فمك.
فَإِذَا فتح فاه طرحته فِيهِ. فأخبرها بنوها عَبْد اللَّهِ وحسن، وإبراهيم، بنو حسن بْن حسن بْن علي بقول زيد، فغضبت وقالت: كنتم أحداثا فكنت أداريه وأمنّيه (أن) أتزوجه لأنه كَانَ يتوعدني إن لم أفعل!!! حَتَّى كتبت إِلَى يزيد بْنِ عَبْدِ الملك فعزله.
قال: وشخص ولد/ 502/ أو 251 ب/ الحسن بْن علي والحسين إِلَى هِشَام بسبب هَذِهِ المنازعة، فاجتمع زيد بْن علي وحسن بْن حسن عنده، فأعان عمر بْن علي زيدًا عَلَى حسن، فَقَالَ هِشَام لعمر: كيف لا تطلب القيام بهذه الصدقة لنفسك؟
فَقَالَ حسن: يمنعه من ذَلِكَ خولة والرباب جرتاه اللتان كَانَ ينتبذ فيهما فصب أبان بْن عُثْمَان مَا فيهما عَلَى رأسه وَهُوَ والي المدينة.(3/230)
3- وروى بعضهم أن زيدًا رأى فِي منامه أنه أضرم بالعراق نارًا ثُمَّ أطفأها، فقصها على يحي ابنه وقد راعته، وورد عَلَيْهِ كتاب هِشَام فِي القدوم عَلَيْهِ، فلما أتاه قَالَ لَهُ: الحق بأميرك يُوسُف بْن عمر، فقدم عَلَيْهِ وحذره إياه.
4- المدائني عَن ابْن جُعْدُبَةَ، قَالَ: كَانَ جعفر بْن حسن بْن الحسن بْن علي من رجال بني هاشم، فاختصم ولد الحسن والحسين فِي وصية علي فَقَالَ كُلّ قوم: هي فينا، فكان زيد يخاصم لولد الْحُسَيْن، وَكَانَ جعفر يخاصم لولد الحسن.
5- المدائني عَن جويرية بْن أسماء قَالَ: تنازع ولد الحسن والحسين في أموال علي فكان القائم بأمر ولد الحسين زيد، و (كان) الذي يقوم بأمر ولد الحسن جعفر بْن الحسن بْن الحسن بْن علي، فكانا يختصمان، ثُمَّ مات جعفر بْن الحسن بْن الحسن فقام مقامه عَبْد اللَّهِ بْن الْحَسَن بْن الْحَسَن، ثُمَّ جرى بين زيد وخالد (كذا) كلام بالْكُوفَة، فخرج هُوَ وعبد اللَّه بْن الحسن وعمر بْن عَلِيّ بْن أَبِي طالب، وَمُحَمَّد بْن عمر إِلَى هِشَام، فلما عذب يوسف ابن عمر طارقًا غلام خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري ادعى أن لَهُ عند زيد بْن علي وعمر، ومحمد بْن عمر، وداودَ بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس مالا- وَكَانَ دَاوُد مَعَ خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ في أصحابه- و (أن له) عند أيوب بْن سلمة المخزومي ودائع وأموالا. فكتب يُوسُف بِذَلِكَ إِلَى هِشَام، فحملهم هِشَام إِلَيْهِ، ولم يحمل المخزومي لأن مخزومًا أخواله، وَكَانَ عمر مسنا فأمر بالرفق بِهِ، وكتب هِشَام إِلَى يُوسُف: إن ثبت عليهم حق فخذهم بِهِ وإلا فلا تطالبهم بِشَيْءٍ، وسرح هِشَام معهم رجلا، فلما جمع بينهم وبين طارق، قَالَ: إنما التمست أن يكف عني العذاب إلى أن يذهب الرسول ويحملوا (كذا) وما(3/231)
لخالد قبلهم شَيْء!!! وَقَالَ عمر بْن علي: كيف يودعنا من كَانَ يلعننا!!! فخلى سبيلهم.
فخرج مُحَمَّد بْن عمر، وداود بْن علي إِلَى الْمَدِينَة، وخرج زيد معهما، فاتبعه قوم من أَهْل الْكُوفَةِ فدعوه إِلَى أن يبايعوه، فرجع وأقام بالْكُوفَة، فبلغ يُوسُف أمره فَقَالَ: لا أصدق بِهِ، لقد كلمت زيدًا فرأيت ثُمَّ نبلا وعقلا، ولم يكن ليفسد نفسه.
وبلغ هشاما مكان زيد بالْكُوفَة وأنه يدعو الناس (إلى نفسه) فكتب إِلَى يُوسُف أن أحبس النَّاس فِي المسجد وأحلفهم رجلا رجلا عَلَى خبره وأمره حَتَّى تتيقنه. فلما اجتمعوا سد الأبواب إِلا باب الفيل وحده، وأحلف النَّاس وبحثهم عَن أمر زيد، ثُمَّ إن زيدًا قتل فبعث يُوسُف برأسه إِلَى هِشَام فنصبه هِشَام بدمشق، فَقَالَ بعض الشعراء:
صلبنا لكم زيدًا عَلَى جذع نخلة ... وما كَانَ مهدي عَلَى الجذع يصلب
فلما ظهر عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن عَبْد اللَّهِ بن عباس رضي الله تعالى عنهما عَلَى الشَّام، أخذ ذَلِكَ الشاعر فجعل يضرب رأسه بعمود بيده حَتَّى نثر دماغه وأمر (به) فأحرق بالنار.
قَالَ: وَقَالَ الكميت بْن زيد الأسدي:
دعاني ابن الرسول فلم أجبه ... (أ) لا يا لهف للقلب الفروق
حذار منية لا بد مِنْهَا ... وهل دون المنية من طريق
وَقَالَ أَيْضًا:
دعاني ابْن الرسول فلم أجبه ... فلهفي اليوم للرأي الغبين
عَلَى/ 503/ أن لا أكن [1] عاضدت زيدًا ... حفاظًا لابن آمنة الأمين
__________
[1] وفي النسخة هكذا: «فوا ندمي على أن لا أكن عاضدت زيدا» .(3/232)
6- وقال الشاعر حين أشخص زيد وداود [1] :
يأمن الظبي والحمام وَلا ... يأمن أَهْل النَّبِيّ عند المقام
طبت بيتا وطاب أهلك أهلا ... أَهْل بيت النَّبِيّ والإسلام
7- حَدَّثَنِي عَبَّاس بن هشام، عن أبيه عن أبي مخنف. وقرأ عَلَى المدائني عَن أشياخ ذكرهم، وأخبرني عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح رحمه اللَّه عَن عبثر بْن القاسم بْن زبيد، وَابْن كناسة قَالُوا: كَانَ زيد بْن علي رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، مَعَ خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري في أصحابه بالكوفة، وخالد والي الْعِرَاق، وَكَانَ دَاوُد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العَبَّاس رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهم مَعَ خالد أيضًا، فلما ولي يوسف بن عمر الثقفي العراق كان بلغه مكان خالد (كذا، و) بلغه أن خالدًا أودع زيد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عنهم، وداودَ بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العَبَّاس مالًا، فحلفا عَلَى ذَلِكَ فقبل يمينهما، وانصرفا إِلَى مَكَّة، فلقيهما نصر بْن خزيمة العبسي فدعاهما إِلَى الخروج، فأجابه زيد بْن علي رضي الله تعالى عنهم، فَقَالَ دَاوُد لزيد: يَا ابْن عم لا تفعل فإنهم يغرونك ويسلمونك.
(و) قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح فِي حديثه- عَن ابْن كناسة-: وأنشد دَاوُد:
أنا ابْن نجدتهم علما وتجربة ... فاسأل بسعد تجدني أعلم النَّاس
قَالُوا: فَقَالَ زيد: يَا ابْن عم كم نصبر لهشام؟ قال داود: نصبر يا (أ) با الحسين حَتَّى نجد الفرصة. فَقَالَ: يَا ابْن عم من أحب الحياة ذل.
__________
[1] كذا ذكر المصنف هاهنا، وذكره ابن المغازلي في الحديث: (436) من مناقبه ص 385 ط 1، على وجه آخر.(3/233)
ومضى دَاوُد لوجهه ثُمَّ رجع إِلَى الْكُوفَةِ وقد صلب زيد، فأراد إنزاله فأدركته خيل يُوسُف فتركه.
فَقَالَ لَهُ سلمة بْن كهيل [1] إن أباك كَانَ خيرًا منك وقد كَانَ بايعه أكثر ممن بايعك، وكان أولئك خيرا من هؤلاء فامض لوجهك. (فأبى زيد إلّا الخروج، فتركه سلمة وأتى اليمامة) فلما أتى إِلَى اليمامة، كتب هِشَام إِلَى يُوسُف: إن سلمة كَانَ خيرًا لك بالمصر، من عشرة آلاف دارع، وقد كَانَ ينبغي لك أن تحول بينه وبين الشخوص عَن الْكُوفَة [2] .
8- وقد قيل: إنه بايعه هُوَ وحجية بْن الأجلح الكندي. وقيل حجية معه [3] .
9- (وحدثني) عَمْرو بْن مُحَمَّد، عَن ابْن إدريس عَن ليث قال: جاء منصور (بن المعتمر) إلى زبيد اليامي وهو يبكي [4] ويقول: (انصروا) ابن بنت نبيكم. فقال له زبيد [5] : مَا كنت لأخرج إِلا مَعَ نبي وما أنا بواجده!! فأمسك [6] .
__________
[1] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «كميل» . والكلام عطف على ما دار بين زيد وبين داود، وما بعده معترضة، وما زدناه بين المعقوفين بعد أربع جمل بعد ذلك، زيادة منا لتصحيح الكلام.
وقال السيد أبو طالب: أخبرنا أبو الحسين ابن علي بن إسماعيل الفقيه، قال: أخبرنا الناصر للحق الحسن بن علي رضوان الله عليه، قال: حدثنا بشر بن هارون، قال: حدثنا جرير بن هارون بن عيسى، قال: حدثني جدي عن مغيرة الضبي قال:
كان سلمة بن كهيل أشد الناس على زيد بن علي عليهما السلام، ينهاه عن الخروج، وينهى الناس عن الخروج معه!!! فلما قتل رأيته عند خشبته يبكي وقد انحنى ويقول: لو نصرته لو قاتلت (ظ) معه لو ذببت عنه؟!! هكذا رواه عنه في الباب: (7) من تيسير المطالب ص 107.
[2] هذا هو الظاهر من سياق الكلام، وفي الأصل: وقد كان ينبغي لك أن لا تحل بينه وبين الشخوص عن الكوفة.
[3] كذا في الأصل، ولعل الصواب: «وقتل حجية معه» . أو «وقيل: إن حجية كان معه» .
[4] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «زياد اليامي» .
[5] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «فقلد زبيد» .
[6] أي فأمسك عنه ولم يلح عليه، وهذه الجملة كأنها في الأصل قد ضرب عليها الخط، ولكن لا وجه له.(3/234)
10- قال المدائني عَن أَبِي مخنف وغيره: ادعى يزيد بْن خالد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري- وقد جلده يُوسُف بْن عمر، وحلقه- مالا قبل زيد بْن عَلِي ومحمد بْن عُمَر بْن عَلِيّ بْن أَبِي طالب وداود بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ، وسعد بْن إِبْرَاهِيمَ بْنِ عبد الرحمان بْن عوف الزُّهْرِيّ وأيوب بْن سلمة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن سلمة بْن الوليد المخزومي (وانه) دفعه أبوه إليهم، وكتب يُوسُف بْن عمر فِيهِمْ إِلَى هِشَام بْنِ عَبْدِ الملك، وزيد بْن علي ومحمد بْن عمر يومئذ برصافة هِشَام، يخاصمان عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن بْن علي في صدقة علي ووصيته، فلما ورد كتاب يُوسُف عَلَى هِشَام بعث إليهما فذكر لهما ما كتب به إليه يُوسُف فأنكرا، فأشخص زيدًا ومحمدًا إِلَى يُوسُف وأمره أن ينظر فيما ادعاه ابْن خالد عَلَيْهِمَا وعلى أصحابهما، فَإِن أقام البينة أشخصهم إِلَيْهِ، وإلا أخرجهم بعد العصر إِلَى المسجد وأحلفهم عَلَى صدقهم فَإِن حلفوا/ 504/ أو 252 ب/ خلي سبيلهم.
فقدم زيد بْن علي الحيرة، فنزل بِهَا عَلَى رجل يقال لَهُ: عَبْد المسيح، فولد لَهُ غلام فسماه عيسى، وناظر يُوسُف زيدًا ومحمد، بْن عمر وأصحابهما فَقَالَ ابْن خالد: مالي قبلهم شَيْء. فَقَالَ يُوسُف: أَبِي كنت تهزأ أم بأمير الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: لا ولكن استرحت إِلَى قولي وقلت تمسك عَن عذابي إِلَى أن يكتب بحمل من حمل. فعذبه حَتَّى ظن أن قد قتله، ثمّ أخرج زيدا وأصحابه إِلَى المسجد بعد العصر، فحلفوا أنه ليس لخالد وَلا ليزيد عندهم شَيْء وغلظ عليهم الأيمان، وكتب بِذَلِكَ إِلَى هِشَام، فأمره بتخلية سبيلهم وإشخاصهم إلى المدينة.
11- وقد روي أن داود (ظ) وزيدا ومحمد بْن عمر، كانوا فِي عسكر هشام، وأن يوسف بن عمر حمل إِلَيْهِ باقيهم فأحلفهم فحلفوا فخلى سبيلهم.(3/235)
12- قَالُوا: ولقي زيد بْن علي الأبرش الْكَلْبِيّ وَهُوَ خارج من عند هِشَام، فَقَالَ: إنه والله مَا ترك قوم الجهاد إِلا ذلوا، فسمعها خادم لهشام ويقال: سمعها الأبرش فأبلغها الأبرش هشاما فاحتملها عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ: يَا زيد أخرج إِلَى حيث شئت وَلا تدخل الْكُوفَة.
13- قَالُوا: ولحق زيدًا بعد شخوصه من الكوفة قوم من الشيعة، فقالوا له: (ارجع معنا إلى الكوفة وادع إلى الحق ف) إنا نرجو أن يكون (الداعي إلى الحق هو) المنصور [1] وأن يكون هَذَا الزمان زمان هلاك بني أمية. فَقَالَ لَهُ دَاوُد- حين أراد المضي إِلَى الْكُوفَةِ وقد أطلع عَلَى أمره-: يَا أبا الْحُسَيْن إن أَهْل الْكُوفَةِ أصحاب علي وأصحاب الحسين فاحذرهم!!! فلم يقبل (منه زيد) ورجع إِلَى الْكُوفَةِ مستترًا، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد بْن عمر بْن علي: قد صدقك ابْن عمك فلا تخرج. فلما أبى مضى إِلَى المدينة وتركه [2] .
__________
[1] ما بين المعقوفات زيادة منا لتصحيح الكلام أو توضيحه.
[2] وقال السيد أبو طالب: أخبرنا أحمد بن محمد الآبنوسي قال: حدثنا أبو القاسم عبد العزيز بن إسحاق، قال: حدثني محمد بن الحسين، قال: حدثنا حسين بن حسن الأنصاري قال:
حدثنا عيسى بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عمر بن علي عن أبيه (عن جده) قال:
كنت مع زيد بن علي عليهما السلام حين بعث بنا هشام إلى يوسف بن عمر، فلما خرجنا من عنده و (سرنا حتى) كنا بالقادسية، قال زيد بن علي: اعزلوا متاعي عن متاعكم. فقال له ابنه (ظ) : ما تريد أن تصنع؟ قال: أريد أن أرجع إلى الكوفة، فو الله لو علمت أن رضى الله عز وجل عني في أن أقدح نارا بيدي (حتى) إذا اضطربت رميت نفسي فيها لفعلت!!! ولكن ما أعلم شيئا أرضى لله عز وجل عني من جهاد بني أمية.
وقال أيضا: أخبرنا أحمد بن محمد البغدادي قال: أخبرنا عبد العزيز بن إسحاق الكوفي قال: حدثني محمد بن عيسى قال: حدثني محمد بن بكر المكي قال: حدثنا عمر بن شمر، عن جابر الجعفي قال:
قال لي محمد بن علي عليهما السلام: إن أخي زيد بن علي خارج (ظ) ومقتول وهو على الحق، فالويل لمن خذله والويل لمن حاربه والويل لمن يقتله. قال جابر فلما أزمع زيد بن علي عليهما السلام الخروج قلت له إني سمعت أخوك يقول: كذا وكذا. فقال لي: يا جابر لم يسعني أن أسكت وقد خولف كتاب الله تعالى وتحوكم بالجبت والطاغوت!!! وذلك إني شاهدت هشاما ورجل عنده يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!!! فقلت للساب له: ويلك يا كافر أما إني لو تمكنت منك لاختطفت روحك وعجلتك إلى النار!!! فقال لي هشام: مه جليسنا يا زيد!!! فو الله لو لم يكن إلا أنا ويحي ابني لخرجت عليه وجاهدته حتى أفنى!!! وقال أيضا: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد البغدادي قال: حدثنا أبو القاسم عبد العزيز بن إسحاق قال: حدثنا هارون بن سعيد، قال: حدثنا هشام بن محمد، قال: حدثني أبو مخنف قال:
قيل لجعفر بن محمد عليهما السلام: ما الذي تقول في زيد بن علي وخروجه على هشام؟ قال (فقال) جعفر عليه السلام: قام زيد بن علي مقام صاحب الطف يعني الحسين بن علي عليهما السلام.
أقول: جميع ما نقلناه هاهنا عن السيد أبي طالب، رواه عنه في الباب (7) من تيسير المطالب ص 108، و 109.(3/236)
14- قَالُوا: ولما قدم زيد الْكُوفَة أقبلت الشيعة تختلف إِلَيْهِ، وأتته المحكمة أيضًا فبايعوه جميعا حَتَّى أحصى فِي ديوانه خمسة عشر ألفا، ويقال: اثنا عشر ألفا من أَهْل الْكُوفَةِ خاصة سوى أَهْل المدائن والبصرة وواسط، والموصل، وخراسان، والري وجرجان، والجزيرة، فأقام بالْكُوفَة بضعة عشر شهرًا، وأتى الْبَصْرَة وأقام بِهَا شهرين، وقد كَانَ وجه دعاته إِلَى الآفاق فأجابه ناس من أهل كل ناحية، وقد كان نزل بالْكُوفَة فِي منزل مولى لَهُ يقال لَهُ: حميد بْن دينار، فِي أحمس، وفي منزل نصر بن خزيمة العبسي فبلغ يوسف أنّه بالكوفة في (بني) عبس، فتحوّل إلى بارق فنزل فيها فِي منزل نصر بْنِ عَبْدِ الرحيم البارقي ثُمَّ تحول إِلَى بني يربوع، ثُمَّ إِلَى بكر بْن وائل.
وكتب إِلَى هلال بْن خباب (قاضي المدائن) فأجابه، وَكَانَ إذا بويع قَالَ: أدعوكم إِلَى كِتَاب اللَّهِ وسنة نبيه، وجهاد الظالمين، والدفع عن المستضعفين(3/237)
وإعطاء المحرومين، وقسم هَذَا الفيء عَلَى أهله، وردّ المظالم وإفضال المحمرة [1] ونصرنا أَهْل البيت عَلَى من نصب لنا الحرب، أتبايعون عَلَى هَذَا؟ فيبايعونه ويضع يده عَلَى يد الرَّجُل ثُمَّ يقول: عليك عهد الله وميثاقه لتنبئن ظننا [2] ولتنصحنا فِي السر والعلانية والرخاء والشدة، والعسرة والميسرة. فيبايع على ذلك [3] .
15- وقرأت في كتب سالم كاتب هِشَام كتابا نسخته:
أما بعد فقد عرفت حال أَهْل الْكُوفَةِ فِي حبهم أهل البيت ووضعهم إياهم في غير مواضعهم، لافتراضهم عَلَى أنفسهم طاعتهم ونحلتهم إياهم عظيم مَا هو كائن مما استأثر الله بعلمه دونهم حتى حملوه (كذا) على تفريق الجماعة والخروج عَلَى الأئمة، وقد قدم زيد بْن علي عَلَى أمير الْمُؤْمِنِينَ فِي خصومه فرأى رجلا جدلا لسنا/ 505/ أو 253/ أ/ حولا قلبا خليقا بصوغ الكلام وتمويهه، واجترار الرجال بحلاوة لسانه وكثرة مخارجه فِي حججه، وما يدلي بِهِ عند الخصام من العلو عَلَى الخصم بالقوة المؤدية إِلَى الفلج، فعجل إشخاصه إلى الحجاز، ولا تدعه المقام (ظ) قبلك من لين لفظه وحلاوة منطقه، مَعَ مَا يدلي بِهِ من القرابة برسول اللَّه وجدهم سبيلا إليه (كذا) غير متفرقين.
16- وكتب زيد إِلَى أهل الآفاق كتبا يصف فِيهَا جور بني أمية وسوء سيرتهم ويحضهم عَلَى الجهاد، ويدعوهم إِلَيْهِ، وَقَالَ: لا تقولوا: خرجنا غضبا لكم ولكن قولوا: خرجنا غضبا لله ودينه.
__________
[1] كذا في النسخة، فإن صحت فالمراد منه إحقاق حقوق مسلمي العجم الذين كانوا بالكوفة والعراق فإنهم كانوا محرومين عن كثير من الحقوق العامة الإسلامية.
[2] رسم الخط في قوله: «لتنبئن» غير واضح. واللفظ التالي كان في الأصل هكذا: «ظنا» .
[3] هذا هو الظاهر من السياق، وفي النسخة هكذا: «فيما سح على ذلك» .(3/238)
فبعث زيد بْن علي، عطاء بْن مسلم- وَهُوَ ابْن أخت سالم بْن أَبِي الجعد- إِلَى زبيد بن الْيَامِيّ يدعوه إِلَى الجهاد مَعَهُ، فَقَالَ: أخبره أن نصرته حق وحط ولكني أخاف أن يخذل كما خذل جده الحسين!!! وبعث إلى أبي حنيفة فكاد (أن) يغشى عَلَيْهِ فرقا!!! وَقَالَ: من أتاه من الفقهاء؟ فقيل لَهُ: سلمة بْن كهيل ويزيد بن أبي زياد، وهاشم البريد [1] وأبو هاشم الرماني وغيرهم. فَقَالَ: لست أقوى عَلَى الخروج؟! وبعث إِلَيْهِ بمال قواه بِهِ.
وقد كَانَ سلمة بْن كهيل- فيما يقال- أشد النَّاس نهيا لزيد عَن الخروج ويقال: إنه بايعه.
وبعث زيد إِلَى سُلَيْمَان الأعمش فَقَالَ: قولوا لَهُ: إني لا أثق لك بالقوم!! ولو وثقت لك بثلاث مائة رجل منهم لغيّرنا لك جوانبها!!! وكتب (زيد) إِلَى الزُّهْرِيّ مَعَ رَسُول لَهُ يدعوه إِلَى الجهاد معه فقال أما ما دام هِشَام حيا فلا، فَإِن أخرت الخروج إِلَى ولاية الوليد خرجت معك 17- وَحَدَّثَنَا يُوسُف بْن محمد، حدثنا حكام الرازي عَن عنبسة، قَالَ:
سمعت أبا حصين قَالَ لقيس بْن الربيع: يَا قَيْس، قَالَ: لبيك. قَالَ: لا لبيك وَلا سعديك، تبايع رجلا من ولد رَسُول اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) ثم تخذله؟! وكان (قيس بن الربيع) ممن بايع زيدًا.
18- قَالُوا وبلغ يُوسُف بْن عمر بيعة من بايع (زيدا) (من) أَهْل واسط، فحصنها وتوثق من أبوابها واشتد عليهم، وكذلك (صنع مع
__________
[1] الظاهر ان هذا هو الصواب، وفي النسخة ذكره بالنون: «البرند» . ثم ان أكثر ما ها هنا ذكره في ترجمة زيد من مقاتل الطالبيين ص 107.(3/239)
أهل) المدائن، وشحن واسطا بالخيول، وَكَانَ خليفته عَلَى الْكُوفَة الحكم بْن الصلت بْن مُحَمَّد بْن الحكم بْن أَبِي عقيل، فقدم يُوسُف الْكُوفَة فصار إِلَى الحيرة فنزل بِهَا.
ولما رأى أصحاب زيد المبايعون، أن يُوسُف بْن عمر، قد علم بأمر زيد وصح عنده خبره وأنه يبحث عَنْهُ ويفحص عَن خبره ويدس إِلَيْهِ، اجتمع إِلَى زيد جماعة منهم من الرؤساء فَقَالُوا: يرحمك اللَّه مَا قولك فِي أَبِي بكر وعمر؟ فَقَالَ: كنا أحق البرية بسلطان رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاستأثرا علينا، وقد وليا علينا وعلى النَّاس فلم يألوا عَن العمل بالكتاب والسنة. ففارقوه ورفضوا بيعته وَقَالُوا إن أبا جعفر مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن هُوَ الإمام، وجعفر بْن مُحَمَّد إمامنا بعد أَبِيهِ، وَهُوَ أحق بِهَا من زيد، وإن كَانَ زيد أخاه.
فسماهم زيد حين رفضوه وبيعته الرافضة [1] وَقَالَ لهم زيد: وجهوا إِلَى أَبِي جعفر رسولا، فَإِن أمركم بالخروج معي فاخرجوا. فاعتلوا عَلَيْهِ ثُمَّ قَالُوا:
لو أمرنا بالخروج معك مَا خرجنا، لأنا نعلم أن ذَلِكَ تقية منه واستحياء منك! فَقَالَ: كفوا أيديكم عني. وَكَانَ زيد يقول: رفضتني الرافضة كما رفضت الخوارج عَلِيًّا!!! ويقال إن طائفة منهم قَالُوا لمحمد بْن علي قبل خروج زيد: إن أخاك زيدًا فينا يبايع. فَقَالَ بايعوه فهو اليوم أفضلنا. فلما قدموا الكوفة (ظ) كتموا زيدا ما سمعوه/ 506/ أو 253/ ب/ من أَبِي جعفر مُحَمَّد بْن علي أخيه.
19- قَالُوا: وكتب عَبْد اللَّهِ بْن حسن إِلَى زيد: يَا ابْن عم إن أَهْل الْكُوفَةِ قوم نفج العلانية خور السريرة [2] هرج (عند) الرخاء، جزع
__________
[1] كذا في الأصل.
[2] نفج العلانية- بالتحريك-: ثائر العلانية قوي الظاهر. وخور- كضرر وبشر-:
الضعيف. والهرج- بالراء المهملة محركة-: المولع بالفتنة والاختلاط. وبالزاء المعجمة: مغن مطرب.(3/240)
عند اللقاء، تقدمهم ألسنتهم ولا يشايعهم قلوبهم، لا يثبتون [1] بفناء فيرجون وَلا يثبتون عَلَى عداوة فيخافون!!! ولقد تواترت إلي كتبهم فصممت عَن ندائهم وألبست قلبي غطاء عَن ذكرهم يأسا منهم وإطراحا لهم، وإنما هم كما قَالَ علي رحمه اللَّه تَعَالَى: «إن أهملتم خضتم [2] وإن حوربتم خرتم، وإن اجتمع النَّاس عَلَى إمام طعنتم، وإن دعيتم إِلَى مشاقة أجبتم» !!! 20- وَقَالَ عَلِيّ بْن هاشم: إني سمعت زيدًا يقول: البراءة من أَبِي بكر وعمر، البراءة من علي [3] .
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي النسخة هكذا «لا يبون بفناء» .
[2] كذا في الأصل، وهذه قطعة من خطبة لأمير المؤمنين عليه السلام في ذم أهل الكوفة، وقد ذكرها السيد الرضي رضوان الله عليه في المختار: (179) من نهج البلاغة وإليك لفظه:
أحمد الله على ما قضي من أمر وقدر من فعل، وعلى ابتلائي بكم أيتها الفرقة التي إذا أمرت لم تطع، وإذا دعوت لم تجب!!! إن أمهلتم خضتم وإن حوربتم خرتم وإن اجتمع النَّاس على إمام طعنتم!!! وإن أجئتم إلى مشاقة نكصتم (كذا) لا أبا لغيركم ما تنتظرون بنصركم؟ ...
[3] الحديث غير جامع لشرائط الحجية والقبول، إذ المصنف لم يذكر رواته حتى ينظر في شأنهم وعلى فرض صحته وصدوره نقول: كل من دقق النظر في موقف زيد- رضوان الله تعالى عليه- لا يعتريه ريب ولا يختلجه شك في أن زيدا رحمه الله نطق بهذا الكلام فإنما قاله تقية وحذرا من تفرق من اجتمع عليه، لأن بعض القائلين بإمامة أبي جعفر وابنه جعفر بن محمد عليهما السلام قد خذلوه ورفضوه ولم يبق معه الاجماعة قليلة من مستضعفي الشيعة، وإلا المحكمة والخوارج الذين كلهم كانوا معتقدين لكرامة الشيخين وفضيلتهما!! وبقية من كان معه كانت شرذمة من أهل السنة الذين كانوا لمسوا الأثرة وحرموا من حقوقهم بما كانوا يستنكرون أعمال بني أمية وإخلادهم إلى الدنيا وأخذهم عباد الله بأنواع الظلم والعدوان، وصرفهم فيء المسلمين في شهواتهم وملاذهم!!! واشتراء المغنين واقتناء المغنيات، وإباحتهم الخمر والمعازف في أنديتهم ولبسهم الحرير والذهب وتوليتهم أمور المسلمين بيد الفاتكين والخمارين كحجاج بن يوسف ويوسف بن عمر ومن على شاكلتهما ممن يعز في الوثنيين والزنادقة أمثالهم!!! سبحان الله هل يسوغ لذي مسكة أن ينسب هذا الكلام إلى زيد وانه قاله اختيارا واعتقادا؟! وزيد هو الفقيه في دين الله، العالم بكتاب الله المتضلع بالسنن الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكلها دالة على تفضيل علي على جميع المسلمين فرادى وجماعة!!! سبحان الله هل يعقل أن يغفل زيد عن قوله تعالى: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون» !!! هل يتصور أن ينسب إلى زيد أنه خفي عليه قوله تعالى: «فضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما» والرجلان لا يوجد لهما موقف كريم تجاه العدو في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!!! وهل يعقل أن يخفي على زيد مباهلة النبي نصارى نجران بعلي وفاطمة وابنيهما صلوات الله عليهم دون صديق القوم وفاروقهم وبناتهما وأبنائهما، وان الله عد عليا في تلك القصة نفس رسول الله ولم يعد الشيخين تراب رجل رسول الله!!! وهل يمكن أن يستر على زيد أن جده ربي في حجر رسول الله وكان يرى نور الوحي ويستشم رائحة النبوة فآمن بالنبي قبل كل أحد من الرجال سبع سنوات أو خمس سنوات كما استفاض به الأخبار الصحيحة من طريق شيعة الشيخين!!! هل يتصور أن يحجب عن زيد عمل جده بآية التناجي- مع قصر ذات يده عن مال الدنيا بسبب إنفاقه ما يملكه وعدم إمساكه على المال- وتقاعد الشيخين عن رسول الله بخلا ورغبة عن مجالسة رسول الله وأخذ العلم عنه حتى أنزل الله تعالى في توبيخهما ومن على شاكلتها: «ء أشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقة؟» . ولم يعمل بآية الإنفاق قبل التناجي إلا علي بن أبي طالب باتفاق المسلمين!!! وهل يساوي أحب الخلق إلى الله ورسوله بأناس عاديين؟ حضروا غدات الطير فلم يؤذن لهم؟!! وهل يساوي قسيم النار والجنة بمن كان يشك في نجاته ويتمنى بأنه ليت كان دجاجا ذبحه أهله فأكلوه؟!! وهل يساوي زوج سيدة نساء أهل الجنة بأبي سيدة نساء الناكثين والباغين؟!! وهل يساوي أبو السبطين وبقية رسول الله في أمته بغيره؟!! وهل يساوي من كان الحق والقرآن معه يدوران معه حيثما دار بمن كان يقول: إن لي شيطانا يعتريني؟!! هل يساوي من كان حبه إيمان وبغضه كفر بمن ليس لحبه وزن ولا لبغضه وزر!!! وهل يساوي من ردت عليه الشمس كي يفوز بفضيلة الصلاة في الوقت بمن لم يرد له عنز؟!! وجهات الامتياز وكون علي مخصوصا بعناية الله والفضائل الجمة، وحرمان الشيخين عنها كثيرة جدا- ثابتة من طرق شيعة الشيخين مع شدة اهتمامهم على سترها وعدم إشاعتها بين الناس!!! - وزيد الشهيد كان متصلا بينبوع الوحي والحقائق لم يخف عليه شيء منها، وإنما خفي الأمر على البعيدين عن أهل بيت الوحي والتنزيل فلا مجال لعاقل أن ينسب إلى زيد انه قال ما ذكره عنه في المتن اختيارا واعتقادا، وما أشرنا إليه من مكارم جده المخصوصة به، قد ثبت من طريق أوليائه وأعدائه جميعا فهو مجمع عليه يجب الأخذ به، وما تفرد به شيعة آل أبي سفيان، وأرباب الدعوة الأموية والسياسة الدنيوية، لا وزن له عند العقلاء!!!
ومن أراد تحقيق الحال فعليه بكتاب شواهد التنزيل وترجمة أمير المؤمنين من تاريخ دمشق فإنهما متكفلان لإثبات المعالي العلوية من طريق روات أهل السنة، وشيعة الشيخين!!! ويغنيانه عن غيرهما مما كتب في خصائص علي عليه السلام.(3/241)
21- قالوا: ولما استتب لزيد خروجه واعد أصحابه الزيدية الَّذِينَ وافقوه عَلَى تولي أَبِي بكر وعمر، ليلة الأربعاء أول ليلة من صفر سنة اثنين وعشرين ومائة، فخرج قبل الأجل، وذلك أنه بلغ يُوسُف بْن عمر أمره فأمر الحكم أن يجمع وجوه أَهْل الْكُوفَةِ فِي المسجد الأعظم ثُمَّ يحصرهم فِيهِ، فبعث الحكم إِلَى العرفاء والشرط والمناكب ووجوه المقاتلة، فأدخلهم المسجد ثُمَّ نادى مناديه: أيما رجل من وجوه العرب والموالي أدركناه فِي رحله الليلة فبرئت منه الذمة!!! ائتوا المسجد الأعظم. فأتوا المسجد.
وطلبوا زيدًا فِي دار إِسْحَاق بْن مُعَاوِيَة الأَنْصَارِيّ ثُمَّ الأوسي- وبلغهم أنه تحول إِلَيْهَا- فلم يقدروا عَلَيْهِ، وذلك لأنه هرب مِنْهَا حين بلغه إقبالهم إليها لطلبه.
وخرج (زيد) ليلة الأربعاء لسبع ليال بقين من المحرم سنة اثنين وعشرين ومائة فِي جماعة كانوا حوله وآخرين بعث إليهم رسله فوافوه، فأمر (هم بإشعال النار) فأشعلت النيران في الحرادى [1] فكلما أكلت حردينار رففوا آخر [2] فلم يزالوا كذلك إِلَى طلوع الفجر، وكانت ليلة باردة، فلم يتتام إِلَيْهِ فِيهَا إلا أربعمائة، فقال: أين الناس؟ أتراهم (كذا) تخلفوا للبرد؟ فقيل لَهُ: لا ولكنهم جمعوا في المسجد وأغلقت الدروب (عليهم) ليقطعوا عنك.
__________
[1] لعل هذا هو الصواب، وفي النسخة «وأمر واشعلت النيران» . والحرادي- كجواري وحواري- بفتح الحاء: جمع الحردي- بضمها-: أطيان القصب. وهو نبطي معرب.
[2] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «فكلما أكلت جرديار» . ورففوا: أشعلوا وأوقدوا.(3/243)
وقد ذكر بعض أَهْل الْكُوفَةِ أنه اجتمع إِلَى زيد أربعة آلاف فلم يصبح إِلا وَهُوَ فِي ثلاث مائة أَوْ أقل مِنْهَا!!! 22- وَقَالَ أَبُو مخنف فيما حَدَّثَنِي بِهِ عَبَّاس بن هشام، عَن أَبِيهِ عَنْهُ:
أن زيدًا أصبح فِي مأتين وثمانية عشر رجلا.
23- وَقَالَ عوانة: أصبح فِي مأتين وخمسين.
24- وقيل: إن يوسف دس مملوكا له خراسانيا ألكن وأعطاه خمسة آلاف درهم فأمره أن يلطأ [1] لبعض الشيعة، فيخبره أنه قدم من خراسان حبا لأهل البيت، وأن معه مالا يريد تقويتهم فلم يزل يتدسس حَتَّى أدخل عَلَى زيد، ثُمَّ دل يُوسُف عَلَيْهِ، فوجه إِلَيْهِ الخيل، فخرج زيد ونادى بشعاره فخرج إِلَيْهِ أقل من ثلاثمائة، فَقَالَ: لا تبعد يَا دَاوُد.
25- قَالُوا: وَكَانَ زيد وجه القاسم بْن عَبْدِ اللَّهِ التنعي [2] من حضرموت لينادي بشعار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّاس، وَهُوَ:
يَا منصور أمت. وَهُوَ كَانَ شعار زيد الَّذِي واطأ إليه أصحابه، فلقيه جعفر بن عباس (ظ) بْن زيد الكندي فشد عَلَيْهِ وعلى أصحابه فقتل من أصحابه رجلا وارتث القاسم فأتي (بِهِ) يُوسُف بْن عمر فضرب عنقه عَلَى باب القصر.
__________
[1] أي يتصل ويلصق بهم يقال: «لطأ زيد بفلان- من باب منع وفرح- لطأ» : لصق به لصوقا.
[2] هذا هو الظاهر من رسم الخط من الأصل الموجود عندي من أنساب الأشراف، وفي نسخة سقيمة من مقاتل الطالبيين ص 99: وبعث زيد القاسم بن عمر التبعي ورجلا آخر يناديان بشعارهما ...(3/244)
فأقبل نصر بْن خزيمة العبسي [1] يريد زيدًا فِي جماعة من الزيدية، فلقيه خليفة الحكم بن الصلت (أبو حفص عمر بن عبد الرحمان) فشد/ 507/ أو 254/ أ/ عَلَيْهِ نصر بْن خزيمة فقتله وانهزم من كان معه.
وندب يوسف بن عمر لمحاربة زيد، الحكم بن (الصلت الثقفي، و) عبيد اللَّه [2] بْن عَبَّاس بْن يزيد الكندي، والأصبغ بن ذوالة بن لقيم بن لجأ (ء) بْن حارثة بْن زامل الْكَلْبِيّ.
وبعث يُوسُف لمحاربته أيضا الريّان بن سلمة الأراشي [3] من (بني) بلي في القيقانية، وهم ألفان وثلاثمائة، وهم من أهل السند- ويقال: إنهم بخارية لقبوا القيقانية- فلما كَانَ من الغد يوم الأربعاء عبأ زيد أصحابه وعليه درع تحت قباء أبيض ومعه سيف ودرقة، فجعل على ميمنته نصر بن خزيمة،
__________
[1] والرجل كان مشهورا بالسطوة معروفا بالشهامة، كما رواه ابن عساكر في ترجمة زياد أبي يحي من تاريخ دمشق: ج 19، ص 20 قال أخبرنا أبو نصر غالب بن أحمد بن المسلم، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد بن أيمن الدينوري أنبأنا أبو الحسن علي بن موسى بن الحسن إجازة، أنبأنا محمد بن عبد الله العبدي أنبأنا أبي عبد الله بن أحمد، حدثني الحسن بن الحسين أبو سعيد السكري، حدثني سليمان بن أبي شيخ، أنبأنا سليمان بن زياد، عن أخيه يحي بن زياد، قال:
كان يوسف بن عمر (والي الكوفة) وجه أبي إلى هشام بن عبد الملك، فقدم علينا أبي من الشام ليلا، فقال لنا: هل عندكم خبر؟ قلنا: لا. قال على ذلك. فقلنا: لا إلا أن زيدا مختف بالكوفة يقولون: إنه يريد الخروج. قال: فمن صاحب أمره؟ قلنا: نصر بن خزيمة العبسي.
قال: قاتل الله العباس بن الوليد. قلنا: وكيف ذكرت العباس بن الوليد؟ قال: أتيته مودعا فقال لي: يا أبا يحي اتقوا رجلا من أخوالي بني عبس بالكوفة يقال له: نصر بن خزيمة لا يجني عليكم حربا!!!
[2] الظاهر أن هذا هو الصواب، وفي الأصل: وندب يوسف بن عمر الحكم لمحاربة زيد ابن عبيد الله بن عباس ...
[3] ولا يأبى رسم الخط أن يقرأ: «سليمة الأراشي ... » . وفي مقاتل الطالبيين ص 100:
وبعث الريان بن سلمة البلوي في نحو من ألفي فارس وثلاث مائة من القيقانية رجالة ...(3/245)
وعلى ميسرته مُعَاوِيَة بْن إِسْحَاق الأَنْصَارِيّ ثُمَّ خطب فذكر أبا بكر وعمر فترحم عَلَيْهِمَا [1] وذكر عُثْمَان وما أحدث، وذم مُعَاوِيَة وبني أمية، ثُمَّ انحاز إِلَى جبانة الصائدين من همدان، وبها خمسمائة فارس من أَهْل الشَّامِ، فحمل عليهم فهزمهم، وَكَانَ عَلَى فرس لَهُ جواد فوقف عَلَى باب رجل ممن بايعه يقال لَهُ:
أنس بْن عَمْرو فناداه يَا أنس «قد جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ» . فلم يجبه ولم يخرج إِلَيْهِ، فَقَالَ زيد: ما أخلقكم أن تكونوا فعلتموها، الله حسبكم!!! ثُمَّ أتى زيد الكناسة، فحمل عَلَى جماعة من أَهْل الشَّامِ كانوا بِهَا فهزمهم وشلهم إِلَى المقبرة [2] ويوسف عَلَى تل مشرف ينظر إلى زيد وأصحابه وهو ما بين [3] فلو شاء قتل يُوسُف قتله ولكنه صرف عَنْهُ.
ودعا زيد النَّاس بالكناسة وناشدهم فلم يجبه إِلا رجلان أَوْ ثلاثة، فَقَالَ لنصر بْن خزيمة: أراها والله حسينية [4] فَقَالَ نصر: إنما علي أن أضرب بسيفي حَتَّى أموت.
26- قالوا: ثم قال نصر [5] لزيد: إن النَّاس محصورون فِي المسجد فامض بنا إليهم. فخرج زيد بمن مَعَهُ يريد المسجد، فمر عَلَى دار خالد بن عرفطة
__________
[1] إن ثبت من طريق صحيح انه قرضهما فالوجه في كلامه رضوان الله عليه في تقريضهما ما قدمناه.
[2] أي فرقهم وطردهم إليها. والفعل من باب: «مد» .
[3] كذا في الأصل، ولعل الصواب: وهو في مأتين ... ويحتمل أيضا وقوع الحذف في النسخة، فقد ذكر القصة في ترجمة زيد في الباب (7) من تيسير المطالب ص 104، على وجه آخر لعله أقرب إلى الصواب.
وفي مقاتل الطالبيين ص 101: «ويوسف بن عمر على التل ينظر إلى زيد وأصحابه وهم يكرون ولو شاء زيد ان يقتل يوسف قتله.
[4] هذا هو الظاهر، أي أري معاملة أهل الكوفة معي معاملتهم مع جدي الحسين. وفي الأصل:
«أراها والله حسيبة» .
[5] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: قالوا: لو قال نصر ...(3/246)
وبلغ عبيد اللَّه بْن عَبَّاس الكندي- وَكَانَ قائدًا من قواد يُوسُف بالْكُوفَة- إقباله فخرج إليه في أهل الشام الذين كانوا بالكوفة، وأقبل زيد إِلَيْهِ فالتقوا عَلَى باب عمر بْن سعد بْن أَبِي وقاص الزُّهْرِيّ فكاع صاحب لواء عبيد اللَّه [1]- وَهُوَ مولي له- فَقَالَ لَهُ: أحمل يَا ابْن الخبيثة. فحمل حَتَّى انصرف وقد خضب لواءه.
ويقال: إنهم التقوا بجبانة السبيع.
27- حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ، قَالَ: لما التقوا ضرب واصل الحناط الأحول عبيد اللَّه بْن عَبَّاس الكندي ضربة. وَقَالَ:
خذها وأنا الغلام الحناط. فَقَالَ: والله لأتركنك لا تكيل بقفيز بعدها، وحمل عَلَيْهِ فضربه فلم يصنع ابن عباس (شيئا) [2] حَتَّى انتهى إِلَى دار عَمْرو بْن حريث.
وجاء زيد ومن مَعَهُ إِلَى باب الفيل، وجعل نصر بْن خزيمة ينادي: يَا أَهْل المسجد اخرجوا من الذل إِلَى العز، ومن الضلالة إِلَى الهدى، اخرجوا إِلَى الدين والدنيا فإنكم لستم في واحد منهما!!! وأشرف أَهْل الشَّامِ عليهم يرمونهم بالحجارة من فوق المسجد، وكانت بالْكُوفَة يومئذ مناوشة فِي نواحيها، وَكَانَ منادي زيد ينادي بين يديه: من ألقى سلاحه فهو آمن، وأمر أصحابه أن ينادوا بذلك.
وعرض نساء الْكُوفَةِ عَلَى زيد أن يخرجن فيقاتلن مَعَهُ!!! فقال (لهنّ زيد) :
__________
[1] أي خاف وجبن من التقدم إلى زيد والالتقاء معه.
[2] لعل هذا هو الصواب، وفي النسخة: «فلم يصغ ابن عباس» .(3/247)
« (وَ) قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ» [1] فو الله ما ترجى رجالكم فكيف النساء؟! ليس عَلَى النساء وَلا عَلَى المرضى قتال.
28- وَحَدَّثَنِي حَفْصُ بْن عُمَرَ الْعُمَرِيُّ، عَن الْهَيْثَم بْن عدي عَن ابن عياش [2] الهمداني/ 508/ أو 254 ب/ قَالَ: إني لواقف عَلَى رأس يُوسُف قبل قتل زيد، إذ قَالَ لي: يَا ابْن عياش إن هَذَا الزاني ابْن الزانية- يعني زيدا- قد خرج بأجمة سالم، وقال وبلغني أن عَلَى شرطته نصر بْن سيار!!! قلت: نصر بْن خزيمة العبسي. قَالَ: نعم. فوجه رسولا يأتيه بخبرهم (فرجع الرسول) فَقَالَ: قد استقبل نصر بْن خزيمة أبا حفص عمر بن عبد الرحمان خليفة الحكم فقتله.
قَالَ: وَكَانَ يُوسُف دهره سكران من الخمر لا يفيق.
29- قَالُوا: ولما نادى زيد أَهْل المسجد، ونودوا لَهُ فلم يخرج إِلَيْهِ أحد منهم، انصرف إِلَى ناحية دار الرزق، فوجه يوسف إليه (جنودا) فجعلت تمر كردوسا كردوسا [3] ونادى مناديه: إن من جاء برأس الفاسق زيد بْن علي فله ألف دينار. فقوتل أشد قتال وصبر أشد صبر.
وقدم عامر بْن ضبارة المري عَلَى يُوسُف أمده بِهِ هِشَام، حين بلغه أن زيدًا بويع ومعه ثمانية آلاف، فانتدب رجل من أصحاب ابْن ضبارة من أَهْل الشَّامِ فطلب المبارزة، فبرز لَهُ نصر بْن خزيمة العبسي فَقَالَ الشامي [4] : من أنت؟
__________
[1] قبسة من الآية: (33) من سورة الأحزاب.
[2] ولعله هو عبد الله بن العباس المنتوف كما في مقاتل الطالبيين ص 100.
[3] الكردوس: الكتيبة والطائفة العظيمة من الخيل. ثم العبارة كما ترى كانت ناقصة، وكان نصب في الأصل العلامة على ذلك ولكن لم يذكر شيئا في الهامش، والظاهر ان الساقط هو ما وضعناه بين المعقوفين.
[4] هذا هو الظاهر، وفي النسخة هكذا: «فَقَالَ أَهْلُ الشَّامِ: من أنت» .(3/248)
قَالَ: نصر بْن خزيمة العبسي. قَالَ: مَا أحد أبغض إلي من أن أصيبه منك- وكان (الرجل) قيسيا (كذا) - فصاح بِهِ الشاميون فعل اللَّه بك وفعل وأنبوه وعيروه فعطف على نصر فتساولا ساعة ثُمَّ ضرب كُلّ واحد مِنْهُمَا صاحبه فأثخنه (ظ) فرجع نصر مثخنًا ورجع الشامي وقد قطع نصر رجله من الفخذ فهو مثخن أَيْضًا، فمات الشامي ومات نصر، وقد عرف مكانه فأتي بِهِ يُوسُف فأمر بصلبه.
30- وَحَدَّثَنِي أَبُو مسعود الْكُوفِيّ عَن أَبِيهِ، قَالَ: اجتمع إِلَى زيد في أول ليلة أربعمائة، ثم أصبح وهم أقل من ثلاثمأة!!! ثم لم يزل تؤب إِلَيْهِ العدة بعد العدة، ودعا نصر بْن خزيمة قوما من قَيْس فتتام مَعَ زيد ألف رجل فلقي بهم من لقي (من) أصحاب ابن ضبارة، وكانت وقعتهم بجبانة سالم. ويقال:
بغيرها.
31- قَالُوا: ولما قتل نصر بْن خزيمة، وأحاطت الخيول بزيد بْن علي قَالَ: إن القيام لهؤلاء الطغاة لغرر، فلو لجأنا إِلَى الحيطان فجعلناها من وراء ظهورنا فلم يأتو (نا) إِلا من وجه واحد. فصوبه أصحابه فعطف برأس دابته، فناداه أَهْل الشَّامِ: يَا ابْن أَبِي تراب يَا ابْن المنافق [1] يَا ابْن السّندية إلى
__________
[1] هكذا كان آل أمية تربي الناس وبهذه العقيدة كانوا يغذون الصغير ويمرنون الكبير!!! ردا على الله وعلى رسوله في قوله تعالى: «أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا؟» . وفي قوله صلى الله عليه وآله وسلم المتواتر بين المسلمين: «يا على لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق» إلى غيرهما من الأدلة، وبمشاقة هؤلاء لله ولأوليائه رد المسلمون إلى أسفل السافلين، وأحدقت بهم المذلة والصغار وحفت بهم النكبات من جميع الجهات، فارجع إلى كتاب شواهد التنزيل وترجمة على من تاريخ دمشق كي تعرف منزلة علي عند الله ورسوله، ويتجلى لك محادة بني أمية وحزبهم لله ولرسوله وانقلابهم على أعقاب جاهليتهم وإضلالهم الناس عن دينهم وسوقهم إلى الكفر والإلحاد!!! فإنا لله وإنا إليه راجعون.(3/249)
أين؟!! فلما سمع زيد ذَلِكَ كر عليهم فكشفهم فما رأى النَّاس قط فارسا أشجع منه، وقد كانوا على ذلك كالمتهنين لقتله، وكانت مواقعته إياهم عند دار الرزق بالْكُوفَة، فلما كَانَ المساء رمي زيد بسهم فِي جبهته من يسارها- وذلك الثبت- ويقال: فِي رجله.
32- وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ، عَن أَبِيهِ عَن جده قَالَ: تولى حرب زيد بالْكُوفَة عبيد اللَّه بْن العباس الكندي والأصبغ بن ذوالة الْكَلْبِيّ فِي جماعة بعث بهم إِلَيْهِ يُوسُف من الحيرة وَكَانَ بِهَا، وَهُوَ يومئذ عَلَى الْعِرَاق، وَكَانَ الحكم بْن الصلت بْن مُحَمَّد بن الحكيم ابن أَبِي عقيل الثَّقَفِيّ خليفته عَلَى الْكُوفَة فأهل الْكُوفَة يقولون: رمى زيدًا دَاوُد بْن سُلَيْمَان بْن كَيْسَانَ مولى بشر بْن عمارة بْن حسان بْن جبار الْكَلْبِيّ، وكيسان صاحب الباب بدمشق، وأولاد دَاوُد يدفعون ذَلِكَ وينتفون منه (كذا) ويقولون: رماه رجل من القيقانية فأصاب جبهته وذلك عند المساء، فدعي لَهُ بحجام فنزع [1] النشابة فسالت نفسه مَعَهَا.
33- وَقَالَ أَبُو مخنف/ 509/ أو 255/ أ/: رمي زيد بسهم فِي جبهته فبلغ الدماغ فرجع ورجع أصحابه، وأهل الشَّامِ يظنون أنهم إنما رجعوا للمساء والليل،
[مقتل زيد بْن علي]
وتحامل زيد حَتَّى دخل دار الجزارين الَّتِي بالسبخة، وأوصى يَحْيَى ابنه بتقوى اللَّه وجهاد بني أمية، ومكث هنيئة ثم قضى ليلة الجمعة، فدفن بموضع من دار الجزارين وأجروا عَلَيْهِ ساقية من ماء السبخة كي يخفي قبره وَكَانَ معهم غلام سندي- أتى زيدًا من أول النهار فِي قوم أتوه ليقاتل معه فلم يقبله (زيدا) وَقَالَ: لا يقاتل مملوك بغير إذن مولاه. - فدل على قبره!!!
__________
[1] هذا هو الصواب في النسخة: «فنزل النشابة» .(3/250)
34- وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح، عَن حمزة الزيات قال: دخل زيد (بيت) حرار (بن أبي كريمة) [1] فجاءه (فجاؤه «خ» ) بطبيب يقال له سفيان مولى لبني رواس فانتزع النصل الَّذِي رمي بِهِ من جبهته فلم يلبث أن مات.
35- وَقَالَ أَبُو مخنف: أرسل إلى حجام لحميد الرواسي فَقَالَ لَهُ الحجام: إنك إن نزعته مت مَعَ إخراجه. فَقَالَ الموت أيسر مما أنا فِيهِ. فأخذ الكلبتين وانتزعه، فخرجت نفسه مَعَهُ، ودفن فِي حفرة من الحفر الَّتِي يؤخذ مِنْهَا الطين [2] ومضى عبد سندي إِلَى الحكم فأخبره بخبره.
36- وحدثني العمري (ظ) عَن الْهَيْثَم، عَن عوانة، قَالَ: رمي زيد بسهم فأصاب جبهته أَوْ عينه فسقط فحامى عنه يحي ابنه ووجوه من معه [3] حتى جاوزوه إلى عسكرهم وبه رمق وذلك فِي الظلام، ثُمَّ عبروا بِهِ الفرات بالْكُوفَة، وقطعوا الجسر فانتزعوا السهم ففاضت نفسه مَعَهُ!!! ثُمَّ دفنوه وتفرقوا، فلما أصبح الصبح جاء علج- وقد رآه يدفن- فدل الحكم عَلَى قبره فنبشه واحتز رأسه وبعث به إلى يوسف، وحملت جثته إلى الكناسة بالكوفة- وكان عليه قميص أصفر هروي- (فصلب) وصلب مَعَهُ مُعَاوِيَة بْن إِسْحَاق الأَنْصَارِيّ وَكَانَ (قتل) قبل ذلك في المعركة (وكذلك صلب معه) نصر ابن خزيمة العبسي وزياد النهدي، ثُمَّ خلى سبيل أهل المسجد.
__________
[1] كلمة «حرار- أو جزار-» غير جلية بحسب رسم الخط، وفي نسخة سقيمة من مقاتل الطالبيين ص 104: «دخل (زيد) بيت حران بن أبي كريمة: في سكة البريد في دور أرحب وشاكر ... » .
[2] كذا.
[3] وجل ما في هذه الورقة/ 255/ أ/ من الأصل كان غير مقروء فقرأناه بمعونة المكبرة وأصلحنا النواقص بوضعها بين المعقوفات.(3/251)
وبعث يوسف برأس زيد وسائر رؤس من قتل مَعَهُ إِلَى هِشَام بْنِ عَبْدِ الملك [1] وطلب يحي بن زيد فلم يقدر عليه.
37- وحدثني أَبُو الحسن المدائني قَالَ: لما أتي يُوسُف برأس زيد 3/ 446- وهو بالحيرة [2]- فطرح إِلَيْهِ، ثُمَّ تفرقوا وَهُوَ مطروح فِي ناحية منزله فجاء ديك فنقره فقال الكلبي.
اطرد الديك عن ذوابة زيد ... طالما كان لاقطا للدجاج [3]
ابن بنت النبي اكرم خل ... ق اللَّه زين الوفود والحجاج
حملوا رأسه إِلَى الشام ركضا ... بالسرى والبكور والأدلاج
__________
[1] روى ابن عساكر في ترجمة زيد من تاريخ دمشق: ج 6 من النسخة الظاهرية الورق 327/ وفي نسخة ج 19/ الورق 148- وفي تهذيبه: ج 6 ص 24- قال:
حدثني أبو القاسم محمود بن عبد الرحمان البستي، أنبأنا أبو بكر ابن خلف، أنبأنا أبو عبد الله الحاكم، أنبأنا أبو جعفر محمد بن محمد بن عبد الله البغدادي أنبأنا عبد الله بن الحسين بن جابر المصيصي أنبأنا موسى بن محمد البلغاري (ظ) :
أنبأنا الوليد بن محمد الموقري قال: كنا على باب الزهري إذ سمع جلبة فقال: ما هذا يا وليد؟
فنظرت فإذا رأس زيد بن علي يطاف به بيد اللعابين!!! فأخبرته فبكى الزهري ثم قال: أهلك أهل هذا البيت العجلة. قلت: ويملكون؟ قال: نعم حدثني علي بن الحسين، عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة: أبشري (ظ) المهدي منك.
ورواه أيضا في ترجمة زيد الشهيد من مقاتل الطالبيين ص 143، وفي ط ص 105، بسند آخر، عن الموقري عن الزهري عن علي بن الحسين عن أبيه عن فاطمة، عن رسول الله صلى الله عليهم أجمعين.
[2] من قوله: «وهو بالحيرة- إلى قوله- اطرد الديك» كأنه ضرب عليه الخط، ولا يكون مقروءا في جميع كلماته بنحو القطع.
[3] هذا المصرع غير مقروء على نحو القطع واليقين وكذلك المصرع الأخير.(3/252)
38- وحدثني محمد بن الأعرابي (ظ) عَن سعد بْن الحسن بْن قحطبة، قَالَ: رمى زيدًا رجل من ولد كيسان مولى كلب، فأخذه عَبْد اللَّهِ بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العباس بالشام فقتله وصلبه (ظ) .
39- وَقَالَ ابْن عَبَّاس الْكَلْبِيّ: حين قتل زيد (قالت) ريطة بنت أَبِي هاشم عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن الحنفية أم يحي بْن زيد:
بسيف ابْن عَبَّاس وسيف ابْن زامل [1] حدت ...
يعني عبيد الله بن العباس (بن يزيد الكندي) والأصبغ بن ذوالة، تقول:
بسيفي هذين غلب أصحاب زيد ودمرت (ظ) حرمته.
40- وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنِي أصحابنا [2] قالوا أعطى يوسف الذي جاء برأس نصر بْن خزيمة، ودلهم عَلَى جثته ألف درهم وأعطى الذي جاء برأس مُعَاوِيَة بْن إِسْحَاق الأَنْصَارِيّ ودلهم عَلَى جثته سبعمائة (ظ) درهما.
41- وقال: بعض الهمدانيين [3] في (رثاء) زيد/ 510/ أو 255 ب/:
يا أبا الحسين فلو رجال بصيرة [4] ... نصروك كان لوردهم إصدار
__________
[1] هذا هو الموافق لما مر في ص 245، وفي الأصل هاهنا: «ابن زمر» والمصرع الثاني من البيت غير مقروء عدى كلمة: «حدت» .
[2] كلمة: «أصحابنا» غير مقروءة بنحو القطع.
[3] كلمة: «الهمدانيين» غير واضحة بحسب رسم الخط، وإنما كتبناها ظنا.
[4] لعل هذا هو الصواب، وفي الأصل: فلو ارجال بصيرة.(3/253)
يا أبا حسين كيف عذت بمعشر ... غدر لئام [1] أسلموك وطاروا
غرّوا أباك وأسلموه وقبله [2] ... غرّوا الوصي وكلّهم غرّار
42- وقال أبو تميلة (الأبار يرثي زيدا) في قصيدة له [3] :
يا أبا الحسين أعار فقدك لوعة ... من يلق ما لاقيت منها تكمد
كنت المؤمل للعظائم وَالَّذِي ... يرجى لأمر الأمة المتأود
أرضيتم فِي دينكم أن تأمنوا ... والخوف (ظ) فِي أبيات آل مُحَمَّد
ونساؤكم بغضارة وبشاشة ... ونساؤهم يعولن بين العود
يبكين أشيب بالكناسة طيبا [4] ... نبش التراب عَلَيْهِ من لم يوسد
43- وَقَالَ آخر:
لعن اللَّه حوشبا ... وخراشا ومزيدا
إنهم حاربوا الإله ... وآذوا محمدا
يَا خراش بْن حوشب ... أنت أشقى الورى غدا
وَكَانَ خراش على شرط يوسف بن عمرو، وَهُوَ تولى نبش زيد وصلبه.
44- وَحَدَّثَنِي يُوسُف بْن مُوسَى عَن جرير بْنِ عَبْدِ الحميد، عن مغيرة قال: كنت كثير الضحك، فلما قتل زيد أنقطع ضحكي.
45- قَالُوا: وبعث يُوسُف بْن عمر، إِلَى أم امرأة لزيد أزدية، فهدم دارها وحملت إِلَيْهِ!!! فَقَالَ لَهَا: أزوجت زيدًا؟ قَالَت: نعم زوجته وَهُوَ سامع
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: غدر ايام أسلموك وطاروا.
[2] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «وقبلهم» .
[3] والقصيدة طويلة، وذكر منها أربعة عشر بيتا في ترجمة زيد وابنه يحي عليهما السلام من مقاتل الطالبيين ص 110.
[4] ويساعد رسم الخط على أن يقرء «طببا» بالموحدتين.(3/254)
مطيع، ولو خطب إِلَيْك إذ كَانَ كذلك لزوجته [1] فقال: شقوا عليها ثيابها!!! (فشقوا عَلَيْهَا ثيابها) فجلدها بالسياط وهي تشتمه وتقول: ما أنت بعربي!!! أتعريني وتضربني؟! لعنك اللَّه. فماتت تحت السياط، ثُمَّ أمر بِهَا فألقيت فِي العراء!!! فسرقها قومها ودفنوها فِي مقابرهم.
46- قَالُوا: وأخذ امرأة قوت زيدا على أمره فأمر بها أن يقطع يدها ورجلها!!! فقالت: اقطعوا رجلي أولا حَتَّى أجمع علي ثيابي!!! فقطعت يدها ورجلها ولم تحسم (ظ) حتى ماتت [2] وضربت عنق زوجها!!! وضرب امرأة أشارت عَلَى أمها أن تؤوي ابنة زيد، خمس مائة سوط، وهدم دورًا كثيرة.
وأتى يُوسُف بعبد اللَّه بن يعقوب السلمي من ولد عقبة بن فرقد، وكان زوج ابنته من يحي بْن زيد، فَقَالَ لَهُ يُوسُف: ائتني بابنتك. قَالَ: وما تصنع بِهَا جارية عاتق فِي البيت!! قَالَ: أقسم لتأتيني بِهَا أَوْ لأضربن عنقك- وقد كَانَ كتب إِلَى هِشَام يصف طاعته- فأبي أن يأتيه بابنته فضرب عنقه، وأمر العريف أن يأتيه بابنة عَبْد اللَّهِ بْن يعقوب فأبي، فأمر بِهِ فدقت يده ورجله!!!
__________
[1] انظر إلى قوة حجتها وإعلاء كلمتها لو كان للخصم ضمير، ولآل أمية عرق من الإنسانية والبشرية!!! ولكنهم أبناء إخلاد إلى الدنيا، وأحقاد جاهلية وكفر بالرسالة وإنكار للمعاد، وإذعان بأن الملك عقيم!!! ولولا ذلك لم يفعلوا ما لا يسوغه من له أدنى مشاعر الإنسانية، ولا تجوزه الشريعة حتى بالنسبة إلى المشركات!!!
[2] راجع أحكام النساء المشركات المسبيات في الفقه الإسلامي وكذا وصايا النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأمراء السرايا والغزوات كي يتجلى لك أن آل أمية ومن شايعهم ليسوا من الإسلام في شيء وأنهم بأعمالهم البربرية هدموا الإسلام واجتثوا أس المسلمين، وانحازوا بهم إلى ألقاب الجاهلية الوثنية!!! فعلى الإسلام وسمعته الطيبة فليبك الباكون حيث عوقه وشوه سمعته الميمونة، أبناء المشركين والمنافقون!!! وما أحسن ما قاله عبد الله بن مصعب الزبيري في شأن الدولة الأموية والعباسية:
وتنقضي دولة أحكام قادتها ... فينا كأحكام قوم عابدي وثن!!!
فكان ما بروا بالجور أعظمنا ... بري الصناع قداح النبع بالسفن(3/255)
ووكل يوسف بخشبة زيد أربعمائة رجل يحرسونها، ينوب فِي كُلّ ليلة مائة رجل، وبنا حول جذعه [1] بناءا كالدكة من آجر.
__________
[1] يعني الجذع الذي صلب عليه زيد رضوان الله تعالى عليه، روى ابن عساكر- في ترجمة زيد من تاريخ دمشق ج 6 من النسخة الظاهرية الورق 330 وفي نسخة: ج 19، ص 15، وفي تهذيبه: ج 6 ص 25- قال:
قرأت بخط أبي الحسن ابن نظيف- وأنبأنيه أبو القاسم العلوي وأبو الوحش المقري عنه- أنبأنا إبراهيم بن علي بن إبراهيم، أنبأنا أبو العباس أحمد بن بكران بن ساذان، أنبأنا الحسين ابن علي حدثني محمد بن سلام، أنبأنا إسماعيل:
عن الحسن بن محمد بن معاوية البجلي قال: كان زيد بن (علي) صلب بوجه وجهه ناحية الفرات، فيصبح وقد دارت خشبته ناحية القبلة مرارا!!! وعمدت العنكبوت حتى نسجت (ظ) على عورته، وكانوا صلبوه عريانا!!! وقال أيضا: أخبرنا أبو القاسم ابن السمرفندي، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن عبد العزيز أنبأنا أبو الحسين ابن بشران، أنبأنا عمر بن الحسن بن علي بن مالك، أنبأنا أبو سهل سعيد بن عثمان بن بكر الأهوازي وأبو العباس محمد بن موسى قال: أنبأنا أحمد بن أبي بكر العتكي:
أنبأنا جرير بن حازم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم مسندا ظهره إلى خشبة زيد بن علي وهو يبكي ويقول: (أ) هكذا تفعلون بولدي؟!! والحديث على لفظ سعيد بن بكر.
كذا قال (الراوي) : أحمد (بن أبي بكر) العتكي. وقال غيره: عبد الله (بن أبي بكر العتكي) .
أخبرناه أبو بكر محمد بن الحسين، أنبأنا أبو الحسين ابن المهتدي، أنبأنا عبيد الله بن أحمد ابن علي بن الحسين، أنبأنا محمد بن مخلد، أنبأنا محمد بن عبد الرحمان بن يونس أنبأنا عبد الله بن أبي بكر العتكي:
أنبأنا جرير بن حازم قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم كأنه متساند إلى خشبة زيد بن علي- في المنام- وهو مصلوب وهو يقول: هكذا تفعلون بولدي؟! وكذا روي من وجه آخر أخبرناه أبو محمد ابن طاوس، أنبأنا أبو الغنائم ابن أبي عثمان، أنبأنا أبو الحسين ابن بشران، أنبأنا أبو علي ابن صفوان، أنبأنا ابن أبي الدنيا، حدثني محمد بن إدريس أنبأنا عبد الله بن أبي بكر ابن الفضل العتكي:
أنبأنا جرير حازم أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام (وهو) متساند إلى جذع زيد ابن علي وهو مصلوب، وهو يقول للناس: هكذا تفعلون بولدي؟!! ورواه أيضا السيد أبو طالب في أماليه- كما في الباب: (7) من ترتيبه تيسير المطالب ص 104، ط 1- قال:
حدثني أبي رحمه الله تعالى قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الآملي.
وحدثنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم الحسني قال: حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحميدي قال:
حدثنا أبو حاتم محمد بن إدريس، قال: حدثنا عبد الله بن أبي بكر العتكي قال: حدثنا جرير بن حازم عن أبيه، قال: رأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المنام وهو مسند ظهره إلى جذع زيد بن علي عليهما السلام وهو مصلوب ويقول للناس: أهكذا تفعلون بولدي؟ - زاد إبراهيم في حديثه- أهذا جزائي منكم؟!(3/256)
وَكَانَ زهير بْن مُعَاوِيَة أحد من يحرسه [1] .
فلما مات هِشَام وولي الوليد بْن يزيد، وفد إِلَيْهِ يُوسُف، فلما رجع من عنده إِلَى الْكُوفَةِ، أمر بإحراق زيد عَلَيْهِ السلام، فجمع الحطب والقصب، وجاء الغوغاء من ذَلِكَ بشيء كثير!!! فأعطاهم دراهم كثيرة ثُمَّ أمر بِهِ فأحرق وألقي رماده فِي الفرات [2] .
47- ويقال: إن الوليد قَالَ لَهُ: انظر عجل أَهْل الْكُوفَةِ، فحرقه ثُمَّ أنسفه فِي اليم نسفا.
48- ويقال: إنه كتب إِلَيْهِ بذلك.
__________
[1] وإنما أتى بالتذكير، بملاحظة المعنى أي أحد من يحرس بدن زيد. أو الجذع الذي صلب عليه زيد. وعلى الثاني فالتذكير بلحاظ اللفظ والمعنى جميعا.
[2] من تصفح تاريخ السلف يتجلى له أن هذا العمل وما يشابهه من خصائص أعداء أهل البيت لم يصدر من أي طاغية من الوثنيين إلا من أخيهم نمرود.(3/257)
وكتب يُوسُف بْن عمر إِلَى هِشَام، فِي أم ولد لزيد ومعها ثلاثة أولاد لَهَا صبيان، فأمر أن يدفعوا إِلَى أقرب النَّاس إليه، فدفعوا إلى الفضل بن عبد الرحمان بن/ 511/ أو 256/ أ/ عباس بن ربيعة بن الحرث بْنِ عَبْدِ المطلب وَهُوَ الَّذِي يَقُول:
إِذَا مَا كنت متخذًا خليلًا ... فلا تجعل خليلك من تميم
بلونا حُرّهم والعبدَ مِنْهُم ... فَمَا عُرف العبيدُ من الصميم
موالينا إِذَا احتاجوا إلينا ... وسيرٌ قُدَّ من وسط الأديم
وأعداءٌ إِذَا مَا النعل زلّت ... وأولُ من يغير عَلَى الحريم
وَهُوَ الَّذِي قال- يرثي زيدا في قصيدة طويلة [1]-:
ألا يا عين جودي ثُمَّ جودي ... بدمعك ليس ذا حين الجمود
وَلا حين التجلد فاستهلي ... وكيف جمود دمعك بعد زيد
أبعد ابْن النَّبِيّ أَبِي حسين ... صليبا بالكناسة فوق عود
يظل علي عموديه ويمسي ... بنفسي أعظم فوق العمود
تعدى المترف الجبار فِيهِ ... فأخرجه من القبر اللحيد
دعاه معشر غروا أباه ... حسينا بعد توكيد العهود
47- قَالُوا: ولما فرغ يُوسُف (من) أمر زيد، صعد منبر الْكُوفَة فشتم أهلها وَقَالَ: يَا أَهْل المدرة الخبيثة، والله مَا يقعقع لي بالشنان، وَلا تقرن بي الصعبة [2] لقد هممت أن أخرب بلدكم وأحربكم بأموالكم [3] والله
__________
[1] وفي ترجمة زيد رضوان الله عليه من مقاتل الطالبيين ص 109، ذكر خمسة وعشرين بيتا منها.
[2] كلمة «تقرن» غير واضحة ويمكن ان تقرء «تقود» .
[3] أي أسلبكم أموالكم. والفعل من باب نصر.(3/258)
مَا أطلت منبري إِلا لأسمعكم عَلَيْهِ مَا تكرهون!! فإنكم أَهْل بغي وخلاف، ولقد سألت أمير الْمُؤْمِنِينَ أن يأذن لي فيكم، ولو فعل لقتلت مقاتلتكم ولسبيت ذريتكم!!! إن يحي بن زيد لينتقل فِي حجال نسائكم كما كَانَ أبوه يفعل، وما فيكم مطيع إِلا حكيم بْن شريك المحاربي وو الله لو ظفرت بيحياكم [1] لعرقت خصيتيه كما عرقت خصيتي أبيه.
وكتب (يوسف) إِلَى هِشَام فِي أَهْل الْكُوفَةِ، فكتب إِلَيْهِ (هشام: إن) أَهْل الْكُوفَةِ أَهْل سمع وطاعة فمر لهم بأعطياتهم، فَقَالَ: يَا أَهْل الْكُوفَةِ إن أمير الْمُؤْمِنِينَ قد أمر لكم بأعطياتكم فخذوها لأبارك اللَّه لكم فِيهَا.
وَكَانَ شريك بْن حكيم يسعى بزيد [2] .
ورأت امرأة عَلَى زيد، بردًا حسنا- وذلك قبل خروجه- فسألت زوجها أن يشتري لَهَا مثله فَقَالَ:
تكلفني أبراد زيد ووشيه ... ولست ببيّاع [3] بذي السوق تاجر
ويقال: إنه (في قصة) زيد بْن حسن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب [4] .
48- وَحَدَّثَنِي أَبُو مسعود، قَالَ: دخل رجل من الأنصار بين زيد وعبد اللَّه بْن حسن، فَقَالَ لَهُ زيد، مَا أنت والدخول بيننا، فأنت ابن قحطان (ظ) . فقال: أنا والله خير منك فانتزى لَهُ رجل من قريش فَقَالَ: كذبت والله هُوَ خير منك نفسا وأما وأبا. وأولا وآخرًا وفوق الأرض وتحتها. فحلف زيد أن لا ينازع عَبْد اللَّهِ بين يدي الوالي. وقاما.
__________
[1] هذا هو الصواب في الأصل بالمثناة الفوقانية.
[2] لعل هذا هو الصواب. وفي النسخة: «سعى يريد» ولعل ما قبله أيضا فيه تقديم وتأخير، وان الصواب: «حكيم بن شريك» ؟ أو أن ما تقدم قبل خمسة أسطر فيه تقديم وتأخير فليحقق.
[3] هذا هو الظاهر وفي النسخة: «بيتاع» .
[4] وهذا أقرب إلى الواقع ونفس الأمر، لأن زيد الشهيد صلوات الله عليه كان فقيها عابدا زاهدا في الدنيا وزخارفها، بخلاف زيد بن الحسن بن الحسن فإنه كان مشابها لبني أمية ومجاريا معهم في أمور كثيرة، وقد ولوه المدينة وصاهر معهم وكان غير مرضي عند الطالبيين.(3/259)
أمر يَحْيَى بْن زيد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن عليهم السلام
1- حَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن علي الحرمازي، عَن علي القصير مولى قريش قَالَ: لما قتل زيد بْن علي استخفى ابنه يحي، ثُمَّ هرب- حين سكن عَنْهُ الطلب- إِلَى خراسان فقتل بِهَا، رماه رجل من أصحاب نصر بن سيّار، فقتله وأخذ رأسه (إلى نصر بن سيّار) فبعث بِهِ نصر إِلَى يُوسُف بْن عمر.
وكان يحي بْن الْحُسَيْن بْن زيد يسمى ذا الدمعة، وكانت عينه لا تكاد تجف من الدموع! فقيل لَهُ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ:
وهل/ 512/ ترك السهمان فيّ مضحكا ... سهم زيد وسهم يحي بْن زيد
2- وَقَالَ الكوفيون: لما قتل زيد أتى يحي جبانة السبيع فلم يزل بِهَا وَهُوَ فِي عشرة، فقيل لَهُ: قد فضحك الصبح وأين تريد؟! [1] فأتى «نينوى» ثم أتى قرية نصر بن هبيرة- ولم يكن القصر يومئذ (كذا) - فنزل عَلَى رجل من أَهْل الْكُوفَةِ يقال لَهُ: سالم فتفرق أصحابه عَنْهُ، ثُمَّ أتى المدائن وهي إذ ذاك طريق النَّاس إِلَى خراسان، فبلغ يُوسُف خبره فسرح فِي طلبه حريث بْن أَبِي الجهم الْكَلْبِيّ فخرج حَتَّى أتى المدائن، ومضى يحي حَتَّى أتى الري فأقام بِهَا أياما، ثُمَّ توجه إِلَى سرخس فأقام بِهَا ستة أشهر، عند يزيد بْن عمر، وأتاه قوم من المحكمة، فسألوه أن يبايعوه على قتال بني أمية، فأعجبه ذَلِكَ منهم، فنهاه يزيد بن عمر، وقال: كيف تقاتل بقوم يتبرءون من علي وأهل بيته، فَقَالَ لهم قولا جميلا وفرقهم عنه، وأتى (يحي) بلخ من سرخس فأقام عند
__________
[1] وفي ترجمة يحيى من مقاتل الطالبيين ص 111، عن سلمة بن ثابت قال: فقلت له:
أين تريد؟ قال أريد النهرين- ومعه أبو الصبار العبدي- قال: فقلت له: إن كنت تريد النهرين فقاتل هاهنا حتى تقتل. قال: أريد نهري كربلا ...(3/260)
الحريش- وَهُوَ رجل من ربيعة- فلم يزل عنده حَتَّى مات هِشَام بْنِ عَبْدِ الملك، وكتب يحيى إلى بني هاشم من خراسان:
خليلي عني بالمدينة بلغا ... بني هاشم أَهْل النهى والتجارب
فحتى متى لا تطلبون بثأركم ... أمية إن الدهر جم العجائب
لكل قتيل معشر يطلبونه ... وليس لزيد بالعراقيين طالب
3- قَالُوا: وبلغ يُوسُف بْن عمر خبر يحي فكتب إِلَى نصر بْن سيار أن خذ الحريش بيحي بْن زيد حَتَّى يأتيك بِهِ، فكتب نصر إِلَى عقيل بْن معقل عامله عَلَى بلخ فِي ذَلِكَ، فجحد الحريش أن يكون يعرف مكانه، فحمله إِلَى نصر فلم يقر لَهُ بأنه عنده وَلا أنه يدري أين هُوَ، فضربه ستمائة سوط وهو يقول: دلني على يحي. فيقول: والله لو كَانَ تحت قدمي مَا رفعتها عَنْهُ فاصنع مَا أنت صانع!!! فلما رأى ذَلِكَ ابنه قريش بْن الحريش دل على يحي!! فوجد في بيت جوف بيت فأخذوه ومعه يزيد بْن عمر، ورجل آخر من عَبْد القيس شخص مَعَهُ من الْكُوفَة، فحمله إِلَى نصر، فلما صار إِلَيْهِ حبسه وكتب نصر إلى يوسف يخبره (به) فكتب بِذَلِكَ إِلَى الوليد، فأمر الوليد أن يؤمن يحي ويخلي سبيله وسبيل أصحابه، وَقَالَ: إنما هُوَ رجل هرب واستخفى.
فأطلقه نصر وأمره أن يلحق بالوليد، وأعطاه ألفي درهم ونعلين.
فخرج (يحي) حَتَّى أتى سرخس فبعث إِلَيْهِ نصر من أزعجه، وكتب إِلَى العمال فِي إزعاجه وأن يسلمه كُلّ عامل إِلَى العامل الَّذِي يليه، وكان (يحي) يبسط لسانه فِي بني أمية والوليد ويوسف بْن عمر، وهشام فيكف عَنْهُ، فلما صار بأبر شهر سلم إِلَى عاملها عَمْرو بْن زرارة، فبره وأمر لَهُ بألف درهم نفقة. ويقال بخمسة آلاف درهم. فلما صار من بيهق خاف أن يصير إلى يوسف فيغتاله وبيهق أقصى عمل خراسان، وكان يحي بن زيد قد اشترى دواب فحمل(3/261)
أصحابه عَلَيْهَا وهم سبعون رجلا، فرجع إِلَى عَمْرو بْن زرارة، فَقَالَ: إني إنما أريد بلخ ولست أقيم فِي عملك إِلا ريثما أريح وأستريح فإني أجد علة، فأقام بأبر شهر أياما، وكتب عَمْرو بْن زرارة بِذَلِكَ إِلَى نصر، فوجه نصر جيشا أمده بِهِ، فواقعهم يحي وَهُوَ فِي سبعين فهزمهم وقتل عمرًا وعدة من أصحابه وأخذ سلاحهم.
وسار (يحيى) حَتَّى أتى هراة، ثُمَّ أتى الجوزجان، فانضم إِلَيْهِ قوم من أهلها وأهل الطالقان والفارياب/ 513/ أو 257/ أ/ وبلخ، فتتام جميع من معه مائة وخمسين رجلا.
فلما بلغ نصرًا مقتل عَمْرو بْن زرارة ونزول يحي الجوزجان، وجه سلم ابن أحوز التَّمِيمِيّ من بني كابية بْن حُرْقُوص بْن مازن بْن مالك بن عمرو ابن تميم فِي ثمانية آلاف من أَهْل الشَّامِ وغيرهم من أَهْل خراسان.
فخرج سلم فواقعه وقد عبأ أصحابه فجعل سورة بن محمد بن عبد الله ابن عزيز الكندي عَلَى ميمنته، وحماد بْن عَمْرو السعدي على ميسرته.
وعبأ يحي أَيْضًا أصحابه فاقتتلوا ثلاثة أيام ينتصف كُلّ من كُلّ وليست تزول قدم رجل من أصحاب يحي!!! فلما كان في اليوم الثالث من آخر النهار رمى رجل من موالي عنزة يحي بنشابة فأصابت جبهته، وحف بِهِ أصحابه فقاتلوا أشد قتال سمع بِهِ، ولم يفارقوه حَتَّى قتلوا عَن آخرهم!!! ووجد سورة بْن مُحَمَّد بن عبد الله يحي قتيلا فاحتز رأسه، وأخذ الَّذِي رماه سلبه حتى قميصه!!! فلما ظفر أبو مسلم أخذ سورة بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بن عزيز الكندي والرجل الذي رمى (يحي) فقطع أيديهما وأرجلهما وصلبهما.
وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بن عزيز من أصحاب ابن الحنيفة، وقتل يوم عين الوردة مع التوابين.
وبعث سلم بن أحوز برأس يحي إِلَى نصر. فبعث بِهِ نصر إِلَى يُوسُف ابن عمر، وبعث بِهِ يُوسُف إِلَى الوليد بْن يزيد.(3/262)
وصلبت جثته عَلَى باب الجوزجان سنة خمس وعشرين ومائة، فلم يزل جثة يحي مصلوبة إِلَى أن ظهرت المسودة بخراسان، فأنزلوه وغسلوه وكفنوه وصلوا عَلَيْهِ ودفنوه، وتولى ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ خالد بْن إِبْرَاهِيمَ، وخازم بْن خزيمة، وعيسى بْن ماهان.
وبلغ أبا مسلم أن إبراهيم بن ميمون الصائغ، كان ممن أعان على يحي فقتله، وتتبع قتلة يحي وأصحابه فجعل يقتلهم فقيل لَهُ: إن أردت استقصاء أمرهم فعليك بالديوان فلم يدع أحدًا ممن وجد اسمه فِي الجيش الموجه إِلَيْهِ ممن قدر عَلَيْهِ إِلا قتله.
وَكَانَ إِبْرَاهِيم البيطار (من) أشد الناس على يحي فمر أبو مسلم يوما وغلمان (يلعبون) بالحمام فَقَالَ قائل منهم: سقط حمامي فِي منزل إِبْرَاهِيم البيطار. فسأل عَن منزل إِبْرَاهِيم فوقفوه عَلَيْهِ فأمر بِهِ فاستخرج من منزله فعرفه بالصفة (ظ) وأقرّ بإعانته على يحي فقطع يديه وصلبه فَقَالَ الشاعر:
ألا يَا عين ويحك أسعديني ... لمقتل ماجد بالجوزجان
وقتل سلم بْن أحوز، بجرجان، حين قدمها قحطبة وَهُوَ يريد الْعِرَاق، وسلم هُوَ الَّذِي قتل جهم بن صفوان صاحب الجهمية بمرو.
4- وحدثني محمد بن الأعرابي قال: قتل يحي بالجوزجان، وصلب فِي طاق بِهَا، فلم يزل مصلوبا حَتَّى ظهر أمر أَبِي مسلم بخراسان، فأمر به فأنزل و (و) وري و (هو الذي) تولى الصلاة عَلَيْهِ ودفنه، وتتبع جميع من قاتله فقتلهم إلا من أعجزه منهم (أ) وسود (من) أهل خراسان.
5- وقال أبو عبيدة: هرب يحي ومعه زهير بْن مُحَمَّد العامري فأخفاه فِي قرية لعبد الملك بْن بشر بْن مروان، فطلب فلم يقدر عليه، فلما سكنت(3/263)
الافره [1] مضى إِلَى خراسان وَكَانَ مَعَهُ أَبُو نميلة مولى بني عبس وَكَانَ دليل نصر بْن سيار عَلَيْهِ [2] .
6- وَحَدَّثَنِي عَلِيّ بْن الأثرم، عَن أَبِي عُبَيْدَة مَعْمَر بْن المثنى عَن أَبِي جنادة العدوي قَالَ: خرج أَبُو مسلم فِي رمضان للطلب بدم يحي بْن زَيْد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أبي طالب عليهما السلام فعقد لواء أسود، وخرج ومن مَعَهُ مسودين/ 514/ أو 257 ب/ كما يلبس للإحداد، وَكَانَ ذَلِكَ أول سواد رأيناه فاقشعررنا منه.
7- وَحَدَّثَنِي أَبُو مسعود الْكُوفِيّ قال: هرب يحي بْن زيد فاستخفى ولم يقدر يُوسُف بْن عمر عَلَيْهِ وانطوى عَنْهُ خبره، فلما كف عَنْهُ الطلب مضى إِلَى خراسان، فدل نصر بْن سيار عَلَيْهِ، فكتب إِلَى عامله عَلَى بلخ فأخذه وحمله إِلَى نصر فِي الحديد، فَقَالَ لَهُ نصر: ارحل عَن خراسان إِلَى حيث شئت، فَإِن أباك قتل أمس وأنا أكره أن أقتلك اليوم أَوْ أعرضك للقتل. فلم يقبل قوله وأتى نيسابور، فاجتمع إِلَيْهِ قوم فقتل عاملها وَهُوَ رجل من بني سليم وأخذ مَا فِي بيت المال، فوجه نصر بْن سيار إِلَيْهِ سلم بْن أحوز المازني من تميم صاحب شرطته، فقاتله فِي يوم جمعة إِلَى وقت الصلاة، ثم تحاجزوا، ودخل يحي وأصحابه منقلة [3] ليتوضئوا للصلاة ويصلوا، فكرّت عليهم خيل سلم [4] وهم غارون فقتلتهم، وشد رجل من كندة يقال لَهُ سورة بن
__________
[1] كذا.
[2] كذا في الأصل، والظاهر انه وقع في الكلام حذف وسقط.
[3] المنقلة: الطريق في الجبل. أرض ذات حجارة صغيرة.
[4] هذا هو الظاهر، أي فعطفت عليهم فوارس جند سلم ... وفي الأصل: «فكررت عليهم سلم الخيل ... » .(3/264)
محمد على يحي فقتله واحتز رأسه وأتى نصرًا بِهِ، فبعث به إلى وليد بن يزيد فنصبه بدمشق.
8- (و) قال الشاعر في يحي حين حمل مكبلا [1] :
أليس بعين اللَّه مَا تصنعونه ... عشية يحي موثق في سلاسل
كلاب تعاوت لا هدى اللَّه أمرها ... فجاءت بصيد لا يحل لآكل
وبعضهم يقول: صلب (يحي) بالطالقان. وذلك غلط.
9- المدائني قَالَ: كَانَ زيد بْن علي يقول: اطلب مَا يعنيك واترك مَا لا يعنيك، فَإِن فِي ترك مَا لا يعنيك دركا لما يعنيك، وإنما تقدم عَلَى مَا قدمت لا عَلَى مَا أخرت، وآثر مَا تلقاه غدًا عَلَى مَا لا تلقاه أبدا [2] .
__________
[1] قال أبو الفرج- في ترجمة يحي من مقاتل الطالبيين ص 113-: فحدثني محمد بن العباس البريدي قال: أخبرني الرياشي قال: قال رجل من بني ليث يذكر ما صنع بيحي بن زيد «أليس بعين الله ... » .
[2] وهذا الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام، وقد أخذه زيد رضوان الله عليه عنه، وقد ذكرناه في المختار: (200) من باب قصار كلامه عليه السلام من نهج السعادة.
ثم إنه كان على المصنف أن يذكر هذا الحديث في ترجمة زيد الشهيد، لا في ترجمة ابنه يحي إلا أن يقال: انه أوصى به إلى ابنه يحي وأن ذكر يحي قد سقط عن قلم الكاتب.(3/265)
أمر مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن زيد بْن علي بن (الحسين) عليهم السلام
1- قَالُوا لما مات ابْن طباطبا [1] عقد أَبُو السرايا لمحمد بْن مُحَمَّد بْن زَيْد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ، وهو يومئذ غلام فخطب فأحسن القول فِي بني العباس وَقَالَ: إن قوما يزعمون أن مال بني العباس فيء لنا (وهؤلاء) جهال ضلال يحكمون بلا علم ويقولون بلا روية. فقام إِلَيْهِ عَبْد العزيز بْن عيسى بْن مُوسَى فجزاه خيرًا وشكره، وَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ بْن رئاب: قد كَانَ هَذَا الكلام يتلجلج فِي صدري حَتَّى أخرجه اللَّه عَلَى لسانك.
ووجه الحسن بْن سهل عبدوس بن أبي خالد المروروذي (كذا) أحد قوّاد الأبناء في كنف من النَّاس فقاتله فقتل عبدوس وجميع أصحابه، وأسر هارون أخوه- المقتول بالسند فِي خلافة الواثق بالله- فحبس بالْكُوفَة، ونزل أَبُو السرايا قصر ابْن هبيرة، ثُمَّ نهر صرصر، وبعث إِلَى المدائن من أخذها، فوجه الحسن بْن سهل إِلَيْهِ- بمشورة منصور بْن المهدي وغيره- هرثمة بْن أعين وَقَالَ عَلِيّ بْن أَبِي سعيد: هبوا أن هرثمة قد مات أتضيع الخلافة؟ وَكَانَ هرثمة قد شخص يريد خراسان والمأمون بِهَا، فوجه إِلَيْهِ من رده وضم إِلَيْهِ مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ الإفريقي وموسى بْن يحي بن خالد بن برمك، فعسكر بالفرك.
__________
[1] وهو مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ بْن إِسْمَاعِيل بْن إِبْرَاهِيمَ بن حسن بن حسن بن علي، وقد تقدم تلخيص قصته وبيعة أبي السرايا إياه في ختام ترجمة أولاد الإمام الحسن متصلا بترجمة الإمام الحسين عليه السلام ص 140، من هذا الجزء، وتفصيل ترجمته وترجمة أبي السرايا في مقاتل الطالبيين ص 313 ط مصر.(3/266)
ومضى إلى نهر صرصر، واتخذ جسرًا ربطه بالسلاسل، فقاتل أبا السرايا فهزمه، ولقيه خيل ابن أبي سعيد بالمدائن فقتل أبا الهرماس (ظ) أحد أصحابه ومضى أبو السرايا يريد قصر ابن هبيرة، وأقحم هرثمة بمهرى (كذا) له في الأجمة، فلم يكن له حيلة فنادى: يا أبا السرايا إني لم آت لمحاربتك، ولكنه بلغنا موت المأمون، فجئت/ 515/ أو 258/ أ/ ليجتمع على رجل يلي الأمر.
فريّثه [1] حَتَّى تخلص وتلاحق بِهِ أصحابه فحمل عَلَى أَبِي السرايا وأصحابه وأنشب الحرب فهزمهم هرثمة، وقتل من أَهْل الْكُوفَةِ زهاء ثلاثين ألفا، وصار أَبُو السرايا إِلَى الْكُوفَةِ منهزما، وقدم قوم من أَهْل «قم» فصاروا مَعَ أَبِي السرايا فلقي هرثمة فتضعضع أصحابه للقاء القميين إياهم، ثُمَّ لم يزل هرثمة يغاديهم القتال ويراوحهم إياه أربعين يوما حَتَّى قتل من أَهْل الْكُوفَةِ خلق وفشلوا، فكان يصاح السلاح فلا يخرج منهم احد.
وتوجه أَبُو السرايا إلى البصرة، وعامله عليها العباس بن محمد الجعفري فغلبه عَلَيْهَا زيد بْن مُوسَى وسبق عَلِيّ بْن أَبِي سعيد أبا السرايا إِلَى الْبَصْرَة فقاتله أهلها ومن بِهَا من العلوية، وَكَانَ أَحْمَد بْن سعيد بْن سلم عَلَى مقدمة ابْن أَبِي سعيد، فخرج [2] زيد بْن مُوسَى إِلَى الْمَدِينَة، ومال أَبُو السرايا إِلَى الأهواز فلقية الباذ عيسى [3]- وَهُوَ يلقب المأموني، والقطيعة بسر من رأى منسوبة إِلَيْهِ- فقتل أصحاب أَبِي السرايا تحت (كل) حجر.
__________
[1] أي عوقه وعطله عن التحصين وإعداد الأمر. ثم ان رسم الخط في هذه الكلمة غير جلي ولكن السياق لا يساعد على غير ما ذكرناه. وكذلك كلمتي «تخلص وتلاحق» ذكرتا بلفظ الغيبة والمثناة التحتانية، والصواب بالفوقانية كما ذكرناه.
[2] ويحتمل رسم الخط أيضا أن يقرء: «فهزم» أي هزم أحمد بن سعيد زيد بن موسى.
[3] رسم خط هذه اللفظة غير واضح ويمكن أن تقرء «الباذ عيسي» .(3/267)
واعتل [1] أَبُو السرايا فمضى هُوَ ومحمد بْن مُحَمَّد، وأبو الشوك والطبكي- وَكَانَ الطبكي قد سار مع أبي السرايا- متنكرين حتى صاروا إِلَى ناحية خانقين فأنزلهم رجل هناك.
وكان حماد الكندغوش (ظ) عَلَى طريق خراسان، فبعث إِلَيْهِ الَّذِي آواهم إن أردت أبا السرايا، ومحمد بْن مُحَمَّد وأبو الشوك فإنهم عندي، فركب حماد وأحس القوم بالشر فتسوروا حائطا ومضوا فدخلوا الجبل، فطلبهم حماد حَتَّى وقف عليهم فأخذهم وجاء بهم إِلَى الحسن بْن سهل- والحسن بالنهروان- فأدخلهم عليه، فأمر بضرب عنق أبي السرايا [2] فضربه هارون ابن أبي خالد، وبعث بمحمد بن (محمد، و) أبي الشوك إلى المأمون بخراسان فمات محمد بعد ما شاء الله [3] وبقي أبو الشوك حينا ثُمَّ مات [4] .
فكان عقب علي من ولده للحسن والحسين، والعباس ابن الكلابية، وعمر ابن التغلبية، ومحمد بن الحنفية عليهم السلام.
__________
[1] لعل هذا هو الصواب أي تمسك بعلة فمضى. ويحتمل رسم الخط قويا أن يقرأ: «وأعقل» .
[2] هذا هو الصواب، وفي النسخة: «فأمر بضرب عنق ابن أبي السرايا» .
[3] قال أبو الفرج في ترجمته من مقاتل الطالبيين ص 361: دست إليه شربة فكان يختلف كبده وحشوته حتى مات.
[4] لم يذكر المصنف حال الطبكي ومآل أمره.(3/268)
أمر مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن أَبِي طالب وَهُوَ ابْن خولة الحنفية
1- حَدَّثَنَا الْحُسَيْن بْن علي بْن الأسود العجلي، عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ، عَن عَبْد اللَّهِ بْن المبارك، عَن الحسن بْن عمرو الفقيمي، عَن منذر الثوري:
عَن ابْن الحنفية أنه قال: ليس بحكيم [1] من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بدًا حَتَّى يجعل اللَّه لَهُ فرجا ومخرجا.
2- وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح المقري، عَن ابْن كناسة، حَدَّثَنِي مشايخ لنا، قَالُوا:
أهدى يزيد بْن قَيْس إِلَى الحسن والحسين هدية فخطا علي (علي) كتف ابْن الحنفية، ثُمَّ قَالَ متمثلًا:
وما شر الثلاثة أم عمر ... بصاحبك الذي لا تصحبينا
فأهدى (يزيد بن قيس) إِلَيْهِ كما أهدى إِلَى أحدهما.
3- وَحَدَّثَنَا أَبُو الحسن المدائني [2] قَالَ: قَالَ ابْن الحنفية الكمال فِي ثلاث: الفقه فِي الدين [3] ، والصبر فِي النوائب، وحسن التقدير للمعيشة.
__________
[1] هذا هو الصواب، وفي الأصل: «ليس بحليم» . وببالي أن الكلام لأمير المؤمنين عليه السلام وأن محمدا اقتبسه من ينبوع علم أبيه صلوات الله عليهما.
[2] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «أبو الحسين المدائني» .
[3] هذا هو الظاهر الموافق لغير واحد من طرق الرواية، وفي الأصل: «العفة في الدين» .
وببالي أن الكلام قد ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام ولكن لا يحضرني الآن باب القصار من كتابنا نهج السعادة كي أراجعه. والنوائب: جمع نائبة: المصائب والمكاره.(3/269)
4- المدائني عَن أَبِي العباس التَّمِيمِيّ قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن الحنفية: من كرمت عَلَيْهِ نفسه صغرت الدنيا فِي عينه.
5- وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَ خَالِد بْن المهاجر بْن خَالِد بْن الْوَليِد، مَعَ ابْن الحنفية، وَكَانَ المهاجر أبوه قتل مَعَ علي بصفين، فأخذ عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ خالد بْن المهاجر فعلق فِي عنقه ركوة مملوءة شرابا [1] ثُمَّ ضربه الحد فَقَالَ ابْن الحنفية: أن ابْن الزُّبَيْر لرحب الذراع بما يضره.
6- وَكَانَ ابْن الحنفية يقول إنما يأمن في غده/ 516/ أو 258 ب/ من خاف اللَّه فِي يومه [2] .
وَكَانَ يقول: شر عادات المرء اتباعه هواه.
7- المدائني قَالَ: قَالَ رجل لابن الحنفية وَهُوَ بالشام: أعلي أفضل أم عُثْمَان؟ فَقَالَ: أعفني. فلم يعفه فَقَالَ: أنت شبيه فرعون حين سأل مُوسَى فَقَالَ: «فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى. قالَ: عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ» (51- 52 طه) فصاح الناس بالشامي: يا شبيه فرعون. حَتَّى هرب إِلَى مصر.
8- وروي عَن ابْن الحنفية أنه قَالَ: من لم يستعن بالرفق في أمره أضر الخرق بعمله [3] .
[ولد محمد بن الحنفية]
9- وولد لمحمد بْن الحنفية- ويكنى أبا القاسم- الحسن بن محمد- (و) لا بقية لَهُ- وأمه جمال بنت قَيْس بْن مخرمة بْن المطلب بْن عَبْد مناف بْن قصي، وأمها درة بنت عقبة من الأنصار.
__________
[1] الركوة- كضربة-: إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
[2] وهذا مع ما يليه كان في النسخة مكتوبا بصورة النظم، ومعلوم انهما ليسا بشعر ومن منظوم الكلام، بل هما من منثور الكلام.
[3] هذا هو الصواب، وهو كقفل: ضد الرفق. وفي الأصل الخلق.(3/270)
وَهُوَ أول من تكلم فِي الإرجاء وَكَانَ ناسكا، مات في خلافة عمر ابن عَبْدِ العزيز. وأخوه لأمه الصلت بْن سعد بن الحرث بْن الصمة من بني النجار من الأنصار.
و (ولد أيضا) عبد اللَّه بْن مُحَمَّد، ويكنى أبا هاشم. وجعفر الأكبر، وحمزة وعلي لأم ولد تدعى نائلة.
وجعفر الأصغر، وعون، أمهما أم جعفر بنت مُحَمَّد بْن جعفر بْن أَبِي طالب.
والقاسم بن محمد وعبد الرحمان لا بقية لهما.
وأم القاسم وأم أبيها ورقية وحبابة، أمهم الشهباء بنت عبد الرحمان ابن الحرث بن نوفل بن الحرث بْنِ عَبْدِ المطلب، وأمها ابنة المطلب بْن أَبِي وداعة السهمي.
وإبراهيم بْن مُحَمَّد، وأمه مشرعة، ويقال: بسرة بنت عباد بْن شيبان بْن جابر بْن نسيب بْن وهيب، من ولد مازن بْن مَنْصُور بْن عكرمة بْن خَصَفَة، وأمها أميمة بنت ربيعة بن الحرث بْنِ عَبْدِ المطلب، وأمها أم الحكم بنت الزبير بنت عبد المطلب.
10- وقال أبو اليقظان: لأعقب لأبي هاشم عبد الله بن (محمد ابن) الحنفية. وَقَالَ غيره: ولد لَهُ هاشم ومحمد الأكبر أمهما من ولد أَبِي اللحم الغفاري.
[أمر عبد الله بن محمد أبو هاشم]
11- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ كناسة، عَن قَيْس بْن الربيع(3/271)
أن الشيعة كانت تزعم أن محمد ابن الحنفية هُوَ الإمام بعد عَلِيّ بْن أَبِي طالب [1] فلما توفي قَالُوا: هُوَ أَبُو هاشم ابنه، فوشى بأبي هاشم رجل [2] إِلَى الوليد
__________
[1] هذا ليس بصواب على الإطلاق، لأن جل الشيعة- بل كلهم- قائلون بإمامة السبطين الحسن والحسين عليهما السلام بعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام نعم بعد شهادة الإمام الحسين عليه السلام زعم بعضهم- وهم شرذمة قليلة يعرفون بالكيسانية- أن الإمام هو محمد بن الحنفية.
[2] ورواه أيضا في ترجمة زيد بن الحسن عليه السلام من تاريخ دمشق ج 6/ الورق 301/ أ/ من النسخة الظاهرية، وفي نسخة: ج 19 ص 91، وذكره أيضا في تهذيبه: ج 5 ص 46 قال: أخبرنا أبو نصر غالب بن أحمد بن المسلم، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن محمد ابن أيمن الدينوري قراءة عليه، أنبأنا أبو الحسن علي بن موسى بن الحسين إجازة، أنبأنا أبو سليمان محمد بن عبد الله بن أحمد الربعي أنبأنا أبي قال: (أنبأنا) الحسين بن أبي معشر، أنبأنا عن أبيه:
عن جده أبي معشر قال: كان علي بن أبي طالب اشترط في صدقته أنها إلى ذي الدين والفضل من أكابر ولده. قال: فانتهت صدقته في زمن الوليد بن عبد الملك إلى زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب، فنازعه فيها أبو هاشم عبد الله بن محمد، فقال: أنت تعلم أني وإياك في النسب سواء إلى جدنا علي، وإن كانت فاطمة لم تلدني وولدتك فإن هذه الصدقة لعلي وليست لفاطمة، وأنا أفقه منك وأعلم بالكتاب والسنة. حتى طالت المنازعة بينهما (كذا) فخرج زيد من المدينة إلى الوليد ابن عبد الملك وهو بدمشق فكبر عنده على أبي هاشم وأعلمه أن له شيعة بالعراق يتخذونه إماما، وأنه يدعو إلى نفسه حيث كان. فوقع ذلك في نفس الوليد ووقر في صدره وصدق زيدا فيما ذكره وحمله منه على جهة النصيحة، و (كان قد) تزوج ابنته- نفيسة ابنة زيد بن الحسن- «وكتب الوليد إلى عاملة بالمدينة في إشخاص أبي هاشم إليه، وأنفذ بكتابه رسولا قاصدا يأتي بأبي هاشم، فلما وصل إلى باب الوليد أمر بحبسه في السجن، فمكث فيه مدة، فوفد في أمره علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فقدم على الوليد فكان أول ما افتتح به كلامه حين دخل عليه أنه قال: يا أمير المؤمنين ما بال آل أبي بكر، وآل عمر، وآل عثمان يتقربون بآبائهم فيكرمون ويحيون وآل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقربون به فلا ينفعهم ذلك؟! فيم حبست ابن عمي عبد الله بن محمد طول هذه المدة؟! قال: بقول ابن عمكما زيد بن الحسن، فإنه أخبرني أن عبد الله بن محمد ينتحل اسمي ويدعو إلى نفسه وأن له شيعة بالعراق قد اتخذوه اماما. قال له علي بن الحسين: أو ما يمكن أن يكون بين ابني العم منازعة ووحشة كما يكون بين الأقارب فيكذب أحدهما على الآخر؟! وهذان كان بينهما كذا وكذا، فأخبره خبر صدقة على بن أبي طالب وما جرى فيها، حتى زال عن قلب الوليد ما كان قد خامره، ثم قال له: فأنا أسألك بقرابتنا من نبيك صلى الله عليه وسلم لما خليت سبيله.
فقال: قد فعلت، فخلى سبيله وأمره أن يقيم بحضرته، فأقام أبو هاشم بدمشق يحضر مجلس الوليد ويكثر (الجلوس) عنده ويسامره حتى إذا كان ذات ليلة أقبل عليه الوليد فقال: يا أبا البنات لقد أسرع الشيب إليك! فقال له أبو هاشم: أتعيرني بالبنات؟ وقد كان نبي الله شعيب أبا بنات وكان نبي الله لوط أبا بنات، وكان محمد خير البرية صلى الله عليه وسلم أبا بنات، فأي عيب علي فيما عيرتني به؟! فغضب الوليد من قوله وقال له: إنك رجل تحب المماراة فارحل عن جواري. قال: نعم والله أرحل عنك، فما الشام لي بوطن ولا أعرج فيها على سجن، ولقد طال فيها همي وكثر فيها ديني، وما أنا لك بحامد ولا إلى جوارك بعائد. ونهض وقد أحفظ الوليد (كلامه) فخرج عن دمشق متوجها إلى المدينة، فدس إليه الوليد إنسانا يبيع اللبن وفيه السم وكان عبد الله يحب اللبن ويشتهيه- فلما سمعه ينادي على اللبن تاقت إليه نفسه فاشترى منه فشربه فأوجعه بطنه واشتد به الأمر، فأمر أصحابه فغدوا به إلى الحميمة، وبها محمد بن علي بن عبد الله بن عباس فنزل عليه، فمرضه وأحسن إليه، فلما حضرته الوفاة أوصى إلى محمد بن علي ببنيه وعلمه وأسبابه كلها، وأمر شيعته الكيسانية بالائتمام به (ثم مات) فدفن (بها) .
وقد روي ان الذي سم أبا هاشم سليمان بن عبد الملك وسنذكر ذلك في ترجمته.(3/272)
ابن عَبْدِ الملك بْن مروان، وَقَالَ: إن لَهُ بالعراق شيعة وإنه يتسمى أمير الْمُؤْمِنِينَ!! فقبل الوليد ذَلِكَ، وبعث إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد، فقدم بِهِ عَلَيْهِ، فحبس فِي سجن دمشق، ثُمَّ حول من السجن إِلَى دار حَتَّى قدم عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن علي، عَلَى الوليد- وَكَانَ مرضيا عندهم- فكلمه فِيهِ فأطلقه وأنزله فِي قصره فكان يسمر عنده، فَقَالَ لَهُ ليلة من الليالي: لقد أسرع إليك الشيب يا (أ) با البنات- وَكَانَ أكثر ولده بنات- فَقَالَ لَهُ: أتعيرني بالبنات؟ وقد كَانَ نبي اللَّه لوط، ونبي اللَّه شعيب، ومحمد نبي اللَّه صَلَّى الله عليهم أبا بنات. فغضب الوليد وَقَالَ: إنك لألد!!! وأمره أن يرحل عَنْهُ، فرحل يريد الْمَدِينَة، فلما كَانَ بالبلقاء مرض فمال إِلَى مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العَبَّاس فتوفي عنده وأوصى إِلَيْهِ.(3/273)
12- المدائني عن غسان بن عبد الحميد، قال: وفد أَبُو هاشم عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن الحنفية، عَلَى سُلَيْمَان بْنِ عَبْدِ الملك فوصله ثُمَّ تجهز فقدم ثقله، وأتى سُلَيْمَان ليودعه، فحبسه سُلَيْمَان حَتَّى تغدى عنده فِي يوم شديد الحر، فخرج نصف النهار وقد عطش عطشا شديدا، فمر/ 517/ أو 259/ أ/ بأخبية فعدل إِلَى خباء مِنْهَا فاستسقى فسقي ففتر وسقط، فأرسل رسولا إِلَى مُحَمَّد بْن علي ابن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس وَقَالَ لَهُ: إن هَذَا الأمر أمر أنت أول من يقوم بِهِ، ولولدك آخره [1] .
13- المدائني قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة، أخا الحسن بْن الحسن لأمه، وَكَانَ جلدًا فغلب عَلَى الأموال التي (كانت) لبني الحسن، فشكوا ذلك إلى أبي هاشم ابن محمد ابن الحنفية، فإنه لعند هِشَام بْن إِسْمَاعِيل المخزومي وَهُوَ والي الْمَدِينَة، إذ دخل إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن طَلْحَة، فَقَالَ أَبُو هاشم: أصلح اللَّه الأمير إن أردت الظالم الظالع فهذا- وكان إبراهيم أعرج- فأغلظ لَهُ إِبْرَاهِيم، وَقَالَ: أما والله إني لأبغضك. فَقَالَ: مَا أحقك بِذَلِكَ، ولم لا تبغضني وقد قتل جدي أباك، وناك عمي أمك!!! وأمه خولة بنت منظور.
14- وَحَدَّثَنِي حَفْص بْن عُمَر، عَن الْهَيْثَم بْن عدي عَن معن بْن يَزِيد الْهَمْدَانِيّ، قَالَ: لما استخلف سُلَيْمَان بْنِ عَبْدِ الملك، أتاه أَبُو هاشم عَبْد الله بن محمد ابن الحنفية وافدًا فِي عدة من الشيعة، منهم أَبُو ميسرة، وأبو عكرمة مولى قريش، وحيان خال إبراهيم بْن سلمة وغيرهم، وَكَانَ مُحَمَّد ابن الحنفية حين حضرته الوفاة أوصى إِلَيْهِ وقلده أمر الشيعة والقيام بشأنهم، فلما دخل
__________
[1] هذا كان في الأصل مكتوبا بصورة النظم مع انه نثر بلا ارتياب.(3/274)
عَلَيْهِ استبرع بيانه وعقله، وَقَالَ: مَا أظن هَذَا إِلا الَّذِي يحدث عَنْهُ [1] فأجازه وقضى حوائجه ثُمَّ شخص، فبعث سُلَيْمَان مَعَهُ دليلا وأمره أن يخدمه، فحاد بِهِ عَن الطريق وقد أعدّ له أعرابيا فِي خباء ومعه غنم لَهُ ومعه سمّ، فوافاه وقد كاد العطش (أن) يأتي عَلَيْهِ، فاستسقى من الأعرابي فسقاه لبنا قد جعل فِيهِ ذَلِكَ السم، فلما شربه مرض فلما (اشتدّ به المرض) مال إِلَى مُحَمَّد بْن (عَلِيّ بْن) عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس وَهُوَ بالحميمة فمات عنده.
15- وَحَدَّثَنِي أَبُو مسعود الْكُوفِيّ، عَن عوانة، قَالَ: قدم (أبو) هاشم عبد الله بن محمد ابن الحنفية، عَلَى سُلَيْمَان بْنِ عَبْدِ الملك فبره وأكرمه، ثُمَّ صرفه واعد لَهُ فِي طريقه أعرابا فِي أخبية وعندهم أغنام لهم، ووجه مَعَهُ رجلا من خاصته ينزله ويقوم بحوائجه، فلما صار إِلَى الأخبية عرض عَلَيْهِ لبنًا وقد اشتد عطشه، فدعا الرَّجُل لَهُ بِهِ، فأتي بِشَيْءٍ منه فِي قدح نطار [2] فألقى فِيهِ سما دفعه سُلَيْمَان إِلَيْهِ وأبو هاشم لا يدري، فلما شربه أحس بالشرّ، فعدل إِلَى الحميمة فمات هناك عند مُحَمَّد بْن عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ ابْن العباس بْنِ عَبْدِ المطلب، وَقَالَ لَهُ: يَا ابْن عمّ كنّا نظن الإمامة فينا، فقد زال الشك وصرح اليقين بأنك الإمام دون أَبِي رحمه اللَّه [3] .
وأعطاه كتبه وسمّى له شيعته.
__________
[1] أي الذي يحدث عنه بأنه يسلب ملك بني أمية.
[2] ويساعد رسم الخط على أن يقرء: «فطار» .
[3] الحديث ضعيف السند، وذيله باطل في باطل.(3/275)
خبر محمد بن الحنفية، وَابْن الزُّبَيْر، وعبد الملك بْن مروان
16- قَالُوا: بايع مُحَمَّد ابْن الحنفية ليزيد بْن مُعَاوِيَة، حين أخذ مُعَاوِيَة لَهُ البيعة عَلَى الناس، غير مغتاض ولا متلوّ (ولا ملتو «خ» ) عَلَيْهِ [1] فكان مُعَاوِيَة يشكر لَهُ ذَلِكَ ويصله عَلَيْهِ، ويقول: مَا فِي قريش كلها أرجح حلما وَلا أفضل علمًا وَلا أسكن طائرًا وَلا أبعد من كُلّ كبر وطيش ودنس من مُحَمَّد بْن علي!! فَقَالَ لَهُ مروان: ذلك يوم (كذا) والله ما نعرفه إلا بخير، فأما كلما يذكر فَإِن غيره من مشيخة قريش أولى بِهِ. فَقَالَ مُعَاوِيَة: لا تجعلن من يتخلق لنا تخلقا، وينتحل لنا الفضل انتحالا كمن جبّله الله على الخير/ 518/ أو 259 ب/ وأجراه على السداد، فو الله ما علمتك إلا موزعا معزى بالخلاف.
[ابن الحنفية وابن الزبير]
وَكَانَ يزيد يعرف ذَلِكَ لَهُ أَيْضًا، فلما ولي يزيد، لم يسمع عَن ابْن الحنفية إلا جميلا، وببيعته إلا تمسكا ووفاءا، وازداد لَهُ حمدًا وعليه تعطفا.
فلما قتل الحسين بن علي وكان من أمر ابْن الزُّبَيْر مَا كَانَ- مما نحن ذاكروه إن شاء اللَّه- كتب يزيد إِلَى ابْن الحنفية يعلمه أن قد أحب رؤيته وزيارته إياه ويأمره بالإقبال إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ ابنه: لا تأته فإني غير آمنه عليك. فخالفه ومضى إِلَى يزيد، فلما قدم عليه، أمر (به) فأنزل
__________
[1] لم يذكر المصنف هؤلاء القائلين بالقضية المذكورة هاهنا، ولا مشايخهم من سلسلة الروات كي ينظر في شأنهم، فالرواية بما أنها بلا سند ومرسلة غير واجدة لشرائط القبول، ولا ناهضة للحجية- لاحتمال كون رواتها أو بعضهم من الكذابين أو ممن يأخذ الجعل من بني أمية لترويج شأنهم واختلاق الأباطيل لتقوية سلطانهم- فما تضمنته مردود على مختلقها، ولعله هو معاوية فإنه دائما كأخيه كان يزور الإفك والبهتان، ويقرض بعض من كان متصلا بخصمه ممن لا استقلال له بالخصومة، تضعيفا لجانب خصمه وتمويها على البسطاء وتجليبا لمن قرضه إليه وفصلا عن عدوه!!!(3/276)
منزلّا وأجرى عليه ما يصلحه ويسعه، ثُمَّ دعا بِهِ وأدنى مجلسه وقربه حَتَّى صار مَعَهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: آجرنا الله وإياك في الحسين بن علي، فو الله لئن كان نقصك لقد نقصني ولئن كان أوجعك فلقد أوجعني، ولو أني أنا الَّذِي وليت أمره ثُمَّ لم استطع دفع الموت عَنْهُ إِلا بجز أصابعي أَوْ بذهاب نواظري لفديته بِذَلِكَ، وإن كَانَ قد ظلمني وقطع رحمي!!! وَلا أحسبه إِلا قد بلغك أنا نقوم بِهِ فننال منه ونذمه وأيم اللَّه مَا نفعل ذَلِكَ لئلا تكونوا (ظ) الأحباء الأعزاء، ولكنا نريد إعلام الناس [1] بأنا لا نرضى إِلا بأن لا ننازع أمرًا خصنا اللَّه بِهِ وانتخبنا اللَّه لَهُ!!! فَقَالَ لَهُ ابْن الحنفية: وصلك اللَّه ورحم حسينا وغفر له، وقد علمنا أن ما نقصنا فهو لك ناقص، وما عالنا فهو لك عائل، وما حسين بأهل أن تقوم به فتنقصه وتجذبه [2] وأنا أسألك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أن لا تسمعني فِيهِ شَيْئًا أكرهه. فَقَالَ يزيد: يَا ابْن عم لست تسمع مني فِيهِ شيئا تكرهه.
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: ولكنا نريد إعلام الناس لنا ... ثم إن صحت الرواية وصدر الكلام من الرجل في غير حال السكر فهذا اقتداء منه بأخيه الشيطان حيث عتا عن أمر الله وجعل نفسه خيرا ممن اختاره الله عليه وعلى جميع البرية فقال ردا على الله: أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين!!! ما للطلقاء وأبناء الطلقاء وخلافة رسول الله؟ أما كان يكفيهم قبول الإسلام منهم مع ما فيهم من إبطان الكفر والنفاق وإخلادهم إلى الدنيا وكيدهم بالمؤمنين واعتناقهم بالغدر والخيانة والفسق والفجور، من الزنا وشرب الخمور ولبسهم الذهب والحرير واتجارهم بالخمور والخنزير؟!! ولكن الظاهر- على فرض صدق الرواية- أن الكلام صدر منه في حال السكر فإنه كان دائم الشرب سكيرا، وإلا فإن العالم بأسرهم- أعداء بني أمية وأولياؤهم- كانوا يعرفون أن سلطة بني أمية حصلت بحيلة شيطانين كبيرين وتعاضدهما في المكر وإغواء الناس بعد ما كانت المقدمات ممهدة لهما، وثار معهما غوات أهل الشام وأمهلهم الله ولم يعاجلهم بالعقوبة كي يتم عليهم الحجة، كما انه تعالى أمهل الشيطان وفراعنة الأمم، وإمهاله تعالى للمتمردين ليس لأجل محبته لهم واصطفائه إياهم كما قال تعالى: «فلا يحسبن الذين كفروا انما نملي خير لهم إنما على لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب أليم» !!!
[2] يقال: «عال الميزان- من باب باع- عيلا» : نقص. وعالت الناقة ذنبها:
رفعته. وتحذ به- من باب ضرب-: تدفعه.(3/277)
وسأله (يزيد) عَن دينه فَقَالَ: مَا علي دين. فَقَالَ يزيد لابنه خالد بْن يزيد: يَا بني إن عمك هَذَا بعيد من الخب واللؤم والكذب، ولو كان كبعض هَؤُلاءِ لقال: علي كَذَا وكذا. ثُمَّ أمر له بثلاثمائة ألف درهم فقبضها، ويقال: أنه أمر لَهُ بخمس مائة ألف وعروض بمائة ألف درهم.
وَكَانَ يزيد يتصنع لابن الحنفية ويسأله عَن الفقه والْقُرْآن، فلما جاء ليودعه قَالَ لَهُ: يا (أ) با القاسم إن كنت رأيت مني خلقا تنكره نزعت عَنْهُ وأتيت الَّذِي تشير بِهِ علي؟! فقال: والله لو رأيت منكرًا مَا وسعني إِلا أن أنهاك عَنْهُ، وأخبرك بالحق لله فِيهِ، لما أخذ الله على أهل العلم عن أن يبينوه (كذا) للناس ولا يكتموه، وما رأيت منك إلا خيرا.
وشخص (ابن الحنفية) من الشَّام حَتَّى ورد الْمَدِينَة، فلما وثب النَّاس بيزيد وخلعوه ومالوا إِلَى ابْن الزُّبَيْر، وأتاهم مسلم بْن عقبة المري فِي أَهْل الشَّامِ، جاء عَبْد اللَّهِ بْن عمر بْن الخطاب وعبد اللَّه بْن مطيع فِي رجال من قريش والأنصار فَقَالُوا لابن الحنفية: أخرج معنا نقاتل يزيد. فَقَالَ لهم مُحَمَّد بْن علي: عَلَى ماذا أقاتله ولم أخلعه؟! قَالُوا: إنه كفر وفجر وشرب الخمر وفسق فِي الدين [1] . فَقَالَ لهم مُحَمَّد بْن الحنفية: ألا تتقون الله هل رآه أحد
__________
[1] والذي نسبه هؤلاء إلى يزيد من الفجور وشرب الخمر والفسوق في الدين، قد نسبه إليه جماعة كثيرة آخرون، ممن يصدق قوله فيه كأبيه معاوية، وثبت أيضا من سيرته القطعية المروية من طريق شيعته وأوليائه، وما ذكره محمد بن الحنفية في جواب القوم فرار منه عن إجابته إياهم إلى حرب يزيد، وإلا فكل من مارس التاريخ يعلم أن ابن الحنفية لم يعاشر يزيد إلا في سويعات من أيام قليلة زار يزيد في أيام دعوى ابن الزبير الخلافة، بخلاف القوم فإنهم كانوا عاشروه في أيام معاوية وبعده وكانوا يفدون إليهما كثيرا طلبا لما في أيديهما. وقول ابن الحنفية: «أفأطلعكم.
أنتم عليه؟» أيضا غير تمام فإن يزيد ما أراد أن يطلع القوم على عمله ولا تعمد يوما أن يعلم الناس ما هو فاعله ومولع عليه، لكن كان غرا غرقا في الشهوات دائم الشرب سكيرا غير مبال في قضاء شهواته ليلا ونهارا، ولهذا كتب إليه أبوه في أبيات له بأن يقتصر في قضاء شهواته بما إذا أرخى الليل سدوله ونامت العيون وخلى الجو عن الرقباء وقال له: فإنما الليل نهار الأريب!!! وأما كفره فيكفيه تمثله بأبيات ابن الزبري في مجمع من الناس لما ضرب بخيزرانه على شفتي ابن رسول الله وريحانته!!! إلى غير ذلك مما ذكره أولياء يزيد، ومعاوية، كما تقرأ جما غفيرا من شواهده في «كتاب الرد على المتعصب العنيد» لابن الجوزي وكتاب «عبرات المصطفين» للمحمودي وسيمثلان للطبع إن شاء الله تعالى.(3/278)
منكم يعمل مَا تذكرون؟ وقد صحبته أكثر مما صحبتموه فما رأيت منه سوءًا.
قَالُوا: إنه لم يكن يطلعك عَلَى فعله. قَالَ: أفأطلعكم أنتم عَلَيْهِ؟! فلئن كَانَ فعل إنكم لشركاؤه؟ ولئن كَانَ لم يطلعكم لقد شهدتم عَلَى غير مَا علمتم.
فخافوا أن يثبط قعوده النَّاس عَن الخروج، فعرضوا عَلَيْهِ أن يبايعوه إذ كره أن يبايع لابن الزُّبَيْر، فَقَالَ: لست أقاتل تابعا وَلا متبوعا. قَالُوا: فقد قاتلت مَعَ أبيك. قَالَ: وأين مثل أَبِي اليوم؟!!! فأخرجوه كارها ومعه بنوه متسلحين وَهُوَ فِي نعل ورداء، وَهُوَ يقول: يَا قوم اتقوا الله (و) لا تسفكوا دماءكم.
فلما رأوه غير منقاد لهم خلوه، فذهب أَهْل الشَّامِ ليحملوا عَلَيْهِ فضارب بنوه دونه فقتل ابنه القاسم بْن مُحَمَّد، وضرب أبو هاشم/ 519/ أو 260/ أ/ قاتل أخيه فقتله.
وأقبل ابْن الحنفية إِلَى رحله فتجهز ثُمَّ خرج إِلَى مَكَّة من فوره ذَلِكَ، فأقام بِهَا حَتَّى حصر عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ حصاره الأول وَهُوَ فِي ذَلِكَ قاعد عَنْهُ لا يغشاه وَلا يأتيه.
وسأل قوم من الشيعة من أَهْل الْكُوفَةِ عَن خبره فأعلموا أنه بِمَكَّةَ، فشخصوا إِلَيْهِ وكانوا سبعة عشر رجلا، وهم معاذ بْن هانئ بن عدي ابن أخي حجر ابن عدي الكندي ومحمد بْن يزيد بْن مزعل الْهَمْدَانِيّ ثُمَّ الصائدي ومحمد بْن نشر الْهَمْدَانِيّ [1] وأبو المعتمر حنش بْن ربيعة الكناني، وأبو الطفيل عامر بن واثلة
__________
[1] كذا في الأصل.(3/279)
الكناني وهانئ (بْن) قَيْس الصائدي، وصخير بْن مالك المزني وسرح بْن مالك الخثعمي والنعمان بن الجعد الغامدي وشريح بن حنا الحضرمي (كذا) ويونس ابن عمران الجابري من همدان، وعبد اللَّه بْن هانئ الكندي، وَهُوَ الَّذِي قتل بعد ذَلِكَ مَعَ المختار، وجندب بْن عَبْدِ اللَّهِ الأزدي ومالك بن حزام بن ربيعة- (و) قتله المختار بعد بجبانة السبيع، وَهُوَ ابْن أَخِي لبيد بْن ربيعة الشاعر- وقيس بْن جعونة الضبابي، وعبد الله ابن ورقاء السلولي.
فبعث عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ إِلَى ابْن الحنفية- بعد انصراف أَهْل الشَّامِ من مَكَّة مَعَ الحصين بْن نمير السكوني و (بعد) موت يزيد بْن مُعَاوِيَة- أن هلم فبايعني. فأبي عَلَيْهِ، وبايع النَّاس ابْن الزُّبَيْر بالمدينة والْكُوفَة والبصرة، فأرسل إِلَيْهِ أن النَّاس قد بايعوا واستقاموا فبايعني. فَقَالَ لَهُ: إذا لم يبق غيري بايعتك.
وبعث (ابن الزبير) إلى السبعة العشر الكوفيين فسألهم عَن حالهم وأمرهم بالبيعة لَهُ، فَقَالُوا: نحن قوم من أَهْل الْكُوفَةِ اعتزلنا أمر النَّاس حين اختلفوا وأتينا هَذَا الحرم لئلا نؤذي أحدًا وَلا نؤذي، فَإِذَا اجتمعت الأمة عَلَى رجل دخلنا معهم فيما دخلوا فِيهِ، وَهَذَا مذهب صاحبنا، ونحن مَعَهُ عَلَيْهِ، وله صحبناه. فوقع (ابن الزبير) في ابن الحنفية وتنقصه وقال: والله ما صاحبكم بمرضي للدين وَلا محمود الرأي وَلا راجح العقل وَلا لهذا الأمر بأهل!!! فقام عَبْد اللَّهِ بْن هانئ فَقَالَ: قد فهمت مَا ذكرت بِهِ ابْن عمك من السوء ونحن أعلم بِهِ وأطول معاشرة لَهُ منك، وأنت تقتل من لم يبايعك وَهُوَ يقول:
والله مَا أحب أن الأمة بايعتني كلها غير سعد مولى مُعَاوِيَة فبعثت إِلَيْهِ فقتلته.(3/280)
وإنما عرض بِهِ لأنه كَانَ بعث إِلَى سعد فقتله!!! وكلمه عَبْد اللَّهِ بْن هانئ بكلام كثير، فقال: ألهزوه. فوجئ فِي قفاه!!! [1] .
فَقَالَ: أتفعل هَذَا فِي حرم اللَّه وأمنه وجوار بيته؟!! فَقَالُوا لَهُ: لئن لم يضرك إِلا تركنا بيعتك لا يضرك شيء أبدا، ولا يلحقك مكروه. ودعا بِهِ [2] فَقَالَ: إيه أَبِي تضرب الأمثال، وإياي تأتي بالمقاييس؟
فَقَالَ: «إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ» فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: ادفعوهم عني لعنكم اللَّه من عصابة.
فأتوا ابْن الحنفية فأخبروه بما كَانَ بينهم وبين ابْن الزُّبَيْر، فجزاهم خيرًا وعرض عليهم أن يعتزلوه!!! فأبوا وَقَالُوا: نحن معك فِي العسر واليسر، والسهل والوعر لا نفارقك حتى يجعل الله لك فسحة وفرجة. وبايعوه عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ لهم: إني بكم لمتأنس (كذا) كثير.
وسأله بعضهم أن يرصدوا ابْن الزُّبَيْر فيقتلوه إذا خرج من الحرم فكره ذَلِكَ وَقَالَ: مَا يسرني أني قتلت حبشيا مجدعا، ثم اجتمع سلطان العرب كله (لي) !!! وقدم عَلَى السبعة العشر الرَّجُل من أبنائهم ثلاثة نفر: بشر بن سرح، والطفيل ابن أَبِي الطفيل عامر بْن واثلة، وبشر بْن هانئ بْن قَيْس. 4/ 474
فلما يئس ابْن الزُّبَيْر من بيعة ابْن الحنفية وأصحابه وقد فسدت عليه الكوفة، وغلب المختار ابن أبي عبيد الثقفي عليها/ 520/ أو 260 ب/ وأخرج ابن مطيع عامله عنها، ودعت الشيعة بِهَا لابن الحنفية، ثقل عَلَيْهِ
__________
[1] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: «وجوا في قفاه» . وألهزوه: اضربوه بجمع كفكم، أو اضربوه بجمع كفكم في رقبته ولهزمته. واللهزمة- كشرذمة-: عظم ناتئ في اللحى تحت الأذن. فوجئ: فضرب.
[2] كذا.(3/281)
مكان ابن الحنفية معه، وخشي أن يتداعا الناس إلى الرضابه!! فحبسه وأهل بيته ومن كَانَ مَعَهُ من أصحابه أولئك بزمزم، ومنع النَّاس منهم ووكل بهم الحرس.
ثُمَّ بعث إِلَيْهِمْ أعطي اللَّه عهدًا لئن لم تبايعوني لأضربن أعناقكم أَوْ لأحرقنكم بالنار!!! [1] وَكَانَ رسوله بِذَلِكَ عَمْرو بْن عروة بْن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ ابْن الحنفية [2] : قل لعمك لقد أصبحت جريئًا عَلَى الدماء منتهكا للحرمة
__________
[1] قال ابن أبي الحديد- في شرح المختار: (400) من قصار نهج البلاغة: ج 4 ص 487 ط القديم بمصر-: جمع عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر مُحَمَّد بْن الحنفية وعبد الله بن عباس في سبعة عشر رجلا من بني هاشم منهم الْحَسَن بْن الْحَسَن بْن عَلِي بْن أَبِي طالب عليه السلام وحصرهم في شعب بمكة يعرف بشعب عارم وقال: لا تمضي الجمعة حتى تبايعوا لي أو أضرب أعناقكم أو أحرقكم بالنار!!! ثم نهض إليهم قبل الجمعة يريد حرقهم بالنار فالتزمه ابن اسور بن مخرمة الزهري وناشده الله أن يؤخرهم إلى يوم الجمعة!!! فلما كان يوم الجمعة دعا محمد بن الحنفية بغسول وثياب بيض فاغتسل وتلبس وتحنط لا يشك في القتل!! وقد (كان) بعث المختار بن أبي عبيد من الكوفة أبا عبد الله الجدلي في أربعة آلاف، فلما نزلوا ذات عرق تعجل منهم سبعون على رواحلهم حتى وافوا مكة صبيحة الجمعة ينادون يا محمد وقد شهروا السلاح حتى وافوا شعب عارم فاستخلصوا محمد بن الحنفية ومن كان معه، وبعث محمد بن الحنفية الحسن بن الحسن ينادي من كان يرى ان لله عليه حقا فليشم سيفه فلا حاجة لي بأمر الناس!!! إن أعطيتها عفوا قبلتها وإن كرهوا لم أنثر بهم أمرهم!!! وفي شعب عارم وحصار ابن الحنفية فيه يقول كثير بن عبد الرحمان:
ومن ير هذا الشيخ بالخيف من منى ... من الناس يعلم انه غير ظالم
سمي النبي المصطفى وابن عمه ... وحمال أثقال وفكاك غارم
تخبر من لاقيت أنك عائذ!!! ... بل العائذ المحبوس في سجن عارم
أقول: وذكرها أيضا المبرد في الكامل: ج 2 ص 130، وذكره أيضا في شرح الهاشميات ص 29 وفي تذكرة الخواص ص 302.
[2] قال المسعودي في مروج الذهب ط الميمنية: وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه في حصر بني هاشم في الشعب وجمعه الحطب ليحرقهم يقول: إنما أراد بذلك أن لا تنشر الكلمة ولا يختلف المسلمون كما فعل عمر بن الخطاب بني هاشم لما تأخروا عن بيعة أبي بكر فإنه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار!!! ورواه عنه ابن أبي الحديد، في الجزء العشرين في شرح المختار: (400) من الباب الثالث من نهج البلاغة: ج 4 ص 495 من الطبعة الثالثة لدار الفكر التي جعلها أفستا من النسخة المطبوعة بدار الكتب العربية الكبرى بمصر في سنة 1329.(3/282)
متلثلثًا فِي الفتنة [1] .
وَقَالَ لَهُ: عدة من السبعة العشر الرجل (و) فِيهِمُ ابْن مزعل: إن هَذَا حصرنا بحيث ترى وخوّفنا بما تعلم وو الله مَا ننتظر إِلا أن يقدم!!! وقد ظهر بالْكُوفَة من يدعو إِلَى بيعتك والطلب بدماء أَهْل بيتك، فالطف لبعثة رسل من قبلك يعلمونهم حالك وحال أَهْل بيتك. فَقَالَ: اختاروا منكم نفرا.
فاختاروا الطفيل ابن أَبِي الطفيل عامر بْن واثلة- وَهُوَ المقتول مع ابن الأشعث- ومحمد بن نشر (كذا) وأبا المعتمر، وهانئ بْن قَيْس، فأمرهم ابْن الحنفية بكتمان أمرهم وأمر لهم بأربع نجائب وأجلهم لذهابهم ومجيئهم ستًا وعشرين ليلة، فلما هدأت العيون ونام طالع الكلاب ورمق الحرس، فوجدهم نياما مستثقلين، دفع إِلَيْهِمْ كتابا منه إِلَى المختار بْن أَبِي عبيد، ومن قبله من الشيعة يخبرهم فِيهِ بحالهم وما يتخوفون من ابن الزبير ويقول فيه: يا غوثنا بالله يَا غوثنا بالله، وَقَالَ: إن رأيتم منه مَا تحبون حمدتم اللَّه عَلَى ذَلِكَ، وإن رأيتم منه تقصيرًا فاعلموا النَّاس مَا جاء بكم والحال الَّتِي تركتمونا عَلَيْهَا.
فلما قرأ المختار الكتاب دعا أصحابه فقرأه عليهم فوثب جميع من فِي القصر يبكون ويضجون ويقولون للمختار: سرحنا إِلَيْهِ وعجل. فخطب المختار الناس وقال: هذا كتاب مهديكم وصريح أهل بيت نبيكم ومن معه من
__________
[1] التلثلث: التمرغ، ومتلثلثا في الفتنة: منهمكا ومتمرغا ومتلطخا بها.(3/283)
إخوانكم قد تركوا محظورًا عليهم حظار كزرب الغنم [1] ينتظرون القتل والتحريق بالنار فِي آناء الليل ونارات النهار [2] لست بأبي إسحاق إن لم أنصرهم نصرا موزرا، وأسرب إليهم الخيل في آثار الخيل كالسيل يتلو السيل حتى يحل بابن الكاهلية الويل.
ويعني بابن الكاهلية عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ وذلك أن أم خويلد أَبِي العوام زهرة بنت عمرو بن حنتر (ظ) من بَنِي كاهل بْن أسد بْن خزيمة.
وأنقذ المختار جواب كتاب ابْن الحنفية مَعَ مُحَمَّد بن بشر [3] والطفيل ابن أَبِي الطفيل عامر بْن واثلة، واحتبس قبله أبا المعتمر، وهانئ بن قيس يسرّح معهما جيشا.
ثُمَّ وجه أبا عَبْد اللَّهِ بن عبد، من ولد واثلة بْن عَمْرو بْن ناج بْن يشكر بْن عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان- وَهُوَ الَّذِي يعرف بأبي عَبْد اللَّهِ الجدلي لأنّ أمّ عدوان بن عمرو بن نهم بْن عَمْرو يقال لَهَا جديلة فهم ينسبون إليها- في سبعين راكبا، وعقبة بن طاهر الجشمي فِي أربعين راكبا، ويونس بْن عَمْرو بْن عمران الجابري فِي أربعين راكبًا، وَكَانَ يونس قد رجع إِلَى الْكُوفَةِ قبل شخوص هَؤُلاءِ الأربعة النفر.
فسار هَؤُلاءِ المائة والخمسون ومن عليهم حَتَّى وافوا مَكَّة، وَابْن الحنفية وأهل بيته وأولئك القوم بزمزم، قد أعد لهم عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ الحطب ليحرقهم
__________
[1] محظورا عليهم: مبنيا حولهم الحظيرة، والحظار- ككتاب- الحائط وما يبني حول الشيء كي يمنعه من الخروج، ويمنع الخارج من الوصول إليه. والزرب- كحرب وإرب-: مأوى الغنم.
[2] كذا بالنون.
[3] كذا هاهنا.(3/284)
بالنار!!! فيما يظهر للناس ولهم حَتَّى يبايعوا، فعقل القادمون رواحلهم بالباب ودخلوا فكبروا ونادوا يَا لثارات الْحُسَيْن. ثُمَّ شدوا عَلَى الحرس الموكلين بابن الحنفية وأصحابه فطردوهم ودخلوا عَلَيْهِ يفدونه بآبائهم وأمهاتهم ويقولون: خل بيننا وبين ابْن الزُّبَيْر، فَقَالَ: لا أستحل القتال فِي حرم الله!!! وقال ابن الزبير: وا عجبا من هذه الخشبية الذين/ 521/ أو 261/ أ/ اعتزلوني في سلطاني يبغون حسينا كأني أنا قاتل حسين، والله لو قدرت عَلَى قتلته لقتلتهم.
وَكَانَ دخولهم عَلَى ابْن الزُّبَيْر وفي أيديهم الخشب كراهة أن يشهروا السيوف فِي الحرم والمسجد الحرام!!! وَقَالَ بعضهم: بل وثبوا عَلَى الخشب الَّذِي كَانَ ابْن الزُّبَيْر جمعه حول زمزم لإحراق ابْن الحنفية وأصحابه، فأخذ كُلّ امرئ منهم بيده خشبة فسموا خشبية.
وأقبل ابْن الزُّبَيْر عَلَى أَبِي عَبْد اللَّهِ الجدلي وأصحابه فَقَالَ: أتروني أخلي سبيل صاحبكم دون أن يبايع ويبايعوا؟!! فقال الجدلي: وربّ الركن والمقام والحلّ والحرام لتخلين سبيله فينزل من مَكَّة حيث شاء، ومن الأرض حيث أحب، أَوْ لنجالدنك بأسيافنا. فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر- ورأى أن أصحابه قد ملئوا المسجد، وأن أصحاب ابْن الحنفية لا يبلغون مأتين-: وما هَؤُلاءِ والله لو أذنت لأصحابي فِيهِمْ ما كانوا عندهم إلّا مأكلة رأس [1] . فقال صخير بن مالك: أما والله إني (أخاف) إن رمت ذلك أن يوصل إليك (ما تكره) قبل أن ترى فينا مَا تحب [2] وقام الطفيل بْن عامر فَقَالَ:
قد علمت ذات الشباب الرود ... والجرم ذي البضاضة الممسود
إنا الأسود وبنو الأسود
__________
[1] رسم الخط في «مأكلة» غير وضح، ويحتمل أن يقرأ: «كأكلة رأس» ؟
[2] هذا هو الظاهر، وفي الأصل: «قبل أن يرى فينا ما يحب» . وما بين المعقوفات زيادة منا.(3/285)
فقال ابن الحنفية لعامر: يا (أ) با الطفيل مر ابنك فليسكت. وتكلم ابْن الحنفية (وقال: إني) آمركم بتقوى الله وأن تحقنوا دماءكم إني معتزل لهذه الفتنة حَتَّى تجتمع الأمة إذ اختلفت وتفرقت فأطيعوني (كذا) .
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس بْنِ عَبْدِ المطلب لابن الزُّبَيْر: قد نهيتك عَن هَذَا الرَّجُل وأعلمتك أنه لا يريد منازعتك فاكفف عَنْهُ وعن أصحابه. فَقَالَ:
والله لا أفعل حتى يبايع ويبايعوا لي، بايع يزيد وَلا يبايعني؟!! فمكث القوم ثلاثة أيام قد صف بعضهم لبعض فِي المسجد، والمعتمرون يمشون فيما بينهم بالصلح، فلما كَانَ اليوم الثالث قدم عليهم من قبل المختار أَبُو المعتمر فِي مائة، وهانئ بْن قَيْس فِي مائة، وظبيان بْن عمارة التَّمِيمِيّ فِي مأتين- ومعهم مال بعث به المختار، وهو أربعمائة ألف درهم- ثُمَّ أقبلوا جميعا حَتَّى دخلوا المسجد يكبرون وينادون يَا لثارات الْحُسَيْن، فلما رآهم أصحاب ابْن الزُّبَيْر خافوهم، ورأى ابْن الحنفية أنه قد امتنع وأصحابه فَقَالَ لهم: اخرجوا بنا إِلَى الشعب. ولم يقدر ابْن الزُّبَيْر عَلَى حبسهم فخرج فنزل شعب علي وضمّ إليه المال الذي عنده (كذا) وأتته الشيعة من عشرة وعشرين ورجل ورجلين، حتى اجتمع معه أربعة آلاف رجل، ويقال: أقل من أربعة آلاف فقسم بينهم المال الذي أتاه.
ولمّا صار ابْن الحنفية فِي هَذَا الجمع، استأذنه قوم ممن كَانَ قدم إِلَيْهِ فِي إتيان الكوفة للإمام بأهليهم ثُمَّ الرجوع إِلَيْهِ، منهم: عَبْد اللَّهِ بْن هانئ الكندي وعقبة بْن طارق الجشمي، ومالك بْن حزام بْن ربيعة الكلابي وعبد الله ابن ربيعة الجشمي، فقدموا الْكُوفَة، فلما كانت وقعة جبانة السبيع قاتلوا المختار!!! إِلا عَبْد اللَّهِ بْن هانئ فيقال: إنه رجع إِلَى ابْن الحنفية.(3/286)
ثُمَّ إن المختار بعث إِلَى ابْن الحنفية بثلاثين ألف دينار، مع عبد الرحمان ابن أَبِي عمير الثَّقَفِيّ وعبد اللَّه بْن شداد الجشمي والسائب بْن مالك الأَشْعَرِيّ وعبد اللَّه، وَهُوَ عبدل لام [1] بْن الحصل الطائي، وبعث معهم برأس عبيد بْن زياد، وحصين بْن نمير، وَابْن ذي الكلاع، فنصبت هذه الرؤوس عَلَى باب المسجد، وقسم ابْن الحنفية ذَلِكَ المال بين أصحابه فقووا وعزوا.
17- قالوا: ونزل ابْن الحنفية بالشعب عزيزًا منيعًا حَتَّى قتل المختار/ 522/ أو 261 ب/ وظهر مصعب بْن الزُّبَيْرِ عَلَى الْكُوفَة، واشتد أمر عبد الله بن الزبير فتضعضع أمر أصحاب ابْن الحنفية [2] وانقطعت عنهم موادهم واشتدت حاجتهم.
وَقَالَ (عَبْد اللَّهِ) بْن الزُّبَيْر لابن عَبَّاس: (أ) لم يبلغك قتل الكذاب؟! قَالَ: ومن الكذاب؟ قَالَ: ابْن أَبِي عبيد. فَقَالَ: قد بلغني قتل المختار.
قَالَ: كأنك تكره تسميته كذابا وتتوجع لَهُ؟! فَقَالَ: ذَلِكَ رجل قتل قتلتنا وطلب بدمائنا وشفى غليل صدورنا، وليس جزاؤه منا الشتم والشماتة [3] فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: لست أدري أنت معنا أم علينا؟! ومر ابْن عَبَّاس بعروة بْن الزُّبَيْرِ فَقَالَ: قد قتل الكذاب المختار، وَهَذَا رأسه. فَقَالَ ابْن عَبَّاس إنه قد بقيت لكم عقبة فَإِن صعدتموها فأنتم أنتم. يَعْنِي عَبْد الْمَلِك وأهل الشام.
__________
[1] كذا في ظاهر رسم الخط.
[2] هذا هو الظاهر، وفي النسخة: قالوا: ولما نزل ابن الحنفية ... وتضعضع أمر أصحاب ابن الحنفية ...
[3] وعلى عقيدة ابن عباس هذه جمهور شيعة أهل البيت عليهم السلام، كما أن أكثر شيعة آل أمية على عقيدة ابن الزبير في الرجل رضوان الله تعالى عليه.(3/287)
وبعث ابْن الزُّبَيْر إِلَى ابْن الحنفية: إن البلاد قد افتتحت، وإن الأمور قد استوسقت فاخرج إلي فادخل فيما دخل فِيهِ النَّاس وإلا فإني منابذك!!! وَكَانَ رسوله بِذَلِكَ عروة بْن الزُّبَيْرِ، فَقَالَ لَهُ ابْن الحنفية: بؤسًا لأخيك مَا ألحه فِي إسخاط اللَّه وأغفله عن ذات الله؟!! و (أيضا) قال (ابن الحنفية) في خطبة خطبها لأصحابه:
إنه بلغني أن هَذَا العدو الَّذِي قربت داره وساء جواره واشتدت ضغينته، يريد أن يثور إلينا بمكاننا هَذَا، من يومنا هَذَا، وقد أذنت لمن أحب الانصراف عنا فِي ذَلِكَ، فإنه لا ذمام عَلَيْهِ منا، وَلا لوم!!! فإني مقيم حَتَّى يفتح اللَّه بيني وبينه وَهُوَ خير الفاتحين.
فقام إِلَيْهِ (أَبُو) عبد الله الجدلي ومحمد بن نشر (كذا) وعبد الله بن سبع فتكلموا وأعلموه أنهم غير مفارقيه!!! 18- قَالُوا: وجد ابْن الزُّبَيْر فِي قتال ابْن الحنفية!!! وكره ابْن الحنفية أن يقاتله فِي الحرم.
وقد كَانَ خبر ابْن الحنفية انتهى إِلَى عَبْد الملك بْن مروان، وبلغه فعل ابْن الزُّبَيْر به، فبعث إِلَيْهِ يعلمه إنه إن قدم عَلَيْهِ أحسن إِلَيْهِ، وعرض عَلَيْهِ أن ينزل أي الشَّام شاء حَتَّى يستقيم أمر النَّاس، وَكَانَ رسوله إليه حبيب بن كره مولاهم.
[ابن الحنفية وعبد الملك بن مروان]
وكتب عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس إِلَى عَبْد الملك في محمد ابن الحنفية، كتابا يسأله فيه الوصاة بمحمد ابن الحنفية والعناية بشأنه والحيطة عَلَيْهِ إذا صار إِلَى الشَّام.
فأجابه عَبْد الملك بكتاب حسن يعلمه فِيهِ قبول وصيته وسأله أن ينزل به حوائجه.(3/288)
وخرج ابْن الحنفية وأصحابه يريدون الشَّام، وخرج كثير عزة أمامه وَهُوَ يقول:
هديت يَا مهدينا ابْن المهتدي ... أنت الَّذِي نرضى بِهِ ونرتجي
أنت ابْن خير النَّاس من بعد النبي ... أنت إمام الحقّ لسنا نمتري
يا ابن علي سر ومن مثل علي؟!
وأتي ابْن الحنفية «مدين» وبها مظهر بْن حبي العكي من قبل عَبْد الملك، فحدثه أصحابه بما كَانَ من غدر عَبْد الملك بعمرو بْن سعيد بن العاص بعد أن آتاه العهود المؤكدة. فحذره ونزل «أيلة» [1] وتحدث النَّاس بفضل مُحَمَّد وكثرة صلاته وزهده وحسن هديه، فلما بلغ ذَلِكَ عَبْد الملك ندم عَلَى إذنه لَهُ فِي قدوم بلده، فكتب إِلَيْهِ: إنك قدمت بلادنا بإذن منا، وقد رأيت أن لا يكون فِي سلطاني رجل لم يبايعني، فلك ألف ألف درهم أعجل لك منها مأتي ألف درهم، ولك السفن الَّتِي أرفأت إِلَيْك من مصر [2] . وكانت سفنا بعث إِلَيْهِ فِيهَا بأمتعة وأطعمة.
فكتب إِلَيْهِ ابْن الحنفية: قد قدمنا بلادك بإذنك إذ كَانَ ذَلِكَ لك موافقا، وارتحلنا عنها إذ أنت لجوارنا (كنت) كارها.
وقدم ابْن الحنفية فنزل الشعب بِمَكَّةَ، فبعث إِلَيْهِ ابْن الزُّبَيْر: ارتحل عَن هَذَا الشعب فما أراك منتهيًا عَنْهُ [3] أَوْ يشعب الله لك ولأصحابك أصنافا
__________
[1] كذا في الأصل، فإن صح فمعناه: ان ابن الحنفية حذر من عبد الملك فلم ينزل عليه بدمشق، بل نزل ايلة ...
[2] أي أرسلت إليك من مصر.
[3] لعل هذا هو الصواب، والظاهر من رسم خط النسخة: «مقهياد» ؟ ويشعب- كيمنع-: يجمع.(3/289)
من العذاب، وكتب/ 523/ أو 262/ أ/ إِلَى مصعب بْن الزُّبَيْرِ أخيه يخبره بأسماء رؤساء أصحاب ابْن الحنفية، ويأمره أن يسير نساءهم من الكوفة!!! فسيّر (مصعب) نساء نفر منهم فيهن امرأة طفيل بْن عامر بْن واثلة، وهي أم سلمة بنت عَمْرو الكنانية، فجاءت حَتَّى قدمت عليه، فقال الطفيل في ذلك:
(ف) إن يك (قد) سيرها مصعب ... فإني إِلَى مصعب مذنب
أقود الكتيبة مستلئما ... كأني أخو عزة أجرب
علي دلاص تخيرتها ... وبالكف ذو رونق مقضب
سعرت عليهم مع الساعري ... ن نارا إذا أخمدت تثقب
فلو أن يحي به قوّة ... فيغزوا مع القوم أو يركب
ولكن يحي كفرخ العقا ... ب ريش قوادمه أزغب
فكف ابْن الزُّبَيْر عَن ابْن الحنفية حَتَّى إذا حج النَّاس وَكَانَ يوم النفر، أرسل إِلَيْهِ تنح عَن هَذَا المنزل وانفر مَعَ الناس وإلا فإنّي مناجزك. فسأله معاذ ابن هانئ وغيره من أصحابه أن يأذن (لهم) فِي مقارعته وَقَالُوا: قد بدأك بالظلم واضطرك وإيانا إِلَى الامتناع. فَقَالَ لَهُ ابْن مطيع: لا يغرنك قول هَؤُلاءِ فإنهم قتلة أبيك وأخيك. فقال: نصبر لقضاء اللَّه، اللَّهُمَّ ألبس ابْن الزُّبَيْر لباس الذل والخوف وسلط عَلَيْهِ وعلى أشياعه وناصريه من يسومهم مثل الَّذِي يسوم النَّاس، اللَّهُمَّ أبلسه بخطيئته [1] وأجعل دائرة السوء عَلَيْهِ، سيروا بنا عَلَى اسم اللَّه إِلَى الطائف.
فقام ابْن عَبَّاس فدخل عَلَى ابْن الزُّبَيْر فَقَالَ لَهُ: مَا ينقضي عجبي من تنزيك [2]
__________
[1] أي اجعله مأيوسا من رحمتك وخذه بخطيئته.
[2] أي من توثبك وسطوتك.(3/290)
عَلَى بني عَبْد المطلب تخرجهم من حرم اللَّه وهم والله أولى بِهِ وأعظم نصيبا فِيهِ منك. إن عواقب الظلم لترد إِلَى وبال.
فقال ابن الزبير: ما منك عجب ولكن من نفسي حين أدعك تنطق عندي ملأ فيك!!! فَقَالَ ابْن عَبَّاس والله مَا نطقت عند أحد من الولاة أخس منك؟! قد والله نطقت غلاما عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي بكر، ونطقت رجلا عند عمر وعثمان وعلي يروني أحق من نطق، فيستمع لرأيي وتقبل مشورتي وكل هَؤُلاءِ خير منك ومن أبيك!!! فقال (ابن الزبير) : والله لئن كنت لي ولأهلي مبغضا، لقد كتمت بغضك وبغض أهل بيتك مذ أربعون سنة!!! فَقَالَ ابْن عَبَّاس: ذَلِكَ والله أبلغ إلى حاعريتك [1] بغضي والله ضرك وإثمك إذ دعاك إِلَى ترك الصلاة عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خطبك، فَإِذَا عوتبت عَلَى ذَلِكَ، قلت: إن لَهُ أهيل سوء!!! فَإِذَا صليت عليه تطاولت أعناقهم وسمت رؤسهم!!! [2] .
فَقَالَ ابْن الزُّبَيْر: اخرج عني فلا تقربني. قَالَ: أنا أزهد فيك من أن أقربك. ولأخرجن عنك خروج من يذمك ويقليك.
فلحق بالطائف فلم يلبث إلا يسيرًا حَتَّى توفي، فصلى عَلَيْهِ ابْن الحنفية فكبر عَلَيْهِ أربعا وضرب عَلَى قبره فسطاطًا، ولم يزل ابْن الحنفية بالطائف حَتَّى أقبل الحجاج بْن يُوسُف من عند عَبْد الملك إِلَى ابْن الزُّبَيْر، فلما حصره عاد ابْن الحنفية إلى الشعب، فكتب إِلَيْهِ عَبْد الملك بعد مقتل مصعب بْن الزبير، وبعثة الحجاج: أما بعد فَإِذَا أتاك كتابي فاخرج إلى الحجاج عاملي فبايعه.
__________
[1] كذا.
[2] وللموضوع شواهد كثيرة ذكر بعضها ابن أبي الحديد، في شرح المختار: (400) من الباب (3) من نهج البلاغة: ج 4 ص 489 و 495 ط القديم بمصر.(3/291)
فكتب إليه (ابن الحنفية) : إني لا أبايع حَتَّى يجتمع النَّاس عليك، فَإِذَا اجتمعوا كنت أول من يبايع.
فلما قتل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْرِ، وَهُوَ يومئذ بالشعب أَيْضًا، سرح أبا عَبْد اللَّهِ الجدلي بكتاب منه إِلَى عَبْد الملك يسأله فِيهِ الأمان لنفسه وأصحابه.
وبعث إِلَيْهِ الحجاج يأمره بالبيعة، فأبي وَقَالَ: قد كتبت إِلَى عَبْد الملك كتابا فَإِذَا جاءني جوابه بما سألته بايعت. قال: أو تشترط على أمير المؤمنين/ 524/ أو 262 ب/ الشروط؟ لتبايعني طائعا أَوْ كارها!! فأتاه عَبْد الله ابن عمر بْن الخطاب، فَقَالَ لَهُ: مَا تريد من رجل مَا نعلم فِي زماننا مثله؟! أمسك عَنْهُ حَتَّى يأتيه كتاب ابْن عمه.
وقد كَانَ كتاب عَبْد الملك أتى الحجاج قبل قتل ابْن الزُّبَيْر يأمره فِيهِ بالكف عَن ابْن الحنفية والرفق بِهِ، فأمسك الحجاج (عنه) حَتَّى قدم عَلَى ابْن الحنفية رسوله أَبُو عَبْد اللَّهِ الجدلي بجواب كتابه ببسط الأمان، وتصديق قوله، ووصف مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي إسلامه وعفافه وفضله وقرابته وعظيم حقه، وَقَالَ لَهُ: لعمري لئن ألجأتك إِلَى الذهاب فِي الأرض خائفا لقد ظلمتك وجفوتك وقطعت رحمك، فبايع الحجاج عَلَى بركة اللَّه. وأمره بالقدوم عَلَيْهِ آمنا مأمونا وفي الرحب والسعة وإلى الكرامة والأثرة والمواساة.
فخرج (ابن الحنفية) إِلَى الحجاج فبايعه لعبد الملك، وأشخصه الحجاج إليه معه فِي جماعة منهم عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن عُثْمَان، ومحمد بْن سعد بْن أَبِي وقاص، وعروة بْن الزُّبَيْرِ، فلما قدم عَلَى عَبْد الملك أعظمه وأكرمه وبره وأقبل عَلَيْهِ، فحسده الحجاج على ما رأى من اقتفاء عَبْد الملك بِهِ [1] فَقَالَ:
والله يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لقد أردت أن أضرب عنقه لولا تقدمك إليّ في أمره لتأخره وتثاقله عن البيعة. فَقَالَ لَهُ عَبْد الملك مهلا يَا حجاج. فسأله ابن الحنفية
__________
[1] يقال: «اقتفى فلان بفلان اقتفاءا» : خص نفسه به. و «اقتفى الشيء» : اختاره.
واقتفاه بأمر: آثره به واختصه به.(3/292)
أن ينزع عَنْهُ سلطانه. فَقَالَ: إنه لا سلطان له عليك، و (لا) لأحد من النَّاس دوني، ولك فِي كُلّ سنة رحلة إلي ترفع فِيهَا حوائجك فأقضيها لك.
ويقال: إنه قَالَ: أخلني يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: إنه ليس دون الحجاج سر. قَالَ: فاعدني عَلَيْهِ فإنه يكلفني الغدو والرواح إِلَيْهِ، ويعدي علي غرمائي قبل بيع الثمرة. فَقَالَ عَبْد الملك: لا سلطان لك عَلَيْهِ دون بلوغ الثمرة، وَلا عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن جعفر فإنهما ينتظران الغلّة أو صلتنا.
ثم انصرف (ابن الحنفية) من عند عَبْد الملك، وَكَانَ مَعَهُ جماعة من أصحابه منهم عامر بْن واثلة أَبُو الطفيل [1] ومحمد بْن نشر، ومحمد بْن يزيد بْن مزعل، حَتَّى قدموا الْمَدِينَة.
19- حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ عَن ابْن جُعْدُبَةَ، عَن ابْن كيسان، قَالَ:
قَالَ عَبْد الملك لابن الحنفية، حين قدم عَلَيْهِ وهما خلوان: أتذكر فعلتك يوم الدار؟ فَقَالَ: أنشدك اللَّه والرحم يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ: والله مَا ذكرتها وَلا أذكرها (كذا) .
وَكَانَ مُحَمَّد سمع مروان، قَالَ لعلي يوم الدار: قطع اللَّه الليلة أثرك. فأخذ مُحَمَّد بحمائل سيف مروان، فرجع (علي عليه السلام) ففرق بينهما [2] .
20- ويقال: أن الحجاج وجه ابْن الحنفية إلى عبد الملك وافدا فأكرمه وبرّه ثُمَّ رده إِلَى الْمَدِينَة، وَقَالَ: فد إلي فِي كُلّ عام. وإن الحجاج لم يشخصه مَعَهُ.
[وفاة مُحَمَّد ابْن الحنفية]
21- وتوفي مُحَمَّد ابْن الحنفية بالمدينة، ودفن بالبقيع سنة إحدى وثمانين.
ويقال توفي (سنة) اثنتين وثمانين.
__________
[1] هذا هو الصواب، وفي الأصل: عامر بن مر بن واثلة أبو الطفيل ...
[2] ما بين المعقوفين كان ساقطا من الأصل وزدناه بقرينة السياق.(3/293)
22- وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ فِي إِسْنَادِهِ قال: أرسل ابن الزبير إلى ابن العباس وابن الحنفية أن بايعا (ني) . فقالا: (لا نبايع أحدا حتى) يجتمع النَّاس عَلَى رجل ثُمَّ نبايع، فإنك فِي فتنة. فغضب من ذَلِكَ ولم يزل الأمر يغلظ بينه وبينهما حتى خافاه خوفًا شديدًا، وحبس ابْن الحنفية فِي زمزم، فبعث (ابن الحنفيّة) إلى الكوفة يخبر (الناس) بما هو فيه من ابْن الزُّبَيْر، فأخرج إِلَيْهِ المختار أربعة آلاف عليهم أَبُو عَبْد اللَّهِ الجدلي، فصاروا إِلَى المسجد الحرام، فلما رأى ابْن الزُّبَيْر ذَلِكَ دخل منزله.
وقد كَانَ أَيْضًا ضيق عَلَى ابْن عَبَّاس، وبعث إِلَى حطب فجعله عَلَى باب ابْن عَبَّاس وحول محبس ابْن الحنفية من زمزم!!! فمنعه ذَلِكَ الجيش مما أراد، وصار ابن الحنفية إِلَى الشعب فنزله.
ثُمَّ إن ابْن الزُّبَيْر قوي عَلَى ابْن الحنفية، حين قتل المختار، وغلب مصعب/ 525/ أو 263/ أ/ عَلَى الْكُوفَة، فأخرج ابْن عَبَّاس وَابْن الحنفية عَنْهُ، وَقَالَ:
لا يجاوراني ولم يبايعاني. فخرجا إِلَى الطائف، فمرض ابْن عَبَّاس ثمانية أيام ثُمَّ توفي بالطائف، فصلى عَلَيْهِ ابْن الحنفية ودفنه وكبر عَلَيْهِ أربعا [1] وَكَانَ الَّذِي تولى حمله ودفنه مَعَ ابْن الحنفية أصحابه الشيعة.
23- وَقَالَ بعض الرواة: مات ابْن الحنفية بأيلة.
__________
[1] قد استفاض الأخبار عن أهل البيت عليهم السلام علي انه يكبر على الميت خمس تكبيرات وقد ورد أيضا في ذلك أحاديث من طريق أهل السنة، وقد ذكرنا جملة وافية منها في تعليق الحديث:
(1407) من ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام من تاريخ دمشق: ج 3 ص 307 ط صيدا، فراجع، فما هاهنا إما سهو من الكاتب أو انه فعل تقية!!!(3/294)
وذلك غلط، والثبت: أن ابْن الحنفية مات بالمدينة، وله خمس وستون سنة، وصلى عَلَيْهِ أبان بْن عُثْمَان بْن عفان وَهُوَ والي الْمَدِينَة، وَقَالَ لَهُ أَبُو هاشم ابنه: نحن نعلم أن الإمام أولى بالصلاة ولولا ذَلِكَ مَا قدمناك.
24- ويقال: أن أبا هاشم أبى أن يصلي عَلَى أَبِيهِ أبان [1] فَقَالَ أبان:
أنتم أولى بميتكم فصلى عَلَيْهِ أَبُو هاشم.
25- وروى الواقدي أن مُحَمَّد بْن الحنفية قَالَ فِي سنة الجحاف- حين دخلت سنة إحدى وثمانين-: هَذِهِ لي خمس وستون سنة، قد جاوزت سني أَبِي بسنتين. وتوفي تلك السنة.
26- حَدَّثَنِي أَبُو مسعود الْكُوفِيّ، عَن عيسى بْن يزيد الكناني قَالَ:
سمعت المشايخ يتحدثون أنه لما كَانَ من أمر ابْن الحنفية مَا كَانَ، تجمع بالمدينة قوم من السودان غضبا لَهُ، ومراغمة لابن الزُّبَيْر، فرأي ابْن عُمَرَ غلاما لَهُ فيهم وهو شاهر سيفه!!! فقال له: (ما هذا يا) رباح؟ قَالَ رباح: والله إنا خرجنا لنردكم عَن باطلكم إِلَى حقنا!!! فبكى ابْن عُمَرَ وقال: اللهم إن هذا لذنوبنا.
وقال غيره: تجمّعوا أيام الحرّة وهم يظهرون نصرة يزيد، عَلَى ابْن الزُّبَيْر، وخرج غلام ابن عمر معهم!!! [2]
__________
[1] وهذا هو الملائم لسجية آل أبي طالب في حال الاختيار وعند عدم الخوف والتقية.
[2] قال الشيخ محمد باقر المحمودي: هذا تمام تراجم ولد أمير المؤمنين عليه السلام، من كتاب أنساب الأشراف ويليها قول المصنف: «أمر الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ بْن هاشم وولده» ...
وقد أدينا حق العلم والأمانة، فذكرنا جميع ما كان في المصدر الذي كان عندي من أول ترجمة الزبير بن عبد المطلب إلى ختام ترجمة محمد ابن الحنفية، وقد كتبنا جميع ما كان في أصلى حرفيا، وطبعناه حرفيا إلا أحاديث من ترجمة عبد الله بن جعفر، فإنها سقطت عن مسودتي في أيام الفتنة، ولم يسقط مما نشرناه شيء إلا الذي ذكرناه، ولم نزد في الكتاب شيئا ولم نغير منه أيضا شيئا، نعم في بعض الموارد كان في الأصل تصحيف فاحش وغلط واضح، فأبدلناه بما هو الصواب، ومع ذلك أشرنا في تعليق تلك الموارد إلى اللفظ الذي كان موجودا في الأصل كي أوفينا أداء حق العلم ولكي ينسد على المبطلين باب الافتراء والبهتان علينا. وفي بعض الموارد لم يكن اللفظ الموجود في الأصل جليا، فذكرناه بحسب استفادتنا الظنية وعقبناه بمعقوفين بينهما حرف ظ هكذا: (ظ) بمعنى ان ظاهر رسم خط الأصل بحسب نظري ظنا هو الذي أثبتناه، وإن احتمل بعيدا أن يكون اللفظ غير ما أثبتناه.
وقد كان في بعض الموارد لفظ الأصل قاصرا عن إفادة المعنى فأتممناه بزيادة لفظ أو جملة أو أكثر ووضعنا الزيادة ما بين المعقوفين دلالة على زيادتها، وهذا أمر معتاد في عصرنا قد استقر عليه عمل المحققين والكتاب.
ونسخ الكتاب موجودة في استنبول ودار الكتب المصرية وغيرهما، فليراجعها المثقفون ويطبقوها على ما نشرناه كي يعلموا أنا أدبنا حق العلم والأمانة.
ثم إنا قد ذكرنا في أول تعليقاتنا وآخرها على الجزء الثاني- ص 11، وص 509- أن الكتاب كتاب جمع وليس بكتاب تحقيق يقتصر مصنفه فيه على الحقائق فقط، بل جمع مصنفه فيه ما سمعه من مشايخه وما رواه له أساتذته، ففيه من الحقائق وأضدادها جوانب واسعة، وقلما تعرض مؤلفه لنقد ما ينقله مما لا مساس له بالواقع والصواب، ونحن أيضا ما كان لنا مجال في تعليقاتنا أن نكشف عن عوار جميع ما فيه الخلل والانحراف، ولو كان طفيفا لا يترتب على الجهل به ضرر كثير وخسارة جسيمة، نعم في الموارد المهمة فندنا أباطيله وأشبعنا الكلام على قدر الواجب، وأما في غيرها فلم نستوف الكلام، فعلى هذا يجب على من يريد الحقائق مجردة عن الأباطيل، إما المراجعة إلى العالم المتخصص أو إلى تلخيص الكتاب المسمى ب «أنباء الاسلاف» وفقنا الله تعالى لإتمامه.
ونحن إنما تحملنا كلفة نشر الكتاب حرفيا بما فيه، تسهيلا لتناول حقائقه، وسدا لباب الفرار والانكار على الخصم، لا تصديقا بجميع ما فيه!!! ثم إنا شرعنا في استنساخ هذا الجزء من أول ترجمة الإمام الحسن عليه السلام في أول ليلة الأحد الموافق لليلة (13) من شهر ذي الحجة من عام (1391) الهجري واستمر بنا الكتابة، حتى أتينا إلى آخر ترجمة محمد ابن الحنفية رضوان الله تعالى عليه، وفرغنا منها في اليوم: (10) من شهر ربيع الثاني من سنة (1392) .
ثم في طول أيام حققناه وجمعنا شواهد لحقائقه، ونواقض لبعض مزالق مؤلفه إلى أن من الله علينا بالشروع في طبعه في أوائل محرم الحرام من عام (1397) وفرغنا منه واتممناه في يوم الاثنين الموافق لليوم: (29) من ربيع الثاني من العام المذكور، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(3/295)
[الجزء الرابع]
أمر الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ بْن هاشم ووَلَده [1]
وَأَمَّا الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ فكان محبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مائلًا إِلَيْهِ، وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي منزله فيُقيل فِيهِ، وأسلمت لبابة بنت الْحَارِث امرأته حِينَ بُعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ الشاعر:
بِهَا ثلث الْإِسْلَام بَعْد مُحَمَّدٍ ... وزوج رَسُول اللَّهِ بِنْت خويلد
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، أَخْبَرَنَا مُغِيرَةُ عَنْ أَبِي رَزِينٍ أَنَّهُ قِيلَ لِلْعَبَّاسِ أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي وَأَنَا وُلِدْتُ قَبْلَهُ [2] .
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ الْمَدَنِيِّينَ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ: أبعد عقلي أَنَّهُ قِيلَ لأُمِّي قَدْ وَلَدَتْ آمِنَةُ غُلامًا فَخَرَجَتْ وَخَرَجْتُ مَعَهَا فَكَأَنِّي أَرَاهُ يَمْصَعُ بِرِجْلَيْهِ فَاجْتَذَبَنِي النِّسَاءُ إِلَيْهِ وَقُلْنَ قَبِّلْ أَخَاكَ [3] . وَأَمَّا عَبْدُ الْكَعْبَةِ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَمَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ النّذر الذي نذره عبد المطلب فِي ذبح ولده.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: أَنَا أَسَنُّ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث، وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ وَوُلِدْتُ قَبْلَ الْفِيلِ بِثَلاثِ سِنِينَ [4] .
حَدَّثَنِي أَبُو مَشْعَرٍ [5] ، رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اليمن، عن عبد الرزاق، عن معمر
__________
[1] انظر: جمهرة الأنساب لابن حزم، ص 15 وص 18- 19، طبقات ابن سعد، ج 4، ق 1، ص 1- 22، نهاية الارب للنويري ج 18 ص 216- 220، جمهرة النسب لابن الكلبي، ج 1 ص 16، أسد الغابة لابن الأثير ج 3، ص 109- 112، ابن عساكر- تاريخ (خط) ، ج 7، والتهذيب ج 7، ص 226- 250.
[2] سقط حديث يحيى بن معين من د. وترد الرواية في ابن عساكر- تاريخ (خط) ، ج 7، ص 454 ب.
[3] انظر ابن سعد ج 4، ق 1، ص 1، وابن عساكر- تاريخ (خط) ج 7 ص 454 ب.
[4] ترد الرواية عن الزبير بن بكار في ابن عساكر- تاريخ (خط) ، ج 7، ص 455 أ.
[5] في هامش ط: معشر؟، وفي هامش د: معشر.
أنساب الأشراف- 1!(4/1)
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَجُلا مِنْ قُرَيْشٍ رَأَى الْعَبَّاسَ فَقَالَ: هَذَا عَمُّ النَّبِيِّ وَمَا أَسْلَمَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ كَافِرٌ، فَشَكَا الْعَبَّاسُ قَوْلَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مُغْضَبًا فَقَالَ: [مَنْ آذَى الْعَبَّاسَ عَمِّي فَقَدْ آذَانِي، إِنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ] .
قَالُوا: [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ أُخْرِجُوا مُكْرَهِينَ مِنْهُمْ عَمِّيَ الْعَبَّاسُ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلا يَعْرِضَنَّ [1] لَهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مُكْرَهًا، وَمَنْ لَقِيَ أبا البختري [2]- يعني العاص بن هاشم ابن الْحَارِثِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ قُصَيٍّ- فَلا يَعْرِضَنَّ [3] لَهُ.] وَكَانَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ [4] مِمَّنْ أَعَانَ عَلَى نَقْضِ الصَّحِيفَةِ الَّتِي كَتَبَتْهَا [5] قريش على (527) بني هاشم وبني المطلب ابن عَبْدِ مَنَافٍ حِينَ دَخَلُوا الشِّعْبَ، فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَأَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ، لَئِنْ لَقِيتُهُ لأَضْرِبَنَّ وَجْهَهُ بِالسَّيْفِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: [يَا أَبَا حَفْصٍ، أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ؟] فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ أَبِي حُذَيْفَةَ فَقَدْ نَافَقَ، فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ: مَا أَنَا بِآمِنٍ شَرَّ كَلِمَتِي وَلا أَزَالُ خَائِفًا مِنْهَا إِلا أَنْ يُكَفِّرَهَا الله بشهادة، فقتل يوم القيامة [6] .
وَحَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَكَمِ الْعَدَنِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ [7] مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ غُلامًا لِلْعَبَّاسِ وَكَانَ الإِسْلامُ [8] قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، أَسْلَمَ الْعَبَّاسُ وَاعْتَقَدَ الْبَيْعَةَ [9] لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الانصار ليلة العقبة على قنّة [10] وَقُرَيْشٌ تَطْلُبُهُ، وَأَسْلَمَتْ أُمُّ الْفَضْلِ فَكَانَتْ ثَالِثَةَ أَوْ قَالَ ثَانِيَةَ النِّسَاءِ بَعْدِ خَدِيجَةَ، وَكَانَ العباس يهاب
__________
[1] م: يعرض.
[2] م: البحتري. انظر جمهرة الأنساب ص 217، وفهرس الطبري.
[3] م: يعرض.
[4] م: البحتري. انظر جمهرة الأنساب ص 217، وفهرس الطبري.
[5] م: كتبت.
[6] انظر نص الرواية، عن ابن عباس، في شرح نهج البلاغة، ج 14، ص 182- 3، وانظر ابن سعد ج 4، ق 1، ص 5، والطبري س 1، ص 1323.
[7] انظر رواية لعكرمة في شرح نهج البلاغة ج 14، ص 180- 181، وابن سعد ج 4، ق 1، ص 5.
[8] ط: له اسلام.
[9] ط: للبيعة.
[10] الأصل: قبة. انظر لسان العرب: «قنن» ..!(4/2)
قَوْمَهُ فَيَكْتُمُ إِسْلامَهُ وَكَانَ ذَا مَالٍ مُتَفَرِّقٍ عَلَى قُرَيْشٍ وَكَانَ يُحَامِي عَلَى مَكْرُمَتِهِ وَمَكْرُمَةِ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِنَ السِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ وَيَخَافُ خُرُوجَهُمَا مِنْ يَدِهِ، فَخَرَجَ مَعَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ وَأَطْعَمَ تَجَلُّدًا مَعَ الْمُطْعِمِينَ، وَكَانَ يَكْتُبُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بِخَبَرِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ بِخَبَرِهِمْ [1] وَمَا أَعَدُّوا لَهُ يَوْمَ أُحُدٍ وَحَذَّرَهُ إِيَّاهُمْ كَيْلا يُصِيبُوا غُرَّتَهُ [2] .
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أبيه عَنْ جَدِّهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَتَبَ الْعَبَّاس بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ إِلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ خُرُوجِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى بَدْرٍ يُعْلِمُهُ السَّبَبَ الَّذِي خَرَجَ لَهُ مِنْ مُدَارَاةِ قُرَيْشٍ وَأَنَّهُ غَيْرُ مُقَاتِلٍ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَنْهَزِمَ بِهِمْ وَيَكْسِرَهُمْ فَعَلَ، فَلَمَّا أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ بَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَلْزِمْنِي مِنَ الْفِدَاءِ أَغْلَظَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَحَدٍ، وَكَانَ كِتَابُهُ مِنْ مَكَّةَ مَعَ رَجُلٍ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ وَمَعَهُ كِتَابُهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاسْتِعْدَادِ قُرَيْشٍ لِغَزْوِهِ يَوْمَ أُحُدٍ إِشْفَاقًا مِنْ أَنْ يُصِيبُوا غُرَّتَهُ، وَبَلَغَهُ فَتْحُ خَيْبَرَ فَأَعْتَقَ غُلامًا لَهُ يُكَنَّى أَبَا زَبِيبَةَ.
قَالُوا: وَكَانَ الْعَبَّاس آخذًا بلجام بغلة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم حُنين، ويقال بحَكمَته، وأقبل يَوْمَئِذٍ نفرٌ من بَنِي ليث من كنانة يُرِيدُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فدنا منه أحدُهم فاحتضنه الْعَبَّاس وأحدق بِهِ موالي رَسُول اللَّهِ، فَقَالَ الْعَبَّاس لأقرب الموالي منه: اضرب ولا تتقِ مكاني ولا تبل [3] أيَّنا قتلت، فقتل المولى الليثي وجاء أَخُو المقتول فرفع يده إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أيضًا فاحتضنه الْعَبَّاس وَقَالَ كَمَا قَالَ أوّلًا فقُتل، حَتَّى فعل ذَلِكَ بستة مِنْهُم، فدعا لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَبّل وجهه. وَفِي يَوْم حنين يَقُول الْعَبَّاس [4] :
ألا هَلْ أتى عرسي مكَرِّي ومقدَمي ... بوادي حنينٍ والأسنةُ شرع
[5]
وقولي إِذَا مَا النفسُ جاشت ألا قري [6] ... وهامٌ تَدَهْدى يَوْم ذاك وأذرع
__________
[1] ط: يخبرهم.
[2] انظر ابن سعد ج 4، ق 1، ص 5، رواية أبي رافع بسند آخر.
[3] ط: تبك.
[4] ترد الأبيات في تاريخ ابن عساكر (خط) ، ج 7، ص 459 ب، وتهذيبه ج 7، ص 233.
[5] في ابن عساكر- تهذيب: تشرع.
[6] ن. م.: لها.!(4/3)
وكيف رددتُ الْخَيْلَ وَهِيَ مُغيرةٌ ... بزوراءَ تعطي فِي اليدين وتمنعُ
وقولي إِذَا مَا الفضلُ شدَّ بسَيْفِه ... عَلَى الْقَوْم: أُخرى يَا بُنيَّ فيرجعُ
كأنّ السهامَ المرسلاتِ كواكبٌ ... إِذَا دَبَرَت عَن عَجْسها وَهِيَ تلمع
نصرنا رَسُول اللَّهِ فِي الحرب سبعةً ... وَقَدْ فرّ من قَدْ فرّ عَنْهُ فأقْشَعوا
[1] يَعْنِي بالسبعة نَفْسه وعلي بْن أَبِي طَالِب والفضل بْن الْعَبَّاس وأبا سُفْيَان [2] بْن الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ وأسامة بْن زَيْد بْن حَارِثَةَ مَوْلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (528) وأبا رافع مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ [3] وأيمن بْن عُبيد أَخَا أسامة لأمه أم أيمن، ويقال إِن السابع مكان أيمن بعضُ ولد الْحَارِث بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ، ويقال إنهم الْعَبَّاس وعلي وأبو سُفْيَان بْن الْحَارِث وعقيل بْن أَبِي طَالِب وعَبْد اللَّه بْن الزُّبَيْر والزبير بْن الْعَوَّام وأسامة بْن زَيْد، وبنو الْحَارِث يقولون إِن جَعْفَر بْن أَبِي سُفْيَان شهد حُنينًا أيضًا.
وَحَدَّثَنِي مُظَفَّرُ بْنُ مُرَجَّى، عَنِ ابْنِ أَبِي أُوَيْسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ [مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سهيل بن أبي الصالح عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّهِ الْعَبَّاسِ: فِيكُمُ النُّبُوَّةُ [4] وَفِيكُمُ الْخِلافَةُ.]
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ حَمْزَةَ الزبيري عن اسماعيل ابن قَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمِ [5] بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلا فَقَامَ يَغْتَسِلُ، فَأَخَذَ الْعَبَّاسُ كِسَاءً فَسَتَرَهُ بِهِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَافِعًا رَأْسَهُ مِنْ جَانِبِ الْكِسَاءِ وَهُوَ يَقُولُ:
[اللَّهُمَّ اسْتُرِ الْعَبَّاسَ مِنَ النَّارِ، أَوْ قَالَ: الْعَبَّاسَ وَوَلَدَهُ مِنَ النَّارِ [6]] .
وَحَدَّثَنِي مُظَفَّرُ بْنُ الْمُرَجَّى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الْهَرَوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ الْوَقَّاصِيِّ عَنْ جَدِّهِ أَبِي أُمِّهِ مَالِكِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أَسِيدٍ السَّاعِدِيِّ [7] قَالَ: [دخل رسول الله
__________
[1] ط: اتشقوا. ولم يرد البيتان الرابع والسادس في ابن عساكر.
[2] اسمه المغيرة. المحبر لابن حبيب ص 46، وانظر جمهرة النسب، ج 1، لوحة 4.
[3] زاد في م: صلى الله عليه وسلم.
[4] م: النبوءة. انظر ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 243.
[5] في هامش د: اسمه «سلمة» . انظر 5- 634. -.
[6] الرواية في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 234.
[7] ط: الساغدي. انظر تهذيب التهذيب لابن حجر ج 10، ص 13.(4/4)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْعَبَّاسِ وَبَنِيهِ فَقَالَ: تَقَارَبُوا، فَزَحَفَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ اشْتَمَلَ عَلَيْهِمْ بِمُلاءَتِهِ وَقَالَ: يَا رَبُّ هَذَا عَمِّي وَصِنْوُ أَبِي، هَؤُلاءِ أَهْلُ بَيْتِي فَاسْتُرْهُمْ مِنَ النَّارِ كَسَتْرِي إِيَّاهُمْ بِملاءَتِي، فَأَمَّنَتْ أَسْكُفَّةُ الْبَيْتِ [1] وَحَوَائِطُ الْبَيْتِ [2]] .
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ [3] بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ مُرَّةَ الْحَضْرَمِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللَّهَ اتَّخَذَنِي خَلِيلا كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا، وَإِنَّ مَنْزِلِي فِي الْجَنَّةِ تِجَاهَ مَنْزِلِ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْزِلُ الْعَبَّاسِ عَمِّي فِيمَا بَيْنَ مَنْزِلِهِ وَمَنْزِلِي، مُؤْمِنٌ بَيْنَ خَلِيلَيْنِ [4]] .
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا خَلادُ بْنُ يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي الضُّحَى قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي لأَعْرِفُ ضَغَائِنَ فِي صُدُورِ أَقْوَامٍ أَوْقَعَتْ [5] بِهِمْ، فَقَالَ: [أَمَا إِنَّهُمْ لَنْ يَنَالُوا [6] خَيْرًا حَتَّى يُحِبُّوكُمْ، أوَ يَرْجُو سِلْهِمُ شَفَاعَتِي وَلا يَرْجُوهَا بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ!] سَلْهَمٌ حَيٌّ مِنْ وَلَدِ حَكَمِ بْنِ سَعْدِ الْعَشِيرَةِ [7] وَعِدَادُهُمْ فِي مُرَادٍ [8] .
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ الْخَفَّافُ [9] عَنْ مُوسَى بْنِ كَرْدَمٍ عَنْ مُجَالِدِ بْنِ سَعِيدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: [كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رأى العباس عمه أوسع لَهُ وَقَالَ هَذَا عَمِّي وَبَقِيَّةُ آبَائِي [10]] .
وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَن زُبَيْرِ بْن بَكَّارٍ عَن عتيق بن يعقوب عن عبد العزيز ابن مُحَمَّدِ الدَّرَاوَرْدِيِّ [11] عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بن الهاد عن عبد الله بن أبي
__________
[1] في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 235: الباب، انظر الزمخشري- اساس البلاغة ج 1، ص 451.
[2] «وحوائط البيت» ليست في د.
[3] م: خيبر. انظر تهذيب التهذيب ج 6، رقم 312.
[4] انظر ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 240.
[5] م: وقعت.
[6] ط: تنالوا.
[7] انظر جمهرة الأنساب ص 408.
[8] ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 239- 40، عن عائشة.
[9] ط، د: الحفاف. انظر تهذيب التهذيب ج 6، ص 450- 453.
[10] م، د: لباني.
[11] د: الدراوزدي. وجاء في لب اللباب في تحرير الأنساب للسيوطي عن عبد العزيز: «كان أبوه من درابجرد فاستثقلوا فقالوا دراوردي، وقيل هو من اندرابه» ص 103.!(4/5)
بَكْرٍ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قَالَ: احْفَظُونِي فِي الْعَبَّاسِ عَمِّي فَإِنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ] .
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عن جده عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ:
[قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لَمْ أَرَ رَأْيًا قَطُّ أَوْثَقَ فَتْلا وَأَحْكَمَ عَقْدًا مِنْ رَأْيِ عَمِّيَ الْعَبَّاسِ] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ، أَنَّ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ لابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ حِينَ اخْتَصَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَقَرَّبَهُ: يَا بُنَيَّ لا تَكْذِبْهُ فَيَطْرَحَكَ، وَلا تَغْتَبْ عِنْدَهُ أَحَدًا فَيَمْقُتَكَ، وَلا تَقُولَنَّ لَهُ شَيْئًا حَتَّى يَسْأَلَكَ، وَلا تُفْشِيَنَّ لَهُ سِرًّا فَيَزْدَرِيَكَ. وَيُقَالُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ أَدْنَاكَ وَأَكْرَمَكَ فَاحْفَظْ (529) عَنِّي ثَلاثًا: لا يُجَرِّبَنَّ [1] عَلَيْكَ كَذِبًا، وَلا تُفْشِينَّ لَهُ سِرًّا، وَلا تَغْتَابَنَّ عِنْدَهُ أَحَدًا [2] .
حَدَّثَنِي الأَعْيَنُ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَعْتَقَ الْعَبَّاسُ عِنْدَ مَوْتِهِ سَبْعِينَ مَمْلُوكًا [3] .
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ الطُّفَاوِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حَبِيبٍ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ صُهَيْبٍ مَوْلَى الْعَبَّاسِ قَالَ: [رَأَيْتُ عَلِيًّا يُقَبِّلُ يَدَ الْعَبَّاسِ وَرِجْلَهُ وَيَقُولُ: يَا عَمِّ ارْضَ عَنِّي] .
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ بْنُ الْجَرَّاحِ عن إسرائيل الملّاي [4] عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، [أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ مُصَدِّقًا، فَشَكَاهُ الْعَبَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الْعَمَّ صِنْوُ الأَبِ وَأَنَّا قَدِ اسْتَسْلَفْنَا زَكَاةَ الْعَبَّاسِ العام [5] عام أول [6]] .
__________
[1] م: تجربن.
[2] انظر اخبار الدولة العباسية ص 120، الكامل للمبرد، ج 2، ص 312، العقد الفريد، ج 1، ص 11، عيون الاخبار لابن قتيبة ص 19، نسب قريش لمصعب الزبيري ص 26.
[3] ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 250.
[4] هو إسرائيل بن يونس بن اسحق السبيعي الهمداني. تهذيب التهذيب ج 1، ص 261- 3.
[5] م: للعام.
[6] انظر ابن سعد ج 4، ق 1، ص 17، وابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 275- 6.!(4/6)
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ أَبُو مُوسَى، حَدَّثَنَا أَبُو معاوية الضرير، حدثنا عبد الرحمن ابن عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ عَنْ نَافِعٍ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ عَامَ الرَّمَادَةِ يَسْتَسْقِي فَقَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا، فَسُقُوا [1] .
وَحَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ [2] قَالَ: نَظَرْتُ إِلَى عُمَرَ يَوْمَ غَدَا لِيَسْتَسْقِيَ عَامَ الرَّمَادَةِ مُتَوَاضِعًا خَاشِعًا عَلَيْهِ بُرْدٌ لا يَبْلُغُ رُكْبَتَيْهِ، فَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالاسْتِسْقَاءِ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ وَالدُّمُوعُ تَجْرِي عَلَى خَدِّهِ وَلِحْيَتِهِ، وَإِنَّ الْعَبَّاسَ لَعَنْ يَمِينِهِ، فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ يَعِجُّ إِلَى رَبِّهِ وَأَخَذَ بِيَدِ الْعَبَّاسِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْتَشْفِعُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ، وَالْعَبَّاسُ قَائِمٌ إِلَى جَنْبِهِ مُلِحٌّ فِي الدُّعَاءِ وَعَيْنَاهُ تهْمِلانِ.
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْبُهْلُولِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ يَسْتَسْقِي فَأَخَذَ بِضَبْعَيِ الْعَبَّاسِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ هَذَا عَمُّ نَبِيِّكَ [3] فَاسْقِنَا، فَمَا بَرِحَ النَّاسُ حَتَّى سُقُوا [4] .
وَيُرْوَى عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: أَجْدَبَتِ الأَرْضُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ حَتَّى الْتَقَتِ الرِّعَاءُ وَأُلْقِيَتِ [5] الْعِصِيُّ وَعُطِّلَتِ النَّعَمُ، فَقَالَ كَعْبٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا أَصَابَهُمْ مِثْلُ هَذَا اسْتَسْقَوْا بِعُصْبَةِ الأَنْبِيَاءِ، فَاسْتَسْقَى عُمَرُ بِالْعَبَّاسِ فَجَعَلَ عُمَرُ يَدْعُو وَالْعَبَّاسُ يَدْعُو.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أبيه عن جده محمد بن السائب عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اسْتَسْقَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالْعَبَّاسِ عَامَ الرَّمَادَةِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّ هَؤُلاءِ عِبَادُكَ وَبَنُو إِمَائِكَ أَتَوْكَ رَاغِبِينَ مُتَوَسِّلِينَ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّكَ فَاسْقِنَا سُقْيَا نَافِعَةً تَعُمُّ الْبِلادَ وَتُحْيِي الْعِبَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نستسقيك بعم نبيك
__________
[1] انظر ابن سعد ج 4، ق 1، ص 19.
[2] د: تريد. ويورد ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 246 هذه الرواية، والمخطوط ج 7، ص 445 ب بنفس الاسناد.
[3] في د: نبينا.
[4] ترد الرواية في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 238.
[5] ط، م: ألقت.!(4/7)
وَنَسْتَشْفِعُ إِلَيْكَ بِشَيْبَتِهِ، فَسُقُوا، فَقَالَ فِي ذَلِكَ الفضل بْن عَبَّاس بْن عتبة بْن أَبِي لَهَبِ [1] بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
بِعَمِّي سَقَى اللَّهُ الْحِجَازَ وَأَهْلَهُ ... عَشِيَّةَ يَسْتَسْقِي بِشَيْبَتِهِ عُمَرُ
تَوَجَّهَ بِالْعَبَّاسِ فِي الْجَدْبِ رَاغِبًا [2] ... إِلَيْهِ فَمَا أَنْ رَامَ [3] حَتَّى أَتَى الْمَطَرُ
وَمِنَّا رَسُولُ اللَّهِ فِينَا تُراثُهُ ... فَهَلْ فَوْقَ هَذَا لِلْمُفَاخِرِ مُفْتَخَرُ
وَقَالَ ابْنُ عَفِيفٍ النَّضرِيُّ [4] :
مَا زَالَ عَبَّاسُ بْنُ شَيْبَةَ عَائِلا [5] ... لِلنَّاسِ عِنْدَ تَنَكُّرِ الأَيَّامِ
رَجُلٌ تَفَتَّحَتِ السَّمَاءُ لِصَوْتِهِ ... لَمَّا دَعَا بِفَضِيلَةِ [6] الإِسْلامِ
عَرَفَتْ قُرَيْشٌ يَوْمَ قَامَ مَقَامَهُ ... فَبِهِ لَهُ فَضْلٌ عَلَى الأَقْوَامِ
(530) وَقَالَ آخَرُ [7] :
رَسُولُ اللَّهِ والشُّهَدَاءُ مِنَّا ... وَعَبَّاسُ الَّذِي فَتَقَ [8] الْغَمَامَا
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي رِوَايَتِهِ: لَمَّا كَانَ عَامَ الرَّمَادَةِ، وَهُوَ عَامُ الْجَدْبِ سَنَةَ ثَمَانِي عَشْرَةَ، اسْتَسْقَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالْعَبَّاسِ وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَسْقِيكَ بِنَبِيِّنَا إِذَا قَحِطْنَا، وَهَذَا عَمُّهُ بَيْنَ أَظْهُرِنَا وَنَحْنُ نَسْتَسْقِيكَ بِهِ، فَلَمْ يَنْصَرِفْ حَتَّى أَطْبَقَ السَّحَابُ، قَالَ [9] :
وَسُقُوا بَعْدَ ثلاثة ايام. وكان عام الرمادة العام الَّذِي كَانَ فِيهِ طَاعُونُ عَمْوَاسٍ بِالشَّامِ.
حَدَّثَنَا خلف بن هشام البزار عَنْ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْوَاسِطِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [قَالَ: مَنْ آذَى الْعَبَّاسَ فَقَدْ آذَانِي، إِنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صنو أبيه] [10] .
__________
[1] انظر جمهرة الأنساب ص 72، الاغاني ج 16، ص 119 وما بعدها، جمهرة النسب، لوحة 4. وترد الأبيات في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 246- 7.
[2] ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 247: دائما.
[3] ن. م.: دام.
[4] ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 247.
[5] ابن عساكر: غاية.
[6] ط: بفصيله، ابن عساكر: بدعاوة.
[7] في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 247: وقال الزبير.
[8] ن. م.: بعج.
[9] م: قالوا.
[10] ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 234.!(4/8)
حدثني عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عَنْ جَدِّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال لِلْعَبَّاسِ: يَا عَمُّ مَنْ حَفِظَنِي فِيكُمْ حَفِظَهُ اللَّهُ، وَلَنْ يَسْتَكْمِلَ رَجُلٌ الإِيمَانَ حَتَّى يَعْرِفَ لَكَ فَضْلَكَ يَا عَمُّ] .
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ ابيه عن الصلت ابن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ قَالَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِمِيِّ:
بِأَبِي وَأُمِّي أَنْتُمْ يَا بَنِي هَاشِمٍ، كَيْفَ تُفْلِحُ هَذِهِ الأُمَّةُ وَتَرْجُو شَفَاعَةَ نَبِيِّهَا وَقَدْ تَرَكَ فِيهِمْ عَمَّهُ فَاسْتَأْثِرُوا بِالرَّأْيِ عَلَيْهِ؟
حَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، [أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لِلْعَبَّاسِ: مَنْ سَمِعْتُ مِنْهُ مَكْرُوهًا أَوْ رَأَيْتُهُ فِي جَاهِلِيَّةٍ أَوْ إِسْلامٍ فَلَمْ أَسْمَعْهُ مِنْكَ قَطُّ وَلَمْ أَرَهُ، وَلَقَدْ سَأَلْتُ رَبِّيَ أَنْ يُعَضِّدَنِي بِأَحَبِّ عُمُومَتِي إِلَيْهِ وَإِلَيَّ فَعَضَّدَنِي بِحَمْزَةَ وَبِكَ] .
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الأَعْرَابِيُّ، حَدَّثَنِي شَبَابَةُ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِ الأَعْلَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: وَقَعَ رَجُلٌ فِي بَعْضِ آبَاءِ الْعَبَّاسِ فَلَطَمَهُ الْعَبَّاسُ، فَأَخَذَ قَوْمُهُ السِّلاحَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ ثُمَّ قَالَ:
[أَيُّهَا النَّاسُ أَيُّ الْخَلْقِ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ؟ قَالُوا: أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ [1] : فَإِنَّ الْعَبَّاسَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ، لا تَسُبُّوا أَمْوَاتَنَا فَتُؤْذُوا أَحْيَاءَنَا،] قَالُوا: نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِكَ، فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ [2] .
وَحَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ أَبِي رِشْدِينَ [3] مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجِلُّ الْعَبَّاسَ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ إِجْلالَ الْوَلَدِ وَالِدَهُ. وَحُدِّثْتُ أَنَّ كُرَيْبًا قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ ان يجل إلّا أبا او عمّا.
__________
[1] سقطت من م.
[2] يورد ابن سعد ج 4، ق 1، ص 15 هذه الرواية مع بعض الاختلاف في النص.
وانظر ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 234.
[3] ط: أبي رشيد بن، د: أبي راشد. وهو كريب بن أبي مسلم ابو رشدين. انظر ابن سعد ج 5، ص 166، وكتاب المجروحين من المحدثين لابي حاتم محمد بن حبان بن احمد التميمي (حيدر آباد الدكن 1973) ، ج 2، ص 259. وترد الرواية في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 239.!(4/9)
وَحَدَّثَنِي الْوَلِيدُ عَن الْوَاقِدِيِّ عَن ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَن هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَقَدْ رَأَيْتُ مِنْ تَعْظِيمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ عَمَّهُ أَمْرًا عَجِيبًا، أُغْمِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ فَلَدَدْنَاهُ ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَأَفَاقَ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ لُدَّ قَالَ: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَبْقَى فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلا لُدَّ سِوَى عَمِّيَ الْعَبَّاسِ.] فَرَأَيْتُهُمْ يُلَدُّونَ رَجُلا رَجُلا وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ يُذْكَرُ فَضْلُهُمْ حَتَّى لَقَدْ لُدَّتِ امْرَأَةٌ صَائِمَةٌ [1] .
حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ زُبَيْرِ (بْنِ بَكَّارٍ [2] عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ بَكَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَتْ الْخَاصِرَةُ تَأْخُذُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا نَهْتَدِي [3] لاسْمِ الْخَاصِرَةِ وَنَقُولُ [4] عِرْقُ النَّسَا [5] ، فَأَخَذَتْهُ يَوْمًا فَلَدَدْنَاهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: [وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يَبْقَى أَحَدٌ فِي الْبَيْتِ إِلا لُدَّ غَيْرَ عَمِّيَ الْعَبَّاسِ، قَالَتْ:] وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ يُذْكَرُ فَضْلُهُمْ فَلُدُّوا رَجُلا رَجُلا [6] .
وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ إِبْرَاهِيمِ بْنِ حَمْزَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ نَافِعٍ أَبِي سَهْلٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: سَمِعْتُ (531) سعد بن أبي وقاص قَالَ:
خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى نَقِيعِ [7] الْخَيْلِ، وَهُوَ مَوْضِعُ سُوقِ النَّخَّاسِينَ الْيَوْمَ، فَطَلَعَ الْعَبَّاسُ، [فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا الْعَبَّاسُ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا وَأَوْصَلُهَا] .
حَدَّثَنِي [8] محمد بن سعد عن الواقدي عن معمر عن الزهري عن أبي بكر ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَكَى الشِّكَاةَ
__________
[1] عبارة: «حتى ... صائمة» ليست في ط.
[2] اضاف م: ابن بكار، وورد ابن بكار في ط مشطوبا ولم يرد في د.
[3] م: يهتدى.
[4] م: يقول.
[5] في هامش كل من ط، د: الكلية، مع اشارة خ (خطأ) .
[6] انظر ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 238.
[7] ط: بقيع، وهو تحريف. انظر حمد الجاسر: ابو علي الهجري وابحاثه في تحديد المواقع ص 285- 302.
[8] ط: فحدثني.(4/10)
التي توفي فيها فغمز [1] مِنْ شِدَّةِ الْوَجَعِ فَلَدُّوهُ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ: مَنْ فَعَلَ هَذَا؟ قَالُوا: خَشِينَا أَنْ تَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ، [فَقَالَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَنِي بِهَا، ثُمَّ قَالَ: لا يَبْقَيَنَّ فِي الْبَيْتِ أَحَدٌ إِلا الْتَدَّ [2] غَيْرَ عَمِّي الْعَبَّاسِ عُقُوبَةً لَهُمْ، فَالْتَدَّتْ مَيْمُونَةٌ وَهِيَ صَائِمَةٌ] .
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ [3] قَالَ: [خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إِلَى بَعْثٍ أَوْ يُجَهِّزُهُ، فَطَلَعَ الْعَبَّاسُ فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالَ: هَذَا عَمُّ نَبِيِّكُمْ أَجْوَدُ قُرَيْشٍ كَفًّا وَأَوْصَلُهَا لِرَحِمٍ [4]] .
حدثني الوليد بن صالح عن عَن الْوَاقِدِيِّ عَن ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَن أَبِيهِ عَنْ الثِّقَاتِ مِنْ آلِ عُثْمَانَ وَغَيْرِهِمْ، أَنَّ الْعَبَّاسَ لَمْ يَمُرَّ بِعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَهُمَا راكبان وهو راجل الا نزلا حتى يجوزهما إِجْلالا لَهُ أَوْ يَمْشِيَانِ مَعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ مَنْزِلَهُ أَوْ مَجْلِسَهُ [5] .
حَدَّثَنِي يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: جَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَفْوَانَ، وَكَانَ صَدِيقًا لِلْعَبَّاسِ، بِأَبِيهِ [6] يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُبَايِعَهُ عَلَى الْهِجْرَةِ، فَقَالَ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ لا هِجْرَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ لَمَا بَايَعْتَهُ، فَقَالَ بِيَدِهِ: هَاهْ، أَبْرَرْتُ قَسَمَ عَمِّي وَلا هِجْرَةَ] .
حَدَّثَنِي أَبُو مُسْلِمٍ الأَحْمَرِيُّ الْمُؤَدِّبُ، حَدَّثَنِي هشام الكلبي عن ابيه محمد ابن [7] السَّائِبِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ عِدَّةٍ مِنَ الْهَاشِمِيِّينَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَاقَ إِلَى عَمِّهِ الْعَبَّاسِ وَقَدْ خَرَجَ إِلَى بَعْضِ بَوَادِي الْمَدِينَةِ فَزَارَهُ وَأَقَامَ عِنْدَهُ أَيَّامًا.
__________
[1] م: فغمر.
[2] د: لد التد.
[3] جمهرة النسب ج 1، لوحة 20.
[4] في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 237: وأوصلها لها.
[5] انظر ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 245 وفي المخطوط ج 7، ص 454: «حتى يجوز بهما» .
[6] ط: يأتيه.
[7] سقطت من م.!(4/11)
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي هَارُونَ مُوسَى بْنِ عِيسَى قَالَ: كَانَ لِلْعَبَّاسِ مِيزَابٌ يَصُبُّ فِي الْمَسْجِدِ فَكَسَرَهُ عُمَرُ فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَمَا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ عُمَرُ: لا جَرَمَ وَاللَّهِ لا يَكُونُ لَكَ سُلَّمٌ إِلا ظَهْرِي، فَطَأْطَأَ لَهُ حَتَّى رَكِبَ ظَهْرَهُ ثُمَّ وَضَعَهُ [1] .
وذكروا أَن الْعَبَّاس بنى داره الَّتِي كَانَتْ إِلَى الْمَسْجِد وجعل يرتجز:
بنيتُها باللِّبن والحجاره ... فباركنْ لأهلِ هذي [2] الدّارهْ
فدعا لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالبركة.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنُ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ أبي بكر ابن عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ قَالَ: أَمَرَ عُمَرُ بِقَلْعِ الْمَيَازِيبِ الَّتِي تَصُبُّ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَتَاهُ الْعَبَّاسُ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ أَتَاكَ عَمُّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ مُسْلِمًا مَا كُنْتَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ كُنْتُ أَفْعَلُ بِهِ كَذَا، فَذَكَرَ إِعْظَامًا وَإِجْلالا وَاسِعًا، قَالَ: فَأَنَا عَمُّ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: اذْهَبْ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ.
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ، أَنَّ الْعَبَّاسَ كَانَ يَأْمُرُهُ فَتُوضَعُ مَائِدَتُهُ فِي السَّفَرِ فَيَأْكُلُ مَنْ حَضَرَهُ وَمَنْ مَرَّ بِهِ ثُمَّ يُلْقِي فَضْلَهَا لِلطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ آدَمَ عَن عَبْد اللَّهِ بْن المبارك عَن يونس ابن يَزِيدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ [3] عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: لَقَدْ جَاءَ الْإِسْلامُ وَإِنَّ جَفْنَةَ الْعَبَّاسِ لَتَدُورُ عَلَى فُقَرَاءِ بَنِي هَاشِمٍ وَإِنَّ سَوْطَهُ وَقِدَّهُ [4] مَعَهُ لِسُفَهَائِهِمْ، يُطْعِمُ الْجَائِعَ وَيُؤَدِّبُ السَّفِيهَ، وَقَالَ الزهري: هذا والله السّؤدد.
__________
[1] ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 237.
[2] ط: هذه. وفي ابن عساكر ج 7، ص 237: يا رب باركن باهل الداره.
[3] الرواية مع بعض الاختلاف في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 250.
[4] ن. م.: قيده.!(4/12)
قَالَ (532) إِبْرَاهِيم بْن عَلِي بْن هَرْمة [1] :
وكانت لعباسٍ ثلاثً يعدّها [2] ... إِذَا مَا شتاءُ [3] النَّاس أصبح أشهبا
فسلسلةٌ تنهي [4] الظلومَ وجفنةٌ ... تباح فيكسوها السنامَ المرُعّبا
وحلَّة عصبٍ مَا تزال معدةً ... لعارٍ [5] ضريكٍ ثوبهُ قَدْ تهببا
حَدَّثَنِي عباس بن هشام عن أبيه عن جده عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: [كُنْتُ عِنْدَ الْحُسَيْنِ [6] بْنِ عَلِيٍّ فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ [7] أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ عِنْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ فأطعم طعامه وأيطب كَلامَهُ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ: إِنَّ أَبَاهُ كَانَ سَيِّدَ قُرَيْشٍ غَيْرَ مُدَافَعٍ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا بَنِي هَاشِمٍ أَطْعِمُوا الطَّعَامَ وَأَطْيِبُوا الْكَلامَ، فَأَخَذَهَا وَاللَّهِ الْعَبَّاسُ وَوَلَدُهُ] .
حَدَّثَنِي أَبُو حَسَّانٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ النَّخَعِيِّ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ [8] قَالَ: أَقْبَلَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ وَهُوَ أَبْيَضُ لَهُ ضَفِيرَتَانِ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسَّمَ، [فَقَالَ لَهُ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّ تَبَسَّمْتَ؟ قَالَ: مِنْ جَمَالِكَ يَا عَمُّ، قَالَ: وَمَا الْجَمَالُ فِي الرَّجُلِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: اللِّسَانُ. قَالَ أَبُو جعفر، يقول: أعجب من بيانك ولسنك [9]] .
حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيّ، حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلَ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
[1] انظر الاغاني ج 4، ص 369 وما بعدها وج 5، ص 234، وترد هذه الأبيات في تهذيب ابن عساكر ج 7، ص 228- 9، ويرد الخبر عن الزبير بن بكار في ابن عساكر (المخطوط) ج 7، ص 455 ب، وفي ديوان ابن هرمة، تحقيق محمد جبار المعيبد، ص 13- 14.
[2] ابن عساكر- تهذيب: نعدها، وفي المخطوط ص 455 ب: بعدها.
[3] ن. م.: جناب.
[4] ط: ينهي.
[5] م: لعات.
[6] م: الحسن
[7] م: من أنت اين.
[8] ترد الرواية مع اختلاف في اللفظ في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 242.
[9] زاد في م: حد.!(4/13)
حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ: عَلَيْكَ الْعِيرُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا كَبِيرُ شَيْءٍ، فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ:
إِنَّهَا لا تَصْلُحُ لَكَ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ [1] . قَالَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ مِثْلِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: صَدَقَ عَمِّي] .
وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطيالسي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ ذَكْوَانَ عَنْ صُهَيْبٍ مَوْلَى الْعَبَّاسِ قَالَ: أَرْسَلَنِي الْعَبَّاسُ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَدْعُوهُ، فَأَتَيْتُهُ وَهُوَ يُغَدِّي النَّاسَ، فَلَمَّا فَرَغَ أَتَاهُ فَقَالَ: أَفْلَحَ الْوَجْهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ، فَقَالَ: وَوَجْهُكَ يَا أمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ، ثُمَّ قَالَ عُثْمَانُ: أَتَانِي رَسُولُكَ وَأَنَا أُغَدِّي النَّاسَ فَمَا زِدْتُ حِينَ غَدَّيْتُهُمْ عَلَى أَنْ أَتَيْتُكَ، وَذَكَرَ كَلامًا.
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ وَلا أَعْلَمُهُ إِلا عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ الْعَبَّاسَ اسْتَأْذَنَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَبِيتِ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى فَأَذِنَ لَهُ.
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابُنَا عَن الزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ عَن سَاعِدَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عن داود ابن عَطَاءٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ [2] ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: [اللَّهُمَّ إِنَّ عَمِّيَ الْعَبَّاسَ حَاطَنِي بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَأَخَذَ لِي الْبَيْعَةَ عَلَى الأَنْصَارِ وَنَصَرَنِي فِي الإِسْلامِ [3] ، اللَّهُمَّ فَاحْفَظْهُ وَحُطْهُ وَاحْفَظْ ذُرِّيَّتَهُ مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ] .
وَحَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار قَالَ: سَمِعْتُ الْوَلِيد بْن مُسْلِم يَقُول: قُرئ عَلَيْنَا كتاب أَبِي جَعْفَر أمِير الْمُؤْمِنيِنَ يذكر فِيهِ سابقة جَدّه الْعَبَّاس فَقَالَ فِيهِ: ومن ذَلِكَ أَنَّهُ جهز فِي جيش العسرة بثمانين الف درهم.
حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ غُلامًا لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يُقَالُ لَهُ كِلابٌ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بِأَلْطَافٍ بَعَثَ بِهَا إِلَيْهِ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَكَانَ رَسُولُ الله
__________
[1] ترد هذه الرواية في تاريخ ابن عساكر (المخطوط) ج 7، ص 457 أ.
[2] انظر ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 235.
[3] يضيف ابن عساكر: مؤمنا مصدقا بي.!(4/14)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ شَكَا الْقِيَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ، وَكَانَ كِلابٌ نَجَّارًا مُجِيدًا، فَأَمَرَهُ فَعَمِلَ لَهُ مِنْبَرَهُ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ دَرَجَتَيْنِ وَمِقْعَدًا [1] وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَحَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُمَيَّةَ (533) بْنُ يَعْلَى عَنْ سَالِمٍ أَبِي النَّضْرِ قَالَ [2] : لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ ضَاقَ بِهِمُ الْمَسْجِدُ، فَاشْتَرَى عُمَرُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الدُّورِ إِلا دَارَ الْعَبَّاسِ وَحُجَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنيِنَ، فَقَالَ عُمَرُ لِلْعَبَّاسِ: يَا أَبَا الْفَضْلِ إِنَّ الْمَسْجِدَ قَدْ ضَاقَ وَقَدِ ابْتَعْتُ مَا حَوْلَهُ مِنَ الْمَنَازِلِ لأُوَسِّعَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَسْجِدَهُمْ إِلا دَارَكَ وَحُجَرَ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنيِنَ، فَأَمَّا حُجَرُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنيِنَ فَلا سَبِيلَ إِلَيْهَا، وَأَمَّا دَارُكَ فَإِمَّا أَنْ تَبِيعَنِيهَا بِمَا شِئْتَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِمَّا أَنْ أَخُطَّكَ خُطَّةً حَيْثُ شِئْتَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَأَبْنِيَهَا لَكَ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِمَّا أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَتُوَسِّعَ بِهَا مَسْجِدَهُمْ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لا وَلا وَاحِدَةَ مِنْهَا، فَقَالَ عُمَرُ: أَنْتَ أَعْلَمُ، اذْهَبْ فَلَنْ أَعْرِضَ لَكَ فِي دَارِكَ، قَالَ الْعَبَّاسُ:
أَمَا إِذَا قُلْتَ هَذَا فَإِنِّي قَدْ تَصَدَّقْتُ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَخَطَّ لَهُ عُمَرُ دَارَهُ الَّتِي هِيَ لَهُ الْيَوْمَ وَبَنَاهَا مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أُسَامَةَ بن محمد بن أسامة ابن زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ [3] قَالَ: [أُهْدِيَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَبِيبًا وَتِينًا مِنَ الشَّامِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْ عَلَيَّ أَحَبَّ أَهْلِي إِلَيْكَ، فَدَخَلَ العباس فقال: ها هنا يَا عَمُّ، دُونَكَ فَكُلْ] .
حَدَّثَنِي [4] عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا صَارَ أَمْرُ السِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ لِبَنِي عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ اقْتَرَعُوا فَخَرَجَ سَهْمُ هَاشِمٍ فَوَلِيَ ذَلِكَ وَقَامَ بِهِ، فَلَمَّا مَاتَ هَاشِمٌ بِغَزَّةَ قَامَ بِأَمْرِ السِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ بَعْدَهُ بِوَصِيَّةٍ مِنْهُ الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ أَخُوهُ، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ المطلب قام بذلك عبد المطلب ابن هَاشِمٍ ثُمَّ ابْنُهُ الزُّبَيْرُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ ثُمَّ أَبُو طَالِبِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، ثُمَّ إِنَّ أَبَا طَالِبٍ أَمْعَرَ وَاخْتَلَّتْ حَالُهُ فَعَجَزَ عَنِ الْقِيَامِ بِأَمْرِ السِّقَايَةِ
__________
[1] م: مقعدة.
[2] اورد ابن سعد هذه الرواية بصورة اوفى، ج 4، ق 1، ص 13- 14.
[3] ترد الرواية في ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 239.
[4] م: وحدثني. وانظر رواية ابن سلام في تاريخ ابن عساكر (المخطوط) ج 7، ص 455 أ.(4/15)
وَالرِّفَادَةِ فَاسْتَسْلَفَ مِنْ أَخِيهِ الْعَبَّاسِ بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لِلنَّفَقَةِ عَلَى ذَلِكَ عَشْرَةَ آلافِ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ سَأَلَهُ سَلَفَ خَمْسَةَ عَشرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، أَوْ قَالَ أَرْبَعَةَ عَشرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إِنَّكَ لَنْ تَقْضِيَنِي مَا لِي عَلَيْكَ فَأَنَا أُعْطِيكَ مَا سَأَلْتَ عَلَى أَنَّكَ إِنْ لَمْ تُؤَدِّ إِلَيَّ مَالِي كُلَّهُ فِي قَابِلٍ فَأَمْرُ هَذِهِ الْمَكْرُمَةِ مِنَ السِّقَايَةِ وَالرِّفَادَةِ إِليَّ دُونَكَ وَالْمَالُ لَكَ، فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الْمَوْسِمُ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ ازْدَادَ أَبُو طَالِبٍ عَجْزًا وَضَعْفًا لِقِلَّةِ ذَاتِ يَدِهِ فَلَمْ تُمْكِنْهُ [1] النَّفْقَةُ وَلَمْ يَقْضِ الْعَبَّاسُ مَالَهُ، فَصَارَتِ السِّقَايَةُ وَالرِّفَادَةُ إِلَيْهِ. وَكَانَ لِلْعَبَّاسِ كَرْمٌ بِالطَّائِفِ يُؤْتَى بِزَبِيبِهِ فَيُنْبَذُ فِي السِّقَايَةِ، فَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ أَخَذَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَهَمَّ بِدَفْعِهِ إِلَى الْعَبَّاسِ، فَنَزَلَتْ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أهلها [2] فَأَقَرَّ السِّقَايَةَ وَالرِّفَادَةَ فِي يَدِ الْعَبَّاسِ وَأَقَرَّ الْحِجَابَةَ فِي يَدِ عُثْمَانَ بْنِ طَلْحَةَ بْنِ أبي طلحة ابن عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الدَّارِ بْنِ قُصَيِّ [3] . [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ: أَلا إِنِّي قَدْ وَضَعْتُ كُلُّ مَأْثَرَةٍ وَمَكْرُمَةٍ كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي إِلا سِدَانَةَ الْبَيْتِ وَسِقَايَةِ الْحَاجِّ [4]] .
وَحَدَّثَنِي عَلِي الأثرم عَنْ أَبِي عُبَيْدَة قَالَ: قام الْعَبَّاس بالسقاية والرفادة، ثُمَّ قام بِذَلِك عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس ثُمَّ عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ ثُمَّ مُحَمَّد بْن عَلِي ثُمَّ دَاوُد بْن عَلِي ثُمَّ سُلَيْمَان بْن عَلِي ثُمَّ عِيسَى بْن عَلِي، فَلَمَّا استخلف أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَبُو جَعْفَر [5] قَالَ: إنكم تقلدون هَذَا الأمر مواليكم فموالي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أحقّ بالقيام بِهِ، فولى السقاية ونفقاتِ الْبَيْت مَوْلَى لَهُ يُقَالُ لَهُ زَربي، وجُعلت الرفادة من بَيْت المال.
المدائني عَنِ ابْن جُعْدُبَة قَالَ: دَخَلَ عُثْمَان بْن عَفَّان عَلَى الْعَبَّاس رَضِيَ اللَّه تَعَالَى [6] عَنْهُمَا، وَكَانَ الْعَبَّاس خالَ أمه أروى بِنْت كُرَيز فَقَالَ: يَا خال أوصني، فَقَالَ: أوصيك بسلامة القلب، وترك مُصَانَعة الرجال فِي الحق، وحفظ اللسان، فإنك مَتَى (534) تفعلْ ذلك ترض ربك وتصلح لك رعيتك.
__________
[1] ط: يمكنه.
[2] سورة النساء (4) ، آية 58.
[3] انظر جمهرة النسب ج 1، لوحة 17.
[4] انظر فنسنك- المعجم المفهرس ج 2 ص 487.
[5] سقط «ابو جعفر» من م.
[6] تعالى: ليست في ط.!(4/16)
الْمَدَائِنِيُّ عَنِ ابْنِ جُعْدُبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ: يَا بُنَيَّ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَلَّغَكَ شَرَفَ الدُّنْيَا فَاطْلُبْ شَرَفَ الآخِرَةِ، وَامْلِكْ هَوَاكَ وَاحْرِزْ لِسَانَكَ إِلا مِمَّا لَكَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَمَّادِ بْنِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عن زكريا ابن عَطِيَّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخَذَ كَعْبُ الأَحْبَارِ بِيَدِ الْعَبَّاسِ وَقَالَ: اخْتَبِئْهَا لِي عِنْدَكَ لِلشَّفَاعَةِ، فَقَالَ: وَهَلْ لِي شَفَاعَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَفَاضِلِ أَهْلِ النَّبِيِّ يُسْلِمُ إِلا كَانَتْ لَهُ شَفَاعَةٌ.
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَخَذَ الْعَبَّاسُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ وَافَاهُ السَّبْعُونَ مِنَ الأَنْصَارِ بِالْعَقَبَةِ فَجَعَلَ يَأْخُذُ لِرَسُولِ اللَّهِ [1] الْبَيْعَةَ وَيَعْتَقِدُهَا عَلَيْهِمْ وَيَشْتَرِطُ لَهُ، قَالَ عُرْوَةُ: وَذَلِكَ فِي غُرَّةِ الْإِسْلَامِ وَأَوَّلِهِ وَلَيْسَ يُعْبَدُ الله علانية.
حدثني علي بن حماد بن كثير، حَدَّثَنَا الْحِزَامِيُّ [2] عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ طَلْحَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيُّ عَلَى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لَهُ: [عَلَى مَنْ نَزَلْتَ يَا أَبَا وَهْبٍ؟ قَالَ: عَلَى عَمِّكَ الْعَبَّاسِ، قَالَ: نَزَلْتَ عَلَى أَشَدِّ قُرَيْشٍ لِقُرَيْشٍ حُبًّا [3]] .
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زيد عن الْحَسَنِ عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ [4] قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: قُرَيْشٌ رُؤَسَاءُ النَّاسِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ أَحَدٌ يَدْخُلُ فِي أَمْرٍ إِلا دَخَلَ مَعَهُ فِيهِ [5] طَائِفَةٌ [6] ، فَلَمَّا طُعِنَ عُمَرُ أَمَرَ صُهَيْبًا أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ وَيُطْعِمَهُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ حَتَّى يَجْتَمِعُوا عَلَى رَجُلٍ مِنَ السِّتَّةِ، فلما وضعت
__________
[1] يضيف م: صلى الله عليه وسلم.
[2] ط: الجزامي. انظر ابن الأثير- اللباب ج 1، ص 362.
[3] انظر ابن سعد ج 4، ق 1، ص 15.
[4] يرد هذا الخبر بهذا الاسناد وباسناد آخر في ابن سعد ج 4، ق 1، ص 19- 20، وفي ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 240.
[5] ط: الله.
[6] يضيف ابن سعد: «فلم ادر ما تأويل قوله في ذا حتى طعن فلما احتضر امر ... » ج 4، ق 1، ص 19.!(4/17)
الْمَوَائِدُ كَفَّ النَّاسُ عَنِ الطَّعَامِ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُبِضَ فَأَكَلْنَا بَعْدَهُ وَشَرِبْنَا، وَتُوُفِّيَ أَبُو بَكْرٍ فَأَكَلْنَا بَعْدَهُ وَشَرِبْنَا، وَإِنَّهُ لا بُدَّ مِنَ الأَكْلِ [1] ، فَأَكَلَ وَأَكَلَ النَّاسُ، قَالَ: فَعَرَفْتُ قَوْلَ عُمَرَ.
ومن حَدِيث الْوَاقِدِيِّ وغيره، إِن اللَّه فتح عَلَى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر، وَكَانَ الْحَجَّاج بْن عِلاط السُّلَمي قدمَ من غارةٍ لَهُ يَوْم خيبر فأسلم واستأذن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إتيان مَكَّة ليأخذ مالًا لَهُ هناك عِنْدَ زوجته أم شَيْبَة بِنْت عمير أخت مُصْعَب بْن عمير العَبدري، فأذن لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ذَلِكَ، فقدم مَكَّة وأهلُها لا يَعْلَمُونَ بخبر خيبر ولا بإسلامه، فَقَالَ لقريش متقربًا إِلَيْهَا: إِن مُحَمَّدًا قَدْ أسِر ونُكب أَصْحَابه، فَلَمَّا بلغ الْعَبَّاس ذَلِكَ اشتد عَلَيْهِ وغمَّه فخرج مُدَلها حَتَّى لقي الْحَجَّاج فِي خلوة [2] فسأله عَنِ الْخَبَر، فَقَالَ:
أكتم عليَّ فداك أَبِي وأمي جميعَ مَا أقول لَك ثلاثًا حَتَّى آخذ مالي عندّ زوجتي ثُمَّ أظهر الأمر، إني قد أسلمت وان رسول الله [3] قَدْ ظفر، وجئتك وَهُوَ عروس بابنة ملك خيبر، فَسُرِّيَ عنهُ، فَلَمَّا مضت ثلاثة أَيَّام وخرج الْحَجَّاج يريد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، غدا الْعَبَّاس عَلَى قريش وعليه حُلة خز مصبوغة وَهُوَ متعطر [4] فوقف عَلَى بَاب أم شَيْبَة فَقَالَ: أَيْنَ الْحَجَّاج؟ قَالَتْ: خرجَ يبتاعُ مِمَّا غنم أَهْل خيبر من مُحَمَّد وأَصْحَابه، فَقَالَ: ذاك والله الباطل، لَقَدْ خلص ماله، وَإِنَّكَ لا تَحلين لَهُ حَتَّى تتبعي [5] دينه، فَقَالَتْ: صدقت والثواقب، ثُمَّ أتى قريشًا فَقَالُوا: مَا هَذَا التجلد يَا أبا الفضل؟ فأخبرهم الْخَبَر فسيء بِهِمْ واكتأبوا وجعل بَعْضهم يصدق وبعضهم يكذب، حَتَّى ورد عَلَيْهِم الْخَبَر بَعْد يومين أَوْ ثلاثة أَيَّام، وَذَلِكَ [6] فِي سنة سبع.
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إسحاق بن يسار
__________
[1] في ابن سعد: الأجل.
[2] «في خلوة» ليست في ط.
[3] يضيف م: صلى الله عليه وسلم.
[4] ط: يتعطر.
[5] م: تبغي.
[6] ط، د «وكذلك» .!(4/18)
عَنْ رَجُلٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ [1] عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ (535) [2] ، أَنَّ عَاتِكَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَأَتْ فِي مَنَامِهَا قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ مَكَّةَ بِرِسَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ، حِينَ اسْتَأْجَرَهُ وَأَرْسَلَهُ إِلَى قُرَيْشٍ، يُعْلِمُهَا طلبُ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعِيرَ الَّتِي قَدِمَ بِهَا أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الشَّامِ وَيَأْمُرُهَا بِالْخُرُوجِ لِمَنْعِهَا وَالذَّبِّ عَنْهَا بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ، كَأَنَّ رَاكِبًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرِهِ حَتَّى وَقَفَ بِالأَبْطَحِ ثُمَّ قَالَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: أَلا انْفِرُوا يَا آلَ غُدَر لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلاثٍ [3] ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّاسُ يَتْبَعُونَهُ فَمَثُلَ بِهِ بَعِيرُهُ فَوْقَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ صَرَخَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ مثُلَ بِهِ [4] بَعِيرُهُ فَوْقَ أَبِي قَبِيسٍ فَصَرَخَ بِمِثْلِ ذَلِكَ، ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي حَتَّى [5] ارْفَضَّتْ فَمَا بَقِيَ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ مَكَّةَ إِلا دَخَلَتْهُ مِنْهَا فَلْقَةٌ، فَقَالَ لَهَا الْعَبَّاسُ: اكْتُمِي رُؤْيَاكِ يَا اخت، وخرج فلقي الوليد بن عتبة ابن رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا وَنَدِيمًا مَعَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، فَذَكَرَ لَهُ الرُّؤْيَا فَأَخْبَرَ بِهَا الْوَلِيدُ أَبَاهُ عُتْبَةَ، فَفَشَا الْحَدِيثُ حَتَّى جَعَلَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُ:
امْضُوا بِنَا إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ نَسْأَلُهُ عَنْ رُؤْيَا عَمِّهِ مُحَمَّدٍ، وَلَقِيَ أَبُو جَهْلٍ الْعَبَّاسَ فَقَالَ: يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ مَتَى حَدَّثَتْ فِيكُمْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ! أَمَا رَضِيتُمْ أَنْ يَتَنَبَّأَ رِجَالُكُمْ حَتَّى تَنَبَّتْ [6] نِسَاؤُكُمْ! وَاللَّهِ لَئِنْ مَضَتْ ثَلاثَةُ أَيَّامٍ وَلَمْ يَكُنْ لِهَذِهِ الرُّؤْيَا تَأْوِيلٌ لَنَكْتُبَنَّ عَلَيْكُمْ كِتَابًا أَنَّكُمْ أَكْذَبُ [7] الْعَرَبِ. قَالَ الْعَبَّاسُ: فَأَنْكَرْتُ الرُّؤْيَا، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ ضَمْضَمُ وَقَدْ جَدَعَ أَنْفَ بَعِيرِهِ وَحَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ، أَمْوَالَكُمْ أَمْوَالَكُمْ، فَقَدْ عَرَضَ لَهَا [8] مُحَمَّدٌ، الْغَوْثَ الْغَوْثَ! فَتَجَهَّزَ النَّاسُ سِرَاعًا، وَخَافَ الْعَبَّاسُ عَلَى نفسه فخرج معهم ليوري
__________
[1] د، م: اسحق بن محمد.
[2] انظر الرواية في سيرة ابن هشام ج 2، ص 258 وما بعدها، وفي الاغاني ج 4، ص 176- 178، وانظر ابن سعد- الطبقات ج 8 ص 29- 30.
[3] زاد في م: ايام.
[4] سقطت «به» من م.
[5] في سيرة ابن هشام ج 2 ص 259، والاغاني ج 4 ص 176: حتى إذا كانت باسفل الجبل ارفضّت ...
[6] ابن هشام: تتنبأ.
[7] ن. م.: اكذب اهل بيت في العرب.
[8] م: لنا.!(4/19)
بِذَلِكَ عَلَيْهِم، وَأَطْعَمَ مَعَ الْمُطْعِمِينَ تَجَلُّدًا، وَأَظْهَرَ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيمَا دَخَلُوا فِيهِ لِئَلا يُقَالَ إِنَّهُ مُسْلِمٌ فَيُصِيبُوهُ بِشَرٍّ. وَقَالَتْ عَاتِكَةُ بَعْدَ بَدْرٍ:
أَلَمْ تَكُنِ الرُّؤْيَا بِحَقٍّ أَتَاكُمُ ... بِتَأْوِيلِهَا فَلٌّ مِنَ الْقَوْمِ هَارِبُ
أَتَى فَأَتَاكُمْ بِالْيَقِينِ الَّذِي رَأَى ... بِعَيْنَيْهِ مَا تَفْرِي السُّيُوفُ الْقَوَاضِبُ
فَقُلْتُمْ، وَلَمْ أَكْذِبْ، كَذَبْتِ وَإِنَّمَا ... يُكَذِّبُنِي بِالصِّدْقِ مَنْ هُوَ كَاذِبُ
وَسَمِعْتُ أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لأَبِي جَهْلٍ، حِينَ قَالَ [1] لَنَكْتُبَنَّ عَلَيْكُمْ كِتَابًا أَنَّكُمْ أَكْذَبُ الْعَرَبِ: يَا مُصَفِّرَ اسْتِهِ، أَنْتَ أَوْلَى مِنَّا بِالْكَذِبِ. وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ قُرَيْشٍ شِعْرًا ذَكَرَ أَنَّهُ قَالَهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَيُقَالُ غَيْرُهُ:
يَا قَوْمُ كَيْفَ رَأَيْتُمْ ... تَأْوِيلَ رُؤْيَا عَاتِكَهْ
قُلْتُمْ لَهَا يَا آفِكَهْ ... جَهْلا وَمَا هِيَ آفِكَهْ
حَتَّى بَدَا تَأْوِيلُهَا ... بِكدَاءَ [2] غَيْرَ مُتَارِكَهْ
خَصت وَعَمَّتْ مَعْشَرًا ... أَرْحَامُهُمْ [3] مُتَشَابِكَهْ
هَلَكُوا بِبَدْرٍ كُلُّهُمْ ... فَابْكُوا النُّفُوسَ الْهَالِكَهْ
قَالُوا: وَلَمَّا كَانَتْ عُمْرَةُ الْقَضَاءِ، وَقَدِمَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةُ، زوّجه عمّه الْعَبَّاسُ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ أُخْتُ امْرَأَتِهِ أُمِّ الْفَضْلِ لُبَابَةَ [4] بِنْتِ الْحَارِثِ.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الهيثم، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: خَرَجَ الْعَبَّاسُ مِنْ مَكَّةَ مُجَاهِرًا بِإِسْلامِهِ فَلَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الحُليفة وَهُوَ يُريدُ مَكَّةَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يُمْضِيَ ثِقَلَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَيَكُونَ هُوَ مَعَهُ [وقَالَ: هِجْرَتُكَ يَا عَمُّ آخِرُ هِجْرَةٍ كما ان نبوّتي آخر نبوة [5]] .
__________
[1] زاد في م: له.
[2] ط: بكذا، م: فكراء. انظر ياقوت- بلدان (ن. وستنفلد) ج 4، ص 241، وابن هشام ج 4 ص 37.
[3] د: انسابهم.
[4] م: لبانة. انظر جمهرة انساب العرب ص 274.
[5] انظر ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 232.(4/20)
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّقْيَا فَلَمْ يُفَارِقْهُ حَتَّى دَخَلَ مَعَهُ مَكَّةَ فَفَتَحَهَا ثُمَّ انْصَرَفَ مَعَهُ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ وَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غُلامَهُ أَبَا رَافِعٍ وَرَسُولُ اللَّهِ بِمَكَّةَ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ أَبُو رَافِعٍ رَسُولَ اللَّهِ بِقُدُومِهِ مُعْلِنًا لإِسْلامِهِ فَأَعْتَقَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاس بْن هشام عن أَبِيهِ عن أبي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كَانَ الْعَبَّاسُ أَكْرَمَ (536) قُرَيْشٍ: لَهُ ثَوْبٌ لِعَارِيهِمْ، وَجَفْنَةٌ لِجَائِعِهِمْ، وَمِقْطَرَةٌ [1] لِجَاهِلِهِمْ، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ نَدِيمًا لأَبِي سُفْيَانَ، فَجَاوَرَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ رَجُلًا لَمْ يَحْمَدْ جِوَارَهُ، فَقَالَ لَهُ [2] عَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ [3] :
إِنْ كَانَ جَارُكَ لَمْ تَنْفَعْكَ ذِمَّتُهُ ... حَتَّى سُقِيتَ [4] بِكَأْسِ الذُّلِّ أَنْفَاسًا
فَأْتِ القباب فكن من أهلها سددا [5] ... تَلْقَى ابْنَ حَرْبٍ وَتَلْقَى [6] الْمَرْءَ عَبَّاسًا
قَرْمَيْ قُرَيْشٍ وَحَلَّا فِي ذَوَائِبِهَا [7] ... بِالْمَجْدِ وَالْحَزْمِ مَا حَازَا وَمَا سَاسَا
سَاقِي الْحَجِيجِ وَهَذَا مَاجِدٌ أنف [8] ... والمجد يورث أخماسا وأسداسا
وحدثني بكر بْن الهيثم، حَدَّثَنَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ أَبِي أَبْيَضَ بَضًّا رَجِلَ الشَّعْرِ حَسَنَ اللِّحْيَةِ فِي رِقَّةٍ، تَامُّ الْقَامَةِ رَحْبُ الْجَبْهَةِ أَهْدَبَ الأَشْفَارِ، أَوْ قَالَ أَوْطَفَ، أَقْنَى الأَنْفِ [9] عَظِيمَ الْعَيْنَيْنِ [10] سَهْلَ الْخَدَّيْنِ بَادِنًا جَسِيمًا، وَكَانَ قبل ان تكبر سنّه
__________
[1] م: مقصرة. انظر ابن عساكر- تهذيب ج 7، ص 228.
[2] له: ليست في د، م.
[3] ترد ترجمته في الاغاني ج 14، ص 285 وما بعدها. وترد الأبيات في ج 17، ص 211 وفي الديوان (تحقيق يحيى الجبوري) بغداد 1968، ص 75- 76.
[4] الديوان والاغاني: وقد شربت.
[5] الديوان والاغاني:
فأت البيوت وكن ... صددا ... لا تلف ناديهم فحشا ولا بأسا
وثمّ كن بفناء البيت معتصما ... تلق ابن حرب وتلق المرء عباسا
وانظر لسان العرب مادة: «سدد» ، ومادة «صدد» .
[6] ط: يلقى.
[7] الديوان: ذؤابتها.
[8] الديوان والاغاني: ياسر فلح.
[9] م: او قال: اقنى الأنف أوطف.
[10] في هوامش ط، د، م: «العرنين» مع اشارة خ.!(4/21)
ذَا ضَفِيرَتَيْنِ، وَكُفَّ بَصَرُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَقَدْ كَانَ خَضَّبَ ثُمَّ تَرَكَ الْخِضَابَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وغيره: توفي الْعَبَّاس فِي شَهْر رمضان سنة اثنتين وثلاثين، وَهُوَ ابْن ثمان وثمانين سنة، وَكَانَ معتدل القناة، ودفن بالمدينة بالبقيع، وصلى عَلَيْهِ عُثْمَان بْن عَفَّان، وَكَانَ يَقُول حِينَ نشب الناسُ فِي أمر عُثْمَان: اللَّهُمَّ اسبق بي أمرًا لا أحبّ أَن أدركه.
قَالُوا: ونزل فِي حفرة الْعَبَّاس عَلِي بْن أَبِي طَالِب وعبد اللَّه وعبيد اللَّه ابنا الْعَبَّاس والحسن والحسين ابنا عَلِي وقثم بْن الْعَبَّاس، ويقال إِن عُثْمَان بْن عَفَّان نزل فِي قبره. وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الْعَبَّاس: لَقَدْ كُنَّا محتاجين إِلَى نزول أكثَرَ منّا لبدنه وعظمه.
فولد [1] الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
الفضل وَبِهِ كَانَ يكنى، وعبد اللَّه، وعبيد الله، وقثم، وعبد الرحمن، ومعبد ابن الْعَبَّاس، وأم حبيب، وأمهم لُبابَةُ بِنْت الْحَارِث بْن حَزْن بْن بُجير بْن الهُزَم بْن رُؤيبة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن هلال بْن عَامِر بْن صعصعة [2] وأمها هند بِنْت عَمْرو وَهِيَ خولة، ويقال إِن أباها عوف من حَمامة من جرش. وتَمَّام بْن الْعَبَّاس، وكثَير [3] بْن الْعَبَّاس، وأمهما أم ولد. والحارث بْن العباس وأمه حجيلة بنت جندب ابن الرَّبِيع، هُذَلية [4] . وصفية بِنْت الْعَبَّاس وأمها أم ولد وآمنة بنت العباس، ويقال أمينة، كَانَتْ عِنْدَ الْعَبَّاس بْن عتبة [5] بْن أَبِي لهب فولدت لَهُ الفضل الشاعر وأمها أم ولد. وكانت أم حبيب عِنْدَ الأَسْوَد بْن سُفْيَان بْن عَبْدِ الأسد الْمَخْزُومِيِّ فولدت لَهُ رزق بْن الأَسْوَدِ ولبابة بِنْت الأَسْوَد وَهُمْ يسكنون مَكَّة. وكانت صفية عِنْدَ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن مسروح واسمه الْحَارِث بْن يعمر أحد بَنِي سَعْد بْن بَكْر.
قَالَ عبد الله بن بريد الهلالي:
__________
[1] انظر نسب قريش لمصعب الزبيري ص 25- 28، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 6.
[2] جمهرة النسب ج 1 لوحة 110، ونسب قريش ص 28.
[3] ط: كبير.
[4] ط: هذيلة.
[5] ط: عيينة. انظر جمهرة الأنساب ص 72.!(4/22)
مَا ولدت نجيبةٌ من فحلِ ... بجبلٍ نعلمُهُ أَوْ سهل
كستةٍ من بطنِ أمِّ الفضل ... أكرمْ بِهَا مِن كهلةٍ وكهل
عمّ النَّبِيّ المصطفى ذي الفضل ... وخاتم الرسل وخير الرسل
وَقَالَ أيضًا:
ونحن ولدنا الفضلَ والحَبْر [1] بعده ... عنيتُ أبا الْعَبَّاس ذا الدين والندى
ألا وعبيدُ اللَّه ثُمَّ ابْن أمه ... ألا قثمًا أعني وذا الباع معبدا
(537) غيوثٌ عَلَى العافين خرس عَنِ الخنا ... أسودٌ إِذَا مَا موقد الحرب اوقدا
إذا افتخرت يوما قريش رأيتهم ... يفوقونهم [2] حلمًا وجودًا وسؤددا
وَقَالَ أيضًا [3] :
ألا إنني صهرُ النَّبِيّ مُحَمَّد ... وخالُ بَنِي العباس والخال كالأب
فاما الفضل [4] بْن العَبَّاس
بْن عَبْد الْمُطَّلِبِ ويكنى أَبَا مُحَمَّد، فَإِن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفع من المُزدَلفة وَهُوَ ردفُه إِلَى منى فسمي الردف، وَكَانَ مِمَّنْ غسَل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونزل فِي حفرته. [وَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا غلام احفظ أمر اللَّه يحفظك، واعلم أَن [5] مَا أصابك لَمْ يكن ليخطئك وأن مَا أخطأك لَمْ يكن ليصيبك،] [وأن الخلائق جميعًا لو اجتمعوا عَلَى إعطائك شيئًا لَمْ يُقدر لَك لَمْ يقدروا عَلَيْهِ، ولو أطبقوا عَلَى مَنعك شيئًا قَدْ قدر لَك لَمْ يستطيعوه.] ويقال أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ لعبد اللَّه بْن عَبَّاس.
وَحَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ الْمَعْرُوفُ بِالْعَمْرِيِّ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
لَمَّا أَرَادَ الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْخُرُوجَ إِلَى الشَّامِ وَدَّعَ أَبَاهُ فَقَالَ لَهُ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ إِنَّ عَمُودَ الْجِهَادِ النِّيَّةُ وَتَمَامَهُ الصَّبْرُ والاحتساب، فجاهد صابرا محتسبا فانّ نبيّ
__________
[1] ط: الحير.
[2] ط: يفرقونهم.
[3] ليست في د، م.
[4] انظر نسب قريش ص 25- 6.
[5] ط، م: انه.!(4/23)
اللَّهِ قَالَ: [الْجِهَادُ رَهْبَانِيَّةُ الْإِسْلامِ،] وَإِنَّكَ سَتُسْأَلُ عَنْ حَدِيثِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمَوْضِعِكَ مِنْهُ فَلا تَعْدُ فِي ذَلِكَ الْيَقِينِ وَالْغِ الشَّكَّ، وَاجْعَلْ مَا رَوَيْتَ عَنْهُ تَدَيُّنًا وَلا تَجْعَلْهُ فَخْرًا.
وَحَدَّثَنِي الْعُمَرِيُّ عَنِ الهيثم بْن عدي عَنِ ابن عياش الهمداني عَنْ أَبِي عِلاقَةَ الْحَضْرَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَضَرْتُ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ فِي سَفَرِهِ إِلَى الشَّامِ فَكَانَ يُطْعِمُ طَعَامَهُ وَيَأْمُرُ فَيُتَصَدَّقُ بِفَضْلَتِهِ وَيَقُولُ: كَثْرَةُ الطَّعَامِ وَسِعَتُهُ فِي السَّفَرِ مِنَ الْمُرُوءَةِ.
وَكَانَ إِذَا سَارَ تَعَجَّلَ [1] عَلَى فَرَسِهِ حَتَّى يَسْبِقَ ثِقَلَهُ وَرُفَقَاءَهُ، ثُمَّ لا يَزَالُ يُصَلِّي حَتَّى يَلْحَقُوا بِهِ وَهُوَ مُطَوِّلٌ لِفَرَسِهِ وَفَرَسُهُ يَرْعَى وَعَنَانُهُ فِي يَدِهِ، وَكَانَ يُجَدِّدُ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ، وَيَنَامُ مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ ثُمَّ يَقُومُ فَيُصَلِّي إِلَى وَقْتِ الرَّحِيلِ، وَإِذَا مَرَّ بِرَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ. وَأَتَاهُ مَوْلًى لَهُ وَقَدْ نَالَ النَّاسَ طَاعُونُ عَمْوَاسٍ فَقَالَ لَهُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي لَوِ انْتَقَلْتَ إِلَى مَكَانِ كَذَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَخَافُ أَنْ أَسْبِقَ أَجَلِي، وَلا أُحَاذِرُ أَنْ يَغْلُظَ [2] بِي، وَإِنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ لَبَصِيرٌ بِأَهْلِ كُلِّ بَلَدٍ.
المدائني عَنْ حُبَاب بْن مُوسَى عن جعفر بن محمد، انه ذكر الْعَبَّاس وولده فَقَالَ: كَانَ عَبْد اللَّهِ أعلم النَّاس بكل شَيْء، وَكَانَ عُبَيْد اللَّه أجود النَّاس كفًّا وأوسعهم بذلًا، وَكَانَ الفضل أجمل النَّاس وجهًا وأثبتهم زهدًا وأصدقهم قولًا.
حَدَّثَنِي عَلِي بْن مُحَمَّد النوفلي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ يُقَالُ من أراد الجمال والفقه والسخاء فليأت دار الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: الجمالُ للفضلِ، والفقه لعبد اللَّه، والسخاء لعبيد اللَّه [3] .
حَدَّثَنِي عَمْرُو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ الضَّبِّيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ ربيعة بن الحارث ابن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ [4] قَالَ [5] : مَشَى بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى الْعَبَّاسِ فَقَالُوا لَهُ: تُكَلِّمُ لَنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْنَا مَا يَجْعَلُ إِلَى النَّاسِ مِنْ هذه السّعاية
__________
[1] م: يعجل.
[2] في ط، م: يغلط. ويغلظ تعني: ينزل.
[3] انظر اخبار الدولة العباسية ص 28.
[4] جمهرة النسب ج 1 لوحة 7.
[5] سوف تتكرر هذه الرواية فيما بعد، انظر ص 295- 296 من هذا الجزء.!(4/24)
عَلَى الصَّدَقَاتِ، قَالَ: فَبَعَثَ الْعَبَّاسُ ابْنَهُ الْفَضْلَ وَبَعَثَنِي أَبِي رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فَأَجْلَسَنَا عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ، ثُمَّ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ بِأُذُنِي وَأُذُنِ الْفَضْلِ فَقَالَ: أَخْرِجَا مَا تُسِرَّانِ، فَقُلْنَا: بَعَثَنَا (538) إِلَيْكَ عَمُّكَ وَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْأَلُونَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي هَذِهِ السِّعَايَةِ، [فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَبَى لَكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يُطْعِمَكُمْ أَوْسَاخَ أَيْدِي النَّاسِ، أَوْ قَالَ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ، وَلَكِنْ لَكُمَا عِنْدِي الْحِبَاءُ وَالْكَرَامَةُ، أما أنت يا فضل فقد زوجتك فلانة، وَأَمَّا أَنْتَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ فُلانَةً،] فَرَجَعْنَا فَأَخْبَرْنَا بِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَحَدَّثَنِي عَمْرُو النَّاقِدُ قَالَ: وَيُرْوَى عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْعَبَّاسَ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ الْفَضْلُ وَعَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ فَكَلَّمَهُ فِي تَوْلِيَتِهِمَا مِمَّا وَلاهُ اللَّهُ وَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ ابْنَا عَمِّكَ، وَقَدْ بَلَغَا وَلَيْسَ لَهُمَا نِسَاءُ فَلَعَلَّهُمَا يُصِيبَانِ مِمَّا يُصِيبُ النَّاسُ فَيَتَزَوَّجَانِ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَمَا أنا بموليهما] .
حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَنَّهُ سَمِعَ الْفَضْلَ بْنَ الْعَبَّاسِ يَقُولُ بِالشَّامِ: وَاللَّهِ مَا بَخِلَ بِالْمَالِ مَنْ أَيْقَنَ بِالْخَلَفِ، وَلا اسْتَغْنَى بِالْكَثِيرِ مَنْ لَمْ يُغْنِهِ الْكَفَافُ، وَلا خَافَ الْعَوَاقِبَ مَنْ أَمِنَ شَرَّ النَّاسِ.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ: قَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ حِينَ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ: هَذَا أَمْرُ اللَّهِ الَّذِي لا مَرَدَّ لَهُ، فَصَبْرًا وَاحْتِسَابًا وَتَسْلِيمًا، وَاللَّهِ مَا أَخَافُ الْمَوْتَ الَّذِي لَهُ خُلِقْتُ وَلَكِنِّي أَخَافُ التَّقْصِيرَ فِي الْعَمَلِ.
حَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ الشَّامِيُّ [1] ، حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ الدِّمَشْقِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ الطَّاعُونَ قَالَ الْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ فَتَى قُرَيْشٍ يَوْمَئِذٍ عَقْلا وَجَمَالا وَشَجَاعَةً وَمُرُوءَةً: إِنَّ أَحَقَّ مَا صُبِرَ [2] عليه ما لا سبيل الى تبديله.
__________
[1] ط: السلمي. انظر اخبار الدولة العباسية ص 164، وفتوح البلدان للبلاذري ص 109، ص 128، ص 152، ص 162.
[2] ط: صير.(4/25)
وَحَدَّثَنِي أَبُو حَفْصٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: نَفَقَ فَرَسٌ لِرَجُلٍ كَانَ مَعَ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ فِي رُفْقَتِهِ، فَأَعْطَاهُ فَرَسًا كَانَ يَجْنِبُهُ [1] ، فَعَاتَبَهُ بَعْضُ الْمُنْتَصِحِينَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَبِتَبْخِيلِي تَنْتَصِحُ إِلَيَّ؟! إِنَّهُ كَفَى لُؤْمًا أَنْ تمنع [2] الفضل وتترك [3] المؤاساة، وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ اللَّهَ حَمِدَ فِي كِتَابِهِ الا المؤثرين على انفسهم ولو كانت بِهِمْ خَصَاصَةٌ [4] .
قَالُوا: وتوفي الفضل فِي طاعون عمواس بالشام سنة ثماني عشرة. وَكَانَ لَهُ يَوْمَ قُبِضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثماني عشرة [5] سنة وأشهر. وَلَمْ يولد للفضل إلا أم كلثوم بِنْت الفضل وأمها صفية بِنْت محْمِية بْن جزء الزبيدي [6] حليف بَنِي جمح، وأمها جمحية، فتزوج الْحَسَن بْن عَلِي أم كلثوم [7] وَكَانَ أبا عذرها، وَهِيَ أول من تزوج من النِّسَاء، فولدت لَهُ ثلاثة بنين وابنة درجوا كلهم، وفارقها فخلف عَلَيْهَا أَبُو مُوسَى عَبْد اللَّهِ بْن قَيْس الْأَشْعَرِيّ [8] فولدت لَهُ مُوسَى بْن أَبِي مُوسَى [9] ، ويقال إنها ولدت لَهُ أيضًا ولدين آخرين، وتوفي أَبُو مُوسَى عَنْهَا فخلف عَلَيْهَا عِمْرَانَ بْن طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه ثُمَّ فارقها فرجعت إِلَى دار أَبِي مُوسَى بالكوفة فماتت بِهَا، وَهِيَ أول قرشية دفنت فِي ظهر الكوفة، ويقال بَل دفنت قبلها أم عَمْرو بْن [10] سَعِيد الأشدق. وَكَانَ أول من دُفن بظهر الكوفة من الرجال خباب ابن الأرت فِي سنة سبع وثلاثين أَوْ ست وثلاثين.
وَقَالَ بَعْض الرواة: وكانت أم كلثوم بِنْت الفضل عِنْدَ أَبِي مُوسَى فمات عَنْهَا وتزوجها الْحَسَن، فتوفي عَنْهَا فِي سنة تسع وأربعين أَوْ سنة خمسين، فتزوجها عِمْرَان بْن طلحة ولا عقب له.
__________
[1] الأصل: بجنبه.
[2] م: يمنع.
[3] م: يترك.
[4] الاشارة الى الآية 9 من سورة الحشر (59) .
[5] د، م: عشر.
[6] انظر جمهرة الأنساب ص 411- 412.
[7] انظر نسب قريش ص 25- 26.
[8] جمهرة النسب ج 1 لوحة 273.
[9] م: أبي موسى الاشعري.
[10] د: ابن، ط: بنت بن.!(4/26)
وَأَمَّا عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس [1]
فيكنى أبا الْعَبَّاس وَهُوَ حبَر الأمة، ولد قبل الهجرة بثلاث سنين.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: ولد عبد الله ابن عَبَّاسٍ وَبَنُو (539) عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي الشِّعْبِ، وَذَلِكَ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلاثِ سِنِينَ [2] ، [فَجَاءَ بِهِ أَبُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَهُ وَمَسَحَ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ امْلأْ جَوْفَهُ فَهْمًا وَعِلْمًا وَاجْعَلْهُ مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، ثُمَّ قَالَ: يَا عَمُّ، هَذَا عَنْ قَلِيلٍ حَبْرُ [3] أُمَّتِي وَفَقِيهُهَا وَالْمُؤَدِّي لِتَأْوِيلِ التَّنْزِيلِ] .
قَالَ أَبُو صَالِح: وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس مقدمًا عِنْدَ أَبِي بَكْر وعمر وعثمان رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمْ. وحجَّ بالناس سنة خمس وثلاثين بأمر عثمان وعثمان محصور، وولاه عَلِي بْن أَبِي طَالِب البصرة وشخص مَعَهُ إِلَى صفين ثُمَّ رجع إِلَيْهَا واليًا عَلَيْهَا، ثُمَّ كتب أَبُو الأَسْوَد فِيهِ إِلَى عَلِي فغاضَبَ عليًا وشخص إِلَى الحجاز.
وَحَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ خَالِدِ بْنِ إِلْيَاسَ عَنْ شُعْبَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدْتُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلاثٍ وَنَحْنُ فِي الشِّعْبِ، وَتُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِي ثَلاثَ عَشْرَةَ [4] سَنَةً [5] .
وَحَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ فِي حَجَّةِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَاهِقًا لِلْحُلُمِ.
وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ الله بن أبي يزيد
__________
[1] انظر ابن سعد ج 2 ق 1 ص 119- 125 وق 2 ص 365- 372، ابن حبيب: المحبر ص 289، ابو نعيم: حلية الأولياء ج 1 ص 324- 329، ابن حجر: الاصابة ج 2 ص 802- 813، وتهذيب التهذيب ج 5 ص 276- 279، تذكرة الحفاظ للذهبي ص 40- 42، الشيرازي:
طبقات الفقهاء ص 18- 19، اخبار الدولة العباسية ص 25- 134، نسب قريش ص 26- 7، ابن عبد البر: الاستيعاب ج 1 ص 933 وما بعدها، اسد الغابة لابن الأثير ج 3 ص 192- 195.
[2] نسب قريش ص 26.
[3] م: خير.
[4] ط: ثلاثة عشر.
[5] انظر اخبار الدولة العباسية ص 25.!(4/27)
قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: أَنَا فِي مَنْ قَدَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ ضَعَفَةِ أَهْلِهِ مَعَ الثَّقَلِ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى [1] .
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: وَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، أَوْ قَالَ مَنْكِبَيَّ، [وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ] .
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيْتِ مَيْمُونَةَ، قَالَ: فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَضَعَ لَكَ هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ، [فَقَالَ [2] : اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ [3]] .
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا أَبُو كُدَيْنَةَ يحيى بن المهلب البجلي عن أبيه عن مجاهد عن ابن عباس أنه قال: رَأَيْتُ جِبْرِيلَ مَرَّتَيْنِ وَدَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [4] أَنْ يُؤْتِيَنِي اللَّهُ الْحِكْمَةَ مَرَّتَيْنِ.
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي بُكَيْرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ دَخَلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: مَنْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْمُقْرِئُ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ وَأَبِي عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ كَالْمُعْرِضِ فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ لِي أَبِي: أَيْ بُنَيَّ أَلَمْ تَرَ إِلَى النَّبِيِّ كَأَنَّهُ مُعْرِضٌ عَنِّي؟ فَقُلْتُ:
إِنَّهُ كَانَ يُنَاجِي رَجُلا، فَرَجَعْنَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: إِنِّي قلت لعبد الله كذا فقال كذا
__________
[1] وردت هذه الرواية في اخبار الدولة العباسية ص 25.
[2] يضيف ط، م: رسول الله صلى الله عليه وسلم.
[3] انظر الرواية في اخبار الدولة العباسية ص 26، وفي ابن سعد ج 2 ق 1 ص 119- 120 وانظر جمهرة النسب لابن الكلبي (خط) ق 1 ص 14.
[4] (ص) ليست في د.!(4/28)
أَفَكَانَ مَعَكَ أَحَدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرَأَيْتَهُ يَا عَبْدَ اللَّهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ [1]] .
وَحُدِّثْتُ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ سُلَيْمَانَ بْنِ عَلِيٍّ قَالَتْ:
حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ عَلَى (540) رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ رَجُلٌ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَآهُ فَالْتَفَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
مَتَى جِئْتَ يَا حَبِيبِي؟ قَالَ: مُنْذُ سَاعَةٍ. فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتَ عِنْدِي أَحَدًا؟ قَالَ:
نَعَمْ رَأَيْتُ رَجُلا، [فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [2] : ذَاكَ جِبْرِيلُ لَمْ يَرَهُ خَلْقٌ إِلا عَمِيَ إِلا أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، وَلَكِنْ أَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي آخِرِ عُمْرِكَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ وَاجْعَلْهُ مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ] .
حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، أَخْبَرَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: [ضَمَّنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إليه وَقَالَ:
اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحِكْمَةَ] .
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَكْرٍ السَّهْمِيِّ عَنْ حَاتِمِ بْنِ أَبِي صَغِيرَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَنَّ كُرَيْبًا أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَعَا لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَزِيدَنِي اللَّهُ عِلْمًا وَفَهْمًا.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ عن اسماعيل ابن مُسْلِمٍ الْمَكِّيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: [دَعَانِي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَسَحَ نَاصِيَتِي وَقَالَ: اللَّهُمَّ عَلِّمْهُ الْحَكْمَةَ وَتَأْوِيلَ الْكِتَابِ [3]] .
حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ أَبُو الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا يعلمهم الّا قليل [4] قال: أنا من أولئك القليل.
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 127.
[2] يضيف د: قال.
[3] الرواية في ابن سعد ج 2 ق 1 ص 119. وفي نسب قريش: «اللهم أعطه الحكمة وعلمه التأويل» ص 26.
[4] سورة الكهف (18) ، من الآية 22.!(4/29)
حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ جُوَيْبِرٍ [1] عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِمِثْلِهِ.
حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ [2] الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الأَوْدِيُّ عَنْ لَيْثٍ عَنْ طاووس قَالَ: أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ شَيْخًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا إِذَا تَدَارَءُوا فِي شَيْءٍ أَتَوُا ابْنَ عَبَّاسٍ حَتَّى يُبَيِّنَهُ لَهُمْ وَيُقَرِّرُهُمْ بِهِ فَيَنْتَهُونَ إِلَى قَوْلِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن ادريس، عن ليث عن طاووس قَالَ: أَدْرَكْتُ سَبْعِينَ شَيْخًا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَتَرَكْتُهُمْ وَانْقَطَعْتُ إِلَى هَذَا الْفَتَى، يَعْنِي ابْنَ عباس، فاستغنيت به.
وحدثنا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ عَنْ سُفْيَانَ عن ابن جريج [3] عن طاووس قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلا قَطُّ أَعْلَمَ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ طاووس أَنَّهُ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلا خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَطُّ فَتَرَكَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ حَتَّى يُقَرِّرَهُ مما قَالَ.
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ الأَزْدِيُّ وَالْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى مُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: نِعْمَ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ مالك ابن مِغْوَلٍ [4] عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ بِمِثْلِهِ.
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَام الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ قُلْتُ أَجْمَلُ النَّاسِ، فَإِذَا تَكَلَّمَ قُلْتُ أَفْصَحُ النَّاسِ، فَإِذَا حدّث قلت أعلم الناس [5] .
__________
[1] ط، م: جوبير.
[2] سقطت من م.
[3] ط، م: جريح، انظر فهرس الطبري.
[4] ط: معول. انظر الطبري س 1 ص 1806 وص 1827، ابن سعد ج 6 266، ص 288.
[5] انظر اخبار الدولة العباسية ص 34- 5 وص 127- 8.(4/30)
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ خُشَيْشِ [1] بْنِ فَرْقَدٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا غُلامُ- أَوْ يَا غُلَيْمُ- أَلا أُعَلِّمُكَ شَيْئًا يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ، احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، اذْكُرِ اللَّهَ يَذْكُرْكَ، تَعَرَّفْ إِلَى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ (541) ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الْيَقِينِ، وَأَنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا، وَأَنَّهُ لَوِ اجْتَمَعَ الْخَلائِقُ عَلَى أَنْ يُعْطُوكَ شَيْئًا لَمْ يَقْضِهِ اللَّهُ لَكَ لَمْ يَسْتَطِيعُوا، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَمْنَعُوكَ شَيْئًا قَضَاهُ اللَّهُ لَمْ يَسْتَطِيعُوا [2]] .
حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا كَانَ أَعْلَمَ بِالسُّنَّةِ وَلا أَجْلَدَ رَأْيًا وَلا أَثْقَبَ نَظَرًا مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَإِنْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَيَقُولُ لَهُ: إِنَّهُ قَدْ طَرَأَتْ عَلَيْنَا عُضَلُ أقْضَيةٍ أَنْتَ لَهَا وَلأَمْثَالِهَا، فَإِذَا قَالَ فِيهَا رَضِيَ قَوْلَهُ، وَعُمَرُ مَا عُمَرُ فِي نَظَرِهِ لِلْمُسْلِمِينَ وَجَدِّهِ فِي ذَاتِ اللَّهِ [3] .
حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ وَعَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالا، ثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مَا سَمِعْتُ فُتْيَا أَحْسَنَ مِنْ فُتْيَا ابْنِ عَبَّاسٍ إِلا أَنْ يَقُولَ [4] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ.
حَدَّثَنِي نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَهْضَمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنْتُ إِذَا رَأَيْتُ [5] ابْنَ عَبَّاسٍ يُفَسِّرُ الْقُرْآنَ أَبْصَرْتُ عَلَى وَجْهِهِ نُورًا.
حَدَّثَنَا عَبْد الأَعْلَى بْن حَمَّاد النَّرْسِيُّ أَبُو يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْد الجبار بْن الورد عَنْ عَطَاء بْن أَبِي رباح قَالَ: مَا رَأَيْت مجلسًا أكرم من مجلس ابْن عَبَّاس، لا أَعْظَم جفنة ولا أَكْثَر علمًا، أَصْحَاب الْقُرْآن فِي ناحية، وأَصْحَاب الفقه فِي ناحية، وأَصْحَاب الشعر فِي ناحية، يوردهم في واد رحب.
__________
[1] ط: حشيش.
[2] انظر اخبار الدولة العباسية ص 27- 8، اليعقوبي- التاريخ ج 2 ص 313- 314.
[3] انظر الرواية باسناد آخر في اخبار الدولة العباسية ص 29.
[4] ط: قول.
[5] م: رأيت.!(4/31)
وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الأَسْوَدِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يُونُسَ عَنْ سَعِيد بْن سالم القداح عَنْ عَبْد الجبار بْن الورد عَنْ عَطَاء بِمِثْلِهِ وزاد فِيهِ: وأَصْحَاب الأنساب وأيام [1] العرب فِي ناحية.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَّاحِ الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بشير عن أبي بشر عن سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: جَمَعْتُ الْمُحْكَمَ عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: وَمَا الْمُحْكَمُ؟ قَالَ: الْمُفَصَّلُ [2] .
حَدَّثَنَا عَفَّانُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَيُوسُفَ بْنِ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُسْأَلُ عَنِ الْقُرْآنَ فَيَقُولُ: هُوَ كَذَا، أَمَا سَمِعْتُمُ الشَّاعِرَ يَقُولُ كَذَا؟
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبَاحِ وَعَمْرٌو النَّاقِدُ قَالا، حَدَّثَنَا هشيم عن أبي بشر عن سعيد ابن جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ عُمَرُ يَأْذَنُ لأَهْلِ بَدْرٍ وَيَأْذَنُ لِي مَعَهُمْ، فَذَكَرَ أَنَّهُ سَأَلَهُ وَسَأَلَهُمْ فَأَجَابَهُ، فَقَالَ لَهُمْ: كَيْفَ تَلُومُونَنِي عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ مَا تَرَوْنَ؟
حدثني محمد بن سعد عن الواقدي عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ عُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانَا يَدْعُوَانِ ابْنَ عَبَّاسٍ مَعَ أَهْلِ بَدْرٍ، وَكَانَ يُفْتِي فِي عَهْدِ عُثْمَانَ إِلَى أَنْ مَاتَ.
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ، حَدَّثَنَا سفيان بن عيينة عن عبيد الله بن أَبِي يَزِيدَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سُئِلَ عَنِ الأَمْرِ فَكَانَ [3] فِي الْقُرْآنِ أَخْبَرَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَكَانَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْقُرْآنِ وَلا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَكَانَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ أَخْبَرَ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ [4] .
حَدَّثَنَا أَبُو الرَّبِيعِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الزَّهْرَانِيُّ، حَدَّثَنَا جرير بن عبد الحميد عن
__________
[1] ط: انام.
[2] في م: المفضل (خ) .
[3] سقطت من م.
[4] ط: ابه.!(4/32)
مُغِيرَةَ قَالَ: قِيلَ لابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَ [1] أَصَبْتَ هذا العلم؟ فقال [2] : بلسان سؤول وقلب عقول [3] .
وحدثني بكر بْن الهيثم، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: سَلُونِي عَنِ التَّفْسِيرِ فَإِنَّ رَبِّي وَهَبَ لي لسانا سؤولا وَقَلْبًا عَقُولا.
حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ (542) بْنُ زَيْدٍ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْخِرِّيتِ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمَ بِالْقُرْآنِ مِنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ عَلِيٌّ أَعْلَمَ بِالْمُبْهَمَاتِ مِنْهُ.
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَمَّادُ بْنُ أُسَامَةَ، أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ يُسَمَّى الْبَحْرُ لِكَثْرَةِ عِلْمِهِ [4] .
حَدَّثَنِي أَبُو صَالِح الفراء الأنطاكي، حَدَّثَنَا حجاج بْن مُحَمَّد عَنِ ابْن جريج [5] عَنْ عَطَاء أَنَّهُ كَانَ يَقُول: قَالَ البحر كَذَا، وأفتى البحر بكذا، يَعْنِي ابْن عَبَّاس [6] .
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ الْمَرْوَزِيُّ وعمرو بن محمد قالا، حدثنا إسحاق ابن يُوسُفَ الأَزْرَقُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: وَجَدَ نَاسٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي إِدَنَائِهِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَهُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: أَمَا أَنِّي سَأُرِيكُمُ الْيَوْمَ مِنْهُ مَا تَعْرِفُونَ بِهِ فَضْلَهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ هَذِهِ السُّورَةِ إِذَا جاء نصر الله والفتح فَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا رَأَى النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَسْتَغْفِرَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ تَكَلَّمْ، فَقَالَ: أَعْلَمُهُ أَنَّهُ مَيِّتٌ، يَقُولُ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [7] وَرَأَيْتَ النَّاسَ يدخلون في دين الله أفواجا [8] فَهِيَ آيَتُكَ فِي الْمَوْتِ. ثُمَّ سَأَلَهُمْ عَنْ ليلة القدر فأكثروا
__________
[1] الأصل: بما صبت.
[2] م: قال.
[3] في نسب قريش ان الرسول (ص) قال عنه: «له لسان سؤول وقلب عقول» ص 26.
[4] الرواية في ابن سعد ج 2 ق 2 ص 120.
[5] د، م: جريح، مع اشارة (خ) .
[6] انظر ابن سعد ج 2 ق 2 ص 120.
[7] العبارة «فقال بعضهم ... (الى) والفتح» ساقطة من ط.
[8] سورة النصر (110) ، آية 1.!(4/33)
الْقَوْلَ فِيهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْلَةَ إِحْدَى وَعِشْرِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْلَةَ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، فَقَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ: تَكَلَّمْ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ، خَلَقَ السَّمَوَاتِ سَبْعًا وَالأَرْضِينَ سَبْعًا، وَجَعَلَ عِدَّةَ الأَيَّامِ سَبْعَةً، وَجَعَلَ الْإِنْسَانَ مِنْ سَبْعٍ، فَقَالَ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [1] ثُمَّ جَعَلَ رِزْقَ الإِنْسَانِ مِنْ سَبْعٍ فَقَالَ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ ولأنعامكم [2] فَأَمَّا السَّبْعَةُ فَمَتَاعٌ لِبَنِي آدَمَ، وَأَمَّا الأَبُّ فَهُوَ مَا تَنْبُتُ الأَرْضُ لِلأَنْعَامِ، وَمَا نَرَاهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِلا لِثَلاثٍ وَعِشْرِينَ تَمْضِي وَلِسَبْعٍ يَبْقَيْنَ، فَقَالَ عُمَرُ: كَيْفَ تَلُومُونَنِي عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ؟
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أبيه عن عوانة بن الحكم عن أبيه قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ [3] : أرَجُلٌ كَثِيرُ [4] الذُّنُوبِ كَثِيرُ الْحَسَنَاتِ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ رَجُلٌ قَلِيلُ الذُّنُوبِ قَلِيلُ الْحَسَنَاتِ؟ فَقَالَ: مَا أَعْدِلُ بِالسَّلامَةِ شَيْئًا.
حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ الْمُقْرِئُ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ عَرَّفَ بِالْبَصْرَةِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَكَانَ كَثِيرَ الْعِلْمِ، قَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فَفَسَّرَهَا آيَةً آيَةً وَحَرْفًا حَرْفًا.
حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ بَقِيَّةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَجَدْتُ عَامَّةَ حَدِيثِ [5] رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ [6] الأَنْصَارِ، فَإِنْ كُنْتُ لآتِي الرَّجُلَ مِنْهُمْ فَأَجِدُهُ نَائِمًا وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ يُوقَظَ لِي [7] اوقظ،
__________
[1] سورة المؤمنون (23) ، الآيات 12- 14.
[2] سورة عبس (80) ، الآيات 25- 32.
[3] سقط «ابن عباس» من ط.
[4] م: كبير.
[5] م: حدثت.
[6] م: ثم عند.
[7] سقطت «لي» من ط.!(4/34)
فَأَجْلِسُ عَلَى بَابِهِ تَسْفِي الرِّيحُ عَلَى وَجْهِي التُّرَابَ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ مَتَى اسْتَيْقَظَ، فَأَسْأَلُهُ عَمَّا أُرِيدُ ثُمَّ أَنْصَرِفُ [1] .
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ الْقَتَّاتُ، حَدَّثَنِي بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْحِمْصِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: مَنْ حَلُمَ سَادَ وَمَنْ تَفَهَّمَ ازْدَادَ.
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عَلِيًّا أَحْرَقَ نَاسًا ارْتَدُّوا عَنِ الإِسْلَامِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: [مَا كُنْتُ لأَحْرِقَهُمْ لأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَقْتُلُهُمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال (543) : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ مِنْكُمْ فَاقْتُلُوهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: لِلَّهِ دَرُّ ابْنِ عَبَّاسٍ] .
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ الزَّاهِدُ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ عُيَيْنَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَوْشَنٍ [2] عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نُعِيَ إِلَيْهِ أَخُوهُ قُثَمُ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَاسْتَرْجَعَ ثُمَّ عَدَلَ عَنِ الطَّرِيقِ فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ أَطَالَ فِيهِمَا، ثُمَّ عَادَ إِلَى رَاحِلَتِهِ فَرَكِبَهَا، فَقِيلَ لَهُ: مَا رَأَيْنَا كَمَا فَعَلْتَ، فَقَالَ: أَمَا سَمِعْتُمُ اللَّهَ يَقُولُ: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ [3] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح، حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ عَنِ ابْنِ طاووس عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ لَهُ: أَنْتَ عَلَى مِلَّةِ عَلِيٍّ؟
فَقَالَ: لا وَلا عَلَى مِلَّةِ عُثْمَانَ، وَلَكِنِّي عَلَى مِلَّةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، أَنَّ عَلِيًّا قَالَ فِي قوله: والعاديات ضبحا [4] هُنَّ [5] الإِبِلُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْخَيْلُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيًّا فَقَالَ: صَدَقَ وَاللَّهِ ابْنُ عَبَّاسٍ.
حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الضَّبِّيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
__________
[1] الرواية في ابن سعد ج 2 ق 2 ص 121.
[2] الأصل: جوش. انظر ابن سعد ج 6 ص 30.
[3] سورة البقرة (2) ، الآية 45.
[4] سورة العاديات (100) ، الآية 1.
[5] م: هي.(4/35)
وَسَلَّمَ يَصُفُّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ وَكَثِيرًا بَنِي الْعَبَّاسِ وَيَقُولُ: مَنْ سَبَقَ إِلَيَّ فَلَهُ كَذَا، فَيْسَتْبَقِوُنَ إِلَيْهِ وَيَقَعُونَ عَلَى صَدْرِهِ وَظَهْرِهِ فَيُقَبِّلُهُمْ وَيَلْتَزِمُهُمْ.
حَدَّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الزُّبَيْرِيُّ عَنِ ابْنِ الدَّرَاوَرْدِيِّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمْ يُبَايِعْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغِ الإِمْنَاءَ [1] إِلا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَابِسٍ قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ أَشَهِدْتَ الْعِيدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ: نَعَمْ وَلَوْلا مَكَانِي مِنْهُ مَا شَهِدْتُهُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ عَنِ الْحَسَنِ الْعُرَنِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمْنَا وَنَحْنُ أُغَيْلِمَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى حُمُرَاتِنَا لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلْطَحُ [2] عَلَى أَفْخَاذِنَا [وَيَقُولُ: لا تَرْمُوا الْجَمْرَةَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ] .
حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ لَيْثٍ عن طاووس قَالَ: مَا رَأَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ مُفْطِرًا جُمُعَةً تَامَّةً قَطُّ.
حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ أَبُو عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا نُوحُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ يَزِيدَ النَّحْوِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْعِلْمِ بَحْرًا، فَلَمَّا عَمِيَ أَتَاهُ نَاسٌ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ مَعَهُمْ عِلْمٌ مِنْ عِلْمِهِ، أَوْ قَالَ كُتُبٌ مِنْ كُتُبِهِ، فَجَعَلُوا يَسْتَقْرِئُونَهُ وَجَعَلَ يُقَدِّمُ وَيُؤَخِّرُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: إِنِّي قَدْ بَلِهْتُ مِنْ مُصِيبَتِي هَذِهِ، فَمَنْ كَانَ عَلِمَ مِنْ عِلْمِي شَيْئًا فَلْيَقْرَأْهُ عَلَيَّ فَإِنَّ إِقْرَارِي له به كقراءتي إياه عليه، قال: فقرءوا عَلَيْهِ.
حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الأَعْيَنُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَجْلِسُ فِي الصُفَّةِ وَكَانَ النَّاسُ يَتَصَدَّعُونَ عَنْ فُتْيَاهُ، فَيَقُولُ السُّقَاةُ: كَأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ.
__________
[1] م وهامش د: منا.
[2] ط: يلطخ. انظر لسان العرب مادة: «لطح» .!(4/36)
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ الْعِجْلِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ رُزَيْقٍ عَنْ عُمَيْرِ ابن بِشْرٍ الْخَثْعَمِيِّ قَالَ، قَالَ ابْنُ عُمَرَ [1] : ابْنُ عَبَّاسٍ أَعْلَمُ النَّاسَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
حَدَّثَنِي (544) الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنِي سَاعِدَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ دَاوُدَ عَنِ ابْنِ عَطَاءٍ [2] عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاكَ يَوْمًا فَمَسَحَ رَأْسَكَ وَتَفَلَ فِي فِيكَ [وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ وَعَلِّمْهُ التَّأْوِيلَ، فَكَانَ يُقَرِّبُهُ [3]] .
حَدَّثَنِي [4] عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِحٍ وَعَمْرٌو قَالا: حَدَّثَنَا يَحْيَى بن يمان عن عبد الملك ابن أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لابْنِ عَبَّاسٍ: لَقَدْ علمت علما ما علمناه.
حدثني الأَعْيَنُ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ سُفْيَانَ عَن أَبِي [5] بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَن الْحَسَنِ قَالَ: لَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنَ الإِسْلامِ بِمَكَانٍ، وَمِنْ عِلْمِ الْقُرْآنِ بِمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ، وَكَانَ عُمَرُ إِذَا ذَكَرَهُ قَالَ: ذَاكُمْ كَهْلُ الْفِتْيَانِ.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ منطيقا.
حَدَّثَنَا سُرَيْجُ [6] بْنُ يُونُسَ: حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ شُجَاعٍ، حَدَّثَنَا سَالِمٌ الأَفْطَسُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنْ يَهُودِ الْحِيرَةِ فَقَالَ [7] : يَا عَبْدَ اللَّهِ [8] أَيَّ الأَجَلَيْنِ قَضَى مُوسَى؟ قُلْتُ: لا أَدْرِي، ثُمَّ لَقِيتُ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْدُ فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: قَضَى أَكْبَرَهُمَا وَأَتَمَّهُمَا، فَلَقِيتُ الْيَهُودِيَّ فَأَعْلَمْتُهُ ذَلِكَ فَقَالَ: صَاحِبُكَ وَاللَّهِ عالم.
__________
[1] «ابن عمر» مشطوب في ط.
[2] م: عطاء- خ.
[3] انظر الرواية عن ابن عباس في ابن سعد ج 2 ق 2 ص 120، والكلمة الاخيرة في الأصل:
يقريه.
[4] م: وحدثني.
[5] م: ابن.
[6] م: شريح. انظر ابن خلكان- وفيات الأعيان (ن. احسان عباس) ج 1 ص 67، والطبري س 3 ص 2488، والبلاذري- فتوح ص 31.
[7] م: قال.
[8] م: أبا عبد الله- خ، وكنيته ابو علي.!(4/37)
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنِ الأَعْمَشِ، حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: شَهِدْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ عَلَى الْمَوْسِمِ فَخَطَبَ ثُمَّ تَلا سُورَةَ النُّورِ وَفَسَّرَهَا، فَقَالَ رَجُلٌ: مَا رَأَيْتُ كَلامًا أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، لَوْ سَمِعَهُ التُّرْكُ وَالرُّومُ لأَسْلَمُوا.
حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ كَهْمَسٍ عَنِ الْحَسَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قَالَ: أَسْمَعَ رَجُلٌ ابنَ عَبَّاسٍ كَلامًا فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَمَا إِنَّكَ تُسْمِعُنِي وَفِيَّ ثَلاثُ خِلالٍ: إِنِّي لأَسْمَعُ بِالْحَاكِمِ الْعَدْلِ من حكام المسلمين فأفرح به وَلَعَلِّي لا أُقَاضِي إِلَيْهِ أَبَدًا، وَإِني لأَسْمَعُ بِالْغَيْثِ يُصِيبُ بَلَدًا مِنْ بُلْدَانِ الْمُسْلِمِينَ فَأَفْرَحُ به وما لي بِالْبَلَدِ سَائِمَةٌ، وَإِنِّي لآتِي عَلَى الآيَةِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ فَأَوَدُّ أَنَّ النَّاسَ جَمِيعًا يَعْلَمُونَ مِنْهَا مَا أَعْلَمُ.
حَدَّثَنَا عَبَّاس بْن الْوَلِيد ورَوْح بْن عَبْدِ المؤمن قَالا: حَدَّثَنَا المعتمر بْن سُلَيْمَان عَنْ شُعَيْب بْن درهم عَنْ أَبِي رجاء العُطاردي قَالَ: رَأَيْت هَذَا المكان من ابْن عَبَّاس مثل الشِّراك البالي من الدموع، ووضع أَبُو رجاء يده عَلَيْهِ، قَالَ عَبَّاس:
ووضع معتمر يده عَلَى مجرى الدموع.
حدثنا خلف بن هشام، حَدَّثَنَا هشيم عَنِ الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: خَلا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَوْمًا فَفَكَّرَ كَيْفَ تَخْتَلِفُ الأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ [1] ، فَدَعَا ابْنَ عَبَّاسٍ فَسَأَلَهُ [2] عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أُنْزِلَ الْقُرْآنُ عَلَيْنَا فَقَرَأْنَاهُ وَعَلِمْنَا فِيمَا نَزَلَ وَسَيَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَهُ ولا يدرون فيما نَزَلَ فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا، فَزَبَرَهُ عُمَرُ، ثُمَّ إِنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ قَوْلَكَ، فَأَعَادَهُ فَعَرَفَ عُمَرُ صَوَابَهُ وَأَعْجَبَهُ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ وَشُجَاعُ بْنُ مَخْلَدٍ [3] الْفَلاسُ قَالا: حَدَّثَنَا يزيد ابن هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ بْنُ حَوْشَبٍ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بن عوف الشيباني، ان عبد الله ابن عَبَّاسٍ قَالَ لِكَعْبِ الأَحْبَارِ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ أَشْيَاءَ، فَلا تُحَدِّثْنِي بِمَا حُرِّفَ مِنَ الْكِتَابِ وَلا بِأَحَادِيثِ الرِّجَالِ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ فَقُلْ لا أعلم فانه اعلم لك.
__________
[1] «وكتابها واحد» ليست في ط.
[2] ط: فسأل.
[3] ط، د: مجلد. انظر تهذيب التهذيب ج 4 رقم 534.!(4/38)
حَدَّثَنَا سُرَيْجُ [1] بْنُ يُونُسَ وَالْقَاسِمُ بْنُ سَلامٍ قَالا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو [2] ثَوْبَانَ عَمَّنْ سَمِعَ الضَّحَّاكَ يُحَدِّثُ [عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَدِّثْ إِذَا حُدِّثْتَ، إِلا أَنْ تَجِدَ قَوْمًا تُحَدِّثُهُمْ بِشَيْءٍ لا تَضْبِطُهُ عُقُولُهُمْ فَيَكُونَ ذَلِكَ فِتْنَةً لِبَعْضِهِمْ،] قَالَ: فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يُخْفِي أَشْيَاءَ وَيُفْشِيهَا إِلَى أَهْلِ الْعِلْمِ.
حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي عَامِرٍ الْخَزَّازُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: سَافَرْتُ (545) مَعَ ابْنِ عَبَّاسٍ فَكَانَ يَسِيرُ النَّهَارَ وَيَنْزِلُ اللَّيْلَ، فَيَقُومُ فَيُصَلِّي فِي نِصْفِ اللَّيْلِ، يَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيُكْثِرُ أَنْ يَقْرَأَ وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد [3] ثُمَّ يَبْكِي حَتَّى نَسْمَعَ [4] لَهُ نَشِيجًا.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَوْ أُخْبِرُ النَّاسَ بِبَعْضِ تَأْوِيلِ الْقُرْآنِ لَرَجَمُونِي بِالْحِجَارَةِ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ [5] قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ جَاءَ ابْنَ الزُّبَيْرِ مَالٌ أَوَّلَ مَا جَاءَهُ، فَانْطَلَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي قُعَيْقِعَانَ [6] فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ دَعَوْتَ النَّاسَ إِلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَقَدْ جَاءَكَ مَالٌ وَبِالنَّاسِ حَاجَةٌ، فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَمَا أَنْتَ وَهَذَا؟ إنك عم [7] ، أَعْمَى اللَّهُ قَلْبَكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلْ أَعْمَى اللَّهُ قَلْبَكَ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: وَاللَّهِ مَا أَنْتَ بِفَقِيهٍ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَاللَّهِ لأَنَا أَفْقَهُ مِنْكَ وَمِنْ أَبِيكَ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَ لِقَائِدِهِ: مَنْ عِنْدَهُ؟ قَالَ: ابْنَتُهُ وَامْرَأَتُهُ، قال:
فهلا أخبرتني، فو الله لَوْ عَلِمْتُ مَا أَسْمَعْتُهُمَا شَتْمَهُ، قَالَ: ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَبَا قَيْسٍ الزُّرَقِيَّ بِأَنَّا لَسْنَا بِأَوَّلِ ابْنَيْ عَمٍّ اسْتَبَّا، فَاكْفُفْ عَنِّي وَأَكُفُّ [8] عَنْكَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ كفّ كففت، وإن أذاع أذعت.
__________
[1] م: شريح. انظر الطبري س 3 ص 2488.
[2] م: ابن أبو.
[3] سورة ق (50) ، آية 21.
[4] ط: يسمع.
[5] م: جريح.
[6] هو جبل بمكة. مراصد الاطلاع ج 2 ص 436.
[7] ط: عمي.
[8] م: اكفف.!(4/39)
قال ابن جريج: قال ابن أبي ملكية: وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ، فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْتُ: أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَتُحِلَّ حَرَمَ اللَّهِ؟ فَقَالَ:
مَعَاذَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ بَنِي أُمَيَّةَ وَابْنَ الزُّبَيْرِ مُحِلَّيْنَ وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أُحِلُّهُ [1] أَبَدًا، قَالَ النَّاسُ بَايِعْ لابْنِ الزُّبَيْرِ، فقلتُ: وَأَنَّى بِهَذَا الأَمْرِ عَنْهُ، أَمَّا أَبُوهُ فَحَوَارِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَمَّا جَدُّهُ فَصَاحِبُ الْغَارِ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ، وَأَمَّا أُمُّهُ فَذَاتُ النِّطَاقِ، وَأَمَّا خَالَتُهُ فَعَائِشَةُ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا عَمَّتُهُ فَخَدِيجَةُ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةُ فَجَدَّتُهُ، ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الإِسْلامِ قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ، وَاللَّهِ لأُحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ مُحَاسَبَةً مَا حَاسَبْتُهَا لأَبِي بَكْرٍ وَلا عُمَرَ، إِنَّ ابْنَ أَبِي الْعَاصِ بَرَزَ يَمْشِي الْقَدَمِيَّةَ، يَعْنِي عَبْدَ الْمَلِكِ، وَإِنَّهُ لَوَى ذَنَبَهُ، يَعْنِي ابْنَ الزُّبَيْرِ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنِ ابْنِ مُجَالِدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ قَالَ لابْنِ عَبَّاسٍ:
قَاتَلْتَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَحَوَارِيَّ رَسُولِ اللَّهِ، وَأَفْتَيْتَ بِتَزْوِيجِ الْمُتْعَةِ، فَقَالَ: أَمَّا أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ فَأَنْتَ أَخْرَجْتَهَا وَأَبُوكَ، وَبِنَا سُمِّيَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ وَكُنَّا لها بخير بنين، فتجاوز الله عنها، وَقَاتَلْتَ أَنْتَ وَأَبُوكَ عَلِيًّا، فَإِنْ كَانَ عَلِيٌّ مُؤْمِنًا فَقَدْ ضَلَلْتُمْ بِقِتَالِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فَقَدْ بُؤْتُمْ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ لِفَرَارِكُمْ مِنَ الزَّحْفِ، وَأَمَّا الْمُتْعَةُ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِيهَا، وَأَنَّ أَوَّلَ مجمرٍ سَطَعَ فِي الْمُتْعَةِ لَمجمرٌ فِي آلِ الزُّبَيْرِ.
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ وَعَنْ أَبِي مِخْنَفٍ وَعَوَانَةَ قَالُوا [2] : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ يَوْمًا وَهُوَ عَلَى مِنْبَرِ مَكَّةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ حَاضِرٌ: إِنَّ هَاهُنَا رَجُلا أَعْمَى اللَّهُ قَلْبَهُ [3] كَمَا أَعْمَى بَصَرَهُ، يَزْعُمُ أَنَّ مُتْعَةَ النِّسَاءِ حَلالٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، يُفْتِي فِي الْقَمْلَةِ وَالنَّمْلَةِ وَقَدْ حَمَلَ مَا فِي بَيْتِ مَالِ الْبَصْرَةِ وَتَرَكَ أَهْلَهَا يَرْضَخُونَ النَّوَى، وَكَيْفَ يُلامُ عَلَى ذَلِكَ وَقَدْ قَاتَلَ أُمَّ الْمُؤْمِنيِنَ وَحَوَارِيَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ وَقَاهُ بِيَدِهِ، يَعْنِي طَلْحَةَ، فَقَالَ ابن عباس لقائده،
__________
[1] الأصل: أجله.
[2] انظر الخبر في اخبار الدولة العباسية ص 109- 113، وشرح نهج البلاغة ج 20 ص 129- 131.
[3] زاد في ط، د: كما اعمى الله قلبه.(4/40)
يقال انه سعيد بن جبير مولى بني أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ: اسْتَقْبِلْ بِي ابْنَ الزُّبَيْرِ، ثُمَّ حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَقَالَ: يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ [1] :
إنَّا إِذَا مَا فِئَةٌ نَلْقَاهَا ... نَرُدُّ أُولاهَا عَلَى أُخْرَاهَا
حَتَّى يَصِيرَ [2] ضرعًا دَعْوَاهَا ... «قَدْ أَنْصَفَ الْقَارَةَ مَنْ رَامَاهَا»
[3] (546) يَا ابْنَ الزُّبَيْرِ: أَمَّا الْعَمَى فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصدور [4] ، وَأَمَّا فُتْيَايَ فِي الْقَمْلَةِ وَالنَّمْلَةِ فَإِنَّ فِيهِمَا حُكْمَيْنِ لا تَعْلَمُهُمَا [5] أَنْتَ وَلا أَصْحَابُكَ، وَأَمَّا حَمْلُ مَالِ الْبَصْرَةِ فَإِنَّهُ كَانَ مَالا جَبَيْنَاهُ ثُمَّ أَعْطَيْنَا كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، وَبَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ هِيَ دُون حَقِّنَا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسِهَامِهِ فَأَخَذْنَاهُ بِحَقِّنَا، وَأَمَّا الْمُتْعَةُ فَإِنَّ أَوَّلَ مجمرٍ سَطَعَ فِي الْمُتْعَةِ مجمرٌ فِي آلِ الزُّبَيْرِ، فَسَلْ أُمَّكَ عَنْ بُرْدَيْ عَوْسَجَةَ [6] ، وَأَمَّا قِتَالُ أُمِّ الْمُؤْمِنيِنَ فَبِنَا سُمِّيَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنيِنَ لا بِكَ وَبِآبَائِكَ، وَانْطَلَقَ أَبُوكَ وَخَالُكَ- يَعْنِي طَلْحَةَ- فَعَمدَا إِلَى حِجَابٍ مَدَّهُ اللَّهُ عَلَيْهَا فَهَتَكَاهُ عَنْهَا ثُمَّ اتَّخَذَاهَا فِئَةً [7] يُقَاتِلانِ دونها، وصانا حلائلهما في بيوتهما، فو الله مَا أَنْصَفَا اللَّهَ وَلا مُحَمَّدًا فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا قِتَالُنَا إِيَّاكُمْ فَإِنْ كُنَّا لَقِينَاكُمْ زَحْفًا وَنَحْنُ كُفَّارٌ فَقَدْ كَفَرْتُمْ بِفِرَارِكُمْ مِنَ الزَّحْفِ، وَإِنْ كُنَّا مُؤْمِنِينَ فَقَدْ كَفَرْتُمْ بِقِتَالِكُمْ إِيَّانَا، وَايْمُ اللَّهِ لَوْلا مَكَانُ خَدِيجَةَ فِينَا وَصَفِيَّةَ فِيكُمْ مَا تَرَكْتُ لَكَ [8] عَظْمًا مَهْمُوزًا إِلا كَسَرْتُهُ. فَلَمَّا نَزَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ سَأَلَ أُمَّهُ عَنْ بُرْدَيْ عَوْسَجَةَ فَقَالَتْ: أَلَمْ أَنْهَكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَبَنِي هَاشِمٍ فَإِنَّهُمْ كُعُمُ الْجَوَابِ إذا بدهوا، قال: بلى فعصيتك،
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 120.
[2] ط: يصر. وفي اخبار الدولة العباسية ص 120: «حتى تكون صرعا ... » وفي شرح النهج: «حتى تصير حرضا ... » ج 20 ص 130.
[3] م: رماها. انظر: ابو هلال العسكري- جمهرة الأمثال ج 1 ص 55- 6، والميداني- مجمع الأمثال ج 2 ص 100.
[4] سورة الحج (22) ، آية 46. ويضيف اخبار الدولة العباسية: «وانما كان يوم زوجت صفية بنت عبد المطلب من العوام بن خويلد» .
[5] ط: نعلمهما.
[6] انظر اخبار الدولة العباسية ص 111، والمسعودي- مروج ج 5 ص 187- 190، والعقد الفريد ج 4 ص 14 وص 414.
[7] في شرح النهج ج 20 ص 130: «فتنة» .
[8] في ن. م. «لما تركت لبني اسد بن عبد العزى» ج 20 ص 130.!(4/41)
قَالَتْ فَاتَّقِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ فَضَائِحَ قُرَيْشٍ، فَقَالَ فِي ذَلِكَ أَيْمَنُ بْنُ خُرَيْمِ بْنِ فَاتِكٍ الاسدي [1] :
يا ابن الزُّبَيْرِ لَقَدْ لاقَيْتَ بَائِقَةً ... مِنَ الْبَوَائِقِ فَالْطُفْ لُطْفَ مُحْتَالِ [2]
لَقَيْتُهُ هَاشِمِيًّا طَابَ مَغْرِسُهُ [3] ... فِي مَنْبَتَيْهِ [4] كَرِيمَ الْعَمِّ وَالْخَالِ
مَا زَالَ يَقْرَعُ مِنْكَ الْعَظْمَ مُقْتَدِرًا ... عَلَى الْجَوَابِ بِصَوْتٍ مُسْمِعٍ عَالٍ
حَتَّى رَأَيْتُكَ مِثْلَ الْكَلْبِ مُنْجَحِرًا ... خَلْفَ الْغَبِيطِ وَكُنْتَ الْبَادِئَ الْغَالِي [5]
إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ الْمَحْمُولَ [6] حِكْمَتَهُ ... حَبْرُ [7] الأَنَامِ لَهُ حَالٌ مِنَ الْحَالِ
عيرتَهُ المتعةَ المتبوعَ سُنتها، ... وبالقتالِ وَقَدْ عَيَّرْتَ بالمال
لما رماك عَلَى رسلٍ بأسهُمِهِ ... جرى [8] عليك كسوف [9] الحال والبال
فاعلم [10] بأنك إِن حاولت نقصته ... عادت عليكَ مخازٍ ذاتِ أذيال
وَقَالَ حسان بْن ثابت الْأَنْصَارِيّ [11] فِي عَبْد اللَّهِ بْن الْعَبَّاس:
إِذَا قَالَ لَمْ يترك [12] مقالًا لقائل ... بمنتظماتٍ [13] لا ترى [14] بينها فصلا
__________
[1] ترجمته في الاغاني ج 21 ص 269 وما بعدها.
[2] الأبيات في شرح النهج ج 20 ص 131، واخبار الدولة العباسية ص 113.
[3] شرح النهج: «لاقيته ... منبته» .
[4] ن. م.: «مغرسيه» .
[5] في شرح النهج: «الباذخ الغالي» ، وفي اخبار الدولة العباسية: «البادئ العالي» .
[6] شرح النهج: المعروف.
[7] في ن. م. وفي اخبار الدولة العباسية: «خير» .
[8] في المصدرين المذكورين: «جرت» .
[9] في شرح النهج: «بسيف» .
[10] في ن. م.: «واعلم بانك ان عاودت غيبته» ، ويرد فيه وفي اخبار الدولة العباسية بيت قبل هذا نصه:
فاحتز مقولك الأعلى بشفرته ... حزا وحيّا بلا قيل ولا قال
[11] انظر الاغاني ج 4 ص 138 وما بعدها. وترد الأبيات في اخبار الدولة العباسية ص 121- 122، وفي شرح الديوان للبرقوقي ص 359، وفي نسب قريش ص 26- 27.
[12] ط: تترك.
[13] في اخبار الدولة العباسية والعقد الفريد ج 2 ص 267 والديوان: بملتقطات، وفي الأصل:
بمنتطمات، والتصويب من نسب قريش ص 27.
[14] اخبار الدولة العباسية: يرى.!(4/42)
كفى وشفى ما في النفوس وَلَمْ [1] يدع ... لذي إربةٍ فِي القولِ جدا ولا هزلا
سموتَ إِلَى العليا بغير مشقةٍ ... فنلتَ ذراها لا دنيا ولا وغلا
ويقال أَنَّهُ قَالَ هَذَا الشعر فِيهِ لأنه كلم عاملًا فِي الأَنْصَار، وكلمه فيهم غيره، فلم يبلغ أحدُ مِنْهُم مبلغه فِي الْكَلام حَتَّى قضيت حاجتهم [2] .
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الثَّغْرِيُّ [3] عَنْ حَجَّاجِ بْنِ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ [4] عَنْ عَطَاءٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الْمَعْرُوفُ أَوْثَقُ الْحُصُونِ وَأَرْشَدُ الأُمُورِ، وَلَنْ يَصْلُحَ الْمَعْرُوفُ إِلا بِتَعْجِيلِهِ وَسَتْرِهِ وَتَصْغِيرِهِ، فَإِنَّكَ إِذَا عَجَّلْتَهُ هَنَّأْتَهُ، وَإِذَا سَتَرْتَهُ أَتْمَمْتَهُ، وَإِذَا صَغَّرْتَهُ عَظَّمْتَهُ، وَإِذَا مَطَلْتَهُ نَكِدْتَهُ وَنَغَّصْتَهُ [5] .
حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ عَبْدِ الْمُؤْمِنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحِيمِ بْنُ مُوسَى، حدثنِي أَبُو رَوْحٍ عُمَارَةُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ كَعْبِ الأَحْبَارِ، أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَقَرَأَ مُعَاوِيَةُ: فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ، فَقَالَ كَعْبٌ: فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [6] ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ وَقَالَ: عَلَيَّ بِابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا جَاءَ قَالَ كَيْفَ تَقْرَءُونَهَا؟ فَوَافَقَ كَعْبًا، فَلَمْ يَرْجِعْ مُعَاوِيَةُ فَغَضِبَ كَعْبٌ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: لا تَغْضَبْ يَا كَعْبُ فَإِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يُؤْمِنُ بِهِ وَمُعَاوِيَةُ (547) مِنَ الأَحْزَابِ يُنْكِرُ بَعْضَهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: أَمُشَاتِمِي [7] أنت يا ابن عباس! قال: إِنْ شِئْتَ، قَالَ: شِئْتُ، فَقَالَ: لَوْلا الْبَيْعَةُ الَّتِي لَكَ عِنْدِي وَلَوْلا السُّلْطَانُ لَفَعَلْتُ، قَالَ: فَلا بَيْعَةَ لِي عَلَيْكَ وَلا سُلْطَانَ فَقُلْ، قَالَ: بَلْ أُجِلُّكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ وَأُكْرِمُكَ، فَسَكَنَ بَعْضُ غَضَبِهِ ثُمَّ قَامَ إِلى الصَّلاةِ وَقَالَ: أَطْبِقِ الْمُصْحَفَ يَا غُلامُ فَإِنِّي مَا أَرَى الْحَرْفَ إِلا كَمَا قَالا.
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ [8] أَبُو مُوسَى، حَدَّثَنَا زَافِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عن أبي عصام الْخُرَاسَانِيِّ قَالَ: لَمَّا أَنْكَرَ الْخَوَارِجُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ تَحْكِيمَ الْحَكَمَيْنِ فَانْحَازُوا عَنْهُ،
__________
[1] في الديوان ونسب قريش ومحاضرات الأدباء ج 1 ص 74: فلم.
[2] محاضرات الأدباء: حاجة.
[3] ط، د: الثعري. انظر لب اللباب في تحرير الأنساب للسيوطي ص 57.
[4] م: جريح.
[5] جاء في هامش د: «آخر المجلد الثاني عشر من الأصل ولله كل حمد» .
[6] الاشارة الى سورة الكهف (18) ، الآية 86.
[7] م: أشاتمني.
[8] الأصل: القروي. انظر اللباب ج 2 ص 426، وفهرس الطبري.!(4/43)
خَرَجَ إِلَيْهِمْ ابْنُ عَبَّاسٍ [1] فَقَالُوا لَهُ: مَرْحَبًا بِكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ:
جِئْتُ لأُخْبِرَكُمْ عَنْ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ فَلَيْسَ فِيكُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:
لا تُخَاصِمُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: بَلْ هُمْ قَوْمٌ خصمون [2] . فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَخْبِرُونِي مَا الَّذِي نَقَمْتُمْ عَلَى ابْنِ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ عَلِيٍّ؟ قَالُوا: نَقَمْنَا عَلَيْهِ أَنَّهُ حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ وَلا حُكْمَ إِلا لِلَّهِ، وَأَنَّهُ قَتَلَ وَلَمْ يَسْبِ، وَمَحَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ وَكَتَبَ اسْمَهُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا قَوْلُكُمْ: حَكَّمَ الرِّجَالَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِهِ فِي الشِّقَاقِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَفِي أَرْنَبٍ ثَمَنُهَا رُبْعُ دِرْهَمٍ يُصِيبُهَا الْمُحْرِمُ فَقَالَ: يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ منكم [3] فَالْحُكْمُ فِي حَقْنِ الدِّمَاءِ وَصَلاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ أَفْضَلُ، قَالُوا:
نَعَمْ، قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: قَتَلَ وَلَمْ يَسْبِ، فَأَيُّكُمْ كَانَ يَأْخُذُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنيِنَ فِي سَهْمِهِ وَهِيَ أُمُّكُمْ، فَإِنْ قُلْتُمْ إِنَّهَا لَيْسَتْ بِأُمِّنَا فَقَدْ كَفَرْتُمْ، وَإِنْ قُلْتُمْ نَأْخُذُهَا [4] ضَلَلْتُمْ، وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: مَحَا عَلِيٌّ اسْمَهُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ عَلِيٍّ وَادَعَ قُرَيْشًا بِالْحُدَيْبِيَةِ فَكَتَبَ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالُوا: لَوْ أَقْرَرْنَا بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُخَالِفْكَ، فَقَالَ: امْحُ وَاكْتُبْ:
هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّهِ، قَالَ فَاتَّبَعَهُ أَلْفَانِ وَبَقِيَتْ [5] بَقِيَّتُهُمْ.
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُتِيتُ [6] فِي مَنَامِي فَقِيلَ لِي هَذِهِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، فَقُمْتُ وَأَنَا نَاعِسٌ فَتَعَلَّقْتُ بِبَعْضِ أَطْنَابِ فُسْطَاطِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا هِيَ لَيْلَةُ ثَلاثٍ وَعِشْرِينَ.
حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدٍ الشَّامِيُّ [7] الْمُؤَدِّبُ عَنْ أَبِيهِ عن قرّان بن تمام عن موسى
__________
[1] قارن باخبار الدولة العباسية ص 39- 41، والكامل للمبرد ج 3 ص 165 وص 211.
[2] سورة الزخرف (43) آية 58.
[3] المائدة (5) ، آية 95.
[4] م: بأخذها.
[5] م: بقت.
[6] م: أوتيت.
[7] د: السلمي. انظر ابن النديم ص 81.!(4/44)
ابن عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْدَ أَنْ أُصِيبَ بِبَصَرِهِ: مَا آسَى عَلَى شَيْءٍ فَاتَنِي إِلا أَنِّي لَمْ أَحُجّ مَاشِيًا لأَنِّي سَمِعْتُ اللَّهُ يَقُولُ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كلّ ضامر [1] .
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْفَيَّاضِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عِيسَى أَنَّهُ بَلَغَهُ عَنْ وَبَرَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُسْلِيِّ [2] أَنَّهُ قَالَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِيَّاكَ وَالْكَلامَ فِيمَا يَعْنِيكَ إِذَا كَانَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، وَلا تُمَارِ سَفِيهًا وَلا حَلِيمًا، فَإِنَّ السَّفِيهَ يُؤْذِيكَ وَإِنَّ الْحَلِيمَ يُقْلِيكَ، وَاذْكُرْ أَخَاكَ فِي غِيبَتِهِ بِمَا تُحِبُّ أَنْ يَذْكُرَكَ بِهِ، وَدَعْهُ مِمَّا تُحِبُّ أَنْ يَدَعَكَ مِنْهُ.
المدائني قَالَ، قَالَ ابْن عَبَّاس لوبرة: دعِ الْكَلام فيما لا يعنيك فَإِنَّهُ فضل، ولا تتكلم فيما يعنيك إِذَا لَمْ تصب موضعه فَإِنَّهُ جهل.
المدائني عَنْ يَحْيَى الْأَنْصَارِيّ قَالَ: قيل لابن عَبَّاس أَن ابْن الزُّبَيْر يتنقَّصُكَ، فَقَالَ ابْن عَبَّاس: دِبي حَجل، لو ذاتُ سِوَارٍ لطمتني [3] ، أما والله أني لأعرف دَخلا ودُخيْلًا، وَمَا ساببتُ قرشيًا قط إلا يَحْيَى بْن الحكم، فاشتفى من لحمٍ سمين واشتفيتُ من مثله.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: عَزَّى مُعَاوِيَةُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ (548) عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ فَقَالَ: لا يَسُوءُكَ اللَّهُ، فَقَالَ: لا يَسُوءُنِي مَا أَبْقَى اللَّهُ أمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ. ثُمَّ إِنَّ يَزِيدَ رَكِبَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَجَلَسَ مَجْلِسَ الْمُعَزِّي فَلَمَّا قَامَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا تَكَادُ تُعْدَمُ مِنَ الأُمَوِيِّ عَقْلا وَكَرَمًا.
حَدَّثَنِي الأَعْيَنُ عَنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ الثَّوْرِيِّ عَنْ قَابُوسَ بْنِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْهَدْيُ الصَّالِحُ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ وَالاقْتِصَادُ فِي الأُمُورِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ.
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا عباد بن العوام، أخبرنا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ فَقَدَ غُلامًا لَهُ فَحَلَفَ بالله ليضربنه،
__________
[1] سورة الحج (22) ، آية 27.
[2] م: المبيكي. وفي هامش «د» : من بني مسلية.
[3] انظر: أبو هلال العسكري- جمهرة الأمثال ج 2 ص 192، والميداني- مجمع الأمثال ج 2 ص 174.(4/45)
فَلَمَّا جَاءَ الْغُلامُ قَالَ لَهُ: أَيْنَ كُنْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ فِي مَوْضِعِ كَذَا، فَعَفَا عَنْهُ ولم يضربه، فقيل: أو لست قد حلفت؟ قال: أو لم أَعْفُ عَنْهُ، إِحْدَاهُمَا بِالأُخْرَى.
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمَا كُفَّ بَصَرُهُ قَالَ أَوْ تَمَثَّلَ:
مَا زَالَ عُمْرِي [1] عَلَى الأَيَّامِ مُنْتَقِصًا ... حَتَّى فنيتُ وَحَبْلُ الدَّهْرِ مَمْدُودُ
أُقَدِّمُ الْعُودَ قُدَّامِي وَأَتْبَعُهُ ... وَكُنْتُ أَمْشِي وَمَا يَمْشِي بِيَ الْعَوْدُ
حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ وإسحاق الفروي قَالا، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنَا عَمْرٌو [2] قَالَ: لَمَّا وَقَعَ فِي عَيْنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمَاءُ أَرَادَ أَنْ يَتَعَالَجَ مِنْهُ فَقِيلَ لَهُ:
إِنَّكَ تَمْكُثُ كَذَا وَكَذَا يَوْمًا لا تُصَلِّي إِلا مُضْطَجِعًا فَكَرِهَ ذَلِكَ.
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلاءِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَثِيرٍ الأَنْصَارِيِّ، أَحْسَبُهُ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أَتَى ابْنُ عَبَّاسٍ عثمان ابن عَفَّانَ وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ فَخَرَجَا جَمِيعًا، فَأَرَادَ زَيْدُ أَنْ يَرْكَبَ فَأَخَذَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِرِكَابِهِ، فَامْتَعَضَ [3] زَيْدُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ: مَا هَذَا فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِعُلَمَائِنَا، فَقَبَّلَ زَيْدٍ يَدَهُ وَقَالَ: هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَفْعَلَ بِأَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّنَا.
حَدَّثَنِي أَحْمَد بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيّ، حَدَّثَنَا عُبَيْد اللَّهِ بْنُ مُوسَى وَزَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ الْعُكلِيُّ جَمِيعًا قَالا، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ الثَّوْرِيُّ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ [4] عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَبْتَاعُ الرِّدَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ.
حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا مُعَاوِيَةُ عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ قَالَ: رَأَيْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَمِيصًا سَابِرِيًّا يُتَبَيَّنُ إِزَارُهُ من رقته.
__________
[1] هامش د: جيلي.
[2] وردت كلمة «الانصاري» في م فقط، واسمه عبد الله. جمهرة الأنساب ص 333.
[3] م: فامتعص.
[4] د، م: جريح.!(4/46)
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ الْكُوفِيُّ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أبي صالح، قال: أنشد الأحوص ابن مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ [1] ابْنَ عَبَّاسٍ:
اللَّهُ بَيْنِي وَبَيْنَ قَيِّمِهَا ... يَفِرُّ مِنِّي بِهَا وأتّبعه [2]
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنِي وَبَيْنَ قَيِّمِهَا وَبَيْنَكَ.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ الْكُوفِيُّ عُمَرُ بْنُ عِيسَى قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ كِنَاسَةَ يَقُولُ:
لَمَّا قَالَ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ [3] قَصِيدَتَهُ الَّتِي أَوَّلُهَا
«تَشطّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا
» أَنْشَدَهَا ابْنَ عَبَّاسٍ، فَلَمَّا قَالَ عُمَرُ:
تَشطّ غَدًا دَارُ جِيرَانِنَا،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
«وَلَلدَّارُ بَعْدَ غَدٍ أَبْعَدُ» .
فَقَالَ: «كَذَا وَاللَّهِ قُلْتُ، جُعِلْتُ فِدَاكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
الْكَلامُ مُشْتَرَك [4] . فَلَمَّا أَنْشَدَ:
«تَحَمَّلَ لِلْبَيْنِ جِيرَانُنَا» ،
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ [5] :
«وَقَدْ كَانَ قُرْبهُمُ يُحْمَدُ» ،
فَقَالَ عُمَرُ: كَذَا وَاللَّهِ قُلْتُ، وَقَبَّلَ يَدَهُ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ قَالَ: قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ لِكُلِّ دَاخِلٍ دَهْشَةً فَآنِسُوهُ بِالتَّحِيَّةِ.
حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ طَهْمَانَ عَنْ حُصَيْنِ قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ جَالِسًا فَجَاءَهُ سَائِلٌ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: ألستَ مُسْلِمًا تُصَلِّي وَتَصُومُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ: إِنَّ مُوَاسَاتَكَ لَوَاجِبَةٌ، وَنَزَعَ ثَوْبَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَيْهِ.
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُصَفَّى (549) الْحِمْصِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ التَّمِيمِيُّ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةُ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ فَوَافَقَ ابْنُ عَبَّاسٍ، فَرَآهُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ كُلَّهَا، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: إِنَّمَا اسْتَلَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرُّكْنَيْنِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَرْكَانِهِ شَيْءٌ مَهْجُورٌ.
حَدَّثَنِي مُظَفَّرُ بْنُ مُرَجَّى، حَدَّثَنَا أَبُو رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عباس قال: منّا المهدي والمنصور والسفاح.
__________
[1] انظر الاغاني ج 4 ص 228 وما بعدها، وجمهرة الأنساب ص 333.
[2] خزانة الأدب للبغدادي ج 1 ص 233.
[3] الاغاني ج 1 ص 71 وما بعدها، والديوان ص 90. ولا يرد فيه البيت الثاني.
[4] انظر الخبر في الاغاني ج 1 ص 82.
[5] سقط النص من «وللدار» حتى «وقال ابن عباس» من م.!(4/47)
حدثني عَبَّاس بْن هِشَام الكلبي عن أبيه عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعِكْرِمَةَ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ غَيْرُنَا، فَأَقْبَلَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ابْنَا عَلِيٍّ فَسَلَّمَا عَلَيْهِ ثُمَّ ذَهَبَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذَيْنِ يَزْعُمَانِ أَنَّ الْمَهْدِي مِنْ [1] وَلَدِهِمَا، أَلا وَإِنَّ السَّفَّاحَ وَالْمَنْصُورَ وَالْمَهْدِيَّ مِنْ وَلَدِي.
حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمَدِينِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إِنِّي لأَرْجُو أَنْ لا تَذْهَبَ [2] الأَيَّامُ وَاللَّيَالِي حَتَّى يَكُونَ مِنَّا أَهْلَ الْبَيْتِ مَنْ يُقِيمُ أَمْرَهَا: شَابٌّ يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، لَمْ يَلْبَسِ الْفِتَنَ وَلَمْ تَلْبَسْهُ. وَأَرْجُو أَنْ يُخْتَمَ هَذَا الأَمْرُ بِنَا كَمَا فُتِحَ بِنَا، قَالَ فَقُلْتُ: عَجَزَ عَنْهُ شُيُوخُكُمْ [3] وَتَرْجُونَهُ لِشَبَابِكُمْ! قَالَ: يَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ مَالِكٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ عن محمد ابن عَمْرٍو عَنْ عَطَاءٍ أَنَّهُ، سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: انْتَهَى السَّلامُ إِلَى الْبَرَكَاتِ.
حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْحِرْمَازِيُّ عَنِ الْعُتْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رجلا قال لعبد الله ابن عَبَّاسٍ: بِمَاذَا عَرَفْتَ رَبَّكَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَيْلَكَ مِنْ طَلَبِ الدِّينِ بِالْقِيَاسِ، لَمْ يَزَلِ الدَّهْرُ فِي الْتِبَاسٍ، مَائِلا عَنِ الْمِنْهَاجِ، طَاعِنًا فِي الاعْوِجَاجِ، أَعْرِفُهُ بِمَا عَرَّفَ بِهِ نَفْسَهُ من غير رؤية، وأصفه بما وصفه بِهِ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ صُورَةٍ، لا يُدْرَكُ [4] بِالْحَوَاسِّ، وَلا يُقَاسُ بِالنَّاسِ، حَيٌّ فِي دَيْمُومَتِهِ، لا يَجُورُ فِي أَقْضِيَتِهِ، يَعْلَمُ مَا هُمْ عَامِلُونَ وَمَا هُمْ إِلَيْهِ صَائِرُونَ، فَتَبَارَكَ الَّذِي سَبَقَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمُهُ، وَنَفَذَتْ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَشِيئَتُهُ.
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مِخْنَفٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ الطَّائِفَ حِينَ نَافَرَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ كَانَ صُلَحَاءُ الطَّائِفِ يَجْتَمِعُونَ إِلَيْهِ، وَيَأْتِيهِ أَبْنَاءُ السَّبِيلِ يَسْأَلُونَهُ وَيَسْتَفْتُونَهُ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِكَلامٍ لا يَدَعُهُ وَهُوَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِلإِسْلامِ وَعَلَّمَنَا الْقُرْآنَ وَأَكْرَمَنَا بمحمد عليه السلام فانتاشنا به من
__________
[1] سقطت من ط، م.
[2] ط: يذهب.
[3] ط: سبق حكم.
[4] ط: تدرك.!(4/48)
الْهَلَكَةِ، وَأَنْقَذَنَا مِنَ الضَّلالَةِ، فَأَفْضَلُ الأَئِمَّةِ أَحْسَنُهَا لِسُنَّتِهِ اتِّبَاعًا، وَأَعْلَمُهَا بِمَا فِي كِتَابِهِ احْتِسَابًا، وَقَدْ عَمِلَ بِكِتَابِ اللَّهِ رَبِّكُمْ وَسُنَّةِ نَبِيِّكُمْ قَوْمٌ صَالِحُونَ عَلَى اللَّهِ جَزَاؤُهُمْ، وَهَلَكُوا فَلَمْ يَدَعُوا بَعْدَهُمْ مِثْلَهُمْ وَلا مُوَازِيًا لَهُمْ، وَبَقِيَ قَوْمٌ يُرِيغُونَ [1] الدُّنْيَا بِعَمَلِ الآخِرَةِ، يَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ لِتَحْسَبُوهُمْ مِنَ الزَّاهِدِينَ، يُرْضُونَكُمْ بِظَاهِرِهِمْ وَيُسْخِطُونَ اللَّهَ بِسَرَائِرِهِمْ، إِذَا عَاهَدُوا لَمْ يُوفُوا وَإِذَا حَكَمُوا لَمْ يَعْدِلُوا، يَرَوْنَ الْغَدْرَ حَزْمًا وَنَقْضَ الْعَهْدِ مَكِيدَةً، وَيَمْنَعُونَ الْحُقُوقَ أَهْلَهَا، فَنَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُهْلِكَ شِرَارَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَيُوَلِّيَ أُمُورَهَا خِيَارَهَا وَأَبْرَارَهَا، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَكَتَبَ إِلَيْهِ: بَلَغَنِي أَنَّكَ تَجْلِسُ الْعَصْرَيْنِ فَتُفْتِي بِالْجَهْلِ، وَتَعِيبُ أَهْلَ الْبِرِّ وَالْفَضْلِ، وَأَظُنُّ حِلْمِي عَنْكَ وَاسْتِدَامَتِي إِيَّاكَ جَرَّأَكَ عَلِيَّ، فَاكْفُفْ عَنِّي مِنْ غَرْبِكَ، وَارْبَعْ عَلَى ظَلْعِكَ، وَأَرْعِ عَلَى نَفْسِكَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَهِمْتُ كِتَابَكَ، وَإِنَّمَا يُفْتِي بِالْجَهْلِ مَنْ لَمْ يُؤْتَ مِنَ الْعِلْمِ شَيْئًا، وَقَدْ آتَانِي اللَّهُ مِنْهُ مَا لَمْ يُؤْتِهِ إِيَّاكَ، وَزَعَمْتَ أَنَّ حِلْمَكَ عَنِّي جَرَّأَنِي عَلَيْكَ فَهَذِهِ أَحَادِيثُ الضَّبعِ اسْتَها [2] ، فَمَتَى كُنْتُ لِعرَامِكَ هَائِبًا وَعَنْ حَدِّكَ نَاكِلا؟! ثُمَّ تَقُولُ [3] : إِنِّي أَنْ لَمْ أَنْتَهِ وَجَدْتُ جَانِبَكَ خَشِنًا، وَوَجَدْتُكَ (550) إِلَى مَكْرُوهِي عَجِلا، فَمَا أَكْثَرُ مَا طَرتَ إليَّ بِشُقَةٍ مِنَ الْجَهْلِ، وَتَعَمَّدْتَنِي بِفَاقَرَةٍ من المكروه، فلم تضرر الا نفسك، فلا أَبْقَى اللَّهُ عَلَيْكَ إِنْ أَبْقَيْتَ، وَلا أَرْعَى عليك ان أرعيت، فو الله لا انْتَهَيْتَ عَنْ إِرْضَاءِ اللَّهِ بِإِسْخَاطِكَ.
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّائِبِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَمُ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي، إِنَّ الذُّبَابَ لَيَقَعُ عليه فيشقّ ذلك عليّ.
حدثنا سريج [4] ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُؤَمِّلِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: أَكْرَمُ النَّاسِ عَلَيَّ جَلِيسِي، أَوْ قَالَ: رَجُلٌ تَخَطَّى [5] رقاب الناس حتى جلس إليّ.
__________
[1] م: يزيغون.
[2] في لسان العرب مادة (سته) : «قال ابو زيد، وقالت العرب إذا حدّث الرجل حديثا فخلط فيه: احاديث الضبع استها» . وانظر الأمثال للميداني ج 1 ص 135.
[3] ط: يقول.
[4] م: شريح.
[5] ط، م: يخطى.!(4/49)
الْمَدَائِنِيِّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْن دِينَارٍ قال، قال ابن عباس:
لجليسي عِنْدِي ثَلاثٌ: إِذَا أَقْبَلَ رَحَّبْتُ بِهِ، وَإِذَا قَعَدَ أَوْسَعْتُ لَهُ، وَإِذَا تَحَدَّثَ أُنْصِتُ لِحَدِيثِهِ وَاسْتَمَعْتُ مِنْهُ [1] .
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرَّبِيعِ الضَّبِّيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ الْوَرْدِ عَنِ ابْنِ [2] أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: ثَلاثَةٌ لا أَقْدِرُ عَلَى مُكَافَأَتِهِمْ: رَجُلٌ جِئْتُ ظَمْآنَ فَسَقَانِي، وَرَجُلٌ ضَاقَ بِي مَجْلِسِي فَأَوْسَعَ لِي، وَرَجُلٌ اغبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي الاخْتِلافِ إِلَى بَابِي [3] ، وَرَابِعٌ هُوَ أَعْظَمُهُمْ حَقًّا عَلَيَّ: رَجُلٌ بَاتَ سَاهِرًا يَعْرِضُ النَّاسَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَصْبَحَ لا يَجِدُ لهُ فِي حَاجَتِهِ مُعْتَمِدًا سِوَايَ.
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الْفَرْوِيُّ عَنِ الْمُعَافَى بْنِ عِمْرَانَ الْمَوْصِلِيِّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَوَّامِ عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: كُنَّا نَأْتِي ابْنَ عَبَّاسٍ فَيُؤْتِي بِغَدَائِهِ فأقول: إني صائم، فما يزال يقسم عليّ حَتَّى أَدْنُو فَاتَغَدَّى مَعَهُ.
حَدَّثَنِي مُصْعَب بْن عَبْدِ اللَّهِ عَن الْوَاقِدِيِّ عَن ابْنِ أَبِي الزِّنَادِ عَن مُوسَى بْن عقبة عَنِ القاسم بْن مُحَمَّد قَالَ: مَا رَأَيْتُ فِي مجلس ابْن عَبَّاس باطلًا قط.
حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ الزُّبَيْرِيُّ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ كَثِيرٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ فُلَيْحِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ صَالِحِ بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَخِيهِ سُلَيْمَانُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: إِنَّا لَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمَ عَرَفَةَ إِذَا فِتْيَةٌ يَحْمِلُونَ فَتًى مَعْرُوقَ الْوَجْهِ نَاحِلَ الْبَدَنِ، فَوَضَعُوهُ بَيْنَ يَدِي ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالُوا: اسْتَشْفِ له يا ابن عم رسول الله، فقال: مَا بِهِ؟ فَأَنْشَدَهُ الْفَتَى [4] :
بِنَا مِنْ جَوَى الأَحْزَانِ وَالْوَجْدِ [5] لَوْعَةُ ... تَكَادُ لَهَا نَفْسُ الشَّفِيقِ تَذُوبُ
وَلَكِنَّمَا أَبْقَى حَشَاشَةُ مُعْوِلٍ ... عَلَى مَا بِهِ عُودٌ هُنَاكَ صَلِيبُ
ثُمَّ حَمَلُوهُ فَخَفَتَ فِي أَيْدِيهِمْ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا قَتِيلُ الْحُبِّ لا عَقْلَ وَلا قَوَدَ، وَمَا رَأَيْته سَأَلَ اللَّهَ إِلا الْعَافِيَةَ مِمَّا أَصَابَ ذَلِكَ الرجل حتى امسى.
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 128.
[2] سقطت «ابن» من ط، م.
[3] م: «إليّ» محل «الى بابي» .
[4] انظر الخبر في الاغاني ج 23 ص 316، والفتى هو عروة بن حزام.
[5] الاغاني: في الصدر.(4/50)
حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَدَائِنِيُّ عَنِ النَّضْرِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَا بَاحَتُّ [1] أَحَدًا فِي عَقْلِهِ أَشَدَّ [2] عَلِيَّ مِنَ ابْنِ عَبَّاسٍ.
حَدَّثَنِي عباس بن هشام عن أبيه عن عوانة قَالَ: كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى الْحَسَنِ [3] بْنِ عَلِيٍّ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ وَلَّوْكَ أُمُورَهُمْ بَعْدَ عَلِيٍّ، فَشَمِّرْ لِحَرْبِكَ وَجَاهِدْ عَدُوَّكَ، وَدَارِ أَصْحَابَكَ، وَاشْتَرِ مِنَ الظَّنِينِ دِينَهُ، وَلا تُسْلِمْ دِينَكَ، وَوَالِ أَهْلَ الْبُيُوتَاتِ وَالشَّرَفِ تَسْتَصْلِحْ عَشَائِرَهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّكَ تُحَارِبُ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَلا تَخْرُجَنَّ مِنْ حَقٍّ أَنْتَ أَوْلَى بِهِ وَإِنْ حَالَ الْمَوْتُ دُونَ مَا تُحِبُّ.
حَدَّثَنِي عَبَّاسٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنِ الْتَمَسَ الدِّينَ بِالْمُخَاصَمَةِ حَيَّرَتْهُ الْمُنَازَعَةُ، وَلَنْ يَمِيلَ إِلَى الْمُغَالَبَةِ إِلا مَنْ أَعْيَاهُ سُلْطَانُ الْحُجَّةِ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، أَنَّ الْعَبَّاسَ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: أَنْتَ أَعْلَمُ مِنِّي وَلَكِنِّي أَشَدُّ (551) تَجْرِبَةً لِلأُمُورِ مِنْكَ، وَإِنَّ هَذَا الرَّجُلَ- يَعْنِي عُمَرَ- قَدْ قَرَّبَكَ وَقَدَّمَكَ فَلا تُفْشِ لَهُ سِرًّا وَلا تَغْتَبْ عِنْدَهُ مُسْلِمًا وَلا تَبْتَدِئْهُ بِشَيْءٍ [4] حَتَّى يَسْأَلَكَ عَنْهُ.
وحدثني العمري عَنِ الهيثم بْن عدي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
كَانَتْ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ يَتِيمَةٌ فَخَطَبَهَا إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: إِنِّي لا أَرْضَاهَا لَكَ، قَالَ:
وَكَيْفَ وَقَدْ نَشَأَتْ فِي حِجْرِكَ وَعِنْدكَ! قَالَ: إِنَّ فِيهَا بَذَاءً وَهِيَ تَتَشَرَّفُ، فَقَالَ:
لا أُبَالِي، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِّي إذًا لا أَرْضَاكَ لَهَا.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ: أَخْبَرَنِي عَوَانَةُ عَنْ شَيْخٍ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنَّ رَجُلا شَكَا إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ زَوْجَ ابْنَتِهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّ مَنْ زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ سَفِيهٍ فَقَدْ عَقَّهَا؟
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ رَجُلا أَوْلَيْتُهُ مَعْرُوفًا إِلا أَضَاءَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلا رَأَيْتُ رَجُلا فَرَطَ مِنِّي إِلَيْهِ سوء الا اظلم ما بيني وبينه.
__________
[1] في هامش د: اي ما خاصمت. وفي اللسان: كاشفت.
[2] ط: الا أشد.
[3] د: الحسين (خ) .
[4] العبارة من: «له» الى «بشيء» ، مشطوبة في ط.!(4/51)
حَدَّثَنِي أَبُو عَمْرَ الْعُمَرِيُّ عَنْ هِشَامِ بْنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ المساحقي عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يَقُولُ: إِذَا تَرَكَ الْعَالِمُ قَوْلَ لا أَدْرِي أُصِيبَتْ مَقَاتِلُهُ.
وَحُدِّثْتُ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عِيسَى بْنِ عَلِيٍّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ بَعْضَ أَصْحَابِهِ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ: لا أَدْرِي، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحْسَنْتَ، كَانَ يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَ لا أَدْرِي نِصْفُ الْعِلْمِ.
وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيِّ: كَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول: اسمح يُسْمَحْ لَك.
حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ [1] عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اسْمَحْ يُسْمَحْ لَكَ] .
وذُكر لي [2] أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يُعشي النَّاس بالبصرة فِي شَهْر رمضان ويحدثهم ويفقههم، فَإِذَا كَانَتْ آخر ليلة من الشهر ودعهم [3] ثُمَّ قَالَ: ملاك أُمركم الدين ووصلتكم [4] الوفاء وزينتكم العلم، وسلامتكم في الحكم، وطَوْلكم المعروف، إِن [5] اللَّه كلفكم الوسع فاتقوه مَا استطعتم.
وروي عَنِ ابْن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يَقُول: عالم واحد أشد عَلَى الشَّيْطَان من ألف عابد، غَيْر مرفوع.
وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَن الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ رَوْح بْنِ أَبِي جَنَاحٍ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَالِمٌ واحد أشد على الشيطان من ألف عابد] .
المدائني عَنْ مسلمة قَالَ: دَخَلَ زِيَاد عَلَى مُعَاوِيَة وعنده ابْنُ عَبَّاس، فلم يسلم زِيَاد عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس: مَا هَذَا الهجران يا أبا المغيرة؟ فقال:
ما ها هنا بحمد اللَّه سوء ولا هجران ولكنه مجلس لا يقضى فيه إلا حق أمير المؤمنين وحده.
__________
[1] د، م: جريح.
[2] انظر الرواية مسندة في اخبار الدولة العباسية ص 34، وهي هناك اوفى.
[3] في ن. م.: «يعظهم ويتكلم بكلام يردعهم ويقول ... » ص 34.
[4] في ن. م.: صلتكم.
[5] م: فان.!(4/52)
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ ابْنِ جُعْدُبَةَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
وَفَدَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَضَى حَوَائِجَهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ: لِي مَالٌ وَلا غِلْمَانَ فِيهِ يَقُومُونَ به، فأعطني ما لا أَشْتَرِي بِهِ غِلْمَانًا، فَقَالَ:
أَلَمْ أُعْطِكَ لِوِفَادَتِكَ وَأَقْضِ حَوَائِجَكَ فِي خَاصَّتِكَ وَعَامَّتِكِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ:
فَمَا لَكَ عِنْدِي شَيْءٌ سِوَى ذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَلا تَفْعَلُ يَا مُعَاوِيَةُ، [فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَنَا: إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً يَا مَعَاشِرَ الأَنْصَارِ فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي [1] ،] قَالَ: فَاصْبِرْ يَا أَبَا أَيُّوبَ، قَالَ: أَقُلْتَهَا يَا مُعَاوِيَةُ؟
وَاللَّهِ لا أَسْأَلُكَ بَعْدَهَا شَيْئًا أَبَدًا. وَبَلَغَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَوْلُ مُعَاوِيَةَ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ وَافِدٌ عَلَيْهِ وَقَدْ تَيَسَّرَ لِلْخُرُوجِ، فَأَعْطَى أَبَا أَيُّوبَ قِيمَةَ مِائَةِ مَمْلُوكٍ وَأَعْطَاهُ جَمِيعَ مَا كَانَ فِي دَارِهِ ثُمَّ شَخَصَ.
قَالُوا: ولما أخرج عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر مُحَمَّد بْن الحنفية عَنْ مَكَّة أغلظ لهُ ابْن عَبَّاس (552) وَقَالَ لَهُ: أتُخرج بَنِي عَبْد الْمُطَّلِبِ عَنْ حرم اللَّه وَهُمْ أحقُّ بِهِ منك! فَقَالَ: وأنت أيضًا فالحقْ بِهِ، فخرج إِلَى الطائف فمات بِهَا، وأوصى عليَّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بإتيان الشام والتنحي عَنْ سلطان ابْن الزُّبَيْر إِلَى سلطان عَبْد الْمَلِك، فكان عَبْد الْمَلِك يحفظ لَهُ ذَلِكَ.
قَالُوا: ولما صار عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ إِلَى دمشق ابتنى بِهَا دارًا ثُمَّ صار وولده إِلَى الحميمة وكُداد من عمل دمشق.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الصباح البزاز، حَدَّثَنَا هُشَيْم عَنْ أَبِي جمرة قَالَ: توفي ابْن عَبَّاس بالطائف.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْمِصْرِيُّ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس مديد القامة حيد [2] الهامة مستدير الوجه جميله أبيضه، وليس بالمفرط البياض، سبط اللحية، فِي أنفه قنًى، معتدل الجسم، وَكَانَ أَحْسَن النَّاس عينًا قبل أَن يكف بصره، وكفَّ قبل موته بست سنين او نحوها وتوفي بالطائف.
__________
[1] انظر فنسنك: المعجم المفهرس لالفاظ الحديث النبوي ج 1 ص 14.
[2] ط: خيد، د، م جيّد. انظر لسان العرب مادة (حيد) .!(4/53)
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ وغيره: نزل فِي قبر عَبْد اللَّهِ بْن الْعَبَّاس وتولى دفنه عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ ومحمد بْن الحنفية والعباس بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْعَبَّاس، وصفوان وكريب وعكرمة وأبو معبد مواليه، وَكَانَ يخضب بالحناء ثُمَّ صَفّر.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنِ التوزي [1] عَنْ عِمْرَانَ بْن أبي عطاء قال:
أدخل ابن الحنيفة ابنَ عَبَّاس [2] معترضًا وصلَّى عَلَيْهِ فكبر أربعًا وضرب عَلَى قبره فسطاطًا ثلاثة أَيَّام.
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ الواقدي عن عمير بن عقبة وخالد ابن القاسم الْأَنْصَارِيّ عَنْ شُعْبَة مَوْلَى ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَاتَ ابْن عَبَّاس بالطائف سنة ثمان وستين وَهُوَ ابْن إحدى وسبعين سنة وأشهر، أَوِ اثنتين وسبعين، وَكَانَ يصفر لحيته، وَكَانَ مرضه ثمانية أيام، وصلى عليه ابن الحنيفة.
وَقَالَ بَعْض البصريين تُوُفِّيَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابنُ عَبَّاس ابْنُ عشرٍ وأشهرٍ، وتوفي ابْن عَبَّاس وَلَهُ سبعون سنة، وَالأَوَّل أثبت.
حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن أَبِي شَيْبَة، حَدَّثَنَا وكيع عَنْ سُفْيَان عَنْ سالم بْن أَبِي حفصة عَنْ كلثوم قال: سمعت ابن الحنيفة يَقُول فِي جنازة ابْن عَبَّاس: اليوم مَاتَ [3] رباني العلم.
وَحَدَّثَنِي الْحُسَيْن بْن عَلِي بْن الأَسْوَدِ، أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الأجلح عَنْ أَبِي الزُّبَيْر قَالَ: توفي ابْن عَبَّاس بالطائف فجاء طائر فدخل فِي نعشه حِينَ حُمل فلم يُر خارجًا منه.
حَدَّثَنِي دَاوُد بْن عَبْدِ الحميد قَاضِي الرقة، حَدَّثَنَا مَرْوَان بْن شجاع عَنْ سالم الأفطس عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: توفي ابْن عَبَّاس بالطائف فشهدتُ جنازته، فجاء طائر لَمْ يُرَ عَلَى خلقته فدخل فِي نعشه [4] .
قَالَ سالم: وَقَالَ إِسْمَاعِيل بْن عَلِي وعيسى بْن عَلِي: لما دفن تليت هذه الآية
__________
[1] ط، م: الثوري.
[2] ط، م: ابن العباس.
[3] م: مات اليوم.
[4] انظر اخبار الدولة العباسية ص 132.!(4/54)
عند قبره وهم لا يرون تاليها: يا أيتها النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي [1] .
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ [2] عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ [3] أَنَّهُ قَالَ حِينَ أُخْبِرَ بِوَفَاةِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَاتَ وَاللَّهِ مَنْ كَانَ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ وَمَنْ بَيْنَهُمَا يَحْتَاجُونَ إِلَى عِلْمِهِ.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلاءِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ حِينَ بَلَغَتْهُ وَفَاةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ، وَصَفَّقَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى: مَاتَ أَعْلَمُ النَّاسِ وَأَحْلَمُ النَّاسِ، لَقَدْ أُصِيبَتِ الأُمَّةِ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، حَدَّثَنِي سَاعِدَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمُزْنِيُّ عَنْ دَاوُدَ بْنِ عَطَاءٍ عَنْ مُوسَى (553) بْنِ عُبَيْدَةَ الرَّبَذِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَطَاءٍ أَنَّ [النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ مُقْبِلا فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أحبّ عبد الله ابن عباس فأحبّه.]
وَأَمَّا عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس
ويكنى أبا مُحَمَّد، وبينه وبين أَخِيهِ عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس فِي السن سنة أَوْ سنة وأشهر، فكان جوادًا، دعاه عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس إِلَى أَن يقاسمه دارًا كَانَتْ بينهما فمدَّ القاسم الحبلَ بينهما فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: أمَلْتَ الحبلَ عليّ، فَقَالَ عُبَيْد اللَّه: أقم الحبل لأخي، فأقامه، فَقَالَ لَهُ: هَلْ لَك أَن أنحيه شبرا؟ قَالَ: نعم، فنحاه ثُمَّ قَالَ:
هَلْ لَك أَن أنحيه ذراعًا؟ قَالَ: نعم، قَالَ: هَلْ لَك أَن أرفعه؟ قَالَ: نعم، فرفعه ووهب لَهُ [4] حصته من الدار.
قَالُوا: وَكَانَ عَبْد اللَّهِ يُوسِعُ الناسَ علمًا، وَكَانَ عبيد الله [5] يوسعهم طعاما [6] .
__________
[1] سورة الفجر (89) ، الآيات 27- 30، وانظر اخبار الدولة العباسية ص 132.
[2] زاد في م: «عَنْ يَحْيَى بْنِ الْعَلاءِ عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ زيد عن ابيه» ، وهذا من ارتباك الناسخ.
[3] ط: حديج. انظر ابن حجر- الاصابة ج 1 ص 483- 4.
[4] ليست في ط، م.
[5] م: عبد الله.
[6] انظر نسب قريش ص 27.(4/55)
فدخل أعرابي يومًا دار الْعَبَّاس فرأي عَبْد اللَّهِ فِي ناحية منها يفتي النَّاس ويعلمهم ويسألونه عَنِ الْقُرْآن فيفسره لَهُمْ، ورأى عُبَيْد اللَّه فِي ناحية أُخْرَى يطعم النَّاس، فَقَالَ: من أراد الدنيا والآخرة فليأتِ دار ابني الْعَبَّاس، هَذَا يفسر الْقُرْآن، وَهَذَا يطعم الطعام.
وَحَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ النَّوْفَلِيُّ عَنْ أَبِيهِ عن مشايخه قال: كانت بين الزبير ابن الْعَوَّامِ وَبَيْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ ضَيْعَةٌ بِالْقُرْبِ مِنَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا قُتِلَ الزُّبَيْرُ سَأَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ ابْنَ جَعْفَرٍ أَنْ يُقَاسِمَهُ فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ، وَوَعَدَهُ الْبُكُورَ مَعَهُ إِلَيْهَا. وَمَضَى ابْنُ الزُّبَيْر إِلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ وَعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ وَإِلَى جَمَاعَةٍ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فَسَأَلَهُمْ أَنْ يَحْضُرُوا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ جَعْفَرٍ، فَأَجَابُوهُ وَغَدَوْا لِمِيعَادِهِ، وَوَافَاهُمُ ابْنُ جَعْفَرٍ، وَجَاءَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مَعَهُ بِجَزُورٍ وَدَقِيقِهُ وَقَالَ لِوَكِيلِهِ: أَنِخِ الْجَزُورَ نَاحِيَةً وَاسْتُرْ [1] أَمْرَهَا وَلا تُحْدِثَنَّ فِيهَا حَدَثًا حَتَّى آمُرَكَ فَإِنِّي لا آمَنَ انْتِقَاضُ هَذَا الأمْرِ بَيْنِي وَبَيْنَ ابْنِ جَعْفَرٍ، ثُمَّ سَأَلَ الْقَوْمَ أَنْ يَسْأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ أَخَذَ الْغَامِرِ [2] مِنَ الضَّيْعَةِ وَتَسْلِيمَ الْعَامِرِ [3] لَهُ، فَكَلَّمُوهُ فَأَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ، وَجَاعَ [4] الْقَوْمُ حَتَّى تَشَاكُوا الْجُوعَ. فَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ: لَوْ كَانَتِ الْبَرَاذِينُ تُؤْكَلُ أَطْعَمْتُكُمْ بَرْذُونِي، وَقَالَ الْحُسَيْنُ: لَوْ كَانَتِ الْبِغَالُ تُؤْكَلُ أَطْعَمْتُكُمْ بَغْلِي، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ: لَكِنَّ الْبَخَاتِيَّ تُؤْكَلُ، وَكَانَ تحته بختيّة قد ريضت فَأَنْجَبَتْ فَنَهَضَ إِلَيْهَا فَكَشَطَ عَنْهَا رَحْلَهَا، وَأَخَذَ [5] سَيْفَهُ فَوَجَأَ بِهِ لَبَّتَهَا، وَنَهَضَ النَّاسُ إِلَيْهَا بِكَسْرِ المَرْوِ وَالسَّكَاكِينَ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْلُخُونَهَا، وَأَخَذُوا لَحْمَهَا وَأَوْقَدُوا سَعَفَ النَّخْلِ، وَبَعَثَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ فَأَتَوُا بِقُدُورٍ وَخُبْزٍ كَثِيرٍ فَشَوَوْا وَطَبَخُوا، فَلَمْ يَشْعُرِ ابْنُ الزُّبَيْرِ إِلا بِرِيحِ القثاء وَبِالدُّخَانِ، فَظَنَّ أَنْ [6] وَكِيلَهُ نَحَرَ جَزُورَهُ، فَجَعَلَ يَشْتُمُهُ وَيَعْذِلُهُ، فَقَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، إِنَّ جزورك على
__________
[1] ط: استتر.
[2] ط: العامر.
[3] ط: الغامر.
[4] ط: جاء.
[5] ط: فأخذ.
[6] «ان» ليست في ط.!(4/56)
حالها، ولكن عبيد الله ابن عَبَّاسٍ [1] أَطْعَمَهُمْ بِخْتِيَّتَهُ، فَأَكَلَ الْقَوْمُ وَانْصَرَفُوا، وَأُتِيَ عُبَيْدُ اللَّهِ بِدَابَّةٍ فَرَكِبَهَا وَانْصَرَفَ.
وَحَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح عَن ابْن كِنَاسَةَ عَن الْقَاسِمِ بْنِ مَعْنٍ قَالَ: أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُضَارَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ، فَأَتَى وُجُوهَ النَّاسِ بِالْمَدِينَةِ فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَحْضُرُوا غَدًا، فَأَتَاهُ النَّاسُ حَتَّى ملأوا دَارَهُ، فَلَمَّا رَأَى اجْتِمَاعَهُمْ أَرْسَلَ إِلَى السُّوقِ فَلَمْ يَتْرُكْ فَاكِهَةً إِلا أَتَى بِهَا، فَأَكَلُوهَا، وَبَعَثَ مَنْ هَيَّأَ لَهُمُ الطَّبِيخَ وَالشِّوَاءَ وَالْخُبْزَ والحلواء، فغدّوا غَدَاءً وَاسِعًا سَرِيًّا، فَلَمَّا انْصَرَفُوا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، أَلَيْسَ كُلَّمَا أَرَدْنَا مِثْلَ هَذَا وَجَدْنَاهُ؟ مَا أُبَالِي مَنْ هَجَمَ عَلِيَّ بَعْدَ يَوْمِي هذا.
وحدثني محمد ابن الأَعْرَابِيِّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ:
بَلَغَنِي أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ الْعَبَّاسِ وَفَدَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَصَحِبَهُ بَشَرٌ كَثِيرٌ فِي الرُّفْقَةِ فَكَانَ يُمَوِّنُهُمْ وَلَمْ يَدَعْ أَحَدًا مِنْهُم يُوقِدُ نَارًا وَلا يَتَكَلَّفُ شَيْئًا حتى ورد الشام [2] .
وحدثني محمد ابن الأَعْرَابِيُّ عَنِ الْهَيْثَمِ (554) عَنْ عَوَانَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
اضْطَرَّتِ السَّمَاءُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ وَهُوَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ إِلَى مَنْزِلِ أَعْرَابِيٍّ فَذَبَحَ الأَعْرَابِيُّ لَهُ عَنْزًا لَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهَا وَقَرَاهُ، فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ لِقَهْرَمَانِهِ مِقْسَمٍ مولاه:
كم معك؟ قال: خمسمائة دِينَارٍ، قَالَ: ادْفَعْهَا إِلَى الأَعْرَابِيِّ، فَقَالَ: إِنَّمَا ذَبَحَ لَكَ عَنْزًا قِيمَتَهَا خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَهُوَ رَجُلٌ لا تَعْرِفُهُ، قَالَ: هَبْنِي لا أَعْرِفُهُ أَمَا أَعْرِفُ نَفْسِي وَقَدْرِي؟ لَقَدْ فَعَلَ بِنَا أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلْنَاهُ بِهِ، بَذَلَ لَنَا مَجْهُودَهُ وَبَذَلْنَا لَهُ مَيْسُورَنَا.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ مَرَّ بِالأَعْرَابِيِّ وَهُوَ مُنْصَرِفٌ مِنْ سَفَرِهِ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَإِذَا لَهُ نَعَمٌ وَشَاءٌ وَعَبِيدٌ، فَسَأَلَهُ النُّزُولَ بِهِ وَقَالَ: هَذِهِ نِعْمَتُكَ وَفَضْلُكَ، فَأَخْبَرَهُ بِحَاجَتِهِ إِلَى إِغْذَاذِ السَّيْرِ وَالتَّعْجِيلِ ثُمَّ فَكَّرَ فَقَالَ: إِنِّي لأَخَافُ أَنْ يَظُنَّ الأَعْرَابِيُّ إِنَّمَا اعْتَلَلْنَا عَلَيْهِ كَرَاهَةَ أَنْ نَرْفدَهُ، فَرَدَّ وكيله اليه بخمسمائة دينار فقبضها، وأقبل
__________
[1] م: العباس.
[2] لم يرد هذا الخبر في ط.!(4/57)
مَعَ الْوَكِيلِ حِينَ رَجَعَ، فَقَالَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ، إِنَّ الْمَدْحَ لَيَقِلُّ لَكَ غَيْرَ أَنِّي أُنْشِدُكَ أَبْيَاتًا كُنْتُ قُلْتُهَا فِيكَ [1] ، فَأَنْشَدَهُ:
تَوَسَّمْتُهُ [2] لَمَّا رَأَيْتُ مَهَابَةً ... عَلَيْهِ فَقُلْتُ الْمَرْءُ مِنْ آلِ هَاشِمِ
أَوِ الْمرْءُ مِنْ آلِ الْمُرَارِ فَإِنَّهُمْ ... مُلُوكٌ وَأَبْنَاءُ الْمُلُوكِ الأَكَارِمِ
فَقُمْتُ إِلَى عَنْزٍ بَقِيَّةُ أَعْنُزٍ ... فَجَدَلْتُهَا فِعْلُ امْرِئٍ غَيْرِ نَادِمِ
فَعَوَّضَنِي مِنْهَا غِنَايَ وَجَادَ لِي ... بِمَا لَمْ يَجُدْ عَفْوًا بِهِ كَفُّ آدَمِي
فَقُلْ لِعُبَيْدِ اللَّهِ لا زِلْتَ سَالِمًا ... عَزِيزًا وَمَنْ عَادَيْتَهُ غَيْرَ سَالِمِ
وَكَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ يَقُولُ: ثَوْبُكَ على غيرك أحسن منه عليك.
وحدثني بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي الْحَكَمِ الصَّنْعَانِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ:
كَانَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ عَامِلا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَى الْيَمَنِ، فَأُهْدِيَ إِلَيْهِ عَنْبَرٌ وَحُلَلٌ وَذَهَبٌ، فَبَلَغَتْ قِيمَةُ ذَلِكَ مَالا عَظِيمًا، فَفَرَّقَ جَمِيعَ مَا أُهْدِيَ إِلَيْهِ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ، حَتَّى لَقَدْ كَانَ فِي مَنْزِلِهِ صَانِعٌ يُصْلِحُ دَرَجَةً لَهُ فَأَعْطَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَا قِيمَتُهُ مِائَتَا دِينَارٍ. قَالَ بَكْرٌ: وَسَمِعْتُ شَيْخًا مِنْ أهل اليمن يحدث عن عبيد الله ابن عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْجَوَّادُ مَنْ آسَى مِنَ الْكَثِيرِ وَآثَرَ بِالْقَلِيلِ. قَالَ، وَكَانَ يَقُولُ:
أَفْضَلُ الْجُودِ مَا عَدَّهُ الْجَاهِلُ سَرَفًا.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُودٍ الْكُوفِيُّ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، حَدَّثَنِي خَالِدٌ مَوْلَى بَنِي أُمَيَّةَ قَالَ:
وَفَدَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الْعَبَّاسِ عَلَى مُعَاوِيَةَ، وَكَانَ قَدْ جَعَلَ لَهُ حِينَ صَارَ إِلَيْهِ وَفَارَقَ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فِي كُلِّ سَنَةٍ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَيُقَالُ أَلْفَيْ أَلْفَ دِرْهَمٍ، فَأَعْطَاهُ مُعَاوِيَةُ مَا جَعَلَ لَهُ، فَمَا رَامَ دِمَشْقَ حَتَّى قَسَمَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَهُ. فَقِيلَ لَهُ: أَسْرَفْتَ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَوْلا لَذَّةُ الإِعْطَاءِ وَاكْتِسَابِ الْمَحَامِدِ مَا بَالَيْتُ أَلا أَكْتَسِبَ الْمَالَ وَأَلا أَرَى مُعَاوِيَةَ وَلا يَرَانِي.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَن الْوَاقِدِيِّ قَالَ: كَانَ عُبَيْد اللَّه بْن عَبَّاس عاملًا لعلي عَلَى اليمن، وَهُوَ أحد من نزل فِي قبر عَلِي حِينَ قُبر بالكوفة. ولم يزل
__________
[1] م: فيه.
[2] ط: توسمت.!(4/58)
مَعَ الْحَسَن بْن عَلِي حَتَّى عرف زهادته في الأمر فصار إِلَى مُعَاوِيَة. قَالَ: ويقال إِن عليًا ولاه الموسم سنة ست وثلاثين فأقام [1] لِلنَّاسِ الحج ثُمَّ شخص إِلَى اليمن واليًا. قَالَ: ويقال إِن عليًا ولاه أيضًا الموسم سنة سبع وثلاثين فقدم من اليمن فأقام الحج ثم رجع [2] .
وقال الواقدي حدثني ابن جعدة عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كَانَ عُبَيْدُ الله (555) ابن عَبَّاسٍ جَالِسًا فِي الْمَسْجِدِ فَسَقَطَتْ دَارٌ عِنْدَ الصَّفَا، فَارْتَاعَ مَنْ حَضَرَهُ وَنَهَضُوا يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، وَبَقِيَ مَعَهُ فَتًى أَنْصَتَ لِحَدِيثِهِ وَاسْتَمَعَهُ حَتَّى قَضَاهُ، فَقَالَ لِوَكِيلِهِ:
مَا بَقِيَ عِنْدَكَ؟ قَالَ: أَلْفُ دِينَارٍ، قَالَ: أَعْطِ [3] الْفَتَى ثُلُثَيْهَا وَاحْبِسْ لَنَا ثُلُثَهَا.
قَالُوا: وَكَانَ ينحر ويطعم النَّاس، وكانت مجزرته [4] فِي السوق، وَهِيَ تعرف بمجزرة ابْن عَبَّاس.
قَالُوا: وتوفي عُبَيْد اللَّه بْن العباس رضي الله تعالى عَنْهُ بالمدينة فِي أَيَّام مُعَاوِيَة.
ويقال إنه كفّ بصره.
وَقَالُوا [5] : مرَّ معن بْن أوس المزني [6] بعبيد اللَّه بْن الْعَبَّاس وَقَدْ ضعف بصره [7] فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ حالك؟ قَالَ: قَدْ كثر ديني وضعفت [8] حالي وانشده:
خذت بعين المال حَتَّى نهكته ... وبالدَّين حَتَّى مَا أكاد أُدانُ
وحتى طلبت [9] القرضَ عِنْدَ ذوي الغنى ... وردَّ فلانٌ حاجتي وفلان
فَقَالَ: كم دينك؟ قَالَ عشرة آلاف، فأعطاه إياها، فَقَالَ في عبيد الله:
__________
[1] ط: واقام.
[2] يكرر ط هذه الرواية مع اختلاف بسيط كما يلي: «وقال الواقدي: حدثني ابن جعدة عن صالح ابن كيسان قال: وكان ... ،... من شرك في قبر ... واقام للناس الحج ... »
[3] ط: اعطي.
[4] ط: مجزورته.
[5] انظر الخبر في الاغاني ج 12 ص 51- 52.
[6] د: المري. انظر جمهرة الأنساب ص 202.
[7] في الأصل: بصر عبيد الله، والتصويب من الاغاني.
[8] ط: ضعف.
[9] الاغاني ج 12 ص 52: سألت.!(4/59)
إنّك فرعٌ من قريش وإنما ... تمجُّ الندى منها البحور الفوارعُ [1]
همُ قادة للدين [2] ، بطحاءُ مكةٍ ... لَهُمْ [3] وسقاياتُ الحجيج الدوافع
ولما دعوا للموتِ لَمْ تبكِ مثلهم ... عَلَى حدثِ الدهر العيونُ الدوامع
وولد لعبيد اللَّه [4] بْن الْعَبَّاس، الْعَبَّاس وعبد اللَّه وَجَعْفَر والعالية، أمهم عَائِشَةُ بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن عَبْدِ المدان [5] بْن الديّان الحارثي، والعالية هي أم مُحَمَّد ابْن عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْعَبَّاس. وعبد الرَّحْمَن بْن عُبَيْد اللَّه وقثم بْن عُبَيْد اللَّه، وأمهما أم حَكِيم بِنْت فارط [6] واسمها جويرية، وهما اللذان ذبحهما بسر ابن أبي ارطاة، وقد كتبنا خبرهما في الغارات [7] بَيْنَ عَلِي ومعاوية. وميمونة تزوجها عَبْد اللَّهِ ابن عَلِي بْن أَبِي طَالِب، وقتل مَعَ مُصْعَب بْن الزُّبَيْر، ثُمَّ خلف عَلَيْهَا أَبُو سَعِيد ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْن الحارث بْن هِشَام المخزومي ثم نافع بن جبير ابن مطعم.
ومن ولد عُبَيْد اللَّه بْن عَبَّاس، قثم بْن الْعَبَّاس بْن عُبَيْد اللَّه ولاه أميرُ الْمُؤْمِنيِنَ المنصورُ اليمامة وَكَانَ سخيًا ومدحه ابْن المولى [8] فَقَالَ:
عتقِت [9] من حل ومن رحلةٍ [10] ... يَا ناقُ إِن أدنيتني من قثم
__________
[1] ط: للفوارع.
[2] الاغاني: ثووا قادة للناس.
[3] سقطت من ط.
[4] انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 6، ونسب قريش ص 31- 32.
[5] ط: الدار. انظر جمهرة الأنساب ص 416، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 259، ونسب قريش ص 31.
[6] في نسب قريش: قارظ.
[7] ط، م: الغازات.
[8] انظر جمهرة النسب (خط) ص 18، والمرزباني- معجم الشعراء ص 342. ووردت الأبيات من قصيدة لداود بن سلم في الحماسة البصرية ج 1 ص 123- 4، وفي الاغاني ج 6 ص 21، وورد البيتان الاول والثالث باختلاف في شرح نهج البلاغة ج 1 ص 341، والكامل للمبرد ج 2 ص 229، وخزانة الأدب ج 1 ص 453، ونسب قريش ص 33، والامالي ج 1 ص 219.
[9] في الحماسة البصرية والكامل: نجوت، وفي خزانة الأدب: غنيت.
[10] في الاغاني وجمهرة النسب ونسب قريش: من حلي ومن رحلتي، وفي شرح نهج البلاغة: من كور ومن رحلة، وفي خزانة الأدب: من حلي ومن رحلي.(4/60)
إنكِ إِن بلغِتِنيه [1] غدًا ... عاش لنا [2] اليُسرُ وَمَاتَ [3] العدم
فِي باعه طولٌ وَفِي وجهه ... نور [4] وَفِي العِرْنِين منهُ شمم
وَقَالَ الراجز [5] :
يَا قُثَم الخيرِ جُزِيتَ الجنَّة ... أُكسُ بنياتي وأمّهنّه
والله والله [6] لتفعلنّه
فَقَالَ: والله لأفعلن وأعطاه مالًا. ومرَّت جارية جميلة الوجه (556) حسنة القد بقثم وَدَاوُد بْن سلم وَهُوَ بالمدينة أَوْ بمكة قبل أَن يملك شيئًا فلم يمكنه ابتياعها لأنه لَمْ يكن عنده ثمنها، فَلَمَّا ولي قثم اليمامة اشترى الجارية رَجُل يُقَالُ لَهُ صَالِح فكتب داود بن سلم [7] إِلَى قثم:
يَا صاحبَ العيس ثُمَّ راكبها ... أبلغ [8] إِذَا مَا أتيتَهُ قثما
إِن الغزالَ الَّذِي أجاز بنا ... معارضًا إذ توسط الحرما
حوّله صالح فصار مع ال ... إنس وخلَّى [9] الوحوشَ والسلما
فأرسل قثم فِي طلب الجارية ليشتريها فوجدها قَدْ ماتت.
وسمر عِنْدَ قثم ليلة جلساؤه، وكانت ليلة باردة، فأمر فأوقدت نار عظيمة وَقَالَ: من وصفها فَلَه عشرة آلاف درهم [10] ، فأخبرني عَبْد الرَّحْمَن بْن حزورة [11] أَن أَبَاهُ قَالَ فِي ذَلِكَ، وَهُوَ من ولد جرير بن عطيّة:
__________
[1] في الاغاني وخزانة الأدب: ان ادنيت منه ... ، وفي الكامل: قربتنيه، وفي الامالي: أبلغتنيه.
[2] في الاغاني وخزانة الأدب: حالفني.
[3] خزانة الأدب: وزال.
[4] في الاغاني وخزانة الأدب: في وجهه بدر وفي كفه بحر ... ، وفي شرح نهج البلاغة وجمهرة النسب: في وجهه نور وفي باعه طول ...
[5] انظر نسب قريش ص 33.
[6] في نسب قريش: اقسم بالله.
[7] انظر الاغاني ج 6 ص 11 وما بعدها، ويرد الخبر في ص 19- 20.
[8] سقطت من ط.
[9] ط: حلى.
[10] يضيف م: «فقال بعض شعرائهم» ، وقد كتبت هذه الاضافة في د وشطبت.
[11] كتب في هامش ط، د: حزرة، مع اشارة (خ) .!(4/61)
لَمْ تر عيني كمثل ليلتنا ... والدهرُ فِيهِ طرائف العجب
إذ أُوقدتْ مَوهنًا تُشبُّ لنا ... نارُ فباتت تُحَشُّ بالحطب
يحشُّها بالضرام محتَرمٌ ... مطاوعٌ للرفيق ذو أدب
رفعها بالوقود فانتصبت ... ثُمَّ سمت للسماء باللهب
حمراء زهراء لا نماس لَهَا ... كأن فِيهَا صفائح الذهب
تزهر فِي مجلس لدى ملكِ [1] ... عفٍ نجيبٍ من سادة نُجُب
عذبِ السجياتِ لا يُرى أبدًا ... يقبض [2] وجهَ الجليس من غضب
وزعم بَعْضهم أَن هَذَا الشعر لعبد الأَعْلَى من ولد صفوان بْن أمية الجمحي فِي جَعْفَر بْن سُلَيْمَان [3] بْن عَلِي وَهُوَ بالمدينة وزاد فِيهِ هذين البيتين:
يمنعه البرُّ والوفاءُ ونفس ... بِدَنيِّ الأمور لَمْ تُشبِ
جيبت [4] لَهُ هاشم فوسطها ... جَوْبَ الرَّحى بالحديد للقُطب
ومن ولد عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس [5] أيضًا حُسَيْن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه الجواد [6] ، وأمه أسماء بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن الْعَبَّاس، وَكَانَ فقيهًا حُمل عَنْهُ الْحَدِيث، وَمَاتَ فِي سنة أربعين أَوْ إحدى وأربعين ومائة، وَكَانَ يكنى أبا عَبْد اللَّهِ.
وذكر بَعْضهم أَن الشعر الَّذِي يُقَالُ إنه للوليد بْن يَزِيد لَهُ، وَهُوَ [7] :
لا عيشَ إلا بمالك ابْن أَبِي السمح ... فلا تَلْحُني [8] ولا تَلُمِ
أبيضُ كالسَيْف أَوْ كَمَا يلمع البرق [9] ... في حالك من الظّلم
__________
[1] ط: لذي ملك.
[2] ط: بقبض.
[3] ط، م: عثمان. انظر جمهرة الأنساب ص 34.
[4] ط: جيب، م: جبيت.
[5] انظر نسب قريش ص 31.
[6] انظر الاغاني ج 12 ص 60 وما بعدها.
[7] من قصيدة لحسين بن عبد الله في الاغاني ج 5 ص 101، وترد الأبيات في نسب قريش ص 34.
[8] ط: يلحني.
[9] في الاغاني: ابيض كالبدر او كما يلمع البارق ... ، وانظر ج 5 ص 92، وفي نسب قريش:
البارق.!(4/62)
والحسن بْن عَبْدِ اللَّهِ أخوه [1] ، وأمه أيضًا أسماء بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن الْعَبَّاس، وأم أسماء أم ولد، وَفِي الْحَسَن يَقُول الراجز:
أعني ابْن أسماء الَّذِي توثقا ... من مجده يوما فما تفرّقا
كانا حليفين معًا فاتفقا ... عفوًا كَمَا وافق حُقّ طبقا [2]
وكانت عِنْدَ الْحَسَن [3] هَذَا لبابةُ بِنْت الفضل بْن عَبَّاس بْن عتبة بْن أَبِي لهب الشاعر [4] فولدت لَهُ أسماء بِنْت حسن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْد اللَّهِ بْن العباس، وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تسكن الْمَدِينَةَ، ورفعت السواد عَلَى منارة مَسْجِد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زمن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن حِينَ دَخَلَ عِيسَى بْن مُوسَى الْمَدِينَة، فكسر ذَلِكَ المبيضة [5] .
وَقَالَ الزُّبَيْر بْن بكار: كَانَ حُسَيْن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس يسكن الْمَدِينَةَ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الْحَدِيث، وَكَانَ يَقُول (557) الشعر، وكانت عنده عابدة [6] الحسناء بِنْت شُعَيْب بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَمْرو بْن العاص فقال فيها:
أعابد [7] حيّيتم على النّأي [8] عابدا [9] ... سقاك الإله المسبلات الرواعدا
أعابد [10] مَا شمسُ النهار إِذَا بدت ... بِأحسن مِمَّا بَيْنَ عينيك عابِدا
وهل أَنْتَ إلا دُميةٌ فِي كنيسةٍ ... يظل [11] لَهَا البطريقُ بالليل ساجدا
وَكَانَ بَكار بْن عَبْدِ الْمَلِك خطب عابدة هذه فأبته وتزوجت حسينا، فقال
__________
[1] انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 6، واخبار الدولة العباسية ص 118.
[2] المثل هو: وافق شنّ طبقة، الميداني ج 2 ص 211 وبهامشه جمهرة الأمثال لابي هلال العسكري ج 2 ص 246.
[3] د: حسن.
[4] سقطت كلمة «الشاعر» من م.
[5] انظر نسب قريش ص 33.
[6] في الأصل: عائدة، والتصويب من الاغاني ج 12 ص 60 ونسب قريش ص 32 وص 33.
[7] م: اعايد.
[8] م: المناى.
[9] الأصل: عائدا.
[10] م: اعايد.
[11] في نسب قريش: يبيت.!(4/63)
لَهُ بكار بْن عَبْدِ الْمَلِك: كَيْفَ تزوجتك عَلَى فقرك؟ فَقَالَ حُسَيْن: أتعيرنا بالفقر وَقَدْ نحلنا اللَّه الكوثر [1] .
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب يعاتب حسينًا، وَكَانَ لَهُ صديقًا ثم تنكّر ما بينهما [2] :
إنّ ابنَ عَمِّك وابنَ أمك ... معلم شاكي السِّلاحِ
لا تحسبن أذى ابْن عَمّك ... شرب ألبان اللقاح
بل (كالشجاة) [3] ورا اللهاةِ إِذَا ... جرعت من القراح [4]
يقص [5] العدو وليس يرضى ... حِينَ يبطشُ بالجراح
فاحتل [6] لنفسك مَنْ يجيبك [7] ... تَحْتَ أطراف الرماح
من لا يزال يسوؤه [8] ... بالغيبِ أنْ يَلْحاك لاح
وَقَالَ حُسَيْن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه:
أبرِق لمن يخشى وأر ... عد [9] غَيْرَ قومِكَ بالسلاحِ
وَقَالَ عُبَيْد اللَّه بْن مُعَاوِيَة:
قل لذي الْوُدِّ والصفاء حُسَيْن ... أقدر الود بيننا قدره
لَيْسَ للدابغ المحُلم [10] بد ... من عتاب الأديم ذي البشره
__________
[1] انظر الاغاني ج 12 ص 61.
[2] انظر الخبر والشعر في الاغاني ج 12 ص 61، ويرد البيتان الاول والأخير في نسب قريش ص 34.
[3] الأصل: الشحى، والتصويب من الاغاني.
[4] الاغاني ج 12 ص 62: إذا تسوغ بالقراح.
[5] م: يقصي.
[6] الاغاني: فاختر.
[7] م: نجيبك.
[8] ط وم: يسوء.
[9] في الاغاني: اوعد. وانظر نسب قريش ص 34.
[10] ط: المحتم.!(4/64)
لستُ أَن زاغ [1] ذو إخاء وود ... عَن طريق بتابع [2] أثره
بَل أُقيمُ القناة والود حتى ... يتبع الحقّ بعد أو أذره [3]
وَأَمَّا قثم بْن الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ [4]
فكان يشبه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ الْعَبَّاس يَقُول لَهُ فِي صغره:
أيا بنيَّ يَا قثم ... ويا شبيهَ ذي الكرمْ
منا وذي الأنف الأشم
وبلغني ان الحسين بْن عَلِي كَانَ أخاه من الرضاع، أرضعته لبابة بِنْت الْحَارِث امْرَأَة الْعَبَّاس، وكانت لبابة رأت كأن عضوًا من أعضاء النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بيتها، [فَقَالَ لَهَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تلد فاطمة ولدًا وتكفلينه [5] ، فأتت به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا فبال عَلَيْهِ فقرَصَتْهُ فبكى، فَقَالَ: بكيتِ ابني، وأُتي بماء حدره [6] عَلَى البول حدرًا] .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: ولي عَلِي بْن أَبِي طَالِب قثم بْن الْعَبَّاس مَكَّة، وَهُوَ كَانَ عامله عَلَيْهَا وعلى الموسم فِي سنة تسع وثلاثين حِينَ وجه مُعَاوِيَة يَزِيد بْن شجرة الرُّهاوي لإقامة الحج وأخذ البيعة لَهُ، فقام قثم خطيبًا حِينَ بلغه إقبال ابْن شجرة، فَحَمِدَ اللَّه وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى الله عليه وسلم ثُمَّ قَالَ: أما بَعْد فَإِنَّهُ قَدْ أقبل إليكم جيش من الشام عظيم، وَقَدْ أظلكم، فَإِن كنتم عَلَى طاعتكم وبيعتكم فانهضوا (558) معي إليهم حَتَّى أناجزهم، فَإِن كنتم غَيْر فاعلين فأبينوا لي امركم ولا تغرّوني من أنفسكم، فَإِن الغرور حيفٌ يضل مَعَهُ الرأي ويصرع بِهِ الأريب.
فلم يجبه أحد، فأراد التنحي ثُمَّ أقام، واصطلح الناسُ عَلَى ان اقام الحج شيبة ابن عثمان بن طلحة العبدري.
__________
[1] ط ود: راغ.
[2] في ط: يتابع.
[3] ط، د: اثره.
[4] جمهرة النسب ج 1 لوحة 6.
[5] م: تكفليه.
[6] م: فحدره.(4/65)
وَقَالَ هِشَام بْن الْكَلْبِيِّ: من زعم أَن أحدًا من ولد الْعَبَّاس كَانَ عَلَى الموسم فِي تلك السنة- عُبَيْد اللَّه أَوْ معبدًا أَوْ تمامًا- فَقَدْ غلط.
قَالُوا: وشخص قثم إِلَى خراسان غازيًا مَعَ سَعِيد بْن عُثْمَان بْن عَفَّان، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ ولي سعيدًا خراسان، فَقَالَ لَهُ سَعِيد فِي بَعْض غزواته: يَا ابْن عم، أضرب لَك بمائة سهم. فَقَالَ: يكفيني سهم واحدٌ لي وسهمان لفرسي أسوةَ الْمُسْلِمِينَ، وَمَاتَ بسمرقند ويقال استشهد بِهَا ولا عقب لَهُ. وَيُرْوَى عَنْ قثم أَنَّهُ قَالَ: الجواد من إِذَا سُئل أعطى عطية مكافٍ عَلَى يد عظيمة، ورأى مَنْ بَذَلَ وَجْهَهُ إليه متفضّلا عليه.
وَأَمَّا معبد بْن الْعَبَّاس
فشخَصَ فِي خلافة عُثْمَان غازيًا إِلَى إفريقية، وعلى الجيش عَبْد اللَّهِ بْن سَعْد بْن أَبِي سرح العامري من قريش، فقتل بِهَا شهيدًا، وأخذت سرية لَهُ حبلى فولدت جارية يُقَالُ لَهَا أُبيَّة ثُمَّ استنقذت. وتزوج أُبيه بِنْت معبد يريمُ بْن معدي كرب بْن أبرهة الحميري [1] ، فولدت لَهُ النضر [2] بْن يريم. وَكَانَ عم يريم هَذَا وَهُوَ شمر بْن أبرهة مَعَ عَلِي فقتل مَعَهُ بصفين، وَكَانَ متزوجًا بابنة أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ.
وَقَالَ بَعْضهم: أَبِيهِ بِنْت معبد جاريةٌ إفريقية قدمت بِهَا أمها، فأمرهم عَلِي ابن أَبِي طَالِب أَن يقروا [3] بِهَا، فتزوجها يريم [4] بن معدي كرب ويكنى معدي كرب أبا الشعثاء. وَكَانَ معبد يكني أبا عَبْد الرَّحْمَن، ومن ولده عبد الله الاكبر ابن معبد وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ الْحَدِيث. ومن ولد معبد مُحَمَّد بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ بْن عبد الله ابن معبد [5] ، والعباس بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن معبد، ولاه [6] أبو العباس امير المؤمنين مكة والطائف، وَكَانَ أول من سود بالحجاز فِي الدولة. وَكَانَ مُحَمَّد بْن مُحَمَّد وأخوه الْعَبَّاس من رجال بَنِي هاشم، وَكَانَ مُحَمَّد لَسِنًا خطيبًا عالما، ولاه امير المؤمنين
__________
[1] م: المخترى. انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 278.
[2] ط: النصر. انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 278، وجمهرة الأنساب ص 435.
[3] هامش ط، د، م: يقربوها.
[4] م: بريم.
[5] العبارة «وقد روي ... بن معبد» ليست في ط.
[6] ط: ورده.!(4/66)
الْمَأْمُون أصبهان، وَكَانَ مقدمًا عِنْدَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمُعْتَصِم بالله، وَمَاتَ فِي خلافته حاجًا ودفن بالعَرْج، وَهُوَ الَّذِي منزله ببغداد عِنْدَ دار القطن، وكان يكنى أبا عبد الله.
وَأَمَّا عَبْد الرَّحْمَن بْن الْعَبَّاس
فلا بقية لَهُ، وَكَانَ أصغر أخوته، مَاتَ فِي طاعون عمواس بالشام، ويقال استشهد يَوْم اليرموك فِي خلافة عُمَر. وَكَانَ قَدْ ولد لعبد الرَّحْمَن عبدُ الرَّحْمَن بْن عَبْدِ الرَّحْمَن سمي باسم أَبِيهِ، درج، وَقَالَ بَعْضهم: قتل عَبْد الرَّحْمَن بإفريقية وَذَلِكَ غلط.
وَأَمَّا تمام بْن الْعَبَّاس
فكان ذا بطش وأقدام، وَكَانَ يكنى أبا جَعْفَر. وزعم ابْن دأب أَن عليًا ولاه مَكَّة وأنه كَانَ عَلَيْهَا حِينَ قدمها ابْن شجرة من قبل مُعَاوِيَة وليس ذَلِكَ بثبتٍ. فولد تمام جعفرَ بْن تمام وقثم بْن تمام. وكانت ابْنَة لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور عِنْدَ يَحْيَى بْن جَعْفَر بْن تمام، ويقال بَل كَانَتْ عِنْدَ ابنٍ لقُثَم بْن تمام.
وَكَانَ آخر من بقي من ولد تمام يَحْيَى بْن جَعْفَر، وَكَانَ الْمَنْصُور معجبًا بِهِ محبًا لَهُ، فَلَمَّا مَاتَ لَمْ يكن لَهُ عقب، فورثه بنو عَلِي، فوهبوا ميراثهم منه لعبد الصمد ابن عَلِي.
وَأَمَّا كثير بْن الْعَبَّاس
فكان فقيهًا صالحا حمل عنه الحديث، وكان ينزل بقريش [1] عَلَى فراسخ [2] من الْمَدِينَةِ، فيأتي الْمَدِينَةَ فِي كل جمعة وينزل دار أَبِيهِ الْعَبَّاس فَإِذَا صلى انصرف. وكتب كثير عَلَى كفنه الَّذِي أمر أَن يكفن فيه: كثير ابن الْعَبَّاس يشهد (559) أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّه وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ [3] وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسوله. ووُلد لكثير الْحَسَن بْن كثير، درج.
وَقَالَ بَعْضهم: ولد لَهُ يَحْيَى، أمه أم كلثوم الصغرى بِنْت عَلِي بْن أَبِي طَالِب فدرج.
واما الْحَارِث بْن الْعَبَّاس
وَهُوَ ابْن الهُذلية، وَقَالَ [4] بعضهم أمه أم ولد، فكان
__________
[1] د، م: قريش. انظر المغانم المطابة في معالم طابة للفيروز آبادي ص 337- 8، وياقوت (ط. بيروت) ج 4 ص 336.
[2] ط: فرسخ.
[3] «وحده لا شريك له» سقطت من م.
[4] ط: فقال.!(4/67)
يلقب أبا عضل، وَكَانَ الْعَبَّاس وجد عَلَيْهِ فلحق بالزبير بْن الْعَوَّام وَهُوَ ببعض مغازيه، فانصرف بِهِ مَعَهُ، فكلمه فِيهِ فرضي عَنْهُ.
وقال هشام ابن الْكَلْبِيِّ والهيثم بْن عدي: طرد الْعَبَّاسُ الْحَارِث فأتى الشام ثُمَّ صار إِلَى الزُّبَيْر وَهُوَ بمصر، فَلَمَّا قدم الزُّبَيْر قدم بِهِ مَعَهُ وأتى بِهِ الْعَبَّاس فَلَمَّا رآه قَالَ لَهُ: يَا زبير جئتني بأبي عضل لا وصلتك رحمٌ نحَّه عني، فمات الْعَبَّاس وَعمِي الْحَارِث بعده فَقَالَ حِينَ عَمِيَ: كُلا زعمتم أَنَّهُ لَيْسَ أَبِي وأني لست ابنه وَقَدْ عَميتُ كَمَا عَمي.
ومن ولد الْحَارِث بْن الْعَبَّاس السري بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَارِث [1] ، ولاه الْمَنْصُور مَكَّة ويقال ولاه الْمَدِينَةَ وولاه اليمامة، ومدحه ابْن هرمة [2] فَقَالَ:
فأنتَ من هاشم [3] فِي بيتِ مكرمةٍ ... تنمى إِلَى كُل ضخم المجدِ صنديدِ
ومن بَنِي الخزرج الأخيار مولده ... بَيْنَ العَتيكين والبهلولِ مَسْعُود
قومٌ همُ أيدوا الاسلام إذ صبروا ... للسيف [4] فالله ذو نصر وتأييد
ذاك السري الَّذِي لولا تدفقه ... بالعرف [5] بُدنا [6] حليف المجد والجود
وأم السري جمال [7] بِنْت النعمان بْن أَبِي حزم [8] بْن عتيك بْن النعمان بْن عَمْرو بْن عتيك بْن عَمْرو بْن مبذول وهو عامر بن مالك بن النجار [9] ، ومسعود بن أوس ابن زَيْد بْن ثَعْلَبَة أحد بَنِي غَنْم بْن مَالِك بْن النجار. وَكَانَ السري جوادًا ممدوحًا [10] وَلَهُ يَقُول نوح بْن جَرِير بْن عطية:
__________
[1] انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 6.
[2] لم ترد هذه الأبيات في الديوان.
[3] م: بني هاشم.
[4] سقطت كلمة «للسيف» من ط.
[5] سقطت «بالعرف» من م.
[6] م: بدتا.
[7] ط: بنت جمال.
[8] د: احزم، مع اشارة (صح) ، واسمه سهل. انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 186.
[9] سقط «ابن» من ط.
[10] م: ممدحا.!(4/68)
ورثتُ أَبِي قصائدَ محكماتٍ ... وَكَانَ الشَّيْخ شيخًا عُدمُليّا [1]
لَقَدْ صدق الَّذِي سماك لما ... تباشرتِ النساءُ بكَ السريا
وَلَهُ يَقُول حبيب بْن شوذب حِينَ عزل عَنِ اليمامة:
راح السري وراح الجودُ يتبعه ... وإنما النَّاس مذموم ومحمودُ
لَقَدْ تروَّحَ إذ راحتْ ركائبُهُ ... من أرض حجرٍ، وربِّ الْكَعْبَة، الجود
من كَانَ يضمنُ للسؤال حاجتهم ... ومن يقولُ إِذَا أعطاهم عودوا
وله يقول الفزاري [2] :
سريُّ لقاك مليكُ الأمر ... الأجرَ ذخرًا وَهُوَ خيرُ ذخِر
عافيةَ الدنيا وَيَوْمَ الحشر ... وَشَرُّ مَا تدري وَمَا لا تدري
مَا بكَ عَنْ مكرمةٍ من قصر ... وأنت بَعْد اللَّه معطي الوفر [3]
ومطعمُ البطنِ وكاسي الظهر
وَقَالَ الحنفي:
ان السريّ بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لنا ... خيرًا وَكَانَ وفيًا بالذي زعما
مَا إِن رأيتُك فِي قوم وإن كثروا ... إلا تبينتُ فِي عرنينك الكرما
نلقاك فِي الأمرِ مفضالًا أَخَا كرمٍ ... وَفِي الهزاهزِ ليثًا تضرب [4] البُهما
ومن ولد عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَارِث بْن الْعَبَّاس (560) بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ الزُّبَيْر بْن الْعَبَّاس بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَارِث بْن الْعَبَّاس، ولي السند، وَلَهُ يَقُول ابْن هرمة:
عمدتُ إِلَى الزُّبَيْر وسيط فهر ... وقد حمد الاقارب والصديق
__________
[1] ط: اعد مليا.
[2] ط: الفرزدق الفرازي، د: الفرزدق، وفي الهامش الفزاري، م: الفرزدق. والرجز لا يوجد في ديوان الفرزدق ولم اعثر على ذكر لفرزدق فزاري.
[3] ط: الوقر.
[4] م: يضرب.!(4/69)
كريم في الأرومة من قريشٍ ... يزين فعَاله الحسبُ العتيقُ
وَقَدْ بُني الزُّبَيْر عَلَى سماحٍ ... وَمَا زالت مكارمُهُ تروق [1]
وَأَمَّا عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ
فولد [2] الْعَبَّاس وَبِهِ كَانَ يكنى.
وزعم بَعْضهم أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لِلْعَبَّاسِ الأعنق [3] ، ومحمد بْن عَبْدِ اللَّهِ، وعلي بْن عَبْدِ اللَّهِ، ويكنى أبا مُحَمَّد وَهُوَ السجاد، ولد ليلة قتل عَلِي بْن أَبِي طَالِب فسماه أَبُوهُ عليًا، وَكَانَ مُعَاوِيَة أراده عَلَى أَن يسميه مُعَاوِيَة فأبى. وَكَانَ عَلِي يصلي فِي كُل يَوْم وليْلة ألف ركعة، ويقال ألف سجدة [4] . وعبيد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ، والفضل، وعبد الرَّحْمَن، ولبابة تزوجها إِسْمَاعِيل بْن طَلْحَة بْن عُبَيْد اللَّه وخلف عَلَيْهَا عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر، وأمهُمْ زرعة بِنْت مِشْرَح بْن معد يكرب بْن وليعة [5] بْن مُعَاوِيَة بْن شُرَحْبِيل بْن مُعَاوِيَة بْن حُجر القَرِد بْن الْحَارِث الولادة بْن عَمْرو بْن مُعَاوِيَة بْن الْحَارِث بْن مُعَاوِيَة بْن ثور، ويقال وليعة بن شرحبيل بن معاوية ابن حُجر، والقَردُ فِي كلامهم الجواد، وثور هُوَ كندي بْن عفير [6] . وأسماء بِنْت عَبْد اللَّهِ بن عباس، أمها أم ولد، تزوجها عَبْد اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس [7] .
فأما الْعَبَّاس بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْعَبَّاس
فولد [8] لَهُ ابْن يُقَالُ لَهُ عون وَبِهِ كَانَ يكنى وأمه حبيبة بِنْت الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام، فدرج ولا عقب لَهُ.
وَأَمَّا مُحَمَّد بْن عَبد اللَّه بْن العباس بن عَبْد الْمُطَّلِبِ
فولد لَهُ الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْعَبَّاس وَهُوَ المُذهب، وَكَانَ بارع الجمال سخيّا، مدحه الأخطل فقال:
__________
[1] لم ترد هذه الأبيات في الديوان.
[2] انظر نسب قريش ص 28- 29، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 6.
[3] في ط: الأعتق. انظر اخبار الدولة العباسية ص 117، ونسب قريش ص 28.
[4] انظر الكامل للمبرد ج 2 ص 217، والعقد الفريد ج 5 ص 103، وشرح نهج البلاغة ج 15 ص 234، وابن خلكان- وفيات الأعيان ج 3 ص 274- 278.
[5] ط: وكيعة.
[6] انظر اخبار الدولة العباسية ص 117، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 239، وجمهرة الأنساب ص 428، والطبري س 1 ص 2013، والمنتخب من ذيل المذيل س 4 ص 2497، ونسب قريش ص 28- 29.
[7] انظر اخبار الدولة العباسية ص 118، نسب قريش ص 29.
[8] انظر نسب قريش ص 31.(4/70)
ولقد غدوت عَلَى التجار [1] بمُسمحٍ ... هرت عواذله هريرَ الأكلبِ
لذٍ يقبله [2] النعيم كأنما ... مُسِحت ترائبه [3] بماء مُذْهب
لباسِ أرديةِ الملوك تَرُوقُه [4] ... من كُل مرتقبٍ عيونُ الربرب
ينظرن من خلل الستور إِذَا بدا ... نظر الهِجان إِلَى الفنيق المصعب
خَضِل الكياس إِذَا تنشى [5] لَمْ يكن ... خلفا مواعده كبرق الخُلب
فوهب لَهُ ألف دِينَار فقضى بِهَا دينه. وإنما سمي مذهبًا [6] لجماله وحسن لونه، وَقَالَ بَعْضهم: المذهب عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَقَالَ بَعْضهم:
هُوَ الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ، وَالأَوَّل اثبت. وَكَانَ الْعَبَّاس المذهب ركب فرسًا فصرعه فمات، وأمه أم إِبْرَاهِيم بِنْت المسور بْن مخرمة بْن نوفل الزُّهْرِيّ ولا عقب لَهُ ولا لأحدٍ من ولد عبْد اللَّه بْن الْعَبَّاس سِوَى عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس السجاد [7] .
وذكروا أَنَّهُ كَانَ لعَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس أيضًا ابْن يُقَالُ لَهُ عُثْمَان، درج، وأمه أم ولد.
فولد عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ
[8] ، مُحَمَّد بْن عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ ذو الثفنات، شُبِّه أثر السجود بجبهته وأنفه ويديه [9] بثفنات البعير، ويكنى أبا عَبْد اللَّهِ وأمه العالية بِنْت عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس، وَكَانَ بينه وبين أَبِيهِ أربع عشرة سنة وأشْهُر، فَلَمَّا شابا خَضب عَلِي بالسواد (561) وخضَب مُحَمَّد بْن عَلِي بالحناء فلم يكن يفرق [10] بينهما
__________
[1] ط، م: البحار، والتصويب عن شرح ديوان الأخطل ص 328.
[2] ن. م.: لذ تقبله.
[3] م: ترابيه.
[4] شرح الديوان ص 328: يروقه.
[5] د: إذ انثنينا، وفي شرح الديوان ص 329: تشتى.
[6] ط: مذهب الحملة.
[7] انظر اخباره في اخبار الدولة العباسية ص 134 وما بعدها، والكامل للمبرد ج 2 ص 217 وما بعدها وج 1 ص 260.
[8] نسب قريش ص 29.
[9] في د: بيديه، وفي ط: يبديه.
[10] في ط: تفرق، د: نفرق.(4/71)
الا بخضابهما لتشابههما وقرب سن بعضهما من بَعْض [1] . وَدَاوُد وعيسى لأم ولد، وسليمان وصالحًا لأم ولد اسمها سُعْدَى. وإسماعيل وعبد الصمد لأم ولد. ويعقوب لأم ولد [2] . وعبد اللَّه الأكبر لأم ولد، ويقال لأم أبيها ابْنَة عَبْد اللَّهِ بْن جعفر ابن أَبِي طَالِب. وعبيد اللَّه وأمه حرشية. وعبد الْمَلِك وعثمان وعبد الرَّحْمَن، درجوا، وَهُمْ لأمهات شتى. وعبد اللَّه الأصغر الخارج بالشام وبعضهم يسميه الشماخ [3] وَلَهُ عقب. وَيَحْيَى وإسحاق ويعقوب وعبد الْعَزِيز وإسماعيل الأصغر وعبد اللَّه الأوسط وَكَانَ أحنف، درجوا وَهُمْ لأمهات شتى. وأمينة وأم عِيسَى تزوجها ابْن حسن بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبَّاس، ولبابة تزوجها ابْن قثم بْن الْعَبَّاس بْن عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس وهن لأمهات أولاد. وذكر أَبُو اليقظان، أَن أمينة ماتت وَلَمْ تزوج.
حدثني عباس بن هشام عن أبيه عن عَوَانَة بْن الحكم عَنْ أَبِيهِ قَالَ [4] : دَخَلَ عَبْد الْمَلِك بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن نُديرة [5] العذري عَلَى الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك فسأله حمالة لزمته فمنعه إياها وزبره وَقَالَ: أَنْتَ صهر لطيم الشَّيْطَان، يَعْنِي عَمْرو بْن سَعِيد الأشدق، فَقَالَ: أَنَا صهر أَبِي أمية عَمْرو بْن سَعِيد، وكانت عِنْدَ عَمْرو أم حبيب بِنْت حُرَيْث بْن سُليم العذري من بَنِي رزاح [6] فولدت لَهُ أمية وسعيدًا، فأنشأ العذري ينشد شعر يَحْيَى بْن الحكم بْن أَبِي العاص:
وَمَا [7] كَانَ عَمْرو عاجزًا غَيْر أَنَّهُ ... أتته المنايا بغتةً وَهُوَ لا يدري
فلو أَن عمرًا كَانَ بالشام زرته ... بأغوارها أَوْ حلَّ يومًا عَلَى مصر [8]
فَقَالَتْ أم البنين بِنْت عَبْد الْعَزِيز امْرَأَة الْوَلِيد، وَهِيَ جالسة خلف الستر: يا امير
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 161، وابن خلكان- وفيات الأعيان ج 4 ص 186.
[2] كلمة «ولد» سقط من م.
[3] في هامش ط، د: السفاح (خ) .
[4] انظر الرواية في اخبار الدولة العباسية ص 143- 4، وترد الأبيات في المسعودي ج 6 ص 218- 9.
[5] في م: نذيرة، وكذلك في اخبار الدولة العباسية ص 143.
[6] م: رزاخ.
[7] اخبار الدولة العباسية: فما.
[8] لا يرد هذا البيت في المسعودي، وفي اخبار الدولة العباسية: بأعوازها أو كان يوما ...(4/72)
الْمُؤْمِنيِنَ، من هَذَا الأحمق؟ فَقَالَ العُذري يعرض بأبيها [1] عَبْد الْعَزِيز بْن مَرْوَان وَكَانَ ضربه فِي الخمر:
وددت وَبَيْت اللَّه أني فديته ... وعبد العزيز يوم يضرب فِي الخمر
فَقَالَتْ: أجُرْأةً عليك؟ قَالَ: كُفّي قبل أَن يَأْتِي بخيط باطل، وَكَانَ قَدْ قيْل فِي هَذَا الشعر:
غدرتُم بيحيى [2] يَا بَنِي خيط باطلٍ ... وكلكمُ يبني البيوت عَلَى غدرٍ [3]
فأمر بِهِ الْوَلِيد فأخرج عَنْهُ فصار ابْن نديرة [4] إِلَى عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ [5] فَأَخْبَرَه [6] خبره، فَقَالَ عَلِي: عَلَيْنَا المعول وعندنا المحتمل، فأعطاه حمالته وأجازه وكساه، فَقَالَ العذري:
شهدت عليكم أنكم خير قومكم ... وأنكم آلُ النَّبِيّ [7] محمدِ
فنعم أَبُو الأضياف والطالبي [8] القرى ... عليُّ حليف الجود فِي كُل مشهد
فَإِن الَّذِي يرجو سواكم وأنتمُ ... بنو الوارث الزاكي لغيرُ مُسدَّدِ
وإني لأرجو أَن تكونوا [9] أئمة ... تسوسون من سستم [10] بملك مؤيد
وإني لمن والاكم لألوقة [11] ... وإني لمن عاداكم سمُّ أسود
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الأَعْرَابِيِّ عَنْ إِسْحَاق بْن عِيسَى بْن عَلِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ يَقُول لبنيه: يَا بَنيَّ إِن اسعد الرجلين بالمعروف مصطنعه فلا
__________
[1] ط: ابنها.
[2] في اخبار الدولة العباسية ص 144: بحيّ.
[3] ن. م.: على الغدر.
[4] م: نذيرة.
[5] م: عبد الله بن علي، وهو سهو من الناسخ.
[6] ط: فاخبر.
[7] اخبار الدولة العباسية: رهط النبيّ.
[8] ن. م.: والطالب ص 144.
[9] ط: يكونوا.
[10] في م واخبار الدولة العباسية ص 144: شئتم.
[11] الأصل: الوفة، والتصويب من اخبار الدولة العباسية ص 144.(4/73)
تُخدعوا عَنْهُ. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن الْحَارِث عَنِ المدائني عن مسلمة بن محارب (561) قال:
دخل عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس عَلَى عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان فِي يَوْم شديد البرد وَقَدْ حال بينه وبينه دخانُ العود فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ احْمدِ اللَّه عَلَى مَا أَنْتَ فِيهِ من الدفء مَعَ مَا النَّاس [1] فِيهِ من البرد، ودعا لَهُ، فَقَالَ عبد الملك: يَا أبا مُحَمَّد أَبَعْدَ ابْن هند وَكَانَ أميرًا عشرين سنة وخليفة مثلها أصبَحَتْ تهتز عَلَى قبره يَنْبُوتة! مَا هُوَ إلا مَا قَالَ الشاعر:
وَمَا الدهر والأيام إلا كَمَا أرى ... رزية مال أَوْ فراق حبيب
وإن امرأ قَدْ [2] جرب الدهر لَمْ ... يخف تصرف عَصْريه لغيرُ أريب [3]
ثُمَّ دعا عَبْد الْمَلِك بغدائه فأكل عَلِي مَعَهُ، ودعا بشربة عسل فأتي بِهَا فِي عسٍّ فسقاه ثُمَّ شربَ بَعْد عَلِي.
حَدَّثَنِي الحَرْمازي عَنِ العتبي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وقف عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس وخالد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة (562) بباب عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان فجرى بينهما قَوْل تغالظا [4] فِيهِ فَقَالَ لَهُ عَلِي: مَا الظَّالِم بسالم، ولا السَيْف عَنْهُ [5] بنائم. قَالَ: وخرج إذن عَبْد الْمَلِك، فدعا بخالد فقالَ لَهُ عَبْد الْمَلِك: مَا لي أراك كالغضبان؟ قَالَ:
لست بغضبان ولكني محجوج، قَالَ: ومن حجَّكَ، وبيانُك بيانُك ولسانك لسانك؟ قَالَ: عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ، مَت بحرمةٍ اعرفُها وذكر القرابة الَّتِي لا أدفعها، وأعْلمني أَن عَلَيْهِ دَيْنًا وأن لَهُ عيالًا وَمَا للصنيعة عِنْدَ مثله مَترك، فأمر لَهُ عَبْد الْمَلِك بمائة ألف درهم، فخرج إِلَيْهِ خَالِد وَهُوَ يضحك وَيَقُول: تخطينا مَا تكره إِلَى مَا تحب، قَدْ أمر لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بمائة ألف درهم، فَقَالَ لَهُ خيرًا.
حَدَّثَنِي أَبُو أيوب سُلَيْمَان الرقي المؤدب، حَدَّثَنِي [6] الْحَجَّاج بْن الرصافي عَنْ
__________
[1] ط: الباس.
[2] «قد» ليست في م.
[3] ط، د: اديب.
[4] ط: فتغلظا.
[5] في د، م: عنده.
[6] في ط، د: يحدثني.(4/74)
ابيه [1] : كَانَ عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بالشراة من أرض دمشق لازمًا لمسجده يصلي فِيهِ كُل يوم خمسمائة ركعة ويسجد عَلَى لوح أتى بِهِ من زمزم، وَكَانَ لا يمر بِهِ أحد يريد الشام من الحجاز أَوْ يريد الحجاز من الشام إلا أضافهُ ووصله، إِن كَانَ مِمَّنْ يلتمس صلته، فَقِيلَ لَهُ إِن المؤونة تعظم عليك، فتمثَّل قَوْل السلولي [2] :
وماذا عَلَيْنَا إِن يُوافيَ نارَنا ... كريم المحيا شاحب المتحسر [3]
فيخبرنا [4] عما يريدُ ولو خلت [5] ... لنا القدر لَمْ نُخبر [6] وَلَمْ نتخبر
حَدَّثَنِي حَفْص بْن عُمَر الْعُمَرِيُّ عَن الْهَيْثَم بْن عدي عن عوانة قَالَ: لقيتْ عجوز من قريش عليَّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس فشكت إِلَيْهِ الخلة فأمر غلامه فأعطاها مائتي دِينَار، فَقَالَتْ: جعلني اللَّه فداك أَنْتَ كَمَا قَالَتْ أم جميل بِنْت حرب بْن أمية [7] :
زينُ العشيرة كلها ... فِي [8] البدو منه وَالْحَضَرْ
وكريمها فِي النائبات [9] ... وَفِي الرِّحال وَفِي السَّفَرْ [10]
ضخمُ الدسيعة ماجد ... يعطي الجزيل بلا كدر [11]
__________
[1] انظر الرواية في اخبار الدولة العباسية ص 145.
[2] هو العجير بن عبد الله السلولي، وترجمته في الاغاني ج 13 ص 56 وما بعدها.
[3] في اخبار الدولة العباسية ص 142:
وماذا علينا ان تجيء ركائب ... كريموا ... شاحبوا ...
وفي الأغاني ج 13 ص 63:
وماذا علينا ان يخالس ضوءها ... كريم نثار شاحب المتحسر
[4] اخبار الدولة العباسية: فتخبرنا، الأغاني: فيخبرنا عما قليل ...
[5] ط: حلت.
[6] الاغاني: له القدر لم نعجب ...
[7] انظر اخبار الدولة العباسية ص 380.
[8] د: من.
[9] م: الناتيات.
[10] لم يرد هذا البيت في اخبار الدولة العباسية وجاء محله:
ورث المكارم كلها ... وعلا على كل البشر
[11] في ن. م.: يعطى الكثير بلا ضجر.(4/75)
وَحَدَّثَنِي أَبُو عدنان، حَدَّثَنَا ابْن الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِيهِ مُحَمَّد بْن السائب قَالَ: ساير عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ، الْحَارِث بْن خَالِد بْن العاص بْن هِشَام الْمَخْزُومِيُّ، فأصابَ ساقَه ركابُ عَلِي فَقَالَ: سبحان اللَّه مَا رَأَيْت أحدا يسايرُ الناسَ بمثل هَذَا الركاب، فَقَالَ عَلِي: إنه من عمل قين لنا بمكة، يُعرض بالعاص ابن هِشَام حِينَ أسلمه أَبُو لهب بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قينًا [1] .
(563) قَالَ أَبُو عدنان: وأخبرني الهيثم بْن عدي ومعمر بْن المثنى، قَالا: لاعب العاص بْن هِشَام أبا لهب عَلَى إمرة [2] مطاعة فقمره ابو لهب فجعله قينًا، ثُمَّ لاعبه فقمره أيضًا فبعث بِهِ مكانه يَوْم بدر بديلًا فقتله عُمَر بْن الخطاب. وفي الحارث ابن خَالِد بْن العاص يَقُول الشاعر:
أبا فاضل ركب عِلاتك [3] والتمس ... مكاسبها إِن اللئيمَ كسوبُ
وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عَنْ جَدِّهِ قَالَ: لَمْ يزل عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس أثيرا عِنْدَ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان كريمًا عَلَيْهِ حَتَّى طلق عَبْد الْمَلِك أم أبيها بِنْت [4] عَبْد اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب، فتزوجها عَلِي فتغير لَهُ وثقلُ عَلَيْهِ، فبسط لسانَه بذمه وَقَالَ: إِنَّمَا صلاته رياء، وَكَانَ الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك يسمع ذَلِكَ من أَبِيهِ فَلَمَّا ولي أقصاه وعابه وتجنى عَلَيْهِ حَتَّى ضربه وسيره.
حَدَّثَنِي [5] عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ [6] : كَانَتْ لعبد اللَّه بْن عَبَّاس جارية صفراء مولدة تخدمه، فواقعها مرةً وَلَمْ يطلب ولدها [7] فاغتنمت ذَلِكَ واستنكحت عبدًا من عَبِيدِ أهل الْمَدِينَةِ، فوقع عَلَيْهَا حَتَّى حبلت وولدت غلامًا.
فحدَّها عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس واستعبد ولدها وسماه سليطًا، فنشأ ظريفًا جلدا، وَلَمْ يزل يخدم علي بْن عَبْدِ اللَّهِ وشخص مَعَهُ إِلَى الشام فكان لَهُ من بني اميّة
__________
[1] هامش د: القين الحداد.
[2] ط: امرأة.
[3] في هامش د: العلاة السندان.
[4] م: ابنة.
[5] د: فحدثني.
[6] انظر اخبار الدولة العباسية ص 149- 150، ويبدو ان ابن الأثير أخذ هذه الرواية ج 5 ص 256- 7 مع اختلاف بسيط أحيانا في العبارات.
[7] يضيف ابن الأثير: ثم تركها دهرا.(4/76)
موقع ومن الوليد بن عبد الملك خاصة، فادعى أَنَّهُ ابْن عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس ودسَّ إِلَيْهِ الْوَلِيد- لما كَانَ فِي نَفْسه عَلَى عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ- أَن خاصِمْ عليا، فخاصمه واحتال شهودًا عَلَى إقرار عَبْد اللَّهِ بأنه ابنه فشهدوا لَهُ بِذَلِك عِنْدَ قَاضِي دمشق، وعرف الْوَلِيد قاضيه رأيه فِي تثبيت نسب سليط فتحامل مَعَهُ عَلَى عَلِي وألحقهُ بعبْدِ اللَّه بْن عَبَّاس، وَكَانَ الْوَلِيد شريرًا. ثُمَّ إِن سليطًا جعل يخاصم عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ فِي الميراث حَتَّى لقي منه غما وأذى، وَكَانَ مَعَ عَلِي رَجُل من ولد أَبِي رافع مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] يُقَالُ لَهُ عُمَر الدن لَمْ يزل منقطعًا إِلَيْهِ، فَقَالَ لعلي يومًا: ألا أقتل هَذَا الكلب ابْن الكلب وأريحك منه؟ فزبره عَلِي وَقَالَ [2] :
هممت والله ان لا تدخل [3] إليّ رحلًا [4] ... ولا أكلمك بذات شفة أبدًا.
ثُمَّ إِن عليًا رفق بسليط حَتَّى كف عَنْهُ، فَإِنَّهُ لفي بستان لَهُ يدعى الْجَنِينة عَلَى فرسخ من دمشق، ومساحةُ البستان [5] أربعة أجربة أَوْ أشف، إذ أتى عُمَر الدن ومعه سليط فجعلا يخدمان عليًا حَتَّى أكل وقام يصلي [6] ، ثُمَّ انحاز عُمَر بسليط إِلَى ناحية من البستان فجعلا يأكلان من الفاكهة، وجرى بينهما كلام فوثب الدّن إِلَى ناحية من البستان فجعلا يأكلان من الفاكهة، وجرى بينهما كَلام فوثب الدَّن عَلَى سليط بصخرة فدمغه بِهَا وحفر لَهُ فدَفنه وأعانه عَلَى دفنه مَوْلَى لعلي يُقَالُ لَهُ فايد أَبُو المُهنا، ويقالُ عروة أَبُو راشد، ثُمَّ عَفيا موضعَ قبره، وهرب الدن وصاحبه الَّذِي أعانه وعلي مقبل عَلَى صلاته لا يعلم بشيءٍ مِمَّا كَانَ. وَكَانَ لسليط صاحب قَدْ عرف دخولَه البستان فطلبه [7] فلم يجده، فصار إِلَى أم سليط فأخبرها بأنه دَخَلَ البستان ولم يخرج منه، وافتقد عَلِي الدن وصاحبَه وسليطًا فلم يجد مِنْهُم أحدًا، وخرج من البستان وَقَدْ أتي بدابته فركبها وَهُوَ يسأل عَنِ الدن وصاحبه وسليط، وغدت أم سليط إِلَى بَاب الوليد مستعدية على عليّ فأتى
__________
[1] زاد في م كلمة «رجل» وهي زائدة.
[2] ط: فقال.
[3] ط: يدخل.
[4] ط: رجلا.
[5] ط: للبستان.
[6] في ابن الأثير ج 5 ص 256: «ثم ان سليطا دخل مع علي بستانا له بظاهر دمشق، فقام علي فجرى بين عمر الدن وسليط كلام فقتله عمر ... » .
[7] يضيف م: فيه.(4/77)
الْوَلِيد من ذَلِكَ مَا أحب وأراد، فدَعَا بعلي بْن عَبْدِ اللَّهِ وسأله عَنْ خبر سليط فحلف أَنَّهُ لا يعلم من خبره شيئًا بَعْد قيامه (563) للصلاة، وأنه لَمْ يأمر فِيهِ بأمر، فسأله إحضار عُمَر الدن، فحلف أَنَّهُ لا يعرف موضعه، فوجه الْوَلِيد إِلَى الجُنينة من سرح فِيهَا الماء، فَلَمَّا انتهى إِلَى موضع الحفرة الَّتِي دفن فِيهَا سليط دخلها فانخسفت، فأمر الْوَلِيد بعلي بْن عَبْدِ اللَّهِ فأقيمَ فِي الشَّمْس، وَجَعَلَ عَلَى رأسه الزيت، وضربه ستين أَوْ أحدًا وستين سوطًا، وألبَسَهُ جبة صوف وحَبَسه ليخبره خبر سليط ويدله عَلَى الدن وصاحبه، وَكَانَ يُخرج فِي كُل يَوْم فيقامُ فِي الشَّمْس، وَكَانَ عباد بْن زِيَاد لَهُ صديقًا، فجاءه فألقى عَلَيْهِ ثيابه، وكلم الْوَلِيد فِي أمره فأمر أَن يسير إِلَى دهلك، وَهِيَ جزيرة فِي البحر، فكلمه سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الْمَلِك فِيهِ وسأله ردَّه، فأرسل من يحبسه حيث لحقه. ثُمَّ كلم الْوَلِيد عبادُ [1] بْن زِيَاد فِي عَلِي وَقَالَ: إنه لَيْسَ بالفلاة [2] موضع، فأذن لَهُ فنزل الحجر [3] ، فلم يزل بالحجر حَتَّى هلك الْوَلِيد سنة ست وتسعين وولي سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الْمَلِك فرده إِلَى دمشق.
وَكَانَ عَلِي يَرْوِي فِي نزول الشراة أثرًا فانتقل إِلَيْهَا.
وَحَدَّثَنِي هِشَام بْن عمار، حَدَّثَنَا مشايخنا قَالُوا: تولى ضرب عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بَيْنَ يدي الْوَلِيد أَبُو الزعيزعة البربري مولاه فجزع (564) فَقَالَ لَهُ مَوْلَى لَهُ يكنى أبا نزار: لا تجزع [4] ، فَقَالَ: إِن كرام الْخَيْلِ تجزع من السوط، ثُمَّ قَالَ: لا تُساكني، فنزل الشراة.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: ضربه خمس مائة سوط وَقَالَ: لا تُساكني، فنزل الحميمة.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي ابْن القتات عَنْ إسحاق بن عيسى بن علي عن أبيه، قَالَ: كَانَ الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك ينتقص عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ ويشتمه، فرأى عَبْد الْمَلِك أَبَاهُ فِي منامه يَقُول لَهُ: يَا هَذَا مَا تريد من عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ فَقَدْ ظلمته، والله لا يبتزكم أمركم ولا يسلب ملككم إلا ولده، فازداد بِذَلِك بغضة له
__________
[1] في ابن الأثير ج 5 ص 257: عباس.
[2] م: في الفلاة.
[3] في ابن الأثير ج 5 ص 257: فاخرج الى الحميمة وقيل الى الحجر.
[4] ط: يجزع.(4/78)
وحنقًا عَلَيْهِ، فَلَمَّا ضربه كتبَ إِلَى الآفاق يشنع عَلَيْهِ وَيَقُول إنه قتل أخاه.
قَالَ أَبُو مَسْعُود: وَكَانَ مِمَّا عدده الْمَنْصُور أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عَلَى أَبِي مُسْلِم أَن قَالَ: وزعمتَ أنك ابْن سليط فلم ترض حَتَّى نسبت إِلَى عَبْد اللَّهِ غيرَ وَلَده، لَقَدِ ارتقيت مرتقًى صعبًا.
وَقَالُوا: لما فرغ مُسْلِم بْن عقبة المري من أمر الحرة أَخَذَ النَّاس بأن يبايعوا ليزيد بْن مُعَاوِيَة [1] عَلَى أنهم عبيد قن، وبعث إِلَى عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بالمدينة، وَذَلِكَ قبل موت أَبِيهِ عَبْد اللَّهِ بْن عَبَّاس بأربع سنين، فمر فِي العسكر بفسطاط عَلَى بابه جَمَاعَة فسأل عَنْ صاحبه فَقِيلَ لَهُ: هَذَا الحصين بْن نمير السكوني، فَقَالَ لمولي لَهُ: ائته فأخبره بمكاني، فأتاه فَقَالَ لَهُ: أَن ابْن أختك عَلِي ابن عبد الله [2] قد أخرج من منزله يُراد [3] بِهِ مُسْلِم بْن عقبة، فأرسل ناسًا فانتزعوه من أيدي الحرس فجاذبوهم فَقَالَ الحصين: ميلوا عَلَيْهِم بالسياط، فضربوا حَتَّى فروا، وانطلق الحصين مَعَهُ إِلَى مُسْلِم حَتَّى بايعه ليزيد كَمَا يبايع السلطان ثُمَّ انصرف [4] .
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي الْوَلِيد الْقُرَشِيّ عَنْ أَبِي نزار مَوْلَى عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
كنت مَعَ عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ يومًا وعنده ابنه مُحَمَّد بْن عَلِي وأبو هاشم عَبْدِ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب، فَقَالَ: يَا أبا هاشم إِن أَهْل المغرب يؤملونك، وَقَالَ لابنه مُحَمَّد: إِن أَهْل المشرق يؤملونك، ثُمَّ نظر إِلَى حمارٍ بَيْنَ [5] شجرتين فَقَالَ: والله لا تليان حَتَّى يلي هَذَا الحمار، كبرتما عَنْ تبين صاحب هَذَا الأمر.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: توفي عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ فِي سنة ثماني عشرة ومائة وَلَهُ ثمان وسبعون سنة وَإِنَّهُ [6] لمعتدل القناة.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: توفي عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بالحميمة من عمل دمشق فِي سنة سبع عشرة ومائة وَلَهُ ثمان وسبعون سنة، وَذَلِكَ فِي أَيَّام هِشَام بْن عبد الملك.
__________
[1] في د: «لمعاوية» وهو سهو.
[2] يضيف م: ابن عباس.
[3] ط: تراد.
[4] انظر اخبار الدولة العباسية ص 136.
[5] ط: حمارتين.
[6] انظر الطبري س 2 ص 1592.(4/79)
وَقَالَ أَبُو اليقظان: مَاتَ بالحميمة فِي سنة سبع عشرة ومائة وَقَدْ بلغ ثمانين سنة [1] .
(565) فأما مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ
بْن الْعَبَّاس [2] وَهُوَ ذو الثفنات، ويكنى أبا عَبْد اللَّهِ، فَقَدْ أَخْبَرَنَا بقرب سنة من سن أَبِيهِ وَكَانَ بينهما فِي الْمَوْت، فِي قَوْل هِشَام بْن الْكَلْبِيِّ، خمس سنين أَوْ نحوها، مَاتَ سنة اثنتين [3] وعشرين ومائة. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: الثبت أَنَّهُ توفي سنة خمس وعشرين ومائة، قبل قتل الْوَلِيد بْن يَزِيد بقليل، وَكَانَ لَهُ يَوْم مَاتَ سبعون سنة. وولد الْمَهْدِي أميرُ الْمُؤْمِنيِنَ فِي السنة الَّتِي مَاتَ فِيهَا مُحَمَّد بْن عَلِي فسمي باسمه وكني أبا عَبْد اللَّهِ بكنيته، وكانت وفاة الْمَهْدِي سنة تسع وستين ومائة وَلَهُ ثَلاث وأربعون سنة. وَقَالَ أَبُو اليقظان: مَاتَ وَلَهُ ثمان وثلاثون سنة، وولد مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان بْن عَلِي والمهدي فِي سنة واحدة.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: توفي مُحَمَّد بْن عَلِي سنة أربع وعشرين ومائة وقتل الْوَلِيد بْن يَزِيد سنة ست وعشرين ومائة [4] .
قَالُوا: وكانت الشيعة تروي أَن الْإِمَام محمدُ بْن عَلِي، فيظن [5] أَنَّهُ ابْنُ الحنفية، فلما مات ابن الحنيفة قَالُوا: الْإِمَام ابنه عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بن علي، وهو ابو هاشم، فلما سمّم أَبُو هاشم فِي طريقه وَهُوَ يريد الحجاز عَدَلَ إِلَى مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس بالحُميمة فأوصى إِلَيْهِ وأعطاهُ كتُبه وجمع بينه وبين قوم من الشيعة، فَقَالَ: إنا كُنَّا نظن أَن الإمامة والأمر فينا فَقَدْ زالت الشبهة وصرح اليقين بأنك الْإِمَام والخلافة فِي ولدك، فمال إِلَيْهِ النَّاس فثبتوا إمامته وإمامة ولده [6] .
حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُود الكوفي، حَدَّثَنِي بَعْض آل خَالِد بْن عَبْدِ الله القسري قال:
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 159.
[2] انظر اخبار الدولة العباسية ص 160- 239، الكامل للمبرد ج 2 ص 220- 221، العقد الفريد ج 5 ص 105.
[3] م: اثنين.
[4] انظر اخبار الدولة العباسية ص 239، والطبري س 2 ص 1769.
[5] م: فتظن.
[6] انظر اخبار الدولة العباسية ص 186 وص 188- 189، وابن خلكان- وفيات ج 2 ص 187، والعيون والحدائق ج 3 ص 181.(4/80)
لَمْ يكن خَالِد يشك فِي إمامة مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبَّاس فكان إِذَا بعث إِلَى وجوه النَّاس بالهدايا مَعَ مَا يبعث بِهِ إِلَى هِشَام بعث إِلَى مُحَمَّد بْن عَلِي بدنانير، فبعث إِلَيْهِ مرة من المرات بثلاثة آلاف دِينَار وَلَمْ يبعث بغير ذَلِكَ كراهة الشُّهرة، وكتبَ إِلَيْهِ كتابًا عنوانه: من خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ إِلَى مُحَمَّد بْن عَلِي، وَفِي باطنه:
لأبي عَبْد اللَّهِ أصلحه اللَّه من خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ مُحَمَّد: وَصَلَ اللَّه أبا الهيثم وحفظه فو الله مَا زال يبرنا مذ ولي.
وَحَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَلِي الحرمازي عَنْ أَبِي سُلَيْمَان مَوْلَى بني هاشم قَالَ [1] :
كَانَ الخراسانيون الَّذِينَ قدموا لطلب الْإِمَام يقولون: هَذَا أمر لا يصلح إلا لذي شرف ودين وسخاء، فيتبعه قوم لشرفه وأخرون لدينه وآخرون لسخائه، وأتوا [2] رجلا من ولد علي بن أبي طَالِب فدلهم عَلَى مُحَمَّد بْن عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ:
هُوَ صاحبكم وَهُوَ أفضلنا فأتوه [3] .
وَحَدَّثَنِي العمري عَنِ الهيثم بْن عدي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَن مُحَمَّد بْن عَلِي اختار خراسان وَقَالَ: لا أرى [4] بلدًا إلّا وأهله يميلون عنا إِلَى غيرنا، أمَّا أَهْل الكوفة فميلهم إِلَى ولد عَلِي بْن أَبِي طَالِب، وَأَمَّا أَهْل البصرة فعثمانية، وَأَمَّا أَهْل الشام فسفيانية مروانية، وَأَمَّا أَهْل الجزيرة فخوارج، وَأَمَّا أَهْل الْمَدِينَةِ فَقَدْ غلب عَلَيْهِم حب أَبِي بَكْر وعمر وَمِنْهُم من يميل إِلَى الطالبيين، ولكن أَهْل خراسان قوم فيهم الكثرة والقوة والجلد وفراغ القلوب من الأهواء، فبعث إِلَى خراسان. وَقَدْ كَانَ أَبُو هاشم عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن الحنيفة سمي لَهُ قومًا من أَهْل الكوفة [5] .
(566) وَحَدَّثَنِي حَفْصُ بْن عُمَرَ الْعُمَرِيُّ عَن الْهَيْثَم بْنِ عدي عَنْ معن بْن يَزِيد، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد ابن الأَعْرَابِيِّ عَنْ بَعْض ولد قحطبة قَالُوا: قدم على محمد بن علي
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 170- 1، والعيون والحدائق ج 3 ص 179- 180.
[2] م: فأتوا.
[3] ط: فاقره. انظر العيون والحدائق ج 3 ص 179- 180.
[4] ط: ادري.
[5] انظر اخبار الدولة العباسية ص 206- 207، الجاحظ- مناقب الترك، في رسائل الجاحظ تحقيق عبد السلام هارون ج 1 ص 16- 17، المقدسي- البدء والتاريخ ج 4 ص 59، مختصر كتاب البلدان لابن الفقيه ص 315.(4/81)
ناسٌ من أَهْل خراسان من الشيعة بَعْد مولد أَبِي الْعَبَّاس، فأخرجه إليهم فِي خرقة وَقَالَ: هَذَا صاحبكم الَّذِي يتم الأمر عَلَى يده، فقبلوا أطرافه.
وَحَدَّثَنِي العمري عَنِ الهيثم بْن عدي، والمدائني عَنِ ابْن فايد وغيره، وأبو اليسع الأنطاكي عَنْ أشياخه قَالُوا: كَانَتْ رَيْطَة بِنْت عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ المدان الحارثي عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبْدِ الْمَلِك بْن مَرْوَان فمات عَنْهَا فتزوجها بعده الحجاج ابن عَبْدِ الْمَلِك بْن مَرْوَان فطلقها، فقدم مُحَمَّد بْن عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ من الشراة وَهُوَ يريد الصائفة فسأل عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خليفة، أَن يأذن لَهُ فِي تزوجها، فَقَالَ: ومن يمنعك رحمك اللَّه من ذَلِكَ إِن رضيَت، هِيَ أملكُ بنفسها، فتزوجها بحاضر قنسرين فِي دار طَلْحَةَ بْن مَالِك الطائي، واشتملت عَلَى أَبِي الْعَبَّاس وولدته فِي سنة مائة، وقيل فِي سنة إحدى ومائة.
الْمَدَائِنِيُّ عَنِ الْحَسَن بْن رشيد وَيَحْيَى بْن الطفيل، أَن الْإِمَام مُحَمَّد بْن عَلِي قَالَ: لنا ثلاثة أوقات: موتُ الطاغية يَزِيد، ورأس المائة، وفتقٌ بإفريقية، فعند ذَلِكَ يدعو لنا الدعاة ثُمَّ يقبل [1] أنصارنا من المشرق حَتَّى يوردوا خيولهم أرض [2] المغرب ويستخرجوا مَا كنز الجبارون فِيهَا. فَلَمَّا قتل يَزِيد بْن أَبِي مُسْلِم بإفريقية وانتقضت البربر بعث رجلًا إِلَى خراسان فأمره أَن يدعوا إِلَى الرضا من آل مُحَمَّد ولا يسمي أحدًا، ومثل لَهُ مثالًا يعمل بِهِ، فأجابه ناسٌ، فلما صاروا سبعين جعل مِنْهُم اثني عشر نقيبًا [3] .
وحْدثتُ عَنْ أمية بْن خَالِد الْبَصْرِيّ عَنْ ابيه عَنْ وضاح بْن خيثمة قَالَ:
لما استُخلف عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز دفع إليَّ يَزِيد بْن أَبِي مُسْلِم فحبسته [4] ، فنذر دمي، وولي إفريقية وكنت بِهَا فجعلتُ أتفار [5] منه، ثُمَّ إنه ظفر بي فَقَالَ:
طال مَا نذرت دمك، قُلْت [6] : وأنا والله طال مَا استعذت بالله منك، قال:
__________
[1] ط: يقتل.
[2] م: من ارض.
[3] انظر ابن الأثير ج 5 ص 53- 54.
[4] م: «إلي يزيد فحبسته أبي مسلم فحبسته» . وهو من ارتباك الناسخ.
[5] د: افتان. انظر الجهشياري- الوزراء ص 57.
[6] م: فقلت.(4/82)
فو الله مَا أعاذك، والله لو أَن ملك الْمَوْت يسابقني إِلَى قبض روحك لسبقته. قَالَ وأمر بالنطع فبسط وكُتِّفتُ وقدم السَيْف لتضرب عنقي، وأقيمت صلاة العصر فوثب ليصلي، فو الله مَا فرغ من صلاته حَتَّى قطع إربًا إربًا ثُمَّ جاءوا فحلوا كتافي.
قَالَ: وَكَانَ جنده من البر بر فوسمهم عَلَى أيديهم، فِي إحدى يدي الرجل اسمه وَفِي الأخرى حَرَسيّ، وأساء سياستهم فوثبوا فقتلوه.
حَدَّثَنِي أَبُو حَفْص الشامي عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي معن الكدادي قَالَ [1] : مرَّ قومٌ من سفهاء بَنِي أمية بالحميمة فتكلموا فِي مُحَمَّد بْن عَلِي وولده بكلام قبيح، فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِي: دعوهم فربما كَانَ السكوت جوابًا والحلم أبلغ فِي رَضِيَ اللَّه من الانتقام، وجعل يَقُول: ومن بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ الله [2] .
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب عَنْ أبي عبيد الله قال: كان مُحَمَّد بْن عَلِي الْإِمَام يَقُول: الصدق محمود فِي كُل موطن إلا صدق ذي السعاية والنميمة فَإِنَّهُ شر مَا يَكُون أصْدق مَا يَكُون.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ غالب بْن سَعِيد عَنْ زِيَاد بْن أَبِي عامر الشروي قَالَ: سمعت مُحَمَّد بْن عَلِي يَقُول: كَانَ يُقَالُ إِذَا سمعتَ العَوْراء فتطأطأ [3] لَهَا تُخْطِك [4] . قَالَ: وسمعته يَقُول، أَوْ يحدث عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: طاعةُ المحبة أفضلُ من طاعةِ الهيبة.
حَدَّثَنِي ابْن القتات عَنْ إِسْحَاق بْن عِيسَى بْن عَلِي [5] قَالَ: كَانَ مُحَمَّد بْن عَلِي يَقُول: لَنْ يبلغ الرجل غاية الحلم حَتَّى يُعَد ذليلًا [6] . قَالَ، وَكَانَ يَقُول:
كفاك من حظ البلاغة أَن تقول فتُفهِم، وتصفَ فتُوجز [7] .
وَحَدَّثَنِي ابْن القتات قَالَ: قَالَ مُحَمَّد بْن عَلِي: لا يدرك الشباب بالخضاب،
__________
[1] ورد الخبر في اخبار الدولة العباسية ص 164 نقلا عن البلاذري.
[2] الاشارة الى سورة الحج (22) ، آية 60.
[3] ط: نتطاطاه.
[4] في اخبار الدولة العباسية ص 163: «تخطئك» ، وروايته عن البلاذري.
[5] «ابن علي» لم يرد في م.
[6] وردت الرواية في اخبار الدولة العباسية ص 163 وص 229 نقلا عن البلاذري.
[7] وردت الرواية في اخبار الدولة العباسية ص 229 نقلا عن البلاذري.(4/83)
ولا الغنى بالمنى، ولا العلم بالادّعاء [1] . قَالَ، وَكَانَ مُحَمَّد بْن عَلِي يَقُول: شر الآباء من دعاه البر إِلَى الإفراط، وشر الأبناء من دعاه التقصير إِلَى العقوق.
(567) وَحَدَّثَنِي بَعْض الهاشميين أَن مُوسَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِي غزا مَعَ أَبِيهِ فِي غزاة ذي الشامة المعيطي فمات ببلاد الروم فقدَّم مُحَمَّد بْن عَلِي ذا الشامة فلم يتقدم، فصلى عَلَيْهِ ووقف ذو الشامة عَلَى قبره حَتَّى دُفِن، فشكر ذَلِكَ لَهُ بنو الْعَبَّاس فلم ينالوا مُعَيْطيًا بمكروه.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود بْن القتات عَنْ زهير بْن الْمُسَيِّب الضَّبِّيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: وفد مُحَمَّد بْن عَلِي الْإِمَام عَلَى هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: مَا جاء بك؟ قَالَ: حاجة يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، قَالَ: انتظر بِهَا دولتكم الَّتِي تتوقعونها [2] وتروون [3] فِيهَا الأحاديث وترشحون لَهَا أحداثكم، فَقَالَ: أعيذك بالله يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، ثُمَّ نظر إِلَى حاجبه نظرة مُغضَبٍ لإذنه لهُ، فدنا الحاجب منه فَقَالَ: أُصدقُك والله يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، إني رَجُل عقيم فسمعني أشكو ذَلِكَ فَقَالَ إِن عندي دعوات رويتها عَنْ أَبِي عَنْ أَبِيهِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بِهَا مثلك فيرزق الولد، فَإِن علمتك إياها تأذن لي؟ فضمنتَ لَهُ فعلمنيها ووفيتُ لَهُ، فَقَالَ: قبحك اللَّه فَمَا أعجز رأيك، لهَمَمتُ أَن أضرب عنقك، إِن هَؤُلاءِ قوم [4] جعلوا رَسُول اللَّهِ لَهُمْ سوقًا. ثُمَّ قالَ لمحمد بْن عَلِي: إِن عامل ناحيتكَ كتب يُعلمنا أَن الولاة قَبْله تركوا لكم من الخراج مائة ألف درهم فِي سنين لغير حقّ واجب فَأَدِّ ذَلِكَ، وأمر أَن يؤخذ بالمائة الألف فيقام فِي الشَّمْس ويُبسط عَلَيْهِ العذاب، وَكَانَ فِي عسكر هِشَام يَوْمَئِذٍ عِيسَى بْن إِبْرَاهِيمَ أَبُو مُوسَى السراج الَّذِي كَانَ أَبُو مُسْلِم يتعلم منه السراجة ويخدمه، وأبو مُسْلِم يَوْمَئِذٍ مَعَهُ، وَكَانَ عِيسَى يَوْمَئِذٍ من أَهْل الكوفة ورئيسًا من رؤساء الشيعة وَكَانَ موسرًا يَأْتِي بالسروج إِلَيْهَا وإلى أصبهان والجبال والرقّة ونصيبين وآمد ونواحي البلاد فيبيعها بِهَا [5] ، فجمع نفرًا من الشيعة
__________
[1] ن. م.: ص 229.
[2] ط: يتوقعونها.
[3] ط: ترون.
[4] لا ترد كلمة «قوم» في م.
[5] انظر رواية اخبار الدولة العباسية ص 254.(4/84)
ذوي يسار وانطلق بِهِمْ إِلَى سالم كاتب هِشَام فضمنوا مَا [1] عَلَى مُحَمَّد بْن عَلِي وجعلوا يؤدون عَنْهُ الأوّل فالأوّل منه، وأبو مُسْلِم يَأْتِي مُحَمَّد بْن عَلِي برسالة صاحبه وألطافه وَمَا يجب [2] معرفته من الْخَبَر، فَلَمَّا أديت المائة الألف كُلِّم هِشَام فِي مُحَمَّد بْن عَلِي فخلّى سبيله، فرجع إِلَى الحميمة، ورجع أَبُو مُوسَى السراج إِلَى الكوفة وأبو مُسْلِم مَعَهُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْن عشرين سنة. وكان ابو مسلم يسمى ابراهيم ابن حَيَّكان [3] فتسمى عَبْد الرَّحْمَن بْن مُسْلِم، ويقال إِن الَّذِي سماه عَبْد الرَّحْمَن وكناه أبا مسلم ابراهيم بن محمّد الامام.
حدّثني هشام بْن عمار عَنْ أشياخهم أن هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك هَمَّ بحبس مُحَمَّد بْن عَلِي وَوَلده وَقَالَ إنهم يزعمون أَن الخلافة تصير إليهم [4] فَقَدِ استشرف [5] النَّاس لَهُمْ [6] ، فَقَالَ لَهُ الأبرش الْكَلْبِيُّ، واسمُه سَعِيد بْن الْوَلِيد بْن عَبْدِ عَمْرو: إِن كَانَ فِي المقدور أَن ينالوا [7] الخلافة فلا بد والله أَن ينالوها، فلا تقطع [8] أرحامهم وتأثم بربّك فيهم، وصانعهم فان مصانعتك إياهم لعقبك لَهُوَ الرأي والحزم، وإلّا يكونوا [9] من هَذَا الأمر فِي شَيْء فَمَا خوفك لما ليس بمقدور؟ على ان إظهارك الخوف [10] لَهُمْ تنبيه لِلنَّاسِ عَلَيْهِم، فأمسك.
وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان المؤدب الرقي عَنِ الْحَجَّاج الرُّصافي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ [11] : نظر عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان إِلَى مُحَمَّد بْن عَلِي وَهُوَ غلام، وَكَانَ جميلًا [12] ، فَقَالَ: هَذَا والله يفتن المرأة الشريفة، فَقَالَ خَالِد بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة: أما والله إِن ولده لأَصْحَاب هَذَا الأمر، فَقَالَ عَبْد الْمَلِك: كلا، فَقَالَ خَالِد: هُوَ والله ذاك، انّ تبيعا
__________
[1] لا ترد «ما» في ط.
[2] م: يحب.
[3] جاء الاسم مشكولا في د.
[4] ط: اليه.
[5] ط: انشرف.
[6] م: اليهم.
[7] ط: ينال.
[8] ط: يقطع.
[9] ط: يكون.
[10] م: التخوف.
[11] ترد الرواية في اخبار الدولة العباسية ص 168 عن البلاذري.
[12] في ن. م.: «وهو غلام من اجمل اهل زمانه» .(4/85)
أخبرني عَنْ كعب أن هَذَا الأمر يصير إِلَى بَنِي الْعَبَّاس وأنه لا يليه [1] رَجُل من آل أَبِي طَالِب إلا أن يخرج عَلَى وال فيقتل، وأنها لولد [2] الْعَبَّاس (568) إِلَى أن ينزل المسيح. قَالَ: وتبيع ابْن امْرَأَة كعب.
وَكَانَ مُحَمَّد بْن عَلِي يقدم الْمَدِينَةَ فِي كُل سنة فيقيم بِهَا الشهر والشهرين ويؤتى بالمال [3] فيفرقه، وَكَانَ يمر بمولى لبني أمية يبيع الحديد فَإِذَا رآه ومعه أَهْل بيته قَالَ:
هَؤُلاءِ الزنادقة الَّذِينَ يتمنون [4] الباطل، والله لا يخرج هَذَا الأمر من موضعه أبدًا. فَقَالَ مُحَمَّد لابن شُعْبَة مولاه: امض فترفق بِهِ حتى تدخله [5] إليّ، فأتاه فجالسه أياما ثُمَّ لطف بِهِ حَتَّى أدخله الدار ثم امر ببابها فأغلق واحتمله وغلمانٌ مَعَهُ حَتَّى أُدخل عَلَى مُحَمَّد بْن عَلِي، ومعه قوم من أَهْل بيته وغيرهم يأكلون، فرحبَ بِهِ وأدناه وأجلسه بينه وبين عَبْد اللَّهِ بْن حسن، وجعل يلقمه بيده، ثم خلع عليه وأعطاه ثلاثمائة دِينَار وثيابًا لعياله. فَلَمَّا مر بِهِ بَعْد ذَلِكَ فِي أَهْل بيته قَالَ: هَؤُلاءِ أقمار الدجي، وأهل النبوة والخلافة والهدي، فَقَالَ مُحَمَّد لابن شُعْبَة: قل لَهُ عليك بالقصد لا هَذَا كله ولا الَّذِي كَانَ قبله [6] .
وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان، حَدَّثَنَا الْحَجَّاج الرصافي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك بالرصافة قاعدًا فِي منظرة لَهُ فرفع لَهُ رَكبٌ، فَقَالَ يَا غلام: ائتني بخبر هَؤُلاءِ، فمضى بَعْض من كَانَ بَيْنَ يديه حَتَّى تلقاهم فَقَالَ: من أنتم؟ قالوا: هذا مُحَمَّد ابْن عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عباس واخوته، قال: فما اقدمكم؟ قَالُوا: قدمنا نشكو إِلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ حالنا ودَيْننا. فرجع إِلَى هِشَام فَأَخْبَرَه، فَقَالَ: ارجع فقل لمحمد ارجع من حيث جئت وانتظر أَن يقضي دينك ودينَ أخوتك ابْنُ الحارثية، يَعْنِي أبا الْعَبَّاس. فَقَالَ مُحَمَّد بْن عَلِي: قل لأمير الْمُؤْمِنيِنَ إِن كَانَ الأمر صائرًا إِلَى ابْن الحارثية فَمَا عليك أَن يَكُون لكم عنده يد وإلا يكن ذَلِكَ فعلام تحرمنا فضلك
__________
[1] اخبار الدولة العباسية: يلي.
[2] ن. م.: لا تزال لولد.
[3] ط، د: الملك.
[4] ط: يقيمون.
[5] ط: تدخل.
[6] انظر اخبار الدولة العباسية ص 163- 164.(4/86)
وصلتك وعائدتك! فَقَالَ هِشَام للرسول: قل لَهُ مَا قُلْت لَك وأزعجهم حَتَّى يرجعوا عودهم على بدئهم. فقال محمد: دعونا لنريح فَقَدْ نصبنا وتعبنا، فابلغوا قولهم هشامًا فأذن لَهُمْ فأراحوا. فَلَمَّا جن عَلَيْهِم الليل أتى محمدًا بَعْض جلساء هِشَام [1] يعرض [2] عَلَيْهِ مالًا فلم يقبله، وسأله عَنِ ابْن الحارثية فأراه أبا الْعَبَّاس وَهُوَ صبي ثُمَّ رجع إِلَى الشراة وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِن هَذَا بعينك [3] .
قَالُوا: وكانت لمحمد بْن عَلِي بالحميمة خمس مائة شجرة فكان يصلي تَحْتَ كُل شجرة ركعتين. وتوفي مُحَمَّد فِي سنة أربع وعشرين ومائة.
وأمّا داود بن عليّ
فيكنى أبا سُلَيْمَان وَكَانَ لسنًا خطيبًا وَلِيَ مَكَّة والمدينة لأبي [4] الْعَبَّاس وأقطعه قطائع، وَهُوَ كَانَ المتكلم يَوْم استخلف أَبُو الْعَبَّاس. وَكَانَ دَاوُد فِي أَيَّام بَنِي أمية مَعَ خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسُري وَكَانَ خَالِد مكرمًا لَهُ. ولما قدم دَاوُد مَكَّة واليًا عَلَيْهَا قام خطيبًا فَقَالَ بَعْد حمد اللَّه والثناء عَلَيْهِ: والله مَا قمنا إلّا لإحياء الكتاب والسنة والعمل بالحق والعدل، ورَبّ هَذِهِ البنية، ووضع يده عَلَى الْكَعْبَة، لا نُهيجُ منكم أحدًا إلّا أَن يُحدثَ بَعْد يومه هَذَا حدثًا، أمِنَ الأسودَ والأبيضُ مِمَّنْ لَمْ يأت بَعْد [5] هَذَا اليوم سوءًا وَلَمْ يُحاول لأمرنا نَقْضًا ولا عَلَيْنَا بغيًا، مَا بال الوحوش والطير تأمنُ فِي حرم اللَّه ويخاف من آمنَّاه عَلَى سالف [6] مَا كَانَ منه؟
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ عَنْ إِسْحَاق بْن عِيسَى بْن عَلِي قَالَ: و [7] لم يكن مِنَّا من يرتجل الْكَلام ويبلغ حاجته فِي الخطب إلّا الْمَنْصُور وَدَاوُد بْن عَلِي [8] ، فَلَمَّا رقي دَاوُد منبر الكوفة، حِينَ [9] ظهر أَبُو الْعَبَّاس بالكوفة وقام دونه عَلَى المنبر ليخطب، خفنا
__________
[1] ط: هشاما.
[2] م: فعرض.
[3] ط: يعينك.
[4] ط: أبي.
[5] ط: بعض.
[6] ط: سالفي.
[7] الواو ليست في م، د.
[8] ط: عدي.
[9] د، م: يوم.(4/87)
أَن يتكلم بحلاوة لسانه وتصاريف لفظه ولطف حيلته فيدعو إِلَى نَفْسه، وليس بوقتِ خلافٍ، فتكلم فِي بيعه أَبِي الْعَبَّاس وبلغ لَهُ مَا كُنَّا نريد.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي، حَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن إِسْحَاق بْن عِيسَى قَالَ: (569) لما أراد أَبُو الْعَبَّاس قتل أَبِي سلمة الداعية لميله إِلَى آل أَبِي طَالِب قَالَ لَهُ دَاوُد: لا تَتَوَلَّ قتله فيحتج عليك أَبُو مُسْلِم بِذَلِك، ولكن اكتب إِلَيْهِ فليُوجه من يقتله، ففعل، فكان ذَلِكَ أصوب رأي. ومدحه ابْنُ هَرمة وفيه [1] يَقُول:
دَاوُد دَاوُد لا تُفْلِت حبائله ... واشدُد يديك بباقي الود وصال [2]
فِي أبيات.
قَالُوا: ولما بلغ دَاوُد قتلُ ابْن هبيرة وقتلُ مَرْوَان وَهُوَ بالحجاز التقط قومًا من بَنِي أمية فقتلهم ببطن مُر، ووجه (أبا) [3] حَمَّاد إِبْرَاهِيم بْن حسان الأبرص إِلَى المثنى بْن يَزِيد بْن عُمَر [4] بْن هبيرة وَهُوَ باليمامة فقتله، ويقال بَل بعث به اليه من العراق. وتوفي دَاوُد بالمدينة سنة ثَلاث وثلاثين ومائة فولي مكانه مُوسَى بْن دَاوُد ثُمَّ صُرف، وولي أَبُو الْعَبَّاس مكانه زِيَاد بْن عُبَيْد اللَّه الحارثي. وسيب بَنِي دَاوُد ببغداد نُسِب إِلَى بَنِي دَاوُد بْن عَلِي.
حدثني العمري عن الهيثم عن ابن عياش [5] ، قَالَ: قدم دَاوُد بْن عَلِي وزيد بْن عَلِي ومحمد بْن عَلِي ومحمد بْن عُمَر بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَلَى خَالِد القسري وَهُوَ بالعراق فأجازهم ورجعوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا ولي يُوسُف بْن عُمَر كتب إِلَى هِشَام بخبرهم وكتب يذكر أَن خالدًا ابتاع من زَيْد أرضًا بالمدينة بعشرة آلاف درهم ثُمَّ رد الأرضَ عليْه. فكتب هِشَام إِلَى عامله بالمدينة أَن يشخصهم إِلَيْهِ ففعل، فسألهم هِشَام عما كتب بِهِ يُوسُف فأقروا بالجائزة وأنكروا مَا سِوَى ذَلِكَ، وأنكر زَيْد أمر الأَرْض وحلفوا فصدقهم، وَقَالَ هِشَام لداود: أَنْتَ اصدق من ابن النصرانية
__________
[1] زاد في ط: فقال.
[2] الديوان (ن. المعيبد) ص 178، وابن عساكر ج 5 ص 206.
[3] اضافة. انظر الطبري س 3 ص 73.
[4] م: عمرو. انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 100 والطبري س 3 ص 73.
[5] الأصل: ابن عباس. انظر ابن حجر- تقريب ج 2 ص 399.(4/88)
فصر إِلَى يُوسُف فأكذِبْهُ فِي وجهه. قَالَ ابْن هرمة فِي شعر لَهُ يمدح دَاوُد [1] :
أروع لا يُخلفُ العدات ... ولا يمنع منه نواله [2] العلل
لكنه سابغ عطيته ... يدركُ منه السؤال مَا سألوا
يسبق بالفعل [3] ظنَّ صاحبه ... ويُذهِبُ الريث [4] عُرْفُه العَجلُ
حَلَّ مِنَ المجد والمكارم ... فِي خير محل يحله [5] رجُل
وَأَمَّا عِيسَى بْن عَلِي،
ويكنى أبا الْعَبَّاس، فَإِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أبا الْعَبَّاس ولاه فارس فَلَمَّا قدمها وجد بِهَا مُحَمَّد بْن الأشعث الخزاعي من قبل أَبِي مُسْلِم، وجَّهه من خراسان، فلم يسلمها وأراد قتله ثُمَّ أحلْفَه أَن لا يلي عملًا أبدًا [6] ولا يتقلد سَيْفًا إلا لغزوٍ. وَكَانَ عِيسَى أثيرًا عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاس وأبي جَعْفَر، ونهر عِيسَى وقطيعة عِيسَى ببغداد عِنْدَ فُرضَة [7] الركاب إِلَى واسط والبصرة يُنسبان إِلَيْهِ. وقصر عِيسَى معروف وفيه توفي إِسْحَاق بْن عِيسَى، ثُمَّ نزلته أم جَعْفَر زبيدة بنت جعفر ابن الْمَنْصُور، ثُمَّ صار بعدها لولد أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَأْمُون.
سمعتُ إِبْرَاهِيم بْن السندي بْن شاهك يحدث عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: ولاني الْمَنْصُور الشرقية ببغداد فمر بي عِيسَى بْن عَلِي فقمت اليه فقبّلت يده، فقال: يا سيدي أقلل الضرب والحبس [8] وأهنِ السبال فِي الشفاعات، ففعلتُ مَا أمرني بِهِ، فكنت محمودًا عِنْدَ الْمَنْصُور.
وَأَمَّا سُلَيْمَان بْن عَلِي،
ويكنى أبا أيوب، فَإِنَّهُ كَانَ مُقدَّمًا عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاس وأبي جَعْفَر، ووَليَ البصرة وكور دجلة والأهواز والبحرين وعمان للمنصور بعد أبي العباس. وكان
__________
[1] انظر ابن عساكر ج 5 ص 205- 206. ولم ترد الأبيات في الديوان.
[2] ن. م.: تمنع منه سؤاله.
[3] ن. م.: بالفضل.
[4] ن. م.: ويقبل الرتب.
[5] د: يحيله.
[6] لم ترد كلمة «ابدا» في م.
[7] ط: قرضة.
[8] د: أطل الحبس.!(4/89)
كريمًا جوادًا مر برجل قَدْ حمل عشر ديات فَهُوَ يسأل فِيهَا فأمر لَهُ بِهَا كلها، وسمع وَهُوَ فِي سطحٍ لَهُ نسوة كنّ يغزلن فِي سطح لهنّ بقُرْبه (570) يقلن ليت الأمير اطلع عَلَيْنَا فأغنانا، فقام فجعل يدور فِي قصره فجمع حليًا من ذهب وفضة وجوهر [1] وصير ذَلِكَ فِي منديل ثُمَّ أمر فالقي إليهن فماتت إحداهن فرحًا، ويقال إنه أُخبر بقول النسوة ففعل ذَلِكَ.
وكانت لَهُ بالبصرة آثار [2] جميلة، كَانَ النَّاس بِهَا يستعذبون الماء منَ الأُبلة حَتَّى قدم سُلَيْمَان بْن عَلِي فاتخذ المغيثة وضرب مسناتها عَلَى البطيحة وسكر القِنْدَل [3] فعذب ماء أَهْل البصرة، وأنفق عَلَى المغيثة ألف ألف درهم حَتَّى استخرجها من بطن البطيحة، وَبَنِي مساجد كثيرة فَقَالَ الشاعر:
كم من يتيمٍ ومسكينٍ وأرملةٍ ... جبرتَه بَعْد فقرٍ يَا سُلَيْمَان
ومسجد خَرِبٍ لِلَّهِ تَعمرُه ... فِيهِ كهول وأشياخٌ وشُبان
واحتفر الحوض الَّذِي فِي رحبة بَنِي هاشم واتخذ منارًا بَيْنَ البصرة ومكة، فَقَالَ الراجز:
إِن الأمير قَدْ [4] بنى المنارا ... واضحة يهدي بِهَا السفارا
وجرى وادي العقيق بالبصرة فأخرب دورًا من دور العتيك [5] فدفع إِلَى جَرِير بْن حازم [6] مائة ألف درهم فعمر بِهَا مَا خرب من دورهم.
وكتب عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن بْن عَلِي إِلَى سُلَيْمَان يستميحه، فأرسل إِلَيْهِ [7] بألف دِينَار وأمر كاتبه غسان بْن عَبْدِ الحميد أَن يكتب إِلَيْهِ فيعلمه أَن البقيا عَلَيْهِ وعلى نَفْسه منعته من ان يزيده.
__________
[1] العبارة من «قصره» الى «جوهر» ساقطة من د.
[2] ط، د: آبار.
[3] انظر البلاذري- فتوح ص 371، وفي ص 363: «والقندل خور من أخوار دجلة سده سُلَيْمَان بن علي» .
[4] سقطت كلمة «قد» من ط.
[5] في هامش ط: العتيق. انظر جمهرة الأنساب ص 367 وما بعدها، والبلاذري- فتوح ص 348.
[6] د: خازم. انظر جمهرة الأنساب ص 380.
[7] ط، د: إليها.(4/90)
وَقَالَ سُفْيَان بْن عُيَيْنَة: كُلم سُلَيْمَان فِي أَهْل عسْقلان فأمر لَهُمْ بثلاثين ألفًا، فيقال إنه سُلَيْمَان بْن عَلِي ويقال إنه سُلَيْمَان بن عبد الملك.
وقدم سليمان بْن عَلِي واليًا عَلَى البصرة والحجاج بْن أرطاة يلي قضاءها فعَزلهُ وولي عباد بْن مَنْصُور ثُمَّ عزله وولي سوار بْن عَبْدِ اللَّهِ فاستعفى فأعفاه وأعاد عبادًا وفيه يَقُول الشاعر:
ألا يا أيها الْقَاضِي الَّذِي ... الجور لَهُ عاده
أعادوك لكي تقضي [1] ... لمعروف بحماده
وَكَانَ سُلَيْمَان أول من قدم الصلاة قبل الخطبة فِي العيد من عُمال أَبِي الْعَبَّاس فضج النَّاس وَقَالُوا: ذهبت السنة.
قَالُوا: وَكَانَ سُلَيْمَان حليمًا رفيقًا لَمْ يعرض لمن كَانَ بالبصرة من بَنِي أمية فلم يسلموا فِي بلد سلامتهم بالبصرة. وكتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى سُلَيْمَان بْن عَلِي فِي قبض أَمْوَالِ بَنِي زِيَاد بْن أَبِي سُفْيَان، فأرسل إِلَى مسلمة بْن محارب بْن سلم بْن زِيَاد وغيره:
إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ كتب إلي فِي قبض كُل خضراء وبيضاء لكم فإني (إِن) [2] كتبتُ أني لَمْ أجد لكم خضراء ولا بيضاء لَمْ آمن أَن يأتيكم من يقبض ذَلِكَ، فَإِن أحببتم فحدوا لي من أموالكم شيئًا ظاهرًا أقطع بِهِ عني قالته وسوء ظنه، فحدوا لَهُ ثماني مائة جريب أظهروها فقبضها. ولما صار عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي إِلَى سُلَيْمَان رَأَى رجلًا عَلَى بغل أَوْ برذون فأره وَلَهُ سرج نظيف [3] ، ولجامه محلى، فَقَالَ: من هَذَا؟ قَالَ لَهُ سُلَيْمَان: هَذَا سلم [4] بْن حرب بْن زِيَاد، فَقَالَ: أوَ قَدْ بقي من آل زياد مثل هذا؟ فقال سُلَيْمَان: نعم لَمْ أجد إليهم [5] سبيلًا، منعني مِنْهُم الحق، قَالَ: أما والله لئن بقيت لَهُمْ لأبيدنهم، فبلغ ذَلِكَ سلْمًا فهرب عَنِ البصرة فلم يدخلها حَتَّى شُخِصَ بعبد اللَّه عنها.
__________
[1] ط: يقضي.
[2] اضافة يقتضيها السياق.
[3] كلمة «نظيف» لم ترد في ط.
[4] ط: قد اسلم.
[5] م: لهم.(4/91)
قَالُوا: وقدم الحكم ومحمد وعمر بنو الصلت بْن يُوسُف بْن عُمَر البصرة فنزلوا فِي بَنِي سَعْد مستخفين فظهرت لَهُمْ هيئةٌ فِي لباسهم ومطعمهم فحسدهم [1] بَعْض جيرانهم أَصْحَاب الدار الَّتِي نزلوها فسعوا بِهِمْ (571) إِلَى سُلَيْمَان بْن عَلِي فأرسل إليهم من أتاه بِهِمْ فِي ستر، فَقَالَ: من أنتم؟ فانتسبوا لَهُ، فَقَالَ: يَا بَنِي أَخِي كَانَ ينبغي لكم إذ [2] اخترتم [3] هَذِهِ الناحية أَن تستخفوا فِي الزط والأندغار [4] وإلا ففي عَبْد القيس أَوْ بَنِي راسب، ثُمَّ أطلقهم.
حَدَّثَنِي عُمَر بْن شبه عَنْ مُحَمَّد بْن عُبَيْد بْن عُمَر [5] ، وأخبرني طارق بْن الْمُبَارَك عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ لي عَمْرو بْن مُعَاوِيَة بْن عَمْرو بْن عتبة [6] بْن أَبِي سُفْيَان: جاءت هَذِهِ الدولة وانا حديث السن منتشر الأحوال فكنت لا أكون فِي قبيلة إلا شُهر أمري، فلما رَأَيْت ذَلِكَ عزمت عَلَى أَن أفدي حرمي بنفسي، قَالَ: فأرسل إلي أَن القني [7] عَلَى بَاب الأمير سُلَيْمَان بْن عَلِي، فانتهيت إِلَيْهِ فَإِذَا عَلَيْهِ طيلسان مطبق جديد وسراويل وشي مسدولة، فَقُلْتُ: يَا سبحان اللَّه مَا تصنع [8] الحداثة! أهذا لُبْسُ هَذَا اليوم؟ فَقَالَ: لا ولكنه لَيْسَ عندي ثوب إلا وَهُوَ أشهر مِمَّا ترى. قَالَ:
فأعطيته طيلساني وأخذت طيلسانه وشمرتُ سراويلَه إِلَى ركبتيه، قَالَ فدخل عَلَى سُلَيْمَان ثُمَّ خرج مسرورًا، فَقُلْتُ لَهُ: حَدَّثَنِي بِمَا جرى، فَقَالَ: دخلت عَلَى أكرم النَّاس وأحلمهم وأنبلهم، فَلَمَّا وصلتُ إِلَيْهِ وَلَمْ يرني قط قلتُ: أصلح اللَّه الأمير لفظتني البلاد إليك ودلني فضلُك عليك فإما قبلتني غانمًا أَوْ رددتني سالمًا. قَالَ: ومن أنت؟ فانتسبت لَهُ، فَقَالَ: مرحبا بك، اقعد فتكلّم آمنا، ثم اقبل علي فقال: حاجتك يَا ابْن أَخِي، قُلْت: إِن الحُرَم اللائي أنت اقرب
__________
[1] ط: فحسد.
[2] م: إذا.
[3] ط: اخبرتم.
[4] م: الانذعار. انظر فتوح البلدان ص 375 وص 376 وص 391.
[5] في م: محمد بن عمير بن عبد بن عبيد بن عمرو، وفي فتوح البلدان ص 299، محمد بن عبيد وفي الطبري س 2 ص 225: محمد بن عبيد بن عمير.
[6] ط: عيينة. انظر جمهرة الأنساب ص 112.
[7] ط: الفتى.
[8] ط: يصنع.(4/92)
النَّاس إليهن معنا وأنت أولى النَّاس بهن بعدنا وَقَدْ خفْنَ لخوفنا ومن خافَ خيفَ عَلَيْهِ. قَالَ: فبكي ثُمَّ قَالَ: يَا ابْن أَخِي يحقن [1] اللَّه دَمَكَ ويحفظك [2] فِي حرمك ويوفر [3] عليك مَالِك ولو أمكنني ذَلِكَ فِي جَمِيع أهلك لفعلت، فكن متواريًا كظاهر ولتأتني رقاعك فِي حوائجك وأمورك. قَالَ: فكنت والله أكتب إِلَيْهِ كَمَا يكتب الرجل إِلَى أَبِيهِ وعمه. قَالَ: فَلَمَّا فرغ من حَدِيثه رددتُ عَلَيْهِ طيلسانُه، فَقَالَ: مهلًا فَإِن ثيابنَا إِن فارقتنا لَمْ ترجع إلينا.
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي لسليمان: اخرج بنا إِلَى بَعْض المتنزهات، فخرجا ومعهما حميد الطويل فمرا بمنزل عَطَاء السليمي فدخلوا عَلَيْهِ فلم يزل يعظهم حَتَّى بكى سُلَيْمَان وأمر بِمَا حمل مَعَهُ من الطعام أَن يتصدق بِهِ عَلَى فقراء الخريبة [4] وانصرف، فجعل عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يَقُول: مَا لنا ولعطاء السليمي.
وحدثت أَن سُلَيْمَان بْن عَلِي أعتق خلقًا، كَانَ يعتق فِي كُل عشية عَرَفَة مائة نسمة، فَهُمْ متفرقون بالبصرة، فَإِذَا كَانَتْ كتب [5] لعطاء: اكتبوا فِي الموالي، وكانوا يُشترون لَهُ فِي سائر السنة فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ اليوم أعتقهم. ويقال إنه أنفق فِي الموسم فِي صِلاتِ قريش والأنصار وسائر النَّاس فِي الصدقات خمسة آلاف ألف درهم ويقال ألف ألف درهم. وتوفي فِي سنة اثنتين وأربعين ومائة وَهُوَ ابْن ثَلاث وستين سنة وصلى عَلَيْهِ عَبْد الصمد بْن عَلِي.
وَقَالَ أَبُو نخيلة [6] فِي سُلَيْمَان بْن عَلِي:
جاورتُ بالبصرة [7] قرما ماجدًا ... أمسى لسادات الرجال سائدا
بنو عَلِي فرجوا الشدائدا ... أكرم بِهِمْ وبعلي والدا
يَا خير خلق مُقدمًا وصافدا
__________
[1] م: تحقن.
[2] م: تحفظك.
[3] م: توفر.
[4] في د، م: الحربية، وهذا تحريف. انظر الطبري س 1 ص 2378، والبلاذري- فتوح ص 347، ص 350.
[5] ط، م: كتبه.
[6] انظر الاغاني ج 20 ص 361 وما بعدها.
[7] ط: في البصرة.(4/93)
فِي أبيات. وَقَالَ أَبُو القوافي الأعرابي يمدح سُلَيْمَان فِي أرجوزة طويلة [1] :
يطلبن بالمدح عجالًا شُرَّبا ... جدوى سُلَيْمَان فلا مستجدبا
خير قريش من قريش منصبا ... وخيرها خالًا وعمًّا وأبا
وخير ذي قربى لمن تقربا
ومدحه رؤبه [2] وغيره.
(572) قَالُوا: وَكَانَ الْمَنْصُور جعل لسليمان جَمِيع [3] مَا يجتبي من عمله، فكان يقسم فِي السنة أموالًا عظامًا.
فولد سُلَيْمَان بْن عَلِي جعفرًا ومحمدًا وإبراهيم وهارون وموسى وعليا وعبد الرَّحْمَن وعبد الرحيم وعيسى وعبد اللَّه وإسحاق لأمهات شتى. وَكَانَ لَهُ بنات منهن عَائِشَةُ بِنْت سُلَيْمَان تزوجها عَبْد الْوَهَّاب بْن إِبْرَاهِيمَ الْإِمَام، ومنهن زينب بِنْت سُلَيْمَان تزوجها مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ الْإِمَام. وَكَانَ جَعْفَر ومحمد ابنا سُلَيْمَان بْن عَلِي لأم الْحَسَن بِنْت جَعْفَر بْن حسن بْن حسن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب. وَوَلِيَ عَبْد الرَّحْمَن بْن سُلَيْمَان، ويكنى أبا الفضل، للرشيد السند. وَوَلِيَ عَبْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان، ويكنى أبا الْعَبَّاس، للمهدي اليمن، وفيه يَقُول الشاعر:
قل لعبد اللَّه يَا حلف الندى ... وربيع النَّاس فِي قحط الزمن
أشرقت بغداد لما جئتها ... واقشعرت حزنا أرض اليمن
وولي إِسْحَاق بْن سُلَيْمَان، ويكنى أبا يعقوب، المدينة والبصرة والسند ومصر ولهارون الرشيد وولي حمص وأرمينية لمحمد بْن الرشيد.
وَأَمَّا مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان، ويكنى أبا عَبْد اللَّهِ، فَإِنَّهُ ولي الكوفة والبصرة لأبي جَعْفَر الْمَنْصُور، وَكَانَ عَلَيْهَا قبله سلم بْن قُتَيْبَة، فكتب إِلَيْهِ فِي هدم دور من خرج مَعَ إِبْرَاهِيمَ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن، فكتب اليه يسأله الصّفح
__________
[1] كلمة «طويلة» ليست في ط.
[2] ط: روية.
[3] «جميع» ليست في م.(4/94)
عَنْهُمْ، فَقَالَ: لو كتبتُ إِلَيْهِ فِي شربة ماء لراجعني، فعزله وولي محمدًا مكانه.
ثُمَّ ولي البصرة وكور دجلة وفارس والأهواز واليمامة وعُمان والبحرين للمهدي ولموسى وهارون وَمَاتَ وَهُوَ ابْن إحدى وخمسين سنة.
قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح الْمُقْرِئ: ولي مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان الكوفة لأبي جَعْفَر فولى شرطته المساور بْن سوار الجَرْميّ واستخلف المساور زهدمًا، فَقَالَ الشاعر:
قل للمساور إن زهدم [1] جائر ... فخفِ الاله وأَعْفِنَا من زهدم
مَا أَن يبالي [2] ويحه من لامه ... من خَلق ربك كلهم فِي الدرهم
وَحَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد التوزي النحوي، حَدَّثَنِي أَبُو عُبَيْدَة عَنْ أَبِي سُفْيَان بْن العلاء قَالَ: كُنَّا بالكوفة مَعَ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان فسأل عَنْ إِبْرَاهِيم النخعي أعَرَبيُّ هوَ أم مَوْلَى؟ فاختلفوا عَلَيْهِ فِيهِ فأرسل إِلَى عرفاء النخع فأتوه بديوانهم فُوجِد فِي الديوانِ مَوْلَى.
وَقَالَ التوزي [3] : وَقَدْ سألتُ ابْن الْكَلْبِيِّ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ إِبْرَاهِيم بْن يَزِيد بْن الأَسْوَدِ بْن عَمْرو بْن ربيعة بْن حارثة بْن سَعْد بْن مَالِك بْن النخع [4] ويكنى أبا عِمْرَانَ وَكَانَ أعور.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعَجْلِيُّ عَنْ أَبِي زبيد عبَثْر قَالَ: ولي أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان بْن عَلِي الكوفة بمشورة عِيسَى بْن عَلِي فشهدت جَمَاعَة من أَهْل السوق عَلَى عَبْد الكريم بْن نويره- وَهُوَ ابْن أَبِي العوجاء الذهلي [5]- أَنَّهُ رَأَى عدلًا قَدْ كتب عَلَيْهِ صاحبه [6] آية الكرسي فَقَالَ لَهُ: لَمْ كتبت هَذَا؟
قَالَ: لئلا يسرق، فَقَالَ عَبْد الكريم: فَقَدْ رأينا مصحفًا سرق. وشهد عَلَيْهِ أَنَّهُ صلى فَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ لا تؤمن بِمَا جاء به محمد فلم تصلّي؟ فقال: هي عادة
__________
[1] في ط، د: جعفر، وفي م: زهدما.
[2] يضيف م: وحده.
[3] م: التوزي، والنسبة الى توز. انظر مراصد الاطلاع ج 1 ص 218، والاشتقاق لابن دريد ص 81.
[4] ط: ابن النخعي.
[5] انظر جمهرة الأنساب ص 316.
[6] في م: كتب صاحبه عليه.(4/95)
الجسد [1] وسنة البلد وإرضاء الأهل والولد. فأمر بحبسه، فكلم فِيهِ فَقَالَ [2] : أذكرتموني 130/ 1 أمره ودعا بِهِ فضرب عنُقُه. قَالَ عَبْثَر: فزعموا أَنَّهُ لما أيقن بالقتل قَالَ: لئن قتلتموني لَقَدْ وضعتُ فِي أحاديثكم أربعة آلاف حَدِيث. قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح: وأنكر الْمَنْصُور عَلَى مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان قتله ابْن أَبِي العوجاء من غَيْر مؤامرة لَهُ وَقَالَ: أيُقتل رجلٌ من العرب بغير علمي، وأغضبه ذَلِكَ. وَكَانَ معن بْن زائدة يشكو فعل مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان إِلَى الْمَنْصُور وَيَقُول: قتل رجلًا بريئًا ممّا قرف به، انما قتله لأنه قَالَ: أَنَا [3] تلميذ الْحَسَن، فَقَالَ: «تلميذ» من قَوْل الزنادقة. (573) وبعث الْمَنْصُور إِلَى عِيسَى بْن عَلِي فَقَالَ لَهُ: أيقتل [4] مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان رجلًا بشهادة قوم رعاع لا يدرى من هُمْ؟ لَقَدْ هممتُ أَن أقيده بِهِ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: إِن محمدًا قتله عَلَى زندقة هُوَ ينسب إِلَيْهَا، فَإِن كَانَ قتله صوابًا [5] فَهُوَ لَك وإن كَانَ خطأ فَهُوَ عَلَى مُحَمَّد، والله لئن عذلت محمدًا عَلَى مَا صنع ليذهبن بالثناء والذكر ولترجِعنّ القالةُ من العامة عليك. وَقَدْ كَانَ الْمَنْصُور أمر بعزل مُحَمَّد وكُتبت الكتب، فدعا بِهَا فمزقت، وَقَالَ لعيسى: أغررتني [6] من هَذَا الغلام.
وَقَالَ أَبُو اليقظان: أتى أَبُو الزحف بْن عَطَاء بْن الخطفي مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان فأمره أَن ينشده وَهُوَ سكران فَقَالَ:
يَا ابْن سُلَيْمَان أقلني عثرتي ... يَا ابْن الملوك وأَسِغْني [7] ربقتي [8]
حَتَّى تجلي عَنْ فؤادي غمتي ... ثُمَّ أجمع الرجاز عِنْدَ صولتي
كُل فزاري دهين اللمة ... او بدوي ودعٍ ذي ثُلَّة
وحدثت، أَن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان بْن عَلِي وَلِيَ الْمَدِينَةَ بَعْد قتل محمد بن عبد الله ابن الْحَسَن بْن الْحَسَن. وَكَانَ أَبُو بَكْر بْن أَبِي سبرة، وَهُوَ أَبُو بَكْر بْن عَبْدِ الله بن
__________
[1] الأصل في ط، د: البدن، وصلحت في كليهما في الهامش ب «الجسد» .
[2] «فقال» ليست في ط.
[3] في ط: انما.
[4] ط: أتقتل.
[5] العبارة: «له عيسى» الى «صوابا» ليست في ط.
[6] م: اغريتني.
[7] م: أسعني.
[8] ط: ريقتي.(4/96)
مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي سبرة بن أبي رهم [1] ، أحد [2] بني عامر بن لؤي، الفقيه، عاملًا عَلَى الصدقات من قبل عامل الْمَنْصُور، فلما خرج مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ أتاه بِمَا اجتمع عنده من المال فقواه بِهِ فحبسه عِيسَى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِي حِينَ قتل محمدًا، وخرج سودان بالمدينة وعليهم رَجُل مِنْهُم يُقَالُ لَهُ أويتوا فكسروا بَاب السجن وأخرجوه فيمن أخرجوا وأرادوا فك حديده فأبى وعاد إِلَى محبسه [3] .
وقيل لَهُ حِينَ أخرج: صلِّ بالناس، فَقَالَ: كَيْفَ يُصلي بالناس أسير! وبلغ ذَلِكَ أبا جَعْفَر الْمَنْصُور فرضي عَنْهُ وأوصى [4] بِهِ جعفرًا وَقَالَ: أطلقه وارفعه فَقَدْ أَحْسَن بَعْد أَن أساء ولعله فعل مَا فعل إبقاءً عَلَى نفسه وحقنا لدمه. فلما قدم جعفر المدينة أخرج ابْن أَبِي سبرة وأطلقه وبره وأكرمه، فَقَالَ لَهُ: أصلح اللَّه الأمير إِن حالي مختلة ودَيْني كثير لما نالني، وبيني وبين معن بْن زائدة مودة فاكتب لي إِلَيْهِ بالوَصاة والصلة فَإِنَّهُ إِذَا قرأ كتابك بِذَلِك لَمْ يستوحش مني، فكتب لَهُ بِمَا سَأَلَ. فلقي الراتجي فدعاه إِلَى الخروج مَعَهُ وأعطاه دنانير خلفها نفقةً لعياله، وسار إِلَى مَكَّة فاعتمرا ثُمَّ مضيا جميعًا إِلَى اليمن. فَقَالَ معن لابن أَبِي سبرة: إِن جعفرًا أقدر عَلَى صلتك مني، وكيف قدمت عَلِي وَقَدْ عرفت مَا كَانَ منك ومن غضب أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عليك! فَأَخْبَرَه خبره وحلف لَهُ عَلَى رَضِيَ الْمَنْصُور عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ: كم دَينك [5] ؟ قَالَ: أربعة آلاف دِينَار، فأمر لَهُ بسبعة آلاف دِينَار وَقَالَ: إني إِنَّمَا كلمتك بِمَا كلمتك به على رؤوس الناس وما كنت لأخيبك ولو استمحتني وأنت فِي محبسك لوصلتك، وأخبره بخبر الراتجي، فَلَمَّا راح إِلَى معن أدخله مَعَهُ، فأنشد الراتجي معنا:
الراتجي يَقُول فِي مدحٍ ... لأبي الْوَلِيد أَخِي الندى الغَمرْ
ملك بصنعاء الملوك لَهُ ... مَا بَيْنَ بَيْت الله والشحر
[6]
__________
[1] ط: زهم. انظر جمهرة الأنساب ص 169.
[2] ط: أخذ.
[3] ط: حبسه.
[4] م: ارضى.
[5] ط: بينك.
[6] ط: النحر.(4/97)
لو جاودته الريحُ مُرسَلة ... لجرى [1] بجودٍ فَوْقَ مَا تجري
(574) حَمَلَتْ بِهِ أمٌ مباركة ... فكأنها بالحمل لَمْ تدري
فَقَالَ معن: فكان ويحك ماذا؟ قَالَ:
حَتَّى إِذَا مَا تمَّ تاسِعُها ... ولدتهُ أول ليلة القدر
فَقَالَ معن: ثُمَّ ماذا ويحك؟ قَالَ:
وأتت بِهِ بيضًا أسرته ... يُرجَى [2] لحمل نوائب الدهر
مسح القوابلُ وجهه فبدا ... كالبدر أَوْ أبهى من البدر
فنذرنَ حِينَ رأينَ غرتهُ ... إنْ عاشَ أنْ سَيفِين بالنُّذر
لِلَّهِ صومًا شكرَ نعمته ... والله أَهْل الحمد والشكر
قَالَ معن: ويحك ثُمَّ ماذا؟ قَالَ:
فأتى بحمد اللَّه حِينَ أتى ... حسن المروءة باقي الذكر
حَتَّى إِذَا مَا طَر شاربُه ... خشع الملوك لسيد قَهر
فَإِذَا وَهِيَ ثغرٌ يُقَالُ لَهُ ... يَا معنُ أَنْتَ سدادُ ذا الثغر
فأمر لَهُ بألف دِينَار فأخذها وانصرف مَعَ ابْن أَبِي سبرة، فأعطاه ابْن أَبِي سبرة ألف دِينَار أُخْرَى.
حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ، قَالَ: سمعت عَبْد الرَّزَّاقِ يحدث، قَالَ: قدم ابْن أَبِي سبرة عَلَى مَعْنٍ فأعطاه وكساهُ، فَقَالَ ابْن أَبِي سبرة: إِن اللَّه جعل من عباده معادن الخير، ومعن بْن زائدة من أفضلهم. وبلغ الْمَنْصُور خبرُ ابْن أَبِي سبرة، فكتب إِلَى جَعْفَر بْن سُلَيْمَان: مَا حَمَلك عَلَى أَن أذنت لابن أبي سبرة في الشخوص إلى اليمن فاستوصلت [3] معنا؟ فكتب إِلَيْهِ: أوصيتني بِهِ وقلتَ أطلقه وأرفقه،
__________
[1] ط: جرى.
[2] م: ترجى.
[3] د، م: واستوصلت.(4/98)
فكان عندي من الاستيصاء بِهِ وإرفاقه أَن كتبتُ لَهُ إِلَى معن، فكتب إِلَى معن:
مَا حملك عَلَى مَا صنعت بابن أَبِي سبرة؟ فكتب إِلَيْهِ: إِن جَعْفَر بْن سُلَيْمَان كتب إليّ برضا [1] أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عَنْهُ واستماحَني لَهُ، فظننت أَنَّهُ لَمْ يكن ليفعل ذَلِكَ إلّا بأمر أمِير الْمُؤْمِنيِنَ.
ومدح إِبْرَاهِيم بْن عَلِي بْن هَرْمة جعفرَ بْن سُلَيْمَان بأبيات [2] يَقُول فِيهَا:
إِذَا هاشم قادت لفخرٍ جيادها ... أتوه فقادوه أغر محَجّلا
فأحرز غايات الرهان ونحتها ... مُريحًا [3] بأدنى شأوه متمهّلا
إِذَا كسد الجودُ الربيح بسوقه ... أتى جعفرٌ فابتاعه ثُمَّ أجزلا
أرى جعفرًا والله جار [4] لجعفر ... تجوّد [5] في كسب العلا [6] وتعمّلا
[7] وَقَالَ فِيهِ أيضًا:
وإن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ برأفةٍ ... علينا وخصيصاه [8] أمّر جعفرا
ووثقنا بخير منك لا شرّ بعده ... فَأَسْهَلَ منّا [9] آمنًا من توعّرا
فِي أبيات، ومدحه شعرًا فأعطاه [10] . وَقَالَ فِيهِ ابْن المولي:
أَوحشتِ الجماء [11] من جَعْفَر ... وطال مَا كَانَتْ بِهِ تعمرُ
كم صارخ يدعو وذي كُرْبَةٍ ... يَا جَعْفَر الخيرات [12] يا جعفر
__________
[1] «برضا» ليس في ط.
[2] لم ترد هذه الأبيات في الديوان.
[3] ط: مرتحا.
[4] ط: جاز.
[5] ط: يجود.
[6] ط، د: العلاء.
[7] ط: تغملا.
[8] ط، د: خصيصا.
[9] ط: ما.
[10] د، م: فأعطاهم.
[11] الجماء: جبل من المدينة على ثلاثة اميال من ناحية العقيق الى الجرف. مراصد الاطلاع ج 1 ص 263.
[12] ط: الخير أنت.(4/99)
وَأَمَّا صَالِح بْن عَلِي،
ويكنى أبا الفضل، فهو المتوجه الى مصر لمحاربة مروان ابن مُحَمَّد وعلي مقدمته عامر بْن إِسْمَاعِيلَ المُسلي، فقتل مَرْوَان وفتح مصر، وَلَمْ يحل عَنْ طاعة أَبِي الْعَبَّاس ولا مال إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي، وقدم معهُ ابْن لَهِيعة والليث بْن سَعْدٍ.
(575) وَكَانَ قَدْ أَخَذَ خصيًّا لمروان فدلهم عَلَى البُرْد والقَعْب والمخضب [1] والقضيب.
ويقال: إِن البرد لَمْ يكن فيما دُلّ عليْه.
وَحَدَّثَنِي عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ الْعَزِيز [2] من ولد صَالِح بْن عَلِي قَالَ: لما أُتي صَالِح برأس مَرْوَان وأمر بأن يُنتف [3] وينفض [4] انقطع لسانه فتناوله هر، فَقَالَ صَالِح:
ماذا ترينا الأيام من العجائب، هَذَا لسان مروان في فم هرّ. وقال الشاعر:
قَدْ فَتّح اللَّه مصرًا عنوةً لكُم ... واهلك الفاجر الجعديّ إذ ظلما
فلاكَ مِقوَله هر يجرره ... وَكَانَ ربُّك من ذي الكفر مُنتقما
وإنما قيل لمروان «الجعدي» لأنه نُسب إِلَى الجَعْد بْن درهم معلّمه وأليفه، والجعد بْن درهم مَوْلَى لسويد بْن غفلة الجُعفي. ويقال، إنه مَوْلَى لآل مَرْوَان، وَكَانَ زنديقًا أَوْ دهريًا فَقِيلَ لهشام بْن عَبْدِ الْمَلِك: أَن الجعد كافر، وشهد عَلَيْهِ أَن ميمون بْن مهران وعظه فَقَالَ: لشَاةُ قياد أحَبّ إلي مِمَّا تدين بِهِ، فَقَالَ لَهُ:
قتلك اللَّه وَهُوَ قاتِلُك.
ويقال إِن ميمون بْن مهران شهد عَلَيْهِ، فطلبه فهرب إِلَى حران، ثُمَّ إنه ظفر بِهِ فحمل إِلَى هِشَام فأخرجه [5] من الشام والجزيرة إِلَى العراق، وكتب إِلَى خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري يأمره بحبسه، فلم يزل محبوسًا حينًا ثُمَّ رفعت امرأته إِلَى هِشَام قصة فِي أمره، فَقَالَ هِشَام: أوَ حَيُّ هُوَ؟ قالوا: نعم، فكتب إِلَى خَالِد يلومه عَلَى حبسه ويعزم عَلَيْهِ أَن يقتله. فَقَالَ خَالِد فِي يَوْم أضحى بعد فراغه من خطبته: ايها
__________
[1] ط: المخصب.
[2] ط: عبد الله بن العزيز.
[3] د: ينقف.
[4] م: ينقض.
[5] م: واخرجه.(4/100)
النَّاس انصرفوا إِلَى أضاحيكم فَإِنِّي مُضَحٍّ بعدو اللَّه الجعد بْن درهم، فَلَمَّا انصرفوا [1] قتله، فيقال أَنَّهُ ذبحه ويقال إنه ضرب عنقه. وقوم يزعمون إِن الجعد كَانَ يَقُول بقَوْل غيلان وَقَدْ كذبوا.
وَأَمَّا إِسْمَاعِيل بْن عَلِي،
ويكنى أبا الْحَسَن، فولاه الْمَنْصُور فارس والبصرة وكسكر. ولما توفي أَبُو الْعَبَّاس تزوج امرأته أم سلمة بِنْت يعقوب فغضب عَلَيْهِ الْمَنْصُور وَقَالَ: أتنكح امْرَأَة أمِير الْمُؤْمِنيِنَ! فطلقها، ويقال إنه خطبها فَلَمَّا غضب عَلَيْهِ أمسك، ثُمَّ إنه رَضِيَ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْن الدمينة الخثعمي [2] لأحمد بْن إِسْمَاعِيلَ [3] :
يَا أَحْمَد الخير ابْن إسماعيلا ... إليك أشكو الغلّ والكبولا
وغشم ظلم من بَنِي سلولا ... أزجي إليك شارفًا نسولا
[4]
أَظلُّ فَوْقَ رَحلها معدولا
[5]
وَأَمَّا عَبْد الصمد بْن عَلِي،
ويكنى أبا مُحَمَّد، فكان مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي بالشام، فَلَمَّا خَلَع عبد الله صيّره ولي عهده، فحارب أَهْل خراسان [6] فظُفِر بِهِ، وكلّم المنصورَ فِيهِ إسماعيلُ بْن عَلِي فرضي عَنْهُ. وأنشد الْمَنْصُور:
قل لإسماعيل لولا أَنْتَ لَمْ ... ينج مني سالِمًا عَبْد الصّمَد
وَهُوَ شعر قيل فِي عَبْد الصمد بْن عَبْدِ الأَعْلَى الشيباني، وَذَلِكَ أَن سَعِيد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن حسان بْن [7] ثابت وَفد عَلَى الشام وَكَانَ غلامًا فكان يختلف إِلَى عَبْد الصمد بْن عَبْدِ الأَعْلَى، وَهُوَ يؤدب الْوَلِيد بْن يَزِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك بسبب الأدب، فراوده عَبْد الصمد عَلَى نَفْسه، فدخل عَلَى هِشَام مغضبًا فَقَالَ [8] :
__________
[1] ط، د: انصرف.
[2] ترجمته في الاغاني ج 17 ص 47 وما بعدها.
[3] انظر اخبار الدولة العباسية ص 147- 8.
[4] ن. م. ص 148: إليك أزجي عنسا نسولا.
[5] في ن. م. شطر قبله: صائبة الرجل بها زجولا.
[6] زاد في ط: وكلم.
[7] «ابن» ليست في ط.
[8] انظر الراغب الاصبهاني- محاضرات الأدباء ج 1 ص 54- 5.(4/101)
(576)
إنه والله لولا أَنْتَ لَمْ ... ينجُ مني سالِمًا عبدُ الصمد
قَالَ هِشَام ولَم ذاك؟ قَالَ:
إنه قَدْ رام مني خطة ... لَمْ يَرُمْهَا قبله مني أحد
فَهُوَ فيما كَانَ منه كالذي ... يبتغي الصّيد لدي خيس الأسد
[1] وَقَدْ [2] وَلِيَ عَبْد الصمد للمنصور وغيره ولايات، وحج بالناس غَيْر مرة.
وتوفي عَبْد الصمد بغداد فِي سنة خمس وثمانين ومائة، وإلى عَبْد الصمد تُنسب [3] هَذِهِ القباب الَّتِي يُقَالُ لَهَا العبدُ الصَّمَدية. وَكَانَ مولد عَبْد اللَّهِ بْن الحارث بْن نوفل بْن الحارث بن عبد الْمُطَّلِبِ بْن هاشم الَّذِي يُقَالُ لَهُ بَبَّة [4] عَلَى عهد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومولد عَبْد الصمد فِي سنة تسع ومائة وهما فِي القُعدُد إِلَى هاشم سواء. وحج عَبْد الصمد سنة خمسين ومائة، وحج يَزِيد بْن مُعَاوِيَة فِي سنة خمسين وهما فِي القُعْدُد إِلَى عَبْد مناف سواء. وبين عَبْد الصمد وبين خالد ابن عَبْدِ اللَّهِ ذي الجدين بْن عَمْرو بْن الْحَارِث بْن هَمام بْن مُرة بْن ذُهْلِ ابن شَيْبَان بْن ثَعْلَبَة بْن عُكابة بْن صَعب بْن عَلِيِّ بْنِ بَكْر بْن وائل بْن قاسط بن يقنب بْن أفصى بْن دعمى بْن جديلة بْن أسد بْن ربيعة بْن نزار من الآباء إِلَى نزار سواء، وذو الجدين جاهلي. وبين طرفة بْن العبد بْن سُفْيَان بْن سَعْد بن مالك ابن ضبيعة بْن قيس بْن ثعلبة بْن عكابة [5] وبين نزار من الآباء أقل مِمَّنْ بَيْنَ عَبْد الصمد ونزار من الآباء بأب واحد. وبين عَبْد الصمد وسعيد بْن زَيْد بْن عمرو ابن نفيل بْن عَبْدِ الْعُزَّى بْن رِياح بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن قرط بْن رزاح بْن عدي بن كعب [6]
__________
[1] يرد البيت في الاغاني ج 8 ص 270:
رام جهلا بي وجهلا بأبي ... يدخل الأفعى الى خيس الأسد
ويبدأ الشطر الثاني في محاضرات الأدباء: يولج العصفور.
[2] «قد» ليست في ط.
[3] ط: ينسب.
[4] انظر جمهرة الأنساب ص 70.
[5] انظر الاشتقاق لابن دريد ص 357.
[6] انظر جمهرة الأنساب ص 150- 151.(4/102)
إِلَى كعب من الآباء سواء، وسعيد من أَصْحَاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ فِي عصر عَبْد الصمد مَنْ بينه وبين عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ خمسة آباء وَهُوَ جَعْفَر بْن الفضل بْن الْعَبَّاس بْن عِيسَى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِي.
وَقَالَ بَعْضهم إِن عَبْد الصَمد وإسماعيل بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن قَيْس بْن مخرمة [1] وعبد اللَّه بْن عُروة [2] بْن الزُّبَيْر ورثوا آخر من بقي من بَنِي عَبْد قصي بالقُعْدُد.
وَقَالَ الشاعر يمدحه:
استمع مدحةً أتتك ابتدارًا ... جمعت شدةً وعنفًا ولينا
فاغرِ بَيْنَ الأبيات لا مكرهات ... مثل مَا يُكرِهُ السباق الحرونا
فتغنّي يا طيب [3] عَنْ كُل قطر ... بالأمير الَّذِي بِهِ تُغبطينا
وأما يعقوب بْن علي
بْن عَبْد اللَّهِ وَهُوَ أَبُو الأسباط فلا عقب لَهُ.
وَأَمَّا عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الأصغر،
فيكنى أبا مُحَمَّد، ولاه أَبُو الْعَبَّاس محاربة مَرْوَان بْن مُحَمَّد وضمّ إِلَيْهِ وجوه قواد خراسان، فلقي مَرْوَان بالزابي نَحْو الموصل ومروان فِي مائة ألف فقاتله [4] وهزمه، وقتل من أَصْحَابه خلقًا كثيرًا فكان من [5] غرق فِي الزابي أَكْثَر مِمَّنْ قتل، وَكَانَ مِمَّنْ غرق إِبْرَاهِيم بْن الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك المخلوع فيما يُقَالُ. ويقال إِن إِبْرَاهِيم لَمْ يحضر هَذِهِ الحرب وأن مَرْوَان كَانَ قتله وصلبه.
ويقال أيضًا إِن عَبْد اللَّهِ [6] بْن عَلِي قتله بنهر أَبِي فطرس مَعَ من قتل من بَنِي أمية، وقتل فِي هَذِهِ الوقعة سَعِيد بْن هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك، (577) ويقال: قتله عَبْد اللَّهِ بالشام. ومضى مَرْوَان إِلَى حران ثُمَّ إِلَى دمشق، فاقتطع أَهْل حمص بعض ثقله،
__________
[1] انظر جمهرة الأنساب ص 73.
[2] ط: عرمرة.
[3] في هامش د: «يعني طيبة مدينة رسول الله (ص) » .
[4] م: فقتله.
[5] ط: ممن.
[6] م: علي بن عبد الله.(4/103)
ومضى من دمشق الى مصر وخلف بدمشق الوليد بن معاوية بن مروان بن عبد الملك ابن مَرْوَان [1] فحصره عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي وافتتحها وقتل الْوَلِيد بْن مُعَاوِيَة، ويقال بَل بعث به الى أبي الْعَبَّاس فقتله وصلبه بالحيرة. ومكث النَّاس يقتتلون بالمدينة ساعات [2] وهدم عَبْد اللَّهِ سور مدينة دمشق. ثُمَّ توجه عَبْد اللَّهِ إِلَى فلسطين وصار إِلَى نهر أَبِي فطرس، ووجه أخاه صَالِح بْن عَلِي إِلَى مصر فِي طلب مَرْوَان وعلى مقدمته عَامِر بْن إِسْمَاعِيلَ بْن عامر بْن نَافِع أحد بَنِي مُسْلِيَة، وَهُوَ عمرو ابن عامر بْن عَمْرو بْن علة بْن خَالِد [3] فقتل مَرْوَان ببوصير من مصر.
ويقال إِن أبا الْعَبَّاس كتب إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي يأمره بتوجيه صَالِح إِلَى مصر.
وبعث صالح برأس مَرْوَان إِلَى عَبْد اللَّهِ فأنفذه إِلَى أَبِي الْعَبَّاس وَهُوَ بالكوفة فنُصب بِهَا، ويقال: بَل بعث بِهِ صَالِح إِلَى أَبِي الْعَبَّاس.
ولما صار عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي إِلَى نَهر أَبِي فطرس أمر فنودي فِي بَنِي أمية بالأمان فاجتمعوا إِلَيْهِ فعجلت الخراسانية إليهم بالعمد فقتلوهم، وقتل عَبْد اللَّهِ جماعةً مِنْهُم ومن أشياعهم، وأمر بنبش قبر مُعَاوِيَة فَمَا وُجِد من مُعَاوِيَة إلّا خط، ونبش قبر يَزِيد بْن مُعَاوِيَة فوجد من يَزِيد سلاميات رجلَة ووُجِد من عبد الملك ابن مَرْوَان بَعْض شؤون رأسه، وَلَمْ يوجد من الْوَلِيد وسليمان إلّا رفات، ووجد هِشَام صحيحًا إلّا شيئًا من أنفه وشيئًا من صدغه، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ طلي بالزئبق والكافور وماء الفوة، ووُجدت جمجمة مسلمة فاتخذت غرضًا حَتَّى تناثرت، وَلَمْ يعرض لعمر بْن عَبْدِ الْعَزِيز، وجمع مَا وجد فِي القبور فأحرق.
ولما توفي أَبُو الْعَبَّاس كتب إِلَيْهِ عِيسَى بْن عَلِي وعيسى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد بوفاته وتوليته عَهْدَه [4] أبا جَعْفَر عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد وعيسى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد إِن كَانَ بعده. وَكَانَ أَبُو جَعْفَر حاجًا فشخص إِلَيْهِ بالكتاب بِذَلِك أَبُو غسان حاجب أَبِي الْعَبَّاس ومولاه واسمه زِيَاد، ويقال يَزِيد، والهيثم بن زياد الخزاعي،
__________
[1] انظر جمهرة الأنساب ص 88.
[2] م: عدة ساعات.
[3] انظر جمهرة الأنساب ص 414، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 58 ولوحة 62 وآخر اسم في السلسلة «جلد» بدل «خالد» ، وانظر السويدي- سبائك الذهب ص 36.
[4] ط: بعده.(4/104)
فَلَمَّا قرأ الكتاب قَالَ: إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ نَدَب [1] النَّاس إِلَى مَرْوَان فتثاقلوا عَنْهُ فَقَالَ: من انتدَبَ لَهُ من أَهْل بَيْتِي فَهُوَ الخليفة بعدي، فانتدبتُ لَهُ، فصدقه أَبُو غسان وسلم عَلَيْهِ بالخلافة، ووعظه الهيثم فَقَالَ لَهُ: نشدتك اللَّه أَن تهيج الْفِتْنَة وتعرض نفسك وأهل بيتك للهلكة وزوال النعمة. وخطب عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي فَقَالَ:
إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ رحمه اللَّه استخلفني، فصدقه [2] أَبُو غسان وكذبه الهيثم فأمر بِهِ فضربت عنقه.
وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: كتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن علي يأمره بغزو الصّائفة، فوافاه خبر وفاته وَهُوَ مِمَّا يلي درب الحَدَث يريد دخول بلاد الروم فدعا عبد الحميد ابن ربعي الطائي وخُفاف بْن مَنْصُور الْمَازِنِيّ ونصير بن المحتفر [3] المزني وحبّاش [4] ابن حبيب الطائي صاحب جوبة حَبّاش ببغداد فِي ظهر ربض حميد بْن قحطبة، فَقَالَ: إِن أبا الْعَبَّاس وجهني إِلَى مروان على ان ألي [5] الأمر بعده، فقاموا لَهُ [6] فسلموا عَلَيْهِ بالخلافة. وأرسل إِلَى الحكم بْن ضبعان الجذامي وزفر بْن عَاصِم الهلالي وبكار بْن مُسْلِم العُقيلي وعثمان بْن سراقة بْن عَبْدِ الأَعْلَى بْن سراقة (578) الْأَزْدِيّ فَقَالَ لَهُمْ مثل مقالته لأبي غانم وأَصْحَابه، فَقَالَ بكار: أَنَا سهمك، وَقَالَ زفر:
انكم اهل البيت لم تطمعوا [7] فِي بَنِي أمية حَتَّى اختلفوا فأنا أحذرك الاخْتِلاف فَإِن اجتمع أمرك وأمر من بالأنبار عزَزَتْم وإن اختلفتم فَهِيَ الْفِتْنَة، وَقَالَ ابْن ضبعان: إن كَانَ عهد إليك وعقَدَ لَك عِنْدَ وفاته فَقَدْ كُفيتَ الأمر وإلا فلسْتَ من الأمر عَلَى ثقة، وَقَالَ ابْن سراقة: إِن بلاءك عِنْدَ أَهْل الشام غَيْر جميل فلن ينفعك إلا مثلي مِمَّنْ لَك عنده بلاء حسن وأيادي متظاهرة [8] أَوْ رَجُل صاحب فتنة
__________
[1] ط: يدب.
[2] ط: وصدقه.
[3] ط: المختفر، د: المخنفر، م: المحتفر وكذا في جمهرة الأنساب ص 202، وفي الطبري س 3 ص 38.
[4] في الطبري س 3 ص 38: حيّاش.
[5] ط: في، م: لي.
[6] «له» ليست في م.
[7] ط: يطمعوا.
[8] ط: متطاهرة.(4/105)
يلتمس أَن يُدرك فِيهَا شرفًا. فعزم عَلَى ادعاء الخلافة وخطب النَّاس بَيْنَ دُلُوك ورَعْبان [1] ، وَقَدْ كَانَ قدم عَلَيْهِ أَبُو غسان والهيثم بْن زِيَاد فاستشهدهما فأما أَبُو غسان فشهد لَهُ وَأَمَّا الهيثم فَقَالَ: أشهد أَن أبا الْعَبَّاس ولي الخلافة أبا جَعْفَر، فقتله.
وبايع النَّاس عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي وبايعه حُميد بْن قحطبة، وسار فنزل قنسرين فاستعمل عَلَيْهَا زُفَر بْن عَاصِم، وَوَلِيَ عُثْمَان بْن عَبْدِ الأَعْلَى دمشق والحكم بْن ضبعان فلسطين، وكتب إِلَى الْحَسَن بْن قحطبة وَهُوَ بأرمينية وإلى مَالِك بْن الهيثم وَهُوَ بأذربيجان وإلى مُحَمَّد بْن صول وَهُوَ بشمشاط مقيم فِي خمسة آلاف يدعوهم فلم يجيبوه، فسار إِلَى حران وعليها مقاتل بْن حَكِيم العكي وَهُوَ فِي أربعة آلاف وَهُوَ عَلَى الجزيرة فحصره ووضع عَلَيْهَا المجانيق، ثُمَّ طلب مقاتل الصلح فصالحه ودخل مدينة حران فِي صفر سنة سبع وثلاثين ومائة، ثُمَّ إِلَى الرقة. واستعمل عَلَى الجزيرة عَبْد الصمد بْن عَلِي أخاه ولّاه عَهدَه وصير عَلَى شرطته مَنْصُور بْن جعونة [2] ابن الحارث احد بني عامر بن ربيعة، وبعث بالعكي إِلَى ابْن سُراقة وأمره أَن يقتله وابنه خالدًا، فلم يفعل وحبسه. واستعمل حميد بْن قحطبة عَلَى قنسرين وعزل زفر بْن عَاصِم فِي الظاهر وكتب إِلَى زفر: إِذَا ورد عليك حميد فاقتله ومن مَعَهُ، فعلم حميد بِذَلِك فسار إِلَى الْمَنْصُور حَتَّى قدم عليْه، فأمره أَن يلحق بأبي مُسْلِم.
وَكَانَ أَبُو مُسْلِم كتب إِلَى أَبِي الْعَبَّاس يستأذنه فِي الحج فأذن لَهُ فقدم فحج، وَكَانَ الْمَنْصُور حاجًا أيضًا، فَلَمَّا قدما الأنبار قَالَ أَبُو مُسْلِم لأبي جَعْفَر: إِن شئتَ جمعتُ ثيابي فِي منطقتي وخدمتك وإن [3] شئت أتيت خراسان فأمددتك بالجنود وإن شئت شخصت إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي فحاربته، فوجهه لمحاربة عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي وشيعه [4] إِلَى عكبرا. وَكَانَ الْحَسَن بْن قحطبة بأرمينية فكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور فِي اللحاق بأبي مُسْلِم فوافاهُ بالكحيل من أرض الموصل فِي ألفٍ، فصيره أَبُو مُسْلِم عَلَى مقدمته، ووافي مَالِك بْن الهيثم أبا مُسْلِم بالموصل لكتاب الْمَنْصُور إِلَيْهِ فِي اللحاق بِهِ والسمع والطاعة لَهُ، ودس الْمَنْصُور مُحَمَّد بْن صول إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن علي ليفتك
__________
[1] عن دلوك ورعبان انظر البلاذري- فتوح ص 132، ص 150.
[2] د: جحونه. وفي الطبري س 3 ص 129: منصور بن جعونة بن الحارث العامري.
[3] ط: إذا.
[4] الأصل: شيعته.(4/106)
بِهِ إِن أمكنه ذَلِكَ ويكتب إِلَيْهِ بأخباره فأتاه وصار مَعَهُ، فكتب بَعْض عيون عَبْد الله ابن عَلِي فِي عسكر الْمَنْصُور: صل بابن صول قبل ان يصول بك، فقتله ابْنُ عَلِي وابنين لَهُ.
وَقَالَ غيرُ أَبِي الْحَسَن: وقدم أَبُو جَعْفَر الكوفة فولاها طلحة بن إسحاق بن محمد ابن الأشعث وسار إِلَى الأنبار فوجد أبا مُسْلِم بِهَا فولاه حرب ابْن عَلِي وأعطى الجند الَّذِينَ أنهضهم مَعَهُ اثني عشر ألف ألف درهم [1] ، ويقال ثمانية عشر الف الف. وكان ابو العباس خط الأرزاق فِي سنة خمس وثلاثين إِلَى ستين ستين فصيرها أَبُو جَعْفَر ثمانين ثمانين وسوغهم عطاءً أعطاهم إياه عِيسَى بْن مُوسَى، فشكروا ذَلِكَ، ووهب الْمَنْصُور لكل رَجُل من عمومته ألف ألف درهم فكان أول خليفة أعطى ألف ألف بصك إِلَى بَيْت المال يجري فِي الدواوين. وَلَمْ يقم بالأنبار إلا جمعة، وعزل جهور ابن مرار الْعِجْلِيَّ عَنْ شرطته وولاها عَبْد الجبار بْن عَبْدِ الرَّحْمَن ووجه جَهْور بْن مرار إِلَى قرقيسيا فتلقى أَصْحَاب ابْن عَلِي، وخرج الْمَنْصُور فعسكر بدير الجاثليق (579) عَلَى دجلة ووجه عِيسَى بْن عقيل إِلَى هيت، وعبد الْعَزِيز أَخَا عَبْد الجبار، إِلَى بلد وَقَالَ لَهُ: إِن بلغك أَن ابْن عَلِي انهزم فلا تبرح مكانك ولا تخل بمركزك، ووجه قائدًا إِلَى تكريت، وكتب إِلَى مُوسَى بْن كعب: أَن استخلف ابنك عُيَيْنة وأقدم وَقَدْ أمرتُ لَك بخمس مائة ألف درهم فاقبضها، وكتب إِلَى الْحَسَن بْن قحطبة وَهُوَ بأرمينية فقدم.
وَقَالُوا: قدم ابْن عَلِي نصيبين فخندق وجمع الأطعمة واستعد للحرب. وَكَانَ هِشَام بْن عَمْرو التغلبي [2] مَعَ أَبِي مُسْلِم فأشار عَلَيْهِ أَن يعسكر دُونَ نصيبين لئلا يَكُون بينه وبين الْمَنْصُور عدو فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بشيء، ونزل أَبُو مُسْلِم بإزاء ابْن عَلِي وكايده لينزل منزله فغرب وأظهر أَنَّهُ يريد الشام لتوليه أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إياه الجزيرة والشام، وأن قادمًا يقدم [3] لمحاربة ابْن عَلِي مكانه، فضج أَهْل الجزيرة والشام وَقَالُوا: الآن يقدم أَبُو مُسْلِم بلادنا فيجتاح أموالنا ويسبي نساءنا وذرارينا ويقتل
__________
[1] م: اثني عشر الف درهم.
[2] في ط، م: التعلبي. وفي الطبري س 3 ص 47: التغلبي، وفي الازدي- تاريخ الموصل ص 133: الزهيري. انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 165.
[3] ط: تقدم.(4/107)
من وراءنا من رجالنا ونحن مِنْ مُلك الدنيا وسعتها فِي خندق. فرحل عَبْد اللَّهِ من خندقه، ونزل أَبُو مُسْلِم رأس العين ثُمَّ انكفأ راجعًا حَتَّى نزل خندق عَبْد اللَّهِ، ونزل عَبْد اللَّهِ خندقه وَقَالَ: إِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ مكيدة من العبد. وكاتَبَ أَبُو مُسْلِم أهل خراسان فانحاز إِلَيْهِ بشر مِنْهُم، ووقعت فِي نفس ابْن عَلِي تهمتهم وسوء الظن بمن بقي مَعَهُ مِنْهُم فأمر حباش بْن حبيب صاحب شرطته فقتل مِنْهُم خلقًا.
وحارب أَبُو مُسْلِم ابْن عَلِي أربعة أشهر، ثُمَّ إنهم اقتتلوا ذَات يَوْم قتالًا شديدًا وَقَدْ خَف أَصْحَاب ابْن عَلِي وأتت أبا مُسْلِم الأمداد وأبو مُسْلِم يَقُول:
فرَّ من الْمَوْت وَفِي الْمَوْت وقعْ ... من كَانَ ينوي أهلَهُ فلا رجع
فانهزم أَصْحَاب ابْن عَلِي أقبح هزيمة، وهرب فصار إِلَى ناحية حران ثُمَّ إِلَى الرقة وعبر إِلَى جسر الرقة ثُمَّ أحرقه وسار فِي البر حَتَّى أتى البصرة فنزل عَلَى سُلَيْمَان بْن عَلِي أخيه، وَكَانَ أَبُوهُ قَدْ أوصاه بِهِ فيما يُقَالُ. وَكَانَ أَبُو مُسْلِم لما قدم مقدمته وعليها حميد بْن قحطبة من الموصل لقوا عَبْد الصمد بْن عَلِي ببلد فقاتله حميد فهزمه ثُمَّ أخذه أسيرًا. ويقال إِن أبا مُسْلِم وجه فِي أَيَّام محاربته ابْن عَلِي حُمَيْدًا إِلَى عَبْد الصمد وَهُوَ بالجزيرة فقاتله وهزمه حَتَّى لحق بالرصافة فأُخِذ بِهَا وأُتيَ بِهِ أَبُو مُسْلِم، فوجه الْمَنْصُور مرزوقًا أبا الخصيب مولاه فحمله إِلَيْهِ فِي سلسلة، فكلمه فِيهِ إِسْمَاعِيل بْن عَلِي فعفا عَنْهُ وأمر لَهُ بألف دِينَار. وَقَالَ بَعْضهم: قدم بِهِ أَبُو مُسْلِم مَعَهُ.
وَقَالَ بَعض وَلده: أتى الكوفة فاستخفى بِهَا حَتَّى كُلّم الْمَنْصُور فِيهِ فأمنه [1] ووصله. وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَدَائِنِيُّ فِي بَعْض روايته: هُزم عَبْد الصمد فهرب إِلَى الرصافة، ووافاه ابْن عَلِي منهزمًا هاربًا فمضى وأقام عَبْد الصمد لأمرٍ أراده وعزم عَلَى أَن يتبع [2] ابْن عَلِي من يومه وَلَمْ ير أنه مطلوب فوافاه زبارة ابن جَرِير، وَكَانَ مِمَّنْ رُتب بقرقيسيا، فجر برجله ثُمَّ أوثقه وحمله إِلَى أَبِي مُسْلِم وَهُوَ بتل مَذايا [3] . وقدم صَالِح بْن عَلِي بْن عبد الله من مصر متمسكا
__________
[1] «فآمنه» ليست في ط.
[2] ط: يتتبع.
[3] ط: مدايا. انظر البلاذري- فتوح ص 181.(4/108)
بطاعة الْمَنْصُور مقيمًا عَلَيْهَا، فحارب ابْن ضبعان فِي اليوم الَّذِي هُزِم فِيهِ عَبْد اللَّهِ ابن عَلِي، وحوى أَبُو مُسْلِم أَمْوَالَ ابْن عَلِي وَجَمِيع مَا كَانَ فِي عسكره وأطلق الأسرى ووهب لكل أسير أربعة دراهم وَلَمْ يقتل إلا أبا غسان لشهادته بِمَا شهد بِهِ لابن عَلِي. ولما بلغ عاملُ ابْن عَلِي [1] دمشق، قتل العكّي وخالدا ابنه وكانا فِي حبسه. وكتب أَبُو مُسْلِم إِلَى الْمَنْصُور يعلمه أَن أَهْل الجزيرة والشام بمواضع من الثغور مشحنة (580) للعدو وأنها لا تُسَدُّ إلا بِهِمْ، وسأله الصفح عَنْهُمْ، وأشار عَلَيْهِ باستصلاح وجوههم واصطناعهم، ووفد مَعَهُ إِلَيْهِ عدة من اشرافهم. وكان عبد الله ابن عَلِي لما توجه لغزو الصائفة بلغه أَن أبان بْن مُعَاوِيَة بْن هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك قَدِ اقبل يريده فِي أربعة آلاف فقصد لَهُ ووجه عَلَى مقدمته حميد بْن قحطبة والعباس بن زبيد، فلم يكن بينهم كبير قتال حَتَّى انهزم أبان وأَصْحَابه وتحصنوا فِي حصن كيسوم، فنزل عَلَيْهِ عَبْد اللَّهِ، فطلبوا الأمان فأمنهم وهرب أبان فدلّ عبد الله عليه وَكَانَ فِي غار فقطع عَبْد اللَّهِ يديه ورجليه ثُمَّ ضرب عنقه وأتى دابق فبلغه خبر وفاة أبي العباسي.
قَالُوا: وكانت عِنْدَ ابْن عَلِي أمةُ الحميد، ويقال أختها أمّ البنين بِنْت مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْن ربيعة بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْن هاشم [2] فَقَالَتْ لَهُ:
قتلت أَهْل الشام فأسرفت ثُمَّ قتلت أَهْل خراسان وكانوا أنصاركم وأولياء دعوتكم ثُمَّ انتحلْتَ الخلافة وقاتلت ابْن أخيك وَهُوَ الخليفة فلم تبقِ غاية وَلَمْ تدع جُهْدًا ثُمَّ هربت إِلَى غَيْر ملجأ ولا حرز فهلا متّ كريما، اما والله لنُقاسين ذلًا طويلًا، فغضب فطلقها، وَكَانَ لَهُ منها مُحَمَّد وعيسى وأم مُحَمَّد وأم عبد الله، بنو عبد الله ابن عَلِي. ولما هرب ابْن عَلِي بلغ الْمَنْصُور أَن عَبْد الحميد بْن ربعي أبا غانم بالرها، وَكَانَ صديقًا لأبي الأزهر المهلب بْن العبيثر [3] المهري فوجهه لطلب الشراة وأهل الفساد من الأعراب ويُسكن النَّاس فجعل يقتل الأعراب من أَهْل الدعارة حَتَّى أتى الرُّها فبعث إِلَى أَبِي غانم: إني مشتاق إليك وَقَدْ وَجِّهتُ فِي أمر فتركتُه وملتُ إليك لأحدث بك عهْدًا. فخرج إِلَيْهِ وجعلا يتنادمان ثُمَّ ذاكره الخروج
__________
[1] يضيف د، م، كلمة «على» وهي زائدة.
[2] انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 7.
[3] ن. م. ج 2 ص 328.(4/109)
إِلَى أَبِي جَعْفَر، فَقَالَ: أَنَا مُستوحش ولا عذر لي ولا حُجة فيما كَانَ مني. ثُمَّ إنه خرج إِلَيْهِ يومًا فِي خف فأسكره وحمله وارتحل فأورده عَلَى حميد بْن قحطبة وَهُوَ وال عَلَى الجزيرة فأنفذه إِلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور [1] : ويحك مَا حملك عَلَى مَا صنعت؟ قَالَ:
لا عذر لي فأتكلم. فَقَالَ: أَنَا أكره قتل رَجُل من آل قحطبة ولكني أهبُ مسيئهم لمحسنهم وَقَدْ وهبتك لابني [2] قحطبة حميْد والحسن. فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِن لَمْ يكن فِي مصطنع فاقتلني. قَالَ: إنك أحمق أهوج، اخرج فأنت عتيقُ لَهُمْ أبدًا.
وَحَدَّثَنِي الغاضري [3] الرقي قَالَ: نزل أَبُو غانم بالهني [4] فِي بَعْض أيامه فتهدد أَهْل الرقة وَقَالَ: قولوا لنسائكم يحلقن [5] يتهيأن للجماع، وأساء اللفظ، فعبر إِلَيْهِ مُصْعَب بْن الضحضح الأسدي وعبد اللَّه بْن البختري العقيلي فِي جَمَاعَة فقتلا من أَصْحَابه بشرًا، فَقَالَ ابْن الضحضح:
الحمد لِلَّهِ المنزل [6] نصره ... يَوْم الخميس عليك يَا ابْن الضحضحِ
عبر الفرات على فظاعة [7] هوله ... بالدراعين عَلَى الجياد القُرحِ
مستشعري حلق الحديد كأنهم ... بُزل [8] الجمال تخاطرت فِي مسرحِ
وَفِي ذَلِكَ يَقُول الشاعر وَهُوَ ربيعة [9] يحرض ابْن الضحضح:
الا ترى المعشر السودان قد جمعوا ... لا بني نزار فماذا بَعْد ينتظر
شمِّر فَإِن حروبَ النَّاس قَدْ لقحت ... وجمع الأمر إِن الأمر منتشر
وَكُنْ من الحربِ إذ شبَّت عَلَى حذر ... مَا صاحب الحرب إلا الحازم الحذر
في ابيات.
__________
[1] عبارة: «فقال له المنصور» ساقطة من ط.
[2] ط: لابن.
[3] ط: العاصري. انظر اللباب في تهذيب الأنساب لابن الأثير ج 2 ص 372.
[4] انظر البلاذري- فتوح ص 180.
[5] «يحلقن» ليست في ط.
[6] ط: منزل.
[7] في الأصل: فضاعة.
[8] ط: نزل.
[9] انظر تاريخ ابن عساكر ج 5 ص 300- 303، وهو ابن أنيف بْن شريح بْن عمرو بْن عدس بن زيد ولقبه مسكين.(4/110)
قَالُوا: ولما أقام عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي بالبصرة خرج سُلَيْمَان بْن عَلِي (581) إِلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور فطلب لَهُ أمانًا وَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِن [1] عفوك لا يضيق عَنْهُ وَهُوَ ابْن أبيك وفيه مستصلح، فَقَالَ: هُوَ آمن إِذَا رَأَيْته، واستأذن لَهُ فِي الحج فَقَالَ:
إِن حج ظاهرًا فَقَدْ أذنت لَهُ، فلم يحج. وَمَاتَ يُونُس بْن عُبَيْد [2] الفقيه مَوْلَى عَبْد القيس فمشى عَبْد اللَّهِ وسليمان فِي جنازته. وأراد الْمَنْصُور استخراج مزارع من البطيحة فضج أَهْل البصرة وَقَالُوا: إِنَّمَا نستعذب الماء من البطيحة، وأتوا عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي فَقَالُوا: انزل يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إلينا نبايعك، فكفهم سُلَيْمَان وفرقهم. وَكَانَ عَبْد اللَّهِ يجمع بالبصرة ويقعد فِي حلقة الرقاشي. ووجه الْمَنْصُور سُلَيْمَان بْن مجالد وأمره بإبلاغ سُلَيْمَان بْن عَلِي أَن يشخص عَبْد اللَّهِ مَعَهُ وكتب إِلَيْهِ فِي ذَلِكَ فلم يفعل وَقَالَ: قَدْ جعلت لَهُ عهد اللَّه أَن أتوثق لَهُ. فولى الْمَنْصُور سُلَيْمَان بْن مجالد بريد [3] البصرة وأخبارها ووجه روح بْن حاتم بْن قَبِيصَة [4] بْن المهلب إِلَى البصرة فِي أربعة آلاف من أَهْل البأس والنجدة والطاعة وأظهر أَنَّهُ قَدْ ولاه عُمان ونواحيها. ثُمَّ وجه سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة واليًا عَلَى البصرة فِي جيش كثيف وبعث أبا الأسد القائد صاحب النهر فِي جيش وأمر أبا الأسد أَن يقيم على آخر البطيحة فعسكر على فم النهر المنسوب إِلَيْهِ. ودخل سُفْيَان البصرة فتسلمها من سُلَيْمَان بْن عَلِي، فوهن أمر سُلَيْمَان ووجد الْمَنْصُور عَلَيْهِ لما كَانَ منه فِي أمر عَبْد اللَّهِ، وتتام بالبصرة أَكْثَر من اثني عشر ألفًا من أَهْل خراسان. وكتب سليمان الى عيسى بن علي يسأله ان يستأذن لَهُ الْمَنْصُور فِي القدوم عَلَيْهِ منفردًا، فقدم ودخل مَعَ عيسى إِلَى الْمَنْصُور فكلماه فِي أَيْمان عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي فأجابهما إِلَى ذَلِكَ. وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن المقفع كاتب عِيسَى بْن عَلِي، فأمره فكتب لَهُ أمانًا تعدّى فِيهِ مَا يكتب الخلفاء من الأمانات وكتب: فَإِن لَمْ يَفِ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بِمَا جعل لَهُ فِيهِ فَهُوَ بريء من اللَّه ورسوله، والأمةُ فِي حل وسعةَ من خلعه. ثُمَّ شخص عِيسَى وسليمان ابنا عَلِي من البصرة واشخصا عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي [5] منها وشخصا مَعَهُ ووكّل بهم سفيان قائدا
__________
[1] «إنّ» ليست في ط، د.
[2] ط: يونس بن عبيد الله الفقيه. انظر تهذيب التهذيب ج 11 رقم 855.
[3] ط: يريد.
[4] في م: روح بن قبيصة بن حاتم. انظر جمهرة الأنساب ص 37.
[5] «ابن علي» ليست في م.!(4/111)
يُقَالُ لَهُ عقبة بْن عازب فِي ألف، وسار أَبُو الأسد أيضًا معهم، فَلَمَّا صاروا إِلَى واسط تسلم عاملها عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي ثُمَّ سلمه إِلَى أَبِي الأسد فأورده الكوفة.
وَكَانَ الْمَنْصُور قَدْ وقع فِي الأمان: هَذَا الأمانُ نافذ إِن رأيتُ عَبْد اللَّهِ، فَلَمَّا قدم بِهِ وأتى بابه قَالَ لأبي الأزهر المهلب بْن العبيثر: إِذَا أمرتك بإدخال عَبْد اللَّهِ عَلِي فلا ترني وجهه وأدخله المقصورة، ففعل ذَلِكَ ووكل بِهِ الحرس، فكلمه فِيهِ بنو عَلِي فجعل يَقُول: أقسمتُ عليكم لما لَمْ تكلموني فِيه فَإِنَّهُ أراد أَن يفسد علينا وعليكم أمرنا. ومكث محبوسًا تسع سنين، ثُمَّ حوله من عنده الى عيسى ابن مُوسَى وأمره بقتله خفية، فحبسه وأراد قتله فقال له أبو عون يونس بن فروة الأنباري وَكَانَ كاتبه: إِن قتلته قتلك بِهِ، فأمسك عَنْ قتله. ثُمَّ إِن الْمَنْصُور سَأَلَ عِيسَى بْن مُوسَى عَنْهُ فَقَالَ: قتلتهُ، فأظهر غضبًا وَقَالَ: أتقتل عمي! لأقتلنّك بِهِ. فَقَالَ: إني والله خفت منك فاستبقيته. قَالَ: فادفعه إِلَى المهلب بْن العبيثر، فدفعه إِلَيْهِ فغمَّهُ وجاريةً لَهُ حَتَّى مَاتَ ثُمَّ جعلها إِلَى جانبه فكأنها تعانقه [1] ثُمَّ عرقب الْبَيْت فسقط عليهما. ودفن عَبْد اللَّهِ ببغداد فِي مقابر أَبِي سُوَيْد بباب الشام بَعْد أَن أدخل عَلَيْهِ ابْن علاثة [2] الْقَاضِي وعدوله فنظروا إِلَيْهِ وَمَا بِهِ كدمه [3] .
وبعث الْمَنْصُور إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عياش الهمداني المنتوف أَن أخبرني عَنْ خلفاء ثلاثة أول اسم كُل امرئ مِنْهُم عين قتل رجلًا من أقربية (582) أوّل اسم كُل رَجُل مِنْهُم عين، فَقَالَ: عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر قتل عَمْرو بن الزبير وعبد الملك قتل عمرو ابن سَعِيد بْن العاص وعبد اللَّه بْن عَلِي سقط عليْه الْبَيْت، فَقَالَ الْمَنْصُور: فَإِذَا سقط عَلَيْهِ الْبَيْت فَمَا ذنبي! وَحَدَّثَنِي حَمَّاد بْن بَغْسل الوراق قَالَ: حبس عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي فِي مقصورة مَعَ الْمَنْصُور ووكل بِهِ فَقَالَ لَهُ بنو عَلِي: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ سجنتَ عَبْد اللَّهِ، فَقَالَ إِن أَهْل خراسان متسرعون إِلَيْهِ لما كَانَ منه إليهم ولا آمن أَن يفتكوا بِهِ فَقَدْ بلغني أنهم مجمعون عَلَى ذَلِكَ فجعلته عندي إِلَى أَن أدعو به، فيئس سليمان
__________
[1] م: معانقة له.
[2] ط: غلانه. وهو محمد بن عبد الله بن علاثة القاضي. انظر كتاب المجروحين من المحدثين لابي حاتم محمد بن حبان بن احمد التميمي ج 2 ص 275 (حيدر آباد الدكن 1973) ، والخطيب البغدادي- تاريخ بغداد ج 12 ص 307، والطبري س 3 ص 462.
[3] م: كلمة.(4/112)
ابن عَلِي منه فمضى إِلَى البصرة فمات فِي سنة [1] اثنتين وأربعين ومائة. قَالَ: وَقَدْ كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي مَعَ عَبْد اللَّهِ بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر فأسره ابْن ضبارة وبعث بِهِ إِلَى مَرْوَان، فَقَالَ: إِنَّمَا أتيته طالبًا لرفده، فخلى سبيله، فَلَمَّا حاربه قيل لَهُ: هَذَا الرجل الشديد البياض الْحَسَن الوجه المصفر [2] الدقيق الذراعين الفصيح اللهجة الَّذِي كنت أُتيتَ بِهِ فعفوتَ عَنْهُ، فَقَالَ مَرْوَان: رب معروف يخبئ لصَاحبه شرًا [3] . وَكَانَ عَبْد اللَّهِ إِذَا ضحك انقلبت شفته العليا. وَمَاتَ فِي سنة سَبْع وأربعين ومائة وهو ابْن اثنتين وخمسين سنة.
قَالُوا: وهدم عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي قصر مَرْوَان بْن مُحَمَّد بحران وَكَانَ أنفق عَلَيْهِ عشرة آلاف ألف درهم [4] .
قَالَ رؤبة بْن العجاج [5] فِي عَبْد الله بن علي:
يا أيها القائل قولًا أحنفا [6] ... سفاهةٍ من رأيه [7] وصلفا [8]
مَا قام عَبْد اللَّهِ إلا أنفا ... خوفًا عَلَى الْإِسْلَام أَن يُستضعفا
وَمِنْ صلاحِ الدين أَن يُستخلفا ... أشجع من ليث عرين اغضفا
[9] وقال أيضًا:
أَن لعبد اللَّه عندي أثرًا ... ونعمًا جزاؤها أَن تشكرا
وَقَالَ ابْن شبرمة [10] :
أقول لذي [11] مكاشرة وضغن ... سعرتَ الحرب بَيْنَ بَنِي أبيكا
__________
[1] «سنة» ليست في ط.
[2] ط: الصقر.
[3] ط: سرا.
[4] انظر المسعودي ج 6 ص 75.
[5] ترجمته في الاغاني ج 20 ص 311 وما بعدها. وترد الأبيات في الصولي- اشعار اولاد الخلفاء ص 306.
[6] ط: احتفا، وفي اشعار اولاد الخلفاء: أجنفا.
[7] اشعار اولاد الخلفاء: قوله.
[8] ط: متلفا.
[9] الأصل: «اسجع ... اغصفا» والتصويب من اشعار اولاد الخلفاء والبيت فيه:
عمّ بعهد ابن أخ تلحّفا ... اشجع من ليث عرين أغضفا
[10] انظر الصولي- اشعار اولاد الخلفاء ص 301- 302.
[11] ن. م. قل لاخي ...(4/113)
وأورثت [1] الضغائن من بنيهم [2] ... بَنِي أبنائهم وَبَنِي بنيكا
(كأنك) [3] قَدْ أصابك سهم حتف ... وأسلمك العداة لأقربيكا
وَقَالَ ابْن شبرمة فِي أَبِي مُسْلِم:
سما بالجياد وفرسانها ... إِلَى الشام كالأسد الأزور
أمر ولد مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْعَبَّاس
ولد مُحَمَّد بْن عَلِي [4] ، وَهُوَ الْإِمَام، إِبْرَاهِيم الْإِمَام [5] وأمه جان أم ولد، وعبد اللَّه أبا الْعَبَّاس وأمه ريطة الحارثية، وعبد اللَّه أبا جَعْفَر وأمه سلامة بربرية، وموسى لأم ولد، ويقال أَنَّهَا أم إِبْرَاهِيم، وَيَحْيَى بْن مُحَمَّد أمّه أم الحكم بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن الْحَارِث من ولد نوفل بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وهو ببّة، والعباس ابن مُحَمَّد لأم ولد، ولُبابَة تزوجها جَعْفَر بْن سُلَيْمَان بْن عَلِي، ويقال إنه كَانَ لَهُ دَاوُد وعبيد اللَّه ويعقوب (583) فلم يُعقبوا.
فأما إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد
فَإِن أباه مُحَمَّد بْن عَلِي قَالَ لميسرة وأبي عكرمة مَوْلَى قريش وغيرهما [6] مِمَّنْ كَانَ مَعَ أَبِي هاشم بْن مُحَمَّد بْن الحنفية، حِينَ عدل أَبُو هاشم إِلَى مُحَمَّد بْن عَلِي فأعلمه أَنَّهُ الْإِمَام: هَذَا ابني ووصيي والإمام بعدي، فبايعوا محمدًا وإبراهيم عَلَى ذَلِكَ.
ووجه مُحَمَّد أبا رياح [7] ميسرة مَوْلَى بَنِي أسد إِلَى الكوفة، بمشورة أَبِي هاشم، فصيره صاحبه بِهَا. وَكَانَ أَبُو هاشم قَالَ لَهُ: عليك بالكوفة فَبِها [8] شيعتك وأهل مودتك،
__________
[1] ط: اورث، اشعار اولاد الخلفاء: فاورثت.
[2] ط: بينهم.
[3] الأصل: كأن، والتصويب من اشعار اولاد الخلفاء ص 302.
[4] انظر نسب قريش ص 31.
[5] الأصل: ابن الامام.
[6] ط: غيرهم.
[7] في اخبار الدولة العباسية: رباح. انظر ص 188 وص 192، ويرد أحيانا رياح، انظر ص 183، 194، 196 منه.
[8] م: فيها.(4/114)
واجتنب الشام فَلَيْس ببلد يحتمل [1] دعاتك [2] ولا يصلح لَهُمْ، وعليك بخراسان، فوجه إِلَى خراسان رجلًا أمره أَن يدعو إِلَى الرضا من آل مُحَمَّد ولا يسمي أحدًا.
ويقال: إِن ميسرة وجهه من الكوفة وَهُوَ مُحَمَّد بْن خُنَيس [3] فأجابه من أجابه فَلَمَّا صاروا سبعين جعل مِنْهُم اثني عشر نقيبًا وَهُمْ: سُلَيْمَان بْن كثير مَوْلَى خزاعة ويكنى أبا عَلِي ويقال هُوَ سُلَيْمَان بْن كثير بْن أمية [4] بْن إِسْمَاعِيلَ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن المؤتنف من أنفسهم، وموسى بن كعب التميمي ويكنى أبا عيينة [5] ، وو مالك بْن الهيثم ويكنى أبا نصر [6] ، والقاسم بْن مجاشع التميمي ويكنى أبا حامد [7] ، ولا هز ابن قريط [8] ويكنى أبا النضر، وعيسى بْن أعين ويكنى أبا الحكم [9] ، وعمرو ابن أعين الخزاعي ويكنى أبا حَمْزَةَ [10] ، وقحطبة بْن شبيب الطائي واسمه زِيَاد ويكنى أبا عَبْد الحميد [11] ، وشبل بْن طهمان الرَّبَعي ويكنى أبا اسماعيل [12] ، وعمران بن
__________
[1] د: يحمل.
[2] ط: دعايك.
[3] حنيش. انظر الطبري س 2 ص 1358، وابن الأثير ج 5 ص 53، والبداية والنهاية لابن كثير ج 9 ص 189.
[4] في جمهرة النسب: سليمان بن كثير بن امية بن سعد بن عبد الله بن المؤتنف ج 1 لوحة 200 وكذا في جمهرة الأنساب ص 242. وفي اخبار الدولة العباسية ص 216 يكنى «ابو محمد» . وانظر الطبري س 2 ص 1358 وص 1988، ورسائل الجاحظ ج 1 ص 22- 23.
[5] انظر اخبار الدولة العباسية ص 216، الطبري س 2 ص 1358 وص 1988، ورسائل الجاحظ ج 1 ص 22- 23، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 80.
[6] اخبار الدولة العباسية ص 216، وجمهرة الأنساب ص 236، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 199.
[7] في اخبار الدولة العباسية ص 217 «ابو سهل» . انظر المحبر ص 465، وتاريخ الموصل للازدي ص 26، والطبري ص 2 ص 1358، وجمهرة الأنساب ص 214، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 80.
[8] في الطبري س 3 ص 1358 ورسائل الجاحظ ج 1 ص 22 وجمهرة انساب العرب ص 214:
لاهز بن قريظ. وفي اخبار الدولة العباسية ص 217: لاهز بن قرط وكنيته ابو جعفر. وفي الازدي ص 26: لاهز بن قرط. وفي جمهرة النسب ج 1 لوحة 80: لاهز بن قريط، وفي ابن اعثم الكوفي ج 2 ص 219 ب و 222 ب: لاهز بن قريط.
[9] انظر اخبار الدولة العباسية ص 216، والازدي ص 26، والجاحظ- رسائل ج 1 ص 22، والطبري س 2 ص 1358. وفي ابن الأثير ج 5 ص 54: عيسى بن اعين مولى خزاعة.
[10] اخبار الدولة العباسية ص 216، الطبري س 2 ص 1358.
[11] انظر المحبر ص 465، وتاريخ خليفة بن خياط ص 413، وجمهرة الأنساب ص 404، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 257، واخبار الدولة العباسية ص 216.
[12] انظر اخبار الدولة العباسية ص 216، والطبري س 2 ص 1358، والمحبر ص 465، والازدي ص 26. وفي ابن الأثير ج 5 ص 54: شبل بن طهمان ابو علي الهروي مولى لبني حنيفة.(4/115)
إِسْمَاعِيلَ مَوْلَى آل أَبِي معيط ويكنى أبا النجم [1] ، وخالد بْن إِبْرَاهِيمَ ويكنى أبا دَاوُد [2] ، وطلحة بن رزيق ويكنى أبا مَنْصُور [3] ، وَمِنْهُم من يجعل زِيَاد بْن صَالِح [4] مكان أَبِي النجم عِمْرَانَ بْن إِسْمَاعِيلَ، ويجعل العلاء بْن حُرَيث [5] مكان عِيسَى بْن أعين. فلم يزل الرجل مقيمًا بخراسان حَتَّى توفي بِهَا، فقدم قحطبة وسليمان بْن كثير بْن أمية [6] إِلَى الكوفة فلم يعرفا الامام فأتيا المدينة فسألا محمد ابن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن بْن عَلِيّ بْن أَبِي طَالِب عَنِ الْإِمَام فَقَالَ: هُوَ مِنَّا وَهُوَ بالشام، فمضيا إِلَى الشام فلقيا مُحَمَّد بْن عَلِي فذاكراه أمرهم وسألاه [7] أَن يبعث إلي خراسان رجلًا معهما. وكتب إِلَى أَبِي عكرمة الصّادق، واسمُه زِيَاد بْن درهم [8] وَهُوَ بالكوفة، فخرج معهما إِلَى خراسان. ويقال بَل كتب إِلَى ميسرة [9] فِي توجيه [10] رَجُل يثق بِهِ فوجه أبا عكرمة، فَلَمَّا صار بخراسان اكتنى بأبي مُحَمَّد وتسمى ماهان، فلم يزل بِهَا حَتَّى قدم أسد بْن عَبْدِ اللَّهِ أَخُو خالد من عَبْدِ اللَّهِ القسري واليًا عَلَى خراسان من قبل أَخِيهِ وَذَلِكَ فِي أَيَّام هِشَام فسعى إِلَيْهِ جبلة بْن أَبِي رَوّاد، وأسم أَبِي رَوّاد حُسَيْن، بأبي [11] عكرمة وأَصْحَابه فقتل أسد أبا عكرمة وضرب أبا دَاوُد ألفًا، ويقال ثلاثمائة، وأمر بِهِ فضرب عَلَى رأسه حَتَّى عمش، ثُمَّ كلم فيهم ورَشا بعضهم حَتَّى تخلصوا [12] . ومكث مُحَمَّد لا يبعث أحدا سنة، ثُمَّ بعث أبا الْحَسَن كثير بْن سَعْد، فأقام ثَلاث سنين ثُمَّ قدم، فبعث مُحَمَّد بْن علي عمار بن يزداد فتسمى بخداش
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 216.
[2] ن. م. ص 216، ورسائل الجاحظ ج 1 ص 22، والازدي ص 26، والمحبر ص 465، والطبري س 2 ص 1988.
[3] يرد اسمه طلحة بن زريق في اخبار الدولة العباسية ص 216، والطبري س 2 ص 1358 وص 1988، والمحبر ص 465، والازدي ص 26، ورسائل الجاحظ ج 1 ص 22، ويرد رزيق في طبعة الطبري تحقيق أبي الفضل ابراهيم- دار المعارف ج 6 ص 562 وج 7 ص 110.
[4] انظر اخبار الدولة العباسية ص 218.
[5] ن. م. ص 216.
[6] في الأصل: الحسن.
[7] ط: فسألاه.
[8] انظر اخبار الدولة العباسية ص 203 وص 191 و 192.
[9] ن. م. ص 183 وص 189.
[10] ط: توجيهه.
[11] ط: يأتي.
[12] انظر الطبري س 2 ص 1488.(4/116)
ابن يَزِيد [1] . ويقال إِن عمارًا هَذَا كَانَ فاخرانيًا من أَهْل الحيرة نصرانيًا ثُمَّ أظهر الْإِسْلَام وصار [2] معلمًا بالكوفة، فَلَمَّا مَاتَ ميسرة صير مُحَمَّد بْن عَلِي بُكَيْر بْن ماهان أبا هاشم مكانه.
ويقال: بَل صير سالمًا الأعمى [3] أبا الفضل بالكوفة بوصية ميسرة، وصار بُكَيْر بعده بالكوفة، فوجه بُكَيْر عمارًا هَذَا فغير سنن الْإِمَام وبدل مَا كَانَ فِي سيرة من قبله وحكم بأحكام منكرة مكروهة فوثب بِهِ أَصْحَاب مُحَمَّد بْن عَلِي فقتلوه [4] ، ويقال بَل قتله أسد بْن عَبْدِ اللَّهِ وصلبه. (584) وَكَانَ هِشَام عزل خالدًا فانصرف أسد عَنْ خراسان معزولًا وولى هِشَام الجنيد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن. ثُمَّ ولى هِشَام أشرس بْن عَبْدِ اللَّهِ السلمي ثُمَّ عَاصِم بْن عَبْدِ اللَّهِ الهذلي. ثُمَّ أعيدت خراسان إِلَى خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ فولّاها أسدًا، وَكَانَ لا يظفر بداعية ولا مدعوّ إلا ضرب عنقه وصلبه حتى أخذ سليمان ابن كثير وَمَالِك بْن الهيثم وموسى بْن كعب ولاهز بن قريط وخالد بن ابراهيم وطلحة ابن رزيق فأتي بِهِمْ فَقَالَ: يَا فسقة! ألم اظفر بكم فِي إمرتي الأولى فأعفو عنكم؟
فَقَالُوا: والله مَا نعرف إلّا طاعة أمِير الْمُؤْمِنيِنَ هِشَام وَإِنَّهُ لمكذوب عَلَيْنَا. فدعا بموسى ابن كعب فَقَالَ: يَا ذا الثنايا [5] أعلي تتوثب وَفِي سلطاني تُدغل ثُمَّ تدعو هَذِهِ السفلة إِلَى هَذِهِ الدعوة الضالة! فألجمه بلجام حمار، ويقال بإيوان، ثُمَّ أمر بِهِ فجذِب حَتَّى حطمت أسنانه ثُمَّ أمر بِهِ فرُتم أنفه، وأمر بلاهز فضرب ثلاث مائة سوط وحُبس، ثُمَّ طلب فيهم نَفَرٌ من الأزد وشهدوا لَهُمْ بالبراءة فخلى سبيلهم [6] .
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: ضرب أبا دَاوُد وَكَانَ معهم. وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي قَالَ: لما غَيْر خداش سيرة الْإِمَام ونكب عَنِ الحق قيل خدش خداش الدين، فقال ابو السريّ الأعمى:
__________
[1] انظر الطبري س 2 ص 1503، وابن الأثير ج 5 ص 144، وابن كثير ج 9 ص 320.
[2] ط: فصار.
[3] انظر اخبار الدولة العباسية ص 191 وص 194 وص 205.
[4] عن خداش انظر الطبري س 2 ص 1588 وص 1640، والمقدسي- البدء والتاريخ ج 4 ص 61، وابن الأثير ج 5 ص 196- 197.
[5] ط: الثينا.
[6] انظر الطبري س 2 ص 1586- 8، وابن الأثير ج 5 ص 189- 190.(4/117)
وخداش المحلّ إذا خدش الدي ... ن وأوفي بدعوة الضلال
دانَ بالرفض والتخرم [1] حينًا ... وبقتل النِّسَاء والأطفال
أيُّ شيءٍ يكونُ أعجبُ من ذا ... أزرقي ورافضٌ فِي حال
وشخص بُكَيْر إِلَى خراسان فأصلح مَا كَانَ خداش أفسده ورد النَّاس إِلَى أمر الْإِمَام وسنته [2] .
قَالُوا: واحتُضر بُكَيْر فأوصى إِلَى سُلَيْمَان بْن حَفْص أَبِي سلمة الداعية مَوْلَى همدان [3] وَهُوَ صهره وَكَانَ صيرفيًا ويقال خلالًا، وكتب إِلَى مُحَمَّد بْن عَلِي الْإِمَام باستخلافه إياه لرضاه مذهبه ونيته ونصيحته فكتب إِلَيْهِ مُحَمَّد بْن عَلِي بالقيام بِمَا كَانَ بُكَيْر بْن ماهان يقوم [4] بِهِ، وَكَانَ سُلَيْمَان بْن كثير القائم بأمر خراسان.
وَمَاتَ أسد بخراسان فولى خَالِد أمرها جَعْفَر بْن حنظلة البهراني ثُمَّ عزل خَالِد عَنِ العراق ووليه يُوسُف بْن عُمَر فولى هِشَام خراسان نصر بْن سيار وأمره بمكاتبة يُوسُف ومعاملته. وقدم عَلَى الْإِمَام مُحَمَّد بْن علي سليمان بن كثير ولاهز بن قريط وقحطبة بْن شبيب فِي رجالٍ آخرين ومعهم أَمْوَالٌ وكسًى فأوصلوا ذَلِكَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُمْ: مَا أظنكم تلقوني بَعْد عامي هَذَا فَإِن حدث بي حدث فصاحبكم ابراهيم ابن مُحَمَّد وأنا أوصيكم بِهِ خيرًا فَقَدْ أوصيته بكم [5] . وَمَاتَ مُحَمَّد بْن عَلِي فصار الأمر إِلَى إِبْرَاهِيم الْإِمَام. وَكَانَ أَبُو مُسْلِم عَبْد الرَّحْمَن بْن مُسْلِم من أَهْل ضياع بَنِي معقل الْعِجْلِيين بأصبهان أَوْ غيرها من الجبل، وَكَانَ يسمى إِبْرَاهِيم بْن حيكان [6] وإنما سماه عَبْد الرَّحْمَن وكناه أبا مُسْلِم إبراهيمُ الْإِمَام [7] . وكان ادريس وعيسى
__________
[1] الأصل: التحرم، وهو سهو والاشارة الى مذهب الحرمية.
[2] انظر اخبار الدولة العباسية ص 208 وما بعدها وخاصة ص 212- 213، وابن الأثير ج 5 ص 218- 219، وابن كثير ج 9 ص 326.
[3] اخبار الدولة العباسية ص 191 وص 248- 250، وفي العيون والحدائق ج 3 ص 181:
مولى الحارث بن كعب.
[4] انظر الطبري س 2 ص 1916- 1917.
[5] انظر الطبري س 2 ص 1769، واخبار الدولة العباسية ص 237.
[6] في د: جيّكان، وفي اخبار الدولة العباسية ص 255: ختكان.
[7] ترد هذه الرواية في ابن الأثير ج 5 ص 255 مع اختلاف واحد، إذ يقول: «كان اسمه ابراهيم ويلقب حيكان» .(4/118)
ابنا معقل محبوسين بالكوفة مَعَ قوم حبسهم يُوسُف بْن عُمَر من أَهْل الجبل بسبب الخراج، فكان أَبُو مُسْلِم يخدمهما ويقضي حوائجهما وَهُوَ فِي ذَلِكَ مَعَ أَبِي مُوسَى السراج صاحبه يخرز الأعنَّة ويعمل السروج وَلَهُ بضاعة في الادم. وكان [1] عاصم ابن يُونُس الْعِجْلِيُّ محبوسًا بسبب فسادٍ فكان يخدمه أيضا وكان شيعيا. فقدم سليمان ابن كثير ولاهز وقحطبة الكوفة يريدون الحج، فدخلوا عَلَى عَاصِم مسلمين فرأوا أبا مُسْلِم عنده فأعجبهم عقله وظرفه وأدبه وشدة نَفْسه وذهابه بِهَا، ومال إليهم فعرف أمرهم فَقَالَ: أنا أصحبكم وأكون معكم، فسألوا أبا مُوسَى (585) السراج أَن يعينهم بِهِ وَكَانَ من كبار الشيعة، ففعل وكتب مَعَهُ كتابًا إِلَى إِبْرَاهِيم الْإِمَام وَقَدْ كَانَ علم أَن إِبْرَاهِيم عَلَى الحج فِي سنته وأن الْقَوْم واعدوه الالتقاء بمكة. فشخص أَبُو مُسْلِم معهم ووجدوا إِبْرَاهِيم بمكة فأعطوه عشرين ألف دِينَار ومائتي ألف درهم وأوصلوا إِلَيْهِ كسًى حملوها لَهُ، ورأى إِبْرَاهِيم الْإِمَام فعرفه وأثبته لأنه كَانَ يراه أَيَّام اخْتِلافه إِلَى أَبِيهِ فِي محبسه [2] وتأمل أمره وأخلاقه فأعجبه منطقه ورأيه [3] وجزالته فَقَالَ: هَذَا عضلة من العضل، ومضى بِهِ فكان يخدمه. ثُمَّ إِن هَؤُلاءِ النقباء قدموا عَلَى إِبْرَاهِيم يطلبون رجلًا يتوجه معهم إِلَى خراسان، فعرض عَلَى سُلَيْمَان بْن كثير أَن يَكُون ذَلِكَ الرجل فأبى وعرض مثل ذَلِكَ عَلَى قحطبة فأبى فأراد توجيه رَجُل من أَهْل بيته فكره ذَلِكَ وذكر أبا مسلم فأطرياه ووصفا عقله وعلمه بِمَا [4] يَأْتِي ويذر، فاستخار اللَّه ووجهه إِلَى خراسان [5] فنزل عَلَى سُلَيْمَان بْن كثير فكان والشيعة جميعًا لَهُ مُكرمين مبجلين سامعين مطيعين وجعل أمرهم ينمو حَتَّى كَانَ منه مَا كَانَ [6] .
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الصمد بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ الْإِمَام قَالَ: كَانَ أَبُو مُسْلِم لبعض أَهْل هراة أَو بوشنج فقدم مولاه على الإمام وقدم به معه فأعجبه عقله فابتاعه منه بألفين وعشرين درهمًا وأعتقه ومكث عنده سنين ثُمَّ وجهه إِلَى خراسان.
__________
[1] يرد مضمون هذه الرواية في ابن الأثير ج 5 ص 255.
[2] م: مجلسه.
[3] كلمة «رأيه» ليست في م.
[4] ط: كما.
[5] انظر هذا الخبر في اخبار الدولة العباسية ص 255- 6، وانظر الطبري س 2 ص 1937، والازدي ص 52، وابن اعثم ج 2 ص 219 ب- 220 ا، وابن الأثير ج 5 ص 347- 8.
[6] انظر ابن خلكان- وفيات ج 3 ص 146- 7.(4/119)
وَقَالَ هِشَام بْن الْكَلْبِيِّ: كَانَ أَبُوهُ من خول آل معقل فأُسلم إِلَى أَبِي مُوسَى السراج فكان [1] مَعَهُ، وقدم أَبُو مُوسَى الكوفة [2] فبينا أَبُو مُسْلِم يخرز شيئًا فِي يده إذ رَأَى النَّاس يتعادون، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قالوا: ها هنا فيل ينظر النَّاس إِلَيْهِ، فَقَالَ: وأي عجب فِي الفيل؟ إِنَّمَا العجب أَن تروني وَقَدْ قلبت دولة وقمت بدولة.
وَقَالَ غَيْر ابْن الْكَلْبِيِّ: كَانَتْ أُمُّه أمَةً لبني معقل وَكَانَ أَبُوهُ من أَهْل ضياعهم فأتى الكوفة معهم فابتيع للإمام. وذكر بَعْضهم أَنَّهُ من أَهْل أصبهان وأن رجلًا من ضبة اختدعه وَهُوَ صبي فأقدمه الكوفة. وقيل أيضًا إِن أَبَاهُ كَانَ من أَهْل بابل أَوْ خطرنية [3] وكيلًا للعجليين وَكَانَ اسمه زاذان بْن بنداد هرمز وأمه وشيكة [4] فقدم العراق مَعَ عِيسَى بْن معقل فكان يخدمه فِي سجن الكوفة ويسمع قَوْل الشيعة [5] فمال إليهم. وقوم يزعمون أَنَّهُ كَانَ يسمى إِبْرَاهِيم وَكَانَ يُقَالُ لأبيه عُثْمَان [6] وأنه من ولد كسرى وأن الْإِمَام كَانَ يبعثه إِلَى خراسان.
وذكر بَعْض ولد قحطبة أَنَّهُ كَانَ عبدًا للعجليين فأسلموه إِلَى أَبِي مُوسَى فتعلم منه السراجة فابتيع للإمام بسبع مائة درهم وأهدي إِلَيْهِ وإن اللذين أهدياه سليمان بن كثير ولاهز بن قريط.
وَحَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شهاب بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَبُو مُسْلِم يختلف إِلَى خراسان يبعثه الإمام بكتبه إِلَى سُلَيْمَان بْن كثير فيشخص [7] عَلَى حمارٍ لَهُ، فَقَالَ خادمٌ لسليمان: لَقَدْ جاءنا مرة فلم نعرض عَلَيْهِ الطعام فلامنا سُلَيْمَان عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ أصغر عندنا من أَن نلتفت اليه.
__________
[1] م: وكان.
[2] انظر الخطيب البغدادي ج 10 ص 207.
[3] في ط، د: خطر بنية وفي م: خطرنييه. انظر الطبري س 2 ص 1960 وسهراب- عجائب الأقاليم السبعة ص 125.
[4] الأصل: وسيكه، وفي المقدسي- البدء ج 4 ص 93، وابن خلكان- وفيات ج 3 ص 145:
وشيكة. كما انها جاءت بعدئذ «وشيكة» ، انظر ص 185.
[5] العبارة من «مع عيسى» الى «الشيعة» ليست في د.
[6] انظر اخبار الدولة العباسية ص 257، وفي ابن الأثير ج 5 ص 254: «فقيل ... واسمه ابراهيم بن عثمان بن بشار بن سدوس بن جودزده من ولد بزرجمهر» . وانظر ابن خلكان- وفيات ج 3 ص 145. وفي الخطيب البغدادي: ابراهيم بن عثمان بن يسار بن شيدوس بن جودرن من ولد بزرجمهر ج 10 ص 207.
[7] م: فشخص.(4/120)
قَالُوا: ووجه إِبْرَاهِيم أبا مُسْلِم إِلَى خراسان وكتب إِلَى من بِهَا من أوليائه بالسمع والطاعة لَهُ وإلى أَبِي حَفْص سُلَيْمَان بْن سلمة الداعية يعلمه توجيهه إياه [1] ويأمره بإنفاذه إِلَى خراسان، فشخص فنزل عَلَى سُلَيْمَان بْن كثير فكان يجله ويوقره ويعظم أمره، حَتَّى إِذَا ظهر أمر أَبِي مُسْلِم والدعاة بخراسان، وعليها نصر بْن سيار، دس نصر رجلًا استأمن إِلَى أَبِي مُسْلِم [2] وأظهر الدخول مَعَهُ في أمره فعرف أن الذي يكاتبهم ويكاتبونه ويدعون لَهُ إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن العَبَّاس، فكتب (586) بِذَلِك إِلَى مَرْوَان بْن مُحَمَّد فكتب مَرْوَان إِلَى الْوَلِيد بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ الملك بن مروان- ومن قَالَ الْوَلِيد بْن مُعَاوِيَة بْن مَرْوَان باطل، لَمْ يكن لمعاوية بْن مَرْوَان ابْن يُقَالُ لَهُ الْوَلِيد- وَهُوَ عامله عَلَى دمشق يأمره أَن يكتب إِلَى عامله عَلَى البلقاء فِي المسير إِلَى كداد والحميمة وأخذ إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد بْن عَلِي وشدة وثاقًا وحمله إِلَيْهِ فِي خيل كثيفة يحتفظ بِهِ فَإِذَا وافى إِلَى مَا قبله أنفذه إِلَيْهِ مَعَ من يقوم بحفظه وحراسته، فأُتي إِبْرَاهِيم وَهُوَ فِي مَسْجِد القرية فأُخذ وَلُفَّ رأسه وحمل الى دمشق، فأنفذه الوليد ابن مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان، وَكَانَ مَعَهُ عدة من أهله قَدْ شيعوه فيهم عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي وعيسى بْن عَلِي وعيسى بْن مُوسَى، فانصرفوا من حرّان، ووبّخ مروانُ إِبْرَاهِيم حِينَ دَخَلَ إِلَيْهِ فاشتد لسان إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ [3] فيما خاطبه بِهِ، وَقَالَ لَهُ مَرْوَان: أيَرْجو [4] مثلك أَن ينال الخلافة؟ فَقَالَ: رجوتَها وقُلدّتَها وأنت ابْن طريد رَسُول اللَّهِ ولعينه، وكيف لا أرجوها وأنا ابْن عمّه ووليه! وَقَالَ: لَقَدْ علمنا أَن الَّذِي يذكر من بغضك بَنِي هاشم ومن به [5] شرفوا الحق [6] ، فأمر بِهِ [7] إِلَى الحبس فحبس بحران فِي سجنها وفيه عبد الله ابن عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز. ثُمَّ بعث مَرْوَان فِي بَعْض الليالي إِلَى حاجبه صقلاب ومعه عشرون من مواليه خزر وصقالبة وروم إِلَى السجن ومعهم صاحب السجن ففتح لَهُمْ ودخلوا ثُمَّ خرجوا فأصبح إِبْرَاهِيم وعبد اللَّه بْن عُمَر ميتين، فيقال ديست بطونهما،
__________
[1] م: اليه.
[2] سقط «مسلم» من ط.
[3] انظر المسعودي ج 6 ص 70.
[4] ط: أترجو.
[5] م: له.
[6] سقطت كلمة «الحق» من ط.
[7] ط: فار به.(4/121)
ويقال غُمّا، ويقال سُمّا، ويُقال عُصِر مَا تَحْتَ سراويلهما حَتَّى ماتا. وَقَالَ الهيثم بْن عدي: غُمَّ إِبْرَاهِيم الْإِمَام فِي جراب نورة وغم [1] الآخر بمرفقة [2] فِيهَا ريش. وَكَانَ مهلهل مولاه [3] يَقُول: كنت أخدمه وَهُوَ محبوس بحران وأشتري حوائجه، وَكَانَ شراحيل بْن مُعَاوِيَة بْن هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك محبوسًا فِي حجرة غَيْر حجرة إِبْرَاهِيم الَّتِي كَانَ محبوسًا فِيهَا، وَكَانَ صديقًا لإِبْرَاهِيم فكانا يتلاطفان ويتهاديان فِي محبسهما فأتي إِبْرَاهِيم بلبن مسموم أَوْ غَيْر لبن وقيل لَهُ: بعث إليك بِهِ أخوك شراحيل، وَلَمْ يكن شراحيل بعث بِهِ، فشربه فتوفي. قَالَ: فأنا الَّذِي صليت عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو مَسْعُود الكوفي: بلغني أَن إِبْرَاهِيم أخرج فوضع عَلَى بَاب السجن فأخذه رَجُل من بَنِي سَهْم فكفنه وصلى عَلَيْهِ ودفنه. قَالَ: وبلغني أَن أبا الْعَبَّاس كَانَ أشبه النَّاس بأخيه إِبْرَاهِيم الْإِمَام، فَلَمَّا جاء الرَّسُول لحمل إِبْرَاهِيم وجد إِبْرَاهِيم متغيبًا [4] فأخذ أبا الْعَبَّاس، فَلَمَّا علم إِبْرَاهِيم بأخذه قَالَ: مَا من الْمَوْت مَفَرٌّ ولا لأمر اللَّه مدفع، فخرج فَقَالَ للرسول: أَنَا بغيتك فَخَلِّ عَنْ أَخِي، فحمله. وكان لإبراهيم يوم مات فيما يُقَالُ تسع وأربعون سنة، وَقَالَ بَعْضهم أربع وثلاثون سنة.
وهرب أَبُو الْعَبَّاس بَعْد مقتل إِبْرَاهِيم إِلَى الكوفة ومعه أَهْل بيته فأخفاهم أَبُو سلمة الداعية فِي سرداب فِي دار بَنِي أودٍ حَتَّى قدم المسوِّدَة. فكان يُقَالُ: مَا رَأَى النَّاس أبعد همَمًا [5] ولا أكبر نفسًا من قوم خرجوا عَلَى تلك الحال يطلبون الخلافة.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: رَأَى إبراهيم الإمام رجلا من ولد زياد بْن أَبِي سُفْيَان يجر ثيابه، وإن إِبْرَاهِيم لفي محملٍ عَلَى غَيْر وطاءٍ يُؤتى بِهِ مروان، فقال:
أطلها فما طول الثياب بنَافِع ... إِذَا كَانَ فرع الوالدين قصيرا
وَقَالَ الهيثم: لما وقعت العصبية بخراسان وتحرك أمر الدعاة كتب إِبْرَاهِيم الْإِمَام إِلَى أَبِي مسلم [6] :
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 392- 3، والمسعودي ج 6 ص 71- 2.
[2] ط: برقعة.
[3] انظر اخبار الدولة العباسية ص 395- 6، والطبري س 2 ص 43- 44.
[4] ط: متعنيا نقيبا.
[5] ط: هما.
[6] ابن اعثم- فتوح (مخطوط) ج 2 ص 220 آ، المسعودي- مروج ج 6 ص 72.(4/122)
دونك أمر [1] قَدْ بدت [2] أشراطه ... وريشت من نبله مراطه [3]
(587) إِن الهدى [4] لواضح صراطه [5] ... لَمْ يبق إلا السَيْف واختراطه
إِن السبيل واضح صراطه
[6] حَدَّثَنِي دَاوُد بْن عَبْدِ الحميد قَاضِي الرقة عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم الْإِمَام يدعو وَهُوَ فِي حبس مَرْوَان: اللَّهُمَّ رب السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبع ورب العرش العظيم والآيات والذكر الحكيم صل عَلَى نَبيك ونجيبك مُحَمَّد وعلى آله وخلفه، عَلَيْنَا وعلى أَهْل [7] ملتنا ودعوتنا بِمَا ينعش العاثر ويبرئ السقيم ويفك الأسير ويشفى المريض، اللَّهُمَّ العن أَهْل بَيْت اللعنة وأَنزل بِهِمُ النقمة وحقق فيهم الرواية واحصدهم بالسَيْف حصدًا إنك عَلَى كُل شَيْء قدير وبكل شَيْء عليم.
وَحَدَّثَنِي دَاوُد عَنْ أَبِيهِ، قَالَ [8] : كَانَ ابراهيم الإمام يصلي في كل يوم خمسائة ركعة وَيَقُول: هَذِهِ صلاة أَبِي وجدي.
وَحَدَّثَنِي دَاوُد عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَحَين إِبْرَاهِيم غفلةَ من كَانَ وُكّل بِهِ حِينَ حمل فكتب كتابًا إِلَى أَخِيهِ أَبِي الْعَبَّاس ودفعه إِلَى سابق مولاه وأمره أَن يوصله إِلَيْهِ، فَلَمَّا وقف بباب مَرْوَان بحران أسَرَّ إِلَى سابق شيئًا سُئل عَنْهُ سابق بَعْد ذَلِكَ فَقَالَ:
أمرني أَن أقرأ عَلَى [9] أَبِي الْعَبَّاس السَّلام وأعلمه أَنَّهُ وصيه بأمر الْإِمَام مُحَمَّد بْن عَلِي. وكانت نسخة الكتاب.
بسم اللَّه الرَّحْمَن الرحيم. حفظك اللَّه يَا أَخِي بحفظ أَهْل الْإِيمَان وتولاك بالخير والإحسان. كتابي إليك وَقَدْ وَرَدْتُ حران، والرجل قاتلي لا محالة فَإِذَا أنا هلكت
__________
[1] ابن اعثم: امرا.
[2] ن. م.: دنا.
[3] ن. م.: «وألبنت مرسله امراطه» . ولم يرد هذا الشطر في المسعودي.
[4] ط: اهدى. وقد اورد المسعودي وابن اعثم الشطر الأخير محل هذا الشطر.
[5] ط: بقراطه.
[6] ابن اعثم: مراطه.
[7] د: آل.
[8] ترد هذه الرواية، نقلا عن البلاذري، في اخبار الدولة العباسية ص 402- 3.
[9] ط: الى.(4/123)
فأنت [1] الْإِمَام الَّذِي يقيم أمرنا ويرعى حرمة أوليائنا و [2] دعاتنا ويُتِم اللَّه بِهِ وعلى يديه مَا أثلنا وأُثّل لنا. فعليك أي أَخِي بتقوى اللَّه وطاعته فِي قولك وفعلك وإصلاح نيتك ليصلح لك عملك، واستوص بأهل دعوتنا وشيعتنا (خيرا) [3] فاحفظ عَبْد الرَّحْمَن أميننا [4] والساعي فِي أمورنا وعرّف أَهْل خراسان مَا توجبه لنا بإيثار [5] طاعتنا، ولا يكونن لَك رأي ولا لأهلنا إلا الشخوص عَنِ الحميمة وكداد إِلَى أوليائنا وشيعتنا بالكوفة مخفين [6] لأشخاصكم مستترين عمن تخافون [7] غيلته لكم وسعيه بكم إِن شاء اللَّه، وأنا [8] أستودعكم اللَّه وحده [9] وأسأله لكم الصنع والكفاية وعليكم السَّلام ورحمة اللَّه وبركاته. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي الْحَسَن الْمَدَائِنِيِّ قَالَ:
كَانَ إِبْرَاهِيم الْإِمَام جوادًا معطاءً فوفد عَلَيْهِ رجلٌ من الأَنْصَار فأعطاه كُل دِينَار كَانَ عنده، فلقيه رَجُل فحدثه بِمَا أَعْطَاه إِبْرَاهِيم وقال: هو والله كما قال الشاعر:
يرى البخل مُرًّا والعطاء كأنما ... يلذ بِهِ عذبًا من الماء [10] باردا
قَالُوا: وقدم إِبْرَاهِيم الْإِمَام الْمَدِينَةَ فأتته عجوز من ولد الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فشكت الحاجة، فَقَالَ: نَحْنُ عَلَى سفر وَمَا يحضرنا لَك الكثير ولا نرضى بالقليل فاقبلي بِمَا [11] حضر وتفضلي بالعذر، فأعطاها ناقة لَهُ برحلها وعبدًا ومائة دِينَار.
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: كَانَ إِبْرَاهِيم الْإِمَام يَقُول: إنَّا قوم لا نخشو [12] عند السؤال وو لا
__________
[1] ط: وأنت.
[2] ط: أو.
[3] اضافة من اخبار الدولة العباسية.
[4] ط: لساننا، وفي اخبار الدولة العباسية: اميننا.
[5] في اخبار الدولة العباسية: «ما توجبه له بإيثاره» ، وفي كتاب التاريخ ص 287 ب:
ما يوجبه لنا.
[6] ط: مخفينا، م: مختفين باشخاصكم.
[7] ط: يخافون، وفي اخبار الدولة العباسية: تخافون.
[8] ط: إذ.
[9] في كتاب التاريخ واخبار الدولة العباسية: «وانا استودعك الله خاصة ومن قبلك (اخبار:
قبلكم) من أهلنا عامة» . اخبار ص 403، التاريخ 287 ب.
[10] ط: ماء.
[11] د: ما.
[12] ط: نخسنوا. وخشت النخلة اثمرت الخشو اي الحشف، انظر القاموس المحيط مادة خشي.(4/124)
نجفو [1] عِنْدَ الاستعطاف. قَالَ: وَكَانَ يَقُول: السخاء من رقة القلب والرحمة أصل كُل حسنة. وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ هِشَام بْن الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم الْإِمَام يَقُول: الكامل المروءة من حصن دينه، ووصل رحمه واجتنب ما يلام عليه.
(588) وحدثنا عَلِي بْن المغيرة الأثرم عَنْ أَبِي عُبَيْدَة، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم الإِمَام يَقُول:
سَمِعْتُ أَبِي يقول: لا يزال الرجل يزاد فِي رأيه مَا نصح لمن استشاره. قَالَ: وأنا أقول نُصح المستشير قضاء لحق النعمة فِي صواب الرأي [2] . الْمَدَائِنِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيل بْن حَفْص، قَالَ: أتى رَجُل إِبْرَاهِيم الْإِمَام فسأله فأعطاه وكساه وحمله، فَقَالَ:
أنتم والله أحق بِهَذَا الْبَيْت مِمَّنْ قيل [3] فِيهِ:
زينت أحسابَهم أحلامُهم ... وكذاك الحلم زين للحسب
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الأَعْرَابِيِّ، قَالَ: سَأَلَ أَبُو مُسْلِم إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد الْإِمَام عَنِ البلاغة فَقَالَ: معرفة الوصل من الفصل وإصابة المعنى واختصار الطريق إِلَى الغاية الَّتِي يريد [4] . قَالُوا: قدم [5] إِبْرَاهِيم المدينة فشكى إِلَيْهِ عبيدٌ مواليهم فابتاعهم وأعتقهم ورَفَدهم، وسأل عَنِ ابْن هَرْمة فَقِيلَ مُستخفٍ من دينٍ عليه، فقضاه عنه، فقال ابن هرمة فيه قصيدته [6] الَّتِي يَقُول فِيهَا.
كريم إِذَا مَا أوجب اليوم نائلًا ... عَلَيْهِ جزيلًا بث أضعافه غدا
أغرَ كضوء البدر [7] يستمطر الندى ... ويهتز [8] مرتاحًا إِذَا هُوَ أنفدا
وأولها:
جزى اللَّه إِبْرَاهِيم عَنْ جُل قومه ... رشادًا بكفيه ومن شاء أرشدا
__________
[1] ط: تخفوا، م: نخفوا.
[2] انظر اخبار الدولة العباسية ص 385.
[3] ط: قتل.
[4] يرد الخبر في اخبار الدولة العباسية ص 385 نقلا عن البلاذري.
[5] د، م: وقدم.
[6] انظر الديوان (ن. المعيبد) ص 90- 95، واخبار الدولة العباسية ص 380- 2، وابن عساكر ج 2 ص 289- 290.
[7] الديوان: الصبح.
[8] اخبار الدولة العباسية ص 380: ويهتاش.(4/125)
وَقَالَ ابْن هرمة فِي الْإِمَام إِبْرَاهِيم:
ناعٍ نعى لي إِبْرَاهِيم قلتُ لَهُ ... شلت يداك وعشت الدهر خزيانا [1]
ولا رجعت إِلَى مال ولا ولد ... مَا كنت حيًّا وَمَا سميت إِنْسَانًا
تنعي [2] الْإِمَام وخير النَّاس كلهم ... أخنت [3] عَلَيْهِ يد الجعدي مروانا
فاستدرج اللَّه مروانا بقدرته [4] ... سبحان مستدرج الجعدي سبحانا
فأصبح الْقَوْم [5] لم تطلل دماؤهم ... وَكَانَ حين بَنِي مَرْوَان قَدْ حانا
وَقَالَ سديف بْن ميمون [6] :
كَيْفَ بالعفو عَنْهُمْ وقديما [7] ... قتلونا [8] وهَتكوا الحرمات
قتلوا سبط أَحْمَد لا عفا ... الرَّحْمَن عَنْهُمْ مكفر السيئات [9]
أين زَيْد وأين يَحْيَى بْن زَيْد ... يَا لَهَا من مصيبة وتراتِ
والإمامُ الَّذِي أصيب بحران ... إمام الهدى ورأسُ الثِّقات
وَقَالَ ابْن هرمة، ويقال سديف:
قَدْ كنت أحسبني جلدًا فضعضعني ... قبر بحران أمسى عصمة الدين
[10]
__________
[1] ط: حزنانا، اخبار الدولة العباسية: عريانا.
[2] العيون والحدائق ج 3 ص 190: نعى.
[3] الأصل: احنت. انظر اخبار الدولة العباسية ص 406، والديوان (ن. المعيبد) ص 225- 7 و (ن. محمد نفاع وحسين عطوان) ص 217، والعيون والحدائق ج 3 ص 190.
[4] اخبار الدولة العباسية ص 406: بغرته، العيون والحدائق: لعزته، الديوان ص 227: بقوته.
[5] اخبار الدولة العباسية ص 406، والديوان (المعيبد) ص 227: فاعتز بالقوم.
[6] ترجمته في الأغاني ج 16 ص 86- 7، وج 4 ص 347 وما بعدها، وفي الشعر والشعراء ص 761، وطبقات ابن المعتزّ ص 37، والعقد الفريد ج 4 ص 485. ووردت الأبيات التالية في الأغاني ج 4 ص 352، وشرح نهج البلاغة ج 7 ص 143، بترتيب مختلف إذ يرد البيت الثاني في الأخير.
[7] الأصل: قدما، والتصويب من الأغاني وشرح نهج البلاغة.
[8] ن. م.: قتّلوكم.
[9] في ن. م.: قتلوا آل احمد لا عفا الذنب لمروان غافر السيئات.
[10] الأبيات في اخبار الدولة العباسية ص 405- 6، وترد في الطبري س 3 ص 44، في الديوان (المعيبد) ص 327- 8، (عطوان) ص 221 منسوبة لابن هرمة.(4/126)
قبر الامام وخير الناس كلهم ... بَيْنَ الصفائح والأحجار والطين
قبر الْإِمَام الَّذِي عمّت [1] مصيبته ... وعيّلت كُل ذي وفر [2] ومسكين
فلا عفا اللَّه عَنْ مَرْوَان مظلمة ... فَإِنَّهُ كَانَ ملعونًا لملعونِ
[3] فولد إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد الْإِمَام [4] : عَبْد الْوَهَّاب ومحمدًا وأخوة لهما درجوا، وأم حبيب تزوجها عِيسَى بْن مُوسَى فولدت لَهُ [5] مُوسَى بْن عِيسَى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد.
والعقب من ولد إِبْرَاهِيم لعبد الْوَهَّاب، ومحمد الأصغر. وَكَانَ الْمَنْصُور ولي عَبْد الْوَهَّاب بْن إِبْرَاهِيمَ (589) الشام فمات هناك. فولد عَبْد الْوَهَّاب مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْوَهَّاب وأمّه عَائِشَةُ بِنْت سُلَيْمَان بْن عَلِي، فولد مُحَمَّد إِبْرَاهِيم ويكنى أبا إِسْحَاق وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ابْن عَائِشَةَ، نُسِبَ إِلَى جدته، وَكَانَ أَبُوهُ أيضًا ينسب إِلَى أمه عَائِشَةَ. وَكَانَ إِبْرَاهِيم هَذَا أراد الخروج عَلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَأْمُون [6] وبايعه عَلَى ذَلِكَ قومٌ من أَهْل الحضرة ببغداد منهم محمد بن إبراهيم الافريقي وفرح البغواري مَوْلَى أم جَعْفَر بِنْت جَعْفَر بْن الْمَنْصُور، وَمَالِك بْن شاهي الكاتب، ودَبُّوا مَعَهُ فِي أمره، فاطلع الْمَأْمُون عَلَى من كَانَ يسعى لَهُ فحبسه فِي المطبق [7] ببغداد، فأفسد أهله حَتَّى شغبوا فركب الْمَأْمُون ليلًا إِلَى بَاب المطبق فأخرج إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم هَذَا فأمر بضرب عنقه وصلبه فضربت عنقه والمأمون واقفُ وصلب فِي صبيحة تلك الليلة ثُمَّ أنزل من يومه. ووّلّد مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ الْإِمَام عَبْد اللَّهِ، وأمه زينب بِنْت سُلَيْمَان بْن عَلِي، فإليها نُسب الزينبي مُحَمَّد [8] بْن سُلَيْمَان بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ الْإِمَام. وَكَانَ الْمَنْصُور ولي مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيمَ مَكَّة والمدينة واليمن ثُمَّ ولاه الجزيرة فلما توفي أخوه عَبْد الْوَهَّاب بالشام ولاه الشام مكانه. ولمحمد بن ابراهيم يقول العنبري:
__________
[1] اخبار الدولة العباسية: عزّت.
[2] ن. م. والديوان والطبري: مال.
[3] يرد الشطر الثاني في المصادر السابقة «لكن عفا الله عمن قال آمين» . وانظر شرح نهج البلاغة ج 7 ص 140.
[4] انظر جمهرة الأنساب ص 30- 31.
[5] سقطت «له» من ط.
[6] سقط اسم «المأمون» من ط.
[7] زاد في ط: «وولد محمد بن ابراهيم الامام ببغداد» .
[8] في جمهرة الأنساب ص 30- 31: عبد الله بن محمد بن سليمان.(4/127)
اقضِ عني يَا ابْن عم المصطفى ... أَنَا بالله من الدين وبك [1]
من غريم فاحش يقذعُني [2] ... أشوه الوجه لِعرضي منتهك [3]
لَيْسَ بالمقلع عني دهرهُ [4] ... حيثْ ما [5] زلت من الأَرْض سلك
وَقَالَ: ورَهَن مصحفه:
مَا أن عمدت كتاب اللَّه ارهنه ... إلا وَلَمْ يبق هَذَا الدهر لي نشبا
فافتكّ طه وياسينًا فانهما ... والسبع من محكم الآيات قَدْ نشبا
وَأَمَّا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَلِي أَبُو الْعَبَّاس،
فحدثني [6] غَيْر واحد أَنَّهُ لما قتل إِبْرَاهِيم الْإِمَام خرج من الحميمة يريد الكوفة، وَكَانَ أول بَنِي أَبِيهِ خروجًا لخوفه عَلَى نَفْسه لمصير الإمامة إِلَيْهِ، فلقيه عمه دَاوُد بْن عَلِي بدومة الجندل فَقَالَ: يَا ابْن أَخِي أَيْنَ تريد؟ قَالَ: الكوفة، قَالَ: أتأتي الكوفة وشيخ بَنِي مَرْوَان بحران مطل عَلَى العراق في خيل العرب ورجالها! فَقَالَ:
يَا عم إِن اللَّه إِذَا أراد أمرًا بلغه، ومن أحبَّ الحياة ذل، وتمثل [7] :
وَمَا موتة إِن متُّها غَيْر عاجز ... بعارٍ إِذَا مَا غالت النفس غولها
فالتفت دَاوُد إِلَى ابنه مُوسَى، وأمه أم مُوسَى بِنْت عَلِي بْن الْحُسَيْن بْن عَلِي [8] فَقَالَ:
صدق ابْن عمك فارجع بنا مَعَهُ نحيا أعزاء أَوْ نموت [9] كرامًا، فلم يزل أَبُو العباس بالكوفة حتى ولي الخلافة.
__________
[1] انظر اخبار الدولة العباسية ص 405.
[2] ن. م.: واخز يقعدني.
[3] ن. م.: ينتهك.
[4] ن. م.: يورد هذا الشطر: انا والظل وهو ثالثنا.
[5] ن. م.: أينما.
[6] ط: حدثني.
[7] في اخبار الدولة العباسية ص 411: وتمثّل قول الأعشى. انظر الطبري س 3 ص 24، والمسعودي ج 6 ص 91- 92، وفي ديوان الأعشى: فما ميتة ... ص 177.
[8] لم يرد «ابن علي» في ط.
[9] الأصل: ونموت. انظر اخبار الدولة العباسية ص 411.(4/128)
وحدثني العمري عَنِ الهيثم بْن عدي عَنِ معن بْن يَزِيد الهمداني، قَالَ: كُنَّا نتحدث أَن الجعدي قتيل ابْن الحارثية.
قَالُوا: وَكَانَ مِمَّا زاد أمر أَبِي مُسْلِم بخراسان قوة العصبية الَّتِي [1] وقعت بَيْنَ مضر وربيعة واليمن بسبب تقديم نضر بْن سيار الكناني بَنِي تميم وتوليته إياهم [2] وتعصبه عَلَى ربيعة واليمن حَتَّى غضب جُديع بْن سَعِيد ويقال ابْن عَلِي الْأَزْدِيّ المعروف بالكرماني، وإنما قيل لَهُ الكرماني [3] لأنه ولد بجيرفت من كرمان. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيِّ: هُوَ جديع [4] بْن سَعِيد بْن قُبيصة بْن سراق. وكلم نصرًا مرة بَعْد مرة فأغلظ لَهُ حَتَّى أمر بحبسه، وأخرجه غلام لَهُ من مجرى ماء وَهُوَ متسلخ [5] فاجتمعت إِلَيْهِ اليمن وربيعة فلم يزل نصر يحاربه ثُمَّ انفرد بمحاربته الْحَارِث بْن سريج بْن يَزِيد المجاشعي فقتله الْحَارِث، وصلبه نصر وعلق مَعَهُ سمكة، يعيره بعمان وصيد السمك. وقام عليُّ بْن جديع مقام أَبِيهِ فقاتله الْحَارِث فقتل الْحَارِث. ويقال إِن الْحَارِث قاتل جديعًا فقتله [6] جديع ثُمَّ وثبت تميم وفيهم حاتم بْن الْحَارِث بْن سريج فقتلوا جديعًا والله أعلم.
وَقَالَ نصر بن سيار للحارث:
يا مُدخِل الذُّلّ عَلَى قومه ... بُعْدًا وَسُحْقًا لَك من هالك
(590)
مَا كَانَت الأزد وأشياعها ... تطمع فِي عَمْرو ولا مَالِك [7]
فِي أبيات. وَكَانَ تشاغل [8] نصر فُرصَة [9] لأبي مُسْلِم فقوى أمره حتى أظهر دعوته
__________
[1] ط: أن.
[2] ط: اياه.
[3] «وإنما قيل له الكرماني» سقطت من ط.
[4] م: جديع بن قبيصة. ويوجد اختلاف في نسب الكرماني. ففي جمهرة النسب لابن الكلبي يرد: جديع بن علي بن شبيب بن عامر، ج 1 لوحة 13. وانظر الطبري س 2 ص 1858، وتاريخ خليفة بن خياط (ن. اكرم العمري) ص 410، وجمهرة الأنساب ص 381، وابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 217 أ، والعيون والحدائق ج 3 ص 186.
[5] انظر الطبري س 2 ص 1861- 2، وابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 217 ب.
[6] ط: فقتل.
[7] انظر الطبري س 2 ص 1935.
[8] زاد في ط: على.
[9] ط: قرضة.(4/129)
وكتب إِلَى دعاته فِي الكور بإظهارها. فَلَمَّا قتل الكرماني قام بأمر عسكره عليُّ ابنه، فأظهر خلع مَرْوَان فانضم إِلَيْهِ خلق. وَكَانَ شَيْبَان بْن عَبْدِ الْعَزِيز الخارجي، وَهُوَ شَيْبَان الصغير، قَدْ صار من سجستان إِلَى خراسان، فكتب إِلَيْهِ الكرماني: إنك ونحن خالعون لمروان، فَصِرْ إليّ لنجتمع عَلَى محاربة أوليائه أولياء الشيطان، فصار إليه فكانا يُحاربان نَصْر بْن سيار. ومال أَبُو مُسْلِم فيما [1] أظهر إِلَى ابْن الكرماني وسلّم عَلَيْهِ بالإمرة وَقَالَ لَهُ: قَدْ قوي أمرك ووهن أمر نصر فابعث عمالك إِلَى النواحي، فكان يبعث بالرجل إِلَى الناحية فِي جَمَاعَة ويبعث أَبُو مُسْلِم إِلَيْهَا مَعَ صاحبه بأضعافها [2] فيدعون إِلَى الرضا من آل مُحَمَّد. ثُمَّ إِن أبا مُسْلِم أنفرد بعسكره وبعث إِلَى نصرٍ وابن الكرماني وشيبان: إني [3] رَجُل أدعو إِلَى الرضا من آل مُحَمَّد ولستُ أعرض لكم ولا أعين منكم أحدًا عَلَى صاحبه. ولما رَأَى نصر قوة أمر أَبِي مُسْلِم بعث إِلَيْهِ [4] يسأله مُوادعته وأن يدخل مرو فقصد لدخولها وزّوى أَصْحَاب ابْن الكرماني وأَصْحَاب نصرٍ عَنْهَا، فدخلها فِي شَهْر ربيع الأَوَّل سنة ثلاثين وَهُوَ يقرأ: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ من أهلها [5] ، فَلَمَّا استولى عَلَيْهَا قَالَ نصر: لا مقام لنا مَعَ مَا أرى من إقبال أمر هَذَا الرجل وإدبار أمرنا، فبعث إِلَى ابْن الكرماني: هَذَا رَجُل يظهر الميل إليك وإنما يريد ختَلْك فصالحِني، فصالحه عَلَى أَن يَكُون أمرهما واحدًا، وإن حاربه أَبُو مُسْلِم رجعا إِلَى ناحية مرو. وَكَانَ أَبُو مُسْلِم يظهر لابن الكرماني إعظامًا وإجلالًا حَتَّى إِذَا ضبط أمر خراسان وغلب أَصْحَابُه ودعاته عَلَيْهَا ومال النَّاس إِلَيْهِ من كُل أوب واشتد حجابه وغلظ أمرُه واستفحل بعث رسُلَه إِلَى نصر بْن سيار وَقَدْ آنسه وبسطه وضمن لَهُ أَن يكف عَنْهُ ويقوم بشأنه عِنْدَ الْإِمَام وأعلمه أَن كتابًا أتاه من عِنْدَ الْإِمَام يعدُه فِيهِ ويُمنيه [6] ويضمن لَهُ الكرامة.
وَكَانَ رسله لاهز بن قريط [7] وسليمان بْن كثير وعمران بْن إِسْمَاعِيلَ وَدَاوُد بن كرّاز
__________
[1] ط: فما.
[2] ط: باضعافه.
[3] ط، د: الى.
[4] ط: اليهم.
[5] سورة القصص (28) ، الآية 15.
[6] ط: تمنيه.
[7] ط: قريظ.(4/130)
وقال لَهُمْ: أعلموه أني أريد مشافهته وقراءة كتاب الْإِمَام عَلَيْهِ، فَلَمَّا أتوه تلا لاهز قَوْل اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ليقتلوك [1] ، فتنبه نصر لما أراد من تحذيره فَقَالَ: أَنَا صائر معكم إِلَى الأمير أَبِي مُسْلِم، ودخل بستانًا لَهُ كَأَنَّهُ يريد أَن يلبس ثيابه ثُمَّ ركب دابته وهرب [2] إِلَى الري فمات [3] بقِسْطانة [4] . وسأل أَبُو مُسْلِم (591) عَنْ نصر وهل أنذره أحد، فَأَخْبَرَه [5] بتلاوة لاهز الآية، فَقَالَ لَهُ:
يَا لاهز أعصبية فِي الدين! قوما فاضربا عنقه، فضربت عنق لاهز. ويقال إِن نصرًا سار إِلَى الري فَلَمَّا دخلها مرض فحمل إِلَى ساوة بقرب همذان فمات بِهَا. ووجه أَبُو مُسْلِم إِلَى ابْن الكرماني رُسُله وَقَالَ لَهُمْ: ائتوني بابن الكرماني عَلَى الحال التي [6] تجدونه [7] عليها، فجاءوا به فحبسه. وكان أخوه عثمان [8] بناحية هراة فكتب إِلَى أَبِي دَاوُد فِي أمره، فَقَالَ لَهُ أَبُو دَاوُد: إِن أبا مُسْلِم كتب إلي فِي عبور النهر لأمر ستعْرفُه فَإِذَا عدنا خليتُ مَا بينك وبين مَا وراء النهر وانصرفتُ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: لا يعبرن أحد إلا أَصْحَاب عُثْمَان، فعبروا حَتَّى إِذَا بقي فِي [9] نفر وثب بِهِ فقتله وبعث برأسه إِلَى أَبِي مُسْلِم، فأخرج عليًّا عِنْدَ ذَلِكَ فقتله. وَكَانَ أَبُو مُسْلِم قَدْ وادعَ [10] شَيْبَان إِلَى مدة فوجه إِلَيْهِ جيشًا فواقعوه فكشفوه [11] ، وصار إِلَى ناحية أبيورد وأهلها أول من سَوَّد فكتب أَبُو مُسْلِم إِلَيْهِ أَن بايع للرضا من آل مُحَمَّد حَتَّى لا أعرض لَك [12] ، فبعث إِلَيْهِ: بَل بايعني أَنْتَ. فكتب أَبُو مُسْلِم إِلَى بسام بْن إِبْرَاهِيمَ مولى بني
__________
[1] سورة القصص (28) ، آية 28.
[2] انظر الخبر في ابن اعثم ج 2 ص 222 ب- 223 آ.
[3] ط: الذي مات.
[4] ط: فسطاية، د، م: فسطانة. وفي ابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 223 آ: قسطانة ويجعلها على تسعة فراسخ من الري. وانظر ياقوت ج 4 ص 347، ومراصد الاطلاع ج 2 ص 411.
[5] ط: فاخبره.
[6] ط: الذي.
[7] ط: يجدونه.
[8] «عثمان» ليس في ط.
[9] «في» ليست في م.
[10] ط: اودع.
[11] ط، د: فكسفوه.
[12] «لك» سقطت من ط.(4/131)
ليث بْن بُكَيْر، وَهُوَ بأبيورد، فِي مناهضته فناهَضَهُ فقتله وأَصْحَابه إلا عدة تفرقوا فِي البلاد، ويُقال بَل صاروا إِلَى نصر قبل هربه [1] .
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود عَنْ أشياخه قَالَ: لما ظهر أبو مسلم بعث نصر إليه عرفجة ابن الورد فَقَالَ: القَهُ فأسأله من هُوَ وَمَا أمره، فأتاه فَقَالَ لَهُ: مَا اسمك؟
فنظر إِلَيْهِ شزرًا. ثُمَّ قَالَ: عَبْد الرَّحْمَن بْن مُسْلِم. فَقَالَ: مِن مَن؟ فنظر إِلَيْهِ حَتَّى قيل سيقتله، ثُمَّ قَالَ: علمُ خبري خير لَكَ من علم نسبي. فَقَالَ أَبُو نُخيلة:
نفّستَ عَنْ عرفجة بْن الورد ... غياطلًا من كرب وجهد
ثُمَّ إِن عرفجة أتى البصرة وَمَاتَ بِهَا بَعْد حِينَ. قَالُوا: وأتى أبا مُسْلِم قومُ من أَصْحَاب الْحَدِيث فسألوه عَنْ شَيْء من الفقه، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا بوقت فتيا، نحن مشاغيل عن هذا ومثله [2] .
وحدثني أَبُو مَسْعُود وغيره، قَالَ: لما ظهر أمر أَبِي مُسْلِم كتب نصر بْن سيار بْن رافع بْن جري [3] أحد بَنِي جندع بْن ليث بن بكر بن (عبد) [4] مناة بن كنانة، قَالَ نصر بْن سيار:
أبْلِغ ربيعة فِي مروٍ وذا يمن [5] ... أَن اغضبوا [6] قبل ان لا ينفع الغضب
ما بالكم تنشبون [7] الحرب بينكم ... كأنّ أَهْل الحجى عَنْ رأيكم [8] غيب
__________
[1] م: هروبه.
[2] انظر الطبري س 2 ص 1965.
[3] جمهرة الأنساب: حريّ، انظر ص 183- 4، وفي جمهرة النسب: جديّ ج 1 لوحة 40.
[4] الأصل: عبلة.
[5] في اخبار الدولة العباسية ص 313: واخوتهم، وفي الدينوري ص 361- 2 وابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 221 ب: وإخوتها، وفي ابن الأثير ج 5 ص 367- 8: وفي يمن.
[6] اخبار الدولة العباسية: ليغضبوا، الدينوري: يغضبوا، ابن اعثم: فليغضبوا. ويضيف ابن اعثم البيت التالي:
ولينصبوا الحرب ان القوم قد نصبت ... حربا يحرق من حافاتها حطب
[7] اخبار الدولة العباسية: تنصبون، الدينوري وابن اعثم: تلقحون.
[8] الدينوري وابن اعثم: فعلكم.(4/132)
وتتركون عدوًّا قَدْ أحاط بكم [1] ... مِمَّنْ تأشب لا دين ولا حسب [2]
لا عُرْب مثلكم [3] فِي النَّاس نعرفهم [4] ... ولا صريح موالٍ [5] إِن هُمُ نُسِبوا
من كَانَ يسألني [6] عَنْ أصل دينهم ... فَإِن دينهم أن تهلك [7] العرب
قوم يقولون قولًا [8] مَا سمعت بِهِ ... عَنِ النَّبِيّ [9] ولا جاءت بِهِ الكتب
[10] قَالُوا: وكتب نصر إِلَى يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة عامل مَرْوَان عَلَى العراق حِينَ ظهرت المسودة:
أبلغ يَزِيد [11] وخيرُ القولِ أَصْدَقُه ... وَقَدْ تيقَّنتُ [12] أَن لا خير فِي الكذب
بِأن [13] خراسان أرض قَدْ رَأَيْت بِهَا ... بيضا لو افرخ قَدْ حُدِّثت [14] بالعجب
وَقَدْ وجدنا فراخًا بَعْد قَدْ كثرت [15] ... لما يَطِرن وَقَدْ سربلن بالزغب
إلَّا تُدارك بخيل اللَّه مُعلمة [16] ... ألهبنَ [17] نيران حرب أيّما لهب
__________
[1] اخبار الدولة العباسية: اطاف بكم، الدينوري وابن اعثم: اظلكم.
[2] في اخبار الدولة العباسية: فأين غاب الحجى والرأي والأدب.
[3] ط: منكم.
[4] في الدينوري يرد الشطر: ليسوا الى عرب منا فنعرفهم.
[5] ن. م.: ولا صميم الموالي، وفي ابن اعثم: ولا صميم الموالي إذ هم نصب، والتحريف واضح.
[6] في ن. م.: فمن يكن سائلي.
[7] ن. م.: تقتل.
[8] ن. م: قوما يدينون دينا.
[9] ن. م.: الرسول.
[10] يضيف ابن اعثم:
ويقسم الخمس من أموالكم اسر (الأصل: اسرا) من العلوج ولا يبقى لكم نشب (الأصل: نسب)
وينكحوا فيكم قسرا بناتكم ... لو كان قومي أحرارا لقد غضبوا
[11] ابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 220 ب: إليك.
[12] ن. م. والمسعودي ح 6 ص 65: تبينت.
[13] الأصل وابن الأثير ح 5 ص 366: ان، والتصويب من المسعودي ج 6 ص 66، ابن اعثم:
هذي.
[14] الأصل: «حدثت» بدل «قد حدثت» والتصويب من المسعودي، ابن اعثم: لو افرخت حدثت.
[15] يرد الشطر في ابن اعثم وابن الأثير: فراخ عامين الا انها كبرت.
[16] يرد الشطر في المسعودي وابن اعثم: فان يطرن ولم يحتل لهن (ابن اعثم: لعن) بها.
[17] المسعودي: يلهبن.(4/133)
فَقَالَ يَزِيد: لا عَلَيْهِ فَمَا عندي رَجُل واحد أمده بِهِ، وَكَانَ مبغضًا لَهُ مستثقلًا (592) لولايته خراسان.
قَالُوا: وكتب نصر إِلَى مَرْوَان يستمده فأمده بنباتة بْن حنظلة الكلابي فقتل بجرجان. وكتب إِلَى مَرْوَان:
أرى خلل الرماد وميض [1] جمر ... حرى [2] أَن يَكُون لَهُ ضرام
فقلتُ من التعجب ليت شعري [3] ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإلّا تطفئوه يجرّ حربا [4] ... يكون وقودها قصر [5] وهام [6]
وقتل ابْنُ لِنصرٍ فِي العصبية يُقَالُ لَهُ تميم، فَقَالَ نصر:
نَأى [7] عني العزاء وكنت جلدا ... لأن أجلي [8] الفوارس عَنْ تميم
أمر قحطبة
قَالُوا: وجه أَبُو مُسْلِم فِي ذي القعدة سنة ثلاثين ومائة قحطبة بْن شبيب بْن خالد ابن معْدان [9] بْن شمس بْن قَيْس بْن أكلب بْن سَعْد بْن عَمْرو [10] بْن الصامت بْن
__________
[1] ط، د: وبيض، محاضرات الأدباء ج 3 ص 177: وميض نار.
[2] الاغاني ج 7 ص 55: واحر، ابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 220 ب: احاذر، الحماسة البصرية ومحاضرات الأدباء ج 3 ص 177: ويوشك.
[3] «ليت شعري» سقطت من ط، وفي محاضرات الأدباء ج 3 ص 177: اقول من التعجب.
[4] ابن اعثم: فان لا تخمدوها تجر حربا، وفي الحماسة، فان لم يطفه عقلاء قوم.
[5] في الحماسة البصرية: فان وقوده جثث.
[6] انظر الطبري س 2 ص 1973، ابن خلكان ج 3 ص 150، المسعودي- مروج ج 6 ص 62، الدينوري ص 357، العيون والحدائق ج 3 ص 189، اخبار الدولة العباسية ص 304- 5، الحماسة البصرية ج 1 ص 107- 108، ابن الأثير ج 5 ص 365، الاغاني ج 7 ص 55، ابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 220 آ- ب، العقد الفريد ج 1 ص 111.
[7] ابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 222 ب: نفى.
[8] ن. م.: لاجلاء. وفي اخبار الدولة العباسية ص 326:
نأى عني العزاء وكنت جلدا ... نكوب فجائع الحدث العظيم
وهمّ اورث الأحشاء وجدا ... لاجلاء الفوارس عن تميم
[9] ط: معذان. انظر اخبار الدولة العباسية ص 216، والمحبر ص 465.
[10] في جمهرة الأنساب ص 401، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 257: عمرو بن عمرو بن الصامت.(4/134)
غنم بن مالك بن سَعْد بن نبهان وَهُوَ أسودان بْن عَمْرو بْن الغوث [1] بْن طيّئ إِلَى العراق، ومعه أَبُو غانم عَبْد الحميد بْن رِبْعي بْن خَالِد بْن مَعْدان [2] ، والمسيب بْن زهير بْن عَمْرو بْن حميل [3] الضَّبِّيّ، وعبد الجبار بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الْأَزْدِيّ [4] ، وموسى ابن كعب بْن عُيَيْنَة بْن عَائِشَة بْن سري [5] التميمي ثُمَّ أحد امرئ القيس بْن زَيْد مناة بْن تميم، وحية بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن خلدة [6] بْن النطاق من بَنِي العصبة بْن امرئ القيس، وَمَالِك بْن الطواف بْن حضرمي بْن مَالِك بْن كنانة [7] من ولد العصبة أيضًا، والقاسم بْن مجاشع بْن تميم بْن حبيب [8] من ولد عرعرة بْن عادية بْن الْحَارِث بْن امرئ القيس، وأبو عون عَبْد الْمَلِك بْن يَزِيد [9] ، ومُقاتل بْن حَكِيم بْن عَبْدِ الرَّحْمَن العكي [10] وغيرهم، وحمل معهم مالًا عظيمًا لأعطيتهم وكانوا فِي ستين وَفِي ثمانين وَفِي مائة من العطاء [11] . وَكَانَ عَلَى مقدمة قحطبة ابنه الْحَسَن بْن قحطبة، فَلَمَّا وافى جرجان قَالَ [12] : يَا أَهْل خراسان إِن النصر مَعَ الصبر والتنازع فشل وإنكم تقاتلون بقية قوم حرقوا بَيْت اللَّه وكتابه واغتصبوا هَذَا الأمر فانتزوا عَلَيْهِ بغير حق. وَكَانَ مَرْوَان قَدْ أمر ابْن هبيرة أَن يمد نصر بْن سيار بنباته بْن حنظلة أحد بَنِي بَكْر بْن كلاب بْن ربيعة بْن عامر [13] . وَكَانَ نباته قَدْ لقي سليمان ابن حبيب بْن المهلب بْن أَبِي صفرة بالأهواز وسليمان واليها من قبل عَبْد اللَّهِ بْن
__________
[1] ط: الغوف.
[2] انظر جمهرة الأنساب ص 404، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 257، واخبار الدولة العباسية ص 268.
[3] في جمهرة الأنساب: خميل، وقد جاء الاسم مشكولا ومدققا في د: حميل، وهو كذلك في جمهرة النسب ج 1 لوحة 89. وانظر اخبار الدولة العباسية ص 220.
[4] جمهرة النسب ج 1 لوحة 217.
[5] في جمهرة النسب ج 1 لوحة 80: ابن عائشة بن عمرو بن سري. انظر اخبار الدولة العباسية ص 216، ورسائل الجاحظ ج 1 ص 22.
[6] في جمهرة النسب ج 1 لوحة 80: حدره، وانظر اخبار الدولة العباسية ص 217.
[7] في جمهرة النسب ج 1 لوحة 80: كباثة. انظر اخبار الدولة العباسية ص 218.
[8] انظر جمهرة الأنساب ص 214.
[9] اخبار الدولة العباسية ص 219، الطبري س 2 ص 2001.
[10] الحلة السيراء ص 89، الطبري س 2 ص 2001 و 2005، واخبار الدولة العباسية ص 218.
[11] وفي مائة من العطاء» ليست في م.
[12] انظر ابن اعثم (مخطوط) ج 2 ص 223 ب، والطبري س 2 ص 2004- 5، والعيون والحدائق ج 3 ص 192- 3.
[13] جمهرة النسب ج 1 لوحة 94.(4/135)
مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب حِينَ خرج عَبْد اللَّهِ ودعا لنفسه، فهرب منه سُلَيْمَان بَعْد قتال وصار إِلَى فارس، فكتب ابْن هبيرة إِلَيْهِ [1] في المصير [2] الى خراسان مددا لنصر بْن سيار فأتى أصبهان ثُمَّ الري ومضى إِلَى قومس فلم تحمله وأَصْحَابه فصار إِلَى جرجان، وسار قحطبة إِلَيْهِ فالتقيا فِي مستهل ذي الحجة سنة ثلاثين ومائة يَوْم جمعة، وقال قحطبة: هذا يوم يرجى فِيهِ النصر ونزول الرحمة، وجعل يدعو إِلَى الرّضا من آل محمد، ونادى أهلُ خراسان: يَا مُحَمَّد يَا مَنْصُور، ونادي أَهْل الشام: يَا مَرْوَان يَا مَنْصُور، فاقتتلوا طويلًا فقتل نباته بْن حنظلة وانهزم أَهْل الشام أقبح هزيمة، فوضع السَيْف فيهم فقتل مِنْهُم عشرة آلاف ويقال ستة آلاف وبعث قحطبة برأس نباته إِلَى أَبِي مُسْلِم فأمر فطيف بِهِ فِي كور خراسان.
وَقَالَ بَعْض شعراء طي:
لما رمتنا مُضّرٌ بالقبّ ... قَرضبهم قحطبةٌ القرَضب
يدعون مروانَ وأدعو ربي
(593) قَالَ الحرمازي: أخبرني علماء من أَهْل خراسان أَن نصر بْن سيار كَانَ يتضجع فِي طريقه حَتَّى قُتل نباته فأتي الري فمرض بِهَا وحمل إِلَى ساوة فمات بِهَا.
قَالُوا: وقدم قحطبة الري وكتب إِلَى أَبِي مُسْلِم يستمده فأمده بأبي الجهم ابن عطية [3] مَوْلَى بأهلة فِي سبع مائة، ويقال في الف وسبع مائة. وكان عامر ابن ضبارة المري قَدْ وُجه لمحاربة شَيْبَان الخارجي ففاته ولحق بكرمان فأتى كرمان فأوقع بِهِ واستباح عسكره، فأتى شَيْبَان سجستان ثُمَّ صار إِلَى خراسان. وواقَع عامرٌ عَبْد اللَّهِ [4] بْن مُعَاوِيَة قبل ذَلِكَ بفارس فهزمه، فكتب ابْن هبيرة إِلَيْهِ يأمره بالمسير إِلَى قحطبه ووجه مَعَهُ ابنه دَاوُد بْن يَزِيد بْن هبيرة فسارا فِي خمسين ألفًا حَتَّى نزلا أصبهان وانضم إليهم بِهَا ولد نصر بْن سيار وجماعة من المروانية من أهل خراسان ووافي قحطبة فاقتتلوا، وعلى ميمنة قحطبة خَالِد بْن برمك والعكّي [5] ، وعلى ميسرته
__________
[1] «إليه» ليست في ط.
[2] ط: المصر.
[3] انظر اخبار الدولة العباسية ص 219، والطبري س 2 ص 1853، 1968، 2001.
[4] ط: ابن عبد الله.
[5] ط، م: العلي.(4/136)
أَبُو غانم عَبْد الحميد بْن ربعي الطائي ومعه مَالِك بْن الطواف التميمي، وقحطبة يَوْمَئِذٍ فِي اثني عشر ألفًا فلم يلبث أَهْل الشام أَن انهزموا فقتلوا قتلًا ذريعًا وقتل عامر ابن ضبارة، وقتل مساور وقديد ومبشر بنو نصر بن سيار، وخالد بن الحارث ابن سريج المجاشعي وعامر بْن عميرة السمرقندي وَكَانَ مَعَ قحطبة فانقلب إِلَى ابْن ضبارة وبعث برأسه إِلَى أَبِي مُسْلِم مَعَ عِيسَى بْن ماهان مَوْلَى خزاعة فاحتبسه أَبُو مُسْلِم فلم يخرج من خراسان حَتَّى قتله، وهرب دَاوُد بْن يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة إِلَى أَبِيهِ. وَكَانَ مَالِك بْن أدهم بْن محرز الْبَاهِلِيُّ عَلَى الري فَلَمَّا قدمها قحطبة هرب فصار إِلَى نهاوند فأمنه قحطبة وفتح نهاوند، وَقَالَ قوم كَانَ بنو نصر بْن سيار بِهَا فقتلهم، والثبت أنهم قتلوا بأصبهان. وبلغ عامل حلوان وهو عبيد الله ابن الْعَبَّاس الكندي خبر أصبهان ونهاوند فهرب فلم يلق كيدًا. ووجه قحطبة عَبْد الْمَلِك [1] بْن يَزِيد [2] الْأَزْدِيّ أبا عون وَمَالِك بْن الطواف فِي أربعة آلاف إِلَى شهرزور وبها عُثْمَان بْن سُفْيَان وَهُوَ عَلَى مقدمة عَبْد اللَّهِ بْن مَرْوَان بْن مُحَمَّد فناهضا عُثْمَان فقتلاه وَذَلِكَ فِي العشر من [3] سنة إحدى وثلاثين ومائة. وبلغ قحطبة أَن ابْن هبيرة بالدسكرة يريده، فعدلَ إِلَى راذان فعبر القاطول ثُمَّ أتى العلث فعبر فِي السفن ثُمَّ أتى أوانا ثُمَّ الأنبار ثُمَّ مليقيا [4] من الفلوجة. ثُمَّ قدم قحطبة أمامه الْحَسَن بْن قحطبة وَهُوَ يريد الكوفة فواقعه ابْن هبيرة ومعه محمد بن نباتة ابن حنظلة وحوثرة بْن سهيل الْبَاهِلِيُّ فهزمهم أَهْل خراسان وفُقِد قحطبة، فيقال إِن قومًا من الطائيين دلوه عَلَى مخاضة فغرق فِيهَا، ويقال بَل وُجد مقتولًا فدفنه أَبُو الجهم بْن عطية. وكانت الواقعة بفم الزابي من الفلوجة. ويقال: وجد مقتولًا وإلى جانبه حرب بْن سلم بْن أحوز وَقَدِ اختلفا ضربتين فقتل كُل واحد منهما [5] صاحبه.
وَقَالَ أحلم بْن إِبْرَاهِيمَ بْن بسام: أَنَا قتلت قحطبة، نظرت اليه واقفا فذكرت
__________
[1] الأصل: عبد الله، وقد ورد «عبد الملك» في ص 135، وفي الطبري س 2 ص 2001- 2 وفي اخبار الدولة العباسية ص 220.
[2] د: مزيد.
[3] ط: في.
[4] ط، د: مليتيا. انظر البلاذري- فتوح ص 254.
[5] «منهما» ليست في ط ود. انظر العيون والحدائق ج 3 ص 195.(4/137)
شيئًا كَانَ فِي نفسي عَلَيْهِ فقتلته. ويقال أَنَّهُ سقط من جرف وَقَدِ اعترم بِهِ فرسه فغرق. وَقَالَ سلم مَوْلَى قحطبة: جزنا المخاضة الَّتِي دلنا الطائيون عَلَيْهَا فقاتل ليلًا فوجد فرسه عائرًا فلم يُدْرَ مَا خبره. وزعموا أَن معن بْن زائدة ضرب قحطبة عَلَى حبل عاتقه فأسرع فِيهِ السَيْف وسقط إِلَى الماء فأخرجوه. وَكَانَ قحطبة أوصى إِن حدث بِهِ حدث فالأمير الْحَسَن بْن قحطبة، (594) فبعثوا إِلَيْهِ فردوه من قرية شاهي فبويع، وسار بالناس حَتَّى نزل النُّخيلة وواقع ابْن هبيرة فقتل من أَهْل الشام أَكْثَر من ثلاثة آلاف. وسود مُحَمَّد بْن خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري بالكوفة وخرج [1] فِي أحد عشر ألفًا فدعا النَّاس إِلَى الرضا من آل مُحَمَّد وضبط الكوفة وهرب عاملها فدخل الْحَسَن بْن قحطبة والناس فِي السواد وسألوا عَنْ أَبِي سلمة وزير آل مُحَمَّد فدلوا عَلَى منزله فَخَرَج إليهم فقدموا إِلَيْهِ دابة من دواب الْحَسَن بْن قحطبة فركبها وجاء حَتَّى وقف بجبانة السبيع فبايعه أَهْل خراسان والناس. ثُمَّ وجه أَبُو سلمة الْحَسَن بْن قحطبة إِلَى ابْن هبيرة، وَقَدْ صار إِلَى واسط، وضم إِلَى الْحَسَن خازمَ بْن خزيمة التميمي والعكي [2] وَزِيَاد بْن مشكان صاحب المشكانية ببغداد وعثمان بْن نوفل وغيرهم، وولى الكوفة مُحَمَّد بْن خَالِد، ووجه حميد بْن قحطبة إِلَى المدائن، ووجه خَالِد بْن برمك والمسيب بْن زهير إِلَى دير قُنى، وبعث يَزِيد بْن حاتم فِي أربع مائة إِلَى عين التمر، وبعث بسام بْن إِبْرَاهِيمَ إِلَى الأهواز وعليها عَبْد الْوَاحِد بْن عُمَر [3] بْن هبيرة فخرج عَنْهَا إِلَى البصرة. واقتتل أَهْل خراسان وأهل الشام بواسط مرات، هُزم أَهْل الشام فيهن كلهن. وجعل محمد ابن خَالِد عَلَى شُرَطِهِ طَلْحَةَ بْن إِسْحَاق الكندي، وَكَانَ قبله عَلَى شرطة زِيَاد بْن صَالِح الحارثي عامل الكوفة من قبل ابْن هبيرة، وكان يقال لزياد أبا الصواعق. 183/ 4
ومدح محمدا بْن خَالِد حويص الأشجعي فلم يرضه فَقَالَ:
أرى كُل جار يفيد الغنى ... وجار بجيلة لا يفلح
محَضتُ بجيلة حسن الثناء ... فما أحسنوا بي ولا انجحوا
__________
[1] «وخرج» ليست في ط.
[2] ط: العلي.
[3] م: عمرو.(4/138)
ولو انصرفوني لقالوا ثناه ... عنا فَمَا مثلنا يمدح
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس وأهل بيته بالكوفة قَدْ أخفاهم أَبُو سلمة فِي دار فِي بَنِي أوْدٍ [1] ، فكان إِذَا بعث إِلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاس يسأله عن خبرهم عنده يَقُول: لَمْ يأْن ظهوركم بَعْد. فلم يزل قبل ظهوره كَذَلِكَ أربعين ليلة وَهُوَ يريد أَن يَعْدِلَها عَنْهُمْ إِلَى ولد فاطمة، وَكَانَ أَهْل خراسان يسألونه عَنِ الْإِمَام فَيَقُولُ: نَحْنُ نتوقعه وَلَمْ يَأْن لظهوره. ثُمَّ أرسل أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَبِي سلمة: إني عَلَى إتيانك الليلة فَقَدْ عرفت أني صاحب هَذَا الأمر، فَقَالَ لسَلْمٍ مولى قحطبة والأسد بْن المرزبان:
إِن رجلًا يأتيني الليلة فَإِن قمتُ وتركته فاقتلوه فَإِنَّهُ يحاول فساد مَا نَحْنُ فِيهِ. فَلَمَّا صار أَبُو الْعَبَّاس إِلَيْهِ ناظره فغضب أَبُو سلمة وأراد القيام فعلق أَبُو الْعَبَّاس بثوبِهِ وضاحكه ثُمَّ خرج فركب وَلَمْ يعرض لَهُ، فَلَمَّا لقي أَهْل بيته حدثهم حَدِيثه وَقَالَ: والله مَا أفلتُّ منه حَتَّى ساعدتُه عَلَى مَا يريد وأنه [2] لعلى صرف الأمر عنا.
فَقَالَ دَاوُد بْن عَلِي: الرأي أَن نرجع [3] إِلَى الْمَدِينَةِ، وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي: اخرج فاعلم النَّاس أنك ها هنا. وخرج صَالِح بْن الهيثم رضيع أَبِي الْعَبَّاس [4] ومعه مَوْلَى لَهُمْ أسود يُقَالُ لَهُ سابق فلقيهما أَبُو حميد السمرقندي فعرفهما لأنه كَانَ يَأْتِي الْإِمَام فَقَالَ لصالح: ألسْتَ رضيع ابْن الحارثية؟ وقال لسابق: ألست مولى الإمام؟ فقالا [5] :
بلى، قال: فما تصنعان [6] ههنا! قالا: ابو العباس (595) ابن الحارثية ورجال من أهل بيته بالكوفة مذ كَذَا وكذا. فأتى أَبُو حميد أبا الجهم بْن عطية بهما فصارا معهما إِلَى بَنِي أود فِي جَمَاعَة ثُمَّ دَخَلَ دار الْوَلِيد فَقَالَ: أيكم أَبُو الْعَبَّاس عَبْد اللَّهِ بْن الحارثية؟
فَقَالُوا: هُوَ هَذَا، فسلم عَلَيْهِ أَبُو الجهم بالخلافة ثُمَّ بكى فَقَالَ [7] لَهُ: تركنا ابو سلمة ها هنا وأنتم حضور فلم يعلمكم خبرنا. وبعث أَبُو الجهم إِلَى وجوه النَّاس فأتى عَبْد الحميد بْن ربعي وإبراهيم بْن سلمة وشبيب بن راح، صاحب مربعة
__________
[1] في العيون والحدائق ج 3 ص 196: دار الوليد بن سعد مولى بني هاشم في بني أود.
[2] ط: أره.
[3] ط: يرجع.
[4] انظر اخبار الدولة العباسية ص 318، وانظر العيون والحدائق ج 3 ص 197- 199.
[5] ط، د: فقال.
[6] ط: يصنعان.
[7] م: فقالوا.(4/139)
شبيب ببغداد فَوْقَ بَاب الشام، فِي جَمَاعَة فسلموا عَلَيْهِ بالخلافة وبايعوه. وبلغ الْخَبَر أبا سلمة فسقط فِي يده، ثُمَّ أتى أبا الْعَبَّاس وسلم [1] عَلَيْهِ بالخلافة [2] ، فَقَالَ لَهُ أَبُو حميد: عَلَى رغم أنفك يَا ابْن الخلالة، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: مَهْ، وجعل أَبُو سلمة يَقُول: إِنَّمَا أردتُ إظهار أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بَعْد أَن أحكم لَهُ الأمور، ومنع أَبُو الجهم وأَصْحَابه أبا سلمة من الدخول عَلَى أَبِي الْعَبَّاس إلا وَحْدَه. وأتى أَبُو الجهم أَوْ غيره أبا الْعَبَّاس ببرذون أبلق، وأتى أَهْل بيته بدواب، فركب وركبوا وداود ابن عَلِي يسايره وَهُوَ عَنْ [3] يساره، فجعل النَّاس يقولون لداود: هَذَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، وَهُمْ لا يعرفونه، فقصر دُونَ أَبِي الْعَبَّاس حَتَّى عُرف أَنَّهُ الخليفة، وَكَانَ أَبُو الجهم وعبد اللَّه بْن بسام يمشيان بَيْنَ يديه، وأبو سلمة يسير خلفه عَلَى فرس لَهُ والوجوم يتبين فِيهِ. وصار أَبُو الْعَبَّاس إِلَى الْمَسْجِد فصعد المنبر وصعده دَاوُد بْن عَلِي فصار دونه بمرقاة وأمره أَبُو الْعَبَّاس بالكلام فَقَالَ [4] : شكرًا شكرًا شكرًا [5] ، إنا والله مَا خرجنا فيكم لنحفر [6] نهرًا ولا نبني قصرًا ولا نسير سير الجبارين الَّذِينَ ساموكم الخسفَ ومنعوكم النصف، أظَنَّ عدو اللَّه أَن لَنْ يُقدّر [7] عَلَيْهِ؟ أرخي لَهُ فِي زمامه حَتَّى عثر فِي فضل خطامه. ثُمَّ ذكر العرب فاستبطأهم وقرظ أَهْل خراسان، ثُمَّ قَالَ: الآن عادَ الأمرُ إِلَى نصابه، الآن طلعت الشَّمْس من مطلعها، الآن أَخَذَ القوس باريها وصار [8] الأمر إِلَى النزعة، ورجع الحق إِلَى مستقره فِي أَهْل بَيْت نبيكم وورثته [9] أَهْل الرأفة والرحمة، والله لَقَدْ كُنَّا نتوجع لكم ونحن عَلَى فرشنا، أمِنَ الأبيضُ والأسود بأمان اللَّه وذمته وذمة رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذمة الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه والله مَا بينكم وبين
__________
[1] م: فسلم.
[2] زاد م: ثم.
[3] ط: على.
[4] انظر الطبري س 3 ص 31- 33، وشرح نهج البلاغة ج 7 ص 154- 5، والعيون والحدائق ج 3 ص 200- 201 وبين الروايات اختلاف في التفاصيل.
[5] زاد د، م: شكرا.
[6] م: لنحتفر.
[7] ط: نقدر، وكذا في الطبري س 3 ص 32. وفي شرح نهج البلاغة ج 7 ص 155: يظفر به.
[8] ط: فصار.
[9] ط: ورثة.(4/140)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خليفة إلّا عَلِي بْن أَبِي طَالِب وأمير الْمُؤْمِنيِنَ، وَمَا بايعتم قط بيعة هِيَ أهدى من بيعتكم هَذِهِ.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صالح قَالَ: قَالَ دَاوُد بْن عَلِي فِي خطبته: إِن العرب قَدْ أطبقت عَلَى إنكار حقنا ومعاونة الظالمين من بَنِي أمية حَتَّى أتاح اللَّه لنا بِهَذَا الجند من أَهْل خراسان فأجابوا دعوتنا وتجردوا لنصرنا قَالُوا: ثُمَّ أجلس أَبُو الْعَبَّاس مُوسَى بْن كعب لأخذ البيعة عَلَى النَّاس، وبات أَبُو الْعَبَّاس ليلة الجمعة فِي قصر الكوفة ثُمَّ صلى بالناس يَوْم الجمعة.
وَقَالَ هِشَام بْن الْكَلْبِيِّ: وُلِد أَبُو الْعَبَّاس فِي أوّل أَيَّام يَزِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك وظهر بالكوفة عشية يَوْم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من شَهْر ربيع الآخر سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وملك أربع سنين وتسعة أشهر، وتوفي يَوْم الأحد لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة ست وثلاثين ومائة وهو ابْن ست وثلاثين سنة. (596)
قَالَ ابْن هِشَام: وبعضهم يَقُول ظهر يَوْم الأربعاء بالعشيّ وبويع فِي يومه ويوم الخميس وصلى بالناس يَوْم الجمعة.
وَحَدَّثَنِي ابْن القتات عَنِ المفضل الضَّبِّيّ قَالَ: خطب أَبُو الْعَبَّاس بَعْد قيامه بأيام بَيْنَ الكوفة والحيرة فَقَالَ فِي خطبته [1] : والله لأعملنّ اللين حَتَّى لا تنفع [2] إلا الشدة ولأكرمنّ الخاصَّة مَا أمِنتهم عَلَى العامة ولأغمدنّ سَيْفي إلّا أَن يسلَّه الحق ولأعطين حَتَّى لا أرى للعطية موضعًا. إِن أهلَ بيتِ اللعنة كَانُوا عليكم عذابًا، ساموكم الخسف ومنعوكم النصف، وأخذوا الجار منكم بالجار، وسلطوا شراركم عَلَى خياركم، وَقَدْ محا اللَّه جورهم وأزهق باطلهم وأصلح بأهل بيْت نبيه مَا أفسدوا منكم، ونحن متعهدوكم بالأعطية والصدقة والمعروف غَيْر مُجمّرين لكم بعثًا ولا راكبين بكم خطرًا.
وَقَالَ ابْن القتات: خطب أَبُو الْعَبَّاس [3] يَوْمَ ظهر فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي اصطفى الْإِسْلَام دينًا لنفسه فكرمه وشرفه وعظمه واختاره لنا وأيَّده بنا وجعلنا
__________
[1] انظر شرح نهج البلاغة ج 7 ص 156- 7.
[2] ط: ينفع.
[3] انظر نص الخطبة في شرح نهج البلاغة ج 7 ص 154، والطبري س 3 ص 29- 30، والعيون والحدائق ج 3 ص 199- 200.(4/141)
أهله وكَهْفهُ وحصْنه والقوّام بِهِ والذابين عَنْهُ والناصرين لَهُ، وألزمنا كلمة التقوى وجعلنا أحق بها وأهلها [1] (و) [2] خصّنا برحم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرابته، ونسلنا [3] من آبائه وأنشأنا [4] من شجرته واشتقنا من نبعته، وجعله من أنفسُنا [5] فوضعنا من الْإِسْلَام وأهله بالموضع الرفيع وذكرنا [6] فِي كتابه المُّنزل فَقَالَ: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت ويطهركم تطهيرا [7] . ثُمَّ جعلنا ورثته وعصبته فزعمت السبئية الضُلّال والمروانيَّةُ الجُهّال أَن غيرنا أحق بالأمر منَّا، فشاهت وجوههم! بمَ ولَم وبنَا [8] هُدي الناسُ بَعْد ضلالهم وبُصِّروا بَعْد جهالتهم وأنقذوا بَعْد هلكتهم، فظهر الحق وأدحض الباطل ورفعت الخسيسة وتممت النقيصة وجُمعت الفُرقة وَذَلِكَ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا قبض اللَّه نبيه قام بالأمر من بعده أَصْحَابُه فحووا مواريثَ الأمم فعدلوا فِيهَا ووضعوها مواضعها وأعطوها أهلها وخرجوا من الدنيا خماصًا، ثُمَّ وثب بنو حرب وبنو مَرْوَان فابتزوها أهلها فجاروا فِيهَا وأساءوا وظلموا فأملى اللَّه لَهُمْ حَتَّى آسفوه فانتقم مِنْهُم بأيدينا وردّ عَلَيْنَا حقّنا وتدارك أمّتنا ووّلي نُصرتنا والقيام بأمرنا كَمَا قَالَ: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين [9] وإني لأرجو أَن يتم [10] لنا مَا افتتح بنا، وسيأتيكم الْعَدْلُ والخير بَعْد الجور والشر وما توفيقنا الا
__________
[1] العبارة «والزمنا ... وأهلها» لم ترد في شرح نهج البلاغة.
[2] اضافة من الطبري والعيون والحدائق.
[3] الطبري والعيون والحدائق: انشأنا.
[4] الطبري وشرح النهج والعيون: أنبتنا.
[5] يضيف الطبري والعيون والحدائق: عزيزا عليه ما عنتنا، حريصا علينا، بالمؤمنين رءوفا رحيما.
[6] ط: ذكر.
[7] سورة الأحزاب (33) ، الآية 33. ويضيف الطبري وصاحب العيون والحدائق: وقال:
«قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ في القربى» ، وقال: «وانذر عشيرتك الأقربين» ، وقال: «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى» ، وقال: «وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى» فاعلمهم جل ثناؤه فضلنا واوجب عليهم حقنا ومودتنا واجزل من الفيء والغنيمة نصيبنا تكرمة لنا وفضلا علينا والله ذو الفضل العظيم. وهناك بعض الاختلاف في التعابير في باقي الخطاب.
[8] ط: دينا.
[9] سورة القصص (28) ، الآية (5) .
[10] ط: تم.(4/142)
بالله. يَا أَهْل الكوفة إنكم محلّ [1] دُعاتنا وأوليائنا وأهل محبتنا، فأنتم أسعد النَّاس بنا وأكرمهم عَلَيْنَا وَقَدْ زدتكم فِي أعطياتكم مائة مائة، فاستعدوا فَإِنِّي السفّاح المُبيح والثائر المُبير. وَكَانَ مَوْعوكًا فجلس عَلَى المنبر وقام دَاوُد دونه فتكلم.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح قَالَ: كَانَ المُسْتَخفون بالكوفة أَبُو الْعَبَّاس، وأبو جَعْفَر، وَدَاوُد بْن عَلِي، وموسى ابنه، وعيسى، وإسماعيل، وعبد الصمد، وعبد اللَّه، وسليمان، وصالح بْن عَلِي، والعباس بْن مُحَمَّد، وَيَحْيَى بْن مُحَمَّد، وعبد الْوَهَّاب بْن إِبْرَاهِيمَ الْإِمَام، وعيسى بْن مُوسَى، وَيَحْيَى بْن جَعْفَر بْن تمام ابن الْعَبَّاس [2] ، ومحمد بْن جَعْفَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس، وَبَعْض ولد معبد بْن الْعَبَّاس. قَالَ وَحَدَّثَنَا عبثر أَبُو زبيد [3] قَالَ: أقرّ أَبُو سلمة مُحَمَّد بْن خَالِد القسري عَلَى صلاة الكوفة، وولي طَلْحَةُ بْن إِسْحَاق (597) شرطها، فَلَمَّا بويع أَبُو الْعَبَّاس ولي دَاوُد بْن عَلِي الكوفة فأقر طَلْحَةَ عَلَى شُرطها، ثُمَّ صرف دَاوُد وولّاه الحجاز وولّى يَحْيَى بْن جَعْفَر بْن تمام بْن الْعَبَّاس الكوفة، ثُمَّ عزله وولّى عِيسَى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد، قَالَ: فكان الرَّبِيع بْن رُكَيْن أَوْ غيره يختار لعيسى الرجال فيوليهم فَقَالَ خلو بْن خليفة أَوْ غيره:
أصبح ديني ودين الرَّبِيع ... عَلَى مثل دين أَبِي مُسْلِم
وأصبحت تطلب أَهْل الصلاح ... فهل لَك فِي شاعر مُحرم [4]
يُقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ... وَقَدْ حلقَ الرأس بالموسم
قَالُوا: وَكَانَ عِيسَى يستشير عَبْد اللَّهِ بْن شبرمة ومحمد بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى فيمن يوليه عمله فسميا لَهُ، أَوْ أحدهما، نفرًا فخانوا [5] وكسروا الخراج، فأمر بِهِمْ عِيسَى البطين صاحب استخراجه فحبسوا وعذبوا فقال مساور الوراق [6] :
__________
[1] م: ان محلكم.
[2] جمهرة النسب ج 1 لوحة 6، جمهرة الأنساب ص 19.
[3] م: عنثر ابو زيد. في هامش د: «ابو» مع اشارة خ. انظر ابن حجر- تهذيب ج 5 ص 136، الذهبي- تذكرة الحفاظ ج 5 ص 136.
[4] ط: محزم.
[5] ط، م: فحابوا.
[6] انظر الاغاني ج 18 ص 85 وما بعدها.(4/143)
رَأَيْت نواهض البقال خيرًا [1] ... من الشبوط والجدي السمين
وَأَحْمَد فِي [2] العواقب حِينَ تُبلى ... إِذَا كَانَ المردُّ إِلَى البطين [3]
فيا هَذَا [4] اللطيف بقاضيينا ... فكن [5] من علم ذاك عَلَى يقين
بأنك [6] طال مَا بهرجت فِيهَا ... بمثل الخنفساء على الجبين
وقل لهما إِذَا عرضا لصك [7] ... برئت إِلَى عُرَينة من عرين [8]
وحدثني غير واحد أَن عِيسَى تزوج امْرَأَة من آل جَرِير بْن عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ:
من يحملها إليّ؟ فَقَالَ لَهُ ابْن شبرمة. يحملها أَبُو السمح، وَهُوَ رَجُل كَانَ يدخل فِي أعمال الخراج، فَقَالَ مساور:
بينما نَحْنُ نرتجي لأبي السمح ... طساسيج تستر والفراتا
إذ أتانا على الزفاف بعهد ... ليته قبل مدة كَانَ ماتا
ولقي عَبْد الرَّحْمَن بْن زِيَاد بْن أنعم عِيسَى فَقَالَ لَهُ: مَا يمنعك من إتياني؟
قال: وَمَا أصنع عندك؟ إِن أدنيتني [9] فتنتني وإن أقصيتني حزنتني، وليس عندك مَا أرجوه ولا عندي مَا أخافك عَلَيْهِ. وَكَانَ عامل عِيسَى على الصدقات الجرّاح ابن مليح وعلى بْيت ماله حميد الرواسي، وَكَانَ ابْن أَبِي ليلى عَلَى قضاء الكوفة وابن شبرمة عَلَى قضاء الحيرة.
قَالُوا: لما بويع أَبُو الْعَبَّاس ندب أَهْل بيته إِلَى قتال مَرْوَان فلم ينتدب لَهُ إلا عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي فوجههُ لحربه فكان من أمره ما كان.
__________
[1] في الاغاني: وجدت دواهر البقال اهنى من الفرني.
[2] ن. م.: وخيرا.
[3] ن. م.: بطين.
[4] ن. م.: فكن يا ذا.
[5] ن. م.: غدا.
[6] ن. م.: فإنك.
[7] ن. م.: بعهد.
[8] الشطر الثاني مقتبس من بيت جرير:
عرين من عُرينة لَيس مِنَّا ... برئتُ إِلَى عرينة من عرين.
انظر الموشح للمرزباني ص 22.
[9] ط: اويتني.(4/144)
أمر ابْن هبيرة ومقتله
قَالُوا: ووجه أَبُو سلمة الْحَسَن بْن قحطبة إِلَى ابْن هبيرة وَقَدْ تحصن بواسط فحاصره، وكتب أَبُو سلمة إِلَى أَبِي نصر مَالِك بْن الهيثم [1] وَهُوَ بسجستان من قبل أَبِي مُسْلِم يأمره بالمصير إِلَى البصرة، فَلَمَّا قدمها وجد عَلَيْهَا سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة قَدْ سود بِهَا ودعا إِلَى بَنِي هاشم، فكتب أَبُو سلمة إِلَى نصر [2] يأمره بالمصير إِلَى الْحَسَن بواسط ففعل وواقع الحسنُ ابنَ هبيرة فهزم أَهْل الشام وغرق منه خلق ثُمَّ واقعهم أيضًا فهزمهم ابْن هبيرة، وقاتل عُمَر بْن حَفْص بْن عُثْمَان بْن قَبِيصَة بْن أَبِي صفرة قتالًا شديدًا وثابَ الناسُ فهزم ابْن هبيرة. ثُمَّ إِن أبا الْعَبَّاس رَأَى توجيه أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور إِلَى واسط، وَذَلِكَ أَن قومًا من أَهْل خراسان كَانَ فِي أنفسهم عَلَى الْحَسَن أشياء فكرهوه وسألوا أبا الْعَبَّاس أَن يوجه مكانه رجلًا [3] من أَهْل بيته ليسكنوا [4] إِلَيْهِ ويقاتلوا مَعَهُ، فَلَمَّا قدم الْمَنْصُور واسطًا تحول لَهُ الْحَسَن بْن قحطبة عَنْ مضربه.
وكتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى الْحَسَن: إِنَّمَا وجهتُ أَخِي إِلَى مَا قبلك ليسكن النَّاس إِلَيْهِ (598) ويثق ابْن هبيرة بأمانه إِن طلب الأمان وأنتَ عَلَى أمرك وجيشك والتدبير لَك. ثُمَّ التقوا وأهل الشام فانهزم أَهْل الشام، وثبت معن بْن زائدة الشيباني وَكَانَ مَعَ ابْن هبيرة فقاتل، وترجل أَبُو نصر مَالِك بْن الهيثم ثُمَّ افترقوا. ومكثوا أياما، فخرج معن بْن زائدة ومحمد بْن نباتة بْن حنظلة فقاتلوا أَهْل خراسان فهزموهم إِلَى دجلة، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو نصر: يَا أَهْل خراسان، ويلكم إِلَى أَيْنَ تفرون، إِن الْمَوْت بالسَيْف خيرٌ منه غرقًا، فثابوا وحملوا فهزموا [5] أَهْل الشام، فكانوا عَلَى ذَلِكَ أحد عشر شهرًا.
فَلَمَّا طال عَلَيْهِم الحصار وجاءهم قتل مَرْوَان ببوصير، من أرض مصر طلبوا الصلح، وأتاهم إِسْمَاعِيل بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري فَقَالَ: علامَ تقتلون أنفسكم وَقَدْ قتل مَرْوَان! فطلب معن بْن زائدة الأمان فأمنه الْمَنْصُور، ثُمَّ طلب ابْن هبيرة الأمان فأمنه الْمَنْصُور أيضًا، وكتب لَهُ كتابًا، واشترط عَلَيْهِ أَنَّهُ ان نكث او غدر فلا أمان
__________
[1] سقط «مالك بن الهيثم» من ط.
[2] العبارة بين «وهو بسجستان» الى «نصر» لم ترد الا في م.
[3] ط: رجل.
[4] ط: ليستكنوا.
[5] ط: وهزموا.(4/145)
لَهُ. وَكَانَ مقيمًا بواسط يغدو ويروح إِلَى الْمَنْصُور فِي جَمَاعَة كثيرة، ويتغدى عنده ويتعشى إذا حضر في وقت غدائه وعشائه، وَهُوَ فِي ذَلِكَ يدس إِلَى مُحَمَّد ابن عَبْد اللَّه بْن حسن بْن حسن بْن عَلِي بْن أَبِي طَالِب وغيره ويهم بالدعاء لآل أَبِي طَالِب وخلع أَبِي الْعَبَّاس، فتيقن أَبُو الْعَبَّاس ذَلِكَ من أمره. وَكَانَ أَبُو مُسْلِم يكتب إِلَيْهِ فيشير عَلَيْهِ بقتله. وَيَقُول: إِن الطريق إِذَا كثرت حجارتهُ فسد، وصعب سلوكه، فكتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَبِي جَعْفَر يأمره بقتل ابْن هبيرة فأبى ذَلِكَ وكرهه للذي أَعْطَاه من الأمان. فكتب إِلَيْهِ: إِن هَذَا الرجل قَدْ غدر ونكث وَهُوَ يريد بنا العظمى. وَمَا لكتاب عَبْد الرَّحْمَن فِيهِ اقتله ولكن لما أبان لي [1] من نكثه وفجوره، فلا تُراجعني فِي أمره فَقَدْ أحل لنا دمه. فأمر المنصور الحسن ابن قحطبة بأن يقتله فأبى فَقَالَ خازم بْن خزيمة: أَنَا أقتله، وساعده عَلَى ذَلِكَ الأغلب بْن سالم التميمي والهيثم بْن شُعْبَة وغيرهما، فداروا فِي القصر ثُمَّ دخلوا عَلَى ابْن هبيرة وعليه قميص مصري وملاءة موردة أَوْ صفراء ومعه ابنه دَاوُد وكاتبه عُمَر بْن أيوب فِي عدة من مواليه، وَكَانَ قَدْ دعا بحجام ليحتجم فَلَمَّا رآهم مقبلين خر ساجدًا فضرب بالسيوف حَتَّى مَاتَ، وقتل ابنه ومن كَانَ مَعَهُ، وأراد عمر ابن أيوب الخروج فقتل، ويقال إنهم جروه برجله حتى انزلوه عن فراشه ثم قتلوه وجاؤوا برأسه ورؤوس من كَانَ مَعَهُ إِلَى الْمَنْصُور. وأخذ عُثْمَان بن نهيك سيف حوثرة ابن سهيل فضرب به عنقه، وفعل بمحمد بْن نباتة مثل ذَلِكَ، وفعل بيحيى بْن حُضين بْن المنذر مثل ذَلِكَ. وَكَانَ معن بْن زائدة الشيباني قَدْ وفد إِلَى أَبِي الْعَبَّاس ببيعة ابْن هبيرة، وأقام بالكوفة، فقتل ابْن هبيرة وَهُوَ بالكوفة فسلم. حَدَّثَنِي العمري عَنِ الهيثم بْن عدي قَالَ: كَانَ ابْن هبيرة إِذَا رَأَى وهنًا وضعفًا من أمره أنشد:
والثوب إِن أسرع فِيهِ البلى ... أعيا عَلَى ذي الحيلة الصانع
كُنَّا نداريها فَقَدْ مزقت ... واتسع الخرق عَلَى الراقع
قَالَ الهيثم: وَكَانَ زِيَاد بْن صَالِح الحارثي مَعَ ابْن هبيرة فكتب اليه أبو [2]
__________
[1] م: لي فيه.
[2] ط: أبي.(4/146)
الْعَبَّاس: إِن لَك قرابة وحقًا، وأرغَبَه فخرج إِلَيْهِ، فانكسر ابْن هبيرة وطلب [1] الأمان. قَالَ الهيثم: لما أُومن ابْن هبيرة ونزل بواسط كتب أَبُو مُسْلِم: أَنَّهُ قل طريق سهل فِيهِ حجارة إلا أضرت بأهله، ولا يصلحُ والله لكم أمر دونه [2] ابْن هبيرة فاقتلوه عاجلًا فلست آمنُ أَن يكيدكم، فوجه أَبُو الْعَبَّاس رسولًا إِلَى الْمَنْصُور بكتاب منه يعزم عَلَيْهِ فِيهِ ليقتلنه، [3] فوجه الْمَنْصُور أبا خزيمة والهيثم ابن شُعْبَة والأغلب بْن سالم وسليمان بْن سلام الحاجب فِي جَمَاعَة فدخلوا رحبةَ القصر وأرسلوا إِلَى ابْن هبيرة: إنا نريد حمل مَا فِي الخزائن، فَقَالَ: افعلوا، فدخلوا الخزائنِ فوكلوا بكل بَاب خزانة جَمَاعَة ودخلوا عَلَيْهِ فقتلوه، ونادى منادي الْمَنْصُور: أمِنَ خلق اللَّه إلّا عُمَر بْن ذر والحكم بْن بشر وخالد بْن سلمة المخزومي. وقتل [4] من وجوه أَصْحَاب ابْن هبيرة خمسون رجلًا، ونودي: يَا [5] أَهْل الشام ألحقوا بشامكم فاشهدوا أسماءكم هناك، ووجه إِلَى (المثنى) [6] بْن يَزِيد بْن عُمَر [7] أبا حَمَّاد الأبرص، وَهُوَ ابراهيم ابن حسان، فقتله ويقال إِن دَاوُد بْن عَلِي وجهه. واستخلف أَبُو جَعْفَر بواسط الهيثم بْن زِيَاد الخزاعي وانصرف هُوَ والحسن ومن معهم إِلَى أَبِي الْعَبَّاس. قَالَ أَبُو عَطَاء السندي [8] يرثي ابْن هبيرة [9] :
ألا إنّ عينًا لَمْ تجد [10] يَوْمَ واسطٍ ... عليكَ بجاري دمعها لجمودُ
عشيَّةَ قام النائحاتُ وصُفِّقت [11] ... جيوب [12] بأيدي مأتمٍ وخدود
__________
[1] ط: فطلب.
[2] ط: دونه امر.
[3] ط: ليقتله.
[4] ط: قيل، د: قبل.
[5] «يا» ليست في ط.
[6] ط، م: المبنى. انظر الطبري س 3 ص 73.
[7] ط: عمرو. وهو المثنى بْن يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة. الطبري س 3 ص 73.
[8] انظر الاغاني ج 17 ص 245 وما بعدها.
[9] انظر الطبري س 3 ص 70، وخزانة الأدب ج 4 ص 167، والشعر والشعراء لابن قتيبة ج 2 ص 653، والعيون والحدائق ج 2 ص 210، وزهر الآداب ج 2 ص 797، وسمط اللآلي ج 1 ص 268، ونتف من شعر ابن عطاء السندي ص 12.
[10] ط: يجد.
[11] الطبري وخزانة الأدب والشعر والشعراء والعيون والحدائق ونتف من شعره: شققت.
[12] الأصل: خدود، والتصويب من المصادر اعلاه.(4/147)
فَإِن [1] تُمسِ مهجور الفناء فربما ... أقام بِهِ بعد الوفود وفودُ
يقولون لا تبعد [2] عَلَى متعهدٍ ... بلى كلُّ من تَحْتَ التراب بعيدُ
(599) أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُسْلِم بْن المغيرة قَالَ: كنت مَعَ أَبِي أيوب الخوزي فِي عسكر أَبِي جَعْفَر، وَكَانَ لأبي جَعْفَر بَيْت قَدْ بَنِي لَهُ ومضربُه [3] يحيط بِهِ وَكَانَ فِي ستارة المضرب [4] خلل، فكنت أنظر منه فرأيت الْحَسَن بْن قحطبة إِلَى جانب الْمَنْصُور يحدثه، ثُمَّ دعا بحوثرة [5] بْن سهيل فجاء عُثْمَان فأخذ سَيْفه فأراد أَن يتكلم ثُمَّ سكت فأدخل الْبَيْت وأغلق عَلَيْهِ. ثُمَّ خرج سلام صاحب أَبِي جَعْفَر فدعا بمحمد بْن نباتة فصنع به مثل ذلك، ثُمَّ خرج فَقَالَ: أَيْنَ يَحْيَى بْن الحضين [6] ؟ ثُمَّ دُعي ببشر بْن عَبْدِ الْمَلِك بْن بشر، أَوْ قَالَ بالحكم بْن عَبْدِ الْمَلِك، فقام ومعه أخوه أبان فَقَالَ: مَا فرق بيني وبينه شَيْء قط، فَقَالَ لَهُ سلام: اجلس فإنما نفعل مَا نؤمر بِهِ فجلس. ثُمَّ دعا بخالد بْن سنان المري وَكَانَ عَلَى شرطة ابْن هبيرة، ثُمَّ قتل خَالِد بْن سلمة المخزومي وابنه، ثُمَّ قتل حرب بْن قطن الهلالي، ثُمَّ خرج سلام فَقَالَ للناس: انصرفوا. قال مسلم ابن المغيرة: فسألت عُثْمَان بْن نُهيك عَنِ السبعة النفر، فَقَالَ: أما حوثرة فَإِنِّي أدخلت [7] السَيْف بَيْنَ ضلعين من أضلاعه وقلتُ: يَا عدو اللَّه أَنْتَ الكاتب إِلَى مَرْوَان إِن اللَّه مخزيهم، ثُمَّ لَمْ يُرضك إلّا شتمنا! وَلَمْ يكن في القوم اجزع من ابْن نباتة كَانَ يصيح كَمَا يصيح الصبيان عَلَى شجاعته وبأسه. وَأَمَّا خَالِد بْن سنان فَقَالَ: يَا مجوس قتلتمونا غدرًا، والله لَقَدْ قتلنا سيدكم قحطبة. وقتل مَعَ ابْن هبيرة رباح بْن أَبِي عُمَارَةَ مَوْلَى هِشَام، وَكَانَ هِشَام اشتراه بعشرة آلاف فأعتقه، فَلَمَّا جرى الصلح بَيْنَ ابْن هبيرة وبين أَبِي جعفر قال له ابو جعفر:
__________
[1] ط: وان.
[2] خزانة الأدب والشعر والشعراء والعيون والحدائق ونتف من شعره: فإنك لم تبعد.
[3] م: مضربة. والمضرب: الفسطاط.
[4] م: المضربة.
[5] ط: بحوبرة.
[6] انظر الطبري س 2 ص 1445، 1505، 1571.
[7] ط: دخلت.(4/148)
أعربي أم مَوْلَى؟ قَالَ: إِن كَانَت العربية لسانًا فَقَدْ نطقنا بِهَا وإن كَانَتْ دينًا فَقَدْ دخلنا فِيهِ، فاستبرعه [1] فسأل عَنْهُ فَقِيلَ قتل، ويقال إنه أمر أَن يُستبقى فعجل عَلَيْهِ. وهرب ابْن علاثة وَهِشَام بْن هُشَيم بْن صفوان الفزاريان فلُحقا فقتلا عَلَى الفرات. وقتل أَبُو عُثْمَان الحاجب وَهُوَ يتغدى بلحم بقر [2] ، دعا به خازم فضرب وسطه. وقتل الحكم بْن عَبْدِ الْمَلِك أَخُو بشر بْن عَبْدِ الْمَلِك وابنان لَهُ وقيل إنه هرب، وأبو علاثة الفزاري وَكَانَ عَلَى حلوان، ويوسف بْن مُحَمَّد بْن القاسم الثقفي.
ودعي بحرب [3] بن قطن فطلب فِيهِ الْحَسَن بْن قحطبة وَقَالَ: خالكم، فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ (600) كتب [4] يؤمنك لرحمك وحقن دمك. قَالَ بَعْض الرواة:
قام سَعْد الْمَوْصِلِيّ، ويقال سَعِيد، خليفة عُثْمَان الحاجب دُونَ ابْن هبيرة فَقَالَ:
وراءكم، فضربه الهيثم عَلَى حبل عاتقه فصرعه، وقام دَاوُد دُونَ أَبِيهِ فقتل [5] .
قَالُوا: وَكَانَ عُمَر بْن ذر يَقُول: ضاقت عليَّ الأَرْض، فخرجت عَلَى دابتي أقرأ آية الكرسي فَمَا عرض لي أحد فاستأمن لي زياد بن عبيد الله الحارثي فآمنني أَبُو الْعَبَّاس، وَكَانَ عُمَر يقص ويحرض عَلَى المسوِّدة. وَكَانَ أَبُو جَعْفَر قَدْ آمن خالد ابن سلمة، فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس، لو كَانَتْ لَهُ ألف نفس لأتيت عَلَيْهِ، فقتله.
قَالُوا: وَكَانَ خازم يَقُول: والله مَا بدرت إِلَى قتل ابْن هبيرة إلّا مخافة أَن يُدفع إِلَى رَجُل من اليمانية فيفخر عَلَيْنَا بقتله. وطلب سليمان بن علي الأمان لعقال ابن شبة بْن عقال المجاشعي، فأمنوه فذكر بَنِي الْعَبَّاس ففضلهم وذمّ بَنِي أمية وتنقصهم، وتكلم ثمامة بْن الرحيل الحنفي، وَكَانَ خطيبًا، فَقَالَ:
ألا ليت أم الجهم سقيا لذكرها ... ترى حيث قمنا بالفراق مقامي
عشية بذ النَّاس جهدي ومنظري ... وبذ كَلام الناطقين كلامي
وحُدثت أَن ابْن هبيرة لما بَنِي مدينته هُمْ بأن يسميها الجامعة فقال له سلم
__________
[1] د: فاستبرقه، م: استبرحه.
[2] «بقر» ليست في م.
[3] ط: بحرث. انظر الطبري س 2 ص 1980.
[4] ط: كنت.
[5] ط: ابنه فقيل.(4/149)
ابن قُتَيْبَة، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَعَهُ: أرأيت إِن قيل أَيْنَ الأمير، أيقال فِي الجامعة! فتطير فسماها المحفوظة، فلما قام أَبُو الْعَبَّاس سماها الهاشمية وأتم بناءها.
قَالُوا: وَكَانَ يَزِيد سخيًا وَكَانَ يطعم النَّاس طعامًا واسعًا ويؤتون قبل الطعام بعساس اللبن وبأنواع الأشربة. وَكَانَ جلساؤه وسُماره دَاوُد بْن أَبِي هند وابن شبرمه وابن أَبِي ليلى [1] ، فَقَالَ ابْن شبرمه:
إِذَا نَحْنُ أعتمنا وماد بنا الكرى ... أتانا باحدى الركعتين عياضُ
يعني حاجبه. وَكَانَ يقضي فِي كُل ليلة عشر حوائج فَإِذَا أصبح أنفذها. وَكَانَ رُبَّمَا لحن فِي كلامه، فَقَالَ لَهُ سلم بْن قُتَيْبَة فِي ذَلِكَ فتحفظ.
حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: كتب أَبُو مُسْلِم إِلَى أَبِي الْعَبَّاس: إِن أَهْل الكوفة قد شاركوا شيعة أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فِي الاسم وخالفوهم فِي الفعل، ورأيهم فِي آل عَلِي الرأي الَّذِي يعلمه أمِير الْمُؤْمِنيِنَ يؤتى فسادهم من قبلهم بإغوائهم إياهم وإطماعهم فيما لَيْسَ لَهُمْ، فالحظهم يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بلحظة بوار ولا تؤهلهم لجوارك فليست دارهم لَك بدار [2] ، وأشار عَلَيْهِ أيضًا عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي بنحو من ذَلِكَ، فابتنى مدينته بالأنبار وتحول إِلَيْهَا وبها توفي. وأخذ يومًا بيد عَبْد اللَّهِ بْن حسن فجعل يطوف بِهِ فِيهَا وَكَانَ لَهُ مكرمًا، وَكَانَ ذَلِكَ لا يمنعه من حسد فجعل يتمثل قَوْل الشاعر:
أَلَم تَرَ حوشبا أضحى [3] يُبَنّي ... منازل [4] نفعُها لبني بقيلَهْ
يؤمَّل أَن يعمر عُمَر نوحٍ ... وأمرُ اللَّه يَأْتِي كُل ليله
فتطير أَبُو الْعَبَّاس وَقَالَ: أُفٍّ، لقل مَا يملك الحسود نَفْسه ولسانه، فَقَالَ عَبْد الله: اقلني، فقال: لا أقالني اللَّه إذًا، اخرج عني، فخرج إِلَى الْمَدِينَةِ.
ويقال إنه أنشد هَذَا الشعر وَقَدْ طوفه الهاشمية حِينَ استتم بناءها.
قَالُوا: واستعمل أَبُو الْعَبَّاس أبا جَعْفَر الْمَنْصُور عَلَى الجزيرة وأرمينية وأذربيجان فِي ذي القعدة سنة اثنتين وثلاثين ومائة وولي يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِي الموصل، فقدم
__________
[1] م: ابن أبي شبرمة وابن ليلى، وهو سهو.
[2] العبارة في م: بلحظة جوار ولا ترسلهم بجواري فليست دراهم الي بدار.
[3] الطبري س 3 ص 153: أمسى.
[4] ن. م.: بيوتا.(4/150)
أَبُو جَعْفَر قرقيسيا وعليها المنذر بْن الزُّبَيْر بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن هبار بْن الأَسْوَدِ (601) ابن المطلب بْن أسد بْن عَبْدِ العزي، فدعاه إِلَى الطاعة فأبى فخلّف عَلَيْهَا مَالِك بْن الهيثم فقتل المنذر وصلبه وَذَلِكَ فِي سنة ثَلاث وثلاثين ومائة، وَفِي تلك السنة وُلد عَبْد اللَّهِ بْن مَالِك. ومضى الْمَنْصُور إِلَى الرقة فدعاهم فلم يجيبوه، فخلف عَلَيْهَا مُوسَى بْن كعب ففتحها وغلب عَلَيْهَا، وسار الْمَنْصُور في مدن الجزيرة يصالح من دَخَلَ فِي طاعته ويخلف [1] عَلَى من التوى عَلَيْهِ حَتَّى فتحها، فكان مِمَّنْ صَالِح أَهْل الرها وأهل نصبين وأهل دارا.
قَالُوا: وخرج عَلَى أَبِي الْعَبَّاس، والمنصور عامُله عَلَى الجزيرة، قومٌ من الخوارج وأميرهم بَكْر بْن حميد الشيباني، فوجه إليهم محقن بْن غزوان [2] فهزموهم فأتى رأس عين، وبلغ [3] ذَلِكَ أبا جَعْفَر فوجه إليهم مقاتل بْن حَكِيم العكّي [4] وأتبعه أَبُو جَعْفَر من كفرتوثي إِلَى بَعْض قرى دارا فالتقوا فقتل مُحَمَّد بْن سَعِيد خدينة [5] بْن عَبْدِ الْعَزِيز بْن الْحَارِث بْن الحكم بْن أَبِي العاص، وَكَانَ مَعَ الخوارج، وانهزمت الخوارج، واعتصم بَكْر بجبل دارا، فتوجه إِلَيْهِ العكي [6] فقتله. وأمر أَبُو جَعْفَر بهدم مدائن الجزيرة إلا حران [7] ، واستعمل عَلَى أرمينية يزيد بن اسيد ابن زافر السلمي [8] ، ثُمَّ شخص أَبُو جَعْفَر فِي جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين ومائة إِلَى أرمينية فدوخها، واستأمَنَ إِلَيْهِ جَمَاعَة كَانُوا فِي قلعة الكلاب، وقفل منها سنة ست وثلاثين ومائة، وعزل يَزِيد بْن أسيد ووَلّى أرمينية الْحَسَن بْن قحطبة.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: وجه أَبُو الْعَبَّاس حِينَ استخلف أبا جَعْفَر فِي ثلاثين من بَنِي هاشم وَالْفُقَهَاء فيهم الْحَجَّاج بْن أرطاة، إِلَى أَبِي مُسْلِم ليهنؤوه بظهور الْإِمَام وَمَا فتح اللَّه عَلَى يديه ويعلموه مَا كَانَ لَهُ من الأثر الجميل عِنْدَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وَالَّذِي هُوَ عَلَيْهِ من شكره، فَلَمَّا قدم عَلَيْهِ أَبُو جَعْفَر وقف على بابه محجوبا ساعات. ثم
__________
[1] ط: يحلف، م: تخلف.
[2] م: عزون. انظر الطبري س 2 ص 1972.
[3] م: فبلغ.
[4] ط: العلي.
[5] م: جذينة. انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 10.
[6] ط: العلي.
[7] ط: حراز.
[8] م: المسلمي. انظر الطبري س 3 ص 81 وص 100.(4/151)
أذن لَهُ وَلَمْ يُظهر لَهُ من التبجيل مَا كَانَ يستحقه وَلَمْ يؤمره، فحقد عَلَيْهِ، فلما قدم عَلَى أَبِي الْعَبَّاس قَالَ: إنه لا مُلك ولا سلطان حَتَّى تقتل [1] أبا مُسْلِم [2] فَقَدْ أفْرَط فِي الدالة وعدا طَوْره، فأشار إِلَيْهِ أَن أسكت.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ إِسْحَاق بْن عِيسَى بْن عَلِي عَنِ الْمَنْصُور، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح عَنِ الهيثم بْن عدي وغيره قَالَ: أرسل يَزِيد بْن عُمَر بْن هبيرة وَهُوَ محصور بواسط إِلَى الْمَنْصُور وَهُوَ بإزائه: إني خارج إليك يَوْم كَذَا وداعيك إِلَى المبارزة فَقَدْ بلغني تجبينك إياي. فكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور: يَا ابْن هبيرة انك امرؤ متعدٍّ لطورك جارٍ فِي عنان غَيّك، يَعدُك [3] الشَّيْطَان مَا اللَّه مُكذّبُه وَيُقَرِّبُ لَك مَا اللَّه مُباعِدهُ، أفصح رُوَيْدًا تَتمَّ الكلمةُ ويَبْلُغ الكتابُ أجلَه وَقَدْ ضريت لي، مثلي ومثلك أَن أسدًا لقي خنزيرًا فَقَالَ الخنزير: قاتلني، فَقَالَ الأسد: إِنَّمَا أَنْتَ خنزير ولست لي بكفؤ ولا نظير، ومتى فعلت الَّذِي دعوتني إِلَيْهِ فقتلتك قيل قتل خنزيرًا، فلم أعتقد بِذَلِك فخرًا ولا ذكرًا وإنْ [4] نالني منك شَيْء كَانَ سُبةً [5] عَلِي وإنْ قَلّ، فَقَالَ: إِن أَنْتَ لَمْ تفعل رجعتُ فأعلمت السباع أنك نَكَلْتَ عني وجبنت عَنْ قتالي، فقال الأسد: احتمال عار كذبك أيسر عَلِي [6] من لَطْخِ شاربي بدمك. وَلَمْ يمكث ابْن هبيرة بَعْد ذَلِكَ إلا أياما حَتَّى طلب الأمان وضرع إِلَيْهِ.
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: قَالَ بَعْض أَهْل خراسان لبعض الفزاريين: مَا كَانَ أَعْظَم رأس صاحبكم! فَقَالَ: أمَانُكم لَهُ كَانَ أَعْظَم.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَن: حصره أَبُو جَعْفَر تسعة أشهر، ولما قتل أخرج الى باب المضمار بواسط فصبّ النّفط عَلَى جثته وأحرق، وأمر أَبُو جَعْفَر بهدم مدينة واسط. وَقَالَ: حُصر ابْن هبيرة وَمَا فِي رأسه بيضاء فَمَا قتل إلا وقد شاب.
__________
[1] ط: يقتل.
[2] م: أبا سلمة.
[3] ط: بعدك.
[4] ط: وان الذي.
[5] م: شبة.
[6] م: علي ايسر.(4/152)
قَالُوا: وَكَانَ ابْن هبيرة يَقُول حِينَ حُصر [1] : والله لو كَانَ أَبُو جَعْفَر (602) أعزّ من كليب وائل مَا قدر عَلِي، ولو كَانَ أشجع من شبيب مَا هِبتُه. وَقَالَ الْمَنْصُور لإسحاق بْن مُسْلِم العقيلي: كَيْفَ رَأَيْت صنيعي [2] بابن هبيرة؟ قَالَ: تغرير [3] وَقَدْ سلّم اللَّه، كنت [4] في خرق وحولك [5] من يعطيه ويموت دونه ويتعصب لَهُ من قَيْس وغيرها فلو ثاروا لذهب النَّاس ولكن أمركم جديد والناس بَيْنَ راجٍ وهائب. وَقَالَ هِشَام:
خرج ابْن هبيرة حِينَ خرج إِلَى أَبِي جَعْفَر فِي جَمَاعَة فيهم جَعْفَر بْن حنظلة البهراني [6] فألقى لَهُ الحاجب وسادة وَقَالَ: اجلس راشدًا يَا أبا خَالِد، وَقَدْ أطاف بالحجرة عشرة آلاف من أَهْل خراسان، ثُمَّ أذن لَهُ فدخل عَلَى أَبِي جَعْفَر فألقيت لَهُ وسادة فحدث أبا جَعْفَر ساعة. وَكَانَ يركب فِي خمس مائة فارس وثلاث مائة راجل، فَقَالَ يزيد ابن حاتم: مَا ذهب سلطان ابْن هبيرة بعدُ، إنه ليأتينا فيتضعضع لَهُ العسكر، فليت [7] شعري ما يقول في هذا عبد الجبار وجمهور بْن مرار وأشباههم! فَقَالَ سلام لابن هبيرة [8] : يَقُول لَك الأمير لا تسر فِي هَذِهِ الْجَمَاعَةِ. فَلَمَّا ركب ركب فِي ثلاثين، فَقَالَ سلام: كأنك تريد المباهاة! فَقَالَ: إِن أحببتم أَن نمشي إليكم فَعَلنا، فَقَالَ: مَا هَذَا باستخفاف ولكن أَهْل العسكر كرهوا هَذَا الجمع فأمر الأمير بِهَذَا نظرًا لَك، فكان يركب فِي رجلين [9] وغلامه. وختمت خزانته وَبَيْت ماله ودار الرزق وفيها طَعَام كثير. وعزم أَبُو الْعَبَّاس عَلَى قتله ووُجد لَهُ كتاب إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن حسن فأمر أَبُو جَعْفَر عُثْمَان بْن نَهيك [10] بقتله فَقَالَ: ليقتله رَجُل من العرب، فندب لَهُ خازمًا [11] والأغلب والهيثم بن شعبة.
__________
[1] ط: حصروه.
[2] م: صنعي.
[3] ط: نفزيز.
[4] ط: كتب.
[5] م: حوله.
[6] ط، م: النهراني. انظر الطبري س 2 ص 1612، وجمهرة الأنساب ص 441، وفي جمهرة النسب انه من بهراء ج 2 ص 328.
[7] م: ليت.
[8] العبارة من «بعد» الى «لابن هبيرة» لم ترد في ط.
[9] ط: رحلين.
[10] انظر جمهرة النسب ج 2 لوحة 219، واخبار الدولة العباسية ص 218.
[11] م: حازما. انظر ابن الأثير ج 5 ص 441.(4/153)
قَالُوا: وسأل الْمَنْصُور ابْن هبيرة عَنْ أدمٍ كَانَ قسمه، فَقَالَ: أيها الرجل توسّع توسعًا قرشيًا ولا تضق [1] ضيقًا حجازيًا فَمَا مثلي يسأل عَنْ أدم ولا يعاتب عَلَيْهِ، وَهَذَا ضربُ أخماسٍ لأسداس. وَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور يومًا: يَا أبا خَالِد حَدَّثَنَا [2] ، فَقَالَ: والله لأمحضنك النصيحة إمحاضًا ولأخلصنها [3] لَك إخلاصًا، إنّ عهد اللَّه لا يُنكث وعقده لا يُحل وإن أمارتكم حَدِيثه وخلافتكم بَكْر [4] فأذيقوا النَّاس حلاوتها وجنبوهم مرارتها، ثُمَّ نهض ونهض مَعَهُ سبع مائة من القيسية، فَقَالَ الْمَنْصُور: لا يعزّ ملكٌ هَذَا فِيهِ.
الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي عَمْرو [5] الْقُرَشِيّ قَالَ: دَخَلَ ابْن هبيرة عَلَى أَبِي جَعْفَر فجعل يحدثه وأبو جَعْفَر مزْوَرُّ عَنْهُ فجعل ابن هبيرة يقول: عليّ، وأقبل [6] أيها الرجل، فَلَمَّا خرج قَالَ أَبُو جَعْفَر: ألا تعجبون من ابْن اللخناء وقوله لي.
حَدَّثَنِي ابْن القتات [7] قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَر لسلم بْن قُتَيْبَة: مَا كلمت عربيًا قط أَعْظَم نخوة من ابْن هبيرة ولا أَحْسَن عقلًا، قَالَ لي يومًا وَهُوَ يكلمني: اسمع لِلَّهِ أبوك، ثُمَّ تداركها فَقَالَ: إِن عهدنا بالإمرة والولاية قريب فلا تلمني [8] فإنها خرجت مني عَلَى غَيْر تقدير فاغفرها، فَقُلْتُ: قَدْ غفرتها.
أمر أبي سلمة
قال ابن القتّات قال المنصور: دعاني ابو العباس فذاكرني أمر أَبِي سلمة، فَقَالَ:
والله مَا أدري لعل الَّذِي كَانَ منه عَنْ رأي أَبِي مُسْلِم وَمَا لَهَا غيرُك، اخرج إِلَى أَبِي مُسْلِم مهنّئًا بِمَا وهب اللَّه لنا وبِنُجْحِ سعيه فيما قام بِهِ من أمرنا وخذ البيعة عَلَيْهِ وأعلمه بِمَا كَانَ من أمر أَبِي سلمة واعِرف رأيه، وعرفه الَّذِي نَحْنُ عليه من شكره ومعرفة حقّه.
__________
[1] ط: تضيق.
[2] ط: حذينا.
[3] ط، د: لأتخلصنها.
[4] م: نكر.
[5] ط: ابن عمرو.
[6] م: فاقبل.
[7] ط: الفتات. انظر اخبار الدولة العباسية ص 229.
[8] ط: يلمني.(4/154)
قَالَ: فخرجت إِلَى خراسان ومعي ثلاثون رجلًا منهم إسحاق بن الفضل الهاشمي والحجاج ابن أرطاة وتحن عَلَى وَجَلٍ، فَلَمَّا شَارَفْتُ مرو تلقاني أَبُو مسلم فلما دنا مني نزل وقبّل يدي، فَقُلْتُ: اركب، فركب وقدمت [1] مرو فنزلتُ (603) دارًا ومكث ثلاثة أَيَّام لا يَسألني [2] عَنْ شيء، ثم قال [3] : ما اقدمك يا أبا جعفر؟ وأخبرته [4] ، فَقَالَ:
قَدْ تقدمت بيعتي وأخذتها لأمير الْمُؤْمِنيِنَ قبل قدومك عليّ ولكني أماسحك له، فماسحني ثُمَّ قَالَ: أفَعَلها أَبُو سلمة؟ قُلْت: قَدْ فعلها، فَقَالَ: أكفيكموه، ودعا [5] بمرار بْن أَنَس الضَّبِّيّ فَقَالَ: انطلق إِلَى حَفْص بْن سُلَيْمَان بالكوفة فاقتله حيث لقيته [6] . فقدم مرار الكوفة، وَكَانَ أَبُو سلمة يسمر عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاس فقعد له في بَعْض الليالي عَلَى طريقه فَلَمَّا خرج قتله، فَقَالُوا قتلته [7] الخوارج. وَكَانَ أَبُو جَعْفَر يَأْتِي دهليز أَبِي مُسْلِم فيجلس فِيهِ ويستأذن لَهُ الحاجب، ثُمَّ أمره بَعْد ذَلِكَ أن يرفع لَهُ الستور إِذَا جاء ويفتح لَهُ الأبواب.
وَحَدَّثَنَا ابْن القتات عَنْ إِسْحَاق بْن عِيسَى قَالَ: أراد أَبُو الْعَبَّاس قتل أَبِي سلمة فَقَالَ لَهُ عمه دَاوُد بْن عَلِي: لا تتولّ قتله فتخبث نفس أَبِي مُسْلِم ويحتج بِذَلِك عليك ولكن أكتب إِلَيْهِ فليوجه من يقتله، ففعل. وَقَالَ أَبُو اللفائف الأسدي [8] :
ويح من كَانَ مذ ثلاثون حَوْلًا ... يبتغي [9] حتف نَفْسه غَيْر آل
لَمْ يزل ذاك داب كفيه حَتَّى ... عضه حدُّ صارم فِي القذال
كاده الهاشمي منه بكيدٍ ... حيلة غَيْر حيلة الخلال
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود عَنِ المفضل [10] الضَّبِّيّ قَالَ: كتب أبو العباس بخطه
__________
[1] ط: فقدمت.
[2] ط: تسألني.
[3] م: قال لي.
[4] م: فاخبرته.
[5] م: فدعا.
[6] انظر العيون والحدائق ج 3 ص 212.
[7] «فقالوا قتلته» ساقطة من ط.
[8] م: السدّي.
[9] ط: تبتغي.
[10] م: الفضل.(4/155)
أَوْ بإملائه إِلَى أَبِي مُسْلِم كتابًا مَعَ أَبِي جَعْفَر حِينَ وجهه إِلَى خراسان:
إنه لم يزل من رأي أمير المؤمنين وأهل بيته الإحسان إِلَى المحسن والتجاوز عَنْ المسيء مَا لَمْ يكد دِينًا [1] ، وإن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ وهب جرم حَفْص بْن سُلَيْمَان لَك وترك إساءته لإحسانك إِن أحببتَ ذَلِكَ. فَلَمَّا قرأ أَبُو مُسْلِم الكتاب وجه مرار بْن أَنَس إِلَى الكوفة لقتل حَفْص حيث ثَقِفه، وكتب: انه لا يتم إحسان أحد حَتَّى لا تأخذه [2] في الله لومة لائم وقد قبلت مِنَّةَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وآثرت الانتقام لَهُ، فقتل مرار أبا سلمة غيلةً، فَقِيلَ قتلته [3] الخوارج، وأمر أَبُو الْعَبَّاس أخاه يَحْيَى بْن مُحَمَّد بالصلاة عَلَيْهِ.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي: كَانَ أَبُو مُسْلِم يكتب إِلَى أَبِي سلمة: لوزير آل مُحَمَّد من عَبْد الرَّحْمَن بْن مُسْلِم أمين آل مُحَمَّد. فكتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَبِي مُسْلِم يعلمه الَّذِي كَانَ من تدبيره فِي صرف الأمر عَنْهُ ونكث [4] بيعة الْإِمَام، فكتب أَبُو مُسْلِم يشير بقتله، فكتب إِلَيْهِ: أَنْتَ أولى بالحكم فِيهِ فابعث من يقتله، فوجه مرار بْن أَنَس الضَّبِّيّ فلقيه ليلًا فأنزله عَنْ دابته ثُمَّ ضرب عنقه.
ثُمَّ جمع [5] أَبُو الجهم بْن عطية، وَكَانَ عينًا لأبي مُسْلِم، يكتب [6] إِلَيْهِ بالأخبار، جميعَ القواد، فَقَالَ: إِن حفصًا كَانَ غاشًا لِلَّهِ ورسوله والأئمة فالعنوه، فلعن.
فَقَالَ سُلَيْمَان بْن مهاجر البجلي.
إِن الوزير وزير آل مُحَمَّد ... أودى فَمَنْ يشناك كَانَ وزيرا
[7] قَالُوا: وَقَالَ الْمَنْصُور حِينَ قتل أَبُو سلمة: دوي العبد وأصاب [8] أمير المؤمنين دواه [9] .
__________
[1] م: دنيا.
[2] ط، م: يأخذه.
[3] ط: قتله.
[4] م: نكثه.
[5] م: تجمع.
[6] ط، د: فكتب.
[7] انظر الطبري س 3 ص 60، والعيون والحدائق ج 3 ص 213، والمسعودي ج 6 ص 136 وقد اورد قبله البيت التالي:
ان المساءة قد تسر وربما ... كان السرور بما كرهت جديرا
[8] م: فأصاب.
[9] م: دما.(4/156)
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي حِينَ بلغه قتله: كلب أصابه قدر فطاح. قَالَ: وسمع أَبُو الْعَبَّاس الصراخ [1] عَلَى أَبِي سلمة فتمثل قَوْل الشاعر:
أفي أَن أحشَّ الحرب فيمن يحشّها ... أُلامُ وَفِي أَن لا أقر المخاويا
(604) ألم آلُ نارًا يتقي الناسُ حرّها ... فترهبُني إِن لَمْ تكن لي راجيا
وَكَانَ بقاء أَبِي سلمة فِي الدولة ثلاثة أشهر أَوْ أربعة أشهر.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عباد، حَدَّثَنِي رَجُل من ولد جَرِير بْن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
أعطى أَبُو الْعَبَّاس مُحَمَّد بْن خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري ضياع أَبِيهِ، فأعطى مُحَمَّد [2] ولد أَخِيهِ [3] يَزِيد نصفها، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس: إنا إِنَّمَا سلّمنا هَذِهِ الضياع إليك لبلائك ومخاطرتك بنفسك وَلَمْ نعطك إياها لتقسمها بينك وبين ورثة أبيك.
قَالَ: وَقَالَ قوم إِنَّمَا أَعْطَاه نصف ضياع أَبِيهِ، فَقَالَ لَهُ دَاوُد بْن عَلِي: مَا جزاؤه معما فعل إلا أن تعطيه إياها كملًا، فَقَدْ أحسن وأجمل، فأعطاه جميعها.
وقال المدائني: حضر عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي إِسْحَاق بْن مُسْلِم العقيلي بسميساط أو بسروج أو غيرها أَيَّام ولايته لأبي الْعَبَّاس، فَقَالَ: إِن فِي عنقي بيعة فأنا لا أنكثها ولا أزال متمسكًا بِهَا حَتَّى أعلم أن صاحبها قَدْ هلك، فَقَالَ لَهُ عَبْد اللَّهِ: إِن مَرْوَان قَدْ [4] قتل، فَلَمَّا تيقن ذَلِكَ طلب الصلح والأمان فأومن وحمل إِلَى أَبِي الْعَبَّاس فكان أثيرًا عنده وعند الْمَنْصُور. وكانوا ينسبونه إِلَى الوفاء وَكَانَ فِيهِ جفاء يُداري لَهُ، فلما خالف عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي أبا جَعْفَر وصار بكار بْن مُسْلِم مَعَهُ فكان أشد النَّاس عَلَى أَهْل [5] خراسان قَالَ أَبُو جَعْفَر: يَا إِسْحَاق ألا تكفينا أخاك! قَالَ: اكفني عمك حَتَّى أكفيك أَخِي، فضحك لقوله.
قَالُوا: وَكَانَ أَبُو نخيلة [6] يومًا عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاس وإسحاق بن مسلم حاضر، وذلك
__________
[1] م: بالصراخ.
[2] الأصل: محمدا.
[3] م: اخته.
[4] «قد» ليست في ط، د.
[5] «اهل» ليست في م.
[6] الاغاني ج 20 ص 360 وما بعدها. وانظر هذا الخبر في ص 385- 6، وانظر ابن خرداذبه- المسالك ص 42.(4/157)
بَعْد قتل ابْن هبيرة وهدم مدينة واسط وبناء أَبِي الْعَبَّاس مدينته بالأنبار، فأنشده [1] :
أصبحت [2] الأنبار دارا تعمر ... وخربت من النفاق أدْوُر
حمص وقنسرينها وتدمر ... أَيْنَ أَبُو الورد وأين الكوثر [3]
وأين مَرْوَان وأين الأشقر ... وأين أجسادُ رجالٍ قبروا [4]
هيهات لا نَصر لمن لا ينصر ... وواسط لَمْ يبق إلا القرقر [5]
بِهَا وإلا الديدبان الأخضر ... منازلٌ كَانَتْ بهن العُهر [6]
فغضب إِسْحَاق وَقَالَ: والله لَقَدْ سمعته يَقُول فيكم مثل هَذَا القول، فَقَالَ الْمَنْصُور: إِنَّمَا أَنْتَ يَا أبا نخيلة مَعَ كُل ريح، وَكَانَ فِي إِسْحَاق جفاء، وأمر أَبُو الْعَبَّاس لأبي نخيلة بخمسين ألف درهم.
وَحَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيُّ قَالَ: جلس أَبُو الْعَبَّاس لِلنَّاسِ ذَات يَوْم، فقام رَجُل فذمَّ أَهْل الشام والجزيرة، فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق: كذبت يَا ابْن الزانية، فَقَالَ زِيَاد بْن عُبَيْد اللَّه: خذ للرجل بحقه يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ. فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: أترى قيسًا ترضى بأن يُضرب سيدها حدًا! لو دعوته بالبينه لجاء مائة من قَيْس يشهدون أن القول قَوْله، فترك [7] الرجل مطالبته.
[ذكر برد رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وآله وقضيبه وقعبه ومخضبه]
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ صَالِحٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَ بُرْدًا لَهُ إِلَى أُنَاسٍ مِنَ النَّصَارَى مِنْ أَهْلِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ أَوْ [8] أَهْلِ مَقْنا أَمَانًا لَهُمْ فَاشْتَرَاهُ أَبُو الْعَبَّاسِ أمِيرُ الْمُؤْمِنيِنَ مِنْ أَوْلادِهِمْ بِأَرْبَعِ مِائَةِ دِينَارٍ، فَهُوَ الَّذِي يَلْبَسُهُ الْخُلَفَاءُ. قَالَ عَبْد الله، وذكر الواقدي،
__________
[1] ترد القصيدة في الاغاني ج 20 ص 386.
[2] الاغاني: وأمست.
[3] ن. م.:
حمص وباب التين والموقر ... ودمرت بعد امتناع تدمر
[4] ن. م.:
أَيْنَ أَبُو الورد وأين الكوثر ... وأين مَرْوَان واين الاشقر
ولا يرد الشطر الثاني في الاغاني
[5] ن. م.:
وواسط لم يبق الا القرقر ... منها والا الديدبان الأخضر
[6] لا يرد الشطر الثاني في الاغاني.
[7] ط: فتركنا.
[8] م: و.(4/158)
أَن الَّذِينَ دفع البرد إليهم أَهْل تبوك. قَالَ: وَقَالَ الهيثم بْن عدي: (605) هُمْ أَهْل أيلة. وَقَالَ بَعْضهم: دفن مَرْوَان البرد والقعب والقضيب والمخضب لئلا يصير إِلَى بَنِي الْعَبَّاس فدلهم عَلَيْهِ خصي لمروان.
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الرَّبِيع بْن أَبِي الجهم بْن عطية عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَبُو الْعَبَّاس: إِذَا عظمت القدرة قلّت الشهوة وقل تبرع إلا ومعه حق مضاع.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الرَّبِيع عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس: إِن من أدنياء النَّاس ووضعائهم من عد البخل حزمًا [1] والحلم ذلًا. حَدَّثَنِي (عُمَرُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عَيَّاشٍ الْهَمْدَانِيِّ قَالَ: دخلتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاس أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بَعْد مقتل مَرْوَان، فَقُلْتُ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي أبدلنا بحمار الجزيرة وابن أمة النخع ابْن عم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وابن عَبْد الْمُطَّلِبِ.
قَالَ الهيثم: وَكَانَ مُحَمَّد بْن مَرْوَان بْن الحكم أَخَذَ جارية لإبراهيم بْن الأشتر النخعي حِينَ حاربه أَيَّام مُصْعَب، فولدت مَرْوَان بْن مُحَمَّد. وَكَانَ الجعد بْن درهم قَدْ أفسد دين مَرْوَان، وَكَانَ مَرْوَان عاتيًا لا يبالي مَا صنع، فكان يُقَالُ: مَرْوَان أَكفر من حمار الأزد، وَهُوَ حمار بْن مَالِك بْن نصر بْن الأزد، وَكَانَ جبارًا قتالًا لا يبالي مَا أقدم عَلَيْهِ، فسمي حمار الجزيرة.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح، عَنْ رَجُل [2] ، عَنْ عُمَارَةَ بْن حَمْزَةَ، قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس يَقُول، أَوْ قَالَ كتب: إِذَا كَانَ الحلم مفسدةً كَانَ العفو معجزةً، والصبر حسن إلا عَلَى مَا أوتغ [3] الدين وأوهن السلطان، والأناة محمودة إلا عِنْدَ إمكان الفرصة.
وَحَدَّثَنِي عباس بن هشام الكلبي عن أبيه قال: دَخَلَ عَلِي أَبِي الْعَبَّاس مشيخة من أَهْل الشام فَقَالُوا: والله مَا علمنا أنَّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرابة يرثونه إلا بَنِي أمية حَتَّى وليتم. فَقَالَ إِبْرَاهِيم بن مهاجر:
__________
[1] م: غرما.
[2] كرر م «عن رجل» .
[3] ط، م: اوقع.(4/159)
أيها الناس اسمعوا أخبركم [1] ... عجبًا زاد عَلَى كُل عجب
عجبًا من عَبْد شمس أنهم ... فتحوا لِلنَّاسِ أبواب الكذب
ورثوا أَحْمَد فيما زعموا ... دُونَ عَبَّاس بْن عبد المطلب
كذبوا والله مَا نعلمه ... يحرز الميراث ألَّا من قَرُب
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح، أخبرني الثقة، قَالَ: وَجِد أَبُو الْعَبَّاس عَلَى إِبْرَاهِيم بْن جبلة بْن مخرمة الكندي، وَكَانَ من صحابته وسماره فحجبه، فذكر عنده وقيل إنه لحسن العلم والحَدِيث، فَقَالَ عِيسَى بْن عَلِي: إنه لكذلك أفلا تصفح عَنْهُ يَا أمِير المؤمنين [2] وتعيده الى مجلسك وسمرك! فقال: مَا يمنعني من ذَلِكَ إلا أني لا أحب أَن [3] يتبين النَّاس أَن رضاي قريبٌ من سخطي، وسوف أدعو بِهِ.
الْمَدَائِنِي قَالَ: قَالَتْ أم سلمة، امْرَأَة أَبِي الْعَبَّاس: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ مَا أَحْسَن الْمَلِك لو كَانَ يدوم، فقال: لو كَانَ يدوم [4] لدام لمن قبلنا فلم يصل إلينا.
حَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَلِي الحرمازي عَنِ العُتبي وغيره، قَالُوا: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس يَقُول: إِن أردنا علم الحجاز وتهامة فعند سَعِيد بْن عَمْرو بْن الغسيل [5] الْأَنْصَارِيّ، وإن أردنا علم تميم وعلوم فارس والعجم فعند خَالِد بْن صفوان، وإن أردنا علم الدنيا والآخرة والجن والأنس فعند أَبِي بَكْر الهذلي، وَكَانَ هَؤُلاءِ سمارة وحُدَّاثه.
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح الْعِجْلِيُّ: ركب أَبُو الْعَبَّاس بالأنبار [6] فمر بقوم من الفعلة فَقَالَ لعيسى بْن عَلِي: يَا أبا الْعَبَّاس إِن السعيد لمن سلم من الدنيا [7] ، وددت أني لَمْ أتقلد شيئًا مِمَّا تقلدت، أهؤلاء [8] أَحْسَن حالًا وأخف ظهورا في معادهم
__________
[1] ط: خبركم.
[2] سقطت كلمة «المؤمنين» من ط.
[3] م: ان لا.
[4] العبارة «فقال ... يدوم» سقطت من ط.
[5] م: الغسل.
[6] ط: بالانبات.
[7] ط: الدينار، د: الدينار.
[8] ط: هؤلاء، د: لهؤلاء.(4/160)
(606) أم أَنَا؟ فَقَالَ عِيسَى: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ أَحْسَن اللَّه إليك وإلى الأمة بك وأنقذهم ببركتك من جور بَنِي أمية وجبروتهم.
الْمَدَائِنِي قَالَ: كتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى زِيَاد بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ الحارثي وَهُوَ عامله عَلَى الْمَدِينَةِ أَن يخرج المخنثين [1] عَنْهَا، فأمر بإخراجهم، فَقَالَ لَهُ صاحب شُرَطِه:
إِن فِي دارنا مخنثًا، فَإِن رَأَى الأمير [2] أَن يدعه، فَقَالَ: دع فِي كُل دار مخنّثا، فقال: إذا يحتاج إِلَى أَن نجلبهم من الآفاق. وَكَانَ زِيَاد بخيلًا حقن بادهان لعلة كَانَتْ بِهِ فأراد غلمانه هراقة مَا خرج منه، فَقَالَ: صفوا هَذِهِ الأدهان واستصبحوا بِهَا ولا تهريقوها. وأكل مَعَهُ رجلٌ يومًا فأتي بجدي فجعل الرجل يتناول منه تناولًا شديدًا، فَقَالَ لَهُ: إني أراك تأكل لحم هَذَا الجدي كأن أمه نطحتك، فَقَالَ: وأراك أيها الأمير تشفق [3] عَلَيْهِ كأن أمه أرضعتك. وأكل عنده الغاضري، ويقال أشعب، فِي شَهْر رمضان فقدمت إِلَيْهِ مضيرة فجعل يأكل منها أكلًا شديدًا، فَقَالَ لَهُ: إِن أَهْل السجن يحتاجون فِي هَذَا الشهر إِلَى إمام يصلي بِهِمْ فأدخلوا فلانًا ليصلي بِهِمْ، فَقَالَ: أَوْ غَيْر ذَلِكَ أصلح اللَّه الأمير، أحلف بالطلاق أَن لا آكل مضيرة أبدًا.
حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عدي قَالَ: كَانَتْ أم سلمة بِنْت يعقوب المخزومية امْرَأَة أَبِي الْعَبَّاس عِنْدَ مسلمة بْن هِشَام المعروف بأبي شاكر، وَكَانَ أَبُو شاكر صاحب شراب فشكته أم سلمة إِلَى الْعَبَّاس بْن الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك فعاتبه فطلقها، فصارت إِلَى فلسطين فتزوجها أَبُو الْعَبَّاس أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فكلمته فِي سُلَيْمَان بْن هِشَام وَقَالَتْ إنه كَانَ مباينًا لمروان فأمر أَن لا يعرض لَهُ، فكان يدخل عَلَيْهِ. فبينا هُوَ ذات يوم عنده [4] إذ دَخَلَ عَلَيْهِ سديف بْن ميمون مَوْلَى بَنِي هاشم، وكان طويلا أحنى، فأنشده [5] :
__________
[1] ط: المختفين.
[2] ط: للأمير.
[3] ط: يشفق.
[4] «عنده» ليست في ط، د.
[5] انظر الاغاني ج 4 ص 347- 8، وشرح نهج البلاغة ج 7 ص 125 وص 127، والكامل ج 4 ص 8- 9، والحماسة البصرية ج 1 ص 91- 2، وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 39..(4/161)
أصبح الدين [1] ثابت الآساس ... بالبهاليل من بَنِي الْعَبَّاس
يَا كريم المطهرين من الرجس ... ويا رأس كُل قرم وراس [2]
أنتَ مهديُّ هاشم ورضاها [3] ... كم أُناس رجوك بَعْد أناس [4]
لا تقيلنَّ عَبْد شمس عثارًا ... واقطعن كُل رقلة [5] وغراس [6]
انزلوها بحيث انزلها اللَّه ... بدار الهوان والاتعاس [7]
فلقد غاظني وأوجع قلبي [8] ... قربها [9] من نمارق وكراسي
اذكروا [10] مصرع الْحُسَيْن وزيد ... وقتيلًا [11] بجانب المهراس
والإمام [12] الَّذِي بحران أمسى [13] ... رهن رمس مجاور الأرماس [14]
وأنشد [15] :
لا يغرنك مَا ترى من رجالٍ [16] ... إِن تَحْتَ [17] الضلوع داءً دويّا
__________
[1] الاغاني ج 4 ص 354: الدين، وفيه ص 347 وفي شرح النهج والكامل وطبقات الشعراء والحماسة البصرية: الملك.
[2] الاغاني: يا أمير المطهرين من الذم ويا رأس منتهى كل راس، وفي الحماسة البصرية:
رأس كل طود ...
[3] الاغاني والحماسة البصرية: هداها، شرح النهج: فتاها.
[4] ن. م.: اياس.
[5] د: زقلة، والرقلة: النخلة.
[6] الكامل: أواسي. ويرد هذا الشطر في الحماسة البصرية: وارمها بالمنون والاتعاس.
[7] كذلك في الاغاني والكامل. وفي ط، د: الانفاس، وفي شرح النهج ج 7 ص 126، وص 127.
الانعاس، وفي الحماسة البصرية: الانكاس.
[8] طبقات الشعراء والحماسة البصرية وشرح النهج ص 126: فلقد ساءني وساء سوائي، في الكامل وشرح النهج ص 127: ولقد غاظني وغاظ سوائي.
[9] طبقات الشعراء والاغاني والكامل وشرح النهج ص 126: قربهم.
[10] الكامل وشرح النهج والحماسة البصرية: واذكروا، طبقات الشعراء: فاذكروا.
[11] الاغاني: قتيل.
[12] طبقات الشعراء وشرح النهج ص 126 والحماسة البصرية والكامل: القتيل.
[13] المصادر نفسها (شرح النهج ص 127) : أضحى.
[14] الاغاني: رهن قبر في غربة وتناس. وفي الكامل وشرح النهج والحماسة البصرية: ثاويا بين غربة وتناسي، والشعر في الكامل لشبل بن عبد الله. طبقات الشعراء: رهن رمس وغربة وتناسي.
[15] شرح نهج البلاغة ج 7 ص 128، والكامل للمبرد ج 4 ص 8، وطبقات ابن المعتز ص 40.
[16] الكامل: اناس.
[17] ط: ارتجت.(4/162)
فضع السَيْف فِي ذوي الغدر حَتَّى [1] ... لا ترى فَوْقَ ظهرها أمويا
وأنشد [2] :
علامَ وفيمَ تتُرك عَبْد شمسٍ ... لَهَا فِي كُل ناحية [3] ثُغاء
فَمَا بالرمس من حران فِيهَا [4] ... وان قُتلت بأجمعها، وفاءُ
وَكَانَ أَبُو مُسْلِم يكتب إِلَى أَبِي الْعَبَّاس فِي أمر سُلَيْمَان: إِذَا كَانَ عدوك ووليك عندك سواء، فَمَتَى يرجوك المطيع لَك المائل إليك ومتى يخافك عدوك المتجانف [5] عَنْك! فَلَمَّا خرج سُلَيْمَان من عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاس قَالَ لسديف: قتلتني قتلك اللَّه.
(607) قَالَ: ثُمَّ [6] دعا أَبُو الْعَبَّاس أبا الجهم بْن عطية فَقَالَ لَهُ: قَدْ بلغني عَنْ سُلَيْمَان بْن هِشَام أمر أكرهه فاقتله، فأخرجه إِلَى الغريين فقتله وابنًا لَهُ وصلبهما، وحضر غلام لَهُ أسود فجعل يبكي عَلَى مولاه وَيَقُول: هكذا الدنيا تصبح [7] عليك مقبلة وتمسي [8] عَنْك مدبرة. وَقَالَ غَيْر الهيثم: دُفع سُلَيْمَان إِلَى عَبْد الجبار صاحب شرط أَبِي الْعَبَّاس فأمر الْمُسَيِّب بْن زهير فقتله. ويقال، إِن سديفًا لما أنشد الشعر قام سُلَيْمَان فَقَالَ:
إِن هَذَا يشحذك عَلِي، فَقَدْ بلغني أنك تريد اعتيالي، فَقَالَ: يَا جاهل، ومن يمنعني منك حَتَّى أقتلك اغتيالًا، خذوه، فأخذ فقتل. حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب وغيره، قَالُوا: ضم سالم بْن عَبْدِ الرَّحْمَن كاتب هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك عَبْد الحميد بْن يَحْيَى إِلَى مَرْوَان حِينَ شخص إِلَى أرمينية، وَكَانَ عَبْد الحميد من حَدِيثه النورة من الأنبار، وأتى [9] الشام فتخرج هناك. وقوم يقولون إنه مَوْلَى لبني أمية، وقوم يقولون إنه [10] مَوْلَى لغيرهم من قريش، فلم يزل عَبْد الحميد مَعَ مروان
__________
[1] في الاغاني ج 4 ص 351: جرد السيف وارفع العفو حتى، وفي الكامل وطبقات ابن المعتز:
فضع السيف وارفع السوط حتى.
[2] يرد البيتان في اشعار اولاد الخلفاء للصولي ص 298- 299.
[3] ن. م.: راعية.
[4] ن. م.: فما في القبر في حران منها.
[5] ط: المتحايف.
[6] «ثم» ليست في ط.
[7] ط: فتصبح.
[8] ط: قبى.
[9] م: فأتى.
[10] ط: انهم.(4/163)
حَتَّى نزل بمروان [1] الأمر فَقَالَ لَهُ: إِن الْقَوْم محتاجون إِلَى مثلك، فاستأمن إليهم فلعلك تنفعني [2] فِي حياتي أو تحفظني [3] فِي حرمتي بَعْد وفاتي، فأنشأ عَبْد الحميد يَقُول أَوْ ينشد:
أُسِرُّ وفاءً ثُمَّ أُظهر غدرةً ... فَمَنْ لي بعذرُ يُوسع النَّاس ظاهره [4]
وأنشد أيضًا:
فلومي ظاهر لا شك فِيهِ ... لِلَائِمَةٍ وعذري بالمغيب
ثُمَّ قَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، إِن الَّذِي أمرتني بِهِ أنفع الأمرين لَك وأقبحهما لي، ولكني أصبر [5] حَتَّى يفتح اللَّه عليك أَوْ أقتل معك [6] ، فأخذ فحبس ثُمَّ قتل.
وَحَدَّثَنِي عدة من ولد عَبْد الحميد بْن يَحْيَى أَن عبد الحميد استخفى فوجد بالشام أو بالجزيرة، فدفعه أَبُو الْعَبَّاس إِلَى عَبْد الجبار بن عبد الرحمن وكان على شرطته [7] ، فكان يحمى طستًا ويضعه عَلَى رأسه حَتَّى مَاتَ. وَكَانَ يَقُول: ويحكم إنا [8] خطباء كُل دولة. وسُئل عَنْ أَمْوَالِ [9] مَرْوَان فَقَالَ: والله مَا أعلم منها إلا مَا تعلمون.
وَحَدَّثَنِي بَعْض ولد عَبْد الحميد أَنَّهُ كَانَ يكنى أبا يَحْيَى وأنه كَانَ يَقُول: من كَانَ منطقه أَكْثَر من عقله كَانَ منطقه عَلَيْهِ، ومن كَانَ عقله أَكْثَر من منطقه كَانَ منطقه لَهُ.
وَحَدَّثَنِي ابْن القتات قَالَ: لما وَلِيَ أَبُو الْعَبَّاس مدح أَبُو عَطَاء السّندي [10] بَنِي الْعَبَّاس فَقَالَ:
إِن الخيار من البرية هاشم ... وبنو [11] أمية أرذل الأشرار
__________
[1] م: مروان.
[2] ط: ينفعني.
[3] ط: يحفظني.
[4] انظر شرح نهج البلاغة ج 7 ص 132، والمسعودي ج 6 ص 82.
[5] ط: اصبح.
[6] م: بعدك.
[7] م: شرطه.
[8] ط: إذا، وسقطت منه «ويحكم» .
[9] «عن اموال» ليست في ط.
[10] انظر الاغاني ج 17 ص 245 وما بعدها، والشعر والشعراء لابن قتيبة ص 654، وخزانة الأدب ج 4 ص 167، وسمط اللآلي ص 602- 3، ونتف من شعر أبي عطاء السندي ص 15.
[11] ط: بني. وانظر هامش رقم (5) في سمط اللآلي ص 602.(4/164)
وبنو أُمية عودهم من خِرْوَعٍ ... ولهاشم فِي المجد عودُ نُضار
أما الدعاةْ إِلَى الجنان فهاشمٌ ... وبنو أُمية من دُعاه النار
فلم يصله بشيء، فَقَالَ:
يَا ليت [1] جور بَنِي مَرْوَان عاد لنا ... وإن [2] عدل بَنِي الْعَبَّاس فِي النّار
وَقَالَ أَبُو عَطَاء أيضًا [3] :
بَنِي هاشم عودوا إِلَى نخلاتكم ... فَقَدْ عاد سعر [4] التمر صاعا بدرهم
فَإِن قلتُمُ رهطُ النَّبِيّ مُحَمَّد [5] ... فَإِن [6] النصارى رهط عِيسَى بْن مريم
حدثني العمري عن الهيثم بن عدي قال: دفع ابْن عياش المنتوف إِلَى أَبِي الْعَبَّاس حوائج لَهُ وَكَانَ فِيهَا أَن يجز لحية عَلِي بْن صفوان ليسويه بِهِ، وَكَانَ عَلِي طويل اللحية، فلما دخل أَبُو الْعَبَّاس المقصورة وصعد المنبر [7] رَأَى ابْن عياش وابن صفوان قبالته ورأى طول لحية ابْن صفوان فاستضحك فوضع كمه عَلَى وجهه فَلَمَّا انصرف قَالَ لابن عياش: ويلك (608) كدت تفضحني، فَقَالَ: والله مَا أردت إلا أَن تذكر حاجتي. حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بْن عدي عَنِ ابْن عياش قَالَ: ابتدأ أَبُو الْعَبَّاس آل أَبِي طَالِب بالبر والتكرمة، فكان ذَلِكَ لا يزيدهم إلا التواءً عَلَيْهِ، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن أشدهم لَهُ حسدًا وأقلهم لَهُ شكرًا، فَقَالَ يومًا [8] :
لَقَدْ صدق مُعَاوِيَة حِينَ قَالَ مَا أحَدٌ [9] من الناس إلا [10] وانا [11] استطيع رضاه
__________
[1] الاغاني ج 17 ص 250: فليت. وانظر الشعر والشعراء ص 654، ونتف من شعر أبي عطاء ص 16.
[2] الاغاني: وليت.
[3] انظر المسعودي ج 5 ص 150، والاغاني ج 17 ص 250، والشعر والشعراء ص 654، وخزانة الأدب ج 4 ص 170، وسمط اللآلي ص 603.
[4] الاغاني: صار هذا، الشعر والشعراء ونتف من شعره وسمط اللآلي: فقد قام.
[5] الشعر والشعراء ونتف من شعره: وقومه، سمط اللآلي: صدقتم.
[6] سمط اللآلي: فهذي.
[7] «وصعد المنبر» ليست في م.
[8] يضيف ط: معاوية.
[9] ط: أجد.
[10] ط: وإلا.
[11] م: فانا.(4/165)
إلا حاسد نعمة لا يرضيه عني إلا زوال نعمتي فلا أرضاه اللَّه عني أبدًا، وَهَؤُلاءِ بنو أَبِي طَالِب قَدْ وصلت أرحامهم واحسنت برّهم وهم يأبون لحسدهم [1] وسوء نياتهم إلا القطيعة وإني لأتخوف أَن يعود حلمي عَلَيْهِم بِمَا يكرهون فِي عواقب الأمور والله المستعان.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح عَنْ عَلِي بْن صَالِح [2] صاحب المصلي قَالَ:
أقدم أَبُو الْعَبَّاس عَبْد اللَّهِ بْن حسن عَلَيْهِ فبره وأكرمه وأعطاه ألف ألف درهم، فَلَمَّا انصرف إلي الْمَدِينَةِ أتاه أهلها مُسلّمين عَلَيْهِ وجعلوا يدعون لأبي الْعَبَّاس لبره به واجزاله صِلَتَهُ، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: يَا قوم مَا رَأَيْت أحمق منكم تشكرون رجلًا أعطانا بَعْض حقنا وترك أكثره. فبلغ ذَلِكَ أبا الْعَبَّاس فدعا إخوته وأهل بيته وجعل يعجبهم من قَوْل عَبْد اللَّهِ، فَقَالُوا: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِنَّمَا يتم [3] إحسانك إِلَيْهِ وإنعامك عَلَيْهِ بالصفح عَنْهُ، وتكلم أَبُو جَعْفَر فِيهِ بكلام شديد وَقَالَ: إِن الحديد بالحديد يفلح. [4]
فَقَالَ أَبُو الْعَبَّاس: من تشدد أنفر ومن لان تألّف والجاهل تكفيكَه مساوئه.
حَدَّثَنِي عُمَر [5] بْن بُكَيْر عَنِ الهيثم عَنِ ابْن عياش، قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس أسخي النَّاس، مَا وعد عدة قط فأخرها عَنْ وقتها أَوْ قام من مجلسه حَتَّى يقضيها، ولقد سمعناه يَقُول: إِن المقدرة تصغر الأمنية، لَقَدْ كُنَّا نستكثر أمورًا أصبحنا نستقلّها [6] لأخس من صحبنا، ثُمَّ يسجد [7] لِلَّهِ شكرًا.
الْمَدَائِنِي قَالَ: سمر خَالِد بْن صفوان عِنْدَ أَبِي الْعَبَّاس، ففخر قوم من بَنِي الْحَارِث بْن كعب وخالد ساكت، فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس: تكلم يَا خَالِد، فَقَالَ:
هَؤُلاءِ أخوال أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، قَالَ: وأنت من أعمامه وليس الأعمام بدون الأخوال، فَقَالَ: وَمَا أكلم من قوم إِنَّمَا هم على افتخارهم بين ناسج برد
__________
[1] م: بحسدهم.
[2] «عن علي بن صالح» سقطت من ط.
[3] ط: نتم.
[4] انظر الأمثال للميداني ج 1 ص 8.
[5] م: عمرو. انظر فتوح البلدان ص 294، قارن ابن خلكان- وفيات ج 6 ص 178.
[6] م: نستثقلها.
[7] م: سجد.(4/166)
وسائس قرد ودابغ جلد دل عَلَيْهِم هدهد وغرّقتهم فأرة وملكتهم امْرَأَة، فجعل أَبُو الْعَبَّاس يضحك.
أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي عَنْ أَبِي مُحَمَّد المغربي [1] قال، قال أبو العباس الخالد بْن صفوان حِينَ أَخَذَ سُلَيْمَان بْن حبيب: أشعرت أَن سُلَيْمَان أَخَذَ من بئر، فَقَالَ:
هذا الذي خرج رقصا ودخل قفصًا.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ عَبْد الجبار الكاتب قَالَ: دَخَلَ بخالد [2] بْن صفوان عَلَى أَبِي الْعَبَّاس أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فَقَالَ لَهُ: لقد وليتَ الخلافة فكنت أهلها وموضعها، رعيت الحق فِي مسارحه وأوردته موارده فأعطيت كلًا بقسطه من نظرك وعدلك ورأيك ومجلسك حَتَّى كأنك من كُل أحد وكأنك لست من أحد، فأعجبه قَوْله وأمر لَهُ بمال.
الْمَدَائِنِي قَالَ: دَخَلَ خَالِد بْن صفوان عَلَى أَبِي الْعَبَّاس فَقَالَ لَهُ: مَا تقول فِي أخوالي [3] بَنِي الْحَارِث بْن كعب؟ قَالَ هنالك هامة الشرف وخرطوم الكرم وغرس الجود، إِن فيهم لخصالًا مَا اجتمعت فِي غيرهم من قومهم، إنهم لأطولهم أممًا وأكرمهم شيمًا [4] وأطيبهم طعمًا وأوفاهم ذممًا وأبعدهم هممًا، هُم الجمرة (609) فِي الحرب والرفد فِي الجدب والرأس فِي كُل خطب، وغيرهم بمنزلة العجب، فَقَالَ: لَقَدْ وصفت أبا صفوان فأحسنت. حَدَّثَنِي أَبُو دُهمان بْن أَبِي الأسوار [5] قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس يسمع الغناء فَإِذَا قَالَ للمغني «أحسنت» لَمْ ينصرف من عنده إلّا بجائزه وكسوة.
وقيل لَهُ: أَن الخلافة جليلة، فلو حجبت عَنْك من يشاهدك عَلَى النبيذ، فاحتجب عَنْهُمْ، وكانت صلاته [6] قائمة لَهُمْ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب قَالَ: لما بلغ أبا جَعْفَر استئذان أَبِي مُسْلِم للحج وَهُوَ يَوْمَئِذٍ بالجزيرة، وَكَانَ والي الجزيرة وأرمينية لابي العباس، كتب الى
__________
[1] ط: المعربي.
[2] م: خالد.
[3] ط: احوال.
[4] ط: سيما.
[5] ط: الأسود.
[6] ط: صلاتهم.(4/167)
أَبِي الْعَبَّاس يسأله توليته الموسم [1] فكتب إِلَيْهِ يأمره بالقدوم ليقلده الموسم، ووافى أَبُو مُسْلِم فدخل عَلَى أَبِي الْعَبَّاس وأبو جَعْفَر عنده فسلم عَلَى أَبِي الْعَبَّاس وَلَمْ يسلم عَلَى أَبِي جَعْفَر فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَبَّاس: هَذَا أَبُو جَعْفَر أَخِي، فَقَالَ: إِن مجلس أمِير الْمُؤْمِنيِنَ لا تُقضي [2] فِيهِ الحقوق.
قَالُوا: وَكَانَ سُلَيْمَان بْن كثير الخزاعي من النقباء، فلما قدم الْمَنْصُور خراسان عَلَى أَبِي مُسْلِم قَالَ لَهُ: إِنَّمَا كُنَّا نحب تمام أمركم وَقَدْ تم بحمد اللَّه ونعمته، فَإِذَا شئتم قلبناها عَلَيْهِ. وَكَانَ مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان بْن كثير خداشيًّا فكره تسليم أَبِيهِ [3] الأمر إِلَى أَبِي مُسْلِم، فَلَمَّا ظهر أَبُو مُسْلِم وغلب عَلَى الأمر قتل محمدًا. ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَان للكفية، وَهُم الَّذِينَ بايعوا عَلَى أَن لا يأخذوا مالًا وأن تؤخذ أموالهم إِن احتيج إِلَيْهَا ويدخلوا الْجَنَّةَ، ويقال إنهم أُعطوا كفًا كفًا من حنطة فسموا الكفية: حفرنا نهرًا بأيدينا فجاء غيرنا فأجرى فِيهِ الماء، يَعْنِي أبا مُسْلِم، فبلغ قَوْله أبا مُسْلِم [4] فاستوحش منه، وشهد عَلَيْهِ أَبُو تراب الداعية ومحمد بْن علوان المروزي وغيرهما فِي وجهه بأنه أَخَذَ عنقود عنب فَقَالَ: اللَّهُمَّ سود وجهَ أَبِي مُسْلِم كَمَا سودت هَذَا العنقود واسقني دمه، وشهدوا أَن ابنه كَانَ خداشيًا وأنه بال عَلَى كتاب الْإِمَام، فَقَالَ لبعضهم: خذه بيدك فألحقهُ بخوارزم، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُول لمن أراد قتله، فقتل سُلَيْمَان، وكتب إِلَى أَبِي الْعَبَّاس بخبره وقتله إياه، فلم يجبه عَلَى كتابه، فكان مِمَّا عاتبه عَلَيْهِ الْمَنْصُور أَن قَالَ: قتلت سُلَيْمَان بْن كثير نقيب نقبائنا، ورئيس شيعتنا، وشيخ دعوتنا، وابنه، وقتلت لاهزًا.
أمر زِيَاد بْن صَالِح
وحَدَّثَنِي أَبُو الصلت الْخُرَاسَانِيُّ وغيره، قَالُوا: بلغ أبا مُسْلِم عَنْ زِيَاد بْن صَالِح تنقص [5] لَهُ وذم، وأنه كَانَ يَقُول: إِنَّمَا بايعنا عَلَى إقامة العدل وإحياء السنن،
__________
[1] ط: المسلم.
[2] ط: يقضى.
[3] ط، د: ابن.
[4] عبارة «فبلغ ... مسلم» ليست في ط.
[5] ط: ينقص.(4/168)
وَهَذَا جائر ظَالِم يسير سير الجبابرة، وَإِنَّهُ مخالف لَهُ قَدْ أفسد عَلَيْهِ قلوب أَهْل خراسان، فدعا بِهِ فقتله. وَكَانَ عِيسَى بْن ماهان مَوْلَى خزاعة صديقًا لَهُ ومطابقًا عَلَى بَعْض أمره، فَقَالَ لِلنَّاسِ: إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ أَعْظَم قتل زِيَاد، وذم أبا مُسْلِم وأنكر فعله وَقَالَ إنه قتل رجلًا ذا قَدَمٍ وبلاء حسن فِي دولتنا، وبريء منه، وَقَدْ بعث إلي بعهدي عَلَى خراسان، ودعا قومًا إِلَى حرب أَبِي مُسْلِم فأجابوه سرًا وخالفه أقوامٌ قتلهم [1] . وَكَانَ عِيسَى يَوْمَئِذٍ بإزاء قرية وجهه أَبُو دَاوُد إِلَيْهَا ليحارب أهلها، وقدم رَسُول أَبِي الْعَبَّاس وَهُوَ أَبُو حميد إِلَى أَبِي مُسْلِم بخلعٍ وبزٍّ [2] وبكتاب يلعن فِيهِ (610) زِيَاد بْن صَالِح وأشياعه ويصوب رأي أَبِي مُسْلِم فِي قتله، فأمر أَبُو مُسْلِم أبا دَاوُد بقتل عِيسَى بْن ماهان فكتب إِلَيْهِ: إِن رَسُول أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ قدم عَلَى الأمير بخلع وبز لَهُ وللأولياء، وذكرناك لَهُ فصر إلينا لتشركنا فِي أمرنا وسرورنا وترى رَسُول أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فتعرفه حالك، فقدم عَلَى أَبِي دَاوُد فَقَالَ: خذوا ابْن الفاعلة، وأمر بِهِ فأدخل فِي جوالق ثُمَّ ضرب بالخشب حَتَّى مَاتَ، فكتب أَبُو الْعَبَّاس إِلَى أَبِي مُسْلِم يعظم قتل عِيسَى ويأمره أَن يقتل أبا دَاوُد بِهِ، فكتب فِي جواب ذَلِكَ يعذر [3] أبا دَاوُد خَالِد بْن إِبْرَاهِيمَ ويذكر أَن ابْن ماهان لو ترك لكان منه مثل الَّذِي كَانَ من زِيَاد بْن صَالِح من إفساد النَّاس وحملهم عَلَى المعصية والخلاف.
أمر السفياني
قَالُوا: ونزل عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي عَلَى نهر أَبِي فطرس، وكانت ببالس ابْنَة لمسلمة بْن عَبْدِ الْمَلِك، فخطبها عامل عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي وَهُوَ رَجُل من أَهْل خراسان فأنعمت لَهُ وَقَالَتْ: أتهيأ لَك، وكتبت إِلَى أَبِي الورد مجزأة بْن الهذيل بْن زفر الكلابي [4] تستجير بِهِ، فخرج أَبُو الوازع أَخُو أَبِي الورد فِي جَمَاعَة فأتوا بالس والخراساني فِي الحمام فدخلوا عَلَيْهِ فقتل، ولحق بِهِمْ أَبُو الورد [5] ودعا النَّاس فأجابه من قيس وغيرها
__________
[1] ط: قبلهم.
[2] ط، م: بر.
[3] ط: بعذر.
[4] في الطبري: مجزأة بن الكوثر بن زفر بن الحارث الكلابي. ويرد خبره في س 3 ص 52- 55.
[5] العبارة «مجزأة بن الهذيل ... ولحق بهم ابو الورد» ساقطة من ط.(4/169)
زهاء سبعة ألاف، أكثرهم من قَيْس. وبلغ أبا مُحَمَّد زِيَاد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن يزيد ابن مُعَاوِيَة [1] ، وَذَلِكَ الثبت- وقيل أَن اسم هَذَا [2] السفياني الْعَبَّاس بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة، وإن زيادًا كَانَ خرج طالبًا بدم الْوَلِيد بْن يَزِيد وليس هُوَ بالخارج أَيَّام عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي، والثبت أَنَّهُ زِيَاد- فطمع وَقَالَ: أَنَا السفياني الَّذِي يروى أَنَّهُ يردّ دولة بَنِي أمية، ونزل دير حنينا، وبايعه الْوَلِيد والناس وكتب إِلَى هِشَام بْن الْوَلِيد بْن عقبة بْن أَبِي معيط يدعوه إِلَى الخروج مَعَهُ فاعتل عَلَيْهِ. وبلغ عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الْخَبَر فقتل جَمِيع من كَانَ مَعَهُ من بَنِي أمية ومن يهدي هداهم، ووجه عَبْد الصمد إِلَى السفياني وأَصْحَابه وَهُمْ بقنسرين فِي سبعة آلاف فاقتتلوا فانهزم النَّاس عَنْ عَبْد الصمد حَتَّى أتوا حمص، وأقبل ابْن عَلِي حَتَّى نزل عَلَى أربعة أميال من حمص ووجه بسام بْن إِبْرَاهِيمَ وخفافًا الْمَازِنِيّ بَيْنَ يديه إِلَى حمص، وكتب إِلَى حُميد بْن قحطبة فقدم عَلَيْهِ. وصار السفياني وأبو الورد إِلَى مرج [3] الأخرم، وأتاهم عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي ومعه عبد الصمد وحميد ابن قحطبة فاقتتلوا فِي آخر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائة، وعلى ميمنة أَبِي مُحَمَّد أَبُو الورد وعلى ميسرته الأصبغ بْن ذؤالة الْكَلْبِيِّ، فانهزم أَهْل الشام وهرب السفياني وجرح أَبُو الورد فحمل إِلَى أهله فمات، ولجأ قوم من أَصْحَاب أَبِي الورد إِلَى أجمه فأحرقت عَلَيْهِم. وبلغ ابْن عَلِي أنّ أبا مُحَمَّد لبس الحُمرة ودعا النَّاس، فأجابه خلقٌ، فسار إِلَيْهِ فهزمه فتوارى، ثُمَّ أتى الْمَدِينَة وعليها زِيَاد بْن عُبَيْد اللَّه الحارثي فاستدل عَلَيْهِ حَتَّى عرف الدار الَّتِي هُوَ فِيهَا فوجه إِلَيْهِ من يأخذه، فخرج من الدار فقاتل ورماه رَجُل بسهم فأصاب ساقه فصرعه واعتوروه فقتلوه وكبروا، فسمع التكبير ابْنُ لَهُ يُقَالُ لَهُ مَخْلد فخرج فقاتل حَتَّى قتل، وصلب أَبُو مُحَمَّد وابنه.
قَالَ الحرمازي: خرج السفياني فِي أَيَّام أَبِي الْعَبَّاس ثُمَّ انهزم وتوارى حينًا فقتل فِي أول خلافة الْمَنْصُور.
__________
[1] انظر الطبري س 3 ص 53، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 8، وجمهرة الأنساب ص 112.
[2] «هذا» ليست في م.
[3] ط: مرح. انظر الطبري س 3 ص 53.(4/170)
أمر بسام بْن إِبْرَاهِيمَ
قَالَ الْمَدَائِنِي وغيره: كَانَ بسام بْن إِبْرَاهِيمَ مَعَ نصر بْن سيار فَلَمَّا ظهر أَبُو مُسْلِم صار إِلَيْهِ وترك نصرًا فقدم مَعَ قحطبة وشخص مَعَ ابْن عَلِي إِلَى الشام، فَلَمَّا خلع أَبُو الورد وبايع أبا مُحَمَّد السفياني ثُمَّ هرب السفياني واستخفى، صار بسام إِلَى تدمر وعزمه عَلَى الخلاف لأشياء أنكرها من سيرة ابْن عَلِي، فمنعه أَهْل تدمر من دخولها فقاتلهم وهزمهم وقتل منهم جماعة بعث برؤوسهم إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي ليُوهمه أَنَّهُ عَلَى طاعته.
وأظهر بسام الخلاف فانصرف عَنْهُ عامة [1] جنده (611) وأتى قرقيسيا، فكتب (ابْن) [2] عَلِي بخبره إِلَى أَبِي الْعَبَّاس، ثُمَّ أتى المدائن فِي جمع فوجه إليْه أَبُو الْعَبَّاس خازم بْن خزيمة فقاتله فانهزم بسام وصار إِلَى السوس وتفرق عَنْهُ أَصْحَابه، ثُمَّ مضى إِلَى ماه [3] وخازم يتبعه، ثُمَّ توارى وكتب إِلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن: إِن أجبتني ضربت بَيْنَ أَهْل خراسان وبايعتُ لَك، فخاف جَعْفَر أَن يَكُون أَبُو الْعَبَّاس دس الكتاب إِلَيْهِ فأتى أبا الْعَبَّاس بكتاب بسام، فَقَالَ: أَحْسَن اللَّه جزاءك يَا ابْن عم، اكتب إِلَيْهِ فواعده مكانًا يلقاك فِيهِ، فواعده الحيرة ووجه إِلَيْهِ بِذَلِك ابنه 225/ 4 إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر، وأمر أَبُو الْعَبَّاس أبا غسان مولاه وحاجبه بتفقده ومراعاته، فلما رآه أَبُو غسان مَعَ إِسْمَاعِيل بْن جَعْفَر عرف أَنَّهُ بسام وَكَانَ عَلَيْهِ سواد بلا سَيْف، فَقَالَ لَهُ: من أَنْتَ؟ قَالَ لَهُ: رَجُل من أَهْل الجزيرة من الْعِبَاد، فرفع أَبُو غسان عَلَيْهِ العمود، فشتمه بسام وَقَالَ: لو كَانَ معي سَيْفي مَا اجترأت أَن ترفع عَلِي عمودك، فأخذه وأتى بِهِ أبا الْعَبَّاس، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه ثم صلب.
[شريك بن شيخ المهري]
وحدثني العمري عَنِ الهيثم بْن عدي قَالَ: خرج على أبي مسلم ببخارى شريك ابن شيخ المهري وَقَالَ: إِنَّمَا بايعناكم عَلَى العدل وَلَمْ نبايعكم عَلَى سفك الدماء والعمل بغير الحق، فاتبعه أَكْثَر من ثلاثين ألفًا. فبعث إِلَيْهِ أَبُو مُسْلِم زِيَاد بْن صَالِح الخزاعي قبل قتله بسنة أَوْ نحوها، ويقال بعث غيره، فحاربه وأوقع بأصحابه وقتله.
__________
[1] ط: عام.
[2] اضافة.
[3] ط: مكة.(4/171)
أمر سلم بْن قُتَيْبَة بْن مُسلم
حَدَّثَنِي عَلِي بْن المغيرة الأثرم عَنْ مَعْمَر بْن المثنى، وحدثني غيره: أن يزيد ابن عمر بن هبيرة قدم واليًا عَلَى العراق من قبل مَرْوَان بْن مُحَمَّد، فكتب ابْن هبيرة إِلَى مَرْوَان يستأذنه فِي تولية سلم بْن قُتَيْبَة البصرة، فنهاه عَنْ ذَلِكَ للذي كَانَ من قُتَيْبَة بْن مُسْلِم فِي خلع سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الْمَلِك والخلاف عليه، فلم يزل يراجعه فِي أمره ويصف لَهُ دينه وفضله ومذهبه حَتَّى أذن لَهُ فِي توليته البصرة. وكان سلم يجالس مُحَمَّد بْن سِيرِينَ، وَمَاتَ ابْن سِيرِينَ وَلَهُ عَلَيْهِ خمسة آلاف درهم جعله منها فِي حل، وَكَانَ يجالس بعده أيوب السختياني فَقَالَ بَعْض أَهْل البصرة حِينَ ولي سلم: ترفقي تصيدي [1] .
ولما ولي سلم، بعث إِلَيْهِ آل المهلب عَبْد اللَّهِ بْن عُبَيْد اللَّه أبا النضر [2] النحوي الْأَزْدِيّ، وَكَانَ خلًا لَهُ [3] ، يستأذنونه فِي قدوم البصرة، وَكَانَ آل المهلب مَعَ عَمْرو بْن سهيل فهربوا، فأذن لَهُمْ، وكتب إِلَيْهِ ابْن هبيرة يأمره بأخذهم والجد فِي طلبهم فغيب عَنْهُمْ وعذر فِي أمرهم وأمر النَّاس، وبعث إِلَيْهِ بنو المهلب بثلاثين ألف درهم، ويقال أَكْثَر من ذَلِكَ، فلم يقبلها وردها وَقَالَ: يَا سبحان اللَّه، أبيعُ المعروف بيعًا! وكانوا رُبَّمَا أتوا سلمًا لَيْلًا فِي حوائجهم، فلم يزالوا كَذَلِكَ حَتَّى ظهرت المسودة وحصر الحسنُ بْن قحطبة يَزِيد بْن عُمَر [4] بْن هبيرة بواسط.
وولي سلم بْن قُتَيْبَة شرطته الحكم بْن يَزِيد بْن عُمير الأسيِّدي، فاستخلف ابْن رَالان الْمَازِنِيّ، من بَنِي مازن بْن مَالِك بْن عَمْرو واسمه الفضل بْن عَاصِم بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن شداد بْن أَبِي محياة بْن جَابِر بْن رُويل [5] بْن رَالان [6] وَهُوَ يعرف بابن رَالان [7] ، ثُمَّ إِن ابْن هبيرة ولّي الحكم بْن يَزِيد كرمان فقتل بها، قتله تميم بن عمر
__________
[1] ط: بصيدي، والمثل: تلبّدي تصيدي. انظر مجمع الأمثال للميداني ج 1 ص 180.
[2] ط: النصر.
[3] ط: حلا له.
[4] ط: عمرو.
[5] ط: زويل.
[6] د: زالان. انظر الاشتقاق لابن دريد ص 203 وفيه: رألان، وفي جمهرة النسب ج 1 لوحة 82: رالان.
[7] د: زالان. انظر الاشتقاق لابن دريد ص 203 وفيه: رألان، وفي جمهرة النسب ج 1 لوحة 82: رالان.(4/172)
التميمي وأقر ابْن رَالان عَلَى شرطه، فَقَالَ سلمة بْن عياش [1] يهجوه:
أتيتُ ابنَ رَالان فِي حاجة ... فلم أرَ خيرًا وَلَمْ أحْمد
وَقَدْ جاءنا عاقدًا نخوةً ... يضيق لَهَا شكة المربد
فيا ليت أني غرمتُ الَّذِي ... أصبْت وَإِنَّكَ لَمْ تشهد
حَدَّثَنَا إِسْحَاق حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيل بْن عُلية عَنِ (ابْن) [2] عون قَالَ: مَاتَ مُحَمَّد بن سيرين ولسلم (612) عليه خمسة آلاف درهم فجعله منها فِي حِل وَقَالَ: أترون عبد الله ابن مُحَمَّد مستعديًا إِن لَمْ آخذها! قَالَ: وأتى سلم بْن قُتَيْبَة رَجُل فَقَالَ لَهُ: إني كنت فِي نعمة من اللَّه فزالت وَلَمْ أجد أحدًا أولى بأن [3] أفزع إِلَيْهِ منك فافعل مَا يشبهك، فَقَالَ سلم:
يرى بدهات الحمد لا يستطيعها ... فيجلس وسط الْقَوْم لا يتكلمُ
ثُمَّ نهض، وَقَالَ: الرجل لا يبرحُ، فدخل إِلَى أهله ثُمَّ جمع ملء كمه دنانير وحلى من ذهب وجوهر، ثُمَّ خرج إِلَى الرجل فنبذ ذَلِكَ إِلَيْهِ وَقَالَ: استمتع بِهَذَا. وَكَانَ يَقُول: عجبًا لمن يضن بِمَا يصيرُ إِلَى هَذِهِ المزابل. وَقَالَ لَهُ رَجُل: لي إليك حاجة لا مرزئة عليك فِيهَا ولا عناء، فَقَالَ: مَا مثلي يسألُ عَنْ [4] هَذِهِ الحاجة. وَقَالَ سلم: مَا أعرف قافية يستغنى عَنْ صدرها إلا قَوْل الحطيئة
«لا يذهب العرف بَيْنَ اللَّه والناس» [5] .
الْمَدَائِنِي قَالَ: قَالَ عَمْرو بْن هَدّاب: إِنَّمَا كُنَّا نعرف سؤدد سلم بأنه كَانَ يركب [6] وحده ثُمَّ يرجع فِي خمسين. قَالَ: واستنشد سلم أبا عَمْرو بْن العلاء شعر الفرزدق [7] :
تحن بزوراء المدينة ناقتي ... حنين عجول تبتغي البوّ رائم
__________
[1] انظر الاغاني ج 20 ص 255 وما بعدها.
[2] الأصل: أبي. انظر ص 35 من هذا الكتاب، والطبري س 1 ص 2774 وص 2889، والبسوي- كتاب المعرفة والتاريخ ج 2 ص 248 وما بعدها.
[3] «بأن» سقطت من ط.
[4] «عن» سقطت من ط.
[5] ديوان الحطيئة ص 284.
[6] ط: يركب كان.
[7] الموشح للمرزباني ص 108، ديوان الفرزدق ج 2 ص 307.(4/173)
ونسي أَبُو عَمْرو مَا فِيهَا من هجاء قَيْس، فوقف، وعرف سلم مَا سبب وقوفه فَقَالَ: هات لِلَّهِ أبوك، فَقَالَ: اعفني أصلح اللَّه الأمير، قَالَ: والله لتسلسلنها فِي آذانهم فِي سواد هَذَا الليل. الْمَدَائِنِي قَالَ: قيل لسلم بْن قُتَيْبَة:
قَدْ ساءت آداب حشمك لحسن خلقك، فَقَالَ: لأن ينسب حشمي إِلَى سوء الأدب أحبّ إليّ من أنسب إِلَى سوء الخلق. وَكَانَ أَهْل طستنجان قطعوا الطريق فِي عمل سلم، ففرض فرضًا بالبصرة ووجهه إليهم فقاتلوهم ثُمَّ اصطلحوا فكتب عَلَيْهِم كتابًا وَكَانَ أول من فعل ذَلِكَ. وَقَالَ الْمَدَائِنِي: قسم يَزِيد الرَّشك بَيْنَ سلم وإخوته، أرضًا بالطف، فجار عَلَى سلم، فَلَمَّا ولي تجنَّى عَلَيْهِ فضربه، وَكَانَ يَزِيد قاسم أَهْل البصرة فِي زمانه. وتكلم رَجُل بكلام حسن، فَقَالَ بعض من حضر:
هذا كلام نعلمه [1] ، فَقَالَ سلم: قَدْ أَحْسَن من تعلم كلامًا حسنًا من غيره فأداه فِي موضعه.
قَالُوا: ولما حُصر ابْن هبيرة وظهر أمر المسودة كتب سفيان بن معاوية ابن يَزِيد بْن المهلب إِلَى أَبِي سلمة حَفْص بْن سُلَيْمَان الداعية: إنك إِن وليتني البصرة أخذتها لَك، فكتب إِلَيْهِ بولايتها، فسود وأرسل الى سلم: اني لَك شاكر مَا سلف من بلائك عندنا وَقَدْ ولاني هَؤُلاءِ الْقَوْم البصرة فأخرج من دار الإمارة وأنزل حيث شئت فِي الرحب والسعة. فأرسل إِلَيْهِ سلم: إني غَيْر خارج منها، ولكن وادِعْني حَتَّى ننظر مَا يصنع ابْن هبيرة فَإِن خرج عن واسط وقتل خرجت لَك عَنْ دار الإمارة فإنك تعلم إِن مَرْوَان وابن هبيرة لَمْ يُقتلا وَلَمْ يُهزما، فأبى سُفْيَان أن يفعل، فأرسل سلم إِلَى بَنِي تميم يستنصرهم، فحثهم عَلَى نصرته جيهان بْن محرز المنقري وأَذكرهم خذلانهم عدي بْن أرطاة فأجابوه. وسفر بَيْنَ سلم وَسُفْيَان اسماعيل بن مسلم المكي وعباد بْن مَنْصُور وعثمان البتي مَوْلَى ثقيف، وابو سفيان بن العلاء ومعاوية ابن عُمَر بْن غلاب ومسلمة بْن علقمة، وَقَالَ أَبُو النضر [2] النحوي: أنشدك اللَّه فِي نفسك فَإِن تميمًا لا تناصحك وَقَدْ ذهبت دولة أَهْل الشام، فنهره وزبره، وكلْم هَؤُلاءِ الَّذِينَ سميناهم سُفْيَان وحذروه الْفِتْنَة، فَقَالَ سُفْيَان لابن العلاء: أترى سلما
__________
[1] م: تعلمه.
[2] م: النصر.(4/174)
مقاتلي؟ فَقَالَ: أي والله ولو كنت فِي تسعة آلاف وتسع مائة وتسعة وتسعين وَهُوَ وحده حَتَّى تخرج نَفْسه، وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن المهلب حاضرًا فصوب قَوْل ابن العلاء وَقَالَ: صدقته ونصحته، فوادعه سُفْيَان وكتب بينهما كتابا عَلَى أن يقيما عَلَى هيئتهما (613) حَتَّى ينظرا مَا يصنع ابْن هبيرة والمسودة. وبلغ الْخَبَر أبا سلمة، فكتب إِلَى بلج بْن المثنى بن مخرّبة العبْدي: أن قاتل سُفْيَان سلمًا وإلا فأنت أمِير البصرة، فأعلم بلج سُفْيَان ذَلِكَ، فَقَالَ: لا بَل أقاتل سُفْيَان، وأمسك بلج عَنْ تولي البصرة. وكتب أَبُو سلمة إِلَى الصمة بْن دريد بْن حبيب بْن المهلب بعهده عَلَى البصرة، فحرك ذَلِكَ سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة تحريكًا شديدًا وعزم عَلَى محاربة سلم، فأرسل إِلَى المشارع فأخذ كُل دابة وجدها. وبلغ ذَلِكَ سلمًا فأبرز سريره وأرسل إِلَى أَصْحَابه فجاءته قَيْس وتميم وبنو مسمع من بَكْر بْن وائل وأتاه تسنيم بْن الحواري، واجتمع إِلَى سُفْيَان أَصْحَابه الأزد وبكر بْن وائل وعبد القيس، فعقد سلم لأبان بْن مُعَاوِيَة بْن هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك بْن مَرْوَان عَلَى أَهْل العالية ومن كَانَ من قريش وثقيف، ولعمر بْن المسور بْن عُمَر بْن عباد عَلَى بَنِي عَمْرو وحنظلة، وعمر بْن المسور الَّذِي يقول فِيهِ غيلان بْن حُرَيْث التميمي:
يَا عُمَر بْن مسور بْن عباد ... أَنْتَ الجواد ابْن الخيار الأجواد
وجعل سُفْيَان عَلَى ميمنته مُعَاوِيَة ابنه، وعلى ميسرته مُحَمَّد بْن المهلب، وعقد لعبد الْوَاحِد بْن زِيَاد بْن عَمْرو عَلَى طائفة من أَصْحَابه، وصار سُفْيَان فِي أَصْحَابه إِلَى موضع بالبصرة يعرف بسقاية ابْن بُرثُن وأتته بنو حَنِيفَة وبنو هزان من عنزة بْن أسد بْن ربيعة. وخرج دريد بْن الصمة بْن حبيب بْن المهلب فِي أَحْسَن من عدة سُفْيَان، وقدم عَلَى سلم مددٌ من أَهْل الشام فالتقوا فِي يَوْم أربعاء وأمر سُفْيَان فنودي: من جاء برأس فلهُ خمس مائة درهم ومن جاء بأسير فَلَه ثلاث مائة، ووجه عَبْد الْوَاحِد بْن زِيَاد بْن عَمْرو العتكي فحرق ظلال السوق. ووجه سلم ابان ابن مُعَاوِيَة ومعه أمية بْن خَالِد بْن أَبِي عُثْمَان، من ولد خَالِد بْن أسيد، وعبد الله بن ابن مُعَاوِيَة ومعه أمية بْن خَالِد بْن أَبِي عُثْمَان، من ولد خَالِد بْن أسيد، وعبد اللَّه بْن عَمْرو الثقفي إِلَى ناحية من النواحي فمرّ بقوم لهم صنيع فأخرجوا إليه فالوذج فإنه [1]
__________
[1] م: وانه.(4/175)
ليأكل إذ حُمل عَلَى أَصْحَابه فانهزموا، فمسح يده ووضع بيضته عَلَى رأسه وركب فهزم أولئك الَّذِينَ حملوا عَلَى أَصْحَابه وهزم أَصْحَاب سُفْيَان أقبح هزيمة، وقاتل سُفْيَان سلمًا فِي يَوْم الخميس فهزم سُفْيَان وأَصْحَابه حَتَّى خرج من بَاب البصرة ومعه عَبْد الرَّحْمَن بْن يَزِيد بْن المهلب، وقتل مُعَاوِيَة ابنه. وَكَانَ عَلَى الشاميين الَّذِينَ أُمدّ سلم بِهِمْ جَابِر بْن تَوبة الكلابي، فانتهبوا دور العتيك، حَتَّى أخذوا الشاء والدجاج، وأرادوا استعراض ربيعة حَتَّى كُلم جَابِر فكفهم. وصار سُفْيَان إِلَى ناحية ميسان أو كسكر، وأقام سلم بالبصرة نحوًا من شهرين فَلَمَّا رَأَى علوًا من المسودة شخص عن البصرة إِلَى البادية واستخلف عَلَى البصرة مُحَمَّد بْن جَعْفَر أحد بَنِي نوفل بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فكان أول من سود بَعْد سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة، ولما هرب سُفْيَان سود مسمع بْن مَالِك بْن مسمع الأبرص وضبط البصرة، وقدم بسام وَهُوَ والي الأهواز فأقام بالبصرة [1] حَتَّى ولي سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة البصرة ثانية. ولما قدم بسام بْن إِبْرَاهِيمَ البصرة هدم دار عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي عُثْمَان وَهُوَ ابْن عَبْد اللَّهِ بْن خَالِد بْن أسيد ودار مُحَمَّد بْن واسع بْن عُبَيْد بْن عَاصِم بْن قَيْس بْن الصلت بْن حبيب السلمي ودار ابْن رالان ودار بشر بْن هلال بْن أحوز ودورًا من دور المضرية. وكان بسّام قد ولي الأهواز من قبل أَبِي سلمة الداعية. وَقَالَ الْمَدَائِنِي: هدم هَذِهِ الدور سُفْيَان حِينَ ولي البصرة بعد أن سكنت الْفِتْنَة. وقدم عَبْد الصمد بْن عَلِي فأخذ بيعة أهلها. ولما خرج سلم من البصرة كتب أَبُو العباس الى داود ابن عَلِي وَهُوَ عامله عَلَى الحجاز يأمره بطلبه فوجه فِي طلبه فلم يقدر عَلَيْهِ، وبعث سلم إِلَى أَبِي الْعَبَّاس (614) ببيعته مَعَ مُحَمَّد بْن سَعْد الْأَنْصَارِيّ وكتب يذكر طاعته وأنه استخلف عَلَى البصرة رجلًا من بَنِي هاشم لميله إليهم فَقَالَ: لو أقام لنفعه ذَلِكَ، وكتب لَهُ أمانًا وأمره بالظهور والقدوم. وكتب سُفْيَان إِلَى أَبِي الْعَبَّاس مَعَ سُلَيْمَان بْن أَبِي عُيَيْنَة يعلمه مَا كَانَ من مبادرته إِلَى الطاعة والتسويد ويشكو اجتماع مضر عَلَيْهِ، فَقَالَ أَبُو سلمة: يُكتب عهد سُفْيَان عَلَى البصرة، فكُتب لَهُ عهد من أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَبِي الْعَبَّاس بولايتها، فَلَمَّا قتل أَبُو سلمة أمر أَبُو الْعَبَّاس بعزل سُفْيَان وَقَالَ: هُوَ من عمال الناكث أَبِي سلمة، وَوَلَّى البصرة عمر
__________
[1] م: البصرة.(4/176)
ابن حفص هزار مرد، ثُمَّ وَلَّى سُلَيْمَان بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْعَبَّاس. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: أتى سلم البادية فأقام فِي قومه وولد لَهُ، ثُمَّ أتاه أمان أَبِي الْعَبَّاس عَنْ غَيْر طلب منه لَهُ فَأَقْبَلَ إِلَى البصرة حَتَّى نزل فِي دار أَبِي [1] سُفْيَان بْن العلاء ليلًا وبعث إِلَى سُلَيْمَان بْن عَلِي يعلمه مكانه، وَقَدْ كَانَ كتاب أَبِي الْعَبَّاس ورد عَلَيْهِ بإيمانه وأخذ البيعة عَلَيْهِ، فغدا عَلَى سُلَيْمَان فأمنه وأخذ عَلَيْهِ البيعة، فاعترضه مُحَمَّد ابن أَبِي عُيَيْنَة بْن المهلب فَقَالَ: أصلح اللَّه الأمير أتؤمنه وسَيْفه يقطر من دماء أنصاركم! فلم يكلمه، فَقَالَ سُلَيْمَان: كلمه، فَقَالَ سلم: إِن آل المهلب فراش قين وذبان طمع شرابون بأنقع لا يوثق مِنْهُم بثقة ولا يحامون عَلَى حرمه وَهُمْ أَصْحَاب يَزِيد بالعقر أسلموه، وأَصْحَاب سُلَيْمَان بْن حبيب بالأمس خذلوه، وَهَذَا بَعْد فِي نَفْسه فَإِنَّمَا هُوَ نطفة سكران فِي رحم صناجة. فَقَالَ مُحَمَّد: أصلح اللَّه الأمير خذ لي بحدي، فأمر سُلَيْمَان بإخراجه فأخرج، ثُمَّ غدا عَلَى سُلَيْمَان مستعديًا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: ويحك مَا كَانَ سلم ليقول شيئًا إلّا شهد عليْه ألف نزاري، فأمسك.
وَقَالَ يُونُس النحوي: نظرت إِلَى رؤبة بْن العجاج فِي مربعة بَاب عُثْمَان وَذَلِكَ فِي الحرب بَيْنَ سلم وَسُفْيَان وَهُوَ عَلَى فرس متقلدا سيفه ومتنكبًا قوسه يَقُول: يَا معشر الفتيان، يَعْنِي بَنِي تميم، أطلقوا لساني بجميل ذكركم، فَإِذَا أتى رَجُل بأسير أَوْ رأس قتيل قَالَ: لا شلل ولا عمى. وَقَالَ ابْن المقفع، ويقال يَحْيَى بْن زِيَاد الحارثي:
مَا كنت أعجب مِمَّنْ نال ميسرة ... حَتَّى مررت عَلَى دار لسفيان
لا تعجبن، فَقَدْ يُلفى الكريم له ... جد عثور ويضحي الوغد ذا شأن
ان كنت لا تدعي بيتًا لَهُ قدم ... إلا بقصرك لَمْ تنهض بأركان
سام الرجال بآباءٍ لَهُمْ شرف ... تلك الفضيلةُ لا مَا شيد الباني
وإن سموتَ بيوم العقر مفتخرًا ... فذلك العار للباقي وللفاني
واذكر ليالي سلم إذ تركتَ لَهُ ... مَا فِي رحالك من مال ونسوان
فظل يفري أديم الأزد ضاحية ... فريًا وامعنت منه ايّ إمعان
__________
[1] العبارة «سليمان بن علي ... نزل في دار» سقطت من م.(4/177)
وَكَانَ سلم لا يؤتي بأسير إلا حبسه، حَتَّى أُتي [1] بابن عم لَهُ يكنى أبا عصام فأمر بضرب عنقه وَقَالَ:
دقّك بالمنحاز حبّ القلقل [2]
وَكَانَ عُمَر بْن مسور يأخذ أسلحة الأسارى ويخلي سربهم.
قَالُوا: ولما ولي سُفْيَان دعا بخالد بْن صفوان وَكَانَ قَدْ قتل لَهُ ولد أيضًا فِي الحرب فَقَالَ لَهُ: عزني، فَقَالَ أَنَا وأنت كَمَا قَالَتْ الباكية:
أسعدنني أخواتي فالويل لي ولكُنَّه
فغضب وَقَالَ: جددت لي حزنًا، فَقَالَ: ليسل عَنْك مَا تجد من اللوعة عَلَيْهِ علمُك بأنك غَيْر باقٍ.
[وفاة السفاح]
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود عَنْ مشايخ الكوفيين قَالُوا: كَانَ أَبُو (615) الْعَبَّاس طويلًا أبيض أقنى ذا شعر أسود جعد حسن اللحية جعدها. قدم من الشام ثُمَّ قدم أهله بعده، فجاءته الخلافة ومعه دَاوُد بْن عَلِي وموسى بْن دَاوُد والمنصور وعيسى بْن مُوسَى ومحمد وعبد الْوَهَّاب ابنا إِبْرَاهِيم الْإِمَام والعباس بْن مُحَمَّد وَيَحْيَى بْن مُحَمَّد وسليمان وصالح وعبد اللَّه وعبد الصمد وإسماعيل وعيسى بنو عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ، وَيَحْيَى بْن جَعْفَر بْن تمام ومحمد بْن جَعْفَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس ورجل من بَنِي معبد بْن الْعَبَّاس. قَالَ: وَكَانَ قاضياه ابْن أَبِي ليلى وابن شبرمة.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود عَنْ زهير بْن الْمُسَيِّب الضَّبِّيّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اجتمع لأبي الْعَبَّاس فِي سنة ست وثلاثين فتح السِّنْد وإفريقية ومكاتبة صاحب الأندلس فَقَالَ لبعض عمومته: سمعت أنه إِذَا فتح السند وإفريقية مَاتَ القائم من آل مُحَمَّد، فَقَالَ لَهُ: كلا، فَمَا برح حَتَّى دعا بدواج لقشعريرة أصابته.
الْمَدَائِنِي وأبو مَسْعُود قَالا: كَانَ الدم قَدْ هاج بأبي الْعَبَّاس فأشار عَلَيْهِ الأطباء بالفصد فلم يقدم عَلَيْهِ فحُم، ثُمَّ خرج به المُوم [3] فمات بالأنبار. وَكَانَ أراد البيعة لابنه مُحَمَّد ثُمَّ قَالَ: ابني حدث فَمَا عذري عند ربي، فقالت له أم سلمة
__________
[1] ط: بان.
[2] ط: دقك بالمنجار حب الفلفل. انظر مجمع الأمثال للميداني ج 1 ص 178، ولسان العرب مادة قلل.
[3] جاء في هامش د: الموم: البرسام.(4/178)
بِنْت يعقوب امرأته وَهِيَ أم مُحَمَّد: وَلِّ غيره واجعله ثانيًا، وكلمت أخواله فِي أَن يسألوه ذَلِكَ، فَقَالَ: أخاف أَن يقصر عُمَر من اجعله قبله فتدركه الخلافة وَهُوَ صَغِير فيصير الأمر إِلَيْهِ قبل أَن يستحقه ولكني أصيره إِلَى رجل من أهلي أثق بفضله واحتماله، فاثبت اسم أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور وعيسى بْن مُوسَى بْن مُحَمَّد من بعده فِي كتاب وخُتم الكتاب وجُعل فِي منديل وجُمعت أطرافه وخُتم عَلَيْهِ بخاتم أَبِي الْعَبَّاس وأخذه عِيسَى بْن عَلِي إِلَيْهِ.
وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي قَالَ: كَانَ أَبُو الْعَبَّاس يتقلب فيبقى جلده عَلَى الفراش، وخرج رجيع دَاوُد بْن عَلِي من فمه، وسُقي بطن يَحْيَى بْن مُحَمَّد. وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن [1] الْمَدَائِنِي قَالَ: قَالَ لأبي الْعَبَّاس بَعْض عمومته: كَيْفَ أصبح أمِير الْمُؤْمِنيِنَ؟ فَقَالَ الطبيب: أصبح صالحًا، فسَلَتَ ذراعه بيده فتناثر لحمه وَقَالَ:
كَيْفَ يَكُون صالحًا [2] من هَذِهِ حاله؟ وكانت خلافة أَبِي الْعَبَّاس أربع سنين وثمانية أشهر وأياما، وتوفي بالأنبار سنة ست وثلاثين ومائة ودفن بالأنبار، وصلى عَلَيْهِ عِيسَى بْن عَلِي عمه، وَقَالَ بَعْضهم عِيسَى بْن مُوسَى ابْن [3] أَخِيهِ، وَكَانَ لَهُ يَوْم توفي ست وثلاثون سنة، ويقال أقل من ذَلِكَ. وَكَانَ آخر مَا تكلم بِهِ أَن تشهد، ثُمَّ قَالَ: إليك ربي لا إِلَى النار.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح قَالَ: بلغني أَن عِيسَى بْن عَلِي قَالَ لأبي الْعَبَّاس:
يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ اذكر رجلًا يمد الناسُ إِلَيْهِ أعناقهم بعدك، فَإِن ذَلِكَ لا يقدم ولا يؤخر، فَقَالَ: كنت وعدت عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي إِن قام بِهَذَا الأمر أَن أوليه الخلافة بعدي، فَقَالَ لَهُ سَعِيد بْن عَمْرو بْن جعدة الْمَخْزُومِيُّ: لا تخرجها من ولد مُحَمَّد بْن عَلِي، فقبل قَوْله.
وولد لأبي الْعَبَّاس
مُحَمَّد [4] والعباس وعلي وإبراهيم وإسماعيل، درج هَؤُلاءِ الأربعة، وريطة، وأمهم
__________
[1] «ابو الحسن» ليست في د، م.
[2] العبارة «فسلت ... صالحا» سقطت من ط.
[3] «ابن» سقط من م.
[4] انظر ترجمته في الصولي- اشعار اولاد الخلفاء ص 3 وما بعدها.(4/179)
أم سلمة بِنْت يعقوب بْن سَلَمَةَ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْوَلِيد بْن الْوَلِيد [1] بْن المغيرة الْمَخْزُومِيِّ.
فأما ريطة فتزوجها مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَلِي المخالف لأبي جَعْفَر فتوفي قبل أَن يجتمعا، فتزوجها مُحَمَّد فولدت له عليّا وعبد الله ابني المهدي، وكانت ريطة من أشد النَّاس قوةً وبطشًا.
وأمّا مُحَمَّد بْن أَبِي الْعَبَّاس فكان أشد النَّاس أيضًا بطشًا عابثة الْمَهْدِي وَهُوَ أمِير فغمز [2] ركابه حَتَّى ضاق وضغط رجله فلم يقدر (616) عَلَى إخراجها منه حَتَّى رده فأخرجها. وأغزى الْمَنْصُور مُحَمَّد بْن أَبِي الْعَبَّاس الديلم فِي سنة إحدى وأربعين ومائة فِي أَهْل البصرة والكوفة والجزيرة والسواد، ووجهه فِي سنة سبع وأربعين ومائة عاملًا عَلَى البصرة، فاشتكى واستعفى فأعفاه واستخلف عَلَى البصرة عقبة بْن سلم فأقره الْمَنْصُور بعده إِلَى سنة إحدى وخمسين ومائة.
وَكَانَ مُحَمَّد يَقُول الشعر ويتغنى بِهِ الحكم الوادي المغني، فَمَنْ شعره [3] :
زينب مَا ذنبي وماذا الَّذِي ... غضبتم فِيهِ وَلَمْ تُغضبوا
والله مَا أعرف لي عندكم ... ذنبًا، ففيم العتب يَا زينب
ويقال إِن حمادًا المعروف بعجرد قَالَ لَهُ هَذَا الشعر، وَقَالَ لَهُ:
يَا ساكن [4] المربد قَدْ هجت لي ... شوقًا فَمَا أَنْفَكُّ بالمربد
سوف أوافي حفرتي عاجلًا ... يَا منيتي إِن أَنْت لَمْ تسعدي
وحدثني عباس بن هشام عن أبيه قال: دَخَلَ دحمان الأشقر المغني وحكم الوادي عَلَى مُحَمَّد بْن أَبِي الْعَبَّاس بالبصرة فدعا بكيس فِيهِ أربعة آلاف درهم فَقَالَ:
من غنى صوتًا يطربني فالكيس لَهُ، فغني دحمان صوتًا قديمًا ثقيلًا [5] فلم يطرب لَهُ، فغنى حكم هزجًا فطرب لَهُ وحرّك رجليه ورأسه، وأمر بالكيس فدفع إِلَيْهِ.
قَالَ: والحكم منسوب إِلَى وادي القرى.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب قَالَ: كَانَ مُحَمَّد بْن أَبِي الْعَبَّاس يلوي
__________
[1] سقط «ابن الوليد» من م. انظر جمهرة الأنساب ص 148.
[2] ط: فعمر.
[3] انظر اشعار اولاد الخلفاء ص 4.
[4] ن. م. ص 6: قمر.
[5] م: ثقيلا قديما.(4/180)
العمود ويلقيه إِلَى أخته ريطة فترده، قَالَ: وولاه الْمَنْصُور البصرة، فكان يخضب لحيته بالغالية فكنوه أبا الدبس. قَالَ: وَكَانَ مَعَهُ حكم الوادي وَكَانَ ضاربًا [1] ، قَالَ: وَقَدْ رَأَيْته فِي خلافة الرشيد جسيمًا أحول. قَالَ الْمَدَائِنِي: ومن غناء الحكم شعر حَمَّاد عجرد [2] فِي مُحَمَّد بن أبي العباس:
أرجوك [3] بعد أبي العباس إذ بانا ... يَا أكرم النَّاس أعراقًا وعيدانا [4]
فأنت أكرم من يمشي عَلَى قدم ... وأنضر النَّاس عِنْدَ المحل أغصانا
لو مَج عودٌ عَلَى قوم غضارته [5] ... لمج عودك فينا المسك والبانا
وَقَالَ الْمَدَائِنِي: قَالَ مُحَمَّد بْن أَبِي الْعَبَّاس:
قولا لزينب لو رَأَيْت ... تشوفي لَك واشترافي [6]
وتلدّدي كيما أراك ... وَكَانَ شخصك غَيْر جاف [7]
ووجدت ريحك ساطعًا ... كالبيت جُمِّر للطواف
وتركتني وكأنما ... قلبي يوجّأ بالأشافي
قَالَ: وفيه غناء ليونس الكاتب. قَالَ: ويقال ان زينب هذه زينب بنت سليمان، ويقال زينب بِنْت مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن [8] وَكَانَ قَدْ زُوّجها فأراد الابتناء بِهَا فِي الْمَدِينَةِ حِينَ قتل أبوها فمنعه عِيسَى بْن مُوسَى من ذَلِكَ ولامه عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: يَا جاهل، مَا يؤمنك أَن تقتلك بأبيها! فيقال إِن عِيسَى بْن مُوسَى تزوجها بَعْد وفاته، وَلَمْ يدخل بِهَا مُحَمَّد حَتَّى توفي. وَكَانَ موت مُحَمَّد بْن أَبِي العباس ببغداد.
__________
[1] الأصل: ضاريا.
[2] ترجمته في الاغاني ج 14 ص 304 وما بعدها، والشعر والشعراء لابن قتيبة ص 663 وما بعدها، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 424- 25، وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 67 وما بعدها.
[3] في طبقات ابن المعتز: أدعوك.
[4] في الشعر والشعراء ص 665: اغطانا.
[5] في ن. م. وابن عساكر والاغاني وطبقات ابن المعتز: عصارته. انظر لسان العرب مادة: غضر.
[6] انظر الخبر في الاغاني ج 4 ص 405.
[7] في اشعار اولاد الخلفاء:
وتلفّتي خوف الوشا ... ة وكان حبك غير خاف
[8] «ابن حسن» الثانية ليست في ط.(4/181)
وَقَالَ الحرمازي: كَانَ حَمَّاد عجرد [1] يَقُول الشعر لمحمد بْن أَبِي الْعَبَّاس فِي زينب بِنْت سُلَيْمَان بْن عَلِي، فطلب مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان عجردًا فاستجار عجرد بقبر [2] سُلَيْمَان بْن عَلِي فلم ينفعه ذَلِكَ عنده. وقيل إِن مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان لما ولي الكوفة طلب عجردًا فشخص إِلَى البصرة فاستجار بقبر [3] سُلَيْمَان بْن عَلِي، وَقَالَ فِي أبيات لَهُ [4] :
إِن أكن مذنبا فأنت ابن ... من كان لمن كان مذنبا غفارا
(617) يا بن بِنْت النَّبِيّ إني لا أجعل [5] ... إلَّا إليك منك الفرارا
غير اني جعلت قبر أبي أيو ... ب (لي) [6] من حوادث الدهر جارا
لَمْ أجد لي من الأنام [7] مجيرًا ... فاستجرت التراب [8] والأحجارا
فألح فِي طلبه فأتى قبر سُلَيْمَان فكتب عَلَيْهِ [9] :
قل لوجه الخصي ذي العار إني ... سوف أُهدي لزينب الأشعارا
قَدْ لعمري فررتُ من شدّة الخو ... ف وأنكرت صاحبيّ جهارا [10]
وظننت القبول يمنع جارا [11] ... فاستجرت التراب والأحجارا
فاذا [12] القبر لَيْسَ لي بمجير ... فحشا اللَّه ذلك القبر نارا [13]
__________
[1] انظر الاغاني ج 14 ص 304 وما بعدها.
[2] ط: بغير.
[3] ط: بغير.
[4] القصيدة في الاغاني ج 14 ص 360 مع اختلاف في تسلسل الأبيات، وانظر طبقات الشعراء لابن المعتز ص 67، واشعار اولاد الخلفاء ص 5.
[5] في الاغاني: يا ابن بنت النبي احمد لا اجعل.
[6] الاضافة من الاغاني وطبقات ابن المعتز.
[7] ن. م.: العباد.
[8] طبقات ابن المعتز: القبور.
[9] الأبيات في الاغاني ج 14 ص 361، والبحث الاول في اشعار اولاد الخلفاء ص 5.
[10] ن. م.: نهارا.
[11] ن. م.: وظننت القبور تمنع جارا.
[12] ط: فانا.
[13] يورد الاغاني بيتين محل هذا البيت:
كنت عند استجارتي بابي أي ... وب ابغي ضلالة وخسارا
لم يجرني ولم أجد فيه حظا ... اضرم اللَّه ذَلِكَ القبر نارا(4/182)
وكانت أم سلمة بِنْت يعقوب عِنْدَ مسلمة بْن هِشَام المعروف بأبي شاكر فطلقها فخلف أَبُو الْعَبَّاس عَلَيْهَا، ويقال كَانَتْ عِنْدَ عَبْد اللَّهِ بْن عَبْدِ الْمَلِك، ويقال عِنْدَ مسلمة بْن عَبْدِ الْمَلِك، والثبت عِنْدَ أَبِي شاكر. وَكَانَ إِسْمَاعِيل بْن عَلِي تزوج أم سلمة بَعْد أَبِي الْعَبَّاس فغضب الْمَنْصُور من ذَلِكَ فطلقها، وَقَالَ بَعْضهم: خطبها فَلَمَّا أنكر الْمَنْصُور ذَلِكَ أمسك.
وَأَمَّا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد أَبُو جَعْفَر وَهُوَ الْمَنْصُور
فكان يعرف بعبد اللَّه الطويل، وَلَمْ يزل مشهورًا بطلب العلم والفقه والآثار.
حَدَّثَنِي ابْن الأَعْرَابِيِّ الراوية عَنْ سَعِيد بْن سلم قَالَ: وجه مُحَمَّد بْن عَلِي عَبْد اللَّهِ ابنه أبا جَعْفَر إِلَى البصرة ليزور من بها ويدعو إِلَى الرضا من آل مُحَمَّد، فكان يَأْتِي عَمْرو بْن عُبَيْد ويألفه، فَلَمَّا صار إِلَى الشام سمعه أَبُوه يتكلم بشيء يقايس فِيهِ فأنكره عَلَيْهِ وَقَالَ: هَذَا من كَلام مَوْلَى بَنِي تميم، يَعْنِي عَمْرو بْن عُبَيْد.
وَحَدَّثَنِي جَمَاعَة من المشايخ قَالُوا: لما خرج عَبْد اللَّهِ بْن مُعَاوِيَة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن جَعْفَر عَلَى عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز، عامل يَزِيد بْن الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك، سار إِلَيْهِ الْمَنْصُور فيمن أتاه من بَنِي هاشم فولاه ايذج [1] من الأهواز، فأخذه سُلَيْمَان بْن حبيب بْن المهلب وَكَانَ عامل عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر عَلَى الأهواز فحبسه وشتمه ومن هُوَ منه وأراد قتلَه، فَقَالَ لَهُ سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة ويزيد بْن حاتم: إِنَّمَا أفْلَتْنَا من بَنِي أميَّة بالأمس أفتريد ان يكون لبني هاشم عندنا دم! فخلى سبيله، ويقال إنه كَانَ ضربه، فَلَمَّا خلصا [2] الْمَنْصُور من يد سُلَيْمَان بْن حبيب صار الى عمرو ابن عُبَيْد فأقام عنده ثُمَّ سار مستترًا إِلَى الحميمة من أرض الشراة.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود عَنْ إِسْحَاق بْن عِيسَى قَالَ: لما شخص ابو جعفر يريد عبد الله ابن معاوية مرّ بالراوي [3] فقيل له: ان ها هنا منجمًا يُقَالُ لَهُ نوبخت [4] ، فعدل إِلَيْهِ وسأله عما يؤول إِلَيْهِ حاله فِي وجهه فيما بَعْد ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ نوبخت: أما أَنْتَ فسيصير إليك
__________
[1] ط: انذح، د، م: انذح. وتدعى الآن مالمير 53 49 شرق، 52 31 شمال 59. -.
[2] الأصل: خلصه.
[3] كذا، ولعل الكلمة (الزاوية) وهي على فرسخين من البصرة، انظر الاصطخري ص 88، ياقوت- بلدان ج 2 ص 911، والروض المعطار للحميري ص 283.
[4] م: توبخت.(4/183)
ملك العرب وَأَمَّا وجهك هَذَا فسينالك فِيهِ مكروه، فلحق بعبد اللَّه وَكَانَ من أمره مَا كَانَ.
حَدَّثَنِي عُمَرُ [1] بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عدي وغيره، أَن أبا مُسْلِم كتب إِلَى أَبِي الْعَبَّاس يستأذنه فِي الحج، فكتب إِلَيْهِ: إِن الجهاد أفضل من الحج، فكتب:
إنه لا بد لي من الحج فَإِنِّي حججت وأنا تابع بغير مالي وعلى غَيْر ظهري وَفِي نفسي من ذَلِكَ شَيْء. فكتب إِلَيْهِ يأمره بالقدوم فِي ألف وَيَقُول [2] : إِنَّمَا تسير فِي سلطان أهلك، وطريق مَكَّة طريق لا يحتمل العساكر، فأما المال فلا تستكثر منه وعول عَلَيْنَا فِيهِ، فأقبلَ فِي الرجال ومعه الأَمْوَالُ حَتَّى نزل الري وخلف بِهَا ثمانية آلاف فارس وخلف الأَمْوَالَ وأتى الأنبار فِي ألف وَقَالَ [3] : أني لأرجو أَن يموت أَبُو الْعَبَّاس فأكون مَعَ أقوى (618) من يَأْتِي بعده ثُمَّ أغلب عَلَى الأمر ويكون لي شأن من الشأن فلا يبقى بلد [4] إلا وطئته برجلي هاتين. فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى أَبِي الْعَبَّاس أظهر أَبُو الْعَبَّاس لَهُ جفوة لما بلغه عَنْهُ، ثُمَّ أظهر مبرته وَقَالَ لَهُ: لولا أَن أَخِي عَلَى الحج فِي عامه هَذَا لوليتك الموسم فإنك رجلٌ منّا أَهْل الْبَيْت. وَكَانَ الْمَنْصُور لما بلغه أَن أبا مُسْلِم عَلَى الحج كتب من الجزيرة يسأل [5] أَن يُوَلّى الموسم، ويقال:
بَل كره أَبُو الْعَبَّاس أَن يسأله أَبُو مُسْلِم ولاية الموسم فلا يجد بدًا من توليته إياه.
فكان أَبُو مُسْلِم يتقدم أمام أَبِي جَعْفَر باديًا وراجعًا خوفًا عَلَى نَفْسه لما كَانَ حقد عليْه حِينَ أتاه بخراسان من إجلاسه إياه فِي دهليزه وكتابه إِلَيْهِ يبدأ بنفسه، مَعَ أشياء كَانَتْ تبلغه عَنْهُ، فكان أَبُو مُسْلِم يَقُول: أما وجد أَبُو جَعْفَر سنة يحج فِيهَا إلا هَذِهِ السنة الَّتِي حججت فيها! فلما قضيا [6] حجهما فَأَقْبَلَ أَبُو مُسْلِم فكان بَيْنَ البستان وذات عِرْق جاء الْمَنْصُور خبر وفاة أَبِي الْعَبَّاس، وأبو مُسْلِم متقدمه بمرحلة، فكتب إلي أَبِي مُسْلِم إنه قَدْ حدث حدث لَيْسَ مثلك غاب عَنْهُ فصر إلي، فلم يقدم عليه وكتب إلي الْمَنْصُور كتابًا بدأ فِيهِ بنفسه، فقال المنصور:
__________
[1] م: عمرو.
[2] د: يقول له.
[3] ط: فقال.
[4] م: ولد.
[5] د، م: يسأله.
[6] ط: قضينا.(4/184)
أنا بريء من الْعَبَّاس إن لَمْ أقتل ابْن وشيكة. وَكَانَ أَبُو مُسْلِم يصلح العقاب ويكسو الأعراب فِي كُل منزل فكان ذَلِكَ يغيظ أبا جَعْفَر ويرى أَنَّهُ استطالة منه عَلَيْهِ.
فَلَمَّا ورد أَبُو جَعْفَر الأنبار وجد عِيسَى بْن مُوسَى بِهَا وَقَدْ حوى الخزائن والأموال وحفظها، فسلمها إِلَيْهِ. وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي قَدْ خلع، فندب الْمَنْصُور أبا مُسْلِم لحربه، فسارع إِلَى ذَلِكَ ليتخلص من يده. وذكروا أَن أبا مُسْلِم لما ورد الأنبار أراد عِيسَى بْن مُوسَى عَلَى خلع الْمَنْصُور ومخالفته، وَقَالَ لَهُ: أَنْتَ وصي الْإِمَام وأحق بالأمر من أَبِي جَعْفَر، فَقَالَ لَهُ: الأمر لعمي ولو قدمني أَبُو الْعَبَّاس لقدمتُه عَلَى نفسي.
وَحَدَّثَنِي ابْن الأَعْرَابِيِّ عَنِ المفضل قَالَ: أَتَتْ أبا مُسْلِم وفاة أَبِي الْعَبَّاس وَلَمْ يعلم أَنَّهُ قَدْ ولى الْمَنْصُور الخلافة بعده، فكتب إِلَى الْمَنْصُور: عافاك اللَّه وأمتع بك، أتاني خبر وفاة أمِير الْمُؤْمِنيِنَ رحمه اللَّه فبلغ مني أَعْظَم مبلغ وأمسّهُ وَجَعًا وألمًا، فأعظم اللَّه أجرك وجبر مصيبتك، ورحم اللَّه أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وغفر لَهُ وجزاه بأحسن من عمله. فَلَمَّا قرأ الْمَنْصُور كتابه استشاط غضبًا، وكتب إِلَيْهِ: من عَبْد اللَّهِ عَبْد اللَّهِ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِلَى عَبْد الرَّحْمَن، وصل إليّ كتابك فرأيتك غَيْر موفق فِيهِ للرشد ولا مسدد للصواب، ولكني ذكرت مَا تقدم من طاعتك فعطفني عليك، وَقَدْ وليتك مقدمتي فسر عَلَى اسم اللَّه وبركته حَتَّى توافي الأنبار، ومن أنكرت من أمره شيئًا من عمالنا فصرفُه والاستبدال بِهِ إليك، فحقد كُل واحد منهما عَلَى صاحبه. قَالَ ابْن الأَعْرَابِيِّ، وَحَدَّثَنِي سَعْد بْن الْحَسَن، أَن الْمَنْصُور لما قرأ كتابه أجابه عَلَيْهِ وَقَدِ استشاط فَقَالَ لعطية بْن عَبْدِ الرَّحْمَن التغلبي: لمثلها كنت أحسيك الحسى، إِن العبد كتب إلي بِمَا ترى وَقَدْ أجبته فانطلق بالكتاب إِلَيْهِ، فَإِذَا أَخَذَ فِي قراءته فاضرب عنقه، فَإِن قُتِلْتَ فشهادة والله خليفتك عَلَى من تخلف وَهُمْ عندي عدل ولدي، وإن سلمتَ فلك من المكافأة مَا تطأ العرب بِهِ عقبك، فَقَالَ لَهُ إِسْحَاق بْن مُسْلِم: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إنه لا يؤمن أَن ينَبو سَيْفُه فيقتل باطلًا ويكرّ العلج عَلَيْنَا، وَقَالَ لَهُ يَزِيد بْن أسيد اذكر قَوْل القطامي:
قَدْ يُدرك المتأنّي بعضَ حاجِته ... وقد يكون مع المستعجل الزّلل [1]
__________
[1] انظر الاغاني ج 23 ص 180، ديوان القطامي (ن. ابراهيم السامرائي واحمد مطلوب) ص 25.(4/185)
وَقَالَ لَهُ أَبُو أيوب كاتبه: أخَّر الأمر حَتَّى تقدم [1] إِلَى شيعتك وأهل بيتك.
فأنفذ الْمَنْصُور كتابه مَعَ غَيْر عطية.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن خلف الوراق عَنْ عدة من آل حميد بْن قحطبة قَالُوا:
لما بلغ أبا مُسْلِم موت أَبِي الْعَبَّاس كتب بِهِ إلى أبي جعفر وهو لا يعلم باستخلافه إياه، (619) فَلَمَّا أتاه أَنَّهُ قَدِ استخلفه كتب إِلَيْهِ [2] : أصلحك اللَّه يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ صلاحًا ناميًا باقيًا، بلغني هَذَا الأمر الذي أفظعني وأتاني به كتاب عيسى ابن مُوسَى مَعَ مُحَمَّد بْن الحُصين، إلا أَنَّهُ سرى [3] عني الغمّ ولوعة المصيبة مَا صار إليك من الأمر، فنسأل اللَّه أَن يعظم أجرك ويحسن الخلافة عليك فيما ولاك وأن يبارك لَك فيما قلدته، اعلم أَنَّهُ لَيْسَ أحد يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أشد تعظيمًا لحقك وحرصًا عَلَى مسرتك مني والله اسأل لَك السلامة فِي الدين والدنيا.
وَكَانَ ورود الكتاب بصُفينة، ثُمَّ بعث أَبُو مُسْلِم بالبيعة بَعْد يومين، وإنما أراد أَن يرهبه.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي عَنْ إِسْحَاق بْن عِيسَى بْن عَلِي، أَن أبا الْعَبَّاس توفي والمنصور بمكة وأبو مُسْلِم حاج أيضًا، فقام أَبِي، عِيسَى بْن عَلِي، فخطب النَّاس بالأنبار فَقَالَ: الحمد لِلَّهِ أَهْل الحمد ووَليه، ذي المجد والعظمة والكبرياء والقدرة الَّذِي كتب الْمَوْت عَلَى خلقه وَسِوَى فِيهِ بَيْنَ عباده فلم يعزّ [4] منه ملكًا مقربًا ولا نبيًا مرسلًا ولا خليفة هاديًا، جعلهم فِيهِ شرعًا وجعله عَلَيْهِم حتمًا، فَقَالَ لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الخالدون [5] وقال: إنك ميّت وإنهم ميّتون فتبارك الله رب العالمين [6] . ثُمَّ إِن خليفتكم عَبْد اللَّهِ أبا الْعَبَّاس أمِير الْمُؤْمِنيِنَ رحمة اللَّه عَلَيْهِ كَانَ عبدًا من عباد اللَّه الَّذِينَ كتب عَلَيْهِم الْمَوْت ونقلهم إِلَى دار الثواب، أكرمه بخلافته وأحيا به سنّة
__________
[1] ط: يقدم.
[2] انظر الطبري س 3 ص 90.
[3] م: صري.
[4] ط: يفر.
[5] سورة الأنبياء (21) ، آية 34.
[6] سورة الزمر (30) ، آية 39.(4/186)
نبيه وردَّ بِهِ حقّ أَهْل هَذَا الْبَيْت إليهم حَتَّى استقر فِي مقره وحل محله وخرج من أيدي الفجرة الظلمة أَهْل بَيْت اللعنة الَّذِينَ أخذوه اغتصابًا وظلمًا وابتزازًا بالتمويه والشَّبه وادّعاء الأباطيل، ثُمَّ استعمله اللَّه بطاعته الى انقضاء مدته وأثره ونفاذ أجَلِه وأكله، وقبضه إِلَيْهِ حميدًا رشيدًا قَدْ رَضِيَ سَعْيَه وأقام بِهِ حقّه، فرحمةُ اللَّه عَلَيْهِ وبركاته وصلواته. وَقَدِ استخلف أخاه أبا جَعْفَر أصلحه اللَّه وأمتع الخاصة والعامة بِهِ لكمال [1] سنة وفضل رأيه وصحة عزمه ونفاذ بصيرته، وجعل وليّ العَهد بعدّه عِيسَى بْن مُوسَى بْن عَلِي، وَهُوَ من قَدْ عرفتم جَزالَتَهُ وبراعته وفضله.
فعند اللَّه نحتسب [2] أبا الْعَبَّاس أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وإياه نسألُ أَن يعظم أجورنا وأجوركم فِيهِ، وأن يبارك لأمير الْمُؤْمِنيِنَ فيما ولاه واسترعاه ويحضره الرشد والسداد فِي أموره.
فبايعوا [3] رحمكم اللَّه لأمير الْمُؤْمِنيِنَ عَبْد اللَّهِ أمتع اللَّه بِهِ، ولعيسى بْن مُوسَى ابن مُحَمَّد بْن عَلِي إِن كَانَ من بعده، بيعة صادقة عَنْ طوع واعتقاد ونية حسنة بيعةً تنشرح بِهَا صدوركم وتخلص فِيهَا نياتكم لتنالوا بِهَا عاجل المكافأة وآجل الثواب إِن شاء اللَّه، أَحْسَن اللَّه عليكم الخلافة وتولاكم بالكفاية. ثُمَّ بكى وبكى 249/ 3 النَّاس، فَلَمَّا نزل كتب إِلَى عِيسَى بْن مُوسَى بالقدوم وَكَانَ بالكوفة فقدم الأنبار وأعطى النَّاس أرزاقهم. وكتب عِيسَى بْن عَلِي إِلَى أَبِي جَعْفَر: أما بَعْد، أصلح اللَّه أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، وأصلح بِهِ [4] وعلى يديه، فَإِن أقل المصائب يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ نكاية وإن عظُمت بِهَا الرزية وجل الخطب وأفظع الأمر مُصيبةٌ جبرت بحسن العوض فِي الدنيا وجزيل الثواب فِي الآخرة، وإن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أبا الْعَبَّاس رحمةُ اللَّه وصلاته عَلَيْهِ كَانَ من عباد اللَّه الَّذِينَ حتم عَلَيْهِم الْمَوْت وخلقهم للفناء فقبضه اللَّه حميدًا سعيدًا قائمًا بالحق جميل النظر للخاصة والعامة مشفقًا عَلَيْهِم مُعَفِّيًا بعدله عَلَى جور الظلمة من أَهْل بَيْت اللعنة وبإحسانه عَلَى إساءتهم وشرارتهم [5] ، وقد استخلفك يا أمير المؤمنين بعده وجعل وليّ عهدك (620) عيسى بن موسى بن محمد،
__________
[1] ط، د: اكمال.
[2] ط: يحتسب.
[3] ط: فبايعوها.
[4] م: اصلح رأيه به.
[5] ط، د: سوء ارثهم، وصلحت في هامش د: شرارتهم.(4/187)
فأعظم الله أجر أمِير الْمُؤْمِنيِنَ عَلَى الرزِيَّة الفاجعة وبارك لَهُ فِي العطية الفاضلة، فلا مصيبة أجل من مصيبته ولا عُقبى أَحْسَن من عقباه، ورحم اللَّه أبا الْعَبَّاس وغفر لَهُ وضاعف لَهُ حسناته، وجعل اللَّه أمِير الْمُؤْمِنيِنَ خير خليفة وإمام، أعْمَله بعدل وأقومَهَ بحق وأنظرهُ لعامَّة وأحناه عَلَى خاصة بَمَنّه وقُدرته، وَقَدْ دعوت النَّاس إِلَى بيعتك يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فسارعوا إليها واحتسبوا الخير فِيهَا، حقِّقَ اللَّه آمالهم وبَلّغهم لَك وفيك أمانيهم يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فاشكر اللَّه يزدك واستعنه يُعنِك واستكفِهِ يكفك، أسأل اللَّه لأمير الْمُؤْمِنيِنَ أَحْسَن الحفظ وأدوم العافية والسلامة فِي الدنيا والآخرة. قال: وكتب رقعة أدرجها ني الكتاب لَمْ يُدر مَا فِيهَا، وبعث بالكتاب مَعَ مُحَمَّد بْن الحصين العَبْدي، فَلَمَّا قرأه أَبُو جَعْفَر بكى. وحمل عِيسَى بْن عَلِي [1] وعيسى بْن مُوسَى [2] مُحَمَّد بْن الحصين كتابين إِلَى أَبِي مُسْلِم بالتعزية والتهنئة بولاية أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَبِي جَعْفَر وَقَالَ مُحَمَّد بْن الحصين لأبي جَعْفَر حِينَ قرأ كتاب عِيسَى بْن عَلِي إِلَيْهِ: قَدْ أعقب اللَّه المصيبة الجليلة بالنعمة العظيمة، فأحسنَ اللَّه يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ من المصيبة عقباك وبارك لَك [3] فيما ولاك وأعطاك، فأمر لَهُ بخمس مائة دِينَار ويقال بألف دِينَار، وكتب إِلَى عِيسَى بْن عَلِي بأبرّ كتاب وألطفهِ وجزاه الخير عَلَى مَا كَانَ منه [4] ، وكتب إِلَى عِيسَى بْن عَلِي وعيسى بْن مُوسَى فِي القيام بأمر النَّاس وضبط مَا قبلهما إِلَى قدومه.
قَالَ: وكتب عِيسَى بْن عَلِي إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي بالخبر وعزاه عَنْ أَبِي الْعَبَّاس وهنأه بولاية أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَبِي جَعْفَر، وأنفذ الكتاب مع أبي غسّان حاجب أبي غسان والهيثم بْن زِيَاد الخزاعي فَلَمَّا دخلا عليْه سلم الهيثم بالإمرة وسلم أبي العباس بالخلافة، فَقَالَ الهيثم: مَهْ فَإِن أبا الْعَبَّاس قَدِ استخلف أبا جَعْفَر أخاه، فَقَالَ عَبْد اللَّهِ: أَنَا أحق بالأمر منه، إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ رحمه اللَّه ندب النَّاس إِلَى الجَعْدي فتثاقلوا عَنْهُ فَقَالَ: من انتَدَبَ إِلَيْهِ فَهُوَ الخليفة بعدي، فانتدبتُ. فَقَالَ الهيثمُ:
نشدتُك اللَّه أَن تهيج الْفِتْنَة وتعرض أَهْل بيتك لزوال النعمة. فقال: اسكت لا
__________
[1] يضيف م: «ومحمد» .
[2] يضيف ط: ابن، وهو سهو. انظر الطبري س 3 ص 89.
[3] ط، د: له.
[4] عبارة: «وكتب الى عيسى ... ما كان منه» ليست في م.(4/188)
أمّ لك، وقام فخطب [1] فنعى أبا الْعَبَّاس وادعى أَنَّهُ ولّاه الخلافة بعده، فصدقه أَبُو غسان وكذبه الهيثم ورجل [2] آخر مَعَهُ، فأمر بالهيثم والرجل فضربت أعناقهما.
وخرج ابْن عَلِي من دابق، وَكَانَ متوجهًا إِلَى بلاد الروم للغزو فِي مائة ألف، فَقَالَ لَهُ ابْن حنظلة البهراني: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، الرأي أَن توجه ألف [3] رَجُل وتبعث عَلَيْهِم رجلًا تثق بصرامته وبأسه ونصيحته، وتأمره أَن يأخذ طريق المساوة فلا يشعر أَبُو جَعْفَر وأبو مُسْلِم إِلا بموافاته إياهما، وتغذ أَنْتَ السير [4] حَتَّى تنزل الأنبار، فلم يقبل مشورته لأنه من أَهْل الشام. وَقَدْ كَانَ أَبُو جَعْفَر خاف هَذَا الفعل من عَبْد اللَّهِ فأسرع السير وأغذه حَتَّى نزل الأنبار فسأل عَنِ ابْن عَلِي فأخبر أنه بحران [5] قد صمد صمد مقاتل [6] بْن حَكِيم العكي لإبائه بيعته حتى يجتمع النَّاس فحمد اللَّه عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ بلغه أَنَّهُ قَدْ أخذه وبعث بِهِ إِلَى عُثْمَان بْن سُراقه فحبسه بدمشق [7] فَقَالَ: لِلَّهِ العكي ماذا يذهب منه.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود قَالَ: لما أتى أبا جَعْفَر [8] خبر وفاة أبي العباس دعا إسحاق ابن مُسْلِم العقيلي، وَكَانَ قَدْ حجّ مَعَهُ، فَقَالَ لَهُ: ماذا ترى أَن نصنع [9] ؟ فَقَالَ:
يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، إِن كَانَ ابْن عَلِي حازمًا فسيوجه خيلًا تلقانا فِي هَذِهِ البراري فتحول بيننا وبين دار الخلافة ويأخذنا أسراء فاقُعد عَلَى دوابك فَإِنَّمَا هِيَ لَيَالٍ حَتَّى نقدم [10] الأنبار. قَالَ: فَإِن هُوَ لَمْ يخالف؟ قَالَ: فلا حياة بِهِ، والرأي إغذاذ السّير عَلَى حال. قَالَ: فارتحل أَبُو جَعْفَر وقدّم أبا مُسْلِم أمامه يطوي المراحل إِلَى الأنبار، وندب أبا مُسْلِم لعبد اللَّه (621) بْن عَلِي فسارع إلى محاربته. حدثني محمد ابن الأَعْرَابِيِّ قَالَ: لَقِيَتِ الْمَنْصُور أعرابيةٌ فِي طريقه، وقد توفي أبو العباس
__________
[1] م: فخطب الناس.
[2] ط، د: «دخل» .
[3] م: الى.
[4] م: وتغذ ابنا نسير، ط: تغد.
[5] تقع حران في الجنوب الغربي من اورفة على بعد حوالي 35 كم. انظر 51. -.
[6] م: مقابل.
[7] م: «بدابق» .
[8] ط: جعفر بدل «أبا جعفر» .
[9] ط: تصنع.
[10] ط: يقدم.(4/189)
والمنصور مقبل إِلَى الأنبار، فَقَالَتْ لَهُ: أَعْظَم اللَّه أجرك يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فِي أخيك فَإِنَّهُ لا مصيبةَ أَعْظَم من مصيبتك ولا عوض أفضل من خلافتك، فَقَالَ: بلى، الأجر، فَقَالَتْ: هُوَ لَك مذخور إِن شاء اللَّه، فوهب لَهَا ألف درهم.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود قَالَ: حجّ الْمَنْصُور أمِير [1] الْمُؤْمِنيِنَ فِي السنة الَّتِي استخلف فِيهَا، وَفِي سنة سبع وأربعين ومائة أَوْ ثمان وأربعين ومائة، وَفِي السنة الَّتِي توفي فِيهَا. وكانت وفاته بمكة. وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: حج مَعَ الْمَنْصُور إِسْحَاق بْن مُسْلِم العقيلي فكان عديله فَقَالَ الْمَنْصُور ذَات يوم: لقد أبطأنا عن الحج وإني لا خاف فَوْتَهُ، فَقَالَ إِسْحَاق، وَكَانَ فِيهِ جفاء: اكتب فِي تأخير الحج إِلَى قدومك، فَقَالَ: ويحك أوَ يَكُون أَن يؤخر الحج عَنْ وقته! فَقَالَ: أوَ تريدون شيئًا فلا يَكُون! وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: كَانَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور يَقُول: الملوك تحتمل كُل شَيْء إلا ثَلاث خلال: إفشاء السر، والتعرض للحرم، والقدح فِي الْمَلِك. وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ، قَالَ إِسْحَاق بْن مُسْلِم العقيلي: حججت مَعَ أَبِي جَعْفَر فَقَالَ: قل للحادي احْدُ، فَقُلْتُ: يَا عَاصِم احْدُ، فحدا فأجاد. فَقَالَ: قل لَهُ: قَدْ أمر لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بألف [2] درهم فدعا لَهُ، ثُمَّ قَالَ: قل لَهُ احد أيضًا، فأعاد فأجاد، فَقَالَ:
قل لَهُ: قَدْ أمر لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بكسوة، فدعا لَهُ. ثُمَّ قَالَ: قل لَهُ احد أيضًا [3] فحدا فأجاد، فَقَالَ: قل لَهُ: أمر لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بخادم، فَقُلْتُ: يَا عَاصِم قَدْ أمر لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بخادم، فَقَالَ لي مُسرًا لقوله: بأبي أَنْتَ مُسه [4] فلعله موعوك، فأعطى ذَلِكَ الَّذِي أمر لَهُ بِهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عباد البجلي، حَدَّثَنِي زهير بْن الْمُسَيِّب عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جرى عند المنصور وما كَانَ من مداراته إياه، فَقَالَ الْمَنْصُور: إِذَا مدّ عدوك إليك يده فَإِن أمكنك أَن تقطعها وإلا فقبلها.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِح الْمُقْرِئ قَالَ: حَدَّثَنِي من أثق بِهِ قَالَ: كَانَ أَبُو الجهم بْن عطية مَوْلَى باهلة من أَعْظَم الدعاة قدرًا وغَنَاء، وَهُوَ الَّذِي أخرج أبا الْعَبَّاس من موضعه الَّذِي أخفاه فِيهِ أَبُو سلمة وخزيمة وقام بأمره حتى بويع،
__________
[1] م: وأمير.
[2] ط: بخادم بألف درهم. في هامش د: بألفي.
[3] العبارة «فاعاد فأجاد ... احد أيضا» ساقطة من م.
[4] «مسه» ليست في ط.(4/190)
وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس يعرف لَهُ ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو مُسْلِم يثق بِهِ ويكاتبه من خراسان ويأمره أَن يكاتبه بالأخبار. فَلَمَّا استخلف الْمَنْصُور بلغه أَنَّهُ يكتب إِلَى أَبِي مُسْلِم بخبره، وأنه قَالَ: مَا عَلَى هَذَا بايعناهم وإنما بايعناهم عَلَى العدل، فدعاه ذَات يَوْمٍ فتغدى عنده ثُمَّ سُقي شربة عسل فَلَمَّا وقعت فِي جوفه هاج بِهِ وجع فتوهم أَنَّهُ قَدْ سم فوثب، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: إِلَى أَيْنَ يَا أبا الجهم؟ قَالَ [1] : إِلَى حيث أرسلتني، وَمَاتَ بَعْد يَوْم أَوْ يومين.
وَحَدَّثَنِي بَعْض ولد أَبِي الجهم أَنَّهُ سُقي شربة من سويق لوز، فَقَالَ الشاعر:
احذر سويق اللوز لا تشربنه ... فشرب سويق اللوز أردى أبا الجهم
قَالُوا: وسار أَبُو جَعْفَر فِي جمادى الأولى سنة خمس وثلاثين ومائة إِلَى أرمينية فدوّخها واستخلف الْحَسَن بْن قحطبة عَلَيْهَا، ثُمَّ قفل منها إِلَى الجزيرة فِي سنة ست وثلاثين ومائة، وأذن لَهُ أَبُو الْعَبَّاس فِي القدوم عَلَيْهِ وولاه الموسم فحج بالناس ومعه إِسْحَاق بْن مُسْلِم فكان عديله.
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: أُهديت إِلَى ولد الْمَنْصُور حملان [2] من هَذِهِ البربرية فَقَالَ لقهرمانه: خذها إليك فاذبح لنا كُل يَوْم منها حملًا [3] فَإِن الصبيان يكتفون بالصّعو. قَالَ: وَقَالَ الْمَنْصُور لعيسى بْن عَبْدِ اللَّهِ النوفلي [4] لما مَاتَ أَبُو الْعَبَّاس: قَدْ عرفتني فِي (622) السلطان وقبله فهل رَأَيْت لي لذة فِي مطعم أَوْ مركب أَوْ ملبس، ولقد أتتني الخلافة وَمَا طلبتها، فَقَالَ: ما زلت والله أعرفك بالزْهد والفضل وطلب العلم. وَحَدَّثَنِي عَلِي بْن الْمَأْمُون عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرشيد قَالَ:
أُدخلت عَلَى الْمَنْصُور وأنا صبي فرأيته جالسًا على حصير متكئا على مسورة جلود فدعا بعشرة دنانير جدد فوهبها لي، وأخذني فقبلني وصرفني. وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: كَانَ الْمَنْصُور يخرج من مقصورة النِّسَاء ليلًا يريد الْمَسْجِد ومعه جارية حبشية، أَوْ قَالَ صفراء، تحمل لَهُ سراجًا. وَحَدَّثَنِي قَالَ: كَانَ الْمَنْصُور يقول: الملوك
__________
[1] م: فقال.
[2] م: جملان.
[3] م: جملا.
[4] ط: المنوفلي.(4/191)
ثلاثة: مُعَاوِيَة وكفاهُ زِيَاد، وعَبْد الْمَلِك وكفاه الْحَجَّاج، وأنا ولا كافي لي.
وَكَانَ يذكر بَنِي أمية فَيَقُولُ: رجلهم هِشَام. وَكَانَ يَقُول: الخلفاء أربعة والملوك أربعة، فالخلفاء: أَبُو بَكْر وعمر وعلي وعثمان عَلَى مَا نال وَقَدْ نيل منه أَعْظَم، والملوك: مُعَاوِيَة وعبد الْمَلِك وَهِشَام وأنا، ولنعم الرجل كَانَ عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز، كَانَ أعور بَيْنَ عميان. وَكَانَ يَقُول: نعم صاحب الحرب حمار الجزيرة من رجل لم يكن على طابع الخلافة، يَعْنِي مَرْوَان. الْمَدَائِنِي، قَالَ: أتى ابن ليوسف ابن عُمَر الْمَنْصُور فوصله بثلاثة آلاف درهم، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أمّلتُ منك أَكْثَر من هَذَا، فَقَالَ: هَذِهِ كَانَتْ صلة أبيك لنا، قَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فأين فضل قريش عَلَى ثقيف، وفضل الخلافة عَلَى الإمارة! فضحك وأمر لَهُ بعشرة آلاف درهم. وَحَدَّثَنِي ابْن الأعربي قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور: مُعَاوِيَة للحلم والأناة، وعبد الْمَلِك للإقدام والإحجام، وَهِشَام لتقسيط الأمور ووضعها مواضعها، قَالَ:
وشاركتُ عَبْد الْمَلِك فِي قَوْل كثير:
يصدُّ ويَرْضى وَهُوَ لَيْثُ عرينه ... وإن أمكنْته فرصةٌ لا يقيلُها [1]
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: بلغني أن الْمَنْصُور قَالَ ذَات يَوْم فِي كلامه: إِن الحلم يَزِيد الْعَزِيز عزًا والذليل ذلًا. الْمَدَائِنِي، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَر لسفيان بْن مُعَاوِيَة: مَا أسرع النَّاس إِلَى قومك، فقال:
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولن ترى للئام النَّاس حُسادا
قَالَ: صدقت. قَالَ: وبينا المنصور يخطب إذ قام رجل فقال: يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ [2] ، فأخذ، فلما قضى المنصور صلاته ودخل القصر دعا بِهِ فَقَالَ: طالت صلاتك وكثر صومك، فضجرت من الحياة وقلت:
أعترضُ هَذَا الرجل فأعظه فَإِن قتلني دخلت الْجَنَّةَ، وهيهات أن تدخلها بي، خلوا سبيله. وَحَدَّثَنِي أَبُو فراس الشامي عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خطب الْمَنْصُور فِي بَعْض
__________
[1] الديون ص 261.
يصد ويغضي وهو ليث خفية ... إذا امكنته عدوة لا يقيلها
[2] «ما لا تفعلون» سقطت من م. سورة الصف (61) ، الآية 2.(4/192)
الجمع، فقام رجل من الصّوفيين فقال: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم [1] ! فأُخذ، فَلَمَّا فرغ الْمَنْصُور من خطبته وقضى كلامه أمر أن يضرب أربعين درة فضرب، ثُمَّ دعا بِهِ فَقَالَ: إنا لَمْ نضربك لقولك، إِنَّمَا ضربناك لكلامك فِي الخطبة فلا تَعْد، وأمر بتخلية سبيله. وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود وغيره قَالَ: خطب الْمَنْصُور فَلَمَّا قَالَ: وأشهد أن لا إله إلا اللَّه، قام إِلَيْهِ رَجُل كَانَ فِي أخريات النَّاس فَقَالَ:
يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إني أذكرك من ذكرت، فَقَالَ: سمعًا سمعًا لمن ذكر بالله وأيامه وأعوذ بالله أن أكون جَبّارًا عنيدًا وأن تأخذني العزةُ بالإثم لَقَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا من المهتدين [2] ، وأنتَ فَمَا أردتَ اللَّه بِهَا إِنَّمَا أردت أن يُقال قامَ فَقَالَ فعوقب فصبر، وأهوِنْ عليّ بقائلها لو هممت، فاهتبلها ويلك إذ عفوتُ وإياك وإياكم أيها النَّاس وَمَا أشبهها فَإِن الموعظة عَلَيْنَا نزلت [3] ومن عندنا انتشرت وعنا أخذت وحملت، ثُمَّ عاد فِي خطبته [4] .
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود، قَالَ: قدم عَلَى الْمَنْصُور (623) قوم من أَهْل الشام بَعْد هزيمة عَبْد الله بن علي وفيهم الْحَارِث بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الحرشي، فقام عدة مِنْهُم فتكلموا، ثُمَّ قام الْحَارِث فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ لسنا وفد مباهاة ولكن وفد توبة، ابتلينا بفتنةٍ استفزت شريفنا واستخفت حليمنا فكنا بِمَا قدمنا معترفين ومما فرط منّا معذورين فإن تعاقبنا فبجرمنا وإن تعفُ عنا فبفضلك عَلَيْنَا، فاصفح يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِذَا ملكت وأمنُن إذ قدرت وأحسن فطال مَا أحسنت، فَقَالَ الْمَنْصُور: أَنْتَ خطيبهم، وأمر برد قطائعه بالغوطة عَلَيْهِ. فقال: ووجه الْمَنْصُور إِسْحَاق الأزرق مولاه فأتاه بامرأتين وُصفتا لَهُ، أحداهما من ولد خَالِد بْن أسيد والأخرى فاطمة بنت محمد ابن مُحَمَّد بْن عِيسَى بْن طَلْحَةَ بْن عُبَيْد اللَّه، فجيء بهما وَقَدْ خرج إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بالبصرة، فَقِيلَ لَهُ إِن هاتين الجاريتين قَدِ استوحشتا إذ لَمْ ترهما، فَقَالَ: والله لا كشفتُ ثوب امْرَأَة عني حَتَّى أدري أرأسي لإبراهيم أَوْ رأس
__________
[1] سورة البقرة (2) ، الآية 44.
[2] سورة الانعام (6) الآية 56: «قل لا اتبع أهواءكم قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ» .
[3] ط: نزلت علينا.
[4] انظر الخبر في الخطيب البغدادي ج 10 ص 56.(4/193)
إِبْرَاهِيم لي. ومحمد بْن عِيسَى بْن طَلْحَة الَّذِي يَقُول [1] :
فلا [2] تعجل عَلَى أحد بظلم ... فَإِن الظلم مرتَعُه وخيمُ
ولا تفحِش وإن مُلِّئتَ غيظًا ... عَلَى أحدٍ فَإِن الفحش لوم
ولا تقطع أخًا لَك عِنْدَ ذنبٍ ... فَإِن الذنب يغفرهُ الكريم
وَمَا [3] جزعُ بمغنٍ عَنْك شيئًا ... ولا مَا فات تُرجعه الهموم
وَقَالَ [4] :
اجعل قرينك من رضيتَ فَعَاله ... واحذر مقارنة القرين الشائن
وَقَالَ [5] :
لا تلُم المرء عَلَى فعله ... وأنت منسوبُ إِلَى مثله
من ذَمّ شيئًا وأتى مثله ... فَإِنَّمَا يُزري عَلَى عقله
فزعموا أن أَبَا جَعْفَر كَانَ يَقُول: كَانَ مُحَمَّد بْن عِيسَى عاقلًا، وينشد شعره وَيَقُول: كَانَ مُحَمَّد بْن مُحَمَّد عاقلًا أيضًا، وإن [6] صاحبتنا لعاقلة.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عباد، حَدَّثَنِي أزهر بْن زهير عَنْ أَبِيهِ زهير بْن الْمُسَيِّب قَالَ:
بعث أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور إِلَى جَعْفَر بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن الْحُسَيْن فَقَالَ: إني أريد مشاورتك فِي أمر، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: إني قَدْ تأنيت أهلَ الْمَدِينَةِ [7] مرة بَعْد أُخْرَى، وثانية بَعْد أولى، فلا أراهم ينتهون ولا يَرْجِعُونَ، وَقَدْ رَأَيْت ان أبعث اليهم من يعقر نخلهم ويعور عيونهم. قَالَ: فسكت جَعْفَر، فَقَالَ لَهُ: مَا لَك لا تتكلم! قَالَ:
إِن أذِن لي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ تكلمتُ، فَقَالَ: قل، قَالَ: إِن سليمان عليه السلام
__________
[1] ترد القصيدة في معجم الشعراء للمرزباني رواية الزبير بن بكار ص 347، وانظر خزانة الأدب ج 2 ص 147.
[2] معجم الشعراء: ولا.
[3] ن. م.: فما.
[4] انظر معجم الشعراء ص 347.
[5] ن. م. ص 347- 8.
[6] ط: فان.
[7] ط: الذمة.(4/194)
أعطي فشكر وإن أيوب ابتُليَ فصبر وإن يُوسُف قدر فغفر وَقَدْ وضعك اللَّه فِي البسطة من بَيْت النبوة وفضلك بالخلافة وآتاك علمًا كاملًا فأنت حقيق بالعفو عَنْ المسيء والصفح عَنْ المجرم، قَالَ: ففثأ [1] غضبه وسكنه.
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن الأَعْرَابِيِّ عَنْ عَلِي مَوْلَى قريش قَالَ: دَخَلَ رجلٌ من قَيْس [2] أحسبه أَبَا الهيذام، وَقَالَ غيرُ عَلِي: دَخَلَ ابْن شبرمة عَلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: ألَكَ حاجة؟ قَالَ: نعم بقاؤك يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فَقَالَ: ويحك سلني قبل أن لا يمكنك مسألتي، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، والله مَا أَستقصر عمرك، ولا أخاف بخلك، ولا أغتنم مَا لَك، وإن سؤالك لشرف وعطاك لفخر، وَمَا بامرئ بذل وجهه إليك شَيْن ولا نقص، وعندي من فضل اللَّه خير كثير. وَحَدَّثَنِي أَحْمَد بْن الْحَارِث عَنِ الْمَدَائِنِي قَالَ: مَاتَ إِسْحَاق بْن مُسْلِم من [3] بثرةٍ خرجت بِهِ فِي ظهره فحضر الْمَنْصُور جنازته وحمل سريره حَتَّى وضعه وصلى عَلَيْهِ وجلس عِنْدَ قبره، فَقَالَ لَهُ مُوسَى بْن كعب أَوْ غيره: يَا أمِير (624) الْمُؤْمِنيِنَ، أتفعل هَذَا بِهِ، وَكَانَ والله مبغضًا لَك كارهًا لخلافتك! قَالَ: مَا فعلت هَذَا إلّا شكرًا لِلَّهِ إذ قدمه أمامي، قَالَ: أفلا أخبر أَهْل خراسان بِهَذَا من رَأَيْك، فَقَدْ دخلتهم وحشةٌ لما فعلت، قَالَ: بلى، فأخبرهم فكبروا. وَكَانَ مَرْوَان بْن مُحَمَّد أودع يَزِيد بْن أسيد جاريتين يُقَالُ لهما سبيكة وزنبرة، فلما صار يَزِيد إِلَى الْمَنْصُور استوهبهما منه فوهبهما لَهُ، وفيهما يَقُول إِسْحَاق بْن سماعة المعيطي فِي شعر لَهُ:
لعن اللَّه أَحْمَد بْن يَزِيد ... بْن زافرٍ حيث كانا
فضح اللَّه أَحْمَد بْن يَزِيد ... وكَساهُ مذلة وهوانا
شان قيسًا بخونه [4] وأبوه ... لَمْ يزل شانيًا لَهَا خوانا
خان مروانَ فِي سبيكةً لمّا ... زال ظلُّ السلطان عَنْ مروانا
__________
[1] في هامش د: فثأ اي سكن.
[2] ط: قريش. وعن أبي الهيذام انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 127، وجمهرة الأنساب ص 252. ويرد هذا الخبر، برواية المبرد، وفي الخطيب البغدادي ج 1 ص 58. وانظر ابن عساكر- تهذيب ج 7 ص 176 وما بعدها.
[3] ط: بن.
[4] ط: يخونه.(4/195)
فأتتني [1] بأحمدٍ من حلال ... أَوْ حرامٍ من التّقى عريانا
يشتهي مَا اشتهت سبيكةُ ... بالأمس وإن كَانَ فِي الحروب جبانا
هُوَ دان الزبير دين غديّ ... راح من سورة الهوى سكرانا
وابنُه فِي الفعال لَيْسَ بمحمودٍ ... إذا الفضل زين الفتيانا
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود قَالَ: حَدَّثَنِي من سمع الْمَنْصُور يَوْم مَاتَ إِسْحَاق بْن مُسْلِم وَكَانَ موتُه بالهاشمية يتمثل:
كفاك عديًّا موتُه ولربما ... تُغيظك [2] أيامٌ لَهُ وليال
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود، حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن عِيسَى قَالَ: ولّى الْمَنْصُور عبدًا لَهُ يُقَالُ لَهُ طارق ضيعةً من ضياعه بالشام فاستقصى عَلَى أهلها، فقدم مِنْهُم قوم عَلَى الْمَنْصُور فشكوه فَقَالَ: إنما نقمتم عليه ما [3] اخترتُه [4] لَهُ وأحمدتُه عَلَيْهِ، قَالُوا:
أَنَّهُ عبدٌ وربما صلى بنا، قَالَ: هُوَ حرّ فصلوا خلفه، فقام متكلمهم فَقَالَ:
بت بخير يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فضحك وكتب إِلَى صاحبهم بالرفق بِهِمْ.
وَحَدَّثَنِي جَمَاعَة من بَنِي الْعَبَّاس وغيرهم أَن الْمَنْصُور كَانَ رُبَّمَا علق البواري عَلَى أبوابه فِي الشتاء، وَقَالَ هِيَ أوقى. حَدَّثَنِي بَعْض ولد إِسْحَاق بْن عِيسَى، عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه، قَالَ: قُدّمتْ إِلَى الْمَنْصُور عصيدة فَقَالَ: لَيْسَ هَذِهِ بالعصيدة الَّتِي نعرف [5] ، ليعمل لنا تمرها بنواه. فَلَمَّا كَانَ الغد من ذَلِكَ اليوم حضرتُ غداهُ فأتينا بقصعةٍ فِيهَا ثردة صفراء وعليها عُراق وأكلنا [6] منها ثُمَّ رفعت وأتينا بلونين فَلَمَّا رفعا أتي بالعصيدة فأكل منها أكلًا صالحًا وَقَالَ: هَذِهِ هِيَ [7] ، فَلَمَّا رُفِعتَ المائدة غَسَلَ يده ودعا ببخور فبخرها ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا فعلتُ هَذَا لأني أريد الجلوس لِلنَّاسِ وَمِنْهُم من يقبل يدي.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور لعبد الله بن الربيع: قد عرفتني سوقة
__________
[1] ط: فايتني.
[2] ط: يغيظك.
[3] ط، د: كما.
[4] ط: اخبرته.
[5] ط: يعرف.
[6] م: فأكلنا.
[7] يكرر م: «هذه هي» .(4/196)
وخليفة، فهل رأيتني كلِفًا بأمر مطعم أَوْ مشرب أَوْ ملبس؟ فَقَالَ: لا ولكني رَأَيْتك تلد حُسن الذكر وتنفي الضيم وتضع الأمور مواضعها.
وحدثني الرَّبِيع بْن عُبَيْد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْدِ المدان وأخوه زِيَاد، وَحَدَّثَنِي بَعْض ولد الْمَنْصُور، أَنَّهُ كَانَ إِذَا ولد لرجل [1] من أَهْل بيته مولود ذكر أمر لَهُ من دار الرقيق بظئر وجارية تخدمه ووصيف، وأمر لأمه بجاريتين ومائتي دِينَار وطيب، وَإِذَا كَانَ المولود أنثى بعث نصف ذَلِكَ. وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود وغيره قَالُوا: قدم إِسْحَاق الأزرق، صاحب الدار ببغداد عِنْدَ القنطرة العتيقة وَهُوَ مَوْلَى الْمَنْصُور، عَلَيْهِ بامرأتين كَانَ أشخصه لحملهما، (625) إحداهما فاطمة بِنْت مُحَمَّد الطلحية والأخرى أمةُ الكريم بِنْت عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْد اللَّهِ من ولد خَالِد بْن أسيد بْن أَبِي العاص، ويقال العالية بِنْت عَبْد الرَّحْمَن بْن عَبْدِ اللَّهِ [2] بْن خَالِد بْن أسيد، فَقَالَتْ لَهُ ريسانة قيّمة نسائه: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ ان الطليحة قد استحفتك [3] واستبطأت برك وأنكرت وصاحبتها تركك الدعاء لهما، فقال: أما ترين مَا نَحْنُ فِيهِ، وَكَانَ إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ قَدْ خرج بالبصرة، ثُمَّ أنشد:
قومٌ إِذَا حاربوا شدوا مآزرهم [4] ... دُونَ النِّسَاء ولو باتت بأطهار
وَقَالَ: مَا أَنَا بناظر إِلَى امْرَأَة حَتَّى أدري أرأسي لإبراهيم أَوْ رأس إِبْرَاهِيم لي، وكانت عَلَيْهِ جبة قَدِ اتسخَ جيبها، فَقِيلَ لَهُ: لو نزعتها وغيرتها، فَقَالَ: لا والله أَوْ أدري أهي لي أم لإبراهيم.
الْمَدَائِنِي قَالَ، قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الرَّبِيع الحارثي: قَالَ لي أَبُو الْعَبَّاس ذَات يَوْم: إني أريد أَن أبايع لأبي جَعْفَر أَخِي، فأخبرت أَبَا جَعْفَر بِذَلِك فأمر لي بكسوة ومال، فَقُلْتُ: أصلح اللَّه الأمير، إن لك مؤنة ولعله أَن يأتيك من أَنَا أعذر لَك منه، فأمر برد ذَلِكَ وقمتُ فانصرفتُ وراح ورحت إِلَى أَبِي الْعَبَّاس، فدخل عَلَيْهِ وجلست غَيْر بعيد، فطال تناجيهما ثُمَّ ارتفعت أصواتهما
__________
[1] م: الرجل.
[2] يضيف د، م: ابن عبد الرحمن بن عبد الله. انظر جمهرة الأنساب ص 113- 114.
[3] ط: استخفتك.
[4] ط، د: ما آزرهم.(4/197)
بقول أبي الْعَبَّاس: بلى والله، وبقول الْمَنْصُور: لا والله، ثُمَّ خرج أَبُو جَعْفَر فأخذ بيدي فسألته عَنْ تحالفهما، فَقَالَ: لَيْسَ هَذَا وقت إخبارك وغمز بيدي، فَلَمَّا أفضى الأمر إِلَيْهِ وقتل أَبَا مُسْلِم دخلت عَلَيْهِ وَهُوَ طيب النفس فَقَالَ: ألقوا لأبي الرَّبِيع وسادة، فثنيت لي وسادة وجلست، فَقَالَ: ألا أخبرك بالأمر الَّذِي سألتني عَنْهُ يَوْم دخلتُ عَلَى أَبِي الْعَبَّاس فتحالفنا؟ فقلتُ: أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أعلم، قَالَ: تذاكرنا الدعوة، فقلتُ: أتذكر إذ كُنَّا نرمي وأبو مُسْلِم يردّ عَلَيْنَا النبل، فَقَالَ إِبْرَاهِيم [1] : مَا أكيسه ويقتله عَبْد اللَّهِ! فقلتُ: بلى، قَالَ: فأنت عَبْد اللَّهِ وأنت تقتله، فَقُلْتُ: لا والله، قَالَ: بلى والله، فَلَمَّا خالف عَبْد الله ابن عَلِي وجهته إِلَيْهِ فَقُلْتُ هُوَ يقتله، فَلَمَّا سلم منه وصنع مَا صنع قُلْت أَنَا عبد الله، أقتله، فقتلته.
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي، حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن عِيسَى وجماعة من العباسيين، أَن الْمَنْصُور قَالَ: رأيت فيما يرى النائم، وأنا بالشراة، كأنّا حول الْكَعْبَة فنادى منادٍ من جوف الْكَعْبَة: أَبُو الْعَبَّاس، فنهض فدخل الْكَعْبَة ثُمَّ خرج وبيده لواء قصيرٌ عَلَى قناة قصيرة فمضى، ثُمَّ نودي: عَبْد اللَّهِ، فنهضت أَنَا وعبد اللَّه بْن عَلِي نبتدر، فلما صرنا عَلَى درجة الْكَعْبَة دفعتُه عَنِ الدرجة فهوى ودخلت الْكَعْبَة، وَإِذَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس فعقد لي لِوَاءً طويلًا عَلَى قناة طويلة وَقَالَ خذه بيدك حَتَّى تقاتل بِهِ الدجال [2] . وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن أَبِي هَارُون الكاتب قَالَ: وردت عَلَى الْمَنْصُور خريطة من صاحب أرمينية ليلًا فلم يوصلها الرَّبِيع الحاجب [3] إلا مصبحًا، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن اللخناء، والله لهممت أَن أضرب عنقك، أتحبس عني خريطة صاحب الثغر الأعظم ساعة واحدة فضلًا عَنْ ليلة! وسخط عَلَيْهِ يومًا، ثُمَّ رَضِيَ عَنْهُ وَقَالَ: لا تعد.
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور من أحب أَن يحمد بغير مرزئة فليحسن خلقه ولينبسط بشره.
__________
[1] د: ابرهم.
[2] ط: الرجال.
[3] يضيف م: اليه.(4/198)
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَن الواقدي، قَالَ: قدم وفد من أَهْل الْمَدِينَةِ عَلَى أَبِي جَعْفَر، وفيهم عَبْد الرَّحْمَن بْن مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر بْن مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حزم، فدخلوا عَلَيْهِ فساءل عَبْد الرَّحْمَن عَنْ حالهم فأخبره بما كان من الوليد من (626) أخذ أموالهم، فأمر بردّها عليهم.
حدّثني الحرمازي، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح، عَنْ شيخ لَهُ، قَالَ: كَانَ زِيَاد بْن عُبَيْد اللَّه الحارثي، خال أَبِي الْعَبَّاس، مَعَ خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري بالعراق وولي شرطته، ثُمَّ كَانَ مَعَ يُوسُف بْن عُمَر بعده، ومع يزيد ابن عُمَر بْن هبيرة، فَلَمَّا ولي أَبُو الْعَبَّاس قَالَ لَهُ يَزِيد بْن عُمَر: والله لأضربن عنقك فَقَدْ سررتَ بأمر بَنِي الْعَبَّاس ودولة ابْن أختك، وَكَانَ مَعَهُ بواسط، فَلَمَّا وقع الصلح خرج حَتَّى قدم عَلَى أَبِي الْعَبَّاس فَقَالَ لَهُ: أبطأت عني يَا خال، فَأَخْبَرَه بقصته، ثُمَّ ولاه مَكَّة والمدينة بَعْد دَاوُد بْن عَلِي وابنه مُوسَى بْن دَاوُد، فلما توفي ابو العباس بعث إليه المنصور بعهده فعذر [1] فيما كَانَ يأمره بِهِ فِي عَبْد اللَّهِ بْن حسن وَفِي طلب ابنه، فعزله وأغرمه ثُمَّ ضمه إِلَى الْمَهْدِي حِينَ وجهه إِلَى الري، فلما سار ثَلاث مراحل تغدى الْمَهْدِي ثُمَّ صار إِلَى فسطاطه فأتي بقدح فِيهِ عسل قَدْ خيض لَهُ فشربه ونام، فطلبه الْمَهْدِي فوُجد ميتًا فبكى عَلَيْهِ وأمر فحفر لَهُ وصلى عَلَيْهِ ودفنه، فكان يُقَالُ أَنَّهُ سم ووجد منتفخًا، وَذَلِكَ باطلٌ والثبتُ أَنَّهُ مَاتَ فجأة.
حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِي قَالَ: حُدّث الْمَنْصُور بأن عجلان بْن سهيل الْبَاهِلِيَّ سمع رجلًا قَالَ، وَقَدْ مر هِشَام بْن عَبْدِ الْمَلِك: قَدْ مر الأحول، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْن اللخناء أتسمّي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بالنَّبز، وعلاه بسوطه، ثُمَّ قَالَ: لولا رحمتي لَك لضربتُ عنقك، فَقَالَ الْمَنْصُور: هَذَا والله الَّذِي ينفع مَعَهُ المحيا والممات.
وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَان بْن أَبِي شيخ قَالَ: قدم ابْن أنعُم المحدُث عَلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: لَقَد استرحت من وقوفك بباب هِشَام وذوي هِشَام، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ مَا رَأَيْت فِي تلك المواضع شيئًا يكره إلّا وَقَدْ رَأَيْت فِي طريقي إليك مَا هُوَ أَعْظَم منه، فَقَالَ الْمَنْصُور: ويحك إنا لا نجد من نوليه أعمالنا مِمَّنْ نرتضيه، فَقَالَ: بلى والله يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ لو طلبتهم لوجدتهم، إِنَّمَا الْمَلِك بمنزلة السوق
__________
[1] د: فغدر. وعذر تعني قصر.(4/199)
يجلب إليها مَا ينفق فِيهَا. قَالَ: وأقبل الْمَنْصُور يومًا راجعًا من ركوبه يريد قصره، فَلَمَّا صار عَلَى بابه رَأَى فرج بْن فضالة المحدث جالسًا فلم يقم لَهُ، فلما دَخَلَ القصر دعا بِهِ فَقَالَ: مَا منعك من القيام حِينَ رأيتني؟ قَالَ: منعني من ذَلِكَ أني خفت أَن يسألني اللَّه لَمْ فعلتُ ويسألك لِمَ رضيتَ وَقَدْ كره رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فسكت الْمَنْصُور وخرج فرج.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حبيب عَنْ أَبِي فراس قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور لهشام بْن عروة: أتذكر يَا أَبَا المنذر حِينَ دخلتُ إليك أَنَا وإخوتي مَعَ أَبِي الخلائف وأنت تشرب سويقًا، فإنّا لما خرجنا قَالَ لنا أبونا: يَا بَنِي استوصوا بِهَذَا الشَّيْخ فَإِنَّهُ لا يزال فِي قومكم عمارة مَا بقي مثله، فَقَالَ: مَا أذكر ذَلِكَ. فَلَمَّا خرج هِشَام قيل لَهُ: ذكرّك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ شيئًا يتوسل بدونه، فَقَالَ: لَمْ أذكر مَا ذكرني، وَلَمْ يعودني اللَّه فِي الصدق إلّا خيرًا. قَالُوا: ودخل عَلَيْهِ سوار بْن عَبْدِ اللَّهِ العنبري فَقَالَ: السَّلام عليك أمِير الْمُؤْمِنِين وَرَحْمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلام ورحمة اللَّه وبركاته [1] ، ادن يا عَبْد اللَّهِ، فَقَالَ: أَدنو عَلَى مَا مضى عَلَيْهِ النَّاس أم عَلَى مَا أحدثوا؟ قَالَ: عَلَى مَا مضى، فدنا ومد يَدَهُ، فصافحه ثُمَّ جلس. قَالَ:
وكتب الْمَنْصُور إِلَى سوار فِي بَعْض الأمور فكان فِي ذَلِكَ إضرار بقوم فلم ينفذ سوار الكتاب، فاشتد ذَلِكَ عَلَى الْمَنْصُور، فكتب إِلَيْهِ سوار: إنّ عدْلَ سوّار مضاف إليك وزين لخلافتك، فسكن غضبه وأمسك عَنْ (627) ذَلِكَ الأمر.
وَحَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَلِي الحرمازي قَالَ: نظر الْمَنْصُور إِلَى بَعْض القضاة، وبين عينيه سجادة فَقَالَ لَهُ: لئن كنت أردتَ اللَّه بالسجود فَمَا ينبغي لنا أَن نشغلك [2] عَنْهُ، وأن كنت إِنَّمَا أردتنا بِهَذِهِ السجادة فينبغي لنا أَن نحترس منك.
وَحَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُود الكوفي قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْن عروة رضيع الْمَنْصُور، وَهُوَ مَوْلَى لَهُمْ، فصيرهُ أَبُو جَعْفَر عَلَى ثقله عام حَجَّ، فَلَمَّا دعا عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي إِلَى نَفْسه حمل ثقل أَبِي جَعْفَر وجواريه وصار إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي، فَلَمَّا هرب استخفى يَحْيَى ثُمَّ ظفر بِهِ المنصور فأمر فقطع بالسيوف.
__________
[1] عبارة «فقال ... وبركاته» سقطت من ط.
[2] ط: يشغلك.(4/200)
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي قَالَ: كَانَتْ عبدة بِنْت عَبْد اللَّهِ بْن يَزِيد بْن مُعَاوِيَة عِنْدَ هِشَام، وكانت أجمل النَّاس، وكانت إِذَا رأت أم حكيم بنت يوسف ابن يَحْيَى بْن الحكم بْن أَبِي العاص امْرَأَة هِشَام أيضًا عنده قَالَتْ لَهَا: كَيْفَ أَنْتَ يَا أمه! فيضحك [1] هِشَام من قولها ويعجبه ظرفها. وأم حَكِيم هَذِهِ الَّتِي يَقُول فِيهَا الْوَلِيد بْن يَزِيد [2] :
علِّلاني بعاتِقاتِ [3] الكروم ... واسقياني بكأس أُمِّ حَكِيم
فَلَمَّا صار عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي الى الشام خطب عبدة، فأبت عليه التزويج فأمر بِهَا فبقر بطنها، فكان الْمَنْصُور إِذَا ذكر فعله بِهَا لعنَهُ. قَالَ: وجعلت عبدة حِينَ أتي بِهَا ليبقر بطنها وتقتل تنشد:
فقُل للشامتين بنا أفيقوا ... سيلقى الشامتون كَمَا لقينا
أمر أَبِي مُسْلِم فِي خلافة الْمَنْصُور
حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عباد الكاتب، عَنْ أزهر بْن زهير، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَبُو مُسْلِم مُستخفًّا بمواليه، فَإِذَا أتاه كتابُ الْمَنْصُور فقرأه لوى شدقه ثُمَّ ألقاه إِلَى أَبِي نصر مَالِك بْن الهيثم فيتضاحكان، ويبلغ [4] أَبَا جَعْفَر ذَلِكَ فَيَقُولُ: إنا لنخاف من أَبِي مُسْلِم أَكْثَر مِمَّا كُنَّا نخاف من حَفْص بْن سُلَيْمَان. قَالَ: ولما فرغ أَبُو مُسْلِم من محاربة عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي وحوى عسكره وَمَا فِيهِ بعث الْمَنْصُور مرزوقًا أَبَا الخصيب لإحصاء ذَلِكَ فغضب أَبُو مُسْلِم وَقَالَ: مَا لأبي جَعْفَر ولهذا، إِنَّمَا لَهُ الخمس! فَقَالَ مرزوق: هَذَا مالُ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ دُونَ النَّاس، وليس سبيل هَذَا سبيل مَا لَهُ منهُ الخمس، فشتمه وَهَمَّ بقتله ثُمَّ أمسك. وَحَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن صَالِح، وذكره الْمَدَائِنِي، قَالَ: بعث الْمَنْصُور يقطين بْن مُوسَى الى أبي مسلم
__________
[1] م: فضحك.
[2] انظر الاغاني ج 7 ص 1 وما بعدها، والديوان: (ن. غابريلي) ، دار الكتاب الجديد، بيروت 1970 ص 66.
[3] انظر الاغاني ج 16 ص 213.
[4] ط: بلغ.(4/201)
بَعْد هزيمة عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي ليحصي مَا كَانَ فِي عسكره، فَقَالَ أَبُو مُسْلِم: أفَعَلها ابْنُ سلامة الفاعلة، لا يُكَنِّي، فَقَالَ يقطين: عجِلتَ أيها الأمير، إِنَّمَا أمرني أَن أحصي مَا وجد فِي عسكر الناكث ثُمَّ أسلمه إليك لتعمل فِيهِ برأيك وتصنع بِهِ [1] مَا أردتَ ويكون قَدْ عرفَ مبلغه. فلما ورد يقطين عَلَى الْمَنْصُور أعلمه مَا قَالَ وَمَا قَالَ هُوَ لَهُ، فخاف أَن يمضي أَبُو مُسْلِم إِلَى خراسان فكتب إِلَيْهِ: إني قَدْ وليتك الشام ومصر فهما أفضل من خراسان ومنزلك بالشام أقرب إلي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فَمَتَى أحببت لقاءه لقيته. وأنفذ الكتاب إِلَيْهِ مَعَ يقطين أيضًا، فَلَمَّا قرأه قَالَ:
أهو يوليني الشام ومصر مكان خراسان وخراسان لي! وعزم عَلَى إتيان خراسان، فنزل الْمَنْصُور المدائن وأخذ أَبُو مُسْلِم، طريق حلوان، فَقَالَ الْمَنْصُور: رُبَّ أمرٍ لِلَّهِ دُونَ حلوان، وأمر عمومته ومن حضر من بَنِي هاشم أَن يكتبوا إِلَيْهِ فيعظموا (628) عَلَيْهِ حق الطاعة ويحذروه سوء عواقب الغدر والتبديل والنكث ويسألوه الرجوع ويشيروا عَلَيْهِ بِهِ. وكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور: إني أردت مذاكراتك أشياء لَمْ يحتملها الكتاب فأقبل فَإِن مقامك قبلي يسير [2] ، فلم يلتفت إِلَى الكتاب، فبعث إِلَيْهِ جَرِير بْن يَزِيد البجلي، وَكَانَ صديقًا لأبي مُسْلِم راجحًا عنده، فلم يزل يمسح [3] جوانبه ويرفق بِهِ ويعرفه قُبح مَا ركب وأن النعمة إِنَّمَا دامت عَلَيْهِ بالطاعة، وَقَالَ لَهُ: إِن أمر الْقَوْم [4] لَمْ يبلغ بك مَا تكره وإنما لَك إِن عصيتهم خراسان ولا تدري مَا ينباق عليك من شيعتهم من أَهْل خراسان مِمَّنْ ترى أَنَّهُ معك، وإن اطعتهم فخراسان وغيرها من البلاد لك، فانصرفَ راجعًا.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عباد عَنْ أزهر بْن زهير، وَحَدَّثَنِي شيخ لنا أيضًا، أَن الْمَنْصُور كتب إِلَى أَبِي مُسْلِم كتابًا لطيفًا مَعَ أَبِي حميد المروروذي وَقَالَ: إِن أجاب إِلَى الانصراف وإلّا فقل لَهُ، يَقُول لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ: نُفيتُ من الْعَبَّاس لئن مضيتَ وَلَمْ تلقني لا وكلتُ أمرك إِلَى أحدٍ سواي ولو خضتْ إليك البحر الأخضر
__________
[1] م: فيه.
[2] ط، د: يستر.
[3] م: يمنح.
[4] ط: القدوم.(4/202)
حَتَّى أموت أَوْ أقتلك [1] . فَلَمَّا قرأ الكتاب عزم عَلَى المضي لوجهه، فأدّى إِلَيْهِ أَبُو حميد الرسالة فكسرته وعزم عَلَى الانصراف إِلَى الْمَنْصُور، وخلّف ثقله بحلوان وعليه مَالِك بْن الهيثم وَقَالَ: لئن أمكنني قتله لأقتلنّه ثُمَّ لأبايعن من أحببت، وتمثل بَعْض من مَعَهُ:
مَا للرجالِ مَعَ الْقَضَاء محالةُ ... ذهبَ القضاءُ بحيلة الأقوامِ
[2] وَحَدَّثَنِي بَعْض ولد يقطين بْن مُوسَى قَالَ: كَانَ أَبُو مُسْلِم آنس النَّاس بيقطين، فَلَمَّا قدم الكوفة وَهُوَ يريد الحج قَالَ لَهُ: يَا يقطين بلغني أَنَّهُ نشأ بالكوفة رَجُل يُقَالُ لَهُ جحا ظريف مليح، وأن أهلها عملوا بعدنا جُوذابة تنسب [3] إِلَى رَجُل يكنى أَبَا جَرِير، فأطعمني من الجوذابة وأرني جحا كم، فاتُّخذتْ جوذابات وأتي بِهَا مَعَ طَعَام كثير، فَلَمَّا تغدى أَبُو مُسْلِم قَالَ: أرني الآن جُحا هَذَا، فطُلب حَتَّى وجد وأُتي بِهِ يقطين وأبو مُسْلِم وهما فِي غرفة لَيْسَ فِيهَا غيرهما، فأخذ بعضادة الباب ثُمَّ قَالَ: يَا يقطين، أيكم أَبُو مُسْلِم؟ فضحك أَبُو مُسْلِم وكلمه فاستملحه فوهب لَهُ خمسة آلاف درهم. قَالَ: ثُمَّ شخص أَبُو مُسْلِم إِلَى مَكَّة، وقدم فمضى لمحاربة عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي، فَلَمَّا هزمه بعث الْمَنْصُور إِلَيْهِ يقطينًا فكلمه بكلام شتم الْمَنْصُور فِيهِ لأُنْسِه كَانَ بيقطين، فأداه يقطين إِلَى الْمَنْصُور، فكان [4] أَبُو مُسْلِم يَقُول والله لأقتلن يقطينًا. قَالَ: ولما قدم أَبُو مُسْلِم عَلَى الْمَنْصُور وَهُوَ بالرومية الَّتِي عِنْدَ المدائن أمر النَّاس بتلقيه وقام إِلَيْهِ فعانقه وأكرمه، وَقَالَ: كدت تمضي قبل أَن نلتقي فألقي إليك مَا أريد، وأمره أَن ينصرف إِلَى منزله فيستريح ويدخل الحمام ليذهب عَنْهُ كلال السفر ثُمَّ يعود، وجعل يزيده برًا وإعظامًا وَهُوَ ينتظر الفرصة فِيهِ حَتَّى قتله.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي قَالَ: لما أراد أَبُو مُسْلِم الشخوص إِلَى خراسان عاصيًا كتب إِلَى الْمَنْصُور [5] : من عَبْد الرَّحْمَن بْن مُسْلِم إِلَى عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد،
__________
[1] انظر الطبري س 3 ص 105- 6.
[2] الطبري س 3 ص 108، وسمط اللآلي ج 2 ص 908- 9.
[3] ط، م: ينسب.
[4] ط، د: وكان.
[5] انظر الطبري س 3 ص 105 رواية المدائني، والخطيب البغدادي ج 10 ص 208- 209.(4/203)
أما بَعْد فَإِنِّي اتخذت أخاكَ [1] إمامًا وَكَانَ في قرابته برسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ ومحله من العلم عَلَى مَا كَانَ، ثُمَّ استخفَّ بالقرآن وخرقه [2] طمعًا فِي قليل من الدنيا قد نعاه الله لأهله [3] ومثلت لَهُ ضلالته عَلَى صورة العدل فأمرني أَن أجرد السَيْف وآخذ بالظنة ولا أقبل معذرةً وأن اسقّم البريء وأبرئ السقيم وآثر أَهْل الدين فِي دينهم وأوطأني فِي [4] غيركم من أَهْل بيتكم العُشوة بالأفك والعدوان، (629) ثُمَّ إِن اللَّه بحمده ونعمته استنقذني بالتوبة وكرّهَ إِلَيّ الحوبة فَإِن يعفُ فقديمًا عرف ذَلِكَ منه وإن يُعاقب فبذنوبي وَمَا اللَّه بظلام للعبيد. فكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور: قَدْ فهمت كتابك وللمدل عَلَى أهله بطاعته ونصيحته ونصرته ومحاماته وجميل بلائه مقال، وَلَمْ يُرِك اللَّه فِي طاعتنا إلّا مَا تُحب، فراجع أَحْسَن نيتك وعملك ولا يدعونّك مَا أنكرته إِلَى التجني فَإِن المغيظ رُبَّمَا تعدى فِي القول فأخبرَ بِمَا لا يعلم والله وَلِيُّ توفيقك وتسديدك. فأَقْبَلَ رحمك اللَّه مبسوط اليد فِي أمرنا محكمًا فيما هويت الحكم فِيهِ ولا تُشمت الأعداء بك وبنا [5] إِن شاء اللَّه. قَالَ:
فَلَمَّا قدم بَرَّه وأكرمه وَهُوَ يريد أَن تمكنه [6] الفرصة، ثُمَّ صرفه إِلَى منزله ليستريح. حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن عباد عَنْ أزهر بْن زهير بْن الْمُسَيِّب الضَّبِّيّ قَالَ: ندم الْمَنْصُور عَلَى انصراف أَبِي مُسْلِم حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو أيوب المورياني أشار عَلَيْهِ بالإذن لَهُ، فَلَمَّا أصبح غدا إِلَى الْمَنْصُور فتلقاه أَبُو الخصيب فَقَالَ لَهُ:
إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ مشغول فانصرِفْ ساعةً حَتَّى يفرغ، فأتى منزل عِيسَى بْن مُوسَى وَكَانَ يحبه وَكَانَ عِيسَى شديد التعظيم لَهُ، فدعا لَهُ عِيسَى بالغداء، فبينا هُوَ عَلَى [7] ذَلِكَ إذ أتاه الرَّبِيع، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مَعَ مرزوق أَبِي الخصيب، فَقَالَ لَهُ:
يدعوك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فركب وشغل عِيسَى بْن مُوسَى بالوضوء، وَقَدْ كان ابو
__________
[1] الطبري: رجلا. وفي الخطيب البغدادي: «فقد كنت اتخذت اخاك» ، ونصه يختلف عن النص التالي.
[2] الطبري: فحرقه عن مواضعه، ابن الأثير ج 5 ص 450: فحرفه.
[3] الطبري: قد تعافاه الله الى خلقه، وفي د، م: بغاه، وفي ابن الأثير ج 5 ص 470: نعاه.
[4] سقطت «في» من ط. اوطأه العشوة: اركبه على غير هدى، اللسان: وطأ.
[5] ط: لا تشمت اعداءك وبنا.
[6] ط: يمكنه.
[7] سقطت «على» من م.(4/204)
مُسْلِم قَالَ لَهُ: اركب معي فَقَدْ أحسست بالشر، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ فِي ذمتي فتقدم فَإِنِّي لاحِقُك. فَلَمَّا صار أَبُو مُسْلِم إِلَى الرواق قيل لَهُ إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ: يتوضأ فلو جلست، فجلس، وأبطأ عَلَيْهِ عِيسَى فجعل يسأل عَنْهُ، وأعد لَهُ الْمَنْصُور عُثْمَان بْن نهيك، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عَلَى حرسه، وعدةً مِنْهُم شبيب بن واج صاحب المربّعة ببغداد وأبو حَنِيفَة صاحب الدرب فِي الْمَدِينَةِ ببغداد ورجلين من الحرس، وَقَالَ لعثمان، إِذَا عاتبتُه فَعَلا صوتي فلا تخرجوا، وَكَانَ وأَصْحَابه وراء سترٍ خلف أَبِي مُسْلِم، فَإِذَا أَنَا صفقتُ فدونكم العلج. ثُمَّ قيل لأبي مُسْلِم: قَدْ جلس أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فقم، فَلَمَّا قام ليدخل نزع سَيْفه فَقَالَ: مَا كَانَ يصنع بي مثل هذا، فقيل: ليس ذاك إلا لخير. وَكَانَ عَلَيْهِ قباء خز أسود وتحته جُبَّة خز بنفسجي فدخل فسلم [1] وجلس عَلَى وسادة لَيْسَ فِي الْبَيْت غيرها والقوم خلف ظهره، فَقَالَ:
يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ استُخف بي وأخذ سَيْفي، قَالَ: ومن فعل ذَلِكَ قبحه اللَّه! ثُمَّ قَالَ: هيه، قتلت أَهْل خراسان وفعلت وفعلت، ثُمَّ جعلت تقول بمكة أيُصلي هَذَا الغلام بالناس، وألقيتُ نعلي من رجلي فرفعت نفسك عَنْ مناولتي إياها حَتَّى ناولنيها [2] مُعَاذِ بْن مُسْلِم، وأعجبُ من هَذَا إقعادك [3] إياي فِي دهليزك بخراسان مستخفًا بحقي حَتَّى أشير عليك بخلاف ذَلِكَ فتكارهتَ عَلَى تسهيل إذني وفتح الأبواب لي، ثُمَّ كتابُك إليّ تبدأ بنفسك، وخطبتُك إليّ أمينة بِنْت عَلِي، وقولك أنك ابْنُ سليط بْن عَبْدِ اللَّهِ، لَقَد ارتقيت يَا ابْن اللخناء مرتقًى صعبًا، ثُمَّ ذمّك أَخِي وسيرته وقولك إنه أوطأك العشوة وحملك عَلَى الإثم، ثُمَّ أَنْتَ صاحبي بمكة تنادي:
من أكل طَعَام الأمير فَلَه درهم، ثُمَّ كسوتك الأعراب وقولك: لأتخذنكم دُونَ أَهْل خراسان. وأعجب من هَذَا أني دفعت فِي صدر حاجبك [4] بخراسان فقلتَ لي أيضرب حاجبي، رُدّوه عنا إِلَى العراق. فَقَالَ أَبُو مُسْلِم: إنه لا يُقَالُ لي هَذَا القول بَعْد بلائي وعنائي. فَقَالَ: يَا ابْن الخبيثة إِنَّمَا عملت مَا عملت بدولتنا ولو كَانَ الأمر إليك مَا قطعت فتيلًا، ثُمَّ فتل شاربه وفرك يده. فَلَمَّا رَأَى أَبُو (630) مسلم
__________
[1] ط: وسلم.
[2] م: ناولني إياها.
[3] ط: لقعادك.
[4] ط: حاجتك.(4/205)
فعله قَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ لا تدخلنَّ عَلَى نفسك مَا أرى فَإِن قدري أصغر من أَن يبلغ [1] شَيْء من أمري منك هَذَا المبلغ. وصفق الْمَنْصُور بإحدى يديه عَلَى الأخرى، فضرب عُثْمَان بْن نهيك أَبَا مُسْلِم ضربة خفيفة، فأخذ برجل الْمَنْصُور فدفعه برجله، وضربه شبيب بْن واج عَلَى حبل عاتقه ضربة أسرعت فِيهِ فَقَالَ:
وانفساه، ألا قوة ألا مغيث! فَقَالَ الْمَنْصُور: اضربوا ابْن اللخناء، فاعتوره الْقَوْم بأسيافهم، وأمر بِهِ فلفّ فِي مسحٍ ويقال فِي عباءة وصُير ناحية. وَكَانَ الطعام قَدْ وضع للحرس فِي وقت دخول أَبِي مُسْلِم فكانوا قَدْ شغلوا بِهِ فلم يعلم أحد [2] بمقتله. ووافى عِيسَى الباب فاستؤذن لَهُ فَقَالَ الْمَنْصُور: أدخلوه، فَلَمَّا وقف بَيْنَ يديه قَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَين أَبُو مُسْلِم؟ قَالَ: كَانَ هنا آنفًا، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ عرفتَ طاعته ومُناصحته ورأي الامام كان فيه. فقال: اسكت يا ابن الشاة، وكانت أم عيسى توفيت وَهُوَ صَغِير أو مرضت فأرضع لبن شاة، فو الله مَا كَانَ فِي الأَرْض عدوُّ أعدى لَك منه، ها هُوَ ذا فِي البساط، والله مَا تم سلطانك إلّا اليوم. ودخل إِسْمَاعِيل بْن عَلِي وَهُوَ لا يعلم الْخَبَر فَقَالَ: إني رَأَيْت يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فِي ليلتي هَذِهِ كأنك قتلتَ أَبَا مُسْلِم وكأني وطئته برجلي، فَقَالَ:
قم فصدّق رؤياك فها هُوَ ذا فِي البساط. فوطئه ثُمَّ رجع فرمى بخفه وَقَالَ: لا ألبس خفًا وطئت بِهِ مشركًا، فأتي بخف فلبسه. وأنشد الْمَنْصُور:
وَمَا العجز الّا أن تؤامر عاجزًا ... وَمَا الفتكَ إلا أَن تهم فتفعلا
وَقَالَ أَبُو مَسْعُود: بلغني أَن الْمَنْصُور سَأَلَ أَبَا مُسْلِم عَنْ نصلين أصابهما فِي متاع عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي، فَقَالَ: أحدهما سَيْفي الَّذِي كَانَ عَلِي. قَالَ أَبُو دُلامة مَوْلَى بَنِي أسد [3] :
أَبَا مُسْلِم [4] مَا غَيْر اللَّه نعمةً ... عَلَى عبدهِ حَتَّى يغيرها العبد
__________
[1] ط: تبلغ.
[2] يضيف م: منهم.
[3] انظر الاغاني ج 10 ص 247 وما بعدها.
[4] الشعر والشعراء ج 2 ص 664، وطبقات ابن المعتز ص 62: أبا مجرم، ويرد البيت في الاغاني ج 10 ص 247، والخطيب البغدادي ج 10 ص 210، واخبار الدولة العباسية ص 256.(4/206)
أفي دولة الْمَنْصُور [1] حاولت غدرة ... ألا إِن أَهْل الغدر آباؤك الكرد
فلا يقطع اللَّه اليمين الَّتِي بِهَا ... علاكَ صقيل الشفرتين لَهُ حَدُّ
فَمَا كَانَ إلا الْمَوْت فِي غمد سَيْفه ... وَمَا خلت أَن الْمَوْت يضبطه غمد
أَبَا مُسْلِم [2] خوفتني القتل فانتحى ... عليك بِمَا خوفتني الأسد الوَرْد
[3]
فأصبحتُ فِي أهلي وأصبحتَ ثاويا ... بحيث تلاقي فِي ذرى دجلة المد
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُوسَى الخوارزمي الحاسب، عَنْ بَعْض آل الْحَسَن بْن قحطبة وغيرهم، قَالَ: قتل أَبَا مُسْلِم عُثْمَان بْن نهيك وشبيب بْن واج وأبو حَنِيفَة ورجلان من الحرس ضربوه بأسيافهم فلم يمت وجر برجله فألقي في دجلة وكان يومئذ ابن ثمان وثمانين سنة. قَالَ: وَحَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: لما قتل أَبُو مُسْلِم حمل أَبُو حَنِيفَة جيفته فِي صندوق حَتَّى توسط بدجلة ثُمَّ ألقاه. وسار أَبُو جَعْفَر بَعْد ذَلِكَ بثلاث إِلَى الحيرة.
وحدثني أَبُو مَسْعُود قَالَ: تمثل الْمَنْصُور بَعْد قتل أَبِي مُسْلِم ببيت الشماخ [4] :
وَمَا أَن شفي نفسًا كأمرِ صريمةٍ [5] ... إِذَا حاجةٌ فِي النفس طال اعتراضها
وَقَالَ بشار [6] الأعمى:
أَبَا مُسْلِم مَا طيبُ [7] عيشٍ بدائمٍ ... وَمَا [8] سالمٌ عمّا قليلٍ بسالم
كأنّك لَمْ تسمع بقتل متوجٍ ... عزيز ولم تعلم بقتل الأعاجم
[9]
__________
[1] الشعر والشعراء واخبار الدولة العباسية: المهدي.
[2] الشعر والشعراء وطبقات ابن المعتز واخبار الدولة العباسية: أبا مجرم.
[3] «الورد» سقطت من م. انظر الاغاني ج 10 ص 247، والخطيب البغدادي ج 10 ص 210.
[4] ترجمته في الاغاني ج 9 ص 154 وما بعدها.
[5] في الديوان ص 215.
ولم يسل امرا مثل امر صريمة.
[6] م: ابن بشار. انظر ترجمته في الاغاني ج 3 ص 129 وما بعدها. انظر ديوان شعر بشار ابن برد (جمع محمد بدر الدين العلوي) دار الثقافة، بيروت، ص 204 وما بعدها والديوان (ن. محمد الطاهر بن عاشور) ج 4 ص 169.
[7] الديوان (دار الثقافة) : أبا جعفر ما طول، الديوان (ابن عاشور) : أبا مسلم ما طول ...
[8] ن. م.: ولا.
[9] يرد هذا الشطر في الاغاني ج 3 ص 150، والديوان: عظيم ولم تسمع بفتك الأعاجم.(4/207)
لحي اللَّه قومًا شَرفوك [1] عَلَيْهِم ... وَقَدْ كنت مشروفًا [2] خبيثَ المطاعم
(631) قَالُوا: وَكَانَ الْمَنْصُور يَقُول: أخطأت مرّات وقاني اللَّه شرها، قتلتُ أَبَا مُسْلِم وحولي من يقدّم طاعته عَلَى طاعتي فلو وثبوا بي وأنا فِي خرق [3] لذهبتُ ضياعًا، وخرجتُ يَوْم الراوندية ولو أصابني سهم غَرب لذهبت ضياعًا، وخرجتُ إِلَى الشام ولو اختلف بالعراق سَيْفان لذهبت الخلافة ضياعًا. قَالُوا: وأمر الْمَنْصُور حِينَ قتل أَبَا مُسْلِم بوضع الإعطاء فِي النَّاس، فجعلوا يأخذون ويبايعون ويلعنون أَبَا مُسْلِم. وَقَالَ أَبُو دلامة أيضًا:
أَبُو مُسْلِم عبدٌ لعيسى بْن معقلٍ ... أَخِي دلف لا قَوْل من يتكذب
حمدت إلهي حِينَ قيل [4] عدوكم ... أَبُو مجرم [5] أمسى عَلَى الوجه يسحب
فَإِن يكُ عبدًا ذاق حتفًا بجرمه ... فَقَدْ صادف المقدار والحين يجلب [6]
بكت عين من تبكيه ميتا ولا رأى ... من اللَّه روحًا من لَهُ يتغضب
وَقَالَ أَبُو عَطَاء السندي [7] :
زعمتَ أنّ الدَّيْن لا يقتضى [8] ... كذبت والله أبا مجرم
[9]
سقيت كأسًا [10] كنتَ تسقي بِهَا ... أمر فِي الحلق من العلقم
الْمَدَائِنِي قَالَ: كَانَ أفلح بْن مَالِك بْن أسماء بْن خارجة الفزاري بخراسان وَكَانَ صديقًا لأبي مُسْلِم يلاعبه بالشطرنج ويؤانسه، وَكَانَ ذا قدرٍ بخراسان، فلما ظهرت الدعوة قدم على أبي مسلم وقال:
__________
[1] الاغاني ص 151، والديوان: رأسوك.
[2] الاغاني والديوان: وما زلت مرءوسا.
[3] الخرق: الثغر والارض الواسعة. المحيط مادة: خرق.
[4] ط: قتل.
[5] ط: مجزم.
[6] ط، د: يحلب.
[7] انظر المسعودي ج 6 ص 184- 5، والطبري س 3 ص 115.
[8] المسعودي: ينقضي.
[9] المسعودي والطبري: فاستوف بالكيل أبا مجرم.
[10] ن. م.: اشرب بكأس.(4/208)
قل للأمير أمين الْإِمَام ... وصيُّ وصيِّ وصيّ الوصيّ
أتيتك لا طالبا حاجة ... وما لي فِي أرضكم من كفي
وَكَانَ أَبُو مُسْلِم يبره [1] ويكرمه ثُمَّ أمر بقتله، فَقِيلَ لَهُ: صديقك وأنيسك، فَقَالَ: رَأَيْته ذا همة وأبهة فقتلته مخافة أَن يحدث حدثًا، وَكَانَ لا يقعد عَلَى الأَرْض إِذَا قعدتُ عَلَى السرير، ولقد كَانَ عليّ كريمًا وكنت لَهُ محبًا. قَالَ:
فعير الْمَنْصُور أَبَا مُسْلِم بقتله فيما عيره بِهِ.
حَدَّثَنِي الأثرم عَنْ أَبِي عَمْرو الشيباني الرواية قَالَ: لما قتل الْمَنْصُور أَبَا مُسْلِم دعا بجعفر بْن حنظلة البهراني فأراه [2] إياه مقتولًا، فَقَالَ: وفقك اللَّه يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وسددك، عُدّ خلافتك مُذ اليوم. وَحَدَّثَنِي الأثرم عَنِ الأصمعي قَالَ: قَالَ رؤبة بْن العجاج [3] : كَانَ أَبُو مُسْلِم فصيحًا عَلَى غلظ وفصح كَانَ فِي لسانه، دخلت عَلَيْهِ فأنشدته:
لبيك إذ دعوتني لبيكا ... أحمد ربًا ساقني إليكا
أصبح سَيْفُ اللَّه فِي يديكا
[4] فأمر لي بكسوة ومال وَقَالَ لي: يَا رؤبة، إِن لَك إلينا [5] عودة وَعَلَيْنَا معوّلا والدهر اطرف مستتب، فَإِذَا أتيت خراسان فصر إليّ أغنِك. فَقُلْتُ لَهُ: إني أريد أَن أسألك وأنا أفرقُ منك، فَقَالَ: سَلْ آمنا، قُلْت: أرى لسانا عضبا وكلاما فصحا [6] ، فأين نشأت أيها الأمير؟ قَالَ: بالكوفة والشام. قُلْت: بلغني أنك لا ترحم، قَالَ: كذبوا إني لأرحم، قُلْت: فَمَا هَذَا القتل؟ قَالَ: إنما أقتل من يريد [7] قتلي.
__________
[1] د: بنزه.
[2] م: وأراه.
[3] انظر الاغاني ج 20 ص 312 وما بعدها.
[4] العقد الفريد ج 2 ص 99: الحمد والنعمة في يديكا.
[5] «إلينا» ليست في ط، د.
[6] م: فصيحا.
[7] د: يزيد.(4/209)
قَالُوا: ولمّا قتل أَبُو مُسْلِم كتب الْمَنْصُور إِلَى أَبِي نصر مَالِك بْن الهيثم، وَكَانَ أَبُو مُسْلِم خلّفَهُ فِي ثقله [1] بحلوان وَهُوَ يرى أَنَّهُ يرجع إِلَى خراسان، كتابًا عَنْ لسان أَبِي مُسْلِم فِي القدوم بثقله وَمَا خلّف مَعَهُ، وختم الكتاب بالخاتم الَّذِي أخذه من إصبع أَبِي مُسْلِم، وكانت بينهما علامة فلم يعرفها فيكتب بِهَا، فامتنع أَبُو نصر (632) من القدوم. فكتب الْمَنْصُور إِلَى عامله بهمذان يأمره بمنعه من النفوذ، فأخذه وحبسه فِي القصر وَقَالَ لمن مَعَهُ: والله لا يتحرك متحرك إلّا رميت إليكم برأسه [2] ، ثُمَّ حمله إِلَى [3] الْمَنْصُور فعفا عَنْهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الراونديّة [4] قام عَلَى الباب فَذَبَّ وأبلى، فرضي عَنْهُ وصارت لَهُ مكانة عنده وولّاه الموصل.
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ، قَالَ ابْن شبرمة: دخلت عَلَى أَبِي مُسْلِم وَفِي حجره مصحف وإلى جانبه سَيْف، فسلمت عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا أَبَا شبرمة إِنَّمَا هما أمران: زهدٌ فِي الدنيا أَوْ سَيْف يضرب بِهِ أَهْل العناد. وَحَدَّثَنِي عَبَّاس بْن القاسم أَبُو الفضل قَالَ:
سمعت مشايخنا يذكرون أَن أَبَا مُسْلِم كَانَ رجلًا رَبْعَةً وكانت لَهُ شعرة وَكَانَ أسمر اللون حسن الوجه جيّد الألواح قليل اللحم تعلوه صفرة. وَحَدَّثَنِي الحرمازي قَالَ: استشار الْمَنْصُور إِسْحَاق بْن مُسْلِم العقيلي. أَوْ سلم بْن قُتَيْبَة، فِي أمر أَبِي مُسْلِم فَقَالَ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [5] .
حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيم بْن عتاب، حَدَّثَنِي سلام الأبرش قَالَ: أرِق الْمَنْصُور ذَات ليلة فَقَالَ للربيع: انظر من فِي الدار من الصَّحَابَة فأدخله إلّا أَن يَكُون عَبْد اللَّهِ بْن عياش فَإِنَّهُ سائل ملحف، فنظر فلم يجد فِي الدار غيره، فَقَالَ: أدخله وتقدم إِلَيْهِ (632) فِي ترك مسألتي شيئًا، فضمن لَهُ أَن لا يسأل ليلته شيئًا، فَلَمَّا دَخَلَ أقبل يحدث بأمر السواد وفتوحه وَمَا كَانَ يرتفع من جباياته، ثُمَّ قَالَ: فطول السواد يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ كَذَا وعرضه كَذَا ولا والله مَا لعبدك منه شبر فِي شبر، فضحك الْمَنْصُور وقال: قد أقطعتك غلة ثلاثين
__________
[1] ط: نقله.
[2] ط: برأسه إليكم.
[3] «الى» سقطت من م.
[4] ط: التروندية.
[5] سورة الأنبياء (21) ، آية 22.(4/210)
ألف درهم من حيث تختار من السواد. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب، عَنِ الرَّبِيع قَالَ: جلس الْمَنْصُور يومًا بالنجف بالكوفة يشرف عَلَى الخورنق وظهر الكوفة، فَقَالَ: يَا ربيع أبغني رجلًا يحدثني، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بالباب عَبْد اللَّهِ بْن الرَّبِيع الحارثي وأنت تحب حَدِيثه، فَقَالَ: نعم لولا كثرة سؤاله الحوائج، فَقَالَ: أَنَا أقطع عَنْك حوائجه فِي هَذَا اليوم، فخرج إِلَيْهِ فاشترى منه مسألته الحوائج بمائتي دِينَار، فَلَمَّا دَخَلَ ورأى طيب نفس الْمَنْصُور جعل يعرض بالسخاء وينشد شعر حاتم الطائي، فَقَالَ: يَا ربيع لا تفِ لَهُ فَإِنَّهُ لَمْ يفِ لَك، كفى بالتعريض مسألة. وَقَالَ: أنشدني قَوْل كثير: إِذَا المال لَمْ يوجب عليك، فأنشده [1] :
إِذَا المال لَمْ يوجب عليك عطاءه ... صَنيعةُ تقوى [2] أَوْ صديق تخالقه [3]
مَنَعت وَبَعْض المنع حزمٌ وقوةٌ ... فلم يفتِلذك [4] المال إلّا حقائقه
فكان عَبْد اللَّهِ بْن الرَّبِيع يَقُول خرجت من عِنْدَ الْمَنْصُور وأنا أحب النَّاس إِلَيْهِ.
الْمَدَائِنِي، قَالَ: دَخَلَ الْمَنْصُور الْمَدِينَةَ فَقَالَ للربيع: ائتني برجل يسامرني ويحدثني، فأتاه برجل ظريف كَانَ منقطعًا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: من أَنْتَ وأين منزلك؟
قَالَ: مَا لي منزل وإني لمغمور النسب لا تبلغني [5] معرفتك. وحدثه فاستظرفه وأمر لَهُ بخمسة آلاف درهم، فلما انصرف قَالَ للربيع: تنجز لي صلتي بأبي أَنْتَ وأمي، فَقَالَ الرَّبِيع: هيهات احتل لنفسك، فَلَمَّا ركب الْمَنْصُور من الغد دعا بِهِ فحدثه ثُمَّ أنشده قصيدة الأحوص [6] :
يَا بَيْت [7] عاتكة الَّذِي أَتَغزّلُ [8] ... حذر العِدى وبه الفؤاد موكّل
__________
[1] ديوان كثير عزة ص 309، تاج العروس واللسان مادة «فلذ» .
[2] ط: يقوى.
[3] م: تخالعه.
[4] ط: مقليذك. د: مقليدك. م: فلا يقتلذك. في الديوان والتاج: فلم يفتلذك، وفي اللسان: ولم ...
[5] ط: يبلغني.
[6] الاغاني ج 15 ص 234 وما بعدها وج 4 ص 228 وما بعدها، وترد القصيدة في ج 21 ص 110- 112، وديوان الأحوص ص 152 وما بعدها، وذيل زهر الآداب للحصري ص 59- 60، وانظر خزانة الأدب ج 1 ص 248، والحماسة البصرية ج 1 ص 128، وسمط اللآلي ج 1 ص 259.
[7] ط: بنت.
[8] م: اتغزل.(4/211)
حَتَّى انتهى إِلَى قَوْله:
وأراك تفعلُ مَا تقول [1] وبعضهم ... مذق الْحَدِيث يَقُول مَا لا يفعل
فَقَالَ الْمَنْصُور: وأبيك لَقَد اقتضيت [2] فأحسنت ولطفت، يَا ربيع يُعطى جائزته.
بَاب [فِي أخبار الرَّبِيع]
حَدَّثَنِي العمري عَنِ الهيثم بْن عدي وَهِشَام بْن مُحَمَّد وغيرهما، قَالُوا: كَانَ عيسى ابن روضة [3] وَهِيَ أَمَة وأبوه نجيح عَبْد لآل طَلْحَةَ، فرآه الْمَنْصُور بالكوفة فِي حَلقَةَ الْمَسْجِد وَذَلِكَ قبل خلافة أَبِي الْعَبَّاس، فَقَالَ: لئن ملكنا لنشترينه فَإِنِّي لَمْ أرَ ألسن ولا أظرف منه مَعَ عقل كامل، فَلَمَّا ولي أَبُو الْعَبَّاس سَأَلَهُ أَن يشتريه فاشتراه بمائة ألف درهم، فكان حاجب الْمَنْصُور حَتَّى ظهر منه عَلَى تشيع [4] فعزله عَنْ حجابته. حَدَّثَنِي أَبُو فراس الشامي قَالَ: كَانَ حاجب الْمَنْصُور عِيسَى بْن روضة مولاه ومعه مرزوق أَبُو الخصيب مولاه، فَلَمَّا نحّي ابْن روضة أَوْ مَاتَ صير أَبَا الخصيب مكانه، وَكَانَ الرَّبِيع مَعَ أَبِي الخصيب يَكُون [5] فَلَمَّا مَاتَ أَبُو الخصيب صار الرَّبِيع مكانه.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كَانَ أَبُو فروة من أراشة من بليّ سبّيًا أَخَذَ من جبل الخليل بالشام فيما يُقَالُ، قَالَ: والثبت أَنَّهُ كَانَ [6] من سبي عين التمر فأعتقه رجلٌ من بَنِي ضبَّة. وَقَالَ الهيثم والمدائني: كَانَ أَبُو فروة من سبي عين التمر فابتاعه ناعم الأسدي، ثُمَّ ابتاعه منه عثمان ابن عَفَّان فأعتقه وجعله يحفر القبور، فَلَمَّا وثب النَّاس بعثمان قَالَ لَهُ: يَا أثمان ردّ المذالم [7] ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَان أَنْتَ أوَّلها، ابتعتُك من مال الصدقة لتحفر القبور
__________
[1] ط: يقول.
[2] ط: اقضيت.
[3] ط: روضاه.
[4] م: شنيع.
[5] د: يلون.
[6] «كان» ليست في م.
[7] اي: «يا عثمان رد المظالم» والتحريف بسبب العجمة.(4/212)
فتركت ذَلِكَ. وكنى أَبَا فَرْوَةَ لأنه أدخل المدينة وعليه فروة.
فحدثت عَنْ أَحْمَد بْن إِبْرَاهِيمَ بْن إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّد بْن صبيح الأبيضي، قَالَ: كَانَ يُونُس بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن أَبِي فروة يتيمًا فِي حجر جدته وكانت لجدته جارية نفيسة فغشيها يُونُس يومًا بغير علم جدته فأحبلها فولدت الرَّبِيع، أَبَا الفضل بْن الرَّبِيع، وربيع هُوَ صاحب الْمَنْصُور، فجحدته جدته وجحده يُونُس، فَلَمَّا شبَّ باعته جدته فاشتراه زِيَاد بْن عُبَيْد اللَّه [1] الحارثي عامل أَبِي الْعَبَّاس عَلَى الْمَدِينَةِ وأهداه إِلَى أبي العباس، ثم صار الى المنصور، فلما استحجبه استمال بَنِي أَبِي فروة وبرّهم وأرغبهم فشهدوا أَنَّهُ ابْن يُونُس وأنه كَانَ قَدْ أقر بِهِ.
حَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ، قَالَ: كَانَ لهشام بْن عَمْرو مَوْلَى قبيصة ابن ذؤيب قدر فِي نَفْسه وفعالٌ جميل، وكانت بنو أمية تجيزهُ [2] وَكَانَ سخيًا مطعامًا للطعام، فطلب عِينَةً فِي بَعْض أيامه وبلغ ذَلِكَ عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي فروة مَوْلَى عُثْمَان فَقَالَ لقهرمان هِشَام هَذَا: بلغني أَن أَبَا عَمْرو يطلب عينة وعندنا مال فخذ حاجتك منه قرضًا إِلَى مَتَى شئت واكتمه اسمي، فأخبر القهرمان هشامًا بِذَلِك وَلَمْ يزل يقسم عَلَيْهِ فَأَخْبَرَه بأن أَبَا فروة صاحبه، فَقَالَ: إنا نحضر أبواب السلطان وغيره فنتساوى [3] وإن كَانَ لَهُ عَلِي دينٌ ذللتُ لَهُ وعلاني فخذ لي [4] من غيره مالًا.
وَكَانَ عَبْد اللَّهِ كاتب مُصْعَب بْن الزُّبَيْر وأنيسهُ، وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي فروة سريًا يفعل أفعالًا شريفة ويعم بمعروفه من انقطع إِلَيْهِ وغيرهم فشهد [5] بَعْض دور السلطان ومطرت السماء فنظر إِلَى جلسائه فَقَالَ: يَا غلام هاتِ لنا مماطر، فأتى بمماطر خز بعدتهم وكانوا نحوًا من عشرين. قَالَ: وأمسك رَجُل بركابه يومًا، فَقَالَ: ألك حاجة؟ قَالَ: لَك عَلَى أَبِي ألف دِينَار وَقَدْ ترك مالًا ولي إخوة، فَقَالَ: صدقت قَدْ عرفتك، أعطوه الصك، والمال لَك دُونَ إخوتك.
وَحَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَلِي الحرمازي عَنِ القاسم بْن سهل النوشجاني [6] ، (634) ان
__________
[1] ط، د: عبد الله. انظر جمهرة النسب ص 259.
[2] ط: بحيزه.
[3] م: فنساوي.
[4] ط: يخذلني، م: خذ لي.
[5] ط: فنشهد.
[6] ط: التوشجاني.(4/213)
زِيَاد بْن عُبَيْد اللَّه الحارثي، خال أَبِي الْعَبَّاس، ابتاع الرَّبِيع فِي خمسين غلامًا بالمدينة وَهُوَ عامل الْمَنْصُور عَلَيْهَا وأهداهم إِلَيْهِ فصيره مَعَ أَبِي الخصيب ثُمَّ ضمه إِلَى ياسر صاحب وضوئه، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ ابْن ثمان عشرة سنة. وحج الْمَنْصُور فِي تلك السنة فكان ياسر إِذَا وضع للمنصور الماء عِنْدَ نزوله لحاجته لَمْ يَرُمْ حَتَّى يفرغ الْمَنْصُور من الاستنجاء، واعتل ياسر فصير الرَّبِيع يقوم مقامه فِي الخدمة، فكان إِذَا وضع الماء للمنصور تنحى عَنْهُ فَإِذَا تحرك صار إِلَى الإبريق فأخذه، فَقَالَ لَهُ: ويحك يَا غلام مَا أكيسك وأخفك عَلَى قلبي، وسأله عَنْ سنيه فزاد فِيهَا ليتكبر بِذَلِك، فأعجبه مَا رَأَى منه. ورأى الْمَنْصُور فِي طريقه كتابًا عَلَى حائط فقرأه فَإِذَا هُوَ:
وَمَا لي لا أبكي وأنشد فاقتي ... إِذَا صدر الرعيانُ عَنْ كُل منهل
وَفِي أسفله: آه، آه، آه، فجعل الْمَنْصُور يردد نظره فِي ذَلِكَ وينكره، فَقَالَ الرَّبِيع: أَن أذن لي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ تكلمتُ، فَقَالَ: تكلم، فَقَالَ: اتبع الْبَيْت تأوهًا وحكايةً للبكاء، فأعجبه مَا رَأَى من فطنته فَقَالَ: قاتلك اللَّه، وأعتقه وصيره مكان ياسر ثُمَّ رَأَى تقليده أمر حجابته فكان مَعَ أَبِي الخصيب فَلَمَّا مَاتَ صيره مكانه.
قَالَ: فدخل بَعْض الهاشميين عَلَى الْمَنْصُور يومًا فذكر أَبَاهُ فترحم عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الرَّبِيع: مَهْ، أتترحمّ عَلَى أبيك وأنت تخاطب أمِير الْمُؤْمِنيِنَ! فَقَالَ: إنك لو عرفت حلاوة الآباء ومواقعهم من القلوب لَمْ تنكر عليّ مَا قُلْت. وكان الفضل ابن الرَّبِيع حاجب الرشيد، وَكَانَ يدعوه الْعَبَّاسِيَّ.
وَحَدَّثَنِي الحرمازي أَوْ غيره أَن الْمَنْصُور أمر رجلًا ولاه عملًا بالقصد، فَقَالَ:
عليك بالقصد والسداد فَإِنَّهُ كَانَ يُقَالُ الظمأ الفاضح خيرٌ من الري الفاضح.
وحدثني العمري قَالَ: مرَّ الْمَنْصُور فِي بَعْض السكك وكانت مضيقة بالبناء فأمر بهدم مَا ضيقت بِهِ من ذَلِكَ البناء وبلغ الهدم دار أَبِي دلامة فدخل عَلَى الْمَنْصُور فَقَالَ [1] :
يَا ابْن عم النَّبِيّ زارك زور [2] ... قَدْ دنا هدم داره وبواره [3]
__________
[1] الأبيات في الاغاني ج 10 ص 272، ومرآة الجنان ج 1 ص 345.
[2] الاغاني: دعوة شيخ.
[3] ن. م.: دماره.(4/214)
فهو كالماخض التي اعتا ... دها الطلق فقرت وَمَا يقرُّ قرارهُ
كَيْفَ يخشى البوار [1] شاعر [2] قوم ... هرمت [3] فِي مديحهم أشعاره
لكم الأَرْض كلها فأعيروا ... عبدكم [4] مَا احتوى عَلَيْهِ جداره
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود قَالَ: أمر الْمَنْصُور الرَّبِيع أَن يحضر أَبَا دلامة القصر ويأخذه بصلاة الظهر والعصر والمغرب فأنشأ يَقُول [5] :
ألم تريا أَن الْإِمَام ألزني [6] ... بمسجده والقصر مالي وللقصر
[7]
يكلفني [8] الأولى جميعًا وعصرنا ... فويلي [9] من الأولى وويلي من العصر
لَقَدْ كَانَ فِي أهلي [10] مساجد جمة ... ولكنّ هَذَا الأمر قدر من القدر
[11]
ويحبسني عَنْ مجلسٍ [12] استلذّه ... وأكرمُ [13] فِيهِ بالسماع وبالخمر
وماذا عَلَيْهِ أرشد اللَّه أمره [14] ... لو أَن خطايا [15] العالمين عَلَى ظهري
فقال: صدق لعنه الله، دعوه.
__________
[1] ن. م.: هل يخاف الهلاك.
[2] ط، د: ساعر.
[3] الاغاني: قدمت.
[4] ن. م.: شيخكم.
[5] القصيدة في الاغاني ج 10 ص 259- 260 مع اختلاف في تسلسل الأبيات، وترد في ذيل زهر الآداب (المطبعة الرحمانية) ص 91، وفي طبقات الشعراء لابن المعتز ص 61.
[6] ط: للزني، الاغاني: ... ان الخليفة لزني، ذيل زهر الآداب: الم تعلموا ان الخليفة لزني، وفي طبقات ابن المعتز: الم تعلمي ان الخليفة لزني.
[7] ط، د: القصر.
[8] الاغاني: وكلفني، ذيل زهر الآداب: اصلي به الاولى مع العصر آيسا، ومثله في طبقات ابن المعتز مع «دائبا» بدل «آيسا» .
[9] الاغاني: عولي.
[10] ن. م.: قومي.
[11] يرد الشطر في الاغاني: ولم ينشرح يوما لغشيانها صدري. ويورد طبقات ابن المعتز محل هذا البيت:
وو الله ما بي نية في صلاته ... ولا البر والاحسان والخير من امري
[12] ن. م.: فقد صدني عن مسجد ...
[13] ن. م.، وطبقات ابن المعتز: اعلل.
[14] ذيل زهر الآداب وطبقات ابن المعتز: وما ضره والله يصلح امره.
[15] طبقات ابن المعتز: ذنوب.(4/215)
قَالَ الْمَدَائِنِي: وماتت ابْنَة للمنصور، فرأى الْمَنْصُور أَبَا دلامة عِنْدَ قبرها فَقَالَ:
مَا [1] أعددت لِهَذَا المضجع؟ قَالَ: الَّتِي حفر لَهَا يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فَقَالَ: ويلك ألا قُلْت كَمَا قَالَ الفرزدق حِينَ سَأَلَهُ الْبَصْرِيّ ورآه عِنْدَ قبر النوار امرأته عَنْ مثل مَا سألتك فَقَالَ: شهادة أَن لا إله إلا اللَّه مُذ ثمانون سنة! فَقَالَ أَبُو دلامة: إنّا لا نحب المعاد من الْكَلام. وَحَدَّثَنِي الحرمازي، قال: دخل (635) أبو دلامة على المنصور فأنشده [2] :
لو كَانَ يقعدُ فوقَ الشَّمْس من كرم ... قومٌ لقيل اقعدوا يَا آل عَبَّاس
ثُمَّ ارتقوا فِي شعاع الشَّمْس كلكم [3] ... إِلَى السماء فأنتم أكرم [4] النَّاس
فَقَالَ الْمَنْصُور: لَقَدْ غدا بك أمر، قَالَ: نعم، ولدت لي [5] البارحة ابْنَة [6] فَقُلْتُ [7] فِيهَا:
فَمَا ولّدتكِ مريم أمُّ عِيسَى ... وَلَمْ يكفلك [8] لقمانُ الحكيم
ولكن قَدْ تضمُّك أمُّ سوء ... إِلَى لَبّاتها وأب لئيم
[9] فتبسم الْمَنْصُور وأمر لَهُ بأربعة آلاف درهم.
وَحَدَّثَنِي أَبُو العالية الْبَصْرِيّ قَالَ: أنشد الْمَنْصُور ابو دلامة قوله [10] :
__________
[1] م: ماذا.
[2] الأبيات في الاغاني ج 1 ص 251، وفي طبقات الشعراء لابن المعتز ص 61- 2.
[3] طبقات ابن المعتز: وارتفعوا.
[4] الاغاني: اظهر، طبقات ابن المعتز: سادة.
[5] «لي» ليست في ط.
[6] ط: أمة.
[7] ط، م: وقد قلت، وانظر رواية الاغاني ج 10 ص 251. ويرد البيتان في طبقات الشعراء لابن المعتز ص 62.
[8] الاغاني: ولا رباك.
[9] في ذيل زهر الآداب ص 83 يرد البيت:
ولكن قد ولدت لقام سوء ... يقوم بأمرها بعل لئيم
[10] انظر الاغاني ج 10 ص 249- 250، وذيل زهر الآداب ص 82، وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 62.(4/216)
قَالَتْ تبغٌ لنا نخلًا [1] ومزرعة ... كَمَا لجيراننا نخل [2] ومزدرع
خادع خليفتنا عَنْ ذاك فِي لطف [3] ... إِن الخليفة للسؤال ينخدع
فَقَالَ لعبد الْمَلِك بْن حميد: أقطعه ألف جريب نصفها عامر ونصفها غامر، فَقَالَ: بأبي أَنْتَ وَمَا الغامر؟ قَالَ: الَّذِي لا يناله الماء إلا بالكلفة والنفقة، قَالَ:
أَبُو دلامة: فَإِنِّي قَدْ أقطعت عَبْد الْمَلِك بْن حميد بادية بَنِي أسد وصحراء بزيقيا وصحراء القفّ [4] ، فضحك الْمَنْصُور وأمر أَن تجعل الألف جريب عامرة كلها، فَقَالَ لَهُ:
جعلني اللَّه يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فداك ايذن لي فِي تقبيل رجلك، فَقَالَ: لستُ أفعل، فَقَالَ: والله أصلحك الله ما منعت عيالي شيئا أهون عَلَيْهِم من هَذَا. وَحَدَّثَنِي أَبُو أَحْمَد سلمويه بْن عَمْرو النحوي قَالَ: أشار أَبُو عَبْد اللَّهِ الكاتب عَلَى الْمَهْدِي بنزول الرافقة وأراد أَن يبعده من الْمَنْصُور فكتب أَبُو دلامة.
ان الخليفة والمهدي إذ نأيا ... فنحن فِي حيث لا ماء ولا شجرُ
ولا نهارُ ولا ليل يطيب لنا ... ولا تضيءُ لنا شمسُ ولا قمر
اللَّه يعلم أني ناصح لكم ... فيما أقول وأني حية ذكر [5]
أرى وأسمع مَا لا تسمِعان بِهِ ... من الحسود وَفِي فِي الحاسد الحجر
فرد الْمَنْصُور الْمَهْدِي إِلَيْهِ وَلَمْ يأذن لَهُ فِي نزول الرافقة.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب، قَالَ: كَانَ الْمَنْصُور يَقُول: مَا شَيْء أجلب لقلب من كَلام يصاب بِهِ موضعه، وَيُرْوَى ذَلِكَ أيضًا عَنِ ابْن المقفع.
حَدَّثَنَا العمري، عَنِ الهيثم بْن عدي قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور لابن عياش المنتوف: لو تركت لحيتك لطالت، أما ترى عَبْد اللَّهِ بْن الربيع ما أحسنه، فقال: يا
__________
[1] الأغاني ج 210 ص 250: اخرج لتبغ لنا مالا، وفي ذيل زهر الآداب: قم كي تبيع لنا نخلا ومزدرعا، وفي طبقات ابن المعتز: اذهب.
[2] ذيل زهر الآداب: كما لجارتنا نخل ... ، وفي الأغاني: كما لجيراننا مال.
[3] الاغاني وذيل زهر الآداب: واخدع (زهر الآداب: خادع) خليفتنا عنها بمسألة، وفي طبقات ابن المعتز: ايت الخليفة فاخدعه بمسألة.
[4] الأصل: انقف. انظر الاصبهاني- بلاد العرب ص 302- 3، وياقوت- معجم البلدان (ن. وستنفلد) ج 1 ص 455.
[5] ط: واحيه ذكر.(4/217)
أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَنَا أَحْسَن منه، فَقَالَ ابْن الرَّبِيع: إِمَّا ترى هَذَا الشَّيْخ يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ مَا أكذبه! فَقَالَ ابْن عياش: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ مُرْ بجزّ لحيته ويقام إِلَى جانبي حَتَّى ينظر أيّنا أَحْسَن. وَحَدَّثَنِي عُمَر [1] بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ ابْن عياش، قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور للأعلم الهمداني: مَا مالُك؟ قَالَ: مَا أكف بِهِ وجهي ولا أعود بفضله على صديق، فقال: لقد ألطفت المسألة، وأمر لَهُ بخمسة آلاف درهم. وَحَدَّثَنِي عُمَر [2] عَنِ الهيثم، قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور لسفيان: مَا أسرع النَّاس إِلَى قومك، فَقَالَ:
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولن ترى للئام النَّاس حُسّادا
أمر ابْن المقفع
كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن داذبة [3] ، وَهُوَ المقفّع، من أشراف أَهْل فارس وَكَانَ أَبُوهُ دَخَلَ فِي عمل للحجاج فخرج عَلَيْهِ مال فضرب بِهِ حَتَّى تقفعت يده، فغلب عَلَى اسمه المقفع، واحتال حَتَّى اقترض من صاحب العذاب مالًا، (636) فكان يُبقى عَلَيْهِ من القتل. وَكَانَ منزله البصرة وَكَانَ حريصًا عَلَى تأديب عَبْد اللَّهِ ابنه يجمع إِلَيْهِ الأدباء ويأخذه بمشاهدة مجالسهم، وألزمه أَبَا الغول الأعرابي وأبا الخاموش وكانا فصيحين، فَلَمَّا مَاتَ المقفع كتب لعامر بْن ضبارة. ثُمَّ لما جاءت الدولة صحب بَنِي عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ فكان يكتب لَهُمْ كتبهم، وَكَانَ أَكْثَر ميله إِلَى عِيسَى بْن عَلِي وعلى يده أسلم، فحدثني مُحَمَّد بْن قادم النحوي، عَنْ بَعْض الهاشميين، أَن عَبْد اللَّهِ بْن المقفع دَخَلَ عَلَى عِيسَى ليلًا فَقَالَ لَهُ: إني أريد الْإِسْلَام فَقَدْ خامر قلبي حبه وكرَهتُ المجوسية، فَقَالَ لَهُ: إِذَا أصبحنا جمعت أخوتي ووجوهًا من وجوه النَّاس فشهدوا إسلامك. وحضر عشاء عِيسَى فدعاه ليأكل فامتنع فعزم عَلَيْهِ، وَكَانَ نظيفًا حسن المؤاكلة، فلم يَدْنُ من الطعام إلّا عَلَى زمزمة فَقِيلَ: أتزمزم وأنت عَلَى الْإِسْلَام غدًا؟ فَقَالَ: إني أكره أَن أبيت غدًا عَلَى غَيْر دين، فَلَمَّا أصبح أسلم. وَكَانَ يكنى أَبَا عَمْرو فتكنى أبا محمد.
__________
[1] م: عمرو.
[2] م: عمر بن بكير.
[3] ط: داذية.(4/218)
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب قَالَ: كَانَتْ لعبد اللَّه بْن المقفّع حال جميلة وغلَّة تأتيه من فارس كافية، وكانت لَهُ مروج تقاد إِلَيْهِ منها البراذين والبغال فيهديها ويحمل عَلَيْهَا. حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي، قَالَ: حضر سلم بْن قُتَيْبَة ومعن بْن زائدة وعبد اللَّه بْن المقفّع منزل [1] ابْن رامين، وَكَانَ لَهُ قيان وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ الشاعر:
إِن ابْن رامين قَدْ أضحى لَهُ بقر ... عين وليس لنا غَيْر البراذين
لو شئت أعطيته مالا على قدر ... ترضى [2] بِهِ منك دُونَ الربرب العين
قَالَ: فتغنت [3] الزرقاء أم سعدة جارية ابْن رامين صوتًا أعجب سلما فبعث إِلَى خازنه فحمل إِلَيْهِ عشرة آلاف درهم فدفَعَها إِلَيْهَا، ثُمَّ غنت إحداهما صوتًا اقترحه معن، فبعث إِلَى وكيله فحمل إِلَيْهِ ألف دِينَار، وغنت صوتًا لعبد اللَّه بْن المقفّع، وَكَانَ قَدِ ابتاع ضيعة بمائة ألف درهم فأمر غلمانه فأتوه بصك الضيعة فدفعه إِلَيْهَا، فَقَالَ معن: لِلَّهِ [4] الفارسي لَقَدْ برز عَلَيْنَا. وَكَانَ مَا بَيْنَ ابْن شبرمة وابن أَبِي ليلى متباعدًا فحاول ابْن المقفّع أَن يصلح بينهما فأبى ذَلِكَ ابْن أَبِي ليلى.
وَكَانَ ابْن شبرمة صديقًا لابن المقفع، فَقَالَ ابْن المقفع:
تنوّقت فِي الإحسان لَمْ آل جاهدًا ... إِلَى ابْن أَبِي ليلى فصيره ذمَّا
وو الله مَا آسي عَلَى فوتِ شكره ... ولكن سوء الرأي يحدث لي غمّا
وماذا يضرّ المرء من قَوْل قائل ... إِذَا هُوَ لَمْ يغش الدناءة والإثما
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك، قَالَ: أُخبرت أَن عَبْد اللَّهِ بْن المقفّع كان إذا أقبل يريد منزله يقدم غلام لَهُ مجيئه، فَمَنْ كَانَ من غلمانه عَلَى غَيْر هيئة تهيأ، ويفتح لَهُ أبوابه فيدخل منزله ومعه عدة من إخوانه فَإِذَا حضر طعامه وقف قهرمانه فَقَالَ: قَدْ هُيئ فِي المطبخ كَذَا وكذا وكذا، ليعلموا مَا يؤتون [5] به من الطعام فيبقي
__________
[1] ط: فنزل.
[2] م: يرضى.
[3] م: فتغيبت.
[4] العبارة «فبعث الى وكيله ... معن: لله» ساقطة من م وترد محلها كلمة «فيه» .
[5] م: تؤتون.(4/219)
الرجل نَفْسه لما يشتهيه، وكانت أيديهم تغسل بالأشنان [1] قبل الأكل وَيَقُول:
إِن الأيدي تقع فِي [2] الحار والبارد ولا [3] يؤمن أَن يتحلل فِي ذَلِكَ شَيْء من وسخها مِمَّا لا ينقيه الغسل بالماء وحده.
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي عَنِ ابْن جابان، قَالَ: كَانَ ابْن المقفّع ظريفا مزّاحًا ذا دُعابة، فكان بَعْض من يحسده يَقُول: إِن أدبه أَكْثَر من عقله. وَقَالَ ابْن المقفّع يومًا لغلامه، وسمعه يَقُول: مَا أَكْثَر الدُخّان، فَقَالَ: ويلك لا تقل الدُخّان إِنَّمَا هُوَ الدُخَان [4] . ثُمَّ سمع يومًا كلامًا فَقَالَ: مَا هَذَا (637) الَّذِي أسمع؟ فَقَالَ الغلام: هَذَا كلامُ قومٍ جلوس عَلَى الدُكان [5] ، فضحك وَقَالَ: أَنَا كنت أعجب منك يَا بُني. وسمع يومًا بَعْض ولد إِسْمَاعِيل بْن عَلِي يَقُول: أعطوني برذوني الأَسْوَد، فَقَالَ لَهُ: لا تقل هَذَا وقل برذوني الأدهم، فَلَمَّا أتي ببرذَوْنِهَ قَالَ: هاتوا طيلساني الأدهم، فَقَالَ لَهُ: إنّ عناءً تقويم مَا لا يستقيم.
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي، قَالَ: كَانَ ابْن شبرمة يَقُول: فِي النَّاس رائدان كاذب وصادق، فأمّا الكاذب منهما فسلم بْن قُتَيْبَة، رآني ملزومًا بدين عليّ فسألني عَنْ خبري فأعلمته إياه فمضى وَلَمْ يكن عنده مَا يرجوه الصديق من صديقه، وَأَمَّا الصادق فابن المقفع مر بي وأنا عَلَى حالي تلك فصفحني واسرع السير، فلم ألبث أَن جاءني رسوله بحُقٍّ فِيهِ حلي وجوهر فقال لي: يقريك أبو محمد السالام وَيَقُول: إني مررتُ بك وَلَمْ أكن عَلَى ثقة من أَن يتهيأ لي مَا بعثت بِهِ إليك فيسرهُ اللَّه وهيأه فاقض من ثمنه دينك واستعن بباقيه عَلَى دهرك. ومرّ ابْن المقفع برجل يقاد فَقَالَ لخصمائه: إِن عزمكم أَن تقتلوا هَذَا الرجل متعمدين لقتله ولعله ألا يَكُون أراد قتل صاحبكم فخذوا مني ديته وهبوه لِلَّهِ، فلم يزل يطلب إليهم ويزيدهم حَتَّى أخذوا منه ثَلاث ديات وأطلقوا.
وحدثت عَنْ عُثْمَان البتي [6] أَنَّهُ ذكر ابْن المقفع فقال: اخاؤه عقده.
__________
[1] د: الأسنان.
[2] «في» سقطت من ط.
[3] م: فلا.
[4] يضيف م: «يعني بتخفيف الخاء» .
[5] هامش ط ونص م: «يعني بتخفيف الكاف» .
[6] ط: التني.(4/220)
الْمَدَائِنِي قَالَ: عاد ابْن المقفع شبيبَ بْن شَيْبَة فصادَفه فِي دهليز فنزل إِلَيْهِ فَإِنَّهُ ليحدثه إذ جاءت جارية لبعضهم وَقَدْ ودى بَعْضهم بغل ابْن المقفع فَقَالَتْ: يَا أَبَا مَعْمَر مولاي يقريك السّلام وَيَقُول كَيْفَ أصبح أير بغلكم؟ فَقَالَ ابْن المقفع: كَمَا ترين عافاك اللَّه، فتسورت الجارية، وكانت فِيهِ دُعابة. وَكَانَ ابْن المقفع يَقُول: اللسان ترجمان عَنِ القلب فذلله بأسهل اللفظ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب وغيره، أَن الْمَنْصُور ولي سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة البصرة، وَكَانَ بنو عَلِي أمروا ابْن المقفع أَن يكتب لعبد اللَّه بْن عَلِي أمانًا حِينَ أجابهم الْمَنْصُور إِلَى أيمانه، فكان فِيهِ: إِن عَبْد اللَّهِ عَبْد اللَّهِ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ لَمْ يف بِمَا جعل لعبد الله ابن عَلِي فَقَدْ خلع نَفْسه والناس فِي حل وسَعَةٍ من نقض بيعته، فأنكر الْمَنْصُور ذَلِكَ وأكبره واستبدّ بِهِ [1] غيظُهُ عَلَى ابْن المقفع، وكتب إِلَى سُفْيَان أَن اكفني ابْن المقفع، ويقال إنه شافهه بِذَلِك عِنْدَ توديعه إياه. وَكَانَ ابْن المقفع يهزأ بسفيان ويستجهله وَيَقُول لَهُ: مَا تقول [2] فِي زوج وامرأة، كم لكل واحد منهما من الميراث؟ وأنشد يومًا:
لَهُ إطلا ظبي وساقا نعامةٍ
فَقَالَ ابْن المقفع: مَا هَذَا الطائر الَّذِي تصفه! وسمع سفيان يَقُول يومًا: مَا ندمت عَلَى سكوت قط، فَقَالَ لَهُ: والله مَا تؤجر عَلَى الخرس لأنه زين لَك، فكيف تندم عَلَى سكوتك. وَكَانَ يلقي عَلَيْهِ مسائل من النحو ثُمَّ يَقُول لَهُ أخطأت ويتضاحك بِهِ. وَكَانَ أنف سفيان عظيما فكان يقول له: السلام عليكما، كَيْفَ أنتما، يعنيه وأنفه. وجرى [3] بينهما كَلام فَقَالَ لَهُ ابْن المقفع: يَا ابْن المغتلمة، والله مَا رضيت أمّك برجال العراق ولا اكتفت بِهِمْ حَتَّى نكحها رجال الشام. وكانت أم سُفْيَان، ميسون بِنْت المغيرة بْن المهلب، تزوجها القاسم بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن عِضاه [4] الأشعري، وغيره، بهربه من سلم بْن قُتَيْبَة بالبصرة، فكان سفيان أشد
__________
[1] ط: استبدله، د، م: استدله، ولعل الصواب ما أثبتنا.
[2] ط، د: يقول.
[3] ط: يجري.
[4] ط: عصاة، د: عصاه.(4/221)
النَّاس بغضًا لابن المقفع، فَلَمَّا أمره الْمَنْصُور بِمَا أمره رَأَى أَن الفرصة قَدْ أمكنته، فجاءه ذَات (638) يَوْم فِي حاجة لعيسى بْن عَلِي، وعيسى بالبصرة وَكَانَ قدمها مَعَ سُلَيْمَان فِي أمر عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي، فقتله أشَرّ قتلة.
عَبْد اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب، والمدائني، قَالا: وجه عِيسَى بْن عَلِي ابنَ المقفع إِلَى سُفْيَان فِي حاجة، فَقَالَ لَهُ: أرسل فِي حاجتك غيري، فأبى وَقَالَ: لَنْ يقدم عليك بمكروه وأنا حاضر، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سُفْيَان ثُمَّ أراد الخروج قَالَ لَهُ حاجب سُفْيَان: اصبر، قَالَ [1] : ويلك إِن الصبرّ لا يَكُون إلا عَلَى بلاء ولكن قل انتظر فَقَالَ: اجلس فِي هَذِهِ الحجرة فَإِن للأمير [2] إليك حاجة، وأومأ إِلَى حجرة معتزلة، ثُمَّ سجرّ لَهُ تنّور وأتاه الحاجب فدق عنقه، فكأنما قصف قثاءة [3] ، ثُمَّ ألقاه فِي التنور وابن المقفع يَقُول: يَا أعوان الظلمة! وَهَذَا الثبت. ويقال إنه ألقي فِي بئر وأطبق عَلَيْهِ حجر [4] ، ويقال بَل أدخل حمامًا فلم يزل فِيهِ حَتَّى مَاتَ. وَقَالَ عَبَّاس بْن الْوَلِيد النرسي: بلغني أَن عنقه دقّت بَعْد أَن قطّع عضوًا عضوًا وألقيت أعضاؤه فِي النار وَهُوَ يراها ويصيح صياحًا شديدًا. وَقَالَ بَعْضهم: ألقي فِي بئر النورة فِي الحمام وأطبق عَلَيْهِ الحاجب صخرة فمات. وَكَانَ الهيثم بْن درهم مَوْلَى بَنِي قَيْس صديقًا لابن المقفع، فَقَالَ:
اعمد إِلَى بظرِ ميسون فعض بِهِ ... لعل ذَلِكَ منه سوف يشفيكا
أردت ذمَّة عِيسَى أَن تُدنّسها ... فَقَدْ فعلت فرب النَّاس يجزيكا
قَالُوا: وشكا بنو عَلِي بْن عَبْدِ اللَّهِ مَا صنع سُفْيَان بابن المقفع إِلَى الْمَنْصُور، فأمر بحمل سُفْيَان إِلَيْهِ فحمل وشخص مَعَهُ أَهْل بيته، وجاء عِيسَى بْن عَلِي بقوم يشهدون أَن ابْن المقفع دَخَلَ داره فلم يخرج وصرفت دوابه وغلمانه يصرخون وينعونه، وبآخرين يبُثّون الشهادة أَنَّهُ قتله، فَقَالَ الْمَنْصُور: أرأيتكم إِن أخرجتُ ابْن المقفع
__________
[1] م: قال له.
[2] ط: الأمير.
[3] ط: قناءة.
[4] الأصل: حجرا.(4/222)
إليكم ماذا تَقُولُونَ؟ فانكسروا عَنِ الشهادة وكف عِيسَى عَنِ الطلب بدمه. وَقَالَ أَبُو الغول الأَعْرَابِيُّ يرثي عبدَ اللَّه بْن المقفع:
وجمتَ وراعكَ الخطبُ الجليلُ ... وأجرى دمعَك الحزنُ الدخيل
كأنّ دموع عينك إذ تداعَتْ ... جمانٌ خانه سلك سحيل
عشيَّةَ قلتَ للداعي ينادي ... بعبد اللَّه ويحك مَا يَقُول
فَقَالَ ابنَ المقفع فاحتسبهُ ... فَلَيْس إِلَى لقائكهُ [1] سبيلُ
قتيلُ مَغالةٍ فِي السِّر غدرًا ... وَقَدْ يغتال ذا العز الذليلٌ
لَقَدْ أودى بِهِ كرمٌ وبر ... وعلم زانَهُ رأيٌ أصيل
وجود يد بمنفسها إِذَا مَا ... نفيس المال ضن بِهِ البخيل
أَبُو الأضياف يغمرهم قراه ... رحيبٌ بالعظيم لَهُ حَمول
وَقَالَ أيضًا، ويقال غيره:
لعمري لمن أوفى لجارٍ إجارةً ... لَقَدْ غرّ عِيسَى جارَهُ ابْن المقفع
فلو بابن مُوسَى كَانَ شد حباله ... لعاذَ بمشبوح [2] الذراع سميدعِ
دعا [3] دعوةً عِيسَى وَهُمْ يسحبونه ... برُمّته سحب الفصيل المقرّعِ
فلو كابن حرب كَانَ أَوْ كابن ظالمٍ ... لما اغتيل عبدُ اللَّه فِي شرّ مصرعِ
ولو كابن مُوسَى كَانَ أوفى لجاره ... فآب سليمًا لحمهُ لَمْ يقطعِ
فإذْ لَمْ تكن مثل السموأل وافيًا ... فعش غادرًا ما عشت في الناس أو دع
أهابوا بِهِ حَتَّى إِذَا قيل قَدْ علا ... مَعَ النجم خلّوه وَقَالُوا لَهُ قَعِ
(639) وَكَانَ إذا ما راح راحت بغاله ... بدي كرم جم الفضائل أروعِ
فعيني إِن أنزفتما الدمع منكما ... فسُحّا دمًا يَا مقلتي بأربعِ
حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن صالح عن أَبِي بَكْر بْن عياش، قَالَ: كَانَ مِمَّا يعد من
__________
[1] ط: لقائه.
[2] ط: بمشوج.
[3] ط: دعاء.(4/223)
دهاء الْمَنْصُور أَنَّهُ لما وجه جيشه [1] إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَسَن بلغه أَنَّهُ يريد اليمن فأمر كبار قواده الَّذِينَ فِي الجيش أَن يكتبوا إِلَى مُحَمَّد فيعلموه أنهم إذا صاروا الى المدينة فوافقوه انقلبوا إِلَيْهِ، فأقام طمعًا فِي ذَلِكَ فَلَمَّا لقوه كَانَتْ إياها.
أمر سديف
حَدَّثَنِي أَحْمَد بْن الْحَارِث عَنْ عَلِي بْن صَالِح قَالَ: كَانَ سديف مَوْلَى لآل أَبِي لهب وَكَانَ مائلًا إِلَى الْمَنْصُور، فَلَمَّا استخلف وصله بألف دِينَار فدفعها إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَسَن [2] تقوية لَهُ، فَلَمَّا قتل مُحَمَّد صار مَعَ أَخِيهِ إِبْرَاهِيم بالبصرة حَتَّى إِذَا قتل إِبْرَاهِيم أتى الْمَدِينَةَ فاستخفى بِهَا، فيقال إنه طلب لَهُ الأمان من عَبْد الصمد بْن عَلِي وَكَانَ واليها فأمنه وأحلفه أَن لا يبرح الْمَدِينَةَ. وقدم الْمَنْصُور الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: قَدْ رأينا سديف بْن ميمون ذاهبًا وجائيًا، فبعث فِي طلبه وأخذ عَبْد الصمد بِهِ أشدّ أَخَذَ ووجد عَلَيْهِ فِي أمره، فَلَمَّا أُتي بسديف أمر فجعل فِي جوالق ثُمَّ خيط عَلَيْهِ وضرب بالخشب حَتَّى كسر ورمي بِهِ فِي بئر وَبِهِ رمق حَتَّى مَاتَ.
وَقَالَ غَيْر عَلِي بْن صَالِح، كتب الْمَنْصُور إِلَى عَبْد الصمد فِي طلب سديف، فظفر [3] بِهِ وحبسه حَتَّى قدم الْمَنْصُور، فَقَالَ لعبد الصمد: مَا فعل سديف؟ قَالَ: محبوس، فَقَالَ إنه لطويل الحياة، فَقَالَ عَبْد الصمد لصاحب شرطته: اكفناه [4] ، فقتله.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب [5] ، قَالَ: كَانَ أحب الطيب إِلَى الْمَنْصُور المسك [6] ، فكان يبتاع لَهُ منه فِي كُل سنة اثنا عشر ألف مثقال من غلة ضياعه فيستعمل منه فِي كُل يَوْم عشرين مثقالًا ينفح منها فِي ثيابه ويغير شيبه ويمسح جسده ويصرف باقي المسك فيما يهبه.
__________
[1] ط: جيبته.
[2] د، م: حسن.
[3] م: وظفر.
[4] ط: الفناه.
[5] سقطت كلمة «الكاتب» من م.
[6] م: الى المسك.(4/224)
أمر ابْن هَرْمة [1]
وَحَدَّثَنِي الْحَسَن بْن عَلِي الحرمازي، عَنْ أَبِي مَسْعُود الكوفي، قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور: مَا رَأَيْت ابْن هرمة قط فَذَكَرَتْ أبياته فِي عَبْد الْوَاحِد [2] بْن سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الْمَلِك إلا هممتُ بأن أسوءَهُ، والأبيات [3] :
إذا قيل من خير من يرتجى ... لمعتزّ فِهرٍ ومحتاجها
ومن يعجل الْخَيْلَ عِنْدَ اللقاء ... بألجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بَنِي مَالِك ... إليك بِهِ قبل أزواجها
فَقَالَ عِيسَى بْن عَلِي: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فَهُوَ الَّذِي يَقُول فيك [4] :
كريمٌ لَهُ وجهان وجهٌ لدى [5] الرضا ... أسيل ووجهٌ فِي الكريهة باسل
لَهُ لحظات عَنْ حفافي [6] سريره ... إِذَا كرّها [7] فِيهَا عقاب ونائل
يقاتل عَنْهُ النَّاس مجلود رأيه ... عَلَى الحق والرأي الجليد مقاتل
[8] الْمَدَائِنِي قَالَ: مدح إِبْرَاهِيم بْن عَلِي بْن هرمة الْمَنْصُور فأعطاه عشرة آلاف درهم فاستقلّها وَقَالَ: لي حاجة يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ فَإِن قضيتها كنتَ قَدْ كافأتني، قَالَ:
وَمَا هِيَ؟ قَالَ: تأذن لي فِي شرب النبيذ بالمدينة فَإِن لي هَذِهِ الأرواح والماء يضرني، فَقَالَ: وكيف أفعل وأنت تعرف كراهة أَهْل الحجاز للشرب! قَالَ: احتل لي يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فأمر الوالي هناك أَن ينظر فَمَنْ أتاه بابن هرمة وَهُوَ سكران ضربه مائة وضرب ابْن هرمة ثمانين، فكان الشرطي يراه سكران بالمدينة فَيَقُولُ: من يشتري
__________
[1] تاريخ بغداد ج 6 ص 127، تهذيب تاريخ ابن عساكر ج 2 ص 234، خزانة الأدب ج 1 ص 204، الاغاني ج 2 ص 367.
[2] ط: عبد الصمد. انظر جمهرة الأنساب ص 90، والطبري س 2 ص 1981.
[3] لم ترد هذه الأبيات في الديوان.
[4] انظر الديوان ص 165- 169، والحماسة البصرية ج 1 ص 146.
[5] الأصل: لذي، والتصويب من الحماسة البصرية.
[6] الأصل: خفافي، والتصويب من الديوان والحماسة البصرية.
[7] الأصل: لرها، والتصويب من الديوان والحماسة البصرية.
[8] لا يرد هذا البيت في الديوان ولا في الحماسة البصرية.(4/225)
الثمانين بالمائة [1] (640) ويدعه. وَحَدَّثَنِي أَبُو يَحْيَى المديني [2] مولى الانصار قال: لم يجبه المنصور الى الإذن فِي شرب النبيذ ولكن بَعْض عمال الْمَدِينَةِ كَانَ أمر فِيهِ بِهَذَا.
وَكَانَ ابْن هرمة مستهترًا بالنبيذ لا يصبر عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي يَقُول:
أسأل اللَّه سكرة قبل موتي ... وصياحَ الصبيانِ يا سكرانُ
الْمَدَائِنِي قَالَ: وَعَظ سوّارٌ الْمَنْصُور فوصله فأبى قبول صلته، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: كرهت أَن أكون مثل سَعِيد بْن الفضل وعظ هشامًا ثُمَّ سَأَلَهُ فأعطاه، فَقَالَ هِشَام: إِلَى هَذَا أُجري الْحَدِيث!
أمر أَبِي دَاوُد خَالِد بْن إِبْرَاهِيمَ
حَدَّثَنِي العمري عَنِ الهيثم بْن عدي، وأخبرنا الْمَدَائِنِي، قَالا: استخلف أبو مسلم خَالِد بْن إِبْرَاهِيمَ أَبَا دَاوُد الذهلي حِينَ سار للحج عَلَى خراسان، فَلَمَّا توفي أَبُو الْعَبَّاس بايع أَبُو دَاوُد للمنصور فكان متخوفًا من أَبِي مسلم إذ فعل ذَلِكَ بغير أمره فلم يكتب بالبيعة إِلَى أَبِي مُسْلِم إلا بَعْد حِينَ، فَلَمَّا قتل أبو مسلم إذ فعل ذلك البريد بخبر مقتله فأنكر قتله وذكر الْمَنْصُور ذكرًا قبيحًا ونسبه إِلَى الغدر. فكتب الْمَنْصُور إِلَيْهِ يأمره بغزو مَا وراء النهر، ثُمَّ كتب إِلَيْهِ فِي القدوم عَلَيْهِ ووجّه بكتابه إِلَيْهِ رسولًا مفردًا، فَقَالَ: مَا يقدمني عَلَيْهِ إلا لمسألتي عَنْ أمور أَبِي مُسْلِم وأمواله ثُمَّ قتلي بَعْد ذَلِكَ، ثُمَّ قام يفرقع أَصَابِعه ويرقص [3] وَيَقُول: يَا أَبَا جَعْفَر غُرَّ غيري، والرسول [4] يراه [5] ، فرجع إِلَى الْمَنْصُور فَأَخْبَرَه بِمَا عاين، وَلَمْ يجب الْمَنْصُور عَلَى كتابه.
فكتب الْمَنْصُور إِلَى أَبِي عصام عَبْد الرَّحْمَن بْن سليم مَوْلَى عَبْد اللَّهِ بْن عامر بْن كريز:
إِن قتلتَ أبا دَاوُد فأنت أمِير خراسان، فخرج أَبُو عصام إِلَى كُشماهن [6] وَقَدْ دسّ
__________
[1] م: المائة بالثمانين.
[2] م: أيوب المدني، وفي هامش ط، د اضيف: أيوب مع اشارة (خ) .
[3] ط: يرفض.
[4] ط: للرسول.
[5] ط: نزله.
[6] م: كتماهين. وهي اليوم كشمين تبه، على بعد 46 كم من مرو الحالية، وتقع على 07 62 شرق، 07 37 شمال 103. -، ويقول الاصطخري- صور الأقاليم ص 111.
«من مرو الى كشمهن مرحلة» .(4/226)
إِلَى أهلها من هيجهم ليخرج أَبُو دَاوُد فيفتك بِهِ، وسمع أَبُو دَاوُد الضجة فصعد لينظر فمشى عَلَى جناح فِي داره وَكَانَ ضعيف البصر فسقط عَلَى وتد، فَقَالَتْ لَهُ امرأته: من ذا؟ قَالَ: أَنَا أَبُو دَاوُد قَدْ نزل بي مَا يريد أَبُو جَعْفَر، واحتمل فمات ودفن وَذَلِكَ فِي سنة تسع وثلاثين ومائة وو كتب أَبُو عصام بموته إِلَى الْمَنْصُور واجتمع النَّاس إِلَى أَبِي عصام فبايعوه للمنصور، ثُمَّ لَمْ يلبث إلا قليلا حَتَّى قدم عَبْد الجبار ابن عَبْدِ الرَّحْمَن الْأَزْدِيّ خراسان واليًا عَلَيْهَا عَلَى أربع من دواب البريد.
أمر عَبْد الجبّار بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الْأَزْدِيّ
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود الكوفي، وغيره، قَالُوا: دعا الْمَنْصُور عَبْد الجبار فَقَالَ لَهُ: قَدْ وليتك خراسان فأطع اللَّه فِي معصيتي ولا تطِعني فِي معصية اللَّه وَلِنْ للمُحسن وكن خشنًا عَلَى المسيء. وَكَانَ عبد الجبار عَلَى شرط أَبِي الْعَبَّاس، ثُمَّ عَلَى شرط الْمَنْصُور إِلَى أَن ولاه خراسان، ثُمَّ ولى الشرطة بعده عُمَر بْن عَبْدِ الرَّحْمَن أخاه، ثُمَّ عزله وولى مُوسَى بْن كعب التميمي حتى مات، ثم ولى بعده المسيب ابن زهير الضَّبِّيّ. فكان الْمُسَيِّب يسعى فِي فساد حال [1] عَبْد الجبار عِنْدَ الْمَنْصُور ويوحشه منه ويغريه بِهِ، وكتب إِلَى عَبْد الجبار إِن الْمَنْصُور قَالَ ذَات يَوْم:
من ولّي خراسان فأصلح ثغورها وأحسن السيرة فِي أهلها ورزق جنودها وَكَانَ فِي بَيْت ماله بَعْد ذَلِكَ [2] عشرة آلاف ألف فَهُوَ الكامل، فكتب إِلَى الْمَنْصُور يعلمه أَن عنده بَعْد سد الثغور وإعطاء (641) المقاتلة عشرة آلاف ألف، فكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور فِي حملها وَلَمْ تكن [3] عنده وإنما كَذَبه، وألح الْمَنْصُور فِيهَا، فكتب يسأل الإذن لَهُ فِي إشخاص عياله إِلَيْهِ فلم يأذن لَهُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ يبلغه فسادُ قلبه عَلَيْهِ بِمَا يكيده بِهِ الْمُسَيِّب عنده وَيَقُول لَهُ فِيهِ، فخلع وَقَالَ: إِن أَبَا جَعْفَر دعاني إِلَى عبادته وأسرف فِي القول، فأشخص المنصور إليه المهدي ومعه خازم ابن خزيمة فقاتله خازم فظفر به.
__________
[1] ط: فسادا وخال.
[2] م: وكان بعد ذلك في بيت ماله.
[3] ط: يكن.(4/227)
الْمَدَائِنِي قَالَ: لما مَاتَ أَبُو دَاوُد خَالِد بْن إِبْرَاهِيمَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن قَعْبَل ابن ثابت بْن سالم بْن حذلم بْن الْحَارِث بْن عَمْرو بْن سالم بْن الْحَارِث بْن عَمْرو بْن شَيْبَان بْن ذهل بْن ثَعْلَبَة بْن عكابة [1] ، كتب الْمَنْصُور إِلَى أَبِي عصام عَبْد الرَّحْمَن بْن سليم بولاية خراسان ثُمَّ عزله بَعْد أربعين يومًا واستعمل عَبْد الجبار ابن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن زَيْد بْن فيل بْن قَيْس بْن زَيْد بْن جَابِر بْن رافد ابن سَبالة بْن عامر بْن عَمْرو بْن كعب بْن الْحَارِث وَهُوَ الغطريف الأصغر بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الغطريف الأكبر، واسمه عامر بْن بَكْر بْن يشكر بْن مبشر بْن صعب ابن دهمان بْن نصر [2] بْن زهران بْن كَعْبِ بْن الْحَارِث بْن كَعْبِ بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن مَالِك بْن نَصْرِ بْن الأزد واسمه ذر بْن الغوث بْن نبت بْن مَالِك بْن زيد بْن كهلان ابن سبأ بْن يشجب بْن يعرب بْن قحطان. وَكَانَ عَبْد الجبار يتشيع فسار سيرة حسنة ونظر فِي أمر الخراج وقوّى الدعوة، ثُمَّ كتب إِلَى الْمَنْصُور يسأله الإذن فِي حمل عياله فلم يأذن لَهُ فِي ذَلِكَ فدس إِلَى قوم من عمال أَبِي دَاوُد وغيرهم ممن كان مخالصا للعباسيين فقتلهم. وصار إِلَيْهِ علْجٌ ينظر فِي النجوم، فَقَالَ لَهُ: إنك ستغلب عَلَى خراسان وغيرها وتنال ملكًا عظيمًا، فكتب رَجُل من عيون الْمَنْصُور ونصحائه [3] إِلَى الْمَنْصُور إنه قَدْ نغل الأديم، فَقَالَ لأبي أيوب المورياني، كاتبه ووزيره:
مَا تراه يَقُول؟ قَالَ: يخبرك أَن عَبْد الجبار عَلَى الخلع، فَقَالَ: مَا ترى؟ قَالَ: تكتب إِلَيْهِ أنك تريد الغزو برجال خراسان ووجوه أهلها وتأمره بتوجيههم إليك، ففعل.
فكتب إِلَيْهِ عَبْد الجبار: إِن الترك قَدْ جاشت وخراسان محتاجة إِلَى رجالها، فكتب الْمَنْصُور إِلَيْهِ: إني بخراسان أعني منيّ بغيرها فَإِن أحببت أَن يوجه إليك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ رجالًا مِمَّنْ قبله فعل، وإنما أراد أَن يوجه إِلَيْهِ من الجند من يلطف لأخذه.
فكتب: إِن خراسان مجدبة فليتها تقوم [4] بمن فِيهَا من الرجال وتحملهم [5] . وأظهر الخلع وَقَالَ: إِن أَبَا جَعْفَر دعاني إِلَى عبادته، وشتمه، وحض على طاعة آل
__________
[1] انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 152.
[2] جمهرة النسب ج 1 لوحة 217: عبد الجبار بن عبد الرحمن بن يزيد بن قيل. وانظر الطبري س 2 ص 203، واخبار الدولة العباسية ص 218.
[3] م: ونصا ونصحائه.
[4] ط: يقوم.
[5] ط: يحملهم.(4/228)
أبي طالب ووجه الى إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن وَهُوَ مُستخف يسأله أَن يشخص إِلَيْهِ فلم يفعل، فنصب رجلًا قَالَ [1] إنه إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ اسم الرجل يَزِيد.
فولى الْمَنْصُور الْمَهْدِي خراسان ووجه مَعَهُ خازم بْن خزيمة، فأقام الْمَهْدِي بالري ووجه خازمًا إِلَى خراسان. وخرج عَلَى عَبْد الجبار، الْحَسَن بْن حمران مَوْلَى مطر بْن وساج أَخِي بُكَيْر بْن وساج، ودعا إِلَى الْمَنْصُور وحضّ عَلَى التمسك بطاعته والوفاء ببيعته، ثُمَّ إنه غَيْر وبدّل فبعث إِلَيْهِ خازم بْن خزيمة مَنْ حاربه فقتله وأتى خازمًا برأسه. وخرج عَلَى عَبْد الجبار، الأشعث أَبُو جَابِر بْن الأشعث الطائي باشتيخن [2] ثُمَّ أتى بخارى فقتل عامل عَبْد الجبار عَلَيْهَا واصطفى أموال من قتل.
وَكَانَ عَبْد الجبار حبس حرب بْن زِيَاد الطالقاني من عجمها ثم خلاه ووجهه الى بلخ وكتب الى عاملها فِي حبسه فحبسه فهرب ودعا إِلَى خلاف عبد الجبار وأتى بداعية الطالبين فقتله بالطالقان. ولبس (642) عَبْد الجبار البياض ومعه يَزِيد المدّعي أَنَّهُ إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ وكان مولى لبجيلة وعمّه بعمامة سوداء، فخطب المدّعي فِي يَوْم جمعة ودعا عَلَى الْمَنْصُور وخطب أيضًا يَوْم السبت وذكر قتل الْمَنْصُور من قتل من آل أَبِي طَالِب وبكى فأبكى النَّاس مِمَّنْ كَانَ معه.
وناهض عبد الجبار حربُ بْن زِيَاد فقُتل المدعي وهزم عَبْد الجبار فِي عُصيبة بقيت مَعَهُ، وَكَانَ لَهُ دليل فغدر وفر عَنْهُ، ثُمَّ تفرق من مَعَهُ إلا خمسة نفر ووقع فِي مقطنة ومعه كاتبه، فطلب وأتاه عَبْد الغفار بْن صَالِح الطالقاني فَقَالَ: ألقِ سَيْفك، فألقاه، ثُمَّ أتاه الجنيد بْن خَالِد بْن هريم فحمله عَلَى برذون تركي وَقَدْ شدت يده إِلَى عنقه وَهُوَ عريان قَدْ مزق النَّاس ثيابه وأرادوا قتله وتسرّعوا إِلَيْهِ فمنعهم حرب من ذَلِكَ وأنفذه إِلَى خازم وَهُوَ بسرخس، فحمله خازم إِلَى الْمَهْدِي مَعَ نضلة بْن نعيم بْن حازم، والمهدي بنيسابور، وَكَانَ المنجم مَعَهُ وعدة غيره فأمر المهدى بقطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم، وحمل عَبْد الجبار إِلَى الْمَنْصُور، ورجع إِلَى الري. فَلَمَّا صار عَبْد الجبار إِلَى الْمَنْصُور قَالَ لَهُ: استبقني يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ ولا تذهبن زلتي بحسن بلائي وحرمتي وَمَا كَانَ مني فِي هَذِهِ الدولة والدعوة، فَقَالَ:
يَا ابْن اللخناء قتلتَ نظراء قحطبة وطبخت أوليائنا طبخا، وكانت له قدر عظيمة
__________
[1] ط: قالوا.
[2] وهي تقع على 54 66 شرق و 3 40 شمال 112. - وفي ط: اشتيجز.(4/229)
كَانَ أَبُو مُسْلِم أصابها فكان يغلي فِيهَا الدهن ثُمَّ يقيم الرجل من العباسية فِيهِ حَتَّى يتفسّخ، ثُمَّ أمر بِهِ أَن تقطع [1] يده ورجله، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قتلةً كريمةً، فَقَالَ: يَا ابْن اللخناء تركتها بخراسان، فقتل وصلب بالكوفة عِنْدَ باع الْمُخْتَار [2] .
وَكَانَ خلع عَبْد الجبار فِي سنة إحدى وأربعين ومائة. وَقَدْ قَالَ قوم إِن حرب بْن زِيَاد بعث بعبد الجبار إِلَى الْمَهْدِي، وَالأَوَّل أثبت.
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: لما خلع عَبْد الجبّار كتب إِلَى مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن يسأله أَن يتوجه إِلَيْهِ أَوْ يوجه بَعْض ولده وَذَلِكَ قبل خروجه وظهوره، فأراد الشخوص إِلَيْهِ بنفسه فِي أربعين من أَهْل بيته، فَلَمَّا بلغته هزيمته رجع إِلَى الْمَدِينَةِ فخرج فِي سنة خمس وأربعين.
قَالُوا: ولما قتل عَبْد الجبار أمر الْمَنْصُور بتسيير عياله إِلَى دهلك فسبتهم الحبشة فاشتراهم قومٌ من التجّار وأرادوا إدخالهم الْمَدِينَةَ فمنعهم عَبْد الصمد بْن عَلِي من ذَلِكَ، وَكَانَ عاملًا للمنصور عَلَيْهَا، وكتب إِلَى الْمَنْصُور يعلمه خبرهم، فكتب إِلَيْهِ أَن اشترهم مِنْهُم، فاشتراهم وبعث بِهِمْ إِلَى العراق. وَكَانَ عَبْد الْعَزِيز أَخُو عَبْد الجبار واليًا عَلَى البصرة فَلَمَّا خلع أخوه وجه الْمَنْصُور أَبَا الخصيب مولاه فقدم بِهِ وولى الْمَنْصُور سوار بْن عَبْدِ اللَّهِ بن قدامة العنبري البصرة مكانه، ثم ولاها هزار مرد وَهُوَ عُمَر [3] بْن حَفْص بْن عُثْمَان بْن قَبِيصَة بْن أَبِي صفرة، وجعل سوّارًا عَلَى الصلاة والقضاء. قَالَ الْمَدَائِنِي: وكانت بِنْت عَبْد الجبار عِنْدَ روح ابن حاتم بْن قَبِيصَة بْن المهلب. وَقَالَ أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي: كَانَ يطعن فِي نسب عَبْد الجبار وَكَانَ شيعيًا، وَكَانَ أخوه عَبْد الْعَزِيز قاصًّا يرى الاعتزال، وَكَانَ لَهُ أخ يرى رأي الْجَمَاعَةِ، فقتلوا جميعًا.
قَالُوا: قدم حرب بْن زِيَاد عَلَى الْمَنْصُور فِي وجوه أَهْل خراسان فردّه الْمَنْصُور إِلَى خراسان واليًا، فَهُمْ بالخلع وأطلق لسانه بقول شيء، فبلغ ذَلِكَ الْمَنْصُور فكتب إِلَى وجوه أهل خراسان في أمره فقتل ببلخ.
__________
[1] ط: يقطع.
[2] انظر الطبري س 2 ص 742.
[3] م: عمرو وكذا في جمهرة الأنساب ص 368 والصواب عمر. انظر البيان والتبيين ج 3 ص 314، والطبري س 3 ص 139، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 204.(4/230)
أمر عَمْرو بْن عُبَيْد فِي خلافة الْمَنْصُور
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح ومسلم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب وغيرهما فسقت حَدِيثهم، (643) قَالُوا: أحرم الْمَنْصُور فِي سنة أربعين ومائة من الحيرة وحج بالناس ثُمَّ أتى الْمَدِينَةَ ومضى إِلَى بَيْت المقدس زائرًا لَهُ، ثُمَّ انصرف منه فِي سنة إحدى وأربعين ومائة إِلَى الرقة فأتي بمنصور بْن جعونة العامري فقتله، ثُمَّ قدم إِلَى الْمَدِينَةِ الهاشمية بالكوفة. وتوجه فِي سنة اثنتين وأربعين ومائة إِلَى البصرة فولى عُمَر بْن حَفْص السند، ودعا بعمرو بْن عُبَيْد مَوْلَى بَنِي تميم فوصله فلم يقبل صلته، فَقَالَ لَهُ: بلغني أَن مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن كتب إليك يدعوك إِلَى طاعته فأجبته، وَكَانَ مُحَمَّد مستخفيًا يبث دعاته، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ والله لو قلدتني الأمة اختيار إمام لَهَا مَا وجدته فكيف أجيب محمدًا وأبايعه، لَقَدْ كتب إلي فَمَا أجبتُه، فَقَالَ: صدقت يَا أَبَا عُثْمَان وبررت، فَلَمَّا ولّى قَالَ: من مثلك يَا عُمَرو! وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قدم الْمَهْدِي من خراسان فبنى بامرأته ريطة بِنْت أَبِي الْعَبَّاس بالحيرة فِي شَهْر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة وحج مَعَ الْمَنْصُور فِي هَذِهِ السنة فأُخبر الْمَنْصُور أَن عَمْرو بْن عُبَيْد حاج فدعاه واستدناه وأكرمه وسأله أَن يعظه فوعظه. وقضى عَمْرو بْن عُبَيْد حجته وانصرف فمات فِي طريقه فِي آخر السنة، فبلغ الْمَنْصُور موتُه فَقَالَ: يرحم اللَّه عمرًا هيهات أَن يُرى مثل عَمْرو.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن سَعْد، عَنِ الْهَيْثَم بْن عدي، قَالَ: لما بايع [1] الْمَنْصُور للمهدي كتب إِلَى عَمْرو بْن عُبَيْد كتابًا لطيفا يستزيُره فِيهِ وكتب إِلَى عامله عَلَى البصرة فِي إشخاصه مكرّمًا، فَلَمَّا صار إِلَيْهِ بالكوفة ودخل عَلَيْهِ استدناه وَقَالَ:
كَيْفَ كنت بعدي أَبَا عُثْمَان؟ فَقَالَ: أَحْمَد اللَّه وأذُمّ عملي، فتغرغرت عينا الْمَنْصُور ثُمَّ قَالَ لَهُ: عظني يَا أَبَا عُثْمَان، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِن اللَّه أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببَعْضهَا واعلم أَن الأمر الَّذِي صار إليك لو بقي لمن قبلك لَمْ يصل إليك واعلم أنك لست أول خليفة تموت فاحذر يا أمير المؤمنين ليلة
__________
[1] م: بلغ.(4/231)
صبيحتها الْقِيَامَة، ليلة تتمخض [1] بيوم الفزع الأكبر، إِن اللَّه يَقُول: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ، إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ ... إِلَى قَوْله: لبالمرصاد [2] ، ثُمَّ قَالَ: هَذَا تخويف لمن سلك جادتهم واتبع آثارهم. فبكى الْمَنْصُور ونزل عَنْ فرشه ثُمَّ سكن، فَقَالَ: يَا أَبَا عُثْمَان ناولني هَذِهِ الدواة، فأبى أَن يناوله، فَقَالَ: أقسمت لتفعلنّ، فَقَالَ: والله لا ناولتك إياها، فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِي، وَكَانَ حاضرًا: يحلف عليك أمِير المؤمنين فتردّاه باليمين! فَقَالَ: إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ [3] أقدر عَلَى الكفارة مني، ثُمَّ قَالَ: من هَذَا الفتى يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ؟ قَالَ: هَذَا ابْن أخيك هَذَا مُحَمَّد الْمَهْدِي ولي عهد الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: أرى شبابًا وجمالًا ونشاطًا وَقَدْ رشحته لأمر يصير إِلَيْهِ إِن صار وأنت عَنْهُ فِي شغل وَقَدْ وطأت لَهُ الدنيا وأنت منتقل عَنْهَا إِلَى الآخرة فهناك الحساب، إِن اللَّه قَدْ جعلك فَوْقَ كُل أحد فلا ترضى أَن يَكُون فوقك فِي طاعته أحَدٌ. ثُمَّ سكت عَمْرو، فَقَالَ لَهُ الْمَنْصُور: سلني حوائجك، فَقَالَ: حاجتي أَن لا تبعث [4] إليّ حَتَّى أجيئك ولا تعطني شيئًا حَتَّى أسألَك، ثُمَّ نفض ثوبه وقام، فاتبعه الْمَنْصُور بصرهُ وَقَالَ: شُغِلَ والله الرجل بِمَا هُوَ فِيهِ عما نَحْنُ فِيهِ، وَقَالَ:
كلكم طَالِب صيد ... وَهُوَ ذو مشي رُوَيْدِ
غَيْر عَمْرو بْن عُبَيْد
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب، عَنِ الفضل (644) بْن الرَّبِيع عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
دَخَلَ عَمْرو بْن عُبَيْد عَلَى الْمَنْصُور وعليه طيلسان مخرق فأخذ الْمَنْصُور طيلسانًا كَانَ عَلَيْهِ طبريًا فألقاه فَوْقَ ظهره وَقَالَ لَهُ: عظني، فوعظه حَتَّى بكى، ثُمَّ قَالَ لَهُ:
سلني حوائجك، قَالَ: أولها أَن تأمر برفع الطيْلسان عني وأن لا تعطني شيئًا حَتَّى أسألك ولا تبعث إليّ حَتَّى أجيئك فَإِنَّهُ إِن جمعني وإياك بلد صرت إليك فِيهِ، ثُمَّ مضى. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيُّ، حَدَّثَنِي أَبُو نعيم الفضل بن دكين،
__________
[1] ط: يتمخض.
[2] سورة الفجر (89) ، الآيات 6- 14.
[3] سقطت كلمة «المؤمنين» من ط، د.
[4] ط: يبعث.(4/232)
حَدَّثَنِي عَبْدُ السَّلام بْن حرب، قَالَ: قدم أَبُو جَعْفَر البصرة فنزل عِنْدَ الجسر الأكبر وبعث إِلَى عَمْرو بْن عُبَيْد فجاءه فأمر لَهُ بمال فَقَالَ: والله لا أقبله، فَقَالَ الْمَنْصُور: لتقبلنه، فَقَالَ لَهُ الْمَهْدِي يوهمه: إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ حلف لتقبلنه [1] ، فَقَالَ عَمْرو: أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أقوى عَلَى الكفارة عَنْ يمينه من عمك، قَالَ لَهُ الْمَنْصُور:
يَا أَبَا عُثْمَان، أعلمت أني قَدْ جعلت محمدًا وليّ عهد الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: يأتيه الأمر يَوْم يأتيه وأنت مشغول عَنْهُ، قَالَ: يَا أَبَا عُثْمَان ذكَّرنا، قَالَ: أذكرك ليلة تمخض عَنْ صبيحة يَوْم الْقِيَامَة. حَدَّثَنِي عَلِي بْن الْمَأْمُون قَالَ: حُدث الْمَأْمُون أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بأن الْمَنْصُور كَانَ يكني عَمْرو بْن عبيد، فقيل لَهُ: إن أمير الْمُؤْمِنيِنَ يكنّيك، فَقَالَ: مَا ذكرتُ ذَلِكَ إلا دخلتني لَهُ غضاضة، فَقَالَ الْمَأْمُون:
هَذَا باطل كَانَ عَمْرو أعقل وأحلم من أَن يَقُول هَذَا القول.
حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد التوزي النحوي عَنْ أَبِي زَيْد الْأَنْصَارِيّ، قَالَ: مشى شبيب ابن شَيْبَة ونفرٌ مَعَهُ إِلَى عَمْرو بْن عُبَيْد فَقَالُوا لَهُ: يَا أبا عُثْمَان إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور قَدْ قدم ولا نراه قدم إلّا لمكانك لينظر فيما بلغه من كتاب مُحَمَّد إليك فتنحّ عَنْهُ، فأطرق ثُمَّ قَالَ: لا يَكُون والله ذاك حَتَّى أقوم بِمَا يجب لِلَّهِ [2] عَلِي استحياني أَوْ قتلني.
قَالَ أَبُو زَيْد [3] : فَقَالَ الْمَنْصُور لعمرو: أبايعت مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ؟ فَقَالَ: لو قلدتني الأمة أَن اختار لَهَا رجلًا مَا وجدته، فكيف أبايع محمدًا. قَالَ: وكتب أَبُو جَعْفَر إِلَى عَمْرو كتابًا عَنْ لسان مُحَمَّد، فَلَمَّا قرأه خرقه، فطلب الرَّسُول جواب الكتاب فلم يجبه، فألح الرَّسُول عَلَيْهِ، فَقَالَ: دعونا نشرب من الماء البارد وننتقل [4] فِي هَذَا الظل إِلَى أَن يَأْتِي الْمَوْت، فَقَالَ أَبُو جَعْفَر: هَذَا ثغر قَدْ أمنّاه.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب، عَنِ الفضل بْن الرَّبِيع، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ عَمْرو بْن عُبَيْد عَلَى الْمَنْصُور ودخل رَجُل حسن الأدب كأنما لَمْ يزل مَعَ الملوك فأجلسه الْمَنْصُور إِلَى جانبه فأبى إلّا أَن يجلس بَيْنَ يديه، ثُمَّ قَالَ لَهُ:
إِن اللَّه واقفك وسائلك عَنْ مثاقيل الذر من الخير والشر وأن أمَّة مُحَمَّد خصماؤك
__________
[1] ط: ليقبلنه.
[2] «لله» ليست في م.
[3] سقط النص «استحياني ... قال ابو زيد» من م.
[4] ط: ينتقل.(4/233)
يَوْم الْقِيَامَة وَإِنَّكَ لا ترضى لنفسك إلا بأن يعدل عليك فَإِن [1] اللَّه لا يرضى منك إلّا بالعدل عَلَى رعيتك يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، إِن عَلَى بابك نيرانًا تأجج من الجور، فبكى الْمَنْصُور ونشج فَقَالَ سُلَيْمَان بْن مجالد: يَا عَمْرو قَدْ شققتَ [2] عَلَى أمِير المؤمنين، فقال: ويحك إنّ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ ميّت ومُخلٍّ مَا فِي يديه من هَذِهِ الدنيا ومرتهن بعمله، وأنت غدًا جيفة بالعراء لا تغني عَنْهُ شيئا، ولقرب هذا [3] الجوار منه خير لَهُ من قربك، يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ! إِن هَؤُلاءِ اتخذوك سلمًا إِلَى درك إرادتهم وصفاء دنياهم لَهُمْ فكلهم يوقد عليك، قَالَ: فكيف أصنع يَا أَبَا عُثْمَان، ادعُ لي أَصْحَابك (645) استعملهم، قَالَ: أدعهم أَنْتَ وأطرد هَؤُلاءِ الشياطين عَنْ بابك فَإِن أَهْل الدين لا يأتون بابك وَهَؤُلاءِ محيطون بك لأنهم إِن باينوهم وَلَمْ يعملوا بأهوائهم أرشوك بِهِمْ وحملوك عَلَيْهِم والله لئن رأوك عُمّالك لا تقبل [4] مِنْهُم إلا العدل ليتقربنّ إليك بِهِ من لا نيّة لَهُ فِيهِ.
حَدَّثَنِي التوزي عَنْ أَبِي زَيْد قَالَ: قدم الْمَنْصُور البصرة قبل الخلافة فَقَالَ عَمْرو بْن عُبَيْد لبحر بْن كثير السقاء: قَدْ قدم هَذَا الرجل وَكَانَ زوّارًا إِذَا قدم بلدنا فامض بنا إِلَيْهِ، فأتياه فَلَمَّا وقفا ببابه نادى عَمْرو: يَا [5] جارية، فأجابته جارية، فَقَالَ [6] : قولي لأبي جَعْفَر: أَبُو الفضل وأبو عُثْمَان، فأذن لهما فدخلا عَلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عَلَى مصلّى مخلق دارس وإذا بَيْنَ يديه طبق عَلَيْهِ قصعة فِيهَا مرق لا لحم فِيهِ، فَقَالَ: يَا جارية أعندكِ شَيْء تزيديناه؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: أفعندكِ درهم نشتري بِهِ فاكهة لأبي عُثْمَان؟ قَالَتْ: لا، قَالَ: ارفعي، عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ في الأرض فينظر كيف تعملون [7] . وَحَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّد التوزي عَنْ أَبِي عُبَيْدَة، قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور لعمرو بْن عبيد: أكاتبت عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن [8] ؟ فَقَالَ: جاءني كتاب يشبه أَن يَكُون كتابه فأجبتُه
__________
[1] م: وإن.
[2] م: شفقت.
[3] ط: هذه.
[4] ط: يقبل.
[5] «يا» سقطت من م.
[6] د: قال.
[7] سورة الأعراف (7) ، الآية 129.
[8] د: حسين.(4/234)
بخلاف مَا أحبّ، وأنت تعرف رأيي فِي الخروج، قَالَ: أفتُبرئ صدري بيمين؟
قَالَ: وَمَا تصنع باليمين، لئن كذبتُ تقية لاستجيزنّ أَن أحلف لَك تقية.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب، عَنِ الفضل بْن الرَّبِيع عَنْ أبيه قَالَ: دعا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور بعمرو بْن عبيد فَلَمَّا استأذنتُ لَهُ وكانت عَلَيْهِ جبَّةُ وَشي دعا بمبطنة مروية فلبسها ثُمَّ نزل عَنْ فرشه، فَقُلْتُ: يَا نفس مَا كنت أظن أَبَا جَعْفَر يداري أحدًا. حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: كَانَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور يَقُول: الندم عَلَى السكوت خير من الندم عَلَى الْكَلام.
أمر الراوندية ومعن بْن زائدة
حَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود والعمري عَنِ الهيثم وغيره، أَن قومًا من أَصْحَاب أَبِي مُسْلِم من أَهْل خراسان كَانُوا يقولون بتناسخ الأرواح، فيزعمون أَن روح آدم عَلَيْهِ السَّلام فِي عُثْمَان بْن نهيك، ويقولون إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ يرزقنا ويطعمنا ويسقينا فَهُوَ ربنا، وأنه لو شاء أَن يسير الجبال لسارت ولو أمرنا أَن نستدبر القبلة لاستدبرناها، وكانوا يطوفون حول قصر الْمَنْصُور فيقولون قولًا عظيمًا، فحبس الْمَنْصُور مِنْهُم نحوًا من مائتين من رؤسائهم فغضب أَصْحَابهم. وَكَانَ الْمَنْصُور أمر أَن لا يجتمعوا، فاتخذوا نعشًا وأظهروا أَن فِيهِ امْرَأَة ميتة وملأوه سلاحًا ثُمَّ حملوه ومروا إِلَى بَاب السجن فأخرجوا أَصْحَابهم وَهُمْ مائتان وكانوا أربع مائة فتتاموا ست مائة، وقصدوا القصر فتنادى الناس وأغلقت أَبُواب الْمَدِينَةِ. وخرج الْمَنْصُور يمشي من القصر وَلَمْ يكن عنده دابة، فَمَنْ ذَلِكَ اليوم ارتبط فرسًا فِي القصر يَكُون مَعَهُ، فلما برز أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أُتي بدابة فركبها وقصد قصدهم، فجاء معن بْن زائدة الشيباني حَتَّى دنا منه ثُمَّ ترجل وأخذ أسافل ثيابه فجعلها فِي منطقته وأخذ بلجام دابة أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وَقَالَ: أنشدك اللَّه إلّا رجعت فإنك تُكفى إِن شاء اللَّه. ونودي فِي أَهْل السوق والعامة فرموهم بالحجارة وقاتلوهم وفتح بَاب الْمَدِينَةِ (646) فدخل النَّاس، وجاء خازم عَلَى فرس محذوف فحمل عَلَيْهِم فكشفهم، وقاتل معن يَوْمَئِذٍ قتالا [1] لم ير مثله فكان المنصور
__________
[1] زاد في م: شديدا.(4/235)
يَقُول: كنتُ اسمع أنّ رجلًا يقاتل ألفًا فلم أصدق حَتَّى رَأَيْت معنًا، فقتلوا عَنْ آخرهم وَهُمْ ست مائة. ورُمي عُثْمَان بْن نهيك بْنشابة مرض منها فمات، فصار أَبُو الْعَبَّاس الطوسي عَلَى الحرس مكانه. وَكَانَ أمرُ الراوندية بالمدينة الهاشمية بالكوفة فِي سنة تسع وثلاثين ومائة أَوْ فِي أول سنة أربعين وجاء الرَّبِيع فأخذ بلجام دابة الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ معن: تنحّ يَا بَنِي فَلَيْس هَذَا من أيامك. ولما صار الْمَنْصُور إِلَى القصر دعا بالعشاء وأمسك يده حَتَّى أتي بمعن، وأمر بَعْض أَهْل بيته فتزحزح لَهُ حَتَّى جلس مكانه، فَلَمَّا فرغوا من العشاء قَالَ الْمَنْصُور لعيسى بْن عَلِي: يَا أَبَا الْعَبَّاس أَسمعتَ بأسَد الرجال، هُوَ والله معن بْن زائدة، فَقَالَ معن [1] : والله مَا قوّي مُنتي [2] إلّا مَا رأيتُ من شجاعتك ولقد وردتُ وَجِلَ القلب حَتَّى أبصرتك، فَقَالَ: أخبرهم عني بِمَا رَأَيْت.
وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور لمعن بْن زائدة:
يَا أَبَا الْوَلِيد لَقَدْ كبُرتْ سنك، قَالَ: فِي طاعتك، قَالَ: وإنّ [3] فيك لبقية، قَالَ: هِيَ لَك، قَالَ: وَإِنَّكَ لتتجلّدُ، قَالَ: عَلَى أعدائك. قَالَ: وَقَالَ لَهُ:
أني لأعدّك لأمر جسيم، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إنّ اللَّه قَدْ أعدّ لَك مني قلبًا معقودًا بنصيحتك وَيَدًا مبسوطةً بطاعتك وَسَيْفًا مشحوذًا عَلَى أعدائك، قَالَ:
ويقال إِن هَذَا قَوْل جَرِير بْن يَزِيد بْن خَالِد.
وَحَدَّثَنِي العمري، حَدَّثَنِي الهيثم، قَالَ: كَانَ معن مَعَ ابْن هبيرة فاستأمن هُوَ وطارق بْن قدامة، فَلَمَّا قتل ابْن هبيرة كَانَ معن بالكوفة قَدْ وجه ببشارة فتح واسط وصلح ابن هبيرة فأقدم فِي أهله فنجا وقتل طارق، ثُمَّ ظهر من مناصحة معن مَا قدّم بِهِ عَلَى جَمِيع القواد فولاه الْمَنْصُور مصر. وَكَانَ كاتبه مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن المقفع وَكَانَ جوادًا حلوًا ظريفًا أتاه رجلٌ بكتاب مزور لَمْ يجفّ طينه فقرأه ثُمَّ كلم فِيهِ معنًا فولاه ولاية سنيَّة أفاد فِيهَا مالًا، فَلَمَّا انصرف أتى محمدًا فَقَالَ لَهُ: أني أريد العراق، فأمر لَهُ بألف دِينَار وَقَالَ له: ان كان من رأيك العودة
__________
[1] سقطت كلمة «معن» من م.
[2] م: متني.
[3] م: فان.(4/236)
إلينا فافعل وإن كتب لَك صديقنا إلينا كتابًا فانتظر أَن يجف طينهُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِن حسن ظنك والله بنا أَعْظَم الوسائل لَك عندنا [1] ، وَمَاتَ مُحَمَّد بمصر.
وولي معن اليمن فأعطى عطايا لَمْ يعط مثلها أحد، وقدم عَلَيْهِ أعرابي من بَكْر بْن وائل فأنشده:
أصلحك اللَّه قلَّ مَا بيدي ... فما أطيق العيال [2] إذ [3] كثروا
ألَجَّ دهرٌ أنحى [4] بكلكلهِ ... فأرسلوني إليك وانتظروا
فَقَالَ: لا جَرمَ، لأعجلنّ أوبتك إليهم، يَا غلام أعطه ألف دِينَار وناقتي الفلانية. ومدحه رَجُل فَقَالَ:
أَنْتَ امرؤُ همك المعالي ... وفيضُ معروفك الربيعٌ
وأنت من وائل صميمٌ ... كالقلبِ تحنو لَهُ الضلوعُ
فِي كُل يَوْم تزيد خيرًا ... يُشيعُهُ عَنْك [5] مَا يشيعُ
فَقَالَ [6] : لأصلنك صلة شائعة الذكر، وأمر لَهُ بمائة ألف درهم. وَحَدَّثَنِي العمري عَنْ غَيْر الهيثم، قَالَ: كَانَ معن يَقُول: لَمْ أرَ كالشعر، لا يؤاتيني جيدهُ ولا يدعني ردّيهُ. (647) قَالَ: ونظر معن إِلَى الْخَطَّاب بْن يَزِيد يخطر فِي دار الْمَنْصُور، وَكَانَ قَدْ وُجّه إِلَى بَعْض الشراة فهرب منهزمًا، فَقَالَ:
هلَّا مشيتَ كَذَا غداةَ لقيتهم ... وصبرتَ عِنْدَ الْمَوْت يَا خطابُ
نجّاك [7] خوّار العنان كَأَنَّهُ ... فوت الرماح إِذَا استحث عُقاب
وَحَدَّثَنِي الحرمازي عَنْ أَبِي اليقظان، قَالَ: ولد لمعن زرارة وكان خليفته على
__________
[1] سقطت «لك عندنا» من ط.
[2] ط: العبال.
[3] ط: إذا.
[4] ط: دهرا يحي.
[5] م: منك.
[6] زاد في م: له.
[7] د، م: فجاك، ط: فجاءك. ولعل الصواب ما أثبتنا.(4/237)
اليمن، والوليد وشراحيل وجسّاس و [1] يزيد، ويكنى أَبَا دَاوُد، ومزيد وغيرهم فَقَالَ معن:
لا تسألنّ أَبَا دَاوُد شبعته ... عوّل عَلَى مزيدٍ فِي الخبز واللبن
وَفِي النبيذ إِذَا مَا جزرة نحرت ... فَإِنَّهُ بقرى [2] الأضياف مرتهن
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن حَفْص الكاتب عَنْ خَالِد بْن يَزِيد، أَن معن بْن زائدة قَالَ:
يحتاج الخطيب إِلَى تخليص المعاني وتلخيصها مَعَ قلة حصر وجرأة عَلَى البشر، وَقَالَ:
الصمتُ عَنِ الْكَلام فِي موضعه عيُّ يضع الشريف ويُهجنّهُ. قَالَ: وَكَانَ معن فِي دار الْمَنْصُور فسقط حائط او حدث أمر تقوّض [3] النَّاس لَهُ وَكَانَ يحدث ورجل يستمع حَدِيثه لَمْ يقم عَنْهُ مَعَ من قام، فَلَمَّا انصرف إِلَى منزله وكل بالرجل من أتاه بِهِ [4] فأمر لَهُ بكسوة وألف دِينَار، وَقَالَ لَهُ: هَذَا لحَسَن استماعك حَدِيثي [5] وإيناسك إياي.
حدثني العمري عن الهيثم بن عدي، قال: بعث معن إِلَى ابْن عَبَّاس:
بعني دينك بألف دِينَار، فبعث إِلَيْهِ: قَدْ بعتك إياه إلا شهادة أَن لا إله إلا اللَّه ولو كَانَتْ من شأنك لسامحتك فِيهَا. وولي معن سجستان للمنصور، فاندس لَهُ قوم من الخوارج مَعَ قوم من الصناع كَانُوا يعملون فِي داره ففتكوا بِهِ وَهُوَ يحتجم، فقتلهم يَزِيد بْن مزيد فلم يفلت مِنْهُم أحدٌ، فرثاه الشعراء، وفيه يَقُول حُسَيْن بْن مطير الأسدي فِي قصيدة لَهُ [6] :
ألا بكِّ معنا ثُمَّ قُل لدياره [7] ... سقتكِ الغوادي مربعًا ثُمَّ مربعا
__________
[1] ط: ابن.
[2] ط، م: يقري.
[3] ط: يقوض.
[4] سقطت «به» من ط.
[5] ط: حدثني.
[6] انظر الاغاني ج 15 ص 336، والحماسة البصرية ج 1 ص 209، وتهذيب تاريخ ابن عساكر ج 4 ص 363، والحماسة لابي تمام ج 1 ص 388، والامالي للقالي ج 1 ص 275، وشعره ص 172- 3، وسمط اللآلي ج 1 ص 609.
[7] الاغاني وشعر الحسين بن مطير الاسدي: ألمّا بمعن ثم قولا لقبره، الامالي: ألمّا على معن وقولا لقبره.(4/238)
فيا قبرَ معنٍ كنتَ أول بقعة [1] ... من الأَرْض حُطت للمكارم [2] مضجعًا
ويا قبر معنٍ حلّك الجودُ كله ... وَمَا ضمّ قبرٌ قبلكَ الجودَ اجمعا
[3]
ولما [4] مضى معن مضى الجودُ كله [5] ... وأصبح [6] عرنين المكارم أجدعا
فتًى عِيشَ فِي معروفه بَعْد موتهِ ... كَمَا عاد [7] بَعْد السيل مجراهُ مرتعا
وَقَدْ كَانَ معنٌ فِي المواقفِ غُرَّةً ... لآل نزار سامِيَ الطرفِ أروعا
ومدح شاعر الْوَلِيدَ بْن معن، فَقَالَ:
تعزَّ أَبَا الْعَبَّاس بالصبر لا يكن [8] ... نصيبك من معن الندى ان تضعضعا
[9]
فَمَا مَاتَ من كنتَ ابنه لا ولا الَّذِي ... لَهُ مثلُ مَا أسدى أبوك وَمَا سعى
وَمَا كَانَ مسبوقًا بوتر وَلَمْ يدع ... إِلَى الغرض الأقصى من المجد منزعا
وَحَدَّثَنِي العمري قَالَ: كَانَ بَعْض [10] الأعراب يَأْتِي [11] معنًا فيعطيه، ويغيب عَنْهُ فيبعث إِلَيْهِ بصلته، فأبطأت عَلَيْهِ صلته مرةً فقدم من البادية فألفاه قَدْ جاء نعيه وأتى ولده فلم يجد عندهم مَا أحب فوقف عَلَى مجلسٍ هُمْ فِيهِ مجتمعون فَقَالَ: لِلَّهِ درك يَا معن، رحمك اللَّه أَبَا الْوَلِيد إِن كنت لمنتهى فخر عشيرتك وبدْع الكرام فِي أَهْل دهرك، فلو كنتَ إذ مُتَّ أبقيتَ لنا خلفًا منك سليتنا [12] عَنْك ببعضك فكيف العزاء وَقَدْ ذهب كلك، (648) إنا لِلَّهِ وإنا إِلَيْهِ راجعون، وأنشأ يقول:
__________
[1] يرد الشطر في الاغاني والحماسة: أيا (الحماسة وشعر الحسين: فيا) قبر معن أنت (شعر الحسين:
كنت) أول حفرة، ابن عساكر والامالي: بقعة.
[2] الاغاني والامالي وشعر الحسين: للسماحة.
[3] الحماسة وشعر الحسين والامالي:
... كيف واريت جوده ... وقد كان منه البر والبحر مترعا.
[4] ابن عساكر: فلما.
[5] ابن عساكر: والندى، الحماسة لابي تمام: ... مضى الجود فانقضى (الامالي وشعره: وانقضى) .
[6] ابن عساكر: فاصبح.
[7] الاغاني وشعره: كان.
[8] سمط اللآلي ج 1 ص 609: ... عنه ولا يكن.
[9] يرد الشطر في سمط اللآلي: عزاؤك من معن بان تتضعضعا.
[10] سقطت «بعض» من ط.
[11] ط: تأتي.
[12] ط: سلينتا.(4/239)
يَا معنُ كنت بداءة الكرم ... وغنى المُقلِّ وطاردَ العدم
فسطا عليك الدهرُ مقتدرًا ... بصوائب من صرفه غُشُم
وأراك لَمْ تترك لنا خلفًا ... يأوي إِلَى فضل ولا كرم
فعليك يَا معن السَّلام فَمَا ... أبقيت معتصمًا لمعتصم
وأنشدني الفضل بْن زِيَاد من ولده لبعضهم:
كَانَتْ سحائب معن الخير تمطرنا ... فَقَدْ تولى فلا معنٌ ولا مطرُ
مَن للجفانِ إِذَا عز القِرى رذما ... وللطعان إِذَا مَا استشعر الحصرُ
وبلغني أَن رجلًا مدح مَعْنًا فَقَالَ [1] :
أتيتُكَ إذ لَمْ يبقَ غيرك جَابِر ... ولا واهبٌ يعطي اللهى والرغائبا
فَقَالَ معنٌ: يَا أَخَا بَنِي أسد لَيْسَ هَذَا بمديح إِنَّمَا المديح قول اخي بني تميم مسمع بْن مَالِك حِينَ قَالَ:
قَلَّدَتْه عرى الأمور نزار ... قبل أَن يَهلِك [2] السُّراةُ البحورُ
بَاب [فِي تلطيف الحرارة]
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب قَالَ: أصاب عِيسَى بْن عَلِي فِي بَعْض الليالي حر شديد فبُل لَهُ إزار فنام فِيهِ، فَلَمَّا أصبح قَالَ لَهُ الْمَنْصُور: يَا عم كَيْفَ كنت فِي ليلتك من هَذَا الحر؟ فَقَالَ: بللت إزارًا ونمت فِيهِ فكنتُ بخير ونمتُ أطيب نوم، فَقَالَ: وأنا والله أمرت فبُلّ لي ثوبٌ فنمتُ فِيهِ ثُمَّ لَمْ أزل أرَوِّح.
ثُمَّ إِن الْمَنْصُور فكّر فأمر فأتي بكرابيس غلاظٍ ثخانٍ فبُلّت وجعلت عَلَى ثلاثة أعواد مثل السبائك ونام تحتها، ثُمَّ أخبر عِيسَى بْن عَلِي بِمَا صنع واتخذ عِيسَى مثل ذَلِكَ. ثُمَّ قَالَ عِيسَى: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ لو اتخذت قبة ثم غشيت بمثل هذه الكرابيس
__________
[1] انظر الخبر في الموشح للمرزباني ص 231، والبيت للحسين بن مطير الاسدي. انظر ديوانه ص 139.
[2] في الموشح: تهلك.(4/240)
المبلولة وجعلت طاقات كَانَ ذَلِكَ أنفى [1] للحر وأوسع فِي المبيت والمقيل، فَقَالَ الْمَنْصُور: أَوْ غَيْر ذَلِكَ يَا عم، يعمد إِلَى هَذَا الخيش الَّذِي يَأْتِي فِيهِ القند والأمتعة من مصر فيغسل وينظف ثُمَّ يبل [2] وتغشى بِهِ القبة مخيطًا عَلَيْهَا فَإِنَّهُ أحبس لرطوبة الماء وأبطأ جفوفًا، فأمر الْمَنْصُور بِذَلِك وتتبع الخيش فاشتري من التجار، وأمر فكتب إِلَى مصر فِي اتخاذ شقاق الخيش ووجه فِي ذَلِكَ رسولًا حمله فاستعمله ثُمَّ استعمله النَّاس. وكانت للمهدي فِي أَيَّام أَبِيهِ قبة تنقل من مقيله إِلَى مبيته ومن مبيته إِلَى مقيله، وَكَانَ أول من اتخذ لَهُ الخيش الأبيض المهدي في خلافته. قال:
وكانت الخيزران أول من اتخذ السرايح.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك قَالَ: كَانَ أول من اتخذ الشمع الغلاظ الَّتِي فِيهَا الأمناء الْوَلِيد بْن يَزِيد ثُمَّ صَالِح بْن عَلِي بمصر، وإنما كَانَتْ لبني أميَّة وَمَنْ قبلَهم من الملوك بالشام سِوَى الْوَلِيد شمعٌ فِي الشمعة منها الرطلان والثلاثة الأرطال وكانت لَهَا أتوار صغار فِي التور منها شوكة ترزّ الشمعة فِيهَا أَوْ [3] مسرجة عَلَيْهَا شوكة.
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي عَنْ أَبِي الْيَقْظَانِ عَنْ جُوَيْرِيَةَ، قَالَ: كتب أَبُو بكر بن محمد ابن عَمْرو بْن حزم [4] إِلَى عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز، وَهُوَ عامله عَلَى الْمَدِينَةِ: إِن من قبلي من الأمراء كَانَ يجري عَلَيْهِم رزق للشمع [5] ، فكتب إِلَيْهِ: إنك طال مَا مشيت فِي طرق الْمَدِينَةِ (649) بلا شمع يُمشى بِهِ [6] بَيْنَ يديك فأعرض عَنْ هَذَا ولا تعاودني فِيهِ. وَحَدَّثَنِي أَبُو اليسع الأنطاكي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتْ ملوك بَنِي أمية تستصبح بالزيت فِي القناديل ويُمشى بَيْنَ أيديها بالشمع الطوال التي طول الواحدة منها ثلاثة أشبار وَكَانَ من دونهم يستعملون من الشمع الفتايل المثني بَعْضهَا عَلَى بَعْض، فلما كَانَ يَزِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك اتخذ لَهُ من الشمع الطوال مَا فِيهِ ستة أرطال أَوْ أَكْثَر من ذَلِكَ، ثُمَّ أسرف الوليد في استعمال الشمع في مجالسه.
__________
[1] م: أتقى.
[2] ط: تبل.
[3] م: و.
[4] ط، د: حرم. انظر الذهبي- تراجم رجال روى عنهم ابن إسحاق (ن. فيشر) ص 89 وص 90، وص 91، الطبري س 2 ص 1191 وس 3 ص 1346 وص 1358.
[5] ط، م: الشمع.
[6] سقطت «به» من ط.(4/241)
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك قَالَ: مَا كَانَ الْمَنْصُور يستصبح إلا بالزيت فِي القناديل وربما خرج إِلَى الْمَسْجِد ومعه من يحمل سراجًا بَيْنَ يديه، ثُمَّ إنه حمل بَيْنَ يديه من الشمع ما فِيهِ الرطل والمَنَا [1] وَكَانَ إِذَا أراد قراءة الكتب أَوْ كتابها [2] أحضر شمعة فِي تور ثُمَّ يرفع إِذَا فرغ.
حَدَّثَنِي أَبُو هِشَام الرفاعي، عَن عمه، عَن عَبْد اللَّهِ بْن عياش، قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور لأبي أيوب كاتبه فِي أمر قطيعة أراد أَن يقطعها [3] بَعْض ولده: التمسوا حدودها فِي ديوان الأحول فَإِنَّهُ كَانَ ضابطًا لأمره، يَعْنِي هشامًا.
أمر أَبِي أيوب المورياني كاتب أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور
الْمَدَائِنِي قَالَ: كَانَ أَبُو أيوب سُلَيْمَان بْن أَبِي سُلَيْمَان المورياني، مَوْلَى بَنِي سليم فيما يُقَالُ، فِي مجلس من مجالس ديوان يُوسُف بْن عُمَر، فَلَمَّا قدم يَزِيد بْن عُمَر ابن هبيرة العراق واليًا عَلَيْهَا استعمل الفضل بْن زهير الضَّبِّيّ عَلَى مناذر، فَقَالَ لَهُ أَبُو أيوب: أَنَا خليفتك بباب ابْن هبيرة فِي حوائجك فلا تهتم بِهَا واستوص بخالد أَخِي خيرًا واحفظه وأرفقه، فوليها سنة. ثُمَّ وَجَّهَ ابْن هبيرة رجلًا من أَهْل الشام إِلَى مناذر عاملًا عَلَيْهَا فزور أَبُو أيوب إِلَيْهِ كتابًا فِي ترك مناظرة الفضل بْن زهير فيما جرى عَلَى يده [4] والتخليه بينه وبين الانصراف، فاطلع ابْن هبيرة عَلَى ذَلِكَ من فعل أَبِي أيوب فأمر بطلبه فهرب إِلَى سوق الأهواز فاستخفى بِهَا حَتَّى قدم المسودة العراق فأتى أَبُو أيوب واسطًا والحسن بْن قحطبة محاصر لابن هبيرة والمنصور بعدُ بخراسان حِينَ وجَّهه أَبُو الْعَبَّاس إِلَيْهَا أول مَا استخلف لتهنئة أَبِي مُسْلِم وأخذ البيعة عَلَيْهِ، فَلَمَّا قدم الْمَنْصُور ووجَّهه أَبُو الْعَبَّاس إِلَى واسط اتى أبو أيوب ابراهيم ابن جبلة بْن مخرمة الكندي، وَكَانَ كريمًا عَلَى المنصور، فسأله أن يضمه إِلَى أَبِي جَعْفَر ليجعله كاتبه، فكلمه فِيهِ وأعلمه نفاذه وأنه كَانَ يقوم بديوان يوسف بن عمر،
__________
[1] ط: المناه.
[2] م: كتابتها.
[3] م: يقتطعها.
[4] د: يديه.(4/242)
فلما رآه أعجب بِهِ فاستكتبه فغلب عَلَى الأمر فِي خلافته. فكان أول من أفسد [1] حال أَبِي أيوب عِنْدَ الْمَنْصُور حَمْزَةُ بْن زُنَيم وَذَلِكَ أَنَّهُ ولي الأهواز فعذب رجلًا من أهلها فِي الخراج وَكَانَ كاتب البلد حَتَّى قتله، فكلم الْمَنْصُور أَبُو أيوب فِي أمره حَتَّى عزله، فَلَمَّا قدم ودخل عَلَى الْمَنْصُور وَكَانَ خبيث اللسان قَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِن لَك بالأهواز شريكًا فِي ملكك، قَالَ: ومن هُوَ ويلك؟ قَالَ: خَالِد أَخُو أَبِي أيوب لَهُ بَيْت مال ولك بَيْت مال فَمَا يحمل إليك درهم إلا حمل إِلَى خَالِد مثله، فَقَالَ أَبُو أيوب: إِن هَذَا قَدِ اختلط، ومن اختلاطه قتله كاتب البلد، فَقَالَ: مَا اختلطتُ ولكني صدقتُ فادفع إليّ خالدا حَتَّى ادفع إليك خمسين ألف ألف درهم، فَقَالَ الْمَنْصُور: قُمْ، وَقَدْ وقر قولُه (650) فِي قلبه. ومكث الْمَنْصُور حينًا ثُمَّ قَالَ لأبي أيوب: اكتب إِلَى أخيك خَالِد أَن يحمل [2] إلينا مالًا من بَيْت ماله، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، إِن ذاك [3] بَيْت مال مشهور صيره خَالِد للمهدي من ضياع استخرجها وابتاعها ومن أشياء كَانَ العمال يرتفقون بِهَا، فرأى أَن الْمَهْدِي أحق بِهَا، قَالَ: فكم اجتمع فِيهِ؟ قَالَ: عشرون ألف ألف درهم، قَالَ: فاكتب إليْه أَن يحملها، فحُملت، وكفّ عَنْ خَالِد أَخِي أَبِي أيوب. قَالَ: وحَسَد مخلد بْن خَالِد أبان بْن صدقة، وَكَانَ أبان عَلَى أمر أَبِي أيوب كُلِّهِ وعلى الرسائل من قبله فرفع [4] عَلَيْهِ مائة ألف دِينَار، فأمر الْمَنْصُور بأخذها من أبان، فأدخل بيتًا وطينّ عَلَيْهِ بابه. ثُمَّ ندم مخلد بْن خَالِد عَلَى رفيعته ولامَه عمّه أَبُو أيوب، فَقَالَ مخلد: أَنَا أؤدي عَنْهُ عشرة آلاف دِينَار، وَقَالَ أَبُو أيوب: وأنا أَحْمِلُ عَنْهُ خمسين ألف دِينَار، فتوزعها آل أَبِي أيوب فيما بينهم وأدوها وأخرجوا أبان بْن صدقة من محبسه. فعاد أبان إِلَى أَبِي أيوب وَفِي نَفْسه مَا فِيهَا، فكان يَأْتِي أَبَا أيوب نهاره ثُمَّ ينصرف إلي منزله، فإذا كَانَ الليل صار إِلَى الرَّبِيع الحاجب فأطلعه عَلَى أخبار أَبِي أيوب وأسراره وكتبها لَهُ فيعرضها الرَّبِيع عَلَى الْمَنْصُور فيأمره الْمَنْصُور أَن يمنّيه
__________
[1] د: اقتصد.
[2] ط: خالدا ويحمل.
[3] ط: ذلك.
[4] ط: فوقع.(4/243)
ويعده، ففطن أبو أيوب بأمر أبان فوبخه وَقَالَ: ويلك يرفع عليك مخلد فتقصد [1] لقتلي وأنت تعلم أني داويت الجرح الَّذِي جرحَكه مخلد بمالي حَتَّى أصلحت شأنك، اذهب عني، قَالَ: نعم والله يَا أَبَا أيوب ثُمَّ لا أعود أبدًا، وخرج حَتَّى أتى الرَّبِيع وكاشف أَبَا أيوب. ومرض أَبُو أيوب فاستمكنوا منه، فأرسل الْمَنْصُور ابنه صالحًا المعروف بالمسكين إِلَى أَبِي أيوب يعوده [2] التماسًا لأن يصله، فأرسل أَبُو أيوب إِلَى خَالِد أَخِيهِ: أبعث إليّ بمائة ألف درهم لصالح، فلم يفعل، فانصرف صَالِح وَقَدْ أبطأ عَلَى الْمَنْصُور فسأل عَنْ سبب إبطائه فَأَخْبَرَ بِهِ، فبعث إِلَى خَالِد فأتي بِهِ فأمر بخنقه فخنق حَتَّى بال ثُمَّ أمر بِهِ فحبس وطلب كُل من عنده مال لأبي أيوب [3] وأهل [4] بيته ومن كَانَ منه بسبب، فتتبع التجار وغيرهم وحُبس أَبُو [5] أيوب فِي دار ثُمَّ حُمل إِلَى السجن وَهُوَ مريض فمات فِيهِ. ويقال إِن أَخَا السجّان كَانَ مَعَ خالد أَخِي أَبِي أيوب بالأهواز فضربه ضربًا مرض منه وَمَاتَ، فوضع السجّان عَلَى وجه أَبِي أيوب مرفقة غمّه بِهَا حَتَّى مَاتَ. فَلَمَّا مَاتَ أَبُو أيوب أخرج أخوه خَالِد من محبسه وَهُوَ مقيد عَلَى حمار حَتَّى [6] صلى عَلَيْهِ ودفن، ثُمَّ رُدَّ إِلَى الحبس واستودى [7] آل أَبِي أيوب وعذبوا. وخرج الْمَنْصُور إِلَى الشام وَقَدِ استخلف الْمَهْدِي بمدينة السَّلام فأمره باستيداء [8] آل أَبِي أيوب من كَانَ لَهُ وَلَهُمْ عنده مال وديعة، فسألوه أَن يكفلهم ويخرجوا فيضطربوا فِي المال فأجابهم الْمَهْدِي إِلَى ذَلِكَ. وتوجه منارة مَوْلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ أَبُو عبيد اللَّه كاتب الْمَهْدِي: احطِب عَلَيْهِم وقل لأمير الْمُؤْمِنيِنَ إِن مخلدًا وغيره مِنْهُم يقولون إنك لا تعود إِلَى العراق ولا تُرى فِيهِ أبدًا، فَلَمَّا وصل منارة إِلَى الْمَنْصُور سَأَلَهُ عَنْهُمْ فَأَخْبَرَه بِمَا فارق أَبَا عُبَيْد اللَّه عَلَى أَن يَقُول للمنصور، فَقَالَ لَهُ: أما الرجوع فَإِنِّي أرجو ان يكون سريعا ان
__________
[1] د: فبقصد.
[2] م: يعوذه.
[3] زاد في ط، د: عنده مال.
[4] د: فأهل.
[5] م: أبا.
[6] م: حتى انتهى.
[7] م: استوذي.
[8] ط، م: باستيذاء.(4/244)
شاء اللَّه، وَأَمَّا وجهي فلن يروه [1] أبدًا. وكتب إِلَى الْمَهْدِي بخطه يعنّفه عَلَى الترفيه عَنْ آل أَبِي أيوب ويأمره أَن يجمعهم فيقطع أيديهم وأرجلهم ويقتلهم، وختم الكتاب بخاتمه الَّذِي كَانَ فِي يده وَكَانَ نقشُه: اللَّه ثقة (651) عَبْد اللَّهِ وَبِهِ يؤمن، فقتلوا وقطعت أيديهم وأرجلهم ووضع رأس كُل امرئ مِنْهُم إِلَى جثته ويداه ورجلاه عَلَى صدره عَلَى بَاب الْمَدِينَةِ، ثُمَّ حملوا فدفنوا وَقَدْ أخذت أموالهم وضياعهم، وحيز عَنْ أَبِي أيوب وحده ثمانية آلاف وقيل ثمانية عشر ألف جريب بالبصرة وأخذت أَمْوَالٌ عظام بلغت مائة ألف ألف درهم.
حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِي قَالَ: دعا الْمَنْصُور ذَات يَوْم بأبي أيوب فامتقع لونه، فَلَمَّا صار إِلَيْهِ ثُمَّ عاد إِلَى مجلسه قَالَ لَهُ رَجُل كَانَ يأنس بِهِ: إني رَأَيْت بك منظرًا غمّني، فَقَالَ لَهُ [2] أَبُو أيوب: سأضرب لَك مثلًا، بلغني أنّ بازيًا عاتب ديكًا فَقَالَ لَهُ أَنَا طائرٌ وَحشي أوخذ من وكري فآنسُ بأَصْحَابي حَتَّى أصيد لَهُمْ وأحبس صيدي عَلَيْهِم وأنت تؤخذ بيضة فتحضن وتربي عَلَى الأيدي وَإِذَا رأيُت إِنْسَانًا نفرتَ، فَقَالَ: أما والله لو رَأَيْت من البزاة فِي سفافيدهم مثل مَا رأيتُ من الديوك فِي التنانير لكنت أشد وحشةً وروعة مني، فَهَذِهِ قصتي، مَا صرتُ إِلَيْهِ قط فظننت أني أرجع إِلَى مجلسي ومن كَانَ من رجال السلطان وَلَمْ يكن هكذا فَهُوَ جاهل مغتر. وَكَانَ ابْن المقفع كتب إِلَى أَبِي أيوب رسالة منه وعظه فِيهَا، فَقَالَ فِي فصل منها: أذمّ إليك السلطان فَإِن إقبالَه تعبٌ وأعراضه مذلَّة، فكان يَقُول حِينَ حُبس: لِلَّهِ درّك يَا ابْن المقفع.
وَحَدَّثَنِي الحرمازي، عَنْ أَبِي عَمْرو الجاباني، قَالَ: ولّي الْمَنْصُور عقبة بْن سلم الْأَزْدِيّ البحرين وعمان، فقتل سُلَيْمَان بْن حَكِيم العبدي وَكَانَ مخالفًا، وأسر من أَهْل البحرين بشرًا كثيرًا [3] وحملهم إِلَى الْمَنْصُور فقطع عدة مِنْهُم ووهب باقيهم للمهدي فمنَّ عَلَيْهِم وكسى كُل إِنْسَان مِنْهُم ثوبين هرويّين وأعطاه دينارين.
وَكَانَ أسد بْن المرزبان صاحب المربعة ببغداد بقرب الجسر مع عقبة فكان كثير
__________
[1] الأصل: تروه، ولعل الصواب ما أثبتنا.
[2] «له» ليست في ط.
[3] د، م: كبيرا.(4/245)
الخلاف عَلَيْهِ وبلغه عَنْهُ أَنَّهُ عَلَى الخلع، فكتب عقبة إِلَى الْمَنْصُور بخبره فأمر بقتله فولي ذَلِكَ منه أَبُو سُوَيْد صاحب المقبرة ببغداد عِنْدَ بَاب الشام، ولما صار عقبة إِلَى مدينة السّلام قدم جَمَاعَة من الخوارج تريد الفتك بِهِ لقتله من قتل مِنْهُم فكمن لَهُ بَعْضهم فِي الجسر فلما مرّ به خرج عليه فوجأه بخنجر لَهُ رأسان فقتله وقتل، ويقال بَل ألقي نَفْسه فِي الماء فغرق فَقَالَ النَّاس هُوَ أجرأ من قاتل عقبة بْن سلم.
وَكَانَ عقبة يكنى أَبَا الملد، وَهُوَ الَّذِي مدحه بشار بأرجوزته الدالية [1] .
أمر سنفاذ
قَالَ الْمَدَائِنِي وغيره: قُتل أَبُو مُسْلِم وسنفاذ [2] بحلوان فحمل [3] أموالًا كَانَتْ مَعَهُ ومضى يريد خراسان، فَلَمَّا كَانَ بالري منعه عاملها من النفوذ وَكَانَ قَدْ أُمر أَن لا يدع أحدًا من أَصْحَاب أَبِي مُسْلِم يجوزه، وَكَانَ مُعَاذِ بْن مُسْلِم عَلَى بريد الري فَقَالَ سنفاذ: عَلامَ أُحبس ولست بذي ديوان وإنّما صحبتُ أَبَا مُسْلِم عَلَى المودة فَلَمَّا قتل انصرفت أريدُ أهلي! ثُمَّ إنه خرج كالمتنزه وهرب بالليل فبلغ ذَلِكَ عامل الري فاتبعه حَتَّى لحقه فاقتتلا قتالًا شديدًا وهزم سنفاذُ العاملَ إِلَى الري ودخلها فحصره فِي بَعْض القصر، وَكَانَ يكنى أَبَا عبدة وَكَانَ جبانًا، فطلب منه الأمان فأمنه فَلَمَّا صار فِي يده قتله سنفاذ وغلب عَلَى الري وعاد إِلَى المجوسية فلم يأته مجوسي يدعي عَلَى مُسْلِم شيئًا إلا قضى لَهُ بِهِ، وأخذ صبيًا فذبحه وشواه وأطعم أَبَاهُ لحمه، وَكَانَ يقتل العرب بالخشب. وكتب إِلَى ملك الديلم أَنَّهُ قَدِ انقضى (652) ملك العرب، فخفّ إِلَيْهِ فِي ديالمته، واجتمع المسلمون فقاتلوهم فقتل من الْمُسْلِمِينَ بشر كثير [4] ، وقاتله والي دستُبى وَقَدْ جمع لَهُ جمعًا فهزمه سنفاذ. وأقبل صاحب قومس يريده، فوجه إِلَيْهِ سنفاذ خيْلًا فهزمها ثُمَّ لقيه سنفاذ فهزمه إِلَى قومس، فوجّه الْمَنْصُور. جهور بْن مرار الْعِجْلِيَّ لمحاربة سنفاذ فَلَمَّا صار إِلَيْهِ حضّ أَصْحَابه عَلَى الصبر فَقَالَ: إنكم تريدون قتال قوم يريدون محق دينكم
__________
[1] الديوان (ن. ابن عاشور) ج 2 ص 218 وما بعدها.
[2] في ط: سنفاد، وورد فيه أيضا: سنفاذ.
[3] ط: فحملوا.
[4] م: كبير.(4/246)
وإخراجكم من دنياكم، فَلَمَّا التقوا وعدوّهم اقتتلوا قتالًا شديدًا فهزم اللَّه سنفاذ [1] ومن مَعَهُ ونادى جمهور بالنهي عن التعرض للغنيمة قبل الإثخان، فقتل من أَصْحَاب سنفاذ زهاء ثلاثين ألفًا وحوى المسلمون عسكرهم. وهرب سنفاذ إِلَى الأصبهبذ بطبرستان ومعه أخوه [2] فِي عدة يسيرة فقتلهما صاحب طبرستان وتقرب برأسيهما إِلَى جهور وصلب جثتيهما [3] . وَكَانَ عُمَر بْن العلاء جزارًا بالري فجمع جمعًا حِينَ قدم جهور وقاتل معه سنفاذ [4] ، فقال له جمهور: من أَنْتَ؟ قَالَ: رجلُ خرجتُ متطوعًا، فأبلى وعظم غناؤه، فأوفده جهور إِلَى الْمَنْصُور وكتب يحمده ويثني عَلَيْهِ فقوّده [5] الْمَنْصُور وعظم شأنه عنده ثُمَّ ولي طبرستان فاستشهد بِهَا، وَكَانَ بعده مُوسَى ابنه ومحمد بْن مُوسَى مَعَ السلطان.
قَالُوا: وَكَانَ جهور شجاعًا سخيًا فقسم مَا صار إِلَيْهِ من مال سنفاذ عَلَى الجند فكتب الْمَنْصُور إِلَيْهِ يخوّنه وعزله عَنِ الري وولاها مجاشع بْن يَزِيد الضبعي وَكَانَ عَلَى شرطة عِيسَى بْن مُوسَى بالكوفة، فلما قدم الري أَبِي جهور أَن يسلم إِلَيْهِ العمل فكلمه فأمر بِهِ [6] فضربت عنقه وبعث إِلَى الْمَنْصُور برأسه وأظهر الخلع، فوجّه الْمَنْصُور إليه هزار مرد ثُمَّ مُحَمَّد بْن الأشعث فِي قواد مِنْهُم شبيب بْن واج فاجتمعوا بأصبهان، فوجّه إليهم جهور، زبارة الْبُخَارِيَّ فلقوه فكسروا عسكره وفضوه ورجع إِلَى الري جريحًا. وسار [7] جهور يريد أصبهان فلقيه محمد بن الأشعث وهزار مرد فقاتلاه أشدّ قتال فهزم جهور وهرب وأخوه وأرادا اللحاق بملبد الخارجي فلم يبعدا حَتَّى بلغهما خبر مقتله، فمضى جهور يريد أذربيجان وعليها يَزِيد بْن حاتم ليأخذ لَهُ ولأخيه أمانًا فَلَمَّا صار ببعض الطريق وثب بعضُ من كَانَ مَعَهُ من أَصْحَابه بِهِ وبأخيه فقتلوهما وأتوا يَزِيد برءوسهما، فَقَالَ لَهُمْ يَزِيد: ويحكم وثق بكم الرجل وأمِنكم فغدرتم بِهِ وقتلتموه! وأمر بِهِمْ
__________
[1] سقطت كلمة «اخوه» من ط.
[2] سقطت كلمة «اخوه» من ط.
[3] م: برءوسهما جثتهما.
[4] كلمة «سنفاذ» ليست في ط.
[5] زاد في م: مع.
[6] «فامر به» سقطت من ط.
[7] ط: صار.(4/247)
فقتلوا وبعث برؤوسهم ورأس جهور ورأس أَخِيهِ إِلَى الْمَنْصُور فنصبت بالحيرة، ووضعت عَلَى زبارة العيون والأرصاد حَتَّى أَخَذَ وحمل إِلَى الْمَنْصُور فأمر بقتله فقتل بالكوفة وصلب.
أمر مُلبّد [1] بْن حرملة بْن معدان بْن سيطان بْن قَيْس بْن حارثة، أحد بَنِي أَبِي ربيعة [2] بْن ذهل بْن شَيْبَان
الْمَدَائِنِي عَنْ سلمة بْن سُلَيْمَان وغيره، وَحَدَّثَنِي أَبُو الكردي عَنْ أشياخهم، قَالُوا: لما أقبل أَبُو مُسْلِم مراغمًا بَعْد هرب عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي إِلَى الرصافة ثُمَّ منها إِلَى البصرة، بعث الْمَنْصُور إِلَى الجزيرة أَبَا الأزهر المهلب بن العبيثر المهدي وصالح بْن صبيح مَوْلَى كندة وغيرهما إِلَى الكور بالجزيرة ليتبع أَهْل الْفِتْنَة والفساد من الأعراب والشراة وغيرهم وتسكين النَّاس. فنزل رَجُل من قواد أَهْل خراسان منزل ملبد بْن حرملة بالجزيرة وَذَلِكَ فِي (653) سنة سبع وثلاثين ومائة. فرأى ابنته ويقال ابْنَة أَخِيهِ فَقَالَ لَهُ:
يَا ملبد مُر هَذِهِ الجارية أَن تغسل رأسي، فَقَالَ ملبد: بَل تغسل هَذِهِ الأمة رأسك، فَقَالَ: إنكم تأتون خراسان فلا ترضون أن يغسل رؤوسكم إلّا نساؤنا، فأمر ملبد تلك الجارية أَن تغسل رأسه، وَكَانَ ذا شعرة فأومأ إِلَيْهَا أَن ارفعي شعرته [3] عَنْ قفاه، ففعلت، وخرج إِلَيْهِ ملبد بسَيْفٍ قاطع فأندر [4] بِهِ رأسه، ثُمَّ حكّم وتتبع بيوت داره وفيها عدة من الجند فقتلهم هُوَ وابن عم لَهُ. وسمع الخوارج بخبره فأتاه عشرون مِنْهُم فبايعوه فأتى مسلحة فِيهَا بكار المروزي فقتله وأخذ سلاحًا ودواب، ثُمَّ صار فِي مائتين فأتى الموصل فطرد عاملها عَبْد الحميد بْن ربعي، ولقيه المهلب أَبُو الأزهر بقرب تكريت بَعْد حمله عَبْد الحميد وانصرافه فهزم أَبَا الأزهر، وبعث إليه زياد ابن مشكان فلقيه بباجَرمى فهزم زيادًا وقتل تسعين من أَصْحَابه وَزِيَاد فِي خمسة آلاف. فكتب إِلَيْهِ الْمَنْصُور: العجب كُل العجب لمن يخاف [5] ما لم يقض عليه
__________
[1] انظر الطبري س 3 ص 120 وص 122- 4.
[2] ط: بني ربيعة. انظر جمهرة الأنساب ص 323- 4.
[3] م: شعره.
[4] ط: فانذر.
[5] م: خاف.(4/248)
أَوْ يفرّ مِمَّا هُوَ مُصيبهُ وإني رأيتك هبتَ قتال [1] عدوك وأنت فِي أضعاف رجاله وظننت أَن فرارك يؤخر يومك ويزيد فِي عمرك أفما علمتَ أنّ للعباد آجالًا لا يستقدمون عَنْهَا ولا يستأخرون! فيا سبحان اللَّه مَا أعجزك وأضعف رأيك ورويتك، أطَمِعتَ فِي البقاء بعد نفاذ عمرك أم تخوفت القتل قبل فناء مدتك حَتَّى آثرت العار واخترت الفرار ورضيت بالشين فِي ضعف اليقين؟ ويقال إنه وجه الريان مولاه فانهزم، فكتب إِلَيْهِ بِهَذَا الكتاب. وكتب الْمَنْصُور إِلَى صَالِح بْن صبيح يأمره بالمسير إِلَى ملبد فسار إِلَيْهِ وَكَانَ عَلَى مقدمته ابراز خذاه فِي ألفين واتبعه صَالِح فِي أربعة آلاف، فواقع ملبد ابراز خذاه فقتله بَيْنَ نصيبين ورأس العين وانهزم أَصْحَابه وهجم ملبد عَلَى عسكر صَالِح فحوى مَا فِيهِ.
وولى الْمَنْصُور إِسْمَاعِيل بْن عَلِي عمه الموصل، فوجه إِسْمَاعِيل إِلَى ملبد قائدًا فِي رابطة الموصل فقتله وهزم أَصْحَابه. ثُمَّ ولى الْمَنْصُور يَزِيد بْن حاتم أذربيجان فعرض لَهُ ملبد فِي طريقه فقاتله فقتل من أَصْحَاب يَزِيد ثمان مائة ونجا يَزِيد فِي قميصه راجلًا حَتَّى أتاه بَعْض من مَعَهُ بدابة فركبها، وبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور بمال فسار يَزِيد حَتَّى أتى أردبيل. وأتى ملبد أذربيجان فبعث إِلَيْهِ الْمَنْصُور روح بْن حاتم فِي ثلاثة آلاف والشمر بْن عُبَيْد الخزاعي فِي ألفين وسمال بْن الشحاج الأزدي فِي خمس مائة، ووجه مهلهل بْن صفوان وعبد الْعَزِيز بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الْأَزْدِيّ فِي عشرة آلاف، فلقيهم ملبد فقتل مِنْهُم ألفًا. وَمَاتَ ناس كثير عطشًا وانهزموا وأصاب ملبد متاعًا كثيرًا، فكانوا يبيعون [2] الخرجة مقفلة لا يدرون مَا فِيهَا.
فَلَمَّا رَأَى الْمَنْصُور ذَلِكَ جد فِي أمر ملبد فعقد لخازم بْن خزيمة ووجهه فِي ستة آلاف منتخبين، فسار خازم حَتَّى نزل الموصل، وبلغ ملبدًا خبره فتوجه نحوه وعبر دجلة بريد الموصل، وعلى طلائع خازم ومقدمته نضلة بْن نعيم النهشلي، فلقيهم ملبد فهزمه أَصْحَاب خازم واتبعوهم، ثُمَّ عطف عَلَيْهِم ملبد فكشفهم فألقوا الحسك، وأمر خازم أَصْحَابه بالنزول فنزلوا فَلَمَّا رآهم الخوارج نزلوا أيضًا، فَلَمَّا اشتغلوا عَنِ القتال أمر خازم أَصْحَابه بالركوب فلم يشعر الخوارج إلا بالرماح فِي أكتافهم فقتلوا جميعًا
__________
[1] ط: فقال.
[2] ط: يتبعون.(4/249)
فلم ينج مِنْهُم أحدٌ، وَكَانَ بَيْنَ عسكر خازم وعسكر الخوارج مقدار ألفي ذراع.
(654) قَالَ [1] الشاعر:
لم يغن عن ملبّد تلبيده ... إذ خازم فِي بأسه [2] يكيده
أمر ظبي بْن الْمُسَيِّب بْن فُضالة العَبْدي
قَالُوا: خرج ظبي بن المسيّب في ثلاثة وعشرين رجلا وثلاث نسوة، ابنتين لَهُ وجارية سوداء، وعبد أسود فأتوا موقوع [3] ونزلوا الجلحاء، فوجه إليهم سُفْيَان بْن مُعَاوِيَة إِسْمَاعِيل بْن مُسْلِم فوعظهم فبينا هُوَ كَذَلِكَ إذ طلعت عَلَيْهِم الْخَيْلُ مَعَ عِيسَى بْن عَمْرو بْن أَبِي الجمل ومعهم ناس من الزط وعليهم العاقب الْأَزْدِيّ فاقتتلوا فقتلوا جميعا، وبعث برؤوسهم إِلَى [4] سُفْيَان فبعث بِهَا إِلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَنْصُور فِي سفينة فغرقت السفينة بالبطيحة [5] .
خبر عطية بْن بعثر التغلبي
خرج عطية بالموصل فِي مائة ومعهم ابْن الْوَلِيد بْن طريف، فأخذ عَلَى راذان وأتى أبراز الروز والنهروان وأتى مهرجانقذق، وصار الى الكلبية ليتعرض مالًا قَدِ اجتمع بالسوس يريدون حمله، وبلغ ذَلِكَ أَهْل الأهواز فبعث مُحَمَّد بْن الحصين ابْن أَخِيهِ ثابت بْن كثير بْن حصين بالمال فحمله ثابت فلم يقدروا عَلَيْهِ. وأقبل [6] الخوارج وهم مائة فنزلوا السوس [7] فلم يؤذوا أحدًا حَتَّى وقع بَيْنَ رَجُل من أَهْل السوس وبين رَجُل من الخوارج كَلام فاستعرض عطيةُ أَهْل السوس، وَكَانَ منارة مَوْلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بناحية الأهواز فقاتله عطية فقتل من أصحابه أكثر من مائتين
__________
[1] كرر ط «قال» .
[2] م: رأسه.
[3] انظر ياقوت (ن. وستنفلد) ج 4 ص 688.
[4] سقطت «إلى» من ط.
[5] م: البطيخة.
[6] م: أقبلوا.
[7] د، م: المسوس.(4/250)
وانهزم منارة. وتوجه عطية إِلَى الموصل فِي طريقه الَّتِي ابدأ فِيهَا فوجه إِلَيْهِ الْمَنْصُور أَبَا حَمْيد المروروذي فوافقه بكلبانية مهرجانقذق نائمًا وأَصْحَابه فِي غفلة فأمر أَبُو حميد أَصْحَابه فرموهم بالنشاب فقتل عطية وأَصْحَابهُ فلم يبق مِنْهُم أحدٌ.
خبر حسان بْن غسان الهمداني
خرج حسان فِي خلافة الْمَنْصُور فلقي قومًا يريدون مَكَّة فقتلهم، فسرّح إِلَيْهِ الْمَنْصُور جميل بن عبيد اللَّهِ الضَّبِّيّ وَهُوَ ابْن عم الْمُسَيِّب فِي سبعة آلاف فلم يزل حسان يتنقل [1] حَتَّى صار إِلَى أذربيجان وصار جميل إِلَى أذربيجان، فرأى الخوارج تتبعهم، وَكَانَ الحرشي [2] مَعَهُ فكتب إِلَى أَبِي جَعْفَر بِذَلِك، فكتب أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور إِلَيْهِ: قَدْ بلغني يَا ابْن اللخناء أنك رَأَيْت حسانًا فتركته وَلَمْ تناجزه، وأمره بقتاله إذا لقيه. ونزل الخوارج قصر الجراح فبيت جميل حسان وَهُوَ حذر فخرج عَلَيْهِم وأَصْحَابهُ فهزموهم. ثُمَّ أتي حسان الحنّاية [3] فلقيه سَعِيد الحرشي [4] فِي شعب حِبْتُون [5] فعطف عَلَيْهِ حسان فقتله وأَصْحَابه ومضى إِلَى نصيبين. فوجه إليه المنصور أبا قرّة صاحب المربّعة ببغداد فِي أربعة آلاف من أَصْحَاب حميد بْن قحطبة فكانت بينهم وقعة. ثُمَّ مضى حسان يريد الزابي فلحقه أَهْل خراسان مِمَّنْ وجه إِلَيْهِ وَقَدْ عبر أَصْحَابه وبقي فِي ستين، فقتلوه ومن مَعَهُ ومضى الآخرون فتتبع بَعْضهم فقتلوا.
خبر عيسى مولى بني شيبان
وخرج عَلَى الْمَنْصُور عِيسَى مَوْلَى بَنِي شَيْبَان فِي خمسين، فوجه إِلَيْهِ زِيَاد بْن مشكان مَوْلَى بني مازن فقتله وأصحابه.
__________
[1] ط، م: ينتقل.
[2] الأصل: الخرسي. انظر في فهرس الطبري: سعيد بن عمرو الحرشي.
[3] ط: الحنابة، وفي ياقوت: ج 2 ص 310: الحنّانة.
[4] الأصل: الخرسي. انظر في فهرس الطبري: سعيد بن عمرو الحرشي.
[5] ياقوت- بلدان ج 2 ص 211: جبل بنواحي الموصل.(4/251)
خبر الضحضح الشيباني [1]
حَدَّثَنِي أَبُو الكردي الإباضي قَالَ: نزل رجلٌ من الجند فِي أَيَّام الْمَنْصُور عَلَى آل الضحضح فأعطوه وأحسنوا قراه، فمدّ يده (655) إلى امرأة منهم فولولت [2] ونادت قومها فشدّ عَلَيْهِ الضحضح فقتله، ودعا واعتقد فاتبعه خلق يُقَالُ إنهم ألف وَذَلِكَ بسنجار [3] ، فقتل بسنجار [4] من الجزيرة، قتله دَاوُد بْن إِسْمَاعِيلَ الزندي [5] وقائد آخر. وَقَالَ غَيْر أَبِي الكردي: هُوَ عامر بْن الضحضح.
أمر بيعة الْمَهْدِي
حَدَّثَنِي مشايخ لنا، والمدائني، قَالُوا: استخلف أَبُو العباس المنصور وعيسى ابن مُوسَى [6] بَعْد الْمَنْصُور لأنه كَانَ غائبًا بمكة فلم يأمن عَلَيْهِ الحدثان فِي سفره فيضطرب النَّاس وينتشر أمرهم. فلما قام الْمَنْصُور جعل يُرشح ابنه محمدًا الْمَهْدِي للخلافة لما رَأَى فِيهِ من أمارات الخير، وقدم أَبُو نخيلة عَلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْد اللَّه مُعَاوِيَة بْن عُبَيْد اللَّه كاتب الْمَهْدِي: قُلْ شعرًا تدعو فِيهِ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إِلَى البيعة للمهدي، فَقَالَ [7] :
قل للأمين الْوَاحِد الموحد [8] ... إنّ الَّذِي ولَّاك ربُّ الْمَسْجِد
لَيْسَ وَلِيُّ عهدها بالأرشد [9] ... عِيسَى فزحلفها إِلَى مُحَمَّد
[10] فَلَمَّا أنشد أَبُو نخيلة أرجوزته هَذِهِ وَهِيَ طويلة رَوّاها الخدم والبطانة وأبلغوها الْمَنْصُور فدعا بِهِ وعنده أهلُ بيته وقواده والناس وعيسى بْن مُوسَى عن يمينه
__________
[1] م: الغساني.
[2] م: لوقت.
[3] م وهامش د: بسجستان.
[4] م: بسجستان.
[5] د: الرندى، م: الرندي.
[6] م: عيسى بن علي موسى.
[7] انظر الطبري س 3 ص 348- 9، والصولي- اشعار اولاد الخلفاء ص 310.
[8] الطبري: بل يا أمين الواحد المؤيّد، واشعار اولاد الخلفاء، قل للأمير ...
[9] الاغاني ج 20 ص 388:
ليس ولي عهدنا بالاسعد،
الطبري: امسى وليّ ...
[10] في اشعار اولاد الخلفاء:
وهي على جور وبعد مقصد ... مهّد لها قصد السبيل تهتدي
عيسى فرحّلها الى محمد(4/252)
فاستنشده فأنشده إياها، وخرج فلحقه عقال بْن شبه فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا نخيلة، أما أَنْتَ فَقَدْ [1] سررت أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فلئن تمّ الأمر لتصيبن خيرًا ولئن لَمْ يتم فابتغ نفقًا فِي الأَرْض أَوْ سُلَّمًا فِي السماء [2] . وكتب الْمَنْصُور لأبي نخيلة بصلة إِلَى الري، فوجه عِيسَى من لحقه فقتله وسلخ وجهه، ويقال إنه قتل بَعْد رجوعه من الري. وَكَانَ المنصورُ يُظهر لعيسى تكرمةً وبرًّا وإجلالًا، فيوضع لَهُ [3] نمارق عَنْ يمينه وشماله ثُمَّ يدعى بعيسى فيجلس عَنْ يمينه ثُمَّ يدعى بالمهدي فيجلس عَنْ يساره، فكلمه فِي العقد للمهدي ألين كَلام وأرفقه، فَقَالَ لَهُ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ كَيْفَ بالأيمان والعهود والمواثيق، ولئن فعلتَ هَذَا لتكوننّ حجةً لمن ترك الوفاء وخاس بالعهد، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قدّم الْمَهْدِي عَلَيْهِ فكان يجلسه عَنْ يمينه.
قَالُوا: ولما سمع الجند بِمَا يحاول الْمَنْصُور فِي أمر الْمَهْدِي تكلموا فكان عِيسَى إذا ركب عُرض لَهُ بِمَا يكره وأسمع الْكَلام وينغص [4] ، فشكا ذَلِكَ إِلَى الْمَنْصُور، فَقَالَ للمسيب: تقدم إِلَى القواد والجند فِي أَن يمسكوا [5] عَنِ ابْن أَخِي ولا يؤذوه فَإِنَّهُ ثمرة قلبي وجلدةُ مَا بَيْنَ عيني، ودعا بقوم من الحرس فشتمهم فكفوا، وكانوا محبين للمهدي لما نشأ عَلَيْهِ من العقل والفضل والسخاء. وكتب الْمَنْصُور إِلَى عِيسَى كتابًا يذكر فِيهِ مَا قذف اللَّه فِي قلوب أَنْصَار الدعوة وأهل المشايعة عَلَى الحق وأشربها من محبة المهدي ومودته وتفضيله حَتَّى صاروا لَهُ صاغين ولأعناقهم مادين لا يذكرون إلا فضله ولا يعرفون إلا حقه ولا ينوّهون إلّا باسمه، وأنه لما رَأَى ذَلِكَ علم أَنَّهُ أمر تولاه اللَّه لَهُ ليس للعباد فيه [6] صنع وأنه لا بد من استصلاحهم ومتابعتهم، ويعلمه أَنَّهُ يرى لَهُ إِذَا اجتمع النَّاس عَلَى ابْن عمه أَن يَكُون أوّل من يبدرُ [7] إِلَى البيعة لَهُ وأن يعرف لَهُ مَا عرفوه ويؤمل فِيهِ مَا أمّلوه. فكتب إِلَيْهِ فِي جواب ذَلِكَ يذكره الوفاء ويعلمه أَن كثيرًا من النَّاس قَدْ نازعتهم أهواؤهم ودعتهم أنفسهم إِلَى مثل الَّذِي همَّ بِهِ فِي ولده (656) فآثروا اللَّه وحقّه وكرهوا الغدر وعاره وسوء
__________
[1] م: فلقد.
[2] إشارة إلى الآية 35 من سورة الأنعام (6) .
[3] سقطت «له» من م.
[4] ط: ينقص.
[5] ط: تمسكوا.
[6] د: منه.
[7] ط: يبذر.(4/253)
عواقبه فِي الدنيا والآخرة فأمسكوا عَنْ ذَلِكَ وكرهوه. فَلَمَّا قرأ المنصورُ كتابهَ غضب وقرأه عَلَى النَّاس، فعاد القواد والجند لأشدِّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ أشد النَّاس فِي ذَلِكَ قولًا أسد بْن المرزبان ونصر بْن حرب وعقبة بْن سلم، وكانوا يأتون بَاب عِيسَى فيمنعون من أَن يدخل إِلَيْهِ أحدٌ ويمشُونَ حوله ويسيرون إِذَا ركب ويقولون:
أَنْتَ البقرة الَّتِي قَالَ اللَّه: «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ» [1] . فشكاهم إِلَى الْمَنْصُور فَقَالَ: إِن هَؤُلاءِ قومٌ قَدْ غلب عَلَيْهِم حبّ هَذَا الفتى حَتَّى سيط بدمائهم واجتمعت عَلَيْهِ آراؤهم، وأنا والله يَا ابْن أَخِي وحبيب قلبي أخافهم عليك وعلى نفسي فلو قدّمته بَيْنَ يديك حَتَّى يَكُون بيني وبينك لكفوا وأنا لَك ناصحٌ وأنت أعلم. وذكروا أنه دسّ الى عِيسَى شربة سمّ فافلت منها، فَقَالَ يَحْيَى بْن زِيَاد بْن أَبِي حُزابة [2] البرجمي الشاعر:
أفلتّ من شربة الطبيب كَمَا ... أفلت ظبيُ الصريم من قبره
من قانص يقنص الفريص [3] إِذَا ... ركّب سهم الحتوف فِي وتره
دافع عنك المليك صولته [4] ... بكفّ [5] ليث يزمر فِي خمره
حِينَ أتانا وفيه شربته [6] ... تعرف فِي سمعه وَفِي بصره
أزعر قَدْ طار عَنْ [7] مفارقه ... وحف أثيثُ النبات من شعره
ودخل سلم بْن قُتَيْبَة عَلَى عِيسَى فَقَالَ لَهُ: أيها الرجل بايع هَذَا الأمير وقدّمه فإنك لَنْ تخرج من الأمر وأَرضِ عمك، قَالَ: أوَ ترى أَن أفعل! قَالَ: نعم، قَالَ: فَإِنِّي أفعل، فأتى سلم الْمَنْصُور فأعلمه بِذَلِك فسُرّ بِهِ وعظم لَهُ قدرُ سلم عنده. ودعا الْمَنْصُور النَّاس إِلَى البيعة فتكلم عِيسَى وسلّم الأمر إِلَى الْمَهْدِي وصار بعده، وخطب الْمَنْصُور فشكر عِيسَى عَلَى مَا كَانَ منه وذكر أَنَّهُ التالي للمهدي عنده فِي موضعه من قلبه وحاله عنده، ووهب لَهُ مالًا عظيمًا وأقطعه قطائع خطيرة نفيسة وولّاه الأهواز والكوفة وطساسيجها. فَلَمَّا استخلف أمِير الْمُؤْمِنيِنَ المهدي ورأى
__________
[1] سورة البقرة (2) ، الآية 71.
[2] في اشعار اولاد الخلفاء ص 309: جراية، وترد فيه الآيات.
[3] م: يقبض، وفي اشعار اولاد الخلفاء: من قابض يقبض العريض.
[4] اشعار اولاد الخلفاء: دافع عنه العظيم قدرته.
[5] ن. م.: صولة.
[6] ن. م.: حتى أتانا ونار شربته.
[7] ط: من.(4/254)
تولية مُوسَى وهارون ابنيه عهده، قَالَ لَهُ الْمَهْدِي: يَا أَبَا مُوسَى إني آمرك بأمر إِن أطعتني فِيهِ سعدتَ ورشدتَ بطاعتي وإن عصيتني استحللت منك مَا يستحلُّ من العاصي المخالف، قَالَ: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: إني قَدْ عزمت عَلَى تولية مُوسَى وهارون العهدّ بعدي فاخلع العهد وأنا أعوضك منه مَا هُوَ خيرٌ لَك من الخلافة ولا سيما مَعَ كراهة القواد والجند لَك، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ حلفت بصدقة جَمِيع مَا أملك وبعتق غلماني وجواريّ أَن لا أخلع هَذَا الأمر حَتَّى يؤتى عَلَى نفسي، قَالَ لَهُ الْمَهْدِي:
فلكّ بكل [1] درهم اثنان وبكل مملوكٍ مملوكان وبكل ضيعة ضيعتان فرضي وسلم.
وبايع الْمَهْدِي لموسى وهارون بَعْد مُوسَى ووفى لعيسى بِمَا شرط لَهُ فأعطاه عشرين ألف ألف درهم وأقطعه وأقطع ولده، فَقَالَ مَرْوَان بْن أَبِي حفصة [2] :
بمحمدٍ [3] بَعْد النَّبِيّ مُحَمَّد ... حيي الحلالُ وماتَ كلُّ حرام
عُقدت لموسى بالرصافة بيعةٌ ... شدَّ الإله بِهَا عُرى الْإِسْلَام
مُوسَى ولي عصا الخلافةِ بعدهُ ... جَفّت بِذَاك مواقُع الأقلام
مُوسَى الَّذِي عرفت قريشٌ فضَله ... وَلَهَا فضيلتُها عَلَى الأقوام
وَقَالَ قومٌ من ولد مُوسَى بْن عِيسَى: أمر الْمَنْصُور بعيسى فخنق بحمائل سَيْفه فخَلع، (657) وضمن لَهُ الْمَنْصُور رضاه فوفى لَهُ بِهِ.
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود قَالَ: خرج، فِي ولاية عِيسَى بْن مُوسَى للمنصور، الكوفة رجلٌ يكنى أبا الْخَطَّاب، وَكَانَ رافضيًا مسرفًا يدعي علم الغيب، وَكَانَ جَعْفَر بْن مُحَمَّد يَقُول: كَانَ أَبُو الْخَطَّاب يأتيني ويخرج من عندي فيكذّب عليّ وَيَقُول إِن السلاح لا يعمل فيَّ، فوجه عِيسَى من حاربه فقتله وأَصْحَابه وأراحني اللَّه منه.
وَفِي أَبِي الْخَطَّاب يَقُول الشاعر:
أَوْ مثل أَصْحَاب أَبِي الْخَطَّاب ... القائل الزور العمي الكذب
قَالَ لَهُمْ وقوله فضاحُ ... مَا أَن يحيك فيكم [4] السلاح
__________
[1] ط: كل.
[2] انظر الاغاني ج 10 ص 74 وما بعدها.
[3] ط، د: لمحمد.
[4] ط: فيهم.(4/255)
فصدقوه للعمى والحين ... وربما صدِّق أَهْل المين
فأصبحوا قتلى ذوي غرور ... بقوله والويل للمغرور
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود قَالَ: أراد الْمَنْصُور أَن يبايع لصالح المسكين بَعْد الْمَهْدِي ويجعل عِيسَى تاليًا، فركب الْمَهْدِي إِلَى عِيسَى بْن عَلِي فَقَالَ لَهُ [1] : يَا عم قل لأمير الْمُؤْمِنيِنَ أنشدك اللَّه أَن تحملني عَلَى قطيعة أَخِي وعقوقه فإنك إِن فعلتَ فعلتُ وإن كنتَ لا بدّ مولّيه فقدّمه قبلي لتبقى الخلافة لعقبي، فأدّى قَوْله إِلَيْهِ فأعفاه من ذَلِكَ وَقَالَ: صدق ابني لو فعلتُ لفعلَ. قَالَ: وَكَانَ الْمَنْصُور يحب صالحًا وَيَقُول: هَذَا ابني المسكين، ويأمر النَّاس أَن يَهبَوا لَهُ ويعرضه للجوائز وَيَقُول: هَذَا لابني المسكين، فُسمّي المسكين.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك عَنِ الْمُبَارَك [2] الطبري قَالَ: لما بايع [3] الْمَنْصُور للمهدي كتب إِلَى إِسْمَاعِيل بْن عَلِي، وَهُوَ عامله عَلَى واسط ونواحيها فِي ذَلِكَ، فكتب إِلَيْهِ يذكر بيعة عِيسَى بْن مُوسَى وَمَا فِي عنقه منها، فكتب اليه لمنصور فِي القدوم فَأَقْبَلَ حَتَّى نزل كلواذي فلم يلقَه من أَهْل بيته أحد، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ الْمَنْصُور فِي الدخول فَلَمَّا صار إِلَيْهِ برّه وأدنى مجلسه ثم قال: مَا بالك تلّويت وتثنيتَ فِي بيعة ابْن أخيك! قَالَ: ظننت [4] أَن الكتاب الَّذِي أتاني كَانَ اختيارًا، فَإِن كَانَ عزمًا بايعتُ، قَالَ: فبايعْ فَقَدْ بايع أَهْل بيتُك والناس، وبسط لَهُ يده فبايعهُ وصار إِلَى الْمَهْدِي فبايعه. وحدثتُ أَنَّهُ لما بويع للمهدي بعث الْمَنْصُور، الأعلم الهَمداني ببيعته إِلَى الحجاز، فخطب بمكة عَلَى منبرها فَقَالَ فِي خطبته: وَقَدْ بايع أمير المؤمنين لمحمد ابن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وَهُوَ عباسي النسبة، يثربي التربة، حجازي الأسرة، شامي المولد، عراقي المنبت، خراساني الْمَلِك، يملك فلا يأشر ويقدر فلا يبطر [5] ، إِن سئُل أعطى وإن سُكت عَنْهُ ابتدأ، جاءت به الروايات وظهرت فيه
__________
[1] «له» ليست في م.
[2] م: أبي المبارك. انظر الطبري س 3 ص 403 وص 404.
[3] ط: بلغ.
[4] ط: طنيت.
[5] ط، م: ينظر.(4/256)
العلامات وأحكِمته الدراسات، فِي كَلام كثير [1] . وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: لما بويع الْمَهْدِي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ جعل النَّاس يدخلون عَلَيْهِ فيسلمون وَقَدْ جلس لهم، فكان فيمكن دَخَلَ عَلَيْهِ شبيب بْن شَيْبَة التميمي [2] فَلَمَّا خرج من عنده سُئل فَقَالَ:
رأيتُ الداخل راجيًا والخارجَ راضيًا.
وحُدّثنا أنّ شريك بْن عَبْدِ اللَّهِ النخعي لقي عِيسَى بْن مُوسَى فَقَالَ لَهُ عِيسَى: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ مَا رأيتُ قاضيًا عُزل، فَقَالَ: بلى تعزل القضاة وتخلع ولاة العهد، ويقال إنه قَالَ: مَا رأيتُ قاضيًا عزل، قَالَ: ولا ولّي عهد خُلع.
أمر سوار بْن عَبْدِ اللَّهِ العنبري
قَالُوا: كَانَ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن بْن حسن قدم البصرة مستخفيًا ثُمَّ خرج عَنْهَا، وبلغ الْمَنْصُور ذَلِكَ فقدم البصرة فنزل عِنْدَ الجسر الأكبر، ويقال بَل قدم فِي أمر القطائع والمسائح، وأمير البصرة عُمَر [3] بْن حفص، فولى عُمَر بْن حَفْص السّند وشهاب بْن عَبْدِ الْمَلِك بْن مسمع البحرين [4] وولّي عَبْد الْعَزِيز بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الْأَزْدِيّ، أَخَا عَبْد الجبّار بْن عَبْدِ الرَّحْمَن، البصرة وولى سوّار بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن قدامة [5] بْن عنَزَةِ بْن نَقَب- عَلَى مثال فَعَل- بْن عَمْرو بْن الْحَارِث بْن خلف بْن مُجَفّر بْن كعب بْن العنبر بْن عَمْرو بْن تميم الْقَضَاء. فكان عَبْد الْعَزِيز يكتب إِلَى أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور يذمَهُ فيدرج الْمَنْصُور كتبَه بِذَلِك فِي كتب منه إِلَى سوّار فلم يزل عَلَى ذَلِكَ حَتَّى خالف عَبْد الجبار وحُمل عَبْد الْعَزِيز إِلَى الْمَنْصُور، فولى الْمَنْصُور سوّارًا صلاة البصرة. وَكَانَ عَبْد الْعَزِيز صاحب شراب ولهو فأخرج لَهُ من دار الإمارة شراب فأمر سوّار بكسر آنيته وهراقته. وَفِي سوّار يَقُول الشاعر:
(658) فَمَنْ كَانَ لا يرضى أميرًا فإننا ... رضينا بسوّارٍ أميرًا وقاضيا
__________
[1] ط: كبير.
[2] ط: اليهم.
[3] م: عمرو. انظر الطبري س 3 ص 139.
[4] ط: البحر، م: التحرين.
[5] «بن قدامة» ليس في ط. انظر جمهرة الأنساب ص 209..(4/257)
وتقدم إِلَى سوار رجلان [1] أحدهما من [2] عَبْد القيس فتحفّز العبدي فضرط فَقَالَ لَهُ سوار: أفسادٌ فِي الجاهلية وضراط فِي الْإِسْلَام! وَقَالَ رَجُل لسوّار وكانت أمّه أم ولد: إنك لقليل الخالات بالدهناء، فَقَالَ: ولكني كثير العمّات هناك.
وقضى عَلَى أعرابي فَقَالَ:
رَأَيْت رؤيا ثُمَّ عبّرتها ... وكنت للأحلام عَبّارا
رأيتني أخنق فِي نومتي ... ضبًا فكان الضبّ سوّارا
ثُمَّ أقبل يدعب خلفه [3] ورمى بنفسه عَلَيْهِ فوثب النَّاس إِلَيْهِ فنحوه عَنْهُ، فكلمه كلامًا رفيقًا وَلَمْ يعاقبه.
وخرج فِي أيامه عُبَيْد سودان يُقَالُ إنهم كَانُوا أربعين أَوْ أَكْثَر وَكَانَ اجتماعهم عِنْدَ دار عقبة بْن سلم، فاستشار فِي أمرهم فقائل يَقُول اقتلهم، وقائل يَقُول عُبَيْد أضرّ بِهِم الجوع والضر وإن تركوا تفرقوا، وقائل يَقُول وجِّه إليهم من يفرقهم من الجند، فوجه السري بْن الحصين الْبَاهِلِيَّ وعبد الله بن حي [4] بن حصين الرقاشي فلقياهم عِنْدَ دار عقبة أَوْ نهر سُلَيْمَان بالبصرة فقتل مِنْهُم أربعة عشر عبدًا، ويقال عشرة [5] ويقال سبعة عشر ويقال أقل من عشرة، فأعطى مواليهم أثمانهم وبعث برؤوسهم إِلَى الْمَنْصُور، ويقال إنه كَانَ يتصدّق فِي كُل سنة من ماله بمثل أثمانهم. وَقَالَ له السري بن الحصين [6] : مَا بالك أعظمت قتل هَؤُلاءِ؟ والله لو [7] لَمْ تقتلهم لقتلوك [8] . قَالُوا: وتفرّق من بقي من أولئك السودان فلم يعرض لَهُمْ.
قَالُوا: وَكَانَ سوّار يخذِّل النَّاس عَنْ إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ وعن أَخِيهِ، وسوّد بَعْد خروج ابراهيم وتمثّل وهو على المنبر:
__________
[1] ط: رجلا.
[2] ط: بين.
[3] د: طبقه، ط: حلفة.
[4] م: حيي.
[5] «ويقال عشرة» سقطت من ط.
[6] د، م: حصين.
[7] م: «انه لو» .
[8] ط: يقتلوك.(4/258)
أَيْنَ الرجال الَّتِي عَنْ حظها غفلت ... حَتَّى سقاها بكأس الْمَوْت ساقيها
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك الكاتب، قَالَ: لما حُبس أَبُو أيوب أمر [1] الْمَنْصُور الرَّبِيع الحاجب بتقلد ديوان الرسائل والنفقات إِلَى مَا كَانَ يقوم بِهِ من الحجابة ففعل.
ثُمَّ عزله عَنِ الرسائل وصيرها إِلَى أبان بْن صدقة وأقره عَلَى النفقات مَعَ الحجابة فشخص أبان مَعَهُ إِلَى الشام وَهُوَ كاتبه عَلَيْهَا.
وَحَدَّثَنِي أَبُو عَلِي الحرمازي عن الفضل بْن الرَّبِيع قَالَ: كَانَ الْمَنْصُور معجبًا بمحمد بْن جَعْفَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس، وَكَانَ كريمًا يسأله الحوائج لِلنَّاسِ حَتَّى ثقل ذَلِكَ عَلَيْهِ فحجبه أيامًا ثُمَّ أذن لَهُ عَلَى أَن لا يسأله حاجة لأحد، فدخل عَلَيْهِ يومًا وكمُّه مملوءٌ رقاعًا فَلَمَّا جلس تناثرت من كمه فجعل يردها وَيَقُول:
ارجعن خاسئات، (659) فَقَالَ الْمَنْصُور: مَا هَذِهِ الرقاع؟ قَالَ: فِيهَا حوائج لِلنَّاسِ، فضحك وَقَالَ: لا تبرح حَتَّى تُقضى كلها، فقضاها لَهُ. قَالَ الحرمازي: وبعضهم يزعم أَن الرجل يَحْيَى بْن جَعْفَر بْن تمام، وَهُوَ آخر من بقي من ولد تمام، وَكَانَ الْمَنْصُور لَهُ محبًا.
وَحَدَّثَنِي ابْن الأَعْرَابِيَّ قَالَ: قَالَ الْمَنْصُور لرجل: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ: من يَشكُر، فتمثل:
ويشكُرُ لا تستطيعُ [2] الوفاء ... وتعجز يشكرُ أَن تُشكرا
[3] وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود، قَالَ: أقدم الْمَنْصُور، عَبْد اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْن حفص بْن عاصم ابن عُمَر بْن الْخَطَّاب من الْمَدِينَةِ بسبب مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حسن، ويقال لأمر بلغه عَنْهُ غَيْر ذَلِكَ، فَلَمَّا أُدخل إِلَيْهِ قَالَ لَهُ: يَا عدو اللَّه، قَالَ: لست بعدو اللَّه وليس الأمر عَلَى مَا بلغك [4] واذكر إدناء أَبِي أباك وتقديمه إياه عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، فَقَالَ: قبحك اللَّه، أفَمَا [5] كَانَ لي عليك من
__________
[1] سقطت «امر» من ط.
[2] ط: يستطيع.
[3] في د، كتب «تعذرا» فوق «تشكرا» مع اشارة صح.
[4] م: بلغوك.
[5] ط: إذا.(4/259)
الحق [1] مَا كَانَ لأبي عَلَى أبيك! ثُمَّ أمر بِهِ إِلَى المطبق، فوقع بينه وبين قوم من الرافضة مُلاحاة فوثب إِلَى خشبة فاقتلعها ثُمَّ ضربهم بِهَا، فبلغ ذَلِكَ الْمَنْصُور فأمر أَن يؤتى بِهِ. فَلَمَّا وقف بَيْنَ يديه قَالَ لَهُ: أما نهتك أولاك عَنْ أُخراك؟
فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ إني كنت أسمع شَيْئًا لو سمعته لأنكرته، سمعت هَؤُلاءِ يشتمون عمومتك من المهاجرين أبا بَكْر وعمر وعثمان، فَقَالَ: ردوه إِلَى الْمَدِينَةِ.
حَدَّثَنِي الْحَسَن الحرمازي قَالَ: حبس المستهل بْن الكميت بسبب تهمة فِي أمر الطالبيين، فَقَالَ:
لئن نَحْنُ خفنا فِي زمانِ عدوِّكم ... وخفناكم إِن البلاء لراكد
حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن دَاوُد الكاتب قَالَ: ولي القنجز الشيباني عملًا فألزم مالًا، فأمر الْمَنْصُور أَن يؤخذ بِهِ فحبس فِي دار العذاب وكانت إِلَى جانب المطبق، فكان يعذب فلا يُقر بشيء، فَلَمَّا طال ذَلِكَ كلم معن فِيهِ الْمَنْصُور فَقَالَ: إني عزمت أَن لا يخرج من محبسه وَهُوَ مقيم عَلَى هَذِهِ المراغمة ولكني أبعث إِلَيْهِ بمال يؤديه، فبعث إِلَيْهِ بمقدار مَا كَانَ يطالب بِهِ وَهُوَ مائة ألف درهم فَلَمَّا صار ذَلِكَ إِلَيْهِ حمله إِلَى منزله، فَقَالَ لَهُ المستخرج: احمل المال، فَقَالَ: أيّ مال، وجحد، فعُذِّب فلم يقر بشيء، فبلغ ذَلِكَ الْمَنْصُور فَقَالَ: هَذَا شَيْطَان، فخلوا سبيله، واصطنعه وَقَالَ: لا تولوه جباية، فكان يُقَالُ: أصبر من القنجز.
حَدَّثَنِي أَبُو دهمان قَالَ: عرضت عَلَى الْمَنْصُور قينة فتغنت [2] :
مَا نقموا من بَنِي أمية إلا ... أنهم يحلمون [3] إِن غضبوا
وإنهم صفوةُ [4] الملوكِ فَمَا ... تصلُحُ إلا عَلَيْهِم العربُ
فغضب وأمر بِهَا فأخرجت سحبًا. قَالَ: ويقال أَنَّهَا ألقيت من الخضراء، وَذَلِكَ باطل. وَكَانَ الْمَنْصُور لا يُرى شاربًا نبيذًا وَلَمْ يعطِ مُغنيًا شيئا قط ولا اجرى عليه
__________
[1] م: الحي.
[2] انظر شرح نهج البلاغة ج 7 ص 139، والاغاني ج 15 ص 259- 260، وسمط اللآلي.
ج 1 ص 294- 5، والشعر لابن قيس الرقيات.
[3] م: يحملون.
[4] الاغاني وشرح النهج وسمط اللآلي: معدن.(4/260)
رزقًا يثبت فِي ديوان أَوْ يخرج بِهِ أمر وكتاب. وحدّثني المدائني قال: قَالَ أَبُو عُبَيْدَة الكاتب: كَانَ الْمَنْصُور أعْطى الناس في حقّ [1] وأعلمهم بحزم وأشدهم شكيمة عَلَى عدو. حَدَّثَنِي عبدوس مَوْلَى جَعْفَر بْن جَعْفَر، عَنْ جَعْفَر بْن جَعْفَر، قَالَ: أقبل الْمَهْدِي من داره يريد الْمَنْصُور والمنصور جالس فِي الخضراء فِي قصره بالمدينة ببغداد، فلما وقعت عينه عَلَيْهِ جعل يعوذه ويدعو لَهُ حَتَّى إِذَا تبينه غضب وقال: ردّوه ردوه، أما رأيتم عَلَيْهِ خفًا أحمر كَأَنَّهُ من عُبَيْد الروم، أهذا لبس من كَانَ مثلَه! فألزمه منزله أيامًا ثُمَّ دعا بِهِ وعاتبه. (660) قَالَ: وَكَانَ أمر الْمَنْصُور جدًا كله.
وَحَدَّثَنِي أَبُو الْحَسَن الْمَدَائِنِي قَالَ: كاتب [2] العبسيون من أَهْل حيار بَنِي القعقاع ومن معهم مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن حُسن. وكاتبهم مُحَمَّد، وَكَانَ مِمَّنْ كاتبه أَبُو ذفافة. فَلَمَّا شخص الْمَنْصُور إِلَى بَيْت المقدس فِي سنة أربع وخمسين ومائة وغزا الصائفة وتتبع الأجناد [3] والكور أقدم أَبَا ذفافة مَعَهُ فأصحبه الْمَهْدِي فخص بِهِ وَكَانَ يطلعه عَلَى أسراره وأموره، فَقَالَ لَهُ الرَّبِيع: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ غلب ابو ذفاقة عَلَى الْمَهْدِي ورأيُه مَا تعلم، فَقَالَ: يَا بَنِي إِن الْمَهْدِي [4] قدم من الري فِي زي أَهْل خراسان فجهدتُ أَن أنقله عَنْ ذَلِكَ بكل حيلة يُحتال بِهَا فِي مواجهة وتعريض فلم ينتقل عَنْهُ، فَلَمَّا صحبه أَبُو ذفاقة لَمْ أشعر بِهِ ذَات يَوْم إلا وَقَدْ طلع عليّ معتمًا عَلَى قلنسوته وَفِي رجليه خفّان اسودان، فو الله لو ضُمّ إِلَى ملكي مثلّه مَا كَانَ ذَلِكَ بأسر [5] إليّ من هيئته، وإنما أَبُو ذفافة رَجُل أراد أَن ينال شَيْئًا من الدنيا فَقَدْ ناله وأكثر منه وَهُوَ رَجُل شريف وللشريف شكر فلا يسوْءنكم مكانه. حَدَّثَنِي الحرمازي قَالَ: قَالَ الرَّبِيع الحاجب:
دخلتُ عَلَى الْمَنْصُور يومًا وعليّ خفُّ أبيض محكوك مكعب، فَقَالَ: لولا أني لَمْ أتقدم إليك لأدّبتك، مالك ولخفاف الزفّانين!
__________
[1] م: حي.
[2] في ط، د: وردت «كتب» في النص، و «كاتب» في الهامش للتصويب، وفي م وردت:
كتب كاتب.
[3] ط: الاخبار.
[4] ط: للمهدي.
[5] م: بايسر.(4/261)
حَدَّثَنِي هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ: دَخَلَ الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ وَهُوَ بِالْجِسْرِ الأَكْبَرِ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ حَدَّثَنِي الْحَسَنُ قَالَ: [بَلَغَنَا عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ:
مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ حَقٌّ فَلْيَقُمْ، فَمَا يَقُومُ إِلا الْعَافُونَ عَنِ النَّاسِ،] فَقَالَ الْمَنْصُورُ: قَدْ عَفَوْتُ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْبَصْرَةَ. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِنَا قَالَ:
كَانَ الْمَنْصُور وَهُوَ بالبصرة قبل أمر المسوِّدة يجلس فِي حلقة فِيهَا أزهر السمّان، فَلَمَّا أفضت إِلَيْهِ الخلافة وَفَدَ إِلَيْهِ أزهر فَقَالَ لَهُ: مَا جاء بك يَا أزهر؟
قَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ داري مستهدمة وعليّ دين مبلغهُ أربعة آلاف درهم وأريد أَن أزوج ابني محمدًا، فَقَالَ: قَدْ أمرنا لَك باثني عشر ألف درهم فخذها ولا تأتنا طالبًا، فأخذها وانصرف. فَلَمَّا كَانَ العام المقبل أتاه، فَلَمَّا رآه قَالَ: مَا جاء بك يَا أزهر؟ قَالَ: أتيتك يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ مسلمًّا، فَقَالَ: إنه ليقع فِي خلد أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أنك أتيت طالبًا، قَالَ: مَا أتيت إلا مسلّما، فَقَالَ:
قَدْ أمرنا لَك باثني عشر ألفًا فخذها ولا تأتنا طالبًا ولا مسلّمًا. فَلَمَّا كَانَت السنة الثالثة عاد إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا جاء بك يَا أزهر؟ قَالَ: أتيتك عائدًا، فَقَالَ: قَدْ أمر لَك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ باثني عشر ألف درهم فخذها ولا تأتنا طالبًا ولا مسلّمًا [1] ولا عائدًا. فلما كَانَت السنة الرابعة قدم عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا جاء بك يَا أزهر؟ فَقَالَ:
سمعتك تدعو بدعاء فجئت لأكتبه عَنْك، قَالَ: إنه غَيْر مستجاب، قَدْ دعوت اللَّه بِهِ ألا أراك فلم يجب، وأمر لَهُ باثني عشر ألفًا، وَقَالَ: تعال مَتَى شئت فَقَدْ أعيت فيك الحَيلُ.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح الْعِجْلِيُّ، قَالَ: بعث أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور إِلَى مسعر بْن كدام الهلالي فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا سلمة هَلْ لَك فِي أَن أوليك؟ فَقَالَ:
والله يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ مَا أُرضي نفسي لأن اشتري لأهلي حاجة بدرهم حَتَّى أستعين بغيري، عَلَى أَن الثقات قليل فكيف أغرك [2] من عملك، وانا الى ان تصل [3] قرابتي
__________
[1] م: سلما ولا طالبا.
[2] زاد في م: وآني التي.
[3] ط: نصل.(4/262)
ورحمي أحوج مني إِلَى الولاية، فَقَالَ: قَالَ النابغة الجعدي [1] :
وشاركنا قريشا في نقاها [2] ... وفي أنسابها [3] شرك العنان
(661)
بما ولدت نساء بني هلال ... وما ولدت نساء بني أبان
يَعْنِي لُبابة جدّتك فإنها هلالية، فأمر لَهُ بأربعة آلاف درهم وكساه وَلَمْ يزل يتعهده ويصله. وكانت آمنة بِنْت أبان بْن كليب بْن ربيعة بْن عامر [4] أم العاص وأبي العاص والعيص وأبي العيص بَنِي أمية بْن عَبْدِ شمس، وكانت صفية بِنْت حزن عمَّة أم الفضل وَهِيَ لبابة بِنْت الْحَارِث بْن حزن أم أبي سفيان بن حرب ابن أميَّة وَهِيَ هلاليَّة. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن صَالِح قَالَ: كَانَ أَبُو بَكْر الهذلي يجالس الْمَنْصُور، قَالَ: فرأى الْمَنْصُور فِي بَعْض قصره الجديد قومًا فِي ثياب بيض، قَالَ: مَا هَؤُلاءِ؟ قُلْت: جهابذتك وقوم يعملون فِي خزائنك، فتمثل قَوْل الشاعر:
كَمَا قَالَ الحمارُ لسهم رامٍ ... لَقَدْ جُمّعتَ من شتَى لأمرِ
أراكَ حديدةً فِي رأس قدح ... ومتن جلالة مَعَ ريش نسرِ
ثُمَّ قَالَ: يَا ربيع تفقد هَؤُلاءِ وانظر من كَانَ مِنْهُم فِي غَيْر عمل فأخرجه.
وَحَدَّثَنِي العُقوي الدلال الْبَصْرِيّ قَالَ: بلغ الْمَنْصُور أَن عِيسَى بْن زَيْد بْن علي ابن الْحُسَيْن بْن عَلِي بالبصرة، فخرج إِلَى البصرة وأظهر أَنَّهُ يريد أَن يُقطع صالحًا المسكين بابقليا ويقطع سُلَيْمَان الهنيئة [5] ، وَكَانَ عِيسَى مستخفيًا عِنْدَ رَجُل يقالُ لَهُ يَزِيد، فبينا الْمَنْصُور يخطب في يوم جمعة إذ وقعت عينه عَلَى عِيسَى وعرف عِيسَى أَنَّهُ قَدْ عاينه، فَلَمَّا دَخَلَ الْمَنْصُور فِي الصّلاة انسلّ عِيسَى ويزيد صاحبه فاستعرض النَّاس بَعْد الفراغ من الصّلاة فلم يوجدا. ثُمَّ إِن عيسى مات عند يزيد فأتى يزيد
__________
[1] الاغاني ج 5 ص 3 وما بعدها، وشعر النابغة الجعدي (منشورات المكتب الاسلامي بدمشق 1964) ص 160 وما بعدها.
[2] ط، د: نفاها، وفي الاغاني ج 1 ص 28، وفي «شعر النابغة الجعدي» ص 164:
تقاها.
[3] شعر النابغة الجعدي: احسابها.
[4] انظر جمهرة الأنساب ص 280.
[5] م: المسيئة.(4/263)
الرَّبِيع فَقَالَ لَهُ: اطلب لي الأمان من أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وأدخلني إِلَيْهِ حَتَّى أخبره من أمر عِيسَى بِمَا يسر بِهِ، فطلب لَهُ الرَّبِيع الأمان فأمنه الْمَنْصُور فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ مَاتَ عِيسَى بْن زَيْد وأراحك اللَّه منه، فخر الْمَنْصُور ساجدًا ووجّه من نظر إِلَيْهِ ميتًا، فوفى ليزيد بأمانه.
وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُوسَى الخوارزمي أَن الْمَنْصُور حج فكان يَأْتِي الطواف ليلًا فيطوف مستخفيًا متنكرًا لا يعلم أحدٌ من هُوَ، فَإِذَا طلع الفجر عاد إِلَى دار الندوة فَإِذَا حضرت الصلاة خرج فصلى بالناس، فسمع رجلًا يَقُول فِي بَعْض الليالي: اللَّهُمَّ إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد فِي الأَرْض وَمَا يحول بَيْنَ الحق وأهله من الطمع، فوقف عَلَى الرجل ثُمَّ خلا بِهِ ثُمَّ سَأَلَهُ عمّا قَالَ فَقَالَ لَهُ:
أتُؤَمني؟ قَالَ: نعم لَك الأمان، قَالَ: مَا عنيت سواك، فقال: كيف تنسبني إِلَى الطمع والصفراء والبيضاء فِي قبضتي والحلو والحامض بيدي! قَالَ: وهل دَخَلَ أحدًا من الطمع من دخلك! احتجبت عَنِ الضعفاء فلم يصلوا إليك، ثُمَّ أوعبت الأموال وجمعتها فلم تقسمْها فِي أهلها ورآك الْقَوْم الَّذِينَ استعنت [1] بِهِمْ خائنًا [2] فخانوك وأنت متغافلٌ [3] عَنِ الأمور كأنك لا تعلم وعلمك حجةٌ عليك، ثُمَّ أَنْتَ تطمع فِي السلامة فِي دينك ودنياك، ووعظه فاحتمل لَهُ ذَلِكَ وَقَالَ: جزيت عَنِ النصيحة خيرًا. وأقيمت الصلاة فصلى الْمَنْصُور بالناس وطلب [4] الرجل فلم يوجد.
حَدَّثَنَا الذيّال مَوْلَى بَنِي هاشم، قَالَ: سمع الْمَنْصُور جلبة فِي داره فَقَالَ:
مَا هَذَا؟ فَإِذَا خادمٌ لَهُ قَدْ جلس وغلمةٌ حوله وَهُوَ يضرب لَهُمْ بطنبور وَهُمْ يضحكون منه، فأخبر بِذَلِك فَقَالَ: وَمَا الطنبور؟ فوصفه لَهُ حَمَّاد التركي، فَقَالَ لَهُ: وأنت فَمَا يدريك مَا الطنبور؟ قَالَ: رَأَيْته بخراسان، (662) فَقَالَ: نعم، فدعا بنعله وقام يمشي رويدًا حَتَّى أشرف عَلَى الغلمان فرآهم فَلَمَّا أبصروه تفرقوا، فقال: خذوا الخادم
__________
[1] م: استغنيت.
[2] ط: علينا.
[3] م: مغافل.
[4] د، م: فطلب.(4/264)
فاكسروا مَا مَعَهُ عَلَى رأسه، ثُمَّ قَالَ: يَا ربيع أَخْرَجَهُ من قصري وابعث بِهِ إِلَى حمران النخاس حَتَّى يبيعه [1] ، فوجه بِهِ الرَّبِيع من ساعته فبيع بالكرخ.
وَحَدَّثَنِي رَجُل من ولد حَمَّاد التركي عَنْ حَمَّاد قَالَ: ولاني الْمَنْصُور المدائن ثُمَّ عزلني، فَقَالَ لي ذَات يَوْمٍ: يَا ابْن الخبيثة كم عندك من المال؟ فقلتُ: أصدقه فَإِنَّهُ لا ينفعني عنده إلا الصّدق، فأخبرتُه بمبلغ المال، فَقَالَ: ادفعه إِلَى الرَّبِيع، ففعلت، ثُمَّ رحت [2] بالعشي فَإِنِّي لبين يدي الْمَنْصُور واقف لا أشك في ذهاب المال إذ دَخَلَ الرَّبِيع فَقَالَ لَهُ: يَا ربيع أحَمَلَ حمادٌ إليك ذَلِكَ المال؟ قَالَ: نعم، قَالَ:
أفعرفت وزنه؟ قَالَ: نعم، قَالَ: احتفظ بِهِ فَإِذَا تزوج حَمَّاد فادفعه إِلَيْهِ.
وَحَدَّثَنِي بَعْض الهاشميين عَنْ رَجُل من حشم الْمَنْصُور، قَالَ: كَانَ الْمَنْصُور يقسم عَلَيْنَا الأرزاق وَمَا فِي الخزائن حَتَّى الفانيد والترياق، وَكَانَ مشايخ أهله يدخلون عَلَيْهِ بالعشيات فِي النعال والأردية. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن مُوسَى الخوارزمي قَالَ: بلغني أَن الْمَنْصُور خرج يومًا نَحو بَاب قَطْرَبُّل حَتَّى دَخَلَ من ناحية بَاب حرب فأساء بَعْض أحداث مواليه الأدب، وسار في ناحية أمراز لا يسير فِيهَا أحدٌ كراهة للغبار، فالتفت إِلَى عِيسَى بْن عَلِي وَهُوَ يسايره فَقَالَ: والله مَا ندري يَا أَبَا الْعَبَّاس مَا نصنع [3] بهؤلاء الأحداث لئن حملناهم عَلَى الأدب وأخذناهم بِمَا يجب ليقولن جاهل إنّا لَمْ نحفظ آباءهم فيهم ولئن تركناهم وركوب أهوائهم ليفسدن عَلَيْنَا غيرهم.
حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِي قَالَ: لما خرج ابنا عَبْد اللَّهِ بْن حسن عَلَى الْمَنْصُور وجاءه فتق من ناحية غَيْر ناحيتيهما جعل ينكث بقضيب مَعَهُ وَيَقُول:
ونصبتُ نفسي للرماح دريَّة ... إِن الرئيس لمثل ذاك فعول
[4] قَالَ: وَقَالَ الْمَنْصُور فِي آل أَبِي طَالِب:
فلولا دفاعي عنكم إذ عجزتم ... وبالله أحمي عنكم وأدافع
__________
[1] م: تبيعه.
[2] ط: رحلت.
[3] ط: يصنع.
[4] اخبار الدولة العباسية ص 319.(4/265)
وما زال مِنَّا قَدْ علمتم عليكم ... عَلَى الدهر أفضال يرى ومنافع
وما زال منكم أَهْل غدر وجفوة ... وبالله مغتر وللرحم قاطع
قَالُوا: وركب الْمَنْصُور وأهل بيته حوله وَقَدْ بلغه خبر مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالَ عُثْمَان بْن عُمَارَةَ المريّ: إِن حشوَ أثواب هَذَا الرجل لمكر ودهاء ونكر وَمَا هُوَ إلا كَمَا [1] قَالَ جذل الطعان:
فكم من غارة ورعيل خيل ... تداركها وَقَدْ حمي اللقاءُ
فرد رعيلها حَتَّى ثناها ... باسمر مَا يرى فِيهِ التواءُ
وَقَالَ إِسْحَاق بْن مُسْلِم: لَقَدْ سبرتُه فوجدتُه بعيدَ الغور وعجمت عوده فوجدتُه صلبَ المكسر ولمسته فوجدته خشن الملمس وذقته فوجدته مرّ المذاق وَإِنَّهُ ومن حوله لكما [2] قَالَ ربيعة بْن مكدم:
سما لي فرسان كأن وجوههم ... مصابيح تبدو فِي الظلام زواهرُ
يقودهم كبش أَخُو مُصمئلَّة ... حليف سرى قَدْ لوحته الهواجر
وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن الرَّبِيع الحارثي: هُوَ والله ليث خيسٍ [3] شرس، وللأقران [4] مفترس، وَإِنَّهُ لكما قَالَ أَبُو سُفْيَان بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ:
(663) فَإِن لنا شيخًا إِذَا الحرب شمّرت ... بديهته الإقدامُ قبل التزاحف
أَخُو الحرب قَدْ عضت بِهِ فتفللت ... نواجذُ من أنيابها فِي المزاحف
وَحَدَّثَنِي الحرمازي قَالَ: لما مَاتَ جَعْفَر الأكبر ابْن الْمَنْصُور اشتد جزعه عَلَيْهِ، فَلَمَّا قُبر وسُوّي عَلَيْهِ التراب قَالَ: يَا ربيع كَيْفَ قَالَ مطيع بْن إياس [5] فِي يَحْيَى بْن زِيَاد؟ فأنشده:
__________
[1] ط: ما.
[2] ط: لكنا كما.
[3] م: خيش.
[4] ط: الاقران.
[5] انظر الاغاني ج 13 ص 275 وما بعدها وص 290، والحماسة لابي تمام ج 1 ص 353، وطبقات الشعراء لابن المعتز ص 94- 96.(4/266)
يَا أَهْلِ بكّوا [1] لقلبي القرِحِ ... وللدموعِ الذوارف [2] السُّفُح
راحوا بيحيى فلو [3] تطاوعني ... الأقدار لَمْ يبتكر وَلَمْ يَرُح [4]
يَا خير من يحسُنُ البكاء لَهُ ... اليوم، ومن كَانَ أمس للمِدَح
أعقبتَ حزنًا من السرور وَقَدْ [5] ... أدلتَ [6] مكروهنا من الفرح
قَالَ: فبكى الْمَنْصُور وَقَالَ: صاحب هَذَا القبر أحقّ بِهَذَا الشعر. وَحَدَّثَنِي بَعْض مشايخنا أَن الْمَنْصُور قَالَ للمهدي: يَا بنيَّ، استدم النعمة بالشكر، والقدرة بالعفو، والطاعة بالتألّف، والنصر بالتواضع لِلَّهِ والرحمة لِلنَّاسِ.
وَحَدَّثَنِي الحرمازي قَالَ: لما أتى الْمَنْصُور مخرجُ مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ شن عليْه درعه ولبس خُفّه وصعد الْمِنْبَرَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:
ما لي أُكفكف عَنْ سعدٍ ويشتمُني ... ولو شتمتُ بَنِي سعدٍ لَقَدْ سكنوا
جهلًا عَلَيْنَا وجُبنًا عَنْ عدوهم ... لبئست الخلّتان الجهل والجبن
أما والله لَقَدْ عجزوا عما [7] قمنا بِهِ فَمَا عضدوا الكافي ولا شكروا المنعم [8] فماذا حاولوا، أشرب رَنْقًا [9] عَلَى غصص وأبيتُ مِنْهُم عَلَى مضض، كلام [10] والله إني لا أصِلُ ذا رحم بقطيعة نفسي، ولئن لَمْ يرضَ بالعفو مني ليطلبنّ ما لا يوجد عندي، ولأنْ أُقتل معذورًا أحبّ إليّ من أَن أحيا مُستذلًا، فليبقِ ذو نفسٍ عَلَى نَفْسه قبل أَن يقضي نحبه، ثُمَّ لا أبكي عَلَيْهِ [11] ولا تذهب نفسي حسرة لما ناله.
حَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابُنَا عَنْ إِبْرَاهِيم بْن عِيسَى الهاشمي قَالَ: خطب الْمَنْصُور يَوْم
__________
[1] الاغاني ج 13 ص 290: يا اهلي ابكوا.
[2] الحماسة: السواكب.
[3] الاغاني: ولو.
[4] الحماسة: لم تبتكر ولم ترح.
[5] ن. م.: قد ظفر الحزن بالسرور وقد ...
[6] ن. م.: اديل.
[7] في هامش د، م: عن ثأر.
[8] سقطت كلمة «المنعم» من ط.
[9] م: رفقا.
[10] «كلا» ليست في م.
[11] «عليه» ليست في ط.(4/267)
عرفة فَقَالَ: أيها النَّاس إِنَّمَا أَنَا سلطانُ اللَّه فِي أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وإرشاده، وخازنُه عَلَى ماله وفَيْئِه أعمل فِيهِ بمشيئتهِ وأقسمه بإرادته وأعطيه باذنه، وَقَدْ جعلني اللَّه عَلَيْهِ قفلًا فَإِذَا شاء أَن يفتحني فتحني، فارغبوا إِلَى اللَّه واسألوه [1] فِي هَذَا اليوم الشريف الَّذِي وهب لكم فِيهِ من فضله مَا أعلمكم فِي كتابه إذ يقولُ:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا [2] ، أَن يوفقني للصواب ويسددني للرشاد ويلهمني الرأفة بكم وقسم أرزاقكم فيكم بالعدل عليكم والإحسان إليكم.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك، أخبرني إِسْحَاق بْن عِيسَى بْن عَلِي، قَالَ: بعث الْمَنْصُور فِي سنة خمس وأربعين ومائة رجالًا يطلبون لَهُ موضعًا يبنى لَهُ [3] فِيه مدينة، فكانوا يأخذون تربة كُل أرض فَإِذَا عفنت خرجت منها العقارب والخنافس، فَلَمَّا عفنت تربة بغداد خرجت منها بنات وردان فَقَالَ: هَذِهِ، هَذِهِ، فنزل الدير الَّذِي عَلَى الصراة وَقَالَ: بغداد بلد يأتيه الميرة من الفرات ودجلة. فاختط الْمَدِينَةَ وفرغ من أساسها، فَإِنَّهُ لنائم فِي يَوْم صائف إذ أقبل سُلَيْمَان بْن مجالد وسُليم الْمَكِّيّ فاستأذنا عَلَى الْمَنْصُور فدخل الرَّبِيع فاحتال (664) لَهُ حَتَّى استيقظ ودخلا عَلَيْهِ ومعهما كتاب صَغِير من مُحَمَّد بْن خَالِد بْن عَبْدِ اللَّهِ القسري يخبر فِيهِ بخروج مُحَمَّد بْن عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ الْمَنْصُور: نكتبُ إِلَى مصر الساعة أَن تقطع [4] الميرة عَنْ أَهْل الحرمين وإنهم فِي مثل الحرجة إِذَا لَمْ تأتهم الميرة من مصر. وأمر أَن يكتب إِلَى الْعَبَّاس بْن [5] مُحَمَّد أَخِيهِ وَهُوَ عَلَى الجزيرة أَن يمده بمن [6] قدر عَلَيْهِ ولو أَن يبعث إِلَيْهِ فِي كُل يَوْم رجلًا واحدًا لينكسر بِهِمْ أَهْل خراسان فَإِنَّهُ لا يؤمن فسادُهم مَعَ دالتهم. ونادى بالرحيل من ساعته فخرج فِي حر شديد حَتَّى عسكر بنهر صَرْصَر وصلى العصر هناك، وأتى الكوفة وعسكر وخندق عليه، ودعا بعيسى
__________
[1] ط: اسأله.
[2] سورة المائدة (5) ، آية 3.
[3] سقطت «له» من م.
[4] ط: يقطع.
[5] ط: من.
[6] ط: من.(4/268)
ابن مُوسَى فَقَالَ لَهُ: إمّا أَن تخرج وأقيم فأمدك وإمّا أَن أخرج وتقيم فتمدني، فَقَالَ: بَل أقيك بنفسي وأكفيك هَذَا الوجه إِن شاء اللَّه، فشخص. ثُمَّ خرج إِبْرَاهِيم فِي عقب خروج أَخِيهِ مُحَمَّد، فجمع الْمَنْصُور ولد أَبِيهِ فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ وَمَا ترون؟ فَقَالُوا: توجه إِلَيْهِ مُوسَى بْن عِيسَى، فَقَالَ: والله يَا ولد عَلِي مَا أنصفتم، وجهتُ أَبَاهُ وأوجّهه فأكون قَدْ وجهتُ من ولد مُحَمَّد بْن عَلِي رجلين، فَقَالُوا: توجه عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي وتصطنعه، فَقَالَ: أبعثُ عليَّ حربًا أُخْرَى، إِن خافني مالأ عدوي عَلِي وإن ظفر أعاد الحرب بيني وبينه جذعة، وَقَدْ سمعتكم تذكرون أَن لَهُ أربعة آلاف مَوْلَى يموتون تَحْتَ ركابه فأي رأيٍ هَذَا؟ والله لو دَخَلَ عَلِي إِبْرَاهِيم بسَيْف مسلول لكان آمن عندي من عَبْد اللَّهِ بْن عَلِي.
وَحَدَّثَنِي الحرمازي قَالَ: لما قُتل إِبْرَاهِيم بْن عَبْدِ اللَّهِ وبعث عِيسَى بْن مُوسَى برأسه أمر الْمَنْصُور أَن يُطاف بِهِ بالكوفة، ثُمَّ خطب الْمَنْصُور بالكوفة فَقَالَ: يَا أَهْل الكوفة عليكم لعنةُ اللَّه وعلى بلد أنتم فِيهِ، للعجب لبني أمية وصبرهم عليكم كَيْفَ لَمْ يقتلوا [1] مقاتلتكم ويَسبْوا ذراريكم ويخربوا منازلكم، سبئية خشبيّة، قائل يقول جاءت الملائكة قائل يَقُول جاء جبريل وَهُوَ يَقُول أقدم حيزوم، ثُمَّ عمدتم إِلَى أَهْل هَذَا الْبَيْت وطاعتهم حسنة فأفسدتموهم وانغلتموهم فالحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل دائرة السوء عليكم، أما والله يَا أَهْل المدرة الخبيثة لئن بقيت لكم لأذِلنّكم.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك وغيره، قَالُوا: أتم الْمَنْصُور بناء مدينته بغداد [2] ونزلها فِي سنة ست وأربعين ومائة، وبنى قصره فِي الخلد عَلَى دجلة سنة سبع وخمسين، وتولى ناحيةً منه الرَّبِيع وناحيةً أُخْرَى أبان بْن صَدقَة. قال عبد الله ابن مَالِك: وأنا يَوْمَئِذٍ مَعَ أبان، وَكَانَ الْمَنْصُور يعاقب من سماه الخلد وَيَقُول:
الدنيا دار فناء وإنما الخلد فِي الْجَنَّةِ. حَدَّثَنِي الحرمازي قال: ولي المنصور الحسن ابن زَيْد الْمَدِينَّة بَعْد جَعْفَر بْن سُلَيْمَان فعبث بجلساء جعفر وأصحابه وأضرّ بإسماعيل ابن أيوب المخزومي، فقال:
__________
[1] ط: تقتلوا.
[2] م: ببغداد.(4/269)
(و) إنّ بَنِي الْعَبَّاس لَنْ نستطيعهم ... فلا ذنب لي فانظرهم حسرات
هُمُ ورثوا ميراثَ أَحْمَد كُلَّهُ ... وَلَمْ يدعوه باطلًا لبنات
حَدَّثَنِي العمري عَنْ إِبْرَاهِيم بْن السندي، أَن الْمَنْصُور لما أراد الحج فِي السنة الَّتِي توفي فِيهَا أتى قصر عبدويه فأقام بِهِ، ثُمَّ دعا بالمهدي فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا عَبْد اللَّهِ اقرأ هَذَا الكتاب وأعمل بِمَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ: أوصيك بتقوى اللَّه ومراقبته، وعليك بإكرام أَهْل بيتك وإعظامهم ولا سيما من استقامت طريقته وطهرت سيرته وحسُنت مودتُه مِنْهُم فإنّ أقرب الوسائل المودة (665) وأبعد النسب البغضة. وانظر أَهْل الجزالة والفضل والعقل مِنْهُم فشرّفهم وأوطئ الرجال أعقابَهم فَإِنَّهُ لا يزال لأمر الْقَوْم نظام مَا كَانَتْ لَهُمْ أعلام، وأجزل لَهُم الإعطاء ووسعّ عَلَيْهِم فِي الأرزاق فَإِن أَكْثَر النَّاس مؤنة أعظمهم مروءةً، ثُمَّ ليكن معروفك لغيرهم بعدهم فَإِن الصلة تزيد الألْفة، وصنهم ينبلوا ولا تَبتِذلهم فيخلقوا، وأعلم أَن رَضِيَ [1] النَّاس غاية لا تدرك فتحبَّبْ إليهم بالإحسان جهدك وتثبت فيما يرد من أمورهم عليك، ووكل همومك بأمورك وتفقد الصغير تفقُّدك الكبير، وخذ أهبة الأمر قبل حلوله فَإِن ثمرة التواني الإضاعة، وكن عِنْدَ رأس كُل أمر [2] لا عِنْدَ ذَنَبه فَإِن المستَقبل لأمره سابقٌ والمستدبِرَ لَهُ مسبوق. وَوَلِّ أمورك الفاضلَ تكن [3] مستعليًا ولا تولِّ المفضول فَإِنَّهُ مُزرٍ باختيارك، وانظر الأَمْوَالَ فإنها عدة الملوك وبهاءُ السلطان ونظام التدبير فوفرها بولايةِ أَهْل العفافِ عَنْهَا والحيطة عَلَيْهَا ولا تبتذلها إلّا فِي إصلاح أمور السلطان والرعية وثواب أَهْل الطاعة والنصيحة، وأحسن إِلَى نصحائك [4] واستدِم مودتهم ومحبتهم بجميل التعهد لَهُمْ والتفقد لأمورهم [5] ولا تعط عطيّة تبطر الخاص وتوسف العام واجعل لكل إليك حاجة واجعل لَهُمْ من فضلك مادة واسمع من أَهْل التجارب ولا تردّنّ عَلَى ذوي الرأي، وعودّ نفسك الصبرَ عَلَى التّعب فِي إصلاح الرعيَّة وترك الهوينا والدّعة، وأعلم أَن ذهاب السلطان يؤتى من ثلاثة
__________
[1] ط، م: رضاء.
[2] في هامش د، ط: «أمرك» مقابل «كل امر» .
[3] ط: يكن.
[4] في هامش ط، د: أصحابك.
[5] ط: بأمورهم.(4/270)
أمور: قلة الحزم وضعف العزم وفقد صالحي الأعوان وأنّ ثباته بأربع [1] خلال:
المعرفة وحسن التخير وإمضاء الاختيار وتنكبّ أَهْل الحرص فَإِن الحريص يبيعك باليسير من حظّه، وشره الوزراء أضرُّ الأعداء، ومن خانَك كَذَبك ومن كذبك غشَّك، وأعلم أنّ مادَّة الرأي المشاورة فاختر لمشاورتك أهل اللب والرأي والصدق وكتمان السّر، وكافِ بالحسنة وتجاوز عَنِ السيئة مَا لَمْ يكن فِي ذَلِكَ ثلم دين ولا وهن سلطان، ودع الانتقام فَإِنَّهُ أسوأ أفعال القادر، وَقَدِ استغنى عَنِ الحقد من عظم عَنِ المجازاة، وعاقب بقدر الذنب، وأعفُ عَنِ الخطأ وأقِل العثرات من أَهْل الحرمة والبلاء. وعليك بتلاد نعمتك ومواليك من أَهْل خراسان وغيرها من الآفاق فإنهم أنصحُ النَّاس لَك وأشدهم سعيًا فِي بقاء دولتك فَإِنَّمَا عزّهم بعزك، وتجنب دقيق أخلاق أَهْل العراق فإنهم نشأوا عَلَى الخبّ ومذموم الأخلاق، وإذا اطلعت من خاصتك وأهل نعمتك عَلَى هوى مفسدٍ لنصيحتك فلا تُقله عثرةً ولا تَرْعَ لَهُ حُرْمة ودع الاغترار بِهِ فإنك إِذَا اغتررت بِهِ كنت كمدخل الحية دُونَ شعاره، إِن شاء اللَّه. ولما [2] قرأ الكتاب قَالَ: أفهمتّهُ [3] يَا بُنّي؟ قَالَ: نعم، قَالَ: فاتخذه لَك إمامًا ومثالًا، ثُمَّ قَالَ: أستودعك اللَّه يَا بَنِي وأنشد:
المرءُ يأمل أَن يعيشَ ... وطولُ عيشٍ قَدْ يَضُرّه
تبلى بشاشته ويبقى [4] ... بَعْد حلوِ العيش مُرُّه
وتخونه الأيام حَتَّى ... لا يرى شيئًا يَسرُّه
(666)
كم شامتٍ بي إِن ... هلكتُ وقائلٍ لِلَّهِ دَرّه
قَالَ العمري: وقرأتُ [5] هَذَا الكتابَ بعدُ عِنْدَ قومٍ من الكُتاب فوجدتهم قَدْ كثروه. حَدَّثَنِي عزّون بْن سَعْد مَوْلَى الأَنْصَار، عَنْ أَبِيهِ سَعْد بْن نصر، قَالَ:
حج الْمَنْصُور سنة ثمان وخمسين ومائة فودّع الْمَهْدِي فَقَالَ: يَا أبا عَبْد الله إني ولدت
__________
[1] ط: اربع، م: اربعة.
[2] م: فلما.
[3] م: افهمت.
[4] ط: تبقى.
[5] ط: فقرأت.(4/271)
فِي ذي الحجة وَوُلِّيتُ الخلافة فِي ذي الحجة وَقَدْ هجس فِي نفسي أني [1] أموتُ فِي ذي الحجة من سنتي وَذَلِكَ حداني عَلَى الحج، فَإِذَا أفضى إليك الأمر فَإِن استطعت أَن تكون [2] حَدِيثًا حسنًا فافعل.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك وغيره عَنِ [3] الفضل بْن الرَّبِيع عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إني لَمَع الْمَنْصُور فِي حجته الَّتِي توفي فِيهَا، فَلَمَّا دنا من مَكَّة اشتد بِهِ الوجع فَقَالَ [4] ذَات ليلة وأنا زميله: أنزلني [5] ، وكانت بِهِ خلفة فعدلنا [6] بِهِ عَنِ الطريق فأنزلناه، فأبطأ ثُمَّ أقبل متكئًا عَلَى رجلين من مواليه وأبو الْعَبَّاس الطوسي والمسيب بْن زهير مَعَ وجوه أَهْل خراسان وقوف [7] فقلتُ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أبطأتَ فهل حدث شَيْء؟
فَقَالَ: أَنَا صَالِح، وصاحَ بي فَلَمَّا صرنا فِي المحمل قَالَ: ويحك أترى هَؤُلاءِ الخراسانية وَهُمْ هُمْ وتسألني عَنْ هَذِهِ المسألة! أتذكر [8] رؤياي الَّتِي أخبرتكم بِهَا إني رأيت كأن الْكَعْبَة انصدعت فجئت بحبل فقممتها بِهِ حَتَّى التَأمَتْ ثُمَّ دفعت الحبل إِلَى رَجُل من مواليّ لَمْ أسمه لكم، فَقُلْتُ لَهُ: شُد، أفتدري مَن مولاي ذَلِكَ؟ قُلْت: لا، قَالَ: أَنْتَ هُوَ ولكني كرهتُ أَن أخبرك بِذَلِك [9] فاتقِ اللَّه وانظر كَيْفَ تكون طاعتك للمهدي. وحدثني عَلِي بْن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَأْمُون، قَالَ: سَمِعْتُ الْمَأْمُون يحدث عَنْ عصيمة سرية الْمَنْصُور، وكانت مَعَهُ فِي حجته الَّتِي توفي فِيهَا، أَنَّهَا قَالَتْ: ما زال يَقُول: أَشْهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شريك له لَهُ الملكُ وَلَهُ الحمد يُحيى ويُميت وَهُوَ حي لا يموت بيده الخير وَهُوَ عَلَى كل شيء قدير وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ يعيد ذَلِكَ ويهلل ويكبر ويُلبّي حَتَّى قبض، فغمضه الرَّبِيع وشد لحيته بعصابة ثُمَّ قَالَ: والله لأملأن سَيْفي مِمَّنْ صاح حَتَّى أحكم مَا أمرني به مولاي،
__________
[1] ط: من اني.
[2] ط، م: يكون.
[3] ط: على.
[4] م: فقال لي.
[5] يكرر م: انزلني.
[6] ط: فعدلن.
[7] ط: فوقف. وصححت في هامش د: وقوف.
[8] ط: أيذكر، م: تذكر.
[9] ط: بذاك.(4/272)
فخرج إِلَى النَّاس فأَحكم [1] مَا أراد. قَالَ، وَقَالَتْ عصيمة: كَانَ الْمَنْصُور فِي تسبيحه وتهليله وتشهيده فكلمته فَقَالَ: كفي عني ساعة، فَمَا قطع ذَلِكَ حَتَّى شخص.
حَدَّثَنِي [2] عَبْدُ اللَّهِ بْن مَالِك [3] الكاتب عَنْ جَمَاعَة مِمَّنْ حضر وفاة الْمَنْصُور بمكة قَالُوا: خرج الرَّبِيع إِلَى من حضر من بَنِي الْعَبَّاس وغيرهم فَقَالَ: إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ يأمركم بتجديد (667) البيعة للمهدي، فَقَالَ عِيسَى بْن مُوسَى: أحبّ أَن أسمع ذاك من أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فدخل ثُمَّ خرج فَقَالَ: عِنْدَ أمِير الْمُؤْمِنيِنَ حرمه وَهُوَ لا يستُرُهنّ من عمه عِيسَى بْن عَلِي فليقم فيدخل [4] عَلَيْهِ ويخبركم [5] عَنْهُ بِمَا أعلمتكم، فَقَالَ عِيسَى بْن مُوسَى: لا بأس قم يَا عم، فقام عِيسَى فدخل فَقَالَ لَهُ الرَّبِيع: إِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ قضى وَكَانَ أمر بتجديد البيعة للمهدي وأنا أريد تجديدها وأنت أعلم، فخرج عِيسَى بْن عَلِي إِلَى عِيسَى بْن مُوسَى فَقَالَ [6] :
يأمرك أمِير الْمُؤْمِنيِنَ بتجديد البيعة، فبايع عِيسَى بْن مُوسَى للمهدي وبايع النَّاس، ثُمَّ عرف عِيسَى بْن مُوسَى القصة بَعْد ذَلِكَ فَقَالَ لعيسى بْن عَلِي: أَنْتَ الفاعل مَا فعلتَ.
حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ عُمَرَ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ عدي قَالَ: عرض للمنصور اخْتِلافٌ فكان يحتاج إِلَى الخلاء فِي اليوم الخمس مرات وأكثر ثُمَّ أسرف [7] ذَلِكَ حَتَّى كَانَ يقوم فِي اليوم والليلة خمسين مرة فتوفي بَعْد [8] التروية أَوْ قبله بيوم، وفرغ من جهازه عِنْدَ العصر وصلى عَلَيْهِ عِيسَى بْن مُوسَى ويقال عِيسَى بْن عَلِي، ويقال إِبْرَاهِيم بْن يَحْيَى [9] بْن مُحَمَّد بْن عَلِي وَهُوَ ابْن أَخِيهِ وَهُوَ قائم بالموسم عامئذ، وَلَمْ يغطّ رأس
__________
[1] ط: احلم.
[2] د، م: وحدثني.
[3] لم يرد «ابن مالك» في ط.
[4] د: فندخل.
[5] د: فنخبركم.
[6] م: فقال له.
[7] م: اشرف.
[8] م: في يوم.
[9] م: ابراهيم بن محمد بن يحيى. انظر جمهرة الأنساب ص 20- 21.(4/273)
الْمَنْصُور لأنه كَانَ مُحْرمًا ودفن عِنْدَ بئر ميمون بْن الْحَضْرَمِيّ. وَكَانَ الْمَنْصُور لما بلغ ثلاثًا وستين سنة يَقُول: إنه كَانَ يُقَالُ [1] لهذه السنة داقَّة الأعناق، قبض بِهَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بَكْر وعمر رَضِيَ اللَّه تَعَالَى [2] عَنْهُمَا، فقبض وَلَهُ أربع وستون سنة. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: دُفن الْمَنْصُور فِي شعب نَافِع الخوزي [3] فِي المقبرة الَّتِي تطل عَلَيْهَا ثنية المعلاة وَهِيَ الَّتِي صُلب عَلَيْهَا عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، ونزل فِي حفرته عِيسَى بْن عَلِي والعباس بْن مُحَمَّد وعيسى بْن مُوسَى والربيع ويقطين والريان مولاه، وجعل فِي صندوق وأطبقت عَلَيْهِ ألواح، وتوفي وَلَهُ أربع وستون سنة إلا أيّامًا. وَحَدَّثَنِي عمر بْن عِيسَى أَبُو مَسْعُود قَالَ: توفي الْمَنْصُور بمكة فِي سنة ثمان وخمسين ودفن بَيْنَ الحجون وبئر ميمون بْن الْحَضْرَمِيّ وصلى عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم بْن يَحْيَى بْن مُحَمَّد بوصية منه، وَكَانَ يَوْم توفي ابْن أربع وستين سنة وكانت خلافته إحدى وعشرين سنة وأحد عشر شهرًا وأيامًا، وحجّ بالناس فِي تلك السنة ابراهيم ابن يَحْيَى بْن مُحَمَّد. وَقَالَ بَعْضهم: مَاتَ وَلَهُ ثمان وستون سنة، وأثبت مَا روي فِي عمره أربع وستون سنة. وَقَالَ الْحَسَن بْن عَلِي [4] الحرمازي، وَهُوَ مَوْلَى لقريش غَيْر أَنَّهُ كَانَ ينزل فِي بَنِي الحرّماز، قَالَ سلم الخاسر [5] يرثي الْمَنْصُور، وإنما قيل لَهُ الخاسر لأن أَبَاهُ كَانَ تاجرًا فمات وترك مالًا فأنفقه فِي طلب العلم وابتياع الدفاتر فَقِيلَ هُوَ خاسر:
أَيْنَ ربُّ الزوراء إذ سوّغتهُ ... الملكّ عشرين حجة واثنتان
قَالَ: وَقَالَ آخر:
قَفَل الحجيجُ وخلّفوا ابْن مُحَمَّد ... رهنًا بمكة فِي الضريح الملحد
شهدوا المناسك كلها وإمامُهم ... تحت الصفائح محرم لم يشهد
__________
[1] ط: يقول.
[2] «تعالى» ليست في د.
[3] ط، د: الحوزي. انظر المغانم المطابة في معالم طابة ص 288.
[4] سقط «الحسن بن علي» من ط.
[5] انظر طبقات الشعراء لابن المعتز ص 99- 106.(4/274)
وأنشدني غَيْر الحرمازي:
لقيَ اللَّه مُحرِمًا وشهيدًا ... فهنيئًا لَهُ هنيئًا مريئا
وأُنشدت لبعضهم:
ببئر ميمون ثوى قراره ... فِي ملحد اسلمه أنصاره
خلافة الْمَهْدِي بْن الْمَنْصُور
فولد أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، وَهُوَ عَبْدِ اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ، محمدًا الْمَهْدِي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ ويكنى أَبَا عَبْد اللَّهِ وأمّه أم مُوسَى بِنْت مَنْصُور بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن شَهْر بْن يَزِيد بْن مثوّب بْن الْحَارِث بْن شمر ذي الجناح الحميري، (668) ولي الخلافة فِي سنة ثمان وخمسين ومائة، وَفِي ذي الحجة، وكانت خلافته عشر سنين وشهرين وأيامًا. وَكَانَ من أسخى النَّاس وأجملهم وتوفي بماسبذان [1] في سنة تسع وستين مائة ودفن بِهَا وصلى عَلَيْهِ ابنه هَارُون الرشيد أمِير الْمُؤْمِنيِنَ وَكَانَ مَعَهُ بماسبذان [2] . وَفِي الْمَهْدِي يَقُول الشاعر:
أكرِم بقرم [3] أمين اللَّه والده ... وأمّه أم مُوسَى بِنْت مَنْصُور
وَجَعْفَر بْن الْمَنْصُور وَهُوَ الأكبر ويكنى أَبَا الفضل وأمه أم مُوسَى أيضًا، ولاه أَبُوهُ [4] الموصل وأعمالها والجزيرة وتوفي ببغداد. فولد جَعْفَر بْن أَبِي جعفر عيسى ابن جَعْفَر وَجَعْفَر بْن جَعْفَر وزبيدة بِنْت جَعْفَر. فأمّا عِيسَى بْن جَعْفَر فولي للرشيد [5] أعمال البصرة وكور دجلة والأهواز واليمامة والبحرين والسند، وَكَانَ أليف الرشيد وأنيسه وعديله إِذَا ركب جملًا أَوْ بغلًا عَلَيْهِ قُبَّة، وَكَانَ جسيمًا فَإِذَا ركب مَعَ الرشيد ثُقِّلت ناحية الرشيد بحجر أَوْ بمثقلات رصاص. وأمّا جَعْفَر بْن جَعْفَر فَقَدْ ولي البصرة للرشيد وولايات [6] ، وَهُوَ صاحب الدار التي ببغداد عند الباب
__________
[1] م: ما سبذان.
[2] م: ما سبذان.
[3] ط: بقوم.
[4] سقط «أبوه» من م.
[5] ط: الرشيد.
[6] «وولايات» سقطت من م.(4/275)
المعروف بباب النَّقْب وَهِيَ مُطلَّة عَلَى دجلة. وأمّا زبيدة وَهِيَ أم جَعْفَر فتزوجها الرشيد فولدت لَهُ مُحَمَّد الأمين قتل ببغداد وَهُوَ خليفة، ثُمَّ ولي أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَأْمُون بعده. وأنشدني أَبُو الأحوص المؤدب فِي الرشيد:
أَبُو أمين ومأمون ومؤتمن ... أكرِم بِهِ وَالِدًا برًّا وبالولد
والمؤتمن وَهُوَ القاسم بْن الرشيد كَانَ الثالث فِي ولاية العهد بَعْد مُحَمَّد وعبد اللَّه الْمَأْمُون، فتوفي فِي خلافة الْمَأْمُون، وَكَانَ مُحَمَّد بْن زِيَاد الأَعْرَابِيُّ مؤدبًا لهارون ابنه. وإبراهيم بْن أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور وأمه الحميرية أيضًا، توفي بالهاشمية ولا عَقِب لَهُ. وسليمان بْن أَبِي جَعْفَر الْمَنْصُور ويكنى أَبَا أيوب وَلِيَ الموسم للرشيد، وولي البصرة والجزيرة والشام، وأمه فاطمة من ولد طَلْحَةَ بْن عُبَيْد اللَّه التَّيْمِيِّ صاحب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَحَدَّثَنِي من أثق بِهِ أَن إِسْحَاق بْن سماعة المعيطي قَالَ قصيدة طويلة يفخر بني أميّة وبظفر معاوية وإسحاق بْن سماعة المعيطي قَالَ قصيدة طويلة يفخر ببني أميّة وبظفر معاوية بيوم الحرة، وَقَالَ، وَقَدْ غزا الرشيد الروم وخلف بالرافقة ابنه الْمَأْمُون ومعه سُلَيْمَان بْن أَبِي جَعْفَر، شعرًا [1] وَهُوَ:
يَا طالبًا من بَنِي الْعَبَّاس فُرصته ... فِي الأمر دونكها إِن كنت يقظانا
أما ترى الرقة البيضاء شاغرةً ... إلا شراذم شذاذًا وخصيانا
مَا ترتجي بَعْد هَذَا اليوم لا [2] ظفرت [3] ... (كفاك) [4] إِن لَمْ تنلها من سُلَيْمَانا
لا عيب بالمرء إلا أَنَّهُ رَجُل ... يحكي [5] الخرائد تانيثًا وتِلْيانا
فبلغت [6] الأبيات سُلَيْمَان فحبسه وحلقه وضربه، فتكلم [7] فِيهِ سَعِيد الجوهري فخلى سبيله، ثُمَّ كلم [8] الْمَأْمُون فأذن لَهُ فِي حبسه فحبسه فَقَالَ فِي الحبس:
تعفو الكلوم وينبت الشعر ... ولكل [9] وارد منهلٍ [10] صدر
__________
[1] انظر الخبر والشعر في اشعار اولاد الخلفاء ص 15- 16.
[2] ط: ما.
[3] د: خفرت
[4] (كفاك) ساقطة هنا، والتصويب من اشعار اولاد الخلفاء.
[5] ط: خلي.
[6] ط: وبلغت.
[7] ط، د: فكلم.
[8] م: فكلم.
[9] د: كل.
[10] ط: منها.(4/276)
والعار فِي أبواب منبطح ... لعبيده مَا أورق الشجر
وَقَالَ أيضًا [1] :
قل لسليمان عَلَى مَا أرى ... من طول حبسي واقتراب الأجل
حبستني فِي غَيْر جرمٍ سِوَى ... حكايتي عَنْك مقال الخطل
(669) قولك مَا أعرف من لذة ... لَمْ أشفِ منها النفس إلا الحبل
وَمَاتَ فِي الحبس، وَلَهُ شعر يهجو بِهِ البرامكة، وَيَقُول فِي يَحْيَى بْن خَالِد:
يَتبعُ الزنديق يَحْيَى وابنه ... إنه للغي قِدما مُتّبع
[2] ويعقوبُ بْن أَبِي جَعْفَر، وأمّه فاطمة أيضًا وَلَهُ عقب، وَقَدْ حج بالناس سنة اثنتين وسبعين، سقط عَنْ فرسه فاندقت عنقه. وعيسى بْن أَبِي جَعْفَر، وأمه فاطمة.
وصالح بْن أَبِي جَعْفَر، وأمه أم ولد وَكَانَ يسميه صالحًا المسكين لرقّته عَلَيْهِ وَيَقُول:
مَا أشبعُ لصالح من حال ولا بر، وَيَقُول: ادعوا ابني المسكين، وَيَقُول لقوّاده: بُرّوه، فكانت الأَمْوَالُ تُهدى إِلَيْهِ. وَقَدْ ولي صَالِح بْن أَبِي جَعْفَر الموسم سنة خمس وستين ومائة للمهدي. والقاسم بْن أَبِي جَعْفَر توفى فِي خلافة أَخِيهِ الْمَهْدِي، وثب من قُبة إِلَى قُبة فسقط بينهما فمات، وأمه أم ولد. وعبد الْعَزِيز بْن أَبِي جَعْفَر درج، والعباس درج وأمهما أم ولد. وعلي بْن أَبِي جَعْفَر، وأمه أم عَلِي من أَهْل وادي القرى مَاتَ ابْن سبع سنين. وَجَعْفَر الأصغر وَهُوَ ابْن الكردية، واسم الكردية صغيرة. والعالية وأمها من ولد خَالِد بْن أسيد بْن أَبِي العيص بْن أمية، تزوجها إسحاق ابن عِيسَى بْن عَلِي. وعبيدة، توفيت فِي حياة أبيها. وفاطمة، زوَّجها [3] الْمَنْصُور يَحْيَى بْن جَعْفَر بْن تمام بْن الْعَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
ووُلد لأمير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَهْدِي مُوسَى ويكنى أَبَا مُحَمَّد وَهُوَ الهادي، وهارون ويكنى أَبَا جَعْفَر وَهُوَ الرشيد، والبانوقة، أمهم الخيزران جُرشية ويقال الخيزرانة، وعيسى وَهِيَ أمه أيضًا وإليه نسبت عيساباذ ببغداد. وعيسى وعبيد اللَّه، أمهما ريطة
__________
[1] الأبيات في اشعار اولاد الخلفاء ص 16.
[2] م: تبع.
[3] م: فزوجها.(4/277)
بِنْت أَبِي الْعَبَّاس. ومنصور بْن الْمَهْدِي، وأمه ابنة الأصبهبد صاحب طبرستان وتسمى البخترية، وقيل إنها ولدت للمهدي أيضًا العالية. وسليمة وَهِيَ أسماء. والعباسة بِنْت الْمَهْدِي لأم ولد. ويعقوب وإسحاق لأم ولد. وإبراهيم لأم ولد اسمها شكلة وَهِيَ من سبي دنباوند [1] .
فأما مُوسَى فولي الخلافة سنة تسع وستين ومائة وَكَانَ يَوْم وَليها ابْنُ خمس وعشرين سنةً، وأتاه خبر [2] وفاة المهدي وهو بجرجان فقدم الرشيد من ما سبذان مسرعًا إِلَى بغداد فضبط الأمور هُوَ والربيع الحاجب إِلَى أَن قدم الهادي. وَكَانَ الْمَهْدِي حين شخص إلى ما سبذان استخلف الرَّبِيع عَلَى بغداد. وتوفي مُوسَى بعيساباذ من بغداد وصلى عليه [3] الرشيد، فكانت خلافة سنة وشهرين، وفيه [4] يَقُول الشاعر:
لما أَتَتْ خيرَ بَنِي هاشمٍ ... خلافةُ اللَّه بجرجان
شَمّر بالحزم سرابيله ... تشمير لا غمر ولا وان
وأمّا هَارُون، فولي الخلافة فِي سنة سبعين ومائة، وَمَاتَ بطوس من خراسان فِي سنة ثَلاث وتسعين ومائة وَهُوَ ابْن خمس وأربعين سنة. وَقَالَ أَبُو مَسْعُود الكوفي:
ولي هَارُون الرشيد الخلافة وَلَهُ ثَلاث وعشرون سنة وكانت خلافته ثلاثًا [5] وعشرين سنة وتوفي ابْن ست وأربعين [6] . وَأَمَّا البانوقة فتوفيت صغيرة. وَأَمَّا عَلِي بْن الْمَهْدِي فحج بالناس غَيْر مرة وَمَاتَ ببغداد، والقصرُ الَّذِي يعرف بقصر ابْن رَيْطة بقرب سوق يَحْيَى نُسب إِلَيْهِ، ووَليَ البصرة. وَأَمَّا عِيسَى فمات صغيرًا. وَأَمَّا عبيد الله ابن الْمَهْدِي فولى أرمينية وولي الجزيرة. وَأَمَّا مَنْصُور بْن الْمَهْدِي فولي فلسطين وغيرها (670) وحَجّ بالناس ووَليَ البصرة، ومال الناسُ إِلَيْهِ فِي أَيَّام فتنة محمّد الأمين ابن الرشيد ببغداد فأبى أَن يدخل فِيهَا أَوْ في شيء من أمرهم.
وأما ابراهيم ابن الْمَهْدِي فَإِن ابنه هِبَة اللَّه حَدَّثَنِي أَن مُحيّاة الطائفيَّة أم ولد الْمَنْصُور كَانَتْ بعثت بشكلة أم إِبْرَاهِيم إِلَى الطائف فنشأت هناك ففصحت
__________
[1] ط، م: دباوند. انظر ياقوت ج 2 ص 436- 7 وفيه دباوند ودنباوند.
[2] سقط النص «وأتاه خبر» من م.
[3] ط: عليها.
[4] «وفيه» سقطت من م.
[5] د: ثلاث.
[6] م: ... واربعين سنة.(4/278)
وَقَالَت الشعر، وأنشدني لَهَا شعرًا فِي أخ كَانَ لَهُ يُقَالُ لَهُ أَحْمَد وَهُوَ [1] :
أَحْمَدُ يفديه شبابُ فهرِ ... من كُل ما ريب وأمرٍ نُكرِ
قَدْ جاء مثل الشَّمْس غب قَطِر ... فِي حُسن بدرٍ واعتدالِ صَقْرِ
[2]
بُني احشايَ [3] وذخر ذخري ... شد الهي بأخيك ظهري
وزاده ربُّ العلى من [4] عمري ... وذبَّ عَنْهُ من مخوف [5] الدهرِ
وعنك مَا أدري وَمَا لا أدري
وَكَانَ إِبْرَاهِيم [6] شاعرًا عالمًا بالغناء بايعه أَهْل بغداد بَعْد قتل مُحَمَّد بْن الرشيد، فلما ظهر قُوّاد أمِير الْمُؤْمِنيِنَ الْمَأْمُون وأَصْحَابُه وعلا أمرهم استخفى فمكث حينًا مستخفيًا ثُمَّ خرج من موضع إِلَى موضع فأنكر أمرُه وأُخذ فعفا الْمَأْمُون عَنْهُ، فَقَالَ فِيهِ شعرًا كثيرًا، منه قَوْله [7] :
رددتَ مالي وَلَمْ تبخل [8] عَلِي بِهِ ... وقبل ردّك مالي مَا حقنتَ [9] دمي
ففزت منك وَمَا استحققتها [10] بيد ... هِيَ الحياتان من موت ومن عدم
ومن قَوْله:
فلو وُزنت بحلمك هضبُ رضوى ... لخف بحلمك الجبل الصلود
مننتَ ولو تشاءُ إذًا أسالت ... يداك دمي وَقَدْ قطع الوريد
وقوله بَعْد أبيات [11] :
وعفوتَ عمن لَمْ يكن عَنْ مثله [12] ... عفو ولم يشفع إليك بشافع
__________
[1] يرد الشعر في اشعار اولاد الخلفاء ص 17.
[2] ن. م.: صدر.
[3] ن. م.: احشائي.
[4] م: العرش عن.
[5] اشعار اولاد الخلفاء: خائفات.
[6] انظر الاغاني ج 10 ص 101 وما بعدها، واشعار الخلفاء ص 17 وما بعدها.
[7] الاغاني ج 10 ص 125، واشعار الخلفاء ص 19.
[8] ن. م.: تمنن.
[9] ن. م.: قد حقنت.
[10] اشعار اولاد الخلفاء: كافأتها.
[11] انظر الاغاني ج 10 ص 123- 4، واشعار الخلفاء ص 19.
[12] د: قتله.(4/279)
الا العلوّ عن العقوبة بعد ما ... ظفرت يداك بمستكين خاضع
ورحمت أولادًا [1] كأفراخ القطا ... وعويل باكية [2] كقوس النازع
وَأَمَّا العباسة بِنْت الْمَهْدِي فزوجها الرشيد من هَارُون بْن مُحَمَّد بْن سُلَيْمَان فمات عَنْهَا فزوّجها بعده من إِبْرَاهِيم بْن صَالِح بْن عَلِي.
وَأَمَّا موسى بن محمّد بْن علي
ابن عَبْدِ اللَّهِ بْن الْعَبَّاس فغزا مَعَ أَبِيهِ فتوفي ببلاد الروم، ووُلد لَهُ عِيسَى بْن مُوسَى، ولاه أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَبُو الْعَبَّاس عهده وَكَانَ من خبره مَا قَدْ ذكرناه. وولي دَاوُد بْن عِيسَى الْمَدِينَةَ ومكة، فأقام بمكة فكتب إِلَيْهِ يَحْيَى بْن هِشَام [3] :
ألا قُل لداود ذي المكرمات ... والعدل فِي بلد المصطفى
أقمت بمكة مستوطنًا ... فهاجر لهِجرةِ من قَدْ مضى
وَقَدْ وليّ ابنه مُوسَى بْن عِيسَى، وأمه بِنْت إِبْرَاهِيم بْن مُحَمَّد ويكنى أَبَا عِيسَى، الْمَدِينَةَ للرشيد، وولي الكوفة وسوادها للمهدي وموسى والرشيد، وولي أرمينية لهارون الرشيد وولي الموسم للرشيد، ولي مصر للرشيد، وولي أيضًا أَحْمَد بْن مُوسَى ابن عِيسَى اليمامة للرشيد. ومدح ابْن هرمة عِيسَى بْن مُوسَى بالأبيات الَّتِي يَقُول فِيهَا [4] :
أتتك الرواحل والملجما ... ت بعيسى بْن مُوسَى فلا تعجل
وَقَالَ لي الناسُ إِن الحباء ... أتاك مَعَ المَلِكِ المقبل
(671) فدونكها يَا ابْن ساقي الحجيج ... فَإِنِّي بِهَا عَنْك لَمْ أبخلِ
أبوك الوصيُّ وأنتَ ابنُه ... وصيُّ نَبِيَّ الهدي المرسل
وَكَانَ عِيسَى إِذَا حج حجَّ ناس يتعرضون لمعروفه فيصلهم ويعطيهم، فَقَالَ:
أَبُو الشدائد الفزاري [5] :
عصابةُ إِن حج عيسى حجّوا ... وإن اقام بالعراق دجّوا
[6]
__________
[1] الاغاني: اطفالا. ويأتي هذا البيت فيه قبل البيتين السابقين، وفي اشعار اولاد الخلفاء: فرحمت اطفالا.
[2] ن. م.: عانسة.
[3] ط، د: هسكير، وفي اشعار اولاد الخلفاء ص 312: مسكين.
[4] انظر الديوان (ن. المعيبد) ص 185- 186، واشعار اولاد الخلفاء ص 312.
[5] يرد الخبر والشعر في الاغاني ج 16 ص 179، وفي اشعار اولاد الخلفاء ص 311.
[6] سقط من ط بعض الخبر، من «وكان عيسى» الى نهاية البيت الاول «دجوا» .(4/280)
قد نالهم نائله [1] فلجّوا ... فالقوم قوم حجُّهم معوجُّ
مَا هكذا كَانَ يَكُون الحج
فَقِيلَ لَهُ: أتهجوا الحاج؟ فَقَالَ:
إني ورب الْكَعْبَة المبنَّية ... والله مَا هجوتُ من ذي نيّه
ولا امرئ ذي رعةٍ [2] تقيه ... لكنني أُبقي [3] عَلَى البّريّه
من عصبة أغْلَوْا عَلَى الرعية ... أسعار ذي مشيٍ وذي مَطِيّه
[4]
وَأَمَّا يَحْيَى بْن مُحَمَّد بْن عَلِيّ بْن عَبْدِ اللَّهِ
فَإِن أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَبَا الْعَبَّاس ولاه الموصل فجرد فِي أهلها السَيْف وهدم حائطًا كَانَ عَلَيْهَا. وَكَانَ أَهْل الموصل ثلاثة أصناف: خوارج ولصوصًا وتجارًا، فنادى منادي يَحْيَى: الصّلاة جامعة، فاجتمع النَّاس فأمر بقتلهم جميعًا وفيهم تجار وَكَانَ العامل عَلَى الموصل قبله محمد ابن صول ثُمَّ صار خليفته. وَقَدْ كَانَ ابْن صول يقتل وجوه أَهْل الموصل ليلًا ويلقيهم فِي دجلة، فَلَمَّا ولي يَحْيَى أمَره بمكاشفتهم وكانت ولايته فِي سنة ثَلاث وثلاثين ومائة، وَكَانَ أَهْل الموصل لشرارتهم يسمون خزر العرب. وولي الْمَنْصُور يَحْيَى فارس.
وَحَدَّثَنِي معافى بْن طاووس الْمَوْصِلِيّ قَالَ: هرب رَجُل من أَهْل الموصل من يحيى ابن مُحَمَّد فدخل غارًا ومعه ابْن لَهُ، فبعث ابنه ذَات يَوْم ليتعرف لَهُ الْخَبَر فعرفه ثُمَّ انصرف فدلى رجليه ليدخل الغار وذهب عَنِ الرجل أَنَّهُ ابنه وظن أَنَّهُ رَجُل جاء ليأخذه فضربه بالسَيْف فقطع رجله فنزف حَتَّى مَاتَ فَذَهَبَ عقل الرجل. قَالَ المعافي، قَالَ أَبِي: فأنا رَأَيْته بَعْد ذَلِكَ بحين يجلس فيفكر ثُمَّ يسقط فيبكي عَلَى ابنه. وَحَدَّثَنِي أَبُو مُوسَى الفروي عَنْ أَبِي الفضل الْأَنْصَارِيّ قَالَ: كَانَ يَحْيَى بْن مُحَمَّد عجولًا قليل الروية فيما يصنع، وَكَانَ أَهْل الموصل يسمونه الحتف.
وأما العباس بن محمد بن عَلِي
فَهُوَ صاحب العباسية ببغداد، ولاه الْمَنْصُور الجزيرة وأعمالًا سواها وَمَاتَ ببغداد، وَكَانَ يكنى أبا الفضل. وكان الأعراب قد
__________
[1] الاغاني: قد لعقوا لعيقة.
[2] الاغاني: رغبة.
[3] ن. م.: ارعي، وفي اشعار اولاد الخلفاء: لكني أبقى على البقية.
[4] الأصل: اسعاد، والتصويب من اشعار اولاد الخلفاء، وفيه: اسعار ذي مشرى وذي عطيّه.(4/281)
كثروا ببغداد فِي حُطمة فأجرى الْعَبَّاس عَلَى بَعْضهم خبزًا كَانَ يفرق فيهم فَقَالَ شاعرهم حِينَ قطع ذَلِكَ عَنْهُمْ:
إِن يقطع الْعَبَّاسُ عني رغيفه ... فَمَا فاتني من نعمة اللَّه أكثرُ
وفيه يَقُول سَعِيد بْن سلم المساحقي:
ألا قُل لعباسٍ عَلَى نأي داره ... عليك السلامُ من أخٍ لَك حامدِ
أتاني ولمّا [1] ينس مَا كَانَ بينه [2] ... وبيني [3] من ود فكنت كشاهد
فِي أبيات. وَقَدْ حج عُبَيْد اللَّه بْن الْعَبَّاس بالناس. وولي الفضل بْن الْعَبَّاس مَكَّة للرشيد، وحج بالناس.
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
امر ضرار بن عبد المطلب:
وَأَمَّا ضرار بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَخُو الْعَبَّاس لأمه فَإِنَّهُ لَمْ يولد لَهُ وَلَمْ يتزوج وماتَ قبل الْإِسْلَام وَهُوَ حدث. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ يُكنى أَبَا عَمْرو. وذكر بَعْضهم أَنَّهُ كَانَ أسن من الْعَبَّاس بسبع سنين. وَقَالَ أَبُو اليقظان: كَانَ ضرار يَقُول الشعر ولا عقب لَهُ.
(672) وَأَمَّا حَمْزَةُ بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ [4]
فيكنى أَبَا يَعْلَى وأبا عُمَارَةَ وَهُوَ أسد اللَّه وأسد رسوله، وأمه هالة بِنْت أهيب الزُّهْرِيّ [5] . [وروي أَن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَالَّذِي نفسي بيده أَنَّهُ المكتوب فِي السماء «حَمْزَةُ بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أسد اللَّه وأسد رسوله] » [6] . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ:
كَانَ لحمزة بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ من الولد يَعْلَى وبكر وعامر درج، وأمهم بنت الملّة ابن مَالِك من الأوس، وَقَالَ غَيْر الْكَلْبِيِّ هِيَ من بَنِي سليم. وعمارة بْن حَمْزَةَ وأمه خولة
__________
[1] الأصل: لم، ولعل الصواب ما أثبتنا.
[2] ط، د: بيننا.
[3] ط، د: بينه.
[4] انظر طبقات ابن سعد ج 3 ص 3 وما يليها.
[5] في نسب قريش ص 17: هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة، وفي جمهرة الأنساب ص 15: بنت وهيب.
[6] سقط النص من (وأمه هاله) الى (اسد رسوله) من م.(4/282)
بِنْت قَيْس بْن قَهد من الأَنْصَار من بَنِي النجار. وأمامة بِنْت حَمْزَةَ وأمها سلمى بِنْت عُميس الخثعمية [1] . قَالَ: وَكَانَ ليعلى بْن حَمْزَةَ أولاد وَهُمْ عُمَارَةُ وَيَعْلَى والفضل والزبير وعقيل ومحمد درجوا فلم يبق لَهُمْ عقب.
وَقَالَ هِشَامٌ الْكَلْبِيُّ، زوّج النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم امامة بنت حمزة، سلمة بن أم سلمة [2] زوجته، وأبوه [3] أَبُو سلمة بْن عَبْدِ الأسد فهلك قبل أَن يجتمعا، وأخوا [4] أمامة لأمها عَبْد اللَّهِ وعبد الرَّحْمَن ابنا شداد بْن الهاد [5] الكناني. وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَت ابْنَة حَمْزَةَ بمكة فَقَالَ عَلِي لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عمرة الْقَضَاء: علام نترك ابْنَة عمنا حَمْزَةَ يتيمة بَيْنَ ظهراني الْمُشْرِكِينَ، فأخرجها فتكلم فِيهَا زَيْد بْن حارثة فَقَالَ: أَنَا أحق بِهَا لأني وصي أبيها، وَقَالَ عَلِي: أَنَا أحق بِهَا هِيَ ابْنَة عمي وأنا أخرجتها، وَقَالَ جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب: أَنَا أحق بأن تكون عندي هِيَ ابْنَة عمي وخالتها عندي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [: الخالة والدة،] وقضى بِهَا لجعفر. وَبَعْض الرواة يَقُول إِن اسم بِنْت حَمْزَةَ أمة اللَّه وبعضهم يَقُول أم أبيها، وَقَالَ بَعْضهم اسمها عُمَارَةُ، والثبت أَن اسمها أُمَامة.
وَحَدَّثَنِي حَفْص بْن عُمَر العمري، حَدَّثَنِي إِسْحَاق بْن عِيسَى بْن عَلِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه، أَن عُمارة بْن حَمْزَةَ قدم العراق مَعَ الْمُسْلِمِينَ فجاهد وقتل دهقانًا ثُمَّ انصرف فتوفي. وَحَدَّثَنِي الْعُمَرِيُّ عَنِ الْهَيْثِمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأَيْلِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: زَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أمامة بنت حمزة مِنْ [6] سَلَمَةَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ فَلَمْ يَضُمَّهَا إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ أَصَابَهُ خَبَلٌ وَإِكْسَالٌ وَمَاتَ فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَكَانَ عُمَرُ أَخُوهُ أَسَنَّ مِنْهُ فَتَزَوَّجَ أُمَامَةَ وَمَاتَ أَيْضًا فِي أَيَّامِ عَبْدِ الْمَلِكِ.
قَالُوا: وَكَانَ إسلام حَمْزَةَ عَلَيْهِ السَّلام غضبًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ أَن أَبَا جهل بْن هِشَام آذى رَسُول اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم واسمعه وشتمه،
__________
[1] انظر ابن سعد ج 3 ص 3.
[2] يكرر م: ابن أم سلمة.
[3] م: أبو.
[4] الأصل: أخو.
[5] م: الهادي. انظر جمهرة الأنساب ص 182.
[6] ط: ابن.(4/283)
فأخبرتْ حَمْزَةَ بِذَلِك مولاة لابن جُدعان التَّيْمِيِّ، ويقال سلمى مولاة صفية بِنْت عَبْد الْمُطَّلِبِ، وقد انصرف من قنيصة [1] وَكَانَ صاحب صيد، فقصد إِلَى أَبِي جهل فضربه بقوسه فشجه وَقَالَ: أتشتم ابْن أَخِي وتضيمه وأنا عَلَى دينه، وشهد بشهادة الحق.
وقال: الواقدي [2] : نال ابو جهل وابن الاصد [3] الهذلي وابن الحمراء ذَات يَوْم من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وآذوه، فبلغ ذَلِكَ حَمْزَةَ فدخل الْمَسْجِد مغضبًا فضرب رأس أَبِي جهل بقوسه ضربة أوضحت فِي رأسه ثُمَّ أسلم فعز بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ بَعْد دُخُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دار الأرقم بْن أَبِي الأرقم (673) وفيها جدد البيعة عَلَى حَمْزَةَ وعلى أخته صفية بِنْت عَبْد الْمُطَّلِبِ وَكَانَ أسلم قبلها، وَكَانَ حَمْزَةُ أَسَنَّ من النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنحو من أربع سنين.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عن أبيه عن جده عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْتُ رَبِّي أَنْ يُعَضِّدَنِي بِأَحَبِّ عُمُومَتِي اليه فعضدني بحمزة والعباس.] و [روي أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: إِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَنِي بِإِسْلامِ خِيَارِ أَهْلِ بَيْتِي فَيَمِينِي حَمْزَةٌ وَشِمَالِي جَعْفَرٌ.] وَحَدَّثَنِي عَلِي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي قَالَ: بلغني أَن هالة بِنْت أُهيب كَانَتْ تقول، وَهِيَ تعني حَمْزَةَ: والله مَا حملته وضعًا ولا وضعته يَتْنًا ولا أرضعته غيلًا [4] ولا أنمته عَلَى مأَقة، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا القول عَنْ أم تأبط شرًا الفهمي. الوضعُ والتُّضْعُ جميعا أَن تحمله [5] عَلَى استقبال الحيض، واليَتْنُ أَن تخرج [6] رجلاه قبل رأسه، والغَيْلُ: أَن تسقيه لبنها وَهِيَ حامل، والمأقة البكاء.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: لما هاجر حَمْزَةُ نزل مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على مكتوم ابن الهدم، وَيُقَال عَلَى سَعْد بْن خيثمة، وآخى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بينه وبين زَيْد بْن حارثة مولاه، وإليه أوصى يَوْم أُحد عِنْدَ القتال. وَكَانَ أوّل لواءٍ عقده رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لواء حَمْزَةَ ويقال كَانَ لواؤه ثانيًا [7] . وَكَانَ حمزة يوم بدر
__________
[1] ط: قبيصة، م: قنصه.
[2] ترد الرواية في ابن سعد ج 3 ص 4.
[3] ابن سعد: الأصدا.
[4] م: خيلا.
[5] م: يحمله.
[6] م: يخرج.
[7] انظر ابن سعد ج 3 ص 4.(4/284)
معلمًا بريشة نعامة، ويقال بصوفة بيضاء فِي صدره، وبارز يَوْمَئِذٍ عتبة بْن ربيعة بْن عَبْدِ شمس فَقَالَ حَمْزَةُ: أَنَا أسد اللَّه ورسوله فَقَالَ عتبة: أَنَا أسد الحلفاء، فقتله حَمْزَةُ. وبارز عَلِي عَلَيْهِ السَّلام، الْوَلِيد بْن عتبة بْن ربيعة فقتله، وبارز عُبَيْدَة بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، شَيْبَة بْن ربيعة فاختلفا ضربتين فارتُث عُبَيْدَة وكر حَمْزَةُ وعلي جميعًا عَلَى شَيْبَة فأجهزا عَلَيْهِ وتخلصا عُبَيْدَة فمات بالصفراء، وَقَالَ بَعْضهم أَن الَّذِي بارز حَمْزَةَ شَيْبَة وأن المبارز لعبيدة عتبة. وقتل حَمْزَةُ وعلي يَوْمَئِذٍ حنظلة بْن أَبِي سُفْيَان بْن حرب وغيره ونكيا فِي العدو نكاية شديدة فَقَالَتْ قريش: مَا فعل الأفاعيل إلا أَخُو صفية وابنها وابن أخيها يعنون حَمْزَةَ والزبير وعلي بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّه [1] عَنْهُمْ. وَرَوَى مُحَمَّد بْن إِسْحَاق أَن حَمْزَةَ قتل يَوْم بدر، الأَسْوَد بْن عَبْدِ الأسد الْمَخْزُومِيَّ وطعيمة بْن عدي النوفلي بأمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ يدي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صبرًا.
عَلِي بْن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي عَنْ أشياخه قَالُوا: انصرف حَمْزَةُ يَوْم بدر، ولعلي شارف فنظر حَمْزَةُ إِلَيْهَا وَهُوَ يشرب وَذَلِكَ قبل تحريم الخمر وقينة تغنيهم، فَقَالَت القينة [2] :
ألا يَا حمز للشَّرفِ النواء ... وهنَ [3] مُعقّلاتٌ بالفِناء
ضع السكين فِي اللبات منها ... فضرجهن [4] حمزةُ بالدماء
وعجل من أطايبها لشرب [5] ... كرام من طبيخ [6] أَوْ شواء
فقام حَمْزَةُ إِلَى الشارف [7] فنحرها وجبّ سنامها، فشكى عَلِي ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبكى، فَقَالَ حَمْزَةُ: [لَقَدْ أنكرت غيرَ منكر، ومتى لَمْ أكن لَك [8] سيدًا!]
__________
[1] زاد في ط: تعالى.
[2] انظر تاج العروس مادة: شرف.
[3] ن. م.: فهن.
[4] ط: فضرجوهن. تاج العروس: وضرجهن.
[5] ن. م.: لشرف.
[6] د: طبخ. في تاج العروس: طعاما من قديد او شواء.
[7] د: السارف (خ) .
[8] «لك» ليست في م.(4/285)
قَالُوا: وحمل حَمْزَةُ لواء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزاة بَنِي قينقاع وَلَمْ تكن [1] الرايات يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ اللواء ابيض.
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ (674) بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ [2] عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ أمية ابن خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا عَبْدَ الإِلَهِ مَنِ الْمُعَلَّمُ بِرِيشِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟ قَالَ: ذَلِكَ حَمْزَةُ عَمُّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ الأَفَاعِيلَ. قَالُوا: وَبَارَزَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ أَبَا نِيَارٍ سِبَاعَ بْنَ عَبْدِ العزى ابن نَضْلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ غُبْشَانَ الْخُزَاعِيُّ، وَكَانَتْ أُمُّهُ قَابِلَةً [3] بِمَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ حَمْزَةُ: هَلُمَّ إِلَيَّ يَا ابْنَ قَطَّاعَةِ الْبُظُورِ [4] ، فَقَتَلَهُ حَمْزَةُ وَأَكَبَّ لِيَأْخُذَ دِرْعَهُ فَزَرَقَهُ وَحْشِيٌّ فَقَتَلَهُ.
وَقَالَ الكلبي والواقدي: أم انمار [5] بِنْت سباع هَذَا هِيَ مولاة خباب بْن الأرت. واستشهد حَمْزَةُ رَضِيَ اللَّه [6] عَنْهُ يَوْم أحد عَلَى رأس اثنين [7] وثلاثين شهرًا من الهجرة وَهُوَ ابْن تسع وخمسين سنة [8] ، وَكَانَ رجلًا ربعة لَيْسَ بالطويل ولا القصير [9] قتله وحشي بْن حرب الأَسْوَد عَبْد جُبَيْر بْن مطعم، وَذَلِكَ أَن جبيرًا ضمن لَهُ إِن أصاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [10] أَوْ حَمْزَةَ أَوْ عليًا أَن يعتقه، ويقال إنه كَانَ مولاه وَلَمْ يكن عنده فجعل لَهُ جعلًا، ويقال إنه كَانَ عبدًا لطعيمة بْن عدي. وروي أَن وحشيًا كَانَ عبدًا لابنة الْحَارِث بْن عَامِر بْن نوفل بْن عَبْدِ مناف وَكَانَ أبوها قتل يَوْم بدر فَقَالَتْ لَهُ: إِن قتلت أحد هَؤُلاءِ الثلاثة فأنت عتيق، فلما قتل حَمْزَةَ عتق.
ويقال إِن هندًا بِنْت عتبة بن (ربيعة) [11] قَالَتْ لوحشي: إِن قتلت حَمْزَةَ أَوْ عليًا فلك
__________
[1] ط، د: يكن.
[2] م: سعيد. انظر الطبري س 1 ص 1788.
[3] ط: قايلة.
[4] م: البطون، ط: البطوذ. وفي شرح نهج البلاغة ج 15 ص 12، ونهاية الارب ج 17 ص 100، ومغازي الواقدي ج 1 ص 285: مقطعة البظور. وانظر لسان العرب مادة: بظر.
[5] ط: انما.
[6] يضيف ط: تعالى.
[7] ط: اثنتين.
[8] ابن سعد ج 3 ص 4.
[9] م: ليس بالقصير ولا الطويل جدا.
[10] «صلى ... وسلم» ليست في د.
[11] الأصل: معاوية، والتصويب من جمهرة الأنساب ص 76.(4/286)
حكمك، فَلَمَّا قتل حَمْزَةَ أعطته سلبها وَمَا كَانَ عَلَيْهَا من حلي وزادته عَلَى ذَلِكَ وكانت فِي رجليها خواتيم فدفعتها إِلَيْهِ. وروي أيضًا أَن حَمْزَةَ لما قتل سباعًا وأكبّ ليأخذ درعه سقط فِي جرف فرماه وحشي بمزراقه فوقع فِي ثنّته [1] حَتَّى خرج من بَيْنَ رجليه فقتله ثُمَّ شقّ بطنه وأخرج كبده فجاء بِهَا إِلَى هند فمضغتها ثُمَّ لفظتها، وجاءت فمثلت به واتخذته مِمَّا قطعت منه مسكتين [2] ومعضدين وخدمتين فقدمت بِذَلِك وبكبده إِلَى مَكَّة فسميت آكلة [3] الأكباد. وعمد مُعَاوِيَة بْن المغيرة بْن أَبِي العاص ابن أمية إِلَى حَمْزَةَ فجدع أنفه فقُتِل عَلَى أحد بَعْد انصراف قريش، وليس لَهُ عقب إلا عَائِشَةَ بِنْت مُعَاوِيَة أم عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان.
قَالُوا: وفقد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ فَقَالَ للحارث بْن الصمة الْأَنْصَارِيّ: ألا تعلم لي علم عمي حَمْزَةَ، فمر بِهِ مقتولًا فكره أَن يخبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِك، فَقَالَ لعلي: ألا تعلم لي علم حَمْزَةَ، فمر بِهِ مقتولًا فكره أَن يخبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِك، فَقَالَ لسهل بْن حُنيف الْأَنْصَارِيّ: ألا تعلم لي علم حَمْزَةَ، فلقي عليًا والحارث بْن الصمة فأخبراه بخبر حَمْزَةَ فأقام معهما. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمار بْن ياسر: ائتني بخبر حَمْزَةَ، فلم يجد بدًا من أَن يأتيه بِهِ فَأَخْبَرَه بمصابه فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم [وقال: لا أصاب بِمِثْلِهِ فعند اللَّه أحتسبه. وتصفح رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القتلى فوجده فِي بطن الوادي قَدْ مُثِّلَ بِهِ فبكى وَقَالَ: لولا أَن أغمَّ صفية أَوْ تكون سُنة [4] بعدي أَن لا يُدفن القتلى لتركته حَتَّى يُحشر من حواصل الطير وبطون السباع، ولئن أظهرني اللَّه عَلَيْهِم لأمثّلنّ بقتلاهم، فانزل اللَّه: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ (675) به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين [5] فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَل نصبر] .
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي روايته: وجاءت صفية وكانت أخته لأمه وأبيه تسأل عَنْ خبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخبر حَمْزَةَ فقالت لعلي: كيف رسول الله؟ [6]
__________
[1] في هامش د، م: الثنّة: ما بين السرة والعانة.
[2] انظر ابن سعد ج 3 ص 5، ومغازي الواقدي ج 1 ص 274.
[3] ط: واكلت.
[4] الأصل: سبة، والتصويب من نهاية الإرب للنويري ج 17 ص 102.
[5] سورة النحل (16) ، آية 126.
[6] زاد في م: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(4/287)
فَقَالَ: سالم صَالِح، فسألته عَنْ حَمْزَةَ فلم يبين لَهَا شيئًا من خبره فجعلت تطلبه وَقَدْ تزاحمت الأَنْصَار عَلَيْهِ فلم تره، فَأَمَرَ [1] رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابنها الزبير ابن الْعَوَّام فردها فانصرفت. وكفن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَمْزَةَ فِي بردة قصُرت عَنْهُ فغطى وجهه وجعل الحرمل عَلَى رجليه.
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: [أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَرَآهُ قَدْ مُثِّلَ بِهِ فَقَالَ [2] : لَوْلا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ فِي نَفْسِهَا لَتَرَكْتُهُ تَأْكُلُهُ الطَّيْرُ الْعَافِيَةُ حتى يحشر من بطونها،] ثم دعى بِنَمِرَةٍ فَكَفَّنَهُ فِيهَا فَكَانَتْ إِذَا مُدَّتْ عَلَى رَأْسِهِ بَدَتْ رِجْلاهُ وَإِذَا مُدَّتْ عَلَى رِجْلَيْهِ بَدَا رَأْسُهُ. قَالَ: وكثرت القتلى وقلت الثياب فكفّن الرجلان والثلاثة فِي ثوب واحد ودفنوا فِي قبر واحد جميعًا، وجعل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل عَنْهُمْ أيهم أَكْثَر قرآنا فيقدمه [3] إِلَى اللحد، ودفنهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يصلِّ عَلَيْهِم.
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو [4] الْوَلِيدِ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا ابن أبي الزناد عن هشام بن عروة عَنْ أَبِيهِ عُرْوَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي الزُّبَيْرُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أقْبَلْتِ امْرَأَةٌ تَسْعَى حَتَّى كَادَتْ تُشْرِفُ عَلَى الْقَتْلَى، قَالَ: فَكَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَرَاهُمْ فَقَالَ: الْمَرْأَةَ الْمَرْأَةَ! قَالَ الزُّبَيْرُ: فَتَوَسَّمْتُ فَإِذَا هِيَ أُمِّي صَفِيَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَخَرَجْتُ أَسْعَى إِلَيْهَا فَأَدْرَكْتُهَا قَبْلَ أَنْ تَنْتَهِي إِلَى الْقَتْلَى قَالَ: فَلَدَمَتْ [5] فِي صَدْرِي، وَكَانَتِ امْرَأَةً جَلِدَةً وَقَالَتْ: إِلَيْكَ لا أَرْضَ لَكَ، قَالَ فَقُلْتُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَمَ عَلَيْكِ، قَالَ: فَوَقَفَتْ وَأَخْرَجَتْ ثَوْبَيْنِ مَعَهَا فَقَالَتْ: هَذَانِ ثَوْبَانِ جِئْتُ بِهِمَا لأَخِي حَمْزَةَ فَقَدْ بَلَغَنِي مَقْتَلُهُ فَكَفِّنُوهُ فِيهِمَا، قَالَ:
فَجِئْتُ بِالثَّوْبَيْنِ لِيُكَفَّنَ فِيهِمَا حَمْزَةُ فَإِذَا إِلَى جَنْبِهِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ قَدْ فُعِلَ بِهِ كَمَا فُعِلَ بَحَمْزَةَ فَوَجَدْنَا غَضَاضَةً وَحَيَاءً أَنْ يُكَفَّنَ حَمْزَةُ [6] فِي ثَوْبَيْنِ وَالأَنْصَارِيُّ بِلا كَفَنٍ
__________
[1] د، م: وامر.
[2] ط: وقال.
[3] ط: فيقدمهم.
[4] سقط «ابو» من م.
[5] انظر لسان العرب مادة «لدم» .
[6] سقط «حمزة» من م.(4/288)
فَقُلْنَا: لِحْمَزَةَ ثَوْبٌ وَلِلأَنْصَارِيِّ ثَوْبٌ، فَقَدَّرْنَاهُمَا فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَكْبَرَ مِنَ الآخَرِ فَاقْتَرَعْنَا [1] بَيْنَهُمَا فَكَفَّنَّا كُلَّ وَاحِدٍ فِي الثَّوْبِ الَّذِي طَارَ لَهُ [2] .
قَالُوا: ودفن حَمْزَةُ وعبد اللَّه بْن جحش بن دياب الأسدي، وأمه أُميمة بِنْت عَبْد الْمُطَّلِبِ وَهُوَ أَخُو زينب بِنْت جحش فِي قبر واحد. وَكَانَ حَمْزَةُ أول من صلى عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الشهداء يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ جعل يؤتى بشهيد بَعْد شهيد فيوضع إِلَى جنب حَمْزَةَ فيصلي عَلَيْهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلى الشهيد حَتَّى صلى عَلَى حَمْزَةَ سبعين مرة، ونزل فِي قبره أَبُو بَكْر وعمر وعلي والزبير، [وَكَانَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شفير القبر وَقَالَ: لَقَدْ رَأَيْت الملائكة غسلت حَمْزَةَ] .
[قَالُوا [3] : وانصرف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أُحُد فسمع [4] بكاء النِّسَاء عَلَى قتلاهن فَقَالَ: لكن حَمْزَةَ لا بواكي لَهُ،] فجمع سَعْد بْن مُعَاذِ نساء بَنِي عَبْد الأشهل بْن الأوس إِلَى بَاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبكين عَلَى حَمْزَةَ حَتَّى سمع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكاءهن (676) فَقَالَ: قَدْ آسيتن وأحسنتن، ودعا لهن وردهن، فَلَيْس تبكي امْرَأَة من الأَنْصَار مُذْ ذاك ميتها حَتَّى تبدأ بالبكاء عَلَى حَمْزَةَ ثُمَّ تتبع ذَلِكَ بالبكاء عَلَى ميتها.
حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حُدِّثْتُ عَنْ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ الْوَرْدِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أَرَادَ مُعَاوِيَةُ أَنْ يُجْرِيَ عَيْنَهُ الَّتِي بِأُحُدٍ كَتَبُوا إِلَيْهِ: إِنَّا لا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُجْرِيَهَا إِلا عَلَى قُبُورِ الشُّهَدَاءِ، فَكَتَبَ: انْبِشُوهُمْ، قَالَ: فَرَأَيْتُهُمْ يُحْمَلُونَ عَلَى أَعْنَاقِ الرِّجَالِ كَأَنَّهُمْ قَوْمٌ نِيَامٌ، وَأَصَابَتِ الْمَسْحَاةُ طَرْفَ رِجْلِ حَمْزَةَ فَانْبَعَثَتْ دَمًا [5] .
وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ أَمَرَ بِكَظَامَةٍ [6] تُصْنَعُ لَهُ فَمَرَّتْ بِقَتْلَى أُحُدٍ فَاسْتَخْرَجُوا مِنْ قُبُورِهِمْ رِطَابًا تَنْثَنِي أَطْرَافُهُمْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً. وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غياث،
__________
[1] ط: فزعنا.
[2] انظر ابن سعد ج 3 ص 8- 9.
[3] انظر ابن سعد ج 3 ص 10 وص 11.
[4] ط: فسمعت.
[5] الرواية في ابن سعد ج 3 ص 5.
[6] الأصل: كطامة. الكظامة: القناة التي تكون في حوائط الأعناب. لسان العرب مادة «كظم» .(4/289)
حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا [1] أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ وَعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ الْمَسْحَاةَ أَصَابَتْ قَدَمَ حَمْزَةَ فَدَمِيَتْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ كعب بْن مَالِك الْأَنْصَارِيّ [2] يرثي حَمْزَةَ بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ:
ولقد هُدِدْتُ لفقد حَمْزَةَ هَدَّةً ... ظلّت [3] بنات القلب [4] منها ترعدُ
ولو أَنَّهُ فجع الجبال [5] بِمِثْلِهِ ... ظلت رواسي [6] صخرها تتهدد [7]
قرمٌ [8] تمكن فِي ذؤابة هاشم ... حيثُ النبوة والتُّقى والسؤدد
التاركُ [9] القِرن الكمي مجدلًا ... يَوْم الكريهة والقنا يتقصد
وتراه يرفل فِي الحديد كَأَنَّهُ ... ذو لبدةٍ شثن [10] البراثن أربد
عم النَّبِيّ مُحَمَّد وصفية ... ورد الحمام فطاب ذاك المورد
وأتى الْمَدِينَةَ [11] معلمًا فِي أُسرة ... نصروا الإله وحقَّه فاستشهدوا
[12]
ولقد أتاني أنّ [13] هندًا بشرت ... لتميت عاجل [14] غصةٍ لا تبرد
مِمَّا صبحنا بالعقنقل [15] قومها ... يومًا تغيَّب فِيهِ عَنْهَا الأسعد
__________
[1] د: حدثنا، م: أنبأنا.
[2] ترجمته في الاغاني ج 16 ص 165 وما بعدها، وترد القصيدة في سيرة ابن هشام ج 2 ص 165- 6، والديوان ص 189، وفي عيون الاثر ج 2 ص 33، وفي البداية والنهاية ج 4 ص 45.
[3] م: ظنت.
[4] الديوان وابن هشام: الجوف.
[5] ن. م.: فجعت حراء.
[6] ن. م.: لرأيت راسي صخرها يتبدد.
[7] ط، د: تبدهد، م: تدهد، والتصويب من عيون الاثر.
[8] ط: قوم.
[9] ابن هشام: والتارك.
[10] ط: شئن.
[11] ابن هشام والديوان: المنية.
[12] ن. م.: ومنهم المستشهد.
[13] ن. م.: ولقد اخال بذاك هندا.
[14] ن. م.: داخل.
[15] ط: العنقا.(4/290)
وقال أيضا [1] :
صفيّة قومي (و) [2] لا تعجزي ... وبكي النساءَ عَلَى حَمْزَة
ولا تسأمي أَن تطيلي البكاء ... عَلَى أسد اللَّه فِي الهِزَّة
فَقَدْ كَانَ ركنًا [3] لنا راسيًا ... وليث الملاحم فِي البزَّة
يريد بذاك رَضِيَ أَحْمَد ... ورضوان ذي العرش والعزة
وَقَالَ حسان [4] ويقال كعب بْن مَالِك:
بكت عيني وحُقّ لَهَا بكاها ... وَمَا يُغني البكاءُ ولا العويل [5]
عَلَى أسد الإله غداة قَالُوا ... أحمزة [6] ذاكم [7] الرجل القتيل
أصيب المسلمون بِهِ جميعًا ... هناك وَقَدْ أصيب بِهِ الرَّسُول
فِي أبيات.
وَحَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ عَنِ الْوَقَّاصِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ، قَالَ: كَانَ حَمْزَةُ مُعَلَّمًا يَوْمَ أُحُدٍ بِرِيشَةِ نِسْرٍ فَنَظَرَ إِلَيْهِ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ يَهِدُّ النَّاسَ هَدًّا فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا:
حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المطلب، قال: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رَجُلا أَسْرَعَ فِي قَوْمِهِ [8] . حدثني محمد ابن سَعْدٍ وَالْوَلِيدُ بْنُ صَالِحٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي سَبْرَةَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ وَحْشِيٍّ قَاتِلِ حَمْزَةَ فِيمَنْ أَمَرَ بِقَتْلِهِ مِنَ ابْنِ خَطَلٍ وَغَيْرِهِ فَهَرَبَ إِلَى الطَّائِفِ، فَلَمْ يَزَلْ مُقِيمًا هُنَاكَ حَتَّى قَدِمَ فِي وفد اهل الطائف (677) فدخل على
__________
[1] انظر سيرة ابن هشام ج 3 ص 166.
[2] «و» اضافة من ابن هشام.
[3] ابن هشام والديوان: فقد كان عزا لايتامنا.
[4] الاغاني ج 4 ص 138 وما بعدها وج 15 ص 120 وما بعدها، وانظر الحماسة البصرية ج 1 ص 201، وسيرة ابن هشام ج 2 ص 171 وقد نسب القصيدة لعبد الله بن رواحة.
[5] انظر الكامل للمبرد ج 2 ص 221، والديوان ص 252، والموشح للمرزباني ص 293.
وابن هشام ج 3 ص 171.
[6] ط: حمزة.
[7] الحماسة البصرية: ذلك.
[8] انظر مغازي الواقدي ج 1 ص 290.(4/291)
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقول أشهد أن لا إله إلا اللَّه وَأَشْهَدُ أَن مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، [فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَحْشِيٌّ، قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
حَدَّثَنِي كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ، فَأَخْبَرَه فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَيِّبْ عَنِّي وَجْهَكَ قَاتَلَكَ اللَّهُ.] قَالَ وَحْشِيٌّ: فَكُنْتُ إِذَا رَأَيْتُهُ تَوَارَيْتُ، ثُمَّ خَرَجَ النَّاسُ إِلَى مُسَيْلِمَةِ الْكَذَّابِ وَخَرَجْتُ مَعَهُمْ فَزَرَقْتُهُ بِالْحَرْبَةِ وَضَرَبَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَرَبُّكَ أَعْلَمُ أَيُّنَا قَتَلَهُ.
وَحَدَّثَنِي الْوَلِيد وَمُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ [1] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ ابْنِ أَبِي عَوْنٍ عَنِ الزُّهْرِيّ عَنْ عروة عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عدي بْن الخيار قَالَ: غزونا الشام فِي زمن عُثْمَان فمررنا بحمص فقلنا: وحشي، قَالُوا: لا تقدرون عَلَيْهِ هُوَ الآن يشرب الخمر حَتَّى يصبح، فبتنا من أجله ونحن ثمانون رجلًا فلما صلينا الصبح أتيناه فقلنا لَهُ: حَدَّثَنَا عَنْ قتلك حَمْزَةَ، فكره ذَلِكَ فألححنا عَلَيْهِ فَقَالَ: كنت عبدًا لمطعم بْن عدي فورثني جُبَيْر بْن مطعم فَلَمَّا خرج إِلَى أُحد دعاني فَقَالَ: قَدْ رَأَيْت مقتل عمي طعيمة ابن عدي قتله حَمْزَةُ بَيْنَ يدي مُحَمَّد فَإِن قتلته فأنت حر، ومررتُ بهند بِنْت عتبة فَقَالَتْ:
إيه أَبَا دسمة اشتفِ واشف. فَلَمَّا وردنا أُحد رَأَيْت حَمْزَةَ يقدم النَّاس ويهدُّهم هدًّا فكمنت لَهُ خلف شجرة ومعي مزراقي، وعرض لَهُ سباع الخزاعي وكانت أمه ختّانة بمكة وَهِيَ مولاة لشريق بْن عَمْرو الثقفي فقتله، وأزرقه زرقة وقعت فِي ثنته حَتَّى خرجت من بَيْنَ رجليه فقتلته وأمر بهند فأعطتني حليها وثيابها. وَأَمَّا مسيلمة [2] فَإِنِّي زرقته وضربه رَجُل من الأَنْصَار فالله أعلم أينا قتله، إلا أني سمعت امْرَأَة تصيح:
قتله العبد الحبشي. قَالَ عُبَيْد اللَّه: فَقُلْتُ أتعرفني؟ فأكرّ [3] بصره ينظر [4] إليّ ثُمّ قَالَ:
ابْن عدي لعاتكة بِنْت أَبِي العيص؟ قُلْت: نعم، قَالَ: أما والله مَا لي بك عهد بَعْد أن [5] رأيتك فِي محفتك الَّتِي أرضعتك فِيهَا فعرفت قدميك. وَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن
__________
[1] ترد الرواية في مغازي الواقدي ج 1 ص 286- 7، وفي شرح نهج البلاغة ج 15 ص 12- 13.
[2] م: مسيلمة.
[3] م: فأحدّ.
[4] ط: تنظر.
[5] شرح نهج البلاغة: بعد ان دفعتك الى أمك في محفتك التي كانت ترضعك فيها، وفي مغازي الواقدي: بعد ان رفعتك الى أمك في محفتها التي ترضعك فيها.(4/292)
جَعْفَر: بلغني أن هندًا أعطته خدمتين من جزع ظفار كانتا فِي رجليها ومسكتين من ورق وخواتيم من ورق.
حَدَّثَنَا أَحْمَد بْن إبراهيم الدورقي، حدثنا أَبُو دَاوُد صاحب الطيالسة، حَدَّثَنَا عَبْد الْعَزِيز بْن أَبِي سلمة الماجشون، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بن الفضل الهاشمي عن سليمان ابن يسار عَنْ عُبَيْد اللَّه بْن عدي بْن الخيار بْن عدي بْن نوفل قَالَ: أقبلنا من الروم فَلَمَّا كُنَّا بحمص قُلْنَا [1] نأتي وحشيًا فنسأله عَنْ قتل حَمْزَةَ، فانطلقنا فرأينا رجلًا فسألناه عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ رَجُل قَدْ غلب عَلَيْهِ شرب الخمر فَإِن أنتم أدركتموه شاربًا فلا تسألوه عَنْ شَيْء وإن وجدتموه صاحيًا فسيخبركم عما تسألونه عَنْهُ. فمضينا نريده فَإِذَا هُوَ قاعد عَلَى بابه، فَلَمَّا رفعنا لَهُ نظر فَقَالَ: ابْن الخيار؟ قُلْت:
نعم، قَالَ: والله مَا رأيتك مذ ولدتك أمك بذي طوى فَإِنِّي حملتك إِلَيْهَا فَلَمَّا رُفعت لي قدماك عرفتهما. فَقُلْتُ: جئنا نسألك عَنْ قتلك حَمْزَةَ. فَقَالَ:
سأحدثكم كما حدثت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ سألني، إني كنت غلامًا عبدًا لآل مطعم بْن عدي فَقَالَ لي ابنهُ: إِن قتلت عمَّ مُحَمَّد بعمّي فأنت عتيق.
فخرجت وَمَا لي حاجة إلّا قتل حَمْزَةَ فأخذتُ حربتي وأنا من الحبشة ألعب بالحربة لعبَهم وَذَلِكَ يَوْم أُحد، فنظرتُ إِلَى حَمْزَةَ وَهُوَ مثل البعير الاورق ما يرفُع لَهُ أحد إلا قمعه بالسَيْف فهبتهُ هيبة شديدة ونظرت كَيْفَ أصنع فبدرني إِلَيْهِ سباع فَلَمَّا رآه حَمْزَةُ قَالَ: هلم إليّ يَا ابْن مقطّعة البظور [2] ، وكانت أمه ختّانة، (678) فدنا منه فضربه ضربة بالسَيْف ففرغ [3] منه، فهبتُه وفرقته فاستترت بشجرة وأمَلتُ حربتي حَتَّى إِذَا رضيتُ موقعها أرسلتها فوقعت بَيْنَ ثندوتيه فَذَهَبَ ليقوم فلم يستطع، ثُمَّ أخذت الحربة وجلست فَمَا قاتلت أحدًا قبل ولا بَعْد ولا قتلته، فلما قدمت مكة عتقت.
وقال الْكَلْبِيُّ: قتل وحشي حَمْزَةَ وشرك فِي قتل مسيلمة فكان يَقُول: قتلت خير النَّاس وشر النَّاس. قَالَ: وَقَالَتْ صفية بِنْت عَبْد الْمُطَّلِبِ: أشرفت من الأطم فرأيت رجلًا زرق أَخِي بمزراق فَقُلْتُ: أَوْ من سلاحهم المزاريق، وَلَمْ ادر انه انما وقع
__________
[1] ط: فكنا.
[2] م: البطون.
[3] ط: ففزع.(4/293)
بأخي حَمْزَةَ [1] . وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ ميمون وعمرو بن محمد قالا، حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ زِيَادُ بْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: كَانَتْ فَاطِمَةُ تَأْتِي قَبْرَ حَمْزَةَ فَتَرُمُّهُ وَتُصْلِحُهُ.
وَحَدَّثَنِي مُظَفَّرُ بْنُ الْمُرَجَّى عَنِ ابْنِ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: لَمَا نَاحَ نِسَاءُ الانصار على حمزة قام النبي - صلى الله عليه وسلم - يَتَسَمَّعُ ثُمَّ انْصَرَفَ فَقَامَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِنَ الْغَدِ يَنْهَى عَنِ النِّيَاحَةِ كَأَشَدّ مَا نَهَى عَنْ شَيْءٍ قَطُّ وَقَالَ: [كُلُّ نَادِبَةٍ كَاذِبَةٌ إِلا نَادِبَةَ حَمْزَةَ.]
وَأَمَّا المقوم بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَهُوَ أَخُو حَمْزَةَ لأمه، فكان يكنى أَبَا بَكْر، وَمَاتَ عَبْد الْمُطَّلِبِ وَهُوَ ابْن خمس [2] عشرة سنة، وَمَاتَ هُوَ قبل المبعث بست سنين. وَكَانَ للمقوم ابْنَة تزوجها عَمْرو ابن محصن أحد بَنِي مبذول بْن مَالِك بْن النجار من الخزرج يُقَالُ لَهَا هند فولدت لَهُ بشيرًا، وَهُوَ أَبُو عمرة بْن محصن قتل مَعَ عَلِي يَوْم صفين. وكانت عِنْدَ مَسْعُود بْن معتب الثقفي فأخته بِنْت المقوم، وفاخته لقب وكانت تكنى أم عَمْرو. وكانت عِنْدَ أَبِي سُفْيَان بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أروى بِنْت المقوم فلها منه بنات. وأم ولد المقوم بِنْت عَمْرو بْن جعونة بْن عربة من بَنِي سهم.
وَأَمَّا حجل بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَهُوَ أَخُو حَمْزَةَ أيضًا لأمه، فكان اسمه المغيرة والحجل لقب وَهُوَ اليعسوب، وَكَانَ أصغر من المقوم بسنة مَاتَ بَعْد المقوم بسنة فاستكمل عمره، قَالَ ابْن الأَعْرَابِيِّ: أخبرني بِذَلِك المسيبي. قَالَ: وَكَانَ لحجل ابن يقال له قُرَّةُ بْن حجل وَبِهِ كَانَ يكنى وَهُوَ القائل:
اذكر ضرارا إِن عددتَ فتى ندًى ... والصتم حجلًا والفتيّ الرآسا
واذكر زبيرا والمقوّم بعده ... والليث حَمْزَةَ واذكر العباسا
وَقَدْ كتبنا أبياته عَلَى تأليفها فيما تقدم.
وَأَمَّا الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وَبِهِ كَانَ يكنى، فأن كنيته أَبُو ربيعة ويقال أَبُو المغيرة. وَمَاتَ قبل مولد
__________
[1] انظر مغازي الواقدي ج 1 ص 288.
[2] ط: خمسة.(4/294)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أكبر أخوته وأمه صفية بِنْت جُنيدب [1] من بَنِي سُواءة [2] بْن عامر بْن صعصعة. وَكَانَ لَهُ من الولد [3] ربيعة وَهُوَ أسنّ من عمه الْعَبَّاس بسنتين ويقال أربع، أسر يَوْم بدرِ كافرًا ففداه الْعَبَّاس ثُمَّ أسلم، وَقَدْ روَى عَنِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ يكنى أَبَا أروى وداره بالمدينة فِي بَنِي جَدِيلة وَمَاتَ فِي خلافة عُمَر بْن الْخَطَّاب. [وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نعم الرجل ربيعة لو قصَّ من شعره وشمّر من ثوبه.] وَكَانَ لربيعة ابْن يُقَالُ لَهُ آدم قتلته بنو ليث فِي حرب كَانَتْ بينهم وبين هذيل، وَكَانَ مسترضعًا لَهُ فِي هذيل فأصابه حجر وَهُوَ يحبو فوضع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دمه مع ما وضع من الدماء فِي الجاهلية (679) يَوْم الفتح. قَالَ أَبُو عَمْرو الشيباني وغيره: خرج حذيفة بْن أَنَس الشاعر بقومه غازيا لبني الدّيل وبكر ابن كنانة فوجدهم قَدِ انتقلوا عَنِ المنزل الَّذِي عهدهم فِيهِ ونزله بنو سَعْد بْن ليث فأغار عَلَيْهِم فقتل آدم بْن ربيعة وَكَانَ مسترضعًا لَهُ فيهم وَهُوَ صَغِير. ومن ولد ربيعة، مُحَمَّد بْن ربيعة بْن الْحَارِث ويكنى أَبَا حمزة وَكَانَ فقيهًا.
ومن ولد ربيعة عَبْد الْمُطَّلِبِ بْن ربيعة.
حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ [4] : مَشَى بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَى الْعَبَّاسِ فَقَالُوا: كَلِّمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَنْ يَجْعَلَ إِلَيْنَا مِنَ هَذِهِ السِّعَايَةِ [5] عَلَى الصَّدَقَاتِ مَا يَجْعَلُ إِلَى النَّاسِ. قَالَ: فَبَعَثَ الْعَبَّاسُ ابْنَهُ الْفَضْلَ وَبَعَثَنِي أَبِي رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَيْهِ فَأَجْلَسَنِي وَالْفَضْلُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِي وَأُذُنِ الْفَضْلِ فَقَالَ: أَخْرِجَا مَا تصرِّرانِ [6] ، فَقُلْنَا: بَعَثَنَا إِلَيْكَ عَمُّكَ وَاجْتَمَعَ بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْأَلُونَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُمْ نَصِيبًا فِي هَذِهِ السِّعَايَةِ [7] ، [فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ أَبَى لَكُمْ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَنْ يُطْعِمَكُمْ أَوْسَاخَ أَيْدِي النَّاسِ، أَوْ قَالَ غُسَالَةَ أَيْدِي النَّاسِ، وَلَكِنْ لكما عندي الحباء والكرامة،
__________
[1] في نسب قريش لمصعب الزبيري ص 18: جندب.
[2] ط: سوادة. انظر جمهرة النسب ج 1 لوحة 92، وجمهرة الأنساب ص 273.
[3] انظر نسب قريش 2 85.
[4] وردت هذه الرواية من قبل، انظر ص 24- 25 من هذا الجزء.
[5] ط: السقاية.
[6] ط: تسرران، وكذا في الرواية نفسها ص 25. وانظر لسان العرب مادة «صرر» .
[7] وردت هذه الرواية من قبل، انظر ص 24- 25 من هذا الجزء.(4/295)
أما أنت يا فضل فقد زوجتك فلانة وَأَمَّا أَنْتَ يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَدْ زَوَّجْتُكَ فُلانَةً،] فَرَجَعْنَا فَأَخْبَرْنَا بِقَوْلِ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَدْ رُوِيَ أيضًا أَنَّ الْعَبَّاسَ مَشَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم ومعه الفضل و (عبد) الْمُطَّلِبِ فَكَلَّمَهُ فِي تَوْلِيَتِهِمَا الصَّدَقَةَ وَقَالَ: قَدْ بَلَغَا وَلا نِسَاءَ لَهُمَا، [فَقَالَ: إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَمَا أَنَا بِمُوَلِّيهِمَا] .
ومن ولد ربيعة، مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْن ربيعة كَانَ ناسكًا فاضلًا. من ولده عَبْد اللَّهِ بْن سُلَيْمَان بْن مُحَمَّد بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ولي اليمن، ومحمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن سُلَيْمَان ولاه الرشيد الْمَدِينَةَ، والمغيرة بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ أَبُو سُفْيَان الشاعر الَّذِي كَانَ يهاجي حسان بْن ثابت الْأَنْصَارِيّ وفيه يَقُول:
أبوك أَبُو سوءٍ وخالك مثله ... ولست بخير من أبيك وخالكا
وَكَانَ يَقُول فِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أسلم فِي الفتح فحسن إسلامه، وَمَدَحَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو الَّذِي يَقُول:
لعمرك إني يَوْمَ أحملُ راية ... لِتغْلِبَ خيلُ اللاتِ خيلَ محمدِ
لكالمدلج الحيران أظلمَ ليلُه ... فهذا أواني اليوم أهدي وأهتدي
فِي أبيات. وأسلم أَبُو سُفْيَان بْن الْحَارِث فِي الفتح فحسن إسلامه وصبر مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم حنين، [وَقَالَ لَهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْتَ ابْن أمي ومن خير أهلي، وَقَالَ: إني لأرجو أَن تكون [1] خلفًا من حَمْزَةَ.] وَمَاتَ أَبُو سُفْيَان بالمدينة سنة عشرين وصلى عَلَيْهِ عُمَر بْن الْخَطَّاب ودفن فِي دار عقيل بْن أَبِي طَالِب. وأم أَبِي سُفْيَان (و) [2] ربيعة ونوفل وعبد شمس وعبد اللَّه وأميَّة بَنِي الْحَارِث غُزَيَّة [3] بِنْت قَيْس بْن طريف بْن عَبْدِ العُزي بْن عَامِر [4] من بَنِي الْحَارِث ابن فهر.
ومن ولد أَبِي سُفْيَان، جَعْفَر بْن أَبِي سُفْيَان بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، يذكر أهله أَنَّهُ أدرك مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حنينًا وَمَاتَ فِي وسطٍ من ايام
__________
[1] ط: يكون.
[2] م: ابن. انظر جمهرة الأنساب ص 70.
[3] نسب قريش ص 85، وجمهرة النسب ج 1 لوحة 35: عديّة.
[4] نسب قريش ص 85: عامرة.(4/296)
مُعَاوِيَة. ومن ولد الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ (680) نوفل بْن الْحَارِث وَكَانَ يكنى أَبَا الْحَارِث، ويقال إنه مُحَمَّد، ثبت مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم حنين وَمَاتَ لسنتين من خلافة عُثْمَان [1] . ومن ولده المغيرة بْن نوفل ولاه الْحَسَن بْن عَلِي الكوفة حِينَ سار إِلَى مُعَاوِيَة، وسعيد بْن نوفل كَانَ فقيهًا، والصلت بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن نوفل كَانَ فقيهًا، وعبد اللَّه بْن المغيرة بْن نوفل بْن الْحَارِث أَبُو مُحَمَّد هلك فِي زمن عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز. وَكَانَ لوط بْن إِسْحَاق بْن المغيرة بْن نوفل بْن الحارث، ويكنى أَبَا المغيرة، عابدًا عالمًا فقيهًا مَاتَ فِي خلافة أَبِي جَعْفَر أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، وَمَاتَ ابنه مُحَمَّد بْن لوط فِي خلافة أَبِي جَعْفَر أيضًا. ومن بَنِي [2] نوفل يَزِيد بْن عَبْدِ الملك بن المغيرة ابن نوفل ويكنى أَبَا خَالِد، وَكَانَ فقيهًا مَاتَ بالمدينة سنة سبع وستين ومائة.
وَمِنْهُم الزُّبَيْر بْن سَعِيد بْن سُلَيْمَان بْن نوفل بْن الحارث، يكنى أَبَا القاسم، مَاتَ فِي أَيَّام الْمَنْصُور أَبِي جَعْفَر. ومن ولد جَعْفَر بْن الْحَارِث، الْحَارِث بن نوفل بن الحارث ابن عبد المطلب، صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - واستعمله عَلَى بَعْض أعمال مَكَّة، وولاه أَبُو بَكْر وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّه [3] عَنْهُمْ مَكَّة ثُمَّ انتقل إِلَى البصرة واختط بِهَا دارًا ونزلها فِي ولاية عَبْد اللَّهِ بْن عامر بْن كُريز وَمَاتَ فِي آخر خلافة عُثْمَان. وَقَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد: كَانَ عَبْد اللَّهِ بْن نوفل بْن الحارث بْن عَبْد المطلب أول من ولي الْقَضَاء بالمدينة فِي زمن مَرْوَان بْن الحكم وَمَاتَ فِي سنة أربع وثمانين. وَقَالَ أَهْل بيته مَاتَ فِي زمن مُعَاوِيَة، وَكَانَ يشبّه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنكروا أَن يَكُون ولي الْقَضَاء.
ومن ولد نوفل، عَبْد اللَّهِ بْن الْحَارِث بْن نوفل بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَهُوَ بَبَّة، وإنما سمي ببة لأن أمه هند بِنْت أَبِي سُفْيَان بْن حرب وأمها أم عمرو ابنة أبي عمرو بن امية [4] كانت تزفنه صغيرًا أي ترقصه فتقول:
لأُنِكحن بَبه ... جارية خدبّه
[5]
عظيمة كالقبه ... إِذَا بدت فِي نقبه
تمشطُ رأس لعبه ... تجب أَهْل الكعبه
كريمة في النسبه
__________
[1] هامش ط، د: عمر مع اشارة خ. (2) بن امية» سقطت من م.
[2] م: ولد.
[3] زاد في ط: تعالى.
[4] «بن امية» سقطت من م.
[5] الطبري س 2 ص 451: جارية في قبة.(4/297)
وَكَانَ مِمَّنْ سفر بَيْنَ الْحَسَن بْن عَلِي وبين مُعَاوِيَة فِي الصلح ونزل مَعَ أَبِيهِ بالبصرة. وَكَانَ سَأَلَ مُعَاوِيَة توليته فَقَالَ: لام آلف، يَعْنِي لا، وولاه عُبَيْد اللَّه بْن زِيَاد أمر مدينة الرزق وأعطاء النَّاس، وحبسه ابْن زِيَاد ثُمَّ خلى سبيله. ولما هاج أَهْل البصرة [1] بابن زِيَاد بَعْد موت يَزِيد بْن مُعَاوِيَة واستخفى ابْن زِيَاد فِي منزل مَسْعُود بْن عَمْرو الْأَزْدِيّ، التمس أَهْل البصرة من يقوم بأمرهم فقلدوا الاختيار لَهُم النعمان بْن صهبان الراسبي وقيس بْن الهيثم السُّلمي. وَكَانَ رأي قَيس فِي بَنِي أمية ورأي النعمان فِي بَنِي هاشم، فخلا النعمان بْن صهبان بقيس فَقَالَ لَهُ: الرأي أَن نقيم رجلًا من بَنِي أمية، فَقَالَ: نِعْمَ مَا رأيت، فخرجا إِلَى النَّاس فَقَالَ قَيس:
قَدْ رضيت بمن رَضِيَ بِهِ النعمان وسماه لكم، فَقَالَ النعمان: قد اخترت لكم عبد الله ابن الْحَارِث بْن نوفل بْن الْحَارِث الهاشمي، فَقَالَ لَهُ قَيس: لَيْسَ هَذَا بالذي أعلمتني أنك تختاره، فَقَالَ: بلى لعمري مَا ذكرتُ غيره أفَبَدَا لَك وَقَدْ مضى الأمر! فرضوا بِهِ وبايعوه إِلَى [2] أَن يجتمع [3] النَّاس عَلَى إمام [4] ومكث عَلَيْهِم أشهرًا. ثُمَّ إِن (681) الأمور انتشرت واضطربت فَقِيلَ لبّبه: قَدْ أكل بَعْض النَّاس بعضًا وظهر الفساد حَتَّى أَن المرأة لتؤخذ فتفضح فلا يمنعها أحد، وَقَدِ انتشرت الخوارج بالمصر، قَالَ: فماذا ترون؟ قَالُوا: تبسط يدك وتشهر سَيْفك، قَالَ: مَا كنت لأصلحكم بفساد نفسي وديني، يَا غلام هات نعلي، فأعطاه نعله فلبسها ومضى إِلَى أهله [5] ، وَقَالَ: ولّوا أمركم من شئتم، فأمّروا عَلَيْهِم عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن معمر التيمي من قريش. وقدم بعده القباع من قبل عَبْد اللَّهِ بْن الزُّبَيْر، وَكَانَ عُمَر قَدْ أَخَذَ البيعة لابن الزُّبَيْر فزعم بَعْضهم أَنَّهُ كتب إِلَيْهِ بولايته ثُمَّ بعث بالقباع بعده. ثُمَّ إِن ببّة خرج مع عبد الرحمن ابن مُحَمَّد بْن الأشعث فَلَمَّا هزم ابْن الأشعث خاف ببّه الْحَجَّاج فهرب إِلَى عمَان فمات بِهَا بَعْد دخولها بقليل وَهُوَ شيخ كبير. وَكَانَ فِي أذن ببّه ثقل. ويقال إِن
__________
[1] انظر الطبري س 2 ص 446- 7.
[2] ط: على.
[3] ط: يجتمعوا.
[4] انظر الطبري س 2 ص 444- 5، وص 446- 7.
[5] انظر الطبري س 2 ص 465- 6.(4/298)
أَهْل البصرة ولّوا بَعْد ببَّة عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه بْن مَعْمَر أَوْ أخاه (عُبَيْد الله بن عبيد الله) ابن مَعْمَر [1] ثُمَّ ولى ابْن الزُّبَيْر عُمَر بْن عُبَيْد اللَّه فأستخلف أخاه عُبَيْد اللَّه. وَكَانَ ببّه قَدْ تناول من مال عمله أربعين ألفًا من بَيْت المال واستودعها رجلًا فأخذه بِهَا عُمَر وحبسه وعذب مَوْلَى لَهُ فأدّاها. وَقَالَ يَزِيد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن الشخير لببة: أصبت من المال وزعمت أنك اتقيت الدّم، فَقَالَ: تبعة المال أهون من تبعة الدم.
وَقَالَ الهيثم بْن عدي عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن عياش، إِن أَهْل البصرة كتبوا إِلَى ابْن الزُّبَيْر: إنّا قَدِ اصطلحنا عَلَى ببَّة، فأقره عَلَيْهِم سنة ثُمَّ ولّى القباع الْمَخْزُومِيَّ، والخبر الأَوَّل أثبت، فَقَالَ الشاعر الحنظلي:
وبايعتُ أقوامًا وفيتُ بعهدهم ... وبايعتُ عَبْد اللَّهِ أَهْل المكارم
وفيتُ لَهُ لما عقدتُ وَلَمْ يكن ... أمية لولا العهد عندي كهاشم
وَكَانَ أَهْل البصرة يقولون:
قَدْ خطبَ الجمعةَ بانكويه ... أميرُنا ببَّة لا لُبَيّه
وَقَالَ الفرزدق:
وبايعتُ أقوامًا وفيتُ بعهدهم ... وببَّةَ قَدْ بايعتُه وَهُوَ نائم
[2] وَكَانَ من ولد ببة الأرجوان وَهُوَ عبيد اللَّه بْن عَبْدِ اللَّهِ ببة بْن الحارث بن نوفل ابن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَحُدَّ فِي الشراب مرتين. وَكَانَ من ولد ببة عَبْد اللَّهِ ابن عَبْدِ اللَّهِ ببة بْن الْحَارِث أَبُو يَحْيَى، قتلته [3] الشموس والسموم بالأبواء سنة تسع وتسعين وهو مع سليمان بن عَبْد الْمَلِك وَهُوَ صَلَّى عَلَيْهِ.
وَكَانَ من ولد الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَبْد الرَّحْمَن بن العباس بن ربيعة بن
__________
[1] في د، م: أو أخاه عبد الله بن معمر ولم يرد هذا في ط. وليس لعمر أخ بهذا الاسم والتصويب من الطبري س 2 ص 465 وص 580. انظر نسب قريش ص 288- 290 وجمهرة النسب ج 1 لوحة 21.
[2] في الطبري س 2 ص 147: بايعته غير نادم. ولم يرد البيت في الديوان.
[3] م: قتله.(4/299)
الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وأخوه الفضل بْن الْعَبَّاس، وابنه الفضل بْن عَبْدِ الرَّحْمَن الَّذِي يَقُول:
إِذَا مَا كنت متخذًا خليلًا ... فلا تجعل خليلك من تميم
[1]
بلونا حُرّهم [2] والعبدَ مِنْهُم ... فَمَا عُرف [3] العبيدُ من الصميم
موالينا إِذَا احتاجوا إلينا [4] ... وسيرٌ قُدَّ من وسط الأديم
وأعداءٌ إِذَا مَا النعل زلّت ... وأولُ من يغير عَلَى الحريم
وَهُوَ الَّذِي رثي زَيْد بْن عَلِي، وَقَدْ كتبنا شعره مَعَ مقتل زَيْد. وَكَانَ عَبْد الرَّحْمَن مَعَ ابْن الأشعث وشخص مَعَهُ إِلَى سجستان فتأمّر بِهَا عَلَى فلّه حِينَ لجأ ابْن الأشعث إِلَى رتبيل، وصار إِلَى خراسان فغلب عَلَى هراة فزحف إِلَيْهِ يَزِيد بْن المهلب فهزمه (682) يَزِيد وأمر أَن لا يتبع وأن يمسك عَنْهُ فمضى إِلَى السند فمات بِهَا. وَكَانَ يُقَالُ لعبد الرَّحْمَن هَذَا روّاض البغال وَكَانَ يتخذها ويجيد ركوبها، وقاتل أيضًا بأهل البصرة وأهل الكوفة مِمَّنْ كَانَ مَعَ ابْن الأشعث بالمربد حَتَّى هزم، وَكَانَ يَقُول:
أَنَا ابْن عَبَّاس بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ... للاجر يَوْم المربد من [5] محتسب
ابيض شارٍ بالدماء [6] مختضب
ثُمَّ هرب فلحق بسجستان، فَقَالَ الفرزدق:
وأفلت روّاض البغال ولم تدع ... له الخيل في (عرسيه) [7] اذفرّ مشغرا
وَحَدَّثَنِي أَبُو مَسْعُود بْن القتات قَالَ: لما بلغ عَبْد اللَّهِ بْن حسن بْن حسن موت الفضل بْن عَبْدِ الرَّحْمَن وجم حَتَّى عرف ذَلِكَ فِيهِ، فَقِيلَ لَهُ مَا الخبر فقال:
__________
[1] انظر الكامل للمبرد ج 3 ص 176، ومعجم الشعراء للمرزباني ص 310، ونسب قريش ص 89.
[2] الكامل ونسب قريش: بلوت صميمهم، معجم الشعراء ص 310: بلوت العبد والصرحاء منهم.
[3] معجم الشعراء: ... فما ادري، نسب قريش: فما ادني العبيد.
[4] في هامش معجم الشعراء: فاخوتنا إذا ما كان أمنا.
[5] ط: ابن.
[6] م: شاربا بالدماء.
[7] د: عريسة، ط، م: غرسية، ولعل الصواب ما أثبتنا. ويرد الشطر الثاني في الديوان ج 1 ص 240: له الخيل من اخراج زوجيه معشرا.(4/300)
مَاتَ سيدنا بالعراق الفضل بْن عَبْدِ الرَّحْمَن بْن الْعَبَّاس بْن ربيعة بْن الْحَارِث. وَكَانَ الفضل زَيْديًا وَمَاتَ فِي سنة تسع وعشرين ومائة.
[رؤيا عَبْد الْمُطَّلِبِ]
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَام الكلبي عن أبيه عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بْنُ عَبْدِ مَنافٍ فِي مَنَامِهِ أَنْ يَحْتَفِيَ زَمْزَمَ وَيَحْفُرَهَا، وَدُلَّ مَوْضِعَهَا، وَكَانَتْ جُرْهُمُ دَفَنَتْهَا عِنْدَ إِخْرَاجِ خُزَاعَةَ إِيَّاهَا عَنْ مَكَّةَ، فَنَازَعَتْهُ قُرَيْشٌ حِينَ حَفَرَ زَمْزَمَ فِي حَفْرِهَا وَلَيْسَ لَهُ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْوَلَدِ إِلا الْحَارِثُ وَحْدَهُ فَقَالَ لَهُ عَدِيُّ بْنُ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ: يَا عَبْدَ الْمُطَّلِبِ أَتَسْتَطِيلُ عَلَيْنَا وَأَنْتَ فَذٌّ لا وَلَدَ لَكَ إِلا الْحَارِثَ! فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ: أَأَنْتَ تَقُولُ هَذَا؟ وَإِنَّمَا كَانَ نَوْفَلٌ أَبُوكَ فِي حِجْرِ هَاشِمٍ، وَكَانَ هَاشِمٍ خَلَفٌ عَلَى أُمِّهِ وَافِدَة نِكَاحِ مقت، ابالقلة تعيرني؟ فو الله لَئِنْ آتَانِي اللَّهُ عَشرَةً مِنَ الذُّكُورِ لأَنْحَرَنَّ أَحَدُهُمْ عِنْدَ الْكَعْبَةِ. فَآتَاهُ عَشرَةُ فَأَقْرَعَ [1] بَيْنَهُمْ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَقَالَ:
اللَّهُمَّ هُوَ أَمْ مِائَةٌ مِنْ تَلادِ إِبِلِي، فَأَقْرَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِائَةٍ مِنْ إِبِلِهِ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةِ عَلَى الْمِائَةِ فَنَحَرَهَا وَقَسَّمَهَا فِي فُقَرَاءِ مَكَّة وَمَنْ وَرَدَهَا مِنَ الاعراب. وقال الواقدي:
تكاءد عَبْد الْمُطَّلِبِ حفر زمزم فَقَالَ: لئن تمّ حفرها لأنحرنّ بَعْض ولدي، فوقعت القرعة عَلَى عَبْد اللَّهِ فاقرع بينه وبين مائة [2] ناقةٍ من إبله فوقعت القرعة عَلَى الإبل فنحرها. وَمَاتَ الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِي السنة الَّتِي نحر فِيهَا عَبْد الْمُطَّلِبِ الإبل وَكَانَ لابنه ربيعة بْن الْحَارِث حِينَ مَاتَ أَبُوهُ سنتان.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَ نحر الإبل قبل الفيل بخمس سنين، فكان ربيعة أسنّ من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسبع سنين لأَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد فِي عام الفيل. وَكَانَ ربيعة أسن من عمه الْعَبَّاس بأربع سنين. وَكَانَ الْعَبَّاس أسن من رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث سنين. وكانت لمحمد بْن ربيعة بْن الْحَارِث شعرة حسنة فذهبت، فكان أَبُو هُرَيْرَةَ الدوسي يَقُول: إِنَّمَا مثل الدنيا مثل جُمَّة [3] أَبِي حَمْزَةَ مُحَمَّد بْن ربيعة. وكانت للحارث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ابْنَة يُقَالُ لها
__________
[1] ط: وأقرع.
[2] زاد في ط: من.
[3] ط: حمة.(4/301)
أروى تزوجها أَبُو وداعة بْن صُبيرة السهمي. (683) وَكَانَ لأبي سُفْيَان بْن الْحَارِث من الولد جَعْفَر وأبو هياج، أمهما جمانة بِنْت أَبِي طَالِب ولا عقب لهما، ويقال أَن جَعْفَرًا شهد وقعة حنين مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكانت عنده [1] أروى بِنْت المقوّم فولدت لَهُ بنات. وَكَانَ من ولد الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لصلبه عَبْد شمس فولده قليل يُقَالُ لَهُمْ المّوْزة بالشام، وَهُمْ بالشام وَلَهُمْ عدة لا يزيدون عَلَيْهَا، وَقَالَ بَعْض الرواة إنهم لَمْ يزيدوا عَلَى اثنين قط، وَقَالَ بَعْض المدنيين هُوَ عَبْد شمس بْن ربيعة بن الحارث. وكانت عِنْدَ تميم الداري أم حَكِيم من ولد نوفل بْن الْحَارِث. وكانت رقية ابْنَة سَعِيد بْن نوفل بْن الْحَارِث عِنْدَ بَكْر بْن حصين بْن ربيعة بْن أُويس بْن سَعِيد [2] بْن أَبِي سرح، من بَنِي عامر بْن لؤي، وكانت تقدمت إِلَى عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان وَهُوَ بالمدينة فتكلمت فِي أمر زوجها فَقَالَ: ومن زوجك؟ قَالَتْ [3] : بَكْر بْن حُصين، قَالَ: اذكري أبًا آخر، قَالَتْ: عهدي بالقوم [4] حَدِيث إلا أَنَّهُ يُنسب إِلَى أويس، فَقَالَ: ويحك أوَ تنكح [5] الحرة عبدها! فَقَالَتْ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ:
إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى
المرء مَا تبقى لَهُ السُّلامى
فَقَالَ عَبْد الْمَلِك: لعن اللَّه هِشَام بْن إِسْمَاعِيلَ، وَكَانَ عامله عَلَى الْمَدِينَةِ، وقضى حاجتها. وَكَانَ عَبْد اللَّهِ بْن المغيرة بْن نوفل بْن الْحَارِث ويكنى أَبَا مُحَمَّد محدَّثًا هلك فِي أَيَّام عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز. وَكَانَ عَبْدِ اللَّهِ بْن الْحَارِث بْن نوفل ويكنى أَبَا يَحْيَى محدِّثًا قتلتهُ السموم [6] بالأبواء سنة تسع وتسعين وَهُوَ مَعَ سُلَيْمَان بْن عَبْدِ الْمَلِك وصلى عَلَيْهِ سُلَيْمَان وَرَوَى عَنْهُ الزُّهْرِيّ. وَقَالَ مُحَمَّد بْن سَعْد: كَانَ يُقَالُ للحارث
__________
[1] كرر ط، د النص من «اروى تزوجها» الى «وكانت عنده» .
[2] ط، د: سعد. انظر جمهرة الأنساب ص 170.
[3] م: قال.
[4] ط: با اقوم.
[5] ط: ينكح.
[6] د، م: الشموم.(4/302)
الأرَت، وكانت ابنته بُحينة عِنْدَ مَالِك الْأَزْدِيّ حليفهم، وعبد اللَّه بْن بُحينة أحد المحدثين.
وَأَمَّا قثم بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
وأمه صفية بِنْت جنيدب [1] أم الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فدرج صغيرًا.
وَقَالَ غَيْر الْكَلْبِيِّ: مَاتَ قبل مولد النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بثلاث سنين وَهُوَ ابْن تسع سنين فوجد عَلَيْهِ عَبْد الْمُطَّلِبِ [2] وجدًا شديدًا وَكَانَ لَهُ محبًّا يتبرك بِهِ، فَلَمَّا ولد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سماه عَبْد الْمُطَّلِبِ قثم فأخبرته أمه آمنة أَنَّهَا أُرِيت فِي منامها أَن تُسَميه محمدًا فسماه محمدًا.
وَأَمَّا أَبُو لهب،
فاسمه عَبْدُ الْعُزَّى بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَ فائق الجمال فكناه أَبُوهُ أَبَا لهب لِذَلِكَ، وكانت كنيته أَبَا عتبة ويقال أَبَا [3] عتيبة، وأمه لُبْنَى بِنْت هاجر بْن عَبْدِ مناف بن ضاطر ابن حبشيَّة بْن سلول من خزاعة [4] . وَكَانَ جوادًا وفيه يَقُول حذافة بْن غانم العدوي [5] :
أَبُو عتبة الملقي إليّ حباله ... أغر هجان اللون من نفرٍ غر [6]
وَمَاتَ بَعْد وقعة بدر بسبعة أَيَّام وَلَمْ يشهدها لأنه وجه العاص بْن هِشَام الْمَخْزُومِيَّ مكانه، وَكَانَ لاعَبه عَلَى إمرةٍ مطاعة فقمره فبعثه إِلَى بدر بديلًا منه فقتله عمر ابن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه [7] عَنْهُ. وَكَانَ لأبي لهب من الولد [8] عُتْبة ومُعَتِّب وعُتيبة [9] .
وَكَانَ عتيبة سمع النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ: والنجم إذا هوى [10] فَقَالَ:
كفرت برب النجم، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (684) صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللَّهُمَّ سلط عَلَيْهِ كلبًا من كلابك] فَإِنَّهُ لبحوران من أرض الشام إذ اقبل اسد فجعل يتشمّم اصحابه
__________
[1] في نسب قريش: بنت جندب بن حجير بن رئاب ص 18.
[2] م: المطلب خ.
[3] ط: ابو.
[4] انظر نسب قريش ص 18.
[5] م: العذري.
[6] م: غد، ط: غز.
[7] زاد في ط: تعالى.
[8] انظر نسب قريش ص 89.
[9] ط: عيينة. انظر جمهرة الأنساب ص 72، ونسب قريش ص 89.
[10] سورة النجم (53) ، آية 1.(4/303)
واحدًا واحدًا حَتَّى بلغ إِلَيْهِ فضمغه ضمغة فجعل يَقُول، وَهُوَ بآخر رمق: ألم أقل لكم إِن محمدًا أصدق النَّاس، ثُمَّ مَاتَ. وَقَالَ بَعْضهم احتمله الأسد فأكله. وأم أولاد أبي لهب أم جميل بنت حرب بْن أمية، أمها أزدية. وَكَانَ موت أَبِي لهب بداء يعرف بالعَدّسة.
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه وغيره، قَالُوا: أُرِيَ عَبْد الْمُطَّلِبِ أَن يحتفر [1] زمزم وكانت جرهم دفنتها وطمّتها، فَلَمَّا احتفرها وجد غزالا من ذهب وفضة مقرّطا مشنّفا فصيره فِي الْكَعْبَة. وَكَانَ لمقيس [2] بْن قَيْس بْن عدي السهمي قينتان يُقَالُ لهما أسماء وعثمة، وَكَانَ بيته مألفًا لرجال من قريش وَكَانَ أَبُو لهب بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ والحكم بْن أَبِي العاص بْن أمية والحارث بْن عامر بْن نوفل بْن عَبْدِ مناف وأبو إهاب بْن عزيز بْن قَيْس بْن سُوَيْد بْن ربيعة بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن دارم بْن مَالِك بْن حنظلة بْن مَالِك بْن زَيْد مناة بْن تميم حليف بَنِي نوفل بْن عَبْدِ مناف وديك ودُييك موليا خزاعة يجتمعون [3] عنده، فَإِن هَؤُلاءِ جميعًا لعنده إذ نفدت خمرهم وأقبلت ضافطة من الشام فَقَالَ أَبُو لهب: مَا أعلم موضع شَيْء نبتاع بِهِ خمرًا إلا غزال أَبِي الَّذِي فِي الْكَعْبَة، فأعظم الْقَوْم ذَلِكَ وأبوه فَقَالَ: أَنَا أحق النَّاس بِهِ قوموا بنا، فقاموا مَعَهُ فسرقوا الغزال واشتروا ببعضه خمرًا وحلّى أَبُو لهب منه القينتين وحلاهما الْحَارِث بْن عامر بْن نوفل من قسمه قرط الغزال أَوْ شنفه، فَقَالَ فِيهِ أَبُو إهاب بْن عزيز:
أبلغ منافًا إِذَا جئتها ... فأيّ فتى ولدت نوفل
إِذَا شرب الخمر أغلَى بِهَا ... وإن جهدت جهدها العذل
دعاه إِلَى الشنف شنف ... الغزال هواه لخصمانة عيطل
__________
[1] ط، د: يحتفي.
[2] ط: ذقيس. انظر المحبر لابن حبيب ص 437.
[3] م: مجتمعون.(4/304)
وَقَالَ حسان بْن ثابت لأبي إهاب بْن عزيز:
أَبَا إهاب أَبِنْ لي عَنْ حَدِيثكم ... اين الغزال عليه القرط من ذهب
[1] فطلب قريشٌ سَرَقَةَ الغزال فقطعوا بَعْضهم وهرب بَعْض ولجأ أَبُو لهب إِلَى أخواله من خزاعة فمنعوه ودفعوا قريشًا عَنْهُ، وَكَانَ أشدّ قريش طلبا لسرقة الغزال عبد الله ابن جُدعان التَّيْمِيُّ، فَقَالَ الشاعر فِي منع خزاعة من أَبِي لهب:
هُمُ منعوا الشَّيْخ المنافيّ بعد ما ... رَأَى الشفرة الحجناء فَوْقَ البراجم
[2] وَقَدْ كتبنا لأبي لهب أخبارًا فيما تقدم من كتابنا فلم يحتج إِلَى إعادتها.
وَحَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَت ابْنَة زرارة بن عدس بن زيد ابن عَبْدِ اللَّهِ بْن دارم عِنْدَ سُوَيْد بْن ربيعة جدّ أَبِي إهاب بْن عزيز، وَكَانَ المنذر بْن ماء السماء- وَهِيَ أمه وَهِيَ من ولد النمر بْن قاسط- وضع ابنًا لَهُ عِنْدَ زرارة يُقَالُ لَهُ مَالِك، فمرّ مَالِك بإبِل لسويد فأعجبته بكرةٌ منها فأمر بِهَا فنحرت وأكل منها وأطعم باقيها. وَكَانَ سُوَيْد قَدْ خرج يتصيّد فَلَمَّا جاء أُخبر بخبر البكرة فاستشاط غضبًا فوثب عَلَى مَالِك بْن المنذر فضربه فأَمّه فلم يلبث أَن مات، فحلف عمرو ابن المنذر ليحرقن من بَنِي حنظلة مائة، فأحرقهم، وهرب سُوَيْد فلحق بمكة فحالف بَنِي نوفل بْن عَبْدِ مناف واختط بمكة دارًا فولده بِهَا، وسمي عَمْرو محرقًا.
ومن ولد أَبِي لهب الفضل بْن عَبَّاس بْن عتبة بْن أَبِي لهب الشاعر وأمه ابْنَة الْعَبَّاس بْن (685) عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. حَدَّثَنِي مَنْصُور بْن أَبِي مزاحم عَنْ شُعَيْب بْن صفوان قَالَ: كَانَ الفضل بْن عَبَّاس بْن عتبة [3] أنِسًا بالوليد بْن عَبْدِ الْمَلِك فحج الْوَلِيد فبينا هُوَ مسند ظهره إِلَى زمزم قَالَ لَهُ الفضل: ألا آتيك بماء من زمزم تشربه وتغسل منه وجهك، فقال: افعل، فجعل يستقي [4] ويقول [5] :
__________
[1] في الديوان (وليد عرفات) ج 1 ص 135، وشرح الديوان للبرقوقي ص 52:
سائل بني الحرث المزري بمعشره ... اين الغزال عليه الدر من ذهب
[2] ط: البراحم.
[3] الاغاني ج 16 ص 119 وما بعدها.
[4] د: استقى.
[5] يرد الشعر في اخبار الدولة العباسية ص 152، وفي الاغاني ج 16 ص 126 بروايتين لعمر ابن شبة وعلي بن محمد النوفلي.(4/305)
يَا أيها السائل عَنْ عليِّ ... تسأل [1] عَنْ بدرٍ لنا بدري
مردّد [2] فِي المجد أُبطحيِّ ... سائلة غُرَّتُه مضيّ
زمزمُ يَا بوركت من طوي [3] ... بوركت للساقي وللمسقيِّ
اسقي عَلَى ماثرة النَّبِيّ
فَقَالَ لَهُ الْوَلِيد، مَا أَكْثَر لغطك، فَقَالَ: إِن هَذَا الشعر فِي عَلِي بْن عبد الله بن عبد الله ابن الْعَبَّاس، ويُروى:
تسأل عَنْ قرم [4] لنا بدري
نسبة إِلَى البدر، ويقال هُوَ فِي عَلِي بْن أَبِي طَالِب، يريد أَنَّهُ شهد بدرًا.
وحدثنا محمد بن زياد الاعرابي الرواية عن المفضل الضبي قال: كان الفضل ابن عَبَّاس بْن عتبة بْن أَبِي لهب يُعّيِّن [5] فَإِذَا حلّت دراهمه عَلَى غرمائه ركب حمارًا لَهُ كَانَ يسميه شارب الريح فيقف عَلَيْهِ ثُمَّ يَقُول:
بَنِي عمنا رُدُّوا الدراهم إنه ... يفرق بَيْنَ النَّاس حبُّ الدراهم
قَالَ: وَكَانَ رَجُل من بَنِي الديل بْن بَكْر بْن عَبْدِ مناة بْن كنانة يُقَالُ لَهُ عقرب عَسر [6] الْقَضَاء فَإِذَا تعلّق بِهِ غرماؤه أفلتهم وهرب عَنْهُمْ وَقَالَ:
فلو كنتُ الحديد لكسروني ... ولكني أشدّ من الحديد
فعيّنه الفضل مالًا، فَلَمَّا كَانَ قبل محله جاء فبنى عَلَى بَاب عقرب [7] معلفًا لحماره وأتى بشيء فبسطه فلقي كُل واحد منهما من صاحبه شرًّا، فهجاه الفضل فقال [8] :
__________
[1] الاغاني: سألت.
[2] الاغاني، رواية النوفلي: مقدم، وفي اخبار الدولة العباسية: من نسّك في العيص ابطحي.
[3] الاغاني: ركي.
[4] ط، د: قزم.
[5] اي يبيع بيع العينة. انظر لسان العرب مادة: عين.
[6] م: عسير.
[7] في هامش م: التاجر.
[8] يضيف ط: الفضل. والشعر في الاغاني ج 16 ص 128 مع اختلاف في توالي الأبيات.(4/306)
قَدْ تَجَرَتْ عقرب فِي سوقنا [1] ... لا مرحبًا بالعقرب التّاجِره
[2]
إِن عادت العقربُ عُدنا لَهَا [3] ... وكانت النّعلُ لَهَا حاضره
كُل عدو يُتّقى مقبلًا ... وتُتّقى لسعتُها دابره
[4]
إنّ عدوَّا كيدهُ فِي استه ... لغير ذي كيد ولا نائره
قَدْ خابت [5] العقرب واستيقنت ... أنْ مَا لَهَا دنيا ولا آخره
الْمَدَائِنِي عَنْ أَبِي اليقظان قَالَ: وفد الفضل بْن عَبَّاس بْن عتبة عَلَى الْوَلِيد فوصله وأجازه، فَقَالَ: يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ لا تنس شارب الريح، يَعْنِي حماره، فَقَالَ: وَلَمْ لا نحملك عَلَى خير منه، قَالَ: إِن لَهُ بي حُرمة وَهُوَ أحب إليّ من غيره فارزقه، فأجرى عَلَيْهِ فِي كُل شَهْر عشرة دنانير فكان يقبضها مَعَ رزق كَانَ أجراه عَلَيْهِ، وَكَانَ لا ينفق عَلَى حماره شيئًا إِنَّمَا كَانَ يتطلب لَهُ العلف والحشيش من النَّاس، فكتب بَعْض أَهْل الْمَدِينَةِ قصة وجعلها فِي عنق الحمار وساقه إِلَى صاحب الشرطة بالمدينة، وَكَانَ فِي القصة: إني بالله وبالمسلمين فَإِن صاحبي يقبض رزقي ولا يعلفني منه بشيء.
حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي مسكين قَالَ: دخل الفضل بن عباس ابن عتبة عَلَى الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك فأنشده [6] :
أتيتُك خالًا وابنَ عمّ وعمةٍ ... وَلَمْ أكُ شعبًا ناطني [7] بك مُشْعب
فَصِلْ واشجاتٍ بيننا من قرابةٍ ... أَلا صلةُ الأرحام أدنى [8] وأقرب
(686) وَكَانَ عِنْدَ الْوَلِيد، الْحَارِث بْن الْوَلِيد بْن عُقبة بْن أَبِي مُعيط الدعي فهمس إِلَى الْوَلِيد فِيهِ بشيء، فَقَالَ الفضل: يَا أمِير المؤمنين إن نوحا عليه السلام حمل
__________
[1] م: في سوقنا عقرب.
[2] الاغاني: يا عجبا للعقرب التاجره.
[3] ن. م.: فان تعد عادت لما ساءها.
[4] ن. م.: وعقرب تخشى من الدابره.
[5] ن. م.: ضاقت.
[6] ترد الرواية في الأغاني ج 16 ص 255 عن عبد الملك بن مروان.
[7] الأغاني: شعبا لاطله.
[8] ن. م.: أبقى.(4/307)
فِي سفينته من كُل زوجين اثنين وَلَمْ يكن مَعَهُ [1] فِيهَا دعيّ، فامتقع لون الْحَارِث واطرق.
وحُدّثت عَنِ المسيبي أَنَّهُ قَالَ: دَخَلَ الفضل بْن عَبَّاس بْن عتبة عَلَى الْوَلِيد ابن عَبْدِ الْمَلِك، وعنده عباد بْن زِيَاد، وَكَانَ بينه وبين عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز شَيْء، فأنشد الفضل شعره الَّذِي يَقُول فِيهِ:
وَلَمْ أكُ شعبا ناطني [2] بك مُشْعب
فَقَالَ عباد: ينبغي والله يَا أمِير الْمُؤْمِنيِنَ أَن توصل رحمه، فَقَالَ عُمَر بْن عَبْدِ الْعَزِيز:
النخس يكفيك البطيء المحثل
[3] الْمَدَائِنِي قَالَ: لما مَاتَ الْوَلِيد بْن عَبْدِ الْمَلِك وَقَدْ كَانَ مسيئًا إِلَى أَخِيهِ سُلَيْمَان وفد الفضل إِلَى سُلَيْمَان ورثي الْوَلِيد فَقَالَ [4] :
أمررْ عَلَى قبر الْوَلِيد فقل لَهُ ... صلى الإله عليك من قبر
يَا واصل الرحم الَّتِي قطعت ... وأصابها الجفوات في الدهر
فقال سليمان: تصل [5] رحمك وتقطع [6] رحمي! ثُمَّ أمر بِهِ فوجئت عنقه وأخرج من بَيْنَ يديه.
قَالُوا: وهاجى [7] الفضلُ الحارثَ بْن خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةَ فاجتمع النَّاس لحضور إنشادهما فأنشد الفضل [8] :
وأنا الأخضرُ من يَعرفُني ... أخضرُ الجلدةِ فِي بيتِ العرب
من يُساجِلْني يُساجِلْ ماجدًا ... يملأ الدّلو الى عقد الكرب
__________
[1] سقطت «معه» من ط.
[2] ر: ناظني.
[3] ط: المحنشل. انظر مجمع الأمثال للميداني ج 2 ص 346.
[4] انظر الأغاني ج 16 ص 121.
[5] م: يصل.
[6] م: يقطع.
[7] ط: هاج.
[8] الأغاني ج 16 ص 119، ونسب قريش ص 90.(4/308)
فَلَمَّا فرغ قَالَ الْحَارِث: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لهب وتب [1] فصاح النَّاس بالفضل وضحكوا، وانهزم عَنْهُ وأنشأ يَقُول بَعْد ذَلِكَ [2] :
ماذا يريد إِلَى شتمي ومنقصتي ... أم مَا يريد إِلَى حمّالةِ الحطبِ
[3]
غرّاء سائلةٌ فِي المجد فضلها ... فِي الجاهلية فضلُ السادة النجب
ويروى:
غراءٌ سائلةٌ فِي المجد غُرتّها [4] ... كَانَتْ سلالة [5] شيخ ثاقب النسب
وَكَانَ أَبُو خداش [6] بْن عتبة من جلساء مُعَاوِيَة وَكَانَ ذا لسن. وَحَدَّثَنِي عافية التميمي عَنْ إِسْحَاق بْن إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أنشد الأحوص الشاعر الْأَنْصَارِيّ الفضل شعرًا من شعره فَقَالَ: مَا أَحْسَن شعرك إلا أنك لا تأتي من غريب الْكَلام بشيء، فَقَالَ: وكيف وأنا أقول:
مَا ذاتُ حبلٍ يراهُ الناسُ كلُّهم ... وسط الجحيمِ فلا [7] يخفى عَلَى أحد
ترى الحبال [8] حبال النَّاس من شَعرٍ ... وحبلُها وَسطَ أهلِ النّارِ مِنْ مَسَد
وَكَانَ مُسْلِم بْن معتب بْن أَبِي لهب يشبّه بالنبي [9] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ جميلًا وَقَدْ شهد وقعة حنين مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ من ولد أَبِي لهب، حَمْزَةُ بْن عتبة بْن إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ جميلًا، وَكَانَ حَمَّاد البربري رفعه [10] إِلَى أمِير الْمُؤْمِنيِنَ هَارُون الرشيد فِي قوم من القرشيين من أَهْل مَكَّة ذكر أنهم يتشيعون فِي آل أَبِي طَالِب، فَلَمَّا رآه الرشيد رَأَى جمالًا ونبلًا فقال: يا حمزة أتتشيّع في آل
__________
[1] سورة المسد (111) ، آية 1.
[2] انظر الأغاني ج 16 ص 127، ونسب قريش ص 90
[3] الأغاني: ماذا تعيّر من ... ، نسب قريش: أما تغير من ...
[4] هكذا ورد الشطر في الأغاني وفي نسب قريش.
[5] الأغاني: حليلة.
[6] م: خداس.
[7] في نسب قريش: ولا.
[8] ن. م.: كل الحبال.
[9] م: يشبه النبي.
[10] ط: دفعه.(4/309)
أَبِي طَالِب؟ فَقَالَ: والله مَا أعرف من أتشّيع لَهُ من نظرائي خيرًا مني لأني رَجُل من بَنِي هاشم، (687) فأعجب ذَلِكَ الرشيد وجعله فِي صحابته
وَأَمَّا الغيداق بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
واسمه نوفل، والغيداق العام الكثير المطر، يُقَالُ جاء فِي عام غيداقٍ [1] ويقال هُوَ مطر غيداق إِذَا كَانَ كثير الماء. والغيداق أيضًا [2] الغلام قبل بلوغ الحُلم، ويقال أيضًا لفرخ الضب غيداق. وَمَاتَ الغيداق بَعْد وفاة أَبِيهِ بخمس سنين.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الغيداق من أكابر ولد عَبْد الْمُطَّلِبِ، تزوج أمه أَيَّام حالفته خزاعة وَهِيَ ممتعة [3] بِنْت عَمْرو بْن مَالِك بْن مؤمل من خزاعة. وَأَخُو الغيداق لأمه عوف بْن عَبْدِ عوف أَبُو عَبْد الرَّحْمَن بْن عوف الزُّهْرِيّ. وزعم بَعْضهم أَن الغيداق هُوَ حجل وَذَلِكَ غلط ولا عقب الغيداق.
وَقَالَ أَبُو اليقظان قَالَ حسان بْن ثابت يهجو أَبَا لهب [4]
عَليك سماهيجًا فأنت ابْن نوفها ... مَتَى كنت ترجو أَن تنال الأَعاظما
فَإِن أباك اللؤم لحيان فانتسب ... إِلَيْهِ ودع عَنْك الأكارم هاشما
ذكر أَن سماهيج جدة لَهُ يعاب [5] بِهَا ونسبها إِلَى لحيان بْن هذيل بن مدركة. قال خذافة بْن غانم العدوي لابنه [6] :
أخارج أما أهلكن فلا تزل ... لَهُمْ شاكرًا حَتَّى تُغيّب فِي القبر
بَنِي شَيْبَة الحمد الَّذِي كَانَ وجهه ... يضيء ظلام الليل كالقمر البدر
كهولهمُ خيرُ الكهول ونسلهم ... كنسل الملوك كلهم طيب النشر
[7]
__________
[1] يضيف م: وهو.
[2] «أيضا» ليست في ط.
[3] م: ممنعة.
[4] لم يرد البيتان في الديوان (نشر هرشفيلد) ص 89 ولا في شرح الديوان (نشر البرقوقي) ص 407، وجاء البيت الثاني في الديوان (تحقيق وليد عرفات) ج 1 ص 390:
ولكنّ لحانا ابوك ورثته ... ومأى الخنا منهم فدع عنك هاشما
[5] ط: يعار.
[6] انظر الأغاني ج 8 ص 268.
[7] ن. م.: ... لا يبور ولا يجري. ويليه:
ابو عتبة الملقي إليك جماله ... أغرّ هجان اللون من نفر زهر(4/310)
لساقي الحجيج ثُمَّ للشيخ [1] هاشم ... وعبدِ منافٍ ذَلِكَ السيد الفهر
[2]
أَبُوكم قصيُّ كَانَ يدعى مُجَمِّعًا ... بِهِ جمع اللَّه القبائلَ من فِهر
وأنتم بنو زَيْد أبوكم بِهِ ... زيدت البطحاءُ فخرًا عَلَى فخر
وَقَدْ سَمِعْتُ من ينشد منها بيتًا مفردًا فَيَقُولُ:
«وعبد مناف ذَلِكَ السيد القمر» ، ويذكر أَنَّهُ كَانَ يُقَالُ لعبد مناف القمر.
بنات عَبْد الْمُطَّلِبِ:
أمُّ حَكِيم البيضاء توأمة أَبِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وُلِد ثُمَّ وُلِدت بعده، وَهِيَ الصنَّاع لا تعلم والحَصان لا تكلم [3] ، يُقَالُ إنها قَالَتْ هَذَا القول لنفسها، تزوجها كُرَيز بْن ربيعة بْن حبيب بْن عَبْد شمس فولدت لَهُ أروى بِنْت كريز، فتزوج أروى عفّان بْن أَبِي العاص بْن أمية فولدت لَهُ عُثْمَان بْن عفّان، فأم حَكِيم جدة عُثْمَان لأمّه. ثُمَّ خلف عَلَى أروى بَعْد عَفَّان عقبة بْن أَبِي معيط بْن أَبِي عَمْرو بْن أمية فولدت لَهُ الْوَلِيد بْن عقبة وعُمارة بْن عقبة وخالد بْن عقبة [4] ، وأم حَكِيم جدتهم لأمهُمْ أيضًا. وبقيت أروى إِلَى خلافة عُثْمَان فصلى عَلَيْهَا وانصرف من قبرها وجعل يَقُول: اللَّهُمَّ اغفر لأمي. وماتت أم حَكِيم بَعْد المبعث وَلَهَا سبعون سنة أَوْ قريب منها. وَقَالَتْ أم حَكِيم وَهِيَ ترقص عُثْمَان ابْن بنتها فِي صغره:
ظني بِهِ صدق وبر ... يأمره ويأتمر
من فتية بيض زهر ... يحمون عورات الدبر
ويضرب الكبش النعر ... يضربه حَتَّى يخر
من قُبُلٍ ومن دبر
وعاتكة [5] هي أم عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي أمية وزهير بْن أَبِي أمية الْمَخْزُومِيِّ أَخُو أم سلمة زوج النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبيها، وأم عاتكة أيضًا أم أَبِي رَسُول اللَّهِ
__________
[1] ن. م.: للخير.
[2] ن. م.: الغمر.
[3] انظر نسب قريش ص 17 وفيه: هي التي يقال لها الحصان.
[4] انظر نسب قريش ص 18.
[5] ن. م. ص 18.(4/311)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعاتكة صاحبة الرؤيا الَّتِي رأتها، فَقَالَ أَبُو جهل لِلْعَبَّاسِ:
أما رضيتم يَا بَنِي عَبْد الْمُطَّلِبِ بأن (688) تتنبأ رجالكم حَتَّى تنبّت نساؤكم! وَقَدْ كتبنا خبرها فِي أخبار الْعَبَّاس، وَقَدْ أسلمت وماتت قبل الهجرة.
وَبَرَّةُ [1] وَهِيَ أم أَبِي سلمة بْن عَبْدِ الأسد بْن هلال الْمَخْزُومِيِّ زوج أم سلمة قَبْلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهِيَ أيضًا أم أَبِي سبرة بْن أبي رهم أحد بني عامر بن لؤي، وَكَانَ أَبُو رهم خلف عَلَيْهَا بَعْد عَبْد الأسد، وأمها أم أَبِي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأروى وَهِيَ أم طُلَيب بْن عُمير بْن وهيب [2] بْن عَبْدِ بْن قصي، ويكنى أَبَا عدي [3] ، واستشهد طُليب يَوْم أجنادين بالشام وَهُوَ ابْن خمسٍ وثلاثين سنة.
وَكَانَ طليب لقي أَبَا إهاب بْن عزيز التميمي، وَقَدْ دُسّ للفتَّك برسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فضربه بلحي جمل فشجه فضرب وحمل إِلَى أمه فَقَالَتْ:
مُحَمَّد ابْن خاله وَهُوَ أولى من دافع عَنْهُ وغضب لَهُ. وَقَالَتْ أروى:
إن طُليبًا نَصْر ابنَ خاله ... آساهُ فِي ذي دَمِهِ ومَاله
[4] وَكَانَ المسلمونَ يصلونَ فِي شعبٍ فهجم عَلَيْهِم أَبُو جهل وعقبة بْن أَبِي معيط وجماعة من سفهائهم، فعمد طليب إِلَى أَبِي جهل فشجه فأوثقوه، فقام أَبُو لهب دونه فتخلصه وشُكي إِلَى أروى فَقَالَتْ: خير أيامه أَن ينصر محمدًا، وكانَت قَدْ أسلمت. ورأى طليب عقبة بْن أَبِي معيط يومًا ومعه مكتل فِيهِ مَذر قَدْ [5] نثره عَلَى بَاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السحر فأخذ المكتل وأخذ بأذنيه فجعل يضرب بِهِ رأس عقبة فتشبث بِهِ عقبة وذهب بِهِ إِلَى أمه فَقَالَ: ألا ترين مَا صنع طليب؟ فَقَالَتْ: أنفسنا وأموالنا دونه.
وأميمة [6] بِنْت عَبْد الْمُطَّلِبِ
وَهِيَ أخت أَبِي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم لأمه وابيه،
__________
[1] ن. م.: ص 18- 19.
[2] في ن. م.: وهب.
[3] ط: عبدي.
[4] يرد البيت في نسب قريش ص 20.
[5] ط، د: تكررت «قد» .
[6] انظر نسب قريش ص 9.(4/312)
وَهِيَ أم زينب بِنْت جحش وعبد اللَّه بْن جحش وأبي أَحْمَد وعبيد اللَّه وجحش من بَنِي أسد بْن خزيمة.
وصفية [1] بِنْت عَبْد الْمُطَّلِبِ
وَهِيَ أخت حَمْزَةَ لأمه وأبيه وأخت المُقَوّم وحَجل، وَهِيَ أم الزُّبَيْر بْن الْعَوَّام والسائب بْن الْعَوَّام بْن خويلد بْن أسد بْن عَبْدِ العزى بْن قصي، وكانت قبل الْعَوَّام عِنْدَ الْحَارِث بْن حرب بْن أمية فولدت لَهُ جارية. وتوفيت صفية فِي سنة عشرين وَهِيَ ابْنَة ثَلاث وسبعين سنة.
حدثني بعض أصحابنا عن الزبير بن بكار قَالَ: أَقطع عُثْمَان بْن عَفَّان رَضِيَ اللَّه [2] عَنْهُ المغيرة بْن شُعْبَة داره الَّتِي بالبقيع، فأخذ الزُّبَيْر سَيْفه، والمغيرة يحدُّها، فجعل يذود بِهِ عَنْ قبر أمه صفية. وَحَدَّثَنِي الْوَلِيدُ بن صالح عن الواقدي عن محمد ابن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ الزُّهْرِيّ أَن عليًا والزبير رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا اختصما فِي ولاء موالي صفية فَقَالَ عَلِي: [أَنَا أحق بولاء موالي عمتي وأنا أعقل عَنْهُمْ،] وَقَالَ الزُّبَيْر: أَنَا أحق بولاء موالي أمي وميراثهم، فقضى عُمَر بْن الْخَطَّاب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَن الزُّبَيْر أحق بميراثهم بالولاء. قَالُوا: فَإِن عقلهم عَلَى عَلِي وَبَنِي عَبْد الْمُطَّلِبِ. وذكر أَبُو اليقظان أَن عَبْد الْمُطَّلِبِ كَانَ يسمى عامرًا.
انقضى نسب بَنِي عَبْد الْمُطَّلِبِ [3] .
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
وَأَمَّا نضلة بْن هاشم
وَبِهِ كَانَ يكنى، وأمه أميمة، وَكَانَ قَدْ ولد لَهُ الارقم ابن نضلة فلم يبق له عقب [4] . وولد الأرقم نساءً إحداهن زينب تزوجها عَبْد يغوث ابن وهب الزُّهْرِيّ، وهند تزوجها جميل بْن مَعْمَر ذو قلبين [5] الجمحي، (689) والشفاء [6] ولدت
__________
[1] ن. م. ص 20.
[2] يضيف ط: تعالى.
[3] ورد في هامش ط، د: رجع الى ذكر اولاد هاشم بن عبد مناف المذكور خبره في اوائل هذا الكتاب.
[4] انظر نسب قريش ص 16.
[5] م: قليبين. انظر جمهرة الأنساب ص 161.
[6] انظر نسب قريش ص 16- 17.(4/313)
السائب بْن عُبَيْد بْن عَبْدِ يَزِيد بْن هاشم بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْن عَبْدِ مناف، وَكَانَ السائب يُشبّه بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا صيفي بْن هاشم فدرج وَلَمْ يولد لَهُ قط. وَأَمَّا أَبُو صيفي واسمه عَمْرو وسماه أَبُوه باسمه فِي حياته، وَكَانَ اسم هاشم عَمْرًا، فولد لَهُ الضحاك ورقيقة وَهِيَ أم مخرمة بْن نوفل الزُّهْرِيّ، وَهَذَا قَوْل الْكَلْبِيِّ. وَقَالَ بَعْضهم: ولد لَهُ صيفي وعمرو فسماهما باسمه واسم أَبِيهِ، وأمهما كنانية، ورقية أمها هالة بِنْت كلدة من بَنِي عَبْد الدار بْن قُصي، تزوجها نوفل بْن عَبْدِ مناف بْن زهرة، ولا عقب لصيفي وعمرو [1] .
وَأَمَّا أسد بْن هاشم،
وأمه قيلة وَهِيَ الحزوز [2] بِنْت عامر الخزاعية، فولد فاطمة بنت اسد أم علي ابن أَبِي طَالِب عَلَيْهِ السَّلام وأخوته وأمها حُبّى [3] بِنْت هرم بْن رواحة [4] من بَنِي عامر بْن لؤي، وخالدة بِنْت أسد، تزوجها الأرقم ابن نضلة بْن هاشم.
ويقال أَن رجلًا يُقَالُ لَهُ حنين، وأُمّه أَمَةٌ رومية تسمى سميَّة ويقال مارية، ادعى أَنَّهُ ابْن أسد بْن هاشم فلم يثبت نسبه فأتى القافة فأنكروه فرجع إِلَى مَكَّة وخُفَّاهُ عَلَى عاتقه فَقِيلَ: رجع حنين بخفيه خائبًا، وضرب بِذَلِك المثل فَقِيلَ لكل مخفق وراجع بغير طلبته: رجع بخُفَّيْ حنين، وَهَذَا الثبت. ومن النَّاس من يَقُول إِن حنين بْن بَلّوع العَبادي المغنيّ سافر سفرًا فقطع عَلَيْهِ الطريق فدخل الحيرة وَهُوَ عريان قَدْ علّق خُفّيه فَقِيلَ لمن أخفق: رجع بخفي حنين. وقيل أيضًا إِن أعرابيًا قدم الحيرة ومعه راحلة فوقفها ناحية ودخل السوق فرأى عِنْدَ إسكاف يُقَالُ لَهُ حنين خفين فابتاعهما منه ثُمَّ مضى يريد راحلته فوجدها قَدْ سُرقت، فانصرف إِلَى قومه راجلًا فقَالُوا: أَيْنَ راحلتك؟ فَقَالَ: سرقت، وأراهم الخفين فاستحسنوهما فَقَالَ: إنهما من عمل إسكاف بالحيرة يُقَالُ لَهُ حنين فارِه [5] سهل البيع، فضحكوا بِهِ وَقَالُوا: رجع بخفّي حنين، فمضت مثلًا. وَكَانَ لحنين المدّعي إنه ابْن أسد بن هاشم من الولد عمرو
__________
[1] نسب قريش ص 16.
[2] ط: الحزور، م: الخزور. وفي نسب قريش: الجزور.
[3] م: حيي.
[4] م: رواعة.
[5] د، م: فانه، الفاره: الحاذق بالشيء، اللسان مادة «فره» .(4/314)
وعبد الرَّحْمَن، وأمهما سخطي بِنْت عَبْد عوف بْن عَبْدِ الْحَارِث الزُّهْرِيّ. وولد عَبْد الرَّحْمَن ابن حنين امْرَأَة تزوجها المثلّم بْن جبار الفزاري [1] فولدت لَهُ. وولد عَمْرو بْن حنين امْرَأَة ولدت فِي آل سَعْد بْن أَبِي وقاص. ويقال إنه كَانَ لحنين ابْن يُقَالُ لَهُ عَبْد اللَّهِ فوُلدت لَهُ ابْنَة يُقَالُ لَهَا أم هَارُون كَانَتْ عِنْدَ مُوسَى بْن سَعْد بْن أَبِي وقاص.
الْمَدَائِنِي عَنْ شريك قَالَ: [سئل عَلِي عَنْ بَنِي أمية وَبَنِي هاشم فَقَالَ: هُمْ أَكْثَر وأنكر وأمكر ونحن أفصح وأصبح وأنصح.] قَالَ: وقيل لمعاوية أنتم أشرف أم بنو هاشم؟ قَالَ: كَانُوا أشرفَ واحدًا ونحن أَكْثَر عددًا حَتَّى جاء مزبد الأولين والآخرين صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
انقضى نسب بني هاشم بن عبد مناف.
__________
[1] ط، د: الفراري.(4/315)
[الجزء الخامس]
بسم الله الرحمن الرحيم
نسب بني عبد شمس بْن عبد مناف
«1» 1- وولد عبد مناف بْن قصي أيضًا عبد شمس وبه كان يكنى، وأمه عاتكة بنت مرة «2» أم هاشم، فولد عبد شمس بْن عبد مناف أُمَيَّة الأكبر، وحبيب بْن عبد شمس وبه كان يكنى، وأمهما (690) تعجز «3» بنت عبيد بْن رؤاس بْن كلاب بْن ربيعة بْن عَامِر بْن صعصعة واسمها أيضا عاتكة، وإياها عني ابن همام السلولي بقوله «4» :
فجالت بنا ثم قلت اعطفي ... بنا «5» يا صفي ويا عاتكا
يعنى بصفية بنت حزن بْن بجير الهلالية أم أبي سُفْيَان بْن حرب بْن أُمَيَّة وهي عمة لبابة بنت الحارث أم عبد اللَّه بْن عباس بْن عبد المطلب، وربيعة بْن عبد شمس، وأمه آمنة بنت وهب بْن عمير بْن نَصْر بْن قعين بْن الحارث بْن ثعلبة بْن دودان بْن أسد بْن خزيمة، وأمية الأصغر، وعبد أُمَيَّة، ونوفل بْن عبد شمس، وأم هؤلاء الثلاثة عبلة بنت عبيد بْن جاذل من بني تميم بْن مر ثم من البراجم، فأمية الأصغر وعبد أُمَيَّة ونوفل يدعون العبلات بها يعرفون،
__________
(1) راجع نسب قريش للمصعب: 97 والمعارف: 72 والحذف: 30 والاشتقاق: 73 وما بعدها وابن حزم: 67 ومختصر الجمهرة: 4/ أوما بعدها والجمهرة: 19 وما بعدها.
(2) هي أولى العواتك اللواتي يشير اليهن الرسول بقوله: «أنا ابن العواتك من سليم» ، انظر المحبر: 47- 48، 399.
(3) ط م: تعجر (في هذا الموضع) ، المصعب: نعجة، الأغاني (19: 73) : تفخر.
(4) البيت من قصيدة طويلة سيوردها البلاذري ف: 786، وانظر المصعب: 122 وابن الكلبي (الجمهرة) : 19
(5) في البلاذري: فجاد بنا، المصعب: فحلت بنا ثم قلت اعطفيه، لنا، الجمهرة: فجالت، والصواب فيما أقدره: فجاذبنا ثم قلت اعطفيه لنا، إذ الشاعر يتحدث عن لجوئه إلى أبي خالد يزيد بن معاوية، «فقلت أجرني أبا خالد» ، فجاذبه يزيد الأمر، واعتلّ عليه، فذكره ابن همام النسب «ثم قلت اعطفيه لنا يا صفيّ ويا عاتكا» وعند ذلك أسمح يزيد ورضي أن يؤمنه بسبب الرحم الشابكة وذلك حيث يقول: «فأطّت لنا رحم برّة» .(5/1)
فبنو أُمَيَّة الأصغر بمكة، وبنو عبد أُمَيَّة ونوفل بالشام، وعبد العزى بْن عبد شمس، وأمه فَاطِمَةُ «1» من حدجنة الأزد، وعبد اللَّه الأعرج بْن عبد شمس، وأمه عمرة كندية «2» ، وبالحيرة قوم من العباد يقال لهم بنو الغميني «3» يدعون أنهم من بني عبد اللَّه الأعرج بْن عبد شمس وذلك زور وباطل. وكان لعبد شمس من تعجز أميمة، تزوجها حارثة بْن الأوقص السلمي ثم خلف عليها عمرو بْن ثعلبة الكناني، وكان له من آمنة بنت وهب الأسديّة سبيعة، تزوّجها مسعود بن معتّب، وكانت له رقية، وأمها عمرة بنت كرب الكندية تزوجها أَبُو الصلت بْن ربيعة الثقفي.
[ولد أمية الأكبر بن عبد شمس]
2- فولد أُمَيَّة الأكبر «4» حرب بْن أُمَيَّة ويكنى أبا عمرو، وأبا حرب درج، وسفيان، وأبا سُفْيَان واسمه عنبسة لا عقب له، وعمرو بْن أُمَيَّة، لا عقب له «5» ، وأمهم أمة بنت أبي همهمة من ولد الحارث بْن فهر، وأبا عمرو بْن أُمَيَّة وأمه من لخم، والعاص، وأبا العاص، وكان حليما، قَالَ له قومه: اهج بني أسد بْن عبد العزي فَقَالَ «6» :
أنى أعادي معشرًا ... كانوا لنا حصنًا حصينًا
خلقوا مع الجوزاء إذ ... خلقوا ووالدهم أبونا
أبلغ «7» لديك بني أم ... ية آية نصحا مبينا
أنّا خلقنا مصلحي ... ن وما خلقنا مفسدينا
والعيص درج، وأبا العيص، وقال غير الكلبي: ولد العويص أيضًا درج، وهم الأعياص الذين يَقُول فيهم فضالة بْن شريك الأسدي «8» :
__________
(1) المصعب: وعبد العزّى بن عبد شمس ورقية بنت عبد شمس، وأمهما عمرة بنت واثلة.
(2) المصعب: وأمه أمامة بنت الجودي من كندة، ابن الكلبي: وأمه أمامة من كندة.
(3) المصعب: بنو العمي.
(4) في هذا النسب انظر المعارف: 73 وابن الكلبي: 20 والاشتقاق: 73 ونسب قريش: 98 وجمهرة ابن حزم: 78 والموفقيات: 176- 177
(5) وعمرو ... له: سقط من م.
(6) الأبيات في نسب قريش والزبير بن بكار 1: 431
(7) س: بلّغ.
(8) هو في الجمهرة، ومختصر الجمهرة 4/ ألفضالة، وفي الأغاني 1: 16، 2: 77 والخزانة 2: 65 لعبد الله ابن فضالة، وفي ابن عساكر 7: 424 والحصري: 474 لابن الزبير الأسدي وانظر ديوانه: 147 ومزيدا من التخريج ص: 146.(5/2)
من الأعياص أو من آل حرب ... أغر كغرة الفرس الجواد
3- وأم الأعياص آمنة بنت أبان بْن كليب بْن ربيعة بْن عامر بْن صعصعة، ولها يَقُول النابغة الجعدي «1» :
وشاركنا قريشا في تقاها ... وفي أنسابها شرك العنان
بما ولدت نساء بني هلال ... وما ولدت نساء بني أبان
وكانت أم سُفْيَان بْن حرب وعبد اللَّه بْن العباس هلاليتين.
4- قَالَ ابن الكلبي: فالعنابس «2» من بني أُمَيَّة: حرب وأبو حرب وسفيان وأبو سُفْيَان واسمه عنبسة، والعنبس «3» الأسد، وقال غيره: صبروا على الحرب فسموا العنابس.
5- وكان حرب شريفًا وكان ينادم عبد المطلب، ثم جرى بينهما كلام فتنافرا فنفر عليه عبد المطلب، وزعم رجل من أهل المدينة: أن حربًا لما مات كانت نساء قريش (691) تبكيه فِي كل مأتم ويقلن واحرباه واحرباه «4» ، فمكثن بذلك حينًا، ثم إن امرأة أصيبت بابنها فجعلن النساء يقلن «5» : واحرباه، فقالت: وما أصنع بحرب؟ بل واحرباه، فقلن:
واحرباه، من الحرب، واللَّه أعلم.
6- وقد كتبنا ما كان بين عبد المطلب وحرب فيما تقدم مشروحًا، وقال الشاعر فِي حرب وأبي عمرو ابني أُمَيَّة:
إما سألت من أهل مَكَّة ماجدًا ... فاسأل أبا عمرو وحرب الفاضلا
أعطى وقد بخل الجواد بماله ... هوجاء تحسبها مهاة خاذلا
__________
(1) ديوان الجعدي: 117 والمفضليات: 169 وشرح النقائض: 1018 واللسان والتاج (شرك، عنن) والحذف: 31 ومختصر الجمهرة: 4 ب والجمهرة: 20 وفيهما الثاني وحده.
(2) في تحديد العنابس انظر نسب قريش: 100 وابن الكلبي: 20 ومختصر الجمهرة: 4 ب والأغاني 1: 14 والاشتقاق: 103 والمعارف: 73 وشرح النهج 3: 499، وقد زاد فيهم ابن قتيبة: عمرا وأبا عمرو.
(3) م: والعنبسة.
(4) واحرباه: غير مكررة في س.
(5) هامش ط: أصيبت بابنها فقلن.(5/3)
أخوان مثل أبيهما للمعتفي ... قد أحرزا مجدًا قديمًا كاملا
7- وقال ابن الكلبي «1» : اختط القرية وهى فِي حرة بني سليم مرداس بْن أبي عامر، قَالَ «2» ، وقال أَبُو السائب: ابتاع حرب ومرداس القرية من خويلد بْن مطحل الهذلي «3» ، وقال أبي: اختطها مرداس وكليب بْن عهمة «4» الظفري من بني سليم فلم يكن عندهما نفقة فجعلا لحرب ثلثها على أن ينفق عليها فَقَالَ مرداس «5» :
إني انتجبت لها حربا وإخوته ... وكان حرب لما قد عالنا آس
إني أقدم قبل الأمر حجته ... كيما يقال ولي الأمر مرداس «6»
ومات حرب ومرداس فغلب على القرية كليب بْن عهمة فَقَالَ عباس بْن مرداس «7» :
أكليب ما لك كل يَوْم ظالمًا ... والظلم أنكد وجهة ملعون
قَدْ كَانَ قومك يحسبونك سيدًا ... وإخال أنك سيد مفتون «8»
إن القرية قد تبين أمرها ... إن كان ينفع عندك التبيين
[ولد حرب بن أمية]
8- فولد «9» حرب بْن أُمَيَّة أبا سُفْيَان بْن حرب، واسمه صخر، والفارعة، أمهما صفية بنت حزن بْن بجير بْن الهزم الهلالي، وعمرو بن حرب، وأمّ جميل بنت حرب، هي حمالة الحطب، أمها فاخته بنت عامر بن معتّب الثقفي، وأميمة، وأمّ الحكم،
__________
(1) معجم ما استعجم: 1071
(2) اختط.. قال: سقط من م وهو بهامش ط.
(3) في شعراء الهذليين: أبو خويلد معقل بن خويلد بن واثلة بن مطحل، وانظر الشعر والشعراء: 556 والتاج (طحل) والمنمق: 159 وفيه خويلد بن واثلة بن مطحل.
(4) شرح النقائض: 907 كليب بن أبي عهمة.
(5) الأغاني 6: 322 والمنمق: 160 وتهذيب ابن عساكر 7: 265
(6) المنمق:
ثم المقدم دون الناس حاجته ... إني لعقد شديد العقد دساس
(7) ديوان العباس بن مرداس: 108 وفيه التخريج.
(8) ترد في المصادر: «معيون» وفي بعضها: «مغبون» .
(9) انظر المصعب: 123 والمعارف: 73(5/4)
وفاختة، لأمّهات شتّى، والحارث، أمّه يمانية، فدرج عمرو والحارث، وكانت الفارعة عند شيبة بْن ربيعة بْن عبد شمس ثم خلف عليها الأسود بْن المطلب بْن أسد بْن عبد العزى، وكانت أم جميل عند أبي لهب بْن عبد المطلب، وكانت فاختة عند جثامة الليثي «1» ثم تزوجها عتبة بْن غزوان من ولد مازن بْن منصور أخي سليم بْن منصور، وكان لحرب الضهياء «2» ، تزوجها بشر بن عبد الملك السكوني «3» .
[ولد أبو سفيان صخر بن حرب]
9- فولد أَبُو سُفْيَان صخر بْن حرب مُعَاوِيَة، وعتبة بْن أبي سُفْيَان «4» ، وكان يضعف، وشهد الجمل مع عَائِشَة رَضِيَ اللَّه تعالى عنها وهرب فحمله عصمة بْن أبير من تيم الرباب «5» حتى أتى المدينة، ثم ولاه مُعَاوِيَة مصر، وقال جرير:
وفي ابن أبير والرماح شوارع ... لآل أبي العاصي وفاء مشهرا
ولابن أبي سفيان عتبة بعد ما ... رأى الموت قد أنحي عليه فعسكرا
وجويرية «6» ، تزوجها السائب بْن أَبِي حُبيش بْن المطلب بْن أسد بْن عَبْد العُزى ثم عبد اللَّه «7» بْن الحارث بْن أُمَيَّة الأصغر، وأم الْحَكَمِ «8» ، تزوجها عبد اللَّه بْن عثمان الثقفي فولدت لَهُ عبد الرحمن بْن أم الحكم، ولاه مُعَاوِيَة الكوفة وولّاه الجزيرة والموصل «9»
__________
(1) جثامة واسمه زيد بن قيس بن ربيعة بن عبد الله بن يعمر الليثي وعند الآمدي: جثامة بن قيس بن عبد الله، (وانظر ابن حزم: 181) ويعمر هو الشداخ بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث، ومن ولد جثامة: الصعب بن جثامة وله رواية وصحبة (ابن حزم: 181 والاصابة: 3: 243) ، وجاء في نسب قريش عند ذكر فاختة: ثم خلف عليها غزوان بن جابر بن نسيب المازني فولدت له فاختة بنت غزوان اخت عتبة بن غزوان.
(2) في ط م: الصهباء، س: الضهباء.
(3) بشر بن عبد الملك: هو أخو اكيدر صاحب دومة الجندل، ويقال إنه هو الذي علم أبا سفيان ورجالا بمكة الخطّ (الاشتقاق: 372 والمحبر: 475) .
(4) في عتبة هذا انظر الطبري 1: 3219 والاصابة 5: 79 والمصعب: 125 وقد عده ابن حبيب في الحمقى الذين لم ينجبوا (المحبر: 379) ولم يرد الشعر منسوبا لجرير في المصادر، كما لم يرد في ديوانه أو في شرح النقائض.
(5) انظر ابن حزم: 199.
(6) المحبر: 104 والمصعب: 125 واسم أبي حبيش أهيب بن المطلب بن أسد.
(7) المصعب: عبد الرحمن.
(8) م س: حكيم.
(9) قوله الجزيرة والموصل مما يستحق التوقف، إذ الجزيرة كانت أقساما ثلاثة أحدها دياربكر ومدينتها الموصل (لسترانج: 87) ، وأما ولايته مصر فلم تتمّ لأنّ معاوية بن حديج لقيه قبل وصوله إليها وحثه على العودة إلى الخليفة، انظر النجوم الزاهرة 1: 151 وأسد الغابة 3: 287 (من تعليقات طبعة القدس) .(5/5)
ومصر، وأمهم جميعا هِنْد بنت عُتْبة (692) بْن رَبِيعَة بْن عَبْدِ شمس بْن عَبْد مَناف، وحنظلة ابن أبي سُفْيَان، قتل يوم بدر كافرًا «1» ، وأم حبيبة، واسمها رملة الكبرى، وهي زوج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد كتبنا خبرها فِي الأزواج، وآمنة «2» ، تزوجها حويطب بْن عبد العزى العامري من قريش «3» ثم صفوان بْن أميَّة الجُمَحي ثم المُغيرة بْن شُعْبة الثقفي، أمهم صَفيَّة بنت أبي العاص بْن أُمَيَّة، وعمرو بْن أبي سُفْيَان «4» ، أسر يوم بدر فأطلق برجل من المسلمين أسره المشركون فأطلقوه، ولا عقب له، وهندًا، تزوجها الحارث بْن نوفل بْن الحارث بْن عَبْد المطلب، وصخرة، أمهم أم عمرو بنت أبي عمرو بْن أُمَيَّة، وعنبسة بْن أبي سُفْيَان، ومحمدًا، أمّهما عاتكة بنت أبي أزيهر «5» الدوسي، ومحمد بْن أبي سُفْيَان القائل:
أؤمل هندًا «6» أن يموت ابن عامر ... ورملة يومًا أن يطلقها عمرو
يعني رملة بنت مُعَاوِيَة وهند بنت مُعَاوِيَة ويعني عمرو بْن عثمان بْن عفان. وكانت لعثمان بْن محمد بْن أبي سُفْيَان ابنة عند الوليد بْن يزيد بْن عبد الملك فولدت له عثمان بايع له بالعهد، وكانت هِنْد بنت مُعَاوِيَة عند عبد اللَّه بْن عامر بْن كريز، ويزيد الخير ابن أبي سُفْيَان، أمه من كنانة، ولاه أَبُو بَكْر بْن أبي قحافة بعض الشام ولا عقب له، ورملة الصغرى، أمها أميمة بنت الأشيم الكنانية، تزوجها سَعِيد بْن عثمان بْن عفان ثم عمرو بْن سَعِيد الأشدق بْن سَعِيد بْن العاص، وميمونة، أمها شمسة، هلالية «7» .
10- وقال الكلبي «8» وغيره: كان أَبُو سُفْيَان قائد قريش في حروبها للنبيّ صلّى الله
__________
(1) قارن بابن حزم: 111، والعثمانية: 71 والمصعب: 123.
(2) المصعب: وأميمة، وذكر في الاصابة 8: 3 أن اسمها أميمة أيضا.
(3) خ بهامش ط س: من قيس، وانظر المحبر: 91 (ابن أبي قيس) .
(4) انظر الطبري 1: 1345 والمصعب: 126.
(5) ط س م: أزيهير.
(6) هكذا وردت الرواية هنا، وسيورده المؤلف رقم: 243: «أيرجو ابن هند» وينسب البيت إلى عبد الرحمن ابن أم الحكم، وانظر تهذيب ابن عساكر 2: 232 حيث نسب لابان بن عثمان بن عفان، وروايته: «تربص بهند» ، وكذلك نسب لابان في ربيع الأبرار: 392 ب.
(7) المصعب: أمها لبابة بنت أبي العاصي بن أمية.
(8) المصعب: 122 والطبري 1: 1983 واليعقوبي 2: 81، 136(5/6)
عليه وسلم ثم أسلم، وقد ورد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّة قبل أن يدخلها ويفتحها، وولاه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نجران فقبض وهو عليها، وقال أَبُو اليقظان: ولاه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صدقات الطَّائِف.
11- الْمَدَائِنِيّ عَنْ مسلمة بْن محارب قَالَ: كانت هِنْد بنت عتبة قبل أبي سُفْيَان عند حفص بْن المغيرة بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن مخزوم، ثم خلف عليها الفاكه بْن المغيرة فقتلته بنو كنانة بالغميصاء «1» فِي الجاهلية، ويقال: بل تزوجها الفاكه بْن حفص «2» ثم خطبها أَبُو سُفْيَان وسهيل بْن عمرو فأخبرها أبوها بذلك، وقال: خطبك من قومك كفآن كريمان، فقالت: صفهما لي، فَقَالَ: أحدهما سهيل بْن عمرو وهو موسر سخي سيد مفوض يحكم فِي ماله، والآخر أَبُو سُفْيَان بْن حرب وهو شريف سيد حازم، قالت:
الحازم أحبهما إلي، فتزوجها أَبُو سُفْيَان فولدت له مُعَاوِيَة، وعتبة، وأم الحكم، ويقال «3» إنه قَالَ لها: قد خطبك رجلان، أما أحدهما فخضم تخالين به غفلة للينه، ليس بالغضبة الغلق ولا المغيار النزق، وأما الآخر ففي الحسب الحسيب والرأي الأريب، شديد الغيرة سريع الطيرة، مكرم للكريمة حسن الصحبة وكيد العهد، فاختارته.
12- حَدَّثَنَا الْمَدَائِنِيّ قَالَ: مر حمزة بْن عبد المطلب على نفر من بني مخزوم فلاحاه رجل منهم فذكر المخزومي نساء من نساء بني عبد مناف فضربه حمزة فقتله، وأتى أبا سُفْيَان فأخبره، فأتى أَبُو سُفْيَان بني مخزوم فعرض عليهم ثلاث ديات بصاحبهم «4» فلم يقبلوها، فانصرف عنهم يومه، فلما كان من الغد جاءوا يطلبون الديات الثلاث، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: القوم يأبون أنْ يعطوا أكثر من ديتين، فأبوا ورجعوا، فلما كان الغد جاءوا يطلبون الديتين فَقَالَ: (693) إن القوم أبوا أن يعطوا إلا دية واحدة، فأبوا ورجعوا، فلما كان الغد عادوا فطلبوا الدية فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: إن القوم قد أَبُو الدية، وهذا قتيل لا دية له، فطلّ دمه.
__________
(1) م ط: بالعميصاء، وانظر البكري: 1006.
(2) م: الفاكه ثم حفص.
(3) قارن بالاصابة 8: 205 وأمالي القالي 2: 104 وابن بدرون: 170.
(4) م: لصاحبهم.(5/7)
13 [13]- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: أتى أَبُو سُفْيَان عُمَر بْن الخطاب فسأله شيئًا فَقَالَ: أتسألني وأنت حميت ينطف؟) 14 [14]- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الشَّامِ وَمَعَهُ هِنْدٌ «1» وَمُعَاوِيَةُ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ مَكَّةَ لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِمُعَاوِيَةَ: انْزِلْ يَرْكَبْ مُحَمَّدٌ، فَقَالَتْ هِنْدٌ: أَيَنْزِلُ ابْنِي لِهَذَا الصَّابِئِ؟! قَالَ: نَعَمْ إِنَّهُ خَيْرٌ مِنْكِ وَمِنِّي وَمِنَ ابْنِكِ، [فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَسْلِمْ يَا أَبَا سُفْيَانَ، وَأَنْتِ يَا هِنْدُ فَأَسْلِمِي، فَإِنِّي أَضِنُّ بِكُمَا عَنِ النَّارِ] .
15 [15]- قَالَ: وَأُصِيبَتْ عَيْنُ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالطَّائِفِ فَقَالَ [لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ لَكَ بِهَا عَيْنًا فِي الْجَنَّةِ،] وَعَمِيَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ.
16 [16]- قَالَ: وَلَطَمَ أَبُو جَهْلٍ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَأَتْ أَبَا سُفْيَانَ فَشَكَتْ إِلَيْهِ، فَرَجَعَ مَعَهَا إِلَيْهِ وَقَالَ: الْطُمِيهِ قَبَّحَهُ اللَّهُ، فَلَطَمَتْهُ، فَقَالَ:
أَدْرَكَتْكُمُ «2» الْمُنَافِيَةُ يَا أَبَا سُفْيَانَ. وَأَخْبَرَتْ فَاطِمَةُ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَانَ مِنْ أَبِي جَهْلٍ وَمِنْ أَبِي سُفْيَانَ [فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا تَنْسَهَا لأَبِي سُفْيَانَ] .
17 [17]- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّة قَالَ: أَفَاضَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ يَمِينِهِ أَبُو سُفْيَانَ وَعَنْ يَسَارِهِ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَبَيْنَ يَدَيْهِ يَزِيدُ وَمُعَاوِيَةُ ابْنَا أَبِي سُفْيَانَ عَلَى فَرَسَيْنِ.
18 [18]- وقالوا: لما حج أَبُو بَكْر رضي اللَّه عنه حج معه أَبُو سُفْيَان، فكلمه أَبُو سُفْيَان فرفع أَبُو بَكْر صوته، فَقَالَ أَبُو قحافة لأبي بَكْر: يا بني اخفض صوتك عند ابن حرب،
__________
[13] هذه الفقرة زيادة من ط وحدها، وفي الحاشية: الحميت: الزق الذي لا شعر عليه، ينطف: يقطر.
[14] قارن بابن عساكر 6: 394 وكنز العمال 7: 94.
[15] فتوح البلدان: 66 والمعارف: 175 والاستيعاب 2: 714 وابن عساكر 6: 393، 406 والاصابة 3: 238
[16] ابن عساكر 6: 394
[17] إمتاع الأسماع 1: 524.
[18] ابن عساكر 6: 406 وشرح النهج 1: 222 والمروج 4: 179 ومشاكلة الناس: 2
__________
(1) ومعه هند: مكرر في م.
(2) هامش ط: أدركتك.(5/8)
فَقَالَ أَبُو بَكْر: إن اللَّه قد هدم بالإسلام بيوتًا، وبيت أبي سُفْيَان مما هدم، وبنى بالإسلام بيوتًا مهدومة فِي الجاهلية، وبيتك مما بناه.
19 [19]- قالوا: واستعدى رجل من بني مخزوم عُمَر بْن الخطاب على أبي سُفْيَان وقال: ظلمني في حدّ فحجّ عمر ووقف على الحد، فَقَالَ لأبي سُفْيَان: ضع العلامة هاهنا، فَقَالَ: واللَّه لا أفعل، فَقَالَ عُمَر: واللَّه لتفعلن، فأبى فضربه بالدرة حتى حوله، فاستقبل أَبُو سُفْيَان القبلة ثم قَالَ: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أدخل قلبي من الإسلام ما ذللني لعمر بْن الخطاب، فكأن عُمَر تذمم مما فعل بأبي سُفْيَان، رضي اللَّه عنهما.
20 [20]- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ نَازَعَ عُمَرَ فِي أَرْضٍ فَنَادَى أَبُو سُفْيَانَ يَا لِقُصَيٍّ، فَخَفَقَهُ عُمَرُ بِالدِّرَّةِ وَقَالَ: أَتَدْعُو بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ!! فَقَالَتْ هِنْدٌ: يَا عُمَرُ أَتَضْرِبُ ابْنَ حَرْبٍ؟! أَمَا لَرُبَّمَا رُمْتَ ذَلِكَ مِنْهُ فَاقْشَعَرَّتْ بُطُونُ الْبَطْحَاءِ، فَقَالَ عُمَرُ: الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي أَبْدَلَنَا بِذَلِكَ الْيَوْمِ خَيْرًا مِنْهُ.
21 [21]- حَدَّثَنِي الْعُمَرِيُّ عَنِ الْهَيْثَمِ عَنِ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ الأَيْلِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ قال: لَمَّا هَلَكَ عُمَرُ وَجَدَ عُثْمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ أَلْفَ دِينَارٍ قَدْ كُتِبَ عَلَيْهَا: عَزْلٌ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، فَقَالَ لأَبِي سُفْيَان: اقْبِضْهَا، فَأَبَى وَقَالَ: لَوْ رَآهَا عُمَرُ وَاجِبَةً لِي لَبَعَثَ بِهَا إِلَيَّ.
22 [22]- وحدثت عَنْ مالك بْن أنس قَالَ: رأى مُعَاوِيَة عُمَر بْن الخطاب يحبس الناس فبعث إليه من الشام بأدهم، أو أداهم، وبعث معه بدنانير وقال للرسول: ادفع ذلك إلى أبي سُفْيَان حتى يتولى إيصاله إلى أمير المؤمنين، فأوصل الأدهم، أو الأداهم، واختزل الدنانير، فسأله عُمَر عنها فَقَالَ: إني احتجت إليها فقضيت منها دينًا وأنفقت الباقي، فَقَالَ عُمَر: ضعوا رجل أبي سُفْيَان فِي الأدهم، فوضع فيه حتى أتى بالدنانير، فبلغ مُعَاوِيَة ذلك فَقَالَ: واللَّه لو أنه الخطاب لفعل به مثل (694) ما فعل بأبي سفيان.
__________
[19] ألف باء 1: 539 وكنز العمال 6: 356 ونكت الهميان: 173 وسيرة عمر لابن الجوزي: 72
[20] قارن بتاريخ مكة للأزرقي 1: 442 وابن عساكر 6: 407 والعقد 1: 50 والفائق 2: 124 واللسان ونهاية ابن الأثير (قشعر) .
[21] ابن عساكر 6: 407 وقارن بالعقد 1: 49، والطبري 1: 2766.
[22] انظر ابن عساكر (الحاشية السابقة) والعقد 1: 48- 49.(5/9)
23- حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بْن عدي عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ وَهُوَ يَتَغَدَّى، فَذَكَرْتُ لَهُ حَاجَتِي ثُمَّ قُلْتُ: فَمَا مَنَعَكَ مِنْ أَنْ تَدْعُوَنِي إِلَى غَدَائِكَ؟ فَقَالَ: إِنَّمَا وُضِعَ الطَّعَامُ لِيُؤْكَلَ، فَإِنْ كَانَتْ بِكَ إِلَيْهِ حَاجَةٌ فَكُلْ.
24- الْمَدَائِنِيّ قَالَ، [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لعكرمة بْن أبي جهل: أقاتلتني وأنت تعلم أني رسول اللَّه؟ قَالَ: لا، وقال لأبي سُفْيَان مثل ذلك فَقَالَ: علمت أنك صدوق لا تكذب، وإنما قاتلناك لأنك تعلم حالي فِي قريش وجئت بأمر لا يبقى معه شرف، فقاتلناك حمية وكراهة لأن تذهب شرفي] .
[25 [25]- المدائني عَنْ مسلمة بْن محارب قَالَ: أذن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومًا وأبطأ الإذن لأبي سُفْيَان، فلما دخل قَالَ: يا رسول اللَّه ما كدت تأذن لي حتى تأذن لحجارة الجلهتين، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا أبا سُفْيَان كل الصيد فِي جنب الفراء،] والفراء حمار الوحش.
26- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: أناخ رجل من أهل اليمن ناقته بالحزورة وقال: لا ينحرها إلا أعز أهل الوادي، فَقَالَ عتبة بْن ربيعة بْن عبد شمس لأبي سُفْيَان: أنت أعز أهل الوادي، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: من تكن عمه يا أبا الوليد يكن أعز أهل الوادي.
27- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ مُجَاهِدٍ عَنْ عَنْبَسَةَ بْنِ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ، [قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي سُفْيَانَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ: أَلَمْ يُتَمِّمِ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ وَأَنْتَ كَارِهٌ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، فَمَا هَاجَتْكَ بِحَمْدِ اللَّهِ جَمَّاءُ وَلا ذَاتُ قَرْنٍ] .
28 [28]- قالوا «1» : قدم «2» أَبُو سُفْيَان من الشام، والنبي صلى اللَّه عليه وسلم يدعو سرّا،
__________
[25] فصل المقال: 10 والميداني 2: 54، 107 والعسكري 1: 165، 2: 162 والعقد 2: 289 والأغاني 6: 324 وتمام المتون: 337 والبيان 2: 16 والحيوان 1: 164 والكامل 1: 319 والمجتنى: 14 وشرح السبع الطوال: 451 والنهاية (فرأ، جلهم) والفائق (جلهم) وياقوت 2: 108 واللسان (فرأ، جله، جلهم) ومقاييس اللغة 4: 498 وسرح العيون: 314 ويقال إن المثل إنما قيل في أَبِي سُفْيَان بْن الْحَارِث بْن عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
[28] ابن كثير، السيرة 1: 127- 128
__________
(1) ط م: وقالوا.
(2) م: وقدم.(5/10)
ومع أبي سُفْيَان بضاعة للنبي صلى اللَّه عليه وسلم، فلم يسأله عنها، فتعرض له أَبُو سُفْيَان فَقَالَ: يا ابْن عبد اللَّه أما تريد بضاعتك لا أراك تذكرها، [قَالَ: يا أبا سفيان إنه لا بدّ من أن يكون فيها ربح أو وضيعة، وأي ذلك كان فأنت مؤد فيه الأمانة إن شاء الله] .
29 [29]- وقال الهيثم بن عدي كان أَبُو سُفْيَان تحت راية ابنه بالشام، فخفيت الأصوات وأبو سُفْيَان يَقُول: يا نصر اللَّه اقترب.
30 [30]- حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ الْهَيْثَمِ عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ أَبَا سُفْيَانَ عَلَى السَّبْيِ يَوْمَ حُنَيْنٍ.
31 [31]- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: لما توفي أَبُو بَكْر وولي عُمَر ولى يزيد بْن أبي سُفْيَان بعد وفاة أبي عبيدة بْن الجراح الشام، فقدم مُعَاوِيَة من الشام على عُمَر وقد حج عُمَر، فدخل عليه مُعَاوِيَة فَقَالَ له عُمَر: متى قدمت؟ قَالَ: الآن، وبدأت بك، قَالَ: فأت أبويك وابدأ بهند، فانصرف مُعَاوِيَة فبدأ بهند، فقالت له: يا بني إنه واللَّه قل ما ولدت حرة مثلك، وقد استنهضكم هذا الرجل فاعملوا بما يوافقه واجتنبوا ما يكرهه «1» ، وقال له أَبُو سُفْيَان: إن هؤلاء الرهط من المهاجرين سبقوا «2» وتأخرنا، فرفعهم سبقهم وقصر بنا تخلفنا، وصاروا قادة وصرنا أتباعًا، وقد ولوكم «3» جسيمًا من أمرهم فلا تخالفوهم، وإنك تجري إلى أمد لم تبلغه وستبلغه.
32- قالوا: ومشى مُعَاوِيَة بمكة مع عُمَر يومًا، وعمر راكب، فقلن نسوة من قريش: ابن حنتمة راكب وابن هِنْد راجل.
33 [33]- قَالَ الْمَدَائِنِيّ عَنْ مسلمة: شخص أَبُو سُفْيَان إلى مُعَاوِيَة وهو على الشام بعد يزيد أخيه ومعه عتبة وعنبسة، فكتبت هِنْد إليه: قد قدم عليك أبوك وأخواك، فاحمل
__________
[29] قارن بالطبري 1: 2095 وابن عساكر 6: 406 وأسد الغابة 5: 216 وربيع الأبرار: 285/ أو نكت الهميان: 173 والاصابة 2: 238 وابن كثير 7: 14 والاستيعاب: 714
[30] ابن عساكر 6: 405 وامتاع الأسماع 1: 415.
[31] بعضه في العقد 1: 12، 4: 365 وابن كثير 8: 118
[33] القول في البغال: 113
__________
(1) العقد: أحببت ذلك أم كرهته.
(2) العقد وابن كثير: سبقونا.
(3) العقد: وقد قلدوك، ابن كثير: وقد ولوك.(5/11)
أباك على فرس وأعطه أربعة آلاف درهم، واحملْ عُتْبة على بَغل وأعطِه ألَفْي درهم (695) واحمل عنبسة على حمار وأعطه ألف درهم، ففعل، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: أشهد أن هذا عن رأي هِنْد.
34 [34]- الْمَدَائِنِيّ عَنْ مسلمة قَالَ: قبض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم وأبو سُفْيَان على صدقة نجران فَقَالَ: من قام بالأمر؟ قالوا: أَبُو بَكْرٍ، قَالَ: أَبُو الْفَصِيلِ؟! أَنِّي لأَرَى أمرًا لا يسكنه إلا الدم.
35 [35]- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: [أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِلا فَأَثْنَى وَشَكَرَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: لكن أبو سُفْيَانَ لَوْ أُعْطِيَ لَمْ يُثْنِ وَلَمْ يَشْكُرْ] .
36 [36]- حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ قَالَ: [أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، وَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ، فَقَالَ رَجُلٌ: أَعْطَى هَؤُلاءِ وَتَرَكَ جُعَيْلا، فَقَالَ: أُعْطِي هَؤُلاءِ لأَتَأَلَّفَ قُلُوبَهُمْ وَأَكِلُ جُعَيْلا إِلَى مَا جَعَلَ الله عنده] «1» .
37 [37]- وَرَوَى هِشَامُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسِ بن أبي حَازِمٍ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ دَخَلَ عَلَى عُثْمَانَ وَهُوَ مَكْفُوفٌ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُوَ يَقُولُ: تَلَقَّفُوهَا يَا بَنِي أُمَيَّةَ «2» تَلَقُّفَ الْكُرَةِ فما الأمر على ما تقولون «3» .
__________
[34] قارن بالعقد 2: 51، والطبري 1: 1827، 1983 وابن الأثير 2: 246 واليعقوبي 2: 140 والاستيعاب: 714.
[35] سيرد فيما بعد رقم: 414، وانظر قوت القلوب 4: 99
[36] ابن هشام 1: 268 والأغاني 14: 290 والطبري 1: 1679
[37] الطبري 3: 2170 والمروج 4: 274 والأغاني 6: 334 (برواية مختلفة) 335 وشرح النهج 3: 443، 1: 130 والفائق 1: 535 واللسان والنهاية (زقف) .
__________
(1) في المصادر: وأكل جعيلا إلى إسلامه.
(2) الطبري: يا بني عبد مناف.
(3) لعل الصواب: يقولون، والتاء غير معجمة في ط.(5/12)
38- حَدَّثَنِي أَبُو صَالِحٍ الْفَرَّاءُ عَنِ الْحَجَّاجِ بْن مُحَمَّد عَن ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: لَمَّا ارْتَدَّتِ الْعَرَبُ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا لِغَالِبِ «1» الدِّينِ الْعَتِيقِ.
39- وَرُوِيَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ، قَالَ أَبُو سُفْيَانَ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَلَقَّفُوهَا الآنَ تَلَقُّفَ الْكُرَةِ فَمَا مِنْ جَنَّةٍ وَلا نَارٍ.
40 [40]- قَالُوا: وَحَجَبَ عُثْمَانُ أَبَا سُفْيَانَ فَقِيلَ لَهُ: حَجَبَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لا عَدِمْتُ مِنْ قَوْمِي مَنْ إِذَا شَاءَ حَجَبَ «2» .
41 [41]- وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: مَاتَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ ثَلاثِينَ قَبْلَ قَتْلِ عُثْمَانَ بِخَمْسِ سِنِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثٍ وَتِسْعِينَ، وُلِدَ قَبْلَ الْفِيلِ بِعَشْرِ سِنِينَ، وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ أَسَنَّ مِنْهُ بِثَلاثِ سِنِينَ، وَقَالَ غَيْرُ الْوَاقِدِيِّ «3» : مَاتَ سَنَةَ إِحْدَى وَثَلاثِينَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، وَيُقَالُ: إِنَّهُ مَاتَ سَنَةَ ثَلاثٍ وَثَلاثِينَ.
42 [42]-
وأما مُعَاوِيَة بْن أبى سُفْيَان
ويكنى أبا عبد الرحمن فأسلم فِي الفتح، وقال: لقد دخل الإسلام قلبي ولكن أبوي كانا يقولان لئن أسلمت لنمنعنك القوت. وولاه عُمَر الشام بعد أخيه يزيد، وولاه عثمان الشام فِي خلافته فلما قتل أظهر الطلب بدمه، وقد كتبنا خبر محاربته عليًا حين طلب قتله عثمان وصلحه الحسن.
43- وَحَدَّثَنِي «4» الْمَدَائِنِيُّ عَن سُحَيْمِ بْنِ حَفْص «5» قَالَ: أَتَى رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ لِي سِنًّا وَسَابِقَةً وَقَرَابَةً، فَقَالَ: أَمَّا السِّنُّ فَبَيِّنَةُ الأَثَرِ عَلَيْكَ، وَأَمَّا سَابِقَتُكَ فَقَدْ عَرَفْنَاهَا، فَمَا الْقَرَابَةُ؟ قَالَ: ولدتني وولدتك فلانة، فقال: صدقت، وأنشد:
__________
[40] عيون الأخبار 1: 83 ومحاضرات الراغب 1: 102 وبهجة المجالس 1: 266 وربيع الأبرار: 377 ب وشرح النهج 4: 143 ونهاية الأرب 6: 88 والعقد 1: 71.
[41] انظر ما يلي رقم: 386 وفتوح البلدان: 160 والطبري 1: 2871 وابن الأثير 3: 102 والاصابة 3: 238 وابن عساكر 6: 407
[42] المعارف: 177 والاصابة 6: 113.
__________
(1) ط م س: ياء ال غالب.
(2) المصادر: من إذا شاء أن يحجبني حجبني.
(3) هذا هو قول الواقدي في الفتوح وعند الطبري، فقوله «غير الواقدي» يستدعي توقفا.
(4) ط م: وحدثنا.
(5) بن حفص: سقطت من م.(5/13)
قَبَّحَ الإِلَهُ عَدَاوَةً لا تُتَّقَى ... وَقَرَابَةً يُدْلَى بِهَا لا تَنْفَعُ «1»
وَوَصَلَهُ.
44 [44]- الْمَدَائِنِيُّ عَنِ ابْنِ جَعْدَبَةَ قَالَ: قَدِمَ مُعَاوِيَةُ الْمَدِينَةَ حَاجًّا فَأَتَاهُ سعية بن عريض «2» فَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ بِالْحَقِّ الَّذِي كَانَ بَيْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَبَيْنَ أَبِي إِلا نَزَلْتَ عِنْدِي، فَأَتَاهُ، فَلَمَّا حَضَرَ الْغَدَاءُ جَاءَ الطَّبِيبُ فَجَعَلَ يَقُولُ: كُلْ ذَا وَدَعْ ذَا حَتَّى أُتِيَ بحيس، فقال ابن عريض: هَذَا أَقِطُ جُهَيْنَةَ وَسَمْنُ مُزَيْنَةَ وَتَمْرُ نَاعِمَةَ، فَقَالَ: طَيِّبَاتٌ جُمِعْنَ مِنْ شَتَّى، وَأَكَلَ.
45 [45]- قالوا: واستعمل مُعَاوِيَة النعمان بْن بشير على الكوفة فكتب إليه مُعَاوِيَة يأمره أن يلحق لأهل الكوفة فِي أعطياتهم زيادة (696) عشرة دنانير عشرة دنانير فكان ينفذ بعضًا ويرد بعضًا ويقول: أنا قفل مفتاحه بالشام، وكان يكثر تلاوة القرآن على المنبر ويقول: إن فقدتموني لم تجدوا أحدًا يحدثكم عَنْ رَسُول اللَّه صَلَّى الله عليه وسلم. ثم جاءوا بكتب من مُعَاوِيَة فعمهم بالزيادة، فَقَالَ ابن همام السلولي:
أفاطم قد طال التدلل والمطل ... أجدك لا صرم جلي ولا وصل
زيادتنا نعمان لا تحبسنها «3» ... تق اللَّه فينا والكتاب الذي تتلو
__________
[44] انظر بعضه في المستطرف 1: 165.
[45] انظر ما يلي رقم: 398 والأغاني 14: 120، وأبيات ابن همام السلولي وردت متفرقة في المصادر، فالأبيات 2، 4، 6- 8 في الحماسة البصرية 2: 271 و 2- 9 في الاغاني 14: 120 والبصائر 2: 177- 179 والبيتان 2، 10 في نوادر أبي زيد: 4 وأمالي القالي 2: 279 وفاضل المبرد: 79، والبيتان 4، 5 في مجموعة المعاني:
110، والبيتان 8- 9 في الكامل 1: 55 ونهاية الرتبة: 7 وألف باء 2: 181 والسمط: 923 والبيت الثاني في السمط: 923 ولسان العرب 5: 90، 20: 282 وطفيل: 45 ومعاني الفراء 2: 410 ونوادر أبي زيد: 27 والرماني: 43 وأمالي ابن الشجري 1: 205 وجامع الشواهد 2: 37 والبيت الثامن في مجالس ثعلب: 515 وياقوت 1: 927 ولسان العرب 9: 484، 12: 193، 13: 88 والأصمعي: 82 والمسائل والأجوبة: 24 والمخصص 1: 25، 7: 191 وشرح السبع الطوال: 270 وشمس العلوم 1: 250 والتاسع في أضداد ابن الانباري: 40 واللسان 13: 58 والسمط: 108 والبيت العاشر في اللسان 13: 58 والاتباع: 86، 87 وأضداد أبي الطيب 1: 34- 35.
__________
(1) البيت في الصداقة والصديق: 51 والعقد 2: 366، 3: 16 وهو ينسب فيه إلى أبي تمام، والموازنة 1: 132 وهو منسوب إلى ذرّ بن أربد، وانظر أيضا المحاسن والمساوى: 173.
(2) سعية بن غريض (بالغين المعجمة في الأشهر) ، انظر ترجمته في الأغاني 22: 114 وابن عساكر 6: 157
(3) في بعض المصادر: لا تحرمننا.(5/14)
فإنك قد حملت فينا أمانة ... وقد عجزت عنها الصلادمة البزل
فلا تك باب الشر تحسن فتحه ... علينا وباب الخير أنت له قفل
وقد نلت سلطانًا عظيمًا فلا تكن ... لغيرك جمات الندى ولك البخل «1»
وأنت امرؤ حلو اللسان بليغه ... فما باله عند الزيادة لا يحلو
وقبلك ما كانت علينا أئمة ... يهمهم تقويمنا وهم عصل
يذمون دنيانا «2» وهم يرضعونها ... أفاويق حتى ما لنا منهم سجل «3»
إذا نطقوا بالقول قالوا فأحسنوا ... ولكن حسن القول خالفه الفعل
أينفذ ما زيدوا وتمحى زيادتي ... فما إن دمي (إن) ساغ هذا «4» لكم بسل
أبى لي كتاب اللَّه والدين والتقى ... وبالشام إن حكمته الحكم العدل
أريد أمير المؤمنين فإنه ... على كل أنحاء الرجال له الفضل
مهاجرة الأقوام يرجون فضله ... وهلاك أعراب أضر بها المحل «5»
46 [46]- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: كتب مُعَاوِيَة إلى زياد: إن حولك مضر وربيعة واليمن، فأمّا مضر فوَلِّهِم الأعمال واحمل بعضَهم على رقاب بعض، وأمّا ربيعة فأكرم أشرافهم فإن أتباعهم منقادون لهم، وأما اليمن فأكرمهم فِي العلانية وتجاف عنهم فِي السر.
47 [47]- وقال هشام بْن عمار: سأل بعض قريش مُعَاوِيَة شيئًا فأعطاه إياه، ثم سأله شيئًا آخر فأعطاه، ثم سأله شيئا ثالثًا فمنعه، فلم يزل ملحًا عليه حتى أعطاه ذلك، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين إن الضجور تحلب العلبة، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: نعم وربما زبنت الحالب وكسرت أنفه.
__________
[46] سيرد فيما يلي رقم: 552
[47] انظر محاضرات الراغب 1: 261 واللسان والتاج والأساس (ضجر) والنهاية (عصب، زين) والمستقصى 1: 407 والفائق 2: 158
__________
(1) البصائر: نداك لقوم غيرنا ولنا البخل.
(2) في اكثر المصادر: وذموا لنا الدنيا.
(3) في رواية: حتى ما يدرّ لها ثعل.
(4) سقطت «إن» من ط م س، وفي بعض الروايات: دمي إن اسيغت (إن أحلت) هذه لكم بسل.
(5) ط س: الهزل، وفي حاشية ط س: خ المحل وفوقها في ط «معا» .(5/15)
48 [48]- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الزِّيَادِيِّ قَالَ: ذُكِرَ النِّسَاءُ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ فَقَالَ مَنْ أَرَادَ النَّجَابَةَ فَعَلَيْهِ بِالْمَشْرِقِ، وَمَنْ أَرَادَ الْخِدْمَةَ فَعَلَيْهِ بِالْمَغْرِبِ، ومن أَرَادَ اللَّذَاذَةَ فَعَلَيْهِ بِالْبَرْبَرِ، قِيلَ فَالْمُوَلَّدَاتُ؟ قَالَ: إِذَا شَبِعَتْ إِحْدَاهُنَّ فَلَيْسَ هِمَّتُهَا إِلا التَّشَرُّفَ.
49- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: قَدِمَ مَالِكُ بْنُ هُبَيْرَةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ مسلم ابن الْحَارِثِ بْنِ الْمُخَصَّفِ السَّكُونِيُّ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ لَهُ: كَيْفَ رَأَيْتَ قَوْمِي بِالْحِجَازِ؟
قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ فَرَأَيْتُهُ رَجُلَ نَفْسِهِ، وَرَأَيْتُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ فَرَأَيْتُه «1» ظَاهِرَ الْجَمَالِ طَاهِرَ الْقَلْبِ، وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُطِيعٍ الْعَدَوِيَّ فَرَأَيْتُ سَفِيهًا يُرِيدُ أَنْ يُعَدَّ فَقِيهًا، وَرَأَيْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ فَرَأَيْتُ رَجُلا تَكْفِيهِ وَاحِدَةٌ «2» فَيُصَيِّرُهَا عَشْرًا وَهُوَ يُحَاوِلُ أَمْرًا لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: فَمَنْ سَيِّدُ قَوْمِكَ؟ قَالَ: مَنْ سَوَّدْتَهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: فَأَنْتَ سَيِّدُهُمْ، قَالَ: فَقَرِّبْ مَجْلِسِي وَاقْضِ حَاجَتِي وَالْقَنِي بِبِشْرٍ حَسَنٍ.
50 [50]- وقال هشام بْن عمار: قَالَ مُعَاوِيَةُ لعمرو بن العاص رضي الله عنهما:
من أبلغ الناس؟ قَالَ: أتركهم للفضول «3» ، قَالَ: فمن أصبر الناس؟ قَالَ: أردهم لهواه برأيه «4» ، قَالَ: فمن أسخاهم؟ قَالَ: من بذل دنياه لدينه «5» ، قَالَ: فمن أشجع الناس؟
قَالَ: من رد جهله بحلمه، قال: فمن (697) أعلم الناس؟ قَالَ: من آثر دينه، قَالَ: صدقت.
51 [51]- الْمَدَائِنِيّ قَالَ، قَالَ الحارث بْن نوفل بْن الحارث بْن عَبْد المطلب لمعاوية: أنا
__________
[48] انظر العقد 6: 103 ومحاضرات الراغب 2: 89 وفي كلا المصدرين ينسب القول لعبد الملك، وانظر أيضا محاضرات الراغب 1: 159
[50] المجتنى: 64، 65 وبهجة المجالس 1: 615 وديوان المعاني 2: 87 والعمدة 1: 162، ولباب الآداب: 336، 348 ورسائل ابن أبي الدنيا: 20 ومجالس ثعلب: 187 وانظر بعض أجزاء هذا الخبر في البيان 2: 188، 3: 154 ومحاضرات الراغب 1: 108، 2: 174 وسرح العيون: 149 وعيون الاخبار 1: 11
[51] المجتنى: 38 وابن كثير 8: 138 والمروج 5: 56 وقد جاء البيت فيه منسوبا لعمرو بن العاص.
__________
(1) م: فرأيت.
(2) هامش ط: أي كلمة واحدة.
(3) في بعض المصادر: من ترك الفضول واقتصر على الايجاز.
(4) ثعلب: من ردّ جهله بحلمه، البيان والمجتنى: من كان رأيه رادا لهواه.
(5) اللباب: من ترك دنياه لاصلاح دينه.(5/16)
أكرم أم أنت؟ قَالَ مُعَاوِيَةُ: أنا، قَالَ: فأنا أكرم من يبقى بعدك، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ:
أترجو «1» أن أموت وأنت حي ... ولست بميت حتى تموتا
52 [52]- الْمَدَائِنِيّ وابن الكلبي قالا «2» قَالَ مُعَاوِيَة لابن الكواء اليشكري: نشدتك اللَّه كيف تعلمني؟ فقال: أمّا إذ نشدتني الله فإنّي أعلمك واسع الدنيا ضيّق الآخرة، قريب الرشا بعيد المدى «3» ، تجعل الظلمة نورًا والنور ظلمة.
53 [53]- حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ، قَالَ: مُعَاوِيَةُ: أُعِنْتُ عَلَى عَلِيٍّ بِكِتْمَانِي سِرِّي وَنَشْرِهِ أَسْرَارَهُ، وَبِطَاعَةِ أَهْلِ الشَّامِ لِي وَمَعْصِيَةِ أَصْحَابِهِ لَهُ، وَبَذْلِي مَالِي وَإِمْسَاكِهِ إِيَّاهُ.
54 [54]- الْمَدَائِنِيّ عَنْ مسلمة قَالَ، قَالَ عبد الرحمن بْن حسان وقد قدم على مُعَاوِيَة وقد طال مقامه ببابه:
طال ليلي وبت جد حزين ... ومللت الثواء فِي جيرون
ولذاك اغتربت بالشام حتى ... ظن أهلي مرجمات الظنون
55 [55]- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمُبَارَكِ قَالَ: شَبَّبَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حسان بْنِ ثَابِتٍ الأَنْصَارِيُّ بِأُخْتِ مُعَاوِيَةَ، فَغَضِبَ يَزِيدُ فَقَالَ لِمُعَاوِيَةَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتُلْ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ حَسَّانٍ، قَالَ: وَلِمَ يَا بُنَيَّ؟ قَالَ: لأَنَّهُ شَبَّبَ بِعَمَّتِي، قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قال: قال:
__________
[52] ابن عساكر 7: 298 والعقد 4: 366 والمروج 5: 98
[53] البيان 2: 115 والعقد 4: 366 والمحاسن والمساوئ: 403 ومحاضرات الراغب 2: 214 والمحاسن والأضداد: 30 والاستيعاب: 1422 والبكري: 1046
[54] تنسب إلى أبي دهبل الجمحي أيضا، انظر ديوانه: 67- 72 وانظر أيضا: الأغاني 7: 124- 125 والخزانة 3: 281، 280 والعقد 5: 322 وتاريخ الاسلام 3: 42، 4: 142 والكامل 1: 297 وأمالي القالي 3: 192 وفي ديوان أبي دهبل مزيد من التخريجات، وكذلك في ديوان عبد الرحمن بن حسان:
53، 68.
[55] تنسب إلى أبي دهبل الجمحي أيضا، انظر ديوانه: 67- 72 وانظر أيضا: الأغاني 7: 124- 125 والخزانة 3: 281، 280 والعقد 5: 322 وتاريخ الاسلام 3: 42، 4: 142 والكامل 1: 297 وأمالي القالي 3: 192 وفي ديوان أبي دهبل مزيد من التخريجات، وكذلك في ديوان عبد الرحمن بن حسان:
53، 68.
__________
(1) م: افترجوا.
(2) س ط: قال.
(3) ابن عساكر: قريب المرعى بعيد الثرى.(5/17)
طَالَ لَيْلِي وَبِتُّ كَالْمَحْزُونِ ... وَمَلَلْتُ الثَّوَاءُ فِي جَيْرُونِ
قَالَ: وَمَا عَلَيْنَا يَا بُنَيَّ «1» مِنْ طُولِ لَيْلِهِ وَحُزْنِهِ أَبْعَدَهُ اللَّهُ، قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ:
وَلِذَاكَ اغْتَرَبْتُ بِالشَّامِ حَتَّى ... ظَنَّ أَهْلِي مُرْجِمَاتِ الظُّنُونِ
قَالَ: وَمَا عَلَيْنَا مِنْ ظَنِّ أَهْلِهِ؟ قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ:
هِيَ زَهْرَاءُ مِثْلَ لُؤْلُؤَةِ الْغَوَّاصِ ... مِيزَتْ مِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونِ
قَالَ: صَدَقَ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا لَمِنْ جَوْهَرٍ مَكْنُونٍ، قَالَ: وَإِنَّهُ يَقُولُ:
وَإِذَا مَا نَسَبْتَهَا لَمْ تَجِدْهَا ... فِي سَنَاءٍ مِنَ الْمَكَارِمِ دُونِ
قال: صدق وهي بحمد الله كذاك، قَالَ: إِنَّهُ يَقُولُ:
ثُمَّ خَاصِرَتُهَا إِلَى الْقُبَّةِ الخض ... راء «2» نمشي فِي مَرْمَرٍ مَسْنُونِ
قَالَ: وَلا كُلُّ هَذَا، ثُمَّ ضَحِكَ وَقَالَ: مَا قَالَ أَيْضًا؟ قَالَ: قَالَ:
قُبَّةٌ مِنْ مَرَاجِلَ ضَرَبُوهَا ... عِنْدَ حَدِّ الشِّتَاءِ فِي قَيْطُونِ
عَنْ يَسَارِي إِذَا دَخَلْتُ من البا ... ب وَإِنْ كُنْتُ خَارِجًا عَنْ يَمِينِي
تَجْعَلُ النِّدَّ والألوّة والعو ... د صَلاءً لَهَا عَلَى الْكَانُونِ
وَقِبَابٌ قَدْ أُشْرِجَتْ وَبُيُوتٌ ... نَطْفُوهَا بِالآسِ وَالزَّرَجُونِ
قَالَ: يَا بُنَيَّ لا يَجِبُ الْقَتْلُ فِي هَذَا، وَالْعُقُوبَةُ دُونَ الْقَتْلِ تُغْرِيهِ فَيَزِيدُ فِي قَوْلِهِ، وَلَكِنَّا نَكُفُّهُ بِالتَّجَاوُزِ وَالصِّلَةِ، فَوَصَلَهُ وَصَرَفَهُ.
56 [56]- الْمَدَائِنِيّ وغيره قالوا، قَالَ مُعَاوِيَةُ: ثلاث «3» من السؤدد: الصلع واندحاق البطن وترك الإفراط في الغيرة.
__________
[56] عيون الأخبار 1: 223 ومحاضرات الراغب 2: 103 والبرصان: 323 وأخبار النساء: 40.
__________
(1) يا بني: سقطت من م.
(2) القبة الخضراء: قصر معاوية بدمشق.
(3) في بعض المصادر: ثلاث خصال.(5/18)
57- حَدَّثَنِي التُّوزِيُّ النَّحْوِيُّ «1» عَنِ الأَصْمَعِيِّ قَالَ: خَرَجَ مُعَاوِيَةُ إِلَى مَالٍ لَهُ بِمَكَّةَ، وَمَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيُّ، وَكَانَ مُعَاوِيَةُ قَدْ غَرَسَ فِي ذَلِكَ الْمَالَ غُرُوسًا وَزَرَعَ «2» ، فَقَالَ لَهُ: يَا ابْنَ صَفْوَانَ كَيْفَ تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إبراهيم: 37) وَقَدْ زَرَعْتَ فِيهِ كَأَنَّكَ تُرِيدُ الْخِلافَ (698) فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: مَتَى قَرَأْتَ هذه الآية يا ابن صَفْوَانَ؟ قَالَ: أَمَّا أَنَا فَقَدْ أَحْرَقْتُ قَلْبَكَ بِهَا فَلا عَلَيْكَ أَنْ تَعْلَمَ مَتَى قَرَأْتُهَا.
58 [58]- حَدَّثَنِي العمري عَن الهيثم بن عدي عَنِ شَيْخٍ مِنْ حِمْيَرَ قَالَ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ لِمُعَاوِيَةَ: وَاللَّهِ مَا تُقَاتِلُ عَلِيًّا وَلا يُقَاتِلُكَ لِيَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَغْلَبُكُمَا لِصَاحِبِهِ، وَمَا تُقَاتِلانِ إِلا عَلَى الدُّنْيَا، فَأَطْعِمْنَا مِمَّا تَأْكُلُ لِنُنَاضِلَ عَنْكَ نِضَالَ مَنْ يُرِيدُ الأَكْلَ.
59 [59]- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قدم عبد اللَّه بْن جعفر على مُعَاوِيَة فأنزله معه فِي قصره «3» ، فدخل عليه مُعَاوِيَة يومًا وبديح يسمعه:
إنك ما أعلمك «4» ذو ملة ... يذهلك الأدنى عَنِ الأبعد
وعبد اللَّه يتخلج، فَقَالَ: ما هذا؟ قَالَ: أريحية تعتريني عند الطرب.
60- الْمَدَائِنِيّ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ للأحنف: أتراني نسيت قولك حسن بأبي «5» حسن، ورضاك بأن تذبح قريش بالبصرة كما تذبح الحيران «6» ؟! ولكني أستصلحك وقومك، فقد كفيتك ما قبلي فاكفني ما قبلك، فكان الأحنف يَقُول: لقد كلمني مُعَاوِيَة بكلام ما بعده نغل ولا دغل.
__________
[58] تاريخ الاسلام 2: 237 والنجوم الزاهرة 1: 72.
[59] ابن عساكر 7: 327 والعقد 6: 19، وبيت الشعر في اللسان والتاج (ملل) .
__________
(1) انظر ترجمته في نور القبس: 215- 217 وبغية الوعاة: 290
(2) م: وزرع زروعا.
(3) م: قصر.
(4) ط م: إني، وهامش ط: إنك ما أعلم.
(5) ط م: بكائي.
(6) بهامش ط: جمع حوار وهو ولد الناقة.(5/19)
61- قَالَ، وقال الأحنف لِمُعَاوِيَةَ: واللَّه ما أتيناك يا أمير المؤمنين لتهدينا من ضلالة، ولا لتغنينا من عيلة، ولا لتمنعنا من ذلة، ولكن للسمع وللطاعة.
62 [62]- حَدَّثَنِي الْعُمَرِيُّ عَن الْهَيْثَمِ بْنِ عَدِيٍّ عَنِ مُجَالِدٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: اسْتَعِينُوا عَلَى الْحَوَائِجِ بِالْكِتْمَانِ فَإِنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ.
63 [63]- وَحَدَّثَنِي «1» مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الْوَاقِدِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عِيَاضٍ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: الأَرْضُ للَّهِ وَأَنَا خَلِيفَةُ اللَّهِ فَمَا أَخَذْتُ فَلِي، وَمَا تَرَكْتُهُ لِلنَّاسِ فَبِالْفَضْلِ مِنِّي، فَقَالَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ: مَا أَنْتَ وَأَقْصَى الأُمَّةِ فِي ذَلِكَ إِلا سَوَاءٌ، وَلَكِنْ مَنْ مَلَكَ اسْتَأْثَرَ، فَغَضِبَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: لَهَمَمْتُ، قَالَ صَعْصَعَةُ: مَا كُلُّ مَنْ هَمَّ فَعَلَ، قَالَ:
وَمَنْ يَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ ذَلِكَ؟ قال: الذي «2» يحول بين المرء وقلبه، وَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ بَيْتَ الشَّمَّاخِ «3» :
أَرِيدُونِي إِرَادَتَكُمْ فَإِنِّي ... وَحَذْفَةُ كَالشَّجَا تَحْتَ الْوَرِيدِ
64 [64]- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ وَغَيْرِهِ قَالُوا: أَغْلَظَ رَجُلٌ لِمُعَاوِيَةَ وَأَسْرَفَ فَحَلُمَ عَنْهُ فَقِيلَ: أَتَحْلُمُ عَنْ هَذَا؟! فَقَالَ: إِنِّي لا أَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَأَلْسِنَتِهِمْ مَا لم يحولوا بيننا وبين ملكنا.
__________
[62] يرد قوله: «استعينوا على حوائجكم ... » منسوبا إلى الرسول، انظر بهجة المجالس 1: 319 والبصائر 7 رقم: 781 ومجمع الزوائد 8: 195 وإتقان الغزي: 25 وعيون الاخبار 1: 38، 3: 119 والمحاسن والمساوئ:
403 والمجتنى: 23 ومحاضرات الراغب 1: 58 وروضة العقلاء: 165 والمستطرف 1: 207، 213 وأدب الصحبة:
45 ولباب الآداب: 238، 333 واللسان 3: 67 والجامع الصغير 1: 39 وكشف الخفا 1: 123 وأدب الوزير للماوردي: 53.
[63] مروج الذهب 5: 104- 105، والبيت المنسوب للشماخ لم يرد في ديوانه، وانما ورد في الخيل لأبي عبيدة: 10 ونسب الخيل: 21- 22 والطبري 2: 1459 وجمهرة ابن دريد 2: 128 والخزانة 4: 377 وهو ينسب في بعضها إلى خالد بن جعفر بن كلاب أو إلى زهير بن جذيمة العبسي أو شدّاد بن معاوية العبسي.
[64] عيون الاخبار 1: 9، 283 ومحاضرات الراغب 1: 111 والمجتنى: 40 والطبري 2: 214 ونهاية الارب 6: 16 وابن الأثير 4: 8 وفاضل المبرد: 87 وسراج الملوك: 219 وشرح النهج 3: 417 وتذكرة ابن حمدون:
55/ أ.
__________
(1) م: حدثني.
(2) م: من
(3) بيت الشماخ: سقط من م وهو بهامش ط.(5/20)
65 [65]- المدائني عن علي بن مالك قال، قال معاوية: لا أضع لساني حيث يكفيني مالي، ولا أضع سَوْطي حيث يكفيني لساني، ولا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي، فإذا لم أجد من السيف بدًا ركبته.
66 [66]- الْمَدَائِنِيّ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لعبد الرحمن بْن الحارث بْن أُمَيَّة الأصغر وقد كف بصره: كيف أصبحت؟ قَالَ: أصبحت وقد ذهب خيري وبقي شري، قَالَ:
هذا من مقدمات أفاعيك، ووصله.
67 [67]- حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لِدَغْفَلٍ النَّسَّابَةِ: ابْغِنِي رَجُلا عَالِمًا يَكُونُ مَعَكَ أفرّ منه إليك ومنه اليه، وليكن كتوما فإنّ الرجل إذ أَنِسَ بِالرَّجُلِ وَوَثِقَ بِهِ أَلْقَى إِلَيْهِ عُجَرَهُ وَبُجَرَهُ.
68- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: أَغْلَظَ أَبُو الْجَهْمِ بْنُ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيُّ لِمُعَاوِيَةَ وَقَالَ: أَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْكَ يَا مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِلَى مَنْ: إِلَى بَنِي زُهْرَةَ فَمَا عِنْدَهُمْ نَصْرٌ وَلا فَضْلٌ، أَمْ إِلَى بني مخزوم فو الله لَوْ نَالُوا مِنَ الأَمْرِ شَيْئًا مَا كَلَّمُوكُمْ كبرا، أم الى بني هاشم فو الله لَوْ نَالُوهَا لاسْتَأْثَرُوا عَلَيْكُمْ، وَإِنَّا عَلَى مَا فِينَا لَنُعْطِي السَّائِلَ وَنَجُودُ بِالنَّائِلِ، وَلا تَزَالُ الْعَرَبُ غُلْبَ الرِّقَابِ مَا رَأَوْا أَشْيَاخَنَا عَلَى الْمَنَابِرِ.
69 [69]- حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ، قَالَ أَبُو الْجَهْمِ:
أَمَرَ لِي مُعَاوِيَةُ بِمِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَذَمَمْتُهُ وَقُلْتُ: أَرَاحَنَا اللَّهُ مِنْكَ، فَلَمَّا وُلِّيَ يَزِيدُ أَعْطَانِي خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَتَيْتُ ابْن الزُّبَيْرِ فَأَعْطَانِي أَلْفًا فَقُلْتُ: أَبْقَاكَ اللَّهُ فَإِنَّا لا نزال
__________
[65] عيون الاخبار 1: 9 وتذكرة ابن حمدون 109/ أوالمجتنى: 40 والعقد 1: 25 واليعقوبي 2: 283 ونهاية الأرب 6: 44 وسراج الملوك: 115 وبهجة المجالس 1: 96 والبيان 1: 214 وشرح النهج 3: 417
[66] انظر ما يلي رقم: 179 وابن عساكر 7: 346 والاصابة 2: 713 وفيهما تروى القصة عن عبد الله بن الحارث بن أمية.
[67] البيان 1: 333، 2: 89 (للنخار العذري) والصناعتين: 14 وشرح النهج 4: 242، وجامع بيان العلم 1: 89
[69] انظر ربيع الأبرار: 326/ أ، وهناك وجه آخر للقصة في المنمق: 387 وتاريخ الاسلام 3: 97(5/21)
بِخَيْرٍ مَا بَقِيتَ، فَقِيلَ لِي: أَتَدْعُو لابْنِ الزُّبَيْرِ بِالْبَقَاءِ وَلَمْ تَدْعُ بِهِ (699) لِمُعَاوِيَةَ وَلا يَزِيدَ؟ فَقُلْتُ: أَخْشَى وَاللَّهِ أَنْ لا يَأْتِيَ بَعْدَهُ إِلا خِنْزِيرٌ.
70- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ مُحَارِبٍ قَالَ: حَجَّ مُعَاوِيَةُ فَلَمَّا كَانَ بِالأَبْوَاءِ خَرَجَ يَسْتَقْرِي مِيَاهَ كِنَانَةَ حَتَّى صَارَ إِلَى عَجُوزٍ عَشْمَةٍ «1» فَقَالَ لَهَا: مِمَّنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: من الذين يَقُولُ لَهُمُ الشَّاعِرُ:
هُمُ مَنَعُوا جَيْشَ الأَحَابِيشِ عُنْوَةً ... وَهُمْ نَهْنَهُوا عَنَّا غُوَاةَ بَنِي بَكْرِ
فقال معاوية: كوني دئليّة «2» ، قالت: فإنّي دئلية، قَالَ: أَعِنْدَكِ قِرًى؟ قَالَتْ: عِنْدِي خَبْزٌ خَمِيرٌ وَحَيْسٌ فَطِيرٌ وَلَبَنٌ ثَمِيرٌ «3» وَمَاءٌ نَمِيرٌ، فَأَنَاخَ، وَجَعَلَ يَأْخُذُ الْفَلْذَةَ مِنَ الْخُبْزِ بِمِثْلِهَا مِنَ الْحَيْسِ فَيَغْمِسُهُ فِي اللَّبَنِ ثُمَّ قَالَ: حَاجَتُكِ، قَالَتْ: حَوَائِجُ الْحَيِّ، فَأَمَرَ فَنُودِيَ فِيهِمْ، فَأَتَاهُ أَعْرَابٌ فَرَفَعُوا حَوَائِجَهُمْ فَقَضَاهَا لَهُمْ، وَامْتَنَعَتِ الْعَجُوزُ أَنْ تَأْخُذَ شَيْئًا لِنَفْسِهَا وَقَالَتْ: أَآخُذُ لِقِرَايَ ثَمَنًا؟! 71- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ قَالَ: مَاتَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِمِصْرَ فَقَالَ مُعَاوِيَةُ حِينَ أَتَاهُ خَبَرُ مَوْتِهِ لامْرَأَتِهِ ابْنَةِ قَرَظَةَ: قَدْ مَاتَ رَجُلٌ كَانَ الأَمْرُ بِمِصْرَ أَمْرُهُ، هَلَكَ عَمْرٌو وَأَتَتْكِ قَبَاطِيُّ مِصْرَ.
72- حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سُكَيْنٍ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: إِنَّكَ قَدْ لَهَجْتَ بِالشِّعْرِ فَإِيَّاكَ وَالتَّشْبِيبَ بالنساء
__________
70- انظر البيان 2: 275 وأمالي القالي 2: 196 وعيون الأخبار 3: 208 وربيع الأبرار: 218 ب وجمهرة ابن دريد 1: 117 ونهاية ابن الأثير (ثمر، فطر، تمر) واللسان (هجر) وشرح السبع الطوال: 145 وبلاغات النساء: 130 والتمام في تفسير أشعار هذيل: 167 71- ابن عساكر 4: 39.
72- العقد 5: 281 وثعلب: 479 والبصائر 7 رقم: 325 ومحاضرات الراغب 1: 37 وتذكرة ابن حمدون:
106/ أوربيع الأبرار: 379 ب والطبري 2: 213 وابن الأثير 4: 8 والمحاسن والمساوى: 362
__________
(1) ط م س: غشمة.
(2) ط م س: ديلية، والدئل: فرع من بكر بن عبد مناف بن كنانة.
(3) اللسان: هجير.(5/22)
فَتُعِرَّ الشَّريِفةَ، وَإِيَّاكَ وَالْهِجَاءَ فَإِنَّكَ تَهْجُنُ بِهِ كَرِيمًا أَوْ تَسْتَثِيرَ لَئِيمًا، وَإِيَّاكَ وَالْمَدْحَ فَإِنَّهُ طُعْمَةُ الدَّنِيءِ الْوَقَّاحِ، وَلَكِنِ افْخَرْ بِمَفَاخِرِ قَوْمِكَ وَقُلْ مِنَ الأَمْثَالِ السَّائِرَةِ مَا تُزَيِّنُ بِهِ نَفْسَكَ وَتَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ عَقْلِكَ وَتُؤَدِّبُ بِهِ غَيْرَكَ.
73- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ حَمَّادٍ قَالَ: نَظَرَ مُعَاوِيَةُ إِلَى النَّخَّارِ «1» فِي عَبَاءَةٍ فَازْدَرَاهُ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ الْعَبَاءَةَ لا تُكَلِّمُكَ إِنَّمَا يُكَلِّمُكَ مَنْ فِيهَا.
74- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَيُّ النَّاسِ أَفْصَحُ؟ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ مِمَّنْ حَضَرَهُ: قَوْمُكَ مِنْ قُرَيْشٍ، ارْتَفَعُوا عَنْ لَكْنَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَكَسْكَسَةِ بكر وكشكشة أسد «2» ، قال: فممّن أَنْتَ؟ قَالَ: مِنْ جُرْمٍ.
75- حَدَّثَنِي الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَائِدٍ وَسُحَيْمِ بْنِ حَفْصٍ قَالا: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ: أَظْهَرَ شَتْمَ عَلِيٍّ وَتَنَقُّصَهُ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: مَا أُحِبُّ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ كُلَّمَا عَتَبْتَ تَنَقَّصْتَ، وَكُلَّمَا غَضِبْتَ ضَرَبْتَ، لَيْسَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذَلِكَ حَاجِزٌ مِنْ حِلْمِكَ وَلا تَجَاوُزٌ بِعَفْوِكَ.
76- عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: كَتَبَتْ عَائِشَةُ إِلَى مُعَاوِيَةَ: اتَّقِ اللَّهَ فإنّك إذ اتَّقَيْتَهُ كَفَاكَ النَّاسَ، وَإِذَا اتَّقَيْتَ النَّاسَ لَمْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا.
77- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَنْبَرِيِّ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لأَبِي هَوْذَةَ بْنِ شَمَّاسٍ الْبَاهِلِيِّ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَحْمِلَ جَمْعًا مِنْ بَاهِلَةَ فِي سَفِينَةٍ ثُمَّ أغرقهم، قال: إذا لا
__________
73- الطبري 2: 214 وعيون الاخبار 1: 297 والبيان 1: 237 والكامل 2: 169 ومحاضرات الراغب 1: 157 وربيع الأبرار: 203 ب وتاج العروس 3: 559 والمشتبه: 519 وابن كثير 8: 141 ونور القبس: 348.
74- البيان 3: 212 وانظر ربيع الأبرار: 384 ب والعقد 2: 475 والكامل 2: 223 ودرة الغواص: 183 ومفصل الزمخشري: 156 والفائق 2: 458 ونهاية ابن الأثير (كسكس، كشكش) ومحاضرات الراغب 1: 28 واللسان 8: 234.
75- قارن بما يلي، رقم: 648 77- البرصان: 69- 70 والحيوان 3: 427.
__________
(1) هو النخار العذري الناسب.
(2) في البيان والكامل والمفصل: كشكشة تميم، وفي الدرة: كشكشة ربيعة.(5/23)
نَرْضَى بِعُدَّتِهِمْ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ، فَقَالَ: اسْكُتْ أَيُّهَا الْغُرَابُ الأَبْقَعُ «1» ، قَالَ: إِنَّ الْغُرَابَ رُبُّمَا درج «2» الى الرُّخْمَةِ حَتَّى يَنْقُرَ دِمَاغَهَا وَيَقْتَلِعَ عَيْنَيْهَا «3» ، فَقَالَ يَزِيدُ: اقْتُلْهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: مَهْ، ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ وَجَّهَهُ بَعْدُ فِي سَرِيَّةٍ فَقُتِلَ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ لِيَزِيدَ: يَا بُنَيَّ هَذَا أَخْفَى «4» .
78- حَدَّثَنِي عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: دَخَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: مَا كَانَ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ رَحِمَكَ اللَّهُ لَوْ قلت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: أَتَقُولُهَا جَذْلانَ ضَاحِكًا؟! وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي وُلِّيتُهَا (700) بِمَا وُلِّيتَهَا بِهِ.
79- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ سُحَيْمٍ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: لَوْ وُزِنْتُ بِالدُّنْيَا لَرَجَحْتُ بِهَا وَلَكِنِّي وُزِنْتُ بِالآخِرَةِ فَرَجَحَتْ بِي.
80- الْمَدَائِنِيُّ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: مَنْ كَتَمَ سِرَّهُ كَانَ الْخِيَارُ لَهُ، وَمَنْ أَفْشَاهُ كَانَ الْخِيَارُ عَلَيْهِ.
81- حَدَّثَنِي مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ عَنْ شُعَيْبِ بْنِ صَفْوَانَ قَالَ: قَدِمَ ابْنُ أَبِي عَتِيقٍ «5» عَلَى مُعَاوِيَةَ فَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إِلَيْهِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمِثْلُ ابْنِ أَبِي عَتِيقٍ فِي سِنِّهِ وَمَوْضِعِهِ لَمْ تَصِلْهُ فِي بَلَدِهِ حتى جاءت به الحاجة إليك؟!
__________
78- انظر ابن عساكر 6: 106 وشرح النهج 1: 201.
79- محاضرات الراغب 2: 173.
80- روضة العقلاء: 168 ونسب الثعالبي القول لعمر في الاعجاز والايجاز: 26 وفي النهج (القاهرة: 1913) 2: 184 نسب لعلي، وانظر عيون الاخبار 1: 40 وأربع رسائل للثعالبي: 4 وزهر الآداب 1: 35 حيث نسب لعمر، وورد في أدب الدنيا والدين: 23 ونهاية الأرب 6: 82 منسوبا للوليد بن عتبة وفي كنز العمال: 23 (رقم 3687) منسوبا لعمر.
__________
(1) انما قال له ذلك لأنه كان به برص.
(2) البرصان: مشى.
(3) البرصان: حتى ينقر عينها.
(4) البرصان: هذا أخفى وأعفى، الحيوان: أخفى وأصوب.
(5) هو عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن أبي بكر الصديق.(5/24)
فَقَالَ: عَزَّ وَاللَّهِ عَلَيَّ، لَوْ عَلِمْتُ بِمَكَانِهِ لَكُنْتُ إِلَى صِلَتِهِ أَسْرَعَ مِنَ الْمَاءِ إِلَى قَرَارِهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ مَالا وَقَضَى حَوَائِجَهُ.
82- وقال هشام بْن عمار، قَالَ مُعَاوِيَةُ لعمرو بْن العاص: من للعراق؟ قَالَ:
رجل رفيق لا يهمطهم «1» فِي الجباية ولا يعنف عليهم فِي الرعاية، يحلب فيهم حلب الشاة العزوز «2» ، يعني الضيقة الإحليل.
83- الْمَدَائِنِيّ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: إني لأرفع نفسي عَنْ أن يكون ذنب أعظم من عفوي، وجهل أكبر من حلمي، وعورة لا أواريها بستري، وإساءة أكبر من إحساني.
84- وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ «3» قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَنَا أَعْرِفُ أَغْلَى شَيْءٍ فِي السُّوقِ وَأَرْخَصَهُ، أَعْلَمُ أَنَّ الْجَيِّدَ رَخِيصٌ وَالرَّدِيءَ غَالٍ.
85- قالوا: وقدم زياد على مُعَاوِيَة فَقَالَ مضحك لِمُعَاوِيَةَ: ألا أمازح زيادًا؟
قَالَ: شأنك، فَقَالَ: يا أبا المغيرة أيسرك «4» أنك من الحور العين، فَقَالَ: مه، كل ما دخلت به الجنة فحسن، ويقال: إن زيادًا افتدى جوابه بعشرة آلاف درهم.
86- عَبَّاسُ بْنُ هِشَامٍ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوَانَةَ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لِزُرْعَةَ بْنِ ضَمْرَةَ الْهِلالِيِّ: مَا أَنْزَلَكَ «5» بَيْنَ هَذَيْنِ الْجُفَّيْنِ «6» ؟ قَالَ: إِنَّ لَنَا وَلَهُمْ مَثَلا يَا أَمِيرَ
__________
82- قارن برقم: 100 في ما يلي، وفي العزوز انظر اللسان والنهاية (عزز) 83- الطبري 2: 212 وابن الأثير 4: 8 وعيون الاخبار 1: 283 والمجتنى: 42 (منسوبا لعلي فيه) وألف باء 1: 465 وربيع الأبرار: 103/ أوالمستطرف 1: 261 وأربع رسائل للثعالبي: 16 والتمثيل والمحاضرة: 133 وسراج الملوك: 141 وابن كثير 8: 135 ونهاية الأرب 6: 8 وسير الذهبي 3: 102 وديوان المعاني 1: 134 والحيدة (دمشق: 1964) : 160.
85- ابن عساكر 5: 467
__________
(1) همط: ظلم.
(2) م: الغزور.
(3) س: أمية.
(4) ط م وابن عساكر: أبشرك.
(5) م: أنزاك.
(6) هما قبيلتا ربيعة ومضر، أو بكر وتميم.(5/25)
الْمُؤْمِنِينَ، نَحْنُ كَالأَيْرِ أَيْرٌ «1» شَدِيدٌ صَادَفَ اسْكَتَيْنِ خَوَّارَتَيْنِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: لا يَلْبَثَانِ حَتَّى يَمُصَّا مَاءَهُ وَيَلِينَا مِنْهُ مَا اشْتَدَّ «2» وَاسْبَطَرَ.
87- وقال مُعَاوِيَة للأحنف: يا أبا بحر ما المروة «3» ؟ قَالَ: الفقه فِي الدين والعفاف وبر الوالدين، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: هو ذاك.
88- حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنِ الْوَلِيدِ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ مُعَاوِيَةَ قَالَ: الْعِيَالُ أَرَضَةُ الْمَالِ، يَذْهَبُ الْمَالُ وَيَبْقَى الْعِيَالُ، وَمَا فِي الأَرْضِ تَبْذِيرٌ إِلا إِلَى جَانِبِهِ حَقٌّ مُضَاعٌ «4» .
89- وقال هشام حَدَّثَنِي شيخ لنا قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَةُ ليزيد: يا بني اتخذ المعروف عند ذوي الأحساب لتستميل به مودتهم وتعظم به فِي أعينهم وتكف به عنك عاديتهم، وإيّاك والمنع فإنه مفسدة للمروة «5» وإزراء بالشريف.
90- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: دخل أبو الأسود الدؤلي على مُعَاوِيَة فإنه ليحدثه إذ حبق، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين أنا عائذ باللَّه وبسترك، ثم خرج ودخل عمرو بْن العاص فحدثه، وبلغ ذلك أبا الأسود فأتاه فَقَالَ: يا مُعَاوِيَة إن الذي كان مني قد كان مثله منك ومن أبيك، وإن من لم يؤتمن على ضرطة لجدير ألا يؤتمن على أمر الأمة.
91- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: سمع مُعَاوِيَة غناء سائب خاثر عند يزيد بْن مُعَاوِيَة فلما
__________
87- ابن عساكر 7: 19 (الضحاك بن قيس بن معاوية) وقارن بما يلي رقم: 213 88- عيون الأخبار 1: 245 وأربع رسائل: 4 ومحاضرات الراغب 1: 238 والميداني 2: 21 والبصائر 1: 228 وربيع الأبرار: 351/ أ، وانظر أيضا العيون 1: 332 والبيان 3: 267 90- الأغاني 2: 314 ومحاضرات الراغب 2: 125 وروض الاخيار: 257 91- الأغاني 8: 326 والكامل 2: 258 وربيع الأبرار: 95/ أ، وانظر العقد 6: 49 ونهاية الأرب 4: 238
__________
(1) أير: سقطت من م.
(2) س: استدّ.
(3) م: المروءة.
(4) العيون: حق مضيع.
(5) ط: للمروءة.(5/26)
أصبح قَالَ: من كان جليسك فِي ليلتك يا بني؟ قَالَ: سائب خاثر، قَالَ: فأخثر لَهُ «1» فما رأيت بنشيده «2» بأسًا.
92- قالوا: وأدخل عبد اللَّه بْن جعفر سائبًا أو بديحًا على مُعَاوِيَة، فأخذ بحلقة باب البيت وجعل يوقع بها ويغنى مُعَاوِيَة، وَمُعَاوِيَة يحرك رجله، فَقَالَ: ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فَقَالَ: إن الكريم طروب.
93- وَحَدَّثَنِي الزُّبَيْر بْن بَكَّارٍ عَن عمه مصعب بْن عبد الله قال (701) : كَانَ مُعَاوِيَةُ يُفَضِّلُ مُزَيْنَةَ فِي الشِّعْرِ وَيَقُولُ: كَانَ أَشْعَرَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ زُهَيْرٌ وَابْنُهُ بَعْدَهُ، وَأَشْعَرَ أَهْلِ الإِسْلامِ مَعْنُ بْنُ أَوْسٍ الْمُزَنِيُّ.
94- حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ الْعِجْلِيُّ عَنِ ابْنِ كُنَاسَةَ قَالَ: دَخَلَتْ لَيْلَى الأَخْيَلِيَّةُ عَلَى معاوية فوصلها وأمر فأدخلت عَلَى نِسَائِهِ فَوَهَبْنَ لَهَا ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرِينِي عَنْ مُضَرٍ، فَقَالَتْ: قُرَيْشٌ سَادَتُهَا وَقَادَتُهَا وَتَمِيمٌ كَاهِلُهَا وَقَيْسٌ «3» فُرْسَانُهَا وَخَطَاطِيفُهَا.
95- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مَسْلَمَةَ قَالَ: وَفَدَ زِيَادٌ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَحَدَا بِهِ الْحَادِي:
قَدْ عَلِمَتْهُ الضُّمْرُ الْجِيَادُ «4» ... أَنَّ الأَمِيرَ بَعْدَهُ زِيَادٌ
فَبَلَغَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةَ فَغَضِبَ وَلَمْ يذكر لزياد شيئا منه، فقال يوما لحضين بْنِ الْمُنْذِرِ الرَّقَاشِيِّ بِحَضْرَةِ زِيَادٍ: يَا أَبَا سَاسَانَ إِنَّ لَكَ رَأْيًا وَعَقْلا، فَمَا فَرَّقَ أمر هذه الأمّة حتى
__________
92- انظر الطبري 2: 214 وابن الأثير 4: 9 والكامل 2: 259 والعقد 6: 17- 19 وشرح النهج 4: 60 ومجالس ثعلب 1: 59.
93- الأغاني 12: 51 وانظر أمالي القالي 2: 102 (حيث يذكر عبد الملك معن بن أوس) 94- قارن بزهر الآداب: 932 وثمار القلوب: 127 ولسان العرب ونهاية ابن الأثير (كهل) والمنمق: 9 95- انظر ابن عساكر 5: 417 (وينسب البيت فيه لابن حنين العبادي) والهفوات النادرة: 75 واليعقوبي 2: 262
__________
(1) الأغاني: فاخثر له من برك وصلتك.
(2) م: ينشده.
(3) ط م س: وقريش.
(4) ابن عساكر: قد علمت ضامرة الجياد.(5/27)
سفكت دماؤها واختلف ملأها «1» وَسُفِّهَتْ أَحْلامُهَا «2» ؟ فَقَالَ: قَتْلُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُثْمَانَ، فَقَالَ: صَدَقْتَ، وَالْخِلافَةُ لا تَصْلُحُ لِمُنَافِقٍ وَلا ذِي دُعَابَةٍ- يُعَرِّضُ بِعَلِيٍّ وَأَنَّ زِيَادًا كَانَ مِنْ أَعْوَانِهِ- فَفَطِنَ زِيَادٌ فَقَالَ: رَاجِزٌ رَجَزَ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَنْ أَمْرِي وَلَقَدْ زَجَرْتُهُ وَنَهَرْتُهُ، فَقَبِلَ ذَلِكَ مُعَاوِيَةُ.
96- حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سعد عن الواقدي عن ابن أبي الزناد عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا صَارَ مُعَاوِيَةُ بِالأَبْوَاءِ فِي حَجَّتِهِ اطَّلَعَ فِي بِئْرٍ «3» فَأَصَابَتْهُ اللِّقْوَةُ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ لبعرضِ خَيْرٍ، إِمَّا ابْتُلِيَ فأجر، وإمّا عُوفِيَ فَشَكَرَ، وَإِمَّا عُوقِبَ بِذَنْبٍ فَمُحِّصَ، وَلَئِنِ ابْتُلِيتُ لَقَدِ ابْتُلِيَ الصَّالِحُونَ، وَلَئِنْ مَرِضَ عُضْوٌ مِنِّي فَمَا أُحْصِي صَحِيحِي «4» ، وَلَمَّا عُوفِيتُ أَكْثَرُ، وإنّي اليوم ابن بضع وسبعين سنة، وما لي عَلَى رَبِّي أَكْثَرُ مِمَّا أَعْطَانِي، فَرَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا دَعَا لِي «5» بِالْعَافِيَةِ، فَقَالَ لَهُ مَرْوَانُ: جَزِعْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: يَا مَرْوَانُ إِنِّي قَدْ رَقَقْتُ وَذَكَرْتُ مَا كُنْتُ عَنْهُ عَزُوفًا، وَقَدِ ابْتُلِيتُ فِي أَحْسَنِي، وَخِفْتُ أَنْ يَكُونَ عُقَوبَةً مِنْ رَبِّي، وَلَوْلا هَوَايَ فِي يَزِيدَ لأَبْصَرْتُ رُشْدِي «6» .
97- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَكَمِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ، كَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَطِيبَ لَهُ الْبَاقِي لأَنَّ عُمَرَ قاسم عمّاله «7» .
__________
96- عيون الأخبار 3: 46 ومحاضرات الراغب 1: 155 وابن كثير 8: 118 وسير الذهبي 3: 103، 104 والبصائر 1: 19 وانظر أيضا معجم البكري: 955 وتاريخ الاسلام 2: 323، وانظر بعضه في محاضرات الراغب 2: 22 وفاضل المبرد: 123 97- الطبري 2: 202 وابن الأثير 4: 4 وسيرد فيما يلي رقم: 432 وانظر اليعقوبي 2: 264 ومحاضرات الراغب 1: 239 وطبقات ابن سعد 3/ 1: 221
__________
(1) ط م: ملاؤها.
(2) قوله: يا أبا ساسان ... أحلامها سيرد في ما يلي رقم: 349
(3) البكري: بئر الطلوب، الذهبي: بئر عادية.
(4) ط م س: صحتي.
(5) لي: سقطت من م.
(6) البصائر والذهبي: قصدي.
(7) ذكر اليعقوبي أن معاوية طالب جميع عماله بالمقاسمة مقتفيا سنة عمر، وفيما صنعه عمر انظر الطبري 1: 2864 وفتوح البلدان: 82، 385.(5/28)
98- وحدثني عباس بن هشام الكلبي عن أبيه عَنْ عَوَانَةَ قَالَ: قِيلَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ أن الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحَقُّ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ معاوية، فقال:
إذا لم يقل الوليد هذا فَمَنْ يَقُولُهُ.
99- الْمَدَائِنِيّ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ للنخار العذري «1» : أي العرب أكرم بعد قريش؟ فَقَالَ: بيت زرارة بْن عدس، قَالَ: فأيهم أشجع؟ قَالَ عبسي طالبك بذحل أو طالبته «2» ، قَالَ: فأيهم أفصح؟ قَالَ: أسدي وصف سحابًا وغيثًا، قَالَ: فأيهم أفرس؟ قَالَ: رجل من بني عامر يلعب على فرسه لعب الصبي على زحاليف الرمل، قَالَ: فأيهم أدهى؟ قَالَ: أريمص من ثقيف مارسته فِي أمر ومارسك.
100- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ الزِّيَادِيِّ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لِمَرْوَانَ: مَنْ تَرَى لِلْعِرَاقِ؟ قَالَ: مَنْ لا يَفْحَجُ «3» الْحَلُوبَ قَبْلَ الدَّرَّةِ، وَلا يُدْنِي الْعُلْبَةَ حَتَّى يَمْسَحَ الضُّرَّةَ «4» .
101- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ سُفْيَانُ بْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: كَتَبَ مُعَاوِيَةُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ الله عنهما أَنْ عِظِينِي وَلا تُطِيلِي، فَكَتَبَتْ إِلَيْهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: [مَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ، وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ حَتَّى يَعُودَ حَامِدُهُ ذَامًّا، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ إيّاهم] .
__________
98- ابن كثير 8: 141 وابن الأثير 4: 9.
100- محاضرات الراغب 1: 80 وقارن بما سبق رقم: 82 ونهاية ابن الأثير (عصب) .
101- البيان 2: 303 والعقد 1: 59 ومحاضرات الراغب 2: 172 وروضة المحبين: 437 وأدب الوزير للماوردي: 47 ووكيع 1: 38 وسراج الملوك: 47 وقد نسب القول في محاضرات الراغب والماوردي للرسول، وفي العقد لأبي الدرداء.
__________
(1) ط م س: العجلي، وهو النخار بن أوس بن أبير بن عبد الحارث بن لأي بْن عَبْد مناف بْن الْحَارِث بْن سعد هذيم، انظر الفهرست: 95 (وتصحف اسمه ونسبه) والاصابة 6: 264 وقد وردت نسبة «العذري» في الكامل 2: 169 وعيون الأخبار 1: 297 والبيان 2: 89، وهو ليس عذريا تماما لأن عذرة بن سعد هذيم أخو حارث بن سعد هذيم، وهو ينتسب إلى الحارث.
(2) أو طالبته: سقطت من م.
(3) م: يفجج، المحاضرات: يمسح.
(4) المحاضرات: الصرّة.(5/29)
102- حَدَّثَنِي هشام بْن عمار قَالَ: لما حج مُعَاوِيَة مر بالمدينة فأتى سقيفة بني ساعدة فَقَالَ: مارس بعود أو دع «1» إن كان أَبُو بَكْر هاهنا لعلى أعظم (702) الخطر.
103- الْمَدَائِنِيُّ عَن عَبْد اللَّهِ بْن سَلْم الفهري قال، قَالَ مُعَاوِيَةُ لِعَمْرٍو: أَيُّنَا أَدْهَى؟
قَالَ: أَمَّا فِي الْبَدِيهَةِ فَأَنَا، وَأَمَّا فِي الأَنَاةِ فَأَنْتَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَصْغِ إِلَي أُسَارُّكَ بِشَيْءٍ، فَأَدْنَى عمرو رأسه وكانا خلوين يتسارّان «2» ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: غَلَبْتُكَ أَيُّهَا الدَّاهِيَةُ، هَلْ هَاهُنَا أَحَدُ أُسَارُّكَ دُونَهُ.
104- حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَشْيَاخِهِمْ قَالُوا، قَالَ مُعَاوِيَةُ عَلَى مِنْبَرِ دِمَشْقَ: مَا أَحَدٌ تَرَكَ تَقْوَى اللَّهِ إِلا عَادَ حَامِدُهُ ذَامًّا.
105- وكتب مُعَاوِيَة إلى زياد يشكو قرابته، فكتب إليه: عليك بالموالي فإنهم أنصر وأغفر وأشكر.
106- الْمَدَائِنِيّ عَنْ سُحيم بْن حَفْص قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: لو أن النجوم تساقطت لسقط قمرها فِي حجور بني يربوع.
107- وقالوا: قدم الأحنف والمنذر بْن الجارود الشام، فرشا المنذر حاجب مُعَاوِيَة بأربعة آلاف درهم على أن يدخله قبل الأحنف، فدخل المنذر قبل الأحنف، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ للحاجب: كيف قدمت منذرًا على الأحنف؟! فحدثه الحديث، فضحك مُعَاوِيَة وقال: لا تعد.
108- الْمَدَائِنِيّ عَنْ سحيم قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَة: من أكرم الناس أبا وأمّا وجدّا وجدّة وعمّا وعمّة وخالًا وخالة؟ فَقَالَ صعصعة بْن صوحان، ويقال عبد الله بن
__________
103- انظر محاضرات الراغب 1: 27، 39 وبهجة المجالس 1: 424 والنجوم الزاهرة 1: 132 وانظر تاريخ الاسلام 2: 238 وسراج الملوك: 127 وشرح النهج 1: 137 وقارن بالدينوري: 168 106- عيون الاخبار 1: 124 108 ابن عساكر 4: 211، 213 وقارن بالعقد 5: 87 وصبح الأعشى 1: 317 والمحاسن والمساوئ: 85
__________
(1) هذا المثل في الميداني 1: 216 واللسان (عود) ومعجم الأدباء 14: 59 ونهاية الأرب 6: 75 والدميري 2: 134 والمستقصى 2 رقم: 386 وجمهرة العسكري 1: 502 وفي بعض رواياته: زاحم بعود.
(2) م ط س: يتسايران.(5/30)
عجلان «1» ، هذا الجالس بين يديك، يعني الحسن بْن علي، جده رسول اللَّه، وجدته خديجة بنت خويلد الطاهرة، وأبوه علي بْن أبي طالب، وأمه فَاطِمَةُ بنت رسول اللَّه، وعمه جعفر بْن أبي طالب، وعمته أم هانئ بنت أبي طالب، وخاله القاسم ابن رسول اللَّه، وخالته زينب بنت رسول اللَّه.
109- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ فُلَيْحِ بْنِ سُلَيْمَانَ قَالَ: وَفَدَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ فَأَمَرَهُمْ إِذَا دَخَلُوا أَنْ يَقِفُوا وَلا يُسَلِّمُوا بِالْخِلافَةِ، فَلَمَّا دَخَلُوا قَالُوا:
السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَتَتَابَعُوا عَلَى ذَلِكَ، فَضَحِكَ مُعَاوِيَةُ وَقَالَ: اغْرُبُوا وَزَجَرَهُمْ، فَلَمَّا خَرَجُوا قَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: نَهَيْتُكُمْ عَنْ أَنْ تُسَلِّمُوا بِالْخِلافَةِ فَسَلَّمْتُمْ بِالنُّبُوَّةِ؟! عَلَيْكُمْ لَعْنَةُ اللَّهِ.
110- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ أَسْمَاءَ أَنَّ بُسْرَ بْنِ أَبِي أَرْطَاةَ نَالَ مِنْ عَلِيٍّ عِنْدَ مُعَاوِيَةَ، وَزَيْدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ حَاضِرٌ، فَعَلاهُ بِعَصَا فَشَجَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: عَمَدْتَ إِلَى شَيْخِ قُرَيْشٍ وَسَيِّدِ أَهْلِ الشَّامِ فَضَرَبْتَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى بُسْرٍ فَقَالَ: شَتَمْتَ عَلِيًّا وَهُوَ جَدُّهُ، وَهُوَ أَيْضًا ابْنُ الْفَارُوقِ أَفَكُنْتَ تَرَى أَنَّهُ يَصْبِرُ لَكَ؟ قَالَ: وَأُمُّ زَيْدِ بْنِ عُمَرَ أُمُّ كُلْثُومِ بِنْتُ عَليّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، ثُمَّ إِنَّ مُعَاوِيَةَ أَرْضَاهُمَا جَمِيعًا وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا.
111- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُبَارَكِ وَعَوَانَةَ قَالا، قَالَ مُعَاوِيَةُ: (مَعْرُوفُ) زماننا منكر زمان قد مضى، و (منكره) «2» مَعْرُوفُ زَمَانٍ قَدْ بَقِيَ.
112- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: لما قدم أَبُو موسى للحكومة دس مُعَاوِيَة رجلًا الى عمرو
__________
109- الطبري 2: 206 وابن الأثير 4: 7 وابن كثير 8: 140 وانظر ما تقدم، رقم: 78.
110- الطبري 2: 212 وابن الأثير 4: 8 والعقد 4: 365، وانظر عيون الأخبار 1: 200 وابن عساكر 6: 26.
111- البصائر 4: 223 ومحاضرات الراغب 2: 168 (لأبي الدرداء) وفيه 2: 12 (لعدي بن حاتم) وبديع ابن المعتز: 37 وربيع الأبرار: 82/ أوالامامة والسياسة 1: 267 (للأحنف بن قيس) والصناعتين: 309 (لابي الدرداء) وكنز العمال 3: 392 (لعديّ) 112- عيون الأخبار 2: 206، وانظر أربع رسائل: 208
__________
(1) في أكثر المصادر: النعمان بن عجلان، ولعله الصواب، وعند البيهقي: مالك بن العجلان.
(2) ما بين معقفين سقط من ط م س وزدته من المصادر.(5/31)
ليعرف رأيه وعزمه، فأتاه الرجل فكلمه بما أراد مما أمره مُعَاوِيَة، فعض عمرو على إبهامه ولم يجبه، فأتى الرجل مُعَاوِيَة فأخبره فَقَالَ: قاتله اللَّه أعلمك أنك تفر قارحًا «1» .
113- الْمَدَائِنِيّ عَنْ عَوَانَةَ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ: أَشَدُّ الْعَرَبِ طِعَانًا عَنْ نِسَائِهِمْ بَنُو ضَبَّةَ، وَأَشَدُّ الْعَرَبِ بَأْسًا بَنُو الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ، كَانُوا يَغْزُونَ وَلا يُغْزَوْنَ.
114- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَوَانَةَ قَالَ: قَدِمَ صَعْصَعَةُ بْنُ صُوحَانَ عَلَى مُعَاوِيَةَ فَقَالَ:
قَدِمْتَ خَيْرَ مَقْدَمٍ قَدِمْتَ أَرْضَ الْمَحْشَرِ «2» ، فَقَالَ صَعْصَعَةُ: إِنَّ خَيْرَ الْمَقْدَمِ لَمَنْ قَدِمَ عَلَى اللَّهِ آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَّا أَرْضُ الْمَحْشَرِ فَلَيْسَ يَنْفَعُ الْكَافِرَ قُرْبُ الْمَحْشَرِ وَلا يَضُرُّ الْمُؤْمِنَ بُعْدُهُ.
115- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَائِدٍ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لِصَعْصَعَةَ: يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ قَلَّدْتُمْ أَمْرَكُمْ غُلامًا مِنَ النَّخَعِ، يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ بْنَ الأَشْتَرِ، (703) فَقَالَ: لَوْ كَانَ مَعَكَ لَقَلَّدْتَهُ أَمْرَكَ، إِنَّهُ شُجَاعٌ نَجِيحٌ نَصِيحٌ يَعْلَمُ ما يأتي ويذر، وَمَا رَأَيْنَا بَعْدَ أَبِيهِ مِثْلَهُ.
116- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ سُحَيْمِ بْنِ حَفْصٍ قَالَ: أَتَى مُعَاوِيَةَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ بِالرَّحِمِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: ذَكَّرْتَنِي رَحِمًا بَعِيدَةً، فقال: يا أمير المؤمنين إنّ الرحم شجنة «3» إِنْ بَلَلْتَهَا ابْتَلَّتْ وَإِنْ تَرَكْتَهَا تَقَصَّفَتْ، قَالَ لَهُ: سَلْ، قَالَ: مِائَةُ نَاقَةٍ مُتْبِعٌ وَمِائَةُ شَاةٍ رُبَّى «4» ، فَأَمَرَ لَهُ بِذَلِكَ.
117- حَدَّثَنِي هِشَامُ بْن عمار عَنِ الوليد بْن مسلم قال: بلغني أنّ معاوية صارع
__________
114- قارن بابن عساكر 6: 425 ولباب الآداب: 350 وحلية الأولياء 1: 205 وانظر أيضا ابن عساكر 6: 207 115- بعضه في طبقات ابن سعد 6: 198.
116- قارن بابن وهب: 12 (منسوبا للرسول) وأمالي القالي 1: 198 والميداني 1: 290 (منسوبا لنصر بن سيار يحدث بدويا) ونهاية ابن الأثير (عود، بلل) واللسان (بلل) وكنز العمال (في عدة مواطن) ومجازات القرآن للرضي: 110 وميزان الاعتدال 2: 109 (منسوبا للرسول) وقنسنك (شجنة) .
117 انظر كنز العمال 6: 190 (رقم 3275) .
__________
(1) العيون: يعلمني أني فررت قارحا.
(2) في أن الشام أرض المحشر راجع الانس الجليل 1: 206 وتاريخ ابن عساكر 1: 82، 85.
(3) ط م س: شنة.
(4) الشاة الربى: التي يتبعها وليدها.(5/32)
رَجُلا عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم فصرعه، فقال: أو ما عَلِمْتُمْ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَجُلٌ لا يُصَارِعُ أَحَدًا إِلا صَرَعَهُ.
118- وقال الواقدي: كان مُعَاوِيَة يغري بين سَعِيد بْن العاص بْن سَعِيد بْن العاص بْن أُمَيَّة وبين مروان بْنُ الْحَكَمِ بْنِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ، فكتب إلى سَعِيد وهو على المدينة يأمره بهدم دار مروان فلم يفعل، فأعاد عليه فلم يفعل، فلما ولي مروان المدينة كتب إليه بهدم دار سَعِيد، فأرسل الفعلة وركب مروان ليهدمها، فَقَالَ له سَعِيد: يا أبا عبد الملك أتهدم داري؟! قَالَ: كتب أمير المؤمنين إلي فِي هدمها، فبعث سَعِيد فجاء بكتب مُعَاوِيَة إليه فِي هدم دار مروان، فَقَالَ مروان: يا أبا عثمان كتب إليك بهذه الكتب فلم تعلمني؟! قَالَ: ما كنت لأمرر عليك عيشك، وإنما أراد أن يغري بيننا، فَقَالَ مروان: فداك أبي وأمي فإنك أكرمنا ريشًا وعقبًا، وأمسك عَنْ هدم داره.
119- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: قدم مُعَاوِيَة المدينة وعبد اللَّه بْن جعفر بْن أبي طالب عليل فركب إليه مُعَاوِيَة فِي الناس، فَقَالَ رجل من قريش لسائب خاثر: مطرفي لك إن غنيت ومشيت بين أيديهم، وقيل: إن ذلك كان فِي وليمة، فغنّى:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى ... وأسيافنا يقطرن من نجدة دما «1»
فنصت مُعَاوِيَة حتى فرغ، وأخذ سائب المطرف وقتل سائب يوم الحرة.
120- الْمَدَائِنِيّ قَالَ: كتب مُعَاوِيَة إلى قيس بْن سعد بْن عبادة حين أبى المصير إليه، وكان مع الحسن بن عليّ عليهما السلام: يا يهوديّ ابن اليودي إنما أنت عبد من عبيدنا، فكتب إليه: يا وثن يا ابْن الوثن دخلتم فِي الإسلام كارهين وخرجتم منه طائعين.
121- الْمَدَائِنِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ فَائِدٍ قَالَ، قَالَ مُعَاوِيَةُ لأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ: رَحِمَ الله
__________
118- الطبري 2: 164 وتذكرة ابن حمدون: 125/ أوانظر ابن عساكر 6: 140 وابن كثير 8: 66.
120- البيان 2: 87 والكامل 2: 117 وعيون الأخبار 2: 212 وربيع الأبرار: 402 ب والعقد 4: 338 والمروج 5: 45 وابن كثير 8: 99 واليعقوبي 2: 217 وكتاب التاج: 109 121- سير الذهبي 2: 362
__________
(1) ورد جانب من الخبر في الأغاني 8: 326 ونهاية الأرب 4: 17 والبيت لحسان بن ثابت في ديوانه: 35 وهو كثير الورود في كتب النقد لما أحاط به من تعليقات.(5/33)