الطبقة السادسة
وهم أصحاب الوالد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم
أَبُو الغنائم عَلَى بْن طالب بْن مُحَمَّد المعروف بابْن زبيبا:
أحد أصحاب الوالد السعيد وَكَانَ يدرس فِي الحريم فِي المسجد المقابل لباب بدر وللمسجد بابان وكانت لَهُ حلقة بجامع المهدي.
وَكَانَ أحد من قرأ عَلَيْهِ أَبُو تراب بن البقال وأبو الحسن المقرىء المعروف بابْن الفاعوس وغيرهما.
ونسخ من الخلاف - تصنيف الوالد السعيد - نسختين بخطه ونسخ غيره من تصنيفات الوالد السعيد من ذَلِكَ: العدة وأحكام القرآن والجامع الصغير وغير ذَلِكَ.
وهو أول من توفى من أصحاب الوالد السعيد بعد موته وَكَانَ بين موته وموت الوالد السعيد: أقل من سنة.
ودفن إلى جنب تربة الوالد السعيد.
أَبُو منصور علي بْن الحسن القرميسيني:
أحد من علق عن الوالد من الخلاف والمذهب وسمع مِنْهُ الحديث وزوج ابْنته لأبي علي بْن البناء وأولدها أبا نصر.
وكانت وفاته: فِي رجب من سنة ستين وأربعمائة.
ودفن بمقبرة إمامنا أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو طاهر عبد الباقي بْن مُحَمَّد بْن عبد اللَّه البزاز المعروف بصهر هبة الله المقرىء:
وَكَانَ يلازم حلقة الوالد السعيد إلى حِينَ موته.
وسمع مِنْهُ الحديث وحضر تدريسه.(2/231)
وكان شيخا صالحا معدلا.
وتوفي ليلة الجمعة لعشرين من صفر سنة إحدى وستين وأربعمائة.
ودفن فِي يوم الجمعة فِي مقبرة إمامنا أَحْمَد وَكَانَ مدة شهادته عشرة أشهر.
وَكَانَ مولده: سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
أَبُو بكر بْن علي بْن محمد بن موسى الخياط المقرىء:
البغدادي الشيخ الصالح أحد الحنابلة الأخيار.
قرأ القرآن عَلَى المشايخ مِنْهُمْ: أَبُو أَحْمَد الفرضي وبكر بْن شاذان وأبو الحسين السوسنجردي وأبو الحسن الحمامي.
وسمع الحديث من جماعة مِنْهُمْ: بكر بْن شاذان فِيمَا أَخْبَرَنَا عَنْهُ بِقِرَاءَةِ أَخِي أَبِي الْقَاسِمِ قَالَ لَهُ: أَخْبَرَكُمْ بَكْرُ بْنُ شَاذَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيٌّ الأَخْبَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدَانَ قُلْتُ لَهُ: حَدَّثَكَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى عَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " الْمَاهِرُ بِالْقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ وَالَّذِي يقرؤه يُتَعْتِعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ: فَلَهُ أَجْرَانِ اثْنَانِ ".
وقرأت عَلَيْهِ ختمتين لنافع.
إحداهما من طريق الحلواني وأبي نشيط وأخبرنا أنه قرأ طريق الحلواني عَلَى الحمامي وأخبره الحمامي: أنه قرأ بها عَلَى أَبِي بكر النقاش وقرأ النقاش عَلَى الحسين بْن العباس الرازي وقرأ الرازي عَلَى أَحْمَد بْن يزيد وابْن قالون وقرأ جميعا عَلَى قالون وقرأ قالون عَلَى نافع بْن عبد الرحمن بن أبي نعيم قارىء المدينة.
وطريق أَبِي نشيط: عَلَى أَبِي أَحْمَد الفرضي وأخبره أَبُو أَحْمَد: أنه قرأ بها عَلَى أَبِي الحسين أَحْمَد بْن عثمان بْن جَعْفَر المعروف بابْن بويان وأخبره أَبُو الحسين أنه قرأ بها عَلَى أَبِي حسان أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن الأشعب وقرأ أَبُو حسان بها عَلَى(2/232)
أَبِي نشيط مُحَمَّد بْن هارون وقرأ أَبُو نشيط عَلَى قالون عيسى بْن مينا النحوي الزهري وقرأ قالون عَلَى نافع بْن عبد الرحمن بْن أَبِي نعيم قارىء المدينة وَذَلِكَ بجزم الميم من " عليهم " و " لديهم " و " إليهم " وإشباعها.
وَكَانَ ختمي عَلَيْهِ فِي ذي الحجة سنة أربع وستين وأربعمائة وَكَانَ شيخي قرأ بها فِي المحرم سنة أربعمائة.
والختمة الثانية: من طريق إسماعيل بْن جَعْفَر: بضم الميمات فِي جميع القرآن وَأَخْبَرَنِي أنه قرأ بها عَلَى أَبِي الحسين السوسنجردي في سنة أربعمائة.
وَكَانَ شيخي السوسنجردي قرأ بها عَلَى أَبِي القاسم زيد بْن أَبِي بلال.
وأخبره زيد: أنه قرأ بها عَلَى أَبِي جَعْفَر أَحْمَد بْن فرج وأخبره ابْن فرج: أنه قرأ بها عَلَى أَبِي عمرو الدوري وأخبره الدوري: أنه قرأ بها عَلَى إسماعيل بْن جَعْفَر وأخبره إسماعيل: أنه قرأ بها عَلَى نافع بْن عبد الرحمن بْن أَبِي نعيم.
وَكَانَ فراغي من هَذِهِ الختمة: فِي المحرم سنة خمس وستين وأربعمائة.
وَكَانَ شيخا خيرا أديبا ثقة.
وَكَانَ يتردد إلى الوالد السعيد الدفعات الكثيرة ويسمع درسه ويحضر أماليه بجامع المنصور وغيره.
وَكَانَ هُوَ - أعني ابْن الخياط - ثقة دينا يقرأ عَلَيْهِ القرآن والحديث فِي كل يوم فِي بيته وفي مسجده وفي جامع المنصور ويكثر عنده الناس.
وَكَانَ من شدة تحنبله: أنه كَانَ إِذَا كتب إجازة أو سماعا أو قراءة: كتب فِي آخر نسبه " الحنبلي ".
وَكَانَ قد شاهد ابْن حامد.
قرأت بخط أخي أَبِي القاسم رحمه اللَّه تعالى: سألت أبا بكر بْن الخياط عن مولده؟ فَقَالَ: فِي سنة ست وسبعين وثلاثمائة سنة الحنبلية.
وتوفي فِي جمادي الأولى سنة سبع وستين وأربعمائة.(2/233)
ودفن فِي مقبرة الجامع يوم الخميس رابع جمادى الأولى.
أَبُو الحسن علي بْن مُحَمَّد بْن عبد الرحمن البغدادي: أحد الفقهاء الفضلاء والمناظرين والأذكياء.
سمع الحديث من جماعة مِنْهُمْ: أَبُو القاسم بْن بشران وأبو إسحاق البرمكي وأبو الحسين بْن الحراني وأبو علي بْن المذهب والوالد السعيد.
ودرس الفقه عَلَى الوالد السعيد وأجلس فِي حلقة النظر والفتوى بجامع المنصور فِي الموضع الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ شيخ الوالد ابن حامد ولم يزل عَلَى ذَلِكَ: يدرس ويفتي ويناظر إلى أن خرج من بغداد سنة خمسين وأربعمائة إلى ثغر آمد - حماه اللَّه - لما جرى عَلَى الإمام القائم بأمر اللَّه - رضوان اللَّه عَلَيْهِ - واستوطنها ودرس بها.
وَكَانَ لَهُ الأصحاب بها وبرع مِنْهُمْ: أَبُو الحسن بْن الغازي.
ورحل إِلَيْهِ أخي أَبُو القاسم إلى آمد وعلق عَنْهُ من الخلاف والمذهب ثُمَّ عاد الأخ إلى بغداد لأجل الوالد.
ومات بآمد سنة سبع أو ثمان وستين وأربعمائة وقبره هناك يقصد ويتبرك به وَكَانَ يدرس فِي مقصورة بجامع آمد.
أَبُو الحسن علي بْن الحسين بْن أَحْمَد بْن إبراهيم العكبري المعروف بابْن جدا:
سمع الحديث من أَبِي علي بْن شهاب وأبي القاسم هبة اللَّه الطبري وأبي القاسم بْن بشران وأبي علي بْن شاذان وأبي علي بْن المذهب وغيرهم.
وقرأ الفقه عَلَى الوالد السعيد وله مصنف فِي الأصول.
وَكَانَ شيخا صالحا دينا كثير الصلاة حسن التلاوة للقرآن وَكَانَ ذا لسن وفصاحة فِي المجالس والمحافل.(2/234)
وتوفي فجأة فِي الصلاة فِي شهر رمضان سنة ثمان وستين وأربعمائة وصلى عَلَيْهِ بجامع المنصور ودفن فِي مقابر إمامنا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو القاسم عبيد اللَّه بْن مُحَمَّد بْن الحسين الفراء: أخي الأكبر الشاب العالم الورع الصالح.
ولد يوم السبت السابع من شعبان سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة.
هكذا قرأت بخط الوالد السعيد.
سمع الحديث من أَبِي مُحَمَّد الجوهري والوالد السعيد وجده لأمه جابر بْن ياسين وأبي الحسين بْن المهتدي وأبي الحسين بْن الأبْنوسي وأبي الحسين بْن النقور وأبي جَعْفَر بْن المسلمة وأبي الغنائم بْن المأمون ومحمد بْن وشاح وأحمد بْن ساوس وعلي الملطي وعبد الله بن هزارمرد الصريفيني فِي خلق كثير.
ورحل فِي طلب العلم والحديث إلى البلاد: واسط والبصرة والكوفة وعكبرا والموصل والجزيرة وآمد وغير ذَلِكَ.
وقرأ بآمد عَلَى تلميذ والده: أَبِي الحسن البغدادي قطعه صالحة من الخلاف والمذهب.
وَكَانَ قد علق قبل سفرته عن تلميذ والده الشريف أبي جعفر.
وكان حضر قبل ذلك درس والده السعيد وعلق عنه.
وكان يحضر مجالس النظر في الجمع وغيرها ويتكلم في المسائل مع شيوخ عصره.
وكان الوالد السعيد يأتم به في صلاة التراويح إلى أن توفي رحمة اللَّه عَلَيْهِ.
وهو الَّذِي تولى الصلاة عَلَى الوالد السعيد بجامع المنصور وتقدم عَلَى شيوخ الطوائف.
وَكَانَ ذا عفة وديانة وصيانة.(2/235)
وَكَانَ لَهُ معرفة بالجرح والتعديل وأسماء الرجال والكني وغير ذَلِكَ.
وقرأ القرآن بالروايات الكثيرة عَلَى الشيوخ الَّذِينَ انتهي الإسناد إليهم مثل: ابْن الخياط وابْن البنا وأبي الخطاب الصوفي وأحمد بْن الحسن اللحياني.
ولما ظهرت البدع في سنة تسع وستين وأربعمائة هاجر من بلدنا إلى حرم اللَّه.
وكانت وفاته فِي مضيه إلى مكة بموضع يعرف بمعدن النقرة فِي أواخر ذي القعدة من هَذِهِ السنة.
فتوفي وله ست وعشرون سنة وثلاثة أشهر ونيف وعشرون يوما تقريبا.
وَكَانَ رحمه اللَّه حسن التلاوة للقرآن كثير الدرس لَهُ مَعَ معرفته بعلومه وعلوم حديث رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وكان حسن الخط صحيحا فهما لقراءة الحديث.
رحمه اللَّه وبارك لَهُ فِيمَا صار إِلَيْهِ ونفعه بما كتب وقرأ وسمع وسعى واجتهد وعوضه بشبابه الجنة آمين.
؟ أَبُو الحسن مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن مُحَمَّد البرداني:
صحب الوالد السعيد وتردد إلى مجالسه فِي الفقه وسماع الحديث.
وَكَانَ رجلا صالحا.
وتوفي ليلة الجمعة الثالثة من ذي الحجة سنة تسع وستين وأربعمائة.
وحمل إلى جامع المنصور وصلى عَلَيْهِ ابْنه أَحْمَد.
ودفن فِي مقبرة إمامنا أَحْمَد إلى جنب أَبِي الحسن بْن الرهنية الزاهد.
وَكَانَ مولده: سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.(2/236)
ثُمَّ شيخنا وأستاذنا الشريف الزاهد الورع العابد:
أَبُو جَعْفَر عبد الخالق بْن عيسى بْن أَحْمَد بن محمد بْنِ عِيسَى بْن أَحْمَد بْن موسى بْن مُحَمَّد بن إبراهيم بْن عَبْدِ اللَّهِ بْن معبد بْن العباس بْن عبد المطلب:
ولد سنة إحدى عشرة وأربعمائة.
سمع الحديث من أَبِي القاسم بْن بشران وأبي الحسين الحراني وأبي علي بْن المذهب وأبي إسحاق البرمكي وأبي طالب بْن العشاري والوالد السعيد.
أَخْبَرَنَا شَيْخُنَا الشَّرِيفُ أَبُو جَعْفَرٍ - قِرَاءَةً - قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بِشْرَانَ - إِمْلاءً يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنَ الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثلاثين وأربعمائة - قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَهْلٍ أَحْمَدُ بن محمد بْن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زِيَادٍ الْقَطَّانُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جَابِرٍ أسقطي قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَد بن محمد بْنِ حَفْصٍ الصَّفَّارُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَوَاءٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانٍ عَنِ الْجَارُودِ عَنْ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ كَسَا مُسْلِمًا عَلَى عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ وَمَنْ سَقَاهُ عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ مِنَ الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ وَمَنْ أَطْعَمَهُ عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ ".
وبدأ يدرس الفقه على الوالد السعيد من سنة ثمان وعشرين وأربعمائة إلى سنة إحدى وخمسين يقصد إلى مجلس الوالد السعيد ويعلق الدرس ويعيد فِي الفروع وأصول الفقه.
وبرع فِي المذهب ودرس وأفتى فِي حياة الوالد السعيد.
وَكَانَ مختصر الكلام مليح التدريس جيد الكلام فِي المناظرة عالما بالفرائض وأحكام القرآن والأصول.
صنف رؤوس المسائل وشرح من المذهب: الطهارة وبعض الصلاة وسلك فِيهِ طريق الوالد السعيد فِي الجامع الكبير.(2/237)
وَكَانَ يدرس فِي مسجد سكة الخرقي وبجامع المنصور ثُمَّ انتقل إلى الجانب الشرقي فدرس فِي المسجد المعروف به مقابل دار الخلافة.
وبدأت أنا بالتعليق عَنْهُ والدرس عَلَيْهِ فِي أول سنة خمس وستين وأربعمائة وصحبته إلى أن توفي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَكَانَ يحضر معنا مجلسه جماعة من الأصحاب.
وَكَانَ إِذَا بلغه منكر قد ظهر عظم عَلَيْهِ ذَلِكَ جدا وعرف فِيهِ الكراهة الشديدة.
وَكَانَ شديد القول واللسان فِي أصحاب البدع والقمع لباطلهم ودحض كلمتهم وإبطالها.
ولم تزل كلمته عالية عليهم وأصحابه متظاهرين عَلَى أهل البدع لا يرد يدهم عَنْهُمْ أحد.
وَكَانَ حسن الصيانة عفيفا نزها.
وَكَانَ أحد الشهود المذكورين شهد عند قاضي القضاة أَبِي علي عبد اللَّه الدامعاني فِي يوم الثلاثاء الثاني من شهر ربيع الأول من سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
وشهد بعده القاضي أَبُو علي يعقوب وأبو الحسن المبارك بْن عمر الخرقي وتولى تزكيتهم الوالد السعيد.
ولم يزل يشهد سنين كثيرة إلى أن ترك الشهادة قبل وفاته بسنين كثيرة تورعا.
ولم يزل عَلَى الطريقة الحسنة المرضية سالكا نهج الوالد السعيد والسلف الصالح الرشيد.
ثُمَّ انتقل فِي سنة ست وستين إلى باب الطاق وسكن درب الديوان من الرصافة لأجل ما لحق نهر المعلي من الغرق.
ودرس بجامع المهدي وبالمسجد الذي عَلَى باب درب الديوان وكنت أمضي إِلَيْهِ فِي طلب العلم إلى هناك أنا وجماعة من الأصحاب فكان لَهُ مجلس(2/238)
للنظر فِي كل يوم اثنين ويقصده جماعة من الفقهاء المخالفين ويتكلم فِي بعض الأوقات تارة مبتدئا وتارة مستدلا إلى سنة تسع وستين.
فوصل إلى مدينة السلام بالجانب الشرقي ولد القشيري وأظهر عَلَى الكرسي مقالة الأشعري ولم تكن ظهرت قبل ذَلِكَ على رؤوس الأشهاد لما كَانَ يلحقهم من أيدي أصحابنا وقمعهم لهم فعظم ذلك عليه وأنكره غاية الإنكار وعاد إلى نهر المعلى منكرا لظهور هَذِهِ البدعة وقمع أهلها فاشتد أزر أهل السنة وقويت كلمتهم وأوقعوا بأهل هَذِهِ البدعة دفعات وكانت الغلبة لطائفتنا: طائفة الحق.
فلما أدحض اللَّه تعالى مقالتهم وكسر شوكتهم عظم ذَلِكَ عَلَى رؤسائهم وأجمعوا للهرب والخروج عن بلدنا إلى خراسان.
فبلغ ذَلِكَ وزير الوقت فَقَالَ: ما الَّذِي حملكم عَلَى ذَلِكَ؟ فأظهروا الشكاية مما قد تم عليهم فوعدهم بأن يكف عَنْهُمْ ذَلِكَ واجتمعوا ودبروا عَلَى حضور شيخنا الشريف عندهم فأنفذ إِلَيْهِ وزير الوقت فَقَالَ: قد عرض أمر لا بد من مشاورتك فِيهِ فلما دخل إلى باب العامة عدلوا به إلى دار فِي القرية قد أفردت لَهُ ومنع معظم الأصحاب من الدخول عَلَيْهِ وكانوا قد تخرصوا عَلَيْهِ ورفعوا إلى إمام الوقت الكذب والزور والبهتان فِي أشياء لا يحتمل كتابنا ذكرها قد نزه اللَّه تعالى مذهبنا وشيخنا عنها.
ولم يزل عندهم مدة أشهر وكانوا قد عرضوا عَلَيْهِ أشياء من دنياهم فلم يقبلها ولم يأكل لهم طعاما مدة مقامه عندهم وداوم الصيام فِي تلك الأيام.
ودخلت عَلَيْهِ ذات يوم من تلك الأيام فرأيته يقرأ في المصحف فَقَالَ لي: قَالَ اللَّه تعالى: واستعينوا بالصبر والصلاة تدري ما الصبر؟ فقلت: لا فَقَالَ: هُوَ الصوم ولم يفطر حتى بلغ مِنْهُ المرض نهايته.
وَكَانَ يكثر الدرس للقرآن فلما ثقل مرضه وضج الناس من حبسه أخرج(2/239)
إلى الحريم الظاهري بالجانب الغربي فمات هناك.
وَكَانَ الوالد السعيد - فِي مرضه الذي مات فيه - قد أوصى بأن يغسله الشريف أَبُو جَعْفَر فحضر وتولى ذَلِكَ بنفسه وعرف ذَلِكَ الإمام القائم بأمر اللَّه.
فلما حضرت القائم بأمر اللَّه الوفاة قَالَ: يغسلني الَّذِي غسل ابْن الفراء: ابْن أَبِي موسى وعدل عن جميع أهل العلم والقضاة والأشراف ففعل وَكَانَ ذَلِكَ فِي يوم الخميس ثالث عشر شعبان سنة سبع وستين وأربعمائة فصعد باب الغرفة وأدخل من هناك إلى حجرة الإمام القائم بآمر الله وهو ميت مسجى فِيهَا فغسله وعاونه فِي غسله من صب ماء وغيره عفيف وصافي وسلامة ومسعود.
وتنزه أن يأخذ مما هناك شيئا فقيل لَهُ: قد أوصى لك أمير المؤمنين بأشياء كثيرة من المال والثياب وهي حاضرة هناك لها قيمة فأبي أخذها فقيل لَهُ: فقميص أمير المؤمنين تتبرك به فأخذ فوطة نفسه فنشف بها الإمام القائم بأمر اللَّه وَقَالَ: قد لحق هَذِهِ الفوطة وهي ملكي بركة أمير المؤمنين ولم يأخذ القميص.
فقلت لَهُ بعد اجتماعي معه: أين سهمنا مما كَانَ هناك؟ فَقَالَ: أحييت حال شيخنا والدك الإمام أَبِي يعلى يقال: هَذَا غلامه تنزه عن هَذَا القدر الكثير فكيف لَوْ كَانَ الوالد السعيد؟ .
ولو ذهبت أشرح طريقته وزهده وورعه لما احتمله هَذَا الموضع.
وحالة أشهر وأمره أظهر من ذَلِكَ.
ولقد بلغ من قدرة ومحله عند الإمام المقتدي بأمر اللَّه: أنه لما فرغ شيخنا الشريف من غسل الإمام القائم بأمر اللَّه: لم يأذن له بالمسير إلى منزله حتى بايع الناس الإمام المقتدي بأمر اللَّه عَلَى الإجماع واستدعاه لبيعته مفردا مخليا به فبايعه ثُمَّ قَالَ لَهُ شيخنا الشريف فِي جملة كلامه لَهُ:(2/240)
إِذَا سيد منا مضى قام سيد ... قؤول بما قَالَ الكرام فعول
ثُمَّ أذن لَهُ بالمضي إلى منزله بعد بيعته.
وانتهي إِلَيْهِ فِي وقته الرحلة بطلب مذهب إمامنا أحمد.
وتوفي يوم الخميس النصف من صفر سنة سبعين وأربعمائة وأخرجت جنازته فِي غداة يوم الجمعة وحضرت الجنازة وَكَانَ يوما مشهودا لكثرة الخلق وعظم الحزن والبكاء وَكَانَ جمعا لم أر مثله لجنازة بعد جنازة الوالد السعيد.
وتقدم للصلاة عَلَيْهِ أخوه أَبُو الفضل بجامع المدينة وحفر لَهُ بجنب قبر إمامنا أَحْمَد فدفن فِيهِ وأخذ الناس من تراب قبره الكثير تبركا به.
ولزم الناس قبره ليلا ونهارا مدة طويلة ويقرأون ختمات ويكثرون الدعاء.
ولقد بلغني أنه ختم عَلَى قبره فِي مدة شهور ألوف ختمات.
وكثرت المنامات من الصالحين بالرؤى الصالحة لَهُ.
فمن جملة ما رئي لَهُ فِي المنام بعد وفاته: أن الرائي لَهُ حكى: أنه قَالَ لَهُ: ما فعل اللَّه بك؟ فقال: لما وضعت فِي قبري رأيت قبة من درة بيضاء لها ثلاثة أبواب وقائل يقول: هَذِهِ لك ادخل من أي أبوابها شئت.
ورآه إنسان آخر فِي المنام فَقَالَ لَهُ: ما فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ: التقيت بأحمد بْن حنبل فَقَالَ لي: يا أبا جَعْفَر لقد جاهدت فِي اللَّه حق جهاده وقد أعطاك اللَّه تعالى الرضا.
ورآه أَبُو بكر المعروف بابْن القيمة فِي المنام فَقَالَ لَهُ: ما فعل اللَّه بك؟ فَقَالَ لَهُ: مات الناس وكنت آخرهم أو كما قَالَ.(2/241)
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن محمد بْنِ إسحاق بْن منده الأصبهاني أَبُو القاسم:
رحل فِي طلب العلم وكتب وصنف تصانيف كثيرة.
وَكَانَ قدوة أهل السنة بأصبهان وشيخهم فِي وقته.
وَكَانَ مجتهدا متبعا آثار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويحرض الناس عليها.
وَكَانَ شديدا عَلَى أهل البدع مباينا لهم وما كَانَ فِي عصره وبلده مثله فِي ورعه وزهده وصيانته وحاله أظهر من ذَلِكَ.
وكانت بينه وبين الوالد السعيد مكاتبات.
مولده: سنة ثلاث وثمانين وثلاثمائة وفيها ولد جدي لأمي جابر.
ومات ابن منده في شوال سنة سبعين وأربعمائة فِيمَا بلغنا.
سمع والده وإبراهيم بن حرشبة فِي آخرين كثيرين.
أَبُو بكر أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الرزاز المقرىء المعروف بابْن حمدوه:
سمع الحديث من جماعة مِنْهُمْ أَبُو الحسين بْن سمعون ومن بعده.
وتفقه عَلَى الوالد السعيد فِي السنة الَّتِي تفقه فِيهَا شيخنا الشريف أَبُو جَعْفَر وكانا يصطحبان إلى مجلس الوالد السعيد.
وَكَانَ كثير القراءة للقرآن والإقراء لَهُ وختم ختمات كثيرة.
وذكره ابْن ثابت فَقَالَ: كتبت عَنْهُ وَكَانَ صدوقا.
قَالَ: وسألته عن مولده؟ فَقَالَ: ولدت فِي يوم الأربعاء لثمان عشرة خلت من صفر سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
قُلْتُ أنا: وسمعت مِنْهُ ما كَانَ عنده عن ابْن سمعون.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حُمَّدَوْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الحسين بْن سَمْعُونٍ - إِمْلاءً - قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْكَاتِبُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ الرَّبَالِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَيْمُونِ بْنِ عَطَاءٍ الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنْ(2/242)
أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: " خَطَبَنَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فَقَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ أَوَّلَ فِي مِثْلِ هَذَا الشَّهْرِ فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْمِ فِي مِثْلِ هَذِهِ السَّاعَةِ ثُمَّ اسْتَعْبَرَ ثُمَّ عَادَ فَاسْتَعْبَرَ ثُمَّ عَادَ فَاسْتَعْبَرَ حَتَّى فَاضَتْ عَيْنَاهُ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَكَانَ قَرِيبًا مِنَ الْمِنْبَرِ: مَا شَأْنُكَ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ سَلُوا اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْمُعَافَاةَ ".
توفي ابْن حمدوه فِي ليلة السبت ودفن فِي يوم السبت الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة سبعين وأربعمائة فِي مقبرة إمامنا أَحْمَد رحمه اللَّه تعالى.
أَبُو علي الحسن بْن أَحْمَدَ بْن عَبْدِ اللَّهِ المعروف بابْن البنا:
سمع الحديث من هلال الحفار وأبي القاسم الغوري وأبي مُحَمَّد السكري وأبي الحسين وأبي القاسم ابني بشران وأبي الفتح بْن أَبِي الفوارس وأبي الحسن الحمامي فِي آخرين.
وقرأ القرآن عَلَى أَبِي الحسن الحمامي بالقراءات وعلى غيره من الشيوخ وتفقه عَلَى الوالد السعيد وعلق عَنْهُ المذهب والخلاف ودرس فِي الجانب الشرقي بدار الخلافة فِي حياة الوالد السعيد وبعد وفاته.
وصنف كتبا فِي الفقه والحديث والفرائض وأصول الدين وفي علوم مختلفات وَكَانَ متقنا فِي العلوم.
ولد سنة ست وتسعين وثلاثمائة.
وَكَانَ لَهُ حلقتان إحداهما: فِي جامع المنصور والأخرى: فِي جامع القصر للفتوى والوعظ وقراءة الحديث.
سمعت مِنْهُ الحديث وَكَانَ أديبا شديدا عَلَى أهل الأهواء.
حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَنَّاءِ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْمَعْرُوفُ بِالْبَادِي قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جِبْرِيلُ بْنُ شُجَاعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو(2/243)
السُّوَيْفِيُّ الْبَلْخِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْمَجِيدِ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ الْجُودَ مِنْ جُودِ اللَّهِ فَجُودُوا يَجِدُ اللَّهُ لَكُمْ أَلا إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْجُودَ وَخَلَقَهُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَجَعَلَ أُسَّهُ رَاسِخًا فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ طُوبَى وَشَدَّ أَغْصَانَهَا بِأَغْصَانِ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَتَدَلَّى بَعْضُ أَغْصَانِهَا إِلَى الدُّنْيَا فَمَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْهَا أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ أَلا إِنَّ السَّخَاءَ مِنَ الإِيمَانِ وَالإِيمَانَ فِي الْجَنَّةِ: وَخَلَقَ الْبُخْلَ مِنْ مَقْتِهِ وَجَعَلَ أُسَّهُ فِي أَصْلِ شَجَرَةِ الزَّقُّومِ وَتَدَلَّى بَعْضُ أَغْصَانِهَا إِلَى الدُّنْيَا فَمَنْ تَعَلَّقَ بِغُصْنٍ مِنْهَا أَدْخَلَهُ النَّارَ أَلا إِنَّ الْبُخْلَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْكُفْرَ فِي النَّارِ ".
ومات أَبُو علي بْن البْناء فِي يوم السبت الخامس من رجب سنة إحدى وتسعين وأربعمائة وصلى عَلَيْهِ بجامع القصر وجامع المدينة.
ودفن بمقبرة إمامنا أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو الوفاء طاهر بْن الحسين بْن أَحْمَد يعرف بابْن القواس:
تفقه عَلَى الوالد السعيد وكانت لَهُ حلقة بجامع المنصور يفتي ويعظ.
وَكَانَ يقرأ القرآن ويدرس الفقه فِي مسجده بباب البصرة.
وَكَانَ قرأ القرآن عَلَى أَبِي الحسن الحمامي وغيره.
وسمع الحديث من هلال الحفار وأبي نصر بْن النرسي وأبي الحسين بْن بشران وغيرهم.
وَكَانَ ثقة صالحا أمارا بالمعروف ملازما لمسجده وأقام فِيهِ خمسين سنة تقريبا.
ولد سنة تسعين وثلاثمائة وتوفي ليلة الجمعة سابع عشر شعبان سنة ست وسبعين وأربعمائة وصلى عَلَيْهِ بجامع المنصور بالمدينة ودفن فِي يوم الجمعة بجنب شيخنا الشريف أَبِي جَعْفَر.(2/244)
القاضي أَبُو الفتح عبد الوهاب بْن أَحْمَد بْن عبد الوهاب بن جاكارتي:
قدم بغداد من ثغر حران قاصدا لمسجد الوالد السعيد وطالبا لدرس الفقه فتفقه عَلَيْهِ وكتب كثيرا من مصنفاته.
وَكَانَ يلي القضاء بحران من قبل الوالد السعيد كتب لَهُ عهدا بولاية القضاء بحران.
وَكَانَ ناشرا لمذهبْنا داعيا إِلَيْهِ فِي تلك الديار.
وَكَانَ مفتيها وواعظها وخطيبها ومدرسها.
وسمع الحديث من أَبِي علي بْن شاذان ومن البرقاني ومن أَبِي علي بْن شهاب ومن الوالد السعيد فِي آخرين.
واختار اللَّه العظيم لَهُ الشهادة عَلَى يدي ابْن قريش العقيلي فِي سنة ست وسبعين وأربعمائة عند اضطراب أهل حران على ابن قريش لما أظهر سب السلف بها.
أَبُو عبد اللَّه بْن عمر بْن الوليد الباجسرائي الحنبلي:
كانت لَهُ حلقة بجامع المنصور وتردد إلى مجلس الوالد السعيد الزمان الطويل وسمع مِنْهُ الحديث والدرس ومات سنة سبع وستين وأربعمائة وَكَانَ قد بلغ من السن خمسا وتسعين سنة.
أَبُو بكر عمر الحنبل الطحان:
حضر درس الوالد السعيد وعلق عَنْهُ.
ومات فِي شهر ربيع الأول سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
القاضي أَبُو علي يعقوب بْن إبراهيم بْن سطور البرزيني: قرية من قرى عكبرا.(2/245)
دخل بغداد سنة نيف وثلاثين وصحب الوالد السعيد وقرأ عَلَيْهِ الفقه وبرع فِيهِ ودرس فِي حياة الوالد السعيد وبعد وفاته بالجانب الشرقي بباب الأزج.
وصنف كتبا فِي الأصول والفروع وَكَانَ لَهُ غلمان كثيرون.
وَكَانَ مبارك التعليم لم يدرس عَلَيْهِ أحد إلا أفلح وصار فقيها.
وكانت حلقته بجامع القصر.
وشهد فِي اليوم الَّذِي شهد فِيهِ شيخنا الشريف أَبُو جَعْفَر زكاهما الوالد السعيد عند قاضي القضاة أَبِي عبد اللَّه الدامغاني.
وولي القضاء بباب الأزج من قبل الوالد السعيد فِي محرم سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة.
ورفع يده عن القضاء والشهادة فِي يوم الثلاثاء مستهل ربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة.
ثُمَّ عاد إلى القضاء والشهادة في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة.
وَكَانَ ذا معرفة ثاقبة بأحكام القضاء وإنفاذ السجلات وشهد عَلَى إنفاذه فِي داره جماعة من الشهود فِي قضية تتعلق بالوكلاء أجلهم اللَّه تعالى وفي قضية تتعلق ببيت ابْن زريق تعرف بقرية ابْن إسحاق ثُمَّ سجل بها.
وَكَانَ متشددا فِي السنة متعففا فِي القضاء.
وسمع الحديث من جماعة بعكبرا وببلدنا مِنْهُمْ: الوالد السعيد.
وتفقه عَلَيْهِ أخي أَبُو حازم حفظه اللَّه وعنه علق الفقه وقد بارك اللَّه لَهُ فِي صحبته إياه.
ومات وهو عَلَى القضاء بباب الأزج فِي شوال من سنة ست وثمانين وأربعمائة.
وَكَانَ عمره سبعا وسبعين سنة وصلى عَلَيْهِ أكبر أولاده بجامع القصر.
وحضر جنازته خلق كثير من أرباب الدين والدنيا وأصحاب المناصب(2/246)
ونقيب العباسيين ونقيب الأشراف الطالبيين وحجاب السلطان وجماعة من الشهود وغيرهم.
ودفن فِي مقبرة أَبِي بكر عبد العزيز بباب الأزج فِي يوم الأربعاء ثالث عشرين شوال.
أَبُو مُحَمَّد شافع بْن صالح بْن حاتم الحنبلي:
ورد بغداد بعد الثلاثين وأربعمائة وصحب الوالد السعيد وتفقه عَلَيْهِ وقرأ عَلَيْهِ الأصول والفروع وسمع مِنْهُ الحديث الكثير ومن غيره وكتب معظم مصنفاته فِي الأصول والفروع. وَكَانَ أخا دين وتعفف وصلاح وتقشف.
ودرس فِي الجانب الشرقي من الحرم الشريف بالمسجد الَّذِي درسنا فِيهِ الفقه علي شيخنا الشريف أَبِي جَعْفَر مقابل دار الخلافة ولم يزل مقيما به إلى أن توفي سنة ثمانين وأربعمائة ودفن فِي مقبرة إمامنا أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو إسماعيل عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ علي الهروي الأنصاري:
كَانَ يدعى شيخ الإسلام وَكَانَ إمام أهل السنة بهراة ويسمى خطيب أعجم لتبحر علمه وفصاحته ونبله.
وَكَانَ شديدا عَلَى الأشعرية وَكَانَ بينه وبين عبد الرحمن بْن منده مكاتبة.
سمع من أَبِي الفضل الجارودي الحافظ الهروي وأخذ مِنْهُ علم الحديث وأبي زكريا يحيى بْن عمار السجزي المفسر الحنبلي وأخذ مِنْهُ علم التفسير.
ورحل إلى نيسابور وسمع من أصحاب أَبِي العباس الأصم وغيره.
روى عَنْهُ خلق كثير وَكَانَ لَهُ أولاد.
أحدهم: عبد الهادي والآخر جابر.
فأما عبد الهادي فقتلته الباطنية سنة نيف وتسعين وأربعمائة عَلَى ما انتهى إلينا.(2/247)
أنشدنا مُحَمَّد بْن أَحْمَد بْن أَحْمَد الأصفهاني قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَلَى الهمذاني بها قَالَ: أنشدنا عبد اللَّه بْن مُحَمَّد الأنصاري الهروي الحنبلي شيخ الإسلام لنفسه من قصيدة لَهُ فِي السنة:
أنا حنبلي ما حييت فإن أمت ... فوصيتي ذاكم إلى إخواني
إذ دينه ديني وديني دينه ... ما كنت إمعة لَهُ دينان
وتوفي عبد اللَّه الأنصاري عَلَى ما بلغنا سنة إحدى وثمانين وأربعمائة.
أَبُو الفرج عبد الواحد بْن مُحَمَّد الشيرازي المعروف بالمقدسي:
صحب الوالد السعيد من سنة نيف وأربعين وتردد إلى مجلسه سنين عدة.
وعلق عَنْهُ أشياء فِي الأصول والفروع ونسخ واستنسخ من مصنفاته.
وسافر إلى الرحبة والشام وحصل لَهُ الأصحاب والأتباع والتلامذة والغلمان.
وكانت لَهُ كرامات ظاهرة ووقعات مَعَ الأشاعرة وظهر عليهم بالحجة فِي مجالس السلاطين ببلاد الشام.
ويقال: إنه اجتمع مَعَ الخضر عَلَيْهِ السَّلامُ دفعتين.
وَكَانَ يتكلم فِي عدة أوقات عَلَى الخاطر كما كَانَ يتكلم ابْن القزويني الزاهد.
فبلغني أن تتشا لما عزم عَلَى المجيء إلى بغداد فِي الدفعة الأولى لما وصلها السلطان: سأله الدعاء فدعا لَهُ بالسلامة فعاد سالما فلما كَانَ فِي الدفعة الثانية استدعاه السلطان وهو ببغداد لأخيه تتش فرعب وسأل أبا الفرج الدعاء لَهُ فَقَالَ لَهُ: لا تراه ولا تجتمع به فَقَالَ لَهُ تتش: هُوَ مقيم ببغداد وقد برزت إلى عنده ولا بد من المسير إليه فقال له: لا تراه فعجب من ذَلِكَ وبلغ هيت فجاءه(2/248)
الخبر بوفاة السلطان ببغداد فعاد إلى دمشق وزادت حشمة أَبِي الفرج عنده ومنزلته لديه.
وبلغني أن بعض السلاطين من المخالفين كَانَ أَبُو الفرج يدعو عَلَيْهِ ويقول: كم أرميه ولا تقع الرمية به؟ فلما كَانَ فِي الليلة الَّتِي هلك ذَلِكَ المخالف فِيهَا قَالَ أَبُو الفرج لبعض أصحابه: قد أصبت فلانا وقد هلك فأرخت تلك الليلة فلما كَانَ بعد بضعة عشر يوما ورد الخبر بوفاة ذَلِكَ الرجل فِي تلك الليلة الَّتِي أخبر أَبُو الفرج بهلاكه فِيهَا.
وَكَانَ أَبُو الفرج ناصرا لاعتقادنا متجردا فِي نشره مبطلا لتأويلات أخبار الصفات.
وله تصنيف فِي الفقه والوعظ والأصول.
وتوفي بدمشق سنة ست وأربعمائة.
أَبُو الحسن علي بْن عمرو بْن علي الحراني الحنبلي الصالح التقي صاحب الوالد السعيد: توفي بسروج فِي شعبان من سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
وحكي لي ابْنة خليفة قَالَ: حكى لي رجل من أهل سروج من الصالحين: أنه رأى فِي تلك الليلة قائلا يقول لَهُ: يا فلان إلى متى تنام؟ قم قد انهدم ربع الإسلام قَالَ: فانتبهت وانزعجت ثُمَّ عدت نمت فرأيت القائل يقول لي: كم تنام قم قد انهدم ربع الإسلام قَالَ: فقعدت واستغفرت اللَّه فقلت: إيش هَذَا؟ قَالَ: ثُمَّ نمت فَقَالَ لي: يا فلان قم قد انهدم ربع الإسلام قد مات علي بْن عمرو قَالَ: فأصبحت وقد مات.(2/249)
أَبُو مُحَمَّد رزق اللَّه بْن عبد الوهاب بْن عبد العزيز بْن الحرث بْن أسد التميمي:
أحد الحنابلة المشهورين فِي الحنبلية هُوَ وأبوه وعمه وجده.
وَكَانَ حسن العبادة مليح الإشارة فصيح اللسان.
وَكَانَ يجلس فِي حلقة أبيه بجامع المنصور للوعظ والفتوى إلى سنة خمسين وأربعمائة ثُمَّ انقطع عن المضي إلى جامع المنصور وانتقل إلى دار الخلافة بباب المراتب وَكَانَ يمضي فِي السنة أربع دفعات: فِي رجب وشعبان إلى مقبرة إمامنا ويعقد هناك مجلسا للوعظ ويجتمع عنده الخلق الكثير والجم الغفير لاستماع كلامه ويحضر بين يديه ابْنه أَبُو الفضل عبد الواحد ينهض بعد كلامه عَلَى قدميه ويورد فصولا مجموعة.
قرأ القرآن عَلَى أَبِي الحسن الحمامي وسمع الحديث من أَبِي عمر بْن مهدي وأبي الحسن الحمامي وأحمد بْن علي بْن البادي وأبي الحسين وأبي القاسم ابني بشران وأبي عَلَى بْن شاذان.
وتفقه عَلَى القاضي أَبِي علي بْن أَبِي موسى الهاشمي.
وقرأ عَلَى الوالد السعيد قطعة من المذهب وَكَانَ يفتى فِي المسائل المشهورة.
وَكَانَ إمام العصر يراسل به فِي بعض مهماته إلى أمراء الأطراف لأنه كَانَ لَهُ قبول عند الأمراء والوزراء فلما ورد أصفهان كتب الناس عَنْهُ الحديث.
وشهد عند قاضيي القضاة: أبو عبد الله ابن ماكولا وابْن الدامغاني فقبلا شهادته.
قرأت عَلَى أَبِي مُحَمَّد رزق اللَّه قُلْتُ لَهُ: أَخْبَرَكَ أَبُو عُمَرَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَهْدِيٍّ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ كَرَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلالٍ عَنْ شَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ(2/250)
تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لي ولياً فقال آذَنَنِي بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيءٍ أَحَبَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلَئِنْ سَأَلَنِي عَبْدِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ " أخرجه البخاري عن ابْن كرامة.
مولده سنة أربعمائة وقيل: سنة إحدى وأربعمائة.
ومات ليلة النصف من جمادى الأولى سنة ثمان وثمانين وأربعمائة.
ودفن فِي داره بباب المراتب ثُمَّ نقل بعد ذَلِكَ إلى مقبرة إمامنا لما توفي ابْنه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة.
قَالَ أَبُو مُحَمَّد التميمي: أنفذ الخليفة المطيع لله بمال عظيم ليبني عَلَى قبر أَحْمَد بْن حنبل قبة فَقَالَ لَهُ جدي وأبو بكر عبد العزيز: أليس تريد أن تتقرب إلى اللَّه تعالى بذلك؟ فَقَالَ: بلى فقالا لَهُ: إن مذهبه أن لا يبْنى عَلَيْهِ شيء فَقَالَ: تصدقوا بالمال عَلَى من ترونه فقالا لَهُ: بل تصدق به عَلَى من تريد أنت فتصدق به.
وقال أيضاً: لما توفي أبو الفرج تحرجت أن أدفنه فِي الدكة مَعَ أَحْمَد ثُمَّ دفنته فلما كَانَ الليل: رأيته فِي النوم فَقَالَ لي: يا مُحَمَّد ضيقت عَلَى الإمام فقلت: تحب أنبشك وأدفنك فِي موضع آخر؟ فَقَالَ: إِذَا نقلتني عن هَذَا الرجل فبمن أتبرك؟ .(2/251)
أَبُو إسحاق إبراهيم الخزاز:
كَانَ صالحا مقرئا دينا وسمع من الوالد السعيد وحضر بعض أماليه.
ومات يوم السبت تاسع ربيع الآخر سنة تسع وثمانين وأربعمائة وصليت عَلَيْهِ إماما بجامع المنصور.
أَبُو يعلى بْن الكيال: كَانَ رجلا صالحا وتردد إلى الوالد السعيد زماناً متواصلاً.
وسمع منع علما واسعا وَكَانَ عبدا صالحا وقيل: إنه كَانَ يحفظ الاسم الأعظم.
أَبُو الحسن علي بْن المبارك النهري:
ولد بدرب النهر من الكرخ فعرف بالنهري.
وتفقه عَلَى الوالد السعيد فِي حياته وبعد مماته.
وَكَانَ كثير الذكاء قيما بالفرائض.
سمع من الوالد السعيد الحديث الكثير.
وتوفي فِي ذي القعدة سنة نيف وثمانين وأربعمائة.
وسألني ولده الكبير الصلاة عَلَى أبيه إماما بجامع المنصور ففعلت ودفن فِي مقبرة الجامع.
أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّه بْن جابر بْن ياسين خالي:
سمع من الوالد السعيد الكثير وَكَانَ أحد من يستملي لَهُ بجامع المنصور وعلق عَنْهُ قطعة من المذهب والخلاف وكتب أشياء من تصانيفه.
وسمع من خلق كثير مِنْهُمْ أَبُو علي بْن شاذان وأبو القاسم بْن بشران فِي آخرين.
وحدث وسمع مِنْهُ جماعة وسمعت مِنْهُ عدة أجزاء.(2/252)
وَكَانَ صادق اللهجة حسن الوجه مليح المحاضرة كثير القراءة للقرآن مليح الخط حسن الحساب.
مولده: سنة تسع عشرة وأربعمائة.
وموته: يوم الأربعاء العشرين من شوال سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة وصليت عَلَيْهِ إماما.
ودفن فِي تربة والده قريبا من قبر إمامنا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّد بْن الحسن الراداني:
صحب الوالد السعيد وَكَانَ زاهدا ورعا عالما بالقراءات وغيرها.
مات يوم الأحد رابع عشر جمادى الأولى سنة أربع وتسعين وأربعمائة.
أَبُو الحسن بْن زفر العكبري:
صحب الوالد السعيد وسمع درسه.
وَكَانَ صالحا كثير التلاوة والتلقين للقرآن.
وبلغني أنه سرد الصوم خمسا وسبعين سنة.
ومات وسنه تسعون سنة.
وكانت وفاته قبل وفاة أَبِي عبد اللَّه الراداني بأيام لا أحفظ عددها.
2 - أَبُو علي أَحْمَد بْن مُحَمَّد بْن أَحْمَد البرداني: سمع درس الوالد السعيد سنين وسمع مِنْهُ الحديث الكثير وَكَانَ أحد المستملين عَلَى الوالد السعيد بجامع المنصور.
وتوفي عشية يوم الأربعاء لعشر من شوال سنة ثمان وتسعين وأربعمائة ودفن في يوم الخميس.
أَبُو القاسم الغوري
كَانَ شيخا صالحا مقرئا دينا.(2/253)
أَبُو منصور مُحَمَّد بْن أَحْمَد بن علي الخياط المقرىء:
الشيخ الصالح الثقة الدين.
قرأ القرآن عَلَى أَبِي نصر بْن مسرور المقرىء وغيره ولم يزل يقرىء ويلقن إلى حِينَ وفاته. وَكَانَ حسن التلقين والتلاوة.
وسمع من عبد الغفار المؤدب وأبي القاسم بْن بشران وأبي عبد اللَّه أخي الخلال وأبي منصور بْن السواق وأبي الحسن بْن القزويني وأبي القاسم بْن الدمناني فِي آخرين.
وتفقه عَلَى الوالد السعيد وَكَانَ الوالد إِذَا جلس للحكم بنهر المعلي يقصد الجلوس للحكم فِي مسجده ويصلي خلفه.
فسمعته يقول: أول يوم جلس والدك القاضي الإمام للقضاء واجتمع الناس: حضرت صلاة الظهر فتأخرت وقلت: يا سيدنا نتجمل بالصلاة وراءك فَقَالَ لي: تقدم يا أبا منصور جمالك صلاتي وراءك.
فغرس لَهُ فِي قلوب العامة والخاصة نباهة وجلالة.
وَكَانَ كثير الصيام ومداومة القيام.
ولد سنة إحدى وأربعمائة.
وتوفي فِي المحرم سنة تسع وتسعين وصلى عَلَيْهِ سبطه أَبُو مُحَمَّد فِي جامع القصر وصلى عَلَيْهِ فِي جامع المنصور.
وَكَانَ الخلق عَلَى جنازته متوفرون.
ودفن بجنب قبر أبي الوفاء بْن القواس بينه وبين قبر إمامنا أَحْمَد قبران.
أقرأ القرآن بضعا وستين سنة ولقن أمما وَكَانَ رحيما بالغرباء والأمراء الَّذِينَ يعلمهم القرآن وَكَانَ لَهُ ورد بين العشاءين يقرأ فِيهِ سبعا من القرآن قائما وقاعدا.(2/254)
ولقد رئي لَهُ من المنامات الصالحة فِي حياته وبعد وفاته عدة منامات.
أَبُو بكر أَحْمَد بْن علي بْن أَحْمَد العلثي:
أحد المشهورين بالصلاح والزهد.
صحب الوالد السعيد سنين يسمع درسه والحديث مِنْهُ فعادت بركته عَلَيْهِ فصار عالما زاهدا عابدا فظهر لَهُ فِي الناس القبول والمحبة وإجابة الدعاء.
وَكَانَ فِي حداثته يعمل صنعة الجص والاسفيداج ويتنزه من عمل الصور والنقوش وينهى الصناع عن ذَلِكَ.
وحكى لي: أنه لما دخل إلى دار بعض السلاطين مكرها مَعَ جملة من الصناع أنه أدخل إلى بيت فِي دار تعمر وَكَانَ فِي البيت صور من الاسفيداج مجسمة فقيل لَهُ: تعمل فِي هَذَا البيت؟ فَقَالَ: نعم فلما خرجوا عَنْهُ وخلا بْنفسه أخذ الفأس وعمد إلى الأداة الَّتِي تكون للصناع للعمل وكسر الصور كلها بها فلما جاء العرفاء ورأوا ما فعل: استعظموا ذَلِكَ مِنْهُ وقيل لَهُ: كيف أقدمت عَلَى فعل هَذَا فِي دار هَذَا السلطان وقد أنفق عَلَى هَذِهِ مالا؟ فَقَالَ: هَذَا منكر وَاللَّهِ أمر بكسره والآن قد فعلت ما تعين علي من الإنكار أو كلاما هَذَا معناه فانتهي أمره إلى السلطان وقيل لَهُ: هَذَا رجل صالح مشهور بالديانة وهو من أصحاب ابْن الفراء فَقَالَ: يخرج ولا يتكلم ولا يقال له أي شيء يضيق به صدره ولا يجاء به إلى عندنا فلما أخرج ترك عمل الجص ولازم المسجد يقرىء القرآن ويؤم الناس وَكَانَ لَهُ عقار قد ورثه عن أبيه فكان يبيع مِنْهُ شيئا فشيئا يتقوت به.
وَكَانَ عفيفا لا يأخذ من أحد شيئا ولا يطلب ولا يسأل أحداً حاجة لنفسه من أمر الدنيا مقبلا عَلَى نفسه وشأنه مشتغلا بعبادة ربه كثير الصوم والصلاة.
وَكَانَ يذهب بْنفسه فِي كل ليلة إلى دجلة ويحمل فِي كوز لَهُ الماء ليفطر عَلَيْهِ وبان من كراماته غير قليل.(2/255)
أَخْبَرَنِي من أثق به من أصحابي: أنه كَانَ لبعض أهله صبي صغير وأنه ظهر به وجع فِي حلقه ورقبته وخافوا عَلَى الصبي مِنْهُ وأنه أخذه وحمله إلى هَذَا الشيخ الصالح أَحْمَد رحمه اللَّه فقرأ شيئا عَلَيْهِ من القرآن ونفث عَلَيْهِ من ريقه فزال ما كَانَ بالصبي بإذن اللَّه تعالى بعد يوم أو يومين ولم يحتج إلى علاج بعد هَذَا.
وَكَانَ هَذَا الشيخ ممن نفعه اللَّه تعالى بصحبة الوالد السعيد.
وَكَانَ متواضعا يحمل ما يحتاج إِلَيْهِ من الخبز وغيره من حوائجه بنفسه ولا يستعين بأحد ممن يعرفه مسارعا إلى قضاء حوائج المسلمين عند الناس أجمعين.
وحج مرارا وزار النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فلما كَانَ فِي شوال من سنة ثلاث وخمسمائة: خرج عازما عَلَى الحج فبلغنا في يوم الأحد ثامن عشر المحرم من سنة أربع وخمسمائة أنه وصل إلى عرفات يوم الثلاثاء ثامن ذي الحجة من سنة ثلاث وخمسمائة وَكَانَ قد وقع عن الجمل فِي الطريق دفعتين وَكَانَ معه بقية ألم من الوقوع وأنه شهد عرفة محرما يوم الأربعاء فتوفي عشية ذَلِكَ اليوم عَلَى جبال عرفات محرما فحمل إلى مكة وطيف به حول البيت ودفن فِي يوم النحر وهو يوم الخميس بمقبرة أهل مكة عند قبر الفضيل بْن عياض الزاهد.
فكفاك بهذه الوفاة فضيلة وشرفا.
فلما صح ذَلِكَ عندنا: حصل النداء عَلَيْهِ وخصوا المسجد الجامع للصلاة عَلَيْهِ صلاة الغائب فحضر الناس وأصحاب دولة الإمام المستظهر بالله أمير المؤمنين أدام اللَّه توفيقه وتقدم بعض أصحاب الوالد السعيد إماما للصلاة عَلَيْهِ وصليت أنا عَلَيْهِ فِي مسجدي بباب المراتب لعذر وصلى معي جماعة وكذلك صلى عَلَيْهِ فِي المسجد الجامع من الجانب الغربي.
وحكى لي أنه كَانَ إِذَا حج زار القبور بمكة ويجيء إلى عند قبر الفضيل(2/256)
بْن عياض ويخطط بعصاه الأرض ويقول: يا رب ههنا يا رب ههنا فاستجاب اللَّه لَهُ رحمه اللَّه وإيانا وجميع المسلمين.
أَبُو الفتح مُحَمَّد بْن علي بْن مُحَمَّد الحلواني:
كَانَ قد شاهد الوالد السعيد وتفقه عَلَى صاحبيه القاضي أَبِي علي والشريف أَبِي جَعْفَر ودرس فِي المسجد الَّذِي كَانَ يدرس فِيهِ الشريف أَبُو جَعْفَر.
ومات فِي ذي الحجة سنة خمس وخمسمائة.
جعفر بن الحسن المقرىء الدرزيجاني:
كَانَ زاهدا أمارا بالمعروف.
وشاهد الوالد السعيد وتعلم مِنْهُ أشياء وتعلم من تلميذه الشريف أَبِي جَعْفَر وختم القرآن لخلق كثير وَكَانَ مداوما للقيام والتهجد بالليل وله ختمات كثيرة يختم كل ختمة منها فِي ركعة.
وكانت وفاته عَلَى ما حكي لي فِي الصلاة وهو ساجد فِي شهر ربيع الأخر من سنة ست وخمسمائة.
ودفن بداره بدرزيجان ومضيت إلى هناك وصليت عَلَى قبره.
عَلَى بن محمد بْنِ عَلِيٍّ أبو منصور بْن الأنباري:
تفقه عَلَى الوالد السعيد وسمع مِنْهُ الحديث الكثير.
وَكَانَ أحد الشهود العدول.
شهد عند قاضي القضاة مُحَمَّد بْن علي بْن مُحَمَّد الدامغاني ومحمد بْن المظفر الشامي وعلي بْن مُحَمَّد الدامغاني وولي القضاء بربع باب الطاق.(2/257)
وكان يعظ بجامع المنصور وجامع القصر ويشهد ويحكم وَكَانَ ينشر السنة فِي مجالسه.
وحدث عن الوالد السعيد بكثير من سماعاته ومصنفاته.
ومات فِي جمادى الآخرة سنة سبع وخمسمائة وصليت عَلَيْهِ إماما بجامع المنصور فِي المقصورة وشيعته إلى مقبرة إمامنا أَحْمَد رحمة اللَّه عَلَيْهِ.
أَبُو العباس أَحْمَد بْن الحسن بْن أَحْمَد المعروف بابْن المخلطي:
سمع من الوالد السعيد الحديث الكثير وحدث عَنْهُ.
وكتب الخلاف وغيره من مصنفات الوالد.
وقرأ القرآن عَلَى ابْن الصلحي وَكَانَ ثقة صالحا.
ومات فِي جمادي الأولى سنة ثمان وخمسمائة وصليت عَلَيْهِ إماما وشيعته إلى مقبرة إمامنا أَحْمَد رحمه اللَّه عَلَيْهِ.
الشيخ أَبُو الخطاب محفوظ بْن أَحْمَد بْن حسن الكلوذاني:
كَانَ مولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
ومات فِي جمادى الآخرة سنة عشر وخمسمائة.
أَبُو القاسم يحيى بْن عثمان بْن الشوا:
سمع من الوالد السعيد الحديث وحضر درسه ونسخ معظم كتبه وصليت عَلَيْهِ إماما فِي المصلى يوم الثلاثاء تاسع عشر جمادى الآخرة سنة اثنتى عشرة وخمسمائة ودفن فِي مقبرة إمامنا أَحْمَد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
أَبُو سعد المبارك بْن علي المخرمي:
سمع الوالد السعيد وابْن المهتدي وجدي جابرا وابْن المأمون وابْن النقور وغيرهم.
ودرس الفقه عَلَى صاحبي الوالد الإمام أَبِي عَلَى يعقوب وأبي جَعْفَر عبد الخالق.(2/258)
ودرس وأفتى وقبلت شهادته وولي قضاء باب الأزج.
كانت سيرته جميلة وعشرته مليحة.
وقيل: إن مولده سنة ست وأربعين وأربعمائة.
وَكَانَ بيني وبينه امتزاج واجتمعنا فِي مجلس الشريف أَبِي جَعْفَر للدرس غفر اللَّه لَهُ وختم القرآن لخلق كثير.
وَكَانَ مداوما للصيام والتهجد بالليل.
وتوفي فِي ليلة الجمعة ثانية عشر محرم سنة ثلاث عشرة وخمسمائة وصلى عَلَيْهِ فِي عدة مواضع دفعتان بجامع القصر الشريف كنت أنا الإمام فِي إحداها ودفن بالقرب من قبر إمامنا أَحْمَد رحمة اللَّه عَلَيْهِ وَكَانَ دفنه قبل صلاة الجمعة فِي يوم الأحد ثاني عشر الشهر المقدم ذكره.
وَكَانَ مليح المناظرة.
قاضي القضاة علي بْن مُحَمَّد بْن عقيل: الفقيه البغدادي
كَانَ مولده سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة.
ومات فِي يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الأولي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة.
وهو أَبُو الوفاء علي بْن عقيل البغدادي.
أَبُو البركات طلحة بْن أَحْمَد بْن طلحة:
قرأ عَلَى الوالد الخصال وسمع مِنْهُ الحديث الكثير ومن الجوهري ومن بعده وحضر درس الفقه وَقَالَ لي: أقرأ فِي كل أسبوع ختمتين.
ودفن فِي يوم الأربعاء ثالث شعبان سنة اثنتي عشرة وخمسمائة وصليت عَلَيْهِ إماما فِي المصلى ودفن فِي مقبرة عبد العزيز.
فنضر الله وجهه إمامنا أَحْمَد ووالدنا مُحَمَّد وسلفنا الذي سلكوا مسلكهما وألبسهما التبجيل وحلل الإكرام وبحبحهم وجميع أئمة المسلمين من أهل السنة(2/259)
والدين جنات الفردوس من دار السلام وصان فِي الدنيا أقدار إخوانهم وأحبابهم الماثلين إليهم من جميع أوليائهم ووراثهم ومن علينا وعليهم بمرافقة الأنبياء والأولياء والحلول فِي أعالي درجات أفنيتهم مَعَ المنعم عليهم من الصديقين والعلاة القدر من الصالحين والشهداء.
وإياه أسأل أن يتطول علي وعلى والدي وإخواني ومن كَانَ عَلَى اعتقادي فِي طلب مرضاته: بدوام النشاط وفي الاعتماد عَلَى حقائق موافقته بتواتر الاغتباط وأن يهب لي ولهم اتصال الجد فِي السعي إلى يوم الورود واللقاء وحلول دار السرور والبقاء فِي جوار المصطفي من صفوة المخلصين المجتبى من خيار العظماء مُحَمَّد نبينا أفضل السفراء وأوجه المستحفظين الأمناء صلوات اللَّه عَلَيْهِ وعلى آله وعلى سائر ملائكته والمصطفين من أهل ولايته.
والحمد لله رب العالمين وولي المؤمنين كما ينبغي لعظمة جلاله وعزه وبهاء جماله والسلام عَلَى من اتبع الهدى وآثر ضياء الرشد على ظلم الردى.
وصل اللَّه عَلَى سيدنا مُحَمَّد وآله وصحبه وسلم.
انتهت كتابته بمكة المكرمة تجاه باب الكعبة المعظمة على يد الفقير إلى عفو الله والملتجئ إلى حرم الإله عبد القادر بْن عبد الوهاب بْن عبد المؤمن القرشي عفا الله عن زلاته وتجاوز عن سيئاته وعفا عنه وعن والديه ومشايخه وأحبابه وإخوانه في الله وأودائه وعصمه وإياهم من الخطأ والخطل والزيغ والزلل والخلق الغبي والتعصب المذهبي.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وعترته وحزبه وحسبنا الله ونعم الوكيل في 7 شعبان المكرم سنة 874 أحسن الله تقضيها.
وأصل هذه الصورة الفوتوغرافية موجود بمكتبة يني جامع باستانبول تحت رقم 000000(2/260)
وكان بيدنا نسخة أخرى جديدة الكتب تكرم به السلفي الصالح الشيخ محمد نصيف الناشر لعلم السلف قد اتخذناها مسودة لأن كاتبها العصري تركي لا يفقه في العلم شيئاً حتى كان يحرف البديهيات.
وكان الفراغ من طبعه في ختام شهر شوال سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة وألف من هجرة رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - بمطبعة السنة المحمدية وقد حرصت على إبرازها على أدق ما أمكنني من التحقيق والتصحيح.
وهذه الطبقات تعطي صورة لما كان عليه تفكير الناس في هذا العصر الذي يعتبر من أول عصور الانحلال في المسلمين بسبب ما غلب عليهم من التقليد والعصبية المذهبية وما شاع فيهم من أوهام الصوفية حتى كان من أبرز ما يعتمدون عليه المنامات والرؤى والأخبار التي يتلقفونها من أفواه العامة وأشباههم بدون تحقيق ولا تمحيص ذلك أن رؤوسهم لم تكن بالقوة والاتزان الذي كان عند الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ولا عند جهابذة المحققين من المتأخرين أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه الإمام ابن القيم رحمهما الله فلقد كان لذلك الضعف في التفكير ولهذا التقليد والعصبية المذهبية آثار ستلمسها في ثنايا هذه الطبقات إذا حرصت على الاستمساك بالميزان العادل من كتاب الله وسننه الكونية وهدى رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفقنا الله وإياك لذلك وغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وطهر قلوبنا من كل غل على أحد من المؤمنين الحاضرين والسابقين وصلى الله وسلم وبارك على عبد الله ورسوله محمد وعلى آله أجمعين.(2/261)