ـ[تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام]ـ
المؤلف: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قَايْماز الذهبي (المتوفى: 748هـ)
المحقق: الدكتور بشار عوّاد معروف
الناشر: دار الغرب الإسلامي
الطبعة: الأولى، 2003 م
عدد الأجزاء: 15
أعده للشاملة/ مصطفى الشقيري
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مشكول الأحاديث، ومضاف لخدمة التراجم](/)
تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام
لمؤرخ الإسلام شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي
المتوفى 748 هـ - 1374 م
المجلد الأول
المغازي والترجمة النبوية
حَقّقه، وَضَبَطَ نَصَّه، وَعلَّق عَلَيْه
الدكتور بشار عوّاد معروف
دار الغرب الإسلامي(1/1)
[المقدمة]
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم.
الحمد لله الباقي بعد فناء خلقه، الكافي من توكل عليه، القيّوم الذي ملكوت كلّ شيء بيديه، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه. وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسوله؛ أرسله رحمةً للعالمين، وخاتماً للنبيين، وحرْزاً للأميين، وإماماً للمتقين بأوضح دليلٍ، وأفصح تنزيل، وأفسح سبيل، وأفسر تبيان، وأبهر برهان. اللهم آته الوسيلة، وابعثه مقاماً محموداً، يغبطه به الأولون والآخرون، وصلِّ عليه وعلى آله الطيبين، وصحابته المجاهدين، وأزواجه أمهات المؤمنين.
أما بعد: فهذا كتابٌ نافع إن شاء الله - ونعوذ بالله من علمٍ لا ينفع ومن دعاءٍ لا يُسمع - جمعته وتعبتُ عليه، واستخرجته من عدة تصانيف. يعرف به الإنسان مُهمَّ ما مضى من التاريخ، من أول تاريخ الإسلام إلى عصرنا هذا؛ من وفيات الكبار من الخلفاء، والقرَّاء والزُّهّاد والفقهاء، والمحدثين والعلماء، والسلاطين والوزراء، والنحاة والشعراء. ومعرفة طبقاتهم وأوقاتهم وشيوخهم وبعض أخبارهم، بأخصر عبارةٍ وألخص لفظ. وما تمّ من الفتوحات المشهورة والملاحم المذكورة، والعجائب المسطورة، من غير تطويل ولا إكثار ولا استيعاب. ولكن أذكر المشهورين ومن يُشْبِههم، وأترك المجهولين ومن يُشْبِههم. وأشير إلى الوقائع الكبار، إذ لو استوعبت التراجم والوقائع لبلغ الكتاب مائة مجلّدة بل أكثر، لأنّ فيه مائة نفس يمكنني أن أذكر أحوالهم في خمسين مجلداً.
وقد طالعت على هذا التأليف من الكتب مُصنَّفات كثيرة، ومادته من:
" دلائل النبوة " للبيهقي.
و" سيرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لابن إسحاق.(1/5)
و" مغازيه " لابن عائذ الكاتب.
و" الطبقات الكبرى " لمحمد بن سعد كاتب الواقدي.
و" تاريخ أبي عبد الله البخاري ".
وبعض " تاريخ أبي بكر أحمد بن أبي خيثمة ".
وبعض " تاريخ يعقوب الفسوي ".
و" تاريخ محمد بن المثنى العنزي "، وهو صغير.
و" تاريخ أبي حفص الفلاس ".
و" تاريخ أبي بكر بن أبي شيبة ".
و" تاريخ الواقدي ".
و" تاريخ الهيثم بن عدي ".(1/6)
و" تاريخ خليفة بن خياط "، و" الطبقات " له.
و" تاريخ أبي زرعة الدمشقي ".
و" الفتوح " لسيف بن عمر.
وكتاب " النسب " للزبير بن بكار.
و" المسند " للإمام أحمد.
و" تاريخ المفضل بن غسان الغلابي ".
و" الجرح والتعديل " عن يحيى بن معين.
و" الجرح والتعديل " لعبد الرحمن بن أبي حاتم.
ومَن عليه رمزٌ فهو في الكتب الستة أو بعضها، لأنني طالعت مسودة " تهذيب الكمال " لشيخنا الحافظ أبي الحجاج يوسف المزي، ثم طالعت المبيضة كلها. فَمَن على اسمه (ع) فحديثه الكتب السّتَّة، ومَن عليه (4) فهو في السنن الأربعة، ومَن عليه (خ) فهو في البخاري، ومَن عليه (م) ففي(1/7)
مسلم، ومَن عليه (د) ففي سُنَن أبي داود، ومَن عليه (ت) ففي جامع الترمذي، ومَن عليه (ن) ففي سُنَن النسائي، ومَن عليه (ق) ففي سُنَن ابن ماجة. وإن كان الرجل في الكتب إلا فرد كتابٍ فعليه (سوى ت) مثلاً، أو (سوى د).
وقد طالعت أيضاً عليه من التواريخ التي اختصرتها.
" تاريخ أبي عبد الله الحاكم ".
و" تاريخ أبي سعيد بن يونس ".
و" تاريخ أبي بكر الخطيب ".
و" تاريخ دمشق " لأبي القاسم الحافظ.
و" تاريخ أبي سعد بن السَّمْعاني "، و" الأنساب " له.
و" تاريخ القاضي شمس الدين بن خلّكان ".(1/8)
و" تاريخ العلامة شهاب الدين أبي شامة ".
و" تاريخ الشيخ قطب الدين بن اليونيني "، وتاريخه على تاريخ " مرآة الزمان " للواعظ شمس الدين يوسف بن الجوزي، وهما على الحوادث والسنين.
وطالعت أيضاً كثيراً من:
" تاريخ الطبري ".
و" تاريخ ابن الأثير ".
و" تاريخ ابن الفرضيّ ".
وصلته لابن بشكوال.
وتكملتها للأبار.
و" الكامل لابن عدي ".
وكتباً كثيرة وأجزاء عديدة، وكثيراً من: " مرآة الزمان ".(1/9)
ولم يعتن القدماء بضبط الوفيات كما ينبغي، بل اتكلوا على حفظهم، فذهبتْ وفياتُ خلقٍ من الأعيان من الصحابة، ومن تبعهم إلى قريب زمان أبي عبد الله الشافعي - رحمه الله - فكتبنا أسماءهم على الطبقات تقريباً، ثم اعتنى المتأخرون بضبط وفيات العلماء وغيرهم، حتى ضبطوا جماعةً فيهم جهالةٌ بالنسبة إلى معرفتنا لهم، فلهذا حُفِظتْ وَفَياتُ خلق من المجهولين وجُهِلتْ وَفَيات أئمة من المعروفين. وأيضاً فإن عدة بلدانٍ لم يقع إلينا تواريخها؛ إمَّا لكونها لم يؤرِّخ علماءَها أحدٌ من الحفاظ، أو جُمع لها تاريخٌ ولم يقع إلينا.
وأنا أرغبُ إلى الله - تعالى - وأبتهلُ إليه أن ينفعَ بهذا الكتاب، وأن يغفرَ لجامعِه وسامعِه ومُطالعِه وللمسلمين آمين.(1/10)
-السَّنَةُ الْأُولَى مِنَ الْهِجْرَةِ
رَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائشة أن المسلمين بالمدينة سمعوا مخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فَكَانُوا يَغْدُونَ إِلَى الْحَرَّةِ يَنْتَظِرُونَهُ، حَتَّى يَرُدَّهُمْ حَرُّ الشَّمْسِ، فَانْقَلَبُوا يَوْمًا، فَأَوْفَى يَهُودِيٌّ عَلَى أُطُمٍ فَبَصُرَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ مُبَيَّضِينَ يَزُولُ بِهِمُ السَّرَابُ، فَأَخْبَرَنِي عروة أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لقي الزبير فِي رَكْبٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا تُجَّارًا قَافِلِينَ مِنَ الشَّامِ، فَكَسَا الزُّبَيْرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بَكْرٍ ثِيَابَ بَيَاضٍ. قَالَ: فَلَمْ يَمْلِكِ الْيَهُودِيُّ أَنْ صَاحَ: يَا مَعْشَرَ الْعَرَبِ، هَذَا جَدُّكُمُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَ. فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى السِّلَاحِ. فَتَلَقَّوْهُ بِظَهْرِ الْحَرَّةِ، فَعَدَلَ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ حَتَّى نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعِ الْأَوَّلِ. فَقَامَ أَبُو بَكْرٍ لِلنَّاسِ، فَطَفِقَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَلِّمُ عَلَى أَبِي بَكْرٍ حَتَّى أَصَابَتِ الشَّمْسُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَقْبَلَ أَبُو بَكْرٍ يُظِلُّهُ بِرِدَائِهِ، فَعَرِفَ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَبِثَ فِي بَنِي عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس مَسْجِدَهُمْ. ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَسَارَ حَوْلَهُ النَّاسُ يَمْشُونَ، حَتَّى بَرَكَتْ بِهِ مَكَانَ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ يُصَلِّي فِيهِ يَوْمَئِذٍ رِجَالٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ - وَكَانَ مِرْبَدًا لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ - فَدَعَاهُمَا فَسَاوَمَهُمَا بِالْمِرْبَدِ لِيَتَّخِذَهُ مَسْجِدًا، فَقَالَا: بَلْ نَهَبُهُ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. ثُمَّ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَكَانَ يَنْقِلُ اللَّبِنَ مَعَهُمْ وَيَقُولُ:
هَذَا الْحِمَالُ، لَا حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ - رَبَّنَا - وَأَطْهَرْ(1/11)
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْأَجْرَ أَجْرُ الْآخِرَهْ ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ حَدِيثَ الْهِجْرَةِ بِطُولِهِ.
وَخَرَّجَ من حديث عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " أَقْبَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ وَهُوَ مُرْدِفٌ أَبَا بَكْرٍ. وَأَبُو بَكْرٍ شَيْخٌ يُعْرَفُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَابُّ لَا يُعْرَفُ، فَيَلْقَى الرَّجُلُ أَبَا بَكْرٍ فَيَقُولُ: مَنْ هَذَا بَيْنَ يَدَيْكَ؟ فَيَقُولُ: رَجُلٌ يَهْدِينِي الطَّرِيقَ، وَإِنَّمَا يَعْنِي طَرِيقَ الْخَيْرِ".
إِلَى أَنْ قَالَ: " فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَانِبَ الْحَرَّةِ، ثُمَّ بَعَثَ إِلَى الأنصار، فجاؤوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسلموا عَلَيْهِمَا، وَقَالُوا: ارْكَبَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ. فَرَكِبَا، وَحَفُّوا دُونَهُمَا بِالسِّلَاحِ. فَقِيلَ فِي الْمَدِينَةِ: جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ، جَاءَ نَبِيُّ اللَّهِ، فَأَقْبَلَ يَسِيرُ حَتَّى نزل إلى جانب دار أبي أيوب "، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَرَوَيْنَا بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، عَنْ أَبِي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه قَالَ: " قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ بْنُ إِسْحَاقَ: فَقَدِمَ ضُحَى يوم الاثنين لاثنتي عشرة خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، فَأَقَامَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ - فِيمَا قِيلَ - يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَالْخَمِيسِ، ثُمَّ ظَعَنَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَدْرَكَتْهُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ، فصلاها بمن معه. وكان مكان المسجد مِرْبَدًا لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ، وَهُمَا سَهْلٌ وَسُهَيْلٌ ابْنَا رافع بن عمرو من بني النجار - فيما قال موسى بن عقبة - وَكَانَا فِي حِجْرِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ الْمِرْبَدُ لِسَهْلٍ وَسُهيَلٍ ابْنَيْ عَمْرٍو، وَكَانَا فِي(1/12)
حِجْرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ.
وَغَلَطَ ابْنُ مَنْدَهْ فَقَالَ: كَانَ لِسَهْلٍ وَسُهَيْلٍ ابْنَيْ بَيْضَاءَ، وَإِنَّمَا ابْنَا بَيْضَاءَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.
وَأَسَّسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي إِقَامَتِهِ بِبَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَسْجِدَ قُبَاءَ. وَصَلَّى الْجُمُعَةَ فِي بَنِي سَالِمٍ فِي بَطْنِ الْوَادِي، فَخَرَجَ مَعَهُ رِجَالٌ مِنْهُمْ: وَهُمُ الْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ، وَعَتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يَنْزِلَ عِنْدَهُمْ وَيُقِيمَ فِيهِمْ، فَقَالَ: خَلُّوا النَّاقَةَ فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ. وَسَارَ وَالْأَنْصَارُ حَوْلَهُ حَتَّى أَتَى بَنِي بَيَاضَةَ، فَتَلَقَّاهُ زِيَادُ بْنُ لَبِيدٍ، وَفَرْوَةُ بْنُ عَمْرٍو، فَدَعُوهُ إِلَى النُّزُولِ فِيهِمْ، فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ. فَأَتَى دُورَ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَهُمْ أَخْوَالُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَتَلَقَّاهُ سَلِيطُ بْنُ قَيْسٍ، وَرِجَالٌ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ، فَدَعُوهُ إِلَى النُّزُولِ وَالْبَقَاءِ عِنْدَهُمْ، فَقَالَ: دَعُوهَا فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ. وَمَشَى حَتَّى أَتَى دُورَ بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، فَبَرَكَتِ النَّاقَةُ فِي مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ، وَهُوَ مِرْبَدُ تَمْرٍ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ. وَكَانَ فِيهِ نَخْلٌ وَخِرَبٌ، وَقُبُورٌ لِلْمُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَنْزِلْ عَنْ ظَهْرِهَا، فَقَامَتْ وَمَشَتْ قَلِيلًا، وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - لا يهيجها، ثم التفت فَكَرَّتْ إِلَى مَكَانِهَا وَبَرَكتْ فِيهِ، فَنَزَلَ عَنْهَا. فَأَخَذَ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَحْلَهَا فَحَمَلَهُ إِلَى دَارِهِ. وَنَزَلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيْتٍ مِنْ دَارِ أَبِي أَيُّوبَ. فَلَمْ يَزَلْ سَاكِنًا عِنْدَ أَبِي أَيُّوبَ حَتَّى بَنَى مَسْجِدَهُ وحُجَرَهُ فِي الْمِرْبَدِ. وَكَانَ قَدْ طَلَبَ شِرَاءَهُ فَأَبَتْ بَنُو النَّجَّارِ مِنْ بَيْعِهِ، وَبَذَلُوهُ لِلَّهِ وَعَوَّضُوا الْيَتِيمَيْنِ. فَأَمَرَ بِالْقُبُورِ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ. وَبَنَى عِضَادَتَيْهِ بِالْحِجَارَةِ، وَجَعَلَ سَوَارِيهِ مِنْ جُذُوعِ النَّخْلِ، وَسَقَفَهُ بِالْجَرِيدِ. وَعَمِلَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ حِسْبَةً.
فَمَاتَ أَبُو أُمَامَةَ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ الْأَنْصَارِيُّ تِلْكَ الْأَيَّامَ بِالذُّبَحَةِ. وَكَانَ مِنْ سَادَةِ الْأَنْصَارِ وَمِنْ نُقَبَائِهِمُ الْأَبْرَارِ. وَوَجَدَ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجْدًا لِمَوْتِهِ، وَكَانَ قَدْ كَوَاهُ. وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَى بَنِي النَّجَّارِ بَعْدَهُ نَقِيبًا وَقَالَ: أَنَا نَقِيبُكُمْ. فَكَانُوا يَفْخَرُونَ بِذَلِكَ.(1/13)
وَكَانَتْ يَثْرِبُ لَمْ تُمَصَّرْ، وَإِنَّمَا كَانَتْ قُرًى مُفَرَّقَةً: بَنُو مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ فِي قَرْيَةٍ، وَهِيَ مِثْلُ الْمَحِلَّةِ، وَهِيَ دَارُ بَنِي فُلَانٍ. كَمَا فِي الْحَدِيثِ: " خَيْرُ دُورِ الْأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النَّجَّارِ ".
وَكَانَ بَنُو عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ لَهُمْ دَارٌ، وَبَنُو مَازِنِ بْنِ النَّجَّارِ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَالِمٍ كَذَلِكَ، وَبَنُو سَاعِدَةَ كَذَلِكَ، وَبَنُو الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ كَذَلِكَ، وَبَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ كذَلَكِ، وَبَنُو عَبْدِ الْأَشْهَلِ كَذَلِكَ، وَسَائِرُ بُطُونِ الْأَنْصَارِ كَذَلِكَ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَفِي كُلِّ دُورِ الْأَنْصَارِ خَيْرٌ ".
وَأَمَرَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِأَنْ تُبْنَى الْمَسَاجِدُ فِي الدُّورِ. فَالدَّارُ - كَمَا قُلْنَا - هِيَ الْقَرْيَةُ. وَدَارُ بَنِي عَوْفٍ هِيَ قُبَاءٌ. فَوَقَعَ بِنَاءُ مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَنِي مَالِكِ بْنِ النَّجَّارِ، وَكَانَتْ قَرْيَةً صَغِيرَةً.
وَخَرَّجَ الْبُخَارِيُّ من حديث أَنَسٍ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَزَلَ فِي بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ فيهم أربع عشرة ليلة. ثم أرسل إلى بني النجار فجاؤوا ".
وَآخَى فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ. ثُمَّ فُرِضَتِ الزَّكَاةُ. وَأَسْلَمَ الْحَبْرُ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وَأُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَكَفَرَ سَائِرُ الْيَهُودِ.
-قِصَّةُ إِسْلَامِ ابْنِ سَلامٍ.
قَالَ عَبْدُ العزيز بن صهيب، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: " جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سلام فقال: أشهد أنك رسول الله حقا. وَلَقَدْ عَلِمَتْ يَهُودُ أَنِّي سَيِّدُهُمْ وَابْنُ سَيِّدِهِمْ، وأعلمهم وابن أعلمهم، فادعهم فسلهم عني قبل أن يعلموا أني قد أَسْلَمْتُ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَتَوْا، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَيْلَكُمُ اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَأَسْلِمُوا. قَالُوا: مَا نَعْلَمُهُ، فَأَعَادَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ ثَلَاثًا. ثُمَّ قَالَ: فَأَيُّ رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ؟ قَالُوا: ذَاكَ سَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا، وَأَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا. قَالَ: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ قَالُوا:(1/14)
حَاشَ لِلَّهِ، مَا كَانَ لِيُسْلِمَ. قَالَ: يَا ابْنَ سَلَّامٍ اخْرُجْ عَلَيْهِمْ. فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: وَيْلَكُمُ اتَّقُوا اللَّهَ، فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، قَالُوا: كَذَبْتَ. فَأَخْرَجَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ بِأَطْوَلَ مِنْهُ.
وَأَخْرَجَ من حديث حميد عن أنس، قَالَ: سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ بِقُدُومِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ فِي أَرْضٍ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الجَّنَةِ؟ وَمَا يَنْزَعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ أَوْ إِلَى أُمِّهِ؟ قَالَ: أَخْبَرَنِي بِهِنَّ جِبْرِيلُ آنِفًا. قَالَ: ذَاكَ عَدُوُّ اليهود من الملائكة. قال: ثم قرأ " قل مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ ". أمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، فَنَارٌ تَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا أَوَّلُ طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حُوتٍ. وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ نَزَعَ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ، وَإِذَا سَبَقَ مَاءُ الْمَرْأَةِ نَزَعَ إِلَى أُمِّهِ. فَتَشَهَّدَ وَقَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ بُهْتٌ، وَإِنَّهُمْ إِنْ يَعْلَمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أن تسألهم عني بهتوني. فجاؤوا، فقال: أي رجل عبد الله بن سلام فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُنَا وَابْنُ خَيْرِنَا، وَسَيِّدُنَا وَابْنُ سَيِّدِنَا. قَالَ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ؟ قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ شَرِّنَا، وَتَنَقَّصُوهُ. قَالَ: هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ".
وَقَالَ عَوْفٌ الْأَعْرَابِيُّ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَى، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ قَالَ: " لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ انجفل الناس قبله، وقالوا: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَجِئْتُ لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا رَأَيْتُهُ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ. فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ منه أن قال: " أَيُّهَا النَّاسُ، أَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَأَفْشُوا السَّلَامَ، وَصِلُوا الْأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الجَّنَّةَ بسلام ". صحيح.(1/15)
وَرَوَى أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ "؛ قَالَ: كَانَتِ الْعَرَبُ تَمُرُّ بِالْيَهُودِ فَيُؤْذُونَهُمْ. وَكَانُوا يَجِدُونَ مُحَمَّدًا فِي التَّوْرَاةِ، فَيَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يَبْعَثَهُ فَيُقَاتِلُونَ مَعَهُ الْعَرَبَ. فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
-قِصَّةُ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ.
قَالَ أَبُو التَّيَّاحِ، عَنْ أَنَسٍ: فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى ملأ بني النجار، فجاؤوا فَقَالَ: يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا. قَالُوا: لَا وَاللَّهِ، لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلَّا إِلَى اللَّهِ. فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ لَكُمْ: كَانَ فِيهِ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ فِيهِ خِرَبٌ وَنَخْلٌ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ، وَبِالْخِرَبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ فقطع. فصفوا النخل قبلة، وجعلوا عضادتيه حجارة، وجعلوا ينقلون الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - معهم، ويقولون:
اللهم لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَهْ ... فَانْصُرِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ.
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَاغْفِرْ لِلْأَنْصَارِ.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْمَسْجِدِ: فَطَفِقَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ يَنْقِلُونَ اللَّبِنَ، وَيَقُولُ وَهُوَ يَنْقِلُ اللَّبِنَ مَعَهُمْ:
هَذَا الْحِمَالُ، لَا حِمَالَ خَيْبَرْ ... هَذَا أَبَرُّ - رَبَّنَا - وَأَطْهَرْ
:.
وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُ الْآخِرَه ... فَارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ(1/16)
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَتَمَثَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشِعْرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُسَمَّ فِي الْحَدِيثِ. وَلَمْ يَبْلُغْنِي فِي الْحَدِيثِ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ غَيْرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ.
ذكره الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
وَقَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ: حدثنا نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ، وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ. فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو بَكْرٍ شَيْئًا. وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّبِنِ وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا. وَغَيَّرَهُ عثمان، فزاد فيه زيادة كثيرة، وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ، وَسَقْفَهُ بِالسَّاجِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سِنَانٍ، عن يعلى بن شداد، عن عبادة، أَنَّ الْأَنْصَارَ جَمَعُوا مَالًا، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: ابْنِ بِهَذَا الْمَسْجِدَ وَزَيِّنْهُ، إِلَى مَتَى نُصَلِّي تَحْتَ هَذَا الْجَرِيدِ؟ فَقَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ أَخِي مُوسَى، عَرِيشٌ كَعَرِيشِ مُوسَى.
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ فِي قَوْلِهِ: " كَعَرِيشِ مُوسَى "؛ قَالَ: إِذَا رَفَعَ يَدَهُ بَلَغَ الْعَرِيشَ، يَعْنِي السَّقْفَ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بَدْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ طَلْقِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَنَيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْجِدَ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ يَقُولُ: " قَرِّبُوا الْيَمَامِيَّ مِنَ الطِّينِ، فَإِنَّهُ مِنْ أَحْسَنِكُمْ لَهُ بِنَاءً ".
وَقَالَ أَبُو سعيد الخدري: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْمَسْجِدُ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى(1/17)
التَّقْوَى مَسْجِدِي هَذَا ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ بِأَطْوَلَ مِنْهُ.
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدَ إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ ". صَحِيحٌ.
وقال أبو سعيد: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً، وَعَمَّارٌ يَحْمِلُ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ - يَعْنِي فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ - فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَعَلَ يَنْفُضُ عَنْهُ التُّرَابَ وَيَقُولُ: " وَيْحَ عَمَّارٍ، تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ دُونَ قَوْلِهِ " تَقْتُلُهُ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ "، وَهِيَ زِيَادَةٌ ثَابِتَةُ الْإِسْنَادِ.
وَنَافَقَ طَائِفَةٌ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ مُدَارَاةً لِقَوْمِهِمْ. فَمِمَّنْ ذُكِرَ مِنْهُمْ: مِنْ أَهْلِ قُبَاءَ: الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ بْنُ الصَّامِتِ، وَكَانَ أَخُوهُ خَلَّادُ رَجُلًا صَالِحًا، وَأَخُوهُ الْجَلَّاسُ دُونَ خَلَّادٍ فِي الصَّلَاحِ.
وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ: نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ. وَبِجَادُ بْنُ عُثْمَانَ. وأبو حبيبة ابن الْأَزْعَرِ أَحَدُ مَنْ بَنَى مَسْجِدَ الضِّرَارِ، وَجَارِيَةُ بْنُ عَامِرٍ، وَابْنَاهُ: زَيْدٌ وَمُجَمِّعٌ - وَقِيلَ: لَمْ يَصِحَّ عَنْ مُجَمِّعٍ النفاق، وَإِنَّمَا ذُكِرَ فِيهِمْ لِأَنَّ قَوْمَهُ جَعَلُوهُ إِمَامَ مَسْجِدِ الضِّرَارِ - وَعَبَّادُ بْنُ حُنَيْفٍ، وَأَخَوَاهُ سَهْلٌ وَعُثْمَانُ مِنْ فُضَلَاءِ الصَّحَابَةِ.
وَمِنْهُمْ: بِشْرٌ، وَرَافِعٌ ابْنَا زَيْدٍ، وَمِرْبَعٌ، وأوس ابنا قيظي، وحاطب(1/18)
ابن أُمَيَّةَ، وَرَافِعُ بْنُ وَدِيعةَ، وَزَيْدُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَمْرُو بْنُ قَيْسٍ؛ ثَلَاثَتُهُمْ مِنْ بَنِي النَّجَارِ، وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ الْخَزْرَجِيُّ؛ مِنْ بَنِي جُشَمٍ، وعبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ، مِنْ بَنِي عَوْفٍ بْنُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَئِيسَ الْقَوْمِ.
وَمِمَّنْ أَظْهَرَ الْإِيمَانَ مِنَ الْيَهُودِ ونافق بعد: سعد بْنُ حُنَيْفٍ، وَزَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَرَافِعُ بْنُ حَرْمَلةَ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنُ التَّابُوتِ، وَكِنَانَةُ بْنُ صُورِيَا.
وَمَاتَ فِيهَا: الْبَرَاءُ بْنُ مَعْرُورٍ السُّلَمِيُّ أَحَدُ نُقَبَاءِ الْعَقَبَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ بَايَعَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَكَانَ كَبِيرَ الشَّأْنِ.
وَتَلَاحَقَ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَأَخَّرُوا بِمَكَّةَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا مَحْبُوسٌ أَوْ مَفْتُونٌ. وَلَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا أَسْلَمَ أَهْلُهَا، إِلَّا أَوْسُ اللَّهِ، وَهُمْ حَيٌّ مِنَ الْأَوْسِ؛ فَإِنَّهُمْ أَقَامُوا عَلَى شِرْكِهِمْ.
وَمَاتَ فِيهَا: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ وَالِدُ خَالِدٍ، وَالْعَاصُ بْنُ وَائِلِ السَّهْميُّ وَالِدُ عَمْرٍو بِمَكَّةَ عَلَى الْكُفْرِ.
وَكَذَلِكَ: أَبُو أُحَيْحةَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ تُوُفِّيَ بِمَالِهِ بِالطَّائِفِ.
وَفِيهَا: أُرِيَ الْأَذَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَشُرِعَ الْأَذَانُ عَلَى مَا رَأَيَا.
وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَقَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاءً لِحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَعْتَرِضُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ. وَهُوَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عُقِدَ فِي الْإِسْلَامِ.
وَفِيهَا: بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - حَارِثَةَ وَأَبَا رَافِعٍ إِلَى مَكَّةِ لِيَنْقُلَا بَنَاتَهُ وَسَوْدَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ.
وَفِي ذِي الْقِعْدَةِ عَقَدَ لِوَاءً لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، لِيُغِيرَ عَلَى حَيٍّ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ أَوْ بَنِي جُهَيْنَةَ. ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدَ بن رومان، عن عروة قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ، فَكَانَ أَوَّلُ رَايَةٍ عَقَدَهَا رَايَةَ عُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ.
وَفِيهَا: آخَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، عَلَى الْمُوَاسَاةِ والحق.(1/19)
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابن عباس قَالَ: آخَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، وَوَرَّثَ بَعْضَهُمْ مِنْ بعض، حتى نزلت: " وأولوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ ".
وَالسَّبَبُ فِي قِلَّةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي هَذَا الْعَامِ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ السِّنِينَ، أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا قَلِيلِينَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ. فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَمْ يَكُنْ إِلَّا بِبَعْضِ الْحِجَازِ، أَوْ مَنْ هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَفِي خِلَافَةِ عُمَرَ - رضي الله عنه - بَلْ وَقَبْلَهَا - انْتَشَرَ الْإِسْلَامُ فِي الْأَقَالِيمِ. فَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ سَبَبُ قِلَّةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ، وَسَبَبُ كَثْرَةِ مَنْ تُوُفِّيَ فِي زَمَانِ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَكَانَ فِي هَذَا الْقُرْبِ أَبُو قَيْسِ بْنُ الْأَسْلَتِ بْنُ جُشَمِ بْنُ وَائِلٍ الْأَوْسِيُّ الشَّاعِرُ. وَكَانَ يُعْدَلُ بِقَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ فِي الشَّجَاعَةِ وَالشِّعْرِ. وَكَانَ يَحُضُّ الْأَوْسَ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَكَانَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ يَتَأَلَّهُ وَيَدَّعِي الْحَنِيفِيَّةَ، وَيَحُضُّ قُرَيْشًا عَلَى الْإِسْلَامِ، فَقَالَ قَصِيدَتَهُ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي أَوَّلُهَا:
أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... مُغَلْغَلَةً عَنِّي لُؤَيَّ بْنَ غَالِبِ
: ... أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا، فَأَنْتُمُو
لَنَا قَادَةٌ، قَدْ يُقْتَدَى بِالذَّوَائِبِ
رَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنْ رِجَالِهِ قَالُوا: خَرَجَ ابْنُ الْأَسْلَتِ إِلَى الشَّامِ، فَتَعَرَّضَ آلَ جَفْنَةَ فَوَصَلُوهُ. وَسَأَلَ الرُّهْبَانَ فَدَعُوهُ إِلَى دِينِهِمْ فَلَمْ يُرِدْهُ. فَقَالَ لَهُ رَاهِبٌ: أَنْتَ تُرِيدُ دِينَ الْحَنِيفِيَّةِ، وَهَذَا وَرَاءَكَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ. ثُمَّ إِنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، فَلَقِي زَيْدَ بْنَ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ، فَقَصَّ عَلَيْهِ أَمْرَهُ. فَكَانَ أَبُو قَيْسٍ بَعْدُ يَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا أَنَا وَزَيْدٌ. فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ؛ وَقَدْ أَسْلَمَتِ الْخَزْرَجُ وَالْأَوْسُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أَوْسِ اللَّهِ فَإِنَّهَا وَقَفَتْ مَعَ ابْنِ الْأَسْلَتِ؛ وَكَانَ فَارِسُهَا وَخَطِيبُهَا، وَشَهِدَ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَقِيلَ لَهُ: يَا أَبَا قَيْسٍ، هَذَا صَاحِبُكَ الَّذِي كُنْتَ تَصِفُ. قَالَ: رَجُلٌ قَدْ بُعِثَ بِالْحَقِّ. ثُمَّ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَضَ عَلَيْهِ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ: مَا أَحْسَنَ هَذَا وَأَجْمَلَهُ، أَنْظُرُ فِي أَمْرِي. وَكَادَ أَنْ يُسْلِمَ. فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، فَأَخْبَرَهُ(1/20)
بِشَأْنِهِ فَقَالَ: كَرِهْتَ وَاللَّهِ حَرْبَ الْخَزْرَجِ. فَغَضِبَ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أُسْلِمُ سَنَةً. فَمَاتَ قَبْلَ السَّنَةِ.
فَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ أَشْيَاخِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: لَقَدْ سُمِعَ يُوَحِّدُ عِنْدَ الْمَوْتِ. والله أعلم(1/21)
-سنة اثنتين
-غزوة الأبواء
فِي صَفَرِهَا غَزْوَةُ الْأَبْوَاءِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ غَازِيًا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ سَعْدَ بْنَ عُبْادَةَ حَتَّى بَلَغَ وَدَّانَ يُرِيدُ قُرَيْشًا وَبَنِي ضَمْرَةَ. فَوَادَعَ بَنِي ضَمْرَةَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، وَعَقَدَ ذَلِكَ مَعَهُ سَيِّدُهُمْ مَخْشِيُّ بْنُ عَمْرٍو. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَوَدَّانُ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاحِلَ.
-بَعْثُ حَمْزَةَ
ثُمَّ فِي أَحَدِ الرَّبِيعَيْنِ: بَعَثَ عَمَّهُ حَمْزَةَ فِي ثَلَاثِينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى سَيْفِ الْبَحْرِ مِنْ نَاحِيَةِ الْعِيصِ. فَلَقِيَ أَبَا جَهْلٍ فِي ثَلَاثِمَائَةٍ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فِي مَائَةٍ وَثَلَاثِينَ رَاكِبًا. وَكَانَ مَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو الْجُهَنِيُّ وَقَوْمُهُ حُلَفَاءَ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا، فَحَجَزَ بَيْنَهُمْ مَجْدِيَّ بْنَ عمرو الجهني.
-بعث عبيدة
وَبُعِثَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ الْمُطَّلِبِ بْنُ عَبْدِ مَنْافٍ، فِي سِتِّينَ رَاكِبًا أَوْ نَحْوِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. فَنَهَضَ حَتَّى بَلَغَ مَاءً بِالْحِجَازِ بِأَسْفَلِ ثَنِيَّةِ الْمِرَّةِ. فَلَقِيَ بِهَا جَمْعًا مِنْ قُرَيْشٍ، عَلَيْهِمْ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَقِيلَ: مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ. فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ. إِلَّا أَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَعْثِ، فَرَمَى بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلُ سَهْمٍ رُمِيَ بِهِ فِي سبيل الله.
وفر من الْكُفَّارُ يَوْمَئِذٍ إِلَى الْمُسْلِمِينَ: الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو البهراني حليف(1/22)
بَنِي زُهْرَةَ، وَعُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ الْمَازِنِيِّ حَلِيفِ بَنِي عَبْدِ مَنَافَ. وَكَانَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَكِنَّهُمَا خَرَجَا لِيَتَوَصَّلَا بِالْمُشْرِكِينَ.
-غَزْوَةُ بُوَاطٍ
وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ غَازِيًا. فاستعمل على المدينة السائب أخا عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ. حَتَّى بَلَغَ بُوَاطٍ مِنْ نَاحِيَةِ رَضْوَى ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا.
-غَزْوَةُ الْعُشَيْرَةِ
وَخَرَجَ غَازِيًا فِي جُمَادَى الْأُولَى، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، حَتَّى بَلَغَ الْعُشَيْرَةَ، فَأَقَامَ هُنَاكَ أَيَّامًا، وَوَادَعَ بَنِي مُدْلَجٍ. ثُمَّ رَجَعَ فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ أَيَّامًا. وَالْعُشَيْرَةُ مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ.
وَقَالَ يُونُسُ عن ابن إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ خُثَيْمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُوكَ مُحَمَّدُ بْنُ خُثَيْمٍ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَفِيقَيْنِ فِي غَزْوَةِ الْعشيرة مِنْ بَطْنِ يَنْبُعَ. فَلَمَّا نَزَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ بِهَا شَهْرًا، فَصَالَحَ بِهَا بَنِي مُدْلِجٍ. فَقَالَ لِي عَلِيٌّ: هَلْ لَكَ يَا أَبَا الْيَقْظَانِ أَنْ نَأْتِيَ هَؤُلَاءِ؛ نفرا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يَعْمَلُونَ فِي عَيْنٍ لَهُمْ؛ نَنْظُرُ كَيْفَ يَعْمَلُونَ؟ فَأَتَيْنَاهُمْ فَنَظَرْنَا إِلَيْهِمْ سَاعَةً، ثُمَّ غَشِيَنَا النَّوْمُ فَنِمْنَا. فَوَاللَّهِ مَا أَهَبَّنَا إِلا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْنَا. فَيَوْمَئِذٍ قَالَ لِعَلِيٍّ: يَا أَبَا تراب، لما عليه من التراب.(1/23)
-بَدْرٍ الْأُولَى
وَخَرَجَ فِي جُمَادَى الْآخِرَةِ فِي طَلَبِ كُرْزِ بْنِ جَابِرِ الْفِهْرِيِّ، وَكَانَ قَدْ أَغَارَ عَلَى سَرْحِ الْمَدِينَةِ، فَبَلَغَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَادِيَ سَفَوَانَ مِنْ نَاحِيَةِ بَدْرٍ، فَلَمْ يَلْقَ حَرْبًا. وَسُمِّيَتْ بَدْرًا الْأُولَى. وَلَمْ يُدْرِكْ كُرْزًا.
-سَرِيَّةُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ
وَبُعِثَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي ثَمَانِيَةٍ من المهاجرين، فبلغ الخوار. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
-بَعْثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ
قَالَ عُرْوَةُ: ثُمَّ بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَجَبٍ عَبْدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ الْأَسَدِيَّ، وَمَعَهُ ثَمَانِيَةٌ. وَكَتَبَ مَعَهُ كِتَابًا، وَأَمَرَهُ أَنْ لَا يَنْظُرَ فِيهِ حَتَّى يَسِيرَ يَوْمَيْنِ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ وَجَدَهُ: إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ بَيْنَ نَخْلَةَ وَالطَّائِفِ، فَتَرْصُدَ لَنَا قُرَيْشًا، وَتَعْلَمَ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ. فَلَمَّا نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ فِي الْكِتَابِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: قَدْ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ أَمْضِيَ إِلَى نَخْلَةَ، وَنَهَانِي أَنْ أَسْتَكْرِهَ أَحَدًا مِنْكُمْ. فَمَنْ كَانَ يُرِيدُ الشَّهَادَةَ فَلْيَنْطَلِقْ، وَمَنْ كَرِهَ الْمَوْتَ فَلْيَرْجِعْ. فَأَمَّا أَنَا فَمَاضٍ لِأَمْرِ رسول الله. فَمَضَى وَمَضَى مَعَهُ الثَّمَانِيَةُ، وَهُمْ: أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ، وَعُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَوَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ التَّمِيمِيُّ، وَسُهَيْلُ ابن بَيْضَاءَ الْفِهْرِيُّ، وَخَالِدُ بْنُ الْبُكَيْرِ.
فَسَلَكَ بِهِمْ عَلَى الْحِجَازِ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِمَعْدِنٍ فَوْقَ الْفُرُعِ يُقَالُ لَهُ بُحْرَانُ، أَضَلَّ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ بَعِيرًا لَهُمَا، فتخلفا في(1/24)
طَلَبِهِ. وَمَضَى عَبْدُ اللَّهُ بِمَنْ بَقِيَ حَتَّى نَزَلَ بِنَخْلةَ. فَمَرَّتْ بِهِمْ عِيرٌ لِقُرَيْشٍ تَحْمِلُ زَبِيبًا وَأُدْمًا، وَفِيهَا عَمْرُو بْنُ الْحَضْرَمِيِّ وَجَمَاعَةٌ. فَلَمَّا رَآهُمُ الْقَوْمُ هَابُوهُمْ. فَأَشْرَفَ لَهُمْ عُكَّاشَةُ؛ وَكَانَ قَدْ حَلَقَ رَأْسَهُ؛ فَلَمَّا رَأَوْهُ أَمِنُوا، وَقَالُوا: عُمَّارٌ لَا بَأْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ.
وَتَشَاوَرَ الْقَوْمُ فِيهِمْ، وَذَلِكَ فِي آخِرِ رَجَبٍ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَئِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيَدْخُلُنَّ الْحَرَمَ فَلَيَمْتَنِعُنَّ مِنْكُمْ بِهِ، وَلَئِنْ قَتَلْتُمُوهُمْ لَتَقْتُلُنَّهُمْ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ. وَتَرَدَّدُوا، ثُمَّ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِمْ وَأَخْذِ تِجَارَتِهِمْ، فَرَمَى وَاقِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَمْرَو بْنَ الْحَضْرَمِيِّ فَقَتَلَهُ، وَاسْتَأْسَرُوا عُثْمَانَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْحَكَمَ بْنَ كَيْسَانَ. وَأَفْلَتَ نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
وَأَقْبَلَ ابْنُ جَحْشٍ وَأَصْحَابُهُ بِالْعِيرِ وَالْأَسِيرَيْنِ، حَتَّى قَدِمُوا الْمَدِيَنَةَ. وَعَزَلُوا خُمْسَ مَا غَنِمُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ كَذَلِكَ. وَأَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، فَنَزَلَتْ: " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ " الْآيَةَ، وَقبِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْفِدَاءَ فِي الْأَسِيرَيْنِ. فَأَمَّا عُثْمَانُ فَمَاتَ بِمَكَّةَ كَافِرًا، وَأَمَّا الْحَكَمُ فَأَسْلَمَ وَاسْتُشْهِدَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ.
وَصُرِفَتِ الْقِبْلَةُ فِي رَجَبٍ، أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ، والله أعلم.
غَزْوَةُ بَدْرٍ الْكُبْرَى
مِنَ السِّيرَةِ لِابْنِ إِسْحَاقَ، رِوَايَةُ الْبَكَّائِيِّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: سَمِعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنّ أبا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ قَدْ أَقْبَلَ مِنَ الشَّامِ في عير لقريش وَتِجَارَةٍ عَظِيمَةٍ، فِيهَا ثَلَاثُونَ أَوْ أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ؛ مِنْهُمْ: مَخْرَمَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذِهِ عِيرُ قُرَيْشٍ فِيهَا أَمْوَالُهُمْ، فَاخْرُجُوا إِلَيْهَا لَعَلَّ اللَّهَ يُنْفِلُكُمُوهَا. فَانْتَدَبَ النَّاسَ، فَخَفَّ بَعْضُهُمْ، وَثَقُلَ بَعْضٌ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَلْقَى حَرْبًا. واستشعر(1/25)
أَبُو سُفْيَانَ فَجَهَّزَ مُنْذِرًا إِلَى قُرَيْشٍ يَسْتَنْفِرُهُمْ إِلَى أَمْوَالِهِمْ. فَأَسْرَعُوا الْخُرُوجَ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ مِنْ أَشْرَافِهِمْ أَحَدٌ، إِلَّا أَنَّ أَبَا لَهَبٍ قَدْ بَعَثَ مَكَانَهُ الْعَاصَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ. وَلَمْ يَخْرُجْ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ. وَكَانَ أُمَّيَةُ بْنُ خَلَفٍ شَيْخًا جَسِيمًا فَأَجْمَعَ الْقُعُودَ. فَأَتَاهُ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ - وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ - بِمِجْمَرَةٍ وَبُخُورٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ: أَبَا عَلِيٍّ، اسْتَجْمِرْ! فَإِنَّمَا أَنْتَ مِنَ النساء. قال: قبحك الله. ثم تجهز وَخَرَجَ مَعَهُمْ. وَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَامِنِ رَمَضَانَ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عمرو ابن أُمِّ مَكْتُومٍ عَلَى الصَّلَاةِ. ثُمَّ رَدَّ أَبَا لُبَابَةَ مِنَ الرَّوْحَاءِ وَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ. وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَكَانَ أَمَامَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَايَتَانِ سَوْدَاوَانِ؛ إِحْدَاهُمَا مع علي، وَالْأُخْرَى مَعَ رَجُلٍ أَنْصَارِيٍّ. وَكَانَتْ رَايَةُ الْأَنْصَارِ مَعَ سَعْدِ بْنُ مُعَاذٍ.
فَكَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعُونَ بَعِيرًا يَعْتَقِبُونَهَا، وَكَانُوا يَوْمَ بَدْرٍ ثَلَاثُمَائَةَ وتسعة عشر رجلا. وكأن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَعَلِيٌّ، وَمَرْثدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا. وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ يَعْتَقِبُونَ بَعِيرًا. فَلَمَّا قَرُبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الصَّفْرَاءِ بَعَثَ اثْنَيْنِ يَتَجَسَّسَانِ أَمْرَ أَبِي سُفْيَانَ. وَأَتَاهُ الْخَبَرُ بِخُرُوجِ نَفِيرِ قُرَيْشٍ، فَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالُوا: خَيْرًا. وَقَالَ المقداد بن عمرو: يَا رَسُولَ اللَّهِ، امْضِ لِمَا أَرَاكَ اللَّهُ فَنَحْنُ مَعَكَ، وَاللَّهِ لَا نَقُولُ كَمَا قَالَتْ بنو إسرائيل لموسى: " اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قَاعِدُونَ "، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمَا مُقَاتِلُونَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ سِرْتَ بِنَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَجَالَدْنَا مَعَكَ مِنْ دُونِهِ حَتَّى تَبْلُغَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ خَيْرًا وَدَعَا لَهُ.
وَقَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، والله لَوِ استعرضت بنا هذا البحر لخضناه مَعَكَ. فَسَرَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُهُ، وَقَالَ: سِيرُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّ رَبِّي قَدْ وَعَدَنِي إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ: إِمَّا الْعِيرُ وإمّا النَّفِيرُ.
وَسَارَ حَتَّى نَزَلَ قَرِيبًا مِنْ بَدْرٍ. فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَسَعْدًا فِي نَفَرٍ إِلَى بَدْرٍ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ. فَأَصَابُوا رَاوِيَةً لِقُرَيْشٍ فِيهَا أَسْلَمُ وَأَبُو يَسَارٍ مِنْ مَوَالِيهِمْ، فَأَتَوْا بِهِمَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُمَا فَقَالَا: نَحْنُ سُقَاةٌ لِقُرَيْشٍ. فَكَرِهَ(1/26)
الصَّحَابَةُ هَذَا الْخَبَرَ، وَرَجَوْا أَنْ يَكُونُوا سُقَاةً لِلْعِيرِ. فَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُمَا، فَإِذَا آلَمَهُمَا الضَّرْبُ قَالَا: نَحْنَ مِنْ عِيرِ أَبِي سُفْيَانَ. وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي، فَلَمَّا سَلَّمَ قَالَ: إِذَا صَدَقَا ضَرَبْتُمُوهُمَا، وَإِذَا كَذَبَا تَرَكْتُمُوهُمَا. ثُمَّ قَالَ: أَخْبِرَانِي أَيْنَ قُرَيْشٌ؟ قَالَا: هُمْ وَرَاءَ هَذَا الْكَثِيبِ. فَسَأَلَهُمَا: كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ؟ قَالَا: عَشْرًا مِنَ الْإِبِلِ أَوْ تِسْعًا: فَقَالَ: الْقَوْمُ مَا بَيْنَ التِّسْعُمَائَةِ إِلَى الْأَلْفِ.
وَأَمَّا اللَّذَانِ بَعَثَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَجَسَّسَانِ، فَأَنَاخَا بِقُرْبِ مَاءِ بَدْرٍ وَاسْتَقَيَا فِي شَنِّهِمَا. وَمَجْدِيُّ بْنُ عَمْرٍو بِقُرْبِهِمَا لَمْ يَفْطِنَا بِهِ. فَسَمِعَا جَارِيَتَيْنِ مِنْ جَوَارِي الْحَيِّ تَقُولُ إِحْدَاهُمَا لِلْأُخْرَى: إِنَّمَا تَأْتِي الْعِيرُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ، فَأَعْمَلُ لَهُمْ ثُمَّ أَقْضِيكِ. فَصَرَفَهُمَا مَجْدِيُّ، وَكَانَ عَيْنًا لِأَبِي سُفْيَانَ. فَرَجَعَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَاهُ. وَلَمَّا قَرُبَ أَبُو سُفْيَانَ مِنْ بَدْرٍ تَقَدَّمَ وَحْدَهُ حَتَّى أَتَى مَاءَ بَدْرٍ فَقَال لِمَجْدِيٍّ: هَلْ أَحْسَسْتَ أَحَدًا؟ فَذَكَرَ لَهُ الرَّاكِبَيْنِ. فَأَتَى أَبُو سُفْيَانَ مَنَاخَهُمَا، فَأَخَذَ مِنْ أَبْعَارِ بَعِيرَيْهِمَا فَفَتَّهُ، فَإِذَا فِيهِ النَّوَى، فَقَالَ: هَذِهِ وَاللَّهِ عَلَائِفُ يَثْرِبَ. فَرَجَعَ سَرِيعًا فَصَرَفَ الْعِيرَ عَنْ طريقها، وأخذ طريق الساحل فنجى، وَأَرْسَلَ يُخْبِرُ قُرَيْشًا أَنَّهُ قَدْ نَجَا فَارْجِعُوا. فَأَبَى أَبُو جَهْلٍ وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَرِدَ مَاءَ بَدْرٍ، وَنُقِيمَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، فَتَهَابُنَا الْعَرَبُ أَبَدًا.
وَرَجَعَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثَّقَفِيُّ حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ بِبَنِي زُهْرَةَ كُلِّهِمْ، وَكَانَ فِيهِمْ مُطَاعًا. ثُمَّ نَزَلَتْ قُرَيْشٌ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى مِنَ الْوَادِي.
وَسَبَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَاءِ بَدْرٍ. وَمَنَعَ قُرَيْشًا مِنَ السَّبَقِ إِلَى الْمَاءِ مَطَرٌ عَظِيمٌ لَمْ يُصِبِ الْمُسْلِمِينَ مِنْهُ إِلَّا مَا لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ. فَنَزَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَدْنَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِ بَدْرٍ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ هَذَا الْمَنْزِلَ، أَمَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ فَلَيْسَ لَنَا أَنْ نَتَقَدَمَهُ أَوْ نَتَأَخَّرَ عَنْهُ، أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟ فَقَالَ: بَلِ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا لَيْسَ لَكَ بِمَنْزِلٍ، فَانْهَضْ بِنَا حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ وَنُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْقُلُبِ، ثُمَّ نَبْنِيَ عَلَيْهِ حَوْضًا فَنَمْلَأَهُ مَاءً، فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَاسْتَحْسَنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ، وَفَعَلَ مَا أَشَارَ بِهِ، وَأَمَرَ بِالْقُلُبِ فَغُوِّرَتْ، وَبَنَى حَوْضًا وَمَلَأَهُ مَاءً. وَبُنِيَ(1/27)
لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرِيشٌ يَكُونُ فِيهِ، وَمَشَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَوْضِعِ الْوَقْعَةِ، فَأَرَى أَصْحَابَهُ مَصَارِعَ قُرَيْشٍ، يَقُولُ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ، وَهَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ. قَالَ: فَمَا عَدَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرَعُهُ ذَلِكَ.
ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فَحَزَرُوا الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ فِيهِمْ فَارِسَانِ: الْمِقْدَادُ وَالزُّبَيْرُ. وَأَرَادَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ قُرَيْشًا عَلَى الرُّجُوعِ فَأَبَوْا، وَكَانَ الَّذِي صَمَّمَ عَلَى الْقِتَالِ أَبُو جَهْلٍ، فَارْتَحَلُوا مِنَ الْغَدِ قَاصِدِينَ نَحْوَ الْمَاءِ. فَلَمَّا رَآهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْبِلِينَ قَالَ: اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ بِخُيَلَائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ، اللَّهُمَ فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحتفهم الغداة. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ رَأَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ - " إِنْ يَكُنْ فِي أَحَدٍ مِنَ الْقَوْمِ خَيْرٌ فَعِنْدَ صَاحِبِ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، إِنْ يُطِيعُوه يَرْشُدُوا ".
وَكَانَ خُفَافُ بْنُ إِيمَاءِ بْنِ رَحْضَةَ الْغِفَارِيُّ بعث إلى قريش، حين مروا به، ابنا بِجَزَائِرَ هَدِيَّةٍ، وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ نُمِدَّكُمْ بِسِلَاحٍ وَرِجَالٍ فَعَلْنَا. فأَرَسْلَوُا إِلَيْهِ: أَنْ وَصَلَتْكَ رَحِمٌ، قَدْ قَضَيْتَ الَّذِي يَنْبَغِي، فَلَعَمْرِي لَئِنْ كُنَّا إِنَّمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ فَمَا بِنَا ضَعْفٌ، وَإِنْ كُنَّا إنما نُقَاتِلُ اللَّهَ، كَمَا يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ، مَا لِأَحَدٍ بِاللَّهِ مِنْ طَاقَةٍ.
فَلَمَّا نَزَل النَّاسُ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ قُرَيْشٍ حَتَّى وَرَدُوا حَوْضَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: دعوهم. فما شرب رجل يومئذ إِلَّا قُتِلَ، إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حَكِيمِ بن حزام. ثم إنه أسلم بعد ذلك، وَكَانَ إِذَا اجْتَهَدَ فِي يَمِينِهِ قَالَ: لَا وَالَّذِي نَجَّانِي يَوْمَ بَدْرٍ.
ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ عُمَيْرَ بْنَ وَهْبٍ الْجُمَحِيَّ لِيَحْزَرَ الْمُسْلِمِينَ. فَجَالَ بِفَرَسِهِ حَوْلَ الْعَسْكَرِ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: هُمْ ثَلَاثُمَائَةٍ يَزِيدُونَ قَلِيلًا أَوْ يَنْقُصُونَهُ، وَلَكِنْ أَمْهِلُونِي حَتَّى أَنْظُرَ لِلْقَوْمِ كَمِينٌ أَوْ مَدَدٌ؟ وَضَرَبَ فِي الْوَادِي، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ فقال: ما رأيت شيئا، ولكني قَدْ رَأَيْتُ - يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - الْبَلَايَا تَحْمِلُ الْمَنَايَا، نَوَاضِحُ يَثْرِبَ تَحْمِلُ الْمَوْتَ النَّاقِعَ. قَوْمٌ لَيْسَ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَلَا مَلْجَأٌ إِلَّا سُيُوفُهُمْ، وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ يُقْتَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَقْتُلَ رَجُلًا(1/28)
مِنْكُمْ، فَإِذَا أَصَابُوا مِنْكُمْ أَعْدَادَهُمْ، فَمَا خَيْرُ الْعَيْشِ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَرُوا رَأْيَكُمْ. فَلَمَّا سَمِعَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ ذَلِكَ مَشَى فِي النَّاسِ، فَأَتَى عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ فَقَالَ: يَا أَبَا الْوَلِيدِ إِنَّكَ كَبِيرُ قُرَيْشٍ وَسيدها وَالْمُطَاعُ فِيهَا، هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ لَا تَزَالُ تُذْكَرُ بخير إلى آخِرِ الدَّهْرِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا حَكِيمُ؟ قال: ترجع بالناس، وتحمل أمر حليفك عمرو بْنِ الْحَضْرَميِّ. قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ. أَنْتَ عَلَيَّ بِذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ حَلِيفِي فَعَلَيَّ عَقْلُهُ وَمَا أُصِيبُ مِنْ مَالِهِ. فَائْتِ ابْنَ الْحَنْظَلِيَّةِ - وَالْحَنْظَلِيَّةُ أُمُّ أَبِي جَهْلٍ - فَإِنِّي لَا أَخْشَى أَنْ يَشْجُرَ أَمْرَ النَّاسِ غَيْرُهُ. ثُمَّ قَامَ عُتْبَةُ خَطِيبًا فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّكُمْ وَاللَّهِ مَا تَصْنَعُونَ بِأَنْ تَلْقَوْا مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ شَيْئًا. وَاللَّهِ لَئِنْ أَصَبْتُمُوهُ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ فِي وَجْهِ الرَّجُلِ يَكْرَهُ النَّظَرَ إِلَيْهِ، قَتَلَ ابْنَ عَمِّهِ وَابْنَ خَالِهِ أَوْ رَجُلًا مِنْ عَشِيرَتِهِ. فَارْجِعُوا وَخَلُّوا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ أَصَابُوُه فَذَاكَ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُ ذلك ألفاكم وَلَمْ تَعَرَّضُوا مِنْهُ مَا تُرِيدُونَ.
قَالَ حَكِيمٌ: فَأَتَيْتُ أَبَا جَهْلٍ فَوَجَدْتُهُ قَدْ شَدَّ دِرْعًا من جرابها فهو يهيؤها فقلت له: يَا أَبَا الْحَكَمِ، إِنَّ عُتْبَةَ قَدْ أَرْسَلَنِي بِكَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سَحْرُهُ حِينَ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. كَلَّا، وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ. وَمَا بِعُتْبَةَ مَا قَالَ، وَلَكِنَّهُ قَدْ رَأَى مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةَ جَزُورٍ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ قَدْ تَخَوَّفَكُمْ عَلَيْهِ. ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ فَقَالَ: هَذَا حَلِيفُكَ يُرِيدُ أَنْ يَرْجِعَ بِالنَّاسِ، وَقَدْ رَأَيْتَ ثَأْرَكَ بِعَيْنِكَ، فَقُمْ فَانْشُدْ خُفْرَتَكَ وَمَقْتَلَ أَخِيكَ. فَقَامَ عَامِرٌ فَكَشَفَ رَأْسَهُ وَصَرَخَ: وَاعَمْرَاهُ، وَاعَمْرَاهُ. فَحَمِيَتِ الْحَرْبُ وَحَقِبَ أَمْرُ النَّاسِ وَاسْتَوْسَقُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِّ. وَأَفْسَدَ عَلَى النَّاسِ رَأْيَ عُتْبَةَ الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَيْهِ.
فَلَمَّا بَلَغَ عُتبَةَ قَوْلُ أَبِي جَهْلٍ: انْتَفَخَ وَاللَّهِ سَحْرُهُ، قَالَ: سَيَعْلَمُ مُصَفِّرٌ أُسْتَهُ مَنِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ. ثُمَّ الْتَمَسَ عُتْبَةُ بَيْضَةً لِرَأْسِهِ، فَمَا وَجَدَ فِي الْجَيْشِ بَيْضَةً تَسَعُهُ مِنْ عِظَمِ هَامَتِهِ، فَاعْتَجَرَ عَلَى رَأْسِهِ بِبُرْدٍ لَهُ.
وَخَرَجَ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ الْمَخْزُومِيُّ - وَكَانَ شَرِسًا سَيِّئَ الْخُلُقِ - فَقَالَ: أُعَاهِدُ اللَّهَ لأشربن مِنْ حَوْضِهِمْ أَوْ لَأَهْدِمَنَّهُ أَوْ لَأَمُوتَنَّ دُونَهُ. وَأَتَاهُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَالْتَقَيَا فَضَرَبَهُ حَمْزَةُ فَقَطَعَ(1/29)
سَاقَهُ، وَهُوَ دُونَ الْحَوْضِ، فَوَقَعَ عَلَى ظَهْرِهِ تَشْخَبُ رِجْلُهُ دَمًا. ثُمَّ جَاءَ إِلَى الْحَوْضِ حَتَّى اقْتَحَمَ فِيهِ لِيَبِرَّ يَمِينَهُ، وَاتَّبَعَهُ حَمْزَةُ فَقَتَلَهُ فِي الْحَوْضِ.
ثُمَّ إِنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ خَرَجَ لِلْمُبَارَزَةِ بَيْنَ أَخِيهِ شَيْبَةَ، وَابْنِهِ الْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَدَعَوْا لِلْمُبَارَزَةِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ عَوْفٌ وَمُعَوَّذٌ ابْنَا عَفْرَاءَ وَآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: مِنَ الْأَنْصَارِ. قَالُوا: مَا لَنَا بِكُمْ مِنْ حَاجَةٍ، لِيَخْرُجْ إِلَيْنَا أَكَفَّاؤُنَا مِنْ قَوْمِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ يَا عُبَيْدَةُ بْنَ الْحَارِثِ، وَيَا حَمْزَةُ، وَيَا عَلِيُّ. فَلَمَّا دَنَوْا مِنْهُمْ، قَالُوا: مَنْ أَنْتُمْ؟ فَتَسَمَّوْا لَهُمْ. فَقَالَ: أَكْفَاءٌ كِرَامٌ. فَبَارَزَ عُبَيْدَةُ - وَكَانَ أَسَنَّ الْقَوْمِ - عُتْبَةُ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ شَيْبَةَ، وَبَارَزَ عَلِيٌّ الْوَلِيدَ. فَأَمَّا حَمْزَةُ فَلَمْ يُمْهِلْ شَيْبَةَ أَنْ قَتَلَهُ. وَأَمَّا عَلِيٌّ فَلَمْ يُمْهِلِ الْوَلِيدَ أَنْ قَتَلَهُ. وَاخْتَلَفَ عُتْبَةُ وَعُبَيْدَةُ بَيْنَهُمَا ضَرْبَتَيْنِ: كِلَاهُمَا أَثْبَتَ صَاحِبَهُ. وَكَرَّ عَلِيٌّ وَحَمْزَةُ عَلَى عُتْبَةَ فَدَفَّفَا عَلَيْهِ. وَاحْتَمَلَا عُبَيْدَةَ إِلَى أَصْحَابِهِمَا.
والصحيح - كما سيأتي - إنما بارز حمزة عتبة، وعلي شيبة، والله أعلم.
ثُمَّ تَزَاحَفَ الْجَمْعَانِ. وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ لَا يَحْمِلُوا حَتَّى يَأْمُرَهُمْ وَقَالَ: انْضَحُوهُمْ عَنْكُمْ بِالنَّبْلِ. وَهُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي العريش، معه أَبُو بَكْرٍ. وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ صَبِيحَةَ سَبْعَ عشرة رَمَضَانَ.
قال سفيان، عن قتادة: إن وقعة بدر صبيحة يوم الجمعة سابع عشر رمضان. وقال قرة بن خالد: سألت عبد الرحمن بن القاسم عن ليلة القدر، فقال: كان زيد بن ثابت يعظم سابع عشره ويقول: هي وقعة بدر. وكذلك قال إسماعيل السدي وغيره في " تاريخ يوم بدر "، وقاله عروة بن الزبير، ورواه خالد بن عبد الله الواسطي، عن عمرو بن يحيى، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عن أبيه عن عامر بن ربيعة قال: كانت صبيحة بدر سبع عشرة من رمضان؛ لكن روى قتيبة عن جرير عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الْأَسْوَدِ عَنْ ابن مسعود في ليلة القدر قال: " تحرُّوها لإحدى عشرة بقين، صبيحتها يوم بدر "،(1/30)
كذا قال ابن مسعود، والمشهور ما قبله.
ثُمَّ عَدَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصُّفُوفَ بِنَفْسِهِ، وَرَجَعَ إِلَى الْعَرِيشِ وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ فَقَطْ. فَجَعَلَ يُنَاشِدُ رَبَّهُ وَيَقُولُ: يا رب إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ الْيَوْمَ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ. وَأَبُو بَكْرٍ يَقُولُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بَعْضُ مُنَاشَدَتِكَ رَبِّكَ. فَإِنَّ اللَّهَ مُنْجِزٌ لك ما وعدك. ثم خفق - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَانْتَبَهَ وَقَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا بَكْرٍ، أَتَاكَ النَّصْرُ، هَذَا جِبْرِيلُ آخِذٌ بِعَنَانِ فَرَسِهِ يَقُودُهُ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ.
فَرُمِيَ مِهْجَعٌ - مَوْلَى عُمَرَ - بِسَهْمٍ، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ رُمِيَ حَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ النَّجَّارِيُّ بِسَهْمٍ وَهُوَ يَشْرَبُ مِنَ الْحَوْضِ، فَقُتِلَ.
ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّاسِ يُحَرِّضُهُمْ عَلَى القتال. فقاتل عمير بن الحمام حتى قتل. ثم قاتل عوف ابن عَفْرَاءَ - وَهِيَ أُمُّهُ - حَتَّى قُتِلَ.
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْمُشْرِكيِنَ بِحَفْنَةٍ مِنَ الْحَصْبَاءِ وَقَالَ: شَاهَتِ الْوُجُوهُ. وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: شُدُّوا عَلَيْهِمْ. فَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ، وَقَتَلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْ صَنَادِيدِ الْكُفْرِ: فَقُتِلَ سَبْعُونَ وَأُسِرَ مِثْلُهُمْ.
وَرَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْعَرِيشِ. وَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ عَلَى الْبَابِ بِالسَّيْفِ فِي نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، يَخَافُونَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرَّةَ الْعَدُوِّ.
ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قد أخرجوا كرها لا حاجة لهم بقتالنا، فَمَنْ لَقِيَ أَحَدًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ فَلَا يقتله، ومن لقي أبا البختري بن هشام بْنِ الْحَارِثِ فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسُ فَلَا يَقْتُلْهُ؛ فَإِنَّهُ إِنَّمَا خَرَجَ مُسْتَكْرَهًا. فَقَالَ أبو حذيفة: أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف. فبلغت رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لِعُمَرَ: يَا أَبَا حَفْصٍ، أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي فَلْأَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ يَقُولُ: مَا أَنَا آمِنٌ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ يَوْمَئِذٍ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا، إلا(1/31)
أَنْ تُكَفِّرَهَا عَنِّي الشَّهَادَةُ. فَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
وَكَانَ أَبُو الْبَخْتَرِيِّ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَامَ فِي نَقْضِ الْصَحِيفَةِ. فَلَقِيَهُ الْمُجَذَّرُ بْنُ زِيَادٍ الْبَلَوِيُّ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ نَهَانَا عَنْ قَتْلِكَ. فَقَالَ: وَزَمِيلِي جُنَادَةُ اللَّيْثِيُّ؟ فَقَالَ الْمجذَّرُ: لَا وَاللَّهِ مَا أَمَرَنَا إِلَّا بِكَ وَحْدَكَ. فَقَالَ: لَأَمُوتَنَّ أَنَا وَهُوَ، لَا يَتَحَدَّثُ عَنِّي نِسَاءُ مَكَّةَ أَنِّي تَرَكْتُ زَمِيلِي حِرْصًا عَلَى الْحَيَاةِ. فَاقْتَتَلَا، فَقَتَلَهُ الْمُجَذَّرُ. ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ جَهَدْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَأْسِرَ، فَآتِيكَ بِهِ، فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُقَاتِلَنِي.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف: كَانَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ صَدِيقًا لِي بِمَكَّةَ. قَالَ فَمَرَرْتُ بِهِ وَمَعِي أَدْرَاعٌ قَدِ اسْتَلَبْتُهَا، فَقَالَ لِي: هَلْ لَكَ فِيَّ، فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأدراع؟ قُلْتُ: نَعَمْ، هَا اللَّهُ إِذًا. وَطَرَحْتُ الأدراع، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ وَيَدِ ابْنِهِ، وَهُوَ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ، أَمَا لَكُمْ حَاجَةٌ فِي اللَّبَنِ؟ يَعْنِي: مَن أَسَرَنِي افْتَدَيْتُ مِنْهُ بِإِبلٍ كَثِيرَةِ اللَّبَنِ. ثُمَّ جِئْتُ أَمْشِي بِهِمَا، فَقَالَ لِي أُمَّيَةُ: مَنِ الرَّجُلُ الْمُعَلَّمُ بِرِيشَةِ نَعَامَةٍ فِي صَدْرِهِ؟ قُلْتُ: حَمْزَةُ. قَالَ: ذَاكَ الَّذِي فَعَلَ بِنَا الْأَفَاعِيلَ. فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَقُودَهُمَا، إِذْ رَآهُ بِلَالٌ؛ وَكَانَ يُعَذِّبُ بِلَالًا بِمَكَّةَ، فَلَمَّا رَآهُ قَالَ: رَأْسُ الْكُفْرِ أمية بن خلف؟ لا نجوت إن نجا. قلت: أي بلال، أبأسيري؟ قال: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. قَالَ: أَتَسْمَعُ يَا ابن السوداء ما تقول؟ ثُمَّ صَرَخَ بِلَالٌ بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ، رَأْسُ الْكُفْرِ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، لَا نَجْوتُ إِنْ نَجَا. قَالَ: فَأَحَاطُوا بِنَا، وَأَنَا أَذُبُّ عَنْهُ. فَأَخْلَفَ رَجُلٌ السَّيْفَ، فَضَرَبَ رِجْلَ ابْنِهِ فَوَقَعَ، فَصَاحَ أُمَيَّةُ صَيْحَةً عَظِيمَةً، فَقُلْتُ: انْجُ بِنَفْسِكَ، وَلَا نَجَاءَ، فَوَاللَّهِ مَا أُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا. فَهَبَرُوهُمَا بِأَسْيَافِهِمْ. فَكَانَ يَقُولُ: رَحِمَ الله بلالا، ذهبت أدراعي، وفجعني بأسيري.
وعن ابن عباس، عَنْ رَجُلٍ مِنْ غِفَارٍ قَالَ: أَقْبَلْتُ أَنَا وَابْنُ عَمٍّ لِي حَتَّى أَصْعَدْنَا فِي جَبَلٍ يشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الدائرة على من تكون، فننتهب مع من ينتهب، فبينا نَحْنُ فِي الْجَبَلِ، إِذْ دَنَتْ مِنَّا(1/32)
سَحَابَةٌ، فَسَمِعْتُ فِيهَا حَمْحَمَةَ الْخَيْلِ، فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ. فَأَمَّا ابْنُ عَمِّي فَانْكَشَفَ قِنَاعُ قَلْبِهِ فَمَاتَ مَكَانَهُ، وَأَمَّا أَنَا فَكِدْتُ أَهْلَكَ، ثُمَّ تَمَاسَكْتُ.
رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَرَوَى الَّذِي بَعْدَهُ ابْنُ حَزْمٍ عَمَّنْ حَدَّثَهُ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: لَوْ كَانَ مَعِي بَصَرِي وَكُنْتُ بِبَدْرٍ لَأَرَيْتُكُمُ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ رِجَالٍ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ الْمَازِنِيِّ قال: إِنِّي لَأَتْبَعُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ، إِذْ وَقَعَ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَتَلَهُ غَيْرِي.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا يَوْمَ بَدْرٍ.
وَأَمَّا أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ فَاحْتَمَى فِي مِثْلِ الْحَرَجَةِ - وَهُوَ الشَّجَرُ الْمُلْتَفُّ - وَبَقِيَ أَصْحَابُهُ يَقُولُونَ: أَبُو الْحَكَمِ لَا يُوصَلُ إِلَيْهِ. قَالَ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوح: فَلَمَّا سَمِعْتُهَا جَعَلْتُهُ مِنْ شَأْنِي، فَصَمَدْتُ نَحْوَهُ، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ فَضَرَبْتُ ضَرْبَةً أَطَنَّتْ قَدَمَهُ بِنِصْفِ سَاقِهِ. فَوَاللَّهِ مَا أُشَبِّهُهَا حين طاحت إِلَّا بِالنَّوَاةِ تَطِيحُ مِنْ تَحْتِ مِرْضَخَةِ النَّوَى حين يضرب بِهَا. فَضَرَبَنِي ابْنُهُ عِكْرَمَةَ عَلَى عَاتِقِي فَطَرَحَ يَدِي، فَتَعَلَّقْتُ بِجِلْدَةٍ مِنْ جَنْبِي، وَأَجْهَضَنِي الْقِتَالُ عَنْهُ. فَلَقَدْ قَاتَلْتُ عَامَّةَ يَوْمِي، وَإِنِّي لَأَسْحبُها خَلْفِي. فَلَمَّا آذَتْنِي وَضَعْتُ عَلَيْهَا قَدَمِي. ثُمَّ تَمَطَّيْتُ بِهَا عَلَيْهَا حَتَّى طَرَحْتُهَا. قَالَ: ثُمَّ عَاشَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى زَمَنِ عُثْمَانَ.
ثُمَّ مَرَّ بِأَبِي جَهْلٍ مُعَوِّذُ بْنُ عَفْرَاءَ، فَضَرَبَهُ حَتَّى أَثْبَتَهُ، وَتَرَكَهُ وَبِهِ رَمَقٌ.(1/33)
وَقَاتَلَ مُعَوِّذٌ حَتَّى قُتِلَ. وَقُتِلَ أَخُوهُ عَوْفٌ قَبْلَهُ. وَاسْمُ أَبِيهِمَا: الْحَارِثُ بْنُ رِفَاعَةَ بْنِ الْحَارِثِ الزُّرَقِيُّ.
ثُمَّ مَرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ بِأَبِي جَهْلٍ حِينَ أَمَر النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْتِمَاسِهِ، وَقَالَ فِيمَا بَلَغَنَا: إِنْ خَفِيَ عَلَيْكُمْ فِي الْقَتْلَى فَانْظُرُوا إِلَى أَثَرِ جُرْحٍ فِي رُكْبَتِهِ، فَإِنِّي ازْدَحَمْتُ أَنَا وَهُوَ يَوْمًا عَلَى مَأْدُبَةٍ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُدْعَانَ، وَنَحْنُ غُلامَانِ؛ وَكُنْتُ أَشَفَّ مِنْهُ بِيَسِيرٍ، فَدَفَعْتُهُ، فَوَقَعَ عَلَى رُكْبَتِهِ فَجُحِشَ فِيهَا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَوَجَدْتُهُ بِآخِرِ رَمَقٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي عَلَى عُنُقِهِ. وَقَدْ كَانَ ضَبَثَ بِي مَرَّةً بِمَكَّةَ، فَآذَانِي وَلَكَزَنِي. فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ أَخْزَاكَ اللَّهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟ قَالَ: وَبِمَاذَا أَخْزَانِي، وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ أَخْبِرْنِي لِمَنِ الدَّائِرَةُ اليوم؟ قلت: لله ولرسوله. ثم قَالَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتَ، يَا رُوَيْعِيِّ الْغَنَمِ مُرْتَقًى صعبا. قال: فَاحْتَزَزْتُ رَأْسَهُ وَجِئْتُ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقلتُ: يا رسول الله، هَذَا رَأْسُ عَدُوِّ اللَّهِ أَبِي جَهْلٍ. قَالَ: آللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. وألقيت رأسه بَيْنَ يدي النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَتْلَى أَنْ يُطْرَحُوا فِي قَلِيبٍ هُنَاكَ. فَطُرِحُوا فِيهِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، فَإِنَّهُ انْتَفَخَ فِي دِرْعِهِ فَمَلَأَهَا، فَذَهَبُوا لِيُخْرِجُوهُ فَتَزَايَلَ، فَأَقَرُّوهُ بِهِ، وَأَلْقَوْا عَلَيْهِ التُّرَابَ فَغَيَّبُوهُ.
فَلَمَّا أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ، وَقَفَ عَلَيْهِمُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا ". فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُنَادِي قوما قَدْ جَيَّفُوا؟ فَقَالَ: " مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا ".(1/34)
وَفِي رِوَايَةٍ: فَنَادَاهُمْ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ: يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَيَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَيَا أَبَا جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ. فَعَدَّدَ مَنْ كَانَ فِي الْقَلِيبِ.
زَادَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا أَهْلَ الْقَلِيبِ، بِئْسَ عَشِيرَةُ النَّبِيِّ كُنْتُمْ لِنَبِيِّكُمْ؛ كَذَّبْتُمُونِي وَصَدَّقَنِي النَّاسُ، وَأَخْرَجْتُمُونِي وَآوَانِي النَّاسُ، وَقَاتَلْتُمُونِي ونصرني الناس.
وعن أنس: لَمَّا سُحِبَ عُتبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ إِلَى الْقَلِيبِ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ ابْنِهِ، فَإِذَا هُوَ كَئِيبٌ مُتَغَيِّرٌ. فَقَالَ: لَعَلَّكَ قَدْ دَخَلَكَ مِنْ شَأْنِ أَبِيكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ مَا شَكَكْتُ فِي أَبِي وَلَا فِي مَصْرَعِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ أَعْرِفُ مِنْهُ رَأْيًا وَحِلْمًا، فَكُنْتُ أَرْجُو أَنْ يُسْلِمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ مَا أَصَابَهُ وَمَا مَاتَ عَلَيْهِ أَحْزَنَنِي ذَلِكَ. فَدَعَا لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهُ خَيْرًا.
وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ الأَسْوَدِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو قَيْسِ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَعَلِيُّ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَالْعَاصُ بْنُ مُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ قَدْ أَسْلَمُوا. فَلَمَّا هَاجَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - حبسهم آباؤهم وَعَشَائِرُهُمْ، وَفَتَنُوهُمْ عَنِ الدِّينِ فَافْتَتَنُوا - نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ فِتْنَةِ الدِّينِ - ثُمَّ سَارُوا مَعَ قَوْمِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقُتِلُوا جَمِيعًا. وَفِيهِمْ نَزَلَتْ " إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ " الْآيَةَ.
وَعَنْ عبادة بن الصامت قَالَ: فِينَا أَهْلُ بَدْرٍ نَزَلَتِ الْأَنْفَالُ حِينَ تَنَازَعْنَا فِي الْغَنِيمَةِ وَسَاءَتْ فِيهَا أَخْلَاقُنَا. فَنَزَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَيْدِينَا وَجَعَلَهُ إِلَى رَسُولِهِ. فَقَسَّمَهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى السَّوَاءِ.
ثُمَّ بَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، بَشِيرَيْنِ إِلَى الْمَدِينَةِ. قَالَ أُسَامَةُ: أَتَانَا الْخَبَرُ حِينَ سَوَّيْنَا عَلَى رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَهَا. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَّفَنِي عَلَيْهَا مَعَ عُثْمَانَ.
ثُمَّ قفل رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ الْأُسَارَى؛ فِيهِمْ: عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ. فَلَمَّا خَرَجَ مِنْ مَضِيقِ الصَّفْرَاءِ قَسَّمَ النَّفْلِ. فَلَمَّا أَتَى الرَّوْحَاءَ لَقِيَهُ الْمُسْلِمُونَ يُهَنِّئُونَهُ بِالْفَتْحِ. فَقَالَ لَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ سلامة: ما الذي(1/35)
تهنئونا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز ضلعا كَالبُدْنِ الْمُعْقَلَةِ فَنَحَرْنَاهَا. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: أَيِ ابْنَ أَخِي، أُولَئِكَ الْمَلَأُ - يَعْنِي الْأَشْرَافَ وَالرُّؤَسَاءَ -.
ثُمَّ قُتِلَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ الْعَبْدَرِيُّ بِالصَّفْرَاءِ. وَقُتِلَ بِعِرْقِ الظُّبْيَةِ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ. فَقَالَ عُقْبَةُ حِينَ أَمَر النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بقتله: فمن لِلصِّبْيَةِ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: النَّارُ. فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، وَقِيلَ: عَلِيٌّ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَتْلِ عُقْبَةَ قَالَ: أَتَقْتُلُنِي يَا مُحَمَّدُ مِنْ بَيْنِ قُرَيْشٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَتَدْرُونَ مَا صَنَعَ هَذَا بِي؟ جَاءَ وَأَنَا سَاجِدٌ خَلْفَ الْمُقَامِ فَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي وَغَمَزَهَا، فَمَا رَفَعَ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ عَيْنَيَّ سَتَنْدُرَانِ. وَجَاءَ مَرَّةً أُخْرَى بِسَلَى شَاةٍ فَأَلْقَاهُ عَلَى رَأْسِي وَأَنَا سَاجِدٌ، فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَغَسَلَتْهُ عَنْ رَأْسِي.
وَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ بَدْرٍ:
مِهْجَعٌ، وَذُو الشِّمَالَيْنِ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو الْخُزَاعِيُّ، وَعَاقِلُ بْنُ الْبُكَيْرِ، وَصَفْوَانُ بْنُ بَيْضَاءَ، وَعُمَيْرُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ أَخُو سَعْدٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الحارث بن المطلب بن عبد مناف المطلبي الَّذِي قَطَعَ رِجْلَهُ عُتْبَةُ، مَاتَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ بِالصَّفْرَاءِ. وَهَؤُلاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ.
وَعُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ، وَابْنَا عَفْرَاءَ، وَحَارِثَةُ بْنُ سُرَاقَةَ، وَيَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ فُسْحُمُ، وَرَافِعُ بْنُ الْمُعَلَّى الزُّرَقِيُّ، وَسَعْدُ بْنُ خَيْثَمَةَ الْأَوْسِيُّ، وَمُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَخُو أَبِي لُبَابَةَ.
فَالْجُمْلَةُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَقُتِلَ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَهُمَا ابْنَا أَرْبَعِينَ وَمِائَةِ سَنَةٍ. وَكَانَ شَيْبَةُ أَكْبَرَ بِثَلَاثِ سنين.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ قَدِمَ مَكَّةَ بِمُصَابِ قُرَيشٍ: الْحَيْسُمَانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيُّ. فَقَالُوا: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: قُتِلَ عُقْبَةُ، وشيبة، وأبو(1/36)
جَهْلٍ، وَأُمَّيَةُ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَنُبَيْهٌ، ومُنَبِّهٌ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامٍ. فَلَمَّا جَعَلَ يُعَدِّدُ أَشْرَافَ قُرَيشٍ قَالَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ وَهُوَ قَاعِدٌ فِي الْحِجْرِ: وَاللَّهِ إِنْ يَعْقِلْ هَذَا فسلوه عني: فقالوا: ما فعل صفوان؟ قال: ها هو ذاك جالسا، قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ حِينَ قُتِلَا.
وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: كُنْتُ غُلَامًا لِلْعَبَّاسِ وَكَانَ الْإِسْلَامُ قَدْ دَخَلَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ، فَأَسْلَمَ الْعَبَّاسُ وَأَسْلَمْتُ. وَكَانَ الْعَبَّاسُ يَهَابُ قَوْمَهُ وَيَكْرَهُ الْخِلَافَ وَيَكْتُمُ إِسْلَامَهُ، وَكَانَ ذَا مَالٍ كَثِيرٍ مُتَفَرِّقٍ فِي قَوْمِهِ. وَكَانَ أَبُو لَهَبٍ قَدْ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ، فَلَمَّا جَاءَهُ الْخَبَرَ بِمُصَابِ قُرَيْشٍ كَبَتَهُ اللَّهُ وَأَخْزَاهُ، وَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسَنَا قُوَّةً وعزة، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا، وَكُنْتُ أَنْحَتُ الْأَقْدَاحَ فِي حُجْرَةِ زَمْزَمَ. فَإِنِّي لَجَالِسٌ أَنْحَتُ أَقْدَاحِي، وَعِنْدِي أُمُّ الْفَضْلِ، وَقَدْ سَرَّنَا الْخَبَرُ، إِذْ أَقْبَلَ أَبُو لَهَبٍ يَجُرُّ رِجْلَيْهِ بِشَرٍّ، حَتَّى جَلَسَ عَلَى طُنُبِ الْحُجْرَةِ، فَكَانَ ظَهْرُهُ إِلَى ظَهْرِي. فبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ إِذْ قَالَ النَّاسُ: هَذَا أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ قَدِمَ. فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: إِلَيَّ، فَعِنْدَكَ الْخَبَرُ. قَالَ: فَجَلَسَ إِلَيْهِ، وَالنَّاسُ قِيَامٌ عَلَيْهِ، فقال: يا ابن أَخِي، أَخْبِرْنِي كَيْفَ كَانَ أَمْرُ النَّاسِ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا أَنْ لَقِينَا الْقَوْمَ فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا كيف شاؤوا ويأسرونا، وأيم الله ما لمت الناس، لقينا رجال بيض عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَاللَّهِ مَا تَلِيقُ شَيْئًا وَلَا يَقُومُ لَهَا شَيْءٌ.
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَرَفَعْتُ طُنُبَ الْحُجْرَةِ بِيَدَيَّ، ثُمَّ قُلْتُ: تِلْكَ وَاللَّهِ الْمَلَائِكَةُ. فَرَفَعَ أَبُو لَهَبٍ يَدَهُ فَضَرَبَ وَجْهِي ضَرْبَةً شَدِيدَةً. قَالَ: وَثَاوَرْتُهُ، فَحَمَلَنِي وَضَرَبَ بِيَ الْأَرْضَ. ثُمَّ بَرَكَ عَلَيَّ يَضْرِبُنِي، وَكُنْتُ رَجُلًا ضَعِيفًا. فَقَامَتْ أُمُّ الْفَضْلِ إِلَى عَمُودٍ مِنْ عُمُدِ الْحُجْرَةِ، فَأَخَذَتْهُ فَضَرَبَتْهُ بِهِ ضَرْبَةً، فَلَقَتْ فِي رَأْسِهِ شَجَّةً مُنْكَرَةً، وَقَالَتْ: اسْتَضْعَفْتَهُ أَنْ غَابَ عَنْهُ سَيِّدُهُ؟ فقام(1/37)
مُوَلِّيًا ذَلِيلًا. فَوَاللَّهِ مَا عَاشَ إِلَّا سَبْعَ لَيَالٍ، حَتَّى رَمَاهُ اللَّهُ بِالْعَدَسَةِ فَقَتَلَتْهُ.
وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّقِي هَذِهِ الْعَدَسَةَ كَمَا يُتَّقَى الطَّاعُونُ. حَتَّى قَالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ لِابْنَيْهِ: وَيْحَكُمَا؟ ألا تَسْتَحِيَانِ أَنَّ أَبَاكُمَا قَدْ أَنْتَنَ فِي بَيْتِهِ ألا تَدْفِنَانَهُ؟ فَقَالَا: نَخْشَى عَدْوَى هَذِهِ الْقُرْحَةِ. فَقَالَ: انْطَلِقَا فَأَنَا أُعِينُكُمَا فَوَاللَّهِ مَا غَسَّلُوهُ إِلَّا قَذْفًا بِالْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ بَعِيدٍ. ثُمَّ احْتَمَلُوهُ إِلَى أَعْلَى مَكَّةَ، فَأَسْنَدُوهُ إِلَى جِدَارٍ، ثُمَّ رَضَمُوا عَلَيْهِ الْحِجَارَةَ.
رَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ عَنْهُ بِمَعْنَاهُ. قَالَ: حَدَّثَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو رَافِعٍ مَوْلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَرَوَى عَبَّادُ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَاحَتْ قُرَيْشٌ عَلَى قَتْلَاهَا ثُمَّ قَالُوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فَيَشْمَتُوا بِكُمْ.
وَكَانَ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطَّلِبِ قَدْ أُصِيبَ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنْ وَلَدِهِ: زَمْعَةُ، وَعَقِيلٌ، وَالْحَارِثُ. فَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يَبْكِيَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ الْأُسَارَى. فَقَدِمَ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ فِي فِدَاءِ سهيل بن عمرو. فقال عمر: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْزَعُ ثَنِيَّتَيْ سُهَيْلٍ يدلع لسانه فَلَا يَقُومُ عَلَيْكَ خَطِيبًا فِي مَوْطِنٍ أَبَدًا، فَقَالَ: لَا أُمَثِّلُ بِهِ فَيُمَثِّلُ اللَّهُ بِي، وَعَسَى أَنْ يَقُومَ مَقَامًا لَا تَذُمَّهُ. فَقَامَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَحْوٍ مِنْ خُطْبَةِ أَبِي بكر الصديق، وَحَسُنَ إِسْلَامُهُ.
وَانْسَلَّ الْمُطَّلِبُ بْنُ أَبِي وَدَاعَةَ، فَفَدَى أَبَاهُ بِأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَانْطَلَقَ بِهِ.
وَبَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي فِدَاءِ زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ بِمَالٍ. وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلَادَةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا على(1/38)
أَبِي الْعَاصِ. فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَقَّ لَهَا، وَقَالَ: إِنْ رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها. قَالُوا: نَعَمْ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. وَأَطْلَقُوهُ.
فَأَخَذَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُخَلِّي سَبِيلَ زَيْنَبَ، وَكَانَتْ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ النِّسَاءِ. وَاسْتَكْتَمَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ. وَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَرَجُلًا مِنَ الأنصار، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بِكُمَا زَيْنَبُ فَتَصْحَبَانَهَا حَتَّى تَأْتِيَانِي بِهَا. وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ.
فَلَمَّا قَدِمَ أَبُو الْعَاصِ مَكَّةَ أَمَرَهَا بِاللُّحُوقِ بِأَبِيهَا، فَتَجَهَّزَتْ. فَقَدَّمَ أَخُو زَوْجِهَا كِنَانَةُ بْنُ الرَّبِيعِ بَعِيرًا، فَرَكِبَتْهُ وَأَخَذَ قَوْسَهُ وَكِنَانَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ بِهَا نَهَارًا يَقُودُهَا. فَتَحَدَّثَ بِذَلِكَ رِجَالٌ، فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهَا. فَبَرَكَ كنانة ونثر كنانته لما أدركوها لذي طُوًى، فَرَوَّعَهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ بِالرُّمْحِ. فَقَالَ كِنَانَةُ: وَاللَّهِ لَا يَدْنُو مِنِّي رَجُلٌ إِلَّا وَضَعْتُ فِيهِ سَهْمًا. فَتَكَرْكَرَ النَّاسُ عَنْهُ. وَأَتَى أبو سفيان في جلة مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ كُفَّ عَنَّا نَبْلَكَ حَتَّى نُكَلِّمَكَ، فَكَفَّ، فَوَقَفَ عَلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: إِنَّكَ لَمْ تُصِبْ. خَرَجْتَ بْالْمَرْأَةِ على رؤوس النَّاسِ عَلَانِيَةً، وَقَدْ عَرَفْتَ مُصِيبَتَنَا وَنَكْبَتَنَا وَمَا دَخَلَ عَلَيْنَا مِنْ مُحَمَّدٍ، فَيَظُنُّ النَّاسُ إِذَا خَرَجْتَ بِابْنَتِهِ إِلَيْهِ عَلَانِيَةً أَنَّ ذَلِكَ عَلَى ذُلٍّ أَصَابَنَا، وَأَنَّ ذَلِكَ مِنَّا وَهْنٌ وَضَعْفٌ، وَلَعَمْرِي مَا بِنَا بِحَبْسِهَا عَنْ أَبِيهَا مِنْ حَاجَةٍ، وَلَكِنِ ارْجَعْ بِالْمَرْأَةِ، حَتَّى إِذَا هَدَأَتِ الْأَصْوَاتُ، وَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّا رَدَدْنَاهَا، فَسُلَّها سِرًّا وَأَلْحِقْهَا بِأَبِيهَا. قَالَ: فَفَعَلَ. ثُمَّ خَرَجَ بِهَا لَيْلًا، بَعْدَ لَيَالٍ، فَسَلَّمَهَا إِلَى زَيْدٍ وَصَاحِبَه. فقدم بِهَا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَقَامَتْ عِنْدَهُ.
فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْفَتْحِ، خَرَجَ أَبُو الْعَاصِ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ بِمَالِهِ، وَبِمَالٍ كَثِيرٍ لِقُرَيْشٍ. فَلَمَّا رَجَعَ لَقِيَتْهُ سَرِيَّةٌ فَأَصَابُوا مَا مَعَهُ، وَأَعْجَزَهُمْ هَارِبًا، فَقَدِمُوا بِمَا أَصَابُوا. وَأَقْبَلَ أَبُو الْعَاصِ فِي اللَّيْلِ، حَتَّى دَخَل عَلَى زَيْنَبَ، فَاسْتَجَارَ بِهَا فَأَجَارَتْهُ، وَجَاءَ فِي طلب ماله. فلما خرج - صلى الله عليه وسلم - إلى الصبح وكبر(1/39)
وَكَبَّرَ النَّاسُ مَعَهُ، صَرَخَتْ زَيْنَبُ مِنْ صُفَّةِ النِّسَاءِ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ بْنَ الرَّبِيعِ.
وَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السَّرِيَّةِ الَّذِينَ أَصَابُوا مَالَهُ فَقَالَ: " إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتُمْ، وَقَدْ أَصَبْتُمْ لَهُ مَالًا، فَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَرُدُّوا عَلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ. وَإِنْ أَبَيْتُمْ فَهُوَ فَيْءُ اللَّهِ الَّذِي أَفَاءَ عَلَيْكُمْ، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ بِهِ ". قَالُوا: بَلْ نَرُدُّهُ. فَرَدُّوهُ كُلَّهُ. ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ، فَأَدَّى إِلَى كُلِّ ذِي مَالٍ مَالَهُ. ثُمَّ قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد منكم عندي مَالٌ؟ قَالُوا: لَا، فَجَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا، فَقَدْ وجدناك وَفِيًّا كَرِيمًا. قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله. وَاللَّهِ مَا مَنَعَنِي مِنَ الْإِسْلَامِ عِنْدَهُ إِلَّا تَخَوُّفُ أَنْ تَظُنُّوا أَنِّي إِنَّمَا أَرَدْتُ أَكْلَ أَمْوَالَكُمْ.
ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فعن ابن عباس قَالَ: رَدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - زينب عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ، لَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا.
وَمِنَ الْأُسَارَى: الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ، أَسَرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ، وَقِيلَ: سَلِيطُ الْمَازِنِيُّ.
وَقَدِمَ فِي فِدَائِهِ أَخَوَاهُ: خَالِدُ بْنُ الْوَليِدِ، وَهِشَامُ بْنُ الْوَليِدِ، فَافْتَكَّاهُ بُأَرْبَعَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَذَهَبَا بِهِ.
فَلَمَّا افُتَدِيَ أَسْلَمَ، فَقِيلَ له في ذلك فقال: كرهت أن يظنوا بِي أَنِّي جَزِعْتُ مِنَ الْأَسْرِ. فَحَبَسُوهُ بِمَكَّةَ. وكأن رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو لَهُ فِي الْقُنُوتِ، ثُمَّ هَرَبَ وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ. وَتُوُفِّيَ قَدِيمًا؛ لَعَلَّ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَكَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ، وهي بنت عمه:
يا عين فابكي للوليـ ... ـد بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَهْ
قَدْ كَانَ غَيْثًا في السنيـ ... ـن وَرَحْمَةً فِينَا وَمِيرَهْ
ضَخْمُ الدَّسِيعَةِ مَاجِدًا ... يَسْمُو إِلَى طَلَبِ الْوَتِيرَهْ
مِثْلُ الْوَلِيدِ بْنِ الْوَلِيدِ ... أَبِي الْوَلِيدِ كَفَى الْعَشِيرَهْ.(1/40)
وَمِنَ الْأَسْرَى: أَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ الله الجمحي. كان محتاجا ذات بَنَاتٍ. قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ عَرَفْتَ أَنِّي لَا مَالَ لِي، وَأَنِّي ذُو حَاجَةٍ وَعِيَالٍ، فَامْنُنْ عَلَيَّ. فَمَنَّ عَلَيْهِ، وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُظَاهِرَ عَلَيْهِ أَحَدًا.
وَقَالَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ، فِي الْحِجْرِ. وَكَانَ عُمَيْرُ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمَّنْ يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ. وَكَانَ ابْنُهُ وُهَيْبٌ فِي الْأَسْرَى. فَذَكَرَ أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ. فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ إِنَّ فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُم لَخَيْرٌ فَقَالَ عُمَيْرٌ: صَدَقْتَ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ عِنْدِي لَهُ قَضَاءٌ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي فِيهِمْ عِلَّةً؛ ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ. فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ فَقَالَ: عَلَيَّ دَيْنُكَ وعيالك. فال: فَاكْتُمْ عَلَيَّ. ثُمَّ شَحَذَ سَيْفَهُ وَسَمَّهُ، وَمَضَى إلى المدينة.
فبينا عُمَرُ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يوم بدر، إذ نظر عمر إِلَى عُمَيْرٍ حِينَ أَنَاخَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ. فَقَالَ: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ اللَّهِ عمير، قال: وَهُوَ الَّذِي حَزَرَنَا يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمَّ دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: هَذَا عُمَيْرٌ. قَالَ: أَدْخِلْهُ عَلَيَّ. فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحَمَّالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، فَلَبَّبَهُ بِهِ، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ هَذَا الخبيث. ثم دخل به فقال - عليه السلام -: أَرْسِلْه يَا عُمَرَ، أُدْنُ يَا عُمَيْرُ. فَدَنَا، ثُمَّ قَالَ: أَنْعِمُوا صَبَاحًا، قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أيديكم. قال: فما بال السيف فِي عُنُقِكَ؟ قَالَ: قَبَّحَهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئًا؟ قَالَ: اصْدُقْنِي مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ؟ قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ. قَالَ: بَلَى، قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ فِي الْحِجْرِ. وَقَصَّ لَهُ مَا قَالَا. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَأنَّكَ رَسُولُهُ. قَدْ كُنَّا يَا رَسُولَ اللَّهِ نُكَذِّبُكَ بِمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يحضره إلا أنا وصفوان فوالله لَأَعْلَمُ مَا أَتَاكَ بِهِ إِلَّا اللَّهُ، فَالْحَمْدُ لله الذي(1/41)
هَدَانِي لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ " فَفَعَلُوا.
ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ جَاهِدًا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، شَدِيدَ الْأَذَى لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأذَنَ لِي فَأَقْدَمَ مَكَّةَ فَأَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ. وَإِلا آذَيْتُهُمْ فِي دِينِهِمْ. فَأَذِنَ لَهُ وَلَحِقَ بِمَكَّةَ. وَكَانَ صَفْوَانُ يَعِدُ قُرَيْشًا يَقُولُ: أَبْشِرُوا بِوَقْعَةٍ تَأْتِيكُمُ الْآنَ تُنْسِيكُمْ وَقْعَةَ بَدْرٍ. وَكَانَ صَفْوَانُ يَسْأَلُ عَنْهُ الرُّكْبَانُ، حَتَّى قَدِمَ رَاكِبًا فَأَخْبَرَهُ عَنِ إِسْلَامِهِ، فَحَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ أَبَدًا وَلَا يَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا. ثم أقام يدعو إلى الإسلام، ويؤذي المشركين. فَأَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ نَاسٌ كَثِيرٌ.
-بَقِيَّةُ أَحَادِيثِ غزوة بدر
وهي كالشرح لما قدمناه، منها:
قَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: قَالَ: انْطَلَقَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ مُعْتَمِرًا: فَنَزَلَ عَلَى أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ - وَكَانَ أُمَيَّةُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ إِذَا سَافَرَ إِلَى الشَّامِ - فَقَالَ لِسَعْدٍ: انْتَظِرْ حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ النَّهَارُ وَغَفَلَ النَّاسُ فطف. قال: فبينما هُوَ يَطُوفُ إِذْ أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: من أنت؟ قال: سعد. قَالَ: أَتَطَوَّفُ آمِنًا وَقَدْ أَوَيْتُمْ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ، وَتَلَاحِيَا. فَقَالَ أُمَيَّةُ لِسَعْدٍ: لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ عَلَى أَبِي الْحَكَمِ فَإِنَّهُ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ مَنَعْتَنِي أَنْ أَطُوفَ بِالْبَيْتِ لأُقَطِّعَنَّ عَلَيْكَ مَتْجَرَكَ بِالشَّامِ. وَجَعَلَ أُمَيَّةَ يَقُولُ: لا ترفع صوتك. فغضب وقال: دعنا منكم، فإني سمعت محمدا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَزْعُمُ أَنَّهُ قَاتِلُكَ قَالَ: إِيَّايَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ مُحَمَّدٌ. فَكَادَ أَنْ يُحْدِثَ. فَرَجَعَ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَتَعْلَمِينَ مَا قَالَ أَخِي الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَتْ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ أَنَّ مُحَمَّدًا يَزْعَمُ أنه قاتلي. قالت: فَوَاللَّهِ مَا يَكْذِبُ. فَلَمَّا خَرَجُوا لِبَدْرٍ وَجَاءَ الصَّرِيخُ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَمَا عَلِمْتَ مَا قال(1/42)
الْيَثْرِبِيُّ؟ قَالَ: فَإِنِّي إِذَنْ لَا أَخْرُجُ. فَقَالَ له أَبُو جَهْلٍ: إِنَّكَ مِنْ أَشْرَافِ أَهْلِ الْوَادِي فَسِرْ مَعَنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ. فَسَارَ مَعَهُمْ، فَقُتِلَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ. وَفِيهِ، فَلَمَّا اسْتَنْفَرَ أَبُو جَهْلٍ النَّاسَ وَقَالَ: أَدْرِكُوا عِيرَكُمْ كَرِهَ أُمَيَّةُ أَنْ يَخْرُجَ. فَأَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: يَا أَبَا صَفْوَانَ إِنَّكَ مَتَى يَرَاكَ النَّاسُ تَخَلَّفْتَ - وَأَنْتَ سَيِّدُ أَهْلِ الْوَادِي - تَخَلَّفُوا مَعَكَ. فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حتى قال: إِذْ غَلَبْتَنِي فَوَاللَّهِ لَأَشْتَرِيَنَّ أَجْوَدَ بَعِيرٍ بِمَكَّةَ. ثُمَّ قَالَ: يَا أُمَّ صَفْوَانَ جَهِّزِينِي فَمَا أُرِيدُ أَنْ أَجُوزَ مَعَهُمْ إِلَّا قَرِيبًا. فَلَمَّا خَرَجَ أَخَذَ لَا يَنْزِلُ مَنْزِلًا إِلَّا عَقَلَ بَعِيرَهُ. فَلَمْ يَزَلْ بِذَاكَ حَتَّى قَتَلَهُ اللَّهُ ببدر. البخاري
وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْ خَرَجَ مِنْ أَصْحَابِهِ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيشٍ الَّتِي قَدِمَ بِهَا أَبُو سُفْيَانَ مِنَ الشَّامِ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ مِيعَادٍ. قَالَ اللَّهُ تعالى، " إذا أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ".(1/43)
-رُؤْيَا عَاتِكَةَ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي حُسَيْنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
(ح) قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة قالا: رَأَتْ عَاتِكَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ قَبْلَ مَقْدِمِ ضَمْضَمِ بْنِ عَمْرٍو الْغِفَارِيِّ عَلَى قُرَيْشِ مَكَّةَ بِثَلَاثِ لَيَالٍ، رُؤْيَا، فَأَصْبَحَتْ عَاتِكَةُ فَأَعْظَمَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَى أَخِيهَا الْعَبَّاسَ فَقَالَتْ لَهُ: يَا أَخِي لَقَدْ رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا لَيَدْخُلَنَّ مِنْهَا عَلَى قَوْمِكَ شَرٌّ وَبَلَاءٌ. فَقَالَ: وما هي؟ قالت: رَأَيْتُ فِيمَا يَرَى النَّائِمُ أَنَّ رَجُلًا أَقْبَلَ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ فَوَقَفَ بِالْأَبْطَحِ فَقَالَ: انْفِرُوا يَا آلَ غُدُرٍ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلَاثٍ، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ أُرِيَ بَعِيرَهُ دَخَلَ بِهِ الْمَسْجِدَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَيْهِ. ثُمَّ مَثَلَ بِهِ بَعِيرُهُ فَإِذَا هُوَ عَلَى رَأْسِ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: انْفِرُوا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث. ثم أُرِيَ بَعِيرَهُ مَثَلَ بِهِ عَلَى رَأْسِ أَبِي قُبَيْسٍ، فَقَالَ: انْفِرُوا يَا آلَ غَدْرٍ لِمَصَارِعِكُمْ فِي ثَلاثٍ. ثُمَّ أَخَذَ صَخْرَةً فَأَرْسَلَهَا مِنْ رَأْسِ الْجَبَلِ فَأَقْبَلَتْ تَهْوِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ فِي أَسْفَلِهِ ارْفَضَّتْ فَمَا بَقِيَتْ دَارٌ مِنْ دور قومك وَلَا بَيْتٌ إِلَّا دَخَلَ فِيهِ بَعْضُهَا.
فَقَالَ الْعَبَّاسُ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا، فَاكْتُمِيهَا. فَقَالَتْ: وَأَنْتَ فَاكْتُمْهَا، لَئِنْ بَلَغَتْ هَذِهِ قُرَيْشًا لَيُؤْذُنَّنَا.
فَخَرَجَ الْعَبَّاسُ مِنْ عِنْدِهَا، فَلَقِيَ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ - وَكَانَ لَهُ صَدِيقًا - فَذَكَرَهَا لَهُ وَاسْتَكْتَمَهُ. فَذَكَرَهَا الْوَلِيدُ لِأَبِيهِ، فَتَحَدَّثَ بِهَا، فَفَشَا الْحَدِيثُ. فقال العباس: والله إني لغاد إلى الكعبة لِأَطُوفَ بِهَا، فَإِذَا أَبُو جَهْلٍ فِي نَفَرٍ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا أَبَا الْفَضْلِ(1/44)
تَعَالَ. فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: مَتَى حَدَّثَتْ هَذِهِ النَّبِيَّةُ فِيكُمْ؟ مَا رَضِيتُمْ يَا بَنِي عَبْدِ المطلب أن ينبأ رجالكم حتى تنبأ نِسَاؤُكُمْ، سَنَتَرَبَّصُ بِكُمْ هَذِهِ الثَّلَاثَ الَّتِي ذَكَرَتْ عاتكة، فإن كان حقا فسيكون، وإلا كتبنا عَلَيْكُمْ كِتَابًا أَنَّكُمْ أَكْذَبُ أَهْلِ بَيْتٍ فِي العرب.
قال: فوالله ما كان إليه مني مِنْ كَبِيرٍ، إِلَّا أَنِّي أَنْكَرْتُ مَا قَالَتْ، وقلت: ما رأت شيئا ولا سمعت بِهَذَا، فَلَمَّا أَمْسَيْتُ لَمْ تَبْقَ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ إِلَّا أَتَتْنِي فَقُلْنَ: صَبَرْتُمْ لِهَذَا الْفَاسِقِ الْخَبِيثِ أَنْ يَقَعَ فِي رِجَالِكُمْ، ثُمَّ قَدْ تَنَاوَلَ النِّسَاءَ وَأَنْتَ تَسْمَعُ، فَلَمْ يَكُنْ عِنْدَكَ فِي ذَلِكَ غِيَرٌ. فَقُلْتُ: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقْتُنَّ وَمَا كَانَ عِنْدِي فِي ذَلِكَ من غير إلا أني أنكرت. ولا تعرضن له، فإن عاد لأكفينه.
فَغَدَوْتُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ أَتَعَرَّضُ لَهُ لِيَقُولَ شَيْئًا فُأَشَاتِمَهُ. فَوَاللَّهِ إِنِّي لَمُقْبِلٌ نَحْوَهُ، وَكَانَ رَجُلًا حَدِيدَ الْوَجْهِ، حَدِيدَ النَّظَرِ، حَدِيدَ اللِّسَانِ، إِذْ وَلَّى نَحْوَ بَابِ الْمَسْجِدِ يَشْتَدَّ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، كُلُّ هَذَا فَرَقًا أَنْ أُشَاتِمَهُ. وَإِذَا هُوَ قَدْ سَمِعَ مَا لم أسمع، صوت ضمضم بن عمرو، وهو واقف بَعِيرِهِ بِالْأَبْطَحِ؛ قَدْ حَوَّلَ رَحْلَهُ وَشَقَّ قَمِيصَهُ وَجَدَّعَ بَعِيرَهُ؛ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اللَّطِيمَةَ اللَّطِيمَةَ! أَمْوَالُكُمْ مَعَ أَبِي سُفْيَانَ، قَدْ عَرَضَ لَهَا مُحَمَّدٌ، فَالْغَوْثَ الْغَوْثَ! فَشَغَلَهُ ذَلِكَ عَنِّي، وَشَغَلَنِي عَنْهُ. فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا الْجِهَازُ حَتَّى خَرَجْنَا، فَأَصَابَ قُرَيْشًا مَا أَصَابَهَا يَوْمَ بَدْرٍ. فَقَالَتْ عَاتِكَةُ.
أَلَمْ تَكُنِ الرُّؤْيَا بِحَقٍّ وَجَاءَكُمْ ... بِتَصْدِيقِهَا فَلٌّ مِنَ الْقَوْمِ هَارِبُ
فَقُلْتُمْ - وَلَمْ أَكْذِبْ - كَذَبْتِ وَإِنَّمَا ... يُكَذِّبُنَا بِالّصِّدْقِ مَنْ هُوَ كَاذِبُ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: اسْتُصْغِرْتُ أَنَا وَابْنُ عُمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَكُنَّا - أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - نَتَحَدَّثُ أَنْ عِدَّةَ أَهْلِ بَدْرٍ ثلاثمائة وبضعة(1/45)
عشر، كعدة أصحاب طالوت الذين جازوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَمَا جَازَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ. أَخْرَجَهُ البخاري.
وقال: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ الْمُهَاجِرُونَ يَوْمَ بَدْرٍ نَيِّفًا وَثَمَانِينَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: حدثني يزيد بن أبي حَبِيبٍ، حَدَّثَنِي أَسْلَمُ أَبُو عِمْرَانَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيَّ يَقُولُ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ بِالْمَدِينَةِ ": هَلْ لَكُمْ أَنْ نَخْرُجَ فَنَلْقَى الْعِيرَ لَعَلَّ اللَّهَ يَغْنِمُنَا؟ قُلْنَا: نَعَمْ. فَخَرَجْنَا، فَلَمَّا سِرْنَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أُمِرْنَا أَنْ نَتَعَادَّ، فَفَعَلْنَا، فَإِذَا نَحْنُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلا، فَأَخْبَرْنَاهُ بِعِدَّتِنَا، فَسُرَّ بِذَلِكَ وَحَمِدَ اللَّهَ، وَقَالَ: عِدَّةُ أَصْحَابِ طَالُوتَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: حَدَّثَنِي حُيَيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمَ بَدْرٍ بِثَلَاثِمِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ مِنَ الْمُقَاتِلَةِ كَمَا خَرَجَ طَالُوتَ فَدَعَا لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ خَرَجَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ حُفَاةٌ فَاحْمِلْهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ عُرَاةٌ فَاكْسُهُمْ، اللَّهُمَّ إِنَّهُمْ جِياعٌ فَأَشْبِعْهُمْ. فَفَتَحَ اللَّهُ لَهُمْ، فَانْقَلَبُوا وَمَا مِنْهُمْ رَجُلٌ إِلَّا وَقَدْ رَجَعَ بِجَمَلٍ أَوْ جَمَلَيْنِ، وَاكْتَسَوْا وَشَبِعُوا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمْ يَكُنْ يَوْمَ بَدْرٍ فَارِسٌ غَيْرَ الْمِقْدَادَ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عن حارثة بن مضرب: إن عليا قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ بَدْرٍ وَمَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ نَائِمٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ يُصَلِّي إِلَى شَجَرَةٍ وَيَدْعُو حَتَّى أَصْبَحَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا مِنَّا أَحَدٌ فَارِسٌ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الْمِقْدَادُ. رَوَاهُ شعبة عنه.
وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: مَا كَانَ مَعَنَا إِلا فَرَسَانِ. فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ(1/46)
وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ.
وَعَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ الْبَهِيِّ قَالَ: كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَارِسَانِ، الزُّبَيْرُ عَلَى الْمَيْمَنَةِ، وَالْمِقْدَادُ عَلَى الْمَيْسَرَةِ.
وَقَالَ عُرْوَةُ: كَانَ عَلَى الزُّبَيْرِ يَوْمَ بَدْرٍ عِمَامَةٌ صَفْرَاءُ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى سِيمَا الزُّبَيْرِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا يَوْمَ بَدْرٍ نَتَعَاقَبُ ثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، فَكَانَ عَلِيُّ وَأَبُو لُبَابَةَ زَمِيلَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَكَانَ إذا حانت عُقْبَةُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولَانِ لَهُ: ارْكَبْ حَتَّى نَمْشِيَ. فَيَقُولُ: إِنِّي لَسْتُ بِأَغْنَى عَنِ الْأَجْرِ مِنْكُمَا، وَلَا أَنْتُمَا بأقوى عَلَى الْمَشْيِ مِنِّي.
الْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَغَازِي: مَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ بَدَلُ أَبِي لُبَابَةَ. فَإِنَّ أَبَا لُبَابَةَ رَدَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَخْلَفَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا إلا قرشي أَوْ أَنْصَارِيٌّ أَوْ حَلِيفٌ لَهُمَا.
وَعَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: كَانَ فِيهِمُ اثْنَا عَشَرَ مِنَ الْمَوَالِي.
وقال عمرو العنقزي، حدثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ مضرب، عن علي قَالَ: أَخَذْنَا رَجُلَيْنِ يَوْمَ بَدْرٍ. أَحَدُهُمَا عَرَبِيٌّ وَالْآخَرُ مَوْلًى، فَأَفْلَتَ الْعَرَبِيُّ وَأَخَذْنَا الْمَوْلَى؛ مَوْلًى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ؛ فَقُلْنَا: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ. فَجَعَلْنَا نَضْرِبُهُ. حَتَّى انْتَهَيْنَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَبَى أَنْ يُخْبِرَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَمْ ينحرون من الجزر؟ فَقَالَ: فِي كُلِّ يَوْمٍ عَشْرًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: القوم ألف، لِكُلِّ جَزُورٍ مِائَةٌ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إسحاق، حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ سَعْدَ(1/47)
ابن مُعَاذٍ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا نَبْنِي لَكَ عَرِيشًا، فَتَكُونَ فِيهِ، وننيخ لك ركائبك ونلقى عدونا، فإن أَظْهَرَنَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَذَاكَ، وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى فَتَجْلِسُ عَلَى رَكَائِبِكَ وَتَلْحَقُ بِمَنْ وَرَاءَنَا مِنْ قَوْمِنَا. فَقَدْ تَخَلَّفَ عَنْكَ أَقْوَامٌ مَا نَحْنُ بِأَشَدَّ لَكَ حُبًّا مِنْهُمْ، وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّكَ تَلْقَى حَرْبًا مَا تَخَلَّفُوا عَنْكَ، وَيُوَادُّونَكَ وَيَنْصُرُونَكَ. فأثنى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْرًا وَدَعَا لَهُ. فَبُنِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرِيشٌ، فَكَانَ فِيهِ وَأَبُو بكر ما معهما غيرهما.
وقال البخاري: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُخَارِقٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: شَهِدْتُ مِنَ الْمِقْدَادِ مشهدا لأن أكون صاحبه كان أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا عُدِلَ بِهِ: أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ يَدْعُو عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسَى: " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إنا ها هنا قَاعِدُونَ "، وَلَكِنْ نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ بَيْنَ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشْرَقَ لذلك، وسره.
وقال مسلم وأبو داود: حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَدَبَ أَصْحَابَهُ فَانْطَلَقَ إِلَى بَدْرٍ، فَإِذَا هُمْ بِرَوَايَا قُرَيْشٍ، فِيهَا عَبْدٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجَّاجِ، فَأَخَذَهُ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ: أَيْنَ أَبُو سُفْيَانَ؟ فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَالِي بِشَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ عِلْمٌ، وَلَكِنْ هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ جَاءَتْ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ. قَالَ: فَإِذَا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ. فَيَقُولُ: دَعُونِي دَعُونِي أُخْبِرْكُمْ. فَإِذَا تَرَكُوهُ قَالَ كَقَوْلِهِ سَوَاءً. والنبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي وَهُوَ يَسْمَعُ ذَلِكَ. فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّكُمْ لَتَضْرِبُونَهُ إِذَا صَدَقَكُمْ وَتَدَعُونَهُ إِذَا كَذَبَكُمْ. هَذِهِ قُرَيْشٌ قَدْ أَقْبَلَتْ لِتَمْنَعَ أبا سفيان.
قال أنس: وقال رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ غَدًا؛ وَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى(1/48)
الأرض. وهذا مصرع فلان؛ ووضع يده على الأرض، وهذا مصرع فلان، ووضع يده على الْأَرْضِ.
قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا جَاوَزَ أحد منهم عن موضع يده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَأَمَرَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِأَرْجُلِهِمْ، فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيبِ بَدْرٍ. صَحِيحٌ.
وَقَالَ حَمَّادٌ أَيْضًا، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ. فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - كَذَا قال، والمعروف ابن مُعَاذٍ - فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا. وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا. قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ قَبْلَ هَذَا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ أَخْصَرَ مِنْهُ عَنْ ثَابِتٍ، عن أنس: حَدَّثَنَا عُمَرُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيُخْبِرُنَا عَنْ مَصَارِعِ الْقَوْمِ بِالْأَمْسِ: هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - غَدًا، هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - غدا. فوالذي بعثه بالحق، ما أخطأوا تِلْكَ الْحُدُودَ، وَجَعَلُوا يُصْرَعُونَ حَوْلَهَا. ثُمَّ أُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ.
وَجَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَإِنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُكَلِّمُ أَجْسَادًا لَا أَرْوَاحَ فِيهَا؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، وَلَكِنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرُدُّوا عَلَيَّ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: مَا كَانَ فِينَا فَارِسٌ يَوْمَ بَدْرٍ غَيْرُ الْمِقْدَادِ عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا فِينَا إِلَّا نَائِمٌ إِلَّا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَحْتَ سَمُرَةٍ يُصَلِّي وَيَبْكِي، حَتَّى أَصْبَحَ.(1/49)
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الْحَنَفِيُّ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرحمن بن موهب، قال: أخبرني إسماعيل بن عون بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جده، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَاتَلْتُ شَيْئًا مِنْ قِتَالٍ، ثُمَّ جِئْتُ لِأَنْظُرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا فَعَلَ، فَجِئْتُ فَإِذَا هُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ: " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ، يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ "، لَا يُزِيدُ عَلَيْهَا. فَرَجَعْتُ إِلَى الْقِتَالِ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ سَاجِدٌ يَقُولُ أَيْضًا. غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا سَمِعْتُ مُنَاشِدًا يَنْشُدُ حَقًّا أَشَدَّ مِنْ مُنَاشَدَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ بَدْرٍ؛ جَعَلَ يقول: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدْ "، ثُمَّ الْتَفَتَ وَكَأَنَّ شَقَّ وَجْهَهُ الْقَمَرُ؛ فَقَالَ: كَأَنَّمَا أَنْظُرُ إلى مصارع القوم عشية.
وَقَالَ خَالِدٌ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - قال وهو في قبته يَوْمَ بَدْرٍ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا ". فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ؛ وَهُوَ فِي الدِّرْعِ. فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: " سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ، بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ عِكْرَمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ سِمَاكُ الْحَنَفِيُّ، قال: حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَتَسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا. فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبِّكَ فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -(1/50)
" إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ " فَأَمَدَّهُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ. فَحَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وصوت الفارس: أقدِمْ حَيْزومَ. إِذْ نَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ وَشُقَّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعَ. فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ ذَاكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: صَدَقْتَ، ذلك مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ رَوْحٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ بَعْدَمَا ذَهَبَ بَصَرُهُ: يَا ابْنَ أَخِي، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُ أَنَا وَأَنْتَ بِبَدْرٍ، ثُمَّ أَطْلَقَ اللَّهُ لِي بَصَرِي لَأَرَيْتُكَ الشِّعْبَ الَّذِي خَرَجَتْ عَلَيْنَا مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ، غَيْرُ شَكٍّ وَلَا تَمَارٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حدثنا ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: يَا أَبَا بَكْرٍ أَبْشِرْ هَذَا جِبْرِيلُ مُعْتَجِرٌ بِعِمَامَةٍ صَفْرَاءَ آخِذٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. فَلَمَّا نَزَلَ إِلَى الْأَرْضِ، تَغَيَّبَ عَنِّي سَاعَةً ثُمَّ طَلَعَ، عَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ يَقُولُ: " أَتَاكَ نَصْرُ اللَّهِ إِذْ دَعَوْتُهُ ".
وَقَالَ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: هَذَا جِبْرِيلُ آخذ برأس فَرَسِهِ، عَلَيْهِ أَدَاةُ الْحَرْبِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمَعِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو الْحُوَيْرِثِ، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: بَيْنَمَا أَنَا أَمْتَحُ مَنْ قَلِيبِ بَدْرٍ إِذْ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا ثم ذهبت،(1/51)
ثُمَّ جَاءَتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ كَالَّتِي قَبْلَهَا. فَكَانَتِ الرِّيحُ الْأُولَى جِبْرِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَكَانَتِ الثَّانِيَةُ مِيكَائِيلَ نَزَلَ فِي أَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَجَاءَتْ رِيحٌ ثَالِثَةٌ كَانَ فِيهَا إسرافيل فِي أَلْفٍ. فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ أَعْدَاءَهُ حَمَلَنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى فَرَسِهِ، فَجَرَتْ بِي، فَوَقَعْتُ عَلَى عَقِبَيَّ، فَدَعَوْتُ اللَّهَ فَأَمْسَكْتُ. فَلَمَّا اسْتَوَيْتُ عَلَيْهَا طَعَنْتُ بِيَدِي هَذِهِ فِي الْقَوْمِ حَتَّى اخْتَضَبَ هَذَا، وَأَشَارَ إِلَى إِبِطِهِ. غَرِيبٌ. وَمُوسَى فِيهِ ضَعْفٌ. وَقَوْلُهُ: " حملني على فرسه " لا يعرف إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا الحميري، قال: حدثنا العلاء بن كثير، قال: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، قال: حَدَّثَنِي أَبُو أُمَامَةَ بْنُ سَهْلٍ قَالَ: قَالَ أَبِي: يَا بُنَيَّ لَقَدْ رَأَيْتُنَا يَوْمَ بَدْرٍ وَإِنَّ أَحَدَنَا لَيُشِيرُ بِسَيْفِهِ إِلَى رَأْسِ الْمُشْرِكِ فَيَقَعُ رَأْسُهُ عَنْ جَسَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ السَّيْفُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ مُقْسِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قال: كان سِيمَا الْمَلَائِكَةِ يَوْمَ بَدْرٍ عَمَائِمَ بِيضًا قَدْ أَرْسَلُوهَا فِي ظُهُورِهِمْ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ عَمَائِمَ حُمْرًا. وَلَمْ تُقَاتِلِ الْمَلَائِكَةُ فِي يَوْمٍ سِوَى يَوْمِ بَدْرٍ. وَكَانُوا يَكُونُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْأَيَّامِ عَدَدًا وَمَدَدًا.
وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا "؛ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حَبِيبَةَ؛ حَدَّثَهُ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ الْمَلَكُ يُتَصَوَّرُ فِي صُورَةِ مَنْ يُعْرَفُونَ مِنَ النَّاسِ، يُثَبِّتُونَهُمْ، فَيَقُولُ: إِنِّي قَدْ دَنَوْتُ مِنْهُمْ فَسَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: لَوْ حَمَلُوا عَلَيْنَا مَا ثَبَتْنَا. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: لَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، أَصَبْنَا مِنْ ثِمَارِهَا فَاجْتَوَيْنَاهَا وَأَصَابَنَا بِهَا وَعْكٌ. فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/52)
يَتَخَبَّرُ عَنْ بَدْرٍ. فَلَمَّا بَلَغَنَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَقْبَلُوا، سَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَدْرٍ - وَهِيَ بِئْرٌ - فَسَبَقْنَا الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا. فَوَجَدْنَا فِيهَا رَجُلَيْنِ: رَجُلًا مِنْ قُرَيْشٍ وَمَوْلَى لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ. فَأَمَّا الْقُرَشِيُّ فَانْفَلَتَ، وَأَمَّا مَوْلَى عُقْبَةَ فَأَخَذْنَاهُ فَجَعَلْنَا نَقُولُ لَهْ: كَمِ الْقَوْمُ؟ فَيَقُولُ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شَدِيدٌ بَأْسُهُمْ. فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ إِذَا قَالَ ذَلِكَ ضَرَبُوهُ. حَتَّى انْتَهَوْا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ لَهُ: كَمِ الْقَوْمُ؟ قَالَ: هُمْ وَاللَّهِ كَثِيرٌ عَدَدُهُمْ شديد بأسهم. فجهد أن يخبره كَمْ هُمْ فَأَبَى. ثُمَّ سَأَلَهُ: كَمْ يَنْحَرُونَ كُلَّ يَوْمٍ مِنَ الْجَزُورِ؟ فَقَالَ: عَشَرَةَ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْقَوْمُ ألف، كل جزور بمائة وَتَبِعَهَا.
ثُمَّ إِنَّهُ أَصَابَنَا مِنَ اللَّيْلِ طَشٌّ مِنْ مَطَرٍ، فَانْطَلَقْنَا تَحْتَ الشَّجَرِ وَالْحَجَفِ نَسْتَظِلُّ تَحْتَهَا. وَبَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو رَبَّهُ وَيَقُولُ: " اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكَ هَذِهِ الْعِصَابَةَ لَا تُعْبَدُ فِي الْأَرْضِ ". فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ نَادَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَجَاءَ النَّاسُ مِنْ تحت الشجر والحجف والجرف فَصَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَضَّ عَلَى الْقِتَالِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّ جَمْعُ قُرَيْشٍ عِنْدَ هَذِهِ الضِّلْعِ الْحَمْرَاءِ مِنَ الجبل. فلما دنا القوم منا وضايقناهم إذا رجل منهم يسير فِي الْقَوْمِ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَلِيُّ نَادِ لِي حَمْزَةَ - وَكَانَ أَقْرَبَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ؟ وَمَاذَا يَقُولُ لَهُمْ؟ ثم قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنْ يَكُ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ يَأْمُرُ بِخَيْرٍ فَعَسَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ، فَجَاءَ حَمْزَةُ فَقَالَ: هُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَهُوَ يَنْهَى عَنِ الْقِتَالِ وَيَقُولُ: يَا قَوْمُ إِنِّي أَرَى أَقْوَامًا مُسْتَمِيتِينَ لَا تَصِلُونَ إِلَيْهِمْ وَفِيكُمْ خَيْرٌ. يَا قَوْمُ اعْصِبُوهَا الْيَوْمَ بِرَأْسِي وَقُولُوا جَبُنَ عُتْبَةُ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي لَسْتُ بِأَجْبَنِكُمْ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلٍ فَقَالَ: أَنْتَ تَقُولُ هَذَا؟ وَاللَّهِ لَوْ غَيْرُكَ يَقُولُ(1/53)
هذا لأعضضته. قد ملئت جوفك رعبا، فقال: إياي تعني يا مصفر اسْتَهُ؟ سَتَعْلَمُ الْيَوْمَ أيُّنَا أَجْبَنُ؟ فَبَرَزَ عُتْبَةُ وابنه الوليد وأخوه حمية. فَقَالَ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَخَرَجَ مِنَ الْأَنْصَارِ شَبَبَةُ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَا نُرِيدُ هَؤُلَاءِ، وَلَكِنْ يُبَارِزُنَا مِنْ بَنِي عَمِّنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُمْ يَا عَلِيُّ، قُمْ يَا حَمْزَةُ، قُمْ يَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ. فَقَتَلَ اللَّهُ عُتْبَةَ، وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ. وَجُرِحَ عُبَيْدَةُ. فَقَتَلْنَا مِنْهُمْ سَبْعِينَ وَأَسَرْنَا سَبْعِينَ. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَصِيرٌ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ أَسِيرًا فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّ هَذَا وَاللَّهِ مَا أَسَرَنِي، وَلَقَدْ أَسَرَنِي رَجُلٌ أَجْلَحُ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ وَجْهًا، عَلَى فَرَسٍ أَبْلَقَ، مَا أَرَاهُ فِي الْقَوْمِ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا أَسَرْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: " اسْكُتْ، فَقَدْ أَيَّدَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ ". قَالَ: فَأُسِرَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ: الْعَبَّاسُ، وَعَقِيلٌ، وَنَوْفَلُ بْنُ الْحَارِثِ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ السلولي: حدثنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَقَدْ قَلُّوا فِي أَعْيُنِنَا يَوْمَ بَدْرٍ، حَتَّى قُلْتُ لِرَجُلٍ إِلَى جَنْبِي: أَتَرَاهُمْ سَبْعِينَ؟ قَالَ: أَرَاهُمْ مِائَةً. فَأَسَرْنَا رَجُلًا فَقُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: أَلْفًا.
وَقَالَ سلميان بن المغيرة، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: " قوموا إلى جنة عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ. قَالَ: يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: بَخٍ بَخٍ! قَالَ: مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءٌ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا. فَأَخْرَجَ تُمَيْرَاتٍ مِنْ قَرْنِهِ فَجَعَلَ يَأْكُلُ منهن، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ. فَرَمَى بِهِنَّ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ حَمْزَةَ بْنِ أَبِي أُسَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ؛ قَالَ:(1/54)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ اصْطَفَفْنَا يَوْمَ بَدْرٍ: " إِذَا أَكْثَبُوكُمْ؛ يَعْنِي إذا غَشَوْكُمْ، فَارْمُوهُمْ بِالنَّبْلِ، وَاسْتَبِقُوا نَبْلَكُمْ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَى عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، وَشِعَارَ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ. وَسَمَّى خَيْلَهُ: خَيْلَ اللَّهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْخَالِقِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَابْنَةُ عَمِّهِ سِتُّ الْأَهْلِ بِنْتُ علوان - سنة ثلاث وتسعين - وآخرون قالوا: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم الفقيه، قال: أخبرتنا شهدة بنت أحمد، قالت: أخبرنا الحسين بن طلحة، قال: أخبرنا أبو عمر عبد الواحد بن مهدي، قال: حدثنا الحسين بن إٍسماعيل، قال: حدثنا محمود بن خداش، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا أَبُو هَاشِمٍ عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقْسِمُ قَسَمًا: " هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ "؛ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ بَرَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: حَمْزَةُ، وَعَلِيٌّ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ يَعْقُوبَ الدَّوْرَقِيِّ وَغَيْرِهِ. وَمُسْلِمٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ زُرَارَةَ، عَنْ هُشَيْمٍ، عَنْ أَبِي هَاشِمٍ يَحْيَى بْنِ دِينَارٍ الرُّمَّانِيِّ الْوَاسِطِيِّ، عَنْ أَبِي مِجْلَزٍ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ السَّدُوسِيِّ الْبَصْرِيِّ. وَهُوَ مِنَ الْأَبْدَالِ الْعَوَالِي.
وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيٍّ الْمُطَّلِبِيُّ، أُمَّهُ ثَقَفِيَّةٌ، وَكَانَ أَسَنَّ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَشْرِ سِنِينَ، أَسْلَمَ هُوَ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ فِي وَقْتٍ. وَهَاجَرَ هُوَ وَأَخَوَاهُ الطُّفَيْلُ وَالْحُصَيْنُ. وَكَانَ عُبَيْدَةُ كَبِيرَ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وكان مربوعا مَلِيحًا، تُوُفِّيَ بِالصَّفْرَاءِ. وَهُوَ الَّذِي بَارَزَ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، كِلَاهُمَا(1/55)
أَثْبَتَ صَاحِبَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَقَدْ جَهَّزَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سِتِّينَ رَاكِبًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَمَّرَهُ عَلَيْهِمِ؛ فَكَانَ أَوَّلُ لِوَاءٍ عَقَدَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوَاءَ عُبَيْدَةَ. فَالْتَقَى بِقُرَيْشٍ وَعَلَيْهِمْ أَبُو سُفْيَانَ عِنْدَ ثَنِيَّةِ الْمَرَةِ، فَكَانَ أَوَّلَ قِتَالٍ فِي الْإِسْلَامِ. قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ أَنَّ الْمُسْتَفْتِحَ يَوْمَ بَدْرٍ أَبُو جَهْلٍ. قَالَ لَمَّا الْتَقَى الْجَمْعَانِ: " اللَّهُمَّ أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف، فَأَحْنِهِ الْغَدَاةَ ". فَقُتِلَ، فَفِيهِ أُنْزِلَتْ: " إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ".
وَقَالَ مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ صَاحِبِ الزِّيَادِيِّ، سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: " اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ "، فَنَزَلَتْ: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: " وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ "، قَالَ: يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ. قَالَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْهُ.
وَبِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: " وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ " قَالَ: أَقْبَلَتْ عِيرُ أَهْلِ مَكَّةَ تُرِيدُ الشَّامَ - كَذَا قَالَ - فَبَلَغَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ ذَلِكَ، فَخَرَجُوا وَمَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُونَ الْعِيرَ. فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ مَكَّةَ فَأَسْرَعُوا السَّيْرَ، فَسَبَقَتِ الْعِيرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ اللَّهُ وَعَدَهُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ. وَكَانُوا أَنْ يَلْقَوْا الْعِيرَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ، وَأَيْسَرَ شَوْكَةً وَأَحْضَرَ مَغْنَمًا.(1/56)
فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ الْقَوْمَ، فَكَرِهَ الْمُسْلِمُونَ مَسِيرَهُمْ لِشَوْكَةِ الْقَوْمِ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ، وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَاءِ رَمْلَةٌ دِعْصَةٌ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ شَدِيدٌ، وَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي قُلُوبِهِمُ الْقَنَطَ يُوَسْوِسُهُمْ: تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ، وَقَدْ غَلَبَكُمُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمَاءِ، وَأَنْتُمْ كَذَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَطَرًا شَدِيدًا، فَشَرِبَ الْمُسْلِمُونَ وَتَطَهَّرُوا. فَأَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ. وَصَارَ الرَّمْلُ - يَعْنِي مُلَبَّدًا - وَأَمدَّهُمُ اللَّهُ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ. وَجَاءَ إِبْلِيسُ فِي جُنْدٍ مِنَ الشياطين، معه رايته في صورة رجال بَنِي مُدْلِجٍ، وَالشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ، فَقَالَ لِلْمُشْرِكِينَ: " لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ، وَإنِّي جَارٌ لَكُمْ " فَلَمَّا اصْطَفَّ الْقَوْمُ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: اللَّهُمَّ أَوْلَانَا بِالْحَقِّ فَانْصُرْهُ.
وَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدُهُ فقال: يا رب إِنَّكَ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ فَلَنْ تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ أَبَدًا. فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: خُذْ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ. فَأَخَذَ قَبْضَةً مِنَ التُّرَابِ فَرَمَى بِهَا فِي وُجُوهِهِمْ. فَمَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَصَابَ عَيْنَيْهِ وَمِنْخَرَيْهِ وَفَمَهُ، فَوَلُّوا مُدْبِرِينَ. وَأَقْبَلَ جِبْرِيلُ إِلَى إِبْلِيسَ، فَلَمَّا رَآهُ وَكَانَتْ يَدُهُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ نَزَعَ يَدَهُ وَوَلَّى مُدْبرًا وشيعته. فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا سُرَاقَةُ، أَمَا زَعَمْتَ أَنَّكَ لَنَا جَارٌ؟ قَالَ: " إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ".
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، أخبرنا صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: إِنِّي لَوَاقفٌ يَوْمَ بَدْرٍ فِي الصّفِّ، فَنَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلَامَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمَا. فَتَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُونَ بَيْنَ أَضْلُعٍ مِنْهُمَا. فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا فَقَالَ: يَا عَمَّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَمَا حَاجَتُكَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ رَأَيْتُهُ لَا يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا. فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ. فَغَمَزَنِي الْآخَرُ فَقَالَ لِي مِثْلَهَا. فَلَمْ(1/57)
أنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ يَجُولُ فِي النَّاسِ، فَقُلْتُ: أَلَا تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الَّذِي تَسْأَلَانِ عَنْهُ. فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا فَضَرَبَاهُ حَتَّى قَتَلَاهُ. ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ: أَيُّكُمَا قَتَلَهُ؟ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُهُ. فَقَالَ: هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟ قَالَا: لَا. قَالَ: فَنَظَرَ فِي السَّيْفَيْنِ، فَقَالَ، كِلَاهُمَا قَتَلَهُ. وَقَضَى بِسَلْبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرٍو، وَالْآخَرِ مُعَاذِ بْنِ عَفْرَاءَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا سليمان التيمي، حدثني أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ يَنْظُرُ مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتَّى بَرُدَ. قَالَ: أَنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ. فَقَالَ: هَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قتلتموه، أو قتله قومه؟ أخرجه البخاري ومسلم.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْن أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ أَتَى أَبَا جَهْلٍ فَقَالَ: قَدْ أَخْزَاكَ اللَّهُ. فَقَالَ: هَلْ أَعْمَدُ مِنْ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ؟ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ عَثَّامُ بن علي: حدثنا الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ وَهُوَ صَرِيعٌ، وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ، وَمَعَهُ سَيْفٌ جَيِّدٌ، وَمَعِي سَيْفٌ رَثٌّ. فَجَعَلْتُ أَنْقُفُ رَأْسَهُ بِسَيْفِي، وَأَذْكُرُ نَقفًا كَانَ يَنْقُفُ رَأْسِي بِمَكَّةَ، حتى ضعفت يده، فَأَخَذْتُ سَيْفَهُ. فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: عَلَى مَنْ كَانَتِ الدَّبَرَةُ، لَنَا أَوْ عَلَيْنَا؟ أَلَسْتَ رُوَيْعِينَا بِمَكَّةَ؟ قَالَ: فَقَتَلْتُهُ. ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُلْتُ: قَتَلْتُ أَبَا جَهْلٍ. فَقَالَ: آللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ؟ فَاسْتَحْلَفَنِي ثَلَاثَ مِرَارٍ. ثُمَّ قَامَ مَعِي إِلَيْهِمْ، فدعا عليهم.(1/58)
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ أَبِي إسحاق. وفيه: فَاسْتَحْلَفَنِي وَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ، انْطَلَقَ فَأَرِنِيهِ. فَانْطَلَقْتُ فَأَرَيْتُهُ. فَقَالَ: هَذَا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَلَغَهُ قَتْلُهُ خَرَّ سَاجِدًا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَصْرَعِ ابْنَيْ عَفْرَاءَ فَقَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَي عَفْرَاءَ، فَهُمَا شُرَكَاءُ فِي قَتْلِ فِرْعَوْنَ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَرَأْسِ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ قَتَلَهُ مَعَهُمَا؟ قَالَ: الْمَلَائِكَةُ، وَابْنُ مَسْعُودٍ قَدْ شُرِكَ فِي قَتْلِهِ.
وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: حدثنا سَلَمَةُ بْنُ رَجَاءٍ، عَنِ الشَّعْثَاءِ؛ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ، قَالَتْ: دَخَلْتُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى، فَرَأَيْتُهُ صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: إِنَّكَ صَلَّيْتَ رَكْعَتَيْنِ. فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الضُّحَى رَكْعَتَيْنِ حِينَ بُشِّرَ بِالْفَتْحِ، وَحِينَ جِيءَ بِرَأْسِ أَبِي جَهْلٍ.
وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنِّي مَرَرْتُ بِبَدْرٍ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يَخْرُجُ مِنَ الْأَرْضِ، فَيَضْرِبُهُ رَجُلٌ بِمِقْمَعَةٍ حَتَّى يَغِيبَ فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَخْرُجُ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِرَارًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ذَاكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هشام يعذب إلى يوم القيامة ".
وقال البخاري ومسلم مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قال: ذكر لنا أنس، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ يَوْمَ بَدْرٍ بِأَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلًا مِنْ صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، فَقُذِفُوا فِي طَوِيٍّ مِنْ أَطْوَاءِ بَدْرٍ خَبِيثٍ مُخْبِثٍ. وَكَانَ إِذَا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِالْعَرْصَةِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. فَلَمَّا كَانَ بِبَدْرٍ الْيَوْمَ الثَّالِثَ، أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَشَدَّ عَلَيْهَا، ثُمَّ مَشَى وَاتَّبَعَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: مَا نَرَاهُ إِلَّا يَنْطَلِقُ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، حَتَّى قَامَ عَلَى شَفَةِ الرَّكِيِّ فَجَعَلَ يُنَادِيهِمْ بأسمائهم وأسماء(1/59)
آبَائِهِمْ: يَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، وَيَا فُلَانُ بْنَ فُلَانٍ، أَيَسُرُّكُمْ أَنَّكُمْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَإِنَّا قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا، فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تُكَلِّمُ مِنْ أَجْسَادٍ لَا أَرْوَاحَ لَهَا؟ فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قَوْلَهُ تَوْبِيخًا وَتَصْغِيرًا وَنِقْمَةً وَحَسْرَةً وَنَدَامَةً. صَحِيحٌ.
وَقَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَفَ عَلَى قَلِيبِ بَدْرٍ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ. قَالَ عُرْوَةُ: فَبَلَغَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: لَيْسَ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إِنَّمَا قَالَ: إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا كنت أقول لهم حق. إنهم قد تبوؤوا مَقَاعِدَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ. إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: " إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى " " وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ. إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ " أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
مَا رَوَتْ عَائِشَةُ لَا يُنَافِي مَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ، فَإِنَّ عِلْمَهُمْ لَا يمنع من سماعهم قوله - عليه السلام -، وأما إنك لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، فَحَقٌّ لأَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمْ ذَلِكَ الْوَقْتَ كَمَا يُحْيِي الْمَيِّتَ لِسُؤَالِ مُنْكَرٍ وَنَكِيرٍ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عن ابن عباس في قوله: " بدلوا نعمة اللَّهِ كُفْرًا "؛ قَالَ: هُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ. " وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ "؛ قَالَ: النَّارُ يَوْمَ بَدْرٍ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْقَتْلَى قِيلَ لَهُ: عليك العير ليس دونها شَيْءٌ. فَنَادَاهُ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي الْوَثَاقِ: إِنَّهُ لَا يَصْلُحُ لَكَ. قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَكَ مَا وَعَدَكَ. هَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، ورواه جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شَاكِرٍ، عَنْ أَبِي نعيم، عنه.(1/60)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: ضُرِبَ خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ يَوْمَ بَدْرٍ فَمَالَ شِقُّهُ، فَتَفَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَأَمَهُ وَرَدَّهُ، فَانْطَبَقَ.
أَحْمَدُ بْنُ الْأَزْهَرِ: حدثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: شَهِدَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ بَدْرًا كَافِرًا، وَكَانَ فِي الْقَتْلَى. فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَوَضَعَ سَيْفَهُ فِي بَطْنِهِ، فَخَرَجَ مِنْ ظَهْرِهِ. فَلَمَّا بَرُدَ عَلَيْهِ اللَّيْلُ لَحِقَ بِمَكَّةَ فَصَحَّ. فَاجْتَمَعَ هُوَ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ فَقَالَ: لَوْلَا عيالي وديني لكنت الذي أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. فَقَالَ صَفْوَانُ: وَكَيْفَ تَقْتُلُهُ؟ قَالَ: أَنَا رَجُلٌ جَرِيءُ الصَّدْرِ جَوَادٌ لَا أُلْحَقُ، فَأَضْرِبُهُ وَأَلْحَقُ بِالْجَبَلِ فَلَا أُدْرَكُ. قَالَ: عِيالُكَ فِي عِيالِي وَدَيْنَكُ عَلِيَّ. فَانْطَلَقَ فَشَحَذَ سَيْفَهُ وَسَمَّهُ. وَأَتَى الْمَدِينَةَ، فَرَآهُ عُمَرُ فَقَالَ لِلصَّحَابَةِ: احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فَإِنِّي أَخَافُ عُمَيْرًا إِنَّهُ رَجُلٌ فَاتِكٌ، وَلَا أَدْرِي مَا جَاءَ بِهِ. فَأَطَافَ الْمُسْلِمُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَجَاءَ عُمَيْرٌ، مُتَقَلِّدًا سَيْفَهُ، إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَنْعِمْ صَبَاحًا. قَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَيْرُ؟ قَالَ: حَاجَةٌ. قَالَ: فَمَا بَالُ السَّيْفِ؟ قَالَ: قَدْ حَمَلْنَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ فَمَا أَفْلَحَتْ وَلَا أَنْجَحَتْ. قَالَ: فَمَا قَوْلُكَ لِصَفْوَانَ وَأَنْتَ فِي الْحِجْرِ؟ وَأَخْبَرَهُ بِالْقِصَّةِ. فَقَالَ عُمَيْرٌ: قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ فَنُكَذِّبُكَ، وَأَرَاكَ تَعْلَمُ خَبَرَ الْأَرْضِ. أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رَسُولُ اللَّهِ. بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَعْطِنِي مِنْكَ علما يعلم أَهْلُ مَكَّةَ أَنِّي أَسْلَمْتُ. فَأَعْطَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لَقَدْ جَاءَ عُمَيْرٌ وَإِنَّهُ لَأَضَلُّ مِنْ خِنْزِيرٍ، ثُمَّ رَجَعَ وَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ وَلَدِي.
وقال يونس، عن ابن إسحاق قال: حدثنا عُكَّاشَةُ الَّذِي قَاتَلَ بِسَيْفِهِ يَوْمَ بَدْرٍ حَتَّى انْقَطَعَ فِي يَدِهِ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعْطَاهُ جِذْلًا مِنْ حَطَبٍ، فَقَالَ: قَاتِلْ بِهَذَا. فَلَمَّا أَخَذَهُ هَزَّهُ فَعَادَ سَيْفًا فِي يَدِهِ، طَوِيلَ الْقَامَةِ شَدِيدَ الْمَتْنِ أبيض الحديدة. فقاتل بها، حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ يَشْهَدُ بِهِ الْمَشَاهِدَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى قُتِلَ فِي قِتَالِ أَهْلِ الرِّدَةِ وَهُوَ عِنْدَهُ. وَكَانَ ذَلِكَ السَّيْفُ يُسَمَّى الْقوي.(1/61)
هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ بِلَا سَنَدٍ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْوَاقِدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عُثْمَانَ الْجَحْشِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَمَّتِهِ قَالَتْ: قَالَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ: انْقَطَعَ سَيْفِي يَوْمَ بَدْرٍ، فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُودًا، فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ. فَقَاتَلْتُ بِهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ جَمَاعَةٍ قَالُوا: انْكَسَرَ سَيْفُ سَلَمَةَ بْنِ أَسْلَمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَقِيَ أَعْزَلَ لَا سِلَاحَ مَعَهُ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضِيبًا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ عَرَاجِينَ، فَقَالَ: اضْرِبْ بِهِ. فَإِذَا هُوَ سَيْفٌ جَيِّدٌ. فَلَمْ يَزَلْ عِنْدَهُ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ.
-ذِكْرُ غَزْوَةِ بَدْرٍ
مِنْ مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ فِإنَّهَا مِنْ أَصَحِّ الْمَغَازِي
قَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيُّ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ وَمَعْنٌ وَغَيْرُهُمَا أَنَّ مَالِكًا كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْمَغَازِي قَالَ: عَلَيْكَ بِمَغَازِي الرَّجُلِ الصَّالِحِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، فَإِنَّهُ أَصَحُّ الْمَغَازِي.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُلَيْحٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ. (ح). وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أبي أويس: حدثنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ - وَهَذَا لَفْظُهُ - عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: مَكَثَ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد قتل ابن(1/62)
الْحَضْرَمِيِّ شَهْرَيْنِ. ثُمَّ أَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي عِيرٍ لِقُرَيْشٍ، وَمَعَهُ سَبْعُونَ رَاكِبًا مِنْ بُطُونِ قريش؛ منهم: مخرمة بن نوفل وعمرو بن الْعَاصِ، وَكَانُوا تُجَّارًا بِالشَّامِ، وَمَعَهُمْ خَزَائِنُ أَهْلِ مَكَّةَ، وَيُقَالُ: كَانَتْ عِيرُهُمْ أَلْفَ بَعِيرٍ. وَلَمْ يَكُنْ لِقُرَيْشٍ أُوقِيَّةٌ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا بَعَثُوا بِهَا مَعَ أَبِي سُفْيَانَ؛ إِلَّا حُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى، فَلِذَلِكَ تَخَلَّفَ عَنْ بَدْرٍ فَلَمْ يشهدها. فذكروا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ، وَقَدْ كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَاكَ، فَبَعَثَ عَدِيَّ بْنَ أَبِي الزَّغْبَاءِ الْأَنْصَارِيَّ، وبَسْبَسَ بْنَ عَمْرٍو، إِلَى الْعِيرِ، عَيْنًا لَهُ، فَسَارَا، حَتَّى أَتَيَا حَيًّا مِنْ جُهَيْنَةَ، قَرِيبًا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَسَأَلُوهُمْ عَنِ الْعِيرِ، فَأَخْبَرُوهُمَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ. فَرَجَعَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبراه. فاستنفر المسلمين للعير. فِي رَمَضَانَ.
وَقَدِمَ أَبُو سُفْيَانَ عَلَى الْجُهَنِيِّينَ وَهُوَ مُتَخَوِّفٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ خَبَرَ الرَّاكِبَيْنِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: خُذُوا مَنْ بَعْرِ بعيريهما. ففته فَوَجَدَ النَّوَى فَقَالَ: هَذِهِ عَلَائِفُ أَهْلِ يَثْرِبَ. فَأَسْرَعَ وَبَعَثَ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ يُقَالُ لَهُ: ضَمْضَمُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى قُرَيْشٍ أَنِ انْفِرُوا فَاحْمُوا عِيرَكُمْ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ. وَكَانَتْ عَاتِكَةُ قَدْ رَأَتْ قَبْلَ قُدُومِ ضَمْضَمٍ؛ فَذَكَرَ رؤيا عاتكة، إِلَى أَنْ قَالَ: فقدم ضَمْضَمُ فَصَاحَ: يَا آلَ غَالِبِ بْنَ فِهْرٍ انْفِرُوا فَقَدْ خَرَجَ مُحَمَّدٌ وَأَهْلُ يَثْرِبَ يَعْتَرِضُونَ لِأَبِي سُفْيَانَ. فَفَزِعُوا، وَأَشْفَقُوا مِنْ رُؤْيَا عَاتِكَةَ، وَنَفَرُوا عَلَى كُلِّ صَعْبٍ وَذَلُولٍ. وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيَظُنُّ مُحَمَّدٌ أَنْ يُصِيبَ مِثْلَ مَا أَصَابَ بِنَخْلَةَ؟ سَيَعْلَمُ أنمنع عِيرُنَا أَمْ لَا؟
فَخَرَجُوا بِخَمْسِينَ وَتَسِعِمِائَةِ مُقَاتِلٍ، وَسَاقُوا مِائَةَ فَرَسٍ، وَلَمْ يَتْرُكُوا كَارِهًا لِلْخُرُوجِ. فَأَشْخَصُوا الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَنَوْفَلُ بْنَ الْحَارِثِ، وَطَالِبَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَأَخَاهُ عَقِيلًا، إِلَى أَنْ نَزَلُوا الْجُحْفَةَ.
فَوَضَعَ جُهَيْمُ بْنُ الصَّلْتِ بْنِ مَخْرَمَةَ الْمُطَّلِبِيُّ رَأْسَهُ فَأَغْفَى، ثُمَّ نزع فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: هَلْ رَأَيْتُمُ الْفَارِسَ الَّذِي وَقَفَ عَلِيَّ آنِفًا. قَالُوا: لَا، إِنَّكَ مَجْنُونٌ. فَقَالَ: قَدْ وَقَفَ عَلِيَّ فَارِسٌ فَقَالَ: قُتِلَ أَبُو جَهْلٍ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، وَزَمْعَةُ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ، وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَعَدَّ جَمَاعَةً. فَقَالُوا: إِنَّمَا لَعِبَ بِكَ الشَّيْطَانُ. فَرُفِعَ حَدِيثُهُ إِلَى أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ: قَدْ جِئْتُمُونَا بِكَذِبِ بَنِي الْمُطَّلِبِ(1/63)
مَعَ كَذِبِ بَنِي هَاشِمٍ، سَتَرَوْنَ غَدًا مَنْ يُقْتَلُ.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَلَبِ الْعِيرِ، فَسَلَكَ عَلَى نَقْبِ بَنِي دِينَارٍ، وَرَجَعَ حِينَ رَجَعَ مِنْ ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ. فَنَفَر فِي ثَلَاثِمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا. وَأَبْطَأَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَتَرَبَّصُوا. وَكَانَتْ أَوَّلُ وَقْعَةٍ أَعَزَّ اللَّهُ فِيهَا الْإِسْلَامَ.
فَخَرَجَ فِي رَمَضَانَ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى النَّوَاضِحِ يَعْتَقِبُ النَّفَرُ مِنْهُمْ عَلَى الْبَعِيرِ الْوَاحِدِ. وَكَانَ زَمِيلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَمَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ حَلِيفَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَيْسَ مَعَ الثَّلاثَةِ إِلَّا بَعِيرٌ وَاحِدٌ. فَسَارُوا، حَتَّى إذا كانوا بعرق الظبية لقيهم راكب مِنْ قِبَلَ تِهَامَةَ، فَسَأَلُوهُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ فَقَالَ: لَا عِلْمَ لِي بِهِ. فَقَالُوا: سَلِّمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَفِيكُمْ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالُوا: نَعَمْ. وَأَشَارُوا إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنْ كُنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فَحَدِّثْنِي بِمَا فِي بَطْنِ نَاقَتِي هَذِهِ. فَغَضِبَ سَلَمَةُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ الْأَنْصَارِيُّ فَقَالَ: وَقَعْتَ عَلَى نَاقَتِكَ فَحَمَلَتْ مِنْكَ. فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ سَلَمَةُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ.
ثُمَّ سَارَ لَا يَلْقَاهُ خَبَرٌ وَلَا يَعْلَمُ بِنَفْرَةِ قُرَيْشٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشِيرُوا عَلَيْنَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا أَعْلَمُ بِمَسَافَةِ الْأَرْضِ. أَخْبَرَنَا عَدِيُّ بْنُ أَبِي الزَّغْبَاءِ أَنَّ الْعِيرَ كَانَتْ بِوَادِي كَذَا.
وَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا قُرَيْشٌ وَعِزُّهَا، وَاللَّهِ مَا ذلَّتْ مُنْذُ عَزَّتْ وَلَا آمَنَتْ مُنْذُ كَفَرَتْ. وَاللَّهِ لَتُقَاتِلَنَّكَ، فَتَأَهَّبَ لِذَلِكَ.
فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلِيَّ.
قَالَ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّا لَا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى: " فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا ها هنا قَاعِدُونَ "، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَّبِعُونَ.
فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلِيَّ.(1/64)
فَلَمَّا رَأَى سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ كَثْرَةَ اسْتِشَارَتِهِ ظَنَّ سَعْدٌ أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُ الْأَنْصَارَ شَفَقًا أَنْ لَا يَسْتَحْوِذُوا معه، أَوْ قَالَ: أَنْ لَا يَسْتَجْلِبُوا مَعَهُ عَلَى مَا يُرِيدُ، فَقَالَ: لَعَلَّكَ يا رسول الله تخشى أن لا تكون الْأَنْصَارُ يُرِيدُونَ مُوَاسَاتَكَ. وَلَا يَرَوْنَهَا حَقًّا عَلَيْهِمْ، إِلَّا بِأَنْ يَرَوْا عَدُوًّا فِي بُيُوتِهِمْ وَأَوْلادِهِمْ وَنِسَائِهِمْ. وَإِنِّي أَقُولُ عَنِ الْأَنْصَارِ وَأُجِيبُ عَنْهُمْ: فَاظْعِنْ حَيْثُ شِئْتَ، وَصِلْ حبل من شئت، وخذ من أموالنا مَا شئت، وأعطنا مَا شئت، وما أخذته منا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَهُ عَلَيْنَا. فَوَاللَّهِ لَوْ سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغَ الْبَرْكَ مِنْ غِمْدِ ذِي يَمَنٍ لَسِرْنَا مَعَكَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: سِيرُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَإِنِّي قَدْ أُرِيتُ مَصَارِعَ الْقَوْمِ. فَعَمْدٌ لِبَدْرٍ.
وَخَفَضَ أَبُو سُفْيَانَ فَلَصَقَ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ، وَأَحْرَزَ مَا مَعَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَأَتَاهُمُ الْخَبَرُ بِالْجُحْفَةِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللَّهِ لَا نَرْجِعُ حَتَّى نَقْدَمَ بَدْرًا فَنُقِيمَ بِهَا. فَكَرِهَ ذَلِكَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ وَأَشَارَ بِالرَّجْعَةِ، فَأَبَوْا وَعَصَوْهُ. فَرَجَعَ بِبَنِي زُهْرَةَ فَلَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ مُنْهُمْ بَدْرًا. وَأَرَادَتْ بَنُو هَاشِمٍ الرُّجُوعَ فَمَنَعَهُمْ أَبُو جَهْلٍ.
ونزل رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَدْنَى شَيْءٍ مِنْ بَدْرٍ. ثُمَّ بَعَثَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَجَمَاعَةً يَكْشِفُونَ الْخَبَرَ. فَوَجَدُوا وَارِدَ قُرَيْشٍ عِنْدَ الْقَلِيبِ، فَوَجَدُوا غُلامَيْنِ فَأَخَذُوهُمَا فَسَأَلُوهُمَا عَنِ الْعِيرِ، فَطَفِقَا يُحَدِّثَانِهِمْ عَنْ قُرَيْشٍ، فَضَرَبُوهُمَا. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، إِلَى أَنْ قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ فِي الْمَنْزِلِ.
فَقَامَ الْحُبَابُ بْنُ الْمُنْذِرِ السَّلْمِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ عَالِمٌ بِهَا وبقلبها؛ إن رأيت أن تسير إِلَى قَلِيبٍ مِنْهَا قَدْ عَرَفْتُهَا كَثِيرَةَ الْمَاءِ عذبة، فتنزل عليها وتسبق الْقَوْمَ إِلَيْهَا وَنُغَوِّرُ مَا سِوَاهَا.
فَقَالَ: سِيرُوا. فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَكُمْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ.
فَوَقَعَ فِي قُلُوبِ نَاسٍ كَثِيرُ الْخَوْفِ. فَتَسَارَعَ الْمُسْلِمُونَ والمشركون إلى(1/65)
الْمَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ مَطَرًا وَاحِدًا؛ فكان علي المشركين بلاء شديدا منعهم أن يسيروا، وكان على المسلمين دِيمَةً خَفِيفَةً لَبَّدَ لَهُمُ الْأَرْضَ، فَسَبَقُوا إِلَى الْمَاءَ فَنَزَلُوا عَلَيْهِ شَطْرَ اللَّيْلِ. فَاقْتَحَمَ الْقَوْمُ فِي الْقَلِيبِ فَمَاحُوهَا حَتَّى كَثُرَ مَاؤُهَا. وَصَنَعُوا حوضا عظيما ثم غوروا مَا سِوَاهُ مِنَ الْمِيَاهِ.
وَيُقَالُ: كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَسَانِ، عَلَى أَحَدِهِمَا: مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعَلَى الْآخَرِ سعد بن خثيمة. وَمَرَّةً الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَالْمِقْدَادُ.
ثُمَّ صَفَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْحِيَاضِ. فَلَمَّا طَلَعَ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما زَعَمُوا - " اللَّهُمَّ هَذِهِ قُرَيْشٍ قَدْ جَاءَتْ بِخُيَلائِهَا وَفَخْرِهَا تُحَادُّكَ وَتُكَذِّبُ رَسُولَكَ ". وَاسْتَنْصَرَ الْمُسْلِمُونَ اللَّهَ واستغاثوه، فاستجاب الله لهم.
فنزل المشركون وتعبؤوا لِلْقِتَالِ، وَمَعَهُمْ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ الْمُدْلِجِيِّ يُحَدِّثُهُمْ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ وَرَاءَهُ قَدْ أَقْبَلُوا لِنَصْرِهِمْ.
قَالَ: فَسَعَى حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ تكون سيد قريش ما عشت؟ قال: فَأَفْعَلُ مَاذَا؟ قَالَ: تُجِيُر بَيْنَ النَّاسِ وَتَحْمِلُ دِيَةَ ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَبِمَا أَصَابَ مُحَمَّدٌ فِي تِلْكَ الْعِيرِ، فَإِنَّهُمْ لَا يَطْلُبُونَ مِنْ مُحَمِّدٍ غيرها. قال عتبة: نعم قد فعلت، ونعما قُلْتَ، فَاسْعَ فِي عَشِيرَتِكَ فَأَنا أَتَحَمَّلُ بِهَا. فَسَعَى حَكِيمٌ فِي أَشْرَافِ قُرَيشٍ بِذَلِكَ.
وَرَكِبَ عُتبَةُ جَمَلًا لَهُ، فَسَارَ عَلَيْهِ فِي صُفُوفِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ: يَا قَوْمُ أَطِيعُونِي وَدَعُوا هَذَا الرَّجُلَ؛ فَإِنْ كَانَ كَاذِبًا وَلِيَ قَتْلَهُ غَيْرُكُمْ مِنَ الْعَرَبِ فَإِنَّ فِيهِمْ رِجَالًا لَكُمْ فِيهِمْ قَرَابَةً قَرِيبَةً، وَإِنَّكُمْ إِنْ تَقْتُلُوهُمْ لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إِلَى قَاتِلِ أَخِيهِ أَوِ ابْنِهِ أَوِ ابْنِ أَخِيهِ أَوِ ابْنِ عَمِّهِ، فَيُورِثُ ذَلِكَ فِيكُمْ إِحَنًا وَضَغَائِنَ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مَلِكًا كُنْتُمْ فِي مُلْكِ أَخِيكُمْ. وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ تَقْتُلُوا النَّبِيَّ فَتُسَبُّوا بِهِ. ولن تخلصوا إليهم حتى يصيبوا أعدادكم، وَلَا آمَنُ أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدَّبَرَةُ عَلَيْكُمْ.(1/66)
فَحَسَدَهُ أَبُو جَهْلٍ عَلَى مَقَالَتِهِ. وَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُنَفِّذَ أَمْرَهُ. وَعُتْبَةُ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْمُشْرِكِينَ.
فَعَمَدَ أَبُو جَهْلٍ إِلَى ابْنِ الْحَضْرَمِيِّ - وَهُوَ أَخُو الْمَقْتُولِ - فَقَالَ: هَذَا عُتبَةُ يَخْذُلُ بَيْنَ النَّاسِ، وَقَدْ تَحَمَّلَ بِدِيَةِ أَخِيكَ، يَزْعُمُ أَنَّكَ قَابِلُهَا. أَفَلَا تَسْتَحْيُونَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَقْبَلُوا الدِّيَةَ؟ وَقَالَ لِقُرَيْشٍ: إِنَّ عُتْبَةَ قَدْ عَلِمَ أَنَّكُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَمَنْ مَعَهُ، وَفِيهِمُ ابْنُهُ وَبَنُو عَمِّهِ، وَهُوَ يَكْرَهُ صَلَاحَكَمْ. وَقَالَ لِعُتْبَةَ: انْتَفَخَ سَحْرُكَ. وَأَمَرَ النِّسَاءَ أن يعولن عمرا، فقمن يصحن: واعمراه وا عمراه؛ تحريضا على القتال.
وقام رجل فَتَكَشَّفُوا؛ يُعَيِّرُونَ بِذَلِكَ قُرَيْشًا. فَأَخَذَتْ قُرَيْشٌ مَصَافَّهَا لِلْقِتَالِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَأُسِرَ نَفَرٌ مِمَّنْ أَوْصَى بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يَقْتُلُوهُمْ إِلَّا أَبَا الْبَخْتَرِيِّ، فَإِنَّهُ أَبَى أَنْ يُسْتَأْسَرَ، فَذَكَرُوا لَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَقْتُلُوهُ إِنِ اسْتَأْسَرَ، فَأَبَى. وَيَزْعُمُ نَاسٌ أَنَّ أَبَا الْيسرِ قَتَلَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ. وَيَأْبَى عُظْمُ النَّاسُ إِلَّا أَنَّ الْمُجَذَّرَ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ. بَلْ قَتَلَهُ أَبُو دَاوُدَ الْمَازِنِيُّ.
قَالَ: وَوَجَدَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَبَا جَهْلٍ مَصْرُوعًا، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَعْرَكَةِ غَيْرُ كَثِيرٍ، مُقَنَّعًا فِي الْحَدِيدِ وَاضِعًا سَيْفَهُ عَلَى فَخِذَيْهِ لَيْسَ بِهِ جُرْحٍ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يحرك منه عُضْوًا، وَهُوَ مُنْكَبٌّ يَنْظُرُ إِلَى الْأَرْضِ. فَلَمَّا رَآهُ ابْنُ مَسْعُودٍ أَطَافَ حَوْلَهُ لِيَقْتُلَهُ وَهُوَ خَائِفٌ أَنْ يَثُورَ إِلَيْهِ، وَأَبُو جَهْلٍ مُقَنَّعٌ بِالْحَدِيدِ، فَلَمَّا أَبْصَرَهُ لا يَتَحَرَّكُ ظَنَّ أَنُه مُثَبَّتٌ جِرَاحًا، فَأَرَادَ أن يضربه بسيفه، فخشي أن لا يغني سيفه شَيْئًا، فأتاه من ورائه، فتناول قَائِمَ سَيْفِهِ فَاسْتَلَّهُ وَهُوَ مُنْكَبٌّ، فَرَفَعَ عَبْدُ اللَّهِ سَابِغَةَ الْبَيْضَةِ عَنْ قَفَاهُ فَضَرَبَهُ، فَوَقَعَ رَأْسُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ سَلَبَهُ. فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ إِذَا هُوَ لَيْسَ بِهِ جِرَاحٌ، وَأَبْصَرَ فِي عُنُقِهِ خدرًا، وَفِي يَدِيهِ(1/67)
وَفِي كَتِفَيْهِ كَهَيْئَةِ آثَارِ السِّيَاطِ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ذَلِكَ ضَرْبُ الْمَلَائِكَةِ.
قَالَ: وَأَذَلَّ اللَّهُ بِوَقْعَةِ بَدْرٍ رِقَابَ الْمُشْرِكِينَ والمنافقين، فلم يبق بالمدينة منافق ولا يهودي إِلَّا وَهُوَ خَاضِعٌ عُنُقُهُ لِوَقْعَةِ بَدْرٍ. وَكَانَ ذلك يوم الفرقان؛ يوم فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالإِيمَانِ.
وَقَالَتِ الْيَهُودُ: تَيَقَّنَّا أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي نَجِدُ نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ. وَاللَّهِ لَا يَرْفَعُ رَايَةً بَعْدَ الْيَوْمِ إِلَّا ظَهَرَتْ.
وَأَقَامَ أَهْلُ مَكَّةَ عَلَى قَتْلاهُمُ النَّوْحَ بِمَكَّةَ شَهْرًا.
ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ، فَدَخَلَ مِنْ ثنية الوداع.
ونزل القرآن فعرفهم اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِيمَا كَرِهُوا مِنْ خُرُوجِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بدر، فَقَالَ: " كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ "، وَثَلاثَ آيَاتٍ مَعَهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ الْآيَاتِ الَّتِي نَزَلَتْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ وَآخِرِهَا.
وَقَالَ رِجَالٌ مِمَّنْ أُسِرَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا مُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا أُخْرِجْنَا كَرْهًا، فَعَلَامَ يُؤْخَذُ مِنَّا الْفِدَاءُ؟ فَنَزَلَتْ: " قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا، مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ".
حَذَفْتُ مِنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ كَثِيرًا مِمَّا سَلَفَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ اسْتِغْنَاءً بِمَا تَقَدَّمَ.
وَقَدْ ذَكَرَ هَذِهِ الْقِصَّةَ - بِنَحْوِ قَوْلِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ - ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَبَا دَاوُدَ الْمَازِنِيَّ فِي قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ. وَزَادَ يَسِيرًا.(1/68)
وَقَالَ هُوَ وَابْنُ عُقْبَةَ: إِنَّ عَدَدَ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سِتَّةٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَثَمَانِيَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَأُسِرَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ رَجُلًا. كَذَا قَالَا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: اسْتُشْهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَسَبْعَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ. وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بِضْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ، وَكَانَتِ الْأُسَارَى أَرْبَعَةً وَأَرْبَعِينَ أَسِيرًا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُرْوَةَ: هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ وَقُتِلَ مِنْهُمْ زيادة على سبعين، وَأُسِرَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ الْبَرَاءِ الَّذِي فِي الْبُخَارِيِّ؛ قَالَ: أَصَابَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعِينَ وَمِائَةً؛ سَبْعِينَ أَسِيرًا وَسَبْعِينَ قَتِيلا. وَأَصَابُوا مِنَّا يَوْمَ أُحُدٍ سَبْعِينَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أسامة بن زيد، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَّفَ عُثْمَانَ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ عَلَى بِنْتِهِ رُقَيَّةَ أَيَّامَ بَدْرٍ. فَجَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ - عَلَى الْعَضْبَاءِ - نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبِشَارَةِ. قَالَ أُسَامَةُ: فَسَمِعْتُ الْهَيْعَةَ، فَخَرَجْتُ فَإِذَا أَبِي قَدْ جَاءَ بِالْبِشَارَةِ، فَوَاللَّهِ مَا صَدَّقْتُ حَتَّى رَأَيْنَا الْأُسَارَى. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُثْمَانَ بِسَهْمِهِ.
وَقَالَ عبدان بن عثمان: حدثنا ابن المبارك، قال: أخبرنا عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ - رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ - قَالَ: أَرْسَلَ النَّجَاشِيُّ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، فَدَخَلُوا عَلَيْهِ وَهُوَ فِي بَيْتٍ، عَلَيْهِ خُلْقَانُ جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ. قَالَ جَعْفَرٌ: فَأَشْفَقْنَا مِنْهُ حِينَ رَأَيْنَاهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ. فَقَالَ: أبشركم بما يسركم؛ إنه قد جَاءَنِي مِنْ نَحْوِ أَرْضِكُمْ عَيْنٌ لِي فَأَخْبَرَنِي أن الله قَدْ نَصَرَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهلك عدوه، وأسر فُلَانٌ وَفُلَانٌ، الْتَقَوْا بِوَادٍ يُقَالُ لَهْ بَدْرٌ، كَثِيرُ الْأَرَاكِ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، كُنْتُ أَرْعَى بِهِ لِسَيِّدِي - رَجْلٌ(1/69)
مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ - إِبِلَهُ. فَقَالَ لَهُ جَعْفَرٌ: مَا بَالُكَ جَالِسٌ عَلَى التُّرَابِ، لَيْسَ تَحْتَكَ بِسَاطٌ، وَعَلَيْكَ هَذِهِ الأَخْلاقُ؟ قَالَ: إِنَّا نَجِدُ فِيمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ حَقًّا عَلَى عِبَادِ اللَّهِ أَنْ يُحْدِثُوا تَوَاضُعًا عِنْدَمَا مَا أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ نِعْمَتِهِ. فَلَمَّا أَحْدَثَ اللَّهُ لِي نَصْرَ نَبِيِّهِ أَحْدَثْتُ لَهُ هَذَا التَّوَاضُعَ.
ذَكَرَ مِثْلَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِلَا سَنَدٍ.
-فَصْلٌ
فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ وَالْأَسْرَى
قَالَ خَالِدٌ الطَّحَّانُ، عَنْ دَاوُدَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - يوم بَدْرٍ: مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا، فَلَهُ مِنَ النَّفْلِ كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: فَتَقَدَّمَ الْفِتْيَانُ وَلَزِمَ الْمَشْيَخَةُ الرَّايَاتِ. فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَالَتِ الْمَشْيَخَةُ: كُنَّا رِدْءًا لَكُمْ، لَوِ انْهَزَمْتُمْ، فِئْتُمْ إِلَيْنَا، فَلَا تَذْهَبُوا بِالْمَغْنَمِ وَنَبْقَى. فَأَبَى الْفِتْيَانُ وَقَالُوا: جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى " يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ " إِلَى قَوْلِهِ: " وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ".
يَقُولُ: فَكَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُمْ. فَكَذَلِكَ أَيْضًا أَطِيعُونِي فَإِنِّي أَعْلَمُ بِعَاقِبَةِ هَذَا مِنْكُمْ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
ثُمَّ سَاقَةُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ دَاوُدَ بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ: فَقَسَّمَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالسَّوَاءِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَفَّلَ سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ يُونُسُ: حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، حَدَّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ،(1/70)
قال: حدثني ابن عباس، قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَلَمَّا أَسَرُوا الأسارى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هُمْ بَنُو الْعَمِّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَى أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً فَتَكُونَ لَنَا قُوَّةً عَلَى الْكُفَّارِ، فَعَسَى اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا ترى يا ابن الْخَطَّابِ؟ قُلْتُ: لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لا أَرَى الَّذِي رَأَى أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تُمَكِّنَّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ؛ فَتُمَكِّنَ عَلِيًّا مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكِّنِّي مِنْ فُلَانٍ - نَسِيبٌ لِعُمَرَ- فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ أَئِمَّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ. فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بكر تبكيان. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَبْكِيَانِ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِلا تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا. فَقَالَ: أَبْكِي لِلَّذِي عُرِضَ عَلَى أَصْحَابِكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ. لَقَدْ عُرِضَ عَليَّ عَذَابُهُمْ أَدْنَى مِنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ - شَجَرَة قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيِّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ " إِلَى قَوْلِهِ " فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا "، فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُمُ الْغَنِيمَةَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ قَالَ لهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ الْأُسَارَى؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: أَنْتَ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْحَطَبِ فَاضْرِمْ نَارًا ثُمَّ أَلْقِهِمْ فِيهَا. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: قَطَعَ اللَّهُ رَحِمَكَ. فَقَالَ عُمَرُ: قَادَتُهُمْ ورؤوسهم قَاتَلُوكَ وَكَذَّبُوكَ، فَاضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: عَشِيرَتُكَ وَقَوْمُكَ.
ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِبَعْضِ حَاجَتِهِ. فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: الْقَوْلُ مَا قَالَ عُمَرُ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي هَؤُلَاءِ؟ إِنَّ مَثَلَ هَؤُلَاءِ كَمَثَلِ(1/71)
إِخْوَةٍ لَهُمْ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ؛ قَالَ نُوحٌ: " رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا "، وَقَالَ مُوسَى: " رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ "، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: " فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ "، وقال عيسى: " إن تعذبهم فإنهم عبادك " الآية. وأنتم قوم بكم عيلة، فلا ينفلتن أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَّا بِفِدَاءٍ أَوْ بِضَرْبَةِ عُنُقٍ. فَقُلْتُ: إِلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ، قَدْ سَمِعْتُهُ يَتَكَلَّمُ بِالإِسْلامِ. فَسَكَتَ. فَمَا كَانَ يَوْمٌ أَخْوَف عِنْدِي أَنْ يُلْقِيَ اللَّهُ عَلَيَّ حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ مِنْ يَوْمِي ذَلِكَ، حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِلَّا سُهَيْلُ بْنُ بَيْضَاءَ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِالْعَبَّاسِ قَدْ أَسَرَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: لَيْسَ هَذَا أَسَرَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ آزَرَكَ اللَّهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ الَّذِي أَسَرَ الْعَبَّاسَ أَبُو الْيُسْرِ كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو السَّلَمِيُّ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: كيف أسرته؟ قال: لقد أغلق عَلَيْهِ رَجُلٌ مَا رَأَيْتُهُ قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، هيئته كذا وكذا. فقال: لقد أَعَانَكَ عَلَيْهِ مَلَكٌ كَرِيمٌ. وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ: افْدِ نَفْسَكَ وَابْنَ أَخِيكَ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ. فَأَبَى وَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا وَإِنَّمَا اسْتَكْرَهُونِي. قَالَ: اللَّهُ أَعْلَمُ بِشَأنِكَ إِنْ يَكُ مَا تَدَّعِي حَقًّا فَاللَّهُ يَجْزِيكَ بِذَلِكَ. وَأَمَّا ظَاهِرُ أَمْرِكَ فَقَدْ كَانَ عَلَيْنَا، فَافْدِ نَفْسَكَ.
وَكَانَ قَدْ أُخِذَ مَعَهُ عِشْرُونَ أُوقِيَّةً ذَهَبًا. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ احْسِبْهَا لِي مِنْ فِدَائِي. قَالَ: لَا، ذَاكَ شَيْءٌ أَعْطَانَا اللَّهُ مِنْكَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ الزُّهْرِيُّ؛ وَهُوَ ضَعِيفٌ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ موسى، عن عمارة بن عمار بن أَبِي الْيُسْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: نظرت(1/72)
إِلَى الْعَبَّاسِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ قَائِمٌ كَأَنَّهُ صَنَمٌ وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ، فَقُلْتُ: جَزَاكَ اللَّهُ مِنْ ذِي رَحِمٍ شَرًّا، تُقَاتِلُ ابْنَ أَخِيكَ مَعَ عَدُوِّهِ؟ قَالَ: مَا فَعَلَ، أَقُتِلَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ أَعَزُّ لَهُ وَأَنْصَرُ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: مَا تُرِيدُ إِلَيَّ؟ قُلْتُ: إِسَارٌ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ قَتْلِكَ. قَالَ: لَيْسَتْ بِأَوَّلِ صِلَتِهِ. فَأَسَرْتُهُ.
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عباس قال: فبعثت قُرَيْشٌ فِي فِدَاءِ أَسْرَاهُمْ. وَقَالَ الْعَبَّاسُ: إِنِّي كُنْتُ مُسْلِمًا. فَنَزَلَ فِيهِ " إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ". قَالَ الْعَبَّاسُ: فَأَعْطَانِي اللَّهُ مَكَانَ الْعِشْرِينَ أُوقِيَّةً عِشْرِينَ عَبْدًا كُلُّهُمْ فِي يَدِهِ مَالٌ يَضْرِبُ بِهِ، مَعَ مَا أَرْجُو مِنَ الْمَغْفِرَةِ.
وَقَالَ أَزْهَرُ السَّمَّانُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمَّدٍ، عَنْ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ؛ وبعضهم يرسله؛ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ. إِنْ شِئْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَادَيْتُمُوهُمْ وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِالْفِدَاءِ، وَاسْتُشْهِدَ مُنْكُمْ بِعِدَّتِهِمْ. وَكَانَ آخَرُ السَّبْعِينَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ، قُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
هَذَا الْحَدِيثُ دَاخِلٌ فِي مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَخْبَارِهِ عَنْ حُكْمِ اللَّهِ فِيمَنْ يُسْتَشْهَدُ، فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي نُبَيْهُ بْنُ وَهْبٍ الْعَبْدَرِيُّ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأُسَارَى فَرَّقَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَقَالَ: اسْتَوْصُوا بِهِمْ خَيْرًا. قَالَ نُبَيْهُ: فَسَمِعْتُ مَنْ يَذْكُرُ عَنْ أَبِي عَزِيزٍ، قَالَ: كُنْتُ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: اسْتَوْصُوا بِالْأُسَارَى خَيْرًا. فَإِنْ كَانَ لَيُقَدَّمُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامُ فَمَا تَقَعُ بِيَدِ أَحَدِهِمْ كَسْرَةٌ إِلَّا رَمَى بِهَا إِلَى أَسِيرِهِ، وَيَأْكُلُونَ التَّمْرَ. فَكُنْتُ أَسْتَحِي فَآخُذُ الْكَسْرَةَ فَأَرْمِي بِهَا إِلَى الَّذِي رَمَى بِهَا إِلَيَّ، فَيَرْمِي بِهَا إِلَيَّ.
أَبُو عَزِيزٍ هُوَ أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، يُقَالُ: إِنَّهُ أَسْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ الْكَلْبِيُّ وَغَيْرُهُ: إِنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ كَافِرًا.(1/73)
وعن ابن عباس قَالَ: جَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِدَاءَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ يَوْمَ بَدْرٍ أَرْبَعَمِائَةٍ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي الْعَنْبَسِ، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ عَنْهُ.
وَقَالَ أَسْبَاطٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ: كَانَ فِدَاءُ أَهْلِ بَدْرٍ: الْعَبَّاسِ، وَعُقَيْلِ ابْنِ أَخِيهِ، وَنَوْفَلٍ، كُلُّ رَجُلٍ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رسول الله قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: إِنِّي قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَغَيْرِهِمْ قَدْ أُخْرِجُوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا منهم فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ بْنَ هشام فَلَا يَقْتُلْهُ، وَمَنْ لَقِيَ الْعَبَّاسُ فَلَا يَقْتُلْهُ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا أُخْرِجَ مُسْتَكْرَهًا. فَقَالَ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ عُتْبَةَ: أَنَقْتُلُ آبَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا وَنَتْرُكُ الْعَبَّاسَ؟ والله لئن لقيته لألحمنه بالسيف. فبلغت رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: يَا أَبَا حَفْصٍ، أَيُضْرَبُ وَجْهُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ائْذَنْ لِي فَأَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ نَافَقَ.
فَكَانَ أَبُو حُذَيْفَةَ بَعْدُ يَقُولُ: والله ما آمِنٌ مِنْ تِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي قُلْتُ، وَلَا أَزَالُ مِنْهَا خَائِفًا، إِلَّا أَنْ يُكَفِّرَهَا اللَّهُ عَنِّي بِشَهَادَةٍ. فَاسْتُشْهِدَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: إِنَّمَا نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَتْلِ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ لأَنَّهُ كَانَ أَكَفَّ الْقَوْمِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِمَكَّةَ.
وَكَانَ الْعَبَّاسُ أَكْثَرَ الْأَسْرَى فِدَاءً لِكَوْنِهِ مُوسِرًا، فَافْتَدَى نَفْسَهُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةِ ذَهَبٍ.
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي أَنَسٍ أَنَّ رِجَالًا مِنَ الْأَنْصَارِ اسْتَأْذَنُوا رَسُولَ الله(1/74)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: ائْذَنْ لَنَا فَلْنَتْرُكْ لِابْنِ أُخْتِنَا فِدَاءَهُ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لا تذرن دِرْهَمًا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ بَعْدَ مَا فَرِغَ مِنْ بَدْرٍ؛ عليك بالعير ليس دونها شَيْءٌ. فَقَالَ الْعَبَّاسُ وَهُوَ فِي وَثَاقِهِ: لَا يَصْلُحُ. قَالَ: وَلِمَ؟ قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ وَعَدَكَ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وَقَدْ أَعْطَاكَ مَا وَعَدَكَ.
وَقَدْ ذُكِرَ إِرْسَالُ زَيْنَبَ بَنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقِلَادَتِهَا فِي فِدَاءِ أَبِي العاص زوجها رضي الله عنهما.
وقال سعيد بن أبي مريم: حدثنا يحيى بن أيوب، قال: حدثنا ابن الهاد، قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما قَدِمَ الْمَدِينَةَ خَرَجَتِ ابْنَتُهُ زَيْنَبُ مِنْ مَكَّةَ مَعَ كِنَانَةَ - أَوِ ابْنِ كِنَانَةَ - فَخَرَجُوا فِي أَثَرِهَا. فَأَدْرَكَهَا هَبَّارُ بْنُ الْأَسْوَدِ، فَلَمْ يَزَلْ يَطْعَنُ بَعِيرَهَا بِرُمْحِهِ حَتَّى صَرَعَهَا، وَأَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَأُهْرِيقَتْ دَمًا. فَتَحَمَّلَتْ. فَاشْتَجَرَ فِيهَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو أُمَيَّةَ. فَقَالَتْ بَنُو أُمَيَّةَ: نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا. وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَتْ عِنْدَ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَكَانَتْ تَقُولُ لَهَا هِنْدٌ: هَذَا مِنْ سَبَبِ أَبِيكِ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ: أَلا تَنْطَلِقُ فَتَأْتِي بِزَيْنَبَ! فَقَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَخُذْ خَاتَمِي فَأَعْطِهَا إِيَّاهُ. فَانْطَلَقَ زَيْدٌ، فَلَمْ يَزَلْ يَتَلَطَّفُ حَتَّى لَقِيَ رَاعِيًا فَقَالَ: لِمَنْ تَرْعَى؟ قَالَ: لِأَبِي الْعَاصِ. قَالَ: فَلِمَنْ هَذِهِ الْغَنَمُ؟ قَالَ: لِزَيْنَبَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ. فَسَارَ مَعَهُ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ لَهُ: هَلْ لَكَ أَنْ أُعْطِيكَ شَيْئًا تُعْطِيهَا إِيَّاهُ، وَلَا تَذْكُرْهُ لِأَحَدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَعْطَاهُ الْخَاتَمَ. وَانْطَلَقَ الرَّاعِي حَتَّى دَخَلَ فَأَدْخَلَ غَنَمَهُ وَأَعْطَاهَا الْخَاتَمَ فَعَرَفَتْهُ. فَقَالَتْ: مَنْ أَعْطَاكَ هَذَا؟ قَالَ: رَجُلٌ. قَالَتْ: فَأَيْنَ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ: بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا. فَسَكَتَتْ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ خَرَجَتْ إِلَيْهِ. فَقَالَ لَهَا: ارْكَبِي بَيْنَ يَدَيَّ. عَلَى بَعِيرِهِ. فَقَالَتْ: لا، ولكن اركب أَنْتَ بَيْنَ يَدَيَّ. وَرَكِبَتْ وَرَاءَهُ حَتَّى أَتَتِ المدينة.(1/75)
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: هِيَ أَفْضَلُ بَنَاتِي، أُصِيبَتْ فِيَّ.
قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ الْحُسَيْنِ، فَانْطَلَقَ إِلَى عُرْوَةَ فَقَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ تَتَنَقَّصُ بِهِ فَاطِمَةَ؟ فَقَالَ عُرْوَةَ: وَاللَّهِ مَا أَحَبُّ أَنَّ لِي مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَأَنِّي أَتَنَقَّصُ فَاطِمَةَ حَقًّا هُوَ لَهَا، وَأَمَّا بَعْدُ فَلَكَ أَنْ لَا أُحَدِّثَهُ أَبَدًا.
-أَسْمَاءُ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا
جَمَعَهَا الْحَافِظُ ضِيَاءُ الدِّينِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ فِي جُزْءٍ كَبِيرٍ. فَذَكَرَ مَنْ أَجْمَعَ عَلَيْهِ وَمَنِ اخْتَلَفَ فيه من البدريين، ورتبه عَلَى حُرُوفِ الْمُعْجَمِ. فَبَلَغَ عَدَدُهُمْ ثَلَاثَمِائَةٍ وَبِضْعَةً وَثَلَاثِينَ رَجُلًا، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فِي عَدَدِهِمْ مِنْ جِهَةِ الاخْتِلافِ فِي بَعْضِهِمْ.
وَقَدْ جَاءَ فِي فَضْلِهِمْ حَدِيثُ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن علي، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيِّ، وَالزُّبَيْرَ، وَالْمِقْدَادَ؛ وَكُلُّنَا فَارِسٌ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَمُكَاتَبَةُ حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ قُرَيْشًا. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ ورسوله. فقال: أَلَيْسَ هُوَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ؟ وَمَا يُدْرِيكَ لعل الله اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ. أَوْ قَدْ غفرت لكم. فدمعت عينا عمر وَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عبدا لحاطب ابن أَبِي بَلْتَعَةَ جَاءَ يَشْكُوهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ: كَذَبْتَ لَا يدخلها فإنه شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.(1/76)
وقال يحيى بن سعيد الأنصاري، عن مُعَاذُ بْنُ رفاعة بن رَافِعٍ الزُّرَقِيُّ - وَكَانَ أَبُوهُ بَدْرِيًّا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لابْنِهِ: مَا أُحِبُّ أَنِّي شَهِدْتُ بَدْرًا وَلَمْ أَشْهَدِ الْعَقَبَةَ.
قَالَ: سَأَلَ جِبْرِيلُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ أَهْلُ بَدْرٍ فِيكُمْ؟ قَالَ: خِيَارُنَا. قَالَ: وَكَذَلِكَ مَنْ شَهِدَ بَدْرًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ هُمْ خِيَارُ الْمَلَائِكَةِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
-ذِكْرُ طَائِفَةٍ مِنْ أَعْيَانِ الْبَدْرِيِّينَ
أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعَلِيٌّ، واحتبس عنها عثمان يمرض زَوْجَتِهِ رُقَيَّةَ بِنْتِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَتُوُفِّيَتْ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ قُدُومِ الْمُسْلِمِينَ الْمَدِينَةَ مِنْ بَدْرٍ. وَضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَهْمِهِ وَأَجْرِهِ.
وَمِنَ الْبَدْرِيِّينَ: سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. وَأَمَّا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَكَانَا بِالشَّامِ، فَقَدِمَا بَعْدَ بَدْرٍ وَأَسْهَمَ لَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَبْدُ الرَّحْمَنُ بْنُ عَوْفٍ، حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ بْنُ المطلب، وأخواه: الطفيل، والحصين، وابن عمه: مِسْطَح بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبَّادِ بْنِ الْمُطَّلِبِ؛ وَأَرْبَعَتُهُمْ لَمْ يَعْقُبُوا، مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيُّ، الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، صُهَيْبُ بْنُ سِنَانٍ، أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، زَيْدُ بْنُ الْخَطَّابِ أَخُو عُمَرَ.
وَمِنْ أَعْيَانِ الْأَنْصَارِ؛ مِنَ الْأَوْسِ: سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ.
وَمِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: عَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، أَبُو الْهَيْثَمِ ابن التَّيْهَانِ.
وَمِنْ بَنِي ظَفَرٍ: قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ.
وَمِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ: مُبَشِّرُ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ، وَأَخُوهُ: رِفَاعَةُ. وَلَمْ يَحْضُرْهَا أَخُوهُمَا أبو لبابة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رَدَّهُ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى الْمَدِينَةِ، وَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ وأجره.(1/77)
وَمِنْ بَنِي النَّجَارِ:
أَبُو أَيُّوبَ خَالِدُ بْنُ زَيْدٍ، عَوْفٌ، ومعوذ، وَمُعَاذٌ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ سَوَادِ بْنِ مَالَكِ بْنِ غُنْمِ بْنِ عَوْفٍ. وَهُمْ بَنُو عَفْرَاءَ، أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، أَبُو طَلْحَةَ زَيْدُ بْنُ سَهْلٍ، بِلالٌ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ، عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ، مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ الْخَزْرَجِيُّ، عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ الْخَزْرَجِيُّ، عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ، كَعْبُ بْنُ عَمْرٍو أَبُو الْيُسْرِ السلمي، معاذ بن عمرو بن الجموح، حشرنا الله في زمرتهم. وقد ذكرنا من استشهد منهم.
وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ:
حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَخُوهُ: الْعَاصُ، وَعُتْبَةُ، وَشَيْبَةُ، ابْنَا رَبَيعَةَ، وَوَلَدُ عتبة: الوليد، وعقبة ابن أَبِي مُعَيْطٍ، قُتِلَ صَبْرًا، وَالْحَارِثُ بْنُ عَامِرٍ النَّوْفَلِيُّ، وَابْنُ عَمِّهِ طُعَيْمَةُ بْنُ عَدِيٍّ، وَزَمْعَةُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَابْنُهُ: الْحَارِثُ، وَأَخُوهُ: عُقَيْلٌ، وَأَبُو الْبَخْتَرِيِّ بْنُ هِشَامِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أَسَدٍ - وَاسْمُهُ الْعَاصُ - وَنَوْفَلُ بْنُ خُوَيْلِدٍ أَخُو خَدِيجَةَ، وَالنَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ، قُتِلَ صَبْرًا بَعْدَ يَوْمَيْنِ، وَعُمَيْرُ بْنُ عُثْمَانَ التَّيْمِيُّ عَمُّ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأَبُو جَهْلٍ، وَأَخُوهُ: الْعَاصُ بْنُ هِشَامٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيُّ أَخُو أُمِّ سَلَمَةَ، وَأَبُو قَيْسٍ أَخُو خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، وَالسَّائِبُ بْنُ أَبِي السَّائِبِ الْمَخْزُومِيُّ، وَقِيلَ لَمْ يُقْتَلْ، بَلْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَقَيْسُ بْنُ الْفَاكِهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَمُنَبِّهٌ وَنُبَيْهٌ: ابْنَا الْحَجَّاجِ بْنِ عَامِرٍ السَّهْمِيِّ، وَوَلَدَا مُنَبِّهٍ: الْحَارِثُ، وَالْعَاصُ. وَأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ، وَابْنُهُ: عَلِيٌّ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ سَائِرَ الْمَقْتُولِينَ، وَكَذَا سَمَّى الَّذِينَ أُسِرُوا. تَرَكْتُهُمْ خَوْفًا مِنَ التَّطْوِيلِ.
وَفِي رَمَضَانَ: فَرَضَ اللَّهُ صَوْمَ رَمَضَانَ، وَنَسَخَ فرضية يَوْمِ عَاشُورَاءَ. وَفِي آخِرِهِ: فُرِضَتِ الْفِطْرَةُ.(1/78)
وَفِي شَوَّالٍ: دَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَائِشَةَ، وَهِيَ بِنْتُ تِسْعُ سِنِينَ.
-وَفِي صَفَرٍ: تُوُفِّيَ:(1/79)
أَبُو جُبَيْرٍ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيِّ بن نوفل [المتوفى: 2 ه]
- وَنَوْفَلٌ هو أَخُو هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافَ بْنِ قُصَيٍّ - تُوُفِّيَ مُشْرِكًا عَنْ سِنٍّ عَالِيَةٍ، وَكَانَ مِنْ عُقَلَاءِ قُرَيْشٍ وَأَشْرَافِهِمْ.
وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا وَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلَاءِ النَّتْنَى لَأَجَبْتُهُ ". وَكَانَتْ لَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يَدٌ؛ لأَنَّهُ قَامَ فِي نَقْضِ الصَّحِيفَةِ.(1/79)
-وَفِيهَا: تُوُفِّيَ:(1/79)
أبو السائب عثمان بن مظعون - رضي الله عنه - ابن حَبِيبِ بْنِ وَهْبِ بْنِ حُذَافَةَ بْنِ جُمَحَ الْجُمَحِيُّ، [المتوفى: 2 ه]
بَعْدَ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ. وَقَدْ شَهِدَهَا هُوَ وأخواه: قدامة، وعبد الله.
وعثمان هذا أَحَدُ السَّابِقِينَ، أَسْلَمَ بَعْدَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ الْهِجْرَةَ الْأُولَى، وَلَمَّا قَدِمَ أَجَارَهُ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ أَيَّامًا. ثُمَّ رَدَّ عَلَى الْوَلِيدِ جِوَارَهُ. وَكَانَ صَوَّامًا قَوَّامًا قَانِتًا لِلَّهِ.
وَفِيهَا: تُوُفِّيَ(1/79)
ت ق: أَبُو سَلَمَةَ عبد الله بن عبد الأسد بن هلال بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَرَ بْن مخزوم - رضي الله عنه -، [المتوفى: 2 ه]
مَرْجِعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بَدْرٍ.
وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ. وَأُمُّهُ: بَرَّةُ بِنْتُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، شَهِدَ بَدْرًا، وَتَزَوَّجَتْ أُمُّ سَلَمَةَ بَعْدَهُ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَوَتْ عَنْهُ الْقَوْلَ عِنْدَ الْمُصِيبَةِ. وَقِيلَ: تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ بَعْدَ أُحُدٍ أَوْ قَبْلَهَا.(1/79)
-وَفِيهَا: وُلِدَ:
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، بِالْمَدِينَةِ. وَالْمِسْوَرُ بْنُ مَخْرَمَةَ. وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ: بِمَكَّةَ.(1/79)
-قِصَّةُ النَّجَاشِيُّ
مِنَ السِّيرَةِ
ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا قَالُوا: إِنَّ ثَأْرَنَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ. فَانْتُدِبَ إِلَيْهَا عمرو بن العاص، وابن أَبِي رَبِيعَةَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: بَلَغَنِي أَنَّ مَخْرَجَهُمَا كَانَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ.
فَلَمَّا بَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْرَجُهُمَا، بَعَثَ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ بِكِتَابِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمسَيِّبِ وَغَيْرُهُ: فَبَعَثَ الْكُفَّارُ مَعَ عمرو بن العاص، وعبد الله بن أبي رَبِيعَةَ لِلنَّجَاشِيِّ، وَلِعُظَمَاءِ الْحَبَشَةِ هَدَايَا. فَلَمَّا قَدِمَا عَلَى النَّجَاشِيِّ قَبِلَ الْهَدَايَا، وَأَجْلَسَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ عَلَى سَرِيرِهِ. فَكَلَّمَ النَّجَاشِيَّ فَقَالَ: إِنَّ بأرضكم رِجَالًا مِنَّا لَيْسُوا عَلَى دِينِكَ وَلَا عَلَى ديننا، فادفعهم إلينا. فقال عظماء الحبشة للنجاشي: صَدَقَ، فَادْفَعْهُمْ إِلَيْهِ. فَقَالَ: حَتَّى أُكَلِّمَهُمْ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عن أم سلمة، قَالَتْ: نَزَلْنَا الْحَبَشَةَ، فَجَاوَرْنَا بِهَا خَيْرَ جَارٍ، النجاشي. أمنا على ديننا وعبدنا الله عز وجل، لَا نُؤْذَى وَلَا نَسْمَعُ شَيْئًا نَكْرَهُهُ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ قُرَيْشًا ائْتَمَرُوا بَيْنَهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إِلَى النَّجَاشِيِّ مَعَ رَجُلَيْنِ بِمَا يُسْتَطْرَفُ مِنْ مَكَّةَ. وَكَانَ مِنْ أَعْجَبِ مَا يَأْتِيهِ مِنْهَا: الْأُدْمُ. فَجَمَعُوا لَهُ أُدْمًا كَثِيرًا. وَلَمْ يَتْرُكُوا بِطْرِيقًا عِنْدَهُ إِلَّا أَهْدَوْا لَهُ. وَبَعَثُوا عَبْدَ الله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص وَقَالُوا: ادْفَعَا إِلَى كُلِّ بِطْرِيقٍ هَديَّتَهُ قَبْلَ أَنْ تُكَلِّمَا النَّجَاشِيَّ. فَقَدِمَا، وَقَالَا لِكُلِّ بِطْرِيقٍ: إِنَّهُ قَدْ ضَوَى إِلَى بَلَدِ الْمَلِكِ مِنَّا غِلْمَانٌ سُفَهَاءُ، خَالَفُوا دِينَ قَوْمِهِمْ، وَلَمْ يَدْخُلُوا فِي دِينِكُمْ. وَقَدْ بَعَثَنَا أَشْرَافَنَا إِلَى الْمَلِكِ لِيَرُدَّهُمْ، فَإِذَا كَلَّمْنَاهُ فَأَشِيرُوا عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُمْ إِلَيْنَا. فَقَالُوا: نَعَمْ.(1/80)
ثُمَّ قَرَّبَا هَدَايَاهُمَا إِلَى النَّجَاشِيِّ فَقَبِلَهَا، فَكَلَّمَاهُ. فقلت بَطَارِقَتُهُ: صَدَقَا أَيُّهَا الْمَلِكُ، قَوْمُهُمْ أَعْلَى بِهِمْ عَيْنًا، وَأَعْلَمُ بِمَا عَابُوا عَلَيْهِمْ. فَغَضِبَ النَّجَاشِيُّ، ثُمَّ قَالَ: لَاهَا اللَّهِ أَبَدًا، لَا أُرْسِلُهُمْ إِلَيْهِمْ. قَوْمٌ جَاوَرُونِي وَنَزَلُوا بِلَادِي، وَاخْتَارُونِي عَلَى سواي. حتى أدعوهم فأسألهم عما يقولون.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا جَاءَ رَسُولُهُ اجْتَمَعُوا، وقال بعضهم لبعض: ما تقولون إِذَا جِئْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَقُولُ وَاللَّهِ مَا علَّمَنَا اللَّهُ، وَأَمَرَنَا بِهِ نَبِيُّنَا، كَائِنٌ فِي ذَلِكَ ما كان. فلما جاؤوه وَقَدْ دَعَا النَّجَاشِيُّ أَسَاقِفَتَهُ، وَنَشَرُوا مَصَاحِفَهُمْ حَوْلَهُ؛ سَأَلَهُمْ: مَا هَذَا الدِّينُ الَّذِي فَارَقْتُمْ فِيهِ قَوْمَكُمْ، وَلَمْ تَدْخُلُوا بِهِ فِي دِينِي وَلَا فِي دِينِ أَحَدٍ مِنَ الْمِلَلِ.
قَالَتْ: فَكَلَّمَهُ جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الْمَيْتَةَ وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ وَنُسِيءُ إِلَى الْجَارِ وَيَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ. كُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْنَا رَسُولًا مِنَّا، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ، فَدَعَا إِلَى الله لنعبده وحده، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنَ الْحِجَارَةِ وَالْأَوْثَانِ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ، وَنَهَانَا عَنِ الْفَوَاحِشِ، وَقَوْلِ الزُّورِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَأَمَرَنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ. وَعَدَّ أُمُورَ الْإِسْلَامِ. قَالَ: فَصَدَّقْنَاهُ وَاتَّبَعْنَاهُ. فَلَمَّا قَهَرُونَا وَظَلَمُونَا وَحَالُوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ دِينِنَا، خَرَجْنَا إِلَى بَلَدِكَ، وَآثَرْنَاكَ عَلَى مَنْ سِوَاكَ فَرَغِبْنَا فِي جِوَارِكَ: وَرَجَوْنَا أَنْ لَا نُظْلَمَ عِنْدَكَ.
قَالَ: فَهَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِمَّا جاء به عن الله؟ قال جعفر: نعم فقرأ عليه: كهيعص.
قَالَتْ: فَبَكَى النَّجَاشِيُّ وَأَسَاقِفَتُهُ حَتَّى أَخْضَلُوا لِحَاهُمْ، حِينَ سَمِعُوا الْقُرْآنَ.
فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: إِنَّ هَذَا وَالَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى لَيَخْرُجُ مِنْ مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. انْطَلِقَا، فَوَاللَّهِ لَا أُسَلِّمُهُمْ إِلَيْكُمَا أبدا.(1/81)
قَالَتْ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ، قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: وَاللَّهِ لَآتِيَنَّهُ غَدًا بِمَا أَسْتَأْصِلُ بِهِ خَضْرَاءَهُمْ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ أَبِي رَبِيعَةَ؛ وَكَانَ أَتْقَى الرَّجُلَيْنِ فِينَا: لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ لَهُمْ أَرْحَامًا، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَالَفُونَا. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّهُ أَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ، قَالَتْ: ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنَّهُمْ يَقُولُونَ فِي عِيسَى قَوْلًا عَظِيمًا. فَأَرْسَلَ إِلَيْنَا لِيَسْأَلَنَا. قَالَتْ: وَلَمْ يَنْزِلْ بِنَا مِثْلَهَا.
فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ فِي عِيسَى؟ فَقَالَ جَعْفَرٌ: نَقُولُ فِيهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ الْعَذْرَاءِ الْبَتُولِ.
فَضَرَبَ النَّجَاشِيُّ بِيَدِهِ إِلَى الْأَرْضِ، وَأَخَذَ مِنْهَا عُودًا، وَقَالَ: مَا عَدَا عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مَا قُلْتَ هَذَا الْمِقْدَارَ.
قَالَ: فَتَنَاخَرَتْ بَطَارِقَتُهُ حِينَ قَالَ مَا قَالَ، فَقَالَ: وَإِنْ نَخَرْتُمْ وَاللَّهِ. ثُمَّ قَالَ لِجَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ: اذْهَبُوا آمِنِينَ. مَا أَحَبُّ أَنَّ لِي دُبُرِ ذَهَبٍ، وَأَنِّي آذَيْتُ وَاحِدًا مِنْكُمْ - وَالدُّبُرُ بِلِسَانِ الحبشة: الجبل - ردوا عَلَيْهِمَا هَدِيَّتَهُمَا، فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهَا. فَوَاللَّهِ مَا أَخَذَ اللَّهُ فِيَّ الرِّشْوَةَ فَآخُذُ الرِّشْوَةَ فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.
فخرجا من عنده مقبوحين مردودا عليهما ما جاءا بِهِ.
قَالَتْ: فَوَاللَّهِ إِنَّا لَعَلَى ذَلِكَ، إِذْ نَزَلَ بِهِ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ يُنَازِعُهُ فِي مُلْكِهِ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْنَا حُزنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْ حُزْنٍ حَزِنَّاهُ عِنْدَ ذَلِكَ، تَخَوُّفًا أَنْ يَظْهَرَ عَلَيْهِ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقَّنَا. فَسَارَ إِلَيْهِ النَّجَاشِيُّ، وَبَيْنَهُمَا عَرْضُ النِّيلِ.
فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: من يَخْرُجُ حَتَّى يَحْضُرَ الْوَقْعَةَ وَيُخْبِرَنَا؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ: أَنَا أَخْرُجُ. وَكَانَ مِنْ أَحْدَثِ الْقَوْمِ سِنًّا. فَنَفَخُوا لَهُ قُرْبَةً فَجَعَلَهَا فِي صَدْرِهِ، وَسَبَحَ عَلَيْهَا إِلَى النَّاحِيَةِ الَّتِي فِيهَا الْوَقْعَةُ. وَدَعَوْنَا اللَّهَ لِلنَّجَاشِيِّ. فَوَاللَّهِ إِنَّا لَعَلَى ذَلِكَ، مُتَوِقِّعُونَ لِمَا هُوَ كَائِنٌ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا الزُّبَيْرُ يَسْعَى وَيُلَوِّحُ بِثَوْبِهِ. أَلَا أَبْشِرُوا، فَقَدْ ظَهَرَ النَّجَاشِيُّ، وَأَهْلَكَ اللَّهُ(1/82)
عَدُوَّهُ. فَوَاللَّهِ مَا عَلِمُنا فَرْحَةً مِثْلَهَا قَطُّ.
ورجع النجاشي سالما، واستوسق لَهُ أَمْرُ الْحَبَشَةِ. فَكُنَّا عِنْدَهُ فِي خَيْرِ مَنْزِلٍ، حَتَّى قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمكة. أخرجه أبو داود مِنْ حَدِيثِ ابْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَهَؤُلاءِ قَدِمُوا مَكَّةَ، ثُمَّ هَاجَرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ. وَبَقِيَ جَعْفَرٌ وَطَائِفَةٌ بِالْحَبَشَةِ إِلَى عَامِ خَيْبَرَ.
وَقَدْ قِيلَ إِنَّ إِرْسَالَ قُرَيْشٍ إِلَى النَّجَاشِيِّ كَانَ مَرَّتَيْنِ. وَأَنَّ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ كَانَ مَعَ عَمْرٍو، عِمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ الْمَخْزُومِيُّ أَخُو خَالِدٍ.
ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إِسْحَاقَ أَيْضًا. وَذَكَر مَا دَارَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَعَ عِمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ مِنْ رَمْيِهِ إِيّاهُ فِي الْبَحْرِ، وَسَعَى عَمْرٌو بِهِ إِلَى النَّجَاشِيِّ فِي وُصُولِهِ إِلَى بَعْضِ حَرَمِهِ أَوْ خَدَمِهِ. وَأَنَّهُ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي ظُهُورِ طِيبِ الْمَلِكِ عَلَيْهِ، وَأَنَّ الْمَلِكَ دَعَا بسحرة فَسَحَرُوهُ وَنَفَخُوا فِي إِحْلِيلِهِ. فَتَبَرَّرَ وَلَزِمَ الْبَرِّيَّةَ، وَهَامَ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى مَوْضِعٍ رَامٍ أَهْلُهُ أَخَذَهُ فِيهِ، فَلَمَّا قَرُبُوا مِنْهُ فَاضَتْ نَفْسُهُ فمات.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ؛ قَالَ الزُّهْرِيُّ: حدّثْتُ عُرْوةَ بْنَ الزُّبَيْرِ حَدِيثَ أَبِي بَكْرٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي مَا قَوْلُهُ: مَا أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس فِيَّ فَأُطِيعُهُمْ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَإِنَّ عَائِشَةَ حَدَّثَتْنِي أَنَّ أَبَاهُ كَانَ مَلِكَ قَوْمِهِ، ولم يكن له ولد إلا النجاشي. وكان لِلنَّجَاشِيِّ عَمٌّ، لَهُ مِنْ صُلْبِهِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا، وَكَانُوا أَهْلَ بَيْتِ مَمْلَكَةِ الْحَبَشَةِ. فَقَالَتِ الْحَبَشَةُ: لَوْ أَنَّا قَتَلْنَا أَبَا النَّجَاشِيِّ وَمَلَّكْنَا أَخَاهُ لَتَوَارَثَ بَنُوهُ مُلْكَهُ بَعْدَهُ، وَلَبَقِيَتِ الْحَبَشَةُ دَهْرًا. قَالَتْ: فَقَتَلُوهُ وَمَلَّكُوا أَخَاهُ. فَنَشَأَ النَّجَاشِيُّ مَعَ عَمِّهِ. وَكَانَ لَبِيبًا حَازِمًا، فَغَلَبَ عَلَى أَمْرِ عَمِّهِ. فَلَمَّا رَأَتِ الْحَبَشَةُ ذَلِكَ قَالَتْ: إِنَّا نَتَخَوَّفُ أَنْ يُمَلِّكَهُ بَعْدَهُ، وَلَئِنْ مُلِّكَ لَيَقْتُلَنَّا بِأَبِيهِ. فَمَشَوْا إِلَى عَمِّهِ فَقَالُوا: إِمَّا أَنْ تَقْتُلَ هَذَا الْفَتَى، وَإِمَّا أَنْ تُخْرِجَهُ من بين(1/83)
أظهرنا. فقال: ويكلم! قَتَلْتُ أَبَاهُ بِالْأَمْسِ، وَأَقْتُلُهُ الْيَوْمَ؟ بَلْ أُخْرِجُهُ. قَالَ: فَخَرَجُوا بِهِ فَبَاعُوهُ مِنْ تَاجِرٍ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ. فَانْطَلَقَ بِهِ فِي سَفِينَةٍ. فَلَمَّا كَانَ الْعَشِيُّ، هَاجَتْ سَحَابَةٌ مِنْ سَحَائِبِ الْخَرِيفِ، فَخَرَجَ عَمُّهُ يَسْتَمْطِرُ تَحْتَهَا فَأَصَابَتْهُ صَاعِقَةٌ فَقَتَلَتْهُ. فَفَزِعَتِ الحبشة إلى ولده، فإذا هو محمق ليس فِي وَلَدِهِ خَيْرٌ. فَمَرَجَ عَلَى الْحَبَشَةِ أَمْرَهُمْ وَضَاقَ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ فِيهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: تَعَلَّمُوا، وَاللَّهِ، إِنَّ مَلِكَكُمُ الَّذِي لَا يُقِيمُ أَمْرَكُمْ غَيْرُهُ لَلَّذِي بِعْتُمْ. قَالَ: فَخَرَجُوا فِي طَلَبِهِ وَطَلَبِ الَّذِي بَاعُوهُ مِنْهُ، حَتَّى أدركوه فأخذوه منه. ثم جاؤوا بِهِ فَعَقَدُوا عَلَيْهِ التَّاجَ وَأَجْلَسُوهُ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ. فَجَاءَ التَّاجِرُ فَقَالَ: إِمَّا أَنْ تُعْطُونِي مَالِي وَإِمَّا أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالُوا: لَا نُعْطِيكَ شَيْئًا. قَالَ: إِذَنْ وَاللَّهِ أُكَلِّمُهُ. قَالُوا: فَدُونَكَ. فَجَاءَهُ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، ابْتَعْتُ غُلَامًا مِنْ قَوْمٍ بِالسُّوقِ بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ، حَتَّى إِذَا سِرْتُ بِهِ أَدْرَكُونِي، فَأَخَذُوهُ وَمَنَعُونِي دَرَاهِمِي. فَقَالَ النَّجَاشِيُّ: لَتُعْطِنَّهُ غُلَامَهُ أَوْ دَرَاهِمَهُ. قَالُوا: بَلْ نُعْطِيهِ دَرَاهِمَهُ.
قَالَتْ: فَلِذَلِكَ يَقُولُ: مَا أَخَذَ اللَّهُ مِنِّي رِشْوَةً حين رد علي ملكي، فآخذ الرشوة فيه.
وَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَا خُبِرَ مِنْ صَلَابَتِهِ فِي دِينِهِ وَعَدْلِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا مَاتَ النَّجَاشِيُّ كَانَ يُتَحَدَّثُ أَنَّهُ لَا يَزَالُ عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: اجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ فَقَالُوا لِلنَّجَاشِيِّ: إِنَّكَ فَارَقْتَ دِينَنَا. وَخَرَجُوا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَ إِلَى جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ. فَهَيَّأَ لَهُمْ سُفُنًا، وَقَالَ: ارْكَبُوا فِيهَا، وَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ، فَإِنْ هُزِمْتُ فَامْضُوا حَتَّى تَلْحَقُوا بِحَيْثُ شِئْتُمْ، وَإِنْ ظَفِرْتُ فَاثْبُتُوا. ثُمَّ عَمِدَ إِلَى كِتَابٍ فَكَتَبَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله، ويشهد أن عِيسَى عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَرُوحُهُ وَكَلِمَتُهُ.
ثُمَّ جَعَلَهُ فِي قَبَائِهِ وَخَرَجَ إِلَى الْحَبَشَةِ. وَصَفُّوا لَهُ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ(1/84)
الْحَبَشَةِ، أَلَسْتُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَكَيْفَ رَأَيْتُمْ سِيرَتِي فِيكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرُ سَيرَةٍ. قَالَ: فَمَا بَالُكُمْ؟ قَالُوا: فَارَقْتَ دِينَنَا وَزَعَمْتَ أَنَّ عِيسَى عَبْدٌ. قَالَ: فَمَا تَقُولُونَ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: هُوَ ابْنُ اللَّهِ. فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، عَلَى قَبَائِهِ، وَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ. لَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا شَيْئًا، وَإِنَّمَا يَعْنِي عَلَى مَا كَتَبَ. فَرَضُوا وَانْصَرَفُوا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَمَّا مَاتَ صَلَّى عَلَيْهِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا بعد بدر استطرادا، والله أعلم.
-سَرِيَّةُ عُمَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ الْخَطْمِيِّ
ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ لِخَمْسٍ بَقِينَ مُنْ رَمَضَانَ، إِلَى عَصْمَاءَ بِنْتِ مَرْوَانَ؛ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ؛ وكانت تَعِيبُ الْإِسْلَامَ، وَتُحَرِّضُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَقُولُ الشَّعْرَ. فَجَاءَهَا عُمَيْرٌ بِاللَّيْلِ فَقَتَلَهَا غِيلَةً.
-غَزْوَةُ بَنِي سُلَيْمٍ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يُقِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ مُنْصَرَفَهُ عَنْ بَدْرٍ بِالْمَدِينَةِ، إِلَّا سَبْعَةَ أَيَّامٍ. ثُمَّ خَرَجَ بِنَفْسِهِ يُرِيدُ بَنِي سُلَيْمٍ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عَرْفَطَةَ الْغِفَارِيَّ، وَقِيلَ: ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ.
فَبَلَغَ مَاءً يُقَالُ لَهُ: الْكُدْرُ. فَأَقَامَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا، ثُمَّ انْصَرَفَ. وَلَمْ يَلْقَ أَحَدًا.(1/85)
-سَرِيَّةُ سَالِمِ بْنِ عُمَيْرٍ لِقَتْلِ أَبِي عَفَكٍ
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ أَبَا عَفَكٍ الْيَهُودِيَّ، كَانَ قَدْ بَلَغَ مِائَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَقُولُ الشِّعْرَ، وَيُحَرِّض عَلَيْهِ. فَانْتَدَبَ لَهُ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقَتَلَهُ غِيلَةً، فِي شَوَّالٍ مِنْهَا.
-غَزْوَةُ السَّوِيقِ
فِي ذِي الْحِجَّةِ
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، حِينَ بَلَغَهُ وَقْعَةُ بَدْرٍ، نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ دُهْنٌ وَلَا غُسْلٌ، وَلَا يَقْرَبَ أَهْلَهَ، حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا وَيَحْرِقَ فِي طَوَائِفِ الْمَدِينَةِ. فَخَرَجَ مِنْ مَكَّةَ سِرًّا خَائِفًا، فِي ثلاثين فارسا، ليحل يمينه. حتى نزل بجبل من جبال المدينة يقال له: نبت. فَبَعَثَ رَجُلًا أَوْ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَهُمَا أن يحرقا أدنى نخل يَأْتِيَانِهِ مِنْ نَخْلِ الْمَدِينَةِ. فَوَجَدَا صَوْرًا مِنْ صِيرَانِ نَخْلِ الْعُرَيْضِ. فَأَحَرَقَا فِيهَا وَانْطَلَقَا. وَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ مُسْرِعًا.
وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حَتَّى بَلَغَ قَرْقَرَةَ الْكُدْرِ فَفَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ، فَرَجَعَ.
وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ وَقَالَ: وَرَكِبَ الْمُسْلِمُونَ فِي آثَارِهِمْ، فَأَعْجَزُوهُمْ وَتَرَكُوا أَزْوَادَهُمْ فَسُمِّيَتْ غَزْوَةُ أبي سفيان: غزوة السويق.(1/86)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، وَحَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ، عَنْ عُبَيدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكِ، قَالُوا:
لَمَّا رَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ فَلُّ قُرَيْشٍ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ، نَذَرَ أَنْ لَا يَمَسَّ رَأْسَهُ مَاءٌ مِنْ جَنَابَةٍ حَتَّى يَغْزُوَ مُحَمَّدًا. فَخَرَجَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ، إِلَى أَنْ نَزَلَ بِجَبَلٍ يُقَالُ له: نبت، عَلَى نَحْوِ بَرِيدٍ مِنَ الْمَدِينَةِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى أَتَى حُيَيَّ بْنَ أَخْطَبَ، فَضَرَبَ عَلَيْهِ بَابَهُ، فَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ وَخَافَهُ. فَانْصَرَفَ إِلَى سَلَّامِ بْنِ مِشْكَمٍ، وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي النَّضِيرِ، فَأَذِنَ لَهُ وَقَرَاهُ، وَأَبْطَنَ لَهُ مِنْ خَبَرِ النَّاسِ. ثُمَّ خَرَجَ فِي عَقِبِ لَيْلَتِهِ حَتَّى أَتَى أَصْحَابَهُ، فَبَعَثَ رِجَالًا، فَأَتَوْا نَاحِيَةَ الْعُرَيْضِ، فَوَجَدُوا رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُمَا وَرَدُّوا وَنَذَرَ بِهُمُ النَّاسُ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَلَبِهِمْ، حَتَّى بلغ قرقرة الكدر، ثم انصرف وَقَدْ فَاتَهُ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ، قَدْ رَمَوْا زادا لهم في جرب، وَسَوِيقًا كَثِيرًا، يَتَخَفَّفُونَ مِنْهَا لِلنَّجَاءِ.
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ حِينَ رَجَعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَطْمَعُ أَنْ تكون لَنَا غَزْوَةٌ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرَيْنِ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ: تَزَوَّجَ عُثْمَانُ - رضي الله عنه - بأم كلثوم.
وفيها تزوج علي - رضي الله عنه - بفاطمة الزهراء - رضي الله عنها -.
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مجاهد، عن علي - رضي الله عنه -، قال: قد خَطَبْتُ فَاطِمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَتْ لِي مَوْلَاةٌ لِي: عَلِمْتَ أَنَّ فَاطِمَةَ خُطِبَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قُلْتُ: لَا. قَالَتْ: فَمَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ فَيُزَوِّجِكَ؟ فَقُلْتُ: وَعِنْدِي شَيْءٌ أتزوج به؟ قالت: إنك إِنْ جِئْتَهُ زَوَّجَكَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا زَالَتْ تَرْجِينِي، حَتَّى دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - جَلَالَةٌ وَهَيْبَةٌ. فَأُفْحِمْتُ،(1/87)
فَوَاللَّهِ مَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ. فَقَالَ: مَا حاجتك، أَلَكَ حَاجَةٌ؟ فَسَكَتُّ. ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّكَ جِئْتَ تَخْطُبُ فَاطِمَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: وَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ تَسْتَحِلُّهَا بِهِ؟ فَقُلْتُ: لَا وَاللَّهِ. فَقَالَ: مَا فَعَلَتْ دِرْعٌ سَلَّحْتُكَهَا؟ فَوَالَّذِي نَفْسُ عَلِيٍّ بِيَدِهِ إِنَّهَا لَحُطَمِيَّةٌ مَا ثَمَنُهَا أَرْبَعَةُ دراهم. فقلت: عندي. فقال: قد زوجتكها، فابعث إلي بها. فإن كَانَتْ لِصَدَاقِ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ قَالَ: لَمَّا تزوج علي فاطمة - رضي الله عنهما -، قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطِهَا شَيْئًا. قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ. قَالَ: أَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطْمِيَّةُ؟ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: جَهَّزَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاطِمَةَ فِي خَمِيلٍ، وَقِرْبَةٍ، وَوِسَادَةِ أَدَمٍ حَشْوُهَا إِذْخِرٌ.
وَفِيهَا: تُوُفِّيَ سَعْدُ بْنُ مَالِكِ بْنِ خَالِدِ بْنِ ثَعْلَبَةَ الْخَزْرَجِيُّ السَّاعِدِيُّ، وَالِدُ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ. وَكَانَ تَجَهَّزَ إِلَى بَدْرٍ فَمَاتَ قَبْلَهَا فِي رَمَضَانَ. فَيُقَالُ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ لَهُ بِسَهْمِهِ، وَرَدَّهُ عَلَى وَرَثَتِهِ.
وَفِيهَا: بَعْدَ بَدْرٍ، تُوُفِّيَ خُنَيْسُ بْنُ حُذَافَةَ السَّهْمِيُّ، أَحَدُ الْمُهَاجِرِينَ، شَهِدَ بَدْرًا. وَتَأَيَّمَتْ مِنْهُ حَفْصَةُ بِنْتُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَفِي شَوَّالٍ: بَنَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَائِشَةَ، وَعُمْرُهَا تِسْعُ سِنِينَ.(1/88)
-ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ
-غَزْوَةُ ذِي أَمَرٍ
فِي الْمُحَرَّمِ، غَزَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَجْدًا، يُرِيدُ غَطَفَانَ. وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ عُثْمَانَ. فَأَقَامَ بِنَجْدٍ صَفَرًا كُلَّهُ، وَرَجَعَ مِنْ غَيْرِ حَرْبٍ. قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ فَقَالَ: كَانَتْ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ. وَأَنَّ غَيْبَتَهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا.
ثُمَّ رَوَى عَنْ أَشْيَاخِهِ، عَنِ التَّابِعِينَ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِ، قَالُوا: بَلَغَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ جَمْعًا مِنْ غَطَفَانَ، مِنْ بَنِي ثَعْلَبَةَ، بذِي أَمَر، قَدْ تَجَمَّعُوا يريدون أن يصيبوا من أطراف المسلمين، والله أعلم.
-غَزْوَةُ بُحْرَانَ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: أَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة، ربيع الأَوَّلَ. ثُمَّ غَزَا يُرِيدُ قُرَيْشًا.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: فَبَلَغَ بُحْرَانَ، مَعْدَنًا بِالْحِجَازِ، فَأَقَامَ هُنَاكَ رَبِيعَ الْآخِرَ كُلَّهُ، وَجُمَادَى الْأُولَى.
وَبُحْرَانُ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ. ثُمَّ رَجَعَ وَلَمْ يلق كيدا.
وقال الواقدي: غزا النبي - صلى الله عليه وسلم - بَنِي سُلَيْمٍ بِبُحْرَانَ، لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى. وَبُحْرَانُ مِنْ نَاحِيَةِ الْفُرْعِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدِينَةِ ثَمَانِيَةُ بُرُدٍ. فَغَابَ عَشْرَ لَيَالٍ. وَكَانَ بَلَغَهُ أَنَّ بِهَا جَمْعًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ، فخرج في ثلاث(1/89)
مائة، واستخلف ابن أم مكتوم. الفرع: بضم الفاء وسكون الراء بين مكة والمدينة.
-غزوة بني قينقاع
مثلث النون
ذَكَرَهَا ابْنُ إِسْحَاقَ هَكَذَا، بَعْدَ غَزْوَةِ الْفُرْعِ.
وَأَمَّا الْوَاقِدِيُّ، فَقَالَ: كَانَتْ يَوْمَ السَّبْتِ نِصْفَ شَوَّالٍ، عَلَى رَأْسِ عِشْرِينَ شَهْرًا مِنَ الْهِجْرَةِ. فَحَاصَرَهُمْ إِلَى هِلالِ ذِي الْقِعْدَةِ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَمِنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمَعَهُمْ بِسُوقِ بَنِي قَيْنُقَاعَ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، احْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مثل مَا نَزَلَ بِقُرَيْشٍ مِنَ النَّقْمَةِ، وَأَسْلِمُوا فَإِنِّكُمْ قَدْ عَرَفْتُمْ أَنِّي نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، تَجِدُونَ ذَلِكَ فِي كِتَابِكُمْ وَعَهْدِ اللَّه إِلَيْكُمْ. قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ تَرَى أَنَّا كَقَوْمِكَ؟ لَا يَغُرَّنَّكَ أَنَّكَ لَقِيتَ قَوْمًا لَا عِلْمَ لَهُمُ بِالْحَرْبِ، فَأَصَبْتَ مِنْهُمْ فُرْصَةً. إِنَّا وَاللَّهِ لَوْ حَارَبْتَنَا لَتَعْلَمَنَّ أَنَّا نَحْنُ الرِّجَالُ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا نَزَلَ هَؤُلَاءِ الْآيَاتُ إِلَّا فِيهِمْ " قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ " الْآيَتَيْنِ.
وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أن بني قَيْنُقَاعَ كَانُوا أَوَّلَ يَهُودَ نَقَضُوا وَحَارَبُوا فِيمَا بَيْنَ بَدْرٍ وَأُحُدٍ.
قَالَ: وَعَنْ أَبِي عَوْنٍ قال: كان أَمْرِ بَنِي قَيْنُقَاعَ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْعَرَبِ قَدِمَتْ بِجَلْبٍ لَهَا فَبَاعَتْهُ بِسُوقِهِمْ، وَجَلَسَتْ إِلَى صَائِغٍ بِهَا. فَجَعَلُوا يُرِيدُونَها(1/90)
عَلَى كَشْفِ وَجْهِهَا، فَلَمْ تَفْعَلْ. فَعَمِدَ الصَّائِغُ إِلَى طَرَفِ ثَوْبِهَا فَعَقَدَهُ إِلَى ظَهْرِهَا. فَلَمَّا قَامَتِ انْكَشَفَتْ سَوْءَتُهَا فَضَحِكُوا، فَصَاحَتْ. فَوَثَبَ رَجُلٌ من المسلمين على الصائغ فقتله. فشدت اليهود على المسلم فقتلوه. فأغضب المسلمين وَوَقَعَ الشَّرُّ.
وَحَدَّثَنِي عَاصِمٌ، قَالَ: فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ. فَقَامَ إِلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ بْنِ سَلُولٍ حِينَ أَمْكَنَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَحْسِنْ فِي مَوَالِيَّ. فَأَعْرَضَ عَنْه. فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِي جَيْبِ دِرْعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ له رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَرْسِلْنِي، وَغَضِبَ؛ أَرْسِلْنِي، وَيْحَكَ. قَالَ: وَاللَّهِ لَا أُرْسِلُكَ حَتَّى تُحْسِنَ فِي مَوَالِيَّ: أَرْبَعُمِائَةُ حَاسِرٍ، وَثَلَاثُمِائَةُ دَارِعٍ؛ قَدْ مَنَعُونِي مِنَ الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، تَحْصُدُهُمْ فِي غَدَاةٍ وَاحِدَةٍ. إِنِّي وَاللَّهِ امْرؤٌ أَخْشَى الدَّوَائِرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هُمْ لَكَ.
وَحَدَّثَنِي أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: لَمَّا حَارَبَتْ بَنُو قينقاع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تَشَبَّثَ بِأَمْرِهِمُ ابْنُ سَلُولٍ وَقَامَ دُونَهُمْ.
قَالَ: وَمَشَى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ وَكَانَ أَحَدَ بَنِي عَوْفٍ؛ لَهُمْ مِنْ حِلْفِهِ مِثْلُ الَّذِي لِابْنِ سلول، فجعلهم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَتَبَرَّأَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ حِلْفِهِمْ، وَقَالَ: أَتَوَلَّى اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ وَفِي ابن سلول: " يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ " إِلَى قَوْلِهِ: " فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ " إِلَى قَوْلِهِ " إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمنوا "؛ وذلك لَتَولَّى عُبَادَةُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حَاصَرَهُمْ خَمْسَ عَشَرَةَ لَيْلَةً، إِلَى هِلَالِ ذِي الْقِعْدَةِ. وَكَانُوا أَوَّلَ مَنْ غَدَر مِنَ الْيَهُودِ. وَحَارَبُوا حَتَّى قَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِهِ، وَأَنَّ لَهُ أَمْوَالَهُمْ. فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكُتِّفُوا، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى كِتَافِهِمُ الْمُنْذِرَ بْنَ قُدَامَةَ السَّلَمِيَّ؛ مِنْ بَنِي السلم. فكلم(1/91)
عبد الله بن أبي فيهم رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَلَحَّ عَلَيْهِ. فَقَالَ: خُذْهُمْ. وَأَمَرَ بِهِمْ أَنْ يُجْلَوْا مِنَ الْمَدِينَةِ، وَوَلِيَ إِخْرَاجَهُمْ مِنْهَا عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ. فَلَحِقُوا بِأَذرِعَاتَ، فَمَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ بَقَائِهِمْ فِيهَا. وَتَوَلَّى قَبْضَ أَمْوَالَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ. ثُمَّ خُمِسَتْ، وَأَخَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ سِلَاحِهِمْ ثَلَاثَةَ أَسْيَافٍ، وَدِرْعَيْنِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
-غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ
قَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ: كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ؛ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ، عَلَى رَأْسِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْعَةِ بَدْرٍ. وَكَانَتْ مَنَازِلُهُمْ ونخلهم بناحية المدينة. فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نزلوا على الجلاء، وعلى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقلَّتِ الْإِبلُ إِلَّا السِّلَاحَ. فَأُنْزِلَتْ " هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ " الْآيَاتِ.
فَأَجْلَاهُمْ إِلَى الشَّامِ، وَكَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ. وَكَانَ اللَّهُ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِالْقَتْلِ والسبي.
وقوله " لأول الحشر "؛ فكان جَلَاؤُهُمْ ذَلِكَ أَوَّلَ حَشْرٍ فِي الدُّنْيَا إِلَى الشَّامِ.
وَيَرْوِيهِ عَقِيلٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَوْلُهُ: وأسنده زيد بن المبارك الصنعاني، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. وَذِكْرُ عَائِشَةَ فِيهِ غير محفوظ.
وقال ابن جريج، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، إِنَّ يَهُودَ بَنِي النَّضِيرِ، وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَجْلَى بَنِي النَّضِيرِ، وَأَقَرَّ قُرَيْظَةَ وَمَنَّ عَلَيْهِمْ، حَتَّى حَارَبُوا بَعْدَ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ كَتَبُوا إِلَى ابْنِ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ يعبد(1/92)
مَعَهُ الْأَوْثَانَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ: إِنَّكُمْ آوَيْتُمْ صَاحِبَنَا، وَإِنَّا نُقْسِمُ بِاللَّهِ لَتُقَاتِلَنَّهُ أَوْ لَتُخْرِجَنَّهُ أَوْ لَنَسِيرَنَّ إِلَيْكُمْ بِجَمْعِنَا حتى نقتل مقاتلكم وَنَسْتَبِيحَ نِسَاءَكُمْ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ وَأَصْحَابَهُ، اجْتَمَعُوا لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَبَلَغَهُ ذَلِكَ فَلَقِيَهُمْ فقال: لقد بلغ وعيد قُرَيْشٍ مِنْكُمُ الْمَبَالِغَ، مَا كَانَتْ تَكِيدُكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا تُرِيدُونَ أَنْ تَكِيدُوا بِهِ أَنْفُسَكُمْ. تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا أَبْنَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ؟ فَلَمَّا سَمِعُوا ذَلِكَ تَفَرَّقُوا. فَبَلَغَ ذَلِكَ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فَكَتَبُوا؛ بَعْدَ بَدْرٍ، إِلَى الْيَهُودِ: إِنَّكُمْ أَهْلُ الْحَلَقَةِ وَالْحِصْنِ وَإِنَّكُمْ لَتُقَاتِلُنَّ صَاحِبَنَا أَوْ لَنَفْعَلَنَّ كَذَا وَكَذَا، وَلَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ خَدَمِ نِسَائِكُمْ شَيْءٌ. وهي الخلاخيل.
فلما بلغ كتابهم للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَجْمَعَتْ بَنُو النَّضِيرِ بِالْغَدْرِ. وَأَرْسَلُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اخْرُجْ إِلَيْنَا فِي ثَلَاثِينَ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِكَ، وَلْيَخْرُجْ مِنَّا ثَلَاثُونَ حَبْرًا، حَتَّى نَلْتَقِيَ بمكان المنصف، فيسمعوا مِنْكَ، فَإِنْ صَدَّقُوا وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا بِكَ. فَقَصَّ خَبَرَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْكَتَائِبِ فَحَصَرَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ وَاللَّهِ لَا تَأْمَنُونَ عِنْدِي إِلَّا بِعَهْدٍ تُعَاهِدُونِي عَلَيْهِ. فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ عَهْدًا، فَقَاتَلَهُمْ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ.
ثُمَّ غَدَا عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ بِالْكَتَائِبِ، وَتَرَكَ بَنِي النَّضِيرِ، وَدَعَاهُمْ إِلَى أَنْ يُعَاهِدُوهُ. فَعَاهَدُوهُ، فَانْصَرَفَ عَنْهُمْ.
وَغَدَا إِلَى بَنِي النَّضِيرِ بِالْكَتَائِبِ، فَقَاتَلَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى الْجَلَاءِ. فَجَلَتْ بَنُو النَّضِيرِ، وَاحْتَمَلُوا مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ وَأَبْوَابِهِمْ وَخَشَبِهِمْ. فكان نخل بني النضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَاصَّةً، أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: " وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ "، يَقُولُ: بِغَيْرِ قِتَالٍ. فَأَعْطَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْثَرَهَا الْمُهَاجِرِينَ وَقَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ، وَقَسَّمَ مِنْهَا لِرَجُلَيْنِ مِنَ الأنصار كانوا ذَوِي حَاجَةٍ. وَبَقِيَ مِنْهَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللَّهِ(1/93)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي فِي أَيْدِي بَنِي فَاطِمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -.
وَذَهَبَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَابْنُ إِسْحَاقَ إِلَى أَنَّ غَزْوَةَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَكَذَلِكَ قَالَ غَيْرُهُمَا. وَرَوَاهُ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ. وَهَذَا حَدِيثُ مُوسَى وَحَدِيثُ عُرْوَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي عَقْلِ الكلابيين. وكانوا - يزعمون - قَدْ دَسُّوا إِلَى قُرَيْشٍ حِينَ نَزَلُوا بِأُحُدٍ لِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَحَضُّوهُمْ عَلَى الْقِتَالِ وَدَلُّوهُمْ عَلَى الْعَوْرَةِ. فَلَمَّا كَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَقْلِ الْكِلابِيِّينَ، قَالُوا: اجْلِسْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَتَّى تَطْعَمَ وَتَرْجِعَ بِحَاجَتِكَ وَنَقُومُ فَنَتَشَاوَرُ. فَجَلَسَ بِأَصْحَابِهِ. فَلَمَّا خَلَوْا وَالشَّيْطَانُ مَعَهُمْ، ائْتَمِرُوا بِقَتْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا: لَنْ تَجِدُوهُ أَقْرَبَ مِنْهُ الْآنَ، فَاسْتَرِيحُوا مِنْهُ تَأْمَنُوا. فَقَالَ رَجُلٌ: إِنْ شِئْتُمْ ظَهَرْتُ فَوْقَ الْبَيْتِ الَّذِي هُوَ تَحْتَهُ فَدَلَّيْتُ عَلَيْهِ حَجَرًا فَقَتَلْتُهُ. فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ بِشَأْنِهِمْ وَعَصَمَهُ، فَقَامَ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَةً. وَانْتَظَرَهُ أَعْدَاءُ الله، فراث عليه. فَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمَدِينَةِ فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: لَقِيتُهُ قَدْ دَخَلَ أَزِقَّةَ الْمَدِينَةِ. فَقَالُوا لِأَصْحَابِهِ: عَجَّلَ أَبُو الْقَاسِمِ أَنْ نُقِيمَ أَمْرَنَا فِي حَاجَتِهِ. ثُمَّ قَامَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرجعوا ونزلت: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ " الْآيَةَ.
وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - بإجلائهم، وأن يسيروا حيث شاؤوا. وَكَانَ النِّفَاقُ قَدْ كَثُرَ بِالْمَدِينَةِ. فَقَالُوا: أَيْنَ تُخْرِجُنَا؟ قَالَ: أُخْرِجُكُمْ إِلَى الْحَشْرِ. فَلَمَّا سَمِعَ الْمُنَافِقُونَ مَا يُرَادُ بِأَوْلِيائِهِمْ أَرْسَلُوا إِلَيْهِمْ: إِنَّا مَعَكُمْ مَحْيَانَا وَمَمَاتَنَا، إِنْ قُوتِلْتُمْ فَلَكُمْ عَلَيْنَا النَّصْرُ، وَإِنْ أُخْرِجْتُمْ لَمْ نَتَخَلَّفْ عَنْكُمْ. وَسَيِّدُ الْيَهُودِ أَبُو صَفِيَّةَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ. فَلَمَّا وَثِقُوا بِأَمَانِيِّ الْمُنَافِقِينَ عَظُمَتْ غِرَّتُهُمْ وَمَنَّاهُمُ الشَّيْطَانُ الظُّهُورَ، فَنَادَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابَهُ: إِنَّا وَاللَّهِ لَا نَخْرُجُ وَلَئِنْ قَاتَلْتَنَا لَنُقَاتِلَنَّكَ.
فَمَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَمْرِ اللَّهِ فِيهِمْ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَخَذُوا السِّلَاحَ ثُمَّ مَضَى إِلَيْهِمْ. وَتَحَصَّنَتِ الْيَهُودُ فِي دُورِهِمْ وَحُصُونِهِمْ. فَلَمَّا انْتَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - إلى(1/94)
أَزِقَّتِهِمْ وَحُصُونِهِمْ كَرِهَ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ فِي دُورِهِمْ وَحُصُونِهِمْ، وَحَفِظَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ وَعَزَمَ لَهُ عَلَى رُشْدِهِ، فَأَمَرَ أَنْ يُهْدَمَ الْأَدْنَى فَالْأَدْنَى مِنْ دُورِهِمْ، وَبِالنَّخْلِ أَنْ تُحَرَّقَ وَتُقَطَّعَ، وَكَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ وَأَيْدِي الْمُنَافِقِينَ فَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ، وَأَلْقَى فِي قُلُوبِ الْفَرِيقَيْنِ الرُّعْبَ. ثُمَّ جَعَلَتِ الْيَهُودُ كُلَّمَا خَلُصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَدْمِ مَا يَلِي مَدِينَتَهُمْ، أَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَهَدَمُوا الدُّورَ الَّتِي هُمْ فِيهَا مِنْ أَدْبَارِهَا، وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يَخْرُجُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَصْحَابُهُ يَهْدِمُونَ شَيْئًا فَشَيْئًا. فَلَمَّا كَادَتِ الْيَهُودُ أَنْ تَبْلُغَ آخِرَ دُورِهَا، وَهُمْ يَنْتَظِرُونَ الْمُنَافِقِينَ وَمَا كَانُوا مَنَّوْهُمْ، فَلَمَّا يَئِسُوا مِمَّا عِنْدَهُمْ، سَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ عَرَضَ عَلَيْهِمْ قَبْلَ ذَلِكَ، فَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُجْلِيَهُمْ، وَلَهُمْ أَنْ يَحْمِلُوا مَا اسْتَقَلَّتْ بِهِ الْإِبِلُ إِلَّا السِّلَاحَ. وَطَارُوا كُلَّ مُطَيَّرٍ، وَذَهَبُوا كُلَّ مَذْهَبٍ. وَلَحِقَ بَنُو أَبِي الْحَقِيقِ بِخَيْبَرَ وَمَعَهُمْ آنِيَةً كَثِيرَةً مِنْ فِضَّةٍ، فَرَآهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ. وَعَمَدَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَاسْتَغْوَاهُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَبَيَّنَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ حَدِيثَ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْيَهُودِ، وَكَانُوا قَدْ عَيَّرُوا الْمُسْلِمِينَ حِينَ قَطَعُوا النَّخْلَ وَهَدَمُوا. فَقَالُوا: مَا ذَنْبُ الشَّجَرَةِ وَأَنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّكُمْ مُصْلِحُونَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ " سَبَّحَ لِلَّهِ ". ثُمَّ جَعَلَهَا نَفْلًا لِرَسُولِهِ، فَقَسَّمَهَا فِيمَنْ أَرَاهُ اللَّهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ. وَأَعْطَى مِنْهَا أَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ، وَسَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، الْأَنْصَارِيَّيْنِ. وَأَعْطَى - زَعَمُوا - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ سَيْفَ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ.
وَكَانَ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ فِي الْمُحَرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ. وَأَقَامَتْ بَنُو قُرَيْظَةَ فِي الْمَدِينَةِ في مساكنهم، لم يؤمر فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتال وَلَا إِخْرَاجٍ حَتَّى فَضَحَهُمُ اللَّهُ بِحُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَبِجُمُوعِ الْأَحْزَابِ.
هَذَا لَفْظُ مُوسَى، وَحَدِيثُ عُرْوَةَ بِمَعْنَاهُ، إِلَى إِعْطَاءِ سَعْدٍ السَّيْفَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطَعَ نَخْلِ بَنِي النَّضِيرِ وَحَرَّقَ. وَلَهَا يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:(1/95)
وَهَانَ عَلَى سُرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ ... حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ.
وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: " مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أوس، عن عمر؛ أَنَّ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ كَانَتْ مِمَّا أَفَاءَ الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ. فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِصَةً يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ جَعَلَهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عَدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ. أَخْرَجَاهُ.
-سَرِيَّةُ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ إِلَى الْقَرَدَةِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَسَرِيَّةُ زَيْدٍ الَّتِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا، حِينَ أَصَابَ عِيرَ قُرَيْشٍ؛ وَفِيهَا أَبُو سُفْيَانَ؛ عَلَى الْقَرَدَةِ؛ مَاءٌ مِنْ مِيَاهِ نَجْدٍ.
وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهَا أَنَّ قُرَيْشًا خَافُوا طَرِيقَهُمُ الَّتِي كَانُوا يَسْلُكُونَ إِلَى الشَّامِ حِينَ جَرَتْ وَقْعَةُ بَدْرٍ، فَسَلَكُوا طَرِيقَ العراق. فخرج منها تُجَّارٌ فِيهِمْ أَبُو سُفْيَانَ، وَاسْتَأْجَرُوا رَجُلًا مِنْ بَنِي بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ يُقَالُ لَهُ: فُرَاتُ بْنُ حَيَّانَ يَدُلُّهُمْ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ، فَأَصَابَ تِلْكَ الْعِيرَ وَمَا فِيهَا، وَأَعْجَزَهُمُ الرِّجَالَ، فَقَدِمَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/96)
-غَزْوَةُ قَرْقَرَةِ الْكُدْرِ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: إِنَّهَا فِي الْمُحرَّمِ سَنَةَ ثَلَاثٍ. وَهِيَ نَاحِيَةُ مَعْدِنِ بَنِي سُلَيْمٍ. وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ.
وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَغَهُ أَنَّ بِهَذَا الْمَوْضِعِ جَمْعًا مِنْ سُلَيْمٍ وَغَطَفَانَ. فَلَمْ يجد في المحال أَحَدًا، وَوَجَدَ رِعَاءً مِنْهُمْ غُلَامٌ يُقَالُ لَهُ يَسَارٌ، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ ظَفَرَ بِالنَّعَمِ، فَانْحَدَرَ بِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَاقْتَسَمُوهَا بِصِرَارٍ؛ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَكَانَتِ النَّعَمُ خَمْسَمِائَةِ بَعِيرٍ، وَأَسْلَمَ يَسَارٌ.
الْقَرْقَرَةُ أَرْضٌ مَلْسَاءُ، وَالْكُدْرُ طَيْرٌ فِي أَلْوَانِهَا كُدْرَةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرَارَةُ الْكُدْرِ؛ يَعْنِي أَنَّهَا مُسْتَقَرُّ هَذَا الطَّيْرِ.
-مَقْتَلُ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ مِنْ طَرِيقِ يُونُسَ بْنِ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَصَالِحُ بْنُ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَا:
بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ فَرَغَ مِنْ بَدْرٍ بَشِيرَيْنِ إِلَى أَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ فَبَعَثَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ إِلَى أَهْلِ السَّافِلَةِ، وَبَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ إِلَى أَهْلِ الْعَالِيَةِ، فَبَشَّرُوا وَنَعَوْا أَبَا جَهْلٍ وَعُتْبَةَ وَالْمَلَأَ مِنْ قُرَيْشٍ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ كعب بن الأشرف لعنه الله قَالَ: وَيْلَكُمْ، أَحَقٌّ هَذَا؟ هَؤُلَاءِ مُلُوكُ الْعَرَبِ وَسَادَةُ النَّاسِ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَ عَلَى عَاتِكَةَ بِنْتِ أُسَيْدِ بْنِ أَبِي الْعَيْصِ، وَكَانَتْ عِنْدَ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ، فَجَعَلَ يَبْكِي عَلَى قَتْلَى قُرَيْشٍ، وَيُحَرِّضُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ:(1/97)
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِكِ أَهْلِهَا ... وَلِمِثْلِ بَدْرٍ تَسْتَهِلُّ وَتَدْمَعُ.
قُتِلَتْ سُرَاةُ النَّاسِ حَوْلَ حِياضِهِمْ
لا تَبْعُدُوا إِنَّ الْمُلُوكَ تُصَرَّعُ.
كَمْ قَدْ أُصِيبَ بِهَا مِنْ أَبْيَضَ مَاجِدٍ ... ذِي بَهْجَةٍ تَأْوِي إِلَيْهِ الضِّيَعُ.
وَيَقُولُ أَقْوَامٌ أُذَلُّ بِسَخْطِهِمْ
إِنَّ ابْنَ الْأَشْرَفِ ظَلَّ كَعْبًا يَجْزَعُ.
صَدَقُوا؛ فَلَيْتَ الْأَرْضَ سَاعَةَ قُتِّلُوا ... ظَلَّتْ تَسُوخُ بِأَهْلِهَا وَتَصَدَّعُ.
نُبِّئْتُ أَنَّ بَنِي كِنَانَةَ كُلَّهُمْ
خَشَعُوا لقتل أَبِي الْوَلِيدِ وَجَدَّعُوا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَشَبَّبَ بِأُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ:
أَرَاحِلٌ أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ بِمَنْقَبَةٍ ... وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ؟.
فِي كَلَامٍ لَهُ. ثُمَّ شَبَّبَ بِنِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى آذَاهُمْ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: كَانَ ابْنُ الْأَشْرَفِ قَدْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْهِجَاءِ، وَرَكِبَ إِلَى قُرَيْشٍ فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ فَاسْتَغْوَاهُمْ على رسول الله، فَقَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: أُنَاشِدُكَ اللَّهَ، أَدِينُنَا أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ أَمْ دِينُ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ؟ قَالَ: أَنْتُمْ أَهْدَى مِنْهُمْ سَبِيلًا. ثُمَّ خَرَجَ مقبلا وقد أَجْمَعَ رَأْيَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْلِنًا بِعَدَاوَتِهِ وَهِجَائِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْجَمَّالُ الْمَخْرَمِيُّ - الَّذِي قَالَ فِيهِ ابْنُ عَدِيِّ: كَانَ عِنْدِي مِمَّنْ يَسْرِقُ الْحَدِيثَ. قُلْتُ: لَكِنْ رَوَى عَنْهُ مُسْلِمٌ - حدثنا ابن عيينة، قال: حدثنا عَمْرٌو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ مَكَّةَ عَلَى قُرَيْشٍ فَحَالَفُوهُمْ عَلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالُوا لَهْمُ: أَنْتُمْ أَهْلُ الْعِلْمِ الْقَدِيمِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَأَخْبِرُونَا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ، قَالُوا: مَا أَنْتُمْ وَمَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: نَحْنُ نَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ وَنَسْقِي اللَّبَنَ عَلَى الْمَاءِ وَنَفُكُّ الْعُنَاةَ وَنَسْقِي الْحَجِيجَ، وَنَصِلُ الأرحام. قالوا:(1/98)
فَمَا مُحَمَّدٌ؟ قَالُوا: صُنْبُورٌ قَطَعَ أَرْحَامَنَا وَاتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجِيجِ بَنُو غِفَارٍ. قَالُوا: لَا، بَلْ أَنْتُمْ خَيْرٌ مِنْهُ وَأَهْدَى سَبِيلًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ " الْآيَةَ.
قَالَ سُفْيَانُ: كَانَتْ غِفَارٌ سَرِقَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: وَلَحِقَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُعْلِنًا بِمُعَادَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِجَائِهِ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا خَرَجَ مِنْهُ قَوْلَهُ:
أَذَاهِبٌ أَنْتَ لَمْ تَحْلُلْ بِمَنْقَبَةٍ ... وَتَارِكٌ أَنْتَ أُمَّ الْفَضْلِ بِالْحَرَمِ!.
صَفْرَاءُ رَادِعَةٌ لَوْ تُعْصَرُ انْعَصَرَتْ
مِنْ ذي البوارير وَالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ.
إِحْدَى بَنِي عَامِرٍ هَامَ الْفُؤَادُ بِهَا ... وَلَوْ تَشَاءُ شَفَتْ كَعْبًا مِنَ السَّقَمِ.
لم أر شمسا قَبْلَهَا طَلَعَتْ
حَتَّى تَبَدَّتْ لَنَا فِي لَيْلَةِ الظُّلَمِ.
وَقَالَ:
طَحَنَتْ رَحَى بَدْرٍ لِمَهْلِكِ أَهْلِهَا
الْأَبْيَاتَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ؟ فَقَدْ آذَانَا بِالشِّعْرِ وَقَوَّى الْمُشْرِكِينَ عَلَيْنَا. فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَأَنْتَ. فَقَامَ فَمَشَى ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: إِنِّي قَائِلٌ فقال: قل، فَأَنْتَ فِي حِلٍّ: فَخَرَجَ مُحَمَّدٌ، بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ، حَتَّى أَتَى كَعْبًا وَهُوَ فِي حَائِطٍ فَقَالَ: يَا كَعْبُ، جِئْتُ لِحَاجَةٍ؛ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ قَدْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ فَقَامَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعَجِبَ إِلَيْكَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأْذَنْ لِي أَنْ أَقُولَ شَيْئًا. قَالَ: قُلْ. فَأَتَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَدْ سَأَلَنَا صَدَقَةً، وَقَدْ عَنَّانَا، وَإِنِّي قَدْ أَتَيْتُكَ أَسْتَسْلِفُكَ. قَالَ: وَأَيْضًا لَتَمَلَّنَّهُ. قَالَ: إِنَّا قَدِ اتَّبَعْنَاهُ فَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتَّى نَنْظُرَ إِلَى أَيِّ شَيْءٍ يَصِيرُ شَأْنُهُ، وَقَدْ(1/99)
أَرَدْنَا أَنْ تُسَلِّفَنَا. قَالَ: ارْهَنُونِي نِسَاءَكُمْ. قَالَ: كيف نَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا وَأَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ؟ قَالَ: فَارْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ. قَالَ: كَيْفَ نَرْهَنُكَ أَبْنَاءَنَا فَيُقَالُ رَهْنٌ بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ؟ قَالَ: فَأَيُّ شَيْءٍ؟ قَالَ: نَرْهَنُكَ الَّلأَمَةَ. فَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ لَيْلًا، فَجَاءَهُ لَيْلًا وَمَعَهُ أَبُو نَائِلَةَ، وَهُوَ أَخُو كَعْبٍ مِنَ الرَّضَاعَةِ، فَدَعَاهُ مِنَ الْحِصْنِ فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ، فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: أَيْنَ تَخْرُجُ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: إِنَّمَا هُوَ أَخِي أَبُو نَائِلَةَ وَمُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، إِنَّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إِلَى طعنة بليل لأجاب. قال محمد: إِذَا مَا جَاءَ فَإِنِّي قَائِلٌ بِشَعْرِهِ فَأَشَمُّهُ ثُمَّ أُشِمُّكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونِي أُثَبِّتُ يَدَيَّ فَدُونَكُمْ. قال: فَنَزَلَ إِلَيْهِمْ مُتَوَشِّحًا، وَهُوَ يَنْفَحُ مِنْهُ رِيحُ الطِّيبِ، فَقَالَ مُحَمَّدٌ: مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ رِيحًا، أَيْ أَطْيَبَ، أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشَمَّ رَأْسَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَشَمَّهُ ثُمَّ شَمَّ أَصْحَابُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي؟ يَعْنِي ثَانِيًا. قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنَ مِنْهُ قَالَ: دُونَكُمْ. فَضَرَبُوهُ فَقَتَلُوهُ. وَأَتَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرُوهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ الْيَهُودِيَّ كَانَ شَاعِرًا، وَكَانَ يَهْجُو رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُحَرِّضُ عَلَيْهِ كُفَّارَ قُرَيْشٍ فِي شِعْرِهِ. وكأن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَأَهْلُهَا أَخْلَاطٌ، مِنْهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَمِنْهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ، وَمِنْهُمُ الْيَهُودُ، وَهُمْ أَهْلُ الْحَلَقَةِ وَالْحُصُونِ، وَهُمْ حُلَفَاءُ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ اسْتِصْلَاحَهُمْ كُلَّهُمْ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَكُونُ مُسْلِمًا وأبوه مشرك أو أخوه وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَدِينَةَ يُؤْذُونَهُ أَشَدَّ الْأَذَى، فَأَمَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ وَالْمُسْلِمِينَ بِالصَّبْرِ وَالْعَفْوِ، فَقَالَ تَعَالَى: " وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا "، وَقَالَ: " وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ "(1/100)
فأمر رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ أَنْ يَبْعَثَ رَهْطًا لِيَقْتُلُوا كَعْبًا، فَبَعَثَ إِلَيْهِ سَعْدَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ وأبا عبس، والحارث ابن أَخِي سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي خَمْسَةِ رَهْطٍ أَتَوْهُ عَشِيَّةً، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِمْ بِالْعَوَالِي. فَلَمَّا رَآهُمْ كَعْبٌ أَنْكَرَهُمْ وَكَادَ يُذْعَرُ مِنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: مَا جَاءَ بِكُمْ؟ قَالُوا: جَاءَتْ بِنَا إليك حاجة. قَالَ: فَلْيَدْنُ إِلَيَّ بَعْضُكُمْ فَلْيُحَدِّثَنِي بِهَا. فَدَنَا إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: جِئْنَاكَ لِنَبِيعَكَ أَدْرَاعًا لَنَا لِنَسْتَنْفِقَ أَثْمَانَهَا.
فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ لَقَدْ جُهِدْتُمْ، قَدْ نَزَلَ بِكُمْ هَذَا الرَّجُلُ. فَوَاعَدَهُمْ أَنْ يَأْتُوهُ عِشَاءً حِينَ يَهْدَأُ عَنْهُمُ الناس. فجاؤوا فَنَادَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَامَ لِيَخْرُجَ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا طَرَقُوكَ سَاعَتَهُمْ هَذِهِ لِشَيْءٍ تُحِبُّ. فَقَالَ: بَلْ إِنَّهُمْ قَدْ حَدَّثُونِي حَدِيثَهُمْ. فَاعْتَنَقَهُ أَبُو عَبْسٍ، وَضَرَبَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ بِالسَّيْفِ، وَطَعَنَهُ بَعْضُهُمْ بِالسَّيْفِ فِي خَاصِرَتِهِ. فَلَمَّا قَتَلُوهُ فَزِعَتِ الْيَهُودُ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَغَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَصْبَحُوا فَقَالُوا: إِنَّهُ طُرِقَ صَاحِبُنَا اللَّيْلَةَ وَهُوَ سَيِّدٌ مِنْ سَادَتِنَا فَقُتِلَ، فَذَكَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كان يقول فِي أَشْعَارِهِ. وَدَعَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَنْ يَكْتُبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كِتَابًا، فَكَتَبَ بَيْنَهُمْ صَحِيفَةً، وَكَانَتْ تِلْكَ الصَّحِيفَةُ بَعْدَهُ عِنْدَ عَلِيٍّ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَذَكَرَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ وَغَيْرُهُ أَنَّ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ كَانَ مَعَهُمْ، فَأُصِيبَ فِي وَجْهِهِ بِالسَّيْفِ أَوْ رِجْلِهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حدثني ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وَمَشَى مَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، ثُمَّ وَجَّهَهُمْ وَقَالَ: انْطَلِقُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ أَعِنْهُمْ.
وَذَكَرَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقِصَّةَ بِأَطْوَلِ مِمَّا هُنَا وَأَحْسَنَ عِبَارَةً، وَفِيهِ: فَاجْتَمَعَ فِي قَتْلِهِ مُحَمَّدٌ، وَسِلْكَانُ بْنُ سَلَامَةَ بْنِ وَقْشٍ؛ وَهُوَ(1/101)
أَبُو نَائِلَةَ الْأَشْهَلِيُّ؛ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ، وَأَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ الْحَارِثِيُّ. فَقَدَّمُوا إِلَى ابْنِ الْأَشْرَفِ سِلْكَانَ، فَجَاءَهُ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ سَاعَةً وَتَنَاشَدَا شعرا، ثم قال: ويحك يا ابن الْأَشْرَفِ، إِنِّي قَدْ جِئْتُ لِحَاجَةٍ أُرِيدُ ذِكْرَهَا لك فاكتم عني. قال: أفعل. قال: كَانَ قُدُومُ هَذَا الرَّجُلُ عَلَيْنَا بَلَاءً مِنَ البلاء عادتنا العرب ورمونا عن قَوْسٍ وَاحِدَةٍ، وَقُطِعَتْ عَنَّا السُّبُلُ حَتَّى ضَاعَ الْعِيَالُ وَجُهِدْنَا. فَقَالَ أَنَا ابْنُ الْأَشْرَفِ! أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ أَخْبَرْتُكَ يَا ابْنَ سَلَامَةَ أَنَّ الْأَمْرَ سَيَصِيرُ إِلَى مَا أَقُولُ. فَقَالَ: إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَبِيعَنَا طَعَامًا وَنَرْهَنُكَ وَنُوثِّقَ لَكَ، وَتُحْسِنُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَتَرْهَنُونِي أَبْنَاءَكُمْ؟ قَالَ: لَقَدْ أَرَدْتَ أَنْ تَفْضَحَنَا إِنَّ مَعِي أَصْحَابًا لِي عَلَى مِثْلِ رَأْيِي، وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ آتِيكَ بِهِمْ فَتَبِيعَهُمْ، وَتُحْسِنَ فِي ذَلِكَ، وَنَرْهَنُكَ مِنَ الْحَلْقَةِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ. قَالَ: فَرَجَعَ سِلْكَانُ إِلَى أَصْحَابِهِ فَأَخْبَرَهُمْ خَبَرَهُ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا السِّلَاحَ ثُمَّ يَنْطَلِقُوا فَيَجْتَمُعُوا إِلَيْهِ. وَاجْتَمَعُوا، وَسَاقَ الْقِصَّةَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَأَطْلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَتْلَ الْيَهُودِ، وَقَالَ: مَنْ ظَفِرْتُمْ بِهِ مِنَ الْيَهُودِ فَاقْتُلُوهُ.
وَحِينَئِذٍ أَسْلَمَ حُوَيَّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَكَانَ قَدْ أسلم قبله أخوه محيصة. فقتل محيصة ابن سنينة اليهودي التاجر، فقال حويصة قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَجَعَلَ يَضْرِبُ أَخَاهُ وَيَقُولُ: أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ قَتَلْتَهُ؟ أَمَا وَاللَّهِ لَرُبَّ شَحْمٍ فِي بَطْنِكَ مِنْ مَالِهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَمَرَنِي بِقَتْلِهِ مَنْ لَوْ أَمَرَنِي بِقَتْلِكَ لَضَرَبْتُ عُنُقَكَ. قَالَ: وَاللَّهِ إِنَّ دِينًا بَلَغَ بِكَ هَذَا لَعَجَبٌ. فَأَسْلَمَ حُوَيِّصَةُ.
وَفِي رَمَضَانَ: وُلِدَ السَّيِّدُ أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا. وَتَزَوَّجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ.
وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ: تَزَوَّجَ أَيْضًا بِزَيْنَبَ بِنْتِ خُزَيْمَةَ، مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ صَعْصَعَةَ، وَهِيَ أُمُّ الْمَسَاكِينِ، فَعَاشَتْ عِنْدَهُ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَتُوُفِّيَتْ. وَقِيلَ: أقامت عنده ثمانية أشهر، فالله أعلم.(1/102)
-غَزْوَةُ أُحُدٍ
وَكَانَتْ فِي شَوَّالٍ
قَالَ شَيْبَانُ، عَنْ قَتَادَةَ: وَاقَعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ بَعْدَ بَدْرٍ فِي شَوَّالٍ، يَوْمَ السَّبْتِ لإِحْدَى عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوَّالٍ. وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَوْمَئِذٍ سَبْعَمِائَةٍ، وَالْمُشْرِكُونَ أَلْفَيْنِ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لِلنِّصْفِ مِنْ شَوَّالٍ.
وَقَالَ مَالِكٌ: كَانَ الْقِتَالُ يَوْمَئِذٍ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ.
وَقَالَ بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: " رَأَيْتُ أَنِّي قَدْ هَزَزْتُ سَيْفًا فَانْقَطَعَ صَدْرُهُ، فَإِذَا هُوَ مَا أُصِيبَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُهُ أُخْرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فَإِذَا هُوَ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْفَتْحِ وَاجْتِمَاعِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَأَيْتُ فِي رُؤْيَايَ بَقَرًا، وَاللَّهُ خَيْرٌ، فَإِذَا هُمُ النَّفَرُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَإِذَا الْخَيْرُ مَا جَاءَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ وَثَوَابِ الصِّدْقِ الَّذِي آتانا يوم بدر ". أخرجاه.
وقال ابن وهب: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَنَفَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْفَهُ ذَا الْفَقَارِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُوَ الَّذِي رَأَى فِيهِ الرُّؤْيَا يَوْمَ أُحُدٍ. وذلك أنه لما جاءه المشركون يوم أحد كَانَ رَأْيُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقِيمَ بِالْمَدِينَةِ فَيُقَاتِلُهُمْ فِيهَا، فَقَالَ له ناس لم يكونوا شهدوا بدرا: تخرج بنا يا رسول الله إليهم نقاتلهم بأحد، ورجوا من الفضيلة أن يصيبوا مَا أَصَابَ أَهْلُ بَدْرٍ. فَمَا زَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى لَبِسَ أَدَاتَهُ، ثُمَّ نَدِمُوا وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقِمْ فَالرَّأْيُ رَأْيُكَ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أَنْ يَضَعَ أَدَاتَهُ بَعْدَ أَنْ لَبِسَهَا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ(1/103)
عَدُوِّهِ. قَالُوا: وَكَانَ مَا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يلبس أداته: " إِنِّي رَأَيْتَ أَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ فَأَوَّلْتُهَا الْمَدِينَةَ، وَأَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا فَأَوَّلْتُهُ كَبْشَ الْكَتِيبَةِ، وَرَأَيْتُ أَنَّ سَيْفِي ذَا الْفَقَارِ فُلَّ فَأَوَّلْتُهُ فَلًّا فِيكُمْ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُذْبَحُ، فَبَقَرٌ - وَاللَّهِ - خَيْرٌ، فَبَقَرٌ - وَاللَّهِ - خَيْرٌ ".
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ فِي خُرُوجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أُحُدٍ، قَالَ: حَتَّى إِذَا كَانَ بالشوط من الجنانة، انْخَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِقَرِيبٍ مِنْ ثُلُثِ الْجَيْشِ. وَمَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ وَهُمْ فِي سَبْعِمِائَةٍ. وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ، وَمَعَهُمْ مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا، وَجَعَلُوا عَلَى مَيْمَنَةِ الْخَيْلِ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهَا عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عُرْوَةَ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُسْلِمُونَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَالْمُشْرِكُونَ ثَلَاثَةُ آلافٍ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُحُدًا، وَرَجَعَ عَنْهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فِي ثَلَاثِمَائَةٍ، فَسَقَطَ فِي أَيْدِي الطَّائِفَتَيْنِ، وَهَمَّتَا أَنْ تَفْشَلا؛ وَالطَّائِفَتَانِ: بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ: " إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا "؛ بَنُو سَلَمَةَ وَبَنُو حَارِثَةَ، مَا أَحَبُّ أَنَّهَا لَمْ تَنْزِلْ لِقَوْلِهِ " وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ يَزِيدَ يُحَدِّثُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أُحُدٍ، رَجَعَ نَاسٌ خَرَجُوا مَعَهُ. فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِرْقَتَيْنِ؛ فِرْقَةً تَقُولُ: نُقَاتِلُهُمْ، وَفِرْقَةً تَقُولُ: لَا نُقَاتِلُهُمْ. فَنَزَلَتْ: " فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ "، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ(1/104)
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّهَا طَيِّبَةٌ تَنْفِي الْخَبِيثَ كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الْفِضَّةِ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ "؛ قال مَيَّزَهُمْ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ أُحُدٍ؛ كَمَا حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، وَالْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَغَيْرُهُمْ، كُلٌّ قَدْ حَدَّثَ بَعْضَ الْحَدِيثَ، وَقَدِ اجتمع حديثهم كله فيما سقت من هَذَا الْحَدِيثِ عَنْ يَوْمِ أُحُدٍ؛ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ لَمَّا أُصِيبَ مِنْهُمْ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ، وَرَجَعَ فَلُّهُمْ إِلَى مَكَّةَ، وَرَجَعَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ بِالْعِيرِ، مَشَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ، وَعِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ مِمَّنْ أُصِيبَ آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم، فَكَلَّمُوا أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ كَانَ لَهُ فِي تِلْكَ الْعِيرِ تِجَارَةٌ، فَقَالُوا: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ وَتَرَكُمْ وَقَتَلَ خِيَارَكُمْ، فَأَعِينُونَا بِهَذَا الْمَالِ عَلَى حَرْبِهِ لَعَلَّنَا نُدْرِكُ مِنْهُ ثَأْرًا بِمَنْ أَصَابَ مِنَّا. فَاجْتَمَعُوا لِحَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ فَعَلَ ذَلِكَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُ الْعِيرِ بِأَحَابِيشِهَا وَمَنْ أَطَاعَهَا مِنْ قَبَائِلِ كِنَانَةَ وَأَهْلِ تِهَامَةَ.
وَكَانَ أَبُو عَزَّةَ الْجُمَحِيُّ قَدْ مَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ ذَا عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي فَقِيرٌ ذُو عِيَالٍ وَحَاجَةٍ، فَامْنُنْ عَلَيَّ. فَقَالَ لَهُ صَفْوَانُ: يَا أَبَا عَزَّةَ، إِنَّكَ امْرُؤٌ شَاعِرٌ، فَأَعِنَّا بِلِسَانِكَ فَاخْرُجْ مَعَنَا، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ مَنَّ عَلِيَّ فَلَا أُرِيدُ أَنْ أظاهر عليه. قالوا: بَلَى، فَأَعِنَّا بِنَفْسِكَ، فَلَكَ اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ رجعت أَنْ أُعِينَكَ، وَإِنْ أُصِبْتَ أَنْ أَجْعَلَ بَنَاتِكَ مَعَ بَنَاتِي يُصِيبُهُنَّ مَا أَصَابَهُنَّ مِنْ عُسْرٍ وَيُسْرٍ. فَخَرَجَ أَبُو عَزَّةَ يَسِيرُ فِي تِهَامَةَ ويدعو بني كنانة، ويقول:
إِيهًا بَنِي عَبْدِ مَنَاةَ الرُّزَامَ ... أَنْتُمْ حُمَاةٌ وأبوكم حام.(1/105)
لا تعدوني نَصْرُكُمْ بَعْدَ الْعَامِ ... لَا تُسْلِمُونِي لَا يَحِلُّ إِسْلَامْ.
وَخَرَجَ مُسَافِعُ بْنُ عَبْدِ مَنَافَ الْجُمَحِيُّ إِلَى بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى حرب رَسُول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَقُولُ شِعْرًا. وَدَعَا جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ غُلَامًا لَهُ حَبَشِيًّا يُقَالُ لَهُ وَحْشِيٌّ، يَقْذِفُ بِحَرْبَةٍ لَهُ قَذْفَ الْحَبَشَةِ قَلَّمَا يُخْطِئُ بِهَا، فَقَالَ لَهُ: اخْرُجْ مَعَ النَّاسِ فَإِنْ أَنْتَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي طُعَيْمَةَ بْنِ عَدِيٍّ فَأَنْتَ عَتِيقٌ. فَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ بِحَدِّهَا وَحَدِيدِهَا وَأَحَابِيشِهَا وَمَنْ تَابَعَهَا، وَخَرَجُوا مَعَهُمْ بِالظَّعْنِ الْتِمَاسَ الْحَفِيظَةِ وَأَنْ لَا يَفِرُّوا. وَخَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ، وَهُوَ قَائِدُ النَّاسِ، بِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَخَرَجَ عِكْرِمَةُ بِأُمِّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، حَتَّى نَزَلُوا بِعَيْنَيْنِ بِجَبَلِ أُحُدٍ بِبَطْنِ السَّبْخَةِ مِنْ قَنَاةٍ عَلَى شَفِيرِ الْوَادِي مُقَابِلَ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ وَتَدَعُوهُمْ حَيْثُ نَزَلُوا، فَإِنْ أَقَامُوا أقاموا بشر مقام، وإن هم دَخَلُوا عَلَيْنَا قَاتَلْنَاهُمْ فِيهَا ". وَكَانَ يَكْرَهُ الْخُرُوجَ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ رِجَالٌ مِمَّنْ فَاتَهُ يَوْمَ بَدْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْرُجْ بِنَا إِلَيْهِمْ لَا يَرَوْنَ أَنَّا جَبُنَّا عَنْهُمْ. فَلَمْ يَزَالُوا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى دَخَلَ فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ فَرِغَ النَّاسُ مِنَ الصَّلَاةِ. فَذَكَرَ خُرُوجَهُ وَانْخِزَالَ ابْنِ أُبَيٍّ بِثُلُثِ النَّاسِ، فَاتَّبَعَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ وَالِدُ جَابِرٍ، يَقُولُ: أُذَكِّرُكُمُ اللَّهَ أَنْ تَخْذِلُوا قَوْمَكُمْ وَنَبِيَّكُمْ. قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تُقَاتِلُونَ لَمَا أَسْلَمْنَاكُمْ، وَلَكِنَّا لَا نَرَى أَنَّهُ يَكُونَ قِتَالٌ. وقالت الأنصار: يا رسول الله، أَلَا نَسْتَعِينُ بِحُلَفَائِنَا مِنْ يَهُودَ؟ قَالَ: لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِمْ. وَمَضَى حَتَّى نَزَلَ الشِّعْبَ مِنْ أُحُدٍ فِي عُدْوَةِ الْوَادِي إِلَى الْجَبَلِ، فَجَعَلَ ظَهْرَهُ وَعَسْكَرَهُ إِلَى أُحُدٍ، وَقَالَ: لَا يقاتلن أحد حتى نأمره بِالْقِتَالِ. وَتَعَبَّأَ لِلْقِتَالِ وَهُوَ فِي سَبْعِمِائَةٍ، وَأَمَّرَ عَلَى الرُّمَاةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ وَهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا، فَقَالَ: انْضَحُوا عَنَّا الْخَيْلَ بِالنَّبْلِ، لَا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا، إِنْ كَانَتْ لَنَا أو علينا، فاثبت مكانك لا نؤتين مَنْ قِبَلِكَ وَظَاهِرْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَدَفَعَ اللِّوَاءَ إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ. وَتَعَبَّأَتْ قُرَيْشٌ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلاف معهم مِائَتَا فَرَسٍ قَدْ جَنَّبُوهَا فَجَعَلُوا عَلَى الْمَيْمَنَةِ خَالِدًا، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عِكْرِمَةَ.(1/106)
وَقَالَ سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أحد مِرْطًا أَسْوَدَ كَانَ لِعَائِشَةَ، وَرَايَةُ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا الْعُقَابُ، وَعَلَى مَيْمَنَتِهِ عَلِيٌّ، وَعَلَى مَيْسَرَتِهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ كَانَ عَلَى الرِّجَالِ، وَيُقَالُ الْمِقْدَادُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَكَانَ حَمْزَةُ عَلَى الْقَلْبِ، وَاللِّوَاءُ مَعَ مُصْعَبٍ بن عمير، فَقُتِلَ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عليا: قال: ويقال: كانت له ثَلَاثَةَ أَلْوِيَةٍ، لِوَاءً إِلَى مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ لِلْمُهَاجِرِينَ، وَلِوَاءً إِلَى عَلِيٍّ، وَلِوَاءً إِلَى الْمُنْذِرِ.
وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُ مِنِّي هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَبَسَطُوا أَيْدِيَهُمْ كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ يَقُولُ: أَنَا، أَنَا. فَقَالَ مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ فَأَحْجَمَ الْقَوْمُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو دجانة سماك: أنا آخذه بحقه. قال: فأخذه ففلق به هام الْمُشْرِكِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَتَّى قَامَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، أَخُو بَنِي سَاعِدَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: أَنْ تَضْرِبَ بِهِ فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِي. قَالَ: فَأَنَا آخِذُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهُ إياه، وكان رَجُلًا شُجَاعًا يَخْتَالُ عِنْدَ الْحَرْبِ، وَكَانَ إِذَا قَاتَلَ عَلَّمَ بِعِصَابَةٍ لَهُ حَمْرَاءَ فَاعْتَصَبَ بِهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ جَعَلَ يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. فَبَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ حِينَ رَآهُ يَتَبَخْتَرُ: " إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ ".
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ الْكِلَابِيُّ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ الله بن الوازع، قال: حَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ قَالَ: عَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيْفًا يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: " مَنْ يَأْخُذُهُ بِحَقِّهِ؟ " فَقُمْتُ فَقُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْرَضَ عَنِّي، ثُمَّ قَالَ: " مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ " فَقَامَ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ فَقَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَا حَقُّهُ؟ قَالَ: أَنْ لَا تَقْتُلْ بِهِ مُسْلِمًا وَلَا تَفِرَّ بِهِ عَنْ كَافِرٍ. قَالَ: فَدَفَعَهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ القتال أعلم بعصابة، فقلت: لأنظرن إليه كَيْفَ يَصْنَعُ. قَالَ: فَجَعَلَ لَا يَرْتَفِعُ لَهُ شيء إلا(1/107)
هَتَكَهُ وَأَفْرَاهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى نِسْوَةٍ فِي سَفْحِ جَبَلٍ مَعَهُنَّ دُفُوفٌ لَهُنَّ، فِيهُنَّ امْرَأَةٌ وَهِيَ تَقُولُ:
نَحْنُ بَنَاتُ طَارِقْ ... نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ.
إِنْ تُقْبِلُوا نُعَانِقْ
أَوْ تُدْبِرُوا نُفَارِقْ.
فراق غير وامق.
قال: فأهوى بالسيف إِلَى امْرَأَةٍ لِيَضْرِبَهَا، ثُمَّ كَفَّ عَنْهَا. فَلَمَّا انكشف القتال قلت له: كل عملك قد رَأَيْتُ مَا خَلا رَفْعَكَ السَّيْفِ عَلَى الْمَرْأَةِ ثُمَّ لَمْ تَضْرِبْهَا. قَالَ: أَكْرَمْتُ سَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ أَقْتُلَ بِهِ امْرَأَةً.
وَرَوَى جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، مَوْلَى عُمَرَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين رَأَى أَبَا دُجَانَةَ يَتَبَخْتَرُ: " إِنَّهَا لَمِشْيَةٌ يَبْغَضُهَا اللَّهُ إِلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْطِنِ ".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ وَغَيْرِهِ: إِنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَدَعَا إِلَى الْبِرَازِ، فَأَحْجَمَ النَّاسُ عَنْهُ حَتَّى دَعَا ثَلَاثًا، وَهُوَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ، فَقَامَ إِلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَوَثَبَ حَتَّى اسْتَوَى مَعَهُ عَلَى بَعِيرُهُ، ثُمَّ عَانَقَهُ فَاقْتَتَلَا فَوْقَ الْبَعِيرِ جَمِيعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الَّذِي يَلِي حَضِيضَ الْأَرْضِ مَقْتُولٌ ". فَوَقَعَ الْمُشْرِكِ وَوَقَعَ عَلَيْهِ الزُّبَيْرُ فَذَبَحَهُ. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَّبَ الزُّبَيْرَ فَأَجْلَسَهُ عَلَى فَخْذِهِ وَقَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَالزُّبَيْرُ حَوَارِيَّ ".
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاقْتَتَلَ النَّاسُ حَتَّى حَمِيَتِ الْحَرْبُ، وَقَاتَلَ أَبُو دُجَانَةَ حَتَّى أَمْعَنَ فِي النَّاسِ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَآخَرُونَ.
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: حدثنا أبو إسحاق، قال: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدِّثُ(1/108)
قَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الرُّمَاةِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانُوا خَمْسِينَ، عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُبَيْرٍ، وَقَالَ: " إِذَا رَأَيْتُمُونَا تَخَطَّفَنَا الطَّيْرُ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا هَزَمْنَا الْقَوْمَ وَأَوْطَأْنَاهُمْ فَلَا تَبْرَحُوا حَتَّى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ "، قَالَ: فَهَزَمَهُمْ. فَأَنَا وَاللَّهِ رَأَيْتُ النِّسَاءَ يَشْتَدِدْنَ عَلَى الْجَبَلِ قَدْ بَدَتْ خَلَاخِيلُهُنَّ وَسُوقُهُنَّ رَافِعَاتٍ ثِيَابَهُنَّ. فَقَالَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْغَنِيمَةَ، أَيْ قَوْمَ، الْغَنِيمَةَ، ظَهَرَ أَصْحَابُكُمْ فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَهُمْ: أَنَسِيتُمْ مَا قَالَ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالُوا: لَنَأْتِينَّ النَّاسَ فَلَنُصِيبَنَّ مِنَ الْغَنِيمَةِ: فَأَتَوْهُمْ فَصُرِفَتْ وُجُوهُهُمْ فَأَقْبَلُوا منهزمين. فذلك إذ يَدْعُوهُمُ الرَّسُولُ فِي أُخْرَاهُمْ. فَلَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا. فَأَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ.
فَقَالَ أبو سفيان: أَفِي الْقَوْمِ مُحَمَّدٌ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجِيبُوهُ. ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ، أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ؟ ثُمَّ قَالَ: أَفِي الْقَوْمِ ابْنُ الْخَطَّابِ؟ ثَلَاثًا. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: أَمَّا هَؤُلَاءِ فَقَدْ قُتِلُوا. فَمَا مَلَكَ عُمَرُ نَفْسَهُ أَنْ قَالَ: كَذَبْتَ يَا عَدُوَّ اللَّهِ، إِنَّ الَّذِينَ عَدَدْتَ لَأَحْيَاءٌ كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك. فَقَالَ: يَوْمٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ وَالْحَرْبُ سِجَالٌ، إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ مُثْلَةً لَمْ أَمُرَّ بِهَا وَلَمْ تَسُؤْنِي. ثُمَّ أَخَذَ يَرْتَجِزُ: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا تُجِيبُوهُ؟ " قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ ".
ثُمَّ قَالَ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَلَا تُجِيبُوهُ؟ " قَالُوا: مَا نَقُولُ؟ قَالَ: " قُولُوا: اللَّهُ مَوْلَانَا وَلَا مَوْلَى لَكُمْ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ عَمْرِو بْنِ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ غَشِيَهُ القوم: " من رجل يشري لنا نَفْسَهُ؟ " فَقَامَ زِيَادُ بْنُ السَّكَنِ فِي خَمْسَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ؛ وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: هُوَ عُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ(1/109)
السَّكَنِ، فَقَاتَلُوا دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، رَجُلٌ ثُمَّ رَجُلٌ يُقْتَلُونَ دُونَهُ، حَتَّى كَانَ آخِرُهُمْ زِيَادًا أَوْ عُمَارَةَ، فَقَاتَلَ حَتَّى أَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ. ثُمَّ فَاءَتْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِئَةٌ فَأَجْهَضُوهُمْ عَنْهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَدْنُوهُ مِنِّي ". فَأَدْنُوهُ مِنْهُ، فَوَسَّدَهُ قَدَمَهُ، فَمَاتَ وَخَدُّهُ عَلَى قَدَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَتَرَّسَ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو دُجَانَةَ بِنَفْسِهِ، يَقَعُ النَّبْلُ فِي ظَهْرِهِ، وَهُوَ مُنْحَنٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَثُرَتْ فِيهِ النَّبْلُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، وَغَيْرِهِ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْرَدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُرَيْشٍ، فَلَمَّا رَهَقُوهُ قَالَ: " مَنْ يَرُدُّهُمْ عَنَّا وَلَهُ الْجَنَّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ؟ " فَتَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَاتَلَ حتى قتل؛ وتقدم آخر فقاتل حَتَّى قُتِلَ. فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ السَّبْعَةُ، فَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ: مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: لَمْ يَبْقَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فِي بَعْضِ تِلْكَ الْأَيَّامِ الَّتِي قَاتَلَ فِيهِنَّ غَيْرُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ وَسَعْدٌ؛ عَنْ حَدِيثِهِمَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: رَأَيْتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ وَقَى بِهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يَعْنِي يَوْمَ أُحُدٍ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مَوْلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، فَبَقِيَ مَعَهُ أحد عشر رجلا من الأنصار وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَهُوَ يَصْعَدُ فِي الْجَبَلِ، فَلَحِقَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. فَقَالَ أَلَا أَحَدٌ لِهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: كَمَا أَنْتَ يَا طَلْحَةُ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: فَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَاتَلَ عَنْهُ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ، ثُمَّ قُتِلَ الْأَنْصَارِيُّ فَلَحِقُوهُ فَقَالَ: أَلَا أَحَدٌ لِهَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ طَلْحَةُ مِثْلَ قَوْلِهِ،(1/110)
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ قَوْلِهِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَذِنَ لَهُ فَقَاتَلَ وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَصْحَابُهُ يَصْعَدُونَ، ثُمَّ قُتِلَ فَلَحِقُوهُ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ مِثْلَ قَوْلِهِ وَيَقُولُ طَلْحَةُ: أَنَا فَيَحْبِسُهُ. وَيَسْتَأْذِنُهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَيَأْذَنُ لَهُ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا طَلْحَةُ، فَغَشَوْهُمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ لِهَؤُلَاءِ؟ " فَقَالَ طَلْحَةُ: أَنَا. فَقَاتَلَ مِثْلَ قِتَالِ جَمِيعِ مَنْ كان قبله وأصيبت أَنَامِلُهُ، فَقَالَ حَسِّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لو قلت: باسم اللَّهِ أَوْ ذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ لَرَفَعَتْكَ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حَتَّى تَلِجَ بِكَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ ". ثُمَّ صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَصْحَابِهِ وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ: عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ النَّاسُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُوبُ عَنْهُ بِحِجْفَةٍ مَعَهُ. وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلًا رَامِيًا شَدِيدَ النَّزْعِ، كَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً. وَكَانَ الرَّجُلُ يَمُرُّ بِالْجُعْبَةِ فِيهَا النَّبْلُ فَيَنْثُرُهَا لِأَبِي طَلْحَةَ. وَيُشْرِفُ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْظُرُ إِلَى الْقَوْمِ فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، لَا تشرف يصيبك سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ، نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ.
وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ، وَأُمَّ سُلَيْمٍ وَإِنَّهُمَا مُشَمِّرَتَانِ أَرَى خَدَمَ سُوقِهِمَا، تَنْقِلَانِ الْقِرَبَ عَلَى مُتُونِهِمَا ثُمَّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ القوم.
ولقد وقع السيف من يد أبي طلحة من النعاس إما مرتين أو ثلاثة. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ. وَقَاتَلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ دُونَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى(1/111)
قُتِلَ، قَتَلَهُ ابْنُ قَمِّيئَةَ اللَّيْثِيُّ، وَهُوَ يَظُنُّهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فرجع إِلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: قَتَلْتُ مُحَمَّدًا.
وَلَمَّا قُتِلَ مُصْعَبٌ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللِّوَاءَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَرِجَالًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: وَاسْتَجْلَبَتْ قريش من شاؤوا مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَسَارَ أَبُو سُفْيَانَ فِي جَمْعِ قُرَيْشٍ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ، وَفِيهِ: فَأَصَابُوا وَجْهَهُ، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَصَمُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَخَرَقُوا شَفَتَهُ. يَزْعُمُونَ أَنَّ الَّذِي رَمَاهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.
وعنده - يعني عند ابن عقبة - الْمَنَامُ، وَفِيهِ: فَأُوِّلَتِ الدِّرْعُ الْحَصِينَةُ الْمَدِينَةَ، فَامْكُثُوا وَاجْعَلُوا الذَّرَارِي فِي الْآطَامِ، فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِي الْأَزِقَّةِ قَاتَلْنَاهُمْ وَرَمَوْا مِنْ فَوْقِ الْبُيُوتِ. وكانوا قد سكوا أزقة المدينة بالبنيان حَتَّى كَانَتْ كَالْحِصْنِ. فَأَبَى كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا الْخُرُوجَ، وَعَامَّتُهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا. قَالَ: وَلَيْسَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسٌ.
وَكَانَ حَامِلُ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ طَلْحَةُ بْنُ عُثْمَانَ، أَخُو شَيْبَةَ الْعَبْدَرِيِّ، وَحَامِلُ لِوَاءِ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، فَقَالَ: أَنَا عَاصِمٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِمَا مَعِي، فَقَالَ لَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُثْمَانَ: هَلْ لَكَ في المبارزة؟ فقال: نَعَمْ فَبَدَرَهُ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَضَرَبَ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى وَقَعَ السَّيْفُ فِي لِحْيَتِهِ.
فَكَانَ قتل صاحب المشركين تصديقا لرؤيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أراني أَنِّي مُرْدِفٌ كَبْشًا ".
فَلَمَّا صُرِعَ انْتَشَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وصاروا كتائب متفرقة، فجاسوا الْعَدُوَّ ضَرْبًا حَتَّى أَجْهَضُوهُمْ عَنْ أَثْقَالِهِمْ. وَحَمَلَتْ خَيْلُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ تَنْضَحُ بِالنَّبْلِ فَتَرْجِعُ مَفْلُولَةً. وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ فَنَهَكُوهُمْ قَتْلًا، فَلَمَّا أَبْصَرَ الرُّمَاةُ الْخَمْسُونَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَتَحَ، قَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَجْلِسُ ها هنا لِشَيْءٍ. فَتَرَكُوا مَنَازِلَهُمُ الَّتِي عَهِدَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يَتْرُكُوهَا، وَتَنَازَعُوا وَفَشِلُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ، فَأَوْجَفَتِ(1/112)
الْخَيْلُ فِيهِمْ قَتْلًا، وَكَانَ عَامَّتُهُمْ فِي الْعَسْكَرِ. فَلَمَّا أَبْصَرَ ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ اجْتَمَعُوا، وَصَرَخَ صَارِخٌ: أُخْرَاكُمْ أُخْرَاكُمْ، قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَسَقَطَ فِي أَيْدِيهِمْ، فَقُتِلَ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ، وَأَكْرَمَهُمُ اللَّهُ بِالشَّهَادَةِ. وَأُصْعِدَ النَّاسُ فِي الشِّعْبِ لَا يَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ، وَثَبَّتَ اللَّهُ نَبِيَّهُ، وَأَقْبَلَ يَدْعُو أَصْحَابَهُ مُصَعِّدًا فِي الشِّعْبِ، وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى طَرِيقِهِ، وَمَعَهُ عِصَابَةٌ مِنْهُمْ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ وَالزُّبَيْرُ، وَجَعَلُوا يَسْتُرُونَهُ حَتَّى قُتِلُوا إِلَّا سِتَّةً أَوْ سَبْعَةً.
وَيُقَالُ: كَانَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ عَيْنَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حِينَ فُقِدَ، مِنْ وَرَاءِ الْمِغْفَرِ. فَنَادَى بِصَوْتِهِ الْأَعْلَى: اللَّهُ أَكْبَرُ، هَذَا رَسُولُ اللَّهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ - زَعَمُوا - رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِ اسْكُتْ. وَجُرِحَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْهِهِ وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ.
وَكَانَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ قَالَ حِينَ افْتُدِيَ: وَاللِّه إِنَّ عِنْدِي لَفَرَسًا أَعْلِفُهَا كُلَّ يَوْمٍ فَرْقَ ذُرَةٍ، وَلَأَقْتُلَنَّ عَلَيْهَا مُحَمَّدًا. فَبَلَغَ قَوْلُهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " بَلْ أَنَا أَقْتُلُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَأَقْبَلَ أُبَيُّ مُقَنَّعًا فِي الْحَدِيدِ عَلَى فَرَسِهِ تِلْكَ يَقُولُ: لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا مُحَمَّدٌ. فَحَمَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ مُوسَى: قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: فَاعْتَرَضَ لَهُ رِجَالٌ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَلُّوا طَرِيقَهُ، وَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ يَقِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُتِلَ مُصْعَبٌ. وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُرْقُوَةَ أُبَيٍّ مِنْ فُرْجَةٍ بَيْنَ سَابِغَةِ الْبَيْضَةِ وَالدِّرْع، فَطَعَنَهُ فِيهَا بِحَرْبَتِهِ، فَوَقَعَ أُبَيٌّ عَنْ فَرَسِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ طَعْنَتِهِ دَمٌ.
قَالَ سَعِيدٌ: فَكُسِرَ ضِلْعٌ مِنْ أَضْلاعِهِ، فَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ". فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ وَهُوَ يَخُورُ خُوَارَ الثَّوْرِ فَقَالُوا: مَا جَزَعُكَ؟ إِنَّمَا هُوَ خَدْشٌ. فَذَكَرَ لَهُمْ قَوْلَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَلْ أَنَا أَقْتُلُ أُبَيًّا ". ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ كَانَ هَذَا الَّذِي بِي بِأَهْلِ الْمَجَازِ لَمَاتُوا أَجْمَعُونَ. فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ مَكَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ الزُّبَيْرَ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنْظُرُ إِلَى خَدَمِ سُوقِ هِنْدٍ(1/113)
وصواحباتها مشمرات هوارب، ما دون أخذهن قليل ولا كثير، إذ مَالَتِ الرُّمَاةُ إِلَى الْعَسْكَرِ حِينَ كَشَفْنَا الْقَوْمَ عَنْهُ يُرِيدُونَ النَّهْبَ، وَخَلَّوْا ظُهُورَنَا لِلْخَيْلِ، فَأَتَيْنَا مِنْ أَدْبَارِنَا، وَصَرَخَ صَارِخٌ: أَلَا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ، فَانْكَفَأْنَا وَانْكَفَأَ عَلَيْنَا الْقَوْمُ بَعْدَ أَنْ أَصَبْنَا أَصْحَابَ لِوَائِهِمْ، حَتَّى مَا يَدْنُو مِنْهُ أَحَدٌ مِنَ الْقَوْمِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يَزَلْ لِوَاؤُهُمْ صَرِيعًا حَتَّى أَخَذَتْهُ عَمْرَةُ بِنْتُ عَلْقَمَةَ الْحَارِثِيَّةُ، فَرَفَعَتْهُ لِقُرَيْشٍ فَلَاذُوا بِهِ.
وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ " أَيْ تَقْتُلُونَهُمْ، " حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ " يَعْنِي إِقْبَالُ مَنْ أَقْبَلَ مِنْهُمْ عَلَى الْغَنِيمَةِ، " والرسول يدعوكم في أخراكم "، " من بعد ما أراكم ما تحبون " يَعْنِي النَّصْرَ. ثُمَّ أُدِيلَ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَيْهِمْ بِمَعْصِيَتِهِمُ الرَّسُولَ حَتَّى حَصَبَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَرَوَى السُّدِّيُّ، عَنْ عَبْدِ خَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَا كُنْتُ أَرَى أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ الدُّنْيَا حَتَّى نَزَلَتْ فِينَا: " مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ".
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ: هُزِمَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ هَزِيمَةً بَيِّنَةً، فَصَرَخَ إِبْلِيسُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ أُخْرَاكُمْ، فَرَجَعَتْ أولاهم وَاجْتَلَدُوا هُمْ وَأُخْرَاهُمْ. فَنَظَرَ حُذَيْفَةُ فَإِذَا هُوَ بِأَبِيهِ الْيَمَانِ، فَقَالَ: أَبِي، أَبِي. فَوَاللَّهِ مَا انْحَجَزُوا عَنْهُ حَتَّى قَتَلُوهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: غَفَرَ الله لكم. قال عروة: فوالله مازالت فِي حُذَيْفَةَ بَقِيَّةُ خَيْرٍ حَتَّى لَقِيَ اللَّهَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: كَانَ حَمْزَةُ يُقَاتِلُ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِسَيْفَيْنِ، وَيَقُولُ: أَنَا أَسَدُ اللَّهِ.
رَوَاهُ يُونُسُ بن بكير، عن ابن عون، عن عمير مُرْسَلًا، وَزَادَ: فَعَثُرَ(1/114)
فَصُرِعَ مُسْتَلْقِيًا وَانْكَشَفَتِ الدِّرْعُ عَنْ بَطْنِهِ، فَزَرَقَهُ الحبشي العبد فَبَقَرَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ الْهَاشِمِيِّ، عَنْ سليمان بن يسار، عن جعفر بن عمرو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ إِلَى الشَّامِ. فلما أن قدمنا حمص قال لي عُبَيْدُ اللَّهِ: هَلْ لَكَ فِي وَحْشِيٍّ نَسْأَلَهُ عَنْ قَتْلِ حَمْزَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. وَكَانَ وَحْشِيٌّ يَسْكُنُ حِمْصَ، فَسَأَلْنَا عَنْهُ، فَقِيلَ لَنَا: هُوَ ذَاكَ فِي ظِلِّ قَصْرِهِ كَأَنَّهُ حَمِيتٌ. فَجِئْنَا حَتَّى وَقَفْنَا عَلَيْهِ يَسِيرًا فَسَلَّمْنَا، فَرَدَّ عَلَيْنَا السلام. وكان عبيد الله معتجرا بِعِمَامَتِهِ، مَا يَرَى وَحْشِيٌّ إِلَّا عَيْنَيْهِ وَرِجْلَيْهِ. فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: يَا وَحْشِيُّ، تَعْرِفُنِي؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ، إِلَّا أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ عَدِيَّ بْنَ الْخِيَارِ تَزَوَّجَ امْرَأَةً يُقَالُ لها أم فثال بِنْتُ أَبِي الْعَيْصِ، فَوَلَدَتْ غُلَامًا بِمَكَّةَ فَاسْتَرْضَعَتْهُ، فَحَمَلْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ مَعَ أُمِّهِ فَنَاوَلْتُهَا إِيَّاهُ، لَكَأَنِّي نَظَرْتُ إِلَى قَدَمَيْكَ. قَالَ: فَكَشَفَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: أَلَا تُخْبِرُنَا بِقَتْلِ حَمْزَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. إِنَّ حَمْزَةَ قَتَلَ طعيمة بن عدي ابن الْخِيَارِ بِبَدْرٍ. فَقَالَ لِي مَوْلاي جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: إِنْ قَتَلْتَ حَمْزَةَ بِعَمِّي فَأَنْتَ حُرٌّ. فلما خرج الناس عن عينين - وعينون جَبَلٌ تَحْتَ أُحُدٍ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُحُدٍ وَادٍ - خَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ إِلَى الْقِتَالِ. فَلَمَّا أَنِ اصْطَفُّوا لِلْقِتَالِ خَرَجَ سِبَاعٌ: فَقَالَ: هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ؟ فَخَرَجَ إِلَيْهِ حَمْزَةُ، فَقَالَ: يَا سِبَاعُ يا ابن مُقَطِّعَةِ الْبُظُورِ، تُحَادُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ ثُمَّ شَدَّ عَلَيْهِ، فَكَانَ كَأَمْسِ الذَّاهِبِ. قَالَ فَكَمَنْتُ لِحَمْزَةَ تَحْتَ صَخْرَةٍ حَتَّى مَرَّ عَلَيَّ، فَرَمَيْتُهُ بِحَرْبَتِي فَأَضَعُهَا فِي ثُنَّتِهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ وَرِكِهِ، فَكَانَ ذَاكَ الْعَهْدُ بِهِ. فَلَمَّا رَجَعَ النَّاسُ رَجَعْتُ مَعَهُمْ، فَأَقَمْتُ بِمَكَّةَ حَتَّى فَشَا فِيهَا الْإِسْلَامُ، ثُمَّ خَرَجْتُ إِلَى الطَّائِفِ. قَالَ: وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رسلا، وقيل: إنه لا يهيج الرُّسُلُ، فَخَرَجْتُ مَعَهُمْ. فَلَمَّا رَآنِي قَالَ: أَنْتَ وحشي؟(1/115)
قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: الَّذِي قَتَلَ حَمْزَةَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَدْ كَانَ الْأَمْرُ الَّذِي بَلَغَكَ. قَالَ: مَا تَسْتَطِيعُ أَنْ تُغَيِّبَ عَنِّي وَجْهَكَ؟ قَالَ: فَرَجَعْتُ. فَلَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَخَرَجَ مُسَيْلَمَةُ، قُلْتُ: لَأَخْرُجَنَّ إِلَيْهِ لَعَلِّي أَقْتُلُهُ فَأُكَافِئُ بِهِ حَمْزَةَ. فَخَرَجْتُ مَعَ النَّاسِ وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ مَا كَانَ، فَإِذَا رَجُلٌ قَائِمٌ فِي ثُلْمَةِ جِدَارٍ كَأَنَّهُ جَمَلٌ أَوْرَقُ ثَائِرٌ رَأْسُهُ. قَالَ: فَأَرْمِيهِ بِحَرْبَتِي فَأَضَعَهَا بَيْنَ ثَدْيَيْهِ حَتَّى خَرَجَتْ مِنْ بَيْنِ كَتِفَيْهِ، وَوَثَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى هَامَتِهِ.
قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ: فَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَتْ جَارِيَةٌ عَلَى ظَهْرِ بيت: واأمير المؤمنين، قتله العبد الأسود. أخرجه البخاري.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: ذَكَرَ الزُّهْرِيُّ قَالَ: كَانَ أَوَّلَ مَنْ عَرَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْهَزِيمَةِ وَقَوْلُ النَّاسِ: قَتَلَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، كعب بن مَالِكٍ. قَالَ: عَرَفْتُ عَيْنَيْهِ تُزْهِرَانِ مِنْ تَحْتِ الْمِغْفَرِ، فَنَادَيْتُ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَبشِروا؛ هذا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَأَشَارَ إِلَيِّ أَنْ أَنْصِتْ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ. فَلَمَّا أَسْنَدَ فِي الشِّعْبِ أَدْرَكَهُ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ وَهُوَ يَقْولُ: يَا مُحَمَّدُ، لَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَوْتَ. . . الْحَدِيثَ.
وَقَالَ هَاشِمُ بْنُ هَاشِمٍ الزُّهْرِيُّ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ، سَمِعَ سَعْدًا يَقُولُ: نَثَلَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كِنَانَتَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَالَ: ارْمِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ ينهض إليها، يعني إلى صخرة في الْجَبَلِ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ فَنَهَضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى اسْتَوَى عَلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَوْجَبَ طَلْحَةُ ".(1/116)
وقال حميد وغيره، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: غَابَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ، عَمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ قِتَالِ بَدْرٍ، فقال: غبت عن أول قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشركين، لَئِنِ اللَّهَ أَشْهَدَنِي قِتَالًا لَيَرَيَنَّ اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلَاءِ - يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ - وَأَعْتَذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صنع هؤلاء - يعني المسلمين - من الهزيمة، فمشى بِسَيْفِهِ فَلَقِيَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَقَالَ: أَيْ سعد؛ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ دُونَ أُحُدٍ، وَاهًا لريح الجنة! فقال سعد: يا رسول الله فما استطعت أن أصنع كما صنع. قال أنس بن مالك: فوجدناه بَيْنَ الْقَتْلَى، بِهِ بِضْعٌ وَثَمَانُونَ جِرَاحَةً مِنْ ضربة بسيف وطعنة برمح ورمية بسهم، فما عرفناه، حتى عرفته أخته ببنانه. فكنا نتحدث أن هذه الآية " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عليه "، نزلت فيه وفي أصحابه. متفق عليه، لكن مسلم مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُقْيَشٍ كَانَ لَهُ رَبًّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَكَرِهَ أَنْ يُسْلِمَ حَتَّى يَأْخُذَهُ. فَجَاءَ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: أَيْنَ بَنُو عَمِّي؟ قَالُوا: بِأُحُدٍ. فَلَبِسَ لَأْمَتَهُ وَرَكِبَ فَرَسَهُ ثُمَّ تَوَجَّهَ قِبَلَهُمْ، فَلَمَّا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ قَالُوا: إِلَيْكَ عَنَّا. قَالَ: إِنِّي قَدْ آمَنْتُ. فَقَاتَلَ حَتَّى جُرِحَ، فَحُمِلَ جَرِيحًا، فَجَاءَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ لِأُخْتِهِ: سَلِيهِ، حَمِيَّةً لِقَوْمِكَ أَوْ غَضَبًا لِلَّهِ؟ قَالَ: بَلْ غَضَبًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. فَمَاتَ فَدَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَا صَلَّى صَلَاةً. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ حيَوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ الْمِصْرِيُّ: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ حُمَيْدُ بْنُ زِيَادٍ، أن يحيى ابن النَّضْرِ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: أَتَى عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يا رسول الله، أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى أُقْتَلَ، أَمْشِي بِرِجْلِي هَذِهِ صَحِيحَةً فِي الْجَنَّةِ؟ وَكَانَ أَعْرَجَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نَعَمْ.(1/117)
فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ هُوَ وَابْنُ أَخِيهِ وَمَوْلًى لَهُمْ، فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " كَأَنِّي أَرَاكَ تَمْشِي بِرِجْلِكَ هَذِهِ صحيحة في الجنة ". وأمر بهما وبمولاهما فجعلوا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشٍ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ أَلْقَى الْعَدُوَّ غَدًا فَيَقْتُلُونِي ثُمَّ يَبْقُرُوا بَطْنِي وَيَجْدَعُوا أَنْفِي وَأُذُنِي، ثُمَّ تَسْأَلُنِي بِمَ ذَاكَ، فَأَقُولُ: فِيكَ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَبَرَّ اللَّهُ آخِرَ قَسَمَهُ كَمَا أَبَرَّ أَوَّلَهُ.
وَرَوَى الزُّبَيْرُ بن بكار في " الموفقيات "، أن عبد الله بن جحش، انقطع سيفه، قال: فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عُرْجُونًا فَصَارَ فِي يَدِهِ سَيْفًا. فَكَانَ يُسمَّى الْعُرْجُونُ، وَلَمْ يَزَلْ يُتَنَاوَلُ حَتَّى بِيعَ مِنْ بُغَا التُّرْكِيِّ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ مِنَ السَّابِقِينَ، أَسْلَمَ قَبْلَ دَارِ الْأَرْقَمِ، وَهَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ هُوَ وَإِخْوَتُهُ وَشَهِدَ بَدْرًا.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عن سعيد بن عبد الرحمن الجحشي: حدثنا أَشْيَاخُنَا أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَحْشٍ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ ذَهَبَ سَيْفُهُ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَسِيبًا مَنْ نَخْلٍ، فَرَجَعَ فِي يَدِ عَبْدِ اللَّهِ سَيْفًا. مُرْسَلٌ.
عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ لِطَلَبِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَقَالَ لِي: " إِنْ رَأَيْتَهُ فَاقِرَّهُ مِنِّي السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: يَقْولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ كَيْفَ تَجِدُكَ؟ " فَجَعَلْتُ أَطُوفُ بَيْنَ الْقَتْلَى، فَأَصَبْتُهُ وَهُوَ فِي آخِرِ رَمَقٍ وَبِهِ سَبْعُونَ ضَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: خَبِّرْنِي كَيْفَ تَجِدُكَ؟ قَالَ: عَلَى رَسُولِ اللَّهِ السَّلَامُ وَعَلَيْكَ، قُلْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجِدُ رِيحَ الْجَنَّةِ، وَقُلْ لِقَوْمِيَ الْأَنْصَارِ: لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ إِنْ خَلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفيكم شُفْرٌ يَطْرِفُ. قَالَ: وَفَاضَتْ نَفْسُهُ.(1/118)
أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ، ثُمَّ سَاقَهُ فِيمَا بَعْدُ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَازِنِيِّ، مُنْقَطِعًا، فَهُوَ شَاهِدٌ لِمَا رَوَاهُ خَارِجَةُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ انْكَفَأَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى أَثْقَالِهِمْ، لَا يَدْرِي الْمُسْلِمُونَ مَا يُرِيدُونَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ رَأَيْتُمُوهُمْ رَكِبُوا وَجَعَلُوا الْأَثْقَالَ تَتْبَعُ آثَارَ الْخَيْلِ، فَهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يَدْنُوا مِنَ الْبُيُوتِ وَالْآطَامِ الَّتِي فِيهَا الذَّرَارِي، وَأُقْسِمُ بِاللَّه لَئِنْ فَعَلُوا لَأُوَاقِعَنَّهُمْ فِي جَوْفِهَا، وَإِنْ كَانُوا رَكِبُوا الْأَثْقَالَ وَجَنَّبُوا الْخَيْلَ فَهُمْ يُرِيدُونَ الْفِرَارَ. فَلَمَّا أَدْبَرُوا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي آثَارِهِمْ. فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ: رَأَيْتُهُمْ سَائِرِينَ عَلَى أَثْقَالِهِمْ وَالْخَيْلُ مَجْنُوبَةٌ. قَالَ: فَطَابَتْ أَنْفُسُ الْقَوْمِ، وَانْتَشَرُوا يَبْتَغُونَ قَتْلَاهُمْ. فَلَمْ يجدوا قتيلا إلا وقد مَثَّلُوا بِهِ، إِلَّا حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ، وَكَانَ أَبُوهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَتُرِكَ لِأَجَلِهِ. وَزَعَمُوا أَنَّ أَبَاهُ وَقَفَ عَلَيْهِ قَتِيلًا فَدَفَعَ صَدْرَهُ برِجْلِهِ ثُمَّ قَالَ: ذَنْبَانِ أَصَبْتَهُمَا، قَدْ تَقَدَّمْتُ إِلَيْكَ فِي مَصْرَعِكَ هَذَا يَا دُبَيْسُ، وَلَعَمْرِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ لَوَاصِلًا لِلرَّحِم بَرًّا بِالْوَالِدِ.
وَوَجَدُوا حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَدْ بُقِرَ بطنه وحملت كبده، احتملها وحشي وهو قَتَلَهُ، فَذَهَبَ بكَبِدِه إِلَى هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ فِي نَذْرٍ نَذَرَتْهُ حِينَ قُتِلَ أَبَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ. فَدُفِنَ فِي نَمِرَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ، إِذَا رُفِعَتْ إِلَى رَأْسِهِ بَدَتْ قَدَمَاهُ، فَغَطُّوا قَدَمَيْهِ بِشَيْءٍ مِنَ الشَّجَرِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلَّا وَهُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يُدْمِي، لَوْنُهُ لَوْنُ الدم وريحه ريح المسك.
وقال: إن المشركين لَنْ يُصِيبُوا مِنَّا مِثْلَهَا. وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ نَادَاهُمْ حِينَ ارْتَحَلَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّ مَوْعِدَكُمُ الْمَوْسِمُ، مَوْسِمُ بَدْرٍ. وَهِيَ سُوقٌ كَانَتْ تَقُومُ بِبَدْرٍ كُلَّ عَامٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُولُوا لَهُ: نَعَمْ.(1/119)
قَالَ: وَدَخَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المدينة، وَإِذَا النَّوْحُ فِي الدُّورِ. قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالُوا: نِسَاءُ الْأَنْصَارِ يَبْكِينَ قَتْلَاهُمْ. وَأَقَبْلَتِ امْرأَةٌ تَحْمِلُ ابْنَهَا وَزَوْجَهَا عَلَى بَعِيرٍ، قَدْ رَبَطَتْهُمَا بحبل ثم ركبت بينهما، وحمل قتلى فَدُفِنُوا فِي مَقَابِرِ الْمَدِينَةِ، فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ: " وَارُوهُمْ حَيْثُ أُصِيبُوا ".
وَقَالَ لَمَّا سَمِعَ الْبُكَاءَ: لَكِنَّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ. وَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَسَمِعَ ذَلِكَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ وَابْنُ رَوَاحَةَ وَغَيْرُهُمَا، فَجَمَعُوا كُلَّ نَائِحَةٍ وَبَاكِيَةٍ بِالْمَدِينَةِ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا تَبْكِينَ قَتْلَى الْأَنْصَارِ حَتَّى تبكين عمّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْبُكَاءِ، قَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: فَأُخْبِرَ، فَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ وَقَالَ لَهُمْ خَيْرًا، وَقَالَ: مَا هَذَا أَرَدْتُ وَمَا أُحِبُّ الْبُكَاءَ، وَنَهَى عَنْهُ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ عبد الرحمن بن نافع الْأَنْصَارِيُّ قَالَ: انْتَهَى أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ إِلَى عُمَرَ، وَطَلْحَةَ، وَرِجَالٍ قَدْ أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ فَقَالَ: مَا يُجْلِسُكُمْ؟ فَقَالُوا: قُتِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِالْحَيَاةِ بَعْدَهُ؟ فَقُومُوا فَمُوتُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ -، ثم اسْتَقْبَلَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الْتَقَى هُوَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فَلَمَّا اسْتَعْلَاهُ حَنْظَلَةُ رَآهُ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ. فَضَرَبَ حنظلة بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ.
وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ صَاحِبَكُمْ لَتَغْسِلُهُ الْمَلَائِكَةُ "، يَعْنِي حَنْظَلَةَ، فَسَأَلُوا أَهْلَهُ مَا شَأْنُهُ؟ فَسُئِلَتْ صَاحِبَتُهُ قَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ حِينَ سَمِعَ الْهَيْعَةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِذَلِكَ غسلته الملائكة.
وقال البكائي، عن ابْنُ إِسْحَاقَ: وَخَلُصَ الْعَدُوُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فدُثَّ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى وَقَعَ لِشِقِّهِ فَأُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ،(1/120)
وَكُلِمَتْ شَفَتُهُ. وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ. فَحَدَّثَنِي حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كُسِرَتْ رَبَاعِيَةُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، فَجَعَلَ الدَّمُ يَسِيلُ عَلَى وَجْهِهِ وَهُوَ يَمْسَحُهُ وَيَقُولُ: كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْهَ نَبِيَّهُمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ؟ فَنَزَلَتْ: " لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ".
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: جُرِحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِّمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَى رَأْسِهِ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَغْسِلُ الدَّمَ، وَعَلِيٌّ يَسْكُبُ الْمَاءَ عَلَيْهِ بِالْمِجَنِّ. فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَزِيدُ الدَّمَ إِلَّا كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ أَحْرَقَتْهُ، حَتَّى إِذَا صَارَ رَمَادًا أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ، فَاسْتَمْسَكَ الدَّمُ. أَخْرَجَاهُ، وَرَوَاهُ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ أُصِيبَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَهُشِّمَتْ بَيْضَتُهُ. وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِرَسُولِ اللَّهِ؛ وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ؛ اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَلِلْبُخَارِيِّ مِثْلُهُ مِنْ حَدِيثِ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، لَكِنْ فِيهِ: دَمَّوْا وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ، بَدَلَ ذِكْرِ رَبَاعِيَتِهِ.
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ يَحْيَى بْنِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ: أَخْبَرَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ، عَنْ عائشة قَالَتْ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا ذُكِرَ يَوْمُ أُحُدٍ بَكَى ثُمَّ قَالَ: ذَاكَ يَوْمٌ كَانَ كُلُّهُ يَوْمَ طَلْحَةَ. ثُمَّ أَنْشَأَ يُحَدِّثُ قَالَ: كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ فَاءَ(1/121)
يَوْمَ أُحُدٍ، فَرَأَيْتُ رَجُلًا يُقَاتِلُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُونَهُ. وَأَرَاهُ قَالَ: يَحْمِيهِ، فَقُلْتُ: كُنْ طَلْحَةَ؛ حَيْثُ فَاتَنِي مَا فَاتَنِي، قُلْتُ: يَكُونُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي أحب إلي. وبيني وبين المشرق رجل لَا أَعْرِفُهُ، وَأَنَا أَقْرَبُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ، وَهُوَ يَخْطِفُ الْمَشْيَ خَطْفًا لَا أَخْطِفُهُ. فَإِذَا هُوَ أَبُو عُبَيْدَةَ. فَانْتَهَيْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ وَشُجَّ فِي وَجْهِهِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي وَجْهِهِ حَلَقَتَانِ مِنْ حَلْقِ الْمِغْفَرِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيْكُمَا صَاحِبُكُمَا؛ يُرِيدُ طَلْحَةَ وَقَدْ نَزَفَ. فَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِهِ، وَذَهَبْتُ لِأَنْزِعَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهِهِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بِحَقِّي لَمَا تَرَكْتَنِي. فَتَرَكْتُهُ. فَكَرِهَ أَنْ يَتَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ فَيُؤْذِي النَّبِيَّ، فَأَزَمَّ عَلَيْهِمَا بِفِيهِ، فَاسْتَخْرَجَ إِحْدَى الْحَلَقَتَيْنِ. وَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ مَعَ الْحَلَقَةِ. وَذَهَبْتُ لِأَصْنَعَ مَا صَنَعَ، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ بحقي لما تركتني. ففعل ما فعل فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى، فَوَقَعَتْ ثَنِيَّتُهُ الْأُخْرَى مَعَ الْحَلَقَةِ. فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ هَتْمًا، فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ أَتَيْنَا طَلْحَةَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْجِفَارِ، فَإِذَا بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ، مِنْ بَيْنِ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ وَضَرْبَةٍ، وَإِذَا قَدْ قُطِعَتْ إِصْبَعُهُ. فَأَصْلَحْنَا مِنْ شَأْنِهِ.
وَرَوَى الْوَاقِدِيُّ عَنِ ابْنِ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عن أَبِي الْحُوَيْرِثِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يَقُولُ: شَهِدْتُ أُحُدًا، فَنَظَرْتُ إِلَى النَّبْلِ يَأْتِي مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَطَهَا، كُلُّ ذَلِكَ يُصْرَفُ عَنْهُ. وَلَقَدْ رَأَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ الزُّهْرِيُّ يَقُولُ يَوْمَئِذٍ: دُلُّونِي عَلَى مُحَمَّدٍ، فَلَا نَجَوْتُ إِنْ نَجَا. وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جَنْبِهِ مَا مَعَهُ أَحَدٌ، ثُمَّ تَجَاوَزَهُ. فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ صَفْوَانُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُهُ، أَحْلِفُ بِاللَّهِ أَنَّهُ مِنَّا مَمْنُوعٌ، خَرَجْنَا أَرْبَعَةٌ فَتَعَاهَدْنَا وَتَعَاقَدْنَا عَلَى قَتْلِهِ، فَلَمْ نَخْلُصُ إِلَى ذَلِكَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: الثَّبْتُ عِنْدَنَا أَنَّ الَّذِي رَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَجْنَتَيْهِ: ابْنُ قَمِئَةَ، وَالَّذِي رَمَى شَفَتَيْهِ وَأَصَابَ رَبَاعِيَتَهُ: عُتْبَةُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ.(1/122)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: وَاللَّهِ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ أَحَدٍ قَطُّ مَا حَرَصْتُ عَلَى قَتْلِ عُتْبَةَ بْنِ أبي وقاص، وإن كان ما علمته لسيئ الْخُلُقِ مُبْغَضًا فِي قَوْمِهِ، وَلَقَدْ كَفَانِي مِنْهُ قول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى مَنْ دَمَّى وَجْهَ رسول الله ".
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَعَنْ عُثْمَانَ الْجَزَرِيِّ، عَنْ مِقْسَمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا عَلَى عُتْبَةَ حِينَ كَسَرَ رَبَاعِيَتَهُ: " اللَّهُمَّ لَا تُحِلْ عَلَيْهِ الْحَوْلَ حَتَّى يَمُوتَ كَافِرًا ". فَمَا حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ حَتَّى مَاتَ كافرا إلى النار. مرسل.
ابن وهب: أخبرنا عمرو بن الحارث، قال: حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ السَّائِبِ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ وَالِدَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ لَمَّا جُرِحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، مَصَّ جُرْحَهُ حَتَّى أَنْقَاهُ وَلَاحَ أَبْيَضَ، فَقِيلَ لَهُ: مُجَّهُ. فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أُمُجُّهُ أَبَدًا. ثُمَّ أَدْبَرَ فَقَاتَلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا ". فَاسْتُشْهِدَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
إِذَا اللَّهُ جَازَى مَعْشَرًا بِفِعَالِهِمْ ... وَنَصَرَهُمُ الرَّحْمَنُ رَبُّ الْمَشَارِقِ
فَأَخْزَاكَ رَبِّي يَا عُتَيْبُ بْنَ مَالِكٍ ... وَلَقَّاكَ قَبْلَ الْمَوْتِ إِحْدَى الصَّوَاعِقِ
بَسَطْتَ يَمِينًا لِلنَّبِيِّ تَعَمُّدًا ... فَأَدْمَيْتَ فَاهُ، قُطِّعْتَ بِالْبَوَارِقِ
فَهَلَّا ذَكَرْتَ اللَّهَ وَالْمَنْزِلَ الَّذِي ... تَصِيرُ إِلَيْهِ عِنْدَ إِحْدَى الْبَوَائِقِ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّ عُتْبَةَ كَسَرَ رَبَاعِيَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْيُمْنَى السُّفْلَى، وَجَرَحَ شَفَتَهُ السُّفْلَى. وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ شِهَابٍ شَجَّهُ فِي جَبْهَتِهِ. وَأَنَّ ابْنَ قَمِئَةَ جَرَحَ وَجْنَتَهُ، فَدَخَلَتْ حَلَقَتَانِ مِنْ حَلْقِ المغفر في(1/123)
وَجْنَتِهِ، وَوَقَعَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حُفْرَةٍ مِنَ الْحُفَرِ الَّتِي عَمِلَ أَبُو عَامِرٍ لِيَقَعَ فِيهَا الْمُسْلِمُونَ، فَأَخَذَ عَلِيٌّ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَرَفَعَهُ طَلْحَةُ حَتَّى اسْتَوَى قَائِمًا. وَمَصَّ مَالِكُ بْنُ سِنَانٍ؛ أبو أبي سعيد؛ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ ثُمَّ ازْدَرَدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَنْ مَسَّ دَمُهُ دَمِي لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ ". مُنْقَطِعٌ.
قَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى عَنْ قَوْسِهِ حَتَّى انْدَقَّتْ سِيَتُهَا، فَأَخَذَهَا قَتَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ، فَكَانَتْ عِنْدَهُ. وَأُصِيبَتْ يَوْمَئِذٍ عَيْنُ قَتَادَةَ، حَتَّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ. فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا بِيَدِهِ، وَكَانَتْ أحسن عينيه وأحدهما.
وقال الواقدي: حدثنا مُوسَى بْنُ يَعْقُوبَ الزَّمْعِيُّ، عَنْ عَمَّتِهِ، عَنْ أُمِّهَا، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: فَرُبَّمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمًا يَوْمَ أُحُدٍ يَرْمِي عَنْ قَوْسِهِ، وَيَرْمِي بِالْحَجَرِ، حَتَّى تَحَاجَزُوا، وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُوَ فِي عِصَابَةٍ صبروا معه.
هذان الحديثان ضعيفان، وفيهما أَنَّهُ رَمَى بِالْقَوْسِ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ نزيل واسط: حدثنا محمد بن شعيب، قال: سَمِعْتُ إِسْحَاقَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، يُحَدِّثُ عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ؛ وَكَانَ أَخَا أَبِي سَعِيدٍ لِأُمِّهِ، أَنَّ عَيْنَهُ ذَهَبَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَدَّهَا، فَاسْتَقَامَتْ.
وَقَالَ يَحْيَى الحماني: حدثنا عبد الرحمن بن الغسيل، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ أُصِيبَتْ عَيْنُهُ يَوْمَ بَدْرٍ، فَسَالَتْ حَدَقَتُهُ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَقْطَعُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا. فَدَعَا بِهِ فَغَمَزَ حَدَقَتَهُ بِرَاحَتِهِ. فَكَانَ لَا يَدْرِي أَيَّ عَيْنَيْهِ أُصِيبَتْ.(1/124)
كَذَا قَالَ ابْنُ الْغَسِيلِ: يَوْمُ بَدْرٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: إِنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ بْنَ اليمان، واسمه حسيل بن جبير حليف للأنصار، أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ، زَعَمُوا، فِي الْمَعْرَكَةِ لَا يَدْرُونَ مَنْ أَصَابَهُ. فَتَصَدَّقَ حُذَيْفَةُ بِدَمِهِ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ.
قَالَ مُوسَى: وَجَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا.
وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ سِتَّةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: حَمَلَ أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُرِيدُ قَتْلَهُ، فَاسْتَقْبَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، فَقَتَلَ مُصْعَبًا. وَأَبْصَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَرْقُوَةَ أُبَيٍّ فَطَعَنَهُ بِحَرْبَتِهِ فَوَقَعَ عَنْ فَرَسِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا دَمٌ، فَأَتَاهُ أَصْحَابِهِ فَاحْتَمَلُوهُ وَهُوَ يَخُورُ.
وَرَوَى نَحْوَهُ الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ.
وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ يُونُسَ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: مَاتَ أَبِي بِبَطْنِ رَابِغٍ، فَإِنِّي لَأَسِيرُ بِبَطْنِ رَابِغٍ بَعْدَ هَوِيٍّ مِنَ اللَّيْلِ إِذَا نَارٌ تَأَجَّجُ لِي فَهِبْتُهَا، فَإِذَا رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا فِي سِلْسِلَةٍ يَجْتَذِبُهَا يَصِيحُ: الْعَطَشَ. وَرَجُلٌ يَقُولُ: لَا تَسْقِهِ، فَإِنَّ هَذَا قَتِيلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَذَا أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: مَا نُصِرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوْطِنٍ كَمَا نُصِرَ يَوْمَ أحد. فأنكرنا ذَلِكَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيْنِي وَبَيْنَ مَنْ أنكر ذلك كتاب الله، إن الله تعالى يَقُولُ فِي يَوْمِ أُحُدٍ: " وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ " وَالْحَسُّ: الْقَتْلُ " حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ " الْآيَةَ. وَإِنَّمَا عَنَى بِهَذَا الرُّمَاةَ. وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَهُمْ فِي مَوْضِعٍ. وَقَالَ: احْمُوا ظُهُورَنَا،(1/125)
فَإِنْ رَأَيْتُمُونَا نُقْتَلُ فَلا تَنْصُرُونَا، وَإِنْ رَأَيْتُمُونَا قَدْ غَنِمْنَا فَلَا تُشْرِكُونَا. فَلَمَّا غَنِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَانْكَفَأَ عَسْكَرُ المشركين، نزلت الرماة فدخلوا في العسكر ينتهبون، وَقَدِ الْتَفَّتْ صُفُوفُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُمْ هَكَذَا؛ وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ، والتبسوا. فَلَمَّا خَلَّى الرُّمَاةُ تِلْكَ الْخِلَّةَ الَّتِي كَانُوا فيها، دخلت الْخَيْلُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَضَرَبَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْتَبَسُوا. وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَاسٌ كَثِيرٌ. وَقَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابِهِ أَوَّلُ النَّهَارِ، حَتَّى قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِ لِوَاءِ الْمُشْرِكِينَ سَبْعَةٌ أَوْ تِسْعَةٌ. وَجَالَ الْمُسْلِمُونَ جَوْلَةً نَحْوَ الْجَبَلِ. وَصَاحَ الشَّيْطَانُ: قُتِلَ مُحَمَّدٌ. فَلَمْ يُشَكَّ فِيهِ أَنَّهُ حَقٌّ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: كُنْتُ مِمَّنْ تَغَشَّاهُ النُّعَاسُ يَوْمَ أُحُدٍ، حَتَّى سَقَطَ سَيْفِي مِنْ يَدِي مِرَارًا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي طَلْحَةَ، قَالَ: رَفَعْتُ رَأْسِي يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ، وَمَا مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَمِيدُ تَحْتَ حَجَفَتِهِ مِنَ النُّعَاسِ. فَذَلِكَ قَوْلُهُ: " ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أمنة نعاسا " الآية.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَسْمَعُ قَوْلَ مُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَإِنَّ النُّعَاسَ لَيَغْشَانِي مَا أَسْمَعُهَا مِنْهُ إِلَّا كَالْحُلْمِ، وَهُوَ يَقُولُ: " لَوْ كَانَ لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا ".
وروى الزهري، عن عبد الرحمن بن المسور بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ(1/126)
أَبِيهِ، قَالَ: أُلْقِيَ عَلَيْنَا النَّوْمُ يَوْمَ أُحُدٍ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ، وَالزُّهْرِيِّ وَجَمَاعَةٍ، قَالُوا: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ، اخْتَبَرَ اللَّهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَحَقَ بِهِ الْمُنَافِقِينَ مِمَّنْ كَانَ يُظْهِرُ إِسْلَامَهُ بِلِسَانِهِ، وَيَوْمَ أَكْرَمَ اللَّهُ فِيهِ بِالشِّهَادَةِ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ مِمَّا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي يَوْمِ أُحُدٍ سِتُّونَ آيَةً مِنْ آلِ عِمْرَانَ.
وَقَالَ المدائني، عَنْ سَلَّامِ بْنِ مِسْكِينٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: كَانَتْ رَايَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أحد مِرْطًا أَسْوَدَ كَانَ لِعَائِشَةَ، وَرَايَةُ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لها العقاب، وعلى الميمنة علي، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ عَلَى الرِّجَالِ، وَيُقَالُ الْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَى الْقَلْبِ.
وَلِوَاءُ قُرَيْشٍ مَعَ طَلْحَةَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ فقتله علي - رضي الله عنه -، فَأَخَذَ اللِّوَاءَ سَعْدُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ فَقَتَلَهُ سَعْدُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَخَذَهُ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ عَاصِمُ بْنُ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الْأَقْلَحِ، فَأَخَذَهُ الْجُلَاسُ بْنُ طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُ ابْنُ أَبِي الْأَقْلَحِ أَيْضًا، ثُمَّ كِلَابٌ وَالْحَارِثُ ابْنَا طَلْحَةَ، فَقَتَلَهُمَا قُزْمَانُ حَلِيفُ بَنِي ظَفَرٍ، وَأَرْطَاةُ بْنُ عَبْدِ شُرَحْبِيلَ الْعَبْدَرِيُّ قَتَلَهُ مُصْعَبُ بْنُ عمير، وأخذه أبو زيد بْنُ عُمَيْرٍ الْعَبْدَرِيُّ، وَقِيلَ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ لِبَنِي عَبْدِ الدَّارِ، قَتَلَهُ قُزْمَانُ.(1/127)
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَقِيَ اللِّوَاءُ مَا يَأْخُذُهُ أَحَدٌ، وَكَانَتِ الْهَزِيمَةُ عَلَى قُرَيْشٍ.
وَقَالَ مَرْوَانُ بن معاوية الفزاري: حدثنا عبد الواحد بن أيمن، قال: حدثنا عُبَيْدُ بْنُ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لما كان يوم أحد انكفأ الْمُشْرِكُونَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي ". فَصَارُوا خَلْفَهُ صُفُوفًا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ، اللَّهُمَّ لَا قَابِضَ لِمَا بَسَطْتَ، وَلَا مُقَرِّبَ لِمَا بَاعَدْتَ، وَلَا مُبَاعِدَ لِمَا قَرَّبْتَ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ، وَلَا مُعْطِي لِمَا مَنَعْتَ. اللَّهُمَّ ابْسُطْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِكَ، أَسْأَلُكَ النَّعِيمَ الْمُقِيمَ الَّذِي لَا يَحُولُ وَلَا يَزُولُ. اللَّهُمَّ عَائِذًا بِكَ مِنْ سُوءِ مَا أَعْطَيْتَنَا وَشَرَّ مَا مَنَعْتَ مِنَّا، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ، اللَّهُمَّ تَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وَأَحْيِنَا مُسْلِمِينَ وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ غَيْرَ خَزَايَا وَلَا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك واجعل عليهم رجزك وعذابك، اللَّهُمَّ قَاتِلِ الْكَفَرَةَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، إِلَهَ الْحَقِّ ".
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مُنْكَرٌ، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ مَرْوَانَ.
-عَدَدُ الشُّهَدَاءِ
قَدْ مَرّ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَخْرَجَ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَصَابُوا مِنَّا سَبْعِينَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: يَا رَبِّ السَّبْعِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ، سَبْعِينَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَسَبْعِينَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَسَبْعِينَ يَوْمَ مُؤْتَةَ، وَسَبْعِينَ يَوْمَ اليمامة.(1/128)
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ حَرْمَلَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ قَالَ: قُتِلَ مِنَ الْأَنْصَارِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاطِنَ سَبْعُونَ سَبْعُونَ: يَوْمِ أُحُدٍ، وَيَوْمِ الْيَمَامَةِ، وَيَوْمِ جِسْرِ أَبِي عُبَيْدٍ.
وَقَالَ ابْنُ جريج: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: " قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا "، قَالَ: قَتَلَ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ سَبْعِينَ وَأَسَرُوا سَبْعِينَ، وَقَتَلَ الْمُشْرِكُونَ يَوْمَ أُحُدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ سَبْعِينَ.
وَأَمَّا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، فَقَالَ: جَمِيعُ مَنْ قُتِلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ، مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ: أَرَبَعَةٌ، أَوْ قَالَ: سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا.
وَجَمِيعُ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، يَعْنِي مِنَ الْمُشْرِكِينَ تِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: جَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنْ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ سَبْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: جَمِيعُ مَنِ اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، يَوْمَ أُحُدٍ، خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ رَجُلًا. وَجَمِيعُ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ.
قُلْتُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ سَبْعِينَ أَصَحُّ. وَيُحْمَلُ قَوْلُ أَصْحَابِ الْمَغَازِي هَذَا عَلَى عَدَدِ مَنْ عُرِفَ اسْمُهُ مِنَ الشُّهَدَاءِ، فَإِنَّهُمْ عَدُّوا أَسْمَاءَ الشُّهَدَاءِ بِأَنْسَابِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: اسْتُشْهِدَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ:(1/129)
حَمْزَةُ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَحْشِ بْنِ رِئَابٍ الْأَسَدِيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ دُفِنَ مَعَ حَمْزَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ. وَمُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عُثْمَانَ، وَلَقَبُهُ شَمَّاسٌ، وَهُوَ عُثْمَانُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ هَرَمِيِّ بْنِ عَامِرِ بْنِ مَخْزُومٍ الْقُرَشِيُّ الْمَخْزُومِيُّ، ابْنُ أُخْتِ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، هَاجَرَ إِلَى الْحَبَشَةِ وَشَهِدَ بَدْرًا. وَلُقِّبَ شَمَّاسًا لِمِلَاحَتِهِ.
وَمِنَ الْأَنْصَارِ: عَمْرُو بْنُ مُعَاذِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَوْسِيُّ، أَخُو سَعْدٍ، وَابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَالْحَارِثُ بْنُ أنيس بْنِ رَافِعٍ، وَعُمَارَةُ بْنُ زِيَادِ بْنِ السَّكَنِ، وَسَلَمَةُ، وَعَمْرٌو، ابْنَا ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ.
وَعَمُّهُمَا: رِفَاعَةُ بْنُ وَقْشٍ، وَصَيْفِيُّ بْنُ قَيْظِيِّ، وَأَخُوهُ: حُبَابٌ، وَعَبَّادُ بْنُ سَهْلٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ التَّيْهَانِ، وحبيب بن زيد، وإياس بن أوس، الأشهيلون. وَالْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ، حَلِيفٌ لَهُمْ. وَيَزِيدُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ أُمَيَّةَ الظَّفَرِيُّ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسٍ، وَغَسِيلُ الْمَلَائِكَةِ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الرَّاهِبُ، وَمَالِكُ بْنُ أُمَيَّةَ؛ وَعَوْفُ بْنُ عَمْرٍو، وَأَبُو حَيَّةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ النُّعْمَانِ، أَمِيرُ الرُّمَاةِ، وَأَنَسُ بْنُ قَتَادَةَ، وَخَيْثَمَةُ وَالِدُ سَعْدِ بْنِ خَيْثَمَةَ، وَحَلِيفُهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَمَةَ الْعَجْلانِيُّ، وَسُبَيْعُ بْنُ حَاطِبِ بْنِ الْحَارِثِ، وَحَلِيفُهُ: مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ، وَعُمَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ الْخَطْمِيُّ. وَكُلُّهُمْ مِنَ الْأَوْسِ.
وَاسْتُشْهِدَ مِنَ الْخَزْرَجِ: عَمْرُو بْن قَيْسٍ النَّجَّارِيُّ، وَابْنُهُ: قَيْسٌ، وَثَابِتُ بْنُ عَمْرِو بْنِ زَيْدٍ، وَعَامِرُ بْنُ مَخْلَدٍ، وَأَبُو هُبَيْرَةَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَلْقَمَةَ، وَعَمْرُو بْنُ مُطَرِّفٍ، وَإِيَاسُ بْنُ عَدِيٍّ، وَأَوْسُ، أَخُو حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. وَهُوَ وَالِدُ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، وَأَنَسُ بْنُ النَّضْرِ بْنِ ضَمْضَمٍ، وَقَيْسُ بْنُ مَخْلَدٍ. وَعَشْرَتُهُمْ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ.
وَعَبْدٌ لهم اسمه: كيسان، وسليم بْنُ الْحَارِثِ، وَنُعْمَانُ بْنُ عَبْدِ عَمْرٍو، وَهُمَا من بني دينار بن الحارث.
وَمِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ: خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَسَعْدُ بْنُ الرَّبِيعِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَأَوْسُ بْنُ أَرْقَمَ بْنِ زَيْدٍ، أَخُو زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ.
وَمِنْ بَنِي خُدْرَةَ: مَالِكَ بْنُ سِنَانٍ، وَسَعِيدُ بْنُ سُوَيْدٍ، وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعٍ.(1/130)
وَمِنْ بَنِي سَاعِدَةَ: ثَعْلَبَةُ بْنُ سَعْدِ بْنِ مَالِكِ. وَثُقْفُ بْنُ فَرْوَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ. وَضَمْرَة، حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ جُهَيْنَةَ.
وَمِنْ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، ثُمَّ مِنْ بَنِي سَالِمٍ: عَمْرُو بْنُ إِيَاسٍ، وَنَوْفَلُ بن عبد الله، وعبادة بن الحسحاس، وَالْعَبَّاسُ بْنُ عُبَادَةَ بْنِ نَضْلَةَ. وَالنُّعْمَانُ بْنُ مَالِكٍ. وَالْمُجَذَّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيُّ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِنْ بَنِي الْحُبُلِيِّ: رِفَاعَةُ بْنُ عَمْرٍو.
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ مَالِكٍ: مَالِكُ بْنُ إِيَاسٍ.
وَمِنْ بَنِي سَلَمَةَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بن حرام. وكانا متواخيين وَصِهْرَيْنِ، فَدُفِنَا فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
وَخَلَّادُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. وَمَوْلَاهُ أُسَيْرٌ، أَبُو أَيْمَنَ، مَوْلَى عَمْرٍو.
وَمِنْ بَنِي سَوَادِ بْنِ غُنْمٍ: سُلَيْمُ بْنُ عَمْرِو بْنِ حُدَيْدَةَ. وَمَوْلَاهُ عَنْتَرَةُ، وَسُهَيْلُ بْنُ قَيْسٍ.
وَمِنْ بَنِي زُرَيْقٍ: ذَكْوَانُ بْنُ عَبْدِ قَيْسٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ الْمُعَلَّى بْنُ لَوْذَانَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَزَعَمَ عَاصِمُ بْنُ عمر بْنِ قَتَادَةَ أَنَّ ثَابِتَ بْنَ وَقْشٍ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ مَعَ ابْنَيْهِ.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ جَمَاعَةً قُتِلُوا سِوَى مَنْ ذَكَرْنَا.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إسحاق عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أُحُدٍ رَفَعَ حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ - وَالِدُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ - وَثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فِي الْآطَامِ مَعَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ - وَهُمَا شَيْخَانِ كَبِيرَانِ -: لَا أَبَا لَكَ، مَا نَنْتَظِرُ؟ فَوَاللَّهِ مَا بَقِيَ لِوَاحِدٍ مِنَّا مِنْ عُمْرِهِ إِلَّا ظِمْءُ حِمَارٍ، إِنَّمَا نَحْنُ هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غَدٍ، أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا ثُمَّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَعَلَّ اللَّهُ يَرْزُقُنَا الشَّهَادَةَ مَعَ رَسُولِهِ؟ فَخَرَجَا حَتَّى دخلا في(1/131)
النَّاسِ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِمَا. فَأَمَّا ثَابِتٌ فَقَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، وَأَمَّا حُسَيْلٌ فَقَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَا يَعْرِفُونَهُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: كَانَ فِينَا رَجُلٌ أَتِيُّ لَا يُدْرَى مِمَّنْ هُوَ، يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ إِذَا ذُكِر لَهُ: " إِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّار ". فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَتَلَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكَانَ ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَاحْتَمَلَ إِلَى دَارِ بَنِي ظَفَرٍ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ لَهُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَبْلَيْتَ الْيَوْمَ يَا قُزْمَانُ، فَأَبْشِرْ. قَالَ: بِمَاذَا أَبْشِرُ؟ وَاللَّهِ إِنْ قَاتَلْتُ إِلَّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَاتَلْتُ. فَلَمَّا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ أَخَذَ سَهْمًا فَقَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ يَوْمَئِذٍ مُخَيْرِيقٌ، وَكَانَ أَحَدَ بني ثعلبة بن العيطون، قَالَ لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ: يَا مَعْشَرَ يهود، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ نَصْرَ مُحَمَّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقُّ. قَالُوا: إِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ السَّبْتِ. قَالَ: لا سبت. فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدَّتَهُ وَقَالَ: إِنْ أُصِبْتُ فَمَالِي لِمُحَمَّدٍ يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ. ثُمَّ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتَّى قُتِلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بَلَغَنَا: " مُخَيْرِيقٌ خَيْرُ يَهُودَ ".
وَوَقَعَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ وَالنِّسْوَةُ اللَّاتِي مَعَهَا يُمَثِّلْنَ بِالْقَتْلَى، يَجْدَعْنَ الْآذَانَ وَالْآنُفَ، حَتَّى اتَّخَذَتْ هِنْدُ مِنْ آذَانِ الرِّجَالِ وَآنُفِهِمْ خَدَمًا، وَبَقَرَتْ عَنْ كَبِدِ حَمْزَةَ فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تستطيع أَنْ تَسِيغَهَا فَلَفَظَتْهَا. ثُمَّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ، فَصَرَخَتْ بِأَعْلَى صَوْتِهَا:
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ ... وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ ذَاتَ سَعْرِ
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَةَ لِي مَنْ صَبْرٍ ... وَلَا أَخِي، وَعَمِّهِ وَبَكْرِي.
شَفيتُ صَدْرِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي ... شَفَيْتَ وَحْشِيُّ غَلِيلَ صَدْرِي.(1/132)
وَقُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، - عَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ - أَحَدَ عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ، وَهُمْ: طَلْحَةُ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَعُثْمَانُ: بَنُو أَبِي طَلْحَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى. وَمَوْلاهُمْ: صُؤَابٌ، وَبَنُو طَلْحَةَ الْمَذْكُورُ: مُسَافِعٌ، وَالْحَارِثُ، والجلاس، وكلاب.
وأبو زيد بْنُ عُمَيْرٍ أَخُو مُصْعَبِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَابْنُ عمه: أرطاة بن شُرَحْبِيلَ بْنِ هَاشِمٍ، وَابْنُ عَمِّهِمْ: قَاسِطُ بْنُ شريح، ومن بني أسد: عبد اللَّهِ بْنُ حُمَيْدِ بْنِ زُهَيْرٍ الْأَسَدِيُّ، وَسِبَاعُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى الْخُزَاعِيُّ حَلِيفُ بَنِي أَسَدٍ.
وَأَرْبَعَةٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ: أَخُو أَمُّ سَلَمَةَ؛ هشام بن أبي أمية بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْعَاصِ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَأَبُو أُمَيَّةَ بْنُ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَحَلِيفُهُمْ: خَالِدُ بْنُ الْأَعْلَمِ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ: أَبُو الْحَكَمِ بْنُ الْأَخْنَسِ بْنِ شَرِيقٍ، حَلِيفٌ لَهُمْ.
وَمِنْ بَنِي جُمَحَ: أُبَيُّ بْنُ خَلَفٍ. وَأَبُو عَزَّةَ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَيْرٍ. أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِضَرْبِ عُنُقِهِ صَبْرًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَطْلَقَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِلَا فِدَاءٍ لِفَقْرِهِ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُعِينُ عَلَيْهِ. فَنَقَضَ الْعَهْدَ وَأُسِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَاللَّهِ لَا تَمْسَحُ عَارِضَيْكَ بِمَكَّةَ تَقُولُ خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ ". وَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَقِيلَ لَمْ يُؤْسَرْ سِوَاهُ.
وَمِنْ بني عامر بن لؤي: عبيد بْنُ جَابِرٍ. وَشَيْبَةُ بْنُ مَالِكٍ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ قَطَنِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَرَوَاهُ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى - فَأَرْسَلَهُ مَرَّةً وَأَسْنَدَهُ مَرَّةً - عَنْ أَبِي ذر عوض أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ انْصَرَفَ مِنْ أُحُدٍ مَرَّ عَلَى مصعب بن عمير وَهُوَ مَقْتُولٌ - عَلَى طَرِيقِهِ - فَوَقَفَ عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: " مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا ". ثُمَّ قَالَ: " أَشْهَدُ أَنَّ هَؤُلَاءِ شُهَدَاءُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأْتُوهُمْ(1/133)
وَزُورُوهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا رَدُّوا عَلَيْهِ السَّلَامَ ".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، وَحَدَّثَنِيهِ بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: لَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بحمزة مِنَ الْمُثْلِ - جُدِعَ أَنْفُهُ وَلُعِبَ بِهِ - قَالَ: " لَوْلَا أَنْ تَجْزَعَ صَفِيَّةُ وَتَكُونَ سُنَّةً مِنْ بَعْدِي مَا غُيِّبَ حَتَّى يَكُونَ فِي بُطُونِ السِّبَاعِ وَحَوَاصِلِ الطَّيْرِ ".
وَحَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لَأُمَثِّلَنَّ بثلاثين منهم ". فلما رأى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا بِهِ مِنَ الْجَزَعِ قَالُوا: لَئِنْ ظَفِرْنَا بِهِمْ لَنُمَثِّلَنَّ بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثِّلْهَا أَحَدٌ من العرب بأحد، فأنزل الله تعالى: " وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ "، إِلَى آخِرِ السُّورَةِ. فَعَفَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ قِصَّةَ أُحُدٍ، أَنَّ صَفِيَّةَ أَقْبَلَتْ لِتَنْظُرَ إِلَى حَمْزَةَ - وَهُوَ أَخُوهَا لِأَبَوَيْهَا - فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِابْنِهَا الزُّبَيْرِ: " الْقَهَا فَأَرْجِعْهَا، لَا تَرَى مَا بِأَخِيهَا ". فَلَقِيَهَا فَقَالَ: أَيْ أُمَّهْ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرك أَنْ تَرْجِعِي. قَالَتْ: وَلِمَ؟ فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُ مُثِّلَ بِأَخِي، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ، فَمَا أَرْضَانَا بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ، فَلْأَحْتَسِبَنَّ وَلَأَصْبِرَنَّ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَجَاءَ الزُّبَيْرُ فَأَخْبَرَهُ قَوْلَهَا، قَالَ: فَخَلِّ سَبِيلَهَا. فَأَتَتْهُ، فَنَظَرَتْ إِلَيْهِ وَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِهِ فَدُفِنَ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قُتِلَ حَمْزَةُ أَقْبَلَتْ صَفِيَّةُ، فَلَقِيَتْ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ، فَأَرَيَاهَا أَنَّهُمَا لَا يَدْرِيَانِ. فَجَاءَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: فَإِنِّي أَخَافُ عَلَى عَقْلِهَا. فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهَا وَدَعَا لَهَا، فَاسْتَرْجَعَتْ وَبَكَتْ. ثُمَّ جَاءَ فَقَامَ عَلَيْهِ وَقَدْ مُثِّلَ بِهِ فَقَالَ: " لَوْلَا جَزَعُ النِّسَاءِ لَتَرَكْتُهُ حَتَّى يُحْشَرَ مِنْ حَوَاصِلِ الطَّيْرِ وَبُطُونِ(1/134)
السِّبَاعِ ". ثُمَّ أَمَرَ بِالْقَتْلَى فَجَعَلَ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، وَيُرْفَعُونَ وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ، ثُمَّ يُجَاءُ بِسَبْعَةٍ فَيُكَبِّرُ عَلَيْهِمْ سَبْعًا، حَتَّى فَرَغَ مِنْهُمْ.
وَحَدِيثُ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ أَصَحُّ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ. فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
عُثْمَانُ بن عمر، وَرَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، بِإِسْنَادِ الْحَاكِمِ فِي " الْمُسْتَدْرَكِ " إليهما؛ حدثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ، مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَمْزَةَ وَقَدْ جُدِعَ وَمُثِّلَ بِهِ، فَقَالَ: " لَوْلَا أَنْ تَجِدَ صَفِيَّةُ تَرَكْتُهُ حَتَّى يَحْشُرَهُ اللَّهُ مِنْ بُطُونِ الطَّيْرِ وَالسِّبَاعِ ". فَكَفَّنَهُ فِي نَمِرَةٍ. وَلَمْ يُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الشُّهَدَاءِ غَيْرَهُ. . . الْحَدِيثَ.
وَقَالَ يحيى الحماني: حدثنا قَيْسُ - هُوَ ابْنُ الرَّبِيعُ - عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ قُتِلَ حَمْزَةُ وَمُثِّلَ بِهِ: " لَئِنْ ظَفِرْتُ بِقُرَيْشٍ لَأُمَثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنْهُمْ " فَنَزَلَتْ: " وَإِنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به " الآية. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " بَلْ نَصْبِرُ يَا رَبِّ ". إِسْنَادُهُ ضَعِيفٌ مِنْ قِبَلَ قَيْسٍ.
وَقَدْ رَوَى نَحْوَهُ حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ، وَغَيْرُهُ، عَنْ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. وَزَادَ: فَنَظَرَ إِلَى مَنْظَرٍ لم ينظر إلى شيء قط أوجع لقلبه منه.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ الْقَاضِي؛ قال: أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ الزَّاهِدُ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ سَنَةَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ وَسِتِّمِائَةٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا(1/135)
أحمد بن محمد السلفي، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي، قال: أخبرنا الحسن بن أحمد بن إبراهيم، قال: أخبرنا عبد الله بن جعفر الفارسي، قال: حدثنا يعقوب الفسوي، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان، قال: حدثنا عيسى بن عبيد الكندي، قال: حدثني ربيع بن أنس، قال: حَدَّثَنِي أَبُو الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ أُصِيبَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَوْمَ أُحُدٍ أَرْبَعَةٌ وَسِتُّونَ، وَأُصِيبَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ سِتَّةٌ؛ مِنْهُمْ حَمْزَةُ. فَمَثَّلُوا بِقَتْلاهُمْ. فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: لَئِنْ أَصَبْنَا مِنْهُمْ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ لَنُرْبِيَنَّ عَلَيْهِمْ.
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ نَادَى رَجُلٌ لَا يُعْرَفُ: لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ، مَرَّتَيْنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وَإِنْ عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ". الآية. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كُفُّوا عَنِ الْقَوْمِ ".
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَمَعَهَا ثَوْبَانِ لِحَمْزَةَ، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَرِهَ أَنْ تَرَى حَمْزَةَ عَلَى حَالِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهَا الزُّبَيْرَ يَحْبِسُهَا وَأَخَذَ الثَّوْبَيْنِ. وَكَانَ إِلَى جَنْبِ حَمْزَةَ قَتِيلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَكَرِهُوا أَنْ يَتَخَيَّرُوا لِحَمْزَةَ، فَقَالَ: أَسْهِمُوا بَيْنَهُمَا، فَأَيُّهُمَا طَارَ لَهُ أَجْوَدُ الثَّوْبَيْنِ فَهُوَ لَهُ. فَأَسْهَمُوا بَيْنَهُمَا، فَكُفِّنَ حَمْزَةُ فِي ثَوْبٍ وَالْأَنْصَارِيُّ فِي ثَوْبٍ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ صُعَيْرٍ قَالَ: لَمَّا أَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ قَالَ: " أَنَا الشَّهِيدُ عَلَى هَؤُلَاءِ، مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللَّهِ إِلَّا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَثْعَبُ دَمًا، اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ، انْظُرُوا أَكْثَرَهُمْ جَمْعًا لِلْقُرْآنِ فَاجْعَلُوهُ أَمَامَ صَاحِبِهِ فِي الْقَبْرِ ". فَكَانُوا يُدْفَنُونَ الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي وَالِدِي، عَنْ رِجَالٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال حين أُصِيبَ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عمرو بن(1/136)
حَرَامٍ: " اجْمَعُوا بَيْنَهُمَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا مُتَصَافِيَيْنِ فِي الدُّنْيَا ". قَالَ أَبِي: فَحَدَّثَنِي أَشْيَاخٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالُوا: لَمَّا ضَرَبَ مُعَاوِيَةُ عَيْنَهُ الَّتِي مَرَّتْ على قبور الشهداء، واستصرخنا عَلَيْهِمْ وَقَدِ انْفَجَرَتْ عَلَيْهِمَا فِي قَبْرِهِمَا، فَأَخْرَجْنَاهُمَا وَعَلَيْهِمَا بُرْدَتَانِ قَدْ غَطَّى بِهِمَا وُجُوهَهُمَا. وَعَلَى أَقْدَامِهِمَا شَيْءٌ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ، فَأَخْرَجْنَاهُمَا كَأَنَّهُمَا يتثنيان تثنيا كأنما دُفِنَا بِالْأَمْسِ.
وَهذا هو عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ بْنِ زَيْدِ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غُنْمٍ الْأَنْصَارِيُّ السَّلْمِيُّ، سَيِّدُ بَنِي سلمة. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ وَغَيْرُهُ: شَهِدَ بَدْرًا. وَابْنُهُ مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ هُوَ الَّذِي قَطَعَ رِجْلَ أَبِي جَهْلٍ، وَقَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِسَلْبِهِ لِمُعَاذٍ. وَكَانَ عَمْرُو بن الجموح زَوْجَ أُخْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حرام.
ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: كَانَ مَنَافٌ فِي بَيْتِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. فَلَمَّا قَدِمَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ الْمَدِينَةَ، بَعَثَ إِلَيْهِمْ عَمْرٌو: مَا هَذَا الَّذِي جِئْتُمُونَا بِهِ؟ قَالُوا: إِنْ شئت جئنا وأسمعناك، فواعدهم فجاؤوا، فقرأ عليه " الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ "، فَقَرَأَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقْرَأَ. فَقَالَ: إِنَّ لَنَا مُؤَامَرَةً فِي قَوْمِنَا - وَكَانَ سَيِّدَ بَنِي سَلَمَةَ - فَخَرَجُوا، فَدَخَلَ عَلَى مَنَافَ فَقَالَ: يَا مَنَافُ، تَعْلَمُ وَاللَّهِ مَا يُرِيدُ الْقَوْمُ غَيْرَكَ، فَهَلْ عِنْدَكَ مِنْ نَكِيرٍ؟ - قَالَ: فَقَلَّدَهُ سيفاً، وخرج فَقَامَ أَهْلُهُ فَأَخَذُوا السَّيْفَ، فَجَاءَ فَوَجَدَهُمْ أَخَذُوا السَّيْفَ فَقَالَ: يَا مَنَافُ أَيْنَ السَّيْفُ وَيْحَكَ، إِنَّ الْعَنْزَ لَتَمْنَعُ اسْتَهَا، وَاللَّهِ مَا أَرَى فِي أَبِي جِعَارٍ غَدًا مِنْ خَيْرٍ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى مَالِي فَاسْتَوْصُوا بِمَنَافَ خَيْرًا. فَذَهَبَ فَكَسَرُوا مَنَافَ وَرَبَطُوهُ مَعَ كَلْبٍ مَيِّتٍ. فَلَمَّا جَاءَ رَأَى مَنَافَ، فَبَعَثَ إلى قومه فجاؤوه فَقَالَ: أَلَسْتُمْ عَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ - قَالُوا: بَلَى، أَنْتَ سَيِّدُنَا، قَالَ: فَإِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ آمَنْتُ بِمُحَمَّدٍ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قُومُوا إلى جنة عرضها السماوات وَالْأَرْضُ " فَقَامَ وَهُوَ أَعْرَجُ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
أَبُو صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: " نعم الرَّجُلُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ ".(1/137)
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، وَرَوَى فِطْرُ بْنُ خَلِيفَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْن أَبِي ثَابِتٍ وَغَيْرِهِمَا، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا بَنِي سَلَمَةَ مَنْ سَيِّدُكُمْ؟ قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، وَإِنَّا لَنُبَخِّلُهُ. قَالَ: وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟! بَلْ سَيِّدُكُمْ الْجَعْدُ الْأَبْيَضُ عَمْرُو بْنُ الْجَمُوحِ.
وَقَدْ قَالَ الْوَاقِدِيُّ: لَمْ يَشْهَدْ بَدْرًا، وَلَمَّا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى أُحُدٍ مَنَعَهُ بَنُوهُ وَقَالُوا: قَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ وَبِكَ عَرَجٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: أَمَّا أَنْتَ فَقَدْ عَذَرَكَ اللَّهُ. وَقَالَ لِبَنِيهِ: لَا تمنعوه لعل الله يرزقه الشهادة. فخرج فاستشهد هو وابنه خلاد.
إِسْرَائِيلَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ قَالَ لِبَنِيهِ: مَنَعْتُمُونِي الْجَنَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَأَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ. فَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ فِي الرَّعِيلِ الأول.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: اسْتُصْرِخَنَا إِلَى قَتْلَانَا يَوْمَ أُحُدٍ، وَذَلِكَ حِينَ أَجْرَى مَعَاوِيَةُ العين، فأتيناهم فأخرجناهم تتثنى أَطْرَافُهُمْ رِطَابًا، عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً.
قَالَ حَمَّادٌ: وَزَادَنِي صَاحِبٌ لِي فِي الْحَدِيثِ: فَأَصَابَ قَدَمَ حَمْزَةَ فَانْثَعَبَ دَمًا.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الْأَسْوَدِ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِقَتْلَى أُحُدٍ أَنْ يُرَدُّوا إِلَى مَصَارِعِهِمْ.
وقال أبو عوانة: حدثنا الْأَسْوَدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمُشْرِكِينَ لِقِتَالِهِمْ. فَقَالَ لِي أَبِي: مَا عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ فِي النَّظَّارَةِ حَتَّى تَعْلَمَ إِلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُنَا، فَوَاللَّهِ لَوْلا أَنِّي أَتْرُكُ بَنَاتٍ لِي بَعْدِي لَأَحْبَبْتُ أَنْ تُقْتَلَ بَيْنَ يَدَيَّ. فَبَيْنَمَا أَنَا فِي النَّظَّارِينَ إِذْ جَاءَتْ عَمَّتِي بِأَبِي وَخَالِي عَادَلَتْهُمَا عَلَى نَاضِحٍ، فَدَخَلَتْ بِهِمَا الْمَدِينَةَ، لِتَدْفِنَهُمَا فِي مَقَابِرِنَا، فَجَاءَ رَجُلٌ يُنَادِي: أَلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَرْجِعُوا بِالْقَتْلَى فَتَدْفِنُوهَا(1/138)
فِي مَصَارِعِهَا. فَبَيْنَمَا أَنَا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، إِذْ جَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا جَابِرُ، قَدْ والله أثار أباك عمال معاوية فبدت طَائِفَةٌ مِنْهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي تَرَكْتُهُ، لَمْ يَتَغَيَّرْ مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا ما لم يدع القتيل فَوَارَيْتُهُ.
وَقَالَ حُسَيْنُ الْمُعَلِّمُ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جابر قال: لما حضر أحد قَالَ أَبِي: مَا أَرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا، وَإِنِّي لَا أَتْرُكَ بَعْدِي أَعَزَّ عَلِيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّ علي دينا فاقض واستوص بأخواتك خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، فَدَفَنْتُ مَعَهُ آخَرَ فِي قَبْرٍ، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أن أتركه مَعَ آخَرَ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي ثَوْبٍ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ. وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقَيَامَةِ. وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بِدِمَائِهِمْ وَلَمْ يُصِلَّ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُغَسَّلُوا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْهُ.
وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: قَالُوا يَوْمَ أُحُدٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ أَصَابَنَا قَرْحٌ وَجَهْدٌ فَكَيْفَ تَأْمُرُ؟ قَالَ: " احْفِرُوا وَأَوْسِعُوا وَأَعْمِقُوا وَاجْعَلُوا الِاثْنَيْنِ وَالثَّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ، وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا ".
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: حُمَيْدُ بْنُ هِلَالٍ، عن سعد بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: لَمَّا قُتِلَ أَبِي جَعَلْتُ أَبْكِي وَأَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْهُ، وَجَعَلَ أَصْحَابُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنْهَوْنِي، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَنْهَانِي، وَقَالَ لَا تَبْكِيهِ، أَوْ مَا تَبْكِيهِ، فَمَا زَالَتِ الْمَلَائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ. أَخْرَجَاهُ.(1/139)
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِدَفْنِ قَتْلَى أُحُدٍ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسَّلُوا وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ في اللحد.
وقال علي بن المديني: حدثنا مُوسَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَنْصَارِيُّ، سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ خِرَاشٍ، قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: نَظَرَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ما لي أَرَاكَ مُهْتَمًّا؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُتِلَ أَبِي وَتَرَكَ دَيْنًا وَعِيَالًا. فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُكَ؟ مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا إِلَّا مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَإِنَّهُ كَلَّمَ أَبَاكَ كِفَاحًا، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدِي سَلْنِي أُعْطِكَ. فَقَالَ: أَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّنِي إِلَى الدُّنْيَا فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيًا. فَقَالَ: إنه قد سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لَا يَرْجِعُونَ. قَالَ: يَا رَبِّ فَأَبْلِغْ مَنْ وَرَائِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: " وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سبيل الله أمواتا بل أحياء " الآية.
ويروى نحوه عن عروة، عن عائشة.
وَكَانَ أَبُو جَابِرٍ مِنْ سَادَةِ الْأَنْصَارِ شَهِدَ بَدْرًا، وَهُوَ أَحَدُ النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ حَرَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ حَرَامِ بْنِ كَعْبِ بْنِ غُنْمِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَلَمَةَ. وَأُمُّهُ الرَّبَابُ بِنْتُ قَيْسٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ. شَهِدَ مَعَهُ الْعَقَبَةَ ولده جابر.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: أُتِيَ ابْنُ عَوْفٍ بِطَعَامٍ فَقَالَ: قُتِلَ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ - وَكَانَ خَيْرًا مِنِّي - فَلَمْ يُوجَدْ لَهُ إِلَّا بُرْدَةٌ يُكَفَّنُ فِيهَا، مَا أَظُنُّنَا إِلَّا قَدْ عُجِّلَتْ لَنَا طَيِّبَاتُنَا فِي حَيَاتِنَا الدُّنْيَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ خَبَّابٍ قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبْتَغِي وَجْهَ اللَّهِ، فَوَجَبَ أَجْرُنَا عَلَى اللَّهِ، فَمِنَّا مَنْ ذَهَبَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أَجْرِهِ، وَكَانَ مِنْهُمْ مُصْعَبُ بْنُ عُمَيْرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ إِلَّا نَمِرَةٌ،(1/140)
كُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلَاهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَطُّوا بِهَا رَأْسَهُ وَاجْعَلُوا عَلَى رِجْلَيْهِ مِنَ الْإِذْخَرِ. وَمِنَّا مَنْ أَيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهُوَ يَهْدِبُهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قال: كانت امرأة من الأنصار من بني ذبيان قد أصيب زوجها وأخوها يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَمَّا نُعُوا لَهَا قَالَتْ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالُوا: خَيْرًا، يَا أُمَّ فُلَانٍ. فَقَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتَّى أَنْظُرَ إِلَيْهِ. فَأَشَارُوا لَهَا إِلَيْهِ، حَتَّى إِذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ؛ أَيْ هَيِّنٌ. وَيَكُونُ فِي غَيْرِ ذَا بِمَعْنَى عَظِيمٍ.
وعَنْ أَبِي بَرْزَةَ أَنَّ جُلَيْبِيبًا كَانَ مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ لِرَجُلٍ: " زَوِّجْنِي ابْنَتَكَ ". قَالَ: نَعَمْ وَنِعْمَةُ عين. قال: " لست أريده لنفسي ". قال: فلمن؟ قال: " لجليبيب ". قال: حتى أستأمر أمها. فأتاها فأجابت: لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: إِنَّمَا يُرِيدُ ابْنَتَكِ لِجُلَيْبِيبٍ. قَالَتْ: الْجُلَيْبِيبُ؟ لَا لعمر الله لا أزوجه. فَلَمَّا قَامَ أَبُوهَا لِيَأْتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم. قالت الفتاة من خدرها لأبويها: من خطبني؟ قالا: رسول الله قالت: أفتردون عليه أمره؟ ادفعوني إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَنْ يُضَيِّعَنِي. فَذَهَبَ أَبُوهَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: شَأْنُكَ بِهَا. فَزَوَّجَهَا جُلَيْبِيبًا، وَدَعَا لَهُمَا. فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَغْزًى لَهُ قَالَ: هَلْ تَفْقِدُونَ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَفْقِدُ فلانا ونفقد فلانا. قال: لكني أَفْقِدُ جُلَيْبِيبًا، فَاطْلُبُوهُ، فَنَظَرُوا فَوَجَدُوهُ إِلَى جَنْبِ سَبْعَةٍ قَدْ قَتَلَهُمْ، ثُمَّ قَتَلُوهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا مِنِّي وَأَنَا مِنْهُ. قَتَلَ سَبْعَةً ثُمَّ قَتَلُوهُ. فَوَضَعُوهُ على ساعديه ثم حفروا له، ما له سَرِيرٌ إِلَّا ساعدَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَضَعَهُ فِي قَبْرِهِ. قَالَ ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ: فَمَا فِي الْأَنْصَارِ أَنْفَقُ مِنْهَا.(1/141)
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ كِنَانَةَ بْنِ نُعَيْمٍ، عَنْ أَبِي بَرْزَةَ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: " وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا "، قَالَ: أَمَّا أَنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مُعَلَّقَةٍ بِالْعَرْشِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ اطَّلَعَ عَلَيْهِمْ رَبَّكَ اطِّلَاعَةً فَقَالَ: سَلُونِي مَا شِئْتُمْ. فَقَالُوا: يَا رَبَّنَا وَمَا نَسْأَلُكَ؟ وَنَحْنُ نَسْرَحُ فِي الْجَنَّةِ فِي أَيِّهَا شِئْنَا، فَلَمَّا رَأَوْا أَنْ لا يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: نَسْأَلُكَ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا إِلَى أَجْسَادِنَا فِي الدُّنْيَا فَنُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ. فَلَمَّا رَأَى أَنَّهُمْ لَا يَسْأَلُونَ إِلَّا هَذَا، تُرِكُوا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيَّةَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ، جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةً فِي ظِلِّ الْعَرْشِ. فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ، قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغْ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ، لِئَلا يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ وَلَا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ "، فَأُنْزِلَتْ: " وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ".
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِذَا ذُكِرَ أَصْحَابُ أُحُدٍ: أَمَا وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي غُودِرْتُ مَعَ أَصْحَابٍ نُحْصِ الْجَبَلَ، يَقُولُ: قُتِلْتُ مَعَهُمْ.(1/142)
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمًا فَصَلَّى عَلَى أَهْلِ أُحُدٍ صَلَاتَهُ عَلَى الْمَيِّتِ، ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: إني فرطكم وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ. الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَرَوَى الْعَطَّافُ بْنُ خَالِدٍ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَارَ قُبُورَ الشُّهَدَاءِ بِأُحُدٍ.
وَرَوَى عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ بْنِ مُوسَى: عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْتِي قُبُورَ الشُّهَدَاءِ، فَإِذَا أَتَى فُرْضَةَ الشِّعْبِ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ. وَكَانَ يَفْعَلُهُ أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ بَعْدَهُ ثُمَّ عُثْمَانُ.
وَذَكَرَ نَحْوَ هَذَا الْحَدِيثِ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِلا سَنَدٍ.
وَقَالَ أَبُو حَسَّانَ الزِّيَادِيُّ: وَمَاتَ فِي شَوَّالٍ يَوْمَ جُمُعَةٍ عمرُو بْنُ مَالِكٍ الأَنْصَارِيُّ أَحَدُ بَنِي النَّجَّارِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُحُدٍ فَصَلَّى عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِ الْجَبَّانِ. وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ.
-غزوَة حمَراء الأسَد.
قَالَ ابن إسحاق: فلما كان الغد من يوم الأحد؛ يعني صبيحةَ وقعةِ أُحُد أذّن مؤذّنُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الناس لطلب العدوّ، وأذّن مؤذّنه: لا يخرج معنا أحدٌ إلّا أحَدٌ حضر يومَنا بالأمس. وإنّما خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرْهِبًا للعدّو ليُبَلغهم أنّه قد خرج في أثرهم وليظنُّوا به قوة.(1/143)
وقال ابن لهيعة: حدثنا أبو الأسود، عَنْ عُرْوَة قَالَ: قدِم رجلٌ فاستخبره النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أبي سُفيان. فقال: نازلتهم فسمعتهم يتلاومون، يَقْولُ بعضُهم لبعض: لم تصنعوا شيئًا، أصبتم شوكة القوم وحدهم، ثُمَّ تركتموهم ولم تُبيدوهم، وقد بقي منهم رؤوسٌ يجمعون لكم. فأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه - وبهم أشد القرح - بطلب العدو، ليسمعوا بذلك. وقال: لا ينطلقنّ معي إلّا من شهد القتال. فقال عبد الله بن أُبَيّ: أركب معك؟ قَالَ: لا. فاستجابوا لله والرسول عَلَى ما بهم من البلاء. فانطلقوا، فطلبهم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى بلغ حمراءَ الأسَد.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثابت، عَنْ أبي السّائب مولى عائشة بنت عثمان؛ أنّ رَجُلا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بني عبد الأشهل قَالَ: شهدتُ أُحُدًا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنا وأخٌ لي، فرجعنا جريحين، فلما أذن مؤذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخروج في طلب العدوّ، قلت لأخي فقال لي: تفوتنا غزوةٌ مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَوَالله ما لنا من دابة نركبها وما منّا إلّا جريح، فخرجنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكنت أيسر جراحة مِنْهُ، فكان إذا غلب حملته عُقبة ومشى عقبة، حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون. فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى انتهى إلى حمراء الأسد؛ وهي من المدينة عَلَى ثمانية أميال، فأقام بِهَا ثلاثًا ثُمَّ رجع.
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ عَائِشَةَ قالت: يا ابن أختي كان أبواك - تَعْنِي الزُّبَيْرَ وَأَبَا بَكْرٍ - مِنَ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ. قَالَ: لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أُحُدٍ وَأَصَابَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ مَا أَصَابَهُمْ، خَافَ أَنْ يَرْجِعُوا فَقَالَ: مَنْ يَنْتَدِبُ لِهَؤُلَاءِ فِي آثَارِهِمْ حَتَّى يَعْلَمُوا أَنَّ بِنَا قُوَّةً، قَالَ: فَانْتُدِبَ أَبُو بَكْرٍ وَالزُّبَيْرُ فِي سَبْعِينَ خَرَجُوا فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَسَمِعُوا بِهِمْ. وَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ. قَالَ: لَمْ يَلْقَوْا عَدُوًّا. أَخْرَجَاهُ.(1/144)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ أَنَّ مَعْبَدًا الْخُزَاعِيَّ مَرَّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ. وَكَانَتْ خُزَاعَةُ مُسْلِمُهُمْ وَمُشْرِكُهُمْ عيبة نصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم، صفوهم مَعَهُ لا يُخْفُونَ عَلَيْهِ شَيْئًا كَانَ بِهَا. وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ لقد عَزَّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَكَ فِي أَصْحَابِكَ وَلَوَدِدْنَا أَنَّ اللَّهَ عَافَاكَ فِيهِمْ. ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ بِالرَّوْحَاءِ وَقَدْ أَجْمَعُوا الرَّجْعَةَ وَقَالُوا: أصَبْنَا حَدَّ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ وقادتهم، ثم نرجع قبل أن نستأصلهم! لنكرن عَلَى بَقِيَّتِهِمْ فَلَنَفْرَغَنَّ مِنْهُمْ. فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ مَعْبَدًا قَالَ: مَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي طَلَبِكُمْ فِي جَمْعٍ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ، يَتَحَرَّقُونَ عَلَيْكُمْ تَحَرُّقًا، قَدِ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلَّفَ عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فِيهِمْ مِنَ الْحَنقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطُّ. قَالَ: وَيْلَكَ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتَّى تَرَى نَوَاصِيَ الْخَيْلِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ لِنَسْتَأْصِلَ بقيتهم. قال: فإني أنهاك ذاك، وَاللَّهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْت عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِمْ أَبْيَاتًا. قَالَ: وَمَا قُلْتَ؟ قَالَ:
كَادَتْ تُهَدُّ مِنَ الأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إِذْ سَالَتِ الأَرْضُ بِالْجُرْد الأَبَابِيلِ
تُرْدِي بِأُسْدٍ كِرَامٍ لا تَنَابِلَةٍ ... عِنْدَ اللِّقَاءِ، وَلا مَيْلٍ مَعَازِيلِ
فَظَلْتُ عدوا أظن الأرض مائلة ... لَمَّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ غَيْرِ مَخْذُولِ
فَقُلْتُ: وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ لِقَائِكُمُ ... إِذَا تَغَطْمَطَتِ الْبَطْحَاءُ بِالْجيلِ
إِنِّي نَذَرْتُ لأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَةً ... لِكُلِّ ذِي إِرْبَةٍ مِنْهُمْ وَمَعْقُولِ(1/145)
مِنْ جَيْشِ أَحْمَدَ، لا وَخْشٍ تَنَابِله ... وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ بِالْقيلِ
قَالَ: فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ. وَمَرَّ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟ قَالُوا: الْمَدِينَةَ، لِنَمْتَارَ. فَقَالَ: أَمَا أَنْتُمْ مُبَلِّغُونَ عني محمدا رسالة، وأحمل لكم عَلَى إِبِلِكُمْ هَذِهِ زَبِيبًا بِعُكَاظٍ غَدًا إِذَا وَافَيْتُمُوهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: إِذَا جِئْتُمْ مُحَمَّدًا فَأَخْبِرُوهُ أَنَّا قَدْ أَجْمَعْنَا الرَّجْعَةَ إِلَى أَصْحَابِهِ لنستأصلهم. فلما مر الركب بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الأَسَدِ أَخْبَرُوهُ. فَقَالَ هُوَ وَالْمُسْلِمُونَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَأُنْزِلَتِ: " الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ " الآيَاتِ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ عبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ، كَمَا حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، لَهُ مَقَامٌ يَقُومُهُ كُلَّ جُمُعَةٍ لا يَتْرُكُهُ شَرَفًا لَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي قَوْمِهِ. فَكَانَ إِذَا جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَخْطُبُ قَامَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أظْهُرِكُمْ أَكْرَمَكُمُ اللَّهُ بِهِ وَأَعَزَّكُمْ بِهِ. فَعَزِّرُوهُ وَانْصُرُوهُ واسمعوا له وأطيعوا. ثُمَّ يَجْلِسُ حَتَّى إِذَا صَنَعَ يَوْمَ أُحُدٍ ما صنع ورجع الناس، قَامَ يَفْعَلُ كَفِعْلِهِ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ ثِيَابَهُ مِنْ نَوَاحِيهِ، وَقَالُوا: اجْلِسْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ، لَسْتَ لِذَلِكَ بِأَهْلٍ، وَقَدْ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ، فَخَرَجَ يتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَيَقُولُ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي قُلْتُ هجرا أن قمت أشد أمره. فلقيه رجال من الأنصار بباب المسجد فقالوا: مَا لَكَ؟ وَيْلَكَ! قَالَ: قُمْتُ أَشُدُّ أَمْرَهُ فَوَثَبَ عَلَيَّ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْبِذُونَنِي وَيُعَنِّفُونَنِي، لكأنما قلت هجرا. قَالَ: وَيْلَكَ ارْجِعْ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أبغي أن يستغفر لي.
فائدة: قال الواقدي: حدثنا إبراهيم بن جعفر، عن أبيه. وحدثنا سعيد بن محمد بن أبي زيد، قال: حدثنا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَعِيدٍ؛ قَالُوا: كان سويد بن الصامت قد قتل ذيادا. فقتله به المجذر بن ذياد، فَهَيَّجَ بِقَتْلِهِ وَقْعَةَ بُعَاثٍ. فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ الْمُجَذَّرُ، والحارث بن سويد(1/146)
ابن الصامت، فشهدا بَدْرًا. فَجَعَلَ الْحَارِثُ يَطْلُبُ مُجَذَّرًا لِيَقْتُلَهُ بِأَبِيهِ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ أَتَاهُ مِنْ خَلْفِهِ فَقَتَلَهُ.
فَلَمَّا رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حمراء الأسد أتاه جبريل فأخبره بأنه قتل مجذرا. فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى قُبَاءَ، فَأَتَاهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدٍ فِي مِلْحَفَةٍ مُوَرَّسَةٍ. فَلَمَّا رَآهُ دَعَا عُوَيْمَ بْنَ ساعدة وقال: اضرب عنق الحارث بمجذر بن ذياد. فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا قَتَلْتُهُ رُجُوعًا عَنِ الإِسْلامِ وَلَكِنْ حَمِيَةٌ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وَأُخْرِجُ دِيَتَهُ وَأَصُومُ وَأَعْتِقُ. وَجَعَلَ يَتَمَسَّكُ بِرِكَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنْ فَرَغَ مِنْ كَلامِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدِّمْهُ يَا عُوَيْمُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ. فَضَرَبَ عنقه على باب المسجد، والله أعلم.(1/147)
-السَّنة الرابعَة
-سريّة أبي سلمَة إلى قطن في أولها
قال الواقدي: حدثنا عمر بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَعِيدٍ الْيَرْبُوعِيُّ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الأَسَدِ، وَغَيْرِهِ قَالُوا: شَهِدَ أَبُو سَلَمَةَ أُحُدًا، وَكَانَ نَازِلًا فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ بِالْعَالِيَةِ، حين تَحَوَّلَ مِنْ قُبَاءَ فَجُرِحَ بِأُحُدٍ، وَأَقَامَ شَهْرًا يُدَاوِي جُرْحَهُ. فَلَمَّا كَانَ هِلالُ الْمُحَرَّمِ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: اخْرُجْ فِي هَذِهِ السَّرِيَّةِ فَقَدِ اسْتَعْمَلْتُكَ عَلَيْهَا، وَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَقَالَ: سِرْ حَتَّى تَأْتِيَ أَرْضَ بَنِي أَسَدٍ فَأَغِرْ عَلَيْهِمْ. وَكَانَ مَعَهُ خَمْسُونَ وَمِائَةٌ، فَسَارُوا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى أَدْنَى قَطَن - مَاء مِنْ مِيَاهِهِمْ - فَيَجِدُونَ سَرْحًا لِبَنِي أَسَدٍ، فَأَغَارُوا عَلَيْهِ وَأَخَذُوا مَمَالِيكَ ثَلاثَةً، وَأَفْلَتَ سَائِرُهُمْ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَغَابَ بِضْعَ عشرة ليلة.
قال عمر بن عثمان: فحدثني عبد الملك بن عبيد، قال: لما دخل أبو سلمة المدينة انتقض جُرْحُه، فمات لثلاث بقين من جُمَادى الآخرة.(1/148)
-غزوة الرَّجيع
وهي في صفر من السّنة الرابعة، فيما ورَّخه الواقدي. وقال: هي عَلَى سبعة أميال من عُسْفان. فحدثني موسى بن يعقوب، عَنْ أبي الأسود قَالَ: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابَ الرَّجيع عيونًا إلى مكة ليُخْبِروه.
قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سعد، عن ابن شهاب: أخبرني عمر بن أسيد ابن جَارِيَةَ الثَّقَفِيُّ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ رَهْطٍ عَيْنًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتِ بْنِ أَبِي الأَقْلَحِ الأَنْصَارِيَّ، فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالْهَدَّاة؛ بَيْنَ عُسْفَانَ وَمَكَّةَ ذُكِرُوا لِحَيٍّ مِنْ هُذَيْلٍ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو لِحْيَانَ، فَنَفَرُوا لَهُمْ بِقَرِيبٍ مِنْ مِائَةِ رَجُلٍ رَامٍ. فَاقْتَصُّوا آثَارَهُمْ، حَتَّى وَجَدُوا مَأْكَلَهُمُ التَّمْرَ، فَقَالُوا: نَوَى يَثْرِبَ، فَاتَّبَعُوا آثَارَهُمْ. فَلَمَّا أَحَسَّ بِهِمْ عَاصِمٌ وأصحابه لجؤوا إلى قردد - أي فدفد من الأرض - فَأَحَاطَ بِهِمُ الْقَوْمُ، فَقَالُوا لَهُمُ: انْزِلُوا، فَأَعْطُوا بِأَيْدِيكُمْ، وَلَكُمُ الْعَهْدُ وَالْمِيثَاقُ أَنْ لا نَقْتُلَ منكم أحدا. فقال عَاصِمٌ: أَمَّا أَنَا فَوَاللَّهِ لا أَنْزِلُ فِي ذِمَّةِ مُشْرِكٍ، اللَّهُمَّ أَخْبِرْ عَنَّا نَبِيَّكَ. فَرَمَوْهُمْ بِالنَّبْلِ، فَقَتَلُوا عَاصِمًا فِي سَبْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَنَزَلَ إِلَيْهِمْ ثَلاثَةٌ عَلَى الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ: خُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَآخَرُ. فَلَمَّا اسْتَمْكَنُوا مِنْهُمْ أَطْلَقُوا أَوْتَارَ قُسِيِّهِمْ فَرَبَطُوهُمْ بِهَا. فَقَالَ الرَّجُلُ الثَّالِثُ: هَذَا أَوَّلُ الْغَدْرِ، وَاللَّهِ لا أَصْحَبُكُمْ إِنَّ لِي بِهَؤُلاءِ أُسْوةٌ - يُرِيدُ الْقَتْلَى - فَجَرُّوهُ وَعَالَجُوهُ، فَأَبَى أَنْ يَصْحَبَهُمْ، فَقَتَلُوهُ، وَانْطَلَقُوا بِخُبَيْبٍ وَزَيْدٍ، حَتَّى بَاعُوهمَا بِمَكَّةَ بَعْدَ وَقْعَةِ(1/149)
بَدْرٍ. فَابْتَاعَ بَنُو الْحَارِثِ بْنِ عَامِرِ بْنِ نَوْفَلٍ خُبَيْبًا. وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ قَتَلَ الْحَارِثَ يوم بدر.
فائدة: قال الدمياطي: هذا وهم، ما شهد خبيب بن عدي الأوسي بدرا ولا قتل الحارث بن عامر، إنما الذي شهدها وقتله هو خبيب بن أساف الخزرجي.
رجع، قال: فلبث خبيب عِنْدَهُمْ أَسِيرًا حَتَّى أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ، فَاسْتَعَارَ مِنْ بَعْضِ بَنَاتِ الْحَارِثِ مُوسَى يُسْتَحَدُّ بِهَا لِلْقَتْلِ فَأَعَارَتْهُ. فَدَرَجَ بُنَيٌّ لَهَا وَهِيَ غَافِلَةٌ حَتَّى أَتَاهُ، فَوَجَدَتْهُ مُجْلِسَهُ عَلَى فَخِذِهِ وَالْمُوسَى بِيَدِهِ، فَفَزِعَتْ فَزْعَةً عَرَفَهَا خُبَيْبٌ، فَقَالَ: أَتَخْشَيْنَ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ أَسِيرًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ خبيب، والله لقد رأيته أو وَجَدْتُهُ يَأْكُلُ قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ وَإِنَّهُ لَمُوثَقٌ بِالْحَدِيدِ، وَمَا بِمَكَّةَ مِنْ ثَمَرَةٍ، وَكَانَتْ تَقُولُ: إِنَّهُ لَرِزْقٌ رَزَقَهُ اللَّهُ خُبَيْبًا. فَلَمَّا خَرَجُوا بِهِ مِنَ الْحَرَمِ لِيَقْتُلُوهُ فِي الْحِلِّ قَالَ لَهُمْ: دَعُونِي أَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ. فَتَرَكُوهُ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَوْلا أَنْ تَحْسَبُوا أَنَّ ما بِي جَزَعٌ مِنَ الْقَتْلِ لَزِدْتُ، اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَدًا، وَاقْتُلْهُمْ بَدَدًا، وَلا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا، وَقَالَ:
فَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ... عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي
وَذَلِكَ فِي ذَاتِ الإله، وإن يشأ ... يبارك على أوصال شلو مُمَزَّعِ
ثُمَّ قَامَ أَبُو سِرْوَعَةَ عُقْبَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَتَلَهُ.
وَكَانَ خُبَيْبٌ هُوَ سَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ قُتِلَ صَبْرًا؛ الصَّلاةَ.
وَاسْتَجَابَ اللَّهُ لِعَاصِمٍ يَوْمَ أُصِيبَ؛ فَأَخْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ يَوْمَ أُصِيبُوا خَبَرَهُمْ. وَبَعَثَ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى عَاصِمِ بْنِ ثَابِتٍ ليؤتوا مِنْهُ بِشَيْءٍ يُعْرَفُ، وَكَانَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ عُظَمَائِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى عَاصِمٍ مثل(1/150)
الظُّلَّةِ مِنَ الدَّبْرِ، فَحَمَتْهُ مِنْ رُسُلِهِمْ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى أَنْ يَقْطَعُوا مِنْهُ شَيْئًا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاصِمَ بْنَ ثَابِتٍ وَأَصْحَابَهُ عَيْنًا لَهُ، فَسَلَكُوا النَّجْدِيَّةَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالرَّجِيعِ. فَذَكَرُوا الْقِصَّةَ.
قَالَ مُوسَى: وَيُقَالُ: كَانَ أَصْحَابُ الرَّجِيعِ سِتَّةً مِنْهُمْ: عَاصِمٌ، وَخُبَيْبٌ، وَزَيْدُ بْنُ الدَّثِنَةِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَارِقٍ - حَلِيفٌ لِبَنِي ظَفَر - وَخَالِدُ ابن الْبُكَيْرِ اللَّيْثِيّ، وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ؛ حَلِيفُ حَمْزَةَ. وَسَاقَ حَدِيثَهُمْ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابن إسحاق، حدثني عاصم بن عمر بن قَتَادَةَ: أَنَّ نَفَرًا مِنْ عَضَلٍ وَالْقَارَةِ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ أُحُدٍ فَقَالُوا: إِنَّ فِينَا إِسْلامًا، فَابْعَثْ مَعَنَا نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِكَ لِيُفَقِّهُونَا فِي الدِّينِ وَيُقْرِئُونَا الْقُرْآنَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ خُبَيْبُ بْنُ عَدِيٍّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ مَعَهُمْ سِتَّةً، أَمَّرَ عَلَيْهِمْ مَرْثَدَ بْنَ أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَسَمَّاهُمْ كَمَا قَالَ مُوسَى.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَخَرَجُوا مَعَ الْقَوْمِ، حَتَّى إِذَا كَانُوا عَلَى الرَّجِيعِ - ماء لهذيل بناحية الحجاز على صدور الهدء - غَدَرُوا بِهِمْ. فَاسْتَصْرَخُوا عَلَيْهِمْ هُذَيْلًا، فَلَمْ يَرُع الْقَوْمَ وَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ إِلا الرِّجَالُ بِأَيْدِيهِمُ السيوف، فأخذوا أسيافهم ليقاتلوهم، فقالوا لهم: والله مَا نُرِيدُ قَتْلَكُمْ وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَنْ نُصِيبَ بكم شيئا من أهل مكة، ولكم عَهْدُ اللَّهِ وَمِيثَاقُهُ أَنْ لا نَقْتُلَكُمْ. فَأَمَّا مَرْثَدٌ، وَعَاصِمٌ، وَابْنُ الْبُكَيْرٍ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لا نَقْبَلُ مِنْ مُشْرِكٍ عَهْدًا وَلا عَقْدًا أَبَدًا. ثم قتلوا، وَأَرَادَتْ هُذَيْلٌ أَخْذَ رَأْسِ عَاصِمٍ لِيَبِيعُوهُ مِنْ سُلَافَةَ بِنْتِ سَعْدٍ، وَكَانَتْ قَدْ نَذَرَتْ حِينَ أَصَابَ ابْنَيْهَا يَوْمَ أُحُدٍ، لَئِنْ قَدَرَتْ عَلَى عاصم لتشربن(1/151)
فِي قِحْفِهِ الْخَمْرَ، فَمَنَعَتْهُ الدَّبْرُ، فَانْتَظَرُوا ذِهَابَهَا عَنْهُ، فَأَرْسَلَ اللَّهُ الْوَادِيَ فَحَمَلَ عَاصِمًا فَذَهَبَ بِهِ.
وَقَدْ كَانَ عَاصِمٌ أَعْطَى اللَّهَ عَهْدًا أَنْ لا يَمَسَّهُ مُشْرِكٌ وَلا يَمَسَّ مُشْرِكًا أَبَدًا تَنَجُّسًا. وَأَسَرُوا خُبَيْبًا، وَابْنَ الدَّثِنَةِ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَارِقٍ، ثُمَّ مَضَوْا بِهِمْ إِلَى مَكَّةَ لِيَبِيعُوهُمْ. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالظَّهْرَانِ انْتَزَعَ عَبْدُ اللَّهِ يَدَهُ مِنَ الْقِرَانِ ثُمَّ أَخَذَ سَيْفَهُ وَاسْتَأْخَرَ عَنِ الْقَوْمِ، فَرَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ حَتَّى قَتَلُوهُ، فَقَبْرُهُ بِالظَّهْرَانِ.
وقال البكّائيّ، عَنِ ابن إسحاق، حدّثني يحيى، عَنْ أبيه عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبير، عَنْ عُقْبَةَ بن الحارث، سَمِعْتُهُ يَقْولُ: ما أنا والله قتلتُ خُبَيْبًا، لأنا كنتُ أصغر من ذَلِكَ، ولكن أبا مَيسْرة أخا بني عبد الدّار أخذ الحرْبَةَ فجعلها في يدي، ثُمَّ أخذ بيدي وبالحربة، ثُمَّ طعنه بِهَا حتى قتله.
ثُمَّ ذكر ابن إسحاق أنّ خبيبًا قَالَ:
لقد جَمَّع الأحزابُ حولي وألَّبُوا ... قبائلَهم واستجمعوا كلّ مجمع
وكلهم مُبْدِي العداوةَ جاهدٌ ... عليَّ لأنّي في وثاق مضيعِ
وقد جمعوا أبناءَهم ونساءَهم ... وقُرِّبَتْ من جذعٍ طويلٍ مُمَنَّعِ
إلى الله أشكو غُرْبَتي ثُمَّ كُرْبَتي ... وما أرصد الأحزاب لي عند مصرعي
فذا العرش صبرني على ما يراد بي ... فقد بضعوا لحمي وقد ياس مطمعي
وذلك في ذاتِ الِإلهِ وإنْ يشأْ ... يُبارِكْ عَلَى أَوْصالِ شِلْوٍ مُمَزَّعِ
وقد خيّروني الكفَر والموتُ دُونه ... وقد هملتْ عَيْناي من غير مَجْزَع
وما بي حِذارُ الموتِ، إنّي لميت ... ولكن حذاري جحم نار ببلقع
ووالله لم أحفل إذا متُّ مسلِمًا ... عَلَى أيّ جنبٍ كان في الله مَصْرَعي
فلست بمُبدٍ للعدوّ تَخَشُّعًا ... ولا جَزَعًا إنّي إلى الله مرجعي
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، وَجَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ عَنْ جَدِّهِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ(1/152)
عَيْنًا؛ قَالَ: فَجِئْتُ إِلَى خَشَبَةِ خُبَيْبٍ فَرَقِيتُ فِيهَا وَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْعُيُونَ، فَأَطْلَقْتُهُ فَوَقَعَ بِالأَرْضِ، ثُمَّ اقْتَحَمْتُ فَانْتَبَذْتُ قَلِيلًا، ثُمَّ الْتَفَتُّ فَلَمْ أَرَ خُبَيْبًا، فَكَأَنَّمَا ابْتَلَعَتْهُ الأَرْضُ.
زَادَ جَعْفَرُ بن عون: فلم تذكر لخبيب رِمَّةٌ حَتَّى السَّاعَةِ.
-غزوة بئر مَعُوَنة
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحاب بئر مَعُوَنة في صفر، عَلَى رأس أربعةِ أشهرٍ من أُحُد.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ بن مَالِكٍ، وَرِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنَّ عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ الَّذِي يُدْعَى مُلاعِبَ الأَسِنَّةِ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُشْرِكٌ، فَعَرَضَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الإِسْلامَ، فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ، وَأَهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّةً. فَقَالَ: إِنِّي لا أَقْبَلُ هَدِيَّةَ مُشْرِكٍ. فَقَالَ: ابْعَثْ مَعِي مَنْ شِئْتَ مِنْ رُسُلِكَ، فَأَنَا لَهُمْ جَارٌ، فَبَعَثَ رَهْطًا، فِيهِمُ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو السَّاعِدِيُّ؛ وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: أَعْنَقَ لِيَمُوتَ، بَعَثَهُ عَيْنًا لَهُ فِي أَهْلِ نجد. فسمع بهم عَامِر بْن الطُّفَيْلِ، فَاسْتَنْفَرَ بَنِي عَامِرٍ، فَأَبَوْا أَنْ يُطِيعُوهُ، فَاسْتَنْفَرَ بَنِي سُلَيْمٍ فَنَفَرُوا مَعَهُ، فَقَتَلُوهُمْ بِبِئْرِ مَعُونَةَ، غَيْرَ عَمْرِو بْنِ أُمَّيَةَ الضَّمْرِيِّ، فَإِنَّهُ أَطْلَقَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي وَالِدِي، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِثِ بْن هِشَامٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: قَدِمَ أَبُو الْبَرَاءِ عَامِرُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جَعْفَرٍ، مُلاعِبُ الأَسِنَّةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَلَمْ يُسْلِمْ وَلَمْ يَبْعُدْ مِنَ الإِسْلامِ. وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ بَعَثْتَ مَعِي رِجَالًا مِنْ(1/153)
أَصْحَابِكَ إِلَى أَهْلِ نَجْدٍ يَدْعُونَهُمْ إِلَى أَمْرِكَ رَجَوْتُ أَنْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ. قَالَ: أَخْشَى عَلَيْهِمْ أَهْلَ نَجْدٍ. قَالَ أَبُو الْبَرَاءِ: أنا لَهُمْ جَارٌ. فَبَعَثَ الْمُنْذَرَ بْنَ عَمْرٍو فِي أَرْبَعِينَ رَجُلًا، فِيهِمُ الْحَارِثُ بْنُ الصِّمَّة، وَحَرَامُ بْنُ مِلْحَانَ؛ أَخُو بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ، وَعُرْوَةُ بن أسماء ابن الصلت السلمي ورافع بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ، وَعَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أبي بكر، في رجال من خيار المسلمين، فساروا حتى نزلوا بئر معونة، بين أرض بني عَامِرٍ وَحَرَّةِ بَنِي سُلَيْمٍ. ثُمَّ بَعَثُوا حَرَامَ بْنَ مِلْحَانَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ، فَلَمْ يَنْظُرْ فِي الْكِتَابِ حَتَّى قَتَلَ الرَّجُلُ، ثُمَّ استصرخ بني سليم فأجابوه وأحاطوا بالقوم، فَقَاتَلُوهُمْ حَتَّى اسْتُشْهِدُوا كُلُّهُمْ إِلا كَعْبَ بْنَ زَيْدٍ، مِنْ بَنِي النَّجَّارِ، تَرَكُوهُ وَبِهِ رَمَقٌ فَارتُثَّ مِنْ بَيْنِ الْقَتْلَى، فَعَاشَ حَتَّى قُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
وَكَانَ فِي سَرْح الْقَوْمِ عَمْرو بْن أُمَيَّةَ وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمْ يُخْبِرْهُمَا بِمُصَابِ الْقَوْمِ إِلَّا الطَّيْرُ تَحُومُ عَلَى الْعَسْكَرِ، فَقَالا: وَاللَّهِ إِنَّ لِهَذِهِ الطَّيْرِ لَشَأْنًا، فَأَقْبَلا فنظرا، فَإِذَا الْقَوْمُ فِي دِمَائِهِمْ وَإِذَا الْخَيْلُ الَّتِي أَصَابَتْهُمْ وَاقِفَةٌ. فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ لِعَمْرٍو: مَاذَا تَرَى؟ قَالَ: أَرَى أَنْ نَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخْبِرهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: لَكِنِّي لَمْ أَكُنْ لأَرْغَبَ بِنَفْسِي عَنْ مَوْطِنٍ قُتِلَ فِيهِ الْمُنْذِرُ بْنُ عَمْرٍو، وَمَا كُنْتُ لأُخْبِرَ عَنْهُ الرِّجَالَ. وَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، وَأَسَرُوا عُمَرًا. فَلَمَّا أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مِنْ مُضَرَ أَطْلَقَهُ عامر بن الطفيل وجز نَاصِيَتَهُ وَأَعْتَقَهُ. فَلَمَّا كَانَ بِالْقَرْقَرَةِ أَقْبَلَ رَجُلانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ حَتَّى نَزَلَا فِي ظِلٍّ هُوَ فِيهِ، وَكَانَ مَعَهُمَا عَهْدٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجوارٌ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَمْرٌو، حَتَّى إِذَا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا. فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ فَقَالَ: قَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ، لأَدِيَنَّهُمَا. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ، قَدْ كُنْتُ لِهَذَا كَارِهًا مُتَخَوِّفًا، فَبَلَغَ ذلك أبا براء فشق عليه إخفار عامر أبا براء، فَحَمَلَ رَبِيعَةَ وَلَد أَبِي بَرَاءٍ عَلَى عَامِرِ بن الطفيل فطعنه فِي فَخِذِهِ فَأَشْوَاهُ فَوَقَعَ مِنْ فَرَسِهِ وَقَالَ: هَذَا عَمَلُ أَبِي بَرَاءٍ؛ إِنْ مِتُّ فَدَمِي لِعَمِّي فَلا يُتْبَعَنَّ بِهِ، وَإِنْ أَعِشْ فَسَأَرَى رأيي.(1/154)
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ارتُثَّ فِي الْقَتْلَى كَعْب بْن زَيْدٍ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ.
وَقَالَ حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت، عن أنس أن ناسا جاؤوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: ابْعَثْ مَعَنَا رِجَالًا يُعَلِّمُونَنَا الْقُرْآنَ، وَالسُّنَّةَ. فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ سَبْعِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُمْ القراء، وفيهم خالي حرام بن ملحان، يقرؤون الْقُرْآنَ وَيَتَدَارَسُونَ بِاللَّيْلِ وَيَتَعَلَّمُونَ، وَكَانُوا بِالنَّهَارِ يَجِيئُونَ بالماء فيضعونه في المسجد، ويحتطبون فَيَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ بِهِ الطَّعَامَ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ، فَبَعَثَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ، فَتَعَرَّضُوا لَهُمْ فَقَتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغُوا الْمَكَانَ. قَالُوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّكَ أَنْ قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِيتَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْكَ. قَالَ: وَأَتَى رَجُلٌ خَالِي مِنْ خَلْفِهِ فَطَعَنَهُ بِالرُّمْحِ حَتَّى أَنْفَذَهُ، فَقَالَ حَرَامٌ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: إن إخوانكم قد قتلوا، وقالوا: اللَّهُمَّ بَلِّغْ عَنَّا نَبِيَّكَ أَنْ قَدْ لَقِينَاكَ فَرَضِينَا عَنْكَ وَرَضِيتَ عَنَّا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ هَمَّامٌ وَغَيْرُهُ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: حَدَّثَنِي أَنَسٌ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالَهُ حَرَامًا فِي سَبْعِينَ رَجُلا فَقُتِلُوا يَوْمَ بِئْرِ مَعْونَةَ. وَكَانَ رَئِيسُ الْمُشْرِكِينَ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال: أُخَيِّرُكَ بَيْنَ ثَلاثِ خِصَالٍ: أَنْ يَكُونَ لَكَ أَهْلُ السَّهْلِ وَلِي أَهْلُ الْمَدَرِ، أَوْ أَكُونَ خَلِيفَتَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَوْ أَغْزُوَكَ بِغَطَفَانَ بِأَلْفِ أَشْقَرَ وَأَلْفِ شَقْرَاءَ، قَالَ: فَطُعِنَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلانٍ، فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَكْرِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلانٍ ائْتُونِي بِفَرَسِي، فَرَكِبَهُ، فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فَرَسِهِ. وَانْطَلَقَ حَرَامٌ وَرَجُلانِ مَعَهُ أَحَدُهُمَا أَعْرَجُ فَقَالَ: كُونَا قَرِيبًا مِنِّي حَتَّى آتِيَهُمْ فَإِنْ آمَنُونِي كُنْتُ كُفْوًا، وَإِنْ قَتَلُونِي أَتَيْتُمْ أَصحَابَكُمْ. فَأَتَاهُمْ حَرَامٌ فَقَالَ: أَتُؤَمِّنُونِي أُبلِّغُكُمْ رِسَالَةَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم؟ فجعل يحدثهم، وأومأوا إِلَى رَجُلٍ فَأَتَاهُ مَنْ خَلْفَهُ فَطَعَنَهُ. قَالَ هَمَّامٌ: وَأَحْسَبُهُ قَالَ: فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. قَالَ: وَقُتِلَ كُلُّهُمْ إِلا الأَعْرَجَ، كَانَ فِي رَأْسِ الجبل.(1/155)
قَالَ أَنَسٌ: أُنْزِلَ عَلَيْنَا، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْمَنْسُوخِ، " إِنَّا قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَيْنَاهُ ". فَدَعا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبْعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَعُصَيَّةً عَصَتِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَقَالَ: ثَلَاثِينَ صَبَاحًا، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَرَوَى نَحْوَهُ قَتَادَةُ، وَثَابِتٌ، وَغَيْرُهُمَا، عَنْ أَنَسٍ. وَبَعْضُهُمْ يَخْتَصِرُ الحديث. وفي بعض طرقه: سبعين صباحا.
قَالَ سليمان بن المُغيرة، عَنْ ثابت قَالَ: كتب أَنَس في أهله كتابًا فقال: اشهدوا معاشرَ القرّاء. فكأنّي كرهت ذَلِكَ، فقلت: لو سمّيتهم بأسمائهم وأسماء آبائهم؛ فقال: وما بأس أن أقول لكم معاشرَ القُرّاء، أفلا أحدّثكم عَنْ إخوانكم الذين كنّا ندعوهم عَلَى عَهْدِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القرّاء؟ قَالَ: فذكر أنس سبعين من الأنصار كانوا إذا جنَّهُمُ الليل أوَوْا إلى معلم بالمدينة فيبيتون يدرسون، فإذا أصبحوا فمَنْ كانت عنده قوة أصاب من الحَطَب واستعذب من الماء، ومن كانت عنده سَعَةٌ أصابوا الشَّاة فأصلحوها، فكان معلّقًا بحجر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَلَمَّا أصيب خُبَيْب بَعَثَهُمْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ فيهم خالي حرام، فأتوا عَلَى حيٍّ من بني سليم، فقال حرام لأميرهم: دعني، فلأخبر هَؤلاءِ إنّا لَيْسَ إيّاهم نريد فيخلّون وجوهنَا، فأتاهم فقال ذَلِكَ، فاستقبله رجل منهم برُمْحٍ فأنفذه به، قَالَ: فلما وجد حَرام مسّ الرمح في جوفه قَالَ: الله أكبر فزتُ وربِّ الكعبة. قَالَ: فانطووا عليهم فما بقي منهم مُخْبِر. قَالَ: فما رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجد على شيء وجده عليهم، فقال أنس: لقد رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلّما صلّى الغداةَ رفع يديه يدعو عليهم، فلما كان بعد ذَلِكَ، إذا أبو طلحة يَقْولُ: هل لك في قاتلِ حَرام؟ قلت: ما له، فعل الله به وفعل. فقال: لا تفعل، فقد أسلم.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ: حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: كان عامر(1/156)
ابن فُهَيْرَةَ غُلامًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الطُّفَيْلِ بْنِ سَخْبَرَةَ، أَخِي عَائِشَةَ لأُمِّهَا؛ وَكَانَتْ لأَبِي بَكْرٍ منحة، فكان يروح بها ويغدو، وَيُصْبِحُ فَيَدَّلِجُ إِلَيْهِمَا ثُمَّ يَسْرَحُ فَلا يَفْطُنُ به أحد من الرعاء. ثم خرج بهما يُعْقِبَانِهِ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ مَعَهُمَا. فَقُتِلَ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ يَوْمَ بِئْرِ مَعُونَةَ، وَأُسِرَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ. فَقَالَ لَهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ: مَنْ هَذَا؟ وَأَشَارَ إِلَى قَتِيلٍ. قَالَ: هَذَا عامر بن فهيرة. فقال: لقد رأيته بعدما قُتِلَ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ حَتَّى أَنِّي لأَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَرْضِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَقَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرِّضُ بَنِي أَبِي الْبَرَاءِ عَلَى عَامِرِ بْنِ الطُّفَيْلِ:
بَنِي أُمِّ الْبَنِينَ أَلَمْ يَرُعْكُمْ ... وَأَنْتُمْ مِنْ ذَوَائبِ أَهْلِ نَجْدِ
تَهَكُّمُ عَامِرٌ بِأَبِي بَرَاءٍ ... لِيُخْفِرَهُ، وَمَا خَطَأٌ كَعَمْدِ
أَلا أَبْلِغْ رَبِيعَةَ ذَا الْمَسَاعِي ... فَمَا أَحْدَثْتَ فِي الْحَدَثَانِ بَعْدِي
أَبُوكَ أَبُو الْحُرُوبِ أَبُو بَرَاءٍ ... وَخَالُكَ مَاجِدٌ حَكَمُ بْنُ سَعْدِ
-ذَكَرَ الخلاف فِي غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَتْ فِي سَنَةِ ثَلاثٍ.
ذَهَبَ الزُّهْرِيُّ إِلَى أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ أُحُدٍ. وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: كَانَتْ بَعْدَ أُحُدٍ، وَبَعْدَ بِئْرِ مَعُونَةَ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بن عبد الرحمن، قال: أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْبُنِّ، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا أبو القاسم المصيصي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي نصر، قال: أخبرنا علي بن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم، قال: حدثنا محمد بن عائذ، قال: حدثنا(1/157)
الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، قال: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي عَقْلِ الْكِلابِيِّينَ. وَكَانُوا زَعَمُوا، قَدْ دَسُّوا إِلَى قُرَيْشٍ حِينَ نَزَلُوا بِأُحُدٍ لِقِتَالِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه يحضونهم عَلَى الْقِتَالِ وَدَلُّوهُمْ عَلَى الْعَوْرَةِ فَلَمَّا كَلَّمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَقَلِ الْكِلابِيِّينَ قَالُوا: اجْلِسْ أَبَا الْقَاسِمِ، حَتَّى تَطْعَمَ وَتَرْجِعَ بِحَاجَتِكَ. ثُمَّ سَاقَ الْحَدِيثَ كُلَّهُ وَتَقَدَّمَ ذِكُرُهُ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمَّا خَرَجَتْ بَنُو النَّضِيرِ أَقْبَلَ عَمْرُو بْنُ سُعْدَى فَأَطَافَ بِمَنَازِلِهِمْ فرأى خرابها، وفكر ثم رجع إلى بني قُرَيْظَةَ فَيَجِدُهُمْ فِي الْكَنِيسَةِ فَيَنْفُخُ فِي بُوقِهِمْ، فَاجْتَمَعُوا. فَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَاطَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ أَيْنَ كُنْتَ مُنْذُ الْيَوْمِ؟ وَكَانَ لا يُفَارِقُ الْكَنِيسَةَ وَكَانَ يَتَأَلَّهُ فِي الْيَهُودِيَّةِ، قَالَ: رَأَيْتُ الْيَوْمَ عِبَرًا قَدْ عَبَرْنَا بِهَا، رَأَيْتُ مَنَازِلَ إِخْوَانِنَا خَالِيَةً بَعْدَ ذَلِكَ الْعِزِّ وَالْجَلَدِ وَالشَّرَفِ الْفَاضِلِ وَالْعَقْلِ الْبَارِعِ، قَدْ تَرَكُوا أَمْوَالَهُمْ وملكها غيرهم، وخرجوا خروج ذل. ولا والتوارة مَا سُلِّطَ هَذَا عَلَى قَوْمٍ قَطُّ لِلَّهِ بِهِمْ حَاجَةٌ. فَقَدْ أَوْقَعَ قَبْلَ ذَلِكَ بِابْنِ الأشرف - ذِي عِزِّهِمْ - بَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ آمِنًا، وَأَوْقَعَ بِابْنِ سُنَيْنَةَ سَيِّدِهِمْ، وَأَوْقَعَ بِبَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَجْلاهُمْ وَهُمْ جَدُّ يَهُودَ، وَكَانُوا أَهْلَ عِدَّةٍ وَسِلاحٍ ونجدة، فحصرهم فَلَمْ يُخْرِجْ إِنْسَانٌ مِنْهُمْ رَأْسَهُ حَتَّى سَبَاهُمْ، وَكُلِّمَ فِيهِمْ فَتَرَكَهُمْ عَلَى أَنْ أَجْلاهُمْ مِنْ يَثْرِبَ، يَا قَوْمُ قَدْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ فَأَطِيعُونِي وَتَعَالَوْا نَتَّبِعْ مُحَمَّدًا، فَوَاللَّهِ إِنَّكُمْ لَتَعْلَمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ بَشَّرَنَا بِهِ وَبِأَمْرِهِ ابُنُ الهيبان وابن جواس، وَهُمَا أَعْلَمُ يَهُودَ، جَاءَانَا مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ يتوكفان قدومه، أمرا بِاتِّبَاعِهِ، وَأَمَرَانَا أَنْ نُقْرِئَهُ مِنْهُمَا السَّلامَ، ثُمَّ مَاتَا عَلَى دِينِهِمَا، فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، فَأَعَادَ هَذَا الْقَوْلَ وَنَحْوَهُ، وَتَخَوُّفَهُمْ بِالْحَرْبِ وَالسِّبَاءِ وَالْجَلاءِ. فَقَالَ ابن باطا: قد والتوراة قرأت صِفَتَهُ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، لَيْسَ فِي الْمَثَانِي الَّتِي أَحْدَثْنَا. فَقَالَ لَهُ كَعْبٌ بن أسد: ما يمنعك يا أبا عبد الرحمن من اتباعه؟ قال: أنت،(1/158)
قال كعب: ولم، والتوراة مَا حَلَّتْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَطُّ، قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنْتَ صَاحِبُ عَهْدِنَا وَعَقْدِنَا فَإِنِ اتَّبَعْتَهُ اتَّبَعْنَاهُ وَإِنْ أَبَيْتَ أَبَيْنَا. فَأَقْبَلَ عَمْرُو بُن سُعْدَى عَلَى كَعْبٍ فَذَكَرَ مَا تَقَاوَلا فِي ذَلِكَ، إِلَى أَنْ قَالَ كَعْبٌ: مَا عِنْدِي فِي أَمْرِهِ إِلا مَا قُلْتُ، مَا تَطِيبُ نَفْسِي أَنْ أَصِيرَ تَابِعًا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي النَّضِيرِ فِي رَبِيعٍ الأَوَّلِ سَنَةَ أَرْبَعٍ. وَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ست ليال. ونزل تحريم الخمر، والله أعلم.
-غزوة بني لحيان
قَالَ ابن إسحاق: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُمادَى الأولى، عَلَى رأس ستّة أشهرٍ من صلح بني قريظة إلى بني لحْيان يطلب بأصحاب الرَّجيع: خُبَيْب وأصحابه، وأظهر أنه يريد الشام ليصيب من القوم غِرَّة.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مَحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ، وَغَيْرِهِ قَالُوا: لَمَّا أُصِيبَ خُبَيْبٌ وَأَصْحَابُهُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طالبا لِدِمَائِهِمْ لِيُصِيبَ مِنْ بَنِي لِحْيَانَ غِرَّةً، فَسَلَكَ طريق الشام وورى عَلَى النَّاسِ أَنَّهُ لا يُرِيدُ بَنِي لِحْيَانَ، حَتَّى نَزَلَ أَرْضَهُمْ - وَهُمْ مِنْ هُذَيْلٍ - فَوَجَدَهُمْ قد حذروا فتمنعوا في رؤوس الْجِبَالِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّا هَبَطْنَا عُسْفَانَ لَرَأَتْ قُرَيْشٌ أَنَّا قَدْ جِئْنَا مَكَّةَ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مِائَتَيْ رَاكِبٍ حَتَّى نَزَلَ عُسْفَانَ، ثُمَّ بَعَثَ فَارِسَيْنِ حَتَّى جاءا كُرَاعَ الْغَمِيمِ ثُمَّ انْصَرَفَا إِلَيْهِ. فَذَكَرَ أَبُو عَيَّاشٍ الزُّرَقِيُّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِعُسْفَانَ صَلاةَ الْخَوْفِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَغَازِي: إِنَّ غَزْوَةَ بَنِي لِحْيَانَ كانت بعد قريظة، فالله أعلم.(1/159)
-غزوة ذاتِ الرِّقاع.
قَالَ ابن إسحاق: إنّها في جُمادَى الأولى سنة أربع، وهي غزوة خصفة من بني ثَعْلبة من غَطَفَان.
وقال محمد بن إسماعيل رحِمه الله: كانت بعد خَيْبَر؛ لأنّ أبا موسى جاء بعد خَيْبر، يعني وشهِدَها. قَالَ: وإنّما جاء أبو هُرَيْرَةَ فأسلم أيامَ خيبر.
وقال ابن إسحاق: في هذه الغزوة سَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزل نَخْلا، فلقي بِهَا جمعًا من غطفان، فتقارب النّاس ولم يكن بينهم حرب.
وقد خاف النّاس بعضهم بعضًا، حتى صَلَّى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأصحابه صلاة الخوف، ثُمَّ انصرف بالنّاس.
وقال الواقدي: إنما سميت ذات الرقاع لأنه جبلٍ كان فيه بُقَعُ حمرةٍ وسواد وبياض، فسُمِّي ذات الرّقاع. قَالَ: وخرج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعشر خلون من المحرم، على رأس سبعة وأربعين شهرا، قدم صرارًا لخمسٍ بقين من المحرَّم.
وذات الرِّقاع قريبة من النُّخَيل بين السَعد والشُقْرَة.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: فَحَدَّثَنِي الضَّحَّاكُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ، عَنْ جَابِرٍ، وَحَدَّثَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: وَعَنْ مَالِكٍ، وَغَيْرِهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَدِمَ قَادِمٌ بجلب(1/160)
له، فاشترى بسوق النبط، وقالوا: مِنْ أَيْنَ جَلْبُكَ؟ قَالَ: جِئْتُ بِهِ مِنْ نَجْدٍ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَنْمَارًا وَثَعْلَبَةَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ جُمُوعًا، وَأَرَاكُمْ هَادِينَ عَنْهُمْ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلُهُ، فَخَرَجَ في أربع مائة من أصحابه - وقيل سبع مائة - وَسَلَكَ عَلَى الْمَضِيقِ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى وَادِي الشُّقْرَةِ، فَأَقَامَ بِهَا يَوْمًا، وَبَثَّ السَّرَايَا، فَرَجَعُوا إليه مع الليل وأخبروه أَنَّهُمْ لَمْ يَرَوْا أَحَدًا، وَقَدْ وَطِئُوا آثَارًا حَدِيثَةً. ثُمَّ سَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أصحابه، حَتَّى أَتَى مَحَالَّهُمْ، فَإِذَا لَيْسَ فِيهَا أَحَدٌ، وَهَرَبُوا إِلَى الْجِبَالِ، فَهُمْ مُطِّلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَخَافَ النَّاسُ بَعْضَهُمْ بَعْضًا. وَفِيهَا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْخَوْفِ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: وَإِنَّمَا قِيلَ لَهَا ذَاتُ الرِّقَاعِ لأَنَّهُمْ رَقَعُوا فِيهَا رَايَاتِهِمْ. قَالَ: وَيُقَالُ ذَاتُ الرِّقَاعِ شَجَرَةٌ هُنَاكَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا غَزْوَتَانِ.
وقال شعيب، عن الزهري، حدثني سنان بن أبي سِنَانٌ الدُّؤَلِيُّ، وَأَبُو سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل نجد، فلما قفل قَفَلَ مَعَهُ، فَأَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعَضَاةِ، فَنَزَلَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعَضَاةِ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ. وَقَالَ هُوَ تَحْتَ شَجَرَةٍ فَعَلِقَ بِهَا سَيْفَهُ. فَنِمْنَا نَوْمَةً، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا فَأَجَبْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ. فَشَامَ السَّيْفَ وَجَلَسَ. فَلَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وشام: أغمد.
قَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ: اسْمُ الأَعَرَابِيِّ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ.
ثُمَّ رَوَى أَبُو بِشْرٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَاتَلَ رَسُولُ(1/161)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَارِبَ خَصَفَةَ بِنَخْلٍ، فَرَأَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ غُرَّةً، فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ غَوْرَثُ بْنُ الْحَارِثِ، حَتَّى قَامَ عَلَى رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسَّيْفِ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قال: الله. قال: فَسَقَطَ السَّيْفُ مِنْ يَدِهِ، فَأَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قَالَ: كنْ خيرَ آخِذ. قَالَ: تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: لا، وَلَكِنْ أُعَاهِدُكَ عَلَى أَنْ لا أُقَاتِلَكَ، وَلا أَكُونَ مَعَ قَوْمٍ يُقَاتِلُونَكَ. فَخَلَّى سَبِيلَهُ. فَأَتَى أَصْحَابَهُ وَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ خَيْرِ النَّاسِ. ثُمَّ ذَكَرَ صَلاةَ الْخَوْفِ، وَأَنَّهُ صَلَّى بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ. وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ مِنْ نَخْلٍ عَلَى جَمَلٍ لِي ضَعِيفٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَتِ الرِّفَاقُ تَمْضِي، وَجَعَلْتُ أَتَخَلَّفُ، حَتَّى أَدْرَكَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مالك يَا جَابِرُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَبْطَأَ بِي جَمَلِي هَذَا. قَالَ: أَنِخْهُ. وَسَاقَ قِصَّةَ الْجَمَلِ.
-غزوة بدر المَوْعِد
قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ؛ وَرَوَى عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَنْفَرَ الْمُسْلِمِينَ لِمَوْعِدِ أَبِي سُفْيَانَ بَدْرًا. وَكَانَ أهلا للصدق والوفاء صلى الله عليه وسلم، فاحتمل الشيطان أولياءه مِنَ النَّاسِ، فَمَشَوْا فِي النَّاسِ يُخَوِّفُونَهُمْ وَقَالُوا: قد أَخْبَرَنَا أَنْ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ مِثْلَ اللَّيْلِ من الناس، يرجون أن يوافقوكم فيتنهبوكم، فالحذر الحذر لا تَغْدُوا. فَعَصَم اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ تَخْوِيفِ الشَّيْطَانِ فَاسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَخَرَجُوا بِبَضَائِعَ لَهُمْ، وَقَالُوا: أَنْ لَقِيَنَا أَبَا سُفْيَانَ فَهُوَ الَّذِي خَرَجْنَا لَهُ، وَإنْ لَمْ نَلْقَهُ ابْتَعْنَا بِبَضَائِعِنَا. وكان بدر متجرا يوافى في كُلَّ عَامٍ. فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا مَوْسِمَ بَدْرٍ، فقضوا منه(1/162)
حَاجَتَهُمْ، وَأَخْلَفَ أَبُو سُفْيَانَ الْمَوْعِدَ، فَلَمْ يَخْرُجْ هُوَ وَلا أَصْحَابُهُ.
وَأَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضَمْرَةَ، بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ حِلْفٌ فَقَالَ: وَاللَّهِ إن كنا لقد أُخْبِرْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْكُمْ أَحَدٌ، فَمَا أَعْمَلُكُمْ إِلَى أَهْلِ هَذَا الْمَوْسِمِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُرِيدُ أن يبلغ ذلك عدوه من قريش: أعملنا إِلَيْهِ مَوْعِدُ أَبِي سُفْيَانَ وَأَصْحَابِهِ وَقِتَالُهُمْ، وَإِنْ شِئْتَ مَعَ ذَلِكَ نَبَذْنَا إِلَيْكَ وَإِلَى قَوْمِكَ حِلْفَهُمْ ثُمَّ جَالَدْنَاكُمْ. فَقَالَ الضَّمْرِيُّ: مَعَاذَ اللَّهِ.
قَالَ: وَذَكَرُوا أَنَّ ابْنَ الْحَمَّامِ قَدِمَ عَلَى قُرَيْشٍ فَقَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ يَنْتَظِرُونَكُمْ لِمَوْعِدِكُمْ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَدْ وَاللَّهِ صَدَقَ. فَنَفَرُوا وجمعوا الأموال، فمن نشط منهم قووه، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ دُونَ أُوقِيَّةٍ. ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَقَامَ بِمَجَنَّةٍ مِنْ عُسْفَانَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ، ثُمَّ ائْتَمَرَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: مَا يُصْلِحُكُمْ إلا عام خِصْبٍ تَرْعَوْنَ فِيهِ السَّمُرَ وَتَشْرَبُونَ مِنَ اللَّبَنِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ، وَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ، وَكَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ تُدْعَى غَزْوَةَ جَيْشِ السَّوِيقِ. وَكَانَتْ فِي شَعْبَانَ سَنَةَ أَرْبَعٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: كَانَتْ بَدْرُ الْمَوْعِدِ، وَتُسَمَّى بَدْرَ الصُّغْرَى، لِهِلالِ ذِي الْقَعْدَةِ عَلَى رَأْسِ خمسة وأربعين شهرا مُنْ مُهَاجَرَهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَأَنَّهُ خَرَجَ في ألف وخمس مائة مِنْ أَصْحَابِهِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، وَكَانَ مَوْسِمُ بَدْرٍ يَجْتَمِعُ فِيهِ الْعَرَبُ لِهِلالِ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى ثَامِنِهِ. فَأَقَامَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَبَاعُوا بَضَائِعَهُمْ، فَرَبِحَ الدِّرْهَمُ دِرْهَمًا. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ.(1/163)
-غزوة الخندق
قَالَ موسى بن عُقْبة: كانت في شوّال سنة أربع. وقال ابن إسحاق: كانت في شوّال سنة خمس. فالله أعلم.
ويقوّي الأوّلَ قولُ ابن عُمَر إنّه عُرِض يوم أُحُد وهو ابن أربع عشرة، فلم يُجِزْه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعُرِض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة فأجازه. لكن هذه التقوية مردودة بما سنذكره في سنة خمس إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي عبد الله ابن رُقَيَّةَ بِنْتِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأبوه عثمان رضي الله عنه عَنْ ستّ سنين. ونزل أبوه في حفرته.
وفيها في شعبان وُلد الحسين بن عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وفيها قُتِل عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح وأصحابه. وقد ذكروا. وكنية عاصم: أبو سليمان، واسم جده أبي الأقلح: قيس بن عصمة بن بني عَمْرو بن عوف، ومن ذريته الأحوص الشاعر ابن عبد الله بن محمد بن عاصم بن ثابت.
وكان عاصم من الرُّماة المذكورين، ثبت يوم أُحُد وَقَتَلَ غيرَ واحد، وشهد بدْرًا.
وقُتل يوم بئر مَعْونة من الصَّحابة:
عامر بن فُهَيْرَة مولى الصِّدّيق؛ وكان من سادة المهاجرين.(1/164)
ومن قُرَيش: الحَكَم بن كَيْسان المخزومي، ونافع بن بُدَيْلِ بن ورقاء السهمي.
وَقُتِلَ يومئذٍ من الأنصار: الحارث بن الصمة بن عَمْرو بن عتيك بن عَمْرو بن مبذول أبو سعد. فعن محمد بن إبراهيم التَّيْمي، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخَى بين الحارث بن الصمة وصُهَيْب. وقال الواقدي: شهد الحارثُ أُحُدًا، وَثَبَتَ مَع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبايعه عَلَى الموت، وقتل عثمان بن عبد الله بن المُغيرة. وعن المِسْور بن رفاعة أنّ الحارث خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بدر، فكُسر بالرَّوْحاء، فردّه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى المدينة وضرب له بسهمه وأجره. قال ابن سعد: وله ذرية بالمدينة وبغداد.
حَرام بن مِلْحان: واسم مِلْحان مالك بن خالد بْنِ زَيْدِ بْن حَرَامِ بْن جُنْدُب بْن عَامِرِ بْن غَنْمِ بْنِ عَدِيّ بْنِ النَّجَّارِ؛ شهد بدْرًا، وهو أخو أمّ سُلَيْم. قَالَ لما طُعِنَ يوم بئر مَعُونة: فُزْتُ وربِّ الكعبة. رحمه الله ورضي عَنْهُ.
عطية بن عَمْرو، من بني دينار. وهذا لم أره في الصّحابة لابن الأثير.
المنذر بن عَمْرو بن خُنَيْس بن حارثة بن لوذان بن عبد ودّ السّاعديّ، أحد النُّقباء ليلة العَقَبَة، شهد بدْرًا وَأُحُدًا. وخُنَيْس هو المعروف بالمُعْنق ليموت.
أنس بن معاوية بن أنس، أحد بني النّجّار.
أبو شيخ بن ثابت بن المنذر، (و) سهل بن عامر بن سعد، من بني النجار كلاهما.
معاذ بن ناعض الزُّرْقي، بَدْري. عُرْوة بن الصَّلْت السّلَمي حليف الأنصار.
مالك بن ثابت؛ وأخوه: سفيان، كلاهما من بني النبيت.(1/165)
فهؤلاء الذين حُفِظَت أسماؤهم من الشُّهداء السبعين الذين صح أنه نزل فيهم: " بلِّغوا عنّا قومَنا أنّا لقينا ربَّنا فرضي عنّا وأرضانا " ثُمَّ نُسِخَتْ.
وقيل: بل كانوا اثنين وعشرين راكبًا. ولعلّ الراوي عدّ الركابَ دون الرَّجَّالَةِ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي عَمْرٍو، قال: أخبرنا ابن البن، قال: أخبرنا جدي، قال: أخبرنا ابن أبي العلاء، قال: أخبرنا ابن أبي نصر، قال: أخبرنا ابن أبي العقب، قال: أخبرنا أحمد ابن البسري، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَائِذٍ، أَخْبَرَنِي حَجْوَةُ بْنُ مُدْرَكٍ الْغَسَّانِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ، عَنِ الْحَكَمِ، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث عامر بن مَالِكٍ مُلاعِبَ الأَسِنَّةِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ابْعَثْ إِلَيَّ رَهْطًا مِمَّنْ مَعَكَ يُبَلِّغُونِي عَنْكَ وَهُمْ فِي جِوَارِي. فَأَرْسَلَ إليه المنذر بن عمرو رضي الله عنه في اثنين وعشرين راكبا، فلما أتوا أداني أرض بني عامر بعث أربعة ممن معه إِلَى بَعْضِ مِيَاهِهِمْ، أَوْ قَالَ إِلَى بَعْضِهِمْ. قَالَ: وَسَمِعَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ فَأَتَاهُمْ فَقَاتَلَهُمْ فَقَتَلَهُمْ قَالَ: وَرَجَعَ الأَرْبَعَةُ رَهْطٍ الَّذِينَ كَانَ وَجَّهَ بِهِمُ الْمُنْذِرُ، فَلَمَّا دَنَوْا إِذَا هُمْ بِنُسُورٍ تَحُومُ، قَالُوا: إِنَّا لَنَرَى نُسُورًا تَحُومُ، وَإِنَّا نَرَى أَصْحَابَنَا قَدْ قُتِلُوا، فَلَمَّا أَتَوْهُمْ قَالَ رَجُلانِ مِنْهُمْ: لا نَطْلُبُ الشَّهَادَةَ بَعْدَ الْيَوْمِ، فَقَاتَلا حَتَّى قُتِلا. وَرَجَعَ الرَّجُلانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَقِيَا رجلين من بني عامر فسألاهما ممن هُمَا فَأَخْبَرَاهُمَا فَقَتَلاهُمَا وَأَخَذَا مَا مَعَهُمَا. وَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَاهُ خَبَرَ أَصْحَابِهِمْ وَخَبَرَ الرَّجُلَيْنِ الْعَامِرِيَّيْنِ، وَأَتَيَاهُ بِمَا أَصَابَا لَهُمَا. فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُلَّتَيْنِ كَانَ كَسَاهُمَا، فَقَالَ: قَدْ كَانَا مِنَّا فِي عَهْدٍ. فَوَدَاهُمَا إِلَى قَوْمِهِمَا دِيَةَ الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ.
وَقَالَ حَسَّانٌ بَعْدَ مَوْتِ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ يُحَرِّضُ ابْنَهُ رَبِيعَةَ:
بَنِي أم البنين ألم يرعكم فذكر الأبيات.
فقال ربيعة: هل يرضى مني حسان طَعْنَةٌ أَطْعَنُهَا عَامِرًا؟ قِيلَ: نَعَمْ فَشَدَّ عَلَيْهِ فَطَعَنَهُ فَعَاشَ مِنْهَا.
وفيها تُوُفِّيَتْ أمّ المؤمنين زينب بنت خُزَيْمَة بن الحارث بن عبد الله بن عَمْرو بن عبد مَنَاف بن هلال بن عامر بن صَعْصَعَة القَيْسيّة الهَوَازِنيّة العامرية(1/166)
الهِلالِيَّةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وكانت تُسمَّى أمُّ المساكين لِإحسانها إليهم، تزوّجت أوّلًا بالطُّفَيْل بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف رضي الله عنه، ثُمَّ طلقها فتزوجها أخوه عُبَيْدة بْن الحارث رضي الله عنه، فاستشهد يوم بدر، ثُمَّ تزوجها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رمضان سنة ثلاث، ومكثت عنده عَلَى الصّحيح ثمانية أشهر، وقيل: كانت وفاتها في آخر ربيع الآخر، وصلّى عليها النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ودفنها بالبقيع، ولها نحو ثلاثين سنة.
وفيها تَزَوَّجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ هندَ بنتَ أَبِي أُمَّية، واسمه حُذَيفة، وقيل سُهَيْلٌ، ويُدْعَى زاد الراكب؛ ابن المُغيرة بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن مخزوم الْقُرشيّة المخزومية، وكانت قبله عند ابن عمة النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبي سَلَمَةَ عبد الله بن عبد الأسد بْنِ هِلالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَر بْن مخزوم، وأمّه بَرَّة بنت عبد المطّلب، وهاجر بِهَا إلى الحبشة فولدت له هناك زينب، وولدت له سَلَمَةَ وعمر ودرَّة، وكان أخا النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرضاعة، أرضعتهما وحمزة ثُوَيْبَة مولاة أبي لَهَب، ويقال: إنّه كان أسلم بعد عشرة أنفُس، وكان أوّل من هاجر إلى الحبشة، ثُمَّ كَانَ أول من هاجر إلى المَدِينَةِ، ولمّا عبر إلى اللَّه كان الذي أغمضه رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ، ثم دعا له، وكان قد جُرِح بأُحُد جرحًا، ثُمَّ انتفض عليه، فمات منه في جُمَادى الآخرة سنة أربع. فلما تُوُفيَّ تزوّجها النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين حلّت في شوّال، وكانت من أجمل النّساء؛ وهي آخر نسائه وفاةً.
ثُمَّ تزوّج بعدها بأيام يسيرة، بنت عمّته أمّ الحَكَم؛ زينب بنت جحش بن رئاب الأسدي، وكان اسمها بَرَّة فسمّاها زينب. وكانت هي وإخوتها من المهاجرين، وأمّهم أُمَيْمَة بنت عبد المطّلب، وهي التي نزلت هذه الآية فيها: " فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا ". وكانت تفخر عَلَى نساء النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقول: زوَّجَكُنّ أهاليكُنّ وزوَّجني الله من السّماء. وفيها نزلت آية الحجاب. وتزوّجها وهي بنت خمسٍ وثلاثين سنة.
وفي هذه السنة رجم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليهوديّ واليهوديّة اللَّذَيْن زَنَيَا.
وفيها تُوُفِّيَتْ أمّ سعد بن عُبَادة، ورَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غائب في بعض(1/167)
مغازية، ومعه ابنها سعد، قَالَ قَتَادة، عَنْ سعيد بن المسيّب، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلَّى على قبر أم سعد بعد أشهُر، والله أعلم.(1/168)
-السَّنَةُ الْخَامِسَةُ
-غزوة ذات الرقاع
خرج لَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم لعشر خَلَون من المحرَّم. قاله الواقدي كما تقدّم. وقال ابن إسحاق: إنّها في جُمَادى الأولى سنة أربع.
-غزوة دُومَة الْجَنْدَل
وهي بضمّ الدَّال
قِيلَ: سُمِّيَتْ بدُومى بن إسماعيل عليه السلام، لكَوْنها كانت مَنْزِلَه، ودَوْمَة بالفتح موضعٌ آخر. وهذه الغزوة كانت في ربيع الأوّل، ورجع النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل أن يصل إليها، ولم يلق كَيْدًا.
وقال المدائني: خرج صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المحرَّم، يريد أُكَيْدَر دُومه، فهرب أُكَيْدَر، وانصرف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَغَيْرِهِمَا، قَالُوا: أراد رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يقْرُبَ إِلَى أَدْنَى الشَّامِ لِيُرْهِبَ قَيْصَرَ، وَذُكِرَ لَهُ أَنَّ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ جَمْعًا عَظِيمًا يَظْلِمُونَ مَنْ مَرَّ بِهِمْ. وَكَانَ بِهَا سُوقٌ وتجار، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ألف يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ(1/169)
النَّهَارَ، وَدَلِيلُهُ مَذْكُورٌ الْعُذْرِيُّ، فَنَكَبَ عَنْ طَرِيقِهِمْ، فَلَمَّا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ دُومَةَ يَوْمٌ قَوِيٌّ، قَالَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ سَوَائِمَهُمْ تَرْعَى عِنْدَكَ، فَأَقِمْ حَتَّى أَنْظُرَ. وَسَارَ مَذْكُورٌ حتى وجد آثَارِ النَّعَمِ، فَرَجَعَ وَقَدْ عَرَفَ مَوَاضِعَهُمْ، فَهَجَمَ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَاشِيَتِهِمْ وَرِعَائِهِمْ فَأَصَابَ مَنْ أَصَابَ، وَجَاءَ الْخَبَرُ إِلَى دُومَةَ فَتَفَرَّقُوا، وَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهي عن المدينة ستة عشر يوما، وبينها وَبَيْنَ دِمَشْقَ خَمْسُ لَيَالٍ لِلْمُجِدِّ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْكُوفَةِ سَبْعُ لَيَالٍ، وَهِيَ أَرْضُ ذَاتِ نَخْلٍ، يزرعون الشعير وغيره، ويسقون عَلَى النَّوَاضِحِ، وَبِهَا عَيْنُ مَاءٍ.
-غزوة المُرَيْسِيع
وتُسَمّى غزوة بني المُصْطَلِق، كانت في شعبان سنة خمسة عَلَى الصحيح، بل المجزوم به.
قَالَ الواقدي: استخلف النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيها عَلَى المدينة زيدَ بن حارثة. فحدّثني شُعَيْب بن عَبّاد عَنِ المِسْوَر بن رِفاعة قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سبع مائة.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى ابن حِبَّانَ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالُوا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَلَغَهُ أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْمَعُونَ لَهُ، وَقَائِدُهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو جُوَيْرِيَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ بِالْمُرَيْسِيعِ، مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِمْ، فَأَعَدُّوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَاحَفَ النَّاسُ فَاقْتَتَلُوا، فَهَزَمَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بني المصطلق وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَنَفَّلَ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءُهْم وَأَمْوَالَهُمْ، وَأَقَامَ عَلَيْهِمْ مِنْ نَاحِيَةِ قُدَيْدٍ وَالسَّاحِلِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ مَعْمَرٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ كَانُوا يَنْزِلُونَ نَاحِيَة الْفَرْعِ، وَهُمْ حُلَفَاءُ بَنِي مُدْلِجٍ، وَكَانَ رَأْسَهُمُ الْحَارِثُ ابن أبي(1/170)
ضِرَارٍ، وَكَانَ قَدْ سَارَ فِي قَوْمِهِ وَمَنْ قدر عليه، وابتاعوا خيلا وسلاحا، وتهيؤوا لِلْمَسِيرِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَحَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي الأَبْيَضِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جدته، وهي مولاة جويرية، سَمِعْتُ جُوَيْرِيَةَ تَقُولُ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحنُ عَلَى الْمُرَيْسِيعِ، فَأَسْمَعُ أبي يقول: أتانا ما لا قِبَلَ لَنَا بِهِ، قَالَتْ: وَكُنْتُ أَرَى مِنَ الناس والخيل والعدة مَا لا أَصِفُ مِنَ الْكَثْرَةِ، فَلَمَّا أَنْ أَسْلَمْتُ وَتَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجَعْنَا جَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسُوا كَمَا كُنْتُ أَرَى، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ رُعْبٌ مِنَ اللَّهِ. وَكَانَ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَدْ أَسْلَمَ يَقُولُ: لَقَدْ كُنَّا نَرَى رِجَالا بِيضًا عَلَى خَيْلٍ بَلْقٍ، مَا كُنَّا نَرَاهُمْ قَبْلُ وَلا بَعْدُ.
قَالَ الواقدي: ونزل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الماءَ، وضربت له قُبَّةٌ من أَدَم، ومعه عائشة وأمّ سَلَمَةَ، وصفّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أصحابه، ثُمَّ أمر عُمَر فنادى فيهم: قولوا: لا إله إلّا الله، تمنعوا بِهَا أنفسَكم وأموالكم، ففعل عُمَر، فأبَوْا. فكان أوّل من رمى رجلٌ منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعة بالنَّبل، ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن يحملوا، فحملوا، فما أفلت منهم إنسان، فقتل منهم عشرةٌ وأُسِرَ سائرُهم، وقتل من المسلمين رجل واحد.
وقال ابن عَوْن: كتبت إلى نافع أسأله عَنِ الدّعاء قبل القتال، فكتب: إنّما كان ذَلِكَ في أول الَإسلام، قد أغار رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بني المُصْطَلِق وهم غارُّون، وأنعامُهم تُسْقَى عَلَى الماء، فقتل مقاتلهم وسَبَى سبْيهم، فأصاب يومئذٍ - أحْسبُهُ قَالَ: - جُوَيْرِية. وحدّثني ابنُ عُمَر بذلك، وكان في ذَلِكَ الجيش. مُتَّفَقٌ عليه.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ رَبِيعَةَ الرَّأْيِ، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابنِ مُحَيْرِيزٍ، سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ يَقُولُ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَسَبَيْنَا كَرَائِمَ الْعَرَبِ، وَطَالَتْ عَلَيْنَا الْعُزْبَةُ، وَرَغِبْنَا فِي الْفِدَاءِ(1/171)
فَأَرَدْنَا أَنْ نَسْتَمْتِعَ وَنَعْزِلَ، فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: لَا عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تَفْعَلُوا، مَا كَتَبَ اللَّهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ هِيَ كَائِنَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا سَتَكُونُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ عَنْ قُتَيْبَةَ عَنْ إِسْمَاعِيلَ.
-تزويج رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجويرية
وقال يونس، عن ابن إِسْحَاق: حدثني مُحَمَّد بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَقَعَتْ جُوَيْرِيَةُ فِي السَّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، أَوْ لابْنِ عَمٍّ لَهُ فَكَاتَبْتُهُ عَلَى نَفْسِهَا، وَكَانَتِ امْرَأَةً حُلْوَةً مُلاحَةً، لَا يَرَاهَا أَحَدٌ إِلا أَخَذَتْ بِنَفْسِهِ فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَعِينُهُ فِي كِتَابَتِهَا، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُهَا فَكَرِهْتُهَا، وَقُلْتُ: سَيَرَى مِنْهَا مِثْلَ مَا رَأَيْتُ. فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: أَنَا جُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ سَيِّدِ قَوْمِهِ، وَقَدْ أَصَابَنِي مِنَ الْبَلاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، وَقَدْ كَاتَبْتُ فَأَعِنِّي. فَقَالَ: أَوْ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ، أُؤَدِّي عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَأَتَزَوَّجُكِ. فَقَالَتْ: نَعَمْ. فَفَعَلَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَلَغَ النَّاسَ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا، فَقَالُوا: أَصْهَارُ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَرْسَلُوا مَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ بني المصطلق، فلقد أعتق بها مائة أَهْلَ بَيْتٍ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، فَمَا أَعْلَمُ امرأة كانت أعظم بركة على قومها منها. وكان اسمها برة فسماها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جويرية.
وقال يونس، عن ابن إسحاق، حدثني محمد بن يحيى بن حبان، وعبد الله ابن أَبِي بَكْرٍ، وَعَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، فِي قِصَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ: فَبَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقِيمٌ هُنَاكَ، إِذِ اقْتَتَلَ عَلَى الْمَاءِ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيُّ أَجِيرُ عمر، وسنان بن زيد. قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى أَنَّهُمَا ازْدَحَمَا عَلَى الْمَاءِ فَاقْتَتَلا، فَقَالَ سِنَانٌ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ. وَقَالَ جَهْجَاهُ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ. وَكَانَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ وَنَفَرٌ مِنَ الأَنْصَارِ عِنْدَ عبد الله بن أبي، يعني(1/172)
ابْنَ سَلُولٍ، فَلَمَّا سَمِعَهَا قَالَ: قَدْ ثَاوَرُونَا فِي بِلادِنَا. وَاللَّهِ مَا أَعُدُّنَا وَجَلابِيبَ قُرَيْشٍ هَذِهِ إِلا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ. وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ عِنْدَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَذَا مَا صَنَعْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلادَكُمْ وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ. أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كَفَفْتُمْ عَنْهُمْ لِتُحَوِّلُوا عَنْكُمْ مِنْ بِلادِكُمْ. فَسَمِعَهَا زَيْدٌ، فَذَهَبَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ غُلَيْمٌ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مُرْ عَبَّادَ بْنَ بِشْرٍ فَلْيَضْرِبْ عُنُقَهُ. فَقَالَ: فَكَيْفَ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟ لا، وَلَكِنْ نَادِ يَا عُمَرُ فِي الرَّحِيلِ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ أُبَيٍّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُ، وَحَلَفَ لَهُ بِاللَّهِ مَا قَالَ ذَلِكَ، وَكَانَ عِنْدَ قَوْمِهِ بِمَكَانٍ. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغُلامُ أَوْهَمَ. وَرَاحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَجَّرًا في ساعة كان لا يَرُوحَ فِيهَا. فَلَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ رُحْتُ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ. فَقَالَ: أَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكَ ابْنُ أُبَيٍّ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَنتَ وَاللَّهِ الْعَزِيزُ وَهُوَ الذَّلِيلُ. ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْفِقْ بِهِ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ وَإِنَّا لَنُنَظِّمُ لَهُ الْخَرَزَ لِنُتَوِّجَهُ فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنْ قد استبلته مُلْكًا. فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ وَلَيْلَتِهِ، حَتَّى أَصْبَحُوا وَحَتَّى اشْتَدَّ الضُّحَى. ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ لِيُشْغِلَهُمْ عما كان من الحديث، فلم يأمن النَّاسُ أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الأَرْضِ فَنَامُوا. وَنَزَلَتْ سورة المنافقين.
وقال ابن عيينة: حدثنا عمرو بن دينار، قال: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقْولُ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزَاةٍ، فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ. فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: يَا لِلأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟ دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ. فَقَالَ عبد الله بن أبي ابن سلول: أوقد فعلوها؟ وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. قَالَ: وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ بِالْمَدِينَةِ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بَعْدَ ذَلِكَ. فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَضْرِبُ عُنُقَ هذا(1/173)
الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دَعْهُ؛ لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ موسى: أخبرنا إسرائيل، عن السدي عن أبي سعيد الأزدي، قال: حدثنا زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ مَعَنَا نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ. فَكُنَّا نَبْتَدِرُ الْمَاءَ، وَكَانَتِ الأَعْرَابُ يَسْبِقُونَنَا، فَيَسْبِقُ الأَعْرَابِيُّ أَصْحَابَهُ، فَيَملأُ الْحَوْضَ وَيَجْعَلُ حَوْلَهُ حِجَارَةً، وَيَجْعَلُ النَّطْعَ حَتَّى يَجِيءَ أصحابه فأتى أنصاري فَأَرْخَى زِمَامَ نَاقَتِهِ لِتَشْرَبَ فَمَنَعَهُ، فَانْتَزَعَ حَجَرًا فغاض الْمَاءَ فَرَفَعَ الأَعْرَابِيُّ خَشَبَةً فَضَرَبَ بِهَا رَأْسَ الأَنْصَارِيِّ فَشَجَّهُ، فَأَتَى عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ فَأَخْبَرَهُ فَغَضِبَ، وَقَالَ: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ؛ يَعْنِيَ الأَعْرَابَ. وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. قَالَ زَيْدٌ: فَسَمِعْتُهُ فَأَخْبَرْتُ عَمِّي، فَانْطَلَقَ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَلَفَ وَجَحَدَ، فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَّبَنِي. فَجَاءَ إِلَيَّ عَمِّي فَقَال: مَا أَرَدْتُ أَنْ مَقَتَكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذبك الْمُسْلِمُونَ. فَوَقَعَ عَلَيَّ مِنَ الْغَمِّ مَا لَمْ يقع على أحد قط. فبينا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ خَفَقْتُ بِرَأْسِي مِنَ الْهَمِّ، إِذْ أَتَانِي رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَكَ أُذُنِي وَضَحِكَ فِي وَجْهِي، فَمَا كَانَ يَسُرُّنِي أَنَّ لِي بِهَا الْخُلْدَ أَوِ الدُّنْيَا. ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ لَحِقَنِي فَقَالَ: مَا قَالَ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قُلْتُ: مَا قَالَ لِي شَيْئًا. فَقَالَ أَبْشِرْ. فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ حَتَّى بَلَغَ مِنْهَا: " الأَذَلَّ ".
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الَّلِه بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ لأَصْحَابِهِ: لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ. وَقَالَ: لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لعمي فذكره لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فَحَلَفُوا مَا قَالُوا، فَصَدَّقَهُمْ وَكَذَّبَنِي، فَأَصَابَنِي هَمٌّ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ "،(1/174)
فَأَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأها علي، وقال: إن الله صدقك يا زيد. أخرجه البخاري.
وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا الَّذِي أَوْفَى اللَّهُ له بأذنه ". أخرجه البخاري، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، فَلَمَّا كَانَ قُرْبَ الْمَدِينَةِ هَاجَتْ رِيحٌ تَكَادُ أَنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ. فَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بُعِثَتْ هَذِهِ الرِّيحُ لِمَوْتِ مُنَافِقٍ. قَالَ: فقدم المدينة فإذا منافق عظيم قد مَاتَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ طريق عمان سرحوا ظهرهم، وَأَخَذَتْهُمْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، حَتَّى أَشْفَقَ النَّاسُ مِنْهَا، وَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ هَذِهِ الرِّيحِ؟ فَقَالَ: مَاتَ الْيَوْمَ مُنَافِقٌ عَظِيمُ النِّفَاقِ، ولذلك عصفت الريح وليس عليكم مِنْهَا بَأْسٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ فِي قِصَّةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ شُيُوخِهِ الَّذِينَ رَوَى عَنْهُمْ قِصَّةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَالُوا: فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَقْعَاءِ مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ دُونَ الْبَقِيعِ هَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ فَخَافَهَا النَّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَخَافُوا فَإِنَّهَا هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفْرِ. فَوَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ قَدْ مَاتَ يَوْمَئِذٍ، وَكَانَ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ، وَكَانَ قَدْ أَظْهَرَ الإِسْلامَ وَكَانَ كَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ.
وَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، أَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله بلغني(1/175)
أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ أَبِي، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلا فَمُرْنِي بِهِ فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ بِهَا رَجُلٌ أَبَرَّ بِوَالِدِهِ مِنِّي، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ رَجُلا مُسْلِمًا فَيْقَتُلَهُ، فَلا تَدَعُنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ يَمْشِي فِي الأَرْضِ حَيًّا حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَأَقْتُلَ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ فَأَدْخُلَ النَّارَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: بل نحسن صحبته ونترفق به ما صحبنا، والله أعلم.
-حديث الأفك
وكان في هذه الغزوة
قَالَ سُلَيْمَانُ بن حرب: حدثنا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مَعْمَرٍ، وَالنُّعْمَانِ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ. قَالَتْ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةِ الْمُرَيْسِيعِ، فَخَرَجَ سَهْمِي، فَهَلَكَ فِيَّ مَنْ هَلَكَ.
وَكَذَلِكَ قَالَ ابْنُ إسحاق، والواقدي وغيرهما أن حديث الإفك فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ.
وَرُوِيَ عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قُلْتُ: يَا أُمَّاهُ حَدِّثِينِي حَدِيثَكِ فِي غَزْوَةِ الْمُرَيْسِيعِ.
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ عَبْدِ الْخَالِقِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، بِبَعْلَبَكَّ، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إبراهيم، قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الحق اليوسفي، قال: أخبرنا أبو سعد بن خشيش، قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد، قال: أخبرنا ميمون بن إسحاق، قال: حدثنا أحمد بن عبد الجبار، قال: حدثنا يونس بن بكير، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عائشة قالت: لقد(1/176)
تُحُدِّثَ بِأَمْرِي فِي الْإِفْكِ وَاسْتُفِيضَ فِيهِ وَمَا أَشْعُرُ. وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ أُنَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَسَأَلُوا جَارِيَةً لِي سَوْدَاءَ كَانَتْ تَخْدُمُنِي فَقَالُوا: أَخْبِرِينَا مَا عِلْمُكِ بِعَائِشَةَ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ مِنْهَا شَيْئًا أَعْيَبَ مِنْ أَنَّهَا تَرْقُدُ ضُحًى حَتَّى إِنَّ الدَّاجِنَ دَاجِنَ أَهْلِ الْبَيْتِ تَأْكُلُ خَمِيرَهَا. فَأَدَارُوهَا وَسَأَلُوها حَتَّى فَطِنَتْ، فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَعْلَمُ عَلَى عَائِشَةَ إِلَّا مَا يَعْلَمُ الصَّائِغُ عَلَى تِبْرِ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ. قَالَتْ: فَكَانَ هَذَا وَمَا شَعَرْتُ.
ثُمَّ قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَأَشِيرُوا عَلِيَّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي مِنْ سُوءٍ قَطُّ، وَأَبَنُوهُمْ بِمَنْ، وَاللَّهِ إِنْ عَلِمْتُ عَلَيْهِ سُوءًا قَطُّ، وَلَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِي إِلَّا وَأَنَا شَاهِدٌ، وَلَا غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلَّا غَابَ مَعِيَ. فقال سعد بن معاذ: أَرَى يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ تَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ - وَكَانَتْ أُمُّ حَسَّانَ مِنْ رَهْطِهِ، وَكَانَ حَسَّانُ مِنْ رَهْطِهِ -: وَاللَّهِ مَا صَدَقْتَ، وَلَوْ كَانَ مِنَ الْأَوْسِ مَا أَشَرْتَ بِهَذَا. فَكَادَ يَكُونُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرٌّ فِي الْمَسْجِدِ، وَلَا عَلِمْتُ بِشَيْءٍ مِنْهُ، ولا ذكره لي ذاكر. حتى أَمْسَيْتُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ فَخَرَجْتُ فِي نِسْوَةٍ لِحَاجَتِنَا، وَخَرَجَتْ مَعَنَا أُمُّ مِسْطَحٍ - بِنْتُ خَالَةِ أبي بكر - فَإِنَّا لَنَمْشِي وَنَحْنُ عَامِدُونَ لِحَاجَتِنَا، عَثَرَتْ أَمُّ مِسْطَحٍ فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ: أَيْ أُمْ، أتسبين ابنك؟ فلم تراجعني. فعادت ثم عثرت فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ: أَيْ أُمْ أَتَسُبِّينَ ابنك صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فلم تراجعني. ثم عثرت ثالثة فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ: أَيْ أُمْ، أَتَسُبِّينَ ابنك صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَسُبُّهُ إِلَّا مِنْ أَجْلِكِ وَفِيكِ. فَقُلْتُ: وَفِي أَيِّ شَأْنِي؟ قَالَتْ: وَمَا عَلِمْتِ بِمَا كَانَ؟ فَقُلْتُ: لَا، وَمَا الَّذِي كَانَ؟ قَالَتْ: أَشْهَدُ أَنَّكِ مُبَرَّأةٌ مِمَّا قيل فيك. ثم بقرت لي الحديث، فلأكر رَاجِعَةً إِلَى الْبَيْتِ مَا أَجِدُ مِمَّا خَرَجْتُ لَهُ قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا. وَرَكِبَتْنِي الْحُمَّى فَحُمِمْتُ. فدخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَنِي عَنْ شَأْنِي، فَقُلْتُ: أَجِدُنِي مَوْعُوكَةً، ائْذَنْ لِي أَذْهَبُ إِلَى أَبَوَيَّ. فَأَذِنَ لِي، وأرسل معي(1/177)
الْغُلَامَ، فَقَالَ: امْشِ مَعَهَا. فَجِئْتُ فَوَجَدْتُ أُمِّي فِي الْبَيْتِ الْأَسْفَلِ، وَوَجَدْتُ أَبِي يُصَلِّي فِي الْعُلُوِّ فَقُلْتُ لَهَا: أيْ أُمَّهْ، مَا الَّذِي سَمِعْتِ؟ فَإِذَا هِي لَمْ يَنْزِلْ بِهَا مِنْ حَيْثُ نَزَلَ مِنِّي، فَقَالَتْ: أَيْ بُنَيَّةَ وَمَا عَلَيْكَ، فَمَا مِنَ امْرَأَةٍ لَهَا ضَرَائِرُ تَكُونُ جَمِيلَةً يُحِبُّهَا زَوْجُهَا إِلَّا وَهِيَ يُقَالُ لَهَا بَعْضُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: وَقَدْ سَمِعَهُ أَبِي؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: وَسَمِعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَتْ: ورسول الله صلى الله عليه وسلم فَبَكَيْتُ، فَسَمِعَ أَبِي الْبُكَاءَ، فَقَالَ: مَا شَأْنُهَا؟ فقالت: سَمِعْتُ الَّذِي تُحُدِّثَ بِهِ. فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ يَبْكِي، فَقَالَ: أَيْ بُنَيَّةَ، ارْجِعِي إِلَى بَيْتِكِ، فَرَجَعْتُ، وَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، حَتَّى إِذَا صَلَّيْتُ الْعَصْرَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وَأَنَا بَيْنَ أَبَوَيَّ، أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِي وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِي، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ إِنْ كُنْتِ ظَلَمْتِ أَوْ أَخْطَأَتِ أَوْ أَسَأْتِ فَتُوبِي وَرَاجِعِي أَمْرَ اللَّهِ وَاسْتَغْفِرِي، فَوَعَظَنِي، وَبِالْبَابِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ قَدْ سَلَّمَتْ، فَهِيَ جَالِسَةٌ بِبَابِ الْبَيْتِ فِي الْحُجْرَةِ، وَأَنَا أَقُولُ: ألا تستحيي أَنْ تَذْكُرَ هَذَا، وَالْمَرْأَةُ تَسْمَعُ، حَتَّى إِذَا قَضَى كَلَامَهُ قُلْتُ لِأَبِي وَغَمَزْتُهُ: أَلَا تُكَلِّمَهُ؟ فَقَالَ: وَمَا أَقُولُ لَهُ؟ وَالْتَفَتُّ إِلَى أُمِّي فَقُلْتُ: أَلَا تُكَلِّمِينَهُ؟ فَقَالَتْ: وَمَاذَا أَقُولُ لَهُ؟ فَحَمِدْتُ اللَّهَ وَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قُلْتُ: أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ لَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ أَنْ قَدْ فَعَلْتُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ أَنِّي لَبَرِيئَةٌ مَا فَعَلْتُ لَتَقُولَنَّ قَدْ بَاءَتْ بِهِ عَلَى نَفْسِهَا وَاعْتَرَفَتْ بِهِ، وَلَئِنْ قُلْتُ لَمْ أَفْعَلْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي لَصَادِقَةٌ مَا أَنْتُمْ بِمُصَدِّقيِّ. لَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي أَنْفُسِكُمْ وَاسْتَفَاضَ فِيكُمْ، وَمَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ؛ وَمَا أَعْرِفُ يَوْمَئِذٍ اسْمَهُ: " فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ".
وَنَزَلَ الْوَحِيُ سَاعَةَ قَضَيْتُ كَلَامِي، فَعَرَفْتُ وَاللَّهِ الْبِشْرَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ. فَمَسَحَ جَبْهَتَهُ وجبينه ثُمَّ قَالَ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، فَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عُذْرَكِ. وَتَلَا الْقُرْآنَ. فَكُنْتُ أَشَدَّ مَا كُنْتُ غَضَبًا، فَقَالَ لِي أَبَوَايَ: قُومِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقلت: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ وَلا أَحْمَدُهُ وَلَا إِيَّاكُمَا وَلَكِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي بَرَّأَنِي. لَقَدْ سَمِعْتُمْ فَمَا أَنْكَرْتُمْ وَلَا جَادَلْتُمْ وَلَا خَاصَمْتُمْ.
فَقَالَ الرَّجُلُ الَّذِي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ، حِينَ بَلَغَهُ نُزُولَ الْعُذْرِ: سُبْحَانَ اللَّهِ،(1/178)
فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ قَطُّ كَنَفَ أُنْثَى. وَكَانَ مِسْطَحٌ يَتِيمًا فِي حُجْرِ أَبِي بَكْرٍ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، فَحَلَفَ لَا يَنْفَعُ مِسْطَحًا بِنَافِعَةٍ أَبَدًا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ " وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى " إِلَى قَوْلِهِ " أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاللَّهِ يَا رَبِّ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَغْفِرَ لِي وَفَاضَتْ عَيْنَاهُ فبكى، رضي الله عنه.
وهذا عَالٍ حَسَنُ الْإِسْنَادِ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا؛ فَقَالَ: وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ. فَذَكَرَه.
وَقَالَ اللَّيْثُ - وَاللَّفْظُ لَهُ - وَابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ، وَابْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ وَقَّاصٍ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ حَدِيثِ عائشة، حين قال لها أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَبَرَّأَهَا اللَّهُ؛ وَكُلٌّ حَدَّثَنِي بِطَائِفَةٍ مِنَ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ. فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا، فَخَرَجَ سهمي، فخرجت معه بعدما نَزَلَ الْحِجَابُ، وَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي وَأَنْزِلُ فِيهِ. فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ، وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ، فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ. فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى رَحْلِي، فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ ظِفَارٍ قَدْ انْقَطَعَ، فَالْتَمَسْتُهُ، وَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ، وَأَقْبَلَ الرَّهْطُ الَّذِينَ كانوا يرحلون بي وَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي، فَرَحَّلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ رَكِبْتُ. وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنِّي فِيهِ. وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا لَمْ يُثْقِلْهُنَّ اللَّحْمُ، إِنَّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَةَ مِنَ الطَّعَامِ. فَلَمْ يَسْتَنْكِرُوا خِفَّةَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَفَعُوهُ. وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ. فبعثوا الجمل وساروا. فوجدت عقدي بعدما اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ، فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلَا مُجِيبٌ. فأَمَمْتُ مَنْزِلِي الَّذِي كُنْتُ فِيهِ، وَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ. وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ ثُمَّ الذَّكْوَانِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ. فأدلج(1/179)
فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي، فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ، فأتاني فعرفني حِينَ رَآنِي، وَكَانَ يَرَانِي قَبْلَ الْحِجَابِ، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفْتُ، فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي، وَاللَّهِ مَا كَلَّمَنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ. فَأَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدَيْهَا فَرَكِبْتُهَا، فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ. فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ. وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى الإفك عبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ. فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْتُ شَهْرًا، وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ، وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ يُرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي. إِنَّمَا يَدْخُلُ عَلِيَّ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ: كَيْفَ تِيكُمْ؟ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. فَذَلِكَ الَّذِي يُرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ، حَتَّى خرجت يوما بعدما نَقِهْتُ. فَخَرَجْتُ مَعَ أُمِّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ؛ وَهُوَ مُتَبَرَّزُنَا؛ وَكُنَّا لَا نَخْرُجُ إِلَّا لَيْلًا إِلَى لَيْلٍ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتَّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيبًا مِنْ بُيُوتِنَا، وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الْأَوَّلُ فِي التَّبَرُّزِ قَبْلَ الْغَائِطِ، وَكُنَّا نَتَأَذَّى بِالْكُنُفِ نَتَّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ وَهْىَ ابْنَةُ أَبِى رُهْمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَأُمُّهَا ابنة صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ خَالَةُ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ، فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَأُمُّ مِسْطَحٍ قِبَل بَيْتِي، قَدْ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا، فَعَثَرَتْ أُمُّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ، أَتَسُبِّينَ رَجُلًا شَهِدَ بَدْرًا؟ قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ، أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ. فَازْدَدْتُ مَرَضًا عَلَى مَرَضِي. فَلَمَّا رَجَعْتُ إِلَى بَيْتِي وَدَخَلَ عَلِيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: كَيْف تِيكُمْ؟ فَقُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِي أَبَوَيَّ؟ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَسْتَيْقِنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا، فَأَذِنَ لِي، فَجِئْتُ أَبَوَيَّ فَقُلْتُ لِأُمِّي: يَا أُمَّتَاهُ مَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ؟ قَالَتْ: يَا بُنَيَّةُ هَوِّنِي عَلَيْكِ، فَوَاللَّهِ لَقَلَّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطُّ وَضِيئَةً عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبُّهَا لَهَا ضَرَائِرُ، إِلَّا كَثَّرْنَ عَلَيْهَا. فَقُلْتُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَلَقَدْ تَحَدَّثَ النَّاسُ بِهَذَا؟ فَبَكَيْتُ اللَّيْلَةَ حَتَّى لَا يَرْقَأُ لِي دمْعٌ وَلَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. ثُمَّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي.
فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ(1/180)
الْوَحِيُ يَسْتَأْمُرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. فَأَمَّا أُسَامَةُ فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الود، فقال أسامة: يا رسول الله أهلك وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا. وَأَمَّا عَلِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُضَيِّقِ اللَّهُ عَلَيْكَ، وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ، وَاسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقُكَ، قَالَتْ: فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَرِيرَةَ فَقَالَ: أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ؟ قَالَتْ: لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا فَتَأْتِي الدَّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عبد الله بن أبي ابن سَلُولٍ، فَقَالَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: يَا مَعْشَرَ المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغنا أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ في أهلي إِلَّا خَيْرًا، وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلا خَيْرًا، وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ، إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْتُ عُنُقَهُ، وَإِنْ كان من إخواننا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ - وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ رَجُلًا صَالِحًا - وَلَكِنْ احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ، فَقَالَ: كَذبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلَهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ: كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ، فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانِ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَلَمْ يَزَلْ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ.
قَالَتْ: فَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ وَلَيْلَتِي لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. فَأَصْبَحَ أَبَوَايَ عِنْدِي، وَقَدْ بَكَيْتُ لَيْلَتَيْنِ وَيَوْمًا لَا أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ وَلَا يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ، حتى يظنان أَنَّ الْبُكَاءَ فَالِقُ كَبِدِي. فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ عَلِيَّ امْرَأَةٌ مِنَ الأنصار فجلست تبكي معي. فبينا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ عَلْيَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ، وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ مَا قِيلَ وقد لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي شَيْءٍ. قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةَ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ(1/181)
العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً. فَقُلْتُ لأبي: أجب رسول الله فِيمَا قَالَ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أقول لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقُلْتُ لِأُمِّي: أَجِيبِي رَسُولَ اللَّهِ. قَالَتْ: مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لَهُ. فَقُلْتُ وَأَنَا يَوْمَئِذٍ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنَ الْقُرْآنِ: إِنِّي والله لقد علمت لقد سمعت هَذَا الْحَدِيثَ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي أَنْفُسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَلَئِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ، وَاللَّهُ يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بِذَلِكَ، وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُنِّي، وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ " فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ " ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي، وَأَنَا أَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي بِبَرَاءَتِي. وَلَكِنْ وَاللَّهِ ما كنت أظن أَنَّ اللَّهَ مُنَزِّلٌ فِي شَأْنِي وَحْيًا يُتْلَى، وَلَشَأْنِي كَانَ فِي نَفْسِي أَحْقَرَ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِي بِأَمْرٍ يُتْلَى، وَلَكِنْ كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّوْمِ رُؤْيَا يُبَرِّئُنِي اللَّهُ بِهَا. قَالَتْ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا خَرَجَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ حَتَّى أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيَتَحَدَّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانُ مِنَ الْعَرَقِ، وَهُوَ فِي يَوْمٍ شَاتٍ مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ. فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ وَهُوَ يَضْحَكُ كَانَ أَوَّلُ كَلِمَةً تَكَلَّمَ بِهَا: يَا عَائِشَةُ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ بَرَّأَكِ اللَّهُ. فَقَالَتْ أُمِّي: قُومِي إِلَيْهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَا أَقُومُ إِلَيْهِ، ولا أحمد إلا الله. وأنزل الله تعالى: " إن الذين جاؤوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ " الْعَشْرَ الْآيَاتِ كُلَّهَا.
فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ هَذَا فِي بَرَاءَتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ وَفَقْرِهِ: وَاللَّهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا بَعْدَ الَّذِي قَالَ لعائشة. فأنزل الله تعالى " ولا يأتل أولوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ " قَالَ أبو بكر: بلى والله إني لأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَدًا. قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ عَنْ أَمْرِي، فَقَالَتْ: أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي مَا(1/182)
عَلِمْتُ إِلَّا خَيْرًا. وَهِيَ الَّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَعَصَمَهَا اللَّهُ بِالْوَرَعِ، وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ تُحَارِبُ لَهَا فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْإِفْكِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ الأَيْلِيِّ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ عَنِ الأَرْبَعَةِ عَنْ عَائِشَةَ، فَقَالَ الْوَلِيدُ: وَمَا ذاك؟ قَالَتْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا غَزْوَةَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فَسَاهَمَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَخَرَجَ سَهْمِي وَسَهْمُ أُمِّ سَلَمَةَ.
وَقَالَ عَبْدُ الرزاق: أخبرنا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهري قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ عَلِيٌّ. فَقُلْتُ: لا. حَدَّثَنِي سَعِيدٌ، وَعُرْوَةُ، وَعَلَقْمَةُ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ كُلُّهُمْ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ. قَالَ فَقَالَ لِي: فَمَا كَانَ جُرْمُهُ؟ قُلْتُ: سبحان الله، مِنْ قَوْمِكَ: أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّهُمَا سَمِعَا عَائِشَةَ تَقُولُ: كَانَ مسيئا فِي أَمْرِي. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا تَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَّةَ الَّتِي نَزَلَ بِهَا عُذْرِي عَلَى النَّاسِ، نَزَلَ فَأَمَرَ بِرَجُلَيْنِ وَامْرَأَةٍ مِمَّنْ كَانَ تَكَلَّمَ بِالْفَاحِشَةِ فِي عَائِشَةَ فَجُلِدُوا الْحَدَّ. قَالَ: وَكَانَ رَمَاهَا ابْنُ أُبَيٍّ، وَمِسْطَحٌ، وَحَسَّانٌ، وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: دَخَلَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَشَبَّبَ بِأَبْيَاتٍ لَهُ:(1/183)
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزِنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى من لحوم الغوافل
قالت: لست كذاك. قُلْتُ: تَدَعِينَ مِثْلَ هَذَا يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ أنزل الله عز وجل " وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ "، قَالَتْ: وَأَيُّ عَذَابٍ أَشَدُّ مِنَ الْعَمَى؟ وَقَالَتْ: كَانَ يَرُدّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إسحاق: حدثني محمد بن إبراهيم التيمي قال: وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ قَدْ كَثَّرَ عَلَيْهِ حَسَّانٌ فِي شَأْنِ عَائِشَةَ، وَقَالَ يُعَرِّضُ بِهِ:
أَمْسَى الْجَلابِيبُ قَدْ عَزُّوا وَقَدْ كَثُرُوا وَابْنُ الفريعة أمس بَيْضَةَ الْبَلَدِ
فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ لَيْلَةً وَهُوَ آتٍ مِنْ عِنْدِ أَخْوَالِهِ بَنِي سَاعِدَةَ، فَضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ، فَيَعْدُو عَلَيْهِ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فَجَمَعَ يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ بِحَبْلٍ أَسْوَدَ وَقَادَهُ إِلَى دَارِ بَنِي حَارِثَةَ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقَالَ: مَا أَعْجَبَكَ! عَدَا عَلَى حَسَّانٍ بِالسَّيْفِ، فَوَاللَّهِ مَا أَرَاهُ إِلا قَدْ قَتَلَهُ. فَقَالَ: هَلْ عَلِمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما صَنَعْتَ بِهِ؟ فَقَالَ: لا. فَقَالَ: وَاللَّهِ لَقَدِ اجترأت، خل سبيله. فسنغدوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنعلمه أمره فخلِّ سَبِيلَهُ. فَلَمَّا أَصْبَحُوا غَدَوْا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: أين ابن المعطل؟ فقام إليه، فقال: ها أنذا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: مَا دَعَاكَ إِلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: آذَانِي وَكَثَّرَ عَلَيَّ وَلَمْ يَرْضَ حَتَّى عَرَّضَ بِي فِي الْهِجَاءِ، فَاحْتَمَلَنِي الغضب، وها أنذا، فَمَا كَانَ عَلَيَّ مِنْ حَقٍّ فَخُذْنِي بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ادعوا لي حسان، فَأَتَى بِهِ؛ فَقَالَ: يَا حَسَّانُ: أَتَشَوَّهْتَ عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلإِسْلامِ، يَقُولُ: تَنَفَّسْتَ عَلَيْهِمْ يَا حَسَّانُ، أَحْسِنْ فِيمَا أَصَابَكَ. فَقَالَ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِيرِينَ الْقِبْطِيَّةَ. فَوَلَدَتْ لَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَأَعْطَاهُ أَرْضًا كَانَتْ لأَبِي طَلْحَةَ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(1/184)
وحدثني يعقوب بن عتبة، أن صفوان بن المعطل قال حين ضرب حسان:
تلق ذباب السيف عنك فَإِنَّنِي ... غُلامٌ إِذَا هُوجِيتُ لَسْتُ بِشَاعِرِ.
وَقَالَ حَسَّانٌ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا:
رَأَيْتُكِ وَلْيَغْفِرْ لَكِ اللَّهُ، حُرَّةً ... مِنَ الْمُحْصَناتِ غَيْرِ ذَاتِ غَوَائلِ.
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزِنُّ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ.
وَإِنَّ الَّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلائِقٍ ... بِكِ الدَّهْرَ بَلْ قِيلُ امْرِئٍ مُتَمَاحِلِ.
فَإِنْ كُنْتُ أَهْجُوكُمْ كَمَا بَلَّغُوكُمُ ... فَلا رَفَعَتْ سَوْطِي إِلَيَّ أَنَامِلِي.
فَكَيْفَ وَوُدِّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي ... لآلِ رَسُولِ اللَّهِ زَيْنِ الْمَحافِلِ.
وَإِنَّ لَهُمْ عِزًّا يُرَى النَّاسُ دُونَهُ ... قصارا، وطال العز كل التطاول.
منها:
عَقِيلَةُ حَيٍّ مِنْ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ ... كِرَامِ المساعي مجدهم غير زائل.
مُهَذَّبَةٌ قَدْ طَيَّبَ اللَّهُ خِيَمَهَا ... وَطَهَّرَهَا مِنْ كل سوء وباطل.
اسْتُشْهِدَ صَفْوَانُ فِي وَقْعَةِ أَرْمِينِيَةَ سَنَةَ تِسْعَ عشرة. قاله ابن إسحاق.
وعن عائشة قالت: لقد سألوا عَنِ ابْنِ الْمُعَطَّلِ فَوَجَدُوهُ حَصُورًا مَا يَأْتِي النِّسَاءَ. ثُمَّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا.
-غزوَةُ الخَنَدق
قَالَ الواقديّ: وهي غزوة الأحزاب، وكانت في ذي القِعْدَة.
قَالُوا: لمّا أجلى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني النَّضير ساروا إلى خَيْبَر، وخرج نفرٌ من وجوههم إلى مكة فألَّبُوا قُرَيْشًا ودعوهم إلى حرب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/185)
وعاهدوهم عَلَى قتاله، وواعدوهم لذلك وقتا. ثُمَّ أتوا غَطفانَ وسُلَيْما فدعوهم إلى ذَلِكَ، فوافقوهم.
وتجهَّزَتْ قُرَيْشُ وجمعوا عبيدهم وأتباعهم، فكانوا في أربعة آلاف، وقادوا معهم نحو ثلاث مائة فرس من سوى الِإبل. وخرجوا وعليهم أبو سُفيان بن حرب، فوافتهم بنو سُلَيْم بمَرّ الظَّهْران، وهم سبع مائة. وتلقتهم بنو أسد يقودهم طليحة بن خُويلد الَأسَدي. وخرجت فِزارة وهم في ألف بعيرٍ يقودهم عُيَيْنَة بن حصْن. وخرجت أَشْجَعُ وهم أربع مائة يقودهم مسعود بن زحيلة. وخرجت بنو مُرَّة وهم أربع مائة يقودهم الحارث بن عَوْف. وقيل إنّه رجع ببني مُرّة، والأوّل أثبت. فكان جميع الأحزاب عشرة آلاف، وأَمْرُ الكّل إلى أبي سُفيان. وكان المسلمون في ثلاثة آلاف. هذا كلام الواقدي.
وأمّا ابن إسحاق فقال: كانت غزوة الخندق في شوّال.
قَالَ: وكان من حديثها أنّ سَلَام بن أبي الحُقَيْق، وحُيَيّ بن أخْطب، وكِنانة بن الرَّبيع، وهوْذَة، في نفرٍ من بني النّضير ونفر من بني وائل، وهم الذين حزَّبوا الأحزابَ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدِموا مكَةَ فدعوا قريشًا إلى القتال، وقالوا: إنّا نكون معكم حتى نستأصل محمدا. فقالت قريش: يا معشر يهود، إنّكم أهلُ كتاب وعِلْمٍ بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد. أَفَدِيننا خيرٌ أم دينُه؟ قالوا: بل دينكم خيرٌ من دينه وأنتم أولى بالحقّ وفيهم نزل: " أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا "، الآيات.
فلما قالوا ذَلِكَ لقريش سَرَّهم ونشطوا إلى الحرب واتعدوا له. ثُمَّ خرج أولئك النّفر اليهود حتى جاؤوا غَطفان، فدعوهم فوافقوهم.
فخرجت قريش، وخرجت غَطفان وقائدهم عُيَيْنَة في بني فِزارة،(1/186)
والحارث بن عَوْف المُرِّي في قومه، ومسعود بن زحيلة فيمن تابعه من قومه أشْجَع. فلما سَمِعَ بهم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حفر الخندق عَلَى المدينة وعمل فيه بيده، وأبطأ عَنِ المسلمين في عمله رجالٌ منافقون، وعمل المسلمون فيه حتى أحكموه.
وكان في حفْره أحاديث بلغتني، منها: بلغني أنّ جابرًا كان يحدّث أنّهم اشتدّت عليهم كدية فشكوها إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعا بإناء من ماء فَتَفَلَ فيه، ثُمَّ دعا بما شاء الله، ثُمَّ نضح الماء عَلَى الكُدْية حتى عادت كثيبًا.
وحدّثني سعيد بن ميناء، عَنْ جابر بن عبد الله قَالَ: عملنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في الخندق، فكانت عندي شُوَيْهة، فقلت: والله لو صنعناها لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرتُ امرأتي فطحنتْ لنا شيئًا من شعير، فصنعتْ لنا منه خُبزًا، وذبحت تِلْكَ الشاة فشَوَيْناها، فلما أمسينا وأراد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الانصراف، وكنّا نعمل فِي الخندق نهارًا فإذا أمسينا رجعنا إلى أهالينا، فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنّي قد صنعت كذا وكذا، وأحبّ أن تنصرف معي، وإنّما أريد أن ينصرف معي وحده. فلما قلت له ذَلِكَ، قَالَ: نعم. ثُمَّ أمر صارخًا فصرخ أنِ انصرفوا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى بيت جابر. فقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فأقبل وأقبل النّاس معه، فجلس وأخرجناها إليه، فَبَرَكَ وسمَّى، ثُمَّ أكل، وتواردها النّاس، كلّما فرغ قومٌ قاموا وجاء ناسٌ، حتى صدر أهلُ الخندق عنها.
وحدّثني سعيد بن ميناء أنّه حُدِّث أنّ ابنة لبشير بن سعد قَالَت: دعتني أمّي عمرةُ بنتُ رَواحة فأعطتني حفنة من تمر في ثوبي، ثُمَّ قَالَتْ: أي بُنَيَّة اذهبي إلى أبيك وخالك، عبد الله بغذائهما. فانطلقتُ بِهَا فمررت برَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا ألتمس أبي وخالي فقال: ما هذا معك؟ قلت: تمر بَعَثَتْ به أمي إلى أبي وخالي، قَالَ: هاتيه. فَصَبَبْتُهُ في كَفَّيْ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فملأتهما(1/187)
ثُمَّ أمر بثوبٍ فُبِسط، ثُمَّ دحا بالتمر عليه فتبدّد فوق الثوب، ثُمَّ قَالَ لِإنسان عنده: اصرخ في أهل الخندق أنْ هلموا إلى الغداء. فاجتمعوا فجعلوا يأكلون مِنْهُ وجعل يزيد، حَتَّى صَدَرَ أهلُ الخندق عنه وإنه لَيَسْقُط من أطراف الثوب.
وحدّثني من لا أَتّهم، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كان يَقْولُ حين فُتِحَت هذه الأمصار في زمان عُمَر وعثمان وما بعده: افتحوا ما بدا لكم، والذي نفسي بيده أو نفس أبي هُريرة بيده، ما افتتحتم من مدينةٍ ولا تفتحونها إلى يوم القيامة إلّا وقد أعطى الله محمدا صلى الله عليه وسلم مفاتيحها قبل ذلك.
قال: وحدثت عن سلمان الفارسيّ قَالَ: ضربت في ناحيةٍ من الخندق فغلُظَتْ عليّ، ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قريبٌ منّي، فلما رآني أضرب نزل وأخذ المِعْوَلَ فضرب به ضربة فلمعتْ تحت المِعْوَل بَرْقَةٌ، ثُمَّ ضرب أخرى فلمعت تحته أخرى، ثُمَّ ضرب الثالثة فلمعت أخرى. قلت: بأبي أنت وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا؟ قَالَ: أوَ قد رأيتَ؟ قلت: نعم. قَالَ: أمّا الأولى، فإنّ الله فتح عليّ بِهَا اليمن، وأمّا الثانية، فإنّ الله فتح عليّ بِهَا الشامَ والمغرب، وأمّا الثالثة فإنّ الله فتح عليّ بِهَا المشرق.
قَالَ ابن إسحاق: ولما فرغ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الخندق أقبلت قريش حتى نزلت بمجتمع السيول من دومة بين الجُرْف وزَغَابة في عشرة آلاف من أحابيشهم ومَن تبعهم من بني كنانة وأهل تهامة وغطفان، فنزلت غطفان ومن تبعهم من أهل نجد بذنب تعمر إلى جانب أُحُد. وخرج رَسُول اللَّهِ(1/188)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون حتى جعلوا ظهورهم إلى سَلْع في ثلاثة آلاف، فعسكروا هنالك، والخندق بينه وبين القوم. فذهب حُيَيّ بنُ أخطب إلى كعب بن أسد القُرظي صاحب عقد بني قريظة وعهدهم، وقد كان وادع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قومه، فلما سَمِعَ كعبُ بحُيَيّ أغلق دونه الحصْنَ فأبى أن يفتح له، فناداه: يا كعب افتحْ لي. قَالَ: إنك امرؤ مشؤوم، وإني قد عاهدت محمدا فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي أكلمك. قَالَ: ما أنا بفاعل. قَالَ: والله إنْ أغلقت دوني إلّا عَنْ جُشَيْشَتك أن آكل معك منها. فأحْفَظَه ففتح له فقال: ويحك يا كعب، جئتك بعزّ الدّهر وببحر طام، جئتك بقريش عَلَى قادتها وسَادتها حَتَّى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من دومة، وبغطفان على قادتها وسادتها فأنزلتهم بذنب تعمر إلى جانب أُحُد، قد عاهدوني وعاقدوني عَلَى أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدًا ومن معه. قَالَ له كعب: جئتني والله بذُلّ الدهر وبجهام قد هراق ماءه برعد وَبرْقٍ لَيْسَ فيه شيء، يا حُيَيّ فَدَعْنِي وما أنا عليه فإنّي لم أر من محمدٍ إلّا صدْقًا ووفاءً. فلم يزل حُيَيّ بكعب حتى سمح له بأنْ أعطاه عهدًا لئن رجعتْ قريش وغَطفان ولم يصيبوا محمدًا أنْ أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك. فنقض كعب عهده وبرئ ممّا كان بينه وبين النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولما انتهى الخبر إلى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة سيدا الأنصار، ومعهما عبد الله بن رَوَاحة وخَوّات بن جبير، فقال: انطلقوا حتى تنظروا أحَقٌ ما بلغنا عَنْ هَؤُلاءِ؟ فإنْ كان حقًا فالحنوا لي لحنًا أعرفه، ولا تَفُتُّوا في أعضاد النّاس، وإن كانوا عَلَى الوفاء فيما بيننا وبينهم فاجهروا به للنّاس. فخرجوا حتى أتوهم فوجدوهم عَلَى أخبث ما بلغهم، فشاتمهم سعد بن مُعاذ وشاتموه، وكان فيه حدة، فقال له ابن عُبَادة: دع عنك مُشاتمتهم فما بيننا وبينهم أربى من المُشاتمة. ثُمَّ رجعوا إلى النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ(1/189)
فسلموا عليه وقالوا: عضل والقارة، أي كغدر عضل والقارة بأصحاب الرّجيع خُبيب وأصحابه. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين. فعظم عند ذَلِكَ الخوف.
قَالَ الله تعالى: " إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا " الآيات.
وتكلّم المنافقون حتى قَالَ مُعَتّب بن قُشَيْر أحدُ بني عَمْرو بن عَوْف: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوزَ كِسْرى وقيصر، وأحدُنا اليوم لا يأمن عَلَى نفسه أن يذهب إلى الغائط. فأقام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقام عليه المشركون بضْعًا وعشرين ليلة لم يكن بينهم حرب إلّا الرَّمْيُ بالنَّبل والحصار.
ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث إلى عُيَيْنَة بن حصْن وإلى الحارث بن عَوْف، فأعطاهما ثُلُثَ ثمار المدينة عَلَى أن يرجعا بمن معهما، فجرى بينه وبينهما صلح، حتى كتبوا الكتاب ولم تقع الشهادة ولا عزيمة الصّلح، إلّا المراوضة في ذَلِكَ.
فلما أراد رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يفعل، بعث إلى السَّعْدين فاستشارهما فقالا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أمرًا تحبّه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به لا بُدَّ لنا منه، أم شيئًا تصنعه لنا؟ قَالَ: بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذَلِكَ إلّا لأنّي رأيت العربَ قد رمتكم عَنْ قَوسٍ واحدة، فأردت أنْ أكسر عنكم من شوكتهم. فقال سعد بن مُعاذ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد كنّا نحن وهؤلاء القوم عَلَى الشرك ولا يطعمون أن يأكلوا منّا تمرة إلّا قِرًى أو بيعًا، أَفَحِين أكرمنا الله بالِإسلام وأَعَزَّنَا بك نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلّا السَّيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم. قَالَ: فأنتَ وذاك. فأخذ سعد الصحيفة فمحاها، ثُمَّ قَالَ: ليجهدوا علينا.
وأقام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والأحزاب، فلم يكن بينهم قتالٌ إلّا فوارس من(1/190)
قريش، منهم عَمْرو بن عبد وُدّ، وعِكْرِمة بن أبي جهل، وهُبَيْرَة بن أبي وهب، وضِرار بن الخطّاب، تلبَّسوا للقتال ثُمَّ خرجوا عَلَى خيلهم، حتى مرُّوا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيؤوا للقتال يا بني كِنانة فستعلمون من الفُرسان اليوم، ثُمَّ أقبلوا تُعْنِق بهم خيلهم حتى وقفوا عَلَى الخندق، فلما رأوه قالوا: والله إنّ هذه لمكِيدةٌ ما كانت العربُ تكِيدها. قال: فتيمَّموا مكانًا من الخندق ضيّقًا فضربوا خيلهم، فاقتحمت منه بهم في السَّبخة بين الخندق وسَلع.
وخرج عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ في نفرٍ من المسلمين حتى أخذوا عليهم الثغرة، فأقبلت الفرسان تعنق نحوهم، وكان عَمْرو بن عبد وُدّ قد قاتل يوم بدر حتى أثبتته الجراحة فلم يشهد يوم أُحُد، فلما كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مكانه، فلما وقف هو وخيلُه قَالَ: من يبارزني؟ فبرز له علي رضي الله عنه، فقال عليّ: يا عَمْرو إنّك كنت عاهدتَ الله لا يدعوك رجلٌ من قريشٍ إلى إحدى خلتين إلا أخذتهما منه. قَالَ له: أجل. قَالَ له: فإنّي أدعوك إلى الله ورسوله وإلى الِإسلام. قَالَ: لا حاجة لي بذلك. قَالَ: فإنّي أدعوك إلى النّزال. قَالَ له: لِمَ يا ابن أخي، فَوَالله ما أحبّ أن أقتلك. قَالَ علي كرم الله وجهه: لكّني والله أحبّ أن أقتلك. فحمي عَمْرو واقتحم عَنْ فرسه فعقره وضرب وجهه، ثُمَّ أقبل عَلَى عليّ فتنازلا وتجاولا، فقتله عليّ رضي الله عنه. وخرجتْ خيلُهم منهزمة حتى اقتحمت من الخندق. وألقى عِكْرِمة يومئذٍ رُمْحه وانهزم. وقال عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ في ذَلِكَ:
نَصَرَ الحجارةَ من سفاهةِ رأيهِ ... ونَصَرتُ دينَ محمّدٍ بضرابِ.
نازلتُهُ فتركتُهُ مُتَجدّلًا ... كالجذْع بين دَكَادكٍ وروابي.
لا تَحْسَبَنَّ الله خاذلٌ دينَهُ ... ونبيَّه يا معشر الأحزابِ.
وحدّثني أبو ليلى عبد الله بن سهل، أنّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كانت في حصن بني حارثة يوم الخندق، وكانت أمّ سعد بن مُعاذ معها في الحصن، فمرّ سعد وعليه درعٌ مُقَلَّصَة قد خرجت منها ذراعهُ كلّها، وفي يده حربة يرفل بِهَا ويقول:(1/191)
لَبّثْ قليلًا يَشْهَدِ الهَيْجا حمل ... لا بأسَ بالموتِ إذا حانَ الَأجَلْ.
فقالت له أُمُّهُ: الحق أي بني فقد أخرت. قالت عائشة: فقلت لَهَا: يا أمّ سعد لوددت أنّ درع سعِد كانت أسبغ مما هي. فرمي سعد بسهم قطع منه الأكحل ورماه ابن العَرِقة، فلما أصابه قَالَ: خُذها منّي وأنا ابن العرقة. فقال له سَعْد: عرَّق الله وجهكَ في النّار، اللهُمّ إنْ كنت أبقيت من حرب قريش شيئًا فأبقني لَهَا؛ فإنّه لا قوم أحبّ إليّ أن أجاهدهم فيك من قوم آذوا رسولكَ وكذَّبوه وأخرجوه، اللهم إن كنت وضعت الحرب بينهم وبيننا فاجعله لي شهادة، ولا تُمِتْني حتى تقرّ عيني من بني قريظة.
وكانت صفية بنتُ عبد المطّلب في فارع - حصن حسّان بن ثابت - وكان معها فيه مع النّساء والولْدان. قَالَتْ: فمرّ بنا يهودي فجعل يطيف بالحصْن، وقد حاربت بنو قُرَيظة ونقضت وليس بيننا وبينهم أحدٌ يدفع عنّا، والنّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمسلمون في نُحور عدوّهم لا يستطيعون أن ينصرفوا عنهم إلينا. فقالت: يا حسّان إنّ هذا اليهوديّ كما ترى يطيف بالحصن، وإني والله ما آمنُه أن يدل عَلَى عورتنا من وَراءنا من يهود، وقد شُغِل عنّا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، فانزل إليه فاقتله. قال: فغفر الله لك يا ابنةَ عبد المطّلب، والله لقد عرفت ما أنا بصاحب هذا. فلما قَالَ لي ذَلِكَ ولم أر عنده شيئًا، احتجزت ثُمَّ أخذت عمودًا ونزلت من الحصن إليه فضربته بالعمود حتى قتلته. فلما فرغتُ رجعت إلى الحصن فقلت: يا حسّان انزل إليه فاسلبه، فإنّه لم يمنعني من سلبه إلّا أنّه رجل. قال: ما لي بسَلَبه من حاجة.
وأقام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فيما وصف الله تعالى من الخوف والشدة لتظاهر عدّوهم عليهم وإتيانهم من فوقهم ومن أسفل منهم.(1/192)
وروى نحوه يونس بن بُكَيْر، عَنْ هشام بن عُرْوَة، عَنْ أبيه.
ثُمَّ إنّ نُعَيْم بن مسعود الغطفاني أتى رسول الله فأسلم. وقال: إنّ قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت يا رسول الله. قال: إنما أنت فينا رجل واحد فخذل عنّا ما استطعت؛ فإنّ الحرب خُدْعة.
فأتى قريظة - وكان نديمًا لهم في الجاهلية - فقال لهم: قد عرفتم وُدّي إيّاكم. قالوا: صدقتَ. قَالَ: إنّ قريشًا وغَطفان ليسوا كأنتم، البلد بلدكم وبه أموالكم وأولادكم ونساؤكم، لا تقدروا أن تتحولوا عنه إلى غيره، وإن قريشا وغطفان قد جاؤوا لحرب محمدٍ وأصحابه، وقد ظاهرتموهم عليه، وبلدُهم وأموالهم ونساؤهم بغيره، فليسوا كأنتم، فإنْ رأوا نهزة أصابوها، وإنْ كان غير ذَلِكَ لحقوا ببلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل ببلدكم، ولا طاقة لكم به إنْ خلا بكم، فلا تقاتلوا مع القوم حتى تأخذوا منهم رَهنًا من أشرافهم يكونون بأيديكم ثقة لكم عَلَى أن يقاتلوا معكم محمدًا حتى تناجزوه، فقالوا: لقد أشرت بالرأي.
ثم خرج حتى أتى قريشًا فقال لأبي سُفيان ومَن معه: قد عرفتم وُدّي لكم وفراقي محمدًا، وإنّه قد بلغني أمرٌ قد رأيت عليّ حقًا أن أُبلِّغكموه نصحًا لكم فاكتموه عليّ. قالوا: نفعل. قَالَ: تعلَّموا أنّ معشر يهود قد ندموا عَلَى ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد، وقد أرسلوا إليه أنّا قد ندِمنا عَلَى ما فعلنا، فهل يرضيك أن نأخذ لك من القبيلتين، قريش وغطفان، رجالا من أشرافهم، فنعطيكهُم فتضرب أعناقهم، ثُمَّ نكون معك على من بقي منهم حتى نستأصلهم. فأرسل إليهم: نعم. فإنْ بعثت إليكم يهود يلتمسون رهنًا منكم من رجالكم فلا تفعلوا.
ثُمَّ خرج فأتى غَطفان فقال: يا معشر غَطفان أنتم أصلي وعشيرتي وأحبّ النّاس إليّ، ولا أراكم تتّهموني. قالوا: صدقت، ما أنت عندنا بمُتَّهم قَالَ: فاكتموا عنّي. قالوا: نفعل. ثُمَّ قَالَ لهم مثل ما قَالَ لقريش، وحذّرهم ما حذّرهم.(1/193)
فلما كانت ليلة السبت من شوّال، وكان من صنع الله لرسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أرسل أبو سفيان ورؤوس غَطفان، إلى بني قُريظة، عِكْرِمَة بنَ أبي جهل في نفرٍ من قريش وغَطفان، فقالوا: إنّا لسنا بدار مقام، قد هلك الخُفّ والحافر، فاغْدُوا للقتال حتى نناجز محمدًا. فأرسلوا إليهم الجواب أنّ اليوم يوم السبت وهو يوم لا نعمل فيه شيئًا، وقد كان بعضُنا أحدث فيه حَدَثًا فأصابه ما لم يخفَ عليكم، ولسنا مع ذلك بالذين نقاتل معكم محمدًا حتى تعطونا رُهُنًا من رجالكم يكونون بأيدينا ثقة لنا حتى نُناجز محمدًا، فإنّا نخشى إنْ ضرَّستكم الحربُ أن تنشمروا إلى بلادكم وتتركونا والرجل في بلادنا، ولا طاقة لنا بذلك.
فلما رجعت إليهم الرُسلُ بما قَالَتْ بنو قُرَيْظة قَالَتْ قريش وغَطفان: والله لقد حدّثكم نعيم بن مسعود بحقّ. فأرسلوا إلى بني قُريظة: إنّا والله ما ندفع إليكم رجلا من رجالنا، فإنْ كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا.
فقالت بنو قُرَيظة حين انتهت إليهم الرُّسلُ بهذا: إنّ الذي ذكر لكم نُعَيْم لَحَقّ، ما يريد القوم إلّا أن يقاتلوا، فإنْ رأوا فرصة انتهزوها، وإنْ كان غير ذَلِكَ انشَمَرْوا إلى بلادهم. فأرسلوا إلى قريش وغَطفان: إنّا والله لا نقاتل معكم حتى تعطُونا رُهُنًا. فأَبَوا عليهم. وخذل الله بينهم.
فلما أنهي ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دعا حُذَيْفة بنَ اليَمان فبعثه ليلًا لينظر ما فعل القوم.
قَالَ: فحدّثني يزيد بن أبي زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي: قَالَ رجل من أهل الكوفة لحُذَيْفَة: يا أبا عبد الله، رأيتم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصحِبْتُموه؟ قَالَ: نعم يا ابن أخي قَالَ: فكيف كنتم تصنعون؟ قَالَ: والله لقد كنّا نجهد، فقال: والله لو أدركناه ما تركناه يمشي عَلَى الأرض ولَحَمَلناه عَلَى أعناقنا. فقال: يا ابن أخي والله لقد رأيتنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالخندق، وصلّى هَوِيًّا من الليل، ثُمَّ التفت إلينا فقال: مَن رجلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثُمَّ يرجع - يشرُطُ له رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجعة - أَسأَل الله أن يكون(1/194)
رفيقي في الجنّة. فما قام أحدٌ من شدّة الخوف وشدّة الجوع والبرد. فلما لم يقم أحدٌ دعاني فلم يكن لي من القيام بد حين دعاني، فقال: يا حذيقة اذهب فادخل في القوم، فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئًا حتى تأتينا. فذهبتُ فدخلتُ في القوم، والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا يقر لهم قرار ولا نار ولا بناء. فقام أبو سُفيان فقال: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: لِيَنْظُرْ امْرُؤٌ مَنْ جَلِيسُهُ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ رضي الله عنه فَأَخَذْت بِيَدِ الرّجُلِ الّذِي كَانَ إلَى جَنْبِي، فَقُلْت: مَنْ أَنْتَ؟ فقَالَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ثم قال أبو سفيان: يا معشر قريش، إنّكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكُراع والخُفّ، وأخلفتنا بنو قُريظة وَبَلَغَنَا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدّة الريح ما ترون، ما تطمئنّ لنا قِدْر ولا تقوم لنا نار ولا يستمسك لنا بناءٌ، فارتحلوا فإنّي مُرْتحل. ثُمَّ قام إلى جَمَله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به عَلَى ثلاث، فَوَالله ما أطلق عقاله إلّا وهو قائم. ولولا عهدُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أن لا تُحدِث شيئًا حتى تأتيني، ثُمَّ شئتُ لقتلتُه بسهم ".
قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو قائم يصليّ في مرط لبعض نسائه مراحل - وهو ضربٌ " من وشي اليمن " فسّره ابن هشام - فلما رآني أدخلني إلى رِجليه وطرح عليّ طَرَفَ المِرْط، ثُمَّ ركع وسجد وإنّي لَفِيه فلما سلّم أخبرتُه الخبر.
وسمعتْ غَطفان بما فعلت قُريش فانشمروا راجعين إلى بلادهم.
قَالَ الله تعالى: " وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا ".
وهذا كلُّه من رواية البكّائيّ عَنْ محمد بن إسحاق.
وقال يونس بن بُكَيْر، عَنْ هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، أنّ رجلًا قَالَ لحُذَيْفة: صَحِبْتُم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأدركتموه، فذكر الحديث نحو حديث محمد بن كعب، وفي آخره: فجعلت أُخُبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أبي سُفيان، فجعل يضحك حتى جعلتُ أنظر إلى أنيابه.
وقال موسى بن عُقْبة، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قاتل يوم بدر(1/195)
في رمضان سنة اثنين. ثُمَّ قاتل يوم أُحُد في شوّال سنة ثلاث. ثُمَّ قاتل يوم الخندق، وهو يوم الأحزاب وبني قُرَيْظة، في شوّال سنة أربع، وكذا قَالَ عُرْوة في حديث ابن لَهِيعة عَنْ أبي الأسود عنه. كذا قالا: سنة أربع، وقالا في قصّة الخندق إنّها كانت بعد أُحُد بسنتين.
وقال قَتَادة من رواية شَيْبان عنه: كان يومُ الأحزاب بعد أُحُد بسنتين، فهذا هو المقطوع به. وقول موسى وعُرْوة: إنّها في سنة أربعٍ وَهَمٌ بين، ويُشْبُهُه قول عُبَيْد اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر: " عرضني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُد، وَأَنَا ابنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ، فَلَمْ يُجِزْني. فلما كان يوم الخندق عُرِضتُ عليه وأنا ابن خمس عشرة فأجازني " فيُحْمَل قولُه عَلَى أنّه كان قد شرع في أربع عشرة، وأنه يوم الخندق كان قد استكمل خمس عشرة سنة، وزاد عليها فلم يعد تلك الزيادة. والعرب تفعل هذا في عددها وتواريخها وأعمارها كثيرًا، فتارة يعتدّون بالكسر ويعدُّونه سنة، وتارة يُسقِطونه. وذهب بعض العلماء إلى ظاهر هذا الحديث وعضَّدوه بقول موسى بن عقبة وعروة أن الأحزاب في شوّال سنة أربع، وذلك مخالفٌ لقول الجماعة، ولما اعترف به موسى وعُرْوة من أنّ بين أُحُد والخندق سنتين، والله أعلم.
وقال أبو إسحاق الفزاري، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَدَاةٍ بَارِدَةٍ إِلَى الْخَنْدَقِ، وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ بِأَيْدِيهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَبِيدٌ: فَلَمَّا رَأَى مَا بِهِمْ مِنَ الْجُوعِ وَالنَّصَبِ قَالَ:
اللَّهُمَّ إِنَّ الْعَيْشَ عَيْشُ الآخِرَهْ ... فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ.
فَقَالُوا مُجِيبِينَ لَهُ:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا ... عَلَى الْجِهَادِ مَا بَقِينَا أَبَدَا.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عن ثابت.(1/196)
وقال عبد الوارث: حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ، وزاد قال: ويؤتون بمثل حِفْنَتَيْنِ شَعِيرًا يُصْنَعُ لَهُمْ بِإِهَالَةٍ سَنِخَةٍ وَهِيَ بشعة في الحلق، ولها ريح منكرة فَتُوضَعُ بَيْنَ يَدَيِ الْقَوْمِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ شعبة وغيره: حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ، سَمِعَ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ إبطه وَهُوَ يَقُولُ:
الَّلهُمَّ لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتدَيْنَا ... وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا.
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا.
إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا.
رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعِنْدَهُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ: وَيَمُدُّ بِهَا صَوْتَهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: كُنَّا يَوْمَ الْخَنْدَقِ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ فعرضت فيه كدانة - وَهِيَ الْجَبَلُ - فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ كدانة قَدْ عَرَضَتْ فَقَالَ: رُشُّوا عَلَيْهَا. ثُمَّ قَامَ فَأَتَاهَا وَبَطْنُهُ مَعْصُوبٌ بِحَجَرٍ مِنَ الْجُوعِ، فَأَخَذَ الْمِعْوَلَ أَوِ الْمِسْحَاةَ فَسَمَّى ثَلاثًا ثُمَّ ضَرَبَ فَعَادَتْ كَثِيبًا أَهْيَلَ فَقُلْتُ لَهُ: ائْذَنْ لِي يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَى الْمَنْزِلِ، فَفَعَلَ، فَقُلْتُ لِلْمَرْأَةِ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ وَذَكَرَ نَحْوَ ما تقدم وما سُقْنَاهُ مِنْ مَغَازِي ابْنِ إِسْحَاقَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وقال هوذة بن خليفة: حدثنا عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ أُسَتَاذٍ الزَّهْرَانِيِّ، قال: حَدَّثَنِي الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ قَالَ: لَمَّا كَانَ حِينَ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ(1/197)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَفْرِ الْخَنْدَقِ، عَرَضَ لَنَا فِي بَعْضِ الْخَنْدَقِ صَخْرَةٌ عَظِيمَةٌ شَدِيدَةٌ لا تَأْخُذُ فِيهَا الْمَعَاوِلُ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهَا أَخَذَ الْمِعْوَلَ وَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَضَرَبَ ضَرْبَةً فَكَسَرَ ثُلُثَهَا، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الشَّامِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قُصُورَهَا الْحُمْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ ضَرَبَ الثَّانِيَةَ وَقَطَعَ ثُلُثًا آخَرَ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيَح فَارِسَ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ قَصْرَ الْمَدَائِنِ الأَبْيَضَ، ثم ضرب الثالثة فقال بسم الله فَقَطَعَ بَقِيَّةَ الْحَجَرِ فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ الْيَمَنِ، وَاللَّهِ إِنِّي لأُبْصِرُ أَبْوَابَ صَنْعَاءَ من مكاني الساعة.
وقال الثوري: حدثنا ابْنُ الْمُنْكَدِرِ، سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا. فَقَالَ: مَنْ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟ فَقَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا. فَقَالَ: " إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوَارِيًّا وَحَوَارِيَّ الزبير ". أخرجه البخاري.
وقال الحسن بْنُ الْحَسَنِ بْنِ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيُّ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تروها " قَالَ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ أَبِي سُفْيَانَ؛ يَوْمَ الأَحْزَابِ.
" وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بيوتنا عورة "، قَالَ هُمْ بَنُو حَارِثَةَ، قَالُوا: بُيُوتُنَا مَخْلِيَّةٌ نخشى عَلَيْهَا السَّرْقُ.
قَوْلُهُ: " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ " الآية، قَالَ: لأَنَّ اللَّهَ قَالَ لَهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ "، فَلَمَّا مَسَّهُمُ الْبَلاءُ حَيْثُ رَابَطُوا الأَحْزَابَ فِي الْخَنْدَقِ، تَأَوَّلَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ، وَلَمْ يَزِدْهُمْ إِلا إيمانا وتسليما.
وقال حماد بن سلمة: أخبرنا حَجَّاجٌ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قُتِلَ يَوْمَ الأَحْزَابِ، فَبَعَثَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى(1/198)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ ابعث إِلَيْنَا بِجَسَدِهِ وَنُعطِيَهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقَالَ: لا خَيْرَ فِي جَسَدِهِ وَلا فِي ثَمَنِهِ.
وقال الأصمعي: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزّناد قَالَ: ضرب الزُّبَيْرُ بن العوّام يوم الخَنْدَق عثمانَ بنَ عبد الله بن المغيرة بالسيف عَلَى مِغْفَرِه فَقَدَّه إلى القُرْبُوس، فقالوا: مَا أجْوَدَ سيفك، فغضب، يريد إنّ العمل ليده لا لسيفه.
قَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ الجزار، عَنْ عَلِيٍّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ قَاعِدًا عَلَى فُرْضَةٍ مِنْ فُرَضِ الْخَنْدَقِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: شَغَلُونَا عَنْ صَلَاةِ الْوُسْطَى حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، مَلَأَ اللَّهُ قُبُورَهُمْ وَبُيُوتَهُمْ نَارًا، أَوْ بُطُونَهُمْ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عُمَرَ يوم الخندق بعدما غَرُبَتِ الشَّمْسُ جَعَلَ يَسُبُّ كفَّارَ قُرَيْشٍ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا كِدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ. فَنَزَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ أَحْسَبُهُ قَالَ إِلَى بُطْحَانَ، فَتَوَضَّأَ لِلصَّلَاةِ وَتَوَضَّأْنَا، فصلى العصر بعدما غَرُبَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ. فَقَالَ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَاكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتَنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْأَحْزَابِ فِي لَيْلَةٍ ذَاتِ رِيحٍ شَدِيدَةٍ وَقَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَا رَجُلٌ يَأْتِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ يَكُونُ مَعِي يَوْمَ الْقَيْامَةِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ مِنَّا أَحَدٌ، ثُمَّ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ الثَّالِثَةَ(1/199)
مِثْلَهُ. ثُمَّ قَالَ: يَا حُذَيْفَةُ قُمْ فَائْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ. فَلَمْ أَجِدْ بُدًّا إِذْ دَعَانِي بِاسْمِي أَنْ أَقُومَ. فَقَالَ ائْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ وَلَا تَذْعَرْهُمْ عَلَيَّ. قَالَ: فَمَضَيْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ حَتَّى أَتَيْتُهُمْ، فَإِذَا أَبُو سُفْيَانَ يُصْلِي ظَهْرَهُ بِالنَّارِ. فَوَضَعْتُ سَهْمِي فِي كَبِدِ قَوْسِي وَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لا تَذْعَرْهُمْ عَلِيَّ، وَلَوْ رَمَيْتُهُ لَأصَبْتُهُ. قَالَ: فَرَجَعْتُ كَأَنَّمَا أَمْشِي فِي حَمَّامٍ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَصَابَنِي الْبَرْدُ حين فرغت وقررت، فأخبرت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْبَسَنِي مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلِّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِمًا حَتَّى الصُّبْحِ، فَلَمَّا أَنْ أَصْبَحْتُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قُمْ يَا نَوْمَانُ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أبو نعيم: حدثنا يُوسُفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ مُوسَى بْنِ أَبِي الْمُخْتَارِ، عَنْ بِلالٍ الْعَبْسِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنَّ النَّاسَ تَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الأَحْزَابِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلا اثْنَا عَشَرَ رَجُلا، فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا جَاثٍ مِنَ الْبَرْدِ فَقَالَ: انْطَلِقْ إِلَى عَسْكَرِ الأَحْزَابِ. فَقُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا قُمْتُ إِلَيْكَ مِنَ الْبَرْدِ إِلا حَيَاءً منك. قال: فانطلق يا ابن الْيَمَانِ فَلا بَأْسَ عَلَيْكَ مِن حَرٍّ وَلا بَرْدٍ حَتَّى تَرْجِعَ إِلَيَّ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، فَوَجَدْتُ أَبَا سُفْيَانَ يُوقِدُ النَّارَ فِي عُصْبَةٍ حَوْلَهُ، قَدْ تَفَرَّقَ الأَحْزَابُ عَنْهُ، حَتَّى إِذَا جَلَسْتُ فِيهِمْ، حَسَّ أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ دَخَلَ فِيهِمْ مَنْ غَيْرُهُمْ، فَقَالَ: يَأْخُذُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِيَدِ جَلِيسِهِ. قَالَ: فَضَرَبْتُ بِيَدِي عَلَى الَّذِي عَنْ يَمِينِي فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، ثُمَّ ضَرَبْتُ بِيَدِي إِلَى الَّذِي عَنْ يَسَارِي فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ. فَكُنْتُ فِيهِمْ هُنَيَّةً. ثُمَّ قُمْتُ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قائم يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ إِلَيَّ بِيَدِهِ أَنْ: ادْنُ، فَدَنَوْتُ. ثُمَّ أَوْمَأَ إِلَيَّ فَدَنَوْتُ. حَتَّى أَسْبَلَ عَلَيَّ مِنَ الثَّوْبِ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي. فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ قُلْتُ: تَفَرَّقَ النَّاسُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، فَلَمْ يَبْقَ إِلا فِي عُصْبَةٍ يُوقِدُ النَّارَ، قَدْ صَبَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَرْدِ مِثْلَ الَّذِي صَبَّ عَلَيْنَا، وَلَكِنَّا نَرْجُو مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُو.(1/200)
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ الْحَنَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ ابْنِ أخَيِ حُذَيْفَةَ قَالَ: ذَكَرَ حُذَيْفَةُ مَشَاهِدَهُمْ، فَقَالَ جُلَسَاؤُهُ: أَمَا وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا شَهِدْنَا ذَلِكَ لَفَعَلْنَا وَفَعَلْنَا، فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لا تَمَنَّوْا ذَلِكَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنَا لَيْلَةَ الأَحْزَابِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ مُطَوَّلا.
وَقَالَ إسماعيل بن أبي خالد: حدثنا ابْنُ أَبِي أَوْفَى قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْأَحْزَابِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ مُنَزِّلَ الْكِتَابِ سَرِيعَ الْحِسَابِ اهْزِمِ الْأَحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَعَزَّ جُنْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَغَلَبَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ فَلَا شَيْءَ بَعْدَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَجْلَى عَنْهُ الْأَحْزَابَ: الْآنَ نَغْزُوهُمْ وَلَا يَغْزُونَا؛ نَسِيرُ إِلَيْهِمْ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ مُصْعَبٍ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أبي صالح، عن ابن عباس: " عسى الله أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مودة "، قال: تزويج النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ، فَصَارَتْ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، وَصَارَ مُعَاوِيَةُ خَالَ الْمُؤْمِنِينَ. كَذَا رَوَى الْكَلْبِيُّ وَهُوَ متروك. وذهب الْعُلَمَاءِ فِي أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِهِنَّ وَلا يَتَعَدَّى التَّحْرِيمُ إِلَى بَنَاتِهِنَّ ولا إلى إخوتهن ولا أخواتهن.
واستُشْهد يوم الأحزاب: عبد الله بن سهل بن رافع الأشهلي، تفرّد ابن هشام بأنّه شهد بدرا.(1/201)
وأَنَس بن أَوْس بن عتيك الأشهلي، والطُّفَيْل بن النعمان بن خنساء، وثعلبة بن عنمة؛ كلاهما من بني جَشَم بن الخزرج.
وكعب بن زيد أحد بني النَّجَّار، أصابه سهم غرِب، وقد شهد هَؤُلَاءِ الثلاثة بدرًا.
ذكر ابن إسحاق أنّ هَؤُلَاءِ الخمسة قُتِلوا يوم الأحزاب.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قُتِلَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ: نَوْفَلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ؛ أَقْبَلَ عَلَى فَرَسٍ لَهُ لِيُوَثِّبَهُ الْخَنْدَقَ فوقع في الخندق فقتله الله، وكبر ذلك عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَرْسَلُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا نُعْطِيَكُمُ الدِّيَةَ عَلَى أن تدفعوه إلينا فندفنه. فرد إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ خَبِيثُ الدِّيَةِ لَعَنَهُ اللَّهُ وَلَعَنَ دِيَتَهُ وَلا نَمْنَعُكُمْ أَنْ تَدْفِنُوهُ، وَلا أَرَبَ لَنَا فِي دِيَتَهِ.
-غزَوة بَني قُريظة.
وكانوا قد ظاهروا قريشا وأعانوهم عَلَى حرب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفيهم نزلت " وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ " الآيتين.
قَالَ هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْخَنْدَقِ وَوَضَعَ السِّلَاحَ وَاغْتَسَلَ أَتَاهُ جِبْرِيلُ وَقَالَ: وَضَعْتَ السِّلَاحَ؟ وَاللَّهِ مَا وضعناه، اخرج إليهم. قال: فأين؟ قال: هاهنا. وَأَشَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ حُمَيْدُ بْنُ هِلالٍ، عَنْ أَنَسٍ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى الْغُبَارِ سَاطِعًا مِنْ سِكَّةِ بَنِي غَنْمٍ، مَوْكِبَ جِبْرِيلَ حِينَ سَارَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. البخاري.(1/202)
وَقَالَ جُوَيْرِيَةُ: عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَادَى فِينَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ انْصَرَفَ مِنَ الأَحْزَابِ أَنْ لا يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلُّوا دُونَ قُرَيْظَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لا نُصَلِّي إِلا حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ. فَمَا عَنَّفَ وَاحِدًا مِنَ الْفَرِيقَيْنِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ مُسْلِمٍ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ: الظُّهْرَ بَدَلَ الْعَصْرِ. وَكَأَنَّهُ وَهِمَ.
وَقَالَ بشر بن شعيب، عن أبيه، قال: حدثنا الزهري، قال: أخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عَمَّهُ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ كَعْبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ طَلَبِ الأَحْزَابِ وضع عنه اللأمة واغتسل واستجمر، فتبدى لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: عَذِيرَكَ مِنْ مُحَارِبٍ، أَلا أَرَاكَ قَدْ وَضَعْتَ اللأْمَةَ وَمَا وَضَعْنَاهَا بَعْدُ. فَوَثَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا، فَعَزَمَ عَلَى النَّاسِ أَنْ لا يُصَلُّوا الْعَصْرَ حَتَّى يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ. فَلَبِسُوا السِّلاحَ، فَلَمْ يَأْتُوا بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ: فَاخْتَصَمَ النَّاسُ عِنْدَ غُرُوبِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَزَمَ عَلَيْنَا أَنْ لا نُصَلِّيَ حَتَّى نأتي بني قريظة، وإنما نَحْنُ فِي عَزِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، فليس علينا إثم. وصلى طائفة من الناس احتسابا. وتركت طائفة حتى غربت الشمس فصلوا حين جاؤوا بني قريظة. فلم يعنف رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحدًا من الفريقين.
وروى نَحْوَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَخِيهِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، وَفِيهِ أَنَّ رَجُلا سَلَّمَ عَلَيْنَا وَنَحْنُ فِي الْبَيْتِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزِعًا، فَقُمْتُ فِي إِثْرِهِ، فَإِذَا بِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَذَا جِبْرِيلُ يَأْمُرُنِي أَنْ أَذْهَبَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَالَ: وَضَعْتُمُ السِّلاحَ، لَكِنَّا لَمْ نَضَعِ السِّلاحَ، طَلَبْنَا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى بَلَغْنَا حَمْرَاءَ الأسَدِ. وَفِيهِ: فَمَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَجَالِسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَالَ: هَلْ مَرَّ بِكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: مَرَّ عَلَيْنَا دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ تَحْتَهُ قَطِيفَةُ دِيبَاجٍ. قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ بِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ(1/203)
وَلَكِنَّهُ جِبْرِيلُ أُرْسِلَ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ لِيُزَلْزِلَهُمْ وَيَقْذِفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، فَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم، وأمر أصحابه أن يستروه بالحجف حَتَّى يُسْمِعَهُمْ كَلامَهُ. فَنَادَاهُمْ: يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ. فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ لَمْ تَكُ فَحَّاشًا. فَحَاصَرَهُمْ حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانُوا حُلَفَاءَهُ، فَحَكَمَ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ مُقَاتِلَتُهُمْ وَتُسْبَى ذَرَارِيُّهُمْ وَنِسَاؤُهُمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلْقَمَةَ، عن عائشة قالت: جاء جِبْرِيلُ وَعَلَى ثَنَايَاهُ النَّقْعُ فَقَالَ: أَوَضَعْتَ السِّلاحَ؟ والله ما وضعته الْمَلائِكَةُ، اخْرُجْ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَلَبِسَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لأمته، وأذن بالرحيل، ثم مر على بني عمرو فَقَالَ: مَنْ مَرَّ بِكُمْ؟ قَالُوا: دِحْيَةُ. وَكَانَ دحية يشبه لِحْيَتُهُ وَوَجْهُهُ جِبْرِيلَ. فَأَتَاهُمْ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، ثُمَّ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ فِي مُسْنَدِ أَحْمَدَ.
وقال يونس، عَنِ ابن إسحاق: قدِم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عليا معه رايته وابتدرها النّاس.
وقال موسى بن عقبة. وخرج رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أثر جبريل، فمر على مجلس بني غنم وهم ينتظرون رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسألهم: مَرَّ عليكم فارس آنفًا؟ فقالوا: مرّ علينا دحية عَلَى فرسٍ أبيض تحته نمطٌ أو قطيفة من ديباج عليه اللأّمة. قَالَ: ذاك جبريل. وكأن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يشبّه دِحيةَ بجبريل. قَالَ: ولما رأى عليّ بن أبي طالب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُقْبِلا تلقّاه. وقال: ارجع يَا رَسُولَ اللَّهِ، فإنّ الله كافيك اليهود. وكان علي سمع منهم قولا سيئا لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأزواجه. فكره عليّ أن يسمع ذَلِكَ، فقال: لِمَ تأمرني بالرجوع؟ فكتمه ما سَمِعَ منهم. فقال: أظنّك سَمِعْتُ لي منهم أذى؟ فامضِ فإنّ أعداء الله لو قد رأوني لم يقولوا شيئًا ممّا سَمِعْتُ.(1/204)
فلما نَزَلَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بحصنهم - وكانوا في أعلاه - نادى بأعلى صوته نفرًا من أشرافها حتى أسمعهم، فقال: أجيبونا يا معشر يهود يا أخوة القِرَدَة، لقد نزل بكم خِزْي الله. فحاصرهم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتائب المسلمين بضع عشرة ليلة، وردّ الله حُيَيّ بنَ أخطب حتى دخل حصنَهُم، وقذف الله في قلوبهم الرُّعب، واشتدّ عليهم الحصار، فصرخوا بأبي لُبابة بن عبد المنذر وكانوا حلفاء الأنصار. فقال: لا آتيهم حتى يأذن لِي رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: قد أذِنْتُ لك. فأتاهم، فبكوا إليه وقالوا: يا أبا لُبابة، ماذا ترى، فأشار بيده إلى حلقه، يريهم أن ما يراد بكم القتل. فلما انصرف سُقِط في يده، ورأى أنّه قد أصابته فتنةٌ عظيمة فقال: والله لا أنظر فِي وَجَّهَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أحدِث لله توبةً نَصُوحًا يعلمها الله من نفسي. فرجع إلى المدينة فربط يديه إلى جذعٍ من جذوع المسجد. فزعموا أنّه ارتبط قريبًا من عشرين لَيْلَةٍ.
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما ذُكر - حين راث عليه أبو لُبابة: أما فرغ أبو لُبابة من حلفائه؟ قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد - والله - انصرف من عند الحصن، وما ندري أين سلك. فقال: قد حدث له أمر. فأقبل رجل فقال: يا رسول الله، رأيت أبا لبابة ارتبط بحبل إلى جِذْعٍ من جذوع المسجد. فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لقد أصابته بعدي فتنة، ولو جاءني لاستغفرت له. فإذ فعل هذا فلن أحرّكه من مكانه حتى يقضي الله فيه ما شاء.
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، فذكر نحو ما قص موسى بن عقبة. وعنده: فلبس رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأمَتَه وأذَّن بالخروج، وأمرهم أن يأخذوا السلاح. ففزغ النّاس للحرب، وبعث عليًّا عَلَى المقدّمة ودفع إليه اللواء. ثُمَّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى آثارهم. ولم يقل بضع عشرة ليلة.
وقال يونس بن بُكَيْرَ، والبكائي - واللَّفظ له - عَنِ ابن إسحاق قَالَ: حاصرهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا وعشرين ليلةً، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب. وقد كان حُيَيّ بنُ أخطب دخل مع بني قُرَيْظة في(1/205)
حصنهم حين رجعت عنهم قُريش وغَطفان، وفاءً لكعب بن أسد بما كان عاهده عليه، فلما أيقنوا بأنّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - غير منصرف عنهم حتى يناجزهم، قَالَ كعب بن أسد: يا معشر يهود، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإنّي عارضٌ عليكم خِلالًا ثلاثًا، فخُذُوا أيّها شئتم. قالوا: وما هي؟ قَالَ: نبايع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنّه لَنَبِيّ مُرْسَل، وأنّه للَّذي تجدونه في كتابكم، فتأْمَنون عَلَى دمائكم وأموالكم. قالوا: لا نفارق حُكم التَّوراة أبدًا ولا نستبدل به غيره. قال: فإذ أبيتم عَلَى هذه. فهلُمَّ فلنقتل أبناءنا ونساءنا، ثُمَّ نخرج إلى محمد وأصحابه مُصْلِتين السُّيوف لم نترك وراءنا ثقلا، حتى يحكم الله بيننا وبين محمد، فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نَسْلًا نخشى عليه، وإنْ نظهر فَلَعَمْري لَنَتّخِذَنَّ النّساء والأبناء. قالوا: نقتل هَؤُلاءِ المساكين، فما خير العيش بعدهم؟ قَالَ فإنْ أبيتم هذه فإنّ الليلة ليلة السبت وإنّه عسى أنْ يكون محمدٌ وأصحابه قد أمنوا فيها فانزلوا لعلَّنا نُصيب من محمد وأصحابه غرة. قالوا: نفسد سبتنا ونحدث فيه ما لم يحدث من كان قبلنا، إلّا مَن قد علِمْتَ فأصابه ما لم يخْفَ عليك من المَسْخ؟ قَالَ: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمُّهُ ليلةً واحدة من الدَّهر حازمًا.
رواه يونس بن بُكَيْر، عن ابن إسحاق. لكّنه قَالَ عَنْ أبيه، عَنْ مَعْبَد بن كعب بن مالك، فذكره وزاد فيه: ثُمَّ بعثوا يطلبون أبا لُبابة، وذكر ربطه نفسه.
وزعم سعيد بن المسيّب: إنَّ ارتباطه بسارية التَّوبة كان بعد تخلُّفه عَنْ غزوة تبوك حين أعرض عنه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهُوَ عليه عاتب بما فعل يوم قُرَيْظة، ثُمَّ تخلّف عَنْ غزوة تبوك فيمن تخلف. والله أعلم.
وفي رواية عليّ بن أبي طلحة، وعطّية العَوْفي، عَنِ ابن عبّاس في ارتباطه حين تخلّف عَنْ تبوك ما يؤكد قولَ ابن المسيّب.(1/206)
وقيل: نزلت هذه الآية في أبي لُبابة " يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ".
وَقَالَ البكائي، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، أَنَّ تَوْبَةَ أَبِي لُبَابَةَ نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو في بيت أم سلمة، قالت أُمُّ سَلَمَةَ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ السحر وهو يضحك، فَقُلْتُ: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: تِيبَ عَلَى أَبِي لبابة. قُلْتُ: أَفَلا أُبَشِّرُهُ؟ قَالَ: إِنْ شِئْتِ. قَالَ: فَقَامَتْ عَلَى بَابِ حُجْرَتِهَا - وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ عَلَيْهِنَّ الْحِجَابُ - فَقَالَتْ: يَا أَبَا لُبَابَةَ، أَبْشِرْ فَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ. قَالَتْ: فَثَارَ إليه الناس ليطلقوه. فقال: لا وَاللَّهِ حَتَّى يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنِي بِيَدِهِ. فَلَمَّا مَرَّ عَلَيْهِ خَارِجًا إِلَى صَلاةِ الصُّبْحِ أَطْلَقَهُ.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: أَقَامَ أَبُو لُبَابَةَ مُرْتَبِطًا بِالْجِذْعِ سِتَّ لَيَالٍ: تَأْتِيهِ امْرَأَتُهُ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلاةٍ تُحِلُّهُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَرْتَبِطُ بِالْجِذْعِ - فِيمَا حَدَّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ - وَالآيَةُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي تَوْبَتِهِ: " وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سيئا " الآية.
قَالَ ابن إسحاق: ثُمَّ إنّ ثعلبة بن سَعْيَةَ، وَأَسِيدِ بْنِ سَعْيَةَ، وَأَسَدِ بْنِ عُبَيْدٍ، وهم نفر من هدل، أسلموا تِلْكَ الليلة التي نزل فيها بنو قُرَيْظة عَلَى حُكْم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
شُعْبة: أخبرني سعد بن إبراهيم، قال سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلٍ يُحَدِّثُ عَنْ أبي سعيد قَالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَى حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَتَاهُ عَلَى حِمَارٍ، فَلَمَّا دَنَا قَرِيبًا مِنَ الْمَسْجِدِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ، أَوْ إِلَى خَيْرِكُمْ فَقَالَ: إِنَّ هَؤُلاءِ قَدْ نزلوا على حكمك، فقال: تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ حَكَمْتُ عَلَيْهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ. وَرُبَّمَا قَالَ: بِحُكْمِ الْمَلِكِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/207)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قال: قاموا إليه فقالوا: يا أبا عَمْرو، قد ولّاك رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ مواليك لتحكم فيهم. فقال سعد: عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه؟ قالوا: نعم. قَالَ: وعلى مَنْ ها هنا من النّاحية التي فيها النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومَن معه، وهو مُعرضٌ عَنْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إجلالًا له؛ فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: نعم. فقال سعد: أحكم أن تقتل الرجال وتقسم الأموال وتسبى الذراري.
شُعْبة وغيره: عَنْ عبد الملك بن عُمَيْر، عَنْ عطّية القرظِيّ قَالَ: كنت في سبْي قُرَيْظة، فأمر رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمن أنبت أن يُقْتَلَ، فكنت فيمن لم ينبت.
موسى بن عُقْبة: قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حين سألوه أن يحكِّم فيهم رجلًا: اختاروا من شئتم من أصحابي؟ فاختاروا سعد بن مُعاذ، فرضي بذلك رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فنزلوا عَلَى حكمه. فأمر - عليه السلام - بسلاحهم فجُعِل في قُبَّته، وأمر بهم فكُتِّفوا وأوثقوا وجعلوا في دار أُسامة، وبعث رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سعد، فأقبل على حمار أعرابي يزعمون أن وطاءه برذعة من ليف، واتبعه رجلٌ من بني عبد الأشهل، فجعل يمشي معه ويعظّم حقَّ بني قُرَيْظة ويذكر حِلْفَهم والذي أَبْلوه يوم بعاث، ويقول: اختاروك عَلَى من سواك رجاءَ رحمتِك وتحنُّنك عليهم، فاسْتَبْقِهِم فإِنَّهم لك جمال وعُدَد. فأكثر ذَلِكَ الرجل، وسعد لا يرجع إليه شيئًا، حتى دَنَوْا، فقال الرجل: ألا ترجع إليّ فيما أكلّمك فيه؟ فقال سعد: قد آن لي أن لا تأخذني في الله لومة لائم. ففارقه الرجل، فأتى قومه فقالوا: ما وراءك؟ فأخبرهم أنّه غير مستبقيهم، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قتل مُقاتلتهُم، وكانوا - فيما زعموا - ست مائة مُقاتل قُتِلوا عند دار أبي جهم بالبلاط، فزعموا أنّ دماءهم بلغتْ أحجار الزَّيت التي كانت بالسّوق، وسبى نساءهم وذراريهم، وقسّم أموالهم بين مَن حضر من(1/208)
المسلمين. وكانت خيل المسلمين ستة وثلاثين فرسًا. وأخرج حُيَيّ بنَ أخطب فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل أخزاك الله؟ قال له: لقد ظهرتَ عليَّ وما ألوم إلّا نفسي في جهادك والشدة عليك. فأمر به فضُرِبَتْ عُنُقُه. كلّ ذَلِكَ بعين سعد.
وكان عَمْرو بن سعدى اليهودي في الأسرى، فلما قدموه ليقتلوه فقدوه فقيل: أين عَمْرو؟ قالوا: والله ما نراه، وإنّ هذه لرمّته التي كان فيها، فما ندري كيف انفلت؟ فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أفلتنا بما علم الله في نفسه. وأقبل ثابت بن قيس بن شماس إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: هب لي الزُّبَير - يعني ابن باطا وامرأته - فوهبهما له، فرجع ثابت إلى الزُّبَير. فقال: يا أبا عبد الرحمن هل تعرفني؟ - وكان الزبير يومئذٍ أعمى كبيرا - قَالَ: هل ينكر الرجل أخاه؟ قَالَ ثابت: أردت أن أجزيك اليوم بيدك. قَالَ: أفعل، فإنّ الكريم يجزي الكريم، فأطلقه. فقال: لَيْسَ لي قائد، وقد أخذتم امرأتي وبَنيّ. فرجع ثابت إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسأله ذرّيَة الزُّبَير وامرأته، فوهبهم له، فرجع إليه فقال: قد ردّ إليك رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امرأتك وبنيك. قَالَ الزُّبير: فحائط لي فيه أعذق لَيْسَ لي ولأهلي عيش إلا به. فوهبه له رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ له ثابت: أسلم، قال: ما فعل المجلسان؟ فذكر رجالا من قومه بأسمائهم. فقال ثابت: قد قُتِلوا وفُرِغ منهم، ولعلّ الله أنْ يهديك. فقال الزُّبَير. أسألك بالله وبيدي عندك إلّا ما ألحقتني بهم. فما في العيش خير بعدهم. فذكر ذَلِكَ ثابت لرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر بالزُّبَير فقتل.
قَالَ الله - تعالى - في بني قُرَيْظة في سياق أمر الأحزاب: " وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ " يعني: الذين ظاهروا قُريشًا: " مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تقتلون وتأسرون فَرِيقًا ".
وقال عُرْوَة في قوله: " وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا ". هي خَيْبَر.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حدثني عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنُ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ،(1/209)
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسَعْدٍ: لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ.
وقال البكّائي، عَنِ ابن إسحاق: فحبسهم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دار بنت الحارث النَّجَّارية، وخرج إلى سوق المدينة، فخندق بِهَا خنادق، ثُمَّ بعث إليهم فضرب أعناقهم في تِلْكَ الخنادق. وفيهم حُيَيّ بن أخطب، وكعب بن أسد رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثر يقول: كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة. وقد قالوا لكعب وهو يذهب بهم إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أرسالًا: يا كعب ما تراه يصنع بنا؟ قَالَ: أفي كل موطن لا تعقلون. أما ترون الدّاعي لا ينزع، وأنّه من ذهب منكم لا يرجع؟ هو - والله - القتْل. وأتي بحيي بن أخطب وعليه حلة فقاحية قد شقّها من كل ناحية قدر أنمُلَة لئلّا يسلبها، مجموعة يداه إلى عُنُقه بحبل، فلما نظر إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أما - والله - ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنه من يخذل الله يُخذل. ثُمَّ أقبل عَلَى النّاس فقال: أيّها النّاس إنّه لا بأس بأمر الله. كتاب وقدر وملحمة كُتبت عَلَى بني إسرائيل. ثُمَّ جلس فضُربت عُنُقُه.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَمِّهِ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ يُقْتَلْ مِنْ نِسَائِهِمْ إِلا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، قَالَتْ: إِنَّهَا - وَاللَّهِ - لَعِنْدِي تُحَدِّثُ مَعِي وَتَضْحَكُ ظَهْرًا وَبَطْنًا، وَرَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقتل رجالهم بالسوق؛ إِذْ هَتَفَ هَاتِفٌ: يَا بِنْتَ فُلانَةٍ. قَالَتْ: أَنَا وَاللَّهِ. قُلْتُ: وَيْلَكِ، مَا لَكِ؟ قَالَتْ: أُقْتَلُ. قُلْتُ: وَلِمَ؟ قَالَتْ: حَدَثٌ أَحْدَثْتُهُ. فَانْطَلَقَ بها فضربت عنقها.
قال عِكْرِمَةُ وَغَيْرُهُ: صَيَاصِيهِمْ: حُصُونُهُمْ.
وقال يونس، عَنِ ابن إسحاق: ثُمَّ بعث النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سعدَ بن زيد، أخا بني عبد الأشهل بسبايا بني قُرَيْظة إلى نجد. فابتاع له بهم خيلا(1/210)
وسلاحا. وكان - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد اصطفى لنفسه رَيْحانة بنت عَمْرو بن خنافة، وكانت عنده حتى تُوُفّي وهي في مِلْكه، وعرض عليها أن يتزوَّجها، ويضرب عليها الحجاب، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ بل تتركني في مالك فهو أخفّ عليك وعليّ. فتركها. وقد كانت أوّلًا توقّفت عَنِ الإِسلام ثُمَّ أسلمت، فَسَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، والله أعلم.
وفي ذي الحجة:
-وفاة سعد بن مُعَاذ من سنة خمس
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ: حِبَّانُ بْنُ الْعَرِقَةِ، رماه في الأكحل. فضرب عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ لِيَعُودَهُ مِنْ قَرِيبٍ. فَلَمَّا رَجَعَ مِنَ الْخَنْدَقِ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ إِنَّ كَلْمَهُ تَحَجَّرَ لِلْبُرْءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ أُجَاهِدَ فِيكَ مِنْ قَوْمٍ كَذَّبُوا رسولك وأخرجوه، اللهم فإني أظن أنك قد وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيْءٌ فَأَبْقِنِي لَهُمْ حَتَّى أُجَاهِدَهُمْ فِيكَ. وَإِنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها. قال: فانفجر من لبته، فلم يرعهم - ومعهم في المسجد أَهْلُ خَيْمَةٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ - إِلا وَالدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟ فَإِذَا سَعْدٌ جرحه يغذو فَمَاتَ مِنْهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: رُمِيَ سَعْدٌ يَوْمَ الأَحْزَابِ فَقَطَعُوا أَكْحَلَهُ، فَحَسَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّارِ، فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَتَرَكَهُ، فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَحَسَمَهُ أُخْرَى. فَانْتَفَخَتْ يَدُهُ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: اللَّهُمَّ لا تُخْرِجْ نَفْسِي حَتَّى تُقِرَّ عَيْنِي مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ. فَاسْتَمْسَكَ عِرْقَهُ فَمَا قَطَرَتْ مِنْهُ قَطْرَةٌ. حَتَّى نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ سَعْدٍ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَحَكَمَ أَنْ(1/211)
تقتل رجالهم وتسبى نساؤهم وذراريهم. قال: وكانوا أربع مائة. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَتْلِهِمْ، انْفَتَقَ عِرْقُهُ فَمَاتَ. حديث صحيح.
وقال ابن راهويه: حدثنا عمرو بن محمد القرشي، قال: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ هَذَا الَّذِي تَحَرَّكَ لَهُ الْعَرْشُ - يَعْنِي سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ - وَشَيَّعَ جِنَازَتَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلِكٍ، لَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً ثُمَّ فُرِّجَ عَنْهُ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ: اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ فَرَحًا بِرُوحِهِ.
وقال يزيد بن عبد الله بن الهاد، عن معاذ بن رفاعة، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَنْ هَذَا الْعَبْدُ الصَّالِحُ الَّذِي مَاتَ، فُتِحَتْ لَهُ أبواب السماء وتحرك له الْعَرْشُ؟ قَالَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَبْرِهِ وَهُوَ يُدْفَنُ، فَبَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ - مَرَّتَيْنِ - فَسَبَّحَ الْقَوْمُ. ثُمَّ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، فَكَبَّر الْقَوْمُ. فَقَالَ: عَجِبْتُ لِهَذَا الْعَبْدِ الصَّالِحِ شُدِّدَ عَلَيْهِ فِي قَبْرِهِ حَتَّى كَانَ هَذَا حِينَ فُرِّجَ لَهُ.
روى بَعْضَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ رفاعة، قال: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، عَنْ جَابِرٍ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُعَاذُ بْنُ رِفَاعَةَ الزُّرَقِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي أَنَّ جِبْرِيلَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - في جوف الليل(1/212)
معتجرا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ هَذَا الْمَيِّتُ الَّذِي فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ؟ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُبَادِرًا إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَوَجَدَهُ قَدْ قُبِضَ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: كَانَ سَعْدٌ رَجُلا بَادِنًا، فَلَمَّا حَمَلَهُ النَّاسُ وَجَدُوا لَهُ خِفَّةً. فَقَالَ رِجَالٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: وَاللَّهِ إِنْ كَانَ لَبَادِنًا وَمَا حَمَلْنَا مِنْ جِنَازَةٍ أَخَفَّ مِنْهُ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّ لَهُ حَمَلَةً غَيْرَكُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدِ اسْتَبْشَرَتِ الْمَلائِكَةُ بِرُوحِ سَعْدٍ وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابن إسحاق: حدثني أمية بن عبد الله أَنَّهُ سَأَلَ بَعْضَ أَهْلِ سَعْدٍ: مَا بَلَغَكُمْ من قول رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا؟ فَقَالُوا: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: كَانَ يُقَصِّرُ فِي بَعْضِ الطُّهُوِر مِنَ الْبَوْلِ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: خَرَجْتُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ أَقْفُو آثَارَ النَّاسِ، فَسَمِعْتُ وَئِيدَ الأَرْضِ - تَعْنِي حِسَّ الأَرْضِ - وَرَائِي، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا أَنَا بِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ وَمَعَهُ ابْنُ أَخِيهِ الْحَارِثُ بْنُ أَوْسٍ يَحْمِلُ مِجَنَّهُ. فَجَلَسْتُ، فَمَّر سَعْدٌ وَهُوَ يَقُولُ:
لبِّثْ قليلًا يُدْرِكِ الهَيْجا حَمَلْ ... مَا أَحْسَنَ الْمَوْتَ إِذَا حَانَ الأَجَلْ
قَالَتْ: وَعَلَيْهِ دِرْعٌ قَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا أَطْرَافُهُ، فَتَخَوَّفْتُ على أطرافه، وكان من أطول النَّاسِ وَأَعْظَمِهِمْ. قَالَتْ: فَاقْتَحَمْتُ حَدِيقَةً، فَإِذَا فِيهَا نَفَرٌ فِيهِمْ عُمَرُ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ مِغْفَرٌ. فَقَالَ لِي عُمَرُ: مَا جَاءَ بِكَ؟ وَاللَّهِ إنك لجريئة، وما يؤمنك أن يكون تَحُوُّزًا وَبَلاءً. فَمَا زَالَ يَلُومُنِي حَتَّى تَمَنَّيْتُ أن الأرض انشقت ساعتئذ فدخلت فيها. قالت: فَرَفَعَ الرَّجُلُ الْمِغْفَرَ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ، قد أكثرت وأين التحوز(1/213)
وَالْفِرَارُ إِلا إِلَى اللَّهِ؟ قَالَتْ: وَيَرْمِي سَعْدًا رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ، يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ، بِسَهْمٍ، فَقَالَ: خُذْهَا، وَأَنَا ابْنُ الْعَرِقَةِ. فَأَصَابَ أكْحَلَهُ. فَدَعَا اللَّهَ سَعْدٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لا تُمِتْنِي حَتَّى تَشْفِيَنِي مِنْ قُرَيْظَةَ. وَكَانُوا مَوَالِيهِ وَحُلَفَاءَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَرَقَأَ كَلْمُهُ وَبَعَثَ اللَّهُ الريح على المشركين. وساق الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِيهِ قَالَتْ: فَانْفَجَرَ كَلْمُهُ وَقَدْ كَانَ بَرِئَ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهُ إِلا مِثْلُ الْخَرْصِ. وَرَجَعَ إِلَى قُبَّتِهِ. قَالَتْ: وَحَضَرَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبو بَكْرٍ وَعُمَرُ. فَإِنِّي لأَعْرِفُ بُكَاءَ أَبِي بَكْرٍ مِنْ بُكَاءِ عُمَرَ، وَأَنَا فِي حُجْرَتِي، وَكَانُوا - كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - " رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ". قَالَ: فَقُلْتُ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصْنَعُ؟ قَالَتْ: كَانَتْ عَيْنَاهُ لا تَدْمَعُ عَلَى أَحَدٍ وَلَكِنَّهُ كَانَ إِذَا وَجَدَ فَإِنَّمَا هُوَ آخِذٌ بِلِحْيَتِهِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَنَّ بَنِي قُرَيْظَةَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَرْسَلَ إِلَى سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَأُتِيَ بِهِ مَحْمُولا عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُضْنًى مِنْ جُرْحِهِ، فَقَالَ لَهُ: أشِرْ عَلَيَّ فِي هَؤُلاءِ. فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَمَرَكَ فِيهِمْ بِأَمْرٍ أَنْتَ فَاعِلُهُ. قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنْ أَشِرْ عَلَيَّ فِيهِمْ، فَقَالَ: لَوْ وُلِّيتُ أَمْرَهُمْ قَتَلْتُ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَيْتُ ذَرَارِيَّهُمْ وَقَسَّمْتُ أَمْوَالَهُمْ. فَقَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لقد أشرت علي فِيهِمْ بِالَّذِي أَمَرَنِي اللَّهُ بِهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بن سعد: أخبرنا خالد بن مخلد، قال: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ التَّمَّارُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، سَمِعَ عَامِرَ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا حَكَمَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ في قريظة أن يقتل من جرت عليه الموسى، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ حَكَمَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ الَّذِي حَكَمَ به من فوق سبع سماوات.(1/214)
وقال ابن سعد: أخبرنا يزيد، قال أخبرنا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الأنصار، قال: لما قضى سعد في قُرَيْظَةَ ثُمَّ رَجَعَ انْفَجَرَ جُرْحُهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَأَتَاهُ فَأَخَذَ رَأْسَهُ فَوَضَعَهُ فِي حِجْرِهِ، وَسُجِّيَ بِثَوْبٍ أَبْيَضَ إِذَا مُدَّ عَلَى وَجْهِهِ بَدَتْ رِجْلاهُ، وَكَانَ رَجُلا أَبْيَضَ جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ إِنَّ سَعْدًا قَدْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِكَ وَصَدَّقَ رَسُولَكَ وَقَضى الَّذِي عَلَيْهِ، فَتَقَبَّلْ رُوحَهُ بِخَيْرِ مَا تَقَبَّلْتَ رُوحَ رَجُلٍ ". فَلَمَّا سَمِعَ سَعْدٌ كَلامَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَحَ عَيْنَيْهِ، فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: وَأُمُّهُ تَبْكِي وَتَقُولُ:
وَيْلُ أُمِّ سَعْدٍ سَعْدَا ... حَزَامَةً وَجِدَّا
فَقِيلَ لَهَا: أَتَقُولِينَ الشِّعْرَ عَلَى سَعْدٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعُوهَا فَغَيْرُهَا مِنَ الشُّعَرَاءِ أَكْذَبُ.
وقال عبد الرحمن بن الغسيل، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ محمود بن لبيد قَالَ: لما أُصيب أَكْحَلُ سعدٍ حولوه عند امرأةٍ يقال لَهَا رُفَيْده، وكانت تداوي الجَرْحَى، قَالَ: وكان النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - إذا مر به يقول: كيف أمسيت؟ وإذا أصبح قال: كيف أصبحت؟ فيخبره، فذكر القصّة. وقال: فأسرع النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - المشي إلى سعد، فشكا ذَلِكَ إليه أصحَابه، فقال: إنّي أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة. فانتهى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى البيت وهو يغسل، وأمّه تبكيه وتقول:
وَيْلُ أمّ سعدٍ سعدا ... حَزَامَةً وجِدّا
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كلّ نائحة تكذب إلّا أمّ سعد ". ثُمَّ خرج به فقالوا: ما حَمَلْنا ميتًا أخفَّ منه. فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -: " ما يمنعكم أن يَخِفّ عليكم وقد هبط من الملائكة كذا وكذا لم يهبطوا قطّ، قد حملوه معكم ".
وقال شُعبة: أخبرني سِماك بن حرب، قال سَمِعْتُ عبد الله بنَ شدّاد يَقْولُ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم - على سعد بن مُعاذ وَهوَ يكيد بنفسه فقال: " جزاك الله خيرًا من سيّد قومٍ، فقد أنجزت الله ما وعدْتَه وليُنْجزنَّك الله ما وعدك ".(1/215)
وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّهُ شَهِدَ سَعْدًا سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ لَمْ يَنْزِلُوا إِلَى الأرض.
رواه غَيْرُهُ: عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، فَقَالَ: عن ابن عمر.
وقال شبابة: أخبرنا أبو معشر، عن المقبري، قال: لَمَّا دَفَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَعْدًا قَالَ: " لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ لَنَجَا سَعْدٌ، وَلَقَدْ ضُمَّ ضَمَّةً اختلفت منها أَضْلاعُهُ مِنْ أَثَرِ الْبَوْلِ ".
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا محمد بن عَمْرو، عَنْ محمد بن المنكدر، عَنْ محمد بن شُرَحبيل، أن رجلًا أخذ قبضةً من تراب قبر سعد يوم دُفِن، ففتحها بعد فإذا هي مِسْك.
وقال محمد بن موسى الفطري: أخبرنا مُعاذ بن رِفاعة الزُّرقي قَالَ: دُفن سعد بن مُعاذ إلى أُسّ دار عقيل بن أبي طَالِب.
قَالَ محمد بن عَمْرو بن عَلْقَمَةَ: حدّثني عاصم بن عُمَر بن قَتَادَة إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استيقظ فجاءه جبريل، أو قَالَ: مَلَكٌ فَقَالَ: من رجل من أُمَّتك مات الليلة استبشر بموته أهلُ السماء؟ قَالَ: لا أعلمه، إلّا أن سعد بن معاذ أمسى قريبا، ما فعل سعد؟ قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قُبِض وجاء قومُه فاحتملوه إلى دارهم. فصلّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاسِ الصُّبح، ثُمَّ خرج وخرج النّاس مشيًا حتى إنّ شسوع نعالهم تقطع من أرجلهم وإنّ أرديتهم لتسقُط من عواتقهم، فقال قائل: يَا رَسُولَ اللَّهِ قد بَتَتَّ النّاس مشيًا قَالَ: أخشى أن تسبقنا إليه الملائكة كما سبقتنا إلى حنظلة.
شعبة: حدثنا سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا منها نجا منها سعد بن معاذ ".(1/216)
شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شرحبيل، قال: لما انفجر جرح سعد بْنُ مُعَاذٍ الْتَزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -، جعلت الدماء تسيل عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ أبو بكر فقال: واكسر ظهرناه، فَقَالَ: مَهْ يَا أَبَا بَكْرٍ. ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
روى عقبة بن مكرم: حدثنا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ عَائِشَةَ، مَرْفُوعًا: " لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْ ضَمَّةِ الْقَبْرِ لَنَجَا مِنْهَا سَعْدٌ "، وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا، وَمَا فِيهِ صَفِيَّةُ.
وَلَيْسَ هَذَا الضَّغْطُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فِي شَيْءٍ. بَلْ هُوَ مِنْ رَوْعَاتِ الْمُؤْمِنِ كَنَزْعِ رُوحِهِ، وكألمه من بكاء حميمه عليه، وَكَرَوْعَتِهِ مِنْ هُجُومِ مَلَكَيِ الامْتِحَانِ عَلَيْهِ، وَكَرَوْعَتِهِ يَوْمَ الْمَوْقِفِ وَسَاعَةَ وُرُودِ جَهَنَّمَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ. نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُؤَمِّنَ رَوْعَاتِنَا.
وَقَالَ يَزِيدُ بن هارون: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عن عائشة قالت: ما كان أحد أَشَدَّ فَقْدًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وصاحبيه أو أحدهما من سعد بن معاذ.
وقال الواقدي: أخبرنا عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنِ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قال: كان سعد بن معاذ أَبْيَضَ طِوَالا، جَمِيلا، حَسَنَ الْوَجْهِ، أَعْيَنَ، حَسَنَ اللِّحْيَةِ. فَرُمِيَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ سَنَةَ خَمْسٍ فَمَاتَ مِنْهَا، وَهُوَ ابْنُ سَبْعٍ وَثَلاثِينَ سَنَةً. وَدُفِنَ بِالْبَقِيعِ.
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اهْتَزَّ عَرْشُ اللَّهِ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ".
وَقَالَ عَوْفٌ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ ".
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هارون: أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن إسحاق ابن رَاشِدٍ، عَنِ امْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أَسْمَاءُ بِنْتُ يَزِيدَ بْنِ السَّكَنِ، أَنَّ رَسُولَ(1/217)
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لأُمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: " أَلا يَرْقَأُ دَمْعُكِ وَيَذْهَبُ حُزْنُكِ بِأَنَّ ابْنَكِ أَوَّلُ مَنْ ضَحِكَ اللَّهُ لَهُ وَاهْتَزَّ لَهُ الْعَرْشُ؟ ".
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ جَدَّتِهِ رُمَيْثَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ أَشَاءُ أَنْ أُقَبِّلَ الْخَاتَمَ الَّذِي بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِنْ قُرْبِي مِنْهُ لَفَعَلْتُ - يَقُولُ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ يَوْمَ مَاتَ: " اهْتَزَّ لَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ".
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِحُبِّ لِقَاءِ اللَّهِ سَعْدًا. قَالَ: إِنَّمَا يَعْنِيَ السَّرِيرَ. قَالَ: " وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ " قَالَ: تَفَسَّخَتْ أَعْوَادُهُ. قَالَ: وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْرَهُ فَاحْتُبِسَ، فَلَمَّا خَرَجَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: ضُمَّ سَعْدٌ فِي الْقَبْرِ ضَمَّةً فدعوت الله يَكْشِفَ عَنْهُ.
وَقَالَ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَى بِثَوْبٍ حَرِيرٍ، فَجَعَلَ أَصْحَابُهُ يَتَعَجَّبُونَ مِنْ لِينِهِ فَقَالَ: إِنَّ مَنَادِيلَ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَلْيَنُ مِنْ هَذَا ". مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ وَاقِدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - وَكَانَ وَاقِدٌ مِنْ أَعْظَمِ الناس وأطولهم - فَقَالَ لِي: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا وَاقِدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ. فَقَالَ: إِنَّكَ بِسَعْدٍ لَشَبِيهٌ، ثُمَّ بَكَى فَأَكْثَرَ الْبُكَاءَ. ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ سَعْدًا، كَانَ مِنْ أعظم الناس وأطولهم. ثُمَّ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَيْشًا إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةَ، فَبَعَثَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِجُبَّةٍ مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٌ فِيهَا الذَّهَبُ، فَلَبِسَها رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَعَلَ النَّاسُ يَمْسَحُونَهَا وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهَا، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ هذه الجبة؟ قالوا: يا رسول الله مَا رَأَيْنَا ثَوْبًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ، قَالَ: فَوَاللَّهِ لَمَنادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِي الْجَنَّةِ أَحْسَنُ مِمَّا تَرَوْنَ.(1/218)
قلت: هو سعد بن مُعاذ بن النُّعمان بن امرئ القَيْس بن زيد بن عبد الأشهل بن جشم بن الحارث بن الخزرج بن عمرو، ولقبه النبيت، ابن مالك بن الأوس - أخي الخزرج - وهما ابنا حارثة بن عَمْرو، ويُدعى حارثة العنقاء، وإليه جماع الأوس والخزرج أَنْصَارَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وُيكنى سعد أبا عَمْرو، وأمه كبشة بنت رافع الأنصاري، من المُبايعات. أسلم هو وأسيد بن الحُضَير عَلَى يد مُصْعب بن عُمَيْر. وكان مُصْعب قَدِم المدينة قبل العقبة الآخرة يدعو إلى الإسلام ويُقْرئ القرآن. فلما أسلم سعد لم يبق من بني عبد الأشهل - عشيرة سعد - أحدٌ إلّا أسلم يومئذٍ. ثُمَّ كان مُصْعب في دار سعد هو وأسعد بن زرارة،، يدعوان إلى الله. وكان سعد وأسعد ابني خالة. وآخى النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بين سعد بن مُعاذ وأبي عُبَيْدة بن الجرّاح. قاله ابن إسحاق.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَغَيْرِهِ: آخَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ.
شهد سعد بدرًا، وَثَبَتَ مَع رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أُحُد حين ولّى الناس.
وقال أبو نعيم: حدثنا إسماعيل بن مسلم العبدي، حدثنا أَبُو الْمُتَوَكِّلِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْحُمَّى فَقَالَ: " مَنْ كَانَتْ بِهِ فَهِيَ حَظُّهُ مِنَ النَّارِ ". فَسَأَلَهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ رَبَّهُ، فَلَزِمَتْهُ فَلَمْ تُفَارِقْهُ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا.
وكان لسعد من الولد: عَمْرو، وعبد الله، وأمُّهما: عمّة أسيد بن الحُضَير هند بنت سماك من بني عبد الأشهل، صحابيّة. وكان تزوّجها أوس بن مُعاذ أخو سعد - وقتل عبد الله بن عَمْرو بن سعد - يوم الحرة.
وكان لعمرو من الولد: واقد بن عَمْرو، وجماعة قِيلَ: إنّهم تسعة.
وقتل عمرو أخو سعد بن مُعاذ يوم أُحد، وقتل ابن أخيهما الحارث بن أوس يومئذٍ شابًا. وقد شهدوا بدرا. والحارث أصابه السيف ليلة قتلوا كعب بن الأشرف، واحتمله أصحابه. وشهد بعد ذَلِكَ أُحُدًا.(1/219)
رَوَى عَنْ سعد بن مُعاذ: عبد الله بن مسعود، قصته بمكة مع أُميَّة بن خلف، وذلك في صحيح البخاري.
وحصن بني قُرَيْظة عَلَى أميالٍ من المدينة، حاصرهم النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمسًا وعشرين ليلة.
واستشهد من المسلمين: خلّاد بن سُويد الأنصاري الخزرجي، طُرحت عليه رَحَى، فَشَدَخَتْه.
ومات في مدّة الحصار أبو سنان بن محصَن، بدري مهاجري، وهو أخو عكّاشة بن مِحصَن الأسدي. شهد هو وابنه سِنان بدْرًا. ودُفن بمقبرة بني قُرَيْظة التي يتدافن بِهَا من نزل دُورهم من المسلمين. وعاش أربعين سنة. ومنهم من قَالَ: بقي إلى أن بايع تحت الشَّجرة.
-إسلام ابني سَعْيَة
وأسد بْن عُبَيْد
قَالَ يونس بن بكير، وجرير بن حازم عن ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر بْن قَتَادَة، عَنْ شيخ من بني قُرَيْظة أنه قَالَ: هل تدري عَمَّ كَانَ إسلامُ ثَعْلَبَة وأسد ابني سَعْيَة، وأسد بْن عُبَيْد، نفر من هَدْل، لم يكونوا من بني قُرَيْظة ولا نَضير، كانوا فوق ذَلِكَ؟ قلت: لا. قَالَ: إنّه قدِم علينا رَجُل من الشام يهوديّ، يقال لَهُ: ابن الهَيْبَان، ما رأينا خيرًا منه. فكنّا نقول إذا احتبس المطر: استسْق لنا. فيقول: لا والله، حتى تُخْرِجوا صدقة صاعا من تمر أو مدا من شعير. فنفعل، فيخرج بنا إلى ظاهر حرّتنا. فَوَالله ما يبرح مجلسه حتى تمرّ بنا الشعاب تسيل. قد فعل ذَلِكَ غير مرّة ولا مرتين. فلما حَضَرَتْه الوفاة قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، مَا تَرَوْنَهُ أَخْرَجَنِي مِنْ أَرْضِ الْخَمْرِ وَالْخَمِيرِ إِلَى أَرْضِ الْبُؤْسِ والجوع؟ قُلْنَا: أنت أعلم. قَالَ: أخرجني نبيُّ(1/220)
أتوقّعه يُبعث الآن فهذه البلدة مُهَاجره، وإنّه يُبعث بسفك الدماء وسبي الذرية، فلا يمنعنّكم ذَلِكَ منه ولا تُسبقنَّ إِلَيْهِ. ثُمَّ مات.
زاد يونس بْن بُكَيْر فِي حديثه: فلما كانت الليلة التي افتُتِحت فيها قُرَيْظة قَالَ أولئك الثلاثة، وكانوا شُبَّانًا أحداثًا: يا معشر يهود، هذا الَّذِي كَانَ ذكر لكم ابن الهَيبان. قالوا: ما هو؟ فقالوا: بلى - والله - إنّه لهو بصفته. ثُمَّ نزلوا فأسلموا وخلُّوا أموالَهم وأهلَهم، وكانت فِي الحصْن، فلما فتح ردّ ذَلِكَ عليهم.(1/221)
-سَنَة ستٍّ مِنَ الهجَرة
قَالَ البكّائي، عَنِ ابن إِسْحَاق: ثُمَّ أقام رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة ذا الْحَجَّةِ والمحرَّم وصَفَرًا وشهرَيْ ربيع، وخرج فِي جُمَادى الأولى إلى بني لحْيان يطلب بأصحاب الرَّجيع: خُبَيْب بْن عَدِيّ وأصحابه، وأظهر أنّه يريد الشام ليصيب من القوم غِرَّةً، فوجدهم قد حذروا وتمنعوا في رؤوس الجبال. فقال: لو أنّا هبطنا عُسْفان لرأى أهلُ مكة أنّا قد جئنا مكة. فهبط في مائتي راكب من أصحابه حتى نزل عسفان. ثم بعث فارسَيْن من أصحابه حتى بلغا كِراعَ الغَمِيم، ثم كرا. وراح قافلا.
-غزوة ذي قَرَد
ثم قدم المدينة فأقام بِهَا ليالي، فأغار عُيَيْنَة بْن حصْن فِي خيل من غَطفان عَلَى لِقَاحِ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالغابة، وفيها رَجُل من بني غِفار وامرأة، فقتلوا الرجل واحتملوا المرأة فِي اللّقاح.
وكان أوّل من نذر بهم سَلَمَةُ بْن الأكْوَع، غدا يريد الغَابة ومعه غلام لطلحة بْن عُبَيْد الله معه فَرَسه، حتى إذا علا ثَنِيَّةَ الوداع نظر إلى بعض خيولهم فأشرف فِي ناحية من سَلْع، ثُمَّ صرخ: واصَبَاحاه، ثُمَّ خرج يشتدّ فِي آثار القوم، وكان مثل السّبع، حتى لحق بالقوم. وجعل يردّهم بنَبْله، فإذا وُجّهت الخيل نحوه هرب ثُمَّ عارضهم فإذا أمكنه الرمْي رمى. وبلغ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ فصرخ بالمدينة: الفَزَعَ الفَزَعَ. فترامت الخيول إلى(1/222)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المِقداد، وعَبّاد بْن بشْر، وأسيد بْن ظُهَيْر، وعُكّاشة بْن مِحْصَن وغيرهم. فأمر عليهم سعدَ بْن زيد، ثُمَّ قَالَ: أخرج فِي طلب القوم حتى ألحقك بالنّاس. وَقَدْ قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما بلغني - لأبي عياش: لو أعطيت فرسك رجلا أفرس منك؟ فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أفرس النّاس. وضربت الفرسَ فَوَالله ما مشى بي إلّا خمسين ذراعًا حتى طرحني فعجبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو أعطيته أفرس منك وجوابي لَهُ.
ولم يكن سَلَمَةَ بْن الأكْوَع يومئذٍ فارسًا، وكان أوّل من لحق القومَ عَلَى رِجْلَيْه. وتلاحق الفُرسان فِي طلب القوم. فأول من أدركهم محرز بن نضلة الأسدي. فأدركهم ووقف لهم بين أيديهم ثُمَّ قَالَ: قفوا يا معشر بني اللّكيعَة حتى يلحق بكم من وراءكم من المسلمين. فحمل عَلَيْهِ رَجُل منهم فقتله. ولم يُقتل من المسلمين سواه.
قَالَ عَبْد الملك بن هشام: وقتل يومئذ من المسلمين وقاص بْن مجزّز المُدْلجِي.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مَنْ لا أَتَّهِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ مُجَزِّزًا إِنَّمَا كَانَ عَلَى فَرَسِ عُكَّاشَةَ يُقَالُ لَهُ الْجنَاحُ، فَقُتِلَ مُجَزِّزٌ وَاسْتُلِبَ الْجنَاحُ. وَلَمَّا تَلاحَقَتِ الْخَيْلُ قَتَلَ أَبُو قَتَادَةَ بْنُ رِبْعِيٍّ حَبِيبَ بْنَ عُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَغَشَّاهُ بِبُرْدِهِ، ثُمَّ لَحِقَ بِالنَّاسِ. وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَرْجَعُوا وَقَالُوا: قُتِلَ أَبُو قَتَادَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَيْسَ بِأَبِي قَتَادَةَ وَلَكِنَّهُ قَتِيلٌ لأَبِي قَتَادَةَ وَضَعَ عَلَيْهِ بُرْدَهُ لتعرفوا أنه صَاحِبَهُ.
وَأَدْرَكَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ أوبَارًا وَابْنَهُ عَمْرَو بْنَ أوبَارٍ، كِلاهُمَا عَلَى بَعِيرٍ، فَانْتَظَمَهُمَا بالرمح فقتلهما جميعا. واستنقذوا بَعْضَ اللِّقَاحِ.
وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى نَزَلَ بِالْجَبَلِ مِنْ ذِي قرد، وتلاحق الناس، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقَالَ سَلَمَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ(1/223)
سرحتني في مائة رجل لاستنقذت بَقِيَّةَ السَّرْحِ وَأَخَذْتُ بِأَعْنَاقِ الْقَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا بلغني: إِنَّهُمُ الآنَ لَيُغْبَقُونَ فِي غَطَفَانَ. فَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَصْحَابِهِ، فِي كُلِّ مِائَةِ رَجُلٍ، جَزُورًا. وَأَقَامُوا عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى الْمَدِينَةِ.
قَالَ: وَانْفَلَتَتِ امْرَأَةُ الْغِفَارِيِّ عَلَى نَاقَةٍ مِنْ إِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى قَدِمَتْ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: إِنِّي نَذَرْتُ لِلَّهِ أَنْ أَنْحَرَهَا إِنْ نَجَّانِي اللَّهُ عَلَيْهَا. قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ - ثم قال: بِئْسَ مَا جَزَيْتِهَا أَنْ حَمَلَكِ اللَّهُ عَلَيْهَا وَنَجَّاكِ بِهَا ثُمَّ تَنْحَرِينَهَا، إِنَّهُ لا نَذْرَ فِيمَا لا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ، إِنَّمَا هِيَ نَاقَةٌ مِنْ إِبِلِي، ارْجِعِي عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ.
قُلْتُ: هَذِهِ الْغَزْوَةُ تُسمَّى غَزْوَةَ الْغَابَةِ، وَتُسمَّى غَزْوَةَ ذِي قَرَدٍ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: إِنَّهَا كَانَتْ فِي سَنَةِ سِتٍّ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ أنها كانت زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ.
قَالَ أَبُو النَّضْرِ هَاشِمُ بْنُ القاسم: حدثنا عكرمة بن عمار، قال: حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَرَجْتُ أَنَا وَرَباحٌ - غُلَامُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَخَرَجْتُ بِفَرَسٍ لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ كُنْتُ أُرِيدُ أَنْ أُنَدِّيَهُ مَعَ الْإِبِلِ. فَلَمَّا كَانَ بِغَلَسٍ، أَغَارَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُيَيْنَةَ عَلَى إِبِلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -، فقتل راعيها وخرج يطردها هو وَأُنَاسٌ مَعَهُ فِي خَيْلٍ. فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ اقْعُدْ عَلَى هَذَا الْفَرَسِ فَأَلْحِقْهُ بِطَلْحَةَ وَأَخْبِرْ رسول الله الخبر. وقمت عَلَى تَلٍّ فَجَعَلْتُ وَجْهِي مِنْ قِبَلِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ نَادَيْتُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: يَا صَبَاحَاهُ. ثُمَّ اتبعت القوم معي سَيْفِي وَنَبْلِي، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ وَذَلِكَ حِينَ يَكْثُرُ الشَّجَرُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَيَّ فَارِسٌ جَلَسْتُ لَهُ فِي أَصْلِ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَمَيْتُ، فَلَا يُقْبِلُ عَلِيَّ فَارِسٌ إِلَّا عَقَرْتُ بِهِ. فجعلت أرميهم وأقول:(1/224)
أَنَا ابْنُ الْأكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
فَأَلْحَقُ بِرَجُلٍ مِنْهُمْ فَأَرْمِيهِ وَهُوَ عَلَى رَاحِلَةِ رَحْلِهِ، فَيَقَعُ سَهْمِي فِي الرَّحْلِ حَتَّى انْتَظَمَتْ كَتِفُهُ، فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ.
وَكُنْتُ إِذَا تضايقت الثنايا علوت الْجَبَلِ فَرَدَأْتُهُمْ بِالْحِجَارَةِ، فَمَا زَالَ ذَلِكَ شَأْنِي وشأنهم أتبعهم فأرتجز، حتى ما خَلَقَ اللَّهُ شَيْئًا مِنْ سَرْحِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَّا خَلَّفْتُهُ وَرَائِي وَاسْتَنْقَذْتُهُ مِنْ أَيْدِيهِمْ. ثُمَّ لَمْ أَزَلْ أَرْمِيهِمْ حَتَّى أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ رُمْحًا وَأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ بُرْدَةً يَسْتَخِفُّونَ مِنْهَا، وَلَا يُلْقُونَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا جَعَلْتُ عَلَيْهِ حِجَارَةً وَجَمَعْتُهُ عَلَى طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى إِذَا مُدَّ الضُّحَاءُ أَتَاهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيُّ مَدَدًا لَهُمْ، وَهُمْ فِي ثَنِيَّةٍ ضَيِّقَةٍ. ثُمَّ عَلَوْتُ الْجَبَلَ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ: مَا هَذَا الَّذِي أَرَى؟ قَالُوا: لَقِينَا مِنْ هذا البرح، ما فارقنا بسحر حَتَّى الْآنَ، وَأَخَذَ كُلَّ شَيْءٍ كَانَ فِي أَيْدِينَا وَجَعَلَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ. فَقَالَ عُيَيْنَةُ: لَوْلَا أَنَّ هَذَا يَرَى أَنَّ وَرَاءَهُ مَدَدًا لَقَدْ تَرَكَكُمْ، لِيَقُمْ إِلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ. فَقَامَ إِلَيَّ أَرَبَعَةٌ فَصَعِدُوا فِي الْجَبَلِ. فَلَمَّا أَسْمَعْتُهُمُ الصَّوْتَ قُلْتُ: أَتَعْرِفُونِي؟ قَالُوا: وَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَنَا ابن الأكوع، والذي كرم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لَا يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكُنِي وَلَا أَطْلُبُهُ فَيَفُوتُنِي.
قَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: إِنِّي أَظُنُّ - يَعْنِي كَمَا قَالَ - فَمَا بَرِحْتُ مَقْعَدِي ذَلِكَ حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى فَوَارِسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَلَّلُونَ الشَّجَرَ، وَإِذَا أَوَّلُهُمُ الْأَخْرَمُ الْأَسَدِيُّ، وَعَلَى إِثْرِهِ أَبُو قَتَادَةَ، وَعَلَى إِثْرِهِ المقداد. فولى المشركون. فأنزل من الجبل فأعترض الأخرم فَآخذُ عِنَانَ فَرَسِهِ فَقُلْتُ: يَا أَخْرَمُ أَنْذِرِ الْقَوْمَ - يَعْنِي أُحَذْرُهُمْ - فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَقْطَعُوكَ، فَاتَّئِدْ حَتَّى يَلْحَقَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عِنانَ فَرَسِه فَيَلْحَقُ بِعَبْدِ الرحمن ابن عيينة وطعنه عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَقَتَلَهُ. وَتَحَوَّلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَلَى فَرَسِ الْأَخْرَمِ فَيَلْحَقُ أَبُو قَتَادَةَ(1/225)
بِهِ، فَاخْتَلَفَا طَعْنَتَيْنِ، فَعقَرَ بِأَبِي قَتَادَةَ، وَقَتَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ، وَتَحَوَّلَ عَلَى فَرَسِ الْأَخْرَمِ. ثُمَّ إني خَرَجْتُ أَعْدُو فِي أَثَرِ الْقَوْمِ حَتَّى مَا أَرَى مِنْ غُبَارِ أَصْحَابِي شَيْئًا. وَيَعْرِضُونَ قَبْلَ الْمَغِيبِ إِلَى شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ يُقَالَ لَهُ ذو قرد، فأرادوا أن يشربوا منه، فأبصروني أعدو وراءهم، فعطفوا عنه وأسندوا في الثنية، ثنية ذي تير، وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَلْحَقُ رَجُلا فَأَرْمِيهِ فَقُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الْأَكْوَع. قَالَ: فَقَالَ: يَا ثُكْلَ أُمِّي، أَكْوَعِيٌّ بُكْرَةً؟ قُلْتُ: نَعَمْ يَا عُدوَّ نَفْسِهِ، وَكَانَ الَّذِي رَمَيْتُهُ بُكْرَةً، فَأَتْبَعْتُهُ سَهْمًا آخر فعلق به سهمان. ويخلفون فرسين فجبذتهما أَسُوقُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على الماء الذي جليتهم عنه ذو قرد، فإذا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في خمس مائة، وَإِذَا بِلَالٌ قَدْ نَحَرَ جَزُورًا مِمَّا خَلَّفْتُ، فَهُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَلِّنِي فَأَنْتَخِبُ مِنْ أَصْحَابِكَ مِائَةً وَاحِدَةً فَآخُذُ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْعَشْوَةِ فَلَا يَبْقَى مِنْهُمْ مُخْبِرٌ قَالَ: أكُنْتَ فَاعِلا يَا سَلَمَةُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَالَّذِي أَكْرَمَكَ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى رَأَيْتُ نَوَاجِذَهُ فِي ضَوْءِ النَّارِ. ثُمَّ قَالَ: إِنَّهُمْ يُقْرَوْنَ الآنَ بِأَرْضِ غَطَفَانَ. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غطفان فقال: مُرُّوا عَلَى فُلانٍ الْغَطَفَانِيِّ فَنَحَرَ لَهُمْ جَزُورًا، فَلَمَّا أَخَذُوا يَكْشِطُونَ جِلْدَهَا رَأَوْا غَبَرَةً، فَتَرَكُوهَا وَخَرَجُوا هِرَابًا.
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " خَيْرُ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ، وَخَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ ". وَأَعْطَانِي سَهْمَ الرَّاجِلِ وَالْفَارِسِ جَمِيعًا. ثُمَّ أَرْدَفَنِي وَرَاءَهُ عَلَى العضباء رَاجِعِينَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
فَلَمَّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا قريبا من ضحوة، وَفِي الْقَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ كَانَ لا يُسْبَقُ، فَجَعَلَ يُنَادِي: هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ وَكَرَّرَ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لَهُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيمًا وَلا تَهَابُ شَرِيفًا؟ قَالَ: لا، إِلا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله بأبي أنت وَأُمِّي خَلِّنِي فَلأُسَابِقْهُ. قَالَ: إِنْ شِئْتَ. قُلْتُ: أذْهَبُ إِلَيْكَ. فَطَفَرَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، وَثَنَيْتُ رِجْلَيَّ فَطَفَرْتُ عَنِ النَّاقَةِ. ثُمَّ إِنِّي رَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ - يَعْنِيَ اسْتَبْقَيْتِ نَفْسِي - ثُمَّ إني عدوت حَتَّى أَلْحَقَهُ فَأَصُكَّ بَيْنَ كَتِفَيْهِ(1/226)
بيدي. قلت: سبقتك والله. فضحك وقال: إن أظن حتى قدمنا إلى المدينة.
أخرجه مسلم عن شيخ، عَنْ هَاشِمٍ.
قَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحَسَنِ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْغَنِيِّ الْحَرَّانِيِّ بِمِصْرَ، وَعَلَى أَبِي الحسن علي بن أَحْمَدَ الْهَاشِمِيِّ بِالْإِسْكَنْدَرِيَةِ، وَعَلَى أَبِي سَعِيدٍ سُنْقُرَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِحَلَبَ، وَعَلَى أَحْمَدَ بْنِ سُلَيْمَانَ الْمَقْدِسِيِّ بِقَاسِيُونَ، وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الْفَقِيهِ، وَأَبُو الْغَنَائِمِ بْنُ مَحَاسِنَ، وَعُمَرُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْأَدِيبُ، قَالُوا: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ رُوزَبَةَ.
(ح) وَقَرَأْتُ عَلَى أَبِي الْحُسَيْنِ الْيُونِينِيِّ، وَمُحَمَّدِ بْنِ هَاشِمٍ الْعَبَّاسِيِّ، وَإِسْمَاعِيلَ بْنِ عُثْمَانَ الْفَقِيهُ، وَمُحَمَّدِ بْنِ حَازِمِ، وَعَلِيِّ بْنِ بَقَاءٍ، وَأَحْمَدَ بْنِ عبد الله بن عزيز، وخلق سواهم: أخبركم أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي بَكْرِ ابن الزبيدي قالا: أخبرنا أبو الوقت السجزي، قال: أخبرنا أبو الحسن الداودي، قال أخبرنا أبو محمد بن حمويه، قال: أخبرنا محمد بن يوسف، قال: حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ قَالَ: خَرَجْتُ مِنَ الْمَدِينَةِ ذَاهِبًا نَحْوَ الْغَابَةِ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الْغَابَةِ لَقِيَنِي غُلَامٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قُلْتُ: وَيْحُكَ مَا بِكَ؟ قَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ وَفَزَارَةُ. فَصَرَخْتُ ثَلاثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعَتْ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا: يَا صَبَاحَاهُ، يَا صَبَاحَاهُ. ثُمَّ انْدَفَعْتُ حَتَّى أَلْقَاهُمْ وَقَدْ أَخَذُوهَا، فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الْأَكْوَعِ ... وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ
فَاسْتَنْقَذْتُهَا مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا. فَأَقْبَلْتُ بِهَا أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقُلْتُ: يَا رسول الله إِنَّ الْقَوْمَ عِطَاشٌ، وَإِنِّي أَعْجَلْتُهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا سقيهم، فابعث في أثرهم فقال: يا ابن الأكوع ملكت فأسجح، إن القوم(1/227)
يُقْرَوْنَ فِي قَوْمِهِمْ.
-مقتل أبي رافع
وهو سلّام بْن أبي الحُقَيْق، وقيل: عَبْد الله بْن أَبِي الحُقَيْق اليهودي، لعنه الله.
قَالَ البكّائي، عَنِ ابن إِسْحَاق: ولما انقضى شأن الخندق وأمرُ بني قُرَيْظة، وكان سلّام بْن أَبِي الحُقَيْق أَبُو رافع فيمن حزَّب الأحزاب عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وكانت الأوس قبل أُحُد قد قتلت كعبَ بن الأشرف. فاستأذنت الخزرجُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قتل ابن أبي الحُقَيْق وهو بخيبر، فأَذِن لهم.
وحدّثني الزُّهري، عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن كَعْبِ بْن مالك، قَالَ: كَانَ مما صنع الله لرسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنّ هذين الحيَّيْن من الأنصار كانا يتصاولان مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تصاول الفحلين لا تصنع الأوس شيئا فيه غناء عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلا قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا عِنْدَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي الْإِسْلَام. فلا ينتهون حتى يوقعوا مثلَها. وإذا فعلت الخزرج شيئًا قَالَتْ الأوس مثل ذَلِكَ.
ولما أصابت الأوس كعب بن الأشرف في عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت الخزرج: والله لا يذهبون بهذه فضلًا علينا. فتذاكروا من رَجُل لرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - كابن الأشرف، فذكروا ابن أَبِي الحُقَيْق وهو بخيبر. فاستأذنوا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأذن لهم. فخرج إِلَيْهِ من الخزرج خمسة من بني سَلَمَةَ: عَبْد الله بْن عَتيك، ومسعود بْن سنان، وعبد الله بْن أنيس، وأبو قتادة بن ربعي، وآخر حليف لهم. فأمر عليهم ابن عَتيك، فخرجوا حتى قدِموا خيبر، فأتوا دار ابن أَبِي الحُقَيْق ليلًا، فلم يَدعوا بيتًا فِي الدار إلّا أغلقوه عَلَى أهله، ثُمَّ قاموا(1/228)
عَلَى بابه فاستأذنوا، فخرجت إليهم امرأته فقالت: من أنتم؟ قَالُوا: نلتمس الميرة. قَالَتْ: ذاكم صاحبكم، فادخلوا عليه.
قال: فلما دخلنا أغلقنا علينا وعليها الحجرة تخوفا أن تكون دونه مجاولة تحُول بيننا وبينه. قَالَ: فصاحت امرأته فنَّوَهت بنا، وابتدرناه وهو عَلَى فراشه، والله ما يدلّنا عَلَيْهِ فِي سواد البيت إلّا بياضه، كأنّه قِبْطِيّة مُلْقاه. فلما صاحت علينا جعل الرجل منّا يرفع سيفه عليها ثُمَّ يذكر نَهْيَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قتل النساء، فيكف يده. فلما ضربناه بأسيافنا تحامل عَلَيْهِ عَبْد الله بْن أنيس بسيفه فِي بطنه حتى أنفذه، وهو يَقْولُ: قطني قطني، أي حسبي. قال: وخرجنا، وكان ابن عتيك سيئ البصر فوقع من الدرجة، فوثئت يده وثأ شديدًا وحملناه حتى نأتي مَنْهَرًا من عيونهم فندخل فِيهِ. فأوقدوا النّيران واشتدّوا فِي كلّ وجه يطلبون، حتى إذا يئسوا رجعوا إلى صاحبهم فاكتنفوه. فقلنا: كيف لنا بأن نعلم أنّه هلك؟ فقال رَجُل منّا: أَنَا أذهب فأنظر لكم. فانطلق حتى دخل فِي النّاس. قَالَ: فوجدتُها وفي يدها المصباح وحوله رجال وهي تنظر فِي وجهه وتحدّثهم وتقول: أما والله لقد سَمِعْتُ صوت ابن عَتيك ثُمَّ أكذبت نفسي فقلت: أنّي ابن عَتيك بهذه البلاد؟ ثُمَّ أقبَلَتْ عَلَيْهِ تنظر فِي وجهه، ثُمَّ قَالَتْ: فاض، وإله يهود. فما سَمِعْتُ من كلمة كانت ألذّ إليّ منها. قَالَ: ثُمَّ جاء فأخبرنا الخبر، فاحتملنا صاحبَنا فقدِمْنا عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبرناه واختلفنا فِي قتله، فكلّنا يدّعيه. فقال: هاتوا أسيافكم. فجئناه بِهَا، فنظر إليها فقال لسيف عَبْد الله بْن أنيس: هذا قَتَلَه، أرى فِيهِ أثر الطّعام والشراب.
وَقَالَ زكريا بن أبي زائدة، عن أبي إسحاق، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهْطًا مِنَ الْأَنْصَارِ إِلَى أَبِي رَافِعٍ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَتِيكٍ بَيْتَهُ لَيْلًا فَقَتَلَهُ وَهُوَ نَائِمٌ. أَخْرَجَهُ البخاري.(1/229)
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَبِي رَافِعٍ رِجَالا مِنَ الأَنْصَارِ، عَلَيْهِمْ عَبْدُ اللَّهِ - يَعْنِيَ ابْنَ عَتِيكٍ - وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُعِينُ عَلَيْهِ. وَكَانَ فِي حِصْنٍ لَهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ. فَلَمَّا دَنَوْا وَقَدْ غَرَبَتِ الشَّمْسُ وَرَاحَ النَّاسُ بِسَرْحِهِمْ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لأَصْحَابِهِ: اجْلِسُوا مَكَانَكُمْ فَإِنِّي مُنْطَلِقٌ فَمُتَلَطِّفٌ لِلْبَوَّابِ لَعَلِّي أَدْخُلُ. فَأَقْبَلَ حَتَّى دَنَا مِنَ الْبَابِ ثُمَّ تَقَنَّعَ بِثَوْبِهِ كَأَنَّهُ يَقْضِي حَاجَتَهُ. وَقَدْ دَخَلَ النَّاسُ، فَهَتَفَ بِهِ الْبَوَّابُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تَدْخُلَ فَادْخُلْ لأُغْلِقَ. فَدَخَلْتُ فَكَمَنْتُ، فَأَغْلَقَ الْبَابَ وَعَلَّقَ الأَقَالِيدَ عَلَى وُدٍّ، فَقُمْتُ فَفَتَحْتُ الْبَابَ.
وَكَانَ أَبُو رَافِعٍ يُسْمَرُ عِنْدَهُ وَكَانَ فِي عَلالِيٍّ. فَلَمَّا أَنْ ذَهَبَ عَنْهُ أَهْلُ سَمَرِهِ صَعَدْتُ إِلَيْهِ، وَجَعَلْتُ كلما فتحت بابا أغلقته عَلَيَّ مِنْ دَاخِلٍ، وَقُلْتُ: إِنَّ الْقَوْمَ نَذَرُوا بِي لَمْ يَخْلُصُوا إِلَيَّ حَتَّى أَقْتُلَهُ. فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ وَسْطَ عِيَالِهِ، لا أَدْرِي أَيْنَ هُوَ مِنَ الْبَيْتِ. قُلْتُ: يَا أَبَا رَافِعٍ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَأَهْوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً بِالسَّيْفِ، وَأَنَا دَهِشٌ، فَمَا أَغْنَى شَيْئًا، فَصَاحَ، فَخَرَجْتُ مِنَ الْبَيْتِ فَأَمْكُثُ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ دَخَلْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا الضَّرْبُ يَا أَبَا رَافِعٍ؟ قَالَ: لأُمِّكَ الْوَيْلُ، إِنَّ رَجُلا فِي الْبَيْتِ ضَرَبَنِي قَبْلُ بِالسَّيْفِ. قَالَ: فَأَضْرِبُهُ ضَرْبَةً أَثْخَنْتُهُ وَلَمْ أَقْتُلْهُ، ثُمَّ وَضَعْتُ صَدْرَ السَّيْفِ فِي بَطْنِهِ حَتَّى أَخَذَ فِي ظَهْرِهِ فَعَلِمْتُ أَنِّي قَدْ قَتَلْتُهُ، فَجَعَلْتُ أَفْتَحُ الأَبْوَابَ بَابًا فَبَابًا حَتَّى انْتَهَيْتُ إِلَى دَرَجَةٍ، فَوَضَعْتُ رِجْلِي وَأَنَا أَرَى أَنِّي قَدِ انْتَهَيْتُ إِلَى الأَرْضِ، فَوَقَعْتُ - فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ - فَانْكَسَرَتْ سَاقِي، فَعَصَبْتُهَا بِعِمَامَتِي، ثم انطلقت حتى جلست عند الباب. فقلت: لا أَبْرَحُ اللَّيْلَةَ حَتَّى أَعْلَمَ أَقَتَلْتُهُ أَمْ لا. فَلَمَّا صَاحَ الدِّيكُ قَامَ النَّاعِي عَلَى السُّورِ فَقَالَ: أَنْعِي أَبَا رَافِعٍ. فَانْطَلَقْتُ إِلَى أَصْحَابِي، فَقُلْتُ: النَّجَاءَ النَّجَاءَ، فَقَدْ قَتَلَ اللَّهُ أَبَا رَافِعٍ. فَانْتَهَيْنَا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَدَّثْنَاهُ فَقَالَ: ابْسُطْ رِجْلَكَ. فَبَسَطْتُهَا. فَمَسَحَهَا، فَكَأَنَّمَا لَمْ أشْكُهَا قَطُّ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.(1/230)
وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَنِ الْبَرَاءِ بِنَحْوِهِ. وَفِيهِ: ثُمَّ انْطَلَقْتُ إِلَى أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ فَغَلَّقْتُهَا عَلَيْهِمْ مِنْ ظَاهِرٍ. وَفِيهِ: ثُمَّ جِئْتُ كَأَنِّي أُغِيثُهُ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي، وَقُلْتُ: مالك يَا أَبَا رَافِعٍ. قَالَ: أَلا أُعْجِبُكَ، دَخَل عَلَيَّ رَجُلٌ فَضَرَبَنِي بِالسَّيْفِ. قَالَ: فَعَمَدْتُ لَهُ أيضا فأضربه أُخْرَى فَلَمْ تُغْنِ شَيْئًا، فَصَاحَ وَقَامَ أَهْلُهُ، ثُمَّ جِئْتُ وَغَيَّرْتُ صَوْتِي كَهَيْئَةِ الْمُغِيثِ، وَإِذَا هُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ، فَأَضَعُ السَّيْفَ فِي بَطْنِهِ ثُمَّ أَتَّكِئُ عَلَيْهِ حَتَّى سَمِعْتُ صَوْتَ العظم. ثم خرجت دهشا إلى السلم، فسقطت فاختلعت رجلي فعصبتها. ثم أتيت أصحابي أحجل فقلت: انْطَلِقُوا فَبَشِّرُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنِّي لا أَبْرَحُ حَتَّى أَسْمَعَ النَّاعِيَةَ. فَلَمَّا كَانَ وَجْهُ الصُّبْحِ صَعِدَ النَّاعِيَةُ فَقَالَ: أَنْعِي أَبَا رَافِعٍ. فَقُمْتُ أَمْشِي، مَا بِي قلبة، فأدركت أصحابي قَبْلُ أَنْ يَأْتُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - فبشرته.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: كَانَ سَلامُ بْنُ أَبِي الْحُقَيْقِ قَدْ أَجْلَبَ فِي غَطَفَانَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ يَدْعُوهُمْ إِلَى قِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجْعَلُ لَهُمُ الْجُعْلَ الْعَظِيمَ. فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْهِ جَمَاعَةً فَبَيَّتُوهُ لَيْلا.
وقال موسى بْن عقُبَةَ فِي مغازيه: فطرقوا أَبَا رافع اليهوديّ بخيبر فقتلوه فِي بيته.(1/231)
-قتل ابن نُبَيْح الهُذَليُّ
ابن لهيعة: حدثنا أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدَ اللَّهِ بْن أنيس السلمي إلى سُفْيَانَ بْنِ نُبَيْحٍ الْهُذْلِيِّ ثُمَّ اللِّحْيَانِيِّ، لِيَقْتُلَهُ وَهُوَ بِعُرَنَةَ وَادِي مَكَّةَ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ ابْنَ نُبَيْحٍ الْهُذَلِيَّ يَجْمَعُ النَّاسَ لِيَغْزُونِي وَهُوَ بِنَخْلَةٍ أَوُ بِعُرَنَةَ، فَأْتِهِ فَاقْتُلْهُ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ انْعَتْهُ لِي حَتَّى أَعْرِفَهُ. قَالَ: آيَةُ مَا بَيْنَكَ وبينه أنك إذا رأيته وجدت له قشعريرة. فخرجت متوشحا سيفي، حتى دفعت إليه في ظعن يرتاد لهن مَنْزِلا وَقْتَ الْعَصْرِ. فَلَمَّا رَأَيْتُهُ وَجَدْتُ لَهُ مَا وَصَفَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ القشعريرة. فأقبلت نحوه وخشيت أن يكون بيني وبينه مجاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نَحْوَهُ أُومِئُ بِرَأْسِي إِيمَاءً. فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إِلَيْهِ قَالَ: مَنِ الرَّجُلُ؟ قُلْتُ: رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ سَمِعَ بِكَ وَبِجَمْعِكَ لِهَذَا الرَّجُلِ، فَجَاءَ لِذَلِكَ. قَالَ: أَجَلْ نَحْنُ فِي ذَلِكَ. فَمَشَيْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا أَمْكَنَنِي حَمَلْتُ عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ فَقَتَلْتُهُ، ثُمَّ خَرَجْتُ وَتَرَكْتُ ظَعَائِنَهُ مُكِبَّاتٍ عَلَيْهِ.
فَلَمَّا قدِمَتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَفْلَحَ الْوَجْهُ. قُلْتُ: قَدْ قَتَلْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: صَدَقْتَ. ثُمَّ قَامَ بي فدخل بي بَيْتَهُ فَأَعْطَانِي عَصًا، فَقَالَ: أَمْسِكْ هَذِهِ عِنْدَكَ. فَخَرَجْتُ بِهَا عَلَى النَّاسِ. فَقَالُوا: مَا هَذِهِ الْعَصا؟ فَقُلْتُ: أَعْطَانِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَنِي أَنْ أُمْسِكَهَا عِنْدِي. قَالُوا: أَفَلا تَرْجِعُ فَتَسْأَلُهُ فَرَجَعْتُ فَسَأَلْتُهُ: لِمَ أَعْطَيْتَنِيهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: آيَةُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، إِنَّ أَقَلَّ النَّاسِ الْمُتَخَصِّرُونَ يَوْمَئِذٍ. قال: فقرنها(1/232)
عَبْدُ اللَّهِ بِسَيْفِهِ فَلَمْ تَزَلْ مَعَهُ، حَتَّى إِذَا مَاتَ أُمِرَ بِهَا فَضُمَّتْ مَعَهُ فِي كَفَنِهِ، فَدُفِنَا جَمِيعًا.
رَوَاهُ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ فَقَالَ: إِلَى خَالِدِ بْنِ سُفْيَانَ الْهُذَلِيِّ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نبيح الهذلي، والله أعلم.
-غزوة بني المُصْطَلِق
وهي غزوة المريسيع
قَالَ ابن إِسْحَاق: غزا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بني المُصْطَلِق من خُزَاعة، فِي شعبان سنة ستّ. كذا قَالَ ابن إِسْحَاق.
وقال ابن شهاب وعُرْوَة: هِيَ فِي شعبان سنة خمسٍ. وكذلك يُرْوَى عَنْ قَتَادة.
وقاله أيضًا الواقدي، فقال: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الأثنين لليلتين خَلَتا من شعبان سنة خمسٍ، وقدم المدينة لهلال رمضان.
قلت: وفيها حديث الإِفك، وقد تقدّم ذَلِكَ فِي سنة خمس. وهو الصّحيح.(1/233)
-سرية نَجْد
قِيلَ: إنّها كانت فِي المحرَّم سنة ستٍ
قَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ الْمَقْبُرِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَيْلًا قِبَل نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حُنَيْفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ سَيِّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِيَ الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ؟ قَالَ: عِنْدِي يَا مُحَمَّدُ خَيْرٌ، إِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ كُنْتَ تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ، فَقَالَ: مَا عِنْدَكَ يَا ثُمَامَةُ؟ قَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتَ لَكَ، إِنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَى شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَقَالَ: أَطْلِقُوهُ. فَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله. يَا مُحَمَّدُ، وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الأرض أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ وَجْهِكَ، وَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبَّ الْوُجُوهِ كُلِّهَا إِلَيَّ. وَاللَّهِ مَا كَانَ دِينٌ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبَّ الدِّينِ كُلِّهِ إِلَيَّ. وَاللَّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبَّ الْبِلَادِ كُلِّهَا إِلَيَّ، وَإِنَّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَى؟ فَبَشَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ. فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: صَبَوْتَ يَا ثُمَامَةُ. قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أَسْلَمْتُ، فَوَاللَّهِ لَا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبَّةٌ حَتَّى يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -. متفق عليه، وأخرجه مسلم أيضا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، بِهِ.
وخالفهما مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، فيما روى يونس بْن بُكَيْر عَنْهُ: حَدَّثَنِي سَعِيد المَقْبُري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ إسلام ثمامة بْن أُثال أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دعا الله حين عرض لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما عرض لَهُ وهو مشرك، فأراد(1/234)
قتله، فأقبل معتمِرًا حتى دخل المدينة، فتحيّر فيها حتى أخذ، فأُتي بِهِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأمر بِهِ فربط إلى عمودٍ من عُمُد المسجد. وفيه: وإنْ تسأل مالًا تُعْطه.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فجعلنا المساكين نقول: ما نصنع بدم ثُمامة؟ والله لأَكْلَهُ من جَزورٍ سمينةٍ من فدائه أحبّ إلينا من دمه.
قلت: وهذا يدلّ عَلَى أنّ إسلام ثمامة كَانَ بعد إسلام أَبِي هُرَيْرَةَ، وهو فِي سنة سبع. فذكر الحديث، وفيه: فانصرف من مكة إلى اليمامة، ومنع الحمل إلى مكة حتى جهِدَتْ قُريش، فكتبوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثُمامة يخلي لهم حَمْل الطعام. وكانت اليَمامةُ ريفَ مكة. قَالَ: فأذِن النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وفيها: كَانَ من السّرايا - عَلَى ما زعم الواقدي -: قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ربيع الأول أو الآخر عُكّاشة بْن مِحْصَن فِي أربعين رجلًا إلى الغَمْر. وفيهم ثابت بْن أقرم وشجاع بْن وهب. فأسرعوا، ونذر بهم القوم وهربوا. فنزل عُكَّاشة عَلَى مياههم وبعث الطلائع فأصابوا من دَلَّهم على بعض ماشيتهم، فوجدوا مائتي بعير، فساقوها إلى المدينة.
وقال: وفيها بعث سرية أبي عبيدة إلى القَصَّة، فِي أربعين رجلًا، فساروا ليلهم مشاةً ووافوا ذا القصة مع عماية الصُّبح. فأغار عليهم وأعجزهم هربًا فِي الجبال. وأصابوا رجلا فأسلم. وبعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محمدَ بْن مسلمة فِي عشرة، فكمن القومُ لهم حتى نام هُوَ وأصحابه، فما شعروا إلا بالقوم. فقتل أصحاب محمد، وأفلت هو جريحا.(1/235)
قَالَ: وفيها كانت سَريَّةُ زيد بْن حارثة بالجموم. فأصاب امرأة من مزينة، يقال لها: حليمة، فدلتهم على مكان فأصابوا مواشي وأسراء، منهم زوجها. فوهبها النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسها وزوجها.
وفيها سَرِيَّةُ زيدِ بْن حارثة إلى الطَّرف، إلى بني ثعلبة فِي خمسة عشر رجلا. فهربت الأعراب وخافوا، فأصاب من نَعَمِهم عشرين بعيرا. وغاب أربع ليال.
وفيها كانت سرية زيد بن حارثة إلى العيص، في جمادى الأولى، وأُخِذَت الأموال التي كانت مَعَ أَبِي العاص، فاستجار بزينب بِنْت رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأجارته.
وحدثني موسى بْن مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أقبل دِحْية الكلبي من عند قَيْصر، قد أجازه بمال. فأقبل حتى كَانَ بحِسْمى، فلقيَه ناسٌ من جُذام، فقطعوا عَلَيْهِ الطريق وسلبوه. فَجَاءَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل أن يدخل بيته فأخبره. فبعث زيدَ بْن حارثة إلى حِسْمى، وهي وراء وادي القُرَى وكانت فِي جُمَادى الآخِرَة.
ثُمَّ سَرِيَّةُ زيدٍ إلى وادي القُرَى فِي رجب.
ثُمَّ قَالَ: وَحَدَّثَنِي عبدَ اللَّهِ بْن جَعْفَر، عَنْ يعقوب بن عُتْبَة قَالَ: خرج عليّ - رَضِيَ الله عَنْهُ - فِي مائةٍ إلى فَدَك إلى حيِّ من بني سعد بْن بَكْر. وذلك أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بلغه عَنْهُمْ أنّ لهم جَمْعًا يريدون أن يمدُّوا يهودَ خيبر. فسار إليهم اللّيل وكَمَنَ النّهار، وأصاب عيْنًا فأقرّ لَهُ أنّه بعث إلى خيبر يعرض عليهم نصرهم عَلَى أن يجعلوا لهم تمر خيبر.(1/236)
قال الواقدي: وذلك في شعبان.
وكانت غزوة أم قرفة في رمضان سار إليها زيد بن حارثة لأنها كانت تؤذي النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره الواقدي.
قال: وفيها سَرِيَّةُ عَبْد الرَّحْمَن بْن عَوْف إلى دُومة الجَنْدَل فِي شعبان. فقال لَهُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنْ أطاعوا فتزوّج ابنةَ ملكِهم. فأسلم القوم، وتزوّج عبدُ الرَّحْمَن تماضر بِنْت الأصبغ - والدة أَبِي سَلَمَةَ - وكان أبوها ملكهم.
وفي شوّال كانت سَرِيَّةُ كُرْز بْن جَابِر الفهري إلى العرنيين الذي قتلوا راعي رسول الله - صلى الله عليه وَسَلَّمَ - واستاقوا الإِبل. فبعثه فِي عشرين فارسًا وراءهم.
وَقَالَ ابُن أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَهْطًا مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالُوا: إِنَّا أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ ضَرْعٍ، وَلَمْ نَكُنْ أَهْلَ رِيفٍ، فَاسْتَوْخَمْنَا الْمَدِينَةَ. فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَوْدٍ وزاد، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا فِيهَا فَيَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا. فَانْطَلَقُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ قَتَلُوا رَاعِيَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ، وَكَفُروا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ. فَبَعَثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي طَلَبِهِمْ، فأمر بهم فَقَطَعَ أَيْديَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي نَاحِيَةِ الْحَرَّةِ حَتَّى مَاتُوا وَهُمْ كَذَلِكَ.
قَالَ قَتَادَةُ: فَذَكَرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِمْ: " إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " الْآيَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَحُثُّ فِي خُطْبَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُثْلَةِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ: مِنْ عكل، أو عرينة.
ورواه شُعبة، وَهَمَّام، وغيرهما، عَنْ قَتَادة فقال: من عُرَيْنَة، من غير شَكّ.(1/237)
وكذلك قَالَ حُمَيْد، وثابت، وعبد العزيز بْن صهيب، عن أنس.
وقال زهير: حدثنا سِمَاك بْن حرب، عَنْ معاوية بْن قُرَّةَ، عن أنس: أن نفرا من عرينة أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فبايعوه، وقد وقع في المدينة الموم - وهو البرسام - فقالوا: هذا الوجع قد وقع يَا رَسُولَ اللَّهِ، فلو أذِنْتَ لنا فرحنا إلى الإبل. قال: نعم، فاخرجوا وكونوا فيها. فخرجوا، فقتلوا أحد الراعيين وذهبوا بالإبل. وجاء الآخر وقد جرح، قال: قد قتلوا صاحبي وذهبوا بالإبل. وعنده شباب من الأنصار قريب من عشرين، فأرسلهم إليهم وبعث معهم قائفًا يقتصّ أثرهم. فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وَسَمَرَ أعينهم. أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
وقال أَيُّوبُ، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قدم رَهْط من عُكْلَ فأسلموا فاجْتَوَوا الأرض، فذكره، وفيه: فلم ترتفع الشمس حتى أُتي بهم، فأمر بمسامير فأُحميت لهم، فكواهم وقطع أيديهم وأرجلهم، ولم يحسمهم وألقاهم فِي الْحَرَّةِ يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ.
-إسلام أبي العاص
مبسوطًا
أسلم أَبُو الْعَاصِ بْن الرَّبِيعِ بْن عَبْد العُزَّى بْن عَبْد شَمْسِ بْن عَبْد مَناف بْن قُصَيّ العَبْشَمي، ختن رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ابنته زينب، أمّ أُمامة، فِي وسط سنة ستٍ. واسمه لقيط، قاله ابن مَعِين والفلّاس. وقال ابن سعد: اسمه مِقْسَم وأمّه هالة بِنْت خُوَيْلِد خالة زوجته، فهما أبناء خالة. تزوّج بِهَا(1/238)
قبل المبعث، فولدت لَهُ عليًّا فمات طفلًا، وأُمامة التي صلّى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو حاملها وهي التي تزوّجها عليّ - رضي الله عنه - بعد موت خالتها فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وكان أَبُو العاص يُدْعَى جَرْوٌ البطْحاء، وأُسر يوم بدر، وكانت زينب بمكة.
قَالَ يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: فَبَعَثَتْ فِي فِدَائِهِ بِمَالٍ مِنْهُ قِلَادَةٌ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا. فَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقِلَادَةَ رَقَّ لَهَا وَقَالَ: " إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا ". فَفَعَلُوا. فَأَخَذَ عَلَيْهِ عَهْدًا أَنْ يُخَلِّيَ زَيْنَبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِرًّا.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زيد بن حارثة ورجلا، فقال: كونا ببطن يأجج حتى تمر بكما زَيْنَبُ. وَذَلِكَ بَعْدَ بَدْرٍ بِشَهْرٍ. قَالَ: وَكَانَ أبو العاص من رجال قريش المعدودين مالا وأمانة وتجارة. وكان الإسلام قَدْ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَيْنَبَ، إِلا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لا يَقْدِرُ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا.
قَالَ يونس، عَنِ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْر بْن حزم قَالَ: خرج أَبُو العاص تاجرا إلى الشام، وكان رجلا مأمونا. وكانت معه بضائع لقريش. فأقبل قافلا فلقيته سريةٌ للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستاقوا عِيرَه وهرب. وقدِموا عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بما أصابوا فقسمه بينهم. وأتى أَبُو العاص حتى دخل عَلَى زينب فاستجار بِهَا، وسألها أن تطلب لَهُ مِنْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ردّ ماله عَلَيْهِ. فَدَعَا رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - السَّريَّة فقال لهم: إنّ هذا الرجل منا حيث قد علمتم. وقد أصبتم له مالا ولغيره مما كَانَ معه، وهو فَيْءٌ، فإنْ رأيتم أن تردّوا عَلَيْهِ فافعلوا، وإنْ كرهتم فأنتم وحقّكم: قَالُوا: بل نردّه عَلَيْهِ، فردُّوا - والله - عَلَيْهِ ما أصابوا، حتى إنّ الرجل ليأتي بالشّنَّة، والرجل بالإداوة(1/239)
وبالحبل. ثُمَّ خرج حتى قدِم مكة، فأدّى إلى النّاس بضائعهم. حتى إذا فرغ قَالَ: يا معشر قريش، هَلْ بقي لأحدٍ منكم معي مال؟ قَالُوا: لا فجزاك الله خيرًا. فَقَالَ: أما والله ما منعنى أن أسلم قبل أن أقدِم عليكم إلّا تخوفت أن تظنُّوا أَنّي إنّما أسلمت لأذهب بأموالكم. فإني أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله.
وأما موسى بْن عُقْبة فذكر أنّ أموال أَبِي العاص إنّما أخذها أَبُو بَصير فِي الهدنة بعد هذا التاريخ.
وقال ابن نُمَيْر، عَنْ إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد، عَنِ الشَّعبيّ، قَالَ: قدِم أَبُو العاص من الشّام ومعه أموال المشركين. وقد أسلمت امرأته زينب وهاجَرَت. فقيل لَهُ: هَلْ لك أن تُسْلم وتأخذ هذه الأموال التي معك؟ فقال: بئس ما أبدأ بِهِ إسلامي أن أخون أمانتي. فكفلت عَنْهُ امرأته أن يرجع فيؤديّ إلى كلّ ذي حقٍ حقَّه؛ فيرجع ويُسْلم. ففعل. وما فرَّق بينهما - يعني النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ جُبَيْرٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أُمِّ سلمة أن زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ إِلَيْهَا زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ أَنْ خُذِي لِي أَمَانًا مِنْ أَبِيكِ. فَأَطْلَعَتْ رَأْسَهَا مِنْ بَابِ حُجْرَتِهَا، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - في الصبح، فقالت: أيها الناس إني زينب بنت رسول الله، وَإِنِّي قَدْ أَجَرْتُ أَبَا الْعَاصِ. فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الصَّلاةِ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي لا عِلْمَ لي بِهَذَا حَتَّى سَمِعْتُمُوهُ، أَلا وَإِنَّهُ يُجِيرُ عَلَى النَّاسِ أَدْنَاهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنَتَهُ عَلَى أَبِي الْعَاصِ عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ بَعْدَ سِتِّ سِنِينَ.(1/240)
وَقَالَ حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَاةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَرْزَمِيِّ - وَهُوَ ضَعِيفٌ - عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّهَا بِمَهْرٍ جَدِيدٍ وَنِكَاحٍ جَدِيدٍ.
قَالَ الإِمَامُ أَحْمَدُ: هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أقرهما عَلَى النِّكَاحِ الأَوَّلِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ أَبَا الْعَاصِ رَجَعَ إِلَى مَكَّةَ مُسْلِمًا، فلم يشهد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - مَشْهَدًا. ثُمَّ قَدِمَ الْمَدِينَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، فُتُوفِّيَ في آخر سنة اثنتي عشرة، والله أعلم.
-سَرِيَّةٌ عبدِ الله بْن رَوَاحة
إلى أُسَيْر بْن زارم فِي شوّال
قِيلَ إنّ سلّام بْن أَبِي الحُقَيْق لما قُتِل، أَمَّرَتْ يهود عليهم أسير بن زارم فسار فِي غَطَفان وغيرهم يجمعهم لحرب رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فوجَّه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْنُ رَوَاحة في ثلاثة نفر سرا، فسأل عن خبره وغرته فأخبر بذلك. فقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبره. فندب رَسُول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الناس فانتدب له ثلاثون رجلًا، فبعث عليهم ابن رَوَاحة. فقدموا عَلَى أُسَيْر فقالوا: نَحْنُ آمنون نعرض عليك ما جئنا لَهُ؟ قَالَ: نعم، ولي منكم مثل ذَلِكَ. فقالوا: نعم. فقالوا: أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَنَا إليك لتخرج إِلَيْهِ فيستعملُك عَلَى خيبر ويُحسن إليك. فطمع فِي ذَلِكَ فخرج، وخرج معه ثلاثون من اليهود، مَعَ كلّ رجلٍ رديفٍ من المسلمين. حتى إذا كانوا بقَرْقَرَة ثِبار ندم أُسَيْر فقال(1/241)
عَبْد الله بْن أنيسَ - وكان فِي السَرِيَّةٌ -: وأهوى بيده إلى سيفي ففطِنْتُ لَهُ ودفعت بعِيري وقلت: غدرًا، أي عدوّ الله. فعل ذَلِكَ مرّتين. فنزلت فسقت بالقوم حتى انفردت إلى أُسَيْر فضربته بالسيف فأندرتُ عامة فخذه، فسقط وبيده مخرش فضربني فشجّني مأمومة، ومِلنا إلى أصحابه فقتلناهم، وهرب منهم رَجُل. فقدِمْنا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: لقد نجاكم الله من القوم الظالمين.
وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود عن عروة، (ح) وموسى بن عقبة عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَبْدَ الله بن رواحة في ثلاثين راكبا فيهم عبد الله بن أنيس إلى بشير بن رزام اليهودي حتى أتوه بخيبر، فذكر نحو ما تقدم، والله أعلم.
-قصة غزوة الحديبية
وهي عَلَى تسعة أميال من مكة
خرج إليها رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذي القعدة سنة ستٍ. قاله نافع، وقَتَادة، والزُّهري، وابن إِسْحَاق، وغيرهم. وعُرْوة فِي " مغازية "، رواية أَبِي الأسود.
وَتَفَرَّدَ عَلِيُّ بْنُ مُسْهَرٍ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ فِي رَمَضَانَ. وَكَانَتِ الْحُدَيْبِيَةُ فِي شَوَّالٍ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ هُدْبَةَ، عن همام، قال: حدثنا قَتَادَةُ، أَنَّ أَنَسًا(1/242)
أَخْبَرَهُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - اعتمر أربع عمر كلهن في ذي الْقِعْدَةِ، إِلَّا الْعُمْرَةَ الَّتِي مَعَ حَجَّتِهِ، عُمَرَةَ الحديبية زمن الْحُدَيْبِيَةِ فِي ذِي الْقِعْدَةِ، وَعُمْرَةً مِنَ الْعَامِ المقبل، وعمرة من الجعرانة، حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةِ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ.
وقال شعبة، عن عمرو بن مرة سمع ابن أَبِي أَوْفَى - وَكَانَ قَدْ شَهِدَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ - قال: كنا يومئذ ألفا وثلاث مائة. وَكَانَتْ أَسْلَمُ يَوْمَئِذٍ ثُمْنَ الْمُهَاجِرِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. وَعَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
وَقَالَ حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: لَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وخالفه الأعمش، عن سالم، عن جابر، فقال: كُنَّا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، أَصْحَابَ الشَّجَرَةِ. اتَّفَقَا عليه أيضا.
وَكَأَنَّ جَابِرًا قَالَ ذَلِكَ عَلَى التَّقْرِيبِ. وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً كَامِلَةً تَزِيدُ عَدَدًا لَمْ يَعْتَبِرْهُ، أَوْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً تَنْقُصُ عَدَدًا لَمْ يَعْتَبِرْهُ. وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ هَذَا كَثِيرًا، كَمَا تَرَاهُمْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي سِنِّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاعتبروا تَارَةً السَّنَةَ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا وَالَّتِي تُوُفِّيَ فِيهَا فَأَدْخَلُوهُمَا فِي الْعَدَدِ. وَاعْتَبَرُوا تَارَةً السِّنِينَ الْكَامِلَةَ وَسَكَتُوا عَنِ الشُّهُورِ الْفَاضِلَةِ.
وَيُبَيِّنُ هَذَا أَنَّ قَتَادَةَ قَالَ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ: كَمْ كَانَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ؟ قَالَ: خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. قُلْتُ: إِنَّ جَابِرًا قَالَ: كَانُوا أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: يَرْحَمُهُ اللَّهُ -، وَهِمَ. هُوَ حَدَّثَنِي أَنَّهُمْ كَانُوا خَمْسَ عَشْرَةَ(1/243)
مِائَةً. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يَقْولُ: كُنَّا يوم الحديبية ألفا وأربع مائة. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنتم خير أهل الأرض. اتفقا عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ: كُنَّا يَوْمَ الحديبية ألفا وأربع مائة. صَحِيحٌ.
وَقَالَ الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ: نَحَرْنَا عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعِينَ بَدَنَةً، الْبَدَنَةُ عَنْ سَبْعَةٍ. قُلْنَا لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قال: ألفا وأربع مائة بِخَيْلِنَا وَرَجِلِنَا.
وَكَذَلِكَ قَالَهُ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ، فِي أصح الروايتين عنه. وَالْمُسَيَّبُ بْنُ حَزْمٍ، مِن رِوَايَةِ قَتَادَةَ، عَنْ سعيد، عن أبيه.
قال البخاري: مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانُ بْنُ الْحَكَمِ، يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَدِيثَ صَاحِبِهِ، قَالَا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةِ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ. وَبَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عن قريش. وسار حتى إذا كان بعذبة الْأَشْطَاطِ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ أَتَاهُ عَيْنُه الْخُزَاعِيُّ فقال: إني تركت كعب بن لؤي وعامر بْنَ لُؤَيٍّ قَدْ جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَشِيرُوا عَلَيَّ. أَتَرَوْنَ أَنْ نَمِيلَ إِلَى ذَرَارِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَعَانُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ؟ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوتُورِينَ وَإِنْ لَجُّوا تَكُنْ عنقا قطعها(1/244)
اللَّهُ. أَمْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، إِنَّمَا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ وَلَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنْ مَنْ حَالَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتَ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ: فَرُوحُوا إِذًا.
قَالَ الزُّهري في الحديث: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق، قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ خَالِد بْن الوليد بالغميم فِي خيلٍ لقُرَيْش طليعةً فخُذوا ذات اليمين. فَوَالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هو بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيرًا لقريش. وسار النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حتى إذا كَانَ بالثنية التي يهبط عليهم منها بركتْ راحلتُه فقال النّاس: حَلْ حَلْ، فألحت، فقالوا: خلأت القصْواء، خلأت القَصْواء. قَالَ: فَرُوحُوا إذًا.
قَالَ الزُّهري: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ما رَأَيْت أحدًا كَانَ أكثر مشاورة لأصحابه مِنْ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ المِسْوَر ومروان فِي حديثهما: فراحوا، حتى إذا كانوا ببعض الطريق قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّ خَالِد بْن الوليد بالغميم فِي خيل لقريش - رجع الحديث إلى موضعه - قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا خلأت القصواء وما ذلك لَهَا بخُلُق، ولكن حبسها حابس الفيل ". ثُمَّ قَالَ: " والذي نفسي بيده لا يسألوني خُطَّةً يعظّمون فيها حُرُمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها ". ثُمَّ زجرها فوَثَبَتْ بِهِ. قَالَ: فَعَدل حتى نزل بأقصى الحُدَيْبية عَلَى ثمد قليل الماء، إنّما يتبرّضه النّاس تبرُّضًا، فلم يُلَبِّثْه النّاس أنْ نَزَحُوه، فشكوا إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - العطش. فانتزع سهمًا من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، قال: فَوَالله ما زال يجيش لهم بالرّيّ حتى صدروا عنه.
فبينا هُمْ كذلك إذ جاءه بُدَيْل بْن وَرْقاء الخُزَاعي فِي نفرٍ من خُزاعة، وكانوا عَيْبَة نصح لرَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أهل تِهَامة. فقال: إنّي تركت كعبَ(1/245)
ابن لُؤَيّ وعامر بْن لُؤَيّ نزلوا أعداد مياهِ الحُدَيبية، معهم العُوذ المطافيل، وهم مُقاتلوك وصادُّوك عَنِ البيت. قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنا لم نجئ لقتال أحدٍ ولكّنا جئنا معتمرين، وإنّ قُريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم فإن شاؤوا مادَدْتُهُم مدَّةً ويُخَلُّوا بيني وبين النّاس، وإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فِيهِ النّاس فعلوا، وإلّا فقد جَمُّوا، وإنْ هُمْ أبَوا فَوَالذي نفسي بيده لأقاتلّنهم عَلَى أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو ليُنْفِذَنَّ الله أمْرَه. فقال بُدَيْلٌ: سأبلّغهم ما تَقُولُ. فانطلق حتى أتى قُرَيْشًا فقال: إنّا قد جئناكم من عند هذا الرجل وسمعناه يَقْولُ قولًا، فإنْ شئتم نعرضه عليكم فعلْنا، فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا فِي أن تحدّثنا عَنْهُ بشيء. وقال ذَوُو الرأي منهم: هاتِ ما سَمِعْتُهُ. قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقْولُ كذا وكذا. فحدّثهم بما قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
فقام عُرْوة بْن مَسْعُود الثَّقَفي فقال: أي قوم أَلَسْتُم بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: ألست بالولد؟ قَالُوا: بلى. قَالَ: هَلْ تتّهموني؟ قَالُوا: لا. قَالَ: ألستم تعلمون أنّي استنفرت أهل عُكاظ فلما بلّحُوا عليّ جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قَالُوا: بلى. قَالَ: فإنّ هذا قد عرض عليكم خطة رشد، فاقبلوها ودعوني آته. قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلّم النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال نحوًا من قوله لبُدَيْلٍ. فقال: أي مُحَمَّد أرأيت إنْ استأصلت قومَك هَلْ سَمِعْتُ بأحدٍ من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإنْ تكن الأخرى فَوَالله إني لأرى وجوها وأرى أوباشا من الناس خلقاء أن يفرّوا وَيَدعوك. فقال لَهُ أَبُو بَكْر - رَضِيَ الله عَنْهُ -: أَمْصَصْ بَظْرَ الّلات. أنحن نفرّ عَنْهُ ونَدَعُهُ؟ قَالَ: من ذا؟ قَالَ: أَبُو بَكْر. قَالَ: والذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم(1/246)
أَجْزِك بِهَا لأجَبْتُك. قَالَ: وجعل يكلّم النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كلّما كلّمه أخذ بلحيته، والمُغيرة بْن شُعبة قائمٌ عَلَى رَأْسِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَعَهُ السيف وعليه المغفر، فكلّما أهوى عُرْوة إلى لحية النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ضرب يده بنَعْل السّيف وقال: أخِّرْ يدك. فرفع رأسه فقال: من هذا؟ قَالُوا: المغيره بْن شُعبة. فقال: أي غدر، أوَ لست أسعى فِي غدرتك؟ قَالَ: وكان المغيرة صحب قومًا فِي الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثُمَّ جاء فَأَسْلَمَ فَقَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أمّا الإِسلام فأقْبَل، وأما المال فلستُ منه فِي شيء.
ثُمَّ إنّ عُرْوة جعل يَرْمُق صحابة النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَالله ما تَنَخَّم رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نُخامةً إلّا وقعت فِي كفّ رجلٍ منهم يدلك بِهَا وجهه وجلده، وإذا أمرهم بأمرٍ ابتدروه، وإذا توضأ ثاروا يقتتلون عَلَى وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إِلَيْهِ النَّظَرَ تعظيمًا لَهُ. فرجع عُرْوة إلى أصحابه فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، وَفَدتُ عَلَى قَيْصر وكِسْرى والنَّجاشيّ، والله إنْ رَأَيْت ملكًا قطّ يعظّمه أصحابُه ما يعظّم أصحابُ محمدٍ محمدًا. والله إنْ تنخّم نُخامةً إلّا وقعت فِي كفّ رجلٍ منهم فدلك بِهَا وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضّأ كادوا يقتتلون عَلَى وضوئه، وإذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، ولا يحدُّون إِلَيْهِ النّظر تعظيمًا له، وإنّه قد عرض عليكم خطّة رُشدٍ فاقبلوها. فقال رَجُل من بني كِنانة: دعوني آتِه. فقالوا: ائتِه. فلمّا أشرف على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأصحابه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا فلان وهو من قومٍ يعظِّمون البُدْن، فابعثوها لَهُ. فبُعِثَت لَهُ. واستقبله القوم يلبُّون. فلما رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه فقال: رَأَيْت البُدْنَ قد قُلِّدت وأشْعِرَت، فما أرى أن يُصَدُّوا عَنِ البيت. فقام رَجُل منهم يقال لَهُ مِكْرَز بْن حفص فقال: دعوني آته. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قَالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هذا مِكْرَز وهو رجلٌ فاجر. فجعل يكلّم النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فبينا هُوَ يكلّمه إذ جاء سُهَيْل بن عمرو.(1/247)
قَالَ مَعمَر: وَأَخْبَرَنِي أَيُّوبُ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا جَاءَ سُهَيْلٌ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: قد سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ.
قَالَ الزُّهري فِي حديثه: فجاء سُهَيْلُ بْن عَمْرو فقال: هات اكتب بيننا وبينك كتابًا. فدعا الكاتبَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أكتب بسم الله الرَّحْمَن الرحيم ". فقال سُهَيْل: أمّا الرَّحْمَن فَوَالله ما أدرى ما هُوَ، ولكن اكتب باسمك الّلهُمّ كما كنت تكتب. فقال المسلمون: والله لا نكتبها إلّا بسم الله الرَّحْمَن الرحيم. فقال النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اكتب باسمك الّلهمّ "، ثُمَّ قَالَ: " هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ محمدٌ رَسُول اللَّهِ ". فقال سُهَيْل: والله لو كنّا نعلم أنّك رَسُول اللَّهِ ما صدَدْناك عَنِ البيت ولا قاتَلْناك، ولكنْ أكتب مُحَمَّد بْن عَبْد الله. فقال النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّي لَرَسُولُ اللَّهِ وإنْ كذَّبْتُموني، أكتب مُحَمَّد بْن عَبْد الله.
قَالَ الزُّهري: وذلك لقوله لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حُرُمات الله إلّا أعطيتهم إيّاها.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَى أنْ تُخَلُّوا بيننا وبين البيت فنطوف. فقال: والله لا تتحدث العرب أنّا أخذنا ضغطة، ولكن لك من العام المقبل. فكتب. فقال سُهَيْل: عَلَى أنّه لا يأتيك منّا رَجُل وإنْ كَانَ عَلَى دينك إلّا رَدَدْتَه إلينا. فقال المسلمون: سبحان الله كيف يردّ إلى المشركين وقد جاء مسلما؟ فبينا هُمْ كذلك إذ جاء أَبُو جَنْدَلِ بْن سُهَيْل بْن عَمْرو يرسف فِي قيوده قد خرج من أسفل مكة حتى رمى نفسه بين أظْهُر المسلمين. فقال سُهَيْل: وهذا أول ما أقاضيك عَلَيْهِ أن تردّه. فقال النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنّا لم نقض الكتاب بعد. قال: فوالله إذا لا نصالحك على شيء أبدا. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأجره لي. قَالَ: ما أَنَا بمُجِيره لك. قَالَ: بلى، فافعل، قَالَ: ما انا بفاعل. قَالَ مِكْرَز: بلى قد أجرناه. قال أبو جندل: معاشر المسلمين أأرد إلى المشركين وقد جئت مُسلِمًا، ألا تَرَوْن ما قد لقيت؟ - وكان قد عُذِّب عذابًا شديدًا فِي الله -.
فقال عُمَر: والله ما شَكَكْتُ منذ أسلمتُ إلّا يومئذٍ، فأتيت النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/248)
فقلت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ألستَ نبيَّ الله؟ قال: " بلى "، قلت: ألسنا على الحق وعدونا عَلَى الباطل؟ قَالَ: " بلى "، قلت: فلم نُعْطي الدَّنيَّة فِي ديننا إذًا؟ قَالَ: " إنّي رَسُول اللَّهِ ولست أعصيه وهو ناصري ". قلت: أوَلستَ كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيتَ فنطوف حقًّا؟ قال: " بلى، أنا أخبرتك أنّك تأتيه العام "؟ قلت: لا. قَالَ: " فإنّك آتيه ومُطَوِّف بِهِ ". قَالَ: فأتيت أَبَا بَكْر فقلت: يا أَبَا بَكْر أليس هذا نبيّ الله حقًا؟ قَالَ: بلى. قلت: أَلَسنا عَلَى الحقّ وعدوّنا عَلَى الباطل؟ قَالَ: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذا؟ قال: أيّها الرجل إنّه رَسُول اللَّهِ وليس يعصي ربه وهو ناصره، فاستمسك بغَرْزه حتى تموت. فَوَالله إنّه لَعَلَى الحقّ. قلت: أَوَ لَيْسَ كَانَ يحدثنا أنه سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنّك تأتيه العام؟ قلت: لا. قَالَ: فإنّك آتيه ومُطَوِّف بِهِ.
قَالَ: الزُّهري. قَالَ عُمَر: فعملت لذلك أعمالًا.
فلما فرغ من قضيّة الكتاب قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " قوموا فانحَرُوا ثُمَّ احلِقوا ". قَالَ: فَوَالله ما قام منهم رجلٌ حتى قَالَ ثلاث مرّات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل عَلَى أَم سَلَمَةَ فذكر لَهَا ما لقي من النّاس. فقالت: يا نبيّ الله أتحبّ ذَلِكَ؟ اخرج ثُمَّ لا تكلّم أحدًا كلمةً حتى تنحر بُدْنك، ثُمَّ تدعو بحالقك فيحلقك. فقام فخرج فلم يكلّم أحدًا حتى فعل ذَلِكَ. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضُهم يحلق بعضًا، حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. ثم جاءه نسوةٌ مؤمنات، وأنزل الله: " إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ " حتى بلغ " وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ". فطلّق عُمَر يومئذٍ امرأتين كانتا لَهُ فِي الشِّرْك، فتزوّج إحداهما معاويةُ، والأخرى صَفْوان بْن أُمّية.
ثُمَّ رجع رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى المدينة، فجاءه أَبُو بصير، رجلٌ من قريش، وهو مُسْلِم، فأرسلوا فِي طلبه رجلين فقالوا: العهد الَّذِي جعلت لنا. فدفعه إلى الرجلين، فخرجا بِهِ حتى بلغا بِهِ ذا الحُلَيْفة، فنزلوا يأكلون من تمرٍ لهم. فقال أَبُو بصير لأحد الرَّجلين: والله إنّي لأرَى سيفك هذا جيّدًا جدا(1/249)
فاسْتَلَّه الآخر فقال: أجل والله إنّه لجيّد، لقد جرَّبتُ بِهِ ثُمَّ جرَّبت. فقال أَبُو بصير: أرني أنظر إِلَيْهِ. فأمكنه منه فضربه حتى بَرَد. وفرّ الآخر حتى بلغ المدينة فدخل المسجد يعدو، فقال للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُتل - والله - صاحبي وإنّي لَمَقْتُول. قَالَ: فجاء أَبُو بَصِير فقال: يا نبيّ الله قد أوفى الله ذمَّتك، والله قد رَدَدْتني إليهم ثُمَّ أنجاني الله منهم. فقال النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ويْلُ أُمِّهِ مِسعرُ حَربٍ لو كَانَ لَهُ أحد ". فلما سَمِعَ ذَلِكَ عرف أَنَّهُ سيردّه إليهم. فخرج حتى أتى سيف البحر. وينفلت منهم أَبُو جَنْدَل بْن سُهَيْل فلحق بابي بصير، فلا يخرج من قريش رَجُل قد أسلم إلّا لحِق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة.
قَالَ: فوالله لا يسمعون بعيرٍ لقريش خرجت إلى الشام إلّا اعترضوا لَهَا فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريشٌ إلى النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تناشدُه الله والرَّحِم لما أرسل إليهم، فمن أتاه منهم فهو آمن. فأرسل النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم فأنزل: " وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ " حتى بلغ " حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ ". وكانت حَمِيَّتُهم أنَّهم لم يُقرُّوا بنبيّ الله ولم يُقِرُّوا ببسم الله الرَّحْمَن الرحيم، وحالوا بينهم وبين البيت. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ، عَنِ الْمُسْنِدِي، عَنْ عَبْد الرزّاق، عَنْ مَعْمَر، بطُوله.
وَقَالَ قُرَّةُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: مَنْ يَصْعَدِ الثَّنِيَّةَ - ثِنَّيةَ الْمُرَارِ - فَإِنَّهُ يُحَطُّ عَنْهُ مَا حُطَّ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ صَعِدَ خَيْلُ بَنِي الْخَزْرَجِ. ثُمَّ تَبَادَرَ النَّاسُ بَعْدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كلُّكُمْ مَغْفُورٌ لَهُ إِلَّا صَاحِبَ الْجَمَلِ الْأَحْمَرِ ". فَقُلْنَا: تَعَالَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ: وَاللَّهِ لَأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِي صَاحِبُكُمْ. وَإِذَا هُوَ رَجُلٌ يَنْشُدُ ضَالَّةً. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ البخاري: عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً،(1/250)
وَالْحُدَيْبِيَةُ بِئْرٌ، فَنَزَحْنَاهَا فَمَا تَرَكْنَا فِيهَا قَطْرةً. فبلغ ذلك النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَتَاهَا فَجَلَسَ عَلَى شَفِيرِهَا ثُمَّ دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ مِنْهَا فَتَوَضَّأَ ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَدَعَا ثُمَّ صَبَّهُ فِيهَا فَتَرَكَهَا غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ إنها أصدرتنا نحن وركابنا. أخرجه البخاري.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: قدمنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْحُدَيْبِيَةَ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً مَا تَرْوِيهَا. فَقَعَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جَبَاهَا، فَإِمَّا دَعَا وإما بزق فيها فجاشت فسقينا واستقينا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ مِسْوَرٍ، وَمَرْوَانُ بن الحكم أنهما حدثاه قالا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لا يريد قتالا. وساق معه الهدي سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رَجُلٍ، فَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - فِيمَا بَلَغَنِي - يَقُولُ: كُنَّا أَصْحَابَ الْحُدَيْبِيَةِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً.
قلت: قد ذكرنا عَنْ جماعةٍ من الصّحابة كقول جَابِر.
ثُمَّ ساق ابن إِسْحَاق حديث الزُّهري بطُوله، وفيه ألفاظٌ غريبة، منها: وجعل عُرْوَة بن مَسْعُود يكلّم النَّبِيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، والمُغيرَةُ واقفٌ على رَأْسِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الحديد. قال: فجعل يقرع يد عُرْوَةَ إذا تناول لحيَةَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ويقول: أكفُفْ يدك عَنْ لحية رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ لَا تصل إليك. فيقول عُرْوَة: وَيْحك ما أفَظَّكَ وأغلظَكَ. قَالَ: فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ له عُرْوَة: من هذا يا مُحَمَّد؟ قَالَ: هذا ابن أخيك المُغِيرة بْن شُعبة. قَالَ: أي غدر، وهل غَسَلْتَ سَوْءَتَك إلّا بالأمس؟.(1/251)
قَالَ ابن هشام: أراد عُرْوَة بقوله هذا أن المغيرة قبل إسلامه قتل ثلاثة عشرة رجلا مِنْ بَنِي مَالِكٍ بنْ ثَقِيفٍ. فَتَهَايَجَ الْحَيّانِ مِنْ ثَقِيفٍ رَهْطُ الْمَقْتُولِينَ، وَالْأَحْلَافُ رَهْطُ الْمُغِيرَةِ، فَوَدَى عُرْوَةُ الْمَقْتُولِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دِيَةً، وأصلح الأمر.
وَقَالَ ابن لهيعة: حدثنا أَبُو الأَسْوَدِ، قَالَ عُرْوَةُ: وَخَرَجَتْ قُرَيْشٌ مِنْ مَكَّةَ، فَسَبَقُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَلْدَحٍ وَإِلَى الْمَاءِ، فَنَزَلُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَدْ سُبِقَ نَزَلَ عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ فِي حَرِّ شَدِيدٍ وَلَيْسَ بِهَا إِلا بِئْرٌ وَاحِدَةٌ، فَأَشْفَقَ الْقَوْمُ مِنَ الظَّمَإِ وَهُمْ كَثِيرٌ، فنزل فيها رجال يميحونها، وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ فِي الدَّلْوِ وَمَضْمَضَ فَاهُ ثُمَّ مَجَّ فِيهِ، وَأَمَرَ أَنْ يُصَبَّ فِي الْبِئْرِ، وَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَأَلْقَاهُ فِي الْبِئْرِ وَدَعَا اللَّهَ - تَعَالَى - فَفَارَتْ بِالْمَاءِ حَتَّى جَعَلُوا يَغْتَرِفُونَ بِأَيْدِيهِمْ مِنْهَا، وَهُمْ جُلُوسٌ عَلَى شَفَتِهَا.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَكَ عَلَى غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي بَلَغَهُ أَنَّ قُرَيْشًا بِهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، أَنَّ رَجُلا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَسَلَكَ بِهِمْ طريقا وعرا أخزل من شِعَابٍ، فَلَمَّا خَرَجُوا مِنْهُ - وَقَدْ شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ - وَأَفْضَوْا إِلَى أَرْضٍ سَهْلَةٍ عِنْدَ مُنْقَطَعِ الْوَادِي، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُولُوا: " نَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَنَتُوبُ إِلَيْهِ " فَقَالُوا ذَلِكَ. فَقَالَ: " وَاللَّهِ إِنَّهَا لَلْحِطَّةُ الَّتِي عرضت على بني إسرايئل فَلَمْ يَقُولُوهَا ".
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ فَقَالَ: " اسْلُكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيِ المحمص فِي طَرِيقٍ تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْمُرَارِ،(1/252)
مَهْبِطِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ " فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْشٌ قَتَرَةَ الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ طَرِيقِهِمْ رَكَضُوا رَاجِعِينَ إِلَى قُرَيْشٍ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، وَغَيْرُهُ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَ الشَّجَرَةِ؟ قال: كنا ألفا وخمس مائة: وَذَكَرَ عَطَشًا أَصَابَهُمْ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَاءٍ فِي تَوْرٍ فَوَضَعَ يَدَهُ فِيهِ، فَجَعَلَ الْمَاءَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ كَأَنَّهُ الْعُيُونُ، فَشَرِبْنَا وَوَسِعَنَا وَكَفَانَا، وَلَوْ كُنَّا مِائَةَ أَلْفٍ لَكَفَانَا.
وَقَدْ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ من أوجه آخَرَ عَنْ حُصَيْنٍ.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ نُبَيْحٍ الْعَنَزِيِّ قَالَ: قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: غَزَوْنَا أَوْ سَافَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنَحْنُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً، فَحَضَرَتِ الصَّلاةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ فِي الْقَوْمِ مِنْ طَهُورٍ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ يَسْعَى بِإِدَاوَةٍ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَاءٍ لَيْسَ فِي الْقَوْمِ مَاءٌ غَيْرُهُ، فَصَبَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَدَحٍ ثُمَّ تَوَضَّأَ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَتَرَكَ الْقَدَحَ. قَالَ: فَرَكِبَ النَّاسُ ذَلِكَ الْقَدَح وَقَالُوا: تَمَسَّحُوا تَمَسَّحُوا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " عَلَى رِسْلِكْمُ "، حِينَ سَمِعَهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ. قَالَ: فَوَضَعَ كَفَّهُ فِي الْمَاءِ وَالْقَدَحِ وَقَالَ: " سُبْحَانَ اللَّهِ ". ثُمَّ قَالَ: " أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ ". فَوَالَّذِي ابْتَلانِي بِبَصَرِي لَقَدْ رَأَيْتُ الْعُيُونَ عُيُونَ الْمَاءِ تَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -، ولم يرفعها حتى توضؤوا أَجْمَعُونَ. رَوَاهُ مُسَدَّدٌ عَنْهُ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عمار العجلي، حدثنا إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي غَزْوَةٍ، فَأَصَابَنَا جَهْدٌ، حَتَّى هَمَمْنَا أَنْ نَنْحَرَ بَعْضَ ظَهْرِنَا. فَأَمَرَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَمَعْنَا مَزَاوِدَنَا فَبَسَطْنَا لَهُ نِطَعًا، فَاجْتَمَعَ زَادُ الْقَوْمِ عَلَى النِّطَعِ. فَتَطَاوَلْتُ لأَحْزِرَ كَمْ هُوَ؟ فَحَزَرْتُهُ كَرِبْضَةِ الْعَنْزِ وَنَحْنُ أربع(1/253)
عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: فَأَكَلْنَا حَتَّى شَبِعْنَا جَمِيعًا ثم حشونا جرباننا. ثُمَّ قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ مِنْ وَضُوءٍ؟ فَجَاءَ رَجُلٌ بِإِدَاوَةٍ لَهُ، فِيهَا نُطْفةٌ فَأَفْرَغَهَا فِي قَدَحٍ. فَتَوَضَّأْنَا كلنا، ندغفقه دغفقة، أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. قَالَ: ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ فَقَالُوا: هَلْ مِنْ طَهُورٍ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " فَرِغَ الْوُضُوءُ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لما رجع رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَلَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالُوا: جَهَدْنَا وَفِي النَّاسِ ظَهْرٌ فَانْحَرْهُ. فَقَالَ عُمَرُ: لا تَفْعَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّ النَّاسَ إِنْ يَكُنْ مَعَهُمْ بَقِيَّةُ ظَهْرٍ أَمْثَلَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ابْسُطُوا أَنْطَاعَكُمْ وَعَبَاءَكُمْ. فَفَعَلُوا. ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ بَقِيَّةٌ مِنْ زَادٍ وَطَعَامٍ فَلْيَنْثُرْهُ. وَدَعَا لَهُمْ ثُمَّ قَالَ: قَرِّبُوا أَوْعِيَتَكُمْ. فَأَخَذُوا مَا شَاءَ اللَّهُ. يُحَدِّثُهُ نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ الطَّائِفِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي صُلْحِ قُرَيْشٍ قَالَ أَصْحَابُهُ: لَوِ انْتَحَرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ ظُهُورِنَا فَأَكَلْنَا مِنْ لُحُومِهَا وَشُحُومِهَا وَحَسَوْنَا مِنَ الْمَرَقِ أَصْبَحْنَا غَدًا إِذَا عَدَوْنَا عَلَيْهِمْ وَبِنَا جُمَامٌ. قَالَ: لا، وَلَكِنِ ائْتُونِي بِمَا فَضَلَ مِنْ أَزْوَادِكُمْ. فَبَسَطُوا أَنْطَاعًا ثُمَّ صَبُّوا عَلَيْهَا فُضُولَ أَزْوَادِهِمْ. فَدَعَا لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِالْبَرَكَةِ، فَأَكَلُوا حَتَّى تَضَلَّعُوا شِبَعًا، ثُمَّ لَفَّفُوا فُضُولَ مَا فَضَلَ مِنْ أَزْوَادِهِمْ فِي جُرُبِهِمْ.
مالك، عن إسحاق بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَانَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ وَالْتَمَسُوا الْوُضُوءَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ وَأَمَرَ النَّاسَ أن يتوضؤوا مِنْهُ. قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أصابعه. فتوضأ الناس حتى توضؤوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.(1/254)
متفق عليه.
وقال حماد بن زيد: حدثنا ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا بِمَاءٍ فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فجعل القوم يتوضؤون. فَحَزَرْتُ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ مَنْ تَوَضَّأَ مِنْهُ، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الله بن بكر: حدثنا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَضَرَتْ الصَّلَاةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ إِلَى أَهْلِهِ يَتَوَضَّأَ وَبَقِيَ قَوْمٌ. فَأُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ. قُلْنَا: كَمْ هُمْ؟ قَالَ: ثَمَانُونَ وَزِيَادَةٌ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَجَاءَ أَنَّهُمْ كَانُوا بِقُبَاءٍ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ بِالزَّوْرَاءِ يتوضؤون. فَوَضَعَ كَفَّهُ فِي الْمَاءِ، فَجَعَلَ الْمَاءَ يَنْبُعُ من بين أصابعه حتى توضؤوا. فَقُلْنَا لِأَنَسٍ: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: زُهَاءُ ثَلَاثِ مِائَةٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَالْبُخَارِيُّ أَيْضًا بِمَعْنَاهُ، وَالزَّوْرَاءُ بالمدينة عند السوق والمسجد.
وقال أبو عبد الرحمن المقرئ: حدثنا عبد الرحمن بن زياد، قال: حدثني زياد بن نعيم الحضرمي، قال: سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ الْحَارِثِ الصُّدَائِيَّ، قَالَ: بَايَعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر حَدِيثًا طَوِيلا مِنْهُ: فَوَضَعَ كَفَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَاءِ فَرَأَيْتُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِهِ عَيْنًا تَفُورُ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْلا أَنْ أَسْتَحْيِيَ مِنْ رَبِّي لَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا. عَبْدُ الرَّحْمَنِ ضَعِيفٌ.
وَهَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى الْبَرَكَةِ فِي الْمَاءِ غَيْرَ مَرَّةٍ.(1/255)
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَأْكُلُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَحْنُ نَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامِ. وَأُتِيَ بِإِنَاءٍ فَجَعَلَ الْمَاءُ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: حَيَّ عَلَى الطَّهُورِ الْمُبَارَكِ وَالْبَرَكَةُ من السماء. حَتَّى تَوَضَّأْنَا كُلُّنَا. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ أَبُو كُدَيْنَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِنَاءٍ مِنْ ماء، فجعل أصابعه فِي فَمِ الإِنَاءِ وَفَتَحَ أَصَابِعَهُ، فَرَأَيْتُ الْعُيُونَ تَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. إِسْنَادُهُ جيد.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أَبُو الأَسْوَدِ، قَالَ: قَالَ عُرْوَةُ فِي نُزُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية: ففزعت قُرَيْشٌ لِنُزُولِهِ عَلَيْهِمْ، فَأَحَبَّ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَجُلا. فَدَعَا عُمَرَ لِيَبْعَثَهُ فَقَالَ: إِنِّي لا آمَنُهُمْ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي كَعْبٍ يَغْضَبُ لِي، فَأَرْسِلْ عُثْمَانَ فَإِنَّ عَشِيرَتَهُ بِهَا. فَدَعَا عُثْمَانَ فَأَرْسَلَهُ وَقَالَ: أَخْبِرْهُمْ أَنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ، وَادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ. وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ رِجَالا بِمَكَّةَ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ فَيَدْخُلُ عَلَيْهِمْ وَيُبَشِّرُهُمْ بِالْفَتْحِ. فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ فَمَرَّ عَلَى قُرَيْشٍ بِبَلْدَحٍ. فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: إِلَى أَيْنَ؟ فَقَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَيْكُمْ لأَدْعُوَكُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَيُخْبِرُكُمْ أَنَّا لَمْ نَأْتِ لِقِتَالٍ وَإِنَّمَا جِئْنَا عَمَّارًا. فَدَعَاهُمْ عُثْمَانُ كَمَا أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالُوا: قَدْ سَمِعْنَا مَا تَقُولُ فَانْفُذْ لِحَاجَتِكَ. وَقَامَ إِلَيْهِ أَبَانُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ فَرَحَّبَ بِهِ وَأَسْرَجَ فَرَسَهُ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ عُثْمَانَ فَأَجَارَهُ، وَرَدَفَهُ أَبَانٌ حَتَّى جَاءَ مَكَّةَ. ثُمَّ إِنَّ قُرَيْشًا بَعَثُوا بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ؛ فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَالصُّلْحَ. وَذَكَرَ أَنَّهُمْ أَمِنَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَزَاوَرُوا. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ، وَطَوَائِفُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُشْرِكِينَ، إِذْ رَمَى رَجُلٌ رَجُلا مِنَ الْفَرِيقِ الآخَرِ. فَكَانَتْ مُعَارَكَةٌ، وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ وَالْحِجَارَةِ. وَصَاحَ الْفَرِيقَانِ وَارْتَهَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ فِيهِمْ، فَارْتَهَنَ الْمُسْلِمُونَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو وَغَيْرُهُ، وَارْتَهَنَ الْمُشْرِكُونَ عُثْمَانُ وَغَيْرُهُ.
وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْبَيْعَةِ. وَنَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِلا إِنَّ(1/256)
روح الْقُدُسَ قَدْ نَزَلَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِالْبَيْعَةِ، فاخْرُجوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ فَبَايِعُوا، فَثَارَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ تَحْتِ الشَّجْرَةِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى أَنْ لا يَفِرُّوا أَبَدًا. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ بِطُولِهَا، وَفِيهَا: فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ - وَهُمْ بِالْحُدَيْبِيَةِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -: خَلَصَ عُثْمَانُ مِنْ بَيْنِنَا إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا أَظُنُّهُ طَافَ بِالْبَيْتِ وَنَحْنُ مَحْصُورُونَ ". قَالُوا: وَمَا يَمْنَعُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ خَلَصَ؟ قَالَ: " ذَلِكَ ظَنِّي بِهِ أَنْ لا يَطُوفَ بِالْكَعْبَةِ حَتَّى يَطُوفَ مَعَنَا ". فَرَجَعَ إِلَيْهِمْ عُثْمَانُ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: اشْتَفَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِ الله من الطواف بالبيت؟ فقال عثمان: بِئْسَ مَا ظَنَنْتُمْ بِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ مَكَثْتُ بِهَا مُقِيمًا سَنَةً وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقِيمٌ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَا طُفْتُ بِهَا حَتَّى يَطُوفَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَقْد دَعَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَأَبَيْتُ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ - حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ -: " لا نَبْرَحُ حَتَّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ ". فَدَعَا النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ. فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. فَكَانَ النَّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ جَابِرٌ يَقُولُ: لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لا نَفِرَّ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ عُثْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى وَقَالَ: هَذِهِ لِي وَهَذِهِ لِعُثْمَانَ إِنْ كَانَ حَيًّا. ثُمَّ بَلَغَهُمْ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ، وَرَجَعَ عُثْمَانُ، وَلَمْ يَتَخَلَّفْ عَنْ بَيْعَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحَدٌ إِلا الْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ. قَالَ جَابِرٌ: وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ لاصِقًا بِإِبْطِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْ ضَبَأَ إِلَيْهَا يَسْتَتِرُ بِهَا مِنَ النَّاسِ.
وَقَالَ الحسن بن بشر البجلي: حدثنا الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ - وَلَيْسَ بِالْقَوِيِّ قَالَهُ النَّسَائِيُّ - عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/257)
ببيعة الرضوان كان عثمان رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى مَكَّةَ. فَبَايَعَ النَّاسُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ عُثْمَانَ فِي حَاجَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَضَرَبَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الأُخْرَى فَكَانَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُثْمَانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لأَنْفُسِهِمْ.
وَقَالَ ابن عيينة: حدثنا أبو الزُّبَيْرُ، سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: لَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ وَجَدْنَا رَجُلا مِنَّا يُقَالُ لَهُ الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ مُخْتَبِئًا تَحْتَ إِبْطِ بَعِيرٍ. أَخْرَجَهُ مسلم من حديث ابن جريج، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ. وَبِهِ قَالَ: "لَمْ نُبَايِعِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لا نَفِرَّ ".
أَخْرَجَهُ مسلم عن ابن أَبِي شَيْبَةَ، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. وَأَخْرَجَهُ مِنْ حَدِيثِ اللَّيْثِ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، وَقَالَ: فَبَايَعْنَاهُ وَعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، وَهِيَ سَمُرَةُ.
وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الأَعْرَجِ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ الشَّجَرَةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُبَايِعُ النَّاسَ وَأَنَا رَافِعٌ غُصْنًا مِنْ أَغْصَانِهَا عَنْ رَأْسِهِ، وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَلَمْ نُبَايِعْهُ عَلَى الْمَوْتِ وَلَكِنْ بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لا نَفِرَّ. أخرجه مسلم.
وقال ابن عيينة: حدثنا ابْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا دَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ كَانَ أَوَّلَ مَنِ انْتَهَى إِلَيْهِ أَبُو سِنَانٍ الأَسْدِيُّ فَقَالَ: أَبْسِطْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلامَ تُبَايِعُنِي؟ قَالَ: عَلَى مَا فِي نَفْسِكَ.
وَقَالَ مَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو عَاصِمٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ. فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ: يا ابن الْأَكْوَعِ أَلَا تُبَايِعُ؟ قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: وَأَيْضًا. فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ. فَقُلْتُ لِسَلَمَةَ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كنتم تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. مُتَّفَقٌ(1/258)
عَلَيْهِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا إِلَى الْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ، فبايعته أول الناس وَبَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسَطِ النَّاسِ، قَالَ: " بَايِعْنِي يَا سَلَمَةُ ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُكَ. قَالَ: " وَأَيْضًا ". قَالَ: وَرَآنِي عَزِلًا فَأَعْطَانِي حَجَفَةً أَوْ دَرَقَةً. ثُمَّ بَايَعَ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ النَّاسِ قَالَ: " أَلَا تُبَايِعْ؟ " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ بَايَعْتُكَ فِي أَوَّلِ النَّاسِ وَأَوْسَطِهِمْ. قَالَ: " وَأَيْضًا ". فَبَايَعْتُ الثَّالِثَةَ. فَقَالَ: " يَا سَلَمَةُ أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ دَرَقَتُكَ الَّتِي أَعْطَيْتُكَ "؟ قُلْتُ: لَقِيَنِي عَامِرٌ فَأَعْطَيْتُهَا إِيَّاهُ. فَضَحِكَ ثُمَّ قَالَ: " أنَّكَ كَالَّذِي قَالَ الْأَوَّلُ: اللَّهُمَّ أَبْغِنِي حَبِيبًا هُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي ". ثُمَّ إِنَّ مُشْرِكِي مَكَّةَ رَاسَلُونَا بِالصُّلْحِ حَتَّى مَشَى بَعْضُنَا إِلَى بَعْضٍ فَاصْطَلَحْنَا. وَكُنْتُ خَادِمًا لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَسْقِي فَرَسَهُ وَأَحُسُّهُ وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ. وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ. فَلَمَّا اصْطَلَحْنَا وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا فَاضَّطَجَعْتُ فِي ظِلِّهَا. فَأَتَانِي أَرْبَعةٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَبْغَضْتُهُمْ، فَتَحَوَّلَتْ إِلَى شَجَرَةٍ أُخْرَى، فَعَلَّقُوا سِلَاحَهُمْ وَاضْطَجَعُوا. فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ نَادَى مُنادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي: يَا لِلْمُهَاجِرِينَ، قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ. فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي فشددت على أولئك الأربعة وهم رقد، فَأَخَذْتُ سِلَاحَهُمْ فَجَعَلْتُهُ ضِغْثًا فِي يَدِي، ثُمَّ قلت: والذي كرم وجه محمد - صلى الله عليه وسلم - لا يرفع أحد منكم رأسه إلا ضربت الذي فيه عيناه. ثم جئت بهم أَسُوقُهُمْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَجَاءَ عَمِّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلَاتِ يقال له: مكرز، يقوده حَتَّى وَقَفْنَا بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ. وَقَالَ: " دَعُوهُمْ، يَكُونُ لَهُمْ بَدْءُ الفجور وثناؤه ". فعفا عنهم(1/259)
رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأُنْزِلَتْ: " وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ " الآية. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثابت، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رِجَالا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ هَبَطُوا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قِبَلِ جَبَلِ التَّنْعِيمِ لِيُقَاتِلُوهُ. قَالَ: فَأَخَذَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخْذًا، فَأَعْتَقَهُمْ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عنكم " الآية، أخرجه مسلم.
وقال الوليد بن مسلم: حدثنا عمر بن محمد العمري، قال: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّاسَ كَانُوا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، قَدْ تَفَرَّقُوا فِي ظِلالِ الشَّجَرِ. فَإِذَا النَّاسُ مُحْدِقُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ - يَعْنِي عُمَرَ - يَا عَبْدَ اللَّهِ انْظُرْ مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَوَجَدَهُمْ يُبَايِعُونَ، فَبَايَعَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى عُمَرَ، فَخَرَجَ فَبَايَعَ.
أخرجه البخاري فقال: وقال هشام بن عمار: حدثنا الْوَلِيدُ. قُلْتُ: وَرَوَاهُ دُحَيْمٌ، عَنِ الْوَلِيدِ.
قُلْتُ: وَسُمِّيَتْ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: " لَقَدْ رضي الله عن المؤمنين إذا يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ".
قَالَ أَبُو عَوَانة، عَنْ طارق بْن عَبْد الرَّحْمَن، عَنْ سَعِيد بْن المسيّب قَالَ: كَانَ أَبِي ممّن بايع رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الشجرة، قَالَ: فانطلقنا فِي قابلٍ حاجّين، فخفي علينا مكانُها، فإنْ كانت تبيَّنتْ لكم فأنتم أعلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ جريج: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ الْمَكِّيُّ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: أَخْبَرَتْنِي أُمُّ مُبَشِّرٍ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ عِنْدَ حَفْصَةَ: " لَا يَدْخُلُ(1/260)
النَّارَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - مِنْ أَصْحَابِ الشَّجَرَةِ الَّذِينَ بَايَعُوا تَحْتَهَا أَحَدٌ ". قَالَتْ: بَلَى يَا رسول الله، فانتهرها، فَقَالَتْ: " وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا "، فَقَالَ: قَدْ قَالَ - تَعَالَى -: " ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَرَأْتُ عَلَى عَبْدِ الْحَافِظِ بْنِ بَدْرَانَ: أَخْبَرَكُمْ مُوسَى بْنُ عَبْدِ الْقَادِرِ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالا: أخبرنا عبد الأول بن عيسى، قال: أخبرنا محمد ابن أبي مسعود، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن أبي شريح، قال: حدثنا أبو القاسم البغوي، قال: حدثنا الْعَلاءُ بْنُ مُوسَى إِمْلاءً، سَنَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ ومائتين، قال: أخبرنا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ الَمكِّيِّ، عن جابر بن عبد لله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشجرة النار ". أخرجه النسائي.
وقال قتيبة: حدثنا اللَّيْثُ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عبدا لحاطب ابن أَبِي بَلْتَعَةَ جَاءَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَشْكُو حَاطِبًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيَدْخُلَنَّ حَاطِبٌ النَّارَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " كَذَبْتَ لَا يَدْخُلُهَا، فَإنَّهُ شَهِدَ بَدْرًا وَالْحُدَيْبِيَةَ ".
وَقَالَ يُونُسُ بْن بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حدثني الزهري، عن عُرْوَة، عَنِ المِسْوَر بْن مَخْرَمَة، ومروان في قصة الحديبية، قالا: فدعت قريش سُهَيْل بْن عَمْرو، قَالُوا: اذهب إلى هذا الرجل فصالحه ولا تكونن فِي صُلْحه إلّا أنْ يرجع عنّا عامَهُ هذا، لا تحدّث العربُ أنّه دخلها علينا عَنْوَةً. فخرج سُهَيْل من عندهم، فلما رآه رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُقْبِلا، قَالَ: " قد أراد القوم الصُّلْحَ حين بعثوا هذا الرجل ". فوقع الصلح عَلَى أن توضع الحرب بينهما(1/261)
عشر سنين، وأن يخلُّوا بينه وبين مكة من العام المقبل، فيقيم بِهَا ثلاثًا، وأنه لا يدخلها إلّا بسلاح الراكب والسيوف فِي القِرَب، وإنّه من أتانا من أصحابك بغير إذْن ولِيِّه لم نردّه عليك، ومن أتاك منا بغير إذن وليه رددته علينا، وأنّ بيننا وبينك عَيْبَةٌ مكفوفة، وأنه لا إسلال ولا إغلال. وذكر الحديث.
الإِسلال: الخفية، وقيل: الغارة، وقيل: سلّ السيوف، والإِغلال: الغارة.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمَّا صَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - مشركي مكة كتب بينهم كِتَابًا: " هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ". قَالُوا: لَو عَلِمْنَا أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ. قَالَ لِعَلِيٍّ: " امْحُهُ ". فَأَبَى، فَمَحَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِيَدِهِ، وَكَتَبَ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ. وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمُوا ثَلَاثًا، وَأَنْ لَا يَدْخُلُوا مَكَّةَ بِسِلَاحٍ إِلَّا جُلُبَّانَ السِّلَاحِ - يَعْنِي السَّيْفَ بِقِرَابِهِ - مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَهُ أَوْ قَرِيبًا مِنْهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حدثني بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ كَاتِبَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - للصلح كَانَ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اكْتُبْ: " هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو ". فَجَعَلَ عَلِيُّ يَتَلَكَّأُ وَيَأْبَى أن يكتب إلا: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اكْتُبْ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَهَا تُعْطِيهَا وَأَنْتَ مُضْطَهَدٌ "، فَكَتَبَ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.(1/262)
وقال عبد العزيز بن سياه: حدثنا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، قَالَ: قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفِّينَ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، لَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَى قِتَالًا لَقَاتَلْنَا. فَأَتَى عُمَرُ فَقَالَ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي أَنْفُسِنَا وَنَرْجِعُ وَلَمَّا يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: يا ابن الْخَطَّابِ، إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَنْ يُضَيِّعَنِي اللَّهُ، فَانْطَلَقَ مُتَغَيِّظًا إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَنَزَلَ الْقُرْآنَ، فَأَرْسَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عروة عن المسور، ومروان، قالا: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدَ أُمِّ سَلَمَةَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا حَتَّى أَتَى هَدْيَهُ فَنَحَرَ وَحَلَقَ، فَلَمَّا رَأَى النَّاسُ ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا وَحَلَقَ بَعْضٌ وَقَصَّرَ بَعْضٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ ". فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ؟ فَقَالَ: " اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ "، ثَلَاثًا. قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَلِلْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: " وَلِلْمُقَصِّرِينَ ".
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نجيح، عن مجاهد، عن ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قِيلَ لَهُ: لِمَ ظَاهَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمُحَلِّقِينَ ثَلاثًا وَلِلْمُقَصِّرِينَ وَاحِدَةً؟ فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا.
وَقَالَ يُونُسُ - هُوَ ابْنُ بُكَيْرٍ -، عَنْ هِشَامٍ الدَّسْتُوَائِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: حَلَقَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كُلُّهُمْ غَيْرَ رَجُلَيْنِ، قَصَّرَا وَلَمْ يَحْلِقَا.
أَبُو إِبْرَاهِيمَ مَجْهُولٌ.(1/263)
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَارِبٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ ". قَالَ رَجُلٌ: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمَّا كَانَتِ الثَّالِثَةُ، قَالَ: " وَالْمُقَصِّرِينَ ".
وَقَالَ يَحْيَى بن أبي بكير: قال: حدثنا زهير بن محمد، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَحَرَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ سَبْعُونَ بَدَنَةً فِيهَا جَمَلُ أَبِي جَهْلٍ، فَلَمَّا صُدَّتْ عَنِ الْبَيْتِ حَنَّتْ كَمَا تَحِنُّ إِلَى أَوْلادِهَا.
وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْدَى فِي عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ جَمَلا كَانَ لأَبِي جَهْلٍ، فِي أَنْفِهِ بُرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَهْدَاهُ لِيَغِيظَ بِهِ قُرَيْشًا.
وَقَالَ فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلا يَحْمِلَ سِلاحًا عَلَيْهَا إِلا سُيُوفًا، وَلا يُقِيمَ بِهَا إِلا مَا أَحَبُّوا، فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَدَخَلَهَا كَمَا صَالَحَهُمْ. فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا، أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ فَخَرَجَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزبير، عن جابر: نحرنا بالحديبية الْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
-نزُولُ سُورة الفتح
قَالَ مَالِكٌ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَسِيرُ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَعُمَرُ مَعَهُ لَيْلًا. فَسَأَلَهُ عُمَرُ عَنْ شَيْءٍ فَلَمْ يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فلم(1/264)
يُجِبْهُ، ثُمَّ سَأَلَهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ، نَزَرْتَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: فَحَرَّكْتُ بَعِيرِي حَتَّى تَقَدَّمَتْ أَمَامَ النَّاسِ وَخَشِيتُ أَنْ يَنْزِلَ فيَّ قُرْآنٌ، فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ سَمِعْتُ صَارِخًا يَصْرُخُ، قَالَ: قُلْتُ: لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ يَكُونَ نَزَلَ فِيَّ قُرْآنٌ، فَجِئْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - فسلمت عليه، فقال: " لقد أنزلت علي الليلة سورة هي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس "، ثُمَّ قَرَأَ: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي علقمة، عن ابن مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، جَعَلَتْ نَاقَتُهُ تُثْقِلُ، فَتَقَدَّمْنَا، فَأُنْزِلَ عَلَيْهِ: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ".
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا "، قَالَ: فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ: هَنِيئًا مَرِيئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا لَكَ، فَمَا لَنَا؟ فَأُنْزِلَتْ: " ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات ".
قَالَ شُعْبَةُ: فَقَدِمْتُ الْكُوفَةَ فَحَدَّثْتُهُمْ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، ثُمَّ قَدِمْتُ الْبَصْرَةَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِقَتَادَةَ، فَقَالَ: أَمَّا الْأَوَّلُ فَعَنْ أَنَسٍ، وَأَمَّا الثَّانِي: " لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ "، فَعَنْ عِكْرِمَةَ، أَخْرَجَهُ البخاري.
وقال همام: حدثنا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا " إِلَى آخِرِ الْآيَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَأَصْحَابُهُ مُخَالِطُو الْحُزْنِ وَالْكَآبَةِ، فَقَالَ: " نَزَلَتْ عَلَيَّ آيَةٌ هِيَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الدُّنْيَا ". فَلَمَّا تَلَاهَا قَالَ رَجُلٌ: قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ لَكَ مَا يَفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يَفْعَلُ بِنَا؟ فَأُنْزِلَتْ(1/265)
الَّتِي بَعْدَهَا: " لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِم.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عن الزهري، عن عروة، عَنِ الْمِسْوَرِ، وَمَرْوَانَ قَالا فِي قِصَّةِ الْحُدَيْبِيَةِ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَاجِعًا. فَلَمَّا أَنْ كَانَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سورة الفتح. فكانت القصة في سورة الفتح وما ذكر اللَّهُ مِنْ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. فَلَمَّا أَمِنَ النَّاسُ وَتَفَاوَضُوا، لَمْ يُكلَّمْ أَحَدٌ بِالإِسْلامِ إِلا دَخَلَ فِيهِ. فَلَقَدْ دَخَلَ فِي تَيْنِكَ السَّنَتَيْنِ فِي الإِسْلامِ أَكْثَرُ مِمَّا كَانَ فِيهِ قَبْلَ ذَلِكَ. وَكَانَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ فَتْحًا عَظِيمًا.
وقال ابن لهيعة: حدثنا أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ، قَالُوا: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ رَاجِعًا. فَقَالَ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: والله مَا هَذَا بِفَتْحٍ؛ لَقَدْ صُدِدْنَا عَنِ الْبَيْتِ وَصُدَّ هَدْيُنَا، وَعَكَفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَرَجَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلُ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: إِنَّ هَذَا لَيْسَ بِفَتْحٍ. فَقَالَ: " بِئْسَ الْكَلامِ، هَذَا أَعْظَمُ الْفَتْحِ، لقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح عَنْ بِلادِهِمْ وَيَسْأَلُونَكُمُ الْقَضِيَّةَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْكُمْ فِي الأَمَانِ، وَقَدْ رَأَوْا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا، وَقَدْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَدَّكُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ مَأْجُورِينَ، فهذا أعظم الفتوح. أنسيتم يوم أحد، إذ تصعدون ولا تلوون على أحد وأنا أدعوكم في أخراكم؟ أنسيتم يوم الأحزاب، إذ جاؤوكم مِنْ فَوْقِكِمْ وَمِنْ أَسْفَلِ مِنْكُمْ "؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صدق الله ورسوله، هذا أَعْظَمُ الْفُتُوحِ وَاللَّهِ يَا نَبِيَّ اللَّهِ.
وقال ابن أبي عَرُوبة، عَنْ قَتَادة، قَالَ: ظهرت الروم عَلَى فارس عند مرجع المسلمين من الحُديبية. وقال مثل ذَلِكَ عقيل، عَنِ ابن شهاب، عَن عُبَيْد اللَّهِ بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُتْبة بْن مَسْعُود.
وكانت بين الروم وبين فارس ملحمةٌ مشهودة نَصَرَ الله - تعالى - فيها(1/266)
الروم. ففرح المسلمون بذلك، لكوْن أهل الكتاب في الجملة نُصِروا عَلَى المجوس.
وقال مُغيرة، عَنِ الشعبيّ فِي قوله: " إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا "؛ قال: فتح الحديبية، وبايعوا بيعة الرضوان، وأطعموا نخيل خيبر، وظهرت الروم عَلَى فارس. ففرح المؤمنون بتصديق كتاب الله ونصر أهل الكتاب عَلَى المجوس.
وقال شعبة، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي ليلى: " وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا "، قَالَ: خيبر. " وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا "، قَالَ: فارس والروم.
وَقَالَ وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: أُرِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ أنه يدخل مكة هو وأصحابه آمنين محلقين رؤوسهم وَمُقَصِّرِينَ، فَقَالُوا لَهُ حِينَ نَحَرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ: أَيْنَ رُؤْيَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: " لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ " إِلَى قَوْلِهِ " فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا " يَعْنِيَ النَّحْرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، ثُمَّ رَجَعُوا فَفَتَحُوا خَيْبَرَ، فَكَانَ تَصْدِيقُ رُؤْيَاهُ فِي السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ.
وقال هُشيم: أخبرنا أَبُو بشر، عَنْ سَعِيد بْن جُبير، وعِكرمة: " سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ "، قالا: هوازن يوم حنين. رواه سعيد بن منصور في " سننه ".
وقال بندار: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن هشيم، فذكره، وزاد: هوازن وبنو حنيفة.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ "، قَالَ: فَارِسَ. وَقَالَ: " السَّكِينَةَ " هي الرحمة.(1/267)
وقال أبو حذيفة النهدي: حدثنا سُفْيَان، عَنْ سَلَمَةَ بْن كُهَيْلٍ، عَنْ أَبِي الأحوص، عَنْ عليّ " هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ " قَالَ: السكينة لَهَا وجهٌ كوجه الإِنسان، ثُمَّ هي بعد ريح هفافة.
وقال ورقاء، عَنِ ابن أَبِي نَجِيح، عَنْ مجاهد قَالَ: السكينة كهيئة الريح، لَهَا رأس كرأس الهرَّة وجناحان.
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ "، قَالَ: السَّرِيَّةُ، " أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ "، قَالَ: هُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. " حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ "، قَالَ: فَتْحُ مَكَّةَ.
وَعَنْ مُجَاهِدٍ: " أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ "، قَالَ: الحُدَيْبِيَةُ وَنَحْوُهَا. رَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْهُ.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أخبرني عُرْوة أنّه سَمِعَ مروان بْن الحَكَم، والمسور يخبران عن أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما كاتب سُهَيْلَ بْن عَمْرو، فذكر الحديث، وفيه: " وكانت أُمُّ كُلْثُومَ بِنْت عُقْبة بْن أَبِي مُعَيْط ممّن خرج إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يومئذٍ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يرجعها إليهم، فلم يرجعها إليهم لما أنزل الله فيهن: " إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ".
قَالَ عُرْوة: فأخبرتني عَائِشَةُ أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يمتحنهنّ بهذه الآية: " إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ " الآية. قَالَتْ: فمن أقرّ بهذا الشرط منهنّ قَالَ لَهَا: قد بايعتك، كلامًا يكلِّمها بِهِ، والله ما مسَّت يدُه يدَ امرأةٍ قطّ في المبايعة، ما بايعهن إلّا بقوله. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيّ.
وقال موسى بْن عُقْبة، عَنِ ابن شهاب، قَالَ: ولما رجع رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -(1/268)
إلى المدينة انفلت من ثقيف أَبُو بصير بن أسيد بن جارية الثقفي من المشركين، فذكر من أمره نحوًا مما قدمناه. وفيه زيادة وهي: فخرج أَبُو بصير معه خمسةٌ كانوا قدِموا من مكة، ولم ترسل قريش فِي طلبهم كما أرسلوا فِي أَبِي بصير، حتى كانوا بين العِيص وذي المَرْوَة من أرض جُهَينة عَلَى طريق عِير قريش ممّا يلي سيف البحر، لا يمرّ بهم عِيرٌ لقريش إلّا أخذوها وقتلوا أصحابها. وانفلت أَبُو جَندل فِي سبعين راكبًا أسلموا وهاجروا فلحقوا بأبي بصير، وقطعوا مادَّةَ قريش من الشام، وكان أَبُو بصير يصلّي بأصحابه، فلما قدِم عَلَيْهِ أَبُو جندل كَانَ يؤمُّهم.
واجتمع إلى أَبِي جَنْدل حين سمعوا بقدومه ناسٌ من بني غِفار وأسْلم وجُهَيْنة وطوائف، حتى بلغوا ثلاثمائة مقاتل وهم مسلمون، فأرسلت قريش إلى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسألونه أن يبعث إلى أبي بصير ومن معه فيقدموا عليه، وقالوا: من خرج منّا إليك فأمْسِكه، قَالَ: ومرّ بأبي بصير أَبُو العاص بْن الربيع من الشام فأخذوه، فقدم عَلَى امرأته زينب سرًّا. وقد تقدّم شأنه. وأرسل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابه إلى أَبِي بصير أن لا يعترضوا لأحد. فقدم الكتاب عَلَى أَبِي جندل وأبي بصير، وأبو بصير يموت. فمات وكتاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يده يقرؤه، فدفنه أَبُو جندل مكانه، وجعل عند قبره مسجدًا.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدَّثَهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَلَّى الْعِشَاءَ الآخِرَةَ نصب في الركعة الآخرة بعدما يقول: " سمع الله لمن حمده " ويقول: اللَّهُمّ نَجِّ الْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ نَجِّ سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ نَجِّ عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ نَجِّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، اللَّهُمَّ اشْدُدُ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ مِثْلَ سِنِي(1/269)
يُوسُفَ ". ثُمَّ لَمْ يَزَلْ يَدْعُو حَتَّى نَجَّاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ تَرَكَ الدُّعَاءَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وفي سنة ستّ:
مات سعد بْن خَوْلةَ رَضِيَ الله عَنْهُ فِي الأسر بمكة. ورثى لَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكونه مات بمكة.
وفيها: قُتل هشَام بْن صُبابة أخو مِقْيسٍ، قتله رَجُل من المسلمين وهو يظنّ أنّه كافر، فأعطى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِقيسًا دِيَتَه. ثُمَّ إنّ مِقْيسًا قتل قاتل أخيه، وكفر وهرب إلى مكة.
وفي ذي الحجة: ماتت أمّ رُومان بِنْت عامر بْن عُوَيْمر الكِنانية، أمّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أخرج الْبُخَارِيّ من رواية مسروق عَنْهَا حديثًا وهو منقطع لأنّه لم يدركها، أو قد أدركها فيكون تاريخُ موتها هذا خطأ. والله أعلم.(1/270)
-السنة السابعة
-غزوة خيبر
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: كَانَ افْتِتَاحُ خَيْبَرَ فِي عَقِبِ الْمُحَرَّمِ، وَقَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ صَفَرٍ.
قُلْتُ: وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ غَيْرِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ.
وذكر الواقديّ، عَنْ شيوخه، فِي خروج النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى خيبر: فِي أول سنة سبعٍ.
وشذَّ الزُّهري فقال، فيما رَوَاهُ عَنْهُ موسى بْن عقبة فِي مغازية قَالَ: ثُمَّ قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خيبر من سنة ست. وهذا لا يصح إلا إذا جعلنا ذلك في السنة السادسة من ساعة قدومه المدينة والله أعلم.
وخيبر: بُلَيْدَةٌ عَلَى ثمانية برد من المدينة.
قال وهيب: حدثنا خُثَيْم بْن عِراك، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ نَفَرٍ مِنْ بَنِي غِفَارٍ قَالُوا: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ وَقَدْ خَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ الْغِفَارِيَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَجَدْنَاهُ فِي صَلاةِ الصُّبْحِ، فَقَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الأُولَى " كهيعص "، وَقَرَأَ فِي الثَّانِيَةِ " وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ ". قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَقُولُ فِي صَلاتِي: وَيْلُ لأبي فُلانٍ لَهُ مِكْيَالانِ، إِذَا اكْتَالَ اكْتَالَ بِالْوَافِي، وَإِذَا كَالَ كَالَ بِالنَّاقِصِ. قَالَ: فَلَمَّا فَرَغْنَا مِنْ صَلاتِنَا أَتَيْنَا سِبَاعَ بْنَ عُرْفُطَةَ فَزَوَّدَنَا شَيْئًا حَتَّى قَدِمْنَا(1/271)
عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ فَتَحَ خَيْبَرَ، فَكَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ فَأَشْرَكُونَا فِي سُهْمَانِهِمْ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ، أَخْبَرَنِي سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ، أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ - وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ - صَلَّى الْعَصْرَ، ثُمَّ دَعَا بِأَزْوَادٍ فَلَمْ يُؤْتَ إِلا بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكَلْنَا. ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ: أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ سَلَمَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَسِرْنَا لَيْلًا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الْأَكْوَعِ: أَلَا تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ؟. وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلًا شَاعِرًا فَنَزَلَ يَحْدُو بالقوم ويقول:
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا وَلَا صَلَّيْنَا.
فَاغْفِرْ فِدَاءً لَكَ مَا اقْتَفَيْنَا ... وَثَبِّتِ الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا.
وَأَلْقِيَنْ سَكَينَةً عَلَيْنَا ... إنا إذا صيح بن أَتَيْنَا.
وَبِالصِيَاحِ عَوَّلُوا عَلَيْنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ هَذَا السَّائِقُ "؟ قَالُوا: عَامِرٌ. قَالَ: " يَرْحَمُهُ اللَّهُ ". قَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْلَا أمتعتنا به. فأتينا خيبر فحاصرهم، حَتَّى أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ. فَلَمَّا أَمْسَى النَّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الَّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ أَوْقَدُوا نِيرَانًا كَثِيرَةً، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا هَذِهِ النِّيرَانُ عَلَى أَيِّ شَيْءٍ تُوقَدُ "؟ قَالُوا: عَلَى لَحْمِ حُمُرٍ إِنْسِيَّةٍ. فَقَالَ: " أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا ". فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَ يُهْرِيقُوهَا وَيَغْسِلُوهَا. قَالَ: أَوَ ذَاكَ.
قَالَ: فَلَمَّا تَصَافَّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ، فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِيٍّ لِيَضْرِبَهُ، فَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ عَيْنَ رُكْبَةِ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ.(1/272)
فَلَمَّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ، وَهُوَ آخِذُ بِيَدِي: لَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ساكتا: قال: ما لك؟ قُلْتُ: فَدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ. قَالَ، مَنْ قَالَهُ؟ قُلْتُ: فُلَانٌ وفلان وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ. فَقَالَ: كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، لَهُ أَجْرَانِ، وَجَمَعَ بَيْنَ أُصْبُعَيْهِ، إِنَّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدُ قَلَّ عَرَبِيٌّ مَشَى بِهَا مِثْلَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ أَتَاهَا لَيْلًا. وَكَانَ إِذَا أَتَى قَوْمًا بِلَيْلٍ لَمْ يُغِرْ حَتَّى يصبح. فلما أصبح خرجت يهود بمساحيهم ومكاتلهم، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: مُحَمَّدٌ وَاللَّهِ، مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ. إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ: شُعْبَةُ، وَابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُسْلِمٍ الْمُلائِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُ الْمَرِيضَ، وَيَتْبَعُ الْجِنَازَةَ، وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ، وَيَرْكَبُ الْحِمَارَ. وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَوْمَ خَيْبَرَ عَلَى حِمَارٍ خِطَامُهُ لِيفٌ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال يَوْمَ خَيْبَرَ: لُأعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلًا يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا؟ فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ يَرْجُو أَنْ يُعْطَاهَا. فَقَالَ: أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟ قِيلَ: هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ يَشْتَكِي عَيْنَيْهِ. قَالَ: فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ. فَأُتِيَ بِهِ فبصق رسول الله في عينيه ودعا له، فبرأ حتى كأن لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ. فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقَالَ عَلِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُقَاتِلُهُمْ(1/273)
حَتَّى يَكُونُوا مِثْلَنَا؟ قَالَ: " انْفُذْ عَلَى رِسْلِكَ حَتّى تَنْزِلَ بِسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَخْبِرْهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِي اللَّهُ بِكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَكَ حُمْرُ النَّعَمِ ". أَخْرَجَاهُ عَنْ قُتَيْبَةَ، عَنْ يَعْقُوبَ.
وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ غَدًا رَجُلا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَى يَدَيْهِ ". فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا أَحْبَبْتُ الْإِمَارَةَ قَطُّ حَتَّى يَوْمَئِذٍ. فَدَعَا عَلِيًّا فَبَعَثَهُ، ثُمَّ قَالَ: " اذْهَبْ فَقَاتِلْ حَتَّى يَفْتَحَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَلَا تَلْتَفِتْ "، قَالَ عَلِيٌّ: عَلامَ أُقَاتِلُ النَّاسَ؟ قَالَ: " قَاتِلْهُمْ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ فَقَدْ مَنَعُوا مِنْكَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهَا، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَأَخْرَجَا نَحْوَهُ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: حَدَّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ الأكوع، قال حَدَّثَنِي أَبِي أَنَّ عَمَّهُ عَامِرًا حَدَا بِهِمْ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: غَفَرَ لَكَ رَبُّكَ. قَالَ: وَمَا خُصَّ بِهَا أَحَدٌ إِلا اسْتُشْهِدَ. فَقَالَ عُمَرُ: هَلا مَتَّعْتَنَا بِعَامِرٍ؟ فَقَدِمْنَا خَيْبَرَ، فَخَرَجَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ، وَيَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ.
إِذَا الْحَرْبُ أقْبَلَتْ تَلَهَّبُ.
فَبَرَزَ لَهُ عَامِرٌ، وَهُوَ يَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي عَامِرُ ... شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُغَامِرُ.
قَالَ: فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ، فَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ، فَرَجَعَ بِسَيْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ، وَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ. قَالَ(1/274)
سَلَمَةُ: فَخَرَجَتْ فَإِذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ، قَتَلَ نَفْسَهُ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ: " مَا لَكَ "؟ فَقُلْتُ: قَالُوا إِنَّ عَامِرًا بَطَلَ عَمَلُهُ. قَالَ: " مَنْ قَالَ ذَلِكَ "؟ قُلْتُ: نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِكَ. فَقَالَ: " كَذَبَ أُولَئِكَ، بَلْ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مَرَّتَيْنِ ". قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَى عَلِيٍّ يَدْعُوهُ وَهُوَ أَرْمَدُ فَقَالَ: لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ الْيَوْمَ رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. قَالَ: فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ. قَالَ: فَبَصَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ، فَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ. قَالَ: فَبَرَزَ مَرْحَبٌ وَهُوَ يَقُولُ.
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ.
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ.
قَالَ: فَبَرَزَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ.
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ.
فَضَرَبَ مَرْحَبًا فَفَلَقَ رَأْسَهُ فَقَتَلَهُ، وَكَانَ الْفَتْحُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ نَصْرٍ الأَسْلَمِيِّ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: - فِي مَسِيرِهِ لِخَيْبَرَ - لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ: خُذْ لَنَا مِنْ هَنَاتِكَ فَنَزَلَ يَرْتَجِزُ، فَقَالَ.
وَاللَّهِ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا ... ولا تصدقنا ولا صيلنا.
إِنَّا إِذَا قَوْمٌ بَغَوْا عَلَيْنَا ... وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا.
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا ... وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاقَيْنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يرحمك الله. فقال عمر: وَجَبَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَمْتَعْتَنَا بِهِ. فَقُتِلَ يَوْمَ خَيْبَرَ شَهِيدًا.
وَقَالَ يُونُسُ بْن بُكَير عَنِ ابْنِ إِسْحَاق: حَدَّثَنِي بُرَيْدة بن سفيان ابن(1/275)
فَروة الأسلميّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: فخرج عليّ رَضِيَ الله عَنْهُ بالراية يهرول وإنا نخلفه حتى ركّزها فِي رضْمٍ من حجارة تحت الحصن. فاطلع إليه يهودي من رأس الحصن فقال: من أنت؟ قَالَ: أَنَا عليّ بْن أبي طالب فقال اليهودي: غلبتم - وعند البكائي: علوتم - وما أُنْزل عَلَى موسى. فما رجع حتى فتح الله عَلَيْهِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ الْمُسَيِّبُ بْنِ مُسْلِمٍ الْأَزْدِيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُبَّمَا أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ فَيَلْبَثُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ لَا يَخْرُجُ، وَلَمَّا نَزَلَ خَيْبَرَ أَخَذَتْهُ الشَّقِيقَةُ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى النَّاسِ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَخَذَ رَايَةَ رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَليْه وَسَلَّمَ ثم نَهَضَ فَقَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا، ثُمَّ رَجَعَ. فَأَخَذَهَا عمر فقاتل قتالا شديدا هو أشد مِنَ الْقِتَالِ الْأَوَّلِ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " لَأُعْطِيَنَّهَا غَدًا رَجُلًا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ يَأْخُذُهَا عَنْوَةً، وَلَيْسَ ثَمَّ عَلِيٌّ. فتطاولت لها قريش، رجا كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ ذَلِكَ. فَأَصْبَحَ وَجَاءَ عَلِيٌّ عَلَى بَعِيرٍ حَتَّى أَنَاخَ قَرِيبًا، وَهُوَ أَرْمَدُ قَدْ عَصَبَ عَيْنَهُ بِشِقِّ بُرْدٍ قَطَرِيٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا لَكَ "؟ قَالَ: رَمَدَتْ بَعْدَكَ، قَالَ: " ادْنُ مِنِّي "، فَتَفَلَ فِي عَيْنِهِ، فَمَا وَجَعَهَا حَتَّى مَضَى لِسَبِيلِهِ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الرَّايَةَ فَنَهَضَ بِهَا، وَعَلَيْهِ جُبَّةُ أُرْجُوانٍ حَمْرَاءُ قَدْ أَخْرَجَ خَمْلَهَا، فَأَتَى مَدِينَةَ خَيْبَرَ.
وَخَرَجَ مَرْحَبُ صَاحِبُ الْحِصْنِ وَعَلَيْهِ مِغْفَرٌ مُظْهَرٌ يَمَانِيٌّ وَحَجَرٌ قَدْ ثَقَبَهُ مِثْلَ الْبَيْضَةِ عَلَى رَأْسِهِ، وَهُوَ يَرْتَجِزُ، فَارْتَجَزَ عَلِيٌّ وَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ، فَبَدَرَهُ عَلِيٌّ بضربة، فقد الحجر والمغفر ورأسه ووقع فِي الْأَضْرَاسِ، وَأَخَذَ الْمَدِينَةَ.(1/276)
وقال عَوْف الأعرابيّ، عَنْ ميمون أَبِي عَبْد الله الأزْدي، عَنِ ابن بُرَيْدة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: فاختلف مَرْحَب وعليّ ضربتين، فضربه عليٌّ عَلَى هامته حتى عضَّ السّيفُ بأضراسه. وسمع أهل العسكر صوتَ ضربته. وما تتامّ آخرُ النّاس مَعَ عليّ حتى فتح الله لَهُ ولهم.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ عَلِيٍّ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَايَتِهِ. فَلَمَّا دَنَا مِنَ الْحِصْنَ خَرَجَ إِلَيْهِ أَهْلُهُ فَقَاتَلَهُمْ، فَضَرَبَهُ رَجُلٌ من يهود فطرح ترسه من يده، فتناول علي باب الْحِصْنَ فَتَرَّسَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِهِ وَهُوَ يُقَاتِلُ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَلْقَاهُ مِنْ يَدِهِ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي مع نفر سَبْعَةٌ أَنَا ثَامِنُهُمْ، نَجْهَدُ أَنْ نَقْلِبَ الْبَابَ فَمَا اسْتَطَعْنَا أَنْ نَقْلِبَهُ.
رَوَاهُ الْبَكَّائِيُّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ مُنْقَطِعًا، وَفِيهِ: فَتَنَاوَلَ عَلِيٌّ بَابًا كَانَ عِنْدَ الْحِصْنِ. وَالْبَاقِي بمعناه.
وقال إسماعيل بن موسى السدي: حدثنا مطلب بن زياد، عن ليث ابن أَبِي سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقَالَ: حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ الْبَابَ يَوْمَ خَيْبَرَ حَتَّى صَعِدَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ. فَافْتَتَحُوهَا، وَإِنَّهُ خَرِبَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْمِلْهُ أَرْبَعُونَ رَجُلا.
تَابَعَهُ فُضَيْلُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، عَنْ مُطَّلِبٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنِ الْحَكَمِ، وَالْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: كَانَ عَلِيٌّ يَلْبَسُ في الحر والشتاء القباء المحشو الثخين وما يبالي الْحَرِّ، فَأَتَانِي أَصْحَابِي فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ رَأَيْنَا مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ شَيْئًا فَهَلْ رَأَيْتَهُ؟ فَقُلْتُ: وَمَا هُوَ؟ قَالُوا: رَأَيْنَاهُ يَخْرُجُ عَلَيْنَا فِي الْحَرِّ الشَّدِيدِ فِي الْقَبَاءِ الْمَحْشُوِّ وَمَا يُبَالِي الْحَرَّ، وَيَخْرُجُ عَلَيْنَا فِي الْبَرْدِ الشَّدِيدِ فِي الثَّوْبَيْنِ الْخَفِيفَيْنِ وَمَا يُبَالِي الْبَرْدَ، فَهَلْ سَمِعْتَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا؟ فَقُلْتُ: لا. فَقَالُوا: سَلْ لَنَا أَبَاكَ فَإِنَّهُ يَسْمُرُ مَعَهُ.(1/277)
فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ فِي ذَلِكَ شَيْئًا. فَدَخَلَ عَلَيْهِ فَسَمَرَ مَعَهُ فَسَأَلَهُ فَقَالَ عَلِيٌّ: أوما شَهِدْتَ مَعَنَا خَيْبَرَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا أَبَا بَكْرٍ فَعَقَدَ لَهُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْقَوْمِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَ الْقَوْمَ، ثُمَّ جَاءَ بِالنَّاسِ وَقَدْ هُزِمُوا؟ فَقَالَ: بَلَى. قَالَ: ثُمَّ بَعَثَ إِلَى عُمَرَ فَعَقَدَ لَهُ وَبَعَثَهُ إِلَى الْقَوْمِ، فَانْطَلَقَ فَلَقِيَ الْقَوْمَ فَقَاتَلَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ وَقَدْ هُزِمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: " لأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَيُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيْهِ، غَيْرَ فَرَّارٍ " فَدَعَانِي فَأَعْطَانِي الرَّايَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اكْفِهِ الْحَرَّ وَالْبَرْدَ، فَمَا وَجَدْتُ بَعْدَ ذَلِكَ حَرًّا وَلا بَرْدًا.
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ مُغِيرَةَ الضَّبِّيِّ، عَنْ أُمِّ مُوسَى قَالَتْ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ: مَا رَمِدْتُ وَلا صَدِعْتُ مذ دفع إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ.
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ.
-فصل.
فيمن ذكر أن مَرْحباً قتله مُحَمَّد بْن مَسْلَمة.
قَالَ موسى بْن عُقْبة، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام يوم خيبر فوعظهم. وفيه: فخرج اليهود بعاديتها، فقتل صاحب عادية اليهود فانقطعوا. وقتل مُحَمَّد بْن مَسْلَمَة الأشهلي مرحبا اليهودي.
وقال ابن لهيعة، حدثنا أبو الأسود، عَنْ عُرْوَة نحوهَ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ الْحَارِثِيُّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: خَرَجَ مَرْحَبٌ الْيَهُودِيُّ مِنْ حِصْنِ خَيْبَرَ، قَدْ جَمَعَ سِلاحَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ: مَنْ يُبَارِزُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ لِهَذَا؟ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: أَنَا له، أنا وَاللَّهِ الْمَوْتُورُ الثَّائِرُ، قَتَلُوا أَخِي بِالأَمْسِ.(1/278)
قَالَ: " قُمْ إِلَيْهِ، اللَّهُمَّ أعِنْهُ عَلَيْهِ ". فَلَمَّا تَقَارَبَا دَخَلَتْ بَيْنَهُمَا شَجَرَةٌ عُمْرِيَّةٌ، فَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلُوذُ بِهَا مِنْ صَاحِبِهِ، كُلَّمَا لاذَ بِهَا أَحَدُهُمَا اقْتَطَعَ بِسَيْفِهِ مَا دُونَهُ، حتى برز كل واحد منها، وَصَارَتْ بَيْنَهُمَا كَالرَّجُلِ الْقَائِمِ مَا فِيهَا فَنَنٌ. ثُمَّ حَمَلَ عَلَى مُحَمَّدٍ فَضَرَبَهُ فَاتَّقَاهُ بِالدَّرَقَةِ، فَعَضَّتْ بِسَيْفِهِ فَأَمْسَكَتْهُ، وَضَرَبَهُ مُحَمَّدٌ حَتَّى قَتَلَهُ. فقيل إنه ارتجز فقال:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَاضِي ... حُلْوٌ إِذَا شِئْتُ وَسُمٌّ قَاضِي.
وَكَانَ ارْتِجَازُ مَرْحَبٍ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلاحِ بَطَلٌ مجرب
إذا الليوث أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ ... وَأَحْجَمَتْ عَنْ صَوْلَةِ الْمُغلَّبْ
أَطْعَنُ أَحْيَانًا وَحِينًا أَضْرِبُ ... إِنَّ حِمَايَ لِلْحِمَى لا يُقْرَبُ
وقال الواقدي: حَدَّثَنِي مُحَمَّد بْن الفضل بن عبيد الله بن رافع بْن خُدَيْج عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِر قَالَ: وحدّثني زكريّا بْن زيد، عَنْ عَبْد الله ابن أَبِي سُفْيَان، عَنْ أبيه، عَنْ سَلَمَةَ بْن سلامة. قال: وعن مجمّع بْن يعقوب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مجمّع بْن جارية قَالُوا جميعًا: إنّ مُحَمَّد بْن مَسْلَمَةَ قتل مَرْحبًا.
وَذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مَحْمُودِ بن محمد بن مسلمة، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عَلِيًّا حَمَلَ عَلَى مَرْحَبٍ فقطره على الباب، وفتح علي الباب الآخر، وَكَانَ لِلْحِصْنِ بَابَانِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَقِيلَ إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ ضَرَبَ سَاقَيْ مَرْحَبٍ فَقَطَعَهُمَا، فَقَالَ: أَجْهِزْ عَلَيَّ يَا مُحَمَّدُ. فَقَالَ: ذُقِ الْمَوْتَ كَمَا ذَاقَهُ أَخِي مَحْمُودٌ، وَجَاوَزَهُ، وَمَرَّ بِهِ عَلِيٌّ فَضَرَبَ عُنُقَهُ وَأَخَذَ سَلْبَهُ. فَاخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سلبه، فأعطاه محمدا. وكن عِنْدَ آلِ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ فِيهِ(1/279)
كِتَابٌ لا يُدْرَى مَا هُوَ، حَتَّى قَرَأَهُ يَهُودِيٌّ مِنْ يَهُودِ تَيْمَاءَ فَإِذَا هُوَ: هَذَا سَيْفُ مَرْحَبٍ مَنْ يَذُقْهُ يُعْطَبْ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حدثني محمد بن الفضل بن عبيد الله عَنْ رَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: بَرَزَ عَامِرٌ وَكَانَ طُوَالا جَسِيمًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَرَزَ وَطَلَعَ: " أَتَرَوْنَهُ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ "؟ وَهُوَ يَدْعُو إِلَى الْبِرَازِ؛ فَبَرَزَ لَهُ عَلِيٌّ فَضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ، كُلُّ ذَلِكَ لا يَصْنَعُ شَيْئًا، حَتَّى ضَرَبَ سَاقَيْهِ فَبَرَكَ، ثُمَّ دَفَّفَ عَلَيْهِ وَأَخَذَ سِلاحَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ مَرْحَبٍ أَخُوهُ يَاسِرٌ، فَبَرَزَ لَهُ الزُّبَيْرُ فَقَتَلَهُ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عن عروة. ورواه موسى بن عقبة - واللفظ لَهُ - قَالَ: ثُمَّ دَخَلُوا حِصْنًا لَهُمْ مَنِيعًا يُدْعَى الْقَمُوصَ. فَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ لَيْلَةً. وَكَانَتْ أَرْضًا وَخِمَةً شَدِيدَةَ الْحَرِّ. فَجَهَدَ الْمُسْلِمُونَ جَهْدًا شَدِيدًا. فَوَجَدُوا أَحْمِرةً لِيَهُودَ، فَذَكَرَ قِصَّتَهَا، وَنَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِهَا.
ثُمَّ قَالَ: وَجَاءَ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ مِنْ أَهْلِ خَيْبَرَ كَانَ فِي غَنَمٍ لِسَيِّدِهِ، فَلَمَّا رَأَى أَهْلَ خيبر قد أخذوا السلاح، سألهم ما تريدون؟ قَالُوا: نُقَاتِلُ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ. فوقع في نفسه فَأَقْبَلَ بِغَنَمِهِ حَتَّى عَمَدَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَ، وَقَالَ: مَاذَا لِي؟ قال: " الجنة " فقال: يا رسول الله إن هَذِهِ الْغَنَمُ عِنْدِي أَمَانَةٌ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أخرِجْهَا مِنْ عَسْكَرِنَا وَارْمِهَا بِالْحَصْبَاءِ فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي عَنْكَ أَمَانَتَكَ ". فَفَعَلَ؛ فَرَجَعَتِ الْغَنَمُ إِلَى سَيِّدِهَا. وَوَعَظَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ. إِلَى أَنْ قَالَ: وَقُتِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْعَبْدُ الأَسْوَدُ، فاحتملوه فأدخل في فسطاط. فزعموا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ فِي الْفُسْطَاطِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ هَذَا الْعَبْدَ، وَقَدْ رَأَيْتُ عِنْدَ رَأْسِهِ اثْنَتَيْنِ مِنَ الْحُورِ العين.(1/280)
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي حَيوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ شُرَحْبِيلَ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَخَرَجَتْ سَرِيَّةٌ فَأَخَذُوا إِنْسَانًا معه غنم يرعاها، فجاؤوا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ الرَّجُلُ: إِنِّي قَدْ آمنت بك، فَكَيْفَ بِالْغَنَمِ فَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَهِيَ لِلنَّاسِ الشَّاةُ والشاتان، قَالَ: احْصِبْ وُجُوهَهَا تَرْجِعْ إِلَى أَهْلِهَا. فَأَخَذَ قبضة من حصباء أو تراب فرمى بها وجوهها، فَخَرَجَتْ تَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَتْ كُلُّ شَاةٍ إِلَى أَهْلِهَا. ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى الصَّفِّ، فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ. وَلَمْ يُصَلِّ لِلَّهِ سَجْدَةً قَطُّ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أدخلوه الخباء " فأدخل خباء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: " لَقْد حَسُنَ إِسْلامُ صَاحِبِكُمْ، لَقَدْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَإِنَّ عِنْدَهُ لَزَوْجَتَيْنِ لَهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ ".
وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنُ أَوْ صَحِيحٌ.
وَقَالَ مُؤَمَّلُ بْنُ إسماعيل: حدثنا حماد، قال: حدثنا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَجُلا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَجُلٌ أَسْوَدُ اللَّوْنِ، قَبِيحُ الْوَجْهِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، لا مَالَ لِي، فَإِنْ قَاتَلْتُ هَؤُلاءِ حَتَّى أُقْتَلَ أَدْخُلِ الْجَنَّةَ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". فَتَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فَأَتَى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَقْتُولٌ، فَقَالَ: " لَقَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ وَجْهَكَ وَطَيَّبَ رُوحَكَ وَكَثَّرَ مَالَكَ ". قَالَ: وَقَالَ - لِهَذَا أَوْ لِغَيْرِهِ -: " لَقَدْ رأيت زوجتيه من الحور العين ينازعانه جبته عنه، يدخلان فِيمَا بَيْنَ جِلْدِهِ وَجُبَّتِهِ ". وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ بَعْضِ أَسْلَمَ أَنَّ بَعْضَ بَنِي سَهْمٍ مِنْ أَسْلَمَ أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَقَدْ جَهَدْنَا وَمَا بِأَيْدِينَا شَيْءٌ. فَلَمْ يَجِدوُا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَقَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ حَالَهُمْ وَأَنَّهُمْ لَيْسَتْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلَيْسَ(1/281)
بِيَدِي مَا أُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ. فَافْتَحْ عَلَيْهِمْ أَعْظَمَ حِصْنٍ بِهَا غِنًى، أَكْثَرُهُ طَعَامًا وَوَدَكًا. فَغَدَا النَّاسُ فَفَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَمَا بِخَيْبَرَ حِصْنٌ أَكْثَرَ طَعَامًا وَوَدَكًا مِنْهُ. فَلَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حُصُونِهِمْ مَا افْتَتَحَ، وَحَازَ مِنَ الأَمْوَالِ مَا حَازَ، انْتَهَوْا إِلَى حِصْنَيْهِمُ الْوَطِيحِ وَالسُّلالِمِ، وَكَانَا آخِرَ حُصُونِ خَيْبَرَ افْتِتَاحًا، فَحَاصَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
-ذكر صفية.
وقال البكّائي، عن ابن إسحاق قال: وتدنى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأموال، يأخذها مالًا مالًا، ويفتحها حصنًا حصنًا. فكان أول حصونهم افتتح حصن ناعم، وعنده قُتِل محمود بْن مَسْلَمَة الأنصاريّ أخو مُحَمَّد، ألقيت عَلَيْهِ رَحَى فقتلته. ثُمَّ القَمُوص؛ حصن ابن أَبِي الحُقَيْق. وأصاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم سبايا، منهنّ صفيَّة بِنْت حُيَيّ بْن أخطب، وبنتا عمّ لَهَا، فأعطاهما دِحْيةَ الكلبي.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حدثني ابن لمحمد بْنِ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيُّ عَمَّنْ أَدْرَكَ مِنْ أَهْلِهِ، وَحَدَّثَنِيهِ مِكْنَفٌ، قَالا: حَاصَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ خَيْبَرَ فِي حِصْنَيْهِمُ الْوَطِيحِ وَالسُّلالِمِ، حَتَّى إِذَا أَيْقَنُوا بِالْهَلَكَةِ، سَأَلوُا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُسَيِّرَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ، فَفَعَلَ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حَازَ الأَمْوَالَ كُلَّهَا: الشَّقَّ وَالنَّطَّاةَ وَالْكُتَيْبَةَ وَجَمِيعَ حُصُونِهِمْ، إِلا مَا كَانَ فِي ذَيْنِكَ الْحِصْنَيْنِ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ أَهْلُ فَدَكٍ قَدْ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا، بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ وَيَحْقِنَ دِمَاءَهُمْ، وَيُخْلُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الأَمْوَالِ، فَفَعَلَ. فَكَانَ مِمَّنْ مَشَى بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهم، في ذلك، محيصة ابن مَسْعُودٍ. فَلَمَّا نَزَلُوا عَلَى ذَلِكَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَامِلَهُمْ على الأَمْوَالِ عَلَى النِّصْفِ، وَقَالُوا: نَحْنُ أَعْلَمُ بِهَا مِنْكُمْ وَأَعْمَرُ لَهَا. فَصَالَحَهُمْ عَلَى النِّصْفِ، عَلَى أَنَّا إِذَا شِئْنَا أَنْ نُخْرِجَكُمْ أَخْرَجْنَاكُمْ. وَصَالَحَهُ(1/282)
أَهْلُ فَدَكٍ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ. فَكَانَتْ أَمْوَالُ خَيْبَرَ فَيْئًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَتْ فَدَكٌ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يُجْلَبُوا عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلا رِكَابٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ ثَابِتٍ. وَعَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ قَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى الذَّرِارِيَّ، فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، ثُمَّ صَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَالُ صَفِيَّةَ، وَكَانَتْ عَرُوسًا وَقُتِلَ زَوْجُهَا، فَاصْطَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ. فَلَمَّا كُنَّا بِسَدِّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ، فَبَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاتَّخَذَ حَيْسًا فِي نِطْعٍ صَغِيرٍ، وَكَانَتْ وَلِيمَتَهُ. فَرَأَيْتُهُ يُحَوِّي لَهَا بِعَبَاءَةٍ خَلْفَهُ، وَيَجْلِسُ عِنْدَ نَاقَتِهِ، فَيَضَعُ رُكْبَتَهُ فَتَجِيءُ صَفِيَّةُ فَتَضَعُ رِجْلَهَا عَلَى رُكْبَتِهِ ثُمَّ تَرْكَبُ. فَلَمَّا بَدَا لَنَا أُحد قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا، وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: أَخْبَرَنِي حُمَيْدٌ، سَمِعَ أَنَسًا قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ خَيْبَرَ وَالْمَدِينَةِ ثَلاثَ لَيَالٍ يَبْنِي عَلَيْهِ بِصَفِيَّةَ. فَدَعَوْتُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى وَلِيمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَا كَانَ فِيهَا مِنْ خُبْزٍ وَلا لحم، وما كان إلا أن أمر بِالأَنْطَاعِ فَبُسِطَتْ، وَأُلْقِيَ عَلَيْهَا التَّمْرُ وَالأَقِطُ وَالسَّمْنُ. فقال المسلمون: إحدى أمهات المؤمنين هي أو مما ملكت يمينه؟ قالوا: إن حجبها فهي إِحْدَى أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُبْهَا فَهِيَ مما ملكت يمينه.(1/283)
فَلَمَّا ارْتَحَلَ وَطَّأَ لَهَا خَلْفَهُ، وَمَدَّ الْحِجَابَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَمَّادُ بن سلمة: حدثنا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ - فِيمَا أَحْسَبُ - عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَاتَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ حَتَّى أَلْجَأَهُمْ إِلَى قَصْرِهِمْ، فَغَلَبَ عَلَى الأَرْضِ وَالزَّرْعِ وَالنَّخْلِ، فَصَالَحُوهُ عَلَى أَنْ يَجْلُوا مِنْهَا، وَلَهُمْ مَا حَمَلَتْ رِكَابُهُمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ، وَيَخْرُجُونَ مِنْهَا.
واشترط عليهم أن لا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فَلا ذِمَّةَ لَهُمْ وَلا عَهْدَ. فَغَيَّبُوا مَسْكًا فِيهِ مَالٌ وَحُلًى لِحُيَيِّ بْنُ أَخْطَبَ، كَانَ احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النَّضِيرِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمِّ حُيَيٍّ: مَا فَعَلَ مَسْكُ حُيَيٍّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنَ النَّضِيرِ؟ قَالَ: أَذْهَبَتْهُ النَّفَقَاتُ وَالْحُرُوبُ. فَقَالَ: الْعَهْدُ قَرِيبٌ وَالْمَالُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ. فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الزُّبَيْرِ، فَمَسَّهُ بِعَذَابٍ. وَقَدْ كَانَ حُيَيٌّ قَبْلَ ذَلِكَ دَخَلَ خَرَبَةً، فَقَالَ عَمُّهُ: قَدْ رَأَيْتَ حُيَيًّا يَطُوفُ فِي خَرَبَةٍ هاهنا: فَذَهَبُوا فَطَافُوا. فَوَجَدُوا الْمَسْكَ فِي الْخَرَبَةِ. فَقَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنَيْ حُقَيْقٍ، وَأَحَدُهُمَا زَوْجُ صَفِيَّةَ. وَسَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ، وَقَسَّمَ أَمْوَالَهُمْ بِالنَّكْثِ الَّذِي نَكَثُوا.
وَأَرَادَ أَنْ يُجْلِيَهُمْ مِنْهَا. فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، دَعْنَا نَكُونُ فِي هَذِهِ الأَرْضِ نُصْلِحُهَا وَنَقُومُ عَلَيْهَا. وَلَمْ يَكُنْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلا لأصحابه غلمان يَقُومُونَ عَلَيْهَا، فَأَعْطَاهُمْ عَلَى النِّصْفِ مَا بَدَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ يَأْتِيهِمْ كُلَّ عَامٍ فَيَخْرُصُهَا عَلَيْهِمْ ثُمَّ يُضَمِّنُهُمُ الشَّطْرَ. فَشَكَوْا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِدَّةَ خَرْصِهِ، وَأَرَادُوا أَنْ يَرْشُوهُ فَقَالَ: يَا أَعْدَاءَ اللَّهِ تُطْعِمُونِّي السُّحْتَ؟ وَاللَّهِ لَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَلأَنْتُمْ أَبْغَضُ إِلَيَّ مِنْ عِدَّتِكُمْ مِنَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، وَلا يَحْمِلُنِي بُغْضِي إِيَّاكُمْ وَحُبِّي إِيَّاهُ عَلَى أَنْ لا أعدل عليكم. فقالوا: بهذا قامت السماوات وَالأَرْضُ.
قَالَ: وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَيْنِ صَفِيَّةَ خُضْرَةً، فَقَالَ: مَا هَذِهِ؟ قَالَتْ: كَانَ رَأْسِي فِي حِجْرِ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ وَأَنَا نَائِمَةٌ، فَرَأَيْتُ كَأَنَّ قَمَرًا وقع في(1/284)
حِجْرِي فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ، فَلَطَمَنِي وَقَالَ: تَمَنِّينَ مَلِكَ يَثْرِبَ؟ قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ، قَتَلَ أَبِي وَزَوْجِي. فَمَا زَالَ يَعْتَذِرُ إِلَيَّ وَيَقُولُ: إِنَّ أَبَاكِ أَلَّبَ الْعَرَبَ عَلَيَّ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، حَتَّى ذَهَبَ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِي.
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي كُلَّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ ثَمَانِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرِ كل عام، وعشرين وسقا من شعير.
فلما كان زمن عُمَرَ غَشُّوا الْمُسْلِمِينَ، وَأَلْقَوُا ابْنَ عُمَرَ مِنْ فَوْقِ بَيْتٍ، فَفَدِعُوا يَدَيْهِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ كَانَ لَهُ سَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَلْيَحْضُرْ، حَتَّى قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ. وَقَالَ رَئِيسُهُمْ: لا تُخْرِجْنَا، دَعْنَا نَكُونُ فِيهَا كَمَا أَقَرَّنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَبُو بَكْرٍ. فَقَالَ لَهُ: أَتُرَاهُ سَقَطَ عَنِّي قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ بِكَ إذا رقصت بك راحلتك تخوم الشام يوما ثم يَوْمًا ثُمَّ يَوْمًا. وَقَسَّمَهَا عُمَرُ بَيْنَ مَنْ كَانَ شَهِدَ خَيْبَرَ مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ.
اسْتَشْهَدَ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِهِ، فَقَالَ: وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْمَرَّارُ بْنُ حمويه: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمَّا فُدِعْتُ بِخَيْبَرَ قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَلَ يَهُودَ خيَبْرَ عَلَى أَمْوَالِهَا، وَقَالَ: نُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ، وَإِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ خَرَجَ إِلَى خَيْبَرَ مَالُهُ هُنَاكَ، فَعُدِيَ عَلَيْهِ مِنَ اللَّيْلِ فَفُدِعَتْ يَدَاهُ، وَلَيْسَ لَنَا هُنَاكَ عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ، وَهُمْ تُهْمَتُنَا، وَقَدْ رَأَيْتُ إِجْلاءَهُمْ. فَلَمَّا أَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَتَاهُ أَحَدُ بَنِي أَبِي الْحُقَيْقِ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، تُخْرِجُنَا وَقَدْ أَقَرَّنَا مُحَمَّدٌ وَعَامِلُنَا؟ فَقَالَ: أَظَنَنْتَ أَنِّي نَسِيتُ قول رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ بِكَ إِذَا أُخْرِجْتَ مِنْ خَيْبَرَ تَعْدُو بك قَلُوصُكَ لَيْلَةً بَعْدَ لَيْلَةٍ. فَأَجْلاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ مَا لَهُمْ مِنَ الثَّمَرِ مَالا وَإِبِلا وَعَرُوضًا مِنْ أَقْتَابٍ وَحِبَالٍ وَغَيْرَ ذَلِكَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ.(1/285)
وَقَالَ ابْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ رِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى خَيْبَرَ قَسَّمَهَا عَلَى سِتَّةٍ وَثَلاثِينَ سَهْمًا، جَمَعَ كُلَّ سَهْمٍ مِائَةَ سَهْمٍ، فَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ، وَعَزَلَ النِّصْفَ الْبَاقِي لِمَنْ نَزَلَ بِهِ مِنَ الْوُفُودِ وَالأُمُورِ وَنَوَائِبِ الناس. أخرجه أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ خَيْبَرَ سِتَّةً وَثَلاثِينَ سَهْمًا، فَعَزَلَ لِلْمُسْلِمِينَ ثمانية عشر سهما، يجمع كُلَّ سَهْمٍ مِائَةً، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَهُمْ وَلَهُ سَهْمٌ كَسَهْمِ أَحَدِهِمْ. وَعَزَلَ النِّصْفَ لِنَوَائِبِهِ وَمَا يَنْزِلُ بِهِ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَكَانَ ذَلِكَ الْوَطِيحَ وَالسُّلالِمَ وَالْكُتَيْبَةَ وَتَوَابِعَهَا، فَلَمَّا صَارَتِ الأَمْوَالُ بِيَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عُمَّالٌ يَكْفُونَهُمْ عَمَلَهَا، فَدَعَا الْيَهُودُ فَعَامَلَهُمْ.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ رحمه الله: وَهَذَا لأَنَّ بَعْضَ خَيْبَرَ فُتِحَ عَنْوَةً، وَبَعْضَهَا صُلْحًا. فَقَسَّمَ مَا فُتِحَ عَنْوةً بَيْنَ أَهْلِ الْخُمْسِ وَالْغَانِمِينَ، وَعَزَلَ مَا فُتِحَ صُلْحًا لِنَوَائِبِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ عبد الرزاق أخبرنا معمر، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ خَيْبَرَ يَوْمَ أَشْرَكَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ وَنَخْلٌ فَكَانَ يُقَسِّمُ لِنِسَائِهِ كُلَّ سَنَةٍ لكل واحدة منهن مائة وسق تمر، وعشرين وسق شعير لِكُلِّ امْرَأَةٍ.
رَوَاهُ الذُّهْلِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، فَأَسْقَطَ مِنْهُ: ابْنَ عُمَرَ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: قال يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ لِمِائَتَيْ فَرَسٍ يَوْمَ خَيْبَرَ سَهْمَيْنِ سَهْمَيْنِ.(1/286)
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ، وَقَالَ لِي يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، وَصَالِحِ بْنِ كيسان مثل ذلك.
وقال ابن عيينة: حدثنا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ قَالَ: كَانُوا يَوْمَ خَيْبَرَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ، وَكَانَتِ الْخَيْلِ مِائَتَيْ فَرَسٍ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، أَخْبَرَنِي الزُّهْرِيُّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: لَمَّا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ خَيْبَرَ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، مَشَيْتُ أَنَا وَعُثْمَانُ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَؤُلاءِ إِخْوَتُكَ بَنُو هَاشِمٍ لا ننكر فَضْلُهُمْ لِمَكَانِكَ الَّذِي جَعَلَكَ اللَّهُ بِهِ مِنْهُمْ. أرأيت إخوتنا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكْتَنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وهم بمنزل واحد مِنْكَ. فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونَا فِي جَاهِلِيَّةٍ ولا إسلام، إنّما بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ شَيْءٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ شَبَّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يديه إحداهما في الأخرى.
استشهد به البخاري.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلالٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ قَالَ: دُلِّيَ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ يَوْمَ خَيْبَرَ فَالْتَزَمْتُهُ، وَقُلْتُ: هَذَا لا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا. فَالْتَفَتُّ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَسَّمُ، فَاسْتَحْيَيْتُ منه. متفق عليه.
وقال أبو معاوية: حدثنا أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُجَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ: قُلْتُ أَكُنْتُمْ تُخَمِّسُونَ الطَّعَامَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: أَصَبْنَا طَعَامًا يَوْمَ خَيْبَرَ فَكَانَ الرَّجُلُ يَجِيءُ فَيَأْخُذُ مِنْهُ مِقْدَارَ مَا يَكْفِيهِ ثُمَّ يَنْصَرِفُ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.(1/287)
وَقَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ - أَوْ عَنْ أَبِي قِلابَةَ - قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خيبر قدم والتمرة خَضِرَةً، فَأَشْرَعَ النَّاسُ فِيهَا فَحُمُّوا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَيْهِ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَرِّسُوا الْمَاءَ فِي الشِّنَانِ، ثُمَّ يَحْدُرُونَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ أَذَانَيِ الْفَجْرِ، وَيَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ، قَالَ: فَفَعَلُوا فَكَأَنَّمَا نَشِطُوا مِنْ عَقْلٍ.
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ، حَدَّثَنِي عُمَيْرٌ مَوْلَى أَبِي اللَّحْمِ، قَالَ: شَهِدْتُ خَيْبَرَ، مَعَ سَادَتِي، فَكَلَّمُوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِي فَقُلِّدْتُ سَيْفًا، فَإِذَا أَنَا أَجُرُّهُ، فَأُخْبِرَ أَنِّي مَمْلُوكٌ، فَأَمَرَ لِي بِشَيْءٍ مِنْ خرثي المتاع. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
-ذِكْرُ من استشهد عَلَى خيبر.
عَلَى ما ذكر ابن إِسْحَاق؛ قَالَ:
من حلفاء بني أُميَّة: ربيعة بْن أكثم. وثقف بْن عَمْرو. ورِفاعة بْن مسروح.
ومن بني أسد بْن عَبْد العُزَّى: عَبْد الله بن الهبيب.
ومن الأنصار:
فُضَيْل بْن النُّعمان السَّلمي، ومسعود بْن سعد الزُّرَقي. وأبو الضَّيَّاح بْن ثابت، أحد بني عَمْرو بْن عَوْف. والحارث بْن حاطب، وعُرْوة بْن مُرّة. وأوس بن القائف. وأنيف بْن حبيب. وثابت بْن أثلة. وطلحة. وعمارة بْن عُقبة الغِفَاريّ.
وقد تقدّم: عامر بن الأكوع. ومحمود بن مسلمة. والأسود الراعي.(1/288)
وزاد عَبْد الملك بْن هشام، فقال: مَسْعُود بْن ربيعة، حليف بني زُهرة، وأوس بْن قَتَادَة الأنصاريّ.
وزاد بعضهم فقال: ومبشّر بْن عَبْد المنذر، وأبو سُفْيَان بْن الحارث وليس بالهاشمي، والله أعلم.
-قدوم جَعْفَر بْن أَبِي طَالِب ومَن معه:
البخاري، ومسلم قالا: حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، قال: حَدَّثَنِي بُرَيْدٌ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ قَالَ: بَلَغَنَا مَخْرَجُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ بِالْيَمَنِ، فَخَرَجْنَا مُهَاجِرِينَ إِلَيْهِ، أَنَا وَأَخَوَانٌ لِي أَنَا أَصْغَرُهُمُ، أَحَدُهُمَا أَبُو رُهْمٍ، وَالآخَرُ أَبُو بُرْدَةَ، إِمَّا قَالَ: بِضعٌ، وَإِمَّا قَالَ: فِي ثَلاثَةٍ، أَوِ اثنين وخمسين رجلا من قومي. فركبنا سفينة، فألقتنا سَفِينَتَنَا إِلَى النَّجَاشِيِّ بِالْحَبَشَةِ. فَوَافَقْنَا جَعْفَرَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ. فَقَالَ جَعْفَرٌ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثنا وَأَمَرَنَا؛ يَعْنِي بِالإِقَامَةِ؛ فَأَقِيمُوا مَعَنَا، فَأَقَمْنَا مَعَهُ، حَتَّى قَدِمْنَا جَمِيعًا، فَوَافَقْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ فَتَحَ خَيْبَرَ. فَأَسْهَمَ لَنَا، وَمَا قَسَمَ لأَحَدٍ غَابَ عَنْ فَتْحِ خَيْبَرَ شَيْئًا إِلا لِمَنْ شَهِدَ مَعَهُ، إِلا أَصْحَابَ سَفِينَتِنَا، مَعَ جَعْفَرٍ وَأَصْحَابِهِ، قَسَمَ لَهُمْ مَعَهُمْ.
قَالَ: فَكَانَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ يَقُولُونَ لَنَا: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ.
قَالَ: وَدَخَلَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عميس؛ وهي ممن قدمت مَعَنَا؛ عَلَى حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَائِرَةً، وَقَدْ كَانَتْ هَاجَرَتْ إِلَى النَّجَاشِيِّ. فَدَخَلَ عُمَرُ عَلَى حَفْصَةَ وَأَسْمَاءُ عِنْدَهَا، فَقَالَ عُمَرُ حِينَ رَأَى أَسْمَاءَ: مَنْ هَذِهِ؟ فقالت: أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ. قَالَ عُمَرُ: آلْحَبَشِيَّةُ هَذِهِ؟ آلْبَحْرِيَّةُ هَذِهِ؟ فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: سَبَقْنَاكُمْ بِالْهِجْرَةِ، نَحْنُ أَحَقُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم فغضبت، فقالت كلمة: يَا عُمَرُ، كَلا وَاللَّهِ، كُنْتُمْ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْعِمُ جَائِعَكُمْ(1/289)
وَيَعِظُ جَاهِلَكُمْ، وَكُنَّا فِي دَارِ - أَوْ أَرْضِ - الْبُعَدَاءِ، أَوِ الْبُغَضَاءِ، بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ فِي اللَّهِ وَفِي رَسُولِهِ. وَايْمُ اللَّهِ لا أَطْعَمُ طَعَامًا وَلا أَشْرَبُ شَرَابًا حَتَّى أَذْكُرَ مَا قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَحْنُ كُنَّا نُؤْذَى وَنَخَافُ وَسَأَذْكُرُ لَهُ ذَلِكَ وَأَسْأَلُهُ. فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، إِنَّ عُمَرَ قَالَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: " لَيْسَ بِأَحَقَّ بِي مِنْكُمْ، لَهُ وَلأَصْحَابِهِ هِجْرَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَكُمْ أَنْتُمْ - أَهْلَ السَّفِينَةِ - هِجْرَتَانِ ". قَالَتْ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أبا موسى وأصحاب السفينة يأتوني أرسالا، يسألونني عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ، مَا مِنَ الدُّنْيَا شَيْءٌ هُمْ بِهِ أَفْرَحُ وَلا أَعْظَمُ فِي أَنْفُسِهِمْ مِمَّا قَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَتْ أَسْمَاءُ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ أَبَا مُوسَى وَإِنَّهُ لَيَسْتَعِيدُ هَذَا الْحَدِيثَ مِنِّي. وَقَالَ: لَكُمُ الْهِجْرَةُ مَرَّتَيْنِ، هَاجَرْتُمْ إِلَى النَّجَاشِيِّ وَهَاجَرْتُمْ إِلَيَّ.
وَقَالَ أَجْلَحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنَ الْحَبَشَةِ تَلَقَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَّلَ جَبْهَتَهُ، ثُمَّ قَالَ: " والله ما أدري بِأَيِّهِمَا أَفْرَحُ، بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَمْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ ". وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَنْ أَجْلَحَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ جابر.
وقال ابن عيينة: حدثنا الزهري، أنه سمع عنبسة بن سعيد القرشي يحدث عن أبي هريرة، قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ حِينَ افْتَتَحَهَا، فَسَأَلْتُهُ أَنْ يُسْهِمَ لِي. فَتَكَلَّمَ بَعْضُ وَلَدِ سَعِيدِ بْنِ العاص فقال: لا تسهم لَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقُلْتُ: هَذَا قَاتِلُ ابْنِ قَوْقَلٍ. فَقَالَ، أَظُنُّهُ ابْنَ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: يَا عَجَبِي لِوَبْرٍ قَدْ تَدَلَّى عَلَيْنَا مِنْ قُدُومِ ضَالٍّ يُعَيِّرُنِي بِقَتْلِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَلَى يَدِي، وَلَمْ يُهِنِّي عَلَى يديه.
هذا لفظ أبي داود، وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، لَكِنْ قَالَ: مِنْ قُدُومِ ضَأْنٍ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنِ الزُّبَيْدِيِّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عَنْبَسَةُ بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُخْبِرُ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ(1/290)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ قِبَل نَجْدٍ، فَقَدِمَ أَبَانُ وَأَصْحَابُهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر بَعْدَ فَتْحِهَا، وَإِنَّ حُزُمَ خَيْلِهِمْ لَلِيفٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَقْسِمْ لَهُمْ. فَقَالَ أبان: وأنت بِهَذَا يَا وَبْرُ تَحَدَّرُ مِنْ رَأْسِ ضَالٍّ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَانُ، اجْلِسْ. فَلَمْ يَقْسِمْ لَهُمْ.
عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، فَقَالَ: وَيُذْكَرُ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: كانت بنو فزارة ممن قدم على أهل خيبر ليُعِيُنوهم. فراسلهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ لا يعينوهم، وسألهم أن يخرجوا عَنْهُمْ، ولكم من خيبر كذا وكذا. فأَبَوا عَلَيْهِ. فلما فتح الله خيبرَ، أتاه من كَانَ هنالك من بني فزارة، قالوا: حظَّنا الَّذِي وعدْتنا. فقال: حظّكم؛ أو قَالَ: لكم ذو الرقيبة - لجبل من جبال خيبر - قَالُوا: إذًا نقاتلك. فقال: " موعدكم جَنَفَاء ". فلما سمعوا ذَلِكَ هربوا. جنفاء: ماء من مياه بني فزارة.
وقال البخاري، حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بْن أَبِي عُبَيْد قَالَ: رَأَيْت أثر ضربة فِي ساق سَلَمَةَ فقلت: يا أَبَا مُسْلِم، ما هذه الضربة؟ فقال: هذه ضربة أصابتني يومَ خيبر، فقال النّاس: أصيب سَلَمَةَ، فأتيت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَثَ فيه ثلاث نَفَثَاتٍ، فما اشتكيتُها حتى السّاعة.
وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَقَى هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مغازيه، فاقتتلوا. فمال كل قوم إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ لِلْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلا اتَّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَا إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ ". فَقَالُوا: أينا من أهل الجنة إن كان هذا مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ لَا يَمُوتُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ أَبَدًا، فَاتَّبَعَهُ حَتَّى جُرِحَ، فَاشْتَدَّتْ جِرَاحَتُهُ وَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ، فَوَضَعَ سَيْفَهُ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ، ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَجَاءَ الرَّجُلُ(1/291)
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: " وَمَا ذَاكَ "؟ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَنَّ الرَّجُلَ لِيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّهُ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لِمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، فَقَالَ لِرَجُلٍ؛ - يَعْنِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ. فَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ قَاتَلَ الرَّجُلُ. فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ.
وَقَالَ يَحْيَى الْقَطَّانُ وَغَيْرُهُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ، عَنْ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ. فَتَغَيَّرَتْ وُجُوهُهُمْ: فَقَالَ: إِنَّ صَاحِبَكُمْ غَلَّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. فَفَتَّشْنَا متاعه، فوجدنا خرزا من خرز اليهود لا يُسَاوِي دِرْهَمَيْنِ.
-شَأْنُ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ.
وَقَالَ لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ خَيْبَرُ أُهْدِيَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةٌ فِيهَا سُمٌّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اجمعوا من كان ها هنا مِنَ الْيَهُودِ ". فَجَمَعُوا لَهُ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنِّي سَائِلُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَهَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْهُ "؟ قَالُوا: نعَمَ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَبُوكُمْ "؟ قَالُوا: أَبُونَا فُلانٌ. قَالَ: " كَذَبْتُمْ، بَلْ أَبُوكُمْ فُلانٌ "، قَالُوا: صَدَقْتَ وَبَرِرْتَ. قَالَ لَهُمْ: " هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ عَنْ شَيْءٍ إِنْ سَأَلْتُكُمْ عَنْهُ "؟ قَالُوا: نَعَمْ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَذَبْنَاكَ عَرَفْتَ كَذِبَنَا كَمَا عَرَفْتَهُ فِي آبَائِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " مِنَ أَهْلُ النَّارِ "؟ فَقَالُوا: نَكُونُ فِيهَا يَسِيرًا ثُمَّ(1/292)
تَخْلُفُونَنَا فِيهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: " اخسؤوا فيها، فوالله لا نخلفكم فِيهَا أبدًا "، ثُمَّ قَالَ: هَلْ أَنْتُمْ صَادِقِيَّ؟ قالوا: نعم. قال: " أجعلتم في هذه الشاة سما "؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: " فَمَا حَمَلَكُمْ عَلَى ذَلِكَ "؟ قَالُوا: أَرَدْنَا إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أَنْ نَسْتَرِيحَ مِنْكَ، وَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ. أَخْرَجَهُ البخاري.
وقال خالد بن الحارث: حدثنا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ يَهُودِيَّةَ أَتَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، قَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ. فَقَالَ: " مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَلِكَ ". أَوْ قَالَ: " عَلَيَّ "، قَالُوا: أَلَا نَقْتُلُهَا. قَالَ: " لَا ". فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عليه من حَدِيثِ خَالِدٍ.
وَقَالَ عَبَّادُ بْنُ الْعَوَّامِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ؛ أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْيَهُودِ أَهْدَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَسْمُومَةً، فَقَالَ: " أمسكوا فإنها مسمومة "، وقال: " ما حَمَلَكِ عَلَى مَا صَنَعْتِ "؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ أَنْ أَعْلَمَ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَسَيُطْلِعُكَ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا أُرِيحُ النَّاسَ مِنْكَ. قَالَ: فَمَا عَرَضَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَرُوِيَ عَنْ جَابِرٍ نَحْوَهُ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، أَنَّ يَهُودِيَّةً أَهْدَتْ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاةً مَصْلِيَّةً بِخَيْبَرَ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، ثم قال: " أمسكوا ". وقال لها: " هل سميت هَذِهِ الشَّاةَ "؟ قَالَتْ: مَنْ أَخْبَرَكَ؟ قَالَ: " هَذَا الْعَظْمُ ". قَالَتْ: نَعَمْ. فَاحْتَجَمَ عَلَى الْكَاهِلِ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَاحْتَجَمُوا، فَمَاتَ بَعْضُهُمْ.(1/293)
قال الزهري: فأسلمت، فتركها.
وقال أبو داود في سننه: حدثنا سليمان المهري، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: كَانَ جَابِرٌ يُحَدِّثُ أَنَّ يَهُودِيَّةً سَمَّتْ شَاةً أَهْدَتْهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. . . الْحَدِيثَ.
وَقَالَ خالد الطَّحَّانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَتْ لَهُ يَهُودِيَّةٌ بِخَيْبَرَ شَاةً، نَحْوَ حَدِيثِ جَابِرٍ. قَالَ: فَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنِ مَعْرُورٍ، وَأَمَرَ بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقُتِلَتْ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْهَا أَوَّلا، ثُمَّ لَمَّا مَاتَ بِشْرٌ قَتَلَهَا.
وَبِشْرٌ شَهِدَ العقبة وبدرا، وأبوه فأحد النُّقَبَاءِ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. وَهُوَ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا بَنِي سَلَمَةَ، مَنْ سَيِّدُكُمْ "؟ قَالُوا: الْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ، عَلَى بُخْلٍ فِيهِ. فَقَالَ: " وَأَيُّ دَاءٍ أَدْوَى مِنَ الْبُخْلِ؟ بَلْ سَيِّدُكُمُ الأَبْيَضُ الْجَعْدُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ ".
وقال موسى بْن عُقْبة، وابن شهاب، وعُرْوة، والَّلفظ لموسى قَالُوا: لما فُتحت خيبر أهدت زينبُ بِنْت الحارث اليهودية - وهي ابْنَة أخي مَرْحَب - لصفية شاةً مَصْلِيَّةً وَسَمَّتْها وأكثرت فِي الذَّراع، لأنّه بَلَغَها أنّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبّ الذراع. وذكر الحديث.
وعن عُرْوة، وموسى بْن عُقْبة قالا: كَانَ بين قريش حين سمعوا بخروج رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خيبر تراهنٌ وتبايع، منهم من يَقْولُ: يظهر مُحَمَّد ومنهم من يَقْولُ: يظهر الحليفان ويهود خيبر. وكان الحَجَّاج بْن عِلاط السُّلمي البَهْزي قد أسلم وشهد فتح خيبر، وكانت تحته أمّ شَيْبة العَبْدَرية، وكان الحَجَّاج ذا مالٍ، وله معادن من أرض بني سُلَيْم. فلما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم عَلَى خيبر، قَالَ الحَجَّاج: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنّ لي ذَهَبًا عند امرأتي،(1/294)
وإنْ تعلَمْ هِيَ وأهلُها بإسلامي فلا مال لي، فائذنْ لي فأُسْرِعُ السيرَ ولا يسبق الخبر.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْرٍ - وَاللَّفْظُ لَهُ - وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، سَمِعْتُ ثَابِتًا الْبُنَانِيَّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، قَالَ الْحَجَّاجُ بْنُ عِلاطٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِي بِمَكَّةَ مَالا، وَإِنَّ لِي بِهَا أَهْلا أُرِيدُ إتيانهم، فأنا في حلٍ إن أنا نلت منك، فقلت شَيْئًا؟ فَأَذِن لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ لامْرَأَتِهِ، وَقَالَ لَهَا: أَخْفِي عَلَيَّ وَاجْمَعِي مَا كَانَ عِنْدَكِ لِي، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشْتَرِيَ مِنْ غَنَائِمِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَإِنَّهُمْ قَدِ اسْتُبِيحُوا وَأُصِيبَتْ أَمْوَالُهُمْ. فَفَشَا ذَلِكَ بِمَكَّةَ، وَاشْتَدَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَبَلَغَ مِنْهُمْ. وَأَظْهَرَ الْمُشْرِكُونَ فَرَحًا وَسُرُورًا. فَبَلَغَ الْعَبَّاسَ الْخَبَرُ فَعُقِرَ وَجَعَلَ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ.
قَالَ مَعْمَرٌ: فأخبرني عثمان الجريري، عَنْ مِقْسَمٍ قَالَ: فَأَخَذَ الْعَبَّاسُ ابْنًا لَهُ يُقَالُ لَهُ: قُثَمُ وَاسْتَلْقَى وَوَضَعَهُ عَلَى صَدْرِهِ وهو يقول:
حي قثم ** شبيه ذِي الأَنْفِ الأَشَمْ
فَتًى ذِي النَّعَمِ ** بِرَغْمِ مَنْ رَغِمْ
قَالَ مَعْمَرٌ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: فَأَرْسَلَ الْعَبَّاسُ غُلامًا لَهُ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ: وَيْلَكَ، مَا جِئْتَ بِهِ وَمَا تَقُولُ؟ وَالَّذِي وَعَدَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتَ بِهِ. قَالَ الْحَجَّاجُ: يَا غُلامُ أَقْرِئْ أَبَا الْفَضْلِ السَّلامَ، وَقُلْ لَهُ: فَلْيُخْلِ لِي فِي بَعْضِ بُيُوتِهِ فَآتِيهِ، فَإِنَّ الأَمْرَ عَلَى مَا يَسُرُّهُ. فَلَمَّا بَلَغَ الْعَبْدُ بَابَ الدَّارِ، قَالَ: أَبْشِرْ يَا أَبَا الْفَضْلِ. فَوَثَبَ الْعَبَّاسُ فَرَحًا حَتَّى قَبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَأَعْتَقَهُ، ثُمَّ جَاءَ الْحَجَّاجُ فَأَخْبَرَهُ بِافْتِتَاحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ، وَغَنْمِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصطفى صفية، ولكن جئت لمالي، وأني استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم فأذن لي، فأخف عَلَيَّ يَا أَبَا الْفَضْلِ ثَلاثًا، ثُمَّ اذْكُرْ مَا شِئْتَ. قَالَ: وَجَمَعَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ مَتَاعَهُ، ثم انشمر، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ثَلاثٍ، أَتَى الْعَبَّاسُ امْرَأَةَ الْحَجَّاجِ فَقَالَ: مَا فَعَلَ زَوْجُكِ؟ قَالَتْ: ذَهَبَ، لا يُحْزِنُكَ اللَّهُ يَا أَبَا الْفَضْلِ لَقَدْ شَقَّ عَلَيْنَا الَّذِي(1/295)
بلغك. فقال: أجل، لا يحزنني اللَّهُ، وَلَمْ يَكُنْ بِحَمْدِ اللَّهِ إِلا مَا أُحِبُّ؛ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، وَجَرَتْ سِهَامُ اللَّهِ فِي خَيْبَرَ، وَاصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ كَانَ لك في زوجك حاجة فَالْحَقِي بِهِ. قَالَتْ: أَظُنُّكَ وَاللَّهِ صَادِقًا. ثُمَّ أَتَى مَجَالِسَ قُرَيْشٍ وَحَدَّثَهُمْ. فَرَدَّ اللَّهُ مَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ كَآبَةٍ وَجَزَعٍ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
-غزوة وادي القرى
مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ خَيْبَرَ، فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا وَرَقًا، إِلَّا الثِّيَابَ وَالْمَتَاعَ. فَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَ وَادِي الْقُرَى. وَقَدْ أُهْدِيَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم عبد أسود يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ. حَتَّى إِذَا كَانُوا بِوَادِي القرى، بينما مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ جَاءَ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كلا، والذي نفسي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نَارًا ". فَلَمَّا سَمِعُوا بِذَلِكَ، جَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ عليه السلام: " شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ قَالَ: شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ " مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ خَيْبَرَ إِلَى وَادِي الْقُرَى. وَكَانَ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ الْجُذَامِيُّ قَدْ وَهَبَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مِدْعَمٌ. فَلَمَّا نَزَلْنَا بِوَادِي الْقُرَى، انْتَهَيْنَا إِلَى يَهُودَ وَقَدْ ثَوَى إِلَيْهَا نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ. فَبَيْنَمَا مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدِ اسْتَقْبَلَنَا يَهُودُ بِالرَّمْيِ حَيْثُ نَزَلْنَا. وَلَمْ نَكُنْ عَلَى تَعْبِئَةٍ، وَهُمْ يصيحون في آطامهم، فَيُقْبِلُ سَهْمٌ عَائِرٌ، فَأَصَابَ مِدْعَمًا فَقَتَلَهُ. فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةَ. فَقَالَ النَّبِيُّ(1/296)
صلى الله عليه وسلم: " كلا، والذي نفسي بِيَدِهِ، إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أَخَذَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ من الغنائم لم تصبها المقاسم لتشتعل عليه نَارًا ". فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النَّاسُ، جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ، فَقَالَ: " شِراكٌ، أَوْ شِرَاكَانِ، مِنْ نَارٍ ". فَعَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ لِلْقِتَالِ وَصَفَّهُمْ، وَدَفَعَ لِوَاءَهُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، وَدَفَعَ رَايَةً إِلَى الْحُبَابِ بْنِ الْمُنْذِرِ، وَرَايَةً إِلَى سَهْلِ بْنِ حَنِيفٍ، وَرَايَةً إِلَى عَبَّادِ بْنِ بِشْرٍ، ثُمَّ دَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ إِنْ أَسْلَمُوا أَحْرَزُوا أَمْوَالَهُمْ وَحَقَنُوا دِمَاءَهُمْ، فَبَرَزَ رَجُلٌ، فَبَرَزَ له الزُّبَيْرُ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ آخَرُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ بَرَزَ آخَرُ، فَبَرَزَ إِلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ فَقَتَلَهُ، حَتَّى قُتِلَ مِنْهُمْ أَحَدَ عَشَرَ رَجُلا ثُمَّ أُعْطُوا مِنَ الْغَدِ بِأَيْدِيهِمْ. وَفَتَحَهَا اللَّهُ عَنْوَةً.
وَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَادِي الْقُرَى أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ. فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ تَيْمَاءَ صَالَحُوا عَلَى الْجِزْيَةِ. فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ، أَخْرَجَ يَهُودَ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ، وَلَمْ يُخْرِجْ أَهْلَ تَيْمَاءَ وَوَادِي الْقُرَى لأَنَّهُمَا دَاخِلَتَانِ فِي أَرْضِ الشَّامِ؛ وَيَرَى أَنَّ مَا دُونَ وَادِي الْقُرَى إِلَى الْمَدِينَةِ حِجَازٌ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الشَّامِ.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، فَسَارَ لَيْلَهُ حَتَّى إِذَا أَدْرَكْنَا الْكَرَى عَرَّسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ لِبِلَالٍ: اكْلَأْ لَنَا اللَّيْلَ فَغَلَبَتْ بِلَالًا عَيْنَاهُ فَلَمْ يَسْتَيْقِظِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا بِلَالٌ إِلَّا بِحَرِّ الشَّمْسِ. . . الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرُوِيَ أَنَّ ذَلِكَ كان في طريق الحديبية. رواه شُعْبَةُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَلْقَمَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَيُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ نَوْمُهُمْ مَرَّتَيْنِ.
وَقَدْ رَوَاهُ زافر بن سليمان، عن شبعة، فَذَكَرَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
وَقَدْ رَوَى النَّوْمَ عَنِ الصَّلاةِ: عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَأَبُو قَتَادَةَ الأَنْصَارِيُّ.(1/297)
وَالْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، رَوَاهُمَا مُسْلِمٌ، وَفِيهِمَا طُولٌ.
وَقَالَ [عمارة بن عكرمة، عن عائشة]: لما افتتحنا خَيْبَرَ قُلْنَا: الآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ.
وَقَالَ ابن وهب: أخبرنا يونس، عن ابن شهاب، عن أنس قال: لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ الْمَدِينَةَ قَدِمُوا وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ. وَكَانَ الأَنْصَارُ أَهْلَ أَرْضٍ، فَقَاسَمُوا الْمُهَاجِرِينَ عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَافَ ثِمَارِ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عام، ويكفونهم العمل والمؤونة. وَكَانَتْ أُمُّ أَنَسٍ، وَهِيَ أُمُّ سُلَيْمٍ، أَعْطَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِذَاقًا لَهَا، فَأَعْطَاهُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم أيمن مولاته أم أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، فَأَخْبَرَنِي أَنَسٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ، رد المهاجرون إلى الأنصار متاعهم، وَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّي عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ. فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تحضنه حتى كبر رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهَا، ثم أنكحها زيد بن حارثة. ثم تُوُفِّيَتْ بَعْدَمَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ مُعْتَمِرٌ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُعْطِي مِنْ مَالِهِ النَّخَلاتِ أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ مَالِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ، فَجَعَلَ يَرُدُّ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَرَنِي أَهْلِي أَنْ آتِيَهُ فَأَسْأَلُهُ الَّذِي كَانُوا أَعْطُوهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمنَ، أَوْ كَمَا شَاءَ اللَّهُ، قَالَ: فَسَأَلْتُهُ، فَأَعْطَانِيهُنَّ. فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَلَوَتِ الثَّوْبَ في عنقي، وجعلت تقول: كلا والله الذي لا إله إلا هو، لا يعطيكهن وَقَدْ أَعْطَانِيهِنَّ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: " يا أم أيمن اتركي، ولك كَذَا وَكَذَا ". وَهِيَ تَقُولُ كلَا وَاللَّهِ. حَتَّى(1/298)
أَعْطَاهَا عَشَرَةَ أَمْثَالِ ذَلِكَ، أَوْ نَحْوَهُ. وَفِي لَفْظٍ فِي الصَّحِيحِ: وَهِيَ تَقُولُ: كَلَّا وَاللَّهِ حَتَّى أُعْطَى عَشَرَةَ أَمْثَالِهِ. أَخْرَجَاهُ.
وفي سنة سبع: قدِم حاطبُ بْن أَبِي بَلْتَعَة من الرسلية إلى المقوقس ملك ديار مصر، ومعه منه هديةُ للنّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهي مارية القبطية، أمّ إِبْرَاهِيم ابْن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأختها شيرين التي وهبها لحسّان بْن ثابت، وبغلة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُلْدُلٌ، وحماره يَعْفُور.
وفيها: توفيت ثويبة مُرْضعة النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلبن ابنها مسروح وكانت مولاة لأبي لهب أَعْتَقَها عامَ الهجرة. وكان النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يبعث إليها إلى مكة بصلة وكِسْوة. حتى جاءه موتُها سنة سبعٍ مرجعه من خيبر، فقال: " ما فعل ابنُها مسروح "؟ قَالُوا: مات قبلها. وكانت خديجة تُكْرِمُها، وطلبت شراءها من أَبِي لَهَبٍ فامتنع. رَوَاهُ الواقديُّ عَنْ غير واحد. أرضعت النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل حليمة أيامًا، وأرضعت أيضًا حمزةَ بْن عَبْد المطَّلب، وأبا سلمة بن عبد الأسد رضي الله عنهما.
-سَرِيّة أبي بَكْر رضي الله عنه إلى نجد
وكانت بعد خيبر سنة سبعٍ
قال عكرمة بن عمار: حدثني إياس بن سلمة بْنِ الْأَكْوَعِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى بَنِي فِزَارَةَ، وَخَرَجْتُ مَعَهُ حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنَ الْمَاءِ عَرَّسَ بِنَا أَبُو بَكْرٍ، حَتَّى إِذَا مَا صَلَّيْنَا الصُّبْحَ، أَمَرَنَا فَشَنَنَّا الْغَارَةَ، فَوَرَدْنَا الْمَاءَ. فَقَتَلَ أَبُو بَكْرٍ مَنْ قَتَلَ، وَنَحْنُ مَعَهُ، فَرَأَيْتُ عُنُقًا مِنَ النَّاسِ فِيهِمْ الذَّرَارِيُّ. فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إِلَى الْجَبَلِ، فَأَدْرَكْتُهُمْ، فَرَمَيْتُ بِسَهْمِي. فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا، فَإِذَا امْرَأَةٌ عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمٍ، مَعَهَا ابْنَتُهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ فَجِئْتُ أَسُوقُهُمْ إِلَى أَبِي بَكْرٍ، فَنَفَّلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَلَمْ أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا حَتَّى قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ بَاتَتْ عِنْدِي فَلَمْ(1/299)
أَكْشِفْ لَهَا ثَوْبًا. حَتَّى لَقِيَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السُّوقِ فَقَالَ: " يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِيَ الْمَرْأَةَ " قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْبًا. فَسَكَتَ حَتَّى كَانَ مِنَ الْغَدِ فَقَالَ: " يَا سَلَمَةُ، هَبْ لِيَ الْمَرْأَةَ للَّهِ أبوك ". قُلْتُ: هِيَ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَبَعَثَ بها رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَفَدَى بِهَا أَسْرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ فِي شعبان.
-سرية عمر رضي الله عنه إلى عَجُزِ هَوَازن
قال الواقدي: حدثنا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ إِلَى تُرَبَةِ عَجُزِ هَوَازِنَ، فِي ثَلاثِينَ رَاكِبًا، فَخَرَجَ وَمَعَهُ دَلِيلٌ. فَكَانُوا يَسِيرُونَ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُونَ النَّهَارَ. فَأَتَى الْخَبَرُ هَوَازِنَ، فَهَرَبُوا. وَجَاءَ عُمَرُ مَحَالَّهُمْ، فَلَمْ يَلْقَ مِنْهُم أَحَدًا، فَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتَّى سَلَكَ النَّجْدِيةَ. فَلَمَّا كَانُوا بالجدد، قَالَ الدَّلِيلُ لِعُمَرَ: هَلْ لَكَ فِي جَمْعٍ آخر تركته من خثعم جاؤوا سَائِرِينَ، قَدْ أَجْدَبَتْ بِلادُهُمْ؟ فَقَالَ عُمَرُ: مَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ. وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ. وَذَلِكَ فِي شَعْبَانَ.
-سرية بشير بْن سعد.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ الْفَضْلِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا إِلَى بَنِي مُرَّةَ بِفَدَكٍ. فَخَرَجَ(1/300)
فَلَقِيَ رُعَاءَ الشَّاءِ، فَاسْتَاقَ الشَّاءَ وَالنَّعَمِ مُنْحَدِرًا إِلَى الْمَدِينَةِ. فَأَدْرَكَهُ الطَّلَبُ عِنْدَ اللَّيْلِ، فَبَاتُوا يُرَامُونَهُمْ بِالنَّبْلِ حَتَّى فَنِيَ نَبْلُ أَصْحَابِ بَشِيرٍ، فَأَصَابُوا أَصْحَابَهُ وَوَلَّى مِنْهُمْ مَنْ وَلَّى، وَقَاتَلَ بشير قتالا شديدا حتى ضربت كَعْبَاهُ. وَقِيلَ قَدْ مَاتَ، وَرَجَعُوا بِنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ، وَتَحَامَلَ بَشِيرٌ حَتَّى انْتَهَى إِلَى فَدَكٍ، فَأَقَامَ عِنْدَ يَهُودِيٍّ حَتَّى ارْتَفَعَ مِنَ الْجِرَاحِ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
-سَرِيَّةُ غالب بْن عَبْد الله الليثي.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي أَفْلَحُ بْنُ سعيد، عن بشير بن محمد ابن الذي أري الأذان عبد الله بن زيد، قَالَ: كَانَ مَعَ غَالِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أبو مَسْعُودٍ، عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو الأَنْصَارِيُّ، وَكَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ. فَلَمَّا دَنَا غَالِبٌ منهم بعث الطلائع ثم رجعوا فأخبروه فأقبل يسير حتى إذا كان بمنظر العين منهم ليلا وقد احتلبوا وهدأوا، قَامَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَأَمَرَ بِالطَّاعَةِ، قال: وإذا كبرت فكبروا، وجردوا السيوف. فذكر الحديث في إحاطتهم بهم. قَالَ: وَوَضَعْنَا السُّيُوفَ حَيْثُ شِئْنَا مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نصيح بشعارنا: أمت أمت، وخرج أسامة فحمل عَلَى رَجُلٍ فَقَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي شَيْخٌ مِنْ أَسْلَمَ، عَنْ رِجَالٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْكَلْبِيَّ، كَلْبَ لَيْثٍ، إِلَى أَرْضِ بَنِي مُرَّةَ، فَأَصَابَ بِهَا مِرْدَاسَ بْنَ نَهِيكٍ، حليف لَهُمْ مِنَ الْحُرَقَةِ فَقَتَلَهُ أُسَامَةُ. فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أُسَامَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَدْرَكْتُهُ - يَعْنِي مِرْدَاسًا - أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَلَمَّا شَهَرْنَا عَلَيْهِ السَّيْفَ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَلَمْ نَنْزِعْ عَنْهُ حَتَّى قَتَلْنَاهُ. فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرْنَاهُ خَبَرَهُ، فَقَالَ: " يَا أُسَامَةُ مَنْ لَكَ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ "؟ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ: " فَمَنْ لَكَ بِلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ ". فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ، مَا(1/301)
زَالَ يُرَدِّدُهَا عَلَيَّ حَتَّى لَوَدِدْتُ أَنَّ مَا مَضَى مِنْ إِسْلامِي لَمْ يَكُنْ. وَأَنِّي أَسْلَمْتُ يومئذ ولم أقتله.
وقال هشيم: أخبرنا حصين بن عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو ظبيان، قال سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ يُحَدِّثُ قَالَ: أَتَيْنَا الْحُرَقَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ. قَالَ: فَصَبَّحْنَا الْقَوْمَ فَهَزَمْنَاهُمْ. وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ رَجُلًا مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَشِينَاهُ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قال: فكف عنه الأنصاري، وطعنته أَنَا بِرُمْحِي حَتَّى قَتَلْتُهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا بَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ، فَقَالَ: أقتلته بعدما قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى تَمنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ يَوْمَئِذٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجُهَنِيِّ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ مَكِيثٍ الْجُهَنِيِّ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَالِبَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى بَنِي الْمُلَوِّحِ بِالْكُدَيْدِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُغيِرَ عَلَيْهِمْ، وَكُنْتُ فِي سَرِيَّتِهِ. فَمَضَيْنَا حَتَّى إِذَا كُنَّا بِقُدَيْدٍ، لَقِينَا بِهِ الْحَارِثَ بْنَ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ اللَّيْثِيَّ، فَأَخَذْنَاهُ فَقَالَ: إِنِّي إِنَّمَا جِئْتُ لأُسْلِمَ فَقَالَ لَهُ غَالِبٌ: إِنْ كُنْتَ إِنَّمَا جِئْتَ لِتُسْلِمَ فَلا يَضُرُّكَ رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَإِنْ كُنْتَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ اسْتَوْثَقْنَا مِنْكَ، قَالَ: فَأَوْثَقَهُ رِبَاطًا وَخَلَّفَ عَلَيْهِ رُوَيْجِلا أَسْوَدَ، قَالَ: امْكُثْ عَلَيْهِ حَتَّى نَمُرَّ عَلَيْكَ، فَإِنْ نَازَعَكَ فَاحْتَزَّ رَأْسَهُ، وَأَتَيْنَا بَطْنَ الْكُدَيْدِ فَنَزَلْنَاهُ بَعْدَ الْعَصْرِ. فَبَعَثَنِي أَصْحَابِي إِلَيْهِ، فَعَمَدْتُ إِلَى تَلٍّ يُطْلِعُنِي عَلَى الْحَاضِرِ، فَانْبَطَحْتُ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ الْغُرُوبِ. فَخَرَجَ رَجُلٌ فَنَظَرَ فَرَآنِي مُنْبَطِحًا عَلَى التَّلِّ فَقَالَ لامْرَأَتِهِ، إِنِّي لأَرَى سَوَادًا عَلَى هَذَا التَّلِّ مَا رَأَيْتُهُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَانْظُرِي لا تَكُونُ الْكِلابُ اجْتَرَّتْ بَعْضَ أَوْعِيَتِكِ. فَنَظَرَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا أَفْقِدُ شَيْئًا. قَالَ: فَنَاوِلِينِي قَوْسِي وَسَهْمَيْنِ مِنْ نَبْلِي. فَنَاوَلَتْهُ فَرَمَانِي بِسَهْمٍ فَوَضَعَهُ فِي جَبِينِي، أَوْ قَالَ: في جنبي، فنزعته فوضعته ولم أتحرك، ثم رماني بالآخر، فوضعه في رأس منكبي، فنزعته فوضعته(1/302)
وَلَمْ أَتَحَرَّكْ. فَقَالَ لامْرَأَتِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ خَالَطَهُ سَهْمَايَ، وَلَوْ كَانَ زَائِلا لَتَحَرَّكَ، فَإِذَا أَصْبَحْتِ فَابْتَغِي سَهْمَيَّ فَخُذِيهِمَا، لا تَمْضُغُهُمَا عَلَيَّ الْكِلابُ.
قَالَ: وَمَهِّلْنَا حَتَّى رَاحَتْ رَوَائِحُهُمْ، وَحَتَّى إذا احتلبوا وعطنوا وَذَهَب عَتَمَةٌ مِنَ اللَّيْلِ شَنَنَّا عَلَيْهِمُ الْغَارَةَ فَقَتَلْنَا مَنْ قَتَلْنَا، وَاسْتَقْنَا النَّعَمَ فَوَجَّهْنَا قَافِلِينَ بِهِ، وَخَرَجَ صَرِيخُ الْقَوْمِ إِلَى قَوْمِهِمْ. قَالَ: وَخَرَجْنَا سِرَاعًا حَتَّى نَمُرَّ بِالْحَارِثِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْبَرْصَاءِ وَصَاحِبِهِ، فَانْطَلَقَا بِهِ مَعَنَا. وَأَتَانَا صَرِيخُ النَّاسِ فَجَاءَنَا مَا لا قِبَلَ لَنَا بِهِ. حَتَّى إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ إِلا بَطْنُ الْوَادِي مِنْ قُدَيْدٍ، بَعَثَ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ شَاءَ مَاءً مَا رَأَيْنَا قَبْلَ ذلك مطرا ولا خالا، فَجَاءَ بِمَا لا يَقْدِرُ أَحَدٌ يَقْدَمُ عَلَيْهِ، لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ وُقُوفًا يَنْظُرُونَ إِلَيْنَا مَا يَقْدِرُ أحد منهم على أَنْ يَقْدَمَ عَلَيْهِ، وَنَحْنُ نَحْدُوهَا. فَذَهَبْنَا سِرَاعًا حتى أسندناها فِي الْمُشَلَّلِ، ثُمَّ حَدَرْنَا عَنْهُ وَأَعْجَزْنَاهُمْ.
-سَرِيَّةُ حَنَان.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ فِي مَغَازِيهِ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، عَنْ بَشِيرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: قَدِمَ رَجُلٌ مِنْ أَشْجَعَ يُقَالُ لَهُ: حُسَيْلُ بْنُ نُوَيْرَةَ، وَكَانَ دَلِيلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ، فَقَالَ لَهُ: مِنْ أَيْنَ يَا حُسَيْلُ؟ قال: من يمن وحنان، قال: وَمَا وَرَاءَكَ؟ قَالَ: تَرَكْتُ جَمْعًا مِنْ يَمَنٍ وَغَطَفَانَ وَحنان، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْهِمْ عُيَيْنَةُ: إِمَّا أَنْ تَسِيرُوا إِلَيْنَا وَإِمَّا أَنْ نَسِيرَ إِلَيْكُمْ، فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ أَنْ سِرْ إِلَيْنَا، وَهُمْ يُرِيدُونَكَ أَوْ بَعْضَ أَطْرَافِكَ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَذَكَرَ لَهُمَا ذَلِكَ فقالا جميعا: ابعث بَشِيرَ بْنَ سَعْدٍ، فَعَقَدَ لَهُ لِوَاءً وَبَعَثَ مَعَهُ ثَلاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ(1/303)
يَسِيرُوا اللَّيْلَ وَيَكْمُنُوا النَّهَارَ، فَفَعَلُوا، حَتَّى أَتَوْا أَسْفَل خَيْبَرَ، فَأَغَارُوا وَقَتَلُوا عَيْنًا لِعُيَيْنَةَ. ثُمَّ لَقُوا جَمْعَ عُيَيْنَةَ فَنَاوَشُوهُمْ، ثُمَّ انْكَشَفَ جَمْعُ عُيَيْنَةَ وَأُسِرَ مِنْهُمْ رَجُلانِ، وَقَدِمُوا بِهِمَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا.
-سَرِيَّةُ أَبِي حَدْرَد إلى الغابة
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ مَا حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي حَدْرَدٍ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي، فَأَصْدَقْتُهَا مِائَتَيْ دِرْهَمٍ. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَسْتَعِينُهُ عَلَى نِكَاحِي، فَقَالَ: كَمْ أَصْدَقْتَ؟ قلت: مائتي دِرْهَمٍ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، وَاللَّهِ لَوْ كُنْتُمْ تأخذونها من واد ما زاد، لا، وَاللَّهِ مَا عِنْدِي مَا أُعِينُكَ بِهِ، فَلَبِثَ أَيَّامًا، ثُمَّ أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ جُشَمَ بن معاوية يقال له: رفاعة ابن قَيْسٍ، أَوْ قَيْسُ بْنُ رِفَاعَةَ، فِي بَطْنٍ عَظِيمٍ مِنْ جُشَمَ، حَتَّى نَزَلَ بِقَوْمِهِ وَمَنْ مَعَهُ بِالْغَابَةِ، يُرِيدُ أَنْ يَجْمَعَ قَيْسًا عَلَى حرب رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ ذَا شَرَفٍ، فَدَعَانِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَجُلَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: " اخْرُجُوا إِلَيْهِ، حَتَّى تَأْتُوا مِنْهُ بِخَبَرٍ وَعِلْمٍ "، وَقَدَّمَ لَنَا شَارِفًا عَجْفَاءَ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا أَحَدَنَا، فَوَاللَّهِ مَا قَامَتْ بِهِ ضَعْفًا، حَتَّى دَعَّمَهَا الرِّجَالُ مِنْ خَلْفِهَا بِأَيْدِيهِمْ، حَتَّى اسْتَقَلَّتْ وَمَا كَادَتْ. وَقَالَ: تَبَلَّغُوا عَلَى هَذِهِ، فَخَرَجْنَا، حَتَّى إِذَا جِئْنَا قَرِيبًا مِنَ الْحَاضِرِ مَعَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، فكمنت فِي نَاحِيَةٍ، وَأَمَرْتُ صَاحِبَيَّ فَكَمَنَّا فِي نَاحِيَةٍ، وَقُلْتُ: إِذَا سَمِعْتُمَانِي قَدْ كَبَّرْتُ وَشَدَدْتُ فِي الْعَسْكِر، فَكَبِّرُوا وَشُدُّوا مَعِي، فَوَاللَّهِ إِنَّا لَكَذَلِكَ نَنْتَظِرُ أَنْ نَرَى غِرَّةً وَقَدْ ذَهَبَتْ فَحْمَةُ الْعِشَاءِ، وَقَدْ كَانَ لَهُمْ رَاعٍ قَدْ سَرَّحَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَأَبْطَأَ عَلَيْهِمْ، فَقَامَ زَعِيمُهُمْ رِفَاعَةُ فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَقَالَ: لأَتْبَعَنَّ أَثَرَ رَاعِينَا، فقالوا: نحن نكفيك، قال: لا، والله لا يتبعني أحد منكم، وخرج حتى يمر بِي، فَلَمَّا أَمْكَنَنِي نَفَحْتُهُ بِسَهْمٍ فَوَضَعْتُهُ فِي فُؤَادِهِ، فَوَاللَّهِ مَا نَطَقَ، فَوَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَاحْتَزَزْتُ رَأْسَهُ، ثُمَّ شَدَدْتُ فِي نَاحِيَةِ الْعَسْكَرِ(1/304)
وَكَبَّرْتُ وَكَبَّرَ صَاحِبَايَ، فَوَاللَّهِ مَا كَانَ إِلا النَّجَاءُ مِمَّنْ كَانَ فِيهِ عِنْدَكَ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنْ نِسَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ وَمَا خَفَّ مَعَهُمْ، وَاسْتَقْنَا إِبِلا عَظِيمَةً وَغَنَمًا كَثِيرَةً، فَجِئْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجِئْتُ بِرَأْسِهِ أَحْمِلُهُ مَعِي، فَأَعْطَانِي مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ ثَلاثَةَ عَشَرَ بَعِيرًا فِي صَدَاقِي، فجمعت إِلَى أَهْلِي.
-سَرِيَّةُ مُحَلِّم بْن جَثَّامة.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنِ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي حَدْرَدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى إِضَمٍ فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ منهم أبو قتادة، ومحلم بن جثامة ابن قَيْسٍ. حَتَّى إِذَا كُنَّا بِبَطْنِ إِضَمٍ، مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِيُّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ، مَعَهُ مُتَيِّعٌ لَهُ، وَوطْبٌ مِنْ لَبَنٍ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ. فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ، وَحُمِلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمٌ فَقَتَلَهُ لِشَيْءٍ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَأَخَذَ بَعِيرَهُ وَمَتَاعَهُ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَنَاهُ الْخَبَرَ. فنزل فينا القرآن: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لست مؤمنا}، إلى آخر الآية. ورواه حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ، سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ ضُمَيْرَةَ بْنِ سَعْدٍ الضَّمْرِيَّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ وَجَدِّهِ، وَقَدْ شَهِدَا حُنَيْنًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى الظُّهْرَ وَجَلَسَ فِي ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ عُيَيْنَةُ بن بدر يطلب بدم عامر بن الأضبط، سيد قيس، وجاء الأقرع ابن حَابِسٍ يَرُدُّ عَنْ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ، وَهُوَ سَيِّدُ خِنْدِفٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمِ عَامِرٍ: " هَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِنَّا الآنَ خَمْسِينَ بَعِيرًا، وَخَمْسِينَ إِذَا رجعنا(1/305)
إِلَى الْمَدِينَةِ " - فَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ: وَاللَّهِ لا أَدَعُهُ حَتَّى أُذِيقَ نِسَاءَهُ مِنَ الْحَرِّ مثل ما أذاق نسائي. فقام رجل من بني ليث يقال له: ابن مكيتيل، وهو قصد مِنَ الرِّجَالِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَجِدُ لِهَذَا الْقَتِيلِ مَثَلا فِي غُرَّةِ الإِسْلامِ إلا كغنم وردت فرميت أولاها ففرت أخرها، أُسْنُنِ الْيَوْمَ وَغَيِّرْ غَدًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا خَمْسِينَ بَعِيرًا الآنَ وَخَمْسِينَ إِذَا رَجَعْنَا؟ فَلَمْ يَزَلْ بِهِمْ حَتَّى رَضَوْا بِالدِّيَةِ. قَالَ قَوْمُ مُحَلِّمٍ: ائْتُوا بِهِ حَتَّى يَسْتَغْفِرَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ طُوَالٌ ضَرْبُ اللَّحِمِ فِي حُلَّةٍ قَدْ تَهَيَّأَ فِيهَا لِلْقَتْلِ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الَّلهُمَّ لا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمٍ ". قَالَهَا ثَلاثًا. فَقَامَ وَإِنَّهُ لَيَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بطرف ثوبه.
قال ابن إسحاق: وزعم قَوْمُهُ أَنَّهُ اسْتَغْفَرَ لَهُ بَعْدُ.
وقال أَبُو داود في سننه: حدثنا موسى بن إسماعيل، قال: حدثنا حماد، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، قَالَ: فَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، سَمِعْتُ زِيَادَ بْنَ ضُمَيْرَةَ. (ح). قَالَ وحدثنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ الْهَمْدَانِيُّ، وَوَهْبُ بْنُ بَيَانٍ، قالا: حدثنا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي الزِّنَادِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ محمد بن جعفر، أنه سمع زِيَادُ بْنُ سَعْدِ بْنِ ضُمَيْرةَ السُّلَمِيُّ. وَهَذا حَدِيثُ وَهْبٍ وَهُوَ أَتَمُّ، يُحَدِّثُ عُرْوَةُ بْنُ الزبير، عن أبيه، قَالَ مُوسَى: وَجَدُّهُ، وَكَانَا شَهِدَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، يَعْنِي أَبَاهُ وَجَدَّهُ. ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ وَهْبٍ: أَنَّ مُحَلِّمَ بْنَ جَثَّامَةَ قَتَلَ رَجُلا مِنْ أَشْجَعَ فِي الإِسْلامِ. وَذَلِكَ أَوَّلُ غِيَرٍ قَضَى به رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَتَكَلَّمَ عُيَيْنَةُ فِي قَتْلِ الأَشْجَعِيِّ لأَنَّهُ مِنْ غَطَفَانَ، وَتَكَلَّمَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ إِلَى أَنْ قَالَ: وَمُحَلَّمٌ رَجُلٌ طَوِيلٌ آدَمُ، وَهُوَ فِي طَرَفِ النَّاسِ، فَلَمْ يَزَالُوا حَتَّى تَخَلَّصَ فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ فَعَلْتُ الَّذِي بَلَغَكَ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، فَاسْتَغْفِرْ لِي يَا(1/306)
رسول الله. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَقَتَلْتَهُ بِسِلاحِكَ فِي غُرَّةِ الإِسْلامِ؟ الَّلهُمَّ لا تَغْفِرْ لِمُحَلِّمٍ ". بِصَوْتٍ عالٍ.
زَادَ أَبُو سَلَمَةَ: فَقَامَ وَإِنَّهُ لَيَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِطَرَفِ ردائه، والله تعالى أعلم.
-سَرِيَّةُ عَبْد الله بْن حُذَافَة بْن قيس بن عدي السهمي.
قال ابن جريج: {يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}، نزلت فِي عَبْد الله بْن حُذَافَة السَّهْمِيّ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَرِيَّةٍ. أخْبَرَنيه يَعْلَى بْن مُسْلِم، عَنْ سَعِيد بْن جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. أخرجاه فِي الصّحيح.
وَقَالَ الأَعْمَشُ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اسْتَعْمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلا مِنَ الأَنْصَارِ عَلَى سَرِيَّةٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ. فَأَغْضَبُوهُ فِي شَيْءٍ، فَقَالَ: اجْمَعُوا لِي حَطَبًا، فَجَمَعُوا. وَأَمَرَهُمْ فَأَوْقَدُوهُ. ثُمَّ قَالَ: أَلَمْ يَأْمُرْكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَسْمَعُوا لِي وَتُطِيعُوا - قَالُوا: بَلَى. قَالَ: فَادْخُلُوهَا. فَنَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ وَقَالُوا: إِنَّمَا فَرَرْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ النَّارِ. فَسَكَنَ غَضَبُهُ، وَطُفِئَتِ النَّارُ. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ: لَوْ دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا. إِنَّمَا الطَّاعَةُ فِي الْمَعْرُوفِ. أَخْرَجَاهُ.
وَفِيهَا كَانَتْ غَزْوَةُ ذَاتِ الرِّقَاعِ. وَقَدْ تَقَدَّمَتْ سَنَةَ أَرْبَعٍ، وَأَوْرَدْنَا الْخِلافَ فِيهَا، فلعلهما غزوتان، والله أعلم.(1/307)
-عمرة القضية.
روى نافع بْن أَبِي نُعيم، عَنْ نافع مولى ابن عُمَر قَالَ: كانت عُمْرة القضيّة فِي ذي القعدة سنة سبع.
وقال معتمر بن سلميان، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لما رجع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ خيبر، بعث سرايا وأقام بالمدينة حتى استهلّ ذو القعدة. ثم نادى في الناس أن تجهزوا إلى العُمْرة فتجهَّزُوا، وخرجوا معه إلى مكة.
وقال ابن شهاب: ثُمَّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذي القِعدة حتى بلغ يَأْجَجَ وضع الأداة كلها: الحَجَف والمَجَانّ والرماح والنّبْل. ودخلوا بسلاح الراكب: السيوف. وبعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا بين يديه إلى ميمونة بِنْت الحارث بْن حَزْن العامريّة فخطبها عَلَيْهِ، فجعلت أمرَها إلى العبّاس؛ وكانت أختها تحته وهي أمّ الفضل فزوّجها العبّاس رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا قدم أمر أصحابه فقال: اكشفوا عَنِ المناكب واسعوا فِي الطَّواف، ليرى المشركون جَلَدَهم وقوَّتهم، وكان يكايدهم بكل ما استطاع. فاستلف أهل مكة - الرجال والنّساء والصّبيان - ينظرون إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وهم يطوفون بالبيت. وعبد الله بْن رواحة يرتجز بين يدي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متوشّحًا بالسيف يَقْولُ:
خَلُّوا بني الكُفَّار عَنْ سبيله ... أَنَا الشهيد أنّه رسولهْ.
قد أنزل الرَّحْمَن فِي تنزيلهْ ... فِي صحف تُتْلى عَلَى رسولهْ.
فاليوم نضربكم عَلَى تأويلِهْ ... كما ضَربْناكم عَلَى تنزيلهْ.
ضرْبًا يُزيل الهامَ عَنْ مَقِيلَهْ ... وَيُذْهِلُ الخليلَ عَنْ خليلهْ.
وتغيّب رجال من أشرافهم أن ينظروا إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْظًا وحنقًا،(1/308)
ونفاسة وحَسَدًا، خرجوا إلى الخَنْدَمَة. فَقَامَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة، وأقام ثلاث ليالٍ، وكان ذَلِكَ آخر الشرط. فلما أصبح من اليوم الرابع أتاه سُهَيْلُ بْن عَمْرو وغيره، فصاح حُوَيْطِب بْن عَبْد العُزَّى: نناشدك الله والعقد لما خرجتَ من أرضنا فقد مضت الثلاث. فقال سعد ابن عُبَادة: كذبتَ لا أُمّ لك لَيْسَ بأرضك ولا بأرض آبائك، والله لا نخرج. ثُمَّ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُهَيلًا وحُوَيْطبًا، فقال: " إنّي قد نكحت فيكم امرأةً فما يضرّكم أن أمكث حتى أدخل بِهَا، ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا ". قَالُوا: نناشدك الله والعقد، إلا خرجت عنّا. فأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رافع فأذّن بالرحيل. وَرَكِبَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نزل بطن سَرِف وأقام المسلمون، وخلَّف رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا رافع ليحمل ميمونة إِلَيْهِ حين يُمسي. فأقام بسرِف حتى قدِمت عَلَيْهِ، وقد لقيت عناءً وأذى من سُفهاء قريش، فبنى بِهَا. ثُمَّ أدلج فسار حتى قدم المدينة. وقدر الله تعالى أن يكون موتُ ميمونة بسَرِف بعد حين.
وَقَالَ فُلَيْحٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَنَحَرَ هَدْيَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ. وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعْتَمِرَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَلا يَحْمِلَ سِلاحًا إِلا سُيُوفًا، وَلا يُقِيمَ بِهَا إِلا مَا أَحَبُّوا. فَاعْتَمَرَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ فَدَخَلَهَا كَمَا صَالَحَهُمْ. فَلَمَّا أَنْ أَقَامَ بِهَا ثَلاثًا أَمَرُوهُ أَنْ يَخْرُجَ، فَخَرَجَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الواقدي: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْعُمْرَةُ قَضَاءً وَلَكِنْ شَرْطًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْتَمِرُوا قابل فِي الشَّهْرِ الَّذِي صَدَّهُمُ الْمُشْرِكُونَ.(1/309)
وقال محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عَنْ عَمْرو بْن ميمون، سَمِعْتُ أَبَا حاضر الحضرمي يحدث أبي: ميمون بْن مِهْران قَالَ: خرجت معتمِرًا سنة حُوصِر ابن الزُّبير. وبعث معي رجال من قومي بهَدْي. فلما انتهينا إلى أهل الشام منعونا أن ندخل الْحَرَمَ فنحرت الهدي مكاني، ثُمَّ أحللتُ ثُمَّ رجعتُ. فلما كَانَ من العام المقبل، خرجت لأقضي عُمْرَتي، فأتيت ابن عباس فسألته، فقال: أبدل الهدي فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أصحابه أن يبدلوا الهدْي الَّذِي نحروا عام الحُدَيبية فِي عُمْرة القضاء. زاد فِيهِ يونس عَنِ ابن إِسْحَاق قَالَ: فَعَزَّت الإِبل عليهم، فرخَّص لهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي البقر.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي غَانِمُ بْنُ أَبِي غَانِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَدْ سَاقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي الْقَضِيَّةِ سِتِّينَ بَدَنَةً. قَالَ: ونزل رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ الظَّهْرَانِ، وَقَدَّمَ السِّلاحَ إِلَى بَطْنِ يَأْجَجَ، حَيْثُ يَنْظُرُ إِلَى أَنْصَابِ الْحَرَمِ. وَتَخَوَّفَتْ قُرَيْشٌ، فذهبت في رؤوس الْجِبَالِ وَخَلَّوْا مَكَّةَ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مَكَّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ، مَشَى ابْنُ رَوَاحَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ:
خلوا بني الكفار عن سبيله ... قد نزل الرَّحْمَنُ فِي تَنْزِيلِهِ.
بِأَنَّ خَيْرَ الْقتْلِ فِي سَبِيلِهِ ... نَحْنُ قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ.
كَمَا قَتَلْنَاكُمْ عَلَى تَنْزِيلِهِ ... يَا رَبِّ إِنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ.
وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، وَقَدْ وَهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ قَوْمٌ قَدْ وَهَنَتْهُمُ الْحُمَّى، وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا. فَأَطْلَعَ اللَّهُ نَبِيَّهُ عَلَى مَا قَالُوهُ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ. فَلَمَّا رَأَوْهُمْ رَمَلُوا، قَالُوا: هَؤُلاءِ الَّذِينَ ذَكَرْتُمْ أَنَّ الْحُمَّى وَهَنَتْهُمْ؟! هَؤُلاءِ أَجْلَدُ مِنَّا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ(1/310)
يأمرهم أن يرملوا الأشواط كلها إلا للإبقاء عليهم. أخرجاه.
وقال يزيد بن هارون: أخبرنا الْجُرَيْرِيُّ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ لابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ قَوْمَكَ يَزْعُمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَمَلَ وَأَنَّهَا سُنَّةٌ. قَالَ: صَدَقُوا وَكَذَبُوا؛ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدِمَ مَكَّةَ وَالْمُشْرِكُونَ عَلَى قُعَيْقِعَانَ، وَكَانَ أَهْلُ مَكَّةَ قَوْمًا حُسَّدًا، فجعلوا يتحدثون بَيْنَهُمْ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ضُعَفَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَرُوهُمْ مَا يَكْرَهُونَ مِنْكُمْ. فَرَمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرِيَهُمْ قُوَّتَهُ وَقُوَّةَ أَصْحَابِهِ، وَلَيْسَتْ بِسُنَّةٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ بَقِيَ الرَّمَلُ سُنَّةً فِي طَوَافِ الْقُدُومِ؛ وَإِنْ كَانَ قَدْ زَالَتْ عِلَّتُهُ فَإِنَّ جَابِرًا قَدْ حَكَى فِي حَجَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم رمله ورَمَلُوا فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَّانَةِ.
وقال إِسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد، عَنِ ابْنِ أَبِي أَوْفَى سمعه يَقْولُ: اعتمرنا مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكنّا نستره - حين طاف - من صبيان مكة لا يُؤْذونه. وأرانا ابن أَبِي أوفى ضربةً أصابته مَعَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم يوم خيبر. البخاري.
-تزويجه عليه السلام بميمونة
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ، وَكَانَ الَّذِي زَوَّجَهُ الْعَبَّاسُ. فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ ثَلَاثًا. فَأَتَاهُ حُوَيْطِبُ بْنُ عَبْدِ الْعُزَّى، فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: قَدِ انْقَضَى أَجَلُكَ فَاخْرُجْ عَنَّا. قَالَ: " لَوْ تَرَكْتُمُونِي فَعرَّسْتُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، وَصَنَعْنَا طَعَامًا فَحَضَرْتُمُوهُ ".(1/311)
قَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا بِهِ. فَخَرَجَ، وَخَلَّفَ أَبَا رَافِعٍ مَوْلَاهُ عَلَى مَيْمُونَةَ، حَتَّى أَتَاهُ بها بسرف، فبنى عليها.
وقال وهيب: حدثنا أيوب، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَبَنَى بِهَا وَهُوَ حَلَالٌ، وَمَاتَتْ بِسَرِفٍ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ: قَالَ لِي الثَّوْرِيُّ: لا تَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. وَقَدْ رَوَاهُ الثَّوْرِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَهُمَا فِي الصحيح.
وقال الأوزاعي: حدثنا عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ مُحْرِمٌ. فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: وَهَلْ وَإِنْ كَانَتْ خَالَتَهُ. مَا تَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلا بَعْدَ مَا أَحَلَّ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنْهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ الشَّهِيدِ، عَنْ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ، عَنْ مَيْمُونَةَ قَالَتْ: تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ حَلالانِ بِسَرِفٍ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمِّ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بن حرب: حدثنا حماد بن زيد، قال: حدثنا مَطَرٌ الْوَرَّاقُ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ: تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيْمُونَةَ وَهُوَ حَلالٌ، وَبَنى بِهَا وَهُوَ حَلالٌ. وَكُنْتُ الرَّسُولَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقِعْدَةِ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَفِيهِ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي من(1/312)
مَكَّةَ، فَتَبِعَتْهُمُ ابْنَةُ حَمْزَةَ، فَنَادَتْ: يَا عَمُّ يا عم. فتناولها علي رضي الله عنه، وقال لفاطمة: دونك، فحملتها. قال: فاختصم فيها عَلِيٌّ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا أَخَذْتَهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي، وَقَالَ جَعْفَرٌ: ابْنَةُ عَمِّي، وَخَالَتُهَا تَحْتِي، وَقَالَ زَيْدٌ: ابْنَةُ أَخِي. فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لِخَالَتِهَا، وَقَالَ: " الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ". وَقَالَ لِعَلِيٍّ: " أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ "، وَقَالَ لِجَعْفَرٍ: أَشْبَهْتَ خُلُقِي وَخَلْقِي، وَقَالَ لِزَيْدٍ: أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلانَا، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عنه.
وقال الواقدي: حدثني ابْنُ أَبِي حَبِيبَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ عُمَارَةَ بِنْتَ حَمْزَةَ، وَأُمَّهَا سُلْمَى بِنْتَ عُمَيْسٍ كَانَتَا بِمَكَّةَ. فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَلَّمَ عَلِيٌّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: عَلامَ نَتْرُكُ بِنْتَ عَمِّنَا يَتِيمَةً بَيْنَ ظَهْرَانَيِ الْمُشْرِكِينَ؟ فَلَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِخْرَاجِهَا. فَخَرَجَ بِهَا، فَتَكَلَّمَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، وَكَانَ وَصِيَّ حَمْزَةَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ؛ وَفِيهِ: فَقَضَى بِهَا لِجَعْفَرٍ وَقَالَ: تَحْتَكَ خَالَتِهَا، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا وَلَا عَمَّتِهَا.
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ عُمْرَتِهِ فِي ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ سَبْعٍ بَعَثَ ابْنَ أَبِي الْعَوْجَاءِ فِي خَمْسِينَ إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، كما سيأتي.(1/313)
-ثُمَّ دَخَلَت سَنَة ثمَانٍ من الهجرة
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَمِّهِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَارَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءَ السُّلَمِيُّ فِي خَمْسِينَ رَجُلا إِلَى بَنِي سُلَيْمٍ، وَكَانَ عَيْنٌ لِبَنِي سُلَيْمٍ مَعَهُ. فَلَمَّا فَصَلَ مِنَ الْمَدِينَةِ، خَرَجَ الْعَيْنُ إِلَى قَوْمِهِ فَحَذَّرَهُمْ. فَجَمَعُوا جَمْعًا كَثِيرًا. وَجَاءَهُمُ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ وَهُمْ مُعِدُّونَ. فَلَمَّا رَآهُمْ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَأَوْا جَمْعَهُمْ، دَعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ. فَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ، وَلَمْ يَسْمَعُوا قَوْلَهُمْ، فَرَمَوْهُمْ سَاعَةً، وَجَعَلَتِ الأَمْدَادُ تَأْتِي، وَأَحْدَقُوا بِهِمْ. فَقَاتَلُوا حَتَّى قُتِلَ عَامَّتُهُمْ، وَأُصِيبَ ابْنُ أَبِي الْعَوْجَاءِ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى. ثُمَّ تَحَامَلَ حَتَّى بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي أَوَّلِ صَفَرٍ.
-[إسلام عَمْرو بْن العاص وخالد بْن الوليد]
وفيها: أسلمَ عَمْرو بْن العاص، وخالد بْن الوليد.
قال الواقدي: أخبرنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ: كُنْتُ لِلإِسْلامِ مُجَانِبًا مُعانِدًا. حَضَرْتُ بَدْرًا مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَجَوْتُ، ثُمَّ حَضَرْتُ أُحُدًا وَالْخَنْدَقَ فَنَجَوْتُ. فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَمْ أُوضَعُ، وَاللَّهِ لَيَظْهَرَنَّ مُحَمَّدٌ عَلَى قُرَيْشٍ. فلحقت بمالي بالوهط. فلما كان صلح الحديبية، جَعَلْتُ أَقُولُ، يَدْخُلُ مُحَمَّدٌ قَابِلا مَكَّةَ بِأَصْحَابِهِ، مَا مَكَّةُ بِمَنْزِلٍ وَلا الطَّائِفُ، وَمَا شَيْءٌ خير مِنَ الْخُرُوجِ. فَقَدِمتُ مَكَّةَ فَجَمَعْتُ رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا يَرَوْنَ(1/314)
رأيي ويسمعون مني، فقلت: تعلمون وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو عُلُوًّا مُنْكَرًا، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا. قَالُوا: وَمَا هو؟ قلت: نلحق بالنجاشي فنكون معه، فإن يظهر محمد كنا عند النجاشي، أَحَبُّ إِلَيْنَا مِنْ أَنْ نَكُونَ تَحْتَ يَدِ محمد. وإن تظهر قريش فنحن من قد عَرَفُوا. قَالُوا: هَذَا الرَّأْيُ. قُلْتُ: فَاجْمَعُوا مَا تُهْدُونَهُ لَهُ. وَكَانَ أَحَبَّ مَا يُهْدَى إِلَيْهِ مِنْ أَرْضِنَا الأَدَمُ.
فَجَمَعْنَا لَهُ أَدَمًا كَثِيرًا، ثُمَّ خَرَجْنَا حَتَّى أَتَيْنَاهُ، فَأَنَا لَعِنْدَهُ؛ إِذْ جَاءَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى النَّجَاشِيِّ لِيُزَوِّجَهُ بِأُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ، فَقُلْتُ لأَصْحَابِي: لَوْ دخلت على النجاشي، فسألته هَذَا فَأَعْطَانِيهِ لَقَتَلْتُهُ لأُسِرَّ بِذَلِكَ قُرَيْشًا. فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَسَجَدْتُ لَهُ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِصَدِيقِي، أَهْدَيْتَ لِي مِنْ بِلادِكَ شَيْئًا؟ قُلْتُ: نَعَمْ أَيُّهَا الْمَلِكُ أَهْدَيْتُ لَكَ أَدَمًا. وَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ، فَأَعْجَبَهُ، فَفَرَّقَ مِنْهُ أَشْيَاءَ بَيْنَ بَطَارِقَتِهِ. ثُمَّ قُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُ رَجُلا خَرَجَ مِنْ عِنْدِكَ وَهُوَ رَسُولُ عَدُوٍّ لَنَا قَدْ وَتَرَنَا وَقَتَلَ أَشْرَافَنَا، فَأَعْطِنِيهِ فَأَقْتُلَهُ. فَغَضِبَ، وَرَفَعَ يَدَهُ فَضَرَبَ بِهَا أَنْفِي ضَرْبَةً ظَنَنْتُ أَنَّهُ كَسَرَهُ، فَابْتَدَرَ مَنْخَرَاي فجعلت أتلقى الدم بثيابي. فأصابني من ذلك الذُّلِّ مَا لَوِ انْشَقَّتْ لِي الأَرْضُ دَخَلْتُ فِيهَا فَرَقًا مِنْهُ.
ثُمَّ قُلْتُ: أَيُّهَا الْمَلِكُ: لَوْ ظَنَنْتَ أَنَّكَ تَكْرَهُ مَا قُلْتُ مَا سألتكه. قال: فاستحيا وَقَالَ: يَا عَمْرُو، تَسْأَلُنِي أَنْ أُعْطِيَكَ رَسُولَ مَنْ يَأْتِيهِ النَّامُوسُ الأَكْبَرُ الَّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلامُ لِتَقْتُلَهُ؟ قَالَ عَمْرٌو: وَغَيَّرَ اللَّهُ قَلْبِي عَمَّا كُنْتُ عَلَيْهِ، وَقُلْتُ فِي نَفْسِي: عَرَفَ هَذَا الْحَقَّ الْعَرَبُ وَالْعَجَمُ وَتُخَالِفُ أَنْتَ؟ قُلْتُ: أَتَشْهَدُ أَيُّهَا الْمَلِكُ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، أَشْهَدُ بِهِ عِنْدَ اللَّهِ يَا عَمْرُو، فَأَطِعْنِي وَاتَّبِعْهُ، فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لَعَلَى الْحَقِّ، وَلَيَظْهَرَنَّ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، كَمَا ظَهَرَ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ. قُلْتُ: أَفَتُبَايِعُنِي لَهُ عَلَى الإِسْلامِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَبَسَطَ يَدَهُ فَبَايَعَنِي عَلَى الإِسْلامِ، ثُمَّ دَعَا بَطَسْتٍ، فَغَسَلَ عَنِّي الدَّمَ، وَكَسَانِي ثِيَابًا، وَكَانَتْ ثِيَابِي قَدِ امْتَلأَتْ بِالدَّمِ فَأَلْقَيْتُهَا.
وَخَرَجْتُ عَلَى أَصْحَابِي فَلَمَّا رَأَوْا كِسْوَةَ النَّجَاشِيِّ سُرُّوا بِذَلِكَ وَقَالُوا: هَلْ أَدْرَكْتَ مِنْ صَاحِبِكَ مَا أَرَدْتَ؟ فَقُلْتُ: كَرِهْتُ أَنْ أُكَلِّمَهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ، وَقُلْتُ: أَعُودُ إِلَيْهِ، فَفَارَقْتُهُمْ، وَكَأَنِّي أَعْمِدُ لِحَاجَةٍ، فَعَمَدْتُ إِلَى مَوْضِعِ السُّفُنِ(1/315)
فَأَجِدُ سَفِينَةً قَدْ شُحِنَتْ تُدْفَعُ. فَرَكِبْتُ مَعَهُمْ، وَدَفَعُوهَا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى الشُّعَيْبَةِ. وَخَرَجْتُ مِنَ الشّعيبةِ وَمَعِي نَفَقَةٌ، فَابْتَعْتُ بَعِيرًا، وَخَرَجْتُ أُرِيدُ الْمَدِينَةَ، حَتَّى خَرَجْتُ عَلَى مَرَّ الظَّهْرَانِ. ثُمَّ مضيت حتى إذا كنت بالهدة، فَإِذَا رَجُلانِ قَدْ سَبَقَانِي بِغَيْرِ كَثِيرٍ، يُرِيدَانِ مَنْزِلا، وَأَحَدُهُمَا دَاخِلٌ فِي خَيْمَةٍ، وَالآخَرُ قَائِمٌ يُمْسِكُ الرَّاحِلَتَيْنِ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فقلت: أبا سليمان؟ قال: نعم. قلت: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: مُحَمَّدًا، دَخَلَ النَّاسُ فِي الإسلام فلم يبق أحد به طعم، وَاللَّهِ لَوْ أَقَمْتَ لأَخَذَ بِرِقَابِنَا كَمَا يُؤْخَذُ بِرَقَبَةِ الضَّبُعِ فِي مَغَارَتِهَا. قُلْتُ: وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ أَرَدْتُ مُحَمَّدًا، وَأَرَدْتُ الإِسْلامِ. فَخَرَجَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ، فَرَحَّبَ بِي، فَنَزَلْنَا جَمِيعًا ثُمَّ تَرَافَقْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَا أَنْسَى قَوْلَ رَجُلٍ لقينا بدير أَبِي عِنَبَةَ يَصِيحُ: يَا رَبَاحُ، يَا رَبَاحُ. فَتَفَاءَلْنَا بِقَوْلِهِ، وَسِرْنَا ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْنَا، فَأَسْمَعُهُ يَقُولُ: قَدْ أَعْطَتْ مَكَّةُ الْمُقَادَةَ بَعْدَ هَذَيْنِ. فظننت أنه يعنيني، ويعني خالد بن الوليد. وولى مدبرا إلى المسجد سريعا فَظَنَنْتُ أَنَّهُ بَشَّرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُدُومِنَا، فَكَانَ كَمَا ظَنَنْتُ. وَأَنَخْنَا بِالْحَرَّةِ فَلَبِسْنَا مِنْ صَالِحِ ثِيَابِنَا، وَنُودِيَ بِالْعَصْرِ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى اطَّلَعْنَا عَلَيْهِ، وَإِنَّ لِوَجْهِهِ تَهَلُّلا، وَالْمُسْلِمُونَ حَوْلَهُ قَدْ سُرُّوا بِإِسْلامِنَا. وَتَقَدَّمَ خَالِدٌ فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَبَايَعَ، ثُمَّ تَقَدَّمْتُ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَمَا اسْتَطَعْتُ أَنْ أَرْفَعَ طَرْفِي إِلَيْهِ حَيَاءً مِنْهُ، فَبَايَعْتُهُ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي، وَلَمْ يَحْضُرْنِي مَا تَأَخَّرَ. فَقَالَ: " إِنَّ الإِسْلامَ يَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهُ، وَالْهِجْرَةَ تَجُبُّ مَا كَانَ قَبْلَهَا ". فَوَاللَّهِ مَا عَدَلَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِخَالِدٍ أَحَدًا فِي أَمْرٍ حَزَبَهِ مُنْذُ أَسْلَمْنَا. وَلَقَدْ كُنَّا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ. وَلَقْد كُنْتُ عِنْدَ عُمَرَ بِتِلْكَ الْحَالِ، وَكَانَ عُمَرُ عَلَى خَالِدٍ كَالْعَاتِبِ.
قَالَ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، فَقَالَ: أَخْبَرَنِي رَاشِدٌ مَوْلَى حَبِيبِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ عَمْرٍو؛ نَحْوَ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لِيَزِيدَ: أَلَمْ يُوَقَّتْ لَكَ مَتَى قَدِمَ عَمْرٌو وَخَالِدٌ؟ قَالَ: لا، إِلا(1/316)
أَنَّهُ قَالَ: قَبْلَ الْفَتْحِ. قُلْتُ: فَإِنَّ أَبِي أَخْبَرَنِي أَنَّ عَمْرًا وَخَالِدًا وَعُثْمَان قَدِمُوا الْمَدِينَةَ لِهِلالِ صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أبي حبيب، عن راشد مولى حبيب، عن حبيب بن أبي أوس؛ قال: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ، قَالَ: لَمَّا انْصَرَفْنَا مِنَ الْخَنْدَقِ، جَمَعْتُ رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَرَى أَمْرَ مُحَمَّدٍ يَعْلُو عُلُوًّا مُنْكَرًا، وَاللَّهِ مَا يَقُومُ لَهُ شَيْءٌ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَأْيًا مَا أَدْرِي كَيْفَ رَأْيُكُمْ فِيهِ؟ قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قُلْتُ: أَنْ نَلْحَقَ بِالنَّجَاشِيِّ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، لَكِنْ فِيهِ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ أَنْفَ نَفْسِهِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ قَدْ كَسَرَهُ. وَالْبَاقِي بمعناه مختصرا.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْد الرَّحْمَن بْن الْحَارِثِ بْن هِشَامٍ، قال: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ بِي مَا أَرَادَ مِنَ الْخَيْرِ قَذَفَ فِي قَلْبِي الإِسْلامَ، وَحَضَرَنِي رُشْدِي، وَقُلْتُ: قَدْ شَهِدْتُ هَذِهِ الْمَوَاطِنَ كُلَّهَا عَلَى مُحَمَّدٍ فَلَيْسَ مَوْطِنٌ أَشْهَدُهُ إِلا أَنْصَرِفُ وَأَنَا أَرَى فِي نَفْسِي أَنِّي مُوضَعٌ فِي غَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا سَيَظْهَرُ. فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، خَرَجْتُ فِي خَيْلِ الْمُشْرِكِينَ، فَلَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَصْحَابِهِ بِعُسْفَانَ، فَأَقَمْتُ بِإِزَائِهِ وَتَعَرَّضْتُ لَهُ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ الظُّهْرَ أَمَامَنَا، فَهَمَمْنَا أَنْ نُغِيرَ عَلَيْهِ. ثُمَّ لَمْ يَعْزِمْ لَنَا، وَكَانَتْ فِيهِ خِيَرَةٌ، فَاطَّلَعَ عَلَى مَا فِي أَنْفُسِنَا مِنَ الْهُمُومِ، فَصَلَّى بِأَصْحَابِهِ صَلاةَ الْعَصْرِ صَلاةَ الْخَوْفِ. فَوَقَعَ ذَلِكَ مِنَّا مَوْقِعًا، وَقُلْتُ: الرَّجُلُ مَمْنُوعٌ. فَافْتَرَقْنَا، وَعَدَلَ عَنْ سَنَنِ خَيْلِنَا، وَأَخَذْتُ ذَاتَ الْيَمِينِ.
فَلَمَّا صَالَحَ قُرَيْشًا قُلْتُ: أَيُّ شَيْءٍ بَقِيَ؟ أَيْنَ الْمَذْهَبُ؟ إِلَى النَّجَاشِيِّ؟ فَقَدِ اتَّبَعَ مُحَمَّدًا، وَأَصْحَابُهُ عِنْدَهُ آمِنُونَ. فَأَخْرُجُ إِلَى هِرَقْلَ؟ فَأَخْرُجُ مِنْ ديني إلى النصرانية أو اليهودية فأقيم مع عجم تابعا مع عيب ذَلِكَ؟ أَوْ أُقِيمُ فِي دَارِي فِيمَنْ بَقِيَ؟ فَأَنَا عَلَى ذَلِكَ، إِذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ، فَتَغَيَّبْتُ. وَكَانَ أَخِي الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ قَدْ دَخَلَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ.(1/317)
فَطَلَبَنِي فَلَمْ يَجِدْنِي، فَكَتَبَ إِلَيَّ كِتَابًا فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْد؛ فَإِنِّي لَمْ أَرَ أَعْجَبَ مِنْ ذَهَابِ رَأْيِكَ عَنِ الإِسْلامِ، وَعَقْلُكَ عَقْلُكَ، وَمَثَلُ الإِسْلامِ يَجْهَلُهُ أَحَدٌ؟ قَدْ سَأَلَنِي رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عنك فَقَالَ: أَيْنَ خَالِدٌ؟ فَقُلْتُ: يَأْتِي اللَّهُ بِهِ. فَقَالَ: مَا مَثَلُهُ جَهِلَ الإِسْلامَ، وَلَوْ كَانَ جَعَلَ نِكَايَتَهُ وَجَدَّهُ مَعَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ كَانَ خَيْرًا لَهُ وَلَقَدَّمْنَاهُ عَلَى غَيْرِهِ. فَاسْتَدْرِكْ يَا أَخِي مَا قَدْ فَاتَكَ. فَلَمَّا جَاءَنِي كِتَابُهُ، نَشِطْتُ لِلْخُرُوجِ، وَزَادَنِي رَغْبَةً فِي الإِسْلامِ. وَأَرَى فِي النَّوْمِ كَأَنِّي فِي بِلادٍ ضَيِّقَةٍ جَدْبَةٍ، فَخَرَجْتُ إِلَى بِلادٍ خَضْرَاءَ وَاسِعَةٍ قُلْتُ: إِنَّ هَذِهِ لَرُؤْيَا.
فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ قُلْتُ: لأَذْكُرَنَّهَا لأَبِي بَكْرٍ، فَذَكَرْتُهَا، فَقَالَ: هُوَ مَخْرَجُكَ الَّذِي هَدَاكَ اللَّهُ لِلإِسْلامِ، وَالضَّيِّقُ هُوَ الشِّرْكُ. قَالَ: فَلَمَّا أَجْمَعْتُ الْخُرُوجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: مَنْ أُصَاحِبُ إِلَى مُحَمَّدٍ؟ فَلَقِيتُ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ. فَقُلْتُ: يا أبا وهب. أما ترى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ إِنَّمَا كُنَّا كَأَضْرَاسٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مُحَمَّدٌ عَلَى الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَلَوْ قَدِمْنَا عَلَى مُحَمَّدٍ فَاتَّبَعْنَاهُ فَإِنَّ شَرَفَهُ لَنَا شَرَفٌ. فَأَبَى أَشَدَّ الإِبَاءِ وَقَالَ: لَوْ لَمْ يَبْقَ غَيْرِي مَا اتَّبَعْتُهُ أَبَدًا. فَافْتَرَقْنَا وَقُلْتُ: هَذَا رجل قتل أخوه وأبوه بِبَدْرٍ. فَلَقِيتُ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فَقُلْتُ لَهُ مِثْلَ مَا قُلْتُ لِصَفْوَانَ، فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قَالَ صَفْوَانُ. قُلْتُ: فَاكْتُمْ ذِكْرَ مَا قُلْتُ لَكَ. وَخَرَجْتُ إِلَى مَنْزِلِي، فَأَمَرْتُ براحلتي أن تخرج إِلَى أَنْ أَلْقَى عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ. فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَا لِي صَدِيقٌ، فَذَكَرْتُ لَهُ، فَقَالَ: نعم، إني عمدت اليوم، وأنا أريد أن أغدو، وهذه راحلتي بفخ منَاخَةَ، قَالَ: فَاتَّعَدْتُ أَنَا وَهُوَ بِيَأْجَجَ، وَأَدْلَجْنَا سَحَرًا، فَلَمْ يَطْلَعِ الْفَجْرُ حَتَّى الْتَقَيْنَا بِيَأْجَجَ، فَغَدَوْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الْهَدَّةِ. فَنَجِدُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ بِهَا، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالْقَوْمِ. فَقُلْنَا: وَبِكَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ: كَانَ قُدُومُنَا فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَمَانٍ. فَوَاللَّهِ مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ يَوْمِ أَسْلَمْتُ يَعْدِلُ بِي أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا حزبه.(1/318)
-سَرِيَّةُ شجاع بْن وهْب الأسديّ
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي سَبْرَةَ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي فَرْوَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ رَجُلا، إِلَى جَمْعٍ مِنْ هَوَازِنَ. وَأَمَرَهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَيْهِمْ. فَخَرَجَ يَسِيرُ اللَّيْلَ وَيَكْمُنُ النَّهَارَ، حَتَّى صَبَّحَهُمْ غَارِّينَ، فَأَصَابُوا نَعَمًا وَشَاءً، فَاسْتَاقُوا ذَلِكَ إِلَى الْمَدِينَةِ. فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ. وَعَدَلُوا البعير بعشرين مِنَ الْغَنَمِ. وَغَابَتِ السَّرِيَّةُ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
قَالَ ابن أَبِي سَبْرة: فحدّثت بِهِ مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عثمان، فقال: كذبوا. قد أصابوا فِي ذَلِكَ الحاضر نسوةً فاستاقوهنّ، فكانت فيهنّ جارية وضِيئة، فقدموا بِهَا المدينة، ثُمَّ قدِم وفْدُهم مسلمين، فكلّموا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السبْي. فكلّم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شجاعا وأصحابه في ردهن. فردوهن. قال ابن أبي سبرة: فأخبرت شيخا من الأنصار بذلك، فقال: أما الجارية الوضيئة فأخذها شجاع بثمنٍ فأصابها. فلما قدِم الوفد، خيَّرها فاختارت شجاعًا. فَقُتِلَ يوم اليَمامة وهي عنده.
-سَرِيَّةُ نَجْدٍ
قَالَ نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سَرِيَّةً قِبَل نَجْدٍ وَأَنَا فِيهِمْ. فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً. فَبَلَغَتْ سُهْمَانُهُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا، ثُمَّ نُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا، فَلَمْ يغير رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عليه.(1/319)
-سرية كعب بن عمير
قال الواقدي: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَعْبَ بْنَ عُمَيْرٍ الْغِفَارِيَّ، فِي خَمْسَةَ عَشَرَ رَجُلا حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى ذَاتِ أَطْلاحٍ مِنَ الشَّامِ. فَوَجَدُوا جَمْعًا مِنْ جَمْعِهِمْ كَثِيرًا، فَدَعُوهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ، وَرَشَقُوهُمْ بِالنَّبْلِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ قَاتَلُوهُمْ أَشَدَّ الْقِتَالِ، حَتَّى قُتِلُوا، فَأَفْلَتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ جَرِيحٌ فِي القتلى، فلما برد عَلَيْهِ اللَّيْلُ، تَحَامَلَ حَتَّى أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم بالبعثة إِلَيْهِمْ، فَبَلَغَهُ أَنَّهُمْ سَارُوا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ، فتركهم، والله أعلم.
-غزوة مؤته.
قَالَ محمد بن سعد: أخبرنا محمد بن عمر، قال: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَارِثَ بْنَ عُمَيْرٍ الأَزْدِيَّ إِلَى مَلِكِ بُصْرَى بِكِتَابِهِ. فَلَمَّا نَزَلَ مُؤْتَةَ عَرَضَ لِلْحَارِثِ شُرَحْبِيلُ بْنُ عَمْرٍو الْغَسَّانِيُّ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: الشَّامَ. قَالَ: لَعَلَّكَ مِنْ رُسُلِ مُحَمَّدٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَأَمَرَ بِهِ فَضُرِبَتْ عُنُقُهُ. وَلَمْ يُقْتَلْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولٌ غَيْرُهُ.
وَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخبر، فاشتد عَلَيْهِ، وَنَدَبَ النَّاسَ فَأَسْرَعُوا. وَكَانَ ذَلِكَ سَبَبَ خُرُوجِهِمْ إِلَى غَزْوَةِ مُؤْتَةَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَةِ الْقَضَاءِ فِي ذِي الْحِجَّةِ، فَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى بَعَثَ إِلَى مُؤْتَةَ فِي جُمَادَى مِنْ سَنَةِ ثَمَانٍ، وَأَمَّرَ عَلَى النَّاسِ(1/320)
زَيْدَ بْنَ حَارِثة. وَقَالَ: إِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ فَلْيَرْتَضِ المسلمون رجلا. فتهيؤوا لِلْخُرُوجِ، وَوَدَّعَ النَّاسُ أُمَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَبَكَى ابْنُ رَوَاحَةَ، فَقَالُوا: مَا يُبْكِيكَ؟ فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ مَا بِي حُبٌّ لِلدُّنْيَا، وَلا صَبَابَةٌ إِلَيْهَا، وَلَكِنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا}، فَلَسْتُ أَدْرِي كَيْفَ لِي بِالصَّدْرِ بَعْدَ الْوُرُودِ؟ فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: صَحِبَكُمُ اللَّهُ وَرَدَّكُمْ إِلَيْنَا صَالِحِينَ وَدَفَعَ عَنْكُمْ. فَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ:
لَكِنَّنِي أَسْأَلُ الرَّحْمَنَ مغفرة ... وضربة ذات فرع تَقْذِفُ الزَّبَدَا
أَوْ طَعْنَةً بِيَدَيْ حَرَّانَ مُجْهِزَةً ... بِحَرْبَةٍ تُنْفِذُ الأَحْشَاءَ وَالْكَبِدَا
حَتَّى يَقُولُوا إِذَا مَرُّوا عَلَى جَدَثِي ... يَا أَرْشَدَ اللَّهِ مِنْ غَازٍ وَقَدْ رَشَدَا
ثُمَّ إِنَّهُ وَدَّعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، وقال:
ثبت اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ مُوسَى وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا
إِنِّي تَفَرَّسْتُ فِيكَ الْخَيْرَ نافلة ... والله يعلم أني ثابت بصر
أَنْتَ الرَّسُولُ فَمَنْ يُحْرَمُ نَوَافِلَهُ ... وَالْوَجْهَ مِنْهُ فَقَدْ أَزْرَى بِهِ الْقَدَرُ
ثُمَّ خَرَجَ الْقَوْمُ حَتَّى نَزَلُوا مَعَانَ، فَبَلَغَهُمْ أَنَّ هِرَقْلَ قَدْ نزل مآرب فِي مِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَمِائَةِ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ، فَأَقَامُوا بِمَعَانَ يَوْمَيْنِ، وَقَالُوا: نَبْعَثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَبَرِهِ. فَشَجَّعَ النَّاسُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ، فَقَالَ: يَا قَوْمُ، وَاللَّهِ إِنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ للتي خرجتم لها تطلبون، الشهادة. وما نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلا كَثْرَةٍ، وَإِنَّمَا نُقَاتِلُهُمْ بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِهِ، فَإِنْ يُظْهِرْنَا اللَّهُ بِهِ فَرُبَّمَا فَعَلَ، وَإِنْ تَكُنِ الأُخْرَى فَهِيَ الشَّهَادَةُ، وَلَيْسَتْ بِشَرِّ الْمَنْزِلَتَيْنِ.
فَقَالَ النَّاسُ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَدَقَ فَانْشَمَرَ النَّاسُ، وَهُمْ ثَلاثَةُ آلافٍ، حَتَّى لَقُوا جُمُوعَ الرُّومِ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الْبَلْقَاءِ يُقَالُ لَهَا مَشَارِفُ، ثُمَّ انحاز المسلمون إلى مؤتة، قرية فوق أحساء. وَكَانُوا ثَلاثَةَ آلافٍ.(1/321)
وقال الواقدي: حدثني ربيعة بن عثمان عن الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ شَهِدْتُ مُؤْتَةَ، فلما رآنا المشركون رَأَيْنَا مَا لا قِبَلَ لأَحَدٍ بِهِ مِنَ الْعُدَّةِ وَالسِّلاحِ وَالْكَرَاعِ وَالدِّيبَاجِ وَالذَّهَبِ. فَبَرِقَ بَصَرِي، فَقَالَ لِي ثَابِتُ بْنُ أَقْرَمَ: مَا لَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كَأَنَّكَ تَرَى جُمُوعًا كَثِيرَةً؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: لَمْ تَشْهَدْ مَعَنَا بَدْرًا، إِنَّا لَمْ نُنْصَرْ بِالْكَثْرَةِ.
وَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، فَإِنْ قُتِلَ زَيْدٌ فَجَعْفَرٌ، وَإِنْ قُتِلَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: كُنْتُ مَعَهُمْ، فَفَتَّشْنَاهُ - يَعْنِي ابْنَ رَوَاحَةَ - فَوَجَدْنَا فِيمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ بِضْعًا وَسَبْعِينَ، بَيْنَ طَعْنَةٍ وَرَمْيَةٍ.
وَقَالَ مُصْعَبٌ الزُّبَيْرِيُّ وَغَيْرُهُ، عن مغيرة: بِضْعًا وَتِسْعِينَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ عُثْمَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْحَكَمِ، عن أبيه قال: جاء النعمان بن مهص الْيَهُودِيُّ، فَوَقَفَ مَعَ النَّاسِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ أَمِيرُ الناس، فإن قتل زيد فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ قُتِلَ عَبْدُ اللَّهِ فليرتض المسلمون رجلا فليجعلوه عَلَيْهِمْ ". فَقَالَ النُّعْمَانُ: أَبَا الْقَاسِمِ، إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا، فَسَمَّيْتَ مَنْ سَمَّيْتَ قَلِيلا أَوْ كَثِيرًا أُصِيبُوا جَمِيعًا، إِنَّ الأَنْبِيَاءَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانُوا إِذَا اسْتَعْمَلُوا الرَّجُلَ عَلَى الْقَوْمِ، فَقَالُوا: إِنْ أُصِيبَ فُلانٌ فَفُلانٌ، فَلَوْ سَمَّوْا مِائَةً أُصِيبُوا جَمِيعًا. ثُمَّ جَعَلَ الْيَهُودِيُّ يَقُولُ لِزَيْدٍ: اعْهَدْ، فَلا تَرْجِعْ إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا. قال زيد: أشهد أنه نبي بار صادق.(1/322)
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: كَانَ عَلَى مَيْمَنَةِ الْمُسْلِمِينَ قُطْبَةُ بْنُ قَتَادَةَ الْعُذْرِيُّ، وَعَلَى الْمَيْسَرَةِ عَبَايَةُ بْنُ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيُّ. وَالْتَقَى النَّاسُ. فحدثني يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أبيه، قال: حدثني أَبِي مِنَ الرَّضَاعَةِ، وَكَانَ أَحَدُ بَنِي مُرَّةَ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: وَاللَّهِ لَكَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ مُؤْتَةَ حِينَ اقْتَحَمَ عَنْ فَرَسٍ لَهُ شَقْرَاءَ فَعَقَرَهَا ثُمَّ تَقَدَّمَ فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ عُقِرَ فِي الْإِسْلَامِ، وَقَالَ جعفر:
يا حبذا الجنة واقترابها ... طيبة باردة شرابها
والروم روم قَدْ دَنَا عَذَابُهَا ... عَلِيَّ إِنْ لَاقَيْتُهَا ضِرَابُهَا
فلما قتل أخذ الراية عبد الله بن رواحة.
حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عُرْوة قَالَ: أخذها عَبْد الله بْن رَواحة فالتوى بها بعض الالتواء، ثم تقدم بها عَلَى فرسه فجعل يستنزل نفسَه ويتردّد.
حَدَّثَنِي عَبْد اللَّهِ بْن أَبِي بَكْر، أَنَّ ابن رَوَاحة قَالَ عند ذَلِكَ:
أقسمْتُ يا نَفْسُ لتنزلنه ... طائعة أو سوف تكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنه ... مالي أراك تكرهين الجنة
يا طالما قد كنتِ مُطْمئنَه ... هَلْ أنتِ إلّا نطفة فِي شَنَّهْ
ثُمَّ نزل فقاتل حتى قُتِل.
قَالَ ابن إِسْحَاق: وقال أيضًا:
يا نفس إنْ لا تُقتلي تموتي ... هذا حِمامُ الموتِ قد صُلِيت
وما تمنَّيتِ فقد أُعْطيِتِ ... إنْ تفعلي فعلهما هُديتِ
وإنْ تأخَّرتِ فقد شَقِيتِ
فلما نزل أتى ابن عمّ لَهُ بعَرق لحم فقال: شد بِهَا صُلْبَك، فنهس منه(1/323)
نهسةً، ثُمَّ سَمِعَ الحَطْمة فِي ناحيةٍ فقال: وأنت فِي الدنيا؟ فألقاه من يده. ثُمَّ قاتل حتى قُتِل.
فحدّثني مُحَمَّد بْن جَعْفَر، عَنْ عُرْوة قَالَ: ثُمَّ أخذ الراية ثابت بْن أقرم، فقال: اصطلحوا يا معشر المسلمين عَلَى رَجُل. قَالُوا: أنت لَهَا. فقال: لا. فاصطلحوا، على خالد بن الوليد. فحاش بالناس، فدافع وانحاز وانحيز عَنْهُ، ثُمَّ انصرف بالنّاس.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ هِلَالٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: نَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَابْنَ رَوَاحَةَ، نَعَاهُمْ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ خَبَرُهُمْ، وَعَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَزَادَ فِيهِ: فَنَعَاهُمْ، وَقَالَ: أَخَذَ الرَّايَةَ زَيْدٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا جَعْفَرٌ فَأُصِيبَ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ رَوَاحَةَ فَأُصِيبَ. ثُمَّ أَخَذَ الرَّايَةَ بَعْدَهُمْ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ: خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: فَجَعَلَ يُحَدِّثُ النَّاسَ وعيناه تذرفان.
وقال سليمان بن حرب: حدثنا الْأَسْوَدُ بْنُ شَيْبَانَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ سُمَيْرٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَيْنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَبَاحٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ تُفَقِّهُهُ، فَغَشِيَهُ النَّاسُ، فَغَشِيتُهُ فيمن غشيه من الناس. فقال: حدثنا أَبُو قَتَادَةَ فَارِسُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيْشَ الْأُمَرَاءِ، وَقَالَ: " عَلَيْكُمْ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ أُصِيبَ فَجَعْفَرٌ، فَإِنْ أُصِيبَ جَعْفَرٌ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ "، فَوَثَبَ جَعْفَرٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كُنْتُ أرهب أَنْ تَسْتَعْمِلَ زَيْدًا عَلِيَّ. قَالَ: فَامْضِ. فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ خَيْرٌ. فَانْطَلَقُوا، فَلَبِثُوا مَا شَاءَ اللَّهُ.
فَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرِ، وَأَمَرَ فَنُودِيَ: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ. فَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أُخْبِرُكُمْ عَنْ جَيْشِكُمْ هَذَا: إِنَّهُمْ انْطَلَقُوا فَلَقُوا الْعَدُوَّ، فَقُتِلَ زَيْدٌ شَهِيدًا "، فَاسْتَغْفَرَ لَهُ. ثُمَّ قَالَ: " أَخَذَ اللِّوَاءَ جَعْفَرٌ فَشَدَّ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا "، شَهِدَ لَهُ بِالشَّهَادَةِ وَاسْتَغْفَرَ لَهُ. " ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَأَثْبَتَ قَدَمَيْهِ حَتَّى قُتِلَ شَهِيدًا "،(1/324)
فَاسْتَغْفَرَ لَهُ " " ثُمَّ أَخَذَ اللِّوَاءَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْأُمَرَاءِ وَهُوَ أَمَّرَ نَفْسَهُ "، ثُمَّ قَالَ: " الَّلهُمَّ إِنَّهُ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِكَ، فَأَنْتَ تَنْصُرُهُ ". فَمِنْ يَوْمِئِذٍ سُمِّيَ خَالِدٌ " سَيْفَ اللَّهِ ".
وقال البكّائي، عَنِ ابن إِسْحَاق: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " أخذ الرايةَ زيدُ فقاتل بِهَا حتى قُتِل شهيدًا، ثُمَّ أخذها جَعْفَر فقاتل حتى قُتل شهيدًا "، ثُمَّ صمت، حتى تغيَّرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كَانَ فِي عَبْد الله بعضُ ما يكرهون. فقال: " ثُمَّ أخذها عَبْد الله بْن رَوَاحة فقاتل بِهَا حتى قُتِل شهيدًا "، ثُمَّ قَالَ: " لقد رُفِعوا إلى الجنة فيما يرى النّائم عَلَى سُرُرٍ من ذهب. فرأيت فِي سرير عَبْد الله ازورارًا عَنْ سريرَيْ صاحبَيْه. فقلت: عمَّ هذا؟ فقيل لي: مَضَيا وتردّد عَبْد الله بعضَ التردّد ثُمَّ مضى ".
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ فضيل، عن أبيه قال: لما أخذ خالد الراية: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ".
قَالَ: فحدّثني العَطَّاف بْن خَالِد قَالَ: لما قُتِل ابن رَوَاحة مساءً، بات خَالِد، فلما أصبح غدا وقد جعل مقدّمته ساقةً، وساقَتَه مقدِّمة، وميمَنَتَه مَيْسَرَةً، ومَيْسَرَتَهُ مَيْمَنَةً. فأنكروا ما كانوا يعرِفون من راياتهم وهيئتهم، وقالوا: قد جاءهم مدد، فرُعِبُوا فانكشفوا منهزمين، فقُتِلوا مَقْتَلةً لم يُقْتَلْها قومٌ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، سَمِعْتُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ يَقُولُ: لَقَدِ انْدَقَّ فِي يَدِي يَوْمَ مُؤْتَةَ تِسْعَةُ أَسْيَافٍ، فَمَا بَقِيَ فِي يَدِي إِلَّا صَفِيحَةٌ يَمَانِيةٌ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ التَّمَّارُ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَمَّا قُتِلَ زَيْدٌ أَخَذَ الرَّايَةَ جَعْفَرٌ فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ فَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْحَيَاةَ وَكَرَّهَ إِلَيْهِ الْمَوْتَ وَمَنَّاهُ الدُّنْيَا، فَقَالَ: الآنَ حِينَ اسْتَحْكَمَ الإِيمَانُ فِي(1/325)
قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ، تُمَنِّينِي الدُّنْيَا؟ ثُمَّ مَضَى قُدُمًا حَتَّى اسْتُشْهِدَ "، فَصَلَّى عَلَيْهِ وَدَعَا لَهُ، وَقَالَ: " اسْتَغْفِرُوا لَهُ، فَإِنَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَهُوَ يَطِيرُ فِي الْجَنَّةِ بِجَنَاحَيْنِ مِنْ يَاقُوتٍ حَيْثُ يَشَاءُ مِنَ الْجَنَّةِ ".
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: السَّلامُ عَلَيْكَ يا ابن ذي الجناحين. رواه البخاري.
وقال عبد الوهاب الثقفي: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: أخبرتني عمرة، قال: سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ: لَمَّا جَاءَ قَتْلُ جَعْفَرٍ وَابْنِ حَارِثَةَ وَابْنِ رَوَاحَةَ، جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَطَّلِعُ مِنْ شِقِّ الْبَابِ. فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ نساء جعفر؛ وذكر بكاءهن، فأمره أَنْ يَنْهَاهُنَّ فَذَهَبَ الرَّجُلُ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: قد نهيتهن وذكر أنهن لم يطعنه. فأمره الثَّانِيَةَ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَى فَقَالَ: وَاللَّهِ قَدْ غَلَبْنَنَا. فَزَعَمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " فَاحْثُ فِي أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ ". فَقُلْتُ: أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، مَا أنت تفعل، وَمَا تَرَكْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْعَنَاءِ؟ أَخْرَجَاهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى عَنْهُ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر بن حزم، عن أم عيسى الجزار، عَنْ أُمِّ جَعْفَرٍ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ، قَالَتْ: لَمَّا أُصِيبَ جَعْفَرٌ وَأَصْحَابُهُ، دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ عَجَنْتُ عَجِينِي وَغَسَلْتُ بَنِيَّ وَدَهَنْتُهُمْ وَنَظَّفْتُهُمْ. فَقَالَ: " ائْتِينِي بِبَنِي جَعْفَرٍ ". فَأَتَيْتُهُ بِهِمْ، فَشَمَّهُمْ، فَدَمَعَتْ عَينَاهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي مَا يُبْكِيكَ؟ أَبَلَغَكَ عَنْ جَعْفَرٍ وأصحابه؟ فَقَالَ: نَعَمْ، أُصِيبُوا هَذَا الْيَوْمَ. فَقُمْتُ أَصِيحُ، واجتمع(1/326)
النَّاسُ. فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَهْلِهِ، فَقَالَ: " لا تَغْفَلُوا آلَ جَعْفَرٍ أَنْ تَصْنَعُوا لَهُمْ طَعَامًا، فَإِنَّهُمْ قَدْ شُغِلُوا بِأَمْرِ صَاحِبِهِمْ ".
قَالَ ابن إِسْحَاق: فسمعت عَبْد الله بْن أَبِي بَكْر يَقْولُ: لقد أدركت الناس بالمدينة إذا مات لهم مَيِّتٌ؛ تكلّف جيرانُهم يومَهم ذَلِكَ طعامَهم؛ فَلَكَأَنّي أنظر إليهم قد خبزوا خُبزًا صِغارًا، وصنعوا لحمًا، فُيجعل فِي جَفْنَةٍ، ثُمَّ يأتون بِهِ أهلَ الميّت، وهم يبكون عَلَى ميّتهم مُشتغلين فيأكلونه. ثُمَّ إنّ النّاس تركوا ذَلِكَ.
فَائِدَةٌ: أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ، مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: خَرَجْتُ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، فَرَافَقَنِي مَدَدِيٌّ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ، لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُ سَيْفِهِ. فَنَحَرَ رَجُلٌ جَزُورًا فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، فَأَعْطَاهُ فَاتَّخَذَهُ كَهَيْئَةِ الدَّرَقَةِ. وَمَضَيْنَا فَلَقِينَا جُمُوعَ الرُّومِ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ لَهُ أَشْقَرَ وَعَلَيْهِ سَرْجٌ مُذَهَّبٌ وَسِلَاحٌ مُذهَّبٌ، فجعل يفري بِالْمُسْلِمِينَ. وَقَعَدَ لَهُ الْمَدَدِيُّ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَمَرَّ بِهِ الرُّومِيُّ فَعَرْقَبَ فَرَسَهُ، فَخَرَّ وَعَلَاهُ فَقَتَلَهُ وَحَازَ فَرَسَهُ وَسِلَاحَهُ. فَأَخَذَهُ مِنْهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالسَّلْبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنِّي اسْتَكْثَرْتُهُ. قُلْتُ: لَتَرُدَّنَّهُ أو لأعرفنكها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ: فاجتمعنا، فقصصت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقِصَّةَ، فَقَالَ لِخَالِدٍ: " مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ "؟ قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ. قَالَ: " رُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ". فَقُلْتُ: دُونَكَ يَا خَالِدٌ، أَلَمْ أَقُلْ لَكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَا ذاك "؟ فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: فَغَضِبَ وَقَالَ: " يا خَالِدُ لَا تَرُدَّهُ عَلَيْهِ. هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي أُمَرَائِي، لَكُمْ صَفْوَةُ أَمْرِهِمْ وَعَلَيْهِمْ كَدَرُهُ ".
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يعلى، قال سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ يَقُولُ: أَنَا أَحْفَظُ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمِّي، فَنَعَى لَهَا أَبِي، فَأَنْظُرُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَمْسَحُ عَلَى رَأْسِي وَرَأْسِ أخي، وعيناه تهراقان(1/327)
الدُّمُوعَ ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ إِنَّ جَعْفَرًا قَدْ قَدِمَ إِلَيْكَ إِلَى أَحْسَنِ ثَوَابٍ، فَاخْلُفْهُ فِي ذُرِّيَّتِهِ بِأَحْسَنَ مَا خَلَفْتَ أَحَدًا مِنْ عِبَادِكَ فِي ذُرِّيَّتِهِ ". ثُمَّ قَالَ: " يَا أَسْمَاءُ، أَلا أُبَشِّرُكِ "؟ قَالَتْ: بَلَى، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي. قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِجَعْفَرٍ جَنَاحَيْنِ يَطِيرُ بِهِمَا في الجنة ". قالت: فَأَعْلَمَ النَّاسَ ذَلِكَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حدثني سليمان بن بلال، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ؛ قَالَ: أُصِيبَ بِهَا نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَغَنِمَ الْمُسْلِمُونَ بَعْضَ أَمْتِعَةِ الْمُشْرِكِينَ. فَكَانَ مِمَّا غَنَمُوا خَاتَمٌ جَاءَ بِهِ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: قَتَلْتُ صَاحِبَهُ يَوْمَئِذٍ، فَنَفَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ.
وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيُّ: لَقِينَاهُمْ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ قُضَاعَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ، فَصَافُّوا، فَجَعَلَ رَجُلٌ مِنَ الرُّومِ يَشْتَدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. فَجَعَلْتُ أَقُولُ فِي نَفْسِي: مَنْ لِهَذَا؟ وَقَدْ رَافَقَنِي رَجُلٌ مِنْ أَمْدَادِ حِمْيَرٍ، لَيْسَ مَعَهُ إِلا السَّيْفُ، إِذْ نَحَرَ رَجُلٌ جَزُورًا فَسَأَلَهُ الْمَدَدِيُّ طَائِفَةً مِنْ جِلْدِهِ، فَوَهَبَهُ مِنْهُ، فَجَعَلَهُ فِي الشَّمْسِ وَأَوْتَدَ عَلَى أَطْرَافِهِ أَوْتَادًا، فَلَمَّا جَفَّ اتَّخَذَ مِنْهُ مِقْبَضًا وَجَعَلَهُ دَرَقَةً. قَالَ: فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ الْمَدَدِيُّ فِعْلَ الرُّومِيِّ، كَمَنَ لَهُ خَلْفَ صَخْرَةٍ، فَلَمَّا مَرَّ بِهِ خرج عليه فعرقب فرسه، فقعد الفرس على رجليه وخر عنه العلج، فشد عَلَيْهِ فَعَلاهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ.
قَالَ: وَحَدَّثَنِي بُكَيْرُ بن مسمار، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَضَرْتُ مُؤْتَةَ فَبَارَزَنِي رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَأَصَبْتُهُ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ لَهُ فِيهَا يَاقُوتَةٌ، فَأَخَذْتُهَا، فَلَمَّا انْكَشَفْنَا فَانْهَزَمْنَا رَجَعْتُ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَأَتَيْتُ بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَفَلَنِيهَا، فَبِعْتُهَا زَمَنَ عُثْمَانَ بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَاشْتَرَيْتُ بِهَا حَدِيقَةَ نَخْلٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ حدثني مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ أَصْحَابُ مُؤْتَةَ تَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ. فَجَعَلُوا يَحْثُونَ عَلَيْهِمُ التُّرَابَ وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَيْسُوا بِالفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الْكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ(1/328)
قَالَتْ لامْرَأَةِ سلَمَةَ بْنِ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ: مَا لِي لا أَرَى سَلَمَةَ يَحْضُرُ الصَّلاةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَتْ: وَاللَّهِ مَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْرُجَ؛ كُلَّمَا خَرَجَ صَاحَ بِهِ النَّاسُ: يَا فُرَّارُ، فَرَرْتُم فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكَانَ فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ.
وعن زيد بْن أرقم قَالَ: كنت يتيمًا لعبد الله بْن رَوَاحة فِي حِجْره، فخرج بي فِي سَفَره ذَلِكَ، مُرْدِفي عَلَى حقيبة رَحْله، فَوَالله إنّه لَيَسِير إذ سَمِعْتُهُ ينشد أبياته هذه:
إذا أدْنَيْتَني وحملتِ رَحلي ... مَسيرةَ أربعٍ بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخَلاكِ ذم ... ولا أَرْجعْ إلى أهلي وَرَائي
وآب المسلمون وغادروني ... بأرض الشام مشهور الثَّواء
وردَّكَ كلّ ذي نَسَبٍ قريبٍ ... إلى الرَّحْمَن منقطَع الإِخاء
هنالك لا أُباليَ طلع بعل ... ولا نخل أَسَافِلُها رواء
فلما سمعتهنّ بكيت، فَخَفَقَني بالدِّرَّة وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة وترجع بين شُعْبَتَيْ الرحل!
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ أَنَّ جَعْفَرًا أَخَذَ اللِّوَاءَ بِيَمِينِهِ فَقُطِعَتْ، فَأَخَذَهُ بِشِمَالِهِ فقطعت، فاحتضنته بِعَضُدَيْهِ حَتَّى قُتِلَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سنة. فأثابه الله تعالى بذلك جناحين في الجنة يَطِيرُ بِهِمَا حَيْثُ شَاءَ. وَرَوَى أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ بِالرِّمَاحِ.
-ترجمة جعفر بن أبي طالب. [المتوفى: 8 ه]
قُلْتُ: وَكَانَ جَعْفَرٌ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ، هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي ".(1/329)
وقال عكرمة عن أبي هريرة قال: مَا احْتَذَى النِّعَالَ وَلا رَكِبَ الْمَطَايَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ من جعفر، وَكُنَّا نُسَمِّيهِ أَبَا الْمَسَاكِينِ.
وَقَالَ مُجَالِدٌ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: مَا سَأَلْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَيْئًا بِحَقِّ جَعْفَرٍ إِلا أَعْطَانِيهِ.
وعن ابن عُمَر قَالَ: وجدت فِي مقدَّم جَسَد جَعْفَر يوم مُؤْتة بِضعًا وأربعين ضَرْبةً. ولما قدِم جعفرُ من الحَبَشَة عند فتح خيبر، رَوَى أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعتنقه وقال: " ما أدري أَنَا أُسَرّ بقدُومُ جَعْفَر أو بفتح خيبر ".
وَقَالَ مَهْدِيُّ بْنُ مَيْمُونٍ، عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَعْقُوبَ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ: لَمَّا نَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعْفَرًا أَتَانَا فَقَالَ: أَخْرِجُوا إِلَيَّ بَنِي أَخِي. فَأَخْرَجَتْنَا أُمُّنَا أُغَيْلِمَةً ثلاثة كأنهم أفرخ: عَبْدُ اللَّهِ، وَعَوْنٌ، وَمُحَمَّدٌ.
-ترجمة زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ [المتوفى: 8 ه]
وَأَمَّا أَبُو أُسَامَةَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بْنِ شراحيل الْكَلْبِيُّ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ الْمَوَالِي؛ فَإِنَّهُ مِنْ كِبَارِ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ وَكَانَ مِنَ الرُّمَاةِ الْمَذْكُورِينَ. آخَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعَاشَ خَمْسًا وَخَمْسِينَ سَنَةً، وَهُوَ الَّذِي سَمَّى اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا}، يَعْنِي مِنْ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ: {زَوَّجْنَاكَهَا} وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَدْعُونَهُ زَيْدَ ابن النبي صلى الله عليه وسلم حَتَّى نَزَلَتْ: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أبناءكم}.(1/330)
وَقَالَ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ}.
رَوَى عَنْ زَيْدٍ ابْنُهُ أُسَامَةُ وَأَخُوهُ جَبَلَةَ.
وَاخْتُلِفَ فِي سَنَةٍ، فَرَوَى الْوَاقِدِيُّ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ عَشْرُ سِنِينَ؛ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَكَانَ قَصِيرًا شَدِيدَ الأُدْمَةِ أفْطَسَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: كَذَا صِفَتُهُ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ. وَجَاءَتْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ أَنَّهُ كَانَ أَبْيَضَ وَكَانَ ابْنُهُ أَسْوَدَ. وَلِذَلِكَ أُعْجِبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ مُجزِّزٍ الْمُدْلِجِيِّ الْقَائِفِ: " إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ".
قُلْتُ: وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ أيضا يَكُونُ عُمْرُهُ خَمْسِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَهَا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السّبيْعيُّ: إِنَّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ أَغَارَتْ عَلَيْهِ خَيْلٌ مِنْ تِهَامَةَ، فَوَقَعَ إِلَى خَدِيجَةَ فَاشْتَرَتْهُ، ثُمَّ وَهَبَتْهُ لِلنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُرْوَى أنَّهَا اشْتَرَتْهُ بِسِبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: مَا عَلِمْنَا أَحَدًا أَسْلَمَ قَبْلَهُ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عقبة: حدثنا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا كُنَّا نَدْعُو زَيْدًا إِلا زَيْدَ ابن مُحَمَّدٍ. فَنَزَلَتْ: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ}.(1/331)
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ زَيْدِ بْنِ حارثة سبع غزوات، كان النبي صلى الله عليه وسلم يُؤَمِّرُهُ عَلَيْنَا. كَذَا رَوَاهُ الْفَسَوِيُّ عَنْ أَبِي عاصم عن يزيد.
وقال ابن عيينة: أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمَّر أُسَامَةَ عَلَى قَوْمٍ، فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمَارَتِهِ. فَقَالَ: " إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلِيَّ وَإِنَّ ابْنَهُ هَذَا لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ ".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنِ مُحَمَّدِ بْنِ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي: " يَا زَيْدُ أَنْتَ مَوْلاي وَمِنِّي وَإِلَيَّ وَأَحبُّ الْقَوْمِ إلي ".
وقال محمد بن عبيد: حدثنا إِسْمَاعِيلُ، عَنْ مُجَالِدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَقُولُ: " لَوْ أَنَّ زَيْدًا كَانَ حَيًّا لَاسْتَخْلَفَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ مَرَّةً أُخْرَى، فقال: حدثنا وَائِلُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ الْبَهِيِّ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ فِي جَيْشٍ قَطُّ إِلَّا أمَّره عَلَيْهِمْ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْدَهُ استخلفه.(1/332)
وَقَالَ حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَاسْتَقْبلَتْنِي جَارِيَةٌ شَابَّةٌ، فَقُلْتُ: لِمَنْ أَنْتِ؟ قَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ.
إِسْنَادُهُ حَسَنٌ. رَوَاهُ الرُّويَانِيُّ فِي مُسْنَدِهِ. وَرَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هَارُونَ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ - يَرْفَعُهُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ، قَالَ: أُصِيبَ زَيْدٌ، فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَهُ، فَجَهَشَتْ بِنْتُ زَيْدٍ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبكى حتى انتحب. فقال له سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا هَذَا؟ قَالَ: " شَوْقُ الْحَبِيبِ إِلَى حَبِيبِهِ ".
-[ترجمة ابن رَوَاحة] [المتوفى: 8 ه]
وأما عَبْد الله بْن رَوَاحة بْن ثعلبة الخَزْرَجي الأنصاريّ، أَبُو عَمْرو - أحد النُّقباء ليلة العَقَبة. شهِد بدْرًا والمشاهدَ، وكان شاعر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأخا أَبِي الدَّرْداء لأمّه.
رَوَى عَنْهُ: أَبُو هُرَيْرَةَ، وابنُ أخته النُّعمان بْن بشير، وزيد بْن أرقم، وأَنَس - قوله. وأرسل عَنْهُ جماعة من التّابعين،
وقال الواقديّ: كنْيَتُه أَبُو مُحَمَّد، وقيل: أَبُو رَوَاحة.
وَرَوَتْ أَمُّ الدَّرْدَاءِ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ فِي يَوْمٍ شَدِيدِ الْحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللَّهُ بْنُ رَوَاحَةَ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ لَهَا: هَلْ تَدْرِينَ لِمَ تَزَوَّجْتُكِ؟(1/333)
قَالَتْ: لا. قَالَ: لِتُخْبِرِينِي عَنْ صَنِيعِ عَبْدِ اللَّهِ فِي بَيْتِهِ. فَذَكَرَتْ لَهُ شَيْئًا لا أَحْفُظُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، وَإِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لا يَدَعُ ذَلِكَ أَبَدًا.
وقال هشام بْن عُرْوة، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لما نزلت " وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ " - قَالَ ابن رَوَاحة: قد علم الله أنّي منهم. فأُنزلت " إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " الآية.
وقيل: هذا البيت لعبد الله بْن رَوَاحة يخاطب زيد بْن أرقم:
يا زيد زيد اليَعمُلات الذُّبل ... تطاول اللّيل هُدِيتَ فانزِلِ
يعني: انزل فسق بالقوم.
وعن مُصْعَب بْن شَيْبة قَالَ: لما نزل ابن رَواحة للقتال طُعِنَ، فاستقبل الدَّم بيده، فدلك بِهِ وجهه. ثُمَّ صرع بين الصفين، فجعل يقول: يا معشر المسلمين، ذبوا عَنْ لحم أخيكم! فكانوا يحملون حتى يجوزونه، فلم يزالوا كذلك حتى مات مكانه.
وقال ابن وهْب: حَدَّثَنِي أسامة بْن زيد اللَّيْثي، قال: حَدَّثَنِي نافع، قَالَ: كانت لابن رَوَاحة امْرَأَة، وكان يتّقيها. وكانت لَهُ جارية، فوقع عليها. فقالت لَهُ وفرقتْ أن يكون قد فعل، فقال: سبحان الله! قَالَتْ: اقرأ عليّ إذًا؛ فإنّك جُنُب. فقال:
شهدتُ بإذنِ الله أنّ محمدًا ... رسول الَّذِي فوق السماوات من عَل
وإنّ أَبَا يحيى ويحيى كِلاهُما ... لَهُ عَمَلٌ من ربه متقبل
وقد رويا لحسّان.
وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ - أَنَّ امْرَأَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَوَاحَةَ رَأَتْهُ عَلَى جَارِيَةٍ لَهُ، فَجَحَدَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: فَاقْرَأْ. فَقَالَ:
شَهِدْتُ بِأَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ... وَأَنَّ النَّارَ مَثْوَى الْكَافِرِينَا
وَأَنَّ الْعَرْشَ فَوْقَ الْمَاءِ طَافٍ ... وَفَوْقَ الْعَرْشِ رَبُّ الْعَالَمِينَا(1/334)
وَتَحْمِلُهُ مَلائِكَةٌ كِرَامٌ ... مَلائِكَةُ الإِلَهِ مُقَرَّبِينَا
فَقَالَتْ: آمَنْتُ بِاللَّهِ، وَكَذَّبْتُ الْبَصَرَ! فَحَدَّثَ ابْنُ رَوَاحَةَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَضَحِكَ.
وَقَالَ موسى بن جعفر بن أبي كثير: حدثنا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونُ عَنِ الثِّقَةِ أَنَّ ابْنَ رَوَاحَةَ اتَّهَمَتْهُ امْرَأَتُهُ، فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يُعَقِّبْ ابْنُ رَوَاحَةَ.
واستشهد بمؤْتة:
عبّاد بْن قيس الخَزْرَجي أحدُ من شهد بدرا، والحارث بن النعمان ابن أساف النّجّاري، ومسعود بْن سُوَيْد بْن حارثة الْأَنْصَارِيّ، ووهْب بْن سعد بْن أَبِي سرح العامري، وزيد بن عبيد بن المعلى الخزرجي الذي قتل أبوه يوم أحد، وعبد الله بن سعيد بن العاص بْن أمية الأموي، وقيل: قُتِل هذا يوم اليَمامة. وأبو كلاب وجابر ابنا أَبِي صعصعة الخزرجي، رضي الله عنهم.
-ذِكْرُ رُسُلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَفِي هَذِهِ السنة كتب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى ملوك النَّواحي يدعوهم إلى الله تعالى.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ - أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ قَبْلَ مَوْتِهِ إِلَى كِسْرَى وَإِلَى قَيْصَرَ، وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ يَعْنِي الَّذِي مَلَكَ الْحَبَشَةِ بَعْدَ النَّجَاشِيِّ الْمُسْلِمِ، وإلى كل جبار - يدعوهم إلى الله عز وجل. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى النجاشي الثاني(1/335)
يَدْعُوهُ إِلَى اللَّهِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، بَلْ ذَلِكَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ النَّجَاشِيِّ الأَوَّلِ الْمُسْلِمِ وَمَوْتُهُ كَمَا سَيَأْتِي فِي سَنَةِ تِسْعٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ ابْنِ شهاب، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إِلَى قَيْصَرَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَبَعَثَ بِكِتَابِهِ إِلَيْهِ مَعَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ، وَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى لِيَدْفَعَهُ إِلَى قَيْصَرَ. فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَى إلى قيصر، وكان قَيْصَرَ لَمَّا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَى مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ شُكْرًا لِمَا أبلاه الله تعالى. فَلَمَّا أَنْ جَاءَ قَيْصَرَ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ قَرَأَهُ: التمسوا لي ها هنا أحدا من قومه لنسألهم.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ أَنَّهُ كَانَ بِالشَّامِ فِي رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَدِمُوا لِلتِّجَارَةِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ.
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَجَدَنَا رَسُولَ قَيْصَرَ ببعض الشام، فانطلق بنا حتى قدمنا إيلياء، فَأُدْخِلْنَا عَلَيْهِ، فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ فِي مَجْلِسِهِ وَعَلَيْهِ التَّاجُ، وَحَوْلَهُ عُظَمَاءُ الرُّومِ، فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ نَسَبًا مِنْ هَذَا الرَّجُل الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ؟ قُلْتُ: أَنَا أَقْرَبُهُمْ إِلَيْهِ نَسَبًا. قَالَ: مَا قَرَابَةُ مَا بَيْنَكَ وبينه؟ قلت: هو ابن عمي. قال: وَلَيْسَ فِي الرَّكْبِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ مِنْ بَنِي عبد مناف غيري.
قال: أدنوه مني. ثُمَّ أَمَرَ بِأَصْحَابِي، فَجَعَلَهُمْ خَلَفَ ظَهْرِي، عِنْدَ كَتِفِي. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لِأَصْحَابِهِ: إِنِّي سَائِلُهُ عَنْ هَذَا الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، فَإِنْ كَذَبَ فَكَذِّبُوهُ!
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ يَوْمَئِذٍ أَنْ يَأْثُرَ عَنِّي أَصْحَابِي الْكَذِبَ لَكَذَّبْتُهُ عَنْهُ. ثُمَّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: كَيْفَ نَسَبُ هَذَا الرَّجُلُ فِيكُمْ؟ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو نَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَبْلَهُ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ:(1/336)
فَأَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ؟ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: فَيَزِيدُونَ؟ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ قُلْتُ: بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: فَهَلْ يَرْتَدَّ أَحَدٌ سُخَطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ قُلْتُ: لَا. قَالَ: فَهَلْ يَغْدُرُ؟ قُلْتُ: لَا، وَنَحْنُ الْآنَ مِنْهُ في مدة، وَنَحْنُ نَخَافُ مِنْهُ أَنْ يَغْدُرَ، وَلَمْ يُمَكِّنِّي كلمة أدخل فيها شيئا أتنقصه بِهَا، لَا أَخَافُ أَنْ تُؤْثِرَ عَنِّي غَيْرَهَا.
قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ؟ قَلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ حَرْبُكُمْ وَحَرْبُهُ؟ قُلْتُ: كَانَتْ دُوَلًا وَسِجَالًا، يُدَالُ عَلَيْنَا الْمَرَّةَ وَيُدَالُ عَلَيْهِ الْأُخْرَى. قَالَ: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ الله وحده، وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يعبد آباؤنا، ويأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ.
قَالَ: فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتُ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمُ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُ لَقُلْتُ: رَجُلٌ يَأَتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فزعمت أن لا، فعرفت أنه لم يكن ليدع الكذب عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَزَعَمْتُ أَنْ لَا، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ: رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ.
وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَوْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمْ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سُخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ.
وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدُرُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لَا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لَا يَغْدُرُونَ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ وَقَاتَلَكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنْ قَدْ فَعَلَ، وَأَنَّ حَرْبَكُمْ وَحَرْبَهُ يَكُونُ دُوَلًا، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْتَلَى وَتَكُونُ لَهَا الْعَاقِبَةُ.
وَسَأَلْتُكَ: مَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَاكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ، وَيَأْمُرُكُمْ(1/337)
بِالصَّلَاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ وَالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ. وَهَذِهِ صِفَةُ نَبِيٍّ قَدْ كُنْتُ أَعْلَمَ أَنَّهُ خَارِجٌ، وَلَكِنْ لَمْ أَظُنَّ أَنَّهُ مِنْكُمْ، وَإِنْ يَكُنْ مَا قُلْتَ حَقًّا فَيُوشِكُ أَنْ يَمْلِكَ مَوْضِعَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ، وَلَوْ أَرْجُو أَنْ أَخْلُصَ إِلَيْهِ لَتَجَشَّمْتُ لُقْيَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ قَدَمَيْهِ.
قَالَ: ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأمر به فَقُرِئَ، فَإِذَا فِيهِ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هرقل عظيم الروم، سلام عَلَى من اتَّبع الْهُدَى.
أما بَعْدُ فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ تَوَلَّيْتَ فعليك إثم الأريسيين، و: " يا أهل الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ".
قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا أَنْ قَضَى مَقَالَتَهُ عَلَتْ أَصْوَاتُ الَّذِينَ حَوْلَهُ مِنْ عُظَمَاءِ الرُّومِ وَكَثُرَ لَغَطهُمْ، فَلَا أَدْرِي مَا قَالُوا وَأَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا. فَلَمَّا أَنْ خَرَجْتُ مَعَ أَصْحَابِي وَخَلَوْتُ بِهِمْ قُلْتُ لَهُمْ: لَقَدْ أَمَرَ أمر ابن أبي كَبْشَةَ؛ هَذَا مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ يَخَافُهُ!
قَالَ أبو سفيان: ووالله مَا زِلْتُ ذَلِيلًا، مُسْتَيْقِنًا بِأَنَّ أَمْرَهُ سَيَظْهَرُ حَتَّى أَدْخَلَ اللَّهُ قَلْبِي الْإِسْلَامَ وَأَنَا كَارِهٌ. أَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ حَدَّثَهُ قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَا أَنَا بِالشَّامِ. فَذَكَرَ كَحَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ.(1/338)
ورواه يونس بن بكير، عن ابن إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ - بِسَنَدِهِ، وَفِيهِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَلَمَّا كَانَتْ هُدْنَةُ الْحُدَيْبِيَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجْتُ تَاجِرًا إِلَى الشَّامِ، فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ بِمَكَّةَ امْرَأَةً وَلا رَجُلا إِلا قَدْ حَمَّلَنِي بِضَاعَةً. فَقَدِمْتُ غَزَّةَ، وَذَلِكَ حِينَ ظَهَرَ قَيْصَرُ عَلَى مَنْ كَانَ بِبِلادِهِ مِنَ الْفُرْسِ، فَأَخْرَجَهُمْ مِنْهَا، وَرَدَّ عَلَيْهِ صَلِيبَهُ الأَعْظَمَ.
وَكَانَ مَنْزِلُهُ بِحِمْصَ فَخَرَجَ منها متشكرا إلى بيت المقدس، تبسط له البسط، وتطرح لَهُ عَلَيْهَا الرَّيَاحِينُ. حَتَّى انْتَهَى إِلَى إِيلِيَاءَ، فصلى بها.
فأصبح ذات غداة مهموما يقلب طرفه إلى السماء، فقالت له بطارقته: أيها الملك، لقد أصبحت مَهْمُومًا. فَقَالَ: أَجَلْ. قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أُرِيتُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَنَّ مَلَكَ الْخِتَانِ ظَاهِرٌ. فَقَالُوا: وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ أُمَّةً مِنَ الأُمَمِ تَخْتَتِنُ إِلا يَهُودَ، وَهُمْ تَحْتَ يَدِكِ وَفِي سُلْطَانِكَ. فَإِنْ كَانَ قَدْ وَقَعَ هَذَا فِي نَفْسِكَ مِنْهُمْ، فَابْعَثْ فِي مَمْلَكَتِكَ كُلِّهَا فَلا يَبْقَى يَهُودِيٌّ إِلا ضُرِبَتْ عُنُقُهُ فَتَسْتَرِيحُ مِنْ هَذَا الْهَمِّ.
فَبَيْنَمَا هُمْ فِي ذَلِكَ إِذْ أَتَاهُمْ رَسُولُ صَاحِبِ بُصْرَى بِرَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَدْ وَقَعَ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ: أَيُّهَا الْمَلِكُ، هَذَا رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ الشَّاءِ وَالإِبِلِ، يُحَدِّثُكَ عَنْ حَدَثٍ كَانَ بِبِلادِهِ، فَسَلْهُ عَنْهُ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ: مَا هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي كَانَ فِي بِلادِهِ؟ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: هُوَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجَ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَقَدْ تَبِعَهُ أَقْوَامٌ وَخَالَفَهُ آخَرُونَ، فَكَانَتْ بَيْنَهُمْ مَلاحِمُ.
فَقَالَ: جَرِّدُوهُ. فَإِذَا هُوَ مَخْتُونٌ، فَقَالَ: هَذَا وَاللَّهِ الَّذِي أُرِيتُ، لا مَا تَقُولُونَ. ثُمَّ دَعَا صَاحِبَ شُرْطَتِهِ فَقَالَ لَهُ: قَلِّبْ لِي الشَّامَ ظَهْرًا وَبَطْنًا حَتَّى تَأْتِيَ بِرَجُلٍ مِنْ قَوْمِ هَذَا أَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ.
فَوَاللَّهِ، إِنِّي وَأَصْحَابِي لَبِغَزَّةَ إِذْ هَجَمَ عَلَيْنَا فَسَأَلَنَا: مِمَّنْ أَنْتُمْ؟ فَأَخْبَرْنَاهُ، فَسَاقَنَا إِلَيْهِ جَمِيعًا. فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ مِنْ رَجُلٍ قَطُّ أَزْعُمُ أَنَّهُ كَانَ أَدْهَى مِنْ ذَلِكَ الأَغْلَفِ، يَعْنِي هِرَقْلَ.
فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهِ قَالَ: أَيُّكُمْ أَمَسُّ بِهِ رَحِمًا؟ فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ:(1/339)
أَدْنُوهُ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ كِتَابًا. وفيه كما ترى أشياء عجيبة ينفرد بِهَا ابْنُ إِسْحَاقَ دُونَ مَعْمَرٍ وَصَالِحٍ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أُسْقُفٌّ مِنَ النَّصَارَى قَدْ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ دِحيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ عَلَى هِرقْلَ بِالْكِتَابِ، وَفِيهِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إِلَى هِرَقْلَ عظيم الروم: سلام عَلَى من اتَّبع الْهُدَى. أما بعدُ فأسلم تسلم، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ الأَكَّارِينَ عَلَيْكَ.
فَلَمَّا قَرَأَهُ وَضَعَهُ بَيْنَ فَخْذِهِ وَخَاصِرَتِهِ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ رُومِيَّةَ، كَانَ يَقْرَأُ مِنَ الْعَبْرَانِيَّةِ مَا يَقْرَأُ، يُخْبِرُهُ عَمَّا جَاءَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي يُنْتَظَرُ لا شَكَّ فِيهِ فَاتَّبَعَهُ.
فَأَمَرَ بِعُظَمَاءِ الرُّومِ فَجُمِعُوا لَهُ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فأُشْرِجَتْ عَلَيْهِمْ، وَاطَّلَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ عِلِّيَّةٍ لَهُ، وَهُوَ مِنْهُمْ خَائِفٌ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الرُّومِ، إِنَّهُ قَدْ جَاءَنِي كِتَابُ أَحْمَدَ، وَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَلنَّبِيُّ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُ وَنَجِدُ ذِكْرَهُ فِي كِتَابِنَا، نَعْرِفُهُ بِعَلامَاتِهِ وَزَمَانِهِ؛ فَأَسْلِمُوا وَاتَّبِعُوهُ تَسْلَمْ لَكُمْ دُنْيَاكُمْ وَآخِرَتُكُمْ!
فَنَخَرُوا نَخْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، وَابْتَدَرُوا أَبْوَابَ الدسكرة، فوجدوها مغلقة دونهم، فَخَافَهُمْ، فَقَالَ: رُدُّوهُمْ عَلَيَّ. فَكَرُّوهُمْ عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّمَا قُلْتُ لَكُمْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ أَغْمِزُكُمْ بِهَا؛ لأَنْظُرَ كَيْفَ صَلابَتُكُمْ فِي دِينِكُمْ، فَقَدْ رَأَيْت مِنْكُمْ مَا سَرَّنِي. فَوَقَعُوا لَهُ سُجَّدًا، ثُمَّ فُتِحَتْ لَهُمُ الأَبْوَابُ فَخَرَجُوا.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ: حدثنا أَبُو الأَسْوَدِ عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ تَاجِرًا، وَبَلَغَ هِرَقْلَ شَأْنُ النَّبِيِّ صَلَّى الله عليه وسلم. قال: فأدخل عليه أبو سُفْيَانُ فِي ثَلاثِينَ رَجُلا، وَهُوَ فِي كَنِيسَةِ إِيلِيَاءَ. فَسَأَلَهُمْ، فَقَالُوا: سَاحِرٌ(1/340)
كذاب. فقال: أخبروني بأعلمكم بِهِ، وَأَقْرَبِكُمْ مِنْهُ! قَالُوا: هَذَا ابْنُ عَمِّهِ. وذكر شبيها بحديث الزهري.
وقال البخاري: حدثنا يحيى بن أبي بكير، قال: حدثنا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بِكِتَابِهِ إِلَى كِسْرَى، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى عظيم البحرين؛ ليدفعه إلى كسرى. قال: فَلَمَّا قَرَأَهُ كِسْرَى مَزَّقَهُ. فَحَسِبْتُ ابْنُ الْمُسَيِّبِ قَالَ: فَدَعَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُمَزَّقُوا كلَّ مُمَزَّقٍ.
وَقَالَ الذهلي محمد بن يحيى: حدثنا أحمد بن صالح، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: حدثني عبد الرحمن بن عبد القاري أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ خَطِيبًا، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَتَشَهَّدَ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَ بَعْضُكُمْ إِلَى مُلُوكِ الْأَعَاجِمِ، فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيَّ كَمَا اخْتَلَفَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ عَلَى عِيسَى ".
فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَاللَّهِ لَا نَخْتَلِفُ عَلَيْكَ فِي شَيْءٍ، فَمُرْنَا وَابْعَثْنَا. فَبَعَثَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى كِسْرَى، فَخَرَجَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى كِسْرَى، وَهُوَ بِالْمَدَائِنِ. وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ، فَأَمَرَ كِسْرَى بِإِيوَانِهِ أَنْ يُزَيَّنَ، ثُمَّ أَذِنَ لِعُظَمَاءِ فَارِسَ، ثُمَّ أَذِنَ لِشُجَاعِ بْنِ وَهْبٍ.
فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ أَمَرَ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُقْبَضَ مِنْهُ. قَالَ شُجَاعٌ: لَا، حَتَّى أَدْفَعَهُ أَنَا كَمَا أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ كِسْرَى: ادْنُهُ! فَدَنَا فَنَاوَلَهُ الْكِتَابَ، ثُمَّ دَعَا كَاتِبًا لَهُ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ فَقَرَأَهُ، فَإِذَا فِيهِ: مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ.
فَأَغْضَبَهُ حِينَ بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَفْسِهِ، وَصَاحَ وَغَضِبَ، وَمَزَّقَ الْكِتَابَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ مَا فيه. وأمر بشجاع فأخرج، فركب رَاحِلَتَهُ وَذَهَبَ. فَلَمَّا سَكَنَ غَضَبُ كِسْرَى طَلَبَ شُجَاعًا، فَلَمْ يَجِدْهُ، وَأَتَى(1/341)
شُجَاعٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: " اللَّهُمَّ، مَزِّقْ مُلْكَهُ ".
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَتَفْتَحَنَّ عِصَابَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كُنُوزَ كِسْرَى الَّتِي فِي الْقَصْرِ الْأَبْيَضِ ".
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ. رَوَاهُ أَسْبَاطُ بْنُ نَصْرٍ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرٍ، فَزَادَ: قَالَ: فَكُنْتُ أَنَا وَأَبِي فِيهِمْ، فَأَصَابَنَا مِنْ ذَلِكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ.
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ الْوَلِيدِ الفحام: حدثنا أسود بن عامر، قال: أخبرنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ - أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ فَارِسَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ رَبِّي قَدّ قَتَلَ رَبَّكَ، يَعْنِي كِسْرَى.
قَالَ: وَقِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهُ قَدِ اسْتَخْلَفَ بِنْتَهُ، فَقَالَ: " لَا يُفْلِحُ قَوْمٌ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ ".
وَيُرْوَى أَنَّ كِسْرَى كَتَبَ إِلَى بَاذَامَ عَامِلِهِ بِالْيَمَنِ يَتَوَعَّدُهُ، وَيَقُولُ: أَلَا تَكْفِينِي رَجُلًا خَرَجَ بِأَرْضِكَ يَدْعُونِي إِلَى دِينِهِ؟ لَتَكْفِنِيهِ، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ بِكَ! فَبَعَثَ الْعَامِلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُسُلًا وَكِتَابًا، فَتَرَكَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ قَالَ: " اذْهَبُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ، فَقُولُوا: إِنَّ رَبِّي قَدْ قَتَلَ رَبَّكَ اللَّيْلَةَ ".
وَرَوَى أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: أَقْبَلَ سَعْدُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكَ - أَوْ قَالَ: قُتِلَ - كِسْرَى. فَقَالَ: " لَعَنَ اللَّهُ كِسْرَى، أَوَّلُ النَّاسِ هَلاكًا فَارِسٌ، ثُمَّ الْعَرَبُ ".(1/342)
وقال محمد بن يحيى: حدثنا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ. وَقَدْ رَوَاهُ اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، كِلاهُمَا يَقُولُ: عَنْ أَبِي سَلَمَةَ. وَاللَّفْظُ لِصَالِحٍ قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ كِسْرَى بَيْنَمَا هُوَ فِي دَسْكَرَةِ مُلْكِهِ بعث له - أو قيض له - عارض، فعرض عَلَيْهِ الْحَقُّ، فَلَمْ يَفْجَأْ كِسْرَى إِلا الرَّجُلُ يَمْشِي وَفِي يَدِهِ عَصًا، فَقَالَ: يَا كِسْرَى، هَلْ لَكَ فِي الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ هَذِهِ الْعَصَا؟ قَالَ كِسْرَى: نَعَمْ، فَلا تَكْسِرْهَا. فَوَلَّى الرَّجُلُ.
فَلَمَّا ذَهَبَ أُرْسِلَ كِسْرَى إِلَى حُجَّابِهِ، فَقَالَ مَنْ أَذِنَ لِهَذَا؟ قَالُوا: مَا دَخَلَ عَلَيْكَ أَحَدٌ. قَالَ: كَذَبْتُمْ، وَغَضِبَ عَلَيْهِمْ وَعَنَّفَهُمْ، ثُمَّ تَرَكَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ رَأْسُ الْحَوْلِ أَتَاهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ بِالْعَصَا، فَقَالَ كَمَقَالَتِهِ. فَدَعَا كِسْرَى الْحُجَّابَ وَعَنَّفَهُمْ.
فَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ الْمَسْتَقْبَلُ أَتَاهُ وَمَعُه الْعَصَا، فَقَالَ: هَلْ لَكَ يَا كِسْرَى فِي الإِسْلامِ قَبْلَ أَنْ أَكْسِرَ الْعَصَا؟ قَالَ: لا تَكْسِرْهَا. فَكَسَرَهَا فَأَهْلَكَ اللَّهُ كِسْرَى عِنْدَ ذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِذَا هَلَكَ كِسْرَى فَلَا كِسْرَى بَعْدَهُ، وَإِذَا هَلَكَ قَيْصَرُ فَلَا قَيْصَرَ بعده. والذي نفسي بيده، لتنفقن كنوزهما فِي سَبِيلِ اللَّهِ! ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى يُونُسُ بن بكير عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ. فَأَمَّا قَيْصَرُ فَوَضَعَهُ، وَأَمَّا كِسْرَى فَمَزَّقَهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أَمَّا هؤلاء فيمزقون، وأما هؤلاء فسيكون لهم بقية ".
وقال الربيع: أخبرنا الشافعي قال: حفظنا أَنَّ قَيْصَرَ أَكْرَمَ كِتَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعَهُ فِي مَسْكٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ثُبِّتَ مُلْكُهُ ".(1/343)
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقَطَعَ اللَّهُ الأَكَاسِرَةَ عَنِ الْعِرَاقِ وَفَارِسَ، وَقَطَعَ قَيْصَرُ وَمَنْ قَامَ بِالأَمْرِ بَعْدَهُ عَنِ الشَّامِ. وَقَالَ فِي كِسْرَى: " مُزِّقَ مُلْكُهُ "، فَلَمْ يَبْقَ لِلأَكَاسِرَةِ مُلْكٌ. وَقَالَ فِي قَيْصَرَ: " ثُبِّتَ مُلْكُهُ "، فَثُبِّتَ لَهُ مُلْكُ بِلادِ الرُّومِ إِلَى الْيَوْمِ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حدثنا الزهري عن عبد الرحمن بن عبد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ صاحب الإسكندرية، فمضى بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَبَّلَ الْكِتَابَ وَأَكْرَمَ حَاطِبًا وَأَحْسَنَ نُزُلَهُ. وَأَهْدَى مَعَهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَغْلَةً وَكِسْوَةً وَجَارِيَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا أُمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَالأُخْرَى وَهَبَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَهْمِ بن قيس الْعَبْدِيِّ، فَهِيَ أُمُّ زَكَرِيَّا بْنِ جَهْمٍ، خَلِيفَةِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ عَلَى مِصْرَ.
وَقَالَ أَبُو بشر الدولابي: حدثنا أبو الحارث أحمد بن سعيد الفهري، قال حدثنا هارون بن يحيى الحاطبي، قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الرحمن، قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عن أبيه، قال: حدثنا يَحْيَى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حَاطِبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ قَالَ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمُقَوْقِسِ مَلِكِ الإِسْكَنْدَرِيَّةِ، فَجِئْتُهُ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَنِي فِي مَنْزِلِهِ، وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ.
ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ وَقَدْ جَمَعَ بَطَارِقَتَهُ فَقَالَ: إِنِّي سَأُكَلِّمُكَ بِكَلامٍ وَأُحِبُّ أَنْ تَفْهَمَهُ مِنِّي! قُلْتُ: نَعَمْ، هَلُمَّ. قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ صَاحِبِكَ، أَلَيْسَ هُوَ نَبِيٌّ؟ قُلْتُ: بَلَى، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ: فَمَا لَهُ حَيْثُ كَانَ هَكَذَا لَمْ يَدْعُ عَلَى قَوْمِهِ حَيْثُ أَخْرَجُوهُ؟ قُلْتُ: عِيسَى، أَلَيْسَ تَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَمَا لَهُ حَيْثُ أَخَذَهُ قَوْمُهُ فَأَرَادُوا أَنْ يَصْلِبُوهُ أَنَّ لا يَكُونَ دَعَا عَلَيْهِمْ بِأَنْ يُهْلِكَهُمُ اللَّهُ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا؟ قَالَ: أَنْتَ حَكِيمٌ جَاءَ مِنْ عِنْدِ حَكِيمٍ. هَذِهِ هَدَايَا أَبْعَثُ بها مَعَكَ إِلَيْهِ. فَأَهْدَى(1/344)
ثَلاثَ جَوَارٍ، مِنْهُنَّ أُمُّ إِبْرَاهِيمَ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا رسول الله لأَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ، وَوَاحِدَةٌ وَهَبَهَا لِحَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ. وَأَرْسَلَ بِطُرَفٍ مِنْ طُرَفِهِمْ.
-غزوة ذات السلاسل
قِيلَ: إنه ماء بأَرض جذام.
قال ابن لهيعة: حدثنا أَبُو الأسود عَنْ عُرْوة. ورواه مُوسَى بْن عُقْبة، واللفظ لَهُ - قالا: غزوة ذات السلاسل من مشارف الشام فِي بَليّ وسعد اللَّه ومن يليهم من قُضاعة.
وفي رواية عُرْوة: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرو بْن العاص فِي بليّ، وهم أخوال العاص بْن وائل، وبعثه فيمن يليهم من قُضَاعة وأمّره عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابن عقْبة: فخاف عَمْرو من جانبه الَّذِي هو بِهِ، فبعث إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمدّه. فندب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المهاجرين، فانتدب فيهم أَبُو بَكْر وعمر وجماعة أمّر عليهم أَبَا عبيدة. فأَمدَّ بهم عَمْرًا. فلمّا قدِموا عَلَيْهِ قَالَ: أنا أميركم، وأنا أرسلت إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أستمده بكم!
فقال المهاجرون: بل أنت أمير أصحابك، وأبو عُبَيْدة أمير المهاجرين. قَالَ: إنّما أنتم مَدَد أُمْدِدْتُهُ.
فلمّا رَأَى ذَلِكَ أَبُو عُبَيْدة، وكان رجلًا حَسَن الخُلُق ليّن الشيمة، سعى لأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعهده، قَالَ: تعلم يا عَمْرو أنّ آخر مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن قَالَ: إذا قدِمتَ عَلَى صاحبك فتطاوعا، وإنّك إن عصيتني لأطيعنك. فسلم أبو عبيدة الإمارة لعمرو.(1/345)
وقال يونس عن ابن إسحاق: حدثني مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحصين التميمي، عن غزوة ذَاتِ السَّلَاسِلِ مِنْ أَرْضِ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ لِيَسْتَنْفِرَ الْعَرَبَ إِلَى الْإِسْلامِ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ كَانَتْ مِنْ بَلِيٍّ، فَبَعَثَهُ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَتَأَلَّفُهُمْ بِذَلِكَ. حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَرْضِ جُذَامٍ، عَلَى مَاءٍ يُقَالُ لَهُ: السَّلاسِلُ، خَافَ فَبَعَثَ يَسْتَمِدُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
وقال علي بن عاصم: أخبرنا خالد الحذاء عن أبي عثمان النهدي، قال: سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى جَيْشِ ذِي السَّلَاسِلِ، وَفِي الْقَوْمِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. فحدثت نفسي أنه لم يبعثني عليهما إِلَّا لِمَنْزِلَةٍ لِي عِنْدَهُ، فَأَتَيْتُهُ حَتَّى قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيْكَ؟ قَالَ: " عَائِشَةُ ". قُلْتُ: إِنِّي لَمْ أَسْأَلْكَ عَنْ أَهْلِكَ. قَالَ: " فَأَبُوهَا ". قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: " عُمَرُ ". قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ حَتَّى عَدَّ رَهْطًا، قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: لَا أَعُودُ أَسْأَلُ عَنْ هَذَا!
رَوَاهُ غَيْرُهُ عَنْ خَالِدٍ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مُخْتَصَرًا.
وَكِيعٌ وغيره: حدثنا مُوسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ: قَالَ لِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا عَمْرُو، أُشْدُدْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ وَائْتِنِي ". فَفَعَلْتُ، فَجِئْتُهُ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَصَعَّدَ فِيَّ الْبَصَرَ وَصَوَّبَهُ، وَقَالَ: " يَا عَمْرُو، إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ وَجْهًا فَيُسَلِّمُكَ اللَّهُ ويغنمك! وأرغب لك رغبة من الْمَالِ صَالِحَةً! " قُلْتُ: إِنِّي لَمْ أُسْلِمْ رَغْبَةً فِي الْمَالِ، إِنَّمَا أَسْلَمْتُ رَغْبَةً فِي الْجِهَادِ والكينونة معك. قال: " يا عمرو، نعما بالمال الصالح للمرء الصالح! "
ابْنُ عَوْن وَغَيْرُهُ عَنْ مُحَمَّدٍ: اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرًا عَلَى(1/346)
جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ وَفِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. رَوَاهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - بِنَحْوِهِ.
وَكِيع، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ ثَعْلَبَةَ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا وَلاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْنِي عَمْرًا عَلَيْنَا لِعِلِمْهِ بِالْحَرْبِ.
قُلْتُ: وَلِهَذَا اسْتَعْمَلَ أَبُو بَكْرٍ عَمْرًا عَلَى غَزْوِ الشَّامِ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حدثني ربيعة بن عثمان عن يزيد بْنِ رُومَانَ - أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ لَمَّا أَتَى عَمْرًا صَارُوا خَمْسَمِائَةٍ، وَسَارَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ حَتَّى وَطِئَ بِلادَ بَلِيٍّ وَدَوَّخَهَا. وَكُلَّمَا انْتَهَى إِلَى مَوْضِعٍ بَلَغَهُ أَنَّهُ كَانَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَمْعٌ، فلما سمعوا به تفرقوا حتى انتهى إِلَى أَقْصَى بِلادِ بَلِيٍّ وَعُذْرَةَ وَبَلْقَيْنَ.
وَلَقِي فِي آخِرِ ذَلِكَ جَمْعًا، فَاقْتَتَلُوا سَاعَةً وَتَرَامَوْا بِالنَّبْلِ. وَرُمِيَ يَوْمَئِذٍ عَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ، فَأُصِيبَ ذِرَاعُهُ. وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ فَهَرَبُوا، وَأَعْجَزُوا هَرَبًا فِي الْبِلادِ. وَدَوَّخ عَمْرٌو مَا هُنَاكَ، وَأَقَامَ أَيَّامًا يُغِيرُ أَصْحَابُهُ عَلَى الْمَوَاشِي.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ قَيْسٍ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمرو بْنَ الْعَاصِ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلاسِلِ، فَأَصَابَهُمْ بَرْدٌ، فَقَالَ لَهُمْ عَمْرٌو: لا يُوقِدَنَّ أَحَدٌ نَارًا. فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَكَوْهُ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كَانَ فِي أَصْحَابِي قِلَّةٌ فَخَشِيتُ أَنْ يَرَى الْعَدُوُّ قِلَّتَهُمْ، وَنَهَيْتُهُمْ أَنْ يَتَّبِعُوا الْعَدُوَّ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كَمِينٌ. فَأَعْجَبَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ جرير بن حازم: حدثنا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: احْتَلَمْتُ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ، فَأَشْفَقْتُ إِنِ اغْتَسَلْتُ أَنْ أَهْلَكَ، فَتَيَمَّمْتُ ثُمَّ صَلَّيْتُ بِأَصْحَابِيَ الصُّبْحَ. فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا عَمْرُو، صَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ! " فَأَخْبَرْتُهُ بِالَّذِي مَنَعَنِي مِنَ الِاغْتِسَالِ، وَقُلْتُ: إِنِّي سَمِعْتُ الله(1/347)
يَقُولُ: " وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ". فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ وَغَيْرُهُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ أَبِي أَنَسٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ - أَنَّ عَمْرًا كَانَ عَلَى سَرِيَّةٍ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ. قَالَ: فَغَسَلَ مَغَابِنَهُ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ صَلَّى بِهِمْ. لَمْ يَذْكُرِ التَّيَمُّمَ. أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ.
-غزوة سيف البحر
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ جَابِرٍ: بَعَثَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِمِائَةِ رَاكِبٍ، وَأَمِيرُنَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ، نَرْصُدُ عِيرًا لِقُرَيْشٍ. فَأَصَابَنَا جُوعٌ شَدِيدٌ، حَتَّى أَكَلْنَا الْخَبَطَ، فَسُمِّيَ جَيْشَ الْخَبَطِ.
قَالَ: وَنَحَرَ رَجُلٌ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ، ثُمَّ نَحَرَ ثَلَاثَ جَزَائِرَ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ نَهَاهُ. قَالَ: فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ دَابَّةً يُقَالُ لَهَا: الْعَنْبَرُ. فَأَكَلْنَا مِنْهُ نِصْفَ شَهْرٍ، وَادَّهَنَّا مِنْهُ، حَتَّى ثَابَتْ مِنْهُ أَجْسَامُنَا وَصَلُحَتْ.
فَأَخَذَ أَبُو عبيدة ضلعا من أضلاعه، فنظر إلى أطول رَجُلٍ فِي الْجَيْشِ وَأَطْوَلَ جَمَلٍ فَحَمَلَهُ عَلَيْهِ وَمَرَّ تَحْتَهُ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
زاد البخاريّ فِي حديث عَمْرو عَنْ جَابِر: قَالَ جَابِر: وكان رَجُل فِي القوم نحر ثلاث جزائر، ثمّ ثلاثا، ثمّ ثلاثًا. ثمّ إنّ أَبَا عُبَيْدة(1/348)
نهاه. قال: وكان عمرو يقول: أخبرنا أَبُو صالح أنّ قيس بْن سعد قَالَ لأبيه: كنت فِي الجيش فجاعوا، قَالَ أَبُوهُ: انحر. قال: نحرت. قال: ثم جاعوا. قال: انحر. قال: نحرت. ثمّ جاعوا، قَالَ: انحر. قَالَ: نُهِيت.
وقال مالك عَنْ وهْب بْن كَيْسان، عَنْ جَابِر قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعثًا قِبَل الساحل، وأمرّ عليهم أَبَا عبيدة وهم ثلاثمائة وأنا فيهم. حتّى إذا كنّا ببعض الطريق فني الزّاد. فأمر أَبُو عُبَيْدة بأزواد ذَلِكَ الجيش، فجُمِع ذَلِكَ كلّه. فكان مِزْوَدَيْ تمر، فكان يقوتنا كل يوم قليلا قليلا، حتى فني. ولم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة.
قَالَ: فقلت: وما تُغني تمرة؟ قَالَ: لقد وجدنا فقدها حين فنِيَتْ. ثمّ انتهينا إلى البحر، فإذا حوت مثل الظرب، وهو الجبل. فأكل منه ذَلِكَ الجيش ثماني عشرة ليلة. ثم أمر أَبُو عُبَيْدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت، ثم مر تحتهما فلم تُصِبْهما. أخرجاه.
وَقَالَ زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: بَعَثَنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نَتَلَقَّى عِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَزُوِّدْنَا جِرَابًا مِنْ تَمْرٍ. فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ يُعْطِينَا تَمْرَةً تَمْرَةً، وَكُنَّا نَضْرِبُ بِعِصِيِّنَا الْخَبَطَ ثُمَّ نَبُلُّهُ بِالْمَاءِ فَنَأْكُلُهُ.
فَانْطَلَقْنَا عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، فَرَفَعَ لَنَا كَهَيْئَةِ الْكَثِيبِ فَأَتَيْنَاهُ، فَإِذَا دَابَّةٌ تُدْعَى الْعَنْبَرُ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَيْتَةٌ، ثُمَّ قَالَ: لا، بَلْ نَحْنُ رُسُلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَقَدِ اضْطُرِرْتُمْ فَكُلُوا.
فَأَقَمْنَا عَلَيْهَا شَهْرًا وَنَحْنُ ثَلاثُمِائَةٍ حَتَّى سَمِنَّا، وَلَقَدْ كُنَّا نَغْتَرِفُ مِنْ وَقْبِ عَيْنِهِ بِالْقِلَالِ الدُّهْنَ، وَنَقْتَطِعُ مِنْهُ الْفِدَرَ كَالثَّوْرِ. وَلَقَدْ أَخَذَ أَبُو عُبَيْدَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا فَأَقْعَدَهُمْ فِي عَيْنِهِ، وَأَخَذَ ضِلْعًا مِنْ أَضْلَاعِهِ فَأَقَامَهَا، ثُمَّ رَحَلَ أَعْظَمُ بَعِيرٍ مِنْهَا فَمَرَّ تَحْتَهَا. وَتَزَوَّدْنَا مِنْ لَحْمِهِ وَشَائِقَ.
فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ: " هُوَ رِزْقٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لَكُمْ، فَهَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ تُطْعِمُونَنَا؟ " قَالَ: فَأَرْسَلْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ(1/349)
فَأَكَلَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قلت: زعم بعض النّاس أنّ هذه السرّية كانت فِي رجب سنة ثمانٍ.
-سَرِيَّةُ أَبِي قَتَادَة إلى خَضِرَة
قَالَ الواقديّ فِي مَغَازيه: قَالُوا: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَا قَتَادَة بْن رِبْعيّ الأنصاريّ إلى غَطَفان فِي خمسة عشر رجلًا، وأمره أنَّ يشنّ عليهم الغارة. فسار وهجم عَلَى حاضر منهم عظيم فأَحاط بِهِ. فصرخ رجل منهم: يا خضرة! وقاتل منهم رجال فقتلوا من أشرف لهم، واستاقوا النَّعَم، فكانت مائتي بعيرٍ وألفَيّ شاةٍ. وسبوا سبيًا كثيرًا. وغابوا خمس عشرة ليلة، وذلك فِي شعبان من السّنة.
ثمّ كانت سريَّتُه إلى إضَم عَلَى أثر ذَلِكَ فِي رمضان.
-وَفَاةُ زَيْنَبَ بِنْتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [المتوفاة: 8 ه]
وَكَانَتْ أَكْبَرَ بَنَاتِهِ. تُوُفِّيَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَغَسَّلَتْهَا أُمُّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةُ وَغَيْرُهَا، وَأَعْطَاهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقْوَهُ فَقَالَ: " أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ ".
وبِنْتُها أُمامة بِنْت أَبِي العاص هي التي كَانَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحملها فِي الصّلاة.(1/350)
-فتح مكة
شرفها الله وعظمها
قَالَ البكّائي، عَنِ ابن إِسْحَاق: ثمّ إنّ بني بَكْر بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنانة عدت عَلَى خُزَاعَة، وهم عَلَى ماءٍ بأَسفل مكة يقال لَهُ: الوَتير. وكان الَّذِي هاج ما بين بكر وخزاعة أن رجلًا من بني الحَضْرَميّ خرج تاجرًا، فلمّا توسّط أرضَ خُزاعة عَدَوا عَلَيْهِ فقتلوه وأخذوا ماله. فَعَدَت بنو بكرٍ عَلَى رجلٍ من خُزاعةَ فقتلوه. فَعَدَتْ خُزَاعة قُبَيْل الإِسلام عَلَى سلْمى وكلثوم وذُؤَيْب بني الأسود بْن رَزْن الديلي، وهم مفخر بني كِنانة وأشرافهم، فقتلوهم بعَرَفَة.
فبينا بنو بَكْر وخُزاعة عَلَى ذَلِكَ حَجَز بينهم الْإِسْلَام، وتشاغل النّاس بِهِ. فلمّا كَانَ صُلح الحُدَيْبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كَانَ فيما شرطوا لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَشَرَطَ لهم أنّه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله وعهده فليدخل معه، ومن أحبَّ أنَّ يدخل فِي عقد قريش وعهدهم فلْيدْخل فِيهِ. فدخلت بنو بَكْر فِي عقد قريش، ودخلت خُزاعة فِي عقد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مؤمنُها وكافرُها.
فلمّا كانت الهدنةُ اغتنمها بنو الدّيْل أحد بني بَكْر من خُزاعة، وأرادوا أنَّ يصيبوا منهم ثأرًا بأولئك الإِخوة. فخرج نوفل بْن معاوية الدِّيليّ فِي قومه حتّى بيت خُزاعة عَلَى الوَتِير، فاقتتلوا. ورَدَفَتْ قريشٌ بني الديل بالسلاح، وقومٌ من قريش أعانت خُزاعة بأنفسهم، مُسْتَخفين بذلك، حتّى حازوا خُزاعة إلى الحَرَم. فقال قوم نوفل له: اتقِ إلهك، ولا تَسْتَحِلّ الحَرَم! فقال: لا إله لي اليوم، والله يا بني كِنانة إنّكم لَتَسْرِقون فِي الحَرَم! أفلا تصيبون فِيهِ ثأركم؟ فقتلوا رجلًا من خُزاعة، ولجأت خُزاعة إلى دار بُدَيْل بْن وَرقاء الخُزَاعي، ودار رافع مولى خُزاعة.
فلمّا تظاهر بنو بَكْر وقريش عَلَى خُزاعة، كَانَ ذَلِكَ نقْضًا للهُدنة التي(1/351)
بينهم وبين رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخرج عَمْرو بْن سالم الخُزاعيّ فقدم عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طائفةٍ مستغيثين بِهِ، فوقف عَمْرو عَلَيْهِ، وهو جالس فِي المسجد بين ظَهْرَيِ النّاس فقال:
يا ربّ إنّي ناشدٌ محمَّدا ... حلف أبينا وأبيه الأْتلَدا
قد كنتُمُ ولدًا وكنّا والدا ... ثمت أَسْلَمنا فلم ننزعْ يَدَا
فانصُرْ هَدَاك اللَّه نَصْرًا أعْتَدَا ... وادع عبادَ اللَّه يأتُوا مدا
فيهم رَسُول اللَّهِ قد تجرَّدا ... إنْ سِيمَ خسفًا وجهه تَرَبّدَا
فِي فيلق كالبحر يجري مُزْبدا ... إنّ قُريشًا أَخْلفوك المَوْعِدا
ونقضوا ميثاقَكَ المُؤَكَّدا ... وجعلوا لي فِي كَدَاءَ رَصَدا
وزعموا أنْ لستُ أدعو أحدَا ... وهم أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدا
هم بَيَّتُونا بالوَتِير هُجَّدا ... وقتلونا رُكَّعًا وسجدا
فانصُرْ هداكَ اللَّه نصرًا أيّدا
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نصرت يا عَمْرو بْن سالم! "
ثمّ عُرِضَ لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنان من السّماء، فقال: إنّ هذه السحابة لتستهلّ بنصر بني كعب يعني خزاعة. رواه أطول من هذا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن الزهري سماعا، عَنْ عُرْوَة، عَنِ المِسْوَر بْن مَخْرَمَة، ومروان بن الحكم.
وقال ابن إسحاق: ثمّ قدم بُدَيل بْن وَرْقاء فِي نفرٍ من خُزاعة عَلَى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبروه، وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كأنّكم بأبي سُفْيَان قد جاءكم ليشدّ العقْد ويزيد فِي الْمُدَّةِ! ومضى بُدَيْل وأصحابه فلقوا أَبَا سُفْيَان بْن حرب بعُسْفان، قد جاء ليشدّ العقد ويزيد فِي المدّة، وقد رهبوا الَّذِي صنعوا. فلمّا لقى بُدَيْل بْن وَرْقَاء قَالَ: من أَيْنَ أقبلت يا بديل؟ وظن أنه أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: سرت في خزاعة على الساحل. فقال: أوما جئت محمدا؟(1/352)
قَالَ: لا. فلمّا راح بُدَيْل إلى مكة قَالَ أَبُو سُفْيَان: لئن كَانَ جاء إلى المدينة لقد علف بها النَّوى. فأتى مَبْرَكَ راحلته، ففتَّه، فرأى فِيهِ النَّوى فقال: أحلِفُ بالله لقد أتى محمَّدًا!
ثمّ قدِم أبو سُفْيَان المدينةَ، فدخل عَلَى ابنته أمّ حبيبة أمّ المؤمنين. فلمّا ذهب ليجلس عَلَى فراش رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طوَتْه عَنْهُ، فقال: ما أدري أَرَغِبْتِ بي عَنْ هذا الفراش؟ أم رغبت بِهِ عنّي؟ قالت: بل هو فراش رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتَ رجلٌ مُشْرِكٌ، نجس. قَالَ: والله لقد أصابك يا بُنَيَّةُ بعدي شَرٌّ!
ثم خرج حتى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يردّ عَلَيْهِ شيئًا، فذهب إلى أَبِي بَكْر، فكلّمه أنَّ يكلّم له رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر فكلمه فقال: أأنا أشفع لكم إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَوَالله لو لم أجد إلّا الذر لجالَدْتُكُم عَلَيْهِ!
ثمّ خرج حتّى أتى عليا رضي الله عنه، وعنده فاطمة وابنها الحَسَن وهو غلام يَدبّ، فقال: يا عليّ، إنّك أَمَسُّ القوم بي رَحِمًا، وإنّي قد جئت فِي حاجةٍ فلا أرجعن كما جئت خائبا، فاشفع لي إلى رسول الله فقال: ويْحَك يا أَبَا سُفْيَان! لقد عزم رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أمرٍ ما نستطيع أنَّ نكلّمه فِيهِ! فالتفت إلى فاطمة فقال: يا ابْنَة مُحَمَّد، هَلْ لك أنَّ تأمري بُنَيَّكِ هذا فيجير بين النّاس، فيكون سيّد العرب إلى آخر الدَّهر؟ قالت: والله ما بلغ بُنيَّ ذَلِكَ، وما يجير أحدٌ عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
قَالَ: يا أَبَا حَسَن، إنّي أرى الأمور قد اشتدّت عليّ فانصحني. قَالَ: والله ما أعلم شيئًا يغني عنك، ولكنك سيّد بني كِنانة، فقُم فأَجِرْ بين النّاس، ثمّ الحقْ بأرضك. قال: أوترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قَالَ: لا والله ما أظنّه، ولكنْ لا أجد لك غيرَ ذَلِكَ!
فقام أَبُو سُفْيَان فِي المسجد فقال: أيّها النّاس، إنّي قد أجَرتْ بين النّاس. ثمّ ركب بعيره وانطلق.
فلمّا قدِم عَلَى قريش، قالوا: ما وراءك؟ فقصّ شأنَه، وأنّه أجار بين النّاس. قالوا: فهل أجاز ذَلِكَ مُحَمَّد؟ قَالَ: لا. قالوا: والله إنْ زاد الرجلُ عَلَى أنْ لَعِبَ بك.
ثمّ أَمْرُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجهاز، وأمر أهله أنَّ يجهّزوه. ثمّ أعلم النّاس بأنّه يريد مكة، وقال: الَّلهُمّ، خُذْ العيونَ والأخبارَ عَنْ قريش حتّى نَبْغَتَهُم فِي بلادهم!(1/353)
فعن عُرْوة وغيره قالوا: لما أجمع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّيْرَ إلى مكة، كتب حاطب بْن أَبِي بلتعة إلى قريش بذلك مَعَ امْرَأَة، فجعلته فِي رأسها، ثم فَتَلَتْ عَلَيْهِ قُرُونها ثم خرجت بِهِ. وأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوحيُ بفعْله، فأرسل فِي طلبها عليًّا والزُّبير، وذكر الحديث.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَرَمِ الْقُرَشِيُّ وَجَمَاعَةٌ، قَالُوا: حدثنا الحسن بن يحيى المخزومي، قال: حدثنا عبد الله بن رفاعة، قال: أخبرنا علي بن الحسن الشافعي، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عمر بن النحاس، قال: أخبرنا عثمان بن محمد السمرقندي، قال: حدثنا أحمد بن شعبان، قال: حدثنا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ حَسَنِ بن محمد، قال: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي رَافِعٍ، وَهُوَ كاتب علي، قَالَ: سَمِعْتُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرَ وَالْمِقْدَادَ، قَالَ: انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا رَوْضَةَ خَاخٍ، فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ، فَخُذُوهُ مِنْهَا.
فَانْطَلَقْنَا تَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى الرَّوْضَةِ. قُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ! قَالَتْ: مَا مَعِي كتاب! قلنا: لتخرجن الكتاب أو لتقلعن الثِّيَابَ! فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا. فَأَتَيْنَا بِهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ: مِنْ حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا حَاطِبُ، مَا هَذَا "؟ قَالَ: يَا رَسُولَ الله، لا تعجل! إني كنت امرأ مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ، وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا، وَكَانَ مَنْ كَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مَعَكَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ بِمَكَّةَ، وَلَمْ يَكُنْ لِي قَرَابَةٌ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَّخِذَ فِيهِمْ يَدًا؛ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ - يَحْمُونَ بِهَا قَرَابَتِي، وَمَا فَعَلْتُهُ كُفْرًا وَلَا ارْتِدَادًا وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلامِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ! " فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، دَعْني أَضْرِبُ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ! قَالَ: " إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لكم "؟(1/354)
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ، وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ، وَأبَوُ دَاوُدَ عَنْ مُسَدَّدٍ - كُلُّهُمْ عن سفيان.
أبو حذيفة النهدي: حدثنا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي زُمَيْلٍ، عَنِ ابن عباس قال: قال عمر: كَتَبَ حَاطِبٌ إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِكِتَابٍ، فَجِيءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا حَاطِبُ، مَا دَعَاكَ إِلَى هَذَا؟ قَالَ: كَانَ أَهْلِي فِيهِمْ، وَخَشِيتُ أَنْ يَصْرِمُوا عَلَيْهِمْ! فَقُلْتُ: أَكْتُبُ كِتَابًا لا يَضُرُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ! فَاخْتَرَطْتُ السَّيْفَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَضْرِبُ عُنُقَهُ؛ فَقَدْ كَفَرَ! فَقَالَ: " وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهُ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ "؟ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَعَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ نَحْوَهُ، وَزَادَ: فَنَزَلَتْ: " يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ ".
وعن ابن إسحاق، قال: وعن ابن عبّاس قَالَ: ثمّ مضى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسَفَره، واستعمل عَلَى المدينة أَبَا رُهْم الغِفَاريّ. وخرج لعشْرٍ مضين من رمضان، فصام وصام النّاس معه، حتّى إذا كَانَ بالكُدَيْد، بين عُسْفان وأمَج أفطر.
اسم أبي رُهْم: كُلْثوم بْن حُصَيْن.
وقال سَعِيد بْن بشير عَنْ قَتَادَة إنّ خُزاعة أسلمت فِي دارهم، فقبل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إسلامَها، وجعل إسلامها فِي دارها.
وقال سَعِيد بْن عَبْد العزيز، وَغَيْرُهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أدخل فِي عهده يوم الحُدّيبية خُزَاعة.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ خُزَاعَةُ حِلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنُفَاثَةُ حِلْفَ أَبِي سُفْيَانَ، فَعَدَتْ(1/355)
نفاثة على خزاعة، فأمدتها قريش. فلم يغز رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرَيْشًا حَتَّى بَعَثَ إِلَيْهِمْ ضَمْرَةَ، فَخَيَّرَهُمْ بَيْنَ إِحْدَى ثَلاثٍ: أَنْ يَدُوا قَتْلَى خُزَاعَةَ، وَبَيْنَ أَنْ يَبْرَءُوا مِنْ حِلْفِ نُفَاثَةَ، أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ على سواء. قالوا: ننبذ عَلَى سَوَاءٍ. فَلَمَّا سَارَ نَدَمَتْ قُرَيْشٌ، وَأَرْسَلَتْ أَبَا سُفْيَانَ يَسْأَلُ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ.
وَقَالَ ابْنُ لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة قال: كَانَتْ بَيْنَ نُفَاثَةَ مِنْ بَنِي الدِّيلِ وَبَيْنَ بَنِي كَعْبٍ حَرْبٌ. فَأَعَانَتْ قُرَيْشٌ وَبَنُو كِنَانَةَ بَنِي نُفَاثَةَ عَلَى بَنِي كَعْبٍ. فَنَكَثُوا الْعَهْدَ إِلَّا بَنُو مُدْلِجٍ، فَإِنَّهُمْ وَفَوْا بِعَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، وَشِعْرَ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا نُصِرْتُ إِنْ لَمْ أَنْصُرْ بَنِي كَعْبٍ مِمَّا أَنْصُرُ مِنْهُ نَفْسِي ". فَأَنْشَأَتْ سَحَابَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ هَذِهِ السَّحَابَةَ تَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي كَعْبٍ، أَبْصِرُوا أَبَا سُفْيَانَ فَإِنَّهُ قَادِمٌ عَلَيْكُمْ يَلْتَمِسُ تَجْدِيدَ الْعَهْدِ وَالزِّيَادَةَ فِي الْمُدَّةِ ".
فَأَقْبَلَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، جدد العهد وَزِدْنَا فِي الْمُدَّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أولذلك قدمت؟ هل كان من حَدَثَ قَبْلَكُمْ؟ " قَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَنَحْنُ عَلَى عَهْدِنَا وَصُلْحِنَا ". ثُمَّ ذَكَرَ ذَهَابَهُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: أَنْتَ أَكْبَرُ قُرَيْشٍ فَأَجِرْ بَيْنَهَا. قَالَ: صَدَقْتَ إِنِّي كَذَلِكَ، فَصَاحَ: أَلا إِنِّي قَدْ أَجَرْتُ بين الناس، وما أظن أن يرد جواري ولا يخفر بِي. قَالَ: أَنْتَ تَقُولُ ذَاكَ يَا أَبَا حَنْظَلَةَ؟ ثُمَّ خَرَجَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْبَرَ: " الَّلهُمَّ سُدَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ فَلا يَرَوْنِي إِلا بَغْتَةً ". فَانْطَلَقَ أَبُو سُفْيَانَ حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَحَدَّثَ قَوْمَهُ، فقالوا: رضيت بِالْبَاطِلِ، وَجِئْتَنَا بِمَا لا يُغْنِي عَنَّا شَيْئًا، وَإِنَّمَا لَعِبَ بِكَ عَلَيَّ.
وَأَغْبَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجِهَازِ مُخْفِيًا لِذَلِكَ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ عَلَى ابْنَتِهِ، فَرَأَى شَيْئًا مِنْ جِهَازِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْكَرَ وَقَالَ: أَيْنَ يريد رَسُولُ الله؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: تَجَهَّزَ؛ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَازٍ قَوْمَكَ؛ قَدْ غَضِبَ لِبَنِي كَعْبٍ. فدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشْفَقَتْ عَائِشَةُ أَنْ يَسْقُطَ أَبُوهَا بِمَا أَخْبَرَتْهُ قَبْلَ أَنْ يَذْكُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشارت إلى أبيها بعينها، فسكت. فمكث رَسُولُ اللَّهِ(1/356)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاعَةً يَتَحَدَّثُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ قَالَ: " تَجَهَّزْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ "؟ قَالَ: لِمَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " لِغَزْوِ قُرَيْشٍ؛ فَإِنَّهُمْ قَدْ غَدَرُوا وَنَقَضُوا الْعَهْدَ، وإنا قوم غَازُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ ".
وَأَذَّنَ فِي النَّاسِ بِالْغَزْوِ، فَكَتَبَ حَاطِبٌ إِلَى قُرَيْشٍ، فَذَكَرَ حَدِيثَهُ، وَقَالَ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَأَسْلَمَ، وَغِفَارٍ، وَمُزَيْنَةَ، وَجُهَيْنَةَ، وَبَنِي سُلَيْمٍ. وَقَادُوا الْخُيُولَ حَتَّى نَزَلُوا بِمَرِّ الظَّهْرَانِ، وَلَمْ تَعْلَمْ بِهِمْ قُرَيْشٌ. قَالَ: فَبَعَثُوا حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ وَأَبَا سُفْيَانَ وَقَالُوا: خُذُوا لَنَا جوارا، أو آذنونا بِالْحَرْبِ! فَخَرَجَا، فَلَقِيَا بُدَيْلَ بْنَ وَرْقَاءَ فَاسْتَصْحَبَاهُ، فَخَرَجَ مَعَهُمَا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالأَرَاكِ بِمَكَّةَ وَذَلِكَ عِشَاءً رَأَوُا الْفَسَاطِيطَ وَالْعَسْكَرَ، وَسَمِعُوا صَهِيلَ الخيل، ففزعوا. فقالوا: هَؤُلاءِ بَنُو كَعْبٍ جَاشَتْ بِهِمُ الْحَرْبُ. قَالَ بديل: هؤلاء أكثر من بني كعب، ما بلغ تأليبها هَذَا!
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَعَثَ بَيْنَ يَدَيْهِ خَيْلا لا يَتْرُكُونَ أَحَدًا يَمْضِي. فَلَمَّا دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَأَصْحَابُهُ عَسْكَرَ الْمُسْلِمِينَ أَخَذَتْهُمُ الْخَيلُ تَحْتَ اللَّيْلِ وَأَتَوْا بِهِمْ. فَقَامَ عُمَرُ إِلَى أَبِي سُفْيَانَ فَوَجَأَ عُنُقَهُ، وَالْتَزَمَهُ الْقَوْمُ وَخَرَجُوا بِهِ لِيَدْخُلُوا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ. فَحَبَسَهُ الْحَرَسُ أَنْ يَخْلُصَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَخَافَ الْقَتْلَ، وَكَانَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَالِصَةً لَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فنادى بأعلى صوته: ألا تأمر بي إلى عباس؟ فأتاه عباس فَدَفَعَ عَنْهُ، وَسَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْبِضَهُ إِلَيْهِ.
فَرَكِبَ بِهِ تَحْتَ اللَّيْلِ، فَسَارَ بِهِ فِي عَسْكَرِ الْقَوْمِ حَتَّى أَبْصَرَهُ أَجْمَعَ. وَكَانَ عُمَرُ قَالَ لَهُ حِينَ وَجَأَهُ: لا تَدْنُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَمُوتَ. فَاسْتَغَاثَ بِالْعَبَّاسِ، وَقَالَ: إِنِّي مَقْتُولٌ. فَمَنَعَهُ مِنَ النَّاسِ. فَلَمَّا رَأَى كَثْرَةَ الْجَيْشِ قَالَ: لَمْ أَرَ كَاللَّيْلَةِ جَمْعًا لِقَوْمٍ. فَخَلَّصَهُ عَبَّاسٌ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَقَالَ: إِنَّكَ مَقْتُولٌ إِنْ لَمْ تُسْلِمْ وَتَشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَجَعَلَ يُرِيدُ أَنْ يَقُولَ الذي يأمره به عباس، ولا ينطلق بِهِ لِسَانُهُ وَبَاتَ مَعَهُ.
وَأَمَّا حَكِيمٌ وَبُدَيْلٌ فَدَخَلا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمَا، وَجَعَلَ يَسْتَخْبِرُهُمَا عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ.(1/357)
فلما نودي بالفجر تحسس الْقَوْمُ، فَفَزِعَ أَبُو سُفْيَانَ وَقَالَ: يَا عَبَّاسُ، ما يريدون؟ قال: سمعوا النداء بالصلاة، فتيسروا لحضور النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَلَمَّا أَبْصَرَهُمْ أَبُو سُفْيَانَ يَمُرُّونَ إِلَى الصَّلاةِ، وَأَبْصَرَهُمْ يَرْكَعُونَ وَيَسْجُدُونَ إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا عَبَّاسُ، مَا يَأْمُرُهُمْ بِشَيْءٍ إِلا فَعَلُوهُ؟! فَقَالَ: لَوْ نَهَاهُمْ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لأَطَاعُوهُ! فَقَالَ: يَا عَبَّاسُ، فَكَلِّمْهُ فِي قَوْمِكَ! هَلْ عِنْدَهُ مِنْ عَفْوٍ عَنْهُمْ؟
فَانْطَلَقَ عَبَّاسٌ بِأَبِي سُفْيَانَ حَتَّى أَدْخَلَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يا محمد، إني قد استنصرت بإلهي واستنصرت إلهك، فَوَاللَّهِ مَا لَقِيتُكَ مِنْ مَرَّةٍ إِلا ظَهَرْتَ عَلَيَّ. فَلَوْ كَانَ إِلَهِي مُحِقًّا، وَإِلَهُكَ بَاطِلا - ظَهَرْتُ عَلَيْكَ، فَأَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ.
وَقَالَ عَبَّاسٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لي إلى قومك، فأنذرهم مَا نَزَلَ بِهِمْ، وَأَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ! فَأَذِنَ لَهُ. قَالَ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ؟ قَالَ: " مَنْ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَشَهِدَ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَكَفَّ يَدَهُ - فَهُوَ آمِنٌ. وَمَنْ جَلَسَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَوَضَعَ سِلاحَهُ - فَهُوَ آمِنٌ. وَمَنْ أَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ ".
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبُو سُفْيَانَ ابْنُ عَمِّنَا، فَأُحِبُّ أن يرجع معي، فلو خَصَصْتَهُ بِمَعْرُوفٍ! فَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ. فَجَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ يَسْتَفْهِمُهُ، وَدَارَ أَبِي سُفْيَانَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، وَقَالَ: مَنْ دَخَلَ دَارَكَ يَا حَكِيمُ فَهُوَ آمِنٌ. وَدَارُ حَكِيمٍ فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ.
وَحَمَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَبَّاسَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ الَّتِي أَهْدَاهَا إِلَيْهِ دِحْيةُ الْكَلْبِيُّ، فَانْطَلَقَ الْعَبَّاسُ وَأَبُو سُفْيَانَ قَدْ أَرْدَفَهُ. ثُمَّ بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِثْرِهِ، فَقَالَ: أَدْرِكُوا الْعَبَّاسَ فَرُدُّوهُ عَلَيَّ، وَحَدَّثَهُمْ بِالَّذِي خَافَ عَلَيْهِ. فَأَدْرَكَهُ الرَّسُولُ، فَكَرِهَ عَبَّاسٌ الرُّجُوعَ، وَقَالَ: أَتَرْهَبُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَرْجِعَ أَبُو سُفْيَانَ رَاغِبًا فِي قِلَّةِ النَّاسِ، فَيَكْفُرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ؟ فَقَالَ: احْبِسْهُ! فَحَبَسَهُ.
فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: غَدْرًا يَا بَنِي هَاشِمٍ؟ فَقَالَ عَبَّاسٌ: إِنَّا لسنا بغدر، ولكن لي إِلَيْكَ بَعْضُ الْحَاجَةِ. فَقَالَ: وَمَا هِيَ، فَأَقْضِيهَا لَكَ؟ قَالَ: إِنَّمَا نَفَاذُهَا حِينَ يَقْدَمُ عَلَيْكَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ. فَوَقَفَ عَبَّاسٌ بِالْمَضِيقِ دُونَ الأَرَاكِ، وَقَدْ وَعَى مِنْهُ أَبُو سُفْيَانَ حَدِيثَهُ.(1/358)
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَيْلَ بَعْضَهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، وَقَسَمَ الْخَيْلَ شَطْرَيْنِ، فَبَعَثَ الزُّبَيْرَ فِي خَيْلٍ عَظِيمَةٍ. فلما مروا بأبي سفيان قال للعباس: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: الزُّبَيْرُ.
وَرِدْفُهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِالْجَيْشِ مِنْ أَسْلَمَ وَغِفَارٍ وَقُضَاعَةَ. فَقَالَ أبو سفيان: أهذا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا عَبَّاسُ؟ قَالَ: لا، وَلَكِنْ هَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ.
وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فِي كَتِيبَةِ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: الْيَوْمَ يَوْمَ الْمَلْحَمَةِ، الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ الْحُرْمَةُ!
ثُمَّ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَةِ الإِيمَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
فَلَمَّا رَأَى أَبُو سُفْيَانَ وُجُوهًا كَثِيرَةً لا يَعْرِفُهَا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اخْتَرْتَ هَذِهِ الْوُجُوهَ عَلَى قَوْمِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ فَعَلْتَ ذَلِكَ وَقَوْمُكَ. إِنَّ هَؤُلاءِ صَدَّقُونِي إِذْ كذبتموني، ونصروني إذ أخرجتموني.
وَمَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ الأقرع بن حابس، وعباس بن مرادس، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ. فَلَمَّا أَبْصَرَهُمْ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ يا عباس؟ قال: هذه كتيبة النبي صلى الله عليه وسلم، ومع هذه الموت الأحمر، هَؤُلاءِ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ. قَالَ: امْضِ يَا عَبَّاسُ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ جُنُودًا قَطُّ وَلا جَمَاعَةً.
وَسَارَ الزُّبَيْرُ بِالنَّاسِ حَتَّى إِذَا وَقَفَ بِالْحَجُونِ، وَانْدَفَعَ خَالِدٌ حَتَّى دَخَلَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ. فَلَقِيَتْهُ بَنُو بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ فَهَزَمَهُمْ، وَقَتَلَ مِنْهُمْ قَرِيبًا مِنْ عِشْرِينَ، وَمِنْ هُذَيْلٍ ثَلاثَةً أَوْ أَرْبَعَةً، وَهُزِمُوا وَقُتِلُوا بِالْحَزْوَرَةَ، حَتَّى دَخَلُوا الدُّورَ، وارتفعت طائفة منهم عَلَى الْجَبَلِ عَلَى الْخَنْدَمَةِ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بِالسُّيُوفِ.
وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُخْرَيَاتِ النَّاسِ، وَنَادَى مُنَادٍ: مَنْ أَغْلَقَ عليه داره، وكف يده - فإنه آمِنٌ. وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَازِلا بِذِي طُوًى، فَقَالَ: " كَيْفَ قَالَ حَسَّانٌ "؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: قَالَ:
عَدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لم تروها ... تُثِير النَّقْعَ من كنفي كُدَاءِ
فَأَمَرَهُمْ فَأَدْخَلُوا الَخْيَل مِنْ حَيْثُ قَالَ حَسَّانٌ، فَأُدْخِلَتْ مِنْ ذِي طُوًى مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، وَاسْتَحَرَّ الْقَتلُ بِبَنِي بَكْرٍ. فَأَحَلَّ اللَّهُ لَهُ مَكَّةَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: " لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ". فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أُحِلَّتِ الْحُرْمَةُ لأَحَدٍ قَبْلِي وَلا بَعْدِي، وَلا أُحِلَّتْ لِي إِلا سَاعَةً مِنْ نهار.(1/359)
ونادى أبو سفيان بمكة: أسلموا تسلموا. فكفهم اللَّهُ عَنْ عَبَّاسٍ.
فَأَقْبَلَتْ هِنْدٌ فَأَخَذَتْ بِلِحْيَةِ أَبِي سُفْيَانَ، ثُمَّ نَادَتْ: يَا آلَ غَالِبٍ، اقْتُلُوا الشَّيْخَ الأَحْمَقَ! قَالَ: أَرْسِلِي لِحْيَتِي، فَأُقْسِمُ لئن أنت لم تسلمي لتضربن عنقك! ويلك جاءنا بالحق! ادخلي بيتك واسكتي!
وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَطَافَ سَبْعًا عَلَى رَاحِلَتِهِ.
وَفَرَّ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ عَامِدًا لِلْبَحْرِ، وَفَرَّ عِكْرِمَةُ عَامِدًا لِلْيَمَنِ، وَأَقْبَلَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَمِّنْ صَفْوَانَ؛ فَقَدْ هَرَبَ، وَقَدْ خَشِيتُ أن يهلك نفسه، فأرسلني إليه بأمان؛ فإنك قَدْ أمَّنْتَ الأَحْمَرَ وَالأَسْوَدَ! فَقَالَ: أَدْرِكْهُ فَهُوَ آمِنٌ.
فَطَلَبَهُ عُمَيْرٌ، فَأَدْرَكَهُ وَدَعَاهُ، فَقَالَ: قَدْ أمَّنَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ لا أُوقِنُ لَكَ حَتَّى أَرَى عَلامَةً بِأَمَانِي أَعْرِفُهَا. فَرَجَعَ، فَأَعْطَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُرْدَ حَبْرَةٍ كَانَ مُعْتَجِرًا به حين دخل مكة. فأقبل به عُمَيْرٌ، فَقَالَ صَفْوَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطَيْتَنِي ما يقول هذا من الأمان؟ قال: نعم. قَالَ: اجْعَلْ لِي شَهْرًا. قَالَ: لَكَ شَهْرَانِ، لَعَلَّ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَكِ.
وَاسْتَأْذَنَتْ أُمُّ حَكِيمٍ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ وَهِيَ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمَةٌ، وَهِيَ تَحْتَ عِكْرِمَةَ بْنِ أَبِي جَهْلٍ. فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَلَبِ زَوْجِهَا، فَأَذِنَ لَهَا وَأَمَّنَهُ.
فَخَرَجَتْ بِعَبْدٍ لَهَا رُومِيٍّ، فَأَرَادَهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَلَمْ تَزَلْ تُمَنِّيهِ وَتُقَرِّبُ لَهُ حَتَّى قَدِمَتْ عَلَى نَاسٍ من عك فاستعانتهم عَلَيْهِ فَأَوْثَقُوهُ. فَأَدْرَكَتْ زَوْجَهَا بِبَعْضِ تِهَامَةَ وَقَدْ رَكِبَ فِي السَّفِينَةِ.
فَلَمَّا جَلَسَ فِيهَا نَادَى بِاللاتِ وَالْعُزَّى، فَقَالَ أَصْحَابُ السَّفِينَةِ: لا يَجُوزُ ها هنا مِنْ دُعَاءٍ بِشَيْءٍ إِلا اللَّهَ وَحْدَهُ مُخْلِصًا، فقال عكرمة: والله لئن كان في الْبَحْرُ إِنَّهُ لَفِي الْبَرِّ وَحْدَهُ، أُقْسِمُ بِاللَّهِ لأَرْجِعَنَّ إِلَى مُحَمَّدٍ!
فَرَجَعَ عِكْرِمَةُ مَعَ امْرَأَتِهِ، فدخل عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعَهُ، وَقَبِلَ مِنْهُ.
وَدَخَلَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ عَلَى امْرَأَتِهِ، فَلامَتْهُ وَعَيَّرَتْهُ بِالْفِرَارِ، فَقَالَ:
وَأَنْتِ لَوْ رَأَيْتِنَا بِالْخَنْدَمَهْ ... إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ
قَدْ لَحِقَتْهُمُ السُّيُوفُ الْمُسلِمَهْ ... يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ(1/360)
لَمْ تَنْطِقِي فِي اللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وَكَانَ دُخُولُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فِي رَمَضَانَ، وَاسْتَعَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَفْوَانَ فأعطاه فِيمَا زَعَمُوا مِائَةَ دِرْعٍ وَأَدَاتِهَا، وَكَانَ أَكْثَرَ شَيْءٍ سِلاحًا.
وَأَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: مَضَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى نَزَلَ مَرَّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلافٍ، فسبعت سليم، وبعضهم يقول: ألفت، وَأَلَّفَتْ مُزَيْنَةُ. وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ.
وَقَدْ كَانَ الْعَبَّاسُ لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ. قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: لَقِيَهُ بِالْجُحْفَةِ مُهَاجِرًا بعياله.
قال ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ قَدْ لَقِيَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بنيق الْعُقَابِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَالْتَمَسَا الدُّخُولَ عليه.
فكلمته أم سليم فِيهِمَا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ابْنُ عَمِّكَ وَابْنُ عَمَّتِكَ وَصِهْرُكَ. قَالَ: لا حَاجَةَ لِي بهما؛ أما ابن عمي فهتك عِرْضِي، وَأَمَّا ابْنُ عَمَّتِي فَهُوَ الَّذِي قَالَ لِي بِمَكَّةَ مَا قَالَ. فَلَمَّا بَلَغَهُمَا قَوْلُهُ قال أبو سفيان: والله ليأذنن لِي أَوْ لآخُذَنَّ بِيَدِ بُنَيَّ هَذَا، ثُمَّ لَنَذْهَبَنَّ فِي الأَرْضِ حَتَّى نَمُوتَ عَطَشًا وَجُوعًا! فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقَّ لَهُمَا، وَأَذِنَ لَهُمَا فَدَخَلا وَأَسْلَمَا.
وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ:
لَعَمْرُكَ إِنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً ... لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ ... فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدِي وَأَهْتَدِي
هَدَانِي هَادٍ غَيْرُ نَفْسِي وَنَالَنِي ... مع اللَّهِ مَنْ طَرَّدْتُ كُلَّ مُطَرَّدِ
أَصُدُّ وَأَنْأَى جَاهِدًا عَنْ مُحَمَّدٍ ... وَأُدْعَى وَإِنْ لَمْ أَنْتَسِبْ مِن مُحَمَّدِ
فَذَكَرُوا أَنَّهُ حِينَ أَنْشَدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ ضَرَبَ فِي صَدْرِهِ، وَقَالَ: أَنْتَ طَرَدْتَنِي كُلَّ مُطَرَّدٍ!(1/361)
وَقَالَ سَعْيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ عَطِيَّةَ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَرَجْنَا لِغَزْوَةِ فَتْحِ مَكَّةَ لِلَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُوَّامًا. فَلَمَّا كُنَّا بِالْكَدِيدِ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِطْرِ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ فِي مَخْرَجِهِ ذَلِكَ حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ، فَأَفْطَرَ وَأَفْطَرَ النَّاسُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الأوزاعي: حدثنا يحيى بن أبي كثير قال: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ قَالَ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمر الظهران، وهو يتغدى فَقَالَ: " الْغَدَاءُ "! فَقَالَا: إِنَّا صَائِمَانِ. فَقَالَ: " اعْمَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ، ارْحَلُوا لِصَاحِبَيْكُمْ، كُلا كُلا ". مُرْسَلٌ. وَقَوْلُهُ هَذَا مُقَدَّرٌ بِالْقَوْلِ، يَعْنِي: يُقَالُ هَذَا لِكَوْنِكُمَا صَائِمَيْنِ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَشَرَةُ آلَافٍ، وَذَلِكَ عَلَى رَأْسِ ثَمَانِ سِنِينَ وَنِصْفٍ مِنْ مَقْدَمِهِ الْمَدِينَةِ، فَسَارَ بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى مَكَّةَ، يَصُومُ وَيَصُومُونَ. حَتَّى بَلَغَ الْكَدِيدَ وَهُوَ بَيْنَ عُسْفَانَ وَقُدَيْدٍ، فَأَفْطَرَ، وَأَفْطَرَ النَّاسُ.
قَالَ الزُّهْرِيّ: وَكَانَ الْفِطْرُ آخِرَ الأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ بِالآخِرِ؛ فالآخر مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَصَبَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ لِثَلاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خلت من رمضان. أخرجه البخاري ومسلم دُونَ قَوْلِ الزُّهْرِيِّ، وَكَذَا وَرَّخَهُ يُونُسُ عَنِ الزهري.(1/362)
وقال عَبْد اللَّه بْن إدريس عَنِ ابن إِسْحَاق، عَنِ ابن شهاب، ومحمد بْن عليَّ بن الحسين، وعمرو بْن شُعَيْب، وعاصم بْن عُمَر وغيرهم - قَالُوا: كَانَ فتح مكة فِي عشر بقين من رمضان.
وقال الواقديّ: خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأربعاء لعشر خَلَوْن من رمضان بعد العصر، فما حلّ عقْده حتى انتهى إلى الصُلْصُل، وخرج المسلمون وقادوا الخيلَ وامتَطُوا الإِبل، وكانوا عشرة آلاف.
وذكر عُرْوَةُ وموسى بْن عُقْبة أنّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج فِي اثني عشر ألفًا.
وَقَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ بِأَبِي سُفْيَانَ، فَأَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ. فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَلَوْ جَعَلْتَ لَهُ شَيْئًا! قَالَ: نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ.
زَادَ فِيهِ الثِّقَةُ عن ابن إسحاق قال: ناده! فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَمَا تَسَعُ دَارِي؟ قَالَ: مَنْ دَخَلَ الْكَعْبَةَ فَهُوَ آمِنٌ. قَالَ: وَمَا تَسَعُ الْكَعْبَةُ؟ قَالَ: مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ. قَالَ: وَمَا يَسَعُ الْمَسْجِدُ؟ قَالَ: مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ. فَقَالَ: هَذِهِ وَاسِعَةٌ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: فَلَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قَالَ الْعَبَّاسُ وَقَدْ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ: يَا صَبَاحَ قُرَيْشٍ! وَاللَّهِ لَئِنْ بَغَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ عَنْوَةً - إِنَّهُ لَهَلاكُ قُرَيْشٍ آخِرَ الدَّهْرِ.
فَجَلَسَ عَلَى بَغْلَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيْضَاءِ، وَقَالَ: أَخْرُجُ إِلَى الأَرَاكِ لَعَلِّي أَرَى حُطَّابًا أَوْ صَاحِبَ لَبَنٍ، أَوْ دَاخِلا يَدْخُلُ مَكَّةَ، فَيُخْبِرُهُمْ بِمَكَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لِيَأْتُوهُ فَيَسْتَأْمِنُوهُ.
فَخَرَجْتُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَطُوفُ بِالأَرَاكِ إِذْ سَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَبُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَقَدْ خَرَجُوا يَتَجَسَّسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ:(1/363)
مَا رَأَيْتُ كَالْيَوْمِ قَطُّ نِيرَانًا! فَقَالَ بُدَيْلٌ: هَذِهِ نِيرَانُ خُزَاعَةَ حَمَشَتْهَا الْحَرْبُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: خُزَاعَةُ أَلأَمُ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ.
فَعَرَفْتُ صَوْتَهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَنْظَلَةَ، فَقَالَ: أَبُو الْفَضْلِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. فَقَالَ: لَبَّيْكَ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمِّي، مَا وَرَاءَكَ؟ قُلْتُ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ فِي النَّاسِ قَدْ دَلَفَ إِلَيْكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ فِي عَشَرَةِ آلافٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. قَالَ: فَكَيْفَ الْحِيلَةُ فِدَاك أَبِي وَأُمِّي؟
فَقُلْتُ: تَرْكَبُ فِي عَجُزِ هَذِهِ الْبَغْلَةِ، فَأَسْتَأْمِنُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ وَاللَّهِ لَئِنْ ظَفِرَ بِكَ لَيَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ.
فَرَدَفَنِي، فَخَرَجْتُ أَرْكُضُ بِهِ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلَّمَا مَرَرْتُ بِنَارٍ مِنْ نِيرَانِ الْمُسْلِمِينَ نَظَرُوا إِلَيَّ وَقَالُوا: عَمُّ رسول الله على بغلة رسول الله. حتى مررت بنار عمر فقال: أبو سُفْيَانَ؟! الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمْكَنَ مِنْكَ بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلا عَقْدٍ!
ثُمَّ اشْتَدَّ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكَضَتِ الْبَغْلَةُ حَتَّى اقْتَحَمَتْ بَابَ الْقُبَّةِ، وَسَبَقَتْ عُمَرَ بِمَا تَسْبِقُ بِهِ الدَّابَّةُ الْبَطِيئَةُ الرَّجُلَ الْبَطِيءَ.
وَدَخَلَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ عَدُوُّ اللَّهِ، قَدْ أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ بِغَيْرِ عَهْدٍ وَلا عَقْدٍ، فَدَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ! فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ أمَّنْتُهُ!
ثُمَّ جَلَسْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذْتُ بِرَأْسِهِ وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا يُنَاجِيهِ اللَّيْلَةَ أَحَدٌ دُونِي. فَلَمَّا أَكْثَرَ فِيهِ عُمَرُ، قُلْتُ: مَهْلا يَا عُمَرُ، فَوَاللَّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلا لأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ كَعْبٍ مَا قُلْتَ هَذَا! فَقَالَ: مَهْلا يَا عَبَّاسُ، فَوَاللَّهِ لإِسْلامُكَ يَوْمَ أَسْلَمْتَ كَانَ أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما ذاك إلا أني قد عرفت أن إسلامك كَانَ أَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِسْلامِ الْخَطَّابِ لَوْ أَسْلَمَ!
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اذْهَبْ بِهِ فَقَدْ آمَنَّاهُ، حَتَّى تَغْدُوَ بِهِ عَلَيَّ الْغَدَاةَ. فَرَجَعَ بِهِ الْعَبَّاسُ إِلَى مَنْزِلِهِ.
فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا سُفْيَانَ، أَلَمْ يَأْنِ لَكَ أَنْ تَعْلَمَ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ؟ فَقَالَ: بِأَبِي وَأُمِّي، مَا أَوْصَلَكَ وَأَكْرَمَكَ، والله لقد ظَنَنْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لقد أغنى شيئا بعد. فقال: ويحك! أولم يأن لك أَنْ تَعْلَمَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: بِأَبِي وأمي، ما أوصلك وأحلمك وَأَكْرَمَكَ، أَمَّا هَذِهِ فَإِنَّ فِي النَّفْسِ مِنْهَا شيئا.(1/364)
قال الْعَبَّاسُ: فَقُلْتُ: وَيْلَكَ! تَشَهَّدْ شَهَادَةَ الْحَقِّ قَبْلَ، وَاللَّهِ، أَنْ تُضْرَبَ عُنُقُكَ! فَتَشَهَّدَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ تَشَهَّدَ: " انْصَرِفْ بِهِ يَا عَبَّاسُ فَاحْبِسْهُ عِنْدَ حَطْمِ الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي، حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهِ جُنُودُ الله ".
فقلت له: إن أبا سفيان يا رسول الله رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ، فَاجْعَلْ لَهُ شَيْئًا يَكُونُ لَهُ فِي قَوْمِكَ! فَقَالَ: " نَعَمْ، مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمن ".
فخرجت به حتى حبسته عند حطم الْجَبَلِ بِمَضِيقِ الْوَادِي. فَمَرَّتْ عَلَيْهِ الْقَبَائِلُ، فَيَقُولُ: مَن هَؤُلاءِ يَا عَبَّاسُ؟ فَأَقُولُ: سُلَيْمٌ. فَيَقُولُ: مَا لِي وَلسُلَيْمٍ! وَتَمُرُّ بِهِ الْقَبِيلَةُ، فَيَقُولُ: من هذه؟ فأقول: أَسْلَمُ. فَيَقُولُ: مَا لِي وَلأَسْلَمَ! وَتَمُرُّ جُهَيْنَةُ.
حَتَّى مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، فِي الْحَدِيدِ، لا يُرَى مِنْهُمْ إِلا الْحَدَقُ. فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، مَنْ هَؤُلاءِ؟ فَقُلْتُ: هذا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ. فَقَالَ: يَا أَبَا الْفَضْلِ، لَقَدْ أَصْبَحَ مُلْكُ ابْنِ أَخِيكَ عَظِيمًا! فَقُلْتُ: وَيْحَكَ، إِنَّهَا النُّبُوَّةُ. قَالَ: فَنَعَمْ إِذَنْ.
قُلْتُ: الْحَقِ الآنَ بِقَوْمِكَ فَحَذِّرْهُمْ. فَخَرَجَ سَرِيعًا حَتَّى جَاءَ مَكَّةَ، فَصَرَخَ فِي الْمَسْجِدِ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، هَذَا مُحَمَّدٌ قَدْ جَاءَكُمْ بِمَا لا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ! فَقَالُوا: فَمَهْ؟ قَالَ: مَنْ دخل داري فهو آمن. قالوا: وَمَا دَارُكَ، وَمَا تُغْنِي عَنَّا؟ قَالَ: مَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ دَارَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ آمِنٌ.
هَكَذَا رَوَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عن ابن عباس - موصولا، وأما أيوب السختياني فأرسله. وقد رواه ابْنُ إِدْرِيسَ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - بِمَعْنَاهُ.
وَقَالَ عُرْوَةُ: أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ: يَا أبا عبد الله، ها هنا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُرَكِّزَ الرَّايَةَ! قَالَ: وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يومئذ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ كداء، ودخل(1/365)
النبي صلى الله عليه وسلم من كداء، فَقُتِلَ مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ يَوْمَئِذٍ رَجُلانِ: حُبَيْشُ بْنُ الْأَشْعَرِ، وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْفِهْرِيُّ.
وَقَالَ الزهري وغيره: أخفى الله مسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ.
وَفِي مَغَازِي مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ: " لِمَ قَاتَلْتَ وَقَدْ نَهَيْتُكَ عَنِ الْقِتَالِ "؟ قَالَ: هم بدؤونا بِالْقِتَالِ، وَوَضَعُوا فِينَا السِّلَاحَ، وَأَشْعَرُونَا بِالنَّبْلِ، وَقَدْ كَفَفْتُ يَدَيْ مَا اسْتَطَعْتُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَضَاءُ اللَّهِ خَيْرٌ ".
ويقال: قَالَ أَبُو بَكْر يومئذٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أراني فِي المنام وأراك دَنَوْنا من مكة، فخرجتْ إلينا كلْبةٌ تهرّ. فلمّا دنونا منها استلْقَتْ عَلَى ظهرها، فإذا هِيَ تشخبُ لَبَنًا. فقال: ذهبَ كلْبُهم وأقبل درُّهُم، وهم سائلوكم بأرحامكم وإنّكم لاقون بعضَهم. فإنْ لقيتم أَبَا سُفْيَان فلا تقتلوه، فلقوا أَبَا سُفْيَان وحكيما بمر.
وقال حسّان:
عدِمْتُ بُنَيَّتي إنْ لم تروها ... تُثِير النقع موعِدُها كَداءُ
يُنازِعْنَ الأعِنَّةَ مُصْحبات ... تلطمهن بالخُمُرِ النّساءُ
فإنْ أعرضْتُم عنّا اعْتَمْرنا ... وكان الفتحُ وانكشفَ الغطاءُ
وإلّا فاصْبِروا لجلاد يومٍ ... يُعِزّ اللَّه فِيهِ مَن يشاءُ
وجبريلُ رَسُول اللَّهِ فينا ... وَرُوحُ القدُسِ ليس لَهُ كفاءُ
هجوتَ محمَّدًا فأجبتُ عَنْهُ ... وعندَ اللَّه فِي ذاك الجزاءُ
فمن يهجو رَسُول اللَّهِ منكم ... ويمدحهُ وينصرُهُ سَوَاءُ
لساني صارمٌ لا عيبَ فِيهِ ... وبحري ما تُكَدِّرُهُ الدِّلاءُ(1/366)
فذكروا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبسّم إلى أَبِي بَكْر حين رَأَى النساء يلطمن الخيل بالخمر، أي ينفضن الغُبار عَنِ الخيل.
وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ غَزِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ - أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " اهجوا قُرَيْشًا؛ فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقِ النَّبْلِ ".
وَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ رَوَاحَةَ فَقَالَ: " اهْجُهُمْ! " فَهَجَاهُمْ فَلَمْ يُرْضِ. فَأَرْسَلَ إِلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، ثُمَّ أُرْسِلَ إِلَى حَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ. فَلَمَّا دَخَلَ قَالَ: قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تُرْسِلُوا إِلَى هَذَا الْأَسَدِ الضَّارِبِ بِذَنَبِهِ.
ثُمَّ أَدْلَعَ لِسَانَهُ فَجَعَلَ يُحَرِّكُهُ، فَقَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ، لَأَفْرِيَنَّهُمْ فَرْيَ الْأَدِيمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَعْجَلْ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ أَعْلَمُ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا، وَإِنَّ لِي فِيهِمْ نسبا، حتى يخلص لك نَسَبِي ". فَأَتَاهُ حَسَّانُ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ أَخْلَصَ لِي نَسَبُكَ، فَوَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَأَسُلَّنَّكَ مِنْهُمْ كَمَا تُسَلُّ الشَّعْرةُ مِنَ الْعَجِينِ!
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِحَسَّانَ: " إِنَّ روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ! " وَقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: هَجَاهُمْ حَسَّانُ فشفى وأشفى. وَذَكَرَ الْأَبْيَاتَ، وَزَادَ فِيهَا:
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا بَرًّا حَنِيفًا ... رَسُولَ اللَّهِ شِيمتُهُ الْوَفَاءُ
فَإِنَّ أَبِي وَوَالِدَه وَعِرْضِي ... لِعِرْضِ مُحمَّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
فإنْ أعرضتم عنا اعتمرنا ... وكان الفتح وانكشف الغطاء
وَقَالَ اللَّهُ قَدِ أَرْسَلْتُ عَبْدًا ... يَقُولُ الْحَقَّ لَيْسَ بِهِ خَفَاءُ
وَقَال اللَّهُ قَدْ سَيَّرْتُ جُنْدًا ... هُمُ الْأَنْصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ
لَنَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ مَعَدٍّ ... سِبابٌ أَوْ قِتَالٌ أو هجاء(1/367)
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ وَغَيْرُهُ: حدثنا ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ قَالَ: وَفَدْنا إِلَى مُعَاوِيَةَ وَمَعَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَكَانَ بَعْضُنَا يَصْنَعُ لِبَعْضٍ الطَّعَامَ، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِمَّنْ يَصْنَعُ لَنَا فَيُكْثِرُ، فَيَدْعُو إِلَى رَحْلِهِ.
قُلْتُ: لَوْ أَمَرْتُ بِطَعَامٍ، فَصُنِعَ وَدَعَوْتُهُمْ إِلَى رَحْلِي، فَفَعَلْتُ. وَلَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ بِالْعَشِيِّ، فَقُلْتُ: الدَّعْوَةُ عِنْدِي اللَّيْلَةَ. فَقَالَ: سَبَقْتَنِي يَا أَخَا الْأَنْصَارِ! قَالَ: فَإِنَّهُمْ لَعِنْدِي إِذْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلا أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ؟ فَذَكَرَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى إِحْدَى الْمُجَنِّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْأُخْرَى، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحَسْرِ. ثُمَّ رَآنِي فَقَالَ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! قُلْتُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ، وَلَا تَأْتِنِي إِلَّا بِأَنْصَارِيٍّ. قَالَ: فَفَعَلْتُهُ. ثُمَّ قَالَ: انْظُرُوا قُرَيْشًا وأوباشهم فاحصدوهم حصدا.
فانطلقنا فما أحد منهم يُوَجِّهُ إِلَيْنَا شَيْئًا، وَمَا مِنَّا أَحَدٌ يُرِيدُ أَحَدًا مِنْهُمْ إِلَّا أَخَذَهُ. وَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ! لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ " فَأَلْقَوْا سِلَاحَهُمْ.
وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَدَأَ بِالْحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طَافَ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ. ثم جاء ومعه القوس آخِذٌ بِسِيَتِهَا، فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِهَا فِي عَيْنِ صَنَمٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، وَهُوَ يَقُولُ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ".
ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى الصَّفَا، فَعَلَا مِنْهُ حَتَّى يَرَى الْبَيْتَ، وَجَعَلَ يَحْمَدُ اللَّهَ وَيَدْعُوهُ، وَالْأَنْصَارُ عِنْدَهُ يَقُولُونَ: أَمَّا الرَّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ!
وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ الْوَحْيُ إِذَا جَاءَ(1/368)
لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا. فَلَمَّا أَنْ رَفَعَ الْوَحْيُ قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، فَمَا اسْمِي إِذًا؟ كَلَّا، إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. الْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ. فَأَقْبَلُوا يَبْكُونَ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا قُلْنَا إِلَّا الضِّنَّ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ! فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدِّقَانِكُمْ وَيُعْذِرَانِكُمْ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، وَعِنْدَهُ: كَلَّا إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكُمْ.
وَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى الْإِذْنِ بِالْقَتْلِ قَبْلَ عَقْدِ الْأَمَانِ.
وَقَالَ سَلَّامُ بْنُ مِسْكِينٍ: حَدَّثَنِي ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا قُتِلَ يَوْمَ الْفَتْحِ إِلَّا أَرْبَعَةٌ. ثُمَّ دَخَلَ صَنَادِيدُ قُرَيْشٍ الْكَعْبَةَ وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ السَّيْفَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ. ثُمَّ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَلَّى. ثُمَّ أَتَى الْكَعْبَةَ، فَأَخَذَ بعضادتي الباب، فقال: " ما تقولون وما تظنون "؟ قَالُوا: نَقُولُ: ابْنُ أَخٍ وَابْنُ عَمٍّ حَلِيمٌ رَحِيمٌ! فَقَالَ: " أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفَ: " لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ". قَالَ: فَخَرَجُوا كَمَا نُشِرُوا مِنَ الْقُبُورِ، فَدَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ.
وقال عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يوم الفتح من كَداء من أعلى مكَّة.
وقال عَبْد اللَّه بْن عُمَر عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَر قَالَ: لما دَخَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفتح رَأَى النّساء يَلْطُمْنَ وجوهَ الخيل بالخُمُر، فَتَبَسَّمَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أبي بكر وقال: " كيف قال حسان "؟ فأنشده أَبُو بَكْر:
عدِمْتُ بُنَيَّتِي إنْ لم تروها ... تُثِير النَّقْعَ من كنفي كَدَاء
يُنَازِعْنَ الأعنَّةَ مسرجات ... يلطمهن بالخمر النساء
فقال: " ادخلوا من حيث قَالَ حسّان ".
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسٍ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ مَكَّةَ وَعَلَى(1/369)
رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ، فَلَمَّا وَضَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذَا ابْنُ خَطَلَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ. فَقَالَ: اقتلوه. متفق عليه.
وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أهدر دم ابن خَطَلَ وثلاثة غيره.
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ أبي مزاحم: حدثنا أَبُو مَعْشَرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ. قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ خَطَلٍ يَوْمَ أَخْرَجُوهُ مِنْ تَحْتَ الْأَسْتَارِ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالْمَقَامِ. ثُمَّ قَالَ: " لَا يُقْتَلُ قُرَشِيٌّ بَعْدَهَا صَبْرًا ".
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمَّارٍ الدُّهْنِيُّ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ بِغَيْرِ إِحْرَامٍ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي مُسْنَدِ الطيَّالِسيِّ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ - أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ.
وَقَالَ مُسَاوِرٌ الْوَرَّاقُ: سَمِعْتُ جَعْفَرَ بْنَ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ حرقانية، قد أرخى طرفها بن كَتِفَيْهِ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ أَبْيَضَ، وَرَايَتُهُ سَوْدَاءَ، قطعة مرط لي مرحل، وَكَانَتِ الرَّايَةُ تُسَمَّى الْعُقَابُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي طَوَى، وَرَأَى ما أكرمه الله به من الفتح - جعل يتواضع لله حتّى إنّك لتَقُول: قد كاد عُثْنُونُه أنَّ يُصيب واسطةَ الرَّحْلِ.
وَقَالَ ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَذَقْنُهُ عَلَى رَحْلِهِ مُتَخَشِّعًا. حَدِيثٌ صَحِيحٌ.(1/370)
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ، سَمِعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الفتح سُورَةَ الْفَتْحِ وَهُوَ عَلَى بَعِيرٍ، فَرَجَّعَ فِيهَا. ثُمَّ قَرَأَ مُعَاوِيَةُ يَحْكِي قِرَاءَةَ ابْنِ مُغَفَّلٍ عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرجع وقال: لولا أن يجتمع الناس لرجعت كما رجع ابْنِ مُغَفَّلٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَلَفْظُهُ لِلْبُخَارِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةٍ وَسِتُّونَ نُصُبًا، فَجَعَلَ يطعنها بعود في يده ويقول: " قل جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ". " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زهوقا ". متفق عليه.
وقال ابن إسحاق: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَعَلَى الْكَعْبَةِ ثَلَاثُمِائَةِ صَنَمٍ، فَأَخَذَ قَضِيبَهُ فَجَعَلَ يَهْوِي بِهِ إِلَى صَنَمٍ صَنَمٍ، وَهُوَ يَهْوِي حَتَّى مَرَّ عَلَيْهَا كُلِّهَا. حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ، وَهُوَ ضَعِيفٌ،: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ وَجَدَ بها ثلاثمائة وَسِتِّينَ صَنَمًا. فَأَشَارَ إِلَى كُلِّ صَنَمٍ بِعَصًا مِنْ غَيْرَ أَنْ يَمَسَّهَا، وَقَالَ: " جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا "، فَكَانَ لَا يُشِيرُ إِلَى صَنَمٍ إِلَّا سَقَطَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الْآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ. فَأَخْرَجَ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَفِي أَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ، فَقَالَ: " قاتلهم(1/371)
اللَّهُ! أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ "، وَدَخَلَ الْبَيْتَ، وَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْهُ حَتَّى أُمِرَ بِهَا فَمُحِيَتْ، وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ بِأَيْدِيهِمَا الْأَزْلَامُ، فَقَالَ: " قَاتَلَهُمُ اللَّهُ! وَاللَّهِ مَا اسْتَقْسَمَا بِهَا قَطُّ ". صحيح.
وروى أبو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَدْخُلْ الْبَيْتَ حَتَّى محيت الصور. صحيح.
وقال هوذة: حدثنا عَوْفٌ الأَعْرَابِيُّ عَنْ رَجُلٍ، قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الفتح شَيْبَةَ بْنَ عُثْمَانَ، فَأَعْطَاهُ الْمِفْتَاحَ، وَقَالَ لَهُ: دُونَكَ هَذَا، فَأَنْتَ أَمِينُ اللَّهِ عَلَى بَيْتِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: هَذَا غَلَطٌ، إِنَّمَا أَعْطَى الْمِفْتَاحَ عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ ابْنَ عَمِّ شَيْبَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَشَيْبَةُ يَوْمَئِذٍ كَافِرٌ. وَلَمْ يَزَلْ عُثْمَانُ عَلَى الْبَيْتِ حَتَّى مَاتَ، ثُمَّ وُلِّيَ شَيْبَةُ.
قُلْتُ: قَوْلُ الْوَاقِدِيِّ: لَمْ يَزَلْ عُثْمَانُ عَلَى الْبَيْتِ حَتَّى مَاتَ - فِيهِ نَظَرٌ؛ فَإِنْ أَرَادَ لَمْ يَزَلْ مُنْفَرِدًا بِالْحِجَابَةِ فَلا نُسَلِّمُ، وَإِنْ أَرَادَ مُشَارِكًا لِشَيْبَةَ فَقَرِيبٌ؛ فَإِنَّ شَيْبَةَ كَانَ حَاجِبًا فِي خِلافَةِ عُمَرَ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ولى الْحِجَابَةِ لِشَيْبَةَ لَمَّا أَسْلَمَ، وَكَانَ إِسْلامُهُ عَامَ الْفَتْحِ، لا يَوْمَ الْفَتْحِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حمران: حدثنا أَبُو بِشْرٍ عَنْ مُسَافِعِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَعْبَةَ يُصَلِّي، فَإِذَا فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَالَ: يَا شَيْبَةُ، اكْفِنِي هَذِهِ! فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: طَيِّنْهَا، ثُمَّ الْطَخْهَا بِزَعْفَرَانَ. فَفَعَلَ.
تَفَرَّدَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ مُقَارِبٌ الأَمْرِ.(1/372)
وَقَالَ يُونُسُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ - أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْبَلَ يَوْمَ الْفَتْحِ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ مُرْدِفًا أُسَامَةَ، وَمَعَهُ بِلَالٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ مِنَ الْحَجَبَةِ، حَتَّى أَنَاخَ فِي الْمَسْجِدِ. فَأَمَرَ عُثْمَانَ أَنْ يَأْتِي بِمِفْتَاحِ الْبَيْتِ، فَفَتَحَ، وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُسَامَةَ وَبِلَالٍ وَعُثْمَانَ. فَمَكَثَ فِيهَا نَهَارًا طَوِيلًا.
ثُمَّ خَرَجَ فَاسْتَبَقَ النَّاسُ. وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ، فَوَجَدَ بِلَالًا وَرَاءَ الْبَابِ، فَسَأَلَهُ: أَيْنَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَأَشَارَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَنَسِيتُ أَنْ أَسْأَلَهُ كَمْ صَلَّى مِنْ سَجْدَةٍ؟ صَحِيحٌ. عَلَّقَهُ الْبُخَارِيُّ مُحْتَجًّا بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَن عُبَيْد الله بْن عَبْد الله بْن أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ قَالَتْ: لَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ طَافَ عَلَى بَعِيرِهِ، يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ بالمحجن. ثم دخل الكعبة، فوجد فيها جمامة عيدان فاكتسرها، ثم قال بِهَا عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَأَنَا أَنْظُرُ، فَرَمَى بِهَا.
وَذَكَرَ أَسْبَاطٌ عَنِ السُّدِّيِّ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلا أَرْبَعَةَ نَفَرٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ: اقْتُلُوهُمْ، وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ: عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ خَطَلٍ، وَمِقْيَسُ بْنُ صُبَابَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ.
فَأَمَّا ابْنُ خَطَلٍ فَأُدْرِكَ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِالأَسْتَارِ، فَاسْتَبَقَ إِلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ حُرَيْثٍ وَعَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ، فَسَبَقَ سَعِيدٌ عَمَّارًا، فَقَتَلَهُ.
وَأَمَّا مِقْيَسٌ فَقَتَلُوهُ فِي السُّوقِ، وَأَمَّا عِكْرِمَةُ فَرَكِبَ الْبَحْرَ، وَذَكَرَ قِصَّتَهُ، ثُمَّ أَسْلَمَ.
وَأَمَّا ابْنُ أَبِي سَرْحٍ فَاخْتَبَأَ عِنْدَ عُثْمَانَ، فَلَمَّا دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الْبَيْعَةِ جَاءَ بِهِ عُثْمَانُ حَتَّى أَوْقَفَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، بَايِعْ عَبْدَ اللَّهِ! فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ثَلاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَأْبَى، فَبَايَعَهُ بَعْدَ ثَلاثٍ.
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: " أَمَا كَانَ فِيكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ يَقُومُ إِلَى هَذَا حَيْثُ رآني كففت،(1/373)
فَيَقْتُلُهُ؟ "
قَالُوا: مَا يُدْرِينَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا فِي نَفْسِكَ؟ هَلا أَوْمَأْتَ إِلَيْنَا بِعَيْنِكَ؟ قَالَ: " إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِنَبِيٍّ خَائِنَةُ الأَعْيُنِ ".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاق: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر قَالَ: قدِم مِقْيس بْن صُبابة عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وقد أظهر الإِسلامَ، يطلُب بِدَمِ أخيه هِشام، وكان قتله رجلٌ من المسلمين يَوْم بني المُصْطَلِق ولا يحسبه إلّا مُشْرِكًا.
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّما قُتِل أخوك خطأ، وأمرَ لَهُ بديَته، فأخذها. فمَكَث مَعَ المسلمين شيئًا، ثمّ عَدَا عَلَى قاتل أخيه فقتله، ولحِق بمكة كافرًا. فأمر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامَ الفتح بقَتْله، فقتله رجلٌ من قومه يقال لَهُ: نُمَيْلَة بْن عَبْد اللَّه بين الصَّفَا والمَرْوَة.
وحدّثني عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر، وأبو عُبَيْدة بْن مُحَمَّد بْن عمّار - أَنّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنّما أمر بقتل ابن أَبِي سَرْح؛ لأنه كَانَ قد أسلم، وكتب لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الوَحْيَ. فرجع مُشْرِكًا ولَحِق بمكة.
قَالَ ابن إِسْحَاق: وإنّما أمر بقتل عَبْد اللَّه بْن خَطَلَ أحد بني تيم ابن غَالب؛ لأنه كَانَ مسلمًا، فبعثه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَدِّقًا، وبعث معه رجلًا من الأنصار، وكان معه مَوْلًى يخدمه وكان مسلمًا. فنزل منزلًا، فأمر الموْلى أنَّ يذبح تَيْسًا ويصنع لَهُ طعامًا، ونام فاستيقظ ولم يصنع لَهُ شيئًا فقتله وَارْتَدَّ. وكان لَهُ قَيْنَة وصاحبتُها تغنّيان بهجاء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمر بقتلهما معه، وكان ممّن يؤذي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ يعقوب القمي: حدثنا جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةَ عَنِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَاءَتْ عَجُوزٌ حَبَشِيَّةٌ شَمْطَاءُ تَخْمِشُ وَجْهَهَا وَتَدْعُو بِالْوَيْلِ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَأَيْنا كَذَا وَكَذَا. فَقَالَ: " تِلْكَ نَائِلَةُ أَيِسَتْ أَنْ تُعْبَدَ بِبَلَدِكُمْ هَذَا أَبَدًا ". كَأَنَّهُ منقطع.(1/374)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنْ زَكَرِيَّا، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ مَالِكٍ هُوَ ابْنُ بَرْصَاءَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْفَتْحِ يَقُولُ: " لَا تُغْزَى مَكَّةَ بَعْدَ الْيَوْمِ أَبَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ".
وقال محمد بن فضيل: حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ جُمَيْعٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى نَخْلَةٍ، وَكَانَتْ بِهَا الْعُزَّى. فَأَتَاهَا خَالِدٌ وَكَانَتْ عَلَى ثَلاثِ سَمُرَاتٍ. فَقَطَعَ السَّمُرَاتِ، وَهَدَمَ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا.
ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ: " ارْجِعْ، فَإِنَّكَ لَمْ تَصْنَعْ شَيْئًا ". فَرَجَعَ خَالِدٌ، فَلَمَّا نَظَرَتْ إليه السدنة وهم حجابها أمعنوا فِي الْجَبَلِ، وَهُمْ يَقُولُونَ: يَا عُزَّى خَبِّلِيهِ، يَا عُزَّى عَوِّرِيهِ، وَإِلا فَمُوتِي بِرَغْمٍ! فَأَتَاهَا خَالِدٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ نَاشِرَةٌ شَعْرَهَا تَحْثُو التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا. فَعَمَّمَهَا بِالسَّيْفِ حَتَّى قَتَلَهَا.
ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: " تِلْكَ الْعُزَّى. أَبُو الطُّفَيْلِ لَهُ رُؤْيَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي بَعْضُ آلِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَ بِلالا فَعَلا عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ، فَأَذَّنَ عَلَيْهَا. فَقَالَ بَعْضُ بَنِي سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: لَقَدْ أَكْرَمَ اللَّهُ سَعِيدًا قَبْلَ أَنْ يَرَى هَذَا الأَسْوَدَ عَلَى ظَهْرِ الْكَعْبَةِ!
وَقَالَ عُرْوَةُ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلالا يَوْمَ الْفَتْحِ، فَأَذَّنَ عَلَى الْكَعْبَةِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِنْدَ - أَنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أم هانئ بنت أبي طالب حدثته أنه لَمَّا كَانَ عَامَ الْفَتْحِ فَرَّ إِلَيْهَا رَجُلَانِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَأَجَارَتْهُمَا. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَيَّ عَلِيٌّ فَقَالَ: أَقْتُلُهُمَا. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بِأَعْلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا رآني رحب بي، فَقَالَ: " مَا جَاءَ بِكِ يَا أُمِّ هَانِئٍ؟ قَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، كُنْتُ قَدْ(1/375)
أَمَّنْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي، فَأَرَادَ عَلِيٌّ قَتْلَهُمَا. فَقَالَ: " قَدْ أَجَرنْا مَنْ أَجَرْتِ ". ثُمَّ قَامَ إِلَى غُسْلِهِ، فَسَتَرَتْ عَلَيْهِ فَاطِمَةُ. ثُمَّ أَخَذَ ثوبا فالتحف به، ثم صلى ثمان رَكَعَاتٍ سُبْحَةَ الضُّحَى. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ اللَّيْثُ عَنِ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْعَدَوِيِّ - أَنَّهُ قَالَ لِعَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَث الْبُعُوثَ إِلَى مَكَّةَ: ائْذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ، أُحَدِّثُ قَوْلًا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ! أَنَّهُ حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَلَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، وَلَا يَحِلُّ لامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، وَلَا يَعْضِدُ بِهَا شَجَرَةً، فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا، فَقُولُوا لَهُ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ. فَلْيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ ".
فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيْحٍ: مَاذَا قَالَ لَكَ عَمْرٌو؟ قَالَ: قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِذَاكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الْحَرَمَ لَا يُعِيذُ عَاصِيًا وَلَا فَارًّا بِدَمٍ، وَلَا فَارًّا بِخَرْبَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ، عَمَّنْ حَدَّثَهُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَهُوَ عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ: " الْحَمْدُ للَّهِ الَّذِي صَدَقَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ. أَلا إِنَّ قَتِيلَ الْعَمْدِ الْخَطَإِ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنَ الْإِبِلِ، مِنْهَا أَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا.
أَلَا إِنَّ كُلَّ مَأَثُرةٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَدَمٍ وَمَالٍ تَحْتَ قَدَمَيَّ هَاتَيْنِ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ سِدَانَةِ الْبَيْتِ وَسِقَايَةِ الحاج، فقد أنضيتها لِأَهْلِهَا ". ضَعِيفُ الْإِسْنَادِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ عَامَ الْفَتْحِ، ثُمَّ قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّهُ لَا حِلْفَ فِي الْإِسْلَامِ، وَمَا كَانَ مِنْ حِلْفٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَزِيدُهُ إِلَّا(1/376)
شِدَّةً.
وَالْمُؤْمِنُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يُجِيرُ عليهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم. ترد سَرَايَاهُمْ عَلَى قَعِيدَتِهِمْ. لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافرٍ. دِيَةُ الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ. لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ، وَلَا تُؤْخَذُ صَدَقَاتُهُمْ إِلَّا فِي دُورِهِمْ ".
وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْزِلُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ إِذَا فَتَحَ اللَّهُ الْخَيْفُ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ ". أَخْرَجَهُ البخاري.
وقال أبو الأزهر النيسابوري: حدثنا محمد بن شرحبيل الأبناوي قال: أخبرنا ابن جريج قال: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الأَسْوَدِ بْنِ خَلَفٍ، أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَاهُ الأَسْوَدَ حَضَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النَّاسَ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَجَلَسَ عِنْدَ قَرْنِ مَسْقَلَةَ، فَجَاءَهُ الصِّغَارُ وَالْكِبَارُ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلامِ وَالشَّهَادَةِ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَتْ: لَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ وَنَزَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذا طُوًى قَالَ أَبُو قُحَافَةَ لابْنَةٍ لَهُ كَانَتْ مِنْ أَصْغَرِ وَلَدِهِ: أَيْ بُنَيَّةُ، أَشْرِفِي بِي عَلَى أَبِي قُبَيْسٍ، وَقَدْ كُفَّ بَصَرُهُ. فَأَشَرَفَتْ بِهِ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى سَوَادًا مُجْتَمِعًا، وَأَرَى رَجُلا يَشْتَدُّ بَيْنَ ذَلِكَ السَّوَادِ مُقْبِلا وَمُدْبِرًا. فَقَالَ: تِلْكَ الْخَيْلُ يَا بُنَيَّةُ، وَذَلِكَ الرَّجُلُ الْوَازِعُ.
ثُمَّ قَالَ: مَاذَا تَرَيْنَ؟ قَالَتْ: أَرَى السَّوَادَ انْتَشَرَ. فَقَالَ: فَقَدْ وَاللَّهِ إِذَنْ دُفِعَتِ الْخَيْلُ، فَأَسْرِعِي بِي إِلَى بَيْتِي. فَخَرَجَتْ سَرِيعًا، حَتَّى إِذَا هَبَطَتْ بِهِ إلى الأَبْطَحَ لَقِيَتْهَا الْخَيْلُ، وَفِي عُنُقِهَا طَوْقٌ لَهَا مِنْ وَرِقٍ، فَاقْتَطَعَهُ إِنْسَانٌ مِنْ عُنُقِهَا.
فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم المسجد خرج أبو بكر حتى جاء بأبيه يقوده، فلما رَآهُ(1/377)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " هَلا تَرَكْتَ الشَّيْخَ فِي بَيْتِهِ حَتَّى أَجِيئَهُ "؟ فَقَالَ: يَمْشِي هُوَ إِلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَحَقَّ مِنْ أَنْ تَمْشِيَ إِلَيْهِ. فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ مَسَحَ صَدْرَهُ، وَقَالَ: " أَسْلِمْ تَسْلَمْ ". فَأَسْلَمَ.
ثُمَّ قَامَ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ بِيَدِ أُخْتِهِ، فَقَالَ: أَنْشُدُ بِاللَّهِ وَالإِسْلامِ طَوْقَ أُخْتِي! فَوَاللَّهِ مَا أَجَابَهُ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ الثَّانِيَةَ، فَمَا أَجَابَهُ أَحَدٌ. فَقَالَ: يَا أُخَيَّةُ، احْتَسِبِي طَوْقَكِ، فَوَاللَّهِ إِنَّ الأَمَانَةَ الْيَوْمَ فِي النَّاسِ لَقَلِيلٌ.
وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ عُمَرَ أَخَذَ بِيَدِ أَبِي قُحَافَةَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " غَيِّرُوا هَذَا الشَّيْبَ، وَلَا تُقَرِّبُوهُ سَوَادًا ".
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَنَّأَ أَبَا بَكْرٍ بِإِسْلامِ أَبِيهِ. مُرْسَلٌ.
وقال مالك عَنِ ابن شهاب أَنَّهُ بلغه أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَلَى عهده نساء يُسْلِمْن بأَرْضِهنّ، منهنّ ابْنَة الوليد بْن المُغِيرة، وكانت تحت صَفْوان بْن أمية. فأسلمت يوم الفتح وهرب صفوان. فبعث إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابْنُ عمّه عُمَيْر بْن وهب برداء رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمانًا لصفوان، ودعاه إلى الإسلام، وأن يَقْدَم عَلَيْهِ، فإنْ رَضِي أمرًا قَبِله، وإلا سَيَّره شهرين.
فقدِم، فنادى عَلَى رؤوس النّاس: يا مُحَمَّد، هذا عُمير بن وهب جاءني بردائك، وزعم أنّك دعوتني إلى القدوم عليك؛ فإنّ رضيتُ أمرًا قبلته، وإلّا سيَّرتَني شهرين! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انزِلْ أَبَا وهب. فقال: لا والله، لا أنزل حتّى تبيّن لي. فقال: بل لك تَسْيِير أربعة أشهر.
فَخَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَل هَوازِن، فأرسل إلى صفوان يستعيره أداةً وسلاحًا. فقال صفوان: أَطَوْعًا أو كَرْهًا؟ فقال: بلْ طوعًا. فأعاره الأداة والسلاح، وخرج مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو كافر، فشهد حنينا والطائف، وهو كافر وامرأته مسلمة. فلم يفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما حتّى أسلم، واستقرّت عنده بذلك النِّكاح، وكان بين إسلامهما نَحْوٌ من شهر.(1/378)
وكانت أمّ حكيم بِنْت الحارث بْن هشام تحت عِكْرِمة بْن أَبِي جهل، فأسلمت يوم الفتح، وهرب عكرمة حتى قدم اليمن. فارتحلت أم حكيم حتى قدمت عليه باليمن، ودعته إلى الإسلام فأسلم. وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلمّا رآه وثب فرحًا بِهِ، ورمى عَلَيْهِ رداءه حتّى بايعه. فثبتا عَلَى نكاحهما ذَلِكَ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن يزيد الهُذَليّ عَنْ أَبِي حُصَيْن الهُذليّ قَالَ: اسْتَقْرَض رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ صفوان بْن أمية خمسين ألف درهم، ومن عَبْد اللَّه بْن أَبِي ربيعة أربعين ألفًا، ومن حُوَيْطِب بْن عَبْد العُزَّى أربعين ألفًا - فقسمها بين أصحابه من أهُل الضَّعْف، ومن ذلك المال بعث إلى جذيمة.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي عُرْوَةُ قال: قالت عائشة: إن هند بِنْتَ عُتْبةَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا كَانَ مِمَّا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أخباء أو خباء أحب إلي أن يَذِلُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ مَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ أَنْ يَعِزُّوا مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ! قَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَأَيْضًا، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ". قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ مُمْسِكٌ، أَوْ قَالَتْ: مِسِّيكٌ - فَهَلْ عَلِيَّ مِنْ حَرَجٍ أَنْ أطعم من الذي له؟ قال: " لا، إلا بِالْمَعْروُفِ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ. وَعِنْدَهُ: فَهَلْ عَلَيَّ حَرَجٌ أَنْ أُطْعِمَ مِنَ الَّذِي لَهُ عِيَالُنَا. قَالَ: لَا عَلَيْكَ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ بِالْمَعْرُوفِ.(1/379)
وقال الفريابي: حدثنا يُونُسُ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِي السَّفَرِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: رَأَى أَبُو سُفْيَانَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي والناس يطؤون عَقِبَهُ. فَقَالَ فِي نَفْسِهِ: لَوْ عَاوَدت هَذَا الرَّجُل القتالَ. فَجَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى ضرب فِي صَدْرِهِ، فَقَالَ: إِذًا يُخْزِيكَ اللَّهُ! قَالَ: أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ!
وَرَوَى نَحْوَهُ مُرْسلا أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ أَعْيَنَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاشِدٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، قَالَ: لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ دَخَلَ النَّاسُ مَكَّةَ لَمْ يَزَالُوا فِي تَكْبِيرٍ وَتَهْلِيلٍ وَطَوَافٍ بِالْبَيْتِ حَتَّى أَصْبَحُوا. فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ لِهِنْدٍ: أَتَرِي هَذَا مِنَ اللَّهِ؟ ثُمَّ أَصْبَحَ، فَغَدا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ له: " قلت لهند: أترين هَذَا مِنَ اللَّهِ؟ نَعَمْ، هَذَا مِنَ اللَّهِ ". فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ، مَا سَمِعَ قَوْلِي هَذَا أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ إِلا اللَّهُ وَهِنْدٌ.
وقال ابن المبارك: أخبرنا عَاصِمٌ الْأَحْوَلُ عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَكَّةَ تِسْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا، يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عَاصِمٍ الْأَحْوَلِ: سَبْعَةَ عَشَرَ يَوْمًا. صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ علية: أخبرنا عَلِيُّ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ: غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقَامَ بِمَكَّةَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ لَيْلَةً لَا يُصَلِّي إِلَّا رَكْعَتَيْنِ، يَقُولُ: يَا أهل البلد، صلوا أربعا؛ فَإِنَّا سَفْرٌ. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ. عَلَيٌّ ضَعِيفٌ.(1/380)
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْفَتْحِ خَمْسَ عَشْرَةَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ.
ثُمَّ رَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِثْلَ هَذَا.
قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: الأَصَحُّ رِوَايَةً ابْنُ الْمُبَارَكِ الَّتِي اعْتَمَدَهَا الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ الواقدي: وفي رمضان بعثة خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى، فَهَدَمَهَا. وَبُعِثَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ إِلَى سُوَاعٍ فِي رَمَضَانَ، وَهُوَ صَنَمُ هُذَيْلٍ، فَهَدَمَهُ. وَقَالَ: قُلْتُ لِلسَّادِن: كَيْفَ رَأَيْتَ؟ قَالَ: أَسْلَمْتُ لِلَّهِ.
قَالَ: وَفِي رَمَضَانَ بُعِثَ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الأَشْهَلِيُّ إِلَى مَنَاةَ، وَكَانَتْ بِالْمُشَلَّلِ لِلأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَغَسَّانَ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ زَيْدٍ الأَشْهَلِيَّ فِي عِشْرِينَ فَارِسًا حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهَا، وَتَخْرُجُ إِلَى سَعْدٍ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ عُرْيَانَةٌ ثَائِرَةُ الرَّأْسِ تَدْعُو بِالْوَيْلِ، فَقَالَ لَهَا السَّادِنُ: مَناةُ، دُونَكِ بَعْضَ غَضَبَاتِكَ! وَسَعْدٌ يَضْرِبُهَا، فَقَتَلَهَا، وَأَقْبَلَ إِلَى الصَّنَمِ، فَهَدَمُوهُ لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ.
وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِنِ اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا ". قَالَهُ يَوْمَ الْفَتْحِ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ: سَمِعْتُ أَبَا الْبَخْتَرِيِّ يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ " إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ والفتح " - قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: " إِنِّي وَأَصْحَابِي حَيِّزٌ وَالنَّاسُ حَيِّزٌ، لا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ".
فَحَدَّثْتُ بِهِ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ وَكَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: كَذَبَتْ. وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَرَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَكَانَا مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ. فَقُلْتُ: إِنَّ هَذَيْنِ لَوْ شَاءَا لَحَدَّثَاكَ، وَلَكِنَّ هَذَا يَعْنِي زَيْدًا - يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنِ(1/381)
الصَّدَقَةِ، وَالْآخَرُ يَخَافُ أَنْ تَنْزِعَهُ عَنْ عَرَافَةِ قَوْمِهِ. قَالَ: فَشَدَّ عَلَيْهِ بِالدِّرَّةِ. فَلَمَّا رَأَيَا ذَلِكَ قَالَا: صَدَقَ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلابَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَلَمَةَ، ثُمَّ قَالَ: هُوَ حَيٌّ، أَلا تَلْقَاهُ فَتَسْمَعُ مِنْهُ؟ فَلَقِيتُ عَمْرًا فَحَدَّثَنِي بِالْحَدِيثِ، قَالَ: كُنَّا بِمَمَرِّ النَّاسِ، فَتَمُرُّ بِنَا الرُّكْبَانُ، فَنَسْأَلُهُمْ: مَا هَذَا الأَمْرُ؟ وَمَا لِلنَّاسِ؟ فَيَقُولُونَ: نَبِيٌّ يَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَرْسَلَهُ، وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ كَذَا وَكَذَا، وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَلَوَّمُ بِإِسْلامِهَا الْفَتْحَ. وَيَقُولُونَ: أَنْظِرُوهُ، فَإِنْ ظَهَرَ فَهُوَ نَبِيٌّ فَصَدِّقُوهُ.
فَلَمَّا كَانَ وَقْعَةُ الفتح نادى كُلُّ قَوْمٍ بِإِسْلامِهِمْ. فَانْطَلَقَ أَبِي بِإِسْلامِ حِوَائِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقدم فأقام عنده كذا وكذا، ثم جاء فَتَلَقَّيْنَاهُ، فَقَالَ: جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ حَقًّا، وَإِنَّهُ يَأْمُرُكُمْ بِكَذَا، وَصَلاةِ كَذَا وَكَذَا. وإذا حضرت الصلاة فليؤذن أَحَدُكُمْ، وَلَيَؤُمَّكُمْ أَكْثَرُكُمْ قُرْآنًا.
فَنَظَرُوا فِي أَهْلِ حوائنا فلم يجدوا أَكْثَرَ قُرْآنًا مِنِّي فَقَدَّمُونِي وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ أَوْ سِتِّ سِنِينَ. فَكُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ، فَإِذَا سَجَدْتُ تَقَلَّصَتْ بُرْدَةٌ عَلَيَّ. تَقُولُ امْرَأَةٌ مِنَ الْحَيِّ: غَطُّوا عَنَّا اسْتَ قَارِئِكُمْ هَذَا. قَالَ: فَكُسِيتُ معقدةً مِنْ معقدِ الْبَحْرَيْنِ بِسِتَّةِ دراهم أو بسبعة، فَمَا فَرِحْتُ بِشَيْءٍ كَفَرَحِي بِذَلِكَ.
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عن سليمان بن حرب عنه، والله أعلم.(1/382)
-غزوة بني جذيَمة
قَالَ ابن إِسْحَاق: وبعث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السرايا فيما حول مكة يدعون إلى اللَّه تعالى، ولم يأمرهم بقتالٍ. فكان ممّن بعث خَالِد بْن الوليد، وأمره أنَّ يسير بأسفل تِهامة داعيًا، ولم يبعثه مقاتلا. فوطئ بني جَذِيمة بن عامر بْن عَبْد مَنَاة بْن كِنَانة، فأصاب منهم.
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى - أَحْسَبُهُ قَالَ - بَنِي جَذِيمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الإِسْلامِ. فَلَمْ يُحْسِنُوا أنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا. وجعل خالد بِهِمْ قَتْلا وَأَسْرًا، وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ منا أسيره. حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ يَوْمًا أَمَرَ خَالِدٌ أَنْ يَقْتُلَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَّا أَسِيرَهُ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ أَسِيرِي، وَلا يَقْتُلُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِي أَسِيرَهُ. قَالَ: فَقَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذُكِرَ لَهُ صَنِيعُ خَالِدٍ. فَقَالَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ، إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ! " مَرَّتَيْنِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، قَالَ: لَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ، فَخَرَجَ حَتَّى نَزَلَ بِبَنِي جَذِيمَةَ، وَهُمْ عَلَى مَائِهِمْ، وَكَانُوا قَدْ أَصَابُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ عَمَّهُ الْفَاكِهَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَوَالِدَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَأَمَرَ خَالِدٌ بِرِجَالٍ مِنْهُمْ فَأُسِرُوا وَضُرِبَتْ أَعْنَاقُهُمْ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " اللَّهُمَّ، إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا عَمِلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ! "
ثُمَّ دَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا، فَقَالَ: " اخْرُجْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ، فَأَدِّ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ ". فَخَرَجَ عَلِيٌّ وَقَدْ أَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالًا، فَوَدَى لَهُمْ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُعْطِيهُمْ ثَمَنَ(1/383)
مِيلَغَةِ الْكَلْبِ.
فَبَقِيَ مَعَ عَلِيٍّ بَقِيَّةٌ مِنْ مَالٍ، فَقَالَ: أَعْطِيكُمْ هَذَا احْتِياطًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا لَا يَعْلَمُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيمَا لَا تَعْلَمُونَ. فَأَعْطَاهُمْ إِيَّاهُ. ثُمَّ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَخْبَرَهُ الخبر فَقَالَ: أَحْسَنْتَ وَأَصَبْتَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ بن المغيرة، عن الزهري قال: حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ فِي الْخَيْلِ الَّتِي أَصَابَ فِيهَا خَالِدٌ بَنِي جَذِيمَةَ، إِذَا فَتًى مِنْهُمْ مَجْمُوعَةٌ يَدُهُ إِلَى عُنُقِهِ بِرُمَّةٍ، يَقُولُ: بِحَبْلٍ. فَقَالَ: يَا فَتَى، هَلْ أَنْتَ آخِذٌ بِهَذِهِ الرُّمَّة فَمُقَدِّمِي إِلَى هَذِهِ النِّسْوَةِ، حَتَّى أَقْضِيَ إِلَيْهِنَّ حَاجَةً، ثم تصنعون مَا بَدَا لَكُمْ؟ فَقُلْتُ: لَيَسِيرٌ مَا سَأَلْتَ. ثم أخذت برمته فقدمته إليهن، فقال: أسلم حبيش على نفاد العيش، ثم قال:
أرأيت إِنْ طَالَبْتُكُمْ فَوَجَدْتُكُمْ ... بِحَلْيَةَ أَوْ أَدْرَكْتُكُمْ بِالْخَوَانِقِ
أَلَمْ يَكُ حَقًّا أَنْ يُنَوَّلَ عَاشِقٌ ... تَكَلَّفَ إِدْلاجَ السُّرَى وَالْوَدَائِقِ
فَلا ذَنْبَ لِي قَدْ قُلْتُ إِذْ أَهْلُنَا مَعًا ... أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ إِحْدَى الصَّفَائِقِ
أَثِيبِي بِوُدٍّ قَبْلَ أَنْ تَشْحَطَ النَّوَى ... وَيَنْأَى الأَمِيرُ بِالْحَبِيبِ الْمُفَارِقِ
فَإِنِّيَ لا سر لَدَيَّ أَضَعْتُهُ ... وَلا رَاقَ عَيْنِي بَعْدَ وَجْهِكِ رائق
على أن ما ناب العشيرة شَاغِلٌ ... عَنِ اللَّهْوِ إِلا أَنْ تَكُونَ بَوائِقُ
فَقَالَتْ: وَأَنْتَ حُيِّيتَ عَشْرًا، وَسَبْعًا وِتْرًا، وَثَمَانِيًا تَتْرَى. ثُمَّ قَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنَا أَبُو فِرَاسٍ الأَسْلَمِيُّ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَدْ(1/384)
شهدوا هذا مع خالد قالوا: فلما قُتِلَ قَامَتْ إِلَيْهِ، فَمَا زَالَتْ تَرْشُفُهُ حَتَّى مَاتَتْ عَلَيْهِ.
-غزوَة حُنَين
قَالَ يُونُسُ عَنِ ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر عن عبد الرحمن ابن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ. وَحَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ وَالزُّهْرِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ حَدِيثِ حُنَيْنٍ، حِينَ سَارَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَارُوا إِلَيْهِ.
فَبَعْضُهُمْ يُحَدِّثُ بِمَا لا يُحَدِّثُ بِهِ بَعْضٌ، وَقَدِ اجْتَمَعَ حَدِيثُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ جَمَعَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ النصري بني نصر وبني جشم وبني سعد بن بكر، وأوزاعا من بني هلال وهم قليل، وناسا من بني عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَعَوْفِ بْنِ عَامِرٍ. وَأَوْعَبَتْ مَعَهُ ثَقِيفُ الأَحْلافِ، وَبَنُو مَالِكٍ.
ثُمَّ سَارَ بهم إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسَاقَ مَعَهُ الأَمْوَالَ وَالنِّسَاءَ وَالأَبْنَاءَ. فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيَّ، فَقَالَ: " اذْهَبْ فَادْخُلْ فِي الْقَوْمِ حَتَّى تَعْلَمَ لَنَا مِنْ عِلْمِهِمْ ". فَدَخَلَ فِيهِمْ، فَمَكَثَ فِيهِمْ يَوْمًا أَوِ اثْنَيْنِ.
ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: " أَلا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ؟ فَقَالَ عُمَرُ: كَذِبَ. فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ: وَاللَّهِ لَئِنْ كَذَّبْتَنِي يَا عُمَرُ لَرُبَّمَا كَذَّبْتَ بِالْحَقِّ. فَقَالَ عُمَرُ: أَلا تَسْمَعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي حَدْرَدٍ؟ فَقَالَ: " قَدْ كُنْتَ يَا عُمَرُ ضَالا فَهَدَاكَ اللَّهُ! "
ثُمَّ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، فَسَأَلَهُ أَدْرَاعًا عِنْدَهُ مِائَةَ دِرْعٍ، وَمَا يُصْلِحُهَا مِنْ عُدَّتِهَا. فَقَالَ: أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَةٌ مَضْمُونَةٌ. ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَائِرًا.(1/385)
قال ابن إسحاق: حدثنا الزُّهْرِيُّ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حُنَيْنٍ فِي أَلْفَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، وَعَشَرَةِ آلافٍ كَانُوا مَعَهُ، فَسَارَ بِهِمْ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاسْتَعْمَلَ عَلَى مَكَّةَ عَتَّابَ بْن أسِيد بْن أَبِي الْعِيصِ بْن أُمَيَّة.
وَبِالإِسْنَادِ الأَوَّلِ أَنَّ عَوْفَ بْنَ مَالِكٍ أَقْبَلَ فِيمَنْ مَعَهُ مِمَّنْ جَمَعَ مِنْ قَبَائِلِ قَيْسٍ وَثَقِيفٍ، وَمَعَهُ دُرَيْدُ بْنُ الصِّمَّةِ شَيْخٌ كَبِيرٌ فِي شِجَارٍ لَهُ يُقَادُ بِهِ، حَتَّى نَزَلَ النَّاسُ بِأَوْطَاسٍ.
فَقَالَ دُرَيْدٌ حِينَ نُزُلوِهَا، فَسَمِعَ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَنَهِيقَ الْحَمِيرِ وَيُعَارَ الشَّاءِ وَبُكَاءَ الصغير: بِأَيِّ وَادٍ أَنْتُمْ؟ فَقَالُوا: بِأَوْطَاسٍ. فَقَالَ: نِعْمَ مَجَالُ الْخَيْلِ؛ لا حَزْنٌ ضَرِسٌ، وَلا سَهْلٌ دهس. مالي أَسْمَعُ رُغَاءَ الْبَعِيرِ وَبُكَاءَ الصَّغِيرِ وَيُعَارَ الشَّاءِ؟ قَالُوا: سَاقَ مَالِكٌ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَذَرَارِيَّهُمْ. قال: فأين هو؟
فدعي، فَقَالَ: يَا مَالِكُ، إِنَّكَ أَصْبَحْتَ رَئِيسَ قَوْمِكَ، وإن هذا يوم كائن له ما بَعْدَهُ مِنَ الأَيَّامِ، فَمَا دَعَاكَ إِلَى أَنْ تَسُوقَ مَعَ النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أَجْعَلَ خَلْفَ كُلِّ رَجُلٍ أَهْلَهُ وماله ليقاتل عنهم.
فأنفض به دريد، وقال: يا رَاعِي ضَأْنٍ، وَاللَّهِ! وَهَلْ يَرُدُّ وَجْهَ الْمُنْهَزِمِ شيء؟ إنها إن كانت لك لا يَنْفَعْكَ إِلا رَجُلٌ بِسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَيْكَ فُضِحْتَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ. فَارْفَعِ الأَمْوَالَ وَالنِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ إِلَى عُلْيَا قَوْمِهِمْ وَمُمْتَنِعِ بِلادِهِمْ!
ثُمَّ قَالَ دُرَيْدٌ: وَمَا فَعَلَتْ كَعْبٌ وَكِلابٌ؟ فَقَالُوا: لَمْ يَحْضُرْهَا مِنْهُمْ أَحَدٌ. فَقَالَ: غَابَ الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب، ولوددت لو فعلتم فعلها! فَمَنْ حَضَرَهَا؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ، وَعَوْفُ بْنُ عَامِرٍ. فَقَالَ: ذَانِكَ الْجَذَعَانِ(1/386)
لا يَضُرَّانِ وَلا يَنْفَعَانِ.
فَكَرِهَ مَالِكٌ أَنْ يَكُونَ لِدُرَيْدٍ فِيهَا رَأْيٌ، فَقَالَ: إِنَّكَ قَدْ كبرت وكبر علمك، والله لتطيعن يَا مَعْشَرَ هَوَازِنَ، أَوْ لأَتْكِئَنَّ عَلَى هَذَا السَّيْفِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ ظَهْرِي! فَقَالُوا: أَطَعْنَاكَ! ثُمَّ قَالَ مَالِكٌ لِلنَّاسِ: إِذَا رَأَيْتُمُوهُمْ فَاكْسِرُوا جُفُونُ سُيُوفِكُمْ، ثُمَّ شُدُّوا شَدَّةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ.
وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مَكَّةَ لِسِتٍّ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لا نُغْلَبُ الْيَوْمَ مِنْ قِلَّةٍ. فَانْتَهَوْا إِلَى حُنَيْنٍ لِعَشْرٍ خَلَوْنَ مِنْ شَوَّالٍ، وَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِالتَّعْبِئَةِ وَوَضَعَ الأَلْوِيَةَ وَالرَّايَاتِ فِي أَهْلِهَا، وَرَكِبَ بَغْلَتَهُ وَلَبِسَ دِرْعَيْنِ وَالْمِغْفَرَ وَالْبَيْضَةَ.
فَاسْتَقْبَلَهُمْ مِنْ هَوَازِنَ شَيْءٌ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ مِنَ السَّوَادِ وَالْكَثْرَةِ، وَذَلِكَ فِي غَبَشِ الصُّبْحِ، وَخَرَجَتِ الْكَتَائِبُ مِنْ مضيق الوادي وشعبه. فحملوا حملة واحدة، فانكشفت خيل بني سليم مولية، وتبعهم أهل مكة، وَتَبِعَهُمُ النَّاسُ.
فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " يَا أَنْصَارَ اللَّهِ وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ! أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ! " وَثَبَتَ مَعَهُ يَوْمَئِذٍ عَمُّهُ الْعَبَّاسُ، وَابْنُهُ الْفَضْلُ، وَعَلِيُّ بْنُ أبي طالب، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَخُوهُ رَبِيعَةُ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَجَمَاعَةٌ.
وقال يونس عَنِ ابن إِسْحَاق: حدّثني أُمَيّة بْن عَبْد اللَّه بْن عَمْرو بْن عُثْمَانَ أَنَّهُ حُدِّث أنّ مالك بْن عَوْفُ بعث عُيونًا، فأتوه وقد تقطّعت أَوْصالهم. فقال: ويلكم! ما شأنكم؟ فقالوا: أتانا رجالٌ بِيضٌ عَلَى خَيْلٍ بُلْقٍ، فَوَالله ما تماسَكْنا أنَّ أَصابنا ما ترى. فما ردَّه ذَلِكَ عَنْ وجهه أَن مضى عَلَى ما يريد. منقطع.
وعن الربيع بْن أَنَس أنّ رجلًا قَالَ: لن نُغَلب من قلّة. فشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ونزلت " ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم " الآية.(1/387)
وقال معاوية بن سلام، عن زيد بن سَلامٍ: سَمِعَ أَبَا سَلامٍ يَقُولُ: حَدَّثَنِي السَّلُولِيُّ أَنَّهُ حَدَّثَهُ سَهْلُ بْنُ الْحَنْظَلِيَّةِ أَنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَأَطْنَبُوا السَّيْرَ حَتَّى كَانَ عَشِيَّةً، فَحَضَرْتُ صَلاةَ الظُّهْرِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ فَارِسٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي انْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ حَتَّى طَلَعْتُ جَبَلَ كَذَا وَكَذَا، فَإِذْ أَنَا بِهَوَازِنَ عَلَى بَكْرَةِ أَبِيهِمْ، بِظُعُنِهِمْ وَنَعَمِهِمْ وَشَائِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ. فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " تِلْكَ غَنِيمَةُ الْمُسْلِمِينَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْرُسُنَا الليلة؟ قال أنس ابن أَبِي مَرْثَدٍ الْغَنَوِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قال: فاركب. فركب فَرَسًا لَهُ، وَجَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: " اسْتقبِلْ هَذَا الشعب حتى تكون في أعلاه، ولا نغرن مِنْ قِبَلِكَ اللَّيْلَةَ ".
فَلَمَّا أَصْبَحْنَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُصَلاهُ فركع ركعتين، ثم قال: هل أَحْسَسْتُمْ فَارِسَكُمْ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لا. فَثُوِّبَ بِالصَّلاةِ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَيَلْتَفِتُ إِلَى الشِّعْبِ، حَتَّى إِذَا قَضَى صَلاتَهُ وَسَلَّمَ قَالَ: " أَبْشِرْوا، فَقَدْ جَاءَ فَارِسُكُمْ ". فَجَعَلْنَا نَنْظُرُ إِلَى خِلالِ الشَّجَرِ فِي الشِّعْبِ، فَإِذَا هُوَ قَدْ جَاءَ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إني انْطَلَقْتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَى هَذَا الشِّعْبِ حَيْثُ أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا أَصْبَحْتُ اطَّلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ، فَنَظَرْتُ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ نَزَلْتَ اللَّيْلَةَ؟ قَالَ: لا، إِلا مُصَلِّيًا أَوْ قَاضِيَ حَاجَةٍ. فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قَدْ أَوْجَبْتَ، فَلا عَلَيْكَ أَنْ لا تَعْمَلَ بَعْدَهَا ". أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: خَرَجَ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ بِمَنْ مَعَهُ إِلَى حُنَيْنٍ، فَسَبَقَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إليها، فأعدوا وتهيؤوا فِي مَضَايِقِ الْوَادِي وَأَحْنَائِهِ، وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ، فَانْحَطَّ بِهِمْ في الوادي في عماية الصبح. فلما انحط النَّاسُ ثَارَتْ فِي وُجُوهِهِمُ الْخَيْلُ فَشَدَّت عَلَيْهِمْ، وَانْكَفَأَ النَّاسُ مُنْهَزِمِينَ لا يُقْبِلُ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ. وَانْحَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ(1/388)
الْيَمِينِ يَقُولُ: " أَيُّهَا النَّاسُ، هَلُمُّوا، إِنِّي أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ " فلا ينثني أَحَدٌ، وَرَكِبَتِ الإِبِلُ بَعْضُهَا بَعْضًا.
فَلَمَّا رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر النَّاسِ، وَمَعُه رَهْطٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ وَرَهْطٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَالْعَبَّاسُ آخِذٌ بِحَكَمَةِ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ. وَثَبَت مَعَهُ عَلِيٌّ، وَأَبُو سُفْيَانَ وَرَبِيعَةُ ابْنَا الْحَارِثِ، وَالْفَضْلُ بْنُ عَبَّاسٍ، وَأَيْمَنُ بْنُ أُمِّ أَيْمَنَ، وَأُسَامَةُ. وَمِنَ الْمُهَاجِرِينَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ.
قَالَ: وَرَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ عَلَى جَمَلٍ لَهُ أحمر بِيَدِهِ رَايَةٌ سَوْدَاءُ أَمَامَ هَوَازِنَ، إِذَا أَدْرَكَ النَّاسَ طَعَنَ بِرُمْحِهِ، وَإِذَا فَاتَهُ النَّاسُ رَفَعَ رُمْحَهُ لِمَنْ وَرَاءَهُ فَيَتْبَعُوهُ.
فَلَمَّا انْهَزَمَ مَنْ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من جفاة أهل مكة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ: لا تَنْتَهِي هَزِيمَتُهُمْ دُونَ الْبُحُورِ، وَإِنَّ الأَزْلامَ لَمَعَهُ فِي كِنَانَتِهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَارَ أَبُو سُفْيَانَ إلى حنين، وإنه ليظهر الإسلام، وإن الأَزْلامُ الَّتِي يَسْتَقْسِمُ بِهَا فِي كِنَانَتِهِ.
قَالَ شَيْبَةُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَبْدَرِيُّ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي - وَكَانَ أَبُوهُ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ - الْيَوْمَ أَقْتُلُ مُحَمَّدًا. قَالَ: فَأَدَرْتُ بِرَسُولِ اللَّهِ لأَقْتُلَهُ، فَأقْبَلَ شَيْءٌ حَتَّى تَغَشَّى فُؤَادِي، فَلَمْ أُطِقْ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ.
وَحَدَّثَنِي عَاصِمٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى مِنَ النَّاسِ مَا رَأَى قَالَ: " يَا عَبَّاسُ، اصْرُخْ: يَا مَعْشرَ الأنصار، يا أصحاب السمرة " فأجابوا: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يَذْهَبُ لِيَعْطِفَ بَعِيرَهُ، فَلا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَقْذِفُ دِرْعَهُ مِنْ عُنُقِهِ، وَيَؤُمُّ الصَّوْتَ، حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم مِائَةٌ.
فَاسْتَعْرَضُوا النَّاسَ، فَاقْتَتَلُوا، وَكَانَتِ الدَّعْوَةُ أَوَّلَ مَا كَانَتْ لِلأَنْصَارِ، ثُمَّ جُعِلَتْ آخِرًا بِالْخَزْرَجِ، وَكَانُوا صُبُرًا عِنْدَ الْحَرْبِ. وَأَشْرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَكَائِبِهِ، فَنَظَرَ إِلَى مُجْتَلَدِ الْقَوْمِ فَقَالَ: " الآنَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ". قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا رَجَعَتْ رَاجِعَةُ النَّاسِ إِلا وَالأُسَارَى عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَتلَ اللَّهُ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَانْهَزَمَ مَنِ انْهَزَمَ مِنْهُمْ، وَأَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.(1/389)
وقال ابن لهيعة عن أبي الأسود، عن عروة. وقاله مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ - إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ، فَخَرَجَ مَعَهُ أَهْلُ مَكَّةَ، لَمْ يَتَغَادَرْ مِنْهُمْ أَحَدٌ رُكْبَانًا وَمُشَاةً، حَتَّى خَرَجَ النِّسَاءُ مُشَاةً يَنْظُرُونَ وَيَرْجُونَ الْغَنَائِمَ، وَلَا يَكْرَهُونَ الصَّدْمَةَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عُقْبَةَ: جَعَلَ أَبُو سُفْيَانَ كُلَّمَا سَقَطَ تُرْسٌ أَوْ سَيْفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَعْطُونِيهِ أَحْمِلْهُ حَتَّى أَوْقَرَ جَمَلَهُ.
قَالا: فَلَمَّا أَصْبَحَ الْقَوْمُ اعْتَزَلَ أَبُو سُفْيَانَ وَابْنُهُ مُعَاوِيَةُ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ - وَرَاءَ تَلٍّ، يَنْظُرُونَ لِمَنْ تَكُونُ الدَّبْرَةُ. وَركِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاسْتَقْبَلَ الصُّفُوفَ فَأَمَرَهُمْ، وَحَضَّهُمْ عَلَى الْقِتَالِ.
فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ حَمَلَ الْمُشْرِكُونَ عَلَيْهِمْ حَمْلَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَوَلُّوا مُدْبِرِينَ. فَقَالَ حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ: لَقَدْ حَزَرْتُ مَنْ بَقِيَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَدْبَرَ النَّاسُ، فَقُلْتُ: مِائَةُ رَجُلٍ.
وَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى صَفْوَانَ، فَقَالَ: أَبْشِرْ بِهَزِيمَةِ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، فَوَاللَّهِ لا يَجْتَبْرُونَهَا أَبَدًا. فَقَالَ: أَتُبَشِّرُنِي بِظُهُورِ الأَعْرَابِ؟ فَوَاللَّهِ لَرَبٌّ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ رَبًّ مِنَ الأَعْرَابِ، ثُمَّ بَعَثَ غُلامًا لَهُ فَقَالَ: اسْمَعْ لِمَنِ الشِّعَارُ؟ فَجَاءَهُ الْغُلامُ فَقَالَ: سَمِعْتُهُمْ يَقُولُونَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ. فَقَالَ: ظَهَرَ مُحَمَّدٌ.
وَكَانَ ذَلِكَ شِعَارَهُمْ فِي الْحَرْبِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا غَشِيَهُ الْقِتَالُ قَامَ فِي الرِّكَابَيْنِ.
وَيَقُولُونَ: رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى يَدْعُوهُ، يَقُولُ: " اللَّهُمَّ، إِنِّي أَنْشُدُكَ مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ لا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَظْهَرُوا عَلَيْنَا ". وَنَادَى أَصْحَابَهُ: " يَا أَصْحَابَ الْبَيْعَةِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، اللَّهَ اللَّهَ، الْكَرَّةَ عَلَى نَبِيِّكُمْ ".
وَيُقَالُ: قَالَ: " يَا أَنْصَارَ اللَّهِ وَأَنْصَارَ رَسُولِهِ، يَا بَنِي الْخَزْرَجِ "، وَأَمَرَ مَنْ يُنَادِيهِمْ بِذَلِكَ، وَقَبَضَ قَبْضَةً مِنَ الْحَصْبَاءِ فَحَصَبَ بِهَا وجوه المشركين، ونواحيهم كُلَّهَا، وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ".
وَأَقْبَلَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ سِرَاعًا، وَهَزَمَ اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، وَفَرَّ مَالِكُ بْنُ عَوْفٍ حَتَّى دَخَلَ حِصْنَ الطَّائِفِ فِي نَاسٍ من قومه.
وأسلم حينئذ ناس كثير مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ رَأَوْا نَصْرَ اللَّهِ رسوله.(1/390)
مُخْتَصَرٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُقْبَةَ، وَلَيْسَ عِنْدَ عُرْوَةَ قِيَامُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الرِّكابَيْنِ، وَلا قَوْلُهُ: يَا أَنْصَارَ اللَّهِ.
وقال شعبة عن أبي إسحاق: سمع البراء، وَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عُمَارَةَ، أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم حنين؟ فقال: لكن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَفِرَّ. إِنَّ هَوَازِنَ كَانُوا رُماةً، فَلَمَّا لَقَيْنَاهُمْ وَحَمَلْنَا عَلَيْهِمْ انْهَزَمُوا، فَأَقْبَلَ النَّاسُ عَلَى الْغَنَائِمِ، فاستقبلونا بِالسِّهَامِ، فَانْهَزَمَ النَّاسُ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَتِهِ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
أَنَا النّبيُّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبْ
مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرِ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، وَفِيهِ: وَلَكِنْ خَرَجَ شُبَّانُ أصحابه وأخفاؤهم حسرا ليس عليهم كبير سلاح، فلقوا قوما رماة لا يكاد يسقط لهم سهم. وزاد فيه مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: اللَّهُمَّ، نَزِّلْ نَصْرَكَ. قَالَ: وَكُنَّا إِذَا حَمِيَ الْبَأْسُ نَتَّقِي بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ هُشَيْمٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ العاص قال: أَخْبَرَنِي سِيَابَةُ بْنُ عَاصِمٍ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: " أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ ".
وَقَالَ أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ: " أَنَا ابْنُ الْعَوَاتِكِ ".
وَقَالَ يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ قَالَ: قَالَ الْعَبَّاسُ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَلَزِمْتُهُ أَنَا وأبو(1/391)
سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ، أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيُّ.
فَلَمَّا الْتَقَى الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفَّارُ وَلَّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ. فَطَفِقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفَّارِ، وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِهَا أُكُفُّهَا إِرَادَةَ أَنْ لا تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِهِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيْ عَبَّاسُ، ناد أصحاب السمرة. فقال عباس - وكان رجلا صيتا -: فقلت بأعلى صوتي: أي أَصْحَابَ السَّمُرَةِ. قَالَ: فَوَاللَّهِ، لَكَأَنَّمَا عَطْفَتَهُمْ حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَى أَوْلادِهَا، فَقَالُوا: يَا لَبَّيْكَاهُ، يَا لَبَّيْكَاهُ! فَاقْتَتَلُوا هُمْ وَالْكُفَّارُ.
وَالدَّعْوَةُ فِي الأَنْصَارِ يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! ثُمَّ قُصِرَتِ الدَّعْوَةُ عَلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ! فَنَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا إِلَى قِتَالِهِمْ، فَقَالَ: " هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ ".
ثُمَّ أَخَذَ حَصَيَاتٍ، فَرَمَى بِهِنَّ فِي وُجُوهِ الْكُفَّارِ. ثُمَّ قَالَ: " انْهَزِمُوا وَرَبِّ مُحَمَّدٍ "! فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا الْقِتَالُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَى، فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَمَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَى حَدَّهُمْ كَلِيلا وَأَمْرَهُمْ مُدْبِرًا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ كَثِيرٍ - نَحْوَهُ، لَكِنْ قَالَ: فَرْوَةُ بْنُ نُعَامَةَ الْجُذَامِيُّ، وَقَالَ: " انْهَزِمُوا وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ".
وَقَالَ عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ: حدثني إياس بن سلمة، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُنَيْنًا، فَلَمَّا وَاجَهْنَا العدو تقدمت فأعلو ثَنِيَّةً، فَأَسْتَقْبِلُ رَجُلًا مِنَ الْعَدُوِّ، فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ، وَتَوَارَى عَنِّي، فَمَا دَريْتُ مَا صَنَعَ. ثُمَّ نَظَرْتُ إِلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيَّةٍ أُخْرَى، فَالْتَقَوْا هُمْ وَالْمُسْلِمُونَ، فَوَلَّى المسلمون، فأرجع منهزما، وعلي بردتان متزر بإحداهما، مرتد بِالْأُخْرَى.
وَمَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْهَزِمًا وَهُوَ عَلَى بَغْلَتِهِ الشَّهْبَاءِ، فَقَالَ: لَقَدْ رَأَى ابْنُ الَأَكْوَعِ فَزَعًا. فَلَمَّا غَشَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نزل من(1/392)
الْبَغْلَةِ، ثُمَّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ". فَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْهُمْ إِنْسَانًا إِلَّا مَلَأَ عَيْنَيْهِ تُرَابًا مِنْ تِلْكَ الْقَبْضَةِ، فَوَلُّوا مُدْبِرِينَ، وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ في مسنده: حدثنا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْفِهْرِيِّ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُنَيْنٍ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَحَدَّثَنِي مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنِّي أَنَّهُ أَخَذَ حَفْنةً مِنْ تُرَابٍ، فَحَثَا بِهَا فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ، وَقَالَ: " شَاهَتِ الْوُجُوهُ ".
قَالَ يَعْلَى بْنُ عَطَاءٍ: فَأَخْبَرَنا أَبْنَاؤُهُمْ عَنْ آبَائِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا بَقِيَ مِنَّا أَحَدٌ إِلا امْتَلأَتْ عَيْنَاهُ وَفَمُهُ مِنَ التُّرَابِ، وَسَمِعْنَا صَلْصَلَةً مِنَ السَّمَاءِ كَمَرِّ الْحَدِيدِ عَلَى الطَّسْتِ، فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زياد، حدثنا الحارث بن حصيرة قال: حدثنا الْقَاسِمُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ، فَوَلَّى عَنْهُ النَّاسُ، وَبَقِيتُ مَعَهُ فِي ثَمَانِينَ رَجُلا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم على بغلته يمضي قدما، فحادت بغلته فمال عن السرج، فشد نَحْوَهُ. فَقُلْتُ: ارْتَفِعْ، رَفَعَكَ اللَّهُ. قَالَ: " نَاوِلْنِي كَفًّا مِنْ تُرَابٍ. " فَنَاوَلْتُهُ، فَضَرَبَ بِهِ وُجُوهَهُمْ، فَامْتَلأَتْ أَعْيُنُهُمْ تُرَابًا. قَالَ: " أَيْنَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ "؟ فقلت: هم هاهنا. قال: " اهتف بهم ". فهتفت بهم، فجاؤوا وَسُيُوفُهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ كَأَنَّهُمُ الشُّهُبُ، وَوَلَّى الْمُشْرِكُونَ أَدْبَارَهُمْ.
وقال البخاري في تاريخه: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الطائفي، قال: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عِيَاضِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى هَوَازِنَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَقُتِلَ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفِ يَوْمَ(1/393)
حُنَيْنٍ مِثْلُ مَنْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفًّا من حصباء فرمى به وجوهنا، فانهزمنا.
وقال جعفر بن سليمان: حدثنا عوف قال: حدثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ مَوْلَى أُمِّ بُرْثُنٍ عَمَّنْ شَهِدَ حُنَيْنًا كَافِرًا قَالَ: لَمَّا الْتَقَيْنَا وَالْمُسْلِمُونَ لَمْ يَقُومُوا لَنَا حَلْبَ شَاةٍ، فَجِئْنَا نَهُشُّ سُيُوفَنَا بني يدي رسول الله، حَتَّى إِذَا غَشِينَاهُ إِذَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ رِجَالٌ حِسَانُ الْوُجُوهِ، فَقَالُوا: شَاهَتِ الْوُجُوهُ، فَارْجِعُوا. فَهُزِمْنَا مِنْ ذَلِكَ الْكَلامِ. إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنِي ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنْ شَيْبَةَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: لَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ قَدْ عَرِيَ، ذَكَرْتُ أَبِي وَعَمِّي وَقَتْلَ عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ إِيَّاهُمَا. فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أُدْرِكُ ثَأْرِي مِنْ مُحَمَّدٍ. فَذَهَبْتُ لأَجِيئَهُ عَنْ يَمِينِهِ، فَإِذَا أَنَا بِالْعَبَّاسِ قَائِمٌ عَلَيْهِ دِرْعٌ بَيْضَاءُ كَأَنَّهَا فِضَّةٌ يَكْشِفُ عَنْهَا الْعَجَاجُ. فَقُلْتُ: عَمُّهُ وَلَنْ يَخْذُلَهُ.
قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ عَنْ يَسَارِهِ، فَإِذَا أَنَا بِأَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ، فَقُلْتُ: ابْنُ عَمِّهِ وَلَنْ يَخْذُلَهُ. قَالَ: ثُمَّ جِئْتُهُ مِنْ خَلْفِهِ فَلَمْ يَبْقَ إِلا أَنْ أُسَوِّرَهُ سَوْرَةً بِالسَّيْفِ إِذْ رُفِعَ لِي شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ بَيْنِي وَبَيْنَهُ كَأَنَّهُ بَرْقٌ، فَخِفْتُ يَمْحَشُنِي، فَوَضَعْتُ يَدِي عَلَى بَصَرِي وَمَشَيْتُ الْقَهْقَرَى.
وَالْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ: " يا شيب، يَا شَيْبُ، ادْنُ مِنِّي! اللَّهُمَّ، أَذْهِبْ عَنْهُ الشيطان! " فرفعت إِلَيْهِ بَصَرِي، فَلَهُوَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ سَمْعِي وَبَصَرِي، وَقَالَ: " يَا شَيْبُ، قَاتِلِ الْكُفَّارَ ". غَرِيبٌ جِدًّا.
وَقَالَ أَيُّوبُ بْنُ جَابِرٍ عَنْ صَدَقَةَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي إِسْلامٌ، وَلَكِنْ أَنِفْتُ أَنْ تَظْهَرَ هَوَازِنُ عَلَى قُرَيْشٍ. فَقُلْتُ وَأَنَا وَاقِفٌ مَعَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أَرَى خَيْلا بُلْقًا. قَالَ: " يَا شَيْبَةُ، إِنَّهُ لا يَرَاهَا إِلا كَافِرٌ ". فَضَرَبَ يَدَهُ على صدري،(1/394)
ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ شَيْبَةَ! " فَعَلَ ذَلِكَ ثَلاثًا، حَتَّى مَا كَانَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وقال ابن إِسْحَاق: وقال مالك بْن عَوْفُ يذكر مَسيرهم بعد إسلامه:
اذْكُرْ مَسِيرَهُمُ للنَّاس إِذْ جَمَعُوا ... ومَالِكٌ فَوْقَهُ الرَّايَاتُ تَخْتَفقُ
ومالكٌ مالِكٌ ما فَوْقَه أحدٌ ... يَوْمَيْ حُنَيْنٍ عَلَيْه التَّاجُ يأْتَلِق
حَتَّى لَقُوا النَّاسَ خَيْرَ النَّاسِ يَقْدُمُهُمْ ... عَلَيْهِمُ البَيْضُ والأَبْدَانُ والدَّرَق
فضَارَبُوا النَّاسَ حتّى لَمْ يَرَوْا أَحَدًا ... حَوْلَ النَّبِيِّ وَحَتَّى جَنَّهُ الغَسَق
حَتَّى تَنَزَّل جِبْريلٌ بِنَصْرِهمُ ... فَالْقَوْمُ مُنْهَزِمٌ مِنْهُمْ وَمُعْتَنَق
مِنَّا وَلَوْ غَيْرُ جبريل يقاتلنا ... لمنعتنا إذا أسيافنا الغلق
وقد وفى عمر الْفَارُوقُ إِذْ هُزِمُوا ... بِطَعْنَةٍ بَلَّ مِنْها سَرْجَهُ العلق
وقال مالك في الموطأ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى أَبِي قَتَادَة، عَنْ أَبِي قَتَادَة، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في عام حُنَيْنٍ، فَلَمَّا الْتَقَيْنَا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ. قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ لَهُ فَضَرَبْتُه بِالسَّيْفِ عَلَى حَبْلِ عاتِقِهِ، فَأَقْبَلَ عَلِيَّ فَضَمَّنِي ضَمَّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ. ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَأَرْسَلَنِي.
فَأَدْرَكْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " من قتل قتيلا له عليه بينة فله سَلَبُه ". فَقُمْتُ ثُمَّ قُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمَّ جَلَسْتُ. ثُمَّ قَالَ: " مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَلَهُ سَلَبُه ". فَقُمْتُ ثُمَّ قُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟
ثُمَّ الثَّالِثَةَ، فَقُمْتُ، فقال: " ما لك يَا أَبَا قَتَادَة؟ " فَاقْتصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَسَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدي، فَأَرْضِهِ مِنْهُ. فَقَالَ أبو بكر الصديق: لاها الله إذا، يَعْمِدُ إِلَى أَسَدٍ مِنْ أُسْدِ اللَّهِ(1/395)
يُقَاتِلُ عَنِ اللَّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ، فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " صَدَقَ، فَأَعْطِه إِيَّاهُ ". فَأَعْطَانِيهِ.
فَبِعْتُ الدِّرْعَ، فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفًا فِي بَنِي سَلَمَةَ. فَإِنَّهُ لَأَوَّلُ مَالٍ تَأثَّلْتُهُ فِي الْإِسْلَامِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الْقَعْنَبيِّ وَمُسْلِمٌ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَنَسٍ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلا فَلَهُ سَلَبُهُ ". فَقَتَلَ يَوْمَئِذٍ أَبُو طَلْحَةَ عِشْرِينَ رَجُلا وَأَخَذَ أَسْلابَهُمْ. صَحِيحٌ.
وَبِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَقِيَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَمَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ دَنَا مِنِّي بَعْضُهُمْ أَنْ أَبْعَجَ بِهِ بَطْنَهُ. فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
-غزوَة أوطَاس
وقال شيخنا الدِّمْيَاطي فِي السِّيرة لَهُ: كَانَ سِيمَا الملائكة يوم حُنَين عمائم حُمْرًا قد أَرْخَوها بين أكتافهم.
وقال رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مِنَ قتل قتيلًا لَهُ عَلَيْهِ بيِّنة فله سلَبه "، وأمر بطلب العدوّ، فانتهى بعضهم إلى الطّائف، وبعضهم نحو نَخلة. وَوَجَّه قوم منهم إلى أَوْطاس. فعقد النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأبي عامر الأَشْعَري لواءً، ووجّهه فِي طلبهم، وكان معه سَلَمَةُ بْن الأَكْوَع.
فانتهى إلى عَسْكرهم، فإذا هم(1/396)
ممتنعون. فقتل أَبُو عامر منهم تسعةً مُبارزةً. ثمّ برز لَهُ العاشر مُعْلَمًا بعمامة صفراء، فضرب أَبَا عامر فقتله. واسْتَخْلَف أَبُو عامر أَبَا مُوسَى الأشعريّ، فقاتلهم. حتّى فتح اللَّه عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: لَمَّا فرغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حُنَيْنٍ، بَعَثَ أَبَا عَامِرٍ عَلَى جَيْشٍ إِلَى أَوْطَاسٍ، فَلَقِيَ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ، فَقُتِلَ دُرَيْدٌ، وَهَزَمَ اللَّهُ أَصْحَابَهُ، وَرُمِيَ أَبُو عَامِرٍ فِي رُكْبَتِهِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي جُشَمَ، فَأَثْبَتَهُ فِي رُكْبَتِهِ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ: يَا عَمِّ، مَنْ رَمَاكَ؟ فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنَّ ذَاكَ قَاتِلِي تَرَاهُ. فَقَصَدْتُ لَهُ، فَاعْتَمَدْتُهُ، فَلَحِقْتُهُ. فَلَمَّا رَآنِي وَلَّى عَنِّي ذَاهِبًا، فَاتَّبَعْتُهُ، وَجَعَلْتُ أَقُولُ لَهُ: أَلا تَسْتَحِي؟ أَلَسْتَ عَرَبِيًّا؟ أَلا تَثْبُتُ؟ فَكُفَّ، فالتقينا، فاختلفنا ضَرْبَتَيْنِ، أَنَا وَهُوَ، فَقَتَلْتُهُ. ثُمَّ رَجَعْتُ إِلَى أَبِي عَامِرٍ فَقُلْتُ: قَدْ قَتَلَ اللَّهُ صَاحِبَكَ. قال: فانتزع هذا السهم. فنزعته، فنزا منه الماء. فقال: يا ابن أخي، انْطَلَقَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأقره مني السلام، ثم قل له يستغفر لي. قال: واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يَسِيرًا وَمَاتَ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وقال ابن إِسْحَاق: وقُتل يوم حنين من ثقيف سبعون رجلًا تحت رايتهم. وانهزم المشركون، فأتوا الطائف ومعهم مالك بْن عَوْفُ. وعسكر بعضهم بأوطاس، وتوجه بعضهم نحو نَخْلَة. وتَبِعت خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القوم، فأدرك ربيعة بن رفيع؛ ويقال له: ابن لدغة، دُرَيْد بْن الصِّمَّة؛ فأخذ بخِطام جمله، وهو يظنّ أنّه امْرَأَة، فإذا شيخ كبير ولم يعرفه الغلام. فقال لَهُ دُرَيد: ماذا تريد بي؟ قَالَ: أقتلك. قَالَ: ومن أنت؟ قَالَ: ربيعة بْن رُفيع السُّلَميّ. ثمّ ضربه بسيفه فلم يُغْن شيئًا. فقال: بِئْسَ مَا سَلَّحَتْك أُمُّك. خُذْ سيفي هذا من مُؤَخَّر الرَّحْل، ثم اضرب به، وارفع عن الطعام، واخْفِض عَنِ الدِّمَاغ، فإنّي كذلك كنتُ أضرب الرجال. ثم إذا أتيت أمّك فأَخْبِرْها أنّك قتلتَ دُريد بْن الصّمة، فرُبَّ يومٍ والله قد مَنَعْتُ فِيهِ نِساءَك. فقتله. فقيل:(1/397)
لما ضربه ووقع تَكَشَّف، فإذا عِجَانه وبُطُون فَخِذَيْه أبيض كالقِرْطاس من ركوب الخيل أَعْراء. فلمّا رجع إلى أمّه أخبرها بقتله، فقالت: أَمَا والله لقد أَعْتق أُمَّهاتٍ لك.
وبعث رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثار من توجّه إلى أوطاس - أبا عامر الأشعريّ فرُمي بسهمٍ فقُتل. فأخذ الراية أَبُو مُوسَى فهزمهم. وزعموا أن سَلَمَةَ بْن دُرَيْد هُوَ الَّذِي رَمَى أَبَا عامرٍ بسهمٍ.
واستُشهد يوم حُنَين: أَيْمَن بْن عُبَيْد، وَلَد أمّ أيمن؛ مَوْلى بني هاشم. ويَزيد بْن زَمَعَة بْن الأسْوَد الأَسَدِيّ القُرَشِيّ. وسُرَاقَة بْن حُباب بْن عَدِيّ العَجْلَانّي الأَنْصاريّ. وأبو عامرٍ عُبَيْد الأَشْعَرِيّ.
ثمّ جُمعت الغنائم، فكان عليها مَسْعَود بْن عَمْرو. وإنّما تقَسّم بعد الطَّائف.
-غزوة الطائف
فَسَارَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ حُنين يريد الطائف فِي شوال. وقدَّم خَالِد بْن الوليد عَلَى مقدّمته. وقد كانت ثقيف رَمُّوا حِصنهم وأدخلوا فِيهِ ما يكفيهم لسنة، فلما انهزموا من أوطاس دخلوا الحصن وتهيؤوا للقتال.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ الطَّائِفَ فَحَاصَرَهُمْ، وَنَادَى مُنَادِيهِ: مَنْ خَرَجَ مِنْهُمْ مِنْ عَبِيدِهِمْ فَهُوَ حُرٌّ. فَاقْتَحَمَ إِلَيْهِ مِنْ حِصْنِهِمْ نَفَرٌ، مِنْهُمْ أَبُو بَكَرَةَ بْنُ مَسْرُوحٍ أَخُو زِيَادٍ مِنْ أَبِيهِ، فَأَعْتَقَهُمْ. وَدَفَعَ كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ لِيَحْمِلَهُ. ورجع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى عَلَى الْجِعْرَانَةِ. فَقَالَ: " إِنِّي مُعْتَمِرٌ ".
وَقَالَ ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى، قَالا: ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الطَّائِفِ، وَتَرَكَ السَّبْيَ بِالْجِعْرَانَةِ، وَمُلِئَتْ عُرُشُ مَكَّةَ مِنْهُمْ. وَنَزَلَ رسول الله(1/398)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالأَكَمَةِ عِنْدَ حِصْنِ الطَّائِفِ بِضْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً، يُقَاتِلُهُمْ. وَثَقِيفٌ تَرْمِي بِالنَّبْلِ، وَكَثُرَتِ الْجِرَاحُ، وَقَطَعُوا طَائِفَةً مِنْ أَعْنَابِهِمْ لِيَغِيظُوهُمْ بِهَا. فَقَالَتْ ثَقِيفٌ: لا تُفْسِدُوا الأَمْوَالَ فَإِنَّهَا لَنَا أَوْ لَكُمْ. وَاسْتَأْذَنَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي مُنَاهَضَةِ الْحِصْنِ فَقَالَ: مَا أَرَى أَنْ نَفْتَحَهُ، وَمَا أُذِنَ لَنَا فِيهِ.
وَزَادَ عُرْوَةُ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَقْطَعَ كُلُّ رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَمْسَ نَخْلاتٍ أَوْ حَبَلاتٍ مِنْ كُرُومِهِمْ. فَأَتَاهُ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا عَفَاءُ لَمْ تُؤْكَلْ ثِمَارُهَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوا مَا أُكِلَتْ ثَمَرَتُهُ، الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ. وَبَعَثَ مُنَادِيًا يُنَادِي: مَنْ خَرَجَ إِلَيْنَا فَهُوَ حُرٌّ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يَشْهَدْ حُنَيْنًا وَلا حِصَارَ الطَّائِفِ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَلا غَيْلانُ بْنُ سَلَمَةَ، كَانَا بِجُرَشَ يَتَعَلَّمَانِ صَنْعَةَ الدَّبَّابَاتِ وَالْمَجَانِيقِ.
ثُمَّ سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى نَخْلَةٍ إِلَى الطَّائِفِ، وَابْتَنَى بِهَا مَسْجِدًا وَصَلَّى فِيهِ. وَقُتِلَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ بِالنَّبْلِ. وَلَمْ يَقْدِرِ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَدْخُلُوا حَائِطَهُمْ، أَغْلَقُوهُ دُونَهُمْ. وَحَاصَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَمَعَهُ امْرَأَتَانِ مِنْ نِسَائِهِ؛ إِحْدَاهُمَا أُمُّ سَلَمَةَ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ. فَلَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقِيفٌ بَنَى عَلَى مُصَلَّى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبُو أُمَيَّةَ بْنُ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ مَسْجِدًا. وَكَانَ فِي ذَلِكَ الْمَسْجِدِ سَارِيَةٌ لا تَطْلُعُ عَلَيْهَا الشَّمْسُ يَوْمًا مِنَ الدَّهْرِ؛ فِيمَا يَذْكُرُونَ، إِلا سُمِعَ لَهَا نَقِيضٌ. وَالنَّقِيضُ صَوْتُ الْمَحَامِلِ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ سَنْبَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ السُّلَمِيِّ، قَالَ: حَاصَرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْرَ الطَّائِفِ. فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ بَلَغَ بِسَهْمٍ فَلَهُ دَرَجَةٌ فِي الْجَنَّةِ ". فَبَلَغْتُ يَوَمَئِذٍ سِتَّةَ عَشَرَ سَهْمًا. وَسَمِعْتُ(1/399)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ رَمَى بِسَهْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُوَ عِدْلُ مُحَرَّرٍ ".
وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّهَا، قَالَتْ: كَانَ عِنْدِي مُخَنَّثٌ، فَقَالَ لِأَخِي عبد الله: إن فتح الله عليكم الطائف غَدًا، فَإِنِّي أَدُلُّكَ عَلَى ابْنَةِ غَيْلَانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بَأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. فَسَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ فَقَالَ: " لَا يَدْخُلَنَّ هَذَا عَلَيْكُمْ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بِمَعْنَاهُ.
وقال الواقدي عن شيوخه، أن سلمان قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أرى أنَّ تَنْصِب المَنْجِنيق عَلَى حِصْنهم - يعني الطائف - فإنّا كُنَّا بأرض فارس نَنْصِبه عَلَى الحصون، فإنْ لم يكن مَنْجنيق طَالَ الثَّواء. فأمره رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعمل منجنيقًا بيده، فنصبه عَلَى حصن الطائف. ويقال: قدِم بالمنجنيق يَزيد بْن زَمعة، ودبَّابَتْين. ويقال: الطُّفَيْلُ بْن عَمْرو قَدِم بذلك. قَالَ: فأرسلت عليهم ثقيف سكك الحديد محماة بالنار، فحرقت الدبابة. فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بقطع أَعْنابهم وتَحْرِيقها. فنادى سُفْيَان بْن عَبْد اللَّه الثقفي: لم تقطع أموالنا؟ فإنّما هِيَ لنا أو لكم. فتركها.
وَقَالَ أَبُو الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لهيعة: أقبل عيينة بن بدر حتى جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ائذن لِي أَنْ أُكَلِّمَهُمْ، لَعَلَّ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ. فَأَذِنَ لَهُ. فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ الْحِصْنَ، فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتُمْ، تَمَسَّكُوا بِمَكَانِكُمْ، وَاللَّهِ لَنَحْنُ أَذَلُّ مِنَ الْعَبِيدِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ لَئِنْ حَدَثَ بِهِ حدث لتملكن الْعَرَبَ عِزًّا وَمَنَعةً، فَتَمَسَّكُوا بِحِصْنِكُمْ. ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ماذا قلت لهم؟ " قَالَ: دَعَوْتُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، وَحَذَّرْتُهُمُ النَّارَ وَفَعَلْتُ. فَقَالَ: " كَذَبْتَ، بَلْ قُلْتَ كَذَا وَكَذَا ". قَالَ: صَدَقْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ وإليك.(1/400)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمُقْرِئُ؛ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ وَسِتِّمِائَةٍ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحَزْمِ، وَحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ الشَّيْبَانِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْعُقَيْلِيُّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الذَّهَبِيُّ. وَآخَرُونَ، قَالُوا: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد السخاوي.
(ح) وأخبرنا عبد المعطي بن عبد الرحمن؛ بالإسكندرية، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن مكي.
(ح) وأخبرنا لُؤْلُؤٌ الْمحسني؛ بِمِصْرَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ، وَعَلِيُّ بن محمد، الحنبليان، وآخرون، قالوا: أخبرنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ هِبَةَ اللَّهِ الْفَقِيهُ، قالوا: أخبرنا أبو طاهر أحمد بن محمد بن سلفة الحافظ، قال: أخبرنا أَبُو الْحَسَنِ مَكِّيُّ بْنُ مَنْصُورٍ الْكَرَجِيُّ.
وَقَرَأْتُ عَلَى سُنْقُرِ الْقَضَائِيُّ بِحَلَبَ: أَخْبَركَ عَبْدُ اللَّطِيفُ بْنُ يُوسُفَ. وَسَمِعْتُهُ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَتِسْعِينَ عَلَى عائشة بنت عيسى بن الموفق، قالت: أخبرنا جدي أبو محمد بن قدامة سنة أربع عشرة وستمائة حضورا، قالا: أخبرنا أبو زرعة طاهر بن محمد المقدسي، قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ السَّاوِيُّ سَنَةَ سَبْعٍ وَثَمَانِينَ وأربعمائة، قالا: أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن القاضي، قال: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا زكريا بن يحيى المروزي ببغداد، قال: حدثنا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، قَالَ: حَاصَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الطَّائِفِ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئًا. قَالَ: إِنَّا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: أَنَرْجِعُ وَلَمْ نَفْتَحْهُ؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ غَدًا ". فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ. فَقَالَ لَهُمْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أنا قَافِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ ". فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، عَنْ سُفْيَانَ هَكَذَا. وَعِنْدَهُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، فِي بَعْضِ النُّسَخِ بِمُسْلِمٍ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ الْمَدِينِيِّ، عَنْ سُفْيَانَ، فَقَالَ: عَبْدُ الله بن(1/401)
عمرو. قال البخاري: قال الحميدي: حدثنا سفيان قال: حدثنا عمرو، قال: سمعت أبا العباس الأعمى يقول: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ.
وَقَالَ أبو القاسم البغوي: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا ابْنُ عُيَيْنَةَ .. فَذَكَرَهُ. وَقَالَ فِيهِ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو.
ثُمَّ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَسَمِعْتُ ابْنَ عُيَيْنَةَ يُحَدِّثُ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَقَالَ الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ الْغَلابِيُّ، أَظُنُّهُ عَنِ ابْنِ مَعِينٍ، قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الشَّاعِرُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، وَابْنِ عُمَرَ؛ فِي فَتْحِ الطَّائِفِ: الصَّحِيحُ ابْنُ عُمَرَ.
قَالَ: وَاسْمُ أَبِي الْعَبَّاسِ: السَّائِبُ بْنُ فَرُّوخَ مَوْلَى بَنِي كِنَانَةَ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْتَحَلَ عَنِ الطَّائِفِ بِأَصْحَابِهِ ودعا حين ركب قافلا: " اللَّهُمَّ اهْدِهِمْ وَاكْفِنَا مُؤْنَتَهُمْ ".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاق: حَدَّثَنِي عَبْد اللَّه بْن أَبِي بَكْر، وعبد اللَّه بْن المكدم، عمّن أدركوا، قَالُوا: حاصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل الطائف ثلاثينَ لَيْلةً أو قريبًا من ذَلِكَ. ثمّ انصرف عَنْهُمْ، فقدِم المدينة، فجاءه وفدهم في رمضان فأسلموا.
قال ابن إِسْحَاق: واستُشهد مَعَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطائف: سَعِيد بْن سَعِيد بْن العاص بْن أُمَيّة، وعُرْفُطَة بْن حُبَاب، وعبد اللَّه بْن أَبِي بَكْر الصدّيق، رُمي بسهمٍ فمات بالمدينة فِي خلافة أَبِيهِ، وعبد اللَّه بْن أَبِي أُمَيّة بْن المُغِيرة بْن عَبْد اللَّه بْن عُمَر بْن مَخْزوم المَخْزُوميّ؛ أخو أم سَلَمَةَ. وأمُّه عاتِكَة بِنْت عَبْد المطّلب. وكان يقال لأبي أُمَيّة؛ واسمه حُذَيفة: زَاد الرَّاكب. وكان عَبْد اللَّه شديدًا عَلَى المسلمين، قِيلَ: هُوَ الَّذِي قَالَ {لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا} وما بعدها. ثمّ أسلم(1/402)
قبل فتح مكة بيسيرٍ، وحَسُن إسلامه. وهو الَّذِي قَالَ لَهُ هِيتُ المُخَنَّث: يا عَبْد اللَّه، إنْ فتح اللَّه عليكم الطائف، فإنّي أدلّك عَلَى ابْنَة غَيْلان .. الحديث.
وعبد اللَّه بْن عامر بْن رَبِيعة. والسَّائِب بْن الحارث. وأخوه: عَبْد اللَّه. وجُلَيْحَة بْن عَبْد اللَّه.
ومن الأنصار: ثابت بن الجَذَع. والحارث بْن سَهْل بْن أَبِي صَعصَعة. والمُنْذِر بْن عَبْد اللَّه. ورُقَيم بْن ثابت.
فذلك اثنا عشر رجلًا، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم.
ويُروى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استشار نَوفْل بْن معاوية الديلي فِي أهُل الطائف فقال: ثعلب فِي جُحْرٍ، إنْ أقمت عَلَيْهِ أخذتَه، وإن تركته لم يضرّك.
-قِسْمُ غنَائِمِ حُنَيْنٍ وَغَيْر ذَلِك
قَالَ ابن إِسْحَاق: ثمّ خَرَجَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُحَيْلٍ، حتّى نزل بالناس بالجِعْرَانة. وكان معه من سَبْيِ هَوازن ستة آلاف من الذرّية، ومن الإبل والشَّاء ما لَا يُدْرى عدّته.
وَقَالَ معتمر بن سليمان، عن أبيه: حدثنا السميط، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: افْتَتَحْنَا مَكَّةَ، ثُمَّ إِنَّا غَزَوْنَا حُنَيْنًا، فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ. قَالَ: فَصُفَّ الْخَيْلُ، ثُمَّ صُفَّتِ الْمُقَاتِلَةُ، ثُمَّ صُفَّ النِّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، ثُمَّ صُفَّ الْغَنَمُ ثُمَّ صُفَّ النَّعَمُ. قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ قَدْ بَلَغْنَا سِتَّةَ آلَافٍ؛ أَظُنُّهُ يُرِيدُ الْأَنْصَارَ. قَالَ: وَعَلَى مُجَنِّبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلُوذُ خَلْفَ ظُهُورِنَا.
فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَتْ خَيْلُنَا وَفَرَّتِ الْأَعْرَابُ. فَنَادَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا للمهاجرين يَا لَلْمُهَاجِرِينَ، يَا لَلْأَنْصَارِ يَا لَلْأَنْصَارِ ". قَالَ أَنَسٌ: هَذَا حَدِيثُ عِمِّيَّةٍ.
قُلْنَا: لَبَّيْكَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَتَقَدَّمَ، فَايْمُ اللَّهِ مَا(1/403)
أتيناهم حتى هزمهم الله. وقال: فَقَبَضْنا ذَلِكَ الْمَالَ، ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الطَّائِفِ. قَالَ: فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. ثُمَّ رَجَعْنَا إِلَى مَكَّةَ وَنَزَلْنَا. فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ، وَيُعْطِي الرَّجُلَ الْمِائَةَ. فَتَحَدَّثَتِ الْأَنْصَارُ بَيْنَهُمْ: أَمَّا مَنْ قَاتَلَهُ فَيُعْطِيهِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُ فَلَا يُعْطِيهِ. قَالَ: ثُمَّ أَمَر بِسَرَاةِ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ - لَمَّا بَلَغَهُ الْحَدِيثُ - أَنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ. فَدَخَلْنَا الْقُبَّةَ حَتَّى مَلَأْنَاهَا. فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ - ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، أَوْ كَمَا قَالَ - مَا حَدِيثٌ أَتَانِي؟ " قَالُوا: مَا أَتَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: " أَمَا تَرْضَوْن أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالْأَمْوَالِ وَتَذْهَبُوا بِرَسُولِ اللَّهِ حَتَّى تُدْخِلُوهُ بُيُوتَكُمْ؟ " قَالُوا: رَضِينَا. فَقَالَ: " لَوْ أَخَذَ النَّاسُ شِعْبًا وَأَخَذَتِ الْأَنْصَارُ شِعْبًا أَخَذْتُ شِعْبَ الْأَنْصَارِ ". قَالُوا: رَضِينَا يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " فَارْضَوْا ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابن عون، عن هشام بن زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ .. فَذَكَرَ الْقِصَّةَ، إِلَى أَنْ قَالَ: وَأَصَابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ غَنَائِمَ كَثِيرَةً، فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرِينَ وَالطُّلَقَاءِ، وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئًا. فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتِ الشِّدَّةُ فَنَحْنُ نُدْعَى، وَيُعْطَى الْغَنِيمَةَ غَيْرُنَا. قَالَ: فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ وَقَالَ: " أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالدُّنْيَا، وَتَذْهَبُوا بِرَسُولِ اللَّهِ تَحُوزُونَهُ إِلَى بُيُوتِكُمْ؟ " قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَضِينَا. فَقَالَ: " لَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبًا، لأَخَذْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ، وَغَيْرُهُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ أَنَّ نَاسًا مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَهُ، فَطَفِقَ يُعْطِي رِجَالا مِنْ قُرَيْشٍ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ، فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُعْطِي قُرَيْشًا وَيَدَعُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. فَبَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك، فَجَمَعَهُمْ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، وَلَمْ يَدْعُ مَعَهُمْ أَحَدًا غَيْرَهُمْ. فَلَمَّا اجْتَمَعُوا قَالَ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟ فَقَالَ لَهُ فُقَهَاؤُهُمْ: أَمَّا ذوو(1/404)
رَأيِنَا فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئًا. فَقَالَ: " فَإِنِّي أُعْطِي رِجَالا حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ أَتَأَلَّفُهُمْ. أَفَلا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَرْجِعُونَ إِلَى رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللَّهِ؟ فَوَاللَّهِ مَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ ". قَالُوا: قَدْ رَضِينَا. فَقَالَ: " إِنَّكُمْ سَتَجِدُونَ بَعْدِي أَثَرةً شَدِيدَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوُا اللَّهَ وَرَسُولَهُ عَلَى الْحَوْضِ ". قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حدثني عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: لما قسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُتَأَلَّفِينَ مِنْ قُرَيْشٍ، وَفِي سَائِرِ الْعَرَبِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الأَنْصَارِ مِنْهَا قَلِيلٌ وَلا كَثِيرٌ، وَجَدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ .. وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ أَنَسٍ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، عَنْ جَدِّهِ؛ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ، كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ. فَأَعْطَى أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً، وَأَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً. وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ مِائَةً، وَأَعْطَى الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً، وَأَعْطَى عَلْقَمَةَ بْنَ عُلاثَةَ مِائَةً، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ النَّصْرِيَّ مِائَةً، وَأَعْطَى الْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ الْمِائَةِ.
فَأَنْشَأَ الْعَبَّاسُ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبيـ ... ـد بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَقَدْ كُنْتُ فِي الْحَرْبِ ذَا تُدْرَإٍ ... فَلَمْ أُعْطَ شَيْئًا وَلَمْ أُمْنَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَا ... وَمَنْ تَضَعِ الْيَوْمَ لا يُرْفَعِ
فَأَتَمَّ لَهُ مِائَةً. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، دُونَ ذِكْرِ مَالِكِ بْنِ عَوْفٍ، وَعَلْقَمَةَ، وَدُونَ الْبَيْتِ الثَّالِثِ.(1/405)
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ: أَبَا سُفْيَانَ، وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ، وَالْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيَّ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ الْجُمَحِيَّ، وَحُوَيْطِبَ بْنَ عَبْدِ الْعُزَّى الْعَامِرِيَّ؛ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِائَةَ نَاقَةٍ. وَأَعْطَى قَيْسَ بْنَ عَدِيٍّ السَّهْمِيَّ خَمْسِينَ نَاقَةً، وَأَعْطَى سَعِيدَ بْنَ يَرْبُوعٍ خَمْسِينَ. فَهَؤُلاءِ مَنْ أَعْطَى مِنْ قُرَيْشٍ.
وَأَعْطَى العلاء بن جارية مِائَةَ نَاقَةٍ، وَأَعْطَى مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ مِائَةَ نَاقَةٍ، وَرَدَّ إِلَيْهِ أَهْلَهُ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ بْنَ بَدْرٍ الْفَزَارِيَّ مِائَةَ نَاقَةٍ، وَأَعْطَى عَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ كِسْوَةً.
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابن سَلُولٍ لِلأَنْصَارِ: قَدْ كُنْتُ أُخْبِرُكُمْ أَنَّكُمْ سَتَلُونَ حَرَّهَا وَيَلِيَ بَرْدَهَا غَيْرُكُمْ. فَتَكَلَّمَتِ الأَنْصَارُ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَمَّ هَذِهِ الأَثَرَةِ؟ فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ مُفْتَرِقِينَ فَجَمَعَكُمُ اللَّهُ، وَضُلالا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ، وَمَخْذُولِينَ فَنَصَرَكُمُ اللَّهُ ". ثم قال: " والذي نفسي بيده، لو تشاؤون لَقُلْتُمْ ثُمَّ لَصَدَقْتُمْ وَلَصُدِّقْتُمْ: أَلَمْ نَجِدْكَ مُكَذَّبًا فَصَدَّقْنَاكَ، وَمَخْذُولا فَنَصَرْنَاكَ، وَطَرِيدًا فَآوَيْنَاكَ، وَمُحْتَاجًا فَوَاسَيْنَاكَ ". قَالُوا: لا نَقُولُ ذَلِكَ، إِنَّمَا الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنَّصْرُ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَلَكِنَّا أحببنا أن نعلم فيم هذا الأَثَرَةُ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَوْمٌ حَدِيثُو عَهْدٍ بِعِزٍّ وَمُلْكٍ، فَأَصَابَتْهُمْ نَكْبَةٌ فَضَعْضَعَتْهُمْ وَلَمْ يَفْقَهُوا كَيْفَ الإِيمَانُ، فَأَتَأَلَّفُهُمْ. حَتَّى إِذَا عَلِمُوا كَيْفَ الإِيمَانُ وَفَقِهُوا فِيهِ عَلَّمْتُهُمْ كَيْفَ الْقَسْمُ وَأَيْنَ مَوْضِعُهُ ". وَسَاقَ بَاقِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاسًا فِي الْقِسْمَةِ، فَأَعْطَى الْأَقْرَعَ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَأَعْطَى نَاسًا مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ، فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللَّهِ إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا وَمَا أُرِيدُ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ حَتَّى صَارَ كَالصِّرْفِ، وَقَالَ: " فمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ وَرَسُولُهُ؟ " ثُمَّ(1/406)
قَالَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ ". فَقُلْتُ: لَا جَرَمَ لَا أَرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَ هَذَا حَدِيثًا. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ اللَّيْثُ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى رَجُلٌ بالجعرانة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُنْصَرِفَةً مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالِ فِضَةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْبِضُ مِنْهَا يُعْطِي النَّاسَ. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، اعْدِلْ. فَقَالَ: " وَيْلُكَ، وَمَنْ يَعْدِلْ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكْن أَعْدِلُ ". فَقَالَ عُمَرُ: دَعْنِي أَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ. قَالَ: " مَعاذَ اللَّهِ، أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أقتل أصحابي، إن هذا وأصحابه يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرمية ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ شُعَيْبٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، إِذْ أَتَاهُ ذُو الْخُوَيْصِرَةِ التَّمِيمِيُّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعدل. فقال: " ويلك، ومن يعدل إذا لم أعدل، قد خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ ". فَقَالَ عُمَرُ: ائْذَنْ لِي فِيهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبُ عُنُقَهُ. قَالَ: " دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ " وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قال عروة: أخبرني مروان، والمسور بن مخزمة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قام حين جاءه وفد هوازن مسلمين فسألوا أَنْ يَرُدَّ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ. فَقَالَ: " مَعِي مَنْ تَرَوْنَ، وَأَحَبُّ الْحَدِيثِ إِلَيَّ أَصْدَقُهُ. فَاخْتَارُوا إِمَّا السَّبْيَ، وَإِمَّا الْمَالَ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَأْنَيْتُ بِكُمْ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَظَرَهُمْ تِسْعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً حِينَ قَفَلَ مِنَ الطَّائِفِ. فَلَمَّا تَبَيَّن لَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ رَادٍّ إِلَيْهِمْ إِلا إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، قَالُوا: إِنَّا نَخْتَارُ سَبْيَنَا. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُسْلِمِينَ، فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: " أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ إخوانكم هؤلاء قد جاؤونا تَائِبِينَ، وَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ أَنْ أرُدَّ إِلَيْهِمْ(1/407)
سبيهم. فمن أحب أَنْ يُطَيِّبَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ أَحَبَّ مِنْكُمْ أَنْ يَكُونَ عَلَى حَظِّهِ حَتَّى نُعْطِيَهُ إِيَّاهُ مِنْ أَوَّلِ مَا يُفِيءُ اللَّهُ عَلَيْنَا فَلْيَفْعَلْ ". فَقَالَ النَّاسُ: قَدْ طَيَّبْنَا ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ. فَقَالَ: " إِنَّا لا نَدْرِي مَنْ أَذِنَ مِنْكُمْ فِي ذَلِكَ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ ". فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ. ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ بأنهم قد طيبوا وأذنوا. أخرجه البخاري.
وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِفِ إِلَى الْجِعْرَانَةِ؛ وَبِهَا السَّبْيُ، وَقَدِمَتْ عَلَيْهِ وُفُودُ هَوَازِنَ مُسْلِمِينَ، فِيهِمْ تِسْعَةٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ فَأسْلَمُوا وبايعوا. ثم كلموه فيمن أصيب فقالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ. إِنَّ فِيمَنْ أَصَبْتُمُ الأُمَّهَاتِ وَالأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالاتِ، وَهُنَّ مَخَازِي الأَقْوَامِ. وَنَرْغَبُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ. وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَحِيمًا جَوَادًا كَرِيمًا. فَقَالَ: سَأَطْلُبُ لَكُمْ ذَلِكَ.
قَالَ فِي الْقِصَّةِ: وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَعُرْوَةُ: أَنَّ سَبْيَ هَوَازِنَ كَانُوا سِتَّةَ آلافٍ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ، فَلَمَّا أَصَابَ مِنْ هَوَازِنَ مَا أَصَابَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَسَبَايَاهُمْ، أَدْرَكَهُ وَفْدُ هَوَازِنَ بِالْجِعْرَانَةِ وقد أسلموا. فقالوا: يا رسول الله، لنا أَصْلٌ وَعَشِيرَةٌ، وَقَدْ أَصَابَنَا مِنَ الْبَلَاءِ مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَامْنُنْ عَلَيْنَا، مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. وَقَامَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّما فِي الْحَظَائِرِ مِنَ السبايا خالاتك وعماتك وحواضنك اللائي كن يكفلنك، فلو أنا ملحنا ابن أَبِي شَمْرٍ، أَوِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، ثُمَّ أَصَابَنَا مِنْهُمَا مِثْلُ الَّذِي أَصَابَنَا مِنْكَ، رَجَوْنا عَائِدَتَهُمَا وَعَطْفَهُمَا، وَأَنْتَ خَيْرُ الْمَكْفُولِينَ. ثُمَّ أَنْشَدَهُ أبياتا قالها:(1/408)
امْنُنْ عَلَيْنا رَسُولَ اللَّهِ فِي كَرَمٍ ... فَإِنَّكَ المرء نرجوه وندخر
امنن على بيضة اعتاقها حزز ... مُمَزِّقٌ شَمْلَها فِي دَهْرِها غِيَرُ
أَبْقَتْ لَهَا الحرب هتافا على حرن ... عَلَى قُلُوبِهِمُ الْغَمَّاءُ وَالْغَمَرُ
إِنْ لَمْ تَدَارَكْهُمُ نَعْمَاءُ تَنْشُرُهَا ... يَا أَرْجَحَ النَّاسِ حِلْمًا حِينَ يُخْتَبَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... إِذْ فُوكَ يَمْلَؤهُ مِنْ مَحْضِهَا دِرَرُ
امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا ... وَإِذْ يُزيِنُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تَذَرُ
لَا تَجْعَلَنَّا كَمَنْ شَالَتْ نَعَامَتُهُ ... وَاسْتَبْقِ مِنَّا فَإِنَّا مَعْشَرٌ زُهُرُ
إِنَّا لَنَشْكُرُ آلَاءً وَإِنْ كُفِرَتْ ... وَعِنْدَنَا بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ مُدَّخرُ
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نِسَاؤُكُمْ أَحَبُّ إِلَيْكُمْ أَمْ أَمْوَالَكُمْ؟ " فَقَالُوا: خَيَّرتَنَا بَيْنَ أَحْسَابِنَا وَأَمْوَالِنَا، أَبْنَاؤُنَا وَنِسَاؤُنَا أَحَبُّ إِلَيْنَا. فَقَالَ: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ، وَإِذَا أَنَا صَلَّيْتُ بِالنَّاسِ فَقُومُوا وَقُولُوا: إِنَّا نَسْتَشْفِعُ بِرَسُولِ اللَّهِ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَبِالْمُسْلِمِينَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، فِي أَبْنَائِنَا وَنِسَائِنَا، سَأُعِينُكُمْ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَسْأَلُ لَكُمْ ". فَلَمَّا صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ، قَامُوا فَقَالُوا مَا أَمَرَهُمْ بِهِ، فَقَالَ: " أَمَّا مَا كَانَ لِي وَلِبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَهُوَ لَكُمْ ". فَقَالَ الْمُهَاجِرُونَ: وَمَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ. وقالت الْأَنْصَارُ كَذَلِكَ. فَقَالَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ: أَمَّا أنا وبنو تميم فلا. فقال العابس بْنُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو سُلَيْمٍ فَلَا. فَقَالَتْ بَنُو سُلَيْمٍ: بَلْ مَا كَانَ لَنَا فَهُوَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ: أَمَّا أَنَا وَبَنُو فَزَارَةَ فلا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ أَمْسَكَ مِنْكُمْ بِحَقِّهِ فَلَهُ بِكُلِّ إِنْسَانٍ سِتُّ فَرَائِضَ مِنْ أَوَّلِ فَيْءٍ نُصِيبُهُ ". فَردُّوا إِلَى النَّاسِ نِسَاءَهُمْ وَأَبْنَاءَهُمْ.
ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاتَّبَعَهُ النَّاسُ يَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْسِم عَلَيْنَا فَيْئَنَا، حتى اضطروه إلى شجرة فانتزعت منه رِدَاءَهُ فَقَالَ: " رُدُّوا عَلَيَّ رِدَائِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ لَكُمْ عَدَدُ شَجَرِ تِهَامَةَ نَعَمًا لَقَسَمْتُهُ عَلَيْكُمْ،(1/409)
ثُمَّ مَا لَقِيتُمُونِي بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كَذَّابًا ". ثُمَّ قَامَ إِلَى جَنْبِ بَعِيرٍ وَأَخَذَ مِنْ سَنَامَه وَبَرَةً فَجَعَلَهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ وَقَالَ: " أيها الناس، والله ما لي مِنْ فَيْئِكُمْ وَلَا هَذِهِ الْوَبَرَةِ إِلَّا الْخُمُسُ، وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ عَلَيْكُمْ. فَأَدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمِخْيَطَ، فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَنَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ". فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خِيُوطِ شَعْرٍ فَقَالَ: أَخَذْتُ هَذِهِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْذَعَةَ بَعِيرٍ لِي دَبِرٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا حَقِّي مِنْهَا فلك ". فقال الرجل: أما إذ بَلَغَ الْأَمْرُ هَذَا فَلا حَاجَةَ لِي بِهَا. فَرَمَى بِهَا.
وَقَالَ أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ عُمَرَ سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِالْجِعْرَانَةِ، فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِليَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ يَوْمًا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. قَالَ: " اذْهَبْ فَاعْتَكِفْ ". وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْطَاهُ جَارِيَةً مِنَ الْخُمْسِ. فَلَمَّا أَنْ أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَايَا النَّاسِ، قَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، اذْهَبْ إِلَى تِلْكَ الْجَارِيَةِ فَخَلِّ سَبِيلَهَا. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وقال ابن إِسْحَاق: حدّثني أَبُو وَجْزَة السعديّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطى من سَبْيِ هوازن عليَّ بْن أَبِي طَالِب جاريةً، وأعطى عثمان وعمر، فوهبها عُمَر لابنه.
قَالَ ابن إِسْحَاق: فحدّثني نافع، عَنِ ابن عُمَر، قَالَ: بعثت بجاريتي إلى أخوالي من بني جمح ليصحلوا لي منها حتّى أطوف بالبيت ثمّ آتيهم. فخرجت من المسجد فإذا النّاس يشتدّون، فقلت: ما شأَنكم؟ فقالوا: رَدَّ عَلَيْنَا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نساءنا وأبناءنا. فقلت: دُونَكم صاحبتكم فهي فِي بني جُمح فانْطلَقوا فأخذوها.(1/410)
قَالَ ابن إِسْحَاق: وحدّثني أَبُو وَجْزة يزيد بْن عُبَيْد: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لوفد هوازن: " ما فَعَل مالك بْن عَوْفُ؟ " قَالُوا: هُوَ بالطائف. فقال: " أخبروه إِنْ أَتَاني مُسْلِمًا رَدَدْتُ إِلَيْهِ أهلَه ومالَه، وأعطيته مائةً من الإبل ".
فأُتِيَ مالِك بذلك، فخرج إِلَيْهِ من الطائف. وقد كَانَ مالك خاف من ثقيف عَلَى نفسه من قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فأمر براحلةٍ فهُيِّئت، وأمر بفرسٍ لَهُ فأُتِيَ بِهِ، فخرج ليلًا ولحِق برَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فأدركه بالجِعرانة أو بمكة، فردّ عَلَيْهِ أهله وماله وأعطاه مائةً من الإبل. فقال:
ما إِنْ رأيتُ ولا سَمِعتُ بمثلِهِ ... في النَّاسِ كلِّهم بمثْلِ مُحَمَّد
أَوْفَى وَأَعْطَى لِلْجَزِيلِ إذا اجْتُدِي ... وإذا تَشَا يُخْبِرْك عمّا فِي غَد
وإذَا الكَتِيبَةُ عَرَّدَتُ أَنْيَابُها ... أَمَّ الْعِدَى فيها بكُلِّ مُهَنَّد
فكَأَنَّه لَيْثٌ لَدى أَشْبَالِهِ ... وَسْطَ المَبَاءَةِ خَادِرٌ فِي مَرْصَد
فاستعمله النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى من أسلم من قومه، وتلك القبائل من ثُمَالة وَسَلَمَةَ وفَهْم، كَانَ يقاتل بهم ثقيفًا، لَا يخرج لهم سَرْحٌ إلّا أغار عَلَيْهِ حتّى يصيبه.
قَالَ ابن عَسَاكِر: شهد مالك بْن عَوْفُ فَتْح دِمَشق. وله بها دار.
وقال أبو عاصم: حدثنا جعفر بن يحيى بن ثوبان، قال: أَخْبَرَنِي عَمِّي عُمَارَةُ بْنُ ثَوْبَانَ، أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنْتُ غُلامًا أَحْمِلُ عُضْوَ الْبَعِيرِ، وَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ لَحْمًا بِالْجِعْرَانَةِ، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ.
وَرَوَى الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ هَوَازِنَ جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: أَنَا أُخْتُكَ شَيْمَاءُ بنت(1/411)
الْحَارِثِ. قَالَ: " إِنْ تَكُونِي صَادِقَةً فَإِنَّ بِكِ مِنِّي أَثَرًا لَنْ يَبْلَى ". قَالَ: فَكَشَفَتْ عَنْ عَضُدِهَا. ثُمَّ قَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ، حَمَلْتُكَ وَأَنْتَ صَغِيرٌ فَعَضَضْتَنِي هَذِهِ الْعَضَّةَ. فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ ثُمَّ قَالَ: " سَلِي تُعْطَيْ، وَاشْفَعِي تُشَفَّعِي ". الحَكَم ضعَّفه ابن مَعِين.
-عمرة الجعرانة
قَالَ هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَر أربع عمر كلهن في ذي القعدة، إلا التي في حَجَّتِهِ: عُمْرَةٌ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ - أَوْ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ - فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَعُمْرَةٌ - أَظُنُّهُ قَالَ - الْعَامَ المقبل، وعمرة من الجعرانة؛ حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وقال مُوسَى بْن عُقْبة، وهو فِي مغازي عُرْوَةُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهَلَّ بالعُمْرة من الجِعِرّانة فِي ذي القَعدة، فقدِم مكة فقضى عُمْرته. وكان حين خرج إلى حُنين استخلف مُعاذًا عَلَى مكة، وأمره أنَّ يعلّمهم القرآن ويفقّههم فِي الدين. ثمّ صدر إلى المدينة وخلَّف مُعاذًا عَلَى أهُل مكة.
وقال ابن إِسْحَاق: ثم سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الجعرانة معتمرًا. وأمر ببقايا الْفَيْءِ فحُبِس بمَجَنَّة. فلمّا فرغ من عُمرته انصرف إلى المدينة، واستخلف عتّاب بْن أَسِيد عَلَى مكة، وخلَّف معه مُعاذًا يفقّه النّاس.
قلتُ: ولم يزل عتّاب عَلَى مكة إلى أنْ مات بها يوم وفاة أَبِي بَكْر. وهو عَتّاب بْن أسِيد بْن أَبِي الْعِيصِ بْن أُمَيّة الأمَويّ. فبلغنا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: يا عتّاب، تدرى عَلَى من اسْتَعْمَلْتُك؟ استعملتك عَلَى أهُل اللَّه، ولو أعلم(1/412)
لهم خيرًا منك استعملتُه عليهم. وكان عمره إذ ذاك نَيِّفًا وعشرين سنة، وكان رجلًا صالحًا. رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: أصبتُ فِي عملي هذا بُرْدَيْن مُعَقَّدَيْن كَسَوْتُهما غُلامِي، فلا يقولنّ أَحَدُكُمْ أخَذ مِنّي عتّاب كذا، فقد رزقني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَّ يومٍ دِرْهَميْن، فلا أَشْبَعَ اللَّه بَطْنًا لَا يُشبعه كلَّ يومٍ درهمان.
وحجّ النّاس تِلْكَ السنة عَلَى ما كانت العرب تحجّ عليه، والله أعلم.
-قصة كعب بْن زُهَيْر
ولما قدِم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُنْصَرفه، كتب بُجَيْر بْن زُهَيْر؛ يعني إلى أخيه كَعْب بْن زُهَيْر، يخبره أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قتل رجالًا بمكة ممّن كَانَ يَهْجُوه ويُؤذيه، وأنّ من بَقِيَ من شعراء قريش؛ ابن الزِّبَعْرَى، وهُبَيْرة بْن أبي وهب، قد ذهبوا فِي كلّ وَجْهٍ. فإن كانت لك فِي نفسك حاجة فطِرْ إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه لَا يقتل أحدًا جاءه تائبًا، وإنْ أنت لم تفعلْ فانجُ إلى نَجَائِك من الأرض.
وكان كَعْب قد قَالَ:
أَلا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً ... فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْت وَيْحَكَ هَلْ لَكَا
فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كُنْتَ لَسْتَ بِفاعِلٍ ... عَلَى أَيِّ شَيْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا
عَلَى خُلُقٍ لَمْ ألْفِ يوما أبا له ... عَلَيْهِ وَمَا تُلْفي عَلَيْهِ أَخًا لَكا
فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بآسِفٍ ... وَلا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكا
سَقَاكَ بِهَا المَأْمُونُ كأسا روية ... فأنهلك المأمون منها وعلكا
فلما أتت بُجَيْرًا كَرِه أنَّ يَكْتُمَها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأنشده إيّاها. فقال لما سَمِعَ " سقاك بها المأمون ": " صَدَق وإنّه لكّذُوب ". ولما سَمِعَ: " عَلَى خُلُقٍ لم تلف أُمًّا ولا أبًا عَلَيْهِ ". قَالَ: " أجل لم يلف عَلَيْهِ أَبَاهُ ولا أمّه ".(1/413)
ثمّ قَالَ بُجير لكعب:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهلْ لَكَ فِي التّي ... تَلُومُ عَلَيْها بَاطِلًا وهي أحزم
إلى الله لا العُزَّى ولا اللات وَحْده ... فَتَنْجُو إذَا كَانَ النجاء وتسلم
لدى يوم لا تنجو وَلَسْتَ بمُفْلِتٍ ... مِنَ النّاسِ إلّا طَاهِرُ الْقَلْبِ مُسْلِم
فَديِن زُهَيْر وَهْوَ لَا شَيْءَ دِينُه ... وَدِينُ أَبي سُلْمَى عَليَّ مُحَرَّم
فلمّا بلغ كَعْبًا الكتابُ ضاقت عَلَيْهِ الأرض بما رَحُبت، وأشفق عَلَى نفسه، وأَرْجَف بِهِ من كَانَ فِي حاضِره من عَدوّه فقالوا: هُوَ مَقْتُولٌ. فلمّا لم يجد من شيءٍ بُدًّا قَالَ قصيدته، وقدم المَدِينَةِ.
وقال إِبْرَاهِيم بْن دِيزِيلَ، وغيره: حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي، قال: حدثنا الحجّاج بْن ذي الرُقَيْبَة بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن كَعْب بْن زُهَيْر بْن أَبِي سُلْمى المُزَنيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جدّه قَالَ: خرج كعب وبجير أخوه ابنا زُهَيْر حتّى أَتَيَا أَبْرَق الْعَزَّافِ، فقال بُجَير لكعب: اثبت هنا حتّى أتي هذا الرجل فأسمع ما يَقُولُ. قَالَ: فَجَاءَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فأسلم، فبلغ ذَلِكَ كعبًا فقال:
ألا أبلغا عني بجيرا رسالة ... فهل لك فيما قلت ويحك هل لكا
سقاك بها المأمون كأسا روية ... وأنهلك المأمور منها وعَلَّكا
ويُروَى: سقاك أَبُو بَكْر بكأس رَويةٍ.
فَفَارَقْتَ أَسْبَابَ الْهُدَى وَتَبِعْتَهُ ... عَلَى أيِّ شَيْءٍ وَيْبَ غَيْركَ دلَّكا
عَلَى مَذْهَبٍ لم تلفِ أمًّا ولا أبًا ... عَلَيْهِ ولم تعرفْ عَلَيْهِ أخًا لكا
فاتّصل الشِعْر بالنّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأهْدَر دمه. فكتب بُجَير إِلَيْهِ بذلك، ويقول لَهُ: النَّجاءَ، وما أراك تنفلت. ثمّ كتب إِلَيْهِ: اعَلْم أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يأتيه أحد يشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُول اللَّهِ إلّا قَبِلَ ذَلِكَ منه، وأسقط ما كَانَ قبل ذَلِكَ. فأسلم كَعْب، وقال قصيدته التي يمدح فيها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثم أقبل حتّى أناخ راحلته بباب مَسْجِدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثمّ دخل(1/414)
المسجد ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أصحابه مكانَ المائدة من القوم، والقوم متحلِّقون معه حَلْقةً دون حَلْقة، يلتفت إلى هَؤُلَاءِ مرّة فيحدّثهم، وإلى هَؤُلَاءِ مرّة فيحدّثهم.
قَالَ كَعْب: فأنخْتُ رَاحِلتي، ودخلت، فعرفتُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصِّفَة، فتخَطَّيْت حتى جلست إِلَيْهِ فقلتُ: أشهد أنَّ لَا إله إلّا اللَّه، وأنّك رَسُول اللَّهِ. الأَمانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: " وَمَنْ أنتَ؟ " قلتُ: أَنَا كَعْب بْن زُهَيْر. قَالَ: " الَّذِي يَقُولُ "، ثمّ التفتَ إلى أَبِي بَكْر فقال: "كيف قَالَ يا أَبَا بَكْر؟ ". فأنشده:
سقاك أَبُو بَكْر بكأس روية ... وأنهلك المأمُور منها وعلّكا
قلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ما قلتُ هكذا. قَالَ: " فكيف قلت؟ " قلتُ: إنّما قلتُ:
وأنهلك المأمونُ منها وعلّكا
فقال: " مأمونٌ، والله ".
قَالَ: ثمّ أنشده:
بانَتْ سُعاد فقلبي اليوم مَتْبولُ ... مُتَيَّمٌ إِثْرَها لم يُلْفَ مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلّا أَغنُّ غَضِيض الطَّرْف مَكْحول
تجلو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إذا ابتسمتْ ... كأنّه مُنْهلٌ بالرَّاحِ مَعْلُولُ
شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ من ماءِ محنية ... صاف بأبطحَ أَضْحَى وهو مَشْمول
تَنْفي الرياحُ الْقَذَى عَنْهُ وأفْرَطَهُ ... من صَوْب ساريةٍ بيضٌ يَعالِيل
أَكْرِمْ بها خُلَّةً لو أنّها صَدَقتْ ... مَوْعُودَها أَوْ لَوْ أن النصح مقبول
لكنها خلة قَدْ سيط من دمها ... فجع ووَلْعٌ وإخْلافٌ وتَبْديل
فما تدومُ عَلَى حالٍ تكونُ بها ... كما تَلَوَّنُ فِي أثوابها الْغُولُ(1/415)
ولا تَمَسَّكُ بالعَهْد الَّذِي زَعَمت ... إلّا كما يُمْسِكُ الماءَ الغرابيل
فلا يَغُرَّنْكَ ما مَنَّت وما وعدتْ ... إنّ الأمانيَّ والأحلامَ تضليل
كانت مواعيدُ عُرْقوبٍ لها مَثَلًا ... وما مواعيدُها إلّا الأباطيل
أرجو وآمُل أنَّ تدنو مودَّتُها ... وما إِخالُ لَدَيْنا منكِ تَنْويل
أمستْ سعاد بأرض لَا يُبَلّغها ... إلّا الْعِتَاقُ النَّجِيبات المَراسيل
ولن يبلّغها إلّا عُذَافِرَةٌ ... فيها عَلَى الأَيْنِ إِرْقال وتَبْغيل
من كلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرى إذا عَرِقتْ ... عرضتها طامس الأعلام مجهول
ترمي الْغُيُوبَ بعينَيْ مُفْردٍ لَهَقٍ ... إذا توقّدتِ الحِزَّانُ وَالْمِيلُ
ضخْمٌ مُقَلَّدُها فَعْمٌ مُقَيَّدُها ... فِي خَلْقها عَنْ بناتِ الْفَحْلِ تَفْضيل
غَلبْاءُ وَجْناءُ عُلْكومٌ مُذَكَّرةٌ ... فِي دَفِّها سَعَةٌ قُدَّامُها مِيلُ
وجِلدُها من أَطُومٍ ما يُؤْيسُه ... طِلْحٌ بِضَاحِيَةِ المَتْنَيْن مَهْزول
حَرْفٌ أبُوها أخُوها مِن مُهَجَّنَةٍ ... وعمُّها خالها قوداء شمليل
تسعى الوشاة بدفيها وقيلهم ... إنك يا ابن أبي سُلْمَى لَمَقْتول
وقال كلُّ صديقٍ كنتُ آمُلُه ... لَا أُلْهِيَنَّك إنّي عنكَ مشغول
خَلُّوا طريقَ يَدَيْها لَا أَبَا لَكُمُ ... فكلُّ ما قدّر الرَّحْمَن مفعول(1/416)
كلُّ ابْنِ أنثى وإن طالتْ سلامتُهُ ... يومًا عَلَى آلةٍ حَدْباءَ محمول
أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُول اللَّهِ أَوْعَدني ... والعفوُ عند رَسُول اللَّهِ مَأْمول
مهلا رسول الذي أعطاك نافلة الـ ... قرآن فِيهِ مَوَاعِيظٌ وتَفْصيل
لا تأخُذَنِّي بأقوالِ الوُشاةِ ولَمْ ... أُذْنِبْ ولو كثُرت عنّي الأقاويل
لقد أَقومُ مَقامًا لو يقوم بِهِ ... أَرَى وأَسمعُ ما لَوْ يسمعُ الفيل
لَظَلَّ يَرْعَد إلّا أنَّ يكون لَهُ ... من الرَّسُول بإِذْن اللَّه تَنْويل
حتّى وضعتُ يَميِني لَا أُنَازِعُه ... فِي كَفِّ ذي نَقِماتٍ قيِلُه الْقِيلُ
لَذَاكَ أَخْوَفُ عندي إذ أكلمه ... وقيل إنك منسوب ومسؤول
مِن ضَيْغَمٍ من لُيُوث الُأسْد مَسْكَنُهُ ... من بَطْنِ عَثَّر غيِلٌ دونَهُ غِيلُ
إنّ الرَّسُول لَنُورٌ يُسْتَضاءُ بِهِ ... مُهَنَّدٌ من سُيوف اللَّه مَسْلولُ
فِي فِتْيةٍ من قُرَيشٍ قَالَ قَائِلُهُم ... ببَطْنِ مكةَ لمّا أَسْلَمُوا زُولُوا
زَالُوا فما زَال أَنْكاسٌ ولا كُشُفٌ ... عند اللّقاءِ ولا خيل معازيل
شم العرانين أَبْطالٌ لَبُوسُهمُ ... من نَسْجِ دَاوُد فِي الْهَيْجَا سَرَابِيِلُ
يَمْشُون مَشْيَ الجِمالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهم ... ضَرْبٌ إذا عَرَّد السُّود التَّنَابِيلُ
لا يَفْرَحُون إذا نالتْ سُيُوفهمُ ... قومًا ولَيْسوا مَجَازِيعًا إذا نِيلُوا
لا يقع الطعن إلا في نحورهم ... وما لهم عَنْ حِياض المَوْت تَهْلِيلُ
وفي سنة ثمان: تُوُفِّيَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْبَرُ بَنَاتِهِ. وَهِيَ الَّتِي غَسَّلَتْهَا أُمُّ عَطِيَّةَ الْأَنْصَارِيَّةُ، وَأَعْطَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقْوَهُ، وَقَالَ: " أَشْعِرْنَهَا إِيَّاهُ ". فَجَعَلَتْهُ شِعَارَهَا تَحْتَ كَفَنِهَا.
وقد وَلَدت زينبُ من أَبِي العاص بن الربيع بن عبد شمس(1/417)
أُمَامَة التي كَانَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحملها فِي الصلاة.
وفيها: عُمل منبر النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخطب عَلَيْهِ، وحن إليه الجذع الذي كان يخطب عنده.
وفيها: وُلِدَ إِبْرَاهِيم ابن النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفيها: وهبت سَوْدة أمّ المؤمنين يومها لعائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.
وفيها: تُوُفِّيَ مُغَفَّلُ بْن عَبْد نُهْم بْن عفيف المُزَنيّ؛ والد عَبْد اللَّه؛ وله صُحْبة.
وفيها: مات مَلِك العرب بالشام؛ الحارث بْن أَبِي شَمِر الغَسَّانيّ، كافرًا. وولي بعده جَبَلة بْن الأَيْهَم.
فَرَوَى أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَمْزَةَ، عَنِ ابْنِ عَائِذٍ، عَنِ الْوَاقِدِيِّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْجَحْشِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُجَاعَ بْنَ وَهْبٍ إِلَى الْحَارِثِ بْنِ أَبِي شِمْرٍ وَهُوَ بِالْغُوطَةِ، فَسَارَ مِنَ المدينة في ذي الحجة سنة ست. قال: فَأَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُهَيِّئُ الإِنْزَالَ لِقَيْصَرَ، وَهُوَ جَاءٍ مِنْ حِمْصَ إِلَى إِيلِيَاءَ؛ إِذْ كَشَفَ اللَّهُ عنه جنود فارس؛ تشكرا لِلَّهِ. فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ رَمَى بِهِ؛ وَقَالَ: وَمَنْ يَنْزِعُ مِنِّي مُلْكِي؟ أَنَا سَائِرٌ إِلَيْهِ بِالنَّاسِ. ثُمَّ عَرَضَ إِلَى اللَّيْلَ، وَأَمَرَ بِالْخَيْلِ تُنْعَلُ، وَقَالَ: أَخْبِرْ صَاحِبَكَ بِمَا تَرَى. فَصَادَفَ قَيْصَرُ بِإِيلِيَاءَ وَعِنْدَهُ دِحْيَةُ الْكَلْبِيُّ بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَكَتَبَ قَيْصَرُ إليه: أن لا يسير إِلَيْهِ، وَالْهَ عَنْهُ، وَوَافِ إِيلِيَاءَ. قَالَ شُجَاعٌ: فَقَدِمْتُ، وَأَخْبَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: " بَادَ مُلْكُهُ ". ويُقَال: حَجَّ بالناس عَتَّاب بْن أَسِيد أميرُ مكة. وقيل: حجَّ النّاس أَوْزَاعًا.
حكاهما الواقديّ. والله أعلم.(1/418)
-السنة التاسعة
قِيلَ: فِي ربيع الأول بَعَث رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيشًا إلى القرَطَاء، عليهم الضحَّاك بْن سُفْيَان الكِلابيّ، ومعه الأَصْيَد بْن سَلَمَةَ بْن قُرْط. فلقوهم بالزُّجِّ، زجّ َلاوة. فدعوْهم إلى الْإِسْلَام، فَأبَوْا. فقاتلوهم فهزموهم. فَلحِق الأصْيَد أَبَاهُ سَلَمَةَ، فدعاه إلى الْإِسْلَام وأَعطاه الأمان، فسبَّه وسبَّ دينه. فعَرْقَب الأصْيَد عُرْقوبَيْ فَرَسه. ثمّ جاء رَجُل من المسلمين فقتل سلمة. ولم يقتله ابنه.
وفي ربيع الآخر، قِيلَ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلغه أَنّ ناسًا من الحبشة تراآهم أهُل جُدَّة. فبعث النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علقمة بن مجزز المدلجي في ثلاثمائة، فانتهى إلى جزيرةٍ فِي البحر، فهربوا مِنْهُ.
وفي ربيع الآخر سريّة عليَّ بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وأرضاه إلى الفلس؛ صنم طيئ؛ ليهدمه، فِي خمسين ومائة رَجُل من الأنصار، عَلَى مائة بعير وخمسين فرسًا، ومعه راية سوداء، ولواء أبيض. فَشنّوا الغارة عَلَى مَحِلَّة آل حاتِم مَعَ الفجر، فهدموا الفُلْس وخرّبوه، وملؤوا أيديهم من السَّبْي والنَّعَم والشَّاء. وفي السّبْي أخت عَدِيّ بْن حاتم. وهرب عديّ إلى الشام.
وفي هذه الأيام كانت سريّة عُكّاشة بْن مِحْصَن إلى أرض عُذْرَة.
ذكر هذه السَّرايا شيخُنا الدِّمْياطيّ فِي مختصر السيرة. وأظنّه أَخَذه من كلام الواقديّ.
وَفِي رَجَبٍ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَسِيرِهِ إلى تبوك على أصحمة النجاشي، صاحب الحبشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَأَصْحَمَةُ بِالْعَرَبِيِّ: عَطِيَّةٌ. وَكَانَ(1/419)
قَدْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " قَدْ مَاتَ أَخٌ لَكُمْ بِالْحَبَشَةِ ". فَخَرَجَ بِهِمْ إِلَى الْمُصَلَّى، وَصَفَّهُمْ، وَصَلَّى عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: لَمَّا مات النجاشي كان يتحدث أنه لا يزال يُرَى عَلَى قَبْرِهِ نُورٌ.
وَيُكْتَبُ هُنَا الْخَبَرُ الذي في السيرة قبل إسلام عمر.
-وفي رجب غزوة تبوك
قَالَ ابن إِسْحَاق، عَنْ عاصم بن عمر، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ حَزْمٍ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قلّما كَانَ يخرج فِي غزوة إلّا أظهر أَنَّهُ يريد غيرها، إلّا غزوة تَبُوك فإنه قَالَ: أيها النّاس، إنّي أريد الرُّوم. فأَعْلَمَهُمْ. وذلك فِي شدّة الحرّ وَجَدْبٍ من البلاد. وحين طابت الثِّمار؛ والناس يحبّون المقام فِي ثمارهم.
فبينا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يوم فِي جَهازه، إذْ قَالَ للجَدِّ بْن قَيْس: " يا جَدّ، هَلْ لَكَ فِي بنات بني الأَصْفَر؟ فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لقد علم قومي أنّه ليس أحدٌ أشدّ عُجْبًا بالنِّساء منّي. وإنّي أخاف إنْ رأَيتُ نساء بني الأصْفَر أَن يَفْتِنَّنِي، فائذنْ لي يَا رَسُولَ اللَّهِ. فأعرض عنه رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ: " قد أَذنْتُ لك ". فنزلت {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} قَالَ: وقال رَجُل من المنافقين: {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}. فنزلت: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}.
ولم يُنْفِق أحدٌ أَعْظَمَ من نَفَقة عثمان، وحمل على مائتي بعير.(1/420)
قال عمرو بن مرزوق: حدثنا السَّكَنُ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي هِشَامٍ، عَنْ فَرْقَدٍ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ خَبَّابٍ، قَالَ: شَهِدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَثَّ عَلَى جَيْشِ الْعُسْرَةِ، قَالَ: فَقَامَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيَّ مِائَةُ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قَالَ: ثُمَّ حَثَّ ثَانِيَةً، فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيَّ مِائَتَا بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ. ثُمَّ حَضَّ - أَوْ قَالَ: حَثَّ - الثَّالِثَةَ، فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَيَّ ثَلَاثُمِائَةِ بَعِيرٍ بِأَحْلَاسِهَا وَأَقْتَابِهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَنَا شَهِدْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: " مَا عَلَى عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ ". أَوْ قَالَ: بَعْدَهَا. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ السَّكَنِ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
وَقَالَ ضَمْرَةُ، عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ كَثِيرٍ مَوْلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ مَوْلَاهُ، قَالَ: جَاءَ عُثْمَانُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَلْفِ دِينَارٍ حِينَ جَهَّزَ جَيْشَ الْعُسْرَةِ، فَفَرَّغَهَا فِي حِجْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ يُقَلِّبُهَا وَيَقُولُ: " مَا ضَرَّ عُثْمَانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ الْيَوْمِ ". قَالَهَا مِرَارًا.
وَقَالَ بريد عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِى مُوسَى قَالَ: أَرْسَلَنِى أَصْحَابِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْأَلُهُ لَهُمُ الْحُمْلاَنَ، إِذْ هُمْ مَعَهُ فِى جَيْشِ الْعُسْرَةِ وَهْىَ غَزْوَةُ تَبُوكَ .. وذكر الحديث. متفق عليه.
وقال: وَرَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأَنْفَقُوا احْتِسَابًا. وَأَنْفَقَ رِجَالٌ غَيْرَ مُحْتَسِبِينَ. وَحَمَلَ رِجَالٌ من فُقَرَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَبَقِيَ أُنَاسٌ. وَأَفْضَلُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ؛ تَصَدَّقَ بِمِائَتَيْ أُوقِيَّةٍ، وَتَصَدَّقَ عُمَرُ بِمِائَةِ أُوقِيَّةٍ، وَتَصَدَّقَ عَاصِمٌ الأَنْصَارِيُّ بِتِسْعِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ: " هَلْ تَرَكْتَ لأَهْلِكَ شَيْئًا؟ " قَالَ: نَعَمْ أكثر مما أنفقت(1/421)
وأطيب. قال: كم؟ قَالَ: مَا وَعَدَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الرِّزْقِ والخير. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رِجَالا أَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمُ البكاؤون، وهم سبعة منهم مِنَ الأَنْصَارِ: سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو لَيْلَى عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبٍ، وَعَمْرُو بْنُ الْحُمَامِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُغَفَّلِ؛ وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ؛ وَهَرِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ الْفَزَارِيُّ. فَاسْتَحْمَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا أهُلَ حَاجَةٍ، فَقَالَ: {لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ}. فَبَلَغَنِي أَنَّ يَامِينَ بْنَ عَمْرٍو لَقِيَ أَبَا لَيْلَى وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ وَهُمَا يَبْكِيَانِ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكُمَا؟ فَقَالا: جِئْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَحْمِلَنَا، فَلَمْ نَجِدْ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُنَا، وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ. فَأَعْطَاهُمَا نَاضِحًا لَهُ فَارْتَحَلاهُ وَزَوَّدَهُمَا شَيْئًا مِنْ لَبَنٍ.
وَأَمَّا عُلْبَةُ بْنُ زيد فخرج من الليل فصلى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ بَكَى وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَدْ أَمَرْتَ بِالْجِهَادِ وَرَغَّبْتَ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ تَجْعَلْ عِنْدِي مَا أَتَقَوَّى بِهِ، وَلَمْ تَجْعَلْ فِي يَدِ رَسُولِكَ مَا يَحْمِلُنِي عَلَيْهِ، وَإِنِّي أَتَصَدَّقُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ بِكُلِّ مَظْلِمَةٍ أَصَابَنِي بِهَا فِي مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ عِرْضٍ. ثُمَّ أَصْبَحَ مَعَ النَّاسِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ؟ " فَلَمْ يَقُمْ أَحَدٌ. ثُمَّ قَالَ: " أَيْنَ الْمُتَصَدِّقُ؟ فَلْيَقُمْ ". فَقَامَ إِلَيْهِ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَبْشِرْ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ كُتِبَتْ فِي الزَّكَاةِ الْمُتَقَبَّلَةِ ".
{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} فاعْتَذَرُوا فَلَمْ يَعْذِرْهُمُ اللَّهُ. فَذَكَرَ أَنَّهُمْ نَفَرٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ.
قَالَ: وَقَدْ كَانَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْطَأَتْ بِهِمُ النِّيَّةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى تَخَلَّفُوا عَنْ غَيْرِ شَكِّ وَلا ارْتِيَابٍ، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ أَخُو بَنِي سَلَمَةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ أَخُو بَنِي وَاقِفٍ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ أَخُو بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ. وَكَانُوا رَهْطَ صدق.(1/422)
ثم خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْخَمِيسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيَّ. فَلَمَّا خَرَجَ ضَرَبَ عَسْكَرَهُ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ، وَمَعَهُ زِيَادَةٌ عَلَى ثَلاثِينَ أَلْفًا مِنَ النَّاسِ. وَضَرَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبي ابن سلول عسكره على ذي حدة عسكره أَسْفَلَ مِنْهُ، وَمَا كَانَ فِيمَا يَزْعُمُونَ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ.
فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَخَلَّفَ عَنْهُ ابْنُ سَلُولٍ فِيمَنْ تَخَلَّفَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الرَّيْبِ. وَخَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ، وَأَمَرَهُ بِالإِقَامَةِ فِيهِمْ، فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلا استثقالا له وتخففا مِنْهُ. فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ، أَخَذَ عَلِيٌّ سِلاحَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي تَسْتَثْقِلُنِي وَتَخَفَّفُ مِنِّي. قَالَ: " كَذَبُوا، وَلَكِنْ خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَلا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، إِلا أَنَّهُ لا نبي بعدي ". فرجع إلى المدينة.
وأخرجا في الصحيحين من حديث الحكم بن عتيبة، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَلَّفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُخَلِّفُنِي فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ؟ قَالَ: " أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، غَيْرَ أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي ". وَرَوَاهُ عَامِرٌ، وَإِبْرَاهِيمُ ابْنَا سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِمَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، جَعَلَ لَا يَزَالُ يَتَخَلَّفُ الرَّجُلُ فَيَقُولُونَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ فُلانٌ. فَيَقُولُ: " دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ، وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ ". حَتَّى قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَخَلَّفَ أَبُو ذَرٍّ وَأَبْطَأَ بِهِ بَعِيرُهُ، فَقَالَ: " دَعُوهُ، إِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بكم، وإن يكن غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ ". فَتَلوَّمَ أبو ذر بعيره فلما أبطأ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَجَعَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ(1/423)
خَرَجَ يَتْبَعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاشِيًا. وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، وَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هذا لرجل يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كُنْ أَبَا ذَرٍّ ". فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ ". فَضَرَبَ الدَّهْرُ مِنْ ضَرْبِهِ، وَسُيِّرَ أَبُو ذَرٍّ إِلَى الرَّبَذَةِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَى امْرَأَتَهُ وَغُلامَهُ: إِذَا مِتُّ فَاغْسِلانِي وَكَفِّنَانِي وَضَعَانِي عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّونَ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ. فَلَمَّا مَاتَ فَعَلُوا بِهِ ذَلِكَ. فَاطَّلَعَ رَكْبٌ، فَمَا عَلِمُوا بِهِ حَتَّى كَادَتْ رَكَائِبُهُمْ تَوَطَّأُ سَرِيرَهُ، فَإِذَا ابْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ. فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: جِنَازَةُ أَبِي ذَرٍّ. فَاسْتَهَلَّ ابْنُ مَسْعُودٍ يَبْكِي، فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا ذَرٍّ، يَمْشِي وَحْدَهُ، وَيَمُوتُ وَحْدَهُ، وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ. فَنَزَلَ، فَوَلِيَهُ بِنَفْسِهِ حَتَّى أَجَنَّهُ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بكر، أن أبا خيثمة، أَحَدَ بَنِي سَالِمٍ، رَجَعَ - بَعْدَ مَسِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامًا - إِلَى أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ لَهُ فِي حَائِطٍ قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهِ مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا. فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ العريش فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ فِي الضِّحِّ وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وأنا في ظل بارد وماء بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء، في مالي مُقِيمٍ؟ مَا هَذَا بِالنَّصَفِ. ثُمَّ قَالَ: لا، وَاللَّهِ، لا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَهَيِّئَا لِي زَادًا. فَفَعَلَتَا. ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ. ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى أَدْرَكَهُ بِتَبُوكَ حِينَ نَزَلَهَا. وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَهُ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَرَافَقَا، حَتَّى إِذَا دَنَوْا من تبوك، قال أبو خيثمة لِعُمَيْرٍ: إِنَّ لِي ذَنْبًا، تَخَلَّفْ عَنِّي حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَفَعَلَ. فَسَارَ حَتَّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " كن أبا خيثمة ". فقالوا: هو والله أبو خيثمة، فَأَقْبَلَ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ: " أَوْلَى لَكَ أَبَا خيثمة ". ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَبَرَ، فَقَالَ لَهُ خَيْرًا.(1/424)
وقال ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة. وقاله موسى بن عقبة. فذكرا نَحْوًا مِنْ سِيَاقِ ابْنِ إِسْحَاقَ.
وقال مَعْمَر، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ: فِي قوله تعالى {اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ}، قَالَ: خرجوا فِي غزوة تبوك، الرَّجُلان والثَّلاثة عَلَى بعيرٍ، وخرجوا فِي حرِّ شديدٍ، فأصابهم يوما عطش حتى جعلوا ينحرون إبلهم ليعصروا أَكْرَاشها ويشربوا مَاءها.
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ، فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ، حَتَّى هَمَّ أَحَدُهُمْ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ .. الْحَدِيثَ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ؛ شَكَّ الْأَعْمَشُ؛ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ أَذِنَتْ لَنَا فَنَنْحَرُ نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادَّهَنَّا. فَقَالَ: " أَفْعَلُ ". فَجَاءَ عُمَرُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ فَعَلْتَ قَلَّ الظَّهْرُ، وَلَكِنْ ادْعُ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ، وَادْعُ اللَّهَ لَهُمْ فِيهَا بِالْبَرَكَةِ. فَقَالَ: نَعَمْ. فَدَعَا بنِطَعٍ فبسطه، ثم دعا بفضل أزوداهم. فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَأْتِي بِكَفِّ ذُرَةٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكَفِّ تَمْرٍ، وَيَجِيءُ الْآخَرُ بِكِسْرَةٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ عَلَى النِّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ. فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَرَكَةِ، ثم قال لهم: خذوا في أوعيتكم. حَتَّى مَا تَرَكُوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلَّا ملؤوه، وَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، وَفَضِلَتْ فَضْلةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ الله؛ لَا يَلْقَى اللَّهُ بِهَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ، فَيُحْجَبُ عَنِ الْجَنَّةِ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّهُ قِيلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ. فَقَالَ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلا أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى أَنْ كَانَ الرَّجُلُ ليذهب يلتمس(1/425)
الرجل، فلا يرجع حتى يظن أن رقبته سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى أَنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ قَدْ عَوَّدَكَ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. قَالَ: " أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ " قَالَ: نَعَمْ. فَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى قَالَتِ السماء فأظلت ثم سكبت، فملؤوا مَا مَعَهُمْ. ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنَظْرُ فَلَمْ نَجِدْهَا جازت الْعَسْكَرَ. حَدِيثٌ حَسَنٌ قَوِيٌّ.
وَقَالَ مَالِكٌ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: " لَا تَدْخُلُوا عَلَى هَؤُلَاءِ القوم المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تَكُونُوا بَاكِينَ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لَا يُصِيبُكُمْ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمْ "؛ يَعْنِي أَصْحَابَ الْحِجْرِ.
وَقَالَ سليمان بن بلال: حدثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجْرَ، أَمَرَهُمْ أَنْ لا يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا، وَلا يَسْتَقُوا مِنْهَا. فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا وَاسْتَقَيْنَا. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ الْعَجِينَ وَيُرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ. أَخْرَجَهُمَا الْبُخَارِيُّ. وَلِمُسْلِمٍ مِثْلُ الأَوَّلِ مِنْهُمَا.
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ عبد الله: أن النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحِجْرَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ آبَارِهَا وَعَجَنُوا بِهِ. فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُهَرِيقُوا الْمَاءَ، وَيَعْلِفُوا الإِبلَ الْعَجِينَ، وَأَمَرُهْم أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ الَّتِي كانت الناقة ترده. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُمْ خَرَجُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ تَبُوكَ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. قَالَ: فَأَخَّرَ الصَّلَاةَ يَوْمًا، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعًا، ثُمَّ دَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ والعشاء(1/426)
جَمِيعًا. ثُمَّ قَالَ: أَنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ. قَالَ: فجِئناها وَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهَا رَجُلَانِ، وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشِّرَاكِ تَبِضُّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ. فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " هَلْ مَسِسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا؟ " قَالَا: نَعَمْ. فَسَبَّهُمَا، وَقَالَ لَهُمَا مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ. ثُمَّ غَرَفُوا مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلًا قَلِيلًا، حَتَّى اجْتَمَعَ فِي شيء ثُمَّ غَسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَعَادَهُ فِيهَا. فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ كَثِيرٍ، فَاسْتَقَى النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُوشِكُ يَا مُعَاذُ، إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، أَنْ تَرَى مَا هَاهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَانًا ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك فَأَتَيْنَا وَادِي الْقُرَى، عَلَى حَدِيقَةٍ لِامْرَأَةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْرُصُوهَا. فَخَرَصْنَاهَا وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ. وَقَالَ: أَحْصِيهَا حَتَّى نَرْجِعَ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى قَدِمْنَا تَبُوكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " سَتَهُبُّ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَلَا يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ، فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدَّ عِقَالَهُ ". فَهَبَّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ، فَقَامَ رجل فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طيئ. وَجَاءَ ابْنُ الْعَلْمَاءِ صَاحِبُ أَيْلَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابٍ، وَأَهْدَى لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْدَى لَهُ بُرْدًا. ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَى، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَرْأَةَ عن حديقتها كم بلغ ثمرها، فقالت: بَلَغَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ. فَقَالَ: " إِنِّي مُسْرِعٌ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرِعْ ". فَخَرَجْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: " هَذِهِ طَابَةٌ، وَهَذَا أُحُدٌ، وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ أَطْوَلَ مِنْهُ؛ وللبخاري نحوه.(1/427)
وقال ابن إسحاق: حدثني عبد لله بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين مر بالحجر استقوا مِنْ بِئْرِهَا. فَلَمَّا رَاحُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لا تَشْرَبُوا مِنْ مائها، ولا توضؤوا مِنْهُ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ مِنْهُ فَاعْلِفُوهُ الإِبِلَ، وَلا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ إِلا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ ". فَفَعَلَ النَّاسُ مَا أَمَرَهُمْ، إِلا رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ؛ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجَتِهِ وَالآخَرُ لِطَلَبِ بَعِيرٍ لَهُ. فَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وأما الآخر فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيئ. فأخبر بذلك رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَلَمْ أَنْهَكُمْ؟ ثُمَّ دَعَا لِلَّذِي أُصِيبَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ. وَأَمَّا الآخَرُ فَإِنَّهُ وَصَلَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قدم من تبوك. هذا مُرْسَلٌ مُنْكَرٌ.
وَقَالَ ابْن وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ غَزْوَانَ، عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ نَزَلَ بِتَبُوكَ وَهُوَ حَاجٌّ، فَإِذَا رَجُلٌ مُقْعَدٌ، فَسَأَلْتُهُ عَنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ: سَأُحَدِّثُكَ حَدِيثًا فَلَا تُحدِّثْ بِهِ مَا سَمِعْتَ أَنِّي حَيٌّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بِتَبُوكَ إِلَى نَخْلةٍ، فَقَالَ: " هَذِهِ قِبْلَتُنَا ". ثُمَّ صَلَّى إِلَيْهَا. فَأَقْبَلْتُ، وَأَنَا غُلَامٌ، أَسْعَى حَتَّى مَرَرْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، فَقَالَ: " قَطَعَ صَلَاتَنَا، قَطَعَ اللَّهُ أَثَرَهُ ". قَالَ: فَمَا قُمْتُ عَلَيْهَا إِلَى يَوْمِي هَذَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ مَوْلًى لِيَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ نِمْرَانَ، قَالَ: رَأَيْتُ مُقْعَدًا بِتَبُوكَ. فَقَالَ: مَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ يُصَلِّي. فَقَالَ: " اللَّهُمَّ اقْطَعْ أَثَرَهُ ". فَمَا مَشَيْتُ عَلَيْهِمَا بَعْدُ. أَخْرَجَهُمَا أَبُو دَاوُدَ.
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ: أخبرنا العلاء أبو محمد الثقفي، قال: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك، فَطَلَعَتِ الشَّمْسُ بِضِيَاءٍ وَشُعَاعٍ وَنُورٍ لَمْ أَرَهَا طَلَعَتْ فِيمَا مَضَى. فَأَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " يَا جِبْرِيلُ، ما لي أرى الشمس اليوم طلعت بِضِيَاءٍ وَنُورٍ وَشُعَاعٍ لَمْ أَرَهَا(1/428)
طَلَعَتْ فِيمَا مَضَى؟ " فَقَالَ: ذَاكَ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيَّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ الْيَوْمَ، فَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِ سَبْعِينَ أَلْفِ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ. قَالَ: " وَفِيمَ ذَاكَ؟ " قَالَ: كَانَ يُكْثِرُ قِرَاءَةَ {قل هو الله أحد} بالليل وَالنَّهَارَ، وَفِي مَمْشَاهُ وَقِيَامِهِ وَقُعُودِهِ، فَهَلْ لَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ أَقْبِضَ لَكَ الأَرْضَ فَتُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: " نَعَمْ " قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ رَجَعَ. الْعَلاءُ مُنْكَرُ الْحَدِيثِ وَاهٍ، وَرَوَاهُ الْحَسَنُ الزَّعْفَرَانِيُّ، عَنْ يَزِيدَ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ محمد: حدثنا صَدَقَةُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ، عَنْ يُونُسَ بْنِ عبيد، عن الحسن، أن معاوية بن مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيَّ تُوُفِّيَ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي جِنَازَةِ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيِّ؟ قَالَ: نعم. فقال: هكذا؛ ففرج له عن الْجِبَالَ وَالآكَامَ. فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَمَعَهُ جِبْرِيلُ فِي سَبْعِينَ أَلْفِ مَلَكٍ، فَصَلَّى عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا جِبْرِيلُ، بم بلغ هذا؟ قَالَ: بِكَثْرَةِ قِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، كَانَ يَقْرَؤُهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَرَاكِبًا وَمَاشِيًا. مُرْسَلٌ.
وَقَالَ ابْنُ جَوْصَا، وَعَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، وَأَبُو الدحداح أحمد بن محمد - واللفظ له - قالوا: حدثنا نوح بن عمرو بن حوي السكسكي، قال: حدثنا بقية، قال: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ الأَلْهَانِيُّ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: نَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِتَبُوكَ فَقَالَ: احْضُرْ جِنَازَةَ مُعَاوِيَةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيِّ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَبَطَ جِبْرِيلُ في سبعين ألفا من الملائكة، فَوَضَعَ جَنَاحَهُ عَلَى الْجِبَالِ فَتَوَاضَعَتْ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجِبْرِيلُ وَالْمَلائِكَةُ. فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ: " يَا جِبْرِيلُ، بِمَ أَدْرَكَ مُعَاوِيَةُ بن معاوية هذه المنزلة من الله؟ " قَالَ: بِقِرَاءَةِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} قَائِمًا وقاعدا وراكبا وماشيا.
قلت: ما علمت فِي نُوحٍ جَرْحًا، وَلَكِنَّ الْحَدِيثَ مُنْكَرٌ جِدًّا، ما أعلم أحدا تَابَعَهُ عَلَيْهِ أَصْلا عَنْ بَقِيَّةَ. وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ حِبَّانَ حَدِيثَ الْعَلاءِ، وَقَالَ: حَدِيثٌ مُنْكَرٌ لا يُتَابَعُ عَلَيْهِ. قَالَ: وَلا أَحْفَظُ فِي الصحابة من(1/429)
يُقَالُ لَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ. وَقَدْ سَرَقَ هَذَا الْحَدِيثَ شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَرَوَاهُ عَنْ بَقِيَّةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ المؤذن: حدثنا مَحْبُوبُ بْنُ هِلالٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مَاتَ مُعَاوِيَةُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْمُزَنِيُّ، أَفَتُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَضَرَبَ بِجَنَاحِهِ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ شَجَرَةٍ وَلا أَكَمَةٍ إِلا تَضَعْضَعَتْ لَهُ. فَصَلَّى عَلَيْهِ وَخَلْفَهُ صَفَّانِ من الملائكة، في كل صف سبعون ألف ملك. قلت: " يا جبريل، بم نال هذا؟ " قال: بِحُبِّهِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} يَقْرَؤُهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَذَاهِبًا وَجَائِيًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ. مَحْبُوبٌ مَجْهُولٌ، لا يُتَابَعُ عَلَى هَذَا.
قَالَ الْبَكَّائِيُّ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ، يَعْنِي مِنْ يَوْمِ الْحِجْرِ، وَلا مَاءَ مَعَهُمْ، دَعَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأرسل اللَّهُ سَحَابَةً، فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ. فَحَدَّثَنِي عَاصِمٌ، قَالَ: قُلْتُ لِمَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ: هَلْ كَانَ النَّاسُ يَعْرِفُونَ النِّفَاقَ فِيهِمْ؟ قَالَ: نَعَمْ وَاللَّهِ، لَقَدْ أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ قَوْمِي، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ؛ لَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْحِجْرِ مَا كَانَ؛ وَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ دَعَا فَأَرْسَلَ اللَّهُ السَّحَابَةَ، فَأَمْطَرَتْ. قَالُوا: أَقْبَلْنَا عَلَيْهِ نَقُولُ: وَيْحَكَ، هَلْ بَعْدَ هَذَا شَيْءٌ؟ قَالَ: سَحَابَةٌ سَائِرَةٌ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَارَ، فَضَلَّتْ نَاقَتُهُ، فَخَرَجَ أَصْحَابُهُ فِي طَلَبِهَا. وَعِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ عُمَارَةُ بْنُ حَزْمٍ، وَكَانَ عَقَبِيًّا بَدْرِيًّا. وَكَانَ فِي رَحْلِهِ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ الْقَيْنُقَاعِيِّ وُكُانُ مِنُافِقًا. فَقَالَ زَيْدٌ، وَهُوَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ: أَلَيْسَ يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعُمَارَةُ عِنْدَهُ: " إِنَّ رَجُلا قَالَ كَذَا وَكَذَا. وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ إِلا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ. وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي هَذَا الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا، وقد حبستها شجرة بزمامها ". فذهبوا فجاؤوا بِهَا. فَذَهَبَ عُمَارَةُ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ: وَاللَّهِ(1/430)
عَجَبٌ مِنْ شَيْءٍ حَدَّثَنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آنفا، من مَقَالَةِ قَائِلٍ أَخْبَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ بِكَذَا وَكَذَا، فَقَالَ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ فِي رَحْلِ عُمَارَةَ، وَلَمْ يَحْضُرْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدٌ، وَاللَّهِ، قَالَ هَذِهِ الْمَقَالَةُ قَبْلَ أن تأتي. فَأَقْبَلَ عُمَارَةُ عَلَى زَيْدٍ يَجَأُ فِي عُنُقِهِ، وَيَقُولُ: أَيْ عِبَادَ اللَّهِ، إِنَّ فِي رَحْلِي لَدَاهِيَةً وَمَا أَشْعُرُ. اخْرُجْ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ مِنْ رَحْلِي. فَزَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ زَيْدًا تَابَ بَعْدَ ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ رَهْطٌ، مِنْهُمْ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ، وَمخشنُ بْنُ حُمَيِّرٍ؛ يُشِيرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا؟ وَاللَّهِ لَكَأَنَّا بِكُمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ؛ إِرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ. فَقَالَ مخشنُ بْنُ حُمَيِّرٍ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلٌّ مِنَّا مِائَةَ جَلْدَةً، وَأَنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ.
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا بَلَغَنِي، لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: أَدْرِكِ القوم، فإنهم قد احترقوا، فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ: بَلَى، قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا. فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ، فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ. فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْتَذِرُونَ. فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ. فَنَزَلَتْ: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون}. فَقَالَ مخشنُ بْنُ حُمَيِّرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي. فَكَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ مخشنٌ؛ يَعْنِي {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ}. فَتسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَهُ(1/431)
شَهِيدًا لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ. فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ أَثَرٌ.
وَلَمَّا انْتَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى تَبُوكَ، أَتَاهُ يُحَنَّةُ بْنُ رُؤْبَةَ صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَعطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ جَرْبَاءَ وَأَذْرُحَ فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ. وكتب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابا، فهو عندهم.
وقال مُوسَى بْن عُقْبة: قَالَ ابن شهاب: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غزوته تِلْكَ تبوكًا ولم يتجاوزها. وأَقام بضع عشرة ليلة. يعني بتبوك.
وقال يحيى بْن أَبِي كثير، عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن ثَوْبان، عَنْ جَابِر، قَالَ: أقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتبوك عشرين يومًا يَقْصُرُ الصّلاة. أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد. وإسناده صحيح.
فائدة: قَالَ ابن إِسْحَاق: أعطى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهُل أَيْلة بُرْدَةً مَعَ كتابه، فاشتراها منهم أَبُو الْعَبَّاس عَبْد اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ - يَعْنِي السَّفَّاحَ - بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ.
وَقَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَيَزِيدُ بْنُ رُومَانَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى أُكَيْدِرِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ؛ رَجُلٍ مِنْ كِنْدَةَ، وَكَانَ مَلِكًا عَلَى دُومَةَ وَكَانَ نَصْرَانِيًّا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالِدٍ: إِنَّكَ سَتَجِدُهُ يَصِيدُ الْبَقَرَ. فَخَرَجَ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ حِصْنِهِ مَنْظَرُ الْعَيْنِ فِي لَيْلَةٍ مُقْمِرَةٍ صَافِيَةٍ، وَهُوَ عَلَى سَطْحٍ وَمَعَهُ امْرَأَتُهُ، فَأَتَتِ الْبَقَرَ تَحُكُّ بِقُرُونِهَا بَابَ الْقَصْرِ. فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: هَلْ رَأَيْتَ مِثْلَ هَذَا قَطُّ؟ قَالَ: لا وَاللَّهِ. قَالَتْ: فَمَنْ يَتْرُكُ مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لا أَحَدُ. فَنَزَلَ فَأَمَرَ بِفَرَسِهِ فَأُسْرِجَ، وَرَكِبَ مَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، فِيهِمْ أَخُوهُ حَسَّانٌ. فَتَلَقَّتْهُمْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَتْهُ وَقَتَلُوا أَخَاهُ. وَقَدِمُوا بِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَقَنَ دَمَهُ وَصَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَأَطْلَقَهُ.
فائدة: قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ النُّعْمَانِ السَّكُونِيِّ قَالَ: خَرَجَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ بِهَا أُكَيْدِرٌ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: بَلَغَنَا أَنَّ خَيْلَكَ انْطَلَقَتْ فَخِفْتُ عَلَى أَرْضِي، فَاكْتُبْ لِي كِتَابًا(1/432)
فَإِنِّي مُقِرٌّ بِالَّذِي عَلَيَّ. فَكَتَبَ لَهُ. فَأَخْرَجَ قَبَاءً مِنْ دِيبَاجٍ مِمَّا كَانَ كِسْرَى يَكْسُوهُمْ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اقْبَلْ عَنِّي هَذَا هَدِيَّةً. قَالَ: " ارْجِعْ بِقَبَائِكَ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَلْبَسُ هَذَا أَحَدٌ إِلا حُرِمَهُ فِي الآخِرَةِ ". فَشَقَّ عَلَيْهِ أَنْ رَدَّهُ. قَالَ: " فَادْفَعْهُ إِلَى عُمَرَ ". فَأَتَى عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِيَّ أَمْرٌ؟ فَضَحِكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، ثُمَّ قَالَ: " مَا بَعَثْتُ بِهِ إِلَيْكَ لِتَلْبَسَهُ، وَلَكِنْ تَبِيعُهُ وَتَسْتَعِينُ بِثَمَنِهِ ".
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ قَالَ: وَلَمَّا تَوَجَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَافِلا إِلَى الْمَدِينَةِ، بَعَثَ خَالِدًا فِي أَرْبَعِمِائَةٍ وَعِشْرِينَ فَارِسًا إِلَى أُكَيْدِرِ دُومَةِ الْجَنْدَلِ، فَلَمَّا عَهِدَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ، قَالَ خَالِدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ بِدُومَةِ الْجَنْدَلِ وَفِيهَا أُكَيْدِرٌ، وَإِنَّمَا نَأْتِيهَا فِي عِصَابَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ؟ فَقَالَ: " لَعَلَّ اللَّهَ يَكْفِيكَهُ ". فَسَارَ خَالِدٌ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ دُومَةَ نَزَلَ فِي أَدْبَارِهَا. فَبَيْنَمَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ فِي مَنْزِلِهِمْ لَيْلا، إِذْ أَقْبَلَتِ الْبَقَرُ حَتَّى جَعَلَتْ تَحْتَكُّ بِبَابِ الْحِصْنِ، وَأُكَيْدَرٌ يَشْرَبُ وَيَتَغنَّى بَيْنَ امْرَأَتَيْهِ. فَاطَّلَعَتْ إِحْدَاهُمَا فَرَأَتِ الْبَقَرَ، فَقَالَتْ: لَمْ أَرَ كَاللَّيْلَةِ فِي اللَّحْمِ. فَثَارَ وَرَكِبَ فَرَسَهُ، وَرَكِبَ غِلْمَتُهُ وَأَهْلُهُ، فَطَلَبَهَا. حَتَّى مَرَّ بِخَالِدٍ وَأَصْحَابِهِ فَأَخَذُوهُ وَمَنْ مَعَهُ فَأَوْثَقُوهُمْ. ثُمَّ قَالَ خَالِدٌ لأُكَيْدِرِ: أَرَأَيْتَ إِنْ أَجَرْتُكَ تَفْتَحْ لِي دُومَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَ حَتَّى دَنَا مِنْهَا، فَثَارَ أَهْلُهَا وَأَرَادُوا أَنْ يَفْتَحُوا لَهُ، فَأَبَى عَلَيْهِمْ أَخُوهُ. فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ، قَالَ لِخَالِدٍ: أَيُّهَا الرَّجُلُ، حُلَّنِي، فَلَكَ اللَّهُ لأَفْتَحَنَّهَا لَكَ، إِنَّ أَخِي لا يَفْتَحُهَا مَا عَلِمَ أَنِّي فِي وَثَاقِكَ. فَأَطْلَقَهُ خَالِدٌ. فَلَمَّا دَخَلَ أَوْثَقَ أَخَاهُ وَفَتَحَهَا لِخَالِدٍ، ثُمَّ قَالَ: اصْنَعْ مَا شئت، فدخل خالد وأصحابه ثم قال: يا خالد إن شئت حكمتك وإن شِئْتَ حَكَّمْتَنِي. فَقَالَ خَالِدٌ: بَلْ نَقْبَلُ مِنْكَ مَا أَعْطَيْتَ. فَأَعْطَاهُمْ ثَمَانِمِائَةٍ مِنَ السَّبْيِ وَأَلْفَ بَعِيرٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ دِرْعٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ رُمْحٍ.
وَأَقْبَلَ خَالِدٌ بِأُكَيْدِرٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ مَعَهُ يُحَنَّةُ بْنُ رُؤْبَةَ عَظِيمُ أَيْلَةَ. فَقَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَشْفَقَ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ كَمَا بعث إلى أكيدر. فاجتمعا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَاضَاهُمَا عَلَى قَضِيَّتِهِ؛ عَلَى دُومَةَ وَعَلَى تَبُوكَ وعلى أيلة وعلى تيماء، وكتب لهم به كِتَابًا. وَرَجَعَ قَافِلا إِلَى الْمَدِينَةِ.(1/433)
ثُمَّ ذَكَرَ عُرْوَةُ قِصَّةً فِي شَأْنِ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ هَمُّوا بِأَذِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى كَيْدِهِمْ. وذكر بناء مسجد الضرار.
وذكر ابن إِسْحَاق، عَنْ ثقةٍ من بني عَمْرو بْن عَوْفُ: أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل من تبوك حتى نزل بذِي أَوَان؛ بينه وبين المدينة ساعةٌ من نهار. وكان أصحاب مسجد الضِّرار قد أَتَوْهُ، وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: قد بَنَيْنا مسجدًا لذي العِلّة والحاجة واللَّيْلة المَطِيرَة، وإنّا نحبّ أنَّ تَأتِيَ فتُصَلِّيَ لنا فِيهِ. فقال: إنّي عَلَى جناح سَفَرٍ، فلَوْ رجعنا إنْ شاء اللَّه أَتَيْنَاكُم. فلمّا نَزَلَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذي أوان، أتاه خبرُ السّماء، فدعا مَالِكَ بْن الدُّخْشُمِ وَمَعْنَ بْن عَدِيّ فقال: انطلِقا إلى هذا المسجد الظَّالِمِ أَهْلُه فاهْدِمَاهُ وأَحْرِقَاه. فخرجا سريعَيْن حتّى دخلاه وفيه أهله فحرّقاه وهدماه وتفرّقوا عَنْهُ. ونزل فِيهِ من القرآن ما نزل.
وَقَالَ أَبُو الْأَصْبَغِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الحراني: حدثنا محمد بن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الْأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: كُنْتُ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُ بِهِ، وَعَمَّارٌ يَسُوقُهُ؛ أَوْ قَالَ: عَمَّارٌ يَقُودُهُ وَأَنَا أَسُوقُهُ؛ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَقَبَةِ، فَإِذَا أَنَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا قَدِ اعْتَرَضُوهُ فِيهَا، فَأنْبَهْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَرَخَ بِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هل عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ؟ قُلْنَا: لَا، قَدْ كَانُوا مُلَثَّمِينَ. قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَرَادُوا أَنْ يَزْحَمُونِي فِي الْعَقَبَةِ لِأَقَعَ. قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوَلَا تَبْعَثُ إِلَى عَشَائِرِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ كُلُّ قَوْمٍ بِرَأْسِ صَاحِبِهِمْ؟ قَالَ: لَا، أَكْرَهُ أَنْ يَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ أَنَّ مُحَمَّدًا قَاتَلَ بِقَوْمٍ حَتَّى إِذَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ أقبل عليهم يقتلهم. ثُمَّ قَالَ: " اللَّهُمَّ ارْمِهِمْ بِالدُّبَيْلَةِ ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الدُّبَيْلَةُ؟ قَالَ: " شِهَابٌ مِنْ نَارٍ يَقَعُ عَلَى نِيَاطِ قَلْبِ أَحَدِهِمْ فَيَهْلِكُ ".
وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، فِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ، أَنَّ حُذَيْفَةَ حَدَّثَهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " فِي أصحابي اثنا(1/434)
عشر منافقا، منهم ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عَبْدُ الله بن صالح المصري: حدثنا مُعَاوِيَة بْن صالح، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا}، قَالَ: أُنَاسٌ بَنَوْا مَسْجِدًا، فَقَالَ لَهُمْ أَبُو عَامِرٍ: ابْنُوا مَسْجِدَكُمْ وَاسْتَمِدُّوا مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قوة وسلاح، فإني ذاهب إلى قيصر فآتي بِجُنْدٍ مِنَ الرُّومِ، فَأُخْرِجُ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ. فَلَمَّا فرغوا من مسجدهم أموا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: نُحِبُّ أَنْ تُصَلِّيَ فِيهِ. فَنَزَلَتْ {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} الآيَاتِ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: أَذْكُرُ أَنَّا حِينَ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، خَرَجْنَا مَعَ الصِّبْيَانِ نَتَلَقَّاهُ إِلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَقَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ وَدَنا مِنَ الْمَدَينَةِ قَالَ: " إِنَّ بِالْمَدِينَةِ لَأَقْوَامًا مَا سِرْتُمْ مِنْ مَسِيرٍ وَلَا قَطَعْتُمْ مِنْ وَادٍ، إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ فِيهِ ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: " نَعَمْ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ ". أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
-أمرُ الذين خلفوا
قَالَ شُعَيب بْن أبي حمزة، عَنِ الزُّهْرِيّ: أَخْبَرَنِي سَعِيد بْن الْمُسَيِّبِ: أَنَّ بني قُرَيظة كانوا حُلَفاءَ لأبي لُبَابة. فاطّلعوا إِلَيْهِ، وهو يدعوهم إلى حُكْم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالوا: يا أَبَا لُبابة، أتأمرنا أنَّ نَنْزِلَ؟ فأشار بيده إلى حَلْقِه أَنَّهُ الذَّبْح. فأخبر عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك فقال لَهُ: لم تر عيني؟ فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أحسبت أنّ اللَّه غفل عَنْ يدك حين تشير إليهم بها إلى حلقك؟ " فلبث حينا ورسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عاتبٌ عَلَيْهِ.(1/435)
ثمّ غزا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تبوكًا، فتخلّف عَنْهُ أَبُو لبابة فيمن تخلّف. فلمّا قفل رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جاءه أَبُو لُبابة يسلّم عَلَيْهِ، فأعرض عَنْهُ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ففزع أَبُو لُبابة، فارْتَبَط بِسَارِية التَّوبة، التي عند باب أمّ سَلَمَةَ، سبعًا بين يومٍ وَلَيْلَةٍ، فِي حرٍّ شديدٍ، لَا يأكل فيهنّ ولا يشرب قَطْرةً. وقال: لَا يزال هذا مكاني حتّى أفارق الدنيا أو يتوب اللَّه عليَّ. فلم يزل كذلك حتّى ما يسمع الصَّوْتَ من الجهد. ورَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر إِلَيْهِ بُكْرةً وعَشِيَّةً. ثمّ تاب اللَّه عَلَيْهِ فنُودي: إنّ اللَّه قد تاب عليك. فأرسل إِلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُطْلِق عَنْهُ رِبَاطه، فأبى أنَّ يطلقه عَنْهُ أحدٌ إِلا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فجاءه فأطلق عَنْهُ بيده. فقال أَبُو لُبابة حين أفاق: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنّي أهجر دار قومي التي أَصَبْتُ فيها الذَّنْبَ، وأنتقل إليك فأُسَاكِنك، وإنّي أَنْخَلِع من مالي صَدَقةً إلى اللَّه ورسوله. فقال: " يُجْزِئُ عنك الثُّلُث ". فهجر دار قومه وتصدّق بثُلث ماله، ثمّ تاب فلم يُرَ منه بعد ذَلِكَ فِي الْإِسْلَام إلّا خَيْر، حتّى فارق الدنيا. مُرْسَل.
وقال ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} قَالَ: هُوَ أَبُو لبابة، إذ قَالَ لقريظة مَا قَالَ، وأشار إلى حلقه بأن محمدا يذبحكم إنَّ نزلتم عَلَى حكمه. وزعم مُحَمَّد بْن إِسْحَاق أن ارتباطه كَانَ حينئذ. ولعله ارتبط مرتين.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بذنوبهم} قال: كانوا عشرة رهط تخلفوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَلَمَّا حَضَرَ رُجُوعُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْثَقَ سَبْعَةٌ مِنْهُمْ أَنْفُسَهُمْ بِسَوَارِي الْمَسْجِدِ، وَكَانَ مَمَرُّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ. فَلَمَّا رَآهُمْ قَالَ: مَنْ هَؤُلاءِ؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو لُبَابَةَ وَأَصْحَابٌ لَهُ تَخَلَّفُوا عَنْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى تُطْلِقَهُمْ وَتَعْذِرَهُمْ. قَالَ: " وَأَنَا أُقْسِمُ بِاللَّهِ لا أُطْلِقُهُمْ وَلا أَعْذِرُهُمْ، حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُهُمْ، رَغِبُوا عَنِّي وَتَخَلَّفُوا عَنِ الْغَزْوِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ". فَلَمَّا بَلَغَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا: وَنَحْنُ لا نُطْلِقُ أَنْفُسَنَا حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلِقُنَا. فَأُنْزِلَتْ {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يتوب عليهم}،(1/436)
وعسى مِنَ اللَّهِ وَاجِبٌ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ فَأَطْلَقَهُمْ وَعَذَرَهُمْ. وَنَزَلَتْ إِذْ بَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا}. وَرَوَى نَحْوَهُ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَقِيلٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ كَعْبٍ بن مَالِكٍ، أَنَّ أَبَاهُ قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبًا يُحَدِّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلَّفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ.
قَالَ كَعْبٌ: لَمْ أَتَخَلَّفْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطُّ، إِلا في غزوة تبوك. غير أَنِّي تَخَلَّفْتُ عَنْ غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَلَمْ يُعَاتِبِ اللَّهُ أَحَدًا تَخَلَّفَ عَنْهَا، إِنَّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُ عِيرَ قُرَيْشٍ، حَتَّى جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوِّهِمْ عَلَى غَيْرِ مِيعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ، وَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ، وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ، يَعْنِي أَذْكَرَ فِي النَّاسِ مِنْهَا.
كَانَ مِنْ خَبَرِي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَنِّي لَمْ أَكُنْ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ. وَاللَّهِ مَا اجْتَمَعَتْ عِنْدِي قَبْلَهَا رَاحِلَتَانِ، حَتَّى جَمَعْتُهُمَا تِلْكَ الْغَزْوَةَ، وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد غَزْوَةً إِلا وَرَّى بِغَيْرِهَا. حَتَّى كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ غَزَاهَا فِي حَرٍّ شَدِيدٍ وَاسْتَقْبَلَ سَفَرًا بَعِيدًا وَمَفَازًا وَعَدُوًّا كَثِيرًا، فَجَلَّى لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرُهُمْ ليتأهبوا أهبة عدوهم، وأخبرهم بوجهه الذي يريد. والمسلمون مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كثير لا يجمعهم كتاب حافظ؛ يُرِيدُ الدِّيوَانَ. قَالَ كَعْبٌ: فَمَا رَجُلٌ يُرِيدُ أن يتغيب إلا ظن أن سَيَخْفَى لَهُ مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ، وَغَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ وَالظِّلالُ، فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ. فَتَجَهَّزَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ.
وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهَّزَ مَعَهُمْ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ إِذَا أردته. فلم يزل يتمادى بي حَتَّى اسْتَمَرَّ بِالنَّاسِ الْجِدُّ. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ، وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئًا. فَقُلْتُ: أَتَجَهَّزُ بَعْدَهُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ. فَغَدَوْتُ بَعْدَ أَنْ فَصَلُوا لأَتَجَهَّزَ(1/437)
فَرَجَعُتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا، ثُمَّ غَدَوْتُ ثُمَّ رَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئًا. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمادَى بِي حَتَّى أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ وَهَمَمتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ، وَلَيْتَنِي فَعَلْتُ، فَلَمْ يُقَدَّرْ لِي ذَلِكَ. فَكُنْتُ إِذَا خَرَجْتُ فِي النَّاسِ أحزنني أني لا أرى إلا رَجُلا مَغْمُوصًا مِنَ النِّفَاقِ؛ أَوْ رَجُلا مِمَّنْ عَذَرَ اللَّهُ مِنَ الضُّعَفَاءِ. فَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَلَغَ تَبُوكَ، قَالَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ: " مَا فعل كعب؟ " فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: يَا رَسُولَ الله، حبسه برداه ينظر في عطفه. فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَلِمْنَا إِلا خَيْرًا.
فَلَمَّا بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَوَجَّهَ قَافِلا مِنْ تَبُوكَ، حَضَرَنِي هَمِّي فَطَفِقْتُ أَتَذَكَّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَاذَا أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَدًا؟ وَأَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِكُلِّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي. فَلَمَّا قِيلَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَظَلَّ قَادِمًا زَاحَ عَنِّي الْبَاطِلَ، وَعَرَفْتُ أَنِّي لا أَخْرُجُ مِنْهُ أَبَدًا بشيء فيه كذب، فأجمعت صِدْقَهُ. وَأَصْبَحَ قَادِمًا، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ جَلَسَ لِلنَّاسِ. فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَ الْمُخَلَّفُونَ فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ وَيَحْلِفُونَ لَهُ، وَكَانُوا بَضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلا. فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلانِيَتهُمْ، وَبَايَعَهُمْ، وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ، وَوَكَلَ سَرائِرَهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَجِئْتُهُ فَلَمَّا سَلَّمْتُ عَلَيْهِ تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الْمُغْضَبِ، ثُمَّ قَالَ: تَعَالَ. فَجِئْتُ أَمْشِي حَتَّى جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: مَا خَلَّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟ فَقُلْتُ: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي وَاللَّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا لَرَأَيْتُ أَنِّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ، وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلا. وَلَكِنْ وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُ لَئِنْ حَدَّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثًا كَاذِبًا تَرْضَى بِهِ عَنِّي لَيُوشِكَنَّ اللَّهُ أَنْ يَسْخَطَ عَلَيَّ، وَلَئِنْ حَدَّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيَّ فِيهِ، إِنِّي لأَرْجُو عَفْوَ الله. لا وَاللَّهِ مَا كَانَ لِي مِنْ عُذْرٍ، وَوَاللَّهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَقْوَى وَلا أَيْسَرَ مِنِّي حِينَ تَخَلَّفْتُ عَنْكَ.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، قُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ فِيكَ. فَقُمْتُ، وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ، فَقَالُوا: لا وَاللَّهِ مَا عَلِمْنَاكَ كُنْتَ أَذْنَبْتَ ذَنْبًا(1/438)
قَبْلَ هَذَا، أَعَجَزْتَ أَنْ لا تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا اعْتَذَرَ إِلَيْهِ الْمُخَلَّفُونَ، قَدْ كَانَ كَافِيَكَ لِذَنْبِكَ اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكَ. فَوَاللَّهِ مَا زَالُوا يُؤَنِّبُونَنِي حَتَّى أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ فَأُكَذِّبَ نَفْسِي. ثُمَّ قُلْتُ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي أَحَدٌ؟ قَالُوا: نَعَمْ، رَجُلانِ قَالا مِثْلَ مَا قُلْتَ. وَقِيلَ لَهُمَا مِثْلَ مَا قِيلَ لَكَ. فَقُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ فَقَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ الْعَمْرِيُّ، وَهِلالُ بْنُ أمية الواقفي. فذكروا رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْرًا، فِيهِمَا أُسْوَةٌ فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ كَلامِنَا أَيُّهَا الثَّلاثَةُ مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ. وَاجْتَنَبَنَا النَّاسُ وتَغَيَّرُوا لَنَا، حَتَّى تَنَكَّرَتْ فِي نَفْسِي الأَرْضُ فَمَا هِيَ الَّتِي أَعْرِفُ. فَلَبِثْنَا عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَأَمَّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بَيْتِهِمَا. وَأَمَّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبَّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصَّلاةَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ وأطوف في الأسواق، ولا يُكَلِّمُنِي أَحَدٌ. وَآتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصَّلاةِ فَأُسَلِّمُ عَلَيْهِ فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدِّ السَّلامِ عَلَيَّ أَمْ لا؟ ثُمَّ أُصَلِّي فَأُسَارِقُهُ النَّظَرَ، فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَى صَلاتِي نَظَرَ إِلَيَّ، فَإِذَا الْتَفَتُّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنِّي. حَتَّى إِذَا طَالَ عَلَيَّ ذَلِكَ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ تَسَوَّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ؛ وَهُوَ ابْنُ عَمِّي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ؛ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَدَّ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ، أَنْشُدُكَ اللَّهَ هَلْ تَعْلَمُ أَنِّي أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فسَكَتَ، فَعُدْتُ لَهُ فَسَكَتَ، فَنَاشَدْتُهُ الثَّالِثَةَ فَقَالَ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ. وَتَوَلَّيْتُ حَتَّى تَسَوَّرْتُ الْجِدَارَ.
قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي بِسُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيٌّ مِنْ أَنْبَاطِ الشَّأْمِ مِمَّنْ قَدِمَ بِالطَّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ يَقُولُ: مَنْ يَدُلُّ عَلَى كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ؟ فَطَفِقَ النَّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيَّ. حَتَّى إِذَا جَاءَنِي دَفَع إِلَيَّ كِتَابًا مِنْ مَلِكِ غَسَّانَ؛ وَكُنْتُ كَاتِبًا؛ فَإِذَا فِيهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ. وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللَّهُ بِدَارِ هَوَانٍ وَلا مَضْيَعَةٍ. فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. وَهَذَا أَيْضًا مِنَ الْبَلاءِ. فَتَيَمَّمْتُ بِهِ التَّنُّورَ فَسَجَرْتُهُ بِهِ. حَتَّى إِذَا مَضَى لَنَا أَرْبَعُونَ لَيْلةً مِنَ الْخَمْسِينَ إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. فَقُلْتُ: أُطَلِّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ بِهَا؟ فَقَالَ: لا، بَلِ اعْتَزِلْهَا فَلا تَقْرَبَنَّهَا. وَأَرْسِلْ إِلَى(1/439)
صَاحِبَيَّ بِمِثْلِ ذَلِكَ. فَقُلْتُ لامْرَأَتِي: الْحِقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ هَذَا الأَمْرَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلالٍ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ هِلالا شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ، فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ فَقَالَ: لا، وَلَكِنْ لا يَقْرَبَنَّكِ. قَالَتْ: إِنَّهُ وَاللَّهِ مَا بهِ حَرَكَةٌ إِلَى شَيْءٍ، وَاللَّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ إِلَى يَوْمِي هَذَا. فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوِ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللَّهِ فِي امْرَأَتِكَ؟ فَقُلْتُ: لا وَاللَّهِ، وَمَا يُدْرِينِي مَا يَقُولُ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِ اسْتَأْذَنْتُهُ فيها، وأنا رجل شاب، فلبثت بعد ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ حَتَّى كَمُلَتْ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً. فَلَمَّا أَنْ صَلَّيْتُ صَلاةَ الْفَجْرِ صُبْحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَأَنَا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا، فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ مِنَّا؛ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ نَفْسِي، وَضَاقَتْ عَلَيَّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ؛ سَمِعْتُ صَوْتَ صَارخٍ أَوْفَى عَلَى جَبَلِ سَلْعٍ: يَا كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ، أَبْشِرْ. فَخَرَرْتُ سَاجِدًا، وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ الْفَرَجُ.
وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتوبة الله علينا، حِينَ صَلَّى صَلاةَ الْفَجْرِ. فَذَهَبَ النَّاسُ يُبَشِّرُونَنَا، وَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبيَّ مُبَشِّرُونَ. وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيَّ فرسا، وسعى ساع من أسلم فأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرع إِلَيَّ مِنَ الْفُرْسِ. فَلَمَّا جَاءَنِي الَّذِي سَمِعْتُ صوته يبشرني، نزعت ثوبي فكسوتهما إياه ببشراه، ووالله مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ. وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا، وَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئونني بِالتَّوْبَةِ؛ يَقُولُونَ: لِيَهْنِكَ تَوْبةُ اللَّهِ عَلَيْكَ. حَتَّى دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَقَامَ إِلَيَّ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ يُهَرْوِلُ حَتَّى صَافَحَنِي وَهَنَّأَنِي، وَاللَّهِ مَا قَامَ إِلَيَّ رَجُلُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ، وَلا أَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ بِالسُّرُورِ: " أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ ". قُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: " لا، بَلْ مِن عِنْدِ اللَّهِ ".
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا بشر ببشارة يَبْرُقُ وَجْهُهُ كَأَنَّهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ، وَكُنَّا نَعْرِفُ ذَلِكَ مِنْهُ. فَلَمَّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ(1/440)
أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الرَّسُولِ. قَالَ: أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ. فَقُلْتُ: فَإِنِّي أُمْسِكُ سَهْمِي الَّذِي بِخَيْبَرَ. وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا نَجَّانِي بِالصِّدْقِ، وَإِنَّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لا أُحَدِّثَ إِلا صِدْقًا مَا بَقِيتُ. فَوَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ابْتَلاهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ أَحْسَنَ مِمَّا ابْتَلانِي، مَا تَعمَّدْتُ مُذْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذِبًا، وَإِنِّي لأَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللَّهُ فِيمَا بَقِيَ. وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رَسُولِهِ: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ} إِلَى قَوْلِهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ}. فَوَاللَّهِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ مِنْ نِعْمَةٍ، بَعْدَ أَنْ هَدَانِي لِلإِسْلامِ، أَعْظَمَ فِي نَفْسِي مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، أَنْ لا أَكُونَ كَذَبْتُهُ، فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِلَّذِينَ كَذَّبُوهُ حِينَ نَزَلَ الْوَحْيُ شَرَّ مَا قَالَ لأَحَدٍ، فَقَالَ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}.
قَالَ كَعْبٌ: وَكُنَّا خُلِّفْنَا - أَيُّهَا الثَّلاثَةُ - عَنْ أمْرِ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حلفوا لَهُ، وَأَرْجَأَ أَمْرَنَا حَتَّى قَضَى اللَّهُ فِيهِ. فَبِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}، وَلَيْسَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَخَلُّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ، وَإِنَّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيَّانَا وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا عَمَّنْ تَخَلَّفَ وَاعْتَذَرَ، فَقَبِلَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
-مَوت عَبْد اللَّه بْن أَبِيّ
قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الزهري، عن عروة، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ، فَلَمَّا عَرَفَ فِيهِ الْمَوْتَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أما والله(1/441)
إِنْ كُنْتُ لَأَنْهَاكَ عَنْ حُبِّ يَهُودَ ". فَقَالَ: قَدْ أبْغَضَهُمْ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، فَمَهْ؟
وقال الواقدي: مرض عبد الله بن أبي ابن سلول فِي أواخر شوّال، ومات فِي ذي القعدة. وكان مرضه عشرين ليلة. فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعوده فيها. فلما كان اليومُ الَّذِي مات فِيهِ، دخل عَلَيْهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَجُود بنَفْسه فقال: " قد نَهَيْتُك عَنْ حبّ يَهُود ". فقال: قد أَبغضهم أسعدُ فما نَفَعه؟ ثمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ليس هذا بِحينِ عتاب. هو الموتُ، فإنْ متّ فاحضرْ غُسْلي، وأعْطِني قَمِيصَك أُكَفَّن فِيهِ، وصلِّ عليَّ واستغفرْ لي.
هذا حديث مُعْضل واهٍ، لو أسنده الواقديّ لَمَا نَفَع، فكيف وهو بلا إِسناد؟
وقال ابن عُيَيْنة، عَنْ عَمْرو، عَنْ جَابِر قَالَ: أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبر عَبْد اللَّه بْن أبيّ بعدما أُدْخِل حُفْرته فأَمَرَ بِهِ فأُخْرِج، فوُضِع عَلَى رُكْبَتَيْه، أو فَخِذيه، فَنفَث عَلَيْهِ من رِيقِه وأَلبْسَه قميصه. والله أعلم. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو أُسَامَةَ، وَغَيْرُهُ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ، أَتَى ابْنُهُ عَبْدُ الله بن عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ، فَأَعْطَاهُ. ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ؛ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي عليه، فقام عمر فأخذ ثوبه فقال: يا رسول الله، أتصلي عليه وقد نهاك الله عنه؟ قَالَ: إِنَّ رَبِّي خَيَّرَنِي، فَقَالَ: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ}، وَسَأَزِيدُ عَلَى السَّبْعِينَ. فَقَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ. قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنزَلَ اللَّهُ: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.(1/442)
وفيها: قُتل عُرْوَةُ بْن مَسْعُود الثَّقَفِيّ، وكان سيّدًا شريفًا من عقلاء العرب ودُهاتهم، دعا قومه إلى الْإِسْلَام فقتلوه. فيُرْوى أَنْ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَثَلُه مَثَلُ صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله فقتلوه ".
وفيها: تُوُفِّيت السيدة أمّ كلثوم بِنْت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زَوْجَة عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا.
وفيها: تُوُفِّيَ عَبْد اللَّه ذُو البِجَادَيْن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ودُفن بتَبُوك، وصلّى عَلَيْهِ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأثنى عَلَيْهِ ونزل فِي حُفْرته، وأَسْنَدَهُ فِي لَحْدِه. وقال: " الَّلُهّم إنّي أمسيتُ عَنْهُ راضيًا، فَارْضَ عَنْهُ ".
وقال مُحَمَّد بْن إِسْحَاق: حدّثني مُحَمَّد بْن إِبْرَاهِيم التَّيْميّ، قَالَ: كَانَ عَبْد اللَّه ذو البِجادَيْن من مُزَيْنَة. وكان يتيمًا فِي حِجْر عمّه، وكان يُحْسن إِلَيْهِ. فلمّا بلغه أَنَّهُ قد أَسْلَم قَالَ: لَئِنْ فعلتَ لأَنْزِعَنَّ منك جميع ما أعطيتك. قَالَ: فإنّي مُسلم. فنزع كلَّ شيء أعطاه، حتّى جَرَّده ثوبَه. فأتى أُمَّه، فقطعتْ بِجادًا لها باثْنَيْن، فاتزر نِصْفًا وارْتَدى نِصفًا. ولَزِمَ بابَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَكَانَ يرفع صوته بالقرآن والذِّكْر. وتوفّي فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفيها: قدِم وَفْدٌ ثَقِيف من الطَّائِف، فأسلموا بعد تَبوك، وكتب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتابا.
وفيها: بعد مَرجعَ النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك، مات سهيل ابن بيضاء، أخو سهل ابن بيضاء، وهي أمهما، واسمها دَعْد بِنْت جَحْدَم. وأما أَبُوهُ فوَهْب بْن رَبِيعَة الفِهْرِيّ. ولسهيل صُحْبةٌ وروايةٌ حديثٍ، وَهُوَ حَدِيثُ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ الْمِصْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدِ بن الصلت، عن سهيل ابن بَيْضَاءَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " مَنْ مَاتَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ ". وَلِيَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ - نَحْوَهُ.
وَأَمَّا الدَّرَاوَرْدِيُّ فَقَالَ: عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الصَّلْتِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ. وَهَذَا مُتَّصُلٌ عَنْ سهيل. إذ سعيد(1/443)
ابن الصَّلْتِ تَابِعِيٌّ كَبِيرٌ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْ سُهَيْلٍ. وَلَوْ سَمِعَ مِنْهُ لَسَمِعَ مِنَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولكان صحابيا. لكن المرسل أشهر. وكان سهيل ابن بَيْضَاءَ مِنَ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، شَهِدَ بَدْرًا وَغَيْرَهَا. وَكَذَلِكَ أَخُوهُ سَهْلٌ، وَقَدْ تُوُفِّيَ أَيْضًا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ عَبْدُ الوهاب بن عطاء: أخبرنا حُمَيْدٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ، وأبي بن كعب، وسهيل ابن بَيْضَاءَ، عِنْدَ أَبِي طَلْحَةَ، وَأَنَا أَسْقِيهِمْ، حَتَّى كَادَ الشَّرَابُ أَنْ يَأْخُذَ فِيهِمْ. ثُمَّ ذَكَرَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِطُولِهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ أَبِي النَّضْرِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ لَمَّا تُوُفِّيَ سَعْدٌ: أَدْخِلُوهُ الْمَسْجِدَ حَتَّى أُصَلِّيَ عَلَيْهِ، فَأُنْكِرَ ذَلِكَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَقَدْ صَلَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ابْنَيْ بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ سُهَيْلٍ وَسَهْلٍ.
وَقَالَ فِيهِ غَيْرُ الضَّحَّاكِ: مَا أَسْرَعَ مَا نَسُوا؛ لقد صلى على سهيل ابن بَيْضَاءَ فِي الْمَسْجِدِ.
وفيها: تُوُفِّيَ زيد بْن سعية؛ بالياء، وبالنّون أشهر؛ وهو أحد الأحْبار الذين أسلموا. وكان كثير العلم والمال. وخبرُ إسلامه رَوَاهُ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْزَةَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ هَدْيَ زَيْدِ بْنِ سَعْنَةَ، قَالَ: مَا مِنْ عَلامَاتِ النُّبُوَّةِ شَيْءٌ إِلا وَقَدْ عَرَفْتُهَا فِي وَجْهِ مُحَمَّدٍ حِينَ نَظَرْت إِلَيْهِ، إِلا شَيْئَيْنِ لَمْ أُخْبَرْهُمَا مِنْهُ: يَسْبِقُ حِلْمُهُ جَهْلَهُ وَلا يَزِيدُهُ شِدَّةُ الْجَهْلِ إِلا حِلْمًا. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. وَهُوَ فِي الطَّوَالاتِ لِلطَّبَرَانِيِّ. وَآخِرُهُ: فَقَالَ زَيْدٌ: أَشْهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عبده ورسوله. وآمن به وبايعه، وَشَهِدَ مَعَهُ مَشَاهِدَ. وَتُوُفِّيَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ مُقْبِلا غَيْرَ مُدْبِرٍ. وَالْحَدِيثُ غَرِيبٌ، مِنَ الأَفْرَادِ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدة مَعْمَر بْن المثنّى: وفيها قتلت فارس ملكهم شهرابرز بن(1/444)
شيرويه، ومَلَّكوا عليهم بُوران بِنْت كِسْرى. وبلغ ذلك النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: " لن يُفْلِحَ قومٌ وَلَّوْا أَمْرَهم امْرَأَة ".
وفيها: تُوُفِّيَ عَبْد اللَّه بْن سعد بْن سُفْيَان الأنصاريّ، من بني سالم بْن عَوْفُ. كنيته أبو سعد. شهد أُحُدًا والمشاهد. وتُوُفِّيَ منصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من تبوك. فيقال: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كفنه في قميصه.
وفي هَذِهِ المدة: توفي زَيْد بْن مُهَلْهَلِ بْن زَيْد أَبُو مُكْنِف الطَّائيّ، فارس طَيِّئ. وهو أحد المؤلفة قلَوْبهم. أعطاه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مائةً من الإبل، وكتب لَهُ بإقْطاعِ. وكان يُدعى زيد الْخَيْلِ، فسمَّاه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد الخير. ثمّ إنه رجع إلى قومه فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ يَنْجُ زيدٌ من حُمَّى المدينة ". فلمّا انتهى إلى نَجْد أَصابته الْحُمَّى ومات.
وفيها: حج بالناس أبو بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ؛ بعثه النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الموسم فِي أواخر ذي القعدة ليقيم للمسلمين حجّهم. فنزلت " بَرَاءةٌ " إثر خروجه.
وفي أَوَّلها نُقض ما بين النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين من العهد الَّذِي كانوا عَلَيْهِ.
قَالَ ابن إِسْحَاق: فخرج عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى نَاقَةِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ العَضْباء، حتّى أدرك أَبَا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بالطريق. فلما رآه أبو بكر قال: أميرا أو مأمورا؟ قَالَ: لَا، بَلْ مأمورٌ. ثمّ مَضَيا. فأقام أَبُو بَكْر للناس حجّهم، حتّى إذا كَانَ يوم النَّحْر، قام عليَّ عند الجَمْرة فأَذَّن فِي النّاس بالذي أَمَره رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أيها النّاس، إنه لا يدخل الجنة إلّا نفسٌ مسلمةٌ، ولا يَحُجّ بعد العام مُشْرِكٌ، ولا يَطُوف بالبَيْت عُرْيان، ومَن كَانَ لَهُ عَهْدٌ عِنْدَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لَهُ إلى مُدَّتِه. وأَجَّلَ الناسَ أربعة أشهرٍ من يوم أَذَّن فيهم، ليرجع كلُّ قومٍ إلى مَآمِنهِم من بلادهم. ثمّ لَا عَهْد لمُشْرِك.
وَقَالَ عَقِيلٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ فِي تِلْكَ الْحِجَّةِ فِي مُؤَذِّنِينَ بَعَثَهُمْ يَوْمَ النَّحْرِ يُؤَذَّنُونَ بِمِنًى أَنْ لا يَحُجَّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ.(1/445)
قَالَ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: ثُمَّ أَرْدَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يُؤَذِّنَ بِبَرَاءَةَ. قَالَ: فَأَذَّنَ مَعَنَا عَلِيٌّ فِي أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ بِبَرَاءَةَ، أَنْ لا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ. أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ. وَأَخْرَجَاهُ مِنْ حَدِيثِ يُونُسَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ حُسَيْنٍ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ مِقْسَمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا بَكْرٍ وَأَتْبَعَهُ عليا. فذكر الحديث. وفيه: فكان علي ينادي بِهَا، فَإِذَا بُحَّ قَامَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَنَادَى بِهَا.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ يُثَيْعٍ، قَالَ: سَأَلْنَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: بِأَيِّ شَيْءٍ بُعِثْتَ فِي ذِي الْحِجَّةِ؟ قَالَ: بُعِثْتُ بِأَرْبَعٍ: لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلا نَفْسٌ مُؤْمِنَةٌ، وَلا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانُ، وَلا يَجْتَمِعُ مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَعْدَ عَامِهِ هَذَا، وَمَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَهْدٌ، فَعَهْدُهُ إِلَى مُدَّتِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَهْدٌ فَأَجَلُهُ أربعة أشهر. والله أعلم.
-ذكر قدوم وفود العرب
قَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، قَالَ: فَلَمَّا صَدَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَقَامَا لِلنَّاسِ الْحَجَّ، قَدِمَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُسْلِمًا. وَكَذَا قَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ. وَأَمَّا ابْنُ إِسْحَاقَ فَذَكَرَ أَنَّ قُدُومَ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ كَانَ فِي إِثْرِ رَحِيلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَهْلِ الطَّائِفِ وَعَنْ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ لَقِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى قَوْمِهِ بِالإِسْلامِ. فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنهم قاتلوك ".(1/446)
ثم بعد أشهرٍ، قَدِم:
-وَفْدُ ثَقِيف
وَقَالَ حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُجَمِّعٍ، عَنْ عَبْدِ الْكَرِيمِ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا فِي الْوَفْدِ الَّذِينَ وَفَدُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَضَرَبَ لَنَا قُبَّتَيْنِ عِنْدَ دَارِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. قَالَ: وَكَانَ بِلالٌ يَأْتِينَا بِفِطْرِنَا، فَنَقُولُ: أَفْطَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، مَا جِئْتُكُمْ حَتَّى أَفْطَرَ، فَيَضَعُ يَدَهُ فَيَأْكُلُ وَنَأْكُلُ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ حُمَيْدٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْزَلَهُمْ فِي قُبَّةٍ فِي الْمَسْجِدِ، لِيَكُونَ أَرَقَّ لِقُلُوبِهِمْ. وَاشْتَرَطُوا عَلَيْهِ حِينَ أَسْلَمُوا أَنْ لَا يُحْشَرُوا وَلَا يُعْشَرُوا وَلَا يُجَبُّوا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَيْسَ فِيهِ رُكُوعٌ، وَلَكُمْ أَنْ لَا تُحْشَرُوا وَلَا تُعْشَرُوا ".
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ فِي السُّنَنِ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصباح، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ جَابِرًا عَنْ شَأْنِ ثَقِيفٍ إِذْ بَايَعَتْ قَالَ: اشْتَرَطَتْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ لا صَدَقَةَ عَلَيْهَا وَلا جِهَادَ، وَأَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ: " سَيَتَصَدَّقُونَ وَيُجَاهِدُونَ إِذَا أَسْلَمُوا ".
وقال موسى بن عقبة، عن عُرْوَةُ بمعناه، قَالَ: فأسلم عُرْوَةُ بْن مَسْعُود، واستأذن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليرجع إلى قومه. فقال: إنّي أخاف أَن يقتلوك قَالَ: لو وجدوني نائمًا ما أيقظوني. فأذن له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فرجع إلى الطائف، وقدِم الطائف عَشِيًّا فجاءته ثقيف فحيّوه، ودعاهم إلى الْإِسْلَام.(1/447)
ونصح لهم، فاتَّهموه وعَصَوْه، وأَسْمعوه من الأذى ما لم يكن يخشاهم عَلَيْهِ. فخرجوا من عنده، حتّى إذا أسحر وطلع الفجر، قام عَلَى غرفةٍ لَهُ فِي داره فأَذَّنَ بالصلاة وتشهَّدَ، فرماه رَجُل من ثقيف بسهمٍ فقتله.
فزعموا أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حين بلغه قَتْله: " مَثَلُ عُرْوَةُ مثل صاحب ياسين، دعا قومه إلى الله فقتلوه ".
وأقبل - بعد قتله - من وفد ثقيف بضعةُ عشر رجلًا هُمْ أشراف ثقيف، فيهم كِنَانة بْن عَبْد يالَيِل وهو رأسهم يومئذٍ، وفيهم عثمان بْن أَبِي العاص بْن بِشْر، وهو أصغرهم. حَتَّى قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ يريدون الصُّلْح، حين رأوا أنَّ قد فُتحت مكة وأَسلمت عامّة العرب.
فقال المُغيرة بْن شُعْبَة: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنْزِلُ عَلَى قومي فأُكرِمهم، فإنّي حديث الجُرْم فيهم. فقال: لَا أمنعك أنَّ تكرم قومك، ولكن منزلهم حيث يسمعون القرآن. وكان من جُرم المُغِيرة فِي قومه أَنه كَانَ أَجيرًا لثقيف، وأنهم أقبلوا من مصر، حتّى إذا كانوا ببُصَاق، عدا عليهم وهم نِيَام فقتلهم، ثمّ أقبل بأموالهم حتّى أَتَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، خَمِّسْ مالي هذا. فقال: " وما نبأه؟ " فأخبره، فقال: " إنّا لسنا نَغْدِر ". وأبى أنَّ يخمّسه.
وأَنزلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد ثقيف فِي المسجد، وبنى لهم خِيَامًا لكي يسمعوا القرآن ويروا النّاس إذا صلّوا. وكأن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا خطب لم يَذْكُر نَفْسَه. فلمّا سمعه وفد ثقيف قَالُوا: يأمرنا أنَّ نشهد أَنَّهُ رَسُول اللَّهِ، ولا يشهد بِهِ فِي خُطبته. فلمّا بَلَغه ذَلِكَ قَالَ: فإني أول من شهِد أنّي رَسُول اللَّهِ.
وكانوا يَغْدون عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلَّ يومٍ، ويُخَلِّفون عثمان بْن أَبِي العاص عَلَى رِحالهم. فكان عثمان كلّما رجعوا وقالُوا بالهاجرة، عمد إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأله عَنِ الدِّين واستقرأه القرآن حتّى فَقِه فِي الدّين وعَلِم. وكان إذا وجد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نائمًا عمد إلى أَبِي بَكْر. وكان يكتم ذَلِكَ من أصحابه. فأَعْجَب ذَلِكَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعَجِب منه وأحبّه.(1/448)
فمكث الوفد يختلفون إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يدعوهم إلى الْإِسْلَام، فأسلموا. فقال كِنانة بْن عَبْد يَالِيل: هَلْ أنت مقاضينا حتى نرجع إلى قومنا؟ قال: " نعم، إنْ أنتم أقررتم بالإسلام قاضَيْتُكم، وإلا فلا قَضِيّة ولا صُلْح بيني وبينكم ". قَالُوا: أفرأيت الزِّنا فإنّا قوم نغترب لَا بُدّ لنا منه؟ قَالَ: هُوَ عليكم حَرامٌ. قَالُوا: فالرِّبا؟ قَالَ: " لكم رؤوس أموالكم ". قَالُوا: فالخمر؟ قَالَ: حرام. وتلا عليهم الآيات فِي تحريم هذه الأشياء. فارتفع القوم وخلا بعضهم ببعض، فقالوا: وَيْحكم، إنّا نخاف إنْ خالفناه - يومًا كيوم مكة. انْطَلقوا نُكَاتِبه عَلَى ما سأَلَنا. فأَتَوْه فقالوا: نعم، لَكَ ما سَأَلت. أرأيت الرَّبَّة ماذا نصنع فيها؟ قَالَ: " اهدموها ". قَالُوا: هيهات، لو تعلم الربة ماذا تصنع فيها أو أنّك تريد هدمها قَتَلَتْ أهلها. فقال عُمَر: ويحك يا ابْن عَبْد يَالِيل، ما أحمقك، إنما الربة حجر. قال: إنّا لم نَأْتِك يا ابْن الخطّاب. وقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَوَلَّ أنت هدمها، فأما نَحْنُ فإنّا لن نهدمها أبدًا. قَالَ: " فسأبعث إليكم من يهدمها ". فكاتَبُوه وقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أمِّرْ علينا رجلًا يَؤُمّنا. فأمّر عليهم عثمان لِما رَأَى من حِرْصه عَلَى الْإِسْلَام. وكان قد تعلَّم سُوَرًا من القرآن.
وقال ابن عَبْد يَالِيل: أَنَا أَعلم النّاس بثقيف. فاكْتُمُوهم الْإِسْلَام وخَوِّفُوهم الحربَ، وأَخْبِرُوا أنّ محمدًا سَأَلَنا أمورًا أَبَيْناها.
قَالَ: فخرجت ثقيف يتلقَّوْن الوفدَ. فلمّا رأوهم قد ساروا العَنَق، وقَطَروا الإبل، وَتَغشَّوا ثيابهم، كهيئة القوم قد حَزِنُوا وكُرِبُوا ولم يرجعوا بخير. فلمّا رأت ثقيف ما فِي وجوههم قَالُوا: ما وفدُكم بخيرٍ ولا رجعوا بِهِ. فدخل الوفد فعَمدوا اللات فنزلوا عندها. والّلات بيت بين ظهرَيْ الطائف يُسْتَر ويُهْدَى لَهُ الْهَدْيَ، كما يُهدى للكعبة.
فقال ناس من ثقيف حين نزل الوفد إليها: إنه لَا عَهْد لهم برؤيتها. ثمّ رجع كل واحد إلى أهله، وجاء كل رَجُل منهم خاصَّتَه فسأَلوهم فقالوا: أَتَيْنا رجلًا فَظًّا غليظًا يأخذ من أمره ما يشاء، قد ظهر بالسيف وأَدَاخ العرب ودانت لَهُ النّاس. فعرض علينا أمورًا شِدادًا: هَدْم الّلات وترك الأموال في(1/449)
الربا إلا في رؤوس أموالكم، وحَرَّم الخَمْر والزِّنا، فقالت ثقيف: والله لَا نقبل هذا أبدًا. فقال الوفد: أَصْلحوا السلاح وتهيؤوا للقتال ورمّوا حصنكم. فمكثت ثقيف بذلك يومين أو ثلاثة يريدون القتال. ثمّ ألقى اللَّه فِي قلوبهم الرُّعب، فقالوا: والله ما لنا بِهِ طاقة، وقد أداخ العرب كلّها، فارجعوا إِلَيْهِ فأَعْطُوه ما سَأَلَ. فلمّا رَأَى ذَلِكَ الوفد أنهم قد رَعَبوا قَالُوا: فإنّا قد قاضَيْناه وفعلنا ووجدناه أتقى النّاس وأرحمهم وأصدقهم. قَالُوا: لِم كَتَمْتُمُونا وغَمَمْتُمونا أشدّ الغمّ؟ قَالُوا: أردنا أنَّ ينزع اللَّه من قلوبكم نَخْوَة الشَّيطان. فأسلموا مكانَهم.
ثمّ قدِم عليهم رسُلُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قد أمَّر عليهم خَالِد بْن الوليد، وفيهم المُغِيرة. فلمّا قدِموا عمدوا للات ليهدموها، واسْتَكَفَّت ثقيف كلها، حتّى خرج العَواتق، لَا ترى عامة ثقيف أنها مهدومة. فقام المُغِيرة فأخذ الكَرْزِينَ وقال لأصحابه: والله لأُضْحِكَّنكم منهم. فضرب بالكرزين، ثمّ سقط يَرْكُض. فارتَجّ أهُل الطائف بصيحةٍ واحدةٍ، وقَالُوا: أَبْعَدَ اللَّه المُغِيرة، قد قتلته الرَّبَّة. وفرحوا، وقَالُوا: من شاء منكم فليقتربْ وليجتهدْ عَلَى هدمها، فَوَالله لَا يُستطاع أبدًا. فوثب المُغِيرة بْن شُعْبَة فقال: قبّحكم اللَّه؛ إنما هِيَ لكاع حجارة ومَدر، فاقْبَلوا عافِيَة اللَّه واعبدوه. ثمّ ضرب الباب فكسره، ثمّ عَلا عَلَى سورها، وعلا الرجالُ معه، فهدموها. وجعل صاحب المَفْتَح يَقُولُ: ليَغْضَبَنَّ الأساسُ، فليخسفَنَّ بهم. فقال المُغِيرة لخالد: دعني أحفر أساسها، فحفره حتّى أخرجوا ترابها، وانتزعوا حِلْيَتَها، وأخذوا ثيابها. فبهتت ثقيف، فقالت عجوزٌ منهم: أسلمها الرُّضَّاع وتركوا المِصَاع.
وأقبل الوفد حتّى أتوا النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحليتها وكسوتها، فَقَسَمه.
وقال ابن إِسْحَاق: أقامت ثقيف، بعد قتل عُرْوَةُ بْن مَسْعُود، أشهرًا.
ثمّ ذكر قدومَهم عَلَى النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإسلامَهم. وذكر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث أَبَا(1/450)
سُفْيَان بْن حرب والمغيرة يهدمان الطَّاغية.
وقال سَعِيد بْن السَّائب، عَنْ مُحَمَّد بْن عَبْد الله بن عِيَاض، عَنْ عثمان بْن أَبِي العاص: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ أنَّ يجعل مسجد الطائف حيثُ كانت طاغيتهم.
رَوَاهُ أَبُو همّام مُحَمَّد بْن مُحَبَّب الدلّال، عَنْ سعيد، والله أعلم.
ولما فرغ ابن إِسْحَاق من شأن ثقيف، ذكر بَعْدَ ذلك حجّة أَبِي بَكْر الصدّيق بالناس.(1/451)
-السنة العاشرة
ثمّ قَالَ ابن إِسْحَاق: ولمّا فتح اللَّهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكّة، وفَرَغ من تبوك، وأسلمتْ ثقيف، ضَرَبتْ إِلَيْهِ وُفودُ العرب من كلّ وَجْهٍ. وإنما كانت العرب تَرَبَّصُ بالإسلام أَمْرَ هذا الحيّ من قريش، وأَمْرَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك أنّ قريشًا كانوا إِمامَ الناس.
قَالَ: فقدم عُطَارِد بْن حَاجِب فِي وفدٍ عظيمٍ من بني تميم، منهم الأَقْرَع بْن حَابِس، والزِّبْرِقَان بْن بَدْر، ومعهم عُيَيْنة بْن حِصْن. فلمّا دخلوا المسجد. نادوا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد، وآذى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ صياحهم فخرج إليهم فقالوا: يا مُحَمَّد جئناك نفاخرك، فائذنْ لشاعرنا وخطيبنا. قَالَ: قد أَذِنْتُ لخطيبكم، فلْيَقُمْ. فقام عُطارد، فقال:
الحمد لله الَّذِي لَهُ علينا الفضلُ وَالْمَنُّ، وهو أَهْلُه، الَّذِي جعلنا ملوكًا. ووهب لنا أموالا عظاما نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزَّ أهُل المَشْرق، وأكثرَهُ عَدَدًا، وأَيْسره عُدّةً. فَمنْ مثْلُنا فِي النّاس؟ أَلَسْنا برؤوس النّاس وَأُولِي فضلهم؟ فمن فاخرنا فليعدد مثل ما عددنا، وإن لو نشأ لأكثرنا الكلام، ولكن نستحيي من الإِكْثار. أقول هذا لأَنْ تَأتوا بمثل قولنا، وأمرٍ أفضل من أمرنا.
ثمّ جلس، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لثَابِت بْن قَيْس بْن الشَّمَّاس الخَزْرَجِيّ: قُمْ فأَجِبْهُ. فقام، فقال:
الحمد لله الَّذِي السماواتُ والأرضُ خَلْقُه، قضى فيهنَّ أَمْره، ووَسع كُرْسِيُّه عِلْمه، ولم يكن شيء قطّ إلّا من فضله. ثمّ كَانَ من فضله أنَّ جعلنا(1/452)
ملوكًا واصْطَفى من خير خلقه رسولًا؛ أَكْرَمه نسبًا، وأصدقه حديثًا، وأفضله حَسَبًا، فأنزل عَلَيْهِ كتابه، وائْتَمَنه عَلَى خَلْقه، فكان خِيَرَةَ اللَّه من العالمين، ثمّ دعا النّاس إلى الْإِيمَان فآمن بِهِ المهاجرون من قومه وَذَوِي رَحِمه، أكرم النّاس أَحْسابًا، وأحسن النّاس وجوهًا، وخير العالمين فَعالًا، ثمّ كَانَ أول الخلق استجابةً إذْ دَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحنُ، فنحنُ الأنصار، أنصارُ اللَّه ووزراءُ رسوله، نقاتل النّاس حتّى يؤمنوا بالله ورسوله. فمَنْ آمَنَ مَنَع مالَهُ ودَمَهُ، ومن كفر جاهدناهُ فِي اللَّه أبدًا، وكان قَتْلُه علينا يسيرًا. أقول قَوْلِي هذا وأستغفر اللَّه للمؤمنين والمؤمنات، والسلام عليكم.
فقام الزِّبْرِقانُ بْن بدر، فقال:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا ... من الْمُلُوكُ وفينا تُنْصَب البيَعُ
وكَمْ قَسَرْنا من الأحياءِ كُلِّهُم ... عِنْدَ النِّهابِ وفَضْلُ الْعِزِّ يُتَّبَع
ونحن نطعم عند القحط مطعمنا ... من الشِّواء إذا لم يُؤْنَسِ القَزَع
بما تَرَى النَّاسَ تَأْتِيَنا سَرَاتُهمُ ... من كلّ أرضٍ هُوِيًّا ثمّ نَصْطَنِع
فِي أبياتٍ.
فقال النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يا حَسَّانُ، فأَجِبْهُ. فقال حسّان:
إنَّ الذَّوَائِبَ مِنْ فِهْرٍ وإِخْوَتهمْ ... قَدْ بَيَّنُوا سُنَّةً لِلنَّاسِ تُتَّبَعُ
يَرْضَى بها كلُّ مَنْ كانتْ سَرِيرَتُهُ ... تَقْوَى الإلهِ وكلَّ الخير يصطنِع
قَوْمٌ إذا حَارَبوا ضَرُّوا عَدُوَّهُمُ ... أوْ حَاوَلُوا النَّفْعَ فِي أشْيَاعِهم نَفَعوا
سَجِيَّةٌ تِلْكَ مِنْهُم غَيْرُ مُحْدَثَةٍ ... إنّ الخلائقَ فاعْلَمْ شرُّها البِدَع
فِي أبيات.
فقال الأقرع بْن حابس: وَأَبي، إنّ هذا الرجل لَمُؤَتًّى لَهُ. إِنَّ خطيبه أفْصَحُ من خطيبنا، ولَشاعره أشعر من شاعرنا.(1/453)
قال: فلما فرغ القوم أسلموا، وأحسن النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جوائزهم. وفيهم نزلت: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}.
وقال سليمان بن حرب: حدثنا حمّاد بْن زيد، عَنْ مُحَمَّد بْن الزُّبير الحَنْظَليّ، قَالَ: قدِم عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزِّبْرِقان بْن بدر، وقَيْس بْن عاصم، وعَمْرو بْن الأهْتَم. فقال لعمرو بْن الأهتم: أخبرني عَنْ هذا الزِّبْرقَان، فأمّا هَذَا فلستُ أسألك عَنْهُ. قَالَ: وأُراه قَالَ قد عرف قَيْسًا. فقال: مُطاعٌ فِي أدْنيه، شديد العارضة، مانع لما وراء ظهره. فقال الزِّبْرقان: قد قَالَ ما قَالَ وهو يعلم أنّي أفضل مما قَالَ. فقال عمرو: ما علمتك إلّا زَمِرَ المروءة، ضيّق العَطَن، أحمق الأب، لئيم الخال.
ثمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قد صَدَقْتُ فيهما جميعًا؛ أرضاني فقلتُ بأحسن ما أعلم، وأسخطني فقلت بأسْوَأ ما فِيهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ من البيان سِحْرًا ".
وقد روى نَحوه علي بن حرب الطائي، عن أبي سعد الهيثم بْن محفوظ، عَنْ أَبِي المُقَوّم الْأَنْصَارِيّ يحيى بن يزيد، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس؛ متصلا.
وقال مسلم بن إبراهيم: حدثنا الأسود بن شيبان، قال: حدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ ثُمَامَةَ بْنِ النُّعْمَانِ الرَّاسِبِيُّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ؛ قَالَ: وَفَدَ أَبِي فِي وَفْدِ بَنِي عَامِرٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَنْتَ سَيِّدُنَا وَذُو الطَّوْلِ عَلَيْنَا. فَقَالَ: " مَهْ مَهْ، قُولُوا بِقَوْلِكُمْ وَلا يَسْتَجْرِئَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ، السَّيِّدُ اللَّهُ، السَّيِّدُ اللَّهُ ".
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُؤَمَّلَةَ، عَنْ أَبِيهَا، عَنْ جَدِّهَا مُؤَمَّلَةَ بْنِ جَمِيلٍ، قَالَ: أَتَى عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا عَامِرُ، أَسْلِمْ. قَالَ: أَسْلِمْ عَلَى أَنَّ الْوَبَرَ لِي ولك المدر. قَالَ: يَا عَامِرُ أَسْلِمْ. فَأَعَادَ قَوْلَهُ. قَالَ: لا. فَوَلَّى وَهُوَ يَقُولُ: يَا مُحَمَّدُ، لأَمْلأَنَّهَا(1/454)
عَلَيْكَ خَيْلا جُرْدًا وَرِجَالا مُرْدًا، وَلأَرْبِطَنَّ بِكُلِّ نَخْلَةٍ فَرَسًا. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ اكْفِنِي عَامِرًا وَاهْدِ قَوْمَهُ ". فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَهْرِ الْمَدِينَةِ صَادَفَ امْرَأَةً يُقَالُ لَهَا سَلُولِيَّةُ، فَنَزَلَ عَنْ فَرَسِهِ وَنَامَ فِي بَيْتِهَا، فَأَخَذَتْهُ غُدَّةٌ فِي حَلْقِهِ، فَوَثَبَ على فرسه، وأخذ رمحه، وجعل يجول، ويقول: غدة كغدة الْبَكْرِ، وَمَوْتٌ فِي بَيْتِ سَلُولِيَّةَ. فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ حَالَهُ حَتَّى سَقَطَ مَيِّتًا.
وقال ابن إِسْحَاق: قدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفدُ بني عامر، فيهم: عامر بن الطفيل، وأربد بن قيس، وخالد بن جعفر، وحيان بن أسلم، وكانوا رؤساء القوم وشياطينهم. فقدِم عامرُ عدوّ الله عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يريد أنَّ يَغْدِر بِهِ. فقال لَهُ قومه: إنّ النّاس قد أسلموا. فقال: قد كنت آليْتُ أنَّ لَا أَنْتَهي حتّى تَتْبَع العربُ عَقِبي، فأنا أتبعُ عَقِبَ هذا الفتى من قريش؟ ثمّ قَالَ لأرْبَد: إذا قدِمنا عَلَيْهِ فإنّي شاغلٌ عنك وَجْهه، فإذا فعلتُ ذَلِكَ فاعْلُهُ بالسيف.
فلمّا قدِموا عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عامر: يا مُحَمَّد، خَالِّني. فقال: لَا والله، حتّى تؤمن بالله وحده، فقال: والله لأملأنّها عليك خَيْلًا ورِجَالًا. فلمّا ولّى قَالَ: " الَّلُهّم اكْفِني عامرًا ". ثمّ قَالَ لأَربَد: أَيْنَ ما أمرتُكَ بِهِ؟ قَالَ: لَا أَبَا لَكَ، والله ما هممتُ بالذي أمرتني بِهِ من مرّةٍ إلّا دَخَلْتَ بيني وبينه، أَفَأَضْرِبُكَ بالسَّيف؟ فبعث اللَّه ببعض الطريق عَلَى عامر الطَّاعُون فِي عُنُقه، فقتله اللَّه فِي بيت امرأةٍ من سلول. وأما الآخر فأرسل الله عَلَيْهِ وعلى جَمَله صاعقةً أَحْرَقَتْهما.
وَقَالَ هَمَّامٌ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، حَدَّثَنِي أَنَسٌ، قَالَ: كَانَ رَئِيسَ الْمُشْرِكِينَ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وَكَانَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أخيرك بين ثلاث خصال؛ يكون لَكَ أَهْلُ السَّهْلَ وَيَكُونَ لِي أَهْلُ الْمَدَرِ، أَوْ أَكُونَ خَلِيفَتَكَ مِنْ بَعْدِكَ، أَوْ أَغْزُوَكَ بِغَطَفَانَ بِأَلْفِ أَشْقَرَ وَأَلْفِ شَقْرَاءَ.(1/455)
قَالَ: فَطُعِنَ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ. فَقَالَ: غُدَّةٌ كَغُدَّةِ الْبَكْرِ فِي بَيْتِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي فُلانٍ، ائْتُونِي بِفَرَسِي. فَرَكِبَ فَمَاتَ عَلَى ظَهْرِ فرسه. أخرجه البخاري.
-وافد بني سعد
قال ابْنُ إِسْحَاقَ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بَعَثَتْ بَنُو سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ ضِمَامَ بْنَ ثَعْلَبَةَ وَافِدًا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكان جَلْدًا أَشْعَرَ ذَا غَدِيرَتَيْنِ، فَأَقْبَلَ حَتَّى وَقَفَ فَقَالَ: أَيُّكُمُ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ: أَنَا. فَقَالَ: أَنْتَ مُحَمَّدٌ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". قَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ وَمُغَلِّظٌ عَلَيْكَ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلا تَجِدَنَّ فِي نَفْسِكَ. أَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَهَكَ وَإِلَهَ مَنْ قَبْلِكَ وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ تَأْمُرَنَا أَنْ نَعْبُدَهُ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ نَخْلَعَ هَذِهِ الأَنْدَادَ؟ قَالَ: " اللَّهُمَّ نَعَمْ ". قَالَ: فَأَنْشُدُكَ اللَّهَ إِلَهَكَ وَإِلَهَ مَنْ قَبْلِكَ وَإِلَهَ مَنْ هُوَ كَائِنٌ بَعْدَكَ، اللَّهُ أَمَرَكَ أَنْ نُصَلِّيَ هَذِهِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ؟ قَالَ: " نَعَمْ ". ثُمَّ جَعَلَ يَذْكُرُ فَرَائِضَ الإسلام ينشده عند كُلِّ فَرِيضَةٍ، ثُمَّ قَالَ: فَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول اللَّهِ، وَسَأُؤَدِّي هَذِهِ الْفَرَائِضَ، وَأَجْتَنِبُ مَا نَهَيْتَنِي عَنْهُ، ثُمَّ لا أَزِيدُ وَلا أَنْقُصُ.
ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى بَعِيرِهِ رَاجِعًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ صَدَقَ ذُو الْعَقِيصَتَيْنِ دَخَلَ الْجَنَّةَ ". فَقَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَكَانَ أَوَّل مَا تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ: بِاسْتِ اللاتِ وَالْعُزَّى. قَالُوا: مَهْ يَا ضِمَامُ، اتَّقِ الْبَرَصَ، اتَّقِ الْجُنُونَ. قَالَ: وَيْلَكُمْ، إِنَّهُمَا وَاللَّهِ لا يَضُرَّانِ وَلا يَنْفَعَانِ. إِنْ الله قد بعث رسولا وأنزل عليه كتابا استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أَنْ لَا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَقَدْ جِئْتُكُمْ مِنْ عِنْدِهِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ.(1/456)
قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا أَمْسَى ذَلِكَ الْيَوْمَ وَفِي حَاضِرِهِ رَجُلٌ وَلا امْرَأَةٌ إِلا مُسْلِمًا.
قَالَ: يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَمَا سَمِعْنَا بِوَافِدِ قَوْمٍ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ضِمَامٍ.
وَقَالَ إِسْحَاقُ بْنُ أَبِي إِسْرَائِيلَ الْمَرْوَزِيُّ: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ الْحَارِثِ بن عمير، قال: حدثنا أَبِي، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَنْشُدُكَ بِرَبِّ مَنْ قَبْلِكَ وَرَبِّ مَنْ بَعْدِكَ، اللَّهُ أَرْسَلَكَ؟ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِنِّي قَدْ آمَنْتُ وَصَدَّقْتُ، وَأَنَا ضِمَامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ. فَلَمَّا وَلَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " فَقِهَ الرَّجُلُ ". قَالَ: فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَحْسَنَ مَسْأَلَةً وَلا أَوْجَزَ مِنْ ضِمَامِ بْنِ ثَعْلَبَةَ. الْحَارِثُ بْنُ عُمَيْرٍ ضَعِيفٌ. وقصّة ضمام فِي الصحيحين من حديث أنس.
قَالَ ابن إِسْحَاق: وفد عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجَارُود بْن عَمْرو أخو بني عَبْد القَيْس - قَالَ عَبْد الملك بْن هشام: وكان نَصْرانِيًّا - فدعاه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الإسلام. فقال: يا مُحَمَّد، تَضْمن لي ديني؟ قَالَ: " نعم، قد هداك اللَّه إلى ما هُوَ خيرٌ منه ". قال: فأسلم، وأسلم أصحابه.
قَالَ ابن إِسْحَاق: وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفد بني حنيفة، فيهم مسيلمة بن حبيب الكذاب. فكان منزلتهم فِي دار بِنْت الحارث الأنصارية. فحدّثني بعض علمائنا أنّ بني حَنِيفَة أَتَتْ بِهِ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتُرُه بالثّياب، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالس في أصحابه معه عَسِيبُ نخلٍ فِي رأسه خُوصاتٌ. فلمّا كَلَّم النّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسأله قَالَ: " لو سألتني هذا العَسيبَ ما أعطيتُكَهُ ".
قَالَ ابن إِسْحَاق: وحدّثني شيخٌ من أهُل اليمامة أنّ حديثه كَانَ عَلَى غيرَ هذا؛ زَعَم أنّ وفد بني حنيفة أَتَوْا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وخلَّفوا مُسَيْلِمَة في(1/457)
رحَالِهم، فلمّا أسلموا ذكروا لَهُ مكانه فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر بِهِ لهم، وقال: " أَمَا إنه ليس بأشرِّكم مكانًا "؛ يعني حِفْظَهُ ضَيْعَة أصحابه. ثمّ انصرفوا وجاؤوه بالذي أعطاه.
فلمّا قدِموا اليمامة ارْتَدَّ عَدُوُّ اللَّه وتَنَبَّأَ، وقال: إنّي أُشْرِكتُ فِي الأمر مَعَ مُحَمَّد، ألم يقل لكم حين ذكرتموني لَهُ أما إنه ليس بأشركم مكانا؟ وما ذاك إلّا لِما يعلم أنّي قد أُشركت معه. ثمّ جعل يَسْجَع السَّجعات فيقول لهم فيما يَقُولُ مُضاهاةً للقرآن: لقد أنعم اللَّه عَلَى الْحُبُلِىِّ، أخرج منها نَسَمةً تَسْعَى، من بين صِفاقٍ وحَشى. ووضع عَنْهُمْ الصلاة وأحلّ لهم الزِّنا والخمر. وهو مَعَ ذَلِكَ يشهد لرَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نبيّ. فأَصْفَقَتْ معه بنو حَنِيفة عَلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْن عَبْد الرَّحْمَن بْن أَبِي حسين، قال: حدثنا نَافِعُ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَدِمَ مُسَيْلَمَةُ الْكَذَّابُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: إن جعل لي محمد الأمر من بعده اتَّبَعْتُهُ. وَقَدِمَهَا فِي بَشَرٍ كَثِيرٍ مِنْ قَوْمِهِ. فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعَهُ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَفِي يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِطْعَةُ جَرِيدٍ، حَتَّى وَقَفَ عَلَى مُسَيْلَمَةَ فِي أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: " إِنْ سَأَلْتَنِي هَذِهِ الْقِطْعَةَ مَا أَعْطَيْتُكَهَا. وَلَنْ تعدو أمر الله فيك، وَلَئِنْ أَدْبَرْتَ لَيَعْقِرَنَّكَ اللَّهُ. وَإِنِّي أُرَاكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ، وَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ يُجِيبُكَ عَنِّي ". ثُمَّ انْصَرَفَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَسَأَلْتُ عَنْ قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّكَ الَّذِي أُرِيتُ فِيهِ مَا رَأَيْتُ "، فَأَخْبَرَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " بينا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتَ فِي يَدَيَّ سِوَارَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَأَهَمَّنِي شَأْنُهُمَا، فَأُوحِيَ إِلَيَّ فِي الْمَنَامِ أَنِ انْفُخْهُمَا، فَنَفَخْتُهُمَا فَطَارَا، فَأَوَّلْتُهُمَا كَذَّابَيْنِ يَخْرُجَانِ مَنْ بَعْدِي ". قَالَ: فَهَذَا أَحَدُهُمَا الْعَنْسِيُّ صَاحِبُ صَنْعَاءَ، وَالْآخَرُ مُسْيَلِمَةُ صَاحِبُ الْيَمَامَةِ. أَخْرَجَاهُ.
وَقَالَ مَعْمَرٌ، عَنْ هَمَّامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ أُتِيتُ بِخَزَائِنِ الْأَرْضِ، فَوُضِعَ فِي يَدَيَّ سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَكَبُرَا عَلَيَّ(1/458)
وأهماني، فأوحي إلي أن انفخهما، فنفختهما، فذهبا، فَأَوَّلْتُهُمَا الْكَذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بَيْنَهُمَا؛ صَاحِبَ صَنْعَاءَ وصاحب اليمامة ". متفق عليه.
وقال البخاري: حدثنا الصلت بن محمد، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: سَمِعَ أَبَا رجاء؛ هُوَ العُطَارِدِيّ؛ يَقُولُ: لَمَّا بُعث النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمعنا بِهِ، لحِقنا بمسيلمة الكذّاب؛ لحقنا بالنار؛ وكنّا نعبد الحجَر فِي الجاهلية. وإذا لم نجد حجرا جمعنا حثية من تراب ثم حلبنا عليها اللَّبَن، ثمّ نطوف بِهِ.
وَقَالَ إسْمَاعِيل بْن أَبِي خَالِد، عَنْ قَيْسٍ بْن أَبِي حازم، قَالَ: جَاءَ رجلٌ إِلَى ابْن مَسْعُود فَقَالَ: إنّي مررتُ ببعض مساجد بني حنيفة وهم يقرؤون قراءةً ما أنزلها اللَّه: الطَّاحِنات طَحْنًا، والعاجنات عَجْنًا، والخابزات خَبْزًا، والثَّاردات ثَرْدًا، واللاقمات لَقْمًا. فأرسل إليهم عَبْد اللَّه فأتى بهم، وهم سبعون رجلًا ورَأسُهم عَبْد اللَّه بْن النَّوَّاحَة. قَالَ: فأمَر بِهِ عَبْد اللَّه فقُتل. ثمّ قَالَ: ما كنّا بمُحْرِزِين الشَّيْطان من هَؤُلَاءِ، ولكنّا نَحْدُرهم إلى الشّأْم لعلّ اللَّه أنَّ يَكْفِيَنَاهُمْ.
وَقَالَ الْمَسْعُودِيُّ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ ابْنُ النَّوَّاحَةِ وَابْنُ أُثَالٍ رَسُولَيْنِ لِمُسَيْلَمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تَشْهَدَانِ أَنِّي رسول الله؟ " فقالا: نَشْهَدُ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالَ: " آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلا رَسُولا لَقَتَلْتُكُمَا ".
قال عبد الله: فمضت السنة بأن الرُّسُلَ لا تُقتَلُ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا ابْنُ أُثَالٍ فَقَدْ كَفَانَا اللَّهُ، وَأَمَّا ابْنُ النَّوَّاحَةِ فَلَمْ يَزَلْ فِي نَفْسِي حَتَّى أَمْكَنَ اللَّهُ مِنْهُ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ فِي مُسْنَدِهِ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ. وَلَهُ شَاهِدٌ.
قَالَ يُونُسُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ(1/459)
نُعَيْمِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِيهِ، سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَاءَهُ رَسُولَا مُسَيْلَمَةَ الْكَذَّابِ بِكِتَابِهِ يَقُولُ لَهُمَا: وَأَنْتُمَا تَقُولَانِ بِمِثْلِ مَا يَقُولُ؟ قَالَا: نَعَمْ. فَقَالَ: " أَمَا وَاللَّهِ لَوْلَا أَنَّ الرُّسُلَ لَا تُقْتَلُ لَضَربْتُ أعناقكما ".
قال ابن إِسْحَاق: وقد كَانَ مسيلمة كتب إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في آخر سنة عَشْرٍ:
من مسيلمة رَسُول اللَّهِ إلى مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ. سلام عليك، أما بعد، فإنّي قد أُشركت فِي الأمر معك، وإنّ لنا نِصْفَ الأرض، ولكنّ قريشًا قوم يعتدون.
فكتب إِلَيْهِ: " من مُحَمَّد رَسُول اللَّهِ إلى مسيلمة الكذّاب. سلام عَلَى من اتَّبع الْهُدَى، أما بعدُ، فإنّ الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين ".
-ثم قدم وفد طيئ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفيهم زَيْد الخيل سيّدهم. فأسلموا، وسمّاه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيد الخَيْر، وقطع لَهُ فَيْد وأَرَضِين، وخرج راجعًا إلى قومه.
فَقَالَ رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنْ يَنْجُ زيدٌ من حُمَّى المدينة ". فإنّه يُقَالُ قد سمّاها رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باسمٍ غيرَ الحمّى، فلم نُثْبِتْه. فلمّا انتهى من بلد نجد إلى ماء من مياهه، يقال له قردة، أصابته الحمّى فمات بها. قَالَ: فعمدت امرأته إلى ما معه من كتب فحرقتها.
وقال شعبة: حدثنا سماك بن حرب، قال: سَمِعْتُ عَبَّادَ بْنَ حُبَيْشٍ، يُحَدِّثُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، قَالَ: جَاءَتْ خَيْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا بِعَقْرَبٍ، فَأَخَذُوا عَمَّتِي وَنَاسًا. فَلَمَّا أَتَوْا بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، غَابَ الْوَافِدُ، وَانْقَطَعَ الولد، وَأَنَا عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ، فَمُنَّ عَلَيَّ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ. قَالَ: " مَنْ وَافِدُكِ؟ " قَالَتْ: عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. قَالَ: " الَّذِي فَرَّ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؟ " قَالَتْ: فَمُنَّ عَلَيَّ. وَرَجُلٌ إِلَى جَنْبِهِ تَرَاهُ عليا، فقال: سليه حملانا، فأمر لها به. قال: فَأَتَتْنِي، فَقَالَتْ: لَقَدْ فَعَلْتَ فَعْلةً مَا كَانَ أبوك يفعلها. ائته رَاغِبًا أَوْ رَاهِبًا، فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ، وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَأَصَابَ مِنْهُ.(1/460)
قَالَ عَدِيٌّ: فَأتَيْتُهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ امْرَأَةٌ وَصَبِيَّانِ؛ أَوْ صَبِيٌّ، فَذَكَرَ قُرْبَهُمْ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ مُلْكَ كِسْرَى وَلَا قَيْصَرَ، فَأَسْلَمْتُ. فَرَأَيْتُ وَجْهَهُ اسْتَبْشَرَ، وَقَالَ: " إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ الْيَهُودُ، وَالضَّالِّينَ النَّصَارَى ". وَذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ حُذَيْفَةَ، قَالَ رَجُلٌ: كُنْتُ أَسْأَلُ عَنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ وَهُوَ إِلَى جَنْبِي لا أَسْأَلُهُ. فَأَتَيْتُهُ، فَقَالَ: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَكَرِهْتُهُ أَشَدَّ مَا كَرِهْتُ شَيْئًا قَطُّ. فَخَرَجْتُ حَتَّى أَقْصَى أَرْضِ الْعَرَبِ مِمَّا يَلِي الرُّومَ. ثُمَّ كَرِهْتُ مَكَانِي فَقُلْتُ: لَوْ أَتَيْتُهُ وَسَمِعْتُ مِنْهُ. فَأَتَيْتُ إِلَى المدينة، فاستشرفني النَّاسَ؛ وَقَالُوا: جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ، جَاءَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ. فَقَالَ: يَا عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ. فَقُلْتُ: إِنِّي عَلَى دِينٍ. قَالَ: " أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ، أَلَسْتَ رَكُوسِيًّا؟ " قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " أَلَسْتَ تَرْأَسُ قَوْمَكَ؟ " قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " أَلَسْتَ تَأْخُذُ الْمِرْبَاعَ؟ " قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: " فَإِنَّ ذَلِكَ لا يَحِلُّ فِي دِينِك ". قَالَ: فَوَجَدْتُ بِهَا عَلَيَّ غَضَاضَةً. ثُمَّ قَالَ: " إِنَّهُ لَعَلَّهُ أَنْ يَمْنَعَكَ أَنْ تُسْلِمَ أَنْ تَرَى بِمَنْ عِنْدَنَا خَصَاصَةً، وَتَرَى النَّاسَ عَلَيْنَا إِلْبًا وَاحِدًا. هَلْ رَأَيْتَ الْحِيرَةَ؟ " قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَقَدْ عَلِمْتُ مَكَانَهَا. قَالَ: " فَإِنَّ الظَّعِينَةَ سَتَرْحَلُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِغَيْرِ جِوَارٍ، وَلَتُفْتَحَنَّ عَلَيْنَا كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ ". قُلْتُ: كنوز كسرى ابن هُرْمُزَ؟ قَالَ: " نَعَمْ، وَلَيَفِيضَنَّ الْمَالُ حَتَّى يُهِمَّ الرَّجُلُ مَنْ يَقْبَلُ مَالَهُ مِنْهُ صَدَقَةً ". قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الظَّعِينَةَ تَرْحَلُ مِنَ الْحِيرَةِ بِغَيْرِ جِوَارٍ، وَكُنْتُ فِي أَوَّلِ خَيْلٍ أَغَارَتْ عَلَى المدائن. ووالله لَتَكُونَنَّ الثَّالِثَةَ، إِنَّهُ لَحَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَوَى نَحْوَهُ هِشَامُ بْنُ حَسَّانٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي عبيدة.
وقال ابن إِسْحَاق: قدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرْوَةُ بْن مُسَيْك المرادي،(1/461)
مُفارِقًا لملوك كِنْدَة. فاستعمله النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مُرَادٍ وزُبَيْد ومَذْحِج كلها. وبعث معه عَلَى الصدقة خَالِد بْن سَعِيد بْن العاص، فكان معه حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ: وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد كِنْدَة، ثمانون راكبًا فيهم الأَشْعَث بْن قَيْس. فلمّا دخلوا عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ألم تُسلموا؟ قَالُوا: بلى. قَالَ: فما بَالُ هذا الحرير في أعناقكم؟ قال: فشقوه وألقوه.
قَالَ: وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صُرَد بْن عَبْد اللَّه الأَزْدِيّ فأسلم، في وفد من الأزد. فأمره عَلَى من أسلم من قومه، ليجاهد من يليه.
-إسلام مُلُوكِ اليمن
قَالَ: وقدِم عَلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابُ ملوكِ حِمْير؛ مَقْدَمَهُ من تَبُوك، ورسولهم إِلَيْهِ بإسلامهم: الحارث بْن عَبْد كُلَالٍ، ونُعَيْم بْن عَبْد كُلالٍ، والنُّعْمان قِيلَ ذِي رُعَيْن، ومَعَافِر، وهمْدان. وبعث إِلَيْهِ ذُو يَزَن، مالِكَ بْن مُرَّة الرُّهَاوِيّ بإسلامهم. فكتب إليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كتابًا يذكر فِيهِ فريضة الصدقة. وأرسل إليهم مُعَاذ بْن جَبَل في جماعة، وقال لهم: إني قد أرسلتُ إليكم من صالِحي أهلي، وَأُولِي دينهم وأولي علمهم، وآمركم بهم خيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَبِي إِسْحَاقَ السَّبِيعِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْبَرَاءِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - بعث خالد بن الوليد إلى أهل الْيَمَنِ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَام. قَالَ الْبَرَاءُ: فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ مَعَ خَالِدٍ، فَأَقَمْنَا سِتَّةَ أَشْهُرٍ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ فَلَمْ يُجِيبُوهُ. ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ عَلِيًّا - رضي الله عنه -، فأمره أن(1/462)
يقفل خالدا، إِلَّا رَجُلٌ كَانَ يَمَّمَ مَعَ خَالِدٍ أَحَبَّ أَنْ يُعَقِّبَ مَعَ عَلِيَّ فَلْيُعَقِّبْ مَعَهُ. فَكُنْتُ فِيمَنْ عَقَّبَ مَعَ عَلِيٍّ. فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنَ الْقَوْمِ خَرَجُوا إِلَيْنَا، فَصَلَّى بِنَا عَلِيٌّ، ثُمَّ صَفَّنَا صَفًّا وَاحِدًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ بَيْنَ أَيْدِينَا وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأسلمت همدان جمعا. فَكَتَبَ عَلِيٌّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسلامهم، فَلَمَّا قَرَأَ الْكِتَابَ خَرَّ سَاجِدًا ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: " السَّلَامُ عَلَى هَمْدَانَ، السَّلَامُ عَلَى همدان ". هذا حديث صحيح أخرج الْبُخَارِيُّ بَعْضُهُ بِهَذَا الْإِسْنَادِ.
وَقَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ: بَعَثَنِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَبْعَثُنِي وَأنَا شَابٌّ أَقْضِي بَيْنَهُمْ وَلَا عِلْمَ لِي بِالْقَضَاءِ؟ فَضَرَبَ بِيَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: " اللَّهُمَّ اهْدِ قَلْبَهُ وَثَبِّتْ لِسَانَهُ ". فَمَا شَكَكْتُ فِي قضاء بين اثنين. أخرجه ابن ماجه.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَطَاءٌ، عَنْ جَابِرٍ، أَنَّ عَلِيًّا قَدِمَ مِنَ الْيَمَنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الوداع. متفق عليه من حديث عطاء.
وَقَالَ شُعْبَةُ، وَغَيْرُهُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: " يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَمِنْ أَوْجُهٍ أُخَرَ بِأَطْوَلَ مِنْ هَذَا.
وَفِي " الصَّحِيحِ " لِلْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى أَرْضِ قومي. قال: فجئته وهو منيخ(1/463)
بالأبطح، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: " أَحَجَجْتَ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ؟ " قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: " كَيْفَ قُلْتُ؟ قال: " قُلْتُ: لَبَّيْكَ إِهْلَالًا كَإِهْلَالِكَ. فَقَالَ: " أَسُقْتَ هَدْيًا؟ " قُلْتُ: لَمْ أَسُقْ هَدْيًا. قَالَ: " فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَاسْعَ ثُمَّ حِلَّ ". فَفَعَلْتُ. وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
أما مُعاذ فالأَشْبَه أَنَّهُ لم يرجع من اليمن حَتَّى تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: هَذَا كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَنَا، الَّذِي كَتَبَهُ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ يُفَقِّهُ أَهْلَهَا وَيُعَلِّمُهُمُ السُّنَّةَ وَيَأْخُذُ صَدَقَاتِهِمْ، فَكَتَبَ لَهُ كِتَابًا وَعَهْدًا وَأَمَرَهُ فِيهِ أَمْرَهُ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. هَذَا كِتَابٌ من الله ورسوله. يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ. عَهْدًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ. أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ. فَإِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ. وأمره أن يأخذ الحق كَمَا أَمَرَهُ، وَأَنْ يُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْخَيْرِ، وَيَأْمُرَهُمْ بِهِ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ الْقُرآنَ، وَيُفَقِّهَهُمْ فِيهِ، وَلا يَمَسَّ الْقُرْآنَ أَحَدٌ إِلا وَهُوَ طَاهِرٌ، وَيُخْبِرَ النَّاسَ بِالَّذِي لَهُمْ، وَالَّذِي عَلَيْهِمْ، وَيَلِينَ لَهُمْ فِي الْحَقِّ، وَيَشْتَدَّ عَلَيْهِمْ فِي الظُّلْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَرَّهَ الظُّلْمَ وَنَهَى عَنْهُ، وَقَالَ: " أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ". وَيُبَشِّرَ النَّاسَ بِالْجَنَّةِ وَبِعَمَلِهَا، وَيُنْذِرَ النَّاسَ مِنَ النَّارِ وَعَمَلِهَا، وَيَسْتَأْلِفَ النَّاسَ حَتَّى يَفْقَهُوا فِي الدِّينِ، وَيُعَلِّمَ النَّاسَ مَعَالِمَ الْحَجِّ وَسُنَنَهِ وَفَرَائِضِهِ وَمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَالْحَجَّ الأَكْبَرَ وَالْحَجَّ الأَصْغَرَ، فَالْحَجُّ الأَصْغَرُ الْعُمْرَةُ. وَيَنْهَى النَّاسَ أَنْ يُصَلِّيَ الرَّجُلُ فِي ثوب واحد صغير، إِلا أَنْ يَكُونَ وَاسِعًا فَيُخَالِفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَيَنْهَى أَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَيُفْضِيَ إِلَى السَّمَاءِ بِفَرْجِهِ. وَلا يَعْقِدَ شَعْرَ رَأْسِهِ إِذَا عُفِيَ فِي قَفَاهُ. وَيَنْهَى النَّاسَ إِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ هَيْجٌ أَنْ يَدْعُوا إِلَى الْقَبَائِلِ وَالْعَشَائِرِ، وَلْيَكُنْ دُعَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ. فَمَنْ لَمْ يدع إلى الله عز وجل، ودعا إلى العشائر والقبائل فليعطفوا بِالسَّيْفِ حَتَّى يَكُونَ دُعَاؤُهُمْ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ. وَيَأْمُرَ النَّاسَ بِإِسْبَاغِ الْوُضُوءِ؛ وُجُوهَهُمْ وَأَيْدِيَهُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ، وَأَرْجُلَهُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وأن يمسحوا رؤوسهم كَمَا أَمَرَ اللَّهُ، وَأُمِرُوا بِالصَّلاةِ لِوَقْتِهَا، وَإِتْمَامِ الركوع(1/464)
وَالْخُشُوعِ، وَأَنْ يُغَلِّسَ بِالصُّبْحِ، وَيُهَجِّرَ بِالْهَاجِرَةِ حِينَ تَمِيلَ الشَّمْسُ، وَصلاةُ الْعَصْرِ وَالشَّمْسُ فِي الأَرْضِ مُدْبِرَةٌ، وَالْمَغْرِبَ حِينَ يَقْبَلُ اللَّيْلُ، لا تُؤَخَّرُ حَتَّى تَبْدُوَ النُّجُومُ فِي السَّمَاءِ، وَالْعِشَاءِ أَوَّلَ اللَّيْلِ. وَأَمَرَهُ بِالسَّعْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ إِذَا نُودِيَ بِهَا، وَالْغُسْلِ عِنْدَ الرَّوَاحِ إِلَيْهَا. وَأَمَرَهُ أَنْ يأخذ من المغانم خمس الله عز وجل، وَمَاَ كَتَبَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَةِ مِنَ الْعَقَارِ فِيمَا سَقَى الْغَيْلُ وَفِيمَا سَقَتِ السَّمَاءُ الْعُشْرَ، وَفِيمَا سَقَتِ الْغَرْبُ فَنِصْفَ الْعُشْرِ. ثُمَّ ذَكَرَ زَكَاةَ الإِبِلِ وَالْبَقَرِ، مُخْتَصَرًا.
قَالَ: وَعَلَى كُلِّ حَالِمٍ، ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ، مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، دِينَارٌ وَافٍ أَوْ عرضه من الثياب. فمن أدى ذلك كان لَهُ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، وَمَنْ مَنَعَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ عَدُوُّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ رَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حزم، عن أبيه، عن جده، نحو هذا الحديث موصولا؛ بزيادات كَثِيرَةٍ فِي الزَّكَاةِ، وَنَقْصٍ عَمَّا ذَكَرْنَا فِي السنن.
وقال أبو اليمان: حدثنا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ السَّكُونِيِّ: أَنَّ مُعَاذًا لَمَّا بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُوصِيهِ، وَمُعَاذٌ رَاكِبٌ وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْشِي تَحْتَ رَاحِلَتِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ: " يَا مُعَاذُ، إِنَّكَ عَسَى أَنْ لَا تَلْقَانِي بَعْدَ عَامِي هَذَا، وَلَعَلَّكَ أَنْ تَمُرَّ بِمَسْجِدِي وَقَبْرِي ". فَبَكَى مُعَاذٌ جَشَعًا لِفِرَاقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " لَا تَبْكِ يَا مُعَاذُ، الْبُكَاءُ مِنَ الشَّيْطَانِ ".
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْن الزُّبير قَالَ: لما قدِم وفد نَجْران عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخلوا عَلَيْهِ مسجده بعد العصر فحانت(1/465)
صلاتُهم، فقاموا يصلّون فِي مسجده، فأراد النّاس مَنْعَهم. فقال النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " دَعُوهم ". فاستقبلوا الْمَشْرِقَ فصلّوا صلاتهم.
وقال ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ، عَنْ ابن البَيْلَمانيّ، عَنْ كُرْز بْن علْقمة، قَالَ: قدِم عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفد نصارى نَجران؛ ستّون راكبًا، منهم أربعة وعشرون من أشرافهم، منهم: الْعَاقِبُ أمير القوم وذو رأيهم، صاحب مشورتهم، والذين لَا يصدرون إلّا عَنْ رأيه وأمره؛ واسمه عَبْد المسيح. والسيّد ثمِالُهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم؛ واسمه الأَيْهم. وأبو حارثة بْن علْقمة، أحد بَكْر بْن وائل؛ أَسْقُفُّهم وحَبْرهم وإِمامهم وصاحب مِدْراسهم.
وكان أَبُو حارثة قد شرُف فيهم ودرس كتبهم حتّى حسُن علمه فِي دينهم. وكانت ملوك الرُّوم من أهُل النصرانية قد شرّفوه وموّلوه وبنوا لَهُ الكنائس. فلمّا توجّهوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نَجران، جلس أَبُو حارثة عَلَى بَغْلةٍ لَهُ موجّهًا إِلَى رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وإلى جنبه أخٌ لَهُ؛ يقال لَهُ: كُرْز بْن عَلْقَمَة؛ يُسايِرُه، إذْ عَثَرت بغلة أَبِي حارثة، فقال لَهُ كُرز: تَعِس الأَبْعدُ؛ يريد رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ لَهُ أَبُو حارثة: بَلْ أنت تَعِسْتَ. فقال لَهُ: لِمَ يا أخي؟ فقال: والله إنه لَلنَّبيُّ الَّذِي كنّا ننتظره. قَالَ لَهُ كُرز: فما يمنعك وأنت تعلم هذا؟ قَالَ: ما صنع بنا هَؤُلَاءِ القوم؛ شرّفونا وموّلونا، وقد أَبَوْا إِلّا خِلَافَهُ، ولو فعلتُ نَزَعوا منّا كل ما ترى. فأَضْمَر عليها أخوه كُرز بْن علْقمة حتّى أسلم بعد ذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ مولى زيد بن ثابت، قال: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أَوْ عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اجْتَمَعَتْ نَصَارَى نَجْرَانَ وَأَحْبَارُ يَهُودَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَنَازَعُوا، فَقَالَتِ الْأَحْبَارُ: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ إِلَّا يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى: مَا كَانَ إِلا نصرانيا. فأنزل الله فيهم: " يا أهل الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التوراة والإنجيل إلا من بعده " الآيات.(1/466)
فَقَالَ أَبُو رَافِعٍ الْقُرَظِيُّ: أَتُرِيدُ مِنَّا يَا مُحَمَّدُ أَنْ نَعْبُدَكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى ابن مَرْيَمَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ نَجْرَانَ يُقَالُ لَهُ الرُّبَيْسُ: وَذَلِكَ تُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ وَإِلَيْهِ تَدْعُو؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ آمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ ". فَنَزَلَتْ " مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الكتاب والحكم " إلى قوله " من الشاهدين ". . . الآيات.
وَقَالَ إِسْرَائِيلُ وَغَيْرُهُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ صِلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَرَوَاهُ شُعْبَةُ، وَسُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ فَقَالَا حُذَيْفَةُ بَدَلَ ابْنِ مَسْعُودٍ: إِنَّ السَّيِّدَ وَالْعَاقِبَ أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَرَادَ أَنْ يُلَاعِنَهُمَا، فقال أحدهما لِصَاحِبِهِ: لَا تُلَاعِنْهُ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ كَانَ نَبِيًّا فلاعنته لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا. قالوا له: نعطيك ما سألت، فابعث معنا رجلا أمينا. ولا تبعث معنا إلا أمينا. فقال: " لأبعثن معكم رجلا أَمِينًا حَقَّ أَمِينٍ ". فَاسْتَشْرَفَ لَهَا أَصْحَابَهُ. فَقَالَ: " قُمْ، يَا أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ ". فَلَمَّا قَامَ قَالَ: " هَذَا أَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ ". أَخْرَجَهُ البخاري مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ.
وَقَالَ إِدْرِيسُ الْأَوْدِيُّ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى نَجْرَانَ. فقالوا فيما قالوا: أرأيت ما تقرؤون: " يَا أُخْتَ هَارُونَ " وَقَدْ كَانَ بَيْنَ عِيسَى وَمُوسَى مَا قَدْ عَلِمْتُمْ؟ قَالَ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْتُهُ، فَقَالَ: " أَفَلَا أَخْبَرْتَهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمَّوْنَ بِأَسْمَاءِ أَنْبِيَائِهِمْ وَالصَّالِحِينَ قَبْلَهُمْ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: بَعَثَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الآخَرِ، أَوْ جُمَادَى الأُولَى، سَنَةَ عَشْرٍ، إِلَى بَنِي الْحَارِثِ بْنِ كَعْبٍ بِنَجْرَانَ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، قَبْلَ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ، ثَلاثًا. فَخَرَجَ(1/467)
خَالِدٌ حَتَّى قَدِمَ عَلَيْهِمْ، فَبَعَثَ الرُّكْبَانَ يَضْرِبُونَ فِي كُلِّ وَجْهٍ وَيَدْعُونَ إِلَى الإِسْلامِ، وَيَقُولُونَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا. فَأَسْلَمَ النَّاسُ، فَأَقَامَ خالد يعلمهم الإسلام، وكتب إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك. ثم قدم وفدهم مع خَالِدٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْ أَعْيَانِهِمْ: قَيْسُ بْنُ الْحُصَيْنِ ذُو الْغُصَّةِ، وَيَزِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَدَانِ، وَيَزِيدُ بْنُ الْمُحَجَّلِ. قَالَ: فَأَمَّرَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَيْسًا.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ إِلَيْهِمْ، بَعْدَ أَنْ وَلَّى وَفْدَهُمْ، عَمْرُو بْنُ حَزْمٍ لِيُفَقِّهَهُمْ وَيُعَلِّمَهُمْ السنة، ويأخذ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ.
وفي عاشر ربيعٍ الأول تُوُفِّيَ إبراهيم ابن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ ابْنُ سنةٍ ونصفٍ. وغسّله الفضل بْن الْعَبَّاس. ونزل قبره الْفَضْلُ وأسامة بْن زيد فيما قِيلَ. وكان أبيض مسمَّنًا، كثير الشَّبَه بوالده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " وُلِدَ لِيَ اللَّيْلَةَ غُلَامٌ فَسَمَّيْتُهُ بأبي إبراهيم " ففيه دليل على تسمية الولد ليلية مولده. ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى أُمِّ سَيْفٍ؛ يَعْنِي امْرَأَةَ قَيْنٍ بِالْمَدِينَةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَيْفٍ. قَالَ أَنَسٌ: فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِابْنِهِ وَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَدَخَلَ فَدَعَا بِالصَّبِيِّ فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ.
قَالَ أَنَسٌ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ بَيْنَ يدي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَكيِدُ بِنَفْسِهِ، فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: " تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرضِي الرَّبَّ. وَاللَّهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنَّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَالْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ الْبَرَاءِ، قَالَ: لما توفي إبراهيم ابن رَسُولُ اللَّهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن له مرضعا تتم رضاعه في الجنة ". أخرجه البخاري.(1/468)
وقال جَعْفَر بْن مُحَمَّد الصادق، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلَّى عَلَى ابنه إِبْرَاهِيم حين مات.
وفيها: مات أَبُو عامر الراهب، الَّذِي كَانَ عند هرقل عظيم الرُّوم.
وفيها: ماتت بُوران بِنْت كسرى ملكة الفرس، وملّكوا بعدها أختها آزرمن. قاله أَبُو عُبَيْدة.
وفي أواخر ذي القعدة: وُلد مُحَمَّد بْن أَبِي بَكْر الصدّيق، ولدته أسماء بِنْت عُمَيْس، بذي الحُلَيْفة، وهي مَعَ النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَيْنَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَوَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: " اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِري بِثَوْبٍ وَأَحْرِمِي ".
وفيها: وُلد مُحَمَّد بْن عَمْرو بْن حزم، بنَجْران، وأبوه بها.
-حجَّةُ الودَاع
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: أَذَّنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الناس بالحج، فاجتمع فِي الْمَدِينَةِ بَشَرٌ كَثِيرٌ. فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقِعْدَةِ، أَوْ لِأَرْبَعٍ، فَلَمَّا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَلَدَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَيْفَ أَصْنَعُ؟ فَقَالَ: " اغْتَسِلِي وَاسْتَثْفِرِي بِثَوْبٍ ". وَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَسْجِدِ، وَرَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، فَنَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي، بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلُ ذَلِكَ. فَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوْحِيدِ، وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهَذَا الَّذِي يُهِلُّونَ بِهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْهُ. وَلَزِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَلْبِيَتَهُ. وَلَسْنَا نَنْوِي إِلا الْحَجَّ، لسنا نعرف العمرة، حتى أَتَيْنَا الْبَيْتَ مَعَهُ(1/469)
اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَرَمَلَ ثَلاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَى مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ فَقَرَأَ: " وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى " فَجَعَلَ الْمَقَامَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ.
قَالَ جَعْفَرٌ: فَكَانَ أَبِي يَقُولُ: - لا أَعْلَمُهُ ذَكَرَهُ إِلا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ " قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد " و " قل يا أيها الكافرون " ثم رجع إلى الْبَيْتَ فَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الْبَابِ إِلَى الصَّفَا، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنَ الصَّفَا قَرَأَ: " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ "، أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ، فَبَدَأَ بِالصَّفَا فَرَقِيَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا رَأَى الْبَيْتَ فَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَقَالَ: " لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ ". ثُمَّ دَعَا بَيْنَ ذَلِكَ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ نَزَلَ إِلَى الْمَرْوَةِ، حَتَّى إِذَا انْصَبَّتْ قَدَمَاهُ رَمَلَ فِي بَطْنِ الْوَادِي، حَتَّى إِذَا صَعِدَ مَشَى حَتَّى أَتَى الْمَرْوَةَ، فَعَلا عَلَيْهَا وَفَعَلَ كَمَا فَعَل عَلَى الصَّفَا. فَلَمَّا كَانَ آخِرُ الطَّوَافِ عَلَى الْمَرْوَةِ قَالَ: " إِنِّي لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الْهَدْيَ وَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً. فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ لَيْسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحْلِلْ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً ". فَحَلَّ النَّاسُ كُلُّهُمْ وَقَصَّرُوا، إِلا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ.
فَقَامَ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ بْنِ جُعْشُمٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله ألعامنا هذا أم لِلأَبَدِ؟ قَالَ: فَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ وَقَالَ: " دَخَلَتِ الْعُمْرَةُ في الْحَجِّ هَكَذَا مَرَّتَيْنِ، لا؛ بَلْ لأَبَدِ الأَبَدِ ".
وَقَدِمَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ الْيَمِن بِبُدْنٍ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَوَجَدَ فَاطِمَةَ مِمَّنْ حَلَّ وَلَبِسَتْ ثِيَابًا صَبِيغًا وَاكْتَحَلَتْ، فَأَنْكَرَ عَلَيْهَا. فَقَالَتْ: أَبِي أَمَرَنِي بِهَذَا. فَكَانَ عَلِيٌّ يَقُولُ بِالْعِرَاقِ: فَذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَرِّشًا بِالَّذِي صَنَعْتُهُ، مُسْتَفْتِيًا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: " صَدَقَتْ، صَدَقَتْ. مَاذَا قُلْتَ حِينَ فَرَضْتَ الْحَجَّ؟ " قَالَ: قُلْتُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أُهِلُّ بِمَا أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ. قَالَ: " فَإِنَّ مَعِي الْهَدْيَ فَلا تَحْلِلْ ". قَالَ: فَكَانَ الْهَدْيُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ، وَالْهَدْيُ الَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْمَدِينَةِ مِائَةٍ. ثُمَّ حَلَّ النَّاسُ وَقَصَّرُوا، إِلا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ مَعَهُ هَدْيٌ.(1/470)
فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ وَجَّهُوا إِلَى مِنًى، أَهَلُّوا بِالْحَجِّ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّى بِمِنًى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ. ثُمَّ مَكَثَ قَلِيلا حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وَأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةٍ، فَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلا تَشُكُّ قُرَيْشٌ إِلا أَنَّهُ وَاقِفٌ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، كَمَا كَانَتْ قُرَيْشٌ تَصْنَعُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ، فَوَجَدَ الْقُبَّةَ فَنَزَلَ بِهَا، حَتَّى إِذَا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بِالْقَصْوَاءِ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى بَطْنَ الْوَادِي، فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: " إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا. أَلا وَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ، وَدِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ. وَأَوَّلَ دَمٍ أَضَعُهُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ؛ كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ. وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ موضوع كله، فاتقوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ مَنْ تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ. وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ. وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ؛ كتاب الله تعالى. وأنتم مسؤولون عَنِّي، فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قَالُوا: نَشْهَدُ أَنْ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ. فَقَالَ: بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يرفعها إلى السماء وينكبها إِلَى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ؛ ثَلاثَ مَرَّاتٍ. ثُمَّ أَذَّن بِلالٌ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَقَامَ فَصَلَّى الْعَصْرَ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى أَتَى الْمَوْقِفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ ناقته إلى الصخرات، وجعل حبل الْمُشَاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَذَهَبَتِ الصُّفْرَةُ قَلِيلا حِينَ غَابَ الْقُرْصُ، وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ خَلْفَهُ فَدَفَعَ وَقَدْ شَنَقَ لِلْقَصْوَاءِ الزِّمَامَ، حَتَّى إِنَّ رَأْسَهَا لَيُصِيبُ مَوْرِكَ رَحْلِهِ، وَيَقُولُ بِيَدِهِ: أَيُّهَا النَّاسُ، السَّكِينَةَ السَّكِينَةَ، كُلَّمَا أَتَى حَبْلا مِنَ الْحِبَالِ أَرْخَى لَهَا(1/471)
قَلِيلا حَتَّى تَصْعَدَ. حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ، فَصَلَّى بِهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شَيْئًا. ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ لَهُ الصُّبْحُ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ. ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَرَقِيَ عَلَيْهِ فَحَمِدَ اللَّهَ وَكَبَّرَهُ وَهَلَّلَهُ. فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَأَرْدَفَ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ، وَكَانَ رَجُلا حَسَنَ الشَّعْرِ وَسِيمًا. فَلَمَّا دَفَعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ الظُّعُنُ يَجْرِينَ، فَطَفِقَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهِنَّ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ، فَصَرَفَ الْفَضْلُ وَجْهَهُ مِنَ الشِّقِّ الآخَرِ، فَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَهُ عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ. حَتَّى إِذَا أَتَى مُحَسِّرًا حَرَّكَ قَلِيلا، ثُمَّ سَلَكَ الطَّرِيقَ الْوُسْطَى الَّتِي تُخْرِجُكَ عَلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى، حَتَّى أَتَى الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ المسجد، فرمى بسبع حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْهَا مِثْلَ حَصْيِ الْخَذْف رَمَى مِنْ بَطْنِ الْوَادِي. ثُمَّ انْصَرَفَ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثَلاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، وَأَعْطَى عَلِيًّا، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فَنَحَرَ مَا غَبَرَ وَأَشْرَكَهُ فِي هَدْيِهِ. ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، وَطُبِخَتْ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا.
ثُمَّ أَفَاضَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْبَيْتِ، فَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى عَلَى بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَسْقُونَ مِنْ بِئْرِ زَمْزَمَ، فَقَالَ: " انْزِعُوا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَلَوْلَا أَنْ يغلبكم النَّاسُ عَلَى سِقَايَتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ ". فَنَاوَلُوهُ دَلْوًا فَشَرِبَ مِنْهُ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ، دُونَ قَوْلِهِ: يُحْيِي وَيُمِيتُ.
وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي حَسَّانَ الْأَعْرَجِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ أَشْعَرَ بُدْنَةً مِنْ جَانِبِ سَنَامِهَا الْأَيْمَنِ، ثُمَّ سَلَتَ عَنْهَا الدَّمَ، وَأَهَلَّ بِالْحَجِّ. أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ، حَدَّثَنِي قُدَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ؛ وَفِي رِوَايَةٍ صَهْبَاءَ؛ لَا ضَرْبَ وَلَا(1/472)
طَرْدَ وَلَا إِلَيْكَ إِلَيْكَ. حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ ثور بن يزيد، عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ لُحَيٍّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " أَفْضَلُ الْأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ، يَسْتَقِرُّ فِيهِ النَّاسُ، وَهُوَ الَّذِي يَلِي يَوْمَ النَّحْرِ ".
قُدِّمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَدَنَاتٌ، خَمْسٌ أَوْ سِتٌّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قَالَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَلِمَةً خَفِيَّةً لَمْ أَفْهَمْهَا، فَقُلْتُ لِلَّذِي إِلَى جَنْبِي: مَا قَالَ؟ قَالَ: قَالَ: " مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ ". حَدِيثٌ حَسَنٌ.
وَقَالَ هِشَامٌ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَنْزِلِهِ بِمِنًى، فَذَبَحَ، ثم دعا بالحلاق فأخذ بشق رأسه الأيمن فحلقه، فجعل يقسمه الشعرة والشعرتين، ثم أخذ بشق رأسه الأيسر فحلقه، ثم قال: ها هنا أَبُو طَلْحَةَ؟ فَدَفَعَهُ إِلَى أَبِي طَلْحَةَ. رَوَاهُ مسلم.
وقال أبان العطار، حدثنا يحيى، قال: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ، أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ حَدَّثَهُ، أَنَّ أَبَاهُ شَهِدَ الْمَنْحَرَ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَسَمَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَلَمْ يُصِبْهُ وَلا رَفِيقَهُ. قَالَ: فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأْسُهُ فِي ثَوْبِهِ فَأَعْطَاهُ، فَقَسَمَ مِنْهُ عَلَى رِجَالٍ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ فَأَعْطَى صَاحِبَهُ. فَإِنَّهُ لَمَخْضُوبٌ عِنْدَنَا بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ.
وَقَالَ علي بن الجعد: حدثنا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ وَقَطِيفَةً تُسَاوِي، أو لا(1/473)
تُسَاوِي، أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ. وَقَالَ: " اللَّهُمَّ حِجَّةً لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةً ". يَزِيدُ ضَعِيفٌ.
وَقَالَ أَبُو عُمَيْسٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ إِلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ". فَقَالَ: إِنِّي لأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ: نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِعَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَمَّارِ بْنِ أَبِي عَمَّارٍ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِنْدَهُ يَهُودِيٌّ، فَقَرَأَ: " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ " الآيَةَ. فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: لَوْ أُنْزِلَتْ عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا يَوْمَهَا عِيدًا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي يَوْمِ عِيدٍ؛ يَوْمَ جُمُعَةٍ، يَوْمَ عَرَفَةَ. صحيح على شرط مسلم.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْج، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا يَقُولُ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْمِي الْجَمْرَةَ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، وَيَقُولُ: " خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: حدثني أبي، عن ثَوْرُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: " إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ بِأَرْضِكُمْ، وَلَكِنَّهُ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا تُحَاقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَاحْذَرُوهُ. أَيُّهَا النَّاسُ: إِنِّي قَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا أَبَدًا، كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ. إِنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ أَخُو الْمُسْلِمِ، الْمُسْلِمُونَ إِخْوَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَلَا تَظْلِمُوا، وَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ ".(1/474)
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: وَكَانَ رَبِيعَةُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيُّ هُوَ الَّذِي يَصْرُخُ يَوْمَ عَرْفَةَ تَحْتَ لُبَّةِ نَاقَةِ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ لَهُ: " اصْرُخْ: أَيُّهَا النَّاسُ " - وَكَانَ صَيِّتًا - " هَلْ تَدْرُونَ أَيَّ شَهْرٍ هَذَا؟ " فَصَرَخَ، فَقَالُوا: نَعَمْ، الشَّهْرُ الْحَرَامُ. قَالَ: " فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ إِلَى أَنْ تَلْقَوْا رَبَّكُمْ كَحُرْمَةِ شَهْرِكُمْ هَذَا ". وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ، مِنْ حَدِيثِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْهُ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَرَادَ أَنْ يَنْفِرَ مِنْ مِنًى قَالَ: " إِنَّا نَازِلُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِالْمُحَصَّبِ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ ".
وذلك أنّ قريشًا تقاسموا عَلَى بني هاشم وعلى بني المطّلب أنَّ لَا يناكحوهم ولا يخالطوهم حتّى يسلّموا إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. اتّفقا عَلَيْهِ.
وقال أَفْلَح بْن حُمَيْد، عَنِ القاسم، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ليالي الحج. قَالَتْ: فلمّا تفرّقنا من مِنًى نزلنا المحصَّبَ. وذكر الحديث. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَزَا تسع عشرة غزوة، وحج بعد ما هاجر حجة الوداع، لم يَحِجَّ بَعْدَهَا.
قَالَ أَبُو إِسْحَاق من قِبَلِهِ: وواحدة بمكة. اتّفقا عَلَيْهِ.
ويُروى عَنِ ابن عَبَّاس أَنَّهُ كَانَ يكره أنَّ يقال: حجّة الوداع، ويقول: حجّة الْإِسْلَام.
وقال زيد بْن الحباب: حدثنا سُفْيَان، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَابِرٍ: أَنّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حجّ ثلاث حجج قبل أنَّ يهاجر، وحجة بعد ما هاجر معها عُمرة، وساق ستًّا وثلاثين بُدنة، وجاء عليٌّ بتمامها من اليمن، فيها جملٌ لأبي جهلٍ فِي أنفه بُرَةٌ من فِضَّةٍ، فنحرها رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.(1/475)
تفرد به زيد. وقيل: إنه أخطأ، وإنما يُروى عَنْ سُفْيَان، عَنْ أَبِي إِسْحَاق، عَنْ مجاهد؛ مرسلًا.
قَالَ أَبُو بَكْر البيهقيّ: قوله: " وحجَّةٌ معها عمرةٌ " فإنما يَقُولُ ذَلِكَ أنس - رضي الله عنه -، ومن ذهب من الصّحابة إلى أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَن، فأما من ذهب إلى أَنَّهُ أَفْرد، فإنه لَا يكاد تصح عنده هذه اللفظة لِما فِي إسناده من الاختلاف وغيره.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلاثَ حِجَجٍ؛ حَجَّتَيْنِ وَهُوَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَحَجَّةَ الْوَدَاعِ، والله أعلم.
وفي آخر السنة: كَانَ ظهور الأَسْوَد العنسي، وسيأتي ذكره.(1/476)
-سَنَة إحدى عشرة
-سَرِيّة أُسَامَةَ
فِي يوم الإثنين؛ لأربعٍ بَقِينَ من صَفَر.
ذكر الواقديّ أنهم قَالُوا: أمر النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالتَّهيُّؤ لغزْو الرّوم. ودعا أُسَامة بْن زيْد، فقال: سِرْ إلى موضع مقتل أبيك، فأَوْطِئْهم الْخَيْلَ، فقد وَلَّيْتُك هذا الجيش. فأَغِرْ صباحًا عَلَى أهُل أُبنى، وأسرع السَّيْر، تسبق الأخبار. فإن ظفرتَ فأقْلِلْ اللَّبْث فيهم، وقَدِّم العيون والطلائع أمامك.
فلمّا كَانَ يوم الأَرْبِعاء، بدئ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعُهُ. فحُمَّ وصُدِّع. فلمّا أصبح يوم الخميس، عَقَد لأسامة لواءً بيده، فخرج بلوائه مَعْقودًا؛ يعني أسامة. فدفعهُ إلى بُرَيْدة بْن الحُصَيْب الأَسْلَميّ، وعسكر بالجرف. فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلّا انْتَدَب فِي تِلْكَ الغزوة؛ فيهم أَبُو بَكْر، وعمر، وأبو عُبَيْدة.
فتكلّم قوم وقَالُوا: يستعمل هذا الغلام عَلَى هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، وَغَيْرُهُ، عَنْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دِينَارٍ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُسَامَةَ، فَطَعَنَ النَّاسُ فِي إِمَارَتِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنْ يَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنُوا فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ. وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلْإِمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ. وَإِنَّ ابْنَهُ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ بَعْدَهُ ". مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
قَالَ شَيبان، عَنْ قَتَادَة: جميع غزوات النّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وسراياه: ثلاثٌ وأربعون.
ثمّ دخل شهر ربيع الأول. وبدخوله تَكَمَّلت عشر سنين من التاريخ للهجرة النبوية. والحمد لله وحده.(1/477)
"صفحة فارغة"(1/478)
- (الترجمة النبوية)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
-ذِكْرُ نَسَبِ سَيِّدِ الْبَشَرِ [المتوفى: 11 ه]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أَبُو القاسم سيّد المرسلين وخاتم النّبيّين
هُوَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَاسْمُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ شَيْبَةُ بْنُ هَاشِمٍ وَاسْمُهُ عَمْرُو، بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ، بْنُ قُصَيٍّ وَاسْمُهُ زَيْدُ، بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بن فهر بن مالك ابن النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ، وَاسْمُهُ عَامِرُ، بْنُ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ، وَعَدْنَانُ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى نَبِيِّنَا وَسَلَّمَ، بِإِجْمَاعِ النَّاسِ.
لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ مِنَ الْآبَاءِ، فَقِيلَ: بَيْنَهُمَا تِسْعَةُ آبَاءٍ، وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، وَقِيلَ: مِثْلُ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ. لَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَسْمَاءِ بَعْضِ الْآبَاءِ، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ أَبًا، وَقِيلَ: بَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ أَبًا وَهُوَ بَعِيدٌ، وَقَدْ وَرَدَ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْعَرَبِ ذَلِكَ.
وَأَمَّا عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: مَا وَجَدْنَا مَنْ يَعْرِفُ مَا وَرَاءَ عَدْنَانَ وَلَا قَحْطَانَ إِلَّا تَخَرُّصًا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَيْنَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ وَبَيْنَ إِسْمَاعِيلَ ثَلَاثُونَ أَبًا، قاله(1/479)
هِشَامُ بْنُ الْكَلْبِيِّ النَّسَّابَةُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَلَكِنْ هِشَامٌ وَأَبُوهُ مَتْرُوكَانِ.
وَجَاءَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إِذَا انْتَهَى إلى عدنان أمسك ويقول: " كذب السّابون " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ".
وَقَالَ أَبُو الْأَسْوَدِ يَتِيمُ عُرْوَةَ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ، وَكَانَ مِنْ أَعْلَمِ قُرَيْشٍ بِأَنْسَابِهَا وَأَشْعَارِهَا يَقُولُ: مَا وَجَدْنَا أَحَدًا يَعْلَمُ مَا وَرَاءَ مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ فِي شِعْرِ شَاعِرٍ وَلَا عِلْمِ عَالِمٍ.
قال هشام ابن الْكَلْبِيِّ: سَمِعْتُ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ مَعَدًّا كَانَ على عهد عيسى ابن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونَ الْأَوْدِيُّ إِذَا تَلَوْا: " وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلا اللَّهُ " قالوا: كذب النّسّابون، قال أبو عمر: ومعنى هَذَا عِنْدَنَا عَلَى غَيْرِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى فِيهَا -وَاللَّهُ أَعْلَمُ -: تَكْذِيبُ مَنِ ادَّعَى إِحْصَاءَ بَنِي آدَمَ.
وَأَمَّا أَنْسَابُ الْعَرَبِ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ بِأَيَّامِهَا وَأَنْسَابِهَا قَدْ وَعَوْا وَحَفِظُوا جَمَاهِيرَهَا وَأُمَّهَاتِ قَبَائِلِهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي بَعْضِ فُرُوعِ ذَلِكَ.
وَالَّذِي عَلَيْهِ أَئِمَّةُ هَذَا الشَّأْنِ أَنَّهُ: عَدْنَانُ بْنُ أُدَدِ بْنِ مُقَوِّمِ بْنِ نَاحُورَ بْنِ تَيْرَحِ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ يَشْجُبَ بْنِ نَابِتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ ابن آزر، واسمه تارح بن ناحور بن ساروح بن راعو بْنِ فَالَخَ بْنِ عَيْبَرَ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بن لامك بْنِ مَتُّوشَلَخَ بْنِ خَنُوخَ، وَهُوَ إِدْرِيسُ عَلَيْهِ السلام، بن يَرْدَ بْنِ مِهْلِيلَ بْنِ قَيْنَنَ بْنِ يَانِشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ أَبِي الْبَشَرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: وَهَذَا الَّذِي اعْتَمَدَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ فِي السِّيرَةِ، وَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُ ابْنِ إِسْحَاقَ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَسْمَاءِ.(1/480)
قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: الْأَمْرُ عِنْدَنَا الْإِمْسَاكُ عَمَّا وَرَاءَ عَدْنَانَ إِلَى إِسْمَاعِيلَ.
وَرَوَى سَلَمَةُ الْأَبْرَشُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ هَذَا النَّسَبَ إِلَى يَشْجُبَ سواء، ثم خالفه فقال: يشجب بن يامين بن صاتوح بن نبت بْنِ الْعَوَّامِ بْنِ قِيذَارَ بْنِ نَبْتِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ.
وَقَالَ ابن إسحاق: يذكرون أن عمر إسماعيل عليه السلام مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً، وَأَنَّهُ دُفِنَ فِي الْحِجْرِ مَعَ أُمِّهِ هَاجَرَ.
وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ هِشَامٍ: حَدَّثَنِي خَلَّادُ بْنُ قُرَّةَ بْنِ خَالِدٍ السَّدُوسِيُّ، عَنْ شَيْبَانَ بْنِ زُهَيْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ أَشْرَعَ بْنِ أَرْغُو بْنِ فَالَخَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالَخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لَامَكَ بْنِ متّوشلخ بن هنوخ بن يرد بن مهلاييل بن قانن بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ.
وَرَوَى عَبْدُ الْمُنْعِمِ بْنُ إِدْرِيسَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّهُ وَجَدَ نَسَبَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي التَّوْرَاةِ: إِبْرَاهِيمُ بْنُ تَارَحَ بْنِ نَاحُورَ بْنِ شَرْوَغَ بْنِ أَرْغُو بْنِ فَالَغَ بْنِ عَابِرِ بْنِ شَالِخَ بْنِ أَرْفَخْشَذَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحِ بْنِ لَمَّكَ بْنِ متشالخ بن خنوخ وهو إرديس بْنُ يَارَدَ بْنِ مِهْلَايِيلَ بْنِ قَيْنَانَ بْنِ أَنُوشَ بْنِ شِيثَ بْنِ آدَمَ.
وَقَالَ ابْنُ سعد: حدثنا هشام ابن الْكَلْبِيِّ قَالَ: عَلَّمَنِي أَبِي وَأَنَا غُلَامٌ نَسَبَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحَمَّدٍ، الطَّيِّبِ الْمُبَارَكِ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، واسمه شيبة الحمد، بْنُ هَاشِمٍ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَاسْمُهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ قُصَيٍّ، وَاسْمُهُ زَيْدُ بْنُ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بن إلياس بن مُضَر بن نِزار بن مَعَدِّ بْنِ عَدْنَانَ.
قَالَ أَبِي: وَبَيْنَ مَعَدٍّ وَإِسْمَاعِيلَ نَيِّفٌ وَثَلَاثُونَ أَبًا، وَكَانَ لَا يُسَمِّيهِمْ ولا(1/481)
يُنْفِذُهُمْ.
قُلْتُ: وَسَائِرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ أَعْجَمِيَّةٌ، وَبَعْضُهَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ بِالْخَطِّ إِلَّا تَقْرِيبًا.
وَقَدْ قيل في قوله تعالى: " وفصيلته التّي تؤويه ": فَصِيلَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَعْمَامُهُ وَبَنُو أَعْمَامِهِ، وَأَمَّا فَخِذُهُ فَبَنُو هَاشِمٍ قَالَ: وَبَنُو عَبْدِ مَنَافٍ بَطْنُهُ، وَقُرَيْشٌ عِمَارَتُهُ، وَبَنُو كِنَانَةَ قَبِيلَتُهُ. وَمُضَرُ شَعْبُهُ.
قال الأوزاعيّ: حدّثني شدّاد أبو عمّار، قال: حَدَّثَنِي وَاثِلَةُ بْنُ الْأَسْقَعِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ اصطفى كِنَانَةَ مَنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ، وَاصْطَفَى قُرَيْشًا مِنْ كِنَانَةَ، وَاصْطَفَى هَاشِمًا مِنْ قُرَيْشٍ، وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ " رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَأُمُّهُ آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ، فَهِيَ أَقْرَبُ نَسَبًا إِلَى كِلَابٍ مِنْ زوجها عبد الله برجل.
-مولده المبارك
أخبرنا أبو المعالي أحمد بن إسحاق، قال: أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي الْفَتْحِ، وَالْفَتْحُ بْنُ عَبْدِ الله قالا: أخبرنا محمد بن عمر الفقيه، قال أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد ابن النّقّور، قال: أخبرنا عليّ بن عمر الحربيّ، قال: حدثنا أحمد بن الحسن الصّوفيّ، قال: حدثنا يحيى بن معين، قال: حدثنا حجّاج بن محمد، قال: حدثنا يُونُسُ بْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - ولد عام الْفِيلِ. صَحِيحٌ.
وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي الْمُطَّلِبُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ،(1/482)
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بن عبد الْمُطَّلِبِ قَالَ: وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عام الفيل. كنا لدين. أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ المنذر الحزاميّ: حدثنا سُلَيْمَانُ النَّوْفَلِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ، وَكَانَتْ عُكَاظُ بَعْدَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ، وَبُنِيَ الْبَيْتُ عَلَى رَأْسِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ. وَتَنَبَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ.
وَقَالَ شباب العصفريّ: حدثنا يحيى بن محمد، قال: حدثنا عبد العزيز بن عمران، قال حَدَّثَنِي الزُّبَيْرُ بْنُ مُوسَى، عَنْ أَبِي الْحُوَيْرِثِ، قال: سَمِعْتُ قِبَاثَ بْنَ أَشْيَمَ يَقُولُ: أَنَا أَسَنُّ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَكْبَرُ مِنِّي، وَقَفَتْ بِي أُمِّي عَلَى رَوَثِ الْفِيلِ مُحِيلًا أَعْقِلُهُ، وَوُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ.
يَحْيَى هُوَ أَبُو زُكَيْرٍ، وَشَيْخُهُ مَتْرُوكُ الْحَدِيثِ.
وَقَالَ موسى بن عقبة، عن ابن شهاب قال: بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى رَأْسِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ بُنْيَانِ الكعبة، وكان بين مَبْعَثِهِ وَبَيْنَ أَصْحَابِ الْفِيلِ سَبْعُونَ سَنَةً. كَذَا قَالَ.
وَقَدْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ وَغَيْرُهُ: هَذَا وَهْمٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَائِنَا. إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ وَبُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً مِنَ الْفِيلِ.
وَقَالَ يَعْقُوبُ الْقُمِّيُّ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي الْمُغِيرَةِ، عَنِ ابْنِ أَبْزَى قَالَ: كَانَ بَيْنَ الْفِيلِ وَبَيْنَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَشْرُ سِنِينَ. وَهَذَا قَوْلٌ مُنْقَطِعٌ.
وَأَضْعَفُ مِنْهُ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بن أبي شيبة، وهو ضعيف قال: حدثنا عقبة بن مكرم، قال: حدثنا الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ(1/483)
شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: حُمِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عَاشُورَاءَ الْمُحَرَّمِ، وَوُلِدَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ غَزْوَةِ أَصْحَابِ الْفِيلِ. وَهَذَا حَدِيثٌ سَاقِطٌ كَمَا تَرَى.
وَأَوْهَى مِنْهُ مَا يُرْوَى عَنِ الْكَلْبِيِّ - وَهُوَ مُتَّهَمٌ سَاقِطٌ - عَنْ أَبِي صَالِحٍ بَاذَامَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَ الْفِيلِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُبَيِّنُ كَذِبَ هَذَا الْقَوْلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِإِسْنَادٍ صحيح.
قال خليفة بن خيّاط: المجتمع عَلَيْهِ أَنَّهُ وُلِدَ عَامَ الْفِيلِ.
وَقَالَ الزُّبَيْرُ بن بكّار: حدثنا مُحَمَّدُ بْنُ حَسَنٍ، عَنْ عَبْدِ السَّلَامِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مَعْرُوفِ بْنِ خَرَّبُوذَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالُوا: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الْفِيلِ، وَسُمِّيَتْ قُرَيْشٌ " آلَ اللَّهِ " وَعَظُمَتْ فِي الْعَرَبِ، وُلِدَ لاثنتي عشرة ليلة مضت من ربيع الأول وَقِيلَ: مِنْ رَمَضَانَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ.
وَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيُّ: سَأَلَ أَعْرَابِيٌّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا تَقُولُ فِي صَوْمِ يَوْمِ الْإِثْنَيْنِ؟ قَالَ: " ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَفِيهِ أُوحِيَ إِلَيَّ ". أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْوَقَّاصِيُّ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَغَيْرُهُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُلِدَ فِي لَيْلَةِ الاثْنَيْنِ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ عِنْدَ ابْهِرَارِ النَّهَارِ.
وَرَوَى ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي صَالِحُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مَنْ شِئْتُ مِنْ رِجَالِ قَوْمِي، عَنْ حَسَّانِ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: إِنِّي - والله - لَغُلَامٌ يَفَعَةٌ، إِذْ سَمِعْتُ يَهُودِيًّا وَهُوَ عَلَى أطمه بيثرب يَصْرُخُ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ قَالُوا: وَيْلَكَ مَا لَكَ؟ قَالَ: طَلَعَ نَجْمُ أَحْمَدَ الَّذِي يُبْعَثُ بِهِ(1/484)
اللَّيْلَةَ.
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم الإثنين ونبئ يوم الإثنين. وخرج من مَكَّةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وفتح مكة يوم الإثنين، ونزلت سورة المائدة يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ. رَوَاهُ أَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ، وَأَخْرَجَهُ الْفَسَوِيُّ فِي تَارِيخِهِ.
وَقَالَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الدِّمْيَاطِيُّ فِي السِّيرَةِ مِنْ تَأْلِيفِهِ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ لِعَشْرِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ، وَكَانَ قُدُومُ أَصْحَابِ الْفِيلِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي النِّصْفِ مِنَ الْمُحَرَّمِ.
وَقَالَ أَبُو مَعْشَرٍ نَجِيحٌ: وُلِدَ لِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ.
قَالَ الدِّمْيَاطِيُّ: وَالصَّحِيحُ قَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ، قَالَ: وَيُقَالُ: إِنَّهُ وُلِدَ فِي الْعِشْرِينَ مِنْ نَيْسَانَ.
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ الْحَاكِمُ: وُلِدَ بَعْدَ الْفِيلِ بِثَلَاثِينَ يَوْمًا. قَالَهُ بَعْضُهُمْ: قَالَ: وَقِيلَ بَعْدَهُ بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا.
قُلْتُ: لَا أُبْعِدُ أَنَّ الْغَلَطَ وَقَعَ مِنْ هُنَا عَلَى مَنْ قَالَ ثَلَاثِينَ عَامًا أَوْ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ يَوْمًا فَقَالَ عَامًا.
وَقَالَ الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ شُعَيْبِ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عن ابن عباس: أَنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ خَتَنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ سَابِعِهِ، وَصَنَعَ لَهُ مَأْدُبَةً وَسَمَّاهُ مُحَمَّدًا.
وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا رَوَاهُ ابْنُ سعد: أخبرنا يونس بن عطاء المكّي، قال: حدثنا الحكم بن أبان العدني، قال: حدثنا عِكْرِمَةُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ أَبِيهِ الْعَبَّاسِ قَالَ: وُلِدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَخْتُونًا مَسْرُورًا، فَأَعْجَبَ ذَلِكَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ وَحَظِيَ عِنْدَهُ وَقَالَ: لَيَكُونَنَّ لِابْنِي هَذَا شَأْنٌ.(1/485)
تَابَعَهُ سُلَيْمَانُ بْنُ سَلَمَةَ الْخَبَائِرِيُّ، عَنْ يُونُسَ، لَكِنْ أَدْخَلَ فِيهِ بَيْنَ يُونُسَ وَالْحَكَمِ: عُثْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الصُّدَائِيَّ.
قَالَ شَيْخُنَا الدِّمْيَاطِيُّ: وَيُرْوَى عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَتَنَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا طَهَّرَ قَلْبَهُ.
قُلْتُ: هَذَا مُنْكَرٌ.
-أَسْمَاءُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكُنْيَتُهُ
الزُّهْرِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " إِنَّ لِي أَسْمَاءً: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِيَ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمَيَّ، وَأَنَا الْعَاقِبُ " قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَالْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ. مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: وَقَدْ سمّاه الله رؤوفا رَحِيمًا.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي وَحْشِيَّةَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: " أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْحَاشِرُ، وَأَنَا الْمَاحِي، وَالْخَاتَمُ، وَالْعَاقِبُ ". وَهَذَا إِسْنَادٌ قَوِيٌّ حَسَنٌ.
وَجَاءَ بِلَفْظٍ آخَرَ قَالَ: " أَنَا أَحْمَدُ، وَمُحَمَّدٌ، وَالْمُقَفِّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ ".
وَقَالَ عَبْدُ الله بن صالح: حدثنا اللّيث، قال: حَدَّثَنِي خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ: أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ فَقَالَ لَهُ: أَتُحْصِي أَسْمَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي كَانَ جُبَيْرٌ يَعُدُّهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، هي ستّة: محمد، وأحمد، وخاتم، وحاشر، وعاقب، وماحي. فَأَمَّا حَاشِرٌ فَبُعِثَ مَعَ السَّاعَةِ نَذِيرًا لَكُمْ، وأمّا عاقب فإنّه(1/486)
عقّب الأنبياء، وأمّا ماحي فَإِنَّ اللَّهَ مَحَا بِهِ سَيِّئَاتِ مَنِ اتَّبَعَهُ.
وقال عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً فَقَالَ: " أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْحَاشِرُ، وَالْمُقَفِّي، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَالْمَلْحَمَةِ ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُرْسَلًا قَالَ: " أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ ".
وَرَوَاهُ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الحَسَّانِيُّ، عَنْ سُعَيْرِ بْنِ الْخِمْسِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَوْصُولًا.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ".
وَقَالَ وَكِيعٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ الْأَزْرَقِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: يس مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَعَنْ بَعْضِهِمْ قَالَ: لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقُرْآنِ خَمْسَةُ أَسْمَاءَ: مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ اللَّهِ، وَيس، وَطه.
وَقِيلَ: طه، لُغَةٌ لِعَكٍّ، أَيْ: يَا رَجُلُ، فَإِذَا قُلْتَ لِعَكِّيٍّ: يَا رَجُلُ، لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا قُلْتَ لَهُ: طه، الْتَفَتَ إِلَيْكَ. نَقَلَ هَذَا الْكَلْبِيُّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ مَتْرُوكٌ. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يَكُونُ طه مِنْ أَسْمَائِهِ.
وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَقَالَ: رَسُولًا، وَنَبِيًّا أُمِّيًّا، وَشَاهِدًا، وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَرَؤُوفًا رَحِيمًا، وَمُذَكِّرًا، وَمُدَّثِّرًا، وَمُزَّمِّلًا، وَهَادِيًا، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الضَّحُوكُ، وَالْقَتَّالُ. جَاءَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: " أَنَا الضَّحُوكُ أَنَا الْقَتَّالُ ".
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ.
وَفِي التَّوْرَاةِ فِيمَا بَلَغَنَا أَنَّهُ حِرْزٌ لِلْأُمِّيِّينَ، وَأَنَّ اسْمَهُ الْمُتَوَكِّلُ.(1/487)
وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْأَمِينُ. وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَدْعُوهُ بِهِ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ: الْفَاتِحُ، وَقُثَمُ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ: تَذَاكَرُوا أَحْسَنَ بَيْتٍ قَالَتْهُ الْعَرَبُ، فَقَالُوا: قَوْلُ أَبِي طَالِبٍ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
وَشَقَّ لَهُ مِنَ اسْمِهِ لِيُجِلَّهُ ... فَذُو الْعَرْشِ مَحْمُودٌ وَهَذَا مُحَمَّدُ
وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ أَبِي النَّجُودِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا نَبِيُّ الرَّحْمَةِ، وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَالْمُقَفِّي، وَأَنَا الْحَاشِرُ، وَنَبِيُّ الْمَلْحَمَةِ " قَالَ: الْمُقَفِّي الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، وَقَدْ رَوَاهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، فَقَالَ عَنْ زِرٍّ، عَنْ حُذَيْفَةَ نَحْوَهُ.
وَيُرْوَى بِإِسْنَادٍ وَاهٍ عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لِي عَشْرَةُ أَسْمَاءَ "، فَذَكَرَ مِنْهَا الْفَاتِحَ، وَالْخَاتَمَ.
قُلْتُ: وَأَكْثَرُ مَا سُقْنَا مِنْ أَسْمَائِهِ صِفَاتٌ لَهُ لَا أَسْمَاءُ أَعْلَامٍ.
وَقَدْ تَوَاتَرَ أَنَّ كُنْيَتَهُ أَبُو الْقَاسِمِ.
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -: " تسمّوا بِاسْمِي، وَلَا تَكْتَنُوا بِكُنْيَتِي ". مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَجْلَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " لَا تَجْمَعُوا اسْمِي وَكُنْيَتِي، أَنَا أَبُو الْقَاسِمِ، اللَّهُ يُعْطِي وَأَنَا أُقَسِّمُ ".
وَقَالَ ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ مَارِيَةَ كَادَ يَقَعُ فِي نَفْسِهِ مِنْهُ، حَتَّى أَتَاهُ جِبْرِيلُ عليه السلام، فقال: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا إِبْرَاهِيمَ. ابْنُ لَهِيعَةَ ضعيف.(1/488)
-ذِكْرُ مَا وَرَدَ فِي قِصَّةِ سَطِيحٍ
وَخُمُودِ النِّيرَانِ لَيْلَةَ الْمَوْلِدِ وَانْشِقَاقِ الْإِيوَانِ.
قَالَ ابْنُ أبي الدّنيا وغيره: حدثنا عليّ بن حرب الطّائي، قال: أخبرنا أبو أيوب يعلى بن عمران البجلي، قال: حَدَّثَنِي مَخْزُومُ بْنُ هَانِئٍ الْمَخْزُومِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، وَكَانَ قَدْ أَتَتْ عَلَيْهِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، قَالَ: لَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِي وُلِدَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ارْتَجَسَ إِيوَانُ كِسْرَى، وَسَقَطَتْ مِنْهُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ شُرْفَةً، وَغَاضَتْ بُحَيْرَةُ سَاوَةَ، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسٍ، وَلَمْ تَخْمُدْ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَلْفِ عَامٍ، وَرَأَى الْمُوبَذَانُ إِبِلًا صِعَابًا تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ كِسْرَى أَفْزَعَهُ مَا رَأَى مِنْ شَأْنِ إِيوَانِهِ فَصَبَرَ عَلَيْهِ تَشَجُّعًا، ثُمَّ رَأَى أَنْ لَا يَسْتُرَ ذَلِكَ عَنْ وُزَرَائِهِ وَمَرَازِبَتِهِ، فَلَبِسَ تَاجَهُ وَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ وَجَمَعَهُمْ، فَلَمَّا اجْتَمَعُوا عِنْدَهُ قَالَ: أَتَدْرُونَ فِيمَ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ؟ قَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ يُخْبِرَنَا الْمَلِكُ، فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أورد عَلَيْهِمْ كِتَابٌ بِخُمُودِ النَّارِ، فَازْدَادَ غَمًّا إِلَى غَمِّهِ، فَقَالَ الْمُوبَذَانُ: وَأَنَا قَدْ رَأَيْتُ - أَصْلَحَ اللَّهُ الْمَلِكَ - فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ رُؤْيَا، ثُمَّ قَصَّ عَلَيْهِ رُؤْيَاهُ فَقَالَ: أَيَّ شَيْءٍ يَكُونُ هَذَا يَا مُوبَذَانُ؟ قَالَ: حَدَثٌ يَكُونُ فِي نَاحِيَةِ الْعَرَبِ، وَكَانَ أَعْلَمَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَكَتَبَ كِسْرَى عِنْدَ ذَلِكَ:
مِنْ كِسْرَى مَلِكِ الْمُلُوكِ إِلَى النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ، أَمَّا بَعْدُ، فَوَجِّهْ إِلَيَّ بِرَجُلٍ عَالِمٍ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَهُ عَنْهُ. فَوَجَّهَ إِلَيْهِ بِعَبْدِ الْمَسِيحِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بُقَيْلَةَ الْغَسَّانِيِّ، فَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ قَالَ له: هل لك عِلْمٌ بِمَا أُرِيدُ أَنْ أَسْأَلَكَ عَنْهُ؟ قَالَ: لِيَسْأَلْنِي الْمَلِكُ فَإِنْ كَانَ عِنْدِي عِلْمٌ وَإِلَّا أَخْبَرْتُهُ بِمَنْ يُعْلِمُهُ، فَأَخْبَرَهُ بِمَا رَأَى، فَقَالَ: عِلْمُ ذَلِكَ عِنْدَ خَالٍ لِي يَسْكُنُ مَشَارِفَ الشَّامِ يُقَالُ لَهُ سَطِيحٌ، قَالَ: فَائْتِهِ فَسَلْهُ عَمَّا سَأَلْتُكَ وَائْتِنِي بِجَوَابِهِ، فَرَكِبَ حَتَّى أَتَى على(1/489)
سَطِيحٍ وَقَدْ أَشْفَى عَلَى الْمَوْتِ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَحَيَّاهُ فَلَمْ يُحِرْ سَطِيحٌ جَوَابًا، فَأَنْشَأَ عَبْدُ الْمَسِيحِ يَقُولُ:
أَصَمُّ أَمْ يَسْمَعُ غِطْرِيفُ الْيَمَنْ ... أَمْ فَادَ فَازْلَمَّ بِهِ شَأْوُ الْعَنَنْ
يَا فَاصِلَ الْخُطَّةِ أَعْيَتْ مَنْ وَمَنْ ... أَتَاكَ شَيْخُ الْحَيِّ مِنْ آلِ سَنَنْ
وَأُمُّهُ مِنْ آلِ ذئب بن حجن ... أزرق بهم النَّابِ صَرَّارُ الأُذُنْ
أَبْيَضُ فَضْفَاضُ الرِّدَاءِ وَالْبَدَنْ ... رسول قيل العجم يسري للوسن
يجوب في الأرض علنداة شجن ... ترفعني وجن وَتَهْوِي بِي وَجَنْ
لَا يَرْهَبُ الرَّعْدَ وَلَا ريب الزّمن ... كأنّما حثحث من حضني ثَكَنْ
حَتَّى أَتَى عَارِيَ الْجَآجِي وَالْقَطَنْ ... تَلُفُّهُ فِي الرِّيحِ بَوْغَاءُ الدِّمَنْ
فَقَالَ سَطِيحٌ: عَبْدُ الْمَسِيحِ، جَاءَ إِلَى سَطِيحٍ، وَقَدْ أَوْفَى عَلَى الضِّرِيحِ، بَعَثَكَ مَلِكُ بَنِي سَاسَانَ، لِارْتِجَاسِ الْإِيوَانِ، وَخُمُودِ النِّيرَانِ، وَرُؤْيَا الَمُوبَذَانِ، رَأَى إِبِلًا صِعَابًا، تَقُودُ خَيْلًا عِرَابًا، قَدْ قَطَعَتْ دِجْلَةَ، وَانْتَشَرَتْ فِي بِلَادِهَا، يَا عَبْدَ الْمَسِيحِ إِذَا كَثُرَتِ التِّلَاوَةُ، وَظَهَرَ صَاحِبُ الْهِرَاوَةِ، وَفَاضَ وَادِي السَّمَاوَةِ، وَخَمَدَتْ نَارُ فَارِسَ، فَلَيْسَ الشَّامُ لِسَطِيحٍ شَامًا، يَمْلِكُ مِنْهُمْ مُلُوكٌ وَمَلِكَاتٌ، عَلَى عَدَدِ الشُّرُفَاتِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ آتٍ. ثُمَّ قَضَى سَطِيحٌ مَكَانَهُ، وَسَارَ عَبْدُ الْمَسِيحِ إِلَى رَحْلِهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
شَمِّرْ فَإِنَّكَ مَاضِي الْهَمِّ شِمِّيرُ ... لَا يُفْزِعَنَّكَ تَفْرِيقٌ وَتَغْيِيرُ
إِنْ يُمْسِ مُلْكُ بَنِي سَاسَانَ أَفْرَطَهُمْ ... فَإِنَّ ذَا الدَّهْرَ أَطْوَارٌ دَهَارِيرُ
فَرُبَّمَا رُبَّمَا أَضْحَوْا بِمَنْزِلَةٍ ... تَهَابُ صَوْلَهُمُ الأُسْدُ الْمَهَاصِيرُ
مِنْهُمْ أَخُو الصَّرْحِ بَهْرَامٌ وَإِخْوَتُهُ ... وَالْهُرْمُزَانِ وَسَابُورٌ وَسَابُورُ
وَالنَّاسُ أَوْلَادُ عَلَّاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا ... أَنْ قَدْ أَقَلَّ فَمَحْقُورٌ وَمَهْجُورُ
وَهُمْ بَنُو الْأُمِّ إِمَّا إِنْ رَأَوْا نَشَبًا ... فَذَاكَ بِالْغَيْبِ مَحْفُوظٌ وَمَنْصُورُ
وَالْخَيْرُ وَالشَّرُّ مَصْفُودَانِ فِي قَرَنٍ ... فَالْخَيْرُ مُتَّبَعٌ وَالشَّرُّ مَحْذُورُ(1/490)
فَلَمَّا قَدِمَ عَلَى كِسْرَى أَخْبَرَهُ بِقَوْلِ سَطِيحٍ فَقَالَ كِسْرَى: إِلَى مَتَى يَمْلِكُ مِنَّا أَرْبَعَةَ عَشَرَ مَلِكًا تَكُونُ أُمُورٌ، فَمَلَكَ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ أَرْبَعَ سِنِينَ، وَمَلَكَ الْبَاقُونَ إِلَى آخِرِ خِلَافَةِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ غريب.
وبإسنادي إِلَى الْبَكَّائِيِّ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ رَبِيعَةُ بْنُ نَصْرٍ مَلِكُ الْيَمَنِ بَيْنَ أَضْعَافِ ملوك التّبابعة، فرأى رؤيا هالته وفظع بها، فَلَمْ يَدَعْ كَاهِنًا وَلَا سَاحِرًا وَلَا عَائِفًا وَلَا مُنَجِّمًا مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ إِلَّا جَمَعَهُ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ رُؤْيَا هَالَتْنِي فَأَخْبِرُونِي بِهَا وَبِتَأْوِيلِهَا، قَالُوا: اقْصُصْهَا عَلَيْنَا نخبرك بتأويلها، قال: إنّي إن أخبرتكم بها لَمْ أَطْمَئِنَّ إِلَى خَبَرِكُمْ عَنْ تَأْوِيلِهَا، إِنَّهُ لَا يَعْرِفُ تَأْوِيلَهَا إِلَّا مَنْ عَرَفَهَا، فَقِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ الْمَلِكُ يُرِيدُ هَذَا فَلْيَبْعَثْ إِلَى سَطِيحٍ وَشِقٍّ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ أَعْلَمَ مِنْهُمَا، فَبَعَثَ إِلَيْهِمَا فَقَدِمَ سَطِيحٌ قَبْلَ شِقٍّ، فَقَالَ لَهُ: رَأَيْتُ حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَةٍ، فَوَقَعَتْ بِأَرْضٍ تِهَمَةٍ، فَأَكَلْتُ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ جُمْجُمَةٍ. قَالَ: مَا أَخْطَأْتُ مِنْهَا شَيْئًا، فَمَا تأويلها؟
فقال: أَحْلِفُ بِمَا بَيْنَ الْحَرَّتَيْنِ مِنْ حَنَشٍ، لَيَهْبِطَنَّ أَرْضَكُمُ الْحَبَشُ، فَلَيَمْلِكَنَّ مَا بَيْنَ أَبْيَنَ إِلَى جُرَشَ.
فَقَالَ الْمَلِكُ: وَأَبِيكَ يَا سَطِيحُ إِنَّ هَذَا لَنَا لَغَائِظٌ مُوجِعٌ، فَمَتَى هُوَ كَائِنٌ أفي زمانه أَمْ بَعْدَهُ؟ قَالَ: بَلْ بَعْدَهُ بِحِينٍ، أَكْثَرَ من ستّين أو سبعين يمضين من السّنين، قال: أفيدوم ذلك من ملكهم أم ينقطع؟ قال: بل ينقطع لبضع وسبعين مِنَ السِّنِينَ، ثُمَّ يَقْتُلُونَ وَيَخْرُجُونَ هَارِبِينَ.
قَالَ: من يلي ذلك من قتلهم وإخراجهم؟ قَالَ: يَلِيهِ إِرَمُ ذِي يَزَنَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ من عدن فلا يترك منهم أَحَدًا بِالْيَمَنِ.
قَالَ: أَفَيَدُومُ ذَلِكَ؟ قَالَ: بَلْ يَنْقَطِعُ بِنَبِيٍّ زَكِيٍّ يَأْتِيهِ الْوَحْيُ مِنْ قِبَلِ الْعَلِيِّ.
قَالَ: وَمِمَّنْ هُوَ؟ قَالَ: مِنْ وَلَدِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ، يَكُونُ الْمُلْكُ فِي قَوْمِهِ إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ.
قَالَ: وَهَلْ لِلدَّهْرِ مِنْ آخِرٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، يَوْمٌ(1/491)
يُجْمَعُ فِيهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، يَسْعَدُ فِيهِ الْمُحْسِنُونَ، وَيَشْقَى فِيهِ الْمُسِيئُونَ.
قَالَ: أَحَقٌّ مَا تُخْبِرُنِي؟ قَالَ: نَعَمْ وَالشَّفَقِ وَالْغَسَقِ، وَالْفَلَقِ إِذَا اتَّسَقَ، إِنَّ مَا أَنْبَأْتُكَ بِهِ لَحَقٌّ.
ثُمَّ قَدِمَ عَلَيْهِ شِقٌّ، فَقَالَ لَهُ كَقَوْلِهِ لِسَطِيحٍ، وَكَتَمَهُ ما قال سطيح لِيَنْظُرَ أَيَتَّفِقَانِ. قَالَ: نَعَمْ رَأَيْتُ حُمَمَةً خَرَجَتْ مِنْ ظُلُمَةٍ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ رَوْضَةٍ وَأَكَمَةٍ، فَأَكَلْتُ مِنْهَا كُلَّ ذَاتِ نَسَمَةٍ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُمَا قَدِ اتَّفَقَا، فَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ، فَجَهَّزَ أَهْلَ بَيْتِهِ إِلَى الْعِرَاقِ، وَكَتَبَ لَهُمْ إِلَى مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ فَارِسَ يُقَالُ لَهُ سَابُورُ بْنُ خُرَّزَاذَ، فَأَسْكَنَهُمُ الْحِيرَةَ، فَمِنْ بَقِيَّةِ وَلَدِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ فَهُوَ فِي نَسَبِ الْيَمَنِ: النُّعْمَانُ بْنُ الْمُنْذِرِ بْنِ النُّعْمَانِ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَدِيِّ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ نَصْرٍ.(1/492)
-بَابٌ مِنْهُ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " خَرَجْتُ مِنْ لدن آدم من نكاح غير سفاح ". هَذَا حَدِيثٌ ضَعِيفٌ، فِيهِ مَتْرُوكَانِ: الْوَاقِدِيُّ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي سَبْرَةَ.
وَوَرَدَ مِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ عَلِيٍّ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ إِنْ صَحَّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، وَلَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ.
وَقَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي الْجَدْعَاءَ قال: قلت: يا رسول الله، متى كتبت نَبِيًّا؟ قَالَ: " وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ ".
وَقَالَ مَنْصُورُ بْنُ سَعْدٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، وَاللَّفْظُ له قال: حدثنا بُدَيْلُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ مَيْسَرَةَ الْفَجْرِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - متى كتبت نَبِيًّا؟ قَالَ: " وَآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ وَالْجَسَدِ ".
وَقَالَ التّرمذيّ: حدثنا الوليد بن شجاع، قَالَ: حدثنا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سلمة، عن أَبِي هُرَيْرَةَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَتَى وَجَبَتْ لَكَ النُّبُوَّةُ؟ قَالَ: " بَيْنَ خَلْقِ آدَمَ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ ". قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ.
قُلْتُ: لَوْلَا لِينٌ فِي الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ لَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
وَقَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنِي ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ، عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنَا عَنْ نفسك قال: " دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ، وَبُشْرَى عِيسَى، وَرَأَتْ أُمِّي حِينَ حَمَلَتْ بِي كَأَنَّ نُورًا خَرَجَ مِنْهَا أَضَاءَتْ لَهُ قُصُورُ بُصْرَى مِنْ أَرْضِ الشَّامِ.(1/493)