التوحيدية فِي الإلهيات
كتاب الموجز الْكَبِير فِي الْمنطق وَأما الموجز الصَّغِير فَهُوَ منطق النجَاة
القصيدة المزدوجة فِي الْمنطق صنفها للرئيس أبي الْحسن سهل بن مُحَمَّد السهلي بكركانج
مقَالَة فِي تَحْصِيل السَّعَادَة وتعرف بالحجج الغر
مقَالَة فِي الْقَضَاء وَالْقدر صنفها فِي طَرِيق أصفهان عِنْد خلاصه وهربه إِلَى أصفهان
مقَالَة فِي الهندبا
مقَالَة فِي الْإِشَارَة إِلَى علم الْمنطق
مقَالَة فِي تقاسيم الْحِكْمَة والعلوم
رِسَالَة فِي السكنجبين
مقَالَة فِي اللانهاية
كتاب تعاليق علقه عَنهُ تِلْمِيذه أَبُو مَنْصُور بن زيلا
مقَالَة فِي خَواص خطّ الاسْتوَاء
المباحثات بسؤال تِلْمِيذه أبي الْحسن بهمنيار بن الْمَرْزُبَان وَجَوَابه لَهُ
عشر مسَائِل أجَاب عَنْهَا لأبي الريحان البيروني
جَوَاب سِتّ عشرَة مسئلة لأبي الريحان
مقَالَة فِي هَيْئَة الأَرْض من السَّمَاء وَكَونهَا فِي الْوسط
كتاب الحكة المشرقية لَا يُوجد تَاما
مقَالَة فِي تعقب الْمَوَاضِع الجدلية
الْمدْخل إِلَى صناعَة الموسيقى وَهُوَ غير الْمَوْضُوع فِي النجَاة
مقَالَة فِي الأجرام السماوية
كتاب التَّدَارُك لأنواع خطا التَّدْبِير سبع مقالات أَلفه لأبي الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد السهلي
مقَالَة فِي كَيْفيَّة الرصد ومطابقته مَعَ الْعلم الطبيعي
مقَالَة فِي الْأَخْلَاق
رِسَالَة إِلَى الشَّيْخ أبي الْحسن سهل بن مُحَمَّد السهلي فِي الكيمياء
مقَالَة فِي آلَة رصدية صنعها بأصفهان عِنْد رصده لعلاء الدولة
مقَالَة فِي غَرَض قاطيغورياس
الرسَالَة الأضحوية فِي الْمعَاد صنفها للأمير أبي بكر مُحَمَّد بن عبيده معتصم الشُّعَرَاء فِي الْعرُوض صنفه ببلاده
وَله سبع عشرَة سنة
مقَالَة فِي حد الْجِسْم
الْحِكْمَة العرشية وَهُوَ كَلَام مُرْتَفع فِي الآلهيات عهد لَهُ عَاهَدَ الله بِهِ لنَفسِهِ
مقَالَة فِي أَن علم زيد غير علم عَمْرو
كتاب تَدْبِير الْجند والمماليك والعساكر وأرزاقهم وخراج الممالك
مناظرات جرت لَهُ فِي النَّفس مَعَ أبي عَليّ النيساروي خطب وتمجيدات وأسجاع جَوَاب يتَضَمَّن الِاعْتِذَار فِيمَا نسب إِلَيْهِ من الْخطب
مُخْتَصر أوقليدس أَظُنهُ الْمَضْمُون إِلَى النجَاة
مقَالَة الأرثماطيقي
عشر قصائد وأشعار فِي الزّهْد وَغَيره يصف فِيهَا أَحْوَاله
رسائل بِالْفَارِسِيَّةِ والعربية ومخاطبات ومكاتبات وهزليات
تعاليق مسَائِل حنين فِي الطِّبّ
قوانين ومعالجات طبية
مسَائِل عدَّة طبية عشرُون مَسْأَلَة سَأَلَهُ عَنْهَا بعض أهل الْعَصْر
مسَائِل ترجمها بالتذاكير جَوَاب مسَائِل كَثِيرَة
رِسَالَة لَهُ إِلَى عُلَمَاء بَغْدَاد يسألهم الانصاف بَينه وَبَين رجل همداني يَدعِي الْحِكْمَة
رِسَالَة إِلَى صديق يسْأَله الانصاف بَينه وَبَين الْهَمدَانِي الَّذِي يَدعِي الْحِكْمَة
جَوَاب لعدة مسَائِل كَلَام لَهُ فِي تبين مَاهِيَّة الْحُرُوف
شرح كتاب النَّفس لأرسطوطاليس وَيُقَال إِنَّه من الانصاف
مقَالَة فِي النَّفس تعرف بالفصول
مقَالَة فِي إبِْطَال أَحْكَام النُّجُوم
كتاب الْملح فِي النَّحْو
فُصُول إلهية فِي إِثْبَات الأول
فُصُول فِي النَّفس وطبيعيات
رِسَالَة إِلَى أبي سعيد بن أبي الْخَيْر الصُّوفِي فِي الزّهْد
مقَالَة فِي أَنه لَا يجوز أَن يكون شَيْء وَاحِد جوهرا وعرضا
مسَائِل جرت بَينه وَبَين بعض الْفُضَلَاء فِي فنون الْعُلُوم
تعليقات استفادها أَبُو الْفرج الطَّبِيب الْهَمدَانِي من مَجْلِسه وجوابات لَهُ
مقَالَة ذكرهَا فِي تصانيفه أَنَّهَا فِي الممالك وبقاع الأَرْض
مُخْتَصر فِي أَن الزاوية الَّتِي من الْمُحِيط والمماس لَا كمية لَهَا
أجوبة لسؤالات سَأَلَهُ عَنْهَا أَبُو الْحسن العامري وَهِي أَربع عشرَة مَسْأَلَة
كتاب الموجز الصَّغِير فِي الْمنطق
كتاب قيام الأَرْض فِي وسط السَّمَاء أَلفه لأبي الْحُسَيْن أَحْمد بن مُحَمَّد السهلي
كتاب مَفَاتِيح الخزائن فِي الْمنطق كَلَام فِي الْجَوْهَر وَالْعرض كتاب تَأْوِيل الرُّؤْيَا
مقَالَة فِي الرَّد على مقَالَة الشَّيْخ أبي الْفرج بن الطّيب
رِسَالَة فِي الْعِشْق(1/458)
ألفها لأبي عبيد الله الْفَقِيه
رِسَالَة فِي القوى الإنسانية وإدراكاتها
قَول فِي تبين مَا الْحزن وأسبابه
مقَالَة إِلَى أبي عبيد الله الْحُسَيْن بن سهل بن مُحَمَّد السهلي فِي أَمر مشوب
ألايلاقي
هُوَ السَّيِّد أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف شرف الدّين شرِيف النّسَب فَاضل فِي نَفسه خَبِير بصناعة الطِّبّ والعلوم الْحكمِيَّة
وَهِي من جملَة تلاميذ الشَّيْخ الرئيس والآخذين عَنهُ وَقد اختصر كتاب القانون وأجاد فِي تأليفه وللأيلاقي من الْكتب بِاخْتِصَار كتاب القانون لِابْنِ سينا كتاب الْأَسْبَاب والعلامات
أَبُو الريحان البيروني
هُوَ الْأُسْتَاذ أَبُو الريحان مُحَمَّد بن أَحْمد البيروني مَنْسُوب إِلَى بيرون وَهِي مَدِينَة فِي السَّنَد كَانَ مشتغلا بالعلوم الْحكمِيَّة فَاضلا فِي علم الْهَيْئَة والنجوم وَله نظر جيد فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ معاصر الشَّيْخ الرئيس وَبَينهمَا محادثات ومراسلات
وَقد وجدت للشَّيْخ الرئيس أجوبة ومسائل سَأَلَهُ عَنْهَا أَبُو الريحان البيروني وَهِي تحتوي على أُمُور مفيدة فِي الْحِكْمَة
وَأقَام أَبُو الريحان البيروني بخوارزم
وَلأبي الريحان البيروني من الْكتب كتاب الْجمَاهِر فِي الْجَوَاهِر وأنواعها وَمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْمَعْنى أَلفه للْملك الْمُعظم شهَاب الدولة أبي الْفَتْح مودود بن مَسْعُود بن مَحْمُود
كتاب الْآثَار الْبَاقِيَة عَن الْقُرُون الخالية
كتاب الصيدلة فِي الطِّبّ استقصى فِيهِ معرفَة ماهيات الْأَدْوِيَة وَمَعْرِفَة أسمائها وَاخْتِلَاف آراء الْمُتَقَدِّمين وَمَا تكلم كل وَاحِد من الْأَطِبَّاء وَغَيرهم فِيهِ وَقد رتبه على حُرُوف المعجم
كتاب مقاليد الْهَيْئَة
كتاب تسطيح الكرة
كتاب الْعَمَل بالاصطرلاب
كتاب القانون المَسْعُودِيّ أَلفه لمسعود بن مَحْمُود بن سبكتكين وحذا فِيهِ حَذْو بطليموس
كتاب التفهيم فِي صناعَة التنجيم
مقَالَة فِي تلافي عوارض الزلة فِي كتاب دَلَائِل الْقبْلَة
رِسَالَة فِي تَهْذِيب الْأَقْوَال
مقَالَة فِي اسْتِعْمَال الاصطرلاب الكري
كتاب الأطلال
كتاب الزيج المَسْعُودِيّ أَلفه للسُّلْطَان مَسْعُود بن مَحْمُود ملك غزنة
اخْتِصَار كتاب بطليموس القلوذي
وَتُوفِّي فِي عشر الثَّلَاثِينَ والأربعمائة
ابْن مندويه الْأَصْفَهَانِي
هُوَ أَبُو عَليّ أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن مندويه من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين فِي بِلَاد الْعَجم وخدم هُنَالك جمَاعَة من مُلُوكهَا ورؤسائها
وَكَانَت لَهُ أَعمال مَشْهُورَة مشكورة فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ من البيوتات الأجلاء بأصفهان
وَكَانَ أَبوهُ عبد الرَّحْمَن بن مندويه فَاضلا فِي علم الْأَدَب وافر الدّين وَله أشعار(1/459)
حَسَنَة من ذَلِك قَالَ
(ويحرز أَمْوَالًا رجال أشحة ... وتشغل عَمَّا خلفهن وتذهل)
(لعمرك مَا الدُّنْيَا بِشَيْء وَلَا المنى ... بِشَيْء وَلَا الْإِنْسَان إِلَّا مُعَلل) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(ويمسي الْمَرْء ذَا أجل قريب ... وَفِي الدُّنْيَا لَهُ أمل طَوِيل)
(ويعجل بالرحيل وَلَيْسَ يدْرِي ... إِلَى مَاذَا يقر بِهِ الرحيل) الوافر
وَلأبي عَليّ بن مندويه الْأَصْفَهَانِي من الْكتب رسائل عدَّة من ذَلِك أَرْبَعُونَ رِسَالَة مَشْهُورَة إِلَى جمَاعَة من أَصْحَابه فِي الطِّبّ وَهِي رِسَالَة إِلَى أَحْمد بن سعد فِي تَدْبِير الْجَسَد رِسَالَة إِلَى عباد بن عَبَّاس فِي تَدْبِير الْجَسَد
رِسَالَة إِلَى أبي الْفضل الْعَارِض فِي تَدْبِير الْجَسَد
رِسَالَة إِلَى أبي الْقَاسِم أَحْمد ابْن عَليّ بن بَحر فِي تَدْبِير الْمُسَافِر
رِسَالَة إِلَى حَمْزَة بن الْحسن فِي تركيب طَبَقَات الْعين
رِسَالَة إِلَى أبي الْحسن الْوَارِد فِي علاج انتشار الْعين
رِسَالَة إِلَى عباد بن عَبَّاس فِي وصف انهضام الطَّعَام رِسَالَة إِلَى أَحْمد بن سعد فِي وصف الْمعدة وَالْقَصْد لعلاجها
رِسَالَة إِلَى مستفسر فِي تَدْبِير جسده وعلاج دائه
رِسَالَة إِلَى أبي جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْحسن فِي القولنج
رِسَالَة أُخْرَى إِلَيْهِ فِي تَدْبِير أَصْحَاب القولنج وتدبير أَصْحَاب القولنج فِي أَيَّام صِحَّته فيتدافع عَنهُ بعون الله تَعَالَى
رِسَالَة إِلَى أبي مُحَمَّد بن أبي جَعْفَر فِي تَدْبِير ضعف الكلى لمن يستبشع الحقنة
رِسَالَة إِلَى أبي الْفضل فِي علاج المثانة
رِسَالَة إِلَى الْأُسْتَاذ الرئيس فِي علاج شقَاق البواسير
رِسَالَة فِي أَسبَاب الباه
رِسَالَة فِي الْإِبَانَة عَن السَّبَب الَّذِي يُولد فِي الْأذن القرقرة عِنْد اتقاد النَّار فِي خشب التِّين
رِسَالَة إِلَى الوثاي فِي علاج وجع الرّكْبَة
رِسَالَة إِلَى أبي الْحسن بن دَلِيل فِي علاج الحكة الْعَارِضَة للمشيخة
رِسَالَة فِي فعل الْأَشْرِبَة فِي الْجَسَد
رِسَالَة فِي وصف مُسكر الشَّرَاب ومنافعه ومضاره رِسَالَة إِلَى حَمْزَة بن الْحسن فِي أَن المَاء لَا يغذو
رِسَالَة فِي نعت النَّبِيذ وَوصف أَفعاله ومنافعه ومضاره
رِسَالَة إِلَى ابْنه فِي علاج بثور خرجت بجسده بِمَاء الْجُبْن وَهُوَ صَغِير
رِسَالَة فِي مَنَافِع الفقاع ومضاره
رِسَالَة إِلَى أبي الْحُسَيْن أَحْمد بن سعيد فِي الخنديقون وَالْبِقَاع وَجَوَابه إِلَيْهِ
رِسَالَة إِلَى بعض إخوانه فِي التَّمْر الْهِنْدِيّ رِسَالَة إِلَى بعض إخوانه فِي الكافور
رِسَالَة إِلَى حَمْزَة بن الْحسن فِي النَّفس وَالروح على رَأْي اليونانيين
رِسَالَة أُخْرَى إِلَى حَمْزَة بن الْحسن فِي الِاعْتِذَار عَن اعتلال الْأَطِبَّاء رِسَالَة فِي الرَّد على كتاب نقض الطِّبّ الْمَنْسُوب إِلَى الجاحظ
رِسَالَة إِلَى حَمْزَة بن الْحسن فِي الرَّد على من أنكر حَاجَة الطَّبِيب إِلَى علم اللُّغَة
رِسَالَة إِلَى المتقلدين علاج المرضى بيمارستان أصفهان
رِسَالَة إِلَى أبي الْحسن بن سعيد فِي الْبَحْث عَمَّا ورد من أبي حَكِيم إِسْحَق بن يوحنا الطَّبِيب الْأَهْوَازِي فِي شَأْن علته
رِسَالَة إِلَى يُوسُف بن يزْدَاد المتطبب فِي إِنْكَاره دُخُول لعاب بزر الْكَتَّان فِي أدوية الحقنة
رِسَالَة أبي مُحَمَّد عبد الله بن إِسْحَق الطَّبِيب يُنكر عَلَيْهِ ضروبا من العلاج
رِسَالَة أُخْرَى إِلَى أبي مُحَمَّد المتطبب فِي عِلّة الْأَمِير المتوفي شيرزيل بن ركن الدولة
رِسَالَة أُخْرَى إِلَى أبي مُحَمَّد الْمَدِينِيّ فِي شَأْن التكميد بالجاورس
رِسَالَة أُخْرَى لأبي مُسلم مُحَمَّد بن بَحر عَن(1/460)
لِسَان أبي مُحَمَّد الطَّبِيب الْمَدِينِيّ رِسَالَة فِي عِلّة الأهزال أَحْمد ابْن إِسْحَق الْبُرْجِي وَذكر الْغَلَط الْجَارِي من يُوسُف ابْن اصطفن المتطبب
رِسَالَة فِي أوجاع الْأَطْفَال كناش
كتاب الْمدْخل إِلَى الطِّبّ
كتاب الْجَامِع الْمُخْتَصر من علم الطِّبّ وَهُوَ عشر مقالات
كتاب المغاث فِي الطِّبّ
كتاب فِي الشَّرَاب
كتاب الْأَطْعِمَة والأشربة
كتاب نِهَايَة الِاخْتِصَار فِي الطِّبّ
كتاب الْكَافِي فِي الطِّبّ وَيعرف أَيْضا بِكِتَاب القانون الصَّغِير
ابْن أبي صَادِق
هُوَ أَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن أَحْمد بن أبي صَادِق النَّيْسَابُورِي طَبِيب فَاضل بارع فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة كثير الدِّرَايَة للصناعة الطبية لَهُ حرص بَالغ فِي التطلع على كتب جالينوس وَمَا أودعهُ فِيهِ من غوامض صناعَة الطِّبّ وأسرارها شَدِيد الفحص عَن أُصُولهَا وفروعها وَكَانَ فصيحا بليغ الْكَلَام
وَمَا فسره من كتب جالينوس فَهُوَ فِي نِهَايَة الْجَوْدَة والإتقان كَمَا وجدنَا تَفْسِيره كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء لِجَالِينُوسَ فَإِنَّهُ أجهد نَفسه فِيهِ وأجاد فِي تَلْخِيص مَعَانِيه وَهُوَ أَيْضا يَقُول فِي أَوله
وَأما نَحن فقد حررنا مَعَاني هَذَا الْكتاب شرحا للعويص وحذفا للزائد ونظما للمتشتت وَإِضَافَة إِلَيْهِ مِمَّا وجدته من الزِّيَادَات فِي مصنفات جالينوس ومصنفات غَيره من المحصلين فِي هَذَا الْبَاب ورتبنا كل مقَالَة تَعْلِيما تَعْلِيما وألحقنا بأواخر كل مِنْهَا مَا يتَبَيَّن بِهِ فِي تشريح عُضْو عُضْو يتَضَمَّن مَنَافِعه تِلْكَ الْمقَالة ليسهل على من أَرَادَ تشريح أَي عُضْو كَانَ أَو مَنَافِع أَي جُزْء من أَجْزَائِهِ وجدانه
وَكَانَ فَرَاغه من هَذَا الْكتاب فِي سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وحَدثني بعض الْأَطِبَّاء أَن ابْن أبي صَادِق كَانَ قد اجْتمع بالشيخ الرئيس ابْن سينا وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَكَانَ من جملَة تلامذته والآخذين عَنهُ
وَهَذَا لَا استبعده بل هُوَ أقرب إِلَى الصِّحَّة فَإِن ابْن أبي صَادِق لحق زمَان ابْن سينا وَكَانَ فِي بِلَاد الْعَجم وَسُمْعَة ابْن سينا كَانَت عَظِيمَة وَكَذَلِكَ غزارة علمه وَكَثْرَة تلامذته وَكَانَ أكبر من ابْن أبي صَادِق قدرا وسنا
وَلابْن أبي صَادِق من الْكتب شرح كتاب الْمسَائِل فِي الطِّبّ لحنين بن إِسْحَق
اخْتِصَار شَرحه الْكَبِير لكتاب الْمسَائِل لحنين
شرح كتاب الْفُصُول لأبقراط وَوجد خطه على هَذَا الشَّرْح بتاريخ سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة على قِرَاءَة من قَرَأَهُ عَلَيْهِ
شرح كتاب تقدمة الْمعرفَة لأبقراط
شرح كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء لِجَالِينُوسَ وَوجدت الأَصْل من هَذَا الْكتاب تَارِيخ الْفَرَاغ مِنْهُ فِي سنة تسع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة موقعا عَلَيْهِ بِخَط ابْن أبي صَادِق مَا هَذَا مِثَاله بلغت الْمُقَابلَة وَصَحَّ إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَبِه الثِّقَة
وَكتب أَبُو الْقَاسِم بِخَطِّهِ حل شكوك الرَّازِيّ على كتب جالينوس
كتاب التَّارِيخ
طَاهِر بن إِبْرَاهِيم السجري
هُوَ الشَّيْخ أَبُو الْحُسَيْن طَاهِر بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن طَاهِر السجري
كَانَ طَبِيبا فَاضلا عَالما بصناعة الطِّبّ متميزا فِيهَا خَبِيرا بأعمالها
وَله من الْكتب كتاب إِيضَاح منهاج محجة العلاج أَلفه للْقَاضِي أبي الْفضل مُحَمَّد بن حمويه(1/461)
كتاب فِي شرح الْبَوْل والنبض
تَقْسِيم كتاب الْفُصُول لأبقراط
ابْن خطيب الرّيّ
هُوَ الإِمَام فَخر الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْعُمر بن الْحُسَيْن الرَّازِيّ أفضل الْمُتَأَخِّرين وَسيد الْحُكَمَاء الْمُحدثين قد شاعت سيادته وانتشرت فِي الْآفَاق مصنفاته وتلامذته وَكَانَ إِذا ركب يمشي حوله ثلثمِائة تلميذ فُقَهَاء وَغَيرهم وَكَانَ خوارزمشاه يَأْتِي إِلَيْهِ
وَكَانَ ابْن الْخَطِيب شَدِيد الْحِرْص جدا فِي سَائِر الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة والحكمية جيد الْفطْرَة حاد الذِّهْن حسن الْعبارَة كثير البراعة قوي النّظر فِي صناعَة الطِّبّ ومباحثها عَارِفًا بالأدب وَله شعر بالفارسي والعربي
وَكَانَ عبل الْبدن ربع الْقَامَة كَبِير اللِّحْيَة
وَكَانَ فِي صَوته فخامة وَكَانَ يخْطب بِبَلَدِهِ الرّيّ وَفِي غَيرهَا من الْبِلَاد وَيتَكَلَّم على الْمِنْبَر بأنواع من الْحِكْمَة وَكَانَ النَّاس يقصدونه من الْبِلَاد ويهاجرون إِلَيْهِ من كل نَاحيَة على اخْتِلَاف مطالبهم فِي الْعُلُوم وتفننهم فِيمَا يشتغلون بِهِ
فَكَانَ كل مِنْهُم يجد عِنْده النِّهَايَة القصوى فِيمَا يرومه مِنْهُ
وَكَانَ الإِمَام فَخر الدّين قد قَرَأَ الْحِكْمَة على مجد الدولة الجيلي بمراغة وَكَانَ مجد الدّين هَذَا من الأفاضل العظماء فِي زَمَانه وَله تصانيف جليلة
وَحكى لنا القَاضِي شمس الدّين الخوئي عَن الشَّيْخ فَخر الدّين أَنه قَالَ وَالله إِنَّنِي أتأسف فِي الْفَوات عَن الِاشْتِغَال بِالْعلمِ فِي وَقت الْأكل فَإِن الْوَقْت وَالزَّمَان عَزِيز
وحَدثني محيي الدّين قَاضِي مرند قَالَ لما كَانَ الشَّيْخ فَخر الدّين بمرند أَقَامَ بِالْمَدْرَسَةِ الَّتِي كَانَ أبي مدرسها وَكَانَ يشْتَغل عَنهُ بالفقه
ثمَّ اشْتغل بعد ذَلِك لنَفسِهِ بالعلوم الْحكمِيَّة وتميز حَتَّى لم يُوجد فِي زَمَانه آخر يضاهيه وَاجْتمعت بِهِ أَيْضا بهمدان وهراة واشتغلت عَلَيْهِ قَالَ وَكَانَ لمجلسه جلالة عَظِيمَة وَكَانَ يتعاظم حَتَّى على الْمُلُوك وَكَانَ إِذا جلس للتدريس يكون قَرِيبا مِنْهُ جمَاعَة من تلاميذه الْكِبَار مثل زين الدّين الْكشِّي والقطب الْمصْرِيّ وشهاب الدّين النَّيْسَابُورِي ثمَّ يليهم بَقِيَّة التلاميذ وَسَائِر الْخلق على قدر مَرَاتِبهمْ فَكَانَ من يتَكَلَّم فِي شَيْء من الْعُلُوم يباحثونه أُولَئِكَ التلاميذ الْكِبَار فَإِن جرى بحث مُشكل أَو معنى غَرِيب شاركهم الشَّيْخ فِيمَا هم فِيهِ وَتكلم فِي ذَلِك الْمَعْنى بِمَا يفوق الْوَصْف
وحَدثني شمس الدّين مُحَمَّد الوتار الْموصِلِي قَالَ كنت بِبَلَد هراة فِي سنة وسِتمِائَة وَقد قَصدهَا الشَّيْخ فَخر الدّين بن الْخَطِيب من بلد باميان وَهُوَ فِي أبهة عَظِيمَة وحشم كثير
فَلَمَّا ورد إِلَيْهَا تَلقاهُ السُّلْطَان بهَا وَهُوَ حُسَيْن بن خرمين وأكرمه إِكْرَاما كثيرا وَنصب لَهُ بعد ذَلِك منبرا وسجادة فِي صدر الدِّيوَان من الْجَامِع بهَا ليجلس فِي ذَلِك الْموضع وَيكون لَهُ يَوْم مَشْهُور يرَاهُ فِيهِ سَائِر النَّاس ويسمعون كَلَامه
وَكنت فِي ذَلِك الْيَوْم حَاضرا مَعَ جملَة النَّاس وَالشَّيْخ فَخر الدّين فِي صدر الإيوان وَعَن جانبيه يمنة ويسرة صفان من مماليكه التّرْك متكئين على السيوف وَجَاء فِيهِ السُّلْطَان حُسَيْن بن(1/462)
خرمين صَاحب هراة فَسلم وَأمره الشَّيْخ بِالْجُلُوسِ قَرِيبا مِنْهُ
وَجَاء إِلَيْهِ أَيْضا السُّلْطَان مَحْمُود ابْن أُخْت شهَاب الدّين الغوري صَاحب فَيْرُوز كوه فَسلم وَأَشَارَ إِلَيْهِ الشَّيْخ بِالْجُلُوسِ فِي مَوضِع آخر قَرِيبا مِنْهُ من النَّاحِيَة الْأُخْرَى
وَتكلم الشَّيْخ فِي النَّفس بِكَلَام عَظِيم وفصاحة بليغة
قَالَ وبينما نَحن فِي ذَلِك الْوَقْت وَإِذا بحمامة فِي دائر الْجَامِع ووراءها صقر يكَاد أَن يقتنصها وَهِي تطير فِي جوانبه إِلَى أَن أعيت فَدخلت الإيوان الَّذِي فِيهِ الشَّيْخ وَمَرَّتْ طائرة بَين الصفين إِلَى أَن رمت بِنَفسِهَا عِنْده وبخت فَذكر لي شرف الدّين بن عنين أَنه عمل شعرًا على البديه
ثمَّ نَهَضَ لوقته واستأذنه فِي أَن يُورد شَيْئا قد قَالَه فِي الْمَعْنى فَأمره الشَّيْخ بذلك فَقَالَ
(جَاءَت سُلَيْمَان الزَّمَان بشجوها ... وَالْمَوْت يلمع من جناحي خاطف)
(من نبأ الورقاء أَن محلكم ... حرز وَأَنَّك ملْجأ للخائف) الْكَامِل
فطرب لَهَا الشَّيْخ فَخر الدّين واستدناه وَأَجْلسهُ قَرِيبا مِنْهُ وَبعث إِلَيْهِ بعد مَا قَامَ من مَجْلِسه خلعة كَامِلَة ودنانير كَثِيرَة وَبَقِي دَائِما محسنا إِلَيْهِ
قَالَ لي شمس الدّين الوتار لم ينشد قدامي لِابْنِ خطيب الرّيّ سوى هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وَإِنَّمَا بعد ذَلِك زَاد فِيهَا أبياتا أخر
هَذَا قَوْله وَقد وجدت الأبيات المزادة فِي ديوانه على هَذَا الْمِثَال
(يَا ابْن الْكِرَام المطعمين إِذا اسْتَوَى ... فِي كل مَخْمَصَة وثلج خاشف)
(العاصمين إِذا النُّفُوس تطايرت ... بَين الصوارم والوشيج الراعف)
(من نبأ الورقاء أَن محلكم ... حرم وَإنَّك ملْجأ للخائف)
(وفدت إِلَيْك وَقد تدانى حتفها ... فحبوتها ببقائها المستأنف)
(وَلَو أَنَّهَا تحبى بِمَال لانثنت ... من راحتيك بنائل متضاعف)
(جَاءَت سُلَيْمَان الزَّمَان بشجوها ... وَالْمَوْت يلمع من جناحي خَائِف)
(قرم لواه الْقُوت حَتَّى ظله ... بإزائه يجْرِي بقلب راجف) الْكَامِل(1/463)
أَقُول وَمِمَّا حَكَاهُ شرف الدّين بن عنين أَنه حصل من جِهَة فَخر الدّين بن خطيب الرّيّ وبجاهه فِي بِلَاد الْعَجم نَحْو ثَلَاثِينَ ألف دِينَار وَمن شعره فِيهِ قَوْله وسيرها إِلَيْهِ من نيسابور إِلَى هراة
(ريح الشمَال عساك أَن تتحملي ... خدمي إِلَى الصَّدْر الإِمَام الْأَفْضَل)
(وقفي بواديه الْمُقَدّس وانظري ... نور الْهدى متألقا لَا يأتلي)
(من دوحة فخرية عمرية ... طابت مغارس مجدها المتأثل)
(مَكِّيَّة الْأَنْسَاب زاك أَصْلهَا ... وفروعها فَوق السماك الأعزل)
(واستمطري جدوى يَدَيْهِ فطالما ... خلف الحيا فِي كل عَام ممحل)
(نعم سحائبها تعود كَمَا بَدَت ... لَا يعرف الوسمي مِنْهَا وَالْوَلِيّ)
(بَحر تصدر للعلوم وَمن رأى ... بحرا تصدر قبله فِي محفل)
(ومشمر فِي الله يسحب للتقى ... وَالدّين سربال العفاف المسبل)
(مَاتَت بِهِ بدع تَمَادى عمرها ... دهرا وَكَاد ظلامها لَا ينجلي)
(فعلا بِهِ الْإِسْلَام أرفع هضبة ... ورسا سواهُ فِي الحضيض الْأَسْفَل)
(غلط أمرؤ بِأبي عَليّ قاسه ... هَيْهَات قصر عَن هداه أَبُو عَليّ)
(لَو أَن رسطاليس يسمع لَفظه ... من لَفظه لعرته هزة أفكل)
(ويحار بطليموس لَو لاقاه من ... برهانه فِي كل شكل مُشكل)
(فَلَو أَنهم جمعُوا لَدَيْهِ تيقنوا ... أَن الْفَضِيلَة لم تكن للْأولِ)
(وَبِه يبيت الْحلم معتصما إِذا ... هزت ريَاح الطيش ركني يذبل)
(يعْفُو عَن الذَّنب الْعَظِيم تكرما ... ويجود مسؤولا وَأَن لم يسْأَل)
(أرْضى الْإِلَه بفضله ودفاعه ... عَن دينه وَأقر عين الْمُرْسل)
(يَا أَيهَا الْمولى الَّذِي درجاته ... ترنو إِلَى فلك الثوابت من عل)
(مَا منصب إِلَّا وقدرك فَوْقه ... فبمجدك السَّامِي يهني مَا تلِي)
(فَمَتَى أَرَادَ الله رفْعَة منصب ... أفْضى إِلَيْك فنال أشرف منزل)
(لَا زَالَ ربعك للوفود محطة ... أبدا وجودك كَهْف كل مُؤَمل) الْكَامِل(1/464)
ويحدثني نجم الدّين يُوسُف بن شرف الدّين عَليّ بن مُحَمَّد الأسفزاري قَالَ كَانَ الشَّيْخ الإِمَام ضِيَاء الدّين عمر وَالِد الإِمَام فَخر الدّين من الرّيّ وتفقه واشتغل بِعلم الْخلاف وَالْأُصُول حَتَّى تميز تميزا كثيرا وَصَارَ قَلِيل الْمثل وَكَانَ يدرس بِالريِّ ويخطب فِي أَوْقَات مَعْلُومَة هُنَالك ويجتمع عِنْده خلق كثير لحسن مَا يُورِدهُ وبلاغته حَتَّى اشْتهر بذلك بَين الْخَاص وَالْعَام فِي تِلْكَ النواحي
وَله تصانيف عدَّة تُوجد فِي الْأُصُول وَفِي الْوَعْظ وَغير ذَلِك وَخلف وَلدين أَحدهمَا الإِمَام فَخر الدّين وَالْآخر وَهُوَ الْأَكْبَر سنا كَانَ يلقب بالركن وَكَانَ هَذَا الرُّكْن قد شدا شَيْئا من الْخلاف وَالْفِقْه وَالْأُصُول إِلَّا أَنه كَانَ أهوج كثير الاختلال فَكَانَ أبدا لَا يزَال يسير خلف أَخِيه فَخر الدّين وَيتَوَجَّهُ إِلَيْهِ فِي أَي بلد قَصده ويشنع عَلَيْهِ ويسفه المشتغلين بكتبه والناظرين فِي أَقْوَاله وَيَقُول أَلَسْت أكبر مِنْهُ وَاعْلَم مِنْهُ وَأكْثر معرفَة بِالْخِلَافِ وَالْأُصُول فَمَا للنَّاس يَقُولُونَ فَخر الدّين فَخر الدّين وَلَا أسمعهم يَقُولُونَ ركن الدّين
وَكَانَ رُبمَا صنف بِزَعْمِهِ شَيْئا وَيَقُول هَذَا خير من كَلَام فَخر الدّين ويثلبه وَالْجَمَاعَة يعْجبُونَ مِنْهُ وَكثير مِنْهُم يصفونه ويهزأون بِهِ
وَكَانَ الإِمَام فَخر الدّين كلما بلغه شَيْء من ذَلِك صَعب عَلَيْهِ وَلم يُؤثر أَن أَخَاهُ بِتِلْكَ الْحَالة وَلَا أحد يسمع قَوْله
وَكَانَ دَائِم الْإِحْسَان إِلَيْهِ وَرُبمَا سَأَلَهُ الْمقَام فِي الرّيّ أَو فِي غَيره وَهُوَ يفتقده ويصله بِكُل مَا يقدر عَلَيْهِ
فَكَانَ كلما سَأَلَهُ ذَلِك يزِيد فِي فعله وَلَا ينْتَقل عَن حَاله
وَلم يزل كَذَلِك لَا يَنْقَطِع عَنهُ وَلَا يسكت عَمَّا هُوَ فِيهِ إِلَى أَن اجْتمع فَخر الدّين بالسلطان خوارزمشاه وأنهى إِلَيْهِ حَال أَخِيه وَمَا يقاسي مِنْهُ وَالْتمس مِنْهُ أَن يتْركهُ فِي بضع الْمَوَاضِع ويوصى عَلَيْهِ أَنه لَا يُمكن من الْخُرُوج والانتقال عَن ذَلِك الْموضع وَأَن يكون لَهما يقوم بكفايته وكل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ
فَجعله السُّلْطَان فِي بعض القلاع الَّتِي لَهُ وَأطلق لَهُ إقطاعا يقوم لَهُ فِي كل سنة بِمَا مبلغه ألف دِينَار وَلم يزل مُقيما هُنَالك حَتَّى قضى الله فِي أمره
قَالَ وَكَانَ الإِمَام فَخر الدّين عَلامَة وقته فِي كل الْعُلُوم وَكَانَ الْخلق يأْتونَ إِلَيْهِ من كل نَاحيَة ويخطب أَيْضا بِالريِّ
وَكَانَ لَهُ مجْلِس عَظِيم للتدريس
فَإِذا تكلم بذ الْقَائِلين
وَكَانَ عبل الْبدن باعتدال عَظِيم الصَّدْر وَالرَّأْس كث اللِّحْيَة
وَمَات وَهُوَ فِي سنّ الكهولة أشمط شعر اللِّحْيَة
وَكَانَ كثيرا مَا يذكر الْمَوْت ويؤثره
وَيسْأل الله الرَّحْمَة وَيَقُول إِنَّنِي حصلت من الْعُلُوم مَا يُمكن تَحْصِيله بِحَسب الطَّاقَة البشرية وَمَا يبيت أُؤْثِر إِلَّا لِقَاء الله تَعَالَى وَالنَّظَر إِلَى وَجهه الْكَرِيم
قَالَ
وَخلف فَخر الدّين ابْنَيْنِ الْأَكْبَر مِنْهُمَا يلقب بضياء الدّين وَله اشْتِغَال وَنظر فِي الْعُلُوم وَالْآخر وَهُوَ الصَّغِير لقبه شمس الدّين وَله فطْرَة فائقة وذكاء خارق وَكَانَ كثيرا مَا يصفه الإِمَام فَخر الدّين بالذكاء وَيَقُول إِن عَاشَ ابْني هَذَا فَإِنَّهُ يكون أعلم مني وَكَانَت النجابة تتبين فِيهِ من الصغر
وَلما توفّي الإِمَام فَخر الدّين بقيت أَوْلَاده مقيمين فِي هراة ولقب وَلَده الصَّغِير بعد(1/465)
ذَلِك فَخر الدّين بلقب أَبِيه وَكَانَ الْوَزير عَلَاء الْملك الْعلوِي مُتَقَلِّدًا الوزارة للسُّلْطَان خوارزمشاه وَكَانَ عَلَاء الْملك فَاضلا متقنا الْعُلُوم وَالْأَدب وَالشعر بِالْعَرَبِيَّةِ والفارسية
وَكَانَ قد تزوج بابنة الشَّيْخ فَخر الدّين وَلما جرى أَن جنكز خَان ملك التتر قهر خوارزمشاه وكسره وَقتل أَكثر عسكره وفقد خوارزمشاه توجه عَلَاء الْملك قَاصِدا إِلَى جنكز خَان ومعتصما بِهِ فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ أكْرمه وَجعله عِنْده من جملَة خواصه
وعندما استولى التتر على بِلَاد الْعَجم وخربوا قلاعها ومدنها وَكَانُوا يقتلُون فِي كل مَدِينَة جَمِيع من بهَا وَلم يبقوا على أحد تقدم عَلَاء الْملك إِلَى جنكز خَان وَقد تَوَجَّهت فرقة من عساكره إِلَى مَدِينَة هراة ليخربوها ويقتلوا من بهَا فَسَأَلَهُ أَن يُعْطِيهِ أَمَانًا لأَوْلَاد الشَّيْخ فَخر الدّين بن خطيب الرّيّ وَأَن يجيئوا بهم مكرمين إِلَيْهِ فوهب لَهُم ذَلِك وَأَعْطَاهُمْ أَمَانًا
وَلما ذهب أَصْحَابه إِلَى هراة وشارفوا أَخذهَا نادوا فِيهَا بِأَن لأَوْلَاد فَخر الدّين بن الْخَطِيب الْأمان فليعزلوا نَاحيَة فِي مَكَان
وَيكون هَذَا الْأمان مَعَهم
وَكَانَ فِي هراة دَار الشَّيْخ فَخر الدّين هِيَ دَار السلطنة كَانَ خوارزمشاه قد أَعْطَاهَا لَهُ وَهِي من أعظم دَار تكون وأكبرها وأبهاها وأكثرها زخرفة واحتفالا فَلَمَّا بلغ أَوْلَاد فَخر الدّين ذَلِك أَقَامُوا بهَا مأمونين والتحق بهم خلق كثير من أَهَالِيهمْ وأقربائهم وأعيان الدولة وكبراء الْبَلَد وَجَمَاعَة كثيرين من الْفُقَهَاء وَغَيرهم ظنا أَن يَكُونُوا فِي أَمَان لاتصالهم بأولاد فَخر الدّين ولكونهم خصيصين بهم وَفِي دَارهم وَكَانُوا خلقا عَظِيما
فَلَمَّا دخل التتر إِلَى الْبَلَد وَقتلُوا من وجدوه بهَا وانتهوا إِلَى الدَّار نادوا بأولاد فَخر الدّين أَن يروهم فَلَمَّا شاهدوهم أخذوهم عِنْدهم وهم ضِيَاء الدّين وشمس الدّين وأختهم
ثمَّ شرعوا بِسَائِر من كَانَ فِي الدَّار فَقَتَلُوهُمْ عَن آخِرهم بِالسَّيْفِ
وتوجهوا بأولاد الشَّيْخ فَخر الدّين من هراة إِلَى سَمَرْقَنْد لِأَن ملك التتر جنكز خَان كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت بهَا وَعِنْده عَلَاء الْملك قَالَ وَلست اعْلَم مَا تمّ لَهُم بعد ذَلِك
أَقُول وَكَانَ أَكثر مقَام الشَّيْخ فَخر الدّين بِالريِّ وَتوجه أَيْضا إِلَى بَلْدَة خوارزم وَمرض بهَا وَتُوفِّي فِي عقابيله ببلدة هراة وأملى فِي شدَّة مَرضه وَصِيَّة على تِلْمِيذه إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن عَليّ الْأَصْفَهَانِي وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَحَد الْحَادِي وَالْعِشْرين من شهر الْمحرم سنة سِتّ وسِتمِائَة
وامتد مَرضه إِلَى أَن توفّي يَوْم الْعِيد غرَّة شَوَّال من السّنة الْمَذْكُورَة وانتقل إِلَى جوَار ربه رَحمَه الله تَعَالَى
وَهَذِه نُسْخَة الْوَصِيَّة
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
يَقُول العَبْد الراجي رَحْمَة ربه الواثق بكرم مَوْلَاهُ مُحَمَّد بن عمر بن الْحُسَيْن الرَّازِيّ وَهُوَ فِي آخر(1/466)
عَهده بالدنيا وَأول عَهده بِالآخِرَة وَهُوَ الْوَقْت الَّذِي يلين فِيهِ كل قَاس وَيتَوَجَّهُ إِلَى مَوْلَاهُ كل أبق أَنِّي أَحْمد تَعَالَى بالمحامد الَّتِي ذكرهَا أعظم مَلَائكَته فِي أشرف أَوْقَات معارجهم ونطق بهَا أعظم أنبيائه فِي أكمل أَوْقَات مشاهدتهم بل أَقُول كل ذَلِك من نتائج الْحُدُوث والإمكان
فأحمده بالمحامد الَّتِي تستحقها الوهيته ويستوجبها لكَمَال الموهبة عرفتها أَو لم أعرفهَا لِأَنَّهُ لَا مُنَاسبَة للتراب مَعَ جلال رب الأرباب وأصلي على الْمَلَائِكَة المقربين والأنبياء الْمُرْسلين وَجَمِيع عباد الله الصَّالِحين
ثمَّ أَقُول بعد ذَلِك اعلموا إخْوَانِي فِي الدّين وأخداني فِي طلب الْيَقِين
إِن النَّاس يَقُولُونَ الْإِنْسَان إِذا مَاتَ انْقَطع تعلقه عَن الْخلق وَهَذَا الْعَام مَخْصُوص من وَجْهَيْن الأول أَنه إِن بَقِي مِنْهُ عمل صَالح صَار ذَلِك سَببا للدُّعَاء وَالدُّعَاء لَهُ أثر عِنْد الله
وَالثَّانِي مَا يتَعَلَّق بمصالح الْأَطْفَال وَالْأَوْلَاد والعورات وَأَدَاء الْمَظَالِم والجنايات
أما الأول فاعلموا أَنِّي كنت رجلا محبا للْعلم فَكنت اكْتُبْ فِي كل شَيْء شَيْئا لَا أَقف على كمية وَكَيْفِيَّة سَوَاء كَانَ حَقًا أَو بَاطِلا أَو غثا أَو سمينا
إِلَّا إِن الَّذِي نظرته فِي الْكتب الْمُعْتَبرَة لي أَن هَذَا الْعَالم المحسوس تَحت تَدْبِير مُدبر منزه عَن مماثلة المتحيزات والأعراض وموصوف بِكَمَال الْقُدْرَة وَالْعلم وَالرَّحْمَة
وَلَقَد اختبرت الطّرق الكلامية والمناهج الفلسفية فَمَا رَأَيْت فِيهَا فَائِدَة تَسَاوِي الْفَائِدَة الَّتِي وَجدتهَا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم لِأَنَّهُ يسْعَى فِي تَسْلِيم العظمة والجلال بِالْكُلِّيَّةِ لله تَعَالَى وَيمْنَع عَن التعمق فِي إِيرَاد المعارضات والمناقضات
وَمَا ذَاك إِلَّا الْعلم بِأَن الْعُقُول البشرية تتلاشى وتضمحل فِي تِلْكَ المضايق العميقة والمناهج الْخفية فَلهَذَا أَقُول
كلما ثَبت بالدلائل الظَّاهِرَة من وجوب وجوده ووحدته وبراءته عَن الشُّرَكَاء فِي الْقدَم والأزلية وَالتَّدْبِير والفعالية فَذَاك هُوَ الَّذِي أَقُول بِهِ وَألقى الله تَعَالَى بِهِ
وَأما مَا انْتهى الْأَمر فِيهِ إِلَى الدقة والغموض فَكل مَا ورد فِي الْقُرْآن وَالْأَخْبَار الصَّحِيحَة الْمُتَّفق عَلَيْهَا بَين الْأَئِمَّة المتبعين للمعنى الْوَاحِد فَهُوَ كَمَا هُوَ
وَالَّذِي لم يكن كَذَلِك أَقُول يَا إِلَه الْعَالمين أَنِّي أرى الْخلق مطبقين على أَنَّك أكْرم الأكرمين وأرحم الرَّاحِمِينَ فلك مَا مر بِهِ قلمي أَو خطر ببالي فاستشهد علمك
وَأَقُول إِن علمت مني إِنِّي أردْت بِهِ تَحْقِيق بَاطِل أَو إبِْطَال حق فافعل بِي مَا أَنا أَهله وَإِن علمت مني أَنِّي مَا سعيت إِلَّا فِي تَقْرِير مَا اعتقدت أَنه هُوَ الْحق وتصورت أَنه الصدْق فلتكن رحمتك مَعَ قصدي لَا مَعَ حاصلي فَذَاك جهد الْمقل وَأَنت أكْرم من أَن تضايق الضَّعِيف الْوَاقِع فِي الزلة
فأغثني وارحمني واستر زلتي وامح حوبتي يَا من لَا يزِيد ملكه عرفان العارفين وَلَا ينتقص بخطأ الْمُجْرمين
وَأَقُول ديني مُتَابعَة مُحَمَّد سيد الْمُرْسلين وكتابي هُوَ الْقُرْآن الْعَظِيم وتعويلي فِي طلب الدّين عَلَيْهِمَا
اللَّهُمَّ يَا سامع الْأَصْوَات وَيَا مُجيب الدَّعْوَات وَيَا مقيل العثرات وَيَا رَاحِم العبرات وَيَا قيام المحدثات والممكنات
أَنا كنت حسن الظَّن بك عَظِيم الرَّجَاء فِي رحمتك وَأَنت قلت
أَنا عِنْد ظن العَبْد بِي
وَأَنت قلت أَمن يُجيب الْمُضْطَر إِذا دَعَاهُ
وَأَنت قلت وَإِذا سَأَلَك عبَادي عني فَإِنِّي قريب
فَهَب أَنِّي مَا جِئْت بِشَيْء فَأَنت الْغَنِيّ الْكَرِيم وَأَنا الْمُحْتَاج اللَّئِيم
وَأعلم أَنه لَيْسَ لي أحد سواك وَلَا أجد محسنا سواك وَأَنا معترف بالزلة والقصور وَالْعَيْب والفتور فَلَا تخيب رجائي وَلَا ترد دعائي واجعلني آمنا من عذابك قبل الْمَوْت وَعند الْمَوْت وَبعد الْمَوْت وَسَهل عَليّ سَكَرَات(1/467)
الْمَوْت وخفف عني نزُول الْمَوْت وَلَا تضيق عَليّ بِسَبَب الآلام والأسقام فَأَنت أرْحم الرَّاحِمِينَ
وَأما الْكتب العلمية الَّتِي صنفتها أَو استكثرت من إِيرَاد السؤالات على الْمُتَقَدِّمين فِيهَا فَمن نظر فِي شَيْء مِنْهَا فَإِن طابت لَهُ تِلْكَ السؤالات فَلْيذكرْنِي فِي صَالح دُعَائِهِ على سَبِيل التفضل والإنعام وَإِلَّا فليحذف القَوْل السَّيئ فَإِنِّي مَا أردْت إِلَّا تَكْثِير الْبَحْث وتشحيذ الخاطر واعتمادي فِيهِ على الله تَعَالَى
وَأما المهم الثَّانِي وَهُوَ إصْلَاح أَمر الْأَطْفَال والعورات فاعتمادي فِيهِ على الله تَعَالَى ثمَّ على نَائِب الله مُحَمَّد
اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ قرين مُحَمَّد الْأَكْبَر فِي الدّين والعلو إِلَّا أَن السُّلْطَان الْأَعْظَم لَا يُمكنهُ أَن يشْتَغل بإصلاح مهمات الْأَطْفَال فَرَأَيْت الأولى أَن أفوض وصاية أَوْلَادِي إِلَى فلَان وأمرته بتقوى الله تَعَالَى فَإِن الله مَعَ الَّذين اتَّقوا وَالَّذين هم محسنون
وسرد الْوَصِيَّة إِلَى آخرهَا ثمَّ قَالَ
وأوصيه ثمَّ أوصيه ثمَّ أوصيه بِأَن يُبَالغ فِي تربية وَلَدي أبي بكر
فَإِن آثَار الذكاء والفطنة ظَاهِرَة عَلَيْهِ وَلَعَلَّ الله تَعَالَى يوصله إِلَى خير
وأمرته وَأمرت كل تلامذتي وكل من عَلَيْهِ حق إِنِّي إِذا مت يبالغون فِي إخفاء موتِي وَلَا يخبرون أحدا بِهِ ويكفنوني ويدفنوني على شَرط الشَّرْع ويحملونني إِلَى الْجَبَل المصاقب لقرية مزداخان ويدفنوني هُنَاكَ وَإِذا وضعوني فِي اللَّحْد قرأوا عَليّ مَا قدرُوا عَلَيْهِ من آيَات الْقُرْآن ثمَّ ينثرون التُّرَاب عَليّ
وَبعد الْإِتْمَام يَقُولُونَ يَا كريم جَاءَك الْفَقِير الْمُحْتَاج فَأحْسن إِلَيْهِ
وَهَذَا مُنْتَهى وصيتي فِي هَذَا الْبَاب وَالله تَعَالَى الفعال لما يَشَاء وَهُوَ على مَا يَشَاء قدير وبالإحسان جدير
وَمن شعر فَخر الدّين بن الْخَطِيب أَنْشدني بديع الدّين البندهي مِمَّا سَمعه من الشَّيْخ فَخر الدّين بن خطيب الرّيّ لنَفسِهِ فَمن ذَلِك قَالَ
(نِهَايَة إقدام الْعُقُول عقال ... وَأكْثر سعي الْعَالمين ضلال)
(وأرواحنا فِي عقلة من جسومنا ... وَحَاصِل دُنْيَانَا أَذَى ووبال)
(وَلم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أَن جَمعنَا فِيهِ قيل وَقَالُوا)
(وَكم قد رَأينَا من رجال ودولة ... فبادوا جَمِيعًا مُسْرِعين وزالوا)
(وَكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فزالوا وَالْجِبَال جبال) الطَّوِيل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(فَلَو قنعت نَفسِي بميسور بلغَة ... لما سبقت فِي المكرمات رجالها)
(وَلَو كَانَت الدُّنْيَا مُنَاسبَة لَهَا ... لما استحقرت نقصانها وكمالها)
(وَلَا أرمق الدُّنْيَا بِعَين كَرَامَة ... وَلَا أتوقى سوءها واختلالها)(1/468)
(ذَلِك لِأَنِّي عَارِف بفنائها ... ومستيقن ترحالها وانحلالها)
(أروم أمورا يصغر الدَّهْر عِنْدهَا ... وتستعظم الأفلاك طرا وصالها) الطَّوِيل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(أَرْوَاحنَا لَيْسَ تَدْرِي أَيْن مذهبها ... وَفِي التُّرَاب توارى هَذِه الجثث)
(كَون يرى وَفَسَاد جَاءَ يتبعهُ ... الله أعلم مَا فِي خلقه عَبث) الطَّوِيل
نظر إِلَى قَوْله عز وَجل {أفحسبتم أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثا وأنكم إِلَيْنَا لَا ترجعون}
وأنشدني بعض الْفُقَهَاء للشَّيْخ فَخر الدّين بن الْخَطِيب فِي مخدومه عَلَاء الدّين عَليّ خوارزم شاه حِين كسر الغوري قَالَ
(الدّين مَمْدُود الرواق موطد ... وَالْكفْر محلول النطاق مبدد)
(بعد عَلَاء الدّين وَالْملك الَّذِي ... أدنى خَصَائِصه العلى والسودد)
(شمس يشق جَبينه حجب السما ... وَاللَّيْل قاري الدجنة أسود)
(هُوَ فِي الجحافل أَن أثير غبارها ... أَسد وَلَكِن فِي المحافل سيد)
(فَإِذا تصدر للسماح فَإِنَّهُ ... فِي ضمن رَاحَته الخضم المزبد)
(وَإِذا تمنطق للكفاح رَأَيْته ... فِي طي لأمته الهزبر الملبد)
(بالجهد أدْرك مَا أَرَادَ من العلى ... لَا يدْرك العلياء من لَا يجْهد)
(أبقت مساعي أتسز بن مُحَمَّد ... سننا تخيرها النَّبِي مُحَمَّد)
(أأعد أنعاما عَليّ عزيزة ... والكثر لَا يُحْصى فلست أعدد)
(أجْرى سوابقه على عاداتها ... خيل جِيَاد وَهُوَ مِنْهَا أَجود)
(ملك الْبِلَاد بجده وبجهده ... فأطاعه الثَّقَلَان فَهُوَ مسود)
(من نسل سَابُور ودارى نجره ... صيد الْمُلُوك وَذَاكَ عِنْدِي أصيد)
(خوارزم شاه جهان عِشْت فَلَا يرى ... لَك فِي الزَّمَان على الْجِيَاد مُفند)
(أفنيت أَعدَاء الْإِلَه يسفل ... الْمَاضِي شباه على العداة مهند)(1/469)
(أمروزتو ملك الزَّمَان بأسره ... لَا شَيْء مثل علاك أَنْت الأوحد)
(أشبهت ضحاك الْبِلَاد بسطوة ... ترجى وتخشى جرخ تو وتسعد) الْكَامِل
أَقُول وللشيخ فَخر الدّين أَيْضا أشعارا كَثِيرَة بالفارسي ودوبيت
ولفخر الدّين بن الْخَطِيب من الْكتب كتاب التَّيْسِير الْكَبِير الْمُسَمّى مَفَاتِيح الْغَيْب اثْنَتَا عشر مجلدة بِخَطِّهِ الدَّقِيق سوى الْفَاتِحَة فَإِنَّهُ أفرد لَهَا كتاب تَفْسِير الْفَاتِحَة مجلدة
تَفْسِير سُورَة الْبَقَرَة على الْوَجْه الْعقلِيّ لَا النقلي مُجَلد
شرح وجيز الْغَزالِيّ لم يتم حصل مِنْهُ الْعِبَادَات وَالنِّكَاح فِي ثَلَاث مجلدات
كتاب الطَّرِيقَة العلائية فِي الْخلاف أَربع مجلدات
كتاب لوامع الْبَينَات فِي شرح أَسمَاء الله تَعَالَى وَالصِّفَات
كتاب الْمَحْصُول فِي علم أصُول الْفِقْه
كتاب فِي أبطال الْقيَاس
شرح كتاب الْمفصل للزمخشري فِي النَّحْو لم يتم
شرح سقط الزند لم يتم
شرح نهج البلاعة لم يتم
كتاب فَضَائِل الصَّحَابَة
كتاب مَنَاقِب الشَّافِعِي
كتاب نِهَايَة الْعُقُول فِي دراية الْأُصُول مجلدان
كتاب المحصل مُجَلد
كتاب المطالب الْعَالِيَة ثَلَاث مجلدات لم يتم وَهُوَ آخر مَا ألف
كتاب الْأَرْبَعين فِي أصُول الدّين
كتاب المعالم وَهُوَ آخر مصنفاته من الصغار
كتاب تأسيس التَّقْدِيس مُجَلد أَلفه للسُّلْطَان الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب فَبعث لَهُ عَنهُ ألف دِينَار
كتاب الْقَضَاء وَالْقدر
رِسَالَة الْحُدُوث
كتاب تعجيز الفلاسفة بِالْفَارِسِيَّةِ
كتاب الْبَرَاهِين البهائية بِالْفَارِسِيَّةِ
كتاب اللطائف الغياثية
كتاب شِفَاء العيى وَالْخلاف
كتاب الْخلق والبعث
كتاب الْخمسين فِي أصُول الدّين
كتاب عُمْدَة الأنظار وزينة الأفكار
كتاب الْأَخْلَاق
كتاب الرسَالَة الصاحبية
كتاب الرسَالَة المحمدية
كتاب عصمَة الْأَنْبِيَاء
كتاب الملخص
كتاب المباحث المشرقية
كتاب الإنارات فِي شرح الإشارات
كتاب لباب الإشارات
شرح كتاب عُيُون الْحِكْمَة
الرسَالَة الكمالية فِي الْحَقَائِق الإلهية ألفها بِالْفَارِسِيَّةِ لكَمَال الدّين مُحَمَّد بن مِيكَائِيل وَوجدت شَيخنَا الإِمَام الْعَالم تَاج الدّين مُحَمَّد الأرموي قد نقلهَا إِلَى الْعَرَبِيّ فِي سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة بِدِمَشْق
رِسَالَة الْجَوْهَر الْفَرد
كتاب الرِّعَايَة
كتاب فِي الرمل
كتاب مصادرات أقليدس
كتاب فِي الهندسة
كتاب نفثة المصدور
كتاب فِي ذمّ الدُّنْيَا
كتاب الاختبارات العلائية
كتاب الاختبارات السماوية
كتاب إحكام الْأَحْكَام
كتاب الموسوم فِي السِّرّ المكتوم
كتاب الرياض المونقة
رِسَالَة فِي النَّفس
رِسَالَة فِي النبوات
كتاب الْملَل والنحل
منتخب كتاب دنكاوشا
كتاب مبَاحث الْوُجُود
كتاب نِهَايَة الإيجاز فِي دراية الإعجاز
كتاب مبَاحث الجدل
كتاب مبَاحث الْحُدُود
كتاب الْآيَات الْبَينَات
رِسَالَة فِي التَّنْبِيه على بعض الْأَسْرَار المودعة فِي بعض سور الْقُرْآن الْعَظِيم
كتاب الْجَامِع الْكَبِير لم يتم
وَيعرف أَيْضا بِكِتَاب الطِّبّ الْكَبِير
كتاب فِي النبض مُجَلد
شرح كليات القانون لم يتم وألفه للحكيم ثِقَة الدّين عبد الرَّحْمَن بن عبد الْكَرِيم السَّرخسِيّ
كتاب التشريح من الرَّأْس إِلَى الْحلق لم يتم
كتاب الْأَشْرِبَة
مسَائِل فِي الطِّبّ
كتاب الزبدة
كتاب الفراسة(1/470)
القطب الْمصْرِيّ
هُوَ الإِمَام قطب الدّين إِبْرَاهِيم بن عَليّ بن مُحَمَّد السّلمِيّ وَكَانَ أَصله مغربيا وَإِنَّمَا انْتقل إِلَى مصر وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ سَافر بعد ذَلِك إِلَى بِلَاد الْعَجم
واشتغل على فَخر الدّين بن خطيب الرّيّ واشتهر هُنَاكَ وَكَانَ من أجل تلامذة ابْن الْخَطِيب وأميزهم
وصنف كتبا كَثِيرَة فِي الطِّبّ وَالْحكمَة وَشرح الكليات بأسرها من كتاب القانون لِابْنِ سينا
وَوَجَدته فِي كِتَابه هَذَا يفضل المسيحي وَابْن الْخَطِيب على الشَّيْخ أبي عَليّ بن سينا وَهَذَا نَص قَوْله قَالَ
والمسيحي أعلم بصناعة الطِّبّ من الشَّيْخ أبي عَليّ فَإِن مَشَايِخنَا كَانُوا يرجحونه على جمع عَظِيم مِمَّن هم أفضل من أبي عَليّ فِي هَذَا الْفَنّ
وَقَالَ أَيْضا وَعبارَة المسيحي أوضح وَأبين مِمَّا قَالَه الشَّيْخ وغرضه فِي كتبه تَقْيِيد الْعبارَة من غير فَائِدَة
وَقَالَ فِي تَفْضِيل ابْن الْخَطِيب على الشَّيْخ الرئيس فَهَذَا مِمَّا تنخل من كَلَام الْإِمَامَيْنِ العظيمين الإِمَام الْمُتَقَدّم وَالْإِمَام الْمُتَأَخر عَنهُ زَمَانا الرَّاجِح عَلَيْهِ علما وَعَملا واعتقادا ومذهبا
وَقتل القطب الْمصْرِيّ بِمَدِينَة نيسابور وَذَلِكَ عِنْدَمَا استولى التتر على بِلَاد الْعَجم وَقتلُوا أَهلهَا فَكَانَ من جملَة الْقَتْلَى بنيسابور
وللقطب الْمصْرِيّ من الْكتب شرح الكليات من كتاب القانون للشَّيْخ الرئيس ابْن سينا
السموأل
هُوَ السموأل بن يحيى بن عَبَّاس المغربي كَانَ فَاضلا فِي الْعُلُوم الرياضية عَالما بصناعة الطِّبّ وَأَصله من بِلَاد الْمغرب وَسكن مُدَّة فِي بَغْدَاد ثمَّ انْتقل إِلَى بِلَاد الْعَجم وَلم يزل بهَا إِلَى آخر عمره وَكَانَ أَبوهُ أَيْضا يشدو شَيْئا من عُلُوم الْحِكْمَة ونقلت من خطّ الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ قَالَ هَذَا السموأل شَاب بغدادي كَانَ يَهُودِيّا ثمَّ أسلم وَمَات شَابًّا بمراغة وَبلغ فِي العدديات مبلغا لم يصله أحد فِي زَمَانه
وَكَانَ حاد الذِّهْن جدا بلغ فِي الصِّنَاعَة الجبرية الْغَايَة القصوى
وَأقَام بديار بكر وآذربيجان وَله رسائل فِي الْجَبْر والمقابلة يرد فِيهَا على ابْن الخشاب النَّحْوِيّ
وَذَلِكَ أَن ابْن الخشاب كَانَ معاصره وَكَانَ لِابْنِ الخشاب مُشَاركَة فِي الْحساب وَنظر فِي الْجَبْر والمقابلة
وَقَالَ الصاحب جمال الدّين بن القفطي أَن السموأل هَذَا لما أَتَى إِلَى الْمشرق ارتحل مِنْهُ إِلَى آذربيجان وخدم بَيت البهلوان وأمراء دولتهم
وَأقَام بِمَدِينَة المراغة وأولد أَوْلَادًا هُنَاكَ سلكوا طَرِيقَته فِي الطِّبّ
وارتحل إِلَى الْموصل وديار بكر وَأسلم فَحسن إِسْلَامه وصنف كتابا فِي إِظْهَار معايب الْيَهُود وَكذب دعاويهم فِي التَّوْرَاة ومواضع الدَّلِيل على تبديلها واحكم مَا جمعه فِي ذَلِك وَمَات بالمراغة قَرِيبا من سنة سبعين وَخَمْسمِائة
وللسموأل بن يحيى بن عَبَّاس المغربي من الْكتب كتاب الْمُفِيد الْأَوْسَط فِي الطِّبّ صنفه فِي سنة(1/471)
أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بِبَغْدَاد للوزير مؤيد الدّين أبي إِسْمَاعِيل الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحسن بن عَليّ
رِسَالَة إِلَى ابْن خدود فِي مسَائِل حسابية جبر ومقابلة
كتاب إعجاز المهندسين صنفه لنجم الدّين أبي الْفَتْح شاه غَازِي ملك شاه بن طغرلبك وَفرغ من تصنيفه فِي صفر سنة سبعين وَخَمْسمِائة
كتاب الرَّد على الْيَهُود
كتاب القوامي فِي الْحساب الْهِنْدِيّ أَلفه فِي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
كتاب المثلث الْقَائِم الزاوية وَقد أحسن فِي تمثيله وتشكيله صنفه لرجل من أهل حلب يدعى الشريف
كتاب الْمِنْبَر فِي مساحة أجسام الْجَوَاهِر المختلطة لاستخراج مِقْدَار مجهولها
كتاب فِي الْمِيَاه
بدر الدّين مُحَمَّد بن بهْرَام بن مُحَمَّد القلانسي السَّمرقَنْدِي
مجيد فِي صناعَة الطِّبّ وَله عناية بِالنّظرِ فِي معالجات الْأَمْرَاض ومداواتها
وَله من الْكتب كتاب الأقرباذين وَهُوَ تِسْعَة وَأَرْبَعُونَ بَابا قد استوعب فِيهِ ذكر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْأَدْوِيَة المركبة وَجمع أَكثر ذَلِك من الْكتب الْمُعْتَمد عَلَيْهَا كثيرا مثل القانون وَالْحَاوِي والكامل والمنصوري والذخيرة والكفاية وَذكر أَنه قد أورد مَعَ ذَلِك أَيْضا ذَروا من نسخ الإِمَام الْعَالم قوام الدّين صاعد المهني وَمن نسخ الإِمَام شرف الزَّمَان المابرسامي
نجيب الدّين أَبُو حَامِد مُحَمَّد بن عَليّ بن عمر السَّمرقَنْدِي
طَبِيب فَاضل بارع وَله كتب جليلة وتصانيف مَشْهُورَة وَقتل مَعَ جملَة النَّاس الَّذين قتلوا بِمَدِينَة هراة لما دَخلهَا التتر وَكَانَ معاصر لفخر الدّين الرَّازِيّ بن الْخَطِيب
ولنجيب الدّين السَّمرقَنْدِي من الْكتب كتاب أغذية المرضى وقسمه على حسب مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي التغذية لكل وَاحِد من سَائِر الْأَمْرَاض
كتاب الْأَسْبَاب والعلامات جمعه لنَفسِهِ وَنَقله من القانون لأبي عَليّ بن سينا وَمن المعالجات البقراطية وكامل الصِّنَاعَة
كتاب الأقراباذين الْكَبِير
كتاب الأقراباذين الصَّغِير
الشريف شرف الدّين إِسْمَاعِيل
كَانَ طَبِيبا عالي الْقدر وافر الْعلم وجيها فِي الدولة
وَكَانَ فِي خدمَة السُّلْطَان عَلَاء الدّين مُحَمَّد خوارزم شاه
وَله مِنْهُ الْأَنْعَام الوافر والمرتبة المكينة
وَكَانَ لَهُ مُقَرر على السُّلْطَان فِي كل شهر ألف دِينَار وَكَانَت لَهُ معالجات بديعة وآثار حَسَنَة فِي صناعَة الطِّبّ
وَتُوفِّي فِي أَيَّام خوارزمشاه بِمَدِينَة بعد أَن عمر
وَله من الْكتب كتاب الذَّخِيرَة الخوارزم شاهية فِي الطِّبّ بالفارسي اثْنَا عشر مجلدا
كتاب الْأَغْرَاض فِي الطِّبّ بالفارسي مجلدان
كتاب يادكار فِي الطِّبّ بالفارسي مُجَلد أَلفه لخوارزم شاه(1/472)
الْبَاب الثَّانِي عشر
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا من الْهِنْد
كنكه الْهِنْدِيّ
حَكِيم بارع من مُتَقَدِّمي حكماء الْهِنْد وأكابرهم وَله نظر فِي صناعَة الطِّبّ وقوى الْأَدْوِيَة وطبائع المولدات وخواص الموجودات وَكَانَ من أعلم النَّاس بهيئة الْعَالم وتركيب الأفلاك وحركات النُّجُوم
وَقَالَ أَبُو معشر جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عمر الْبَلْخِي فِي كتاب الألوف إِن كنكه هُوَ الْمُقدم فِي علم النُّجُوم عِنْد جَمِيع الْعلمَاء من الْهِنْد فِي سالف الدَّهْر
ولكنكنه من الْكتب كتاب النموذار فِي الْأَعْمَار
كتاب أسرار المواليد
كتاب القرانات الْكَبِير
كتاب القرانات الصَّغِير
كتاب الطِّبّ وَهُوَ يجْرِي مجْرى كناش
كتاب فِي التَّوَهُّم
كتاب فِي إِحْدَاث الْعَالم والدور فِي الْقرَان
صنجهل
كَانَ من عُلَمَاء الْهِنْد وفضلائهم الخبيرين بِعلم الطِّبّ والنجوم
ولصنجهل من الْكتب كتاب المواليد الْكَبِير
وَكَانَ من بعد صنجهل الْهِنْدِيّ جمَاعَة فِي بِلَاد الْهِنْد وَلَهُم تصانيف مَعْرُوفَة فِي صناعَة الطِّبّ وَفِي غَيرهَا من الْعُلُوم مثل باكهر راحه صَكَّة داهر أنكرزنكل جبهر اندى جارى كل هَؤُلَاءِ أَصْحَاب تصانيف وهم من حكماء الْهِنْد وأطبائهم وَلَهُم الْأَحْكَام الْمَوْضُوعَة فِي علم النُّجُوم والهند تشتغل بمؤلفات هَؤُلَاءِ فِيمَا بَينهم ويقتدون بهَا ويتناقلونها وَقد نقل كثير مِنْهَا إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة
وَوجدت الرَّازِيّ قد نقل فِي كِتَابه الْحَاوِي وَفِي غَيره عَن كتب جمَاعَة من الْهِنْد مثل كتاب شرك الْهِنْدِيّ وَهَذَا الْكتاب فسره عبد الله بن عَليّ من الْفَارِسِي إِلَى الْعَرَبِيّ لِأَنَّهُ أَولا نقل من الْهِنْدِيّ إِلَى الْفَارِسِي وَعَن(1/473)
كتاب سسرد وَفِيه عَلَامَات الأدواء وَمَعْرِفَة علاجها وأدويتها وَهُوَ عشر مقالات أَمر يحيى بن خَالِد بتفسيره وَكتاب بدان فِي عَلَامَات أَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعَة أدواء ومعرفتها بِغَيْر علاج وَكتاب سندهشان وَتَفْسِيره كتاب صُورَة النجح وَكتاب فِيمَا اخْتلف فِيهِ الْهِنْد وَالروم فِي الْحَار والبارد وقوى الْأَدْوِيَة وتفصيل السّنة وَكتاب تَفْسِير أَسمَاء الْعقار بأسماء عشرَة وَكتاب اسانكر الْجَامِع وَكتاب علاجات الحبالى للهند وَكتاب مُخْتَصر فِي العقاقير للهند وَكتاب نوفشل فِيهِ مائَة دَاء وَمِائَة دَوَاء وَكتاب روسي الْهِنْدِيَّة فِي علاجات النِّسَاء وَكتاب السكر للهند وَكتاب رَأْي الْهِنْدِيّ فِي أَجنَاس الْحَيَّات وسمومها وَكتاب التَّوَهُّم فِي الْأَمْرَاض والعلل لأبي قبيل الْهِنْدِيّ
شاناق
وَمن الْمَشْهُورين أَيْضا من أطباء الْهِنْد شاناق
وَكَانَت لَهُ معالجات وتجارب كَثِيرَة فِي صناعَة الطِّبّ وتفنن فِي الْعُلُوم وَفِي الْحِكْمَة وَكَانَ بارعا فِي علم النُّجُوم حسن الْكَلَام مُتَقَدما عِنْد مُلُوك الْهِنْد
وَمن كَلَام شاناق قَالَ فِي كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ منتحل الْجَوْهَر
يَا أَيهَا الْوَالِي اتَّقِ عثرات الزَّمَان واخش تسلط الإِمَام ولوعة غَلَبَة الدَّهْر
وَاعْلَم أَن الْأَعْمَال جَزَاء فَاتق عوائق الدَّهْر وَالْأَيَّام فَإِن لَهَا غدرات فَكُن مِنْهَا على حذر والأقدار مغيبات فاستعد لَهَا وَالزَّمَان مُنْقَلب فاحذر دولته لئيم الكرة فخف سطوته سريع الغزة فَلَا تأمن دولته
وَاعْلَم أَن من لم يداو نَفسه من سقام الآثام فِي أَيَّام حَيَاته فَمَا أبعده من الشِّفَاء فِي دَار لَا دَوَاء لَهَا وَمن أذلّ حواسه واستبعدها فِيمَا تقدم من خير لنَفسِهِ أبان فَضله وَأظْهر نبله وَمن لم يضْبط نَفسه وَهِي وَاحِدَة لم يضْبط حواسه وَهِي خمس
فَإِذا لم يضْبط حواسه مَعَ قلتهَا وذلتها صَعب عَلَيْهِ ضبط الأعوان مَعَ كثرتهم وخشونة جانبهم فَكَانَت عَامَّة الرّعية فِي أقاصي الْبِلَاد وأطراف المملكة أبعد من الضَّبْط
ولشاناق من الْكتب كتاب السمُوم خمس مقالات فسره من اللِّسَان الْهِنْدِيّ إِلَى اللِّسَان الْفَارِسِي منكه الْهِنْدِيّ وَكَانَ الْمُتَوَلِي لنقله بالخط الْفَارِسِي رجل يعرف بِأبي حَاتِم الْبَلْخِي فسره ليحيى بن خَالِد ابْن برمك ثمَّ نقل لِلْمَأْمُونِ على يَد الْعَبَّاس بن سعيد الجرهري مَوْلَاهُ وَكَانَ الْمُتَوَلِي قِرَاءَته على الْمَأْمُون
كتاب البيطرة
كتاب فِي علم النُّجُوم
كتاب الْمُنْتَحل الْجَوْهَر وألفه لبَعض مُلُوك زَمَانه وَكَانَ يُقَال لذَلِك الْملك ابْن قانص الْهِنْدِيّ
جودر
حَكِيم فَاضل من حكماء الْهِنْد وعلمائهم متميز فِي أَيَّامه وَله نظر فِي الطِّبّ وتصانيف فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة
وَله من الْكتب كتاب المواليد وَهُوَ قد نقل إِلَى الْعَرَبِيّ(1/474)
منكه الْهِنْدِيّ
كَانَ عَالما بصناعة الطِّبّ حسن المعالجة لطيف التَّدْبِير فيلسوفا من جملَة الْمشَار إِلَيْهِم فِي عُلُوم الْهِنْد متقنا للغة الْهِنْد ولغة الْفرس وَهُوَ الَّذِي نقل كتاب شاناق الْهِنْدِيّ فِي السمُوم من اللُّغَة الْهِنْدِيَّة إِلَى الْفَارِسِي وَكَانَ فِي أَيَّام الرشيد هرون وسافر من الْهِنْد إِلَى الْعرَاق فِي أَيَّامه وَاجْتمعَ بِهِ وداواه
وَوجدت فِي بعض الْكتب أَن منكه الْهِنْدِيّ كَانَ فِي جملَة إِسْحَق بن سُلَيْمَان بن عَليّ الْهَاشِمِي وَكَانَ ينْقل من اللُّغَة الْهِنْدِيَّة إِلَى الفارسية والعربية
ونقلت من كتاب أَخْبَار الْخُلَفَاء والبرامكة أَن الرشيد اعتل عِلّة صعبة فعالجه الْأَطِبَّاء فَلم يجد من علته أفاقة
فَقَالَ لَهُ أَبُو عمر الأهجمي بِالْهِنْدِ طَبِيب يُقَال لَهُ منكه وَهُوَ أحد عبادهم وفلاسفتهم فَلَو بعث إِلَيْهِ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَعَلَّ أَن يهب لَهُ الشِّفَاء على يَده
قَالَ فَوجه الرشيد من حمله وَوَصله بصلَة تعينه على سَفَره فَقدم وعالج الرشيد فبرأ من علته بعلاجه
فَأجرى عَلَيْهِ رزقا وَاسِعًا وأموالا كَافِيَة
قَالَ فَبَيْنَمَا منكه مارا فِي الْخلد إِذا هُوَ بِرَجُل من المائنين قد بسط كساءه وَألقى عَلَيْهِ عقاقير كَثِيرَة وَقَامَ يصف دَوَاء عِنْده فَقَالَ فِي صفته هَذَا دَوَاء للحمى الدائمة وَحمى الغب وَحمى الرّبع ولوجع الظّهْر والركبتين والخام والبواسير والرياح ووجع المفاصل ووجع الْعَينَيْنِ ولوجع الْبَطن والصداع والشقيقة ولتقطير الْبَوْل والفالج والارتعاش وَلم يدع عِلّة فِي الْبدن إِلَّا ذكر أَن ذَلِك الدَّوَاء شفاؤها
فَقَالَ منكه لِترْجُمَانِهِ مَا يَقُول هَذَا فترجم لَهُ مَا سمع فَتَبَسَّمَ منكه وَقَالَ على كل حَال ملك الْعَرَب جَاهِل وَذَلِكَ أَنه إِن كَانَ الْأَمر على مَا قَالَ هَذَا فَلم حَملَنِي من بلدي وقطعني عَن أَهلِي وتكلف الغليظ من مؤونتي وَهُوَ يجد هَذَا نصب عينه وبإزائه وَإِن كَانَ الْأَمر لَيْسَ كَمَا يَقُول هَذَا فَلم لَا يقْتله فَإِن الشَّرِيعَة قد أَبَاحَتْ دم هَذَا وَمن أشبهه لِأَنَّهُ إِن قتل مَا هِيَ إِلَّا نفس تحيا بفنائها أنفس خلق كثير وَإِن ترك وَهَذَا الْجَهْل قتل فِي كل يَوْم نفسا
وبالحري أَن يقتل اثْنَيْنِ وَثَلَاثَة وَأَرْبَعَة فِي كل يَوْم وَهَذَا فَسَاد فِي الدّين ووهن فِي المملكة
صَالح بن بهلة الْهِنْدِيّ
متميز من عُلَمَاء الْهِنْد وَكَانَ خَبِيرا بالمعالجات الَّتِي لَهُم وَله قُوَّة وإنذارات فِي تقدمة الْمعرفَة
وَكَانَ بالعراق فِي أَيَّام الرشيد هَارُون
قَالَ أَبُو الْحسن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم الحاسب الْمَعْرُوف بِابْن الداية حَدثنِي أَحْمد بن رشيد الْكَاتِب مولى سَلام الأبرش أَن مَوْلَاهُ حَدثهُ أَن الموائد قدمت بَين يَدي الرشيد فِي بعض الْأَيَّام وجبرائيل بن بختيشوع غَائِب فَقَالَ لي أَحْمد قَالَ أَبُو سَلمَة يَعْنِي مَوْلَاهُ(1/375)
فَأمرنِي أَمِير الْمُؤمنِينَ بِطَلَب جِبْرَائِيل ليحضر أكله على عَادَته فِي ذَلِك فَلم أدع منزلا من منَازِل الْوَلَد وَمن كَانَ يدْخل إِلَيْهِ جِبْرَائِيل من الْحرم إِلَّا طلبته فِيهِ وَلم أقع لَهُ على أثر
فأعلمت أَمِير الْمُؤمنِينَ بذلك فَطَفِقَ يلعنه ويقذفه إِذْ دخل عَلَيْهِ جِبْرَائِيل والرشيد على تِلْكَ الْحَال من قذفه ولعنه
فَقَالَ لَهُ لَو اشْتغل أَمِير الْمُؤمنِينَ بالبكاء على ابْن عَمه إِبْرَاهِيم بن صَالح وَترك مَا فِيهِ من تناولي بالسب كَانَ أشبه
فَسَأَلَهُ عَن خبر إِبْرَاهِيم فَأعلمهُ أَنه خَلفه وَبِه رَمق يَنْقَضِي بآخرة وَقت صَلَاة الْعَتَمَة فَاشْتَدَّ جزع الرشيد لما أخبرهُ بِهِ وَأَقْبل على الْبكاء
وَأمر بِرَفْع الموائد فَرفعت وَكثر ذَلِك مِنْهُ حَتَّى رَحمَه مِمَّا نزل بِهِ جَمِيع من حضر
فَقَالَ جَعْفَر بن يحيى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن طب جِبْرَائِيل طب رومي وَصَالح بن بهلة الْهِنْدِيّ فِي الْعلم بطريقة أهل الْهِنْد فِي الطِّبّ مثل جِبْرَائِيل فِي الْعلم بمقالات الرّوم فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يَأْمر بإحضاره وتوجيهه إِلَى إِبْرَاهِيم بن صَالح لنفهم عَنهُ مَا يَقُول مثل مَا فهمنا عَن جِبْرَائِيل فعل
فَأمر الرشيد جعفرا بإحضاره وتوجيهه والمصير بِهِ إِلَيْهِ ورده بعد مُنْصَرفه من عِنْده فَفعل ذَلِك جَعْفَر وَمضى صَالح إِلَى إِبْرَاهِيم حَتَّى عاينه وجس عرقه وَصَارَ إِلَى جَعْفَر وَسَأَلَهُ عَمَّا عِنْده من الْعلم فَقَالَ لست أخبر بالْخبر غير أَمِير الْمُؤمنِينَ فَاسْتعْمل جَعْفَر مجهوده بِصَالح أَن يُخبرهُ بجملة من الْخَبَر فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك
وَدخل جَعْفَر على الرشيد فَأخْبرهُ بِحُضُور صَالح وامتناعه عَن إخْبَاره بِمَا عاين فَأمر بإحضار صَالح فَدخل ثمَّ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنْت الإِمَام وعاقد ولَايَة الْقَضَاء للحكام وَمهما حكمت بِهِ لم يجز لحَاكم فَسخه وَأَنا أشهدك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأشْهد على نَفسِي من حضرك أَن إِبْرَاهِيم ابْن صَالح إِن توفّي فِي هَذِه اللَّيْلَة أَو فِي هَذِه الْعلَّة أَن كل مَمْلُوك لصالح بن بهلة أَحْرَار لوجه الله وكل دَابَّة لَهُ فحبيس فِي سَبِيل الله وكل مَال لَهُ فصدقة على الْمَسَاكِين وكل امْرَأَة لَهُ فطالق ثَلَاثًا بتاتا
فَقَالَ لَهُ الرشيد حَلَفت وَيحك يَا صَالح على غيب
فَقَالَ صَالح كلا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا الْغَيْب مَا لَا علم لأحد بِهِ وَلَا دَلِيل لَهُ عَلَيْهِ وَلم أقل مَا قلت إِلَّا بِعلم وَاضح وَدَلَائِل بَيِّنَة
قَالَ أَحْمد بن رشيد قَالَ لي أَبُو سَلمَة فَسرِّي عَن الرشيد مَا كَانَ يجد وَطعم واحضر لَهُ الشَّرَاب فَشرب
وَلما كَانَ وَقت صَلَاة الْعَتَمَة ورد كتاب صَاحب الْبَرِيد بِمَدِينَة السَّلَام يخبر بوفاة إِبْرَاهِيم بن صَالح على الرشيد فَاسْتَرْجع وَأَقْبل على جَعْفَر بن يحيى باللوم فِي إرشاده إِيَّاه إِلَى صَالح بن بهلة
وَأَقْبل يلعن الْهِنْد وطبهم وَيَقُول واسوءتاه من الله أَن يكون ابْن عمي يتجرع غصص الْمَوْت وَأَنا أشْرب النَّبِيذ ثمَّ دَعَا برطل من النَّبِيذ بِالْمَاءِ وألفى فِيهِ شَيْئا من ملح وَأخذ يشرب ويتقيأ حَتَّى قذف مَا كَانَ فِي جَوْفه من طَعَام وشراب وَبكر إِلَى دَار إِبْرَاهِيم فقصد خدمه بالرشيد إِلَى رواق على مجَالِس لإِبْرَاهِيم على يَمِين الرواق ويساره فراشان بكراسيهما ومتكئاتهما ومساندهما وَفِيمَا بَين الفراشين نمارق فاتكأ الرشيد على سَيْفه ووقف وَقَالَ لَا يحسن الْجُلُوس فِي الْمُصِيبَة بالأحبة من الْأَهْل على أَكثر من الْبسط ارْفَعُوا هَذِه الْفرش والنمارق فَفعل ذَلِك الفراشون وَجلسَ الرشيد على الْبسَاط فَصَارَت سنة لبني الْعَبَّاس من ذَلِك الْيَوْم وَلم تكن قبله ووقف صَالح بن بهلة بَين يَدي الرشيد فَلم يناطقه أحد إِلَى أَن سطعت رَوَائِح المجامر فصاح عِنْد ذَلِك صَالح الله الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن تحكم عَليّ بِطَلَاق زَوْجَتي فتنزعها وَتَزَوجهَا(1/476)
غَيْرِي وَأَنا رب الْفرج الْمُسْتَحق لَهُ وتنكحها من لَا تحل لَهُ وَالله الله أَن تخرجني من نعمتي وَلم يلْزَمنِي حنث وَالله الله إِن تدفن ابْن عمك حَيا فوَاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا مَاتَ فَأطلق لي الدُّخُول عَلَيْهِ وَالنَّظَر إِلَيْهِ وهتف بِهَذَا القَوْل مَرَّات فَأذن لَهُ بِالدُّخُولِ على إِبْرَاهِيم وَحده
قَالَ أَحْمد قَالَ لي أَبُو سَلمَة فأقبلنا نسْمع صَوت ضرب بدن بكف ثمَّ انْقَطع عَنَّا ذَلِك الصَّوْت ثمَّ سمعنَا تَكْبِيرا فَخرج إِلَيْنَا صَالح وَهُوَ يكبر ثمَّ قَالَ قُم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ حَتَّى أريك عجبا
فَدخل إِلَيْهِ الرشيد وَأَنا ومسرور الْكَبِير وَأَبُو سليم مَعَه فَأخْرج صَالح إبرة كَانَت مَعَه فَأدْخلهَا بَين ظفر إِبْهَام يَده الْيُسْرَى ولحمه فجذب إِبْرَاهِيم بن صَالح يَده وردهَا إِلَى بدنه
فَقَالَ صَالح يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَل يحس الْمَيِّت بالوجع فَقَالَ الرشيد لَا فَقَالَ لَهُ صَالح لَو شِئْت أَن يكلم أَمِير الْمُؤمنِينَ السَّاعَة لكلمه
فَقَالَ لَهُ الرشيد فَأَنا أَسأَلك أَن تفعل ذَلِك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَخَاف أَن عالجته وأفاق وَهُوَ فِي كفن فِيهِ رَائِحَة الحنوط أَن ينصدع قلبه فَيَمُوت موتا حَقِيقِيًّا فَلَا يكون لي فِي إحيائه حِيلَة وَلَكِن يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تَأمر بتجريده من الْكَفَن ورده إِلَى المغتسل وإعادة الْغسْل عَلَيْهِ حَتَّى تَزُول رَائِحَة الحنوط عَنهُ ثمَّ يلبس مثل ثِيَابه الَّتِي كَانَ يلبسهَا فِي حَال صِحَّته وعلته ويطيب بِمثل ذَلِك الطّيب ويحول إِلَى فرَاش من فرشه الَّتِي كَانَ يجلس وينام عَلَيْهَا حَتَّى أعَالجهُ بِحَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُ يكلمهُ من سَاعَته
قَالَ أَحْمد قَالَ أَبُو سَلمَة فوكلني الرشيد بِالْعَمَلِ بِمَا حَده صَالح فَفعلت ذَلِك
ثمَّ صَار الرشيد وَأَنا مَعَه ومسرور وَأَبُو سليم وَصَالح إِلَى الْموضع الَّذِي فِيهِ إِبْرَاهِيم ودعا صَالح بن بهلة بكندس ومنفخة من الخزانة وَنفخ من الكندس فِي أَنفه فَمَكثَ مِقْدَار ثلث سَاعَة ثمَّ اضْطربَ بدنه وعطس وَجلسَ قُدَّام الرشيد وَقبل يَده وَسَأَلَهُ عَن قصَّته فَذكر أَنه كَانَ نَائِما نوما لَا يذكر أَنه نَام مثله قطّ طيبا إِلَّا أَنه رأى فِي مَنَامه كَلْبا قد أَهْوى إِلَيْهِ فتوقاه بِيَدِهِ فعض إِبْهَام يَده الْيُسْرَى عضة انتبه وَهُوَ يحس وجعها وَأرَاهُ إبهامه الَّتِي كَانَ صَالح أَدخل فِيهَا الإبرة
وعاش إِبْرَاهِيم بعد ذَلِك دهرا ثمَّ تزوج العباسة بنت الْمهْدي وَولي مصر وفلسطين وَتُوفِّي بِمصْر وقبره بهَا(1/477)
الْبَاب الثَّالِث عشر
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الَّذين ظَهَرُوا فِي بِلَاد الْمغرب وَأَقَامُوا بهَا
إِسْحَق بن عمرَان
طَبِيب مَشْهُور وعالم مَذْكُور وَيعرف باسم سَاعَة
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل أَن إِسْحَق بن عمرَان مُسلم النحلة وَكَانَ بغدادي الأَصْل وَدخل أفريقية فِي دولة زِيَادَة الله بن الْأَغْلَب التَّمِيمِي وَهُوَ استجلبه وَأَعْطَاهُ شُرُوطًا ثَلَاثَة لم يَفِ لَهُ بأحدها
بعث إِلَيْهِ عِنْد وُرُوده عَلَيْهِ رَاحِلَة أقلته وَألف دِينَار لنفقته وَكتاب أَمَان بِخَط يَده أَنه مَتى أحب الِانْصِرَاف إِلَى وَطنه انْصَرف
وَبِه ظهر الطِّبّ بالمغرب وَعرفت الفلسفة
وَكَانَ طَبِيبا حاذقا متميزا بتأليف الْأَدْوِيَة المركبة بَصيرًا بتفرقة الْعِلَل أشبه الْأَوَائِل فِي علمه وجودة قريحته
استوطن القيروان حينا وَألف كتبا مِنْهَا كِتَابه الْمَعْرُوف بنزهة النَّفس وَكتابه فِي دَاء المالنخوليا لم يسْبق إِلَى مثله وَكتابه فِي الفصد وَكتابه فِي النبض
ودارت لَهُ مَعَ زِيَادَة الله بن الْأَغْلَب محنة أوجبت الوجدة بَينهمَا حَتَّى صلبه ابْن الْأَغْلَب
وَكَانَ إِسْحَق قد استأذنه فِي الِانْصِرَاف إِلَى بَغْدَاد فَلم يَأْذَن لَهُ وَكَانَ إِسْحَق يُشَاهد أكل ابْن الْأَغْلَب فَيَقُول لَهُ كل هَذَا ودع هَذَا
حَتَّى ورد على ابْن الْأَغْلَب حدث يَهُودِيّ أندلسي فاستقربه وخف عَلَيْهِ وأشهده أكله فَكَانَ إِسْحَق إِذا قَالَ لَهُ اترك هَذَا لَا تَأْكُله قَالَ الإسرائيلي يصعبه عَلَيْك
وَكَانَ بِابْن الْأَغْلَب عِلّة النَّسمَة وَهِي ضيق النَّفس فَقدم بَين يَدَيْهِ لَبَنًا مريبا فهم بِأَكْلِهِ فَنَهَاهُ أسحق وَسَهل عَلَيْهِ الإسرائيلي فوافقه بِالْأَكْلِ فَعرض لَهُ فِي اللَّيْل ضيق النَّفس(1/478)
حَتَّى أشرف على الْهَلَاك فَأرْسل إِلَى إِسْحَق
وَقيل لَهُ هَل عنْدك من علاج فَقَالَ قد نهيته فَلم يقبل مني لَيْسَ عِنْدِي علاج
فَقيل لإسحق هَذِه خَمْسمِائَة مِثْقَال وعالجه فَأبى حَتَّى بلغ إِلَى ألف مِثْقَال فَأَخذهَا وَأمر بإحضار الثَّلج وَأمره بِالْأَكْلِ مِنْهُ حَتَّى تملأ ثمَّ قيأه فَخرج جَمِيع اللَّبن قد تجبن بِبرد الثَّلج
فَقَالَ إِسْحَق أَيهَا الْأَمِير لَو دخل هَذَا اللَّبن إِلَى أنابيب رئتك ولحج فِيهِ أهْلكك بضيقة النَّفس وَلَكِنِّي أجهدته وأخرجته قبل وُصُوله
فَقَالَ زِيَادَة الله بَاعَ إِسْحَق روحي فِي البدء اقْطَعُوا رزقه
فَلَمَّا قطع عَنهُ الرزق خرج إِلَى مَوضِع فسيح من رحاب القيروان وَوضع هُنَالك كرسيا ودواة وقراطيس فَكَانَ يكْتب الصِّفَات كل يَوْم بِدَنَانِير
فَقيل لزِيَادَة الله عرضت لإسحق الْغنى فَأمر بضمه إِلَى السجْن فَتَبِعَهُ النَّاس هُنَالك
ثمَّ أخرجه بِاللَّيْلِ إِلَى نَفسه وَكَانَت لَهُ مَعَه حكايات ومعاتبات احنقته عَلَيْهِ لفرط جوره وسخف رَأْيه
فَأمر بفصده فِي ذِرَاعَيْهِ جَمِيعًا وسال دَمه حَتَّى مَاتَ ثمَّ أَمر بِهِ فصلب وَمكث مصلوبا زَمَانا طَويلا حَتَّى عشش فِي جَوْفه طَائِر
وَكَانَ مِمَّا قَالَ لزِيَادَة الله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَالله إِنَّك لتدعى بِسَيِّد الْعَرَب وَمَا أَنْت لَهَا بِسَيِّد وَلَقَد سقيتك مُنْذُ دهر دَوَاء ليفعلن فِي عقلك وَكَانَ زِيَادَة الله مَجْنُونا فتمخل وَمَات
ولإسحق بن عمرَان من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة
كتاب العنصر والتمام فِي الطِّبّ
مقَالَة فِي الاسْتِسْقَاء
مقَالَة وجيزة كتب بهَا إِلَى سعيد ابْن توفيل المتطبب فِي الْإِبَانَة عَن الْأَشْيَاء الَّتِي يُقَال أَنَّهَا تشفي الأسقام وفيهَا يكون الْبُرْء مِمَّا أَرَادَ إتحافه بِهِ من نَوَادِر الطِّبّ ولطائف الْحِكْمَة
كتاب نزهة النَّفس
كتاب فِي المالنخوليا
كتاب فِي الفصد
كتاب فِي النبض
مقَالَة فِي علل القولنج وأنواعه وَشرح أدويته وَهِي الرسَالَة الَّتِي كتب بهَا إِلَى الْعَبَّاس وَكيل إِبْرَاهِيم بن الْأَغْلَب
كتاب فِي الْبَوْل من كَلَام أبقراط وجالينوس وَغَيرهمَا
كتاب جمع فِيهِ أقاويل جالينوس فِي الشَّرَاب
مسَائِل لَهُ مَجْمُوعَة فِي الشَّرَاب على معنى مَا ذهب إِلَيْهِ أبقراط وجالينوس فِي الْمقَالة الثَّالِثَة من كتاب تَدْبِير الْأَمْرَاض الحادة وَمَا ذكر فِيهَا من الْخمر
كَلَام لَهُ فِي بَيَاض الْمعدة ورسوب الْبَوْل وَبَيَاض المنى
إِسْحَق بن سُلَيْمَان
الإسرائيلي كَانَ طَبِيبا فَاضلا بليغا عَالما مَشْهُورا بالحذق والمعرفة جيد التصنيف عالي الهمة ويكنى أيا يَعْقُوب
وَهُوَ الَّذِي شاع ذكره وانتشرت مَعْرفَته بالإسرائيلي
وَهُوَ من أهل مصر وَكَانَ يكحل من أوليته
ثمَّ سكن القيروان ولازم إِسْحَق بن عمرَان وتتلمذ لَهُ
وخدم الإِمَام أَبَا مُحَمَّد عبيد الله الْمهْدي صَاحب إفريقية بصناعة الطِّبّ
وَكَانَ إِسْحَق ابْن سُلَيْمَان مَعَ فَضله فِي صناعَة الطِّبّ بَصيرًا بالْمَنْطق متصرفا فِي ضروب المعارف
وَعمر عمرا طَويلا إِلَى أَن نَيف على مائَة سنة(1/479)
وَلم يتَّخذ امْرَأَة وَلَا أعقب ولدا
وَقيل لَهُ أَيَسُرُّك أَن لَك ولدا قَالَ أما إِذا صَار لي كتاب الحميات فَلَا
يَعْنِي أَن بَقَاء ذكره بِكِتَاب الحميات أَكثر من بَقَاء ذكره بِالْوَلَدِ
ويروى أَنه قَالَ لي أَرْبَعَة كتب تحيي ذكري أَكثر من الْوَلَد وَهِي كتاب الحميات وَكتاب الأغذية والأدوية وَكتاب الْبَوْل وَكتاب الاسطقسات وَتُوفِّي قَرِيبا من سنة عشْرين وثلثمائة
وَقَالَ أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن أبي خَالِد الْمَعْرُوف بِابْن الجزار فِي كتاب أَخْبَار الدولة يَعْنِي ابْتِدَاء دولة الإِمَام أبي مُحَمَّد عبيد الله الْمهْدي الَّذِي ظهر من الْمغرب حَدثنِي إِسْحَاق بن سُلَيْمَان المتطبب قَالَ لما قدمت من مصر على زِيَادَة الله بن الْأَغْلَب وجدته مُقيما بالجيوش فِي الأريس فرحلت إِلَيْهِ فَلَمَّا بلغه قدومي وَقد كَانَ بعث فِي طلبي وَأرْسل إِلَيّ بِخَمْسِمِائَة دِينَار وتقويت بهَا على السّفر فأدخلت إِلَيْهِ سَاعَة وصولي فَسلمت بالإمرة وَفعلت مَا يجب أَن يفعل للملوك من التَّعَبُّد فَرَأَيْت مَجْلِسه قَلِيل الْوَقار وَالْغَالِب عَلَيْهِ حب اللَّهْو وكل مَا حرك الضحك
فابتدأني بالْكلَام ابْن خُنَيْس الْمَعْرُوف باليوناني فَقَالَ لي تَقول إِن الملوحة تجلو قلت نعم
قَالَ وَتقول إِن الْحَلَاوَة تجلو قلت نعم
قَالَ لي فالحلاوة هِيَ الملوحة والملوحة هِيَ الْحَلَاوَة فَقلت إِن الْحَلَاوَة تجلو بلطف وملاءمة والملوحة تجلو بعنف
فتمادى على المكابرة وَأحب المغالطة
فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك قلت لَهُ تَقول أَنْت حَيّ قَالَ نعم
قلت وَالْكَلب حَيّ قَالَ نعم
قلت فَأَنت الْكَلْب وَالْكَلب أَنْت
فَضَحِك زِيَادَة الله ضحكا شَدِيدا فَعلمت أَن رغبته فِي الْهزْل أَكثر من رغبته فِي الْجد
قَالَ إِسْحَاق فَلَمَّا وصل أَبُو عبد الله دَاعِي الْمهْدي إِلَى رقادة أدناني وَقرب منزلتي وَكَانَت بِهِ حَصَاة فِي الكلى وَكنت أعَالجهُ بدواء فِيهِ العقارب المحرقة
فَجَلَست ذَات يَوْم مَعَ جمَاعَة من كتامة فسألوني عَن صنوف من الْعِلَل فَكلما أَجَبْتهم فَلم يفقهوا قولي
فَقلت لَهُم إِنَّمَا أَنْتُم بقر وَلَيْسَ مَعكُمْ من الإنسانية إِلَّا الِاسْم
فَبلغ الْخَبَر إِلَى أبي عبد الله فَلَمَّا دخلت إِلَيْهِ قَالَ لي تقَابل إِخْوَاننَا الْمُؤمنِينَ من كتامة بِمَا لَا يجب وَبِاللَّهِ الْكَرِيم لَوْلَا أَنَّك عذرك بأنك جَاهِل بحقهم وبقدر مَا صَار إِلَيْهِم من معرفَة الْحق وَأهل الْحق لَأَضرِبَن عُنُقك
قَالَ لي إِسْحَاق فَرَأَيْت رجلا شَأْنه الْجد فِيمَا قصد إِلَيْهِ وَلَيْسَ للهزل عِنْده سوق
ولإسحاق بن سُلَيْمَان من الْكتب كتاب الحميات خمس مقالات وَلم يُوجد فِي هَذَا الْمَعْنى كتاب أَجود مِنْهُ ونقلت من خطّ أبي الْحسن عَليّ بن رضوَان عَلَيْهِ مَا هَذَا مِثَاله أَقُول أَنا عَليّ بن رضوَان الطَّبِيب إِن هَذَا الْكتاب نَافِع وَجمع رجل فَاضل وَقد عملت بِكَثِير مِمَّا فِيهِ فَوَجَدته لَا مزِيد عَلَيْهِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق والمعونة
كتاب الْأَدْوِيَة المفردة والأغذية
كتاب الْبَوْل اخْتِصَار كِتَابه فِي الْبَوْل
كتاب الاسطقسات
كتاب الْحُدُود والرسوم
كتاب بُسْتَان الْحَكِيم وَفِيه مسَائِل من الْعلم الإلهي(1/480)
كتاب الْمدْخل إِلَى الْمنطق
كتاب الْمدْخل إِلَى صناعَة الطِّبّ
كتاب فِي النبض
كتاب فِي الترياق
كتاب فِي الْحِكْمَة وَهُوَ أحد عشر ميمرا
ابْن الجزار
هُوَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن إِبْرَاهِيم بن أبي خَالِد وَيعرف بِابْن الجزار من أهل القيروان طَبِيب ابْن طَبِيب وَعَمه أَبُو بكر طَبِيب وَكَانَ مِمَّن لَقِي إِسْحَاق بن سُلَيْمَان وَصَحبه وَأخذ عَنهُ
وَكَانَ ابْن الجزار من أهل الْحِفْظ والتطلع والدراسة للطب وَسَائِر الْعُلُوم حسن الْفَهم لَهَا
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل إِن أَحْمد بن أبي خَالِد كَانَ قد أَخذ لنَفسِهِ مأخذا عجيبا فِي سمته وهديه وتعدده وَلم يحفظ عَنهُ بالقيروان زلَّة قطّ وَلَا أخلد إِلَى لَذَّة
وَكَانَ يشْهد الْجَنَائِز والعرائس وَلَا يَأْكُل فِيهَا وَلَا يركب قطّ إِلَى أحد من رجال أفريقية وَلَا إِلَى سلطانهم إِلَّا إِلَى أبي طَالب عَم معد وَكَانَ لَهُ صديقا قَدِيما فَكَانَ يركب إِلَيْهِ يَوْم جُمُعَة لَا غير
وَكَانَ ينْهض فِي كل عَام إِلَى رابطة على الْبَحْر المستنير وَهُوَ مَوضِع مرابطة مَشْهُور الْبركَة مَذْكُور فِي الْأَخْبَار على سَاحل الْبَحْر الرُّومِي فَيكون هُنَالك طول أَيَّام القيظ ثمَّ ينْصَرف إِلَى أفريقية
وَكَانَ قد وضع على بَاب دَاره سَقِيفَة أقعد فِيهَا غُلَاما لَهُ يُسمى برشيق أعد بَين يَدَيْهِ جَمِيع المعجونات والأشربة والأدوية فَإِذا رأى الْقَوَارِير بِالْغَدَاةِ أَمر بِالْجَوَازِ إِلَى الْغُلَام وَأخذ الْأَدْوِيَة مِنْهُ نزاهة بِنَفسِهِ أَن يَأْخُذ من أحد شَيْئا
قَالَ ابْن جلجل حَدثنِي عَنهُ من أَثِق بِهِ قَالَ كنت عِنْده فِي دهليزه وَقد غص بِالنَّاسِ إِذْ أقبل ابْن أخي النُّعْمَان القَاضِي وَكَانَ حَدثا جَلِيلًا بأفريقية يستخلفه القَاضِي إِذا مَنعه مَانع عَن الحكم فَلم يجد فِي الدهليز موضعا يجلس فِيهِ إِلَّا مجْلِس أبي جَعْفَر فَخرج أَبُو جَعْفَر فَقَامَ لَهُ ابْن أخي القَاضِي على قدم فَمَا أقعده وَلَا أنزلهُ وَأرَاهُ قَارُورَة مَاء كَانَت مَعَه لِابْنِ عَمه ولد النُّعْمَان
وَاسْتوْفى جَوَابه عَلَيْهَا وَهُوَ وَاقِف ثمَّ نَهَضَ وَركب وَمَا كدح ذَلِك فِي نَفسه وَجعل يتَكَرَّر إِلَيْهِ بِالْمَاءِ فِي كل يَوْم حَتَّى برِئ العليل
قَالَ قَالَ الَّذِي حَدثنِي فَكنت عِنْده ضحوة نَهَار إِذْ أقبل رَسُول النُّعْمَان القَاضِي بِكِتَاب شكره فِيهِ على مَا تولى من علاج ابْنه وَمَعَهُ منديل بكسوة وثلثمائة مِثْقَال
فَقَرَأَ الْكتاب وجاوبه شاكرا وَلم يقبض المَال وَلَا الْكسْوَة فَقلت لَهُ يَا أَبَا جَعْفَر رزق سَاقه الله إِلَيْك
قَالَ لي وَالله لَا كَانَ لرجال معد قبلي نعْمَة
وعاش أَحْمد بن الجزار نيفا وَثَمَانِينَ سنة وَمَات عتيا بالقيروان وَوجد لَهُ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف دِينَار وَخَمْسَة وَعِشْرُونَ قِنْطَارًا من كتب طبية وَغَيرهَا
وَكَانَ قد هم بالرحلة إِلَى الأندلس وَلم ينفذ ذَلِك
وَكَانَ فِي دولة معد
وَقَالَ كشاجم يمدح أَبَا جَعْفَر أَحْمد بن الجزار ويصف كِتَابه الْمَعْرُوف بزاد الْمُسَافِر(1/481)
(أَبَا جَعْفَر أبقيت حَيا وَمَيتًا ... مفاخر فِي طهر الزَّمَان عظاما)
(رَأَيْت على زَاد الْمُسَافِر عندنَا ... من الناظرين العارفين زحاما)
(فأيقنت أَن لَو كَانَ حَيا لوقته ... يحنا لما سمى التَّمام تَمامًا)
(سأحمد أفعالا لِأَحْمَد لم تزل ... مواقعها عِنْد الْكِرَام كراما) الطَّوِيل
وَلابْن الجزار من الْكتب كتاب فِي علاج الْأَمْرَاض وَيعرف بزاد الْمُسَافِر مجلدان
كتاب فِي الْأَدْوِيَة المفردة وَيعرف باعتماد كتاب فِي الْأَدْوِيَة المركبة وَيعرف بالبغية كتاب الْعدة لطول الْمدَّة وَهُوَ أكبر كتاب وَجَدْنَاهُ لَهُ فِي الطِّبّ
وَحكى الصاحب جمال الدّين القفطي أَنه رأى لَهُ بقفط كتابا كَبِيرا فِي الطِّبّ اسْمه قوت الْمُقِيم وَكَانَ عشْرين مجلدا
كتاب التَّعْرِيف بِصَحِيح التَّارِيخ وَهُوَ تَارِيخ مُخْتَصر يشْتَمل على وفيات عُلَمَاء زَمَانه وَقطعَة جميلَة من أخبارهم
رِسَالَة فِي النَّفس وَفِي ذكر اخْتِلَاف الْأَوَائِل فِيهَا كتاب فِي الْمعدة وأمراضها ومداواتها
كتاب طب الْفُقَرَاء
رِسَالَة فِي إِبْدَال الْأَدْوِيَة
كتاب فِي الْفرق بَين الْعِلَل الَّتِي تشتبه أَسبَابهَا وتختلف أعراضها
رِسَالَة فِي التحذر من إِخْرَاج الدَّم من غير حَاجَة دعت إِلَى إِخْرَاجه
رِسَالَة فِي الزُّكَام وأسبابه وعلاجه
رِسَالَة فِي النّوم واليقظة
مجربات فِي الطِّبّ مقَالَة فِي الجذام وأسبابه وعلاجه
كتاب الْخَواص
كتاب نصائح الْأَبْرَار
كتاب المختبرات
كتاب فِي نعت الْأَسْبَاب المولدة للوباء فِي مصر وَطَرِيق الْحِيلَة فِي دفع ذَلِك وعلاج مَا يتخوف مِنْهُ رِسَالَة إِلَى بعض إخوانه فِي الاستهانة بِالْمَوْتِ
رِسَالَة فِي المقعدة وأوجاعها
كتاب المكلل فِي الْأَدَب
كتاب الْبلْغَة فِي حفظ الصِّحَّة
مقَالَة فِي الحمامات
كتاب أَخْبَار الدولة يذكر فِيهِ ظُهُور الْمهْدي بالمغرب
كتاب الْفُصُول فِي سَائِر الْعُلُوم والبلاغات
ابْن السمينة
وَمن أطباء الأندلس يحيى بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن السمينة من أهل قرطبة
قَالَ القَاضِي صاعد ابْن أَحْمد بن صاعد فِي كتاب التَّعْرِيف فِي طَبَقَات الْأُمَم أَنه كَانَ بَصيرًا بِالْحِسَابِ والنجوم والطب متصرفا فِي الْعُلُوم متفننا فِي ضروب المعارف بارعا فِي علم النَّحْو واللغة وَالْعرُوض ومعاني الشّعْر وَالْفِقْه والْحَدِيث وَالْأَخْبَار والجدل
وَكَانَ معتزلي الْمَذْهَب
ورحل إِلَى الْمشرق ثمَّ انْصَرف
وَتُوفِّي سنة خمس عشرَة وثلثمائة
أَبُو الْقَاسِم مسلمة بن أَحْمد
الْمَعْرُوف بالمرحيطي من أهل قرطبة وَكَانَ فِي زمن الحكم
وَقَالَ القَاضِي صاعد فِي كتاب(1/482)
التَّعْرِيف فِي طَبَقَات الْأُمَم أَنه كَانَ إِمَام الرياضيين بالأندلس فِي وقته وَأعلم من كَانَ قبله بِعلم الأفلاك وحركات النُّجُوم وَكَانَت لَهُ عناية بأرصاد الْكَوَاكِب وشغف بتفهم كتاب بطليموس الْمَعْرُوف بالمجسطي
وَله كتاب حسن فِي تَمام علم الْعدَد الْمَعْرُوف عندنَا بالمعاملات
وَكتاب اختصر فِيهِ تَعْدِيل الْكَوَاكِب من زيج البتاني وعنى بزيج مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ وَصرف تَارِيخه الْفَارِسِي إِلَى التَّارِيخ الْعَرَبِيّ وَوضع أوساط الْكَوَاكِب فِيهِ لأوّل تَارِيخ الْهِجْرَة وَزَاد فِيهِ جداول حَسَنَة على أَنه اتبعهُ على خطئه فِيهِ
وَلم يُنَبه على مَوَاضِع الْغَلَط مِنْهُ
وَقد نبهت على ذَلِك فِي كتابي الْمُؤلف فِي إصْلَاح حركات الْكَوَاكِب والتعريف بخطأ الراصدين
وَتُوفِّي أَبُو الْقَاسِم مسلمة بن أَحْمد قبل مبعث الْفِتْنَة فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة
وَقد أَنْجَب تلاميذ جلة لم ينجب عَالم بالأندلس مثلهم
فَمن أشهرهم ابْن السَّمْح وَابْن الصفار والزهراوي والكرماني وَابْن خلدون
وَلأبي الْقَاسِم مسلمة بن أَحْمد من الْكتب كتاب الْمُعَامَلَات اخْتِصَار تَعْدِيل الْكَوَاكِب من زيج البتاني
ابْن السَّمْح
هُوَ أَبُو الْقَاسِم أصبغ بن مُحَمَّد بن السَّمْح المهندس الغرناطي وَكَانَ فِي زمن الحكم
قَالَ القَاضِي صاعد أَن ابْن السَّمْح كَانَ محققا لعلم الْعدَد والهندسة مُتَقَدما فِي علم هَيْئَة الأفلاك وحركات النُّجُوم
وَكَانَت لَهُ مَعَ ذَلِك عناية بالطب وَله تآليف حسان مِنْهَا كتاب الْمدْخل إِلَى الهندسة فِي تَفْسِير كتاب إقليدس
وَمِنْهَا كتاب ثمار الْعدَد الْمَعْرُوف بالمعاملات وَمِنْهَا كتاب طبيعة الْعدَد وَمِنْهَا كِتَابه الْكَبِير فِي الهندسة يقْضِي فِيهِ أجزاءها من الْخط الْمُسْتَقيم والمقوس والمنحني وَمِنْهَا كِتَابَانِ فِي الْآلَة الْمُسَمَّاة بالإسطرلاب أَحدهمَا فِي التَّعْرِيف بِصُورَة صنعتها وَهُوَ مقسوم على مقالتين
وَالْآخر فِي الْعَمَل بهَا والتعريف بجوامع ثَمَرَتهَا وَهُوَ مقسم على مائَة وَثَلَاثِينَ بَابا
وَمِنْهَا زيجه الَّذِي أَلفه على أحد مَذَاهِب الْهِنْد الْمَعْرُوف بالسند هِنْد وَهُوَ كتاب كَبِير مقسم على جزأين أَحدهمَا فِي الجداول وَالْآخر فِي رسائل الجداول
قَالَ القَاضِي صاعد وَأَخْبرنِي عَنهُ تِلْمِيذه أَبُو مَرْوَان سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن عِيسَى بن الناشي المهندس أَنه توفّي بِمَدِينَة غرناطة قَاعِدَة ملك الْأَمِير حبوس بن ماكسن بن زيري بن مُنَاد الصنهاجي لَيْلَة الثُّلَاثَاء لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة بقيت لرجب سنة سِتّ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ ابْن سِتّ وَخمسين سنة شمسية
وَلابْن السَّمْح من الْكتب كتاب الْمدْخل إِلَى الهندسة
كتاب الْمُعَامَلَات
كتاب طبيعة الْعدَد(1/483)
كتاب كَبِير فِي الهندسة يقْضِي فِيهِ أجزاءها من الْخط الْمُسْتَقيم والمقوس والمنحني
كتاب التَّعْرِيف بِصُورَة صَنْعَة الاسطرلاب مقالتان
كتاب الْعَمَل بالاسطرلاب والتعريف بجوامع ثَمَرَته
زيج على أحد مَذَاهِب الْهِنْد الْمَعْرُوف بالسندهند وَهُوَ كتاب كَبِير مقسم على جزءين أَحدهمَا فِي الجداول وَالْآخر فِي رسائل الجداول
ابْن الصفار
هُوَ أَبُو الْقَاسِم أَحْمد بن عبد الله بن عمر كَانَ أَيْضا متحققا بِعلم الْعدَد والهندسة والنجوم
وَقعد فِي قرطبة لتعليم ذَلِك
وَله زيج مُخْتَصر على مَذْهَب السندهند وَكتاب فِي الْعَمَل بالاسطرلاب موجز حسن الْعبارَة قريب المأخذ وَكَانَ من جملَة تلامذة أبي الْقَاسِم مسلمة بن أَحْمد المرحيطي
وَخرج ابْن الصفار عَن قرطبة بعد أَن مضى صدر من الْفِتْنَة وَاسْتقر بِمَدِينَة دانية قَاعِدَة الْأَمِير مُجَاهِد العامري من سَاحل بَحر الأندلس الشَّرْقِي وَتُوفِّي بهَا رَحمَه الله
وَقد انجب من أهل قرطبة جمَاعَة وَكَانَ لَهُ أَخ يُسمى مُحَمَّدًا مَشْهُور بِعَمَل الاسطرلاب لم يكن بالأندلس قبله أجمل صنعا لَهَا مِنْهُ
وَلابْن الصفار من الْكتب زيج مُخْتَصر على مَذْهَب السَّنَد هِنْد
كتاب فِي الْعَمَل بالاسطرلاب
أَبُو الْحسن عَليّ بن سُلَيْمَان الزهراوي
كَانَ عَالما بِالْعدَدِ والهندسة معتنيا بِعلم الطِّبّ
وَله كتاب شرِيف فِي الْمُعَامَلَات على طَرِيق الْبُرْهَان وَهُوَ الْكتاب الْمُسَمّى بِكِتَاب الْأَركان
وَكَانَ قد أَخذ كثيرا من الْعُلُوم الرياضية عَن أبي الْقَاسِم مسلمة ابْن أَحْمد الْمَعْرُوف بالمرحيطي وَصَحبه مُدَّة
وَلأبي الْحسن عَليّ بن سُلَيْمَان الزهراوي من الْكتب كتاب فِي الْمُعَامَلَات على طَرِيق الْبُرْهَان وَهُوَ الْكتاب الْمُسَمّى بِكِتَاب الْأَركان
الْكرْمَانِي
هُوَ أَبُو الحكم عَمْرو بن أَحْمد بن عَليّ الْكرْمَانِي من أهل قرطبة أحد الراسخين فِي علم الْعدَد والهندسة
قَالَ القَاضِي صاعد أَخْبرنِي عَن الْكرْمَانِي تِلْمِيذه الْحُسَيْن بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن بن يحيى المهندس المنجم أَنه مَا لَقِي أحدا يجاريه فِي علم الهندسة
وَلَا يشق غباره فِي فك غامضها وتبيين مشكلها وَاسْتِيفَاء أَجْزَائِهَا
ورحل إِلَى ديار الْمشرق وانْتهى مِنْهَا إِلَى حران من بِلَاد الجزيرة وعني هُنَاكَ بِطَلَب الهندسة والطب ثمَّ رَجَعَ إِلَى الأندلس واستوطن مَدِينَة سرقسطة من ثغرها وجلب مَعَه الرسائل الْمَعْرُوفَة(1/484)
برسائل إخْوَان الصفاء
وَلَا نعلم أحدا أدخلها الأندلس قبله
وَله عناية بالطب ومجربات فاضلة فِيهِ ونفوذ مَشْهُور فِي الكي وَالْقطع والشق والبط وَغير ذَلِك من أَعمال الصِّنَاعَة الطبية
قَالَ وَلم يكن بَصيرًا بِعلم النُّجُوم التعليمي وَلَا بصناعة الْمنطق أَخْبرنِي عَنهُ بذلك أَبُو الْفضل حسداي بن يُوسُف بن حسداي الإسرائيلي وَكَانَ خَبِيرا بِهِ
وَمحله فِي الْعُلُوم النظرية الْمحل الَّذِي لَا يجارى فِيهِ عندنَا بالأندلس
وَتُوفِّي أَبُو الحكم الْكرْمَانِي رَحمَه الله بسرقسطة سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة وَقد بلغ تسعين سنة أَو جاوزها بِقَلِيل
ابْن خلدون
هُوَ أَبُو مُسلم عمر بن أَحْمد بن خلدون الْحَضْرَمِيّ من أَشْرَاف أهل أشبيلية وَمن جملَة تلامذة أبي الْقَاسِم مسلمة بن أَحْمد أَيْضا وَكَانَ متصرفا فِي عُلُوم الفلسفة مَشْهُورا بِعلم الهندسة والنجوم والطب مشبها بالفلاسفة فِي إصْلَاح أخلاقه
وتعديل سيرته وتقويم طَرِيقَته
وَتُوفِّي فِي بَلَده سنة تسع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَكَانَ من أشهر تلامذة أبي مُسلم بن خلدون أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الصفار المتطبب
أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن خَمِيس بن عَامر بن دميح
من أهل طليطلة أحد المعتنين بِعلم الهندسة والنجوم والطب وَله مُشَاركَة فِي عُلُوم اللِّسَان وحظ صَالح من الشّعْر وَهُوَ من أَقْرَان القَاضِي أبي الْوَلِيد هِشَام بن أَحْمد بن هِشَام
حمدين بن أبان
كَانَ فِي أَيَّام الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْأَوْسَط وَكَانَ طَبِيبا حاذقا مجربا وَكَانَ صهر بني خَالِد وَله بقرطبة أصُول ومكاسب
وَكَانَ لَا يركب الدَّوَابّ إِلَّا من نتاجه وَلَا يَأْكُل إِلَّا من زرعه وَلَا يلبس إِلَّا من كتَّان ضيعته وَلَا يستخدم إِلَّا بتلاده من أَبنَاء عبيده
جواد الطَّبِيب النَّصْرَانِي
كَانَ فِي أَيَّام الْأَمِير مُحَمَّد أَيْضا وَله اللعوق الْمَنْسُوب إِلَى جواد وَله دَوَاء الراهب والشرابات والسفوفات المنسوبة إِلَيْهِ وَإِلَى حمدين وَبني حمدين كلهَا شجارية
خَالِد بن يزِيد بن رُومَان النَّصْرَانِي
كَانَ بارعا فِي الطِّبّ ناهضا فِي زَمَانه فِيهِ
وَكَانَ بقرطبة وسكنه عِنْد بيعَة سبت أخلج
وَكَانَت(1/485)
دَاره الدَّار الْمَعْرُوفَة بدار ابْن السطخيري الشَّاعِر
وَكسب بالطب مبلغا جَلِيلًا من الْأَمْوَال وَالْعَقار
وَكَانَ صانعا بِيَدِهِ عَالما بالأدوية الشجارية وَظَهَرت مِنْهُ فِي الْبَلَد مَنَافِع
وَكتب إِلَيْهِ نسطاس بن جريج الطَّبِيب الْمصْرِيّ رِسَالَة فِي الْبَوْل
وأعقب خَالِد ابْنا سَمَّاهُ يزِيد وَلم يبرع فِي الطِّبّ براعة أَبِيه
ابْن ملوكة النَّصْرَانِي
كَانَ فِي أَيَّام الْأَمِير عبيد الله وَأول دولة الْأَمِير عبد الرَّحْمَن النَّاصِر وَكَانَ يصنع بِيَدِهِ ويفصد الْعُرُوق
وَكَانَ على بَاب دَاره ثَلَاثُونَ كرسيا لقعود النَّاس
عمرَان بن أبي عَمْرو
كَانَ طَبِيبا نبيلا خدم الْأَمِير عبد الرَّحْمَن بالطب وَهُوَ الَّذِي ألف لَهُ حب الأنيسون وَكَانَ عَالما فهما
ولعمران بن أبي عَمْرو من الْكتب كناش
مُحَمَّد بن فتح طملون
كَانَ مولى لعمران بن أبي عَمْرو وبرع فِي الطِّبّ براعة علا بهَا من كَانَ فِي زَمَانه
وَلم يخْدم بالطب وَطلب ليلحق فاستعفى من ذَلِك واستعان على الْأَمِير حَتَّى عُفيَ وَلم يكن أحد من الْأَشْرَاف فِي وقته إِلَّا وَهُوَ يحْتَاج إِلَيْهِ
قَالَ ابْن جلجل حَدثنِي أَبُو الْأَصْبَغ بن حوى قَالَ كنت عِنْد الْوَزير عبد الله ابْن بدر وَقد عرض لِابْنِهِ مُحَمَّد قرح شَمل بدنه وَبَين يَدَيْهِ جمَاعَة من الْأَطِبَّاء فيهم طملون فَتكلم كل وَاحِد مِنْهُم فِي تِلْكَ القروح وطملون سَاكِت
فَقَالَ لَهُ الْوَزير مَا عنْدك فِي هَذَا فَإِنِّي أَرَاك ساكتا فَقَالَ عِنْدِي مرهم ينفع هَذِه القروح من يَوْمه
فَمَال إِلَى كَلَامه وَأمره بإحضار المرهم فَأحْضرهُ وطلى على القروح فجفت من لَيْلَتهَا فوصله عبد الله بن بدر بِخَمْسِينَ دِينَارا وَانْصَرف الْأَطِبَّاء دونه بِغَيْر شَيْء
الْحَرَّانِي
الَّذِي ورد من الْمشرق كَانَ فِي أَيَّام الْأَمِير مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَكَانَت عِنْده مجربات حسان بالطب فاشتهر بقرطبة وَحَازَ الذّكر فِيهَا
قَالَ ابْن جلجل رَأَيْت حِكَايَة عِنْد أبي الْأَصْبَغ الرَّازِيّ بِخَط أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُسْتَنْصر وَهِي أَن هَذَا الْحَرَّانِي أَدخل الأندلس معجونا كَانَ يَبِيع الشربة مِنْهُ بِخَمْسِينَ دِينَارا لأوجاع الْجوف فكسب بِهِ مَالا
فَاجْتمع خَمْسَة من الْأَطِبَّاء مثل حمدين وجواد(1/486)
وَغَيرهمَا وجمعوا خمسين دِينَارا واشتروا مِنْهُ شربة من ذَلِك الدَّوَاء وَانْفَرَدَ كل وَاحِد مِنْهُم بِجُزْء يشمه ويذوقه وَيكْتب مَا تأدى إِلَيْهِ مِنْهُ بحسه
ثمَّ اجْتَمعُوا وَاتَّفَقُوا على مَا حدسوه وَكَتَبُوا ذَلِك
ثمَّ نهضوا إِلَى الْحَرَّانِي وَقَالُوا لَهُ قد نفعك الله بِهَذَا الدَّوَاء الَّذِي انْفَرَدت بِهِ وَنحن أطباء اشترينا مِنْك شربة وَفعلنَا كَذَا وَكَذَا وتأدى إِلَيْنَا كَذَا وَكَذَا وَكَذَا فَإِن يكن مَا تأدى إِلَيْنَا حَقًا فقد أصبْنَا وَإِلَّا فأشركنا فِي علمه فقد انتفعت
فاستعرض كِتَابهمْ فَقَالَ مَا أعديتم من أدويته دَوَاء لَكِن لم تصيبوا تَعْدِيل أوزانه
وَهُوَ الدَّوَاء الْمَعْرُوف بالمغيث الْكَبِير فَأَشْركهُمْ فِي علمه وَعرف من حِينَئِذٍ بالأندلس
أَحْمد وَعمر ابْنا يُونُس بن أَحْمد الْحَرَّانِي
رحلا إِلَى الْمشرق فِي دولة النَّاصِر فِي سنة ثَلَاثِينَ وثلثمائة وَأَقَامَا هُنَالك عشرَة أَعْوَام ودخلا بَغْدَاد وقرآ فِيهَا على ثَابت بن سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة الصَّابِئ كتب جالينوس عرضا وخدما ابْن وصيف فِي عمل علل الْعين وانصرفا إِلَى الأندلس فِي دولة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَخمسين وثلثمائة وغزوا مَعَه غَزَوَاته إِلَى سنة اثْنَتَيْنِ وانصرفا وألحقهما فِي خدمته بالطب واسكنهما مَدِينَة الزهراء واستخلصهما لنَفسِهِ دون غَيرهمَا مِمَّن كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت من الْأَطِبَّاء
وَمَات عمر بعلة الْمعدة ورمت لَهُ فَلحقه ذبول من أجلهَا وَمَات وَبَقِي أَحْمد مستخلصا
وَأَسْكَنَهُ الْمُسْتَنْصر فِي قصره بِمَدِينَة الزهراء وَكَانَ لطيف الْمحل عِنْده أَمينا مؤتمنا يطلعه على الْعِيَال والكرائم
وَكَانَ رجلا حَلِيمًا صَحِيح الْعقل عَالما بِمَا شَاهد علاجه وَرَآهُ عيَانًا بالمشرق
وَتوجه عِنْد الْمُسْتَنْصر بِاللَّه لِأَن الْمُسْتَنْصر كَانَ نهما فِي الْأكل وَكَانَ يحدث لَهُ فِي أكله تخمة لِكَثْرَة مَا كَانَ يتَنَاوَل من الْأكل وَكَانَ يصنع لَهُ الجوارشنات الحادة العجيبة وَكَانَ وَافقه فِي ذَلِك مُوَافقَة وَأفَاد مَالا عَظِيما
وَكَانَ ألكن اللِّسَان رَدِيء الْخط لَا يُقيم هجاء حُرُوف كِتَابه
وَكَانَ بَصيرًا بالأدوية المفردة وصانعا للأشربة والمعجونات ومعالجا لما وقف عَلَيْهِ
قَالَ ابْن جلجل وَرَأَيْت لَهُ اثْنَي عشر صَبيا صقالبة طباخين للأشربة صناعين للمعجونات بَين يَدَيْهِ
وَكَانَ قد اسْتَأْذن أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُسْتَنْصر أَن يُعْطي مِنْهَا من احْتَاجَ من الْمَسَاكِين والمرضى فأباح لَهُ ذَلِك
وَكَانَ يداوي الْعين مداواة نفيسة
وَله بقرطبة آثَار فِي ذَلِك
وَكَانَ يواسي بِعِلْمِهِ صديقه وجاره وَالْمَسَاكِين والضعفاء
وولاه هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه خطة الشرطة وخطة السُّوق
وَمَات بحمى الرّبع وَعلة الإسهال
وَخلف عَمَّا قِيمَته أَزِيد من مائَة ألف دِينَار(1/487)
إِسْحَق الطَّبِيب
وَالِد الْوَزير ابْن إِسْحَق مسيحي النحلة وَكَانَ مُقيما بقرطبة وَكَانَ صانعا بِيَدِهِ مجربا يحْكى لَهُ مَنَافِع عَظِيمَة وآثار عَجِيبَة وتحنك فاق بِهِ جَمِيع أهل دهره
وَكَانَ فِي أَيَّام الْأَمِير عبد الله الْأمَوِي
يحيى بن إِسْحَق
كَانَ طَبِيبا ذكيا عَالما بَصيرًا بالعلاج صانعا بِيَدِهِ وَكَانَ فِي صدر دولة عبد الرَّحْمَن النَّاصِر لدين الله واستوزره وَولي الولايات والعمالات وَكَانَ قَائِد بطليموس زَمَانا وَكَانَ لَهُ من أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر مَحل كَبِير
كَانَ ينزله منزلَة الثِّقَة ويتطلع على الكرائم والخدم
وَألف فِي الطِّبّ كتابا يشْتَمل على خَمْسَة أسفار ذهب فِيهَا مَذْهَب الرّوم
وَكَانَ يحيى قد أسلم وَأما أَبوهُ إِسْحَق فَكَانَ نَصْرَانِيّا كَمَا تقدم ذكره
قَالَ ابْن جلجل حَدثنِي عَن يحيى بن إِسْحَق ثِقَة أَنه كَانَ عِنْده غُلَام للحاجب مُوسَى أَو للوزير عبد الْملك قَالَ قَالَ بَعَثَنِي إِلَيْهِ مولَايَ بِكِتَاب فَأَنا قَاعد عِنْد دَاره بِبَاب الْجَوْز إِذْ أقبل رجل بدوي على حمَار وَهُوَ يَصِيح فَأقبل حَتَّى وقف بِبَاب الدَّار
فَجعل يتَضَرَّع وَيَقُول أدركوني وَتَكَلَّمُوا إِلَى الْوَزير بخبري
إِذْ خرج إِلَى صُرَاخ الرجل وَمَعَهُ جَوَاب كِتَابه فَقَالَ للرجل مَا بالك يَا هَذَا فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْوَزير ورم فِي أحليلي مَنَعَنِي الْبَوْل مُنْذُ أَيَّام كَثِيرَة وَأَنا فِي الْمَوْت
فَقَالَ لَهُ اكشف عَنهُ قَالَ فكشف عَنهُ فَإِذا هُوَ ورام
فَقَالَ لرجل كَانَ أقبل مَعَ العليل أطلب لي حجرا أملس
فَطَلَبه فَوَجَدَهُ وَأَتَاهُ بِهِ
فَقَالَ ضَعْهُ فِي كفك وضع عَلَيْهِ الأحليل
قَالَ فَقَالَ الْمخبر لي فَلَمَّا تمكن أحليل الرجل من الْحجر جمع الْوَزير يَده وَضرب على الأحليل ضَرْبَة غشي على الرجل مِنْهَا
ثمَّ انْدفع الصديد يجْرِي فَمَا استوفى الرجل جري صديد الورم حَتَّى فتح عَيْنَيْهِ ثمَّ بَال الْبَوْل فِي أثر ذَلِك
فَقَالَ لَهُ اذْهَبْ فقد بَرِئت من علتك وَأَنت رجل عائث واقعت بَهِيمَة فِي دبرهَا فصادفت شعيرَة من عَلفهَا لحجت فِي عين الإحليل فورم لَهَا وَقد خرجت فِي الصديد
فَقَالَ لَهُ الرجل قد فعلت هَذَا
وَأقر بذلك وَهَذَا يدل على حدس صَحِيح وقريحة صَادِقَة حسناء
وَقَالَ ابْن جلجل وَله نَادِر مَحْفُوظ فِي علاج النَّاصِر قَالَ عرض للناصر وجع فِي أُذُنه والوزير يَوْمئِذٍ قَائِد بطليوس فعولج مِنْهُ فَلم يفتر فَأمر النَّاصِر فِي الْخُرُوج فِيهِ فرانقا فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الفرانق استنطقه عَن الْحَاجة الَّتِي أوجبت الْخُرُوج فِيهِ
فَقَالَ لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ عرض لَهُ فِي أُذُنه وجع أعيا الْأَطِبَّاء فعرج فِي طَرِيقه إِلَى بعض أديار النَّصَارَى وَسَأَلَ عَن عَالم هُنَاكَ فَوجدَ رجلا مسنا فَسَأَلَهُ هَل عنْدك من تجربة لوجع الْأذن فَقَالَ الشَّيْخ الراهب دم الْحمار حارا فوصل إِلَى أَمِير(1/488)
الْمُؤمنِينَ وعالجه بِدَم الْحمار حارا كَمَا يسفح وَبرا
وَهَذَا بحث واستقصاء ودؤوب على التَّعْلِيم
وليحيى بن إِسْحَق من الْكتب كتاب كَبِير فِي الطِّبّ
سُلَيْمَان أَبُو بكر بن تَاج
كَانَ فِي دولة النَّاصِر وخدمه بالطب
وَكَانَ طبيا نبيلا وعالج أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر من رمد عرض لَهُ من يَوْمه بشيافه
وَطلب مِنْهُ نسخته بعد ذَلِك فَأبى أَن يميلها وعالج سععا صَاحب الْبَرِيد من ضيق النَّفس بلعوق فبرأ من يَوْمه بعد أَن أعيا علاجه الْأَطِبَّاء
وَكَانَ يعالج وجع الخاصرة بحب من حبه فَيبرأ الْوَقْت وَكَانَ ضنينا بنسخ الْأَدْوِيَة
وَله نَوَادِر فِي الطِّبّ كَثِيرَة
وَكَانَ أديبا فَاضلا حسن المحاضرة والمذاكرة وأدركه فِي آخر أيامة مرض القروح فِي أحليله فَلم يُمكنهُ دواؤه وعرفه الله الْقَادِر عَجزه فَقطع أحليله
وولاه أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر قَضَاء شذونة
ابْن أم الْبَنِينَ
سمي بالأعرف وَكَانَ من أهل مَدِينَة قرطبة وخدم أَمِير الْمُؤمنِينَ النَّاصِر بصناعة الطِّبّ
وَكَانَ ينادمه وَكَانَت مَعَه فطنة فِي الطِّبّ
وَله نَوَادِر أنذر بهَا
وَكَانَ معجبا بِنَفسِهِ
وَكَانَ النَّاصِر رُبمَا استثقله لذَلِك وَرُبمَا اضْطر إِلَيْهِ لجودة فطنته
سعيد بن عبد ربه
هُوَ أَبُو عُثْمَان سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد ربه بن حبيب بن مُحَمَّد بن سَالم مولى الْأَمِير هِشَام الرضي بن عبد الرَّحْمَن الدَّاخِل بالأندلس وَهُوَ ابْن أخي أبي عَمْرو وَأحمد بن مُحَمَّد بن عبد ربه الشَّاعِر صَاحب كتاب العقد
وَكَانَت وَفَاة عَمه هَذَا أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد ربه فِي شهر جُمَادَى الأولى من سنة ثَمَان وَعشْرين وثلثمائة ومولده فِي سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ لعشر خلون من شهر رَمَضَان
وَكَانَ سعيد بن عبد ربه طَبِيبا فَاضلا وشاعرا محسنا وَله فِي الطِّبّ رجز جليل محتو على جملَة حَسَنَة مِنْهُ دلّ بِهِ على تمكنه من الْعلم وتحققه لمذاهب القدماء وَكَانَ لَهُ مَعَ ذَلِك بصر بحركات الْكَوَاكِب وطبائعها ومهاب الرِّيَاح وَتغَير الأهوية وَكَانَ مذْهبه فِي مداواة الحميات أَن يخلط بالمبردات شَيْئا من وَله فِي ذَلِك مَذْهَب جميل وَلم يخْدم بالطب سُلْطَانا
وَكَانَ بَصيرًا بتقدمة(1/489)
الْمعرفَة وتغيير الأهوية ومهب الرِّيَاح وحركة الْكَوَاكِب
قَالَ ابْن جلجل حَدثنِي عَنهُ سُلَيْمَان ابْن أَيُّوب الْفَقِيه قَالَ قَالَ اعتللت بحمة فطاولتني وأشرفت مِنْهَا إِذْ مر بِأبي وَهُوَ ناهض إِلَى صَاحب الْمَدِينَة أَحْمد بن عِيسَى فَقَامَ إِلَيْهِ وَقضى وَاجِب حَقه بِالسَّلَامِ عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن علتي واستخبر أبي عَمَّا عولجت بِهِ فسفه علاج من عالجني وَبعث إِلَى أبي بثماني عشرَة حَبَّة من حبوب مُدَوَّرَة وَأمر أَن أشْرب مِنْهَا كل يَوْم حَبَّة فَمَا استوعبتها حَتَّى أقلعت الْحمى وبرئت برأَ تَاما
وَعمي سعيد فِي آخر أَيَّامه
وَمن شعر سعيد بن عبد ربه أَنه افتصد يَوْمًا فَبعث إِلَى عَمه أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد ربه الشَّاعِر الأديب رَاغِبًا إِلَيْهِ فِي أَن يحضر عِنْده مؤانسا لَهُ فَلم يجبهُ عَمه إِلَى ذَلِك وَأَبْطَأ عَنهُ فَكتب إِلَيْهِ
(لما عدمت مؤانسا وجليسا ... نادمت بقراطا وجالينوسا)
(وَجعلت كتبهما شِفَاء تفردي ... وهما الشِّفَاء لكل جرح يوسا)
(وَوجدت علمهما إِذا حصلته ... يذكي وَيحيى للجسوم نفوسا) الْكَامِل
فَلَمَّا وصل الشّعْر إِلَى عَمه جاوبه بِأَبْيَات مِنْهَا
(ألفيت بقراطا وجالينوسا ... لَا يأكلان ويرزآن جَلِيسا)
(فجعلتهم دون الْأَقَارِب جنَّة ... ورضيت مِنْهُم صاحبا وأنيسا)
(وأظن بخلك لَا يرى لَك تَارِكًا ... حَتَّى تنادم بعدهمْ أبليسا)
وَقَالَ سعيد بن عبد ربه أَيْضا فِي آخر عمره وَكَانَ جميل الْمَذْهَب منقبضا عَن الْمُلُوك
(أَمن بعد غوصي فِي عُلُوم الْحَقَائِق ... وَطول انبساطي فِي مواهب خالقي)
(وَفِي حِين أشرافي على ملكوته ... أرى طَالبا رزقا إِلَى غير رازقي)
(وَأَيَّام عمر الْمَرْء مُتْعَة سَاعَة ... تَجِيء حثيثا مثل لمحة بارق)
(وَقد أَذِنت نَفسِي بتقويض رَحلهَا ... وأسرع فِي سوقي إِلَى الْمَوْت سائقي)
(وَإِنِّي وَإِن أوغلت أَو سرت هَارِبا ... من الْمَوْت فِي الْآفَاق فالموت لاحقي) الطَّوِيل
ولسعيد بن عبد ربه من الْكتب كتاب الأقراباذين
تعاليق ومجربات فِي الطِّبّ
أرجوزة فِي الطِّبّ
عمر بن حَفْص بن برتق
كَانَ طَبِيبا فَاضلا قَارِئًا لِلْقُرْآنِ مطرب الصَّوْت وَكَانَ لَهُ رحْلَة إِلَى القيروان إِلَى أبي جَعْفَر ابْن الجزار لزمَه سِتَّة أشهر لَا غير
وَهُوَ أَدخل إِلَى الأندلس كتاب زَاد الْمُسَافِر ونبل بالأندلس وخدم(1/490)
بالطب النَّاصِر
وَكَانَ نجم بن طرفه صَاحب البيازرة قد استخلصه لنَفسِهِ وَقَامَ بِهِ وأغناه وشاركه فِي كل دُنْيَاهُ وَلم يطلّ عمره
أصبغ بن يحيى
كَانَ مُتَقَدما فِي صناعَة الطِّبّ وخدم بهَا النَّاصِر وَألف لَهُ حب الأنيسون
وَكَانَ شَيخا وسيما بهيا سريا مُعظما عِنْد الرؤساء
مُحَمَّد بن تمليح
كَانَ رجلا ذَا وقار وسكينة وَمَعْرِفَة بالطب والنحو واللغة وَالشعر وَالرِّوَايَة
وخدم النَّاصِر بصناعة الطِّبّ
وَكَانَ الْمُقِيم برئاسته أَحْمد بن إلْيَاس الْقَائِد وولاه النَّاصِر خطْبَة الرَّد وَقَضَاء شذونة
وَله فِي الطِّبّ تأليف حسن الْإِشْكَال
وَأدْركَ صَدرا من دولة الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وَكَانَ حظيا عِنْده وخدمه بصناعة الطِّبّ
قَالَ القَاضِي صاعد وولاه النّظر فِي بُنيان الزِّيَادَة من قبلي الْجَامِع بقرطبة فَتَوَلّى ذَلِك وكملت تَحت أشرافه وأمانته
وَرَأَيْت اسْمه مَكْتُوبًا بِالذَّهَب وَقطع الفسيفساء على حَائِط الْمِحْرَاب بهَا
وَإِن ذَلِك الْبُنيان كمل على يَدَيْهِ عَن أَمر الْخَلِيفَة الحكم فِي سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة
ولمحمد بن تمليح من الْكتب كتاب فِي الطِّبّ
أَبُو الْوَلِيد بن الكتاني
هُوَ أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن الكتاني كَانَ عَالما بهيا سريا حُلْو اللِّسَان محبوبا من الْعَامَّة والخاصة لسخائه بِعِلْمِهِ ومواساته بِنَفسِهِ وَلم يكن يرغب فِي المَال وَلَا جمعه وَكَانَ لطيف المعاناة وخدم النَّاصِر والمستنصر بصناعة الطِّبّ وَمَات بعلة الاسْتِسْقَاء
أَبُو عبد الله بن الكتاني
هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن الكتاني كَانَ أَخذ الطِّبّ عَن عَمه مُحَمَّد بن الْحُسَيْن وطبقته وخدم بِهِ الْمَنْصُور بن أبي عَامر وَابْنه المظفر
ثمَّ انْتقل فِي صدر الْفِتْنَة إِلَى مَدِينَة سرقطسة واستوطنها وَكَانَ بَصيرًا بالطب مُتَقَدما فِيهِ ذَا حَظّ من الْمنطق والنجوم وَكثير من عُلُوم الفلسفة
قَالَ القَاضِي صاعد أَخْبرنِي عَنهُ الْوَزير أَبُو الْمطرف عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الْكَبِير بن وَافد اللَّخْمِيّ أَنه كَانَ دَقِيق الذِّهْن ذكي الخاطر جيد الْفَهم حسن التَّوْحِيد وَالتَّسْبِيح(1/491)
وَكَانَ ذَا ثروة وغنى وَاسع وَتُوفِّي قَرِيبا من سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ قد قَارب ثَمَانِينَ سنة
قَالَ وقرأت فِي بعض تآليفه أَنه أَخذ صناعَة الْمنطق عَن مُحَمَّد بن عبدون الْجبلي وَعمر بن يُونُس بن أَحْمد الْحَرَّانِي وَأحمد بن حفصون الفيلسوف وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم القَاضِي النَّحْوِيّ وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن مَسْعُود البجائي وَمُحَمّد بن مَيْمُون الْمَعْرُوف بمركوس وَأبي الْقَاسِم فيد بن نجم وَسَعِيد ابْن فتحون السَّرقسْطِي الْمَعْرُوف بالحمار وَأبي الْحَرْث الأسقف تلميذ ربيع بن زيد الأسقف الفيلسوف وَأبي مرين البجائي وَمُسلمُهُ بن أَحْمد المرحيطي
أَحْمد بن حَكِيم بن حفصون
كَانَ طَبِيبا عَالما جيد القريحة حسن الفطنة دَقِيق النّظر بَصيرًا بالْمَنْطق مشرفا على كثير من عُلُوم الفلسفة
وَكَانَ مُتَّصِلا بالحاجب جَعْفَر الصقلبي ومستوليا على خاصته فأوصله بالحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وخدمه بالطب إِلَى أَن توفّي الْحَاجِب جَعْفَر فأسقط حِينَئِذٍ من ديوَان الْأَطِبَّاء وَبَقِي مخمولا إِلَى أَن توفّي وَمَات بعلة الإسهال
أَبُو بكر أَحْمد بن جَابر
كَانَ شَيخا فَاضلا فِي الطِّبّ حَلِيمًا عفيفا وخدم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه بالطب وَأدْركَ صَدرا من دولة الْمُؤَيد وَكَانَ أَوْلَاد النَّاصِر جَمِيعهم يعتمدون على تَعْظِيمه وتبجيله وَمَعْرِفَة حَقه
وَكَانَ وجيها عِنْدهم مؤتمنا وَكَذَلِكَ عِنْد الرؤساء وَكَانَ أديبا فهما
وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة فِي الطِّبّ والمجامع والفلسفة
وَعمر زَمَانا طَويلا
أَبُو عبد الله الْملك الثَّقَفِيّ
كَانَ طَبِيبا أديبا عَالما بِكِتَاب أقليدس وبصناعة المساحة
وخدم النَّاصِر والمستنصر بصناعة الطِّبّ وَكَانَ أعرج
وَله فِي الطِّبّ نَوَادِر وولاه الْمُسْتَنْصر أَو النَّاصِر خزانَة السِّلَاح وَعمي فِي آخر عمره بِمَاء نزل فِي عَيْنَيْهِ وَمَات بعلة الاسْتِسْقَاء
هرون بن مُوسَى الأشبوني
كَانَ من شُيُوخ الْأَطِبَّاء وأخيارهم مؤتمنا مَشْهُورا بأعمال الْيَد وخدم النَّاصِر والمستنصر بصناعة الطِّبّ
مُحَمَّد بن عبدون الْجبلي العذري
رَحل إِلَى الْمشرق سنة سبع وَأَرْبَعين وثلثمائة وَدخل الْبَصْرَة وَلم يدْخل بَغْدَاد وأتى مَدِينَة فسطاط مصر ودبر مارستانها
وَمهر بالطب ونبل فِيهِ وَأحكم كثيرا من أُصُوله وعانى صناعَة الْمنطق عناية صَحِيحَة
وَكَانَ شَيْخه فِيهَا أَبُو سُلَيْمَان مُحَمَّد بن طَاهِر بن بهْرَام السجسْتانِي الْبَغْدَادِيّ
وَرجع إِلَى(1/492)
الأندلس سنة سِتِّينَ وثلثمائة وخدم بالطب الْمُسْتَنْصر بِاللَّه والمؤيد بِاللَّه وَكَانَ قبل أَن يتطبب مؤدبا بِالْحِسَابِ والهندسة وَله فِي التكسير كتاب حسن
قَالَ القَاضِي صاعد وَأَخْبرنِي أَبُو عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد بن البعوش الطليطلي أَنه لم يلق فِي قرطبة أَيَّام طلبه فِيهَا من يلْحق بِمُحَمد بن عبدون الْجبلي فِي صناعَة الطِّبّ وَلَا يجاريه فِي ضَبطهَا وَحسن دربته فِيهَا وَأَحْكَامه لغوامضها
ولمحمد بن عبدون من الْكتب كتاب فِي التكسير
عبد الرَّحْمَن بن إِسْحَق بن الْهَيْثَم
من أَعْيَان أطباء الأندلس وفضلائها وَكَانَ من أهل قرطبة
وَله من الْكتب كتاب الْكَمَال والتمام فِي الْأَدْوِيَة المسهلة والمقيئة
كتاب الِاقْتِصَار والإيجاد فِي خطا ابْن الجزار فِي الِاعْتِمَاد
كتاب الِاكْتِفَاء بالدواء من خَواص الْأَشْيَاء صنفه للحاجب الْقَائِد أبي عَامر مُحَمَّد بن أبي عَامر
كتاب السمائم
ابْن جلجل
هُوَ أَبُو دَاوُد سُلَيْمَان بن حسان يعرف بِابْن جلجل وَكَانَ طَبِيبا فَاضلا خَبِيرا بالمعالجات جيد التَّصَرُّف فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ فِي أَيَّام هِشَام الْمُؤَيد بِاللَّه
وخدمه بالطب وَله بَصِيرَة واعتناء بقوى الْأَدْوِيَة المفردة وَقد فسر أَسمَاء الْأَدْوِيَة المفردة من كتاب ديسقوريدس الْعين زَرْبِي وأفصح عَن مكنونها وأوضح مستغلق مضمونها وَهُوَ يَقُول فِي أول كِتَابه هَذَا إِن كتاب ديسقوريدس ترْجم بِمَدِينَة السَّلَام فِي الدولة العباسية فِي أَيَّام جَعْفَر المتَوَكل وَكَانَ المترجم لَهُ اصطفن بن بسيل الترجمان من اللِّسَان اليوناني إِلَى اللِّسَان الْعَرَبِيّ وتصفح ذَلِك حنين بن إِسْحَق المترجم فصحح التَّرْجَمَة وأجازها فَمَا علم اصطفن من تِلْكَ الْأَسْمَاء اليونانية فِي وقته لَهُ اسْما فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ فسره بِالْعَرَبِيَّةِ وَمَا لم يعلم لَهُ فِي اللِّسَان الْعَرَبِيّ اسْما تَركه فِي الْكتاب على اسْمه اليوناني اتكالا مِنْهُ على أَن يبْعَث الله بعده من يعرف ذَلِك ويفسره بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيّ إِذْ التَّسْمِيَة لَا تكون بالتواطؤ من أهل كل بلد على أَعْيَان الْأَدْوِيَة بِمَا رَأَوْا وَأَن يسموا ذَلِك إِمَّا باشتقاق وَإِمَّا بِغَيْر ذَلِك من تواطئهم على التَّسْمِيَة فاتكل اصطفن على شخوص يأْتونَ بعده مِمَّن قد عرف أَعْيَان الْأَدْوِيَة الَّتِي لم يعرف هُوَ لَهَا اسْما فِي وقته فيسميها على قدر مَا سمع فِي ذَلِك الْوَقْت فَيخرج إِلَى الْمعرفَة
قَالَ ابْن جلجل وَورد هَذَا الْكتاب إِلَى الأندلس وَهُوَ على تَرْجَمَة اصطفن مِنْهُ مَا عرف لَهُ اسْما بِالْعَرَبِيَّةِ وَمِنْه مَا لم يعرف لَهُ اسْما
فَانْتَفع النَّاس بِالْمَعْرُوفِ مِنْهُ بالمشرق وبالأندلس إِلَى أَيَّام النَّاصِر عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَهُوَ يَوْمئِذٍ صَاحب الأندلس
فكاتبه أرمانيوس الْملك ملك قسطنطينية(1/493)
فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة وهاداه بِهَدَايَا لَهَا قدر عَظِيم فَكَانَ فِي جملَة هديته كتاب دسقوريدس مُصَور الحشائش بالتصوير الرُّومِي العجيب
وَكَانَ الْكتاب مَكْتُوبًا بالإغريقي الَّذِي هُوَ اليوناني وَبعث مَعَه كتاب هروسيس صَاحب الْقَصَص وَهُوَ تَارِيخ للروم عَجِيب فِيهِ أَخْبَار الدهور وقصص الْمُلُوك الأول وفوائد عَظِيمَة
وَكتب أرمانيوس فِي كِتَابه إِلَى النَّاصِر إِن كتاب ديسقوريدس لَا تجتنى فَائِدَته إِلَّا بِرَجُل يحسن الْعبارَة بِاللِّسَانِ اليوناني وَيعرف أشخاص تِلْكَ الْأَدْوِيَة فَإِن كَانَ فِي بلدك من يحسن ذَلِك فزت أَيهَا الْملك بفائدة الْكتاب وَأما كتاب هروسيس فعندك فِي بلدك من اللطينيين من يقرأه بِاللِّسَانِ اللطيني وَإِن كشفتهم عَنهُ نقلوه لَك من اللطيني إِلَى اللِّسَان الْعَرَبِيّ
قَالَ ابْن جلجل وَلم يكن يَوْمئِذٍ بقرطبة من نَصَارَى الأندلس من يقْرَأ اللِّسَان الأغريقي الَّذِي هُوَ اليوناني الْقَدِيم فَبَقيَ كتاب ديسقوريدس فِي خزانَة عبد الرَّحْمَن النَّاصِر بِاللِّسَانِ الإغريقي وَلم يترجم إِلَى اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَبَقِي الْكتاب بالأندلس
وَالَّذِي بَين أَيدي النَّاس بترجمة أسطفن الْوَارِدَة من مَدِينَة السَّلَام بَغْدَاد
فَلَمَّا جاوب النَّاصِر أرمانيوس الْملك سَأَلَهُ أَن يبْعَث إِلَيْهِ بِرَجُل يتَكَلَّم بالإغريقي واللطيني ليعلم لَهُ عبيدا يكونُونَ مترجمين فَبعث أرمانيوس الْملك إِلَى النَّاصِر براهب كَانَ يُسمى نقولا فوصل إِلَى قرطبة سنة أَرْبَعِينَ وثلثمائة وَكَانَ يَوْمئِذٍ بقرطبة من الْأَطِبَّاء قوم لَهُم بحث وتفتيش وحرص على اسْتِخْرَاج مَا جهل من أَسمَاء عقاقير كتاب ديسقوريدس إِلَى الْعَرَبيَّة وَكَانَ أبحثهم وأحرصهم على ذَلِك من جِهَة التَّقَرُّب إِلَى الْملك عبد الرَّحْمَن النَّاصِر حسداي بن بِشُرُوط الإسرائيلي وَكَانَ نقولا الراهب عِنْده أحظى النَّاس وأخصهم بِهِ
وَفسّر من أَسمَاء عقاقير كتاب ديسقوريدس مَا كَانَ مَجْهُولا وَهُوَ أول من عمل بقرطبة ترياق الْفَارُوق على تَصْحِيح الشجارية الَّتِي فِيهِ
وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت من الْأَطِبَّاء الباحثين عَن تَصْحِيح أَسمَاء عقاقير الْكتاب وَتَعْيِين أشخاصه مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالشجار وَرجل كَانَ يعرف بالبسباسي وَأَبُو عُثْمَان الجزار الملقب باليابسة وَمُحَمّد بن سعيد الطَّبِيب وَعبد الرَّحْمَن بن إِسْحَق بن هَيْثَم وَأَبُو عبد الله الصّقليّ وَكَانَ يتَكَلَّم باليونانية وَيعرف أشخاص الْأَدْوِيَة
قَالَ ابْن جلجل وَكَانَ هَؤُلَاءِ النَّفر كلهم فِي زمَان وَاحِد مَعَ نقولا الراهب أَدْرَكته وَأدْركت نقولا الراهب فِي أَيَّام الْمُسْتَنْصر وصحتهم فِي أَيَّام الْمُسْتَنْصر الحكم
وَفِي صدر دولته مَاتَ نقولا الراهب فصح ببحث هَؤُلَاءِ النَّفر الباحثين عَن أَسمَاء عقاقير كتاب ديسقوريدس تَصْحِيح الْوُقُوف على أشخاصها بِمَدِينَة قرطبة خَاصَّة بِنَاحِيَة الأندلس مَا أَزَال الشَّك فِيهَا عَن الْقُلُوب وَأوجب الْمعرفَة بهَا بِالْوُقُوفِ على أشخاصها وَتَصْحِيح النُّطْق بأسمائها بِلَا تَصْحِيف إِلَّا الْقَلِيل مِنْهَا الَّذِي لَا بَال بِهِ وَلَا خطر لَهُ
وَذَلِكَ يكون فِي مثل عشرَة أدوية
قَالَ وَكَانَ لي فِي معرفَة تَصْحِيح هيولى الطِّبّ الَّذِي هُوَ أصل الْأَدْوِيَة المركبة حرص شَدِيد وَبحث(1/494)
عَظِيم حَتَّى وهبني الله من ذَلِك بفضله بِقدر مَا اطلع عَلَيْهِ من نيتي فِي إحْيَاء مَا خفت يدرس وَتذهب منفعَته لأبدان النَّاس فَالله قد خلق الشِّفَاء وبثه فِيمَا انبتته الأَرْض وَاسْتقر عَلَيْهَا من الْحَيَوَان المشاء والسابح فِي المَاء والمنساب وَمَا يكون تَحت الأَرْض فِي جوفها من المعدنية كل ذَلِك فِيهِ شِفَاء وَرَحْمَة ورفق
وَلابْن جلجل من الْكتب كتاب تَفْسِير أَسمَاء الْأَدْوِيَة المفردة من كتاب ديسقوريدس أَلفه فِي شهر ربيع الآخر سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وثلثمائة بِمَدِينَة قرطبة فِي دولة هِشَام بن الحكم الْمُؤَيد بِاللَّه
مقَالَة فِي ذكر الْأَدْوِيَة الَّتِي لم يذكرهَا ديسقوريدس فِي كِتَابه مِمَّا يسْتَعْمل فِي صناعَة الطِّبّ وَينْتَفع بِهِ وَمَا لَا يسْتَعْمل لكيلا يغْفل ذكره
وَقَالَ ابْن جلجل أَن ديسقوريدس اغفل ذَلِك وَلم يذكرهُ إِمَّا لِأَنَّهُ لم يره وَلم يُشَاهِدهُ عيَانًا وَإِمَّا لِأَن ذَلِك كَانَ غير مُسْتَعْمل فِي دهره وَأَبْنَاء جنسه
رِسَالَة التَّبْيِين فِيمَا غلط فِيهِ بعض المتطبيين
كتاب يتَضَمَّن ذكر شَيْء من أَخْبَار الْأَطِبَّاء والفلاسفة ألف فِي أَيَّام الْمُؤَيد بِاللَّه
أَبُو الْعَرَب يُوسُف بن مُحَمَّد
أحد المتحققين بصناعة الطِّبّ والراسخين فِي علمه
قَالَ القَاضِي صاعد حَدثنِي الْوَزير أَبُو الْمطرف ابْن وَافد وَأَبُو عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد بن البغونش إِنَّه كَانَ محكا لأصول الطِّبّ نَافِذا فِي فروعه حسن التَّصَرُّف فِي أَنْوَاعه
قَالَ وَسمعت غَيرهمَا يَقُول لم يكن أحد بعد مُحَمَّد بن عبدون يوازي أَبُو الْعَرَب فِي قِيَامه بصناعة الطِّبّ ونفوذه فِيهَا
وَكَانَ غلب عَلَيْهِ فِي آخر عمره حب الْخمر فَكَانَ لَا يُوجد صَاحِيًا وَلَا يرى مفيقا من خمار وَحرم بذلك النَّاس كثيرا من الِانْتِفَاع بِهِ وبعلمه
وَتُوفِّي وَقد قَارب تسعين سنة وَذَلِكَ بعد ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
ابْن البغونش
هُوَ أَبُو عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد بن البغونش
قَالَ القَاضِي صاعد كَانَ من أهل طليطلة ثمَّ رَحل إِلَى قرطبة لطلب الْعلم بهَا فَأخذ عَن مسلمة بن أَحْمد علم الْعدَد والهندسة وَعَن مُحَمَّد بن عبدون الْجبلي وَسليمَان بن جلجل وَابْن الشناعة ونظرائهم علم الطِّبّ
ثمَّ انْصَرف إِلَى طليطلة واتصل بهَا بأميرها الظافر إِسْمَعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَعِيل بن عَامر بن مطرف بن ذِي النُّون وحظي عِنْده وَكَانَ أحد مديري دولته
قَالَ ولقيته أَنا فِيهَا بعد ذَلِك فِي صدر دولة الْمَأْمُون ذِي الْمجد بن يحيى بن الظافر إِسْمَعِيل بن ذِي النُّون وَقد ترك قِرَاءَة الْعُلُوم وَأَقْبل على قِرَاءَة الْقُرْآن وَلزِمَ دَاره والانقباض عَن النَّاس فَلَقِيت مِنْهُ رجلا عَاقِلا جميل الذّكر وَالْمذهب حسن السِّيرَة نظيف الثِّيَاب ذَا كتب جليلة فِي أَنْوَاع الفلسفة وضروب الْحِكْمَة
وتبينت مِنْهُ أَنه قَرَأَ الهندسة وفهمها وَقَرَأَ الْمنطق وَضبط كثيرا مِنْهُ ثمَّ أعرض عَن ذَلِك وتشاغل بكتب جالينوس وَجَمعهَا وتناولها بِتَصْحِيحِهِ(1/495)
ومعاناته فَحصل بِتِلْكَ الْعِنَايَة على فهم كثير مِنْهَا
وَلم تكن لَهُ دربة بعلاج المرضى وَلَا طبيعة نَافِذَة فِي فهم الْأَمْرَاض
وَتُوفِّي عِنْد صَلَاة الصُّبْح من يَوْم الثُّلَاثَاء أول يَوْم من رَجَب سنة أَربع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَأَخْبرنِي أَنه ولد سنة تسع وَسِتِّينَ وثلثمائة
فَكَانَ إِذْ توفّي ابْن خمس وَسبعين سنة
ابْن وَافد
هُوَ الْوَزير أَبُو الْمطرف عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الْكَبِير بن يحيى بن وَافد بن مهند اللَّخْمِيّ أحد أَشْرَاف أهل الأندلس وَذَوي السّلف الصَّالح مِنْهُم والسابقة الْقَدِيمَة فيهم
عَنى عناية بَالِغَة بِقِرَاءَة كتب جالينوس وتفهمها ومطالعة كتب أرسطوطاليس وَغَيره من الفلاسفة
قَالَ القَاضِي صاعد وتمهر بِعلم الْأَدْوِيَة المفردة حَتَّى ضبط مِنْهَا مَا لم يضبطه أحد فِي عصره وَألف فِيهَا كتابا جَلِيلًا لَا نَظِير لَهُ جمع فِيهِ مَا تضمن كتاب ديسقوريدس وَكتاب جالينوس المؤلفان فِي الْأَدْوِيَة المفردة ورتبه أحسن تَرْتِيب
قَالَ وَأَخْبرنِي أَنه عانى جمعه وحاول ترتيبه وَتَصْحِيح مَا ضمنه من أَسمَاء الْأَدْوِيَة وصفاتها وأودعه إِيَّاه من تَفْصِيل قواها وتحديد درجاتها نَحوا من عشْرين سنة حَتَّى كمل مُوَافقا لغرضه وَتمّ مطابقا لبغيته
وَله فِي الطِّبّ منزع لطيف وَمذهب نبيل وَذَلِكَ أَنه كَانَ لَا يرى التَّدَاوِي بالأدوية مَا أمكن التَّدَاوِي بالأغذية أَو مَا كَانَ قَرِيبا مِنْهَا فَإِذا دعت الضَّرُورَة إِلَى الْأَدْوِيَة فَلَا يرى التَّدَاوِي بمركبها مَا وصل إِلَى التَّدَاوِي بمفردها فَإِن اضْطر إِلَى الْمركب مِنْهَا لم يكثر التَّرْكِيب بل اقْتصر على الْأَقَل مَا يُمكنهُ مِنْهُ
وَله نَوَادِر مَحْفُوظَة وغرائب مَشْهُورَة فِي الْإِبْرَاء من الْعِلَل الصعبة والأمراض المخوفة بأيسر العلاج وأقربه
واستوطن مَدِينَة طليطلة وَكَانَ فِي أَيَّام ابْن ذِي النُّون
ومولد ابْن وَافد فِي ذِي الْحجَّة من سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلثمائة وَكَانَ فِي الْحَيَاة فِي سنة سِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
وَلابْن وَافد من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة
كتاب الوساد فِي الطِّبّ
مجربات فِي الطِّبّ
كتاب تدقيق النّظر فِي علل حاسة الْبَصَر
كتاب المغيث
الرميلي
هُوَ وَكَانَ بالمرية فِي أَيَّام ابْن معن الْمَعْرُوف بَان صمادح ويلقب بالمعتصم بِاللَّه
وَقَالَ أَبُو يحيى اليسع بن عِيسَى بن حزم بن اليسع فِي كتاب الْمغرب عَن محَاسِن أهل الْمغرب إِن الرميلي صَحبه توفيق يساعده ويصعده وَيُقِيم لَهُ الجاه ويقعده مَعَ دربة جرى بهَا فَأدْرك وَقِيَاس حَرَكَة للمحاورة فَتحَرك فَأصْبح يقْتَدى بنسخه ويتنافس فِي مستصرخه ويتوسل إِلَيْهِ برئاسة(1/496)
نفس لَا ترْضى بدنية وَلَا تعامل إِلَّا بِالْحُرِّيَّةِ
وَرُبمَا عالج فِي بعض أوقاته المستورين بِمَالِه أدوية وأغذية فَأَحبهُ الْبعيد والقريب وَأصْبح مَا لَهُ إِلَّا حميم أَو حبيب حَتَّى أودت بِهِ الْأَيَّام فاقدة إحسانه نادبة مَكَانَهُ
وللرميلي من الْكتب كتاب الْبُسْتَان فِي الطِّبّ
ابْن الذَّهَبِيّ
هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن مُحَمَّد الْأَزْدِيّ وَيعرف بِابْن الذَّهَب أحد المعتنين بصناعة الطِّبّ ومطالعة كتب الفلاسفة وَكَانَ كلفا بصناعة الكيمياء مُجْتَهدا فِي طلبَهَا
وَتُوفِّي ببلنسية فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَلابْن الذَّهَبِيّ من الْكتب مقَالَة فِي أَن المَاء لَا يغذو
ابْن النباش
هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن حَامِد البجائي وَيعرف بِابْن النباش معتن بصناعة الطِّبّ مواظب لعلاج المرضى ذُو معرفَة جَيِّدَة بِالْعلمِ الطبيعي وَله أَيْضا نظر ومشاركة فِي سَائِر الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَكَانَ مُقيما بِجِهَة مرسية
أَبُو جَعْفَر بن خَمِيس الطليطلي
قَرَأَ كتب جالينوس على مراتبها وَتَنَاول صناعَة الطِّبّ من طرقها وَكَانَت لَهُ رَغْبَة كَثِيرَة فِي معرفَة الْعلم الرياضي والاشتغال بِهِ
أَبُو الْحسن عبد الرَّحْمَن بن خلف بن عَسَاكِر الدَّارمِيّ
اعتنى بكتب جالينوس عناية صَحِيحَة وَقَرَأَ كثيرا مِنْهَا على أبي عُثْمَان سعيد بن مُحَمَّد بن بغونش واشتغل أَيْضا بصناعة الهندسة والمنطق وَغير ذَلِك وَكَانَت لَهُ عبارَة بَالِغَة وطبع فَاضل فِي المعاناة ومنزع حسن فِي العلاج وَله تصرف فِي دروب من الْأَعْمَال اللطيفة والصناعات الدقيقة
ابْن الْخياط
هُوَ أَبُو بكر يحيى بن أَحْمد وَيعرف بِابْن الْخياط كَانَ أحد تلاميذ أبي الْقَاسِم مسلمة بن أَحْمد المرحيطي فِي علم الْعدَد والهندسة ثمَّ مَال إِلَى أَحْكَام النُّجُوم وبرع فِيهَا واشتهر بعلمها وخدم بهَا سُلَيْمَان بن حكم بن النَّاصِر لدين الله فِي زمن الْفِتْنَة وَغَيره من الْأُمَرَاء وَآخر من خدم بذلك الْأَمِير(1/497)
الْمَأْمُون يحيى بن إِسْمَاعِيل بن ذِي النُّون وَكَانَ مَعَ ذَلِك معتنيا بصناعة الطِّبّ دَقِيق العلاج حصيفا حَلِيمًا دمثا حسن السِّيرَة كريم الْمَذْهَب وَتُوفِّي بطليطلة سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَقد قَارب ثَمَانِينَ سنة
منجم بن الفوال
يَهُودِيّ من سكان سرقسطة وَكَانَ مُتَقَدما فِي صناعَة الطِّبّ متصرفا مَعَ ذَلِك فِي علم الْمنطق وَسَائِر عُلُوم الفلسفة
ولمنجم بن الفوال من الْكتب كتاب كنز الْمقل على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب وَضَمنَهُ جملا من قوانين الْمنطق وأصول الطبيعة
مَرْوَان بن جنَاح
كَانَ أَيْضا يَهُودِيّا وَله عناية بصناعة الْمنطق والتوسع فِي علم لِسَان الْعَرَب وَالْيَهُود وَمَعْرِفَة جَيِّدَة بصناعة الطِّبّ
وَله من الْكتب كتاب التَّلْخِيص وَقد ضمنه تَرْجَمَة الْأَدْوِيَة المفردة وتحديد الْمَقَادِير المستعملة فِي صناعَة الطِّبّ من الأوزان والمكاييل
إِسْحَاق بن قسطار
كَانَ أَيْضا يَهُودِيّا وخدم الْمُوفق مُجَاهدًا العامري وَابْنه إقبال الدولة عليا
وَكَانَ إِسْحَاق بَصيرًا بأصول الطِّبّ مشاركا فِي علم الْمنطق مشرفا على آراء الفلاسفة
وَكَانَ وافر الْعقل جميل الْأَخْلَاق
وَله تقدم فِي علم اللُّغَة العبرانية بارعا فِي فقه الْيَهُود حبرًا من أَحْبَارهم وَلم يتَّخذ قطّ امْرَأَة
وَتُوفِّي بطليطلة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَله من الْعُمر خمس وَسَبْعُونَ سنة
حسداي بن إِسْحَاق
معتن بصناعة الطِّبّ وخدم الحكم بن عبد الرَّحْمَن النَّاصِر لدين الله وَكَانَ حسداي بن إِسْحَاق من أَحْبَار الْيَهُود مُتَقَدما فِي علم شريعتهم وَهُوَ أول من فتح لأهل الأندلس مِنْهُم بَاب علمهمْ من الْفِقْه والتاريخ وَغير ذَلِك
وَكَانُوا قبل يضطرون فِي فقه دينهم وسني تاريخهم ومواقيت أعيادهم إِلَى يهود بَغْدَاد فيستجلبون من عِنْدهم حِسَاب عدَّة من السنين يتعرفون بِهِ مدَاخِل تاريخهم ومبادئ سنيهم
فَلَمَّا اتَّصل حسداي بالحكم ونال عِنْده نِهَايَة الحظوة توصل بِهِ إِلَى استجلاب مَا شَاءَ من تآليف الْيَهُود بالمشرق فَعلم حِينَئِذٍ يهود الأندلس مَا كَانُوا قبل يجهلونه واستغنوا عَمَّا كَانُوا يتجشمون الكلفة فِيهِ(1/498)
أَبُو الْفضل حسداي بن يُوسُف بن حسداي
من سَاكِني مَدِينَة سرقطسة وَمن بَيت شرف الْيَهُود بالأندلس من ولد مُوسَى النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
عني بالعلوم على مراتبها وَتَنَاول المعارف من طرقها فأحكم علم لِسَان الْعَرَب ونال حظا جزيلا من صناعَة الشّعْر والبلاغة وبرع فِي علم الْعدَد والهندسة وَعلم النُّجُوم وَفهم صناعَة الموسيقى وحاول عَملهَا وأتقن علم الْمنطق وتمرن بطرق الْبَحْث وَالنَّظَر واشتغل أَيْضا بِالْعلمِ الطبيعي وَكَانَ لَهُ نظر فِي الطِّبّ وَكَانَ فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة فِي الْحَيَاة وَهُوَ فِي سنة الشبيبة
أَبُو جَعْفَر يُوسُف بن أَحْمد بن حسداي
من الْفُضَلَاء فِي صناعَة الطِّبّ وَله عناية بَالِغَة فِي الِاطِّلَاع على كتب أبقراط وجالينوس وفهمها
وَكَانَ قد سَافر من الأندلس إِلَى الديار المصرية
واشتهر ذكره بهَا وتميز فِي أَيَّام الْآمِر بِأَحْكَام الله من الْخُلَفَاء المصريين وَكَانَ خصيصا بالمأمون وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن نور الدولة أبي شُجَاع الآمري فِي مُدَّة أَيَّام دولته وتدبيره للْملك
وَكَانَت معدنه فِي ذَلِك ثَلَاث سِنِين وَتِسْعَة أشهر لِأَن الْآمِر كَانَ قد استوزر الْمَأْمُون فِي الْخَامِس من ذِي الْحجَّة سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة وَقبض عَلَيْهِ لَيْلَة السبت الرَّابِع من شهر رَمَضَان سنة تسع عشرَة وَخَمْسمِائة فِي الْقصر بعد صَلَاة الْمغرب
ثمَّ قتل بعد ذَلِك فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَخَمْسمِائة وصلب بِظَاهِر الْقَاهِرَة
وَكَانَ الْمَأْمُون فِي أَيَّام وزارته لَهُ همة عالية ورغبة فِي الْعُلُوم فَكَانَ قد أَمر يُوسُف بن أَحْمد بن حسداي أَن يشْرَح لَهُ كتب أبقراط إِذْ كَانَت أجل كتب هَذِه الصِّنَاعَة وَأَعْظَمهَا جدوى وأكثرها غموضا
وَكَانَ ابْن حسداي قد شرع فِي ذَلِك وَوجدت لَهُ مِنْهُ شرح كتاب الْأَيْمَان لأبقراط وَقد أَجَاد فِي شَرحه لهَذَا الْكتاب واستقصى ذكر مَعَانِيه وتبيينها على أتم مَا يكون وَأحسنه
وَوجدت لَهُ أَيْضا شرح بعض كتاب الْفُصُول لأبقراط وَكَانَ بَينه وَبَين أبي بكر مُحَمَّد بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن باجة صداقة فَكَانَ أبدا يراسله من الْقَاهِرَة
وَكَانَ يُوسُف بن أَحْمد بن حسداي مدمنا للشراب وَعِنْده دعابة ونوادر
وَبَلغنِي عَنهُ أَنه لما أَتَى من الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى الْقَاهِرَة كَانَ هُوَ وَبَعض الصُّوفِيَّة قد اصْطَحَبَا فِي الطَّرِيق فَكَانَا يتحادثان وَأنس كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الآخر وَلما وصلا إِلَى الْقَاهِرَة قَالَ لَهُ الصُّوفِي أَنْت أَيْن تنزل فِي الْقَاهِرَة حَتَّى أكون أَرَاك فَقَالَ مَا كَانَ فِي خاطري أَن أنزل إِلَّا حانة الْخمار وأشرب فَإِن كنت توَافق وَتَأْتِي إِلَيّ فرأيك
فصعب قَوْله على الصُّوفِي وَأنكر هَذَا الْفِعْل وَمَشى إِلَى الخانكاه
وَلما كَانَ فِي بعض(1/499)
الْأَيَّام بعد مديدة وَابْن حسداي فِي السُّوق وَإِذا بِجمع من النَّاس وَفِي وَسطهمْ صوفي يُعَزّر وَقد اشْتهر أمره بِأَنَّهُ وجد سَكرَان وَلما قرب إِلَى الْموضع الَّذِي فِيهِ ابْن حسداي وَنظر إِلَيْهِ وجده ذَلِك الصُّوفِي بِعَيْنِه
فَقَالَ يَا لله قَتلك النامس
وليوسف بن أَحْمد بن حسداي من الْكتب الشَّرْح المأموني لكتاب الْأَيْمَان لأبقراط الْمَعْرُوف بعهده إِلَى الْأَطِبَّاء صنفه لِلْمَأْمُونِ أبي عبد الله مُحَمَّد الآمري
شرح الْمقَالة الأولى من كتاب الْفُصُول لأبقراط
تعاليق وجدت بِخَطِّهِ كتبهَا عِنْد وُرُوده على الْإسْكَنْدَريَّة من الأندلس
فَوَائِد مستخرجة استخرجها وهذبها من شرح عَليّ بن رضوَان لكتاب جالينوس إِلَى أغلوقن من القَوْل على أول الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة لِجَالِينُوسَ
كتاب الأجمال فِي الْمنطق
شرح كتاب الأجمال
ابْن سمجون
وَهُوَ أَبُو بكر حَامِد بن سمجون فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ متميز فِي قوى الْأَدْوِيَة المفردة وأفعالها متقن لما يجب من مَعْرفَتهَا
وَكتابه فِي الْأَدْوِيَة المفردة مَشْهُور بالجودة وَقد بَالغ فِيهِ وأجهد نَفسه فِي تأليفه وَاسْتوْفى فِيهِ كثيرا من آراء الْمُتَقَدِّمين فِي الْأَدْوِيَة المفردة
وَقَالَ أَبُو يحيى اليسع بن عِيسَى بن حزم بن اليسع فِي كتاب الْمغرب عَن محَاسِن أهل الْمغرب أَن ابْن سمجون ألف كِتَابه هَذَا فِي أَيَّام الْمَنْصُور الْحَاجِب مُحَمَّد بن أبي عَامر
أَقُول وَكَانَت وَفَاة مُحَمَّد بن أبي عَامر فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وثلثمائة
وَلابْن سمجون من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة
كتاب الأقراباذين
الْبكْرِيّ
هُوَ أَبُو عبيد الله بن عبد الْعَزِيز الْبكْرِيّ من مرسيه من أَعْيَان أهل الأندلس وأكابرهم فَاضل فِي معرفَة الْأَدْوِيَة المفردة وقواها ومنافعها وأسمائها ونعوتها وَمَا يتَعَلَّق بهَا
وَله من الْكتب كتاب أَعْيَان النَّبَات والشجريات الأندلسيه
الغافقي
س
هُوَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن السَّيِّد الغافقي
إِمَام فَاضل وَحَكِيم عَالم ويعد من الأكابر فِي الأندلس
وَكَانَ أعرف أهل زَمَانه بقوى الْأَدْوِيَة المفردة ومنافعها وخواصها وأعيانها وَمَعْرِفَة أسمائها
وَكتابه فِي الْأَدْوِيَة المفردة لَا نَظِير لَهُ فِي الْجَوْدَة وَلَا شَبيه لَهُ فِي مَعْنَاهُ
قد استقصى فِيهِ مَا ذكره ديسقوريدس والفاضل جالينوس بأوجز لفظ وَأتم معنى ثمَّ ذكر بعد قوليهما مَا تجدّد للمتأخرين من الْكَلَام فِي الْأَدْوِيَة المفردة أَو مَا ألم بِهِ وَاحِد وَاحِد مِنْهُم وعرفه فِيمَا بعد(1/500)
فجَاء كِتَابه جَامعا لما قَالَه الأفاضل فِي الْأَدْوِيَة المفردة ودستورا يرجع إِلَيْهِ فِيمَا يحْتَاج إِلَى تَصْحِيحه مِنْهَا
وللغافقي من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة
الشريف مُحَمَّد بن مُحَمَّد الحسني
هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن إِدْرِيس الحسني ويلقب بالعالي بِاللَّه
كَانَ فَاضلا عَالما بقوى الْأَدْوِيَة المفردة ومنافعها ومنابتها وأعيانها
وَله من الْكتب
كتاب الْأَدْوِيَة المفردة
خلف بن عَبَّاس الزهراوي
كَانَ طَبِيبا فَاضلا خَبِيرا بالأدوية المفردة والمركبة جيد العلاج
وَله تصانيف مَشْهُورَة فِي صناعَة الطِّبّ وأفضلها كِتَابه الْكَبِير الْمَعْرُوف بالزهراوي
ولخلف بن عَبَّاس الزهراوي من الْكتب كتاب التصريف لمن عجز عَن التَّأْلِيف وَهُوَ أكبر تصانيفه وأشهرها وَهُوَ كتاب تَامّ فِي مَعْنَاهُ
ابْن بكلارش
كَانَ يَهُودِيّا من أكَابِر عُلَمَاء الأندلس فِي صناعَة الطِّبّ وَله خبْرَة واعتناء بَالغ بالأدوية المفردة
وخدم بصناعة الطِّبّ بني هود
وَلابْن بكلارش من الْكتب كتاب المجدولة فِي الْأَدْوِيَة المفردة وَضعه مجدولا وألفه بِمَدِينَة المرية للمستعين بِاللَّه أبي جَعْفَر أَحْمد بن المؤتمن بِاللَّه بن هود
أَبُو الصَّلْت أُميَّة بن عبد الْعَزِيز بن أبي الصَّلْت
هُوَ من بلد دانية من شَرق الأندلس وَهُوَ من أكَابِر الْفُضَلَاء فِي صناعَة الطِّبّ وَفِي غَيرهَا من الْعُلُوم وَله التصانيف الْمَشْهُورَة والمآثر الْمَذْكُورَة
قد بلغ فِي صناعَة الطِّبّ مبلغا لم يصل إِلَيْهِ غَيره من الْأَطِبَّاء وَحصل من معرفَة الْأَدَب مَا لم يُدْرِكهُ كثير من سَائِر الأدباء
وَكَانَ أوحد فِي الْعلم الرياضي متقنا لعلم الموسيقى وَعَمله جيد اللّعب بِالْعودِ
وَكَانَ لطيف النادرة فصيح اللِّسَان جيد الْمعَانِي
ولشعره رونق
وأتى أَبُو الصَّلْت من الأندلس إِلَى ديار مصر وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ مُدَّة
ثمَّ عَاد بعد ذَلِك إِلَى الأندلس
وَكَانَ دُخُول أبي الصَّلْت إِلَى مصر فِي حُدُود سنة عشر وَخَمْسمِائة
وَلما كَانَ فِي الْإسْكَنْدَريَّة حبس بهَا
وحَدثني الشَّيْخ سديد الدّين المنطقي فِي الْقَاهِرَة سنة اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة أَن أَبَا الصَّلْت أُميَّة بن عبد الْعَزِيز كَانَ سَبَب حَبسه فِي الْإسْكَنْدَريَّة أَن مركبا كَانَ قد وصل إِلَيْهَا وَهُوَ موقر بِالنُّحَاسِ فغرق قَرِيبا مِنْهَا وَلم تكن لَهُم حِيلَة تخليصه لطول الْمسَافَة فِي عمق الْبَحْر ففكر أَبُو الصَّلْت فِي أمره وأجال(1/501)
النّظر فِي هَذَا الْمَعْنى حَتَّى تلخص لَهُ فِيهِ رَأْي وَاجْتمعَ بالأفضل بن أَمِير الجيوش ملك الْإسْكَنْدَريَّة وأوجده أَنه قَادر أَن تهَيَّأ لَهُ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْآلَات أَن يرفع الْمركب من قَعْر الْبَحْر ويجعله على وَجه المَاء مَعَ مَا فِيهِ من الثّقل فتعجب من قَوْله وَفَرح بِهِ وَسَأَلَهُ أَن يفعل ذَلِك
ثمَّ آتَاهُ على جَمِيع مَا يَطْلُبهُ من الْآلَات وَغرم عَلَيْهَا جملَة من المَال
وَلما تهيأت وَضعهَا فِي مركب عَظِيم على موازاة الْمركب الَّذِي قد غرق وأرسى إِلَيْهِ حِبَالًا مبرومة من الإبريسم وَأمر قوما لَهُم خبْرَة فِي الْبَحْر أَن يغوصوا ويوثقوا ربط الحبال بالمركب الغارق وَكَانَ قد صنع آلَات بأشكال هندسية لرفع الأثقال فِي الْمركب الَّذِي هم فِيهِ
وَأمر الْجَمَاعَة بِمَا يَفْعَلُونَهُ فِي تِلْكَ الْآلَات
وَلم يزل شَأْنهمْ ذَلِك والحبال الإبريسم ترْتَفع إِلَيْهِم أَولا فأولا وتنطوي على دواليب بَين أَيْديهم حَتَّى بَان لَهُم الْمركب الَّذِي كَانَ قد غرق وارتفع إِلَى قريب من سطح المَاء
ثمَّ عِنْد ذَلِك انْقَطَعت الحبال الإبريسم وَهَبَطَ الْمركب رَاجعا إِلَى قَعْر الْبَحْر
وَلَقَد تلطف أَبُو الصَّلْت جدا فِيمَا صنعه وَفِي التحيل إِلَى رفع الْمركب إِلَّا أَن الْقدر لم يساعده وحنق عَلَيْهِ الْملك لما غرمه من الْآلَات وَكَونهَا مرت ضائعة وَأمر بحبسه وَأَن يسْتَوْجب ذَلِك
وَبَقِي فِي الاعتقال مُدَّة إِلَى أَن شفع فِيهِ بعض الْأَعْيَان وَأطلق
وَكَانَ ذَلِك فِي خلَافَة الْآمِر بِأَحْكَام الله ووزارة الْملك الْأَفْضَل بن أَمِير الجيوش
ونقلت من رسائل الشَّيْخ أبي الْقَاسِم عَليّ بن سُلَيْمَان الْمَعْرُوف بِابْن الصَّيْرَفِي فِي مَا هَذَا مِثَاله
قَالَ وردتني رقْعَة من الشَّيْخ أبي الصَّلْت وَكَانَ معتقلا وَفِي آخرهَا نُسْخَة قصيدتين خدم بهما الْمجْلس الأفضلي أول الأولى مِنْهُمَا
(الشَّمْس دُونك فِي الْمحل ... وَالطّيب ذكرك بل أجل) الْكَامِل
وَأول الثَّانِيَة
(نسخت غرائب مدحك التشبيبا ... وَكفى بهَا غزلا لنا ونسيبا) الْكَامِل
فَكتبت إِلَيْهِ
(لَئِن سترتك الْجدر عَنَّا فَرُبمَا ... رَأينَا جلابيب السَّحَاب على الشَّمْس) الطَّوِيل
وردتني مولَايَ فَأخذت فِي تقبيلها وارتشافها قبل التَّأَمُّل لمحاسنها واستشفافها حَتَّى كَأَنِّي ظَفرت بيد مصدرها وتمكنت من أنامل كاتبها ومسطرها ووقفت على مَا تضمنته من الْفضل الباهر وَمَا أودعتها من الْجَوَاهِر الَّتِي قذف بهَا فيض الخاطر
فَرَأَيْت مَا قيد فكري وطرفي وَجل عَن مُقَابلَة تقريظي ووصفي
وَجعلت أجدد تلاوتها مستفيدا وأرددها مبتدئا فِيهَا ومعيدا
(نكرر طورا من قراة فصوله ... فَإِن نَحن أتممنا قِرَاءَته عدنا)(1/502)
(إِذا مَا نشرناه فكالمسك نشره ... ونطويه لَا طي السَّآمَة بل ضنا) الطَّوِيل
فَأَما مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الرِّضَا بِحكم الدَّهْر ضروره وَكَون مَا اتّفق لَهُ عَارض بتحقق ذَهَابه ومروره ثِقَة بعواطف السُّلْطَان خلد الله أَيَّامه ومراحمه وسكونا إِلَى مَا جبلت النُّفُوس عَلَيْهِ من معرفَة فواضله ومكارمه
فَهَذَا قَول مثله مِمَّن طهر الله نِيَّته
وَحفظ دينه ونزه عَن الشكوك ضَمِيره ويقينه ووفقه بِلُطْفِهِ لاعتقاد الْخَيْر واستشعاره وصانة عَمَّا يُؤَدِّي إِلَى عَابَ الْإِثْم وعاره
(لَا يؤيسنك من تفرج كربَة ... خطب رماك بِهِ الزَّمَان الأنكد)
(صبرا فَإِن الْيَوْم يتبعهُ غَد ... وَيَد الْخلَافَة لَا تطاولها يَد) الْكَامِل
وَأما مَا أَشَارَ إِلَيْهِ من أَن الَّذِي مني بِهِ تمحيص أوزار سبقت وتنقيص ذنُوب اتّفقت فقد حاشاه الله من الدنايا وبرأه من الآثام والخطايا
بل ذَاك اخْتِيَار لتوكله وثقته وابتلاء لصيره وسريرته كَمَا يبتلى الْمُؤمنِينَ الأتقياء ويمتحن الصالحون والأولياء
وَالله تَعَالَى يدبره بِحسن تَدْبيره وَيَقْضِي لَهُ بِمَا الْحَظ فِي تسهيله وتيسيره بكرمه
وَقد اجْتمعت بفلان فَأَعْلمنِي أَنه تَحت وعد أَدَّاهُ الِاجْتِهَاد إِلَى تَحْصِيله وإحرازه ووثق من المكارم الفائضة بِالْوَفَاءِ بِهِ وإنجازه وَأَنه ينْتَظر فرْصَة فِي التذْكَار ينتهزها ويغتنمها ويرتقب فُرْجَة للخطاب يتولجها ويقتحمها
وَالله تَعَالَى يُعينهُ على مَا يضمر من ذَلِك وينويه ويوفقه فِيمَا يحاوله ويبغيه
وَأما القصيدتان اللَّتَان أتحفني بهما فَمَا عرفت أحسن مِنْهُمَا مطلعا وَلَا أَجود منصرفا ومقطعا وَلَا أملك للقلوب والإسماع وَلَا أجمع للإغراب والإبداع وَلَا أكمل فِي فصاحة الْأَلْفَاظ وَتمكن القوافي وَلَا أَكثر تنَاسبا على كَثْرَة مَا فِي الْأَشْعَار من التباين والتنافي
ووجدتهما تزدادان حسنا على التكرير والترديد وتفاءلت فيهمَا بترتيب قصيدة الْإِطْلَاق بعد قصيدة التَّقْيِيد
وَالله عز وَجل يُحَقّق رجائي فِي ذَلِك وأملي وَيقرب مَا أتوقعه فمعظم السَّعَادَة فِيهِ لي إنْشَاء الله
أَقُول وَكَانَت وَفَاة أبي الصَّلْت رَحمَه الله يَوْم الِاثْنَيْنِ مستهل محرم سنة تسع وَعشْرين وَخَمْسمِائة بالمهدية وَدفن فِي المنستير وَقَالَ عِنْد مَوته أبياتا وَأمر أَن تنقش على قَبره وَهِي
(سكنتك يَا دَار الفناء مُصدقا ... بِأَنِّي إِلَى دَار الْبَقَاء أصير)
(وَأعظم مَا فِي الْأَمر إِنِّي صائر ... إِلَى عَادل فِي الحكم لَيْسَ يجور)
(فيا لَيْت شعري كَيفَ أَلْقَاهُ عِنْدهَا ... وزادي قَلِيل والذنُوب كثير)(1/503)
(فَإِن أك مجزيا بذنبي فإنني ... بشر عِقَاب المذنبين جدير)
(وَإِن يَك عَفْو ثمَّ عني وَرَحْمَة ... فثم نعيم دَائِم وسرور) الطَّوِيل
وَلما كَانَ أَبُو الصَّلْت أُميَّة بن عبد الْعَزِيز قد توجه إِلَى الأندلس قَالَ ظافر الْحداد الإسكندري وأنفذها إِلَى المهدية إِلَى الشَّيْخ أبي الصَّلْت من مصر يذكر شوقه إِلَيْهِ وَأَيَّام اجْتِمَاعهمَا بالإسكندرية
(أَلا هَل لدائي من فراقك إفراق ... هُوَ السم لَكِن فِي لقائك درياق)
(فيا شمس فضل غربت ولضوئها ... على كل قطر بالمشارق إشراق)
(سقى الْعَهْد عهدا مِنْك عمر عَهده ... بقلبي عهد لَا يضيع وميثاق)
(يجدده ذكر يطيب كَمَا شدت ... وريقاء كنتها من الأيك أوراق)
(لَك الْخلق الجزل الرفيع طرازه ... وَأكْثر أَخْلَاق الخليقة أَخْلَاق)
(لقد ضاءلتني يَا أَبَا الصَّلْت مذ نأت ... دِيَارك عَن دَاري هموم وأشواق)
(إِذا عزني إطفاؤها بمدامعي ... جرت وَلها مَا بَين جفني إحراق)
(سحائب يحدوها زفير تجره ... خلال التراقي والترائب تشهاق)
(وَقد كَانَ لي كنز مَعَ الصَّبْر وَاسع ... فلي مِنْهُ فِي صَعب النوائب إِنْفَاق)
(وَسيف إِذا جردت بعض غراره ... لجيش خطوب صدها مِنْهُ إرهاق)
(إِلَى أَن أبان الْبَين أَن غراره ... غرور وَإِن الْكَنْز فقر وإملاق)
(أخي سَيِّدي مولَايَ دَعْوَة من صفا ... وَلَيْسَ لَهُ من رق ودك إِعْتَاق)
(لَئِن بَعدت مَا بَيْننَا شقة النَّوَى ... ومطرد طامي الغوارب خفاق)
(وبيد إِذا كلفتها العيس قصرت ... طلائح إنضاها ذميل وإعناق)
(فعندي لَك الود الملازم مثل مَا ... يلازم أَعْنَاق الحمائم أطواق)
(أَلا هَل لأيامي بك الغر عودة ... كعهدي وثغر الثغر أشنب براق)
(ليَالِي يدنينا جَوَاب أعادنا ... من الْقرب كالصنوين ضمهما سَاق)
(وَمَا بَيْننَا من حسن حظك رَوْضَة ... بهَا حسدت منا المسامع أحداق)
(حَدِيث حَدِيث كلما طَال موجز ... مُفِيد إِلَى قلب الْمُحدث سباق)
(يزجيه بَحر من علومك زاخر ... لَهُ كل بَحر فائض اللج رقراق)(1/504)
(معَان كأطواد الشوامخ جزلة ... تضمنها عذب من اللَّفْظ غيداق)
(بِهِ حكم مستنبطات غرائب ... لأبكارها الغر الفلاسف عشاق)
(فَلَو عَاشَ رسطاليس كَانَ لَهُ بهَا ... غرام وقلب دَائِم الْفِكر تواق)
(فيا وَاحِد الْفضل الَّذِي الْعلم قوته ... وأهلوه مشتاق بشم وذواق)
(لَئِن قصرت كتبي فَلَا غرو أَنه ... لعائق عذر والمقادير أوهاق)
(كتب وآفات الْبحار تردها ... فَإِن لم يكن رد عَليّ فإغراق)
(بحار بِأَحْكَام الرِّيَاح فَإِنَّهَا ... مَفَاتِيح فِي أبوابهن وأغلاق)
(وَمن لي أَن أحظ إِلَيْك بنظرة ... فيسكن مقلاك ويرقا مهراق) الطَّوِيل
وَمن شعر أبي الصَّلْت أُميَّة بن عبد الْعَزِيز قَالَ يمدح أَبَا الطَّاهِر يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس وَيذكر وُصُول ملك الرّوم بالهدايا رَاغِبًا فِي ترك الْغَزْو وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَخَمْسمِائة
(يهاديك من لَو شِئْت كَانَ هُوَ المهدى ... وَإِلَّا فضمنه المثقفة الملدا)
(وكل سريجي إِذا ابْتَزَّ غمده ... تعوض من هام الكماة لَهُ غمدا)
(تخير فَردا فِي ظبا الْهِنْد شَأْنه ... إِذا شيم يَوْم الروع أَن يُزَوّج الفردا)
(ظبا ألفت غلب الرّقاب وصالها ... كَمَا ألفت مِنْهُنَّ أغمادها الصدا)
(تركت بقسطنطينة رب ملكهَا ... وللرعب مَا أخفاه مِنْهُ وَمَا أبدى)
(سددت عَلَيْهِ مغرب الشَّمْس بالظبا ... فود حذارا مِنْك لَو جَاوز السدا)
(وبالرغم مِنْهُ مَا أطاعك مبديا ... لَك الْحبّ فِي هذي الرسائل والودا)
(لِأَنَّك إِن أوعدته أَو وعدته ... وفيت وَلم تخلف وعيدا وَلَا وَعدا)
(أجل وَإِذا مَا شِئْت جردت نَحوه ... جحاجحة شيبا وصبيانة مردا)
(يردون أَطْرَاف الرماح دواميا ... يخلن على أَيْديهم مقلا رمدا)
(فدتك مُلُوك الأَرْض أبعدها مدى ... وأرفعها قدرا وأقدمها مجدا)(1/505)
(إِذا كلفوا بالطرف أدعج ساجيا ... كلفت بحب الطّرف عبل الشوى نهدا)
(وكل أضاة أحكم الْقَيْن نسجها ... فضاعف فِي أَثْنَائِهَا الْحلق السردا)
(وأسمر عَسَّال وأبيض صارم ... يعنق ذَا قدا ويلثم ذَا خدا)
(محَاسِن لَو أَن اللَّيَالِي حليت ... بأيسرها لابيض مِنْهُنَّ مَا اسودا)
(فَمر بِالَّذِي تختاره الدَّهْر يمتثل ... لأمرك حكما لَا يُطيق لَهُ ردا) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا ورفعها إِلَى الْأَفْضَل يذكر تجريده العساكر إِلَى الشَّام لمحاربة الفرنج بعد انهزام عسكره فِي الْموضع الْمَعْرُوف بالبصه وَكَانَ قد اتّفق فِي أثْنَاء ذَلِك التَّارِيخ أَن قوما من الأجناد وَغَيرهم أَرَادوا الفتك بِهِ فَوَقع على خبرهم فَقبض عَلَيْهِم وقتلهم
(هِيَ العزائم من أنصارها الْقدر ... وَهِي الْكَتَائِب من أشياعها الظفر)
(جردت للدّين والأسياف مغمدة ... سَيْفا تفل بِهِ الْأَحْدَاث والغير)
(وَقمت إِذْ قعد الْأَمْلَاك كلهم ... تذب عَنهُ وتحميه وتنتصر)
(بالبيض تسْقط فَوق الْبيض أنجمهم ... والسمر تَحت ظلال النَّقْع تشتجر)
(بيض إِذا خطبت بالنصر السنها ... فَمن منابرها الأكباد وَالْقصر)
(وذبل من رماح الْخط مشرعة ... فِي طولهن لأعمار العدا قصر)
(يغشى بهَا غَمَرَات الْمَوْت أَسد شرى ... من الكماة إِذا مَا استنجدوا ابتدروا)
(مستلئمين إِذا سلوا سيوفهم ... شبهتها خلجا مدت بهَا غدر)
(قوم تصول ببيض الْهِنْد أذرعهم ... فَمَا يضر ظباها أَنَّهَا بتر)
(إِذا انتضوها وذيل النَّقْع فَوْقهم ... كَالشَّمْسِ طالعة وَاللَّيْل معتكر)
(ترتاح أنفسهم نَحْو الوغى طَربا ... كَأَنَّمَا الدَّم رَاح والظبا زهر)
(وَإِن هم نكصوا يَوْمًا فَلَا عجب ... قد يكهم السَّيْف وَهُوَ الصارم الذّكر)(1/506)
(الْعود أَحْمد وَالْأَيَّام ضامنة ... عُقبى النجاح ووعد الله ينْتَظر)
(وَرُبمَا ساءت الأقدار ثمَّ جرت ... بِمَا يَسُرك سَاعَات لَهَا أخر)
(الله زَان بك الْأَيَّام من ملك ... لَك الحجول من الْأَيَّام وَالْغرر)
(لله بأسك والألباب طائشة ... وَالْخَيْل تردى ونار الْحَرْب تستعر)
(وللعجاج على صم القنا طلل ... هِيَ الدُّخان وأطراف القنا شرر)
(إِذْ يرجع السَّيْف يُبْدِي خَدّه علقا ... كصفحة الْبكر أدْمى خدها الخفر)
(وَإِذ تسد مسد السَّيْف مُنْفَردا ... وَلَا يصدك لَا جبن وَلَا خور)
(أما يهولك مَا لاقيت من عدد ... سيان عنْدك قل الْقَوْم أَو كَثُرُوا)
(هِيَ السماحة إِلَّا أَنَّهَا شرف ... هِيَ الشجَاعَة إِلَّا أَنَّهَا غرر)
(الله فِي الدّين وَالدُّنْيَا فَمَا لَهما ... سواك كَهْف وَلَا ركن وَلَا وزر)
(ورام كيدك أَقوام وَمَا علمُوا ... أَن المنى خطرات بَعْضهَا خطر)
(هَيْهَات أَيْن من العيوق طاليه ... لَو كَانَ سدد مِنْهُ الْفِكر وَالنَّظَر)
(أَن الْأسود لتأبى أَن يروعها ... وسط العرين ظباء الربرب العفر)
(أَمر نووه وَلَو هموا بِهِ وقفُوا ... كوقفة العير لَا ورد وَلَا صدر)
(فَاضْرب بسيفك من ناواك منتقما ... إِن السيوف لأهل الْبَغي تدخر)
(مَا كل حِين ترى الْأَمْلَاك صافحة ... عَن الجرائر تَعْفُو حِين تقتدر)
(وَمن ذَوي الْبَغي من لَا يستهان بِهِ ... وَفِي الذُّنُوب ذنُوب لَيْسَ تغتفر)
(إِن الرماح غصون يستظل بهَا ... وَمَا لَهُنَّ سوى هام العدى ثَمَر)
(وَلَيْسَ يصبح شَمل الْملك منتظما ... إِلَّا بِحَيْثُ ترى الهامات تنتثر)
(والرأي رَأْيك فِيمَا أَنْت فَاعله ... وَأَنت أدرى بِمَا تَأتي وَمَا تذر)
(أضحى شهنشاه غيثا للندى غدقا ... كل الْبِلَاد إِلَى سقياه تفْتَقر)
(الطاعن الْألف إِلَّا أَنَّهَا نسق ... والواهب الْألف إِلَّا أَنَّهَا بدر)
(ملك تبوأ فَوق النَّجْم مَقْعَده ... فَكيف تطمع فِي غاياته الْبشر)
(يُرْجَى نداه ويخشى عِنْد سطوته ... كالدهر يُوجد فِيهِ النَّفْع وَالضَّرَر)
(وَلَا سَمِعت وَلَا حدثت عَن أحد ... من قبله يهب الدُّنْيَا ويعتمر)
(وَلَا بصرت بشمس قبل غرته ... إِذا تجلى سناها أغدق الْمَطَر)
(يَا أَيهَا الْملك السَّامِي الَّذِي ابتهجت ... بِهِ اللَّيَالِي وقر البدو والحضر)
(جاءتك من كلم الحاكي محبرة ... تطوى لبهجتها الْإِبْرَاد والحبر)(1/507)
(هِيَ اللآلئ إِلَّا أَن ناظمها ... طي الضَّمِير وَمن غواصها الْفِكر)
(تبقى وَتذهب أشعار ملفقة ... أولى بقائلها من قَوْله الْحصْر)
(وَلم أطلها لِأَنِّي جد معترف ... بِأَن كل مطيل فِيهِ مُخْتَصر)
(بقيت للدّين وَالدُّنْيَا وَلَا عدمت ... أجياد تِلْكَ الْمَعَالِي هَذِه الدُّرَر) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(ومهفهف شركت محَاسِن وَجهه ... مَا مجه فِي الكاس من إبريقه)
(ففعالها من مقلتيه ولونها ... من وجنتيه وطعمها من رِيقه) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا يصف الثريا
(رَأَيْت الثريا لَهَا حالتان ... منظرها فيهمَا معجب)
(لَهَا عِنْد مشرقها صُورَة ... يُرِيك مخالفها الْمغرب)
(فَتَطلع كالكاس إِذْ تستحث ... وتغرب كالكاس إِذْ يشرب) المتقارب
وَقَالَ فِي الْموضع الْمَعْرُوف ببركة الْحَبَش بِمصْر
(لله يومي ببركة الْحَبَش ... والأفق بَين الضياء والغبش)
(والنيل تَحت الرِّيَاح مُضْطَرب ... كالسيف سلته كف مرتعش)
(وَنحن فِي رَوْضَة مفوفة ... دبج بِالنورِ عطفها ووشي)
(قد نسجتها يَد الرّبيع لنا ... فَنحْن من نسجها على فرش)
(وأثقل النَّاس كلهم رجل ... دَعَاهُ دَاعِي الصِّبَا فَلم يطش)
(فعاطني الراح أَن تاركها ... من سُورَة الْهم غير منتعش)
(واسقني بالكبار مترعة ... فَتلك أروى لشدَّة الْعَطش) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(عجبت من طرفك فِي ضعفه ... كَيفَ يصيد البطل الأصيدا)
(يفعل فِينَا وَهُوَ فِي جفْنه ... مَا يفعل السَّيْف إِذا جردا) السَّرِيع(1/508)
وَقَالَ أَيْضا
(حجبت مسامعه عَن العذال ... فَأبى فَلَيْسَ عَن الغرام بسالي)
(وَيْح المتيم لَا يزَال معذبا ... بخفوق برق أَو طروق خيال)
(وَإِذا البلابل بالْعَشي تجاوبت ... بعثت بأضلعه جوى البلبال)
(وارحمتا لمعذب يشكو الجوى ... بمنعم يشكو فرَاغ البال)
(نشوان من خمرين خمر زجاجة ... عبثت بمقلته وخمر دلال)
(كالريم إِلَّا أَن هَذَا عاطل ... أبدا وَذَا فِي كل حَال حَالي)
(لَا يستفيق وَهل يفِيق بِحَالَة ... من ريق فِيهِ سلافة الجريال)
(علم الْعَدو بِمَا لقِيت فرق لي ... وَرَأى الحسود بليتي فرثى لي)
(يَا من بَرى جسمي بطول صدوده ... أَلا سمحت وَلَو بوعد وصال)
(قد كنت أطمع مِنْك لَو عاقبتني ... بصدود عتب لَا صدود ملال) الْكَامِل
وَقَالَ يصف فرسا أَشهب
(وَأَشْهَب كالشهاب أضحى ... يجول فِي مَذْهَب الْجلَال)
(قَالَ حسودي وَقد رَآهُ ... يجنب خَلْفي إِلَى الْقِتَال)
(من ألْجم الصُّبْح بِالثُّرَيَّا ... وأسرج الْبَرْق بالهلال) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(تقريب ذِي الْأَمر لأهل النهى ... أفضل مَا سَاس بِهِ أمره)
(هَذَا بِهِ أولى وَمَا ضره ... تقريب أهل اللَّهْو فِي الندره)
(عُطَارِد فِي جلّ أوقاته ... أدنى إِلَى الشَّمْس من الزهره) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(بِي من بني الْأَصْفَر ريم رمى ... قلبِي بِسَهْم الْحور الصائب)
(سهم من اللحظ رمتني بِهِ ... عَن كثب قَوس من الْحَاجِب)
(كَأَنَّمَا مقلتيه فِي الحشا ... سيف عَليّ بن أبي طَالب) السَّرِيع(1/509)
وَقَالَ أَيْضا
(يَا موقدا بالهجر فِي أضلعي ... نَارا بِغَيْر الْوَصْل مَا تنطفي)
(إِن لم يكن وصل فعدني بِهِ ... رضيت بالوعد وَإِن لم تف) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(وليت وَردت إِلَيْك الْأُمُور ... وَلم أك منتظرا أَن تلِي)
(وَهَا أَنا بَين عدا كلهم ... عَليّ فَكُن بِأبي أَنْت لي) المتقارب
(ذكرت نواهم لَدَى قربهم ... فجدت بأدمعي الهمع)
(فَكيف أكون إِذا هم نأوا ... وَهَذَا بُكَائِي إِذْ هم معي) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(إِذا ألفيت حرا ذَا وَفَاء ... وَكَيف بِهِ فدونك فاغتنمه)
(وَإِن آخيت ذَا أصل خَبِيث ... وساءك فِي الفعال فَلَا تلمه) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(أَقُول وَقد شطت بِهِ غربَة النَّوَى ... وللحب سُلْطَان على مهجتي فظ)
(لَئِن بَان عني من كلفت بحبه ... وشط فَمَا للعين من شخصه حَظّ)
(فَإِن لَهُ فِي أسود الْقلب منزلا ... تكنفه فِيهِ الرِّعَايَة وَالْحِفْظ)
(أرَاهُ بِعَين الْوَهم وَالوهم مدرك ... مَعَاني شَتَّى لَيْسَ يُدْرِكهَا اللحظ) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(وراغب فِي الْعُلُوم مُجْتَهد ... لكنه فِي الْقبُول جلمود)
(فَهُوَ كذي عنة بِهِ شبق ... أَو مشتهي الْأكل وَهُوَ ممعود) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(تفكر فِي نُقْصَان مَالك دَائِما ... وتغفل عَن نُقْصَان جسمك والعمر)(1/510)
(ويثنيك خوف الْفقر عَن كل بغية ... وخوفك حَال الْفقر من أعظم الْفقر)
(ألم تَرَ أَن الدَّهْر جم صروفه ... وَإِن لَيْسَ من شَيْء يَدُوم على الدَّهْر)
(فكم فرحة فِيهِ أزيلت بترحة ... وَكم حَال عسر فِيهِ آلت إِلَى الْيُسْر) الطَّوِيل
وَقَالَ فِي البراغيث
(وَلَيْلَة دائمة الغسوق ... بعيدَة الممسى من الشروق)
(كليلة المتيم المشوق ... أَطَالَ فِي ظلمائها تشريقي)
(أحب خلق لأَذى مَخْلُوق ... يرى دمي أشهى من الرَّحِيق)
(يغب فِيهِ غير مستفيق ... لَا يتْرك الصبوح للغبوق)
(لَو بت فَوق قمة العيوق ... مَا عاقه ذَلِك عَن طروقي)
(كعاشق أسرى إِلَى معشوق ... أعلم من بقراط بالعروق)
(من أكحل مِنْهَا وباسليق ... يفصدها بمبضع دَقِيق)
(من خطمه المذرب الذليق ... فصد الطَّبِيب الحاذق الرَّقِيق) الرجز
وَقَالَ أَيْضا
(مارست دهري وجربت الْأَنَام فَلم ... أحمدهم قطّ فِي جد وَلَا لعب)
(وَكم تمنيت أَن ألْقى بِهِ أحدا ... يسلي من الْهم أَو يعدي على النوب)
(فَمَا وجدت سوى قوم إِذا صدقُوا ... كَانَت مواعيدهم كالآل فِي الْكَذِب)
(وَكَانَ لي سَبَب قد كنت أحسبني ... أحظى بِهِ وَإِذا دائي من السَّبَب)
(فَمَا مقلم أظفاري سوى قلمي ... وَلَا كتائب أعدائي سوى كتبي) الْبَسِيط
وَقَالَ يصف الإسطرلاب
(أفضل مَا استصحب النَّبِيل فَلَا ... تعدل بِهِ فِي الْمقَام وَالسّفر)
(جرم إِذا مَا التمست قِيمَته ... جلّ على التبر وَهُوَ من صفر)
(مُخْتَصر وَهُوَ إِذْ تفتشه ... عَن ملح الْعلم غير مُخْتَصر)
(ذُو مقلة يستبين مَا رمقت ... عَن صائب اللحظ صَادِق النّظر)
(تحمله وَهُوَ حَامِل فلكا ... لَو لم يدر بالبنان لم يدر)(1/511)
(مَسْكَنه الأَرْض وَهُوَ ينبئنا ... عَن جلّ مَا فِي السَّمَاء من خبر)
(أبدعه رب فكرة بَعدت ... فِي اللطف عَن أَن تقاس بالفكر)
(فاستوجب الشُّكْر وَالثنَاء لَهُ ... من كل ذِي فطنة من الْبشر)
(فَهُوَ لذِي اللب شَاهد عجب ... على اخْتِلَاف الْعُقُول وَالْفطر)
(وَأَن هذي الجسوم بَائِنَة ... بِقدر مَا أَعْطَيْت من الصُّور) المنسرح
وَقَالَ فِي مجمرة
(ومحرورة الأحشاء لم تدر مَا الْهوى ... وَلم تدر مَا يلقى الْمُحب من الوجد)
(إِذا مَا بدا برق المدام رَأَيْتهَا ... تثير غماما فِي الندي من الند)
(وَلم أر نَارا كلما شب جمرها ... رَأَيْت الندامى مِنْهُ فِي جنَّة الْخلد) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(قَامَت تدير المدام كفاها ... شمس ينير الدجى محياها)
(أَن أَقبلت فالقضيب قامتها ... أَو أَدْبَرت فالكثيب ردفاها)
(للمسك مَا فاح من مراشفها ... والبرق مَا لَاحَ من ثناياها)
(غزالة أخملت سميتها ... فَلم تشبه بهَا وحاشاها)
(هبك لَهَا حسنها وبهجتها ... فَهَل لَهَا جيدها وعيناها) المنسرح
وَقَالَ وَقد بَاعَ دَاره من رجل أسود
(حكم الزَّمَان بِبيع دَاري ظَالِما ... وأعادها ملكا لألأم مُشْتَرِي)
(يَا بؤس مَا صنع الزَّمَان بمنزل ... أَمْسَى بِهِ زحل بديل المُشْتَرِي) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(خلط الصِّبَا مَاء الشَّبَاب بناره ... من ورد وجنته وآس عذاره)(1/512)
(صنم حوى بدع الْجمال بأسرها ... ليحوز قلبِي فِي وثاق إساره)
(الْبَدْر فِي أزراره والغصن فِي ... زناره والحقف ملْء إزَاره) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(من تقبل الدُّنْيَا عَلَيْهِ فَإِنَّهَا ... تثني محَاسِن غَيره من لبسه)
(وكذاك مهما أَدْبَرت عَن فَاضل ... سلبته ظالمة محَاسِن نَفسه) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تقعدن بِكَسْر الْبَيْت مكتئبا ... يفنى زَمَانك بَين الْيَأْس والأمل)
(واحتل لنَفسك فِي رزق تعيش بِهِ ... فَإِن أَكثر عَيْش النَّاس بالحيل)
(وَلَا تقل أَن رِزْقِي سَوف يدركني ... وَإِن قعدت فَلَيْسَ الرزق كالأجل) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(لَا ترج فِي أَمرك سعد المُشْتَرِي ... وَلَا تخف فِي فَوته نحسن زحل)
(وأرج وخف ربهما فَهُوَ الَّذِي ... مَا شَاءَ من خير وَمن شَرّ فعل) الرجز
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تعتبوني على أَن لَا أزوركم ... وَقد تمنعتم عني بحجاب)
(إِنِّي من الْقَوْم يحلو الْمَوْت عِنْدهم ... دون الْوُقُوف لمخلوق على بَاب) الْبَسِيط
وَقَالَ فِي طَبِيب اسْمه شعْبَان
(يَا طَبِيبا ضجر الْعَالم ... مِنْهُ وتبرم)
(فِيك شَهْرَان من الْعَام ... إِذا الْعَام تصرم)
(أَنْت شعْبَان وَلَكِن ... قَتلك النَّاس محرم) الرمل
وَقَالَ فِي وَقت شدَّة
(يَقُولُونَ لي صبرا وَإِنِّي لصابر ... على نائبات الدَّهْر وَهِي فواجع)
(سأصبر حَتَّى يقْضِي الله مَا قضى ... وَإِن أَنا لم اصبر فَمَا أَنا صانع) الطَّوِيل(1/513)
(مَا أغفل الْمَرْء وألهاه ... يَعْصِي وَلَا يذكر مَوْلَاهُ)
(يَأْمر بالغي شَيْطَانه ... وَالْعقل لَو يرشد ينهاه)
(غرته دُنْيَاهُ فَلم يستفق ... من سكرها يَوْمًا لأخراه)
(يَا ويحه الْمِسْكِين يَا ويحه ... إِن لم يكن يرحمه الله) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(سَاد صغَار النَّاس فِي عصرنا ... لَا دَامَ من عصر وَلَا كَانَا)
(كالدست مهما هم أَن يَنْقَضِي ... عَاد بِهِ البيدق فرزانا) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(يَا مُفردا بالغنج والشكل ... من دلّ عَيْنَيْك على قَتْلِي)
(الْبَدْر من شمس الضُّحَى نوره ... وَالشَّمْس من نورك تستملي) السَّرِيع
وَقَالَ وَقد رأى أَمْرَد جميلا قَامَ من مَوضِع وَجَاء أسود قعد فِي مَكَانَهُ
(مَضَت جنَّة المأوى وَجَاءَت جَهَنَّم ... فقد صرت أَشْقَى بَعْدَمَا كنت أنعم)
(وَمَا هِيَ إِلَّا الشَّمْس حَان أفولها ... وأعقبها قطع من اللَّيْل مظلم) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(وقائلة مَا بَال مثلك خاملا ... أَأَنْت ضَعِيف الرَّأْي أم أَنْت عَاجز)
(فَقلت لَهَا ذَنبي إِلَى الْقَوْم أنني ... لما لم يحوزوه من الْمجد حائز)
(وَمَا فَاتَنِي شَيْء سوى الْحَظ وَحده ... وَأما الْمَعَالِي فَهِيَ فِي غرائز) الطَّوِيل
وَلأبي الصَّلْت أُميَّة بن عبد الْعَزِيز من الْكتب الرسَالَة المصرية ذكر فِيهَا مَا رَآهُ من ديار مصر من هيئتها وآثارها وَمن اجْتمع بهم فِيهَا من الْأَطِبَّاء والمنجمين وَالشعرَاء وَغَيرهم من أهل الْأَدَب وَألف هَذِه الرسَالَة لأبي الطَّاهِر يحيى بن تَمِيم بن الْمعز بن باديس
كتاب الْأَدْوِيَة المفردة على تَرْتِيب الْأَعْضَاء المتشابهة الْأَجْزَاء والآلية وَهُوَ مُخْتَصر قد رتبه أحسن تَرْتِيب
كتاب الِانْتِصَار لحنين بن إِسْحَاق عَليّ ابْن رضوَان فِي تتبعه لمسائل حنين
كتاب حديقة الْأَدَب
كتاب الْملح العصرية من شعراء(1/514)
أهل الأندلس والطارئين عَلَيْهَا
ديوَان شعره
رِسَالَة فِي الموسيقى
كتاب فِي الهندسة
رِسَالَة فِي الْعَمَل بالإسطرلاب
كتاب تَقْوِيم منطق الذِّهْن
ابْن باجة
هُوَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن يحيى بن الصَّائِغ وَيعرف بِابْن باجة من الأندلس
وَكَانَ فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة عَلامَة وقته وأوحد زَمَانه
وبلي بمحن كَثِيرَة وشناعات من الْعَوام وقصدوا هَلَاكه مَرَّات وَسلمهُ الله مِنْهُم
وَكَانَ متميزا فِي الْعَرَبيَّة وَالْأَدب حَافِظًا لِلْقُرْآنِ
ويعد من الأفاضل فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ متقنا لصناعة الموسيقى جيد اللّعب بِالْعودِ
وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن الإِمَام فِي صدر الْمَجْمُوع الذف نَقله من أقاويل أبي بكر مُحَمَّد بن الصَّائِغ بن باجة مَا هَذَا مِثَاله هَذَا مَجْمُوع مَا قيد من أَقْوَال أبي بكر بن الصَّائِغ رَحمَه الله فِي الْعُلُوم الفلسفية
وَكَانَ ذَا ثقابة الذِّهْن
ولطف الغوص على تِلْكَ الْمعَانِي الشَّرِيفَة الدقيقة أعجوبة دهره ونادرة الْفلك فِي زَمَانه
فَإِن هَذِه الْكتب كَانَت متداولة بالأندلس من زمَان الحكم مستجلبها ومستجلب غرائب مَا صنف بالمشرق وَنقل من كتب الْأَوَائِل وَغَيرهَا نصر الله وَجهه وَتردد النّظر فِيهَا فَمَا انتهج فِيهَا النَّاظر قبله سَبِيلا وَمَا تقيد عَنْهُم فِيهَا إِلَّا ضلالات وتبديل كَمَا تبدد عَن ابْن حزم الإشبيلي وَكَانَ من أجل نظار زَمَانه وَأَكْثَرهم لمن تقدم عل إِثْبَات شَيْء من خواطره
وَكَانَ أحسن مِنْهُ نظرا وأثقب لنَفسِهِ تمييزا
وَإِنَّمَا انتهجت سبل النّظر فِي هَذِه الْعُلُوم بِهَذَا الحبر وبمالك بن وهيب الأشبيلي فَإِنَّهُمَا كَانَا متعاصرين غير أَن مَالك لم يُقيد عَنهُ إِلَّا قَلِيل نزر فِي أول الصِّنَاعَة الذهنية وأضرب الرجل عَن النّظر ظَاهرا فِي هَذِه الْعُلُوم وَعَن التَّكَلُّم فِيهَا لما لحقه من المطالبات فِي دَمه لسببها ولقصده الْغَلَبَة فِي جَمِيع محاوراته فِي فوز المعارف
وَأَقْبل على الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة فرأس فِيهَا أَو زاحم ذَلِك لكنه لم يلوح على أَقْوَاله ضِيَاء هَذِه المعارف وَلَا قيد فِيهَا بَاطِنا شَيْئا ألفى بعد مَوته
وَأما أَبُو بكر فَنَهَضت بِهِ فطرته الفائقة وَلم يدع النّظر والتنتيج وَالتَّقْيِيد لكل مَا ارتسمت حَقِيقَته فِي نَفسه على أطوار أَحْوَاله وكيفما تصرف بِهِ زَمَنه وأثبتت فِي الصِّنَاعَة الذهنية فِي أَجزَاء الْعلم الطبيعي مَا يدل على حُصُول هَاتين الصناعتين فِي نَفسه صُورَة ينْطق عَنْهَا ويفصل ويركب فِيهَا فعل المستولي على أمدها
وَله تعاليق فِي الهندسة وَعلم الْهَيْئَة تدل على بروعه فِي هَذَا الْفَنّ
وَأما الْعلم الإلهي فَلم يُوجد فِي تعاليقه شَيْء مَخْصُوص بِهِ اختصاصا تَاما إِلَّا نزعات تستقرأ من قَوْله فِي رِسَالَة الْوَدَاع واتصال الْإِنْسَان بِالْعقلِ الفعال وإشارات مبددة فِي أثْنَاء أقاويله لَكِنَّهَا فِي غَايَة الْقُوَّة وَالدّلَالَة على نزوعه فِي ذَلِك الْعلم الشريف الَّذِي هُوَ غَايَة الْعُلُوم ومنتهاها وكل مَا قبله من المعارف فَهُوَ من أَجله وتوطئة لَهُ
وَمن المستحيل أَن ينْزع فِي التوطئات وتنفصل لَهُ أَنْوَاع الْوُجُود على كمالها وَيكون مقصرا فِي الْعلم الَّذِي هُوَ(1/515)
الْغَايَة وَإِلَيْهِ كَانَ التشوق بالطبع لكل ذِي فطْرَة بارعه وَذي موهبة إلهية ترقية عَن أهل عصره وتخرجه من الظُّلُمَات إِلَى النُّور
كَمَا كَانَ رَحمَه الله وَقد صدرنا هَذَا الْمَجْمُوع بقول لَهُ فِي الْغَايَة الإنسانية على نِهَايَة من الوجازة تعرب عَمَّا أَشَرنَا إِلَيْهِ من إِدْرَاكه فِي الْعلم الإلهي
وَفِيمَا قبله من الْعُلُوم الموطئة لَهُ
وَعَسَى أَنه قد علق فِيهِ مَا لم يعثر عَلَيْهِ وَيُشبه أَنه لم يكن بعد أبي نصر الفارابي مثله فِي الْفُنُون الَّتِي تكلم عَلَيْهَا من تِلْكَ الْعُلُوم فَإِنَّهُ إِذا قارنت أقاويله فِيهَا بأقاويل ابْن سينا وَالْغَزالِيّ وهما اللَّذَان فتح عَلَيْهِمَا بعد أبي نصر بالمشرق فِي فهم تِلْكَ الْعُلُوم ودونا فِيهَا بِأَن لَك الرجحان فِي أقاويله
وَفِي حسن فهمه لأقاويل أرسطو
وَالثَّلَاثَة أَئِمَّة دون ريب وآتون مَا جَاءَ بِهِ من قبلهم بارع الْحِكْمَة عَن يَقِين تمتاز بِهِ أقاويلهم ويتواردون فِيهَا مَعَ السّلف الْكَرِيم
أَقُول وَكَانَ هَذَا أَبُو الْحسن عَليّ بن الإِمَام من غرناطة وَكَانَ كَاتبا فَاضلا متميزا فِي الْعُلُوم وَصَحب أَبَا بكر بن باجة مُدَّة واشتغل عَلَيْهِ
وسافر أَبُو الْحسن عَليّ بن الإِمَام من الْمغرب وَتُوفِّي بقوص
وَكَانَ من جملَة تلاميذ ابْن باجة أَيْضا القَاضِي أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد بن رشد
وَتُوفِّي ابْن باجه شَابًّا بِمَدِينَة فاس وَدفن بهَا
وَأَخْبرنِي القَاضِي أَبُو مَرْوَان الأشبيلي أَنه رأى قبر ابْن باجة وقريبا من قَبره قبر أبي بكر بن الْعَرَبِيّ الْفَقِيه صَاحب التصانيف
وَمن كَلَام ابْن باجة قَالَ الْأَشْيَاء الَّتِي ينفع تعلمهَا بعد زمَان طَوِيل لَا يضيع تذكرها
وَقَالَ حسن عَمَلك تفز بِخَير من الله سُبْحَانَهُ
وَلابْن باجة من الْكتب شرح كتاب السّمع الطبيعي لأرسطوطاليس قَول على بعض كتاب الْآثَار العلوية لأرسطوطاليس قَول على بعض كتاب الْكَوْن وَالْفساد لأرسطوطاليس
قَول على بعض المقالات الْأَخِيرَة من كتاب الْحَيَوَان لأرسطوطاليس
كَلَام على بعض كتاب النَّبَات لأرسطوطاليس
قَول ذكر فِيهِ التشوق الطبيعي وماهيته وابتدأ أَن يُعْطي أَسبَاب الْبُرْهَان وَحَقِيقَته
رِسَالَة الْوَدَاع
قَول يَتْلُو رِسَالَة الْوَدَاع
كتاب اتِّصَال الْعقل بالإنسان
قَول على الْقُوَّة النزوعية
فُصُول تَتَضَمَّن القَوْل على اتِّصَال الْعقل بالإنسان
كتاب تَدْبِير المتوحد
كتاب النَّفس
تعاليق على كتاب أبي نصر فِي الصِّنَاعَة الذهنية
فُصُول قَليلَة فِي السياسة المدنية
وَكَيْفِيَّة المدن وَحَال المتوحد فِيهَا
نبذ يسيرَة على الهندسة والهيئة
رِسَالَة كتب بهَا إِلَى صديقه أَبُو جَعْفَر يُوسُف بن أَحْمد بن حسداي بعد قدومه إِلَى مصر
تعاليق حكمِيَّة وجدت مُتَفَرِّقَة
جَوَابه لما سُئِلَ عَن هندسة ابْن سيد المهندس وطرقه
كَلَام على شَيْء من كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِجَالِينُوسَ
كتاب التجربتين على أدوية ابْن وَافد واشترك فِي تأليف هَذَا(1/516)
الْكتاب أَبُو بكر بن باجه وَأَبُو الْحسن سُفْيَان
كتاب اخْتِصَار الْحَاوِي للرازي
كَلَام فِي الْغَايَة الإنسانية كَلَام فِي الْأُمُور الَّتِي بهَا يُمكن الْوُقُوف على الْعقل الفعال
كَلَام فِي الِاسْم والمسمى
كَلَام فِي الْبُرْهَان
كَلَام فِي الأسطقسات
كَلَام فِي الفحص عَن النَّفس النزوعية وَكَيف هِيَ وَلم تنْزع وبماذا تنْزع
كَلَام فِي المزاج بِمَا هُوَ طبي
أَبُو مَرْوَان بن زهر
هُوَ أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن الْفَقِيه مُحَمَّد بن مَرْوَان بن زهر الآيادي الأشبيلي كَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ خَبِيرا بأعمالها مَشْهُورا بالحذق وَكَانَ وَالِده الْفَقِيه مُحَمَّد من جملَة الْفُقَهَاء والمتميزين فِي علم الحَدِيث بأشبيلية
وَقَالَ القَاضِي صاعد أَن أَبَا مَرْوَان بن زهر رَحل إِلَى الْمشرق وَدخل القيروان ومصر وتطبب هُنَاكَ زَمنا طَويلا
ثمَّ رَجَعَ إِلَى الأندلس وَقصد مَدِينَة دانية
وَكَانَ ملكهَا فِي ذَلِك الْوَقْت مُجَاهدًا
فَلَمَّا وصل أَبُو مَرْوَان بن زهر إِلَيْهِ أكْرمه إِكْرَاما كثيرا وَأمره أَن يُقيم عِنْده فَفعل وحظي فِي أَيَّامه واشتهر فِي دانية بالتقدم فِي صناعَة الطِّبّ وطار ذكره مِنْهَا إِلَى أقطار الأندلس
وَله فِي الطِّبّ آراء شَاذَّة مِنْهَا مَنعه من الْحمام واعتقاده فِيهِ أَنه يعفن الْأَجْسَام وَيفْسد الأمزجة قَالَ هَذَا رَأْي يُخَالِفهُ فِيهِ الْأَوَائِل والأواخر وَيشْهد بخطئه الْخَواص والعوام بل إِذا اسْتعْمل على التَّرْتِيب الَّذِي يجب بالتدريج الَّذِي يَنْبَغِي يكون رياضة فاضلة ومهنة نافعة لتفتيحه للمسام وتطريقه وتلطيفه لما غلظ من الكيموسات
أَقُول وانتقل أَبُو مَرْوَان بن زهر من دانية إِلَى مَدِينَة أشبيلية وَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي وَخلف أَمْوَالًا جزيلة وَكَانَ غَنِي أشبيلية محط أنظارها فِي الرباع والضياع
أَبُو الْعَلَاء بن زهر
هُوَ أَبُو الْعَلَاء زهر بن أبي مَرْوَان عبد الْملك بن مُحَمَّد بن مَرْوَان مَشْهُور بالحذق والمعرفة وَله علاجات مختارة تدل على قوته فِي صناعَة الطِّبّ وإطلاعه على دقائقها
وَكَانَت لَهُ نَوَادِر فِي مداواته المرضى ومعرفته لأحوالهم وَمَا يجدونه من الآلام من غير أَن يستخبرهم عَن ذَلِك بل بنظره إِلَى قواريرهم أَو عِنْدَمَا يجس نبضهم
وَكَانَ فِي دولة الملثمين ويعرفون أَيْضا بالمرابطين وحظي فِي أيامهم ونال الْمنزلَة الرفيعة وَالذكر والجميل
وَكَانَ قد اشْتغل بصناعة الطِّبّ وَهُوَ صَغِير فِي أَيَّام المعتضد بِاللَّه أبي عَمْرو عباد بن عباد
واشتغل أَيْضا بِعلم الْأَدَب وَهُوَ حسن التصنيف جيد التَّأْلِيف
وَفِي زَمَانه وصل كتاب القانون لِابْنِ سينا إِلَى الْمغرب وَقَالَ ابْن جَمِيع الْمصْرِيّ فِي كتاب التَّصْرِيح(1/517)
بالمكنون فِي تَنْقِيح القانون أَن رجلا من التُّجَّار جلب من الْعرَاق إِلَى الأندلس نُسْخَة من هَذَا الْكتاب قد بولغ فِي تحسينها فأتحف بهَا لأبي الْعَلَاء بن زهر تقربا إِلَيْهِ وَلم يكن هَذَا الْكتاب وَقع إِلَيْهِ قبل ذَلِك فَلَمَّا تَأمله ذمه وأطرحه وَلم يدْخلهُ خزانَة كتبه وَجعل يقطع من طرره مَا يكْتب فِيهِ نسخ الْأَدْوِيَة لمن يستفتيه من المرضى وَقَالَ أَبُو يحيى اليسع بن عِيسَى بن حزم ابْن اليسع فِي كتاب الْمغرب عَن محَاسِن أهل الْمغرب أَن أَبَا الْعَلَاء بن زهر كَانَ مَعَ صغر سنه تصرخ النجابة بِذكرِهِ وتخطب المعارف بشكره
وَلم يزل يطالع كتب الْأَوَائِل متفهما ويلقى الشُّيُوخ مستعلما والسعد ينهج لَهُ مناهج التَّيْسِير وَالْقدر لَا يرضى لَهُ من الوجاهة باليسير حَتَّى برز فِي الطِّبّ إِلَى غَايَة عجز الطِّبّ عَن مرامها وَضعف الْفَهم عَن إبرامها وَخرجت عَن قانون الصِّنَاعَة إِلَى ضروب من الشناعة يخبر فَيُصِيب وَيضْرب فِي كل مَا يَنْتَحِلهُ من التعاليم بأوفى نصيب ويشعر سَابق مدى ويغبر فِي وُجُوه الْفُضَلَاء علما ومحتدا ويفوق الجلة سماحة وندى لَوْلَا بذاء لِسَان وعجلة إِنْسَان
وَأي الرِّجَال تكمل خصاله وتتناسب أوصاله
ونقلت من خطّ مُحَمَّد بن أَحْمد بن صَالح الْعَبْدي وَهُوَ من أهل الْمغرب وَله نظر وعناية بصناعة الطِّبّ
قَالَ أَبُو العيناء الْمصْرِيّ وَهُوَ شيخ أَبُو الْعَلَاء بن زهر وَمن قبله انْصَرف من بَغْدَاد وحكايته مَعَه طَوِيلَة قَالَ أَخْبرنِي بِهَذَا الشَّيْخ الطَّبِيب أَبُو الْقَاسِم هِشَام بن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن صَاحب الصَّلَاة بداره بأشبيلية حرسها الله
أَقُول وَكَانَ من جملَة تلاميذ أبي الْعَلَاء بن زهر فِي الطِّبّ أَبُو عَامر بن ينق الشاطبي الشَّاعِر
وَتُوفِّي أَبُو الْعَلَاء بن زهر فِي سنة وَدفن بأشبيلية خَارج بَاب الْفَتْح
وَمن شعر أبي الْعَلَاء بن زهر قَالَ فِي التغزل
(يَا من كلفت بِهِ وذلت عزتي ... لغرامه وَهُوَ الْعَزِيز القاهر)
(رمت التصبر عِنْدَمَا ألْقى الجفا ... وَيَقُول ذَاك الْحسن مَالك نَاصِر)
(مَا الجاه إِلَّا جاه من ملك القوى ... وإطاعه قلب عَزِيز قَادر) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(يَا راشقي بسهام مَا لَهَا غَرَض ... إِلَّا الْفُؤَاد وَمَا لَهَا مِنْهُ عوض)
(وممرضي بجفون حشوها سقم ... صحت وَمن طبعها التمريض وَالْمَرَض)
(أمنن وَلَو بخيال مِنْك يطرقني ... فقد يسد مسد الْجَوْهَر الْعرض) الْبَسِيط
وَقَالَ فِي ابْن مَنْظُور قَاضِي قُضَاة أشبيلية وَقد وَصله عَنهُ أَنه قَالَ أيمرض ابْن زهر على(1/518)
جِهَة الِاسْتِهْزَاء
(قَالُوا ابْن مَنْظُور تعجب دائبا ... إِنِّي مَرضت فَقلت يعثر من مَشى)
(قد كَانَ جالينوس يمرض دهره ... فَمن الْفَقِيه المرتضى أكل الرشا) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(سَمِعت بِوَصْف النَّاس هندا فَلم أزل ... أَخا صبوة حَتَّى نظرت إِلَى هِنْد)
(فَلَمَّا أَرَانِي الله هندا وزيها ... تمنيت أَن أزداد بعدا على بعد) الطَّوِيل
وَلأبي الْعَلَاء ابْن زهر من الْكتب كتاب الْخَواص كتاب الْأَدْوِيَة المفردة كتاب الْإِيضَاح بشواهد الافتضاح فِي الرَّد على ابْن رضوَان فِيمَا رده على حنين بن إِسْحَاق فِي كتاب الْمدْخل إِلَى الطِّبّ
كتاب حل شكوك الرَّازِيّ على كتب جالينوس مجربات مقَالَة فِي الرَّد على أبي عَليّ بن سينا فِي مَوَاضِع من كِتَابه الْأَدْوِيَة المفردة ألفها لِابْنِهِ أبي مَرْوَان
كتاب النكت الطبية كتب بهَا إِلَى ابْنه أبي مَرْوَان
مقَالَة فِي بَسطه لرسالة يَعْقُوب بن إِسْحَاق الْكِنْدِيّ فِي تركيب الْأَدْوِيَة وأمثلة ذَلِك نسخ لَهُ ومجربات أَمر بجمعها عَليّ بن يُوسُف بن تاشفين بعد موت أبي الْعَلَاء
فَجمعت بمراكش وبسائر بِلَاد العدوة والأندلس وانتسخت فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَعشْرين وَخَمْسمِائة
أَبُو مَرْوَان بن أبي الْعَلَاء بن زهر
هُوَ أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن أبي الْعَلَاء زهر بن أبي مَرْوَان عبد الْملك بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن زهر لحق بِأَبِيهِ فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ جيد الِاسْتِقْصَاء فِي الْأَدْوِيَة المفردة والمركبة حسن المعالجة قد ذاع ذكره فِي الأندلس وَفِي غَيرهَا من الْبِلَاد واشتغل الْأَطِبَّاء بمصنفاته
وَلم يكن فِي زَمَانه من يماثله فِي مزاولة أَعمال صناعَة الطِّبّ
وَله حكايات كَثِيرَة فِي تَأتيه لمعْرِفَة الْأَمْرَاض ومداواتها مِمَّا لم يسْبقهُ أحد من الْأَطِبَّاء إِلَى مثل ذَلِك
وَكَانَ قد خدم الملثمين ونال من جهتهم من النعم وَالْأَمْوَال شَيْئا كثيرا
وَفِي الْوَقْت الَّذِي كَانَ فِيهِ أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن أبي الْعَلَاء بن زهر دخل الْمهْدي إِلَى الأندلس وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله بن تومرت وَمَعَهُ عبد الْمُؤمن وَشرع فِي بَث الدعْوَة لعبد الْمُؤمن وتمهيد أمره إِلَى أَن انتشرت كَلمته واتسعت مَمْلَكَته وَملك الْبِلَاد وأطاعه الْخلق
وحكاية الْمهْدي فِي تَأتيه إِلَى أَن نَالَ الْملك وَصفا لَهُ الْأَمر مَعْرُوفَة مَشْهُورَة
وَلما اسْتَقل عبد الْمُؤمن بالمملكة وَعرف بأمير الْمُؤمنِينَ وَاسْتولى على خَزَائِن الْمغرب بذل الْأَمْوَال وَأظْهر الْعدْل وَقرب أهل الْعلم وَأكْرمهمْ ووالى إحسانه إِلَيْهِم واختص أَبَا مَرْوَان عبد الْملك بن زهر لنَفسِهِ وَجعل(1/519)
اعْتِمَاده عَلَيْهِ فِي الطِّبّ وأناله من الْأَنْعَام وَالعطَاء فَوق أمْنِيته
وَكَانَ مكينا عِنْده عالي الْقدر متميزا على كثير من أَبنَاء زَمَانه
وَألف لَهُ أَبُو مَرْوَان بن زهر الترياق السبعيني وَاخْتَصَرَهُ عشاريا وَاخْتَصَرَهُ سباعيا وَيعرف بترياق الأنتلة
حَدثنِي أَبُو الْقَاسِم المعاجيني الأندلسي أَن الْخَلِيفَة عبد الْمُؤمن احْتَاجَ إِلَى شرب دَوَاء مسهل وَكَانَ يكره شرب الْأَدْوِيَة المسهلة فتلطف لَهُ ابْن زهر فِي ذَلِك وأتى إِلَى كرمة فِي بستانه فَجعل المَاء الَّذِي يسقيها بِهِ مَاء قد أكسبه قُوَّة أدوية مسهلة بنقعها فِيهِ أَو بغليانها مَعَه
وَلما تشربت الكرمة قُوَّة الْأَدْوِيَة المسهلة الَّتِي أرادها وطلع فِيهَا الْعِنَب وَله تِلْكَ الْقُوَّة أحم الْخَلِيفَة ثمَّ أَتَاهُ بعنقود مِنْهَا وَأَشَارَ عَلَيْهِ أَن يَأْكُل مِنْهُ
وَكَانَ حسن الِاعْتِقَاد فِي ابْن زهر فَلَمَّا أكل مِنْهُ وَهُوَ ينظر إِلَيْهِ قَالَ لَهُ يَكْفِيك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَإنَّك قد أكلت عشر حبات من الْعِنَب وَهِي تخدمك عشر مجَالِس
فاستخبره عَن عِلّة ذَلِك وعرفه بِهِ
ثمَّ قَامَ على عدد مَا ذكره لَهُ وَوجد الرَّاحَة فَاسْتحْسن من فعله هَذَا وتزايدت مَنْزِلَته عِنْده
وحَدثني الشَّيْخ محيي الدّين أَبُو عبد الله بن عَليّ بن مُحَمَّد بن الْعَرَبِيّ الطَّائِي الْحَاتِمِي من أهل مرسية أَن أَبَا مَرْوَان عبد الْملك بن زهر كَانَ فِي وَقت مروره إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ بأشبيلية يجد فِي طَرِيقه عِنْد حمام أبي الْخَيْر بِالْقربِ من دَار ابْن مُؤَمل مَرِيضا بِهِ سوء قتبه وَقد كبر جَوْفه واصفر لَونه فَكَانَ أبدا يشكو إِلَيْهِ حَاله ويسأله النّظر فِي أمره
فَلَمَّا كَانَ بعض الْأَيَّام سَأَلَهُ مثل ذَلِك فَوقف أَبُو مَرْوَان بن زهر عِنْده وَنظر إِلَيْهِ فَوجدَ عِنْد رَأسه إبريقا عتيقا يشرب مِنْهُ المَاء فَقَالَ اكسر هَذَا الإبريق فَإِنَّهُ سَبَب مرضك
فَقَالَ لَهُ لَا بِاللَّه يَا سَيِّدي فَإِنِّي مَا لي غَيره فَأمر بعض خدمه بكسره فَكَسرهُ فَظهر مِنْهُ لما كسر ضفدع وَقد كبر مِمَّا لَهُ فِيهِ من الزَّمَان
فَقَالَ لَهُ ابْن زهر خلصت يَا هَذَا من الْمَرَض انْظُر مَا كنت تشرب
وبرأ الرجل بعد ذَلِك
وحَدثني القَاضِي أَبُو مَرْوَان مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْملك اللَّخْمِيّ ثمَّ الْبَاجِيّ قَالَ حَدثنِي من أَثِق بِهِ أَنه كَانَ بأشبيلية حَكِيم فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ يعرف بالفار وَله كتاب جيد فِي الْأَدْوِيَة المفردة سفران وَكَانَ أَبُو مَرْوَان بن زهر كثيرا مَا يَأْكُل التِّين ويميل إِلَيْهِ
وَكَانَ الطَّبِيب الْمَعْرُوف بالفار لَا يغتذي مِنْهُ بِشَيْء وَإِن أَخذ مِنْهُ شَيْئا فَيكون وَاحِدَة فِي السّنة فَكَانَ يَقُول هَذَا لأبي مَرْوَان بن زهر أَنه لَا بُد أَن تعرض لَك نغلة صعبة بمداومتك أكل التِّين والنغلة هُوَ الدُّبَيْلَة بلغتهم
وَكَانَ أَبُو مَرْوَان يَقُول لَهُ لَا بُد لِكَثْرَة حميتك وكونك لم تَأْكُل شَيْئا من التِّين أَن يصيبك الشناج قَالَ فَلم يمت الْمَعْرُوف بالفار إِلَّا بعلة التشنج وَكَذَلِكَ أَيْضا عرض لأبي مَرْوَان بن زهر دبيلة فِي جنبه وَتُوفِّي بهَا
وَهَذَا من أبلغ مَا يكون من تقدمة الْإِنْذَار
قَالَ وَلما عرض لأبي مَرْوَان هَذِه الْعلَّة كَانَ يعالجها ويصنع لَهَا مراهم وأدوية وَلم تُؤثر نفعا يعْتد بِهِ
فَكَانَ يَقُول لَهُ ابْنه أَبُو بكر يَا أبي لَو غيرت هَذَا الدَّوَاء بالدواء الْفُلَانِيّ وَلَو زِدْت من هَذَا الدَّوَاء أَو اسْتعْملت دَوَاء كَذَا وَكَذَا فَكَانَ(1/520)
يَقُول لَهُ يَا بني إِذا أَرَادَ الله تَغْيِير هَذِه البنية فَإِنَّهُ لَا يقدر لي أَن اسْتعْمل من الْأَدْوِيَة إِلَّا مَا يتم بِهِ مَشِيئَته وإرادته
أَقُول وَكَانَ من أجل تلاميذ أبي مَرْوَان عبد الْملك بن أبي الْعَلَاء بن زهر فِي صناعَة الطِّبّ والآخذين عَنهُ أَبُو الْحُسَيْن بن أسدون شهر بالمصدوم
وَأَبُو بكر بن الْفَقِيه القَاضِي أبي الْحسن قَاضِي أشبيلية وَأَبُو مُحَمَّد الشذوني والفقيه الزَّاهِد أَبُو عمرَان بن أبي عمرَان
وَتُوفِّي أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن أبي الْعَلَاء بن زهر فِي سنة وَخَمْسمِائة وَدفن بأشبيلية خَارج بَاب الْفَتْح
وَلأبي مَرْوَان بن أبي الْعَلَاء بن زهر من الْكتب كتاب التَّيْسِير فِي المداواة وَالتَّدْبِير أَلفه للْقَاضِي أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن رشد
كتاب الأغذية أَلفه لأبي مُحَمَّد عبد الْمُؤمن بن عَليّ
كتاب الزِّينَة تذكرة إِلَى وَلَده أَلِي بكر فِي أَمر الدَّوَاء المسهل وَكَيْفِيَّة أَخذه وَذَلِكَ فِي صغر سنه وَأول سفرة سافرها فناب عَن أَبِيه فِيهَا
مقَالَة فِي علل الكلى
رِسَالَة كتب بهَا إِلَى بعض الْأَطِبَّاء بأشبيلية فِي علتي البرص والبهق
كتاب تذكرة ذكر بهَا لِابْنِهِ أبي بكر أول مَا تعلق بعلاج الْأَمْرَاض
الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر
هُوَ الْوَزير الْحَكِيم الأديب الحسيب أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي مَرْوَان بن أبي الْعَلَاء بن زهر مولده بِمَدِينَة أشبيلية وَنَشَأ بهَا وتميز فِي الْعُلُوم وَأخذ صناعَة الطِّبّ عَن أَبِيه وباشر أَعمالهَا وَكَانَ معتدل الْقَامَة صَحِيح البنية قوي الْأَعْضَاء
وَصَارَ فِي سنّ الشيخوخة ونضارة لَونه وَقُوَّة حركاته لم يتَبَيَّن فِيهَا تغير وَإِنَّمَا عرض لَهُ فِي أَوَاخِر عمره ثقل فِي السّمع
وَكَانَ حَافِظًا لِلْقُرْآنِ وَسمع الحَدِيث واشتغل بِعلم الْأَدَب والعربية وَلم يكن فِي زَمَانه أعلم مِنْهُ بِمَعْرِِفَة اللُّغَة
ويوصف بِأَنَّهُ قد أكمل صناعَة الطِّبّ وَالْأَدب وعانى عمل الشّعْر وأجاد فِيهِ
وَله موشحات مَشْهُورَة ويغنى بهَا وَهِي من أَجود مَا قيل فِي ذَلِك
وَكَانَ ملازما للأمور الشَّرْعِيَّة متين الدّين قوي النَّفس محبا للخير
وَكَانَ مهيبا وَله جرْأَة فِي الْكَلَام وَلم يكن فِي زَمَانه أعلم مِنْهُ بصناعة الطِّبّ وَذكره قد شاع واشتهر فِي أقطار الأندلس وَغَيرهَا من الْبِلَاد
وحَدثني القَاضِي أَبُو مَرْوَان مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْملك الْبَاجِيّ من أهل أشبيلية قَالَ قَالَ لي الشَّيْخ الْوَزير الْحَكِيم أَبُو بكر بن زهر أَنه لَازم لجدي عبد الْملك الْبَاجِيّ سبع سِنِين يشْتَغل عَلَيْهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ كتاب الْمُدَوَّنَة لسخنون فِي مَذْهَب مَالك وَقَرَأَ أَيْضا عَلَيْهِ مُسْند ابْن أبي شيبَة
وحَدثني أَيْضا القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ عَن أبي بكر بن زهر أَنه كَانَ شَدِيد الْبَأْس يجذب قوسا مائَة وَخمسين رطلا بالإشبيلي والرطل الَّذِي بإشبيلة سِتَّة عشر أُوقِيَّة وكل أُوقِيَّة عشرَة دَرَاهِم وَأَنه كَانَ(1/521)
جيد اللّعب بالشطرنج جدا وَلم يكن فِي زَمَانه أحد مثله فِي صناعَة الطِّبّ وخدم الدولتين
وَذَلِكَ أَنه لحق دولة الملثمين وَاسْتمرّ فِي الْخدمَة مَعَ أَبِيه فِي آخر دولتهم
ثمَّ خدم دولة الْمُوَحِّدين وهم بَنو عبد الْمُؤمن
وَذَلِكَ أَنه كَانَ فِي خدمَة عبد الْمُؤمن هُوَ وَأَبوهُ وَفِي أَيَّام عبد الْمُؤمن مَاتَ أَبوهُ وَبَقِي هُوَ فِي خدمته ثمَّ خدم لِابْنِ عبد الْمُؤمن أبي يَعْقُوب يُوسُف ثمَّ لِابْنِهِ يَعْقُوب أبي يُوسُف الَّذِي لقب بالمنصور
ثمَّ خدم ابْنه أَبَا عبد الله مُحَمَّد النَّاصِر وَفِي أول دولته توفّي أَبُو بكر بن زهر وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي عَام سِتَّة وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بمراكش وَقد أَتَاهَا ليزور بهَا وَدفن هُنَاكَ فِي الْموضع الْمَعْرُوف بمقابر الشُّيُوخ وَعمر نَحْو السِّتين سنة
قَالَ وَكَانَ أَبُو بكر بن زهر صائب الرَّأْي حسن المعالجة جيد التَّدْبِير
وَقد عرف هَذَا مِنْهُ حَتَّى أَنه يَوْمًا كَانَ قد كتب وَالِده أَبُو مَرْوَان ابْن زهر نُسْخَة دَوَاء مسهل لعبد الْمُؤمن الْخَلِيفَة فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر بعد ذَلِك وَكَانَ فِي حَال شبيبته قَالَ يجب أَن يُبدل هَذَا الدَّوَاء الْمُفْرد مِنْهُ بدواء آخر
فَلم يتَنَاوَل عبد الْمُؤمن ذَلِك الدَّوَاء
وَلما رَآهُ أَبوهُ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الصَّوَاب فِي قَوْله
وَبدل الدَّوَاء الْمُفْرد بِغَيْرِهِ فأثر نفعا بَيْننَا
وَألف أَبُو بكر ابْن زهر الترياق الخمسيني للمنصور أَبُو يُوسُف يَعْقُوب
قَالَ وحَدثني من أَثِق بِهِ أَن رجلا من بني اليناقي كَانَ صديقا للحفيد أبي بكر بن زهر وَكَانَ يجالسه كثيرا ويلعب مَعَه بالشطرنج وَأَنه كَانَ عِنْد الْحَفِيد أبي بكر يَوْمًا وهما يلعبان بالشطرنج فَرَآهُ الْحَفِيد على غير مَا يعهده بِهِ من الانبساط فَقَالَ لَهُ مَا لخاطرك كَأَنَّهُ مشتغل بِشَيْء عرفني مَا هُوَ فَقَالَ نعم إِن لي بِنْتا زوجتها لرجل وَهُوَ يطْلبهَا وَقد احتجت إِلَى ثلثمِائة دِينَار فَقَالَ لَهُ العب وَمَا عَلَيْك فَإِن عِنْدِي فِي وقتنا هَذَا ثلثمِائة دِينَار إِلَّا خَمْسَة دَنَانِير تأخذها
فلعب مَعَه سَاعَة واستدعى بِالذَّهَب وَأَعْطَاهُ لَهُ فَلَمَّا كَانَ عَن قرب أَتَاهُ صَاحبه وَترك بَين يَدَيْهِ ثلثمِائة دِينَار إِلَّا خَمْسَة دَنَانِير تأخذها
فلعب مَعَ سَاعَة واستدعى بِالذَّهَب وَأَعْطَاهُ لَهُ فَلَمَّا كَانَ عَن قرب أَتَاهُ صَاحبه وَترك بَين يَدَيْهِ ثلثمِائة دِينَار إِلَّا خَمْسَة
فَقَالَ لَهُ ابْن زهر مَا هَذَا فَقَالَ إِنَّنِي بِعْت زيتونا لي بسبعمائة دِينَار وَقد أتيت مِنْهَا بثلثمائة دِينَار إِلَّا خَمْسَة عوض الَّذِي تفضلت بِهِ عَليّ وأقرضتني إِيَّاه وَقد بَقِي عِنْدِي حَاصِلا أَرْبَعمِائَة دِينَار
فَقَالَ لَهُ ابْن زهر ارْفَعْ هَذَا عنْدك وانتفع بِهِ فَإِنِّي مَا دفعت لَك الذَّهَب على إِنِّي أَعُود آخذه أبدا
فَأبى الرجل وَقَالَ إِنَّنِي بِحَمْد الله بِحَال سَعَة وَلَا لي حَاجَة أَن آخذ هَذَا وَلَا غَيره من أحد أصلا
وتفاوضا فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُ ابْن زهر يَا هَذَا أَنْت صديقي أَو عدوي فَقَالَ لَهُ بل صديقك وَأحب النَّاس فِيك
فَقَالَ لَهُ ابْن زهر وَالله لَئِن لم تَأْخُذهُ لأعادينك بِسَبَبِهِ وَلَا أَعُود أُكَلِّمك أبدا
فَأَخذه مِنْهُ وشكره على فعله(1/522)
قَالَ القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ وَكَانَ الْمَنْصُور قد قصد أَن لَا يتْرك شَيْئا من كتب الْمنطق وَالْحكمَة بَاقِيا فِي بِلَاده
وأباد كثيرا مِنْهَا بإحراقها بالنَّار وشدد فِي أَن لَا يبْقى أحد يشْتَغل بِشَيْء مِنْهَا وَأَنه مَتى وجد أحد ينظر فِي هَذَا الْعلم أَو وجد عِنْده شَيْء من الْكتب المصنفة فِيهِ فَإِنَّهُ يلْحقهُ ضَرَر عَظِيم
وَلما شرع فِي ذَلِك جعل أمره مفوضا إِلَى الْحَفِيد أبي بكر بن زهر وَأَنه الَّذِي ينظر إِلَيْهِ
وَأَرَادَ الْخَلِيفَة أَنه إِن كَانَ عِنْد ابْن زهر شَيْء من كتب الْمنطق وَالْحكمَة لم يظْهر وَلَا يُقَال عَنهُ أَنه يشْتَغل بهَا وَلَا يَنَالهُ مَكْرُوه بِسَبَبِهَا وَلما نظر ابْن زهر فِي ذَلِك وامتثل أَمر الْمَنْصُور فِي جمع الْكتب من عِنْد الكتبيين وَغَيرهم وَأَن لَا يبْقى شَيْء مِنْهَا وإهانة المشتغلين بهَا
وَكَانَ بأشبيلية رجل من أعيانها يعادي الْحَفِيد أَبَا بكر بن زهر ويحسده وَعِنْده شَرّ فَعمل محضرا فِي أَن ابْن زهر دَائِم الِاشْتِغَال بِهَذَا الْفَنّ وَالنَّظَر فِيهِ وَأَن عِنْده فِي دَاره شَيْئا كثيرا من كتبه وَجمع فِيهِ شَهَادَات عدَّة وَبعث بِهِ إِلَى الْمَنْصُور وَكَانَ الْمَنْصُور حِينَئِذٍ فِي حصن الْفَرح وَهُوَ مَوضِع بناه قَرِيبا من أشبيلية على ميلين مِنْهَا صَحِيح الْهَوَاء بِحَيْثُ بقيت الْحِنْطَة فِي ثَمَانِينَ سنة لم تَتَغَيَّر لصِحَّته
وَكَانَ أَبُو بكر بن زهر هُوَ الَّذِي أَشَارَ على الْمَنْصُور أَن يبنيه فِي ذَلِك الْموضع وَيُقِيم فِيهِ فِي بعض الْأَوْقَات
فَلَمَّا كَانَ الْمَنْصُور بِهِ وَقد أَتَاهُ الْمحْضر نظره ثمَّ أَمر بِأَن يقبض على الَّذِي عمله وَأَن يودع السجْن فَفعل بِهِ ذَلِك
وَانْهَزَمَ جَمِيع الشُّهُود الَّذين وضعُوا خطوطهم فِيهِ
ثمَّ قَالَ الْمَنْصُور إِنَّنِي لم أول ابْن زهر فِي هَذَا إِلَّا حَتَّى لَا ينْسبهُ أحد إِلَى شَيْء مِنْهُ وَلَا يُقَال عَنهُ
وَوَاللَّه لَو أَن جَمِيع أهل الأندلس وقفُوا قدامي وشهدوا على ابْن زهر بِمَا فِي هَذَا الْمحْضر لم أقبل قَوْلهم لما أعرفهُ فِي ابْن زهر من متانة دينه وعقله
وحَدثني أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد الإشبيلي قَالَ كَانَ الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر قد أَتَى إِلَيْهِ من الطّلبَة اثْنَان ليشتغلا عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ فترددا إِلَيْهِ ولازماه مُدَّة وقرآ عَلَيْهِ شَيْئا من كتب الطِّبّ
ثمَّ أَنَّهُمَا أَتَيَاهُ يَوْمًا وبيد أَحدهمَا كتاب صَغِير فِي الْمنطق وَكَانَ يحضر مَعَهُمَا أَبُو الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بالمصدوم وَكَانَ غرضهم أَن يشتغلوا فِيهِ فَلَمَّا نظر ابْن زهر إِلَى ذَلِك الْكتاب قَالَ مَا هَذَا ثمَّ أَخذه ينظر فِيهِ فَلَمَّا وجده فِي علم الْمنطق رمى بِهِ نَاحيَة ثمَّ نَهَضَ إِلَيْهِم حافيا ليضربهم وانهزموا قدامه وتبعهم يعدو على حَالَته تِلْكَ وَهُوَ يُبَالغ فِي شتمهم وهم يتعادون قدامه إِلَى أَن رَجَعَ عَنْهُم عَن مَسَافَة بعيدَة فبقوا منقطعين عَنهُ أَيَّامًا لَا يجسرون أَن يَأْتُوا إِلَيْهِ
ثمَّ أَنهم توسلوا إِلَى أَن حَضَرُوا عِنْده وَاعْتَذَرُوا بِأَن ذَلِك الْكتاب لم يكن لَهُم وَلَا لَهُم فِيهِ غَرَض أصلا وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا رَأَوْهُ مَعَ حدث فِي الطَّرِيق وهم قاصدون إِلَيْهِ فهزأوا بِصَاحِبِهِ وعبثوا بِهِ وَأخذُوا مِنْهُ الْكتاب قهرا وَبَقِي مَعَهم ودخلوا إِلَيْهِ وهم ساهمون عَنهُ
فتخادع لَهُم وَقبل معذرتهم واستمروا فِي قراءتهم عَلَيْهِ صناعَة الطِّبّ
وَلما كَانَ بعد مديدة أَمرهم أَن يجيدوا حفظ الْقُرْآن وَأَن يشتغلوا بِقِرَاءَة التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه وَأَن يواظبوا على مُرَاعَاة الْأُمُور الشَّرْعِيَّة والاقتداء بهَا وَلَا يخلوا بِشَيْء من ذَلِك
فَلَمَّا امتثلوا أمره وأتقنوا معرفَة مَا أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِم وَصَارَت لَهُم مُرَاعَاة الْأُمُور الشَّرْعِيَّة سجية وَعَادَة قد ألفوها كَانُوا يَوْمًا عِنْده وَإِذا بِهِ قد أخرج لَهُم الْكتاب الَّذِي كَانَ رَآهُ مَعَهم فِي الْمنطق وَقَالَ لَهُم الْآن(1/523)
صلحتم لِأَن تقرأوا هَذَا الْكتاب وَأَمْثَاله عَليّ
وأشغلهم فِيهِ فتعجبوا من فعله رَحمَه الله
وَهَذَا يدل مِنْهُ على كَمَال عقله وتوفر مروءته
وحَدثني القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ قَالَ كَانَ أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن يوجان وَزِير الْمَنْصُور يعادي الْحَفِيد أَبَا بكر بن زهر ويحسده لما يرى من عظم حَاله وعلو مَنْزِلَته وَعلمه فاحتال عَلَيْهِ فِي سم صيره مَعَ أحد من كَانَ عِنْد الْحَفِيد بن زهر فقدمه إِلَى الْحَفِيد بن زهر فِي بيض وَكَانَت مَعَ الْحَفِيد أَيْضا بنت أُخْته وَكَانَت أُخْته وابنتها هَذِه عالمتين بصناعة الطِّبّ والمداواة وَلَهُمَا خبْرَة جَيِّدَة بِمَا يتَعَلَّق بمداواة النِّسَاء وكانتا تدخلان إِلَى نسَاء الْمَنْصُور وَلَا يقبل للمنصور وَأَهله ولدا إِلَّا أُخْت الْحَفِيد أَو بنتهَا لما توفيت أمهَا
فَلَمَّا أكل الْحَفِيد من ذَلِك الْبيض وَبنت أُخْته مَاتَا جَمِيعًا وَلم ينفع فيهمَا علاج
قَالَ وَلم يمت أَبُو زيد عبد الرَّحْمَن بن يوجان إِلَّا مقتولا قَتله مَعَ بعض أَقَاربه
أَقُول وَكَانَ من أجل تلامذة الْحَفِيد أبي بكر بن زهر فِي صناعَة الطِّبّ والآخذين عَنهُ أَبُو جَعْفَر ابْن الغزال
وَمن شعر الْحَفِيد أبي بكر بن زهر أَنْشدني محيي الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ بن عَليّ بن مُحَمَّد الْعَرَبِيّ الْحَاتِمِي قَالَ أَنْشدني الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر لنَفسِهِ يتشوق إِلَى وَلَده
(نأت عَنهُ دَاري فيا وحشتي ... لذاك الشخيص وَذَاكَ الْوَجِيه)
(تشوقني وتشوقته ... فيبكي عَليّ وأبكي عَلَيْهِ)
(وَقد تَعب الشوق مَا بَيْننَا ... فَمِنْهُ إِلَيّ ومني إِلَيْهِ) المتقارب
أَنْشدني القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ قَالَ أَنْشدني أَبُو عمرَان بن عمرَان الزَّاهِد المرتلي القاطن بأشبيلية قَالَ أَنْشدني الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر لنَفسِهِ فِي آخر عمره
(إِنِّي نظرت إِلَى الْمرْآة إِذْ جليت ... فأنكرت مقلتاي كلما رأتا)
(رَأَيْت فِيهَا شييخا لست أعرفهُ ... وَكنت أعرف فِيهَا قبل ذَاك فَتى)
(فَقلت أَيْن الَّذِي مثواه كَانَ هُنَا ... مَتى ترحل عَن هَذَا الْمَكَان مَتى)
(فاستجهلتني وَقَالَت لي وَمَا نطقت ... قد كَانَ ذَلِك وَهَذَا بعد ذَاك أَتَى)
(هون عَلَيْك فَهَذَا لَا بَقَاء لَهُ ... أما ترى العشب يفنى بَعْدَمَا نبتا)
(كَانَ الغواني يقلن يَا أخي فقد ... صَار الغواني يقلن الْيَوْم يَا أبتا) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ عَن الْحَفِيد بن زهر لَهُ من أَبْيَات
(أعد الحَدِيث عَليّ من جنباته ... أَن الحَدِيث عَن الحبيب حبيب) الْكَامِل(1/524)
وأنشدني شَيخنَا علم الدّين قَيْصر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْغَنِيّ بن مُسَافر الْحَنَفِيّ المهندس للحفيد أبي بكر بن زهر وَهِي بديعة الْمَعْنى كَثِيرَة التَّجْنِيس
(لله مَا صنع الغرام بِقَلْبِه ... أودى بِهِ لما ألب بلبه)
(لباه لما أَن دَعَاهُ وَهَكَذَا ... من يَدعه دَاعِي الغرام يُلَبِّهِ)
(بِأبي الَّذِي لَا تَسْتَطِيع لعجبه ... رد السَّلَام وَإِن شَككت فعج بِهِ)
(ظَبْي من الأتراك مَا ترك الضنا ... ألحاظه من سلوة لمحبه)
(إِن كنت تنكر مَا جنى بلحاظة ... فِي سلبه يَوْم الغوير فسل بِهِ)
(أَو شِئْت أَن تلقى غزالا أغيدا ... فِي سربه أَسد العرين فسر بِهِ)
(يَا من أميلحه وأعذب رِيقه ... وأعزه وأذلني فِي حبه)
(أَو مَا أليطف وردة فِي خَدّه ... وأرقها وَأَشد قسوة قلبه)
(كم من خمار دون خمرة رِيقه ... وَعَذَاب قلب دون رائق عذبه)
(نَادَى بنفسج عارضيه تعمدا ... يَا عاشقين تمنعوا من قربه) الْكَامِل
وَمن موشحاته مِمَّا أَنْشدني أَبُو عبد الله مُحَمَّد سبط الْحَكِيم أبي مُحَمَّد عبد الله ابْن الْحَفِيد أبي بكر زهر وَكَانَ وَالِد هَذَا الْمَذْكُور أبي عبد الله وَهُوَ أَبُو مَرْوَان أَحْمد بن القَاضِي أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن عبد الْملك الْبَاجِيّ قد تزوج ببنت أبي مُحَمَّد عبد الله بن الْحَفِيد أبي بكر بن زهر ورزق مِنْهَا أَبَا عبد الله مُحَمَّد
وَكَانَ أَعنِي أَبَا مَرْوَان أَحْمد قد ملك أشبيلية وَبقيت فِي يَده تِسْعَة أشهر
ثمَّ قَتله ابْن الْأَحْمَر غدرا فِي سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكَانَ عمره إِذْ ذَاك سبعا وَثَلَاثِينَ سنة فَمن ذَلِك قَالَ وَهِي من أول قَوْله
(زعمت أنفاسي الصعدا ... إِن أفراح الْهوى نكد)
(هام قلبِي فِي معذبه ... وَأَنا أَشْكُو لمطلبه ... إِن كتمت الْحبّ مت بِهِ)
(وَإِذا مَا صحت واكبدا ... فَرح الْأَعْدَاء وانتقدوا)
(أَيهَا الباكي على الطلل ... ومدير الراح بالأمل ... أَنا من عَيْنَيْك فِي شغل)
(فدع الدمع السفوح سدى ... وضرام الشوق تتقد)
(مقلة جَادَتْ بِمَا ملكت ... عرفت ذل الْهوى فَبَكَتْ ... وَشَكتْ مِمَّا بهَا ورثت)
(وفؤادي هائم أبدا ... مَا عَلَيْهِ ... للسلو يَد)
(إِن عَيْني لَا أذنبها ... أَتعبت قلبِي وأتعبها ... لنجوم بت أرقبها)
(رمت أَن أحصي لَهَا عددا ... وَهِي لَا يُحْصى لَهَا عدد)
(وغزال يغلب الأسدا ... جِئْت لاستنجاز مَا وَعدا ... فانزوى عني وَقَالَ غَدا)(1/525)
(أَتَرَى يَا قوم أَيْن هُوَ غَدا ... فِي أَي مَكَان يسكن أَو يجد) المديد
وَقَالَ أَيْضا
(شمس قارنت بَدْرًا ... رَاح ونديم)
(أدر أكؤس الْخمر ... عنبرية النشر ... أَن الرَّوْض ذُو بشر)
(وَقد درع النهرا ... هبوب النسيم)
(وسلت على الْأُفق ... يَد الغرب والشرق ... سيوفا من الْبَرْق)
(وَقد أضْحك الزهرا ... بكاء الغيوم)
(إِلَّا أَن لي مولى ... تحكم فاستولى ... أما أَنه لَوْلَا)
(دمع يفضح السرا ... لَكُنْت كتوم)
(أَنى لي كتمان ... ودمعي طوفان ... شبت فِيهِ نيران)
(فَمن أبْصر الجمرا ... فِي لج يعوم)
(إِذا لامني فِيهِ ... من رأى تجنيه ... شدوت أغنيه)
(لَعَلَّ لَهُ عذرا ... وَأَنت تلوم)
وَقَالَ أَيْضا
(أَيهَا الساقي إِلَيْك المشتكى ... قد دعوناك وَإِن لم تسمع)
(ونديم هَمت فِي غرته ... وشربت الراح من رَاحَته ... كلما اسْتَيْقَظَ من سكرته)
(جذب الزق إِلَيْهِ واتكا ... وسقاني أَرْبعا فِي أَربع)
(غُصْن بَان مَال من حَيْثُ اسْتَوَى ... بَات من يهواه من فرط الجوى)
(خَفق الأحشاء ... موهون القوى)
(كلما فكر فِي الْبَين بَكَى ... مَا لَهُ يبكي لما لم يَقع)
(لَيْسَ لي صَبر وَلَا لي جلد ... يَا لقومي عذلوا واجتهدوا ... انكروا شكواي مِمَّا أجد)
(مثل حَالي حَقه أَن يشتكي ... كمد الْيَأْس وذل الطمع)
(مَا لعَيْنِي عشيت بِالنّظرِ ... انكرت بعْدك ضوء الْقَمَر ... وَإِذا مَا شِئْت فاسمع خبري)
(شقيت عَيْنَايَ من طول البكا ... وَبكى بَعْضِي على بَعْضِي معي)
(كبد حرى ودمع يكف ... يعرف الذَّنب وَلَا يعْتَرف ... أَيهَا المعرض عَمَّا أصف)
(قد نمى حبك عِنْدِي وزكا ... لَا يظنّ الْحبّ أَنِّي مدعي)
وَقَالَ أَيْضا
(يَا صَاحِبي نِدَاء مغتبط بِصَاحِب ... لله مَا أَلْقَاهُ من فقد الحبائب)(1/526)
(قلب أحَاط بِهِ الجوى من كل جَانب ... )
(أَي قلب هائم ... لَا يستريح من اللواحي)
(يَا من أعانقه بإحناء الضلوع ... وأقيمه بَدَلا من الْقلب الصديع)
(أَنا للغرام وَأَنت ... لِلْحسنِ البديع)
(وَكَلَام اللائم ... شَيْء يمر مَعَ الرِّيَاح)
(أنحى على رشدي وأفقدني صلاحي ... ثغر ثنى الْأَبْصَار عَن نور الصَّباح)
(يسقى بمختلطين ... من مسك وَرَاح)
(كالحباب العائم ... فِي صفحة المَاء القراح)
(من لي بِهِ بَدْرًا تجلى فِي الظلام ... علقت من وجناته بدر التَّمام)
(وعلقت من أعطافه لدن القوام ... )
(كالقضيب الناعم ... لم يسْتَطع حمل الوشاح)
(حَملتنِي فِي الْحبّ مَا لَا يُسْتَطَاع ... شوقا يراع لذكره من لَا يراع)
(بل أَنْت أظلم من لَهُ حكم مُطَاع) الْكَامِل والرمل
وَقَالَ أَيْضا
(حَيّ الْوُجُوه الملاحا ... وَحي كحل الْعُيُون)
(هَل فِي الْهوى من جنَاح ... وَفِي نديم وَرَاح ... رام النصوح صلاحي)
(وَكَيف أَرْجُو صلاحا ... بَين الْهوى والمجون)
(يَا غَائِبا لَا يغيب ... أَنْت الْبعيد الْقَرِيب ... كم تشتقيك الْقُلُوب)
(أثخنتهن جراحا ... واسأل سِهَام الْعُيُون)
(أبكى الْعُيُون البواكي ... تذكار أُخْت السماك ... حَتَّى حمام الْأَرَاك)
(بَكَى بشجو ... وناحا ... على فروع الغصون)
(ألْقى إِلَيْهَا زمامه ... صب يداوي غرامه ... وَلَا يُطيق الملامه)
(غَدا بشوق وراحا ... مَا بَين سبي الظنون)
(يَا راحلا لم يودع ... رحلت بالأنس أجمع ... وَالْعجز يُعْطي وَيمْنَع)
(مروا وأخفوا الرواحا ... سحرًا وَمَا ودعوني) المجتث
وَقَالَ أَيْضا
(هَل ينفع الوجد أَو يُفِيد ... أم هَل على من بَكَى جنَاح)
(يَا منية الْقلب غبت عني ... فالليل عِنْدِي بِلَا صباح)(1/527)
(أفديه من معرض تولى ... لَا عين مِنْهُ وَلَا أثر)
(عذبني فِي هَوَاهُ كلا ... لم يبْق مني وَلَا يذر)
(يَا عين عَيْني فَلَيْسَ إِلَّا ... صَبر على الدمع والسهر)
(وَيفْعل الشوق مَا يُرِيد ... فِي كبد كلهَا جراح)
(يَا مخجل الْيَد لَا تسلني ... عَن جور الحاظك الملاح)
(زَاد على بهجة النَّهَار ... من حسنه الدَّهْر فِي ازدياد)
(لحظ لَهُ سطوة الْعقار ... يفعل فِي الْعقل مَا أَرَادَ)
(خداه كالورد فِي البهار ... يقطف باللحظ أم يكَاد)
(وَذَلِكَ المبسم البرود ... حصاه در وَصرف رَاح)
(أَو مثل مَا قلت مَاء مزن ... يسْقِي بِهِ يَانِع الأقاح)
(يَا من لَهُ أبدع الصِّفَات ... يَا غُصْن يَا دعص يَا قمر)
(غبت فَلم يَأْتِ مِنْك آتٍ ... فاستوحش السّمع وَالْبَصَر)
(لَوْلَا صبا تلكم الْجِهَات ... لذاب قلبِي من الْفِكر)
(يَا أَيهَا النازح الْبعيد ... جَاءَت بأنبائك الرِّيَاح)
(إِن الصِّبَا عَنْك أَخْبَرتنِي ... مَا اهتز روض الربى وفاح)
(يَا ساحرا فَوق كل سَاحر ... وَمن لَهُ حسنه أصف)
(وَجه لَهُ كالصباح باهر ... أردية الْحسن يلتحف)
(كالروض حفت بِهِ الأزاهر ... يقطف باللحظ أم قطف)
(كالبدر فِي لَيْلَة السُّعُود ... اشرق لألاؤه ولاح)
(كالغصن اللدن فِي التثني ... تهز أعطافه الرِّيَاح)
(من لي بمخضوبة البنان ... ممشوقة الْقد والدلال)
(من هجرها مشْيَة الزَّمَان ... مَاض ومستقبل وَحَال)
(فِيهَا رثى عاذلي لشاني ... ثمَّ انثنى ضَاحِكا وَقَالَ)
(عاشق ومسكين الله يُرِيد ... وَارْضَ لمن يعشق الملاح)
(فدع يهجر أَو يصلني ... لَيْسَ على سَاحر اقتراح)
أَبُو مُحَمَّد بن الْحَفِيد أبي بكر بن زهر
هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْحَفِيد أبي بكر مُحَمَّد بن أبي مَرْوَان عبد الْملك بن أبي الْعَلَاء زهر بن أبي(1/528)
مَرْوَان عبد الْملك بن مُحَمَّد بن مَرْوَان بن زهر
كَانَ جيد الْفطْرَة حسن الرَّأْي جميل الصُّورَة مفرط الذكاء مَحْمُود الطَّرِيقَة محبا للبس الفاخر
وَكَانَ كثير الاعتناء بصناعة الطِّبّ وَالنَّظَر فِيهَا وَالتَّحْقِيق لمعانيها
واشتغل على وَالِده وَوَقفه على كثير من أسرار علم هَذِه الصِّنَاعَة وعملها
وَقَرَأَ كتاب النَّبَات لأبي حنيفَة الدينَوَرِي على أَبِيه واتقن مَعْرفَته
وَكَانَ الْخَلِيفَة أَبُو عبد الله مُحَمَّد النَّاصِر بن الْمَنْصُور أبي يَعْقُوب يرى لَهُ كثيرا ويحترمه وَيعرف مِقْدَار علمه وبيتوتته
حَدثنِي القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ قَالَ لما توجه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْحَفِيد إِلَى الحضرة خرج مِنْهُ فِيمَا اشْتَرَاهُ لسفره وَنَفَقَته فِي الطَّرِيق نَحْو عشرَة آلَاف دِينَار
قَالَ وَلما اجْتمع بالخليفة النَّاصِر بالمهدية لما فتحهَا النَّاصِر خدمه على مَا جرت بِهِ الْعَادة وَقَالَ لَهُ إِنَّنِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بِحَمْد الله بِكُل خير من إنعامكم وإحسانكم عَليّ وعَلى آبَائِي وَقد وصل إِلَيّ مِمَّا كَانَ بيد أبي من إحسانكم مَا يغنيني مُدَّة حَياتِي وَأكْثر وَإِنَّمَا أتيت لأَكُون فِي الْخدمَة كَمَا كَانَ أبي وَأَن اجْلِسْ فِي الْموضع الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ بَين يَدي أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَأكْرمه النَّاصِر إِكْرَاما كثيرا وَأطلق إِلَيْهِ من الْأَمْوَال وَالنعَم مَا يفوق الْوَصْف
وَكَانَ مَجْلِسه إِذا حضر قَرِيبا مِنْهُ فِي الْموضع الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ وَالِده الْحَفِيد فَكَانَ يجلس إِلَى جَانب الْخَلِيفَة النَّاصِر الْخَطِيب أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن أبي يُوسُف حجاج القَاضِي وَكَانَ يجلس تلوه القَاضِي الشريف أَبُو عبد الله الْحُسَيْنِي وَكَانَ يجلس تلوه أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر وَكَانَ يجلس إِلَى جَانِبه أَبُو مُوسَى عِيسَى بن عبد الْعَزِيز الْجُزُولِيّ صَاحب الْمُقدمَة الْمَشْهُورَة فِي النَّحْو الْمَعْرُوفَة بالجزولية
وَكَانَ هَذَا فِي النَّحْو يشْتَغل عَلَيْهِ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْحَفِيد وَيجْلس بَين يَدَيْهِ ويتعلم مِنْهُ
وَكَانَ مولد أبي مُحَمَّد عبد الله بن الْحَفِيد أبي بكر فِي سنة سبع وَسبعين وَخَمْسمِائة بِمَدِينَة أشبيلية
وَتُوفِّي رَحمَه الله مسموما فِي سنة اثْنَتَيْنِ وسِتمِائَة فِي مَدِينَة سلا فِي الْجِهَة الْمُسَمَّاة برباط الْفَتْح وَدفن بهَا
وَكَانَ مُتَوَجها إِلَى مراكش فاخترمه الْأَجَل دونهَا ثمَّ حمل من الْموضع الَّذِي دفن فِيهِ إِلَى أشبيلية وَدفن عِنْد آبَائِهِ بأشبيلية خَارج بَاب الْفَتْح فَكَانَت مُدَّة حَيَاته خمْسا وَعشْرين سنة
وَمن أعجب مَا حَدثنِي القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ عَنهُ قَالَ كنت يَوْمًا عِنْده وَإِذا بِهِ قد قَالَ لي إِنَّنِي رَأَيْت البارحة فِي النّوم أُخْتِي وَكَانَت أُخْته قد مَاتَت قبله قَالَ وَكَأَنِّي قلت لَهَا يَا أُخْتِي بِاللَّه عرفيني كم يكون عمري فَقَالَت لي طابيتين وَنصفا والطابية هِيَ خَشَبَة للْبِنَاء مَعْرُوفَة فِي الْمغرب بِهَذَا الِاسْم طولهَا عشرَة أشبار فَقلت لَهَا أَنا أَقُول لَك جد وَأَنت تجيبيني بالهزء فَقَالَت لَا وَالله مَا قلت لَك إِلَّا جدا وَإِنَّمَا أَنْت مَا فهمت
أَلَيْسَ الطابية عشرَة أشبار والطابيتين وَنصفا خَمْسَة وَعِشْرُونَ(1/529)
يكون عمرك خمْسا وَعشْرين سنة
قَالَ القَاضِي أَبُو مَرْوَان فَلَمَّا قصّ عَليّ هَذِه الرُّؤْيَا قلت لَهُ لَا تتوهم من هَذَا فَلَعَلَّهُ من أضغاث أَحْلَام
قَالَ وَلم تكمل تِلْكَ السّنة إِلَّا وَقد مَاتَ فَكَانَ عمره كَمَا قيل لَهُ خمْسا وَعشْرين سنة لَا أَزِيد وَلَا أنقص وَخلف وَلدين كل مِنْهُمَا فَاضل فِي نَفسه كريم فِي جنسه
أَحدهمَا يُسمى أَبَا مَرْوَان عبد الْملك وَالْآخر أَبَا الْعَلَاء مُحَمَّد والأصغر مِنْهُمَا وَهُوَ أَبُو الْعَلَاء معتن بصناعة الطِّبّ وَله نظر جيد فِي كتب جالنوس
وَكَانَ مقامهما فِي أشبيلية
أَبُو جَعْفَر بن هَارُون الترجالي
من أَعْيَان أهل أشبيلية وَكَانَ محققا للعلوم الْحكمِيَّة متقنا لَهَا معتنيا بكتب أرسطوطاليس وَغَيره من الْحُكَمَاء الْمُتَقَدِّمين فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ متميزا فِيهَا خَبِيرا بأصولها وفروعها حسن المعالجة مَحْمُود الطَّرِيقَة
وخدم لأبي يَعْقُوب وَالِد الْمَنْصُور
وَكَانَ من طلبة الْفَقِيه أبي بكر بن الْعَرَبِيّ لَازمه مُدَّة واشتغل عَلَيْهِ بِعلم الحَدِيث
وَكَانَ أَبُو جَعْفَر بن هَارُون يروي الحَدِيث وَهُوَ شيخ أبي الْوَلِيد بن رشد فِي التعاليم والطب وَأَصله من ترجالة من ثغور الأندلس
وَهِي الَّتِي أَصَابَهَا الْمَنْصُور خَالِيَة وهرب أَهلهَا وعمرها الْمُسلمُونَ
وَكَانَ أَبُو جَعْفَر هَارُون أَيْضا عَالما بصناعة الْكحل وَله آثَار فاضلة فِي المداواة
حَدثنِي القَاضِي أَبُو مَرْوَان مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الْملك اللَّخْمِيّ ثمَّ الْبَاجِيّ أَن أَخَاهُ القَاضِي أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد لما كَانَ صَغِيرا أصَاب عينه عود واخترق السوَاد حَتَّى أَنه يئس لَهُ من الْبُرْء فاستدعى أَبوهُ أَبَا جَعْفَر بن هَارُون وَأرَاهُ عين وَلَده وَقَالَ لَهُ أَنا أدفَع لَك ثلثمِائة دِينَار وتعالجها
فَقَالَ وَالله مَا حَاجَة إِلَى هَذَا الَّذِي ذكرته وَإِنَّمَا أداويه وَيصْلح إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَشرع فِي مداواته إِلَى أَن صلحت عينه وابصر بهَا وَأصَاب ابْن هَارُون خدر وَضعف فِي أَعْضَائِهِ فالتزم دَاره بأشبيلية وَكَانَ يطب النَّاس وَتُوفِّي بأشبيلية
أَبُو الْوَلِيد بن رشد
هُوَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن رشد مولده ومنشؤه بقرطبة مَشْهُور بِالْفَضْلِ معتن بتحصيل الْعُلُوم أوحد فِي علم الْفِقْه وَالْخلاف واشتغل على الْفَقِيه الْحَافِظ أبي مُحَمَّد بن رزق
وَكَانَ أَيْضا متميزا فِي علم الطِّبّ وَهُوَ جيد التصنيف حسن الْمعَانِي
وَله فِي الطِّبّ كتاب الكليات وَقد أَجَاد فِي تأليفه
وَكَانَ بَينه وَبَين أبي مَرْوَان بن زهر مَوَدَّة
وَلما ألف كِتَابه هَذَا فِي الْأُمُور الْكُلية قصد من ابْن زهر أَن يؤلف كتابا فِي الْأُمُور الْجُزْئِيَّة لتَكون جملَة كِتَابَيْهِمَا ككتاب كَامِل فِي صناعَة(1/530)
الطِّبّ
وَلذَلِك يَقُول ابْن رشد فِي آخر كِتَابه مَا هَذَا نَصه قَالَ فَهَذَا هُوَ القَوْل فِي معالجة جَمِيع أَصْنَاف الْأَمْرَاض بأوجز مَا أمكننا وأبينه وَقد بَقِي علينا من هَذَا الْجُزْء القَوْل فِي شِفَاء عرض عرض من الْأَعْرَاض الدَّاخِلَة على عُضْو عُضْو من الْأَعْضَاء
وَهَذَا وَأَن لم يكن ضَرُورِيًّا لِأَنَّهُ منطو بِالْقُوَّةِ فِيمَا سلف من الْأَقَاوِيل الْكُلية فَفِيهِ تتميم مَا وارتياض لأَنا ننزل فِيهَا إِلَى علاجات الْأَمْرَاض بِحَسب عُضْو عُضْو وَهِي الطَّرِيقَة الَّتِي سلكها أَصْحَاب الكنانيش حَتَّى نجمع فِي أقاويلنا هَذِه إِلَى الْأَشْيَاء الْكُلية الْأُمُور الْجُزْئِيَّة
فَإِن هَذِه الصِّنَاعَة أَحَق صناعَة ينزل فِيهَا إِلَى الْأُمُور الْجُزْئِيَّة مَا أمكن إِلَّا أَنا نؤخر هَذَا إِلَى وَقت نَكُون فِيهِ أَشد فراغا لعنايتنا فِي هَذَا الْوَقْت بِمَا يهم من غير ذَلِك فَمن وَقع لَهُ هَذَا الْكتاب دون هَذَا الْجُزْء وَأحب أَن ينظر بعد ذَلِك إِلَى الكنانيش فأوفق الكنانيش لَهُ الْكتاب الملقب بالتيسير الَّذِي أَلفه فِي زَمَاننَا هَذَا أَبُو مَرْوَان بن زهر وَهَذَا الْكتاب سَأَلته أَنا إِيَّاه وانتسخته فَكَانَ ذَلِك سَبِيلا إِلَى خُرُوجه وَهُوَ كَمَا قُلْنَا كتاب الْأَقَاوِيل الْجُزْئِيَّة الَّتِي قلت فِيهِ شَدِيدَة الْمُطَابقَة للأقاويل الْكُلية إِلَّا أَنه مزج هُنَالك مَعَ العلاج العلامات وَإِعْطَاء الْأَسْبَاب على عَادَة أَصْحَاب الكنانيش وَلَا حَاجَة لمن يقْرَأ كتَابنَا هَذَا إِلَى ذَلِك بل يَكْفِيهِ من ذَلِك مُجَرّد العلاج فَقَط
وَبِالْجُمْلَةِ من تحصل لَهُ مَا كتبناه من الْأَقَاوِيل الْكُلية أمكنه أَن يقف على الصَّوَاب وَالْخَطَأ من مداواة أَصْحَاب الكنانيش فِي تَفْسِير العلاج والتركيب
حَدثنِي القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ قَالَ كَانَ القَاضِي أَبُو الْوَلِيد بن رشد حسن الرَّأْي ذكيا رث البزة قوي النَّفس وَكَانَ قد اشْتغل بالتعاليم وبالطب على أبي جَعْفَر بن هَارُون ولازمه مُدَّة وَأخذ عَنهُ كثيرا من الْعُلُوم الْحكمِيَّة
وَكَانَ ابْن رشد قد قضى مُدَّة فِي أشبيلية قبل قرطبة وَكَانَ مكينا عِنْد الْمَنْصُور وجيها فِي دولته وَكَذَلِكَ أَيْضا كَانَ وَلَده النَّاصِر يحترمه كثيرا قَالَ وَلما كَانَ الْمَنْصُور بقرطبة وَهُوَ مُتَوَجّه إِلَى غَزْو ألفنس وَذَلِكَ فِي عَام أحد وَتِسْعين وَخَمْسمِائة استدعى أَبَا الْوَلِيد بن رشد فَلَمَّا حضر عِنْده احترمه كثيرا وقربه إِلَيْهِ حَتَّى تعدى بِهِ الْموضع الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن الشَّيْخ حَفْص الهنتاتي صَاحب عبد الْمُؤمن وَهُوَ الثَّالِث أَو الرَّابِع من الْعشْرَة وَكَانَ هَذَا أَبُو مُحَمَّد عبد الْوَاحِد قد صاهره الْمَنْصُور وزوجه بابنته لعظم مَنْزِلَته عِنْده ورزق عبد الْوَاحِد مِنْهَا ابْنا اسْمه عَليّ وَهُوَ الْآن صَاحب إفريقية فَلَمَّا قرب الْمَنْصُور ابْن رشد وَأَجْلسهُ إِلَى جَانِبه حادثه ثمَّ خرج من عِنْده وَجَمَاعَة الطلبه وَكثير من أَصْحَابه ينتظرونه فهنؤوه بِمَنْزِلَتِهِ عِنْد الْمَنْصُور وإقباله عَلَيْهِ فَقَالَ وَالله إِن هَذَا لَيْسَ مِمَّا يسْتَوْجب الهناء بِهِ فَإِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد قربني دفْعَة إِلَى أَكثر مِمَّا كنت أؤمله فِيهِ أَو يصل رجائي إِلَيْهِ وَكَانَ جمَاعَة من أعدائه قد شيعوا بِأَن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد أَمر بقتْله فَلَمَّا خرج سالما أَمر بعض خدمه أَن يمْضِي إِلَى بَيته وَيَقُول لَهُم إِن يصنعوا لَهُ قطا وفراخ حمام مسلوقة إِلَى مَتى يَأْتِي إِلَيْهِم وَإِنَّمَا كَانَ غَرَضه بذلك تطييب قُلُوبهم بعافيته(1/531)
ثمَّ أَن الْمَنْصُور فِيمَا بعد نقم على أبي الْوَلِيد بن رشد وَأمر بِأَن يُقيم فِي اليسانة وَهِي بلد قريب من قرطبة وَكَانَت أَولا للْيَهُود وَأَن لَا يخرج عَنْهَا
ونقم أَيْضا على جمَاعَة أخر من الْفُضَلَاء الْأَعْيَان وَأمر أَن يَكُونُوا فِي مَوَاضِع أخر وَأظْهر أَنه فعل بهم ذَلِك بِسَبَب مَا يَدعِي فيهم أَنهم مشتغلون بالحكمة وعلوم الْأَوَائِل
وَهَؤُلَاء الْجَمَاعَة هم أَبُو الْوَلِيد بن رشد وَأَبُو جَعْفَر الذَّهَبِيّ والفقيه أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم قَاضِي بجاية وَأَبُو الرّبيع الكفيف وَأَبُو الْعَبَّاس الْحَافِظ الشَّاعِر القرابي
وبقوا مُدَّة ثمَّ أَن جمَاعَة من الْأَعْيَان بأشبيلية شهدُوا لِابْنِ رشد أَنه على غير مَا نسب إِلَيْهِ فَرضِي الْمَنْصُور عَنهُ وَعَن سَائِر الْجَمَاعَة وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَجعل أَبَا جَعْفَر الذَّهَبِيّ مزوارا للطلبة ومزوارا للأطباء
وَكَانَ يصفه الْمَنْصُور ويشكره وَيَقُول إِن أَبَا جَعْفَر الذَّهَبِيّ كالذهب الإبريز الَّذِي لم يَزْدَدْ فِي السبك إِلَّا جودة
قَالَ القَاضِي أَبُو مَرْوَان وَمِمَّا كَانَ فِي قلب الْمَنْصُور من ابْن رشد أَنه كَانَ مَتى حضر مجْلِس الْمَنْصُور وَتكلم مَعَه أَو بحث عِنْده فِي شَيْء من الْعلم يُخَاطب الْمَنْصُور بِأَن يَقُول تسمع يَا أخي
وَأَيْضًا فَإِن ابْن رشد كَانَ قد صنف كتابا فِي الْحَيَوَان وَذكر فِيهِ أَنْوَاع الْحَيَوَان ونعت كل وَاحِد مِنْهَا
فَلَمَّا ذكر الزرافة وصفهَا ثمَّ قَالَ وَقد رَأَيْت الزرافة عِنْد ملك البربر يَعْنِي الْمَنْصُور فَلَمَّا بلغ ذَلِك الْمَنْصُور صَعب عَلَيْهِ وَكَانَ أحد الْأَسْبَاب الْمُوجبَة فِي أَنه نقم على ابْن رشد وأبعده
وَيُقَال إِنَّه مِمَّا اعتذر بِهِ ابْن رشد أَنه قَالَ إِنَّمَا قلت ملك البرين وَإِنَّمَا تصحفت على الْقَارئ فَقَالَ ملك البربر
وَكَانَت وَفَاة القَاضِي أبي الْوَلِيد بن رشد رَحمَه الله فِي مراكش أول سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَذَلِكَ فِي أول دولة النَّاصِر وَكَانَ ابْن رشد قد عمر عمرا طَويلا وَخلف ولدا طَبِيبا عَالما بالصناعة يُقَال لَهُ أَبُو مُحَمَّد عبد الله
وَخلف أَيْضا أَوْلَادًا قد اشتغلوا بالفقه واستخدموا فِي قَضَاء الكور
وَمن كَلَام أبي الْوَلِيد بن رشد قَالَ من اشْتغل بِعلم التشريح ازْدَادَ أيمانا بِاللَّه
وَلأبي الْوَلِيد بن رشد من الْكتب كتاب التَّحْصِيل جمع فِيهِ اخْتِلَاف أهل الْعلم مَعَ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وتابعيهم وَنصر مذاهبهم وَبَين مَوَاضِع الِاحْتِمَالَات الَّتِي هِيَ مثار الِاخْتِلَاف
كتاب الْمُقدمَات فِي الْفِقْه
كتاب نِهَايَة الْمُجْتَهد فِي الْفِقْه
كتاب الكليات
شرح الأرجوزة المنسوبة إِلَى الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا فِي الطِّبّ
كتاب الْحَيَوَان
جَوَامِع كتب أرسطوطاليس فِي الطبيعيات والإلهيات
كتاب الضَّرُورِيّ فِي الْمنطق
مُلْحق بِهِ تَلْخِيص كتب أرسطوطاليس وَقد لخصها تلخيصا تَاما مُسْتَوْفيا
تَلْخِيص الإلهيات لنيقولاوس
تَلْخِيص كتاب مَا بعد الطبيعة لأرسطوطاليس
تَلْخِيص كتاب الْأَخْلَاق لأرسطوطاليس
تَلْخِيص كتاب الْبُرْهَان لأرسطوطاليس
تَلْخِيص كتاب السماع الطبيعي لأرسطوطاليس شرح كتاب السَّمَاء والعالم لأرسطوطاليس
شرح كتاب النَّفس لأرسطوطاليس
تَلْخِيص كتاب الاسطقسات لِجَالِينُوسَ
تَلْخِيص كتاب المزاج لِجَالِينُوسَ
تَلْخِيص كتاب القوى الطبيعية لِجَالِينُوسَ
تَلْخِيص كتاب الْعِلَل والأعراض لِجَالِينُوسَ تَلْخِيص كتاب التعرف لِجَالِينُوسَ
تَلْخِيص كتاب الحميات لِجَالِينُوسَ
تَلْخِيص أول كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِجَالِينُوسَ
تَلْخِيص النّصْف الثَّانِي من كتاب حِيلَة الْبُرْء لِجَالِينُوسَ
كتاب تهافت التهافت يرد فِي على كتاب التهافت للغزالي
كتاب منهاج الْأَدِلَّة فِي(1/532)
علم الْأُصُول
كتاب صَغِير سَمَّاهُ فصل الْمقَال فِيمَا بَين الْحِكْمَة والشريعة من الِاتِّصَال
الْمسَائِل المهمة على كتاب الْبُرْهَان لأرسطوطاليس
شرح كتاب الْقيَاس لأرسطوطاليس
مقَالَة فِي الْعقل
مقَالَة فِي الْقيَاس
كتاب فِي الفحص هَل يُمكن الْعقل الَّذِي فِينَا وَهُوَ الْمُسَمّى بالهيولاني أَن يعقل الصُّور الْمُفَارقَة بِآخِرهِ أَو لَا يُمكن ذَلِك وَهُوَ الْمَطْلُوب الَّذِي كَانَ أرسطوطاليس وعدنا بالفحص عَنهُ فِي كتاب النَّفس
مقَالَة فِي أَن مَا يَعْتَقِدهُ المشاؤون وَمَا يَعْتَقِدهُ المتكلمون من أهل ملتنا فِي كَيْفيَّة وجود الْعَالم مُتَقَارب فِي الْمَعْنى
مقَالَة فِي التَّعْرِيف بِجِهَة نظر أبي نصر فِي كتبه الْمَوْضُوعَة فِي صناعَة الْمنطق الَّتِي بأيدي النَّاس وبجهة نظر أرسطوطاليس فِيهَا وَمِقْدَار مَا فِي كتاب كتاب من أَجزَاء الصِّنَاعَة الْمَوْجُودَة فِي كتب أرسطوطاليس وَمِقْدَار مَا زَاد لاخْتِلَاف النّظر يَعْنِي نظريهما
مقَالَة فِي اتِّصَال الْعقل المفارق بالإنسان
مقَالَة فِي اتِّصَال الْعقل بالإنسان
مراجعات ومباحث بَين أبي بكر بن الطُّفَيْل وَبَين ابْن رشد فِي رسمه للدواء فِي كِتَابه الموسوم بالكليات
كتاب فِي الفحص عَن مسَائِل وَقعت فِي الْعلم الإلهي فِي كتاب الشِّفَاء لِابْنِ سينا
مَسْأَلَة فِي الزَّمَان
مقَالَة فِي فسخ شُبْهَة من اعْترض على الْحَكِيم وبرهانه فِي وجود الْمَادَّة الأولى وتبيين أَن برهَان أرسطوطاليس هُوَ الْحق الْمُبين
مقَالَة فِي الرَّد على أبي عَليّ بن سينا فِي تقسيمه الموجودات إِلَى مُمكن على الْإِطْلَاق وممكن بِذَاتِهِ وَاجِب بِغَيْرِهِ
وَإِلَى وَاجِب بِذَاتِهِ
مقَالَة فِي المزاج
مَسْأَلَة فِي نَوَائِب الْحمى
مقَالَة فِي حميات العفن
مسَائِل فِي الْحِكْمَة
مقَالَة فِي حَرَكَة الْفلك
كتاب فِيمَا خَالف أَبُو النَّصْر لأرسطوطاليس فِي كتاب الْبُرْهَان من ترتيبه وقوانين الْبَرَاهِين وَالْحُدُود
مقَالَة فِي الترياق
أَبُو مُحَمَّد بن رشد
هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أبي الْوَلِيد مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن رشد فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ عَالم بهَا مشكور فِي أفعالها وَكَانَ يفد إِلَى النَّاصِر ويطبه
وَلأبي مُحَمَّد بن رشد من الْكتب مقَالَة فِي حِيلَة الْبُرْء
أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن موراطير
من شَرْقي الأندلس وموراطير قَرْيَة قريبَة من بلنسية
كَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ خَبِيرا بهَا مزاولا لأعمالها مَحْمُود الطَّرِيقَة حسن الرَّأْي عَالما بالأمور الشَّرْعِيَّة وَسمع الحَدِيث وَقَرَأَ الْمُدَوَّنَة
وَكَانَ أديبا شَاعِرًا محبا للمجون كثير النادرة
حَدثنِي القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ قَالَ كُنَّا فِي تونس مَعَ النَّاصِر وَكَانَ فِي الْعَسْكَر غلاء وَقل وجود الشّعير فَعمل أَبُو الْحجَّاج بن موراطير موشحا فِي النَّاصِر وأتى فِي ضمنه تَغْيِير بَيت عمله الْحَفِيد أَبُو بكر بن زهر فِي بضع موشحاته وَذَلِكَ أَن ابْن زهر قَالَ
(مَا الْعِيد فِي حلَّة وطاق وشم طيب ... وَإِنَّمَا الْعِيد فِي التلاقي مَعَ الحبيب)(1/533)
فَعمل ابْن موراطير
(مَا الْعِيد فِي حلَّة وطبق من الْحَرِير ... إِنَّمَا الْعِيد فِي التلاقي مَعَ الشّعير)
فَأطلق لَهُ النَّاصِر عشرَة أَمْدَاد شعير كَانَت قيمتهَا فِي ذَلِك الْوَقْت خمسين دِينَارا
وَكَانَ أَبُو الْحجَّاج ابْن موراطير قد خدم بصناعة الطِّبّ الْمَنْصُور أَبَا يُوسُف يَعْقُوب
وَلما توفّي الْمَنْصُور خدم لوَلَده النَّاصِر وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يَعْقُوب وَمن بعد النَّاصِر أَيْضا خدم لوَلَده أبي يَعْقُوب يُوسُف الْمُسْتَنْصر بن النَّاصِر
وَكَانَ أَبُو الْحجَّاج بن موراطير قد عمر عمرا طَويلا وَكَانَ حظيا عِنْد الْمَنْصُور مكينا عِنْده رفيع الْمنزلَة
وَكَانَ يدْخل مجْلِس الْخَاصَّة مَعَ الْأَشْيَاخ للمذاكرة فِي الْعَرَبيَّة وَغَيرهَا وَمَات بالنقرس فِي مراكش فِي دولة الْمُسْتَنْصر
أَبُو عبد الله بن يزِيد
هُوَ ابْن أُخْت أبي الْحجَّاج يُوسُف بن موراطير كَانَ طَبِيبا فَاضلا وأديبا شَاعِرًا وشعره مَوْصُوف بالجودة
أَبُو مَرْوَان عبد الْملك بن قبلال
مولده ومنشؤه بغرناطة
وَكَانَ جيد النّظر فِي الطِّبّ حسن العلاج وخدم بصناعة الطِّبّ الْمَنْصُور ثمَّ خدم بعده لوَلَده النَّاصِر وَمَات فِي دولة النَّاصِر فِي مراكش
أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم الداني
كَانَت لَهُ عناية بَالِغَة فِي صناعَة الطِّبّ وَأَصله من بجاية وَنقل إِلَى الحضرة وَكَانَ أَمِين البيمارستان وطبيبه بالحضرة وَكَذَلِكَ ولداه
والأكبر مِنْهُمَا وَهُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد قتل فِي غَزْوَة الْعقَاب فِي الأندلس مَعَ النَّاصِر وَتُوفِّي الداني فِي مراكش فِي دولة الْمُسْتَنْصر بن النَّاصِر
أَبُو يحيى بن قَاسم الإشبيلي
كَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ خَبِيرا بقوى الْأَدْوِيَة المفردة والمركبة كثير الْعِنَايَة بهَا
وَكَانَ صَاحب خزانَة الْأَشْرِبَة الَّتِي يَأْخُذهَا الْخَلِيفَة الْمَنْصُور من عِنْده وَكَذَلِكَ كَانَ وَالِده فِي خدمَة أبي يَعْقُوب وَالِد الْمَنْصُور
وَتُوفِّي أَبُو يحيى فِي مراكش فِي دولة الْمُسْتَنْصر وَكَانَ لَهُ ولد فَجعل مَوْضِعه فِي الخزانة عوضا عَن أَبِيه
أَبُو الحكم بن غلندو
مولده ومنشؤه بإشبيلية وَكَانَ أديبا شَاعِرًا حسن الشّعْر متميزا فِي صناعَة الطِّبّ مَحْمُود الطَّرِيقَة(1/534)
وَكَانَ مفننا وخدم بصناعة الطِّبّ الْمَنْصُور وَكَانَ مكينا عِنْده وجيها فِي دولته
وَكَانَ الْمَنْصُور فِي عَام ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة حمله مَعَه لما ولي الْخلَافَة وَكَانَ ابْن غلندو صَاحب كتب كَثِيرَة وَيكْتب خطين أندلسيين وَتُوفِّي بمراكش وَدفن بهَا
أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن حسان
هُوَ الْحَاج أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن حسان الغرناطي
مولده ومنشؤه بغرناطة
واشتغل بصناعة الطِّبّ وأجاد فِي علمهَا وعملها وخدم الْمَنْصُور بالطب
وَحج أَبُو جَعْفَر بن حسان مَعَ أبي الْحُسَيْن بن جُبَير الغرناطي الأديب الْكَاتِب صَاحب كتاب الرحلة وَذكره مَعَه فِي الرحلة
وَتُوفِّي أَبُو جَعْفَر بن حسان بِمَدِينَة فاس
وَلأبي جَعْفَر بن حسان من الْكتب كتاب تَدْبِير الصِّحَّة أَلفه للمنصور
أَبُو الْعَلَاء بن أبي جَعْفَر أَحْمد بن حسان
من مَدِينَة غرناطة وَأحد الْأَعْيَان بهَا والمتميزين من أَهلهَا
قوي الذكاء حسن الْفطْرَة مشتغل بالأدب وَعِنْده براعة وَفضل وَهُوَ طَبِيب وَكَاتب
وخدم بصناعة الطِّبّ الْمُسْتَنْصر وَكَانَ حظيا عِنْده
وَهُوَ من جملَة الْفُضَلَاء فِي صناعَة الطِّبّ بأشبيلية وَقد قطن بهَا
أَبُو مُحَمَّد الشذوني
مولده ومنشؤه بأشبيلية وَكَانَ ذكيا فطنا وَله معرفَة جَيِّدَة بِعلم الْهَيْئَة وَالْحكمَة
وَكَانَ قد اشْتغل بصناعة الطِّبّ على أبي مَرْوَان عبد الْملك بن زهر ولازمه مُدَّة وباشر أَعمالهَا وَكَانَ مَشْهُورا بِالْعلمِ جيد العلاج
وخدم النَّاصِر بالطب وَتُوفِّي بأشبيلية فِي دولة الْمُسْتَنْصر
المصدوم
هُوَ ابْن الْحُسَيْن بن أسدون شهر بالمصدوم وَهُوَ تلميذ أبي مَرْوَان عبد الْملك بن زهر
وَكَانَ المصدوم دينا كثير الْخَيْر معتنيا بصناعة الطِّبّ مَشْهُورا بهَا أديبا شَاعِرًا
ومولده ومنشؤه بأشبيلية
وَكَانَ مُقيما فِي الْبَلَد ويحضر عِنْد الْمَنْصُور ويطلبه فِي أَوْقَات المداواة
وَتُوفِّي المصدوم فِي أشبيلية سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
عبد الْعَزِيز بن مسلمة الْبَاجِيّ
أَصله من باجة الغرب كَانَ من أَعْيَان أهل الأندلس وأجلائها وَيعرف بِابْن الْحَفِيد
وَكَانَ فَاضلا(1/535)
فِي صناعَة الطِّبّ متميزا فِي الْأَدَب وَله شعر جيد
وَكَانَ تلميذ المصدوم وخدم بالطب الْمُسْتَنْصر
وَتُوفِّي فِي دولته فِي مراكش
أَبُو جَعْفَر بن الغزال
مولده بقنجيرة من أَعمال المرية وأتى إِلَى الْحَفِيد أبي بكر بن زهر ولازمه حق الْمُلَازمَة وَقَرَأَ عَلَيْهِ صناعَة الطِّبّ وعَلى غَيره حَتَّى اتقن الصِّنَاعَة
وخدم الْمَنْصُور بالطب وَكَانَ خَبِيرا بتركيب الْأَدْوِيَة وَمَعْرِفَة مفرداتها
وَكَانَ الْمَنْصُور يعْتَمد عَلَيْهِ فِي الْأَدْوِيَة المركبة والمعاجين ويتناولها مِنْهُ
وَكَانَ الْمَنْصُور قد أبطل الْخمر وشدد بِأَن لَا يَأْتِي بِشَيْء مِنْهُ إِلَى الحضرة أَو يكون عِنْد أحد
فَلَمَّا كَانَ بعد ذَلِك بِمدَّة قَالَ الْمَنْصُور لأبي جَعْفَر بن الغزال أُرِيد أَن تجمع حوائج الترياق الْكَبِير وتركبه فامتثل أمره وَجمع حَوَائِجه وأعوزه الْخمر الَّذِي يعجن بِهِ أدوية الترياق وأنهى ذَلِك إِلَى الْمَنْصُور فَقَالَ لَهُ تطلبه من كل نَاحيَة وَانْظُر لَعَلَّ يكون عِنْد أحد مِنْهُ وَلَو شَيْء يسير لنكمل الترياق
فتطلبه أَبُو جَعْفَر من كل أحد وَلم يجد شَيْئا مِنْهُ
فَقَالَ الْمَنْصُور وَالله مَا كَانَ قصدي بتركيب الترياق فِي هَذَا الْوَقْت إِلَّا لاعتبر هَل بَقِي من الْخمر شَيْء عِنْد أحد أم لَا وَتُوفِّي أَبُو جَعْفَر بن الغزال فِي أَيَّام النَّاصِر
أَبُو بكر بن القَاضِي أبي الْحسن الزُّهْرِيّ
هُوَ أَبُو بكر بن الْفَقِيه القَاضِي أبي الْحسن الزُّهْرِيّ الْقرشِي قَاضِي أشبيلية مولده ومنشؤه بأشبيلية
وَكَانَ جوادا كَرِيمًا حسن الْخلق شرِيف النَّفس قد اشْتغل بالأدب وتميز فِي الْعلم
وَكَانَ أحد الْفُضَلَاء فِي صناعَة الطِّبّ والمتعينين فِي أَعمالهَا
وخدم بالطب للسَّيِّد أبي عَليّ بن عبد الْمُؤمن صَاحب أشبيلية
وَكَانَ يطبب النَّاس من دون أُجْرَة وَيكْتب النّسخ لَهُم وَكَانَ فِي مبدأ أمره محبا للشطرنج كثير اللّعب بِهِ وجاد لعبه فِي الشطرنج جدا حَتَّى صَار يُوصف بِهِ
وحَدثني القَاضِي أَبُو مَرْوَان الْبَاجِيّ قَالَ سَأَلت القَاضِي أَبَا بكر بن أبي الْحسن الزُّهْرِيّ عَن سَبَب تعلمه صناعَة الطِّبّ فَقَالَ لي إِنَّنِي كنت كثير اللّعب بالشطرنج وَلم يكد يُوجد من يلْعَب مثلي بِهِ فِي أشبيلية إِلَّا الْقَلِيل فَكَانُوا يَقُولُونَ أَبُو بكر الزُّهْرِيّ الشطرنجي فَكَانَ إِذا بَلغنِي ذَلِك أغتاظ مِنْهُ ويصعب عَليّ
فَقلت فِي نَفسِي لَا بُد أَن اشْتغل عَن هَذَا بِشَيْء غَيره من الْعلم لَا نعت بِهِ وَيَزُول عني وصف الشطرنج وَعلمت أَن الْفِقْه وَسَائِر الْأَدَب وَلَو اشتغلت بِهِ عمري كُله لم يخصني مِنْهُ وصف أَنعَت بِهِ فعدلت إِلَى أبي مَرْوَان عبد الْملك بن زهر واشتغلت عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ
وَكنت أَجْلِس عِنْده وأكتب لمن جَاءَ مستوصفا من المرضى الرّقاع واشتهرت بعد ذَلِك بالطب وَزَالَ عني مَا كنت أكره الْوَصْف بِهِ
وعاش أَبُو بكر بن أبي الْحسن الزُّهْرِيّ خمْسا وَثَمَانِينَ سنة وَتُوفِّي فِي دولة الْمُسْتَنْصر وَدفن بأشبيلية(1/536)
أَبُو عبد الله الندرومي
هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سَحْنُون وَيعرف بالندرومي مَنْسُوبا إِلَى ندرومة من نظر مَدِينَة تلمسان وَهُوَ كومي أَيْضا ينْسب إِلَى قبيله جليل الْقدر فَاضل النَّفس محب للفضائل حاد الذِّهْن مفرط الذكاء
ومولده بقرطبة فِي نَحْو سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَنَشَأ بقرطبة ثمَّ انْتقل إِلَى أشبيلية
وَكَانَ قد لحق القَاضِي أَبَا الْوَلِيد بن رشد واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ واشتغل أَيْضا على أبي الْحجَّاج يُوسُف بن موراطير
والندرومي من جملَة المتميزين فِي علم الْأَدَب والعربية وَسمع كثيرا من الحَدِيث وخدم النَّاصِر فِي آخر دولته بصناعة الطِّبّ وخدم بعده لوَلَده الْمُسْتَنْصر وَأقَام بأشبيلية وخدم بعد ذَلِك النَّجَاء سَالم بن هود ولأخيه أبي عبد الله بن هود صَاحب الأندلس
وَلأبي عبد الله الندرومي من الْكتب اخْتِصَار كتاب الْمُسْتَصْفى للغزالي
أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن سَابق
أَصله من قرطبة وَكَانَ فَاضلا ذكيا جيد النّظر حسن العلاج مَوْصُوفا بِالْعلمِ
وَكَانَ من طلبة القَاضِي أبي الْوَلِيد بن رشد وَمن جملَة المشتغلين عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ
وخدم بالطب النَّاصِر وَتُوفِّي فِي دولة الْمُسْتَنْصر
ابْن الحلاء المرسي
من مرسية وَكَانَ مَوْصُوفا بجودة الْمعرفَة بصناعة الطِّبّ وخدم الْمَنْصُور لما أَتَى إِلَيْهِ خدمَة وَافد وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ
أَبُو إِسْحَق بن طملوس
من جَزِيرَة شقر من أَعمال بلنسية وَهُوَ من جملَة الْفُضَلَاء فِي صناعَة الطِّبّ وَأحد المتعينين من أَهلهَا وخدم النَّاصِر بالطب وَتُوفِّي بِبَلَدِهِ
أَبُو جَعْفَر الذَّهَبِيّ
هُوَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن جريج كَانَ فَاضلا عَالما بصناعة الطِّبّ جيد الْمعرفَة لَهَا حسن التأني فِي أَعمالهَا
وخدم الْمَنْصُور بالطب وَكَذَلِكَ أَيْضا خدم بعده النَّاصِر وَلَده
وَكَانَ يحضر مجْلِس المذاكرة فِي الْأَدَب
وَتُوفِّي أَبُو جَعْفَر الذَّهَبِيّ بتلمسان عِنْد غَزْوَة النَّاصِر إِلَى إفريقية سنة سِتّمائَة(1/537)
أَبُو الْعَبَّاس بن الرومية
هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن مفرج النباتي الْمَعْرُوف بِابْن الرومية من أهل أشبيلية وَمن أَعْيَان علمائها وأكابر فضلائها
قد اتقن علم النَّبَات وَمَعْرِفَة أشخاص الْأَدْوِيَة وقواها ومنافعها وَاخْتِلَاف أوصافها وتباين مواطنها
وَله الذّكر الشَّائِع والسمعة الْحَسَنَة كثير الْخَيْر مَوْصُوف بالديانة مُحَقّق للأمور الطبية
قد شرف نَفسه بالفضائل وَسمع من علم الحَدِيث شَيْئا كثيرا عَن ابْن حزم وَغَيره
وَوصل سنة ثَلَاث عشر وسِتمِائَة إِلَى ديار مصر وَأقَام بِمصْر وَالشَّام وَالْعراق نَحْو سنتَيْن وانتفع النَّاس بِهِ واسمع الحَدِيث وعاين نباتا كثيرا فِي هَذِه الْبِلَاد مِمَّا لم ينْبت بالمغرب وَشَاهد أشخاصها فِي منابتها ونظرها فِي موَاضعهَا
وَلما وصل من الْمغرب إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة سمع بِهِ السُّلْطَان الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب رَحمَه الله وبلغه فَضله وجودة مَعْرفَته بالنبات
وَكَانَ الْملك الْعَادِل فِي ذَلِك الْوَقْت بِالْقَاهِرَةِ فاستدعاه من الْإسْكَنْدَريَّة وتلقاه وأكرمه ورسم بِأَن يُقرر لَهُ جامكية وجراية وَيكون مُقيما عِنْده فَلم يفعل
وَقَالَ إِنَّمَا أتيت من بلدي لَا حج إِن شَاءَ الله وارجع إِلَى أَهلِي وَبَقِي مُقيما عِنْده مُدَّة وَجمع الترياق الْكَبِير وَركبهُ ثمَّ توجه إِلَى الْحجاز
وَلما حج عَاد إِلَى الْمغرب وَأقَام بأشبيلية
وَلأبي الْعَبَّاس بن الرومية من الْكتب تَفْسِير أَسمَاء الْأَدْوِيَة المفردة من كتاب ديسقوريدس
مقَالَة فِي تركيب الْأَدْوِيَة
أَبُو الْعَبَّاس الكنيناري
هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي عبد الله مُحَمَّد من أهل أشبيلية عَارِف بصناعة الطِّبّ من فضلاء أَهلهَا والمتميزين من أَرْبَابهَا
قَرَأَ الطِّبّ فِي أول أمره على عبد الْعَزِيز بن مسلمة الْبَاجِيّ
ثمَّ قَرَأَ بعد ذَلِك على أبي الْحجَّاج يُوسُف بن موراطير فِي مراكش وَأقَام بأشبيلية
وخدم لأبي النَّجَاء بن هود صَاحب أشبيلية
وَكَانَ يطب أَيْضا لِأَخِيهِ أبي عبد الله بن هود
ابْن الْأَصَم
هُوَ من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين بأشبيلية وَله خبْرَة فِي صناعَة الطِّبّ وَقُوَّة نظر فِي الِاسْتِدْلَال على الْأَمْرَاض ومداواتها
وَله حكايات مَشْهُورَة ونوادر كَثِيرَة فِي مَعْرفَته بِالْقَوَارِيرِ وإخباره(1/538)
عِنْدهَا يَرَاهَا بجملة حَال الْمَرِيض وَمَا يشكوه وَمَا كَانَ قد تنَاوله من الأغذية
وحَدثني أَبُو عبد الله المغربي قَالَ كنت يَوْمًا عِنْد ابْن الْأَصَم وَإِذا بِجَمَاعَة قد أَقبلُوا إِلَيْهِ وَمَعَهُمْ رجل على دَابَّة وَهُوَ منْكب عَلَيْهَا فَلَمَّا وصلوا وجدنَا ذَلِك الرجل وَفِي فَمه حَيَّة قد دخل بَعْضهَا مَعَ رَأسهَا فِي حلقه وبقيتها ضاهرة وَهِي مربوطة بخيط قنب إِلَى ذِرَاع الرجل فَقَالَ مَا شَأْن هَذَا فَقَالُوا لَهُ إِن عَادَته ينَام وفمه مَفْتُوح وَكَانَ قد أكل لَبَنًا فَنَامَ فَلَمَّا جَاءَت هَذِه الْحَيَّة لعقت فَمه وداخل فَمه وَهُوَ نَائِم
وَلما أحست بِمن أَتَى خَافت وانساب بَعْضهَا فِي حلقه وأدركناها فربطناها بِهَذَا الْخَيط لِئَلَّا تدخل فِي حلقه
فَلَمَّا نظر إِلَى ذَلِك الرجل وجده وَهُوَ فِي الْمَوْت من الْخَوْف فَقَالَ لَهُ مَا عَلَيْك كدتم تهلكون الرجل
ثمَّ قطع الْخَيط فانسابت الْحَيَّة فِي حلقه واستقرت فِي معدته فَقَالَ لَهُ الْآن تَبرأ
وَأمره أَن لَا يَتَحَرَّك وَأخذ أدوية وعقاقير فأغلاها فِي مَاء غليا جيدا وَجعل ذَلِك المَاء فِي إبريق وسقاه الرجل وَهُوَ حَار فشربه وَصَارَ يحبس معدته حَتَّى قَالَ مَاتَت الْحَيَّة
ثمَّ سقَاهُ مَاء آخر مغليا فِيهِ حوائج وَقَالَ هَذِه تهرئ الْحَيَّة مَعَ هضم الْمعدة
وصبر مِقْدَار ساعتين وسقاه مَاء قد أغلي فِيهِ أدوية مقيئة فَجَاشَتْ نفس الرجل وذرعه الْقَيْء فعصب عَيْنَيْهِ وَبَقِي يتقيأ فِي طشت فَوَجَدنَا فِيهِ الْحَيَّة وَهِي قطع وَهُوَ يَأْمُرهُ بِكَثْرَة الْقَيْء حَتَّى تنظفت معدته وَخرجت بقايا الْحَيَّة فَقَالَ لَهُ طب نفسا فقد تعافيت وَذهب الرجل مطمئنا صَحِيحا بعد أَن كَانَ فِي حَالَة الْمَوْت(1/539)
الْبَاب الرَّابِع عشر
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين من أطباء ديار مصر
بليطيان
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا بديار مصر نَصْرَانِيّا عَالما بشريعة النَّصَارَى الملكية
قَالَ سعيد بن البطريق فِي كتاب نظم الْجَوْهَر
لما كَانَ فِي السّنة الرَّابِعَة من خلَافَة الْمَنْصُور من الْخُلَفَاء العباسيين صيربيلطيان بطريركا على الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَ طَبِيبا أَقَامَ سِتا وَأَرْبَعين سنة وَمَات
قَالَ وَلما كَانَ فِي أَيَّام الرشيد هرون وَولى الرشيد عبيد الله بن الْمهْدي مصر أهْدى عبيد الله إِلَى الرشيد جَارِيَة من أهل البيما من أَسْفَل الأَرْض وَكَانَت حَسَنَة جميلَة وَكَانَ الرشيد يُحِبهَا حبا شَدِيدا فاعتلت عِلّة عَظِيمَة فعالجها الْأَطِبَّاء فَلم تنْتَفع بِشَيْء
فَقَالُوا لَهُ ابْعَثْ إِلَى عبيد الله عاملك بِمصْر ليوجه إِلَيْك وَاحِدًا من أطباء مصر فَإِنَّهُم أبْصر بعلاج هَذِه الْجَارِيَة من أطباء الْعرَاق
فَبعث الرشيد إِلَى عبيد الله بن الْمهْدي يخْتَار لَهُ من أحذق أطباء مصر من يعالج الْجَارِيَة فَدَعَا عبيد الله بليطيان بطريرك الْإسْكَنْدَريَّة وَكَانَ حاذقا بالطب فَأعلمهُ بحب الرشيد الْجَارِيَة وعلتها وَحمله إِلَى الرشيد
وَحمل بليطيان مَعَه من كعك مصر الخشن والصير فَلَمَّا دخل إِلَى بَغْدَاد وَدخل إِلَى الْجَارِيَة أطعمها الكعك والصير فَرَجَعت إِلَى طبعها وزالت عَنْهَا الْعلَّة فَصَارَ من ذَلِك الْوَقْت يحمل من مصر إِلَى خزانَة السُّلْطَان الكعك الخشن والصير
ووهب الرشيد لبليطيان البطريرك مَالا كثيرا وَكتب لَهُ منشورا فِي كل كَنِيسَة فِي يَد اليعقوبية مِمَّا أخذوها وتغلبوا عَلَيْهَا أَن ترد إِلَيْهِ فَرجع بليطيان إِلَى مصر واسترد من اليعقوبية كنائس كَثِيرَة
وَتُوفِّي بليطيان فِي سنة سِتَّة وَثَمَانِينَ وَمِائَة لِلْهِجْرَةِ(1/540)
إِبْرَاهِيم بن عِيسَى
كَانَ طَبِيبا فَاضلا مَعْرُوفا فِي زَمَانه متميزا فِي أَوَانه صحب يوحنا بن ماسويه بِبَغْدَاد وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَأخذ عَنهُ
وخدم بصناعة الطِّبّ الْأَمِير أَحْمد بن طولون وَتقدم عِنْده وسافر مَعَه إِلَى الديار المصرية وَاسْتمرّ فِي خدمته وَلم يزل إِبْرَاهِيم بن عِيسَى مُقيما فِي فسطاط مصر إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي نَحْو سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
الْحسن بن زيرك
كَانَ طَبِيبا فِي مصر أَيَّام أَحْمد بن طولون يَصْحَبهُ فِي الْإِقَامَة فَإِذا سَافر صَحبه سعيد بن توفيل
وَلما توجه ابْن طولون إِلَى دمشق فِي شهور سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وامتد مِنْهَا إِلَى الثغور لإصلاحها وَدخل أنطاكية عَائِدًا عَنْهَا أَكثر من اسْتِعْمَال لبن الجواميس فَأَدْرَكته هيضة لم ينجع فِيهَا معاناة سعيد ابْن توفيل وَعَاد بهَا إِلَى مصر وَهُوَ ساخط على سعيد بن توفيل
فَلَمَّا دخل الْفسْطَاط احضر الْحسن ابْن زيرك وشكا إِلَيْهِ سعيدا فسهل عَلَيْهِ ابْن زيرك أَمر علته وأعلمه أَنه يَرْجُو لَهُ السَّلامَة مِنْهَا عَن قرب
وَخفت عَنهُ علته بالراحة والطمأنينة واجتماع الشمل وهدوء النَّفس وَحسن الْقيام
وبر الْحسن بن زيرك
وَكَانَ يسر التَّخْلِيط مَعَ الْحرم فازدادت علته ثمَّ دَعَا بالأطباء فأرهبهم وخوفهم وكتمهم مَا أسلفه من سوء التَّدْبِير والتخليط واشتهى على بعض حظاياه سمكًا قريصا فأحضرته إِيَّاه سرا فَمَا تمكن من معدته حَتَّى تتَابع الإسهال فأحضر الْحسن بن زيرك وَقَالَ لَهُ احسب الَّذِي سقيتنيه الْيَوْم غير صَوَاب
قَالَ لَهُ الْحسن بن زيرك يَأْمر الْأَمِير أيده الله بإحضار جمَاعَة أطباء الْفسْطَاط دَاره فِي غَدَاة كل يَوْم حَتَّى يتفقوا على مَا يَأْخُذهُ كل غَدَاة وَمَا سقيتك إِلَّا أَشْيَاء تولى عجنها ثقتك وجميعها تنهض الْقُوَّة الماسكة فِي معدتك وكبدك
فَقَالَ أَحْمد وَالله لَئِن لم تنجحوا فِي تدبيركم لَأَضرِبَن أَعْنَاقكُم فَإِنَّمَا تجربون على العليل وَلَا يحصل مِنْكُم على شَيْء فِي الْحَقِيقَة
فَخرج الْحسن بن زيرك من بَين يَدَيْهِ وَهُوَ يرعد
وَكَانَ شَيخا كَبِيرا فحميت كبده من سوء فكره وخوفه وتشاغله عَن الْمطعم وَالنَّوْم فاعتراه إسهال سريع وَاسْتولى الْغم عَلَيْهِ فخلط وَكَانَ يهذي بعلة أَحْمد بن طولون حَتَّى مَاتَ فِي غَد ذَلِك الْيَوْم
سعيد بن توفيل
كَانَ طَبِيبا نَصْرَانِيّا متميزا فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ فِي خدمَة أَحْمد بن طولون من أطباء الْخَاص يَصْحَبهُ فِي السّفر والحضر وَتغَير عَلَيْهِ قبل مَوته
وَسَببه أَن أَحْمد بن طولون كَمَا تقدم ذكره(1/541)
كَانَ قد خرج إِلَى الشَّام وَقصد الثغور لإصلاحها وَعَاد إِلَى أنطاكية فَأَدْرَكته هيضة من ألبان الجواميس لِأَنَّهُ أسْرع فِيهَا واستكثر مِنْهَا فالتمس طبيبه سعيدا فَوَجَدَهُ قد خرج إِلَى بيعَة بأنطاكية فَتمكن غيظه عَلَيْهِ فَلَمَّا حضر اغلظ لَهُ فِي التَّأَخُّر عَنهُ وأنف أَن يشكو إِلَيْهِ مَا وجده
ثمَّ زَاد الْأَمر عَلَيْهِ فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة فَطَلَبه فجَاء متنبذا فَقَالَ لَهُ لي من يَوْمَيْنِ عليل وَأَنت شَارِب نَبِيذ فَقَالَ يَا سَيِّدي طلبتني أمس وَأَنا فِي بيعتي على مَا جرت عادتي وَحَضَرت فَلم تُخبرنِي بِشَيْء قَالَ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي أَن تسْأَل عَن حَالي قَالَ ظَنك يَا مولَايَ سيئ وَلست أسأَل أحدا من حاشيتك عَن شَيْء من أَمرك
قَالَ فَمَا الصَّوَاب السَّاعَة قَالَ لَا تقرب شَيْئا من الْغذَاء وَلَو قرمت إِلَيْهِ اللَّيْلَة وَغدا
قَالَ أَنا وَالله جَائِع وَمَا أَصْبِر
قَالَ هَذَا جوع كَاذِب لبرد الْمعدة
فَلَمَّا كَانَ فِي نصف اللَّيْل استدعى شَيْئا يَأْكُلهُ فجيء بفراريج كردباج حارة وبزماورد من دَجَاج وجداء بَارِدَة فَأكل مِنْهَا فَانْقَطع الإسهال عَنهُ فَخرج نسيم الْخَادِم وَسَعِيد فِي الدَّار قَالَ لَهُ أكل الْأَمِير خروف كردباج فخف عَنهُ الْقيام
قَالَ سعيد الله الْمُسْتَعَان ضعفت قوته الدافعة بقهر الْغذَاء لَهَا وستتحرك حَرَكَة مُنكرَة فوَاللَّه مَا وافى السحر حَتَّى قَامَ أَكثر من عشرَة مجَالِس وَخرج من أنطاكية وعلته تتزايد إِلَّا أَن فِي قوته احْتِمَالا لَهَا
وَطلب مصر وَثقل عَلَيْهِ ركُوب الدَّوَابّ فَعمِلت لَهُ عجلة كَانَت تجر بِالرِّجَالِ وطِئت لَهُ فَمَا وصل الفرما حَتَّى شكا إزعاجها فَركب المَاء إِلَى الْفسْطَاط وَضرب لَهُ بالميدان قبَّة نزل فِيهَا
وَلما حل ابْن طولون بِمصْر ظَهرت مِنْهُ نبوة فِي حق سعيد الطَّبِيب هَذَا وشكاه إِلَى إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم كَاتبه وَصَاحبه فَقَالَ إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم لسَعِيد يعاتبه وَيحك أَنْت حاذق فِي صناعتك وَلَيْسَ لَك عيب إِلَّا أَنَّك مدل بهَا غير خاضع أَن تخدمه فِيهَا
والأمير وَإِن كَانَ فصيح اللِّسَان فَهُوَ أعجمي الطَّبْع وَلَيْسَ يعرف أوضاع الطِّبّ فيدبر نَفسه بهَا وينقاد لَك
وَقد أفْسدهُ عَلَيْك الإقبال فتلطف لَهُ وأرفق بِهِ وواظب عَلَيْهِ وراع حَاله
فَقَالَ سعيد وَالله مَا خدمتي لَهُ إِلَّا خدمَة الفار للسنور والسخلة للذئب وَأَن قَتْلِي لأحب إِلَيّ من صحبته
وَمَات أَحْمد بن طولون فِي علته هَذِه
وَقَالَ نسيم خَادِم أَحْمد بن طولون أَن سعيد بن توفيل المتطبب كَانَ فِي خدمَة الْأَمِير أَحْمد بن طولون فَطَلَبه يَوْمًا فَقيل لَهُ مضى يستعرض ضَيْعَة يَشْتَرِيهَا فامسك حَتَّى حضر
ثمَّ قَالَ لَهُ يَا سعيد اجْعَل ضيعتك الَّتِي تشتريها فتستغلها صحبتي وَلَا تغفلها وَاعْلَم أَنَّك تسبقني إِلَى الْمَوْت إِن كَانَ موتِي على فِرَاشِي فَإِنِّي لَا أمكنك بالاستمتاع بِشَيْء بعدِي
قَالَ نسيم وَكَانَ سعيد بن توفيل آيسا من(1/542)
الْحَيَاة لِأَن أَحْمد بن طولون امْتنع من مشاورته وَلم يكن يحضر إِلَّا وَمَعَهُ من يستظهر عَلَيْهِ بِرَأْيهِ ويعتقد فِيهِ أَنه فرط فِي أول أمره وَابْتِدَاء الْعلَّة بِهِ حَتَّى فَاتَ أمره
وَفِي التَّارِيخ أَن سعيد بن توفيل كَانَ لَهُ فِي أول مَا صحب أَحْمد شاكري قَبِيح الصُّورَة كَانَ ينفض الْكَتَّان مَعَ أَب لَهُ واسْمه هَاشم وَكَانَ يخْدم بغلة سعيد ويمسكها لَهُ إِذا دخل دَار أَحْمد ابْن طولون
وَكَانَ سعيد يَسْتَعْمِلهُ فِي بعض الْأَوْقَات فِي سحق الْأَدْوِيَة بداره إِذا رَجَعَ مَعَه وينفخ النَّار على المطبوخات
وَكَانَ لسَعِيد بن توفيل ابْن حسن الصُّورَة ذكي الرّوح حسن الْمعرفَة بالطب فَتقدم أَحْمد بن طولون إِلَى سعيد أول مَا صَحبه أَن يرتاد متطببا يكون لحرمه وَيكون مُقيما بالحضرة فِي غيبته فَقَالَ لَهُ سعيد لي ولد قد عَلمته وخرجته
قَالَ أرنيه فَأحْضرهُ فَرَأى شَابًّا رائقا حسن الْأَسْبَاب كلهَا
فَقَالَ لَهُ أَحْمد بن طولون لَيْسَ يصلح هَذَا لخدمة الْحرم احْتَاجَ لَهُنَّ حسن الْمعرفَة قَبِيح الصُّورَة فأشفق سعيد أَن ينصب لَهُم غَرِيبا فينبو عَنهُ وَيُخَالف عَلَيْهِ فَأخذ هاشما وَألبسهُ دراعة وخفين ونصبه للحرم
فَذكر جريج ابْن الطباخ المتطبب قَالَ لقِيت سعيد بن توفيل وَمَعَهُ عمر بن صَخْر
فَقَالَ لَهُ عمر مَا الَّذِي نصبت هاشما لَهُ قَالَ خدمَة الْحرم لِأَن الْأَمِير طلب قَبِيح الْخلقَة
فَقَالَ لَهُ عمر قد كَانَ فِي أَبنَاء الْأَطِبَّاء قَبِيح قد حسنت تَرْبِيَته وطاب مغرسه يصلح لهَذَا وَلَكِنَّك استرخصت الصَّنْعَة
وَالله يَا أَبَا عُثْمَان إِن قويت يَده ليرجعن إِلَى دناءة منصبه وخساسة محتده
فتضاحك سعيد بغرته من هَذَا الْكَلَام
وَتمكن هَاشم من الْحرم بإصلاحه لَهُم مَا يوافقهم من عمل أدوية الشَّحْم وَالْحَبل وَمَا يحسن اللَّوْن ويغزر الشّعْر حَتَّى قدمه النِّسَاء على سعيد
فَلَمَّا جمع الْأَطِبَّاء على الغدو إِلَى أَحْمد بن طولون فِي كل يَوْم عِنْد اشتداد علته قَالَت مائَة ألف أم أبي المشائر قد احضر جمَاعَة من الْأَطِبَّاء وَلم يحضر هَاشم وَالله يَا سَيِّدي مَا فيهم مثله فَقَالَ لَهَا أحضرينيه سرا حَتَّى أشافهه واسمع كَلَامه فأدخلته إِلَيْهِ سرا وشجعته على كَلَامه
فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ نظر وَجهه وَقَالَ أغفل الْأَمِير حَتَّى بلغ إِلَى هَذِه الْحَالة لَا أحسن الله جَزَاء من كَانَ يتَوَلَّى أمره
قَالَ لَهُ أَحْمد بن طولون فَمَا الصَّوَاب يَا مبارك قَالَ تتَنَاوَل قميحة فِيهَا كَذَا وَكَذَا وَعدد قَرِيبا من مائَة عقار وَهَذِه القمائح تمسك وَقت أَخذهَا وتعود بِضَرَر بعد ذَلِك لِأَنَّهَا تتعب القوى
فَتَنَاولهَا أَحْمد وَأمْسك عَن تنَاول مَا عمله سعيد والأطباء
وَلما أَمْسَكت حسن موقع ذَلِك عِنْد أَحْمد وَظن أَن الْبُرْء قد تمّ لَهُ
ثمَّ قَالَ أَحْمد لهاشم إِن سعيدا قد حماني من شهر عَن لقْمَة عصيدة وَأَنا أشتهيها قَالَ يَا سَيِّدي أَخطَأ سعيد وَهِي مغذية وَلها أثر حميد فِيك
فَتقدم أَحْمد بن طولون بإصلاحها فجيء مِنْهَا بجام وَاسع فَأكل أَكْثَره وطاب نفسا ببلوغ شَهْوَته ونام ولحجت العصيدة فَتوهم أَن حَاله زَادَت صلاحا
وكل هَذَا يطوى عَن سعيد بن توفيل
وَلما حضر سعيد قَالَ لَهُ مَا تَقول فِي العصيدة قَالَ هِيَ ثَقيلَة على الْأَعْضَاء وتحتاج أَعْضَاء الْأَمِير إِلَى تَخْفيف عَنْهَا
قَالَ لَهُ أَحْمد دَعْنِي(1/543)
من هَذِه المخرقة قد أكلتها ونفعتني وَالْحَمْد لله
وَجِيء بفاكهة من الشَّام فَسَأَلَ أَحْمد بن طولون سعيد بن توفيل عَن السفرجل فَقَالَ تمص مِنْهُ على خلو الْمعدة والأحشاء فَإِنَّهُ نَافِع
فَلَمَّا خرج سعيد من عِنْده أكل أَحْمد بن طولون سفرجلا فَوجدَ السفرجل العصيدة فعصرها فتدافع الإسهال فَدَعَا سعيدا فَقَالَ يَا ابْن الفاعلة ذكرت أَن السفرجل نَافِع لي وَقد عَاد إِلَيّ الإسهال فَقَامَ فَنظر الْمَادَّة وَرجع إِلَيْهِ فَقَالَ هَذِه العصيدة الَّتِي حمدتها وَذكرت أَنِّي غَلطت فِي منعهَا فَإِنَّهَا لم تزل مُقِيمَة فِي الأحشاء لَا تطِيق تغييرها وَلَا هضمها لضعف قواها حَتَّى عصرها السفرجل وَلم أكن أطلقت لَك أكله وَإِنَّمَا أَشرت بمصه
ثمَّ سَأَلَهُ عَن مِقْدَار مَا أكل مِنْهُ فَقَالَ سفرجلتين
فَقَالَ سعيد أكلت السفرجل للشبع وَلم تَأْكُله للعلاج
فَقَالَ يَا ابْن الفاعلة جَلَست تنادرني وَأَنت صَحِيح سوي وَأَنا عليل مدنف
ثمَّ دَعَا بالسياط فَضَربهُ مِائَتي سَوط وَطَاف بِهِ على جمل وَنُودِيَ عَلَيْهِ هَذَا جَزَاء من ائْتمن فخان وَنهب الْأَوْلِيَاء منزله وَمَات بعد يَوْمَيْنِ وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ بِمصْر
وَقيل فِي سنة تسع وَسبعين وَمِائَتَيْنِ وَهِي السّنة الَّتِي مَاتَ ابْن طولون فِي ذِي قعدتها
وَالله أعلم
خلف الطولوني
هُوَ أَبُو عَليّ خلف الطولوني مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ كَانَ مشتغلا بصناعة الطِّبّ وَله معرفَة جَيِّدَة فِي علم أمراض الْعين ومداواتها
ولخلف الطولوني من الْكتب كتاب النِّهَايَة والكفاية فِي تركيب الْعَينَيْنِ وخلقتهما وعلاجهما وأدويتهما ونقلت من خطه فِي كِتَابه هَذَا وَجُمْلَة الْكتاب بِخَطِّهِ أَن معاناته كَانَت لتأليف هَذَا الْكتاب فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ وفراغه مِنْهُ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وثلثمائة
نسطاس بن جريج
كَانَ نَصْرَانِيّا عَالما بصناعة الطِّبّ وَكَانَ فِي دولة الأخشيد بن طغج
ولنسطاس بن جريج من الْكتب كناش
رِسَالَة إِلَى يزِيد بن رُومَان النَّصْرَانِي الأندلسي فِي الْبَوْل
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نسطاس
هُوَ أَبُو يَعْقُوب إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نسطاس بن جريج نَصْرَانِيّ فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ فِي خدمَة الْحَاكِم بِأَمْر الله ويعتمد عَلَيْهِ فِي الطِّبّ وَتُوفِّي إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نسطاس بِالْقَاهِرَةِ فِي أَيَّام الْحَاكِم واستطب بعده أَبَا الْحسن عَليّ بن رضوَان وَاسْتمرّ فِي خدمته وَجعله رَئِيسا على سَائِر الْأَطِبَّاء(1/544)
البالسي
هُوَ كَانَ طَبِيبا فَاضلا متميزا فِي معرفَة الْأَدْوِيَة المفردة وأفعالها
وَله من الْكتب كتاب التَّكْمِيل فِي الْأَدْوِيَة المفردة أَلفه لكافور الإخشيدي
مُوسَى بن العازار الإسرائيلي
مَشْهُور بالتقدم والحذق فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ فِي خدمَة الْمعز لدين الله وَكَانَ فِي خدمته أَيْضا ابْنه إِسْحَاق بن مُوسَى المتطبب
وَكَانَ جليل الْقدر عِنْد الْمعز ومتوليا أمره كُله فِي حَيَاة أَبِيه وَتُوفِّي إِسْحَاق بن مُوسَى لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من صفر سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلاثمائة
واغتم الْمعز لمَوْت إِسْحَاق لموضعه مِنْهُ ولكفايته وَجعل مَوْضِعه أَخَاهُ إِسْمَاعِيل بن مُوسَى وَابْنه يَعْقُوب بن إِسْحَاق وَكَانَ ذَلِك فِي حَيَاة أَبِيهِم مُوسَى وَتُوفِّي قبل وَفَاة إِسْحَاق بِيَوْم أَخ لَهُ مُسلم اسْمه عون الله بن مُوسَى
ولموسى بن العازار من الْكتب الْكتاب المعزي فِي الطبيخ أَلفه للمعز
مقَالَة فِي السعال
جَوَاب مسئلة سَأَلَهُ عَنْهَا أحد الباحثين عَن حقائق الْعُلُوم الراغبين جني ثمارها كتاب الأقراباذين
يُوسُف النَّصْرَانِي
كَانَ طَبِيبا عَارِفًا بصناعة الطِّبّ فَاضلا فِي الْعُلُوم
وَقَالَ يحيى بن سعيد بن يحيى
فِي كتاب تَارِيخ الذيل أَنه لما كَانَ فِي السّنة الْخَامِسَة من خلَافَة الْعَزِيز صير يُوسُف الطَّبِيب بطريركا على بَيت الْمُقَدّس
أَقَامَ فِي الرِّئَاسَة ثَلَاث سِنِين وَثَمَانِية أشهر وَمَات بِمصْر وَدفن فِي كَنِيسَة مار ثوادرس مَعَ آبَاء أخر منطودلا القيسراني
سعيد بن البطريق
من أهل فسطاط مصر وَكَانَ طَبِيبا نَصْرَانِيّا مَشْهُورا عَارِفًا بِعلم صناعَة الطِّبّ وعملها مُتَقَدما فِي زَمَانه وَكَانَت لَهُ دراية بعلوم النَّصَارَى ومذاهبهم ومولده فِي يَوْم الْأَحَد لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ
وَلما كَانَ فِي أول سنة من خلَافَة القاهر بِاللَّه مُحَمَّد بن أَحْمد المعتضد بِاللَّه صير سعيد بن البطريق بطريركا على الْإسْكَنْدَريَّة وَسمي أوثوشيوس وَذَلِكَ لثمان خلون من شهر صفر سنة إِحْدَى وَعشْرين وثلاثمائة ولسعيد بن البطريق من الْعُمر نَحْو سِتِّينَ سنة
وَبَقِي فِي الْكُرْسِيّ والرئاسة سبع سِنِين وَسِتَّة أشهر
وَكَانَ فِي أَيَّامه شقَاق عَظِيم وَشر مُتَّصِل بَينه وَبَين(1/545)
شعبه
واعتل سعيد بن البطريق بِمصْر بالإسهال
وَكَانَ متميزا فِي صناعَة الطِّبّ فحدس أَنَّهَا عِلّة مَوته فَصَارَ إِلَى كرسيه بالإسكندرية وَأقَام بِهِ أَيَّامًا عدَّة عليلا وَمَات يَوْم الِاثْنَيْنِ سلخ رَجَب من سنة ثَمَان وَعشْرين وثلاثمائة
ولسعيد بن البطريق من الْكتب كتاب فِي الطِّبّ علم وَعمل
كناش
كتاب الجدل بَين الْمُخَالف وَالنَّصْرَانِيّ
كتاب نظم الْجَوْهَر ثَلَاث مقالات
كتبه إِلَى أَخِيه عِيسَى بن البطريق المتطبب فِي معرفَة صَوْم النَّصَارَى وفطرهم وتواريخهم وأعيادهم وتواريخ الْخُلَفَاء والملوك الْمُتَقَدِّمين وَذكر البطاركة وأحوالهم وَمُدَّة حياتهم ومواضعهم وَمَا جرى لَهُم فِي ولايتهم
وَقد ذيل هَذَا الْكتاب نسيب لسَعِيد بن البطريق يُقَال لَهُ يحيى بن سعيد بن يحيى وسمى كِتَابه كتاب تَارِيخ الذيل
عِيسَى بن البطريق
كَانَ طَبِيبا نَصْرَانِيّا عَالما بصناعة الطِّبّ علمهَا وعملها متميزا فِي جزئيات المداواة والعلاج مشكورا فِيهَا وَكَانَ مقَامه بِمَدِينَة مصر الْقَدِيمَة وَكَانَ هَذَا عِيسَى بن البطريق أَخا سعيد بن البطريق الْمُقدم ذكره وَلم يزل عِيسَى بِمَدِينَة مصر طَبِيبا إِلَى أَن توفّي بهَا
أعين بن أعين
كَانَ طَبِيبا متميزا فِي الديار المصرية وَله ذكر جميل وَحسن معالجة
وَكَانَ فِي أَيَّام الْعَزِيز بِاللَّه وَتُوفِّي أعين بن أعين فِي شهر ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وثلاثمائة
وَله من الْكتب كناش
كتاب فِي أمراض الْعين ومداواتها
التَّمِيمِي
هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد التَّمِيمِي
كَانَ مقَامه أَولا بالقدس ونواحيها وَله معرفَة جَيِّدَة بالنبات وماهياته وَالْكَلَام فِيهِ
وَكَانَ متميزا أَيْضا فِي أَعمال صناعَة الطِّبّ والإطلاع على دقائقها وَله خبْرَة فاضلة فِي تركيب المعاجين والأدوية المفردة واستقصى معرفَة أدوية الترياق الْكَبِير الْفَارُوق وتركيبه وَركب مِنْهُ شَيْئا كثيرا على أتم مَا يكون من حسن الصَّنْعَة
وانتقل إِلَى الديار المصرية وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَ قد اجْتمع فِي الْقُدس بِحَكِيم فَاضل رَاهِب يُقَال لَهُ أنبا زخريا بن ثوابة
وَكَانَ هَذَا الراهب يتَكَلَّم فِي شَيْء من أَجزَاء الْعُلُوم الْحكمِيَّة والطب وَكَانَ مُقيما فِي الْقُدس فِي الْمِائَة الرَّابِعَة من الْهِجْرَة وَكَانَ لَهُ نظر فِي أَمر تركيب الْأَدْوِيَة
وَلما اجْتمع بِهِ مُحَمَّد التَّمِيمِي لَازمه(1/546)
وَأخذ عَنهُ فَوَائِد وجملا كَثِيرَة مِمَّا يعرفهُ
وَقد ذكر التَّمِيمِي فِي كِتَابه مَادَّة الْبَقَاء صفة سفوف الرجفان الْحَادِث عَن الْمرة السَّوْدَاء الْمُحْتَرِقَة وَذكر أَنه نقل ذَلِك عَن أنبا زخريا
وَقَالَ الصاحب جمال الدّين بن القفطي القَاضِي الأكرم فِي كتاب أَخْبَار الْعلمَاء بأخبار الْحُكَمَاء أَن التَّمِيمِي مُحَمَّد بن أَحْمد بن سعيد كَانَ جده سعيد طَبِيبا وَصَحب أَحْمد بن أبي يَعْقُوب مولى ولد الْعَبَّاس وَكَانَ مُحَمَّد من الْبَيْت الْمُقَدّس وَقَرَأَ علم الطِّبّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ من المدن الَّتِي ارتحل إِلَيْهَا واستفاد من هَذَا الشَّأْن جُزْءا متوفرا وَأحكم مَا علمه مِنْهُ غَايَة الْأَحْكَام
وَكَانَ لَهُ غرام وعناية تَامَّة فِي تركيب الْأَدْوِيَة وَحسن اخْتِيَار فِي تأليفها وَعِنْده غوص على أُمُور هَذَا النَّوْع واستغراق فِي طلب غوامضه
وَهُوَ الَّذِي أكمل الترياق الْفَارُوق بِمَا زَاده فِيهِ من الْمُفْردَات وَذَلِكَ بِإِجْمَاع الْأَطِبَّاء على أَنه الَّذِي أكمله
وَله فِي الترياق عدَّة تصانيف مَا بَين كَبِير ومتوسط وصغير
وَقد كَانَ مُخْتَصًّا بالْحسنِ بن عبد الله بن طغج المستولي على مَدِينَة الرملة وَمَا انضاف إِلَيْهَا من الْبِلَاد الساحلية وَكَانَ مغرما بِهِ وَبِمَا يعالجه من الْمُفْردَات والمركبات
وَعمل لَهُ عدَّة معاجين ولخالخ طبية ودخنا دافعة للوباء وسطر ذَلِك فِي أثْنَاء مصنفاته
ثمَّ أدْرك الدولة العلوية عِنْد دُخُولهَا إِلَى الديار المصرية وَصَحب الْوَزير يَعْقُوب بن كلس وَزِير الْمعز والعزيز وصنف لَهُ كتابا كَبِيرا فِي عدَّة مجلدات سَمَّاهُ مَادَّة الْبَقَاء بإصلاح فَسَاد الْهَوَاء والتحزر من ضَرَر الأوباء وكل ذَلِك بِالْقَاهِرَةِ المعزية
وَلَقي الْأَطِبَّاء بِمصْر وناظرهم وَاخْتَلَطَ بأطباء الْخَاص القادمين من أهل الْمغرب فِي صُحْبَة الْمعز عِنْد قدومه والمقيمين بِمصْر من أَهلهَا
قَالَ وَحكى مُحَمَّد التَّمِيمِي خَبرا عَن وَلَده وَهُوَ قَالَ حَدثنِي وَالِدي رَضِي الله عَنهُ أَنه سكر مرّة سكرا مفرطا غلب فِيهِ على عقله فَسقط فِي بعض الْخَانَات من مَوضِع عَال من أَسْفَل الخان وَهُوَ لَا يعقل فَحَمله صَاحب الخان وخدمه حَتَّى أدخلهُ إِلَى الْحُجْرَة الَّتِي كَانَ ساكنها
فَلَمَّا أصبح قَامَ وَهُوَ يجد وجعا ووهنا فِي مَوَاضِع من جسده وَلَا يعرف لذَلِك سَببا فَركب وَتصرف فِي بعض أُمُوره إِلَى أَن تَعَالَى النَّهَار ثمَّ رَجَعَ فَقَالَ لصَاحب الخان إِنِّي أجد فِي جَسَدِي وجعا وتوهنا شَدِيدا لست أَدْرِي مَا سَببه فَقَالَ لَهُ صَاحب الخان يَنْبَغِي أَن تحمد الله على سلامتك
قَالَ مِم ذَا قَالَ أَو مَا علمت مَا نالك البارحة قَالَ لَا
قَالَ فَإنَّك سَقَطت من أَعلَى الخان إِلَى أَسْفَل وَأَنت سَكرَان
لقَالَ وَمن أَي مَوضِع فأره الْموضع فَلَمَّا رَآهُ حدث بِهِ للْوَقْت من الوجع والضربان مَا لم يجد مَعَه سَبِيلا إِلَى الصَّبْر وَأَقْبل يضج ويتأوه إِلَى أَن جَاءُوهُ بطبيب ففصده وَشد على مفاصله المتوهنة جبارا فَأَقَامَ أَيَّامًا كَثِيرَة إِلَى أَن برأَ وَذهب عَنهُ الوجع
أَقُول وَمِمَّا يُنَاسب هَذِه الْحِكَايَة أَن بعض التُّجَّار كَانَ فِي بعض أَسْفَاره فِي مغارة وَمَعَهُ رفْقَة لَهُ فَنَامَ فِي منزلَة نزلها فِي الطَّرِيق ورفقته جُلُوس فَخرجت حَيَّة من بعض النواحي وصادفت رجله(1/547)
فنهشته فِيهَا وَذَهَبت وانتبه مَرْعُوبًا من الْأَلَم وَبَقِي يمسك رجله ويتأوه مِنْهَا
فَقَالَ لَهُ بَعضهم مَا عَلَيْك إِنَّك مددت رجلك بِسُرْعَة وَقد صادفت رجلك شَوْكَة فِي هَذَا الْموضع الَّذِي يوجعك وَأظْهر لَهُ أَنه أخرج الشَّوْكَة وَقَالَ مَا بَقِي عَلَيْك بَأْس
وتساكن عَنهُ الْأَلَم بعد ذَلِك ورحلوا فَلَمَّا كَانَ بعد عودهم بِمدَّة وَقد نزلُوا فِي تِلْكَ الْمنزلَة قَالَ لَهُ صَاحبه أَتَدْرِي ذَلِك الوجع الَّذِي عرض لَك فِي هَذَا الْموضع من أَي شَيْء كَانَ فَقَالَ لَا
قَالَ إِن حَيَّة ضربتك فِي رجلك ورأيناها وَمَا أعلمناك
فَعرض لَهُ للْوَقْت ضَرْبَان قوي فِي رجله وسرى فِي بدنه إِلَى أَن قرب من قلبه وَعرض لَهُ غشي ثمَّ تزايد بِهِ إِلَى أَن مَاتَ
وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَن الأوهام والأحداث النفسانية تُؤثر فِي الْبدن أثرا قَوِيا فَلَمَّا تحقق أَن الآفة الَّتِي عرضت لَهُ كَانَت من نهشة الْحَيَّة تأثر من ذَلِك وسرى مَا كَانَ فِي ذَلِك الْموضع من بقايا السم فِي بدنه
وَلما وصل إِلَى قلبه أهلكه
قَالَ الصاحب جمال الدّين وَلما كَانَ التَّمِيمِي بِبَلَدِهِ الْبَيْت الْمُقَدّس معانيا لصناعة الطِّبّ وَأَحْكَام التركيبات صنف وَركب ترياقا سَمَّاهُ مخلص النُّفُوس وَقَالَ فِيهِ هَذَا ترياق ألفته بالقدس وأحكمت تركيبه مُخْتَصر نَافِع الْفِعْل دَافع لضَرَر السمومات القاتلة المشروبة والمصبوبة فِي الْأَبدَان
بلسع ذَوَات السم من الأفاعي والثعابين وأنواع الْحَيَّات الْمهْلكَة السم والعقارب الجرارات وَغَيرهَا وَذَوَات الْأَرْبَع وَالْأَرْبَعِينَ رجلا وَمن لدغ الرتيلاء والعظايات مجرب لَيْسَ لَهُ مثل
ثمَّ سَاق مفرداته وَصُورَة تركيبه فِي كِتَابه الْمُسَمّى بمادة الْبَقَاء
وَلما كَانَ بِمصْر صنف جوارشن وَركبهُ وَسَماهُ مِفْتَاح السرُور من كل الهموم ومفرح النَّفس أَلفه لبَعض إخوانه بِمصْر وَذكر صُورَة تركبيه وَأَسْمَاء مفرداته غير أَنه رَكبه بِمصْر وسماها الْفسْطَاط اسْمهَا الأول فِي زمن عَمْرو بن الْعَاصِ عِنْد افتتاحها وَذَلِكَ مَذْكُور فِي كِتَابه مَادَّة الْبَقَاء وَكَانَ التَّمِيمِي هَذَا مَوْجُودا بِمصْر فِي سنة سبعين وثلاثمائة
وللتميمي من الْكتب رِسَالَة إِلَى ابْنه عَليّ بن مُحَمَّد فِي صَنْعَة الترياق الْفَارُوق والتنبيه على مَا يغلظ فِيهِ من أدويته ونعت أشجاره الصَّحِيحَة وأوقات جمعهَا وَكَيْفِيَّة عجنه وَذكر مَنَافِعه وتجربته
كتاب آخر فِي الترياق وَقد استوعب فِيهِ تَكْمِيل أدويته وتحرير مَنَافِعه
كتاب مُخْتَصر فِي الترياق
كتاب فِي مَادَّة الْبَقَاء بإصلاح فَسَاد الْهَوَاء والتحرر من ضَرَر الأوباء صنفه للوزير أبي الْفرج يَعْقُوب بن كلس بِمصْر
مقَالَة فِي مَاهِيَّة الرمد وأنواعه وأسبابه وعلاجه
كتاب الفاحص وَالْأَخْبَار
سهلان
هُوَ أَبُو الْحسن سهلان بن عُثْمَان بن كيسَان كَانَ طَبِيبا نَصْرَانِيّا من أهل مصر ينتحل رَأْي الْفرْقَة الملكية وخدم الْخُلَفَاء المصريين وارتفع جاهه فِي الْأَيَّام العزيزية وَلم يزل مُرْتَفع الذّكر محروس الْجَانِب(1/548)
مقتنيا لِلْمَالِ الجزيل إِلَى أَن توفّي بِمصْر فِي أَيَّام الْعَزِيز بِاللَّه فِي يَوْم السبت لخمس بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة ثَمَانِينَ وثلاثمائة وَأخرج يَوْم الْأَحَد بعد صَلَاة الظّهْر إِلَى كَنِيسَة الرّوم بقصر الشمع فَأخذ بجنازته من دَاره على النخاسين على الْجَامِع الْعَتِيق على المربعة إِلَى حمام الغارو بَين يَدَيْهِ خَمْسُونَ شمعة موقودة وعَلى تابوته ثوب مثقل وَخلف جنَازَته المطران أَخُو السَّيِّد وَأَبُو الْفَتْح مَنْصُور بن مقشر طَبِيب الْخَاص مشَاة وَسَائِر النَّصَارَى تبع لَهُم
ثمَّ أخرج من الْكَنِيسَة بعد أَن قسس عَلَيْهِ بَقِيَّة ليلتهم إِلَى دير الْقصير فَدفن هُنَاكَ عِنْد قبر أَخِيه كيسَان بن عُثْمَان بن كيسَان وَلم يعْتَرض الْعَزِيز لتركته وَلَا ترك أحدا يمد يَده إِلَيْهَا على كثرتها
أَبُو الْفَتْح مَنْصُور بن سهلان بن مقشر
كَانَ طَبِيبا نَصْرَانِيّا مَشْهُورا وَله دراية وخبرة بصناعة الطِّبّ وَكَانَ طَبِيب الْحَاكِم بِأَمْر الله وَمن الْخَواص عِنْده وَكَانَ الْعَزِيز أَيْضا يستطبه وَيرى لَهُ ويحترمه
وَكَانَ مُتَقَدما فِي الدولة وَتُوفِّي فِي أَيَّام الْحَاكِم واستطب الْحَاكِم بعده إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نسطاس
وَمَات إِسْحَاق بن نسطاس أَيْضا فِي أَيَّام الْحَاكِم بعد ذَلِك
عمار بن عَليّ الْموصِلِي
كَانَ كحالا مَشْهُورا ومعالجا مَذْكُورا
لَهُ خبْرَة بمداواة أمراض الْعين ودربة بأعمال الْحَدِيد
وَكَانَ قد سَافر إِلَى مصر وَأقَام بهَا وَكَانَ فِي أَيَّام الْحَاكِم ولعمار بن عَليّ من الْكتب كتاب الْمُنْتَخب فِي علم الْعين وعللها ومداواتها بالأدوية وَالْحَدِيد أَلفه للْحَاكِم
الحقير النافع
كَانَ هَذَا من أهل مصر يَهُودِيّ النحلة فِي زمن الْحَاكِم
وَكَانَ طَبِيبا جرائحيا حسن المعالجة
وَمن ظريف أمره أَنه كَانَ يرتزق بصناعة مداواة الْجراح وَهُوَ فِي غَايَة الخمول وأتفق أَن عرض لرجل الْحَاكِم عقر أزمن وَلم يبرأ
وَكَانَ ابْن مقشر طَبِيب الْحَاكِم والحظي عِنْده وَغَيره من أطباء الْخَاص المشاركين لَهُ يتولون علاجه فَلَا يُؤثر ذَلِك الأشرافي الْعقر فأحضر لَهُ هَذَا الْيَهُودِيّ الْمَذْكُور فَلَمَّا رَآهُ طرح عَلَيْهِ دَوَاء يَابسا فنشفه وشفاه فِي ثَلَاثَة أَيَّام فَأطلق لَهُ ألف دِينَار وخلع عَلَيْهِ ولقبه بالحقير النافع وَجعله من أطباء الْخَاص
أَبُو بشر طَبِيب العظيمية
كَانَ فِي أَيَّام الْحَاكِم
مَشْهُورا فِي الدولة ويعد من الأفاضل فِي صناعَة الطِّبّ(1/549)
ابْن مقشر الطَّبِيب
كَانَ من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين وَالْعُلَمَاء الْمَذْكُورين
مكينا فِي الدولة حظيا عِنْد الْحَاكِم وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ
وَقَالَ عبيد الله بن جبرئيل أَن ابْن مقشر الطَّبِيب كَانَ فِي خدمَة الْحَاكِم وَبلغ مَعَه أَعلَى الْمنَازل وأسناها وَكَانَ لَهُ مِنْهُ الصلات الْكَثِيرَة والعطايا الْعَظِيمَة
قَالَ وَلما مرض ابْن مقشر الطَّبِيب عَاده الْحَاكِم بِنَفسِهِ وَلما مَاتَ أطلق لمخلفيه مَالا وافرا
عَليّ بن سُلَيْمَان
كَانَ طَبِيبا فَاضلا متقنا للحكمة والعلوم الرياضية متميزا فِي صناعَة الطِّبّ أوحد فِي أَحْكَام النُّجُوم
وَكَانَ فِي أَيَّام الْعَزِيز بِاللَّه وَولده الْحَاكِم وَلحق أَيَّام الظَّاهِر لإعزاز دين الله ولد الْحَاكِم
ولعلي بن سُلَيْمَان من الْكتب اخْتِصَار كتاب الْحَلْوَى فِي الطِّبّ
كتاب الْأَمْثِلَة والتجارب وَالْأَخْبَار والنكت والخواص الطبية المنتزعة من كتب أبقراط وجالينوس وَغَيرهمَا
تذكرة لَهُ ورياضة وَوجدت هَذَا الْكتاب بِخَطِّهِ أَربع مجلدات وَقد ذكر فِيهِ أَنه ابْتَدَأَ بتأليفه فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وثلاثمائة بِالْقَاهِرَةِ
كتاب التَّعَالِيق الفلسفية وَوَجَدته أَيْضا بِخَطِّهِ وَهُوَ يَقُول فِيهِ أَنه ابْتَدَأَ بتصنيفه بحلب فِي سنة إِحْدَى عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
مقَالَة فِي أَن قبُول الْجِسْم التجزؤ لَا يقف وَلَا يَنْتَهِي إِلَى مَا لَا يتَجَزَّأ
وتعديد شكوك تلْزم مقَالَة أرسطوطاليس فِي الإبصار
وتعديد شكوك فِي كواكب الذَّنب
ابْن الْهَيْثَم
هُوَ أَبُو عَليّ مُحَمَّد بن الْحسن بن الْهَيْثَم أَصله من الْبَصْرَة ثمَّ انْتقل إِلَى الديار المصرية وَأقَام بهَا إِلَى آخر عمره
وَكَانَ فَاضل النَّفس قوي الذكاء متفننا فِي الْعُلُوم
لم يماثله أحد من أهل زَمَانه فِي الْعلم الرياضي وَلَا يقرب مِنْهُ
وَكَانَ دَائِم الِاشْتِغَال كثير التصنيف وافر التزهد محبا للخير
وَقد لخص كثيرا من كتب أرسطوطاليس وَشَرحهَا وَكَذَلِكَ لخص كثيرا من كتب جالينوس فِي الطِّبّ
وَكَانَ خَبِيرا بأصول صناعَة الطِّبّ وقوانينها وأمورها الْكُلية إِلَّا أَنه لم يُبَاشر أَعمالهَا وَلم تكن لَهُ دربة بالمداواة وتصانيفه كَثِيرَة الإفادة
وَكَانَ حسن الْخط جيد الْمعرفَة بِالْعَرَبِيَّةِ
وحَدثني الشَّيْخ علم الدّين بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْغَنِيّ بن مُسَافر الْحَنَفِيّ المهندس قَالَ كَانَ ابْن الْهَيْثَم فِي أول أمره بِالْبَصْرَةِ ونواحيها قد وزر وَكَانَت نَفسه تميل إِلَى الْفَضَائِل وَالْحكمَة وَالنَّظَر فِيهَا ويشتهي أَن يتجرد عَن الشواغل الَّتِي تَمنعهُ من النّظر فِي الْعلم
فأظهر خبالا فِي عقله وتغيرا فِي تصَوره(1/550)
وَبَقِي كَذَلِك مُدَّة حَتَّى مكن من تبطيل الْخدمَة
وَصرف من النّظر الَّذِي كَانَ فِي يَده
ثمَّ إِنَّه سَافر إِلَى ديار مصر وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ فِي الْجَامِع الْأَزْهَر بهَا
وَكَانَ يكْتب فِي كل سنة إقليدس والمجسطي ويبيعهما ويقتات من ذَلِك الثّمن
وَلم تزل هَذِه حَاله إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَوجدت الصاحب جمال الدّين أَبَا الْحسن بن القفطي قد ذكر أَيْضا عَن ابْن الْهَيْثَم مَا هَذَا نَصه قَالَ أَنه بلغ الْحَاكِم صَاحب مصر من العلويين وَكَانَ يمِيل إِلَى الْحِكْمَة خَبره وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الإتقان لهَذَا الشَّأْن فتاقت نَفسه إِلَى رُؤْيَته
ثمَّ نقل لَهُ عَنهُ أَنه قَالَ لَو كنت بِمصْر لعملت فِي نيلها عملا يحصل بِهِ النَّفْع فِي كل حَالَة من حالاته من زِيَادَة وَنقص فقد بَلغنِي أَنه ينحدر على مَوضِع عَال هُوَ فِي طرف الإقليم الْمصْرِيّ
فازداد الْحَاكِم إِلَيْهِ شوقا وسير إِلَيْهِ سرا جملَة من المَال وأرغبه فِي الْحُضُور فَسَار نَحْو مصر وَلما وَصلهَا خرج الْحَاكِم للقائه والتقيا بقرية على بَاب الْقَاهِرَة المعزية تعرف بالخندق وَأمر بإنزاله وإكرامه واحترامه وَأقَام ريثما استراح وطالبه بِمَا وعد بِهِ من أَمر النّيل
فَسَار وَمَعَهُ جمَاعَة من الصناع المتولين للعمارة بِأَيْدِيهِم ليستعين بهم على هندسته الَّتِي خطرت لَهُ
وَلما سَار إِلَى الإقليم بِطُولِهِ وَرَأى آثَار من تقدم من ساكنيه من الْأُمَم الخالية وَهِي على غَايَة من أَحْكَام الصَّنْعَة وجودة الهندسة وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ من أشكال سَمَاوِيَّة ومقالات هندسية وتصوير معْجزَة تحقق أَن الَّذِي يَقْصِدهُ لَيْسَ بممكن
فَإِن من تقدمه فِي الصُّدُور الخالية لم يغرب عَنْهُم علم مَا عمله
وَلَو أمكن لفعلوه
فَانْكَسَرت همته ووقف خاطره وَوصل إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بالجنادل قبلي مَدِينَة أسوان وَهُوَ مَوضِع مُرْتَفع ينحدر مِنْهُ النّيل فعاينه وباشره واختبره من جانبيه فَوجدَ أمره لَا يمشي على مُوَافقَة مُرَاده وَتحقّق الْخَطَأ وَالْغَلَبَة عَمَّا وعد بِهِ
وَعَاد خجلا ومنخذلا وَاعْتذر بِمَا قبل الْحَاكِم ظَاهره وَوَافَقَهُ عَلَيْهِ
ثمَّ إِن الْحَاكِم ولاه بعض الدَّوَاوِين فتولاها رهبة لَا رَغْبَة وَتحقّق الْغَلَط فِي الْولَايَة فَإِن الْحَاكِم كَانَ كثير الاستحالة مريقا للدماء بِغَيْر سَبَب أَو بأضعف سَبَب من خيال يتخيله
فأجال فكرته فِي أَمر يتَخَلَّص بِهِ فَلم يجد طَرِيقا إِلَى ذَلِك إِلَّا إِظْهَار الْجُنُون والخبال
فاعتمد ذَلِك وشاع فأحيط على موجوده لَهُ بيد الْحَاكِم ونوابه وَجعل برسمه من يَخْدمه وَيقوم بمصالحه وَقيد وَترك فِي مَوضِع من منزله
وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن تحقق وَفَاة الْحَاكِم وَبعد ذَلِك بِيَسِير أظهر الْعقل وَعَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ
وَخرج عَن دَاره واستوطن قبَّة على بَاب الْجَامِع الْأَزْهَر أحد جَوَامِع الْقَاهِرَة
وَأقَام بهَا متنسكا متعزيا مقتنعا
وأعيد إِلَيْهِ مَاله من تَحت يَد الْحَاكِم واشتغل بالتصنيف والنسخ والإفادة
وَكَانَ لَهُ خطّ قَاعِدَته فِي غَايَة الصِّحَّة كتب بِهِ الْكثير من عُلُوم الرياضة
قَالَ وَذكر لي يُوسُف الفاسي الإسرائيلي الْحَكِيم بحلب قَالَ سَمِعت أَن ابْن الْهَيْثَم كَانَ ينْسَخ فِي مُدَّة سنة ثَلَاثَة كتب فِي ضمن اشْتِغَاله وَهِي اقليدس والمتوسطات والمجسطي ويستكملها فِي مُدَّة السّنة فَإِذا شرع فِي نسخهَا جَاءَهُ من يُعْطِيهِ فِيهَا مائَة وَخمسين دِينَارا مصرية وَصَارَ ذَلِك(1/551)
كالرسم الَّذِي لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى مواكسة وَلَا معاودة قَول فيجعلها مؤونته لسنته
وَلم يزل على ذَلِك إِلَى أَن مَاتَ بِالْقَاهِرَةِ فِي حُدُود سنة ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة أَو بعْدهَا بِقَلِيل
وَالله أعلم
أَقُول ونقلت من خطّ ابْن الْهَيْثَم فِي مقَالَة لَهُ فِيمَا صنعه وصنفه من عُلُوم الْأَوَائِل إِلَى آخر سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة لهجرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْوَاقِع فِي شهور سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ الْهِلَالِيَّة من عمره مَا هَذَا نَصه قَالَ إِنِّي لم أزل مُنْذُ عهد الصِّبَا مُرْتَابا فِي اعتقادات هَذِه النَّاس الْمُخْتَلفَة وَتمسك كل فرقة مِنْهُم بِمَا تعتقده من الرَّأْي فَكنت متشككا فِي جَمِيعه موقنا بِأَن الْحق وَاحِد وَأَن الِاخْتِلَاف فِيهِ إِنَّمَا هُوَ من جِهَة السلوك إِلَيْهِ
فَلَمَّا كملت لإدراك الْأُمُور الْعَقْلِيَّة انْقَطَعت إِلَى طلب مَعْدن الْحق ووجهت رغبتي وحدسي إِلَى إِدْرَاك مَا بِهِ تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك الْمفْتُون وَبعثت عزيمتي إِلَى تَحْصِيل الرَّأْي المقرب إِلَى الله جلّ ثَنَاؤُهُ الْمُؤَدِّي إِلَى رِضَاهُ الْهَادِي لطاعته وتقواه فَكنت كَمَا قَالَ جالينوس فِي الْمقَالة السَّابِعَة من كِتَابه فِي حِيلَة الْبُرْء يُخَاطب تِلْمِيذه لست أعلم كَيفَ تهَيَّأ لي مُنْذُ صباي أم شِئْت قلت بِاتِّفَاق عَجِيب وَإِن شِئْت قلت بإلهام من الله وَإِن شِئْت قلت بالجنون أَو كَيفَ شِئْت أَن تنْسب ذَلِك أَنِّي ازدريت عوام النَّاس واستخففت بهم وَلم ألتفت إِلَيْهِم واشتهيت إِيثَار الْحق وَطلب الْعلم وَاسْتقر عِنْدِي أَنه لَيْسَ ينَال النَّاس من الدُّنْيَا أَشْيَاء أَجود وَلَا أَشد قربَة إِلَى الله من هذَيْن الْأَمريْنِ
قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن فخضت لذَلِك فِي ضروب الآراء والاعتقادات وأنواع عُلُوم الديانَات فَلم أحظ من شَيْء مِنْهَا بطائل وَلَا عرفت مِنْهُ للحق منهجا وَلَا إِلَى الرَّأْي اليقيني مسلكا مجددا
فَرَأَيْت أنني لَا أصل إِلَى الْحق إِلَّا من أراء يكون عنصرها الْأُمُور الحسية وَصورتهَا الْأُمُور الْعَقْلِيَّة
فَلم أجد ذَلِك إِلَّا فِيمَا قَرَّرَهُ أرسطوطاليس من عُلُوم الْمنطق والطبيعيات والإلهيات الَّتِي هِيَ ذَات الفلسفة وطبيعتها وَحين بَدَأَ بتقرير الْأُمُور الْكُلية والجزئية والعامية والخاصية ثمَّ تلاه بتقرير الْأَلْفَاظ المنطقية وتقسيمها إِلَى أجناسها الْأَوَائِل ثمَّ أتبعه بِذكر الْمعَانِي الَّتِي تتركب مَعَ الْأَلْفَاظ فَيكون مِنْهَا الْكَلَام الْمَفْهُوم الْمَعْلُوم ثمَّ أفرد من ذَلِك الْأَخْبَار الَّتِي هِيَ عنصر الْقيَاس ومادته فَقَسمهَا إِلَى أقسامها وَذكر فصولها وخواصها الَّتِي تميزها بَعْضهَا من بعض وَيلْزم مِنْهُ صدقهَا وكذبها ويعرض مَعَه اتفاقها واختلافها وتضادها وتناقضها
ثمَّ ذكر بعد ذَلِك الْقيَاس فقسم مقدماته وشكل أشكاله وَنَوع تِلْكَ الأشكال وميز من الْأَنْوَاع مَا لَا يلْزم دَائِما نظاما وَاحِدًا وأفردها مِمَّا يلْزم أدبا نظاما وَاحِدًا
ثمَّ ذكر النتائج الَّتِي تلْزم مِنْهَا مَعَ اقترانات عناصر الْأُمُور الَّتِي هِيَ الْوَاجِب والممكن والممتنع وَبَين وُجُوه اكْتِسَاب مُقَدمَات الْقيَاس الضرورية والإقناعية وَمَا هُوَ من جِهَة الأولى وَالْأَشْبَه وَالْأَكْثَر وَمَا يلْزم من جِهَة الْعَادَات والاصطلاحات وَسَائِر الْأُمُور القياسية
وَذكر صور الْقيَاس وَفصل فصوله وَنَوع أَنْوَاعه ثمَّ ختم ذَلِك بِذكر طبيعة الْبُرْهَان وَشرح مواده وأوضح صوره وَبَين الشّبَه المغلطة فِيهِ وكشف عَن مستوره وخافيه
ثمَّ تَلا ذَلِك بالْكلَام فِي الصناعات الْأَرْبَع الجدلية والمرائية والخطبية والشعرية فأوضح من ذَلِك مَا(1/552)
يكون سَببا مُمَيّزا لصناعة الْبُرْهَان من هَذِه الصناعات الْأَرْبَع وفصلا فاصلا لَهَا من جِنْسهَا ثمَّ أَخذ بعد ذَلِك فِي شرح الْأُمُور الطبيعية
فَبَدَأَ فِي ذَلِك بكتابه فِي السماع الطبيعي فقرر فِيهِ الْأُمُور الْمَعْلُومَة بالطبع الَّتِي لَا تحْتَاج إِلَى برهَان إِنَّمَا يُؤْخَذ من الِاسْتِقْرَار وَالْقِسْمَة والتحليل وَبرهن على بطلَان الاعتراضات فِيهَا وكشف عَن أغلاط من شكّ فِي شَيْء مِنْهَا وَكَانَ مُجمل كَلَامه فِي ذَلِك على سِتَّة أُمُور المبادئ الكونية والطبيعية وَالْمَكَان والخلاء وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ وَالزَّمَان وَالْحَرَكَة والمحرك الأول
ثمَّ أتبع ذَلِك بكتابه فِي الْكَوْن وَالْفساد فأوضح فِيهِ قبُول الْعَالم الأرضي الْكَوْن وَالْفساد
ثمَّ تلاه بكتابه فِي الْآثَار والعلوية وَهِي الَّتِي تعرض فِي الجو كالسحاب والضباب والرياح والأمطار والرعد والبرق الصَّوَاعِق وَسَائِر مَا يكون من أَنْوَاع ذَلِك
وَذكر فِي آخِره أُمُور المعدنيات وَأَسْبَاب كَونهَا
ثمَّ أتبعه بكتابه فِي النَّبَات وَالْحَيَوَان فَذكر ضروب النَّبَات وَالْحَيَوَان وطبائعهما وفصولهما وأنواعهما وخواصهما وأعراضهما
ثمَّ أتبع ذَلِك بكتابه فِي السَّمَاء والعالم فأبان عَن طبيعة الْعَالم وذاتيته واتصال الْقُوَّة الإلهية بِهِ
ثمَّ وَالَاهُ بكتابه فِي النَّفس فَتكلم على رَأْيه فِي النَّفس وَنقض آراء جَمِيع من قَالَ فِيهَا قولا يُخَالف قَوْله واعتقد فِي ذاتيتها اعتقادا غير اعْتِقَاده وَقسمهَا إِلَى الغاذية والحاسة والعاقلة
وَذكر أَحْوَال الغاذية وَشرح أُمُور الْحَواس وَفصل أَسبَاب الْعقل
فَذكر من ذَلِك مَا كشف كل مَسْتُور وأوضح عَن كل خَفِي
ثمَّ ختم جَمِيع ذَلِك بكتابه فِيمَا بعد الطبيعة وَهُوَ كِتَابه فِي الإلهيات فَبين فِيهِ أَن الْإِلَه وَاحِد وَإنَّهُ حَكِيم لَا يجهل وقادر لَا يعجز وجواد لَا يبخل
فأحكم الْأُصُول الَّتِي فِيهَا يسْلك إِلَى الْحق فيدرك طَبِيعَته وجوهره وتوحيد ذَاته وماهيته
فَلَمَّا تبينت ذَلِك أفرغت وسعي فِي طلب عُلُوم الفلسفة وَهِي ثَلَاثَة عُلُوم رياضية وطبيعية وإلهية
فتعلقت من هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة بالأصول والمبادئ الَّتِي ملكت بهَا فروعها وتوقلت بأحكامها من حَيْثُ انخفاضها وعلوها
ثمَّ إِنِّي رَأَيْت طبيعة الْإِنْسَان قَابِلَة للْفَسَاد متهيئة إِلَى الفناء والنفاد
وَأَنه من حِدة الشَّبَاب وعنفوان الحداثة تملك على فكرة طَاعَة التَّصَوُّر لهَذِهِ الْأُصُول فَإِذا صَار إِلَى سنّ الشيخوخة وَأَوَان الْهَرم قصرت طَبِيعَته وعجزت قوته الناطقة مَعَ إخلاق آلتها وفسادها عَن الْقيام بِمَا كَانَت تقوم بِهِ من ذَلِك
فشرحت ولخصت واختصرت من هَذِه الْأُصُول الثَّلَاثَة مَا أحَاط فكري بتصوره ووقف تمييزي على تدبره
وصنفت من فروعها مَا جرى مجْرى الْإِيضَاح والإفصاح عَن غوامض هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة إِلَى وَقت قولي هَذَا وَهُوَ ذُو الْحجَّة سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة لهجرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَنا مَا مدت لي الْحَيَاة باذل جهدي ومستفرغ قوتي فِي مثل ذَلِك توخيا بِهِ أمورا ثَلَاثَة أَحدهَا إِفَادَة من يطْلب الْحق ويؤثره فِي حَياتِي وَبعد وفاتي وَالْآخر إِنِّي جعلت ذَلِك ارتياضا لي بِهَذِهِ الْأُمُور فِي إِثْبَات مَا تصَوره وأتقنه فكري من تِلْكَ الْعُلُوم وَالثَّالِث إِنِّي صيرته ذخيرة وعدة لزمان الشيخوخة وَأَوَان الْهَرم
فَكنت فِي ذَلِك كَمَا قَالَ جالينوس فِي الْمقَالة السَّابِعَة من كِتَابه فِي حِيلَة الْبُرْء إِنَّمَا قصدت وأقصد فِي وضع مَا وَضعته وأضعه من الْكتب إِلَى أحد أَمريْن إِمَّا إِلَى نفع رجل أفيده إِيَّاه وَإِمَّا أَن أتعجل أَنا فِي ذَلِك رياضة أروض بهَا نَفسِي فِي وَقت وضعي إِيَّاه وأجعله(1/553)
ذخيرة لوقت الشيخوخة
قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَأَنا أشرح مَا صَنعته فِي الْأُصُول الثَّلَاثَة ليوقف مِنْهُ على مَوضِع عنايتي بِطَلَب الْحق وحرصي على إِدْرَاكه وَتعلم حَقِيقَة مَا ذكرته من عزوف نَفسِي عَن مماثلة الْعَوام الرعاع والأغبياء وسموها إِلَى مشابهة أَوْلِيَاء الله الأخيار الأتقياء
فَمَا صَنعته فِي الْعُلُوم الرياضية خَمْسَة وَعِشْرُونَ كتابا
أَحدهَا شرح أصُول أقليدس فِي الهندسة وَالْعدَد وتلخيصه
وَالثَّانِي كتاب جمعت فِيهِ الْأُصُول الهندسية والعددية من كتاب إقليدس وأبلونيوس ونوعت فِيهِ الْأُصُول وقسمتها وبرهنت عَلَيْهَا ببراهين نظمتها من الْأُمُور التعليمية والحسية والمنطقية حَتَّى انتظم ذَلِك مَعَ انْتِقَاض توالي إقليدس وأبلونيوس
وَالثَّالِث شرح المجسطي وتلخيصه شرحا وتلخيصا برهانيا لم أخرج مِنْهُ شَيْئا إِلَى الْحساب إِلَّا الْيَسِير
وَإِن أخر الله فِي الْأَجَل وَأمكن الزَّمَان من الْفَرَاغ استأنفت الشَّرْح المستقصي لذَلِك الَّذِي أخرجه بِهِ إِلَى الْأُمُور العددية والحسابية
وَالرَّابِع الْكتاب الْجَامِع فِي أصُول الْحساب وَهُوَ كتاب استخرجت أُصُوله لجَمِيع أَنْوَاع الْحساب من أوضاع إقليدس فِي أصُول الهندسة وَالْعدَد وَجعلت السلوك فِي اسْتِخْرَاج الْمسَائِل الحسابية بجهتي التَّحْلِيل الهندسي وَالتَّقْدِير العددي
وَعدلت فِيهِ عَن أوضاع الجبريين وَأَلْفَاظهمْ
وَالْخَامِس كتاب لخصت فِيهِ علم المناظر من كتابي إقليدس وبطلموس وتممته بمعاني الْمقَالة الأولى المفقودة من كتاب بطليموس
وَالسَّادِس كتاب فِي تَحْلِيل الْمسَائِل الهندسية
وَالسَّابِع كتاب فِي تَحْلِيل الْمسَائِل العددية بِجِهَة الْجَبْر والمقابلة مبرهنا
وَالثَّامِن كتاب جمعت فِيهِ القَوْل على تَحْلِيل الْمسَائِل الهندسية والعددية جَمِيعًا
لَكِن القَوْل على الْمسَائِل العددية غير مبرهن بل هُوَ مَوْضُوع على أصُول الْجَبْر والمقابلة
وَالتَّاسِع كتاب فِي المساحة على جِهَة الْأُصُول
والعاشر كتاب فِي حِسَاب الْمُعَامَلَات
وَالْحَادِي عشر مقَالَة فِي إجارات الحفور والأبنية بِجَمِيعِ الأشكال الهندسية حَتَّى بلغت فِي ذَلِك إِلَى أشكال قطوع المخروط الثَّلَاثَة المكافئ وَالزَّائِد والناقص
وَالثَّانِي عشر تَلْخِيص مقالات أبلونيوس فِي قطوع المخروطات
وَالثَّالِث عشر مقَالَة فِي الْحساب الْهِنْدِيّ
وَالرَّابِع عشر مقَالَة فِي اسْتِخْرَاج سمت الْقبْلَة فِي جَمِيع المسكونة بجداول وَضَعتهَا وَلم أورد الْبُرْهَان على ذَلِك(1/554)
وَالْخَامِس عشر مقَالَة فِيمَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَاجَة الْأُمُور الشَّرْعِيَّة من الْأُمُور الهندسية وَلَا يسْتَغْنى عَنهُ بِشَيْء سواهُ
وَالسَّادِس عشر رِسَالَة إِلَى بعض الرؤساء فِي الْحَث على عمل الرصد النجومي
وَالسَّابِع عشر كتاب فِي الْمدْخل إِلَى الْأُمُور الهندسية
وَالثَّامِن عش مقَالَة فِي انتزاع الْبُرْهَان على أَن الْقطع الزَّائِد والخطان اللَّذَان لَا يلقيانه يقتربان أبدا وَلَا يَلْتَقِيَانِ
وَالتَّاسِع عشر أجوبة سبع مسَائِل تعليمية سُئِلت عَنْهَا بِبَغْدَاد فأجبت
وَالْعشْرُونَ كتاب فِي التَّحْلِيل والتركيب الهندسيين على جِهَة التَّمْثِيل للمتعلمين وَهُوَ مَجْمُوع مسَائِل هندسية وعددية حللتها وركبتها
وَالْحَادِي وَالْعشْرُونَ كتاب فِي آلَة الظل اختصرته ولخصته من كتاب إِبْرَاهِيم بن سِنَان فِي ذَلِك
وَالثَّانِي وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي اسْتِخْرَاج مَا بَين بلدين فِي الْبعد بِجِهَة الْأُمُور الهندسية
وَالثَّالِث وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي أصُول الْمسَائِل العددية الصم وتحليلها
وَالرَّابِع وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي حل شكّ ردا على إقليدس فِي الْمقَالة الْخَامِسَة من كِتَابه فِي الْأُصُول الرياضية
وَالْخَامِس وَالْعشْرُونَ رِسَالَة فِي برهَان الشكل الَّذِي قدمه أرشميدس فِي قسْمَة الزاوية ثَلَاثَة أَقسَام وَلم يبرهن عَلَيْهِ
وَمِمَّا صَنعته من الْعُلُوم الطبيعية والإلهية أَرْبَعَة وَأَرْبَعُونَ كتابا
أَحدهَا تَلْخِيص مدْخل فرفوريوس وَكتب أرسطوطاليس الْأَرْبَعَة المنطقية
وَالْآخر اخْتِصَار تَلْخِيص مدْخل فرفوريوس وَكتب أرسطوطاليس السَّبْعَة المنطقية
وَالثَّالِث رِسَالَة فِي صناعَة الشّعْر ممتزجة من اليوناني والعربي
وَالرَّابِع تَلْخِيص كتاب النَّفس لأرسطوطاليس وَإِن أخر الله فِي الْأَجَل وَأمكن الزَّمَان من الْفَرَاغ والتشاغل بِالْعلمِ لخصت كِتَابيه فِي السماع الطبيعي وَالسَّمَاء والعالم
وَالْخَامِس مقَالَة فِي مشاكلة الْعَالم الجزئي وَهُوَ الْإِنْسَان للْعَالم الْكُلِّي
وَالسَّادِس مقالتان فِي الْقيَاس وَشبهه
وَالسَّابِع مقَالَة فِي الْبُرْهَان
وَالثَّامِن مقَالَة فِي الْعَالم من جِهَة مبدئه وطبيعته وكماله
وَالتَّاسِع مقَالَة فِي المبادئ والموجودات
والعاشر مقَالَة فِي هَيْئَة الْعَالم(1/555)
وَالْحَادِي عشر كتاب فِي الرَّد على يحيى النَّحْوِيّ وَمَا نقضه على أرسطوطاليس وَغَيره من أَقْوَالهم فِي السَّمَاء والعالم
وَالثَّانِي عشر رِسَالَة إِلَى بعض من نظر فِي هَذَا النَّقْض فَشك فِي معَان مِنْهُ فِي حل شكوكه وَمَعْرِفَة ذَلِك من فهمه
وَالثَّالِث عشر كتاب فِي الرَّد على أبي الْحسن عَليّ بن الْعَبَّاس بن فسا نجس نقضه آراء المنجمين
وَالرَّابِع عشر جَوَاب مَا أجَاب بِهِ أَبُو الْحسن بن فسا نجس نقض من عَارضه فِي كَلَامه على المنجمين
وَالْخَامِس عشر مقَالَة فِي الْفضل والفاضل
وَالسَّادِس عشر مقَالَة فِي تشويق الْإِنْسَان إِلَى الْمَوْت بِحَسب كَلَام الْأَوَائِل
وَالسَّابِع عشر رِسَالَة أُخْرَى فِي هَذَا الْمَعْنى بِحَسب كَلَام الْمُحدثين
وَالثَّامِن عشر رِسَالَة فِي بطلَان مَا يرَاهُ المتكلمون من أَن الله لم يزل غير فَاعل ثمَّ فعل
وَالتَّاسِع عشر مقَالَة فِي خَارج السَّمَاء لَا فرَاغ وَلَا ملاء
وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي الرَّد على أبي هَاشم رَئِيس الْمُعْتَزلَة مَا تكلم بِهِ على جَوَامِع كتاب السَّمَاء والعالم لأرسطوطاليس
وَالْحَادِي وَالْعشْرُونَ قَول فِي تبَاين مذهبي الجبريين والمنجمين
وَالثَّانِي وَالْعشْرُونَ تَلْخِيص الْمسَائِل الطبيعية لأرسطوطاليس
وَالثَّالِث وَالْعشْرُونَ رِسَالَة فِي تَفْضِيل الأهواز على بَغْدَاد من جِهَة الْأُمُور الطبيعية
وَالرَّابِع وَالْعشْرُونَ رِسَالَة إِلَى كَافَّة أهل الْعلم فِي معنى مشاغب شاغبه
وَالْخَامِس وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي أَن جِهَة إِدْرَاك الْحَقَائِق جِهَة وَاحِدَة
وَالسَّادِس وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي أَن الْبُرْهَان معنى وَاحِد وَإِنَّمَا يسْتَعْمل صناعيا فِي الْأُمُور الهندسية وكلاميا فِي الْأُمُور الطبيعية والإلهية
وَالسَّابِع وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي طبيعتي الْأَلَم واللذة
وَالثَّامِن وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي طبائع اللَّذَّات الثَّلَاث الحسية والنطقية والمعادلة
وَالتَّاسِع وَالْعشْرُونَ مقَالَة فِي اتِّفَاق الْحَيَوَان النَّاطِق على الصَّوَاب مَعَ اخْتلَافهمْ فِي الْمَقَاصِد والأغراض
وَالثَّلَاثُونَ رِسَالَة فِي أَن برهَان الْخلف يصير برهَان استقامة بحدود وَاحِدَة
وَالْحَادِي وَالثَّلَاثُونَ كتاب فِي تثبيت أَحْكَام النُّجُوم بِجِهَة الْبُرْهَان
وَالثَّانِي وَالثَّلَاثُونَ رِسَالَة فِي الْأَعْمَار والآجال الكونية
وَالثَّالِث وَالثَّلَاثُونَ رِسَالَة فِي طبيعة الْعقل
وَالرَّابِع وَالثَّلَاثُونَ كتاب فِي النَّقْض على من رأى أَن الْأَدِلَّة متكافئة
وَالْخَامِس وَالثَّلَاثُونَ قَول فِي إِثْبَات عنصر الِامْتِنَاع
وَالسَّادِس وَالثَّلَاثُونَ نقض جَوَاب مَسْأَلَة سُئِلَ عَنْهَا بعض الْمُعْتَزلَة بِالْبَصْرَةِ(1/556)
وَالسَّابِع وَالثَّلَاثُونَ كتاب فِي صناعَة الْكِتَابَة على أوضاع الْأَوَائِل وأصولهم
وَالثَّامِن وَالثَّلَاثُونَ عهد إِلَى الْكتاب
وَالتَّاسِع وَالثَّلَاثُونَ مقَالَة فِي أَن فَاعل هَذَا الْعَالم إِنَّمَا يعلم ذَاته من جِهَة فعله
وَالْأَرْبَعُونَ جَوَاب قَول لبَعض المنطقيين فِي معَان خَالف فِيهَا من الْأُمُور الطبيعية
وَالْحَادِي وَالْأَرْبَعُونَ رِسَالَة فِي تَلْخِيص جَوْهَر النَّفس الْكُلية
وَالثَّانِي وَالْأَرْبَعُونَ فِي تَحْقِيق رَأْي أرسطوطاليس أَن الْقُوَّة الْمُدبرَة هِيَ من بدن الْإِنْسَان فِي الْقلب مِنْهُ
وَالثَّالِث وَالْأَرْبَعُونَ رِسَالَة فِي جَوَاب مَسْأَلَة سُئِلَ عَنْهَا ابْن السّمع الْبَغْدَادِيّ المنطقي فَلم يجب عَنْهَا جَوَابا مقنعا
وَالرَّابِع وَالْأَرْبَعُونَ كتاب فِي تَقْوِيم الصِّنَاعَة الطبية نظمته من جمل وجوامع مَا نظرت فِيهِ من كتب جالينوس وَهُوَ ثَلَاثُونَ كتابا كِتَابه فِي الْبُرْهَان كِتَابه فِي فرق الطِّبّ كِتَابه فِي الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة كِتَابه فِي التشريح كِتَابه فِي القوى الطبيعية كِتَابه فِي مَنَافِع الْأَعْضَاء كِتَابه فِي آراء أبقراط وأفلاطن كِتَابه فِي الْمَنِيّ كِتَابه فِي الصَّوْت كِتَابه فِي الْعِلَل والأعراض كِتَابه فِي أَصْنَاف الحميات كِتَابه فِي البحران كِتَابه فِي النبض الْكَبِير كِتَابه فِي الاسطقسات على رَأْي أبقراط كِتَابه فِي المزاج كِتَابه فِي قوى الْأَدْوِيَة المفردة كِتَابه فِي قوى الْأَدْوِيَة المركبة كِتَابه فِي مَوَاضِع الْأَعْضَاء الآلية كِتَابه فِي حِيلَة الْبُرْء كِتَابه فِي حفظ الصِّحَّة كِتَابه فِي جودة الكيموس ورداءته كَلَامه فِي أمراض الْعين كِتَابه فِي أَن قوى النَّفس تَابِعَة لمزاج الْبدن كِتَابه فِي سوء المزاج الْمُخْتَلف كِتَابه فِي أَيَّام البحران كِتَابه فِي الْكَثْرَة كِتَابه فِي اسْتِعْمَال الفصد لشفاء الْأَمْرَاض كِتَابه فِي الذبول كِتَابه فِي أفضل هيئات الْبدن جمع حنين بن إِسْحَاق من كَلَام جالينوس وَكَلَام أبقراط فِي الأغذية
ثمَّ شفعت جَمِيع مَا صَنعته من عُلُوم الْأَوَائِل برسالة بيّنت فِيهَا أَن جَمِيع الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة والدينية هِيَ نتائج الْعُلُوم الفلسفية
وَكَانَت هَذِه الرسَالَة هِيَ المتممة لعدد أقوالي فِي هَذِه الْعُلُوم بالْقَوْل السّبْعين وَذَلِكَ سوى رسائل ومصنفات عدَّة حصلت لي فِي أَيدي جمَاعَة من النَّاس بِالْبَصْرَةِ والأهواز ضَاعَت دساتيرها وَقطع الشّغل بِأُمُور الدُّنْيَا وعوارض الْأَسْفَار عَن نسخهَا وَكَثِيرًا مَا يعرض ذَلِك للْعُلَمَاء
فقد اتّفق مثله لِجَالِينُوسَ حَتَّى ذكر ذَلِك فِي بعض كتبه فَقَالَ وَقد صنفت كتبا كَثِيرَة دفعت دساتيرها إِلَى جمَاعَة من أخواني وقطعني الشّغل وَالسّفر عَن نسخهَا حَتَّى خرجت إِلَى النَّاس من جهتهم
قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَإِن أَطَالَ الله لي فِي مُدَّة الْحَيَاة وفسح فِي الْعُمر صنفت وشرحت ولخصت من هَذِه الْعُلُوم أَشْيَاء كَثِيرَة تترد فِي نَفسِي ويبعثني ويحثني على إخْرَاجهَا إِلَيّ فكري وَالله يفعل مَا يَشَاء وَيحكم مَا يُريدهُ وَبِيَدِهِ مقاليد كل شَيْء وَهُوَ المبدئ المعيد
وَهَذَا مَا وَجب أَن أذكرهُ فِي معنى مَا صنعنه واختصرته من عُلُوم الْأَوَائِل قصدت بِهِ مذاكرة الْحُكَمَاء(1/557)
الأفاضل والعقلاء الأماثل من النَّاس كَالَّذي يَقُول
(رب ميت قد صَار بِالْعلمِ حَيا ... ومبقى قد مَاتَ جهلا وغيا)
(فاقتنوا الْعلم كي تنالوا خلودا ... لَا تعدوا الْبَقَاء فِي الْجَهْل شيا) الْخَفِيف
وَهَذَانِ البيتان هما لأبي الْقَاسِم بن الْوَزير أبي الْحسن عَليّ بن عِيسَى رَضِي الله عَنْهُمَا وَكَانَ فيلسوفا قالهما ووصى بِأَن يكتبا على قَبره لم أقصد بِهِ مُخَاطبَة جَمِيع النَّاس لَا غير الْفَاضِل مِنْهُم
وَقلت فِي ذَلِك كَمَا قَالَ جالينوس فِي كِتَابه فِي النبض الْكَبِير لَيْسَ خطابي فِي هَذَا الْكتاب لجَمِيع النَّاس بل خطابي لرجل مِنْهُم يوازي أُلُوف رجال بل عشرات أُلُوف رجال إِذْ كَانَ الْحق لَيْسَ هُوَ بِأَن يُدْرِكهُ الْكثير من النَّاس لَكِن هُوَ بِأَن يُدْرِكهُ الْفَهم الْفَاضِل مِنْهُم ليعرفوا رتبتي فِي هَذِه الْعُلُوم ويتحققوا منزلتي من إِيثَار الْحق جلّ وَعلا من طلب الْقرْبَة إِلَى الله فِي إِدْرَاك الْعُلُوم والمعارف النفسية ويعلموا تحققي بِفعل مَا فرضته هَذِه الْعُلُوم عَليّ من مُلَابسَة الْأُمُور الدُّنْيَوِيَّة وكلية الْخَيْر ومجانية كُلية الشَّرّ فِيهَا فَإِن ثَمَرَة هَذِه الْعُلُوم هُوَ علم الْحق وَالْعَمَل بِالْعَدْلِ فِي جَمِيع الْأُمُور الدينوية وَالْعدْل هُوَ مَحْض الْخَيْر الَّذِي يَفْعَله يفوز أَيْن الْعَالم الأرضي وبنعيم الْآخِرَة السماوي ويعتاض عَن صعوبة مَا يلقاه بذلك مُدَّة الْبَقَاء الْمُنْقَطع فِي دَار الدُّنْيَا دوَام الْحَيَاة منعما فِي الدَّار الْأُخْرَى
وَإِلَى الله تَعَالَى أَرغب فِي توفيقي لما فزت إِلَيْهِ وأزلف لَدَيْهِ
أَقُول وَكَانَ تَارِيخ كِتَابَة ابْن الْهَيْثَم لهَذِهِ الرسَالَة فِي ذِي الْحجَّة سنة سبع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
وَكَانَ تلوها أَيْضا بِخَطِّهِ مَا هَذَا مِثَاله مَا صنعه مُحَمَّد بن الْحسن بن الْهَيْثَم بعد ذَلِك إِلَى سلخ جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع عشرَة وَأَرْبَعمِائَة
تَلْخِيص السماع الطبيعي لأرسطوطاليس
مقَالَة لمُحَمد بن الْحسن فِي الْمَكَان وَالزَّمَان على مَا وجده يلْزم رَأْي أرسطوطاليس فيهمَا
رِسَالَة إِلَى أبي الْفرج عبد الله بن الطّيب الْبَغْدَادِيّ المنطقي فِي عدَّة معَان من الْعُلُوم الطبيعية والإلهية نقض مُحَمَّد بن الْحسن عَليّ أبي بكر الرَّازِيّ المتطبب رَأْيه فِي الإلهيات والنبؤات
مقَالَة لَهُ فِي أبطال رَأْي من يرى أَن الْعِظَام مركبة من أَجزَاء كل جُزْء مِنْهَا لَا جُزْء لَهُ
مقَالَة لَهُ فِي عمل الرصد من دَائِرَة أفق بلد مَعْلُوم الْعرض
كتاب لَهُ فِي إِثْبَات النبوات وإيضاح فَسَاد رَأْي الَّذين يَعْتَقِدُونَ بُطْلَانهَا وَذكر الْفرق بَين النَّبِي والمتنبي
مقَالَة لمُحَمد بن الْحسن فِي إِيضَاح تَقْصِير أبي عَليّ الحياتي فِي نقضه بعض كتب ابْن الراوندي ولزومه مَا ألزمهُ إِيَّاه ابْن الراوندي بِحَسب أُصُوله وإيضاح الرَّأْي الَّذِي لَا يلْزم مَعَه اعتراضات ابْن الراوندي
رِسَالَة لَهُ فِي تأثيرات اللحون الموسيقية فِي النُّفُوس الحيوانية
مقَالَة فِي أَن الدَّلِيل الَّذِي يسْتَدلّ بِهِ المتكلمون على حُدُوث الْعَالم دَلِيل فَاسد وَالِاسْتِدْلَال على حُدُوث الْعَالم بالبرهان الاضطراري وَالْقِيَاس الْحَقِيقِيّ
مقَالَة لَهُ يرد فِيهَا على الْمُعْتَزلَة رَأْيهمْ فِي حُدُوث صِفَات الله تبَارك وَتَعَالَى
رِسَالَة لَهُ فِي الرَّد على الْمُعْتَزلَة رَأْيهمْ فِي الْوَعيد
جَوَاب لَهُ عَن مَسْأَلَة هندسية سُئِلَ عَنْهَا بِبَغْدَاد فِي شهور سنة ثَمَان عشرَة وَأَرْبَعمِائَة(1/558)
مقَالَة ثَانِيَة لمُحَمد بن الْحسن فِي إبانة الْغَلَط مِمَّن قضى أَن الله لم يزل غير فَاعل من فعل
مقَالَة فِي أبعاد الأجرام السماوية وأقدار أعظامها
تَلْخِيص كتاب الْآثَار العلوية لأرسطوطاليس
تَلْخِيص كتاب أرسطوطاليس فِي الْحَيَوَان وَبعد ذَلِك مقَالَة فِي المرايا المحرقة مُفْردَة عَمَّا ذكرته من ذَلِك فِي تَلْخِيص كتابي إقليدس وبطلميوس فِي المناظر
كتاب فِي اسْتِخْرَاج الْجُزْء العملي من كتاب المجسطي
مقَالَة فِي جَوْهَر الْبَصَر وَكَيْفِيَّة وُقُوع الْأَبْصَار بِهِ
مقَالَة فِي الرَّد على أبي الْفرج عبد الله بن الطّيب رَأْيه الْمُخَالف بِهِ لرأي جالينوس فِي القوى الطبيعية فِي بدن الْإِنْسَان
أَقُول وَهَذَا آخر مَا وجدته من ذَلِك بِخَط مُحَمَّد بن الْحسن بن الْهَيْثَم المُصَنّف رَحمَه الله
وَهَذَا أَيْضا فهرست وجدته لكتب ابْن الْهَيْثَم إِلَى آخر سنة تسع وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة
مقَالَة فِي هَيْئَة الْعَالم
مقَالَة فِي شرح مصادرات كتاب إقليدس كتاب فِي المناظر سبع مقالات
مقَالَة فِي كَيْفيَّة الأرصاد
مقَالَة فِي الْكَوَاكِب الْحَادِثَة فِي الجو
مقَالَة فِي ضوء الْقَمَر
مقَالَة فِي سمت الْقبْلَة بِالْحِسَابِ
مقَالَة فِي قَوس قزَح والهالة
مقَالَة فِيمَا يعرض من الِاخْتِلَاف فِي ارتفاعات الْكَوَاكِب
مقَالَة فِي حِسَاب الْمُعَامَلَات
مقَالَة فِي الرخامة الأفقية مقَالَة فِي رُؤْيَة الْكَوَاكِب
كتاب فِي بركار القطوع مقالتان
مقَالَة فِي مراكز الأثقال
مقَالَة فِي أصُول المساحة
مقَالَة فِي مساحة الكرة
مقَالَة فِي مساحة المجسم المكافئ
مقَالَة فِي المرايا المحرقة بالدوائر
مقَالَة فِي المرايا المحرقة بالقطوع
مقَالَة مختصرة فِي الأشكال الْهِلَالِيَّة
مقَالَة مستقصاة فِي الأشكال الْهِلَالِيَّة
مقَالَة مختصرة فِي بركار الدَّوَائِر الْعِظَام
مقَالَة مشروحة فِي بركار الدَّوَائِر الْعِظَام
مقَالَة فِي السمت
مقَالَة فِي التَّنْبِيه على مَوَاضِع الْغَلَط فِي كَيْفيَّة الرصد
مقَالَة فِي أَن الكرة أوسع الأشكال المجسمة الَّتِي أحاطتها مُتَسَاوِيَة وَأَن الدائرة أوسع الأشكال المسطحة الَّتِي أحاطتها مُتَسَاوِيَة
مقَالَة فِي المناظر على طَريقَة بطلميوس
كتاب فِي تَصْحِيح الْأَعْمَال النجومية مقالتان
مقَالَة فِي اسْتِخْرَاج أَرْبَعَة خطوط بَين خطين
مقَالَة فِي تربيع الدائرة
مقَالَة فِي اسْتِخْرَاج خطّ نصف النَّهَار على غَايَة التَّحْقِيق
قَول فِي جَمِيع الْأَجْزَاء
مقَالَة فِي خَواص الْقطع المكافئ
مقَالَة فِي خَواص الْقطع الزَّائِد
مقَالَة فِي نسب القسى الزمانية إِلَى ارتفاعها
مقَالَة فِي كَيْفيَّة الأظلال
مقَالَة فِي أَن مَا يرى من السَّمَاء هُوَ أَكثر من نصفهَا
مقَالَة فِي حل شكوك الْمقَالة الأولى من كتاب المجسطي يشكك فِيهَا بعض أهل الْعلم
مقَالَة فِي حل شكّ فِي مجسمات كتاب إقليدس
قَول فِي قسْمَة المقدارين الْمُخْتَلِفين الْمَذْكُورين فِي الشكل الأول من الْمقَالة الْعَاشِرَة من كتاب إقليدس مَسْأَلَة فِي اخْتِلَاف النّظر
قَول فِي اسْتِخْرَاج مُقَدّمَة ضلع المسبع
قَول فِي قسْمَة الْخط الَّذِي اسْتَعْملهُ أرشميدس فِي كتاب الكرة والأسطوانة قَول فِي اسْتِخْرَاج خطّ نصف النَّهَار بِظِل وَاحِد
مقَالَة فِي عمل مخمس فِي مربع
مقَالَة فِي المجرة مقَالَة فِي اسْتِخْرَاج ضلع المكعب
مقَالَة فِي أضواء الْكَوَاكِب
مقَالَة فِي الْأَثر الَّذِي فِي الْقَمَر
قَول فِي مَسْأَلَة عددية
مقَالَة فِي أعداد الوفق
مقَالَة فِي الكرة المتحركة على السَّطْح
مقَالَة فِي التَّحْلِيل والتركيب
مقَالَة فِي المعلومات
قَول فِي حل شكّ فِي الْمقَالة الثَّانِيَة عشرَة من كتاب إقليدس
مقَالَة فِي حل شكوك الْمقَالة الأولى من كتاب إقليدس
مقَالَة فِي حِسَاب الخطأين
قَول فِي جَوَاب مَسْأَلَة فِي المساحة(1/559)
مقَالَة مختصرة فِي سمت الْقبْلَة
مقَالَة فِي الضَّوْء
مقَالَة فِي حَرَكَة الالتفاف
مقَالَة فِي الرَّد على من خَالفه فِي مَاهِيَّة المجرة
مقَالَة فِي حل شكوك حَرَكَة الالتفاف
مقَالَة فِي الشكوك على بطلميوس
مقَالَة فِي الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ
مقَالَة فِي خطوط السَّاعَات
مقَالَة فِي القرسطون
مقَالَة فِي الْمَكَان
قَول فِي اسْتِخْرَاج أعمدة الْجبَال
مقَالَة فِي علل الْحساب الْهِنْدِيّ
مقَالَة فِي أعمدة المثلثات
مقَالَة فِي خَواص الدَّوَائِر
مقَالَة فِي شكل بني مُوسَى
مقَالَة فِي عمل المسبع فِي الدائرة
مقَالَة فِي اسْتِخْرَاج ارْتِفَاع القطب على غَايَة التَّحْقِيق
مقَالَة فِي عمل البنكام
مقَالَة فِي الكرة المحرقة
قَول فِي مَسْأَلَة عددية مجسمة
قَول فِي مَسْأَلَة هندسية
مقَالَة فِي صُورَة الْكُسُوف
مقَالَة فِي أعظم الخطوط الَّتِي تقع فِي قِطْعَة الدائرة
مقَالَة فِي حَرَكَة الْقَمَر
مقَالَة فِي مسَائِل التلاقي
مقَالَة فِي شرح الأرثماطيقي على طَرِيق التَّعْلِيق
مقَالَة فِي شرح القانون على طَرِيق التَّعْلِيق
مقَالَة فِي شرح الرومنطيقي على طَرِيق التَّعْلِيق
قَول فِي قسْمَة المنحرف الْكُلِّي
مقَالَة فِي الْأَخْلَاق
مقَالَة فِي آدَاب الْكتاب
كتاب فِي السياسة خمس مقالات
تَعْلِيق علقه إِسْحَق بن يُونُس المتطبب بِمصْر عَن ابْن الْهَيْثَم فِي كتاب ديوفنطس فِي مسَائِل الْجَبْر
قَول فِي اسْتِخْرَاج مَسْأَلَة عددية
المبشر بن فاتك
هُوَ الْأَمِير مَحْمُود الدولة أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فاتك الآمري من أَعْيَان أُمَرَاء مصر وأفاضل علمائها
دَائِم الِاشْتِغَال محب للفضائل والاجتماع بِأَهْلِهَا ومباحثتهم وَالِانْتِفَاع بِمَا يقتبسه من جهتهم وَكَانَ مِمَّن اجْتمع بِهِ مِنْهُم وَأخذ عَنهُ كثيرا من عُلُوم الْهَيْئَة والعلوم الرياضية أَبُو مُحَمَّد بن الْحسن بن الْهَيْثَم
وَكَذَلِكَ أَيْضا اجْتمع بالشيخ أبي الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن الْآمِدِيّ وَأخذ عَنهُ كثيرا من الْعُلُوم الْحكمِيَّة واشتغل أَيْضا بصناعة الطِّبّ ولازم أَبَا الْحسن عَليّ بن رضوَان الطَّبِيب
وللمبشر بن فاتك تصانيف جليلة فِي الْمنطق وَغَيره من أَجزَاء الْحِكْمَة وَهِي مَشْهُورَة فِيمَا بَين الْحُكَمَاء
وَكَانَ كثير الْكِتَابَة
وَقد وجدت بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة من تصانيف الْمُتَقَدِّمين
وَكَانَ المبشر بن فاتك قد اقتنى كتبا كَثِيرَة جدا
وَكثير مِنْهَا يُوجد وَقد تَغَيَّرت ألوان الْوَرق الَّذِي لَهُ بغرق أَصَابَهُ
وحَدثني الشَّيْخ سديد الدّين المنطقي بِمصْر قَالَ كَانَ الْأَمِير ابْن فاتك محبا لتَحْصِيل الْعُلُوم وَكَانَت لَهُ خَزَائِن كتب فَكَانَ فِي أَكثر أوقاته إِذا نزل من الرّكُوب لَا يفارقها وَلَيْسَ لَهُ دأب إِلَّا المطالعة وَالْكِتَابَة وَيرى أَن ذَلِك أهم مَا عِنْده
وَكَانَت لَهُ زَوْجَة كَبِيرَة الْقدر أَيْضا من أَرْبَاب الدولة فَلَمَّا توفّي رَحمَه الله نهضت هِيَ وَجوَار مَعهَا إِلَى خَزَائِن كتبه وَفِي قَلبهَا من الْكتب وَأَنه كَانَ يشْتَغل بهَا عَنْهَا
فَجعلت تندبه وَفِي أثْنَاء ذَلِك ترمي الْكتب فِي بركَة مَاء كَبِيرَة فِي وسط الدَّار هِيَ وجواريها
ثمَّ شيلت الْكتب بعد ذَلِك من المَاء وَقد غرق أَكْثَرهَا
فَهَذَا سَبَب أَن كتب المبشر بن فاتك يُوجد كثير مِنْهَا وَهُوَ بِهَذِهِ الْحَال(1/560)
أَقُول وَكَانَ من جملَة تلاميذ المبشر بن فاتك والأخذين عَنهُ أَبُو الْخَيْر سَلامَة بن مبارك ابْن رحمون
وللمبشر بن فاتك من الْكتب كتاب الْوَصَايَا والأمثال والموجز من مُحكم الْأَقْوَال
كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم
كتاب الْبِدَايَة فِي الْمنطق
كتاب فِي الطِّبّ
إِسْحَق بن يُونُس
كَانَ طَبِيبا عَالما بالصناعة الطبية عَارِفًا بالعلوم الْحكمِيَّة جيد الدربة حسن العلاج
قَرَأَ الْحِكْمَة على ابْن السَّمْح وَكَانَ مُقيما بِمصْر
عَليّ بن رضوَان
هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن رضوَان بن عَليّ بن جَعْفَر وَكَانَ مولده ومنشؤه بِمصْر وَبهَا تعلم الطِّبّ
وَقد ذكر عَليّ بن رضوَان فِي سيرته من كَيْفيَّة تعلمه صناعَة الطِّبّ وأحواله مَا هَذَا نَصه
قَالَ إِنَّه لما كَانَ يَنْبَغِي لكل إِنْسَان أَن ينتحل أليق الصَّنَائِع بِهِ وأوفقها لَهُ وَكَانَت صناعَة الطِّبّ تتاخم الفلسفة طَاعَة لله عز وَجل وَكَانَت دلالات النُّجُوم فِي مولدِي تدل على أَن صناعتي الطِّبّ
وَكَانَ الْعَيْش عِنْدِي فِي الْفَضِيلَة ألذ من كل عَيْش أخذت فِي تعلم صناعَة الطِّبّ وَأَنا ابْن خمس عشرَة سنة والأجود أَن أقتص إِلَيْك أَمْرِي كُله ولدت بِأَرْض مصر فِي عرض ثَلَاثِينَ دَرَجَة وَطول خمس وَخمسين دَرَجَة والطالع بزيج يحيى بن أبي مَنْصُور الْحمل هـ لَو وعاشرة الجدي هـ كح ومواضع الْكَوَاكِب الشَّمْس بالدلو اه لب وَالْقَمَر بالعقرب ح يه وَعرضه جنوب ح يز وزحل بِالْقَوْسِ كط وَللْمُشْتَرِي بالجدي هـ كح والمريخ بالدلو كَا مح والزهرة بِالْقَوْسِ كد ك وَعُطَارِد بالدلو يط وَسَهْم السَّعَادَة بالجدي د هـ وجزء الِاسْتِقْبَال الْمُتَقَدّم بالسرطان كب ي والجوزهر بِالْقَوْسِ يز يَا والذنب بالجوزاء يز مَا والنسر الْوَاقِع بالجدي اكب والشعرى العبور بالسرطان يب
فَلَمَّا بلغت السّنة السَّادِسَة أسلمت نَفسِي فِي التَّعْلِيم وَلما بلغت السّنة الْعَاشِرَة انْتَقَلت إِلَى الْمَدِينَة الْعُظْمَى واجهدت نَفسِي فِي التَّعْلِيم
وَلما أَقمت أَربع عشرَة سنة أخذت فِي تعلم الطِّبّ والفلسفة وَلم يكن لي مَال انفق مِنْهُ فَلذَلِك عرض لي فِي التَّعَلُّم صعوبة ومشقة
فَكنت مرّة أتكسب بصناعة القضايا بالنجوم وَمرَّة بصناعة الطِّبّ وَمرَّة بالتعليم
وَلم أزل كَذَلِك وَأَنا فِي غَايَة الِاجْتِهَاد فِي التَّعْلِيم إِلَى السّنة الثَّانِيَة وَالثَّلَاثِينَ فَإِنِّي اشتهرت فِيهَا بالطب وكفاني مَا كنت أكسبه بالطب بل وَكَانَ يفضل عني إِلَى وقتي هَذَا وَهُوَ آخر السّنة التَّاسِعَة وَالْخمسين
وكسبت مِمَّا فضل عَن نفقتي أملاكا فِي هَذِه الْمَدِينَة إِن كتب الله عَلَيْهَا السَّلامَة وَبَلغنِي سنّ الشيخوخة كفاني فِي النَّفَقَة عَلَيْهَا
وَكنت مُنْذُ السّنة الثَّانِيَة وَالثَّلَاثِينَ إِلَى يومي هَذَا أعمل تذكرة لي وأغيرها فِي كل سنة إِلَى أَن قررتها على هَذَا التَّقْرِير الَّذِي أستقبل بِهِ السّنة السِّتين من ذَلِك
أتصرف فِي كل يَوْم فِي صناعتي بِمِقْدَار مَا يُغني(1/561)
وَمن الرياضة الَّتِي تحفظ صِحَة الْبدن وأغتذي بعد الاسْتِرَاحَة من الرياضة غذَاء أقصد بِهِ حفظ الصِّحَّة وأجتهد فِي حَال تصرفي فِي التَّوَاضُع والمداراة وغياث الملهوف وكشف كربَة المكروب وإسعاف الْمُحْتَاج
وَأَجْعَل قصدي فِي كل ذَلِك الالتذاذ بالأفعال والانفعالات الجميلة
وَلَا بُد أَن يحصل مَعَ ذَلِك كسب مَا ينْفق فأنفق مِنْهُ على صِحَة بدني وَعمارَة منزلي نَفَقَة لَا تبلغ التبذير وَلَا تنحط التقتير وَتلْزم الْحَال الْوُسْطَى بِقدر مَا يُوجِبهُ التعقل فِي كل وَقت واتفقد آلَات منزلي فَمَا يحْتَاج إِلَى إصْلَاح صلحته وَمَا يحْتَاج إِلَى بدل بدلته وَأعد فِي منزلي مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الطَّعَام وَالشرَاب وَالْعَسَل وَالزَّيْت والحطب وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الثِّيَاب فَمَا فضل بعد ذَلِك كُله صرفته فِي وُجُوه الْجَمِيل وَالْمَنَافِع مثل إِعْطَاء الْأَهْل والأخوان وَالْجِيرَان وَعمارَة الْمنزل
وَمَا اجْتمع من غلَّة أملاكي أدخرته لعمارتها ومرمتها ولوقت الْحَاجة إِلَى مثله
وَإِذا هَمَمْت لتجديد أَمر مثل تِجَارَة أَو بِنَاء أَو غير ذَلِك فرضته مَطْلُوبا وحللته إِلَى مَوْضُوعَاته ولوازمها
فَإِن وجدته من الْمُمكن الْأَكْثَر بادرت إِلَيْهِ وَإِن وجدته من الْمُمكن الْقَلِيل أطرحته
وأتعرف مَا يمكنني تَعْرِيفه من الْأُمُور المزمعة وآخذ لَهُ أهبته
وَأَجْعَل ثِيَابِي مزينة بشعار الأخيار والنظافة وَطيب الرَّائِحَة
وألزم الصمت وكف اللِّسَان عَن معايب النَّاس
وأجتهد أَن لَا أَتكَلّم إِلَّا بِمَا يَنْبَغِي
وأتوقى الْأَيْمَان ومثالب الآراء فأحذر الْعجب وَحب الْغَلَبَة وأطرح الْهم الحرصي والاغتمام
وَإِن دهمني أَمر فادح أسلمت فِيهِ إِلَى الله تَعَالَى وقابلته بِمَا يُوجِبهُ التعقل من غير جبن وَلَا تهور
وَمن عاملته عاملته يدا بيد لَا أَسف وَلَا أتسلف إِلَّا أَن أضطر لذَلِك
وَإِن طلب مني أحد سلفا وهبت مِنْهُ وَلم أرد مِنْهُ عوضا وَمَا بَقِي من يومي بعد فراغي من رياضتي صرفته فِي عبَادَة الله سُبْحَانَهُ بِأَن أتنزه بِالنّظرِ فِي ملكوت السَّمَوَات وَالْأَرْض وتمجيد محكمها وأتدبر مقَالَة أرسطاطاليس فِي التَّدْبِير وآخذ نَفسِي بِلُزُوم وصاياها بالغدة والعشي وأتفقد فِي وَقت خلوتي مَا سلف فِي يومي من أفعالي وانفعالاتي
فَمَا كَانَ خيرا أَو جميلا أَو نَافِعًا سررت بِهِ وَمَا كَانَ شرا أَو قبيحا أَو ضارا اغتممت بِهِ ووافقت نَفسِي بِأَن لَا أَعُود إِلَى مثله
قَالَ وَأما الْأَشْيَاء الَّتِي أتنزه فِيهَا فلأني فرضت نزهتي ذكر الله عز وَجل وتمجيده بِالنّظرِ فِي ملكوت السَّمَاء وَالْأَرْض
وَكَانَ قد كتب القدماء والعارفون فِي ذَلِك كتبا كَثِيرَة رَأَيْت أَن أقتصر مِنْهَا على مَا أنصه من ذَلِك خَمْسَة كتب من كتب الْأَدَب وَعشرَة كتب من كتب الشَّرْع وَكتب أبقراط وجالينوس فِي صناعَة الطِّبّ وَمَا جانسها مثل كتاب الحشائش لديسقوريدس وَكتب روفس وأريباسيوس وبولس وَكتاب الْحَاوِي للرازي وَمن كتب الفلاحة والصيدلة أَرْبَعَة كتب وَمن كتب التعاليم المجسطي ومداخله وَمَا أنتفع بِهِ فِيهِ والمربعة لبطلميوس وَمن كتب العارفين كتب أفلاطن وأرسطوطاليس والإسكندر وثامطيوس وَمُحَمّد الفارابي وَمَا أنتفع بِهِ فِيهَا
وَمَا سوى ذَلِك إِمَّا أبيعه بِأَيّ ثمن اتّفق وَإِمَّا أَن أخزنه فِي صناديق
وَبيعه أَجود من خزنه
أَقُول هَذَا جملَة مَا ذكره من سيرته
وَكَانَ مولده فِي ديار مصر بالجيزة وَنَشَأ بِمَدِينَة مصر(1/562)
وَكَانَ أَبوهُ فرانا
وَلم يزل ملازما للاشتغال وَالنَّظَر فِي الْعلم إِلَى أَن تميز وَصَارَ لَهُ الذّكر الْحسن والسمعة الْعَظِيمَة وخدم الْحَاكِم وَجعله رَئِيسا على سَائِر المتطببين
وَكَانَت دَار ابْن رضوَان بِمَدِينَة مصر فِي قصر الشمع وَهِي الْآن تعرف بِهِ وَقد تهدمت وَلم يتَبَيَّن إِلَّا بقايا يسيرَة من آثارها
وَحدث فِي الزَّمَان الَّذِي كَانَ فِيهِ ابْن رضوَان بديار مصر الغلاء الْعَظِيم
والغلاء الفادح الَّذِي هلك بِهِ أَكثر أَهلهَا
ونقلت من خطّ الْمُخْتَار ابْن الْحسن بن بطلَان أَن الغلاء عرض بِمصْر فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة قَالَ وَنقص النّيل فِي السّنة الَّتِي تَلِيهَا وتزايد الغلاء وَتَبعهُ وباء عَظِيم وَاشْتَدَّ وَعظم فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَحكي أَن السُّلْطَان كفن من مَاله ثَمَانِينَ ألف نفس وَأَنه فقد ثَمَانمِائَة قَائِد وَحصل للسُّلْطَان من الْمَوَارِيث مَال جزيل
وحَدثني أَبُو عبد الله مُحَمَّد المالقي النَّاسِخ أَن ابْن رضوَان تغير عقله فِي آخر عمره وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَنه فِي ذَلِك الغلاء كَانَ قد أَخذ يتيمة رباها وَكَبرت عِنْده فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام خلا لَهَا الْموضع وَكَانَ قد أدخر أَشْيَاء نفيسة وَمن الذَّهَب نَحْو عشْرين ألف دِينَار فَأخذت الْجَمِيع وهربت
وَلم يظفر مِنْهَا على خبر وَلَا عرف أَيْن تَوَجَّهت فتغيرت أَحْوَاله من حِينَئِذٍ
أَقُول وَكَانَ ابْن رضوَان كثير الرَّد على من كَانَ يعاصره من الْأَطِبَّاء وَغَيرهم وَكَذَلِكَ على كثير مِمَّن تقدمه
وَكَانَت عِنْده سفاهة فِي بَحثه وتشنيع على من يُرِيد مناقشته
وَأكْثر ذَلِك يُوجد عِنْدَمَا كَانَ يرد على حنين بن إِسْحَق وعَلى أبي الْفرج بن الطّيب وَكَذَلِكَ أَيْضا على أبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ
وَلم يكن لِابْنِ رضوَان فِي صناعَة الطِّبّ معلم ينْسب إِلَيْهِ وَله كتاب فِي ذَلِك يتَضَمَّن أَن تَحْصِيل الصِّنَاعَة من الْكتب أوفق من المعلمين
وَقد رد عَلَيْهِ ابْن بطلَان هَذَا الرَّأْي وَغَيره فِي كتاب مُفْرد وَذكر فصلا فِي الْعِلَل الَّتِي لأَجلهَا صَار المتعلم من أَفْوَاه الرِّجَال أفضل من المتعلم من الصُّحُف إِذا كَانَ القَوْل وَاحِدًا
وَأورد عدَّة علل
الأولى مِنْهَا تجْرِي هَكَذَا وُصُول الْمعَانِي من النسيب إِلَى النسيب خلاف وصولها من غير النسيب إِلَى النسيب
والنسيب النَّاطِق أفهم للتعليم بالنطق وَهُوَ الْمعلم وَغير النسيب لَهُ جماد وَهُوَ الْكتاب وَبعد الجماد من النَّاطِق مطيل طَرِيق الْفَهم وَقرب النَّاطِق من النَّاطِق مقرب للفهم فالفهم من النسيب وَهُوَ الْمعلم أقرب وأسهل من غير النسيب وَهُوَ الْكتاب
وَالثَّانيَِة هَكَذَا النَّفس الْعَلامَة عَلامَة بِالْفِعْلِ وَصُورَة الْفِعْل عَنْهَا يُقَال لَهُ تَعْلِيم والتعليم والتعلم من الْمُضَاف
وَكلما هُوَ للشَّيْء بالطبع أخص بِهِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ بالطبع
وَالنَّفس المتعلمة عَلامَة بِالْقُوَّةِ وَقبُول الْعلم فِيهَا يُقَال لَهُ تعلم والمضافان مَعًا بالطبع
فالتعليم من الْمعلم أخص بالمتعلم من الْكتب
وَالثَّالِثَة على هَذِه الصُّورَة المتعلم إِذا استعجم عَلَيْهِ مَا يفهمهُ الْمعلم من لفظ نَقله إِلَى لفظ آخر وَالْكتاب لَا ينْقل من لفظ إِلَى لفظ
فالفهم من الْمعلم أصلح للمتعلم من الْكتاب وكل مَا هُوَ بِهَذِهِ الصّفة فَهُوَ فِي إِيصَال الْعلم أصلح للمتعلم(1/563)
وَالرَّابِعَة الْعلم مَوْضُوعه اللَّفْظ وَاللَّفْظ على ثَلَاثَة أضْرب قريب من الْعقل وَهُوَ الَّذِي صاغه الْعقل مِثَالا لما عده من الْمعَانِي ومتوسط ومتوسط وَهُوَ المتلفظ بِهِ بالصوت وَهُوَ مِثَال لما صاغه الْعقل وبعيد وَهُوَ الْمُثبت فِي الْكتب وَهُوَ مِثَال مَا خرج بِاللَّفْظِ
فالكتاب مِثَال مِثَال مِثَال الْمعَانِي الَّتِي فِي الْعقل والمثال الأول لَا يقوم مقَام الْمثل لعوز الْمثل فَمَا ظَنك بمثال مِثَال مِثَال الْمثل
فالمثال الأول لما عِنْد الْعقل أقرب فِي الْفَهم من مِثَال الْمِثَال والمثال الأول هُوَ اللَّفْظ وَالثَّانِي هُوَ الْكتاب
وَإِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا فالفهم من لفظ الْمعلم أسهل وَأقرب من لفظ الْكتاب
وَالْخَامِسَة وُصُول اللَّفْظ الدَّال على الْمَعْنى إِلَى الْعقل يكون من جِهَة حاسة غَرِيبَة من اللَّفْظ وَهِي الْبَصَر لِأَن الحاسة النسبية للفظ هِيَ السّمع لِأَنَّهُ تصويت وَالشَّيْء الْوَاصِل من النسيب وَهُوَ اللَّفْظ أقرب من وُصُوله من الْغَرِيب وَهُوَ الْكِتَابَة
فالفهم من الْمعلم بِاللَّفْظِ أسهل من الْكتاب بالخط
وَالسَّادِسَة هَكَذَا يُوجد فِي الْكتاب أَشْيَاء تصد عَن الْعلم قد عدمت فِي تَعْلِيم الْمعلم وَهِي التَّصْحِيف الْعَارِض من اشْتِبَاه الْحُرُوف مَعَ عدم اللَّفْظ والغلط بزوغان الْبَصَر وَقلة الْخِبْرَة بالإعراب أَو عدم وجوده مَعَ الْخِبْرَة بِهِ أَو فَسَاد الْمَوْجُود مِنْهُ
واصطلاح الْكتاب مَا لَا يقْرَأ وَقِرَاءَة مَا لَا يكْتب وَنَحْو التَّعْلِيم ونمط الْكَلَام وَمذهب صَاحب الْكتاب
وسقم النّسخ ورداءة النَّقْل وادماج الْقَارئ مَوَاضِع المقاطع وخلط مبادئ التعاليم وَذكر أَلْفَاظ مصطلح عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الصِّنَاعَة وألفاظ يونانية لم يُخرجهَا النَّاقِل من اللُّغَة كالثوروس وَهَذِه كلهَا معوقة عَن الْعلم
وَقد استراح المتعلم عَن تكلفها عِنْد قِرَاءَته على الْمعلم
وَإِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا فالقراءة على الْعلمَاء أفضل وأجدى من قِرَاءَة الْإِنْسَان لنَفسِهِ
وَهُوَ مَا أردنَا بَيَانه
قَالَ وَأَنا آتِيك بِبَيَان سَابِع أَظُنهُ مُصدقا عنْدك وَهُوَ مَا قَالَه الْمُفَسِّرُونَ فِي الِاعْتِيَاض عَن السالبة البسيطة بالموجبة المعدولة فَإِنَّهُم مجمعون على أَن هَذَا الْفَصْل لَو لم يسمعهُ من أرسطوطاليس تِلْمِيذه تاؤفرسطس وأوذيموس لما فهم قطّ من كتاب
وَإِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا فالفهم من الْمعلم أفضل من الْفَهم من الْكتاب
وبحسب هَذَا يجب على كل محب للْعلم أَن لَا يقطع بِظَنّ فَرُبمَا خَفِي الصَّوَاب وَإِذا خَفِي الصَّوَاب
علم الْأَشْيَاء علما رديا فثار عَلَيْهِ بِحَسب اعْتِقَاده فِي الْحق أَنه محَال شكوك يعسر حلهَا
وَكَانَت وَفَاة عَليّ بن رضوَان رَحمَه الله فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة بِمصْر وَذَلِكَ فِي خلَافَة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أبي تَمِيم معد بن الظَّاهِر لإعزاز دين الله الْحَاكِم
وَمن كَلَام عَليّ بن رضوَان قَالَ إِذا كَانَت للْإنْسَان صناعَة ترتاض بهَا أعضاؤه ويمدحه بهَا النَّاس ويكسب بهَا كِفَايَته فِي بعض يَوْمه فأفضل مَا يَنْبَغِي لَهُ فِي بَاقِي يَوْمه أَن يصرفهُ فِي طَاعَة ربه
وَأفضل الطَّاعَات النّظر فِي الملكوت وتمجيد الْمَالِك لَهَا سُبْحَانَهُ
وَمن رزق ذَلِك فقد رزق خير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وطوبى لَهُ وَحسن مآب
وَمن كَلَامه نقلته من خطه قَالَ الطَّبِيب على رَأْي بقراط هُوَ الَّذِي اجْتمعت فِيهِ سبع خِصَال(1/564)
الأولى أَن يكون تَامّ الْخلق صَحِيح الْأَعْضَاء حسن الذكاء جيد الروية عَاقِلا ذُكُورا خير الطَّبْع
الثَّانِيَة أَن يكون حسن الملبس طيب الرَّائِحَة نظيف الْبدن وَالثَّوْب
الثَّالِثَة أَن يكون كتوما لأسرار المرضى لَا يبوح بِشَيْء من أمراضهم
الرَّابِعَة أَن تكون رغبته فِي إِبْرَاء المرضى أَكثر من رغبته فِيمَا يلتمسه من الْأُجْرَة ورغبته فِي علاج الْفُقَرَاء أَكثر من رغبته فِي علاج الْأَغْنِيَاء
الْخَامِسَة أَن يكون حَرِيصًا على التَّعْلِيم وَالْمُبَالغَة فِي مَنَافِع النَّاس
السَّادِسَة أَن يكون سليم الْقلب عفيف النّظر صَادِق اللهجة لَا يخْطر بِبَالِهِ شَيْء من أُمُور النِّسَاء وَالْأَمْوَال الَّتِي شَاهدهَا فِي منَازِل الأعلاء فضلا عَن أَن يتَعَرَّض إِلَى شَيْء مِنْهَا
السَّابِعَة أَن يكون مَأْمُونا ثِقَة على الْأَرْوَاح وَالْأَمْوَال لَا يصف دَوَاء قتالا وَلَا يُعلمهُ وَلَا دَوَاء يسْقط الأجنة يعالج عدوه بنية صَادِقَة كَمَا يعالج حَبِيبه
وَقَالَ الْمعلم لصناعة الطِّبّ هُوَ الَّذِي اجْتمعت فِيهِ الْخِصَال بعد استكماله صناعَة الطِّبّ
والمتعلم هُوَ الَّذِي فراسته تدل على أَنه ذُو طبع خير وَنَفس ذكية وَأَن يكون حَرِيصًا على التَّعْلِيم ذكيا ذُكُورا لما قد تعمله
وَقَالَ الْبدن السَّلِيم من الْعُيُوب هُوَ الْبدن الصَّحِيح الَّذِي كل وَاحِد من أَعْضَائِهِ بَاقٍ على فضيلته
أَعنِي أَن يكون يفعل فعله الْخَاص على مَا يَنْبَغِي
وَقَالَ تعرف الْعُيُوب هُوَ أَن تنظر إِلَى هَيْئَة الْأَعْضَاء والسحنة والمزاج وملمس الْبشرَة وتتفقد أَفعَال الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة مثل أَن تنادي بِهِ من بعيد فَتعْتَبر بذلك حَال سَمعه وَأَن تعْتَبر بَصَره بِنَظَر الْأَشْيَاء الْبَعِيدَة والقريبة وَلسَانه بجودة الْكَلَام وقوته بشيل الثّقل والمسك والضبط وَالْمَشْي وإنحاء ذَلِك مثل أَن تنظر مَشْيه مُقبلا ومدبرا وَيُؤمر بالاستلقاء على ظَهره مَمْدُود الْيَدَيْنِ قد نصب رجلَيْهِ وصفهما وَتعْتَبر بذلك حَال أحشائه وتتعرف حَال مزاج قلبه بالنبض وبالأخلاق ومزاج كبده بالبول وَحَال الأخلاط وَتعْتَبر عقله بِأَن يسْأَل عَن أَشْيَاء وفهمه وطاعته بِأَن يُؤمر بأَشْيَاء وأخلاقه إِلَى مَا تميل بِأَن تعْتَبر كل وَاحِد مِنْهَا بِمَا يحركه أَو يسكنهُ
وعَلى هَذَا الْمِثَال أجر الْحَال فِي تفقد كل وَاحِد من الْأَعْضَاء والأخلاق
أما فِيمَا يُمكن ظُهُوره للحس فَلَا تقنع فِيهِ حَتَّى تشاهده بالحس وَأما فِيمَا يتعرف بالاستدلال فاستدل عَلَيْهِ بالعلامات الْخَاصَّة
وَأما فِيمَا يتعرف بِالْمَسْأَلَة فابحث عَنهُ بِالْمَسْأَلَة
حَتَّى تعْتَبر كل وَاحِد من الْعُيُوب فتعرف هَل هُوَ عيب حَاضر أَو كَانَ أَو متوقع أم الْحَال حَال صِحَة وسلامة
وَمن كَلَامه قَالَ إِذا دعيت إِلَى مَرِيض فأعطه مَا لَا يضرّهُ إِلَى أَن تعرف علته فتعالجها عِنْد ذَلِك
وَمعنى معرفَة الْمَرَض هُوَ أَن تعرف من أَي خلط حدث أَولا ثمَّ تعرف بعد ذَلِك فِي أَي عُضْو هُوَ وَعند ذَلِك تعالجه(1/565)
ولعلي بن رضوَان من الْكتب شرح كتاب الْعرق لِجَالِينُوسَ وَفرغ من شَرحه لَهُ فِي يَوْم الْخَمِيس لليلتين بَقِيَتَا من ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة
شرح كتاب الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة لِجَالِينُوسَ
شرح كتاب النبض الصَّغِير لِجَالِينُوسَ
شرح كتاب جالينوس إِلَى أغلوقن فِي التأني لشفاء الْأَمْرَاض
شرح الْمقَالة الأولى فِي خمس مقالات
وَشرح الْمقَالة الثَّانِيَة فِي مقالتين
شرح كتاب الأسطقسات لِجَالِينُوسَ
شرح بعض كتاب المزاج لِجَالِينُوسَ وَلم يشْرَح من الْكتب السِّتَّة عشر لِجَالِينُوسَ سوى مَا ذكرت
كتاب الْأُصُول فِي الطِّبّ أَربع مقالات
كناش رِسَالَة فِي علاج الجذام
كتاب تتبع مسَائِل حنين مقالتان
كتاب النافع فِي كَيْفيَّة تَعْلِيم صناعَة الطِّبّ ثَلَاث مقالات
مقَالَة فِي أَن جالينوس لم يغلط فِي أقاويله فِي اللَّبن على مَا ظَنّه قوم
مقَالَة فِي دفع المضار عَن الْأَبدَان بِمصْر
مقَالَة فِي سيرته
مقَالَة فِي الشّعير وَمَا يعْمل مِنْهُ ألفها لأبي زَكَرِيَّا يهوذا بن سَعَادَة الطَّبِيب
جَوَابه لمسائل فِي لبن الأتن سَأَلَهُ إِيَّاهَا يهوذا بن سَعَادَة
تعاليق طبية
تعاليق نقلهَا فِي صيدلة الطِّبّ مقَالَة فِي مَذْهَب أبقراط فِي تَعْلِيم الطِّبّ
كتاب فِي أَن أفضل أَحْوَال عبد الله بن الطّيب الحالي السوفسطائية وَهُوَ خمس مقالات
كتاب فِي أَن الْأَشْخَاص كل وَاحِد من الْأَنْوَاع المتناسلة أَب أول مِنْهُ تناسلت الْأَشْخَاص على مَذْهَب الفلسفة
تَفْسِير مقَالَة الْحَكِيم فيثاغورس فِي الْفَضِيلَة
مقَالَة فِي الرَّد على أفرائيم وَابْن زرْعَة فِي الِاخْتِلَاف فِي الْملَل
انتزاعات شُرُوح جالينوس لكتب أبقراط
كتاب الِانْتِصَار لأرسطوطاليس وَهُوَ كتاب التَّوَسُّط بَينه وَبَين خصومه المناقضين لَهُ فِي السماع الطبيعي تسع وَثَلَاثِينَ مقَالَة
تَفْسِير ناموس الطِّبّ لأبقراط
تَفْسِير وَصِيَّة أبقراط الْمَعْرُوفَة بترتيب الطِّبّ
كَلَام فِي الْأَدْوِيَة المسهلة
كتاب فِي عمل الْأَشْرِبَة والمعاجين تَعْلِيق من كتاب التَّمِيمِي فِي الأغذية والأدوية
تَعْلِيق من كتاب فوسيدونيوس فِي أشربة لذيذة للأصحاء
فَوَائِد علقها من كتاب فيلغريوس فِي الْأَشْرِبَة النافعة اللذيذة فِي أَوْقَات الْأَمْرَاض
مقَالَة فِي الباه مقَالَة فِي أَن كل وَاحِد من الْأَعْضَاء يغتذي من الْخَلْط المشاكل لَهُ
مقَالَة فِي الطَّرِيق إِلَى إحصاء عدد الحميات
فصل من كَلَامه فِي القوى الطبيعية جَوَاب مسَائِل فِي النبص وصل إِلَيْهِ السُّؤَال عَنْهَا من الشَّام
رِسَالَة فِي أجوبة مسَائِل سَأَلَ عَنْهَا الشَّيْخ أَبُو الطّيب أَزْهَر بن النُّعْمَان فِي الأورام
رِسَالَة فِي علاج صبي أَصَابَهُ الْمَرَض الْمُسَمّى بداء الْفِيل وداء الْأسد
نُسْخَة الدستور الَّذِي أنفذه أَبُو الْعَسْكَر الْحُسَيْن بن معدان ملك مكران فِي حَال عِلّة الفالج فِي شقَّه الْأَيْسَر وَجَوَاب ابْن رضوَان لَهُ
فَوَائِد علقها من كتاب حِيلَة الْبُرْء لِجَالِينُوسَ
فَوَائِد علقها من كتاب تَدْبِير الصِّحَّة لِجَالِينُوسَ
فَوَائِد علقها من كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِجَالِينُوسَ
فَوَائِد علقها من كتاب الفصد لِجَالِينُوسَ
فَوَائِد علقها من كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِجَالِينُوسَ
فَوَائِد علقها من كتاب الميامر لِجَالِينُوسَ
فَوَائِد علقها من كتاب قاطاجانس لِجَالِينُوسَ
فَوَائِد علقها فِي الأخلاط من كتب عدَّة لأبقراط وجالينوس
كتاب فِي حل شكوك الرَّازِيّ على كتب جالينوس سبع مقالات
مقَالَة فِي حفظ الصِّحَّة
مقَالَة فِي أدوار الحميات
مقَالَة فِي التنفس الشَّديد وَهُوَ ضيق النَّفس
رِسَالَة كتب بهَا إِلَى أبي زَكَرِيَّا يهوذا(1/566)
ابْن سَعَادَة فِي النظام الَّذِي اسْتَعْملهُ جالينوس فِي تَحْلِيل الْحَد فِي كِتَابه الْمُسَمّى الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة
مقَال فِي نقض مقَالَة ابْن بطلَان فِي الفرخ والفروج
مقَالَة فِي الفأر
مقَالَة فِيمَا أوردهُ ابْن بطلَان من التحييرات
مقَالَة فِي أَن مَا جَهله يَقِين وَحِكْمَة وَمَا علمه ابْن بطلَان غلط وسفسطة
مقَالَة فِي أَن ابْن بطلَان لَا يعلم كَلَام نَفسه فضلا عَن كَلَام غَيره
رِسَالَة إِلَى أطباء مصر والقاهرة فِي خبر ابْن بطلَان
قَول لَهُ فِي جملَة الرَّد عَلَيْهِ
كتاب فِي مسَائِل جرت بَينه وَبَين ابْن الْهَيْثَم فِي المجرة وَالْمَكَان
إِخْرَاجه لحواشي كَامِل الصِّنَاعَة الطبية الْمَوْجُود مِنْهُ بعض الأولى
رِسَالَة فِي أزمنة الْأَمْرَاض
مقَالَة فِي التطرق بالطب إِلَى السَّعَادَة
مقَالَة فِي أَسبَاب مدد حميات الأخلاط وقرائنها
جَوَابه عَمَّا شرح لَهُ من حَال عليل بِهِ عِلّة الفالج فِي شقَّه الْأَيْسَر
مقَالَة فِي الأورام
كتاب فِي الْأَدْوِيَة المفردة على حُرُوف المعجم اثْنَتَا عشرَة مقَالَة الْمَوْجُود مِنْهُ إِلَى بعض السَّادِسَة
مقَالَة فِي شرف الطِّبّ
رِسَالَة فِي الْكَوْن وَالْفساد
مقَالَة فِي سَبِيل السَّعَادَة وَهِي السِّيرَة الَّتِي اخْتَارَهَا لنَفسِهِ
رِسَالَة فِي بَقَاء النَّفس بعد الْمَوْت
مقَالَة فِي فَضِيلَة الفلسفة
مقَالَة فِي بِنَاء النَّفس على رَأْي أفلاطن وأرسطوطاليس
أجوبته لمسائل منطقية من كتاب الْقيَاس
مقَالَة فِي حل شكوك يحيى بن عدي الْمُسَمَّاة بالمحرسات
مقَالَة فِي الْحر
مقَالَة فِي بعث نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من التَّوْرَاة والفلسفة
مقَالَة فِي أَن فِي الْوُجُود نقط وخطوط طبيعية
مقَالَة فِي حدث الْعَالم
مقَالَة فِي التَّنْبِيه على حيل من ينتحل صناعَة القضايا بالنجوم وتشرف أَهلهَا
مقَالَة فِي خلط الضَّرُورِيّ والوجودي
مقَالَة فِي اكْتِسَاب الْحَلَال من المَال
مقَالَة فِي الْفرق بَين الْفَاضِل من النَّاس والسديد والعطب
مقَالَة فِي كل السياسة
رِسَالَة فِي السَّعَادَة
مقَالَة فِي اعتذاره عَمَّا نَاقض بِهِ الْمُحدثين
مقَالَة فِي تَوْحِيد الفلاسفة وعبادتهم
كتاب فِي الرَّد على الرَّازِيّ فِي الْعلم الإلهي وَإِثْبَات الرُّسُل
كتاب الْمُسْتَعْمل من الْمنطق فِي الْعُلُوم والصنائع ثَلَاث مقالات
رِسَالَة صغرى فِي الهيولي صنفها لأبي سُلَيْمَان بن بابشاد
تذكرتاه الْمُسَمَّاة بالكمال الْكَامِل والسعادة القصوى غير كَامِلَة
تعاليقه لفوائد كتب أفلاطون المساجرة لهوية طبيعة الْإِنْسَان
تعاليق فَوَائِد مدْخل فرفوريوس
تَهْذِيب كتاب الحابس فِي رياسة الثنا الْمَوْجُود مِنْهُ بعض لَا كل
تعاليق فِي أَن خطّ الاسْتوَاء بالطبع أظلم لَيْلًا وَأَن جوهره بِالْعرضِ أظلم لَيْلًا
كتاب فِيمَا يَنْبَغِي أَن يكون فِي حَانُوت الطَّبِيب أَربع مقالات
مقَالَة فِي هَوَاء مصر
مقَالَة فِي مزاج السكر
مقَالَة فِي التَّنْبِيه على مَا فِي كَلَام ابْن بطلَان من الهذيان
رِسَالَة فِي دفع مضار الْحَلْوَى بالمحرور
افرائيم بَين الزفان
هُوَ أَبُو كثير افرائيم بن الْحسن بن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم بن يَعْقُوب
إسرائيلي الْمَذْهَب وَهُوَ من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين بديار مصر وخدم الْخُلَفَاء الَّذين كَانَ فِي زمانهم وَحصل من جهتهم من الْأَمْوَال وَالنعَم شَيْئا كثيرا جدا
وَكَانَ قد قَرَأَ صناعَة الطِّبّ على أبي الْحسن عَليّ بن رضوَان وَهُوَ من أجل تلامذته وَكَانَت لَهُ همة عالية فِي تَحْصِيل الْكتب وَفِي استنساخها حَتَّى كَانَت عِنْده خَزَائِن كَثِيرَة من الْكتب(1/567)
الطبية وَغَيرهَا
وَكَانَ أبدا عِنْده النساخ يَكْتُبُونَ وَلَهُم مَا يقوم بكفايتهم مِنْهُ
وَمن جُمْلَتهمْ مُحَمَّد بن سعيد بن هِشَام الحجري وَهُوَ الْمَعْرُوف بِابْن ملساقه وَوجدت بِخَط هَذَا عدَّة كتب قد كتبهَا لافرائيم وَعَلَيْهَا خطّ افرائيم
وحَدثني أبي أَن رجلا من الْعرَاق كَانَ قد أَتَى إِلَى الديار المصرية ليَشْتَرِي كتبا وَيتَوَجَّهُ بهَا وَأَنه اجْتمع مَعَ افرائيم وَاتفقَ الْحَال فِيمَا بَينهمَا أَن بَاعه افرائيم من الْكتب الَّتِي عِنْده عشرَة آلَاف مُجَلد وَكَانَ ذَلِك فِي أَيَّام ولَايَة الْأَفْضَل ابْن أَمِير الجيوش فَلَمَّا سمع بذلك أَرَادَ أَن تِلْكَ الْكتب تبقى فِي المصرية وَلَا تنْتَقل إِلَى مَوضِع آخر فَبعث إِلَى افرائيم من عِنْده بجملة المَال الَّذِي كَانَ قد اتّفق تثمينه بَين افرائيم والعراقي ونقلت الْكتب إِلَى خزانَة الْأَفْضَل وكتبت عَلَيْهَا ألقابه وَلِهَذَا أنني قد وجدت كتبا كَثِيرَة من الْكتب الطبية وَغَيرهَا عَلَيْهَا اسْم افرائيم وألقاب الْأَفْضَل أَيْضا
وَخلف افرائيم من الْكتب مَا يزِيد على عشْرين ألف مُجَلد وَمن الْأَمْوَال النعم شَيْئا كثيرا جدا
ولافرائيم بن الزفان من الْكتب تعاليق ومجريات جعلهَا على جِهَة الكناش وَوجدت هَذَا الْكتاب بِخَطِّهِ وَقد استقصى فِيهِ ذكر الْأَمْرَاض ومداواتها وَقد ذكر فِي أَوله مَا هَذَا نَصه قَالَ أَقُول وَأَنا افرائيم إِنَّنِي جعلت هَذَا الْكتاب تذكرة على طَرِيق الْمَجْمُوع لَا على جِهَة التصنيف احْتِيَاطًا على من يعالج من السَّهْو
كتاب التَّذْكِرَة الطبية فِي مصلحَة الْأَحْوَال الْبَدَنِيَّة ألفها لنصير الدولة أبي عَليّ الْحُسَيْن بن أبي عَليّ الْحسن بن حمدَان لما أَرَادَ الِانْفِصَال عَن مصر والتوجه إِلَى ثغر الْإسْكَنْدَريَّة والبحيرة وَتلك الْأَعْمَال
مقَالَة فِي التَّقْرِير القياسي على أَن البلغم يكثر تولده فِي الصَّيف وَالدَّم والمرار الْأَصْفَر فِي الشتَاء
سَلامَة بن رحمون
هُوَ أَبُو الْخَيْر سَلامَة بن مبارك بن رحمون بن مُوسَى من أطباء مصر وفضلائها وَكَانَ يَهُودِيّا وَله أَعمال حَسَنَة فِي صناعَة الطِّبّ واطلاع على كتب جالينوس والبحث عَن غوامضها
وَكَانَ قد قَرَأَ صناعَة الطِّبّ افرائيم واشتغل بهَا عَلَيْهِ مُدَّة
وَكَانَ لِابْنِ رحمون أَيْضا اشْتِغَال جيد بالْمَنْطق والعلوم الْحكمِيَّة وَله تصانيف فِي ذَلِك وَكَانَ شَيْخه الَّذِي اشْتغل عَلَيْهِ بِهَذَا الْفَنّ الْأَمِير أَبُو الْوَفَاء مَحْمُود الدولة المبشر بن فاتك
وَلما وصل أَبُو الصَّلْت أُميَّة بن عبد الْعَزِيز ابْن أبي الصَّلْت الأندلسي من الْمغرب إِلَى الديار المصرية اجْتمع بسلامة بن رحمون وَجَرت بَينهمَا مبَاحث ومشاغبات
وَقد ذكره ابْن أبي الصَّلْت فِي رسَالَته المصرية عِنْدَمَا ذكر من رَآهُ من أطباء مصر قَالَ وأشبه من رَأَيْته مِنْهُم وأدخلهم فِي عدد الْأَطِبَّاء رجل من الْيَهُود يدعى أَبَا الْخَيْر سَلامَة بن رحمون فَإِنَّهُ لَقِي أَبَا الْوَفَاء المبشر بن فاتك فَأخذ عَنهُ شَيْئا من صناعَة الْمنطق تخصص بِهِ وتميز عَن أضرابه
وَأدْركَ أَبَا كثير بن الزفان تلميذ أبي الْحسن بن رضوَان فَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض كتب جالينوس
ثمَّ نصب نَفسه لتدريس جَمِيع كتب الْمنطق وَجَمِيع كتب الفلسفة الطبيعية والهيئة وَشرح بِزَعْمِهِ وَفسّر ولخص وَلم يكن هُنَاكَ فِي تَحْصِيله وتحقيقه واستقصائه عَن لطيف الْعلم ودقيقه
بل كَانَ يكثر كَلَامه فيضل ويسرع جَوَابه فيزل
وَلَقَد سَأَلته(1/568)
أول لقائي لَهُ واجتماعي بِهِ عَن مسَائِل استفتحت مباحثه بهَا مِمَّا يُمكن أَن يفهمها من لم يكن يَمْتَد فِي الْعلم بَاعه وَلم يكثر تبحره واتساعه فَأجَاب عَنْهَا بِمَا أبان عَن تَقْصِيره ونطق بعجزه وأعرب عَن سوء تصَوره وفهمه وَكَانَ مثله فِي عظم دواعيه وقصوره عَن أيسر مَا هُوَ متعاطيه كَقَوْل الشَّاعِر
(يشمر للج عَن سَاقه ... ويغمره الموج فِي السَّاحِل) المتقارب
(تمنيتم مِائَتي فَارس ... فردكم فَارس وَاحِد) المتقارب
قَالَ أَبُو الصَّلْت وَكَانَ طَبِيب من أهل أنطاكية يُسمى بجرجس ويلقب بالفيلسوف على نَحْو مَا قيل فِي الغرب أَبُو الْبَيْضَاء وَفِي اللديغ سليم قد تفرغ للتولع بِابْن رحمون والإزراء عَلَيْهِ وَكَانَ يزور فصولا طبية وفلسفية يقررها فِي معَارض أَلْفَاظ الْقَوْم وَهِي محَال لَا معنى لَهَا وفارغة لَا فَائِدَة فِيهَا ثمَّ أَنه ينفذها إِلَى من يسْأَله عَن مَعَانِيهَا ويستوضحه أغراضها
فيتكلم عَلَيْهَا ويشرحها بِزَعْمِهِ دون تيقظ وَلَا تحفظ بل باسترسال واستعجال وَقلة اكتراث واهتبال فيوجد فِيهَا عَنهُ مَا يضْحك مِنْهُ
وأنشدت لجرجس هَذَا فِيهِ وَهُوَ أحسن مَا سمعته فِي هجو طَبِيب مشؤوم
وَأَنا مُتَّهم لَهُ فِيهِ
(إِن أَبَا الْخَيْر على جَهله ... يخف فِي كفته الْفَاضِل)
(عليله الْمِسْكِين من شؤمه ... فِي بَحر هلك مَاله سَاحل)
(ثَلَاثَة تدخل فِي دفْعَة ... طلعته والنعش والغاسل) السَّرِيع
ولبعضهم
(لأبي الْخَيْر فِي العلاج ... يَد مَا تقصر)
(كل من يستطبه ... بعد يَوْمَيْنِ يقبر)
(وَالَّذِي غَابَ عَنْكُم ... وشهدناه أَكثر) الْخَفِيف
وَله
(جُنُون أبي الْخَيْر الْجُنُون بِعَيْنِه ... وكل جُنُون عِنْده غَايَة الْعقل)
(خذوه فغلوه فشدو وثَاقه ... فَمَا عَاقل من يستهين بمختل)
(وَقد كَانَ يُؤْذِي النَّاس بالْقَوْل وَحده ... فقد صَار يُؤْذِي النَّاس بالْقَوْل وَالْفِعْل) الطَّوِيل
ولسلامة بن رحمون من الْكتب كتاب نظام الموجودات مقَالَة فِي السَّبَب الْمُوجب لقلَّة الْمَطَر بِمصْر
مقَالَة فِي الْعلم الإلهي
مقَالَة فِي خصب أبدان النِّسَاء بِمصْر عِنْد تناهي الشَّبَاب(1/569)
مبارك بن سَلامَة بن رحمون
هُوَ مبارك بن أبي الْخَيْر سَلامَة بن مبارك بن رحمون مولده ومنشؤه بِمصْر وَكَانَ أَيْضا طَبِيبا فَاضلا ولمبارك بن سَلامَة بن رحمون من الْكتب مقَالَة فِي الْجَمْرَة الْمُسَمَّاة بالشقفة والخزفة مُخْتَصره
ابْن الْعين زَرْبِي
هُوَ الشَّيْخ موفق الدّين أَبُو نصر عدنان بن نصر بن مَنْصُور من أهل عين زربة وَأقَام بِبَغْدَاد مُدَّة واشتغل بصناعة الطِّبّ بالعلوم الْحكمِيَّة وَمهر فِيهَا وخصوصا فِي علم النُّجُوم
ثمَّ بعد ذَلِك انْتقل من بَغْدَاد إِلَى الديار المصرية إِلَى حِين وَفَاته وخدم الْخُلَفَاء المصريين حظي فِي أيامهم وتميز فِي دولتهم وَكَانَ من أجل الْمَشَايِخ وَأَكْثَرهم علما فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَت لَهُ فراسة حَسَنَة وإنذارات صائبة فِي معالجاته
وصنف بديار مصر كتبا كَثِيرَة فِي صناعَة الطِّبّ وَفِي الْمنطق وَفِي غير ذَلِك من الْعُلُوم
وَكَانَت لَهُ تلاميذ عدَّة يشتغلون عَلَيْهِ وكل مِنْهُم تميز وبرع فِي الصِّنَاعَة
وَكَانَ ابْن الْعين زَرْبِي فِي أول أمره إِنَّمَا يتكسب بالتنجيم
وحَدثني أبي قَالَ حكى لي سبط الشَّيْخ أبي نصر عدنان بن الْعين زَرْبِي أَن سَبَب اشتهار جده فِي الديار المصرية واتصاله بالخلفاء أَنه ورد من بَغْدَاد رَسُول إِلَى ديار مصر وَكَانَ يعرف ابْن الْعين زَرْبِي بِبَغْدَاد وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْفضل والتحصيل والإتقان لكثير من الْعُلُوم فَلَمَّا كَانَ مارا فِي بعض الطّرق بِالْقَاهِرَةِ وَإِذا بِهِ قد وجد ابْن الْعين زَرْبِي جَالِسا وَهُوَ يتكسب بالتنجيم فَعرفهُ وَسلم عَلَيْهِ وَبَقِي مُتَعَجِّبا من كَثْرَة تَحْصِيله للعلوم وَكَونه متميزا فِي علم صناعَة الطِّبّ وَهُوَ على تِلْكَ الْحَال وَبَقِي فِي خاطره ذَلِك
فَلَمَّا اجْتمع بالوزير وتحدثا أجْرى ذكر ابْن الْعين زَرْبِي وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْعلم وَالْفضل والتقدم فِي صناعَة الطِّبّ وَغَيرهَا وكونهم لم يعرفوا قدره وَلَا انْتهى إِلَيْهِم أمره وَإِن الْوَاجِب فِي مثل هَذَا لَا يهمل فاشتاق الْوَزير إِلَى رُؤْيَته والاجتماع بمشاهدته فَاسْتَحْضر وَسمع كَلَامه فاعجب بِهِ وَاسْتحْسن مِمَّا سَمعه مِنْهُ وَتحقّق فَضله ومنزلته فِي الْعلم وأنهى أمره إِلَى الْخَلِيفَة فَأطلق لَهُ مَا يَلِيق بِمثلِهِ وَلم تزل أنعامهم تصل إِلَيْهِ ومواهبهم تتوالى عَلَيْهِ
أَقُول وَكَانَ ابْن الْعين زَرْبِي خَبِيرا بِالْعَرَبِيَّةِ جيد الدِّرَايَة لَهَا حسن الْخط وَقد رَأَيْت كتبا عدَّة فِي الطِّبّ وَفِي غَيره بِخَطِّهِ هِيَ فِي نِهَايَة الْحسن والجودة وَلُزُوم الطَّرِيقَة المنسوبة وَكَانَ أَيْضا يشْعر وَله شعر جيد
وَتُوفِّي رَحمَه الله فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ وَذَلِكَ فِي دولة الظافر بِأَمْر الله
وَلابْن الْعين زَرْبِي من الْكتب كتاب الْكَافِي فِي الطِّبّ وصنفه فِي سنة عشر وَخَمْسمِائة بِمصْر وكمل فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة سنة سبع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
شرح كتاب الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة(1/570)
لِجَالِينُوسَ
الرسَالَة المقنعة فِي الْمنطق ألفها من كَلَام أبي نصر الفارابي والرئيس ابْن سينا
مجربات فِي الطِّبّ على جِهَة الكناش جمعهَا ورتبها ظافر بن تَمِيم بِمصْر بعد وَفَاة ابْن الْعين زَرْبِي
رِسَالَة فِي السياسة
رِسَالَة فِي تعذر وجود الطَّبِيب الْفَاضِل ونفاق الْجَاهِل
مقَالَة فِي الْحَصَى وعلاجه
بلمظفر ابْن معرف
هُوَ بلمظفر نصر بن مَحْمُود بن الْمُعَرّف
كَانَ ذكيا فطنا كثير الِاجْتِهَاد والعناية والحرص فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَله نظر أَيْضا فِي صناعَة الطِّبّ وَالْأَدب ويشعر
وَكَانَ قد اشْتغل على ابْن الْعين زَرْبِي ولازمه مُدَّة وَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَغَيرهَا
وَرَأَيْت خطه فِي آخر تَفْسِير الاسكندر لكتاب الْكَوْن وَالْفساد لأرسطوطاليس وَهُوَ يَقُول أَنه قَرَأَهُ عَلَيْهِ واتقن قِرَاءَته وتاريخ كِتَابَته لذَلِك فِي شعْبَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة
وَكَانَ بلمظفر حسن الْخط جيد الْعبارَة
وَكَانَ مغرى بصناعة الكيمياء وَالنَّظَر فِيهَا والاجتماع بِأَهْلِهَا
وَكتب بِخَطِّهِ من الْكتب الَّتِي صنفت فِيهَا شَيْئا كثيرا جدا
وَكَذَلِكَ أَيْضا كتب كثيرا من الْكتب الطبية والحكمية
وَكَانَت لَهُ همة عالية فِي تَحْصِيل الْكتب وقراءتها
وحَدثني الشَّيْخ سديد الدّين المنطقي عَنهُ أَنه كَانَ فِي دَاره مجْلِس كَبِير مشحون بالكتب على رفوف فِيهِ وَأَن بلمظفر لم يزل فِي مُعظم أوقاته فِي ذَلِك الْمجْلس مشتغلا فِي الْكتب وَفِي الْقِرَاءَة والنسخ
أَقُول وَمن أعجب شَيْء مِنْهُ أَنه كَانَ قد ملك ألوفا كَثِيرَة من الْكتب فِي كل فن وَأَن جَمِيع كتبه لَا يُوجد شَيْء مِنْهَا إِلَّا وَقد كتب على ظَهره ملحا ونوادر مِمَّا يتَعَلَّق بِالْعلمِ الَّذِي قد صنف ذَلِك الْكتاب فِيهِ
وَقد رَأَيْت كتبا كَثِيرَة من كتب الطِّبّ وَغَيرهَا من الْكتب الْحكمِيَّة كَانَت لأبي المظفر وَعَلَيْهَا اسْمه وَمَا مِنْهَا شَيْء إِلَّا وَعَلِيهِ تعاليق مستحسنة وفوائد مُتَفَرِّقَة مِمَّا يجانس ذَلِك الْكتاب
وَمن شعر بلمظفر بن معرف
(وَقَالُوا الطبيعية مبدا الكيان ... فيا لَيْت شعري مَا هِيَ الطبيعة)
(أقادرة طبعت نَفسهَا ... على ذَاك أم لَيْسَ بالمستطيعه) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(وَقَالُوا الطبيعة معلومنا ... وَنحن نبين مَا حَدهَا)
(وَلم يعرفوا الْآن مَا قبلهَا ... فَكيف يرومون مَا بعْدهَا) المتقارب
ولبلمظفر بن معرف من الْكتب تعاليق فِي الكيمياء
كتاب فِي علم النُّجُوم
مختارات فِي الطِّبّ(1/571)
الشَّيْخ السديد رَئِيس الطِّبّ
هُوَ القَاضِي الْأَجَل السديد أَبُو الْمَنْصُور عبد الله بن الشَّيْخ السديد أبي الْحسن عَليّ وَكَانَ لقب القَاضِي أبي الْمَنْصُور شرف الدّين وَإِنَّمَا غلب عَلَيْهِ لقب أَبِيه وَعرف بِهِ وَصَارَ لَهُ علما بِأَن يُقَال الشَّيْخ السديد وَكَانَ عَالما بصناعة الطِّبّ خَبِيرا بأصولها وفروعها جيد المعالجة كثير الدربة حسن الْأَعْمَال بِالْيَدِ
وخدم الْخُلَفَاء المصريين وحظي فِي أيامهم ونال من جهتهم من الْأَمْوَال الوافرة وَالنعَم الجسيمة مَا لم ينله غَيره من سَائِر الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا فِي زَمَانه وَلَا قَرِيبا مِنْهُ وَكَانَت لَهُ عِنْدهم الْمنزلَة الْعليا والجاه الَّذِي لَا مزِيد عَلَيْهِ
وَعمر عمرا طَويلا
وَكَانَ من بيتوتة صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ أَبوهُ أَيْضا طَبِيبا للخلفاء المصريين مَشْهُورا فِي أيامهم
حَدثنِي القَاضِي نَفِيس الدّين بن الزبير وَكَانَ قد لحق الشَّيْخ السديد وَقَرَأَ عَلَيْهِ صناعَة الطِّبّ قَالَ قَالَ لي الشَّيْخ السديد رَئِيس الطِّبّ إِن أول من مثلت بَين يَدَيْهِ من الْخُلَفَاء وأنعم عَليّ الْآمِر بِأَحْكَام الله وَذَلِكَ أَن أبي كَانَ طَبِيبا فِي خدمته وَكَانَ مكينا عِنْده رفيع الْمنزلَة فِي أَيَّامه
قَالَ وَكنت صَبيا فِي ذَلِك الْوَقْت فَكَانَ أبي يهب لي فِي كل يَوْم دَرَاهِم وأجلس عِنْد بَاب الدَّار الَّتِي لنا واقصد جمَاعَة فِي كل نَهَار حَتَّى تمرنت وَصَارَت لي دربة جَيِّدَة فِي الفصد وَكنت قد شدوت شَيْئا من صناعَة الطِّبّ فذكرني أبي عِنْد الْآمِر وَأخْبرهُ بِمَا أَنا عَلَيْهِ وإنني أعرف صناعَة الفصد ولي دربة جَيِّدَة بهَا
فاستدعاني فتوجهت إِلَيْهِ وَأَنا بِحَالَة جميلَة من الملبوس الفاخر والمركوب الفاره المتحلي بِمثل الطوق الذَّهَب وَغَيره
وإنني لما دخلت إِلَيْهِ الْقصر مشيت مَعَ أبي حَتَّى صرنا بَين يَدَيْهِ فَقبلت الأَرْض وخدمت
فَقَالَ لي أفصد هَذَا الْأُسْتَاذ وَكَانَ وَاقِفًا بَين يَدَيْهِ
فَقلت السّمع وَالطَّاعَة
ثمَّ جيئ بطشت فضَّة وشددت عضده وَكَانَت لَهُ عروق بَيِّنَة الظُّهُور ففصدته وربطت مَوضِع الفصادة
فَقَالَ لي أَحْسَنت وَأمر لي بأنعام كَثِيرَة وخلع فاخرة وصرت من ذَلِك الْوَقْت مترددا إِلَى الْقصر وملازما للْخدمَة
وَأطلق لي من الْجَارِي مَا يقوم بكفايتي على أفضل الْأَحْوَال الَّتِي أؤملها وتواترت عَليّ من الهبات والإطلاقات الشَّيْء الْكثير
وحَدثني أسعد الدّين عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن أَن الشَّيْخ السديد حصل لَهُ فِي يَوْم وَاحِد من الْخُلَفَاء فِي بعض معالجاته لأَحَدهم ثَلَاثُونَ ألف دِينَار
وَقَالَ لي القَاضِي نَفِيس الدّين بن الزبير عَنهُ أَنه لما طهر وَلَدي الْحَافِظ لدين الله حصل لَهُ فِي ذَلِك الْوَقْت من المَال نَحْو خمسين ألف دِينَار وَأكْثر من ذَلِك سوى مَا كَانَ فِي الْمجْلس من أواني الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهَا وهبت جَمِيعهَا لَهُ وَكَانَت لَهُ همة عالية وأنعام عَام
حَدثنِي الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي قَالَ لما وصل الْمُهَذّب بن النقاش إِلَى الشَّام من بَغْدَاد وَكَانَ(1/572)
فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ أَقَامَ بِدِمَشْق مُدَّة وَلم يحصل لَهُ بهَا مَا يقوم بكفايته وَسمع بالديار المصرية وأنعام الْخُلَفَاء فِيهَا وكرمهم وإحسانهم إِلَى من يقصدهم وَلَا سِيمَا من أَرْبَاب الْعلم وَالْفضل وتاقت نَفسه إِلَى السّفر وتوجهت أمانيه إِلَى الديار المصرية
فَلَمَّا وَصلهَا أَقَامَ بهَا أَيَّامًا وَكَانَ قد سمع بالشيخ السديد طَبِيب الْخُلَفَاء وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من الأفضال وسعة الْحَال والأخلاق الجميلة والمروءة العزيزة
فَمشى إِلَى دَاره وَسلم عَلَيْهِ وعرفه بصناعته وَأَنه إِنَّمَا أَتَى قَاصِدا إِلَيْهِ ومفوضا كل أُمُوره لَدَيْهِ ومغترفا من بَحر علمه ومعترفا بِأَن مهما يصله من جِهَة الْخُلَفَاء فَإِنَّمَا هُوَ من بره وَيكون معتدا لَهُ بذلك فِي سَائِر عمره
فَتَلقاهُ الشَّيْخ السديد بِمَا يَلِيق بِمثلِهِ وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام
ثمَّ بعد ذَلِك قَالَ لَهُ وَكم تُؤثر أَن يُطلق لَك من الجامكية إِذا كنت مُقيما بِالْقَاهِرَةِ فَقَالَ يَا مَوْلَانَا يَكْفِينِي مهما ترَاهُ وَمَا تَأمر بِهِ
فَقَالَ لَهُ قل بِالْجُمْلَةِ
فَقَالَ وَالله أَن أطلق لي فِي كل شهر من الْجَارِي عشرَة دَنَانِير مصرية فَإِنِّي أَرَاهَا خيرا كثيرا
فَقَالَ لَهُ لَا هَذَا الْقدر مَا يقوم بكفايتك على مَا يَنْبَغِي وَأَنا أَقُول لوكيلي إِن يوصلك فِي كل شهر خَمْسَة عشر دِينَارا مصرية وقاعة قريبَة مني تسكنها وَهِي بِجَمِيعِ فرشها وطرحها وَجَارِيَة حسناء تكون لَك
ثمَّ أخرج لَهُ بعد ذَلِك خلعة فاخرة ألبسهُ إِيَّاهَا وَأمر الْغُلَام أَن يَأْتِي لَهُ ببغلة من أَجود دوابه فَقَدمهَا لَهُ ثمَّ قَالَ لَهُ هَذَا الْجَارِي يصلك فِي كل شهر وَجَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من الْكتب وَغَيرهَا فَهُوَ يَأْتِيك على مَا تختاره وَأُرِيد مِنْك أننا لَا نخلو من الِاجْتِمَاع والأنس وَإنَّك لَا تتطاول إِلَى شَيْء آخر من جِهَة الْخُلَفَاء وَلَا تَتَرَدَّد إِلَى أحد من أَرْبَاب الدولة
فَقبل ذَلِك مِنْهُ وَلم يزل ابْن النقاش مُقيما فِي الْقَاهِرَة على هَذِه الْحَال إِلَى أَن رَجَعَ إِلَى الشَّام وَأقَام بِدِمَشْق إِلَى حِين وَفَاته
أَقُول وَكَانَ الشَّيْخ السديد قد قَرَأَ صناعَة الطِّبّ واشتغل على أبي نصر عدنان بن الْعين زَرْبِي
وَلم يزل الشَّيْخ السديد مبجلا عِنْد الْخُلَفَاء وأحواله تنمى وحرمته عِنْدهم تتزايد من حِين الْآمِر بِأَحْكَام الله إِلَى آخر أَيَّام العاضد بِاللَّه وَذَلِكَ أَنه كَانَ وَهُوَ صبي مَعَ أَبِيه فِي خدمَة الْآمِر بِأَحْكَام الله وَهُوَ أَبُو الْمَنْصُور بن أبي الْقَاسِم أَحْمد المستعلي بِاللَّه بن الْمُسْتَنْصر إِلَى أَن اسْتشْهد الْآمِر فِي يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ذِي الْقعدَة من سنة أَربع وَعشْرين وَخَمْسمِائة بالجزيرة
وَكَانَت مُدَّة خِلَافَته ثَمَانِيَة وَعشْرين سنة وَتِسْعَة أشهر وَأَيَّام
ثمَّ بَقِي فِي خدمَة الْحَافِظ لدين الله وَهُوَ أَبُو الميمون عبد الْمجِيد بن الْأَمِير أبي الْقَاسِم مُحَمَّد بن الإِمَام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه وبويع لِلْحَافِظِ يَوْم استشهاد الْآمِر وَلم يزل فِي خدمَة الْحَافِظ إِلَى أَن انْتقل فِي الْيَوْم الْخَامِس من جُمَادَى الْآخِرَة من سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
ثمَّ خدم بعده للظافر بِأَمْر الله وَهُوَ أَبُو مَنْصُور إِسْمَاعِيل بن الْحَافِظ لدين الله وبويع لَهُ فِي لَيْلَة صباحها الْخَامِس من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة عِنْد انْتِقَال وَالِده وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن اسْتشْهد الظافر بِأَمْر الله وَذَلِكَ فِي التَّاسِع وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
ثمَّ بعد ذَلِك خدم الفائز بنصر الله وَهُوَ أَبُو الْقَاسِم عِيسَى بن الظافر بِأَمْر الله وبويع لَهُ فِي الثَّلَاثِينَ من الْمحرم سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن انْتقل الفائز بنصر الله فِي(1/573)
سنة وَخَمْسمِائة ثمَّ خدم بعده العاضد لدين الله وَهُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن الْمولى بن أبي الْحجَّاج يُوسُف بن الإِمَام الْحَافِظ لدين الله وَلم يزل فِي خدمَة العاضد لدين الله إِلَى أَن انْتقل فِي التَّاسِع من الْمحرم سنة سبع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَهُوَ آخر الْخُلَفَاء المصريين وخدمهم ونال فِي أيامهم من العطايا السّنيَّة والمنن الوافرة خمس خلفاء الْآمِر والحافظ والظافر والفائز والعاضد
ثمَّ لما استبد الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بِالْملكِ فِي الْقَاهِرَة وَاسْتولى على الدولة كَانَ يفتقد الشَّيْخ السديد بالأنعام الْكثير والهبات المتواترة والجامكية السّنيَّة مُدَّة مقَامه بِالْقَاهِرَةِ إِلَى أَن توجه إِلَى الشَّام
وَكَانَ يستطبه وَيعْمل على وَصِفَاته وَمَا يُشِير بِهِ أَكثر من بَقِيَّة الْأَطِبَّاء وَلم يزل الشَّيْخ السديد رَئِيسا على سَائِر المتطببين إِلَى حِين وَفَاته
وَكَانَ يسكن فِي الْقَاهِرَة عِنْد بَاب زويلة فِي دَار قد اعتني بهَا وبولغ فِي تحسينها وَجَرت عَلَيْهِ فِي أَوَاخِر عمره محنة
وَذَلِكَ أَن دَاره قد احترقت وَذهب لَهُ فِيهَا من الأثاث والآلات والأمتعة شَيْء كثير جدا وَلما تهدم بَعْضهَا من النَّار وَقعت براني كبار وخوابي ممتلئة من الذَّهَب الْمصْرِيّ وتكسرت وتناثر فِيمَا بعد الْحَرِيق وَالْهدم مِنْهَا الذَّهَب إِلَى كل نَاحيَة وَشَاهد النَّاس وَبَعضه قد انسبك من النَّار وَكَانَ مِقْدَار ذَلِك الوفا كَثِيرَة جدا
وحَدثني القَاضِي نَفِيس الدّين بن الزبير إِن الشَّيْخ السديد كَانَ قد رأى فِي مَنَامه قبل ذَلِك بِقَلِيل أَن دَاره الَّتِي هُوَ ساكنها قد احترقت فاشتغل سره بذلك وعزم على الِانْتِقَال مِنْهَا
ثمَّ أَنه شرع فِي بِنَاء دَار قريبَة مِنْهَا وحث الصناع فِي بنائها وَعند كمالها حَيْثُ لم يبْق مِنْهَا إِلَّا مجْلِس وَاحِد وينتقل إِلَيْهَا احترقت دَاره الَّتِي كَانَ ساكنها وَذَلِكَ فِي السَّادِس وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة وَالدَّار الَّتِي عمرها قَرِيبا مِنْهَا هِيَ الَّتِي صَارَت بعده للصاحب صفي الدّين بن شكر وَزِير الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَهِي الَّتِي تعرف بِهِ الْآن
ونقلت من خطّ فَخر الْكتاب حسن بن عَليّ ابْن إِبْرَاهِيم الْجُوَيْنِيّ الْكَاتِب فِي الشَّيْخ السديد عِنْد حريق دَاره وَذَهَاب منفوساته يعزيه وَكَانَ صديقا لَهُ وَبَينهمَا أنس ومودة
(أيا من حق نعْمَته قديم ... على المرؤوس منا والرئيس)
(فكم عاف أعدت لَهُ العوافي ... وَكم عَنَّا نضوت لِبَاس بوس)
(وَيَا من نَفسه أَعلَى محلا ... من المنفوس يعْدم والنفيس)(1/574)
(جرعت مرَارَة أحلى مذاقا ... لمثلك من كميت خندريس)
(فعاين مَا عرَاك بِنور تقوى ... خلائقك الَّتِي هِيَ كالشموس)
(مصابك بِالَّذِي أضحى ثَوابًا ... يُرِيك الْبشر فِي الْيَوْم العبوس)
(عَطاء الله يَوْم الْعرض يسمو ... مماثلة عَن الْعرض الخسيس)
(هموم الْخلق فِي الدُّنْيَا شراب ... يَدُور عَلَيْهِم مثل الكؤوس)
(تروم الرّوح فِي الدُّنْيَا بعقل ... ترى الْأَرْوَاح مِنْهَا فِي حبوس)
(وكل حوادث الدُّنْيَا يسير ... إِذا بقيت حشاشات النُّفُوس) الوافر
ونقلت أَيْضا من خطه مِمَّا نظمه فِي مآثر القَاضِي السديد مجيزا الْبَيْتَيْنِ عملا فِيهِ وهما
(وَلكُل عَافِيَة عفت وَقت فَإِن ... عدت الْمَرِيض فانت من أَوْقَاتهَا)
(فَاسْلَمْ ليسلم من تعلله فقد ... صحت بك الدُّنْيَا على علاتها) الْكَامِل
فَعمل هَذِه الأبيات
(بك عرفت نَفسِي لذيذ حَيَاتهَا ... سُبْحَانَ منشرها عقيب مماتها)
(وَردت حِيَاض الْمَوْت فاستنقذتها ... بِمَشِيئَة لله بعد وفاتها)
(وأعدت فائتها بقدرة قَادر ... يسترجع الْأَشْيَاء بعد فَوَاتهَا)
(فَلذَلِك شكرك بعد شكر إلهها ... فِي سَائِر الْأَوْقَات من أَوْقَاتهَا)
(لله نَفسك مَا أتم ضياءها ... ألعلمها تعتام أم بركاتها)
(تقوى تقر الرّوح فِي أوطانها ... وَنهى تجير النَّفس من آفاتها)
(كم مثل مهجتي اختلست من الردى ... فَرددت عَنْهَا وَهِي فِي سكراتها)
(وغمرتها برا وبرءا بَعْدَمَا ... قذفت بهَا الْأَمْرَاض فِي غمراتها)
(ونزعت عَنْهَا النزع وَهُوَ مدافع ... لنسيم روح الرّوح عَن لهواتها)
(وَلكم بِإِذن الله عدت مودعا ... نفسا فعدت بهَا إِلَى عاداتها)
(يَا من غَدَتْ أَلْفَاظه لتلاوة الْقُرْآن ... تهدي الْبُرْء من نفثاتها)
(يَا أَيهَا القَاضِي السديد وَمن غَدا ... للملة الْبَيْضَاء من حسناتها)
(يَا من بِعَين الْعلم مِنْهُ قريحة ... تتَصَوَّر الْأَشْيَاء فِي مرآتها)
(لله فكرك مدْركا مَا أكتن فِي ... الْأَعْضَاء عَنهُ من جَمِيع جهاتها)
(يحمي طَرِيق الرّوح من دعاره ... فَكَأَنَّهُ وَال على طرقاتها)(1/575)
(لله فِي هَذَا الْأَنَام لطائف ... خفيت عَلَيْهِم أَنْت من آياتها)
(وَلكُل عَافِيَة عفت وَقت فان ... عدت الْمَرِيض فانت من أَوْقَاتهَا)
(فَاسْلَمْ ليسلم من تعلله فقد ... صحت بك الدُّنْيَا على علاتها)
ونقلت أَيْضا من خطه مِمَّا نظمه فِيهِ وَقد عالجه من بعض الْأَمْرَاض الْعَظِيمَة الْخطر فَكتب إِلَيْهِ
(أواصل شكرا لست عَنهُ بلاهي ... سفيرا غَدا بيني وَبَين إلهي)
(أعَاد بِإِذن الله روحي وَلم أكد ... أَعُود إِلَى هَذَا الْوُجُود ولاهي)
(هُوَ السَّيِّد القَاضِي السديد الَّذِي بِهِ ... أفاخر أَرْبَاب الْعلَا وأباهي)
(فلولا التناهي فِي البرايا لَقلت مَا ... لآماده فِي المكرمات تناهي)
(تنير لَهُ المشكلات بَصِيرَة ... تريه خفايا الغائبات كَمَا هِيَ)
(زِمَام العوافي والسقام بكفه ... لَهُ آمُر فِي الْفرْقَتَيْنِ وناهي)
(لَك الله يَا عبد الْإِلَه فكمرزهت ... ببهجتك الدُّنْيَا وَلست بزاهي)
(تجل عَن المَاء الزلَال وَجل أَن ... يُقَاس هَوَاء منعش بمياه) الطَّوِيل
وَتُوفِّي الشَّيْخ السديد رَحمَه الله بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
ابْن جَمِيع
هُوَ الشَّيْخ الْمُوفق شمس الرياسة أَبُو العشائر هبة الله بن زين بن حسن بن افرائيم بن يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل بن جَمِيع الإسرائيلي من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين وَالْعُلَمَاء الْمَذْكُورين والأكابر المتعينين
وَكَانَ متفننا فِي الْعُلُوم جيد الْمعرفَة بهَا كثير الِاجْتِهَاد فِي صناعَة الطِّبّ حسن المعالجة جيد التصنيف
وَقَرَأَ صناعَة الطِّبّ على الشَّيْخ الْمُوفق أبي نصر عدنان بن الْعين زَرْبِي وَلَزِمَه مُدَّة
وَكَانَ مولد ابْن جَمِيع ومنشؤه بفسطاط مصر
وخدم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وحظي فِي أَيَّامه وَكَانَ رفيع الْمنزلَة عِنْده عالي الْقدر نَافِذ الْأَمر يعْتَمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ وَركب لَهُ الترياق الْكَبِير الْفَارُوق
وَكَانَ لِابْنِ جَمِيع مجْلِس عَام للَّذين يشتغلون عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ وَذكر أَنه كَانَ كثير التَّحْصِيل فِي صناعَة الطِّبّ متصرفا فِي علمهَا فَاضلا فِي أَعمالهَا
أَقُول وَمِمَّا يُؤَيّد ذَلِك مَا نجده فِي مصنفاته فَإِنَّهَا جَيِّدَة التَّأْلِيف كَثِيرَة الْفَوَائِد منتخبة العلاج
وَكَانَ لَهُ نظر فِي الْعَرَبيَّة وَتَحْقِيق للألفاظ اللُّغَوِيَّة
وَكَانَ لَا يقْرَأ إِلَّا وَكتاب الصِّحَاح للجوهري حَاضر بَين يَدَيْهِ وَلَا تمر كلمة لُغَة لم يعرفهَا حق الْمعرفَة إِلَّا ويكشفها مِنْهُ ويعتمد(1/576)
على مَا أوردهُ الْجَوْهَرِي فِي ذَلِك
وَكنت يَوْمًا عِنْد الصاحب جمال الدّين يحيى بن مطروح فِي دَاره بِدِمَشْق وَكَانَ ذَلِك فِي أَيَّام الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب صَاحب الْبِلَاد المصرية والشامية
والصاحب جمال الدّين يَوْمئِذٍ وزيره فِي سَائِر الْبِلَاد وَهُوَ صَاحب السَّيْف والقلم وَفِي خدمته مِائَتَا فَارس وتجارينا الحَدِيث وتفضل وَقَالَ لي مَا سَبَقَك إِلَى تأليف كتابك فِي طَبَقَات الْأَطِبَّاء أحد
ثمَّ قَالَ لي وَذكرت أَصْحَابنَا الْأَطِبَّاء المصريين فَقلت لَهُ نعم
فَقَالَ وَكَأَنِّي بك قد أَشرت إِلَى أَن مَا فِي الْأَطِبَّاء الْمُتَقَدِّمين مِنْهُم مثل ابْن رضوَان وَفِي الْمُتَأَخِّرين مثل ابْن جَمِيع فَقلت لَهُ صَحِيح يَا مَوْلَانَا
وحَدثني بعض المصريين أَن ابْن جَمِيع كَانَ يَوْمًا جَالِسا فِي دكانه عِنْد سوق الْقَنَادِيل بفسطاط مصر وَقد مرت عَلَيْهِ جَنَازَة فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا صَاح بِأَهْل الْمَيِّت وَذكر لَهُم أَن صَاحبهمْ لم يمت وَأَنَّهُمْ إِن دفنوه فَإِنَّمَا يدفنوه حَيا
قَالَ فبقوا ناظرين إِلَيْهِ كالمتعجبين من قَوْله وَلم يصدقوه فِيمَا قَالَ
ثمَّ إِن بَعضهم قَالَ لبَعض هَذَا الَّذِي يَقُوله مَا يضرنا أننا نمتحنه فَإِن كَانَ حَقًا فَهُوَ الَّذِي نريده وَإِن لم يكن حَقًا فَمَا يتَغَيَّر علينا شَيْء فاستدعوه إِلَيْهِم وَقَالُوا بَين الَّذِي قد قلت لنا فَأَمرهمْ بِالْمَسِيرِ إِلَى الْبَيْت وَأَن ينزعوا عَن الْمَيِّت أَكْفَانه وَقَالَ لَهُم احملوه إِلَى الْحمام ثمَّ سكب عَلَيْهِ المَاء الْحَار وأحمى بدنه ونطله بنطولات وغطسه فَرَأَوْا فِيهِ أدنى حس وتحرك حَرَكَة خَفِيفَة
فَقَالَ أَبْشِرُوا بعافيته ثمَّ تمم علاجه إِلَى أَن أَفَاق وَصلح فَكَانَ ذَلِك مبدأ اشتهاره بجودة الصِّنَاعَة وَالْعلم وَظَهَرت عَنهُ كالمعجزة ثمَّ أَنه سُئِلَ بعد ذَلِك من أَيْن علمت أَن ذَلِك الْمَيِّت وَهُوَ مَحْمُول وَعَلِيهِ الأكفان أَن فِيهِ روحا فَقَالَ إِنِّي نظرت إِلَى قَدَمَيْهِ فوجدتهما قائمتين وأقدام الَّذين قد مَاتُوا منبسطة فحدست أَنه حَيّ وَكَانَ حدسي صائبا أَقُول وَكَانَ بِمصْر ابْن المنجم الْمصْرِيّ وَكَانَ شَاعِرًا مَشْهُورا خَبِيث اللِّسَان وَله أهاجي كَثِيرَة فِي ابْن جَمِيع وَمن ذَلِك مِمَّا أنشدت لَهُ فِيهِ
(لِابْنِ جَمِيع فِي طبه حمق ... يسب طب الْمَسِيح من سَببه)
(وَلَيْسَ يدْرِي مَا فِي الزجاجة من ... بَوْل مَرِيض وَلَو تمخض بِهِ)
(وأعجب الْأَمر أَخذه أبدا ... أُجْرَة قتل الْمَرِيض من عصبه) المنسرح
وَله أَيْضا فِيهِ
(دعوا ابْن جَمِيع وبهتانه ... ودعواه فِي الطِّبّ والهندسة)
(فَمَا هُوَ إِلَّا رقيع أَتَى ... وَإِن حل فِي بلد أنحسه)(1/577)
(وَقد جعل الشّرْب من شَأْنه ... وَلَكِن كَمَا تشرب النرجسه) المتقارب
وَله أَيْضا فِيهِ
(كذبت وصحفت فِيمَا ادعيت ... وَقلت أَبوك جَمِيع الْيَهُودِيّ)
(وَلَيْسَ جَمِيع الْيَهُودِيّ أَبَاك ... وَلَكِن أَبَاك جَمِيع الْيَهُود)
ونقلت من خطّ يُوسُف بن هبة الله بن مُسلم قصيدة لنَفسِهِ وَهُوَ يرثي بهَا الشَّيْخ الْمُوفق بن جَمِيع وَهِي
(أعيني بِمَا تحوي من الدمع فاسجمي ... وَإِن نفذت مِنْك الدُّمُوع فبالدم)
(فَحق بِأَن تذرفي على فقد سيد ... فَقدنَا بِهِ فضل الْعلَا والتكرم)
(وَأفضل أهل الْعَصْر علما وسؤددا ... وأفضلهم فِي مُشكل القَوْل مُبْهَم)
(وأهداهم بِالرَّأْيِ وَالْأَمر مُبْهَم ... وأعلمهم بِالْغَيْبِ علم تفهم)
(وأرحبهم صَدرا وكفا ومنزلا ... ووجها كَمثل الصُّبْح عِنْد التبسم)
(وأنجد من يممته لملمة ... وأنجد من أملته لتألم)
(وَلَو كَانَ يفدى من حمام فديته ... بِنَفس مَتى تقدم على الْمَوْت تقرم)
(وبطش أسود كالأساود ترتمي ... بهزة هندي وَعزة لهذم)
(وَلَكِن قَضَاء الله فِي الْخلق نَافِذ ... فَلَا دَافع للْآمِر المتحكم)
(وَمَا رد بقراطا عَن الْمَوْت طبه ... وَقد كَانَ من أعيانه فِي التَّقَدُّم)
(وَلَا حاد جالينوس عَن حتف يَوْمه ... فَسلم مَا أعياه للمتسلم)
(لَا كسر كسْرَى ثمَّ تَابع تبعا ... وَعَاد بعاد ثمَّ جر بجرهم)
(فَقل مُعْلنا للشامتين بيومه ... ذَوُو الْجَهْل إِن الْجَهْل مِنْكُم بمأتم)
(تمر سفيهات الرِّيَاح عواصفا ... فَهَل زعزعت ضعفا نَبَات يَلَمْلَم)
(وَمَا سرح السَّرْح الضَّعِيف حراكه ... بِأَرْض فَكَانَ اللَّيْث فِيهَا بمجثم)
(ألم يَك ذَا ورد النُّفُوس بأسرها ... فَكل أخير تَابع الْمُتَقَدّم)
(فَلَا فَرح إِلَّا ويعقبه الأسى ... وَلَا غَايَة الْبُنيان غير التهدم)
(فقبحا لدهر ردنا بعد فَقده ... حيارى بِلَا هاد حَلِيف التيتم)
(أما عجب إِذْ غاله الحتف راميا ... وَقد كَانَ أرمى للخطوب بأسهم)(1/578)
(وَأهْدى إِلَى الدَّاء الْخَفي بِعِلْمِهِ ... إِذا جال بَين اللَّحْم والعظم وَالدَّم)
(وارفع بَيْتا فِي الْقَبِيل مكارما ... كَمَا لَاحَ بدر التم مَا بَين أنجم)
(فيا أَيهَا الْمولى الْمُوفق أَيْنَمَا ... رَأَيْنَاهُ من در الْكَلَام المنظم)
(وَمَا غال ذَاك النُّطْق أفْصح مقول ... ينير دجى ليل من الشَّك مظلم)
(وَمَا أخمد الْحس الذكي توقدا ... وَقد كَانَ يهدي كل سَار ميمم)
(لعمرك مَا قلب الشجي كَغَيْرِهِ ... وَلَا محرق الأحشاء كالمتجشم)
(وَلَا كل من أجْرى المدامع ثاكل ... وَأَيْنَ جميل فِي الأسى من متمم)
(فَلَا تعذلوني أَن بَكَيْت تأسفا ... فَقدر عَظِيم الْحزن قدر الْمُعظم)
(وَوَاللَّه مَا وفيت وَاجِب حَقه ... وَلَو أَن جسمي كل عين بمرزم)
(وَإِنِّي لأفني مُدَّة الْعُمر والها ... تصرم أيامي وَلم يتصرم)
(فويح المنايا مَا درت كنه حَادث ... رمت سيدا يحيا بِهِ كل منعم)
(ثوى بَين أَحْجَار الثرى وَلَقَد غدى ... يضوع بِهِ النادي ذكي التنسم)
(وطلق الْمحيا رائق الْبشر باسما ... وَلَيْسَ بِفَظٍّ الْخلق كالمتجهم)
(وَقد كنت أهديه الثَّنَاء مبجلا ... فها أَنا أهديه الرثا جهد معدم)
(فيا قَبره الوضاح لم يدر مَا حوى ... ترابك من جود ومجد مخيم)
(سقاك من الوسمي كل سَحَابَة ... تحيل عَلَيْك الْعين ذَات توسم)
(وَلَا زَالَ مِنْك النشر يأرج عرفه ... فيهديه أنفاس الصِّبَا بِمُسلم) الطَّوِيل
وَلابْن جَمِيع من الْكتب كتاب الْإِرْشَاد لمصَالح الْأَنْفس والأجساد أَربع مقالات
كتاب التَّصْرِيح بالمكنون فِي تَنْقِيح القانون
رِسَالَة فِي طبع الْإسْكَنْدَريَّة وَحَال هوائها ومياهها وَنَحْو ذَلِك من أحوالها وأحوال أَهلهَا
رِسَالَة إِلَى القَاضِي المكين أبي الْقَاسِم عَليّ بن الْحُسَيْن فِيمَا يعتمده حَيْثُ لَا يجد طَبِيبا
مقَالَة فِي الليمون وَشَرَابه ومنافعه
مقَالَة فِي الراوند ومنافعه
مقَالَة فِي الحدبة
مقَالَة فِي علاج القولنج وَاسْمهَا الرسَالَة السيفيه فِي الْأَدْوِيَة الملوكية
أَبُو الْبَيَان بن المدور
لقب بالسديد وَكَانَ يَهُودِيّا قراء عَالما بصناعة الطِّبّ حسن الْمعرفَة بأعمالها وَله مجريات كَثِيرَة وآثار محمودة
وخدم الْخُلَفَاء المصريين فِي آخر دولتهم وَبعد ذَلِك خدم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وَكَانَ يرى لَهُ ويعتمد على معالجته وَله فِيهِ حسن ظن وَكَانَت لَهُ مِنْهُ الجامكية الْكَثِيرَة والافتقاد المتوفر
وَعمر الشَّيْخ أَبُو الْبَيَان بن المدور وتعطل فِي آخر عمره من الْكبر والضعف من كَثْرَة الْحَرَكَة والتردد إِلَى الْخدمَة(1/579)
فَأطلق لَهُ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين رَحمَه الله فِي كل شهر أَرْبَعَة وَعشْرين دِينَارا مصرية تصل إِلَيْهِ وَيكون ملازما لبيته وَلَا يُكَلف خدمَة
وَبَقِي على تِلْكَ الْحَال وجامكيته تصل إِلَيْهِ نَحْو عشْرين سنة
وَكَانَ فِي مُدَّة انْقِطَاعه فِي بَيته لَا يخل بالاشتغال فِي صناعَة الطِّبّ وَلَا يَخْلُو مَوْضِعه من التلاميذ والمشتغلين عَلَيْهِ والمستوصفين مِنْهُ
وَكَانَ لَا يمْضِي إِلَى أحد لمعالجته فِي تِلْكَ الْمدَّة إِلَّا من يعز عَلَيْهِ جدا
وَلَقَد بَلغنِي عَنهُ من ذل أَن الْأَمِير ابْن منقذ لما وصل من الْيمن وَكَانَ قد عرض لَهُ استسقاء بعث إِلَيْهِ ليَأْتِيه ويعالجه بالمعالجة فَاعْتَذر إِلَيْهِ على قرب مَوْضِعه مِنْهُ وَلم يمض إِلَيْهِ دون أَن بعث إِلَيْهِ القَاضِي الْفَاضِل وَكيله ابْن سناء الْملك وقصده فِي ذَلِك حَتَّى مضى إِلَيْهِ وَوصف لَهُ مَا يعْتَمد عَلَيْهِ فِي المداواة
وعاش أَبُو الْبَيَان ابْن المدور ثَلَاثًا وَثَمَانِينَ سنة وَتُوفِّي فِي سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ
وَكَانَ من تلاميذه زين الْحساب
ولابي الْبَيَان بن المدور من الْكتب مجرباته فِي الطِّبّ
أَبُو الْفَضَائِل بن النَّاقِد
لقبه الْمُهَذّب
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا وعالما مَذْكُورا
لَهُ الْعلم الوافر
والأعمال الْحَسَنَة والمداواة الفاضلة وَكَانَ يَهُودِيّا مشتهرا بالطب والكحل إِلَّا أَن الْكحل كَانَ أغلب عَلَيْهِ
وَكَانَ كثير المعاش عَظِيم الاشتيام حَتَّى أَن الطّلبَة والمشتغلين عَلَيْهِ كَانُوا فِي أَكثر أوقاته يقرؤون عَلَيْهِ وَهُوَ رَاكب وَقت مسيره وافتقاده للمرضى
وَتُوفِّي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ وَأسلم وَلَده أَبُو الْفرج وَكَانَ طَبِيبا وكحالا أَيْضا
وحَدثني أبي قَالَ كَانَ قد أَتَى إِلَى أبي الْفَضَائِل بن النَّاقِد صَاحب لَهُ من الْيَهُود ضَعِيف الْحَال وَطلب مِنْهُ أَن يرفده بِشَيْء فأجلسه عِنْد دَاره وَقَالَ لَهُ معاشي الْيَوْم بختك ورزقك
وَركب وَدَار على المرضى وَالَّذين يكحلهم وَلما عَاد أخرج عدَّة الْكحل وفيهَا قَرَاطِيس كَثِيرَة مصرورة وَشرع يفتح وَاحِدَة وَاحِدَة مِنْهَا فَمِنْهَا مَا فِيهَا الدِّينَار وَالْأَكْثَر وَمِنْهَا مَا فِيهَا دَرَاهِم ناصرية وَبَعضهَا فِيهَا دَرَاهِم سَواد فَاجْتمع من ذَلِك مَا يكون قِيمَته الْجُمْلَة نَحْو ثَلَاثمِائَة دِرْهَم سَواد فَأَعْطَاهَا ذَلِك الرجل
ثمَّ قَالَ وَالله جَمِيع هَذِه الكواغد مَا أعرف الَّذِي أَعْطَانِي الذَّهَب أَو الدَّرَاهِم أَو الْكثير مِنْهَا أَو الْقَلِيل بل كل من أَعْطَانِي شَيْئا أجعله فِي عدَّة الْكحل وَهَذَا يدل على معاش زَائِد وَقبُول كثير
وَلأبي الْفَضَائِل بن النَّاقِد من الْكتب مجرباته فِي الطِّبّ
الرئيس هبة الله
كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا فَاضلا مَشْهُورا بالطب جيد الْأَعْمَال حسن المعالجة
وَكَانَ فِي آخر دولة الْخُلَفَاء المصريين وخدمهم بصناعة الطِّبّ وَكَانَت لَهُ مِنْهُم الجامكية الوافرة والصلات المتوالية
ثمَّ انقرضت دولتهم وَبَقِي بعدهمْ يعِيش فِيمَا أنعموا بِهِ عَلَيْهِ إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خَمْسمِائَة ونيف وَثَمَانِينَ(1/580)
الْمُوفق بن شوعة
كَانَ من أَعْيَان الْعلمَاء وأفاضل الْأَطِبَّاء إسرائيلي مَشْهُور بإتقان الصِّنَاعَة وجودة الْمعرفَة فِي علم الطِّبّ والكحل والجراح
كَانَ دمثا خَفِيف الرّوح كثير المجون وَكَانَ يشْعر ويلعب بالقيثارة وخدم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين بالطب لما كَانَ بِمصْر وعلت مَنْزِلَته عِنْده
وَكَانَ بِدِمَشْق فَقِيه صوفي صحب مُحَمَّد بن يحيى وَسكن خانقاه السميساطي كَانَ يعرف بالخوبشاني ويلقب بِالنَّجْمِ وَله معرفَة بِنَجْم الدّين أَيُّوب وبأخيه أَسد الدّين
وَكَانَ الخوبشاني ثقيل الرّوح قشفا فِي الْعَيْش يَابسا فِي الدّين يَأْكُل الدُّنْيَا بالناموس وَلما صعد أَسد الدّين مصر تبعه وَنزل بِمَسْجِد عِنْد دَار الوزارة يعرف الْيَوْم بِمَسْجِد الخوبشاني وَكَانَ يثلب أهل الْقصر وَيجْعَل تسبيحه سبهم
وَكَانَ سلطا وَمَتى رأى ذَمِيمًا رَاكِبًا قصد قَتله فَكَانُوا يتحامونه
وَلما كَانَ فِي بعض الْأَيَّام رأى ابْن شوعة وَهُوَ رَاكب فَرَمَاهُ بِحجر أصَاب عينه فقلعها وَتُوفِّي ابْن شوعة بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمن شعر الْمُوفق بن شوعة أَنْشدني القَاضِي نَفِيس الدّين بن الزبير قَالَ أَنْشدني الْمُوفق بن شوعة لنَفسِهِ فَمن ذَلِك قَالَ فِي النَّجْم الخوبشاني لما قلع عينه
(لَا تعجبوا من شُعَاع الشَّمْس إِذْ حسرت ... مِنْهُ الْعُيُون وَهَذَا الشَّأْن مَشْهُور)
(بل أعجبوا كَيفَ أعمى مقلتي نَظَرِي ... للنجم وَهُوَ ضئيل الشَّخْص مَسْتُور) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ يهجو ابْن جَمِيع الْيَهُودِيّ
(يَا أَيهَا الْمُدَّعِي طِبًّا وهندسة ... أوضحت يَا ابْن جَمِيع وَاضح الزُّور)
(إِن كنت بالطب ذَا علم فَلم عجزت ... قواك عَن طب دَاء فِيك مَسْتُور)
(تحْتَاج فِيهِ طَبِيبا ذَا معالجة ... بمبضع طوله شبران مطرور)
(هَذَا وَلَا تشتفي مِنْهُ فَقل وأجب ... عَن ذَا السُّؤَال بتمييز وتفكير)
(مَا هندسي لَهُ شكل تهيم بِهِ ... وَلَيْسَ ترغب فِيهِ غير منشور)
(مجسم اسطواني على أكر ... تألفت بَين مخروط وتدوير)
(000 أَلا نصف زَاوِيَة ... 000 فَهُوَ كَمثل الْحَبل فِي البير) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(وروضة جادها صوب الرّبيع فقد ... جَادَتْ علينا بوشي لم تحكه يَد)
(كَأَن أصغرها الزاهي وأبيضها ... تبر وورق بكف الرّيح تنتقد)(1/581)
(وباح نشر خزاماها بِمَا كتمت ... وناح قمريها شجوا بِمَا يجد) الْبَسِيط
أَبُو البركات بن الْقُضَاعِي
لقبه الْمُوفق وَكَانَ من جملَة الْأَطِبَّاء المهرة والمتميزين فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ مشكورا فِي علمهَا مَشْهُورا بجودة الْمعرفَة فِي عَملهَا
وَكَانَ يعاني أَيْضا صناعَة الْكحل والجراح ويعد من الأفاضل فيهمَا
وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فِي الديار المصرية وَتُوفِّي أَبُو البركات بن الْقُضَاعِي بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
أَبُو الْمَعَالِي بن تَمام
هُوَ أَبُو الْمَعَالِي تَمام بن هبة الله بن تَمام يَهُودِيّ غزير الْعلم وافر الْمعرفَة
وَكَانَ مَشْهُورا فِي الدولة مَوْصُوفا بِالْفَضْلِ مشكورا بالمعالجة
وَكَانَ مُقيما بفسطاط مصر
وَأسلم جمَاعَة من أَوْلَاده
وَكَانَ أَبُو الْمَعَالِي قد خدم بصناعة الطِّبّ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وحظي فِي أَيَّامه وخدم أَيْضا بعد ذَلِك لِأَخِيهِ الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب
وَلأبي الْمَعَالِي بن تَمام من الْكتب تعاليق ومجربات فِي الطِّبّ
الرئيس مُوسَى
هُوَ الرئيس أَبُو عمرَان مُوسَى بن مَيْمُون الْقُرْطُبِيّ
يَهُودِيّ عَالم بسنن الْيَهُود ويعد من أَحْبَارهم وفضلائهم
وَكَانَ رَئِيسا عَلَيْهِم فِي الديار المصرية
وَهُوَ أوحد زَمَانه فِي صناعَة الطِّبّ
وَفِي أَعمالهَا متفنن فِي الْعُلُوم وَله معرفَة جَيِّدَة بالفلسفة
وَكَانَ السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يرى لَهُ ويستطبه وَكَذَلِكَ وَلَده الْملك الْأَفْضَل عَليّ
وَقيل أَن الرئيس مُوسَى كَانَ قد أسلم فِي الْمغرب وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بالفقه
ثمَّ أَنه لما توجه إِلَى الديار المصرية وَأقَام بفسطاط مصر ارْتَدَّ
وَقَالَ القَاضِي السعيد بن سناء الْملك يمدح الرئيس مُوسَى
(أرى طب جالينوس للجسم وَحده ... وطب أبي عمرَان لِلْعَقْلِ والجسم)
(فَلَو أَنه طب الزَّمَان بِعِلْمِهِ ... لَا براه من دَاء الْجَهَالَة بِالْعلمِ)
(وَلَو كَانَ بدر التم من يستطبه ... لتم لَهُ مَا يَدعِيهِ من التم)(1/582)
(وداواه يَوْم التم من كلف بِهِ ... وأبرأه يَوْم السرَار من السقم) الطَّوِيل
وللرئيس مُوسَى من الْكتب اخْتِصَار الْكتب السِّتَّة عشر لِجَالِينُوسَ
مقَالَة فِي البواسير وعلاجها
مقَالَة فِي تَدْبِير الصِّحَّة صنفها للْملك الْأَفْضَل عَليّ بن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب
مقَالَة فِي السمُوم والتحرز من الْأَدْوِيَة القتالة
كتاب شرح الْعقار
كتاب كَبِير على مَذْهَب الْيَهُود
إِبْرَاهِيم بن الرئيس مُوسَى
هُوَ أَبُو المنى إِبْرَاهِيم بن الرئيس مُوسَى بن مَيْمُون منشؤه بفسطاط مصر وَكَانَ طَبِيبا مَشْهُورا عَالما بصناعة الطِّبّ جيدا فِي أَعمالهَا
وَكَانَ فِي خدمَة الْملك الْكَامِل مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب ويتردد أَيْضا إِلَى البيمارستان الَّذِي بِالْقَاهِرَةِ من الْقصر ويعالج المرضى فِيهِ
وَاجْتمعت بِهِ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ أَو اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بِالْقَاهِرَةِ وَكنت حِينَئِذٍ أطب فِي البيمارستان بهَا فَوَجَدته شَيخا طَويلا نحيف الْجِسْم حسن الْعشْرَة لطيف الْكَلَام متميزا فِي الطِّبّ
وَتُوفِّي إِبْرَاهِيم بن الرئيس مُوسَى بِمصْر فِي سنة وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
أَبُو البركات بن شعيا
ولقبه الْمُوفق شيخ مَشْهُور كثير التجارب مشكور الْأَعْمَال فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ يَهُودِيّا قراء
عَاشَ سِتا وَثَمَانِينَ سنة وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ وَخلف ولدا يُقَال لَهُ سعيد الدولة أَبُو الْفَخر وَهُوَ طَبِيب أَيْضا ومقامه بِالْقَاهِرَةِ
الأسعد الْمحلي
هُوَ أسعد الدّين يَعْقُوب بن إِسْحَاق
يَهُودِيّ من مَدِينَة الْمحلة من أَعمال ديار مصر متميز فِي الْفَضَائِل وَله اشْتِغَال بالحكمة واطلاع على دقائقها وَهُوَ من الْمَشْهُورين فِي صناعَة الطِّبّ والخبيرين بالمداواة والعلاج
وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ وسافر فِي أول سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة إِلَى دمشق
وَأقَام بهَا مديدة وَجَرت بَينه وَبَين بعض الأفاضل من الْأَطِبَّاء بهَا مبَاحث كَثِيرَة ونكد وَرجع بعد ذَلِك إِلَى الديار المصرية وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ
وَمن نوادره فِي حسن المداواة أَنه كَانَ بعض أهلنا من النِّسَاء قد عرض لَهَا مرض وَتغَير مزاج وتطاول بهَا وَلم ينجع فِيهَا علاج فَلَمَّا افتقدها قَالَ لِعَمِّي وَكَانَ صديقه عِنْدِي أَقْرَاص قد ركبتها لهَذَا الْمَرَض خَاصَّة وَهِي تَبرأ بهَا إِن شَاءَ الله تكون تتَنَاوَل فِي كل يَوْم بِالْغَدَاةِ مِنْهَا قرصا مَعَ شراب سكنجبين وَأَعْطَاهُ الأقراص فَلَمَّا تناولتها برأت(1/583)
وللأسعد الْمحلي من الْكتب مقَالَة فِي قوانين طبية وَهِي سِتَّة أَبْوَاب
كتاب المنزه فِي حل مَا وَقع من إِدْرَاك الْبَصَر فِي المرايا من الشّبَه
كتاب فِي مزاج دمشق ووصفها وتفاوتها من مصر وَأَنَّهَا أصح وَأَعْدل وَفِي مسَائِل أخر فِي الطِّبّ وأجوبتها وَهُوَ يحتوي على ثَلَاث مقالات
مسَائِل طبية وأجوبتها سَأَلَهَا لبَعض الْأَطِبَّاء بِدِمَشْق وَهُوَ صَدَقَة بن ميخا بن صَدَقَة السامري
الشَّيْخ السديد بن أبي الْبَيَان
هُوَ سديد الدّين أَبُو الْفضل دَاوُود بن أبي الْبَيَان سُلَيْمَان بن أبي الْفرج إِسْرَائِيل بن أبي الطّيب سُلَيْمَان ابْن مبارك إسرائيلي قراء مولده فِي سنة سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ
وَكَانَ شَيخا محققا للصناعة الطبية متقنا لَهَا متميزا فِي علمهَا وعملها خَبِيرا بالأدوية المفردة والمركبة
وَلَقَد شاهدت مِنْهُ حَيْثُ نعالج المرضى بالبيمارستان الناصري بِالْقَاهِرَةِ من حسن تأنيه لمعْرِفَة الْأَمْرَاض وتحقيقها وَذكر مداواتها والاطلاع على مَا ذكره جالينوس فِيهَا مَا يعجز عَن الْوَصْف
وَكَانَ أقدر أهل زَمَانه من الْأَطِبَّاء على تركيب الْأَدْوِيَة وَمَعْرِفَة مقاديرها وأوزانها على مَا يَنْبَغِي حَتَّى أَنه كَانَ فِي أَوْقَات يَأْتِي إِلَيْهِ من المستوصفين من بِهِ أمراض مُخْتَلفَة أَو قَليلَة الْحُدُوث فَكَانَ يملي صِفَات أدوية مركبة بِحَسب مَا يحْتَاج إِلَيْهِ ذَلِك الْمَرِيض من الأقراص والسفوفات والأشربة أَو غير ذَلِك فِي الْوَقْت الْحَاضِر وَهِي فِي نِهَايَة الْجَوْدَة وَحسن التَّأْلِيف
وَكَانَ شَيْخه فِي صناعَة الطِّبّ الرئيس هبة الله بن جَمِيع الْيَهُودِيّ
وَقَرَأَ أَيْضا على أبي الْفَضَائِل بن النَّاقِد
وَكَانَ الشَّيْخ السديد بن أبي الْبَيَان قد خدم الْملك الْعَادِل أَبَا بكر ابْن أَيُّوب وَوجدت لبَعْضهِم فِيهِ
(إِذا أشكل الدَّاء فِي بَاطِن ... أَتَى ابْن بَيَان لَهُ بِالْبَيَانِ)
(فَإِن كنت ترغب فِي صِحَة ... فَخذ لسقامك مِنْهُ الْأمان) المتقارب
وعاش فَوق الثَّمَانِينَ سنة وَكَانَ قد ضعف بَصَره فِي آخر عمره
وللشيخ السديد بن أبي الْبَيَان من الْكتب كتاب الأقراباذين وَهُوَ اثْنَا عشر بَابا قد أَجَاد فِي جمعه وَبَالغ فِي تأليفه وَاقْتصر على الْأَدْوِيَة المركبة المستعملة المتداولة فِي البيمارستانات بِمصْر وَالشَّام وَالْعراق وحوانيت الصيادلة وقرأته عَلَيْهِ وَجمعته مَعَه
تعاليق على كتاب الْعِلَل والأعراض لِجَالِينُوسَ
جمال الدّين بن أبي الحوافر
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم أَبُو عَمْرو عُثْمَان بن هبة الله بن أَحْمد بن عقيل الْقَيْسِي وَيعرف بِابْن أبي الحوافر
أفضل الْأَطِبَّاء وَسيد الْعلمَاء وأوحد الْعَصْر وفريد الدَّهْر
قد أتقن الصِّنَاعَة الطبية(1/584)
وتميز فِي أقسامها العلمية والعملية
وَله اشْتِغَال جيد فِي علم الْأَدَب وعناية فِيهِ وَله شعر كثير صَحِيح المباني بديع الْمعَانِي
وَكَانَ رَحمَه الله كثير الْمُرُوءَة غزير الْعَرَبيَّة مَعْرُوفا بالأفضال مَوْصُوفا بِحسن الْخلال قد غمر بإحسانه الْخَاص وَالْعَام وشملهم بِكَثْرَة الْأَنْعَام
مولده ومنشؤه بِدِمَشْق
واشتغل بصناعة الطِّبّ على الإِمَام مهذب الدّين بن النقاش وعَلى الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك الْعَزِيز عُثْمَان بن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وَأقَام مَعَه فِي الديار المصرية وولاه رياسة الطِّبّ وَلم يزل فِي خدمته وَهُوَ كثير الْإِحْسَان إِلَيْهِ والإنعام عَلَيْهِ إِلَى أَن توفّي الْملك الْعَزِيز رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْأَحَد الْعشْرين من الْمحرم سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ
وَبَقِي هُوَ مُقيما بالديار المصرية وقطن بهَا
ثمَّ خدم بعد ذَلِك الْملك الْكَامِل مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب وَبَقِي مَعَه سِنِين
وَتُوفِّي جمال الدّين بن أبي الحوافر رَحمَه الله بِالْقَاهِرَةِ
وحَدثني بعض أصدقائه قَالَ كَانَ يَوْمًا رَاكِبًا فَرَأى فِي بعض النواحي على مصطبة بياع حمص مسلوق وَهُوَ قَاعد وقدامه كَحال يَهُودِيّ وَهُوَ وَاقِف وَبِيَدِهِ المكحلة والميل وَهُوَ يكحل ذَلِك البياع
فحين رَآهُ على تِلْكَ الْحَال سَاق بغلته نَحوه وضربه بالمقرعة على رَأسه وَشَتمه
وعندما مَشى مَعَه قَالَ لَهُ إِذا كنت أَنْت سفلَة فِي نَفسك أما للصناعة حُرْمَة كنت قعدت إِلَى جَانِبي وكحلته وَلَا تبقى وَاقِفًا بَين يَدي عَامي بياع حمص فَتَابَ أَن يعود يفعل من ذَلِك الْفِعْل وَانْصَرف
أَقُول واشتغل على الشَّيْخ جمال الدّين بن أبي الحوافر جمَاعَة وتميزوا فِي صناعَة الطِّبّ وَأفضل من اشْتغل عَلَيْهِ مِنْهُم وَكَانَ أجل تلامذته وأعملهم عمي الْحَكِيم رشيد الدّين عَليّ بن خَليفَة رَحمَه الله
فتح الدّين بن جمال الدّين بن أبي الحوافر
كَانَ مثل أَبِيه جمال الدّين فِي الْعلم وَالْفضل والنباهة
نزيه النَّفس صائب الحدس أعلم النَّاس بِمَعْرِِفَة الْأَمْرَاض وَتَحْقِيق الْأَسْبَاب والأعراض
حسن العلاج والمداواة لطيف التَّدْبِير والمداراة
عالي الهمة كثير الْمُرُوءَة
فصيح اللِّسَان كثير الْإِحْسَان
وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك الْكَامِل مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب وَبعد الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل مُحَمَّد وَتُوفِّي رَحمَه الله فِي أَيَّامه بِالْقَاهِرَةِ
شهَاب الدّين بن فتح الدّين
هُوَ سيد الْعلمَاء وَرَئِيس الْأَطِبَّاء عَلامَة زَمَانه وأوحد أَوَانه
قد جمع الْفَضَائِل وتميز على الْأَوَاخِر والأوائل وأتقن الصِّنَاعَة الطبية علما وَعَملا وحررها تَفْصِيلًا وجملا وَهُوَ عَلامَة وقته فِي(1/585)
حفظ الصِّحَّة ومراعاتها وَإِزَالَة الْأَمْرَاض وعلاجاتها
وَقد اقتفى سيرة آبَائِهِ وفَاق نظرائه فِي همته وإبائه
(ورث المكارم عَن أَبِيه وجده ... كالرمح أنبوبا على أنبوب)
ومقامه فِي الديار المصرية وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك الظَّاهِر ركن الدّين بيبرس الْملك الصَّالح صَاحب الديار المصرية والشامية
القَاضِي نَفِيس الدّين بن الزبير
هُوَ القَاضِي الْحَكِيم نَفِيس الدّين أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن صدفة بن عبد الله الكولمي والكولم من بِلَاد الْهِنْد وَهُوَ ينْسب من جِهَة أمه إِلَى ابْن الزبير الشَّاعِر الْمَشْهُور الَّذِي كَانَ بالديار المصرية وَهُوَ الْقَائِل
(يَا ربع أَيْن ترى الْأَحِبَّة يمموا ... هَل أنجدوا من بَعدنَا أَو أتهموا)
ومولد القَاضِي نَفِيس الدّين فِي سنة خمس أَو سِتّ وَخمسين وَخَمْسمِائة وَقَرَأَ صناعَة الطِّبّ على ابْن شوعة أَولا وَقَرَأَ بعد ذَلِك على الشَّيْخ السديد رَئِيس الطِّبّ وتميز فِي صناعَة الطِّبّ وحاول أَعمالهَا وأتقن أَيْضا صناعَة الْكحل وَعلم الْجراح
وَكَثُرت شهرته بصناعة الْكحل وولاه الْملك الْكَامِل ابْن الْملك الْعَادِل رياسة الطِّبّ بالديار المصرية ويكحل فِي البيمارستان الناصري الَّذِي كَانَ من جملَة الْقصر للخلفاء المصريين
وَتُوفِّي القَاضِي نَفِيس الدّين بن الزبير رَحمَه الله بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَله أَوْلَاد مقيمون فِي الْقَاهِرَة وهم من الْمَشْهُورين بصناعة الْكحل والمتميزين فِي عَملهَا وعملها
أفضل الدّين الخونجي
هُوَ الإِمَام الْعَالم الصَّدْر الْكَامِل سيد الْعلمَاء والحكماء أوحد زَمَانه وعلامة أَوَانه أفضل الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن ناماوار الخونجي
قد تميز فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وأتقن الْأُمُور الشَّرْعِيَّة
قوي الِاشْتِغَال كثير التَّحْصِيل
اجْتمعت بِهِ بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وست مائَة فَوَجَدته الْغَايَة القصوى فِي سَائِر الْعُلُوم وقرأت عَلَيْهِ بعض الكليات من كتاب القانون للرئيس ابْن سينا وَكَانَ فِي بعض الْأَوْقَات يعرض لَهُ انشداه وخاطر لِكَثْرَة انصباب ذهنه إِلَى الْعلم وتوفر فكرته فِيهِ
وَفِي آخر أمره تولى الْقَضَاء بِمصْر وَصَارَ قَاضِي الْقُضَاة بهَا وبأعمالها
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله بِالْقَاهِرَةِ يَوْم الْأَرْبَعَاء(1/586)
خَامِس شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَأَرْبَعين وست مائَة وَدفن بالقرافة وَقَالَ الشَّيْخ عز الدّين مُحَمَّد بن حسن الغنوي الضَّرِير الأربلي يرثيه
(قضى أفضل الدُّنْيَا فَلم يبْق فَاضل ... وَمَاتَتْ بِمَوْت الخونج الْفَضَائِل)
(فيا أَيهَا الحبر الَّذِي جَاءَ أخرة ... فَحل لنا مَا لم تحل الْأَوَائِل)
(ومستنبط الْعلم الْخَفي بفكرة ... بهَا اتضحت للسائلين الْمسَائِل)
(وفاتح بَاب المشكلات بهَا لنا ... فَلم يسم لولاه لَهَا المتطاول)
(وحبرا إِذا قيس الْبحار بِعِلْمِهِ ... غَدا علمه بحرا وَتلك الجداول)
(فليت المنايا عَنهُ طاشت سهامها ... وَكَانَت أُصِيبَت من سواهُ الْمقَاتل)
(أَتَدْرِي بِمن قد صَار حَامِل نعشه ... عداهُ أحبوه وَمن هُوَ حَامِل)
(وَمَات فريدا فِي الزَّمَان وَأَهله ... وبحر عُلُوم مَاله الدَّهْر سَاحل)
(فَإِن غيبوه فِي الثرى عَن عيوننا ... فَمَا علمه خَافَ وَلَا الذّكر خامل)
(وَإِن أفلت شمس الْمَعَالِي بِمَوْتِهِ ... فَمَا علمه عَن طَالب الْعلم زائل)
(وَمَا كنت أَدْرِي أَن للشمس فِي الثرى ... أفولا وَأَن الْبَدْر فِي الترب نَازل)
(إِلَّا أَن رَأَيْنَاهُ وَقد حل قَبره ... قضينا بِأَن الْبَدْر فِي اللَّحْد حَاصِل) الطَّوِيل
ولأفضل الدّين الخونجي من الْكتب شرح مَا قَالَه الرئيس ابْن سينا فِي النبض
مقَالَة فِي الْخُدُور والوروم
كتاب الْجمل فِي علم الْمنطق
كتاب كشف الْأَسْرَار فِي علم الْمنطق
كتاب الموجز فِي الْمنطق
كتاب أدوار الحميات
أَبُو سُلَيْمَان دَاوُد بن أبي المنى بن أبي فانة
كَانَ طَبِيبا نَصْرَانِيّا بِمصْر فِي زمن الْخُلَفَاء وَكَانَ حظيا عِنْدهم فَاضلا فِي الصِّنَاعَة الطبية خَبِيرا بعلمها وعملها متميزا فِي الْعُلُوم
وَكَانَ من أهل الْقُدس ثمَّ انْتقل إِلَى الديار المصرية
وَكَانَت لَهُ معرفَة بَالِغَة بِأَحْكَام النُّجُوم
حَدثنِي الْحَكِيم رشيد الدّين أَبُو حليقة بن الْفَارِس بن أبي سُلَيْمَان الْمَذْكُور قَالَ سَمِعت الْأَمِير مجد الدّين أَخا الْفَقِيه عِيسَى وَهُوَ يحدث السُّلْطَان الْملك الْكَامِل بشر مساح عِنْد حُضُوره إِلَيْهِ بعد وَفَاة الْملك الْعَادِل ونزول الفرنج على ثغر دمياط من أَحْوَال جدي أبي سُلَيْمَان دَاوُد مَا هَذَا نَصه قَالَ
كَانَ الْحَكِيم أَبُو سُلَيْمَان فِي زمن الْخُلَفَاء وَكَانَ لَهُ خَمْسَة أَوْلَاد فَلَمَّا وصل الْملك مارى إِلَى الديار المصرية أعجبه طبه فَطَلَبه من الْخَلِيفَة بهَا وَنَقله هُوَ وَأَوْلَاده الْخَمْسَة إِلَى الْبَيْت الْمُقَدّس وَنَشَأ(1/587)
للْملك مارى ولد مجذم فَركب لَهُ الترياق الفاروقي بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس وترهب وَترك وَلَده الْأَكْبَر وَهُوَ الْحَكِيم الْمُهَذّب أَبُو سعيد خَلِيفَته على منزله وَإِخْوَته
وَاتفقَ أَن ملك الفرنج الْمَذْكُور بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس أسر الْفَقِيه عِيسَى وَمرض فسيره الْملك لمداواته فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ وجده فِي الْجب مُثقلًا بالحديد فَرجع إِلَى الْملك وَقَالَ لَهُ إِن هَذَا الرجل ذُو نعْمَة وَلَو سقيته مَاء الْحَيَاة وَهُوَ على هَذَا الْحَال لم ينْتَفع بِهِ
قَالَ الْملك فَمَا أفعل فِي أمره قَالَ يُطلقهُ الْملك من الْجب ويفك عَنهُ حديده ويكرمه فَمَا يحْتَاج إِلَى مداواة أَكثر من هَذَا
فَقَالَ الْملك تخَاف أَن يهرب وقطيعته كَثِيرَة
قَالَ للْملك سلمه إِلَيّ وضمانه عَليّ
فَقَالَ لَهُ تسلمه وَإِذا جَاءَت قطيعته كَانَ لَك مِنْهَا ألف دِينَار
فَمضى وشاله من الْجب وَفك حديده وأخلى لَهُ موضعا فِي دَاره أَقَامَ فِيهِ سِتَّة أشهر يَخْدمه فِيهَا أتم خدمَة
فَلَمَّا جَاءَت قطيعته طلب الْملك الْحَكِيم أَبَا سعيد ليحضر لَهُ الْفَقِيه الْمَذْكُور فَحَضَرَ وَهُوَ صحبته وَوجد قطيعته فِي أكياس بَين يَدَيْهِ فَأعْطَاهُ مِنْهَا الْكيس الَّذِي وعده بِهِ
فَلَمَّا أَخذه قَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا هَذِه الْألف دِينَار قد صَارَت لي أتصرف فِيهَا تصرف الْملاك فِي أملاكهم فَقَالَ لَهُ نعم
فَأَعْطَاهَا للفقيه فِي الْمجْلس وَقَالَ لَهُ أَنا أعرف أَن هَذِه القطيعة مَا جَاءَت إِلَّا وَقد تركت خَلفك شَيْئا وَرُبمَا قد تدني لَك شَيْئا آخر فَتقبل مني هَذِه الْألف دِينَار إِعَانَة نَفَقَة الطَّرِيق
فقبلها الْفَقِيه مِنْهُ وسافر إِلَى الْملك النَّاصِر
وَاتفقَ أَن الْحَكِيم أَبَا سُلَيْمَان دَاوُد الْمَذْكُور ظهر لَهُ فِي أَحْكَام النُّجُوم إِن الْملك النَّاصِر يفتح الْبَيْت الْمُقَدّس فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ من الشَّهْر الْفُلَانِيّ من السّنة الْفُلَانِيَّة وَأَنه يدْخل إِلَيْهَا من بَاب الرَّحْمَة فَقَالَ لأحد أَوْلَاده الْخَمْسَة وَهُوَ الْفَارِس أَبُو الْخَيْر بن أبي سُلَيْمَان دَاوُد الْمَذْكُور وَكَانَ هَذَا الْوَلَد قد تربى مَعَ الْوَلَد المجذم ملك الْبَيْت الْمُقَدّس وَعلمه الفروسية فَلَمَّا توج الْملك فرسه وَخرج الْمَذْكُور من بَين اخوته الْأَرْبَعَة الْأَطِبَّاء جنديا
وَكَانَ قَول الْحَكِيم أبي سُلَيْمَان لوَلَده هَذَا بِأَن يمْضِي رَسُولا عَنهُ إِلَى الْملك النَّاصِر ويبشره بِملك الْبَيْت الْمُقَدّس فِي الْوَقْت الْمَذْكُور
فامتثل مرسومه وَمضى إِلَى الْملك النَّاصِر فاتفق وُصُوله إِلَيْهِ فِي غرَّة سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَالنَّاس يهنؤنه بهَا وهم على فاميه فَمضى إِلَى الْفَقِيه الْمَذْكُور ففرح بِهِ غَايَة الْفَرح وَدخل بِهِ إِلَى الْملك النَّاصِر وأوصل إِلَيْهِ الرسَالَة عَن أَبِيه ففرح بذلك فَرحا شَدِيدا وأنعم عَلَيْهِ بجائزة سنية وَأَعْطَاهُ علما أصفر ونشابة من رنكة
وَقَالَ لَهُ مَتى يسر الله مَا ذكرت اجعلوا هَذَا الْعلم الْأَصْفَر والنشابة فَوق داركم فالحارة الَّتِي أَنْتُم فِيهَا تسلم جَمِيعهَا فِي خفارة داركم
فَلَمَّا حضر الْوَقْت صَحَّ جَمِيع مَا قَالَه الْحَكِيم الْمَذْكُور فَدخل الْفَقِيه عِيسَى إِلَى الدَّار الَّتِي كَانَ مُقيما بهَا ليحفظها وَلم يسلم من الْبَيْت الْمُقَدّس من الْأسر وَالْقَتْل وَوزن القطيعة سوى بَيت هَذَا الْحَكِيم الْمَذْكُور
وضاعف لأولاده مَا كَانَ لَهُم عِنْد الفرنج وَكتب لَهُ كتابا إِلَى سَائِر ممالكه برا وبحرا بمسامحتهم بِجَمِيعِ الْحُقُوق اللَّازِمَة لِلنَّصَارَى فأعفوا مِنْهَا إِلَى الْآن
وَتُوفِّي الْحَكِيم أَبُو سُلَيْمَان الْمَذْكُور بعد أَن استدعاه الْملك النَّاصِر إِلَيْهِ وَقَامَ لَهُ قَائِما وَقَالَ لَهُ أَنْت شيخ مبارك قد وصل إِلَيْنَا بِشِرَاك وَتمّ جَمِيع مَا ذكرته فتمن عَليّ
فَقَالَ لَهُ أَتَمَنَّى عَلَيْك حفظ أَوْلَادِي
فَأخذ الْملك النَّاصِر أَوْلَاده وأعتنى بهم وَأَعْطَاهُمْ للْملك الْعَادِل ووصاه بِأَن يكرمهم ويكونوا من(1/588)
الْخَواص عِنْده وَعند أَوْلَاده وَكَانَ كَذَلِك أَقُول وَكَانَ فتح السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف ابْن أَيُّوب للقدس فِي سَابِع وَعشْرين رَجَب سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
أَبُو سعيد بن أبي سُلَيْمَان
هُوَ الْحَكِيم مهذب الدّين أَبُو سعيد بن أبي سُلَيْمَان بن أبي المنى بن أبي فانة
كَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ كَانَ عَالما بهَا متميزا فِي أَعمالهَا مُتَقَدما فِي الدولة
وَقَرَأَ علم الطِّبّ على أَبِيه وعَلى غَيره
وَكَانَ السُّلْطَان الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب قد جعله فِي خدمَة وَلَده الْملك الْمُعظم وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام وَأمر أَن لَا يدْخل قلعة من قلاعه إِلَّا رَاكِبًا مَعَ صِحَة جِسْمه
فَكَانَ يدْخل فِي قلاعه الْأَرْبَعَة كَذَلِك وَهِي قلعة الكرك وقلعة جعبر وقلعة الرها وقلعة دمشق
وخدم أَبُو سعيد بن أبي سُلَيْمَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وَالْملك الْعَادِل أَيْضا بالطب
وانتقل إِلَى الديار المصرية وأقم بهَا إِلَى حِين وَفَاته
وَتُوفِّي فِي سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة وَدفن بدير الخَنْدَق عِنْد الْقَاهِرَة
أَبُو شَاكر بن أبي سُلَيْمَان
هُوَ الْحَكِيم موفق الدّين أَبُو شَاكر بن أبي سُلَيْمَان دَاوُد وَكَانَ متقنا لصناعة الطِّبّ متميزا فِي علمهَا وعملها جيد العلاج مكينا فِي الدولة وَقَرَأَ صناعَة الطِّبّ على أَخِيه أبي سعيد بن أبي سُلَيْمَان وتميز بعد ذَلِك واشتهر ذكره
وَكَانَ السُّلْطَان الْملك الْعَادِل قد جعله فِي خدمَة وَلَده الْملك الْكَامِل فَبَقيَ فِي خدمته وحظي عِنْده الحظوة الْعَظِيمَة وَتمكن عِنْده التَّمَكُّن الْكثير ونال فِي دولته حظا عَظِيما وَكَانَت لَهُ مِنْهُ إقطاعات ضيَاع وَغَيرهَا
وَلم يزل أبدا يفتقده بالهبات الوافرة والصلات المتواترة
وَكَانَ أَيْضا الْملك الْعَادِل يعْتَمد عَلَيْهِ فِي المداواة ويصفه بِحسن العلاج
وَكَانَ يدْخل أَيْضا فِي جَمِيع قلاعه وَهُوَ رَاكب مثل قلعة الكرك وقلعة جعبر وقلعة الرها وقلعة دمشق ثمَّ قلعة الْقَاهِرَة مَعَ صِحَة جِسْمه
وَلَقَد بلغ من أمره عِنْد سكن الْملك الْكَامِل بقصر الْقَاهِرَة المحروسة أَن أسْكنهُ عِنْده فِيهِ
وَكَانَ الْملك الْعَادِل سَاكِنا بدار الوزارة وَأَنه ركب ذَات يَوْم على بغلة النّوبَة الَّتِي لَهُ وَخرج إِلَى بَين القصرين فَركب فرسا آخر وسير بغلته الَّتِي كَانَ رَاكِبًا عَلَيْهَا إِلَى دَار الْحَكِيم الْمَذْكُور بِالْقصرِ وَأمر بركوبه عَلَيْهَا وَخُرُوجه من الْقصر رَاكِبًا وَلم يزل رَاكِبًا بَين القصرين إِلَى أَن وصل إِلَيْهِ فَأخذ بِيَدِهِ وسايره يتحدث مَعَه إِلَى دَار الوزارة وَسَائِر الْأُمَرَاء يَمْشُونَ بَين يَدي الْملك الْكَامِل
وللعضد ابْن منقذ فِي أبي شَاكر(1/589)
(هَذَا الْحَكِيم أَبُو شَاكر ... كثير المحبين والشاكر)
(خَليفَة بقراط فِي عصرنا ... وثانيه فِي علمه الباهر) المتقارب
وَتُوفِّي أَبُو شَاكر بن أبي سُلَيْمَان فِي سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة وَدفن بدير الخَنْدَق عِنْد الْقَاهِرَة
أَبُو نصربن أبي سُلَيْمَان
كَانَ طَبِيبا عَارِفًا بصناعة الطِّبّ حسن المعالجة جيد العلاج
وَتُوفِّي بالكرك
أَبُو الْفضل بن أبي سُلَيْمَان
كَانَ طَبِيبا مشكورا فِي صناعَة الطِّبّ عَالما بهَا متميزا فِي المعالجة والمداواة
وَكَانَ أَصْغَر إخْوَته وَعمر من دونهم
كَانَ مولده فِي سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة ووفاته فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فمدة حَيَاته أَربع وَثَمَانُونَ سنة لم يبلغهَا أحد من إخْوَته وَكَانَ طَبِيبا للْملك الْمُعظم مُقيما بالكرك
ثمَّ خدم الْملك الْكَامِل بالديار المصرية وَتُوفِّي فِيهَا
رشيد الدّين أَبُو حليقة
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الْعَالم رشيد الدّين أَبُو الْوَحْش بن الْفَارِس أبي الْخَيْر بن أبي سُلَيْمَان دَاوُد بن أبي المنى بن أبي فانة وَيعرف بِأبي حليقة
كَانَ أوحد زَمَانه فِي صناعَة الطِّبّ والعلوم الْحكمِيَّة متفننا فِي الْعُلُوم والآداب حسن المعالجة لطيف المداواة رؤوفا بالمرضى محبا لفعل الْخَيْر مواظبا للأمور الشَّرْعِيَّة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا كثير الْعِبَادَة
وَلَقَد اجْتمعت بِهِ مَرَّات وَرَأَيْت من حسن معالجته وعشرته وَكَمَال مروءته مَا يفوق الْوَصْف
واشتغل بصناعة الطِّبّ فِي أول أمره على عَمه مهذب الدّين أبي سعيد بِدِمَشْق واشتغل بعد ذَلِك بالديار المصرية وَقَرَأَ أَيْضا على شَيخنَا مهذب الدّين عبد الرَّحِيم ابْن عَليّ رَحمَه الله وَلم يزل دَائِم الِاشْتِغَال ملازما للْقِرَاءَة
ومولده بقلعة جعبر وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَخرج مِنْهَا إِلَى الرها وربي بهَا مُدَّة سبع أَو ثَمَان سِنِين
وَكَانَ وَالِده يلْبسهُ لِبَاس الجندي مثل لِبَاسه وَكَانَ سَاكِنا بدار يُقَال لَهَا دَار ابْن الزَّعْفَرَانِي عِنْد بَاب شاع بالرها
وَكَانَت هَذِه الدَّار ملاصقة لدار السُّلْطَان فاتفق أَن الْملك الْكَامِل دخل فِيهَا الْحمام فَأعْطَاهُ وَالِده الْفَارِس الْمَذْكُور فَاكِهَة وَمَاء ورد
وَأمره بِحمْلِهِ إِلَى السُّلْطَان فَحَمله إِلَيْهِ فَلَمَّا خرج من الْحمام وَقدمه إِلَيْهِ أَخذه وَدخل بِهِ إِلَى الخزانة وَفرغ تِلْكَ الأطباق الْفَاكِهَة وملأها لَهُ شقاقا سنية وسيرها مَعَ غُلَامه لوالده وَأخذ الْملك الْكَامِل بِيَدِهِ وَكَانَ عمره يَوْمئِذٍ نَحْو ثَمَان سِنِين وَدخل إِلَى الْملك الْعَادِل
وعندما أبصره الْملك الْعَادِل وَلم يكن رَآهُ قبلهَا قطّ قَالَ للْملك الْكَامِل يَا مُحَمَّد هَذَا ابْن الْفَارِس لِأَنَّهُ(1/590)
أَخذه بالشبة فَقَالَ نعم
قَالَ هاته إِلَيّ
فَحَمله الْملك الْكَامِل وَوَضعه بَين يَدَيْهِ فمسك بِيَدِهِ وتحدث مَعَ مَعَه حدليناطويلا
ثمَّ الْتفت إِلَى وَالِده وَقد كَانَ قَائِما فِي خدمته مَعَ جملَة الْقيام وَقَالَ لَهُ ولدك هَذَا ولد ذكي لَا تعلمه الجندية فالأجناد عندنَا كَثِيرُونَ وَأَنْتُم بَيت مبارك وَقد استبركنا بطبكم تسيره إِلَى الْحَكِيم أبي سعيد إِلَى دمشق ليقرئه الطِّبّ
فامتثل وَالِده الْأَمر وجهزه وسيره إِلَى دمشق أَقَامَ فِيهَا مُدَّة سنة كَامِلَة حفظ فِيهَا كتاب الْفُصُول لأبقراط وتقدمة الْمعرفَة
ثمَّ وصل إِلَى الْقَاهِرَة فِي سنة تسع وَخَمْسمِائة وَلم يزل مُقيما بهَا
وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك الْكَامِل وَكَانَ كثير الاحترام لَهُ حظيا عِنْده وَله مِنْهُ الْإِحْسَان الْكثير والإنعام الْمُتَّصِل وَله خبز بالديار المصرية
وَهُوَ الَّذِي كَانَ مقطعا باسم عَمه موفق الدّين أبي شَاكر فَإِنَّهُ لما توفّي أَبُو شَاكر جعل الْملك الْكَامِل هَذَا الْخبز باسم رشيد الدّين الْمَذْكُور وَهُوَ نصف بلد يعرف بالعزيزية والخربة من أَعمال الشرقية
وَلم يزل فِي خدمَة الْملك الْكَامِل إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
ثمَّ خدم بعده وَلَده الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب إِلَى أَن توفّي الْملك الصَّالح رَحمَه الله وخدم أَيْضا ولد الْملك الصَّالح بعد ذَلِك وَهُوَ الْملك الْمُعظم ترنشاه
وَلما قتل رَحمَه الله وَذَلِكَ فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع وَعشْرين الْمحرم سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَجَاءَت دولة التّرْك واستولوا على الْبِلَاد واحتووا على الممالك صَار فِي خدمتهم وأجروه على مَا كَانَ باسمه
ثمَّ خدم مِنْهُم الْملك الظَّاهِر ركن الدّين بيبرس الْملك الصَّالح وَبَقِي فِي خدمته على عَادَته المستمرة وقاعدته المستقرة وَله مِنْهُ الاحترام التَّام وجزيل الإنعام وَالْإِكْرَام
وللحكيم رشيد الدّين أبي حليقة نَوَادِر فِي أَعمال صناعَة الطِّبّ وحكايات كَثِيرَة تميز بهَا على غَيره من جمَاعَة الْأَطِبَّاء
من ذَلِك أَنه مَرضت دَار من بعض الآدر السُّلْطَانِيَّة بالعباسية وَكَانَ من سيرته مَعَه أَن لَا يُشْرك مَعَه طَبِيبا فِي مداواته وَفِي مداواة من يعز عَلَيْهِ من دوره وَأَوْلَاده فباشر مداواة الْمَرِيضَة الْمَذْكُورَة أَيَّامًا قَلَائِل ثمَّ حصل لَهُ شغل ضَرُورِيّ أَلْجَأَهُ إِلَى ترك الْمَرِيضَة وَدخل الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا
ثمَّ خرج إِلَى العباسية فَوجدَ الْمَرِيضَة قد تولى مداواتها الْأَطِبَّاء الَّذين فِي الْخدمَة
فَلَمَّا حضر وباشر مَعَهم قَالُوا لَهُ هَذِه الْمَرِيضَة تَمُوت والمصلحة أَن نعلم السُّلْطَان بذلك قبل أَن يفاجئه أمرهَا بَغْتَة
فَقَالَ لَهُم إِن هَذِه الْمَرِيضَة عِنْدِي مَا هِيَ فِي مرضة الْمَوْت وَأَنَّهَا تعافى بِمَشِيئَة الله تَعَالَى من هَذِه المرضة
فَقَالَ لَهُ أحدهم وَهُوَ أكبرهم سنا وَكَانَ الْحَكِيم الْمَذْكُور شَابًّا إِنَّنِي أكبر مِنْك وَقد باشرت من المرضى أَكثر مِنْك فتوافقني على كِتَابَة هَذِه الرقعة فَلم يُوَافقهُ
فَقَالَت جمَاعَة الْحُكَمَاء لَا بُد لنا من المطالعة فَقَالَ لَهُم إِن كَانَ لَا بُد لكم من هَذِه المطالعة فَيكون بأسمائكم من دوني
فَكتب إِلَيْهِ الْأَطِبَّاء بموتها فسير إِلَيْهِم رَسُولا وَمَعَهُ نجار ليعْمَل لَهَا تابوتا تحمل فِيهِ
وَلما وصل الرَّسُول(1/591)
والنجار مَعَه إِلَى الْبَاب والأطباء جُلُوس قَالَ لَهُ الْحَكِيم الْمَذْكُور مَا هَذَا النجار قَالَ يعْمل تابوتا لمريضتكم
فَقَالَ لَهُ تضعونها فِيهِ وَهِي فِي الْحَيَاة فَقَالَ الرَّسُول لَا لَكِن بعد مَوتهَا
قَالَ لَهُ ترجع بِهَذَا النجار وَتقول للسُّلْطَان عني خَاصَّة أَنَّهَا فِي هَذِه المرضة لَا تَمُوت
فَرجع وَأخْبرهُ بذلك
فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل استدعاه السُّلْطَان بخادم وشمعة وورقة بِخَطِّهِ يَقُول فِيهَا ولد الْفَارِس يحضر إِلَيْنَا لِأَنَّهُ لم يكن بعد سمي أَبَا حليقة وَإِنَّمَا سَمَّاهُ بذلك فِيمَا بعد السُّلْطَان الْملك الْكَامِل
فَإِنَّهُ كَانَ فِي بعض الْأَيَّام جَالِسا مَعَ الْأَطِبَّاء على الْبَاب فَقَالَ السُّلْطَان للخادم فِي أول مرّة اطلب الْحَكِيم فَقَالَ لَهُ يَا خوند أَي الْحُكَمَاء هُوَ فَقَالَ لَهُ أَبُو حليقة
فاشتهر بَين النَّاس بِهَذَا الِاسْم من ذَلِك الْيَوْم إِلَى حَيْثُ غطى نَعته ونعت عَمه الَّذِي كَانُوا يعْرفُونَ بِهِ ببني شَاكر
فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ قَالَ أَنْت منعت عمل التابوت فَقَالَ نعم
قَالَ بِأَيّ دَلِيل ظهر لَك هَذَا من دون الْأَطِبَّاء كلهم قَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا لمعرفتي مزاجها وبأوقات مَرضهَا على التَّحْرِير من دونهم وَلَيْسَ عَلَيْهَا بَأْس فِي هَذِه المرضة
فَقَالَ لَهُ امْضِ وطبها وَاجعَل بالك لَهَا
فطب الْمَذْكُورَة وعوفيت
ثمَّ أخرجهَا السُّلْطَان وَزوجهَا وَولدت من زَوجهَا أَوْلَادًا كثيرين
وَمن جملَة مَا تمّ أَيْضا لَهُ أَنه حكم معرفَة نبض الْملك الْكَامِل حَتَّى أَنه فِي بعض الْأَيَّام خرج إِلَيْهِ من خلف الستارة مَعَ الآدر المرضى فَرَأى نبض الْجَمِيع وَوصف لَهُم
فَلَمَّا انْتهى إِلَى نبضه عرفه فَقَالَ هَذَا نبض مَوْلَانَا السُّلْطَان وَهُوَ صَحِيح بِحَمْد الله فتعجب مِنْهُ غَايَة الْعجب وَزَاد تمكنه عِنْده
وَمن حكاياته مَعَه أَنه أمره بِعَمَل الترياق الْفَارُوق فاشتغل بِعَمَلِهِ مُدَّة طَوِيلَة ساهرا عَلَيْهِ اللَّيْل حَتَّى حقق كل وَاحِد من مفرداته اسْما على مُسَمّى بِشَهَادَة أَئِمَّة الصِّنَاعَة أبقراط وجالينوس
وَفِي غُضُون ذَلِك حصل للسُّلْطَان نزلة على أَسْنَانه فأفصد بِسَبَبِهَا وَهُوَ ببركة الْفِيل يتفرج بهَا فطلع إِلَى القلعة وَتَوَلَّى مداواته الأسعد الطَّبِيب بن أبي الْحسن بِسَبَب شغل الْمَذْكُور بِعَمَل الترياق
فعالجه الأسعد مُدَّة وَالْحَال كلما مر اشْتَدَّ فَشَكا ذَلِك للأسعد فَقَالَ لَهُ مَا بَقِي قدامي إِلَّا الفصد
فَقَالَ لَهُ أفصد مرّة أُخْرَى ولي عَن الفصد ثَلَاثَة أَيَّام اطْلُبُوا لي أَبَا حليقة
فَحَضَرَ إِلَيْهِ وشكا لَهُ حَاله وأعلمه أَن ذَلِك الطَّبِيب قد أَشَارَ عَلَيْهِ بالفصد واستشاره فِيهِ أَو فِي شرب دَوَاء فَقَالَ يَا مَوْلَانَا بدنك بِحَمْد الله نقي وَالْأَمر أيسر من هَذَا كُله
فَقَالَ لَهُ السُّلْطَان إيش تَقول لي أيسر وَأَنا فِي شدَّة عَظِيمَة من هَذَا الْأَلَم لَا أَنَام اللَّيْل وَلَا أقرّ النَّهَار
فَقَالَ لَهُ يتَسَوَّك مَوْلَانَا من الترياق الَّذِي حمله الْمَمْلُوك فِي البرنية الْفضة الصَّغِيرَة وَترى بِإِذن الله الْعجب
وَخرج إِلَى الْبَاب وَلم يشْعر إِلَّا بِوَرَقَة بِخَط السُّلْطَان قد خرجت إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُول فِيهَا يَا حَكِيم اسْتعْملت مَا ذكرته فَزَالَ جَمِيع مَا بِي لوقته وَكَانَ ذَلِك بِحُضُور الأسعد الطَّبِيب الَّذِي كَانَ يعالجه أَولا
فَقَالَ لَهُ وَنحن مَا نصلح لمداواة الْمُلُوك وَلَا يصلح لمداواتهم إِلَّا أَنْتُم
ثمَّ دخل الْملك الْكَامِل إِلَى خزانته وَبعث إِلَيْهِ مِنْهَا خلعا سنية وذهبا متوفرا
وَمن حكاياته إِنَّه لما طَال عَلَيْهِ عمل الترياق الْفَارُوق لتعذر حُضُور أدويته الصَّحِيحَة من الْآفَاق(1/592)
عمل ترياقا مُخْتَصرا تُوجد أدويته فِي كل مَكَان
وَنوى أَنه لَا يقْصد بِهِ قربا من ملك وَلَا طلب مَال وَلَا جاها فِي الدُّنْيَا وَلَا يقْصد بِهِ إِلَّا التَّقَرُّب إِلَى الله بنفع خلقه أَجْمَعِينَ والشفقة على سَائِر الْعَالمين وبذله للمرضى فَكَانَ يخلص بِهِ المفلوجين وَيقوم بِهِ الْأَيْدِي المتقوسة لوقته وساعته بِحَيْثُ كَانَ ينشيء فِي العصب زِيَادَة فِي الْحَرَارَة الغريزية وتقوية وإذابة البلغم الَّذِي فِيهِ فيجد الْمَرِيض الرَّاحَة بِهِ لوقته ويسكن وجع القولنج من بعد الاستفراغ لوقته
وَأَنه مر على بواب الْبَاب الَّذِي بَين السورين بِالْقَاهِرَةِ المحروسة وَهُوَ رجل يعرف بعلي وَهُوَ ملقى على ظَهره لَا يقدر أَن ينْتَصب من جنب إِلَى جنب فَشَكا إِلَيْهِ حَاله فَأعْطَاهُ مِنْهُ شربة وطلع القلعة وباشر المرضى وَعَاد فِي السَّاعَة الثَّالِثَة من النَّهَار فَقَامَ المفلوج يعدو فِي ركابه يَدْعُو لَهُ
فَقَالَ لَهُ اقعد فَقَالَ يَا مَوْلَانَا قد شبعت قعُودا خليني أتملى بنفسي
وَمن حكاياته أَن الْملك الْكَامِل كَانَ عِنْده مُؤذن يعرف بأمين الدّين جَعْفَر حصل لَهُ حَصَاة سدت مجْرى الْبَوْل وقاسى من ذَلِك شدَّة أشرف فِيهَا على الْمَوْت
فَكتب إِلَى الْملك الْكَامِل وأعلمه بِحَالهِ وَطلب مِنْهُ دستورا يمشي إِلَى بَيته يتداوى فَلَمَّا حضر إِلَى بَيته أحضر أطباء الْعَصْر فوصف كل مِنْهُم لَهُ مَا وصف فَلم ينجع
فاستدعى الْحَكِيم أَبَا حليقة الْمَذْكُور فَأعْطَاهُ شربة من ذَلِك الترياق
فبمقدار مَا وصلت إِلَى معدته نفذت قوتها إِلَى مَوضِع الْحَصَاة ففتتتها وَخرجت من الأراقة وَهِي مصبوغة بالدواء وخلص لوقته وَخرج لخدمة سُلْطَانه وَأذن أَذَان الظّهْر
وَكَانَ السُّلْطَان يَوْمئِذٍ مخيما على جيزة الْقَاهِرَة فَلَمَّا سمع صَوته أَمر بإحضاره إِلَيْهِ فَلَمَّا حضر قَالَ لَهُ مَا ورقتك بالْأَمْس وصلتنا وَأَنت تَقول أَنَّك كنت على الْمَوْت فَأَخْبرنِي أَمرك
فَقَالَ يَا مَوْلَانَا الْأَمر كَانَ كَذَلِك لَوْلَا لَحِقَنِي مَمْلُوك مَوْلَانَا الْحَكِيم أَبُو حليقة فَأَعْطَانِي ترياقا خلصت بِهِ للْوَقْت وَالْحَال
وَاتفقَ أَن فِي ذَلِك الْيَوْم جلس إِنْسَان ليريق مَاء فنهشته أَفْعَى فِي ذكره فَقتلته فَلَمَّا سمع السُّلْطَان بِخَبَرِهِ رق عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ رؤوفا بالخلق
ثمَّ دخل إِلَى قلعة الْقَاهِرَة بَات بهَا وَأصْبح من باكر والحكيم الْمَذْكُور قَاعد فِي الْخدمَة عِنْد زِمَام الدَّار على الْبَاب
وَالسُّلْطَان قد خرج فَوقف واستدعاه إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا حَكِيم أيش هَذَا الترياق الَّذِي عملته واشتهر نَفعه للنَّاس هَذِه الشُّهْرَة الْعَظِيمَة وَلم تعلمني بِهِ قطّ فَقَالَ يامولانا الْمَمْلُوك لَا يعْمل شَيْئا إِلَّا لمولانا وَمَا سَبَب تَأْخِير إِعْلَامه إِلَّا ليجربه الْمَمْلُوك لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أنشأه فَإِذا صحت لَهُ تجربته ذكره لمولانا على ثِقَة مِنْهُ وَإِذ قد صَحَّ هَذَا لمولانا فقد حصل الْمَقْصُود
فَقَالَ لَهُ تمْضِي وتحضر لي كلما عنْدك مِنْهُ
وَترك خَادِمًا قَاعِدا على الْبَاب فِي انْتِظَاره وَرجع إِلَى دَاره كَأَنَّهُ لم يطلع القلعة فِي تِلْكَ اللَّيْلَة وَلَا خرج من الدَّار فِي تِلْكَ السَّاعَة إِلَّا لهَذَا المهم خَاصَّة
فَمضى الْحَكِيم الْمَذْكُور إِلَى دَاره فَوجدَ عِنْده من ذَلِك الترياق شَيْئا يَسِيرا لِأَن الْخلق كَانَت تغنيه مِمَّا تطلبه مِنْهُ فَمضى إِلَى أصدقائه الَّذين كَانَ أهْدى لَهُم مِنْهُ شَيْئا وَجمع مِنْهُ مِقْدَار أحد عشر درهما وَوَعدهمْ بِأَنَّهُ يعطيهم عوضا عَنهُ أضعافه فَجعله فِي برنية فضَّة صَغِيرَة وَكتب عَلَيْهِ مَنَافِعه وَمِقْدَار الشربة مِنْهُ وَحملهَا إِلَى الْخَادِم الْمَذْكُور الْقَاعِد فِي انْتِظَاره فحملها إِلَى السُّلْطَان وَلم يزل حَافِظًا لَهَا فَلَمَّا آلمته أَسْنَانه دلكه عَلَيْهَا فَحصل لَهُ مِنْهُ من الرَّاحَة مَا ذكر(1/593)
وَمن حكاياته مَعَه أَنه كَانَ قد عرض لبَعض جهاته مرض عجز عَن مداواته فسيرت تِلْكَ الْجِهَة تَقول لَهُ أَنا أعرف أَن السُّلْطَان لَو عرف أَن فِي الديار المصرية طَبِيبا خيرا مِنْك لما سلم نَفسه وَأَوْلَاده إِلَيْك من دون كَافَّة الْأَطِبَّاء فَأَنت مَا تُؤْتى فِي مداواتي من قلَّة معرفَة بل من التهاون بأَمْري بِدَلِيل أَنَّك تمرض فتداوي نَفسك فِي أَيَّام يسيرَة وَكَذَلِكَ يمرض أحد أولادك فتداويه فِي أَيَّام يسيرَة أَيْضا وَكَذَلِكَ بَقِيَّة الْجِهَات الَّتِي عندنَا مَا مِنْهُم إِلَّا من تداويه وتنجع مداواتك بأيسر سعي
فَقَالَ لَهَا مَا كل الْأَمْرَاض تقبل المداواة وَلَو قبلت الْأَمْرَاض كلهَا المداواة لما مَاتَ أحد
فَلم تسمع ذَلِك مِنْهُ وَقَالَت أَنا أعرف أَن مَا بَقِي فِي الديار المصرية طَبِيب وَأَنا أُشير إِلَى السُّلْطَان يستخدم لي أطباء من دمشق فاستخدم لَهَا طبيبين نَصْرَانِيين فَلَمَّا حضرا لمداواتها من دمشق اتّفق سفر السُّلْطَان إِلَى دمياط فاستؤذن من يمْضِي مَعَه من الْأَطِبَّاء وَمن يتْرك فَقَالَ الْأَطِبَّاء كلهم يبقون فِي خدمَة تِلْكَ الْجِهَة والحكيم فلَان وَحده يكون معي
فَأَما أُولَئِكَ الْأَطِبَّاء فأنهم عالجوها بِكُل مَا يقدرُونَ عَلَيْهِ وتعبوا فِي مداواتها فَلم ينجع فانبسط فِي ذَلِك عذر الْمَذْكُور وَأورد مَا ذكر أبقراط فِي تقدمة الْمعرفَة
ثمَّ أَنه لما سَافر مَعَ السُّلْطَان بَقِي فِي خدمته مُدَّة شهر لم يتَّفق لَهُ أَن يستدعيه وَبعد ذَلِك بدمياط استدعاه لَيْلًا فَحَضَرَ بَين يَدَيْهِ فَوَجَدَهُ محموما وَوجد بِهِ أعراضا مُخْتَلفَة يباين بَعْضهَا بَعْضًا فَركب لَهُ مشروبا يُوَافق تِلْكَ الْأَعْرَاض الْمُخْتَلفَة وَحمله إِلَيْهِ فِي السحر فَلم تغب الشَّمْس إِلَّا وَقد زَالَ جَمِيع مَا كَانَ يشكوه فَحسن ذَلِك عِنْده جدا
وَلم يزل ملازما لاستعمال ذَلِك التَّدْبِير إِلَى أَن وصل إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة وَاتفقَ أول يَوْم من صِيَام شهر رَمَضَان أَن الْحَكِيم الْمَذْكُور مرض بهَا فَحَضَرَ إِلَيْهِ الْأَطِبَّاء الَّذين فِي الْخدمَة واستشاروه فِيمَا يحملون إِلَى السُّلْطَان يفْطر عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُم عِنْده مشروب قد جربه وَهُوَ يثني عَلَيْهِ ويطلبه دَائِما فَمَا دَامَ لَا يشكو لكم شَيْئا متجددا يمْنَع من اسْتِعْمَاله فاحملوه إِلَيْهِ وَإِن تجدّد لكم شَيْء فاستعملوا مَا تَقْتَضِيه الْمصلحَة الْحَاضِرَة
فَمَضَوْا وَلم يقبلُوا مِنْهُ قصدا مِنْهُم أَن يجددوا تدبيرا من جهتهم فَلَمَّا جددوا ذَلِك التَّدْبِير تغير عَلَيْهِ مزاجه فاستدعاهم واستدعى نُسْخَة الْحَكِيم الْمَذْكُور وَأخذ يحاققهم عَلَيْهَا فَكَانَ من جملَة مَا فِيهَا بزر هندبا وَقد حذفوه فَقَالَ لَهُم لماذا حذفتم هَذَا البزر وَهُوَ مقو للكبد منق للعروق قَاطع للعطش فَقَالَ أحد الْأَطِبَّاء الَّذين حَضَرُوا وَالله مَا للمماليك فِي حذفه ذَنْب إِلَّا أَن الأسعد بن أبي الْحسن نقل فِي بزر الهندبا نقلا شاذا بِأَنَّهُ يضر بالطحال الْمَمْلُوك وَالله مَا يعرفهُ وَزعم أَن بمولانا طحالا فوافقه المماليك على ذَلِك
فَقَالَ وَالله يكذب أَنا مَا بِي وجع طحال
وَأمر بِإِعَادَة بزر الهندبا إِلَى مَكَانَهُ
ثمَّ حاققهم على مَنْفَعَة دَوَاء من مُفْرَدَات ذَلِك المشروب الَّتِي حذفوها إِلَى أَن أعادوهما وَأعَاد اسْتِعْمَاله دَائِما وَلم يزل مُنْتَفعا بِهِ شاكرا لَهُ(1/594)
وَمن حكاياته أَنه طلب مِنْهُ يَوْمًا أَن يركب لَهُ صلصا يَأْكُل بِهِ اليخني فِي الْأَسْفَار واقترح عَلَيْهِ أَن يكون مقويا للمعدة منبها للشهوة وَهُوَ مَعَ ذَلِك ملين للطبخ فَركب لَهُ صلصا هَذِه صفته يُؤْخَذ من المقدونس جُزْء وَمن الريحان الترنجاني وَقُلُوب الأترج الغضة المحلاة بِالْمَاءِ وَالْملح أَيَّامًا ثمَّ بِالْمَاءِ الحلو أخيرا من كل وَاحِد نصف جُزْء يدق فِي جرن الفقاعي كل مِنْهُم بمفرده حَتَّى يصير مثل المرهم
ثمَّ يخلط الْجَمِيع فِي الجرن الْمَذْكُور ويعصر عَلَيْهِ الليمون الْأَخْضَر الْمُنْتَقى ويذر عَلَيْهِ من الْملح الأندراني مِقْدَار مَا يطيبه
ثمَّ يرفع فِي مسللات صغَار تسع كل وَاحِدَة مِنْهَا مِقْدَار مَا يقدم على الْمَائِدَة لِأَنَّهَا إِذا نقصت تكرجت وتختم تِلْكَ الْأَوَانِي بالزيت الطّيب وترفع فَلَمَّا اسْتَعْملهُ السُّلْطَان حصلت لَهُ مِنْهُ الْمَقَاصِد الْمَطْلُوبَة
وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء كثيرا
وَكَانَ مُسَافِرًا إِلَى بِلَاد الرّوم فَقَالَ للحكيم الْمَذْكُور هَذَا الصلص يَدُوم مُدَّة طَوِيلَة فَقَالَ لَهُ لَا
فَقَالَ مَا يُقيم شهرا فَقَالَ لَهُ نعم إِذا عمل على هَذِه الصُّورَة الَّتِي ذكرتها
فَقَالَ تعْمل لي مِنْهُ راتبا فِي كل شهر مَا يَكْفِينِي فِي مُدَّة ذَلِك الشَّهْر وتسيره لي فِي رَأس كل هِلَال
فَلم يزل الْحَكِيم الْمَذْكُور يجدد ذَلِك الصلص فِي كل شهر ويسيره لَهُ إِلَى دربندات الرّوم وَهُوَ يلازم اسْتِعْمَاله فِي الطَّرِيق ويثني عَلَيْهِ ثَنَاء كثيرا
وَمن نوادره أَنه جَاءَت إِلَيْهِ امْرَأَة من الرِّيف وَمَعَهَا وَلَدهَا وَهُوَ شَاب قد غلب عَلَيْهِ النحول وَالْمَرَض فشكت إِلَيْهِ حَال وَلَدهَا وَأَنَّهَا قد أعيت فِيهِ من المداواة وَهُوَ لَا يزْدَاد إِلَّا سقاما ونحولا
وَكَانَت قد جَاءَت إِلَيْهِ بِالْغَدَاةِ قبل ركُوبه وَكَانَ الْوَقْت بَارِدًا
فَنظر إِلَيْهِ واستقرأ حَاله وجس نبضه
فَبَيْنَمَا هُوَ يجس نبضه قَالَ لغلامه ادخل ناولني الفرجية حَتَّى أجعلها عَليّ فَتغير نبض ذَلِك الشَّاب عِنْد قَوْله تغيرا كثيرا وَاخْتلف وَزنه وَتغَير لَونه أَيْضا فحدس أَن يكون عَاشِقًا
ثمَّ جس نبضه بعد ذَلِك فتساكن
وعندما خرج الْغُلَام إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ هَذِه الفرجية جس نبضه فَوَجَدَهُ أَيْضا قد تغير فَقَالَ لوالدته إِن ابْنك هَذَا عاشق وَالَّتِي يهواها اسْمهَا فرجية فَقَالَت أَي وَالله يَا مولَايَ هُوَ يحب وَاحِدَة اسْمهَا فرجية وَقد عجزت مِمَّا أعذله فِيهَا
وتعجبت من قَوْله لَهَا غَايَة التَّعَجُّب وَمن اطِّلَاعه على اسْم الْمَرْأَة من غير معرفَة مُتَقَدّمَة لَهُ لذَلِك
أَقُول وَمثل هَذِه الْحِكَايَة كَانَت قد عرضت لِجَالِينُوسَ لما عرف الْمَرْأَة العاشقة وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد استدعي إِلَى امْرَأَة جليلة الْقدر وَكَانَ الْمَرَض قد طَال بهَا وحدس أَنَّهَا عاشقة
فتردد إِلَيْهَا
وَلما كَانَ يَوْمًا وَهُوَ يجس نبضها وَكَانَت الأجناد قد ركبُوا فِي الميدان وهم يَلْعَبُونَ فَحكى بعض الْحَاضِرين مَا كَانُوا فِيهِ وَأَن فلَانا تبينت لَهُ فروسية وَلعب جيد وعندما سَمِعت باسم ذَلِك الرجل تغير نبضها وَاخْتلف
جسه بعد ذَلِك فَوَجَدَهُ قد تساكن إِلَى أَن عَاد إِلَى حَاله الأولى
ثمَّ إِن جالينوس أَشَارَ لذَلِك الحاكي سرا أَن يُعِيد قَوْله فَلَمَّا أَعَادَهُ وجس نبضها وجده أَيْضا قد تغير فتحقق من حَالهَا أَنَّهَا تعشق ذَلِك الرجل
وَهَذَا يدل على وفور الْعلم وَحسن النّظر فِي تقدمة الْمعرفَة(1/595)
أَقُول وَجَمَاعَة أهل الْحَكِيم رشيد الدّين أبي حليقة أَكثر شهرتهم فِي الديار المصرية وَالشَّام ببني شَاكر لشهرة الْحَكِيم أبي شَاكر وسمعته الذائعة فَصَارَ كل من لَهُ نسب إِلَيْهِ يعْرفُونَ ببني شَاكر وَإِن لم يَكُونُوا من أَوْلَاده
وَلما اجْتمعت بالحكيم رشيد الدّين أبي حليقة وَكَانَ قد بلغه أنني ذكرت الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين من أَهله ووصفت فَضلهمْ وعلمهم فتشكر مني وتفضل فَأَنْشَدته بديها
(وَكَيف لَا أشكر من فَضلهمْ ... قد سَار فِي الْمشرق وَالْمغْرب)
(تشرق مِنْهُم فِي سَمَاء الْعلَا ... نُجُوم سعد قطّ لم تغرب)
(قوم ترى أقدارهم فِي الورى ... بِالْعلمِ تسمو رُتْبَة الْكَوْكَب)
(كم صنفوا فِي الطِّبّ كتبا أَتَت ... بِكُل معنى مبدع مغرب)
(وَإِن شكري فِي بني شَاكر ... مَا زَالَ فِي الْأَبْعَد وَالْأَقْرَب)
(خلدت مجدا دَائِما فيهم ... بِحسن وصف وثنا طيب) السَّرِيع
وَأما سَبَب الْحلقَة الَّتِي وضعت فِي أذن الرشيد واشتهر بهَا اسْمه فَإِن وَالِده لم يَعش لَهُ ولد ذكر غَيره فوصف لَهُ ووالدته حَامِل بِهِ أَن يهيء لَهُ حَلقَة فضَّة قد تصدق بفضتها وَفِي السَّاعَة الَّتِي يخرج فِيهَا إِلَى الْعَالم يكون صائغ مجهزا يثقب أُذُنه وَيَضَع الْحلقَة فِيهَا
فَفعل ذَلِك وَأَعْطَاهُ الله الْحَيَاة فعاهدته والدته أَن لَا يقلعها فَبَقيت
ثمَّ تزوج هُوَ وجاءه أَوْلَاد ذُكُور عدَّة ويموتون كَمَا جرى الْحَال فِي أمره فتبه إِلَى عمل الْحلقَة الْمَذْكُورَة فعملها لوَلَده الْكَبِير الْمَعْرُوف بمهذب الدّين أبي سعيد لِأَنَّهُ سَمَّاهُ باسم عَم الْمَذْكُور
وَمن شعر الْحَكِيم رشيد الدّين أبي حليقة وَهُوَ مِمَّا أَنْشدني لنَفسِهِ فَمن ذَلِك قَالَ بِحَضْرَة سيف الْإِسْلَام
(سمح الحبيب بوصله فِي لَيْلَة ... غفل الرَّقِيب ونام عَن جنباتها)
(فِي رَوْضَة لَوْلَا الزَّوَال لشابهت ... جنَّات عدن فِي جَمِيع صفاتها)
(فالطير يطرب فِي الغصون بِصَوْتِهِ ... والراح تجلى فِي كؤوس سقاتها)
(ومجالس الْقَمَر الْمُنِير تنزهت ... فِيهِ الْحَواس باسمها وكناتها) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(أحن إِلَى ذكر التواصل يَا سعد ... حنين النياق العيس عَن لَهَا الْورْد)
(فسعدى على قلبِي ألذ من المنى ... وقربي لَهَا عِنْد اللِّقَاء هُوَ الْقَصْد)
(حوت مبسما كالدر أضحى منظما ... وثغرا كَمثل الأقحوان بِهِ شهد)
(وفرعا كَمثل اللَّيْل أَو حَظّ عاشق ... ووجها كضوء الصُّبْح هَذَا لذا ضد)(1/596)
(أَقُول لَهَا عِنْد الْوَدَاع وبيننا ... حَدِيث كنشر الْمسك خالطه ند)
(ترى نَلْتَقِي بعد الْفِرَاق بمنزل ... ويظفر مشتاق أضرّ بِهِ الْبعد)
(تمر اللَّيَالِي لَيْلَة بعد لَيْلَة ... وذكركم بَاقٍ يجدده الْعَهْد)
(وَلَكِن خوف الصب إِن طَال هجركم ... فَيَقْضِي وَلَا يمْضِي لَهُ مِنْكُم وعد)
(عشقت سيوف الْهِنْد من أجل أَنَّهَا ... تشابهها فِي فعل ألحاظها الْهِنْد)
(ولي فِي الرماح السمر سمر لِأَنَّهَا ... تشابهها قدا فيا حبذا الْقد)
(وَفِي الْورْد معنى شَاهد فَوق خدها ... نشاهده فِيهَا إِذا عدم الْورْد)
(وَبِي من هَواهَا مَا جحدت وعبرت ... بِهِ عبرتي يَوْمًا وَمَا نفع الْجحْد) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(خليلي أَنِّي قد بقيت مسهدا ... من الْحبّ مأسور الْفُؤَاد مُقَيّدا)
(بحب فتاة يخجل الْبَدْر وَجههَا ... وَلَا سِيمَا فِي ليل شعر إِذا بدا)
(ضللت بهَا وَهِي الْهلَال ملاحة ... فوا عجبا مِنْهُ أضلّ وَمَا هدى)
(لَهَا مبسم كالدر أضحى منظما ... ونطق كَمثل الدّرّ أَمْسَى مبددا) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا لما كَانَ بدمياط وَمرض وَالِده فِي الْقَاهِرَة فَجَاءَهُ كِتَابه بعافيته
(مطرَت على سحائب النعماء ... مذ زَالَ مَا تَشْكُو من البلواء)
(ولبست مذ أَبْصرت خطك نعْمَة ... فِيهَا أقوم لشكرها بوفاء) الْكَامِل
ولرشيد الدّين أبي حليقة من الْكتب مقَالَة فِي حفظ الصِّحَّة
مقَالَة فِي أَن الملاذ الروحانية ألذ من الملاذ الجسمانية إِذْ الروحانية كمالات وَإِدْرَاك الكمالات
والجسمانية إِنَّمَا هِيَ دفع آلام خَاصَّة وَإِن زَادَت أوقعت فِي آلام أخر
كتاب فِي الْأَدْوِيَة المفردة سَمَّاهُ الْمُخْتَار فِي الْألف عقار
كتاب فِي الْأَمْرَاض وأسبابها وعلاماتها ومداواتها بالأدوية المفردة والمركبة الَّتِي قد أظهرت التجربة نجحها وَلم يداو بهَا مَرضا يُؤَدِّي إِلَى السَّلامَة إِلَّا ونجحت التقطها من الْكتب المصنفة فِي صناعَة الطِّبّ من آدم وَإِلَى وقتنا هَذَا ونظم متشتتها ومتفرقها
مقَالَة فِي ضَرُورَة الْمَوْت وَلما ذكر من التَّحْلِيل فِي هَذِه الْمقَالة إِن الْإِنْسَان لم يزل يتَحَلَّل من بدنه بالحرارة الَّتِي فِي دَاخله وبحرارة الْهَوَاء الَّذِي من خَارج كَانَت نهايته إِلَى الفناء بِهَذَيْنِ السببين
وتمثل بعد ذكرهمَا بِهَذَا الْبَيْت
(وإحداهما قاتلي ... فَكيف إِذا استجمعا)(1/597)
وَهَذَا الْبَيْت فَمَا يكون موقعه بِأولى مِمَّا هُوَ فِي هَذَا الْموضع فَإِنَّهُ قد جَاءَ مُوَافقا لما أوردهُ ومطابقا للمعنى الْمَقْصُود إِلَيْهِ
مهذب الدّين أَبُو سعيد مُحَمَّد أبي حليقة
أوحد الْعلمَاء وأكمل الْحُكَمَاء
مولده فِي الْقَاهِرَة فِي سنة عشْرين وسِتمِائَة وَسمي مُحَمَّدًا لما أسلم فِي أَيَّام الْملك الظَّاهِر ركن الدّين بيبرس الملكي الصَّالِحِي وَهُوَ فقد منحه الله من الْعقل أكمله وَمن الْأَدَب أفضله وَمن الذكاء أغزره وَمن الْعلم أَكْثَره قد أتقن الصِّنَاعَة الطبية وَعرف الْعُلُوم الْحكمِيَّة فَلَا أحد يدانيه فِيمَا يعانيه وَلَا يصل إِلَى الْخَلَائق الجميلة الَّتِي اجْتمعت فِيهِ
لطيف الْكَلَام جزيل الإنعام
إحسانه إِلَى الصّديق والنسيب والبعيد والقريب
وصلني كِتَابه وَهُوَ فِي المعسكر الْمَنْصُور الظَّاهِرِيّ فِي شهر شَوَّال سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وَهُوَ يعرب عَن فضل باهر وَعلم وافر وفطنة أصمعية وشنشنة أخزمية وتودد عَظِيم وإحسان جسيم
وَيَقُول فِيهِ أَنه وجد بِمصْر نُسْخَة من هَذَا الْكتاب الَّذِي ألفته فِي طَبَقَات الْأَطِبَّاء وَقد اقتناها وَصَارَت فِي جملَة كتبه الَّتِي حواها وَبَالغ فِي الْوَصْف الَّذِي يدل على كرم أخلاقه وَطيب أعراقه
وَكَانَ فِي أول كِتَابه الْوَاصِل إِلَيّ
(وَإِنِّي امْرُؤ أجبتكم لمحاسن ... سَمِعت بهَا وَالْأُذن كَالْعَيْنِ تعشق)
فَقلت على الْوَزْن والروي وكتبت إِلَيْهِ الْجَواب
(أَتَانِي كتاب وَهُوَ بالنقش مونق ... وَفِيه الْمعَانِي وَهِي كَالشَّمْسِ تشرق)
(كتاب كريم أريحي ممجد ... صبيح الْمحيا نوره يتألق)
(هُوَ السَّيِّد الْمولى الْمُهَذّب وَالَّذِي ... بِهِ قد زها فِي الْعلم غرب ومشرق)
(حَكِيم حوى كل الْعُلُوم بأسرها ... وَمَا عَنهُ بَاب للمكارم يغلق)
(كريم لأنواع المحامد جَامع ... وَلكنه لِلْمَالِ جودا مفرق)
(إِذا ذكرت أَوْصَافه فِي محافل ... فَمن طيبها نشر من الْمسك يعبق)
(حوى قصبات السَّبق فِي طلب الْعلَا ... وَمن رام تَشْبِيها بِهِ لَيْسَ يلْحق)
(إِذا قَالَ بذ الْقَائِلين بلاغة ... ويصمت قس عِنْده حِين ينْطق)
(وَلَو أَن جالينوس كَانَ لوقته ... لقَالَ بِهَذَا فِي التطبب يوثق)
(فَمَا أحد يحكيه فِي حفظ صِحَة ... وَلَا مثله فِي الْجِسْم للداء يحدق)
(إِذا قلت مدحا فِي معالي مُحَمَّد ... فَكل امْرِئ فِيمَا أَقُول يصدق)
(وَلَو رمت أحصي مَا حواه من الْعلَا ... عجزت وَلَو أَنِّي البليغ الفرزدق)(1/598)
(وَلَا غرو فِي ابْنا حليقة أنني ... بِصدق الولا فِي قَبْضَة الرّقّ موثق)
(لوالدهم عِنْدِي أياد قديمَة ... فشكري لَهُم طول الزَّمَان مُحَقّق)
(وكل فَفِي العلياء سَام وسيما ... لمن قَالَ لي إِذْ جد فِيهِ التشوق)
(وَإِنِّي امْرُؤ أحببتكم لمحاسن ... سَمِعت بهَا وَالْأُذن كَالْعَيْنِ تعشق)
(فَلَا برحوا فِي نعْمَة وسلامة ... مُؤَبّدَة مَا دَامَت الدوح تورق)
وَلم يزل مهذب الدّين أَبُو سعيد مُحَمَّد ملازما للاشتغال مَحْمُود السِّيرَة فِي الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال
وَقَرَأَ على أَبِيه الصِّنَاعَة الطبية وحرر أقسامها الْكُلية والجزئية وَحصل مَعَانِيهَا العلمية والعملية
وخدم السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر بيبرس الملكي الصَّالِحِي بصناعة الطِّبّ وَله مِنْهُ غَايَة الاحترام وأوفر الإنعام والمنزلة الجميلة والعطايا الجزيلة
ولمهذب الدّين الْمَذْكُور إخْوَان أَحدهمَا موفق الدّين أَبُو الْخَيْر متميز فِي صناعَة الْكحل غزير الْعلم وَالْفضل وَكَانَ قد صنف للْملك الصَّالح نجم الدّين كتابا فِي الْكحل من قبل أَن يصير لَهُ من الْعُمر عشرُون سنة
وَالْأَخ الآخر علم الدّين أَبُو نصر وَهُوَ الْأَصْغَر مفرط الذكاء مَعْدُود من جملَة الْعلمَاء متميز فِي صناعَة الطِّبّ وافر الْعلم واللب
ولمهذب الدّين مُحَمَّد بن أبي حليقة من الْكتب كتاب فِي الطِّبّ
رشيد الدّين أَبُو سعيد
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الْعَالم أَبُو سعيد بن موفق الدّين يَعْقُوب من نَصَارَى الْقُدس
وَكَانَ متميزا فِي صناعَة الطِّبّ خَبِيرا بعلمها وعملها حاد الذِّهْن بليغ اللِّسَان حسن اللَّفْظ
واشتغل فِي الْعَرَبيَّة على شَيخنَا تَقِيّ الدّين خزعل بن عَسْكَر بن خَلِيل
وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ فِي علم النَّحْو أوحد زَمَانه
ثمَّ اشْتغل الْحَكِيم رشيد الدّين أَبُو سعيد بعد ذَلِك بِعلم الطِّبّ على عمي الْحَكِيم رشيد الدّين عَليّ بن خَليفَة لما كَانَ فِي خدمَة السُّلْطَان الْملك الْمُعظم وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَلم يكن فِي تلامذته مثله فَإِنَّهُ لَازمه حق الْمُلَازمَة وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ فِي سَفَره وحضره وَأقَام عِنْده بِدِمَشْق وَهُوَ دَائِم الِاشْتِغَال عَلَيْهِ إِلَى أَن أتقن حفظ جَمِيع مَا يَنْبَغِي أَن يحفظ من الْكتب الَّتِي هِيَ مبادي لصناعة الطِّبّ
ثمَّ قَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من كتب جالينوس وَغَيرهَا وَفهم ذَلِك فهما لَا مزِيد عَلَيْهِ
واشتغل أَيْضا على شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ
وَلما كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة قررت لَهُ جامكية فِي خدمَة الْملك الْكَامِل وَبَقِي فِي خدمته زَمَانا مُقيما بِالْقَاهِرَةِ
ثمَّ خدم بعد ذَلِك الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل وَبَقِي فِي خدمته نَحْو تسع سِنِين
وَكَانَ قد عرض للْملك الصَّالح نجم الدّين وَهُوَ بِدِمَشْق أَكلَة فِي فَخذه وَكَانَ يعالجه الْحَكِيم رشيد الدّين أَبُو حليقة وَلما طَال الْأَمر بِالْملكِ الصَّالح استحضر أَبَا سعيد وشكا حَاله إِلَيْهِ وَكَانَ بَين الْحَكِيم رشيد الدّين أبي حليقة وَبَين رشيد الدّين أبي سعيد مُنَافَسَة ومناقشة
وَتكلم أَبُو سعيد فِي أَن(1/599)
معالجة أبي حليقة لم تكن على الصَّوَاب فَنظر الْملك الصَّالح إِلَى أبي حليقة نظر غضب فَقَامَ من بَين يَدَيْهِ وَقعد على بَاب دَار السُّلْطَان وَبَقِي أَبُو سعيد فِيمَا هُوَ فِيهِ من المناواة فِي المداواة
ثمَّ فِي أثْنَاء ذَلِك الْمجْلس بِعَيْنِه قُدَّام السُّلْطَان عرض لأبي سعيد فالج وَبَقِي ملقى قدامه فَأمر السُّلْطَان بِحمْلِهِ إِلَى دَاره وَبَقِي أَرْبَعَة أَيَّام بِحَالهِ تِلْكَ وَمَات
وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق فِي الْعشْر الْأَخير من شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
ثمَّ أَن الْملك الصَّالح توجه إِلَى الديار المصرية وَقَوي مَرضه وَلم يزل بِهِ إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر شعْبَان سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بعد أَن كَانَ عَظِيم الشَّأْن قوي السُّلْطَان
وَلما أَتَاهُ الْمَمَات وَحل بِهِ هاذم اللَّذَّات ذهب كَأَنَّهُ لم يكن
وَكَذَلِكَ يفعل بأَهْله الزَّمَان كَمَا قلت
(احذر زَمَانك مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّهُ ... دهر يجور على الْكِرَام وَإِن عدل)
(قد كَانَ نجم الدّين أَيُّوب الَّذِي ... ملك الْبَريَّة واستطال على الدول)
(فِي صِحَة بسعوده حَتَّى عثا ... فِي جِسْمه دَاء فأعيته الْحِيَل)
(وصفت لَهُ الدُّنْيَا وَظن بِأَنَّهَا ... تبقى لَهُ أبدا ففاجأه الْأَجَل)
(وعَلى الْحَقِيقَة أَنه نجم علا ... وَكَذَا النُّجُوم وَبعد ذَلِك قد أفل) الْكَامِل
ولرشيد الدّين أبي سعيد من الْكتب كتاب عُيُون الطِّبّ صنفه للْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب وَهُوَ من أجل كتاب صنف فِي صناعَة الطِّبّ ويحتوي على علاجات مخلصة مختارة
تعاليق على كتاب الْحَاوِي لأبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ فِي الطِّبّ
أسعد الدّين بن أبي الْحسن
هُوَ الْحَكِيم الأوحد الْعَالم أسعد الدّين عبد الْعَزِيز بن أبي الْحسن عَليّ
من أفاضل الْعلمَاء وأعيان الْفُضَلَاء حاد الذِّهْن كثير الاعتناء بِالْعلمِ قد أتقن الصِّنَاعَة الطبية وَحصل الْعُلُوم الْحكمِيَّة
وَكَانَ أَيْضا عَالما بِأُمُور الشَّرْع مسموع القَوْل
وَكَانَ قد اشْتغل بصناعة الطِّبّ على أبي زَكَرِيَّا يحيى البياسي فِي ديار مصر وخدم الْملك المسعود أقسيس بن الْملك الْكَامِل وَأقَام مَعَه بِالْيمن مُدَّة وَله مِنْهُ الاحترام الْكثير وَالْإِحْسَان الغزير
وَكَانَ قرر لَهُ مِنْهُ فِي كل شهر مائَة دِينَار مصرية وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك المسعود رَحمَه الله
ثمَّ أطلق لَهُ الْملك الْكَامِل إقطاعات يستغلها فِي كل سنة بالديار المصرية ورسم بانتظامة فِي سلك الْخدمَة
وَكَانَ مولد أسعد الدّين بالديار المصرية فِي سنة سبعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ أَبوهُ طَبِيبا أَيْضا بديار مصر
واشتغل الشَّيْخ أسعد الدّين بِعلم الْأَدَب وَالشعر وَله شعر جيد
وَأول اجتماعي بِهِ كَانَ بِدِمَشْق فِي مستهل رَجَب سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة فَوَجَدته شَيخا حسن الصُّورَة مليح الشيبة تَامّ الْقَامَة أسمر اللَّوْن حُلْو الْكَلَام غزير الْمُرُوءَة
وَاجْتمعت بِهِ أَيْضا(1/600)
بعد ذَلِك بِمصْر وَأحسن إِلَيّ واشتمل عَليّ وَكَانَ صديقا لأبي من السنين الْكَثِيرَة
وَكَانَت وَفَاة الأسعد الْمَذْكُور بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
ولأسعد الدّين بن أبي الْحسن من الْكتب كتاب نَوَادِر الألباء فِي امتحان الْأَطِبَّاء صنفه للْملك الْكَامِل مُحَمَّد بن أبي بكر بن أبوب
ضِيَاء الدّين بن البيطار
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الْعَالم أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد المالقي النباتي وَيعرف بِابْن البيطار
أوحد زَمَانه وعلامة وقته فِي معرفَة النَّبَات وتحقيقه واختياره ومواضع نَبَاته ونعت أَسْمَائِهِ على اختلافها وتنوعها
سَافر إِلَى بِلَاد الأغارقة وأقسى بِلَاد الرّوم وَلَقي جمَاعَة يعانون هَذَا الْفَنّ وَأخذ عَنْهُم معرفَة نَبَات كثير وعاينه فِي موَاضعه وَاجْتمعَ أَيْضا فِي الْمغرب وَغَيره بِكَثِير من الْفُضَلَاء فِي علم النَّبَات وعاين منابته وَتحقّق ماهيته وأتقن دراية كتاب ديقوريدس إتقانا بلغ فِيهِ إِلَى أَن لَا يكَاد يُوجد من يجاريه فِيمَا هُوَ فِيهِ وَذَلِكَ أنني وجدت عِنْده من الذكاء والفطنة والدراية فِي النَّبَات وَفِي نقل مَا ذكره ديسقوريدس وجالينوس فِيهِ مَا يتعجب مِنْهُ
وَأول اجتماعي بِهِ كَانَ بِدِمَشْق فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَرَأَيْت أَيْضا من حسن عشرته وَكَمَال مروءته وَطيب أعراقه وجودة أخلاقه ودرايته وكرم نَفسه مَا يفوق الْوَصْف ويتعجب مِنْهُ
وَلَقَد شاهدت مَعَه فِي ظَاهر دمشق كثيرا من النَّبَات فِي موَاضعه وقرأت عَلَيْهِ أَيْضا تَفْسِيره لأسماء أدوية كتاب ديسقوريدس فَكنت أجد من غزارة علمه ودرايته وفهمه شَيْئا كثيرا جدا
وَكنت أحضر لدينا عدَّة من الْكتب الْمُؤَلّفَة فِي الْأَدْوِيَة المفردة مثل كتاب ديسقوريدس وجالينوس والفافقي وأمثالها من الْكتب الجليلة فِي هَذَا الْفَنّ فَكَانَ يذكر أَولا مَا قَالَه ديسقوريدس فِي كِتَابه بِاللَّفْظِ اليوناني على مَا قد صَححهُ فِي بِلَاد الرّوم ثمَّ يذكر جمل مَا قَالَه ديسقوريدس من نَعته وَصفته وأفعاله وَيذكر أَيْضا مَا قَالَه جالينوس فِيهِ من نَعته ومزاجه وأفعاله وَمَا يتَعَلَّق بذلك وَيذكر أَيْضا جملا من أَقْوَال الْمُتَأَخِّرين وَمَا اخْتلفُوا فِيهِ ومواضع الْغَلَط والاشتباه الَّذِي وَقع لبَعْضهِم فِي نَعته
فَكنت أراجع تِلْكَ الْكتب مَعَه وَلَا أَجِدهُ يُغَادر شَيْئا مِمَّا فِيهَا
وأعجب من ذَلِك أَيْضا أَنه كَانَ مَا يذكر دَوَاء إِلَّا ويعين فِي أَي مقَالَة هُوَ من كتاب ديسقوريدس وجالينوس وَفِي أَي عدد هُوَ من جملَة الْأَدْوِيَة الْمَذْكُورَة فِي تِلْكَ الْمقَالة
وَكَانَ فِي خدمَة الْملك الْكَامِل مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي الْأَدْوِيَة المفردة والحشائش وَجعله فِي الديار المصرية رَئِيسا على سَائِر العشابين وَأَصْحَاب البسطات
وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْكَامِل رَحمَه الله بِدِمَشْق
وَبعد ذَلِك توجه إِلَى الْقَاهِرَة فخدم الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب بن الْملك الْكَامِل وَكَانَ حظيا عِنْده مُتَقَدما فِي أَيَّامه
وكاننت وَفَاة ضاء الدّين العشاب(1/601)
رَحمَه الله بِدِمَشْق فِي شهر شعْبَان سنة سِتّ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة فَجْأَة
ولضياء الدّين بن البيطار من الْكتب
كتاب الْإِبَانَة والأعلام بِمَا فِي الْمِنْهَاج من الْخلَل والأوهام
شرح أدوية كتاب ديسقوريدس
كتاب الْجَامِع فِي الْأَدْوِيَة المفردة وَقد استقصى فِيهِ ذكر الْأَدْوِيَة المفردة وأسمائها وتحريرها وقواها ومنافعها وَبَين الصَّحِيح مِنْهَا وَمَا وَقع الِاشْتِبَاه فِيهِ وَلم يُوجد فِي الْأَدْوِيَة المفردة كتاب أجل وَلَا أَجود مِنْهُ وصنفه للْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب بن الْملك الْكَامِل
كتاب الْمُغنِي فِي الْأَدْوِيَة المفردة وَهُوَ مُرَتّب بِحَسب مداواة الْأَعْضَاء الآلمة
كتاب الْأَفْعَال الغريبة والخواص العجيبة(1/602)
الْبَاب الْخَامِس عشر
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين من أطباء الشَّام
أَبُو نصر الفارابي
هُوَ أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أوزلغ بن طرخان مدينته فاراب وَهِي مَدِينَة من بِلَاد التّرْك فِي أَرض خُرَاسَان وَكَانَ أَبوهُ قَائِد جَيش وَهُوَ فَارسي المنتسب
وَكَانَ بِبَغْدَاد مُدَّة ثمَّ انْتقل إِلَى الشَّام وَأقَام بِهِ إِلَى حِين وَفَاته
وَكَانَ رَحمَه الله فيلسوفا كَامِلا وإماما فَاضلا قد أتقن الْعُلُوم الْحكمِيَّة وبرع فِي الْعُلُوم الرياضية زكي النَّفس قوي الذكاء متجنبا عَن الدُّنْيَا مقتنعا مِنْهَا بِمَا يقوم بأوده يسير سيرة الفلاسفة الْمُتَقَدِّمين
وَكَانَت لَهُ قُوَّة فِي صناعَة الطِّبّ وَعلم بالأمور الْكُلية مِنْهَا
وَلم يُبَاشر أَعمالهَا وَلَا حاول جزئياتها
وحَدثني سيف الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي عَليّ الْآمِدِيّ أَن الفارابي كَانَ فِي أول أمره ناطورا فِي بُسْتَان بِدِمَشْق وَهُوَ على ذَلِك دَائِم الِاشْتِغَال بالحكمة وَالنَّظَر فِيهَا والتطلع إِلَى آراء الْمُتَقَدِّمين وَشرح مَعَانِيهَا
وَكَانَ ضَعِيف الْحَال حَتَّى أَنه كَانَ فِي اللَّيْل يسهر للمطالعة والتصنيف ويستضيء بالقنديل الَّذِي للحارس
وَبَقِي كَذَلِك مُدَّة
ثمَّ إِنَّه عظم شَأْنه وَظهر فَضله واشتهرت تصانيفه وَكَثُرت تلاميذه وَصَارَ أوحد زَمَانه وعلامة وقته
وَاجْتمعَ بِهِ الْأَمِير سيف الدولة أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله بن حمدَان التغلبي وأكرمه إِكْرَاما كثيرا وعظمت مَنْزِلَته عِنْده وَكَانَ لَهُ مؤثرا
ونقلت من خطّ بعض الْمَشَايِخ أَن أَبَا نصر الفارابي سَافر إِلَى مصر سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وثلثمائة وَرجع إِلَى دمشق وَتُوفِّي بهَا فِي رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلثمائة عِنْد سيف الدولة عَليّ بن حمدَان فِي خلَافَة الراضي وَصلى عَلَيْهِ سيف الدولة فِي خَمْسَة عشر رجلا من خاصته
وَيذكر أَنه لم يكن يتَنَاوَل(1/603)
من سيف الدولة من جملَة مَا ينعم بِهِ عَلَيْهِ سوى أَرْبَعَة دَرَاهِم فضَّة فِي الْيَوْم يُخرجهَا فِيمَا يَحْتَاجهُ من ضَرُورِيّ عيشه
وَلم يكن معتنيا بهيئة وَلَا منزل وَلَا مكسب
وَيذكر أَنه كَانَ يتغذى بِمَاء قُلُوب الحملان مَعَ الْخمر الريحاني فَقَط
وَيذكر أَنه كَانَ فِي أول أمره قَاضِيا فَلَمَّا شعر بالمعارف نبذ ذَلِك وَأَقْبل بكليته على تعملها وَلم يسكن إِلَى نَحْو من أُمُور الدُّنْيَا الْبَتَّةَ
وَيذكر أَنه كَانَ يخرج إِلَى الحراس بِاللَّيْلِ من منزله يستضيء بمصابيحهم فِيمَا يَقْرَؤُهُ
وَكَانَ فِي علم صناعَة الموسيقى وعملها قد وصل إِلَى غاياتها وأتقنها إتقانا لَا مزِيد عَلَيْهِ
وَيذكر أَنه صنع آلَة غَرِيبَة يستمع مِنْهَا ألحانا بديعة يُحَرك بهَا الانفعالات
وَيذكر أَن سَبَب قِرَاءَته الْحِكْمَة أَن رجلا أودع عِنْده جملَة من كتب أرسطوطاليس فاتفق أَن نظر فِيهَا فَوَافَقت مِنْهُ قبولا وتحرك إِلَى قرَاءَتهَا وَلم يزل إِلَى أَن أتقن فهمها وَصَارَ فيلسوفا بِالْحَقِيقَةِ
ونقلت من كَلَام لأبي نصر الفارابي فِي معنى اسْم الفلسفة قَالَ اسْم الفلسفة يوناني وَهُوَ دخيل فِي الْعَرَبيَّة وَهُوَ على مَذْهَب لسانهم فيلسوفا وَمَعْنَاهُ إِيثَار الْحِكْمَة
وَهُوَ فِي لسانهم مركب من فيلا وَمن سوفيا ففيلا الإيثار وسوفيا الْحِكْمَة
والفيلسوف مُشْتَقّ من الفلسفة وَهُوَ على مَذْهَب لسانهم فيلسوفوس
فَإِن هَذَا التَّغْيِير هُوَ تَغْيِير كثير من الاشتقاقات عِنْدهم وَمَعْنَاهُ الْمُؤثر للحكمة
والمؤثر للحكمة عِنْدهم هُوَ الَّذِي يَجْعَل الوكد من حَيَاته وغرضه من عمره الْحِكْمَة
وَحكى أَبُو نصر الفارابي فِي ظُهُور الفلسفة مَا هَذَا نَصه قَالَ إِن أَمر الفلسفة اشْتهر فِي أَيَّام مُلُوك اليونانيين وَبعد وَفَاة أرسطوطاليس بالإسكندرية إِلَى آخر أَيَّام الْمَرْأَة
وَأَنه لما توفّي بَقِي التَّعْلِيم بِحَالهِ فِيهَا إِلَى أَن ملك ثَلَاثَة عشر ملكا وتوالى فِي مُدَّة ملكهم من معلمي الفلسفة اثْنَا عشر معلما أحدهم الْمَعْرُوف بأندرونيقوس
وَكَانَ آخر هَؤُلَاءِ الْمُلُوك الْمَرْأَة فغلبها أوغسطس الْملك من أهل رُومِية وقتلها واستحوذ على الْملك
فَلَمَّا اسْتَقر لَهُ نظر فِي خَزَائِن الْكتب وصنعها فَوجدَ فِيهَا نسخا لكتب أرسطوطاليس قد نسخت فِي أَيَّامه وَأَيَّام ثاوفرسطس وَوجد المعلمين والفلاسفة قد عمِلُوا كتبا فِي الْمعَانِي الَّتِي عمل فِيهَا أرسطو
فَأمر أَن تنسخ تِلْكَ الْكتب الَّتِي كَانَت نسخت فِي أَيَّام أرسطو وتلاميذه وَأَن يكون التَّعْلِيم مِنْهَا وَأَن ينْصَرف عَن الْبَاقِي
وَحكم أندرونيقوس فِي تَدْبِير ذَلِك وَأمره أَن ينْسَخ نسخا يحملهَا مَعَه إِلَى رُومِية ونسخا يبقيها فِي مَوضِع التَّعْلِيم بالإسكندرية وَأمره أَن يسْتَخْلف معلما يقوم مقَامه بالإسكندرية ويسير مَعَه إِلَى رُومِية
فَصَارَ التَّعْلِيم فِي موضِعين وَجرى الْأَمر على ذَلِك إِلَى أَن جَاءَت النَّصْرَانِيَّة فَبَطل التَّعْلِيم من رُومِية وَبَقِي بالإسكندرية إِلَى أَن نظر ملك النَّصْرَانِيَّة فِي ذَلِك وَاجْتمعت الأساقفة وَتَشَاوَرُوا فِيمَا يتْرك من هَذَا التَّعْلِيم وَمَا يبطل
فَرَأَوْا أَن يعلم من كتب الممطق إِلَى آخر الأشكال الوجودية وَلَا يعلم مَا بعده لأَنهم رَأَوْا أَن فِي ذَلِك ضَرَرا على النَّصْرَانِيَّة وَأَن فِيمَا أطْلقُوا تَعْلِيمه مَا يستعان بِهِ على نصْرَة دينهم فَبَقيَ الظَّاهِر من التَّعْلِيم هَذَا الْمِقْدَار وَمَا ينظر فِيهِ من الْبَاقِي مَسْتُورا إِلَى أَن كَانَ الْإِسْلَام بعده بِمدَّة طَوِيلَة فانتقل التَّعْلِيم من الْإسْكَنْدَريَّة إِلَى أنطاكية وَبَقِي بهَا زَمنا طَويلا إِلَى أَن بَقِي معلم وَاحِد فتعلم مِنْهُ رجلَانِ وخرجا ومعهما الْكتب فَكَانَ أَحدهمَا من أهل حران وَالْآخر من أهل مرو
فَأَما الَّذِي من أهل مرو(1/604)
فتعلم مِنْهُ رجلَانِ أَحدهمَا إِبْرَاهِيم الْمروزِي وَالْآخر يوحنا بن حيلان
وَتعلم من الْحَرَّانِي إِسْرَائِيل الأسقف وقويري وَسَار إِلَى بَغْدَاد فتشاغل إِبْرَاهِيم بِالدّينِ وَأخذ قويري فِي التَّعْلِيم وَأما يوحنا بن حيلان فَإِنَّهُ تشاغل أَيْضا بِدِينِهِ وَانْحَدَرَ إِبْرَاهِيم الْمروزِي إِلَى بَغْدَاد فَأَقَامَ بهَا
وَتعلم من الْمروزِي مَتى ابْن يونان وَكَانَ الَّذِي يتَعَلَّم فِي ذَلِك الْوَقْت إِلَى آخر الأشكال الوجودية
وَقَالَ أَبُو نصر الفارابي عَن نَفسه أَنه تعلم من يوحنا بن حيلان إِلَى آخر كتاب الْبُرْهَان
وَكَانَ يُسمى مَا بعد الأشكال الوجودية الْجُزْء الَّذِي لَا يقْرَأ إِلَى أَن قرئَ ذَلِك وَصَارَ الرَّسْم بعد ذَلِك حَيْثُ صَار الْأَمر إِلَى معلمي الْمُسلمين أَن يقْرَأ من الأشكال الوجودية إِلَى حَيْثُ قدر الْإِنْسَان أَن يقْرَأ
فَقَالَ أَبُو نصر أَنه قَرَأَ إِلَى آخر كتاب الْبُرْهَان
وحَدثني عمي رشيد الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن خَليفَة رَحمَه الله أَن الفارابي توفّي عِنْد سيف الدولة بن حمدَان فِي رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وَكَانَ أَخذ الصِّنَاعَة عَن يوحنا بن حيلان بِبَغْدَاد فِي أَيَّام المقتدر وَكَانَ فِي زَمَانه أَبُو المبشر مَتى بن يونان وَكَانَ أسن من أبي نصر وَأَبُو نصر أحد ذهنا وأعذب كلَاما
وَتعلم أَبُو المبشر مَتى من إِبْرَاهِيم الْمروزِي وَتُوفِّي أَبُو المبشر فِي خلَافَة الراضي فِيمَا بَين سنة ثَلَاث وَعشْرين إِلَى سنة تسع وَعشْرين وثلثمائة
وَكَانَ يوحنا بن حيلان وَإِبْرَاهِيم الْمروزِي قد تعلما جَمِيعًا من رجل من أهل مرو
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو سُلَيْمَان مُحَمَّد بن طَاهِر بن بهْرَام السجسْتانِي فِي تعاليقه أَن يحيى بن عدي أخبرهُ أَن مَتى قَرَأَ ايساغوجي على إِنْسَان نَصْرَانِيّ وَقَرَأَ قاطيغورياس بارمينياس على إِنْسَان يُسمى روبيل وَقَرَأَ كتاب الْقيَاس على أبي يحيى الْمروزِي
وَقَالَ القَاضِي صاعد بن أَحْمد بن صاعد فِي كتاب التَّعْرِيف بطبقات الْأُمَم أَن الفارابي أَخذ صناعَة الْمنطق عَن يوحنا بن حيلان المتوفي بِمَدِينَة السَّلَام فِي أَيَّام المقتدر فبذ جَمِيع أهل الْإِسْلَام فِيهَا وأربى عَلَيْهِم فِي التحقق بهَا
فشرح غامضها وكشف سرها وَقرب تنَاولهَا وَجمع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهَا فِي كتب صَحِيحَة الْعبارَة لَطِيفَة الْإِشَارَة منبهة على مَا أغفله الْكِنْدِيّ وَغَيره من صناعَة التَّحْلِيل وأنحاء التعاليم
وأوضح القَوْل فِيهَا عَن مواد الْمنطق الْخمس وَأفَاد وُجُوه الِانْتِفَاع بهَا وَعرف طرق اسْتِعْمَالهَا وَكَيف تصرف صُورَة الْقيَاس فِي كل مَادَّة مِنْهَا
فَجَاءَت كتبه فِي ذَلِك الْغَايَة الكافية وَالنِّهَايَة الفاضلة
ثمَّ لَهُ بعد هَذَا كتاب شرِيف فِي إحصاء الْعُلُوم والتعريف بأغراضها لم يسْبق إِلَيْهِ وَلَا ذهب أحد مذْهبه فِيهِ
لَا يَسْتَغْنِي طلاب الْعُلُوم كلهَا عَن الاهتداء بِهِ وَتَقْدِيم النّظر فِيهِ
وَله كتاب فِي أغراض فلسفة أفلاطون وأرسطوطاليس يشْهد لَهُ بالبراعة فِي صناعَة الفلسفة والتحقق بفنون الْحِكْمَة وَهُوَ أكبر عون على تعلم طَرِيق النّظر وتعرف وَجه الطّلب اطلع فِيهِ على أسرار الْعُلُوم وثمارها علما علما وَبَين كَيفَ التدرح من بَعْضهَا إِلَى بعض شَيْئا شَيْئا
ثمَّ بَدَأَ بفلسفة أفلاطون فَعرف بغرضه مِنْهَا وسمى تآليفه فِيهَا
ثمَّ اتبع ذَلِك بفلسفة أرسطوطاليس فَقدم لَهُ مُقَدّمَة جليلة عرف فِيهَا بتدرجه إِلَى الفلسفة
ثمَّ بَدَأَ بِوَصْف أغراضه فِي تآليفه المنطقية والطبيعية كتابا كتابا حَتَّى انْتهى بِهِ القَوْل فِي النُّسْخَة الْوَاصِلَة إِلَيْنَا إِلَى أول الْعلم الإلهي وَالِاسْتِدْلَال بِالْعلمِ الطبيعي عَلَيْهِ
وَلَا أعلم كتابا أجدى على طَالب الفلسفة مِنْهُ فَإِنَّهُ يعرف(1/605)
بالمعاني الْمُشْتَركَة لجَمِيع الْعُلُوم والمعاني المختصة بِعلم علم مِنْهَا
وَلَا سَبِيل إِلَى فهم مَعَاني قاطيغورياس وَكَيف هِيَ الْأَوَائِل الْمَوْضُوعَة لجَمِيع الْعُلُوم إِلَّا مِنْهُ
ثمَّ لَهُ بعد هَذَا فِي الْعلم الإلهي وَفِي الْعلم الْمدنِي كِتَابَانِ لَا نَظِير لَهما أَحدهمَا الْمَعْرُوف بالسياسة المدنية وَالْآخر الْمَعْرُوف بالسيرة الفاضلة عرف فيهمَا بجمل عَظِيمَة من الْعلم الإلهي عل مَذْهَب أرسطوطاليس فِي مبادئ السِّتَّة الروحانية وَكَيف يُؤْخَذ عَنْهَا الْجَوَاهِر الجسمانية على مَا هِيَ عَلَيْهِ من النظام واتصال الْحِكْمَة
وَعرف فيهمَا بمراتب الْإِنْسَان وَقواهُ النفسانية وَفرق بَين الْوَحْي والفلسفة وَوصف أَصْنَاف المدن الفاضلة وَغير الفاضلة واحتياج الْمَدِينَة إِلَى السِّيرَة الملكية والنواميس النَّبَوِيَّة
أَقُول وَفِي التَّارِيخ أَن الفارابي كَانَ يجْتَمع بِأبي بكر بن السراج فَيقْرَأ عَلَيْهِ صناعَة النَّحْو وَابْن السراج يقْرَأ عَلَيْهِ صناعَة الْمنطق
وَكَانَ الفارابي أَيْضا يشْعر
وَسُئِلَ أَبُو نصر من أعلم أَنْت أم أرسطو فَقَالَ لَو أَدْرَكته لَكُنْت أكبر تلاميذه
وَيذكر عَنهُ أَنه قَالَ قَرَأت السماع لأرسطو أَرْبَعِينَ مرّة وَأرى أَنِّي مُحْتَاج إِلَى معاودته
وَهَذَا دُعَاء لأبي نصر الفارابي قَالَ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك يَا وَاجِب الْوُجُود وَيَا عِلّة الْعِلَل قَدِيما لم يزل أَن تعصمني من الزلل وَأَن تجْعَل لي من الأمل مَا ترضاه لي من عمل
اللَّهُمَّ امنحني مَا اجْتمع من المناقب وارزقني فِي أموري حسن العواقب
نجح مقاصدي والمطالب يَا إِلَه الْمَشَارِق والمغارب
رب الْجوَار الكنس السَّبع الَّتِي انبجست عَن الْكَوْن انبجاس الْأَبْهَر هن الفواعل عَن مَشِيئَته الَّتِي عَمت فضائلها جَمِيع الْجَوْهَر
أَصبَحت أَرْجُو الْخَيْر مِنْك وأمتري زحلا وَنَفس عُطَارِد وَالْمُشْتَرِي
اللَّهُمَّ ألبسني حلل الْبَهَاء وكرامات الْأَنْبِيَاء وسعادة الْأَغْنِيَاء وعلوم الْحُكَمَاء وخشوع الأتقياء
اللَّهُمَّ أنقذني من عَالم الشَّقَاء والفناء واجعلني من إخْوَان الصفاء وَأَصْحَاب الْوَفَاء وسكان السَّمَاء مَعَ الصديقين وَالشُّهَدَاء
أَنْت الله الْإِلَه الَّذِي لَا إِلَه إِلَّا أَنْت عِلّة الْأَشْيَاء وَنور الأَرْض وَالسَّمَاء
امنحني فيضا من الْعقل الفعال يَا ذَا الْجلَال والأفضال هذب نَفسِي بأنوار الْحِكْمَة وأوزعني شكر مَا أوليتني من نعْمَة أَرِنِي الْحق حَقًا وألهمني اتِّبَاعه وَالْبَاطِل بَاطِلا واحرمني اعْتِقَاده واستماعه هذب نَفسِي من طِينَة الهيولى إِنَّك أَنْت الْعلَّة الأولى
(يَا عِلّة الْأَشْيَاء جمعا وَالَّذِي ... كَانَت بِهِ عَن فيضه المتفجر)
(رب السَّمَوَات الطباق ومركز ... فِي وسطهن من الثرى والأبحر)
(إِنِّي دعوتك مستجيرا مذنبا ... فَاغْفِر خَطِيئَة مذنب ومقصر)
(هذب بفيض مِنْك رب الْكل من ... كدر الطبيعة والعناصر عنصري) الْكَامِل
اللَّهُمَّ رب الْأَشْخَاص العلوية والأجرام الفلكية والأرواح السماوية غلبت على عَبدك الشَّهْوَة البشرية وَحب الشَّهَوَات وَالدُّنْيَا الدنية
فَاجْعَلْ عصمتك مجني من التَّخْلِيط وتقواك حصني من(1/606)
التَّفْرِيط إِنَّك بِكُل شَيْء مُحِيط
اللَّهُمَّ أنفذني من أسر الطبائع الْأَرْبَع وأنقلني إِلَى جنانك الأوسع وجوارك الأرفع
اللَّهُمَّ اجْعَل الْكِفَايَة سَببا لقطع مَذْمُوم العلائق الَّتِي بيني وَبَين الْأَجْسَام الترابية والهموم الكونية وَاجعَل الْحِكْمَة سَببا لِاتِّحَاد نَفسِي بالعوالم الإلهية والأرواح السماوية
اللَّهُمَّ طهر بِروح الْقُدس الشَّرِيفَة نَفسِي وَأثر بالحكمة الْبَالِغَة عَقْلِي وحسي وَاجعَل الْمَلَائِكَة بَدَلا من عَالم الطبيعة أنسي
اللَّهُمَّ ألهمني الْهدى وَثَبت إيماني بالتقوى وبغض إِلَى نَفسِي حب الدُّنْيَا
اللَّهُمَّ قو ذاتي على قهر الشَّهَوَات الفانية وَألْحق نَفسِي بمنازل النُّفُوس الْبَاقِيَة وَاجْعَلْهَا من جملَة الْجَوَاهِر الشَّرِيفَة الغالية فِي جنَّات عالية
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ سَابق الموجودات الَّتِي تنطق بألسنة الْحَال والمقال إِنَّك الْمُعْطِي كل شَيْء مِنْهَا مَا هُوَ مُسْتَحقّه بالحكمة وجاعل الْوُجُود لَهَا بِالْقِيَاسِ إِلَى عدمهَا نعْمَة وَرَحْمَة
فالذوات مِنْهَا والأعراض مُسْتَحقَّة بآلائك شاكرة فَضَائِل نعمائك وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ وَلَكِن لَا تفقهون تسبيحهم
سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَعَالَيْت إِنَّك الله الْأَحَد الْفَرد الصَّمد الَّذِي لم يلد وَلم يُولد وَلم يكن لَهُ كفوا أحد
اللَّهُمَّ إِنَّك قد سجنت نَفسِي فِي سجن من العناصر الْأَرْبَعَة ووكلت بافتراسها سباعا من الشَّهَوَات
اللَّهُمَّ جد لَهَا بالعصمة وَتعطف عَلَيْهَا بِالرَّحْمَةِ الَّتِي هِيَ بك أليق وبالكرم الفائض الَّذِي هُوَ مِنْك أجد وأخلق وامنن عَلَيْهَا بِالتَّوْبَةِ العائدة بهَا إِلَى عالمها السماوي وَعجل لَهَا بالأوبة الي مقَامهَا الْقُدسِي واطلع على ظلمائها شمسا من الْعقل الفعال وامط عَنْهَا ظلمات الْجَهْل والضلال وَاجعَل مَا فِي قواها بِالْقُوَّةِ كامنا بِالْفِعْلِ وأخرجها من ظلمات الْجَهْل إِلَى نور الْحِكْمَة وضياء الْعقل
الله ولي الَّذين آمنُوا يخرجهم من الظُّلُمَات إِلَى النُّور
اللَّهُمَّ أر نَفسِي صور الغيوب الصَّالِحَة فِي منامها وبدلها من الأضغاث برؤيا الْخيرَات والبشرى الصادقة فِي أحلامها وطهرها من الأوساخ الَّتِي تأثرت بهَا عَن محسوساتها وأوهامها وأمط عَنْهَا كدر الطبيعة وأنزلها فِي عَالم النُّفُوس الْمنزلَة الرفيعة
الله الَّذِي هَدَانِي وكفاني وآواني
وَمن شعر أبي نصر الفارابي قَالَ
(لما رَأَيْت الزَّمَان نكسا ... وَلَيْسَ فِي الصُّحْبَة انْتِفَاع)
(كل رَئِيس بِهِ ملال ... وكل رَأس بِهِ صداع)
(لَزِمت بَيْتِي وصنت عرضا ... بِهِ من الْعِزَّة اقتناع)
(أشْرب مِمَّا اقتنيت رَاحا ... لَهَا على راحتي شُعَاع)
(لي من قواريرها ندامى ... وَمن قراقيرها سَماع)
(واجتني من حَدِيث قوم ... قد أقفرت مِنْهُم الْبِقَاع) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(أخي خل حيّز ذِي بَاطِل ... وَكن للحقائق فِي حيّز)
(فَمَا الدَّار دَار خُلُود لنا ... وَلَا الْمَرْء فِي الأَرْض بالمعجز)
(وَهل نَحن إِلَّا خطوط وقعن ... على كرة وَقع مستوفز)(1/607)
(ينافس هَذَا لهَذَا على ... أقل من الْكَلم الموجز)
(مُحِيط السَّمَوَات أولى بِنَا ... فكم ذَا التزاحم فِي المركز) المتقارب
وَلأبي نصر الفارابي من الْكتب شرح كتاب المجسطي لبطليموس
شرح كتاب الْبُرْهَان لأرسطوطاليس شرح كتاب الخطابة لأرسطوطاليس شرح الْمقَالة الثَّانِي وَالثَّامِنَة من كتاب الجدل لأرسطوطاليس
شرح كتاب المغالطة لأرسطوطاليس
شرح كتاب الْقيَاس لأرسطوطاليس وَهُوَ الشَّرْح الْكَبِير
شرح كتاب باريمينياس لأرسطوطاليس على جِهَة التَّعْلِيق
شرح كتاب المقولات لأرسطوطاليس على جِهَة التَّعْلِيق
كتاب الْمُخْتَصر الْكَبِير فِي الْمنطق
كتاب الْمُخْتَصر الصَّغِير فِي الْمنطق على طَريقَة الْمُتَكَلِّمين
كتاب الْمُخْتَصر الْأَوْسَط فِي الْقيَاس
كتاب التوطئة فِي الْمنطق
شرح كتاب ايساغوجي لفرفوريوس
إملاء فِي مَعَاني ايساغوجي
كتاب الْقيَاس الصَّغِير وَوجد كِتَابه هَذَا مترجما بِخَطِّهِ
إحصاء القضايا والقياسات الَّتِي تسْتَعْمل على الْعُمُوم فِي جَمِيع الصَّنَائِع القياسية
كتاب شُرُوط الْقيَاس
كتاب الْبُرْهَان
كتاب الجدل
كتاب الْمَوَاضِع المنتزعة من الْمقَالة الثَّامِنَة فِي الجدل
كتاب الْمَوَاضِع المغلطة
كتاب اكْتِسَاب الْمُقدمَات وَهِي الْمُسَمَّاة بالمواضع وَهِي التَّحْلِيل
كَلَام فِي الْمُقدمَات المختلطة من وجودي وضروري
كَلَام فِي الْخَلَاء صدر لكتاب الخطابة
شرح كتاب السماع الطبيعي لأرسطوطاليس على جِهَة التَّعْلِيق
شرح كتاب السَّمَاء والعالم لأرسطوطاليس على جِهَة التَّعْلِيق
شرح كتاب الْآثَار العلوية لأرسطوطاليس على جِهَة التَّعْلِيق
شرح مقَالَة الْإِسْكَنْدَر الإفروديسي فِي النَّفس على جِهَة التَّعْلِيق
شرح صدر كتاب الْأَخْلَاق لأرسطوطاليس
كتاب فِي النواميس
كتاب إحصاء الْعُلُوم وترتيبها
كتاب الفلسفتين لفلاطن وأرسطوطاليس مخروم الآخر
كتاب الْمَدِينَة الفاضلة وَالْمَدينَة الجاهلة وَالْمَدينَة الفاسقة وَالْمَدينَة المبدلة وَالْمَدينَة الضَّالة ابْتَدَأَ بتأليف هَذَا الْكتاب بِبَغْدَاد وَحمله إِلَى الشَّام فِي آخر سنة ثَلَاثِينَ وثلاثمائة وتممه بِدِمَشْق فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وحرره ثمَّ نظر فِي النُّسْخَة بعد التَّحْرِير فَأثْبت فِيهَا الْأَبْوَاب
ثمَّ سَأَلَهُ بعض النَّاس أَن يَجْعَل لَهُ فصولا تدل على قسْمَة مَعَانِيه فَعمل الْفُصُول بِمصْر فِي سنة سبغ وَثَلَاثِينَ وَهِي سِتَّة فُصُول
كتاب مبادئ آراء الْمَدِينَة الفاضلة
كتاب الْأَلْفَاظ والحروف
كتال الموسيقى الْكَبِير أَلفه للوزير أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن الْقَاسِم الْكَرْخِي
كتاب فِي إحصاء الْإِيقَاع
كَلَام لَهُ فِي النقلَة مُضَافا إِلَى الْإِيقَاع
كَلَام فِي الموسيقى
مُخْتَصر فُصُول فلسفية منتزعة من كتب الفلاسفة
كتاب المبادئ الإنسانية
كتاب الرَّد على الرَّازِيّ فِي الْعلم الإلهي
كتاب الرَّد على جالينوس فِيمَا تَأَوَّلَه من كَلَام أرسطوطاليس على غير مَعْنَاهُ
كتاب الرَّد على ابْن الراوندي فِي أدب الجدل
كتاب الرَّد على يحيى النَّحْوِيّ فِيمَا رد بِهِ على أرسطوطاليس
كتاب الرَّد على الرَّازِيّ فِي الْعلم الإلهي
كتاب الْوَاحِد والوحدة
كَلَام لَهُ فِي الحيز والمقدار
كتاب فِي الْعقل صَغِير
كتاب فِي الْعقل كَبِير
كَلَام لَهُ فِي معنى اسْم الفلسفة
كتاب الموجودات المتغيرة الْمَوْجُود بالْكلَام الطبيعي
كتاب شَرَائِط الْبُرْهَان
كَلَام لَهُ شرح المستعلق من مصادرة الْمقَالة الأولى وَالْخَامِسَة من إقليدس
كَلَام فِي اتِّفَاق آراء أبقراط وأفلاطن
رِسَالَة فِي التَّنْبِيه على أَسبَاب السَّعَادَة
كَلَام فِي الْجُزْء وَمَا لَا يتَجَزَّأ(1/608)
كَلَام فِي اسْم الفلسفة وَسبب ظُهُورهَا وَأَسْمَاء المبرزين فِيهَا وعَلى من قَرَأَ مِنْهُم
كَلَام فِي الْجِنّ
كَلَام فِي الْجَوْهَر
كتاب فِي الفحص الْمدنِي
كتاب السياسات المدنية وَيعرف بمبادئ الموجودات
كَلَام فِي الْملَّة وَالْفِقْه مدنِي كَلَام جمعه من أقاويل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُشِير فِيهِ إِلَى صناعَة الْمنطق
كتاب فِي الخطابة كَبِير عشرُون مجلدا
رِسَالَة فِي قواد الجيوش
كَلَام فِي المعايش والحروب
كتاب فِي التأثيرات العلوية
مقَالَة فِي الْجِهَة الَّتِي يَصح عَلَيْهَا القَوْل بِأَحْكَام النُّجُوم
كتاب فِي الْفُصُول المنتزعة للاجتماعات
كتاب فِي الْحِيَل والنواميس
كَلَام لَهُ فِي الرُّؤْيَا
كتاب فِي صناعَة الْكِتَابَة
شرح كتاب الْبُرْهَان لأرسطوطاليس على طَرِيق التَّعْلِيق أملاه على إِبْرَاهِيم بن عدي تلميذ لَهُ بحلب
كَلَام لَهُ فِي الْعلم الإلهي
شرح الْمَوَاضِع المستغلقة من كتاب قاطيغورياس لأرسطوطاليس وَيعرف بتعليقات الْحَوَاشِي
كَلَام فِي أَعْضَاء الْحَيَوَان
كتاب مُخْتَصر جَمِيع الْكتب المنطقية
كتاب الْمدْخل إِلَى الْمنطق
كتاب التَّوَسُّط بَين أرسطوطاليس وجالينوس
كتاب غَرَض المقولات
كَلَام لَهُ فِي الشّعْر والقوافي
شرح كتاب الْعبارَة لأرسطوطاليس على جِهَة التَّعْلِيق
تعاليق على كتاب الْقيَاس
كتاب فِي الْقُوَّة المتناهية وَغير المتناهية
تَعْلِيق لَهُ فِي النُّجُوم
كتاب فِي الْأَشْيَاء الَّتِي يحْتَاج أَن تعلم قبل الفلسفة
فُصُول لَهُ مِمَّا جمعه من كَلَام القدماء
كتاب فِي أغراض أرسطوطاليس فِي كل وَاحِد من كتبه
كتاب المقاييس
مُخْتَصر كتاب الْهدى
كتاب فِي اللُّغَات
كتاب فِي الاجتماعات المدنية
كَلَام فِي أَن حَرَكَة الْفلك دائمة
كَلَام فِيمَا يصلح أَن يذم الْمُؤَدب
كَلَام فِي المعاليق والجون وَغير ذَلِك
كَلَام فِي لَوَازِم الفلسفة
مقَالَة فِي وجوب صناعَة الكيمياء وَالرَّدّ على مبطليها
مقَالَة فِي أغراض أرسطوطاليس فِي كل مقَالَة من كِتَابه الموسوم بالحروف وَهُوَ تَحْقِيق غَرَضه فِي كتاب مَا بعد الطبيعة
كتاب فِي الدعاوي المنسوبة إِلَى أرسطوطاليس فِي الفلسفة مُجَرّدَة عَن بياناتها وحججها
تعاليق فِي الْحِكْمَة
كَلَام أملاه على سَائل سَأَلَهُ عَن معنى ذَات وَمعنى جَوْهَر وَمعنى طبيعة
كتاب جَوَامِع السياسة مُخْتَصر
كتاب بايريمنياس لأرسطوطاليس
كتاب الْمدْخل إِلَى الهندسة الوهمية مُخْتَصرا
كتاب عُيُون الْمسَائِل على رَأْي أرسطوطاليس وَهِي مائَة وَسِتُّونَ مَسْأَلَة
جوابات لمسائل سُئِلَ عَنْهَا وَهِي ثَلَاث وَعِشْرُونَ مَسْأَلَة
كتاب أَصْنَاف الْأَشْيَاء البسيطة الَّتِي تَنْقَسِم إِلَيْهَا القضايا فِي جَمِيع الصَّنَائِع القياسية
جَوَامِع كتاب النواميس لفلاطن
كَلَام من أملائه وَقد سُئِلَ عَمَّا قَالَ أرسطوطاليس فِي الْحَار
تعليقات أنالوطيقا الأولى لأرسطوطاليس كتاب شَرَائِط الْيَقِين
رِسَالَة فِي مَاهِيَّة النَّفس
كتاب السماع الطبيعي
عِيسَى الرقي
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا فِي أَيَّامه عَارِفًا بالصناعة الطبية حق مَعْرفَتهَا
وَله أَعمال فاضلة ومعالجات بديعة وَكَانَ فِي خدمَة سيف الدولة بن حمدَان وَمن جملَة أطبائه
وَقَالَ عبيد الله بن جبرئيل حَدثنِي(1/609)
من أَثِق بقوله إِن سيف الدولة كَانَ إِذا أكل الطَّعَام حضر على مائدته أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ طَبِيبا
قَالَ وَكَانَ فيهم من يَأْخُذ رزقين لأجل تعاطيه علمين وَمن يَأْخُذ ثَلَاثَة لتعاطيه ثَلَاثَة عُلُوم وَكَانَ من جُمْلَتهمْ عِيسَى الرقي الْمَعْرُوف بالتفليسي
وَكَانَ مليح الطَّرِيقَة وَله كتب فِي الْمَذْهَب وَغَيرهَا
وَكَانَ ينْقل من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ وَيَأْخُذ أَرْبَعَة أرزاق رزقا بِسَبَب الطِّبّ وَرِزْقًا بِسَبَب النَّقْل ورزقين بِسَبَب علمين آخَرين
اليبرودي
هُوَ أَبُو الْفرج جورجس بن يوحنا بن سهل بن إِبْرَاهِيم من النَّصَارَى اليعاقبة وَكَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ عَالما بأصولها وفروعها معدودا من جملَة الأكابر من أَهلهَا والمتمرنين من أَرْبَابهَا دَائِم الِاشْتِغَال محبا للْعلم مؤثرا للفضيلة
حَدثنِي شرف الدّين بن عنين رَحمَه الله
إِن اليبرودي كَانَ لَا يمل الِاشْتِغَال وَلَا يسأم مِنْهُ
قَالَ وَكَانَ أبدا سَائِر أوقاته لَا يُوجد إِلَّا مَعَه كتاب ينظر فِيهِ
حَدثنِي أحد النَّصَارَى بِدِمَشْق وَهُوَ السّني البعلبكي الطَّبِيب قَالَ كَانَ مولد اليبرودي ومنشؤه فِي صدر عمره بيبرود وَهِي ضَيْعَة كَبِيرَة قريبَة من صيدنايا وَبهَا نَصَارَى كثير
وَكَانَ اليبرودي بهَا كَسَائِر أَهلهَا النَّصَارَى من معاناتهم الفلاحة وَمَا يصنعه الفلاحون
وَكَانَ أَيْضا يجمع الشيح من نواحي دمشق الْقَرِيبَة من جِهَته ويحمله على دَابَّة وَيَأْتِي بِهِ إِلَى دَاخل دمشق يَبِيعهُ للَّذين يقدونه فِي الأفران وَغَيرهَا
وَأَنه لما كَانَ فِي بعض المرات وَقد عبر من بَاب توما بِدِمَشْق وَمَعَهُ حمل شيح رأى شَيخا من المتطببين وَهُوَ يفصد إنْسَانا قد عرض لَهُ رُعَاف شَدِيد من النَّاحِيَة المسامتة للموضع الَّذِي ينبعث مِنْهُ الدَّم فَوقف ينظر إِلَيْهِ ثمَّ قَالَ لَهُ لم تفصد هَذَا وَدَمه يجْرِي من أَنفه بِأَكْثَرَ مِمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ بالفصد فَعرفهُ إِن ذَلِك إِنَّمَا يَفْعَله لينقطع الدَّم الَّذِي ينبعث من أَنفه لكَونه يجتذبه إِلَى مسامتة الْجِهَة الَّتِي ينبعث مِنْهَا
فَقَالَ لَهُ إِذا كَانَ الْأَمر على مَا تَقول فإننا فِي مواضعنا قد اعتدنا أَنه مَتى كَانَ نهر جَار وأردنا أَن نقطع المَاء عَنهُ فإننا نجْعَل لَهُ مسيلا إِلَى نَاحيَة أُخْرَى مسامتة لَهُ فَيَنْقَطِع من ذَلِك الْموضع وَيعود إِلَى الْموضع الآخر فَأَنت لم لَا تفعل هَكَذَا أَيْضا وتفصده من النَّاحِيَة الْأُخْرَى فَفعل ذَلِك وَانْقطع الرعاف عَن الرجل
وَإِن ذَلِك الطَّبِيب لما رأى من اليبرودي حسن نظر فِيمَا سَالَ عَنهُ قَالَ لَهُ لَو أَنَّك تشتغل بصناعة الطِّبّ جَاءَ مِنْك طَبِيب جيد
فَمَال اليبرودي إِلَى قَوْله وتاقت نَفسه إِلَى الْعلم وَبَقِي مترددا إِلَى الشَّيْخ فِي أَوْقَات وَهُوَ يعرفهُ ويريه أَشْيَاء من المداواة(1/610)
ثمَّ أَنه ترك يبرود وَمَا كَانَ يعانيه وَأقَام بِدِمَشْق يتَعَلَّم صناعَة الطِّبّ
وَلما تبصر فِي أَشْيَاء مِنْهَا وَصَارَت لَهُ معرفَة بالقوانين العلمية وحاول مداواة المرضى وَرَأى اخْتِلَاف الْأَمْرَاض وأسبابها وعلاماتها وتفنن معالجاتها وَسَأَلَ عَمَّن هُوَ إِمَام فِي وقته بِمَعْرِِفَة صناعَة الطِّبّ والمعرفة بهَا جيدا
فَذكرُوا لَهُ أَن بِبَغْدَاد أَبَا الْفرج بن الطّيب كَاتب الجاثليق وَأَنه فيلسوف متفنن وَله خبْرَة وَفضل فِي صناعَة الطِّبّ وَفِي غَيرهَا من الصَّنَائِع الْحكمِيَّة
فتأهب للسَّفر وَأخذ سوارا كَانَ لأمه لنفقته
وَتوجه إِلَى بَغْدَاد وَصَارَ ينْفق عَلَيْهِ مَا يقوم بأوده ويشتغل على ابْن الطّيب إِلَى أَن مهر فِي صناعَة الطِّبّ وَصَارَت لَهُ مباحثات جَيِّدَة ودراية فاضلة فِي هَذِه الصِّنَاعَة
واشتغل أَيْضا بِشَيْء من الْمنطق والعلوم الْحكمِيَّة
ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَأقَام بهَا
ونقلت أَيْضا قَرِيبا من هَذِه الْحِكَايَة الْمُتَقَدّمَة وَإِن كَانَت الرِّوَايَة بَينهمَا مُخْتَلفَة عَن شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ قَالَ حَدثنِي موفق الدّين أسعد بن إلْيَاس بن المطران قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنِي أَبُو الْفرج بن الْحَدِيد قَالَ حَدثنِي أَبُو الْكَرم الطَّبِيب عَن أَبِيه أبي الرَّجَاء عَن جده قَالَ كَانَ بِدِمَشْق فاصد يُقَال لَهُ أَبُو الْخَيْر وَلم يكن من المهرة فَكَانَ من أمره أَن فصد شَابًّا فَوَقَعت الفصدة فِي الشريان فتحير وتبلد وَطلب قطع الدَّم فَلم يقدر على ذَلِك فَاجْتمع النَّاس عَلَيْهِ
وَفِي أثْنَاء ذَلِك اطلع صبي عَلَيْهِ فَقَالَ يَا عماه أفصده فِي الْيَد الْأُخْرَى فاستراح إِلَّا كَلَامه وفصده من يَده الْأُخْرَى
فَقَالَ شدّ الفصد الأول
فشده وَوضع لازوقا كَانَ عِنْده عَلَيْهِ وشده فَوقف جرية الدَّم
ثمَّ مسك الفصدة الْأُخْرَى فَوقف الدَّم وَانْقطع الْجَمِيع
وَوجد الصَّبِي يَسُوق دَابَّة عَلَيْهَا حمل شيح فتشبث بِهِ وَقَالَ من أَيْن لَك مَا أَمرتنِي بِهِ قَالَ أَنا أرى أبي فِي وَقت سقِِي الْكَرم إِذا انْفَتح شقّ من النَّهر وَخرج المَاء مِنْهُ بحدة لَا يقدر على إِمْسَاكه دون أَن يفتح فتحا آخر ينقص بِهِ المَاء الأول الْوَاصِل إِلَى ذَلِك الشق ثمَّ يسده بعد ذَلِك
قَالَ فَمَنعه الجرائحي من بيع الشيح واقتطعه وَعلمه الطِّبّ فَكَانَ مِنْهُ اليبرودي من مشاهير الْأَطِبَّاء الْفُضَلَاء
أَقُول وَكَانَت لليبرودي مراسلات إِلَى ابْن رضوَان بِمصْر وَإِلَى غَيره من الْأَطِبَّاء المصريين وَله مسَائِل عدَّة إِلَيْهِم طبية ومباحثات دقيقة
وَكتب بِخَطِّهِ شَيْئا كثيرا جدا من كتب الطِّبّ وَلَا سِيمَا من كتب جالينوس وشروحها وجوامعها
وحَدثني أَيْضا السّني البعلبكي أَن اليبرودي عبر يَوْمًا فِي سوق جيرون بِدِمَشْق فَرَأى إنْسَانا وَقد بَايع على أَن يَأْكُل أرطالا من لحم فرس مسلوق مِمَّا يُبَاع فِي الْأَسْوَاق فَلَمَّا رَآهُ وَقد أمعن فِي أكله بِأَكْثَرَ مِمَّا يحْتَملهُ قواه ثمَّ شرب بعده فقاعا كثيرا وَمَاء بثلج واضطربت أَحْوَاله تفرس فِيهِ أَنه لَا بُد أَن يغمى عَلَيْهِ وَأَن يبْقى فِي حَالَة يكون الْمَوْت أقرب إِلَيْهِ إِن لم يتلاحق فَتَبِعَهُ إِلَى الْمنزل الَّذِي لَهُ واستشرف إِلَى مَاذَا يؤول أمره
فَلم يكن إِلَّا أيسر وَقت وَأَهله يصيحون ويضجون بالبكاء ويزعمون أَنه قد مَاتَ فَأتى إِلَيْهِم وَقَالَ أَنا ابرئه وَمَا عَلَيْهِ بَأْس
ثمَّ انه أَخذه إِلَى حمام قريب من ذَلِك الْموضع وَفتح فَكَّيْهِ كرها بِشَيْء ثمَّ سكب فِي حلقه مَاء مغليا وَقد أضَاف إِلَيْهِ أدوية مقيئة ولافي الْغَايَة وقيأه بِرِفْق
ثمَّ عالجه وتلطف فِي مداواته حَتَّى أَفَاق وَعَاد إِلَى صِحَّته
فتعحب(1/611)
النَّاس مِنْهُ فِي ذَلِك الْفِعْل وَحسن تَأتيه إِلَى مداواة ذَلِك الرجل واشتهرت عَنهُ هَذِه الْقَضِيَّة وتميز بعْدهَا
أَقُول وَهَذِه الْحِكَايَة الَّتِي قصد اليبرودي أَن يتتبع أَحْوَال ذَلِك الرجل فِيهَا ويشاهد مَا يكون من أمره أَن يكون عِنْده من ذَلِك معرفَة بالأعراض الَّتِي تحدث لَهُ وَأَن ينقذه أَيْضا مِمَّا وَقع فِيهِ إِن أمكنه معاجلته ومعالجته
وَمثل ذَلِك أَيْضا مَا حَكَاهُ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي الْأَشْعَث رَحمَه الله فِي كتاب الغاذي والمغتذي وَذَلِكَ أَنه قَالَ إِن إنْسَانا رَأَيْته يَوْمًا وَقد بَايع أَن يَأْكُل جزرا قدره بِحَدّ مَا فَحَضَرت أكله لأرى مَا يكون من حَاله لَا رَغْبَة مني لمجالسة من هَذِه حَاله وَلَا لِأَن لي بذلك عَادَة وَللَّه الْحَمد بل لأرى إِيرَاد الْغذَاء على الْمعدة قسرا إِلَى مَاذَا يؤول هَذَا الْفِعْل فرأيته يَأْكُل من حَائِط ليرى من حوله ويضاحكهم حَتَّى إِذا مر على الْأَكْثَر مِمَّا كَانَ بَين يَدَيْهِ رَأَيْت الجزر ممضوغا قد خرج من حلقه ملتفا متحبلا متعجنا بريقه وَقد جحظت عَيناهُ وَانْقطع حسه واحمر لَونه وَدرت وداجاه وعروق رَأسه وأربد وكمد وَجهه وَعرض لَهُ من التهوع أَكثر مِمَّا عرض لَهُ من الْقَذْف حَتَّى رمى من ذَلِك الَّذِي أكله شَيْئا كثيرا
فزكنت أَن انْقِطَاع نَفسه لدفع الْمعدة حجابه إِلَى نَحْو الْفَم ومنعها إِيَّاه من الرُّجُوع إِلَى الانبساط للتنفس
وَأما مَا عرض للونه من الاحمرار ودرور وداجيه وعروقه فزكنت أَنه لإقبال الطبيعة نَحْو رَأسه كَمَا يعرض لمن شدت يَده للفصد أَن تقبل الطبيعة نَحْو الْجِهَة الَّتِي استنهضت نَحْوهَا
وَأما مَا عرض بعد ذَلِك لوجهه من الاربداد والكمودة فزكنت أَيْضا أَنه لسوء مزاج قلبه وَأَنه لَو لم يخرج مَا خرج ودافعت الْمعدة حجابه هَذِه المدافعة الَّتِي قد عاقته أَلْبَتَّة عَن التنفس عرض لَهُ الْمَوْت بالاختناق
كَمَا قد رَأينَا ذَلِك فِي عدد كثير مَاتُوا بعقب الْقَذْف
وَأما مَا عرض لَهُ من التهوع أَكثر مِمَّا عرض لَهُ من الْقَذْف فزكنت من ذَلِك أَن التهوع لشدَّة اضْطِرَاب الْمعدة
قَالَ ابْن أبي الْأَشْعَث بعد ذَلِك إِن الْغذَاء إِذا حصل فِي الْمعدة وَهُوَ كثير الكمية تمددت تمددا يبسط سَائِر غضونها كَمَا رَأَيْت ذَلِك فِي سبع شرحته حَيا بِحَضْرَة الْأَمِير الغضنفر وَقد استصغر بعض الْحَاضِرين معدته فتقدمت بصب المَاء فِي فِيهِ فَمَا زلنا نصب فِي حلقه دورقا بعد آخر حَتَّى عددنا من الدوارق عددا كَانَ مِقْدَار مَا حوت نَحْو أَرْبَعِينَ رطلا مَاء فَنَظَرت إِذْ ذَاك إِلَى الطَّبَقَة الدَّاخِلَة وَقد امتدت حَتَّى صَار لَهَا سطح مستو لَيْسَ بِدُونِ اسْتِوَاء الْخَارِج ثمَّ شققتها فَلَمَّا اجْتمعت عِنْد خُرُوج المَاء مِنْهَا عَاد غُضُون الدَّاخِلَة والبواب يشْهد الله فِي جَمِيع ذَلِك لَا يُرْسل نَفسه
وحَدثني الشَّيْخ الْمُهَذّب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ قَالَ حَدثنِي موفق الدّين أسعد بن إلْيَاس بن المطران قَالَ حَدثنِي أبي عَن خَالِي أبي الْفرج بن حَيَّان قَالَ حَدثنِي أَبُو الْكَرم الطَّبِيب قَالَ حَدثنِي أبي عَن أَبِيه قَالَ كنت يَوْمًا أساير الشَّيْخ أَبَا الْفرج اليبرودي إِذْ اعْتَرَضَهُ رجل فَقَالَ يَا سَيِّدي كنت فِي صناعتي هَذِه فِي الْحمام وحلقت رَأْسِي وَأَجد الْآن فِي وَجْهي كُله انتفاخا وحرارة عَظِيمَة
قَالَ فَنَظَرْنَا إِلَى وَجهه فوجدناه يَرْبُو وينتفخ وتزيد حمرته بِغَيْر توقف وَلَا تدريج
قَالَ(1/612)
فَأمره أَن يكْشف رَأسه ويلقي بِهِ المَاء الْجَارِي من قناة كَانَت بَين يَدَيْهِ وَكَانَ الزَّمَان إِذْ ذَاك صميم الشتَاء وَغَايَة الْبرد ثمَّ لم يزل وَاقِفًا حَتَّى بلغ مَا أَرَادَ مِمَّا أَمر بِهِ
ثمَّ أَمر الرجل بالانصراف وَأَشَارَ عَلَيْهِ بالأوفق لَهُ وَهُوَ تلطيف التَّدْبِير وَاسْتِعْمَال النقوع الحامض مبردا وَقطع الزفر
قَالَ فَامْتنعَ أَن يحدث لَهُ شرا مَا
وَقَالَ الطرطوشي فِي كتاب سراج الْمُلُوك حَدثنِي بعض الشاميين أَن رجلا خبازا بَيْنَمَا هُوَ يخبز فِي تنوره بِمَدِينَة دمشق إِذْ عبر عَلَيْهِ رجل يَبِيع المشمش فَاشْترى مِنْهُ وَجعل يَأْكُلهُ بالخبز الْحَار فَلَمَّا فرغ سقط مغشيا عَلَيْهِ
فنظروا فَإِذا هُوَ ميت فَجعلُوا يتربصون بِهِ ويحملون لَهُ الْأَطِبَّاء فيلتمسون دلائله ومواضع الْحَيَاة مِنْهُ
فَلم يَجدوا فقضوا بِمَوْتِهِ
فَغسل وكفن وَصلي عَلَيْهِ وَخَرجُوا بِهِ إِلَى الْجَبانَة
فَبَيْنَمَا هم فِي الطَّرِيق على بَاب الْبَلَد فَاسْتَقْبَلَهُمْ رجل طَبِيب يُقَال لَهُ اليبرودي وَكَانَ طَبِيبا ماهرا حاذقا عَارِفًا بالطب فَسمع النَّاس يلهجون بقضيته فاستخبرهم عَن ذَلِك فقصوا عَلَيْهِ قصَّته فَقَالَ حطوه حَتَّى أرَاهُ
فحطوه فَجعل يقلبه وَينظر فِي إمارات الْحَيَاة الَّتِي يعرفهَا
ثمَّ فتح فَمه وسقاه شَيْئا أَو قَالَ حقنه فَانْدفع مَا هُنَاكَ فسيل فَإِذا الرجل قد فتح عَيْنَيْهِ وَتكلم وَعَاد كَمَا كَانَ إِلَى حانوته
وَتُوفِّي اليبرودي بِدِمَشْق فِي سنة وَأَرْبَعمِائَة وَدفن فِي كَنِيسَة اليعاقبة بهَا عِنْد بَاب توما
حَدثنِي الشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ عَن موفق الدّين أسعد بن إلْيَاس ابْن المطران قَالَ حَدثنِي خَالِي قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنِي عبد الله ابْن رجا بن يَعْقُوب قَالَ حَدثنِي ابْن الكتاني وَهُوَ إِذا ذَاك متصرف فِي أَعمال السُّلْطَان يَوْمئِذٍ بِدِمَشْق قَالَ بَلغنِي أَن أَبَا الْفرج جورجس بن يوحنا اليبرودي لما توفّي ظهر فِي تركته ثلثمِائة مقطع رومي مجوم لباب وَاحِد وَخَمْسمِائة قِطْعَة فضَّة ألطفها ثلثمِائة دِرْهَم
قَالَ موفق الدّين بن المطران وَلَيْسَ ذَلِك بِكَثِير لِأَن الشَّخْص مَتى تحققت أَعماله وصفت نِيَّته وَطلب الْحق وعامل الصَّحِيح واجتهد فِي معرفَة صناعته كَانَ حَقًا على الله تَعَالَى أَن يرزقه
وَمَتى كَانَ بالضد عَاشَ فَقِيرا وَمَات يائسا
ولليبرودي من الْكتب مقَالَة فِي أَن الفرخ أبرد من الْفروج
نقض كَلَام ابْن الموفقي فِي مسَائِل ترددت فِيمَا بَينهم فِي النبض
جَابر بن مَنْصُور السكرِي
من أهل موصل وَكَانَ مُسلما دينا عَالما بصناعة الطِّبّ من أكبر المتميزين فِيهَا
وَكَانَ قد لحق أَحْمد بن أبي الْأَشْعَث وَقَرَأَ عَلَيْهِ
ثمَّ لَازم مُحَمَّد بن ثَوَاب تلميذ ابْن أبي الْأَشْعَث وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي(1/613)
نَحْو سنة سِتِّينَ وثلثمائة
واشتهر بصناعة الطِّبّ وأعمالها وَعمر وَكَانَ أَكثر مقَامه بِمَدِينَة الْموصل وَإِنَّمَا ابْنه ظافر انْتقل إِلَى الشَّام وَأقَام بهَا
ظافر بن جَابر السكرِي
هُوَ أَبُو حَكِيم ظافر بن جَابر بن مَنْصُور السكرِي كَانَ مُسلما فَاضلا فِي الصِّنَاعَة الطبية متقنا للعلوم الْحكمِيَّة متحليا بالفضائل وَعلم الْأَدَب محبا للاشتغال والتضلع بالعلوم
وَكَانَ قد لَقِي أَبَا الْفرج ابْن الطّيب بِبَغْدَاد وَاجْتمعَ بِهِ واشتغل مَعَه
وَكَانَ ظافر بن جَابر قد عمر مثل أَبِيه وَكَانَ مَوْجُودا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ موصلي وَإِنَّمَا انْتقل من الْموصل إِلَى مَدِينَة حلب وَأقَام بحلب إِلَى آخر عمره
وَمن خَلفه جمَاعَة مشتغلين بصناعة الطِّبّ ومقامهم بحلب
وَمن شعره
(مَا زلت أعلم أَولا فِي أول ... حَتَّى علمت بأنني لَا علم لي)
(وَمن الْعَجَائِب أَن أكون جَاهِلا ... من حَيْثُ كوني أنني لَا أَجْهَل) الْكَامِل
ولظافر بن جَابر من الْكتب مقَالَة فِي أَن الْحَيَوَان يَمُوت مَعَ أَن الْغذَاء يخلف عوض مَا يتَحَلَّل مِنْهُ
موهوب بن الظافر
هُوَ أَبُو الْفضل موهوب بن ظافر بن جَابر بن مَنْصُور السكرِي
كَانَ فَاضلا أَيْضا فِي صناعَة الطِّبّ مَشْهُورا متميزا
وَكَانَ مُقيما بِمَدِينَة حلب
ولموهوب بن ظافر من الْكتب اخْتِصَار كتاب الْمسَائِل لحنين بن إِسْحَق
جَابر بن موهوب
هُوَ جَابر بن موهوب بن ظافر بن جَابر بن مَنْصُور السكرِي كَانَ أَيْضا مَشْهُورا فِي صناعَة الطِّبّ خَبِيرا بهَا
وَأقَام بحلب
أَبُو الحكم
هُوَ الشَّيْخ الأديب الْحَكِيم أَبُو الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الْبَاهِلِيّ الأندلسي المربي
كَانَ فَاضلا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة متقنا للصناعة الطبية مُتَعَيّنا فِي الْأَدَب مَشْهُورا بالشعر
وَكَانَ حسن النادرة كثير المداعبة محبا للهو والخلاعة
وَكثير من شعره يُوجد مرائي فِي أَقوام كَانُوا فِي زَمَانه أَحيَاء وَإِنَّمَا قصد بذلك اللّعب والمجون
وَكَانَ محبا للشراب مدمنا لَهُ ويعاني الخيال وَكَانَ إِذا(1/614)
طرب يخرج فِي الخيال ويغني لَهُ
(يَا صياد النحلة جاك الْعَمَل ... قُم اخْرُج من بكرَة هَات الْعَسَل)
وَكَانَ يعرف الموسيقى ويلعب بِالْعودِ وَيجْلس على دكان فِي جيرون للطب
ومسكنه فِي دَار الْحِجَارَة باللبادين وَله مدائح كَثِيرَة فِي بني الصُّوفِي الَّذين كَانُوا رُؤَسَاء دمشق والمتحكمين فِيهَا وَذَلِكَ فِي أَيَّام مجير الدّين أبق بن مُحَمَّد بن بوري بن أتابك طغتكين
وسافر أَبُو الحكم إِلَى بَغْدَاد وَالْبَصْرَة وَعَاد إِلَى دمشق وَأقَام بهَا إِلَى حِين وَفَاته
وَتُوفِّي رَحمَه الله لساعتين خلتا من لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سادس ذِي الْقعدَة سنة تسع وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة بِدِمَشْق
وَقَالَ أَبُو الْفضل بن الملحي وَكتب بهَا إِلَى أبي الحكم فِي أثْنَاء كتاب كتبه إِلَيْهِ شاكرا لفعله
(إِذا مَا جزى الله امْرَءًا بفعاله ... فجازى الْأَخ الْبر الْحَكِيم أَبَا الحكم)
(هُوَ الفيلسوف الْفَرد والفاضل الَّذِي ... أقرّ لَهُ بالحكمة الْعَرَب والعجم)
(يدبر تَدْبِير الْمَسِيح مريضه ... فَلَو راءه أبقراط زلت بِهِ الْقدَم)
(فينتاشني من قَبْضَة الدَّهْر بَعْدَمَا ... ألم بأنواع من الضّر والألم)
(وبوأني من رَأْيه خير معقل ... فبرأ من ضري وأبرا من السقم)
(وَمَا زَالَ يهديني إِلَى كل مَنْهَج ... بآراء مفضال لَهُ سنّهَا الْكَرم)
(يضيء سنا أفكارها فَكَأَنَّهَا ... شموس جلا أشراقها حندس الظُّلم)
(وَقَامَ بأَمْري إِذْ تقاعد أسرتي ... مقَام أبي فِي كرمتي أَو مقَام أم)
(وأنقض ظَهْري مَا تحامل ثقله ... ووكل بِي طرفا إِذا نمت لم ينم)
(وَضم وَلم يمنن لجسمي شفاءه ... فلولاه قد أَصبَحت لَحْمًا على وَضم)
(فَأصْبح سلمي الدَّهْر بعد حروبه ... عَلَيْهِ سَلام الله مَا أَوْرَق السّلم) الطَّوِيل
وَكَانَ أَبُو الحكم يهاجي جمَاعَة من الشُّعَرَاء الَّذين كَانُوا فِي وقته ويهاجونه وللعرقلة وَهُوَ أَبُو الندى حسان بن نمير الْكَلْبِيّ يهجو أَبَا الحكم
(لنا طَبِيب شَاعِر أشتر ... أراحنا من شخصه الله)
(مَا عَاد فِي صبحة يَوْم فَتى ... إِلَّا وَفِي بَاقِيه رثاه) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا فِيهِ
(يَا عين سحي بدمع ساكب وَدم ... على الْحَكِيم الَّذِي يكنى أَبَا الحكم)(1/615)
(قد كَانَ لَا رحم الرَّحْمَن شيبته ... وَلَا سقى قَبره من صيب الديم)
(شَيخا يرى الصَّلَوَات الْخمس نَافِلَة ... ويستحل دم الْحجَّاج فِي الْحرم) الْبَسِيط
أَقُول وصف العرقلة لأبي الحكم فِي هجوه إِيَّاه بِأَنَّهُ اشْتَرِ الْعين لَهُ سَبَب وَهُوَ أَن أَبَا الحكم خرج لَيْلَة وَهُوَ سَكرَان من دَار زين الْملك أبي طَالب بن الْخياط فَوَقع فانشج وَجهه فَلَمَّا أصبح زَارَهُ النَّاس يسألونه كَيفَ وَقع فَكتب هَذِه الأبيات وَتركهَا عِنْد رَأسه فَكَانَ إِذا سَأَلَهُ إِنْسَان يُعْطِيهِ الأبيات يقْرؤهَا
(وَقعت على رَأْسِي وطارت عمامتي ... وَضاع شمشكي وانبطحت على الأَرْض)
(وَقمت وأسراب الدِّمَاء بلحيتي ... ووجهي وَبَعض الشَّرّ أَهْون من بعض)
(قضى الله إِنِّي صرت فِي الْحَال هتكة ... وَلَا حِيلَة للمرء فِيمَا بِهِ يقْضِي)
(وَلَا خير فِي قصف وَلَا فِي لذاذة ... إِذا لم يكن سكر إِلَى مثل ذَا يُفْضِي) الطَّوِيل
وَأخذ الْمرْآة فَرَأى الْجرْح فِي وَجهه غائرا تَحت الجفن بعد وقعته فَقَالَ
(ترك النَّبِيذ بوجنتي ... جرحا ككس النعجة)
(وَوَقعت منبطحا على ... وَجْهي وطارت عَمَّتي)
(وَبقيت منهتكا فَلَو ... لَا اللَّيْل بَانَتْ سوءتي)
(وَعلمت أَن جَمِيع ذَلِك ... من تَمام اللَّذَّة)
(من لي بِأُخْرَى مثل تِلْكَ ... وَلَو بحلق اللِّحْيَة) الْكَامِل
وَمن شعر أبي الحكم وديوان شعره هُوَ روايتي عَن الشَّيْخ شمس الدّين أبي الْفضل المطواع والكحال عَن الْحَكِيم أَمِين الدّين أبي زَكَرِيَّا يحيى البياسي عَن أبي الْمجد عَن وَالِده أبي الحكم الْمَذْكُور قَالَ يمدح الرئيس مؤيد الدّين أَبَا الفوراس بن الصُّوفِي
(رقت لما بِي إِذْ رَأَتْ أوصابي ... وَشَكتْ فقصر وجدهَا عَمَّا بِي)
(مَا ضرّ يَا ذَات اللما الْمَمْنُوع لَو ... داويت حر جوى بِبرد رضاب)
(من هائم فِي حبكم متقنع ... بمرار طيف أَو برد جَوَاب)
(أَن تسعفي بِالْقربِ مِنْك فَإِنَّمَا ... تحيين نفسا آذَنت بذهاب)
(لَا تنكري أَن بَان صبري بعدكم ... واعتادني ولهي لعظم مصابي)
(فالصبر فِي كل المواطن دَائِما ... مستحسن إِلَّا عَن الأحباب)
(هَيْهَات أَن يصفو الْهوى لمتيم ... لَا بُد من شهد هُنَاكَ وصاب)
(مَا لي وللحدق المراض تذيبني ... أَتَرَى لحيني وكلت بعذابي)(1/616)
(وَكَذَا الْعُيُون النجل قدما لم تزل ... من شَأْنهَا الفتكات بالألباب)
(مَا لي وحظي لَا يني متباعدا ... أَدْعُو فَلَا أَنْفك غير مجاب)
(لَوْلَا رَجَاء أبي الفوارس لم أزل ... مَا بَين ظفر للخطوب وناب)
(دَعْنِي أخبر بعض مَا قد حَاز من ... شرف وَإِن أعيا ذَوي الأسهاب)
(فَلَقَد غَدا فرضا مديح مؤيد الدّين ... الْهمام على ذَوي الْآدَاب)
(من قيس عيلان نمته هوَازن ... وسليم البادون فِي الْأَعْرَاب)
(وَالْبَيْت من أَبنَاء صعصعة سما ... بُنْيَانه فِي جَعْفَر بن كلاب)
(مِنْهُم لبيد والطفيل وعامر ... وَأَبُو برَاء هازم الْأَحْزَاب)
(وَبَنُو ربيعَة إِن نسبت وخَالِد ... مِنْهُم وعَوْف فِي ذَوي الْأَنْسَاب)
(ورث الْعلَا مِنْهُم بَنو الصُّوفِي إِذْ ... قرنوا الأيادي الغر فِي الأحساب)
(وحوى الْمسيب مَا بِهِ افْتَخرُوا كَمَا ... حازت فَذَلِك جمع كل حِسَاب)
(فِي ذرْوَة الشّرف الرفيع سما بِهِ ... مجد قديم من صميم لباب)
(وَأحل أندية المكارم ناشئا ... فسما على القرناء والأضراب)
(مَا مفعم لجب طما آذيه ... وأمده منهل صوب سَحَاب)
(بأعم سيبا من نوال بنانه ... أَو مُزْبِد ذُو زخرة وعباب)
(لليث صولته على أعدائه ... بل دونه أَن صال لَيْث الغاب)
(وَله إِلَى أشياعه وعداته ... يَوْمَانِ يَوْم ندى وَيَوْم ضراب)
(يَا دولة عبق الندى والجود فِيهِ ... أرجائها من فتية انجاب)
(بشجاعها وجمالها وبعزها ... وبزينها تبقى على الأحقاب)
(حسبي بِمَا نسبوا إِلَيْهِ وَإِن غَدَتْ ... أَسمَاؤُهُم تغني عَن الألقاب)
(أكْرم بهم عربا إِذا افتخر الورى ... جاؤوا بِخَير أرومة ونصاب)
(شادوا الْعلَا بندى وَعز باذخ ... ومشارع للمعتفين عَذَاب)
(قوم ترى لِذَوي النِّفَاق لديهم ... ذل العبيد لسطوة الأرباب)
(يَا أَيهَا الْمولى الَّذِي نعماؤه ... مبذولة للطارق المتناب)
(إِنِّي لأعْلم أَن برك بِي غَدا ... لسعادتي من أوكد الْأَسْبَاب)
(وتيقنت نَفسِي هُنَاكَ بأنني ... سأرود من نعماك خير جناب)
(لَا زلت ترقى فِي المكارم دَائِما ... مَا لَاحَ برق فِي خلال سَحَاب)
وَقَالَ أَيْضا يمدح الرئيس جمال الدولة أَبَا الْغَنَائِم أَخا الممدوح
(سَوَاء علينا هجرها ووصالها ... إِذا نكثت يَوْمًا ورثت حبالها)
(وَمَا بَرحت ليلى تجود بوعدها ... وَيمْنَع منا بذلها ونوالها)
(ويطمعنا ميعادها فِي دنوها ... وَلَا وصل إِلَّا أَن يزور خيالها)(1/617)
(أما مِنْك إِلَّا عذرة وتعلل ... لطال علينا عذرها واعتلالها)
(سقام بجسمي من جفونك أَصله ... وَقُوَّة عشق نقص جسمي كمالها)
(فَإِن تسعفي صبا يكن لَك أجره ... بقربك يَا من شف جسمي زيالها)
(وَمَا ذكرتك النَّفس إِلَّا تَفَرَّقت ... وعاودها من بعد هدي ضلالها)
(وَمَا بَرحت تعتادني زفرَة إِذا ... طمعت لَهَا بالبرء راث اندمالها)
(وَمن عبرات لَا يني الدَّهْر كلما ... دَعَا للهوى دَاع أجَاب أَنا لَهَا)
(تصدى الْكرَى عَن مقلتي فتنثني ... دموع على الْخَدين يهمي انسجالها)
(وَكَيف يؤاتي النّوم أَو يطْرق الْكرَى ... جفونا بِمَاء المقلتين اكتحالها)
(إِذا قلت أَنْسَاهَا على نأي دارها ... تصور فِي عَيْني وقلبي مثالها)
(ودوية تردي المطايا تنوفة ... يحار القطا فِيهَا إِذا خب آلها)
(قطعت بفتلاء الذراعين عرمس ... أمون قواها غير باد كلالها)
(تؤم بِنَا ربع الْمُسلم حَيْثُ لَا ... يخيب لَهَا سعي وينعم بالها)
(وَلَوْلَا جمال الْملك مَا جِئْتهَا وَلَا ... ترامت صحاريها بِنَا ورمالها)
(إِلَى أسرة لَا يجهل النَّاس قدرهَا ... ويحمد بَين الْعَالمين فعالها)
(إِذا أشكلت دهماء فَالرَّأْي رأيها ... وَإِن راب خطب فالمقال مقالها)
(أَو اضطرمت نَار الوغى بكماتها ... وَطَالَ عَلَيْهِم حميها واشتعالها)
(ترى لَهُم بَأْسا يقصر دونه ... أسود الشرى قدامها ونزالها)
(بِأَيْدِيهِم خطية يزنية ... تساقي بأكواب المنايا نهالها)
(وبيض تقد الدارعين صوارم ... رهاف جلا الاطباع مِنْهَا صقالها)
(وهم يطْعمُون الضَّيْف من قمع الذرى ... إِذا ناوحت نكباء ريح شمالها)
(فَمَا لبني الصُّوفِي فِي النَّاس مشبه ... ذَوي الْبَأْس وَالْأَيْدِي المهاب مصالها)
(سما لَهُم مجد قديم ورفعة ... شَدِيد عراها لَا يخَاف انحلالها)
(بني جَعْفَر فِي الْعَرَب خير قَبيلَة ... سما فِي نزار فخرها واختيالها)
(تقَابل فيهم من سليم دوابة ... كَمَا قابلت يمنى الْيَدَيْنِ شمالها)
(أيا ابْن عَليّ حزت أرفع رُتْبَة ... إِذا رامها من رامها لَا ينالها)
(بك الدولة الغراء تزهى على الورى ... وَحقّ لَهَا إِذْ أَنْت فيهاجمالها)
(وَلَو أَنَّهَا أمست سناء ورفعة ... سَمَاء علينا كنت أَنْت هلالها)(1/618)
(إِذا مَا ذَوُو الشحناء أموك خيبوا ... وَعَاد عَلَيْهِم بعد ذَاك وبالها)
(سأظفر من دهري بأرغد عيشة ... بنعماك إِن فاءت عَليّ ظلالها)
(فَمَا لِذَوي الْحَاجَات عَنْك تَأَخّر ... لِأَنَّك عَم المكرمات وخالها)
(فدونكها كالدر لَا مستعارة ... فينكر مِنْهَا ضعفها واختلالها)
(وَلَكِن نتاج الْفِكر عذراء حسنها ... يروق إِذا شان القوافي انتحالها)
(فَلَا نعْمَة إِلَّا ومنك نوالها ... وَلَا مِدْحَة إِلَّا إِلَيْك مآلها) الطَّوِيل
وَقَالَ يمدح عز الدولة أَخا مؤيد الدّين
(دَعَا بك دَاعِي الْهوى فاستجب ... وَقصر عتابك عَمَّن عتب)
(فَمَا الْعَيْش إِن غيض مَاء الشَّبَاب ... وَلم يقْض من طَرفَيْهِ أرب)
(وباكر مُعتقة زانها ... مُرُور اللَّيَالِي بهَا والحقب)
(كَأَن على كأسها لؤلؤا ... إِذا مَا اسْتَدَارَ عَلَيْهَا الحبب)
(يطوف بهَا بابلي اللحاظ ... لذيذ الْمقبل عذب الشنب)
(يَقُول الَّذِي راقه حسنها ... أذي الْخمر من خَدّه تجتلب)
(وَإِلَّا فَمن أَيْن ذَا الإحمرار ... وَهَذَا الصفاء لبِنْت الْعِنَب)
(بَنَات الكروم حَيَاة الكروم ... وَمَوْت الهموم محيا الطَّرب)
(فَقل للَّذي همه أَن يرى ... كَرِيمًا ينفس عَنهُ الكرب)
(أكل امْرِئ يرتجى سيبه ... رويدك مَا النَّاس فَخر الْعَرَب)
(جواد إِذا أَنْت وفيته ... أمنت بِهِ حادثات النوب)
(فقد شاع من ذكره فِي الْأَنَام ... سوى مَا تضمن طي الْكتب)
(ثَنَاء تأرج مِنْهُ الْبِلَاد ... وَذكر فلولاه لم يغترب)
(عفاف وحلم إِلَى سؤدد ... وفخر بآباء صدق نجب)
(وَفضل وَبشر وجود يرَاهُ ... فرضا على نَفسه قد وَجب)
(فَمن قاسه بفتى عصره ... فقد قايس الدّرّ بالمختلب)
(وَمن قَالَ إِن امْرَءًا غَيره ... حوى بعض مَا حازه قد كذب)
(وَلَيْسَ الَّذِي فخره تالد ... كمن فخره طارف مكتسب)
(إِذا ذكر الصَّيْد من عَامر ... وعد مآثرها وانتسب)
(تفاخر قيس بِهِ خندفا ... وتعطيه مِنْهَا أجل الرتب)
(وَلَا سِيمَا إِن غَدا فيهم ... وَسِيطًا بأكرم أم وَأب)(1/619)
(من الجعفريين فِي باذخ ... من الْعِزّ تنحط عَنهُ الشهب)
(وَعَبْدك يرغب فِي خلعة ... وَمثلك تشريفه يحْتَسب)
(ليرْفَع ذَلِك من قدره ... وَإِن كَانَ قَارب فِيمَا طلب)
(ويشحذ خاطره كلما ... اشرأب إِلَى مدحكم وانتدب)
(فلي كلما ظَفرت راحتي ... بجود المظفر أوفى أرب)
(فَفِي كل دولة أَنْت عز لَهَا ... تنَال الْأَمَانِي بِأَدْنَى سَبَب)
(لِأَنَّك من معشر من يرد ... حِيَاض مكارمهم لم يخب)
(وأعراضهم أبدا لم تزل ... تصان وَأَمْوَالهمْ تنتهب)
(هَنِيئًا لَك الْعِيد فأنغم بِهِ ... وَدم مَا بدا كَوْكَب واحتجب)
(وَمَا الْعِيد أَنْت إِذا مَا حضرت ... سَوَاء علينا نأى أَو قرب)
(وَإِن غيب الْغَيْم عَنَّا الْهلَال ... فلسنا نبالي إِذا لم تغب)
(فدونكها حرَّة تجتلى ... يناديك قَائِلهَا من كثب)
(أَتَاك بهَا إِثْر تهذيبها ... حَكِيم تنخلها وانتخب)
(وَلَا خير فِي حِكْمَة لَا ترى ... مطرزة بفنون الْأَدَب)
وَمن مطبوع قصائده الأرجوزة الَّتِي وسمها بمعرة الْبَيْت يذكر فِيهَا مَا ينَال الْإِنْسَان إِذا عمل دَعْوَة للندماء من الْمضرَّة والغرامة وَهِي هَذِه
(معرة الْبَيْت على الْإِنْسَان ... تطرا بِلَا شكّ من الإخوان)
(فاصغ إِلَى قَول أخي تجريب ... يأتك بالشرح على تَرْتِيب)
(جَمِيع مَا يحدث فِي الدَّعْوَات ... وكل مَا فِيهَا من الْآفَات)
(فَصَاحب الدعْوَة والمسره ... لَا بُد أَن يحْتَمل المضره)
(أَولهَا لَا بُد من ثقيل ... يكرههُ الْقَوْم وَذي تطفيل)
(صَاحبهَا إِن قدم الطعاما ... يحْتَاج أَن يحْتَمل الملاما)
(لَو أَنه يندس فِي حرمه ... لَا بُد أَن يشرعوا فِي ذمه)
(يَقُول بعض عازه إبزار ... وَبَعْضهمْ حافت عَلَيْهِ النَّار)
(وَآخر هَذَا قَلِيل الْملح ... يظْهر أَنِّي فطن ذُو نصح)
(ينهب مَا بَين يَدَيْهِ نهبا ... وَيشْرب المَاء القراح العذبا)
(يرى لَهُ فِي ذَلِك انتفاعا ... وَبعد ذَلِك يطْلب الفقاعا)(1/620)
(بالثلج فِي الصَّيف وَفِي الشتَاء ... يلْتَمس النَّار بِلَا استحياء)
(وَإِن يعزهم أثر ذَا خلال ... قد نسلوا الْحصْر وَلم يبالوا)
(وَبعد هَذَا يحضر النَّبِيذ ... الطّيب الْمُنْتَخب اللذيذ)
(فواحد يَقُول هَذَا خل ... وَآخر ذَا قافز معتل)
(وَثمّ من يسْأَل عَن راووق ... يَقُول لَا بُد من التصفيق)
(وَعند هَذَا تحضر البواطي ... ويمزج النَّبِيذ باحتياط)
(فواحد يَقُول هَذَا صرف ... ويقلب المَاء وَلَا يكف)
(وَآخر يَقُول ذَا ممعود ... فَاجْتَنبُوا المَاء وَلَا تعودوا)
(وَالنَّقْل لَا بُد مَعَ المشموم ... فَغير مهجور وَلَا مسؤوم)
(فَذا لَهُ فِي نَقله اخْتِيَار ... يروقه الريحان وَالْخيَار)
(وَذَا يَقُول الْورْد والتفاح ... أحسن مَا دارت عَلَيْهِ الراح)
(وَإِن خشيت حجَّة المغاني ... وخوفهم من ضَامِن القيان)
(عجل وقشقل لَهُم الدينارا ... فِي الْحَال إِن كنت تخَاف العارا)
(وَرُبمَا قد حَان مِنْهُم شطحه ... تعيش أَن تنعموا بالصبحه)
(وَإِن دَعَوْت الْقَوْم فِي كانون ... لَا بُد من فَحم على كانون)
(يطير مِنْهُ أبدا شرار ... يثبت فِي الْبسط لَهَا آثَار)
(وَيُصْبِح الْبسَاط بعد الجده ... منقطا كشبه جلد الفهده)
(فضلا عَن الكباب والشرائح ... لكل غاد مِنْهُم ورائح)
(واعزل لَهُم عِنْد انْقِضَاء الْبرد ... مراوحا من بعد مَاء الْورْد)
(وللندامى أبدا فنون ... يظهرها الْخمر فتستبين)
(فَمنهمْ من يُورد الاخبارا ... عجبا لَهَا ويؤثر الاكثارا)
(منعما جشعا لَهُ بالمضغ ... وَلَيْسَ فيهم من إِلَيْهِ يصغي)
(ويمسك الدّور وينسى نَفسه ... قد غيب الأدبار عَنهُ حسه)
(وَمِنْهُم من يزن الكلاما ... تراؤسا وَيظْهر إِلَّا عظاما)
(وَمِنْهُم من يظْهر الوضاعه ... تعمدا كي تضحك الْجَمَاعَة)
(وَمِنْهُم من سكره قَبِيح ... لَا يَأْخُذ الدّور وَلَا يروح)
(وَثمّ من يدْخل وَقت السكر ... صَاح ويحصي هفوات الْخمر)
(وَمِنْهُم من فِي يَدَيْهِ خفه ... إِذا رأى شَيْئا مليحا لفه)(1/621)
(منيدلا للكم أَو سكينَة ... أَو طاسة التكعيب أَو قنينة)
(وَبَعْضهمْ مُوكل بقلع ... سلاسل تسيل فَوق الشمع)
(يُوهم أَن يكسو بهَا فَتِيلَة ... وَإِنَّمَا ذَلِك مِنْهُ حيله)
(وَلَا تقل فِي الغمز والإيماء ... إِذا مضى الْقَوْم لبيت المَاء)
(فَإِن لقوا جَارِيَة أَو عبدا ... قد قرصوا نهدا وعضوا خدا)
(وَرُبمَا تطرق الْفساد ... وَكَانَ من عرس الْفَتى انقياد)
(أَو أُخْته أَو بنته أَو ابْنه ... لَا سِيمَا إِن راقهم بحسنه)
(وَعِنْدهَا قد تسمح النُّفُوس ... ويطمع النديم والجليس)
(فَإِنَّمَا الْإِنْسَان من لحم وَدم ... لَيْسَ بصخر جامد وَلَا صنم)
(وَإِن يكن فيهم أَبُو تلور ... فَغير مَأْمُون وَلَا مَعْذُور)
(يَأْكُل مَا يلقاه أكلا لما ... بِلَا اكتراث أَو يجيد اللقما)
(لَا يشرب الراح مَعَ الندامى ... لِأَنَّهُ لَا يُؤثر المداما)
(وَإِن تقع عربدة هناكا ... فَلَيْسَ يشقى فيهم سواكا)
(تنكسر الأقداح والقناني ... وَكلما لَاحَ من الْأَوَانِي)
(وَإِن تأدى الْأَمر للجيران ... رَمَوْهُ بالزور والبهتان)
(ثمَّ شكوه عَاجلا للشحنه ... وَرُبمَا تمت عَلَيْهِ محنه)
(ويربح الْإِنْسَان سوء السمعة ... لَا سِيمَا إِن كَانَ ليل جُمُعَة)
(وَإِن فَشَتْ بَينهم جراح ... فَلَيْسَ يُرْجَى للفتى صَلَاح)
(وَإِن تردى بَينهم قَتِيل ... فَذَاك شَيْء أَرْشه قَلِيل)
(وشربهم إِن كَانَ فِي عَلَيْهِ ... فَإِنَّهُ يقرب المنيه)
(وَلَا تكن تنسى أَذَى الندمان ... والقيء فَوق الْبسط فِي الأحيان)
(وَبعده يلْتَمس الطعاما ... ليوصل الشّرْب مَعَ النداما)
(وَلَا الَّذِي يلقى من النقار ... إِذا انْتَبَهت وَقت كنس الدَّار)
(من ربة الْبَيْت إِذا مَا نَامَتْ ... وَخَلفهَا الصعب إِذا مَا قَامَت)
(تذكره عِنْد طُلُوع الشَّمْس ... بِكُل مَا دَار لَهُ بالْأَمْس)
(هَذَا إِذا راحوا فَإِن أَقَامُوا ... واقتصدوا الصبوح ثمَّ نَامُوا)
(فَكيف ترجو بعد ذَا فلاحا ... إِذا بدا الصُّبْح لَهُم ولاحا)
(لوح على الْقَوْم بخندريس ... فِي أثر الجردق والرؤوس)(1/622)
(واستغن عَن بعض أثاث الدَّار ... إِن صَار رهنا فِي يَد الْخمار)
(وَإِن تضع بعض نعال الْقَوْم ... فَلَيْسَ تَخْلُو عَاجلا من لوم)
(فوص أَن يحفظها الْغُلَام ... لكَي يقل مِنْهُم الملام)
(وَلَا تبال ويك بالخساره ... وَأكْثر السرج على المناره)
(وَمن أَرَادَ مِنْهُم الرواحا ... فَإِنَّهُ يستلب المصباحا)
(مستصحبا فِي يَده قرَابه ... مَمْلُوءَة يُرْضِي بهَا أَصْحَابه)
(وَلَا تفكر فِي فرَاغ الزَّيْت ... فَكل هَذَا من خراب الْبَيْت)
(فَصَاحب الدعْوَة فِي خسران ... لَا سِيمَا إِن لز بالميزان)
(وَصَاحب الْوَقْت بِغَيْر شرب ... أَحَق مَخْلُوق بصقع الجرب)
(يدل مَا يلْزمه من غرم ... أَن الْفَتى لَا شكّ دقن سرم)
(وَكَانَ من ذَا كُله غَنِيا ... لَو كَانَ شهما فطنا ذكيا)
(معرة مَا مثلهَا معرة ... تنحس من يصلى بهَا فِي كرة)
(فالشرب عِنْدِي فِي بيُوت النَّاس ... أحسن من هَذَا على الْقيَاس)
(وَبعد هَذَا كُله فالتوبة ... أوفق مَا دارت عَلَيْهِ النّوبَة) الرجز
وَقَالَ فِي الْبَصْرَة سنة إِحْدَى وَعشْرين وَخَمْسمِائة
(أَقُول وَقد أشرفت من نهر معقل ... على الْبَصْرَة الغراء حييت من مصر)
(أيا حبذا ساحاتها ورسومها ... وَطيب رباها لَا عرين من الْقطر)
(فكم فِيك من يَوْم لهوت وَلَيْلَة ... بمرتجة الاعطاف طيبَة النشر)
(وَإِن سفرت جنح الظلام نقابها ... رَأَيْت لَهَا وَجها يَنُوب عَن الْبَدْر) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(إِلَّا إِن شرب الراح من أوكد الْفَرْض ... على الْورْد وَالريحَان والنرجس الغض)
(وكل امْرِئ أعْطى الوضاعة حَقّهَا ... فَذَلِك فِي عَيْش لذيذ وَفِي خفض)
(وَمهما يكن بِي دَائِما من دعابة ... فَإِنِّي نقي الثَّوْب وَالنَّفس وَالْعرض)
(وَإِن على أَشْيَاء مِمَّا تريبني ... إِذا صَاحب زلت بِهِ قدم أغضي) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(مَا خير عَيْش يرتجيه امْرُؤ ... حَيَاته تُفْضِي إِلَى مَوته)(1/623)
(والرزق مَضْمُون فَإِن منفس ... فَاتَ فَلَا تأس على فَوته) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(رحلت فكدرت بالبعد مَا ... صفا بدنوك والاقتراب)
(وكادت تصدع منا الْقُلُوب ... بعْدك لَوْلَا رَجَاء الإياب) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(أَلا يَا من لصب مستهام ... معنى لَا يفِيق من الغرام)
(وَكَيف يفِيق محزون كئيب ... أضرّ بجسمه طول السقام) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(وَيْح المحبين لَيْت لَا خلقُوا ... مَا برحوا فِي الْعَذَاب مذ عشقوا)
(وَلَا رجوا رَاحَة وَلَا فَرحا ... إِلَّا وسدت عَلَيْهِم الطّرق) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(ترى درا يُحِيط بِهِ عقيق ... إِذا أبدت ثناياها العذابا)
(وَمَا زَان الخضاب لَهَا بنانا ... وَلَكِن كفها زَان الخضابا) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(قلت لَهَا إِذا عيرتني ضنى ... مَعَ انحناء الظّهْر والارتعاش)
(لَا تهزئي إِن وهنت أعظمي ... حبك مِنْهَا دَاخل فِي المشاش) السَّرِيع
وَقَالَ لغزا فِي عبد الْكَرِيم
(بمهجتي يَا صَاح أفدي الَّذِي ... تيمني تفتير عَيْنَيْهِ)
(صرت لَهُ ثلث اسْمه طَائِعا ... وَهُوَ بوصلي ضد ثُلثَيْهِ)
(كَأَنَّمَا وجنته إِذْ بَدَت ... أنجم خيلان بخديه)
(هِلَال تمّ والثريا لَهُ ... مقلوب مَا يشبه صدغيه) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا لغزا فِي اسْم شفتر وَهُوَ لقب لأبي الْمَعَالِي السّلمِيّ الشَّاعِر
(غزال من بني الْأَصْفَر ... سباني طرفه الأحور)(1/624)
(لقد فَضله الله ... بِحسن الدل والمنظر)
(بِحَق الشفع وَالْوتر ... وَمَا قد ضمنا كوثر)
(فَهَذَا اسْم قضى الرَّحْمَن ... أَن يلغز أَو يستر) الهزج
وَقَالَ يهجو الطَّبِيب المفشكل الْيَهُودِيّ على سَبِيل المرثية
(أَلا عد عَن ذكرى حبيب ومنزل ... وعرج على قبر الطَّبِيب المفشكل)
(فيا رَحْمَة الله استهيني بقبره ... وكوني عَن الشَّيْخ الوضيع بمعزل)
(وَيَا مُنْكرا جود هديت قذاله ... بمقنعة وأسقله سقل السجنجل)
(وكبكبه فِي قَعْر الْجَحِيم بوجبة ... كجلمود صَخْر حطه السَّيْل من عل)
(فَلَا زَالَ وكاف تزجيه دِيمَة ... عَلَيْهِ بمنهل من السلح مُسبل)
(لقد حَاز ذَاك اللَّحْد أَخبث جيفة ... وأوضع ميت بَين ترب وجندل)
(سأسبل من بَطْني عَلَيْهِ مدامعي ... وَأوردهُ من مَائِهَا شَرّ منهل)
(لَعَلَّ أَبَا عمرَان حن لشخصه ... وَقَالَ لَهُ أسْرع إِلَيّ وَعجل)
(فَمَا ضم بطن الأَرْض أنجس مِنْهُمَا ... وأنذل من رَهْط الغوي السموأل) الطَّوِيل
وَقَالَ يهجو الأديب نصير الْحلَبِي أَيْضا على سَبِيل المرثية وَكَانَ نصير قد اشْتغل بِالْكِتَابَةِ وَتعرض للشعر والطب والنجوم
(يَا هَذِه قومِي اندبي ... مَاتَ نصير الْحلَبِي)
(يرحمه الله لقد ... كَانَ طَوِيل الذَّنب)
(قد ضجت الْأَمْوَات فِي ... نكهته فِي الترب)
(وودهم لَو عوضوا ... مِنْهُ بكلب أجرب)
(وَالْقَوْم بَين صارخ ... وممعن فِي الْهَرَب)
(ومنكر يَقُول ذَا ... أوضع ميت مر بِي)
(مَا ضم بطن الأَرْض ... بَين شرقها وَالْمغْرب)
(أَخبث مِنْهُ طِينَة ... فِي عجمها وَالْعرب)
(يَا قوم مَا أنجسه ... نصبا على التَّعَجُّب)
(أَوْصَافه من فحشه ... مسطورة فِي الْكتب)
(وَقَوله لمنكر ... أسرفت يَا معذلي(1/625)
(اما علمت أنني ... شيخ لأهل الادب)
(والنحو وَالْحكمَة ... والمنطق والتطبب) الرجز
وَقَالَ يهجو ملك النُّحَاة
(لقب هَب من باذهنك الورك ... نسيم على عارضي ذَا الْملك)
(وَأَقْبل سيل على اثره ... فَصَارَ على وَجهه مرتبك)
(كَمَا درج المَاء مر الصِّبَا ... ودبج أفق السَّمَاء الحبك) المتقارب
وَقَالَ يهجو أَبَا الْوَحْش الشَّاعِر
(اذا رمت ان أهجو أَبَا الْوَحْش عاقني ... خلائق لؤم عَنهُ لَا تتزحزح)
(تجَاوز حد الذَّم حَتَّى كَأَنَّهُ ... بأقبح مَا يهجى بِهِ الْمَرْء يمدح) الطَّوِيل
وَقَالَ يهجوه أَيْضا
(ان دَامَ فِي غيه وحيش ... وَلم يدع افكه وظلمه)
(سلقت آذانه بعنز ... قد أكلُوا فِي الْحجاز لَحْمه) الْبَسِيط
وَقَالَ ايضا
(لنا صديق جَفا وازور جَانِبه ... قد أوجعتني يَدي مِمَّا أعاتبه)
(ان قيل لي صفه يَوْمًا قلت ذَاك فَتى ... يُحْصى الْحَصَى قبل أَن تحصى مثالبه) الْبَسِيط
وَقَالَ يهجو عليان الْمَعْرُوف بالعكاز الْحلَبِي
(شكا الينا العكاز داءه ... فَلم يجد عندنَا دواءه)
(لَان دَاء الْبغاء أعيا ... كل امْرِئ يَبْتَغِي شفاءه) الْبَسِيط
وَقَالَ ايضا
(اذا عنيت بمحموم نظمت لَهُ ... بَيْتا فان زَاد شَيْئا عَاد مفلوجا)
(فَقل لقوم رَأَوْا طبي لَهُم فرجا ... ليهنهم ان غَدا بالشعر ممزوجا)
(يفرج الْهم عَن أحشاء ذِي حرق ... مضنى ويطعمه فِي الْحَال فروجا) الْبَسِيط
وَقَالَ فِي الشجَاعَة
(ارى الْحَرْب تكسبني نجدة ... اذ خامر الْقلب تذكارها)(1/626)
(فان أَنا فِي النّوم أبصرتها ... تبين فِي الْفرش آثارها) المتقارب
وَقَالَ فِي قصيدته الَّتِي سَمَّاهَا ذَات المناقب
(ومعشر قد جعلوني قدوة ... يرونني فِيمَا اعاني أوحد)
(تركت أعمارهم اذ ركنوا ... الي فِي الطِّبّ كاعمار الجدا) الرجز
وَقَالَ أَيْضا
(سأظهر فِي اصلاح شأني تغافلا ... ليعذرني من ظن أَنِّي ذُو جهل)
(واهزل مهما قلت شعرًا فان بَدَت ... بِهِ ركة يَوْمًا أحلّت على الْهزْل) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(وطارق ليل أمني بعد هجعة ... فمتعت جَنْبَيْهِ بعجراء من سلم)
(فَلَو سَمِعت اذناك تحتي عواءه ... لَقلت ابْن آوى عج فِي حندس الظُّلم)
(وَقلت لَهُ لَوْلَا شقاؤك لم تسر ... بلَيْل وَلم تحلل بِربع أبي الحكم) الطَّوِيل
وَقَالَ
(لما أَدْرَكته الْوَفَاة فِي ذِي الْقعدَة سنة تسعه وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة
(يَا لهف نَفسِي اذا ادرجت فِي الْكَفَن ... وغيبوني عَن الاهلين والوطن)
(وَقيل لَا يبعدن من كَانَ ينشدنا ... أَنا الَّذِي نظر الاعمى فَلم يرني) الْبَسِيط
ثمَّ أنْشد يَوْم الثُّلَاثَاء قبل وَفَاته وَأمر وَلَده أَبَا الْمجد ان يَرْوِيهَا بعد مَوته عَنهُ
(نَدِمت على موتِي وَمَا كَانَ من امري ... فيا لَيْت شعري من يرثيكم بعدِي)
(واني لاختار الرُّجُوع لَو انني ... أرد وَلَكِن لَا سَبِيل الى الرَّد)
(وَلَو كنت أَدْرِي انني غير رَاجع ... لما كنت قد اسرعت سيرا الى اللَّحْد)
(أَلا هَل من الْمَوْت المفرق من بُد ... وَهل لزمان قد تسلف من رد)
(مضى الاهل والاحباب عني وودعوا ... وغودرت فِي دهماء موحشة وحدي)
(لبَعض على بعض لديكم مزية ... وَلَا يعرف الْمولى لدينا من العَبْد)
(لَئِن كنت قد أفرحتكم بمنيتي ... وسركم موتِي وآنسكم فقدي)
(فدقيوس تلميذي عَلَيْكُم خليفتي ... رضيت بِهِ فِي الْهزْل بعدِي وَفِي الْجد)
(فها أَنا قد وليته الامر فاعلموا ... وَعَما قَلِيل سَوف أسْكنهُ عِنْدِي)
(وَلَا تقنطوا من رَحْمَة الله بعد ذَا ... فَلَيْسَ لنا من رَحْمَة الله من بُد)
ولابي الحكم من الْكتب ديوَان شعره وَسمي ديوانه هَذَا نهج الوضاعة(1/627)
أَبُو الْمجد بن أبي الحكم
هُوَ أفضل الدولة أَبُو الْمجد مُحَمَّد بن أبي الحكم عبيد الله بن المظفر بن عبد الله الْبَاهِلِيّ من الْحُكَمَاء الْمَشْهُورين وَالْعُلَمَاء الْمَذْكُورين والأفاضل فِي الصِّنَاعَة الطبية والاماثل فِي علم الهندسة والنجوم وَكَانَ يعرف الموسيقى ويلعب بِالْعودِ ويجيد الْغناء والايقاع وَالزمر وَسَائِر الْآلَات وَعمل أرغنا وَبَالغ فِي اتقانه وَكَانَ اشْتِغَاله على وَالِده وعَلى غَيره بصناعة الطِّبّ وتميز فِي علمهَا وعملها وَصَارَ من الاكابر من أَهلهَا وَكَانَ فِي دولة السُّلْطَان الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله وَكَانَ يرى لَهُ ويحترمه وَيعرف مِقْدَار علمه وفضله
وَلما أناشأ الْملك الْعَادِل نور الدّين البيمارستان الْكَبِير جعل أَمر الطِّبّ إِلَيْهِ فِيهِ وَأطلق لَهُ جامكية وجراية وَكَانَ يتَرَدَّد اليه ويعالج المرضى فِيهِ
وحَدثني شمس الدّين أَبُو الْفضل بن أبي الْفرج الكحال الْمَعْرُوف بالمطواع رَحمَه الله انه شَاهده فِي البيمارستان وان أَبَا الْمجد بن أبي الحكم كَانَ يَدُور على المرضى بِهِ ويتفقد أَحْوَالهم وَيعْتَبر امورهم وَبَين يَدَيْهِ المشارفون والقوام لخدمة المرضى فَكَانَ جَمِيع مَا يَكْتُبهُ لكل مَرِيض من المداواة وَالتَّدْبِير لَا يُؤَخر عَنهُ وَلَا يتوانى فِي ذَلِك قَالَ وَكَانَ بعد فَرَاغه من ذَلِك وطلوعه إِلَى القلعة وافتقاده المرضى من أَعْيَان الدولة يَأْتِي وَيجْلس فِي الايوان الْكَبِير الَّذِي للبيمارستان وجميعه مفروش ويحضر الِاشْتِغَال وَكَانَ نور الدّين رَحمَه الله قد وقف على هَذَا البيمارستان جملَة كَبِيرَة من الْكتب الطبية وَكَانَت فِي الخرستانين اللَّذين فِي صدر الايوان فَكَانَ جمَاعَة من الاطباء والمشتغلين يأْتونَ اليه ويقعدون بَين يَدَيْهِ ثمَّ تجْرِي مبَاحث طبية ويقرئ التلاميذ وَلَا يزَال مَعَهم فِي اشْتِغَال ومباحثة وَنظر فِي الْكتب مِقْدَار ثَلَاث سَاعَات ثمَّ يركب الى دَاره وَتُوفِّي أَبُو الْمجد بن أبي الحكم بِدِمَشْق فِي سنة وَخَمْسمِائة
ابْن البذوخ
هُوَ أَبُو جَعْفَر عمر بن عَليّ بن البذوخ القلعي المغربي كَانَ فَاضلا خَبِيرا بِمَعْرِِفَة الارجدوية المفردة والمركبة وَله حسن نظر فِي الِاطِّلَاع على الامراض ومداواتها واقام بِدِمَشْق سنينا كَثِيرَة وَكَانَت لَهُ دكان عطر باللبادين يجلس فِيهِ ويعالج من يَأْتِي إِلَيْهِ أَو يستوصف مِنْهُ
وَكَانَ يُهَيِّئ عِنْده ادوية كَثِيرَة مركبة يصنعها من سَائِر المعاجين والاقراص والسفوفات وَغير ذَلِك يَبِيع مِنْهَا وَينْتَفع النَّاس بهَا
وَكَانَ معتنيا بالكتب الطبية وَالنَّظَر فِيهَا وَتَحْقِيق مَا ذكره المتقدمون من صفة الامراض ومداواتها
وَله حواش على كتاب القانون لِابْنِ سينا
وَكَانَ لَهُ ايضا اعتناء بِعلم الحَدِيث ويشعر وَله رجز كثير إِلَّا ان اكثر شعره ضَعِيف منحل
وَعمر عمرا طَويلا وَضعف عَن الْحَرَكَة(1/628)
حَتَّى انه كَانَ لم يَأْتِ الى دكانه إِلَّا مَحْمُولا فِي محفة
وَعمي فِي آخر عمره بِمَاء نزل فِي عينه لانه كَانَ كثيرا يغتذي بِاللَّبنِ ويقصد بذلك ترطيب بدنه وَتُوفِّي بِدِمَشْق فِي سنة خمس أَو سِتّ وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَمن شعر ابْن البذوخ قَالَ وَهُوَ من قصيدة كَبِيرَة لَهُ فِي ذكر الْمَوْت والمعاد فَمن مختارها
(يَا رب سهل لي الْخيرَات افعلها ... مَعَ الانام بموجودي وامكاني)
(فالقبر بَاب الى دَار الْبَقَاء وَمن ... للخير يغْرس أثمار المنى جاني)
(وَخير انس الْفَتى تقوى بِصَاحِبِهِ ... وَالْخَيْر يَفْعَله مَعَ كل انسان)
(يَا ذَا الْجَلالَة والاكرام يَا املي ... اختم بِخَير وتوحيد وايمان)
(ان كَانَ مولَايَ لَا يرجوك ذُو زلل ... بل من أطاعك من للمذنب الْجَانِي)
(عشر الثَّمَانِينَ يَا مولَايَ قد سلبت ... أنوار عَيْني وسمعي ثمَّ اسناني)
(لَا استطيع قيَاما غير مُعْتَمد ... مَا بَين اثْنَيْنِ شكوائي لرحماني)
(وَمَا بَقِي فِي لذيذ يستلذ بِهِ ... لي لَذَّة غير تنصيت لقرآن)
(أَو شَرحه أَو شروحات الحَدِيث وَمَا ... يخْتَص بالطب اَوْ تفكيه لقرآن)
(فالشيخ تعميره يُفْضِي الى هرم ... يذله اَوْ عمى اَوْ دَاء ازمان)
(فموته ستره اذ لَا محيص لَهُ ... عَن الْمَمَات فكم يبْقى لنُقْصَان)
(نَعُوذ بِاللَّه من شَرّ الْحَيَاة وَمن ... شَرّ الْمَمَات وَشر الانس والجان)
(ان الشُّيُوخ كأشجار غَدَتْ حطبا ... فَلَيْسَ يُرْجَى لَهَا توريق اغصان)
(لم يبْق فِي الشَّيْخ نفع غير تجربة ... وَحسن رَأْي صفا من طول أزمان)
(يَا خَالق الْخلق يَا من لَا شريك لَهُ ... قد جِئْت ضيفا لتقريني بغفران)
(مولَايَ مَالِي سوى التَّوْحِيد من عمل ... فاختم بِهِ منعما يَا خير منان) الْبَسِيط
وَقَالَ فِي مدح كتب جالينوس
(اكرم بكتب لِجَالِينُوسَ قد جمعت ... مَا قَالَ بقراط والماضون فِي الْقدَم)
(كديسقوريدس علم الدَّوَاء لَهُ ... مُسلم عِنْد اهل الطِّبّ فِي الامم)
(فالطب عَن ذين مَعَ بقراط منتشر ... من بعدهمْ كانتشار النُّور فِي الظُّلم)
(بطبهم تقتدي الافكار مشرقة ... ترى ضِيَاء الشفا فِي ظلمَة السقم)
(لَا تبتغي فِي شِفَاء الدَّاء غَيرهم ... فان وجدانه فِي الطِّبّ كَالْعدمِ)
(لانهم كملوا مَا اصلوه فَمَا ... يحْتَاج فيهم الى اتمام غَيرهم)
(الا الدَّوَاء فَمَا تحصى مَنَافِعه ... وعده كَثْرَة فِي الْعَرَب والعجم)
(عد النُّجُوم نَبَات الارض اجمعها ... من ذَا يعد جَمِيع الرمل والأكم)
(فِي كل يَوْم ترى فِي الارض معْجزَة ... من التجارب والآيات وَالْحكم)(1/629)
وَلابْن البذوخ من الْكتب شرح كتاب الْفُصُول لابقراط ارجوزة
شرح كتاب تقدمة الْمعرفَة لابقراط ارجوزة
كتاب ذخيرة الالباء
الْمُفْرد فِي التَّأْلِيف عَن الْأَشْبَاه
حواش على كتاب القانون لِابْنِ سينا
حَكِيم الزَّمَان عبد الْمُنعم الجلياني
هُوَ حَكِيم الزَّمَان أَبُو الْفضل عبد الْمُنعم بن عمر بن عبد الله بن حسان الغساني الاندلسي الجلياني كَانَ عَلامَة زَمَانه فِي صناعَة الطِّبّ والكحل وأعمالهما بارعا فِي الادب وصناعة الشّعْر وَعمل المديحات أَتَى من الاندلس الى الشَّام
وَأقَام بِدِمَشْق الى حِين وَفَاته وَعمر عمرا طَويلا وَكَانَت لَهُ دكان فِي اللبادين لصناعة الطِّبّ
وَكَانَ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب يرى لَهُ ويحترمه
وَله فِي صَلَاح الدّين مدائح كَثِيرَة وصنف لَهُ كتبا وَكَانَ لَهُ مِنْهُ الاحسان الْكثير والانعام الوافر
وَكَانَ حَكِيم الزَّمَان عبد الْمُنعم يعاني ايضا صناعَة الكيمياء
وَتُوفِّي بِدِمَشْق فِي سنة وسِتمِائَة وَخلف وَلَده عبد الْمُؤمن بن عبد الْمُنعم وَكَانَ كحالا ويشعر ايضا وَيعْمل مديحات
وخدم بصناعة الْكحل الْملك الْأَشْرَف أَبَا الْفَتْح مُوسَى بن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَتُوفِّي بِمَدِينَة الرها فِي سنة وَعشْرين وسِتمِائَة
وَمن شعر حَكِيم الزَّمَان عبد الْمُنعم الجلياني مِمَّا نقلته من خطه وَهُوَ ايضا مِمَّا سمعته من أبي قَالَ انشدني الْحَكِيم عبد الْمُؤمن الْمَذْكُور فَمن ذَلِك قَالَ يمدح الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين ابا المظفر يُوسُف بن ايوب ووجهها اليه من مَدِينَة دمشق الى مخيمه الْمَنْصُور بِظَاهِر عكا وَهُوَ محاصر للفرنج المحاصرين لمدينة عكا فعرضت عَلَيْهِ فِي شهر صفر سنة سبع وَثَمَانِينَ وخمسائة وَهَذِه القفصيدة تسمى التُّحْفَة الجوهرية
(رفاهية الشهم اقتحام العظائم ... طلابا لعز اَوْ غلابا لضائم)
(فَلم يحظ بالعلياء من هاب صدمة ... فغض عنانا دون قرع الصوارم)
(فَأَي اتضاح كَانَ لَا بعد مُشكل ... وَأي انفساح بَان لَا عَن مآزم)
(هِيَ الهمة الشماء تلحظ غَايَة ... فترمي اليها عَن قسي العزائم)
(فَمَا انساح سرب لم يصل سَبَب الْعلَا ... وَلَا ارْتَاحَ ندب لم يصل بصوارم)
(فَلَيْسَ بحي سالك فِي خسائس ... وَلَيْسَ بميت هَالك فِي مَكَارِم)
(وَمَا النَّاس إِلَّا راحلون وَبينهمْ ... رجال ثوت آثَارهم كالمعالم)
(بعزة بَأْس واطلاع بَصِيرَة ... وهزة نفس واتساع مراحم)
(حظوظ كَمَال اظهرت من عجائب ... بِمِرْآة شخص مَا اختفى فِي العوالم)
(وَمَا يَسْتَطِيع الْمَرْء يخْتَص نَفسه ... الا انما التَّخْصِيص فَقَسمهُ رَاحِم)(1/630)
(وَأعظم أهل الْفضل من سَاد بالقوى ... فقاد بسبق الطَّبْع أقوى الأعاظم)
(ترى ضمت الأفلاك ملكا كيوسف ... من الْجَبَل اللَّاتِي خلت فِي الأقادم)
(فَمَا مثل ملك ساسه فِي أحادث ... وَلَا مثل حَرْب هاجها فِي ملاحم)
(أباني دَار الْعدْل فِي مارق الوغى ... بمسرب آن من دِمَاء الغواشم)
(فديتك من معل لدينك مبتن ... وأفديك من مبل لضدك هَادِم)
(فَأَنت الَّذِي أيقظت حزب مُحَمَّد ... جهادا وهم فِي غَفلَة المتناوم)
(فحاربت للأيمان لَا لضغائن ... ورابطت للرضوان لَا لمغانم)
(أجدك لن يَنْفَكّ يضْرب هَكَذَا ... قبابك حَيْثُ أشتك سدم الهاذم)
(وَفِي حجرات النَّقْع سيح صوارخ ... كأمواج لج للهضاب ملاطم)
(ومقلعة أمراسها وشراعها ... عنان وخفاق بصعدة داهم)
(فيكف رست فِيهَا خيامك إِذْ جرت ... سفين كَمَاء فِي بحار شياظم)
(فَلم يبْق إِلَّا ملتق بأسنة ... وَلَا يلق إِلَّا متق بحيازم)
(فَلَا طُنب إِلَّا توثب مقدم ... وَلَا وتد إِلَّا تجلد عَارِم)
(فدارك والأبطال ثارت حيالها ... مقرّ سرُور فِي مفر مآثم)
(لِأَنَّك فِيهَا إِذْ هفوا جَالس على ... سَرِير ثبات مطمئن القوائم)
(وَإنَّك فيهم إِذْ سطوا خالس طلي ... كَبِير نياب مرجحنا الشكائم)
(فَأَنت المليك النَّاصِر الْحق ممعنا ... يرى دهم شوق الْحَرْب مهد النواعم)
(أتعشقك الهيجاء أم أَنْت عاشق ... لَهَا فِي وصال من حبيبين دَائِم)
(شتاء وصيفا لَا نزال نرَاك فِي ... مسَاء وصبح كآذان الملازم)
(فهجرت حَتَّى قيل لَيْسَ بقائل ... وَبَيت حَتَّى قيل لَيْسَ بنائم)
(وأرجفت روما إِذْ خرقت فرنجة ... فَكَانُوا غثاء فِي سيول الهزائم)
(كددتهم أَعلَى التلال كَأَنَّهُمْ ... ضباب كدا فزت لأضباب حاطم)
(وفيت لَهُم حَتَّى أحبوك ساطيا ... فهم ووفاء الْعَهْد قيد المخاصم)
(فخانوا فحابوا فانتدوا فتلاوموا ... فَقَالُوا خذلنا بارتكاب الجرائم)
(وَخص صَلَاح الدّين بالنصر إِذْ أَتَى ... بقلب سليم راحما للمسالم)
(فحطوا بأرجاء الهياكل صُورَة ... لَك اعتقدوها كاعتقاد الأقانم)
(يدين لَهَا قس ويرقى بوصفها ... ويكتبه يشفى بِهِ فِي التمائم)
(يعجل للمرء الْجَزَاء بِفِعْلِهِ ... فطوبى لصبار وبؤس لآثم)(1/631)
(وَقد يفْسد الْحر الْكَرِيم جليسه ... وتضعف بالإيهام قُوَّة حَازِم)
(إِذا لج لوم من سَفِيه لراشد ... توهم رشدا فِي سفاهة لائم)
(عجبت من الْإِنْسَان يعجب وَهُوَ فِي ... نقائص أَحْوَال قسيم السوائل)
(يرى جَوْهَر النَّفس الطليق فيزدهي ... وَيذْهل عَن أَعْرَاض جسم لَوَازِم)
(دُيُون اضطرار تَقْتَضِي كل سَاعَة ... فتنقرض الْأَعْمَار بَين المغارم)
(وكل فمغمرور بحب حَيَاته ... ويغريه بالأدنى خَفَاء الْخَوَاتِم)
(وجماع مَال لَا انْتِفَاع لَهُ بِهِ ... كَمَا مص مَشْرُوطًا زجاج المحاجم)
(يفِيض وَمَا أوعاه يرعاه مهدفا ... لرشفة صَاد أَو لرشفة صادم)
(وَمن عرف الدُّنْيَا تَيَقّن أَنَّهَا ... مَطِيَّة يقظان وطيفة حالم)
(فَللَّه ساع فِي مناهج طَاعَة ... لِإِيلَافِ عدل أَو لإتلاف ظَالِم)
(أفاتح بَيت الْقُدس سَيْفك مفتح ... لقفل الْهدى مغلاق بَاب المآثم)
(فحكمت فِي الضدين غير معَارض ... فاحكمت فِي نفر الوغى المتخاصم)
(فأطلقت تركا فِي ظُهُور سوابح ... وأغربت شركا فِي بطُون القشاعم)
(غَدَاة قدحت الْبيض فِي آل أصفر ... فَلم يبْق زند مِنْهُم فِي معاصم)
(وَإِذ درجوا كالرمل أعجز عدَّة ... إِلَى تل عكا كالدبى المتراكم)
(وكالنحل ملتفا كوارثه هوى ... من التل تخشى مِنْهُم كالمرادم)
(كَأَن لَهُم فِي تل عكا مصادة ... يحاش لَهَا أسراب وَحش سوائم)
(فسرب كسير موبق فِي حفائر ... وسرب حسير مرهق فِي مقاحم)
(فكم ملك مِنْهُم أَتَاهَا بِكَثْرَة ... فَزَادَهُم نقصا زِيَادَة عادم)
(يشقون من أسبان أثباج زاخر ... وَمن رومة الْكُبْرَى فجاج مخارم)
(فهالوا بنجدي جاريات ووخد ... وذابوا بحدي مخدم لَك هاضم)
(غسلت الطّراز الْأَخْضَر الرقم مِنْهُم ... بِصَوْت نجيع أَحْمَر الْقطر ساجم)
(وَلَو أنبت المرج النُّفُوس لأينعت ... بِمَا ساح فِيهِ عَن حَشا وغلاصم)
(قليب كلى يسقى بإشطان ذابل ... وَعين طلى تجْرِي بميزاب صارم)
(وأضلع فرسَان نعال سوابك ... وأرؤس أَعْيَان غواشي البراجم)
(كَذَا فليرصع جَوْهَر القَوْل متحف ... بِهِ لمليك مثل يُوسُف عَالم)
(فَتى ذهنه يَرْمِي بشهب خواطر ... تشق دجون المغمضات العواتم)
(يهاب رَقِيق الشّعْر رقة طبعه ... كَمَا هاب مِنْهُ الْيَأْس غلب الضراغم)(1/632)
(وينتحل الوصاف رونق نَعته ... كَمَا انتحلت جدواه وَطف الغمائم)
(وَمَا زلت أجلو من حلاه عرائسا ... يظل بهَا أهل النهى فِي ولائم)
(بمنتظم التَّفْضِيل طلق كَأَنَّهُ ... مفلج ثغر مستنير المباسم)
(معَان كبهر السحر فِي قعد نَاظر ... وَلَفظ كشذر التبر فِي عقد ناظم)
(سما عَن حضيض الشّعْر فِي أوج حِكْمَة ... وَجل بصاحي الْفِكر عَن نهج هائم)
(ستنسى بذكراه أقاويل من مضى ... وينبت نورا شَائِعا فِي الأقالم)
(كَمَا شاع هَذَا الْأَمر فِي الْخلق مزريا ... بتبع إِعْرَاب وكسرى أعاجم)
(ففرضا أرى مدحي لَهُ متجنبا ... مديح سواهُ كاجتناب الْمَحَارِم)
(وَلَيْسَ اجتداء بل تَحِيَّة شَاكر ... وتأييد آثَار وتأييد عازم)
(فيا خير قوام على خير مِلَّة ... يكافح عَنْهَا كل ألب مقاوم)
(تمسك بِحَبل الله معتصما بِهِ ... فَلَيْسَ سواهُ نَاصِر نصر عَاصِم)
(تمسك بِمن أَعْطَاك مَا قد رجوته ... ويعطيك مَا ترجو لحسنى الْخَوَاتِم)
(بعثت بهَا والشوق يقدم ركبهَا ... إِلَى مجْلِس فِيهِ منى كل قادم)
(بعيد المدى عدن الجدا نَار من عدا ... مُفِيد الْهدى مَرْوِيّ صدى كل حائم)
(سَلام على ذَاك الْمقَام الَّذِي بِهِ ... أقيم عَمُود المكرمات العظائم) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(أتاح لَهُ نَجوَاهُ بعض شقائه ... فباح بِمَا أخفاه من برحائه)
(مَتى لمحت عين العليل طبيبه ... فَلَا بُد أَن يومي إِلَيْهِ بدائه)
(وَكم فِي الْهوى من مكتس برد وجده ... وملتحف من دائه بردائه)
(سباه حبيب غَابَ فِي فيض حسنه ... فأعشى عيُونا أولعت ببهائه)
(وَلَيْسَ لَهُ ثَان يلاذ بِهِ فَمن ... حواه هَوَاهُ لم يزل فِي حوائه) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(على سوق شوقي تستقل الركائب ... وَعَن صون دمعي تستهل السحائب)
(فَمَا الْبَرْق إِلَّا من حنيني نابض ... وَلَا الرَّعْد إِلَّا من أنيني نادب)
(نأيتم فَلَا صَبر من الْقلب حَاضر ... لدي وَلَا قلب عَن الذّكر غَائِب)
(فَفِي كل وَقت لي إِلَيْكُم تطلع ... وَفِي كل حَال لي عَلَيْكُم معاتب)
(وَيَا لَيْت شعري بَعدنَا من صحبتم ... فَمَا بعدكم غير الْهوى لي صَاحب) الطَّوِيل(1/633)
وَقَالَ أَيْضا
(بذلت وقتا للطب كَيْلا ... ألْقى بني الْملك بالسؤال)
(فَكَانَ وَجه الصَّوَاب لي أَن ... أصون نَفسِي بالابتذال)
(لَا بُد للجسم من قوام ... فَخذه من جَانب اعْتِدَال)
(واقرب من الْعِزّ فِي اتضاع ... واهرب من الذل فِي الْمَعَالِي) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(يَا مُنكر الْمسْح إِذْ رَآهُ ... أحسن مِمَّا قد اقتناه)
(اصبر لَهُ أَرْبَعِينَ يُمْسِي ... أنعم للجسم من سواهُ)
(لَا يَسْتَقِيم المريد حَتَّى ... يقوى قواه على هَوَاهُ) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(أقبل ذُو دولة فَقَالُوا ... لمثل ذَا فَاتخذ ملاذا)
(فَقلت للحاضرين حَولي ... أجائز أَن يَمُوت هَذَا)
(قَالُوا نعم قلت فَهُوَ طل ... يعطش من ظَنّه رذاذا)
(قد ذل من لَاذَ بالفواني ... وَعز من بالقديم لاذا) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(من لم يسل عَنْك فَلَا تسألن ... عَنهُ وَلَو كَانَ عَزِيز النَّفر)
(وَكن فَتى لم تَدعه حَاجَة ... إِلَى امتهان النَّفس إِلَّا نفر) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تصدق عَلَيْك عقد صدَاق ... واغن بالمطل فِيهِ عَن ترويج)
(وَمَتى مَا ذكرت يَوْم الْخطب ... فلتكن خطْبَة بِلَا تَزْوِيج) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(قَالُوا نرى نَفرا عِنْد الْمُلُوك سموا ... وَمَا لَهُم همة تسمو وَلَا ورع)
(وَأَنت ذُو همة فِي الْفضل عالية ... فَلم ظمئت وهم فِي الجاه قد كرعوا)
(فَقلت باعوا نفوسا واشتروا ثمنا ... وصنت نَفسِي فَلم اخضع كَمَا خضعوا)
(قد يكرم القرد إعجابا بخسته ... وَقد يهان لفرط النخوة السَّبع) الْبَسِيط(1/634)
ولحكيم الزَّمَان عبد الْمُنعم الجلياني عدَّة من الْكتب
فَمَا قَالَه من منظوم الْكَلَام ومطلقه عشرَة دواوين الأول ديوَان الحكم وميدان الْكَلم يشْتَمل على الْإِشَارَة إِلَى كل غامض الْمدْرك من الْعلم وَإِلَى كل صَادِق المنسك من الْعَمَل وَإِلَى كل وَاضح المسلك من الْفَضِيلَة وَهُوَ نظم وَالثَّانِي ديوَان المشوقات إِلَى الْمَلأ الْأَعْلَى وَهُوَ نظم
وَالثَّالِث ديوَان أدب السلوك وَهُوَ كَلَام مُطلق يشْتَمل على مشارع كَلِمَات الْحِكْمَة المبصرات
وَالرَّابِع كتاب نَوَادِر الْوَحْي وَهُوَ يشْتَمل على كَلَام حِكْمَة مُطلق فِي غَرِيب معَان من الْقُرْآن الْعَظِيم وَمن حَدِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالْخَامِس كتاب تَحْرِير النّظر وَهُوَ يشْتَمل على كَلِمَات حِكْمَة الْمُفْردَات فِي البسائط والمركبات والقوى والحركات
وَالسَّادِس كتاب سر البلاغة وصنائع البديع فِي فصل الْخطاب
وَالسَّابِع ديوَان الْمُبَشِّرَات والقدسيات وَهُوَ نظم وتدبيج وَكَلَام مُطلق يشْتَمل على وصف الحروب والفتوح الْجَارِيَة على يَد صَلَاح الدّين أبي المظفر يُوسُف بن أَيُّوب فاتح مَدِينَة الْبَيْت الْمُقَدّس فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وَالثَّامِن ديوَان الْغَزل والتشبيب والموشحات والدوبيتي وَمَا يتَّصل بِهِ منظوما
وَالتَّاسِع ديوَان تشبيهات وألغاز ورموز وأحاجي وأوصاف وزجريات وأغراض شَتَّى منظوما
والعاشر ديوَان ترسل ومخاطبات فِي معَان كَثِيرَة وأصناف من الْخطب والصدور والأدعية
وَله أَيْضا من الْكتب كتاب منادح الممادح وروضة المآثر والمفاخر من خَصَائِص الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب أَلفه فِي سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
تعاليق فِي وصفات أدوية مركبة
أَبُو الْفضل بن أبي الْوَقار
هُوَ الشَّيْخ الْأَجَل الْعَالم أَبُو الْفضل إِسْمَاعِيل بن أبي الْوَقار أَصله من المعرة وَأقَام بِدِمَشْق وسافر إِلَى بَغْدَاد وَقَرَأَ على أفاضل الْأَطِبَّاء من أَهلهَا وَاجْتمعَ بِجَمَاعَة من الْعلمَاء بهَا وَأخذ عَنْهُم ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَكَانَ متميزا فِي صناعَة الطِّبّ علمهَا وعملها كثير الْخَيْر مَحْمُود الطَّرِيقَة حسن السِّيرَة وافر الذكاء
وَكَانَ فِي خدمَة السُّلْطَان الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي ويعتمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ فِي السّفر والحضر
وَله الْحَظ الوافر والإنعام الْكثير
وَتُوفِّي الْملك الْعَادِل نور الدّين وَهُوَ فِي حلب فِي الْعشْر الأول من شهر ربيع الأول سنة أَربع وَخمسين وَخَمْسمِائة
مهذب الدّين بن النقاش
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي عبد الله عِيسَى بن هبة الله النقاش مولده ومنشؤه بِبَغْدَاد
عَالم بِعلم الْعَرَبيَّة وَالْأَدب وَكَانَ يتَكَلَّم الْفَارِسِي
واشتغل بصناعة الطِّبّ على الْأَجَل أَمِين الدولة هبة الله بن صاعد بن التلميذ ولازمه مُدَّة واشتغل بِعلم الحَدِيث
سمع بِبَغْدَاد من أبي الْقَاسِم عمر بن الْحصين وَحدث عَنهُ
سمع مِنْهُ القَاضِي عمربن الْقرشِي وروى عَنهُ حَدِيثا فِي مُعْجَمه
وَكَانَ أَبُو عبد الله عِيسَى بن هبة الله بن النقاش بزازا أديبا
قَالَ عماد الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن حَامِد الْأَصْبَهَانِيّ الْكَاتِب فِي كتاب الخريذة أَنْشدني مهذب الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن النقاش لوالده
(إِذا وجد الشَّيْخ فِي نَفسه ... نشاطا فَذَلِك موت خَفِي)(1/635)
(أَلَسْت ترى أَن ضوء السراج ... لَهُ لَهب قبل أَن ينطفي) المتقارب
قَالَ وَأَنا لقِيت أَبَا عبد الله بن النقاش بِبَغْدَاد وَتُوفِّي رَحمَه الله فِي الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وَخمْس مائَة بهَا بعد مسيري إِلَى أَصْبَهَان قَالَ وقرأت بِخَط السَّمْعَانِيّ أَنْشدني أَبُو عبد الله النقاش لنَفسِهِ
(رزقت يسارا فوافيت من ... قدرت بِهِ حِين لم يرْزق)
(وأملقت من بعده فاعتذرت ... إِلَيْهِ اعتذار أَخ مملق)
(وَإِن كَانَ يشْكر فِيمَا مضى ... بذا فسيعذر فِيمَا بَقِي) المتقارب
قَالَ قَالَ وأنشدني لنَفسِهِ أَيْضا من قِطْعَة
(وَكَذَا الرئيس فَإِنَّهُ عِنْدِي ... كمجرى الرّوح يجْرِي)
(أنْكرت فِي دلف عَلَيْهِ ... تهتكا من بعد ستر)
(كَيفَ السلو وَقد تملك ... مهجتي من غير أَمْرِي)
(قمر ترَاهُ إِذا اسْتمرّ ... كَمثل أَرْبَعَة وَعشر)
(يرفو بنجلاوين يسقم ... من سقامهما ويبري)
(وَإِذا تَبَسم فِي دجا ... ليل شهِدت لَهُ بفجر)
(وبورد وجنته وَحسن ... عذاره قد قَامَ عُذْري) الْكَامِل
أَقُول وَلما وصل مهذب الدّين بن النقاش إِلَى دمشق بَقِي بهَا يطب وَكَانَ أوحد زَمَانه فِي صناعَة الطِّبّ وَله مجْلِس عَام للمشتغلين عَلَيْهِ
ثمَّ توجه إِلَى الديار المصرية وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ مُدَّة
ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق وَلم يزل مُقيما إِلَى حِين وَفَاته
وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود ابْن زنكي وَكَانَ يعاني أَيْضا كِتَابَة الْإِنْشَاء وَكتب كثيرا لنُور الدّين المراسلات والكتب إِلَى سَائِر النواحي وَكَانَ مكينا عِنْده
وخدم أَيْضا فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بِدِمَشْق وَبَقِي بِهِ سِنِين
وَكتب الْأَمِير مؤيد الدولة أَبُو المظفر أُسَامَة بن منقذ إِلَى مهذب الدّين ابْن النقاش يستهدي دهن بِلِسَان
(ركبتي تخْدم الْمُهَذّب فِي الْعلم ... وَفِي كل حِكْمَة وَبَيَان)
(وَهِي تَشْكُو إِلَيْهِ تَأْثِير طول الْعُمر ... فِي ضعفها وَطول الزَّمَان)
فلهَا فاقة إِلَى مَا يقويها ... على مشيها من البلسان)(1/636)
(كل هَذَا علالة مَا لمن جَازَ ... الثَّمَانِينَ بالنهوض يدان)
(رَغْبَة فِي الْحَيَاة من بعد طول الْعُمر ... وَالْمَوْت غَايَة الْإِنْسَان) الْخَفِيف
فَبعث إِلَيْهِ مَا أَرَادَ من ذَلِك وَلم يزل فِي خدمَة نور الدّين إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاة نور الدّين فِي شَوَّال سنة تسع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بِدِمَشْق
وخدم مهذب الدّين بن النقاش أَيْضا بصناعة الطِّبّ بعد ذَلِك للْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب
لما ملك دمشق
وحظي عِنْده
وَكَانَ مهذب الدّين بن النقاش كثير الْإِحْسَان محبا للجميل يُؤثر التخصص
وَلم يتَّخذ امْرَأَة وَلَا خلف ولدا وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله بِدِمَشْق فِي يَوْم السبت ثَانِي عشر محرم سنة أَربع وَسبعين وَخَمْسمِائة وَدفن بهَا فِي جبل قاسيون
أَبُو زَكَرِيَّا يحيى البياسي
هُوَ أَمِين الدّين أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن إِسْمَاعِيل الأندلسي البياسي من الْفُضَلَاء الْمَشْهُورين وَالْعُلَمَاء الْمَذْكُورين قد أتقن الصِّنَاعَة الطبية وتميز فِي الْعُلُوم الرياضية
وصل من الْمغرب إِلَى ديار مصر وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ مُدَّة ثمَّ توجه إِلَى دمشق وقطن بهَا
وَقَرَأَ على مهذب الدّين أبي الْحسن عَليّ بن عِيسَى ابْن هبة الله الْمَعْرُوف بِابْن النقاش الْبَغْدَادِيّ ولازمه وَكتب السِّتَّة عشر لِجَالِينُوسَ وَقرأَهَا عَلَيْهِ
وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة جدا فِي الطِّبّ وَغَيره
وَكَانَ يعرف النجارة وَعمل لِابْنِ النقاش آلَات كَثِيرَة تتَعَلَّق بالهندسة
وَكَانَ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى البياسي جيد اللّعب بِالْعودِ وَعلم الأرغن أَيْضا وحاول اللّعب بِهِ وَكَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ علم الموسيقى
وخدم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب بصناعة الطِّبّ وَبَقِي مَعَه مُدَّة فِي البيكار ثمَّ استعفى من ذَلِك
وَطلب الْمقَام بِدِمَشْق فَأطلق لَهُ الْملك النَّاصِر جامكية وَبَقِي مُقيما فِي دمشق وَهُوَ يَتَنَاوَلهَا إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
سكرة الْحلَبِي
كَانَ شَيخا قَصِيرا من يهود مَدِينَة حلب
وَكَانَت لَهُ دربة بالعلاج وَتصرف فِي المداواة
حَدثنِي الشَّيْخ صفي الدّين خَلِيل بن أبي الْفضل بن مَنْصُور التنوخي الْكَاتِب اللاذقي قَالَ كَانَ الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي بحلب وَكَانَت لَهُ فِي القلعة بهَا حظية يمِيل إِلَيْهَا كثيرا ومرضت مَرضا صعبا
وَتوجه الْملك الْعَادِل إِلَى دمشق وَبَقِي قلبه عِنْدهَا وكل وَقت يسْأَل عَنْهَا فتطاول مَرضهَا وَكَانَ يعالجها جمَاعَة من أفاضل الْأَطِبَّاء وأحضر إِلَيْهَا الْحَكِيم سكرة فَوَجَدَهَا قَليلَة الْأكل متغيرة المزاج لم تزل جنبها إِلَى الأَرْض فتردد إِلَيْهَا مَعَ الْجَمَاعَة
ثمَّ اسْتَأْذن الْخَادِم فِي الْحُضُور إِلَيْهَا وَحده فَأَذنت لَهُ فَقَالَ لَهَا يَا ستي أَنا أعالجك بعلاج تبرئي بِهِ فِي أسْرع وَقت إنْشَاء الله تَعَالَى وَمَا تحتاجي(1/637)
مَعَه إِلَى شَيْء آخر
فَقَالَت افْعَل
فَقَالَ اشتهي أَن مهما أَسأَلك عَنهُ تخبريني بِهِ وَلَا تخفني
فَقَالَت نعم
وَأخذ مِنْهَا أَمَانًا فَقَالَت تعرفيني مَا جنسك فَقَالَت عَلَانيَة
فَقَالَ العلان فِي بِلَادهمْ نَصَارَى فعرفين أيش كَانَ أَكثر أكلك فِي بلدك فَقَالَت لحم الْبَقر
فَقَالَ يَا ستي وَمَا كنت تشربي من النَّبِيذ الَّذِي عِنْدهم فَقَالَت كَذَا كَانَ
فَقَالَ ابشري بالعافية
وَرَاح إِلَى بَيته وَاشْترى عجلا وذبحه وطبخ مِنْهُ وجاب مَعَه فِي زبدية مِنْهُ قطع لحم مسلوق وَقد جعلهَا فِي لبن وثوم وفوقها رغيف خبز فَأحْضرهُ بَين يَديهَا وَقَالَ كلي
فمالت نَفسهَا إِلَيْهِ وَصَارَت تجْعَل اللَّحْم فِي اللَّبن والثوم وتأكل حَتَّى شبعت
ثمَّ بعد ذَلِك أخرج من كمة برنية صَغِيرَة وَقَالَ يَا ستي هَذَا شراب ينفعك فتناوليه فَشَربته وَطلبت النّوم وغطيت بفرجية فرو سنجاب فعرقت عرقا كثيرا وأصبحت فِي عَافِيَة
وَصَارَ يُجيب لَهَا من ذَلِك الْغذَاء وَالشرَاب يَوْمَيْنِ آخَرين فتكاملت عَافِيَتهَا فأنعمت عَلَيْهِ وأعطته صنية مَمْلُوءَة حليا
فَقَالَ أُرِيد مَعَ هَذَا أَن تكتبي لي كتابا إِلَى السُّلْطَان وتعرفيه مَا كنت فِيهِ من الْمَرَض وَأَنَّك تعافيت على يَدي فوعدته بذلك وكتبت إِلَى السُّلْطَان تشكر مِنْهُ وَتقول لَهُ فِيهِ أَنَّهَا كَانَت قد أشرفت على الْمَوْت وَأَن فلَان عالجني وَمَا وجدت الْعَافِيَة إِلَّا على يَدَيْهِ وَجَمِيع الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا عِنْدِي مَا عرفُوا مرضِي
وَطلبت مِنْهُ أَن يحسن إِلَيْهِ
فَلَمَّا قَرَأَ الْكتاب استدعاه واحترمه وَقَالَ لَهُ هم شاكرون من مداواتك
فَقَالَ يَا مَوْلَانَا كَانَت من الهالكين وَإِنَّمَا الله عز وَجل جعل عَافِيَتهَا على يَدي لبَقيَّة أجل كَانَ لَهَا فَاسْتحْسن قَوْله وَقَالَ أيش تُرِيدُ أُعْطِيك
فَقَالَ يَا مَوْلَانَا تطلق لي عشرَة فدادين خَمْسَة فِي قَرْيَة صمع وَخَمْسَة فِي قَرْيَة عندان
فَقَالَ نطلقها لَك بيعا وَشِرَاء حَتَّى تبقى مُؤَبّدَة لَك
وَكتب لَهُ بذلك وخلع عَلَيْهِ
وَعَاد إِلَى حلب وَكَثُرت أَمْوَاله بهَا
وَلم يزل فِي نعْمَة طائلة بهَا وَأَوْلَاده بعده
عفيف بن سكرة
هُوَ عفيف بن عبد القاهر سكرة يَهُودِيّ من أهل حلب عَارِف بصناعة الطِّبّ مَشْهُور بأعمالها وجودة النّظر فِيهَا
لَهُ أَوْلَاد وَأهل أَكْثَرهم مشتغلون بصناعة الطِّبّ ومقامهم بِمَدِينَة حلب
ولعفيف بن سكرة من الْكتب مقَالَة فِي القولنج ألفها للْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
ابْن الصّلاح
هُوَ الشَّيْخ الْعَالم نجم الدّين أَبُو الْفتُوح أَحْمد بن مُحَمَّد بن السّري وَكَانَ يعرف بِابْن الصّلاح فَاضل فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة جيد الْمعرفَة بهَا مطلع على دقائقها وأسرارها فصيح اللِّسَان قوي الْعبارَة مليح التصنيف(1/638)
متميز فِي علم صناعَة الطِّبّ وَكَانَ أعجميا أَصله من هَمدَان وقطن بِبَغْدَاد واستدعاه حسام الدّين تمرتاش بن الْغَازِي بن أرتق إِلَيْهِ وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام وَبَقِي فِي صحبته مُدَّة
ثمَّ توجه ابْن الصّلاح إِلَى دمشق
وَلم يزل بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله بِدِمَشْق لَيْلَة الْأَحَد سنة نَيف وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة وَدفن فِي مَقَابِر الصُّوفِيَّة عِنْد نهر بانياس بِظَاهِر دمشق
ونقلت من خطّ الشَّيْخ الْحَكِيم أَمِين الدّين أبي زَكَرِيَّا يحيى بن إِسْمَاعِيل البياسي رَحمَه الله قَالَ كَانَ قد ورد إِلَى دمشق الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الفيلسوف أَبُو الْفتُوح بن الصّلاح من بَغْدَاد وَنزل عِنْد الشَّيْخ الْحَكِيم أبي الْفضل إِسْمَاعِيل ابْن أَبُو الْوَقار الطَّبِيب
وَأَرَادَ ابْن الصّلاح أَن يسْتَعْمل لَهُ تمشكا بغداديا وَسَأَلَ عَن صانع مجيد لعمل ذَلِك فَدلَّ على رجل يُقَال لَهُ سَعْدَان الإسكاف
فَاسْتعْمل التمشك عِنْده وَلما فرغ مِنْهُ بعد مُدَّة وجده ضيق الصَّدْر زَائِد الطول رَدِيء الصَّنْعَة فَبَقيَ فِي أَكثر أوقاته يعِيبهُ ويستقبح صَنعته وَيَلُوم الَّذِي اسْتَعْملهُ
وَبلغ ذَلِك الشَّيْخ أَبَا الحكم المغربي الطَّبِيب فَقَالَ على لِسَان الفيلسوف هَذِه القصيدة على سَبِيل المجون وَذكر فِيهَا أَشْيَاء كَثِيرَة من اصْطِلَاحَات الْمنطق والألفاظ الْحكمِيَّة والهندسية وَهِي
(مصابي مصاب تاه فِي وَصفه عَقْلِي ... وأمري عَجِيب شَرحه يَا أَبَا الْفضل)
(أبثك مَا بِي من أسى وصبابة ... وَمَا قد لقِيت فِي دمشق من الذل)
(قدمت إِلَيْهَا جَاهِلا بأمورها ... على إِنَّنِي حوشيت فِي الْعلم من جهل)
(وَقد كَانَ فِي رجْلي تمشك فخانني ... عَلَيْهِ زمَان لَيْسَ يحمد فِي فعل)
(فَقلت عَسى أَن يخلف الدَّهْر مثله ... وهيهات أَن أَلْقَاهُ فِي الْحزن والسهل)
(ولاحقني نذل دهيت بِقُرْبِهِ ... فَللَّه مَا قاسيت من ذَلِك النذل)
(فَقلت لَهُ يَا سعد جد لي بحاجة ... تخور بهَا شكر امْرِئ عَالم مثلي)
(بحقي عَسى تستنخب الْيَوْم قِطْعَة ... من الْأدم المدبوغ بالعفص والخل)
(فَقَالَ على رَأْسِي وحقك وَاجِب ... على كل إِنْسَان يرى مَذْهَب الْعقل)
(فناولته فِي الْحَال عشْرين درهما ... وسوفني شَهْرَيْن بِالدفع والمطل)
(فَلَمَّا قضى الرَّحْمَن لي بنجازه ... وَقلت ترى سعد أَن انجز لي شغلي)
(أَتَى بتمشك ضيق الصَّدْر أحنف ... بكعب غَدا حتفا على الكعب وَالرجل)
(وبشتيكه بشتيك سوء مقارب ... أضيف إِلَى نعل شَيْبه بِهِ فسل)
(بشكل على الأذهان يعسر حلّه ... ويعيي ذَوي الْأَلْبَاب وَالْعقد والحل)
(وَكَعب إِلَى القطب الشمالي ماثل ... وَوجه إِلَى القطب الجنوبي مستعلي)
(وَمَا كَانَ فِي هندامه لي صِحَة ... وَلَكِن فَسَاد شاع فِي الْفَرْع وَالْأَصْل)
(موازاة خطى جانبيه تخالفا ... فجزء إِلَى علو وجزء إِلَى سفل)(1/639)
(وَكم فِيهِ من عيب وخرز مفتق ... يعاف وَمن قطع من الزيج والنعل)
(بوصل ضَرُورِيّ وَقد كَانَ مُمكنا ... لعمرك أَن يَأْتِي التمشك بِلَا وصل)
(وَفِيه اختلال من قِيَاس مركب ... فَلَا ينْتج الشرطي مِنْهُ وَلَا الحملي)
(فَلَا شكله القطاع مِمَّا يَلِيق أَن ... أصون بِهِ رجْلي فَلَا كَانَ من شكل)
(وَلَا جنس أيساغوجه بَين وَلَا ... يحد لَهُ نوع إِذا جِيءَ بِالْفَصْلِ)
(فَسَاد طرافى شكله عِنْد كَونه ... فَقل أَي شَيْء عَن مقابحه يسلي)
(وَقد كَانَ فِيهِ قُوَّة لمرادنا ... فأعوزنا مِنْهُ الْخُرُوج إِلَى الْفِعْل)
(فَلَو كَانَ معدول الْكَمَال احتملته ... وَلَكِن سليب الْحس فِي الْجُزْء وَالْكل)
(فيا لَك فِي إِيجَاب مَا الصدْق سلبه ... وَعدل قضايا جَاءَ من غير ذِي عدل)
(وَمَا عازني فِيهِ اختلال مقوله ... فجوهره والكم والكيف فِي خبل)
(وَأي القضايا لم يبن فِيهِ كذبهَا ... وَأي قِيَاس لَيْسَ فِيهِ بمعتل)
(لقد أعوز الْبُرْهَان مِنْهُ شَرَائِط ... فإيجابه ثمَّ الضَّرُورِيّ والكلي)
(إِذا حط فِي شمس فمخروط باشه ... لملتفت يُبْدِي انحرافا إِلَى الظل)
(وطبطب فِي رجْلي والصيف مَا انْقَضى ... فَكيف بِهِ أَن صرت فِي الطين والوحل)
(فأذهلني حَتَّى بقيت مغيبا ... وَلم يبْق لي سَعْدَان يَا صَاح من عقل)
(وَفِي كل ذَا قد بَان نقف دماغه ... فأهون بشخص نَاقص الْعقل مختل)
(وأخرب بَيت مِنْهُ فِي الْخلق مَا ترى ... سَرِيعا وَأولى بالهوان وبالأزل)
(وأوقليدس لَو عَاشَ أعيا انحلاله ... عَلَيْهِ لِأَن الشكل مُمْتَنع الْحل)
(فَحِينَئِذٍ أَقْسَمت بِاللَّه خالقي ... وَهود أخي عَاد وشيث وَذي الكفل)
(وَسورَة يس وطه وَمَرْيَم ... وصاد وحم ولقمان والنمل)
(لَئِن لم أجد فِي المزلقان ملاسة ... تؤاتي كراعي لَا جَعَلْنَاهُ فِي حل)
(وَلَا قلت شعرًا فِي دمشق وَلَا أرى ... أعاتب اسكافا بجد وَلَا هزل)
(دهيت بِهِ خلا ينغص عيشتي ... فَلَا بَارك الرَّحْمَن لي فِيهِ من خل)
(وَكم آلم الإسكاف قلبِي بمطله ... ولاقيت مَا لاقاه مُوسَى من الْعجل)
(وَكَانَ أرسطاليس يدهى بمعشر ... يرومون مِنْهُ أَن يُوَافق فِي الْهزْل)
(وبقراط قد لَاقَى أمورا كَثِيرَة ... وَلكنه لم يلق فِي أَهله مثلي)
(وَقد كَانَ جالينوس أَن عض رجله ... تمشك يداوي الْعقر بالمرهم النخلي)(1/640)
(وقسطا بن لوقا كَانَ يحفى لأجل ذَا ... وَمَا كَانَ يصغي فِي حفاه إِلَى عذل)
(وَكَانَ أَبُو نصر إِذا زار معشرا ... وَضاع لَهُ نعل يروح بِلَا نعل)
(وأرباب هَذَا الْعلم مَا فتئوا كَذَا ... يقاسون مَا لَا يَنْبَغِي من ذَوي الْجَهْل)
(لذَلِك إِنِّي مذ حللت بجلق ... نَدِمت فأزمعت الرُّجُوع إِلَى أَهلِي)
(وَلَو كنت فِي بَغْدَاد قَامَ لنصرتي ... هُنَالك أَقوام كرام ذَوُو نبل)
(وَمَا كنت أَخْلو من ولي مساعد ... وَذي رَغْبَة فِي الْعلم اكْتُبْ مَا أملي)
(فيا لَيْتَني مستعجلا طرت نَحْوهَا ... وَمن لي بِهَذَا وَهُوَ مُمْتَنع من لي)
(فَفِي الشَّام قد لاقيت ألف بلية ... فيا لَيْت أَنِّي مَا حططت بهَا رحلي)
(على أنني فِي جلق بَين معشر ... أعاشر مِنْهُم معشرا لَيْسَ من شكلي)
(فاقسم مَا نوء الثريا إِذا همى ... وجاد على الْأَرْضين رائمة الْمحل)
(وَلَا بَكت الخنساء صخرا شقيقها ... وأدمعها فِي الخد دائمة الهطل)
(بأغزر من دمعي إِذا مَا رَأَيْته ... وَقد جَاءَ فِي رجْلي منحرف الشكل)
(وأمرضني مَا قد لقِيت لأَجله ... فيا لَيْت أَنِّي قد بقيت بِلَا رجْلي)
(فَهَذَا وَمَا عددت بعض خصاله ... فَكيف احتراسي من أذيته قل لي)
(وَمن عظم مَا قاسيت من ضيق بأسه ... أَخَاف على جسمي من السقم والسل)
(فيا لتمشك مذ تَأَمَّلت شكله ... علمت يَقِينا أَنه مُوجب قَتْلِي)
(وينشد من يَأْتِيهِ نعيي بجلق ... بِنَا مِنْك فَوق الرمل مَا بك فِي الرمل)
(فَلَا تعجبوا مهما دهاني فإنني ... وجدت بِهِ مَا لم يجد أحد قبلي) الطَّوِيل
وَلابْن الصّلاح من الْكتب مقَالَة فِي الشكل الرَّابِع من أشكال الْقيَاس الحملى وَهَذَا الشكل الْمَنْسُوب إِلَى جالينوس
كتاب فِي الْفَوْز الْأَصْغَر فِي الْحِكْمَة
شهَاب الدّين السهروردي
هُوَ الإِمَام الْعَالم الْفَاضِل أَبُو حَفْص عمر بن
كَانَ أوحدا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة جَامعا للفنون الفلسفية بارعا فِي الْأُصُول الفلكية مفرط الذكاء جيد الْفطْرَة فصيح الْعبارَة
لم يناظر أحدا إِلَّا بزه وَلم يباحث محصلا إِلَّا أربى عَلَيْهِ
وَكَانَ علمه أَكثر من عقله
حَدثنِي الشَّيْخ سديد الدّين ابْن عمر قَالَ كَانَ شهَاب الدّين السهروردي قد أَتَى إِلَى شَيخنَا فَخر الدّين المارديني وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ(1/641)
فِي أَوْقَات وَبَينهمَا صداقة وَكَانَ الشَّيْخ فَخر الدّين يَقُول لنا مَا أذكى هَذَا الشَّاب وأفصحه وَلم أجد أحدا مثله فِي زماني إِلَّا أَنِّي أخْشَى عَلَيْهِ لِكَثْرَة تهوره واستهتاره وَقلة تحفظه أَن يكون ذَلِك سَببا لتلافه
قَالَ فَلَمَّا فارقنا شهَاب الدّين السهروردي من الشرق وَتوجه إِلَى الشَّام أَتَى إِلَى حلب وناظر بهَا الْفُقَهَاء وَلم يجاره أحد فَكثر تشنيعهم عَلَيْهِ فَاسْتَحْضرهُ السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر غَازِي ابْن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب واستحضر الأكابر من المدرسين وَالْفُقَهَاء والمتكلمين ليسمع مَا يجْرِي بَينهم وَبَينه من المباحث وَالْكَلَام
فَتكلم مَعَهم بِكَلَام كثير بَان لَهُ فضل عَظِيم وَعلم باهر وَحسن موقعه عِنْد الْملك الظَّاهِر وقربه وَصَارَ مكينا عِنْده مُخْتَصًّا بِهِ فازداد تشنيع أُولَئِكَ عَلَيْهِ وَعمِلُوا محاضرة
بِكُفْرِهِ وسيروها إِلَى دمشق إِلَى الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين
وَقَالُوا إِن بَقِي هَذَا فَإِنَّهُ يفْسد اعْتِقَاد الْملك الظَّاهِر وَكَذَلِكَ إِن أطلق فَإِنَّهُ يفْسد أَي نَاحيَة كَانَ بهَا من الْبِلَاد
وَزَادُوا عَلَيْهِ أَشْيَاء كَثِيرَة من ذَلِك فَبعث صَلَاح الدّين إِلَى وَلَده الْملك الظَّاهِر بحلب كتابا فِي حَقه بِخَط القَاضِي الْفَاضِل وَهُوَ يَقُول فِيهِ إِن هَذَا الشهَاب السهروردي لَا بُد من قَتله وَلَا سَبِيل أَنه يُطلق وَلَا يبْقى بِوَجْه من الْوُجُوه
وَلما بلغ شهَاب الدّين السهروردي ذَلِك وأيقن أَنه يقتل وَلَيْسَ جِهَة إِلَى الإفراج عَنهُ اخْتَار أَن يتْرك فِي مَكَان مُفْرد وَيمْنَع من الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى أَن يلقى الله تَعَالَى فَفعل بِهِ ذَلِك
وَكَانَ فِي أَوَاخِر سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بقلعة حلب وَكَانَ عمره نَحْو سِتّ وَثَلَاثِينَ سنة
قَالَ الشَّيْخ سديد الدّين مَحْمُود بن عمر وَلما بلغ شَيخنَا فَخر الدّين المارديني قَتله قَالَ لنا أَلَيْسَ كنت قلت لكم عَنهُ هَذَا من قبل وَكنت أخْشَى عَلَيْهِ مِنْهُ
أَقُول ويحكى عَن شهَاب الدّين السهروردي أَنه كَانَ يعرف علم السيمياء وَله نَوَادِر شوهدت عَنهُ من هَذَا الْفَنّ وَمن ذَلِك حَدثنِي الْحَكِيم إِبْرَاهِيم بن أبي الْفضل بن صَدَقَة أَنه اجْتمع بِهِ وَشَاهد مِنْهُ ظَاهر بَاب الْفرج وهم يتمشون إِلَى نَاحيَة الميدان الْكَبِير وَمَعَهُ جمَاعَة من التلاميذ وَغَيرهم وَجرى ذكر هَذَا الْفَنّ وبدائعه وَمَا يعرف مِنْهُ وَهُوَ يسمع
فَمشى قَلِيلا وَقَالَ مَا أحسن دمشق وَهَذِه الْمَوَاضِع
قَالَ فَنَظَرْنَا وَإِذا من نَاحيَة الشرق جواسق عالية متدانية بَعْضهَا إِلَى بعض مبيضة وَهِي من أحسن مَا يكون بناية وزخرفة وَبهَا طاقات كبار فِيهَا نسَاء مَا يكون أحسن مِنْهُنَّ قطّ وأصوات مغان وأشجار مُتَعَلقَة بَعْضهَا مَعَ بعض وأنهر جَارِيَة كبار وَلم نَكُنْ نَعْرِف ذَلِك من قبل فبقينا نتعجب من ذَلِك وتستحسنه الْجَمَاعَة وانذهلوا لما رَأَوْا
قَالَ الْحَكِيم فبقينا كَذَلِك سَاعَة ثمَّ غَابَ عَنَّا وعدنا إِلَى رُؤْيَة مَا كُنَّا نعرفه من طول الزَّمَان
قَالَ لي إِلَّا أَن عِنْد رُؤْيَة تِلْكَ الْحَالة الأولى العجيبة بقيت أحس فِي نَفسِي كأنني فِي سنة خُفْيَة وَلم يكن إدراكي كالحالة الَّتِي أتحققها مني
وحَدثني بعض فُقَهَاء الْعَجم قَالَ كُنَّا مَعَ الشَّيْخ شهَاب الدّين عِنْد الغابون وَنحن مسافرون عَن دمشق فلقينا قطيع غنم مَعَ تركماني فَقُلْنَا للشَّيْخ يَا مَوْلَانَا نُرِيد من هَذَا الْغنم رَأْسا نأكله فَقَالَ معي عشرَة دَرَاهِم خذوها واشتروا بهَا رَأس غنم
وَكَانَ ثمَّ تركماني فاشترينا مِنْهُ رَأْسا بهَا فمشينا(1/642)
فلحقنا رَفِيق لَهُ وَقَالَ ردوا الرَّأْس وخذوا أَصْغَر مِنْهُ فَإِن هَذَا مَا عرف يبيعكم يسوى هَذَا الرَّأْس الْبُخْتِيَّة الَّذِي مَعكُمْ أَكثر من الَّذِي قبض مِنْكُم
وتقاولنا نَحن وإياه وَلما عرف الشَّيْخ ذَلِك قَالَ لنا خُذُوا الرَّأْس وامشوا وَأَنا أَقف مَعَه وأرضيه فتقدمنا وَبَقِي الشَّيْخ يتحدث مَعَه ويمنيه فَلَمَّا أبعدنا قَلِيلا تَركه وتبعنا وَبَقِي التركماني يمشي خَلفه ويصيح بِهِ وَهُوَ لَا يلْتَفت إِلَيْهِ وَلما لم يكلمهُ لحقه بغيظ وجذب يَده الْيُسْرَى وَقَالَ أَيْن تروح وتخليني وَإِذا بيد الشَّيْخ قد انخلعت من عِنْد كتفه وَبقيت فِي يَد التركماني ودمها يجْرِي
فبهت التركماني وتحير فِي أمره وَرمى الْيَد وَخَافَ
فَرجع الشَّيْخ وَأخذ تِلْكَ الْيَد بِيَدِهِ اليمني ولحقنا
وَبَقِي التركماني رَاجعا وَهُوَ يتلفت إِلَيْنَا حَتَّى غَابَ
وَلما وصل الشَّيْخ إِلَيْنَا رَأينَا فِي يَده الْيُمْنَى منديله لَا غير
وحَدثني صفي الدّين خَلِيل بن أبي فضل الْكَاتِب قَالَ حَدثنَا الشَّيْخ ضِيَاء الدّين بن صقر رَحمَه الله أَن فِي سنة خَمْسمِائَة وَتِسْعَة وَسبعين قدم إِلَى حلب الشَّيْخ شهَاب الدّين عمر السهروردي وَنزل فِي مدرسة الجلاوية وَكَانَ مدرسها يَوْمئِذٍ الشريف رَئِيس الْحَنَفِيَّة افتخار الدّين رَحمَه الله
فَلَمَّا حضر شهَاب الدّين الدَّرْس وَبحث مَعَ الْفُقَهَاء وَكَانَ لابس دلق وَهُوَ مُجَرّد بإبريق وعكاز وَمَا كَانَ أحد يعرفهُ
فَلَمَّا بحث وتميز بَين الْفُقَهَاء وَعلم افتخار الدّين أَنه فَاضل أخرج لَهُ ثوبا عتابيا وغلالة ولباسا وبقيارا وَقَالَ لوَلَده تروح إِلَى هَذَا الْفَقِير وَتقول لَهُ وَالِدي يسلم عَلَيْك وَيَقُول لَك أَنْت رجل فَقِيه وتحضر الدَّرْس بَين الْفُقَهَاء وَقد سير لَك شَيْئا تكون تلبسه إِذا حضرت
فَلَمَّا وصل وَلَده إِلَى الشَّيْخ شهَاب الدّين وَقَالَ لَهُ مَا أوصاه سكت سَاعَة وَقَالَ يَا وَلَدي حط هَذَا القماش وتفضل اقْضِ لي حَاجَة
وَأخرج لَهُ فص بلخش فِي قدر بَيْضَة الدَّجَاجَة رماني مَا ملك أحد مثله فِي قده ولونه وَقَالَ تروح إِلَى السُّوق تنادي على هَذَا الفص وَمهما جاب لَا تطلق بَيْعه حَتَّى تعرفنِي
فَلَمَّا وصل بِهِ إِلَى السُّوق عِنْد العريف ونادى على الفص فَانْتهى ثمنه إِلَى مبلغ خَمْسَة وَعشْرين ألف دِرْهَم
فَأَخذه العريف وطلع إِلَى الْملك الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين وَهُوَ يَوْمئِذٍ صَاحب حلب وَقَالَ هَذَا الفص قد جاب هَذَا الثّمن فأعجب الْملك الظَّاهِر قده ولونه وَحسنه فَبَلغهُ إِلَى ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم
فَقَالَ العريف حَتَّى أنزل إِلَى ابْن افتخار الدّين وَأَقُول لَهُ
وَأخذ الفص وَنزل إِلَى السُّوق وَأَعْطَاهُ لَهُ وَقَالَ لَهُ رح شاور والدك على هَذَا الثّمن
واعتقد العريف أَن الفص لافتخار الدّين فَلَمَّا جَاءَ إِلَى شهَاب الدّين السهروردي وعرفه بِالَّذِي جاب الفص صَعب عَلَيْهِ وَأخذ الفص وَجعله على حجر وضربه بِحجر آخر حَتَّى فتته وَقَالَ لولد افتخار الدّين خُذ يَا وَلَدي هَذِه الثِّيَاب ورح إِلَى والدك قبل يَده عني وَقل لَهُ لَو أردنَا الملبوس مَا غلبنا عَنهُ
فراح إِلَى افتخار الدّين وعرفه صُورَة مَا جرى فَبَقيَ حائرا فِي قَضيته
وَأما الْملك الظَّاهِر فَإِنَّهُ طلب العريف وَقَالَ أُرِيد الفص
فَقَالَ يَا مَوْلَانَا أَخذه صَاحبه ابْن الشريف افتخار الدّين مدرس الجلوية
فَركب السُّلْطَان وَنزل إِلَى الْمدرسَة وَقعد فِي الإيوان(1/643)
وَطلب افتخار الدّين إِلَيْهِ وَقَالَ أُرِيد الفص
فَعرفهُ أَنه لشخص فَقير نَازل عِنْده
قَالَ فأفكر السُّلْطَان ثمَّ قَالَ يَا افتخار الدّين إِن صدق حدسي فَهَذَا شهَاب الدّين السهروردي
ثمَّ قَامَ السُّلْطَان وَاجْتمعَ بشهاب الدّين وَأَخذه مَعَه إِلَى القلعة وَصَارَ لَهُ شَأْن عَظِيم
وَبحث مَعَ الْفُقَهَاء فِي سَائِر الْمذَاهب وعجزهم واستطال على أهل حلب وَصَارَ يكلمهم كَلَام من هُوَ أَعلَى قدرا مِنْهُم فتعصبوا عَلَيْهِ وأفتوا فِي دَمه حَتَّى قتل وَقيل ان الْملك الظَّاهِر سير اليه من خنقه قَالَ ثمَّ ان الْملك الظَّاهِر بعد مُدَّة نقم على الَّذين افتوا فِي دَمه وَقبض على جمَاعَة مِنْهُم واعتقلهم وأهانهم وَأخذ مِنْهُم أَمْوَالًا عَظِيمَة
حَدثنِي سديد الدّين مَحْمُود بن عمر الْمَعْرُوف بِابْن رقيقَة قَالَ كَانَ الشَّيْخ شهَاب الدّين السهروردي رث البزة لَا يلْتَفت إِلَى مَا يلْبسهُ وَلَا لَهُ احتفال بِأُمُور الدُّنْيَا
قَالَ وَكنت أَنا وإياه نتمشى فِي جَامع ميافارقين وَهُوَ لابس جُبَّة قَصِيرَة مضربة زرقاء وعَلى رَأسه فوطة مفتولة وَفِي رجلَيْهِ زربول ورآني صديق لي فَأتى إِلَى جَانِبي وَقَالَ مَا جِئْت تماشي إِلَّا هَذَا الخربند فَقلت لَهُ اسْكُتْ هَذَا سيد الْوَقْت شهَاب الدّين السهروردي
فتعاظم قولي وتعجب وَمضى وحَدثني بعض أهل حلب قَالَ لما توفّي شهَاب الدّين رَحمَه الله وَدفن بِظَاهِر مَدِينَة حلب وجد مكتوباعلى قَبره وَالشعر قديم
(قد كَانَ صَاحب هَذَا الْقَبْر جَوْهَرَة ... مكنونة قد براها الله من شرف)
(فَلم تكن تعرف الْأَيَّام قِيمَته ... فَردهَا غيرَة مِنْهُ إِلَى الصدف) الْبَسِيط
وَمن كَلَامه قَالَ فِي دعاءاللهم يَا قيام الْوُجُود وفائض الْجُود ومنزل البركات ومنتهى الرغبات منور النُّور ومدبر الْأُمُور وواهب حَيَاة الْعَالمين أمددنا بنورك ووفقنا لمرضاتك وألهمنا رشدك وَطَهِّرْنَا من رِجْس الظُّلُمَات وخلصنا من غسق الطبيعة إِلَى مُشَاهدَة أنوارك ومعاينة أضوائك ومجاورة مقربيك وموافقة سكان ملكوتك
واحشرنا مَعَ الَّذين أَنْعَمت عَلَيْهِم من الْمَلَائِكَة وَالصديقين والأنبياء وَالْمُرْسلِينَ
وَمن شعر شهَاب الدّين السهروردي
(أبدا تحن إِلَيْكُم الْأَرْوَاح ... ووصالكم ريحانها والراح)
(وَقُلُوب أهل ودادكم تشتاقكم ... وَإِلَى لذيذ وصالكم ترتاح)
(وارحمتا للعاشقين تكلفوا ... ستر الْمحبَّة والهوى فضاح)
(بالسر إِن باحوا تُبَاح دِمَاؤُهُمْ ... وَكَذَا دِمَاء البائحين تُبَاح)
(وَإِذا هم كتموا تحدث عَنْهُم ... عِنْد الوشاة المدمع السحاح)
(وبدت شَوَاهِد للسقام عَلَيْهِم ... فِيهَا لمشكل أَمرهم إِيضَاح)(1/644)
(خفض الْجنَاح لكم وَلَيْسَ عَلَيْهِم ... للصب فِي خفض الْجنَاح جنَاح)
(فَإلَى لقاكم نَفسه مشتاقة ... وَإِلَى رضاكم طرفه طماح)
(عودوا بِنور الْوَصْل من غسق الدجا ... فالهجر ليل والوصال صباح)
(وتمتعوا فالوقت طَالب لكم وَقد ... رق الشَّرَاب ودارت الأقداح)
(مترنحا وَهُوَ الغزال الشارد ... وبخده الصَّهْبَاء والتفاح)
(وبثغره الشهد الشهي وَقد بدا ... فِي أحسن الْيَاقُوت مِنْهُ أقاح) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(فز بالنعيم فَإِن عمرك ينفذ ... وتغنم الدُّنْيَا فَلَيْسَ مخلد)
(وَإِذا ظَفرت بلذة فانهض لَهَا ... لَا يمنعنك عَن هَوَاك مُفند)
(وصل الصبوح مَعَ الغبوق فَإِنَّمَا ... دنياك يَوْم وَاحِد يتَرَدَّد)
(وعدوك تشرب فِي الْجنان مدامة ... ولتندمن إِذا نهاك الْموعد)
(كم أمة هَلَكت وَدَار عطلت ... ومساجد خربَتْ وَعمر معهد)
(وَلكم نَبِي قد أَتَى بشريعة ... قدما وَكم صلوا لَهَا وتعبدوا) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(أَقُول لجارتي والدمع جاري ... ولي عزم الرحيل عَن الديار)
(ذَرِينِي أَن أَسِير وَلَا تنوحي ... فَإِن الشهب أشرفها السَّوَارِي)
(وَإِنِّي فِي الظلام رَأَيْت ضوءا ... كَأَن اللَّيْل زين بِالنَّهَارِ)
(إِلَى كم أجعَل الْحَيَّات صحبي ... إِلَى كم أجعَل التنين جاري)
(وَكم أرْضى الْإِقَامَة فِي فلاة ... وَفَوق الفرقدين رَأَيْت دَاري)
(ويأتيني من الصنعاء برق ... يذكرنِي بهَا قرب المزار) الوافر
وَقَالَ عِنْد وَفَاته وَهُوَ يجود بِنَفسِهِ لما قتل
(قل لأَصْحَاب رأوني مَيتا ... فبكوني إِذْ رأوني حزنا)
(لَا تظنوني بِأَنِّي ميت ... لَيْسَ ذَا الْمَيِّت وَالله أَنا)
(أَنا عُصْفُور وَهَذَا قفصي ... طرت عَنهُ فتخلى رهنا)
(وَأَنا الْيَوْم أُنَاجِي مَلأ ... وَأرى الله عيَانًا بهنا)
(فاخلعوا الْأَنْفس عَن أجسادها ... لترون الْحق حَقًا بَينا)(1/645)
(لَا ترعكم سكرة الْمَوْت فَمَا ... هِيَ إِلَّا انْتِقَال من هُنَا)
(عنصر الْأَرْوَاح فِينَا وَاحِد ... وَكَذَا الْأَجْسَام جسم عمنَا)
(مَا أرى نَفسِي إِلَّا أَنْتُم ... واعتقادي أَنكُمْ أَنْتُم أَنا)
(فَمَتَى مَا كَانَ خيرا فلنا ... وَمَتى مَا كَانَ شرا فبنا)
(فارحموني ترحموا أَنفسكُم ... وَاعْلَمُوا أَنكُمْ فِي أثرنا)
(من رَآنِي فليقو نَفسه ... إِنَّمَا الدُّنْيَا على قرن الفنا)
(وَعَلَيْكُم من كَلَامي جملَة ... فسلام الله مدح وثنا) الرمل
ولشهاب الدّين السهروردي من الْكتب كتاب التلويحات اللحوية والعرشية
كتاب الألواح الْعمادِيَّة أَلفه لعماد الدّين أبي بكر بن قرا أرسلان بن دَاوُد بن أرتق صَاحب خرت برت
كتاب اللحمة
كتاب المقاومات وَهُوَ لواحق على كتاب التلويحات
كتاب هياكل النُّور
كتاب المعارج
كتال المطارحات
كتاب حِكْمَة الْإِشْرَاق
شمس الدّين الخوبي
هُوَ الصَّدْر الإِمَام الْعَالم الْكَامِل قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين حجَّة الْإِسْلَام سيد الْعلمَاء والحكماء أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن الْخَلِيل بن سَعَادَة بن جَعْفَر بن عِيسَى من مَدِينَة خوي كَانَ أوحد زَمَانه فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وعلامة وقته فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة
عَارِفًا بأصول الطِّبّ وَغَيره من أَجزَاء الْحِكْمَة عَاقِلا كثير الْحيَاء حسن الصُّورَة كريم النَّفس محبا لفعل الْخَيْر
وَكَانَ رَحمَه الله ملازما للصَّلَاة وَالصِّيَام وَقِرَاءَة الْقُرْآن
وَلما ورد إِلَى الشَّام فِي أَيَّام السُّلْطَان الْملك الْمُعظم عِيسَى بن الْملك الْعَادِل استحضره وَسمع كَلَامه فَوَجَدَهُ أفضل أهل زَمَانه فِي سَائِر الْعُلُوم
وَكَانَ الْملك الْمُعظم عَالما بالأمور الشَّرْعِيَّة وَالْفِقْه فَحسن موقعه عِنْده وأكرمه وَأطلق لَهُ جامكية وجراية
وَبَقِي مَعَه فِي الصُّحْبَة
ثمَّ جعله مُقيما بِدِمَشْق وَله مِنْهُ الَّذِي لَهُ
وَقَرَأَ عَلَيْهِ جمَاعَة من المشتغلين وانتفعوا بِهِ
وَكنت أتردد إِلَيْهِ وقرأت عَلَيْهِ التَّبْصِرَة لِابْنِ سهلان
وَكَانَ حسن الْعبارَة قوي البراعة فصيح اللِّسَان بليغ الْبَيَان وافر الْمَرْوَة كثير الفتوة
وَكَانَ شَيْخه الإِمَام فَخر الدّين بن خطيب الرّيّ لحقه وَقَرَأَ عَلَيْهِ ثمَّ ولاه الْملك الْمُعظم الْقَضَاء وَجعله قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق
وَكَانَ مَعَ ذَلِك كثير التَّوَاضُع لطيف الْكَلَام يمْضِي إِلَى الْجَامِع مَاشِيا للصلوات فِي أَوْقَاتهَا
وَله تصانيف لَا مزِيد عَلَيْهَا فِي الْجَوْدَة
وَكَانَ سَاكِنا فِي الْمدرسَة العادلية ويلقى بهَا الدَّرْس للفقهاء
وَلم يزل على هَذِه الْحَال إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله وَهُوَ فِي سنّ الشَّبَاب(1/646)
وَكَانَت وَفَاته بحمى الدق بِدِمَشْق وَذَلِكَ فِي سَابِع شهر شعْبَان سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
ولشمس الدّين الخوبي من الْكتب تَتِمَّة تَفْسِير الْقُرْآن لِابْنِ خطيب الرّيّ
كتاب فِي النَّحْو
كتاب فِي علم الْأُصُول
كتاب يشْتَمل على رموز حكمِيَّة على ألقاب السُّلْطَان الْملك الْمُعظم صنفه للْملك الْمُعظم عِيسَى بن أبي بكر بن أَيُّوب
رفيع الدّين الجيلي
هُوَ القَاضِي الْأَجَل الإِمَام الْعَالم رفيع الدّين أَبُو حَامِد عبد الْعَزِيز بن عبد الْوَاحِد بن إِسْمَاعِيل ابْن عبد الْهَادِي الجيلي من أهل فيلمان شهر من الجيلان وَكَانَ من الأكابر المتميزين فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وأصول الدّين وَالْفِقْه وَالْعلم الطبيعي والطب
وَكَانَ مُقيما بِدِمَشْق وَهُوَ فَقِيه فِي الْمدرسَة العذراوية دَاخل بَاب النَّصْر
وَله مجْلِس للمشتغلين عَلَيْهِ فِي أَنْوَاع الْعُلُوم والطب
وقرأت عَلَيْهِ شَيْئا من الْعُلُوم الْحكمِيَّة
وَكَانَ فصيح اللِّسَان قوي الذكاء كثير الِاشْتِغَال والمطالعة
واستخدم قَاضِيا فِي مَدِينَة بعلبك وَبَقِي بهَا مديدة
وَكَانَ صديقا للصاحب أَمِين الدولة وَبَينهمَا عشرَة
وَلما تملك السُّلْطَان الْملك الصَّالح عماد الدّين إِسْمَاعِيل دمشق وَتُوفِّي قَاضِي الْقُضَاة شمس الدّين الخوبي رَحمَه الله فَأَشَارَ الصاحب أَمِين الدولة أَن يَجْعَل مَوْضِعه فولاه السُّلْطَان وَصَارَ قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق وَارْتَفَعت مَنْزِلَته وأثرى وَبَقِي كَذَلِك مُدَّة وَكَانَ كثير من النَّاس يتظلمون مِنْهُ ويشكون سيرته
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن الْحَال تأدى بِهِ إِلَى أَن قبض عَلَيْهِ وَقتل رَحمَه الله فِي أَيَّام الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل
وَكَانَ قد وَقع بَين القَاضِي رفيع الدّين وَبَين الْوَزير أَمِين الدولة فبعثوه تَحت الحوطة مَعَ رجال عوامله إِلَى قريب بعلبك فِي مَوضِع فِيهِ هوة عَظِيمَة لَا يعرف لَهَا قَعْر يُقَال لَهَا مغارة أفقه
وَكَانُوا أمروهم بِمَا يَفْعَلُونَهُ بِهِ فكتفوه ثمَّ دفعوه فِي وَسطهَا
وَحدثنَا بعض الَّذين كَانُوا مَعَه أَنه لما دفع فِي تِلْكَ الهوة تحطم فِي نُزُوله وَكَأَنَّهُ تعلق فِي بعض جوانبها أَسْفَل بثيابه
قَالَ فبقينا نسْمع أنينه نَحْو ثَلَاثَة أَيَّام وَكلما مر يضعف وَيخْفى حَتَّى تحققنا من مَوته ورجعنا عَنهُ
أَقُول وَمن عَجِيب مَا يحْكى أَن القَاضِي رفيع الدّين وقف على نُسْخَة من هَذَا الْكتاب بحضوري وَمَا كنت ذكرته فِي تِلْكَ النُّسْخَة فطالع فِيهِ وَلما وقف على أَخْبَار شهَاب الدّين السهروردي تأثر من ذَلِك وَقَالَ لي ذكرت هَذَا وَغَيره أفضل مِنْهُ مَا ذكرته وَأَشَارَ إِلَى نَفسه
ثمَّ قَالَ وإيش كَانَ من حَال شهَاب الدّين إِلَّا أَنه قتل فِي آخر أمره وَقدر الله عز وَجل أَن رفيع الدّين قتل أَيْضا مثله فسبحان الله الْعَظِيم الْمُدبر فِي خلقه بِمَا يَشَاء
وَكَانَت وَفَاة القَاضِي رفيع الدّين فِي شهر ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وَلما كَانَ رفيع الدّين قد تولى الْقَضَاء بِدِمَشْق وَصَارَ قَاضِي الْقُضَاة وَذَلِكَ(1/647)
سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة عملت فِيهِ هَذِه القصيدة وأهنئه فِيهَا
(مجد وَسعد دَائِم وعلاء ... أَبَد الزَّمَان ورفعة وسناء)
(بِبَقَاء مَوْلَانَا رفيع الدّين ذِي ... الْجُود العميم وَمن لَهُ النعماء)
(قَاضِي الْقُضَاة أجل مولى لم يزل ... بعلاه يسمو الْعلم وَالْعُلَمَاء)
(متفرد بالمكرمات وَإِنَّمَا ... كل الورى فِي بَعْضهَا شُرَكَاء)
(لَو رام كل بليغ قَول أَنه ... يحصي علاهُ لقصر البلغاء)
(كم من عداة شَاهِدين بفضله ... وَالْفضل مَا شهِدت بِهِ الْأَعْدَاء)
(وَله التصانيف الَّتِي قد أعربت ... عَن كل مَا قد أعجم القدماء)
(وَبِه لجيل فِي الْبِلَاد مفاخر ... وَكَذَا لهَذَا الجيل مِنْهُ عَلَاء)
(يَا سيدا فاق الْأَنَام حَقِيقَة ... بجميل وصف لَيْسَ فِيهِ خَفَاء)
(قد كَانَ عِنْدِي من فراقك والنوى ... ألم وَمن رُؤْيَاك جَاءَ شِفَاء)
(وأتى إِلَى قلبِي السرُور وأشرقت ... شمس الحبور وزالت البرحاء)
(وبدت تباشير الهناء بِمنْصب ... يعلوه من نور الْإِلَه بهاء)
(إحكام أَحْكَام وَعدل شَائِع ... ملئت بِهِ وبفضلك الغبراء)
(وَتَفَرَّقَتْ فِي النَّاس مِنْك فواضل ... وتجمعت مِنْهُم لَك الْأَهْوَاء)
(فلك السِّيَادَة والسعادة والعلا ... وَالْفضل والأفضال والآلاء)
(وَالْمُشْتَرِي للحمد أَنْت وَإِن تقل ... فصل الْخطاب فَإنَّك الجوزاء)
(وَلَئِن خصصتك بالهناء فَإِنَّهُ ... عَم الْأَنَام بِمَا وليت هناء)
(لله كم أوليتني مننا على ... مر الزَّمَان وَمَا لَهَا إحصاء)
(فَاسْلَمْ وَدم فِي رغد عَيْش دَائِم ... مَا غردت فِي أيكها الورقاء) الْكَامِل
ولرفيع الدّين الجيلي من الْكتب شرح الإشارات والتنبيهات أَلفه المظفر تَقِيّ الدّين عمر ابْن الْملك الأمجد بهران شاه بن فرخ شاه بن شاهنشاه بن أَيُّوب
اخْتِصَار الكليات من كتاب القانون لِابْنِ سينا
كتاب جمع مَا فِي الْأَسَانِيد من حَدِيث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
شمس الدّين الخسروشاهي
هُوَ السَّيِّد الصَّدْر الْكَبِير الْعَالم شمس الدّين عبد الحميد بن عِيسَى الخسروشاهي
وخسروشاه ضَيْعَة قريبَة من تبريز
إِمَام الْعلمَاء سيد الْحُكَمَاء قدوة الْأَنَام شرف الْإِسْلَام
قد تميز فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وحرر الْأُصُول الطبية وأتقن الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَلم يزل دَائِم الِاشْتِغَال جَامعا للفضل(1/648)
والأفضال
وَكَانَ شَيْخه الإِمَام فَخر الدّين بن خطيب الرّيّ وَهُوَ من أجل تلامذته
وَمن حَيْثُ وصل إِلَى الشَّام اتَّصل بِخِدْمَة السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين دَاوُد بن الْملك الْمُعظم وَأقَام عِنْده بالكرك وَهُوَ عَظِيم الْمنزلَة عِنْده وَله مِنْهُ الْإِحْسَان الْكثير والإنعام الغزير
ثمَّ توجه شمس الدّين بعد ذَلِك إِلَى دمشق وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاته فِي شهر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة
وَدفن بجبل قاسيون
وَلما وصل إِلَى دمشق اجْتمعت بِهِ فَوَجَدته شَيخا حسن السمت مليح الْكَلَام قوي الذكاء محصلا للعلوم
ورأيته يَوْمًا وَقد أَتَى إِلَيْهِ بعض فُقَهَاء الْعَجم بِكِتَاب دَقِيق الْخط ثمن الْبَغْدَادِيّ معتزلي التقطيع
فَلَمَّا نظر فِيهِ صَار يقبله ويضعه على رَأسه فَسَأَلته عَن ذَلِك فَقَالَ هَذَا خطّ شَيخنَا الإِمَام فَخر الدّين الْخَطِيب رَحمَه الله
فَعظم عِنْدِي قدره لتعظيمه شَيْخه
وَلما توفّي شمس الدّين الخسروشاهي رَحمَه الله قَالَ الشَّيْخ عز الدّين مُحَمَّد بن حسن الغنوي الضَّرِير الآربلي يرثيه
(بموتك شمس الدّين مَاتَ الْفَضَائِل ... وأردى ببدر الْفضل والبدر كَامِل)
(فَتى عَالم بِالْحَقِّ بِالْخَيرِ عَامل ... وَمَا كل ذِي علم من النَّاس عَامل)
(فَتى بذ كل الْقَائِلين بصمته ... فَكيف إِذا وافيته وَهُوَ قَائِل)
(وَكُنَّا لحل المشكلات نعده ... إِذا أعيت الحذاق منا الْمسَائِل)
(فربع الحجا من بعده الْيَوْم قد خلا ... وحيد الْمَعَالِي من حلى الْفضل عاطل)
(أَتَدْرِي المنايا من رمت بسهامها ... وَأي فَتى أودى وغال الغوائل)
(رمت أوحد الدُّنْيَا وبحر علومها ... وَمن قصرت فِي الْفضل عَنهُ الْأَوَائِل)
(وَلَو كَانَ بِالْفَضْلِ الْفَتى يدْفع الردى ... لما غيبت عبد الحميد الجنادل)
(وَلَكِن دفع الْمَوْت مَا فِيهِ حِيلَة ... وَلَا فِي بَقَاء الْمَرْء يطْمع آمل)
(فبعدك شمس الدّين أعوز عَالم ... وَأبْدى الدَّعَاوَى فِي المحافل جَاهِل) الطَّوِيل
وَقَالَ الصاحب نجم الدّين اللبودي يرثيه
(أيا ناعيا عبد الحميد تصبرا ... عَليّ فَإِن الْعلم أدرج فِي كفن)
(مضى مُفردا فِي فَضله وعلومه ... وعدت فريد الْهم والوجد والحزن)
(فيا عين سحي بالدموع لفقده ... فَمَا حسن صبري بعده الْيَوْم بالْحسنِ)
(تَلَقَّتْهُ أَصْنَاف الملائك بهجة ... بمقدمه الْأَسْنَى على ذَلِك السّنَن)
(تَقول لَهُ أَهلا وسهلا ومرحبا ... بِخَير فَتى وافى إِلَى ذَلِك الوطن)(1/649)
(إِلَى معشر أضحى الْوُجُود ذواتهم ... فَلَيْسَ لَهُم إلْف يعوق وَلَا سكن)
(وحسبك من ذَات هِيَ الْعين حقة ... فَلَيْسَ بهَا إفْك وَلَا عِنْدهَا إحن)
(تبيت ترى ذَات الذوات بِمَرْصَد ... تَعَالَى عَن الأكوان والكون والزمن)
(لَك الله شمس الدّين كم شدت معلما ... من الْحق أَسْنَى ذَا لِسَان لَهُ لسن)
(مصابك شمس الدّين تَسْلِيَة لنا ... ومثلي من أضحى بمثلك يمْتَحن) الطَّوِيل
ولشمس الدّين الخسروشاهي من الْكتب مُخْتَصر كتاب الْمُهَذّب فِي الْفِقْه على مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي لأبي إِسْحَق الشِّيرَازِيّ
مُخْتَصر كتاب الشِّفَاء للرئيس ابْن سينا
تَتِمَّة كتاب الْآيَات الْبَينَات لِابْنِ خطيب الرّيّ وَكَانَ وصل فِيهَا فِي الشكل الثَّانِي وَهَذِه الْآيَات الْبَينَات غير النُّسْخَة الصَّغِيرَة الْمَعْرُوفَة الَّتِي هِيَ عشرَة أَبْوَاب
سيف الدّين الْآمِدِيّ
وَهُوَ الإِمَام الصَّدْر الْعَالم الْكَامِل سيف الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي عَليّ بن مُحَمَّد بن سَالم التغلبي الْآمِدِيّ أوحد الْفُضَلَاء وَسيد الْعلمَاء
كَانَ أذكى أهل زَمَانه وَأَكْثَرهم معرفَة بالعلوم الْحكمِيَّة والمذاهب الشَّرْعِيَّة والمبادئ الطبية
بهي الصُّورَة فصيح الْكَلَام جيد التصنيف
وَكَانَ قد خدم الْملك الْمَنْصُور نَاصِر الدّين أَبَا الْمَعَالِي مُحَمَّد بن الْملك المظفر تَقِيّ الدّين عمر بن شاهنشاه بن أَيُّوب صَاحب حماة وَأقَام بخدمته بحماة سِنِين وَله مِنْهُ الجامكية السّنيَّة والإنعام الْكثير
وَكَانَ من أكَابِر الْخَواص عِنْده وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْمَنْصُور وَذَلِكَ فِي سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة
فَتوجه إِلَى دمشق وَلما دَخلهَا أنعم عَلَيْهِ الْملك الْمُعظم شرف الدّين عِيسَى بن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب إنعاما وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام وولاه التدريس
وَكَانَ إِذا نزل وَجلسَ فِي الْمدرسَة وَألقى الدَّرْس وَالْفُقَهَاء عِنْده يتعجب النَّاس من حسن كَلَامه فِي المناظرة والبحث وَلم يكن أحد يماثله فِي سَائِر الْعُلُوم
وَكَانَ نَادرا أَن يقرئ أحدا شَيْئا من الْعُلُوم الْحكمِيَّة
وَكنت اجْتمعت بِهِ واشتغلت عَلَيْهِ فِي كتاب رموز الْكُنُوز من تصنيفه وَذَلِكَ لمودة أكيدة كَانَت بَينه وَبَين أبي
وَأول اجتماعي بِهِ دخلت أَنا وَأبي إِلَيْهِ إِلَى دَاره وَكَانَ سَاكِنا بِدِمَشْق فِي قاعة عِنْد الْمدرسَة العادلية فَلَمَّا جلسنا عِنْده بعد السَّلَام وتفضل بِحسن التودد وَالْكَلَام نظر وَقَالَ بِهَذَا اللَّفْظ مَا رَأَيْت ولدا أشبه بوالد مِنْكُمَا
وأنشدني الصاحب فَخر الْقُضَاة بن بصاقة لنَفسِهِ وَقد تشفع بِهِ الْعِمَاد بن السلماسي إِلَى سيف الدّين الْآمِدِيّ بِأَن يشْتَغل عَلَيْهِ
(يَا سيدا جمل الله الزَّمَان بِهِ ... وَأَهله من جَمِيع الْعَجم وَالْعرب)(1/650)
(العَبْد يذكر مَوْلَاهُ بِمَا سبقت ... وَعوده لعماد الدّين عَن كثب)
(وَمثل مولَايَ من جَاءَت مواهبه ... عَن غير وعد وجدواه بِلَا طلب)
(فأصف من بحرك الْفَيَّاض مورده ... وأغنه من كنوز الْعلم لَا الذَّهَب)
(وَاجعَل لَهُ نسبا يُدْلِي إِلَيْك بِهِ ... فلحمة الْعلم تعلو لحْمَة النّسَب)
(وَلَا تكله إِلَى كتب تنبئه ... فالسيف أصدق إنباء من الْكتب) الْبَسِيط
أَقُول وَقد جَاءَ فِي هَذَا الْبَيْت أحسن مَا يكون من تضمين قَول أبي تَمام لاشتراك لَفْظَة السَّيْف وَلم يزل سيف الدّين مُقيما بِدِمَشْق إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاته فِي رَابِع شهر صفر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَمن شعر سيف الدّين الْآمِدِيّ أَنْشدني وَلَده جمال الدّين مُحَمَّد مِمَّا أنْشدهُ وَالِده سيف الدّين لنَفسِهِ
(فَلَا فَضِيلَة إِلَّا من فضائله ... وَلَا غَرِيبَة إِلَّا وَهُوَ منشاها)
(حَاز الفخار بِفضل الْعلم وَارْتَفَعت ... بِهِ الممالك لما أَن تولاها)
(فَهُوَ الْوَسِيلَة فِي الدُّنْيَا لطالبها ... وَهُوَ الطَّرِيق إِلَى الزلفى بأخراها) الْبَسِيط
ولسيف الدّين الْآمِدِيّ من الْكتب كتاب دقائق الْحَقَائِق
كتاب رموز الْكُنُوز
كتاب لباب الْأَلْبَاب
كتاب أبكار الأفكار فِي الْأُصُول
كتاب غَايَة المرام فِي علم الْكَلَام
كتاب كشف التمويهات فِي شرح التَّنْبِيهَات أَلفه للْملك الْمَنْصُور صَاحب حماة ابْن تَقِيّ الدّين
كتاب غَايَة الأمل فِي علم الجدل
شرح كتاب شهَاب الدّين الْمَعْرُوف بالشريف المراغي فِي الجدل
كتاب مُنْتَهى السالك فِي رتب المسالك
كتاب الْمُبين فِي مَعَاني أَلْفَاظ الْحُكَمَاء والمتكلمين
دَلِيل مُتحد الائتلاف وجاد فِي جَمِيع مسَائِل الْخلاف
كتاب الترجيحات فِي الْخلاف
كتاب المؤاخذات فِي الْخلاف
كتاب التعليقة الصَّغِيرَة
كتاب التعليقة الْكَبِيرَة
عقيدة تسمى خُلَاصَة الإبريز
تذكرة الْملك الْعَزِيز بن صَلَاح الدّين كتاب مُنْتَهى السول فِي علم الْأُصُول
كتاب منائح القرائح
موفق الدّين بن المطران
هُوَ الْحَكِيم الإِمَام الْعَالم الْفَاضِل موفق الدّين أَبُو نصر أسعد بن أبي الْفَتْح إلْيَاس بن جرجس المطران
كَانَ سيد الْحُكَمَاء وأوحد الْعلمَاء وافر الآلاء جزيل النعماء أَمِير أهل زَمَانه فِي علم صناعَة الطِّبّ وعملها وَأَكْثَرهم تحصيلا لأصولها وجملها
جيد المداواة لطيف المداراة عَارِفًا بالعلوم الْحكمِيَّة مُتَعَيّنا فِي الْفُنُون الأدبية
وَقَرَأَ علم النَّحْو واللغة وَالْأَدب على الشَّيْخ الإِمَام تَاج الدّين أبي الْيمن زيد بن(1/651)
الْحسن الْكِنْدِيّ وتميز فِي ذَلِك
وَكَانَ مولد موفق الدّين بن المطران ومنشؤه بِدِمَشْق وَكَانَ أَبوهُ أَيْضا طَبِيبا مُتَقَدما جوالا فِي الْبِلَاد لطلب الْفَضِيلَة
وسافر إِلَى بِلَاد الرّوم لإتقان الْأُصُول الَّتِي يعْتَمد عَلَيْهَا فِي علم النَّصَارَى ومذاهبهم
ثمَّ عدل بعد ذَلِك إِلَى الْعرَاق وَاجْتمعَ بأمين الدولة بن التلميذ واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ مُدَّة وَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من الْكتب الطبية وَصَارَ موسوما بالطب
ثمَّ أَنه عَاد إِلَى دمشق وَبَقِي طَبِيبا بهَا إِلَى حِين وَفَاته
وَكَانَ موفق الدّين بن المطران حاد الذِّهْن فصيح اللِّسَان كثير الِاشْتِغَال
وَله تصانيف تدل على فَضله ونبله فِي صناعَة الطِّبّ وَفِي غَيرهَا من الْعُلُوم واشتغل بالطب على مهذب الدّين بن النقاش
وَكَانَ ابْن المطران جميل الصُّورَة كثير التخصص محبا للبس الفاخر الْمُثمن
وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وحظي فِي أَيَّامه وَكَانَ رفيع الْمنزلَة عِنْده عَظِيم الجاه
وَكَانَ يتحجب عِنْده وَيَقْضِي أشغال النَّاس ونال من جِهَة المَال مبلغا كثيرا
وَكَانَ صَلَاح الدّين رَحمَه الله كريم النَّفس كثير الْعَطاء لمن هُوَ فِي خدمته وَلمن يَقْصِدهُ من سَائِر النَّاس حَتَّى أَنه مَاتَ وَلم يُوجد فِي خزانته من المَال شَيْء وَكَانَ لَهُ حسن اعْتِقَاد فِي ابْن المطران لَا يُفَارِقهُ فِي سفر أَو حضر وَلِهَذَا أَنه غمره بإحسانه وأترفه بامتنانه
وَكَانَ يغلب على ابْن المطران الزهو بِنَفسِهِ والتكبر حَتَّى على الْمُلُوك
وَكَانَ صَلَاح الدّين قد عرف ذَلِك مِنْهُ ويحترمه ويبجله لما قد تحَققه من علمه وَأسلم ابْن المطران فِي أَيَّام صَلَاح الدّين
وحَدثني بعض من كَانَ يعرف ابْن المطران فِيمَا يتَعَلَّق بعجبه وإدلاله على صَلَاح الدّين أَنه كَانَ مَعَه فِي بعض غَزَوَاته وَكَانَت عَادَة صَلَاح الدّين فِي وَقت حروبه أَن ينصب لَهُ خيمة حَمْرَاء وَكَذَلِكَ دهليزها وشقتها
وَإِن صَلَاح الدّين كَانَ يَوْمًا رَاكِبًا وَإِذا بِهِ قد نظر إِلَى خيمة حَمْرَاء اللَّوْن وَكَذَلِكَ شقتها ومستراحها فَبَقيَ متأملا لَهَا وَسَأَلَ لمن هِيَ فَأخْبر أَنَّهَا لِابْنِ المطران الطَّبِيب
فَقَالَ وَالله لقد عرفت أَن هَذَا من حَمَاقَة ابْن المطران وَضحك ثمَّ قَالَ مَا بِنَا إِلَّا يعبر أحد من الرُّسُل فيعتقد أَنَّهَا لأحد الْمُلُوك وَإِذا كَانَ لَا بُد فيغير مستراحها
وَأمر بِهِ أَن يرْمى وَلما رمي صَعب ذَلِك على ابْن المطران وَبَقِي يَوْمَيْنِ لم يقرب الْخدمَة فاسترضاه السُّلْطَان ووهب لَهُ مَالا
وحَدثني أَيْضا من ذَلِك أَنه كَانَ فِي خدمَة صَلَاح الدّين طَبِيب يُقَال لَهُ أَبُو الْفرج النَّصْرَانِي وَبَقِي فِي خدمته مُدَّة وَله تردد إِلَى دوره فَقَالَ يَوْمًا للسُّلْطَان أَن عِنْده بَنَات وَهُوَ يحْتَاج إِلَى تجهيزهن وَطلب مِنْهُ أَن يُطلق لَهُ مَا يَسْتَعِين بِهِ من ذَلِك فَقَالَ لَهُ صَلَاح الدّين اكْتُبْ فِي ورقة جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ فِي تجهيزهن وجيب الورقة
فَمضى أَبُو الْفرج وَكتب فِي ورقة من المصاغ والقماش والآلات وَغير ذَلِك مَا يكون بِنَحْوِ ثَلَاثِينَ ألف دِرْهَم
وَلما قَرَأَ صَلَاح الدّين الورقة أَمر الخزندار بِأَن يَشْتَرِي لأبي الْفرج جَمِيع مَا تضمنته وَلَا يخل بِشَيْء مِنْهُ
وَلما بلغ ذَلِك ابْن المطران قصر فِي ملازمته الْخدمَة وَتبين لصلاح الدّين مِنْهُ تغير فِي وَجهه فَعرف السَّبَب
ثمَّ أَمر الخزندار بِأَن يحضر جَمِيع مَا وصل إِلَى أبي الْفرج الطَّبِيب مِمَّا اشْتَرَاهُ لَهُ ويحسب جملَة ثمنه وَمهما بلغ من المَال يدْفع إِلَى ابْن المطران مثله سَوَاء فَفعل ذَلِك(1/652)
وحَدثني أَبُو الظَّاهِر إِسْمَاعِيل وَكَانَ يعرف ابْن المطران ويأنس بِهِ أَن الْعجب والتكبر الَّذِي كَانَ يغلب على ابْن المطران لم يكن على شَيْء مِنْهُ فِي أَوْقَات طلبه الْعلم
وَقَالَ أَنه كَانَ يرَاهُ فِي الْأَوْقَات الَّتِي يشْتَغل فِيهَا بالنحو فِي الْجَامِع يَأْتِي إِذا تفرغ من دَار السُّلْطَان وَهُوَ فِي مركبة حفلة وحواليه جمَاعَة كَثِيرَة من المماليك التّرْك وَغَيرهم فَإِذا قرب من الْجَامِع ترجل وَأخذ الْكتاب الَّذِي يشْتَغل فِيهِ فِي يَده أَو تَحت أبطه وَلم يتْرك أحدا مَا يَصْحَبهُ وَلَا يزَال مَاشِيا وَالْكتاب مَعَه إِلَى حَلقَة الشَّيْخ الَّذِي يقْرَأ عَلَيْهِ فَيسلم وَيقْعد بَين الْجَمَاعَة وَهُوَ بكيس ولطف إِلَى أَن يفرغ من الْقِرَاءَة وَيعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ
وَقَالَ الصاحب جمال الدّين القَاضِي الأكرم أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم القفطي أَن الْحَكِيم موفق الدّين أسعد بن المطران لما أسلم وَكَانَ نَصْرَانِيّا حسن إِسْلَامه وزوجه الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين قدس الله روحه إِحْدَى حظايا دَاره وَاسْمهَا جوزة
وَكَانَت جوزة هَذِه جَارِيَة خوندخاتون بنت معِين الدّين وَزَوْجَة صَلَاح الدّين وَكَانَت مُدبرَة دارها والمتقدمة عِنْدهَا من جواريها وأعطتها الْكثير من حليها وذخائرها ومولتها وخولتها فرتبت أُمُوره وهذبت أَحْوَاله وَحسنت زيه وجملت ظَاهره وباطنه
وَصَارَ لَهُ ذكر سَام فِي الدولة وحصلت لَهُ أَمْوَال جمة من أُمَرَاء الدولة فِي حَال مُبَاشَرَته لَهُم فِي أمراضهم
وتنافسوا فِي الْعَطاء لَهُ وترقت حَاله عِنْد سُلْطَانه إِلَى أَن كَاد يكون وزيرا
وَكَانَ كثيرا الاشتمال على أهل هَذِه الصِّنَاعَة الطبية والحكمية يقدمهم ويتوسط فِي أَرْزَاقهم
قَالَ وَلَقَد أَخْبرنِي الْفَقِيه إِسْمَاعِيل بن صَالح بن الْبناء القفطي خطيب عيذاب قَالَ لما فتح السُّلْطَان السَّاحِل ارتحلت عَن عيذاب لزيارة الْبَيْت الْمُقَدّس
فَلَمَّا حصلت بِالشَّام رَأَيْت جبالا مشجرة بِعَدَد براري عيذاب المصحرة فاشتقت إِلَى الْمقَام بِالشَّام وتحيلت فِي الرزق بِهِ فقصدت الْفَاضِل عبد الرَّحِيم وَسَأَلته كتابا إِلَى السُّلْطَان فِي توليتي خطابة قلعة الكرك
فَكتب لي كتابا هُوَ مَذْكُور فِي ترسله وَهُوَ حسن التلطف
قَالَ فاحضرته إِلَى دمشق وَالسُّلْطَان بهَا فارشدت فِي عرضه إِلَى ابْن المطران فقصدته فِي دَاره وَدخلت عَلَيْهِ بِإِذْنِهِ فرأيته حسن الْخلقَة والخلق لطيف الِاسْتِمَاع وَالْجَوَاب
وَرَأَيْت دَاره وَهِي على غَايَة من الْحسن فِي الْعِمَارَة والتجمل
وَرَأَيْت أنابيب بركته الَّتِي يبرز مِنْهَا المَاء وَهِي ذهب على غَايَة مَا يكون من حسن الصَّنْعَة
وَرَأَيْت لَهُ غُلَاما يتحجب بَين يَدَيْهِ اسْمه عمر فِي غَايَة جمال الصُّورَة
ثمَّ رَأَيْت من الْفرش الطرح وشممت من الرَّائِحَة الطّيبَة مَا هالني وَسَأَلته الْحَاجة الَّتِي قصدته فِيهَا فأنعم بإنجازها
وَقَالَ الصاحب جمال الدّين وَرَأَيْت زَوجته وَابْن عمر حَاجِبه وَقد حضرا بعد سنة سِتّمائَة إِلَى حلب على رقة من الْحَال وَنزلا فِي الكنف الملكي الظَّاهِرِيّ سقى الله عَهده وأقيما بِهِ بِصَدقَة قررت لَهما وَمَاتَتْ هِيَ بعد مُدَّة وَلَا أعلم بعْدهَا لولد عمر خَبرا(1/653)
وحَدثني الشَّيْخ موفق الدّين بن البوري الْكَاتِب النَّصْرَانِي قَالَ لما فتح الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب الكرك أَتَى إِلَى دمشق الْحَكِيم موفق الدّين يَعْقُوب بن سقلاب النَّصْرَانِي وَهُوَ شَاب على رَأسه كوفية وتخفيفة صَغِيرَة وَهُوَ لابس جوخة ملوطة زرقاء زِيّ أطباء الفرنج وَقصد الْحَكِيم موفق الدّين بن المطران وَصَارَ يَخْدمه ويتردد إِلَيْهِ لَعَلَّه يَنْفَعهُ فَقَالَ لَهُ هَذَا الزي الَّذِي أَنْت عَلَيْهِ مَا يمشي لَك بِهِ حَال فِي الطِّبّ فِي هَذِه الدولة بَين الْمُسلمين
وَإِنَّمَا الْمصلحَة أَن تغير زيك وتلبس عَادَة الْأَطِبَّاء فِي بِلَادنَا
ثمَّ أخرج لَهُ جُبَّة وَاسِعَة عنابية وبيقارا مكملا وَأمره أَن يَلْبسهُمَا
ثمَّ قَالَ لَهُ إِن هَهُنَا أَمِيرا كَبِيرا يُقَال لَهُ مَيْمُون القصري وَهُوَ مَرِيض وَأَنا أتردد إِلَيْهِ وأداويه فتعال معي حَتَّى تكون تعالجه
فَلَمَّا رَاح مَعَه قَالَ للأمير هَذَا طَبِيب فَاضل وَإِنِّي اعْتمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ وأثق بِهِ فَيكون يلزمك ويباشر أحوالك فِي كل وَقت وَيُقِيم عنْدك إِلَى أَن تَبرأ إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فامتثل قَوْله وَصَارَ الْحَكِيم يَعْقُوب ملازما لَهُ لَيْلًا وَنَهَارًا إِلَى أَن تعافى فَأعْطَاهُ خَمْسمِائَة دِينَار
فَلَمَّا قبضهَا حملهَا إِلَى ابْن المطران وَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا هَذَا مَا أَعْطَانِي وَقد أحضرته إِلَى مَوْلَانَا فَقَالَ لَهُ خُذْهُ فَأَنا مَا قصدت إِلَّا نفعك
فَأَخذه ودعا لَهُ
وحَدثني الْحَكِيم عز الدّين أَبُو إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن السويدي قَالَ كَانَ ابْن المطران جَالِسا على بَاب دَاره وَقد أَتَاهُ شَاب من أهل نعْمَة وَعَلِيهِ زِيّ الجندية وَأَعْطَاهُ ورقة فِيهَا اثْنَا عشر بَيْتا من الشّعْر يمتدحه بهَا
فَلَمَّا قَرَأَهَا ابْن المطران قَالَ أَنْت شَاعِر فَقَالَ لَا وَلَكِنِّي من أهل الْبيُوت وَقد نزل الدَّهْر بِي وَقد أتيت الْمولى وَجعلت قيادي بِيَدِك لتدبرني مِمَّا حسن فِيهِ رَأْيك العالي
فَدخل إِلَى دَاره واستدعى الشَّاب وَقدم لَهُ طَعَاما فَأكل وَقَالَ لَهُ إيش تَقول قد مرض عز الدّين فرخشاه صَاحب صرخد وَهَذَا الْمَرَض يعتاده فِي كل حِين فَإِنِّي رَأَيْت أَن أسيرك إِلَيْهِ تعالجه فَهُوَ يحصل لَك من جِهَته شَيْء جيد
قَالَ لَهُ يَا مولَايَ من أَيْن لي معرفَة بصناعة الطِّبّ أَو دربة فَقَالَ مَا عَلَيْك أَنا أكتب مَعَك دستورا تمشي عَلَيْهِ وَلَا تخرج عَنهُ
فَقَالَ الشَّاب السّمع وَالطَّاعَة فَلَمَّا خرج الشَّاب لحقه الْغُلَام ببقجة فِيهَا عدَّة قطع قماش مخيط وَفرس بسرج ولجام فَقَالَ لَهُ خُذ هَذَا القماش البسه وَهَذَا الْفرس اركبه وتجهز إِلَى صرخد
فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي
إِنَّه لم يكن لي مَكَان أَبيت الْفرس
فَقَالَ اتركها عندنَا وَشد عَلَيْهَا بكرَة النَّهَار وسافر على خيرة الله تَعَالَى
فَلَمَّا كَانَ بكرَة النَّهَار حضر الشَّاب إِلَى بَاب دَار ابْن المطران فَأعْطَاهُ كتابا قد كتبه على يَده إِلَى عز الدّين فرخشاه صَاحب صرخد وَأَعْطَاهُ تذكرة بِمَا يعتمده فِي مداواته وَأَعْطَاهُ مِائَتي دِرْهَم وَقَالَ اتركها عِنْد بَيْتك نَفَقَة
وسافر الشَّاب إِلَى صرخد وداوى عز الدّين فرخشاه بِمَا أمره بِهِ فبرأ وَدخل الْحمام وخلع عَلَيْهِ خلعة مليحة من أَجود مَا يكون وَأَعْطَاهُ بغلة بسرج وسرفسار ذهب وَألف دِينَار مصرية وَقَالَ تخدمني فَقَالَ لَهُ مَا أقدر يَا مَوْلَانَا حَتَّى أشاور شَيْخي الْحَكِيم موفق الدّين ابْن المطران فَقَالَ لَهُ عز الدّين وَمن هُوَ الْحَكِيم موفق الدّين مَا هُوَ إِلَّا غُلَام أخي لَا سَبِيل إِلَى(1/654)
خُرُوجك من صرخد
وألحوا عَلَيْهِ فِي القَوْل وشددوا فَقَالَ إِذا كَانَ وَلَا بُد فَأَنا أمضي إِلَى منزلي وأجيء
فَمضى إِلَى منزله وأحضر الخلعة وَالذَّهَب وَمَا مَعهَا وَقَالَ هَذَا الَّذِي أعطيتموني خذوه وَأَنا فوَاللَّه مَا أعرف صناعَة الطِّبّ وَلَا أَدْرِي مَا هِيَ وَإِنَّمَا أَنا جرى لي مَعَ الْحَكِيم ابْن المطران كَذَا وَكَذَا
وقص عَلَيْهِ الْوَاقِعَة كَمَا وَقعت
فَقَالَ لَهُ عز الدّين مَا عَلَيْك أَن لَا تكون طَبِيبا أَنْت مَا تعرف تلعب بالنرد وَالشطْرَنْج فَقَالَ بلَى
وَكَانَ الشَّاب لَدَيْهِ أدب وفضيلة
فَقَالَ لَهُ عز الدّين قد تركتك حاجبي وَجعلت لَك إقطاعا فِي السّنة يعْمل اثْنَيْنِ وَعشْرين ألف دِرْهَم
فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة يَا مولَايَ بل أسأَل دستورا إِلَى دمشق أَن أروح إِلَى الْحَكِيم موفق الدّين وَأَقْبل يَده وأشكره على مَا فعل معي من الْخَيْر
فَأعْطِي دستورا وأتى إِلَى الْحَكِيم موفق الدّين وَقبل يَده وشكره شكرا كثيرا وأحضر الَّذِي حصل بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ قد حصل لي هَذَا فَخذه
فَرده عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ أَنا مَا قصدت إِلَّا نفعك خُذْهُ بَارك الله لَك فِيهِ
وعرفه الشَّاب بِمَا جرى لَهُ مَعَ عز الدّين وَصُورَة الْخدمَة وَاسْتمرّ الشَّاب فِي خدمَة عز الدّين
وَكَانَ ذَلِك الْإِحْسَان من مُرُوءَة موفق الدّين ابْن المطران
أَقُول وَكَانَت لموفق الدّين بن المطران همة عالية فِي تَحْصِيل الْكتب حَتَّى أَنه مَاتَ وَفِي خزانته من الْكتب الطبية وَغَيرهَا مَا يناهز عشرَة آلَاف مجلدا خَارِجا عَمَّا استنسخه
وَكَانَت لَهُ عناية بَالِغَة فِي استنساخ الْكتب وتحريرها
وَكَانَ فِي خدمته ثَلَاثَة نساخ يَكْتُبُونَ لَهُ أبدا وَلَهُم مِنْهُ الجامكية والجراية وَكَانَ من جُمْلَتهمْ جمال الدّين الْمَعْرُوف بِابْن الجمالة وَكَانَ خطه مَنْسُوبا
وَكتب ابْن المطران أَيْضا بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة وَقد رَأَيْت عدَّة مِنْهَا وَهِي فِي نِهَايَة حسن الْخط وَالصِّحَّة وَالْإِعْرَاب
وَكَانَ كثير المطالعة للكتب لَا يفتر من ذَلِك فِي أَكثر أوقاته
وَأكْثر الْكتب الَّتِي كَانَت عِنْده تُوجد وَقد صححها وأتقن تحريرها وَعَلَيْهَا خطه بذلك
وَبلغ من كَثْرَة اعتنائه بالكتب وغوايته فِيهَا أَنه جَامع لكثير من الْكتب الصغار والمقالات المتفرقة فِي الطِّبّ وَهِي فِي الْأَكْثَر يُوجد جمَاعَة مِنْهَا فِي مُجَلد وَاحِد استنسخ كلا مِنْهَا بِذَاتِهِ فِي جُزْء صَغِير قطع نصف ثمن الْبَغْدَادِيّ بمسطرة وَاضِحَة وَكتب بِخَطِّهِ أَيْضا عدَّة مِنْهَا وَاجْتمعَ عِنْده من تِلْكَ الْأَجْزَاء الصغار مجلدات كَثِيرَة جدا فَكَانَ أبدا لَا يُفَارق فِي كمه مجلدا يطالعه على بَاب دَار السُّلْطَان أَو أَيْن توجه
وَبعد وَفَاته بِيعَتْ جَمِيع كتبه وَذَلِكَ أَنه مَا خلف ولدا
وحَدثني الْحَكِيم عمرَان الإسرائيلي أَنه لما حضر بيع كتب ابْن المطران وجدهم وَقد أخرجُوا من هَذِه الْأَجْزَاء الصغار ألوفا كَثِيرَة أَكْثَرهَا بِخَط ابْن الجمالة وَأَن القَاضِي الْفَاضِل بعث يستعرضها فبعثوا إِلَيْهِ بملء خزانَة صَغِيرَة مِنْهَا وجدت كَذَلِك فَنظر فِيهَا ثمَّ ردهَا فبلغت فِي المناداة ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم وَاشْترى الْحَكِيم عمرَان أَكْثَرهَا وَقَالَ لي إِنَّه حصل الِاتِّفَاق مَعَ الْوَرَثَة فِي بيعهَا أَنهم أطْلقُوا مَعَ كل جُزْء مِنْهَا بدرهم فَاشْترى الْأَطِبَّاء مِنْهُم هَذِه الْأَجْزَاء الصغار على الثّمن بِالْعدَدِ
أَقُول وَكَانَ ابْن المطران كثير الْمُرُوءَة كريم النَّفس ويهب لتلامذته الْكتب وَيحسن إِلَيْهِم وَإِذا جلس أحد مِنْهُم لمعالجة المرضى يخلع عَلَيْهِ
وَلم يزل معتنيا بأَمْره
وَكَانَ أجل تلامذته شَيخنَا مهذب(1/655)
الدّين بن عبد الرَّحِيم بن عَليّ رَحمَه الله
وَكَانَ كثير الْمُلَازمَة لَهُ والاشتغال عَلَيْهِ وسافر مَعَه مَرَّات فِي غزوات صَلَاح الدّين لما فتح السَّاحِل
وَمِمَّا حَدثنِي شَيخنَا مهذب الدّين عَنهُ فِيمَا يتَعَلَّق بمعالجاته قَالَ كَانَ أَسد الدّين شيركوه صَاحب حمص قد طلب ابْن المطران فَتوجه إِلَيْهِ وَكنت مَعَه
فَبَيْنَمَا نَحن فِي بعض الطَّرِيق وَإِذا رجل مجذوم استقبله وَقد قوي بِهِ الْمَرَض حَتَّى تَغَيَّرت خلقته وتشوهت صورته
فاستوصف مِنْهُ مَا يتَنَاوَلهُ وَمَا يتداوى بِهِ فَبَقيَ كالمتبرم من رُؤْيَته وَقَالَ لَهُ كل لُحُوم الأفاعي
فعاوده فِي الْمَسْأَلَة فَقَالَ كل لُحُوم الأفاعي فَإنَّك تَبرأ
قَالَ ومضينا إِلَى حمص وعالج الْمَرِيض الَّذِي رَاح بِسَبَبِهِ إِلَى أَن تماثل وَصلح ورجعنا فَلَمَّا كُنَّا فِي الطَّرِيق وَإِذا بشاب حسن الصُّورَة كَامِل الصِّحَّة قد سلم علينا وَقبل يَده فَلم نعرفه
وَقَالَ لَهُ من أَنْت فَعرفهُ بِنَفسِهِ وَأَنه صَاحب الْمَرَض الَّذِي كَانَ قد شكاه إِلَيْهِ وَأَنه لما اسْتعْمل مَا وَصفه لَهُ صلح بِهِ من غير أَن يحْتَاج مَعَه إِلَى دَوَاء آخر فتعجبنا من ذَلِك فِي كَمَال برئه وودعنا وَانْصَرف
وحَدثني أَيْضا عَنهُ أَنه كَانَ مَعَه فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه نور الدّين ابْن زنكي وَهُوَ يعالج المرضى المقيمين بِهِ فَكَانَ من جُمْلَتهمْ رجل بِهِ استقصاء زقي استحكم بِهِ فقصد إِلَى بزله وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت فِي البيمارستان ابْن حمدَان الجرائحي وَله يَد طولى فِي العلاج فجزموا على بزل المستسقي قَالَ فحضرنا وبزل الْموضع على مَا يجب فجرت مائية صفراء وَابْن المطران يتفقد نبض الْمَرِيض فَلَمَّا رأى أَن قوته لَا تفي بِإِخْرَاج أَكثر من ذَلِك أَمر بشد الْموضع وَأَن يستلقي الْمَرِيض وَلَا يُغير الرِّبَاط أصلا
وَوجد الْمَرِيض خفَّة وراحة كَبِيرَة وَكَانَت عِنْده زَوجته فأوصاها ابْن المطران أَنَّهَا لَا تمكنه من حل الرِّبَاط وَلَا تغيره بِوَجْه من الْوُجُوه إِلَى أَن يبصره فِي ثَانِي يَوْم
فَلَمَّا انصرفنا وَجَاء اللَّيْل قَالَ زَوجهَا إِنَّنِي قد وجدت الْعَافِيَة وَمَا بَقِي بِي شَيْء وَإِنَّمَا الْأَطِبَّاء قصدهم أَن يطولوا بِي فَحل الرِّبَاط حَتَّى يخرج هَذَا المَاء الَّذِي قد بَقِي وأقوم فِي شغلي فأنكرت عَلَيْهِ قَوْله وَلم تقبل مِنْهُ فعادوها بالْقَوْل وَكرر ذَلِك عَلَيْهَا مَرَّات وَلم يعلم أَن بَقِيَّة المائية إِنَّمَا جعلُوا إِخْرَاجه فِي وَقت آخر مُرَاعَاة لحفظ قوته وشفقة عَلَيْهِ
فَلَمَّا حلت الرِّبَاط وَجَرت المائية بأسرها خارت قوته وَهلك
وحَدثني أَيْضا أَنه رأى فِي البيمارستان مَعَ ابْن المطران رجلا قد فلجت يَده من أحد شقي الْبدن وَرجله الْمُخَالفَة لَهَا من الشق الآخر فعالجه فِي أسْرع وَقت وَدبره بالأدوية الموضعية فصلح
أَقُول وَكَانَ لموفق الدّين أسعد بن إلْيَاس بن المطران أَخَوان أَيْضا قد اشتغلا بصناعة الطِّبّ أَحدهمَا هبة الله بن إلْيَاس وَالْآخر ابْن إلْيَاس
وَتُوفِّي موفق الدّين بن المطران فِي شهر ربيع الأول سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة بِدِمَشْق
ونقلت من خطّ البديع عبد الرازق بن أَحْمد العامري(1/656)
الشَّاعِر يمدح موفق الدّين بن المطران بعد إِسْلَامه وَذَلِكَ فِي ثَالِث شهر رَمَضَان سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
(ينْهَى إِلَيْك وَلَيْسَ عَنْك بمنته ... قلب على صاب الصبابة مكرهي)
(شوقا أدل على الْفُؤَاد فَلم يفد ... بمدله الأغرام غير مدله)
(يدنو فيغدو فِيك حلف تفكه ... وَلكم بَعدت فَبَاتَ إلْف تفكه)
(يهوى الَّذِي تهوى ويعشق قلب ... مَا تشْتَهي فيصد عَمَّا يَشْتَهِي)
(تجني وَيعلم مَا جنيت فيجتني ... عذرا يوجهه بِوَجْه أبله)
(لعجبت من مغض على نَار الغضا ... مَا زَالَ مُسْتَندا الى صَبر يهي)
(فطن دهاه فِي حشاشته الْهوى ... غررا وَلنْ يدهى سوى الفطن الدهي)
(وَلَقَد نها وَنَهَاهُ عَنْك وَلم يزل ... يزْدَاد غيا فِي هَوَاك اذا نهي)
(لَو ساعد التَّوْفِيق لم يَك لائذا ... بسوى الْمُوفق ذِي الْمحل الانبه)
(من لَا يرى الاحسان فِي الاقوال مَا ... لم يتلها بفعال غير مموه)
(جم النهى ويداه أنهاء الندى ... للوفد مَا عَنْهَا امْرُؤ بمنهنه)
(رُؤْيَاهُ للادواء حاسمة فكم ... مشف شفَاه بذلك الْوَجْه الْبَهِي)
(جد حوى جدا وجود محوز ... حمد يطرز حلَّة الْمجد الشهي)
(ضاهي ابْن مَرْيَم حِكْمَة وسعادة ... فعنا الاعز لَهُ عنو موله)
(هُوَ عصمَة اللاجي فان هُوَ لم يكن ... الاده للمستجير فلاده)
(نصر العفاة على الزَّمَان ندى أبي ... نصر أخي الجاه الْوَجِيه فلاجه)
(ذِي المنصب العادي غير مدافع ... والنطق فِي النادي وَلما ينده)
(الالمعي الاريحي المرتجى ... واللوذعي الفيلسوف المدره)
(الْعَالم الحبر الَّذِي حَاز الْغَنِيّ ... وحوى الْعلَا طفْلا فلب وَمَا زهي)
(واذا الْخَلَائق أشبهت أَمْثَالهَا ... فِي الاكرمين فَمَا لَهُ من مشبه)
(واذا الخواكر أَصبَحت مشدوهة ... فضل الانام بخاطر لم يشده)
(أعفى الانام عَن الثَّنَاء فحازه ... بيَدي جواد باللهى متنبه)
(فلك من الاحسان حِين وصلته ... أُغني باعلى اوجه عَن اوجه)
(أضحى ثرى مغناه وَهُوَ لي الْغنى ... عَنهُ الاياب كَمَا اليه تَوَجُّهِي)
(هِيَ نفثة المصدور اصدر وردهَا ... الحساد بَين مقهقر ومقهقه)(1/657)
(مَا اقْربْ الآمال من ذِي الهمة ... الحسرى وابعدها من المترفه)
(لَوْلَا رَجَاء الْبُرْء مَا ارجأتها ... من بعد مَا سبقت عتاق الفره)
(لَكِنَّهَا سرت بمبدا برئه ... فسرت اليه وجسمه لم ينقه)
(وغدت مهنئة بِشَهْر صِيَامه ... بفصيح قَول لم يكن بمفهفه)
(يَا اِسْعَدْ اصغ الى مدائح أفوه ... بعلاك فاق على البليغ الافوه)
(راج حداه ولاءهفسرى على ... عِيسَى الرَّجَاء بِكُل مرت مهمه)
(وأراك للشكوى الممضة مشكيا ... بضياء نور سريرة لم تعمه)
(طَال اشتكائي للأنام وَلَا أرى ... مِمَّن شَكَوْت إِلَيْهِ غير مسفه)
(وَلكم دهيت مَعَ الوثوق وَلست فِي ... أَمْرِي بِأول واثق يقظ دهي)
(قد كنت فِي أهل الرسوم أقلهم ... حظا وَأكْثر فِي المديح الأنزه)
(فَلَمَّا رأى السُّلْطَان نقصي بَعْدَمَا ... قد زِدْت فِي مدحي لَهُ وتألهي)
(شَره الْفَتى دَاء وَخير طَعَامه ... مَا كَانَ كافيه وَلما يشره)
(ومطاعم الأطماع تأسن والغنى ... فِي النَّفس لم يأسن وَلم يتسنه)
(لَا تجبه الْأَيَّام إِلَّا رَاغِبًا ... وأخو القناعة وادع لم يجبهُ)
(آها لأيامي وَلَوْلَا سوء مَا ... لاقيت من زمن لقل تأوهي)
(وَلكم أنوه فِي الزَّمَان وَأَهله ... بثناء من لم يمس لي بمنوه)
(إِذْ لَا يُحَرك أهل دهري للندى ... شعر الْوَلِيد وَلَا غناء البندهي)
(وَمن العناء معاتب لَا يرعوي ... عَن غيه ومعاقب لَا يَنْتَهِي)
ولموفق الدّين بن المطران من الْكتب كتاب بُسْتَان الْأَطِبَّاء وروضة الألباء غَرَضه فِيهِ أَن يكون جَامعا لكل مَا يجده من ملح ونوادر وتعريفات مستحسنة مِمَّا طالعه أَو سَمعه من الشُّيُوخ أَو نسخه من الْكتب الطبية وَلم يتم هَذَا الْكتاب وَالَّذِي وجدته مِنْهُ بِخَط شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين جزآن الأول مِنْهُمَا قد قَرَأَهُ على ابْن المطران وَعَلِيهِ خطه والجزء الثَّانِي ذكر مهذب الدّين فِيهِ أَن ابْن المطران وافاه الْأَجَل قبل قِرَاءَته لَهُ عَلَيْهِ
الْمقَالة الناصرية فِي حفظ الْأُمُور الصحية قصد فِيهَا الإيجاز والبلاغ وَقد رتبها أحسن تَرْتِيب وَجعلهَا باسم السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَوجدت(1/658)
الأَصْل الأول من هَذَا الْكتاب وَهُوَ بِخَط جمال الدّين الْمَعْرُوف باسم الجمالة كَاتب ابْن المطران مترجما
الْمقَالة النجمية فِي التدابير الصحية وَكَأَنَّهُ كَانَ صنفها لنجم الدّين أَيُّوب وَالِد صَلَاح الدّين فَلَمَّا توفّي وَلم يوصلها إِلَيْهِ جعلهَا باسم وَلَده
اخْتِصَار كتاب الْأَنْوَار للكسدانيين إِخْرَاج أبي بكر أَحْمد بن عَليّ بن وحشية أَخْتَصِرهُ وَفرغ مِنْهُ فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
لغز فِي الْحِكْمَة
كتاب على مَذْهَب دَعْوَة الْأَطِبَّاء
كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لم يتم وَكَانَ قد قصد فِيهِ أَن يستوعب ذكر كل دَوَاء على غَايَة مَا يُمكنهُ
كتاب آدَاب طب الْمُلُوك
وحَدثني نسيب لَهُ أَنه لما توفّي كَانَت عِنْده مسودات عدَّة لمصنفات طبية وَغَيرهَا وتعاليق مُتَفَرِّقَة فَأخذ أخواته تِلْكَ المسودات وضاعت بَينهُنَّ
وَقَالَ لي أَنه رأى عِنْد إِحْدَاهُنَّ صندوقا أَرَادَت أَن تبطنه وَقد ألصقت فِي بَاطِنه جملَة من هَذِه الأوراق الَّتِي بِخَطِّهِ
مهذب الدّين بن الْحَاجِب
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا فَاضلا فِي الصِّنَاعَة الطبية متقنا للعلوم الرياضية معتنيا بالأدب مُتَعَيّنا فِي علم النَّحْو
مولده بِدِمَشْق وَنَشَأ بهَا واشتغل بصناعة الطِّبّ على مهذب الدّين بن النقاش ولازمه مُدَّة
وَلما كَانَ شرف الدّين الطوسي بِمَدِينَة الْموصل وَكَانَ أوحد زَمَانه فِي الْحِكْمَة والعلوم الرياضية وَغَيرهَا سَافر ابْن الْحَاجِب والحكيم موفق الدّين عبد الْعَزِيز إِلَيْهِ ليجتمعا بِهِ ويشتغلا عَلَيْهِ فوجداه قد توجه إِلَى مَدِينَة طوس فأقاما هُنَالك مُدَّة ثمَّ سَافر ابْن الْحَاجِب إِلَى أربل وَكَانَ بهَا فَخر الدّين ابْن الدهان المنجم فَاجْتمع بِهِ ولازمه وَحل مَعَه الزيج الَّذِي كَانَ قد صنعه ابْن الدهان وأتقن قِرَاءَته عَلَيْهِ وَنَقله بِخَطِّهِ وَرجع إِلَى دمشق
وَكَانَ هَذَا ابْن الدهان المنجم يعرف بِأبي شُجَاع ويلقب بالثعيلب وَهُوَ بغدادي أَقَامَ بالموصل عشْرين سنة وَتوجه إِلَى دمشق فَأكْرمه صَلَاح الدّين والفاضل وَجَمَاعَة الرؤساء وأجرى لَهُ ثَلَاثِينَ دِينَارا كل شهر
وَكَانَ لَهُ دين وورع ونسك كثير الصّيام يعْتَكف فِي جَامع دمشق أَرْبَعَة أشهر وَأكْثر ولأجله عملت الْمَقْصُورَة الَّتِي بالكلاسة وَله تصانيف كَثِيرَة مِنْهَا الزيج الْمَشْهُور الَّذِي لَهُ وَهُوَ جيد صَحِيح وَمِنْهَا الْمِنْبَر فِي الْفَرَائِض وَهُوَ مَشْهُور
كتاب فِي غَرِيب الحَدِيث عشر مجلدات وَكتاب فِي الْخلاف مجدول على وضع تَقْوِيم الصِّحَّة وَكَانَ دَائِم الِاشْتِغَال وَله شعر كثير
وَقصد الْحَج فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى بَغْدَاد توفّي بهَا وَدفن عِنْد قبر أَبِيه وَأمه بعد غيبته أَكثر من أَرْبَعِينَ سنة
وَكَانَ مهذب الدّين بن الْحَاجِب كثير الِاشْتِغَال محبا للْعلم قوي النّظر فِي صناعَة الهندسة وَكَانَ قبل اشتهاره بصناعة الطِّبّ قد خدم فِي السَّاعَات الَّتِي عِنْد الْجَامِع بِدِمَشْق
ثمَّ تميز فِي صناعَة الطِّبّ وَصَارَ من جملَة أعيانها وخدم بصناعة الطِّبّ فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين ابْن زنكي
ثمَّ خدم تَقِيّ الدّين عمر صَاحب حماة وَلم يزل فِي خدمته بحماة إِلَى أَن توفّي تَقِيّ الدّين
ثمَّ عَاد ابْن الْحَاجِب إِلَى دمشق وَتوجه إِلَى الديار المصرية وخدم الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن(1/659)
أَيُّوب بصناعة الطِّبّ وَبَقِي فِي خدمته إِلَى أَن توفّي صَلَاح الدّين ثمَّ توجه إِلَى الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماة ابْن تَقِيّ الدّين وَأقَام عِنْده نَحْو سنتَيْن وَتُوفِّي بحماة بعلة الاسْتِسْقَاء
الشريف الكحال
هُوَ السَّيِّد برهَان الدّين أَبُو الْفضل سُلَيْمَان
أصليته من مصر وانتقل إِلَى الشَّام
شرِيف الأعراق لطيف الْأَخْلَاق حُلْو الشَّمَائِل مَجْمُوع الْفَضَائِل
وَكَانَ عَالما بصناعة الْكحل وافر الْمعرفَة وَالْفضل متقنا للعلوم الأدبية بارعا فِي فنون الْعَرَبيَّة متميزا فِي النّظم والنثر مُتَقَدما فِي عمل الشّعْر
وخدم بصناعة الْكحل السُّلْطَان الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَكَانَ لَهُ مِنْهُ الجامكية السّنيَّة والمنزلة الْعلية والإنعام الْعَام والتفضل التَّام
وَلم يزل مستمرا فِي خدمته مُتَقَدما فِي دولته إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَمن ملح مَا للْقَاضِي الْفَاضِل فِيهِ على سَبِيل المجون وَمِمَّا أَنْشدني الشَّيْخ الْحَافِظ نجيب الدّين أَبُو الْفَتْح نصر الله بن عقيله الشَّيْبَانِيّ قَالَ أَنْشدني القَاضِي الْفَاضِل عبد الرَّحِيم بن عَليّ لنَفسِهِ فِي الشريف الكحال
(رجل توكل بِي وكحلني ... فدهيت فِي عَيْني وَفِي عَيْني) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(عَاد بني الْعَبَّاس حَتَّى أَنه ... سلب السوَاد من الْعُيُون بكحله)
وَكَانَ قد أهْدى الشريف أَبُو الْفضل الكحال الْمَذْكُور إِلَى شرف الدّين بن عنين خروفا وَهُوَ يَوْمئِذٍ بالديار المصرية فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ وجده هزيلا ضَعِيفا فَكتب إِلَيْهِ يَقُول على سَبِيل المداعبة
(أَبُو الْفضل وَابْن الْفضل أَنْت وَأَهله ... فَغير بديع أَن يكون لَك الْفضل)
(أَتَتْنِي أياديك الَّتِي لَا أعدهَا ... لكثرتها لَا كفر نعمى وَلَا جهل)
(ولكنني أنبيك عَنْهَا بطرفة ... تروقك مَا وافى لَهَا قبلهَا مثل)
(أَتَانِي خروف مَا شَككت بِأَنَّهُ ... حَلِيف هوى قد شفه الهجر والعذل)
(إِذا قَامَ فِي شمس الظهيرة خلته ... خيالا سرى فِي ظلمَة مَا لَهُ ظلّ)
(فناشدته مَا تشْتَهي قَالَ قَتَّة ... وقاسمته مَا شفه قَالَ لي الْأكل)
(فاحضرتها خضراء مجاجة الثرى ... مسلمة مَا خص أَو راقها الفتل)
(فظل يراعيها بِعَين ضَعِيفَة ... وينشدها والدمع فِي الْعين منهل)
(أَتَت وحياض الْمَوْت بيني وَبَينهَا ... وجادت بوصل حِين لَا ينفع الْوَصْل) الطَّوِيل(1/660)
أَبُو مَنْصُور النَّصْرَانِي
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا عَالما حسن المعالجة والمداواة وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين ابْن أَيُّوب وَبَقِي سِنِين فِي خدمته
أَبُو النَّجْم النَّصْرَانِي
هُوَ أَبُو النَّجْم بن أبي غَالب بن فَهد بن مَنْصُور بن وهب بن قيس بن مَالك
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا فِي زَمَانه جيد الْمعرفَة بصناعة الطِّبّ مَحْمُود الطَّرِيقَة فِيهَا مشكور المعالجة حسن الْعشْرَة محبا للخير
وَكَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ علم الطِّبّ ويعد من جملَة الْفُضَلَاء المتميزين فِي وقته
وحَدثني أَبُو الْفَتْح بن مهنا النَّصْرَانِي أَن أَبَا النَّجْم كَانَ أَبوهُ فلاحا فِي قَرْيَة شفا من أَرض حوران وَكَانَ يعرف بالعيار
وَكَانَ ابْنه أَبُو النَّجْم هَذَا صَبيا فَأَخذه بعض الْأَطِبَّاء بِدِمَشْق عِنْده وَلما كبر علمه صناعَة الطِّبّ وعرفه أَعمالهَا
وخدم أَبُو النَّجْم بصناعة الطِّبّ الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وحظي عِنْده وَكَانَ مكينا فِي الدولة وَبَقِي فِي خدمته مُدَّة
وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى دوره ويعالجهم مَعَ جملَة الْأَطِبَّاء
وَتُوفِّي أَبُو النَّجْم النَّصْرَانِي بِدِمَشْق فِي سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَله ولد طَبِيب وَهُوَ أَمِين الدولة أَبُو الْفَتْح ابْن أبي النَّجْم
وَله من الْكتب كتاب الموجز فِي الطِّبّ وَهُوَ يشْتَمل على علم وَعمل
أَبُو الْفرج النَّصْرَانِي
كَانَ طَبِيبا فَاضلا عَالما بصناعة الطِّبّ جيد الْمعرفَة بهَا حسن العلاج متميزا فِي زَمَانه
وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب
وَكَانَ يحترمه وَيرى لَهُ
وخدم أَيْضا الْملك الْأَفْضَل نور الدّين عَليّ بن صَلَاح الدّين وَأقَام عِنْده بسميساط وَكَذَلِكَ أَيْضا أَوْلَاد أبي الْفرج اشتغلوا بصناعة الطِّبّ وَأَقَامُوا بسميساط فِي خدمَة أَوْلَاد الْأَفْضَل
فَخر الدّين بن الساعاتي
هُوَ رضوَان بن مُحَمَّد بن عَليّ بن رستم الْخُرَاسَانِي الساعاتي
مولده ومنشؤه بِدِمَشْق
وَكَانَ أَبوهُ مُحَمَّد من خُرَاسَان وانتقل إِلَى الشَّام وَأقَام بِدِمَشْق إِلَى أَن توفّي
وَكَانَ أوحدا فِي معرفَة السَّاعَات وَعلم النُّجُوم
وَهُوَ الَّذِي عمل السَّاعَات عِنْد بَاب الْجَامِع بِدِمَشْق صنعها فِي أَيَّام الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود ابْن زنكي
وَكَانَ لَهُ مِنْهُ الإنعام الْكثير والجامكية والجراية لملازمته السَّاعَات
وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله وَخلف وَلدين أَحدهمَا بهاء الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن الساعاتي الشَّاعِر الَّذِي هُوَ(1/661)
أفضل أهل زَمَانه فِي الشّعْر وَلَا أحد يماثله فِيهِ وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ وديوانه مَشْهُور ومعروف
وَالْآخر فَخر الدّين رضوَان بن الساعاتي الطَّبِيب الْكَامِل فِي الصِّنَاعَة الطبية الْفَاضِل فِي الْعُلُوم الأدبية
وَقَرَأَ فَخر الدّين صناعَة الطِّبّ على الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي ولازمه مُدَّة
وَكَانَ فطنا ذكيا متقنا لما يعاينه حَرِيصًا فِي الْعلم الَّذِي يشْتَغل فِيهِ
وَقَرَأَ أَيْضا صناعَة الطِّبّ على الشَّيْخ فَخر الدّين المارديني
وَلما ورد إِلَى دمشق كَانَ فَخر الدّين بن الساعاتي جيد الْكِتَابَة يكْتب خطا مَنْسُوبا فِي النِّهَايَة من الْجَوْدَة ويشعر أَيْضا
وَله معرفَة جَيِّدَة بصناعة الْمنطق والعلوم الْحكمِيَّة وَكَانَ اشْتِغَاله بِعلم الْأَدَب على الشَّيْخ تَاج الدّين الْكِنْدِيّ بِدِمَشْق وخدم فَخر الدّين بن الساعاتي الْملك الفائز بن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وتوزر لَهُ
وخدم أَيْضا الْملك الْمُعظم عِيسَى بن الْملك الْعَادِل بصناعة الطِّبّ وتوزر لَهُ
وَكَانَ ينادمه ويلعب بِالْعودِ وَكَانَ محبا لكَلَام الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا فِي الطِّبّ مغرى بِهِ وَتُوفِّي رَحمَه الله بِدِمَشْق بعلة اليرقان
وَمن شعره
(يحسدني قومِي على صنعتي ... لأنني بَينهم فَارس)
(سهرت فِي ليلِي واستنعسوا ... لن يَسْتَوِي الدارس والناعس) السَّرِيع
ولفخر الدّين بن الساعاتي من الْكتب تَكْمِيل كتاب القولنج للرئيس ابْن سينا
الْحَوَاشِي على كتاب القانون لِابْنِ سينا
كتاب المختارات فِي الْأَشْعَار وَغَيرهَا
شمس الدّين بن اللبودي
هُوَ الْحَكِيم الإِمَام الْعَالم الْكَبِير شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَبْدَانِ بن عبد الْوَاحِد بن اللبودي
عَلامَة وقته وَأفضل أهل زَمَانه فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَفِي علم الطِّبّ
سَافر من الشَّام إِلَى بِلَاد الْعَجم واشتغل هُنَاكَ بالحكمة على نجيب الدّين أسعد الْهَمدَانِي
وَقَرَأَ صناعَة الطِّبّ على رجل من أكَابِر الْعلمَاء وأعيانهم فِي بِلَاد الْعَجم
كَانَ أَخذ الصِّنَاعَة عَن تلميذ لِابْنِ سهلان عَن السَّيِّد الأيلاقي مُحَمَّد
وَكَانَ لشمس الدّين بن اللبودي همة عالية وفطرة سليمَة وذكاء مفرط وحرص بَالغ فتميز فِي الْعُلُوم وأتقن الْحِكْمَة وصناعة الطِّبّ وَصَارَ قَوِيا فِي المناظرة جيدا فِي الجدل يعد من الْأَئِمَّة الَّذين يقْتَدى بهم والمشايخ الَّذين يرجع إِلَيْهِم
وَكَانَ لَهُ مجْلِس للاشتغال عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ وَغَيرهَا
وخدم الْملك الظَّاهِر غياث الدّين غَازِي بن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَأقَام عِنْده بحلب
وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الظَّاهِر رَحمَه الله وَذَلِكَ فِي شهر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة وسِتمِائَة
وَبعد وَفَاته أَتَى إِلَى دمشق وَأقَام بهَا يدرس صناعَة الطِّبّ ويطب فِي البيمارستان الْكَبِير النوري إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق فِي رَابِع ذِي الْقعدَة(1/662)
سنة احدى وَعشْرين وسِتمِائَة وَله من الْعُمر احدى وَخَمْسُونَ سنة وَمن كَلَام شمس الدّين بن اللبودي كل شَيْء اذا شرع فِي نقص مَعَ اصراف الهمة اليه تناهى عَن قرب
ولشمس الدّين بن اللبودي من الْكتب كتاب الرَّأْي الْمُعْتَبر فِي الْقَضَاء وَالْقدر شرح كتاب الملخص لِابْنِ الْخَطِيب رِسَالَة فِي جمع المفاصل شرح كتاب الْمسَائِل لحنين بن اسحق
الصاحب نجم الدّين بن اللبودي
هُوَ الْحَكِيم السَّيِّد الْعَالم الصاحب نجم الدّين أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن الْحَكِيم الامام شمس الدّين مُحَمَّد بن عَبْدَانِ بن عَبْدَانِ بن عبد الْوَاحِد اوحد فِي الصِّنَاعَة الطبية ندرة فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة مفرط الذكاء فصيح اللَّفْظ شَدِيد الْحِرْص فِي الْعُلُوم متفنن فِي الْآدَاب قد تميز فِي الْحِكْمَة على الاوائل وَفِي البلاغة على سحبان وَائِل لَهُ النّظم البديع والترسل البليغ فَمَا يدانيه فِي شعره لبيد وَلَا فِي ترسله عبد الحميد
(وَلما رَأَيْت النَّاس دون مَحَله ... تيقنت ان الدَّهْر للنَّاس ناقد)
مولده بحلب سنة سبع وسِتمِائَة وَلما وصل أَبوهُ الى دمشق كَانَ مَعَه وَهُوَ صبي وَكَانَت النجابة تتبين فِيهِ من الصغر وعلو الهمة وَقَرَأَ على شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ واشتغل بعد ذَلِك وتميز فِي الْعُلُوم حَتَّى صَار أوحد زَمَانه وفريد أَوَانه وخدم الْملك الْمَنْصُور ابراهيم ابْن الْملك الْمُجَاهِد بن أَسد الدّين شيركوه بن شاذي صَاحب حمص وَبَقِي فِي خدمته بهَا وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ وَلم تزل أَحْوَاله تنمى عِنْده حَتَّى استوزره وفوض اليه امور دولته وَاعْتمد عَلَيْهِ بكليته وَكَانَ لَا يُفَارِقهُ فِي السّفر والحضر وَلما توفّي الْملك الْمَنْصُور رَحمَه الله وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة بعد كَسره الخوارزمية توجه الْحَكِيم نجم الدّين الى الْملك الصَّالح نجم الدّين ايوب ابْن الْملك الْكَامِل وَهُوَ بالديار المصرية فَأكْرمه غَايَة الاكرام وَوَصله بجزيل الانعام وَجعله نَاظرا على الدِّيوَان بالاسكندرية وَله مِنْهُ الْمنزلَة الْعلية وَجعل مقرره فِي كل شهر ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم وَبَقِي على ذَلِك مُدَّة ثمَّ توجه الى الشَّام وَصَارَ نَاظرا على الدِّيوَان بِجَمِيعِ الاعمال الشامية
وَمن ترسله كتب رقْعَة وقف الْخَادِم على المشرفة الْكَرِيمَة ادام الله نعْمَة الْمُنعم بِمَا أودعها من النعم الجسام واقتضبه فِيهَا من الاريحية الَّتِي اربى فِيهَا على كل من تقدمه من الْكِرَام وَأَبَان فِيهَا عَمَّا(1/663)
يقْضِي على الْخَادِم بالاسترقاق وعَلى الدولة خلدها الله بمزايا الِاسْتِحْقَاق وَكلما أَشَارَ الْمولى عَلَيْهِ فَهُوَ كَمَا نَص عَلَيْهِ لكنه يعلم بسعادته أَن الفرص تمر مر السَّحَاب وان الامور الْمعينَة فِي الاوقات المحدودة تحْتَاج الى تلافي الاسباب وَقد ضَاقَ الْوَقْت بِحَيْثُ لَا يحْتَمل التَّأْخِير وَالْمولى يعلم أَن الْمصلحَة تَقْدِيم النّظر فِي المهم على جَمِيع أَنْوَاع التَّدْبِير وَمَا الْخَادِم مَعَ الْمولى فِي هَذَا المهم الْعَظِيم الا كسهم وَالْمولى مدده وَسيف وَالْمولى جرده فَالله الله فِي العجلة والبدار وَقد ظَهرت مخايل السَّعَادَة والانتصار والحذر الحذر من التَّأْخِير والاهمال فنتفوت وَالْعِيَاذ بِاللَّه الْأَوْقَات الَّتِي نرجو من الله فِيهَا بُلُوغ الآمال والمرجو من كرم الله ان ينْهض الْمَمْلُوك فِي خدمَة مَوْلَانَا السُّلْطَان بِمَا يبيض وَجه أمله وَيكون ذَلِك على يَد الْمولى وَبِقَوْلِهِ وَعَمله ان شَاءَ الله تَعَالَى
وَمن شعره وَهُوَ مِمَّا انشدني لنَفسِهِ فَمن ذَلِك قَالَ فِي الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَهُوَ مُتَوَجّه الى خدمته عِنْد عودته من الديار المصرية وانشدها عِنْد بَاب السرداب وَهُوَ قَائِم فِي ذِي الْقعدَة سنة احدى وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
(هذي المهابة والجلال الهائل ... بهرا فَمَاذَا ان يَقُول الْقَائِل)
(لَو أَن قسا حَاضرا متمثلا ... يَوْمًا لديك حسبته هُوَ بَاقِل)
(هَل تقدر الفصحاء يَوْمًا ان يرَوا ... وبيانهم عَن ذِي الْجلَال يناضل)
(وَبِك اقْتدى جلّ النَّبِيين الأولى ... ولديك اضحت حجَّة وَدَلَائِل)
(أظهرت ابراهيم اسباب الْهدى ... وَالْخَيْر وَالْمَعْرُوف انت الْعَامِل)
(شيدت اركان الشَّرِيعَة مُعْلنا ... ومقررا ان الاله الْفَاعِل)
(مَا زَالَ بَيْتك مهبط الْوَحْي الَّذِي ... لجلاله مقفر ربعك آهل)
(وبهرت فِي كل الامور بمعجز ... مَا أَن يُخَالف فِيهِ يَوْمًا عَاقل)
(وَكَفاك يَوْم الْفَخر أَن مُحَمَّدًا ... يَوْم التناسب فِي النجار مواصل)
(مَا زلت تنقل للنبوءة سرها ... حَتَّى غَدا لمُحَمد هُوَ حَاصِل)
(فعليكما صلوَات رب لم يزل ... يأتيكما مِنْهُ ثَنَا وفواضل)
(وَقد التجأت الى جنابك خاضعا ... متوسلا وَأَنا الْفَقِير السَّائِل)
(أرجوك تسْأَل لي لَدَى رب الْعلَا ... غفران مَا قد كنت فِيهِ ازاول)
(وَأرى وَقد غفرت لَدَيْهِ خطيتي ... وَبَلغت مقصودي وَمَا أَنا آمل)
(وَرجعت مُنْقَطِعًا الى ابوابه ... لَا ألتقي عَن غَيره أَنا سَائل)
(وَلَقَد سَأَلت لكامل فِي جوده ... يُعْطي بِلَا من وَلَا هُوَ باخل)
(فحقيقة أَنِّي بلغت ارادتي ... سِيمَا وَأَنت لما سَأَلت الْحَامِل) الْكَامِل(1/664)
وَقَالَ ايضا فِي الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عِنْد عوده من الديار المصرية فِي شهر جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة وانشدها عِنْد بَاب السرداب
(أَلا يَا خَلِيل الله قد جِئْت قَاصِدا ... الى بابك الْمَقْصُود من كل مَوضِع)
(أؤدي حقوقا وَاجِبَات لفضلك ... مننتم بهَا قدما على كل من يعي)
(فأرشدت أقوما بهديك اقتدوا ... فصاروا بِذَاكَ الْهَدْي فِي خير مهيع)
(وأظهرت أَعْلَام الشَّرِيعَة مُعْلنا ... فأضحت بمرأى للأنام ومسمع)
(وأودعتها أسرار كل خُفْيَة ... فَكنت بِمَا أودعته خير مُودع)
(وأظهرت برهانا غَدا بك قَاطعا ... قطعت بِهِ من لم يكن قبل يقطع)
(وَهَا أَنا قد وافيت ببابك سَائِلًا ... بوقفة مِسْكين وذل تخضع)
(بِأَن تسْأَل الله الْكَرِيم فانه ... لأَفْضَل مسؤول واكرم من دعِي)
(بِأَن يحمني من شَرّ كل بلية ... وَيصرف عَن صرف الْحَوَادِث مجمعي)
(وَلَا يبلني من بعْدهَا بمصيبة ... وَلَا التقي خلا بأنة موجع)
(ويفرج لي مِمَّا ابْتليت بهمه ... فقد بت مهموما بقلب مصدع)
(فَانِي اذا مَا نابني خطب حَادث ... جعلت الى مغناك قصدي ومفزعي)
(لتشفع لي عِنْد الاله فانثني ... بتبليغ آمالي وَتَحْصِيل مطمعي)
(فأفرغ عَن اشعال دنيا وأنثني ... الى امْر اخراي بقلب موسع)
(وتسأله ان يعف عني تكرما ... وان أحظ من أنواره بتمتع)
(وَمن كَانَ مشفوعا وانت شفيعه ... فَلَا بُد فِي الجنات يحظى بمرتع) الطَّوِيل
وَرَأى الْخَلِيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِيمَا بَين النَّائِم وَالْيَقظَان عقيب حَال كَانَت اتّفقت لَهُ يَقُول لَهُ
(لَا تأسفن على خيل وَلَا مَال ... وَلَا تبيتن مهموما على حَال)
(مَا دَامَت النَّفس والعلياء سَالِمَة ... فَانْظُر الى سَائِر الاشيا باهمال)
(فانما المَال أَعْرَاض مجددة ... معرضات لتضييع وابدال)
(وَلَذَّة المَال ان النَّفس تصرفه ... فِيمَا تجدّد من هم واشغال)
(وَخير مَا صرفت كَفاك مَا جمعت ... فِي صون عرضك عَن قيل وَعَن قَالَ)
(فكم جمعت من الاموال مقتدرا ... وفرقتها يَد الاقدار فِي الْحَال)
(وَلم تَرَ قطّ مُحْتَاجا الى أحد ... وَلم تزل أهل حاجات وآمال)
(وسوف يجْزِيك رب الْعَرْش عَادَته ... على عوائد إِحْسَان واجمال)
(وتلتقي كل سير بت ترقبه ... كَمَا مضى سالفا فِي عصرك الحالي) الْبَسِيط(1/665)
وَقَالَ ونظمه فِي الْقُدس الشريف عِنْد عوده من مصر فِي منتصف جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وسِتمِائَة
(أَلا يَا خَلِيل الله عِنْدِي صبَابَة ... وشوق إِلَى لقياك زَاد بهَا كربي)
(فَأَنت الَّذِي سننت للنَّاس مذهبا ... فَكنت بِهِ الْهَادِي إِلَى السّنَن الرحب)
(وأوضحت فِي طرق النُّبُوَّة منهجا ... فراح من الأشواق يَعْلُو على الشهب)
(بِمَا كنت مبديه من الْحجَج الَّتِي ... قوين فَلَا يدفعن بالقدح والثلب)
(وَكَانَ بودي لَو أَتَيْتُك زَائِرًا ... أعفر فِي مغناك خدي على الترب)
(وأقضي حقوقا وَاجِبَات لفضلكم ... غَدَتْ لكم بِالْفَضْلِ فِي أفضل الْكتب)
(وأنهي مَا عِنْدِي من الوجد والأسى ... وَمَا بَات من هم وَأصْبح فِي قلبِي)
(وَأَن اللَّيَالِي قد رمتني بصرفها ... بِمَا حط من شاني وقلل من غربي)
(وَأَنت الَّذِي أرجوك فِي كل شدَّة ... لتكشف عني كل مستكره صَعب)
(وَتشفع لي عِنْد الْإِلَه فأنثني ... وَقد فرج الرَّحْمَن مَا بِي من الْخطب)
(وَلَا سِيمَا وَالْعَبْد فِي شِيمَة الَّذِي ... بِهِ شرفت كل الْأَعَاجِم وَالْعرب)
(وَذَلِكَ خير النَّاس أَعنِي مُحَمَّدًا ... وَمن كَانَ فِي الْأُمَرَاء فِي غَايَة الْقرب)
(وَمن كنتما ذخْرا لَهُ ووسيلة ... وكنزا عَظِيما رَاح فِي السّلم وَالْحَرب)
(فَلَا عجبا أَن رَاح وَهُوَ مُسلم ... من الْبَأْس وَالضَّرَّاء والعتب وَالسَّلب)
(وَغير بديع أَن يرى غير خَائِف ... يبات قريرا آمن الْقلب والسرب)
(فيا صَاحِبي طرق النُّبُوَّة وَالْهدى ... أقيلا عثاري شافعين إِلَى رَبِّي)
(فحسبكما لي شافعان فإنني ... لأعْلم أَن الله حِينَئِذٍ حسبي) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(كلما خفت قد تناءى الرَّجَاء ... ووثوقي بِاللَّه فِيهِ اكْتِفَاء)
(فدع الْخَوْف والرجاء جَمِيعًا ... واصطبر رَاضِيا فَذَاك الرضاء)
(لَيْسَ عَمَّا قضى الْإِلَه محيد ... فدع الْهم فَهُوَ عِنْدِي عناء)
(وتيقن أَن الْإِلَه لطيف ... أَن أَتَى الْغم أعقب السَّرَّاء) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(إِذا ضَاقَ أَمر فاصبر سَوف ينجلي ... فكم حر نَار أعقبت بِسَلام)
(وَلَا تسْأَل الْأَيَّام دفع ملمة ... فلست ترى أمرا حَلِيف دوَام) الطَّوِيل(1/666)
وَقَالَ وَكتبه إِلَى الْملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحَمَّد
(لِيَهنك نيروز أَتَاك مبشرا ... بنيل الَّذِي تهواه يَوْمًا وتطلب)
(وَأَن بَقَاء الْملك مَعَ غير أَهله ... عَجِيب وحالي مِنْهُ عنْدك اعْجَبْ)
(أسوق إِلَيْك الْملك طَوْعًا فتلقه ... وَمن عِنْد غَيْرِي فِي تقاضيه ترغب)
(وتدأب فِي تَحْصِيل مَا أَنا قَادر ... عَلَيْهِ من الْملك الَّذِي رَاح يصعب)
(وَأقسم لَو ساعدتني بعض مُدَّة ... لأمسى الَّذِي استعبدته وَهُوَ يقرب) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(سأرحل عَنْكُم لَا لكرهي لفضلكم ... عَليّ وَمن لي أَن أَقْْضِي بِهِ عمري)
(ولكنما رِزْقِي قَلِيل وحاسدي ... كثير وَقد طَالَتْ بِنَا نوب الدَّهْر)
(تبدلت عَن جاه جليل بذلة ... وَعَن سَعَة فِي الرزق بالضيق والفقر)
(وعادقصارى منيتي فِي ذراكم ... أساوي بِمن لَا يستعد بِأَن يدْرِي)
(وَلَو كَانَت العلياء تَأتي إِلَى الحجى ... عَلَوْت مَحل الشهب مَعَ مَوضِع الْبَدْر)
(على أَنه قد طَال مَا صرفت يَدي ... صنوف الورى بالجود وَالنَّهْي وَالْأَمر)
(فصبرا على جور اللَّيَالِي وَحكمهَا ... فَمَا بَرحت لَا تستمر على أَمر)
(وَمن عجب أَنِّي أرجي سواكم ... وأرحل عَنْكُم أطلب الْبر بِالْبرِّ)
(واستخبر الْآفَاق عَن كل منعم ... وأقطع بالتطواف مستصعب القفر)
(وَأَنت صَلَاح الدّين أكْرم ذَا الورى ... وَمن جوده يزري بمندفق الْبَحْر)
(وَأَنت مليك الأَرْض طرا فَمَا يرى ... لملك سواكم فِي البسيطة من قدر)
(وَإِنِّي وَأَنا الْقِنّ الَّذِي لَيْسَ يَدعِي ... سواي حقوقي اللاء تقطع بالنصر) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(لَئِن كَانَ جسمي سَار عَنْك مفارقا ... فقلبي فِي أكناف ربعك سَاكن)
(وَأَن فُؤَادِي من تنقلك خَائِف ... على أَن قلبِي من تنقله آمن) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(أيا قمري أوحشتني وتركتني ... حَلِيف سهاد دَائِم الْهم والفكر)
(بودي لَو أمسيت عِنْدِي حَاضرا ... وأمسي عديم الْعقل والسمع وَالْبَصَر) الطَّوِيل(1/667)
وَقَالَ
(يَا مَالك مهجتي وَيَا متلفها ... كم تسعفك النَّفس وَكم تعسفها)
(إِن كنت أَنا فِي الْحبّ يَعْقُوب هوى ... هَا أَنْت على حسانها يوسفها) دوبيت
وللصاحب نجم الدّين بن اللبودي من الْكتب مُخْتَصر الكليات من كتاب القانون لِابْنِ سينا
مُخْتَصر كتاب الْمسَائِل لحنين ابْن إِسْحَق
مُخْتَصر كتاب الإشارات والتنبيهات لِابْنِ سينا
مُخْتَصر كتاب عُيُون الْحِكْمَة لِابْنِ سينا
مُخْتَصر كتاب الملخص لِابْنِ خطيب الرّيّ
مُخْتَصر كتاب المعاملين فِي الأصولين
مُخْتَصر كتاب أوقليدس
مُخْتَصر مصادرات أوقليدس
كتاب اللمعات فِي الْحِكْمَة
كتاب آفَاق الأشراق فِي الْحِكْمَة
كتاب المناهج القدسية فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة
كَافِيَة الْحساب فِي علم الْحساب
(غَايَة الغايات فِي الْمُحْتَاج إِلَيْهِ أوقليدس والمتوسطات
تدقيق المباحث الطبية فِي تَحْقِيق الْمسَائِل الخلافية على طَرِيق مسَائِل خلاف الْفُقَهَاء
مقَالَة فِي البرشعثا
كتاب إِيضَاح الرَّأْي السخيف من كَلَام الْمُوفق عبد اللَّطِيف وَألف هَذَا الْكتاب وَله من الْعُمر ثَلَاث عشرَة سنة
غَايَة الإحكام فِي صناعَة الْأَحْكَام
الرسَالَة السّنيَّة فِي شرح الْمُقدمَة المطرزية
الْأَنْوَار الساطعات فِي شرح الْآيَات الْبَينَات
كتاب نزهة النَّاظر فِي الْمثل السائر
الرسَالَة الْكَامِلَة فِي علم الْجَبْر والمقابلة
الرسَالَة المنصورية فِي الْأَعْدَاد الوفقية
الزاهي فِي اخْتِصَار الزيج المقرب الْمَبْنِيّ على الرصد المجرب
زين الدّين الحافظي
هُوَ الصَّدْر الإِمَام الْعَالم الْأَمِير زين الدّين سُلَيْمَان بن الْمُؤَيد عَليّ بن خطيب عقرباء اشْتغل بصناعة الطِّبّ على شَيخنَا مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ رَحمَه الله فَحصل علمهَا وعملها وأتقن فصولها وجملها وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك الْحَافِظ نور الدّين أرسلان شاه بن أبي بكر بن أَيُّوب وَكَانَ يَوْمئِذٍ صَاحب قلعة جعبر
وَأقَام فِي خدمته فِي قلعة جعبر وتميز عِنْده وأجزل رفده وخوله فِي دولته واشتمل عَلَيْهِ بكليته
وَكَانَ زين الدّين يعاني الْأَدَب وَالشعر وَالْكِتَابَة الْحَسَنَة
وَكَانَ أَيْضا يعاني الجندية وداخل أَوْلَاد الْملك الْحَافِظ وَصَارَ حظيا عِنْدهم مكينا فِي دولتهم
وَلما توفّي الْملك الْحَافِظ وتسلم قلعة جعبر الْملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحَمَّد بن غَازِي صَاحب حلب وَذَلِكَ بمراسلات كَانَ فِيهَا زين الدّين الحافظي
وانتقل زين الدّين إِلَى حلب وَصَارَت لَهُ يَد عِنْد الْملك النَّاصِر ومنزلة رفيعة
وَتزَوج زين الدّين بابنة رَئِيس حلب واقتنى أَمْوَالًا كَثِيرَة
وَلما ملك النَّاصِر يُوسُف(1/668)
ابْن مُحَمَّد دمشق وصل مَعَه إِلَى دمشق وَصَارَ مكينا فِي دولته وجيها فِي أَيَّامه معانيا للصناعة الطبية معينا فِي الإمره والجندية
وَلذَلِك قلت فِيهِ
(وَمَا زَالَ زين الدّين فِي كل منصب ... لَهُ فِي سَمَاء الْمجد أَعلَى الْمَرَاتِب)
(أَمِير حوى فِي الْعلم كل فَضِيلَة ... وفَاق الورى فِي رَأْيه والتجارب)
(إِذا كَانَ فِي طب فصدر مجَالِس ... وَإِن كَانَ فِي حَرْب فَقلب الْكَتَائِب)
(فَفِي السّلم كم أَحْيَا وليا بطبه ... وَفِي الْحَرْب كم أفنى العدا بالقواضب) الطَّوِيل
وَلم يزل الْملك النَّاصِر بِدِمَشْق وَهُوَ عِنْده حَتَّى جَاءَت رسل التتر من الشرق إِلَى الْملك النَّاصِر وهم فِي طلب الْبِلَاد والتشرط عَلَيْهِ بِمَا يحملهُ إِلَيْهِم من الْأَمْوَال وَغَيرهَا فَبعث زين الدّين الحافظي رَسُولا إِلَى خاقَان هولاكو ملك التتر وَسَائِر مُلُوكهمْ فَأحْسنُوا إِلَيْهِ الْإِحْسَان الْكثير واستمالوه حَتَّى صَار من جهتهم ومازجهم
وَتردد فِي المراسلة مَرَّات وأطمع التتر فِي الْبِلَاد وَصَارَ يهول على الْملك النَّاصِر أُمُورهم ويعظم شَأْنهمْ ويفخم مملكتهم ويصف كَثْرَة عساكرهم ويصغر شَأْن الْملك النَّاصِر وَمن عِنْده من العساكر
وَكَانَ الْملك النَّاصِر مَعَ ذَلِك جَبَانًا متوقفا عَن الْحَرْب
وَلما جَاءَت التتر إِلَى حلب وَكَانَ هولاكو قد نازلها بقوا عَلَيْهَا نَحْو شهر وملكوها وَقتلُوا أَهلهَا وَسبوا النِّسَاء وَالصبيان ونهبوا الْأَمْوَال وهدموا القلعة وَغَيرهَا هرب الْملك النَّاصِر يُوسُف من دمشق إِلَى مصر وَقصد أَن يملكهَا فَخرجت عَسَاكِر مصر وملكها يَوْمئِذٍ الْملك المظفر سيف الدّين قطز فَكسر الْملك الْحَافِظ وَتَفَرَّقَتْ عساكره وَزَالَ ملكه
وملكت التتر دمشق بالأمان وَجعلُوا فِيهَا نَائِبا من جهتهم
وَصَارَ زين الدّين أَيْضا بهَا وأمروه وَبَقِي مَعَه جمَاعَة أجناد حَتَّى كَانُوا يَدعُونَهُ الْملك زين الدّين
وَلما وصل الْملك المظفر قطز صَاحب مصر وَمَعَهُ عَسَاكِر الْإِسْلَام وَكسر التتر فِي وَادي كنعان الكسرة الْعَظِيمَة الْمَشْهُورَة وَقتل من التتر الْخلق الْعَظِيم الَّذِي لَا يُحْصى انهزم نَائِب التتر وَمن مَعَه من دمشق وَرَاح زين الدّين الحافظي مَعَهم خوفًا على نَفسه من الْمُسلمين وَصَارَت بِلَاد الشَّام بِحَمْد الله إِلَى مَا كَانَت عَلَيْهِ وملكها بعد الْملك المظفر قطز رَحمَه الله السُّلْطَان الْملك الظَّاهِر ركن الدّين بيبرس وَصَارَ صَاحب الديار المصرية وَالشَّام خلد الله ملكه
أَبُو الْفضل بن عبد الْكَرِيم المهندس
هُوَ مؤيد الدّين أَبُو الْفضل مُحَمَّد بن عبد الْكَرِيم بن عبد الرَّحْمَن الْحَارِثِيّ مولده ومنشؤه بِدِمَشْق
وَكَانَ يعرف بالمهندس لجودة مَعْرفَته بالهندسة وشهرته بهَا قبل أَن يتحلى بِمَعْرِِفَة صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ(1/669)
فِي أول أمره نجارا وينحت الْحِجَارَة أَيْضا وَكَانَ تكسبه بصناعة النجارة وَله يَد طولى فِيهَا وَالنَّاس كثيرا مَا يرغبون إِلَى أَعماله
وَأكْثر أَبْوَاب البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين ابْن زنكي رَحمَه الله من نجارته وصنعته أَخْبرنِي سديد الدّين بن رقيقَة عَنهُ أَنه أخبرهُ بذلك
وحَدثني شمس الدّين بن المطواع الكحال عَنهُ وَكَانَ صديقا لَهُ أَن أول اشْتِغَاله بِالْعلمِ أَنه قصد إِلَى أَن يتَعَلَّم أوقليدس لِيَزْدَادَ فِي صناعَة النجارة جودة ويطلع على دقائقها ويتصرف فِي أَعمالهَا
قَالَ وَكَانَ فِي تِلْكَ الْأَيَّام يعْمل فِي مَسْجِد خاتون الَّذِي تَحت المنيبع غربي دمشق فَكَانَ فِي كل غَدَاة لَا يصل إِلَى ذَلِك الْموضع إِلَّا وَقد حفظ شَيْئا من أوقليدس وَيحل أَيْضا مِنْهُ فِي طَرِيقه وَعند فَرَاغه من الْعَمَل إِلَى أَن حل كتاب أوقليدس بأسره وفهمه فهما جيدا وَقَوي فِيهِ
ثمَّ نظر أَيْضا فِي كتاب المجسطي وَشرع فِي قِرَاءَته وحله وَانْصَرف بكليته إِلَى صناعَة الهندسة وَعرف بهَا
أَقُول واشتغل أَيْضا بصناعة النُّجُوم وَعمل الزيجات
وَكَانَ قد ورد إِلَى دمشق ذَلِك الْوَقْت الشّرف الطوسي وَكَانَ فَاضلا فِي الهندسة والعلوم الرياضية لَيْسَ فِي زَمَانه مثله فَاجْتمع بِهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَأخذ عَنهُ شَيْئا كثيرا من معارفه وَقَرَأَ أَيْضا صناعَة الطِّبّ على أبي الْمجد مُحَمَّد بن أبي الحكم ولازمه حق الْمُلَازمَة وَنسخ بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَفِي صناعَة الطِّبّ
وَوجدت بِخَطِّهِ الْكتب السِّتَّة عشر لِجَالِينُوسَ وَقد قَرَأَهَا على أبي الْمجد مُحَمَّد بن أبي الحكم وَعَلَيْهَا خطّ ابْن أبي الحكم لَهُ بِالْقِرَاءَةِ
وَهُوَ الَّذِي أصلح السَّاعَات الَّتِي للجامع بِدِمَشْق
وَكَانَ لَهُ على مراعاتها وتفقدها جامكية مستمرة يَأْخُذهَا
وَكَانَت لَهُ أَيْضا جامكية لطبه فِي البيمارستان الْكَبِير وَبَقِي سنينا كَثِيرَة يطب فِي البيمارستان إِلَى حِين وَفَاته
وَكَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ جيد الْمُبَاشرَة لأعمالها مَحْمُود الطَّرِيقَة
وَكَانَ قد سَافر إِلَى ديار مصر وَسمع شَيْئا من الحَدِيث بالإسكندرية فِي سنة اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة من رشيد الدّين أبي الثَّنَاء حَمَّاد بن هبة الله بن حَمَّاد بن الفضيل الْحَرَّانِي وَمن أبي طَاهِر أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم السلَفِي الْأَصْفَهَانِي
واشتغل أَيْضا بالأدب وَعلم النَّحْو وَكَانَ يشْعر وَله قطع جَيِّدَة
وَتُوفِّي رَحمَه الله فِي سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بِدِمَشْق بإسهال عرض لَهُ وعاش نَحْو السّبْعين سنة
وَمن شعر أبي الْفضل بن عبد الْكَرِيم المهندس نقلت من خطه فِي مقَالَته فِي رُؤْيَة الْهلَال ألفها للْقَاضِي محيي الدّين بن القَاضِي زكي الدّين وَيَقُول فِيهَا يمدحه
(خصصت بِالْأَبِ لما أَن رَأَيْتهمْ ... دعوا بنعتك أشخاصا من الْبشر)
(ضد النعوت تراهم أَن بلوتهم ... وَقد يُسمى بَصيرًا غير ذِي بصر)
(والنعت مَا لم تَكُ الْأَفْعَال تعضده ... اسْم على صُورَة خطت من الصُّور)
(وَمَا الْحقيق بِهِ لفظ يطابقه الْمَعْنى ... كنجل الْقُضَاة الصَّيْد من مُضر)
(فالدين وَالْملك وَالْإِسْلَام قاطبة ... بِرَأْيهِ فِي أَمَان من يَد الْغَيْر)
(كم سنّ سنة خير فِي ولَايَته ... وَقَامَ لله فِيهَا غير معتذر)
(يَرْجُو بِذَاكَ نعيما لَا نفاد لَهُ ... جوَار ملك عَزِيز جلّ مقتدر)(1/670)
(فَالله يكلؤه من كل حَادِثَة ... مَا غردت هاتفات الْوَرق فِي الشّجر) الْبَسِيط
وَلأبي الْفضل بن عبد الْكَرِيم المهندس من الْكتب رِسَالَة فِي معرفَة رمز التَّقْوِيم
مقَالَة فِي رُؤْيَة الْهلَال
اخْتِصَار كتاب الأغاني الْكَبِير لأبي الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ
وَكتب من تصنيفه هَذَا نُسْخَة بِخَطِّهِ فِي عشر مجلدات ووقفها بِدِمَشْق فِي الْجَامِع مُضَافا إِلَى الْكتب الْمَوْقُوفَة فِي مَقْصُورَة ابْن عُرْوَة
كتاب فِي الحروب والسياسة
كتاب فِي الْأَدْوِيَة المفردة على تَرْتِيب حُرُوف أبجد
موفق الدّين عبد الْعَزِيز
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم موفق الدّين عبد الْعَزِيز بن عبد الْجَبَّار بن أبي مُحَمَّد السّلمِيّ
كَانَ كثير الْخَيْر محبا لَهُ مؤثرا للجميل عَزِيز الْمُرُوءَة وافر الْعَرَبيَّة شَدِيد الشَّفَقَة رضى وخصوصا لمن كَانَ مِنْهُم ضَعِيف الْحَال يفتقدهم ويعالجهم ويوصل إِلَيْهِم النَّفَقَة وَمَا يحتاجونه من الْأَدْوِيَة والأغذية
وَكَانَ كثير الدّين طلق الْوَجْه يُحِبهُ كل أحد
وَكَانَ فِي أول أمره فِي الْمدرسَة فَقِيها فِي الْمدرسَة الأمينية بِدِمَشْق عِنْد الْجَامِع
واشتغل بعد ذَلِك على إلْيَاس بن المطران بصناعة الطِّبّ وأتقن مَعْرفَتهَا وَحصل علمهَا وعملها وَصَارَ من المتميزين من أَرْبَابهَا والمشايخ الَّذين يقْتَدى بهم فِيهَا
وَكَانَ لَهُ مجْلِس عَام للمشتغلين عَلَيْهِ بالطب
وخدم بصناعة الطِّبّ فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي
ثمَّ خدم بعد ذَلِك الْملك الْعَادِل أَبَا بكر بن أَيُّوب وَبَقِي مَعَه سِنِين وَله مِنْهُ الإنعام الْكثير والإفضال الغزير والمنزلة الْعلية والجامكية السّنيَّة
وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي موفق الدّين عبد الْعَزِيز رَحمَه الله بِدِمَشْق بعلة القولنج
وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين من ذِي الْقعدَة سنة أَربع وسِتمِائَة وَدفن بجبل قاسيون وعمره نَحْو السِّتين سنة ومولده فِي سنة خَمْسمِائَة ونيف وَخمسين
سعد الدّين بن عبد الْعَزِيز
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الإِمَام الْعَالم سعد الدّين أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَزِيز بن عبد الْجَبَّار بن أبي مُحَمَّد السّلمِيّ
قد أشبه أَبَاهُ فِي خلقه وخلقه ومعرفته وحذقه
كثير الدّين شرِيف الْيَقِين بارع فِي الْعُلُوم الْفِقْهِيَّة ورع فِي الْأُمُور الدِّينِيَّة
وَلما كَانَ بِدِمَشْق كَانَ يعْتَكف بالجامع شهر رَمَضَان وَلم يتَكَلَّم فِيهِ
وَهُوَ الَّذِي تولى عمَارَة الْمدرسَة الحنبلية فِي سوق القمع بِدِمَشْق وَذَلِكَ فِي أَيَّام الْملك الْأَشْرَف مُوسَى بن الْملك الْعَادِل وَكَانَ الإِمَام الْمُسْتَنْصر بِاللَّه خَليفَة بَغْدَاد قد أمره بعمارتها
وَكَانَ الْحَكِيم سعد الدّين أوحد زَمَانه وعلامة أَوَانه فِي صناعَة الطِّبّ قد أحكم كليات أُصُولهَا وأتقن جزئيات أَنْوَاعهَا وفصولها
وَلم يزل مواظبا على الِاشْتِغَال ملازما لَهُ فِي كل الْأَحْوَال
مولده بِدِمَشْق فِي أَوَائِل(1/671)
الْمحرم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
وخدم بصناعة الطِّبّ فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي
وَبعد ذَلِك خدم الْملك الْأَشْرَف أَبَا الْفَتْح مُوسَى بن أبي بكر بن أَيُّوب وَأقَام مَعَه فِي بِلَاد الشرق وَله مِنْهُ الْإِحْسَان الْكثير والإفضال الغزير والجامكية الوافرة والصلات المتواترة
وَكَانَ حظيا عِنْده مكينا فِي دولته
وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن أَتَى الْملك الْأَشْرَف إِلَى دمشق وتسلمها من ابْن أَخِيه الْملك النَّاصِر دَاوُد بن الْملك الْمُعظم
وَذَلِكَ فِي شعْبَان سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة فَأتى مَعَه إِلَى دمشق وَبَقِي بهَا
ثمَّ ولاه السُّلْطَان رئاسة الطِّبّ وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْأَشْرَف
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله بقلعة دمشق أول نَهَار يَوْم الْخَمِيس رَابِع الْمحرم سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
ثمَّ بعد ذَلِك لما ملك دمشق الْملك الْكَامِل مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب فِي الْعشْر الأول من جُمَادَى الأولى سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة أَمر باستخدامه وَأَن يُقرر لَهُ جَمِيع مَا كَانَ باسمه من أَخِيه الْملك الْأَشْرَف وَبَقِي فِي خدمته مُدَّة يسيرَة وَتُوفِّي الْملك الْكَامِل رَحمَه الله وَذَلِكَ فِي لَيْلَة الْخَمِيس أول اللَّيْل ثَانِي وَعشْرين رَجَب سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَلم يزل الْحَكِيم سعد الدّين مُقيما بِدِمَشْق وَله مجْلِس عَام للمشتغلين عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله وَكَانَت وَفَاته بِدِمَشْق فِي شهر جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وللشريف الْبكْرِيّ فِي الْحَكِيم سعد الدّين من أَبْيَات
(حَكِيم لطيف من لطافة وَصفه ... يود الْمعَافى السقم حَتَّى يعودهُ) الطَّوِيل
رَضِي الدّين الرَّحبِي
هُوَ الشَّيْخ الْحَكِيم الإِمَام الْعَالم رَضِي الدّين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف بن حيدرة بن الْحسن الرَّحبِي من الأكابر فِي صناعَة الطِّبّ والمتعينين من أَهلهَا وَله الْقدَم والاشتهار وَالذكر الشَّائِع عِنْد الْخَواص والعوام
وَلم يزل مبجلا عِنْد الْمُلُوك وَغَيرهم كثيري الاحترام لَهُ
وَكَانَ كَبِير النَّفس عالي الهمة كثير التَّحْقِيق حسن السِّيرَة محبا للخير وَأَهله شَدِيد الِاجْتِهَاد فِي مداواة المرضى رؤوفا بالخلق طَاهِر اللِّسَان
مَا عرف مِنْهُ فِي سَائِر عمره أَنه آذَى أحدا وَلَا تكلم فِي عرض غَيره بِسوء
وَكَانَ وَالِده من بلد الرحبة وَله أَيْضا نظر فِي صناعَة الطِّبّ إِلَّا أَن صناعَة الْكحل كَانَت أغلب عَلَيْهِ وَعرف بهَا
وَكَانَ مولد الشَّيْخ رَضِي الدّين بِجَزِيرَة ابْن عمر وَنَشَأ بهَا وَأقَام أَيْضا بنصيبين وبالرحبة سِنِين
وسافر أَيْضا إِلَى بَغْدَاد وَإِلَى غَيرهَا
واشتغل بصناعة الطِّبّ وتمهر فِيهَا
وَاجْتمعَ أَيْضا فِي ديار(1/672)
مصر بالشيخ الْمَعْرُوف بِابْن جَمِيع الْمصْرِيّ وانتفع بِهِ
وَكَانَ وُصُوله مَعَ أَبِيه إِلَى دمشق فِي سنة خمس وَخمسين وَخَمْسمِائة وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت ملكهَا السُّلْطَان الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي
وَأقَام رَضِي الدّين ووالده بِدِمَشْق سِنِين وَتُوفِّي وَالِده بهَا وَدفن بجبل قاسيون
وَبَقِي رَضِي الدّين قاطنا بِدِمَشْق وملازما للدكان لمعالجة المرضى وَنسخ بهَا كتبا كَثِيرَة وَبَقِي على تِلْكَ الْحَال مُدَّة
واشتغل على مهذب الدّين بن النقاش الطَّبِيب ولازمه فَنَوَّهَ بِذكرِهِ وَقدمه وتأدت بِهِ الْحَال إِلَى أَن اجْتمع بِالْملكِ النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب فَحسن موقعه عِنْده وَأطلق لَهُ فِي كل شهر ثَلَاثِينَ دِينَارا وَيكون ملازما للقلعة والبيمارستان
فَبَقيَ كَذَلِك مُدَّة دولة صَلَاح الدّين بأسرها
وَكَانَ صَلَاح الدّين قد طلبه للْخدمَة فِي السّفر فَلم يفعل وَلما توفّي صَلَاح الدّين رَحمَه الله بِدِمَشْق وَذَلِكَ فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثلث اللَّيْل الأول سَابِع وَعشْرين صفر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وانتقل الْملك عَن أَوْلَاده إِلَى أَخِيه الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَاسْتولى على الْبِلَاد أَمر بِأَن يكون فِي خدمته فِي الصُّحْبَة فَلم يجب إِلَى ذَلِك وَطلب أَن يكون مُقيما بِدِمَشْق فَأطلق لَهُ الْملك الْعَادِل مَا كَانَ مقررا باسمه فِي أَيَّام صَلَاح الدّين وَأَن يبْقى مستمرا على مَا هُوَ عَلَيْهِ
وَبَقِي على ذَلِك أَيْضا إِلَى أَن توفّي الْملك الْعَادِل وَملك بعده الْملك الْمُعظم عِيسَى ابْن الْملك الْعَادِل فَأجرى لَهُ خَمْسَة عشر دِينَارا وَيكون مترددا إِلَى البيمارستان فَبَقيَ مترددا إِلَيْهِ إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ خلق كثير ونبغ مِنْهُم جمَاعَة عدَّة
وأقرأوا لغَيرهم وصاروا من الْمَشَايِخ الْمَذْكُورين فِي صناعَة الطِّبّ
وَلَو اعْتبر أحد جُمْهُور الْأَطِبَّاء بِالشَّام لوجد إِمَّا أَن يكون مِنْهُم من قد قَرَأَ على الرَّحبِي أَو من قَرَأَ على من قَرَأَ عَلَيْهِ
وَكَانَ من جملَة من قد قَرَأَ عَلَيْهِ أَيْضا فِي أول أمره الشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ قبل ملازمته لِابْنِ المطران
وحَدثني الشَّيْخ رَضِي الدّين يَوْمًا قَالَ إِن جَمِيع من قَرَأَ عَليّ ولازمني فَإِنَّهُم سعدوا وانتفع النَّاس بهم وَذكر لي أَسمَاء كثيرين مِنْهُم قد تميزوا واشتهروا فِي صناعَة الطِّبّ مِنْهُم من قد مَاتَ وَمِنْهُم من كَانَ بعد فِي الْحَيَاة
وَكَانَ يرى أَنه لَا يقرئ أحدا من أهل الذِّمَّة أصلا صناعَة الطِّبّ وَلَا لمن لَا يجده أَهلا لَهَا
وَكَانَ يُعْطي الصِّنَاعَة حَقّهَا من الرآسة والتعظيم
وَقَالَ لي أَنه لم يقْرَأ فِي سَائِر عمره من أهل الذِّمَّة سوى اثْنَيْنِ لَا غير أَحدهمَا الْحَكِيم عمرَان الإسرائيلي وَالْآخر إِبْرَاهِيم بن خلف السامري بعد أَن ثقلا عَلَيْهِ بِكُل طَرِيق
وتشفعا عِنْده بجهات لَا يُمكنهُ ردهم
وكل مِنْهُمَا نبغ وَصَارَ طبيا فَاضلا
وَلَا شكّ أَن من الْمَشَايِخ من يكون للاشتغال عَلَيْهِ بركَة وَسعد كَمَا يُوجد ذَلِك فِي بعض الْكتب المصنفة دون غَيرهَا فِي علم علم
وَكنت فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة قد قَرَأت عَلَيْهِ كتابا فِي الطِّبّ وَلَا سِيمَا فِيمَا يتَعَلَّق بالجزء العملي من كَلَام أبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ وَغَيره وانتفعت بِهِ
وَكَانَ الشَّيْخ رَضِي الدّين محبا للتِّجَارَة مغرى بهَا
وَكَانَ يُرَاعِي مزاجه ويعتني بِحِفْظ صِحَّته
وَقَالَ الصاحب جمال الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم القفطي عَن الْحَكِيم الرَّحبِي أَنه كَانَ يلْزم فِي(1/673)
أُمُوره قوانين حفظ الصِّحَّة الْمَوْجُودَة
قَالَ وَلَقَد بَلغنِي أَنه كَانَ يقتني أَجود الطباخات ويتقدم إِلَيْهَا بِأَحْكَام مَا يغلب على ظَنّه الِانْتِفَاع بِاسْتِعْمَالِهِ فِي نَهَاره ذَلِك بِمَا بَاشرهُ من نَفسه وَمَا غلب عَلَيْهِ من الأخلاط فِي يَوْمه فَإِذا أنجزته وأعلمته بذلك طلب من يؤاكله من مؤانسيه
فَإِذا حضر مِنْهُ من حضر استأذنته فِي إِحْضَار الطَّعَام فَيَقُول لَهَا أخريه فَإِن الشَّهْوَة لم تصدق بعد فتؤخره إِلَى أَن يستدعيه وَيَقُول أعجلي فَتَأْتِيه بِهِ ويتناول مِنْهُ
فَقَالَ لَهُ بعض أَصْحَابه يَوْمًا مَا المُرَاد بِهَذَا فَقَالَ الْأكل مَعَ الشَّهْوَة هُوَ الْمَنْدُوب إِلَيْهِ لحفظ الصِّحَّة فَإِن الْأَعْضَاء إِذا احْتَاجَت إِلَى تعويض مَا تحلل مِنْهَا استدعت ذَلِك من الْمعدة فتستدعيه الْمعدة من خَارج
فَقَالَ لَهُ وَمَا ثَمَرَة هَذَا قَالَ أَن يعِيش الْإِنْسَان الْعُمر الطبيعي
فَقَالَ لَهُ إِنَّك قد بلغت من السن مَا لم يبْق بَيْنك وَبَين الْعُمر الطبيعي إِلَّا الْقَلِيل فَأَي الْحَاجة إِلَى هَذَا التَّكَلُّف فَقَالَ لَهُ لأبقى ذَلِك الْقَلِيل فَوق الأَرْض استنشق الْهَوَاء وأجرع المَاء وَلَا أكون تحتهَا بِسوء التَّدْبِير
وَلم يزل على حَالَته تِلْكَ إِلَى أَن أَتَاهُ أَجله
أَقُول وَمِمَّا يُنَاسب هَذَا الْمَعْنى الْمُتَقَدّم فِي أَنه لَا يَنْبَغِي أَن يُؤْكَل الطَّعَام إِلَّا بِشَهْوَة صَادِقَة للْأَكْل أنني كنت يَوْمًا أَقرَأ عَلَيْهِ فِي شَيْء من كَلَام الرَّازِيّ فِي تَرْتِيب تنَاول الأغذية وَقد ذكر الرَّازِيّ أَن الْإِنْسَان يَنْبَغِي لَهُ أَن يَأْكُل فِي الْيَوْم مرَّتَيْنِ
وَفِي الْيَوْم الثَّانِي مرّة وَاحِدَة
فَقَالَ لي لَا تسمع هَذَا وَالَّذِي يَنْبَغِي أَن تعتمد عَلَيْهِ أَنَّك تَأْكُل وَقت تكون الشَّهْوَة للْأَكْل صَادِقَة فِي أَي وَقت كَانَ سَوَاء أَكَانَ مرَّتَيْنِ فِي النَّهَار أَو مرّة أَو ليل أَو نَهَار
فالأكل عِنْد الشَّهْوَة الصادقة للْأَكْل هُوَ الَّذِي ينفع وَإِذا لم يكن كَذَلِك فَإِنَّهُ مضرَّة الْبدن
وَصدق فِي قَوْله
وَقد لزم فِي سَائِر أَيَّامه أَشْيَاء لَا يخل بهَا وَذَلِكَ أَنه كَانَ يَجْعَل يَوْم السبت أبدا لِخُرُوجِهِ إِلَى الْبُسْتَان وراحته فِيهِ ويتركه يَوْم بطالة عَن الِاشْتِغَال
وَكَانَ لَا يدْخل الْحمام إِلَّا فِي يَوْم الْخَمِيس وَقد جعل ذَلِك لَهُ راتبا
وَكَانَ فِي يَوْم الْجُمُعَة يقْصد من يُرِيد رُؤْيَته وزيارته من الْأَعْيَان والكبراء
وَكَانَ أبدا يتوخى أَنه لَا يصعد فِي سلم
وَإِذا كَانَ لَهُ مَرِيض يفتقده إِن لم يكن فِي مَوضِع لَا يصعد إِلَيْهِ إِذا أَتَاهُ فِي سلم وَإِلَّا لم يقربهُ وَكَانَ يصف السّلم بِأَنَّهُ منشار الْعُمر
وَمن أعجب مَا حكى لأبي من ذَلِك أَنه قَالَ إِنَّنِي مُنْذُ اشْتريت هَذِه القاعة الَّتِي أَنا سَاكن فِيهَا أَكثر من خمس وَعشْرين سنة مَا أعرف إِنَّنِي طلعت إِلَى الْحُجْرَة الَّتِي فَوْقهَا إِلَّا وَقت اسْتعْرضت الدَّار واشتريتها
وَمَا عدت طلعت إِلَى الْحُجْرَة بعد ذَلِك إِلَى يومي هَذَا
وَمن نوادره وَحسن تَصَرُّفَاته فِيمَا يتَعَلَّق بصناعة الطِّبّ حَدثنِي الصاحب صفي الدّين إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق وَزِير الْملك الْأَشْرَف بن الْملك الْعَادِل وَقد حكى جملا من مَنَاقِب الشَّيْخ رَضِي الدّين فَمن ذَلِك قَالَ أَن الصاحب صفي الدّين بن شكر وَزِير الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب كَانَ أبدا يلازم(1/674)
أكل لحم الدَّجَاج ويعدل عَن لحم الضَّأْن فِي أَكثر الْأَوْقَات فَشَكا إِلَيْهِ شحوبا كَانَ قد غلب على لَونه
وَكَانَ الْأَطِبَّاء يصفونَ لَهُ كثيرا من الْأَشْرِبَة وَغَيرهَا فَلَمَّا شكا إِلَيْهِ هَذَا مضى لَحْظَة وَعَاد وَمَعَهُ قِطْعَة من صدر دجَاجَة وَقطعَة حَمْرَاء من لحم ضَأْن
ثمَّ قَالَ لَهُ أَنْت تلازم أكل لحم الدَّجَاج فَلم يَأْتِ الدَّم الْمُتَوَلد مِنْهُ مشرق الْحمرَة كَمَا يَأْتِي من لحم الضَّأْن وَأَنت ترى لون هَذَا اللَّحْم من الضان ومباينته فِي اللَّوْن لهَذِهِ الْقطعَة من الدَّجَاج فَيَنْبَغِي أَن تتْرك أكل لحم الدَّجَاج وتلازم أكل لحم الضَّأْن فَإنَّك تصلح وَمَا تحْتَاج مَعَه إِلَى علاج
قَالَ فَقبل هَذَا الرَّأْي مِنْهُ وَتَنَاول مَا أوصاه بِهِ وَاسْتمرّ على ذَلِك مُدَّة فصلح لَونه واعتدل مزاجه
أَقُول وَهَذَا اقناع حسن أوجده لمن أَرَادَ علاجه وتدبير بليغ فِي حفظ صِحَّته
وَذَلِكَ أَن الْوَزير كَانَ عبل الْبدن تَامّ البنية قوي التَّرْكِيب جيد الاستمراء
فَكَانَت أعضاؤه ترزأ من لحم الدَّجَاج بِدَم لطيف وَهِي تحْتَاج إِلَى غذَاء أغلط مِنْهُ وامتن
فَلَمَّا لَازم أكل لحم الضَّأْن صَار يتَوَلَّد لَهُ مِنْهُ دم متين يقوم بكفاية مَا تحْتَاج إِلَيْهِ أعضاؤه فصلح مزاجه وَظهر لَونه
وَكَانَ مولد الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي فِي شهر جُمَادَى الأولى سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَخَمْسمِائة بِجَزِيرَة ابْن عمر وَكَانَ أول مَرضه فِي يَوْم عيد الْأَضْحَى من سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة ووفاته رَحمَه الله بكرَة يَوْم الْأَحَد الْعَاشِر من الْمحرم سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بِدِمَشْق وَدفن بجبل قاسيون
فَعَاشَ نَحْو الْمِائَة سنة وَلم يتَبَيَّن تغير شَيْء من سَمعه وَلَا بَصَره
وَإِنَّمَا كَانَ فِي آخر عمره قد عرض لَهُ نِسْيَان للأشياء الْقَرِيبَة الْعَهْد المتجددة وَأما الْأَشْيَاء الْبَعِيدَة الْمدَّة الَّتِي كَانَ يعرفهَا من زمَان طَوِيل فَإِنَّهُ كَانَ ذَاكِرًا لَهَا
وَخلف وَلدين الْأَكْبَر مِنْهُمَا شرف الدّين أَبُو الْحسن عَليّ وَالْآخر جمال الدّين عُثْمَان
وَحكى لي بعض أَهله مِمَّن لَازمه فِي الْمَرَض أَنه عِنْد مَوته جس نبض يَده الْيُسْرَى بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَبَقِي كالمتأمل المفكر فِي ذَلِك
ثمَّ ضرب بيدَيْهِ كفا على كف لِأَنَّهُ علم أَن قوته قد سَقَطت
قَالَ وَعدل زورقية كَانَت على رَأسه بيدَيْهِ
واستبسل للْمَوْت وَمَات بعد ذَلِك
ولرضي الدّين الرَّحبِي من الْكتب بتهذيب شرح ابْن الطّيب لكتاب الْفُصُول لأبقراط
اخْتِصَار كتاب الْمسَائِل لحنين كَانَ قد شرع فِي ذَلِك وَلم يكمله
شرف الدّين بن الرَّحبِي
هُوَ الْحَكِيم الإِمَام الْعَالم الْفَاضِل عَلامَة عصره وفريد دهره شرف الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن يُوسُف ابْن حيدرة بن الْحسن الرَّحبِي
كَانَ مولده بِدِمَشْق فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ قد سلك حَذْو أَبِيه واقتفى مَا كَانَ يقتفيه
وَهُوَ أشبه بِهِ خلقا وخلقا وطرائق
لم يزل متوفرا على قِرَاءَة(1/675)
الْكتب وتحصيلها وَنَفسه تشرئب إِلَى طلب الْفَضَائِل وتفصيلها
وَله تدقيق فِي الصِّنَاعَة الطبية وَتَحْقِيق لمباحثها الْكُلية والجزئية
وَله فِي الطِّبّ كتب مؤلفة وحواش مُتَفَرِّقَة
واشتغل بصناعة الطِّبّ على أَبِيه وَقَرَأَ أَيْضا على الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ وحرر عَلَيْهِ كثيرا من الْعُلُوم وَلَا سِيمَا من تصانيف الشَّيْخ موفق الدّين الْبَغْدَادِيّ
واشتغل أَيْضا بالأدب على الشَّيْخ علم الدّين السخاوي وعَلى غَيره من الْعلمَاء
وَقد أتقن علم الْأَدَب إتقانا لَا مزِيد عَلَيْهِ وَلَا يُشَارِكهُ أحد فِيهِ
وَله فطْرَة جَيِّدَة فِي قَول الشّعْر وَأحب مَا إِلَيْهِ التخلي مَعَ نَفسه والملازمة لقرَاءَته ودرسه والإطلاع على آثَار القدماء وَالِانْتِفَاع بمؤلفات الْحُكَمَاء
وَكَانَ نزيه النَّفس عالي الهمة لم يُؤثر التَّرَدُّد إِلَى الْمُلُوك وَلَا إِلَى أَرْبَاب الدولة
وخدم مُدَّة فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي
وَلما وقف شَيخنَا مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ رَحمَه الله الدَّار الَّتِي لَهُ بِدِمَشْق وَجعلهَا مدرسة يدرس فِيهَا صناعَة الطِّبّ وَينْتَفع الْمُسلمُونَ بقراءتهم فِيهَا أوصى أَن يكون مدرسها شرف الدّين بن الرَّحبِي لما قد تحَققه من علمه وفهمه فَتَوَلّى التدريس بهَا مُدَّة وَتُوفِّي شرف الدّين بن الرَّحبِي بِدِمَشْق وَدفن بجبل قاسيون
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي اللَّيْلَة الَّتِي صباحها يَوْم الْجُمُعَة حادي عشر الْمحرم سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة بعلة ذَات الْجنب
وحَدثني الْحَكِيم بدر الدّين بن قَاضِي بعلبك وشمس الدّين الكتبي الْمَعْرُوف بالخواتمي قَالَا كَانَ شرف الدّين قبل أَن يمرض وَيَمُوت بأشهر يَقُول للْجَمَاعَة المترددين إِلَيْهِ والتلاميذ المشتغلين عَلَيْهِ إِنَّه بعد قَلِيل أَمُوت وَذَلِكَ يكون عِنْد قرَان الكوكبين
ثمَّ يَقُول لَهُم قُولُوا للنَّاس هَذَا حَتَّى يعرفوا مِقْدَار علمي فِي حَياتِي وَعلمِي بِوَقْت موتِي
وَكَانَ قَوْله مُوَافقا لما حكم بِهِ
وَمن شعر شرف الدّين بن الرَّحبِي وَهُوَ مِمَّا أَنْشدني لنَفسِهِ فَمن ذَلِك قَالَ
(سِهَام المنايا فِي الورى لَيْسَ تمنع ... فَكل لَهُ يَوْمًا وَإِن عَاشَ مصرع)
(وكل وَإِن طَال المدى سَوف يَنْتَهِي ... إِلَى قَعْر لحد فِي ثرى مِنْهُ يودع)
(فَقل للَّذي قد عَاشَ بعد قرينه ... إِلَى مثلهَا عَمَّا قَلِيل ستدفع)
(فَكل ابْن أُنْثَى سَوف يُفْضِي إِلَى ردى ... وَيَرْفَعهُ بعد الأرائك شرجع)
(ويدركه يَوْمًا وَإِن عَاشَ بُرْهَة ... قَضَاء تساوى فِيهِ هم ومرضع)
(فَلَا يفرحن يَوْمًا بطول حَيَاته ... لَبِيب فَمَا فِي عيشة الْمَرْء مطمع)
(فَمَا الْعَيْش إِلَّا مثل لمحة بارق ... وَمَا الْمَوْت إِلَّا مثل مَا الْعين تهجع)
(وَمَا النَّاس إِلَّا كالنبات فيابس ... هشيم وغض إِثْر مَا باد يطلع)
(فتبا لدُنْيَا مَا تزَال تعلنا ... أفاويق كأس مرّة لَيْسَ تقنع)
(سَحَاب أمانيها جهام وبرقها ... إِذا شيم برق خلب لَيْسَ يهمع)(1/676)
(تغر بنيها بالمنى فتقودهم ... إِلَى قَعْر مهواة بهَا الْمَرْء يوضع)
(فكم أهلكت فِي حبها من متيم ... وَلم يحظ مِنْهَا بالمنى فَيمْتَنع)
(تمنيه بالآمال فِي نيل وَصلهَا ... وَعَن غيه فِي حبها لَيْسَ ينْزع)
(أضاع بهَا عمرا لَهُ غير رَاجع ... وَلم ينل الْأَمر الَّذِي يتَوَقَّع)
(فَصَارَ لَهَا عبدا لجمع حطامها ... وَلم يهن فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يجمع)
(وَلَو كَانَ ذَا عقل لاغنته بلغَة ... من الْعَيْش فِي الدُّنْيَا وَلم يَك يجشع)
(إِلَى أَن توافيه الْمنية وَهُوَ بالقناعة ... فِيهَا آمن لَا يروع)
(مصائبها عَمت فَلَيْسَ بمفلت ... شُجَاع وَلَا ذُو ذلة لَيْسَ يدْفع)
(وَلَا سابح فِي قَعْر بَحر وطائر ... يَدُوم فِي بوح الفضاء فينزع)
(وَلَا ذُو امْتنَاع فِي بروج مشيدة ... لَهَا فِي ذرى جو السَّمَاء ترفع)
(أصارته من بعد الْحَيَاة بوهدة ... لَهُ من ثراها آخر الدَّهْر مَضْجَع)
(تساوى بهَا من حل تَحت صعيدها ... على قرب عهد بالممات وَتبع)
(فسيان ذُو فقر بهَا وذوو الْغنى ... وَذُو لَكِن عِنْد الْمقَال ومصقع)
(وَمن لم يخف عِنْد النوائب حتفه ... وَذُو جبن خوفًا من الْمَوْت يسْرع)
(وَذُو جشع يَسْطُو بناب ومخلب ... وكل بغاث ذلة لَيْسَ يمْنَع)
(وَمن ملك الْآفَاق بَأْسا وَشدَّة ... وَمن كَانَ فِيهَا بالضروري يقنع)
(وَلَو كشف الأجداث مُعْتَبرا لَهُم ... لينْظر آثَار البلى كَيفَ تصنع)
(لشاهد إحداقا تسيل وأوجها ... معفرة فِي الترب شوها تفزع)
(غَدَتْ تَحت أطباق الثرى مكفهرة ... عبوسا وَقد كَانَت من الْبشر تلمع)
(فَلم يعرف الْمولى من العَبْد فيهم ... وَلَا خاملا من نابه يترفع)
(وأنى لَهُ علم بذلك بَعْدَمَا ... تبين مِنْهُم مَا لَهُ الْعين تَدْمَع)
(رأى مَا يسوء الطّرف مِنْهُم وطالما ... رأى مَا يسر الناظرين ويمتع)
(رأى أعظما لَا تَسْتَطِيع تماسكا ... تهافت من أوصالها وتقطع)
(مُجَرّدَة من لَحمهَا فَهِيَ عِبْرَة ... لذِي فكرة فِيمَا لَهُ يتَوَقَّع)
(تخونها مر اللَّيَالِي فَأَصْبَحت ... أنابيب فِي أجوافها الرّيح تسمع)
(إِلَى أجنة مسودة وجماجم ... مطأطأة من ذلة لَيْسَ ترفع)
(أزيلت عَن الْأَعْنَاق فَهِيَ نواكس ... على الترب من بعد الوسائد تُوضَع)
(علاها ظلاما للبلى ولطالما ... غَدا نورها فِي حندس اللَّيْل يسطع)
(كَأَن لم يكن يَوْمًا علا مفرقا لَهَا ... نفائس تيجان ودر مرصع)(1/677)
(تبَاعد عَنْهُم وَحْشَة كل وامق ... وعافهم الأهلون وَالنَّاس أجمع)
(وقاطعهم من كَانَ حَال حياتهم ... بوصلهم وجدا بهم لَيْسَ يطْمع)
(يبكيهم الْأَعْدَاء من سوء حَالهم ... ويرحمهم من كَانَ ضدا ويجزع)
(فَقل للَّذي قد غره طول عمره ... وَمَا قد حواه من زخارف تخدع)
(أفق وَانْظُر الدُّنْيَا بِعَين بَصِيرَة ... تَجِد كل مَا فِيهَا ودائع ترجع)
(فَأَيْنَ الْمُلُوك الصَّيْد قدما وَمن حوى ... من الأَرْض مَا كَانَت بِهِ الشَّمْس تطلع)
(حواه ضريح من فضاء بسيطها ... يقصر عَن جثمانه حِين يذرع)
(فكم ملك أضحى بِهِ ذَا مذلة ... وَقد كَانَ حَيا للمهابة يتبع)
(يَقُود على الْخَيل الْعتاق فوارسا ... يسد بهَا رحب الفيافي ويترع)
(فَأصْبح من بعد التنعم فِي ثرى ... توارى عظاما مِنْهُ بهماء بلقع)
(بَعيدا على قرب المزايا إيابه ... فَلَيْسَ لَهُ حَتَّى الْقِيَامَة مرجع)
(غَرِيبا عَن الأحباب والأهل ثاويا ... بأقصى فلاة خرقه لَيْسَ يرقع)
(تلح عَلَيْهِ السافيات بمنزل ... جديب وَقد كَانَت بِهِ الأَرْض تمرع)
(رهينا بِهِ لَا يملك الدَّهْر رَجْعَة ... وَلَا يستطيعن الْكَلَام فَيسمع)
(توسد فِيهِ الترب من بعد مَا اغتدى ... زَمَانا على فرش من الْخَزّ يرفع)
(كَذَلِك حكم النائبات فَلَنْ ترى ... من النَّاس حَيا شَمله لَيْسَ يصدع) الطَّوِيل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(تساق بَنو الدُّنْيَا إِلَى الحتف عنْوَة ... وَلَا يشْعر الْبَاقِي بِحَالَة من يمْضِي)
(كَأَنَّهُمْ الْأَنْعَام فِي جهل بَعْضهَا ... بِمَا تمّ من سفك الدِّمَاء على بعض) الطَّوِيل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(لَيْسَ يجدي ذكر الْفَتى بعد موت ... فاطرح مَا يَقُوله السُّفَهَاء)
(إِنَّمَا يدْرك التألم واللذة ... حَيّ لَا صَخْرَة صماء) الْخَفِيف
وَقَالَ وأنشدني إِيَّاهَا لما توفّي الْملك الْكَامِل مُحَمَّد بن أبي بكر بن أَيُّوب بِدِمَشْق وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
(كم قَالَ جهلا بِأَنِّي إِن أمت ... يزل النظام وَيفْسد الثَّقَلَان)
(وافاه مفضي الْحمام وَلم يرع ... حَيّ وَلم يحفل بِهِ اثْنَان)
(فغدا لَقِي تَحت التُّرَاب مجندلا ... لم ينتطح فِي مَوته عنزان)(1/678)
(من ظن أَن لَا بُد مِنْهُ وَأَنه ... ذُو عنية فِي عَالم الأكوان)
(فلبئسما ذهبت وساوس فكره ... مِنْهُ إِلَى دَعْوَى بِغَيْر بَيَان)
(أَنِّي وَمَا فَوق البسيطة فَاسد ... إِلَّا ويخلفه بديل ثَانِي) الْكَامِل
وَقَالَ وأنشدني إِيَّاهَا بعد وَفَاة أَخِيه الْحَكِيم جمال الدّين عُثْمَان فِي سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة
(تبدلت لما أَن وجدت سكينَة ... وَعزا نفى شَرّ الحسود المعاند)
(وَقد ناهزت سني ثَمَانِينَ حجَّة ... وَمَات من الأهلين كل مساعد)
(وَلَا سِيمَا الْأَخ الشَّقِيق وَإِن غَدا ... لَدَى نَازل فِي الْخطب ركني وساعدي)
(فخانتني الْأَيَّام فِيمَا رجوته ... وَلما تزل تَأتي بعكس الْمَقَاصِد)
(فصبرا على كيد الزَّمَان لَعَلَّه ... يؤول إِلَى الْإِنْصَاف بعد التباعد) الطَّوِيل
وَكَانَ يخضب بِالْحِنَّاءِ فَقلت لَهُ لَو تركت اللِّحْيَة بَيْضَاء كَانَ أليق فأنشدني لنَفسِهِ بديها
(سترت مشيبي بالخضاب لأنني ... تيقنت أَن الشيب بِالْمَوْتِ مُنْذر)
(فواريته كَيْلا ترى مِنْهُ مقلتي ... صباح مسَاء مَا بِهِ الْعَيْش يكدر)
(فغيبة مَا يشنى عَن الْعين مُوجب ... تناسى مَا مِنْهُ يخَاف ويحذر)
(وَإِن كنت ذَا علم بِأَن لَيْسَ ملبسي ... شبَابًا وَلَا رد الْمنية يقدر) الطَّوِيل
وَقَالَ وَهُوَ مِمَّا كتب بِهِ إِلَيّ من دمشق وَكنت يَوْمئِذٍ بصرخد عِنْد مَالِكهَا الْأَمِير عز الدّين أيبك المعظمي
(موفق الدّين مَاذَا السَّهْو مِنْك على ... مَا نلْت من رُتْبَة فِي الْعلم وَالْأَدب)
(أبعت نَفسك بالنزر الحقير لقد ... أرخصتها بعد طول الْجد والدأب)
(أَقمت فِي بلد يزري بساكنه ... وَلَا يرتضيه لَبِيب من ذَوي الرتب)
(ناء عَن الْخَيْر ذِي جَدب فَلَيْسَ بِهِ ... سوى صخور وحر مِنْهُ ملتهب)
(مضيعا فِيهِ عمرا مَا لَهُ عوض ... إِذا تصرم وَقت مِنْهُ لم يؤب)
(أتحسب الْعُمر مردودا تصومه ... هَيْهَات أَن يرجع الْمَاضِي من الحقب)
(أم تحسب الْعُمر مَا ولت لذاذته ... ينَال بعد ذهَاب الْعُمر بِالذَّهَب)
(إِذا تولى شباب الْعُمر فِي نغص ... فَمَا لَهُ فِي بقايا الْعُمر من أرب)
(لَو كَانَ مَا أَنْت فِيهِ مكسبا لغنى ... لما وفى بذهاب الْعُمر فِي نصب)(1/679)
(فَكيف مَعَ قلَّة الْجَارِي وخسته ... والبعد عَن كل ذِي فضل وَذي أدب)
(فعد إِلَى جنَّة الدُّنْيَا فقد برزت ... لمجتلي الْحسن فِي أثوابها القشب)
(وَلَا تقم بسواها مَعَ حُصُول غنى ... فالعمر فِيمَا سواهَا غير محتسب)
(واقطع زَمَانك طيبا فِي محاسنها ... وعد إِلَى اللَّهْو وَاللَّذَّات والطرب)
(وبادر الْعُمر قبل الْفَوْت مغتنما ... مَا دمت حَيا فَإِن الْمَوْت فِي الطّلب)
(وَخذ عيَانًا إِذا مَا أمكنت فرص ... وَلَا تبع طيب مَوْجُود بمرتقب)
(فالعمر منصرم وَالْوَقْت مغتنم ... والدهر ذُو غير فأنعم بِهِ تصب)
(فاعمل بِقَوْلِي وَلَا تجنح إِلَى أحد ... مِمَّن يفند من عمري وَذي رغب)
(يرى السَّعَادَة فِي نيل الحطام وَلَو ... حواه مَعَ نصب من سوء مكتسب)
(فاستدرك الْفَائِت الْمقْضِي فِي عمر ... فَلَيْسَ بالنأي عَن مثواك من كثب)
(وَلَا تعش عَيْش ذِي نقص وَكن أبدا ... مِمَّن سمت همة مِنْهُ على الشهب)
(واغنم حَيَاة أَب مَا زَالَ ذَا حزن ... مذ غبت عَنهُ لبعد مِنْك مكتئب)
(فلست تعدم مَعَ رُؤْيَاهُ مكتسبا ... يسد بالقنع من عري وَمن سغب)
(فَالرَّأْي مَا قلته فاعمل بِهِ عجلا ... وَلَا تصخ نَحْو فدم غير ذِي حدب)
(فغفلة الْمَرْء مَعَ علم وَمَعْرِفَة ... عَن وَاضح بَين من أعجب الْعجب) الْبَسِيط
فَقلت فِي جَوَابه وَكتب بهَا إِلَيْهِ
(مولَايَ يَا شرف الدّين الَّذِي بلغت ... أدنى مساعيه أَعلَى رُتْبَة بالأدب)
(وَمن سمت فِي سَمَاء الْمجد همته ... فأدركت فِي الْمَعَالِي أرفع الرتب)
(قد فاق بقراط فِي علم وَفِي حكم ... وفَاق سحبان فِي شعر وَفِي خطب)
(لَهُ التصانيف فِي كل الْعُلُوم وَلَا ... شَيْء يماثلها من سَائِر الْكتب)
(أقدارها قد علت فِي النَّاس وَارْتَفَعت ... عَن كل شبه كَمثل السَّبْعَة الشهب)
(فِيهَا الْمعَانِي الَّتِي كالدر قد نظمت ... فِي سلك خطّ وَخير اللَّفْظ منتخب)
(وَلَا عَجِيب لدر كَانَ مورده ... من بَحر علم لمولى فِي العلى دئب)
(قد نَالَ رَاحَة تَحْصِيل الْعُلُوم وَمَا ... من رَاحَة حصلت إِلَّا عَن التَّعَب)
(ورام مسعاه أَقوام وَمَا بلغُوا ... الْبَعْض مِنْهُ وكل جد فِي الطّلب)
(وكل علم وجود فَهُوَ مِنْهُ إِلَى ... من يجتديه كغيث دَائِم الصيب)
(لله كم من أياد مِنْهُ قد وصلت ... إِلَيّ فِي سالف الْأَيَّام والحقب)
(إِنِّي لأشكرها مَا دمت مُجْتَهدا ... وشكر نعماه طول الدَّهْر أَجْدَر بِي)
(عِنْدِي من الْبَين أشواق إِلَيْك كَمَا ... للنَّاس فِي الجدب أشواق إِلَى السحب)
(تهمي دموعي إِذا مَا غن ذكركُمْ ... على فؤاد بِنَار الشوق ملتهب)(1/680)
(كَأَنَّمَا حل طرفِي بعد بَيْنكُم ... متمم وأتى قلبِي أَبُو لَهب)
(وكل عمر تقضى لي ببعدكم ... عني فَذَلِك عمر غير محتسب)
(وَلَو تكون لي الدُّنْيَا بأجمعها ... فِي الْبعد مَا كنت مُخْتَارًا فِرَاق أبي)
(هُوَ الَّذِي لم يزل إشفاقه أبدا ... عَليّ وَالْبر من بعد وَمن كثب)
(وإنني بعد مَا جد الْفِرَاق بِنَا ... والبعد لم يصف لي عَيْش وَلم يطب)
(وَكَيف يلتذ عَيْشًا من أتاح بِهِ ... هَذَا الزَّمَان إِلَى قوم من الْحَطب)
(لم يعرفوا قدر ذِي علم لجهلهم ... وَلَيْسَ ذَلِك فِي الْجُهَّال بالعجب)
(أتيت من ضَاعَ فضلي فِي فناه وَهل ... غباوة الْعَجم تَدْرِي فطنة الْعَرَب)
(وَإِن أَقمت بِأَقْوَام على خطأ ... مني وَقد مر بعض الْعُمر فِي نصب)
(فقد أَقَامَ سميي قبل فِي نفر ... بِأَرْض نجلة يشكو حَادث النوب)
(وَهِي الْأُمُور الَّتِي تَأتي مقدرَة ... وَلَيْسَ شَيْء من الدُّنْيَا بِلَا سَبَب)
(وَمن بَدَائِع نظم أَنْت قَائِله ... بَيت بِهِ حكم من رَأْي ذِي حدب)
(إِذا انْقَضى شباب الْمَرْء فِي نغص ... فَمَا لَهُ فِي بقايا الْعُمر من أرب)
(يَا حبذا طيب أَيَّام لنا سلفت ... وَطيب أَوْقَاتهَا لَو أَنَّهَا تؤب)
(وحبذا جنَّة الدُّنْيَا إِذا برزت ... لمجتلي الْحسن فِي أثوابها القشب)
(وَقد رَأَيْت صَوَابا مَا أمرت بِهِ ... وَمَا نصحت بِلَا شكّ وَلَا ريب)
(وَلَيْسَ يُنكر شَيْئا أَنْت قَائِله ... من النَّصِيحَة والآراء غير غبي)
(وَإِن لي همة تسمو السماك وَمَا ... إِلَّا الْفَضَائِل والعلياء مطلبي)
(وسوف أقصد أَرضًا قد نشأت بهَا ... والقرب من كل ذِي فضل وَذي أدب)
(وَاجعَل الْعَزْم فِي علم أحصله ... فالعلم فِي كل حَال خير مكتسب) الْبَسِيط
وأنشدني لنَفسِهِ
(روحي بكم تنعم فِي اللَّذَّات ... إِذْ كنت مُقَومًا لَهَا كالذاتي)
(مَا جال بخاطري فراقي لكم ... إِلَّا وَعَجِبت من بَقَاء الذَّات) دوبيت
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(أَصبَحت بكف نازح الود ملول ... لَا يعطفه مَعَ لينه عذل عذول)
(لَو لم يَك فِي الْحسن كبدر التم ... مَا كَانَ لَهُ بِحَبَّة الْقلب نزُول) دزربيت(1/681)
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(لم يبْق تولهي بكم غير ذما ... ينصب لذا البكا من الْعين دَمًا)
(إِن كَانَ يقتلني الهي حكما ... فِي حبك لم أجد لموتي ألما) دوبيت
ولشرف الدّين بن الرَّحبِي من الْكتب كتاب فِي خلق الْإِنْسَان وهيئة أَعْضَائِهِ ومنفعتها لم يسْبق إِلَى مثله
حواش على كتاب القانون لِابْنِ سينا
حواش على شرح ابْن أبي صَادِق لمسائل حنين
جمال الدّين بن الرَّحبِي
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الْعَالم الْفَاضِل جمال الدّين عُثْمَان بن يُوسُف بن حيدرة الرَّحبِي
مولده ومنشؤه بِدِمَشْق من أكَابِر الْفُضَلَاء وسَادَة الْعلمَاء أوحد زَمَانه وفريد أَوَانه
اشْتغل بصناعة الطِّبّ على وَالِده وعَلى غَيره وأتقنها إتقانا لَا مزِيد عَلَيْهِ
وَكَانَ حسن المعالجة جيد المداواة
وخدم فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي رَحمَه الله لمعالجة المرضى وَبَقِي بِهِ سِنِين
وَكَانَ يحب التِّجَارَة ويعانيها ويسافر بهَا فِي بعض الْأَوْقَات إِلَى مصر وَيَأْتِي من مصر بِتِجَارَة
وَلما وصلت التتر إِلَى الشَّام وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة توجه الْحَكِيم جمال الدّين بن الرَّحبِي إِلَى مصر وَأقَام فِيهَا ثمَّ مرض وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ وَذَلِكَ فِي الْعشْرين من شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة
كَمَال الدّين الْحِمصِي
هُوَ أَبُو مَنْصُور المظفر بن عَليّ بن نَاصِر الْقرشِي من الْفُضَلَاء الْمَشْهُورين وَالْعُلَمَاء الْمَذْكُورين
وَكَانَ كثير الْخَيْر وافر الْمُرُوءَة كريم النَّفس محبا لاصطناع الْمَعْرُوف
واشتغل بصناعة الطِّبّ على الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي وعَلى غَيره وَشرع فِي قِرَاءَة كتاب القانون على الْحَكِيم القَاضِي بهاء الدّين أبي الثَّنَاء مَحْمُود بن أبي الْفضل مَنْصُور بن الْحسن بن إِسْمَاعِيل الطَّبَرِيّ المَخْزُومِي لما أَتَى إِلَى دمشق
وَقَرَأَ عَلَيْهِ مِنْهُ إِلَى علاج الإسهال الدماغي
ثمَّ سَافر الشَّيْخ بهاء الدّين إِلَى بلد الرّوم فِي سنة ثَمَان وسِتمِائَة
وَكَانَ كَمَال الدّين الْحِمصِي قد اشْتغل أَيْضا بالأدب وَقَرَأَ على الشَّيْخ تَاج الدّين الْكِنْدِيّ
وَكَانَ محبا للتِّجَارَة وَأكْثر معيشته مِنْهَا
وَكَانَت لَهُ دكان فِي الخواصين بِدِمَشْق يجلس فِيهَا وَيكرهُ التكسب بصناعة الطِّبّ
وَإِنَّمَا كَانَ الْمُلُوك وَأكْثر الْأَعْيَان يطلبونه ويستطبونه لما ظهر من علمه وَبَان من فَضله
وَطَلَبه الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب وَغَيره ليخدمهم وَيبقى مَعَهم فِي الصُّحْبَة فَمَا فعل وَبَقِي سِنِين يتَرَدَّد إِلَى البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي ويعالج المرضى فِيهِ احتسابا
ثمَّ ألزم بعد ذَلِك بِأَن قررت لَهُ فِيهِ جامكية وجراية وَبَقِي كَذَلِك إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الثُّلَاثَاء تَاسِع شهر شعْبَان سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة(1/682)
ولكمال الدّين الْحِمصِي من الْكتب مقَالَة فِي الباه وَهِي مستقصاة فِي فنها
شرح بعض كتاب الْعِلَل والأعراض لِجَالِينُوسَ
الرسَالَة الْكَامِلَة فِي الْأَدْوِيَة المسهلة
اخْتِصَار كتاب الْحَاوِي للرازي لم يتم
مقَالَة فِي الاسْتِسْقَاء
تعاليق على الكليات من كتاب القانون
تعاليق فِي الطِّبّ
تعاليق فِي الْبَوْل ألفها فِي أول رَجَب سنة ثَلَاث وسِتمِائَة
اخْتِصَار كتاب الْمسَائِل لحنين بن إِسْحَاق وَقد أَجَاد فِيهِ
موفق الدّين عبد اللَّطِيف الْبَغْدَادِيّ
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْفَاضِل موفق الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد اللَّطِيف بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي سعد وَيعرف بِابْن اللباد
موصلي الأَصْل بغدادي المولد
كَانَ مَشْهُورا بالعلوم متحليا بالفضائل مليح الْعبارَة كثير التصنيف
وَكَانَ متميزا فِي النَّحْو واللغة الْعَرَبيَّة عَارِفًا بِعلم الْكَلَام والطب
وَكَانَ قد اعتنى كثيرا بصناعة الطِّبّ لما كَانَ بِدِمَشْق واشتهر بعلمها
وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ جمَاعَة من التلاميذ وَغَيرهم من الْأَطِبَّاء للْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَكَانَ وَالِده قد أشغله بِسَمَاع الحَدِيث فِي صباه من جمَاعَة مِنْهُم أَبُو الْفَتْح مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي الْمَعْرُوف بِابْن البطي وَأَبُو زرْعَة طَاهِر بن مُحَمَّد الْقُدسِي وَأَبُو الْقَاسِم يحيى بن ثَابت الْوَكِيل وَغَيرهم
وَكَانَ يُوسُف وَالِد الشَّيْخ موفق الدّين مشتغلا بِعلم الحَدِيث بارعا فِي عُلُوم الْقُرْآن والقراءات مجيدا فِي الْمَذْهَب وَالْخلاف والأصولين
وَكَانَ متطرفا من الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة
وَكَانَ سُلَيْمَان عَم الشَّيْخ موفق الدّين فَقِيها مجيدا
وَكَانَ الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف كثير الِاشْتِغَال لَا يخلي وقتا من أوقاته من النّظر فِي الْكتب والتصنيف وَالْكِتَابَة
وَالَّذِي وجدته من خطه أَشْيَاء كَثِيرَة جدا بِحَيْثُ أَنه كتب من مصنفاته نسخا مُتعَدِّدَة وَكَذَلِكَ أَيْضا كتب كتبا كَثِيرَة من تصانيف القدماء
وَكَانَ صديقا لجدي وَبَينهمَا صُحْبَة أكيدة بالديار المصرية لما كُنَّا بهَا
وَكَانَ أبي وَعمي يشتغلان عَلَيْهِ بِعلم الْأَدَب
واشتغل عَلَيْهِ عمي أَيْضا بكتب أرسطوطاليس
وَكَانَ الشَّيْخ موفق الدّين كثير الْعِنَايَة بهَا والفهم لمعانيها
وأتى إِلَى دمشق من الديار المصرية وَأقَام بهَا مُدَّة وَكثر انْتِفَاع النَّاس بِعِلْمِهِ
ورأيته لما كَانَ مُقيما بِدِمَشْق فِي آخر مرّة أَتَى إِلَيْهَا وَهُوَ شيخ نحيف الْجِسْم ربع الْقَامَة حسن الْكَلَام جيد الْعبارَة وَكَانَت مسطرته أبلغ من لَفظه
وَكَانَ رَحمَه الله رُبمَا تجَاوز فِي الْكَلَام لِكَثْرَة مَا يرى فِي نَفسه
وَكَانَ يستنقص الْفُضَلَاء الَّذين فِي زَمَانه وَكَثِيرًا من الْمُتَقَدِّمين
وَكَانَ وُقُوعه كثيرا جدا فِي عُلَمَاء الْعَجم ومصنفاتهم وخصوصا الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا ونظرائه
ونقلت من خطه فِي سيرته الَّتِي ألفها مَا هَذَا مِثَاله قَالَ إِنِّي ولدت بدار لجدي فِي درب الفالوذج فِي سنة سبع وَخمسين وَخَمْسمِائة وتربيت فِي حجر الشَّيْخ أبي النجيب لَا أعرف اللّعب وَاللَّهْو وَأكْثر زماني مَصْرُوف فِي سَماع الحَدِيث وَأخذت لي إجازات من شُيُوخ بَغْدَاد وخرسان وَالشَّام ومصر
وَقَالَ لي وَالِدي يَوْمًا قد سَمِعتك جَمِيع عوالي بَغْدَاد وألحقتك فِي الرِّوَايَة بالشيوخ المسان
وَكنت فِي أثْنَاء ذَلِك أتعلم الْخط وأتحفظ الْقُرْآن والفصيح والمقامات وديوان المتنبي وَنَحْو ذَلِك ومختصرا(1/683)
فِي الْفِقْه ومختصرا فِي النَّحْو
فَلَمَّا ترعرعت حَملَنِي وَالِدي إِلَى كَمَال الدّين عبد الرَّحْمَن الْأَنْبَارِي وَكَانَ يَوْمئِذٍ شيخ بَغْدَاد وَله بوالدي صُحْبَة قديمَة أَيَّام التفقه بالنظامية
فَقَرَأت عَلَيْهِ خطْبَة الفصيح فهذر كلَاما كثيرا مُتَتَابِعًا لم أفهم مِنْهُ شَيْئا لَكِن التلاميذ حوله يعْجبُونَ مِنْهُ
ثمَّ قَالَ أَنا أجفو عَن تَعْلِيم الصّبيان احمله إِلَى تلميذي الْوَجِيه الوَاسِطِيّ يقْرَأ عَلَيْهِ فَإِذا توسطت حَاله قَرَأَ عَليّ
وَكَانَ الْوَجِيه عِنْد بعض أَوْلَاد رَئِيس الرؤساء وَكَانَ رجلا أعمى من أهل الثروة والمروءة
فأخذني بكلتي يَدَيْهِ وَجعل يعلمني من أول النَّهَار إِلَى آخِره بِوُجُوه كَثِيرَة من التلطف فَكنت أحضر حلقته بِمَسْجِد الظفرية وَيجْعَل جَمِيع الشُّرُوح لي ويخاطبني بهَا
وَفِي آخر الْأَمر أَقرَأ درسي ويخصني بشرحه
ثمَّ نخرج من الْمَسْجِد فيذاكرني فِي الطَّرِيق فَإِذا بلغنَا منزله أخرج الْكتب الَّتِي يشْتَغل بهَا مَعَ نَفسه فأحفظ لَهُ وأحفظ مَعَه ثمَّ يذهب إِلَى الشَّيْخ كَمَال الدّين فَيقْرَأ درسه ويشرح لَهُ وَأَنا أسمع
وتخرجت إِلَى أَن صرت أسبقه فِي الْحِفْظ والفهم وأصرف أَكثر اللَّيْل فِي الْحِفْظ والتكرار وأقمنا على ذَلِك بُرْهَة كلما جَاءَ حفظي كثر وجاد وفهمي قوي واستنار وذهني احتد واستقام وَأَنا ألازم الشَّيْخ وَشَيخ الشَّيْخ
وَأول مَا ابتدأت حفظت اللمع فِي ثَمَانِيَة أشهر أسمع كل يَوْم شرح أَكْثَرهَا مِمَّا يَقْرَؤُهُ غَيْرِي وأنقلب إِلَى بَيْتِي فأطالع شرح الثَّمَانِينَ وَشرح الشريف عمر بن حَمْزَة وَشرح ابْن برهَان وكل مَا أجد من شروحها
وأشرحها لتلاميذ يختصون بِي إِلَى أَن صرت أَتكَلّم على كل بَاب كراريس وَلَا ينفذ مَا عِنْدِي
ثمَّ حفظت أدب الْكَاتِب لِابْنِ قُتَيْبَة حفظا متقنا
أما النّصْف الأول فَفِي شهور
وَأما تَقْوِيم اللِّسَان فَفِي أَرْبَعَة عشر يَوْمًا لِأَنَّهُ كَانَ أَرْبَعَة عشر كراسا
ثمَّ حفظت مُشكل الْقُرْآن لَهُ وغريب الْقُرْآن لَهُ وكل ذَلِك فِي مُدَّة يسيرَة
ثمَّ انْتَقَلت إِلَى الْإِيضَاح لأبي عَليّ الفاسي فحفظته فِي شهور كَثِيرَة ولازمت مطالعة شروحه وتتبعته التتبع التَّام حَتَّى تبحرت فِيهِ وجمعت مَا قَالَ الشُّرَّاح
وَأما التكملة فحفظتها فِي أَيَّام يسيرَة كل يَوْم كراسا وطالعت الْكتب المبسوطة والمختصرات وواظبت على المقتضب للمبرد وَكتاب ابْن درسْتوَيْه
وَفِي أثْنَاء ذَلِك لَا أغفل سَماع الحَدِيث والتفقه على شَيخنَا ابْن فضلان بدار الذَّهَب وَهِي مدرسة معلقَة بناها فَخر الدولة بن الْمطلب
قَالَ وللشيخ كَمَال الدّين مائَة تصنيف وَثَلَاثُونَ تصنيفا أَكْثَرهَا فِي النَّحْو وَبَعضهَا فِي الْفِقْه والأصولين وَفِي التصوف والزهد وأتيت على أَكثر تصانيفه سَمَاعا وَقِرَاءَة وحفظا
وَشرع فِي تصنيفين(1/684)
كبيرين أَحدهمَا فِي اللُّغَة وَالْآخر فِي الْفِقْه وَلم يتَّفق لَهُ إِتْمَامهَا وحفظت عَلَيْهِ طَائِفَة من كتاب سِيبَوَيْهٍ وأكببت على المقتضب فأتقنته
وَبعد وَفَاة الشَّيْخ تجردت لكتاب سبيويه ولشرحه للسيرافي
ثمَّ قَرَأت على أبي عُبَيْدَة الْكَرْخِي كتبا كَثِيرَة مِنْهَا كتاب الْأُصُول لِابْنِ السراج وَالنُّسْخَة فِي وقف ابْن الخشاب برباط المأمونية
وقرأت عَلَيْهِ الْفَرَائِض وَالْعرُوض للخطيب التبريزي وَهُوَ من خَواص تلاميذ ابْن الشجري
وَأما ابْن الخشاب فَسمِعت بقرَاءَته مَعَاني الزّجاج على الكاتبة شهدة بنت الأبري وَسمعت مِنْهُ الحَدِيث المسلسل وَهُوَ الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن ارحموا من فِي الأَرْض يَرْحَمكُمْ من فِي السَّمَاء
وَقَالَ أَيْضا موفق الدّين الْبَغْدَادِيّ إِن من مشايخه الَّذين انْتفع بهم كَمَا زعم ولد أَمِين الدولة بن التلميذ
وَبَالغ فِي وَصفه وَكثر وَهَذَا فلكثرة تعصبه للعراقيين وَإِلَّا فولد أَمِين الدولة لم يكن بِهَذِهِ المثابة وَلَا قَرِيبا مِنْهَا
وَقَالَ إِنَّه ورد إِلَى بَغْدَاد رجل مغربي جوال فِي زِيّ التصوف لَهُ أبهة ولسن مَقْبُول الصُّورَة عَلَيْهِ مسحة الدّين وهيئة السياحة ينفعل لصورته من رَآهُ قبل أَن يُخبرهُ وَيعرف بِابْن نائلي يزْعم أَنه من أَوْلَاد المتلثمة
خرج من الْمغرب لما استولى عَلَيْهَا عبد الْمُؤمن
فَلَمَّا اسْتَقر بِبَغْدَاد اجْتمع إِلَيْهِ جمَاعَة من الأكابر والأعيان وحضره الرضي الْقزْوِينِي وَشَيخ الشُّيُوخ ابْن سكينَة
وَكنت وَاحِدًا مِمَّن حَضَره فأقرأني مُقَدّمَة حِسَاب ومقدمة ابْن بابشاد فِي النَّحْو وَكَانَ لَهُ طَرِيق فِي التَّعْلِيم عَجِيب
وَمن يحضرهُ يظنّ أَنه متبحر وَإِنَّمَا كَانَ متطرفا وَلكنه أمعن فِي كتب الكيمياء والطلسمات وَمَا يجْرِي مجْراهَا وأتى على كتب جَابر بأسرها وعَلى كتب ابْن وحشية
وَكَانَ يجلب الْقُلُوب بصورته ومنطقه وإيهامه
فَمَلَأ قلبِي شوقا إِلَى الْعُلُوم كلهَا وَاجْتمعَ بِالْإِمَامِ النَّاصِر لدين الله وَأَعْجَبهُ
ثمَّ سَافر وَأَقْبَلت على الِاشْتِغَال وشمرت ذيل الْجد وَالِاجْتِهَاد وهجرت النّوم وَاللَّذَّات وأكببت على كتب الْغَزالِيّ الْمَقَاصِد والمعيار وَالْمِيزَان ومحك النّظر
ثمَّ انْتَقَلت إِلَى كتب ابْن سينا صغارها وكبارها وحفظت كتاب النجَاة وكتبت الشِّفَاء وبحثت فِيهِ وحصلت كتاب التَّحْصِيل لبهمنيار تلميذ ابْن سينا
وكتبت وحصلت كثيرا من كتب جَابر بن حَيَّان الصُّوفِي وَابْن وحشية وباشرت عمل الصَّنْعَة الْبَاطِلَة وتجارب الضلال الفارغة وَأقوى من أضلني ابْن سينا بكتابه فِي الصَّنْعَة الَّتِي تمم بِهِ فلسفته الَّتِي لَا تزداد بالتمام إِلَّا نقصا(1/685)
قَالَ وَلما كَانَ فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة حَيْثُ لم يبْق بِبَغْدَاد من يَأْخُذ بقلبي ويملأ عَيْني وَيحل مَا يشكل عَلَيْهِ دخلت الْموصل فَلم أجد فِيهَا بغيتي لَكِن وجدت الْكَمَال بن يُونُس جيدا فِي الرياضيات وَالْفِقْه متطرفا من بَاقِي أَجزَاء الْحِكْمَة قد استغرق عقله وَوَقته حب الكيمياء وعملها حَتَّى صَار يستخف بِكُل مَا عَداهَا
وَاجْتمعَ إِلَيّ جمَاعَة كَثِيرَة وَعرضت عَليّ مناصب فاخترت مِنْهَا مدرسة ابْن مهَاجر الْمُعَلقَة وَدَار الحَدِيث الَّتِي تحتهَا
وأقمت بالموصل سنة فِي اشْتِغَال دَائِم متواصل لَيْلًا وَنَهَارًا
وَزعم أهل الْموصل أَنهم لم يرَوا من أحد قبلي مَا رَأَوْا مني من سَعَة الْمَحْفُوظ وَسُرْعَة وَسُكُون الطَّائِر وَسمعت النَّاس يهرجون فِي حَدِيث الشهَاب السهروردي المتفلسف ويعتقدون أَنه قد فاق الْأَوَّلين والآخرين وَأَن تصانيفه فَوق تصانيف القدماء فهممت لقصده ثمَّ أدركني التَّوْفِيق فطلبت من ابْن يُونُس شَيْئا من تصانيفه وَكَانَ أَيْضا مُعْتَقدًا فِيهَا فَوَقَعت على التلويحات واللمحة والمعارج فصادفت فِيهَا مَا يدل على جهل أهل الزَّمَان وَوجدت لي تعاليق كَثِيرَة لَا أرتضيها هِيَ خير من كَلَام هَذَا الأنوك
وَفِي أثْنَاء كَلَامه يثبت حروفا مقطعَة يُوهم بهَا أَمْثَاله أَنَّهَا أسرار إلهيه
قَالَ وَلما دخلت دمشق وجدت فِيهَا من أَعْيَان بَغْدَاد والبلاد مِمَّن جمعهم الْإِحْسَان الصلاحي جمعا كثيرا مِنْهُم جمال الدّين عبد اللَّطِيف ولد الشَّيْخ أبي النجيب وَجَمَاعَة بقيت من بَيت رَئِيس الرؤساء وَابْن طَلْحَة الْكَاتِب وَبَيت ابْن جهير وَابْن الْعَطَّار الْمَقْتُول الْوَزير وَابْن هُبَيْرَة الْوَزير وَاجْتمعت بالكندي الْبَغْدَادِيّ النَّحْوِيّ وَجرى بَيْننَا مباحثات وَكَانَ شَيخا بهيا ذكيا مثريا لَهُ جَانب من السُّلْطَان لكنه كَانَ معجبا بِنَفسِهِ مُؤْذِيًا لجليسه وَجَرت بَيْننَا مباحثات فأظهرني الله تَعَالَى عَلَيْهِ فِي مسَائِل كَثِيرَة
ثمَّ إِنِّي أهملت جَانِبه فَكَانَ يتَأَذَّى بإهمالي لَهُ أَكثر مِمَّا يتَأَذَّى النَّاس مِنْهُ
وعملت بِدِمَشْق تصانيف جمة مِنْهَا غَرِيب الحَدِيث الْكَبِير جمعت فِيهِ غَرِيب أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام وغريب ابْن قُتَيْبَة وغريب الْخطابِيّ وَكنت ابتدأت بِهِ فِي الْموصل وعملت لَهُ مُخْتَصرا سميته الْمُجَرّد وعملت كتاب الْوَاضِحَة فِي إِعْرَاب الْفَاتِحَة نَحْو عشْرين كراسا وَكتاب الْألف وَاللَّام وَكتاب رب وكتابا فِي الذَّات وَالصِّفَات الذاتية الْجَارِيَة على السّنة الْمُتَكَلِّمين
وقصدت بِهَذِهِ الْمَسْأَلَة الرَّد على الْكِنْدِيّ وَوجدت بِدِمَشْق الشَّيْخ عبد الله بن نائلي نازلا بالماذنة الغربية وَقد عكف عَلَيْهِ جمَاعَة وتحزب النَّاس فِيهِ حزبين لَهُ وَعَلِيهِ فَكَانَ الْخَطِيب الدولعي عَلَيْهِ وَكَانَ من الْأَعْيَان لَهُ منزلَة وناموس
ثمَّ خلط ابْن نائلي على نَفسه فَأَعَانَ عدوه عَلَيْهِ وَصَارَ يتَكَلَّم فِي الكيمياء والفلسفة وَكثر التشنيع عَلَيْهِ
وَاجْتمعت بِهِ فَصَارَ يسألني عَن أَعمال اعْتقد أَنَّهَا خسيسة نزرة فيعظمها ويحتفل بهَا ويكتبها مني(1/686)
وكاشفته فَلم أَجِدهُ كَمَا كَانَ فِي نَفسِي فسَاء بِهِ ظَنِّي وبطريقه ثمَّ باحثته فِي الْعُلُوم فَوجدت عِنْده مِنْهَا أطرافا نزرة فَقلت لَهُ يَوْمًا لَو صرفت زَمَانك الَّذِي ضيعته فِي طلب الصَّنْعَة إِلَى بعض الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة أَو الْعَقْلِيَّة كنت الْيَوْم فريد عصرك مخدوما طول عمرك
وَهَذَا هُوَ الكيمياء لَا مَا تطلبه
ثمَّ اعْتبرت بِحَالهِ وانزجرت بِسوء مَاله والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ
فأقلعت وَلَكِن لَا كل الإقلاع
ثمَّ إِنَّه توجه إِلَى صَلَاح الدّين بِظَاهِر عكا يشكو إِلَيْهِ الدولعي وَعَاد مَرِيضا وَحمل إِلَى البيمارستان فَمَاتَ بِهِ
وَأخذ كتبه الْمُعْتَمد شحنة دمشق وَكَانَ متيما بالصنعة
ثمَّ إِنِّي تَوَجَّهت إِلَى زِيَارَة الْقُدس ثمَّ إِلَى صَلَاح الدّين بِظَاهِر عكة فاجتمعت ببهاء الدّين بن شَدَّاد قَاضِي الْعَسْكَر يَوْمئِذٍ وَكَانَ قد اتَّصل بِهِ شهرتي بالموصل فانبسط إِلَيّ وَأَقْبل عَليّ
وَقَالَ نَجْتَمِع بعماد الدّين الْكَاتِب فقمنا إِلَيْهِ وخيمته إِلَى خيمة بهاء الدّين فَوَجَدته يكْتب كتابا إِلَى الدِّيوَان الْعَزِيز بقلم الثُّلُث من غير مسودة
وَقَالَ هَذَا كتاب إِلَى بلدكم وذاكرني فِي مسَائِل من علم الْكَلَام وَقَالَ قومُوا بِنَا إِلَى القَاضِي الْفَاضِل فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَرَأَيْت شَيخا ضئيلا كُله رَأس وقلب وَهُوَ يكْتب ويملي على اثْنَيْنِ وَوَجهه وشفتاه تلعب ألوان الحركات لقُوَّة حرصه فِي إِخْرَاج الْكَلَام وَكَأَنَّهُ يكْتب بجملة أَعْضَائِهِ
وسألني القَاضِي الْفَاضِل عَن قَوْله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {حَتَّى إِذا جاؤوها وَفتحت أَبْوَابهَا وَقَالَ لَهُم خزنتها} أَيْن جَوَاب إِذا
وَأَيْنَ جَوَاب لَو فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال} وَعَن مسَائِل كَثِيرَة وَمَعَ هَذَا فَلَا يقطع الْكِتَابَة والإملاء
وَقَالَ لي ترجع إِلَى دمشق وتجري عَلَيْك الجرايات فَقلت أُرِيد مصر فَقَالَ السُّلْطَان مَشْغُول الْقلب بِأخذ الفرنج عكا وَقتل الْمُسلمين بهَا فَقلت لَا بُد لي من مصر فَكتب لي ورقة صَغِيرَة إِلَى وَكيله بهَا
فَلَمَّا دخلت الْقَاهِرَة جَاءَنِي وَكيله وَهُوَ ابْن سناء الْملك وَكَانَ شَيخا جليل الْقدر نَافِذ الْأَمر فأنزلني دَارا قد أزيحت عللها وَجَاءَنِي بِدَنَانِير وغلة
ثمَّ مضى إِلَى أَرْبَاب الدولة وَقَالَ هَذَا ضيف القَاضِي الْفَاضِل فَدرت الْهَدَايَا والصلات من كل جَانب
وَكَانَ كل عشرَة أَيَّام أَو نَحْوهَا تصل تذكرة القَاضِي الْفَاضِل إِلَى ديوَان مصر بمهمات الدولة وفيهَا فصل يُؤَكد الْوَصِيَّة فِي حَقي
وأقمت بِمَسْجِد الْحَاجِب لُؤْلُؤ رَحمَه الله أَقْْرِئ وَكَانَ قصدي فِي مصر ثَلَاثَة أنفس ياسين السيميائي والرئيس مُوسَى بن مَيْمُون الْيَهُودِيّ وَأَبُو الْقَاسِم الشارعي وَكلهمْ جاؤوني
أما ياسين فَوَجَدته محاليا كذابا مشعبذا يشْهد للشاقاني بالكيمياء وَيشْهد لَهُ الشاقاني بالكيمياء وَيَقُول عَنهُ أَنه يعْمل أعمالا يعجز مُوسَى ابْن عمرَان عَنْهَا
وَأَنه يحضر الذَّهَب الْمَضْرُوب مَتى شَاءَ وَبِأَيِّ مِقْدَار شَاءَ وَبِأَيِّ سكَّة شَاءَ
وَأَنه يَجْعَل مَاء النّيل خيمة وَيجْلس فِيهِ وَأَصْحَابه تحتهَا
وَكَانَ ضَعِيف الْحَال
وَجَاءَنِي مُوسَى فَوَجَدته فَاضلا فِي الْغَايَة قد غلب عَلَيْهِ حب الرياسة وخدمة أَرْبَاب الدُّنْيَا وَعمل كتابا فِي الطِّبّ جمعه من السِّتَّة عشر لِجَالِينُوسَ وَمن خَمْسَة كتب أُخْرَى وَشرط أَن لَا يُغير فِيهِ حرفا إِلَّا أَن يكون وَاو عطف أَو فَاء وصل وَإِنَّمَا ينْقل فصولا لَا يختارها
وَعمل كتابا للْيَهُود سَمَّاهُ الدّلَالَة وَلعن من يَكْتُبهُ بِغَيْر الْقَلَم العبراني
ووقفت عَلَيْهِ فَوَجَدته كتاب سوء يفْسد أصُول الشَّرَائِع والعقائد بِمَا يظنّ أَنه يصلحها(1/687)
وَكنت ذَات يَوْم بِالْمَسْجِدِ وَعِنْدِي جمع كثير فَدخل شيخ رث الثِّيَاب نير الطلعة مَقْبُول الصُّورَة فهابه الْجمع ورفعوه فَوْقهم وَأخذت فِي إتْمَام كَلَامي فَلَمَّا تصرم الْمجْلس جَاءَنِي أَمَام الْمَسْجِد وَقَالَ أتعرف هَذَا الشَّيْخ هَذَا أَبُو الْقَاسِم الشارعي فاعتنقته وَقلت إياك أطلب فَأَخَذته إِلَى منزلي وأكلنا الطَّعَام وتفاوضنا الحَدِيث فَوَجَدته كَمَا تشْتَهي الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين سيرته سيرة الْحُكَمَاء الْعُقَلَاء وَكَذَا صورته
وَقد رَضِي من الدُّنْيَا ببرض لَا يتَعَلَّق مِنْهَا بِشَيْء يشْغلهُ عَن طلب الْفَضِيلَة
ثمَّ لازمني فَوَجَدته قيمًا بكتب القدماء وَكتب أبي نَاصِر الفرابي وَلم يكن لي اعْتِقَاد فِي أحد من هَؤُلَاءِ لِأَنِّي كنت أَظن أَن الْحِكْمَة كلهَا حازها ابْن سينا وحشاها كتبه وَإِذا تفاوضنا الحَدِيث أغلبه بِقُوَّة الجدل وَفضل اللسن ويغلبني بِقُوَّة الْحجَّة وَظُهُور المحجة
وَأَنا لَا تلين قناتي لغمزه وَلَا أحيد عَن جادة الْهوى والتعصب برمزه فَصَارَ يحضرني شَيْئا بعد شَيْء من كتب أبي نصر والاسكندر ثامسطيوس يؤنس نفاري ويلين عَرِيكَة شماسي حَتَّى عطفت عَلَيْهِ أقدم رجل وأؤخر أُخْرَى
وشاع أَن صَلَاح الدّين هادن الفرنج وَعَاد إِلَى الْقُدس فقادتني الضَّرُورَة إِلَى التَّوَجُّه إِلَيْهِ فَأخذت من كتب القدماء مَا أمكنني وتوجهت إِلَى الْقُدس فَرَأَيْت ملكا عَظِيما يمْلَأ الْعين روعة والقلوب محبَّة
قَرِيبا بَعيدا سهلا محببا وَأَصْحَابه يتشبهون بِهِ يتسابقون إِلَى الْمَعْرُوف كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورهمْ من غل}
وَأول ليل حَضرته وجدت مَجْلِسا حفلا بِأَهْل الْعلم يتذاكرون فِي أَصْنَاف الْعُلُوم وَهُوَ يحسن الِاسْتِمَاع والمشاركة وَيَأْخُذ فِي كَيْفيَّة بِنَاء الأسوار وحفر الْخَنَادِق ويتفقه فِي ذَلِك وَيَأْتِي بِكُل معنى بديع
وَكَانَ مهتما فِي بِنَاء سور الْقُدس وحفر خندقه يتَوَلَّى ذَلِك بِنَفسِهِ وينقل الْحِجَارَة على عَاتِقه ويتأسى بِهِ جَمِيع النَّاس الْفُقَرَاء والأغنياء والأقوياء والضعفاء حَتَّى الْعِمَاد الْكَاتِب وَالْقَاضِي الْفَاضِل ويركب لذَلِك قبل طُلُوع الشَّمْس إِلَى وَقت الظّهْر وَيَأْتِي دَاره ويمد الطَّعَام ثمَّ يستريح
ويركب الْعَصْر وَيرجع فِي الْمسَاء وَيصرف أَكثر اللَّيْل فِي تَدْبِير مَا يعْمل نَهَارا
فَكتب لي صَلَاح الدّين بِثَلَاثِينَ دِينَارا فِي كل شهر على ديوَان الْجَامِع وَأطلق أَوْلَاده رواتب حَتَّى تقرر لي فِي كل شهر مائَة دِينَار
وَرجعت إِلَى دمشق وأكببت على الِاشْتِغَال وإقراء النَّاس بالجامع
وَكلما أمعنت فِي كتب القدماء ازددت فِيهَا رَغْبَة وَفِي كتب ابْن سينا زهادة وأطلعت على بطلَان الكيمياء وَعرفت حَقِيقَة الْحَال فِي وَضعهَا وَمن وَضعهَا وَتكذب بهَا وَمَا كَانَ قَصده فِي ذَلِك
وخلصت من ضلالين عظيمين موبقين
وتضاعف شكري لله سُبْحَانَهُ على ذَلِك فَإِن أَكثر النَّاس إِنَّمَا هَلَكُوا بكتب ابْن سينا وبالكيمياء
ثمَّ إِن صَلَاح الدّين دخل دمشق وَخرج يودع الْحَاج ثمَّ رَجَعَ فَحم ففصده من لَا خبْرَة عِنْده فخارت الْقُوَّة وَمَات قبل الرَّابِع عشر وَوجد النَّاس عَلَيْهِ شَبِيها بِمَا يجدونه على الْأَنْبِيَاء
وَمَا رَأَيْت ملكا حزن النَّاس بِمَوْتِهِ سواهُ لِأَنَّهُ كَانَ محبوبا يُحِبهُ الْبر والفاجر وَالْمُسلم وَالْكَافِر
ثمَّ تفرق أَوْلَاده(1/688)
وَأَصْحَابه أيادي سبأ ومزقوا فِي الْبِلَاد كل ممزق وَأَكْثَرهم توجه إِلَى مصر لخصبها وسعة صدر ملكهَا وأقمت بِدِمَشْق وملكها الْملك الْأَفْضَل وَهُوَ أكبر الْأَوْلَاد فِي السن إِلَى أَن جَاءَ الْملك الْعَزِيز بعساكر مصر يحاصر أَخَاهُ بِدِمَشْق فَلم ينل مِنْهُ بغية
ثمَّ تاخر إِلَى مرج الصفر لقولنج عرض لَهُ فَخرجت إِلَيْهِ بعد خلاصه مِنْهُ فَأذن لي فِي الرحيل مَعَه وأجرى عَليّ من بَيت المَال كفايتي وَزِيَادَة
وأقمت مَعَ الشَّيْخ أبي الْقَاسِم يلازمني صباح مسَاء إِلَى أَن قضى نحبه
وَلما اشْتَدَّ مَرضه وَكَانَ ذَات الْجنب عَن نزلة من رَأسه وأشرت عَلَيْهِ بدواء فَأَنْشد
(لَا أذود الطير عَن شجر ... قد بلوت المر من ثمره) المديد
ثمَّ سَأَلته عَن ألمه فَقَالَ
(مَا لجرح بميت إيلام ... ) الْخَفِيف
وَكَانَ سيرتي فِي هَذِه الْمدَّة أنني أَقْْرِئ النَّاس بالجامع الْأَزْهَر من أول النَّهَار إِلَى نَحْو السَّاعَة الرَّابِعَة
وسط النَّهَار يَأْتِي من يقْرَأ الطِّبّ وَغَيرهم وَآخر النَّهَار أرجع إِلَى الْجَامِع الْأَزْهَر فَيقْرَأ قوم آخَرُونَ
وَفِي اللَّيْل اشْتغل مَعَ نَفسِي
وَلم أزل على ذَلِك إِلَى أَن توفّي الْملك الْعَزِيز وَكَانَ شَابًّا كَرِيمًا شجاعا كثير الْحيَاء لَا يحسن قَول لَا
وَكَانَ مَعَ حَدَاثَة سنه وشرخ شبابه كَامِل الْعِفَّة عَن الْأَمْوَال والفروج
أَقُول ثمَّ إِن الشَّيْخ موفق الدّين أَقَامَ بِالْقَاهِرَةِ بعد ذَلِك مُدَّة وَله الرتب والجرايات من أَوْلَاد الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وأتى إِلَى مصر ذَلِك الغلاء الْعَظِيم والموتان الَّذِي لم يُشَاهد مثله
وَألف الشَّيْخ موفق الدّين فِي ذَلِك كتابا ذكر فِيهِ أَشْيَاء شَاهدهَا أَو سَمعهَا مِمَّن عاينها تذهل الْعقل وسمى ذَلِك الْكتاب كتاب الإفادة وَالِاعْتِبَار فِي الْأُمُور الْمُشَاهدَة والحوادث المعاينة بِأَرْض مصر
ثمَّ لما ملك السُّلْطَان الْملك الْعَادِل سيف الدّين أَبُو بكر بن أَيُّوب الديار المصرية وَأكْثر الشَّام والشرق وَتَفَرَّقَتْ أَوْلَاد أَخِيه الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين وانتزع ملكهم توجه الشَّيْخ موفق الدّين إِلَى الْقُدس وَأقَام بهَا مُدَّة
وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى الْجَامِع الْأَقْصَى ويشتغل النَّاس عَلَيْهِ بِكَثِير من الْعُلُوم وصنف هُنَالك كتبا كَثِيرَة
ثمَّ أَنه توجه إِلَى دمشق وَنزل بِالْمَدْرَسَةِ العزيزية بهَا وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وسِتمِائَة وَشرع فِي التدريس والاشتغال وَكَانَ يَأْتِيهِ خلق كثير يشتغلون عَلَيْهِ ويقرأون أصنافا من الْعُلُوم
وتميز فِي صناعَة الطِّبّ بِدِمَشْق صنف فِي هَذَا الْفَنّ كتبا كَثِيرَة وَعرف بِهِ
وَأما قبل ذَلِك فَإِنَّمَا كَانَت شهرته بِعلم النَّحْو وَأقَام بِدِمَشْق مُدَّة وانتفع النَّاس بِهِ
ثمَّ أَنه سَافر إِلَى حلب وَقصد بِلَاد الرّوم(1/689)
وَأقَام بهَا سِنِين كَثِيرَة وَكَانَ فِي خدمَة الْملك عَلَاء الدّين دَاوُد بن بهران صَاحب أرزنجان
وَكَانَ مكينا عِنْده عَظِيم الْمنزلَة وَله من الجامكية الوافرة والافتقادات الْكَثِيرَة وصنف باسمه عدَّة كتب
وَكَانَ هَذَا الْملك عالي الهمة كثير الْحيَاء كريم النَّفس
وَقد اشْتغل بِشَيْء من الْعُلُوم وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن استولى على ملكه صَاحب أرزن الرّوم وَهُوَ السُّلْطَان كيقباد بن كيخسرو ابْن قلج أرسلان ثمَّ قبض على صَاحب أرزنجان وَلم يظْهر لَهُ خبر
قَالَ الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف وَلما كَانَ فِي سَابِع عشر ذِي الْقعدَة من سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة تَوَجَّهت إِلَى أرزن الرّوم وَفِي حادي صفر من سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة رجعت إِلَى أرزنجان من أرزن الرّوم وَفِي نصف ربيع الأول تَوَجَّهت إِلَى كماخ وَفِي جُمَادَى الأولى تَوَجَّهت مِنْهَا إِلَى دبركي وَفِي رَجَب تَوَجَّهت مِنْهَا إِلَى ملطية وَفِي آخر رَمَضَان تَوَجَّهت إِلَى حلب وصلينا صَلَاة عيد الْفطر بالبهنساء ودخلنا حلب يَوْم الْجُمُعَة تَاسِع شَوَّال فَوَجَدْنَاهَا قد تضاعفت عمارتها وَخَيرهَا بِحسن سيرة أتابك شهَاب الدّين وَاجْتمعَ النَّاس على محبته لمعدلته فِي رَعيته
أَقُول وَأقَام الشَّيْخ موفق الدّين بحلب وَالنَّاس يشتغلون عَلَيْهِ وَكَثُرت تصانيفه
وَكَانَ لَهُ من شهَاب الدّين طغريل الْخَادِم أتابك حلب جَار حسن وَهُوَ متنحل لتدريس صناعَة الطِّبّ وَغَيرهَا ويتردد إِلَى الْجَامِع بحلب ليسمع الحَدِيث ويقرئ الْعَرَبيَّة
وَكَانَ دَائِم الِاشْتِغَال ملازما للكتابة والتصانيف
وَلما أَقَامَ بحلب قصدت إِنِّي أتوجه إِلَيْهِ وَاجْتمعَ بِهِ فَلم يتَّفق ذَلِك وَكَانَت كتبه أبدا تصل إِلَيْنَا ومراسلاته وَبعث إِلَيّ أَشْيَاء من تصانيفه من خطه وَهَذِه نُسْخَة كتاب كتبته إِلَيْهِ لما كَانَ بحلب الْمَمْلُوك يواصل بدعائه وثنائه وشكره وانتمائه إِلَى عبودية الْمجْلس السَّامِي المولوي السيدي السندي الْأَجَل الكبيري العالمي الفاضلي موفق الدّين سيد الْعلمَاء فِي الغابرين والحاضرين جَامع الْعُلُوم المتفرقة فِي الْعَالمين ولي أَمِير الْمُؤمنِينَ
أوضح الله بِهِ سبل الْهِدَايَة وأنار بِبَقَائِهِ طرق الدِّرَايَة وحقق بحقائق أَلْفَاظه صَحِيح الْولَايَة
وَلَا زَالَت سعادته دائمة الْبَقَاء وسيادته سامية الارتقاء وتصانيفه فِي الْآفَاق قدوة الْعلمَاء وعمدة سَائِر الأدباء والحكماء
الْمَمْلُوك يجدد الْخدمَة وَيهْدِي من السَّلَام أطيبه وَمن الشُّكْر وَالثنَاء أعذبه وَيُنْهِي مَا يكابده من أَلِيم التطلع إِلَى مُشَاهدَة أنوار شمسه المنيرة وَمَا يعانيه من الارتياح إِلَى مُلَاحظَة شرِيف حَضرته الأثيرة وَمَا تزايد من القلق وتعاظم عِنْد سَمَاعه قرب المزار من الأرق
(وأبرح مَا يكون الشوق يَوْمًا ... إِذا دنت الديار من الديار) الوافر
وَلَوْلَا قفول الركاب العالي ووصول الجناب الْمُوفق الجلالي لسارع الْمَمْلُوك إِلَى الْوُصُول(1/690)
ولبادر الْمُبَادرَة بالمثول ولجاء إِلَى شرِيف خدمته وفاز بِالنّظرِ إِلَى بهي طلعته فيا سَعَادَة من فَازَ بِالنّظرِ إِلَيْهِ وَيَا بشرى من مثل بَين يَدَيْهِ وَيَا سرُور من حظي بِوَجْه إقباله عَلَيْهِ وَمن ورد بحار فَضله من غَيرهَا واستضاء بشمس علمه فسرى فِي ضِيَاء منيرها نسْأَل الله تَعَالَى تقريب الِاجْتِمَاع وَتَحْصِيل الْجمع بَين مسرتي الإبصار والإسماع بمنه وَكَرمه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمن مراسلات الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف أَنه بعث إِلَى أبي فِي أول كتاب وَهُوَ يَقُول فِيهِ عِنْدِي ولد الْوَلَد أعز من الْوَلَد
وَهَذَا موفق الدّين ولد وَلَدي وأعز النَّاس عِنْدِي وَمَا زَالَت النجابة تتبين لي فِيهِ من الصغر
وَوصف وَأثْنى كثيرا وَقَالَ فِيهِ وَلَو أمكنني أَن آتِي إِلَيْهِ بِالْقَصْدِ ليشتغل عَليّ لفَعَلت
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ قد عزم أَن يَأْتِي إِلَى دمشق وَيُقِيم بهَا ثمَّ خطر لَهُ أَنه قبل ذَلِك يحجّ وَيجْعَل طَرِيقه على بَغْدَاد
وَأَن يقدم بهَا للخليفة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه أَشْيَاء من تصانيفه
وَلما وصل بَغْدَاد مرض فِي أثْنَاء ذَلِك وَتُوفِّي رَحمَه الله يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشر الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وسِتمِائَة وَدفن بالوردية عِنْد أَبِيه وَذَلِكَ بعد أَن خرج من بَغْدَاد وَبَقِي غَائِبا عَنْهَا خمْسا وَأَرْبَعين سنة
ثمَّ إِن الله تَعَالَى سَاقه إِلَيْهَا وَقضى منيته بهَا
وَمن كَلَام موفق الدّين عبد اللَّطِيف الْبَغْدَادِيّ مِمَّا نقلته من خطه قَالَ
يَنْبَغِي أَن تحاسب نَفسك كل لَيْلَة إِذا آويت إِلَى مَنَامك وَتنظر مَا اكْتسبت فِي يَوْمك من حَسَنَة فتشكر الله عَلَيْهَا وَمَا اكْتسبت من سَيِّئَة فتستغفر الله مِنْهَا وتقلع عَنْهَا
وترتب فِي نَفسك مِمَّا تعمله فِي غدك من الْحَسَنَات وتسأل الله الْإِعَانَة على ذَلِك
وَقَالَ أوصيك أَن لَا تَأْخُذ الْعُلُوم من الْكتب وَإِن وثقت من نَفسك بِقُوَّة الْفَهم
وَعَلَيْك بالأستاذين فِي كل علم تطلب اكتسابه وَلَو كَانَ الْأُسْتَاذ نَاقِصا فَخذ عَنهُ مَا عِنْده حَتَّى تَجِد أكمل مِنْهُ
وَعَلَيْك بتعظيمه وتوجيبه وَإِن قدرت أَن تفيده من دنياك فافعل وَإِلَّا فبلسانك وثنائك
وَإِذا قَرَأت كتابا فاحرص كل الْحِرْص على أَن تستظهره وتملك مَعْنَاهُ وتوهم أَن الْكتاب قد عدم وَإنَّك مستغن عَنهُ لَا تحزن لفقده
وَإِذا كنت مكبا على دراسة كتاب وتفهمه فإياك أَن تشتغل بآخر مَعَه ولصرف الزَّمَان الَّذِي تُرِيدُ صرفه فِي غَيره إِلَيْهِ
وَإِيَّاك أَن تشتغل بعلمين دفْعَة وَاحِدَة وواظب على الْعلم الْوَاحِد سنة أَو سنتَيْن أَو مَا شَاءَ الله
فَإِذا قضيت مِنْهُ وطرك فانتقل إِلَى علم آخر
وَلَا تظن أَنَّك إِذا حصلت علما فقد اكتفيت بل تحْتَاج إِلَى مراعاته لينمو وَلَا ينقص ومراعاته تكون بالذاكرة والتفكر واشتغال الْمُبْتَدِئ بالتلفظ والتعلم ومباحثة الأقران
واشتغال الْعَالم بالتعليم والتصنيف
وَإِذا تصديت لتعليم علم أَو للمناظرة فِيهِ فَلَا تمزج بِهِ غَيره من الْعُلُوم فَإِن كل علم مكتف بِنَفسِهِ مستغن عَن غَيره فَإِن استعانتك فِي علم بِعلم عجز عَن اسْتِيفَاء أقسامه كمن يَسْتَعِين بلغَة فِي لُغَة أُخْرَى إِذا علمهَا أَو جهل بَعْضهَا
قَالَ وَيَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يقْرَأ التواريخ وَأَن يطلع على السّير وتجارب الْأُمَم فَيصير بذلك كَأَنَّهُ فِي عمره الْقصير قد أدْرك الْأُمَم الخالية وعاصرهم وعاشرهم وَعرف خَيرهمْ وشرهم(1/691)
قَالَ وَيَنْبَغِي أَن تكون سيرتك سيرة الصَّدْر الأول فاقرأ سيرة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتتبع أَفعاله وأحواله واقتف آثاره وتشبه بِهِ مَا أمكنك وبقدر طاقتك
وَإِذا وقفت على سيرته فِي مطعمه ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته وتمرضه وتطببه وتمتعه وتطيبه ومعاملته مَعَ ربه وَمَعَ أَزوَاجه وَأَصْحَابه وأعدائه وَفعلت الْيَسِير من ذَلِك فَأَنت السعيد كل السعيد
قَالَ وَيَنْبَغِي أَن تكْثر إيهامك لنَفسك وَلَا تحسن الظَّن بهَا وَتعرض خواطرك على الْعلمَاء وعَلى تصانيفهم وتتثبت وَلَا تعجل وَلَا تعجب فَمَعَ الْعجب العثار وَمَعَ الاستبداد الزلل
وَمن لم يعرق جَبينه إِلَى أَبْوَاب الْعلمَاء لم يعرق فِي الْفَضِيلَة وَمن لم يخجلوه لم يبجله النَّاس وَمن لم يبكتوه لم يسد وَمن لم يحْتَمل ألم التَّعَلُّم لم يذقْ لَذَّة الْعلم وَمن لم يكدح لم يفلح
وَإِذا خلوت من التَّعَلُّم والتفكر فحرك لسَانك بِذكر الله وبتسابيحه وخاصة عِنْد النّوم فيتشربه لبك ويتعجن فِي خيالك وَتكلم بِهِ فِي مَنَامك
وَإِذا حدث لَك فَرح وسرور بِبَعْض أُمُور الدُّنْيَا فاذكر الْمَوْت وَسُرْعَة الزَّوَال وأصناف المنغصات وَإِذا أحزنك أَمر فَاسْتَرْجع وَإِذا اعترتك غَفلَة فَاسْتَغْفر وَاجعَل الْمَوْت نصب عَيْنك وَالْعلم والتقى زادك فِي الْآخِرَة
وَإِذا أردْت أَن تَعْصِي الله فاطلب مَكَانا لَا يراك فِيهِ
وَاعْلَم أَن النَّاس عُيُون الله على العَبْد يُرِيهم خَيره وَإِن أخفاه وشره وَأَن ستره فباطنه مَكْشُوف لله وَالله يكشفه لِعِبَادِهِ
فَعَلَيْك أَن تجْعَل باطنك خيرا من ظاهرك وسرك أصبح من علانيتك
وَلَا تتألم إِذا أَعرَضت عَنْك الدُّنْيَا فَلَو عرضت لَك لشغلتك عَن كسب الْفَضَائِل
وقلما يتعمق فِي الْعلم ذُو الثروة إِلَّا أَن يكون شرِيف الهمة جدا أَو أَن يثري بعد تَحْصِيل الْعلم
وَإِنِّي لَا أَقُول أَن الدُّنْيَا تعرض عَن طَالب الْعلم بل هُوَ الَّذِي يعرض عَنْهَا لِأَن همته مصروفة إِلَى الْعلم فَلَا يبْقى لَهُ الْتِفَات إِلَى الدُّنْيَا وَالدُّنْيَا إِنَّمَا تحصل بحرص وفكر فِي وجوهها فَإِذا غفل عَن أَسبَابهَا لم تأته وَأَيْضًا فَإِن طَالب الْعلم تشرف نَفسه عَن الصَّنَائِع الرذلة والمكاسب الدنية وَعَن أَصْنَاف التِّجَارَات وَعَن التذلل لأرباب الدُّنْيَا وَالْوُقُوف على أَبْوَابهم
ولبعض إخْوَانِي بَيت شعر
(من جد فِي طلب الْعُلُوم أفاته ... شرف الْعُلُوم دناءة التَّحْصِيل) الْكَامِل
وَجَمِيع طرق مكاسب الدُّنْيَا تحْتَاج إِلَى فرَاغ لَهُ وحذق فِيهَا وَصرف الزَّمَان إِلَيْهَا
والمشتغل بِالْعلمِ لَا يَسعهُ شَيْء من ذَلِك وَإِنَّمَا ينْتَظر أَن تَأتيه الدُّنْيَا بِلَا سَبَب وتطلبه من غير أَن يطْلبهَا طلب مثلهَا وَهَذَا ظلم مِنْهُ وعدوان
وَلَكِن إِذا تمكن الرجل فِي الْعلم وَشهر بِهِ خطب من كل جِهَة وَعرضت عَلَيْهِ المناصب وجاءته الدُّنْيَا صاغرة وَأَخذهَا وَمَاء وَجهه موفورا وَعرضه وَدينه مصون
وَاعْلَم أَن للْعلم عقبَة وَعرفا يُنَادي على صَاحبه ونورا وضياء يشرق عَلَيْهِ وَيدل عَلَيْهِ كتاجر الْمسك لَا يخفى مَكَانَهُ وَلَا تجْهَل بضاعته
وَكَمن يمشي بمشعل فِي ليل مدلهم
والعالم مَعَ هَذَا مَحْبُوب أَيْنَمَا كَانَ وكيفما كَانَ لَا يجد إِلَّا من يمِيل إِلَيْهِ ويؤثر قربه ويأنس بِهِ ويرتاح بمداناته وَاعْلَم أَن الْعُلُوم تغور ثمَّ تَفُور فِي زمَان بِمَنْزِلَة النَّبَات أَو عُيُون الْمِيَاه وتنتقل من قوم إِلَى قوم وَمن صقع إِلَى صقع(1/692)
وَمن كَلَامه أَيْضا نقلته من خطه قَالَ اجْعَل كلامك فِي الْغَالِب بِصِفَات أَن يكون وجيزا فصيحا فِي معنى مُهِمّ أَو مستحسن فِيهِ إلغاز تَامّ وإيهام كثير أَو قَلِيل
وَلَا تَجْعَلهُ مهملا ككلام الْجُمْهُور بل ارفعه عَنهُ وَلَا تباعده عَلَيْهِم جدا
وَقَالَ إياك والهذر وَالْكَلَام فِيمَا لَا يَعْنِي وَإِيَّاك وَالسُّكُوت فِي مَحل الْحَاجة وَرُجُوع النّوبَة إِلَيْك إِمَّا لاستخراج حق أَو اجتلاب مَوَدَّة أَو تَنْبِيه على فَضِيلَة
وَإِيَّاك والضحك مَعَ كلامك وَكَثْرَة الْكَلَام وتبتير الْكَلَام
بل اجْعَل كلامك سردا بِسُكُون بِحَيْثُ يستشعر مِنْك أَن وَرَاءه أَكثر مِنْهُ وَأَنه عَن خميرة سَابِقَة وَنظر مُتَقَدم
وَقَالَ إياك والغلظة فِي الْخطاب والجفاء فِي المناظرة
فَإِن ذَلِك يذهب ببهجة الْكَلَام وَيسْقط فَائِدَته ويعدم حلاوته ويجلب الضغائن ويمحق المودات وَيصير الْقَائِل مستثقلا سُكُوته وأشهى إِلَى السَّامع من كَلَامه ويثير النُّفُوس على معاندته ويبسط الألسن بمخاشنته وإذهاب حرمته
وَقَالَ لَا تترفع بِحَيْثُ تستثقل وَلَا تتنازل بِحَيْثُ تستخس وتستحقر
وَقَالَ اجْعَل كلامك كُله جدلا وَاجِب من حَيْثُ تعقل لَا من حَيْثُ تعتاد وتألف
وَقَالَ انتزح عَن عادات الصِّبَا وتجرد عَن مألوفات الطبيعة وَاجعَل كلامك لاهوتيا فِي الْغَالِب لَا يَنْفَكّ من خبر أَو قُرْآن أَو قَول حَكِيم أَو بَيت نَادِر أَو مثل سَائِر
وَقَالَ تجنب الوقيعة فِي النَّاس وثلب الْمُلُوك والغلظة على المعاشر وَكَثْرَة الْغَضَب
وَتجَاوز الْحَد فِيهِ
وَقَالَ استكثر من حفظ الْأَشْعَار الأمثالية والنوادر الْحكمِيَّة والمعاني المستغربة
وَمن دُعَائِهِ رَحمَه الله قَالَ اللَّهُمَّ أعذنا من شموس الطبيعة وجموح النَّفس الردية
واسلس لنا مقاد التَّوْفِيق وَخذ بِنَا فِي سَوَاء الطَّرِيق
يَا هادي الْعمي يَا مرشد الضلال يَا محيي الْقُلُوب الْميتَة بِالْإِيمَان يَا مُنِير ظلمَة الضَّلَالَة بِنور الإتقان خُذ بِأَيْدِينَا من مهواة الهلكة نجنا من ردغة الطبيعة طهرنا من درن الدُّنْيَا الدنية بالإخلاص لَك وَالتَّقوى
إِنَّك مَالك الْآخِرَة وَالدُّنْيَا
وتسبيح أَيْضا لَهُ قَالَ سُبْحَانَ من عَم بِحِكْمَتِهِ الْوُجُود وَاسْتحق بِكُل وَجه أَن يكون هُوَ المعبود
تلألأت بِنور جلالك الأفاق وأشرقت شمس معرفتك على النُّفُوس إشراقا وَأي إشراق
ولموفق الدّين عبد اللَّطِيف الْبَغْدَادِيّ من الْكتب كتاب غَرِيب الحَدِيث جمع فِيهِ غَرِيب أبي عبيد الْقَاسِم بن سَلام وغريب ابْن قُتَيْبَة وغريب الْخطابِيّ
كتاب الْمُجَرّد من غَرِيب الحَدِيث
كتاب الْوَاضِحَة فِي إِعْرَاب الْفَاتِحَة
كتاب الْألف وَاللَّام
مَسْأَلَة فِي قَوْله سُبْحَانَهُ إِذا أخرج يَده لم يكد يَرَاهَا
مَسْأَلَة نحوية
مَجْمُوع مسَائِل نحوية وتعاليق
كتاب رب
شرح بَانَتْ سعاد
كتاب ذيل الفصيح
الْكَلَام فِي الذَّات وَالصِّفَات الذاتيه الْجَارِيَة على أَلْسِنَة الْمُتَكَلِّمين
شرح أَوَائِل الْمفصل(1/693)
خمس مسَائِل نحوية
شرح مُقَدّمَة ابْن بابشاذ وَسَماهُ باللمع الكاملية
شرح الْخطب النباتية
شرح الحَدِيث المتسلسل
شرح سبعين حَدِيثا شرح أَرْبَعِينَ حَدِيثا طبية
كتاب الرَّد على ابْن الْخَطِيب الرّيّ فِي تَفْسِير سُورَة الْإِخْلَاص
كتاب كشف الظلامة عَن قدامَة شرح نقد الشّعْر لقدامة
أَحَادِيث مخرجة من الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ
كتاب اللِّوَاء الْعَزِيز باسم الْملك الْعَزِيز فِي الحَدِيث
كتاب قوانين البلاغة عمله بحلب سنة خمس عشر وسِتمِائَة
حواش على كتاب الخصائص لِابْنِ جني
كتاب الأنصاف بَين ابْن بري وَابْن الخشاب على المقامات للحريري وانتصار ابْن بري للحريري
مَسْأَلَة فِي قَوْلهم أَنْت طَالِق فِي شهر قبل مَا بعد قبْلَة رَمَضَان
تَفْسِير قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الراحمون يرحمهم الرَّحْمَن
كتاب قبسة العجلان فِي النَّحْو
اخْتِصَار كتاب الصناعتين للعسكري
اخْتِصَار كتاب الْعُمْدَة لِابْنِ رَشِيق
مقَالَة فِي الوفق
كتاب الْجَلِيّ فِي الْحساب الْهِنْدِيّ
اخْتِصَار كتاب النَّبَات لأبي حنيفَة الدينَوَرِي وَكتاب آخر فِي فنه مثله
اخْتِصَار مَادَّة الْبَقَاء للتميمي
كتاب الْفُصُول وَهُوَ بلغَة الْحَكِيم سبع مقالات فرغ مِنْهُ فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وسِتمِائَة
شرح كتاب الْفُصُول لأبقراط شرح كتاب تقدمة الْمعرفَة لأبقراط
اخْتِصَار وَشرح جالينوس لكتب الْأَمْرَاض الحادة لأبقراط
اخْتِصَار كتاب الْحَيَوَان لأرسطوطاليس
تَهْذِيب مسَائِل مَا بَال لأرسطوطاليس
كتاب آخر فِي فنه مثله
اخْتِصَار كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء لِجَالِينُوسَ
اخْتِصَار كتاب آراء أبقراط وأفلاطن اخْتِصَار كتاب الجنسين
اخْتِصَار كتاب الصَّوْت
اخْتِصَار كتاب الْمَنِيّ
اخْتِصَار كتاب آلَات التنفس اخْتِصَار كتاب العضل
اخْتِصَار كتاب الْحَيَوَان للجاحظ
كتاب فِي آلَات التنفس وأفعالها سِتّ مقالات مقَالَة فِي قسْمَة الحميات وَمَا يتقوم بِهِ كل وَاحِد مِنْهَا وَكَيْفِيَّة تولدها
كتاب النخبة وَهُوَ خُلَاصَة الْأَمْرَاض الحادة
اخْتِصَار كتاب الحميات للإسرائيلي
اخْتِصَار كتاب الْبَوْل للإسرائيلي
اخْتِصَار كتاب النبض للإسرائيلي
كتاب أَخْبَار مصر الْكَبِير
كتاب أَخْبَار مصر الصَّغِير مقالتان وترجمة كتاب الإفادة وَالِاعْتِبَار فِي الْأُمُور الْمُشَاهدَة والحوادث المعاينة بِأَرْض مصر وَفرغ من تأليفه فِي الْعَاشِر من شعْبَان سنة ثَلَاث وسِتمِائَة بِالْبَيْتِ الْمُقَدّس
كتاب تَارِيخ وَهُوَ يتَضَمَّن سيرته أَلفه لوَلَده شرف الدّين يُوسُف
مقَالَة فِي الْعَطش
مقَالَة فِي المَاء
مقَالَة فِي إحصاء مَقَاصِد واضعي الْكتب فِي كتبهمْ وَمَا يتبع ذَلِك من الْمَنَافِع والمضار
مقَالَة فِي معنى الْجَوْهَر وَالْعرض
مقَالَة موجزة فِي النَّفس
مقَالَة فِي الحركات المعتاضة
مقَالَة فِي الْعَادَات
الْكَلِمَة فِي الربوبية
مقَالَة تشْتَمل عل أحد عشر بَابا فِي حَقِيقَة الدَّوَاء والغذاء وَمَعْرِفَة طبقاتها وَكَيْفِيَّة تركيبها
مقَالَة فِي البادئ بصناعة الطِّبّ
مقَالَة فِي شِفَاء الضِّدّ بالضد
مقَالَة فِي ديابيطس والأدوية النافعة مِنْهُ
مقَالَة فِي الراوند حررها بحلب فِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة سبع عشرَة وسِتمِائَة وَكَانَ قد وَضعهَا سنة خمس وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
مقَالَة فِي السقنقور
مقَالَة فِي الْحِنْطَة
مقَالَة فِي الشَّرَاب وَالْكَرم
مقَالَة فِي البحران صَغِيرَة
رِسَالَة إِلَى مهندس فَاضل عَمَلي كتب بهَا من مَدِينَة حلب
اخْتِصَار كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِابْنِ وَافد
اخْتِصَار كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِابْنِ سمحون
كتاب كَبِير فِي الْأَدْوِيَة(1/694)
المفردة
مُخْتَصر فِي الحميات
مقَالَة فِي المزاج
كتاب الْكِفَايَة فِي التشريح
كتاب الرَّد على ابْن الْخَطِيب فِي شَرحه بعض كليات القانون وَألف كِتَابه هَذَا لِعَمِّي رشيد الدّين عَليّ بن خَليفَة رَحمَه الله وأرسله إِلَيْهِ وَكَانَ تأليفه لذَلِك بحلب قبل توجهه إِلَى بِلَاد الرّوم
كتاب تعقب حَوَاشِي ابْن جَمِيع على القانون
مقَالَة يرد فِيهَا على كتاب عَليّ بن رضوَان الْمصْرِيّ فِي اخْتِلَاف جالينوس وأرسطوطاليس
مقَالَة فِي الْحَواس
مقَالَة فِي الْكَلِمَة وَالْكَلَام
كتاب السَّبْعَة
كتاب تحفة الآمل
مقَالَة فِي الرَّد على الْيَهُود وَالنَّصَارَى
مقالتان أَيْضا فِي الرَّد على الْيَهُود وَالنَّصَارَى
مقَالَة فِي تَرْتِيب المصنفين
كتاب الْحِكْمَة العلائية ذكر فِيهِ أَشْيَاء حَسَنَة فِي الْعلم الإلهي وَألف كِتَابه هَذَا لعلاء الدّين دَاوُد بن بهْرَام صَاحب أرزنجان
مقَالَة على جِهَة التوطئة فِي الْمنطق
حواش على كتاب الْبُرْهَان للفارابي
كتاب الترياق فُصُول منتزعة من كَلَام الْحُكَمَاء حل شَيْء من شكوك الرَّازِيّ على كتب جالينوس
كتاب المراقي إِلَى الْغَايَة الإنسانية
ثَمَان مقالات
مقَالَة فِي ميزَان الْأَدْوِيَة المركبة من جِهَة الكميات
مقَالَة فِي موازنة الْأَدْوِيَة والأدواء من جِهَة الكيفيات
مقَالَة فِي تعقب أوزان الْأَدْوِيَة
مقَالَة أُخْرَى فِي الْمَعْنى وكشف شبه وَقعت لبَعض الْعلمَاء
مقَالَة فِي الْمَعْنى فِي جَوَاب ثَلَاث مسَائِل
مقَالَة سادسة مختصرة
مقَالَة تتَعَلَّق بموازين الْأَدْوِيَة الطبية فِي المركبات قَول أَيْضا فِي الْمَعْنى
مقَالَة فِي التنفس وَالصَّوْت وَالْكَلَام مقَالَة فِي اخْتِصَار كَلَام جالينوس فِي سياسة الصِّحَّة
انتزاعات من كتاب ديسقوريدس فِي صِفَات الحشائش
انتزاعات أُخْرَى فِي مَنَافِعهَا
مقَالَة فِي تَدْبِير الْحَرْب كتبهَا لبَعض مُلُوك زَمَانه فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وسِتمِائَة وَوَجَدته أَيْضا وَقد ترجمها
مقَالَة فِي السياسة العملية
كتاب الْعُمْدَة فِي أصُول السياسة
مقَالَة فِي جَوَاب مَسْأَلَة سُئِلَ عَنْهَا فِي ذبح الْحَيَوَان وَقَتله وَهل ذَلِك سَائِغ فِي الطَّبْع وَفِي الْعقل كَمَا هُوَ سَائِغ فِي الشَّرْع
مقالتان فِي الْمَدِينَة الفاضلة
مقَالَة فِي الْعُلُوم الضارة
رِسَالَة فِي الْمُمكن مقالتان
مقَالَة فِي الْجِنْس وَالنَّوْع أجَاب بهَا فِي دمشق سُؤال سَائل فِي سنة أَربع وسِتمِائَة
الْفُصُول الْأَرْبَعَة المنطقية
تَهْذِيب كَلَام أفلاطن
حكم منثورة أيساغوجي مَبْسُوط الْوَاقِعَات
مقَالَة فِي النِّهَايَة واللانهاية
كتاب تأريث الفطن فِي الْمنطق والطبيعي والإلهي
مقَالَة فِي كَيْفيَّة اسْتِعْمَال الْمنطق
وَكتب بِهَذِهِ الْمقَالة إِلَيّ من بِلَاد الرّوم
مقَالَة فِي حد الطِّبّ
مقَالَة فِي البادئ بصناعة الطِّبّ
مقَالَة فِي أَجزَاء الْمنطق التِّسْعَة مُجَلد كَبِير
مقَالَة فِي الْقيَاس
كتاب فِي الْقيَاس خَمْسُونَ كراسا ثمَّ أضيف إِلَيْهِ الْمدْخل والمقولات والعبارة والبرهان فجَاء مِقْدَاره أَربع مجلدات
مقَالَة فِي جَوَاب مَسْأَلَة فِي التَّنْبِيه على سبل السَّعَادَة الطبيعيات من السماع إِلَى آخر كتاب الْحس والمحسوس ثَلَاث مجلدات
كتاب السماع الطبيعي مجلدان
كتاب آخر فِي الطبيعيات من السماع إِلَى كتاب النَّفس
كتاب العجيب
حواش على كتاب الثَّمَانِية المنطقية للفارابي
شرح الأشكال البرهانية من ثَمَانِيَة أبي نصر
مقَالَة فِي تزييف الشكل الرَّابِع
مقَالَة فِي تزييف مَا يَعْتَقِدهُ أَبُو عَليّ بن سينا من وجود أقيسة شَرْطِيَّة تنْتج نتائج شَرْطِيَّة
مقَالَة فِي القياسات المختلطات وَالصرْف
بارير مانياس مَبْسُوط
مقَالَة فِي تزييف المقاييس الشّرطِيَّة الَّتِي يَظُنهَا ابْن سينا
مقَالَة أُخْرَى فِي الْمَعْنى أَيْضا(1/695)
كتاب النصيحتين للأطباء والحكماء
كتاب المحاكمة بَين الْحَكِيم والكيميائي
رِسَالَة فِي الْمَعَادِن وأبطال الكيمياء
مقَالَة فِي الْحَواس
عهد إِلَى الْحُكَمَاء
اخْتِصَار كتاب الْحَيَوَان لِابْنِ أبي الْأَشْعَث
اخْتِصَار القولنج لِابْنِ أبي الْأَشْعَث
مقَالَة فِي السرسام
مقَالَة فِي الْعلَّة المراقية
مقَالَة فِي الرَّد على ابْن الْهَيْثَم فِي الْمَكَان
مُخْتَصر فِيمَا بعد الطبيعية
مقَالَة فِي النّخل ألفها بِمصْر سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وبيضها بِمَدِينَة أرزنجان فِي رَجَب سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة
مقَالَة فِي اللُّغَات وَكَيْفِيَّة تولدها
مقَالَة فِي الشّعْر
مقَالَة فِي الأقيسة الوضعية
مقَالَة فِي الْقدر
مقَالَة فِي الْملَل
الْكتاب الْجَامِع الْكَبِير فِي الْمنطق وَالْعلم الطبيعي وَالْعلم الإلهي وَهُوَ زهاء عشر مجلدات التَّام تصنيفه فِي نَحْو نَيف وَعشْرين سنة
كتاب المدهش فِي أَخْبَار الْحَيَوَان المتوج بِصِفَات نَبينَا عَلَيْهِ أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ ابتدأت بكراسة مِنْهُ بِدِمَشْق سنة سبع وسِتمِائَة وكمل فِي أَرْبَعَة أشهر بحلب سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَهُوَ فِي مائَة كراس
كتاب الثَّمَانِية فِي الْمنطق وَهُوَ التصنيف الْوسط
أَبُو الْحجَّاج يُوسُف الإسرائيلي
مغربي الأَصْل من مَدِينَة فاس وأتى إِلَى الديار المصرية وَكَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ والهندسة وَعلم النُّجُوم
واشتغل فِي مصر بالطب على الرئيس مُوسَى بن مَيْمُون الْقُرْطُبِيّ
وسافر يُوسُف بعد ذَلِك إِلَى الشَّام وَأقَام بِمَدِينَة حلب وخدم الْملك الظَّاهِر غَازِي ابْن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف ابْن أَيُّوب وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي الطِّبّ
وخدم أَيْضا الْأَمِير فَارس الدّين مَيْمُون القصري
وَلم يزل أَبُو الْحجَّاج يُوسُف مُقيما فِي حلب ويدرس صناعَة الطِّبّ إِلَى أَن توفّي بهَا
وَلأبي الْحجَّاج يُوسُف الإسرائيلي من الْكتب رِسَالَة فِي تَرْتِيب الأغذية اللطيفة والكثيفة فِي تنَاولهَا
شرح الْفُصُول لأبقراط
عمرَان الإسرائيلي
هُوَ الْحَكِيم أوحد الدّين عمرَان بن صَدَقَة
مولده بِدِمَشْق فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة
وَكَانَ أَبوهُ أَيْضا طَبِيبا مَشْهُورا
واشتغل عمرَان على الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي بصناعة الطِّبّ وتميز فِي علمهَا وعملها وَصَارَ من أكَابِر المتعينين من أَهلهَا وحظي عِنْد الْمُلُوك واعتمدوا عَلَيْهِ فِي المداواة والمعالجة ونال من جهتهم من الْأَمْوَال الجسيمة وَالنعَم مَا يفوق الْوَصْف
وَحصل من الْكتب الطبية وَغَيرهَا مَا لَا يكَاد يُوجد عِنْد غَيره وَلم يخْدم أحدا من الْمُلُوك فِي الصُّحْبَة وَلَا تقيد مَعَهم فِي سفر وَإِنَّمَا كل مِنْهُم إِذا عرض لَهُ مرض أَو لمن يعز عَلَيْهِ طلبه
وَلم يزل يعالجه ويطببه بألطف علاج وَأحسن تَدْبِير إِلَى أَن يفرغ من مداواته
وَلَقَد حرص بِهِ الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب بِأَن يستخدمه فِي(1/696)
الصُّحْبَة فَمَا فعل وَكَذَلِكَ غَيره من الْمُلُوك
وحَدثني الْأَمِير صارم الدّين التبنيني رَحمَه الله أَنه لما كَانَ بالكرك وَبِه صَاحب الكرك يَوْمئِذٍ الْملك النَّاصِر دَاوُد بن الْملك الْمُعظم
وَكَانَ الْملك النَّاصِر قد توعك مزاجه واستدعى الْحَكِيم عمرَان إِلَيْهِ من دمشق فَأَقَامَ عِنْده مديدة وعالجه حَتَّى صلح فَخلع عَلَيْهِ ووهب لَهُ مَالا كثيرا وَقرر لَهُ جامكية فِي كل شهر ألفا وَخَمْسمِائة دِرْهَم ناصرية وَيكون فِي خدمته وَأَن يسلف مِنْهَا عَن سنة وَنصف سَبْعَة وَعشْرين ألف دِرْهَم فَمَا فعل
أَقُول وَكَانَ السُّلْطَان الْملك الْعَادِل لم يزل يصله بالإنعام الْكثير وَله مِنْهُ الجامكية الوافرة والجراية وَهُوَ مُقيم بِدِمَشْق ويتردد إِلَى خدمَة الدّور السُّلْطَانِيَّة بالقلعة
وَكَذَلِكَ فِي أَيَّام الْملك الْمُعظم وَكَانَ قد أطلق لَهُ أَيْضا جامكية وجراية تصل إِلَيْهِ ويتردد إِلَى البيمارستان الْكَبِير ويعالج المرضى بِهِ وَكَانَ بِهِ أَيْضا فِي ذَلِك الْوَقْت شَيخنَا مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ رَحمَه الله وَكَانَ يظْهر من اجْتِمَاعهمَا كل فَضِيلَة ويتهيأ للمرضى من المداواة كل خير وَكنت فِي ذَلِك الْوَقْت أتدرب مَعَهُمَا فِي أَعمال الطِّبّ
وَلَقَد رَأَيْت من حسن تَأتي الْحَكِيم عمرَان فِي المعالجة وتحققه للأمراض مَا يتعجب مِنْهُ
وَمن ذَلِك أَنه كَانَ يَوْمًا قد أَتَى البيمارستان مفلوج والأطباء قد ألحوا عَلَيْهِ بِاسْتِعْمَال المغالي وَغَيرهَا من صفاتهم فَلَمَّا رَآهُ وصف لَهُ فِي ذَلِك الْيَوْم تدبيرا يَسْتَعْمِلهُ ثمَّ بعد ذَلِك أَمر بفصده وَلما فصد وعالجه صلح وبرأ برأَ تَاما كَذَلِك أَيْضا رَأَيْت لَهُ أَشْيَاء كَثِيرَة من صِفَات مزاوير وألوان كَانَ يصفها للمرضى على حسب ميل شهواتهم وَلَا يخرج عَن مُقْتَضى المداواة فينتفعون بهَا
وَهَذَا بَاب عَظِيم فِي العلاج
ورأيته أَيْضا وَقد عالج أمراضا كَثِيرَة مزمنة كَانَ أَصْحَابهَا قد سئموا الْحَيَاة ويئس الْأَطِبَّاء من برئهم فبروا على يَدَيْهِ بأدوية غَرِيبَة يصفها ومعالجات بديعة عرفهَا
وَقد ذكرت من ذَلِك جملا فِي كتاب التجارب والفوائد وَتُوفِّي الْحَكِيم عمرَان فِي مَدِينَة حمص فِي شهر جُمَادَى الأولى سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَقد استدعاه صَاحبهَا لمداواته
موفق الدّين يَعْقُوب بن سقلاب
نَصْرَانِيّ كَانَ أعلم أهل زَمَانه بكتب جالينوس ومعرفتها وَالتَّحْقِيق لمعانيها والدراية لَهَا
وَكَانَ من كَثْرَة اجْتِهَاده فِي صناعَة الطِّبّ وَشدَّة حرصه ومواظبته على الْقِرَاءَة والمطالعة لكتب جالينوس وجودة فطرته وَقُوَّة ذكائه أَن جُمْهُور كتب جالينوس وأقواله فِيهَا كَانَت مستحضرة لَهُ فِي خاطره
فَكَانَ مهما تكلم بِهِ فِي صناعَة الطِّبّ على تفاريق أقسامها وتفنن مباحثها وَكَثْرَة جزئياتها إِنَّمَا ينْقل ذَلِك عَن جالينوس
وَمهما سُئِلَ عَنهُ فِي صناعَة الطِّبّ من الْمسَائِل والمواضيع المستعصية وَغَيرهَا لَا يُجيب بِشَيْء من ذَلِك إِلَّا أَن يَقُول قَالَ جالينوس ويورد فِيهِ أَشْيَاء من نُصُوص كَلَام جالينوس حَتَّى كَانَ يتعجب مِنْهُ فِي ذَلِك
وَرُبمَا أَنه فِي بعض الْأَوْقَات كَانَ يذكر شَيْئا من كَلَام جالينوس وَيَقُول هَذَا مَا ذكره جالينوس فِي كَذَا وَكَذَا ورقة من الْمقَالة الْفُلَانِيَّة من كتاب جالينوس ويسميه(1/697)
وَيَعْنِي بِهِ النُّسْخَة الَّتِي عِنْده
وَذَلِكَ لِكَثْرَة مطالعته إِيَّاهَا وأنسه بهَا
وَمِمَّا شاهدته فِي ذَلِك من أمره أنني كنت أَقرَأ عَلَيْهِ فِي أَوَائِل اشتغالي بصناعة الطِّبّ وَنحن فِي المعسكر المعظمي وَكَانَ أبي أَيْضا فِي ذَلِك الْوَقْت فِي خدمَة الْملك الْمُعظم رَحمَه الله شَيْئا من كَلَام أبقراط حفظا واستشراحا
فَكنت أرى من حسن تَأتيه فِي الشَّرْح وَشدَّة اسْتِقْصَائِهِ للمعاني بِأَحْسَن عبارَة وأوجزها وأتمها معنى مَا لَا يَجْسُر أحد على مثل ذَلِك وَلَا يقدر عَلَيْهِ
ثمَّ يذكر خُلَاصَة مَا ذكره وَحَاصِل مَا قَالَه حَتَّى لَا يبْقى فِي كَلَام بقراط مَوضِع إِلَّا وَقد شَرحه شرحا لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي الْجَوْدَة
ثمَّ إِنَّه يُورد نَص مَا قَالَه جالينوس فِي شَرحه لذَلِك الْفَصْل على التوالي إِلَى آخر قَوْله
وَلَقَد كنت أراجع شرح جالينوس فِي ذَلِك فأجده قد حكى جملَة مَا قَالَه جالينوس بأسره فِي ذَلِك الْمَعْنى وَرُبمَا أَلْفَاظ كَثِيرَة من أَلْفَاظ جالينوس يوردها بِأَعْيَانِهَا من غير أَن يزِيد فِيهَا وَلَا ينقص
وَهَذَا شَيْء تفرد بِهِ فِي زَمَانه
وَكَانَ فِي أَوْقَات كَثِيرَة لما أَقَامَ بِدِمَشْق يجْتَمع هُوَ وَالشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ فِي الْموضع الَّذِي يجلس فِيهِ الْأَطِبَّاء عِنْد دَار السُّلْطَان ويتباحثان فِي أَشْيَاء من الطِّبّ
فَكَانَ الشَّيْخ مهذب الدّين أفْصح عبارَة وَأقوى براعة وَأحسن بحثا
وَكَانَ الْحَكِيم يَعْقُوب أَكثر سكينَة وَأبين قولا وأوسع نقلا
لِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَة الترجمان المستحضر لما ذكره جالينوس فِي سَائِر كتبه من صناعَة الطِّبّ
فَأَما معالجات الْحَكِيم يَعْقُوب فَإِنَّهَا كَانَت فِي الْغَايَة من الْجَوْدَة والنجح وَذَلِكَ أَنه كَانَ يتَحَقَّق معرفَة الْمَرَض أَولا تَحْقِيقا لَا مزِيد عَلَيْهِ ثمَّ يشرع فِي مداواته بالقوانين الَّتِي ذكرهَا جالينوس مَعَ تصرفه هُوَ فِيمَا يَسْتَعْمِلهُ فِي الْوَقْت الْحَاضِر
وَكَانَ شَدِيد الْبَحْث واستقراء الْأَعْرَاض بِحَيْثُ أَنه كَانَ إِذا افْتقدَ مَرِيضا لَا يزَال يستقصي مِنْهُ عرضا عرضا وَمَا يشكوه مِمَّا يجده من مَرضه حَالا حَالا إِلَى أَن لَا يتْرك عرضا يسْتَدلّ بِهِ على تَحْقِيق الْمَرَض إِلَّا ويعتبره فَكَانَت أبدا معالجاته لَا مزِيد عَلَيْهَا فِي الْجَوْدَة
وَكَانَ الْملك الْمُعظم يشْكر مِنْهُ هَذِه الْحَالة ويصفه وَيَقُول لَو لم يكن فِي الْحَكِيم يَعْقُوب إِلَّا شدَّة اسْتِقْصَائِهِ فِي تَحْقِيق الْأَمْرَاض حَتَّى يعالجها على الصَّوَاب وَلَا يشْتَبه عَلَيْهِ شَيْء من أمرهَا
وَكَانَ الْحَكِيم يَعْقُوب أَيْضا متقنا للسان الرُّومِي خَبِيرا بلغته وَنقل مَعْنَاهُ إِلَى الْعَرَبِيّ وَكَانَ عِنْده بعض كتب جالينوس مَكْتُوبَة بالرومي مثل حِيلَة الْبُرْء والعلل والأعراض وَغير ذَلِك
وَكَانَ أَيْضا ملازما لقراءتها والاشتغال بهَا وَكَانَ مولده بالقدس وَأقَام بهَا سِنِين كَثِيرَة
ولازم بهَا رجلا فَاضلا فيلسوفا رَاهِبًا فِي دير السيق كَانَ خَبِيرا بِالْعلمِ الطبيعي متقنا للهندسة وَعلم الْحساب قَوِيا فِي علم أَحْكَام النُّجُوم والإطلاع عَلَيْهَا
وَكَانَت لَهُ أَحْكَام صَحِيحَة وإنذارات عَجِيبَة
وَأَخْبرنِي الْحَكِيم يَعْقُوب عَنهُ مَعْرفَته للحكمة وَحسن فطرته وفطنته شَيْئا كثيرا
وَاجْتمعَ أَيْضا الْحَكِيم يَعْقُوب فِي الْقُدس بالشيخ أبي مَنْصُور النَّصْرَانِي الطَّبِيب واشتغل عَلَيْهِ وباشر مَعَه أَعمال صناعَة الطِّبّ وانتفع بِهِ
وَكَانَ الْحَكِيم يَعْقُوب من أتم النَّاس عقلا وأسدهم رَأيا وَأَكْثَرهم سكينَة
وَلما خدم الْملك الْمُعظم عِيسَى بن أبي بكر بن أَيُّوب وَصَارَ مَعَه فِي الصُّحْبَة كَانَ حسن الِاعْتِقَاد فِيهِ حَتَّى أَنه كَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي كثير من الآراء الطبية وَغَيرهَا فينتفع بهَا ويحمد عواقبها
وَقصد الْملك الْمُعظم أَن يوليه بعض(1/698)
تَدْبِير دولته وَالنَّظَر فِي ذَلِك فَمَا فعل وَاقْتصر على مداومة صناعَة الطِّبّ فَقَط
وَكَانَ قد عرض للحكيم يَعْقُوب فِي رجلَيْهِ نقرس وَكَانَ يثور بِهِ فِي أَوْقَات ويألم بِسَبَبِهِ وتعسر عَلَيْهِ الْحَرَكَة فَكَانَ الْملك الْمُعظم يستصحبه فِي أَسْفَاره مَعَه فِي محفة ويفتقده ويكرمه غَايَة الْإِكْرَام وَله مِنْهُ الجامكية السّنيَّة وَالْإِحْسَان الوافر
وَقَالَ لَهُ يَوْمًا يَا حَكِيم لم لَا تداوي هَذَا الْمَرَض الَّذِي فِي رجليك فَقَالَ يَا مَوْلَانَا الْخشب إِذا سوس مَا يبْقى فِي إِصْلَاحه حِيلَة
وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْمُعظم
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي السَّاعَة الثَّالِثَة من نَهَار يَوْم الْجُمُعَة سلخ ذِي الْقعدَة سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة بِدِمَشْق وَملك بعده وَلَده الْملك النَّاصِر دَاوُد فَدخل إِلَيْهِ الْحَكِيم يَعْقُوب ودعا لَهُ وَذكره بقديم صحبته وسالف خدمته وَأَنه قد وصل إِلَى سنّ الشيخوخة والهرم والضعف وأنشده
(أتيتكم وجلابيب الصِّبَا قشب ... فَكيف أرحل عَنْكُم وَهِي أسمال)
(لي حُرْمَة الضَّيْف وَالْجَار الْقَدِيم وَمن ... أَتَاكُم وكهول الْحَيّ أَطْفَال) الْبَسِيط
وَهَذَا الشّعْر لِابْنِ منقذ رَحمَه الله فَأحْسن إِلَيْهِ الْملك النَّاصِر إحسانا كثيرا وَأطلق لَهُ مَالا وَكِسْوَة وَأمر بِأَن جَمِيع مَا قد كَانَ لَهُ مقررا من الْملك الْمُعظم يسْتَمر وَأَن لَا يُكَلف لخدمة
فَبَقيَ كَذَلِك مديدة ثمَّ توفّي بِدِمَشْق فِي عيد الفصح لِلنَّصَارَى وَذَلِكَ فِي شهر ربيع الآخر سنة خمس وَعشْرين وسِتمِائَة
سديد الدّين أَبُو مَنْصُور
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الْعَالم أَبُو مَنْصُور ابْن الْحَكِيم موفق الدّين يَعْقُوب بن سقلاب من أفاضل الْأَطِبَّاء وأعيان الْعلمَاء متميز فِي علم صناعَة الطِّبّ وعملها متقن لفصولها وجملها
اشْتغل على وَالِده وعَلى غَيره بصناعة الطِّبّ وَقَرَأَ أَيْضا بالكرك على الإِمَام شمس الدّين الخسروشاهي كثيرا من الْعُلُوم الْحكمِيَّة
وخدم الْحَكِيم سديد الدّين أَبُو مَنْصُور الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين دَاوُد ابْن الْملك الْمُعظم عِيسَى بن أبي بكر بن أَيُّوب
وَأقَام فِي صحبته بالكرك وَكَانَ مكينا عِنْده مُعْتَمدًا عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ
ثمَّ أَتَى أَبُو مَنْصُور إِلَى دمشق وَتُوفِّي بهَا
رشيد الدّين ابْن الصُّورِي
هُوَ أَبُو الْمَنْصُور بن أبي الْفضل بن عَليّ الصُّورِي قد اشْتَمَل على جمل الصِّنَاعَة الطبية واطلع على(1/699)
محاسنها الجلية والخفية
وَكَانَ أوحدا فِي معرفَة الْأَدْوِيَة المفردة وماهياتها وَاخْتِلَاف أسمائها وصفاتها وَتَحْقِيق خواصها وتأثيراتها ومولده فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَخَمْسمِائة بِمَدِينَة صور وَنَشَأ بهَا
ثمَّ انْتقل عَنْهَا واشتغل بصناعة الطِّبّ على الشَّيْخ موفق الدّين عبد الْعَزِيز وَقَرَأَ أَيْضا على الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ وتميز فِي صناعَة الطِّبّ وَأقَام بالقدس سنتَيْن
وَكَانَ يطب فِي البيمارستان الَّذِي كَانَ فِيهِ
وَصَحب الشَّيْخ أَبَا الْعَبَّاس الجياني وَكَانَ شَيخا فَاضلا فِي الْأَدْوِيَة المفردة متفننا فِي عُلُوم أخر كثير الدّين محبا للخير
فَانْتَفع بِصُحْبَتِهِ لَهُ وَتعلم مِنْهُ أَكثر مَا يفهمهُ
واطلع رشيد الدّين بن الصُّورِي أَيْضا على كثير من خَواص الْأَدْوِيَة المفردة حَتَّى تميز على كثير من أَرْبَابهَا وأربى على سَائِر من حاولها واشتغل بهَا
هَذَا مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْمُرُوءَة الَّتِي لَا مزِيد عَلَيْهَا
والعصبية الَّتِي لم يسْبق إِلَيْهَا والمعارف الْمَذْكُورَة والشجاعة الْمَشْهُورَة
وَكَانَ قد خدم بصناعة الطِّبّ الْملك الْعَادِل أَبَا بكر بن أَيُّوب فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة لما كَانَ الْملك الْعَادِل مُتَوَجها إِلَى الديار المصرية واستصحبه مَعَه من الْقُدس وَبَقِي فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْعَادِل رَحمَه الله
ثمَّ خدم بعده لوَلَده الْملك الْمُعظم عِيسَى بن أبي بكر وَكَانَ مكينا عِنْده وجيها فِي أَيَّامه
وَشهد مَعَه مصافات عدَّة مَعَ الفرنج لما كَانُوا نازلوا ثغر دمياط وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْمُعظم رَحمَه الله وَملك بعده وَلَده الْملك النَّاصِر دَاوُد بن الْملك الْمُعظم فأجراه على جامكيته وَرَأى لَهُ سَابق خدمته وفوض إِلَيْهِ رياسة الطِّبّ وَبَقِي مَعَه فِي الْخدمَة إِلَى أَن توجه الْملك النَّاصِر إِلَى الكرك فَأَقَامَ هُوَ بِدِمَشْق وَكَانَ لَهُ مجْلِس للطب وَالْجَمَاعَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ ويشتغلون بالصناعة الطبية
وحرر أدوية الترياق الْكَبِير وَجَمعهَا على مَا يَنْبَغِي فَظهر نَفعه وعظمت فَائِدَته
وَكَانَ قد صنع مِنْهُ شَيْئا كثيرا فِي أَيَّام الْملك الْمُعظم
وَتُوفِّي رشيد الدّين بن الصُّورِي رَحمَه الله يَوْم الْأَحَد أول شهر رَجَب سنة تسع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة بِدِمَشْق
وَكَانَ رشيد الدّين ابْن الصُّورِي قد أهْدى إِلَيّ تأليفا لَهُ يحتوي على فَوَائِد ووصايا طبية فَقلت وكتبت بهَا إِلَيْهِ فِي رِسَالَة
(لعلم رشيد الدّين فِي كل مشْهد ... منار علا يأتمه كل مهتدي)
(حَكِيم لَدَيْهِ المكرمات بأسرها ... توارثها عَن سيد بعد سيد)
(حوى الْفضل عَن آبَائِهِ وجدوده ... فَذَاك قديم فِيهِ غير مُجَدد)
(تفرد فِي ذَا الْعَصْر عَن كل مشبه ... بِخَير صِفَات حصرها لم يجدد)
(أَتَتْنِي وَصَايَاهُ الحسان الَّتِي حوت ... بنثر كَلَام كل فصل منضد)
(وَأهْدى إِلَى قلبِي السرُور وَلم يزل ... بإحسانه يسدي لمثلي من يَد)
(وجدت بهَا مَا أرتجيه وإنني ... بهَا أبدا فِيمَا أحاول مقتدي)
(وَلَا غرو من علم الرشيد وفضله ... إِذا كَانَ بعد الله فِي الْعلم مرشدي) الطَّوِيل(1/700)
أدام الله أَيَّام الْحَكِيم الأوحد الأمجد الْعَامِل الْفَاضِل الْكَامِل الرئيس رشيد الدُّنْيَا وَالدّين مُعْتَمد الْمُلُوك والسلاطين خَالِصَة أَمِير الْمُؤمنِينَ بلغه فِي الدَّاريْنِ نِهَايَة سؤله وأمانيه وكبت حَسَدْته وأعاديه
وَلَا زَالَت الْفَضَائِل مخيمة بفنائه والفواضل صادرة مِنْهُ إِلَى أوليائه
والألسن مجتمعة على شكره وثنائه وَالصِّحَّة مَحْفُوظَة بِحسن مراعاته والأمراض زائلة بتدبيره ومعالجته
الْمَمْلُوك يُنْهِي مَا يجده من الأشواق إِلَى خدمته والتأسف على الْفَائِت من مشاهدته
ووصلت المشرفة الْكَرِيمَة الَّتِي وجد بهَا نِهَايَة الأمل والإرشاد إِلَى المطالب الطبية الجامعة للْعلم وَالْعَمَل
وَقد جعلهَا الْمَمْلُوك أصلا يعْتَمد عَلَيْهِ ودستورا يرجع إِلَيْهِ
لَا يخليها من فكره وَلَا يخل بِمَا تتضمنه فِي سَائِر عمره
وَلَيْسَ للمملوك مَا يُقَابل بِهِ إِحْسَان مَوْلَانَا إِلَّا الدُّعَاء الصَّالح وَالثنَاء الَّذِي يكْتَسب من محاسنه النشر الْعطر الفائح
وَكَيف لَا أشكر وأنشر محَاسِن من لَا أجد فَضِيلَة إِلَّا بِهِ وَلَا أنال رَاحَة إِلَّا بِسَبَبِهِ
فَالله يتَقَبَّل من الْمَمْلُوك صَالح أدعيته وَيجْزِي مَوْلَانَا كل خير على كَمَال مروءته إِن شَاءَ
وأنشدني مهذب الدّين أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْخضر الْحلَبِي لنَفسِهِ يمدح الْحَكِيم رشيد الدّين ابْن الصُّورِي ويشكره على إِحْسَان أسداه إِلَيْهِ
(سرى طيفها والكاشحون هجود ... فَبَاتَ قَرِيبا والمزار بعيد)
(فيا عجبا من طيفها كَيفَ زارني ... وَمن دونه بيد تهول وبيد)
(وَكَيف يزور الطيف طرف مسهد ... لطيب الْكرَى عَن ناظريه صدود)
(وَفِي قلبه نَار من الوجد والأسى ... لَهَا بَين أحناء الضلوع وقود)
(وَقد أخلق السقم المبرح والضنا ... لِبَاس اصْطِبَارِي والغرام جَدِيد)
(وتالله لَا عَاد الخيال وَإِنَّمَا ... تخيله الأفكار لي فَيَعُود)
(فيا لائمي كف الملام وَلَا تزد ... فَمَا فَوق وجدي والغرام مزِيد)
(ولي كبد حرى وطرف مسهد ... وقلب يحب الغانيات عميد)
(أَلا فِي سَبِيل الْحبّ من مَاتَ صبوة ... وَمن قتلته الغيد فَهُوَ شَهِيد)
(وَلم تَرَ عَيْني مثل أَسمَاء خلة ... تضن بوصلي والخيال يجود)
(تجدّد أشجاني بهَا وصبابتي ... معاهد أقوت باللوى وعهود)
(رعى الله بيضًا من لَيَال وصلتها ... ببيض حسان والمفارق سود)
(وَبت وجخ اللَّيْل مرخ سدوله ... أضم غصون البان وَهِي قدود)
(وأرشف رَاحا روقتها مباسم ... واقطف وردا أنبتته خدود)
(إِلَى أَن تبدى الصُّبْح غير مذمم ... وَزَالَ ظلام اللَّيْل وَهُوَ حميد)
(وَكَيف أَذمّ الصُّبْح أَو لَا أوده ... وَإِن ريع مودود بِهِ وودود)(1/701)
(وكل صباح فِيهِ للعين حظوة ... بِوَجْه رشيد الدّين وَهُوَ سعيد)
(هُوَ الْعَالم الصَّدْر الْحَكِيم وَمن لَهُ ... كَلَام يضاهي الدّرّ وَهُوَ نضيد)
(رَئِيس الْأَطِبَّاء ابْن سينا وَقَبله ... حنين تلاميذ لَهُ وَعبيد)
(وَلَو أَن جالينوس حَيا بعصره ... لَكَانَ عَلَيْهِ يبتدي وَيُعِيد)
(فَقل لبني الصُّورِي قد سدتم الورى ... وَمَا النَّاس إِلَّا سيد ومسود)
(وَمَا حزتم أرث الْعلَا عَن كَلَالَة ... كَذَلِك آبَاء لكم وجدود)
(فيا عَالم الدُّنْيَا وَيَا علم الْهدى ... وَيَا من بِهِ للمكرمات وجود)
(وَيَا من لَهُ ربع من الْفضل آهل ... وَقصر معال بالثناء مشيد)
(ودوح من الْإِحْسَان أثمر بالمنى ... وظل على اللاجي إِلَيْهِ مديد)
(وَيَا من بِهِ العَاصِي الجموح أَطَاعَنِي ... وذل لي الْجَبَّار وَهُوَ عنيد)
(فمعقل عزي فِي حماه ممنع ... حُصَيْن وعيشي فِي ذراه رغيد)
(وَمن راشني معروفه واصطناعه ... وَقَامَ بأَمْري والأنام قعُود)
(وَأحسن بِي فعلا فأحسنت قَائِلا ... وجاد فَفِي مدحي علاهُ أجيد)
(فَعِنْدَ نداه حَاتِم الْجُود باخل ... وَعِنْدِي لبيد فِي المديح بليد)
(تصدى لكسب الْحَمد من كل وجهة ... وَلِلْقَوْمِ عَن كسب الثَّنَاء صدود)
(لَهُ ظلّ ذِي فضل على كل لاجئ ... مفيء وَعلم بالأمور مُفِيد)
(وَعرف مَتى مَا يُبْدِهِ فاح عرفه ... وجود يَد مَا عز مِنْهُ وجود)
(تعبد كل الْخلق بالجود فانثنت ... لإحسانه الْأَحْرَار وَهِي عبيد)
(فكم مادح قد لَاذَ مِنْهُ بمانح ... فأنجح قصد عِنْده وقصيد)
(فأمسى وللحسنى عَلَيْهِ دَلَائِل ... وأضحى وللنعمى عَلَيْهِ شُهُود)
(فَكيف أَخَاف الحادثات وصرفها ... ورأي رشيد الدّين فِي سديد)
(وَمن فَضله لي ساعد ومساعد ... وَمن جاهه لي عدَّة وعديد)
(وَإِنِّي لأرجو أَن ستكثر حسدي ... على نيل مَا أَرْجُو بِهِ وَأُرِيد)
(وَمَا الصنع إِلَّا مَا سيعقبه الْغنى ... وَيكثر فِيهِ غائظ وحسود)
(إِذا كَانَ لي من فَضله واصطناعه ... عتاد فعزي مَا حييت عتيد)
(وَغير عَجِيب أَن يكون بِقَصْدِهِ ... لمثلي إِلَى نيل السُّعُود سعود)
(أَقُول لمن يَرْجُو سواهُ من الورى ... رويدك أَن النجح مِنْك بعيد)
(أتقصد أوشالا وتترك لجة ... تمد بهَا للمكرمات مدود)(1/702)
(وَمن بِأبي الْمَنْصُور أصبح لائذا ... فقد قارنته بالنجاح سعود)
(فيا كعبة الآمال يَا دِيمَة الندى ... وَيَا من بِهِ روض الرَّجَاء مجود)
(وَمن عَبده يَوْم السماحة حَاتِم ... كَمَا عِنْد مدحي فِي علاهُ عبيد)
(أياديك عِنْدِي لَا أقوم بشكرها ... فَمَا فَوق مَا أولت يداك مزِيد)
(فَلم يصف لي لَوْلَا أياديك مشرب ... وَلَا اخضر لي لَوْلَا انتجاعك عود)
(فجدي بقصدي بَات دَارك مقبل ... ونجمي بتردادي إِلَيْك سعيد)
(فَلَا زلت بالعيد السعيد مهنأ ... تهنيك من بعد الْوُفُود وُفُود)
(فَمَا لِذَوي الْحَاجَات غَيْرك مقصد ... وَلَا لبني الآمال عَنْك محيد) الطَّوِيل
ولرشيد الدّين الصُّورِي من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة وَهَذَا الْكتاب بَدَأَ بِعَمَلِهِ فِي أَيَّام الْملك الْمُعظم وَجعله باسمه واستقصى فِيهِ ذكر الْأَدْوِيَة المفردة وَذكر أَيْضا أدوية اطلع على مَعْرفَتهَا ومنافعها لم يذكرهَا المتقدمون
وَكَانَ يستصحب مصورا وَمَعَهُ الأصباغ والليق على اختلافها وتنوعها فَكَانَ يتَوَجَّه رشيد الدّين بن الصُّورِي إِلَى الْمَوَاضِع الَّتِي بهَا النَّبَات مثل جبل لبنان وَغَيره من الْمَوَاضِع الَّتِي قد اخْتصَّ كل مِنْهَا بِشَيْء من النَّبَات فيشاهد النَّبَات ويحققه ويريه للمصور فَيعْتَبر لَونه وَمِقْدَار ورقه وأغصانه وأصوله ويصور بحسبها ويجتهد فِي محاكاتها ثمَّ أَنه سلك أَيْضا فِي تَصْوِير النَّبَات مسلكا مُفِيدا وَذَلِكَ أَنه كَانَ يرى النَّبَات للمصور فِي أبان نَبَاته وطراوته فيصوره ثمَّ يرِيه إِيَّاه أَيْضا وَقت كَمَاله وَظُهُور بزره فيصوره تلو ذَلِك ثمَّ يرِيه إِيَّاه أَيْضا فِي وَقت ذواه ويبسه فيصوره
فَيكون الدَّوَاء الْوَاحِد يُشَاهِدهُ النَّاظر إِلَيْهِ فِي الْكتاب وَهُوَ على أنحاء مَا يُمكن أَن يرَاهُ فِي الأَرْض فَيكون تَحْقِيقه لَهُ أتم ومعرفته لَهُ أبين
الرَّد على كتاب التَّاج للغاوي فِي الْأَدْوِيَة المفردة
تعاليق لَهُ وفرائد ووصايا طبية كتب بهَا إِلَيّ
سديد الدّين بن رقيقَة
هُوَ أَبُو الثَّنَاء مَحْمُود بن عمر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن شُجَاع الشَّيْبَانِيّ الحانوي وَيعرف بِابْن رقيقَة ذُو النَّفس الفاضلة والمروءة الْكَامِلَة
وَقد جمع من صناعَة الطِّبّ مَا تفرق من أَقْوَال الْمُتَقَدِّمين وتميز على سَائِر نظرائه وَأَضْرَابه من الْحُكَمَاء والمتطببين هَذَا مَعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ من الْفطْرَة الفائقة والألفاظ الرائقة وَالنّظم البليغ وَالشعر البديع وَكَثِيرًا مَا لَهُ من الأبيات الأمثالية والفقر الْحكمِيَّة
وَأما الرجز فإنني مَا رَأَيْت فِي وقته من الْأَطِبَّاء أحدا أسْرع عملا لَهُ مِنْهُ حَتَّى أَنه كَانَ يَأْخُذ أَي كتاب شَاءَ من الْكتب الطبية وينظمه رجزا فِي أسْرع وَقت مَعَ اسْتِيفَائه للمعاني ومراعاته لحسن اللَّفْظ
ولازم الشَّيْخ فَخر الدّين مُحَمَّد بن عبد السَّلَام المارديني وَصَحبه كثيرا واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ وبغيرها من الْعُلُوم الْحكمِيَّة
وَكَانَ لسديد الدّين بن رقيقَة أَيْضا معرفَة بصناعة الْكحل(1/703)
والجراح وحاول كثيرا من أَعمال الْحَدِيد فِي مداواة أمراض الْعين
وقدح أَيْضا المَاء النَّازِل فِي الْعين الْجَمَاعَة وأنجب قدحه وأبصروا وَكَانَ المقدح الَّذِي يعانيه مجوفا وَله عطفة ليتَمَكَّن فِي وَقت الْقدح من امتصاص المَاء وَيكون العلاج بِهِ أبلغ
وَكَانَ قد اشْتغل أَيْضا بِعلم النُّجُوم وَنظر فِي حيل بني مُوسَى وَعمل مِنْهَا أَشْيَاء مستطرفة
وَكَانَ فَاضلا فِي النَّحْو واللغة
وَله أَيْضا أَخ فَاضل يُقَال لَهُ معِين الدّين أوحد زَمَانه فِي الْعَرَبيَّة وَهِي فنه وَله شعر كثير
وَسمع سديد الدّين بن رقيقَة أَيْضا شَيْئا من الحَدِيث وَمن ذَلِك حَدثنِي سديد الدّين مَحْمُود بن عمر بن مُحَمَّد الطَّبِيب الحانوي سَمَاعا من لَفظه قَالَ حَدثنِي الإِمَام الْفَاضِل فَخر الدّين مُحَمَّد بن عبد السَّلَام الْمَقْدِسِي ثمَّ المارديني قَالَ حَدثنَا الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور موهوب بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْخضر الجواليقي قَالَ أخبرنَا أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عَليّ الْخَطِيب التبريزي قَالَ حَدثنَا أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن عبيد الله الرقي قَالَ حَدثنِي الرئيس أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد البتي قَالَ حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد عبد الله الشَّافِعِي قَالَ حَدثنَا القَاضِي أَبُو إِسْحَق إِسْمَاعِيل بن إِسْحَق قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أَتَيْنَاك يَا رَسُول الله وَلم يبْق لنا جمل يئط وَلَا صبي يصطبح
ثمَّ أنْشدهُ
(أَتَيْنَاك والعذراء تدمى لثاتها ... وَقد شغلت أم الصَّبِي عَن الطِّفْل)
(وَألقى بكفيه الْفَتى لاستكانة ... من الْجُوع هونا مَا يمر وَمَا يحلى)
(وَلَا شَيْء مِمَّا يَأْكُل النَّاس عندنَا ... سوى العلهز الْعَاميّ والحنظل الفسل)
(وَلَيْسَ لنا إِلَّا إِلَيْك فرارنا ... وَأَيْنَ فرار النَّاس إِلَّا إِلَى الرُّسُل) الطَّوِيل
قَالَ الرقي العلهز الْوَبر يعالج بِدَم الْحلم والحلم القراد إِذا كبر ويؤكل فِي الجدب ويروى والعنقر بِضَم الْقَاف وَفتحهَا وَهُوَ أصل البردي فهذان صَحِيحَانِ
ويروى العقهر وَهُوَ تَصْحِيف مَرْدُود
فَقَامَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يجر رِدَاءَهُ حَتَّى رقي الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ رفع نَحْو السَّمَاء يَدَيْهِ ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا سَحا سجالا غدقا طبقًا ديما عَاجلا غير رائث نَافِعًا غير ضار تنْبت بِهِ الزَّرْع(1/704)
وتملأ بِهِ الضَّرع وتحيي بِهِ الأَرْض بعد مَوتهَا
فوَاللَّه مَا رد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَده إِلَى نَحره حَتَّى الْتَقت السَّمَاء بأرواقها وجاءه أهل البطانة يضجون يَا رَسُول الله الْغَرق الْغَرق فَأَوْمأ بطرفه إِلَى السَّمَاء وَضحك حَتَّى بَدَت نَوَاجِذه ثمَّ قَالَ اللَّهُمَّ حوالينا وَلَا علينا فانجاب السَّحَاب عَن الْمَدِينَة حَتَّى أحدق بهَا كالأكليل ثمَّ قَالَ لله در أبي طَالب لَو كَانَ حَيا قرت عَيناهُ
من ينشدنا قَوْله فَقَالَ عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام يَا رَسُول الله لَعَلَّك أردْت
(وأبيض يَسْتَسْقِي الْغَمَام بِوَجْهِهِ ... ثمال الْيَتَامَى عصمَة للأرامل)
(تَطوف بِهِ الْهَلَاك من آل هَاشم ... فهم عِنْده فِي نعْمَة وفواضل)
(كَذبْتُمْ وَبَيت الله رب مُحَمَّد ... وَلما نُقَاتِل دونه ونناضل)
(وَلَا نسلمه حَتَّى نصرع حوله ... ونذهل عَن أَبْنَائِنَا والحلائل) الطَّوِيل
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجل
ثمَّ قَامَ رجل من كنَانَة فأنشده
(لَك الْحَمد وَالْحَمْد مِمَّن شكر ... سقينا بِوَجْه النَّبِي الْمَطَر)
(دَعَا الله خالقه دَعْوَة ... إِلَيْهِ وأشخص مِنْهُ الْبَصَر)
(فَمَا كَانَ إِلَّا كَمَا سَاعَة ... وأسرع حَتَّى رَأينَا الذرر)
(دفاق العزالى وجم البعاق ... أغاث بِهِ الله عليا مُضر)
(فَكَانَ كَمَا قَالَ عَمه ... أَبُو طَالب ذَا رواء غرر)
(بِهِ يسر الله صوب الْغَمَام ... فَهَذَا العيان لذاك الْأَثر)
(فَمن يشْكر الله يلقى الْمَزِيد ... وَمن يكفر الله يلقى الْغَيْر) المتقارب
فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اجْلِسْ إِن يَك شَاعِرًا أحسن فقد أَحْسَنت
وَأَخْبرنِي سديد الدّين بن رقيقَة أَن مولده فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَخَمْسمِائة بِمَدِينَة حيني وَنَشَأ بهَا
وَلما كَانَ فَخر الدّين المارديني بِمَدِينَة حيني وصاحبها نور الدّين بن جمال الدّين بن أرتق كَانَ قد عرض لنُور الدّين مرض فِي عَيْنَيْهِ فداواه الشَّيْخ فَخر الدّين مُدَّة أَيَّام
ثمَّ عزم على السّفر وَأَشَارَ على نور الدّين ابْن ارتق بِأَن يداويه سديد الدّين بن رقيقَة فعالجه سَرِيعا وَبرا برءا تَاما وَأطلق لَهُ جامكية وجراية فِي صناعَة الطِّبّ
وَقَالَ لي سديد الدّين أَن عمره يَوْمئِذٍ كَانَ دون الْعشْرين سنة
وَاسْتمرّ فِي خدمته
ثمَّ خدم بعد ذَلِك الْملك الْمَنْصُور مُحَمَّد صَاحب حماه ابْن تَقِيّ الدّين عمر وَبَقِي مَعَه مُدَّة
ثمَّ سَافر إِلَى خلاط وَكَانَ صَاحبهَا فِي ذَلِك الْوَقْت الْملك الأوحد نجم الدّين أَيُّوب بن الْملك الْعَادِل(1/705)
أبي بكر بن أَيُّوب
وخدم صَلَاح الدّين بن ياغيسان وَكَانَ هَذَا صَلَاح الدّين قد تزوج الْملك الأوحد ابْن الْملك الْعَادِل بأخته وَكَانَ سديد الدّين بن رقيقَة يتَرَدَّد إِلَى خدمتها أَيْضا وَكَانَت كَثِيرَة الْإِحْسَان إِلَيْهِ
وَأقَام بخلاط مُدَّة إِلَى أَن توفّي الْملك الأوحد فِي ملازكرد بعلة ذَات الْجنب وَذَلِكَ فِي يَوْم السبت ثامن عشر ربيع الأول سنة تسع وسِتمِائَة
وَكَانَ يعالجه هُوَ وَصدقَة السامري
وخدم أَيْضا بعد ذَلِك الْملك الْأَشْرَف أَبَا الْفَتْح مُوسَى ابْن الْملك الْعَادِل وَأقَام بميافارقين سِنِين كَثِيرَة
وَلما كَانَ فِي ثَالِث جُمَادَى الْآخِرَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وصل سديد الدّين بن رَقِيقه إِلَى دمشق إِلَى السُّلْطَان الْملك الْأَشْرَف فَأكْرمه واحترمه
وَأمر بِأَن يتَرَدَّد إِلَى الدّور السُّلْطَانِيَّة بالقلعة وَأَن يواظب أَيْضا معالجة المرضى بالبيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي وَأطلق لَهُ جامكية وجراية
وَكَانَ لي أَيْضا فِي ذَلِك الْوَقْت مُقَرر جامكية وجراية لمعالجة المرضى فِي هَذَا البيمارستان وتصاحبنا مُدَّة فَوجدت من كَمَال مروءته وَشرف أرومته وغزارة علمه وَحسن تَأتيه فِي معرفَة الْأَمْرَاض ومداواتها مَا يفوق الْوَصْف
وَلم يزل بِدِمَشْق وَهُوَ يشْتَغل بصناعة الطِّبّ إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وَكنت أَنا قد انْتَقَلت إِلَى صرخد فِي خدمَة صَاحبهَا الْأَمِير عز الدّين المعظمي فِي شهر ربيع الأول سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وَمن شعر سديد الدّين بن رقيقَة وَهُوَ مِمَّا أَنْشدني لنَفسِهِ فَمن ذَلِك قَالَ
(يَا ملبسي بالنطق ثوب كَرَامَة ... ومكملي جواد بِهِ ومقومي)
(خذني إِذا أَجلي تناهى وانقضى ... عمري على خطّ إِلَيْك مقوم)
(واكشف بلطفك يَا إلهي غمتي ... وَأجل الصدا عَن نفس عَبدك وَارْحَمْ)
(فعساي من بعد المهانة أكتسي ... حلل المهابة فِي الْمحل الأكرم)
(وأبوء بالفردوس بعد إقامتي ... فِي منزل بَادِي السماجة مظلم)
(فقد اجتويت ثواي فِيهِ وَمن تكن ... دَار الْغرُور لَهُ محلا يسأم)
(دَار يُغَادر بؤسها وشقاءها ... من حلهَا وَكَأَنَّهُ لم ينعم)
(ويديل صافي عيشه وحياته ... كدرا فَلَا تجنح إِلَيْهَا تسلم)
(فبك المعاذ إلهنا من شَرها ... وَبِك الملاذ من الغواية فاعصم)
(وَعَلَيْك متكلي وعفوك لم يزل ... قصدي فوا خسراه إِن لم ترحم)
(يَا نفس جدي وادأبي وتمسكي ... بعرى الْهدى وعرى الْمَوَانِع فافصمي)
(لَا تهملي يَا نفس ذاتك أَن فِي ... نسيانها نِسْيَان رَبك فاعلمي)(1/706)
(وَعَلَيْك بالتفكير فِي آلائه ... لتبوئي جناته وتنعمي)
(وتيممي نهج الْهِدَايَة أَنه ... مَنْهَج وَعَن لقم الضَّلَالَة أحجمي)
(لَا تَرْتَضِي الدُّنْيَا الدنية موطنا ... تعلي على رتب السَّوَارِي الأنجم)
(وتعايني مَا لَا رَأَتْ عين وَلَا ... أذن وعت فإليه جدي تغنمي)
(وتشاهدي مَا لَيْسَ يدْرك كنهه ... بالفكر أَو بتوهم المتوهم)
(قدس يجل بِأَن يحل جنابه ... يَا نفس إِلَّا كل شهم أَيهمْ)
(وَهُوَ المنزه أَن يكون مركبا ... من رَابِع أَو ثَالِث أَو توأم)
(وتجاوري الْأَبْرَار فِي مستوطن ... لَا دائر أبدا وَلَا متهدم)
(يَا أَيهَا الْمَغْرُور شبت وَلم تعد ... عَمَّا لهجت بِهِ وَلم تتندم)
(لَا تحسبن الشيب فِيك لعِلَّة ... عرضت وَلَا لتكرج فِي البلغم)
(لَكِن شبابك كَانَ شَيْطَانا وَمن ... يَك ماردا بِالشُّهُبِ حَقًا يرْجم)
(لَا تقرن الشيب الْمُنِير رواؤه ... بظلام أَعْرَاض الشبيبة تظلم)
(فالشيب إشراق الحجى وضياؤه ... فأهن هَوَاك أَوَان شيبك تكرم)
(واعكف على تمجيد موجدك الَّذِي ... غمر الْوُجُود الْجُود مِنْهُ وَعظم)
(فبذكره تشفى النُّفُوس من الجوى ... فَعَلَيهِ أَن آثرت برءك صمم)
(اكرم بِنَفس فَتى رأى سبل الْهوى ... تهوى فَمَال إِلَى الصِّرَاط الأقوم)
(ذَاك الَّذِي يخْتَار يَوْم معاده ... ملكا سجيس الدَّهْر لم يتصرم)
(يَا جَابر الْعظم الكسير وغافر ... الجرم الْكَبِير لكل عبد مجرم)
(مَالِي إِلَيْك وَسِيلَة وذريعة ... أنجو بهَا إِلَّا اعْتِقَاد الْمُسلم)
(فَأقبل بمنك تَوْبَتِي عَن حوبتي ... فَعَسَى سَعَادَة أوبتي لم أحرم)
(حمدا لَك اللَّهُمَّ ينمى مَا جلا ... وضح الصَّباح سَواد ليل أسحم)
(وعَلى نبيك ذِي السناء وَآله ... السَّادة الْأُمَنَاء صل وَسلم)
(المذهبي سغب الْيَتِيم ومؤثري ... العاني الْأَسير بزادهم والمعدم)
(وعَلى صحابته الَّذين بنصره ... قَامُوا ونار الْكفْر ذَات تضرم) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(أَرَاك عَن الْمحل الرحب ساهي ... وَعنهُ بمضمحل الأَصْل لاهي)(1/707)
(فكم بالسجن وَيحك أَنْت زاه ... وَكم بالضيق الواهي تباهي)
(وتمنح من بِهِ يغريك ودا ... وتتهم الزواجر والنواهي)
(ألم تعلم بأنك كل يَوْم ... بِهِ تفجاك أَصْنَاف الدَّوَاهِي)
(تحل قواك جُزْءا بعد جُزْء ... وتفنى أَنْت وَالدُّنْيَا كَمَا هِيَ)
(وتحسبها صديقا وَهِي أردى ... عَدو بَين الشحناء داهي)
(همومك فِيهِ لَا تنفك تترى ... وعيشك فِيهِ عَيْش غير زاهي)
(أما يَكْفِيك زجر الشيب زجرا ... وَحسب أخي النَّهْي بالشيب ناهي)
(فعد عَنهُ إِلَى رحب فسيح ... مقامك فِيهِ لَيْسَ لَهُ تناهي)
(فحتام التغافل والتعامي ... وَكم هَذَا الجنوح إِلَى الملاهي)
(فَلَا تغتر أَن أَصبَحت فِيهِ ... أَخا مَال وَبت عريض جاه)
(فكم من أيد أضحى فأمسى ... بعيد ثرائه والأيد واهي)
(وَكَانَ يَقُول من سفه بِأَن لَا ... يصاب لَهُ شَبيه أَو مضاهي)
(فتب فَجَمِيع مَا تَأتيه يلفى ... صَغِيرا عندغفران الْإِلَه) الوافر
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(أَقُول لنَفْسي حِين أبدت تشوقا ... إِلَى الْعَالم الْأَعْلَى رويدك يَا نَفسِي)
(محالا ترومين النجَاة وَأَنت فِي ... المهالك من جنس الطبيعة والحس)
(ودونك بَحر إِن تعديت لجه ... أمنت وفزت بالخلاص من الْحَبْس)
(فَإِن رمت وصلا نَحْو سنخك فاكشفي ... غطاءك وانضي مَا عَلَيْك من اللّبْس)
(وَلَا تقبلي نَحْو الكثيف فتحرمي ... مجاورة الْأَطْهَار فِي حَضْرَة الْقُدس)
(وَلَا تتركي مَا يَأْمر الله ضلة ... فتبقي سجيس الدَّهْر فِي الشَّك واللبس)
(وَلَا تهملي يَا نفس ذاتك وأكثري ... التفكر فِيهَا واهجري كل مَا ينسي)
(وَلَا تغفلي عَن ذكرك الأول الَّذِي ... بِهِ قَامَت الأفلاك وَالْعرش والكرسي)
(وصلت على كره إِلَى الهيكل الَّذِي ... بِهِ اعتضت بالذعر الطَّوِيل عَن الْإِنْس)
(وَمَا كَانَ هَذَا الْوَصْل إِلَّا لترجعي ... منزهة بِالْعلمِ عَن وصمة الوكس)
(فَعَن أُمَم يقْضِي أيابك فاعملي ... لأخراك مَا ينجيك من ظلمَة الرمس)
(فَإِن تتركي نهج الْهدى كنت فِي غَد ... كمن بَاعَ رَأس المَال بِالثّمن البخس)
(فعودي إِلَى باريك يَا نفس ترتقي ... إِلَيْهِ وَإِلَّا دمت فِي الْعَالم المنسي)
(حليفة هم دَائِم وكآبة ... مجاورة أهل الدناءة والرجس)(1/708)
(مخلاة مَمْنُوعَة ومهانة ... مبدلة بعد التنعم بالتعس)
(مبوأة دَار الهوان مذالة ... ومحشورة فِي زمرة الصم والخرس)
(سَبِيل الْهدى يَا نفس عِنْد ذَوي النهى ... أَشد وضوحا من سنا الْبَدْر وَالشَّمْس) الطَّوِيل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(لَا يغرنك من زَمَانك بشره ... فالبشر مِنْهُ لَا محَالة حَائِل)
(فقطوبه طبع وَلَيْسَ تطبعا ... والطبع بَاقٍ والتطبع زائل) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(لست من يطْلب التكسب بالسخف ... وَلَو كنت مت عريا وجوعا)
(وَلَو أَنِّي ملكت ملك سُلَيْمَان ... لما اخْتَرْت عَن وقاري رُجُوعا) الْخَفِيف
وَقَالَ اقْتِدَاء بقول أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام انْظُر إِلَى مَا قَالَ وَلَا تنظر إِلَى من قَالَ
(لَا تكن نَاظرا إِلَى قَائِل القَوْل ... بل انْظُر إِلَيْهِ مَاذَا يَقُول)
(وَخذ القَوْل حِين تلقيه معقولا ... وَلَو قَالَه غبي جهول)
(فنباح الْكلاب مَعَ خسة فِيهَا ... على منزل الْكَرِيم دَلِيل)
(وكذاك النضار معدنه الأَرْض ... وَلكنه الخطير الْجَلِيل) الْخَفِيف
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(توق صُحْبَة أَبنَاء الزَّمَان وَلَا ... تأمن إِلَى أحد مِنْهُم وَلَا تثق)
(فَلَيْسَ يسلم مِنْهُم من تصاحبه ... طبعا من الْمَكْر والتمويه والملق) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(أرى كل ذِي ظلم إِذا كَانَ عَاجِزا ... يعف ويبدي ظلمه حِين يقدر)
(وَمن نَالَ من دُنْيَاهُ مَا كَانَ زَائِدا ... على قدره أخلاقه تتنكر)
(وكل امْرِئ تلفيه للشر مؤثرا ... فَلَا بُد أَن يلقى الَّذِي كَانَ يُؤثر) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(لما رَأَيْت ذَوي الْفَضَائِل والحجا ... لَا يُنْفقُونَ وكل فدم ينْفق)(1/709)
(ألزمت نَفسِي الْيَأْس علما أَن لي ... رَبًّا يجود بِمَا أروم ويرزق)
(ولزمت بَيْتِي واتخذت مسامري ... سفرا بأنواع الْفَضَائِل ينْطق)
(لي مِنْهُ إِنِّي جِئْته متصفحا ... عَمَّا حوى روض نضير مونق) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(مَا ضرّ خلقي أقلالي وَلَا شيمي ... وَلَا نهاني عَن نهج النهى عدمي)
(وَكَيف وَالْعلم حظي وَهُوَ أنفس مَا ... أعْطى الْمُهَيْمِن من مَال وَمن نعم)
(الْعلم بِالْفِعْلِ يزكو دَائِما أبدا ... وَالْمَال إِن أدمن الْإِنْفَاق لم يدم)
(فَالْمَال صَاحبه الْأَيَّام يَحْرُسهُ ... وَالْعلم يحرس أهليه من النقم) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(خلقت مشاركا فِي النَّوْع قوما ... وَقد خالفتهم إِذْ ذَاك شخصا)
(أُرِيد كمالهم والنفع جهدي ... وهم يَبْغُونَ لي ضرا ونقصا)
(إِذا عددت مَا فيهم عيوبا ... فقد حاولت شَيْئا لَيْسَ يُحْصى) الوافر
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(لَا تصحبن فَتى أَرَاك تكلفا ... ودا وأضمر ضد ذَاك بطبعه)
(واهجر أَخَاك إِذا تنكر وده ... فالعضو يحسم داؤه فِي قطعه) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(إِذا جَاهِل ناواك يَوْمًا بمحفل ... فَلَا ترفعن الطّرف جهدك نَحوه)
(فَإنَّك إِن سالمته كنت عَالِيا ... عَلَيْهِ وَإِن جَارِيَته كنت كفوه)
(فكم جَاهِل رام انتقاصي بجهله ... رَأَيْت سَوَاء مدحه لي وهجوه) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(إِن الْعَدو وَإِن بدا لَك ضَاحِكا ... كالشري تبدو غضة أوراقه)
(وَهُوَ الزعاف لمن تعمد أَخذه ... والمجتوي البشع الكريه مذاقه)(1/710)
(وَاعْلَم بِأَن الضِّدّ سم قربه ... والبعد عَنهُ حَقِيقَة ترياقه) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(إِذا كنت غارس غرسا جميلا ... فَلَا تعطشنه يفتك الثَّمر)
(وداوم على سقيه مَا اسْتَطَعْت ... بِمَاء السخا لَا بِمَاء الْمَطَر)
(وَلَا تتبعنه بِمن فقد ... رَأَيْنَاهُ مفْسدَة للشجر) المتقارب
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(جَانب طباعا بني الدُّنْيَا فقربهم ... يجدي المكاره إِن ضنوا وَإِن جادوا)
(فَالنَّاس ينْدر فيهم من إِذا عرض ... عرَاك من فِيهِ إسعاد وانجاد)
(وَلَا تهن إِن حماك الدَّهْر جدك ... فالأحرار عِنْد انحراف الدَّهْر انجاد)
(واطو الفلا طَالبا نيل العلى أبدا ... وَلَا يهولنك أغوار وانجاد) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(وَإِن أَشد أهل الأَرْض حزنا ... وغما مِنْهُمَا لَا يستفيق)
(كريم حل مَوْضِعه الْمُعَلَّى ... سواهُ وَأَنه لبه الخليق) الوافر
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(وضع العوارف عِنْد النذل يتبعهُ ... على معاودة الألحاح فِي الطّلب)
(وَيحمل الْفَاضِل الطَّبْع الْكَرِيم على ... حسن الْجَزَاء لمولى الْعرف عَن كثب)
(فَالنَّاس كالأرض تسقى وَهِي وَاحِدَة ... عذبا وتنبت مثل الشري وَالرّطب) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(وَإِنِّي امْرُؤ بالطبع الغي مطامعي ... وازجر نَفسِي طابعا لَا تطبعا)
(وَعِنْدِي غنى نفس وَفضل قناعة ... وَلست كمن إِن ضَاقَ ذرعا تضرعا)
(وَإِن مد نَحْو الزَّاد قوم أكفهم ... تَأَخَّرت باعا إِن دنا الْقَوْم اصبعا)
(ومذ كَانَت الدُّنْيَا لدي دنيئة ... تعرضت للأعراض عَنْهَا ترفعا)
(وَذَاكَ لعلمي إِنَّمَا الله رَازِق ... فَمن غَيره أَرْجُو وأخشى وأجزعا)
(فَلَا الضعْف يقصي الرزق إِن كَانَ دانيا ... وَلَا الْحول يُدْنِيه إِذا مَا تجزعا)(1/711)
(فَلَا تبطرن إِن نلْت من دهرك الْغنى ... وَكن شامخا بالأنف إِن كنت مدقعا)
(فَقدر الْفَتى مَا حازه وأفاده ... من الْعلم لَا مَال حواه وجمعا)
(فَكُن عَالما فِي النَّاس أَو متعلما ... وَإِن فاتك القسمان أصغ لتسمعا)
(وَلَا تَكُ للأقسام مَا اسطعت رَابِعا ... فتدرأ عَن ورد النجَاة وتدفعا) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(إِذا كَانَ رزق الْمَرْء عَن قدر أَتَى ... فَمَا حرصه يُغْنِيه فِي طلب الرزق)
(كَذَا مَوته إِن كَانَ ضَرْبَة لازب ... فأخلاده نَحْو الدنا غَايَة الْحمق)
(فَإِن شِئْت أَن تحيا كَرِيمًا فَكُن فَتى ... يؤوسا فَإِن الْيَأْس من كرم الْخلق)
(فيأس الْكَرِيم الطَّبْع حُلْو مذاقه ... لَدَيْهِ إِذا مَا رام مَسْأَلَة الْخلق)
وَقَالَ أَيْضا
(أرى وجودك هَذَا لم يكن عَبَثا ... إِلَّا لتكمل مِنْك النَّفس فانتبه)
(فاعدل عَن الْجِسْم لَا تقبل عَلَيْهِ ومل ... إِلَى رِعَايَة مَا الْإِنْسَان أَنْت بِهِ)
(فمؤيس النَّفس عَن أهوائها يقظ ... ومطمع النَّفس فِيهَا غير منتبه)
(فاسلك سَبِيل الْهدى تحمد مغبته ... فمنهج الْحق باد غير مشتبه) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(كن محسنا طبعا إِلَى ... من بدل الْحسنى مساءه)
(وَاشْفَعْ بإسداء الْجَمِيل ... صباحه أبدا مساءه)
(فَلَعَلَّهُ أَن ينثني ... ويحول عَن حَال الإساءه)
(فالحر يذكر من أَخِيه ... الْخَيْر لَا مَا مِنْهُ سَاءَهُ)
(فلكم مسيء رده الْإِحْسَان ... عَن ورد الرداءه)
(فصفا وَفَاء إِلَى الْوَفَاء ... وصير الْحسنى رِدَاءَهُ)
(فَإِذا منيت بمائن ... فِي الود لم يحسن أداءه)
(فأصدقه علك أَن تزيل ... بِصدق ودك عَنهُ داءه) الْكَامِل المرفل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(كن مُجملا فِيمَا تَقول وَلَا تقل ... قولا يهجنه بذا وَفَسَاد)(1/712)
(فجامعة الْحُكَمَاء قبلك دأبهم ... كَانَ الْجَمِيل من الْمقَال فسادوا) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(وَمَا صَاحب السُّلْطَان إِلَّا كراكب ... بلجة بَحر فَهُوَ يستشعر الْغَرق)
(فَإِن عَاد مِنْهُ سَالم الْجِسْم ناجيا ... فَمَا نَفسه فِيهِ يفارقها الْفرق) الطَّوِيل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(يَا نَاظرا فِيمَا قصدت لجمعه ... اعذر فَإِن أَخا الْفَضِيلَة يعْذر)
(علما بِأَن الْمَرْء لَو بلغ المدى ... فِي الْعُمر لَاقَى الْمَوْت وَهُوَ مقصر) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ مِمَّا كتبه على كأس فِي وَسطه طَائِر على قبَّة مخرمَة إِذا قلب فِي الكاس مَاء دَار دورانا سَرِيعا وصفر صفيرا قَوِيا
وَمن إِذا وقف بإزائه الطَّائِر حكم عَلَيْهِ بالشرب فَإِذا شربه وَترك فِيهِ شَيْئا من الشَّرَاب صفر الطَّائِر وَكَذَلِكَ لَو شربه فِي مائَة مرّة فَمَتَى شرب جَمِيع مَا فِيهِ وَلم يبْق فِيهِ دِرْهَم وَاحِد فَإِن صفيره يَنْقَطِع
(أَنا طَائِر فِي هَيْئَة الزرزور ... مستحسن التكوين والتصوير)
(فَاشْرَبْ على نغمي سلاف مدامة ... صرفا تنير حنادس الديجور)
(صفراء تلمع فِي الكؤوس كَأَنَّهَا ... نَار الكليم بَدَت بِأَعْلَى الطّور)
(وَإِذا تخلف من شرابك درهما ... فِي الكلس نم بِهِ عَلَيْك صفيري) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ وَصِيَّة طبية
(توق الامتلاء وعد عَنهُ ... وَإِدْخَال الطَّعَام على الطَّعَام)
(وإكثار الْجِمَاع فَإِن فِيهِ ... لمن وَالَاهُ دَاعِيَة السقام)
(وَلَا تشرب عقيب الْأكل مَاء ... فتسلم من مضرات عِظَام)
(وَلَا عِنْد الخوى والجوع حَتَّى ... تلهن باليسير من الأدام)
(وَخذ مِنْهُ الْقَلِيل فَفِيهِ نفع ... لذِي الْعَطش المبرح والأوام)
(وهضمك فاصلحنه فَهُوَ أصل ... واسهل بالإبارج كل عَام)(1/713)
(وفصد الْعرق نكب عَنهُ إِلَّا ... لذِي مرض رطيب الطَّبْع حامي)
(وَلَا تتحركن عقيب أكل ... وصير ذَاك بند الانهضام)
(لِئَلَّا ينزل الكيلوس فجا ... فيلحج فِي المنافذ والمسام)
(وَلَا تدم السّكُون فَإِن مِنْهُ ... تولد كل خلط فِيك خام)
(وقلل مَا اسْتَطَعْت المَاء بعد ... الرياضة واجتنب شرب المدام)
(وَعدل مزج كأسك فَهِيَ تبقي ... الْحَرَارَة فِيك دائمة الضرام)
(وخل السكر واهجره مَلِيًّا ... فَإِن السكر من فعل الظغام)
(وَأحسن صون نَفسك عَن هَواهَا ... تفز بالخلد فِي دَار السَّلَام) الوافر
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(غَرَض الطِّبّ يَا أَخا اللب عرفان ... مبادي أبداننا وَالْأُصُول)
(قيل حالاتها وَمَا توجب الْحَالَات ... فِيهَا وَمَا لَهَا من دَلِيل)
(لتدوم الْأَبدَان مَوْجُودَة الصِّحَّة ... منا وَذَاكَ بالتعديل)
(وتزال الْأَمْرَاض إِن أمكن الْحَال ... وَذَا بالإفراغ والتبديل) الْخَفِيف
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(إِن الْغذَاء وَإِن كَانَ الصّديق لما ... هُوَ الْمُدبر أَعنِي قُوَّة الوصب)
(فَهُوَ الْعَدو لَهَا أَيْضا لِأَن بِهِ ... زِيَادَة الضِّدّ أَعنِي عنصر الوصب) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(علل الصِّحَّة حَقًا سِتَّة ... وَهِي أَيْضا علل للمرض)
(فَإِذا عدلتها فِي أَربع ... كَانَ ذَا التَّعْدِيل أنهى للغرض) الرمل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(إِذا مَا اشْتهى ذُو عِلّة بعض مَا بِهِ ... شِفَاء من الدَّاء الَّذِي جِسْمه حلا)
(فَلَا تمنعنه مَا اشتهاه فَرُبمَا ... ترَاهُ وشيكا عقدَة الدَّاء قد حلا)
(وَكَانَ كَمَا قد قيل فِي مثل مَا جرى ... من السعد أَن يلقى هوى صَادف العقلا) الطَّوِيل(1/714)
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(وأهيف الْقد قاني الخد تيمني ... وَفِي بحار الأسى الفاني ألقاني)
(لَو حل فِي الْقلب ثَان غَيره وثنى ... عَنهُ هواي ثنيت الثَّانِي الثَّانِي)
(وَلَو جنيت جنى مَا كَانَ غارسه ... فِيهِ هَوَاهُ لَكُنْت الْجَانِي الْجَانِي)
(وَلَو وَحقّ هَوَاهُ زار فِي حلمي ... خياله موهنا ألفاني الفاني)
(ألغى ودادي ومغناه الْفُؤَاد فَهَل ... لي من مجير وَقد ألغاني الغاني) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(ومهفهف ساجي اللواحظ أوردا ... عشاقه بدلاله ورد الردى)
(تخذ العذار مفاضة تحميه من ... عين الْمُحب ولحظ مقلته ردا)
(لَو كَانَ أوردني برود رضابه ... لم يصبح السقم المبرح لي ردا)
(إِن مَاس أودى بالقضيب تأودا ... أَو لَاحَ أزرى بالهلال إِذا بدا)
(مَا شمت شامة خَدّه إِلَّا سَطَا ... بمهند من مقلتيه وعربدا)
(أَو رمت من حبيه يَوْمًا سلوة ... إِلَّا وَقَالَ طلبت مَسْأَلَة البدا) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(أَيهَا الشادن الَّذِي طَابَ هتكي ... وافتضاحي بعد الصيانة فيكا)
(عِلّة الجفن فِيك عِلّة سقمي ... وشفاي ارتشاف خمرة فيكا)
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ يمدح صَلَاح الدّين مُحَمَّد بن باغيبسان
(ومدلل ساجي الجفون مهفهف ... جمع الملاحة ذُو الْجلَال لَدَيْهِ)
(وأحلها فِيهِ فاصبح رَبهَا ... وأمال أَفْئِدَة الْأَنَام إِلَيْهِ)
(من جفْنه سيف الصّلاح مُحَمَّد ... باد وَمن جفني سحب يَدَيْهِ) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ يهنئ الصاحب جلال الدّين أَبَا الْفَتْح مُحَمَّد بن نباتة بِبِنَاء دَاره
(يَا أَيهَا الصاحب الصَّدْر الْكَبِير جلال ... الدّين ابْن الْكِرَام السَّادة الشرفا)
(بنيت دَارا على الجوزاء مشرفة ... كَمَا قَدِيما بنيت الْمجد والشرفا)
(دَامَت مَحل سرُور لَا يحول وَلَا ... زَالَت رُؤُوس أعاديكم لَهَا شرفا)
(شرفت أصلا وأخلاقا وشنشنة ... فلست مِمَّن بِأَصْل وَحده شرفا) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ وَقد كتبهَا لي شَيْخه فَخر الدّين مُحَمَّد بن عبد السَّلَام المارديني(1/715)
(يَا سائقا نَحْو ميا فارقين أنخ ... بهَا الركاب وَبلغ بعض أشواقي)
(وَمَا أعانيه من وجد وَمن كمد ... ولوعة وصبابات وإيراق)
(إِلَى الَّذِي فاق أَبنَاء الزَّمَان نهى ... ومحتدا وثناهم طيب أعراق)
(وَقل محب لكم قد شفه مرض ... وَمَا سواك لَهُ من دائه راقي)
(صل الطبيعة لَا يَنْفَكّ يلذعه ... فاصرف نكايته عَنهُ بترياق)
(شطر الْحَيَاة مضى وَالنَّفس نَاقِصَة ... فَكُن مكملها فِي شطرها الْبَاقِي)
(فَأَنت أولى بتهذيبي وتبصرتي ... بِمَا يهذب أوصافي وأخلاقي)
(وَمَا يخلص نَفسِي من موانعها الْوُصُول ... عِنْد التفاف السَّاق بالساق)
(مشكاة ذهني قد أمست زجاجتها ... صديئة فأجلها بِالْوَاحِدِ الواقي)
(ورو مصباحها من زَيْت علمك كي ... تعود بعد انطفاء ذَات إشراق)
(حبس الطبيعة قد طَال الثواء بِهِ ... فها أَنا متوخ مِنْك إطلاقي)
(فاحلل حبائل أشراك الشواغل عَن ... جيدي وجد لي من رقي باعتاقي)
(لَعَلَّ نَفسِي أَن ترقى مهذبة ... عِنْد الْفِرَاق إِذا مَا قيل من راقي)
(وتغتدي فِي نعيم لَا انْتِهَاء لَهُ ... وَلَا فنى فِي جوَار الْوَاحِد الْبَاقِي) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ يرثي ولدا لَهُ
(بني لقد غادرت بَين جوانحي ... لفقدك نَارا حرهَا يتسعر)
(واغربت بالأجفان بعد رقادها ... سهادا فَلَنْ تنفك بعْدك تسهر)
(فلست أُبَالِي حِين بنت بِمن ثوى ... وَلم أر من أخْشَى عَلَيْك وَاحْذَرْ)
(وَقَالَ أنَاس يصغر الْحزن كلما ... تَمَادى وحزني الدَّهْر ينمى وَيكبر)
(وَكنت صبورا عِنْد كل ملمة ... تلم فمذ أرديت عز التصبر)
(كملت فوافتك الْمنون وَهَكَذَا ... يوافي الخسوف الْبَدْر أبان يبدر) الطَّوِيل
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ فِي غَرَض
(تقربت بالإطراء بالشعر مُدَّة ... إِلَيْكُم وبالتنجيم والنحو والطب)
(وأبدعت آلَات النُّجُوم وَغَيرهَا ... وأعربت عَمَّا اعتاص من لُغَة الْعَرَب)
(وَحدثت أَخْبَار النَّبِي وَمَا أَتَى ... بِهِ الْحُكَمَاء الْقدَم قبلي فِي الْكتب)
(وعاملتكم بِالصّدقِ فِيمَا أقوله ... وَلم آل جهدا فِي النَّصِيحَة وَالْحب)
(فَلم اكْتسب شَيْئا سوى االبؤس والعنا ... وإنفاق عمري بئس ذَلِك من كسب)
(بِكُل تداوينا فَلم يشف مَا بِنَا ... إِلَّا أَن بعد الدَّار خير من الْقرب)(1/716)
(أَلا إِن بعد الدَّار لَيْسَ بضائر ... إِذا كَانَ من تغشاه لَيْسَ بِذِي لب)
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(قيل لي لم هجوت نجل فلَان ... الْكَلْب بل لم أوغلت فِيهِ المثاقب)
(وأولو الْفضل لَا يرَوْنَ هجاء ... قطّ إِلَّا لذِي حجى ومناقب)
(قلت إِنِّي سخطت يَوْمًا على ... شعري فقابلت بِهِ كالمعاقب) الْخَفِيف
وأنشدني أَيْضا لنَفسِهِ
(قَالُوا خليق بالطبيب بِأَن يرى ... بالطبع يعْدم رونقا وجمالا)
(صدقُوا وَلَكِن لَا إِلَى حد بِهِ ... يُؤْذِي الْمَرِيض ويفزع الأطفالا) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(أيا فَاعِلا خل التطبب واتئد ... فكم تقتل المرضى الْمَسَاكِين بِالْجَهْلِ)
(فتركيب أجسام الْأَنَام مُؤَجل ... فَلم لَا كلاك الله تعجل بِالْحلِّ)
(كَأَنَّك يَا هَذَا خلقت موكلا ... على رَجَعَ أَرْوَاح الْأَنَام إِلَى الأَصْل)
(بهرت الوبا إِذْ قَتلك النَّاس دَائِما ... وَذَلِكَ فِي الأحيان يحدث فِي فصل)
(كفى الوصب الْمِسْكِين شخصك قَاتلا ... إِذا عدته قبل التَّعَرُّض للْفِعْل) الطَّوِيل
ولسديد الدّين بن رقيقَة من الْكتب كتاب لطف السَّائِل وتحف الْمسَائِل وَهَذَا الْكتاب قد نظم فِيهِ مسَائِل حنين
كليات القانون لَا بن سينا رجزا ومعاني أخر ضَرُورِيَّة يحْتَاج إِلَيْهَا فِي صناعَة الطِّبّ وَشرح هَذَا الْكتاب وَله أَيْضا عَلَيْهِ حواش مفيدة
كتاب مُوضحَة الِاشْتِبَاه فِي أدوية الباه كتاب الفريدة الشاهية وَالْقَصِيدَة الباهية وَهَذِه القصيدة صنعها بميافارقين فِي سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة للْملك الْأَشْرَف شاه أرمن مُوسَى بن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَذكر لي أَنه نظمها فِي يَوْمَيْنِ وَهِي بَيت وصنع لَهَا أَيْضا شرحا مستقصى بليغا فِي مَعْنَاهُ
كتاب قانون الْحُكَمَاء وفردوس الندماء
كتاب الْغَرَض الْمَطْلُوب فِي تَدْبِير الْمَأْكُول والمشروب
مقَالَة مسَائِل وأجوبتها فِي الحميات
أرجوزة فِي الفصد
صَدَقَة السامري
هُوَ صَدَقَة بن منجا بن صَدَقَة السامري من الأكابر فِي صناعَة الطِّبّ والمتميزين من أَهلهَا والأماثل من أَرْبَابهَا
كَانَ كثير الِاشْتِغَال محبا للنَّظَر والبحث وافر الْعلم جيد الْفَهم قَوِيا فِي(1/717)
الفلسفة حسن الدِّرَايَة لَهَا متقنا لغوامضها
وَكَانَ يدرس صناعَة الطِّبّ وينظم متوسطا وَرُبمَا ضمنه ملحا من الْحِكْمَة وَأكْثر مَا كَانَ يَقُوله دوبيت
وَله تصانيف فِي الْحِكْمَة وَفِي الطِّبّ
وخدم الْملك الْأَشْرَف مُوسَى ابْن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَبَقِي مَعَه سِنِين كَثِيرَة فِي الشرق إِلَى أَن توفّي فِي الْخدمَة
وَكَانَ الْملك الْأَشْرَف يحترمه غَايَة الاحترام ويكرمه كل الْإِكْرَام ويعتمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ وَله مِنْهُ الجامكية الوافرة والصلات المتواترة
وَتُوفِّي صَدَقَة بِمَدِينَة حران فِي سنة نَيف وَعشْرين وسِتمِائَة وَخلف مَالا جزيلا وَلم يكن لَهُ ولد
وَمن كَلَامه مِمَّا نقلته من خطه قَالَ الصَّوْم منع الْبدن من الْغذَاء وكف الْحَواس عَن الخطاء والجوارح عَن الآثام
وَهُوَ كف الْجَمِيع عَمَّا يلهي عَن ذكر الله
وَقَالَ اعْلَم أَن جَمِيع الطَّاعَات ترى إِلَّا الصَّوْم لَا يرَاهُ إِلَّا الله فَإِنَّهُ عمل فِي الْبَاطِن بِالصبرِ الْمُجَرّد
وللصوم ثَلَاث دَرَجَات صَوْم الْعُمُوم وَهُوَ كف الْبَطن والفرج عَن قَضَاء الشَّهْوَة وَصَوْم الْخُصُوص وَهُوَ كف السّمع وَالْبَصَر وَاللِّسَان وَسَائِر الْجَوَارِح عَن الآثام وَأما صَوْم خُصُوص الْخُصُوص فصوم الْقلب عَن الهمم الدنية والأفكار الدنياوية وكفه عَمَّا سوى الله تَعَالَى
وَقَالَ مَا كَانَ من الرطوبات الْخَارِجَة من الْبَاطِن لَيْسَ مستحيلا وَلَيْسَ لَهُ مقرّ فَهُوَ طَاهِر كالدمع والعرق واللعاب والمخاط
وَأما مَا لَهُ مقرّ وَهُوَ مُسْتَحِيل فَهُوَ نجس كالبول والروث
وَقَالَ اعْلَم أَن الْوَزير مُشْتَقّ اسْمه من حمل الْوزر عَمَّن خدمه وَحمل الْوزر لَا يكون إِلَّا بسلامة من الْوَزير فِي خلقته وخلائقه
أما فِي خلقته فَإِن يكون تَامّ الصُّورَة حسن الْهَيْئَة متناسب الْأَعْضَاء صَحِيح الْحَواس وَأما فِي خلائقه فَهُوَ أَن يكون بعيد الهمة سامي الرَّأْي ذكي الذِّهْن جيد الحدس صَادِق الفراسة رحب الصَّدْر كَامِل الْمُرُوءَة عَارِفًا بموارد الْأُمُور ومصادرها
فَإِذا كَانَ كَذَلِك كَانَ أفضل عدد المملكة لِأَنَّهُ يصون الْملك عَن التبذل وَيَرْفَعهُ عَن الدناءة ويغوص لَهُ على الفرصة
ومنزلته منزلَة الْآلَة الَّتِي يتَوَصَّل بهَا إِلَى نيل البغية ومنزلة السُّور الَّذِي يحرز الْمَدِينَة من دُخُول الآفة ومنزلة الْجَارِح الَّذِي يصيد لطعمة صَاحبه
وَلَيْسَ كل أحد يصلح لهَذِهِ الْمنزلَة يصلح لكل سُلْطَان مَا لم يكن مَعْرُوفا بالإخلاص لمن خدمه والمحبة لمن استخصه والإيثار لمن قربه
وَقَالَ صَبر الْعَفِيف ظريف
وَمن شعره قَالَ
(سلوه لما صدني تيها وَلم هجرا ... وأورث الجفن بعد الرقدة السهرا)
(وَقد جفاني بِلَا ذَنْب وَلَا سَبَب ... وَقد وفيت بميثاقي فَلم غدرا)
(يَا للرِّجَال قفوا واستشرحوا خبري ... مني فغيري لم يصدقكم خَبرا)
(إِن لنت ذلا قسا عزا عَليّ وَإِن ... دانيته بَان أَو آنسته نَفرا)(1/718)
(هَذَا هُوَ الْمَوْت عِنْدِي كَيفَ عنْدكُمْ ... هَيْهَات أَن يَسْتَوِي الصادي وَمن صَدرا) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(يَا وَارِثا عَن أَب وجد ... فَضِيلَة الطِّبّ والسداد)
(وضامنا رد كل روح ... هَمت عَن الْجِسْم بالبعاد)
(اقْسمْ لَو كَانَ طب دهرا ... لعاد كونا بِلَا فَسَاد) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(فَإِذا قَرَأت كَلَامه قدرته ... سحبان أَو يُوفي على سحبان)
(لَو كَانَ شَاهده معد خاطبا ... أَو ذُو الفصاحة من بني قحطان)
(لاقر كل طائعين بِأَنَّهُ ... أولاهم بفصاحة وَبَيَان)
(رب الْعُلُوم إِذا أجال قداحه ... لم يخْتَلف فِي فوزهن اثْنَان)
(ذُو فطنة فِي المشكلات وخاطر ... أمضى وأنفذ من شباة سِنَان)
(فَإِذا تفكر عَالم فِي كتبه ... يَنْفِي التقى وشرائط الْإِيمَان)
(أضحت وُجُوه الْحق فِي صفحاتها ... ترمي إِلَيْهِ بواضح الْبُرْهَان)
(وَدلَالَة تجلو بطالع بشرها ... عز القرائح من ذَوي الأذهان) الْكَامِل
وَوجدت بِخَطِّهِ أَيْضا فِي الْحَاشِيَة هَذَا الْبَيْت وَهُوَ متكرر القافية
(من حجَّة ضمن الْوَفَاء بنصرها ... نَص الْقيَاس وواضح الْبُرْهَان)
وَكَأَنَّهُ كتبه عوضا عَن الْبَيْت الَّذِي أَوله أضحت وُجُوه
وَقَالَ يهجو
(درى ومولاته وسيده ... حُدُود شكل الْقيَاس مَجْمُوعه)
(وَالسَّيِّد فَوق الِاثْنَيْنِ منحمل ... والست تَحت الِاثْنَيْنِ مَوْضُوعه)
(وَالْعَبْد مَحْمُول ذِي وحامل ذَا ... لحُرْمَة بَينهُنَّ مرفوعه)
(ذَاك قِيَاس جَاءَت نتيجته ... قرينَة فِي دمشق مطبوعه) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(يَا ابْن قسيم أَصبَحت تنتحل ... النَّحْو ودعواك فِيهِ منحوله)(1/719)
(أمك مَا بالها فَقل وأجب ... مَرْفُوعَة السَّاق وَهِي مَفْعُوله)
(فاعلها الأير وَهُوَ منتصب ... مسَائِل قد آتتك مجهوله)
(وَالْعين عطل وَعين عصعصها ... بِنُقْطَة الخصيتن مشكوله) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(شيخ لنا من عظمه داهيه ... مَا مثله فِي الْأُمَم الخاليه)
(مهندس فِي طول أَيَّامه ... مَعَ قصره يبتلع الساريه)
(مثلث يدعمه قَائِم ... لِأَنَّهُ منفرج الزاوية) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(يَا شمس علا بأبرج السعد تسير ... الْعَالم فِي عظم معالك يسير)
(مَا زلت كَذَا ملكك بِالْعَدْلِ تسير ... فِينَا وَتَفُك بالندى كل أَسِير) دوبيت
وَقَالَ أَيْضا
(يَا سائلي عَن صِفَات مِنْهَا دائي ... اسْمَع نكتا وخلني مَعَ رائي)
(فِي ريقتها سلافة الصَّهْبَاء ... فِي جبهتها كواكب الجوزاء) الدوبيت
وَقَالَ أَيْضا
(مَا لَاحَ لناظري من الْعين عُيُون ... إِلَّا وَجَرت من أدمعي فيض عُيُون)
(غزلان نقا بَين أَرَاك وغصون ... أعرضن عني فزدن مَا بِي جُنُون) الدوبيت
وَقَالَ أَيْضا
(بِاللَّه عَلَيْكُمَا ألما وَسَلاهُ ... كم يقتلني ويحسب الْقلب سلاه)
(قد أوعد بالوفا فَإِن خَان وفاه ... قبلت جَبينه وَعَيْنَيْهِ وفاه) الدوبيت
وَقَالَ أَيْضا
(الراح بَدَت بريحها الريحاني ... ثمَّ افتخرت بلطفها الروحاني)
(لما سطعت بنورها النوراني ... رقت وصفت خلائق الْإِنْسَان) الدوبيت
وَقَالَ أَيْضا
(أنفي نكد الزَّمَان بالأقداح ... فالراح قوام جَوْهَر الْأَرْوَاح)(1/720)
(فَمَا يفلح من يظل يَوْمًا صاحي ... أَو يسمع من زخارف النصاح) الدوبيت
وَقَالَ أَيْضا
(أطفئ نكد الْعَيْش بِمَاء وشراب ... فالدهر كَمَا ترى خيال وسراب)
(واغنم زمن اللَّذَّة بَين الأتراب ... فالجسم مصيره كَمَا كَانَ تُرَاب) الدوبيت
وَقَالَ أَيْضا
(الراح هِيَ الرّوح فواصل يَا صَاح ... صفراء بلطفها تنَافِي الأتراح)
(لَوْلَا شَبكَ يصيدها فِي الأقداح ... طارت فَرحا إِلَى مَحل الْأَرْوَاح)
ولصدقة السامري من الْكتب شرح التَّوْرَاة
كتاب النَّفس
تعاليق فِي الطِّبّ ذكر فِيهَا الْأَمْرَاض وعلاماتها
شرح كتاب الْفُصُول لأبقراط لم يتم
مقَالَة فِي أسامي الْأَدْوِيَة المفردة
مقَالَة أجَاب فِيهَا عَن مسَائِل طبية سَأَلَهُ عَنْهَا الأسعد الْمحلي الْيَهُودِيّ
مقَالَة فِي التَّوْحِيد وسمها كتاب الْكَنْز فِي الْفَوْز
كتاب الِاعْتِقَاد
مهذب الدّين يُوسُف بن أبي سعيد ...
هُوَ الشَّيْخ الإِمَام الْعَالم الصاحب الْوَزير مهذب الدّين يُوسُف بن أبي سعيد بن خلف السامري
قد أتقن الصِّنَاعَة الطبية وتميز فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة واشتغل بِعلم الْأَدَب وَبلغ فِي الْفَضَائِل أَعلَى الرتب
وَكَانَ كثير الْإِحْسَان غزير الامتنان فَاضل النَّفس صائب الحدس
وَقَرَأَ صناعَة الطِّبّ على الْحَكِيم إِبْرَاهِيم السامري الْمَعْرُوف بشمس الْحُكَمَاء
وَكَانَ هَذَا شمس الْحُكَمَاء فِي خدمَة الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف وَقَرَأَ أَيْضا على الشَّيْخ إِسْمَاعِيل بن أبي الْوَقار الطَّبِيب
وَقَرَأَ على مهذب الدّين بن النقاش
وَقَرَأَ الْأَدَب على تَاج الدّين النكدي أبي الْيمن
وتميز فِي صناعَة الطِّبّ واشتهر بِحسن العلاج والمداواة
وَمن حسن معالجاته أَنه كَانَت سِتّ الشَّام أُخْت الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب قد عرض لَهَا دوسنطاريا كبدية وَتَرْمِي كل يَوْم دَمًا كثيرا
والأطباء يعالجونها بالأدوية الْمَشْهُورَة لهَذَا الْمَرَض من الْأَشْرِبَة وَغَيرهَا
فَلَمَّا حضرها وجس نبضها قَالَ للْجَمَاعَة يَا قوم مَا دَامَت الْقُوَّة قَوِيَّة أعطوها الكافور ليصلح كَيْفيَّة هَذَا الْخَلْط الحاد الَّذِي فعل هَذَا الْفِعْل وَأمر بإحضار كافور قيصوري وسقاها مَعَ حليب بزر بقلة محمصة وشراب رمان وصندل فتقاصر عَنْهَا الدَّم وحرارة الكبد الَّتِي كَانَت وسقاها أَيْضا مِنْهُ ثَانِي يَوْم فَقل أَكثر ولاطفها بعد ذَلِك إِلَى أَن تَكَامل برؤها وصحلت
وحَدثني بعض جمَاعَة الصاحب بن شكر وَزِير الْملك الْعَادِل قَالَ كَانَ قد عرض للصاحب ألم فِي ظَهره عَن برد(1/721)
فَأتى إِلَيْهِ الْأَطِبَّاء فوصف بَعضهم مَعَ إصْلَاح الأغذية بغلي يسير جندبيدستر مَعَ زَيْت ويدهن بِهِ
وَقَالَ آخر دهن بابونج ومصطكى
فَقَالَ الْمصلحَة أَن يكون عوض هَذِه الْأَشْيَاء شَيْء ينفع مَعَ طيب رَائِحَة فأعجب الصاحب قَوْله وَأمر مهذب الدّين يُوسُف بإحضار غَالِيَة ودهن بَان فَحل ذَلِك على النَّار ودهن بِهِ الْموضع فَانْتَفع بِهِ
وخدم مهذب الدّين يُوسُف بصناعة الطِّبّ لعز الدّين فرخشاه ابْن شاهان شاه بن أَيُّوب وَلما توفّي عز الدّين فرخشاه رَحمَه الله وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَسبعين وَخَمْسمِائة خدم بعده لوَلَده الْملك الأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن عز الدّين فرخشاه بصناعة الطِّبّ وَأقَام عِنْده ببعلبك وحظي فِي أَيَّامه ونال من جِهَته من الْأَمْوَال وَالنعَم شَيْئا كثيرا
وَكَانَ يستشيره فِي أُمُوره ويعتمد عَلَيْهِ فِي أَحْوَاله
وَكَانَ الشَّيْخ مهذب الدّين حسن الرَّأْي وافر الْعلم جيد الْفطْرَة
فَكَانَ يستصوب آراءه ويشكر مقاصده
ثمَّ استوزره واشتغل بالوزارة وارتفع أمره وارتقت مَنْزِلَته عِنْده حَتَّى صَار هُوَ الْمُدبر لجَمِيع الدولة وَالْأَحْوَال بأسرها لَا تعدل عَن أمره وَنَهْيه
وَلذَلِك قَالَ فِيهِ الشَّيْخ شهَاب الدّين فتيَان
(الْملك الأمجد الَّذِي شهِدت ... لَهُ جَمِيع الْمُلُوك بِالْفَضْلِ)
(أصبح فِي السامري مُعْتَقدًا ... مَا اعْتقد السامري فِي الْعجل) المنسرح
أَنْشدني هذَيْن الْبَيْتَيْنِ شمس الدّين مُحَمَّد بن شهَاب الدّين فتيَان قَالَ أنْشد فيهمَا وَالِدي لنَفسِهِ
أَقُول وَلم تزل أَحْوَال الشَّيْخ مهذب الدّين على سننها وعلو مَنْزِلَته على كيانها حَتَّى كثرت الشكاوي من أَهله وأقاربه السمرَة فَإِنَّهُ كَانَ قد جَاءَهُ إِلَى بعلبك جمَاعَة مِنْهُم من دمشق واستخدمهم فِي جَمِيع الْجِهَات وَكثر مِنْهُم العسف وَأكل الْأَمْوَال وَالْفساد
وَكَانَ لَهُ الجاه العريض بالوزير مهذب الدّين السامري فَلَا يقدر أحد أَن يقاومهم بِالْجُمْلَةِ
فَإِن الْملك الأمجد لما تحقق أَن الْأَمْوَال قد أكلوها وَكثر فسادهم ولامته الْمُلُوك فِي تَسْلِيم دولته للسمرة قبض على الْمُهَذّب السامري وعَلى جَمِيع السمرَة المستخدمين واستقصى مِنْهُم أَمْوَال عَظِيمَة
وَبَقِي الْوَزير معتقلا عِنْده مُدَّة إِلَّا أَن لم يبْق لَهُ شَيْء يعْتد بِهِ
ثمَّ أطلقهُ وَجَاء إِلَى دمشق ورأيته فِي دَاره
وَلما جَاءَ من بعلبك وَكنت مَعَ أبي لنسلم عَلَيْهِ فَوَجَدته شَيخا حسنا فصيح الْكَلَام لطيف الْمعَانِي
وَمَات بعد ذَلِك وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْخَمِيس مستهل صفر سنة أَربع وَعشْرين وسِتمِائَة بِدِمَشْق
وَمن شعر مهذب الدّين يُوسُف
(إِن سَاءَنِي الدَّهْر يَوْمًا ... فَإِنَّهُ سر دهرا)
(وَإِن دهاني بِمَال ... فقد تعوضت أجرا)
(الله أغْنى وأقنى ... وَالْحَمْد لله شكرا) الْبَسِيط(1/722)
ولمهذب الدّين يُوسُف بن أبي سعيد من الْكتب شرح التَّوْرَاة
الصاحب أَمِين الدولة
هُوَ الصاحب الْوَزير الْعَالم الْعَامِل الرئيس الْكَامِل أفضل الوزراء سيد الْحُكَمَاء إِمَام الْعلمَاء أَمِين الدولة أَبُو الْحسن بن غزال بن أبي سعيد
كَانَ سامريا وَأسلم ولقب بِكَمَال الدّين
وَكَانَ مهذب الدّين السامري عَمه
وَكَانَ أَمِين الدولة هَذَا لَهُ الذكاء الَّذِي لَا مزِيد عَلَيْهِ وَالْعلم الَّذِي لَا يصل إِلَيْهِ والإنعام الْعَام وَالْإِحْسَان التَّام والهمم الْعَالِيَة والآلاء المتوالية
وَقد بلغ من الصِّنَاعَة غاياتها وانْتهى إِلَى نهاياتها واشتمل على محصولها وأتقن معرفَة أُصُولهَا وفصولها
حَتَّى قل عَنهُ المماثل وَقصر عَن إِدْرَاك معاليه كل فَاضل وكامل
كَانَ أَولا عِنْد الْملك الأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه ابْن عز الدّين فرخشاه بن أَيُّوب مُعْتَمدًا عَلَيْهِ فِي الصِّنَاعَة الطبية وأعمالها مفوضا إِلَيْهِ أُمُور دولته وَأَحْوَالهَا
وَلم يزل عِنْده إِلَى أَن توفّي الْملك الأمجد رَحمَه الله وَذَلِكَ فِي دَاره بِدِمَشْق آخر نَهَار يَوْم الثُّلَاثَاء حادي عشر شهر شَوَّال سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة
وَبعد ذَلِك اسْتَقل بالوزراة للْملك الصَّالح عماد الدّين أبي الْفِدَاء إِسْمَاعِيل ابْن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب فساس الدولة أحسن السياسة وَبلغ فِي تَدْبِير المملكة نِهَايَة الرياسة وَثَبت قَوَاعِد الْملك وأيدها وَرفع مباني الْمَعَالِي وشيدها وجدد معالم الْعلم وَالْعُلَمَاء وأوجد من الْفضل مَا لم يكن لأحد من القدماء
وَلم يزل فِي خدمَة الْملك الصَّالح وَهُوَ عالي الْقدر نَافِذ الْأَمر مُطَاع الْكَلِمَة كثير العظمة إِلَى أَن ملك دمشق الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل وَجعل نَائِبه بهَا الْأَمِير معِين الدّين بن شيخ الشُّيُوخ
وَكَانَ لما ملك دمشق أعْطى الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بعلبك وَنقل إِلَيْهَا ثقله وَأَهله وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وَكَانَ أَمِين الدولة فِي مُدَّة وزارته يحب جمع المَال وَحصل لصَاحبه الْملك الصّلاح إِسْمَاعِيل أَمْوَالًا عَظِيمَة جدا من أهل دمشق وَقبض على كثير من أملاكهم
وَكَانَ موافقه فِي ذَلِك قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق وَهُوَ رفيع الدّين الجيلي والنواب
وَلما بلغ نَائِب السلطنة بِدِمَشْق وَهُوَ الْأَمِير معِين الدّين بن شيخ الشُّيُوخ والوزير جمال الدّين بن مطروح بِدِمَشْق وأكابر الدولة مَا وصل إِلَى أَمِين الدولة من الْأَمْوَال قصدُوا أَن يقبضوا عَلَيْهِ ويستصفوا أَمْوَاله فعملوا لَهُ مكيدة
وَهِي أَنهم استحضروه وعظموه وَقَامُوا لَهُ لما أَتَى
وَلما اسْتَقر فِي الْمجْلس قَالُوا لَهُ إِن أردْت أَن تقيم بِدِمَشْق فابق كَمَا أَنْت وَإِن أردْت أَن تتَوَجَّه إِلَى صَاحبك ببعلبك فافعل
فَقَالَ لَا وَالله أروح إِلَى مخدومي وأكون عِنْده
ثمَّ إِنَّه خرج وَجمع أَمْوَاله وذخائره(1/723)
وحواصله وَجَمِيع مَا يملكهُ حَتَّى الأثاث وَحصر دوره وَجمع الْجَمِيع على عدَّة بغال وَتوجه قَاصِدا إِلَى بعلبك
وَلما صَار ظَاهر دمشق قبض عَلَيْهِ وَأخذ جَمِيع مَا كَانَ مَعَه واحتيط على أملاكه واعتقل
وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي شهر رَجَب سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
ثمَّ سير إِلَى الديار المصرية تَحت الحوطة وأودع السجْن فِي قلعة الْقَاهِرَة مَعَ جمَاعَة أخر من أَصْحَاب الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل
وَلما كَانَ بعد ذَلِك بِزَمَان وَتُوفِّي الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب بِمصْر فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة وَجَاء الْملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحَمَّد من حلب وَملك دمشق وَذَلِكَ فِي يَوْم الْأَحَد ثامن شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وسِتمِائَة صَار مَعَه الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل وملوك الشَّام وَتوجه إِلَى مصر ليأخذها فَخرجت عَسَاكِر مصر وَكَانَ ملك مصر يَوْمئِذٍ الْملك الْمعز عز الدّين أيبك التركماني كَانَ قد تملك بعد وَفَاة أستاذه الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب والتقوا فَكَانَت أول الكسرة على عَسْكَر مصر
ثمَّ عَادوا وكسروا عَسْكَر الشَّام وَقبض على الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل وَجَمَاعَة كَثِيرَة من الْمُلُوك والأمراء وحبسوا جَمِيعهم فِي مصر ثمَّ أطلق بَعضهم فِيمَا بعد
وَأما الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل فَكَانَ آخر الْعَهْد بِهِ وَقيل إِنَّه خنق بِوتْر
حَدثنِي الْأَمِير سيف الدّين المشد عَليّ بن عمر رَحمَه الله قَالَ لما سمع الْوَزير أَمِين الدولة فِي قلعة الْقَاهِرَة بِأَن مُلُوك الشَّام قد كسروا عَسْكَر مصر وَوصل الْخَبَر إِلَيْهِم بذلك من بلبيس
قَالَ أَمِين الدولة لصَاحب الْآمِر فِي القلعة دَعْنَا نخرج فِي القلعة حَتَّى تطلع الْمُلُوك وتبصر أيش تعْمل مَعَك من الْخَيْر فاطمعته نَفسه وأخرجهم وَكَانُوا فِي ذَلِك الْموضع فِي الْحَبْس ثَلَاثَة من أَصْحَاب الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل وزيره أَمِين الدولة وأستاذ دَاره نَاصِر الدّين بن يغمور
وأمير كردِي يُقَال لَهُ سيف الدّين فَقَالَ الْكرْدِي لَهُم يَا قوم لَا تستعجلوا مواضعكم فَإِن كَانَ الْأَمر صَحِيحا فمصير أستاذنا يخرجنا ويعيدنا إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ وَيحسن إِلَيْنَا ونخلف
وَإِن كَانَ الْأَمر غير صَحِيح فنكون فِي موضعنا لم نخرج مِنْهُ فَهُوَ أسلم لنا فَلم يقبلُوا مِنْهُ وَخرج الْوَزير وناصر الدّين بن يغمور وبسطوا مَوَاضِع فِي القلعة وَأمرُوا ونهوا
وَلما صَحَّ الْخَبَر بعكس مَا أَملوهُ أَمر عز الدّين التركماني لما طلع القلعة بقتل نَاصِر الدّين بن يغمور فَقتل وَأمر بشنق الْوَزير فشنقوه
وَحكى لي من رَآهُ لما شنق وَأَنه كَانَ عَلَيْهِ قندورة عنابي خضراء وسرموزة فِي رجلَيْهِ وَلم ينظر مشنوقا فِي رجلَيْهِ سرموزة سواهُ
وَأما رفيقهم الْكرْدِي فَأَطْلقهُ وخلع عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ خيرا
أَقُول وأعجب مَا أَتَى من الْأَحْكَام النجومية فِيمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْمَعْنى مَا حَكَاهُ الْأَمِير نَاصِر الدّين زكري الْمَعْرُوف بِابْن عليمة وَكَانَ من جمَاعَة الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب قَالَ لما حبس الصاحب أَمِين الدولة أرسل إِلَى منجم فِي مصر لَهُ خبْرَة بَالِغَة فِي علم النُّجُوم وإصابات لَا تكَاد تخرم فِي أَحْكَامهَا(1/724)
وَسَأَلَهُ مَا يكون من حَاله وَهل يخلص من الْحَبْس قَالَ فَلَمَّا وصلت الرسَالَة إِلَيْهِ أَخذ ارْتِفَاع الشَّمْس للْوَقْت وحقق دَرَجَة الطالع والبيوت الاثْنَي عشر ومركز الْكَوَاكِب ورسم ذَلِك كُله فِي تخت الْحساب وَحكم بِمُقْتَضَاهُ فَقَالَ يخلص هَذَا من الْحَبْس وَيخرج مِنْهُ وَهُوَ فرحان مسرور وتلحظه السَّعَادَة أَن يبْقى لَهُ أَمر مُطَاع فِي الدولة بِمصْر
ويمتثل أمره وَنَهْيه جمَاعَة من الْخلق
فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ الْجَواب بذلك فَرح بِهِ
وعندما وَصله مَجِيء الْمُلُوك وَأَن النَّصْر لَهُم خرج وأيقن أَن يبْقى وزيرا بِمصْر وَتمّ لَهُ مَا ذكره المنجم من الْخُرُوج من الْحَبْس والفرح وَالْأَمر وَالنَّهْي وَصَارَ لَهُ أَمر مُطَاع فِي ذَلِك الْيَوْم
وَلم يعلم أَمِين الدولة مَا يجْرِي عَلَيْهِ بعد ذَلِك
وَأَن الله عز وَجل قد أنفذ مَا جعله عَلَيْهِ مَقْدُورًا وَكَانَ ذَلِك فِي الْكتاب مسطورا
وَكَانَ للصاحب أَمِين الدولة نفس فاضلة وهمة عالية فِي جمع الْكتب وتحصيلها واقتنى كتبا كَثِيرَة فاخرة فِي سَائِر الْعُلُوم وَكَانَت النساخ أبدا يَكْتُبُونَ لَهُ حَتَّى أَنه أَرَادَ مرّة نُسْخَة من تَارِيخ دمشق لِلْحَافِظِ ابْن عَسَاكِر وَهُوَ بالخط الدَّقِيق ثَمَانُون مجلدا
فَقَالَ هَذَا الْكتاب الزَّمن يقصر أَن يَكْتُبهُ نَاسخ وَاحِد ففرقه على عشرَة نساخ كل وَاحِد مِنْهُم ثَمَان مجلدات فكتبوه فِي نَحْو سنتَيْن وَصَارَ الْكتاب بِكَمَالِهِ عِنْده وَهَذَا من علو همته
وَلما كَانَ رَحمَه الله بِدِمَشْق وَهُوَ فِي دست وزارته فِي أَيَّام الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل
وَكَانَ أبي صديقه وَبَينهمَا مَوَدَّة فَقَالَ لَهُ يَوْمًا سديد الدّين بَلغنِي أَن ابْنك قد صنف كتابا فِي طَبَقَات الْأَطِبَّاء مَا سبق إِلَيْهِ وَجَمَاعَة الْأَطِبَّاء الَّذين يأْتونَ إِلَيّ شاكرين مِنْهُ
وَهَذَا الْكتاب جليل الْقدر وَقد اجْتمع عِنْدِي فِي خزانتي أَكثر من عشْرين ألف مُجَلد مَا فِيهَا شَيْء من هَذَا الْفَنّ
وأشتهي مِنْك أَن تبْعَث إِلَيْهِ يكْتب لي نُسْخَة من هَذَا الْكتاب
وَكنت يَوْمئِذٍ بصرخد عِنْد مَالِكهَا الْأَمِير عز الدّين أيبك المعظمي فامتثل أمره
وَلما وصلني كتاب أبي أتيت إِلَى دمشق واستصحبت معي مسودات من الْكتاب واستدعيت الشريف النَّاسِخ وَهُوَ شمس الدّين مُحَمَّد الْحُسَيْنِي وَكَانَ كثيرا ينْسَخ لنا وخطه مَنْسُوب فِي نِهَايَة الْجَوْدَة
وَهُوَ فَاضل فِي الْعَرَبيَّة فأخليت لَهُ موضعا عندنَا
وَكتب الْكتاب فِي مُدَّة يسيرَة فِي تقطيع ربع الْبَغْدَادِيّ أَرْبَعَة أَجزَاء
وَلما تجلدت عملت قصيدة مديح فِي الصاحب أَمِين الدولة وَبعثت بِالْجَمِيعِ إِلَيْهِ مَعَ قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق رفيع الدّين الجيلي
وَهُوَ من جملَة الْمَشَايِخ الَّذين اشتغلت عَلَيْهِم فَإِنِّي قَرَأت عَلَيْهِ شَيْئا من كتاب الإشارات والتنبيهات لِابْنِ سينا
وَكَانَ بيني وَبَينه أنس كثير وَلما وقف أَمِين الدولة على ذَلِك أعجبه غَايَة الْإِعْجَاب وَفَرح بِهِ كثيرا وَأرْسل إِلَيّ مَعَ القَاضِي المَال الجزيل وَالْخلْع الفاخرة وتشكر وَقَالَ أشتهي مِنْك أَن كلما تصنفه من الْكتب تعرفنِي بِهِ
وَهَذِه نُسْخَة القصيدة الَّتِي قلتهَا فِيهِ وَذَلِكَ فِي أَوَائِل سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
(فُؤَادِي فِي محبتهم أَسِير ... وأنى سَار ركبهمْ يسير)
(يحن إِلَى العذيب وساكنيه ... حنينا قد تضمنه سعير)(1/725)
(ويهوى نسمَة هبت سحيرا ... بهَا من طيب نشرهم عبير)
(وَإِنِّي قَانِع بعد التداني ... بطيف من خيالهم يزور)
(ومعسول اللمى مر التجني ... يجور على الْمُحب وَلَا يجير)
(تصدى للصدود فَفِي فُؤَادِي ... بوافر هجره أبدا هجير)
(وَقد وصلت جفوني فِيهِ سهدي ... فَمَا هذي القطيعة والنفور)
(كَأَن قوامه غُصْن رطيب ... وطلعة وَجهه بدر مُنِير)
(يرى نشوان من خمر التصابي ... يميد وَفِي لواحظه فتور)
(فَفِي وجناته لِلْحسنِ روض ... وَفِي خدي من دمعي غَدِير)
(وَكم زمن أرَاهُ قد تعدى ... عَليّ وإنني فِيهِ صبور)
(وحالي مَعَ بنيه غير حَال ... وسري لَا يمازجه سرُور)
(وَأَن أَشْكُو الزَّمَان فَإِن ذخري ... أَمِين الدولة الْمولى الْوَزير)
(كريم أريحي ذُو أياد ... تعم كَمَا همى الجون المطير)
(تسامى فِي سَمَاء الْمجد حَتَّى ... تأثر تَحت أَخْمُصُهُ الْأَثِير)
(وَهل شعر يعبر عَن علاهُ ... وَدون مَحَله الشعرى العبور)
(لَهُ أَمر وَعدل مُسْتَمر ... بِهِ فِي الْخلق تعتدل الْأُمُور)
(فَفِي الْأَزْمَان للعافي مبر ... وَفِي العزمات للعادي مبير)
(لقد فاق الْأَوَائِل فِي الْمَعَالِي ... وَكم من أول فاق الْأَخير)
(يطول الْعَالمين بِكُل علم ... وَيقصر عَنهُ فِي رَأْي قصير)
(وَقد صلحت بِهِ الدُّنْيَا ودانت ... لصالحها الْمَدَائِن والثغور)
(أيا من عَم أنعاما وَيَا من ... لَهُ الأفضال وَالْفضل الغزير)
(لقد أَحييت ميت الْعلم حَتَّى ... تبين فِي الْوُجُود لَهُ نشور)
(وأوردت الْأَنَام بحار جود ... وَقد كَادَت مناهلها تغور)
(وَكم فِي الطِّبّ من معنى خَفِي ... بشرح مِنْك عَاد لَهُ ظُهُور)
(وَقد قَاس الرئيس إِلَيْك يَوْمًا ... يجده إِلَيْك مرؤوسا يصير)
(وَهل يحكيك فِي لفظ وَفضل ... وَمَا لَك فيهمَا أبدا نَظِير)
(وَقد أرْسلت تأليفا ليبقى ... على اسْمك لَا تغيره الدهور)
(فريد مَا سبقت إِلَيْهِ قدما ... ومولانا بِذَاكَ هُوَ الْخَبِير)
(وَلَكِن فِي علومك فَهُوَ يهدى ... كَمَا تهدى إِلَى هجر التمور)(1/726)
(وحاشا أَن أبكار الْمَعَالِي ... إِذا زفت إِلَى الْمولى تبور)
(وَإِن تَكُ زلَّة أبديت فِيهِ ... فَعَن أَمْثَالهَا أَنْت الغفور) الوافر
ونقلت من خطّ الشَّيْخ موفق الدّين هبة الله أبي الْقَاسِم بن عبد الْوَهَّاب بن مُحَمَّد بن عَليّ الْكَاتِب الْمَعْرُوف بِابْن النّحاس من أَبْيَات كتبهَا إِلَى الصاحب أَمِين الدولة يطْلب مِنْهُ خطا وعده بِهِ الْملك الأمجد وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَعشْرين وسِتمِائَة
(وعدت بالخط فَأرْسل مَا وعدت بِهِ ... يَا من لَهُ نعم تترى بِلَا منن)
(من يفعل الْخَيْر يجن كل مكرمَة ... وَيَشْتَرِي مدحا تتلى بِلَا ثمن)
(خطا يزيدك حظا كلما صدحت ... وَرْقَاء فِي شجر يَوْمًا على فنن) الْبَسِيط
وأنشدني شرف الدّين إِسْمَاعِيل بن عبد الله بن عمر الْكَاتِب الْمَعْرُوف بِابْن قَاضِي الْيمن لنَفسِهِ قصيدة كتبهَا إِلَى الصاحب أَمِين الدولة من جُمْلَتهَا
(نالني من زماني التَّغْيِير ... ومحا صفو لَذَّة التكدير)
(كَانَ عيشي يظل حلوا وَقد عَاد ... بجور الزَّمَان وَهُوَ مرير)
(ونأى من أحب لم يلو عطفا ... فبقلبي للهجر مِنْهُ هجير)
(ورجوت الشفاه من دَاء سقم ... شفني فَهُوَ فِي حشاي سعير)
(قَالَ لي قَائِل وَقد أعضل الدَّاء ... وَعزا الدوا وعاز المشير)
(كَيفَ تَشْكُو الآلام أَو يعضل الدَّاء ... على الْجِسْم والطبيب الْوَزير)
(أقصد الصاحب الْوَزير وَلَا ... تخش فإحسانه عميم غزير)
(وَإِذا الدَّاء خيف مِنْهُ تلافا ... لَيْسَ يشفي إِلَى الْحَكِيم الْبَصِير)
(سيد صَاحب أريب حَكِيم ... عَالم ماجد وَزِير كَبِير)
(منقذ منصف لطيف رؤوف ... محسن مُؤثر كريم أثير) الْخَفِيف
وَمن شعر الصاحب أَمِين الدولة قَالَ وَكتب بِهِ فِي كتاب إِلَى برهَان الدّين وَزِير الْأَمِير عز الدّين المعظمي تَعْزِيَة لبرهان الدّين فِي وَلَده الْخَطِيب شرف الدّين عمر
(قولا لهَذَا السَّيِّد الْمَاجِد ... قَول حَزِين مثله فَاقِد)
(لَا بُد من فقد وَمن فَاقِد ... هَيْهَات مَا فِي النَّاس من خَالِد)
(كن المعزي لَا المعزى بِهِ ... إِن كَانَ لَا بُد من الْوَاحِد) السَّرِيع(1/727)
وللصاحب أَمِين الدولة من الْكتب كتاب النهج الْوَاضِح فِي الطِّبّ وَهُوَ من أجل كتاب صنف فِي الصِّنَاعَة الطبية وَأجْمع لقوانينها الْكُلية والجزئية وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى كتب خَمْسَة الْكتاب الأول فِي ذكر الْأُمُور الطبيعية والحالات الثَّلَاث للأبدان وأجناس الْأَمْرَاض وعلائم الأمزجة المعتدلة والطبيعية والصحية للأعضاء الرئيسية وَمَا يقرب مِنْهَا ولأمور غَيرهَا شَدِيدَة النَّفْع يصلح أَن تذكر فِي هَذَا الْموضع ويتبعها بالنبض وَالْبَوْل وَالْبرَاز والبحران الْكتاب الثَّانِي فِي الْأَدْوِيَة المفردة وقواها الْكتاب الثَّالِث فِي الْأَدْوِيَة المركبة ومنافعها الْكتاب الرَّابِع فِي تَدْبِير الأصحاء وعلاج الْأَمْرَاض الظَّاهِرَة وأسبابها وعلائمها وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من عمل الْيَد فِيهَا وَفِي أَكثر الْمَوَاضِع وَيذكر فِيهِ أَيْضا تَدْبِير الزِّينَة وتدبير السمُوم الْكتاب الْخَامِس فِي ذكر الْأَمْرَاض الْبَاطِنَة وأسبابها وعلائمها وعلاجها وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من عمل الْيَد
مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ
هُوَ شَيخنَا الإِمَام الصَّدْر الْكَبِير الْعَالم الْفَاضِل مهذب الدّين أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحِيم بن عَليّ بن حَامِد وَيعرف بالدخوار
وَكَانَ رَحمَه الله أوحد عصره وفريد دهره وعلامة زَمَانه
وَإِلَيْهِ انْتَهَت رياسة صناعَة الطِّبّ ومعرفتها على مَا يَنْبَغِي وَتَحْقِيق كلياتها وجزئياتها
وَلم يكن فِي اجْتِهَاده من يجاريه وَلَا فِي علمه من يماثله
أتعب نَفسه فِي الِاشْتِغَال وكد خاطره فِي تَحْصِيل الْعلم حَتَّى فاق أهل زَمَانه فِي صناعَة الطِّبّ وحظي عِنْد الْمُلُوك ونال من جهتهم من المَال والجاه مَا لم ينله غَيره من الْأَطِبَّاء إِلَى أَن توفّي
وَكَانَ مولده ومنشؤه بِدِمَشْق وَكَانَ أَبوهُ عَليّ بن حَامِد كحالا مَشْهُورا وَكَذَلِكَ كَانَ أَخُوهُ وَهُوَ حَامِد بن عَليّ كحالا
وَكَانَ الْحَكِيم مهذب الدّين أَيْضا فِي مبدأ أمره يكحل وَهُوَ مَعَ ذَلِك مواظب على الِاشْتِغَال والنسخ
وَكَانَ خطه مَنْسُوبا
وَكتب كتبا كَثِيرَة بِخَطِّهِ وَقد رَأَيْت مِنْهَا نَحْو مائَة مُجَلد أَو أَكثر فِي الطِّبّ وَغَيره
واشتغل بِالْعَرَبِيَّةِ على الشَّيْخ تَاج الدّين الْكِنْدِيّ أبي الْيمن وَلم يزل مُجْتَهدا فِي تَحْصِيل الْعُلُوم وملازمة الْقِرَاءَة وَالْحِفْظ حَتَّى فِي أَوْقَات خدمته وَهُوَ فِي سنّ الكهولة
وَكَانَ فِي أول اشْتِغَاله بصناعة الطِّبّ قد قَرَأَ شَيْئا من الْمَكِّيّ على الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي رَحمَه الله
ثمَّ بعد ذَلِك لَازم موفق الدّين بن المطران وتتلمذ لَهُ واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ
وَلم يزل ملازما لَهُ فِي أَسْفَاره وحضره إِلَى أَن تميز وَمهر
واشتغل بعد ذَلِك أَيْضا على فَخر الدّين المارديني لما ورد إِلَى دمشق فِي سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة بِشَيْء من القانون لِابْنِ سينا
وَكَانَ فَخر الدّين المارديني كثير الدِّرَايَة لهَذَا الْكتاب وَالتَّحْقِيق لمعانيه وخدم الْحَكِيم مهذب الدّين الْملك الْعَادِل أَبَا بكر بن أَيُّوب بصناعة الطِّبّ وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك أَنه فِي أول أمره كَانَ يعاني صناعَة الْكحل ويحاول أَعمالهَا وخدم بهَا فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه وَوَقفه الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي
ثمَّ بعد ذَلِك لما اشْتغل على ابْن المطران ورسم بصناعة الطِّبّ أطلق لَهُ الصاحب صفي الدّين بن شكر وَزِير الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب جامكية على الطِّبّ وخدم بهَا وَهُوَ مَعَ ذَلِك يشْتَغل ويتزيد فِي الْعلم وَالْعَمَل وَلَا(1/728)
يخل بِخِدْمَة الصاحب صفي الدّين بن شكر والتردد إِلَيْهِ
وَعرف الصاحب مَنْزِلَته فِي صناعَة الطِّبّ وَعلمه وفضله
وَلما كَانَ فِي شهر شَوَّال سنة أَربع وسِتمِائَة كَانَ الْملك الْعَادِل قد قَالَ للصاحب بن شكر نُرِيد أَن يكون مَعَ الْحَكِيم موفق الدّين عبد الْعَزِيز حَكِيم آخر برسم خدمَة الْعَسْكَر والتردد إِلَيْهِم فِي أمراضهم فَإِن الْحَكِيم عبد الْعَزِيز مَا يلْحق لذَلِك فامتثل أمره وَقَالَ هَهُنَا حَكِيم فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ يُقَال لَهُ الْمُهَذّب الدخوار يصلح أَن يكون فِي خدمَة مَوْلَانَا
فَأمره باستخدامه
وَلما حضر مهذب الدّين عِنْد الصاحب قَالَ لَهُ إِنِّي شكرتك للسُّلْطَان وَهَذِه ثَلَاثُونَ دِينَارا ناصرية لَك فِي كل شهر وَتَكون فِي الْخدمَة
فَقَالَ يَا مَوْلَانَا الْحَكِيم موفق الدّين عبد الْعَزِيز لَهُ فِي كل شهر مائَة دِينَار ورواتب مثلهَا وَأَنا أعرف منزلتي فِي الْعلم وَمَا أخدم بِدُونِ مقرره
وانفصل عَن الصاحب وَلم يقبل
ثمَّ أَن الْجَمَاعَة ذمت مهذب الدّين على امْتِنَاعه وَمَا بَقِي يُمكنهُ أَن يعاود الصاحب ليخدم وَكَانَ مقرره فِي البيمارستان شَيْء يسير
وَاتفقَ الْمَقْدُور أَن بعد ذَلِك الحَدِيث بِنَحْوِ شهر وَكَانَ يعاود الْمُوفق عبد الْعَزِيز قولنج صَعب فَعرض لَهُ وتزايد بِهِ وَمَات مِنْهُ
وَلما بلغ الْملك الْعَادِل مَوته قَالَ للصاحب كنت قد شكرت لنا حكيما يُقَال لَهُ الْمُهَذّب نزله على مُقَرر الْمُوفق عبد الْعَزِيز فتنزل على جَمِيع مقرره وَاسْتمرّ فِي خدمَة الْملك الْعَادِل من ذَلِك الْوَقْت
ثمَّ لم تزل تسمو مَنْزِلَته عِنْده وتترقى أَحْوَاله حَتَّى صَار جليسه وأنيسه وَصَاحب مشورته
وَظهر أَيْضا مِنْهُ فِي أول خدمته لَهُ نَوَادِر فِي تقدمة الْمعرفَة أكدت حسن ظَنّه بِهِ واعتماده عَلَيْهِ
وَمن ذَلِك أَن الْملك الْعَادِل كَانَ قد مرض ولازمه أَعْيَان الْأَطِبَّاء فَأَشَارَ الْحَكِيم مهذب الدّين عَلَيْهِ بالفصد فَلم يستصوب ذَلِك الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا مَعَه فَقَالَ وَالله لم نخرج لَهُ دَمًا إِلَّا خرج الدَّم بِغَيْر اختيارنا
وَلم يوافقوه فِي قَوْله فَمَا كَانَ بعد ذَلِك بأيسر وَقت إِلَّا وَالسُّلْطَان قد رعف رعافا كثيرا وَصلح فَعرف أَن مَا فِي الْجَمَاعَة مثله
وَمن ذَلِك أَيْضا أَنه كَانَ يَوْمًا على بَاب دَار السُّلْطَان وَمَعَهُ جمَاعَة من أطباء الدّور فَخرج خَادِم وَمَعَهُ قَارُورَة جَارِيَة يستوصف لَهَا من شَيْء يؤلمها فَلَمَّا رَآهَا الْأَطِبَّاء وصفوا لَهَا مَا حضرهم وعندما عاينها الْحَكِيم مهذب الدّين قَالَ إِن هَذَا الْأَلَم الَّذِي تشكوه لم يُوجب هَذَا الصَّبْغ الَّذِي للقارورة
يُوشك أَنه يكون الصَّبْغ من حناء قد اختضبت بِهِ فَأعلمهُ الْخَادِم بذلك وتعجب مِنْهُ وَأخْبر الْملك الْعَادِل فتزيد حسن اعْتِقَاده فِيهِ
وَمن محَاسِن مَا فعله الشَّيْخ مهذب الدّين من كَمَال مروءته ووافر عصبيته حَدثنِي أبي قَالَ كَانَ الْملك الْعَادِل قد غضب على قَاضِي الْقُضَاة محيي الدّين بن زكي الدّين بِدِمَشْق لأمر نقم عَلَيْهِ بِهِ وَأمر باعتقاله فِي القلعة ورسم عَلَيْهِ أَن يزن للسُّلْطَان عشرَة آلَاف دِينَار مصرية وشدد عَلَيْهِ فِي ذَلِك وَبَقِي فِي الْحَبْس والمطالبة عَلَيْهِ كل وَقت فوزن الْبَعْض وَعجز الْبَعْض وَعجز عَن وزن بَقِيَّة المَال
وَعظم الْملك الْعَادِل عَلَيْهِ الْأَمر وَقَالَ لَا بُد أَن يزن بَقِيَّة المَال وَإِلَّا عَذبته
فتحير القَاضِي وأبلغ جَمِيع موجوده وأثاث بَيته حَتَّى الْكتب الَّتِي لَهُ وتوسل إِلَى السُّلْطَان وَتشفع بِكَثِير من الْأُمَرَاء والخواص والأكابر مثل الشميس أستاذ الدَّار وشمس الْخَواص صَوَاب والوزير وَغَيرهم أَن يسامحه بِالْبَعْضِ أَو يسْقط عَلَيْهِ فَمَا(1/729)
فعل السُّلْطَان وَحمل القَاضِي هما عَظِيما على ذَلِك حَتَّى قل أكله ونومه وَكَاد يهْلك فافتقده الْحَكِيم مهذب الدّين وَكَانَ بَينهمَا صداقة قديمَة وشكا إِلَيْهِ حَاله وَسَأَلَهُ المساعدة بِحَسب مَا يقدر عَلَيْهِ ففكر مهذب الدّين وَقَالَ أَنا أدبر لَك أمرا وَأَرْجُو أَن يكون فِيهِ نفع لَك إِن شَاءَ الله تَعَالَى وفارقه
وَكَانَت سَرِيَّة الْملك الْعَادِل أم الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل بن الْملك الْعَادِل متغيرة المزاج فِي تِلْكَ الْأَيَّام
وَكَانَت تركية الْجِنْس وَعِنْدهَا عقل وَدين وَصَلَاح وَلها مَعْرُوف كثير وصدقات
فَلَمَّا حضر الْحَكِيم مهذب الدّين عِنْدهَا وزمام الدّور أوجدها مهذب الدّين حَال القَاضِي وضرره وَأَنه مظلوم وَقد ألزمهُ السُّلْطَان بِشَيْء لَا يقدر عَلَيْهِ وَطلب مِنْهَا شَفَاعَة لَعَلَّ السُّلْطَان ينظر إِلَيْهِ بِعَين الرَّحْمَة ويسامحه بِالْبَعْضِ أَو يقسط عَلَيْهِ وساعده الزِّمَام فِي ذَلِك فَقَالَت وَالله كَيفَ لي بِالْخَيرِ للْقَاضِي وَأَن أَقُول للسُّلْطَان عَنهُ
وَلَكِن مَا يُمكن هَذَا فَإِن السُّلْطَان يَقُول لي أيش الْمُوجب أَنَّك تتكلمي فِي القَاضِي وَمن أَيْن تعرفيه وَلَو كَانَ هُوَ فِي الْمثل حَكِيم يتَرَدَّد إِلَيْنَا أَو تَاجر يَشْتَرِي لنا القماش كَانَ فِيهِ توجه للْكَلَام والشفاعة وَهَذَا فَمَا يُمكن أَتكَلّم فِيهِ
فَقَالَ لَهَا الْحَكِيم يَا ستي أَنْت لَك ولد وَمَالك غَيره وتطلبي لَهُ السَّعَادَة والبقاء وتلقي من الله كل خير بِشَيْء تقدري تفعليه وَمَا تقولي للسُّلْطَان شَفَاعَة أصلا
فَقَالَت أيش هُوَ فَقَالَ وَقت يكون السُّلْطَان وَأَنْتُم نيام توجديه أَنَّك أَبْصرت مناما فِي أَن القَاضِي مظلوم
وَعرفهَا مَا تَقول هَذَا يُمكن
وَلما تكاملت عَافِيَتهَا وَكَانَ الْملك الْعَادِل نَائِما عِنْدهَا وَهِي إِلَى جَانِبه انْتَبَهت فِي أَوَاخِر اللَّيْل وأظهرت أَنَّهَا مرعوبة وَأَمْسَكت فؤادها وَبقيت ترتعد وتتباكى فانتبه السُّلْطَان وَقَالَ مَالك وَكَانَ يُحِبهَا كثيرا فَلم تجبه مِمَّا بهَا
فَأمر بإحضار شراب تفاح وسقاها ورش على وَجههَا مَاء ورد
وَقَالَ أما تخبريني أيش جرى عَلَيْك وأيش عرض لَك فَقَالَت يَا خوند مَنَام عَظِيم هالني وكدت أَمُوت مِنْهُ
وَهُوَ أنني رَأَيْت كَأَن الْقِيَامَة قد قَامَت وَخلق عَظِيم وَكَانَ فِي مَوضِع بِهِ نيران كَثِيرَة تشعل وناس يَقُولُونَ هَذَا للْملك الْعَادِل لكَونه ظلم القَاضِي
ثمَّ قَالَت هَل فعلت قطّ بِالْقَاضِي شَيْئا فَمَا شكّ فِي قَوْلهَا وانزعج ثمَّ قَامَ لوقته وَطلب الخدام وَقَالَ امضوا إِلَى القَاضِي وطيبوا قلبه وسلموا عَلَيْهِ عني وَقُولُوا لَهُ يَجْعَلنِي فِي حل مِمَّا تمّ عَلَيْهِ وَأَن جَمِيع مَا وَزنه يُعَاد إِلَيْهِ وَمَا أطالبه بِشَيْء فراحوا إِلَيْهِ وَفَرح القَاضِي غَايَة الْفَرح بقَوْلهمْ ودعا للسُّلْطَان وَجعله فِي حل
وَلما أصبح أَمر لَهُ بخلعة كَامِلَة وَبغلة وَأَعَادَهُ إِلَى الْقَضَاء وَأمر بِالْمَالِ الَّذِي وَزنه أَن يحمل إِلَيْهِ من الخزانة
وَأَن جَمِيع مَا بَاعه من الْكتب وَغَيرهَا تسترجع من المشترين لَهَا ويعطوا الثّمن الَّذِي وزنوه
وَحصل للْقَاضِي الْفرج بِأَهْوَن سعي وألطف تَدْبِير
قَالَ وَلما كَانَ الْملك الْعَادِل بالشرق وَذَلِكَ فِي سنة عشر وسِتمِائَة مرض مَرضا صعبا وَتَوَلَّى علاجه الْحَكِيم مهذب الدّين إِلَى أَن برِئ مِمَّا كَانَ بِهِ فَحصل لَهُ مِنْهُ فِي تِلْكَ المرضة نَحْو سَبْعَة آلَاف دِينَار مصرية وَبعث إِلَيْهِ أَيْضا أَوْلَاده الْملك الْعَادِل وَسَائِر مُلُوك الشرق وَغَيرهم الذَّهَب وَالْخلْع والبغلات بأطواق الذَّهَب وَغير ذَلِك
وَكَذَلِكَ توجه الْملك الْعَادِل إِلَى الديار المصرية فِي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وسِتمِائَة وَأقَام بِالْقَاهِرَةِ أَتَى فِي ذَلِك الْوَقْت وباء عَظِيم إِلَى أَن هلك أَكثر الْخلق
وَكَانَ قد مرض الْملك(1/730)
الْكَامِل ابْن الْملك الْعَادِل وَمرض كثير من خواصه وَهُوَ صَاحب الديار المصرية فعالجه بألطف علاج إِلَى أَن برِئ
وَحصل لَهُ أَيْضا من الذَّهَب وَالْخلْع والعطايا السّنيَّة شَيْء كثير
وَكَانَ مبلغ مَا وصل إِلَيْهِ من الذَّهَب نَحْو اثْنَي عشر ألف دِينَار وَأَرْبع عشرَة بغلة بأطواق ذهب وَالْخلْع الْكَثِيرَة من الثِّيَاب الأطلس وَغَيرهَا
أَقُول وولاه السُّلْطَان الْكَبِير فِي ذَلِك الْوَقْت رياسة أطباء ديار مصر بأسرها وأطباء الشَّام وَكنت فِي ذَلِك الْوَقْت مَعَ أبي وَهُوَ فِي خدمَة الْملك الْعَادِل ففوض إِلَيْهِ النّظر فِي أَمر الكحالين واعتبارهم وَأَن من يصلح مِنْهُم لمعالجة أمراض الْعين ويرتضيه يكْتب لَهُ خطا بِمَا يعرفهُ مِنْهُ فَفعل ذَلِك
وَلما كَانَ فِي سنة أَرْبَعَة عشرَة وسِتمِائَة وَسمع الْملك الْعَادِل بتحرك الفرنج فِي السَّاحِل أَتَى إِلَى الشَّام وَأقَام بمرج الصفر ثمَّ حصل لَهُ وَهُوَ فِي أثْنَاء ذَلِك مرض وَهُوَ بمنزله بخانقين
وَتُوفِّي رَحمَه الله بهَا فِي السَّاعَة الثَّانِيَة من يَوْم الْجُمُعَة سَابِع جُمَادَى الآخر سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة
وَلما اسْتَقر ملك الْملك الْمُعظم بِالشَّام استخدم جمَاعَة عدَّة مِمَّن كَانُوا فِي خدمَة أَبِيه الْملك الْعَادِل وانتظم فِي خدمته مِنْهُم من الْحُكَمَاء الْحَكِيم رشيد الدّين بن الصُّورِي وَأبي
وَأما الْحَكِيم مهذب الدّين فَإِنَّهُ أطلق لَهُ جامكية وجراية ورسم أَنه يُقيم بِدِمَشْق وَأَن يتَرَدَّد إِلَى البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي ويعالج المرضى بِهِ
وَلما أَقَامَ الشَّيْخ مهذب الدّين بِدِمَشْق شرع فِي تدريس صناعَة الطِّبّ وَاجْتمعَ إِلَيْهِ خلق كثير من أَعْيَان الْأَطِبَّاء وَغَيرهم يقرأون عَلَيْهِ وأقمت أَنا بِدِمَشْق لأجل الْقِرَاءَة عَلَيْهِ
وَأما أَولا فَكنت أشتغل عَلَيْهِ فِي المعسكر لما كَانَ أبي والحكيم مهذب الدّين فِي خدمَة السُّلْطَان الْكَبِير فَبَقيت أتردد إِلَيْهِ مَعَ الْجَمَاعَة وشرعت فِي قِرَاءَة كتب جالينوس وَكَانَ خَبِيرا بِكُل مَا يقْرَأ عَلَيْهِ من كتب جالينوس وَغَيرهَا
وَكَانَت كتب جالينوس تعجبه جدا
وَإِذا سمع شَيْئا من كَلَام جالينوس فِي ذكر الْأَمْرَاض ومداواتها وَالْأُصُول الطبية يَقُول هَذَا هُوَ الطِّبّ
وَكَانَ طلق اللِّسَان حسن التأدية للمعاني جيد الْبَحْث لازمته أَيْضا فِي وَقت معالجته للمرضى بالبيمارستان فتدربت مَعَه فِي ذَلِك وباشرت أَعمال صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت أَيْضا مَعَه فِي البيمارستان لمعالجة المرضى الْحَكِيم عمرَان وَهُوَ من أَعْيَان الْأَطِبَّاء وأكابرهم فِي المداواة وَالتَّصَرُّف فِي أَنْوَاع العلاج فتضاعفت الْفَوَائِد المقتبسة من اجْتِمَاعهمَا وَمِمَّا كَانَ يجْرِي بَينهمَا من الْكَلَام فِي الْأَمْرَاض ومداواتها وَمِمَّا كَانَا يصفاه للمرضى
وَكَانَ الْحَكِيم مهذب الدّين يظْهر من ملح صناعَة الطِّبّ وَمن غرائب المداواة والتقصي فِي المعالجة والإقدام بِصِفَات الْأَدْوِيَة الَّتِي تبرئ فِي أسْرع وَقت مَا يفوق بِهِ أهل زَمَانه وَيحصل من تأثيرها شَيْء كَأَنَّهُ سحر
وَمن ذَلِك أنني رَأَيْته يَوْمًا وَقد أَتَى مَحْمُوم بحمى محرقة وقواريره فِي غَايَة الحدة فَاعْتبر قوته ثمَّ أَمر بِأَن يتْرك لَهُ فِي قدح بزور من الكافور مِقْدَارًا صَالحا عينه لَهُم فِي الدستور(1/731)
وَأَن يشربه وَلَا يتَنَاوَل شَيْئا غَيره فَلَمَّا أَتَيْنَا من الْغَد وجدنَا ذَلِك الْمَرِيض والحمى قد انحطت عَنهُ وقارورته لَيْسَ فِيهَا شَيْء من الحدة
وَمثل هَذَا أَيْضا أَنه وصف فِي قاعة الممرورين لمن بِهِ الْمَرَض الْمُسَمّى مانيا وَهُوَ الْجُنُون السبعي أَن يُضَاف إِلَى مَاء الشّعير فِي وَقت اسقائه إِيَّاه مِقْدَار متوفر من الأفيون فصلح ذَلِك الرجل وَزَالَ مَا بِهِ من تِلْكَ الْحَال
ورأيته يَوْمًا فِي قاعة المحمومين وَقد وقفنا عِنْد مَرِيض وجست الْأَطِبَّاء نبضه فَقَالُوا عِنْده ضعف ليُعْطى مرقة الْفروج للتقوية فَنظر إِلَيْهِ وَقَالَ إِن كَلَامه وَنظر عَيْنَيْهِ يَقْتَضِي الضعْف
ثمَّ جس نبض يَده الْيُمْنَى وجس الْأُخْرَى وَقَالَ جسوا نبض يَده الْيُسْرَى
فوجدناه قَوِيا
فَقَالَ انْظُرُوا نبض يَده الْيُمْنَى وَكَيف هُوَ من قريب كوعه قد انفرق الْعرق الضَّارِب شعبتين فَوَاحِدَة بقيت الَّتِي تجس وَالْأُخْرَى طلعت فِي أَعلَى الزند وامتدت إِلَى نَاحيَة الْأَصَابِع
فوجدناه حَقًا
ثمَّ قَالَ إِن من النَّاس وَهُوَ نَادِر مَا يكون النبض فِيهِ هَكَذَا وَيشْتَبه على كثير من الْأَطِبَّاء ويعتقدون أَن النبض ضَعِيف وَإِنَّمَا يكون جسم لتِلْك الشعبة الَّتِي هِيَ نصف الْعرق فيعتقدون أَن النبض ضَعِيف
وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت أَيْضا فِي البيمارستان الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي وَهُوَ من أكبر الْأَطِبَّاء سنا وأعظمهم قدرا وأشهرهم ذكرا فَكَانَ يجلس على دكة وَيكْتب لمن يَأْتِي إِلَى البيمارستان ويستوصف مِنْهُ للمرضى أوراقا يعتمدون عَلَيْهَا وَيَأْخُذُونَ بهَا من البيمارستان الْأَشْرِبَة والأدوية الَّتِي يصفها
فَكنت بعد مَا يفرغ الْحَكِيم مهذب الدّين والحكيم عمرَان من معالجة المرضى المقيمين بالبيمارستان وَأَنا مَعَهم أَجْلِس مَعَ الشَّيْخ رَضِي الدّين الرَّحبِي فأعاين كَيْفيَّة استدلاله على الْأَمْرَاض وَجُمْلَة مَا يصفه للمرضى وَمَا يكْتب لَهُم وأبحث مَعَه فِي كثير من الْأَمْرَاض ومداواتها
وَلم يجْتَمع فِي البيمارستان مُنْذُ بني والى مَا بعده من الزَّمَان من مَشَايِخ الْأَطِبَّاء كَمَا اجْتمع فِيهِ فِي ذَلِك الْوَقْت من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ الثَّلَاثَة وبقوا كَذَلِك مُدَّة
(ثمَّ انْقَضتْ تِلْكَ السنون وَأَهْلهَا ... فَكَأَنَّهَا وَكَأَنَّهُم أَحْلَام)
وَكَانَ الشَّيْخ مهذب الدّين رَحمَه الله إِذا تفرغ من البيمارستان وافتقد المرضى من أَعْيَان الدولة وأكابرها وَغَيرهم يَأْتِي إِلَى دَاره ثمَّ يشرع فِي الْقِرَاءَة والدرس والمطالعة
وَلَا بُد لَهُ من ذَلِك من نسخ
فَإِذا فرغ مِنْهُ أذن للْجَمَاعَة فَيدْخلُونَ إِلَيْهِ وَيَأْتِي قوم بعد قوم من الْأَطِبَّاء والمشتغلين
وَكَانَ يقْرَأ كل وَاحِد مِنْهُم درسه ويبحث مَعَه فِيهِ ويفهمه إِيَّاه بِقدر طاقته ويبحث فِي ذَلِك مَعَ المتميزين مِنْهُم إِن كَانَ الْموضع يحْتَاج إِلَى فضل بحث أَو فِيهِ إِشْكَال يحْتَاج إِلَى تَحْرِير
وَكَانَ لَا يقرئ أحدا إِلَّا وَبِيَدِهِ نُسْخَة من ذَلِك الْكتاب يقرأه ذَلِك التلميذ ينظر فِيهِ ويقابل بِهِ فَإِن كَانَ فِي نُسْخَة الَّذِي يقْرَأ غلط أمره بإصلاحه
وَكَانَت نسخ الشَّيْخ مهذب الدّين الَّتِي تقْرَأ عَلَيْهِ فِي غَايَة الصِّحَّة وَكَانَ أَكْثَرهَا بِخَطِّهِ وَكَانَ أبدا لَا يُفَارِقهُ إِلَى جَانِبه مَعَ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الْكتب الطبية وَمن كتب اللُّغَة كتاب الصِّحَاح للجوهري والمجمل لِابْنِ فَارس وَكتاب النَّبَات لأبي حنيفَة الدينَوَرِي
فَكَانَ إِذا فرغت الْجَمَاعَة من الْقِرَاءَة يعود هُوَ إِلَى نَفسه فيأكل شَيْئا ثمَّ يشرع بَقِيَّة نَهَاره فِي الْحِفْظ والدرس(1/732)
والمطالعة يسهر أَكثر ليله فِي الِاشْتِغَال
وَكَانَ أَيْضا فِي ذَلِك الزَّمَان يجْتَمع بالشيخ سيف الدّين عَليّ بن أبي عَليّ الْآمِدِيّ وَكَانَ يعرفهُ قَدِيما فلازمه فِي الِاشْتِغَال عَلَيْهِ بالعلوم الْحكمِيَّة وَحفظ شَيْئا من كتبه وَحصل مُعظم مصنفاته ليشتغل بهَا مثل كتاب دقائق الْحَقَائِق وَكتاب رموز الْكُنُوز وَكتاب كشف التمويهات فِي شرح التَّنْبِيهَات وَكتاب أبكار الأفكار وَغير ذَلِك من مصنفات سيف الدّين
ثمَّ بعد ذَلِك أَيْضا نظر فِي علم الْهَيْئَة والنجوم واشتغل بهَا على أبي الْفضل الإسرائيلي المنجم واقتنى من آلَات النّحاس الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا فِي هَذَا الْفَنّ مَا لم يكن عِنْد غَيره وَمن الْكتب شَيْئا كثيرا جدا
وسمعته يَحْكِي أَن عِنْده سِتّ عشرَة رِسَالَة غَرِيبَة من الإصطرلاب لجَماعَة من المصنفين
وَفِي أثْنَاء ذَلِك طلبه الْملك الْأَشْرَف أَبُو الْفَتْح مُوسَى ابْن الْملك الْعَادِل وَهُوَ بالشرق فَتوجه إِلَيْهِ وَذَلِكَ فِي شهر ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة
وَقَالَ لي أَنه خرج مِنْهُ فِي هَذِه السفرة لما عزم على الْحَرَكَة من شِرَاء بغلات وخيم وآلات لَا بُد مِنْهَا للسَّفر عشرُون ألف دِرْهَم
وَلما وصل ذَلِك إِلَى الْملك الْأَشْرَف أكْرمه وَأحسن إِلَيْهِ وَأطلق لَهُ إقطاعا فِي الشرق يغل لَهُ فِي كل سنة ألف وَخَمْسمِائة دِينَار فَبَقيَ مَعَه مُدَّة ثمَّ عرض لَهُ ثقل فِي لِسَانه واسترخاء فَبَقيَ لَا يسترسل فِي الْكَلَام وَوصل إِلَى دمشق لما ملكهَا الْملك الْأَشْرَف فِي سنة سِتّ وَعشْرين وسِتمِائَة وَهُوَ مَعَه فولاه رياسة الطِّبّ
وَبَقِي كَذَلِك مديدة وَجعل لَهُ مَجْلِسا لتدريس صناعَة الطِّبّ
ثمَّ زَاد بِهِ ثقل لِسَانه حَتَّى بَقِي إِذا حاول الْكَلَام لَا يفهم ذَلِك مِنْهُ إِلَّا بعسر
وَكَانَت الْجَمَاعَة تبحث قدامه فَإِذا استعصى مِنْهُ معنى يُجيب عَنهُ بأيسر لفظ يدل على كثير من الْمَعْنى
وَفِي أَوْقَات يعسر عَلَيْهِ الْكَلَام فيكتبه فِي لوح وتنظره الْجَمَاعَة
ثمَّ اجْتهد فِي مداواة نَفسه واستفرغ بدنه بعدة أدوية مسهلة وَكَانَ يتَنَاوَل كثيرا من الْأَدْوِيَة والمعاجين الحارة ويغتذي بِمِثْلِهَا فعرضت لَهُ حمى وتزايدت بِهِ حَتَّى ضعفت قوته وتوالت عَلَيْهِ أمراض كَثِيرَة
وَلما جَاءَ الْأَجَل بَطل الْعَمَل
(وَإِذا الْمنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تَمِيمَة لَا تَنْفَع)
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي اللَّيْلَة الَّتِي صبيحتها يَوْم الِاثْنَيْنِ خَامِس عشر صفر سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة وَدفن بجبل قاسيون وَلم يخلف ولدا
وَلما كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة وَذَلِكَ قبل سفر الشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ عِنْد الْملك الْأَشْرَف وخدمته لَهُ وقف دَاره وَهِي بِدِمَشْق عِنْد الصاغة العتيقة شَرْقي سوق المناخليين وَجعلهَا مدرسة يدرس فِيهَا من بعده صناعَة الطِّبّ ووقف لَهَا ضيَاعًا وعدة أَمَاكِن يستغل مَا ينْصَرف فِي مصالحها وَفِي جامكية الْمدرس وجامكية المشتغلين بهَا
ووصى أَن يكون الْمدرس فِيهَا الْحَكِيم شرف الدّين عَليّ بن الرَّحبِي وابتدأ بِالصَّلَاةِ فِي هَذِه الْمدرسَة يَوْم الْجُمُعَة صَلَاة الْعَصْر ثامن ربيع الأول سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة
وَلما كَانَ يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَعشْرين وسِتمِائَة حضر الْحَكِيم سعد الدّين إِبْرَاهِيم بن الْحَكِيم موفق الدّين عبد الْعَزِيز وَالْقَاضِي شمس الدّين الخوئي وَالْقَاضِي جمال الدّين(1/733)
الخرستاني وَالْقَاضِي عَزِيز الدّين السنجاري وَجَمَاعَة من الْفُقَهَاء والحكماء
وَشرع الْحَكِيم شرف الدّين ابْن الرَّحبِي فِي التدريس بهَا فِي صناعَة الطِّبّ وَاسْتمرّ على ذَلِك وَبَقِي سِنِين عدَّة
ثمَّ صَار الْمدرس فِيمَا بعد الْحَكِيم بدر الدّين المظفر بن قَاضِي بعلبك
وَذَلِكَ أَنه لما ملك دمشق الْملك الْجواد مظفر الدّين يُونُس بن شمس الدّين مَمْدُود ابْن الْملك الْعَادِل كتب للحكيم بدر الدّين ابْن قَاضِي بعلبك منشورا برياسته على سَائِر الْحُكَمَاء فِي صناعَة الطِّبّ وَأَن يكون مدرسا للطب فِي مدرسة الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ
وَتَوَلَّى ذَلِك فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء رَابِع صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
وأنشدني مهذب الدّين أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْخضر الْحلَبِي قَالَ أَنْشدني الشَّيْخ الأديب شهَاب الدّين فتيَان بن عَليّ الشاغوري لنَفسِهِ يمدح الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ
(أنعم ولذ بأقذار تؤاتيكا ... حَتَّى تنَال بهَا أقْصَى أمانيكا)
(مهذب الدّين يَا عبد الرَّحِيم لقد ... شأوت يَا ابْن عَليّ من يباريكا)
(فازت قداحك فِي حفظ الدُّرُوس ... بأيام سلفن وَمَا خابت لياليكا)
(مَا زلت تسْعَى لكسب الْحَمد مُجْتَهدا ... حَتَّى بلغت الْأَمَانِي من مساعيكا)
(أَنْت امْرُؤ أودعت أَلْفَاظه حكما ... أملت دَقِيق الْمعَانِي من معانيكا)
(حَتَّى ربيت بِحجر الْعلم متخذا ... لَك التَّوَاضُع لبسا فِي تعاليكا)
(فللمعاني ابتسام فِي خلائقك الحسان ... مثل ابتسام الْمجد فِي فيكا)
(يَا من لَهُ قلم كم مد من لقم ... فِي الْفضل سُبْحَانَ باريه وباريكا)
(لَك الثَّنَاء جميلا حَيْثُ كنت فَمَا ... خلق عَن الْمجد والعلياء يثنيكا)
(مَتى تَمَادى الْمجِيد الْمَدْح فِي مدح ... يبد أقْصَى المدى أدنى الَّذِي فيكا)
(يَا جَامعا حسبا عدا إِلَى أدب ... جم عدمت امْرَءًا فِي الْجُود يحكيكا)
(عِنْدِي إِلَيْك صبابات يؤكدها ... حسن الْوَفَاء بِمَعْرُوف يوافيكا)
(ولي إِلَيْك اشتياق لَا يفارقني ... يَا لَيْت لي سَببا للوصل مسلوكا)
(وَلَو تهَيَّأ لي الْمَسْعَى إِلَيْك لما ... فَارَقت بابك بوابا أناجيكا)
(لكنني فِي يَدي شيخوخة وضنا ... قد غادر الْجِسْم منهوبا ومنهوكا)
(كم همة لَك قد أوفت على الْفلك الْأَعْلَى ... بأخمصها كيوان معروكا)
(وددت أَن عليا والرشيد مَعًا ... عاشا وَقد رَأيا مَا الله يوليكا)
(كِلَاهُمَا كَانَ فِي سر وَفِي علن ... لَك الْمُحب فَمَا يَنْفَكّ يطريكا)
(عش وابق وارفل طوال الدَّهْر فِي خلع ... الْمُلُوك واخلع قلوبا من أعاديكا)
(وَلَا تزل أبدا فِي بَاب دَارك للرسل ... أزحام إِلَى السُّلْطَان تدعوكا)
(ونلت بالعادل الميمون طَائِره ... قصوى بالمنى منجعا فِيهِ تداويكا)(1/734)
(فَهُوَ الَّذِي ثل عرش الشّرك إِذْ دمهم ... أَمْسَى وأضحى بِسيف الدّين مسفوكا)
(معود النَّصْر وَالْفَتْح الْقَرِيب فسل ... بِهِ الْمُلُوك فَكل عَنهُ ينبيكا)
(ستهزم الْملك الأنكور وثبته ... وَفِي كلاء سِنَان الرمْح مشكوكا)
(دع حمل هم دمشق الله كالئها ... مِمَّا تخوفه وَالله كاليكا)
(هَل الرئيس ابْن سينا وَهُوَ يطرب ... بالقانون وافاك بالبشرى يغنيكا)
(وَهل مقالات جالينوس صادرة ... عَمَّا تَقول فتأويها فتاويكا)
(فَنعم حدث مُلُوك أَنْت أَفْلح من ... مِنْهُم بناديه فِي الجلى يناديكا)
(كم قلت لِابْنِ خروف دع هجاءك من ... تنمى سعادته يَا أنوكا النوكا)
(حَتَّى هوى بحضيض قد تبوأه ... إِلَى الْقِيَامَة مَا يَنْفَكّ مدكوكا)
(وعشت أَنْت غَنِيا بالهبات وَمن ... عاداك مَاتَ شَدِيد الْفقر صعلوكا)
(دمشق جنَّة عدن للمقيم بهَا ... فَلَا نأت عَن مغانيها مفانيكا)
(شَوَتْ كلى ابْن خروف نَار سعدك إِذْ ... دَعَا بِهِ نحسه يَوْمًا ليهجوكا)
(فكم أَسِير سقام من جوامعه ... جعلته بعد ضيق الْأسر مفكوكا)
(نزهت عَن هفوات يستفز بهَا ... سواك من للخنا يَبْغِي المماليكا)
(وَلم تضع صلوَات مَا بَرحت لَهَا ... حلما بِخَير تحيات تحييكا)
(وَلم تكن رَاغِبًا فِي شرب صَافِيَة ... صحت فَأصْبح مِنْهَا الْعقل موعوكا) الْبَسِيط
أَقُول وَكَانَ هَذَا ابْن خروف الَّذِي ذكره شهَاب الدّين فتيَان مغربيا شَاعِرًا وَكَانَ كثير الهجاء للحكيم مهذب الدّين وَكَانَ آخِرَة ابْن خروف أَنه توجه إِلَى حلب ومدح صَاحبهَا الْملك الظَّاهِر غَازِي بن صَلَاح الدّين وأنشده المديح
وَلما فرغ تَأَخّر الْقَهْقَرَى إِلَى خلف وَكَانَ ثمَّ بِئْر فَوَقع فِيهَا وَمَات
وَمن شعر مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ قَالَ وَكتب بِهِ إِلَى عمي الْحَكِيم رشيد الدّين عَليّ بن خَليفَة فِي مرضة مَرضهَا
(يَا من أؤمله لكل ملمة ... وأخاف إِن حدثت لَهُ أَعْرَاض)
(حوشيت من مرض تُعَاد لأَجله ... وَبقيت مَا بقيت لنا أَعْرَاض)
(إِنَّا نعدك جوهرا فِي عصرنا ... وَسوَاك أَن عدوا فهم أَعْرَاض) الْكَامِل
ولمهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ من الْكتب اخْتِصَار كتاب الْحَاوِي فِي الطِّبّ للرازي
اخْتِصَار كتاب الأغاني الْكَبِير لأبي الْفرج الْأَصْفَهَانِي
مقَالَة فِي الاستفراغ ألفها بِدِمَشْق فِي شهر ربيع الأول سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة
كتاب الجنينة فِي الطِّبّ
تعاليق ومسائل فِي الطِّبّ وشكوك طبية ورد(1/735)
أجوبتها لَهُ
كتاب الرَّد على شرح ابْن صَادِق لمسائل حنين
مقَالَة يرد فِيهَا عل رِسَالَة ابي الْحجَّاج يُوسُف الإسرائيلي فِي تَرْتِيب الأغذية اللطيفة والكثيفة فِي تنَاولهَا
عمي رشيد الدّين عَليّ بن خَليفَة
هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن خَليفَة بن يُونُس بن أبي الْقَاسِم بن خَليفَة من الْخَزْرَج من ولد سعد بن عبَادَة
مولده بحلب فِي سنة تسع وَسبعين وَخَمْسمِائة
وَكَانَ مولد أبي قبله فِي سنة خمس وَسبعين وَخَمْسمِائة بِالْقَاهِرَةِ المعزية وَنَشَأ أَيْضا بِالْقَاهِرَةِ واشتغلا بهَا وَذَلِكَ أَن جدي رَحمَه الله كَانَت لَهُ همة عالية ومحبة للفضائل وَأَهْلهَا وَله نظر فِي الْعُلُوم وَيعرف بِابْن أبي أصيبعة وَكَانَ قد توجه إِلَى الديار المصرية عِنْدَمَا فتحهَا الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب
وَكَانَ فِي خدمته وخدمة أَوْلَاده وَكَانَ من جملَة معارف جدي وأصدقائه من دمشق جمال الدّين أبي الحوافر الطَّبِيب وشهاب الدّين أَبُو الْحجَّاج يُوسُف الكحال وَذَلِكَ أَن مولد جدي كَانَ بِدِمَشْق وَنَشَأ بهَا وَأقَام سِنِين كَثِيرَة
فَلَمَّا اجْتمع بِجَمَال الدّين بن أبي الحوافر بِمصْر وبأبي الْحجَّاج يُوسُف وَكَانَ قد ترعرع أبي وَعمي وَقصد إِلَى تعليمهما صناعَة الطِّبّ لمعرفته بِشَرَفِهَا وَكَثْرَة احْتِيَاج النَّاس إِلَيْهَا وَأَن صَاحبهَا الْمُلْتَزم لما يحب من حُقُوقهَا يكون مبجلا حظيا فِي الدُّنْيَا وَله الدرجَة الْعليا فِي الْآخِرَة
وَترك أبي وَعمي يلازمان ذَيْنك الشَّيْخَيْنِ ويغتنمانهما
فلازم أبي أَبَا الْحجَّاج يُوسُف واشتغل بصناعة الْكحل وباشر مَعَه أَعمالهَا
وَكَانَ أَبُو الْحجَّاج يكحل فِي البيمارستان بِالْقَاهِرَةِ غير الْموضع الَّذِي صَار حِينَئِذٍ بِالْقَاهِرَةِ بيمارستانا وَهُوَ من جملَة الْقصر
وَكَانَ البيمارستان فِي ذَلِك الْوَقْت فِي السقطين أَسْفَل الْقَاهِرَة وَكَانَ جدي يسكن إِلَى جَانِبه فَبَقيَ أبي ملازما لأبي الْحجَّاج يُوسُف ومتعلما مِنْهُ إِلَى أَن أتقن صناعته وَقَرَأَ أَيْضا على غَيره من أَعْيَان الْمَشَايِخ الْأَطِبَّاء فِي ذَلِك الْوَقْت بِمصْر مثل الرئيس مُوسَى الْقُرْطُبِيّ صَاحب التصانيف الْمَشْهُورَة وَمن هُوَ فِي طبقته
ولازم عمي لجمال الدّين بن أبي الحوافر واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ
وَأول اشْتِغَال عمي بِالْعلمِ أَنه كَانَ عِنْد تَقِيّ الْمعلم وَهُوَ أَبُو التقي صَالح بن أَحْمد إِبْرَاهِيم بن الْحسن ابْن سُلَيْمَان العرشي الْمَقْدِسِي
وَكَانَ هَذَا تَقِيّ يعرف علوما كَثِيرَة وَكَانَت لَهُ سيرة حسنه فِي التَّعْلِيم فِي الْكتب وسياسة مَشْهُورَة عَنهُ لم يكن أحد يقدر عَلَيْهَا إِلَّا هُوَ
وَلما أتقن عمي رَحمَه الله حفظ الْقُرْآن عِنْد تَقِيّ وَعلم الْحساب وَشرع فِي تعلم صناعَة الطِّبّ وَالنَّظَر فِيهِ لَازم جمال الدّين بن أَي الحوافر وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت رَئِيس الْأَطِبَّاء بالديار المصرية وصاحبها الْملك الْعَزِيز عُثْمَان بن عبد الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين
وَقَرَأَ عَلَيْهِ شَيْئا من كتب جالينوس السِّتَّة عشر وَحفظ مِنْهَا الْكتب الأولة فِي أسْرع وَقت(1/736)
ثمَّ باحث الْأَطِبَّاء ولازم مُشَاهدَة المرضى بالبيمارستان وَمَعْرِفَة أمراضهم وَمَا يصف الْأَطِبَّاء لَهُم وَكَانَ فِيهِ جمَاعَة من أَعْيَان الْأَطِبَّاء
ثمَّ قَرَأَ فِي أثْنَاء ذَلِك علم صناعَة الْكحل وباشر أَعمالهَا عِنْد القَاضِي نَفِيس الدّين الزبير وَكَانَ الْمُتَوَلِي للكحل فِي ذَلِك الْوَقْت فِي البيمارستان
وَكَذَلِكَ أَيْضا بَاشر مَعَه فِي البيمارستان أَعمال الْجراح
وَكَانَ الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ يَوْمئِذٍ فِي الْقَاهِرَة وَكَانَ صديقا لجدي وَبَينهمَا مَوَدَّة أكيدة فاشتغل عمي عَلَيْهِ بِشَيْء من الْعَرَبيَّة وَالْحكمَة
وَكَانَ يبْحَث مَعَه فِي كتب أرسطوطاليس ويناقشه فِي الْمَوَاضِع المشكلة مِنْهَا وَكَانَ يجْتَمع أَيْضا بسديد الدّين وَهُوَ عَلامَة فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة ويشتغل عَلَيْهِ
وَكَانَ أَيْضا قبل ذَلِك قد اشْتغل بِعلم النُّجُوم على أبي مُحَمَّد بن الْجَعْدِي
وَكَانَ هَذَا الشَّيْخ فَاضلا فِي علم النُّجُوم متميزا فِي أَحْكَامه وَكَانَ لحق الْخُلَفَاء المصريين ويعد من الْخَواص عِنْدهم
وَكَانَ أَبوهُ من أَعْيَان الْأُمَرَاء فِي دولتهم
وَأما صناعَة الموسيقى فَكَانَ قد أَخذهَا عَن ابْن الديجور الْمصْرِيّ وَعَن صفي الدّين أبي عَليّ بن التبَّان
ثمَّ بعد ذَلِك أَيْضا اجْتمع بأعيان المصنفين فِي هَذَا الْفَنّ مثل الْبَهَاء المصلح الْكَبِير وشهاب الدّين النقجوني وشجاع الدّين بن الْحصن الْبَغْدَادِيّ وَمن هُوَ فِي طبقتهم وَأخذ عَنْهُم كثيرا من تصانيف الْعَرَب والعجم
وَلم يكن لِعَمِّي دأب فِي سَائِر أوقاته من صغره إِلَّا النّظر فِي الْعُلُوم والاشتغال وتكميل نَفسه بالفضائل
وَلما عَاد جدي إِلَى الشَّام وانتقل إِلَيْهَا وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة وَكَانَ لِعَمِّي فِي ذَلِك الْوَقْت من الْعُمر نَحْو الْعشْرين سنة شرع عمي فِي معالجة المرضى والتزيد فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ فِي دمشق الشَّيْخ رَضِي الدّين يُوسُف بن حيدرة الرَّحبِي وَكَانَ كثير الصداقة لجدي من السنين الْكَثِيرَة وَسمع بعمي وَلما شَاهده وَرَأى تَحْصِيله فَرح بِهِ وَبَقِي عمي يحضر مَجْلِسه وَيقْرَأ عَلَيْهِ ويبحث مَعَه فِي صناعَة الطِّبّ
وباشر المرضى فِي البيمارستان الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي وَكَانَ فِيهِ من الْأَطِبَّاء موفق الدّين بن الصّرْف وَالشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ
واشتغل أَيْضا بالحكمة فِي ذَلِك الْوَقْت على موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ لِأَنَّهُ كَانَ أَيْضا قد عَاد إِلَى الشَّام وَكَانَ بِدِمَشْق أَيْضا جمَاعَة من أهل الْأَدَب وَمَعْرِفَة الْعَرَبيَّة مثل زين الدّين بن معطي فلازمه واشتغل عَلَيْهِ وَمثل تَاج الدّين بن حسن الْكِنْدِيّ أبي الْيمن وَكَانَ صديقا لجدي وَبَينهمَا مَوَدَّة سالفة من عِنْد عز الدّين فرخشاه
فلازمه عمي أَيْضا واشتغل عَلَيْهِ بِالْعَرَبِيَّةِ وأتقن عمي هَذِه الْعُلُوم بأسرها وَصَارَ شَيخا يقْتَدى بِهِ فِي صناعَة الطِّبّ ويشتغل عَلَيْهِ بهَا
وَله من الْعُمر دون الْخمس وَعشْرين سنة وَكَانَ أَيْضا يشْعر ويترسل وَكَانَ يتَكَلَّم بِالْفَارِسِيَّةِ وَيعرف تصاريف لُغَة الْفرس وينظم شعرًا بالفارسي
وَكَانَ أَيْضا يتَكَلَّم بالتركي
وَلما كَانَ فِي يَوْم الْجُمُعَة خَامِس عشر شهر رَمَضَان سنة خمس وسِتمِائَة استدعاه السُّلْطَان الْملك الْمُعظم عِيسَى ابْن الْملك الْعَادِل أبي بكر بن أَيُّوب وَسمع كَلَامه وَحسن موقعه عِنْده وأنعم عَلَيْهِ وَأمر أَن يَنْتَظِم فِي خدمته فاتفقت تعاويق من حركات السُّلْطَان
وَبعد ذَلِك بأيام سمع بِهِ صَاحب بعلبك وَهُوَ الْملك الأمجد مجد الدّين بهْرَام شاه بن عز الدّين(1/737)
فرخشاه بن شاهان شاه بن أَيُّوب فَبعث إِلَيْهِ يستدعيه ويستدعي جدي لِأَنَّهُ كَانَ يعرفهُ من عهد أَبِيه
فَلَمَّا وصلا إِلَيْهِ تلقاهما وَأحسن إِلَيْهِمَا غَايَة الْإِحْسَان وَأطلق لَهما الجامكية
والجراية والرتب
وَحسن موقع عمي عِنْده جدا حَتَّى كَانَ لَا يُفَارِقهُ فِي أَكثر أوقاته وَلما رأى علمه بِالْحِسَابِ وجودة تصرفه فِيهِ طلب مِنْهُ يرِيه شَيْئا من الْحساب فامتثل أمره وعرفه جملَة مِنْهُ وَألف لَهُ كتابا فِي الْحساب يحتوي على أَربع مقالات
وَكَانَ للْملك الأمجد رَحمَه الله نظر فِي الْفَضَائِل ورغبة فِي أَهلهَا وينظم شعرًا جيدا وَله ديوَان مَشْهُور
وَلما كَانَ فِي سنة تسع وسِتمِائَة مَرضت عَيْني خَادِم يُقَال لَهُ سليطة للسُّلْطَان الْملك الْعَادِل أبي بكر ابْن أَيُّوب وَهُوَ يعزه كثيرا وتفاقم الْمَرَض فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى هَلَكت ويئس مِنْهَا
وَرَآهُ الْمَشَايِخ من الْأَطِبَّاء والكحالين وكل عجز عَن مداواته وَأَجْمعُوا أَنه قد عمي وَأَن المداواة لم يبْق لَهَا فِيهِ تَأْثِير أصلا
وَلما رَآهُ أبي وَتَأمل عَيْنَيْهِ قَالَ أَنا أداوي عَيْني هَذَا ويبصر بهما إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَشرع فِي مداواته وَفِي علاجه وَعَيناهُ فِي كل وَقت تصلح حَتَّى كملت عافيته وبرأ برءا تَاما وَركب وَعَاد إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ أَولا حَتَّى كَانَ يتعجب مِنْهُ
وَظَهَرت مِنْهُ فِي مداواته معْجزَة لم يسْبق إِلَيْهَا فَأحْسن الْملك الْعَادِل ظَنّه بِهِ كثيرا وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام من الْخلْع وَغَيرهَا
وَكَانَ لَهُ قبل ذَلِك أَيْضا تردد إِلَى الدّور السُّلْطَانِيَّة بالقلعة بِدِمَشْق وداوى بهَا جمَاعَة كَانَت فِي أَعينهم أمراض صعبة فصلحوا فِي أسْرع وَقت
وَعرف بذلك أَيْضا الْملك الْعَادِل وَقَالَ مثل هَذَا يجب أَن يكون معي فِي السّفر والحضر وَطَلَبه للْخدمَة فَسَأَلَ أَن يُعْفَى وَأَن يكون مُقيما بِدِمَشْق فَلم يجبهُ إِلَى ذَلِك وَأطلق لَهُ جامكية وجراية واستقرت خدمته لَهُ فِي خَامِس عشر ذِي الْحجَّة سنة تسع وسِتمِائَة
وَكَانَ حظيا عِنْده وَعند جَمِيع أَوْلَاده الْمُلُوك ويعتمدون عَلَيْهِ فِي المداواة وَله مِنْهُم الْإِحْسَان الْكثير والافتقاد التَّام
وَلم يزل فِي الْخدمَة إِلَى أَن توفّي الْملك الْعَادِل رَحمَه الله وَملك دمشق بعده الْملك الْمُعظم فَأمر أَن يسْتَمر فِي خدمته وَكَانَ لَهُ فِيهِ أَيْضا من حسن الِاعْتِقَاد والرأي مثل أَبِيه وَأكْثر وخدم الْملك الْمُعظم لاستقبال صفر سنة عشرَة وسِتمِائَة وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْمُعظم رَحمَه الله
ورسم الْملك النَّاصِر دَاوُد ابْن الْملك الْمُعظم بِأَن يسْتَمر فِي خدمته وَأَن يجْرِي لَهُ مَا كَانَ مقررا فِي أَيَّام وَالِده
فَبَقيَ مَعَه إِلَى أَن اتّفق توجه الْملك النَّاصِر إِلَى الكرك فَأَقَامَ أبي بِدِمَشْق وَصَارَ يتَرَدَّد إِلَى القعلة لخدمة الدّور السُّلْطَانِيَّة لكل من ملك دمشق من أَوْلَاد الْملك الْعَادِل وَغَيرهم وَكلهمْ يرَوْنَ لَهُ ويعتمدون عَلَيْهِ فِي المداواة وَله الجامكية والجراية والإنعام الْكثير
ويتردد أَيْضا إِلَى البيمارستان نور الدّين الْكَبِير وَله الجامكية والجراية وَالنَّاس يقصدونه من كل نَاحيَة لما يَجدونَ فِي مداواته من سرعَة الْبُرْء وَإِن أمراضا كَثِيرَة مِمَّا تكون مداواتها بالحديد يبرئها بذلك على أَجود مَا يُمكن وَمِنْهَا مَا يعالجها بالأدوية ويبرئها بهَا ويستغني أَصْحَابهَا عَن الْحَدِيد
وَهَذَا الْمَعْنى قد مدحه جالينوس فِي كِتَابه فِي محنة الطَّبِيب الْفَاضِل وَقَالَ رَأَيْت طَبِيبا يُبرئ بالأدوية الأدواء الَّتِي يبرئها المعالجون بالحديد بِالْقطعِ فعد ذَلِك على أَن لَهُ علما ودربة وحذقا
قَالَ وَأحمد أَيْضا من رَأَيْته يُبرئ بالأدوية وَحدهَا(1/738)
من أدواء الْعين مَا يعالجه غَيره بِالْقطعِ مثل الظفرة والجرب وَالْبرد وَالْمَاء والغلظ وَالشعر وَزِيَادَة اللَّحْم الَّذِي فِي المآقي ونقصانه
وَأحمد أَيْضا من رَأَيْته حلل من الْعين مَادَّة محتقنة فِيهَا بِسُرْعَة أَو رد الطَّبَقَة الَّتِي يُقَال لَهَا العنابية بعد أَن نتأت نتوءا كثيرا إِلَى موضعهَا حَتَّى لطئت أَو ظهر مِنْهُ غير ذَلِك مِمَّا هُوَ شَبيه فِي علاج الْعين بِغَيْر حَدِيد
هَذَا نَص جالينوس
وَقد رَأَيْت كثيرا من ذَلِك وَأَمْثَاله قد تأتى لأبي فِي المداواة وَكَثِيرًا أَيْضا من أمراض الْعين الَّتِي قد يئس من برئها قد صلحت بمداواته
كَمَا قَالَ فِيهِ بعض من عالجه وبرأ على يَدَيْهِ وَهُوَ شمس الْعَرَب الْبَغْدَادِيّ
(لسديد الدّين فِي الطِّبّ يَد ... لم تزل تنقذ طرفا من قذى)
(كم جلت عَن مقلة من ظلمَة ... وأماطت عَن جفون من أَذَى)
(لَا يعاني طب عين فِي الورى ... قطّ إِلَّا حاذق كَانَ كَذَا)
(يَا مسيح الْوَقْت كم من أكمه ... بك أضحى مبصرا ذَاك وَذَا)
(فبآرائك للداء دوا ... وبألفاظك للروح غذا)
(لَك عِنْدِي منن لَو إِنَّنِي ... شَاكر أيسرها يَا حبذا) الرمل
وشمس الْعَرَب هُوَ أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن النفيس بن هبة الله بن وهبان السّلمِيّ
وَلم يزل أبي مترددا إِلَى الْخدمَة بقلعة دمشق وَإِلَى البيمارستان الْكَبِير النوري إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَكَانَت وَفَاته فِي لَيْلَة الْخَمِيس الثَّانِي وَالْعِشْرين من ربيع الآخر سنة تسع وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
وَدفن ظَاهر بَاب الفريدس فِي طَرِيق جبل قاسيون وَذَلِكَ فِي أَيَّام الْملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحَمَّد صَاحب دمشق
وَلما كَانَ عمي عِنْد الْملك الأمجد وأتى إِلَى بعلبك الْملك الْمُعظم لنجدة الْملك الأمجد عِنْد عداوته الاسبتار واجتمعوا كَانَ عمي يجْتَمع مَعَهم
وَلم يكن فِي زَمَانه من يعرف الموسيقى واللعب بِالْعودِ مثله وَلَا أطيب صَوتا مِنْهُ
حَتَّى أَنه شوهد من تأثر الْأَنْفس عِنْد سَمَاعه مثل مَا يحْكى عَن أبي نصر الفارابي فَكثر إعجاب الْملك الْمُعظم بِهِ جدا وَبعد ذَلِك أَخذه إِلَيْهِ وَاسْتمرّ فِي خدمته من أول جُمَادَى سنة عشر وسِتمِائَة وَأطلق لَهُ الجامكية والجراية
وَلم يزل يواصله بالافتقاد والإنعام وَلَا يُفَارِقهُ فِي أَكثر أوقاته
وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَذَلِكَ كَانَ الْملك الْكَامِل مُحَمَّد وَالْملك الْأَشْرَف يعتمدان عَلَيْهِ
وَإِذا حضر أَحدهمَا عِنْد أَخِيه الْملك الْمُعظم لَا يزَال عِنْدهمَا
وَكَانَ لَهُ مِنْهُمَا الإنعام الْكثير
وَأعرف مرّة قد حضر الْملك الْكَامِل عِنْد أَخِيه الْملك الْمُعظم وَكَانَ عمي مَعَهُمَا وَكَانُوا فِي مجْلِس الْأنس فَأعْطى الْملك الْكَامِل لَهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَة خلعة كَامِلَة وَخَمْسمِائة دِينَار مصرية
وَلما كَانَ الْملك(1/739)
الْمُعظم بِدِمَشْق نَدبه أَن يتَوَلَّى كِتَابَة الْجَيْش وأكد عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَلم يَسعهُ إِلَّا امْتِثَال أمره وَقعد فِي الدِّيوَان وَحضر عِنْده الْجَمَاعَة والنواب وَشرع فِي الْكِتَابَة أَيَّامًا
ثمَّ رأى أَن أوقاته تمر بأسرها فِي الْكِتَابَة والحساب وَلم يبْق لَهُ وَقت لنَفسِهِ ولاشتغاله فِي الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة وَغَيرهَا فَطلب من السُّلْطَان أَن يعفيه من ذَلِك وَتشفع إِلَيْهِ بِجَمَاعَة من خواصه حَتَّى أقاله
وَلما كَانَ فِي سنة إِحْدَى عشرَة وسِتمِائَة حج الْملك الْمُعظم وَحج عمي مَعَه
وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن اتّفقت نوبَة عمنَا فِي نصف شعْبَان سنة أَربع عشرَة وسِتمِائَة وَتَقَدَّمت الفرنج وتخالف الطَّرِيق بَين السُّلْطَان الْكَبِير الْملك الْعَادِل وَولده الْمُعظم فَمضى عمي صُحْبَة الْملك الْعَادِل نَحْو دمشق وَمضى الْملك الْمُعظم نَحْو نابلس
ثمَّ خرج عمي من دمشق صُحْبَة الْملك النَّاصِر دَاوُد ابْن الْملك الْمُعظم وَلما وصلوا عجلون أَمر بِرُجُوع وَلَده فَرَجَعُوا
وَبعد ذَلِك مرض عمي مَرضا وَطَالَ إِلَى آخر السّنة الْمَذْكُورَة فَرَأى أَن الْحَرَكَة تضره وَهُوَ بالطبع يمِيل إِلَى الِانْفِرَاد والاشتغال بالكتب
واستدعاه الْملك الْعَادِل أَبُو بكر بن أَيُّوب لما سمع بتحصيله وَسيرَته وَذَلِكَ فِي الْخَامِس من الْمحرم سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة وولاه طب البيمارستانين بِدِمَشْق اللَّذين وقفهما الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي فَكَانَ يتَرَدَّد إِلَيْهِمَا وَإِلَى القلعة
وَقرر لَهُ جامكية وجراية وأطلقت لَهُ أَيْضا سِتّ الشَّام أُخْت الْملك الْعَادِل جامكية فِي الطِّبّ وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى دارها
وَلما أَقَامَ بِدِمَشْق وَجعل لَهُ مَجْلِسا عَاما لتدريس صناعَة الطِّبّ واشتغل عَلَيْهِ جمَاعَة وَكلهمْ تميزوا فِي الطِّبّ
وَكَانَ يجْتَمع فِي ذَلِك الْوَقْت مَعَ علم الدّين قَيْصر بن أبي الْقَاسِم بن عبد الْغَنِيّ وَهُوَ عَلامَة وقته فِي الْعُلُوم الرياضية فَقَرَأَ عَلَيْهِ علم الْهَيْئَة واتقنها فِي أسْرع وَقت
وَلَقَد كَانَ علم الدّين يَوْمًا عِنْده وَهُوَ يرِيه أشكالا فِي علم الْهَيْئَة وَقَالَ لَهُ وَأَنا أسمع وَالله يَا رشيد الدّين هَذَا الَّذِي قد عَلمته فِي نَحْو شهر دأب غَيْرك فِي خمس سِنِين حَتَّى يُعلمهُ
وَاجْتمعَ أَيْضا عمي فِي دمشق بالسيد الإِمَام الْعَالم شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين بن حمويه وَألبسهُ خرقَة التصوف وَذَلِكَ فِي الْعشْرين من شهر رَمَضَان سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة
وَهَذِه نُسْخَة مَا كتبه لَهُ مَعهَا
بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم
هَذَا مَا أنعم بِهِ الْمولى السَّيِّد الْأَجَل الإِمَام الْعَالم شيخ الشُّيُوخ صدر الدّين حجَّة الْإِسْلَام علم الْمُوَحِّدين أَبُو الْحسن مُحَمَّد ابْن الإِمَام السَّيِّد الْأَجَل الْعَالم شيخ الشُّيُوخ عماد الدّين أبي حَفْص عمر بن أبي الْحسن بن مُحَمَّد بن حمويه أدام الله تأييده من إلباس خرقَة التصوف على مريده عَليّ بن خَليفَة بن يُونُس الخزرجي الدِّمَشْقِي وَفقه الله على الطَّاعَات
ألبسهُ وَأخْبرهُ أَنه أَخذهَا عَن وَالِده الْمَذْكُور رَحمَه الله وَأَن وَالِده أَخذهَا عَن أَبِيه شيخ الْإِسْلَام معِين الدّين أبي عبد الله مُحَمَّد بن حمويه(1/740)
رَحمَه الله وَإنَّهُ أَخذهَا عَن الْخضر عَلَيْهِ السَّلَام
وَالْخضر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَخذهَا جده أَيْضا عَن الشَّيْخ أبي عَليّ الفارندي الطوسي وَأَخذهَا الْمَذْكُور عَن شيخ وقته أبي الْقَاسِم الكركاني وَأَخذهَا أَبُو الْقَاسِم عَن الْأُسْتَاذ الإِمَام أبي عُثْمَان المغربي
وَأَخذهَا أَبُو عُثْمَان عَن شيخ الْحرم أبي عَمْرو الزجاجي وَأَخذهَا الْمَذْكُور عَن سيد الطَّائِفَة الْجُنَيْد بن مُحَمَّد وَأَخذهَا الْجُنَيْد عَن خَاله سري السَّقطِي عَن معرف الْكَرْخِي عَن عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا عَلَيْهِ السَّلَام وَصَحبه وتأدب بِهِ وخدمه
وَأخذ عَليّ عَن أَبِيه مُوسَى بن جَعْفَر الكاظم عَن أَبِيه جَعْفَر بن مُحَمَّد الصَّادِق عَن أَبِيه مُحَمَّد بن عَليّ الباقر عَن أَبِيه عَليّ بن الْحُسَيْن زين العابدين عَن أَبِيه عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام
وَأَخذهَا عَليّ كرم الله وَجهه عَن سيد الْمُرْسلين وَإِمَام الْمُتَّقِينَ نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأخذ مَعْرُوف أَيْضا عَن دَاوُد الطَّائِي عَن حبيب العجمي عَن سيد التَّابِعين الْحسن الْبَصْرِيّ عَن عَليّ عَلَيْهِ السَّلَام عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَكَانَ لِبَاسه الْخِرْقَة أعَاد الله عَلَيْهِ من بركاتها وعَلى جَمِيع من تشرف بهَا فِي الْعشْرين من شهر رَمَضَان سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة بِدِمَشْق المحروسة
وَبَين الأسطر بِخَط الْمولى صدر الدّين شيخ الشُّيُوخ مَا هَذَا مِثَاله ألبست الْخِرْقَة للمذكور وَفقه الله تَعَالَى
وَكتب ابْن حمويه أَبُو الْحسن بن عمر بن أبي الْحسن بن مُحَمَّد فِي شهر رَمَضَان سنة خمس عشرَة وسِتمِائَة حامدا لرَبه ومصليا على رَسُوله ومستغفرا من ذنُوبه
وَلما كَانَ فِي سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وصل إِلَى عمي كتاب من الْملك الصَّالح إِسْمَاعِيل ابْن الْملك الْعَادِل بِخَطِّهِ وَهُوَ يطْلب مِنْهُ أَن يتَوَجَّه إِلَيْهِ إِلَى مَدِينَة بصرى ليعالج والدته ومرضى أخر عِنْده وَيعود
وَكَانَ قد عرض فِي بصرى وباء عَظِيم فَتوجه إِلَيْهِ وعالج والدته فصلحت فِي مُدَّة يسيرَة وأنعموا عَلَيْهِ بِالذَّهَب وَالْخلْع
وَعرضت لِعَمِّي حمى حادة فَعَاد إِلَى دمشق وَلم يزل الْمَرَض يتزايد بِهِ وأعيان الْأَطِبَّاء(1/741)
ومشايخهم يلازمونه ويعالجونه إِلَى أَن انْقَضتْ مُدَّة حَيَاته
وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله فِي السَّاعَة الثَّانِيَة من يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر شعْبَان سنة سِتّ عشرَة وسِتمِائَة وَله من الْعُمر ثَمَان وَثَلَاثُونَ سنة وَدفن عِنْد أَبِيه وأخيه فِي ظَاهر بَاب الفراديس
وَمن كَلَامه فِي الْحِكْمَة مِمَّا سمعته مِنْهُ رَحمَه الله فَمن ذَلِك وَصِيَّة أول النَّهَار قَالَ قد أقبل هَذَا النَّهَار وَأَنت فِيهِ مُهَيَّأ لكل فعل فاختر لنَفسك أفضلهَا لتوصلك إِلَى أفضل الرتب وَعَلَيْك بِالْخَيرِ فَإِنَّهُ يقربك من الله ويحببك إِلَى النَّاس
وَإِيَّاك وَالشَّر فَإِنَّهُ يبعدك عَن الله ويبغضك إِلَى النَّاس
وَافْعل مَا تحاسب نَفسك عَلَيْهِ عِنْد انْقِضَاء هَذَا النَّهَار
والحذر من أَن يغلب شرك على خيرك
وَلَيْسَ الْفَاضِل من بَقِي على حَالَة الطبيعة مَعَ عدم المؤذيات بل الْفَاضِل من بَقِي عَلَيْهَا مَعَ وجود المؤذيات
والانقطاع عَن النَّاس أكبر مَانع للأذى
وَأَقْبل وَصَايَا الْأَنْبِيَاء واقتد بِأَفْعَال الْحُكَمَاء
وَعَلَيْك بِالصّدقِ فَإِن الْكَذِب يصغر الْإِنْسَان عِنْد نَفسه فضلا عَن غَيره
واحلم تشكر وتفضل فَإِن الحقد يعجل الْهم ويوقع فِي العداوات والشرور وَكَذَلِكَ الْحَسَد
وتجنب الأشرار تكف الْأَذَى وَأبْعد عَن أَرْبَاب الدُّنْيَا تكف الأشرار
واقنع من دنياك بِمَا تدفع بِهِ ضَرُورَة بدنك
وَأعلم أَن نهارك هَذَا قِطْعَة تذْهب من حياتك فأنفقها فِيمَا يعود عَلَيْك نَفعه
وَإِذا اندفعت ضَرُورَة بدنك اقْضِ بَاقِي نهارك فِي مصلحَة نَفسك وَافْعل بِالنَّاسِ مَا تشْتَهي أَن يفعلوه بك
وَإِيَّاك وَالْغَضَب والمبادرة إِلَى الانتقام من الْمُغْضب أَو الِانْفِصَال عَنهُ فَإِنَّهُ رُبمَا أوقع فِي النَّدَم
وَعَلَيْك بِالصبرِ فَإِنَّهُ رَأس كل حِكْمَة
وَصِيَّة أول اللَّيْل
قد انْقَضى نهارك بِمَا فِيهِ وَأَقْبل عَلَيْك هَذَا اللَّيْل
وَلَيْسَ لَك فِيهِ فعل بدني ضَرُورِيّ فاعطف على مصلحَة نَفسك بالاشتغال فِي الْعلم والفكر فِي الإطلاع على الْحَقَائِق
وَمهما اسْتَطَعْت الْيَقَظَة فِي ذَلِك فافعل
فَإِذا أردْت النّوم فَاجْعَلْ فِي نَفسك مُلَازمَة مَا أَنْت فِيهِ لتَكون رُؤْيَاك من هَذَا الْجِنْس وَافْعل مَا تحاسب نَفسك عَلَيْهِ عِنْد الصَّباح
واحرص أَن تكون فِي غدك أفضل من يَوْمك المنقضي
وَإِيَّاك أَن تجدبك الطباع إِلَى الْفِكر فِيمَا عاينته فِي نهارك من أَحْوَال أَرْبَاب الدُّنْيَا فتضيع وقتك وتنفتح لَك أَبْوَاب الخداع والحيل وَالْمَكْر فِي تَحْصِيل أُمُور الدُّنْيَا وتظلم نَفسك وتفسد حالك وتبعد عَن الْحَقَائِق وتكتسب الْأَخْلَاق المذمومة ويعسر تخلصك مِنْهَا
لَكِن اعْلَم أَن هَذِه أعرض زائلة لَا فَائِدَة فِيهَا وَإِن ضرورات الْإِنْسَان قَليلَة جدا وفكر فِيمَا يعود على نَفسك نَفعه
وتهيأ للقاء الله فَإِن علمك بموتك مَتى يكون مَسْتُورا عَنْك وَمَا جاؤوك فِي أَن يَأْتِي يَوْم آخر عَلَيْك أقوى من وهمك أَن تَمُوت فِي هَذِه اللَّيْلَة فودع بالثبات على مَا تنْتَفع بِهِ بعد الْمُفَارقَة
وَالسَّلَام
وَقَالَ احترم الْمَشَايِخ وَلَو سكتوا عَن جَوَاب سؤالك فَلَعَلَّ ذَلِك لبعد الْعَهْد وكلال القوى أَو لِأَنَّك سَأَلت عَمَّا لَا يَعْنِيك أَو معرفتهم بعجز فهمك عَن الْجَواب
وَاعْلَم أَن فوائدك مِنْهُم أَكثر من ذَلِك
وَقَالَ اشْتغل بِكَلَام الْمَشْهُورين الجامعة أَولا فَإِذا حصلت الصِّنَاعَة فاشتغل بالكتب الْجُزْئِيَّة من(1/742)
كَلَام كل قَائِل عَارِيا عَن محبَّة أَو بغضة ثمَّ زنه بِالْقِيَاسِ وامتحنه إِن أمكن بالتجربة وَحِينَئِذٍ أقبل الصَّحِيح
وَإِن أشكل فأشرك غَيْرك فِيهِ فَإِن لكل ذهن خاصية بمعان دون معَان
وَقَالَ إِذا أقدمك الأفاضل تقدم وَإِلَّا تَأَخَّرت
وَقَالَ أطلب الْحق دَائِما تحظ بِالْعلمِ لنَفسك وبالمحبة من النَّاس
وَقَالَ طابق أعمالك الْجُزْئِيَّة مَا فِي ذهنك من القانون الْكُلِّي يتَيَقَّن علمك وتجود تجربتك وتتأكد تقدمة معرفتك وتكثر منافعك من النَّاس
وَقَالَ اشْتغل من الْكَلَام بِمَا قصد قَائِله التَّعْلِيم فَإِذا حصلت الصِّنَاعَة فأكدها بالاشتغال بِكَلَام محبي الْحق مبطلي الْبَاطِل فَإِذا تبرهن علمك وتيقن بِحَيْثُ لَا تقدح فِيهِ الشكوك لَا يَضرك حِينَئِذٍ فِي بعض أوقاتك مطالعة كتب المتشككين والجدليين
فَإِن قصدهم إِظْهَار قوتهم فِيمَا يَدعُونَهُ سَوَاء كَانُوا يعلمونه علما يَقِينا أم لَا وَسَوَاء كَانَ مَا يَدعُونَهُ حَقًا أم بَاطِلا
وَقَالَ إِذا تطببت فَاتق الله واجتهد أَن تعْمل بِحَسب مَا تعلمه علما يَقِينا فَإِن لم تَجِد فاجتهد أَن تقرب مِنْهُ
وَقَالَ إِذا وصلت إِلَى رُتْبَة المعلمين فَلَا تمنع مُسْتَحقّا وَهُوَ الْعَاقِل الذكي الْخَيْر الْحَكِيم النَّفس وامنع من سواهُ
وَقَالَ إِذا رَأَيْت أدوية كَثِيرَة لمَرض وَاحِد فاختر أوفقها فِي حَال حَال
وَقَالَ الْأَمْرَاض لَهَا أَعمار والعلاج يحْتَاج إِلَى مساعدة الأقدار
وَأكْثر صناعَة الطِّبّ حدس وتخمين وقلما يَقع فِيهِ الْيَقِين
وجزآها الْقيَاس والتجربة لَا السفسطة وَحب الْغَلَبَة ونتيجتها حفظ الصِّحَّة إِذا كَانَت مَوْجُودَة وردهَا إِذا كَانَت مفقودة وَفِيهِمَا يتَبَيَّن سَلامَة الْفطر ودقة الْفِكر ويتميز الْفَاعِل عَن الْجَاهِل وَالْمجد فِي الطّلب عَن المتكاسل والعمال بِمُقْتَضى الْقيَاس والتجربة عَن الْمُحْتَال على اقتناء المَال وعلو الْمرتبَة
وَقَالَ إِن بِالْعلمِ من الطول وعسر الْحُصُول وَلَو سلك فِيهِ الإيجاز وَالْبَيَان جهد الْإِمْكَان مَعَ طول الْأَعْمَار ودقة الأفكار وتعاون الْبشر وسلامة الْفطر مَا يعجز النَّاظر ويذبذب الخاطر
وَقَالَ انْظُر إِلَى أَفعَال الطبيعة إِذا لم يعقها عائق واقتد بهَا فِي أفعالك
وَقَالَ مَا أحسن الصَّبْر لَوْلَا أَن النَّفَقَة عَلَيْهِ من الْعُمر
وَقَالَ كلما انْتظر الشَّيْء استبعد زَمَانه واستقل مِقْدَاره
وَقَالَ الْخَيْر منتظر فالظن فِيهِ قَلِيل
وَقَالَ الظُّلم فِي الطباع وَإِنَّمَا يتْرك خوف معاد أَو خوف سيف
وَقَالَ لَا تتمّ مصلحَة إِلَّا بمفاسد
وَقَالَ القاصدون مصالحهم أَكثر من المشفقين على مخلوقات الله تَعَالَى بأضعاف مضاعفة(1/743)
وَقَالَ إِن شِئْت الْمقَام بَين النَّاس مَظْلُوما فاحترز مِنْهُم أَو غير مظلوم فأظلمهم
وَأما الْحَال الْوُسْطَى فَلَا تطمع بهَا
وَقَالَ الِانْقِطَاع أفضل أَوْقَات الْحَيَاة وَقَالَ الِانْقِطَاع أفضل السّير وَقَالَ الِانْقِطَاع نتيجة الْحِكْمَة
وَقَالَ الإردباء يطْلبُونَ مَعَ من يفنون نهارهم فِي الحَدِيث وَاللَّهْو والبطالة وَأَنَّهُمْ مَتى خلوا بِأَنْفسِهِم تألموا مِمَّا يجدونه فِي أنفسهم من الرداءة والأخيار على خلاف ذَلِك لأَنهم يأنسون بِأَنْفسِهِم
وَقَالَ أصل كل بلية الرَّغْبَة فِي الدُّنْيَا
وَقَالَ طالما يلبث النَّاس عَن مصالحهم لتشبثهم بالدنيا ففاتتهم
وَقَالَ عجبي لمن لَا يعلم مَتى يَمُوت ويعتقد سَعَادَة وشقاء على أَي حَال كَانَت كَيفَ يركن إِلَى الدُّنْيَا ويهمل المهم من أمره
وَقَالَ مَا أَكثر الملتذين بالآمال من غير الشُّرُوع فِي بُلُوغهَا
وَقَالَ الآمال أَحْلَام الْيَقظَان
وَقَالَ لكل وَقت أشغال كَثِيرَة فَلْيفْعَل فِيهِ أهمها
وَقَالَ كَيفَ حَال من يهمل مهماته فِي أَوْقَاتهَا مؤملا أَن ستأتي أَوْقَات أُخْرَى لَهَا مدافعا من كل وَقت إِلَى غَيره إِلَى أَن يَمُوت مؤملا
وَقَالَ مادمت فِي حَال تقدر على تَدْبِير جسدك ورياضة نَفسك بِحَسب استعدادهما غير مقتر وَلَا مُسْرِف فَلَا تنْتَقل إِلَى غَيره
فَإِن لَك محركا لَو رمت السّكُون لما أمكنك
وَكم من متنقل إِلَى حَال خالها أفضل ألفاها أخس
وَقَالَ لَا تُعَاد السعيد فضد السعيد الشقي
وَقَالَ إِن القى كل من عدوين همته على الآخر فأسعدهما جدا يقهر عدوه
وَلذَلِك أَمر بِإِجْمَاع الهمم عِنْد طلب الْأُمُور الْعَظِيمَة لتقوم مقَام الهمة الْوَاحِدَة المعانة بالتأييد السماوي
وَقَالَ احرص على اتِّخَاذ النَّاس إخْوَانًا وَإِيَّاك وسهام الهمم فَإِنَّهَا صائبة
وَقَالَ احْذَرُوا أذية الْعلمَاء فَإِنَّهُم آل الله
وَقَالَ مَا ظلم ذُو علم حَقِيقِيّ إِلَّا كشف الله ظلامته وَنَصره وخذل ظالمه قَرِيبا
وَقَالَ إِن لله أحبابا يحرسهم بِعَيْنِه الَّتِي لَا تنام هم الْعلمَاء
وَقَالَ الْعلمَاء هم السُّعَدَاء على الْحَقِيقَة
وَقَالَ سعداء الدُّنْيَا على اصْطِلَاح الْجُمْهُور مَا لم تصدر عَنْهُم الْخيرَات فهم الأشرار
وَقَالَ قد ينْطق إِنْسَان فِي وَقت مَا بالحكمة فَإِذا طلب من نَفسه ذَلِك فِي وَقت آخر لم يجده
وَقَالَ من صَاحب الْجُهَّال على جهالاتهم وجذبه حب الدُّنْيَا إِلَى الْحُضُور فِي مجَالِسهمْ فناله شرهم فليسلم نَفسه
وَقَالَ أصلح الْمِيزَان ثمَّ زن بِهِ
وَقَالَ إِذا صرت ذَا عقل هيولاني صرت إنْسَانا بِالْفِعْلِ بقول مُطلق
وَقَالَ ثق بعلمك إِذا لم يقْدَح فِيهِ الِاعْتِرَاض
وَقَالَ نعم الرَّأْي الْوَاحِد
وَقَالَ نعم الرَّأْي المتناسب
وَقَالَ الْعَمَل فِي الرَّأْي بِحَسب غَايَة تصدر بِهِ لَا بِحَسب الْمصلحَة الْمُطلقَة
وَقَالَ نعم الرَّأْي الْحَادِث بَين المستشير الصَّادِق والمستشار الْأمين الْعَاقِل
وَقَالَ لَا تثق إِلَّا بمعتقد فِي شَيْء مَا يرجوه ويخافه مُتَيَقن أَنه لَا حق إِلَّا اعْتِقَاده
فَأَما الشاك فِيمَا يَعْتَقِدهُ أَو من لَا يعْتَقد شَيْئا أَلْبَتَّة فَلَا تثق بِهِ وَلَا تتخذه صاحبا
وَذَلِكَ المعتقد الْمُتَيَقن اعْتِقَاده إِن كَانَ غير أهل ملتك فاحذره أَيْضا لِأَنَّهُ يعْتَقد فِيك الْكفْر بمعتقده فيتخذك عدوا فيفعل بك فعل الْأَعْدَاء
وَقَالَ ثق بِالدّينِ من أهل دينك
وَقَالَ تَيَقّن أَن صِحَة(1/744)
الِاعْتِقَاد سَبَب لملازمة الْأَعْمَال الدِّينِيَّة وملازمة الْأَعْمَال الدِّينِيَّة قد تكون دَلِيلا على تَيَقّن صِحَة الِاعْتِقَاد وَقد يَفْعَلهَا فاعلها تَابعا لغيره غير عَالم بِشَيْء آخر وَقد يَفْعَلهَا تقية وعلامتها إِذا كَانَت تَابِعَة لتيقن صِحَة الِاعْتِقَاد ظُهُور الْآثَار الإلهية عَلَيْهَا وَعدل سَائِر سيرة فاعلها من نَفسه مَعَ جَمِيع الْمَخْلُوقَات
وَقَالَ الْحُرِّيَّة نعم الْعَيْش
وَقَالَ القناعة بَاب الْحُرِّيَّة
وَقَالَ من قدر على الْعَيْش الكفاف بِحَسب ضروراته ثمَّ ملك نَفسه لغير رَغْبَة فِي فضول الْعَيْش فَهُوَ أَحمَق الحمقاء
وَقَالَ مَا أقل ضرورات الْإِنْسَان لَو انصف نَفسه
وَقَالَ
اجْتنب الْألف بِأَهْل الدُّنْيَا فأنهم يشغلونك إِن وَجَدتهمْ ويحزنونك إِن فقدتهم
وَقَالَ أصحب عِنْد ضجرك من تبعدك صحبته مِمَّا كنت فِيهِ
وَقَالَ فقد الْخَلِيل مُؤذن بالرحيل
وَقَالَ الْحَكِيم إِن اسأت إِلَيْهِ أَو توهم أَنَّك أَسَأْت إِلَيْهِ وَإِن لم تسئ فقد تنْتَفع عِنْده بالتنصل إِن كنت بَرِيئًا وبالاعتذار إِن كنت مسيئا
فَأَما الحقود فَمَتَى أشعرت بِأَنَّهُ توهم مِنْك إساءة عدم نفع أَو مُخَالفَة أَمر فاحذره فَإِنَّهُ لَا يزَال فِي خاطره التَّدْبِير فِي أذيتك
وَقَالَ الأصدقاء كَنَفس وَاحِدَة فِي أجساد مُتَفَرِّقَة
وَقَالَ الطَّبِيب مُدبر لبدن الْإِنْسَان من حَيْثُ هُوَ مُقَارن لنَفسِهِ لَا من حَيْثُ هُوَ بدن إِنْسَان بالْقَوْل الْمُطلق
وَهَذَا التَّرْكِيب من أشرف التراكيب فَيَنْبَغِي أَن يكون مَعَانِيه من أشرف النَّاس
وَقَالَ المَال مغناطيس أنفس الجهلاء وَالْعلم مغناطيس أنفس الْعُقَلَاء
وَقَالَ رَأَيْت الجهلاء يعظمون أَرْبَاب الْأَمْوَال مَعَ تيقنهم أَنهم لَا ينيلونهم مِنْهُ شَيْئا إِلَّا ثمن مَتَاع أَو أُجْرَة صناعَة كَمَا ينالونه من الْفُقَرَاء
وَقَالَ خير الْعلمَاء من ناسب علمه عقله
وَقَالَ إِذا أمكن الِانْقِطَاع عَن النَّاس بِأَقَلّ المقنعات فَهُوَ أفضل الْأَحْوَال
وَقَالَ إِذا كنت تشفق على مَالك فَلَا تنْفق شَيْئا مِنْهُ إِلَّا فِي المهم فأحرى أَن تفعل ذَلِك فِي عمرك
وَقَالَ الْحِكْمَة الِاقْتِدَاء بِاللَّه تَعَالَى
وَقَالَ إِنَّمَا يطلع الْإِنْسَان على عُيُوب نَفسه من إطلاعه على عُيُوب النَّاس
وَقَالَ إِذا لَزِمت نَفسك الْخلق الْجَمِيل فكأنك أكرمتها غَايَة الْكَرَامَة وَذَلِكَ أَنَّك إِذا لم تغْضب مثلا وَالنَّاس كلهم يغضبون فَأَنت أفضل النَّاس من هَذَا الْوَجْه
وَقَالَ بِقدر مَا لكل ذَات من الْكَمَال لَهَا من اللَّذَّة بِقدر مَا فِي كل ذَات من النَّقْص فِيهَا من الْأَلَم
وَقَالَ أَكثر من مطالعة سير الْحُكَمَاء واقتد مِنْهَا بِمَا يُمكن الِاقْتِدَاء بِهِ فِي زَمَانك
وَقَالَ قو نَفسك على جسدك
وَقَالَ أصلح كَيْفيَّة الْغذَاء واقتصد فِي كميته
وَقَالَ اكتف من غذَاء الْجِسْم بِمَا يحفظ قواه وَإِيَّاك وَالزِّيَادَة فِيهَا واستكثر من غذَاء النَّفس
وَقَالَ غذَاء النَّفس بالعلوم على التدريج فابتدئ بالسهل الْقَلِيل وتدرج فَإِنَّهَا تشتاق حِين تقوى وتعتاد إِلَى الصعب الْكثير فَإِذا صَار لَهَا ملكة سهل عَلَيْهَا كل شَيْء
قَالَ الْمعدة القوية تهضم جَمِيع مَا يرد إِلَيْهَا من أَنْوَاع الأغذية وَالنَّفس الفاضلة تقبل جَمِيع مَا يرد عَلَيْهَا من الْعُلُوم
وَقَالَ مَا لم تطق التوحد فَأَنت مُضْطَر إِلَى مصاحبة النَّاس
وَقَالَ صَاحب النَّاس بِمَا يرضيهم وَلَا تطرح جَانب الله تَعَالَى
وَقَالَ كتب بَعضهم إِلَى شَيْخه يشكو تعذر أُمُوره فَكتب إِلَيْهِ إِنَّك لن تنجو مِمَّا تكره حَتَّى تصبر عَن كثير مِمَّا تحب وَلنْ تنَال مَا تحب حَتَّى تصبر على كثير مِمَّا تكره
وَالسَّلَام
وَقَالَ اشكر المحسن وَمن لَا يسيء واعذر النَّاس فِيمَا يظْهر مِنْهُم وَلَا تلمهم فَلِكُل من الموجودات طبع خَاص
وَقَالَ اسْتحْسنَ للنَّاس مَا تستحسنه لنَفسك واستقبح لنَفسك مَا تستقبحه(1/745)
لَهُم
وَقَالَ لَا تخل فعلا من أفعالك من تقوى الله تَعَالَى
وَقَالَ أطع الله محقا يطعك النَّاس
وَقَالَ لَا شَيْء أنجع فِي الْأُمُور من الهمة الصادقة
وَقَالَ خُذ من كل شَيْء مَا يوصلك إِلَى الْغَايَة الَّتِي وضع من أجلهَا
وَقَالَ كل مَا يحصل بِالْعرضِ فَلَا تثق بِهِ
وَقَالَ اخضع للنَّاس وخاصة الْعلمَاء والمشايخ وَلَا تزدر أحدا فطالما كتم الْعَالم علمه ليتخير لَهُ من يودعه إِيَّاه كَمَا يتَخَيَّر الْفَلاح الأَرْض
وَقَالَ اشْتغل من كل علم بِكَلَام أربابه الأول
وَقَالَ استكثر من الْعِنَايَة بالكتب الإلهية الْمنزلَة فَفِيهَا كل حِكْمَة
وَقَالَ أَكثر من صُحْبَة الْمَشَايِخ فَأَما أَن تستفيد من علمهمْ وَأما من سيرتهم
وَقَالَ إِذا تَأَمَّلت حركات الْفُضَلَاء وسكناتهم وجدت فِيهَا حكما جمة
وَقَالَ رَأَيْت الْهم عِنْد أَكثر النَّاس مَا يجتلبون بِهِ المَال
وَقَالَ مَا أَكثر مَا يسمع النَّاس الْوَصَايَا النَّبَوِيَّة والحكمية وَلَا يستعملون مِنْهَا إِلَّا مَا يجتلبون بِهِ المَال
وَقَالَ مَا أَشد ركون النَّاس إِلَى اللَّذَّات الجسمانية
وَقَالَ لَا تخل وقتك الْحَاضِر من الْفِكر فِي الْآتِي
وَقَالَ من لم يفكر فِي الْآتِي أَتَى قبل أَن يستعد لَهُ
وَقَالَ القناعة سَبَب كل خير وفضيلة
وَقَالَ وبالقناعة يتَوَصَّل إِلَى كل مَطْلُوب
وَقَالَ القانع مساعد على بُلُوغ مآربه
وَقَالَ اقصد من الْكَمَال الإنساني الْغَايَة القصوى فَإِن لم يكن فِي قوتك الْوُصُول إِلَيْهَا فَإنَّك تصل إِلَى مَا فِي قوتك أَن تصل إِلَيْهِ وَإِذا قصدت الْكَمَال التَّالِي لكمالك آملا إِذا وصلته أَن تقصد مَا يَلِيهِ فَرُبمَا ركنت إِلَى الرَّاحَة وقنعت بِدُونِ مَا تستحقه
وَقَالَ احرص على أَن لَا تخل بِشَيْء من الْعِبَادَات الْبَدَنِيَّة فَإِنَّهَا نعم الْمعِين الْموصل إِلَى الْعِبَادَات النفسانية
وَقَالَ كفى بالوحدة شرفا أَن الله تَعَالَى وَاحِد
وَقَالَ كلما تمحضت الْوحدَة كَانَت أشرف لِأَن وحدة الله تَعَالَى لَا يشوبها كَثْرَة من وَجه أصلا
وَقَالَ اعْتصمَ بِاللَّه تَعَالَى وتوكل عَلَيْهِ وثق بِهِ محقا يحرسك وَيَكْفِيك كل مؤونة وَلَا يخيب لَك ظنا
وَقَالَ اجْعَل الْملَّة عضدك وَأَهْلهَا إخوانك وَلَا تركن إِلَى الدول فَإِن الْملَل هِيَ الْبَاقِيَة
وَقَالَ عود نَفسك الْخَيْر علما وَعَملا تلق الْخَيْر من الله تَعَالَى وَمن النَّاس عَاجلا وآجلا
وَقَالَ لَا تطمع بالانقطاع مَا دَامَ لَك أدنى طمع
وَقَالَ لَو وقف الضَّعِيف عِنْد قدره لأمن كثيرا من الأخطار
وَقَالَ لَيْت شعري بِمَا أعْتَذر إِذا علمت وَلم أعمل أَرْجُو عَفْو الله تَعَالَى
وَمن شعره وَهُوَ مِمَّا سمعته من لَفظه رَحمَه الله فَمن ذَلِك قَالَ
(يَا صَاحِبي سلا الْهوى وذراني ... مَاذَا تريدا من مشوق عاني)
(لَا تسألاه عَن الْفِرَاق وطعمه ... إِن الْفِرَاق هُوَ الْمَمَات الثَّانِي)
(نَادَى الحداة دنا الرحيل فودعوا ... ففجعت فِي قلبِي وَفِي خلاني)
(وسرت ركائبهم وَقد غسق الدجى ... فأضاء مِمَّن سَار فِي الأظعان)
(مَا كنت أعلم أَن بعْدك قاتلي ... حَتَّى فعلت وغرني سلواني)
(وبكيت وجدا بعد ذَاك فَلم أجد ... إِنِّي وَقد صَار اللِّقَاء أماني) الْكَامِل(1/746)
وَقَالَ فِي صفة مجْلِس
(سقيا ليَوْم تمّ السرُور بِنَا ... فِيهِ وكأس الشُّمُول تجمعنا)
(والدهر ولت عَنَّا حوادثه ... وَنحن فِي لَذَّة ونيل مني)
(بِمَجْلِس كَامِل المحاسن لَو ... بِهِ يحل الجنيذ لافتتنا)
(فكاهة بَيْننَا وَفَاكِهَة ... وكاس رَاح وراحة وغنا)
(بَين ندامى مثل الشموس لَهُم ... علم وَفضل ورفعة وسنا)
(حَدِيثهمْ لَا يمل سامعه ... لطيبه الْعين تحسد الإذنا)
(إخْوَان صدق صفت ضمائرهم ... أولو عفاف لَا يضمرون خنا)
(أهل سماح مَا أَن يزَال لَهُم ... صنع لَهُ فِي الْأَنَام طيب ثَنَا)
(ننشد أغزالنا ونلغزها ... باسم غزال أضحى يغازلنا)
(فِي يَوْم دجن تهمي سحائبه ... كَأَنَّهَا كف رب منزلنا)
(وَعند منقل تلألأ فِي ... أرجائه النَّار فَهِيَ تدفئنا)
(تجاهه شاد وَفِي يَده ... طير كصب لَدَيْهِ ذاب ضنا)
(كَأَنَّهُ إِذْ غَدا يقلبه ... فِي النَّار قلبِي الَّذِي قد أرتهنا)
(ظلت كؤوس المدام طاردة ... للهم حَيْثُ السرُور عكرنا)
(نسر مَا بَيْننَا الحَدِيث وَلَا ... نبديه خوف الوشاة تسمعنا)
(فَمَا تَرَانَا عين لذِي بصر ... إِلَّا عُيُون الْحباب ترمقنا)
(فاطيب الْعَيْش مَا نكتمه ... خوفًا وَإِن كَانَ سرنا علنا)
(يَا يَوْمنَا هَل نرَاك ثَانِيَة ... ببعلبك أم تعود لنا) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(يَا صَاح ضَاعَ نسكي ... مذ صرت فِي بعلبك)
(وَكَيف يسلم ديني ... بعد افتتاني وهتكي)
(بِكُل أهيف لدن ... القوام للبدر يَحْكِي)
(يرنو بصارم لحظ ... ماسل إِلَّا لفتكي)
(كَأَن فِي فِيهِ خمرًا ... شيبت بشهد ومسك)
(جذلان يضْحك تيها ... إِذا رَآنِي أبْكِي)
(وَلَا يرق إِذا مَا ... خضعت عِنْد التشكي)
(وَزَادَنِي زور واش ... وشى إِلَيْهِ بإفك)
(مَا راقب الله لما ... سعى إِلَيْهِ بهلكي)(1/747)
(فَصَارَ فِي مَذْهَب الْحبّ ... مالكي وَهُوَ ملكي) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(سر الْمُحب بدمعه إعلان ... فَمَتَى يكون مَعَ الورى كتمان)
(أرأيتما يَا صَاحِبي فَتى تذل ... لَهُ الْأسود تذلة الغزلان)
(مَا كنت مِمَّن يسترق فُؤَاده ... عشق وَلَكِن الْهوى سُلْطَان)
(مولَايَ إِن الهجر بعد تواصل ... ورجاؤنا قد أمه الهجران)
(هَل ترحم الصب الكئيب بزورة ... يَا من جَمِيع فعاله إِحْسَان)
(تلقى فَتى رحب الفنا ذَا عفة ... طلق الْمحيا قلبه ولهان) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(أفدي رَشِيق الْقد لَيْسَ لَهُ ... فِي الْحسن وَالْإِحْسَان من ند)
(وَسنَان مَا لجفون عاشقه ... من رائد التسهيد من بُد)
(وَكَأن ريقته مُعتقة ... مشمولة بِالْمَاءِ والند)
(لكنه أضحى يعارضني ... بالهجر والإعراض والصد)
(فلأصبرن على ملالته ... فَعَسَى عَلَيْهِ تصبري يجدي) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(قد رق لي ورق الْحمى فِي لعلع ... بالنوح فِي الدوح فَفَاضَتْ أدمعي)
(ناحت مراء من حنين قَلبهَا ... ونحت نوح ثاكل مفجع)
(ودعتهم ثمَّ رجعت عادما ... قلبِي وهم يَا خيبة الْمُودع)
(وَقلت يَا روحي بيني فَلَقَد ... بانوا وَإِن لم يرجِعوا لَا تَرْجِعِي) الرجز
وَقَالَ أَيْضا
(أسفت وَمَا يجدي التأسف والوجد ... ونحت على نجد وَقد اقفرت نجد)
(وَسَار بِمن أَهْوى الركاب وأدمعي ... تفيض وَقَالُوا مت فَهَذَا هُوَ الْفَقْد)
(حرمت لذيذ الْعَيْش بعد فِرَاقه ... وبالرغم مني أَن يطول بِهِ الْعَهْد) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(أتبخل بالتحية وَالسَّلَام ... فديتك لم وَأَنت أَبُو الْكِرَام)(1/748)
(أَتَى رَمَضَان فافعل فِيهِ خيرا ... لتضحي فِيهِ مَقْبُول الصّيام)
(وَلَا تشهر حسام اللحظ فِيهِ ... وَلَا تهزز بِهِ رمح القوام)
(أما تخشى من الرَّحْمَن يَا من ... يحل الْقَتْل فِي الشَّهْر الْحَرَام) الوافر
وَقَالَ لغزا فِي أَبُو الْكِرَام
(يَا سائلي عَمَّن لعَيْنِي حلا ... فكر فقد جئْتُك بالمشكل)
(ذُو تِسْعَة تعد لَهَا شَاءَ فِي ... أعدادها فَافْهَم وَلَا تغفل)
(وثامن الأحرف كالرابع ... الْمَعْرُوف وَالرَّابِع كَالْأولِ)
(وَالسَّابِع التَّاسِع فِي خَمْسَة ... وَعشرَة السَّادِس فأظهره لي)
(وَعشر ثَانِيَة إِذا كَانَ فِي ... خامسه كالثالث الْأَفْضَل)
(هَذَا اسْم من أَهْوى فَإِن كنت ذَا ... معرفَة فَأخْبر وَلَا تمطل) السَّرِيع
وَقَالَ لغزا فِي أَبُو الْكِرَام
(يَا سائلي عَن حبيب لَا أُسَمِّيهِ ... خوف الرَّقِيب وَلَكِنِّي أعميه)
(مركب الِاسْم من سِتِّينَ قد ضربت ... فِي نصف سدس لَهَا فَافْهَم مَعَانِيه)
(وَخمْس سابعه ضعف لسادسه ... وَعشر سادسه مَال لثانيه)
(وثالث الِاسْم فِي هَاء كخامسه ... وَالرَّابِع الأول الْمَعْرُوف بحكيه)
(هَذَا اسْم سؤلي فَلَا تفصح بأحرفه ... إِنِّي فديتك مهما عِشْت أخفيه) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا لغزا فِيهِ
(فديت من نصف اسْمه جذر قَاف ... وخمسه لَام وياء وكاف)
(وسادس الأحرف فِي نصفه ... وربعه مثل الثمان الظراف)
(وَضعف ثَانِي الِاسْم فِي خَمْسَة ... كَنِصْف أنهاه قِيَاسا كفاف)
(وَالسَّابِع الثُّلُثَانِ وَالثَّالِث ... الْخمس وَالرَّمْز كَاف)
(وَالرَّابِع الأول يَا سَيِّدي ... هَذَا الَّذِي أورث جفني الرعاف)
(وَهُوَ على قسمَيْنِ إِحْدَاهمَا ... أقصده مِنْهُ وَقسم مُضَاف)
(هَذَا اسْم من أَهْوى فَهَل عاشق ... أُوتِيَ على مثل افتناني عفاف) السَّرِيع
وَقَالَ لغزا فِي أتش
(يَا سائلي عَن الأقمار تحكيه ... مهلا فَإِنِّي طول الدَّهْر أخفيه(1/749)
(مركب الِاسْم من تَاء وَمن ألف ... وَسدس ثالثه نصف لثانيه)
(وَأول الِاسْم عشر الْيَاء فاصغ لما ... أَقُول واكتمه أَنِّي لَا أُسَمِّيهِ) الْبَسِيط
وَقَالَ
(حرم بعد الْقَوْم آرابه ... صب غَدا ينْدب مَا صابه)
(ودع من يهواه ثمَّ انثنى ... يعالج الْمَوْت وأسبابه)
(قَالَ لَهُ صَاحبه هَكَذَا ... جَزَاء من فَارق أحبابه) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(سيرتي كالمرآة يبصر مِنْهَا ... شبهه ذُو الْجمال والقبح حَقًا)
(فيسر الْجَمِيل حسن يوافي ... ويسوء الْقَبِيح قبح يلقى)
(فيديم الْجَمِيل رُؤْيَته فِيهَا ... وينأى عَنْهَا الْقَبِيح الأشقى)
(وَكَذَا لَا يلم بِي من بني الدُّنْيَا ... سوى الأكرمين طبعا وخلقا) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(ثَلَاثُونَ عَاما من حَياتِي مَضَت وَمَا ... يئست وَلَا نولت بعض مطالبي)
(تعاندني الْأَيَّام عمدا وإنني ... صبور على الْبلوى منيع الجوانب)
(تقربت من حظي بِكُل فَضِيلَة ... وَفضل فجاراني بِضيق الْمذَاهب)
(إِلَّا أَن يأس النَّفس أوفق للفتى ... وَأطيب من نجوى الْأَمَانِي الكواذب) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(هِيَ الدُّنْيَا فَلَا تغتر مِنْهَا ... بِشَيْء أَنه عرض يَزُول) الوافر
ولعمي رشيد الدّين عَليّ بن خَليفَة من الْكتب كتاب الموجز الْمُفِيد فِي علم الْحساب أَربع مقالات أَلفه للْملك الأمجد صَاحب بعلبك وَذَلِكَ فِي شهر صفر سنة ثَمَان وسِتمِائَة وهم فِي المخيم بِالطورِ
كتاب فِي الطِّبّ أَلفه للْملك الْمُؤَيد نجم الدّين مَسْعُود بن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين يُوسُف بن أَيُّوب وَقد استقصى فِيهِ ذكر الْأُمُور الْكُلية من صناعَة الطِّبّ وَمَعْرِفَة الْأَمْرَاض وأسبابها ومداواتها
كتاب طب السُّوق أَلفه لبَعض تلامذته وَهُوَ يشْتَمل على ذكر الْأَمْرَاض الَّتِي تحدث كثيرا ومداواتها بالأشياء السهلة الْوُجُود الَّتِي قد اشْتهر التَّدَاوِي بهَا
مقَالَة فِي نِسْبَة النبض وموازنته إِلَى الحركات الموسيقارية
مقَالَة فِي السَّبَب الَّذِي لَهُ خلقت الْجبَال ألفها للْملك الأمجد
كتاب الاسطقسات
تعاليق ومجريات فِي الطِّبّ(1/750)
بدر الدّين ابْن قَاضِي بعلبك
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الْعَالم الْكَامِل بدر الدّين المظفر ابْن القَاضِي الإِمَام الْعَالم مجد الدّين عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم
كَانَ وَالِده قَاضِيا ببعلبك وَنَشَأ هُوَ بِدِمَشْق واشتغل بهَا فِي صناعَة الطِّبّ
وَقد جمع الله فِيهِ من الْعلم الغزير والذكاء المفرط والمروءة الْكَثِيرَة مَا تعجز الألسن عَن وَصفه
قَرَأَ صناعَة الطِّبّ على شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ رَحمَه الله وأتقنها فِي أسْرع الْأَوْقَات
وَبلغ فِي الْجُزْء العلمي والعملي مِنْهَا إِلَى الغايات وَله همة عالية فِي الِاشْتِغَال وَنَفس جَامِعَة لمحاسن الْخلال
وَوجدت لَهُ فِي أَوْقَات اشْتِغَاله من الِاجْتِهَاد مَا لَيْسَ لغيره من المشتغلين وَلَا يقدر عَلَيْهِ سواهُ أحد من المتطببين كَانَ لَا يخلي وقتا من التزيد فِي الْعلم والعناية فِي المطالعة والفهم
وَحفظ كثيرا من الْكتب الطبية والمصنفات الْحكمِيَّة
وَمِمَّا شاهدته من علو همته وجودة قريحته أَن الشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ كَانَ قد صنف مقَالَة فِي الاستفراغ وَقرأَهَا عَلَيْهِ كل وَاحِد من تلامذته
وَأما هُوَ فَإِنَّهُ شرع فِي حفظهَا وَقرأَهَا عَلَيْهِ من خاطره غَائِبا من أَولهَا إِلَى آخرهَا
فأعجب الشَّيْخ مهذب الدّين ذَلِك مِنْهُ
وَكَانَ ملازما لَهُ مواظبا على الْقِرَاءَة والدرس
وَلما خدم الشَّيْخ مهذب الدّين الْأَشْرَف مُوسَى ابْن الْملك الْعَادِل وَكَانَ فِي بِلَاد الشرق وسافر الْحَكِيم مهذب الدّين إِلَى خدمته وَذَلِكَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وسِتمِائَة توجه الْحَكِيم بدر الدّين مَعَ الشَّيْخ مهذب الدّين وَلم يقطع الِاشْتِغَال عَلَيْهِ
ثمَّ خدم الْحَكِيم بدر الدّين بالرقة فِي البيمارستان الَّذِي بهَا وصنف مقَالَة حَسَنَة فِي مزاج الرقة وأحوال أهويتها وَمَا يغلب عَلَيْهَا
وَأقَام بهَا سِنِين واشتغل بهَا فِي الْحِكْمَة على زين الدّين الْأَعْمَى رَحمَه الله
وَكَانَ إِمَامًا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة
ثمَّ أَتَى بدر الدّين إِلَى دمشق
وَلما تملك الْملك الْجواد مظفر الدّين يُونُس بن شمس الدّين مودود ابْن الْملك الْعَادِل دمشق وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة استخدمه وَكَانَ حظيا عِنْده مكينا فِي دولته مُعْتَمدًا عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ وولاه الرياسة على جَمِيع الْأَطِبَّاء والكحالين والجرائحيين
وَكتب لَهُ منشورا بذلك فِي شهر صفر سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة فجدد من محَاسِن الطِّبّ مَا درس وَأعَاد من الْفَضَائِل مَا دثر وَذَلِكَ أَنه لم يزل محبا لفعل الْخيرَات مفكرا فِي الْمصَالح فِي سَائِر الْأَوْقَات
وَمِمَّا وجدته قد صنعه من الْآثَار الْحَسَنَة الَّتِي تبقى مدى الْأَيَّام ونال بهَا من المثوبة أوفر الْأَقْسَام أَنه لم يزل مُجْتَهدا حَتَّى اشْترى دورا كَثِيرَة ملاصقة للبيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه وَوَقفه الْملك الْعَادِل نور الدّين مَحْمُود بن زنكي رَحمَه الله
وتعب فِي ذَلِك تعبا كثيرا واجتهد بِنَفسِهِ وَمَاله حَتَّى أضَاف هَذِه الدّور الْمُشْتَرَاة إِلَيْهِ وَجعلهَا من جملَته وَكبر بهَا قاعات كَانَت صَغِيرَة للمرضى وبناها أحسن الْبناء وشيدها وَجعل المَاء فِيهَا جَارِيا فتكمل بهَا البيمارستان وَأحسن فِي فعله ذَلِك غَايَة الْإِحْسَان وَلم يزل يدرس صناعَة الطِّبّ
وخدم أَيْضا الْملك الصَّالح نجم الدّين أَيُّوب ابْن الْملك الْكَامِل لمداواة الأدر السعيدة بقلعة دمشق وَمن يلوذ بهَا والتردد إِلَيّ البيمارستان ومعالجة المرضى فِيهِ وَكتب لَهُ منشورا برياسنه أَيْضا على جَمِيع الْأَطِبَّاء وَذَلِكَ فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة(1/751)
وخدم أَيْضا لمن أَتَى بعده من الْمُلُوك الَّذين ملكوا دمشق وَله مِنْهُم الْجَارِي المستمر والراتب المستقر والمنزلة الْعلية والفواضل السّنيَّة
وَهُوَ ملازم التَّرَدُّد إِلَى القلعة والبيمارستان ودائم التزايد فِي الْعلم فِي سَائِر الْأَزْمَان
وَمِمَّا وجدته من علو همته وَشرف أرومته أَنه تجرد لعلم الْفِقْه فسكن بَيْتا فِي الْمدرسَة القليجية الَّتِي وَقفهَا الْأَمِير سيف الدّين عَليّ بن قليج رَحمَه الله وَهِي مجاورة لدار الْحَكِيم بدر الدّين فَقَرَأَ الْكتب الْفِقْهِيَّة والفنون الأدبية وَحفظ الْقُرْآن حفظا لَا مزِيد عَلَيْهِ وَعرف التَّفْسِير والقراءات حَتَّى صَار فِيهَا هُوَ الْمشَار إِلَيْهِ
واشتغل بذلك على الشَّيْخ الإِمَام شهَاب الدّين أبي شامة رَحمَه الله
وَلَيْسَ للحكيم بدر الدّين دأب إِلَّا الْعِبَادَة وَالدّين والنفع لسَائِر الْمُسلمين وَلم يزل يبلغنِي تفضله ويصلني أنعامه وتفضله وَكَانَ وصل إِلَيّ من تصنيفه كتاب مفرح النَّفس فَكتبت إِلَيْهِ فِي رِسَالَة وقف الْمَمْلُوك على مَا أودعهُ مَوْلَانَا الْحَكِيم الإِمَام الْعَالم بدر الدّين أيد الله سعادته وأدام سيادته فِي كِتَابه المعجز وَلَفظه الموجز الموسوم بمفرح النَّفس الموجد للسرور والأنس الَّذِي أربى بِهِ على القدماء وَعجز سَائِر الْأَطِبَّاء والحكماء وتقلبت الْأَدْوِيَة القلبية مِنْهُ فرقا وَصَارَ الرئيس مرؤوسا فِي هَذَا المرتقى
وَلَا غرو صُدُور مثله عَن مَوْلَانَا وَهُوَ شيخ الأوان وعلامة الزَّمَان فَالله يَجْعَل حَيَاته مَقْرُونا بهَا السَّعَادَة ويملأ الْآفَاق من تصانيفه لتكثر مِنْهَا الإفادة
وكتبت فِي هَذِه الرسَالَة إِلَيْهِ هَذِه الأبيات ونظمتها بديها
(تكَاد لنُور بدر الدّين ... تخفى طلعة الشَّمْس)
(حَكِيم فَاضل حبر ... شرِيف الخيم وَالنَّفس)
(وأدرى النَّاس فِي طب ... وَعلم النبض وَالْحَبْس)
(خَبِير بالتداوي عَن ... يَقِين لَيْسَ عَن حدس)
(فَمن بقراط وَالشَّيْخ ... من اليونان وَالْفرس)
(فكم أوجد من برْء ... وَكم أنقذ من عكس)
(سما فِي الرَّأْي عَن قيس ... وَفِي الْأَلْفَاظ عَن قس)
(وَقد أهْدى إِلَى قلبِي ... كتاب مفرح النَّفس)
(كتاب حل تأييد ... بِهِ فِي عَالم الْقُدس)
(تجلى نور مَعْنَاهُ ... لنا فِي ظلمَة النَّفس)
(وَمَا أحسن زهر الْخط ... فِي روض من الطرس)
(بَدَت أبكار أفكار ... فَكَانَ الطّرف فِي عرس)
(وَمَا أَكثر لي فِيهِ ... من الرَّاحَة والأنس)
(وَقد قابلت مَا يحويه ... بالتقبيل والدرس)(1/752)
(فاجني مِنْهُ إثمارا ... حلت من طيب الْغَرْس) الهزج
وَمِمَّا كتبته إِلَيْهِ أَيْضا فِي كتاب
(مولَايَ بدر الدّين يَا من لَهُ ... فَضَائِل تتلى وإحسان)
(وَمن علا فِي الْمجد حَتَّى لقد ... قصر عَن علياه كيوان)
(وَمن إِذا قَالَ فَمن لَفظه ... يسحب ذيل العي سحبان)
(شوقي إِلَى لقياك قد زَاد عَن ... حد وَصدق الود برهَان)
(لم تخل عَن فكري وَمَالِي بِمَا ... أَنْعَمت طول الدَّهْر نِسْيَان) السَّرِيع
أدام الله أَيَّام الْمجْلس السَّامِي الأجلي المولوي الحكيمي العالمي الفاضلي الصدري الكبيري المخدومي عَلامَة عصره وفريد دهره بدر الدُّنْيَا وَالدّين عُمْدَة الْمُلُوك والسلاطين خَالِصَة أَمِير الْمُؤمنِينَ حرص الله معاليه وبلغه فِي الدَّاريْنِ نِهَايَة أمانيه وكبت حَسَدْته وأعاديه
وَلَا زَالَت السَّعَادَة مخيمة بفنائه والألسن مجتمعة على شكره وثناءه الْمَمْلُوك يُنْهِي أَن عِنْده من تزايد الأشواق إِلَى الْخدمَة مَا لَو أَن لَهُ فصاحة الشَّيْخ الرئيس مَعَ طول عبارَة الْفَاضِل جالينوس لقصر عَن ذكر بعض مَا يجده من برح الأشواق ومكابدة مَا يشكوه من ألم الْفِرَاق وَهُوَ يبتهل إِلَى الله تَعَالَى فِي تسهيل الِاجْتِمَاع السار وتيسير اللِّقَاء على الِاخْتِيَار والإيثار
وَلما اتَّصل بالمملوك مَا صَار إِلَى الْمولى من رياسته على سَائِر الْأَطِبَّاء وَمَا خصهم الله تَعَالَى بذلك من النِّعْمَة وأسبغ عَلَيْهِم من جزيل الآلاء وجد نِهَايَة الْفَرح وَالسُّرُور وَغَايَة مَا يتوخاه من الحبور وَتحقّق أَن الله تَعَالَى قد نظر إِلَى الْجَمَاعَة بِعَين رعايته وشملهم بِحسن عنايته وَأَن هَذِه الصِّنَاعَة قد علا مقدارها وارتفع منارها وَصَارَ لَهَا الْفَخر الْأَكْبَر وَالْفضل الْأَكْثَر والسعد الأسمى وَالْمجد الْأَسْنَى وَقد شرف وَقتهَا بِهِ على سَائِر الْأَوْقَات وَصَارَت حَال الْعلم حِينَئِذٍ على خلاف مَا ذكره ابْن الْخَطِيب فِي الكليات
فَللَّه الْحَمد على مَا أولى من نعمه الشاملة ومننه الْكَامِلَة
وَالْمولى هُوَ من جعلت أُمُور هَذِه الصِّنَاعَة لَدَيْهِ وفوضت رياسة أَهلهَا وأربابها إِلَيْهِ
(وَلم تَكُ تصلح إِلَّا لَهُ ... وَلم يَك يصلح إِلَّا لَهَا)
فَإِن شَوَاهِد الْمجد لم تزل تُوجد من شمائله وأعلام السؤدد تدل على فضائله وفواضله
فَالله تَعَالَى يُؤَيّدهُ فِيمَا أولاه ويسعده فِي آخرته وأولاه إِن شَاءَ الله تَعَالَى
وَمِمَّا قلته أَيْضا وكتبت بِهِ إِلَيْهِ فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
(كتبت ولي شوق يزِيد عَن الْحصْر ... وفرط ارتياح مُسْتَمر مَعَ الدَّهْر)
(ونار أسى للبعد بَين جوانحي ... لَهَا لَهب أذكى وقودا من الْجَمْر)
(وَعِنْدِي حنين لَا يزَال إِلَى الَّذِي ... لَهُ منن عِنْدِي تردد فِي فكري)
(هُوَ الصَّدْر بدر الدّين أفضل مَا جد ... وَمن هُوَ فِي أوج العلى أوحد الْعَصْر)(1/753)
(حَكِيم حوى مَا قَالَ بقراط سالفا ... وَمَا قَالَ جالينوس من بعده يدْرِي)
(وَيعلم للشَّيْخ الرئيس مباحثا ... إِذا مَا تَلَاهَا أورد اللَّفْظ كالدر)
(إِذا قَالَ بذ الْقَائِلين وَلَفظه ... هُوَ السحر لَكِن الْحَلَال من السحر)
(وَإِن طب ذَا سقم وأسعف مقترا ... أَتَى الْفضل والإفضال بالبرء وَالْبر)
(كثيرا الحيا طلق الْمحيا إِذا هَمت ... سحائب جود مِنْهُ أغنت عَن الْقطر)
(بعيد المدى داني الندى وافر الجدى ... إِذا مَا بدا كَانَ الْهدى من سنا الْبَدْر)
(وَمَا مثل بدر الدّين فِي الْعلم والحجى ... وَمَا قد حواه من خلائقه الزهر)
(فيا أَيهَا الْمولى الَّذِي مكرماته ... يَرَاهَا ذَوُو الآمال من أفضل الذخر)
(لقد زَاد بِي شوق إِلَيْك وإنني ... لشط التداني وَاجِد عادم الصَّبْر)
(وَإِنِّي على بعد الديار وقربها ... كثير وَلَاء لَا يزَال مدى الْعُمر)
(ويبلغني من وَالِدي عَنْك أنعما ... تجود بهَا جلت عَن الْعد والحصر)
(رعيت لنا عهدا قَدِيما عَرفته ... وَحسن وَفَاء الْعَهْد من شيم الْحر)
(وَمثلك من يولي جميلا لصَاحب ... إِذا كَانَ فِي أوقاته نَافِذ الْأَمر)
(وَمَالِي إِلَّا بَث شكر أقوله ... وَحسن دُعَاء فِي السريرة والجهر)
(وأثني على علياك فِي كل محفل ... وأتلو آي الْحَمد بالنظم والنثر)
(وَقد جَاءَ شعري مادحا لَك شاكرا ... لِأَنَّك أهل للمدائح وَالشُّكْر)
(فَلَا زلت فِي سعد مُقيم ونعمة ... وَعمر مديد سالما عالي الْقدر) الطَّوِيل
الْمَمْلُوك يقبل الْيَد المولوية الحكيمية الأجلية العالمية الْفَاضِلِيَّةِ الرئيسية الصدرية الأوحدية البدرية أدام الله لَهَا التأييد والنعماء وضاعف من منائحها على أوليائها الآلاء وكبت بدواء سعودها الحسدة والأعداء
وَلَا زَالَت فِي نعم مُتَوَالِيَة وعوارف دائمة وَغير زائلة مَا تَتَابَعَت الْأَيَّام فِي السنين وتلازمت حَرَكَة الْقلب والشرايين
ويواظب لمولانا بِحسن الدُّعَاء الَّذِي مَا زَالَ عرف أنفاسه متضوعا وَالثنَاء الَّذِي مَا انْفَكَّ أَصله الثَّابِت متفرعا متنوعا
ويواصل بالمحامد الَّتِي مَا برح نشرها فِي مجَالِس الْمجد وَالشُّكْر نافحا متأرجحا والمدائح الَّتِي مَا فتئ وَجه محاسنها أبدا متبرجا متبلجا وَيُنْهِي مَا عِنْده من كَثْرَة الأشواق والأتواق الَّتِي تستوعبها الْعبارَة وَلَا تسعها الأوراق
غير أَنه يعول على إحاطة علم مَوْلَانَا بِصدق محبته وولائه واعتداده بجزيل أياديه وآلائه
وَإِن كتاب وَالِد الْمَمْلُوك ورد إِلَيْهِ بِبِشَارَة مَلَأت قلبه سُرُورًا وَنَفسه حبورا بِنَظَر مَوْلَانَا فِي سَائِر الْأَطِبَّاء ورياسته واشتماله عَلَيْهِم بِحسن رعايته وعنايته
وَوصف من أنعام مَوْلَانَا عَلَيْهِ وإحسانه إِلَيْهِ مَا الْمَعْهُود من إحسانه وَالْمَشْهُور من تفضله وامتنانه
ومولانا فَهُوَ أعلم بطرق الْكَرم وأدرى بِأَن المعارف فِي أهل النهى ذمم
فَالله يَجْعَل مَوْلَانَا أبدا(1/754)
فَاعِلا لِلْخَيْرَاتِ بَالغا فِي الْمَعَالِي أرفع الدَّرَجَات دَائِم السَّعَادَة موقى من الْآفَات
(وَهَذَا دُعَاء لَو سكت كفيته ... لِأَنِّي سَأَلت الله فِيك وَقد فعل) الطَّوِيل
ومولانا فتتجمل بِهِ المناصب الْعَالِيَة وتتشرف بِحسن نظره الْمَرَاتِب السامية فَإِنَّهُ قد سما بفضله وأفضاله على كل من عرف الْفضل واشتهر وتميز على أَبنَاء زَمَانه بمحاسن الْآدَاب وميامن الْأَثر
وَهَذَا هُنَا عَام لسَائِر الْأَطِبَّاء وَجُمْلَة الْأَوْلِيَاء والأحباء
(وتقاسم النَّاس المسرة بَينهم ... قسما فَكَانَ أَجلهم حظا أَنا)
الْمَمْلُوك يجدد تَقْبِيل الْيَد المولوية للنعم ويستعرض الْحَوَائِج والخدم
ولبدر الدّين ابْن قَاضِي بعلبك من الْكتب مقَالَة فِي مزاج الرقة وَهِي بليغة فِي الْمَعْنى الَّذِي صنفت بِهِ
كتاب مفرج النَّفس استقصى فِيهِ ذكر الْأَدْوِيَة والأشياء القلبية على اختلافها وتنوعها وَهُوَ مُفِيد جدا فِي فنه وصنفه للأمير سيف الدّين المشد أبي الْحسن عَليّ بن عمر بن قزل رَحمَه الله
كتاب الْملح فِي الطِّبّ ذكر فِيهِ أَشْيَاء حَسَنَة وفوائد كَثِيرَة من كتب جالينوس وَغَيرهَا
شمس الدّين مُحَمَّد الْكُلِّي
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الأوحد الْعَالم أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي المحاسن
كَانَ وَالِده أندلسيا من أهل الْمغرب وأتى إِلَى دمشق وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي رَحمَه الله
وَنَشَأ الْحَكِيم شمس الدّين مُحَمَّد بِدِمَشْق وَقَرَأَ صناعَة الطِّبّ على شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ رَحمَه الله ولازمه حق الْمُلَازمَة وأتقن عَلَيْهِ حفظ مَا يَنْبَغِي أَن يحفظ من الْكتب الْأَوَائِل الَّتِي يحفظها المشتغلون فِي الطِّبّ
وَبَالغ الْحَكِيم شمس الدّين فِي ذَلِك حَتَّى حفظ أَيْضا الْكتاب الأول من القانون وَهُوَ الكليات جَمِيعهَا حفظا متقنا لَا مزِيد عَلَيْهِ واستقصى فهم مَعَانِيه
وَلذَلِك قيل لَهُ الْكُلِّي
وَقَرَأَ أَيْضا كثيرا من الْكتب العلمية وباشر أَعمال الصِّنَاعَة الطبية
وَهُوَ جيد الْفَهم غزير الْعلم لَا يخلي وقتا من الِاشْتِغَال وَلَا يخل بِالْعلمِ فِي حَال من الْأَحْوَال حسن المحاضرة مليح المحاورة
وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك الْأَشْرَف مُوسَى ابْن الْملك الْعَادِل بِدِمَشْق وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْملك الْأَشْرَف رَحمَه الله
ثمَّ خدم بعد ذَلِك فِي البيمارستان الْكَبِير الَّذِي أنشأه الْملك الْعَادِل نور الدّين بن زنكي رَحمَه الله وَبَقِي مُدَّة وَهُوَ يتَرَدَّد إِلَيْهِ ويعالج المرضى فِيهِ
موفق الدّين عبد السَّلَام
لقد جمع الصِّنَاعَة الطبية والعلوم الْحكمِيَّة والأخلاق الحميدة والآراء السديدة والفضائل التَّامَّة(1/755)
والفواضل الْعَامَّة
أَصله من بَلْدَة حماة وَأقَام بِدِمَشْق واشتغل على شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم ابْن عَليّ وعَلى غَيره
وتميز فِي صناعَة الطِّبّ
ثمَّ سَافر إِلَى حلب وتزيد فِي الْعلم وخدم الْملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحَمَّد بن غَازِي صَاحب حلب وَأقَام عِنْده وَلم يزل فِي خدمته إِلَى أَن تملك الْملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحَمَّد دمشق فَأتى فِي صحبته وَكَانَ مُعْتَمدًا عَلَيْهِ كثير الْإِحْسَان إِلَيْهِ
وَقلت هَذِه القصيدة أتشوق فِيهَا إِلَى دمشق وأصفها وأمدحه بهَا
(لَعَلَّ زَمَانا قد تقضى بجلق ... يعود وتدنو الدَّار بعد التَّفَرُّق)
(وَإِن تسمح الْأَيَّام من بعد جورها ... بِعدْل وأنى بالأحبة نَلْتَقِي)
(فكم لي إِلَى أطلالها من تشوف ... وَكم لي إِلَى سكانها من تشوق)
(ترنحني الذكرى إِلَيْهِ تشوقا ... كَمَا رنحت صرف المدام الْمُعْتق)
(وَمن عجب نَار اشتياق بأضعلي ... لَهَا لَهب من دمعي المترقرق)
(لقد طَال عهدي بالديار وَأَهْلهَا ... وَكم من صروف الْبَين قلبِي قد لَقِي)
(وَلَو كَانَ للمرء اخْتِيَار وقدرة ... لقد كَانَ من كل الْحَوَادِث يَتَّقِي)
(وَلكنهَا الأقدار تحكم فِي الورى ... وتقضي بِأَمْر كنهه لم يُحَقّق)
(دمشق هِيَ القصوى لمن كَانَ قَصده ... يرى كل حسن فِي الْبِلَاد وينتقي)
(فصفها إِذا مَا كنت بِالْعقلِ حَاكما ... فوصف سواهَا من قبيل التحمق)
(وَمَا مثلهَا فِي سَائِر الأَرْض جنَّة ... فدع شعب بوان وَذكر الخورنق)
(بهَا الْحور والولدان تبدو طوالعا ... شموسا وأقمارا بِأَحْسَن رونق)
(وأنهارها مَا بَين مَاء مسلسل ... من الرّيح أَو مَاء من الدفق مُطلق)
(وأشجارها من كل جنس مقسم ... وأثمارها من كل نوع منمق)
(وللطير من فَوق الغصون تجاوب ... فَمَا أسجع الورقاء من فَوق مُورق)
(وَلَو لم تغن الطير من فَوق عودهَا ... لما كَانَ للأمواه وَقع مُصَفِّق)
(وَرَاح تريح النَّفس من ألم الجوى ... وتبعد هم المستهام المؤرق)
(إِذا مزجت فِي الكاس يَبْدُو شعاعها ... كَمثل شُعَاع البارق المتألق)
(وَيَا حبذا بالواديين حدائق ... لَهَا رونق من مَائِهَا المتدفق)
(فكم من مياه حسنها عِنْد رَوْضَة ... وَكم من رياض حسنها عِنْد جوسق)(1/756)
(وَبسط رياض نبتها من بنفسج ... ونيلوفر فِي وسط مَاء مروق)
(يمر نسيم الرّيح فِي جنباتها ... لطيفا كجس النبض من مترفق)
(فَمن كَانَ يَرْجُو للسلامة ملْجأ ... يجده لَدَى عبد السَّلَام الْمُوفق)
(حَكِيم عليم فَاضل متفضل ... إِلَى ذرْوَة العلياء وَالْمجد مرتقي)
(وَمَا أحد فِي كل مخطر عِلّة ... بأدرب مِنْهُ فِي العلاج وأحذق)
(فضائله فِي كل علم وَحِكْمَة ... وأفضاله فِي كل غرب ومشرق)
(يفرق جمع المَال فِي مُسْتَحقّه ... وَيجمع أشتات الْعلَا المتفرق)
(وَمَا زَالَ يهدي القاصدين لفضله ... بِنور عُلُوم بالبلاغة مشرق)
(فَفِي حَبسه للخير أكْرم منعم ... وَفِي لطفه بالخلق أفضل مُشفق)
(وللعشق فِي الدُّنْيَا دواع كَثِيرَة ... وَمن يقْصد العلياء بالغرم يعشق)
(لَهُ فِي قُلُوب الْعَالمين محبَّة ... حلت وجلت عَن رُتْبَة المتملق)
(وَمن شخصه للعين أحسن منظر ... وَمن لَفظه للسمع أعذب منطق)
(وللجود يلفى بَاعه غير قَاصِر ... وللحلم يلفى صَدره غير ضيق)
(كثير الحيا دلّت مخايل نَفسه ... على طيب أصل فِي المكارم معرق)
(فدام سعيد الْجد مَا هبت الصِّبَا ... وَمَا دَامَ تغريد الْحمام المطوق) الطَّوِيل
وَلما قصد التَّرَدُّد إِلَى دمشق وَسمع بذلك أَهلهَا توجه الْحَكِيم موفق الدّين إِلَى مصر وَأقَام بهَا مُدَّة
ثمَّ خدم بعد ذَلِك الْملك الْمَنْصُور صَاحب حماة وَأقَام عِنْده بحماة وَله مِنْهُ الْإِحْسَان الْكثير وَالْفضل الغزير والآلاء الجزيلة والمنزلة الجليلة
موفق الدّين المنفاخ
هُوَ الْحَكِيم الْعَالم الأوحد أَبُو الْفضل أسعد بن حلوان أَصله من المزة واشتغل بصناعة الطِّبّ وتمهر فِيهَا وتميز فِي أَعمالهَا
وخدم الْملك الْأَشْرَف مُوسَى بن أبي بكر بن أَيُّوب فِي الشرق وَبَقِي فِي خدمته سِنِين وانفصل عَنهُ
وَكَانَت وَفَاته فِي حماة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وسِتمِائَة
نجم الدّين بن المنفاخ
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الْعَالم الْفَاضِل أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن أبي الْفضل أسعد بن حلوان وَيعرف بِابْن العالمة لِأَن أمه كَانَت عَالِمَة دمشق وتعرف ببنت دَهِين اللوز
وَنجم الدّين مولده بِدِمَشْق فِي سنة ثَلَاث(1/757)
وَتِسْعين وَخَمْسمِائة
وَكَانَ أسمر اللَّوْن نحيف الْبدن حاد الذِّهْن مفرط الذكاء فصيح اللِّسَان كثير البراعة لَا يجاريه أحد فِي الْبَحْث وَلَا يلْحقهُ فِي الجدل واشتغل على شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ بصناعة الطِّبّ حَتَّى أتقنها
وَكَانَ متميزا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة قَوِيا فِي علم الْمنطق مليح التصنيف جيد التَّأْلِيف
وَكَانَ فَاضلا فِي الْعُلُوم الأدبية ويترسل ويشعر
وَله معرفَة بِالْعودِ حسن الْخط
وخدم بصناعة الطِّبّ الْملك المسعود صَاحب آمد وحظي عِنْده واستوزره
ثمَّ بعد ذَلِك نقم عَلَيْهِ وَأخذ جَمِيع موجوده وأتى إِلَى دمشق وَأقَام بهَا
واشتغل عَلَيْهِ جمَاعَة بصناعة الطِّبّ وَكَانَ متميزا فِي الدولة وَكتب إِلَيْهِ الصاحب جمال الدّين بن مطروح فِي جَوَاب كتاب مِنْهُ
(لله در أنامل شرفت ... وسمت فَأَهْدَتْ أنجما زهرا)
(وَكِتَابَة لَو أَنَّهَا على الْملكَيْنِ ... مَا ادّعَيَا إِذن سحرًا)
(لم أقرّ سطرا من بلاغتها ... إِلَّا رَأَيْت الْآيَة الْكُبْرَى)
(فأعجب لنجم فِي فضائله ... أنسى الْأَنَام الشَّمْس والبدرا) الْكَامِل
وَكَانَ نجم الدّين رَحمَه الله لحدة مزاجه قَلِيل الِاحْتِمَال والمداراة وَكَانَ جمَاعَة يحسدونه لفضله ويقصدونه بالأذية وأنشدني يَوْمًا متمثلا
(وَكنت سَمِعت أَن الْجِنّ عِنْد ... استراق السّمع ترْجم بالنجوم)
(فَلَمَّا أَن عَلَوْت وصرت نجما ... رميت بِكُل شَيْطَان رجيم) الوافر
وَفِي آخر عمره خدم الْملك الْأَشْرَف ابْن الْملك الْمَنْصُور صَاحب حمص بتل بَاشر وَأقَام عِنْده مديدة يسيرَة
وَتُوفِّي رَحمَه الله فِي ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وسِتمِائَة
وَحكى لي أَخُوهُ لأمه القَاضِي شهَاب الدّين بن العالمة أَنه توفّي مسموما
ولنجم الدّين بن المنفاخ من الْكتب كتاب التدقيق فِي الْجمع والتفريق ذكر فِيهِ الْأَمْرَاض وَمَا تتشابه فِيهِ والتفرقة بَين كل وَاحِد مِنْهَا وَبَين الآخر مِمَّا تشابه فِي أَكثر الْأَمر
كتاب هتك الأستار فِي تمويه الدخوار تعاليق مَا حصل لَهُ من التجارب وَغَيرهَا
وَشرح أَحَادِيث نبوية تتَعَلَّق بالطب
كتاب المهملات فِي كتاب الكليات
كتاب الْمدْخل إِلَى الطِّبّ
كتال الْعِلَل والأعراض
كتاب الإشارات المرشدة فِي الْأَدْوِيَة المفردة(1/758)
عز الدّين بن السويدي
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الأوحد الْعَالم أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد من ولد سعد بن معَاذ من الْأَوْس مولده فِي سنة سِتّمائَة بِدِمَشْق وَنَشَأ بهَا وَهُوَ عَلامَة أَوَانه وأوحد زَمَانه
مَجْمُوع الْفَضَائِل كثير الفواضل كريم الْأُبُوَّة عَزِيز الفتوة وافر السخاء حَافظ الإخاء واشتغل بصناعة الطِّبّ حَتَّى أتقنها إتقانا لَا مزِيد عَلَيْهِ
وَلم يصل أحد من أَرْبَابهَا إِلَى مَا وصل إِلَيْهِ
قد حصل كلياتها واشتمل على جزئياتها
وَاجْتمعَ مَعَ أفاضل الْأَطِبَّاء ولازم أكَابِر الْحُكَمَاء وَأخذ مَا عِنْدهم من الْفَوَائِد الطبية والأسرار الْحكمِيَّة
مثل شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ وَغَيره
وَقَرَأَ أَيْضا فِي علم الْأَدَب حَتَّى بلغ فِيهِ أَعلَى الرتب
وأتقن الْعَرَبيَّة وبرع فِي الْعُلُوم الأدبية
وشعره فَهُوَ الَّذِي عجز عَنهُ كل شَاعِر وَقصرت عَنهُ الْأَوَائِل والأواخر لما قد حواه من الْأَلْفَاظ الفصيحة والمعاني الصَّحِيحَة والتجنيس الصَّنِيع والتطبيق البديع
فَهُوَ الْجَامِع لأجناس الْعُلُوم الْحَاوِي لأنواع المنثور والمنظوم
وَهُوَ أسْرع النَّاس بديهة فِي قَول الشّعْر وَأَحْسَنهمْ إنشادا
وَلَقَد رَأَيْت مِنْهُ فِي أَوْقَات ينشد شعرًا على البديهة فِي معَان مُخْتَلفَة لَا يقدر عَلَيْهَا أحد سواهُ وَلَا يخْتَص بِهَذَا الْفَنّ إِلَّا إِيَّاه
وَكَانَ أَبوهُ رَحمَه الله تَاجِرًا من السويداء بحوران حسن الْأَخْلَاق طيب الأعراق لطيف الْمقَال جميل الْأَفْعَال
وَكَانَ صديقا لأبي وَبَينهمَا مَوَدَّة أكيدة وصحبة حميدة
وَكنت أَنا وَعز الدّين أَيْضا فِي الْمكتب عِنْد الشَّيْخ أبي بكر الصّقليّ رَحمَه الله فالمودة بَيْننَا من الْقدَم بَاقِيَة على طول الزَّمَان نامية فِي كل حِين وَأَوَان
والحكيم عز الدّين من أجل الْأَطِبَّاء قدرا وأفضلهم ذكرا
وَأعرف مداواة وألطف مداراة وانجع علاجا وأوضح منهاجا
وَلم يزل طَبِيبا فِي البيمارستان النوري يحصل بِهِ للمرضى نِهَايَة الْأَغْرَاض فِي إِزَالَة الْأَمْرَاض وَأفضل المنحة فِي اجتلاب الصِّحَّة
وخدم أَيْضا فِي البيمارستان بِبَاب الْبَرِيد وَتردد إِلَى قلعة دمشق وَكَانَ مدرس الدخوارية
وَكَانَ لَهُ جامكية فِي هَذِه الْأَرْبَع جِهَات
وَكتب عز الدّين بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة جدا فِي الطِّبّ وَغَيره فَمِنْهَا خطّ مَنْسُوب طَريقَة أبن البواب وَمِنْهَا خطّ يشابه مولد الْكُوفِي وكل وَاحِد من خطيه فَهُوَ أبهى من الأنجم الزواهر وأزهى من فاخر الْجَوَاهِر وَأحسن من الرياض المونقة وأنور من الشَّمْس المشرقة
وَحكى لي أَنه كتب ثَلَاث نسخ من كتاب القانون لِابْنِ سينا
وَلما كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وسِتمِائَة وصل إِلَى دمشق تَاجر من بِلَاد الْعَجم وَمَعَهُ نُسْخَة من شرح ابْن أبي صَادِق لكتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء لِجَالِينُوسَ وَهِي صَحِيحَة معقولة من خطّ المُصَنّف وَلم يكن قبل ذَلِك مِنْهَا نُسْخَة فِي الشَّام فحملها أبي فَكتب إِلَيْهِ عز الدّين بن السويدي قصيدة مديحا فمما على خاطري مِنْهَا يَقُول(1/759)
(وامنن فَأَنت أَخُو المكارم والعلى ... بِكِتَاب شرح مَنَافِع الْأَعْضَاء)
(وإعارة الْكتب الغربية لم تزل ... من عَادَة الْعلمَاء والفضلاء) الْكَامِل
فَبعثت إِلَيْهِ الْكتاب وَهُوَ فِي جزءين فَنقل مِنْهُ نُسْخَة فِي الْغَايَة من حسن الْخط وجودة النقط والضبط
وَمن شعره وَهُوَ مِمَّا أَنْشدني لنَفسِهِ
فَمن ذَلِك قَالَ فِيمَا يعانيه ويعنيه من كلفة الخضاب بالكتم
(لَو أَن تغير لون شيبي ... بعيد مَا فَاتَ من شَبَابِي)
(لما وفى لي بِمَا تلاقي ... روحي من كلفة الخضاب) الْبَسِيط
وأنشدني لما ألفت هَذَا الْكتاب فِي تَارِيخ المتطببين الْمَعْرُوف بِكِتَاب عُيُون الأنباء فِي طَبَقَات الْأَطِبَّاء
(موفق الدّين بلغت المنى ... ونلت أَعلَى الرتب الفاخرة)
(حملت فِي التَّارِيخ من قد مضى ... وَإِن غَدَتْ أعظمه ناخرة)
(فخصك الله بإحسانه ... فِي هَذِه الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة) السَّرِيع
وَقَالَ لغزا فِي عَليّ
(مَا اسْم إِذا رخمته كَانَ مَا ... رخمته جذرا لباقيه)
(وَلَا يرى ترخيمه فَاضل ... للفضل وَالنَّقْص الَّذِي فِيهِ) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(ومدام حرمتهَا الصّيام ... قد توالى عَليّ فِي رَمَضَان)
(وَأَقَامُوا الْحُدُود فِيهَا بِلَا حد ... فدامت ندامة الندمان)
(وتغالوا العلوج فِيهَا بزعم ... وحموها عَن كل إنس وجان)
(ثمَّ قَالُوا الْمَطْبُوخ حل فافنوها ... طبيخا بلاعج النيرَان)
(طبخوها بِنَار شوقي إِلَيْهَا ... فغدت مهجة بِلَا جثمان) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(وناسك بَاطِنه فاتك ... يَا وَيْح من يصغي إِلَى مينه)
(منزله أحرج من صَدره ... وخلقه أضيق من عينه) السَّرِيع(1/760)
ولعز الدّين بن السويدي من الْكتب كتاب الباهر فِي الْجَوَاهِر
كتاب التَّذْكِرَة الهادية والذخيرة الكافية فِي الطِّبّ
عماد الدّين الدنيسري
هُوَ الْحَكِيم الْعَالم الأديب الأريب عماد الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن القَاضِي الْخَطِيب تَقِيّ الدّين عَبَّاس ابْن أَحْمد بن عبيد الربعِي ذُو النَّفس الفاضلة والمروءة الْكَامِلَة والأريحية التَّامَّة والعوارف الْعَامَّة والذكاء الوافر وَالْعلم الباهر
مولده بِمَدِينَة دنيسر فِي سنة خمس وسِتمِائَة
وَنَشَأ بهَا واشتغل بصناعة الطِّبّ اشتغالا برع بِهِ فِيهَا وَحصل جمل مَعَانِيهَا وَحفظ الصِّحَّة حَاصِلَة واستردها زائلة
وَأول اجتماعي بِهِ كَانَ بِدِمَشْق فِي شهر ذِي الْقعدَة سنة سبع وَسِتِّينَ وسِتمِائَة فَوجدت لَهُ نفسا حاتمية وشنشنة أخزمية وخلقا ألطف من النسيم ولفظا أحلى من مزاج التسنيم
واسمعني من نظمه الشّعْر البديع مَعْنَاهُ الْبعيد مرماه الَّذِي قد جمع أَجنَاس التَّجْنِيس وطبقات التطبيق النفيس والألفاظ الفصيحة والمعاني الصَّحِيحَة
فَهُوَ فِي علم الطِّبّ قد تميز على الْأَوَائِل والأواخر وَفِي الْأَدَب قد عجز كل ناظم وناثر
هَذَا مَعَ مَا أَنه فِي علم الْفِقْه على مَذْهَب الإِمَام الشَّافِعِي سيد زَمَانه وأوحد أَوَانه
وسافر من دنيسر إِلَى الديار المصرية ثمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّام وَأقَام بِدِمَشْق وخدم الآدر الناصرية اليوسفية بقلعة دمشق
ثمَّ خدم فِي البيمارستان الْكَبِير النوري بِدِمَشْق
وَمن شعره وَهُوَ مِمَّا أَنْشدني لنَفسِهِ فَمن ذَلِك قَالَ
(بِاللَّه يَا قَارِئًا شعري وسامعه ... أسبل عَلَيْهِ رِدَاء الحكم وَالْكَرم)
(واستر بِفَضْلِك مَا تَلقاهُ من زللي ... فَإِن علمي قد أثرى من الْعَدَم) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(نعم فَلْيقل من شَاءَ عني فإنني ... كلفت بِذَاكَ الْخَال والمقلة الكحلا)
(وعذبني بالصد مِنْهُ وَكلما ... تجنى فَمَا أشهاه عِنْدِي وَمَا أحلى)
(وَحرمت نومي بعد مَا صد معرضًا ... كَمَا حلل الهجران أَن حرم الوصلا)
(غزال غزا قلبِي بعامل قده ... وَمكن من أجفانه فِي الحشا نبْلًا)
(فَلَا تعذلوني فِي هَوَاهُ فإنني ... حَلَفت بِذَاكَ الْوَجْه لَا أسمع العذلا) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(عذارك المخضر يَا منيتي ... لما بدا فِي الخد ثمَّ اسْتَدَارَ)(1/761)
(أَقَامَ عُذْري عِنْد أهل الْهوى ... وَصَحَّ مَا قيل عَن الْأَعْذَار)
(وَكَانَ فِي ذَلِك لنا آيَة ... إِذْ جمع اللَّيْل مَعًا وَالنَّهَار) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(غزال لَهُ بَين الجوانح والحشا ... مقيل وَفِي قلبِي مَكَان وَإِمْكَان)
(فَلَا تطمع العذال مني بسلوة ... وَإِن رمت سلوانا فَإِنِّي خوان)
(فَفِي كَبِدِي من فرط وجدي ولوعتي ... وَفِي الجفن نيران عَليّ وطوفان) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(عشقت بَدْرًا مليحا ... عَلَيْهِ بالْحسنِ هاله)
(مثل الغزال وَلَكِن ... تغار مِنْهُ الغزاله)
(بعثت من نَار وجدي ... مني إِلَيْهِ رساله)
(وَقلت أَنْت حَبِيبِي ... ومالكي لَا محاله)
(ولي عَلَيْك شُهُود ... مَعْرُوفَة بالعداله)
(جسمي يذوب وجفني ... دُمُوعه هطاله) الْبَسِيط
وَقَالَ من أَبْيَات
(أسكنتك الْقلب المليء من الوفا ... وَجعلت فِي سودائه مغناكا)
(وَقطعت عَن كل الْأَنَام مطامعي ... وهجرتهم لما عرفت هواكا) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(نعم عِنْد قلبِي من لواحظه شغل ... فكفوا فَلَا عتب يُفِيد وَلَا عذل)
(وَمهما سَمِعْتُمْ من قديم صبَابَة ... فَذَاك حَدِيث صَحَّ عِنْدِي بِهِ النَّقْل)
(أجيراننا بِاللَّه مهلا فإنني ... أَسِير لما جَاءَت بِهِ الحدق النجل)
(عَزِيز على خديه نبت عذاره ... شغلت بِهِ عَن كل مَا كَانَ لي شغل)
(وَمن شا يلمني فِي هَوَاهُ فإنني ... حَلَفت بِهِ عَن حبه قطّ لَا أسلو) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
يَا سادة رحلوا عني وَوَافَقَهُمْ ... صبري وَمَا بعثوا لي عَنْهُم خَبرا)(1/762)
(لَا تسألوا مَا جرى لي يَوْم بَيْنكُم ... بل اسألوا عَن مصون كَيفَ جرى)
(وارحمتا لكئيب قل ناصره ... يقْضِي غراما وَمَا قضى بكم وطرا)
(قد بَات مِمَّا بِهِ من طول هجركم ... طول اللَّيَالِي بكم يستعذب السهرا)
(وَالْوَرق فَوق غصون البان تسعده ... بنوحها ونسيم الرَّوْض حِين سرى)
(فَهَل تجودون يَوْمًا بالوصال لَهُ ... وَإِن تمنعتموا جودوا بطيف كرى)
(فذكركم فِي صميم الْقلب مَسْكَنه ... وغيركم فِي صميم الْقلب مَا خطرا)
(وكل من لامه فِيكُم يَقُول لَهُ ... وَقد رأى حسنكم قُم كرر النظرا) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا من أَبْيَات
(حَلَفت لَهُ لَا حلت عَن ولهي بِهِ ... وقلبي على مَا قد حَلَفت لَهُ حلف)
(إِذا بَاعَنِي مِنْهُ الْوِصَال بمهجتي ... شريت وَهَا قلبِي أقدمه سلف) الطَّوِيل
قَالَ أَيْضا
(كفوا من اللوم فِي محبته ... قد سئمت من ملامكم نَفسِي)
(بيني وَبَين المسلو مرحلة ... لَكِنَّهَا من مراحل الشمش) المنسرح
قَالَ أَيْضا
(أما الحَدِيث فعنهم مَا أجمله ... وَالْمَوْت من جور الْهوى مَا أعدله)
(قل للعذول أطلت لست بسامع ... بَين السلو وَبَين قلبِي مرحله)
(لَا أَنْتَهِي من حب من أحببته ... مَا دَامَ قلبِي والهوى فِي منزله)
(ظَبْي تنبأ بالجمال على الورى ... يَا لَيْت شعري صُدْغه من أرْسلهُ)
(قد حل فِي قلبِي وكل جوانحي ... فدمي لَهُ فِي حبه من حلله)
(وحياة ناظره وعامل قده ... روحي بِعَارِض خَدّه متململه)
(هَب إِنَّنِي متجنن فِي حبه ... فعذاره فِي خَدّه من سلسله) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(قف على بَان الْحمى والأبرق ... فَعَسَى تذْهب مني حرقي)
(فجفوني بعدهمْ قد أَقْسَمت ... أَنَّهَا لَا تلتقي أَو نَلْتَقِي)
(ودموعي كلما كفكفتها ... بهم قد أَقْسَمت لَا ترتقي)(1/763)
(يَا عريب الْحَيّ رقوا وارحموا ... بحب بجفاكم قد شقي)
(قد فني كلي فِي حبكم ... وَبَقِي لي بعد كلي رمقي)
(وَالَّذِي أبقى هواكم والجفا ... ليته لما هجرتم لَا بَقِي) الرمل
وَقَالَ أَيْضا من أَبْيَات
(سَأَلتك أَن تجير لمستهام ... وَمَا نفع السُّؤَال فَلم تجور)
(وَحرمت الْوِصَال على كئيب ... إِلَيْك من الصبابة يستجير)
(فَيوم الهجر أقصره طَوِيل ... وليل الْوَصْل أطوله قصير) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(إِذا رفع الْعود تكبيره ... ونادى على الراح دَاعِي الْفَرح)
(رَأَيْت سجودي لَهَا دَائِما ... وَلَكِن عقيب رُكُوع الْقدح) المتقارب
وَقَالَ فِي مليح يلقب بالجمال
(قَالُوا عشقت من الْأَنَام جَمِيعهم ... رشأ فَأَنت بحسنه مقتول)
(فأجبتهم لَا تعجبوا مِمَّا جرى ... سيف الْجمال بجفنه مسلول) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا فِي مليح تعرض للوصل بعد ذهَاب ملاحته
(لما سَأَلتك إشفاقا على كَبِدِي ... نَادَى بك التيه لَا تعطف على أحد)
(ورحت تمرح فِي ثوب الْجمال وَقد ... تَرَكتنِي وَأخذت الرّوح من جَسَدِي)
(حَتَّى إِذا الدَّهْر أدنى مِنْك حَادِثَة ... وَأَنت تعجز عَن إبعاده بيد)
(بعثت تطلب وَصلي كي أَعُود وَقد ... أخنى عَلَيْك الَّذِي أخنى على لبد)
وَقَالَ
(كلفت بالمعسول من رِيقه ... وهمت بالعسال من قده)
(بدر إِذا أبصرته مُقبلا ... أَبْصرت بدار التم فِي سعده)
(يجرح قلبِي لحظه مثل مَا ... يجرحه لحظي فِي خَدّه) السَّرِيع
وَمِنْهَا
(قلت لعذالي على حبه ... وَالْقلب مَوْقُوف على صده)(1/764)
(من يَده فِي الما إِلَى زنده ... يعرف حر المَاء من برده) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(إِن فاض مَاء جفوني قلت من فكري ... عَلَيْهِ أَو غاض دمعي قلت من نَارِي)
(وَكلما رمت أَن أسلو هَوَاهُ ... أرى النَّار فِي حبه أولى من الْعَار) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(وَلَقَد سَأَلت وصاله فَأَجَابَنِي ... عَنهُ الْجمال إِشَارَة عَن قَائِل)
(فِي نون حَاجِبه وَعين جفونه ... مَعَ مِيم مبسمه جَوَاب السَّائِل) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(فِي صَاد مقلته إِذا حققتها ... مَعَ نون حَاجِبه وَمِيم المبسم)
(عذر لمن قد ضل فِيهِ مولها ... فعلام يعذل فِيهِ من لم يفهم) الْكَامِل
وَقَالَ لغزا فِي عُثْمَان
(سَأَلت جَمِيع النَّاس ظنا بأنني ... أرى فيهم من يعرف الْحق والصدقا)
(عَن اسْم مُسَمَّاهُ تناهى جماله ... وَمن هجره قلبِي وإعراضه يشقى)
(وأحرفه لَا شكّ خَمْسَة أحرف ... وكل صَحِيح الذِّهْن يعرفهُ حَقًا)
(إِذا زَالَ عَنهُ الْخمس وَالْخمس وَاحِد ... تبقى ثَمَان وَهِي أعجب مَا يبْقى) الطَّوِيل
وَقَالَ من قصيدة مدح بهَا الْملك السعيد غَازِي ابْن الْملك الْمَنْصُور صَاحب ماردين
(مؤيد الرَّأْي مِقْدَام كتائبه ... ملْء البسيطة من سهل وَمن جبل)
(ويركب الْجد يَوْم الْحَرْب معتقلا ... بعد الصوافن بالعسالة الذبل)
(فيشكل الْأسد يَوْم الروع صارمه ... والشكل بالبيض بعد النقط بالأسل) الْبَسِيط
وَقَالَ مخمسا هَذِه الأبيات
(وَحقّ هَوَاك وجدي لَا يحول ... وجسمي قد أضرّ بِهِ النحول)
(وقلبي والفؤاد غَدا يَقُول ... أرى الْأَيَّام صبغتها تحول)
(وَمَا لهواك من قلبِي نصول ... )
(عذولي رَاح فِي قيل وَقَالَ ... وَمَا أَنا عَن محبتكم بسالي)(1/765)
(وَكَيف يمر هجركم ببالي ... وَحب لَا تغيره اللَّيَالِي)
(محَال أَن يُغَيِّرهُ العذول ... )
(فَلَمَّا كَانَ بالهجران فتكي ... وطرفي والفؤاد لذاك يبكي)
(وَقد جد الرحيل بِغَيْر شكّ ... أَتَت ودموعها فِي الخد تحكي)
(قلائدها وَقد جعلت تَقول ... )
(فَقلت لَهَا رويدك بالرعايا ... فَفِي قلبِي لبعدكم بلايا)
(فَقَالَت والمنى مِنْهَا منايا ... غَدَاة غَد تزم بِنَا المطايا)
(فَهَل لَك من وداع يَا خَلِيل ... )
(معذبتي تَقول بِلَا بِلَال ... إِذا أزف الرحيل وَحَال حَالي)
(وَأصْبح ربعنا بالبين خَالِي ... فَقلت لَهَا وعيشك لَا أُبَالِي)
(أَقَامَ الْحَيّ أم جد الرحيل ... )
(غَدا بالهجر مِنْك يذوب قلبِي ... وَلَا يجد الشِّفَاء بِغَيْر قرب)
(ولي أمل يَزُول بِذَاكَ كربي ... إِذا كَانَت بَنَات الْكَرم شربي)
(ونقلي وَجهك الْحسن الْجَمِيل ... )
(مَتى عوضت عَن سهر اللَّيَالِي ... بِقرب مِنْك مَعَ حسن الْوِصَال)
(وعاينت الْجمال على الْكَمَال ... أمنت بِذَاكَ حَادِثَة اللَّيَالِي)
(وَهَان عَليّ مَا قَالَ العذول ... ) الوافر
وَقَالَ فِي مليح صَنعته رفاء
(قطعت قلبِي بمر الهجر يَا أملي ... عَسى بحلو حَدِيث مِنْك ترفيه)
(فقد عصيت عذولا بَات يعذلني ... وَفِي مخالفتي للعذل ترفيهي)
وَقَالَ فِي مليح اسْمه عِيسَى
(يَا من هوى الِاسْم الْمَسِيح وَقد حوى ... كأس الردى فِي الجفن والأحداق)
(خَالَفت عِيسَى فِي الفعال وَقد غَدا ... يحيي وَأَنت تميت بالأشواق) الْكَامِل
وَقَالَ دوبيت
(يَا من نقض الْعَهْد مَعَ الْمِيثَاق ... هَا حسنك زائل ووجدي بَاقِي)
(إِن كنت عذرت فالوفا عَلمنِي ... أَن اسلك فِي الْهوى مَعَ العشاق)(1/766)
وَقَالَ أَيْضا
(مولَايَ إِلَى مَتى على الصب تجور ... يَا غادر كم كَذَا صدود ونفور)
(يحظى بك غَيْرِي والهوى فِي كَبِدِي ... لَا صَبر لمن يحب إِن كَانَ غيور)
وَقَالَ أَيْضا
(فِي الْقلب من الغرام نَار تقد ... وَالله وَإِن هجرت زَالَ الْجلد)
(يَا من سلب الرقاد عَن عاشقه ... صلني فسواك مَا بقى لي أحد)
وَقَالَ أَيْضا
(الْأَمر بِأَن أَمُوت فِي الْحبّ إِلَيْك ... إِن رمت تلافي هَا أَنا بَين يَديك)
(وَالله وقلبي قَالَ لَو أمكنه ... سعيا لسعى مني على الرَّأْس إِلَيْك)
وَقَالَ أَيْضا
(مولَايَ وَحقّ من قضى لي بهواك ... مَا أسعد يَوْمًا فِيهِ وَالله أَرَاك)
(إِن كَانَ تلاف مهجتي فِيهِ رضاك ... أتلف كَبِدِي فَالْكل وَالله فدَاك)
ولعماد الدّين الدنيسري من الْكتب الْمقَالة المرشدة فِي درج الْأَدْوِيَة المفردة
كتاب نظم الترياق الْفَارُوق
كتاب فِي المثروديطوس
كتاب فِي تقدمة الْمعرفَة لأبقراط
أرجوزة
كتاب ديوَان شعر
موفق الدّين يَعْقُوب السامري
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الأوحد الْعَالم رَئِيس زَمَانه وعلامة أَوَانه أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن غَنَائِم
مولده ومنشؤه بِدِمَشْق
بارع فِي الصِّنَاعَة الطبية جَامع للعلوم الْحكمِيَّة
قد أتقن صناعَة الطِّبّ علما وَعَملا واحتوى على جُمْلَتهَا تَفْصِيلًا وجملا
مَحْمُود المداواة مشكور المداراة مُتَعَيّن عِنْد الْأَعْيَان متميز فِي سَائِر الْأَزْمَان مؤيد فِي اجتلاب الصِّحَّة وحفظها فِي الْأَبدَان
واشتغل عَلَيْهِ جمَاعَة من المتطببين وانتفع بِهِ كثير من المتطلبين
وَله التصانيف الَّتِي هِيَ فصيحة الْعبارَة صَحِيحَة الْإِشَارَة قَوِيَّة المباني بليغة الْمعَانِي
ولموفق الدّين يَعْقُوب السامري من الْكتب شرح الكليات من كتاب القانون لِابْنِ سينا وَقد جمع فِيهِ مَا قَالَه ابْن خطيب الرّيّ فِي شَرحه للكليات وَكَذَلِكَ مَا قَالَه القطب الْمصْرِيّ فِي شَرحه لَهَا وَمَا قَالَه غَيرهمَا وحرره فِي أَقْوَالهم من المباحثات وَقد أَجَاد فِي تأليفه وَبَالغ فِي تصنيفه
حل شكوك نجم الدّين بن المنفاخ على الكليات
كتاب الْمدْخل إِلَى علم الْمنطق والطبيعي والآلهي
توفّي فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة
أَبُو الْفرج بن القف
هُوَ الْحَكِيم الْأَجَل الْعَالم أَمِين الدولة أَبُو الْفرج ابْن الشَّيْخ الأوحد الْعَالم موفق الدّين بن إِسْحَق بن القف من نَصَارَى الكرك
مولده بالكرك فِي يَوْم السبت ثَالِث عشر ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاثِينَ وسِتمِائَة
كَانَ(1/767)
وَالِده موفق الدّين صديقا لي مستمرا فِي تَأْكِيد مودته حَافِظًا لَهَا طول أَيَّامه ومدته تستحلى نفائس مُجَالَسَته وتستجلى عرائس مؤانسته ألمعي أَوَانه وأصمعي زَمَانه جيد الْحِفْظ للأشعار عَلامَة فِي نقل التواريخ وَالْأَخْبَار متميز فِي علم الْعَرَبيَّة فَاضل فِي الْفُنُون الأدبية
قد اشْتَمَل فِي الْكِتَابَة على أُصُولهَا وفروعها وَبلغ الْغَايَة من بعيدها وبديعها
وَله الْخط الْمَنْسُوب الَّذِي هُوَ نزهة الْأَبْصَار وَلَا يلْحقهُ كَاتب فِي سَائِر الأقطار والأمصار
كَانَ فِي أَيَّام الْملك النَّاصِر يُوسُف بن مُحَمَّد كَاتبا بصرخد عَاملا فِي ديوَان الْبر
وَكَانَ وَلَده هَذَا أَبُو الْفرج تتبين فِيهِ النجابة من صغره كَمَا تحققت فِي كبره حسن السمت كثير الصمت وافر الذكاء محبا لسيرة الْعلمَاء فقصد أَبوهُ تعلميه الطِّبّ فَسَأَلَنِي ذَلِك فلازمني حَتَّى حفظ الْكتب الأولة المتداول حفظهَا فِي صناعَة الطِّبّ كمسائل حنين والفصول لأبقراط وتقدمة الْمعرفَة لَهُ وَعرف شرح مَعَانِيهَا وَفهم قَوَاعِد مبانيها
وَقَرَأَ عَليّ بعد ذَلِك فِي العلاج من كتب أبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ
مَا عرف بِهِ أَقسَام الأسقام وجسيم الْعِلَل فِي الْأَجْسَام وَتحقّق معاجلة المعالجة ومعاناة المداواة
وعرفته أصُول ذَلِك وفصوله وفهمته غوامضه ومحصوله
ثمَّ انْتقل أَبوهُ إِلَى دمشق المحروسة وخدم بهَا فِي الدِّيوَان السَّامِي وَسَار وَلَده مَعَه ولازم جمَاعَة من الْفُضَلَاء
فَقَرَأَ فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة والأجزاء الفلسفية على الشَّيْخ شمس الدّين عبد الحميد الخسروشاهي وعَلى عز الدّين الْحسن الغنوي الضَّرِير
وَقَرَأَ أَيْضا فِي صناعَة الطِّبّ على الْحَكِيم نجم الدّين بن المنفاخ وعَلى موفق الدّين يَعْقُوب السامري
وَقَرَأَ أَيْضا كتاب أوقليدس على الشَّيْخ مؤيد الدّين العرضي وَفهم هَذَا الْكتاب فهما فتح بِهِ مقفل أَقْوَاله وَحل مُشكل أشكاله
وخدم أَبُو الْفرج بن القف بصناعة الطِّبّ فِي قلعة عجلون وَأقَام بهَا عدَّة سِنِين
ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وخدم فِي قلعتها المحروسة لمعالجة المرضى وَهُوَ مَحْمُود فِي أَفعاله مشكور فِي سَائِر أَحْوَاله
وَله من الْكتب كتاب الشافي فِي الطِّبّ
شرح الكليات من كتاب القانون لِابْنِ سينا سِتّ مجلدات
شرح الْفُصُول كتابين مقَالَة فِي حفظ الصِّحَّة
كتاب الْعُمْدَة فِي صناعَة الْجراح عشْرين مقَالَة علم وَعمل يذكر فِيهِ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الجرائحي بِحَيْثُ لَا يحْتَاج إِلَى غَيره
كتاب جَامع الْغَرَض مُجَلد وَاحِد
حواش على ثَالِث القانون لم يُوجد
شرح الإشارات مسودة وَلم يتم
المباحث المغربية وَلم تتمّ
توفّي فِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَثَمَانِينَ وسِتمِائَة وَالله أعلم(1/768)