الْبَاب الأول
كَيْفيَّة وجود صناعَة الطِّبّ وَأول حدوثها
أَقُول أَن الْكَلَام فِي تَحْقِيق هَذَا الْمَعْنى يعسر لوجوه
أَحدهَا بعد الْعَهْد بِهِ فَإِن كل مَا بعد عَهده وخصوصا مَا كَانَ من هَذَا الْقَبِيل فَإِن النّظر فِيهِ عسر جدا
الثَّانِي أننا لم نجد للقدماء والمتميزين وَذَوي الآراء الصادقة قولا وَاحِدًا سَادًّا فِي هَذَا مُتَّفقا عَلَيْهِ فنتبعه
الثَّالِث أَن الْمُتَكَلِّمين فِي هَذَا لما كَانُوا فرقا وَكَانُوا كثيري الِاخْتِلَاف جدا بِحَسب مَا وَقع إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم أشكل التَّوْجِيه فِي أَي أَقْوَالهم هُوَ الْحق
وَقد ذكر جالينوس فِي تَفْسِيره لكتاب الْإِيمَان لَا بقراط أَن الْبَحْث فِيمَا بَين القدماء عَن أول من وجد صناعَة الطِّبّ لم يكن بحثا يَسِيرا
ولنبدأ أَولا بِإِثْبَات مَا ذكره مَعَ مَا ألحقناه بِهِ فِي جِهَة الْحصْر لهَذِهِ الآراء الْمُخْتَلفَة
وَذَلِكَ أَن القَوْل فِي وجود صناعَة الطِّبّ يَنْقَسِم إِلَى قسمَيْنِ أولين فقوم يَقُولُونَ بقدمه وَقوم يَقُولُونَ بحدوثه
فَالَّذِينَ يَعْتَقِدُونَ حُدُوث الْأَجْسَام يَقُولُونَ أَن صناعَة الطِّبّ محدثة لِأَن الْأَجْسَام الَّتِي يسْتَعْمل فِيهَا الطِّبّ محدثة(1/11)
وَالَّذين يَعْتَقِدُونَ الْقدَم يَعْتَقِدُونَ فِي الطِّبّ قدمه
وَيَقُولُونَ أَن صناعَة الطِّبّ قديمَة لم تزل مذ كَانَت كَأحد الْأَشْيَاء الْقَدِيمَة لم تزل مثل خلق الْإِنْسَان
وَأما أَصْحَاب الْحُدُوث فينقسم قَوْلهم إِلَى قسمَيْنِ فبعضهم يَقُول أَن الطِّبّ خلق مَعَ خلق الْإِنْسَان إِذْ كَانَ من أحد الْأَشْيَاء الَّتِي بهَا صَلَاح الْإِنْسَان
وَبَعْضهمْ يَقُول وهم الْجُمْهُور أَن الطِّبّ استخرج بعد
وَهَؤُلَاء أَيْضا ينقسمون قسمَيْنِ فَمنهمْ من يَقُول أَن الله تَعَالَى ألهمها النَّاس وَأَصْحَاب هَذَا الرَّأْي على مَا يَقُوله جالينوس وابقراط وَجَمِيع أَصْحَاب الْقيَاس وشعراء اليونانيين
وَمِنْهُم من يَقُول أَن النَّاس استخرجوها
وَهَؤُلَاء قوم من أَصْحَاب التجربة وَأَصْحَاب الْحِيَل وثاسلس المغالط وفيلن وهم أَيْضا مُخْتَلفُونَ فِي الْوَضع الَّذِي بِهِ استخرجت وبماذا استخرجت
فبعضهم يَقُول أَن أهل مصر استخرجوها ويصححون ذَلِك من الدَّوَاء الْمُسَمّى باليونانية الأنى وَهُوَ الراسن فبعضهم يَقُول أَن هرمس استخرج سَائِر الصَّنَائِع والفلسفة والطب وَبَعْضهمْ يَقُول أَن أهل فولوس استخرجوها من الْأَدْوِيَة الَّتِي ألفتها الْقَابِلَة لامْرَأَة الْملك فَكَانَ بهَا برؤها وَبَعْضهمْ يَقُول أَن أهل موسيا وأفروجيا استخرجوها وَذَلِكَ أَن هَؤُلَاءِ أول من استخرج الزمر فَكَانُوا يشفون بِتِلْكَ الألحان والإيقاعات آلام النَّفس ويشفي آلام النَّفس مَا يشفى بِهِ الْبدن
وَبَعْضهمْ يَقُول أَن الْمُسْتَخْرج لَهَا الْحُكَمَاء من أهل قو وَهِي الجزيرة الَّتِي كَانَ بهَا ابقراط وآباؤه وأعني آل أسقليبيوس
وَقد ذكر كثير من القدماء أَن الطِّبّ ظهر فِي ثَلَاث جزائر فِي وسط الإقليم الرَّابِع إِحْدَاهَا تسمى رودس وَالثَّانيَِة تسمى قنيدس وَالثَّالِثَة تسمى قو وَمن هَذِه كَانَ ابقراط
وَبَعْضهمْ يرى أَن الْمُسْتَخْرج لَهَا الكلدانيون
وَبَعْضهمْ يَقُول أَن الْمُسْتَخْرج لَهَا السَّحَرَة من أهل الْيمن
وَبَعْضهمْ يَقُول بل السَّحَرَة من بابل أَو السَّحَرَة من فَارس
وَبَعْضهمْ يَقُول أَن الْمُسْتَخْرج لَهَا الْهِنْد وَبَعْضهمْ يَقُول أَن الْمُسْتَخْرج لَهَا أهل أقريطش الَّذين ينْسب لافتيمون إِلَيْهِم وَبَعْضهمْ يَقُول أهل طور سينا
فَالَّذِينَ قَالُوا أَن الطِّبّ من الله تَعَالَى قَالَ بَعضهم هُوَ إلهام بالرؤيا
وَاحْتَجُّوا بِأَن جمَاعَة رَأَوْا فِي الأحلام أدوية استعملوها فِي الْيَقَظَة فشفتهم من أمراض صعبة وشفت كل من استعملها(1/12)
وَقَالَ قوم ألهمها الله تَعَالَى بالتجربة ثمَّ زَاد الْأَمر فِي ذَلِك وَقَوي وَاحْتَجُّوا أَن امْرَأَة كَانَت بِمصْر وَكَانَت شَدِيدَة الْحزن والهم مبتلاة بالغنظ والدرد وَمَعَ ذَلِك فَكَانَت ضَعِيفَة الْمعدة وصدرها مَمْلُوء أخلاطا رَدِيئَة وَكَانَ حَيْضهَا محتبسا فاتفق لَهَا أَن أكلت الراسن مرَارًا كَثِيرَة بِشَهْوَة مِنْهَا لَهُ فَذهب عَنْهَا جَمِيع مَا كَانَ بهَا وَرجعت إِلَى صِحَّتهَا وَجَمِيع من كَانَ بِهِ شَيْء مِمَّا كَانَ بهَا لما اسْتَعْملهُ برأَ بِهِ فَاسْتعْمل النَّاس التجربة على سَائِر الْأَشْيَاء
وَالَّذين قَالُوا أَن الله تَعَالَى خلق صناعَة الطِّبّ احْتَجُّوا فِي ذَلِك بِأَنَّهُ لَا يُمكن فِي هَذَا الْعلم الْجَلِيل أَن يَسْتَخْرِجهُ عقل إِنْسَان وَهَذَا الرَّأْي هُوَ رَأْي جالينوس وَهَذَا نَص مَا ذكره فِي تَفْسِيره لكتاب الْإِيمَان لابقراط قَالَ
وَأما نَحن فالأصوب عندنَا وَالْأولَى أَن نقُول أَن الله تبَارك وَتَعَالَى خلق صناعَة الطِّبّ وألهمها النَّاس وَذَلِكَ أَنه لَا يُمكن فِي مثل هَذَا الْعلم الْجَلِيل أَن يُدْرِكهُ عقل الْإِنْسَان لَكِن الله تبَارك وَتَعَالَى هُوَ الْخَالِق الَّذِي هُوَ بِالْحَقِيقَةِ فَقَط يُمكنهُ خلقه وَذَلِكَ إِنَّا لَا نجد الطِّبّ أحسن من الفلسفة الَّتِي يرَوْنَ أَن استخراجها كَانَ من عِنْد الله تبَارك وَتَعَالَى
وَوجدت فِي كتاب الشَّيْخ موفق الدّين أسعد بن إلْيَاس بن المطران الَّذِي وسمه ببستان الْأَطِبَّاء وروضة الألباء كلَاما نَقله عَن أبي جَابر المغربي وَهُوَ هَذَا قَالَ
سَبَب وجود هَذِه الصِّنَاعَة وَحي وإلهام وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن هَذِه الصِّنَاعَة مَوْضُوعَة للعناية بأشخاص النَّاس إِمَّا لِأَن تفيدهم الصِّحَّة عِنْد الْمَرَض وَأما لِأَن تحفظ الصِّحَّة عَلَيْهِم
وممتنع أَن تَعْنِي الصِّنَاعَة بالأشخاص بذاتها دون أَن تكون مقرونة بِعلم أَمر هَذِه الْأَشْخَاص الَّتِي خصت الْعِنَايَة بهَا
وَمن الْبَين أَن الْأَشْخَاص ذَوَات مبدأ لوقوعها تَحت الْعدَد وكل مَعْدُود فأوله وَاحِد تكْثر وَلَا يجوز أَن تكون أشخاص النَّاس إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ لِأَن خُرُوج مَا لَا نِهَايَة لَهُ إِلَى الْفِعْل محَال قَالَ ابْن المطران لَيْسَ كل مَا لَا يقدر على حصره فَلَا نِهَايَة لَهُ بل قد تكون لَهُ نِهَايَة يضعف عَن حصرها
قَالَ أَبُو جَابر وَإِذا كَانَت الْأَشْخَاص الَّتِي لَا تقوم هَذِه الصِّنَاعَة إِلَّا بهَا ذَوَات مبدأ ضَرُورَة فالصناعة ذَات مبدأ ضَرُورَة
وَمن الْبَين أَن الشَّخْص الَّذِي هُوَ أول الْكَثْرَة مفتقر إِلَيْهَا كافتقار سَائِرهمْ
وَمن الْبَين أَيْضا أَنه لَا يَأْتِي من أول شخص وجد علم هَذِه الصِّنَاعَة استنباطا لقصر عمره وَطول الصِّنَاعَة وَلَا يجوز أَن يجتمعوا فِي مبدأ الْكَثْرَة على استنباطها من أجل أَن الصِّنَاعَة متقنة محكمَة
وكل أَمر متقن لَا يستنبط بالاختلاف بل بالِاتِّفَاقِ
والأشخاص الَّتِي(1/13)
هِيَ أول فِي الْكَثْرَة لَا يجوز أَن تَجْتَمِع على أَمر متقن من أجل أَن كل شخص لَا يُسَاوِي كل شخص من جَمِيع الْجِهَات
وَإِذا لم تتساو من جِهَة آرائها لم يجز أَن تَجْتَمِع على أَمر مُحكم
قَالَ ابْن المطران هَذَا يُؤَدِّي أَيْضا فِي بَاقِي الْعُلُوم والصناعات إِلَى أَنَّهَا إلهام لِأَنَّهَا ذَوَات إتقان أَيْضا وَقَوله أَيْضا أَن الْأَشْخَاص لَا يجوز أَن تَجْتَمِع على أَمر متقن لَيْسَ بِشَيْء بل اجتماعها لَا يكون إِلَّا على أَمر متقن
وَإِنَّمَا الِاخْتِلَاف يَقع مَعَ عدم الإتقان
قَالَ أَبُو جَابر فقد بَان أَن الْأَشْخَاص فِي مبدأ الْكَثْرَة لَا يَتَأَتَّى مِنْهَا استنباط هَذِه الصِّنَاعَة وَكَذَلِكَ عِنْد نِهَايَة الْكَثْرَة لتباينهم وافتراقهم وَوُقُوع الْخلف بَينهم
ونقول أَيْضا يجوز أَن يشك شَاك فَيَقُول هَل يَتَأَتَّى عنْدك أَن يعرف إِنْسَان من النَّاس أَو كثير مِنْهُم منابت الحشائش والعقاقير ومواضع الْمَعَادِن وخواصها وقوى أَعْضَاء سَائِر الْحَيَوَان وخواصها ومضارها ومنافعها وَيعرف سَائِر الْأَمْرَاض والبلدان وَاخْتِلَاف أمزجة أَهلهَا مَعَ تَفْرِيق دِيَارهمْ وَيعرف الْقُوَّة الَّتِي ينتجها تركيب الْأَدْوِيَة وَمَا يضاد قُوَّة قُوَّة من قوى الْأَدْوِيَة وَمَا يلائم مزاجا مزاجا وَمَا يضاده مَعَ مَا يتبع ذَلِك من سَائِر صناعَة الطِّبّ فَإِن سهل ذَلِك وهونه كذب وَإِن صَعب أمره فِي علمه من جِهَة الْمعرفَة قُلْنَا استنباطه مُمْتَنع
وَإِذا لم يكن للصناعة الطبية لابتدائها إِلَّا الاستنباط أَو الْوَحْي أَو الإلهام وَكَانَ لَا سَبِيل إِلَى استنباط هَذِه الصِّنَاعَة بَقِي أَن تكون مَوْجُودَة بطرِيق الْوَحْي والإلهام
قَالَ ابْن المطران هَذَا كَلَام مشوش كُله مُضْطَرب وَإِن كَانَ جالينوس قَالَ فِي تَفْسِير الْعَهْد أَن هَذِه الصِّنَاعَة وحيية إلهامية
وَقَالَ فلاطن فِي كتاب السياسة أَن أسقليبيوس كَانَ رجلا مؤيدا ملهما
لَكِن تبعيد حُصُول هَذِه الصِّنَاعَة باستنباط الْعُقُول خطأ وتضعيف الْعُقُول الَّتِي استنبطت أجل من صناعَة الطِّبّ
ولننزل أَن أول الْعَالم كَانَ وَاحِدًا مُحْتَاجا إِلَى صناعَة الطِّبّ كحاجة هَذَا الْعَالم الجم الْغَفِير الْيَوْم وَأَنه ثقل عَلَيْهِ جِسْمه واحمرت عَيناهُ وأصابه عَلَامَات الامتلاء الدموي وَلَا يدْرِي مَا يفعل فَأَصَابَهُ من قوته الرعاف فَزَالَ عَنهُ مَا كَانَ يجده فَعرف ذَلِك فعاوده فِي وَقت آخر ذَلِك بِعَيْنِه فبادر إِلَى أَنفه فخدشه فَجرى مِنْهُ الدَّم فسكن عَنهُ مَا كَانَ يجده فَصَارَ ذَلِك عِنْده مَحْفُوظًا يُعلمهُ كل من وجده من وَلَده ونسله
ولطفت حَوَاشِي الصِّنَاعَة حَتَّى فتح الْعرق بلطافة ذهن ورقة حس
وَلَو نزلنَا لفتح الْعرق أَن آخر مِمَّن هَذِه صفته أنجرح أَو انخدش فَجرى مِنْهُ الدَّم فَكَانَ لَهُ مَا ذكرنَا من النَّفْع ولطفت الأذهان فِي اسْتِخْرَاج الفصد جَازَ فَصَارَ هَذَا بَابا من الطِّبّ
وَآخر امْتَلَأَ من الطَّعَام امتلاء مفرطا فَأَصَابَهُ من طَبِيعَته أحد الاستفراغين أما الْقَيْء وَإِمَّا الإسهال بعد غثيان(1/14)
وكرب وقلق وتهوع ومغص وقراقر وريح جوالة فِي الْبَطن فَعِنْدَ ذَلِك الاستفراغ سكن جَمِيع مَا كَانَ يجده
وَقد كَانَ آخر من النَّاس عَبث بِبَعْض اليتوعات فمغصه فأسهله وقيأه إسهالا وقيئا كثيرا وَصَارَت عِنْده معرفَة أَن هَذِه الحشيشة تفعل هَذَا الْفِعْل وَإِن هَذَا الْحَادِث مخفف لتِلْك الْأَعْرَاض مزيل لَهَا فَذكره لذَلِك الشَّخْص وحثه على اسْتِعْمَال الْقَلِيل مِنْهُ لما تعوق عَلَيْهِ الْقَيْء والإسهال وصعبت عَلَيْهِ الْأَعْرَاض فأداه إِلَى غَرَضه مِنْهُمَا وخفف عَنهُ مَا لَقِي من شَرّ تِلْكَ الْأَعْرَاض
ولطفت الصِّنَاعَة ورقت حواشيها وَنظرت فِي بَاقِي الحشائش الشبيهة بِتِلْكَ مَا مِنْهَا يفعل ذَلِك وَمَا مِنْهَا لَا يَفْعَله وَمَا مِنْهَا يَفْعَله بعنف وَمَا مِنْهَا يَفْعَله بِضعْف
وَجَاء صفاء الْعُقُول فَنظر فِي الدَّوَاء الَّذِي يفعل ذَلِك أَي الطعوم طعمه وَأي الكيفيات يسْبق إِلَى اللِّسَان مِنْهُ وأيها يتبعهَا فَجعل ذَلِك سباره ويستخرج مِنْهُ
وإعانته التجربة وأخرجت مَا وَقع لَهُ من القَوْل إِلَى الْفِعْل وكذبت مَا غلط فِيهِ وصححت مَا حدس عَلَيْهِ حدسا صَحِيحا حَتَّى اكْتفى من ذَلِك
وَإِذا نزلت أَن مسهولا لَا يعلم أَي الْأَدْوِيَة وَأي الأغذية يَنْفَعهُ أَو يضرّهُ اسْتعْمل بالِاتِّفَاقِ سماقا فِي غذائه فَانْتَفع بِهِ ودام عَلَيْهِ فَأَبْرَأهُ فَأحب أَن يعلم بِمَاذَا أَبرَأَهُ فتطعمه فَوَجَدَهُ حامضا قَابِضا فَعلم أَنه لَا يَخْلُو من أَن يكون حمضه نَفعه أَو قَبضه فذاق غَيره مِمَّا فِيهِ حموضة مَحْضَة فَقَط وَاسْتَعْملهُ فِي غَيره مِمَّن بِهِ مثل مَا كَانَ بِهِ فَوَجَدَهُ لَا يفِيدهُ مَا أَفَادَهُ هُوَ فَعمد إِلَى شَيْء آخر طعمه قَابض فَقَط فَاسْتَعْملهُ فِي ذَلِك الشَّخْص بِعَيْنِه فَوجدَ فَائِدَته فِيهِ أَكثر من فَائِدَة الحامض الْمُطلق فَعلم أَن ذَلِك الطّعْم مُفِيد فِي تِلْكَ الْحَالة وَسَماهُ قَابِضا وسمى ذَلِك استفراغا وَقَالَ أَن الْقَابِض ينفع من الاستفراغ
ولطفت الصِّنَاعَة ورقت حواشيها فِي ذَلِك حَتَّى استخرجت الْعَجَائِب واستنبطت الْبَدَائِع
وأتى الثَّانِي فَوجدَ الأول وَقد استخرج شَيْئا جربه فَوَجَدَهُ حَقًا فاحتفظ بِهِ وقاس عَلَيْهِ وتمم حَتَّى استكملت الصِّنَاعَة
وَلَو نزلنَا مَجِيء مُخَالف وجدنَا كثيرين موافقين وَإِذا غلط مُتَقَدم سدد مُتَأَخّر وَإِذا قصر قديم تمم مُحدث
هَكَذَا فِي جَمِيع الصناعات كَذَا الْغَالِب على ظَنِّي
قَالَ قَالَ حُبَيْش الأعسم أَن رجلا اشْترى كبدا طرية من جزار وَمضى إِلَى بَيته فَاحْتَاجَ أَن ينْصَرف فِي حَاجَة أُخْرَى فَوضع تِلْكَ الكبد الَّتِي كَانَت مَعَه على أوراق نَبَات مبسوطة كَانَت على وَجه الأَرْض ثمَّ قضى حَاجته وَعَاد ليَأْخُذ الكبد فَوَجَدَهَا قد ذَابَتْ وسالت دَمًا فَأخذ تِلْكَ الأوراق وَعرف ذَلِك النَّبَات وَصَارَ يَبِيعهُ دَوَاء للتلف حَتَّى فطن بِهِ وَأمر بقتْله(1/15)
أَقُول هَذِه الْحِكَايَة كَانَت فِي وَقت جالينوس
وَقَالَ أَنه كَانَ السَّبَب فِي مسك ذَلِك الرجل وَفِي توديته إِلَى الْحَاكِم حَتَّى أَمر بقتْله
قَالَ جالينوس وَأمرت أَيْضا فِي وَقت مروره إِلَى الْقَتْل أَن تشد عَيناهُ حَتَّى لَا ينظر إِلَى ذَلِك النَّبَات أَو أَن يُشِير إِلَى أحد سواهُ فيتعلمه مِنْهُ
ذكر ذَلِك فِي كِتَابه فِي الْأَدْوِيَة المسهلة
وحَدثني جمال الدّين النقاش السعودي أَن فِي لحف الْجَبَل الَّذِي باسعرد على الْجَانِب الآخر مِنْهُ قَرِيبا من الميدان عشبا كثيرا
وَأَن بعض الْفُقَرَاء من مَشَايِخ أهل الْمَدِينَة أَتَى إِلَى ذَلِك الْموضع ونام على نَبَات هُنَاكَ وَلم يزل نَائِما إِلَى أَن عبر عَلَيْهِ جمَاعَة فوجدوه كَذَلِك وَتَحْته دَمًا سائحا من أَنفه وَمن نَاحيَة الْمخْرج فأنبهوه وبقوا متعجبين من ذَلِك إِلَى أَن ظهر لَهُم أَنه من النَّبَات الَّذِي نَام عَلَيْهِ
وَأَخْبرنِي أَنه خرج إِلَى ذَلِك الْموضع وَرَأى ذَلِك النَّبَات وَذكر من صفته أَنه على شكل الهندبا غير أَنه مشرف الجوانب وَهُوَ مر المذاق
قَالَ وَقد شاهدت كثيرا مِمَّن يُدْنِيه إِلَى أَنفه ويستنشقه مَرَّات فَإِنَّهُ يحدث لَهُ رعافا فِي الْوَقْت
هَذَا مَا ذكره وَلم يتَحَقَّق عِنْدِي فِي أَمر هَذَا النَّبَات هَل هُوَ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ جالينوس أَو غَيره
قَالَ ابْن المطران فَأَقُول حِينَئِذٍ أَن النَّفس الفاضلة المفيدة للخير نظرت حِينَئِذٍ فَعلمت
وكما أَن الدَّوَاء فعل ذَلِك الْفِعْل فَلَا بُد وَأَن يكون خلق دَوَاء آخر ينفع هَذَا الْعُضْو ويقاوم هَذَا الدَّوَاء ففتش عَلَيْهِ بالتجربة وَلم يزل يطْلب فِي كل يَوْم أَو فِي كل وَقت حَيَوَانا فيعطيه الدَّوَاء الأول ثمَّ الثَّانِي فَإِن دفع ضَرَره فقد حصل مُرَاده وَإِن لم ينفع فِيهِ طلب غَيره حَتَّى وَقع على ذَلِك الدَّوَاء
وَفِي اسْتِخْرَاج الترياق أعظم دَلِيل على مَا قلت إِذْ لم يكن الترياق سوى حب الْغَار وَعسل ثمَّ صَار إِلَى مَا صَار إِلَيْهِ من الْكَثْرَة والنفع لَا بِوَحْي وَلَا إلهام وَلَكِن بِقِيَاس وصفاء عقول وَفِي مدد طَوِيلَة
فَإِن قلت من أَيْن علم أَن الدَّوَاء لَا بُد لَهُ من ضد
قُلْنَا أَنهم لما نظرُوا إِلَى قَاتل البيش وَهُوَ نَبَات يطلع فَإِذا وَقع على البيش جففه وأتلفه علمُوا أَن مثله فِي غَيره فطلبوه
والعالم الفطن يقدر على علم كَيْفيَّة اسْتِخْرَاج شَيْء من المعلومات إِذا نظر فِيهِ على قياسنا الَّذِي وضعناه لَهُ
وَقد عمل جالينوس كتابا فِي كَيفَ كَانَ اسْتِخْرَاج جَمِيع الصناعات فَمَا زَاد فِيهِ على النَّحْو الَّذِي ذكرنَا
أَقُول وَإِنَّمَا نقلنا هَذِه الآراء الَّتِي تقدم ذكرهَا على اختلافها وتنوعها لكَون مقصدنا حِينَئِذٍ أَن نذْكر جلّ مَا ذهب إِلَيْهِ كل فريق
وَلما كَانَ الْخلف والتباين فِي هَذَا على مَا ترى صَار طلب أَوله(1/16)
عسرا جدا
إِلَّا أَن الْإِنْسَان الْعَاقِل إِذا فكر فِي ذَلِك بِحَسب معقوله فَإِنَّهُ يجد صناعَة الطِّبّ لَا يبعد أَن تكون أوائلها قد تحصلت من هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي قد تقدّمت أَو من أَكْثَرهَا
وَذَلِكَ إِنَّا نقُول أَن صناعَة الطِّبّ أَمر ضَرُورِيّ للنَّاس منوطة بهم حَيْثُ وجدوا وَمَتى وجدوا إِلَّا أَنَّهَا قد تخْتَلف عِنْدهم بِحَسب الْمَوَاضِع وَكَثْرَة التغذي وَقُوَّة التَّمْيِيز فَتكون الْحَاجة إِلَيْهَا أمس عِنْد قوم دون قوم
وَذَلِكَ أَنه لما كَانَت بعض النواحي قد يعرض فِيهَا كثيرا أمراض مَا لأهل تِلْكَ النَّاحِيَة وخصوصا كلما كَانُوا أَكثر تنوعا فِي الأغذية وهم أدوم أكلا للفواكه فَإِن أبدانهم تبقى متهيئة للأمراض وَرُبمَا لم يفلت مِنْهُم أحد فِي سَائِر أوقاته من مرض يَعْتَرِيه فَيكون أَمْثَال هَؤُلَاءِ مضطرين إِلَى الصِّنَاعَة الطبية أَكثر من غَيرهم مِمَّن هم فِي نواحي أصح هَوَاء وأغذيتهم أقل تنوعا وهم مَعَ ذَلِك قليلو الاغتذاء بِمَا عِنْدهم
ثمَّ أَن النَّاس أَيْضا لما كَانُوا متفاضلين فِي قُوَّة التَّمْيِيز النطقي كَانَ أتمهم تمييزا وَأَقْوَاهُمْ حنكة وأفضلهم رَأيا أدْرك وأحفظ لما يمر بهم من الْأُمُور التجريبية وَغَيرهَا لمقابلة الْأَمْرَاض بِمَا يعالجها بِهِ من الْأَدْوِيَة دون غَيره
فَإِذا اتّفق فِي بعض النواحي أَن يكون أَهلهَا تعرض لَهُم الْأَمْرَاض كثيرا وَكَانَ فيهم جمَاعَة عدَّة بِمَثَابَة من أَشَرنَا إِلَيْهِ أَولا فَإِنَّهُم يتسلطون بِقُوَّة إدراكهم وجودة قرائحهم وَبِمَا عِنْدهم من الْأُمُور التجريبية وَغَيرهَا على سَبِيل المداواة فيجتمع عِنْدهم على الطول أَشْيَاء كَثِيرَة من صناعَة الطِّبّ
ولنذكر حِينَئِذٍ أقساما فِي مبدئية هَذِه الصِّنَاعَة بِقدر الْمُمكن فَنَقُول
الْقسم الأول
أَن أحد الْأَقْسَام فِي ذَلِك أَنه قد يكون حصل لَهُم شَيْء مِنْهَا عَن الْأَنْبِيَاء والأصفياء عَلَيْهِم السَّلَام بِمَا خصهم الله تَعَالَى بِهِ من التأييد الإلهي
روى ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ (كَانَ سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام إِذا صلى رأى شَجَرَة نابتة بن يَدَيْهِ فيسألها مَا اسْمك فَإِن كَانَت لغرس غرست وَإِن كَانَت لدواء كتبت)
وَقَالَ قوم من الْيَهُود إِن الله عز وَجل أنزل على مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام سفر الأشفية
والصابئة تَقول أَن الشِّفَاء كَانَ يُؤْخَذ من هياكلهم على يَد كهانهم وصلحائهم بعض بالرؤيا(1/17)
وَبَعض بالإلهام
وَمِنْهُم من قَالَ أَنه كَانَ يُوجد مَكْتُوبًا فِي الهياكل لَا يعلم من كتبه وَمِنْهُم من قَالَ أَنَّهَا كَانَت تخرج يَد بَيْضَاء مَكْتُوب عَلَيْهَا الطِّبّ وَنقل عَنْهُم أَن شيت أظهر الطِّبّ وَأَنه وَرثهُ عَن آدم عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام
فَأَما الْمَجُوس فَإِنَّهَا تَقول أَن زرادشت الَّذِي تَدعِي أَنه نَبِيّهم جَاءَ بكتب عُلُوم أَرْبَعَة زَعَمُوا أَنَّهَا جلدت بِاثْنَيْ عشر ألف جلد جاموس ألف مِنْهَا طب
وَأما نبط الْعرَاق والسورانيون والكلدانيون والكسدانيون وَغَيرهم من أَصْنَاف النبط الْقدَم فيدعى لَهُم أَنهم اكتشفوا مبادئ صناعَة الطِّبّ
وَأَن هرمس الهرامسة المثلث بالحكمة كَانَ بَينهم وَيعرف علومهم فَخرج حِينَئِذٍ إِلَى مصر وَبث فِي أَهلهَا الْعُلُوم والصنائع وَبنى الأهرام والبرابي ثمَّ انْتقل الْعلم مِنْهُم إِلَى اليونانيين
وَقَالَ الْأَمِير أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فانك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم أَن الْإِسْكَنْدَر لما تملك مملكة دَارا واحتوى على فَارس أحرق كتب دين الْمَجُوسِيَّة وَعمد إِلَى كتب النُّجُوم والطب والفلسفة فنقلها إِلَى اللِّسَان اليوناني وأنفذها إِلَى بِلَاده وأحرق أُصُولهَا
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو سُلَيْمَان المنطقي قَالَ لي ابْن عدي أَن الْهِنْد لَهُم عُلُوم جليلة من عُلُوم الفلسفة وَأَنه وَقع إِلَيْهِ أَن الْعلم من ثمَّ وصل إِلَى اليونانيين
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو سُلَيْمَان وَلست أَدْرِي من أَيْن وَقع لَهُ ذَلِك
وَقَالَ بعض عُلَمَاء الإسرائيليين أَن الَّذِي استخرج صناعَة الطِّبّ يوقال بن لامخ بن متوشالخ(1/18)
الْقسم الثَّانِي
أَن يكون قد حصل لَهُم شَيْء مِنْهَا بالرؤيا الصادقة مثل مَا حكى جالينوس فِي كِتَابه فِي الفصد من فصده للعرق الضَّارِب الَّذِي أَمر بِهِ
وَذَلِكَ أَنه قَالَ
إِنِّي أمرت فِي مَنَامِي مرَّتَيْنِ بفصد الْعرق الضَّارِب الَّذِي بَين السبابَة والإبهام من الْيَد الْيُمْنَى فَلَمَّا أَصبَحت فصدت هَذَا الْعرق وَتركت الدَّم يجْرِي إِلَى أَن انْقَطع من تِلْقَاء نَفسه لِأَنِّي كَذَلِك أمرت فِي مَنَامِي
فَكَانَ مَا جرى أقل من رَطْل فسكن عني بذلك على الْمَكَان وجع كنت أَجِدهُ قَدِيما فِي الْموضع الَّذِي يتَّصل بِهِ الكبد بالحجاب
وَكنت فِي وَقت مَا عرض لي هَذَا غُلَاما
قَالَ وَأعرف إنْسَانا بِمَدِينَة فرغامس شفَاه الله تَعَالَى من وجع مزمن كَانَ بِهِ فِي جنبه بفصد الْعرق الضَّارِب من كَفه وَالَّذِي دَعَا ذَلِك الرجل إِلَى أَن يفعل ذَلِك رُؤْيا رَآهَا
وَقَالَ فِي الْمقَالة الرَّابِعَة عشرَة من كِتَابه فِي حِيلَة الْبُرْء قد رَأَيْت لِسَانا عظم وانتفخ حَتَّى لم يَسعهُ الْفَم وَكَانَ الَّذِي أَصَابَهُ ذَلِك رجلا لم يعْتد إِخْرَاج الدَّم قطّ وَكَانَ من أَبنَاء سِتِّينَ سنة وَكَانَ الْوَقْت الَّذِي رَأَيْته فِيهِ أول مرّة السَّاعَة الْعَاشِرَة من النَّهَار فَرَأَيْت أَنه يَنْبَغِي لي أَن أسهله بِهَذَا الْحبّ الَّذِي قد جرت الْعَادة بِاسْتِعْمَالِهِ وَهُوَ الْحبّ الْمُتَّخذ بِالصبرِ والسقمونيا وشحم الحنظل فسقيته الدَّوَاء نَحْو الْعشَاء وأشرت عَلَيْهِ أَن يضع على الْعُضْو العليل بعض الْأَشْيَاء الَّتِي تبرد
وَقلت لَهُ افْعَل هَذَا حَتَّى أنظر مَا يحدث فأقدر المداواة على حَسبه
وَلم يساعدني على ذَلِك رجل حَضَره من الْأَطِبَّاء فَبِهَذَا السَّبَب أَخذ الرجل ذَلِك الْحبّ وَتَأَخر النّظر فِي أَمر مَا يداوي بِهِ الْعُضْو نَفسه إِلَى الْغَد
وَكُنَّا نطمع جَمِيعًا أَن يكون قد تبين فِيهِ حسن أثر الشَّيْء الَّذِي يداوى بِهِ ونجربه عَلَيْهِ
إِذْ كَانَ فِيهِ يكون الْبدن قد استفرغ كُله وَالشَّيْء المنصب إِلَى الْعُضْو قد انحدر إِلَى أَسْفَل(1/19)
فَفِي ليلته رأى فِي حلمه رُؤْيا ظَاهِرَة بَيِّنَة فَحَمدَ مشورتي وَاتخذ مشورتي مَادَّة فِي ذَلِك الدَّوَاء وَذَلِكَ أَنه رأى النَّائِم آمرا يَأْمُرهُ بِأَن يمسك فِي فِيهِ عصارة الخس فَاسْتعْمل هَذِه العصارة كَمَا أمره وبرأ برءا تَاما وَلم يحْتَج مَعهَا إِلَى شَيْء آخر يتداوى بِهِ
وَقَالَ فِي شَرحه لكتاب الْإِيمَان لابقراط وَعَامة النَّاس يشْهدُونَ على أَن الله تبَارك وَتَعَالَى هُوَ الملهم لَهُم صناعَة الطِّبّ من الأحلام والرؤيا الَّتِي تنقذهم من الْأَمْرَاض الصعبة
من ذَلِك إِنَّا نجد خلقا كثيرا مِمَّن لَا يُحْصى عَددهمْ أَتَاهُم الشِّفَاء من عِنْد الله تبَارك وَتَعَالَى بَعضهم على يَد سارافس وَبَعْضهمْ على يَد أسقليبيوس بِمَدِينَة أفيداروس ومدينة قو ومدينة فرغامس وَهِي مدينتي
وَبِالْجُمْلَةِ فقد يُوجد فِي جَمِيع الهياكل الَّتِي لليونانيين وَغَيرهم من سَائِر النَّاس الشِّفَاء من الْأَمْرَاض الصعبة الَّتِي تَأتي بالأحلام وبالرؤيا
وأريباسيوس يَحْكِي فِي كناشه الْكَبِير أَن رجلا عرض لَهُ فِي المثانة حجر عَظِيم
قَالَ وداويته بِكُل دَوَاء مستصلح لتفتيت الْحجر فَلم ينْتَفع أَلْبَتَّة وأشرف على الْهَلَاك
فَرَأى فِي النّوم كَأَن إنْسَانا أقبل عَلَيْهِ وَفِي يَده طَائِر صَغِير الجثة وَقَالَ لَهُ إِن هَذَا الطَّائِر اسْمه صفراغون وَيكون بمواضع السباحات وَالْآجَام فَخذه وَأحرقهُ وَتَنَاول من رماده حَتَّى تسلم من هَذِه الْعلَّة
فَلَمَّا انتبه فعل ذَلِك فَأخْرج الْحجر من مثانته متفتتا كالرماد وبرأ برءا تَاما
وَمِمَّا حصل أَيْضا من ذَلِك بالرؤيا الصادقة أَن بعض خلفاء الْمغرب مرض مَرضا طَويلا وتداوى بمداواة كَثِيرَة فَلم ينْتَفع بهَا فَلَمَّا كَانَ فِي بعض اللَّيَالِي رأى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نَومه وشكى إِلَيْهِ مَا يجده فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ادهن بِلَا وكل لَا تَبرأ فَلَمَّا انتبه من نَومه بَقِي متعحبا من ذَلِك وَلم يفهم مَا مَعْنَاهُ
فَسَأَلَ المعبرين عَنهُ فَكل مِنْهُم عجز عَن تَأْوِيله مَا خلا عَليّ بن أبي طَالب القيراوني فَإِنَّهُ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمرك أَن تدهن بالزيت وتأكل مِنْهُ فتبرأ
فَلَمَّا سَأَلَهُ من أَيْن لَهُ معرفَة ذَلِك
قَالَ من قَول الله عز وَجل {من شَجَرَة مباركة زيتونة لَا شرقية وَلَا غربية يكَاد زيتها يضيء وَلَو لم تمسسه نَار}
فَلَمَّا اسْتعْمل ذَلِك صلح بِهِ وَبرا برءا تَاما
ونقلت من خطّ عَليّ بن رضوَان فِي شَرحه لكتاب جالينوس فِي فرق الطِّبّ ماهذا نَصه(1/20)
قَالَ وَقد كَانَ عرض لي مُنْذُ سِنِين صداع مبرح عَن امتلاء فِي عروق الرَّأْس ففصدت فَلم يسكن وأعدت الفصد مرَارًا وَهُوَ بَاقٍ على حَاله فَرَأَيْت جالينوس فِي النّوم وَقد أَمرنِي أَن أَقرَأ عَلَيْهِ حِيلَة الْبُرْء فَقَرَأت عَلَيْهِ مِنْهَا سبع مقالات فَلَمَّا بلغت إِلَى آخر السَّابِعَة قَالَ نسيت مَا بك من الصداع وَأَمرَنِي أَن أحجم القمحدوة من الرَّأْس
ثمَّ استيقظت فحجمتها فبرأت من الصداع على الْمَكَان
وَقَالَ عبد الله بن زهر فِي كتاب التَّيْسِير إِنَّنِي كنت قد اعتل بَصرِي من قيئ بحراني أفرط عَليّ فَعرض لي انتشار فِي الحدقتين دفْعَة فشغل بذلك بالي فَرَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم من كَانَ فِي حَيَاته يعْنى بأعمال الطِّبّ فَأمرنِي فِي النّوم بالاكتحال بشراب الْورْد وَكنت فِي ذَلِك الزَّمَان طَالبا قد حذقت وَلم تكن لي حنكة فِي الصِّنَاعَة فَأخْبرت أبي فَنظر فِي الْأَمر مَلِيًّا ثمَّ قَالَ لي اسْتعْمل مَا أمرت بِهِ فِي نومك
فانتفعت بِهِ
ثمَّ لم أزل أستعمله إِلَى وَقت وضعي هَذَا الْكتاب فِي تَقْوِيَة الْأَبْصَار
أَقُول وَمثل هَذَا أَيْضا كثير مِمَّا يحصل بالرؤيا الصادقة فَإِنَّهُ قد يعرض أَحْيَانًا لبَعض النَّاس أَن يرَوا فِي منامهم صِفَات أدوية مِمَّن يوجدهم إِيَّاهَا فَيكون بهَا برؤهم ثمَّ تشتهر المداواة بِتِلْكَ الْأَدْوِيَة فِيمَا بعد
الْقسم الثَّالِث
أَن يكون قد حصل لَهُم شَيْء مِنْهَا أَيْضا بالِاتِّفَاقِ والمصادفة مثل الْمعرفَة الَّتِي حصلت لاندروماخس الثَّانِي فِي إلقائه لُحُوم الأفاعي فِي الترياق
وَالَّذِي نشطه لذَلِك وأفرد ذهنه لتأليفه ثَلَاثَة أَسبَاب جرت على غير قصد وَهَذَا كَلَامه قَالَ
أما التجربة الأولى فَإِنَّهُ كَانَ يعْمل عِنْدِي فِي بعض ضياعي فِي الْموضع الْمَعْرُوف ببورنوس(1/21)
حراثون يحرثون الأَرْض للزَّرْع وَكَانَ بيني وَبَين الْموضع نَحْو فرسخين وَكنت أبكر إِلَيْهِم لأنظر مَا يعْملُونَ وأرجع إِذا فرغوا
وَكنت أحمل لَهُم معي على الدَّابَّة الَّتِي تَحت الْغُلَام زادا وَشَرَابًا لتطيب أنفسهم ويتجلدوا على الْعَمَل
فَمَا زلت كَذَلِك إِلَى أَن حملت الْغَدَاء فِي بعض الْأَيَّام وَكنت قد أخرجت إِلَيْهِم بستوقة خضراء وفيهَا خمر مطينة الرَّأْس لم تفتح مَعَ زَاد
فَلَمَّا أكلُوا الزَّاد قدمُوا البستوقة وفتحوها فَلَمَّا أَدخل أحدهم يَده مَعَ كوز ليغرف مِنْهَا الشَّرَاب وجد فِيهَا أَفْعَى قد تهرأ فأمسكوا عَن الشَّرَاب وَقَالُوا إِن هَهُنَا فِي هَذِه الْقرْيَة رجلا مجذوما يتَمَنَّى الْمَوْت من شدَّة مَا بِهِ فنسقيه من هَذَا الشَّرَاب ليَمُوت وَيكون لنا فِي ذَلِك أجر إِذْ نريحه من وصبه
فَمَضَوْا إِلَيْهِ بزاد وسقوه من ذَلِك الشَّرَاب متيقنين أَنه لَا يعِيش يَوْمه ذَلِك فَلَمَّا كَانَ قريب اللَّيْل انتفخ جِسْمه نفخا عَظِيما وَبَقِي إِلَى الْغَدَاة ثمَّ سقط عَنهُ الْجلد الْخَارِج وَظهر الْجلد الدَّاخِل الْأَحْمَر وَلم يزل حَتَّى صلب جلده وبرأ وعاش دهرا طَويلا من غير أَن يشكو عِلّة حَتَّى مَاتَ الْمَوْت الطبيعي الَّذِي هُوَ فنَاء الْحَرَارَة الغريزية
فَهَذَا دَلِيل على أَن لُحُوم الأفاعي تَنْفَع من الأوصاب الشَّدِيدَة والأمراض العتيقة فِي الْأَبدَان
وَأما التجربة الثَّانِيَة فَإِن أخي أبولونيوس كَانَ ماسحا من قبل الْملك على الضّيَاع وَكَانَ كثيرا مَا يخرج إِلَيْهَا فِي الْأَوْقَات الوعرة الرَّديئَة فِي الصَّيف والشتاء فَخرج ذَات يَوْم إِلَى بعض الْقرى على سَبْعَة فراسخ فَنزل يستريح عِنْد أصل شَجَرَة وَكَانَ الزَّمَان شَدِيد الْحر وَأَنه نَام فاجتازته أَفْعَى فنهشته فِي يَده وَكَانَ قد ألْقى يَده على الأَرْض من شدَّة تَعبه فانتبه بفزع وَعلم أَن الآفة قد لحقته وَلم يكن بِهِ على الْقيام طَاقَة ليقْتل الأفعى وَأَخذه الكرب والغشي فَكتب وَصِيَّة وضمنها اسْمه وَنسبه وَمَوْضِع منزله وَصفته وعلق ذَلِك على الشَّجَرَة كي إِذا مَاتَ واجتاز بِهِ إِنْسَان وَرَأى الرقعة يَأْخُذهَا ويقرأها وَيعلم أَهله ثمَّ استسلم للْمَوْت
وَكَانَ بِالْقربِ مِنْهُ مَاء قد حصل مِنْهُ فضلَة يسيرَة فِي جَوْفه فِي أصل تِلْكَ الشَّجَرَة الَّتِي علق عَلَيْهَا الرقعة وَكَانَ قد غَلبه الْعَطش فَشرب من ذَلِك المَاء شربا كثيرا
فَلم يلبث المَاء فِي جَوْفه حَتَّى سكن ألمه وَمَا كَانَ يجده من ضَرْبَة الأفعى ثمَّ برأَ فَبَقيَ مُتَعَجِّبا وَلم يعلم مَا كَانَ فِي المَاء
فَقطع عودا من الشَّجَرَة وَأَقْبل يفتش بِهِ المَاء لِأَنَّهُ(1/22)
كره أَن يفتشه بِيَدِهِ لِئَلَّا يكون فِيهِ أَيْضا شَيْء يُؤْذِيه فَوجدَ فِيهِ أفعيين قد اقتتلا ووقعا جَمِيعًا فِي المَاء وتهرءا فَأقبل أخي إِلَى منزلنا صَحِيحا سالما أَيَّام حَيَاته وَترك ذَلِك الْعَمَل الَّذِي كَانَ فِيهِ وَاقْتصر بملازمتي
وَكَانَ هَذَا أَيْضا دَلِيلا على أَن لُحُوم الأفاعي تَنْفَع من نهش الأفاعي والحيات وَالسِّبَاع الضارية
وَأما التجربة الثَّالِثَة فَإِنَّهُ كَانَ للْملك يبولوس غُلَام وَكَانَ شريرا غمازا خمانا فِيهِ كل بلَاء وَكَانَ كَبِيرا عِنْد الْملك يُحِبهُ لذَلِك وَكَانَ قد آذَى أَكثر النَّاس فَاجْتمع الوزراء والقواد والرؤساء على قَتله فَلم يتهيأ لَهُم ذَلِك لمكانته عِنْد الْملك
فاحتال بَعضهم وَقَالَ اذْهَبُوا فاسحقوا وزن دِرْهَمَيْنِ أفيونا وأطعموه إِيَّاه فِي طَعَامه أَو اسقوه فِي شرابه فَإِن الْمَوْت السَّرِيع يلْحق النَّاس كثيرا فَإِذا مَاتَ حملتموه إِلَى الْملك وَلَيْسَ بِهِ جِرَاحَة وَلَا قلبه
فَدَعوهُ إِلَى بعض الْبَسَاتِين فَلم يتهيأ لَهُم أَن يَفْعَلُوا ذَلِك فِي الطَّعَام فسقوه فِي الشَّرَاب فَلم يلبث إِلَّا قَلِيلا أَن مَاتَ فَقَالُوا نتركه فِي بعض الْبيُوت ونختم عَلَيْهِ ونوكل الفعلة بِبَاب الْبَيْت حَتَّى نمضي إِلَى الْملك نعلمهُ أَنه قد مَاتَ فَجْأَة ليَبْعَث ثقاته ينظرونه
فَلَمَّا صَارُوا بأجمعهم إِلَى الْملك نظر الفعلة إِلَى أَفْعَى قد خرج من بَين الْحجر وَدخل إِلَى الْبَيْت الَّذِي فِيهِ الْغُلَام فَلم يتهيأ لَهُم أَن يدخلُوا خَلفه ويقتلوه لِأَن الْبَاب كَانَ مَخْتُومًا فَلم يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَة والغلام يَصِيح بهم لم قفلتم عَليّ الْبَاب أعينوني قد لسعتني أَفْعَى وَمد الْبَاب من دَاخل وأعانه قوام الْبُسْتَان من خَارج فكسروه فَخرج وَلَيْسَ بِهِ قلبه
وَكَانَ هَذَا أَيْضا دَلِيلا على أَن لُحُوم الأفاعي تَنْفَع من شرب الْأَدْوِيَة القتالة الْمهْلكَة
هَذَا جملَة مَا ذكره اندروماخس
وَمثل هَذَا أَيْضا أَعنِي مَا حصل بالِاتِّفَاقِ والمصادفة أَنه كَانَ بعض المرضى بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ قد استسقى ويئس أَهله من حَيَاته وداووه بوصفات كَثِيرَة من أدوية الْأَطِبَّاء فيئسوا مِنْهُ وَقَالُوا لَا حِيلَة فِي برئه فَسمع ذَلِك من أَهله فَقَالَ لَهُم دَعونِي الْآن أتزود من الدُّنْيَا وآكل كل مَا عَن لي وَلَا تقتلوني بالحمية
فَقَالُوا لَهُ كل مَا تُرِيدُ فَكَانَ يجلس بِبَاب الدَّار فمهما جَازَ اشْترى مِنْهُ وَأكل
فَمر بِهِ رجل يَبِيع جَرَادًا مطبوخا فَاشْترى مِنْهُ كثيرا فَلَمَّا أكله انسهل بَطْنه من المَاء الْأَصْفَر فِي ثَلَاثَة أَيَّام مَا كَاد بِهِ أَن يتْلف لإفراطه
ثمَّ إِنَّه عِنْدَمَا انْقَطع الْقيام زَالَ كل مَا كَانَ فِي جَوْفه من الْمَرَض وثابت قوته فبرأ وَخرج يتَصَرَّف فِي حَوَائِجه
فَرَآهُ بعض الْأَطِبَّاء فَعجب من أمره وَسَأَلَهُ عَن الْخَبَر فَعرفهُ فَقَالَ أَن الْجَرَاد لَيْسَ من طبعه أَن يفعل هَذَا فدلني على بَائِع الْجَرَاد فدله عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُ من أَيْن تصطاد هَذَا الْجَرَاد فَخرج بِهِ إِلَى الْمَكَان فَوجدَ الْجَرَاد فِي أَرض أَكثر نباتها المازريون وَهُوَ من دَوَاء الاسْتِسْقَاء وَإِذا دفع إِلَى مَرِيض مِنْهُ وزن دِرْهَم أسهل إسهالا(1/23)
ذريعا لَا يكَاد أَن يضْبط والعلاج بِهِ خطر وَلذَلِك مَا تكَاد تصفه الْأَطِبَّاء
فَلَمَّا وَقع الْجَرَاد على هَذِه الحشيشة ونضجت فِي جَوْفه ثمَّ طبخ الْجَرَاد ضعف فعلهَا
وَأكل الْجَرَاد فَعُوفِيَ بِسَبَبِهَا
وَمثل هَذَا أَيْضا أَي مِمَّا حصل من طَرِيق المصادفة والاتفاق أَنه كَانَ بافلوللن من سليلة أسقليبيوس ورم حَار فِي ذراعه مؤلم ألما شَدِيدا فَلَمَّا أشفى مِنْهُ ارتاحت نَفسه إِلَى الْخُرُوج إِلَى شاطئ نهر كَانَ عَلَيْهِ النَّبَات المسمي حَيّ الْعَالم وَأَنه وَضعهَا عَلَيْهِ تبردا بِهِ فخف بذلك ألمه فاستطال وضع يَده عَلَيْهِ وَأصْبح من غَد فَعمل مثل ذَلِك فبرأ برءا تَاما
فَلَمَّا رأى النَّاس سرعَة برئه علمُوا إِنَّه إِنَّمَا كَانَ بِهَذَا الدَّوَاء وَهُوَ على مَا قيل أول مَا عرف من الأوية
وَأَشْبَاه هَذِه الْأَمْثِلَة الَّتِي قد ذكرنَا كَثِيرَة
الْقسم الرَّابِع
أَن يكون قد حصل شَيْء مِنْهَا أَيْضا بِمَا شَاهده النَّاس من الْحَيَوَانَات واقتدى بأفعالها وتشبه بهَا وَذَلِكَ مثل مَا ذكره الرَّازِيّ فِي كتاب الْخَواص أَن الخطاف إِذا وَقع بفراخه اليرقان مضى فجَاء بِحجر اليرقان وَهُوَ حجر أَبيض صَغِير يعرفهُ فَجعله فِي عشه فيبرأوا
وَأَن الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ ذَلِك الْحجر طلى فِرَاخه بالزعفران فيظن أَنه قد أَصَابَهُم اليرقان فيمضي فَيَجِيء بِهِ فَيُؤْخَذ ذَلِك الْحجر ويعلق على من بِهِ اليرقان فينتفع بِهِ
وَكَذَلِكَ أَيْضا شَأْن الْعقَاب الْأُنْثَى أَنه إِذا تعسر عَلَيْهَا بيضها وَخُرُوجه وصعب حَتَّى تبلغ الْمَوْت وَرَأى ذكرهَا ذَلِك طَار وأحضر حجرا يعرف بالقلقل لِأَنَّهُ إِذا حرك تقلقل فِي دَاخله فَإِذا كسر لم يُوجد فِيهِ شَيْء وكل قِطْعَة مِنْهُ إِذا حركت تقلقلت مثل صَحِيحه وَأكْثر النَّاس تعرفه بِحجر الْعقَاب ويضعه فيسهل على الْأُنْثَى بيضها
وَالنَّاس يستعملونه فِي عسر الْولادَة على مَا استنبطوه من الْعقَاب
وَمثل ذَلِك أَيْضا أَن الْحَيَّات إِذا أظلمت أعينهن لكمونهن فِي الشتَاء فِي ظلمَة بطن الأَرْض وخرجن من مكامنهن فِي وَقت مَا يدفأ الْوَقْت طلبن نَبَات الرازيانج وأمررن عيونهن عَلَيْهِ فيصلح مَا بهَا(1/24)
فَلَمَّا رأى النَّاس ذَلِك وجربوه وجدوا من خاصيته إذهاب ظلمَة الْبَصَر إِذا اكتحل بِمِائَة
وَذكر جالينوس فِي كِتَابه فِي الحقن عَن أرودوطس أَن طائرا يَدعِي أيبس هُوَ الَّذِي دلّ على علم الحقن وَزعم أَن الطير كثير الإغتذاء لَا يتْرك شَيْئا من اللحوم إِلَّا أكله فيحتبس بَطْنه لِاجْتِمَاع الأخلاط الرَّديئَة وَكَثْرَتهَا فِيهِ فَإِذا اشْتَدَّ ذَلِك عَلَيْهِ توجه إِلَى الْبَحْر فَأخذ بمنقاره من مَاء الْبَحْر ثمَّ أدخلهُ فِي دبره فَيخرج بذلك المَاء الأخلاط المحتقنة فِي بَطْنه ثمَّ يعود إِلَى طَعَامه الَّذِي عَادَته الإغتذاء بِهِ
الْقسم الْخَامِس
أَن يكون حصل شَيْء مِنْهَا أَيْضا بطرِيق الإلهام كَمَا هُوَ لكثير من الْحَيَوَانَات
فَإِنَّهُ يُقَال أَن الْبَازِي إِذا اشْتَكَى جَوْفه عمد إِلَى طَائِر مَعْرُوف يُسَمِّيه اليونانيون ذريفوس فيصيده وَيَأْكُل من كبده فيسكن وَجَعه على الْحَال
وكما تشاهد عَلَيْهِ أَيْضا السنانير فَإِنَّهَا فِي أَوْقَات الرّبيع تَأْكُل الْحَشِيش فَإِن عدمت الْحَشِيش عدلت إِلَى خوص المكانس فتأكله وَمَعْلُوم أَن ذَلِك لَيْسَ مِمَّا كَانَت تغتذي بِهِ أَولا وَإِنَّمَا دَعَاهَا إِلَى ذَلِك الإلهام لفعل مَا جعله الله تَعَالَى سَببا لصِحَّة أبدانها وَلَا تزَال كَذَلِك إِلَى أَن تحس بِالصِّحَّةِ المأنوس إِلَيْهَا بالطبع فتكف عَن أكله
وَكَذَلِكَ أَيْضا مَتى نالها أَذَى من بعض الْحَيَوَانَات المؤذية ذَات السمُوم وأكلت شَيْئا مِنْهَا فَإِنَّهَا تقصد إِلَى السيرج وَإِلَى مَوَاضِع الزَّيْت فتنال مِنْهُ ذَلِك يسكن عَنْهَا سُورَة مَا تَجدهُ
ويحكى أَن الدَّوَابّ إِذا أكلت الدفلى فِي ربيعها أضرّ ذَلِك بهَا فَتسَارع إِلَى حشيشة هِيَ بادزهر للدفلى فترتعيها وَيكون بهَا برؤها
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك حَالَة جرت من قريب وَهِي أَن بهاء الدّين بن(1/25)
نفادة الْكَاتِب حكى أَنه لما كَانَ مُتَوَجها إِلَى الكرك كَانَ فِي طَرِيقه بالطليل وَهِي منزلَة كَثِيرَة نَبَات الدفلى فَنزل هُوَ وَآخر فِي مَكَان مِنْهَا وَإِلَى جانبهم هَذَا النَّبَات فَربط الغلمان دوابهم هُنَالك وَجعلت الدَّوَابّ ترعى مَا يقرب مِنْهَا وأكلت من الدفلى فَأَما دوابه فَإِن غلمانه غفلوا عَنْهَا فسابت ورعت من مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة وَأما دَوَاب الآخر فَأَنَّهَا بقيت فِي موضعهَا لم تقدر على التنقل مِنْهُ وَلما أَصْبحُوا وجدت دوابه فِي عَافِيَة ودواب الآخرين قد مَاتَت بأسرها فِي ذَلِك الْموضع
وَحكى ديسقوريدس فِي كِتَابه أَن المعزى الْبَريَّة باقريطش إِذا رميت بِالنَّبلِ وَبقيت فِي أبدانها فَإِنَّهَا ترعى النَّبَات الَّذِي يُقَال لَهُ المشكطرامشير وَهُوَ نوع من الفوتنج فيتساقط عَنْهَا مَا رميت بِهِ وَلم يَضرهَا شَيْء مِنْهُ
وحَدثني القَاضِي نجم الدّين عمر بن مُحَمَّد بن الكرندي أَن اللقلق يعشش فِي أَعلَى القباب والمواضع المرتفعة وَأَن لَهُ عدوا من الطُّيُور يتقصده أبدا وَيَأْتِي إِلَى عشه وَيكسر الْبيض الَّذِي فِيهِ
قَالَ وَإِن ثمَّ حشيشة من خاصيتها أَن عَدو اللقلق إِذا شم رائحتها يغمى فَيَأْتِي بهَا اللقلق إِلَى عشه ويجعلها تَحت بيضه فَلَا يقدر الْعَدو عَلَيْهَا
وَذكر أوحد الزَّمَان فِي الْمُعْتَبر أَن الْقُنْفُذ لبيته أَبْوَاب يسدها ويفتحها عِنْد هبوب الرِّيَاح الَّتِي تؤذيه وتوافقه
وَحكى أَن إنْسَانا رأى الحباري تقَاتل الأفعى وتنهزم عَنْهَا إِلَى بقلة تتَنَاوَل مِنْهَا ثمَّ تعود لقتالها
وَأَن هَذَا الْإِنْسَان عاينها فَنَهَضَ إِلَى البقلة فقطعها عِنْد اشْتِغَال الحباري بِالْقِتَالِ فَعَادَت الحباري إِلَى منبتها ففقدتها وطافت عَلَيْهَا فَلم تجدها فخرت ميتَة
فقد كَانَت تتعالج بهَا
قَالَ وَابْن عرس يستظهر فِي قتال الْحَيَّة بِأَكْل السذاب
وَالْكلاب إِذا دودت بطونها أكلت السنبل وتقيأت واستطلقت وَإِذا جرح اللقلق داوى جراحه بالصعتر الْجبلي
والثور يفرق بَين الحشائش المتشابهة فِي صورها وَيعرف مَا يُوَافقهُ مِنْهَا فيرعاه وَمَا لَا يُوَافقهُ فيتركه مَعَ نهمه وَكَثْرَة أكله وبلادة ذهنه
وَمثل هَذَا كثير(1/26)
فَإِذا كَانَت الْحَيَوَانَات الَّتِي لَا عقول لَهَا ألهمت مصالحها ومنافعها كَانَ الْإِنْسَان الْعَاقِل الْمُمَيز الْمُكَلف الَّذِي هُوَ أفضل الْحَيَوَان أولى بذلك
وَهَذَا أكبر حجَّة لمن يعْتَقد أَن الطِّبّ إِنَّمَا هُوَ إلهام وهداية من الله سُبْحَانَهُ لخلقه
وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ قد يكون من هَذَا وَمِمَّا وَقع بالتجربة والاتفاق والمصادفة أَكثر مَا حصلوه من هَذِه الصِّنَاعَة
ثمَّ تكاثر ذَلِك بَينهم وعضده الْقيَاس بِحَسب مَا شاهدوه وأدتهم إِلَيْهِ فطرتهم فَاجْتمع لَهُم من جَمِيع تِلْكَ الْأَجْزَاء الَّتِي حصلت لَهُم بِهَذِهِ الطّرق المتفننة الْمُخْتَلفَة أَشْيَاء كَثِيرَة
ثمَّ أَنهم تأملوا تِلْكَ الْأَشْيَاء وَاسْتَخْرَجُوا عللها والمناسبات الَّتِي بَينهَا فَتحصل لَهُم من ذَلِك قوانين كُلية ومبادئ مِنْهَا يبتدأ بالتعلم والتعليم وَإِلَى مَا أدركوه مِنْهَا أَولا يَنْتَهِي
فَعِنْدَ الْكَمَال يتدرج فِي التَّعْلِيم من الكليات إِلَى الجزئيات وَعند استنباطها يتدرج من الجزئيات إِلَى الكليات وَأَقُول أَيْضا وَقد أَشَرنَا إِلَى ذَلِك من قبل أَنه لَيْسَ يلْزم أَن يكون أول هَذَا مُخْتَصًّا بِموضع دون مَوضِع وَلَا يفرد بِهِ قوم دون آخَرين إِلَّا بِحَسب الْأَكْثَر والأقل وبحسب تنوع المداواة
وَلِهَذَا فَإِن كل قوم هم مصطلحون على أدوية يألفونها ويتداوون بهَا وَأرى أَنهم إِنَّمَا اخْتلفُوا فِي نِسْبَة صناعَة الطِّبّ إِلَى قوم بِحَسب مَا قد كَانَ يَتَجَدَّد عِنْد قوم فينسب إِلَيْهِم فَإِنَّهُ قد يُمكن أَن تكون صناعَة الطِّبّ فِي أمة أَو فِي بقْعَة من الأَرْض فتدثر وتبيد بِأَسْبَاب سَمَاوِيَّة أَو أرضية كالطواعين المفنية والقحوط المجلية والحروب المبيدة والملوك المتغلبة وَالسير الْمُخَالفَة
فَإِذا انقرضت فِي أمة ونشأت فِي أمة أُخْرَى وتطاول الزَّمَان عَلَيْهَا نسي مَا تقدم وَصَارَت الصِّنَاعَة تنْسب إِلَى الْأمة الثَّانِيَة دون الأولى وَيعْتَبر أَولهَا بِالْقِيَاسِ إِلَيْهِم فَقَط فَيُقَال لَهَا مذ ظَهرت كَذَا وَكَذَا وَإِنَّمَا يعْنى فِي الْحَقِيقَة مذ ظَهرت فِي هَذِه الْأمة خَاصَّة وَهَذَا مِمَّا لَا يبعد
فَإِنَّهُ على مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَار وخصوصا مَا حَكَاهُ جالينوس وَغَيره أَن أبقراط لما رأى صناعَة الطِّبّ قد كَادَت أَن تبيد وَأَنه قد درست معالمها عَن آل أسقليبيوس الَّذين أَبُو أبقراط مِنْهُم تداركها بِأَن أظهرها وبثها فِي الغرباء وقواها ونشرها وشهرها بِأَن أثبتها بالكتب
فَلهَذَا يُقَال أَيْضا على مَا ذهب إِلَيْهِ كثير من النَّاس أَن أبقراط أول من وضع صناعَة الطِّبّ وَأول من دونهَا وَلَيْسَ الْحق على مَا تَوَاتَرَتْ بِهِ الْآثَار إِلَّا أَنه أول من دونهَا من آل أسقليبيوس لتعليم كل من يصلح لتعلمها من النَّاس كَافَّة وَمثله سلك الْأَطِبَّاء من بعده وَاسْتمرّ إِلَى الْآن
وأسقليبيوس الأول هُوَ أول من تكلم فِي شَيْء من الطِّبّ على مَا سَيَأْتِي ذكره(1/27)
الْبَاب الثَّانِي
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الَّذين ظَهرت لَهُم أَجزَاء من صناعَة الطِّبّ وَكَانُوا المبتدئين بهَا
أسقليبيوس
قد اتّفق كثير من قدماء الفلاسفة والمتطببين على أَن أسقليبيوس كَمَا أَشَرنَا إِلَيْهِ أَولا هُوَ أول من ذكر من الْأَطِبَّاء وَأول من تكلم فِي شَيْء من الطِّبّ على طَرِيق التجربة
وَكَانَ يونانيا واليونان منسوبون إِلَى يونان وَهِي جَزِيرَة كَانَت الْحُكَمَاء من الرّوم ينزلونها
وَقَالَ أَبُو معشر فِي الْمقَالة الثَّانِيَة من كتاب الألوف أَن بَلْدَة من الْمغرب كَانَت تسمى فِي قديم الدَّهْر أرغس وَكَانَ أَهلهَا يسمون أرغيوا وَسميت الْمَدِينَة بعد ذَلِك أيونيا وَسموا أَهلهَا يونانيين باسم بلدهم وَكَانَ ملكهَا أحد مُلُوك الطوائف
وَيُقَال أَن أول من اجْتمع لَهُ ملك مَدِينَة أيونيا من مُلُوك اليونانيين كَانَ اسْمه أيوليوس وَكَانَ لقبه دقطاطر ملكهم ثَمَانِي عشرَة سنة وَوضع لليونانيين سننا كَثِيرَة مستعملة عِنْدهم
وَقَالَ الشَّيْخ الْجَلِيل أَبُو سُلَيْمَان مُحَمَّد بن طَاهِر بن بهْرَام السجسْتانِي المنطقي فِي تعاليقه أَن(1/29)
أسقليبيوس بن زيوس قَالُوا مولده روحاني وَهُوَ إِمَام الطِّبّ وَأَبُو أَكثر الفلاسفة قَالَ وأقليدس ينْسب إِلَيْهِ وأفلاطون وأرسطوطاليس وبقراط وَأكْثر اليونانية قَالَ وبقراط كَانَ السَّادِس عشر من أَوْلَاده يَعْنِي الْبَطن السَّادِس عشر من أَوْلَاده وَقَالَ سولون أَخُو أسقليبيوس وَهُوَ أَبُو وَاضع النواميس
أَقُول وترجمة أسقليبيوس بالعربي منع اليبس وَقيل إِن أصل هَذَا الِاسْم فِي لِسَان اليونانيين مُشْتَقّ من الْبَهَاء والنور
وَكَانَ أسقليبيوس على مَا وجد فِي أَخْبَار الْجَبَابِرَة بالسُّرْيَانيَّة ذكي الطَّبْع قوي الْفَهم حَرِيصًا مُجْتَهدا فِي علم صناعَة الطِّبّ
واتفقت لَهُ اتفاقات حميدة مُعينَة على التمهر فِي هَذِه الصِّنَاعَة وانكشفت لَهُ أُمُور عَجِيبَة من أَحْوَال العلاج بإلهام من الله عز وَجل
وَحكي إِنَّه وجد علم الطِّبّ فِي هيكل كَانَ لَهُم برومية يعرف بهيكل أبلن وَهُوَ للشمس وَيُقَال أَن أسقليبيوس هُوَ الَّذِي أوضع هَذَا الهيكل وَيعرف بهيكل أسقليبيوس
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك أَن جالينوس قَالَ فِي كِتَابه فِي فينكس إِن الله عز اسْمه لما خلصني من دبيلة قتالة كَانَت عرضت لي حججْت إِلَى بَيته الْمُسَمّى بهيكل أسقليبيوس
وَقَالَ جالينوس فِي كِتَابه حِيلَة الْبُرْء فِي صدر الْكتاب مِمَّا يجب أَن يُحَقّق الطِّبّ عِنْد الْعَامَّة مَا يرونه من الطِّبّ الإلهي فِي هيكل أسقليبيوس على مَا حَكَاهُ هروسيس صَاحب الْقَصَص بَيت كَانَ بِمَدِينَة رُومِية كَانَت فِيهِ صُورَة تكلمهم عِنْدَمَا يسألونها وَكَانَ المستنبط لَهَا فِي الْقَدِيم أسقليبيوس
وَزعم مجوس رُومِية أَن تِلْكَ الصُّورَة كَانَت مَنْصُوبَة على حركات نجومية وَإنَّهُ كَانَ فِيهَا روحانية كَوْكَب من الْكَوَاكِب السَّبْعَة
وَكَانَ دين النَّصْرَانِيَّة فِي رُومِية قبل عبَادَة النُّجُوم كَذَا حكى هروسيس
وَذكر جالينوس أَيْضا فِي مَوَاضِع كَثِيرَة أَن طب أسقليبيوس كَانَ طِبًّا إلهيا
وَقَالَ إِن قِيَاس الطِّبّ الإلهي إِلَى طبنا قِيَاس طبنا إِلَى طب الطرقات
وَذكر أَيْضا فِي حق أسقليبيوس فِي كِتَابه الَّذِي أَلفه فِي الْحَث على تعلم صناعَة الطِّبّ أَن الله تَعَالَى أوحى إِلَى أسقليبيوس إِنِّي إِلَى أَن أسميك ملكا أقرب مِنْك إِلَى أَن أسميك إنْسَانا
وَقَالَ أبقراط إِن الله تَعَالَى رَفعه إِلَيْهِ فِي الْهَوَاء فِي عَمُود من نور
وَقَالَ غَيره أَن أسقليبيوس كَانَ مُعظما عِنْد اليونانيين وَكَانُوا يستشفون بقبره
وَيُقَال إِنَّه كَانَ يسرج على قَبره كل لَيْلَة ألف قنديل
وَكَانَ الْمُلُوك من نَسْله تَدعِي لَهُ النُّبُوَّة(1/30)
وَذكر أفلاطون فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالنواميس عَن أسقليبيوس أَشْيَاء عدَّة من أخباره بمغيبات وحكايات عَجِيبَة ظَهرت عَنهُ بتأييد إلهي وشاهدها النَّاس كَمَا قَالَه وَأخْبر بِهِ
وَقَالَ فِي الْمقَالة الثَّالِثَة من كتاب السياسة إِن أسقليبيوس كَانَ هُوَ وَأَوْلَاده عَالمين بالسياسة
وَكَانَ أَوْلَاده جندا فرهة وَكَانُوا عَالمين بالطب
وَقَالَ إِن أسقليبيوس كَانَ يرى أَن من كَانَ بِهِ مرض يبرأ مِنْهُ عالجه وَمن كَانَ مَرضه قَاتلا لم يطلّ حَيَاته الَّتِي لَا تَنْفَعهُ وَلَا تَنْفَع غَيره أَي يتْرك علاجه لَهُ
وَقَالَ الْأَمِير أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم إِن أسقليبيوس هَذَا كَانَ تلميذ هرمس وَكَانَ يُسَافر مَعَه
فَلَمَّا خرجا من بِلَاد الْهِنْد وجاءا إِلَى فَارس خَلفه بِبَابِل ليضبط الشَّرْع فيهم
قَالَ وَأما هرمس هَذَا فَهُوَ هرمس الأول وَلَفظه أرمس وَهُوَ اسْم عُطَارِد
وَيُسمى عِنْد اليونانيين أطرسمين وَعند الْعَرَب إِدْرِيس وَعند العبرانيين أَخْنُوخ وَهُوَ ابْن يارد بن مهلائيل بن قينان بن أنوش بن شِيث بن آدم عَلَيْهِم السَّلَام
ومولده بِمصْر فِي مَدِينَة منف مِنْهَا
قَالَ وَكَانَت مدَّته على الأَرْض اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة وَقَالَ غَيره ثَلَاثمِائَة وخمسا وَسِتِّينَ سنة قَالَ المبشر ابْن فاتك وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَام رجلا آدم اللَّوْن تَامّ الْقَامَة أجلح حسن الْوَجْه كث اللِّحْيَة مليح التخاطيط تَامّ الباع عريض الْمَنْكِبَيْنِ ضخم الْعِظَام قَلِيل اللَّحْم براق الْعين أكحل متأنيا فِي كَلَامه كثير الصمت سَاكن الْأَعْضَاء إِذا مَشى أَكثر نظره إِلَى الأَرْض كثير الفكرة بِهِ حِدة وعبسة يُحَرك إِذا تكلم سبابته
وَقَالَ غَيره إِن أسقليبيوس كَانَ قبل الطوفان الْكَبِير وَهُوَ تلميذ أغاثوذيمون الْمصْرِيّ وَكَانَ أغاثوذيمون أحد أَنْبيَاء اليونانيين والمصرين وَتَفْسِير أغاثوذيمون السعيد الْجد
وَكَانَ أسقليبيوس هَذَا هُوَ البادئ بصناعة الطِّبّ فِي اليونانيين علمهَا بنيه وحذر عَلَيْهِم أَن يعلموها الغرباء
وَأما أَبُو معشر الْبَلْخِي المنجم فَإِنَّهُ ذكر فِي كتاب الألوف إِن أسقليبيوس هَذَا لم يكن بالمتأله الأول فِي صناعَة الطِّبّ وَلَا بالمبتدئ بهَا بل أَنه عَن غَيره أَخذ وعَلى نهج من سبقه سلك
وَذكر أَنه كَانَ تلميذ هرمس الْمصْرِيّ
وَقَالَ إِن الهرامسة كَانُوا ثَلَاثَة
أما هرمس الأول وَهُوَ المثلث بِالنعَم فَإِنَّهُ كَانَ قبل الطوفان وَمعنى هرمس لقب كَمَا يُقَال قَيْصر وكسرى
وتسميه الْفرس فِي سَيرهَا اللهجد وَتَفْسِيره ذُو عدل
وَهُوَ الَّذِي تذكر الحرانية(1/31)
نبوته وتذكر الْفرس أَن جده كيومرث وَهُوَ آدم
وَيذكر العبرانيون أَنه أَخْنُوخ وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ إِدْرِيس
قَالَ أَبُو معشر هُوَ أول من تكلم فِي الْأَشْيَاء العلوية من الحركات النجومية وَأَن جده كيومرث وَهُوَ آدم علمه سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار وَهُوَ أول من بنى الهياكل ومجد الله فِيهَا وَأول من نظر فِي الطِّبّ وَتكلم فِيهِ
وَأَنه ألف لأهل زَمَانه كتبا كَثِيرَة بأشعار موزونة وقواف مَعْلُومَة بلغَة أهل زَمَانه فِي معرفَة الْأَشْيَاء الأرضية والعلوية
وَهُوَ أول من أنذر بالطوفان وَرَأى أَن آفَة سَمَاوِيَّة تلْحق الأَرْض من المَاء وَالنَّار وَكَانَ مَسْكَنه صَعِيد مصر تخير ذَلِك فَبنى هُنَاكَ الأهرام وَمَدَائِن التُّرَاب وَخَافَ ذهَاب الْعلم بالطوفان فَبنى البرابي وَهُوَ الْجَبَل الْمَعْرُوف بالبرابر بأخميم وصور فِيهَا جَمِيع الصناعات وصناعها نقشا وصور جَمِيع آلَات الصناع وَأَشَارَ إِلَى صِفَات الْعُلُوم لمن بعده برسوم حرصا مِنْهُ على تخليد الْعُلُوم لمن بعده وخيفة أَن يذهب رسم ذَلِك من الْعَالم
وَثَبت فِي الْأَثر الْمَرْوِيّ عَن السّلف أَن إِدْرِيس أول من درس الْكتب وَنظر فِي الْعُلُوم وَأنزل الله عَلَيْهِ ثَلَاثِينَ صحيفَة وَهُوَ أول من خاط الثِّيَاب ولبسها وَرَفعه الله مَكَانا عليا
وَأما هرمس الثَّانِي فَإِنَّهُ من أهل بابل سكن مَدِينَة الكلدانيين وَهِي بابل وَكَانَ بعد الطوفان فِي زمن نزيربال الَّذِي هُوَ أول من بنى مَدِينَة بابل بعد نمْرُود بن كوش
وَكَانَ بارعا فِي علم الطِّبّ والفلسفة وعارفا بطبائع الْأَعْدَاد وَكَانَ تِلْمِيذه فيثاغورس الأرتماطيقي
وهرمس هَذَا جدد من علم الطِّبّ والفلسفة وَعلم الْعدَد مَا كَانَ قد درس بالطوفان بِبَابِل ومدينة الكلدانيين هَذِه مَدِينَة الفلاسفة من أهل الْمشرق وفلاسفتهم أول من حدد الْحُدُود ورتب القوانين
وَأما هرمس الثَّالِث فَإِنَّهُ سكن مَدِينَة مصر وَكَانَ بعد الطوفان وَهُوَ صَاحب كتاب الْحَيَوَانَات ذَوَات السمُوم وَكَانَ طَبِيبا فيلسوفا وعالما بطبائع الْأَدْوِيَة القتالة والحيوانات المؤذية وَكَانَ جوالا فِي الْبِلَاد طَوافا بهَا عَالما بنصبة الْمَدَائِن وطبائعها وطبائع أَهلهَا
وَله كَلَام حسن فِي صناعَة الكيمياء نَفِيس يتَعَلَّق مِنْهُ إِلَى صناعات كَثِيرَة كالزجاج والخرز والغضار وَمَا أشبه ذَلِك
وَكَانَ لَهُ(1/32)
تلميذ يعرف بأسقليبيوس وَكَانَ مَسْكَنه بِأَرْض الشَّام
رَجَعَ الْكَلَام إِلَى ذكر أسقليبيوس
وَبلغ من أَمر أسقليبيوس أَن أَبْرَأ المرضى الَّذين يئس النَّاس من برئهم
وَلما شَاهده النَّاس من أَفعاله ظن الْعَامَّة أَنه يحيي الْمَوْتَى
وَأنْشد فِيهِ شعراء اليونانيين الْأَشْعَار العجيبة وضمنوها أَنه يحيي الْمَوْتَى وَيرد كل من مَاتَ إِلَى الدُّنْيَا
وَزَعَمُوا أَن الله تَعَالَى رَفعه إِلَيْهِ تكرمة لَهُ وإجلالا وصيره فِي عديد الْمَلَائِكَة وَيُقَال أَنه إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام
وَقَالَ يحيى النَّحْوِيّ إِن أسقليبيوس عَاشَ تسعين سنة مِنْهَا صبي وَقبل أَن تفتتح لَهُ الْقُوَّة الإلهية خمسين سنة وعالم معلم أَرْبَعِينَ سنة وَخلف ابْنَيْنِ ماهرين فِي صناعَة الطِّبّ وعهد إِلَيْهِمَا أَن لَا يعلمَا الطِّبّ إِلَّا لأولادهما وَأهل بَيته وَأَن لَا يدخلا فِي صناعَة الطِّبّ غَرِيبا وعهد إِلَى من يَأْتِي بعده كَذَلِك وَأمرهمْ بأمرين أَحدهمَا أَن يسكنوا وسط الْمَعْمُور من أَرض اليونانيين وَذَلِكَ فِي ثَلَاث جزائر مِنْهَا قو جَزِيرَة أبقراط
وَالثَّانِي أَن لَا تخرج صناعَة الطِّبّ إِلَى الغرباء بل يعلمهَا الْآبَاء الْأَبْنَاء
وَكَانَ ابْنا أسقليبيوس مَعَ أغاممنون لما سَار لفتح طرياس وَكَانَ يكرمهما غَايَة الْكَرَامَة ويشرفهما لعلو مَحلهمَا فِي الْعلم
وَمن خطّ ثَابت بن قُرَّة الْحَرَّانِي لما ذكر البقارطة قَالَ وَيُقَال إِنَّه كَانَ فِي جَمِيع أقاليم الأَرْض لأسقليبيوس اثْنَا عشر ألف تلميذ وَإنَّهُ كَانَ يعلم الطِّبّ مشافهة
وَكَانَ آل أسقليبيوس يتوارثون صناعَة الطِّبّ إِلَى أَن تضعضع الْأَمر فِي صناعَة الطِّبّ على زمن بقراط وَرَأى أَن أهل بَيته وشيعته قد قلوا وَلم يَأْمَن أَن تنقرض الصِّنَاعَة فابتدأ فِي تأليف الْكتب على جِهَة الإيجاز
وَقد ذكر جالينوس فِي تَفْسِيره لكتاب إِيمَان أبقراط وَعَهده من أَمر أسقليبيوس مَا هَذَا نَصه
قَالَ الَّذِي تناهى إِلَيْنَا من قصَّة أسقليبيوس قَولَانِ أَحدهمَا لغز وَالْآخر طبيعي
أما اللغز فَيذْهب فِيهِ إِلَى أَنه قُوَّة من قوى الله تبَارك وَتَعَالَى واشتق لَهَا هَذَا الِاسْم من فعلهَا وَهُوَ(1/33)
منع اليبس
قَالَ حنين لما كَانَ الْمَوْت إِنَّمَا يعرض عِنْد غَلَبَة اليبس وَالْبرد وَكَانَ هَذَانِ جَمِيعًا يخفقان الْبدن الْمَيِّت سميت بِهَذَا السَّبَب المهنة الَّتِي تحفظ على الْأَبدَان الْقَائِمَة حَرَارَتهَا ورطوبتها كَيْمَا تلبث على الْحَيَاة باسم يدل على عدمان اليبس
وَقَالَ جالينوس فَيَقُولُونَ أَنه ابْن أفوللن وَابْن فلاغواس وقورونس مهديته وَأَنه مركب من مائت وَغير قَابل للْمَوْت
فيدلون بِهَذَا القَوْل على أَن عنايته بِالنَّاسِ لِأَنَّهُ من جنسه وَأَن لَهُ طبيعة لَا تَمُوت أفضل من طبيعة الْإِنْسَان
وَإِنَّمَا اشتق لَهُ الشَّاعِر هَذَا الِاسْم أَعنِي أسقليبيوس من أَعمال الطِّبّ وَأما قَوْلهم أَنه ابْن فلاغواس فَلِأَن هَذَا الِاسْم مُشْتَقّ من اسْم اللهيب أَعنِي ابْن الْقُوَّة الملهبة الحيوانية
قَالَ حنين إِنَّمَا سمي بِهَذَا الِاسْم لِأَن الْحَيَاة تكون بِحِفْظ الْحَرَارَة الغريزية الَّتِي فِي الْقلب والكبد اشتق لَهَا اسْم من اللهيب لِأَنَّهَا من جنس النَّار
قَالَ جالينوس وَأما قَوْلهم أَنه ابْن قورونس فَلِأَن هَذَا الِاسْم مُشْتَقّ من الشِّبَع واستفادة الصِّحَّة
قَالَ حنين إِنَّمَا سمي بِهَذَا الِاسْم ليدل على أَن الشِّبَع من الطَّعَام وَالشرَاب إِنَّمَا يتم للْإنْسَان بصناعة الطِّبّ إِذا انهضم طَعَامه لِأَن حفظ الصِّحَّة إِنَّمَا يكون بِهَذِهِ المهنة وَكَذَلِكَ أَيْضا ردهَا إِذا زَالَت
قَالَ جالينوس وَأما قَوْلهم أَنه ابْن أفوللن فَلِأَن الطَّبِيب يحْتَاج أَن يكون مَعَه شَيْء من التهكن لِأَنَّهُ لَيْسَ من الْوَاجِب أَن يَخْلُو الطَّبِيب الْفَاضِل من معرفَة الْأَشْيَاء الْحَادِثَة فِيمَا بعد
قَالَ حنين يَعْنِي تقدمة الْمعرفَة الطبية
قَالَ جالينوس وَقد آن لنا أَيْضا أَن نتكلم فِي صُورَة أسقليبيوس وثيابه وتمكنه
وَذَلِكَ أَن الْأَقَاوِيل الَّتِي نجدها مَكْتُوبَة فِي تألهه إِنَّمَا تلِيق بالخرافات لَا بِالْحَقِّ
وَمن الْمَشْهُور من أمره أَنه رفع إِلَى الْمَلَائِكَة فِي عَمُود من نَار كَمَا يُقَال فِي ديونوسس وأيرقليس وَسَائِر من أشبههما مِمَّن عني بنفع النَّاس واجتهد فِي ذَلِك
وَبِالْجُمْلَةِ يُقَال أَن الله تبَارك وَتَعَالَى فعل بأسقليبيوس وَسَائِر من أشبهه هَذَا الْفِعْل كَيْمَا يفني الْجُزْء الْمَيِّت الأرضي مِنْهُ بالنَّار ثمَّ يجتذب بعد ذَلِك جزءه الَّذِي لَا يقبل الْمَوْت وَيرْفَع نَفسه إِلَى السَّمَاء
قَالَ حنين جالينوس فِي هَذَا الْموضع يبين كَيفَ يكون تشبه الْإِنْسَان بِاللَّه تبَارك وَتَعَالَى
وَذَلِكَ أَنه يَقُول إِن الْإِنْسَان إِذا أباد شهواته الجسمانية بِنَار الصَّبْر والإمساك عَنْهَا وَهِي الَّتِي يُرِيد بهَا جزءه الْمَيِّت الأرضي وزين نَفسه الناطقة بعد النَّفْي من هَذِه الشَّهَوَات بالفضائل وَهِي الَّتِي يُرِيد بهَا الِارْتفَاع إِلَى السَّمَاء كَانَ شَبِيها بِاللَّه تبَارك وَتَعَالَى
قَالَ جالينوس وَأما صورته فصورة رجل ملتح متزين بجمة ذَات ذوائب
وَمِمَّا يبْحَث من(1/34)
أَمر السَّبَب فِي تَصْوِيره ملتحيا وَتصير أَبِيه أَمْرَد فبعض النَّاس يَقُول إِنَّه صور وصيغ بِهَذِهِ الْحَال لِأَنَّهُ فِي وَقت مَا أصعده الله إِلَيْهِ كَانَ كَذَلِك
وَالْبَعْض قَالَ إِن السَّبَب فِي ذَلِك أَن صناعته تحْتَاج إِلَى الْعِفَّة والشيخوخة
وَبَعض النَّاس قَالَ إِن السَّبَب فِي تجاوزه فِي الحذق بصناعة الطِّبّ أَبَاهُ
وَإِذا تأملته وجدته قَائِما متشمرا مَجْمُوع الثِّيَاب فَيدل بِهَذَا الشكل على أَنه يَنْبَغِي للأطباء أَن يتفلسفوا فِي جَمِيع الْأَوْقَات
وَترى الْأَعْضَاء مِنْهُ الَّتِي يستحى من تكشفها مستورة والأعضاء الَّتِي يحْتَاج إِلَى اسْتِعْمَال الصِّنَاعَة بهَا معراة مكشوفة
ويصور آخِذا بِيَدِهِ عَصا معوجة ذَات شعب من شَجَرَة الخطمي فَيدل بذلك على أَنه يُمكن فِي صناعَة الطِّبّ أَن يبلغ بِمن استعملها من السن أَن يحْتَاج إِلَى عَصا يتكئ عَلَيْهَا أَو لِأَن من أعطَاهُ الله تبَارك وَتَعَالَى بعض العطايا يؤهل لإعطاء عَصا بِمَنْزِلَة مَا وهب لإيفاسطس وزوس وهرمس وبهذه الْعَصَا نجد زوس يقر أعين من يحب من النَّاس فينبه بهَا أَيْضا النيام
وَأما تصويرهم تِلْكَ الْعَصَا من شَجَرَة الخطمي فَلِأَنَّهُ يطرد وينفي كل مرض
قَالَ حنين نَبَات الخطمي لما كَانَ دَوَاء يسخن إسخانا معتدلا تهَيَّأ فِيهِ أَن يكون علاجا كثير الْمَنَافِع إِذا اسْتعْمل مُفردا وَحده وَإِذا خلط بمواد أخر مَا أسخن مِنْهُ أَو مَا أبرد كَمَا بَين ذَلِك ديسقوريدس وَسَائِر من تكلم فِيهِ
وَلِهَذَا السَّبَب نجد اسْمه فِي اللِّسَان اليوناني مشتقا من اسْم العلاجات وَذَلِكَ أَنهم يدلون بِهَذَا الِاسْم على أَن الخطمي فِيهِ مَنَافِع كَثِيرَة
وَقَالَ جالينوس وَأما إعوجاجها وَكَثْرَة شعبها فتدل على كَثْرَة الْأَصْنَاف والتفنن الْمَوْجُود فِي صناعَة الطِّبّ
وَلنْ نجدهم أَيْضا تركُوا تِلْكَ الْعَصَا بِغَيْر زِينَة وَلَا تهيئة لكِنهمْ صوروا عَلَيْهَا صُورَة حَيَوَان طَوِيل الْعُمر ملتف عَلَيْهَا وَهُوَ التنين وَيقرب هَذَا الْحَيَوَان من أسقليبيوس لأسباب كَثِيرَة أَحدهَا أَنه حَيَوَان حاد النّظر كثير السهر لَا ينَام فِي وَقت من الْأَوْقَات
وَقد يَنْبَغِي لمن قصد تعلم صناعَة الطِّبّ أَن لَا يتشاغل عَنْهَا بِالنَّوْمِ وَيكون فِي غَايَة الذكاء ليمكنه أَن يتَقَدَّم فينذر بِمَا هُوَ حَاضر وَبِمَا من شَأْنه أَن يحدث
وَذَلِكَ أَنَّك تَجِد أبقراط يُشِير بِهَذَا الْفِعْل فِي قَوْله إِنِّي أرى أَنه من أفضل الْأُمُور أَن يسْتَعْمل الطَّبِيب سَابق النّظر وَذَلِكَ أَنه إِذا سبق فَعلم وَتقدم فَأَنْذر المرضى بالشَّيْء الْحَاضِر مِمَّا بهم وَمَا مضى وَمَا يسْتَأْنف
وَقد يُقَال أَيْضا فِي تَصْوِير التنين على الْعَصَا الماسك لَهَا أسقليبيوس قَول آخر وَهُوَ هَذَا قَالُوا هَذَا الْحَيَوَان أَعنِي التنين طَوِيل الْعُمر جدا حَتَّى إِن حَيَاته يُقَال أَنَّهَا الدَّهْر كُله وَقد يُمكن فِي المستعملين لصناعة الطِّبّ أَن تطول أعمارهم
من ذَلِك أَنا نجد ديموقريطس وأيرودوطس عِنْدَمَا استعملوا الْوَصَايَا الَّتِي تَأمر بهَا صناعَة الطِّبّ طَالَتْ حياتهم جدا
فَكَمَا أَن هَذَا الْحَيَوَان أَعنِي التنين(1/35)
يسلخ عَنهُ لِبَاسه الَّذِي يُسَمِّيه اليونانيون الشيخوخة كَذَلِك أَيْضا قد يُمكن النَّاس بِاسْتِعْمَال صناعَة الطِّبّ إِذا سلخوا عَنْهُم الشيخوخة الَّتِي تفيدهم إِيَّاهَا الْأَمْرَاض أَن يستفيدوا الصِّحَّة
وَإِذا صوروا أسقليبيوس جعل على رَأسه إكليل متخذ من شجر الْغَار لِأَن هَذِه الشَّجَرَة تذْهب بالحزن وَلِهَذَا نجد هرمس إِذْ سمي المهيب كلل بِمثل هَذَا الإكليل فَإِن الْأَطِبَّاء يَنْبَغِي لَهُم أَن يصرفوا عَنْهُم الأحزان
كَذَلِك كلل اسقليبوس بإكليل يذهب بالحزن أَو لِأَن الإكليل كَانَ يعم صناعَة الطِّبّ وَالْكهَانَة رَأَوْا أَنه يَنْبَغِي أَن يكون الإكليل الَّذِي يتكلل بِهِ الْأَطِبَّاء والمتكهنون إكليلا وَاحِدًا بِعَيْنِه أَو لِأَن هَذِه الشَّجَرَة أَيْضا فِيهَا قُوَّة تشفي الْأَمْرَاض
من ذَلِك إِنَّك تجدها إِذا ألقيت فِي بعض الْمَوَاضِع هربت من ذَلِك الْموضع الْهَوَام ذَوَات السمُوم وَكَذَلِكَ أَيْضا النبت الْمُسَمّى قونورا وَثَمَرَة هَذِه الشَّجَرَة أَيْضا وَهِي الَّتِي تسمى حب الْغَار إِذا مرخ بهَا الْبدن فعلت فِيهِ شَبِيها بِفعل الْجند بيدستر
وَإِذا صوروا ذَلِك التنين جعلُوا بِيَدِهِ بيضه يومون بذلك إِلَى أَن هَذَا الْعَالم كُله يحْتَاج إِلَى الطِّبّ وَمِثَال الْكل مِثَال الْبَيْضَة
وَقد يَنْبَغِي لنا أَن نتكلم أَيْضا فِي الذَّبَائِح الَّتِي تذبح باسم أسقليبيوس تقربا إِلَى الله تبَارك وَتَعَالَى فَنَقُول أَنه لم يُوجد أحد قرب لله قربانا باسم أسقليبيوس فِي وَقت من الْأَوْقَات شَيْئا من الماعز وَذَلِكَ لِأَن شعر هَذَا الْحَيَوَان لَا يسهل غزله بِمَنْزِلَة الصُّوف
وَمن أَكثر من لَحْمه سهل وُقُوعه فِي أمراض الصرع لِأَن الْغذَاء الْمُتَوَلد عَنهُ رَدِيء الكيموس مجفف غليظ حريف يمِيل إِلَى الدَّم السوداوي
قَالَ جالينوس بل إِنَّمَا نجد النَّاس يقربون إِلَى الله تبَارك وَتَعَالَى باسم أسقليبيوس ديكة ويروون أَيْضا أَن سقراط قرب لَهُ هَذِه الذَّبِيحَة فبهذه الْحَال علم هَذَا الرجل الإلهي النَّاس صناعَة الطِّبّ قنية ثَابِتَة أفضل كثيرا من الْأَشْيَاء الَّتِي استخرجها ديونوسس وديميطر
قَالَ حنين يَعْنِي باستخراج ديونوسس الْخمر وَذَلِكَ أَن اليونانيين يرَوْنَ أَن أول من استخرج الْخمر ديونوسس ويومي الشُّعَرَاء بِهَذَا الِاسْم إِلَى الْقُوَّة الَّتِي إِذا غيرت المَاء فِي الكرمة أعدته ليَكُون الْخمْرَة وَالسُّرُور الْمُتَوَلد عَنْهَا فِي شرابها وَأما اسْتِخْرَاج ديميطر فالخبز وَسَائِر الْحُبُوب الَّتِي يتَّخذ مِنْهَا وَلِهَذَا نجدهم يسمون هَذِه الْحُبُوب بِهَذَا الِاسْم
وَقد تسمي الشُّعَرَاء بِهَذَا الِاسْم أَيْضا الأَرْض المخرجة للحبوب
وَأما اسْتِخْرَاج أسقليبيوس فيعني بِهِ الصِّحَّة وَهِي الَّتِي لَا يُمكن دونهَا أَن يفتني شَيْء من الْأَشْيَاء الَّتِي ينْتَفع بهَا أَو يلتذ
قَالَ جالينوس وَذَلِكَ أَن مَا استخرجه هَذَانِ لَا ينْتَفع بِهِ مَا لم يكن اسْتِخْرَاج أسقليبيوس مَوْجُودا
وَأما صُورَة الْكُرْسِيّ الَّذِي يقْعد عَلَيْهِ أسقليبيوس فصورة الْقُوَّة الَّتِي تستفاد بهَا الصِّحَّة وَهِي أشرف(1/36)
القوى كَمَا قَالَ بعض الشُّعَرَاء وَذَلِكَ إِنَّا نجد الشُّعَرَاء بأجمعهم يمدحون هَذِه الْقُوَّة ويمجدونها أما أحدهم فَفِي قَوْله إِنَّهَا الْمُتَقَدّمَة فِي الشّرف على جَمِيع الْأَبْرَار فِي خيرك أكون بَاقِي حَياتِي
وَأما شَاعِر آخر فَقَالَ إِنَّهَا الْمُتَقَدّمَة فِي الشّرف على جَمِيع الْأَبْرَار إياك أسأَل أَن أؤهل قبل جَمِيع الْخيرَات
وَبِالْجُمْلَةِ فَقَوْل الْقَائِل أَي الْخيرَات من الْيَسَار أَو الْأَبْنَاء أَو الْملك يتساوى فِي الْقُوَّة عِنْد سَائِر النَّاس أَلَيْسَ كُله شَيْئا إِنَّمَا يكون ناصرا ملتذا لِلْخَيْرَاتِ بِسَبَب الصِّحَّة إِنَّهَا الْبرة المؤهلة لهَذَا الِاسْم
وَإِنَّمَا ذَلِك لِأَن الصِّحَّة خير فِي غَايَة التَّمام لَا متوسط فِيهَا بَين الْخَيْر وَالشَّر
وَلَا فِي الدرجَة الثَّانِيَة من الْخَيْر كَمَا ظن قوم من الفلاسفة وهم المعروفون بالمشائين وبأصحاب المظلة
وَذَلِكَ أَن شرف سَائِر الْفَضَائِل الَّتِي يعْنى بهَا النَّاس عناية بَالِغَة فِي جَمِيع أَيَّام حياتهم إِنَّمَا هِيَ بِسَبَب الصِّحَّة
من ذَلِك إِنَّا نجد من رام أَن يبين شجاعة وَشدَّة ومحاربة للأعداء ودفعهم عَن الْأَوْلِيَاء جهادا دونهم إِنَّمَا يفعل ذَلِك بِاسْتِعْمَالِهِ قُوَّة الْبدن
وَاسْتِعْمَال الْإِنْسَان الْعدْل بِأَن يُعْطي كل ذِي حق حَقه وَيفْعل كل مَا يحب أَن يفعل ويحفظ النواميس ويصحح فِي كل مَا يرَاهُ ويفعله لَا يُمكن أَن يتم خلوا من الصِّحَّة
وَسبب الْخَلَاص أَيْضا إِنَّمَا يرى أَن تَمَامه إِنَّمَا يكون بِالصِّحَّةِ وَذَلِكَ أَنه بِمَنْزِلَة الْمَوْلُود عَنْهَا
وَبِالْجُمْلَةِ فَأَي النَّاس رام أَن يَقُول بِسَبَب اعْتِقَاد رَأْي من الآراء وإقناع بَاطِل مموه أَن قَصده لَيْسَ هُوَ اقتناء الصِّحَّة فَإِنَّمَا ذَلِك القَوْل مِنْهُ بِلِسَانِهِ فَقَط فَإِذا أقرّ بِالْحَقِّ قَالَ إِن الصِّحَّة بِالْحَقِيقَةِ هِيَ الْخَيْر الَّذِي فِي غَايَة التَّمام
فَهَذِهِ الْقُوَّة أَولهَا النَّاس أَن تكون كرسيا للْإنْسَان الْمُدبر لصناعة الطِّبّ وَاسم هَذِه الْقُوَّة أَيْضا مُشْتَقّ على الْحَقِيقَة وَذَلِكَ أَن اسْمهَا فِي اللِّسَان اليوناني مُشْتَقّ من اسْم الرُّطُوبَة لِأَن الصِّحَّة إِنَّمَا تتمّ لنا بالرطوبة كَمَا دلّ على ذَلِك فِي بعض الْمَوَاضِع أحد الشُّعَرَاء فِي قَوْله الْإِنْسَان الرطب
وَإِذا تَأَمَّلت صُورَة أسقليبيوس وجدته قَاعِدا مُتكئا على رجال مصورين حوله وَذَلِكَ وَاجِب لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَن يكون ثَابتا لَا يَزُول من بَين النَّاس ويصور عَلَيْهِ تنين ملتف حوله وَقد خبرت سَبَب ذَلِك فِيمَا تقدم
وَمن الْآدَاب وَالْحكم الَّتِي لأسقليبيوس
مِمَّا ذكره الْأَمِير أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم قَالَ أسقليبيوس
من عرف الْأَيَّام لم يغْفل الاستعداد
وَقَالَ(1/37)
أَن أحدكُم بَين نعْمَة من بارئه وَبَين ذَنْب عمله وَمَا يصلح هَاتين الْحَالَتَيْنِ إِلَّا الْحَمد للمنعم وَالِاسْتِغْفَار من الذَّنب
وَقَالَ كم من دهر ذممتموه فَلَمَّا صرتم إِلَى غَيره حمدتموه وَكم من أَمر أبغضت أَوَائِله وبكي عِنْد أواخره عَلَيْهِ
وَقَالَ المتعبد بِغَيْر معرفَة كحمار الطاحون يَدُور وَلَا يبرح وَلَا يدْرِي مَا هُوَ فَاعل
وَقَالَ فَوت الْحَاجة خير من طلبَهَا إِلَى غير أَهلهَا
وَقَالَ إِعْطَاء الْفَاجِر تَقْوِيَة لَهُ على فجوره والصنيعة عِنْد الكفور إِضَاعَة للنعمة وَتَعْلِيم الْجَاهِل ازدياد فِي الْجَهْل وَمَسْأَلَة اللَّئِيم إهانة للعرض
وَقَالَ إِنِّي لأعجب مِمَّن يحتمي من المآكل الرَّديئَة مَخَافَة الضَّرَر وَلَا يدع الذُّنُوب مَخَافَة الْآخِرَة
وَقَالَ اكثروا من الصمت فَإِنَّهُ سَلامَة من المقت واستعملوا الصدْق فَإِنَّهُ زين النُّطْق
وَقيل لَهُ صف لنا الدُّنْيَا فَقَالَ أمس أجل وَالْيَوْم عمل وَغدا أمل
وَقَالَ المشفق عَلَيْكُم يسيء الظَّن بكم والزاري عَلَيْكُم كثير العتب لكم وَذُو الْبغضَاء لكم قَلِيل النصحية لكم
وَقَالَ سَبِيل من لَهُ دين ومروءة أَن يبْذل لصديقه نَفسه وَمَاله وَلمن يعرفهُ طلاقة وَجهه وَحسن محضره ولعدوه الْعدْل وَأَن يتصاون عَن كل حَال يعيب
أيلق
وَيُقَال لَهُ أَيْلَة
قَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل إِن هَذَا أول حَكِيم تكلم فِي الطِّبّ بِبَلَد الرّوم وَالْفرس وَهُوَ أول من استنبط كتاب الإغريقي لهيامس الْملك وَتكلم فِي الطِّبّ وقاسه وَعمل بِهِ
وَكَانَ بعد مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي زمَان بذاق الْحَاكِم وَله أثار عَظِيمَة وأخبار شنيعة وَهُوَ يعد فِي كَثْرَة الْعَجَائِب كأسقليبيوس(1/38)
الْبَاب الثَّالِث
طَبَقَات الْأَطِبَّاء اليونانيين الَّذِي هم من نسل أسقليبيوس
وَذَلِكَ أَن أسقليبيوس كَمَا ذكرنَا أَولا لما حصلت لَهُ معرفَة صناعَة الطِّبّ بالتجربة وَبقيت عِنْده أُمُور مِنْهَا وَشرع فِي تعليمها لأولاده وأقاربه عهد إِلَيْهِم أَلا يعلمُوا هَذِه الصِّنَاعَة لأحد إِلَّا لأولادهم وَلمن هُوَ من نسل أسقليبيوس لَا غير وَكَانَ الَّذِي خَلفه أسقليبيوس من التلاميذ من ولد وقرابة سِتَّة وهم ماغينس وسقراطون وخروسيس الطَّبِيب ومهراريس المكذوب عَلَيْهِ المزور نسبه فِي الْكتب الأولى وَأَنه لحق سُلَيْمَان بن دَاوُد وَهَذَا حَدِيث خرافة لِأَن بَينهمَا أُلُوف من السنين وموريدس وميساوس
وَكَانَ كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ ينتحل رَأْي أستاذه أسقليبيوس وَهُوَ رَأْي التجربة
إِذا كَانَ الطِّبّ إِنَّمَا خرج لَهُ بالتجربة وَلم يزل الطِّبّ ينْتَقل من هَؤُلَاءِ التلاميذ إِلَى من علموه من الْأَهْل إِلَى أَن ظهر
غورس
غورس هُوَ الثَّانِي من الْأَطِبَّاء الحذاق الْمَشْهُورين الَّذين أسقليبيوس أَوَّلهمْ على مَا ذكره يحيى النَّحْوِيّ وَذَلِكَ أَنه قَالَ
الْأَطِبَّاء المشهورون الَّذين كَانَ يقْتَدى بهم فِي صناعَة الطِّبّ من اليونانيين على مَا تناهى إِلَيْنَا ثَمَانِيَة(1/39)
وهم أسقليبيوس الأول وغورس وميتس وبرمانيدس وأفلاطن الطَّبِيب وأسقليبيوس الثَّانِي وأبقراط وجالينوس
وَكَانَت مُدَّة حَيَاة غورس سبعا وَأَرْبَعين سنة مِنْهَا صبي ومتعلم سبع عشرَة سنة وعالم معلم ثَلَاثِينَ سنة
وَكَانَ مُنْذُ وَقت وَفَاة أسقليبيوس الأول إِلَى وَقت ظُهُور غورس ثَمَانمِائَة وَخمسين سنة
وَكَانَ فِي هَذِه الفترة بَين أسقليبيوس وَبَين غورس من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين سورندوس ومانيوس وساوثاوس ومسيساندس وسقوريدس الأول وسيقلوس وسيمرياس وأنطيماخس وقلغيموس وأغانيس وأيرقلس وأسطورس الطَّبِيب
وَلما ظهر غورس نظر فِي رَأْي التجربة وَقواهُ وَخلف من التلاميذ من بَين ولد وَقَرِيب سَبْعَة وهم مرقس وجورجيس ومالسطس وفولس وماهالس وأراسطواطس الأول وسقيروس
وَكَانَ كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ ينتحل رَأْي أستاذه وَهُوَ رَأْي التجربة
وَلم يزل الطِّبّ ينْتَقل من هَؤُلَاءِ إِلَى من علموه من ولد وَقَرِيب إِلَى أَن ظهر
مينس
ومينس هُوَ الثَّالِث من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين الثَّمَانِية الَّذين تقدم ذكرهم وَكَانَت مُدَّة حَيَاته أَرْبعا وَثَمَانِينَ سنة مِنْهَا صبي ومتعلم أَرْبعا وَسِتِّينَ سنة وعالم معلم عشْرين سنة
وَكَانَ مُنْذُ وَقت وَفَاة غورس إِلَى ظُهُور مينس خَمْسمِائَة وَسِتِّينَ سنة
وَكَانَ فِي هَذِه الفترة الَّتِي بَين غورس ومينس من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين أبيقورس وسقوريدوس الثَّانِي وأخطيفون وأسقوريس وراوس واسفقلس وموطيمس وأفلاطن الأول الطَّبِيب وأبقراط الأول ابْن غنوسيديقوس
وَلما ظهر مينس نظر فِي مقالات من تقدم فَإِذا التجربة خطأ عِنْده فضم إِلَيْهَا الْقيَاس وَقَالَ لَا يجب أَن تكون تجربة بِلَا قِيَاس لِأَنَّهَا تكون خطرا وَلما توفّي خلف من التلاميذ أَرْبَعَة وهم قطرطس وأمينس وسورانس ومثيناوس الْقَدِيم
ورأي هَؤُلَاءِ الْقيَاس والتجربة
وَلم يزل الطِّبّ ينْتَقل من هَؤُلَاءِ التلاميذ إِلَى من علموه وخلفوه إِلَى أَن ظهر
برمانيدس
وبرمانيدس هُوَ الرَّابِع من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين الثَّمَانِية الَّذين تقدم ذكرهم وَكَانَت مُدَّة حَيَاته(1/40)
أَرْبَعِينَ سنة مِنْهَا صبي ومتعلم خمْسا وَعشْرين سنة وكامل معلم خمس عشرَة سنة
وَكَانَ مُنْذُ وَقت وَفَاة مينس إِلَى ظُهُور برمانيدس سَبْعمِائة وَخمْس عشرَة سنة
وَكَانَ فِي هَذِه الفترة الَّتِي بَين مينس وبرمانيدس من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين سمانس وغوانس وأبيقورس وأسطافنس وأنيقولس وساوارس وحوراطيمس وفولوس وسوانيديقوس وساموس ومثينانوس الثَّانِي وأفيطافلون وسوناخس وسويازيوس ومامالس
وَلما ظهر برمانيدس قَالَ إِن التجربة وَحدهَا كَانَت أَو مَعَ الْقيَاس خطر
فأسقطها وأنتحل الْقيَاس وَحده
وَلما توفّي خلف من التلاميذ ثَلَاثَة نفر وهم ثاسلس وأفرن وديوفيلس فَوَقع بَينهم المنازعات وَالْخلف وانفصلوا ثَلَاث فرق فأدعى أفرن التجربة وَحدهَا وأدعى ديوفيلس الْقيَاس وَحده
وأدعى ثاسلس الْحِيَل وَذكر أَن الطِّبّ إِنَّمَا هُوَ حِيلَة
وَلم تزل هَذِه الْحَال بَينهم إِلَى أَن أظهر
أفلاطن الطَّبِيب
وأفلاطن الطَّبِيب هُوَ الْخَامِس من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين الثَّمَانِية الَّذين تقدم ذكرهم وَكَانَت مُدَّة حَيَاته سِتِّينَ سنة مِنْهَا صبي ومتعلم أَرْبَعِينَ سنة وعالم معلم عشْرين سنة
وَكَانَ مُنْذُ وَقت وَفَاة برمانيدس إِلَى ظُهُور أفلاطن سَبْعمِائة وَخمْس وَثَلَاثُونَ سنة
وَكَانَ الْأَطِبَّاء المذكورون فِي هَذِه الفترة الَّتِي بَين برمانيدس وأفلاطن الطَّبِيب قد تقسموا ثَلَاثَة أَقسَام
أَصْحَاب التجربة وهم أفرن الأقراغنطي وبنتخلس وأنقلس وفيلنبس وغافرطيمس والحسدروس وملسيس
وَأَصْحَاب الْحِيَل وهم ماناخس وماساوس وغوريانس وغرغوريس وقونيس
وَأَصْحَاب الْقيَاس وهم أنكساغورس وفولوطيمس وماخاخس وسقولوس وسوفورس
وَلما ظهر أفلاطن نظر فِي هَذِه المقالات وَعلم أَن التجربة وَحدهَا رَدِيئَة وخطرة وَالْقِيَاس وَحده لَا يَصح فانتحل الرأيين جمعيا
قَالَ يحيى النَّحْوِيّ وَإِن أفلاطون أحرق الْكتب الَّتِي ألفها ثاسلس وَأَصْحَابه وَمن انتحل رَأيا وَاحِدًا من التجربة وَالْقِيَاس وَترك الْكتب الْقَدِيمَة الَّتِي فِيهَا الرأيان جَمِيعًا
وَأَقُول أَن يحيى النَّحْوِيّ فِيمَا ذكره من هَذِه الْكتب وَإِنَّهَا قد ألفت فَإِن كَانَ لَهَا حَقِيقَة(1/41)
فَذَلِك يُنَافِي قَول من يرى أَن صناعَة الطِّبّ أول من دونهَا وأثبتها فِي الْكتب أبقراط إِذْ كَانَ هَؤُلَاءِ الَّذين قد ألفوا هَذِه الْكتب من قبل أبقراط بِمدَّة طَوِيلَة
وَلما توفّي أفلاطن خلف من تلاميذه من أَوْلَاده وأقربائه سِتَّة وهم ميرونس وأفرده بالحكم على الْأَمْرَاض وفورونوس وأفرده بِالتَّدْبِيرِ للأبدان وفوراس وأفرده بالفصد والكي وثافرورس وأفرده بعلاج الْجِرَاحَات وسرجس وأفرده بعلاج الْعين وفانيس وأفرده بجبر الْعِظَام الْمَكْسُورَة وَإِصْلَاح المخلوعة
وَلم يزل الطِّبّ يجْرِي أمره على سداد بَين هَؤُلَاءِ التلاميذ وَبَين من خلفوه إِلَى أَن ظهر
أسقليبيوس الثَّانِي
وأسقليبيوس الثَّانِي هُوَ السَّادِس من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين الثَّمَانِية الَّذين تقدم ذكرهم وَكَانَت مُدَّة حَيَاته مائَة وَعشر سِنِين مِنْهَا صبي ومتعلم خمس عشرَة سنة وعالم ومعلم خمْسا وَتِسْعين سنة مِنْهَا عطل خمس سِنِين
وَكَانَ مُنْذُ وَقت وَفَاة أفلاطن وَإِلَى ظُهُور أسقليبيوس الثَّانِي ألف وَأَرْبَعمِائَة وَعِشْرُونَ سنة
وَكَانَ فِي هَذِه الفترة الَّتِي بَين أفلاطن وأسقليبيوس الثَّانِي من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين ميلن الأقراغنطي وثامسيطوس الطَّبِيب وأقذتينوس وفرديقلوس وأندروماخس الْقَدِيم وَهُوَ أول من صنع الترياق وعاش أَرْبَعِينَ سنة وأيراقليدس الأول وعاش سِتِّينَ سنة وفلاغورس وعاش خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة وماخميس ونسطس وسيقورس وغالوس وماباطياس وأيرقلس الطَّبِيب وعاش مائَة سنة وماناطيس وفيثاغورس الطَّبِيب وعاش سبعين سنة ومارينوس وعاش مائَة سنة
وَلما ظهر أسقليبيوس الثَّانِي نظر فِي الآراء الْقَدِيمَة فَوجدَ أَن الَّذِي يجب أَن يعْتَقد هُوَ رَأْي أفلاطن فانتحله
ثمَّ توفّي وَخلف ثَلَاثَة تلاميذ من أهل بَيته لَا غَرِيب فيهم وَلَا طَبِيب سواهُم وهم أبقراط ابْن أيراقليدس وماغارينس وأرخس
وَلم تمض عدَّة أشهر حَتَّى توفّي ماغارينس ولحقه أرخس وَبَقِي أبقراط وحيد دهره طَبِيبا كَامِل الْفَضَائِل تضرب بِهِ الْأَمْثَال الطَّبِيب الفيلسوف إِلَى أَن بلغ بِهِ الْأَمر إِلَى أَن عبد وَهُوَ الَّذِي قوى صناعَة الْقيَاس والتجربة تَقْوِيَة عَظِيمَة عَجِيبَة لَا يتهيأ لطاعن أَن يخلها وَلَا يهتكها وَعلم الغرباء الطِّبّ وجعلهم شَبِيها بأولاده لما خَافَ على الطِّبّ أَن يفنى ويبيد من الْعَالم
كَمَا يتَبَيَّن أمره فِي هَذَا الْبَاب الَّذِي يَأْتِي(1/42)
الْبَاب الرَّابِع
طَبَقَات الْأَطِبَّاء اليونانيين الَّذين أذاع أبقراط فيهم صناعَة الطِّبّ
أبقراط
ولنبتدئ أَولا بِذكر شَيْء من أَخْبَار أبقراط على حيالها وَمَا كَانَ عَلَيْهِ من التأييد الإلهي وَنَذْكُر بعد ذَلِك جملا من أَمر الْأَطِبَّاء اليونانيين الَّذين أذاع أبقراط فيهم هَذِه الصِّنَاعَة وَإِن لم يَكُونُوا من نسل أسقليبيوس فَنَقُول
أَن أبقراط على مَا تقدم ذكره وَهُوَ السَّابِع من الْأَطِبَّاء الْكِبَار الْمَذْكُورين الَّذين أسقليبيوس أَوَّلهمْ
وأبقراط هُوَ من أشرف أهل بَيته وَأَعْلَاهُمْ نسبا وَذَلِكَ على مَا وجدته فِي بعض الْمَوَاضِع المنقولة من اليوناني أَنه أبقراط بن أيراقليدس بن أبقراط بن غنوسيديقوس بن نبروس بن سوسطراطس بن ثاوذروس بن قلاوموطاداس بن قريساميس الْملك فَهُوَ بالطبع الشريف الْفَاضِل نسبا لِأَنَّهُ التَّاسِع من قرياسميس الْملك وَالثَّامِن عشر من أسقليبيوس وَالْعشْرُونَ من زاوس
وَأمه فركسيثا بنت فيناريطي من بَيت أيراقليس
فَهُوَ من جِنْسَيْنِ فاضلين لِأَن أَبَاهُ من آل أسقليبيوس وَأمه من آل أيراقليس
وَتعلم صناعَة الطِّبّ من أَبِيه أيراقليدس وَمن جده أبقراط وهما أسرا إِلَيْهِ أصُول صناعَة الطِّبّ
وَكَانَت مُدَّة حَيَاة أبقراط خمْسا وَتِسْعين سنة مِنْهَا صبي ومتعلم سِتّ عشرَة سنة وعالم معلم تسعا وَسبعين سنة
وَكَانَ مُنْذُ وَقت وَفَاة أسقليبيوس الثَّانِي وَإِلَى ظُهُور أبقراط سنتَيْن
وَلما نظر أبقراط فِي صناعَة الطِّبّ وَخَافَ عَلَيْهَا أَن تنقرض عِنْدَمَا رأى أَنَّهَا قد بادت من أَكثر الْمَوَاضِع الَّتِي كَانَ أسقليبيوس الأول أسس فِيهَا التَّعْلِيم
وَذَلِكَ أَن الْمَوَاضِع الَّتِي يتَعَلَّم فِيهَا صناعَة الطِّبّ(1/43)
كَانَت على مَا ذكره جالينوس فِي تَفْسِيره لكتاب الْإِيمَان لأبقراط ثَلَاثَة أَحدهَا بِمَدِينَة رودس وَالثَّانِي بِمَدِينَة قنيدس وَالثَّالِث بِمَدِينَة قو
فَأَما التَّعْلِيم الَّذِي كَانَ بِمَدِينَة رودس فَإِنَّهُ باد بِسُرْعَة لِأَنَّهُ لم يكن لأربابه وَارِث
وَأما الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِمَدِينَة قنيدس فطفئ لِأَن الْوَارِثين لَهُ كَانُوا نَفرا يَسِيرا
وَأما الَّذِي كَانَ مِنْهُ بِمَدِينَة قو وَهِي الَّتِي كَانَ يسكنهَا أبقراط فَثَبت وَبَقِي مِنْهُ بقايا يسيرَة لقلَّة الْوَارِثين لَهُ
فَلَمَّا نظر أبقراط فِي صناعَة الطِّبّ ووجدها قد كَادَت أَن تبيد لقلَّة الْأَبْنَاء المتوارثين لَهَا من آل اسقليبيوس رأى أَن يذيعها فِي جَمِيع الأَرْض وينقلها إِلَى سَائِر النَّاس وَيعلمهَا الْمُسْتَحقّين لَهَا حَتَّى لَا تبيد
وَقَالَ إِن الْجُود بِالْخَيرِ يجب أَن يكون على كل أحد يسْتَحقّهُ قَرِيبا كَانَ أَو بَعيدا
وَاتخذ الغرباء وعلمهم هَذِه الصِّنَاعَة الجليلة وعهد إِلَيْهِم الْعَهْد الَّذِي كتبه وأحلفهم بالأيمان الْمَذْكُورَة فِيهِ أَن لَا يخالفوا مَا شَرطه عَلَيْهِم وَأَن لَا يعلمُوا هَذَا الْعلم أحدا إِلَّا بعد أَخذ هَذَا الْعَهْد عَلَيْهِ
وَقَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن رضوَان كَانَت صناعَة الطِّبّ قبل أبقراط كنزا وذخيرة يكنزها الْآبَاء ويدخرونها للأبناء وَكَانَت فِي أهل بَيت وَاحِد مَنْسُوب إِلَى أسقليبيوس
وَهَذَا الِاسْم أَعنِي أسقليبيوس إِمَّا أَن يكون اسْما لملك بَعثه الله فَعلم النَّاس الطِّبّ وَإِمَّا أَن يكون قُوَّة لله عز وَجل علمت النَّاس الطِّبّ
وَكَيف صرفت الْحَال فَهُوَ أول من علم صناعَة الطِّبّ
وَنسب المتعلم الأول إِلَيْهِ على عَادَة القدماء فِي تَسْمِيَة الْمعلم أَبَا للمتعلم
وتناسل من المتعلم الأول أهل هَذَا الْبَيْت المنسوبون إِلَى أسقليبيوس
وَكَانَ مُلُوك اليونانيين والعظماء مِنْهُم وَلم يَكُونُوا يمكنوا غَيرهم من تَعْلِيم صناعَة الطِّبّ بل كَانَت الصِّنَاعَة فيهم خَاصَّة يعلم الرجل مِنْهُم وَلَده أَو ولد وَلَده فَقَط
وَكَانَ تعليمهم بالمخاطبة وَلم يَكُونُوا يدونونها فِي الْكتب
وَمَا احتاجوا إِلَى تدوينه فِي الْكتب دونوه بلغز حَتَّى لَا يفهمهُ أحد سواهُم فيفسر ذَلِك اللغز الْأَب للِابْن
وَكَانَ الطِّبّ فِي الْمُلُوك والزهاد فَقَط يقصدون بِهِ الْإِحْسَان إِلَى النَّاس من غير أُجْرَة وَلَا شَرط
وَلم يزل كَذَلِك إِلَى أَن نَشأ أبقراط من أهل قو ودمقراط من أهل أبديرا وَكَانَا متعاصرين فَأَما دمقراط فتزهد وَترك تَدْبِير مدينته وَأما أبقراط فَرَأى أهل بَيته قد اخْتلفُوا فِي صناعَة الطِّبّ وتخوف أَن يكون ذَلِك سَببا لفساد الطِّبّ فَعمد على أَن دونه بإغماض فِي الْكتب
وَكَانَ لَهُ ولدان فاضلان وهما ثاسلس وذراقن وتلميذ فَاضل وَهُوَ فولوبس فعلمهم هَذِه الصِّنَاعَة وَشعر أَنَّهَا قد تخرج عَن أهل أسقليبيوس إِلَى غَيرهم فَوضع عهدا اسْتحْلف فِيهِ المتعلم لَهَا على أَن يكون لَازِما للطَّهَارَة(1/44)
والفضيلة
ثمَّ وضع ناموسا عرف فِيهِ من الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ أَن يثعلم صناعَة الطِّبّ
ثمَّ وضع وَصِيَّة عرف فِيهَا جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الطَّبِيب فِي نَفسه
أَقُول وَهَذِه نُسْخَة الْعَهْد الَّذِي وَضعه أبقراط
قسم أبقراط
قَالَ أبقراط إِنِّي أقسم بِاللَّه رب الْحَيَاة وَالْمَوْت وواهب الصِّحَّة وخالق الشِّفَاء وكل علاج
وَأقسم بأسقليبيوس
وَأقسم بأولياء الله من الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا
وأشهدهم جَمِيعًا على أَنِّي أَفِي بِهَذِهِ الْيَمين وَهَذَا الشَّرْط
وَأرى أَن الْمعلم لي هَذِه الصِّنَاعَة بِمَنْزِلَة آبَائِي وأواسيه فِي معاشي وَإِذا إحتاج إِلَى مَال واسيته وواصلته من مَالِي
وَأما الْجِنْس المتناسل مِنْهُ فَأرى أَنه مسَاوٍ لإخوتي وأعلمهم هَذِه الصِّنَاعَة ان احتاجوا إِلَى تعلمهَا بِغَيْر أُجْرَة وَلَا شَرط
وأشرك أَوْلَادِي وَأَوْلَاد الْمعلم لي والتلاميذ الَّذين كتب عَلَيْهِم الشَّرْط أَو حلفوا بالناموس الطبي فِي الْوَصَايَا والعلوم وَسَائِر مَا فِي الصِّنَاعَة
وَأما غير هَؤُلَاءِ فَلَا أفعل بِهِ ذَلِك وأقصد فِي جَمِيع التدابير بِقدر طاقتي مَنْفَعَة المرضى
وَأما الْأَشْيَاء الَّتِي تضر بهم وتدني مِنْهُم بالجور عَلَيْهِم فامنع مِنْهَا بِحَسب رَأْيِي
وَلَا أعطي إِذا طلب مني دَوَاء قتالا وَلَا أُشير أَيْضا بِمثل هَذِه المشورة
وَكَذَلِكَ أَيْضا لَا أرى أَن أدني من النسْوَة فرزجة تسْقط الْجَنِين
وأحفظ نَفسِي فِي تدبيري وصناعتي على الزَّكَاة وَالطَّهَارَة وَلَا أشق أَيْضا عَمَّن فِي مثانته حِجَارَة وَلَكِن أترك ذَلِك إِلَى من كَانَت حرفته هَذَا الْعَمَل
وكل الْمنَازل الَّتِي أدخلها إِنَّمَا أَدخل إِلَيْهَا لمَنْفَعَة المرضى وَأَنا بِحَال خَارِجَة عَن كل جور وظلم وَفَسَاد إرادي مَقْصُود إِلَيْهِ فِي سَائِر الْأَشْيَاء وَفِي الْجِمَاع للنِّسَاء وَالرِّجَال الْأَحْرَار مِنْهُم وَالْعَبِيد
وَأما الْأَشْيَاء الَّتِي أعاينها فِي أَوْقَات علاج المرضى أَو أسمعها فِي غير أَوْقَات علاجهم فِي تصرف النَّاس من الْأَشْيَاء الَّتِي لَا ينْطق بهَا خَارِجا فَأمْسك عَنْهَا وَأرى أَن أَمْثَالهَا لَا ينْطق بِهِ
فَمن أكمل هَذِه الْيَمين وَلم يفْسد شَيْئا كَانَ لَهُ أَن يكمل تَدْبيره وصناعته على أفضل الْأَحْوَال وأجملها وَأَن يحمده جَمِيع النَّاس فِيمَا يَأْتِي من الزَّمَان دَائِما وَمن تجَاوز ذَلِك كَانَ بضده(1/45)
ناموس الطِّبّ لأبقراط
وَهَذِه نُسْخَة ناموس الطِّبّ لأبقراط
قَالَ أبقراط
إِن الطِّبّ أشرف الصَّنَائِع كلهَا إِلَّا أَن نقص فهم من ينتحلها صَار سَببا لسلب النَّاس إِيَّاهَا لِأَنَّهُ لم يُوجد لَهَا فِي جَمِيع المدن عيب غير جهل من يدعيها مِمَّن لَيْسَ بِأَهْل للتسمي بهَا إِذْ كَانُوا يشبهون الأشباح الَّتِي يحضرها أَصْحَاب الْحِكَايَة ليلهوا النَّاس بهَا فَكَمَا أَنَّهَا صور لَا حَقِيقَة لَهَا كَذَلِك هَؤُلَاءِ الْأَطِبَّاء بِالِاسْمِ كثير وبالفعل قَلِيل جدا
وَيَنْبَغِي لم أَرَادَ تعلم صناعَة الطِّبّ أَن يكون ذَا طبيعة جَيِّدَة مؤاتية وحرص شَدِيد ورغبة تَامَّة وَأفضل ذَلِك كُله الطبيعة لِأَنَّهَا إِذا كَانَت مؤاتية فَيَنْبَغِي أَن يقبل على التَّعْلِيم وَلَا يضجر لينطبع فِي فكره ويثمر ثمارا حَسَنَة مثل مَا يرى فِي نَبَات الأَرْض
أما الطبيعة فَمثل التربة وَأما مَنْفَعَة التَّعْلِيم فَمثل الزَّرْع وَأما تربية التَّعْلِيم فَمثل وُقُوع البزر فِي الأَرْض الجيدة
فَمَتَى قدمت الْعِنَايَة فِي صناعَة الطِّبّ بِمَا ذكرنَا ثمَّ صَارُوا إِلَى المدن لم يَكُونُوا أطباء بِالِاسْمِ بل بِالْفِعْلِ
وَالْعلم بالطب كنز جيد وذخيرة فاخرة لمن علمه مَمْلُوء سُرُورًا سرا وجهرا وَالْجهل بِهِ لمن انتحله صناعَة سوء وذخيرة ردية عديم السرُور دَائِم الْجزع والتهور
والجزع دَلِيل على الضعْف والتهور دَلِيل على قلَّة الْخَبَر بالصناعة
وَصِيَّة أبقراط
وَهَذِه نُسْخَة وَصِيَّة أبقراط الْمَعْرُوفَة بترتيب الطِّبّ
قَالَ أبقراط
يَنْبَغِي أَن يكون المتعلم للطب فِي جنسه حرا وَفِي طبعه جيدا حَدِيث السن معتدل الْقَامَة متناسب الْأَعْضَاء جيد الْفَهم حسن الحَدِيث صَحِيح الرَّأْي عِنْد المشورة عفيفا شجاعا غير محب لِلْفِضَّةِ مَالِكًا لنَفسِهِ عِنْد الْغَضَب وَلَا يكون تَارِكًا لَهُ فِي الْغَايَة وَلَا يكون بليدا
وَيَنْبَغِي أَن يكون مشاركا للعليل مشفقا عَلَيْهِ حَافِظًا للأسرار لِأَن كثيرا من المرضى يوقفونا على أمراض بهم لَا يحبونَ أَن يقف عَلَيْهَا غَيرهم
وَيَنْبَغِي أَن يكون مُحْتملا للشتيمة لِأَن قوما من المبرسمين وَأَصْحَاب الوسواس السوداوي(1/46)
يقابلونا بذلك وَيَنْبَغِي لنا أَن نحتملهم عَلَيْهِ ونعلم أَنه لَيْسَ مِنْهُم وَأَن السَّبَب فِيهِ الْمَرَض الْخَارِج عَن الطبيعة
وَيَنْبَغِي أَن يكون حلق رَأسه معتدلا مستويا لَا يحلقه وَلَا يَدعه كالجمة وَلَا يستقصي قصّ أظافير يَدَيْهِ وَلَا يَتْرُكهَا تعلو على أَطْرَاف أَصَابِعه
وَيَنْبَغِي أَن تكون ثِيَابه بَيْضَاء نقية لينَة وَلَا يكون فِي مَشْيه مستعجلا لِأَن ذَلِك دَلِيل على الطيش وَلَا متباطئا لِأَنَّهُ يدل على فتور النَّفس
وَإِذا دعِي إِلَى الْمَرِيض فليقعد متربعا ويختبر مِنْهُ حَاله بِسُكُون وتأن لَا بقلق واضطراب فَإِن هَذَا الشكل والزي وَالتَّرْتِيب عِنْدِي أفضل من غَيره
قَالَ جالينوس فِي الْمقَالة الثَّالِثَة من كِتَابه فِي أَخْلَاق النَّفس
أَن أبقراط كَانَ يعلم مَعَ مَا كَانَ يعلم من الطِّبّ من أَمر النُّجُوم مَا لم يكن يدانيه فِيهِ أحد من أهل زَمَانه
وَكَانَ يعلم أَمر الْأَركان الَّتِي مِنْهَا تركيب أبدان الْحَيَوَان وَكَون جَمِيع الْأَجْسَام الَّتِي تقبل الْكَوْن وَالْفساد وفسادها
وَهُوَ أول من برهن ببراهين حَقِيقَة هَذِه الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرنَا
وَبرهن كَيفَ يكون الْمَرَض وَالصِّحَّة فِي جَمِيع الْحَيَوَان وَفِي النَّبَات
وَهُوَ الَّذِي استنبط أَجنَاس الْأَمْرَاض وجهات مداواتها
أَقُول فَأَما معالجة أبقراط ومداواته للأمراض فَإِنَّهُ أبدا كَانَت لَهُ الْعِنَايَة الْبَالِغَة فِي نفع المرضى وَفِي مداواتهم
وَيُقَال أَنه أول من جدد البيمارستان وأخترعه وأوجده
وَذَلِكَ أَنه عمل بِالْقربِ من دَاره فِي مَوضِع من بُسْتَان كَانَ لَهُ موضعا مُفردا للمرضى وَجعل فِيهِ خدما يقومُونَ بمداواتهم وَسَماهُ أخسندوكين أَي مجمع المرضى وَكَذَلِكَ أَيْضا معنى لَفْظَة البيمارستان وَهُوَ فَارسي وَذَلِكَ أَن البيمار بالفارسي هُوَ المرضى وستان هُوَ الْموضع أَي مَوضِع المرضى
وَلم يكن لأبقراط دأب على هَذِه الوتيرة فِي مُدَّة حَيَاته وَطول بَقَائِهِ إِلَّا النّظر فِي صناعَة الطِّبّ وإيجاد قوانينها ومداواة المرضى وإيصال الرَّاحَة إِلَيْهِم وإنقاذهم من عللهم وأمراضهم
وَقد ذكر كثيرا من قصَص مرضى عالجهم فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بأبيديميا وَتَفْسِير أبيديميا الْأَمْرَاض الوافدة
وَلم يكن لأبقراط رَغْبَة فِي خدمَة أحد من الْمُلُوك لطلب الْغنى وَلَا فِي زِيَادَة مَال يفضل عَن احْتِيَاجه الضَّرُورِيّ
وَفِي ذَلِك قَالَ جالينوس إِن أبقراط لم يجب أحد مُلُوك الْفرس الْعَظِيم الشَّأْن الْمَعْرُوف عِنْد اليونانيين بأرطخششت وَهُوَ أزدشير الْفَارِسِي جد دَارا بن دَارا فَإِنَّهُ عرض فِي أَيَّام هَذَا الْملك للْفرس وباء فَوجه إِلَى عَامله بِمَدِينَة فاوان أَن يحمل إِلَى أبقراط مائَة قِنْطَار ذَهَبا ويحمله بكرامة عَظِيمَة وإجلال وَأَن يكون هَذَا المَال تقدمة لَهُ وَيضمن لَهُ إقطاعا بِمِثْلِهَا(1/47)
وَكتب إِلَى ملك اليونانيين يَسْتَعِين بِهِ على إِخْرَاجه إِلَيْهِ وَضمن لَهُ مهادنة سبع سِنِين مَتى أخرج أبقراط إِلَيْهِ
فَلم يجب أبقراط إِلَى الْخُرُوج عَن بَلَده إِلَى الْفرس
فَلَمَّا ألح عَلَيْهِ ملك اليونانيين فِي الْخُرُوج قَالَ لَهُ أبقراط لست أبدل الْفَضِيلَة بِالْمَالِ
وَلما عالج بردقس الْملك من أمراض مَرضهَا لم يقم عِنْده دهره كُله
وَانْصَرف إِلَى علاج الْمَسَاكِين والفقراء الَّذين كَانُوا فِي بلدته وَفِي مدن أُخْرَى وَإِن صغرت
وَدَار هُوَ بِنَفسِهِ جَمِيع مدن اليونانيين حَتَّى وضع لَهُم كتابا فِي الأهوية والبلدان
قَالَ جالينوس وَمن هَذِه حَاله لَيْسَ إِنَّمَا يستخف بالغنى فَقَط بل بالخفض والدعة ويؤثر التَّعَب وَالنّصب عَلَيْهَا فِي جنب الْفَضِيلَة
وَمن بعض التواريخ الْقَدِيمَة أَن أبقراط كَانَ فِي زمن بهمن بن أزدشير وَكَانَ بهمن قد اعتل فأنفذ إِلَى أهل بلد أبقراط يستدعيه فامتنعوا من ذَلِك وَقَالُوا أَن أخرج أبقراط من مدينتنا خرجنَا جَمِيعًا وقتلنا دونه فرق لَهُم بهمن وَأقرهُ عِنْدهم
وَظهر أبقراط سنة سِتّ وَتِسْعين لبختنصر وَهِي سنة أَربع عشرَة للْملك بهمن
قَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل وَرَأَيْت حِكَايَة طريفه لأبقراط استحلينا ذكرهَا لندل بهَا على فَضله وَذَلِكَ أَن أفليمون صَاحب الفراسة كَانَ يزْعم فِي فراسته أَنه يسْتَدلّ بتركيب الْإِنْسَان على أَخْلَاق نَفسه فَاجْتمع تلاميذ أبقراط وَقَالَ بَعضهم لبَعض هَل تعلمُونَ فِي دَهْرنَا أفضل من هَذَا الْمَرْء الْفَاضِل فَقَالُوا مَا نعلم
فَقَالَ بَعضهم تَعَالَوْا نمتحن بِهِ أفليمون فِيمَا يَدعِيهِ من الفراسة فصوروا صُورَة أبقراط ثمَّ نهضوا بهَا إِلَى أفليمون
فَقَالُوا لَهُ أَيهَا الْفَاضِل انْظُر هَذَا الشَّخْص وَأحكم على أَخْلَاق نَفسه من تركيبه
فَنظر إِلَيْهِ وَقرن أعضاءه بَعْضهَا بِبَعْض ثمَّ حكم فَقَالَ رجل يحب الزِّنَا
فَقَالُوا لَهُ كذبت هَذِه صُورَة أبقراط الْحَكِيم
فَقَالَ لَهُم لابد لعلمي أَن يصدق فَاسْأَلُوهُ فَإِن الْمَرْء لَا يرضى بِالْكَذِبِ
فَرَجَعُوا إِلَى أبقراط وَأَخْبرُوهُ بالْخبر وَمَا صَنَعُوا وَمَا قَالَ لَهُم أفليمون فَقَالَ أبقراط صدق أفليمون أحب الزِّنَا وَلَكِنِّي أملك نَفسِي
فَهَذَا يدل على فضل أبقراط وَملكه لنَفسِهِ ورياضته لَهَا بالفضيلة
أَقُول وَقد تنْسب هَذِه الْحِكَايَة إِلَى سقراط الفيلسوف وتلامذته
فَأَما تَفْسِير اسْم أبقراط فَإِن مَعْنَاهُ ضَابِط الْخَيل وَقيل مَعْنَاهُ ماسك الصِّحَّة وَقيل ماسك(1/48)
الْأَرْوَاح
وأصل اسْمه باليونانية أيفوقراطيس وَيُقَال هُوَ بقراطيس وَإِنَّمَا الْعَرَب عَادَتهَا تَخْفيف الْأَسْمَاء واختصار الْمعَانِي فخففت هَذَا الِاسْم فَقَالُوا أبقراط وبقراط أَيْضا
وَقد جرى ذَلِك كثيرا فِي الشّعْر وَيُقَال أَيْضا بِالتَّاءِ أبقرات وبقرات
وَقَالَ المبشر بن فاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم
أَن أبقراط كَانَ ربعَة أَبيض حسن الصُّورَة أشهل الْعَينَيْنِ غليظ الْعِظَام ذَا عصب معتدل اللِّحْيَة أبيضها منحني الظّهْر عَظِيم الهامة بطيء الْحَرَكَة
إِذا الْتفت الْتفت بكليته كثير الأطراق مُصِيب القَوْل متأنيا فِي كَلَامه يُكَرر على السَّامع مِنْهُ
ونعلاه أبدا بَين يَدَيْهِ إِذا جلس وَإِن كلم أجَاب وَإِن سكت عَنهُ سَأَلَ وَإِن جلس كَانَ نظره إِلَى الأَرْض مَعَه مداعبة كثير الصَّوْم قَلِيل الْأكل بِيَدِهِ أبدا إِمَّا مبضع وَإِمَّا مرود
وَقَالَ حنين بن إِسْحَاق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة والحكماء إِنَّه كَانَ مَنْقُوشًا على فص خَاتم أبقراط الْمَرِيض الَّذِي يَشْتَهِي أَرْجَى عِنْدِي من الصَّحِيح الَّذِي لَا يَشْتَهِي شَيْئا
وَيُقَال أَن أبقراط مَاتَ بالفالج وَأوصى أَن يدْفن مَعَه درج من عاج لَا يعلم مَا فِيهِ فَلَمَّا اجتاز قَيْصر الْملك بقبره رَآهُ قبرا ذليلا فَأمر بتجديده لِأَنَّهُ كَانَ من عَادَة الْمُلُوك أَن يفتقدوا أَحْوَال الْحُكَمَاء فِي حياتهم وَبعد وفاتهم لأَنهم كَانُوا عِنْدهم أجل النَّاس وأقربهم إِلَيْهِم
فَأمر قَيْصر الْملك بحفره فَلَمَّا حفره لينْظر إِلَيْهِ استخرج الدرج فَوجدَ فِيهِ الْخمس وَالْعِشْرين قَضِيَّة فِي الْمَوْت الَّتِي لَا يعلم الْعلَّة فِيهَا لِأَنَّهُ حكم فِيهَا بِالْمَوْتِ إِلَى أَوْقَات مُعينَة وَأَيَّام مَعْلُومَة
وَهِي مَوْجُودَة بالعربي
وَيُقَال إِن جالينوس فَسرهَا وَهَذَا مِمَّا استبعده
وَإِلَّا فَلَو كَانَ ذَلِك حَقًا وَوجد تَفْسِير جالينوس لنقل إِلَى الْعَرَبِيّ كَمَا قد فعل ذَلِك بِغَيْرِهِ من كتب أبقراط الَّتِي فَسرهَا جالينوس فَإِنَّهَا نقلت بأسرها إِلَى الْعَرَبِيّ
وَمن أَلْفَاظ أبقراط الحكيمة ونوادره المفردة فِي الطِّبّ قَالَ أبقراط الطِّبّ قِيَاس وتجربة
وَقَالَ لَو خلق الْإِنْسَان من طبيعة وَاحِدَة لما مرض أحد لِأَنَّهُ لم يكن هُنَاكَ شَيْء يضادها فيمرض
وَقَالَ الْعَادة إِذا قدمت صَارَت طبيعة ثَانِيَة
والزجر والفأل حس نفساني
وَقَالَ أحذق النَّاس بِأَحْكَام النُّجُوم أعرفهم بطبائعها وآخذهم بالتشبيه
وَقَالَ الْإِنْسَان مَا دَامَ فِي عَالم الْحس فَلَا بُد من أَن يَأْخُذ من الْحس بِنَصِيب قل أَو كثر(1/49)
وَقَالَ كل مرض مَعْرُوف السَّبَب مَوْجُود الشِّفَاء
وَقَالَ إِن النَّاس اغتذوا فِي حَال الصِّحَّة بأغذية السبَاع فأمرضتهم فغذوناهم بأغذية الطير فصحوا
وَقَالَ إِنَّمَا نَأْكُل لنعيش وَلَا نَعِيش لنأكل
وَقَالَ لَا تَأْكُل حَتَّى تَأْكُل
وَقَالَ يتداوى كل عليل بعقاقير أرضه فَإِن الطبيعة تفزع إِلَى عَادَتهَا
وَقَالَ الْخمْرَة صديقَة الْجِسْم والتفاحة صديقَة النَّفس
وَقيل لَهُ لم أثور مَا يكون الْبدن إِذا شرب الْإِنْسَان الدَّوَاء قَالَ لِأَن أَشد مَا يكون الْبَيْت غبارا إِذا كنس
وَقَالَ لَا تشرب الدَّوَاء إِلَّا وَأَنت مُحْتَاج إِلَيْهِ فَإِن شربته من غير حَاجَة وَلم يجد دَاء يعْمل فِيهِ وجد صِحَة يعْمل فِيهَا فَيحدث مَرضا
وَقَالَ مثل الْمَنِيّ فِي الظّهْر كَمثل المَاء فِي الْبِئْر إِن نزفته فار وَإِن تركته غَار
وَقَالَ إِن المجامع يقتدح من مَاء الْحَيَاة
وَسُئِلَ فِي كم يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يُجَامع قَالَ فِي كل سنة مرّة قيل لَهُ فَإِن لم يقدر قَالَ فِي كل شهر مرّة
قيل لَهُ فَإِن لم يقدر قَالَ فِي كل اسبوع مرّة قيل لَهُ فَإِن لم يقدر قَالَ هِيَ روحه أَي وَقت شَاءَ يُخرجهَا
وَقَالَ أُمَّهَات لذات الدُّنْيَا أَربع لَذَّة الطَّعَام وَلَذَّة الشَّرَاب وَلَذَّة الْجِمَاع وَلَذَّة السماع فاللذات الثَّلَاث لَا يتَوَصَّل إِلَيْهَا وَلَا إِلَى شَيْء مِنْهَا إِلَّا بتعب ومشقة وَلها مضار إِذا استكثر مِنْهَا وَلَذَّة السماع قلت أَو كثرت صَافِيَة من التَّعَب خَالِصَة من النصب
وَمن كَلَامه قَالَ إِذا كَانَ الْغدر بِالنَّاسِ طباعا كَانَت الثِّقَة بِكُل أحد عَجزا وَإِذا كَانَ الرزق مقسوما كَانَ الْحِرْص بَاطِلا
وَقَالَ قلَّة الْعِيَال أحد اليسارين
وَقَالَ الْعَافِيَة ملك خَفِي لَا يعرف قدرهَا إِلَّا من عدمهَا
وَقيل لَهُ أَي الْعَيْش خير فَقَالَ الْأَمْن مَعَ الْفقر خير من الْغنى مَعَ الْخَوْف
وَرَأى قوما يدفنون امْرَأَة فَقَالَ نعم الصهر صاهرك
وَحكي عَنهُ أَنه أقبل بالتعليم على حدث من تلامذته فَعَاتَبَهُ الشُّيُوخ على تَقْدِيمه إِيَّاه عَلَيْهِم فَقَالَ لَهُم أَلا تعلمُوا مَا السَّبَب فِي تَقْدِيمه عَلَيْكُم قَالُوا لَا
فَقَالَ لَهُم مَا أعجب مَا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ أحدهم السَّمَاء والأفلاك وَالْكَوَاكِب
وَقَالَ آخر الأَرْض وَمَا فِيهَا من الْحَيَوَانَات والنبات
وَقَالَ آخر الْإِنْسَان وتركيبه
وَلم يزل كل وَاحِد مِنْهُم يَقُول شَيْئا وَهُوَ يَقُول لَا
فَقَالَ للصَّبِيّ(1/50)
مَا أعجب مَا فِي الدُّنْيَا فَقَالَ أَيهَا الْحَكِيم إِذا كَانَ كل مَا فِي الدُّنْيَا عجبا فَلَا عجب
فَقَالَ الْحَكِيم لأجل هَذَا قَدمته لفطنته
وَمن كَلَامه قَالَ محاربة الشَّهْوَة أيسر من معالجة الْعلَّة
وَقَالَ التَّخَلُّص من الْأَمْرَاض الصعبة صناعَة كَبِيرَة
وَدخل على عليل فَقَالَ أَنا وَالْعلَّة وَأَنت ثَلَاثَة فَإِن أعنتني عَلَيْهَا بِالْقبُولِ مني لما تسمع صرنا اثْنَيْنِ وانفردت الْعلَّة فقوينا عَلَيْهَا والاثنان إِذا اجْتمعَا على وَاحِد غلباه
وَلما حَضرته الْوَفَاة قَالَ خُذُوا جَامع الْعلم مني من كثر نَومه ولانت طَبِيعَته ونديت جلدته طَال عمره
وَمن كَلَامه مِمَّا ذكره حنين بن إِسْحَق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة أَنه قَالَ منزلَة لطافة الْقلب فِي الْأَبدَان كمنزلة النواظر فِي الأجفان
وَقَالَ للقلب آفتان وهما الْغم والهم فالغم يعرض مِنْهُ النّوم والهم يعرض مِنْهُ السهر
وَذَلِكَ بِأَن الْهم فِيهِ فكر فِي الْخَوْف بِمَا سَيكون فَمِنْهُ يكون السهر
وَالْغَم لَا فكر فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون بِمَا قد مضى وانقضى
وَقَالَ الْقلب من دم جامد وَالْغَم يهيج الْحَرَارَة الغريزية فَتلك الْحَرَارَة تذيب جامد الدَّم وَلذَلِك كره الْغم خوف الْعَوَارِض الْمَكْرُوهَة الَّتِي تهيج الْحَرَارَة وتحمي المزاج فَيحل جامد الدَّم فينتقض التَّرْكِيب
وَقَالَ من صحب السُّلْطَان فَلَا يجزع من قوته كَمَا لَا يجزع الغواص من ملوحة الْبَحْر
وَقَالَ من أحب لنَفسِهِ الْحَيَاة أماتها
وَقَالَ الْعلم كثير والعمر قصير فَخذ من الْعلم مَا يبلغك قَلِيله إِلَى كثير
وَقَالَ إِن الْمحبَّة قد تقع بَين العاقلين من بَاب تشاكلهما فِي الْعقل وَلَا تقع بَين الأحمقين من بَاب تشاكلهما فِي الْحمق
لِأَن الْعقل يجْرِي على تَرْتِيب فَيجوز أَن يتَّفق فِيهِ اثْنَان على طَرِيق وَاحِد والحمق لَا يجْرِي على تَرْتِيب فَلَا يجوز أَن يَقع بِهِ اتِّفَاق بَين اثْنَيْنِ
وَمن كَلَامه فِي الْعِشْق قَالَ الْعِشْق طمع يتَوَلَّد فِي الْقلب وتجتمع فِيهِ مواد من الْحِرْص
فَكلما قوي ازْدَادَ صَاحبه فِي الاهتياج واللجاج وَشدَّة القلق وَكَثْرَة السهر وَعند ذَلِك يكون احتراق الدَّم واستحالته إِلَى السَّوْدَاء والتهاب الصَّفْرَاء وانقلابها إِلَى السَّوْدَاء وَمن طغيان السَّوْدَاء فَسَاد الْفِكر وَمَعَ فَسَاد يكون الفدامة ونقصان الْعقل ورجاء مَا لم يكن وَتمنى مَا لم يتم حَتَّى يُؤَدِّي ذَلِك إِلَى(1/51)
الْجُنُون
فَحِينَئِذٍ رُبمَا قتل العاشق نَفسه وَرُبمَا مَاتَ غما
وَرُبمَا وصل إِلَى معشوقه فَيَمُوت فَرحا أَو أسفا
وَرُبمَا شهق شهقة فتختفي مِنْهَا روحه أَرْبعا وَعشْرين سَاعَة فيظن أَنه قد مَاتَ فيقبر وَهُوَ حَيّ
وَرُبمَا تنفس الصعداء فتختنق نَفسه فِي تامور قلبه وَيضم عَلَيْهَا الْقلب فَلَا تنفرج حَتَّى يَمُوت
وَرُبمَا ارْتَاحَ وَتَشَوُّقِ للنَّظَر وَرَأى من يحب فَجْأَة فَتخرج نَفسه فَجْأَة دفْعَة وَاحِدَة
وَأَنت ترى العاشق إِذا سمع بِذكر من يحب كَيفَ يهرب دَمه ويستحيل لَونه وَزَوَال ذَلِك عَمَّن هَذِه حَاله بلطف من رب الْعَالمين لَا بتدبير من الْآدَمِيّين
وَذَلِكَ أَن الْمَكْرُوه الْعَارِض من سَبَب قَائِم مُنْفَرد بِنَفسِهِ يتهيأ التلطف بإزالته بِإِزَالَة سَببه
فَإِذا وَقع السببان وكل وَاحِد مِنْهُمَا عِلّة لصَاحبه لم يكن إِلَى زَوَال وَاحِد مِنْهُمَا سَبِيل
وَإِذا كَانَت السَّوْدَاء سَببا لاتصال الْفِكر وَكَانَ اتِّصَال الْفِكر سَببا لاحتراق الدَّم والصفراء وميلهما إِلَى السَّوْدَاء
والسوداء كلما قويت قوت الْفِكر والفكر كلما قوي قوى السَّوْدَاء
فَهَذَا الدَّاء العياء الَّذِي يعجز عَن معالجته الْأَطِبَّاء
وَمن كَلَامه قَالَ الْجَسَد يعالج جملَة من خَمْسَة أضْرب مَا فِي الرَّأْس بالغرغرة وَمَا فِي الْمعدة بالقيء وَمَا فِي الْبدن بإسهال الْبَطن وَمَا بَين الجلدين بالعرق وَمَا فِي العمق وداخل الْعُرُوق بإرسال الدَّم
وَقَالَ الصَّفْرَاء بَيتهَا المرارة وسلطانها فِي الكبد والبلغم بَيته الْمعدة وسلطانه فِي الصَّدْر والسوداء بَيتهَا الطحال وسلطانها فِي الْقلب
وَالدَّم بَيته الْقلب وسلطانه فِي الرَّأْس
وَقَالَ لتلميذ لَهُ ليكن أفضل وسيلتك إِلَى النَّاس محبتك لَهُم والتفقد لأمورهم وَمَعْرِفَة حَالهم واصطناع الْمَعْرُوف إِلَيْهِم
وَمن كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم للمبشر بن فاتك من كَلَام أبقراط أَيْضا وآدابه قَالَ اسْتِدَامَة الصِّحَّة تكون بترك التكاسل عَن التَّعَب وبترك الامتلاء عَن الطَّعَام وَالشرَاب
وَقَالَ إِن أَنْت فعلت مَا يَنْبَغِي على مَا يَنْبَغِي أَن يفعل فَلم يكن مَا يَنْبَغِي فَلَا تنْتَقل عَمَّا أَنْت عَلَيْهِ مَا دَامَ مَا رَأَيْته أول الْأَمر ثَابتا
وَقَالَ الإقلال من الضار خير من الْإِكْثَار من النافع
وَقَالَ أما الْعُقَلَاء فَيجب أَن يسقوا الْخمر وَأما الحمقى فَيجب أَن يسقوا الخربق
وَقَالَ لَيْسَ معي من فَضِيلَة الْعلم إِلَّا علمي بِأَنِّي لست بعالم(1/52)
وَقَالَ اقنعوا بالقوت والغوا عَنْكُم اللجاجة لتَكون لكم قربى إِلَى الله عز وَجل
لِأَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى غير مُحْتَاج إِلَى شَيْء فَكلما احتجتم أَكثر كُنْتُم مِنْهُ أبعد
واهربوا من الشرور ذَروا المآتم وأطلبوا من الْخيرَات الغايات
وَقَالَ الْمَالِك للشَّيْء هُوَ الْمُسَلط عَلَيْهِ
فَمن أحب أَن يكون حرا فَلَا يَهو مَا لَيْسَ لَهُ وليهرب مِنْهُ وَإِلَّا صَار لَهُ عبدا
وَقَالَ يَنْبَغِي للمرء أَن يكون فِي دُنْيَاهُ كالمدعو فِي الْوَلِيمَة
إِذا أَتَتْهُ الكأس تنَاولهَا وَإِن جازته لم يرصدها وَلم يقْصد لطلبها
وَكَذَلِكَ يفعل فِي الْأَهْل وَالْمَال وَالْولد
وَقَالَ لتلميذ لَهُ إِن أَحْبَبْت أَن لَا تفوتك شهوتك فاشته مَا يمكنك
وَسُئِلَ عَن أَشْيَاء قبيحة فَسكت عَنْهَا فَقيل لَهُ لم لَا تجيب عَنْهَا فَقَالَ جوابها السُّكُوت عَنْهَا
وَقَالَ الدُّنْيَا غير بَاقِيَة فَإِذا أمكن الْخَيْر فاصطنعوه وَإِذا عدمتم ذَلِك فتحمدوا وَاتَّخذُوا من الذّكر أحْسنه
وَقَالَ لَوْلَا الْعَمَل لم يطْلب الْعلم وَلَوْلَا الْعلم لم يطْلب الْعَمَل
وَلِأَن ادْع الْحق جهلا بِهِ أحب إِلَيّ من أَن أَدَعهُ زهدا فِيهِ
وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَن تكون عِلّة صديقك وَأَن طَالَتْ آلم بِهِ من تعاهدك لَهُ
وَكَانَ يَقُول الْعلم روح وَالْعَمَل بدن وَالْعلم أصل وَالْعَمَل فرع وَالْعلم وَالِد وَالْعَمَل مَوْلُود وَكَانَ الْعَمَل لمَكَان الْعلم وَلم يكن الْعلم لمَكَان الْعَمَل
وَكَانَ يَقُول الْعَمَل خَادِم الْعلم وَالْعلم غَايَة وَالْعلم رائد وَالْعَمَل مُرْسل
وَقَالَ إِعْطَاء الْمَرِيض بعض مَا يشتهيه أَنْفَع من أَخذه بِكُل مَا لَا يشتهيه
أَقُول وأبقراط هُوَ أول من دون صناعَة الطِّبّ وشهرها وأظهرها كَمَا قُلْنَا قبل
وَجعل أسلوبه فِي تأليف كتبه على ثَلَاث طرائق من طرق التَّعْلِيم إِحْدَاهَا على سَبِيل اللغز وَالثَّانيَِة على غَايَة الإيجاز والاختصار وَالثَّالِثَة على طَرِيق التساهل والتبيين
وَالَّذِي انْتهى إِلَيْنَا ذكره ووجدناه من كتب أبقراط الصَّحِيحَة يكون نَحْو ثَلَاثِينَ كتابا
وَالَّذِي يدرس من كتبه لمن يقْرَأ صناعَة الطِّبّ إِذا كَانَ درسه على أصل صَحِيح وترتيب جيد اثْنَا عشر كتابا وَهِي الْمَشْهُورَة من سَائِر كتبه(1/53)
الأول كتاب الأجنة وَهُوَ ثَلَاث مقالات الْمقَالة الأولى تَتَضَمَّن القَوْل فِي كَون الْمَنِيّ والمقالة الثَّانِيَة تَتَضَمَّن القَوْل فِي تكون الْجَنِين
والمقالة الثَّالِثَة تَتَضَمَّن القَوْل فِي تكون الْأَعْضَاء
الثَّانِي كتاب طبيعة الْإِنْسَان مقالتان
وَهُوَ يتَضَمَّن القَوْل فِي طبائع الْأَبدَان ومماذا تركبت
الثَّالِث كتاب الأهوية والمياه والبلدان وَهُوَ ثَلَاث مقالات الْمقَالة الأولى يعرف فِيهَا كَيفَ نتعرف أمزجة الْبلدَانِ وَمَا تولد من الْأَمْرَاض البلدية والمقالة الثَّانِيَة يعرف فِيهَا كَيفَ نتعرف أمزجة الْمِيَاه المشروبة وفصول السّنة وَمَا تولد من الْأَمْرَاض البلدية
والمقالة الثَّالِثَة يعرف فِيهَا كَيْفيَّة مَا يبْقى من الْأَشْيَاء الَّتِي تولد الْأَمْرَاض البلدية كائنة مَا كَانَت
الرَّابِع كتاب الْفُصُول سبع مقالات وَضَمنَهُ تَعْرِيف جمل الطِّبّ لتَكون قوانين فِي نفس الطَّبِيب يقف بهَا على مَا يتلقاه من أَعمال الطِّبّ
وَهُوَ يحتوي على مُجمل مَا أودعهُ فِي سَائِر كتبه
وَهَذَا ظَاهر لمن تَأمل فصوله فَإِنَّهَا تنتظم جملا وجوامع من كِتَابه تقدمة الْمعرفَة وَكتاب الأهوية والبلدان وَكتاب الْأَمْرَاض الحادة ونكتا وعيونا من كِتَابه المعنون بإبيديما وَتَفْسِيره الْأَمْرَاض الوافدة
وفصولا من كِتَابه فِي أوجاع النِّسَاء وَغير ذَلِك من سَائِر كتبه الْأُخَر
الْخَامِس كتاب تقدمة الْمعرفَة ثَلَاث مقالات وَضَمنَهُ تَعْرِيف العلامات الَّتِي يقف بهَا الطَّبِيب على أَحْوَال مرض فِي الْأَزْمَان الثَّلَاثَة الْمَاضِي والحاضر والمستقبل
وَعرف أَنه إِذا أخبر بالماضي وثق بِهِ الْمَرِيض فاستسلم لَهُ فَتمكن بذلك من علاجه على مَا توجبه الصِّنَاعَة
وَإِذا عرف الْحَاضِر قابله بِمَا يَنْبَغِي من الْأَدْوِيَة وَغَيرهَا
وَإِذا عرف الْمُسْتَقْبل استعد لَهُ بِجَمِيعِ مَا يُقَابله بِهِ قبل أَن يهجم عَلَيْهِ بِمَا لَا يمهله فِي أَن يتلقاه بِمَا يَنْبَغِي
السَّادِس كتاب الْأَمْرَاض الحادة وَهُوَ ثَلَاث مقالات
الْمقَالة الأولى تَتَضَمَّن القَوْل فِي تَدْبِير الْغذَاء
والاستفراغ فِي الْأَمْرَاض الحادة
والمقالة الثَّانِيَة تَتَضَمَّن المداواة بالتكميد والفصد وتركيب الْأَدْوِيَة المسهلة وَنَحْو ذَلِك
والمقالة الثَّالِثَة تَتَضَمَّن القَوْل فِي التَّدْبِير بِالْخمرِ وَمَاء الْعَسَل والسكنجبين وَالْمَاء الْبَارِد والاستحمام
السَّابِع كتاب أوجاع النِّسَاء مقالتان ضمنه أَولا تَعْرِيف مَا يعرض للْمَرْأَة من الْعِلَل بِسَبَب احتباس الطمث ونزيفه ثمَّ ذكر مَا يعرض فِي وَقت الْحمل وَبعده من الأسقام الَّتِي تعرض كثيرا
الثَّامِن كتاب الْأَمْرَاض الوافدة وَيُسمى إبيديما وَهُوَ سبع مقالات
ضمنه تَعْرِيف الْأَمْرَاض(1/54)
الوافدة وتدبيرها وعلاجها وَذكر أَنَّهَا صنفان
أَحدهمَا مرض وَاحِد فَقَط وَالْآخر مرض قتال يُسمى الموتان
ليتلقى الطَّبِيب كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا يَنْبَغِي
وَذكر فِي هَذَا الْكتاب تذاكير
وجالينوس يَقُول إِنِّي وغيري من الْمُفَسّرين نعلم أَن الْمقَالة الرَّابِعَة وَالْخَامِسَة وَالسَّابِعَة من هَذَا الْكتاب مدلسة لَيست من كَلَام أبقراط
وَبَين أَن الْمقَالة الأولى وَالثَّالِثَة فيهمَا القَوْل فِي الْأَمْرَاض الوافدة وَأَن الْمقَالة الثَّانِيَة وَالسَّادِسَة تذاكير أبقراط إِمَّا أَن يكون أبقراط وَضعهَا وَإِمَّا أَن يكون وَلَده أثبت لنَفسِهِ مَا سَمعه من أَبِيه على سَبِيل التذاكير وَمن أجل مَا بَينه
وَقَالَ جالينوس اطرَح النَّاس النّظر فِي الْمقَالة الرَّابِعَة وَالْخَامِسَة وَالسَّابِعَة من هَذَا الْكتاب فاندرست
التَّاسِع كتاب الأخلاط
وَهُوَ ثَلَاث مقالات
ويتعرف من هَذَا الْكتاب حَال الأخلاط أَعنِي كميتها وكيفيتها وتقدمة الْمعرفَة بالأعراض اللاحقة بهَا وَالْحِيلَة والتأني فِي علاج كل وَاحِد مِنْهَا
الْعَاشِر كتاب الْغذَاء وَهُوَ أَربع مقالات
وَيُسْتَفَاد من هَذَا الْكتاب علل وَأَسْبَاب مواد الأخلاط
أَعنِي علل الأغذية وأسبابها الَّتِي بهَا تزيد فِي الْبدن وتنميه وتخلف عَلَيْهِ بدل مَا انحل مِنْهُ
الْحَادِي عشر كتاب قاطيطريون أَي حَانُوت الطَّبِيب وَهُوَ ثَلَاث مقالات
وَيُسْتَفَاد من هَذَا الْكتاب مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أَعمال الطِّبّ الَّتِي تخْتَص بِعَمَل الْيَدَيْنِ دون غَيرهمَا من الرَّبْط والشد والجبر والخياطة ورد الْخلْع والتنطيل والتكميد وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ
وَقَالَ جالينوس إِن أبقراط بنى أمره على أَن هَذَا الْكتاب أول كتاب يقْرَأ من كتبه وَكَذَلِكَ ظن بِهِ جَمِيع الْمُفَسّرين وَأَنا وَاحِد مِنْهُم
وَسَماهُ الْحَانُوت الَّذِي يجلس فِيهِ الطَّبِيب لعلاج المرضى
والأجود أَن تجْعَل تَرْجَمته كتاب الْأَشْيَاء الَّتِي تعْمل فِي حَانُوت الطَّبِيب
الثَّانِي عشر كتاب الْكسر والجبر وَهُوَ ثَلَاث مقالات
تَتَضَمَّن كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الطَّبِيب من هَذَا الْفَنّ
ولأبقراط أَيْضا من الْكتب وَبَعضهَا منحول إِلَيْهِ كتاب أوجاع العذارى كتاب فِي مَوَاضِع الْجَسَد كتاب فِي الْقلب كتاب فِي نَبَات الْأَسْنَان كتاب فِي الْعين كتاب إِلَى بسلوس كتاب فِي سيلان الدَّم كتاب فِي النفخ كتاب فِي الْحمى المحرقة كتاب فِي الغدد رِسَالَة إِلَى ديمطريوس الْملك وَيعرف كِتَابه هَذَا بالمقال الشافي كتاب مَنَافِع الرطوبات كتاب الْوَصَايَا كتاب الْعَهْد وَيعرف أَيْضا بِكِتَاب الْأَيْمَان وَضعه أبقراط للمتعلمين وَلمن يعلمونه أَيْضا ليقتدوا بِهِ وَأَن لَا يخالفوا مَا شَرطه عَلَيْهِم فِيهِ وَأَن يَنْفِي بِمَا ذكره الشنعة عَلَيْهِ فِي نَقله هَذِه الصِّنَاعَة من الوراثة إِلَى الإذاعة كتاب ناموس الطِّبّ كتاب الْوَصِيَّة الْمَعْرُوفَة بترتيب الطِّبّ ذكر فِيهَا مَا يجب أَن يكون الطَّبِيب عَلَيْهِ من الشكل والزي وَالتَّرْتِيب وَغير ذَلِك كتاب الْخلْع كتاب جراحات الرَّأْس كتاب(1/55)
اللحوم كتاب فِي تقدمة معرفَة الْأَمْرَاض الكائنة من تغير الْهَوَاء كتاب طبائع الْحَيَوَان كتاب عَلَامَات القضايا وَهُوَ الْخمس وَالْعشْرُونَ قَضِيَّة الدَّالَّة على الْمَوْت كتاب عَلَامَات البحران كتاب فِي حَبل على حَبل كتاب فِي الْمدْخل إِلَى الطِّبّ كتاب فِي المولودين لسبعة أشهر كتاب فِي الْجراح كتاب فِي الأسابيع كتاب فِي الْجُنُون كتاب فِي البثور كتاب المولودين لثمانية أشهر كتاب فِي الفصد والحجامة كتاب فِي الإبطى رِسَالَة فِي مسنونات أفلاطن على أرس كتاب فِي الْبَوْل كتاب فِي الألوان كتاب إِلَى أنطيقن الْملك فِي حفظ الصِّحَّة كتاب فِي الْأَمْرَاض كتاب فِي الْأَحْدَاث كتاب فِي الْمَرَض الأهلي وَذكر جالينوس فِي الْمقَالة الأولى من شرح تقدمة الْمعرفَة عَن هَذَا الْكتاب أَن أبقراط يرد فِيهِ على من ظن أَن الله تبَارك وَتَعَالَى يكون سَبَب مرض من الْأَمْرَاض
كتاب إِلَى أقطيغيوذس قَيْصر ملك الرّوم فِي قسْمَة الْإِنْسَان على مزاج السّنة كتاب طب الْوَحْي وَهَذَا الْكتاب ذكرُوا أَنه يتَضَمَّن كل مَا كَانَ يَقع فِي قلبه فيستعمله فَيكون كَمَا وَقع لَهُ رِسَالَة إِلَى أرطحششت الْكَبِير ملك فَارس لما عرض فِي أَيَّامه للْفرس الموتان رِسَالَة إِلَى جمَاعَة من أهل أبديرا مَدِينَة ديمقراطيس الْحَكِيم جَوَابا عَن رسالتهم إِلَيْهِ لاستدعائه وحضوره لعلاج ديمقراطيس كتاب اخْتِلَاف الْأَزْمِنَة وَإِصْلَاح الأغذية كتاب تركيب الْإِنْسَان كتاب فِي اسْتِخْرَاج النصول كتاب تقدمة القَوْل الأول كتاب تقدمة القَوْل الثَّانِي
وَلما توفّي أبقراط خلف من الْأَوْلَاد والتلاميذ من آل أسقليبيوس وَغَيرهم أَرْبَعَة عشر
أما أَوْلَاده فهم أَرْبَعَة ثاسلوس ودراقن وابناهما أبقراط بن ثاسلوس بن أبقراط وأبقراط بن دراقن بن أبقراط
فَكل وَاحِد من ولديه كَانَ لَهُ ولد سَمَّاهُ أبقراط باسم جده
وَأما تلامذته من أهل بَيته وَغَيرهم فهم عشرَة لاون وماسرجس وميغانوس وقولويس وَهُوَ أجل تلاميذه وخليفته من أهل بَيته وأملانيسون وأسطاث وساوري وغورس وسنبلقيوس وثاثالس
هَذَا قَول يحيى النَّحْوِيّ
وَقَالَ غَيره أَن أبقراط كَانَ لَهُ اثْنَا عشر تلميذا لَا يزِيد عَلَيْهِم إِلَّا بعد الْمَوْت وَلَا ينقص مِنْهُم
وبقوا على تِلْكَ السّنة حينا فِي بِلَاد الرّوم فِي الرواق الَّذِي كَانَ يدرس فِيهِ
وَوجدت بِبَعْض المواضيع أَن أبقراط كَانَت لَهُ ابْنة تسمى مالانا أرسا وَكَانَ لَهَا براعة فِي صناعَة(1/56)
الطِّبّ وَيُقَال إِنَّهَا كَانَت أبرع من أخويها
والأطباء المذكورون فِي الفترة الَّتِي بَين أبقراط وجالينوس خلا تلاميذ أبقراط فِي نَفسه وَأَوْلَاده فهم سنبلقيوس الْمُفَسّر لكتب أبقراط وأنقيلاوس الأول الطَّبِيب وأرسيسطراطس الثَّانِي القياسي ولوقس وميلن الثَّانِي وغالوس وميرتديطوس صَاحب العقاقير وسقالس الْمُفَسّر لكتب أبقراط ومانطلياس الْمُفَسّر أَيْضا لكتاب أبقراط وغولس الطارنطائي ومغنس الْحِمصِي صَاحب كتاب الْبَوْل وعاش تسعين سنة وأندروماخس الْقَرِيب الْعَهْد وعاش تسعين سنة وأبراس الملقب بالبعيد وسوناخس الأثيني صَاحب الْأَدْوِيَة والصيدلة وروفس الْكَبِير وَكَانَ من مَدِينَة أفسس وَلم يكن فِي زَمَانه أحد مثله فِي صناعَة الطِّبّ وَقد ذكره جالينوس فِي بعض كتبه وفضله وَنقل عَنهُ
ولروفس من الْكتب كتاب الماليخوليا مقالتان وَهُوَ من أجل كتبه وَكتاب الْأَرْبَعين مقَالَة كتاب تَسْمِيَة أَعْضَاء الْإِنْسَان مقَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي يعرض مَعهَا الْفَزع من المَاء مقَالَة فِي اليرقان والمرار مقَالَة فِي الْأَمْرَاض الَّتِي تعرض فِي المفاصل مقَالَة فِي تنقيص اللَّحْم كتاب تَدْبِير من لَا يحضرهُ طَبِيب مقالتان مقَالَة فِي الذبْحَة كتاب طب أبقراط مقَالَة فِي اسْتِعْمَال الشَّرَاب مقَالَة فِي علاج اللواتي لَا يحبلن مقَالَة فِي قضايا حفظ الصِّحَّة مقَالَة فِي الصرع مقَالَة فِي الْحمى الرّبع مقَالَة فِي ذَات الْجنب وَذَات الرئة كتاب التَّدْبِير مقالتان كتاب الباه مقَالَة كتاب الطِّبّ مقَالَة فِي الْأَعْمَال الَّتِي تعْمل فِي البيمارستانات مقَالَة فِي اللَّبن مقَالَة فِي الفواق مقَالَة فِي الْأَبْكَار مقَالَة فِي التِّين مقَالَة فِي تَدْبِير الْمُسَافِر مقَالَة فِي البخر مقَالَة فِي الْقَيْء مقَالَة فِي الْأَدْوِيَة القاتلة مقَالَة فِي أدوية علل الكلى والمثانة مقَالَة فِي هَل كَثْرَة شرب المَاء فِي الولائم نَافِع مقَالَة فِي الأورام الصلبة مقَالَة فِي الْحِفْظ مقَالَة فِي عِلّة ديونوسوس وَهُوَ الْقَيْح مقَالَة فِي الْجِرَاحَات مقَالَة فِي تَدْبِير الشيخوخة مقَالَة فِي وَصَايَا الْأَطِبَّاء مقَالَة فِي الحقن مقَالَة فِي الْولادَة مقَالَة فِي الْخلْع مقَالَة فِي علاج احتباس الطمث مقَالَة فِي الْأَمْرَاض المزمنة على رَأْي أبقراط مقَالَة فِي مَرَاتِب الْأَدْوِيَة مقَالَة فِيمَا يَنْبَغِي للطبيب أَن يسْأَل عَنهُ العليل مقَالَة فِي تربية الْأَطْفَال مقَالَة فِي دوران الرَّأْس مقَالَة فِي الْبَوْل مقَالَة فِي الْعقار الَّذِي يدعى سوسا مقَالَة فِي النزلة إِلَى الرئة مقَالَة فِي علل الكبد المزمنة مقَالَة فِي أَن يعرض للرِّجَال انْقِطَاع التنفس مقَالَة فِي شرى المماليك مقَالَة فِي علاج صبي يصرع مقَالَة فِي تَدْبِير الحبالى مقَالَة فِي التُّخمَة مقَالَة فِي السذاب مقَالَة فِي الْعرق مقَالَة فِي أيلاوس مقَالَة فِي أبلمسيا(1/57)
وَكَانَ من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين أَيْضا فِي الفترة الَّتِي بَين أبقراط وجالينوس أبولونيوس وأرشيجانس وَله أَيْضا كتب عدَّة فِي صناعَة الطِّبّ
وَوجدت لَهُ من ذَلِك مِمَّا نقل إِلَى الْعَرَبِيّ كتاب أسقام الْأَرْحَام وعلاجها كتاب طبيعة الْإِنْسَان كتاب فِي النقرس
وَمن أُولَئِكَ الْأَطِبَّاء أَيْضا دباسقوريدس الأول الْمُفَسّر لكتب أبقراط وطيماوس الفلسطيني الْمُفَسّر لكتب أبقراط أَيْضا ونباديطوس الملقب بموهبة الله فِي المعجونات وميسياوس الْمَعْرُوف بالمقسم للطب ومارس الحيلي الملقب بثاسلس باسم ذَلِك الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي أَصْحَاب الْحِيَل وَذَلِكَ لِأَنَّهُ وَقع إِلَيْهِ كتاب بعد إحراق كتب ثاسلس الأول من كتب الحيليين فانتحله وَقَالَ لَا صناعَة غير صناعَة الْحِيَل وَهِي صناعَة الطِّبّ الصَّحِيحَة وَأَرَادَ أَن يفْسد النَّاس ويخرجهم عَن اعْتِقَادهم للْقِيَاس والتجربة وَوضع فِي الْحِيَل من ذَلِك الْكتاب كتبا كَثِيرَة فَلم تزل مَعَ الْأَطِبَّاء فبعض يقبلهَا وَبَعض لَا حَتَّى ظهر جالينوس فناقضه عَلَيْهَا وأفسدها وأحرق مَا وجد مِنْهَا وأبطبل هَذِه الصِّنَاعَة الحيلية وأقريطن الملقب بالمزين وَهُوَ صَاحب كتاب الزِّينَة وَقد نقل جالينوس عَنهُ أَشْيَاء من كِتَابه فِي كتاب الميامر وأقاقيوس وجارمكسانس وأرثياثيوس وماريطوس وقاقولونس ومرقس وبرغالس وهرمس الطَّبِيب ويولاس وحاحونا وحلمانس هَؤُلَاءِ الاثنا عشر من الْأَطِبَّاء الَّذين أَوَّلهمْ أقريطن يعْرفُونَ بمعاضدة بَعضهم لبَعض وباتصال بَعضهم بِبَعْض فِي تأليف الْأَدْوِيَة لمَنْفَعَة النَّاس بالبروج الاثْنَي عشر لِأَنَّهَا مُتَّصِلَة بَعْضهَا بِبَعْض وفيلس الخلقدوني الملقب بالقادر من قبل أَنه كَانَ يتجرأ على العلاجات الصعبة ويشفيها ويعلو عَلَيْهَا ويقتدر وَلَا يُخطئ لَهُ علاج وديمقراطيس الثَّانِي وأفروسيس وأكسانقراطس وأفروديس وبطلميوس الطَّبِيب وسقراطس الطَّبِيب ومارقس الملقب بعاشق الْعُلُوم وسوروس وفوريس قَادِح الْعُيُون ونيادريطوس الملقب بالساهر وفرفوريوس التأليفي صَاحب الْكتب الْكَثِيرَة لِأَنَّهُ كَانَ مَعَ فلسفته مبرزا فِي الطِّبّ بارعا فِيهِ قَوِيا فَمن قبل ذَلِك يُسَمِّيه بعض النَّاس الفيلسوف وَبَعْضهمْ الطَّبِيب ودياسقوريدس الْعين زَرْبِي صَاحب النَّفس الزكية النافع للنَّاس الْمَنْفَعَة الجليلة المتعرب الْمَنْصُور السائح فِي الْبِلَاد المقتبس لعلوم الْأَدْوِيَة المفردة من البراري والجزائر والبحار المصور لَهَا المجرب المعدد لمنافعها قبل الْمَسْأَلَة من أفاعيلها حَتَّى إِذا صحت عِنْده بالتجربة فَوَجَدَهَا قد خرجت بِالْمَسْأَلَة غير مُخْتَلفَة عَن التجربة أثبت ذَلِك وصوره من مثله وَهُوَ رَأس كل دَوَاء مُفْرد وَعنهُ أَخذ جَمِيع من جَاءَ بعده وَمِنْه ثقفوا على سَائِر مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْأَدْوِيَة المفردة وطوبى لتِلْك النَّفس الطّيبَة الَّتِي شقيت بالتعب من محبتها لإيصال الْخيرَات إِلَى النَّاس كلهم
وَقَالَ حنين ابْن إِسْحَق إِن دياسقوريدس كَانَ اسْمه عِنْد قومه أزدش نياديش وَمَعْنَاهُ بلغتهم(1/58)
الْخَارِج عَنَّا
قَالَ حنين وَذَلِكَ أَنه كَانَ مُعْتَزِلا عَن قومه مُتَعَلقا بالجبال ومواضع النَّبَات مُقيما بهَا فِي كل الْأَزْمِنَة لَا يدْخل إِلَى قومه فِي طَاعَة وَلَا مشورة وَلَا حكم
فَلَمَّا كَانَ ذَلِك سَمَّاهُ قومه بِهَذَا الِاسْم
وَمعنى ديسقوري باليونانية أَشجَار ودوس باليونانية الله وَمَعْنَاهُ أَي ملهمه الله للشجر والحشائش
أَقُول وَمِمَّا يُؤَيّد أَن دياسقوريدس كَانَ متنقلا فِي الْبلدَانِ لمعْرِفَة الحشائش وَالنَّظَر إِلَيْهَا وَفِي منابتها قَوْله فِي صدر كِتَابه يُخَاطب الَّذِي ألف الْكتاب لَهُ وَأما نَحن فَإِنَّهُ كَانَت لنا كَمَا علمت فِي الصغر شَهْوَة لَا تقدر فِي معرفَة هيولى العلاج وتجولنا فِي ذَلِك بلدانا كَثِيرَة وَكَانَ دَهْرنَا كَمَا قد علمت دهر من لَيْسَ لَهُ مقَام فِي مَوضِع وَاحِد
وَكتاب دياسقوريدس هَذَا خمس مقالات وَيُوجد مُتَّصِلا بِهِ أَيْضا مقالتان فِي سموم الْحَيَوَان تنْسب إِلَيْهِ وَأَنَّهَا سادسة وسابعة
وَهَذَا ذكر أغراض مقالات كتاب دياسقوريدس
الْمقَالة الأولى تشْتَمل على ذكر أدوية عطرة الرَّائِحَة وأفاويه وأدهان وصموغ وأشجار كبار
والمقالة الثَّانِيَة تشْتَمل على ذكر الْحَيَوَانَات ورطوبات الْحَيَوَان والحبوب والقطاني والبقول المأكولة والبقول الحريفة وأدوية حريفة
والمقالة الثَّالِثَة تشْتَمل على ذكر أصُول النَّبَات وعَلى نَبَات شوكي وعَلى بزور وصموغ وعَلى حشائش بازهرية
الْمقَالة الرَّابِعَة تشْتَمل على ذكر أدوية أَكْثَرهَا حشائش بَارِدَة وعَلى حشائش حارة مسهلة ومقيئة وعَلى حشائش نافعة من السمُوم وَهُوَ ختام الْمقَالة
الْمقَالة الْخَامِسَة تشْتَمل على ذكر الْكَرم وعَلى أَنْوَاع الْأَشْرِبَة وعَلى الْأَدْوِيَة المعدنية
وجالينوس يَقُول عَن هَذَا الْكتاب إِنِّي تصفحت أَرْبَعَة عشر مُصحفا فِي الْأَدْوِيَة المفردة لأقوام شَتَّى فَمَا رَأَيْت فِيهَا أتم من كتاب ديسقوريدس الَّذِي من أهل عين زربة
وَكَانَ من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين أَيْضا فِي الفترة الَّتِي بَين أبقراط وجالينوس بلاديوس الْمُفَسّر لكتب أبقراط وكلاوبطرة امْرَأَة طبيبة فارهة أَخذ عَنْهَا جالينوس أدوية كَثِيرَة وعلاجات شَتَّى وخاصة مَا كَانَ من ذَلِك من أُمُور النِّسَاء وأسقلبيادس وسورانوس الملقب بالذهبي وأيراقليس الطارنطي وأديمس الكحال الملقب بِالْملكِ ونساروس الفلسطيني وغالس الْحِمصِي وكسانوقراطس وقوطانس وديوجانس الطَّبِيب الملقب بالفراني وأسقليبيادس الثَّانِي وبقراطيس الجوارشني ولاون الطرسوسي(1/59)
وأريوس الطرسوسي وقيمن الْحَرَّانِي وموسقوس الأثيني وأقليدس الْمَعْرُوف بالمهدي للضالين وأيراقليس الْمَعْرُوف بالهادي وبطروس وفروادس ومانطلياس الْفَاسِد وثافراطس الْعين زَرْبِي وأنطيباطوس المصِّيصِي وخروسبس الْمَعْرُوف بالفتي وأريوس الْمَعْرُوف بالمضاد وفيلون الطرسوسي وفاسيوس الْمصْرِيّ وطولس الإسْكَنْدراني وأولينس وسقورس الملقب بالمطاع وَإِنَّمَا لقب بذلك لِأَن الْأَدْوِيَة كَانَت تطاوعه فِيمَا يستعملها وتامور الْحَرَّانِي
وَجَمِيع هَؤُلَاءِ الْأَطِبَّاء أَصْحَاب أدوية مركبة أَخذ جالينوس عَنْهُم كتبه فِي الْأَدْوِيَة المركبة وَعَن الَّذين من قبلهم مِمَّن سميناه أَولا مثل أيولس وأرشيجانس وَغَيرهمَا
وَكَانَ قبل جالينوس أَيْضا طرالينوس وَهُوَ الإسكندروس الطَّبِيب وَله من الْكتب كتاب علل الْعين وعلاجها ثَلَاث مقالات كتاب البرسام كتاب الضبان والحيات الَّتِي تتولد فِي الْبَطن والديدان
وَكَانَ فِي ذَلِك الزَّمَان أَيْضا وَمَا قبله جمَاعَة من عُظَمَاء الفلاسفة وأكابرهم على مَا ذكره إِسْحَق بن حنين مثل فوثاغرس وديوفيلس وثاون وأنبادقلس وأقليدس وساورى وطماتاوس وأنكسيمانس وديمقراطيس وثاليس
قَالَ وَكَانَ الشُّعَرَاء أَيْضا فِي ذَلِك الْوَقْت أوميرس وقاقلس ومارقس وتلاهم أَيْضا من الفلاسفة زينون الْكَبِير وزينون الصَّغِير وأقراطوس الملقب بالموسيقي ورامون المنطقي وأغلوقن البنضيني وسقراط وأفلاطن وديمقراط وأرسطوطالس وثاوفرطس ابْن أُخْته وأذيمس وأفانس وخروسبس وديوجانس وقيلاطس وفيماطوس وسنبلقيوس وأرمينس معلم جالينوس وغلوقن والإسكندر الْملك والإسكندر الأفروديسي وفرفوريوس الصُّورِي وأيراقليدس الأفلاطوني وطاليوس(1/60)
الإسْكَنْدراني ومُوسَى الإسْكَنْدراني ورودس الأفلاطوني وأسطفانس الْمصْرِيّ وسنجس ورامن
وَيَتْلُو هَؤُلَاءِ أَيْضا من الفلاسفة ثامسطيوس وفرفوديس الْمصْرِيّ وَيحيى النَّحْوِيّ الإسْكَنْدراني وداريوس وأنقيلاوس الْمُخْتَصر لكتب أرسطوطاليس وأمونيوس وفولوس وافروطوخس وأوديمس الإسْكَنْدراني وياغاث الْعين زَرْبِي وثياذوس الأثيني وَادي الطرسوسي
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم صاعد بن أَحْمد بن صاعد فِي كتاب طَبَقَات الْأُمَم أَن الفلاسفة اليونانيين من أرفع النَّاس طبقَة وَأجل أهل الْعلم منزلَة لما ظهر مِنْهُم من الاعتناء الصَّحِيح بفنون الْحِكْمَة من الْعُلُوم الرياضية والمنطقية والمعارف الطبيعية والإلهية والسياسات المنزلية والمدنية
قَالَ وَأعظم هَؤُلَاءِ الفلاسفة قدرا عِنْد اليونانيين خَمْسَة فأولهم زَمَانا بندقليس ثمَّ فيثاغورس ثمَّ سقراط ثمَّ أفلاطون ثمَّ أرسطوطاليس ابْن نيقوماخس
أَقُول وَسَنذكر جملا من أَحْوَال هَؤُلَاءِ الْخَمْسَة وَغَيرهم إِن شَاءَ الله تَعَالَى
بندقليس
قَالَ القَاضِي صاعد أَن بندقليس كَانَ فِي زمن دَاوُد النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام على مَا ذكره الْعلمَاء بتواريخ الْأُمَم وَكَانَ أَخذ الْحِكْمَة عَن لُقْمَان الْحَكِيم بِالشَّام ثمَّ انْصَرف إِلَى بِلَاد اليونانيين فَتكلم فِي خلق الْعَالم بأَشْيَاء يقْدَح ظَاهرهَا فِي أَمر الْمعَاد فهجره لذَلِك بَعضهم وَطَائِفَة من الباطنية تنتمي إِلَى حكمته وتزعم أَن لَهُ رموزا قَلما يُوقف عَلَيْهَا
قَالَ وَكَانَ مُحَمَّد بن عبد الله بن مرّة الْجبلي الباطني من أهل قرطبة كلفا بفلسفته دؤوبا على دراستها
قَالَ وبندقليس أول من ذهب إِلَى الْجمع بَين مَعَاني صِفَات الله تَعَالَى وَإِنَّهَا كلهَا تُؤدِّي إِلَى شَيْء وَاحِد وَإنَّهُ وَإِن وصف بِالْعلمِ والجود وَالْقُدْرَة فَلَيْسَ هُوَ ذَا معَان متميزة تخْتَص بِهَذِهِ الْأَسْمَاء الْمُخْتَلفَة بل الْوَاحِد بِالْحَقِيقَةِ الَّذِي لَا يتكثر بِوَجْه مَا أصلا بِخِلَاف سَائِر الموجودات فَإِن الوحدانيات العالمية معرضة للتكثير إِمَّا بإجزائها وَإِمَّا بمعانيها وَإِمَّا بنظائرها وَذَات الْبَارِي متعالية عَن هَذَا كُله
قَالَ وَإِلَى هَذَا الْمَذْهَب فِي الصِّفَات ذهب أَبُو الْهُذيْل مُحَمَّد بن الْهُذيْل العلاف الْبَصْرِيّ
ولبندقليس من الْكتب كتاب فِيمَا بعد الطبيعة كتاب الميامر
فيثاغورس
وَيُقَال فوثاغوراس وفوثاغوريا وَقَالَ القَاضِي صاعد فِي كتاب طَبَقَات الْأُمَم إِن فيثاغورس كَانَ(1/61)
بعد بندقليس بِزَمَان وَأخذ الْحِكْمَة عَن أَصْحَاب سُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا السَّلَام بِمصْر حِين دخلُوا إِلَيْهَا من بِلَاد الشَّام وَكَانَ قد أَخذ الهندسة قبلهم عَن المصريين ثمَّ رَجَعَ إِلَى بِلَاد اليونان وَأدْخل عِنْدهم علم الهندسة وَعلم الطبيعة وَعلم الدّين واستخرج بذكائه علم الألحان وتأليف النغم وأوقعها تَحت النّسَب العددية وَادّعى أَنه اسْتَفَادَ ذَلِك من مشكاة النُّبُوَّة
وَله فِي نضد الْعَالم وترتيبه على خَواص الْعدَد ومراتبه رموز عَجِيبَة وأغراض بعيدَة
وَله فِي شَأْن الْمعَاد مَذَاهِب قَارب فِيهَا بندقليس من أَن فَوق عَالم الطبيعة عَالما روحانيا نورانيا لَا يدْرك الْعقل حسنه وبهاءه وَإِن الْأَنْفس الزكية تشتاق إِلَيْهِ وَإِن كل إِنْسَان أحسن تَقْوِيم نَفسه بالتبري من الْعجب والتجبر والرياء والحسد وَغَيرهَا من الشَّهَوَات الجسدانية فقد صَار أَهلا أَن يلْحق بالعالم الروحاني ويطلع على مَا يَشَاء من جواهره من الْحِكْمَة الإلهية
وَإِن الْأَشْيَاء الملذذة للنَّفس تَأتيه حِينَئِذٍ إرْسَالًا كالألحان الموسيقية الْآتِيَة إِلَى حاسة السّمع فَلَا يحْتَاج أَن يتَكَلَّف لَهَا طلبا
ولفيثاغورس تآليف شَرِيعَة الأرتماطيقي والموسيقي وَغير ذَلِك هَذَا آخر قَوْله
وَذكر غَيره عَن الْحَكِيم فيثاغورس أَنه كَانَ يرى السياحة وَاجْتنَاب مماسة الْقَاتِل والمقتول
وَأَنه أَمر بتقديس الْحَواس وَتعلم الْعَمَل بِالْعَدْلِ وَجَمِيع الْفَضَائِل والكف عَن الْخَطَايَا والبحث عَن الْعَطِيَّة الإنسية ليعرف طبيعة كل شَيْء وَأمر بالتحابب والتأدب بشرح الْعُلُوم العلوية ومجاهدة الْمعاصِي وعصمة النُّفُوس وَتعلم الْجِهَاد وإكثار الصّيام وَالْقعُود على الكراسي والمواظبة على قِرَاءَة الْكتب وَأَن يعلم الرِّجَال الرِّجَال وَتعلم النِّسَاء وَالنِّسَاء وَأمر بجودة الْمنطق ومواعظ الْمُلُوك وَكَانَ يَقُول بِبَقَاء النَّفس وَكَونهَا فِيمَا بعد فِي ثَوَاب أَو عِقَاب على رَأْي الْحُكَمَاء الإلهيين وَلما رَأس الْحَكِيم فيثاغورس على الهياكل وَصَارَ رَئِيس الكهنة جعل يغتذي بالأغذية غير المجوعة وَغير المعطشة
أما الْغذَاء غير المجوع فَكَانَ يهيئه من بزر ميقونيون وسمسم وقشر أسقال مغسول غسلا مستقصى حَتَّى ينبأ قلبه وأنتاريقون وأسفودالن وألفيطون وحمص وشعير من كل وَاحِد جُزْء بالتحرير كَانَ يسحقها ويعجنها بِجِنْس من الْعَسَل يُسمى أميطيو
وَأما غير المعطش فَكَانَ يهيئه من بزر القثاء وزبيب سمين منزوع الْعَجم وزهر قوريون وبزر ملوخيا وبزر أسوفا وأندراخين وَنَوع من الْخبز يدعى فيلطاموس ودقيق أواليس وَكَانَ يعجنها بِعَسَل حابوق
وَذكر الْحَكِيم أَن هرقلس تعلم هَاتين الصفتين من ديميطر وَكَانَ فيثاغورس قد ألزم نَفسه عَادَة موزونة فَلم يكن مرّة صَحِيحا وَمرَّة سقيما وَلَا كَانَ مرّة يسمن وَمرَّة يهزل
وَكَانَت نَفسه لَطِيفَة جدا وَلم يكن يفرح بإفراط وَلَا يحزن بإفراط وَلَا رَآهُ أحد قطّ ضَاحِكا وَلَا باكيا وَكَانَ يقدم إخوانه على نَفسه(1/62)
ويحكى أَنه أول من قَالَ إِن أَمْوَال الأخلاء مشاعة غير مقسومة وَكَانَ يحافظ على صِحَة الأصحاء وَيُبرئ المسقومي الْأَبدَان وَكَانَ يُبرئ النُّفُوس الآلمة مِنْهَا بالتكهن وَمِنْهَا بالألحان الآلهية الَّتِي كَانَ يحيي بهَا آلام الْبدن
وَكَانَ يَأْمر بأَدَاء الْأَمَانَة فِي الْوَدِيعَة لَا المَال فَقَط والكلمة المستودعة المحقة وَصدق الْوَعْد
وَذكر فرفوريوس فِي الْمقَالة الأولى من كِتَابه فِي أَخْبَار الفلاسفة وقصصهم وآرائهم حكايات عَجِيبَة ظَهرت عَن فيثاغورس مِمَّا تكهن بِهِ وَمن أخباره بمغيبات سَمِعت مِنْهُ وشوهدت كَمَا قَالَه
كَلِمَات حكمِيَّة
وَكَانَ يرمز حكمته ويسترها فَمن الغازه أَنه كَانَ يَقُول لَا تَعْتَد فِي الْمِيزَان أَي اجْتنب الإفراط
وَلَا تحرّك النَّار بالسكين لِأَنَّهَا قد حميت فِيهَا مرّة أَي اجْتنب الْكَلَام المحرض عِنْد الغضوب المغتاظ
وَلَا تجْلِس على قفيز أَي لَا تعش فِي البطالة
وَلَا تمر بغياض الليوث أَي لَا تقتد بِرَأْي المردة
وَلَا تعمر الخطاطيف الْبيُوت أَي لَا تقتد بأصحاب الطرمذة والبقبقة من النَّاس غير المالكين لألسنتهم
وَأَن لَا يلقِي الْحمل عَن حامله لَكِن يعان على حمله أَي لَا يغْفل أحد أَعمال نَفسه فِي الْفَضَائِل فِي الطَّاعَات
وَأَن لَا تلبس تماثيل الْمَلَائِكَة على فصوص الخواتيم أَي لَا تجْهر بديانتك وَتَدَع أسرار الْعُلُوم الإلهية عِنْد الْجُهَّال
قَالَ الْأَمِير المبشر بن فاتك كَانَ لفيثاغورس أَب اسْمه منيسارخوس من أهل صور وَكَانَ لَهُ أَخَوان اسْم الْأَكْبَر مِنْهُمَا أونوسطوس وَالْآخر طورينوس وَكَانَ اسْم أمه بوثايس بنت رجل اسْمه أجقايوس من سكان ساموس وَلما غلب على صور ثَلَاثَة قبائل ليمنون ويمقرون وسقرون واستوطنوها وجلا أَهلهَا مِنْهَا جلا وَالِد فيثاغورس فِيمَن جلا وَسكن الْبحيرَة وسافر مِنْهَا إِلَى ساموس ملتمسا كسبا وَأقَام بهَا وَصَارَ فِيهَا مكرما وَلما سَافر مِنْهَا إِلَى أنطاكيا أَخذ فيثاغورس مَعَه ليتفرج عَلَيْهَا لِأَنَّهَا كَانَت نزهة جدا كَثِيرَة الخصب
وَذكروا أَن فيثاغورس إِنَّمَا عَاد إِلَيْهَا فسكنها لما رأى من طيبها أول مرّة
وَلما جلا منيسارخوس عَن صور سكن ساموس وَمَعَهُ أَوْلَاده أونوسطوس وطورينوس وفيثاغورس
فتبنى أندروقلوس رَئِيس ساموس فيثاغورس وكفله لِأَنَّهُ كَانَ أحدث الْأُخوة وأسلمه من صغره فِي تَعْلِيم الْآدَاب واللغة والموسيقى فَلَمَّا التحى وَجه بِهِ إِلَى مَدِينَة ميليطون(1/63)
وأسلمه إِلَى أناكسيماندروس الْحَكِيم ليعلمه الهندسة والمساحة والنجوم فَلَمَّا أحكم فيثاغورس هَاتين الصناعتين اشْتَدَّ حبه للعلوم وَالْحكمَة فسافر إِلَى بلدان شَتَّى طَالبا لذَلِك فورد على الكلدانيين والمصريين وَغَيرهم ورابط الكهنة وَتعلم مِنْهُم الْحِكْمَة وحذق لُغَة المصريين بِثَلَاثَة أَصْنَاف من الْخط خطّ الْعَامَّة وَخط الْخَاصَّة وَهُوَ خطّ الكهنة الْمُخْتَصر وَخط الْمُلُوك
وعندما كَانَ فِي أراقليا كَانَ مرابطا لملكها وَلما صَار إِلَى بابل رابط رُؤَسَاء خلذايون ودرس على زارباطا فبصره بِمَا يجب على الصديقين وأسمعه سَماع الكيان وَعلمه أَوَائِل الْكل أَيّمَا هِيَ
فَمن ذَلِك فضلت حِكْمَة فيثاغورس وَبِه وجد السَّبِيل إِلَى هِدَايَة الْأُمَم وردهم عَن الْخَطَايَا لِكَثْرَة مَا اقتنى من الْعُلُوم من كل أمة وَمَكَان
وَورد على قاراقوديس الْحَكِيم السرياني فِي بداية أمره فِي مَدِينَة اسْمهَا ديلون من سورية وَخرج عَنْهَا قاراقوديس فسكن ساموس وَكَانَ قد عرض لَهُ مرض شَدِيد حَتَّى أَن الْقمل كَانَ ينتعش فِي جِسْمه فَلَمَّا عظم بِهِ وساء مثواه حمله تلاميذه إِلَى أفسس وَلما تزايد ذَلِك عَلَيْهِ رغب إِلَى أهل أفسس وَأقسم عَلَيْهِم أَن يحولوه عَن مدينتهم فأخرجوه إِلَى ماغانسيا
وعنى تلاميذه بخدمته حَتَّى مَاتَ فدفنوه وَكَتَبُوا قصَّته على قَبره
وَرجع فيثاغورس إِلَى مَدِينَة ساموس ودرس بعده على أرمودامانيطس الْحَكِيم الْبَهِي المتأله المكنى بقراوفوليو بِمَدِينَة ساموس
وَلَقي أَيْضا بهَا أرمودامانيس الْحَكِيم المكنى أفروقوليم فرابطه زَمَانا وَكَانَت طرانة ساموس قد صَارَت لفولوقراطيس الأطرون واشتاق فيثاغورس إِلَى الِاجْتِمَاع بالكهنة الَّذين بِمصْر فابتهل إِلَى فولوقراطيس أَن يكون لَهُ على ذَلِك معينا فَكتب لَهُ إِلَى أماسيس ملك مصر كتابا يُخبرهُ بِمَا تاق إِلَيْهِ فيثاغورس ويعلمه أَنه صديق لأصدقائه ويسأله أَن يجود عَلَيْهِ بِالَّذِي طلب وَأَن يتحنن عَلَيْهِ فَأحْسن أماسيس قبُوله وَكتب لَهُ إِلَى رُؤَسَاء الكهنة بِمَا أَرَادَ فورد على أهل مَدِينَة الشَّمْس وَهِي الْمَعْرُوفَة بزماننا بِعَين شمس بكتب ملكهم فقبلوه قبولا كريها وَأخذُوا فِي امتحانه زَمَانا فَلم يَجدوا عَلَيْهِ نقصا وَلَا تقصيرا فوجهوا بِهِ إِلَى كهنة منف كي يبالغوا فِي امتحانه فقبلوه قبولا على كَرَاهِيَة واستقصوا امتحانه فَلم يَجدوا عَلَيْهِ معيبا وَلَا أَصَابُوا لَهُ عَثْرَة فبعثوا بِهِ إِلَى أهل دبوسبولس ليمتحنوه فَلم يَجدوا عَلَيْهِ طَرِيقا وَلَا إِلَى إدحاضه سَبِيلا لعناية ملكهم بِهِ فعرضوا عَلَيْهِ فَرَائض صعبة مُخَالفَة لفرائض اليونانيين كَيْمَا يمْتَنع من قبُولهَا فيدحضوه ويحرموه طلبه فَقبل ذَلِك وَقَامَ بِهِ فَاشْتَدَّ إعجابهم مِنْهُ وَفَشَا بِمصْر ورعه حَتَّى بلغ ذكره إِلَى أماسيس فَأعْطَاهُ سُلْطَانا على الضَّحَايَا للرب تَعَالَى وعَلى سَائِر قرابينهم وَلم يُعْط ذَلِك لغريب قطّ(1/64)
ثمَّ مضى فيثاغورس من مصر رَاجعا إِلَى بِلَاده وَبنى لَهُ بِمَدِينَة أيونية منزلا للتعليم فَكَانَ أهل ساموس يأْتونَ إِلَيْهِ وَيَأْخُذُونَ من حكمته وَأعد لَهُ خَارِجا من تِلْكَ الْمَدِينَة أنطرونا جعله مجمعا خَاصّا لحكمته فَكَانَ يرابط فِيهِ مَعَ قَلِيل من أَصْحَابه أَكثر أوقاته
وَلما أَتَت عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ سنة وتمادت طرانة فولوقراطيس وَكَانَ قد اسْتَخْلَفَهُ عَلَيْهِم حينا طَويلا واستكفاه ففكر وَرَأى أَنه لَا يحسن بِالْمَرْءِ الْحَكِيم الْمكْث على لُزُوم الطرانة وَالسُّلْطَان فَرَحل إِلَى إيطاليا وَسَار مِنْهَا إِلَى قروطونيا ودخلها فَرَأى أَهلهَا حسن منظره ومنطقه ونبله وسعة علمه وَصِحَّة سيرته مَعَ كَثْرَة يسَاره وتكامله فِي جَمِيع خصاله واجتماع الْفَضَائِل كلهَا فِيهِ فانقاد لَهُ أهل قروطونيا انقياد الطَّاعَة العلمية فألزمهم عصمَة القدماء وَهدى نُفُوسهم ووعظهم بالصالحات وَأمر الأراكنة أَن يضعوا للأحداث كتب الْآدَاب الْحكمِيَّة وتعليمهم إِيَّاهَا
فَكَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء يَجْتَمعُونَ إِلَيْهِ ليسمعوا مواعظه وينتفعوا بِحِكْمَتِهِ
فَعظم مجده وَكبر شَأْنه وصير كثيرا من أهل تِلْكَ الْمَدِينَة مهرَة بالعلوم وانتشر الْخَبَر حَتَّى أَن عَامَّة مُلُوك البربر وردوا عَلَيْهِ ليسمعوا حكمته ويستوعبوا من علمه
ثمَّ إِن فيثاغورس جال فِي مدن إيطاليا وسيقليا وَكَانَ الْجور والتمرد قد غلب عَلَيْهِم فصاروا سماعيه وصديقيه من أهل طاورومانيون وَغير ذَلِك
فاستأصل الْفِتْنَة مِنْهُم وَمن نسلهم إِلَى أحقاب كَثِيرَة
وَكَانَ مَنْطِقه طاردا لكل مُنكر وَلما سمع حكمته ومواعظه سماخس أطرون قانطوربيا خرج من ملكه وَخلف أَمْوَاله بَعْضهَا لِأَخِيهِ وَبَعضهَا لأهل مدينته
وَذكر أَن باندس الَّذِي كَانَ جنسه من فرمس وَكَانَ ملك فوثو وَكَانَ من ولد فيثاغورس وَكَانَ لفيثاغورس وَهُوَ باقروطونيا بنت بتول كَانَت تعلم عذارى الْمَدِينَة شرائع الدّين وفرائضه وسنته من حَلَاله وَحَرَامه
وَكَانَت أَيْضا زَوجته تعلم سَائِر النِّسَاء
وَلما توفّي فيثاغورس عمد ديميطوديوس الْمُؤمن إِلَى منزل الْحَكِيم فَجعله هيكلا لأهل قروطونيا
وَذكروا أَن فيثاغورس كَانَ على عهد كورس حَدثا وَكَانَ ملكه ثَلَاثِينَ سنة وَملك بعده ابْنه قامبوسيس وفيثاغورس فِي الْحَيَاة
وَأَن فيثاغورس لبث بساموس سِتِّينَ سنة ثمَّ سَافر إِلَى إيطاليا ثمَّ توجه مِنْهَا إِلَى ماطايونطيون فَمَكثَ بهَا خمس سِنِين وَتُوفِّي
وَكَانَ غذاؤه عسلا وَسمنًا وعشاؤه خبز قاخجرون وَبقول نيئة ومطبوخة وَلم يكن يَأْكُل من اللَّحْم إِلَّا مَا كَانَ من أضْحِية كهونته مِمَّا كَانَ يقرب لله تَعَالَى(1/65)
فَلَمَّا أَن رَأس على الهياكل وَصَارَ رَئِيس الكهنة جعل يغتذي بالأغذية غير المجوعة وَغير المعطشة
وَكَانَ إِذا ورد عَلَيْهِ وَارِد ليسمع كَلَامه يكلمهُ على أحد وَجْهَيْن إِمَّا بالاحتجاج والدراس وَإِمَّا بِالْمَوْعِظَةِ والمشورة فَكَانَ لتعليمه شكل ذُو فنين
وحضره سفر إِلَى بعض الْأَمَاكِن فَأَرَادَ أَن يؤنس أَصْحَابه بِنَفسِهِ قبل فراقهم فَاجْتمعُوا فِي بَيت رجل يُقَال لَهُ ميلن فَبَيْنَمَا هم فِي الْبَيْت مجتمعون إِذْ هجم عَلَيْهِم رجل من أهل قروطونيا اسْمه قولون وَكَانَ لَهُ شرف وَحسب وَمَال عَظِيم
وَكَانَ يستطيل بذلك على النَّاس ويتمرد عَلَيْهِم ويغتر بالجور
وَكَانَ قد دخل على فيثاغورس وَجعل يمدح نَفسه فزجره بَين يَدي جُلَسَائِهِ وَأَشَارَ إِلَيْهِ باكتساب خلاص نَفسه فَاشْتَدَّ غيظ قولون عَلَيْهِ فَجمع أخلاءه وَقذف فيثاغورس عِنْدهم وَنسبه إِلَى الْكفْر وَوَافَقَهُمْ على قَتله وَأَصْحَابه وَلما هجم عَلَيْهِ قتل مِنْهُم أَرْبَعِينَ إنْسَانا وهرب باقيهم فَمنهمْ من أدْرك وَقتل وَمِنْهُم من أفلت واختفى
ودامت السّعَايَة بهم والطلب لَهُم وخافوا على فيثاغورس الْقَتْل فأفردوا لَهُ قوما مِنْهُم واحتالوا لَهُ حَتَّى أَخْرجُوهُ من تِلْكَ الْمَدِينَة بِاللَّيْلِ ووجهوا مَعَه بَعضهم حَتَّى أوصلوه إِلَى قاولونيا وَمن هُنَاكَ إِلَى لوقروس فانتهت الشناعة فِيهِ إِلَى أهل هَذِه الْمَدِينَة فوجهوا إِلَيْهِ مَشَايِخ مِنْهُم فَقَالُوا لَهُ أما أَنْت يَا فيثاغورس فحكيم فِيمَا نرى وَأما الشناعة عَنْك فسمجة جدا
لَكنا لَا نجد فِي نواميسنا مَا يلزمك الْقَتْل وَنحن متمسكون بشرائعنا فَخذ منا ضيافتك وَنَفَقَة لطريقك وارحل عَن بلدنا تسلم
فَرَحل عَنْهَا إِلَى طارنطا ففاجأه هُنَاكَ قوم من أهل قروطونيا فكادوا أَن يخنقوه وَأَصْحَابه فَرَحل إِلَى ميطابونطيون
وتكاثرت الهيوج فِي الْبِلَاد بِسَبَبِهِ حَتَّى صَار يذكر ذَلِك أهل تِلْكَ الْبِلَاد سنينا كَثِيرَة
ثمَّ انحاز إِلَى هيكل الْأَسْنَان الْمُسَمّى هيكل الموسن فتحصن فِيهِ وَأَصْحَابه ولبث فِيهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا لم يغتذ فَضربُوا الهيكل الَّذِي كَانَ فِيهِ بالنَّار
فَلَمَّا أحس أَصْحَابه بذلك عَمدُوا إِلَيْهِ فجعلوه فِي وَسطهمْ وَأَحْدَقُوا بِهِ ليوقوه النَّار بأجسامهم فعندما امتدت النَّار فِي الهيكل وَاشْتَدَّ لهبها غشي على الْحَكِيم من ألم حَرَارَتهَا وَمن الخواء فَسقط مَيتا
ثمَّ أَن تِلْكَ الآفة عمتهم أَجْمَعِينَ فاحترقوا كلهم وَكَانَ ذَلِك سَبَب مَوته
وَذكروا أَنه صنف مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ كتابا وَخلف من التلاميذ خلقا كثيرا وَكَانَ نقش خَاتمه شَرّ لَا يَدُوم خير من خير لَا يَدُوم أَي شَرّ ينْتَظر زَوَاله ألذ من خير ينْتَظر زَوَاله
وعَلى منطقته الصمت سَلامَة من الندامة
من آدَاب فيثاغورس ومواعظه نقلت ذَلِك من كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم للأمير مَحْمُود الدولة أبي الْوَفَاء المبشر بن فاتك
قَالَ فيثاغورس
كَمَا أَن بَدْء وجودنا وخلقنا من الله سُبْحَانَهُ هَكَذَا يَنْبَغِي أَن تكون نفوسنا منصرفة إِلَى الله تَعَالَى وَقَالَ الفكرة لله خَاصَّة فمحبتها مُتَّصِلَة بمحبة الله تَعَالَى وَمن أحب الله سُبْحَانَهُ عمل بمحابه(1/66)
وَمن عمل بمحابه قرب مِنْهُ وَمن قرب مِنْهُ نجا وفاز
وَقَالَ لَيْسَ الضَّحَايَا والقرابين كرامات الله تَعَالَى ذكره لَكِن الِاعْتِقَاد الَّذِي يَلِيق بِهِ هُوَ الَّذِي يَكْتَفِي بِهِ فِي تكرمته
وَقَالَ الْأَقْوَال الْكَثِيرَة فِي الله سُبْحَانَهُ عَلامَة تَقْصِير الْإِنْسَان عَن مَعْرفَته
وَقَالَ مَا انفع للْإنْسَان أَن يتَكَلَّم بالأشياء الجليلة النفيسة فَإِن لم يُمكنهُ فليسمع قَائِلهَا
وَقَالَ احذر أَن تركب قبيحا من الْأَمر لَا فِي خلْوَة وَلَا مَعَ غَيْرك وَليكن استحياؤك من نَفسك أَكثر من استحيائك من كل أحد
وَقَالَ ليكن قصدك بِالْمَالِ فِي اكتسابه من حَلَال وإنفاقه فِي مثله
وَقَالَ إِذا سَمِعت كذبا فهون على نَفسك الصَّبْر عَلَيْهِ
وَقَالَ لَا يَنْبَغِي لَك أَن تهمل أَمر صِحَة بدنك لَكِن يَنْبَغِي الْقَصْد فِي الطَّعَام وَالشرَاب وَالنِّكَاح والرياضة
وَقَالَ لَا تكن متلافا بِمَنْزِلَة من لَا خبْرَة لَهُ بِقدر مَا فِي يَده وَلَا تكن شحيحا فَتخرج عَن الْحُرِّيَّة بل الْأَفْضَل فِي الْأُمُور كلهَا هُوَ الْقَصْد فِيهَا
وَقَالَ كن متيقظا فِي آرائك أَيَّام حياتك فَإِن سبات الرَّأْي مشارك للْمَوْت فِي الْجِنْس
وَقَالَ مَا لَا يَنْبَغِي أَن تَفْعَلهُ احذر أَن تخطره ببالك
وَقَالَ لَا تدنس لسَانك بِالْقَذْفِ وَلَا تصغ بأذنيك إِلَى مثل ذَلِك
وَقَالَ عسر على الْإِنْسَان أَن يكون حرا وَهُوَ ينصاع للأفعال القبيحة الْجَارِيَة مجْرى الْعَادة
وَقَالَ لَيْسَ يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يلْتَمس الْقنية الْعَالِيَة والأبنية المشيدة لِأَنَّهَا من بعد مَوته تنتقي على حُدُود طباعها ويتصرف غَيره فِيهَا لَكِن يطْلب من الْقنية مَا يَنْفَعهُ بعد الْمُفَارقَة وَالتَّصَرُّف فِيهَا
وَقَالَ الأشكال المزخرفة والأمور المموهة فِي أقصر الزَّمَان تتبهرج
وَقَالَ اعْتقد أَن أس مَخَافَة الله سُبْحَانَهُ الرَّحْمَة
وَقَالَ مَتى التمست فعلا من الْأَفْعَال فابدأ إِلَى رَبك بالابتهال فِي النجح فِيهِ
وَقَالَ الْإِنْسَان الَّذِي اختبرته بالتجربة فَوَجَدته لَا يصلح أَن يكون صديقا وخلا احذر من أَن تَجْعَلهُ لَك عدوا
وَقَالَ مَا أحسن بالإنسان أَن لَا يُخطئ وَإِن أَخطَأ فَمَا أَكثر انتفاعه بِأَن يكون عَالما بِأَنَّهُ اخطأ ويحرص فِي أَن لَا يعاود(1/67)
وَقَالَ الأخلق بالإنسان أَن يفعل مَا يَنْبَغِي لَا مَا يَشْتَهِي
وَقَالَ يَنْبَغِي أَن يعرف الْوَقْت الَّذِي يحسن فِيهِ الْكَلَام وَالْوَقْت الَّذِي يحسن فِيهِ السُّكُوت
وَقَالَ الْحر هُوَ الَّذِي لَا يضيع حرفا من حُرُوف النَّفس لشَهْوَة من شهوات الطبيعة
وَقَالَ بِقدر مَا تطلب تعلم وبقدر مَا تعلم تطلب
وَقَالَ لَيْسَ من شَرَائِط الْحَكِيم أَن لَا يضجر وَلَكِن يضجر بِوَزْن
وَقَالَ لَيْسَ الْحَكِيم من حمل عَلَيْهِ بِقدر مَا يُطيق فَصَبر وَاحْتمل وَلَكِن الْحَكِيم من حمل عَلَيْهِ أَكثر مِمَّا تحْتَمل الطبيعة فَصَبر
وَقَالَ الدُّنْيَا دوَل مرّة لَك وَأُخْرَى عَلَيْك فَإِن توليت فَأحْسن وَإِن تولوك فَلَنْ
وَكَانَ يَقُول أَن أَكثر الْآفَات إِنَّمَا تعرض للحيوانات لعدمها الْكَلَام وَتعرض للْإنْسَان من قبل الْكَلَام
وَكَانَ يَقُول من اسْتَطَاعَ أَن يمْنَع نَفسه من أَرْبَعَة أَشْيَاء فَهُوَ خليق أَن لَا ينزل بِهِ الْمَكْرُوه كَمَا ينزل بِغَيْرِهِ العجلة واللجاجة وَالْعجب والتواني فثمرة العجلة الندامة وَثَمَرَة اللجاجة الْحيرَة وَثَمَرَة الْعجب الْبغضَاء وَثَمَرَة التواني الذلة
وَنظر إِلَى رجل عَلَيْهِ ثِيَاب فاخرة يتَكَلَّم فيلحن فِي كَلَامه فَقَالَ لَهُ إِمَّا أَن تَتَكَلَّم بِكَلَام يشبه لباسك أَو تلبس لباسا يشبه كلامك
وَقَالَ لتلاميذه لَا تَطْلُبُوا من الْأَشْيَاء مَا يكون بِحَسب محبتكم وَلَكِن أَحبُّوا من الْأَشْيَاء مَا هِيَ محبوبة فِي أَنْفسهَا
وَقَالَ اصبر على النوائب إِذا أتتك من غير أَن تتذمر بل اطلب مداواتها بِقدر مَا تطِيق
وَقَالَ استعملوا الْفِكر قبل الْعَمَل
وَقَالَ كَثْرَة الْعَدو تقلل الهدوء
وَكَانَ فيثاغورس إِذا جلس على كرسيه أوصى بِهَذِهِ السَّبع الْوَصَايَا قومُوا موازينكم واعترفوا أوزانها عدلوا الْخط تصحبكم السَّلامَة لَا تشعلوا النَّار حَيْثُ ترَوْنَ السكين تقطع عدلوا شهواتكم تديموا الصِّحَّة استعملوا الْعدْل تحط بكم الْمحبَّة عاملوا الزَّمَان كالولاة الَّذين يستعملون عَلَيْكُم ويعزلون عَنْكُم لَا تترفوا أبدانكم وَأَنْفُسكُمْ فتفقدوها فِي أَوْقَات الشدائد إِذا أوردت عَلَيْكُم(1/68)
وَذكر المَال عِنْده ومدح فَقَالَ وَمَا حَاجَتي إِلَى مَا يُعْطِيهِ الْحَظ ويحفظه اللؤم ويهلكه السخاء
وَقَالَ وَقد نظر إِلَى شيخ يحب النّظر فِي الْعلم ويستحي أَن يرى متعلما يَا هَذَا أتستحي أَن تكون فِي آخر عمرك أفضل مِنْك فِي أَوله وَقَالَ أنكى شَيْء لعدوك أَن لَا تريه أَنَّك تتخذه عدوا
وَحضر امْرَأَته الْوَفَاة فِي أَرض غربَة فَجعل أَصْحَابه يتحزنون على مَوتهَا فِي أَرض غربَة فَقَالَ يَا معشر الإخوان لَيْسَ بَين الْمَوْت فِي الغربة والوطن فرق وَذَلِكَ أَن الطَّرِيق إِلَى الْآخِرَة وَاحِد من جَمِيع النواحي
وَقيل لَهُ مَا أحلى الْأَشْيَاء فَقَالَ الَّذِي يَشْتَهِي الْإِنْسَان
وَقَالَ الرجل المحبوب عِنْد الله تَعَالَى الَّذِي لَا يذعن لأفكاره القبيحة
ونقلت من كتاب فرفوريوس فِي أَخْبَار الفلاسفة وقصصهم وآرائهم قَالَ وَأما كتب فيثاغورس الْحَكِيم الَّتِي انْفَرد بجمعها أرخوطس الفيلسوف الطارنطيني فَتكون ثَمَانِينَ كتابا
فَأَما الَّتِي اجْتهد بكلية جهده فِي التقاطها وتأليفها وَجَمعهَا من جَمِيع الكهول الَّذين كَانُوا من جنس فيثاغورس الفيلسوف وَحزبه وورثة علومه رجل فَرجل فَتكون مئتي كتاب عددا فَمن انْفَرد بصفوة عقله وعزل مِنْهَا الْكتب الكذيبة المقولة على لِسَان الْحَكِيم واسْمه الَّتِي اختلقها أنَاس فجرة وَهِي كتاب الْمُنَاجَاة وَكتاب وصف المهن السَّيئَة وَكتاب علم المخاريق وَكتاب أَحْكَام تَصْوِير مجَالِس الْخُمُور وَكتاب تهيئة الطبول والصنوج وَالْمَعَازِف وَكتاب الميامر الكهنوتية وَكتاب بذر الزروع وَكتاب الْآلَات وَكتاب القصائد وَكتاب تكوين الْعَالم وَكتاب الأيادي وَكتاب الْمُرُوءَة وَكتب أُخْرَى كَثِيرَة تشاكل هَذِه الْكتب مِمَّا اختلق حَدِيثا فيسعد سَعَادَة الْأَبَد
وَقَالَ وَأما الرِّجَال الْأَئِمَّة الَّذين اختلقوا هَذِه الْكتب الكاذبة الَّتِي ذَكرنَاهَا فَإِنَّهُم على مَا أدَّت إِلَيْنَا الرِّوَايَات أرسطيبوس الْمُحدث ونقوس الَّذِي كَانَ يكنى عين النَّاقِص وَرجل من أهل أقريطية يُقَال لَهُ قونيوس وماغيالوس وفوخجواقا مَعَ آخَرين أطغى مِنْهُم
وَكَانَ الَّذِي دعاهم إِلَى اخْتِلَاق هَذِه الْكتب الكاذبة على لِسَان فيثاغورس الفيلسوف واسْمه كي يقبلُوا عِنْد الْأَحْدَاث بِسَبَبِهِ فيكرموا أَو يؤثروا ويواسوا(1/69)
فَأَما كتب الْحَكِيم الَّتِي لَا ريب فِيهَا فَهِيَ مِائَتَان وَثَمَانُونَ كتابا وَقد كَانَت منسية حَتَّى جَاءَ للكيان بِقوم حكماء ذَوي نِيَّة وورع فحصلوها وجمعوها وألفوها
وَلم تكن قبل ذَلِك مَشْهُورَة ببلدة لَكِنَّهَا كَانَت مخزونة فِي إيطاليا
وَقَالَ فلوطرخس أَن فيثاغورس أول من سمى الفلسفة بِهَذَا الِاسْم
وَمِمَّا يُوجد لفيثاغورس من الْكتب كتاب الأرثماطيقي كتاب الألواح كتاب فِي النّوم واليقظة كتاب فِي كَيْفيَّة النَّفس والجسد رِسَالَة إِلَى متمرد صقلية الرسَالَة الذهبية وَسميت بِهَذَا الِاسْم لِأَن جالينوس كَانَ يَكْتُبهَا بِالذَّهَب إعظاما لَهَا وإجلالا وَكَانَ يواظب على دراستها وقراءتها فِي كل يَوْم رِسَالَة إِلَى سقايس فِي اسْتِخْرَاج الْمعَانِي رِسَالَة فِي السياسة الْعَقْلِيَّة وَقد تعاب هَذِه الرسَالَة بتفسير أمليخس رِسَالَة إِلَى فيمدوسيوس
سقراط
قَالَ القَاضِي صاعد فِي طَبَقَات الْأُمَم
أَن سقراط كَانَ من تلاميذ فيثاغورس
اقْتصر من الفلسفة على الْعُلُوم الإلهية وَأعْرض عَن ملاذ الدُّنْيَا ورفضها وأعلن بمخالفة اليونانيين فِي عِبَادَتهم الْأَصْنَام وقابل رؤساءهم بالحجاج والأدلة الألهية فثوروا الْعَامَّة عَلَيْهِ واضطروا ملكهم إِلَى قَتله فأودعه الْملك الْحَبْس تحمدا إِلَيْهِم ثمَّ سقَاهُ السم تفاديا من شرهم
وَمن آثاره مناظرات جرت لَهُ مَعَ الْملك مَحْفُوظَة وَله وَصَايَا شريفة وآداب فاضلة وَحكم مَشْهُورَة ومذاهب فِي الصِّفَات قريبَة من مَذَاهِب فيثاغورس وبندقليس إِلَّا أَن لَهُ فِي شَأْن الْمعَاد آراء ضَعِيفَة بعيدَة عَن مَحْض الفلسفة خَارِجَة عَن الْمذَاهب المحققة
وَقَالَ الْأَمِير المبشر بن قاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم معنى سقراطيس باليونانية المعتصم بِالْعَدْلِ وَهُوَ ابْن سفرونسقس ومولده ومنشأه ومنبته بأثينية
وَخلف من الْوَلَد ثَلَاثَة ذُكُور وَلما ألزم التَّزْوِيج على عاداتهم الْجَارِيَة فِي إِلْزَام الأفاضل بِالتَّزْوِيجِ ليبقى نَسْله بَينهم طلب تَزْوِيجه الْمَرْأَة السفيهة الَّتِي لم يكن فِي بَلَده أسلط مِنْهَا ليعتاد جهلها وَالصَّبْر على سوء خلقهَا ليقدر أَن يحْتَمل جهل الْعَامَّة والخاصة
وَبلغ من تَعْظِيمه الْحِكْمَة مبلغا أضرّ بِمن بعده من محبي الْحِكْمَة لِأَنَّهُ كَانَ من رَأْيه أَن لَا تستودع الْحِكْمَة الصُّحُف والقراطيس تَنْزِيها لَهَا عَن ذَلِك
وَيَقُول أَن الْحِكْمَة طَاهِرَة مُقَدَّسَة غير فَاسِدَة وَلَا دنسة فَلَا يَنْبَغِي لنا أَن نستودعها إِلَّا الْأَنْفس الْحَيَّة وننزهها عَن الْجُلُود الْميتَة ونصونها عَن الْقُلُوب(1/70)
المتمردة
وَلم يصنف كتابا وَلَا أمْلى على أحد من تلاميذه مَا أثْبته فِي قرطاس وَإِنَّمَا كَانَ يلقنهم علمه تلقينا لَا غير
وَتعلم ذَلِك من أستاذه طيماتاوس فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ فِي صباه
لم لَا تدعني أدون مَا أسمع مِنْك من الْحِكْمَة فَقَالَ لَهُ مَا أوثقك بجلود الْبَهَائِم الْميتَة وأزهدك فِي الخواطر الْحَيَّة هَب أَن إِنْسَان لقيك فِي طَرِيق فسألك عَن شَيْء من الْعلم هَل كَانَ يحسن أَن تحيله على الرُّجُوع إِلَى مَنْزِلك وَالنَّظَر فِي كتبك فَإِن كَانَ لَا يحسن فَالْزَمْ الْحِفْظ
فلزمها سقراط
وَكَانَ سقراط زاهدا فِي الدُّنْيَا قَلِيل المبالاة بهَا وَكَانَ من رسوم مُلُوك اليونانيين إِذا حَاربُوا أخرجُوا حكماءهم مَعَهم فِي أسفارهم
فَأخْرج الْملك سقراط مَعَه فِي سفرة خرج فِيهَا لبَعض مهماته فَكَانَ سقراط يأوي فِي عَسْكَر ذَلِك الْملك إِلَى زير مكسور يسكن فِيهِ من الْبرد وَإِذا طلعت الشَّمْس خرج مِنْهُ فَجَلَسَ عَلَيْهِ يستدفئ بالشمس
وَلأَجل ذَلِك سمي سقراط الْحبّ
فَمر بِهِ الْملك يَوْمًا وَهُوَ على ذَلِك الزير فَوقف عَلَيْهِ وَقَالَ مَا لنا لَا نرَاك يَا سقراط وَمَا يمنعك من الْمصير إِلَيْنَا فَقَالَ الشّغل أَيهَا الْملك فَقَالَ بِمَاذَا قَالَ بِمَا يُقيم الْحَيَاة قَالَ فصر إِلَيْنَا فَإِن هَذَا لَك عندنَا معد أبدا
قَالَ لَو عملت أَيهَا الْملك أَنِّي أجد ذَلِك عنْدك لم أَدَعهُ
قَالَ بَلغنِي أَنَّك تَقول أَن عبَادَة الْأَصْنَام ضارة
قَالَ لم أقل هَكَذَا قَالَ فَكيف قلت قَالَ إِنَّمَا قلت إِن عبَادَة الْأَصْنَام نافعة للْملك ضارة لسقراط لِأَن الْملك يصلح بهَا رَعيته ويستخرج بهَا خراجه وسقراط يعلم أَنَّهَا لَا تضره وَلَا تَنْفَعهُ إِذْ كَانَ مقرا بِأَن لَهُ خَالِقًا يرزقه ويجزيه بِمَا قدم من سيء أَو حسن
قَالَ فَهَل لَك من حَاجَة قَالَ نعم
تصرف عنان دابتك عني فقد سترتني جيوشك من ضوء الشَّمْس
قد دَعَا الْملك بكسوة فاخرة من ديباج وَغَيره وبجوهر ودنانير كَثِيرَة ليجيزه بذلك
فَقَالَ لَهُ سقراط أَيهَا الْملك وعدت بِمَا يُقيم الْحَيَاة وبذلت مَا يُقيم الْمَوْت لَيْسَ لسقراط حَاجَة إِلَى حِجَارَة الأَرْض وهشيم النبت ولعاب الدُّود
وَالَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ سقراط هُوَ مَعَه حَيْثُ توجه
وَكَانَ سقراط يرمز فِي كَلَامه مثل مَا كَانَ يفعل فيثاغورس
فَمن كَلَامه المرموز قَوْله
عِنْدَمَا فتشت عَن عِلّة الْحَيَاة ألفيت الْمَوْت وعندما وجدت الْمَوْت عرفت حِينَئِذٍ كَيفَ يَنْبَغِي لي أَن أعيش
أَي أَن الَّذِي يُرِيد أَن يحيا حَيَاة إلهية يَنْبَغِي أَن يُمِيت جِسْمه من جَمِيع الْأَفْعَال الحسية على قدر الْقُوَّة الَّتِي منحها فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يتهيأ لَهُ بِأَن يعِيش حَيَاة الْحق
وَقَالَ تكلم بِاللَّيْلِ حَيْثُ لَا يكون أعشاش الخفافيش
أَي يَنْبَغِي أَن يكون كلامك عِنْد خلوتك(1/71)
لنَفسك وَأَن تجمع فكرك وامنع نَفسك أَن تتطلع فِي شَيْء من أُمُور الهيولانيات
وَقَالَ أسدد الْخمس الكوى ليضيء مسكن الْعلَّة أَي اغمض حواسك الْخمس عَن الجولان فِيمَا لَا يجدي لتضيء نَفسك
وَقَالَ املأ الْوِعَاء طيبا
أَي أوع عقلك بَيَانا وفهما وَحِكْمَة
وَقَالَ افرغ الْحَوْض المثلث من القلال الفارغة
أَي اقص عَن قَلْبك جَمِيع الآلام الْعَارِضَة فِي الثَّلَاثَة الْأَجْنَاس من قوى النَّفس الَّتِي هِيَ أصل جَمِيع الْبشر
وَقَالَ لَا تَأْكُل الْأسود الذَّنب
أَي احذر الْخَطِيئَة
وَقَالَ لَا تتجاوز الْمِيزَان أَي لَا تتجاوز الْحق
وَقَالَ عِنْد الْمَمَات لَا تكن نملة أَي فِي وَقت أمانتك لنَفسك لَا تقن ذخائر الْحس
وَقَالَ يَنْبَغِي أَن تعلم أَنه لَيْسَ زمَان من الأزمنه يفقد فِيهِ زمَان الرّبيع
أَي لَا مَانع لَك فِي كل زمَان من اكْتِسَاب الْفَضَائِل
وَقَالَ افحص عَن ثَلَاثَة سبل فَإِذا لم تجدها فأرض أَن تنام لَهَا نومَة الْمُسْتَغْرق
أَي افحص عَن علم الْأَجْسَام وَعلم مَا لَا جسم لَهُ وَعلم الَّذِي وَإِن كَانَ لَا جسم لَهُ فَهُوَ مَوْجُود مَعَ الْأَجْسَام وَمَا اعتاص مِنْهَا عَلَيْك فارض بالإمساك عَنهُ
وَقَالَ لَيست التِّسْعَة بأكمل من وَاحِد
أَي الْعشْرَة هِيَ عقد من الْعدَد وَهِي أَكثر من تِسْعَة وَإِنَّمَا تكمل التِّسْعَة لتَكون عشرَة بِالْوَاحِدِ وَكَذَلِكَ الْفَضَائِل التسع تتمّ وتكمل بخوف الله عز وَجل ومحبنه ومراقبته
وَقَالَ اقتن بالاثنى عشر إثنى عشر
يَعْنِي بالاثنى عشر عضوا الَّتِي بهَا يكْتَسب الْبر وَالْإِثْم اكْتسب الْفَضَائِل وَهِي العينان والأذنان والمنخران وَاللِّسَان وَالْيَدَانِ وَالرجلَانِ والفرج وَأَيْضًا بالاثنى عشر شهرا اكْتسب أَنْوَاع الْأَشْيَاء المحمودة المكملة للْإنْسَان فِي تَدْبيره ومعرفته فِي هَذَا الْعَالم
وَقَالَ ازرع بالأسود وأحصد بالأبيض
أَي ازرع بالبكاء واحصد بالسرور
وَقَالَ لَا تشيلن الإكليل وتهتكه أَي للسنن الجميلة لَا ترفضها لِأَنَّهَا تحوط جَمِيع الْأُمَم كحياطة الإكليل للرأس
وَكَانَ أهل دهره لما سَأَلُوهُ عَن عبَادَة الْأَصْنَام صدهم عَنْهَا وأبطلها وَنهى النَّاس عَن عبادتها
وَأمرهمْ بِعبَادة الْإِلَه الْوَاحِد الصَّمد البارئ الْخَالِق للْعَالم بِمَا فِيهِ الْحَكِيم الْقَدِير لَا الْحجر المنحوت الَّذِي لَا(1/72)
ينْطق وَلَا يسمع وَلَا يحس بِشَيْء من الْآلَات
وحض النَّاس على الْبر وَفعل الْخيرَات
وَأمرهمْ بِالْمَعْرُوفِ ونهاهم عَن الْفَوَاحِش والمنكرات فِي ثقته من أهل زَمَانه وَلم يقْصد استكمال صَوَاب التدابير لعلمه بِأَنَّهُم لَا يقبلُونَ ذَلِك منَّة
فَلَمَّا علم الرؤساء فِي وقته من الكهنة والأراكنة مَا رامه من دَعوته وَأَن رَأْيه نفي الْأَصْنَام ورد النَّاس عَن عبادتها شهدُوا عَلَيْهِ بِوُجُوب الْقَتْل
وَكَانَ الموجبون عَلَيْهِ الْقَتْل قُضَاة أثينس الْأَحَد عشر
وَسقي السم الَّذِي يُقَال لَهُ قونيون لِأَن الْملك لما أوجب الْقُضَاة عَلَيْهِ الْقَتْل سَاءَهُ ذَلِك وَلم يُمكنهُ مخالفتهم فَقَالَ لَهُ اختر أَي قتلة شِئْت فَقَالَ لَهُ بالسم فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِك
وَالَّذِي أخر قتل سقراط شهورا بَعْدَمَا أوجبوه عَلَيْهِ مِنْهُ أَن الْمركب الَّذِي كَانَ يبْعَث بِهِ فِي كل سنة إِلَى هيكل أفولون وَيحمل إِلَيْهِ مَا يحمل عرض لَهُ حبس شَدِيد لتعذر الرِّيَاح فَأَبْطَأَ شهورا
وَكَانَ من عَادَتهم أَن لَا يراق دم وَلَا غَيره حَتَّى يرجع الْمركب من الهيكل إِلَى أثينس
وَكَانَ أَصْحَابه يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ فِي الْحَبْس طول تِلْكَ الْمدَّة فَدَخَلُوا إِلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ أقريطون مِنْهُم أَن الْمركب دَاخل غَدا أَو بعد غَد وَقد اجتهدنا فِي أَن ندفع عَنْك مَالا إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَتخرج سرا فنصير إِلَى رُومِية فتقيم بهَا حَيْثُ لَا سَبِيل لَهُم عَلَيْك فَقَالَ لَهُ قد تعلم أَنه لَا يبلغ ملكي أَرْبَعمِائَة دِرْهَم
فَقَالَ لَهُ أقريطون لم أقل لَك هَذَا القَوْل على أَنَّك تغرم شَيْئا لأَنا نعلم أَنه لَيْسَ فِي وسعك مَا سَأَلَ الْقَوْم وَلَكِن فِي أَمْوَالنَا سَعَة لذَلِك وأضعافه وأنفسنا طيبَة بِأَدَائِهِ لنجاتك وَأَن لَا نفجع بك
قَالَ لَهُ سقراط يَا أقريطون هَذَا الْبَلَد الَّذِي فعل بِي مَا فعل هُوَ بلدي وبلد جنسي وَقد نالني فِيهِ من حبسي مَا رَأَيْت وَأوجب عَليّ فِيهِ الْقَتْل
وَلم يُوجب ذَلِك عَليّ لأمر استحققته بل لمخالفتي الْجور وطعني على الْأَفْعَال الجائرة وَأَهْلهَا من كفرهم بالباري سُبْحَانَهُ وعبادتهم الْأَوْثَان من دونه
وَالْحَال الَّتِي أوجب عَليّ بهَا عِنْدهم الْقَتْل هِيَ معي حَيْثُ تَوَجَّهت
وَإِنِّي لَا أدع نصْرَة الْحق والطعن على الْبَاطِل والمبطلين حَيْثُ كنت
وَأهل رُومِية أبعد مني رحما من أهل مدينتي
فَهَذَا الْأَمر إِذا كَانَ باعثه عَليّ الْحق ونصرة الْحق حَيْثُ تَوَجَّهت فَغير مَأْمُون عَليّ هُنَاكَ مثل الَّذِي أَنا فِيهِ
قَالَ لَهُ أقريطون فَتذكر ولدك وَعِيَالك وَمَا تخلف عَلَيْهِم من الضَّيْعَة
فَقَالَ لَهُ الَّذِي يلحقهم برومية مثل ذَلِك إِلَّا أَنكُمْ هَهُنَا فهم أَحْرَى أَن لَا يضيعوا مَعكُمْ
وَلما كَانَ الْيَوْم الثَّالِث بكر تلاميذه إِلَيْهِ على الْعَادة وَجَاء قيم السجْن فَفتح الْبَاب وَجَاء الْقُضَاة الْأَحَد عشر فَدَخَلُوا إِلَيْهِ وَأَقَامُوا مَلِيًّا
ثمَّ خَرجُوا من عِنْده وَقد أزالوا الْحَدِيد عَن رجلَيْهِ
وَخرج(1/73)
السجان إِلَى تلاميذه فَأدْخل بهم إِلَيْهِ فَسَلمُوا عَلَيْهِ وجلسوا عِنْده
فَنزل سقراط عَن السرير وَقعد على الأَرْض ثمَّ كشف عَن سَاقيه فمسحهما وحكهما وَقَالَ مَا أعجب فعل السياسة الإلهية حَيْثُ قرنت الأضداد بَعْضهَا بِبَعْض فَإِنَّهُ لَا يكَاد أَن تكون لَذَّة إِلَّا يتبعهَا ألم وَلَا ألم إِلَّا يتبعهُ لَذَّة
وَصَارَ هَذَا القَوْل سَببا لدوران الْكَلَام بَينهم فَسَأَلَهُ سيمياس وفيدون عَن شَيْء من الْأَفْعَال النفسية
وَكَثُرت المذاكرة بَينهم حَتَّى استوعب الْكَلَام فِي النَّفس بالْقَوْل المتقن المستقصى
وَهُوَ على مَا كَانَ يعْهَد عَلَيْهِ فِي حَال سروره وبهجته ومرحه فِي بعض الْمَوَاضِع
وَالْجَمَاعَة يتعجبون من صرامته وَشدَّة استهانته بِالْمَوْتِ
وَلم ينكل عَن تقصي الْحق فِي مَوْضِعه وَلم يتْرك شَيْئا من أخلاقه وأحوال نَفسه الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي زمَان أَمنه من الْمَوْت
وهم من الكمد والحزن لفراقه على حَال عَظِيمَة
فَقَالَ لَهُ سيمياس
إِن فِي التَّقَصِّي فِي السُّؤَال عَلَيْك مَعَ هَذِه الْحَال لثقلا علينا شَدِيدا وقبحا فِي الْعشْرَة وَأَن الْإِمْسَاك عَن التَّقَصِّي فِي الْبَحْث لحسرة غَدا عَظِيمَة مَعَ مَا نعدم فِي الأَرْض من وجود الفاتح لما نُرِيد
قَالَ لَهُ سقراط يَا سيمياس لَا تدعن التَّقَصِّي لشَيْء أردته فَإِن تقصيك لذَلِك هُوَ الَّذِي أسر بِهِ وَلَيْسَ بَين هَذِه الْحَال عِنْدِي وَبَين الْحَال الْأُخْرَى فرق فِي الْحِرْص على تقصي الْحق فَإنَّا وَإِن كُنَّا نعدم أصحابا ورفقاء أشرافا محمودين فاضلين فَإنَّا أَيْضا إِذْ كُنَّا معتقدين ومتيقنين للأقاويل الَّتِي لم تزل تسمع منا فَإنَّا أَيْضا نصير إِلَى إخْوَان أخر فاضلين أَشْرَاف محمودين مِنْهُم أسلاوس وأيارس وأرقيلس وَجَمِيع من سلف من ذَوي الْفَضَائِل النفسانية
وَلما تصرم القَوْل فِي النَّفس وبلغوا فِيهَا الْغَرَض الَّذِي أَرَادَ وسألوه عَن هَيْئَة الْعَالم وحركات الأفلاك وتركيب الأسطقسات فأجابهم عَن جَمِيعه
ثمَّ قصّ عَلَيْهِم قصصا كَثِيرَة من الْعُلُوم الإلهية والأسرار الربانية
وَلما فرغ من ذَلِك قَالَ
أما الْآن فأظنه قد حضر الْوَقْت الَّذِي يَنْبَغِي لنا أَن نستحم فِيهِ وَنُصَلِّي مَا أمكننا وَلَا نكلف أحدا إحمام الْمَوْتَى فَإِن الأرماماني قد دَعَانَا وَنحن ماضون إِلَى زواس وَأما أَنْتُم فتنصرفون إِلَى أهاليكم
ثمَّ نَهَضَ وَدخل بَيْتا واستحم فِيهِ وَصلى وَأطَال اللّّبْث وَالْقَوْم يتذاكرون عَظِيم الْمُصِيبَة بِمَا نزل بِهِ وبهم من فَقده وَأَنَّهُمْ يفقدون فِيهِ حكيما عَظِيما وَأَبا شفيقا ويبقون بعده كاليتامى
ثمَّ خرج فَدَعَا بولده ونسائه وَكَانَ لَهُ ابْن كَبِير وابنان صغيران فودعهم ووصاهم وصرفهم
فَقَالَ لَهُ أقريطون
فَمَا الَّذِي تَأْمُرنَا أَن نفعله فِي أهلك وولدك وَغير ذَلِك من أَمرك(1/74)
قَالَ لست آمركُم بِشَيْء جَدِيد بل هُوَ الَّذِي لم أزل آمركُم بِهِ قَدِيما من الِاجْتِهَاد فِي إصْلَاح أَنفسكُم فَإِنَّكُم إِذا فَعلْتُمْ ذَلِك فقد سررتموني وسررتم كل من هُوَ مني بسبيل
ثمَّ سكت مَلِيًّا وسكتت الْجَمَاعَة
وَأَقْبل خَادِم الْأَحَد عشر قَاضِيا فَقَالَ لَهُ يَا سقراط إِنَّك جريء مَعَ مَا أرَاهُ مِنْك وَإنَّك لتعلم إِنِّي لست عِلّة موتك وَإِن عِلّة موتك الْقُضَاة الْأَحَد عشر وَأَنا مَأْمُور بذلك مُضْطَر إِلَيْهِ وَإنَّك أفضل من جَمِيع من صَار إِلَى هَذَا الْموضع فَاشْرَبْ الدَّوَاء بِطيبَة نفس واصبر على الِاضْطِرَار اللَّازِم
ثمَّ ذرفت عَيناهُ وَانْصَرف
فَقَالَ سقراط نَفْعل وَلَيْسَ أَنْت بملوم
ثمَّ سكت هنيهة والتفت إِلَى أقريطون فَقَالَ مر الرجل أَن يأتيني بِشَربَة موتِي
فَقَالَ للغلام ادْع الرجل فَدَعَاهُ فَدخل وَمَعَهُ الشربة مِنْهُ فَشربهَا
فَلَمَّا رَأَوْهُ قد شربهَا غلبهم من الْبكاء والأسف مَا لم يملكُوا مَعَه أنفسهم فعلت أَصْوَاتهم بالبكاء فَأقبل عَلَيْهِم سقراط يلومهم ويعظهم وَقَالَ
إِنَّمَا صرفنَا النِّسَاء لِئَلَّا يكون مِنْهُنَّ مثل هَذَا
فأمسكوا استحياء مِنْهُ وقصدا للطاعة لَهُ على مضض شَدِيد مِنْهُم فِي فقد مثله
وَأخذ سقراط فِي الْمَشْي والتردد هنيهة ثمَّ قَالَ للخادم قد ثقلت رجلاي عَليّ
فَقَالَ لَهُ استلق
فاستلقى وَجعل الْغُلَام يجس قَدَمَيْهِ ويغمزهما وَيَقُول لَهُ هَل تحس غمزي لَهما قَالَ لَا
ثمَّ غمز غمزا شَدِيدا فَقَالَ لَهُ هَل تحس فَقَالَ لَا
ثمَّ غمز سَاقيه وَجعل يسْأَله سَاعَة بعد سَاعَة وَهُوَ يَقُول لَا وَأخذ يجمد أَولا فأولا ويشتد برده حَتَّى انْتهى ذَلِك إِلَى حقْوَيْهِ فَقَالَ الْخَادِم لنا إِذا انْتهى الْبرد إِلَى قلبه مضى
فَقَالَ لَهُ أقريطون يَا إِمَام الْحِكْمَة مَا أرى عقولنا لَا تبعد عَن عقلك فاعهد لنا
فَقَالَ عَلَيْكُم بِمَا أَمرتكُم بِهِ أَولا ثمَّ مد يَده إِلَى يَد أقريطون فوضعها على خَدّه فَقَالَ لَهُ مرني بِمَا تحب
فَلم يجبهُ بِشَيْء ثمَّ شخص ببصره وَقَالَ أسلمت نَفسِي إِلَى قَابض أنفس الْحُكَمَاء
وَمَات
فأطبق أقريطون عَيْنَيْهِ وَشد لحييْهِ وَلم يكن أفلاطون حَاضرا مَعَهم لِأَنَّهُ كَانَ مَرِيضا
وَذكر أَن سقراط هلك عَن اثْنَي عشر ألف تلميذ وتلميذ تلميذ
قَالَ المبشر بن فاتك وَكَانَ سقراط رجلا أَبيض أشقر أَزْرَق جيد الْعِظَام قَبِيح الْوَجْه ضيق مَا بَين الْمَنْكِبَيْنِ بطيء الْحَرَكَة سريع الْجَواب شعث اللِّحْيَة غير طَوِيل إِذا سُئِلَ أطرق حينا ثمَّ يُجيب بِأَلْفَاظ مقنعة
كثير التوحد قَلِيل الْأكل وَالشرب
شَدِيد التَّعَبُّد يكثر ذكر الْمَوْت قَلِيل الْأَسْفَار مجدا لرياضة بدنه خسيس الملبس مهيبا حسن الْمنطق لَا يُوجد فِيهِ خلل
مَاتَ بالسم وَله مائَة سنة وبضع سِنِين(1/75)
أَقُول وَوجدت فِي كتاب أفلاطن الْمُسَمّى احتجاج سقراط على أهل أثينية وَهُوَ يَحْكِي قَول سقراط بِهَذَا اللَّفْظ قَالَ مَا تمنيت مجْلِس الحكم قطّ قبل هَذِه الْمرة على أَنِّي قد بلغت من السن سبعين سنة وَهَذَا الِاحْتِجَاج الَّذِي كَانَ بَينه وَبَين أهل أثينية إِنَّمَا كَانَ قبل مَوته بِمدَّة يسيرَة
وَمن خطّ إِسْحَاق بن حنين عَاشَ سقراط قَرِيبا مِمَّا عَاشَ أفلاطن
وَمن خطّ إِسْحَاق عَاشَ أفلاطون ثَمَانِينَ سنة
وَقَالَ حنين بن إِسْحَاق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة وَالْحكمَة أَنه كَانَ مَنْقُوشًا على فص خَاتم سقراط من غلب عقله هَوَاهُ افتضح
وَمن آدَاب سقراط
مِمَّا ذكره الْأَمِير المبشر بن فاتك فِي كِتَابه قَالَ سقراط عجبا لمن عرف فنَاء الدُّنْيَا كَيفَ تلهيه عَمَّا لَيْسَ لَهُ فنَاء
وَقَالَ النُّفُوس أشكال فَمَا تشاكل مِنْهَا اتّفق وَمَا تضَاد مِنْهَا اخْتلف
وَقَالَ اتِّفَاق النُّفُوس بِاتِّفَاق هممها واختلافها باخْتلَاف مرادها
وَقَالَ النَّفس جَامِعَة لكل شَيْء فَمن عرف نَفسه وَمَا عرف كل شَيْء وَمن جهل نَفسه جهل كل شَيْء
وَقَالَ من بخل على نَفسه فَهُوَ على غَيره أبخل وَمن جاد على نَفسه فَذَلِك المرجو جوده
وَقَالَ مَا ضَاعَ من عرف نَفسه وَمَا أضيع من جهل نَفسه
وَقَالَ النَّفس الْخيرَة مجتزئة بِالْقَلِيلِ من الْأَدَب وَالنَّفس الشريرة لَا ينجع فِيهَا كثير من الْأَدَب لسوء مغرسها
وَقَالَ لَو سكت من لَا يعلم لسقط الِاخْتِلَاف
وَقَالَ سِتَّة لَا تفارقهم الكآبة الحقود والحسود وَحَدِيث عهد بغنى وغني يخَاف الْفقر وطالب رُتْبَة يقصر قدره عَنْهَا وجليس أهل الْأَدَب وَلَيْسَ مِنْهُم
وَقَالَ من ملك سره خَفِي على النَّاس أمره
وَقَالَ خير من الْخَيْر من عمل بِهِ وَشر من الشَّرّ من عمل بِهِ
وَقَالَ الْعُقُول مواهب والعلوم مكاسب
وَقَالَ لَا تكون كَامِلا حَتَّى يأمنك عَدوك فَكيف(1/76)
بك إِذا كنت لَا يأمنك صديقك
وَقَالَ اتَّقوا من تبْغضهُ قُلُوبكُمْ وَقَالَ الدُّنْيَا سجن لمن زهد فِيهَا وجنة لمن أحبها
وَقَالَ لكل شَيْء ثَمَرَة وَثَمَرَة قلَّة الْقنية تَعْجِيل الرَّاحَة وَطيب النَّفس الزكية
وَقَالَ الدُّنْيَا كنار مضرمة على محمجة فَمن اقتبس مِنْهَا مَا يستضيء بِهِ فِي طَرِيقه سلم من شَرها وَمن جلس ليحتكر مِنْهَا أحرقته بحرها
وَقَالَ من اهتم بالدنيا ضيع نَفسه وَمن اهتم بِنَفسِهِ زهد فِي الدُّنْيَا
وَقَالَ طَالب الدُّنْيَا إِن نَالَ مَا أمل تَركه لغيره وَإِن لم ينل مَا أمله مَاتَ بغصته
وَقَالَ لَا تردن على ذِي خطأ خطأه فَإِنَّهُ يَسْتَفِيد مِنْك علما ويتخذك عدوا
وَقيل لسقراط مَا رَأَيْنَاك قطّ مغموما فَقَالَ لِأَنَّهُ لَيْسَ لي شَيْء مَتى ضَاعَ مني وعدمته اغتممت عَلَيْهِ
وَقَالَ من أحب أَن لَا تفوته شهرته فليشته مَا يُمكنهُ
وَقَالَ أثن على ذِي الْمَوَدَّة خيرا عِنْد من لقِيت فَأن رَأس الْمَوَدَّة حسن الثَّنَاء كَمَا أَن رَأس الْعَدَاوَة سوء الثَّنَاء
وَقَالَ إِذا وليت أمرا فأبعد عَنْك الأشرار فَإِن جَمِيع عيوبهم منسوبة إِلَيْك
وَقَالَ لَهُ رجل شرِيف الْجِنْس وضيع الْخَلَائق أما تأنف يَا سقراط من خساسة جنسك فَأَجَابَهُ جنسك عنْدك أُنْثَى وجنسي مني
وَقَالَ خير الْأُمُور أوسطها
وَقَالَ إِنَّمَا أهل الدُّنْيَا كصور فِي صحيفَة كلما نشر بَعْضهَا طوي بَعْضهَا
وَقَالَ الصَّبْر يعين على كل عمل
وَقَالَ من أسْرع يُوشك أَن يكثر عثاره
وَقَالَ إِذا لم يكن عقل الرجل أغلب الْأَشْيَاء عَلَيْهِ كَانَ هَلَاكه فِي أغلب الْأَشْيَاء عَلَيْهِ
وَقَالَ لَا يكون الْحَكِيم حكيما حَتَّى يغلب شهوات الْجِسْم
وَقَالَ كن مَعَ والديك كَمَا تحب أَن يكون بنوك مَعَك
وَقَالَ يَنْبَغِي للعاقل أَن يُخَاطب الْجَاهِل مُخَاطبَة الطَّبِيب للْمَرِيض
وَقَالَ طَالب الدُّنْيَا قصير الْعُمر كثير الْفِكر
وَكَانَ يَقُول الْقنية مخدومة وَمن خدم غير ذَاته فَلَيْسَ بَحر
وَقيل لَهُ مَا أقرب شَيْء فَقَالَ الْأَجَل
وَمَا أبعد شَيْء فَقَالَ الأمل
وَمَا آنس شَيْء فَقَالَ الصاحب المؤاتي
وَمَا أوحش شَيْء قَالَ الْمَوْت
وَقَالَ من كَانَ شريرا فالموت سَبَب رَاحَة الْعَالم من شَره
وَقَالَ إِنَّمَا جعل للْإنْسَان لِسَان وَاحِد وأذنان ليَكُون مَا يسمعهُ أَكثر مِمَّا يتَكَلَّم بِهِ
وَقَالَ الْملك الْأَعْظَم هُوَ الْغَالِب لشهواته
وَقيل لَهُ أَي الْأَشْيَاء ألذ فَقَالَ استفادة الْأَدَب واستماع أَخْبَار لم تكن سَمِعت
وَقَالَ أنفس مَا لزمَه الْأَحْدَاث الْأَدَب وَأول نَفعه لَهُم أَنه يقطعهم عَن الْأَفْعَال الرَّديئَة(1/77)
وَقَالَ أَنْفَع مَا اقتناه الْإِنْسَان الصّديق المخلص
وَقَالَ الصَّامِت ينْسب إِلَى العي وَيسلم والمتكلم ينْسب إِلَى الفضول ويندم
وَقَالَ استهينوا بِالْمَوْتِ فَإِن مرارته فِي خَوفه
وَقيل لَهُ مَا الْقنية المحمودة فَقَالَ مَا يَنْمُو على الِاتِّفَاق
وَقَالَ المشكور من كتم سرا لمن يتكتمه وَأما من استكتم سرا فَذَلِك وَاجِب عَلَيْهِ
وَقَالَ اكتم سر غَيْرك كَمَا تحب أَن يكتم غَيْرك سرك
وَإِذا ضَاقَ صدرك بسرك فصدر غَيْرك بِهِ أضيق
وَقيل لَهُ لما صَار الْعَاقِل يستشير فَقَالَ الْعلَّة فِي ذَلِك تَجْرِيد الرَّأْي عَن الْهوى وَإِنَّمَا اسْتَشَارَ تخوفا من شوائب الْهوى
وَقَالَ
من حسن خلقه طابت عيشته ودامت سَلَامَته وتأكدت فِي النُّفُوس محبته وَمن سَاءَ خلقه تنكدت عيشته ودامت بغضته ونفرت النُّفُوس مِنْهُ
وَقَالَ حسن الْخلق يُغطي غَيره من القبائح وَسُوء الْخلق يقبح غَيره من المحاسن
وَقَالَ رَأس الْحِكْمَة حسن الْخلق
وَقَالَ النّوم موتَة خَفِيفَة وَالْمَوْت نوم طَوِيل
وَقَالَ لتلميذ لَهُ لَا تركنن إِلَى الزَّمَان فَإِنَّهُ سريع الْخِيَانَة لمن ركن إِلَيْهِ
وَقَالَ من سره الزَّمَان فِي حَال سَاءَهُ فِي أُخْرَى
وَقَالَ من ألهم نَفسه حب الدُّنْيَا امْتَلَأَ قلبه من ثَلَاث خلال فقر لَا يدْرك غناهُ وأمل لَا يبلغ منتهاه وشغل لَا يدْرك فناه
وَقَالَ من احتجت أَن تستكتمه سرك فَلَا تسرهُ إِلَيْهِ
وَسُئِلَ سقراط لم صَار مَاء الْبَحْر مالحا فَقَالَ للَّذي سَأَلَهُ إِن أعلمتني الْمَنْفَعَة الَّتِي تنالك من علم ذَلِك أعلمتك السَّبَب فِيهِ
وَقَالَ لَا ضرّ أضرّ من الْجَهْل وَلَا شَرّ أشر من النِّسَاء
وَنظر إِلَى صبية تتعلم الْكِتَابَة فَقَالَ لَا تَزِيدُوا الشَّرّ شرا وَقَالَ من أَرَادَ النجَاة من مَكَائِد الشَّيْطَان فَلَا يطيعن امْرَأَة فَإِن النِّسَاء سلم مَنْصُوب لَيْسَ للشَّيْطَان حِيلَة إِلَّا بالصعود عَلَيْهِ
وَقَالَ لتلميذ لَهُ يَا بني إِن كَانَ لَا بُد لَك من النِّسَاء فَاجْعَلْ لقاءك لَهُنَّ كَأَكْل الْميتَة لَا تَأْكُل مِنْهَا إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة فتأخذ مِنْهَا بِقدر مَا يُقيم الرمق فَإِن أَخذ آخذ مِنْهَا فَوق الْحَاجة أسقمته وقتلته
وَقيل لَهُ مَا تَقول فِي النِّسَاء فَقَالَ هن كشجر الدفلى لَهُ رونق وبهاء فَإِذا أكله الغر قَتله
وَقيل لَهُ كَيفَ يجوز لَك أَن تذم النِّسَاء ولولاهن لم تكن أَنْت وَلَا أمثالك من الْحُكَمَاء فَقَالَ إِنَّمَا الْمَرْأَة مثل النَّخْلَة ذَات السلاع إِن دخل فِي بدن إِنْسَان عقره وَحملهَا الرطب الجني(1/78)
وَقَالَ لَهُ أرشيجانس أَن الْكَلَام الَّذِي كلمت بِهِ أهل الْمَدِينَة لَا يقبل فَقَالَ لَيْسَ يكربني أَن يكون لَا يقبل وأنما يكربني أَن لَا يكون صَوَابا
وَقَالَ من لَا يستحي فَلَا تخطره ببالك
وَقَالَ لَا يصدنك عَن الْإِحْسَان جحود جَاحد للنعمة
وَقَالَ الْجَاهِل من عثر بِحجر مرَّتَيْنِ
وَقَالَ كفى بالتجارب تأديبا وبتقلب الْأَيَّام عظة وبأخلاق من عاشرت معرفَة
وَقَالَ اعْلَم أَنَّك فِي أثر من مضى سَائِر وَفِي مَحل من فَاتَ مُقيم وَإِلَى العنصر الَّذِي بدأت مِنْهُ تعود
وَقَالَ لأهل الِاعْتِبَار فِي صروف الدَّهْر كِفَايَة وكل يَوْم يَأْتِي عَلَيْهِ مِنْهُ علم جَدِيد
وَقَالَ بعوارض الْآفَات تكدر النعم على المنتمين وَقَالَ من قل همه على مَا فَاتَهُ استراحت نَفسه وَصفا ذهنه
وَقَالَ من لم يشْكر على مَا أنعم بِهِ عَلَيْهِ أوشك أَن لَا تزيد نعْمَته
وَقَالَ رب متحرز من الشَّيْء تكون مِنْهُ آفته
وَقَالَ داووا الْغَضَب بِالصَّمْتِ
وَقَالَ الذّكر الصَّالح خير من المَال فَإِن المَال ينفذ وَالذكر يبْقى وَالْحكمَة غنى لَا يعْدم وَلَا يضمحل وَقَالَ اسْتحبَّ الْفقر مَعَ الْحَلَال عَن الْغنى مَعَ الْحَرَام
وَقَالَ أفضل السِّيرَة طيب المكسب وَتَقْدِير الْإِنْفَاق
وَقَالَ من يجرب يَزْدَدْ علما وَمن يُؤمن يَزْدَدْ يَقِينا وَمن يستيقن يعْمل جاهدا وَمن يحرص على الْعَمَل يَزْدَدْ قُوَّة وَمن يكسل يَزْدَدْ فَتْرَة وَمن يتَرَدَّد يَزْدَدْ شكا
وَإِن لسقراط بَيْتا وزن بِالْعَرَبِيَّةِ
(إِنَّمَا الدُّنْيَا وَإِن ومقت ... خطرة من لحظ ملتفت)
وَقَالَ مَا كَانَ فِي نَفسك فَلَا تبده لكل أحد فَمَا أقبح أَن تخفي النَّاس أمتعتهم فِي الْبيُوت ويظهرون مَا فِي قُلُوبهم
قَالَ لَوْلَا أَن فِي قولي أنني لَا أعلم إِخْبَارًا أَنِّي أعلم لَقلت إِنِّي لَا أعلم
وَقَالَ الْقنية ينبوع الأحزان فَلَا تقتنوا الأحزان
وَكَانَ يَقُول قللُوا الْقنية تقل مصائبكم
وينسب إِلَى سقراط من الْكتب رِسَالَة إِلَى إخوانه فِي المقايسة بَين السّنة والفلسفة كتاب معاتبة النَّفس مقَالَة فِي السياسة
وَقيل إِن رسَالَته فِي السِّيرَة الجميلة هِيَ صَحِيح لَهُ
أفلاطون
يُقَال فلاطن وأفلاطن وأفلاطون
قَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل فِي كِتَابه(1/79)
أفلاطن الْحَكِيم من أهل مَدِينَة أثينيا رومي فيلسوف يوناني طبي عَالم بالهندسة وطبائع الْأَعْدَاد وَله فِي الطِّبّ كتاب بَعثه إِلَى طيماوس تِلْمِيذه وَله فِي الفلسفة كتب وأشعار وَله فِي التَّأْلِيف كَلَام لم يسْبقهُ أحد إِلَيْهِ استنبط بِهِ صَنْعَة الديباج وَهُوَ الْكَلَام الْمَنْسُوب إِلَى الْخمس النّسَب التأليفية الَّتِي لَا سَبِيل إِلَى وجود غَيرهَا فِي جَمِيع الموجودات المؤتلفات
فَلَمَّا أحَاط علما بطبائع الْأَعْدَاد وَمَعْرِفَة الْخمس النّسَب التأليفية استشرف إِلَى علم الْعَالم كُله وَعرف مَوَانِع الْأَجْزَاء المؤتلفات الممتزجات باخْتلَاف ألوانها وأصباغها وائتلافها على قدر النِّسْبَة فوصل بذلك على علم التَّصْوِير فَوضع أول حَرَكَة جَامِعَة لجَمِيع الحركات ثمَّ صنفها بِالنِّسْبَةِ العددية وَوضع الْأَجْزَاء المؤتلفة على ذَلِك فَصَارَ إِلَى علم تَصْوِير التصويرات
فَقَامَتْ لَهُ صناعَة الديباج وصناعة كل مؤتلف بِهِ
وَألف فِي ذَلِك كتابا
وَله فِي الفلسفة كَلَام عَجِيب وَهُوَ مِمَّن وضع لأهل زَمَانه سننا وحدودا
وَله كتاب السياسة فِي ذَلِك وَكتاب النواميس
وَكَانَ فِي دولة داربطو وَهُوَ وَالِد دَارا الَّذِي قَتله الْإِسْكَنْدَر فَكَانَ بعد أبقراط فِي دولة وَالِد الْإِسْكَنْدَر فيليبس
وَكَانَت الْفرس يَوْمئِذٍ تملك الرّوم واليونانيين
وَقَالَ المبشر بن فاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم معنى أفلاطون وَتَفْسِيره فِي لغتهم العميم الْوَاسِع
وَكَانَ اسْم أَبِيه أرسطن وَكَانَ أَبَوَاهُ من أَشْرَاف اليونانيين من ولد اسقليبيوس جَمِيعًا وَكَانَت أمه خَاصَّة من نسل سولون صَاحب الشَّرَائِع
وَكَانَ قد أَخذ فِي أول أمره فِي تعلم علم الشّعْر واللغة فَبلغ فِي ذَلِك مبلغا عَظِيما إِلَى أَن حضر يَوْمًا سقراطيس وَهُوَ يثلب صناعَة الشّعْر فأعجبه مَا سمع مِنْهُ وزهد فِيمَا كَانَ عِنْده مِنْهُ وَلزِمَ سقراط وَسمع مِنْهُ خمس سِنِين
ثمَّ مَاتَ سقراط فَبَلغهُ أَن بِمصْر قوما من أَصْحَاب فيثاغورس فَسَار إِلَيْهِم حَتَّى أَخذ عَنْهُم وَكَانَ يمِيل فِي الْحِكْمَة قبل أَن يصحب سقراط إِلَى رَأْي ايرقليطس وَلما صحب سقراط زهد فِي مَذْهَب ايرقليطس وَكَانَ يتبعهُ فِي الْأَشْيَاء المحسوسة وَكَانَ يتبع فيثاغورس فِي الْأَشْيَاء المعقولة وَكَانَ يتبع سقراطيس فِي أُمُور التَّدْبِير
ثمَّ رَجَعَ أفلاطن من مصر إِلَى أثينية وَنصب فِيهَا بَيْتِي حِكْمَة وَعلم النَّاس فِيهَا
ثمَّ سَار إِلَى سيقليا فجرت لَهُ قصَّة مَعَ ديونوسيوس المتغلب الَّذِي كَانَ بهَا وبلي مِنْهُ بأَشْيَاء صعبة ثمَّ تخلص مِنْهُ وَعَاد إِلَى أثينية فَسَار فيهم أحسن سيرة وأرضى الْجَمِيع وأعان الضُّعَفَاء
وراموه أَن يتَوَلَّى تَدْبِير أُمُورهم فَامْتنعَ لِأَنَّهُ(1/80)
وجدهم على تَدْبِير غير التَّدْبِير الَّذِي يرَاهُ صَوَابا وَقد اعتادوه وَتمكن من نُفُوسهم فَعلم أَنه لَا يُمكنهُ نقلهم عَنهُ وَأَنه لَو رام نقلهم عَمَّا هم عَلَيْهِ لَكَانَ يهْلك كَمَا هلك أستاذه سقراط
على أَن سقراط لم يكن قد رام استكمال صَوَاب التَّدْبِير
وَبلغ أفلاطون من الْعُمر إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق كريم الْأَفْعَال كثير الْإِحْسَان إِلَى كل ذِي قرَابَة مِنْهُ وَإِلَى الغرباء متئدا حَلِيمًا صبورا
وَكَانَ لَهُ تلاميذ كَثِيرَة وَتَوَلَّى التدريس بعده رجلَانِ أَحدهمَا بأثينية فِي الْموضع الْمَعْرُوف بأقاديميا وَهُوَ كسانوقراطيس وَالْآخر بلوقين من عمل أثينية أَيْضا وَهُوَ أرسطوطاليس
وَكَانَ يرمز حكمته ويسترها وَيتَكَلَّم بهَا ملغوزة حَتَّى لَا يظْهر مقْصده لِذَوي الْحِكْمَة
وَكَانَ درسه وتعلمه على طيماوس وسقراطيس وعنهما أَخذ أَكثر آرائه
وصنف كتبا كَثِيرَة مِنْهَا مَا بلغنَا اسْمه سِتَّة وَخَمْسُونَ كتابا وفيهَا كتب كبار يكون فِيهَا عدَّة مقالات
وَكتبه يتَّصل بَعْضهَا بِبَعْض أَرْبَعَة أَرْبَعَة يجمعها غَرَض وَاحِد ويخص كل وَاحِد مِنْهَا غَرَض خَاص يشْتَمل عَلَيْهِ ذَلِك الْغَرَض الْعَام وَيُسمى كل وَاحِد مِنْهَا رابوعا وكل رابوع مِنْهَا يتَّصل بالرابوع الَّذِي قبله
وَكَانَ رجلا أسمر اللَّوْن معتدل الْقَامَة حسن الصُّورَة تَامّ التخاطيط حسن اللِّحْيَة قَلِيل شعر العارضين ساكتا خَافِضًا أشهل الْعَينَيْنِ براق بياضهما فِي ذقنه الْأَسْفَل خَال أسود تَامّ الباع لطيف الْكَلِمَة محبا للفلوات والصحاري والوحدة
وَكَانَ يسْتَدلّ فِي الْحَال الْأَكْثَر على مَوْضِعه بِصَوْت بكائه وَيسمع مِنْهُ على نَحْو ميلين فِي الفيافي والصحاري
وَمن خطّ إِسْحَاق بن حنين عَاشَ أفلاطون ثَمَانِينَ سنة
وَقَالَ حنين بن إِسْحَاق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة والحكماء كَانَ مَنْقُوشًا على فص خَاتم أفلاطون تَحْرِيك السَّاكِن أسهل من تسكين المتحرك
مواعظ أفلاطون
وَمن آدَاب أفلاطون ومواعظه مِمَّا ذكره المبشر بن فاتك رَحمَه الله فِي كِتَابه قَالَ أفلاطون للْعَادَة على كل شَيْء سُلْطَان وَقَالَ إِذا هرب الْحَكِيم من النَّاس فاطلبه وَإِذا طَلَبهمْ فاهرب مِنْهُ
وَقَالَ من لَا يواس الإخوان عِنْد دولته خذلوه عِنْد فاقته
وَقيل لَهُ لم لَا تَجْتَمِع الْحِكْمَة وَالْمَال فَقَالَ لعز الْكَمَال
وَسُئِلَ من أَحَق النَّاس أَن يؤتمن على تَدْبِير الْمَدِينَة فَقَالَ من كَانَ فِي تَدْبِير نَفسه حسن الْمَذْهَب(1/81)
وَقيل لَهُ من يسلم من سَائِر الْعُيُوب وقبيح الْأَفْعَال فَقَالَ من جعل عقله أَمِينه وحذره وزيره والمواعظ زمامه وَالصَّبْر قائده والاعتصام بالتوقي ظهيره وَخَوف الله جليسه وَذكر الْمَوْت أنيسه
وَقَالَ الْملك هُوَ كالنهر الْأَعْظَم تستمد مِنْهُ الْأَنْهَار الصغار فَإِن كَانَ عذبا عذبت وَإِن كَانَ مالحا ملحت
وَقَالَ إِذا أردْت أَن تدوم لَك اللَّذَّة فَلَا تستوف الملتذ أبدا بل دع فِيهِ فَضله تدوم لَك اللَّذَّة
وَقَالَ إياك فِي وَقت الْحَرْب أَن تسْتَعْمل النجدة وَتَدَع الْعقل فَإِن لِلْعَقْلِ مَوَاقِف قد تتمّ بِلَا حَاجَة إِلَى النجدة وَلَا ترى للنجدة غنى عَن الْعقل
وَقَالَ غَايَة الْأَدَب أَن يستحي الْمَرْء من نَفسه
وَقَالَ مَا ألمت نَفسِي إِلَّا من ثَلَاث من غَنِي افْتقر وعزيز ذل وَحَكِيم تلاعبت بِهِ الْجُهَّال
وَقَالَ لَا تصحبوا الأشرار فَإِنَّهُم يمنون عَلَيْكُم بالسلامة مِنْهُم
وَقَالَ لَا تطلب سرعَة الْعَمَل واطلب تجريده فَإِن النَّاس لَا يسْأَلُون فِي كم فرغ من هَذَا الْعَمَل وَإِنَّمَا يسْأَلُون عَن جودة صنعه
وَقَالَ إحسانك إِلَى الْحر يحركه على الْمُكَافَأَة وإحسانك إِلَى الخسيس يحركه على معاودة الْمَسْأَلَة
وَقَالَ الأشرار يتبعُون مساوئ النَّاس ويتركون محاسنهم كَمَا يتتبع الذُّبَاب الْمَوَاضِع الْفَاسِدَة من الْجَسَد وَيتْرك الصَّحِيح مِنْهُ
وَقَالَ لَا تستصغر عَدوك فيقتحم عَلَيْك الْمَكْرُوه من زِيَادَة مِقْدَاره على تقديرك فِيهِ
وَقَالَ لَيْسَ تكمل خيرية الرجل حَتَّى يكون صديقا للمتعاديين
وَقَالَ اطلب فِي الْحَيَاة الْعلم وَالْمَال تحز الرآسة على النَّاس لأَنهم بَين خَاص وعام فالخاصة تفضلك بِمَا تحسن والعامة تفضلك بِمَا تملك
وَقَالَ من جمع إِلَى شرف أَصله شرف نَفسه فقد قضى الْحق عَلَيْهِ
واستدعى التَّفْضِيل بِالْحجَّةِ وَمن أغفل نَفسه وَاعْتمد على شرف آبَائِهِ فقد عقهم وَاسْتحق أَن لَا يقدم بهم على غَيره
وَقَالَ لَا تبتاعن مَمْلُوكا قوي الشهزة فَإِن لَك مولى غَيْرك وَلَا غضوبا فَإِنَّهُ يقلق فِي ملكك وَلَا قوي الرَّأْي فيستعمل الْحِيلَة عَلَيْك
وَقَالَ اسْتعْمل مَعَ فرط النَّصِيحَة مَا تستعمله الخونة من حسن المداراة وَلَا تدخل عَلَيْك الْعجب لفضلك على أكفائك فَيفْسد عَلَيْك ثَمَرَة مَا فضلت بِهِ(1/82)
وَقَالَ لَا تنظر إِلَى أحد بالموضع الَّذِي رتبه فِيهِ زَمَانه وَانْظُر إِلَيْهِ بِقِيمَتِه فِي الْحَقِيقَة فَإِنَّهَا مَكَانَهُ الطبيعي
وَقَالَ إِذا خبث الزَّمَان كسدت الْفَضَائِل وضرت ونفقت الرذائل ونفعت وَكَانَ خوف الْمُوسر أَشد من خوف الْمُعسر
وَقَالَ لَا يزَال الجائر ممهلا حَتَّى يتخطى إِلَى أَرْكَان الْعِمَارَة ومباني الشَّرِيعَة وَإِذا أقصد لَهَا تحرّك عَلَيْهِ قيم الْعَالم فأباده
وَقَالَ إِذا طابق الْكَلَام نِيَّة الْمُتَكَلّم حرك نِيَّة السَّامع وَإِن خالفها لم يحسن موقعه مِمَّن أُرِيد بِهِ
وَقَالَ أفضل الْمُلُوك من بَقِي بِالْعَدْلِ ذكره واستملى من أَتَى بعده بفضائله
وَقَالَ رجل جَاهِل لأفلاطون كَيفَ قدرت على كَثْرَة مَا تعلمت فَقَالَ لِأَنِّي أفنيت من الزَّيْت بِمِقْدَار مَا أفنيته أَنْت من الشَّرَاب
وَقَالَ عين الْمُحب عمياء عَن عُيُوب المحبوب
وَقَالَ إِذا خاطبت من هُوَ أعلم مِنْك فَجرد لَهُ الْمعَانِي وَلَا تكلّف بإطالة اللَّفْظ وَلَا تحسينه وَإِذا خاطبت من هُوَ دُونك فِي الْمعرفَة فأبسط كلامك ليلحق فِي أواخره مَا أعجزه فِي أَوَائِله
وَقَالَ الْحلم لَا ينْسب إِلَّا إِلَى من قدر على السطوة والزهد لَا ينْسب إِلَّا إِلَى من ترك بعد الْقُدْرَة
وَقَالَ الْعَزِيز النَّفس هُوَ الَّذِي يذل للفاقة
وَقَالَ الْحسن الْخلق من صَبر على السَّيئ الْخلق
وَقَالَ أشرف النَّاس من شرفته الْفَضَائِل لَا من تشرف بالفضائل وَذَلِكَ أَن من كَانَت الْفَضَائِل فِيهِ جوهرية فَهِيَ تشرفه وَمن كَانَت فِيهِ عرضية تشرف بهَا وَلم تشرفه
وَقَالَ الْحيَاء إِذا توَسط أوقف الْإِنْسَان عَمَّا عابه وَإِذا أفرط أوقفهُ عَمَّا يحْتَاج إِلَيْهِ وَإِذا قصر خلع عَنهُ ثوب التجمل فِي كثير من أَحْوَاله
وَقَالَ إِذا حصل عَدوك فِي قدرتك خرج من جملَة أعدائك وَدخل فِي عدَّة حشمك
وَقَالَ يَنْبَغِي للمرء أَن ينظر وَجهه فِي الْمرْآة فَإِن كَانَ حسنا استقبح أَن يضيف إِلَيْهِ فعلا قبيحا وَإِن كَانَ قبيحا استقبح أَن يجمع بَين قبحين
وَقَالَ لَا تصْحَب الشرير فَإِن طبعك يسرق من طبعه شرا وَأَنت لَا تَدْرِي
وَقَالَ إِذا قَامَت حجتك فِي المناظرة على كريم أكرمك ووقرك وَإِذا قَامَت على خسيس عاداك واصطنعها عَلَيْك(1/83)
وَقَالَ من مدحك بِمَا لَيْسَ فِيك من الْجَمِيل وَهُوَ رَاض عَنْك ذمك بِمَا لَيْسَ فِيك من الْقَبِيح وَهُوَ ساخط عَلَيْك
وَقَالَ إِنَّمَا صَار التَّقْلِيد وَاجِبا فِي الْعَالم لِأَن الضعْف فِيهِ قَائِم فِي النَّاس
وَقَالَ من تعلم الْعلم لفضيلته لم يوحشه كساده وَمن تعلمه لجدواه انْصَرف بانصراف الْحَظ عَن أَهله إِلَى مَا يكسبه
وَقَالَ ليكن خوفك من تدبيرك على عَدوك أَكثر من خوفك من تَدْبِير عَدوك عَلَيْك
وَقَالَ رب مغبوط بِنِعْمَة هِيَ بلاؤه وَرب مَحْسُود على حَال هِيَ داؤه
وَقَالَ شهوات النَّاس تتحرك بِحَسب شهوات الْملك وإرادته
وَقَالَ مَا معي من فَضِيلَة الْعلم إِلَّا علمي بِأَنِّي لست بعالم
وَقَالَ الأمل خداع النَّاس
وَقَالَ احفظ الناموس يحفظك
وَقَالَ إِذا صادقت رجلا وَجب أَن تكون صديق صديقه وَلَيْسَ يجب عَلَيْك أَن تكون عَدو عدوه
وَقَالَ المشورة تريك طبع المستشار
وَقَالَ يَنْبَغِي للعاقل أَن لَا يتكسب إِلَّا بأزيد مَا فِيهِ وَلَا يخْدم إِلَّا المقارب لَهُ فِي خلقه
وَقَالَ أَكثر الْفَضَائِل مرّة المبادي حلوة العواقب وَأكْثر الرذائل حلوة المبادي مرّة العواقب
وقلا لَا تستكثرن من عشرَة حَملَة عُيُوب النَّاس فَإِنَّهُم يتسقطون مَا غفلت عَنهُ وينقلونه إِلَى غَيْرك كَمَا ينقلون عَنهُ إِلَيْك
وَقَالَ الظفر شَافِع المذنبين إِلَى الكرماء
وَقَالَ يَنْبَغِي للحازم أَن يعد لِلْأَمْرِ الَّذِي يلتمسه كل مَا أوجبه الرَّأْي فِي طلبه وَلَا يتكل فِيهِ على الْأَسْبَاب الْخَارِجَة عَن سَعْيه مِمَّا يَدْعُو إِلَيْهِ الأمل وَمَا جرت بِهِ الْعَادة فَإِنَّهَا لَيست لَهُ وَإِنَّمَا هِيَ للاتفاق الَّذِي لَا تثق بِهِ الحزمة
وَقيل لأفلاطون لم صَار الرجل يقتني مَالا وَهُوَ شيخ فَقَالَ لِأَن يَمُوت الْإِنْسَان فيخلف مَالا لأعدائه خير لَهُ من أَن يحْتَاج فِي حَيَاته إِلَى أصدقائه
وَرَأى طَبِيبا جَاهِلا فَقَالَ هَذَا محب مزعج للْمَوْت
وَقَالَ الإفراط فِي النَّصِيحَة يهجم بصاحبها على كثير من الظنة
وَقَالَ لَيْسَ يَنْبَغِي للرجل أَن يشغل قلبه بِمَا ذهب مِنْهُ وَلَكِن يعتني بِحِفْظ مَا بَقِي عَلَيْهِ(1/84)
وَسَأَلَهُ أرسطوطاليس بِمَاذَا يعرف الْحَكِيم أَنه قد صَار حكيما فَقَالَ إِذا لم يكن بِمَا يُصِيب من الرَّأْي معجبا وَلَا لما يَأْتِي من الْأَمر متكلفا وَلم يستفزه عِنْد الذَّم الْغَضَب وَلَا يدْخلهُ عِنْد المرح النخوة
وَسُئِلَ مِم يَنْبَغِي أَن يحترس فَقَالَ من الْعَدو الْقَادِر وَالصديق المكدر والمسلط الغاضب
وَسُئِلَ أَي شَيْء أَنْفَع للْإنْسَان فَقَالَ إِن يعْنى بتقويم نَفسه أَكثر من عنايته بتقويم غَيره
وَقَالَ الشرير الْعَالم يسره الطعْن على من تقدمه من الْعلمَاء ويسوؤه بَقَاء من فِي عصره مِنْهُم لِأَنَّهُ يحب أَن لَا يعرف بِالْعلمِ غَيره لِأَن الْأَغْلَب عَلَيْهِ شَهْوَة الرِّئَاسَة وَالْخَيْر الْعَالم يسوؤه فقد أحد من طبقته فِي الْمعرفَة لِأَن رغبته فِي الازدياد وإحياء علمه بالذاكرة أَكثر من رغبته فِي الرِّئَاسَة وَالْغَلَبَة
وَقَالَ تبكيت الرجل بالذنب بعد الْعَفو عَنهُ إزراء بالصنيعة وَإِنَّمَا يكون قبل هبة الجرم لَهُ
وَقَالَ اطلب فِي حياتك الْعلم وَالْمَال وَالْعَمَل الصَّالح فَإِن الْخَاصَّة تفضلك بِمَا تحسن والعامة بِمَا تملك والجميع بِمَا تعْمل
وَسُئِلَ أفلاطون عِنْد مَوته عَن الدُّنْيَا فَقَالَ خرجت إِلَيْهَا مُضْطَرّا وعشت فِيهَا متحيرا وَهَا أَنا اخْرُج مِنْهَا كَارِهًا وَلم أعلم فِيهَا إِلَّا أنني لم أعلم
كتب أفلاطون
ولفلاطن من الْكتب كتاب احتجاج سقراط على أهل أثينية كتاب فَأذن فِي النَّفس كتاب السياسة المدنية كتاب طيماوس الروحاني فِي تَرْتِيب العوالم الثَّلَاثَة الْعَقْلِيَّة الَّتِي هِيَ عَالم الربوبية وعالم الْعقل وعالم النَّفس كتاب طيماوس الطبيعي أَربع مقالات فِي تركيب عَالم الطبيعة
كتب بِهَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ إِلَى تلميذ لَهُ يُسمى طيماوس وغرض فلاطن فِي كِتَابه هَذَا أَن يصف جَمِيع الْعلم الطبيعي
أَقُول وَذكر جالينوس فِي الْمقَالة الثَّامِنَة من كِتَابه من آراء أبقراط وفلاطن إِن كتاب طيماوس قد شَرحه كثير من الْمُفَسّرين وأطنبوا فِي ذَلِك حَتَّى جاوزوا الْمِقْدَار الَّذِي يَنْبَغِي مَا خلا الْأَقَاوِيل الطبية الَّتِي فِيهِ فَإِنَّهُ قل من رام شرحها وَمن رام شرحها أَيْضا لم يحسن فِيمَا كتب فِيهَا
ولجالينوس كتاب يَنْقَسِم إِلَى أَربع مقالات فسر فِيهِ مَا فِي كتاب طيماوس من علم الطِّبّ
كتاب الْأَقْوَال الأفلاطونية كتاب أونفرن كتاب أقريطن كتاب قراطلس كتاب ثاطيطس كتاب سوفسطس كتاب فوليطيقوس كتاب برمينيدس كتاب فَلبس كتاب سمبوسين كتاب(1/85)
القيبيادس الأول كتاب القيبيادس الثَّانِي كتاب أبرخس كتاب أرسطا فِي الفلسفة كتاب ثاجيس فِي الفلسفة كتاب أوثوديموس كتاب لاخس فِي الشجَاعَة كتاب لوسيس كتاب أفروطاغورس كتاب غورجياس كتاب مانون كِتَابَانِ مسميان أَبَيَا كتاب أَيْن كتاب منكسانس كتاب فليطفون كتاب الفلسفي كتاب أقريطياس كتاب مينس كتاب أفينومس كتاب النواميس إثنا عشر كتابا فِي الفلسفة كتاب فِيمَا يَنْبَغِي كتاب فِي الْأَشْيَاء الْعَالِيَة كتاب خرميدس فِي الْعِفَّة كتاب فدروس كتاب المناسبات كتاب التَّوْحِيد كتاب فِي النَّفس وَالْعقل والجوهر وَالْغَرَض كتاب الْحس واللذة مقَالَة كتاب تَأْدِيب الْأَحْدَاث ووصاياهم كتاب معاتبة النَّفس كتاب أصُول الهندسة
أرسطوطاليس
هُوَ أرسطوطاليس بن نيقوماخس الجراسني الفيثاغوري وَتَفْسِير نيقوماخس قاهر الْخصم وَتَفْسِير أرسطوطاليس تَامّ الْفَضِيلَة حُكيَ ذَلِك أَبُو الْحسن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ المَسْعُودِيّ
كَانَ نيقوماخس فيثاغوري الْمَذْهَب وَله تأليف مَشْهُور فِي الأرثماطيقي
قَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل فِي كِتَابه عَن أرسطوطاليس إِنَّه كَانَ فيلسوف الرّوم وعالمها وجهبذها ونحريرها وخطيبها وطبيبها
قَالَ وَكَانَ أوحد فِي الطِّبّ وَغلب عَلَيْهِ علم الفلسفة
وَقَالَ بطليموس فِي كِتَابه إِلَى غلس فِي سيرة أرسطوطاليس وَخَبره ووصيته وفهرست كتبه الْمَشْهُورَة إِنَّه كَانَ أصل أرسطوطاليس من الْمَدِينَة الَّتِي تسمى أسطاغيرا وَهِي من الْبِلَاد الَّتِي يُقَال لَهَا خلقيديق مِمَّا يَلِي بِلَاد تراقية بِالْقربِ من أولنش وماثوني وَكَانَ اسْم أمه أفسطيا
قَالَ وَكَانَ نقوماخس أَبُو أرسطوطاليس طَبِيب أمنطس أبي فيلبس وفيلبس هَذَا هُوَ أَبُو الاسكندر الْملك وَكَانَ نيقوماخس يرجع فِي نسبه إِلَى أسقليبيوس وَكَانَ أسقليبيوس هَذَا أَبَا ماخاون وماخاون أَبُو أسقليبيوس وَكَانَ اصل أمه أفسطيا يرجع فِي النِّسْبَة أَيْضا إِلَى أسقليبيوس(1/86)
وَيُقَال إِنَّه لما توفّي نيقوماخس أَبوهُ أسلمه برقسانس وَكيل أَبِيه وَهُوَ حدث لأفلاطن
وَقَالَ بعض النَّاس أَن إِسْلَام أرسطوطاليس إِلَى أفلاطن إِنَّمَا كَانَ بِوَحْي من الله تَعَالَى فِي هيكل بوثيون
وَقَالَ بَعضهم بل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لصداقة كَانَت بَين برقسانس وَبَين فلاطن
وَيُقَال إِنَّه لبث فِي التَّعْلِيم عَن أفلاطن عشْرين سنة وَإنَّهُ لما عَاد أفلاطن إِلَى سقلية فِي الْمرة الثَّانِيَة كَانَ أرسطوطاليس خَلِيفَته على دَار التَّعْلِيم الْمُسَمَّاة أقاديميا وَإنَّهُ لما قدم أفلاطن من سقلية انْتقل ارسطوطاليس إِلَى لوقيون وَاتخذ هُنَاكَ دَار التَّعْلِيم المنسوبة إِلَى الفلاسفة الْمَشَّائِينَ
ثمَّ لما توفّي فلاطن سَار إِلَى أرمياس الْخَادِم الْوَالِي على أترنوس ثمَّ لما مَاتَ هَذَا الْخَادِم رَجَعَ إِلَى أثينس وَهِي الَّتِي تعرف بِمَدِينَة الْحُكَمَاء فَأرْسل إِلَيْهِ فيلبس فَسَار إِلَى مقدونيا فَلبث بهَا يعلم إِلَى أَن تجَاوز الاسكندر بِلَاد آسيا ثمَّ اسْتخْلف فِي مقدونيا قلسثانس وَرجع إِلَى أثينا وَأقَام فِي لوقيون عشر سِنِين
ثمَّ إِن رجلا من الكهنة الَّذِي يسمون الكمريين يُقَال لَهُ أوروماذن أَرَادَ السّعَايَة بأرسطوطاليس وَنسبه إِلَى الْكفْر وَإنَّهُ لَا يعظم الْأَصْنَام الَّتِي كَانَت تعبد فِي ذَلِك الْوَقْت بسب ضغن كَانَ فِي نَفسه عَلَيْهِ وَقد قصّ أرسطوطاليس هَذِه الْقِصَّة فِي كِتَابه إِلَى أنطيطوس فَلَمَّا أحس أرسطوطاليس بذلك شخص عَن أثينا إِلَى بِلَاده وَهِي خلقيديق لِأَنَّهُ كره أَن يَبْتَلِي أهل أثنية من أمره بِمثل الَّذِي ابتلو فِي أَمر سقراطيس معلم أفلاطن حَتَّى قَتَلُوهُ
وَكَانَ شخوصه من غير أَن يكون أحدا اجترأ بِهِ إِلَى أَي شخص على قبُول كتاب الكمري وقرفه أَو أَن يَنَالهُ بمكروه
وَلَيْسَ مَا يَحْكِي عَن أرسطوطاليس من الِاعْتِذَار من قرف الكمري إِيَّاه بِحَق وَلكنه شَيْء مَوْضُوع على لِسَانه وَلما صَار أرسطوطاليس إِلَى بِلَاده أَقَامَ بهَا بَقِيَّة عمره إِلَى أَن توفّي وَهُوَ ابْن ثَمَان وَسِتِّينَ سنة
قَالَ وَقد يسْتَدلّ بِمَا ذكرنَا من حالاته على بطلَان قَول من يزْعم أَنه إِنَّمَا نظر فِي الفلسفة بعد أَن أَتَت عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ سنة وَأَنه إِنَّمَا كَانَ إِلَى هَذَا الْوَقْت يَلِي سياسة المدن لعنايته الَّتِي كَانَت بإصلاح أَمر المدن
وَيُقَال إِن أهل أسطاغيرا نقلوا بدنه من الْموضع الَّذِي توفّي فِيهِ إِلَيْهِم وصيروه فِي الْموضع الْمُسَمّى الأرسطوط اليسي وصيروا مجتمعهم للمشاورة فِي جلائل الْأُمُور وَمَا يحزنهم فِي ذَلِك الْموضع
وَكَانَ أرسطوطاليس هُوَ الَّذِي وضع سنَن أسطاغيرا لأَهْلهَا وَكَانَ جليل الْقدر فِي النَّاس
وَدَلَائِل ذَلِك بَيِّنَة من كرامات الْمُلُوك الَّذين كَانُوا فِي عصره لَهُ
فَأَما مَا كَانَ عَلَيْهِ من الرَّغْبَة فِي اصطناع الْمَعْرُوف والعناية بِالْإِحْسَانِ إِلَى النَّاس فَذَلِك بَين من رسائله وَكتبه وَمَا يقف عَلَيْهِ النَّاظر فِيهَا من كَثْرَة توسطه(1/87)
للأمور فِيمَا بَين مُلُوك دهره وَبَين الْعَوام فِيمَا يصلح بِهِ أُمُورهم ويجتلب بِهِ الْمَنَافِع إِلَيْهِم
ولكثرة مَا عقد من المنن وَالْإِحْسَان فِي هَذَا الْبَاب صَار أهل أثينية إِلَى أَن اجْتَمعُوا وتعاقدوا على أَن كتبُوا كتابا نقشوه فِي عَمُود من الْحِجَارَة وصيروه على البرج العالي الَّذِي فِي الْمَدِينَة
وَذكروا فِيمَا كتبُوا على ذَلِك العمود أَن أرسطوطاليس بن نيقوخامس الَّذِي من أهل أسطاغيرا قد اسْتحق بِمَا كَانَ عَلَيْهِ من اصطناع الْمَعْرُوف وَكَثْرَة الأيادي والمنن وَمَا يخص بِهِ أهل أثينية من ذَلِك وَمن قِيَامه عِنْد فيليبس الْملك بِمَا أصلح شَأْنهمْ وَبلغ بِهِ الْإِحْسَان إِلَيْهِم أَن يتَبَيَّن صناعَة أهل أثينية عَلَيْهِ بجميل مَا أَتَى من ذَلِك ويقروا لَهُ بِالْفَضْلِ والرئاسة ويوجبوا لَهُ الْحِفْظ والحياطة
وَأهل الرئاسات فيهم هُوَ نَفسه وعقبه من بعده وَالْقِيَام لَهُم بِكُل مَا التمسوه من حوائجهم وأمورهم
وَقد كَانَ رجل من أهل أثينية يُقَال لَهُ أيماراوس بعد اجْتِمَاع أهل أثينية على مَا اجْتَمعُوا عَلَيْهِ من هَذَا الْكتاب شَذَّ عَن جَمَاعَتهمْ وَقَالَ بِخِلَاف قَوْلهم فِي أَمر أرسطوطاليس ووثب على العمود الَّذِي كَانَ قد اجْتمع أهل أثينية على أَن كتبُوا فِيهِ مَا كتبُوا من الثَّنَاء ونصبوه فِي الْموضع الَّذِي يُسمى أَعلَى الْمَدِينَة فَرمى بِهِ عَن مَوْضِعه فظفر بِهِ بعد أَن صنع مَا صنع أنطينوس فَقتله
ثمَّ أَن رجلا من أهل أثينية يُسَمِّي أصطفانوس وَجَمَاعَة مَعَه عَمدُوا إِلَى عَمُود حِجَارَة فَكَتَبُوا فِيهِ من الثَّنَاء على أرسطوطاليس شَبِيها بِمَا كَانَ على العمود الأول وأثبتوا مَعَ ذَلِك ذكر أيماراوس الَّذِي رمى بالعمود وَفعله مَا فعل وأوجبوا لَعنه والبراءة مِنْهُ
وَلما أَن مَاتَ فيلبس وَملك الاسكندر بعده وشخص عَن بِلَاده لمحاربة الْأُمَم وَحَازَ بِلَاد آسيا صَار أرسطوطاليس إِلَى التبتل والتخلي عَمَّا كَانَ فِيهِ من الِاتِّصَال بِأُمُور الْمُلُوك والملابسة لَهُم وَصَارَ إِلَى أثينية فَهَيَّأَ مَوضِع التَّعْلِيم الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِيمَا تقدم وَهُوَ الْمَنْسُوب إِلَى الفلاسفة الْمَشَّائِينَ
وَأَقْبل على الْعِنَايَة بمصالح النَّاس ورفد الضُّعَفَاء وَأهل الْفَاقَة وتزويج الْأَيَامَى وعول الْيَتَامَى والعناية بتربيتهم ورفد الملتمسين للتعلم والتأدب من كَانُوا وَأي نوع من الْعلم وَالْأَدب طلبُوا ومعونتهم على ذَلِك وإنهاضهم وَالصَّدقَات على الْفُقَرَاء وَإِقَامَة الْمصَالح فِي المدن
وجدد بِنَاء مدينته وَهِي مَدِينَة أسطاغيرا وَلم ينزل فِي الْغَايَة من لين الْجَانِب والتواضع وَحسن اللِّقَاء للصَّغِير وَالْكَبِير وَالْقَوِي والضعيف
وَأما قِيَامه بِأُمُور أصدقائه فَلَا يُوصف وَيدل على ذَلِك مَا كتبه أَصْحَاب السّير واتفاقهم جميعاعلى مَا كتبوه من خبر أرسطوطاليس وَسيرَته
وَقَالَ الْأَمِير المبشر بن فاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم أَن أرسطوطاليس لما بلغ ثَمَانِي سِنِين حمله أَبوهُ إِلَى بِلَاد أثينية وَهِي الْمَعْرُوفَة بِبِلَاد الْحُكَمَاء وَأقَام فِي لوقين مِنْهَا فضمه أَبوهُ إِلَى الشُّعَرَاء والبلغاء والنحويين
فَأَقَامَ متعلما مِنْهُم تسع سِنِين وَكَانَ اسْم(1/88)
هَذَا الْعلم عِنْدهم الْمُحِيط أَعنِي علم اللِّسَان لحَاجَة جَمِيع النَّاس إِلَيْهِ لِأَنَّهُ الأداة والمراقي إِلَى كل حِكْمَة وفضيلة وَالْبَيَان الَّذِي يتَحَصَّل بِهِ كل علم
وَأَن قوما من الْحُكَمَاء أزروا بِعلم البلغاء واللغويين والنحويين وعنفوا المتشاغلين بِهِ مِنْهُم أبيقورس وفيثاغورس وَزَعَمُوا أَنه لَا يحْتَاج إِلَى علمهمْ فِي شَيْء من الْحِكْمَة لِأَن النَّحْوِيين معلمو الصّبيان وَالشعرَاء أَصْحَاب أباطيل وَكذب والبلغاء أَصْحَاب تمحل ومحاباة ومراء
فَلَمَّا بلغ أرسطوطاليس ذَلِك أَدْرَكته الحفيظة لَهُم فناضل عَن النَّحْوِيين والبلغاء وَالشعرَاء وَاحْتج مِنْهُم وَقَالَ أَنه لَا غنى للحكمة عَن علمهمْ لِأَن الْمنطق أَدَاة لعلمهم وَقَالَ أَن فضل الْإِنْسَان على الْبَهَائِم بالْمَنْطق
فأحقهم بالأنسية أبلغهم فِي مَنْطِقه وأوصلهم إِلَى عبارَة ذَات نَفسه وأوضعهم لمنطقة فِي مَوْضِعه وَأَحْسَنهمْ اخْتِيَارا لأوجزه وأعذبه
وَلِأَن الْحِكْمَة أشرف الْأَشْيَاء فَيَنْبَغِي أَن تكون الْعبارَة عَنْهَا بِأَحْكَم الْمنطق وأفصح اللهجة وأوجز اللَّفْظ الْأَبْعَد عَن الدخل والزلل وسماجة الْمنطق وقبح اللكنة والعي فَإِن ذَلِك يذهب بِنور الْحِكْمَة وَيقطع عَن الْأَدَاء وَيقصر عَن الْحَاجة ويلبس على المستمع وَيفْسد الْمعَانِي وَيُورث الشُّبْهَة
فَلَمَّا اسْتكْمل علم الشُّعَرَاء والنحويين والبلغاء واستوعبه قصد إِلَى الْعُلُوم الأخلاقية والسياسة والطبيعية والتعليمية والإلهية وَانْقطع إِلَى أفلاطن وَصَارَ تلميذا لَهُ ومتعلما مِنْهُ وَله يَوْمئِذٍ سبع عشرَة سنة
قَالَ المبشر بن فاتك وَكَانَ أفلاطن يجلس فيستدعي مِنْهُ الْكَلَام فَيَقُول حَتَّى يحضر النَّاس
فَإِذا جَاءَ أرسطوطاليس قَالَ تكلمُوا فقد حضر النَّاس
وَرُبمَا قَالَ حَتَّى يحضر الْعقل فَإِذا حضر أرسطوطاليس قَالَ تكلمُوا فقد حضر الْعقل
قَالَ وَلما توفّي أرسطوطاليس نقل أهل أسطاغيرا رمته بَعْدَمَا بليت وجمعوا عِظَامه وسيروها فِي إِنَاء من نُحَاس وَدَفَنُوهَا فِي الْموضع الْمَعْرُوف بالأرسطوط اليسي وصيروه مجمعا لَهُم يَجْتَمعُونَ فِيهِ للمشاورة فِي جلائل الْأُمُور وَمَا يحزنهم ويستريحون إِلَى قَبره ويسكنون إِلَى عِظَامه فَإِذا صَعب عَلَيْهِم شَيْء من فنون الْعلم وَالْحكمَة آبوا بذلك الْموضع وجلسوا إِلَيْهِ ثمَّ تنَاظرُوا فِيمَا بَينهم حَتَّى يستنبطوا مَا أشكل عَلَيْهِم وَيصِح لَهُم مَا شجر بَينهم
وَكَانُوا يرَوْنَ أَن مجيئهم إِلَى ذَلِك الْموضع الَّذِي فِيهِ عِظَام أرسطوطاليس يذكي عُقُولهمْ ويصحح فكرهم(1/89)
ويلطف أذهانهم
وَأَيْضًا تَعْظِيمًا لَهُ بعد مَوته وأسفا على فِرَاقه وحزنا لأجل الفجيعة بِهِ وَمَا فقدوه من ينابيع الْحِكْمَة
وَقَالَ المَسْعُودِيّ فِي كتاب المسالك والممالك أَن الْمَدِينَة الْكُبْرَى الَّتِي تسمى بالرم من جَزِيرَة صقلية فِيهَا مَسْجِد الْجَامِع الْأَكْبَر وَكَانَ بيعَة للروم فِيهِ هيكل عَظِيم
قَالَ وَسمعت بعض المنظفين يَقُول أَن حَكِيم يونان يَعْنِي أرسطوطاليس فِي خَشَبَة مُعَلّق فِي هَذَا الهيكل الَّذِي قد اتَّخذهُ الْمُسلمُونَ مَسْجِدا وَأَن النَّصَارَى كَانَت تعظم قدره وتستشفي بِهِ لما شاهدت اليونانية عَلَيْهِ من إكباره وإعظامه وَأَن السَّبَب فِي تَعْلِيقه بَين السَّمَاء وَالْأَرْض مَا كَانَ النَّاس يلاقونه عِنْد الِاسْتِشْفَاء وَالِاسْتِسْقَاء والأمور المهمة الَّتِي توجب الْفَزع إِلَى الله تَعَالَى والتقرب إِلَيْهِ فِي حِين الشدَّة والهلكة وَعند وَطْء بَعضهم لبَعض
قَالَ المَسْعُودِيّ وَقد رَأَيْت هُنَاكَ خَشَبَة عَظِيمَة يُوشك أَن يكون الْقَبْر فِيهَا
وَقَالَ المبشر بن فاتك وَكَانَ أرسطوطاليس كثير التلاميذ من الْمُلُوك وَأَبْنَاء الْمُلُوك وَغَيرهم مِنْهُم ثاوفرسطس وأذيموس والاسكندروس الْملك وأرمينوس وأسخولوس وَغَيرهم من الأفاضل الْمَشْهُورين بِالْعلمِ المبرزين فِي الْحِكْمَة المعروفين بشرف النّسَب
وَقَامَ من بعده ليعلم حكمته الَّتِي صنفها وَجلسَ على كرسيه وَورث مرتبته ابْن خَالَته ثاوفرسطس وَمَعَهُ رجلَانِ يعينانه على ذَلِك ويؤازرانه يُسمى أَحدهمَا أرمينوس وَالْآخر أسخولوس وصنفوا كتبا كَثِيرَة فِي الْمنطق وَالْحكمَة
وَخلف من الْوَلَد ابْنا صَغِيرا يُقَال لَهُ نيقوماخس وَابْنَة صَغِيرَة أَيْضا وَخلف مَالا كثيرا وعبيدا وأماء كَثِيرَة وَغير ذَلِك
قَالَ وَكَانَ أرسطوطاليس أَبيض أجلح قَلِيلا حسن الْقَامَة عَظِيم الْعِظَام صَغِير الْعَينَيْنِ كث اللِّحْيَة أشهل الْعَينَيْنِ أقنى الْأنف صَغِير الْفَم عريض الصَّدْر يسْرع فِي مشيته إِذا خلا ويبطئ إِذا كَانَ مَعَ أَصْحَابه نَاظرا فِي الْكتب دَائِما لَا يهذي وَيقف عِنْد كل كلمة ويطيل الإطراق عِنْد السُّؤَال قَلِيل الْجَواب يتنقل فِي أوقاف النَّهَار فِي الفيافي وَنَحْو الْأَنْهَار محبا لاستماع الألحان والاجتماع بِأَهْل الرياضات وَأَصْحَاب الجدل منصفا من نَفسه إِذا خصم معترفا بِموضع الْإِصَابَة وَالْخَطَأ معتدلا فِي الملابس والمآكل والمشارب والمناكح والحركات بِيَدِهِ آلَة النُّجُوم والساعات
وَقَالَ حنين ابْن إِسْحَق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة والحكماء كَانَ مَنْقُوشًا على فص خَاتم أرسطوطاليس الْمُنكر لما يعلم أعلم من الْمقر بِمَا يعلم(1/90)
وَقَالَ الشَّيْخ أَبُو سُلَيْمَان مُحَمَّد بن طَاهِر بن بهْرَام المنطقي فِي تعاليقه أَن ثيوفرسطس كَانَ وَصِيّ أرسطوطاليس وَأَن أرسطوطاليس عمر إِحْدَى وَسِتِّينَ سنة
قَالَ وَأما أفلاطن فَإِنَّهُ عمر كثيرا
وَقَالَ ابْن النديم الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب فِي كتاب الفهرست أَن أرسطوطاليس توفّي وَله سِتّ وَسِتُّونَ سنة
وَمن خطّ إِسْحَق وَلَفظه عَاشَ أرسطوطاليس سبعا وَسِتِّينَ سنة
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم صاعد بن أَحْمد بن صاعد فِي كتاب التَّعْرِيف بطبقات الْأُمَم أَن أرسطوطاليس انْتَهَت إِلَيْهِ فلسفة اليونانيين وَهُوَ خَاتم حكمائهم وَسيد عُلَمَائهمْ وَهُوَ أول من خلص صناعَة الْبُرْهَان من سَائِر الصناعات المنطقية وصورها بالأشكال الثَّلَاثَة وَجعلهَا آلَة للعلوم النظرية حَتَّى لقب بِصَاحِب الْمنطق
وَله فِي جَمِيع الْعُلُوم الفلسفية كتب شريفة كُلية وجزئية
فالجزئية رسائله الَّتِي يتَعَلَّم مِنْهَا معنى وَاحِد فَقَط والكلية بَعْضهَا تذاكير يتَذَكَّر بِقِرَاءَتِهَا مَا قد علم من علمه وَهِي السبعون كتابا الَّتِي وَضعهَا لاوفارس وَبَعضهَا تعاليم يتَعَلَّم مِنْهَا ثَلَاثَة أَشْيَاء أَحدهَا عُلُوم الفلسفة وَالثَّانِي أَعمال الفلسفة وَالثَّالِث الْآلَة المستعملة فِي علم الفلسفة وَغَيره من الْعُلُوم
فالكتب الَّتِي فِي عُلُوم الفلسفة بَعْضهَا فِي الْعُلُوم التعليمية وَبَعضهَا فِي الْعُلُوم الطبيعية وَبَعضهَا فِي الْعُلُوم الآلهية
فَأَما الْكتب الَّتِي فِي الْعُلُوم التعليمية فكتابه فِي المناظر وَكتابه فِي الخطوط وَكتابه فِي الْحِيَل
وَأما الْكتب الَّتِي فِي الْعُلُوم الطبيعية فَمِنْهَا مَا يتَعَلَّم مِنْهُ الْأُمُور الَّتِي تعم جَمِيع الطبائع وَمِنْهَا مَا يتَعَلَّم مِنْهُ الْأُمُور الَّتِي تخص كل وَاحِد من الطبائع
فالتي يتَعَلَّم مِنْهَا الْأُمُور الَّتِي تعم جَمِيع الطبائع هِيَ كِتَابه الْمُسَمّى بسمع الكيان فَهَذَا الْكتاب يعرف بِعَدَد المبادئ لجَمِيع الْأَشْيَاء الطبيعية وبالأشياء الَّتِي هِيَ كالمبادئ وبالأشياء التوالي للمبادئ وبالأشياء المشاكلة للتوالي
أما المبادئ فالعنصر وَالصُّورَة وَأما الَّتِي كالمبادئ فَلَيْسَتْ مبادئ بِالْحَقِيقَةِ بل بالتقريب كَالْعدمِ وَأما التوالي فالزمان وَالْمَكَان
وَأما المشاكلة للتوالي فالخلاء الملاء وَمَا لَا نِهَايَة لَهُ
وَأما الَّتِي يعلم مِنْهَا الْأُمُور الخاصية لكل وَاحِد من الطبائع فبعضها فِي الْأَشْيَاء الَّتِي لَا كَون لَهَا وَبَعضهَا فِي الْأَشْيَاء المكونة
أما الَّتِي فِي الْأَشْيَاء الَّتِي لَا كَون لَهَا فالأشياء الَّتِي تتعلم من المقالتين الأوليتين من كتاب السَّمَاء والعالم
وَأما الَّتِي فِي الْأَشْيَاء المكونة فبعض علمهَا عَامي وَبَعضهَا خاصي(1/91)
والعامي بعضه فِي الاستحالات وَبَعضه فِي الحركات
أما الاستحالات فَفِي كتاب الْكَوْن وَالْفساد وَأما الحركات فَفِي المقالتين الآخرتين من كتاب السَّمَاء والعالم
وَأما الخاصي فبعضه فِي البسائط وَبَعضه فِي المركبات
أما الَّذِي فِي البسائط فَفِي كتاب الْآثَار العلوية وَأما الَّذِي فِي المركبات فبعضه فِي وصف كليات الْأَشْيَاء المركبة وَبَعضه فِي وصف أَجزَاء الْأَشْيَاء المركبة
أما الَّذِي فِي وصف كليات المركبات فَفِي كتاب الْحَيَوَان وَفِي كتاب النَّبَات
وَأما الَّذِي فِي وصف أَجزَاء المركبات فَفِي كتاب النَّفس وَفِي كتاب الْحس والمحسوس وَفِي كتاب الصِّحَّة والسقم وَفِي كتاب الشَّبَاب والهرم
وَأما الْكتب الَّتِي فِي الْعُلُوم الإلهية فمقالاته الثَّلَاث عشرَة الَّتِي فِي كتاب مَا بعد الطبيعة
وَأما الْكتب الَّتِي فِي أَعمال الفلسفة فبعضها فِي إصْلَاح أَخْلَاق النَّفس وَبَعضهَا فِي السياسة
فَأَما الَّتِي فِي إصْلَاح أَخْلَاق النَّفس فكتابه الْكَبِير الَّذِي كتب بِهِ إِلَى ابْنه وَكتابه الصَّغِير الَّذِي كتب بِهِ إِلَى ابْنه أَيْضا وَكتابه الْمُسَمّى أوديميا
وَأما الَّتِي فِي السياسة فبعضها فِي سياسة المدن وَبَعضهَا فِي سياسة الْمنزل
وَأما الْكتب الَّتِي فِي الْآلَة المستعملة فِي عُلُوم الفلسفة فَهِيَ كتبه الثَّمَانِية المنطقية الَّتِي لم يسْبقهُ أحد مِمَّن علمناه إِلَى تأليفها وَلَا تقدمه إِلَى جمعهَا
وَقد ذكر ذَلِك أرسطوطاليس فِي آخر الْكتاب السَّادِس مِنْهَا وَهُوَ كتاب سوفسيطيقا
فَقَالَ
وَأما صناعَة الْمنطق وَبِنَاء السلوجسموس فَلم نجد لَهَا فِيمَا خلا أصلا مُتَقَدما نَبْنِي عَلَيْهِ لَكنا وقفنا على ذَلِك بعد الْجهد الشَّديد وَالنّصب الطَّوِيل
وَهَذِه الصِّنَاعَة وَإِن كُنَّا نَحن ابتدعناها واخترعناها فقد حصنا جِهَتهَا ورممنا أُصُولهَا وَلم نفقد شَيْئا مِمَّا يَنْبَغِي أَن يكون مَوْجُودا فِيهَا كَمَا فقدت أَوَائِل الصناعات وَلكنهَا كَامِلَة مستحكمة مثبتة أسسها مرموقة قواعدها وثيق بنيانها مَعْرُوفَة غاياتها وَاضِحَة أعلامها قد قدمت أمامها أركانا ممهدة ودعائم موطدة
فَمن عَسى أَن ترد عَلَيْهِ هَذِه الصِّنَاعَة بَعدنَا فليغتفر خللا إِن وجده فِيهَا وليعتد بِمَا بلغته الكلفة منا اعتداده بالمنة الْعَظِيمَة وَالْيَد الجليلة وَمن بلغ جهده بلغ عذره
وَقَالَ أَبُو نصر الفارابي إِن أرسطوطاليس جعل أَجزَاء الْمنطق ثَمَانِيَة كل جُزْء مِنْهَا فِي كتاب
الأول فِي قوانين الْمُفْردَات من المعقولات والألفاظ الدَّالَّة عَلَيْهَا وَهِي فِي الْكتاب الملقب فِي الْعَرَبيَّة بالمقولات وباليونانية القاطاغورياس(1/92)
وَالثَّانِي فِي قوانين الْأَلْفَاظ المركبة الَّتِي هِيَ المعقولات المركبة من معقولين مفردين والألفاظ الدَّالَّة عَلَيْهَا المركبة من لفظين وَهِي فِي الْكتاب الملقب فِي الْعَرَبيَّة بالعبارة وباليونانية باريمينياس
وَالثَّالِث فِي الْأَقَاوِيل الَّتِي تميز بهَا القياسات الْمُشْتَركَة للصنائع الْخمس وَهِي فِي الْكتاب الملقب فِي الْعَرَبيَّة بِالْقِيَاسِ وباليونانية أنالوطيقيا الأولى
وَالرَّابِع فِي القوانين الَّتِي تمتحن بهَا الْأَقَاوِيل البرهانية وقوانين الْأُمُور الَّتِي تلتئم بهَا الفلسفة وكل مَا يصير بهَا أفعالها أتم وَأفضل وأكمل وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ كتاب الْبُرْهَان وباليونانية أنالوطيقيا الثَّانِيَة
وَالْخَامِس فِي القوانين الَّتِي تمتحن بهَا الْأَقَاوِيل وَكَيْفِيَّة السُّؤَال الجدلي وَالْجَوَاب الجدلي وَبِالْجُمْلَةِ قوانين الْأُمُور الَّتِي تلتئم بهَا صناعَة الجدل وَتصير بهَا أفعالها أكمل وَأفضل وأنفذ وَهُوَ بِالْعَرَبِيَّةِ كتاب المواضيع الجدلية وباليونانية طوبيقا
وَالسَّادِس فِي قوانين الْأَشْيَاء الَّتِي شَأْنهَا أَن تغلط عَن الْحق وتحيد
وأحصى جَمِيع الْأُمُور الَّتِي يستعملها من قَصده التمويه والمخرقة فِي الْعُلُوم والأقاويل ثمَّ من بعْدهَا أحصى مَا يَنْبَغِي أَن تَنْتفِي بِهِ الْأَقَاوِيل المغلطة الَّتِي يستعملها المستمع والمموه وَكَيف يفْتَتح وَبِأَيِّ الْأَشْيَاء يُوقع وَكَيف يتحرز الْإِنْسَان وَمن أَيْن يغلط فِي مطلوباته وَهَذَا الْكتاب يُسمى باليونانية سوفسطيقا وَمَعْنَاهُ الْحِكْمَة المموهة
وَالسَّابِع فِي القوانين الَّتِي يمْتَحن بهَا الْأَقَاوِيل الخطبية وأصناف الْخطب وأقاويل البلغاء والخطباء هَل هِيَ على مَذْهَب الخطابة أم لَا ويحصي فِيهَا جَمِيع الْأُمُور الَّتِي بهَا تلتئم صناعَة الخطابة وَيعرف كَيفَ صَنْعَة الْأَقَاوِيل الخطبية والخطب فِي فن من الْأُمُور وَبِأَيِّ الْأَشْيَاء تصير أَجود وأكمل وَتَكون أفعالها أَنْفَع وأبلغ
وَهَذَا الْكتاب يُسمى باليونانية الريطورية وَهِي الخطابة
وَالثَّامِن فِي القوانين الَّتِي يُشِير بهَا الْأَشْعَار وأصناف الْأَقَاوِيل الشعرية المعمولة وَالَّتِي تعْمل من فن فن من الْأُمُور ويحصي أَيْضا جَمِيع الْأُمُور الَّتِي بهَا تلتئم صناعَة الشّعْر وَكم أصنافها وَكم أَصْنَاف الْأَشْعَار والأقاويل الشعرية وَكَيف صَنْعَة كل صنف مِنْهَا وَمن أَي الْأَشْيَاء تلتئم وَتصير أَجود وَأفهم وأبهى آلَة وَبِأَيِّ الْأَحْوَال يَنْبَغِي أَن تكون حَتَّى تصير أبلغ وَأبْعد وَهَذَا الْكتاب يُسمى باليونانية فويطيقا وَهُوَ كتاب الشّعْر
فَهَذِهِ جملَة أَجزَاء الْمنطق وَجُمْلَة مَا يشْتَمل عَلَيْهِ كل جُزْء مِنْهَا والجزء الرَّابِع هُوَ أَشدّهَا تقدما للشرف والرآسة
والمنطق إِنَّمَا التمس بِهِ على الْقَصْد الأول الْجُزْء الرَّابِع وَبَاقِي أَجْزَائِهَا إِنَّمَا تحمل لأجل الرَّابِع
فَأن الثَّلَاثَة الَّتِي تتقدمه فِي تَرْتِيب التَّعْلِيل هِيَ توطئات ومداخل وطرق إِلَيْهِ وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة الَّتِي تتلوه فلشيئين أَحدهمَا أَن فِي كل وَاحِد مِنْهَا أرفادا مَا ومعونة على الْجُزْء الرَّابِع ومعونة بَعْضهَا أَكثر وَبَعضهَا أقل(1/93)
وَالثَّانِي على جِهَة التَّحْدِيد وَذَلِكَ أَنَّهَا لَو لم تتَمَيَّز هَذِه الصَّنَائِع بَعْضهَا من بعض بِالْفِعْلِ حَتَّى تعرف قوانين كل وَاحِد مِنْهَا على انفرادها متميزة عَن قوانين الْأُخْرَى لم يَأْمَن الْإِنْسَان عِنْد التمَاس الْحق وَالْيَقِين أَن يسْتَعْمل الْأَشْيَاء الجدلية من حَيْثُ لَا يشْعر أَنَّهَا جدلية فيعدل من الْيَقِين إِلَى الظنون القوية وَيكون قد اسْتعْمل من حَيْثُ لَا يشْعر أمورا خطبية فيعدل بِهِ إِلَى الْإِقْنَاع أَو يكون قد اسْتعْمل المغالطات من حَيْثُ لَا يشْعر
وَإِمَّا أَن توهمه فيهمَا لَيْسَ بِحَق إِنَّه حق فيعتقده وَإِمَّا أَن يكون قد اسْتعْمل الْأَشْيَاء الشعرية من حَيْثُ لَا يشْعر أَنَّهَا شعرية فَيكون قد عمل فِي اعتقاداته على التخيلات وَعند نَفسه أَنه سلك فِي كل هَذِه الْأَقْوَال الطَّرِيق إِلَى الْحق وصادف متلمسه فَلَا يكون صادفه على الْحَقِيقَة
كَمَا أَن الَّذِي لَا يعرف الْأَزْمِنَة والأدوية وَلَا تتَمَيَّز لَهُ السمُوم عَن هَذِه بِالْفِعْلِ حَتَّى يتقن مَعْرفَتهَا بعلاماتها لم يَأْمَن أَن يَتَنَاوَلهَا على أَنَّهَا دَاء أَو دَوَاء من حَيْثُ لَا يشْعر فيتلف
وَأما على الْقَصْد الثَّانِي فَإِنَّهُ يكون قد أعْطى كل صناعَة من الصَّنَائِع الْأَرْبَع جَمِيع مَا تلتئم بِهِ تِلْكَ الصِّنَاعَة حَتَّى يدْرِي الْإِنْسَان إِذا أَرَادَ أَن يصير جدليا بارعا كم شَيْء يحْتَاج إِلَى تعلمه ويدري بِأَيّ شَيْء يمْتَحن على نَفسه أَو على غَيره أقاويله
وليعلم هَل سلك فِيهَا طَرِيق الجدل
ويدري إِذا أَرَادَ أَن يصير خَطِيبًا بارعا كم شَيْء يحْتَاج إِلَى تعلمه ويدري بِأَيّ الْأَشْيَاء يمْتَحن على نَفسه أَو على غَيره أقاويله وَيعلم هَل سلك فِي ذَلِك طَرِيق الخطابة أَو أَي طَرِيق غَيرهَا
وَكَذَلِكَ يدْرِي إِذا أَرَادَ أَن يصير شَاعِرًا بارعا كم شَيْء يحْتَاج إِلَى تعلمه ويدري بِأَيّ الْأَشْيَاء يمْتَحن على نَفسه أَو على غَيره من الشّعْر ويدري هَل سلك فِي أقاويله طَرِيق الشُّعَرَاء أَو عدل عَنهُ وخلط بِهِ طَرِيقا غَيره
وَكَذَلِكَ يُدِير إِذا أَرَادَ أَن تكون لَهُ الْقُدْرَة على أَن يغالط غَيره وَلَا يغالطه أحد كم شَيْء يحْتَاج إِلَى أَن يُعلمهُ فيدري بِأَيّ الْأَشْيَاء يُمكن أَن يمْتَحن كل قَول وكل رَأْي فَيعلم هَل غالط فِيهِ أَو غولط وَمن أَي جِهَة كَانَ ذَلِك
وَصِيَّة أرسطوطاليس
قَالَ بطليموس فِي كِتَابه إِلَى غلس فِي سيرة أرسطوطاليس وَلما حضرت أرسطوطاليس الْوَفَاة أوصى بِهَذِهِ الْوَصِيَّة الَّتِي نَحن ذاكروها قَالَ
إِنِّي جعلت وصيي أبدا فِي جَمِيع مَا خلفت انطيبطرس وَإِلَى أَن يقدم نيقاتر فَلْيَكُن أرسطومانس وطيمارخس وأبرخس وديوطالس معتنين بتفقد مَا يحْتَاج إِلَى تفقده والعناية بِمَا يَنْبَغِي أَن يعْنى بِهِ من أَمر أَهلِي وأربليس جاريتي وَسَائِر جواري وعبيدي وَمَا خلفت وَإِن سهل على ثاورسطس وَأمكنهُ الْقيام مَعَهم فِي ذَلِك كَانَ مَعَهم وَمَتى أدْركْت ابْنَتي تولى أمرهَا نيقاتر وَإِن حدث بهَا حدث الْمَوْت قبل أَن تتَزَوَّج أَو بعد ذَلِك من غير أَن يكون لَهَا ولد فَالْأَمْر مَرْدُود إِلَى نيقاتر(1/94)
فِي أمرهَا وَفِي أَمر ابْني نيقوماخس
وتوصيتي إِيَّاه فِي ذَلِك أَن يجْرِي التَّدْبِير فِيمَا يعْمل بِهِ فِي ذَلِك على مَا يَشْتَهِي وَمَا يَلِيق بِهِ لَو كَانَ أَبَا أَو أَخا لَهما وَإِن حدث بنيقاتر حدث الْمَوْت قبل أَن تتَزَوَّج ابْنَتي أَو بعد تَزْوِيجهَا من غير أَن يكون لَهَا ولد فأوصى نيقاتر فِيمَا خلفت بِوَصِيَّة فَهِيَ جَائِزَة نَافِذَة
وَإِن مَاتَ نيقاتر عَن غير وَصِيَّة وَسَهل على ثاوفرسطس وَأحب أَن يقوم فِي الْأَمر مقَامه فَذَلِك لَهُ فِي جَمِيع مَا كَانَ يقوم بِهِ نيقاتر من أَمر وَلَدي وَغير ذَلِك مِمَّا خلفت وَإِن لم يحب ثاوفرسطس الْقيام بذلك فَليرْجع الأوصياء الَّذين سميت إِلَى أنطيبطرس فيشاوروه فِيمَا يعْملُونَ بِهِ فِيمَا خلفت ويمضوا الْأَمر على مَا يتفقون عَلَيْهِ
وليحفظني الأوصياء ونيقاتر فِي أربليس فَإِنَّهَا تسْتَحقّ مني ذَلِك لما رَأَيْت من عنايتها بخدمتي واجتهادها فِيمَا وَافقنِي ويهيئوا لَهَا جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ وَإِن هِيَ أحبت التَّزْوِيج فَلَا تُوضَع إِلَّا عِنْد رجل فَاضل
وليدفع إِلَيْهَا من الْفضة سوى مَا هُوَ لَهَا طالنطن وَاحِد وَهُوَ مائَة وَخمْس وَعِشْرُونَ رطلا وَمن الْإِمَاء ثَلَاث مِمَّن تخْتَار مَعَ جاريتها الَّتِي لَهَا وغلامها وَإِن هِيَ أحبت الْمقَام بخلقيس فلهَا السُّكْنَى فِي دَاري دَار الضِّيَافَة الَّتِي إِلَى جَانب الْبُسْتَان وَإِن اخْتَارَتْ السُّكْنَى فِي الْمَدِينَة بأسطاغيرا فلتسكن فِي منَازِل آبَائِي وَأي الْمنَازل اختارته فليتخذ الأوصياء لَهَا فِيهِ مَا تذكر إِنَّهَا تحْتَاج إِلَيْهِ مِمَّا يرَوْنَ إِن لَهَا فِيهِ مصلحَة وَبهَا إِلَيْهِ حَاجَة
أما أَهلِي وَوَلَدي فَلَا حَاجَة بِي إِلَى أَن أوصيهم بأمرهم
وليعن نيقاتر بمرمقس الْغُلَام حَتَّى يردهُ إِلَى بَلَده وَمَعَهُ جَمِيع مَا لَهُ على الْحَالة الَّتِي يشتهيها
ولتعتق جاريتي أمبراقيس وَإِن هِيَ بعد الْعتْق أَقَامَت على خدمَة ابْنَتي إِلَى أَن تتَزَوَّج فليدفع إِلَيْهَا خَمْسمِائَة درخمى وجاريتها
وَيدْفَع إِلَى ثاليس الصبية الَّتِي ملكناها قَرِيبا غُلَام من مماليكنا وَألف درخمى وَيدْفَع إِلَى سمينس ثمن غُلَام يبتاعه لنَفسِهِ غير الْغُلَام الَّذِي كَانَ دفع إِلَيْهِ ثمنه ويوهب لَهُ سوى ذَلِك شَيْء على مَا يرى الأوصياء
وَمَتى تزوجت ابْنَتي فليعتق غلماني ثاخن وفيلن وأولمبوس وَلَا يُبَاع ابْن أولمبوس وَلَا أحد مِمَّن خدمني من غلماني وَلَكِن يقرونَ مماليك فِي الْخدمَة إِلَى أَن يدركوا مدرك الرِّجَال فَإِذا بلغُوا ذَلِك فليعتقوا وَيفْعل بهم فِيمَا يُوهب لَهُم حسب استحقاقهم
قَالَ حنين بن إِسْحَاق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة أصل اجتماعات الفلاسفة إِنَّه كَانَت الْمُلُوك من اليونانية وَغَيرهَا تعلم أَوْلَادهَا الْحِكْمَة والفلسفة وتؤديهم بأصناف الْآدَاب وتتخذ لَهُم بيُوت الذَّهَب المصورة بأصناف الصُّور
وَإِنَّمَا جعلت الصُّور لارتياح الْقُلُوب إِلَيْهَا واشتياق النّظر إِلَى رؤيتها
فَكَانَ الصّبيان يلازمون بيُوت الصُّور للتأديب بِسَبَب الصُّور الَّتِي فِيهَا وَكَذَلِكَ نقشت الْيَهُود هياكلها وصورت النَّصَارَى كنائسها وَبَيْعهَا وزوق الْمُسلمُونَ مَسَاجِدهمْ
كل ذَلِك لترتاح النُّفُوس إِلَيْهَا وتشتغل الْقُلُوب بهَا
فَإِذا حفظ المتعلم من أَوْلَاد الْمُلُوك علما أَو حِكْمَة أَو أدبا صعد على درج إِلَى مجْلِس(1/95)
مَعْمُول من الرخام المصور المنقوش فِي يَوْم الْعِيد الَّذِي يجْتَمع فِيهِ أهل المملكة إِلَى ذَلِك الْبَيْت بعد انْقِضَاء الصَّلَاة والتبرك فيتكلم بالحكمة الَّتِي حفظهَا وينطق بالأدب الَّذِي وعاه على رُؤُوس الأشهاد فِي وَسطهمْ وَعَلِيهِ التَّاج وحلل الْجَوَاهِر
ويحيي الْمعلم وَيكرم ويبر ويشرف الْغُلَام
ويعد حكيما على قدر ذكائه وفهمه
وتعظم الهياكل وتستر ويشعل فِيهَا النيرَان والشمع وتبخر بالدخن الطّيبَة ويتزين النَّاس بأنواع الزِّينَة
وَبَقِي ذَلِك إِلَى الْيَوْم للصابئة وَالْمَجُوس وَالْيَهُود وَالنَّصَارَى إثباتات فِي الهياكل وللمسلمين مَنَابِر فِي الْمَسَاجِد
قَالَ حنين بن إِسْحَاق وَكَانَ أفلاطون الْمعلم الْحَكِيم فِي زمن روفسطانيس الْملك وَكَانَ اسْم ابْنه نطافورس
وَكَانَ أرسطوطاليس غُلَاما يَتِيما قد سمت بِهِ همته إِلَى خدمَة أفلاطون الْحَكِيم فَاتخذ روفسطانس الْملك بَيْتا للحكمة وفرشه لِابْنِهِ نطافورس وَأمر أفلاطون بملازمته وتعليمه
وَكَانَ نطافورس غُلَاما مُتَخَلِّفًا قَلِيل الْفَهم بطيء الْحِفْظ
وَكَانَ أرسطوطاليس غُلَاما ذكيا فهما جادا معبرا وَكَانَ أفلاطون يعلم نطافورس الْحِكْمَة والآداب فَكَانَ مَا يتعلمه الْيَوْم ينساه غَدا وَلَا يعبر حرفا وَاحِدًا
وَكَانَ أرسطوطاليس يتلقف مَا يلقى إِلَى نطافورس فيحفظه ويرسخ فِي صَدره ويعي ذَلِك سرا عَن أفلاطون ويحفظه
وأفلاطون لَا يعلم بذلك من سر أرسطوطاليس وضميره حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم الْعِيد زين بَيت الذَّهَب وألبس نطافورس الحلى وَالْحلَل وَحضر الْملك روفسطانس وَأهل المملكة وأفلاطون وتلاميذه وَانْقَضَت الصَّلَاة وَصعد أفلاطون الْحَكِيم ونطافورس إِلَى مرتبَة الشّرف ودراسة الحكم على الأشهاد والملوك فَلم يؤد الْغُلَام نطافورس شَيْئا من الْحِكْمَة وَلَا نطق بِحرف من الْآدَاب فأسقط فِي يَد أفلاطون وَاعْتذر إِلَى النَّاس بِأَنَّهُ لم يمْتَحن علمه وَلَا عرف مِقْدَار فهمه وَأَنه كَانَ واثقا بِحِكْمَتِهِ وفطنته
ثمَّ قَالَ يَا معشر التلامذة من فِيكُم يضطلع بِحِفْظ شَيْء من الْحِكْمَة وينوب عَن نطافورس فبدر أرسطوطاليس فَقَالَ أَنا أَيهَا الْحَكِيم فازدراه وَلم يَأْذَن لَهُ فِي الْكَلَام
ثمَّ أعَاد القَوْل على تلامذته فبدرهم أرسطوطاليس فَقَالَ أَنا يَا معلم الْحِكْمَة أضطلع بِمَا ألقيت من الْحِكْمَة إِلَى نطافورس
فَقَالَ لَهُ أرق فرقي أرسطوطاليس الدرج بِغَيْر زِينَة وَلَا استعداد فِي أثوابه الدنيئة المبتذلة فَهدر كَمَا يهدر الطير وأتى بأنواع الْحِكْمَة وَالْأَدب الَّذِي أَلْقَاهُ أفلاطون إِلَى نطافورس وَلم يتْرك مِنْهَا حرفا وَاحِدًا
فَقَالَ أفلاطون أَيهَا الْملك هَذِه الْحِكْمَة الَّتِي لقنتها نطافورس قد وعاها أرسطوطاليس سَرقَة وحفظها سرا مَا غادر مِنْهَا حرفا فَمَا حيلتي فِي الرزق والحرمان
وَكَانَ الْملك فِي مثل ذَلِك الْيَوْم يرشح ابْنه للْملك ويشرفه وَيعْلي مرتبته فَأمر الْملك باصطناع أرسطوطاليس وَلم يرشح ابْنه للْملك
وَانْصَرف الْجَمِيع فِي ذَلِك الْيَوْم على اسْتِحْسَان مَا أَتَى بِهِ أرسطوطاليس والتعجب من الرزق والحرمان
مقَالَة أرسطوطاليس
قَالَ حنين بن إِسْحَاق هَذَا بعض مَا وجدت من حِكْمَة أرسطوطاليس فِي ذَلِك الْيَوْم(1/96)
لبارئنا التَّقْدِيس والإعظام والإجلال وَالْإِكْرَام
أَيهَا الأشهاد الْعلم موهبة الْبَارِي وَالْحكمَة عَطِيَّة من يُعْطي وَيمْنَع ويحط وَيرْفَع
والتفاضل فِي الدُّنْيَا والتفاخر فِي الْحِكْمَة الَّتِي هِيَ روح الْحَيَاة وعمادة الْعقل الرباني الْعلوِي
أَنا أرسطوطاليس بن فيلوبيس الْيَتِيم خَادِم نطافورس ابْن الْملك الْعَظِيم حفظت ووعيت وَالتَّسْبِيح وَالتَّقْدِيس لمعلم الصَّوَاب ومسبب الْأَسْبَاب أَيهَا الأشهاد بالعقول تتفاضل النَّاس لَا بالأصول
وعيت عَن أفلاطون الْحَكِيم الْحِكْمَة رَأس الْعُلُوم والآداب تلقيح الأفهام ونتائج الأذهان
وبالفكر الثاقب يدْرك الرَّأْي العازب وبالتالي تسهل المطالب وبلين الْكَلم تدوم الْمَوَدَّة فِي الصُّدُور
وبخفض الْجنَاح تتمّ الْأُمُور وبسعة الْأَخْلَاق يطيب الْعَيْش ويكمل السرُور
وَبِحسن الصمت جلالة الهيبة وبإصابة الْمنطق يعظم الْقدر ويرتقي الشّرف وبالإنصاف يحب التواصل وبالتواضع تكْثر الْمحبَّة وبالعفاف تزكو الْأَعْمَال وبالأفضال يكون السؤدد وبالعدل يقهر الْعَدو وبالحكم تكْثر الْأَنْصَار وبالرفق تستخدم الْقُلُوب وبالإيثار يسْتَوْجب اسْم الْجُود وبالإنعام يسْتَحق اسْم الْكَرم وبالوفاء يَدُوم الإخاء وبالصدق يتم الْفضل وَبِحسن الِاعْتِبَار تضرب الْأَمْثَال وَالْأَيَّام تفِيد الحكم يسْتَوْجب الزِّيَادَة من عرف نقص الدُّنْيَا وَمن السَّاعَات تتولد الْآفَات وبالعافية يُوجد طيب الطَّعَام وَالشرَاب وبحلول المكاره يتنغص الْعَيْش وتتكدر النعم وبالمن يكفر بِالْإِحْسَانِ وبالجحد للإنعام يجب الحرمان
صديق الملول زائل عَنهُ السيء الْخلق مخاطر صَاحبه الضّيق الباع حسير النّظر الْبَخِيل ذليل وَإِن كَانَ غَنِيا والجواد عَزِيز وَأَن كَانَ مقلا
الطمع هُوَ الْفقر الْحَاضِر الْيَأْس الْغنى الظَّاهِر لَا أَدْرِي نصف الْعلم
السرعة فِي الْجَواب توجب العثار التروي فِي الْأُمُور يبْعَث على البصائر الرياضة تشحذ القريحة الْأَدَب يُغني عَن الْحسب
التَّقْوَى شعار الْعَالم والرياء لبوس الْجَاهِل
مقاساة الأحمق عَذَاب الرّوح
الاستهتار بِالنسَاء فعل الفوكي
الِاشْتِغَال بالفائت تَضْييع الْأَوْقَات
المتعرض للبلاء مخاطر بِنَفسِهِ التَّمَنِّي سَبَب الْحَسْرَة الصَّبْر تأييد الْعَزْم وَثَمَرَة الْفرج وتمحيق المحنة
صديق الْجَاهِل مغرور المخاطر خائب من عرف نَفسه لم يضع بَين النَّاس
من زَاد علمه على عقله كَانَ علمه وبالا عَلَيْهِ
المجرب احكم من الطَّبِيب
إِذا فاتك الْأَدَب فَالْزَمْ الصمت
من لم يَنْفَعهُ الْعلم يَأْمَن ضَرَر الْجَاهِل
من تأنى لم ينْدَم من افتخر ارتطم من عجل تورط(1/97)
من تفكر سلم وَمن روى غنم من سَأَلَ علم من حمل مَا لَا يُطيق ارتبك
التجارب لَيْسَ لَهَا غَايَة والعاقل مِنْهَا فِي زِيَادَة للْعَادَة على كل أحد سُلْطَان
وكل شَيْء يُسْتَطَاع نَقله إِلَّا الطباع وكل شَيْء يتهيأ فِيهِ حِيلَة إِلَّا الْقَضَاء
من عرف بالحكمة لحظته الْعُيُون بالوقار
قد يكْتَفى من حَظّ البلاغة بالإيجاز
لَا يُؤْتى النَّاطِق إِلَّا من سوء فهم السَّامع
وَمن وجد برد الْيَقِين أغناه عَن الْمُنَازعَة فِي السُّؤَال وَمن عدم دَرك ذَلِك كَانَ مغمورا بِالْجَهْلِ ومفتونا بعجب الرَّأْي ومعدولا بالهوى عَن بَاب التثبت ومصروفا بِسوء الْعَادة عَن تَفْصِيل التَّعْلِيم
الْجزع عِنْد مصائب الإخوان أَحْمد من الصَّبْر وصبر الْمَرْء على مصيبته أَحْمد من جزعه
لَيْسَ شَيْء أقرب إِلَى تَغْيِير النعم من الْإِقَامَة على الظُّلم
من طلب خدمَة السُّلْطَان بِغَيْر أدب خرج من السَّلامَة إِلَى العطب
الارتقاء إِلَى السؤدد صَعب والانحطاط إِلَى الدناءة سهل
قَالَ حنين بن إِسْحَق وَهَذَا الصِّنْف من الْآدَاب أول مَا يُعلمهُ الْحَكِيم للتلميذ فِي أول سنة مَعَ الْخط اليوناني ثمَّ يرفعهُ من ذَلِك إِلَى الشّعْر والنحو ثمَّ إِلَى الْحساب ثمَّ إِلَى الهندسة ثمَّ إِلَى النُّجُوم ثمَّ إِلَى الطِّبّ ثمَّ إِلَى الموسيقى ثمَّ بعد ذَلِك يرتقي إِلَى الْمنطق ثمَّ الفلسفة وَهِي عُلُوم الْآثَار العلوية فَهَذِهِ عشرَة عُلُوم يتعلمها المتعلم فِي عشر سِنِين
فَلَمَّا رأى أفلاطون الْحَكِيم حفظ أرسطوطاليس لما كَانَ يلقى إِلَى نطافورس وتأديبه إِيَّاه كَمَا أَلْقَاهُ سره حفظه وطبعه وَرَأى الْملك قد أَمر باصطناعه فاصطنعه هُوَ وَأَقْبل عَلَيْهِ وَعلمه علما علما حَتَّى وعى الْعُلُوم الْعشْرَة وَصَارَ فيلسوفا حكيما جَامعا لما تقدم ذكره
أَقُول وَمن كَلَام أرسطوطاليس وَهُوَ أصل يعْتَمد عَلَيْهِ فِي الصِّحَّة عجبت لمن يشرب مَاء الْكَرم وَيَأْكُل الْخبز وَاللَّحم ويقتصد فِي حركته وسكونه ونومه ويقظته وَأحسن السياسة فِي جمَاعَة وتعديل مزاجه كَيفَ يمرض
آدَاب أرسطوطاليس
وَمن آدَاب أرسطوطاليس وكلماته الحكيمة مِمَّا ذكره الْأَمِير المبشر بن فاتك قَالَ أرسطوطاليس
أعلم أَنه لَيْسَ شَيْء أصلح من أولي الْأَمر إِذا صلحوا وَلَا أفسد لَهُم ولأنفسهم مِنْهُم إِذا فسدوا فالوالي من الرّعية بِمَنْزِلَة الرّوح من الْجَسَد الَّذِي لَا حَيَاة لَهُ إِلَّا بهَا
وَقَالَ احذر الْحِرْص فَأَما مَا هُوَ مصلحك ومصلح على يَديك فالزهد وَاعْلَم أَن الزّهْد بِالْيَقِينِ(1/98)
وَالْيَقِين بِالصبرِ وَالصَّبْر بالفكر فَإِذا فَكرت فِي الدُّنْيَا لم تجدها أَهلا لِأَن تكرمها بهوان الْآخِرَة لِأَن الدُّنْيَا دَار بلَاء ومنزل بلغَة
وَقَالَ إِذا أردْت الْغنى فاطلبه بالقناعة فَإِنَّهُ من لم تكن لَهُ القناعة فَلَيْسَ المَال مغنيه وَإِن كثر
وَقَالَ اعْلَم أَن من عَلامَة تنقل الدُّنْيَا وكدر عيشها أَنه لَا يصلح مِنْهَا جَانب إِلَّا بِفساد جَانب آخر وَلَا سَبِيل لصَاحِبهَا إِلَى عز إِلَّا بإذلال وَلَا اسْتغْنَاء إِلَّا بافتقار
وَاعْلَم أَنَّهَا رُبمَا أُصِيبَت بِغَيْر حزم فِي الرَّأْي وَلَا فضل فِي الدّين فَإِن أصبت حَاجَتك مِنْهَا وَأَنت مُخطئ أَو أَدْبَرت عَنْك وَأَنت مُصِيب فَلَا يستخفنك ذَلِك إِلَى معاودة الْخَطَأ ومجانبة الصَّوَاب
وَقَالَ لَا تبطل عمرا فِي غير نفع وَلَا تضع لَك مَالا فِي غير حق وَلَا تصرف لَك قُوَّة فِي غير عناء وَلَا تعدل لَك رَأيا فِي غير رشد فَعَلَيْك بِالْحِفْظِ لما أتيت من ذَلِك وَالْجد فِيهِ وخاصة فِي الْعُمر الَّذِي كل شَيْء مُسْتَفَاد سواهُ وَإِن كَانَ لَا بُد لَك من اشغال نَفسك بلذة فلتكن فِي محادثة الْعلمَاء ودرس كتب الْحِكْمَة
وَقَالَ اعْلَم أَنه لَيْسَ من أحد يَخْلُو من عيب وَلَا من حَسَنَة فَلَا يمنعك عيب رجل من الِاسْتِعَانَة بِهِ فِيمَا لَا نقص بِهِ
وَلَا يحملنك مَا فِي رجل من الْحَسَنَات على الِاسْتِعَانَة بِهِ فِيمَا لَا مَعُونَة عِنْده عَلَيْهِ
وَاعْلَم أَن كَثْرَة أعوان السوء أضرّ عَلَيْك من فقد أعوان الصدْق
وَقَالَ الْعدْل ميزَان الله عز وَجل فِي أرضه وَبِه يُؤْخَذ للضعيف من الْقوي وللمحق من الْمُبْطل
فَمن أَزَال ميزَان الله عَمَّا وَضعه بَين عباده فقد جهل أعظم الْجَهَالَة واعتز بِاللَّه سُبْحَانَهُ أَشد اعتزازا
وَقَالَ الْعَالم يعرف الْجَاهِل لِأَنَّهُ كَانَ جَاهِلا وَالْجَاهِل لَا يعرف الْعَالم لِأَنَّهُ لم يكن عَالما
وَقَالَ لَيْسَ طلبي للْعلم طَمَعا فِي بُلُوغ قاصيته وَلَا الِاسْتِيلَاء على غَايَته وَلَكِن التماسا لما لَا يسع جَهله وَلَا يحسن بالعاقل خِلَافه
وَقَالَ اطلب الْغنى الَّذِي لَا يفنى والحياة الَّتِي لَا تَتَغَيَّر وَالْملك الَّذِي لَا يَزُول والبقاء الَّذِي لَا يضمحل
وَقَالَ أصلح نَفسك لنَفسك يكن النَّاس تبعا لَك
وَقَالَ كن رؤوفا رحِيما وَلَا تكن رأفتك ورحمتك فَسَادًا لمن يسْتَحق الْعقُوبَة ويصلحه الْأَدَب
وَقَالَ خُذ نَفسك بِإِثْبَات السّنة فَإِن فِيهَا إِكْمَال التقى وَقَالَ افترص من عَدوك الفرصة(1/99)
واعمل على أَن الدَّهْر دوَل
وَقَالَ لَا تصادم من كَانَ على الْحق وَلَا تحارب من كَانَ متمسكا بِالدّينِ
وَقَالَ صير الدّين مَوضِع ملكك فَمن خَالفه فَهُوَ عَدو لملكك وَمن تمسك بِالسنةِ فَحَرَام عَلَيْك ذمه وَإِدْخَال المذلة عَلَيْهِ وَاعْتبر مِمَّن مضى وَلَا تكن عِبْرَة لمن بعْدك
وَقَالَ لَا فَخر فِيمَا يَزُول وَلَا غنى فِيمَا لَا يثبت
وَقَالَ عَامل الضَّعِيف من أعدائك على أَنه أقوى مِنْك وتفقد جندك تفقد من قد نزلت بِهِ الآفة واضطرته إِلَى مدافعتهم
وَقَالَ دَار الرّعية مداراة من قد انهتكت عَلَيْهِ مَمْلَكَته وَكَثْرَة عَلَيْهِ أعداؤه
وَقَالَ قدم أهل الدّين وَالصَّلَاح وَالْأَمَانَة على أَنَّك تنَال بذلك فِي الْعَاقِبَة الْفَوْز وتتزين بِهِ فِي الدُّنْيَا
وَقَالَ اقمع أهل الْفُجُور على أَنَّك تصلح دينك ورعيتك بذلك
وَقَالَ لَا تغفل فَإِن الْغَفْلَة تورث الندامة وَقَالَ
لَا ترج السَّلامَة لنَفسك حَتَّى يسلم النَّاس من جورك وَلَا تعاقب غَيْرك على أَمر ترخص فِيهِ لنَفسك وَاعْتبر بِمن تقدم واحفظ مَا مضى والزم الصِّحَّة يلزمك النَّصْر
وَقَالَ الصدْق قوام أَمر الْخَلَائق وَالْكذب دَاء لَا ينجو من نزل بِهِ
وَمن جعل الْأَجَل أَمَامه أصلح نَفسه وَمن وسخ نَفسه أبغضته خاصته
وَقَالَ لن يسود من يتبع الْعُيُوب الْبَاطِنَة من إخوانه من تجبر على النَّاس ذلته
من أفرط فِي اللوم كره النَّاس حَيَاته
من مَاتَ مَحْمُودًا كَانَ أحسن حَالا مِمَّن عَاشَ مذموما
من نَازع السُّلْطَان مَاتَ قبل يَوْمه
أَي ملك نَازع السوقة هتك شرفه
أَي ملك تطنف إِلَى المحقرات فالموت أكْرم لَهُ
وَقَالَ من أسرف فِي حب الدُّنْيَا مَاتَ فَقِيرا وَمن قنع مَاتَ غَنِيا
من أسرف فِي الشَّرَاب فَهُوَ من السّفل
من مَاتَ قل حساده
وَقَالَ الْحِكْمَة شرف من لَا قديم لَهُ
الطمع يُورث الذلة الَّتِي لَا تستقال
اللؤم يهدم الشّرف ويعرض النَّفس للتلف
سوء الْأَدَب يهدم مَا بناه الأسلاف
الْجَهْل سر الْأَصْحَاب
بذل الْوَجْه إِلَى النَّاس هُوَ الْمَوْت الْأَصْغَر
يَنْبَغِي للمدبر أَن لَا يتَّخذ الرّعية مَالا وقنية وَلَكِن يتخذهم أَهلا وإخوانا وَلَا يرغب فِي الْكَرَامَة الَّتِي ينالها من الْعَامَّة كرها وَلَكِن فِي الَّتِي يَسْتَحِقهَا بِحسن الْأَثر وصواب التَّدْبِير(1/100)
وَكتب إِلَى الْإِسْكَنْدَر فِي وَصَايَاهُ لَهُ أَن الأردياء ينقادون بالخوف والأخيار ينقادون بِالْحَيَاءِ فميز بَين الطبقتين وَاسْتعْمل فِي أُولَئِكَ الغلظة والبطش وَفِي هَؤُلَاءِ الأفضال وَالْإِحْسَان
وَقَالَ أَيْضا ليكن غضبك أمرا بَين المنزلتين لَا شَدِيدا قاسيا وَلَا فاترا ضَعِيفا فَإِن ذَلِك من أَخْلَاق السبَاع وَهَذَا من أَخْلَاق الصّبيان
وَكتب إِلَيْهِ أَيْضا إِن الْأُمُور الَّتِي يشرف بهَا الْمُلُوك ثَلَاثَة سنّ السّنَن الجميلة وَفتح الْفتُوح الْمَذْكُورَة وَعمارَة الْبلدَانِ المعطلة
وَقَالَ اخْتِصَار الْكَلَام طي الْمعَانِي
رغبتك فِيمَن يزهد فِيك ذل نفس وزهدك فِيمَن يرغب فِيك قصر همة
النميمة تهدي إِلَى الْقُلُوب الْبغضَاء
من واجهك فقد شتمك وَمن نقل إِلَيْك نقل عَنْك
الْجَاهِل عَدو لنَفسِهِ فَكيف يكون صديقا لغيره
السعيد من اتعظ بِغَيْرِهِ
وَقَالَ لأَصْحَابه لتكن عنايتكم فِي رياضة أَنفسكُم فَأَما الْأَبدَان فاعتنوا بهَا لما يَدْعُو إِلَيْهِ الِاضْطِرَار واهربوا من اللَّذَّات فَإِنَّهَا تسْتَرق النُّفُوس الضعيفة وَلَا قُوَّة بهَا على القوية
وَقَالَ إِنَّا لنحب الْحق ونحب أفلاطون فَإِذا افْتَرقَا فَالْحق أولى بالمحبة
الْوَفَاء نتيجة الْكَرم
لِسَان الْجَاهِل مِفْتَاح حتفه
الْحَاجة تفتح بَاب الْحِيلَة
الصمت خير من عجز الْمنطق
بالأفضال تعظم الأقدار
بالتواضع تتمّ النِّعْمَة
بِاحْتِمَال الْمُؤَن يجب السؤدد
بالسيرة العادلة تقل المساوئ
بترك مَا لَا يَعْنِيك يتم لَك الْفضل
بالسعايات تنشأ المكارة
وَنظر إِلَى حدث يتهاون بِالْعلمِ فَقَالَ لَهُ إِنَّك إِن لم تصبر على تَعب الْعلم صبرت على شقاء الْجَهْل
وسعى إِلَيْهِ تلميذ لَهُ بآخر فَقَالَ لَهُ أَتُحِبُّ أَن نقبل قَوْلك فِيهِ على أَنا نقبل قَوْله فِيك قَالَ لَا
قَالَ فَكف عَن الشَّرّ يكف عَنْك
وَرَأى إنْسَانا ناقها يكثر من الْأكل وَهُوَ يرى أَنه تَقْوِيَة فَقَالَ لَهُ يَا هَذَا لَيْسَ زِيَادَة الْقُوَّة بِكَثْرَة مَا يرد الْبدن من الْغذَاء وَلَكِن بِكَثْرَة مَا يقبل مِنْهُ
وَقَالَ كفى بالتجارب تأدبا وبتقلب الْأَيَّام عظة
وَقيل لأرسطوطاليس مَا الشَّيْء الَّذِي لَا يَنْبَغِي أَن يُقَال وَإِن كَانَ حَقًا فَقَالَ مدح الْإِنْسَان نَفسه
وَقيل لَهُ لما حفظت الْحُكَمَاء المَال فَقَالَ لِئَلَّا يقيموا أنفسهم بِحَيْثُ لَا يستحقونه من الْمقَام
وَقَالَ امتحن الْمَرْء فِي وَقت غَضَبه لَا فِي وَقت رِضَاهُ وَفِي حِين قدرته لَا فِي حِين ذلته
وَقَالَ رضى النَّاس غَايَة لَا تدْرك فَلَا تكره سخط من رِضَاهُ الْجور(1/101)
وَقَالَ شرف الْإِنْسَان على جَمِيع الْحَيَوَان بالنطق فَإِن سكت وَلم يفهم عَاد بهيميا
وَقَالَ لَا تكثروا من الشَّرَاب فيغير عقولكم وَيفْسد أفهامكم
وَأعَاد على تلميذ لَهُ مسئلة فَقَالَ لَهُ أفهمت قَالَ التليمذ نعم
قَالَ لَا أرى آثَار الْفَهم عَلَيْك
قَالَ وَكَيف ذَلِك قَالَ لَا أَرَاك مَسْرُورا وَالدَّلِيل على الْفَهم السرُور
وَقَالَ خير الْأَشْيَاء أَجدهَا إِلَّا المودات فَإِن خَيرهَا أقدمها
وَقَالَ لكل شَيْء خَاصَّة وخاصة الْعقل حسن الِاخْتِيَار
وَقَالَ لَا يلام الْإِنْسَان فِي ترك الْجَواب إِذا سُئِلَ حَتَّى يتَبَيَّن أَن السَّائِل قد أحسن السُّؤَال لِأَن حسن السُّؤَال سَبِيل وَعلة إِلَى حسن الْجَواب
وَقَالَ كَلَام العجلة مُوكل بِهِ الزلل
وَقَالَ إِنَّمَا يحمل الْمَرْء على ترك ابْتِغَاء مَا لم يعلم قلَّة انتفاعه بِمَا قد علم
وَقَالَ من ذاق حلاوة عمل صَبر على مرَارَة طرقه وَمن وجد مَنْفَعَة علم عَنى بالتزيد فِيهِ
وَقَالَ دفع الشَّرّ بِالشَّرِّ جلد وَدفع الشَّرّ بِالْخَيرِ فَضِيلَة
وَقَالَ ليكن مَا تكْتب من خير مَا يقْرَأ وَمَا تحفظ من خير مَا يكْتب
وَكتب إِلَى الاسكندر إِذا أَعْطَاك الله مَا تحب من الظفر فافعل مَا أحب من الْعَفو
وَقَالَ لَا يُوجد الفخور مَحْمُودًا وَلَا الغضوب مَسْرُورا وَلَا الْكَرِيم حسودا وَلَا الشره غَنِيا وَلَا الملول دَائِم الإخاء وَلَا مفتتح يعجل الإخاء ثمَّ ينْدَم
وَقَالَ إِنَّمَا غلبت الشَّهْوَة على الرَّأْي فِي أَكثر النَّاس لِأَن الشَّهْوَة مَعَهم من لدن الصِّبَا والرأي إِنَّمَا يَأْتِي عِنْد تكاملهم فَإِنَّهُم بالشهوة لقدم الصُّحْبَة أَكثر من أنسهم بِالرَّأْيِ لِأَنَّهُ فيهم كَالرّجلِ الْغَرِيب
وَلما فرغ من تَعْلِيم الْإِسْكَنْدَر دعابه فَسَأَلَهُ عَن مسَائِل فِي سياسة الْعَامَّة والخاصة فَأحْسن الْجَواب عَنْهَا فناله بغاية مَا كره من الضَّرْب والأذى
فَسئلَ عَن هَذَا الْفِعْل فَقَالَ هَذَا غُلَام يرشح للْملك فَأَرَدْت أَن أذيقه طعم الظُّلم ليَكُون رادعا لَهُ عَن ظلم النَّاس
وَأمر أرسطوطاليس عِنْد مَوته أَن يدْفن ويبنى عَلَيْهِ بَيت مثمن يكْتب فِي جملَة جهاته ثَمَان كَلِمَات جامعات لجَمِيع الْأُمُور الَّتِي بهَا مصلحَة النَّاس وَتلك الْكَلم الثمان هِيَ هَذِه على هَذَا الْمِثَال(1/102)
كتب أرسطوطاليس
ولأرسطوطاليس من الْكتب الْمَشْهُورَة مِمَّا ذكره بطليموس
كتاب يحض فِيهِ على الفلسفة ثَلَاث مقالات
كتاب سوفسطس مقَالَة كتاب فِي صناعَة الريطوري ثَلَاث مقالات
كتاب فِي الْعدْل أَربع مقالات كتاب فِي الرياضة وَالْأَدب المصلحين(1/103)
لحالات الْإِنْسَان فِي نَفسه أَربع مقالات
كتاب فِي شرف الْجِنْس خمس مقالات كتاب فِي الشُّعَرَاء ثَلَاث مقالات
كتاب فِي الْملَل سِتّ مقالات
كتاب فِي الْخَيْر خمس مقالات
كتاب أرخوطس ثَلَاث مقالات
كتاب فِي الخطوط هَل هِيَ منقسمة أم لَا ثَلَاث مقالات
كتاب فِي صفة الْعدْل أَربع مقالات
كتاب فِي التباين وَالِاخْتِلَاف أَربع مقالات
كتاب فِي الْعِشْق ثَلَاث مقالات
كتاب فِي الصُّور هَل لَهَا وجود أم لَا ثَلَاث مقالات
كتاب فِي اخْتِصَار قَول فلاطن مقالتان
كتاب فِي اخْتِصَار أقاويل فلاطن فِي تَدْبِير المدن خمس مقالات
كتاب فِي اخْتِصَار قَول فلاطن فِي اللَّذَّة فِي كِتَابه فِي السياسة مقالتان
كتاب فِي اللَّذَّة مقالتان
كتاب فِي الحركات ثَمَان مقالات
كتاب فِي الْمسَائِل الحيلية مقالتان
كتاب فِي صناعَة الشّعْر على مَذْهَب فيثاغورس مقالتان
كتاب فِي الرّوح ثَلَاث مقالات
كتاب فِي الْمسَائِل ثَلَاث مقالات
كتاب فِي نيل مصر ثَلَاث مقالات
كتاب فِي اتِّخَاذ الْحَيَوَان الْمَوَاضِع ليأوي فِيهَا ويكمن مقَالَة
كتاب فِي جَوَامِع الصناعات مقَالَة
كتاب فِي الْمحبَّة ثَلَاث مقالات
كتاب قاطيغورياس مقَالَة كتاب أرمينياس مقَالَة
كتاب طوبيقا ثَمَان مقالات
كتاب أنولوطيقا وَهُوَ الْقيَاس مقالتان
كتاب أفودقطيقا وَهُوَ الْبُرْهَان مقالتان
كتاب فِي السوفسطائية مقَالَة
كتاب فِي المقالات الْكِبَار فِي الْأَخْلَاق مقالتان
كتاب فِي المقالات الصغار فِي الْأَخْلَاق إِلَى أوذيمس ثَمَان مقالات
كتاب فِي تَدْبِير المدن ثَمَان مقالات كتاب فِي صناعَة الشّعْر
كتاب فِي سمع الكيان ثَمَان مقالات
كتاب فِي السَّمَاء والتالم أَربع مقالات
كتاب فِي الْكَوْن وَالْفساد مقالتان
كتاب فِي الْآثَار العلوية أَربع مقالات
كتاب فِي النَّفس ثَلَاث مقالات
كتاب فِي الْحس والمحسوس مقَالَة
كتاب فِي الذّكر وَالنَّوْم مقَالَة
كتاب فِي حَرَكَة الْحَيَوَانَات وتشريحها سبع مقالات
كتاب فِي طبائع الْحَيَوَان عشر مقالات
كتاب فِي الْأَعْضَاء الَّتِي بهَا الْحَيَاة أَربع مقالات
كتاب فِي كَون الْحَيَوَان خمس مقالات
كتاب فِي حركات الْحَيَوَانَات الكائنة على الأَرْض مقَالَة
كتاب فِي طول الْعُمر وقصره مقَالَة
كتاب فِي الْحَيَاة وَالْمَوْت مقَالَة
كتاب فِي النَّبَات مقالتان
كتاب فِيمَا بعد الطبيعة ثَلَاث عشرَة مقَالَة
كتاب فِي مسَائِل هيولانية مقَالَة
كتاب فِي مسَائِل طبيعية أَربع مقالات
كتاب فِي الْقسم سِتّ وَعِشْرُونَ مقَالَة وَيذكر فِي هَذَا الْكتاب أَقسَام الزَّمَان وأقسام النَّفس والشهوة وَأمر الْفَاعِل والمنفعل وَالْفِعْل والمحبة وأنواع الْحَيَوَان وَأمر الْخَيْر وَالشَّر والحركات وأنواع الموجودات
كتاب فِي قسم فلاطن سِتّ مقالات
كتاب فِي قسْمَة الشُّرُوط الَّتِي تشْتَرط فِي القَوْل وتوضع ثَلَاث مقالات
كتاب فِي مناقضة من يزْعم بِأَن تُؤْخَذ مُقَدمَات النقيض من نفس القَوْل تسع وَثَلَاثُونَ مقَالَة
كتاب فِي النَّفْي يُسمى أيسطاسس ثَلَاث عشرَة مقَالَة كتاب فِي الموضوعات أَربع وَثَلَاثُونَ مقَالَة كتاب فِي مَوْضُوعَات عشقية مقَالَة
كتاب فِي الْحُدُود سِتّ عشرَة مقَالَة كتاب فِي الْأَشْيَاء التحديدية أَربع مقالات
كتاب فِي تَحْدِيد طوبيقا مقَالَة
كتاب فِي تَقْوِيم حُدُود طوبيقا ثَلَاث مقالات كتاب فِي مَوْضُوعَات تقوم بهَا الْحُدُود مقالتان
كتاب فِي مناقضة الْحُدُود مقالتان(1/104)
كتاب فِي صناعَة التَّحْدِيد الَّتِي استعملها ثاوفرسطس لانالوطيقا الأولى مقَالَة
كتاب فِي تَقْوِيم التَّحْدِيد مقالتان كتاب فِي مسَائِل ثَمَان وَسِتُّونَ مقَالَة
كتاب فِي مُقَدمَات الْمسَائِل ثَلَاث مقالات كتاب فِي الْمسَائِل الدورية الَّتِي يستعملها المتعلمون أَربع مقالات كتاب فِي الْوَصَايَا أَربع مقالات كتاب فِي التذكرات مقالتان
كتاب فِي الطِّبّ خمس مقالات كتاب فِي تَدْبِير الْغذَاء مقَالَة كتاب فِي الفلاحة عشر مقالات
كتاب فِي الرطوبات مقَالَة كتاب فِي النبض مقَالَة كتاب فِي الْأَعْرَاض العامية ثَلَاث مقالات كتاب فِي الْآثَار العلوية مقالتان
كتاب فِي تناسل الْحَيَوَان مقالتان كتاب آخر فِي تناسل الْحَيَوَانَات مقالتان
كتاب فِي الْمُقدمَات ثَلَاث وَعِشْرُونَ مقَالَة كتاب آخر فِي مُقَدمَات أخر سبع مقالات
كتاب فِي سياسة المدن وَعدد الْأُمَم ذكر فِيهِ مائَة وَإِحْدَى وَسبعين مَدِينَة كَبِيرَة
كتاب فِي تذكرات عدَّة سِتّ عشرَة مقَالَة كتاب آخر فِي مثل ذَلِك مقَالَة
كتاب فِي المناقضات كتاب فِي الْمُضَاف مقَالَة كتاب فِي الزَّمَان مقَالَة
كتبه الَّتِي وجدت فِي خزانَة أبليقون عدَّة مقالات
كِتَابه فِي تذكرات أخر كتاب كَبِير مَجْمُوع فِيهِ عدَّة رسائل ثَمَانِيَة أَجزَاء
كتاب فِي سير المدن مقالتان رسائل وجدهَا أندرونيقوس فِي عشْرين جُزْء كتب فِيهَا عدَّة تذكرات عَددهَا وأسماؤها فِي كتاب أندرونيقوس فِي فهرست كتب أرسطو
كتاب فِي مسَائِل من عويص شعر أوميرس فِي عشرَة أَجزَاء
كتاب فِي مَعَاني مليحة من الطِّبّ
قَالَ بطليموس فَهَذِهِ جملَة مَا شاهدت لَهُ من الْكتب
وَقد شَاهد غَيْرِي كتبا أخر عدَّة
أَقُول ولأرسطوطاليس أَيْضا من الْكتب مِمَّا وجدت كثيرا مِنْهَا غير الْكتب الَّتِي شَاهدهَا بطليموس كتاب الفراسة كتاب السياسة المدنية
كتاب السياسة العملية
مسَائِل فِي الشَّرَاب شراب الْخمر وَالسكر وَهِي اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ مَسْأَلَة
كتاب فِي التَّوْحِيد على مَذْهَب سقراط
كتاب الشَّبَاب والهرم كتاب الصِّحَّة والسقم
كتاب فِي الْأَعْدَاء
كتاب فِي الباه رسائله إِلَى ابْنه وَصيته إِلَى نيقانر كتاب الْحَرَكَة كتاب فضل النَّفس كتاب فِي الْعظم الَّذِي لَا يتَجَزَّأ كتاب التنقل رسَالَته الذهبية رِسَالَة إِلَى الْإِسْكَنْدَر فِي تَدْبِير الْملك كتاب الْكِنَايَات والطبيعيات
كتاب فِي علل النُّجُوم
كتاب الأنواء
رِسَالَة فِي الْيَقَظَة
كتاب نعت الْأَحْجَار ومنافعها وَالسَّبَب فِي خلق الأجرام السماوية
كتاب إِلَى الْإِسْكَنْدَر فِي الروحانيات وأعمالها فِي الأقاليم كتاب الأسماطاليس إِلَى الْإِسْكَنْدَر
رِسَالَة فِي طبائع الْعَالم إِلَى الْإِسْكَنْدَر
كتاب الأصطماخيس وَضعه حِين أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى بلد الرّوم كتاب الْحِيَل كتاب الْمرْآة كتاب القَوْل على الربوبية
كتاب الْمسَائِل الطبيعية وَيعرف أَيْضا بِكِتَاب مَا بَال سبع عشرَة مقَالَة كتاب ماطافوسيقا وَهُوَ كتاب مَا بعد الطبيعة اثْنَتَا عشرَة مقَالَة كتاب الْحَيَوَان تسع عشرَة مقَالَة كتاب نعت الْحَيَوَانَات الْغَيْر ناطقة وَمَا فِيهَا من الْمَنَافِع والمضار وَغير ذَلِك
كتاب إِيضَاح الْخَيْر الْمَحْض كتاب الملاطيس كتاب فِي نفث الدَّم
كتاب الْمَعَادِن كتاب الْيَتِيم وَهُوَ كتاب الْغَالِب والمغلوب والطالب وَالْمَطْلُوب أَلفه للإسكندر الْملك كتاب أسرار النُّجُوم(1/105)
ثاوفرسطس
أحد تلاميذ أرسطوطاليس وَابْن خَالَته وَاحِد الأوصياء الَّذين وصّى إِلَيْهِم أرسطوطاليس وَخَلفه على دَار التَّعْلِيم بعد وَفَاته
ولثاوفرسطس من الْكتب
كتاب النَّفس مقَالَة
كتاب الْآثَار العلوية مقَالَة
كتاب الْأَدِلَّة مقَالَة
كتاب الْحس أَو المحسوس أَربع مقالات
كتاب مَا بعد الطبيعة مقَالَة
كتاب أَسبَاب النَّبَات تَفْسِير كتاب قاطيغورياس وَقيل أَنه متحول إِلَيْهِ
كتاب إِلَى دمقراط فِي التَّوْحِيد
كتاب فِي الْمسَائِل الطبيعية
الْإِسْكَنْدَر الأفروديسي الدِّمَشْقِي
كَانَ فِي أَيَّام مُلُوك الطوائف بعد الاسكندر الْملك وَرَأى جالينوس وَاجْتمعَ مَعَه
وَكَانَ يلقب جالينوس رَأس الْبَغْل وَبَينهمَا مشاغبات ومخاصمات
وَكَانَ فيلسوفا متقنا للعلوم الْحكمِيَّة بارعا فِي الْعلم الطبيعي وَله مجْلِس عَام يدرس فِيهِ الْحِكْمَة وَقد فسر أَكثر كتب أرسطوطاليس
وتفاسيره مَرْغُوب فِيهَا مفيدة للاشتغال بهَا
قَالَ أَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن عدي أَن شرح الْإِسْكَنْدَر للسماع كُله ولكتاب الْبُرْهَان رَأَيْته فِي نزكه إِبْرَاهِيم بن عبد الله النَّاقِل النَّصْرَانِي وَأَن الشرحين عرضاه عَليّ بِمِائَة دِينَار وَعشْرين دِينَار فمضيت لاحتال فِي الدَّنَانِير ثمَّ عدت فَأَصَبْت الْقَوْم قد باعوا الشرحين فِي جملَة كتب إِلَى رجل خراساني بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار
وَقيل إِن هَذِه الْكتب كَانَت تحمل فِي الْكمّ
وَقَالَ أَبُو زَكَرِيَّا أَنه التمس من إِبْرَاهِيم بن عبد الله نَص سوفسطيقا وَنَصّ الخطابة وَنَصّ الشّعْر بِنَقْل إِسْحَق بِخَمْسِينَ دِينَارا فَلم يَبِعْهُ وأحرقها وَقت وَفَاته
وللإسكندر الأفروديسي من الْكتب تَفْسِير كتاب قاطيغورياس لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب أرمينياس لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب أنالوطيقا الثَّانِيَة لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب طوبيقا لأرسطوطاليس وَالَّذِي وجد من تَفْسِيره لهَذَا الْكتاب تَفْسِير بعض الْمقَالة الأولى وَتَفْسِير الْمقَالة الْخَامِسَة وَالسَّادِسَة وَالسَّابِعَة وَالثَّامِنَة
تَفْسِير كتاب السماع الطبيعي لأرسطوطاليس
تَفْسِير بعض الْمقَالة الأولى من كتاب السَّمَاء والعالم لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب الْكَوْن وَالْفساد لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب الْآثَار العلوية لأرسطوطاليس
كتاب النَّفس مقَالَة فِي عكس الْمُقدمَات
مقَالَة فِي الْعِنَايَة
مقَالَة فِي الْفرق بَين الهيولي وَالْجِنْس
مقَالَة فِي الرَّد على من قَالَ إِنَّه لَا يكون شَيْء إِلَّا من شَيْء
مقَالَة فِي(1/106)
أَن الإبصار لَا يكون بشعاعات تنبث من الْعين وَالرَّدّ على من قَالَ بانبعاث الشعاع مقَالَة فِي اللوم وَأي شَيْء هُوَ على رَأْي الفيلسوف
مقَالَة فِي الْفَصْل خَاصَّة مَا هُوَ على رَأْي أرسطوطاليس
مقَالَة فِي الماليخوليا
مقَالَة فِي الْأَجْنَاس والأنواع
مقَالَة فِي الرَّد على جالينوس فِي الْمقَالة الثَّامِنَة من كِتَابه فِي الْبُرْهَان
مقَالَة فِي الرَّد على جالينوس فِيمَا طعن على قَول أرسطوطاليس أَن كل مَا يَتَحَرَّك فَإِنَّمَا يَتَحَرَّك عَن محرك
مقَالَة فِي الرَّد على جالينوس فِي مَادَّة الْمُمكن
مقَالَة فِي الْفُصُول الَّتِي تقسم بهَا الْأَجْسَام
مقَالَة فِي الْعقل على رَأْي أرسطوطاليس
رِسَالَة فِي الْعَالم وَأي أَجْزَائِهِ تحْتَاج فِي ثباتها ودوامها إِلَى تَدْبِير أَجزَاء أُخْرَى
كتاب فِي التَّوْحِيد
مقَالَة فِي القَوْل فِي مبادئ الْكل على رَأْي أرسطوطاليس
كتاب آراء الفلاسفة فِي التَّوْحِيد
مقَالَة فِي حُدُوث الصُّور لَا من شَيْء
مقَالَة فِي قوام الْأُمُور العامية
مقَالَة فِي تَفْسِير مَا قَالَه أرسطوطاليس فِي طَرِيق الْقِسْمَة على رَأْي أفلاطون
مقَالَة فِي أَن الكيفيات لَيست أجساما
مقَالَة فِي الِاسْتِطَاعَة
مقَالَة فِي الأضداد وَأَنَّهَا أَوَائِل الْأَشْيَاء على رَأْي أرسطوطاليس
مقَالَة فِي الزَّمَان
مقَالَة فِي الهيولى وَأَنَّهَا معلولة مفعولة
مقَالَة فِي أَن الْقُوَّة الْوَاحِدَة تقبل الأضداد جَمِيعًا على رَأْي أرسطوطاليس
مقَالَة فِي الْفرق بَين الْمَادَّة وَالْجِنْس
مقَالَة فِي الْمَادَّة والعدم والكون وَحل مَسْأَلَة النَّاس من القدماء أبطلوا بهَا الْكَوْن من كتاب أرسطوطاليس فِي سمع الكيان
مقَالَة فِي الْأُمُور العامية والكلية وَأَنَّهَا لَيست أعيانا قَائِمَة
مقَالَة فِي الرَّد على من زعم أَن الْأَجْنَاس مركبة من الصُّور إِذْ كَانَت الصُّور تنفصل مِنْهَا
مقَالَة فِي أَن الْفُصُول الَّتِي بهَا يَنْقَسِم جنس من الْأَجْنَاس لَيْسَ وَاجِب ضَرُورَة أَن تكون إِنَّمَا تُوجد فِي ذَلِك الْجِنْس وَحده الَّذِي إِيَّاه تقسم
بل قد يُمكن أَن يقسم بهَا أجناسا أَكثر من وَاحِد لَيْسَ بَعْضهَا مُرَتبا تَحت بعض
مقَالَة فِيمَا استخرجه من كتاب أرسطوطاليس الَّذِي يدعى بالرومية ثولوجيا وَمَعْنَاهُ الْكَلَام فِي تَوْحِيد الله تَعَالَى
رِسَالَة فِي أَن كل عِلّة مباينة فَهِيَ فِي جَمِيع الْأَشْيَاء وَلَيْسَت فِي شَيْء من الْأَشْيَاء
مقَالَة فِي إِثْبَات الصُّور الروحانية الَّتِي لَا هيولى لَهَا
مقَالَة فِي الْعِلَل الَّتِي تحدث فِي فَم الْمعدة
مقَالَة فِي الْجِنْس
مقَالَة تَتَضَمَّن فصلا من الْمقَالة الثَّانِيَة من كتاب أرسطوطاليس فِي النَّفس
رِسَالَة فِي الْقُوَّة الْآتِيَة من حَرَكَة الجرم الشريف إِلَى الأجرام الْوَاقِعَة تَحت الْكَوْن وَالْفساد(1/107)
الْبَاب الْخَامِس
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا مُنْذُ زمَان جالينوس وقريبا مِنْهُ
جالينوس
ولنضع أَولا كلَاما كليا فِي إِخْبَار جالينوس وَمَا كَانَ عَلَيْهِ ثمَّ نلحق بعد ذَلِك مَعَه جملا من ذكر الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا مُنْذُ زَمَانه وقريبا من وقته فَنَقُول
إِن الَّذِي قد علم من حَال جالينوس واشتهرت بِهِ الْمعرفَة عِنْد الْخَاص وَالْعَام فِي كثير من الْأُمَم أَنه كَانَ خَاتم الْأَطِبَّاء الْكِبَار المعلمين وَهُوَ الثَّامِن مِنْهُم وَأَنه لَيْسَ يدانيه أحد فِي صناعَة الطِّبّ فضلا عَن أَن يُسَاوِيه
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ عِنْدَمَا ظهر وجد صناعَة الطِّبّ قد كثرت فِيهَا أَقْوَال الْأَطِبَّاء السوفسطائيين وانمحت محاسنها
فَانْتدبَ لذَلِك وأبطل آراء أُولَئِكَ وأيد وشيد كَلَام أبقراط وآراءه وآراء التَّابِعين لَهُ وَنصر ذَلِك بِحَسب إِمْكَانه وصنف فِي ذَلِك كتبا كَثِيرَة كشف فِيهَا عَن مَكْنُون هَذِه الصِّنَاعَة وأفصح عَن حقائقها وَنصر القَوْل الْحق فِيهَا
وَلم يجِئ بعده من الْأَطِبَّاء إِلَّا من هُوَ دون مَنْزِلَته ومتعلم مِنْهُ
وَكَانَت مُدَّة حَيَاة جالينوس سبعا وَثَمَانِينَ سنة مِنْهَا صبي ومتعلم سبع عشرَة سنة وعالم معلم سبعين سنة
وَهَذَا على مَا ذكره يحيى النَّحْوِيّ
وَكَذَلِكَ تَقْسِيم عمر كل وَاحِد مِمَّن تقدم ذكره من سَائِر الْأَطِبَّاء الْكِبَار المعلمين إِلَى وقتي تعلمه وتعليمه(1/109)
فَإِنَّهُ من قَول يحيى النَّحْوِيّ
وَقَوله هَذَا يجب أَن ينظر فِيهِ وَذَلِكَ أَنه لَا يُمكن أَن تَنْحَصِر مَعْرفَته كَمَا ذكر فَإِن الْقيَاس يُوجب أَن الْبَعْض من ذَلِك غير مُمكن واحده مَا ذكره هَهُنَا عَن جالنيوس أَنه كَانَ صَبيا ومتعلما سبع عشرَة سنة وعالما معلما سبعين سنة
وَلَو لم يكن التتبع على قَوْله هَذَا إِلَّا مِمَّا قد ذكره جالينوس نَفسه
وَاتِّبَاع قَول مثل جالينوس عَن نَفسه أولى من اتِّبَاع قَول غَيره عَنهُ
وَهَذَا نَص مَا ذكره جالينوس فِي كِتَابه مَرَاتِب قِرَاءَة كتبه قَالَ
أَن أبي لم يزل يؤدبني بِمَا كَانَ يُحسنهُ من علم الهندسة والحساب والرياضيات الَّتِي تؤدب بهَا الْأَحْدَاث حَتَّى انْتَهَيْت من السن إِلَى خمس عشرَة سنة ثمَّ إِنَّه أسلمني فِي تَعْلِيم الْمنطق وَقصد بِي حِينَئِذٍ فِي تَعْلِيم الفلسفة وَحدهَا فَرَأى رُؤْيا دَعَتْهُ إِلَى تعليمي الطِّبّ فأسلمني فِي تَعْلِيم الطِّبّ وَقد أَتَت عَليّ من السنين سبع عشرَة سنة
وَإِذا كَانَ هَذَا فقد تبين من قَول جالينوس خلاف مَا ذكر عَنهُ
وَلَا يبعد أَن يكون الْكَلَام فِي الَّذين ذكرهم من قبل جالينوس أَيْضا مثل هَذَا
وَكَانَت مُنْذُ وَقت وَفَاة أبقراط وَإِلَى ظُهُور جالينوس سِتّمائَة سنة وَخمْس وَسِتُّونَ سنة
وَيكون من وَقت مولد أسقليبيوس الأول على مَا ذكره يحيى النَّحْوِيّ إِلَى وَقت وَفَاة جالينوس خَمْسَة آلَاف سنة وَخَمْسمِائة سنة وسنتان
وَذكر إِسْحَق بن حنين إِن من وَقت وَفَاة جالينوس إِلَى سنة الْهِجْرَة خَمْسمِائَة سنة وَخَمْسَة وَعشْرين سنة
أَقُول وَكَانَ مولد جالينوس بعد زمَان الْمَسِيح بتسع وَخمسين سنة على مَا أرخه إِسْحَق
فَأَما قَول من زعم أَنه كَانَ معاصره وَأَنه توجه إِلَيْهِ ليراه ويؤمن بِهِ فَغير صَحِيح
وَقد أورد جالينوس فِي مَوَاضِع مُتَفَرِّقَة من كتبه ذكر مُوسَى والمسيح وَتبين من قَوْله أَنه كَانَ من بعد الْمَسِيح بِهَذِهِ الْمدَّة الَّتِي تقدم ذكرهَا
وَمن جملَة من ذكر أَن جالينوس كَانَ معاصرا للمسيح الْبَيْهَقِيّ وَذَلِكَ أَنه قَالَ فِي كتاب مسارب التجارب وغوارب الغرائب
أَنه لَو لم يكن فِي الحواريين إِلَّا بولص بن أُخْت جولينوس لَكَانَ كَافِيا
وَإِنَّمَا بَعثه إِلَى عِيسَى جالينوس وَأظْهر عَجزه عَن الْهِجْرَة إِلَيْهِ لضَعْفه وَكبر سنه وآمن بِعِيسَى وَأمر ابْن أُخْته بولص بمبايعة عِيسَى
قَالَ جالينوس فِي الْمقَالة الأولى من كِتَابه فِي الْأَخْلَاق وَذكر الْوَفَاء وَاسْتَحْسنهُ وأتى فِيهِ بِذكر الْقَوْم الَّذين نكبوا بِأخذ صَاحبهمْ وابتلوا بالمكاره
يلْتَمس مِنْهُم أَن يبوحوا بمساوئ أَصْحَابهم وَذكر معايبهم فامتنعوا من ذَلِك وصبروا على غليظ المكاره
وَأَن ذَلِك كَانَ فِي سنة أَربع عشرَة وَخَمْسمِائة(1/110)
للإسكندر
وَهَذَا أصح مَا ذكره من أَمر جالينوس وَوَقته وموضعه من الزَّمَان
وَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن عَليّ بن الْحُسَيْن المَسْعُودِيّ كَانَ جالينوس بعد الْمَسِيح بِنَحْوِ مِائَتي سنة وَبعد أبقراط بِنَحْوِ سِتّمائَة سنة وَبعد الْإِسْكَنْدَر بِنَحْوِ خَمْسمِائَة سنة ونيف
أَقُول وَوجدت عبيد الله بن جِبْرَائِيل بن عبيد الله بن بختيشوع قد استقصى النّظر فِي هَذَا الْمَعْنى وَذَلِكَ أَنه كَانَ قد سُئِلَ عَن زمَان جالينوس وَهل كَانَ معاصرا الْمَسِيح أَو كَانَ قبله أَو بعده فَأجَاب عَن ذَلِك بِمَا هَذَا نَصه
قَالَ
إِن أَصْحَاب التواريخ اخْتلفُوا اخْتِلَافا بَينا فِيمَا وضعوه وكل مِنْهُم أثبت جملا إِذا فصلت خرج مِنْهَا زيادات ونقصان
وَمن هَذَا يتَبَيَّن لَك مَتى تصفحت كتب التواريخ لَا سِيمَا مَتى وقفت على كتاب الْأَزْمِنَة الَّذِي عمله ماراليا مطران نَصِيبين فَإِنَّهُ قد كشف الْخلف الَّذِي بَين التواريخ العتيقة والحديثة وأوضح وكشف وَأَبَان ذَلِك أحسن بَيَان بجمعه لجملها فِي صدر كِتَابه وإيراد تفاصليها وتنبيهه على مَوَاضِع الْخلاف فِيهَا والزيادات والنقصانات وَذكر أَسبَابهَا وعللها
وَوجدت تَارِيخا مُخْتَصرا لهارون بن عزور الراهب ذكر فِيهِ أَنه اعْتبر التواريخ وعول على صِحَّتهَا ورأيته قد كشف بعض اختلافها وَعلل ذَلِك بعلل مقنعة وَأورد شَوَاهِد من صِحَّتهَا
وَذكر هَذَا الراهب فِي تَارِيخه أَن جَمِيع السنين من آدم إِلَى ملك دَارا بن سَام وَهُوَ أول ظُهُور الْإِسْكَنْدَر ذِي القرنين خَمْسَة آلَاف وَمِائَة وَثَمَانُونَ سنة وَعشرَة أشهر على مُوجب التَّارِيخ الَّذِي عِنْد اليونانيين وَهُوَ تَارِيخ التَّوْرَاة المنقولة إِلَى اليونانيين قبل ظُهُور الْمَسِيح بِمِائَتي سنة وثمان وَسبعين سنة وَذَلِكَ فِي زمَان فيلدلفوس الْملك لِأَنَّهُ كَانَ حمل إِلَى الْيَهُود هَدَايَا حَسَنَة لما سمع أَن عِنْدهم كتبا منزلَة من عِنْد الله تَعَالَى على أَلْسِنَة الْأَنْبِيَاء
وَكَانَ من جملَة مَا حمل مائدتان من ذهب مرصعتان بالجواهر لم ير أحسن مِنْهُمَا
وسألهم عَن الْكتب الَّتِي فِي أَيْديهم وأعلمهم أَنه يخْتَار أَن يكون عِنْده نسختها
فَكَتَبُوا جَمِيع الْكتب الَّتِي كَانَت عِنْدهم للْيَهُود من التَّوْرَاة والأنبياء وَمَا جرى مجْراهَا فِي أوراق من فضَّة بأحرف من ذهب على مَا نسبه الراهب إِلَى أوسابيس القيسراني
فَلَمَّا وصلت إِلَيْهِ استحسنها وَلم يفهم مَا فِيهَا فأنفذ إِلَيْهِم يَقُول أَي فَائِدَة من كنز مَسْتُور لَا يظْهر مَا فِيهِ وَعين مسدودة لَا ينضح مَاؤُهَا فأنفذوا إِلَيْهِ اثْنَيْنِ وَسبعين رجلا من جَمِيع الأسباط من كل سبط سِتَّة رجال
فَلَمَّا وصلوا عمل لَهُم الْملك فيلدلفوس مراكب وَنزل كل رجلَيْنِ مِنْهُم فِي مركب ووكل بهم حفظَة حَتَّى نقلوها
وقابل النّسخ فَلَمَّا وجدهَا صَحِيحَة غير مُخْتَلفَة خلع عَلَيْهِم وَأحسن إِلَيْهِم وردهم إِلَى مواطنهم
وَذكر أوسابيوس القيسراني الَّذِي كَانَ أَسْقُف قيسارية أَن هَذَا الْملك كَانَ قد نقل الْكتب قبل(1/111)
مَجِيء الْيَهُود استدعاء الْيَهُود وحضوره عِنْده ونقلهم إِيَّاهَا وَإِنَّمَا شكّ فِيمَا نَقله مِنْهَا فَأحب تَصْحِيحه
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل وَهَذَا مِمَّا يشْهد فِيهِ الْعقل لِأَن فيلدلفوس الْملك لَو لم يشك فِي نَقله لما احتاط هَذَا الِاحْتِيَاط الْمَذْكُور وحرص هَذَا الْحِرْص على حفظ هَذَا النَّقْل وَلَوْلَا اتهامه لنقله لما كَانَ هُنَا مَا يُوجب هَذَا الِاحْتِيَاط لِأَن من قلدهم فِي الأول كَانَ أَحْرَى أَن يقلدهم فِي الثَّانِي وَلما أحب أَن يمْتَحن مَا فسره فعل مَا فعل وقابل عَلَيْهِ وَصَححهُ
وَمن هَهُنَا وَجب أَن تَارِيخ اليونانيين أصح التواريخ أَعنِي تَارِيخ التَّوْرَاة والأنبياء الَّتِي عِنْدهم
وَكَانَت مُدَّة هَذَا الْملك فيلدلفوس فِي المملكة ثَمَانِي وَثَلَاثِينَ سنة وَهُوَ الْملك الثَّالِث من الْإِسْكَنْدَر
على أَن تَارِيخ الْإِسْكَنْدَر مُنْذُ قَتله دَارا وَهُوَ أَن مُدَّة ملكه تكون سِتّ سِنِين وَمِنْه يُؤْخَذ تواريخ اليونانيين فَتكون مُدَّة ملك اليونانيين من الْإِسْكَنْدَر وَإِلَى أول ملك الرّوم الَّذين لقبهم قَيْصر مِائَتَيْنِ واثنتين وَسبعين سنة
وَأول مُلُوك الرّوم الَّذين لقبهم قَيْصر يوليوس جايوس قَيْصر وَكَانَت مدَّته فِي المملكة أَربع سِنِين وشهرين
وَملك بعده أغوسطوس قَيْصر وَكَانَت مدَّته سِتّ وَخمسين سنة وَسِتَّة أشهر
وَفِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين من ملكه ولد الْمَسِيح عَلَيْهِ السَّلَام فِي بَيت لحم
فَجَمِيع سني الْعَالم من آدم وَإِلَى مولد الْمَسِيح خَمْسَة آلَاف وَخَمْسمِائة وَأَرْبع سِنِين
وَملك بعده طيباريوس قَيْصر ثَلَاثًا وَعشْرين سنة وَفِي سنة خمس عشرَة من ملكه اعْتمد الْمَسِيح فِي الْأُرْدُن بيد يوحنا المعمدان
وَفِي سنة تسع عشرَة صلب رفع وَذَلِكَ فِي يَوْم الْجُمُعَة الرَّابِع وَالْعِشْرين من آذار وانبعث حَيا يَوْم الْأَحَد السَّادِس وَالْعِشْرين من آذار وَبعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا صعد إِلَى السَّمَاء بمشهد من الحواريين
ثمَّ ملك بعده يوليوس جايوس الآخر أَربع سِنِين وَقتل فِي بلاطه وَملك بعده قلوديوس جرمانيقوس قَيْصر أَربع عشرَة سنة
ثمَّ ملك بعده نارون بن قلوذيوس قَيْصر ثَلَاث عشرَة سنة ثمَّ أندرونيقوس أَربع عشرَة سنة وَهُوَ الَّذِي قتل بطرس وبولس فِي السجْن لِأَنَّهُ ارْتَدَّ إِلَى عبَادَة الْأَصْنَام وَكفر بعد الْإِيمَان وَقتل وَهُوَ مَرِيض(1/112)
وَذكر أندرونيقوس فِي تَارِيخه أَنه ملك بعد نارون جالباس سَبْعَة أشهر ووطليوس ثَمَانِيَة واثون ثَلَاثَة أشهر
ثمَّ ملك بعده أسفاسيانوس قَيْصر عشر سِنِين وَفِي آخر ملكه غزا بَيت الْمُقَدّس وَخَرَّبَهُ وَنقل جَمِيع آلَة الْبَيْت إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَانْقطع عَنْهُم يَعْنِي الْيَهُود الْملك والنبوة
وَهُوَ الَّذِي وعد الله تَعَالَى بِهِ بمجيء الْمَسِيح وَلَا رَجْعَة لَهُم بعده وَهَذِه المملكة الْأَخِيرَة من المماليك الَّتِي وعدهم الله بهَا
ثمَّ ملك بعده طيطوس ابْنه سنتَيْن
وَوجدت فِي تَارِيخ مُخْتَصر قديم رومي أَنه ملك بعده طيطوس طميديوس وَفِي زَمَانه كَانَ بليناس الْحَكِيم صَاحب الطلسمات ثمَّ ملك بعده دوميطانوس أَخُو طيطوس وَأَن أسفاسيانوس ملك خمس عشرَة سنة وَفِي زَمَانه ظهر ماني وَفِي أَيَّامه زَمَانه نهبت مَدِينَة رَأس الْعين
وَفِي تَارِيخ أندرونيقوس أَنه ملك سِتّ عشرَة سنة
ثمَّ ملك بعده فرواس قَيْصر سنة وَاحِدَة
ثمَّ ملك البيوس طرينوس قَيْصر تسع عشرَة سنة وَهُوَ الَّذِي ارتجع أنطاكية من الْفرس
وَكتب إِلَيْهِ خَلِيفَته على فلسطين يَقُول لَهُ إِنَّنِي كلما قتلت النَّصَارَى ازدادوا رَغْبَة فِي دينهم فَأمره بِرَفْع السَّيْف عَنْهُم وَفِي السّنة الْعَاشِرَة من ملكه ولد جالينوس على مَا سنبين فِيمَا بعد
ثمَّ ملك بعده أبليوس أدريانوس قَيْصر إِحْدَى وَعشْرين سنة وَبنى مدينته
ثمَّ ملك بعده أنطونينوس قَيْصر اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة وَبنى مَدِينَة أيليوبليس وَهِي مَدِينَة بعلبك
وَفِي أَيَّام هَذَا الْملك ظهر جالينوس وَهُوَ الْملك الَّذِي استخدمه
وَبَيَان ذَلِك قَول جالينوس فِي صدر مقَالَته الأولى من كتاب علم التشريح وَهَذَا قَوْله بِعَيْنِه قَالَ جالينوس
قد كنت وضعت فِيمَا تقدم فِي علاج التشريح كتابا فِي مقدمي الأول إِلَى مَدِينَة رُومِية وَذَلِكَ فِي أول ملك أنطونينوس الْملك فِي وقتنا هَذَا
وَمِمَّا يُؤَيّد هَذَا قَول جالينوس فِي الْكتاب الَّذِي وَضعه فِي تَقْيِيد أَسمَاء كتبه وَيعرف ببنكس جالينوس
قَالَ لما رجعت من مَدِينَة رُومِية وعزمت على الْمقَام بمدينتي واللزوم لما كَانَت جرت فِيهِ عادتي وَإِذا كتب قد وَردت من مَدِينَة أقوليا من الْملكَيْنِ يأمران إشخاصي لِأَنَّهُمَا كَانَا قد عزما على أَن يشتيا باقوليا ثمَّ يغزوا أهل جرمانيا فاضطررت إِلَى الشخوص إِلَيْهَا وَأَنا على رَجَاء أَن أعفى(1/113)
إِذا استعفيت لِأَنَّهُ كَانَ قد بَلغنِي عَن أَحدهمَا وَهُوَ أشبههما بِحسن الْخلق ولين الْجَانِب وَهُوَ الَّذِي كَانَ اسْمه بيرس
فَلَمَّا ملك أنطونينوس من بعد أدريانوس وصير ببرس ولي عَهده أشرك فِي ملكه رجلا يُقَال لَهُ لوقيس
وَسَماهُ بيرس وسمى هَذَا الَّذِي كَانَ اسْمه بيرس أنطونينوس
فَلَمَّا صرت إِلَى بِلَاد أقوليا عرض فِيهَا من الوباء مَا لم يعرض قطّ فهرب الْملكَانِ إِلَى مَدِينَة رُومِية مَعَ عدَّة من أصحابهما وَبَقِي عَامَّة الْعَسْكَر بأقوليا
فَهَلَك الْبَعْض وَسلم الْبَعْض ونالوا جهدا شَدِيدا لَيْسَ من أجل الوباء فَقَط وَلَكِن من جِهَة أَن الْأَمر فاجأهم فِي وسط الشتَاء
وَمَات لوقيوس فِي الطَّرِيق فَحمل أنطونينوس بدنه إِلَى رُومِية فدفنه هُنَاكَ
وهم بغزو أهل جرمانيا وحرص الْحِرْص كُله أَن أَصْحَبهُ فَقلت إِن الله تَعَالَى لما خلصني من دبيلة قتالة كَانَت عرضت لي أَمرنِي بِالْحَجِّ إِلَى بَيته الْمُسَمّى هيكل أسقليبيوس وَسَأَلته الْإِذْن فِي ذَلِك فشفعني وَأَمرَنِي بِأَن أحج
ثمَّ انتظرت إِلَى وَقت انْصِرَافه إِلَى رُومِية فَإِنَّهُ قد كَانَ يَرْجُو أَن يَنْقَضِي حربه سَرِيعا
وَخرج وَخلف ابْنه قومودس صَبيا صَغِيرا وَأمر المتوالين لخدمته وتربيته أَن يجتهدوا فِي حفظ صِحَّته فَإِن مرض دَعونِي لعلاجه أتولاه
فَفِي هَذَا الزَّمَان جمعت كل مَا جمعته من المعلمين وَمَا كنت استنبطته وفحصت عَن أَشْيَاء كَثِيرَة وَوضعت كتبا كَثِيرَة لأروض بهَا نَفسِي فِي معَان كَثِيرَة من الطِّبّ والفلسفة احْتَرَقَ أَكْثَرهَا فِي هيكل أريني وَمعنى أريني السَّلامَة وَلِأَن أنطونيوس أَيْضا فِي سَفَره أَبْطَأَ خلاف مَا كَانَ يقدر فَكَانَ ذَلِك الزَّمَان مهلة فِي رياضة نَفسِي
فَهَذِهِ الْأَقَاوِيل وَغَيرهَا مِمَّا لم نورده لطلبة الِاخْتِصَار فقد بَان أَن جالينوس كَانَ فِي أَيَّام هَذَا الْملك وَكَانَ عمره فِي الْوَقْت الَّذِي قدم فِيهِ رُومِية الْقدوم الأول ثَلَاثِينَ سنة وَذَلِكَ بِدَلِيل قَوْله فِي هَذَا الْكتاب الْمُقدم ذكره عِنْد وَصفه مَا وَضعه من الْكتب فِي التشريح قَالَ جالينوس
وَوضعت أَربع مقالات فِي الصَّوْت كتبتها إِلَى رجل من الوزراء اسْمه بويئس يتعاطى من الفلسفة مَذْهَب فرقه أرسطوطاليس وَإِلَى هَذَا الرجل كتبت أَيْضا خمس مقالات وَضَعتهَا فِي التشريح على رَأْي أبقراط وَثَلَاث مقالات وَضَعتهَا بعْدهَا فِي التشريح على رَأْي أرايسطراطس نحوت فِيهَا نَحْو من يحب الْغَلَبَة والظهور على مخاليفه بسب رجل يُقَال لَهُ مرطياليس وضع مقالتين فِي التشريح هما إِلَى هَذِه الْغَايَة موجودتان فِي أَيدي النَّاس وَقد كَانَ النَّاس بهما فِي وَقت مَا وضعت هَذَا الْكتاب معجبين
وَكَانَ هَذَا الرجل حسودا شَدِيد الْبَغي والمراء على كبر سنه فَإِنَّهُ قد كَانَ من أَبنَاء سبعين سنة وَأكْثر فَلَمَّا بلغه إِنِّي سُئِلت فِي مجْلِس عَام عَن مَسْأَلَة فِي التشريح فاعجب بِمَا أَحْبَبْت بِهِ فِيهَا وَاسْتَحْسنهُ جَمِيع من سَمعه وَكثر مدح النَّاس لي عَلَيْهِ سَأَلَ عني بعض أصدقائنا بقول من أَقُول من أهل فرق الطِّبّ كلهَا
قَالَ لَهُ إِنِّي أسمى من لَيست نَفسه إِلَى فرقهب من الْفرق وَقَالَ إِنَّه من أَصْحَاب(1/114)
أبقراط وَمن أَصْحَاب بركساغورس وَغَيرهم وَإِنِّي اخْتَار من مقَالَة كل قوم أحسن مَا فِيهَا
وَاتفقَ يَوْمًا إِنِّي حضرت مَجْلِسا عَاما ليمتحن حذقي بكتب القدماء فَأخْرج كتاب أرسطراطس فِي نفث الدَّم والقيء فِيهِ نامر على الْعَادة الْجَارِيَة فَوَقع على الْموضع الَّذِي يُنْهِي فِيهِ أرسطراطس عَن فصد الْعرق فزدت فِي المعاندة لأراسطراطس لغم مرطياليس لِأَنَّهُ ادّعى أَنه من أَصْحَابه فأعجب ذَلِك القَوْل من سَمعه
وسألني رجل من أوليائي وأعداء مرطياليس أَن أملي الْكَلَام الَّذِي قلته فِي ذَلِك الْمجْلس على كَاتب لَهُ بعث بِهِ إِلَيّ ماهر بِالْكتاب الَّذِي يكْتب بالعلامات سَرِيعا فِيهِ ليقوله لمرطياليس إِذا صادفه عِنْد المرضى فَلَمَّا اشخصني الْملك إِلَى مَدِينَة رُومِية فِي الْمرة الثَّانِيَة وَكَانَ الرجل الَّذِي أَخذ مني تِلْكَ الْمقَالة قد مَاتَ وَلَا أَدْرِي كَيفَ وَقعت نسختها إِلَى كثير من النَّاس فَلم يسرني ذَلِك لِأَنَّهُ كَلَام جرى على محبَّة الْغَلَبَة فِي ذَلِك الْوَقْت أَن لَا أَخطب فِي الْمجَالِس العامية وَلَا أباري لِأَنِّي رزقت من السَّعَادَة والنجاح فِي علاج المرضى أَكثر مِمَّا كنت أَتَمَنَّى
وَذَلِكَ إِنِّي لما رَأَيْت غير أهل المهنة إِذا مدح أحد الْأَطِبَّاء بِحسن الْعبارَة سموهُ طَبِيب الْكَلَام أَحْبَبْت أَن اقْطَعْ ألسنتهم عني فامسكت عَن الْكَلَام سوى مَا لَا بُد مِنْهُ عِنْد المرضى وَعَما كنت أَفعلهُ من التَّعْلِيم فِي المحافل وَمن الْخطب فِي الْمجَالِس العامية واقتصرت على إِظْهَار مبلغ علمي فِي الطِّبّ على مَا كنت أَفعلهُ فِي علاج المرضى
وأقمت برومية ثَلَاث سِنِين أخر فَلَمَّا ابْتَدَأَ فِيهَا الوباء خرجت مِنْهَا مبادرا إِلَى بلادي وَكَانَ رجوعي إِلَى رُومِية وَقد أَتَى عَليّ من السنين سبع وَثَلَاثُونَ سنة
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل فَمن وَقت هَذَا يكون مولد جالينوس فِي السّنة الْعَاشِرَة من ملك طرينوس الْملك لِأَنَّهُ زعم أَنه وَضعه لكتاب علاج التشريح كَانَ فِي مقدمه الأول إِلَى رُومِية وَذَلِكَ فِي ملك أنطونينوس كَمَا ذكرنَا وَأَنه كَانَ لَهُ من عمره على مَا ذكرنَا ثَلَاثُونَ سنة مضى مِنْهَا من مُدَّة ملك أدريانوس إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة وَكَانَ مُدَّة الْملك طرينوس قَيْصر تسع عشرَة سنة
وَإِذا كَانَ هَذَا هَكَذَا أصبح أَن مولد جالينوس كَانَ فِي السّنة الْعَاشِرَة من ملك طرينوس فَتكون الْمدَّة الَّتِي من صعُود الْمَسِيح إِلَى السَّمَاء وَهِي من سنة تسع عشرَة من ملك طيباريوس قَيْصر إِلَى السّنة الْعَاشِرَة من ملك طرينوس الَّتِي ولد فِيهَا جالينوس على مُوجب التَّارِيخ الْمَذْكُور ثَلَاثًا وَسبعين سنة
وعاش جالينوس على مَا ذكره إِسْحَاق بن حنين فِي تَارِيخه وَنسبه إِلَى يحيى النَّحْوِيّ سبعا وَثَمَانِينَ سنة مِنْهَا صبي ومتعلم سبع عشرَة سنة وعالم معلم سبعين سنة
قَالَ إِسْحَق بَين وَفَاة جالينوس إِلَى سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ وَهِي السّنة الَّتِي عمل فِيهَا التَّارِيخ ثَمَانمِائَة وَخمْس عشرَة سنة
وَقَالَ عبد الله بن جِبْرَائِيل وينضاف إِلَى ذَلِك مِمَّا بَين هَذِه السّنة الَّتِي عَملنَا فِيهَا هَذَا الْكتاب وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة لِلْهِجْرَةِ الْوَاقِعَة فِي سنة ألف وثلاثمائة واثنتين وَأَرْبَعين للإسكندر وَبَين سنة تسعين وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ مائَة وَاثْنَتَانِ وَثَلَاثُونَ سنة فَيكون من وَفَاة جالينوس إِلَى سنتنا هَذِه(1/115)
وَهِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة تِسْعمائَة وَسبع وَأَرْبَعُونَ سنة
وَإِذا أضيف إِلَى هَذِه الْجُمْلَة عمر جالينوس وَمَا بَين مولده إِلَى صعُود الْمَسِيح إِلَى السَّمَاء وَهُوَ مئة وَسِتُّونَ سنة يصبح الْجَمِيع أَعنِي من صعُود الْمَسِيح إِلَى سنتنا هَذِه ألف وَمِائَة وَسبع سِنِين الْجُمْلَة غلط وَهِي تنقص بالتفصيل
وَمن مثل هَذَا التَّارِيخ يضل النَّاس لأَنهم يقلدون أَصْحَاب التواريخ فيضلون
وَوجه الْغَلَط فِي هَذِه الْجُمْلَة يتَبَيَّن من جِهَتَيْنِ إِحْدَاهمَا من تَارِيخ الْمَسِيح وَالْأُخْرَى من تَارِيخ جالينوس
وَقد ذكرناهما فِيمَا تقدم ذكرا شافيا فَمن أحب امتحان ذَلِك فَليرْجع إِلَيْهِ فَإِنَّهُ يتَبَيَّن لَهُ من التَّفْصِيل الْمَذْكُور
فَإِن للمسيح مُنْذُ ولد ألف سنة وثماني عشرَة سنة وجالينوس تِسْعمائَة وَثَلَاث عشرَة سنة وَهَذَا خلف عَظِيم وَغلط بَين
قَالَ وَأَنا استطرف كَيفَ مر مثل هَذَا مَعَ بَيَان الْمَوَاضِع الَّتِي استدللنا بهَا من كَلَام جالينوس وَمن أوضاع أَصْحَاب التواريخ الصَّحِيحَة
واستطرف أَيْضا كَيفَ لم يتَنَبَّه إِلَى فصل ورد فِي كتاب الْأَخْلَاق تبين فِيهِ غلط تَارِيخ هَذِه الْمدَّة فَصَارَت الْمِائَة سنة
وَقد يكون سَبَب هَذَا الْغَلَط من النساخ وَيسْتَمر حَتَّى تحصل حجَّة يضل بهَا من لم يفحص عَن حقائق الْأُمُور
وَهَذِه نُسْخَة الْفَصْل من كتاب الْأَخْلَاق بِعَيْنِه قَالَ جالينوس
وَقد رَأينَا نَحن فِي هَذَا الزَّمَان عبيدا فعلوا هَذَا الْفِعْل دون الْأَحْرَار لأَنهم كَانُوا فِي طبائعهم أخيارا
وَذَلِكَ أَنه لما مَاتَ فرونيموس وَكَانَ مَوته فِي السّنة التَّاسِعَة من ملك قومودس وَفِي سنة خَمْسمِائَة وست عشرَة من ملك الْإِسْكَنْدَر وَكَانَ الوزيران فِي ذَلِك الْوَقْت ماطروس وأيروس تتبع قوم كثير عَددهمْ وعدت عبيدهم ليفشوا على مواليهم مَا فعلوا
وَهَذَا خلف عَظِيم لَا سِيمَا لما ذكره إِسْحَق لِأَنَّهُ يحصل بَينه اخْتِلَاف عَظِيم إِلَى وَفَاة جالينوس يَقْتَضِي بِأَن تكون على مَا ذكره إِسْحَق من أَن عمره كَانَ سبعا وَثَمَانِينَ سنة فِي هَذِه السّنة الْمَذْكُورَة وَهِي سنة خَمْسمِائَة وست عشرَة للاسكندر
وَيَقْتَضِي أَن يكون هَذَا الْكتاب آخر مَا عمله أَعنِي كتاب الْأَخْلَاق لِأَنَّهُ وَقت وَفَاته يجب أَن يكون الْوَقْت الَّذِي ذكر فِيهِ أَمر العبيد والتاريخ
وَقد رَأَيْنَاهُ ذكره فِي كتاب آخر يدل على أَنه قد عمل بعده وَأَنه عَاشَ بعد هَذَا الْوَقْت زمَان مَا يجوز السّنة الْمَذْكُورَة عدته فقد بَان تنَاقض تَارِيخه وَفَسَاد جملَته
وَلَو فَرضنَا الْأَمر على مَا ذكره لم يجب لَهُ أَن يغْفل مثل هَذَا التَّارِيخ الْبَين الْجَلِيّ وبثبت جملَة مَا تحصل وَلَا يَصح
وَمَا يشْهد بِأَن الْمَسِيح كَانَ قبل جالينوس بِمدَّة من الزَّمَان مَا ذكره جالينوس بِمدَّة من الزَّمَان مَا ذكره جالينوس فِي تَفْسِير كتاب أفلاطون فِي السياسة المدنية وَهَذَا نَص قَوْله
قَالَ جالينوس من ذَلِك قد نرى الْقَوْم الَّذين يدعونَ نَصَارَى إِنَّمَا اخذوا إِيمَانهم عَن الرموز(1/116)
والمعجزة وَقد تظهر مِنْهُم أَفعَال المتفلسفين أَيْضا
وَذَلِكَ أَن عدم جزعهم من الْمَوْت وَمَا يلقون بعده أَمر قد نرَاهُ كل يَوْم
وَكَذَلِكَ عفافهم عَن الْجِمَاع وَأَن مِنْهُم قوما لَا رجال فَقَط لَكِن نسَاء أَيْضا قد أَقَامُوا أَيَّام حياتهم ممتنعين عَن الْجِمَاع
وَمِنْهُم قوم قد بلغ من ضبطهم لأَنْفُسِهِمْ فِي التَّدْبِير فِي الْمطعم وَالْمشْرَب وَشدَّة حرصهم على الْعدْل أَن صَارُوا غير مقصرين عَن الَّذين يتفلسفون بِالْحَقِيقَةِ
قَالَ عبد الله بن جِبْرَائِيل فَبِهَذَا القَوْل قد علم أَن النَّصَارَى لم يَكُونُوا ظَاهِرين فِي زمن الْمَسِيح بِهَذِهِ الصُّورَة أَعنِي الرهبنة الَّتِي نعتها جالينوس وإيثار الِانْقِطَاع إِلَى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
وَلَكِن بعد الْمَسِيح بِمِائَة سنة انتشروا هَذَا الانتشار حَتَّى زادوا على الفلاسفة فِي فعل الْخَيْر وآثروا الْعدْل والتفضل والعفاف وفازوا بِتَصْدِيق المعجز
وَحصل لَهُم الحالان وورثوا المنزلتين واغتبطوا بالسعادتين أَعنِي السَّعَادَة الشَّرْعِيَّة والسعادة الْعَقْلِيَّة
فَمن هَذَا وَشبهه يتَبَيَّن تَارِيخ جالينوس
وَهَذَا آخر مَا ذكره عبد الله بن جِبْرَائِيل من أَمر جالينوس
ونقلت من خطّ الشَّيْخ موفق الدّين أسعد بن إلْيَاس بن المطران قَالَ
الْمَوَاضِع الَّذِي ذكر جالينوس فِيهَا مُوسَى والمسيح قد ذكر مُوسَى فِي الْمقَالة الرَّابِعَة من كِتَابه فِي التشريح على رَأْي أبقراط إِذْ يَقُول هَكَذَا يشبهون من تعين من المتطببين لمُوسَى الَّذِي سنّ سننا لشعب الْيَهُود لِأَن من شَأْنه أَن يكْتب كتبه من غير برهَان إِذْ يَقُول الله أَمر وَالله قَالَ
وَيذكر مُوسَى فِي كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء
وَيذكر مُوسَى والمسيح فِي كتاب النبض الْكَبِير إِذْ يَقُول لَا الْخَشَبَة المتفتلة تستوي وَلَا الشَّجَرَة العتيقة إِذا حولت تعلق فيسهل أَن يعلم الْإِنْسَان أهل مُوسَى والمسيح من أَن يعلم الْأَطِبَّاء والفلاسفة الممارين بالأحزاب
وَيذكر مُوسَى والمسيح فِي مقَالَته فِي المحرك الأول وَيَقُول لَو كنت رَأَيْت قوما يعلمُونَ تلاميذهم كَمَا كَانَ يعلمُونَ أهل مُوسَى والمسيح إِذْ كَانُوا يأمرونهم أَن يقبلُوا كل شَيْء بالأماتة لم أكن أريكم أحدا
وَفِي مَوَاضِع أخر قَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل وَكَانَ جالينوس من الْحُكَمَاء اليونانيين الَّذين كَانُوا فِي الدولة القيصرية بعد بُنيان روميه ومولده ومنشؤه بفرغامس وَهِي مَدِينَة صَغِيرَة من جملَة مَدَائِن آسيا شَرْقي قسطنطينية وَهِي جَزِيرَة فِي بَحر قسطنطينية وهم روم إغريقيون يونانيون
وَمن تِلْكَ النَّاحِيَة انْدفع الْجَيْش الْمَعْرُوف بالقوط من الرّوم الَّذين غنموا الأندلس واستوطنوها
وَذكر لشيذر الإشبيلي الْحَرَّانِي أَن مَدِينَة فرغامس كَانَت مَوضِع سجن الْمُلُوك وهنالك كَانُوا يحبسون من غضبوا عَلَيْهِ
مسكن جالينوس
وَقَالَ يُوسُف بن الداية فِي تَعْرِيف مَوضِع جالينوس ومسكنه مَا هَذِه حكايته(1/117)
قَالَ سَأَلَ أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي جِبْرَائِيل بن بختيشوع عَن مسكن جالينوس أَيْن كَانَ من أَرض الرّوم فَذكر أَن مَسْكَنه فِي دهره كَانَ متوسطا لأرض الرّوم وَأَنه فِي هَذَا الْوَقْت فِي طرف من أطرافها
وَذكر أَن حد أَرض الرّوم كَانَ فِي أَيَّام جالينوس من نَاحيَة الشرق مِمَّا يَلِي الْفُرَات الْقرْيَة الْمَعْرُوفَة بنغيا من طوج الأنبار وَكَانَت المسلحة الَّتِي يجْتَمع فِيهَا جند فَارس وَالروم ونواطيرهما فِيهَا
وَكَانَ الْحَد من نَاحيَة دجلة دَارا إِلَّا فِي بعض الْأَوْقَات فَإِن مُلُوك فَارس كَانَت تغلبهم على مَا بَين دَارا وَرَأس الْعين فَكَانَ الْحَد فِيمَا بَين فَارس وَالروم من نَاحيَة الشمَال أرمينية وَمن نَاحيَة الْمغرب مصر إِلَّا أَن الرّوم كَانَت تغلب فِي بعض الْأَوْقَات على مصر وعَلى أرمينية
فَلَمَّا ذكر جبرائل غَلَبَة الرّوم على أرمينية فِي بعض الْأَوْقَات تلقيت قَوْله بالإنكار وجحدت أَن تكون الرّوم غلبت على أرمينية إِلَّا الْموضع الَّذِي يُسمى بِلِسَان الرّوم أرمنيانس فَإِن الرّوم يسمون أهل هَذَا الْبَلَد إِلَى هَذِه الْغَايَة الأرمن فَشهد لَهُ عَليّ أَبُو إِسْحَق بِالصّدقِ وأتى بِدَلِيل على ذَلِك لم أصل إِلَى دَفعه وَهُوَ نمط أرمني كأحسن مَا رَأَيْت من الأرمن صَنْعَة فِيهِ صور جوَار يلعبن فِي بُسْتَان بأصناف الملاهي الرومية وَهُوَ مطرز بالرومية مُسَمّى باسم ملك الرّوم فَسلمت لجبرائيل
وَرجع الحَدِيث إِلَى القَوْل فِي جالينوس قَالَ وَاسم الْبَلَد الَّذِي ولد فِيهِ وَكَانَ مَسْكَنه سمرنا وَكَانَ منزله بِالْقربِ من قَرْيَة بَينه وَبَينهَا فرسخان
قَالَ جِبْرَائِيل فَلَمَّا نزل الرشيد على قُرَّة رَأَيْته طيب النَّفس فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ منزل أستاذي الْأَكْبَر مني على فرسخين فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يُطلق لي الذّهاب إِلَيْهِ حَتَّى أطْعم فِيهِ وأشرب فأصول بذلك على متطببي أهل دهري وَأَقُول إِنِّي أكلت وشربت فِي منزل أستاذي فَلْيفْعَل
فاستضحك من قولي ثمَّ قَالَ لي وَيحك يَا جِبْرَائِيل أَتَخَوَّف أَن يخرج جَيش الرّوم أَو منسر فيختطفك
فَقلت لَهُ من الْمحَال أَن يقدم الرّوم على الْقرب من معسكرك هَذَا الْقرب كُله فَأمر بإحضار(1/118)
إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان بن نهيك وَأمره أَن يضم إِلَيّ خَمْسمِائَة رجل حَتَّى أوافي النَّاحِيَة
فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي خمسين كِفَايَة
فاستضحك ثمَّ قَالَ ضم إِلَيْهِ ألف فَارس فَأَنَّهُ إِنَّمَا كره أَن يُطعمهُمْ ويسقيهم
قَالَ فَقلت مَا لي إِلَى النّظر إِلَى جالينوس حَاجَة فازداد ضحكا ثمَّ قَالَ
وَحقّ الْمهْدي لتنفذن ومعك الْألف فَارس
قَالَ جِبْرَائِيل فَخرجت وَأَنا من أَشد النَّاس غما وأكسفهم بَالا قد أَعدَدْت لنَفْسي مَا لَا يَكْفِي عشرَة أنفس من الطَّعَام وَالشرَاب
قَالَ فَمَا اسْتَقر بِي الْموضع حَتَّى وافاني الْخبز والمساليخ وَالْملح فَعم من معي وَفضل كثير
فأقمت فِي ذَلِك الْموضع فطعمت فِيهِ وَمضى فتيَان الْجند وأغاروا على مَوَاضِع خمور الرّوم ولحومهم فَأَكَلُوا اللَّحْم كبابا بالخبز وَشَرِبُوا عَلَيْهِ الْخمر وانصرفت فِي آخر النَّهَار
فَسَأَلَهُ أَبُو إِسْحَق هَل تبين فِي رسم منزل جالينوس مَا يدل على أَنه كَانَ لَهُ شرف فَقَالَ لَهُ أما الرَّسْم فكثير
وَرَأَيْت لَهُ أبياتا شرقية وأبياتا غربية وأبياتا قبلية وَلم أر لَهُ بَيْتا فراتيا
وَكَذَلِكَ كَانَت فلاسفة الرّوم تجْعَل بيوتها وَكَذَلِكَ كَانَت ترى عُظَمَاء فَارس وَكَذَلِكَ أرى أَنا إِذا أصدقت نَفسِي وعملت بِمَا يجب لِأَن كل بَيت لَا تدخله الشَّمْس يكون وبيئا
وَإِنَّمَا كَانَ جالينوس على حكمته خَادِمًا لملوك الرّوم وملوك الرّوم أهل قصد فِي جَمِيع أُمُورهم فَإِذا قست منزل جالينوس إِلَى منَازِل الرّوم رَأَيْت من كبر خطته وَكَثْرَة بيوته وَإِن كنت لم أرها إِلَّا خرابا على أَنِّي وجدت فِيهَا أبياتا مسقفة استدللت على أَنه كَانَ ذَا مُرُوءَة
فَسكت عَنهُ أَبُو إِسْحَق فَقلت يَا أَبَا عِيسَى إِن مُلُوك الرّوم على مَا وصفت فِي الْقَصْد وَلَيْسَ قصدهم فِي هباتهم وعطاياهم إِلَّا قصدهم فِي مروءات أنفسهم فالنقص يدْخل المخدوم وَالْخَادِم فَإِذا نظرت إِلَى مَوضِع قصر ملك الرّوم وَمَوْضِع جالينوس ثمَّ نظرت إِلَى قصر أَمِير الْمُؤمنِينَ ومنزلك يكون نِسْبَة منزل جالينوس إِلَى منزل ملك الرّوم مثل نِسْبَة مَنْزِلك إِلَى منزل أَمِير الْمُؤمنِينَ
وَكَانَ جِبْرَائِيل أَحْيَانًا يعجب مني لِكَثْرَة الِاسْتِقْصَاء فِي السُّؤَال ويمدحني عِنْد أبي إِسْحَق وَأَحْيَانا يغْضب مِنْهُ حَتَّى يكَاد أَن يطير غيظا
فَقَالَ لي وَمَا معنى ذكرك النِّسْبَة فَقلت لَهُ أردْت بِذكر النِّسْبَة أَنَّهَا لَفْظَة يتَكَلَّم بهَا حكماء الرّوم وَأَنت رَئِيس تلامذة أُولَئِكَ الْحُكَمَاء فَأَرَدْت التَّقَرُّب إِلَيْك بمخاطبتك بِأَلْفَاظ أستاذيك
وَإِنَّمَا معنى قولي نِسْبَة دَار جالينوس إِلَى دَار ملك الرّوم مثل نِسْبَة دَارك إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّه إِن كَانَت دَار جالينوس مثل نصف أَو ثلث أَو ربع أَو خمس أَو قدر من الأقدار من دَار ملك الرّوم هَل يكون قدرهَا من ملك الرّوم مثل قدر دَارك من دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ أَو أقل فَإِن دَار أَمِير(1/119)
الْمُؤمنِينَ إِن كَانَت فرسخا فِي فرسح وَقدر دَارك عشر فَرسَخ فِي عشر فَرسَخ وَدَار ملك الرّوم إِن كَانَت عشر فراسخ فِي عشر فراسخ وَدَار جالينوس عشر عشر فَرسَخ فِي عشر عشر فَرسَخ كَانَ قدر دَار جالينوس من دَار ملك الرّوم مثل مِقْدَار دَارك من دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ سَوَاء
فَقَالَ لم تكن دَار جالينوس كَذَا وَهِي أقل مِقْدَارًا من دَاري عِنْد دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ بِكَثِير كثير فَقلت لَهُ
تُخبرنِي عَمَّا أسأَل قَالَ لست آبي عَلَيْك
فَقلت لَهُ أَنَّك قد أخْبرت عَن صَاحبك أَنه كَانَ أنقص مُرُوءَة مِنْك
فَغَضب وَقَالَ أَنْت نوماجذ
وَكنت أَحسب هَذِه اللَّفْظَة فِرْيَة فَغضِبت فَلَمَّا رأى غَضَبي قَالَ إِنِّي لم أقذفك بِشَيْء عَلَيْك فِيهِ ضَرَر
ووددت إِنِّي كنت نوماجذ
هَذَا اسْم ركب من حرفين فارسيين وهما الحدة والإتيان
فَإِنَّمَا نوماجذ نوه آمد أَي جَاءَ حِدته فَيُقَال هَذَا للْحَدَث ووددت أَنا كُنَّا أحداثا مثلك
وَإِنَّمَا أَنهَاك أَن تتقفز تقفز الديوك المحتلمة فَإِنَّهَا رُبمَا نازعتها نَفسهَا إِلَى منافرة الديوك الهرمة فينقر الديك الْهَرم الديك المحتلم النقرة فَيظْهر دماغه فَلَا تكون للمحتلم بعد ذَلِك حَيَاة
وَأَنت تعارضني كثيرا الْمجَالِس ثمَّ تحكم وتظلم فِي الحكم
وَإِن عَيْش جِبْرَائِيل وبختيشوع أَبِيه وجورجس جده لم يكن من الْخُلَفَاء وعمومتهم وقراباتهم ووجوه مواليهم وقوادهم وكل هَؤُلَاءِ فَفِي اتساع من النِّعْمَة باتساع قُلُوب الْخُلَفَاء
وَجَمِيع أَصْحَاب ملك الرّوم فَفِي ضنك من الْعَيْش وَقلة ذَات يَد فَكيف يُمكن أَن أكون مثل جالينوس وَلم يكن لَهُ مُتَقَدم نعْمَة لِأَن أَبَاهُ كَانَ زراعا وَصَاحب جنَّات وكروم
فَكيف يُمكن من كَانَ معاشه من أهل هَذَا الْمِقْدَار أَن يكون مثلي ولي أَبَوَانِ قد خدما الْخُلَفَاء وأفضلوا عَلَيْهِمَا وَغَيرهم مِمَّن هُوَ دونهم
وَقد أفضل الْخُلَفَاء عَليّ ورفعوني من حد الطِّبّ إِلَى المعاشرة والمسامرة
فَلَو قلت أَنه لَيْسَ لأمير الْمُؤمنِينَ أَخ وَلَا قرَابَة وَلَا قَائِد وَلَا عَامل إِلَّا وَهُوَ يداريني إِن لم يكن مائلا بمحبته إِلَيّ وَإِن كَانَ ماثلا أَو شاكرا لي على علاج عالجته أَو محْضر جميل حَضرته أَو وصف حسن وَصفته بِهِ عِنْد الْخُلَفَاء فنفعه فَكل وَاحِد من هَؤُلَاءِ يفضل عَليّ وَيحسن إِلَيّ
وَإِذا كَانَ قدر دَاري من دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ على جُزْء من عشرَة أَجزَاء وَكَانَ قدر دَار جالينوس من دَار ملك الرّوم على قدر جُزْء من مائَة جُزْء فَهُوَ أعظم مني مُرُوءَة
فَقَالَ لَهُ أَبُو إِسْحَق أرى حدتك على يُوسُف إِنَّمَا كَانَت لِأَنَّهُ قدمك فِي الْمُرُوءَة على جالينوس فَقَالَ أجل وَالله لعن الله من لَا يشْكر النعم وَلَا يُكَافِئ عَلَيْهَا بِكُل مَا أمكنه
إِنِّي وَالله أغضب أَن أسوى بجالينوس فِي حَال من الْحَالَات واشكر فِي تَقْدِيمه على نَفسِي فِي كل الْأَحْوَال
فَاسْتحْسن ذَلِك مِنْهُ أَبُو إِسْحَق وَأظْهر استصوابا لَهُ وَقَالَ هَذَا لعمري الَّذِي يحسن بالأحرار(1/120)
والأدباء
فانكب على قدم أبي إِسْحَق ليقبلها فَمَنعه من ذَلِك وضمه إِلَيْهِ
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان وَكَانَ جالينوس فِي دولة نيرون قَيْصر وَهُوَ السَّادِس من القياصرة الَّذِي ملكوا رُومِية وَطَاف جالينوس الْبِلَاد وجالها وَدخل إِلَى مَدِينَة رُومِية مرَّتَيْنِ فسكنها
وغزا مَعَ ملكهَا لتدابير الجرحي
وَكَانَت لَهُ بِمَدِينَة رُومِية مجَالِس عامية خطب فِيهَا وَأظْهر من علمه بالتشريح مَا عرف بِهِ فَضله وَبَان علمه
وَذكر جالينوس فِي كِتَابه محنة الطَّبِيب الْفَاضِل مَا هَذَا حكايته قَالَ إِنِّي مُنْذُ صباي تعلمت طَرِيق الْبُرْهَان
ثمَّ إِنِّي لما ابتدأت بِعلم الطِّبّ رفضت اللَّذَّات واستخففت بِمَا فِيهِ من عرض الدُّنْيَا ورفضته حَتَّى وضعت عَن نَفسِي مؤونة البكور إِلَى أَبْوَاب النَّاس للرُّكُوب مَعَهم من مَنَازِلهمْ وانتظارهم على أَبْوَاب الْمُلُوك للانصراف مَعَهم إِلَى مَنَازِلهمْ وملازمتهم
وَلم أفن دهري واشق نَفسِي فِي هَذَا التطواف على النَّاس الَّذِي يسمونه تَسْلِيمًا
لَكِن اشغلت نَفسِي دهري كُله بأعمال الطِّبّ والروية والفكر فِيهِ
وسهرت عَامَّة ليلِي فِي تقليب الْكُنُوز الَّتِي خلفهَا القدماء لنا
فَمن قدر أَن يَقُول إِنَّه فعل مثل هَذَا الْفِعْل الَّذِي فعلت ثمَّ كَانَت مَعَه طبيعة ذكاء وَفهم سريع يُمكن مَعهَا قبُول هَذَا الْعلم الْعَظِيم فَوَاجِب أَن يوثق بِهِ قبل أَن يجرب قضاياه وَفعله فِي المرضى
وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِأَنَّهُ أفضل مِمَّن لَيْسَ مَعَه مَا وَصفنَا وَلَا فعل مَا عددناه
وَبِهَذَا الطَّرِيق سَار رجل من رُؤَسَاء الكمريين عِنْد رجوعي إِلَى مَدِينَة من الْبلدَانِ الَّتِي كنت نزعت إِلَيْهَا على أَنه لم يكن تمّ لي ثَلَاثُونَ سنة إِلَى أَن ولاني علاج جَمِيع الْمَجْرُوحين من المبارزين فِي الْحَرْب
وَقد كَانَ يولي أَمرهم قبل ذَلِك رجلَانِ أَو ثَلَاثَة من الْمَشَايِخ
فَلَمَّا أَن سُئِلَ ذَلِك الرجل عَن طَرِيق المحنة الَّتِي امتحنني بهَا حَتَّى وثق بِي فولاني أَمرهم قَالَ إِنِّي رَأَيْت الْأَيَّام الَّتِي أفناها هَذَا الرجل فِي التَّعْلِيم أَكثر من الْأَيَّام الَّتِي أفناها غَيره من مَشَايِخ الْأَطِبَّاء فِي تعلم هَذَا الْعلم
وَذَلِكَ أَنِّي رَأَيْت أُولَئِكَ يفنون أعمارهم فِيمَا لَا ينْتَفع بِهِ وَلم أر هَذَا الرجل يفني يَوْمًا وَاحِدًا وَلَا لَيْلَة من عمره فِي الْبَاطِل
وَلَا يَخْلُو فِي يَوْم من الْأَيَّام وَلَا فِي وَقت من الارتياض فِيمَا ينْتَفع بِهِ
وَقد رَأَيْنَاهُ أَيْضا فعل أفعالا قَرِيبا هِيَ أصح فِي الدّلَالَة على حذقه بِهَذِهِ الصِّنَاعَة من سنى هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ
وَقد كنت حضرت مَجْلِسا عَاما من الْمجَالِس الَّتِي تَجْتَمِع فِيهَا النَّاس لاختبار علم الْأَطِبَّاء فَأريت من حضر أَشْيَاء كَثِيرَة من أَمر التشريح
وَأخذت حَيَوَانا فشققت بَطْنه حَتَّى أخرجت أمعاءه ودعوت من حضر من الْأَطِبَّاء إِلَى ردهَا وخياطة الْبَطن على مَا يَنْبَغِي فَلم يقدم أحد مِنْهُم على ذَلِك
وعالجناه نَحن فَظهر منا فِيهِ حذق ودربة وَسُرْعَة كف
وفجرنا أَيْضا عروقا كبارًا بالتعمد ليجري مِنْهَا الدَّم ودعونا مَشَايِخ من الْأَطِبَّاء إِلَى علاجها فَلم يُوجد عِنْدهم شَيْء
وعالجتها أَنا فَتبين لمن كَانَ لَهُ عقل مِمَّن حضر أَن الَّذِي يَنْبَغِي أَن يتَوَلَّى أَمر الْمَجْرُوحين من كَانَ مَعَه من الحذق مَا معي
فَلَمَّا ولاني ذَلِك الرجل أَمرهم وَهُوَ أول من ولاني هَذَا الْأَمر اغتبط بذلك
وَذَلِكَ أَنه لم يمت من(1/121)
جَمِيع من ولاني أمره إِلَّا رجلَانِ فَقَط
وَقد كَانَ مَاتَ مِمَّن تولى علاجه طَبِيب كَانَ قبلي سِتَّة عشر نفسا
ثمَّ ولاني بعده أَمرهم رجل آخر من رُؤَسَاء الكمريين فَكَانَ بتوليته إيَّايَ أسعد
وَذَلِكَ أَنه لم يمت أحد مِمَّن ولانيه على أَنه قد كَانَت بهم جراحات كَثِيرَة جدا عَظِيمَة
وَإِنَّمَا قلت هَذَا لأدل كَيفَ يقدر الممتحن أَن يمْتَحن ويميز بَين الطَّبِيب الماهر وَبَين غَيره قبل أَن يجرب قَوْله وَعلمه فِي المرضى وَلَا يكون امتحانه لَهُ كَمَا يمْتَحن النَّاس الْيَوْم الْأَطِبَّاء ويقدمون مِنْهُم من ركب مَعَهم واشتغل بخدمتهم الشّغل الَّذِي لَا يُمكن مَعَه الْفَرَاغ لأعمال الطِّبّ
بل يكون تَقْدِيمه واختياره لمن كَانَ على خلاف ذَلِك وَكَانَ شغله فِي دهره كُله فِي أَعمال الطِّبّ لَا غَيرهَا
قَالَ وَإِنِّي لأعرف رجلا من أهل الْعقل والفهم قدمني من فعل وَاحِد رَآنِي فعلته وَهُوَ تشريح حَيَوَان بيّنت بِهِ بِأَيّ الْآلَات يكون الصَّوْت وَبِأَيِّ الْحَرَكَة مِنْهَا
وَكَانَ عرض لذَلِك الرجل قبل ذَلِك الْوَقْت بشهرين أَن سقط من مَوضِع عَال فتكسرت من بدنه أَعْضَاء كَثِيرَة وَبَطل عَامَّة صَوته حَتَّى صَار كَلَامه بِمَنْزِلَة السرَار
وعولجت أعضاؤه فصلحت وبرأت بعد أَيَّام كَثِيرَة وَبَقِي صَوته لَا يرجع
فَلَمَّا أَن رأى مني ذَلِك الرجل مَا رأى وثق بِي وقلدني أَمر نَفسه فابرأته فِي أَيَّام قَلَائِل لِأَنِّي عرفت الْموضع الَّذِي كَانَت الآفة فِيهِ فقصدت لَهُ
وَقَالَ وَإِنِّي لأعرف رجلا آخر سقط من دَابَّته فتهشم ثمَّ عولج فبرأ من جَمِيع مَا كَانَ ناله خلا أَن أصبعين من أَصَابِع كَفه وهما الْخِنْصر والبنصر بَقِيَتَا خدرتين زَمَانا طَويلا
وَكَانَ لَا يحس بهما كثير حس وَلَا يملك حركتهما على مَا يَنْبَغِي
وَكَانَ من ذَلِك أَيْضا شَيْء فِي الْوُسْطَى
فَجعل الْأَطِبَّاء يضعون على تِلْكَ الْأَصَابِع أدوية مُخْتَلفَة وَكلهَا لم تنجح
وَكلما وضعُوا دَوَاء انتقلوا مِنْهُ إِلَى غَيره
فَلَمَّا أَتَانِي سَأَلته عَن الْموضع الَّذِي قرع الأَرْض من بدنه فَلَمَّا قَالَ لي أَن الْموضع الَّذِي قرع مِنْهُ هُوَ مَا بَين كَتفيهِ وَكنت قد علمت من التشريح أَن مخرج الْعصبَة الَّتِي تَأتي هَاتين الأصبعين أول خرزة فِيمَا بَين الْكَتِفَيْنِ علمت أَن أصل البلية هُوَ الْموضع الَّذِي تنْبت فِيهِ تِلْكَ الْعصبَة من النخاع
فَوضعت على ذَلِك الْموضع الَّذِي تنْبت مِنْهُ تِلْكَ الْعصبَة بعض الْأَدْوِيَة الَّتِي كَانَت تُوضَع على الْأَصَابِع بعد أَن أمرت فَقلعت عَن الْأَصَابِع تِلْكَ الْأَدْوِيَة الَّتِي تُوضَع عَلَيْهَا بَاطِلا فَلم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى برِئ وَبَقِي كل من رأى ذَلِك يتعجب من أَن مَا بَين الْكَتِفَيْنِ يعالج فتبرأ الْأَصَابِع
قَالَ وأتاني رجل آخر أَصَابَته آفَة فِي صَوته وشهوته للطعام مَعًا فابرأته بأدوية وَضَعتهَا على رقبته وَكَانَ الْعَارِض لذَلِك الرجل مَا أصف لَك كَانَ بِهِ خنازير عَظِيمَة فِي رقبته فِي كلا الْجَانِبَيْنِ فعالجه بعض المعالجين فَقطع تِلْكَ الْخَنَازِير وأورثه بِسوء احتياطته بردا فِي العصبتين المجاورتين للعرقين النابضين الشاخصين فِي الرَّقَبَة
وَهَاتَانِ العصبتان تنبتان فِي أَعْضَاء كَثِيرَة وَتَأْتِي مِنْهُمَا شُعْبَة عَظِيمَة(1/122)
إِلَى فَم الْمعدة وَمن تِلْكَ الشعبة تنَال الْمعدة كلهَا الْحس إِلَّا أَن أَكثر مَا فِي الْمعدة حسا فمها لِكَثْرَة مَا ينْبت من تِلْكَ الْعصبَة الَّتِي فِيهَا
وَشعْبَة يسيرَة من كل وَاحِدَة من هَاتين العصبتين تحرّك وَاحِدَة من آلَات الصَّوْت وَلذَلِك ذهب صَوت ذَلِك الرجل وشهوته فَلَمَّا علمت ذَلِك وضعت على رقبته دَوَاء مسخنا فبرأ فِي ثَلَاثَة أَيَّام وَمَا أحد رأى هَذَا الْفِعْل مني ثمَّ صَبر لِأَن يسمع مني الرَّأْي الَّذِي أداني إِلَى علاجه الأعجب إِلَّا وَعلم أَن بالأطباء إِلَى التشريح أعظم الْحَاجة
وَقَالَ جالينوس فِي كِتَابه فِي الْأَمْرَاض الْعسرَة الْبُرْء أَنه كَانَ مارا بِمَدِينَة رُومِية إِذْ هُوَ بِرَجُل خلق حوله جمَاعَة من السُّفَهَاء وَهُوَ يَقُول أَنا رجل من أهل حلب لقِيت جالينوس وَعَلمنِي علومه اجْمَعْ وَهَذَا دَوَاء ينفع من الدُّود فِي الأضراس وَكَانَ الْخَبيث قد أعد بندقا من قار وقطران وَكَانَ يَضَعهَا على الْجَمْر ويبخر بهَا صَاحب الأضراس المدودة بِزَعْمِهِ فَلَا يجد بدا من غلق عَيْنَيْهِ فَإِذا أغلقهما دس فِي فَمه دودا قد أعدهَا فِي حق ثمَّ يُخرجهَا من فَم صَاحب الضرس
فَلَمَّا فعل ذَلِك ألْقى إِلَيْهِ السُّفَهَاء بِمَا مَعَهم ثمَّ تجَاوز ذَلِك حَتَّى قطع الْعُرُوق على غير مفاصل
قَالَ فَلَمَّا رَأَيْت ذَلِك أبرزت وَجْهي للنَّاس وَقلت أَنا جالينوس وَهَذَا سَفِيه
ثمَّ حذرت مِنْهُ واستعديت عَلَيْهِ السُّلْطَان فَلَطَمَهُ
وَلذَلِك ألف كتابا فِي أَصْحَاب الْحِيَل
وَقَالَ جالينوس فِي كتاب قاطاجانس أَنه دبر فِي الهيكل بِمَدِينَة رُومِية فِي نوبَة الشَّيْخ الْمُقدم الَّذِي كَانَ فِي الهيكل الَّذِي كَانَ يداوي الْجَرْحى وَذَلِكَ الهيكل هُوَ البيمارستان فبرأ كل من دبره من الْجَرْحى قبل غَيرهم
وَبَان بذلك فَضله وَظهر علمه وَكَانَ لَا يقنع من علم الْأَشْيَاء بالتقليد دون الْمُبَاشرَة
قَالَ المبشر بن فاتك وسافر جالينوس إِلَى أثينية ورومية والإسكندرية وَغَيرهَا من الْبِلَاد فِي طلب الْعلم وَتعلم من أرمنيس الطِّبّ وَتعلم أَولا من أَبِيه وَمن جمَاعَة مهندسين ونحاة الهندسة واللغة والنحو وَغير ذَلِك
ودرس الطِّبّ أَيْضا على امْرَأَة اسْمهَا قلاوبطر وَأخذ عَنْهَا أدوية كَثِيرَة وَلَا سِيمَا مَا تعلق بعلاجات النِّسَاء
وشخص إِلَى قبرس ليرى القلقطار فِي معدنه
وَكَذَلِكَ شخص إِلَى جَزِيرَة لمنوس ليرى عمل الطين الْمَخْتُوم فباشر كل ذَلِك بِنَفسِهِ وَصَححهُ بِرُؤْيَتِهِ
وسافر أَيْضا إِلَى مصر وَأقَام بهَا مُدَّة فَنظر عقاقيرها وَلَا سِيمَا الأفيون فِي بلد أسيوط من أَعمال صعيدها
ثمَّ خرج مُتَوَجها مِنْهَا نَحْو بِلَاد الشَّام رَاجعا إِلَى بَلَده فَمَرض فِي طَرِيقه وَمَات بالفرما وَهِي مَدِينَة على الْبَحْر(1/123)
الْأَخْضَر فِي آخر أَعمال مصر
وَقَالَ المَسْعُودِيّ فِي كتاب المسالك والممالك أَن الفرما على شط بحيرة تنيس وَهِي مَدِينَة حَصِينَة وَبهَا قبر جالينوس اليوناني
وَقَالَ غَيره أَنه لما كَانَت ديانَة النَّصْرَانِيَّة قد ظَهرت فِي أَيَّام جالينوس قيل لَهُ أَن رجلا ظهر فِي آخر دولة قَيْصر اكتفيان بِبَيْت الْمُقَدّس يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الْمَوْتَى فَقَالَ يُوشك أَن تكون عِنْده قُوَّة إلهية يفعل بهَا ذَلِك فَسَأَلَ إِن كَانَ هُنَاكَ بَقِيَّة مِمَّن صَحبه فَقيل لَهُ نعم فَخرج من رُومِية يُرِيد بَيت الْمُقَدّس فَجَاز إِلَى صقلية وَهِي يَوْمئِذٍ تسمى سلطانية
فَمَاتَ هُنَالك وقبره بصقلية
وَيُقَال أَن الْعلَّة الَّتِي مَاتَ بهَا الذرب
وَحكي عَنهُ أَنه لما طَالَتْ بِهِ الْعلَّة عالجها بِكُل شَيْء فَلم ينجع فَقَالَت تلاميذه أَن الْحَكِيم لَيْسَ يعرف علاج علته وَقصرُوا فِي خدمته فأحس بذلك مِنْهُم وَكَانَ زَمَانا صائفا فأحضر جرة فِيهَا مَاء وَأخرج شَيْئا فطرحه فِيهَا وَتركهَا سَاعَة وَكسرهَا وَإِذا بهَا قد جمدت فَأخذ من ذَلِك الدَّوَاء فشربه واحتقن بِهِ فَلم ينفع
فَقَالَ لتلاميذه هَل تعلمُونَ لم فعلت هَذَا قَالُوا لَا قَالَ لِئَلَّا تظنوا إِنِّي قد عجزت عَن علاج نَفسِي فَهَذِهِ عِلّة تسمى دَاء مدد يَعْنِي الدَّاء الَّذِي لَا دَوَاء لَهُ وَهُوَ الْمَوْت
وَهَذِه الْحِكَايَة أحسبها مفتعلة عَن جالينوس
صفة تجميد المَاء
وَذكر ابْن بختويه فِي كتاب الْمُقدمَات صفة لتجميد المَاء فِي غير وقته زعم أَنه إِذا أَخذ من الشب الْيَمَانِيّ الْجيد رَطْل ويسحق جيدا وَيجْعَل فِي قدر فخار جَدِيدَة ويلقي عَلَيْهِ سِتَّة أَرْطَال مَاء صَاف وَيجْعَل فِي تنور ويطين عَلَيْهِ حَتَّى يذهب مِنْهُ الثُّلُثَانِ وَيبقى الثُّلُث لَا يزِيد وَلَا ينقص فَإِنَّهُ يشْتَد
ثمَّ يرفع فِي قنينة ويسد رَأسهَا جيدا
فَإِذا أردْت الْعَمَل بِهِ أخذت ثلجية جَدِيدَة وفيهَا مَاء صَاف وَاجعَل فِي المَاء عشرَة مَثَاقِيل من المَاء الْمَعْمُول بالشب وَيتْرك سَاعَة وَاحِدَة فَإِنَّهُ يصير ثلجا
وَكَذَلِكَ أَيْضا زعم بعض المغاربة فِي صفة تجميد المَاء فِي الصَّيف قَالَ اعمد إِلَى بزر الْكَتَّان فانقعه فِي خل خمر جيد ثَقِيف فَإِذا جمد فِيهِ فالقه فِي جرة أَو حب مَلِيء مَاء
قَالَ فَإِنَّهُ يجمد مَا كَانَ فِيهِ من المَاء وَلَو أَنه فِي حزيران أَو تموز(1/124)
قَالَ أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فاتك وَكَانَ جالينوس يعتني بِهِ أَبوهُ الْعِنَايَة الْبَالِغَة وَينْفق عَلَيْهِ النَّفَقَة الواسعة وَيجْرِي على المعلمين الجراية الْكَثِيرَة ويحملهم إِلَيْهِ من المدن الْبَعِيدَة
وَكَانَ جالينوس من صغره مشتهيا للْعلم البرهاني طَالبا لَهُ شَدِيد الْحِرْص وَالِاجْتِهَاد وَالْقَبُول للْعلم
وَكَانَ لِحِرْصِهِ على الْعلم يدرس مَا علمه الْمعلم فِي طَرِيقه إِذا انْصَرف من عِنْده حَتَّى يبلغ إِلَى منزله
وَكَانَ الفتيان الَّذين كَانُوا مَعَه فِي مَوضِع التَّعْلِيم يلومونه يَقُولُونَ لَهُ ياهذا يَنْبَغِي أَن تجْعَل لنَفسك وقتا من الزَّمَان تضحك مَعنا فِيهِ وتلعب فَرُبمَا لم يجبهم لشغله بِمَا يتعلمه وَرُبمَا قَالَ لَهُم مَا الدَّاعِي لكم إِلَى الضحك واللعب فَيَقُولُونَ شهوتنا إِلَى ذَلِك فَيَقُول وَالسَّبَب الدَّاعِي لي إِلَى ترك ذَلِك وإيثاري الْعلم بغضي لما أَنْتُم عَلَيْهِ ومحبتي لما أَنا فِيهِ فَكَانَ النَّاس يتعجبون مِنْهُ وَيَقُولُونَ لقد رزق أَبوك مَعَ كَثْرَة مَاله وسعة جاهه ابْنه حَرِيصًا على الْعلم
وَكَانَ أَبوهُ من أهل الهندسة وَكَانَ مَعَ ذَلِك يعاني صناعَة الفلاحة وَكَانَ جده رَئِيس النجارين وَكَانَ جد أَبِيه ماسحا
وَقَالَ جالينوس فِي كِتَابه فِي الكيموس الْجيد والرديء إِن أَبَاهُ مَاتَ ولجالينوس من الْعُمر عشرُون سنة
وَهَذَا مَا ذكره فِي ذَلِك الْموضع من حَاله قَالَ إِنَّك إِن أردْت تصديقي أَيهَا الحبيب فصدقني فَإِنَّهُ لَيْسَ لي عِلّة وَلَا وَاحِدَة تضطرني إِلَى الْكَذِب فَإِنِّي رُبمَا غضِبت إِذا رَأَيْت نَاسا كثيرين من أهل الْأَئِمَّة فِي الْحِكْمَة وَفِي الْكَرَامَة قد كذبُوا كثيرا فِي كتبهمْ الَّتِي وصفوا بهَا علم الْأَشْيَاء
فَأَما أَنا فَأَنِّي أَقُول وَلَا أكذب إِلَّا مَا قد عَايَنت بنفسي وجربت وحدي فِي طول الزَّمَان
وَالله يشْهد لي إِنِّي لست أكذب فِيمَا أقص عَلَيْكُم أَنه قد كَانَ لي أَب حَكِيم فَاضل قد بلغ من علم الْأُمُور بلوغا لَيست من وَرَائه غَايَة
أَقُول من علم المساحة والهندسة والمنطق والحساب والنجوم الَّذِي يُسمى أسطرونميا وَكَانَ أهل زَمَانه يعرفونه بِالصّدقِ وَالْوَفَاء وَالصَّلَاح والعفاف
وَبلغ من هَذِه الْفَضَائِل الَّتِي ذكرت مَا لم يبلغهَا أحد من حكماء أهل زَمَانه وعلمائهم
وَكَانَ الْقيم عَليّ وعَلى سياستي وَأَنا حدث صَغِير فحفظني الله على يَدَيْهِ بِغَيْر وجع وَلَا سقم وَإِنِّي لما راهقت أَو زِدْت توجه أبي إِلَى ضَيْعَة لَهُ وخلفني وَكَانَ محبا لعلم الأكرة فَكنت فِي تعليمي وأدبي أفوق أَصْحَابِي المتعلمين عَامَّة وأتقدمهم فِي الْعلم وأتركهم خَلْفي واجتهد لَيْلًا وَنَهَارًا على التَّعْلِيم
فتناولت يَوْمًا مَعَ أَصْحَابِي فَاكِهَة وتملأت بهَا
فَلَمَّا كَانَ أول دُخُول فصل الخريف مَرضت مَرضا حادا فَاحْتَجت إِلَى فصد الْعرق وَقدم وَالِدي عَليّ فِي تِلْكَ الْأَيَّام وَدخل الْمَدِينَة وَجَاء إِلَيّ فَانْتَهرنِي وذكرني بالتذكير والسياسية والغذاء الَّذِي كَانَ يغذوني بِهِ وَأَنا صبي
ثمَّ أَمرنِي وَتقدم إِلَيّ فَقَالَ اتَّقِ من الْآن وَتحفظ وتباعد من شهوات أَصْحَابك الشَّبَاب وَكَثْرَتهَا وإلحاحهم واقتحامهم
فَلَمَّا كَانَ الْحول الْمقبل حرص أبي بِحِفْظ غذائي وألزمنيه ودبرني أَيْضا وساسني سياسة مُوَافقَة
فَلم أتناول من الْفَاكِهَة إِلَّا الْيَسِير مِنْهَا وَأَنا يَوْمئِذٍ ابْن تسع عشرَة سنة
فَخرجت سنتي تِلْكَ بِلَا مرض وَلَا أَذَى
ثمَّ أَنه نزل بِأبي بعد تِلْكَ السّنة الْمَوْت
فَجَلَست أَيْضا مَعَ أَصْحَابِي وإخواني من أُولَئِكَ الشَّبَاب فَأكلت الْفَاكِهَة وَأَكْثَرت وتملأت أَيْضا فمرضت مَرضا شَبِيها(1/125)
بمرضي الأول فَاحْتَجت أَيْضا إِلَى فصد الْعرق
ثمَّ لزمتني الْأَمْرَاض بعد تِلْكَ السّنة سنينا متتابعة وَرُبمَا كَانَ ذَلِك غبا سنة بعد سنة إِلَى أَن بلغت ثمانيا وَعشْرين سنة
ثمَّ إِنِّي اشتكيت شكاية شَدِيدَة ظَهرت بِي دبيلة فِي الْموضع الَّذِي يجْتَمع فِيهِ الكبد مَعَ ذيافرغما وَهُوَ الْحجاب الحاجز مَا بَين الْأَعْضَاء المتنفسة والأعضاء الفعالة للغذاء فعزمت حِينَئِذٍ على نَفسِي أَن لَا أقرب بعد ذَلِك شَيْئا من الْفَاكِهَة الرّطبَة إِلَّا مَا كَانَ من التِّين وَالْعِنَب وَهَذَانِ إِذا كَانَا نضيجين
وَتركت الْإِكْثَار مِنْهُمَا أَيْضا فَوق الْقدر والطاقة
وَكنت أتناول مِنْهُمَا قدرا وَلَا أجاوزه
وَقد كَانَ لي أَيْضا صَاحب أمس مني فوافقني وواساني فِي الْعَزْم الَّذِي عزمت عَلَيْهِ من ترك الْفَاكِهَة والتباعد فألزمنا أَنْفُسنَا الضمور وتوقي التخم والشبع من الأغذية فبقينا جمعيا مَعًا بِغَيْر وجع وَلَا سقم إِلَى يَوْمنَا هَذَا سنينا كَثِيرَة
ثمَّ لما رَأَيْت ذَلِك عَمَدت إِلَى أخلائي وأخداني ومحبي من إخْوَانِي فألزمتهم الضمور والغذاء بِقدر واعتدال فصحوا وَلم يعرض لَهُم شَيْء مِمَّا أكره إِلَى يومي هَذَا فَمنهمْ من لَزِمته الصِّحَّة إِلَى يَوْمنَا هَذَا خمْسا وَعشْرين سنة وَمِنْهُم من لَزِمته الصِّحَّة خمس عشر وَمِنْهُم من لَزِمته السَّلامَة أقل من ذَلِك وَأكْثر من أَطَاعَنِي وَلزِمَ الْغذَاء على قدر مَا قدرت لَهُ من ذَلِك وتباعد من الْفَاكِهَة الرّطبَة وَغَيرهَا من الأغذية الرَّديئَة الكيموسات
وَقَالَ فِي كِتَابه فِي علاج التشريح بِأَنَّهُ دخل رُومِية فِي الْمرة الأولى فِي ابْتِدَاء ملك أنطونينوس الَّذِي ملك بعد أدريانوس وصنف كتابا فِي التشريح لبواثيوس المظفر الَّذِي كَانَ واليا على الرّوم عِنْدَمَا أَرَادَ أَن يخرج من مَدِينَة رُومِية إِلَى مدينته الَّتِي يُقَال لَهَا بطولومايس وَسَأَلَهُ أَن يزوده كتابا فِي التشريح
وصنف أَيْضا فِي التشريح مقالات وَهُوَ مُقيم بِمَدِينَة سمرنا عِنْد باليس معلمه الثَّانِي بعد ساطورس تلميذ قوينطوس
وَمضى إِلَى قورنتوس بِسَبَب إِنْسَان آخر مَذْكُور كَانَ تلميذا لقونطس يُقَال لَهُ أفقيانوس
وَسَار إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة لما سمع أَن هُنَاكَ جمَاعَة مذكورين من تلامذة قونطوس وَمن تلامذة نوميسيانوس
ثمَّ رَجَعَ إِلَى موطنه فرغامس من بِلَاد آسيا ثمَّ سَار إِلَى رُومِية وَشرح برومية قُدَّام بواثيوس وَكَانَ يحضرهُ دَائِما أوذيموس الفيلسوف من فرقة الْمَشَّائِينَ وَقد كَانَ يحضرهم الَّذِي يتَوَلَّى فِي مَدِينَة رُومِية وَهُوَ سرجيوس بولوس فَإِنَّهُ فِي أُمُور الْحِكْمَة كلهَا كَانَ أولى بالْقَوْل وَالْفِعْل جَمِيعًا
وَقَالَ جالينوس فِي بعض كتبه أَنه دخل الْإسْكَنْدَريَّة فِي أول دفْعَة وَرجع عَنْهَا إِلَى فرغامس موطنه وموطن آبَائِهِ وعمره ثَمَان وَعِشْرُونَ سنة
وَقَالَ فِي كِتَابه فِي فينكس كتبه إِنَّه كَانَ رُجُوعه من رُومِية إِلَى بِلَاده وَقد مضى من عمره سبع وَثَلَاثُونَ سنة
وَقَالَ فِي كِتَابه فِي نفي الْغم أَنه احْتَرَقَ لَهُ فِي الخزائن الْعُظْمَى الَّتِي كَانَت للْملك بِمَدِينَة رُومِية كتب كَثِيرَة وأثاث لَهُ قدر بمبلغ عَظِيم
وَكَانَ بعض النّسخ الْمُحْتَرِقَة بِخَط أرسطوطاليس وَبَعضهَا بِخَط أنكساغورس وأندروماخس وَصحح قرَاءَتهَا على معلميه الثِّقَات وعَلى من رَوَاهَا عَن أفلاطون
وسافر إِلَى مدن بعيدَة حَتَّى صحّح أَكْثَرهَا
وَذكر أَن من جملَة مَا ذهب لَهُ فِي هَذَا الْحَرِيق أَيْضا أَشْيَاء كَثِيرَة قد ذكرهَا فِي كِتَابه يطول حصرها(1/126)
وَقَالَ المبشر بن فاتك إِن من جملَة مَا احْتَرَقَ لِجَالِينُوسَ فِي هَذَا الْحَرِيق كتاب روفسي فِي الترياقات والسموم وعلاج المسمومين وتركيب الْأَدْوِيَة بِحَسب الْعلَّة وَالزَّمَان وَإِن من عزته عِنْده كتبه فِي ديباج أَبيض بقز أسود وَأنْفق عَلَيْهِ جملَة كَثِيرَة اقول وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن لِجَالِينُوسَ اخبارا كَثِيرَة جدا وحكايات مفيدة لمن يَتَأَمَّلهَا ونبذا ونوادر مُتَفَرِّقَة فِي خلال كتبه وَفِي اثناء الاحاديث المنقولة عَنهُ وقصصا كَثِيرَة مِمَّا جرى لَهُ فِي مداواة المرضى مِمَّا يدل على قوته وبراعته فِي صناعَة الطِّبّ
لم يتهيأ لي حِينَئِذٍ أَن اذكر جَمِيع ذَلِك فِي هَذَا الْموضع وَفِي عزمي أَن أجعَل لذَلِك كتابا مُفردا يَنْتَظِم كل مَا اجده مَذْكُورا من هَذِه الْأَشْيَاء فِي سَائِر كتبه وَغَيرهَا أَن شَاءَ الله تَعَالَى
وَقد ذكر جالينوس فِي فينكس كتبه انه صنف مقالتين وصف فيهمَا سيرته
فَأَما العلاجات البديعة الَّتِي حصلت لِجَالِينُوسَ ونوادره فِي تقدمه الْمعرفَة الَّتِي تفرد بهَا عِنْدَمَا تقدم فَأَنْذر بحدوثها فَكَانَت على مَا وَصفه فَأَنا وَجَدْنَاهُ قد ذكر من ذَلِك جملا فِي كتاب مُفْرد كتبه إِلَى أفيجانس ووسمه بِكِتَاب نَوَادِر تقدمة الْمعرفَة وَهُوَ يَقُول فِي كِتَابه هَذَا أَن النَّاس كَانُوا يسموني أَولا لجودة مَا يسمعونه مني فِي صناعَة الطِّبّ الْمُتَكَلّم بالعجائب فَلَمَّا ظَهرت لَهُم المعجزات الَّتِي كَانُوا يجدونها فِي معالجتي سموني الْفَاعِل للعجائب
وَقَالَ فِي كِتَابه فِي محنه الطَّبِيب الْفَاضِل مَا هَذِه حكايته قَالَ وَلم اعْلَم أحدا مِمَّن بالحضرة الا وَقد علم كَيفَ داوينا الرجل الَّذِي كَانَ يضرّهُ كل شياف يكتحل بِهِ حَتَّى برأَ وَكَانَت فِي عينه قرحَة عَظِيمَة مؤلمة وَكَانَ مَعَ ذَلِك الغشاء العنبي قد نتأ فتأنيت لذَلِك حَتَّى سكن والقرحة حَتَّى اندملت من غير أَن اسْتعْمل فِيهَا شَيْئا من الشيافات فاقتصرت على أَنِّي كنت اهيىء لَهُ فِي كل يَوْم ثلَاثه مياه احدها مَاء قد طبخت فِيهِ حلبة وَالْآخر مَاء قد طبخت فِيهِ وردا وَالْآخر مَاء قد طبخت فِيهِ زعفرانا غير مطحون وَقد رأى جَمِيع الْأَطِبَّاء الَّذين بالحضرة وَأَنا اسْتعْمل هَذِه الْمِيَاه فَلم يقدر أحد مِنْهُم أَن يتَمَثَّل استعمالي اياها وَذَلِكَ لانهم لَا يعْرفُونَ الطَّرِيق وَلَا الْمِقْدَار الَّذِي يحْتَاج ان يقدر فِي كل يَوْم من كل وَاحِد من هَذِه الْمِيَاه على حسب مَا تحْتَاج اليه الْعلَّة وَذَلِكَ ان تَقْدِير مَا كَانَ لتِلْك الْمِيَاه عِنْد شدَّة الوجع وغلبته بِنَوْع وَعند تقور النتوء بِنَوْع وَعند كَثِيرَة الْوَسخ فِي القرحة أَو الزِّيَادَة فِي عفنها بِنَوْع وَلم اسْتعْمل شَيْئا سوى هَذِه الْمِيَاه وَبَلغت الى مَا اردت من سُكُون نتوء الغشاء العنبي الَّذِي كَانَ نتأ وتسكين الوجع وتنقية القرحة فِي وَقت مَا كَانَ الْوَسخ كثيرا فِيهَا وانبات اللَّحْم فِيهَا فِي وَقت مَا كَانَت عميقة واندمالها فِي وَقت مَا امْتَلَأت وَلست اخلو فِي يَوْم من الايام من أَن ابين من مبلغ الحذق بِهَذِهِ الصِّنَاعَة مَا هَذَا مِقْدَاره فِي الْعظم أَو شَبيه بِهِ وَأكْثر من يرى هَذِه من الاطباء لَا يعلم أَيْن هُوَ مَكْتُوب فضلا عَمَّا سوى ذَلِك وَبَعْضهمْ اذ رأى ذَلِك لقبني البديع الْفِعْل وَبَعْضهمْ البديع القَوْل مثل قوم من كبار اطباء رُومِية حَضرتهمْ فِي اول دخلة دَخَلتهَا عِنْد فَتى مَحْمُوم وهم يتناظرون فِي فصده ويختصمون فِي ذَلِك فَلَمَّا أَن طَال كَلَامهم قلت لَهُم أَن خصومتكم فضل والطبيعة عَن قريب ستفجر عرقا ويستفرغ من المنخرين الدَّم الْفَاضِل فِي بدن هَذَا الْفَتى فَلم يَلْبَثُوا أَن(1/127)
رَأَوْا ذَلِك عيَانًا فَبُهِتُوا فِي ذَلِك الْوَقْت ولزموا الصمت واكسبني ذَلِك من قُلُوبهم البغضة ولقبوني البديع القَوْل
حضرت مرّة اخرى مَرِيضا وَقد ظَهرت فِيهِ عَلَامَات بَيِّنَة جدا تدل على الرعاف فَلم اكتف بِأَن انذرت بالرعاف حَتَّى قلت أَنه يكون من الْجَانِب الايمن فلامني من حضر ذَلِك من الاطباء وَقَالُوا حَسبنَا لَيْسَ بِنَا حَاجَة الى أَن تبين لنا فَقلت لَهُم واراكم مَعَ ذَلِك انكم عَن قريب سيكثر اضطرابكم ويشتد وجلكم من الرعاف الْحَادِث لانه سيعسر احتباسه وَذَلِكَ أَنِّي لست ارى طَبِيعَته تقوى على ضبط الْمِقْدَار الي يحْتَاج اليه من الاستفراغ وَالْوُقُوف عِنْده فَكَانَ الامر على مَا وَصفته وَلم يقدر اولئك الاطباء على حبس الدَّم لانهم لم يعلمُوا من ايْنَ ابْتَدَأَ حِين ابتدأت حركته وقطعته أَنا بِأَهْوَن السَّعْي فسماني أُولَئِكَ الاطباء البديع الْفِعْل
وَحكى ايضا من هَذَا الْجِنْس مِمَّا يدل على براعته وقوته فِي صناعَة الطِّبّ فِي كِتَابه هَذَا مَا هَذِه حكايته قَالَ وَقد حضرت مرّة مَعَ قوم من الاطباء مَرِيضا قد اجْتمعت عَلَيْهِ نزلة مَعَ ضيق نفس فَتركت اولئك الاطباء اولا يسقونه الادوية الَّتِي ظنُّوا انه ينْتَفع بهَا فسقوه اولا بعض الادوية الَّتِي تَنْفَع من السعال والنزلة وَهَذِه الادوية تشرب عِنْد طلب الْمَرِيض النّوم وَذَلِكَ انها تجلب طرفا من السبات حَتَّى انها تَنْفَع من بِهِ ارق وسهر فَنَامَ ليلته تِلْكَ باسرها نوما ثقيلا وَسكن عَنهُ السعال وانقطعت عَنهُ النزلة إِلَّا انه جعل يشكو ثقلا يجده فِي آلَة النَّفس واصابه ضيق شَدِيد فِي صَدره وَنَفسه فَرَأى الاطباء عِنْد ذَلِك أَنه لَا بُد من ان يسقوه شَيْئا مِمَّا يعين على نفث مَا فِي رئته فَلَمَّا تنَاول ذَلِك قذف رطوبات كَثِيرَة لزجة ثمَّ أَن السعال عاوده فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة وسهر وَجعل يحس بِشَيْء رَقِيق ينحدر من رَأسه الى حلقه وقصبة رئته فاضطروا فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة ان يسقوه ذَلِك الدَّوَاء المنوم فسكن عَنهُ عِنْد ذَلِك النزلة والسعال والسهرة الا ان نَفسه ازْدَادَ ضيقا وَسَاءَتْ حَاله فِي اللَّيْلَة الْقَابِلَة سوءا فَلم تَجِد الاطباء مَعَه بدا من ان يسقوه بعض الادوية الملطفة الْمُقطعَة لما فِي الرئة فَلَمَّا أَن شرب ذَلِك نقيت رئته إِلَّا انه عرض لَهُ من السعال وَمن كَثْرَة الربو وَمن الارق بسببهما مَا لم يقو على احْتِمَاله فَلَمَّا علمت ان الاطباء قد تحيروا وَلم يبْق عِنْدهم حِيلَة سقيته بالْعَشي دَوَاء لم يهج بِهِ سعالا وَلَا نزلة وجلب لَهُ نوما صَالحا وَسَهل عَلَيْهِ قذف مَا فِي رئتيه وسلكت بذلك الْمَرِيض هَذِه الطَّرِيق فأبرأته من العلتين جَمِيعًا فِي أَيَّام يسيرَة على انهما عِلَّتَانِ متضادتان فِيمَا يظْهر ويتبين من هَذَا لمن يُريدهُ ان من قَالَ من الاطباء انه لَا يُمكن ان يبرأ بدواء مرضان متضادان لم يصب وَأَنا اول من استخرج اسْتِعْمَال هَذِه الادوية وَاسْتِعْمَال الادوية الَّتِي تعالج بهَا القرحة الْعَارِضَة فِي الرئة من قبل نزلة تنحدر اليهما من الرَّأْس وَغير ذَلِك من ادوية كَثِيرَة سأبين طَرِيق اسْتِعْمَالهَا فِي كتاب تركيب الادوية
وَقَالَ جالينوس فِي كِتَابه فِي ان الاخيار من النَّاس قد يَنْتَفِعُونَ باعدائهم من شرح حَاله مَا هَذَا نَصه قَالَ فَانِي لم أطلب من اُحْدُ من تلاميذي أُجْرَة وَلَا من مَرِيض من المرضى الَّذين أعالجهم(1/128)
واني اعطي المرضى كل مَا يَحْتَاجُونَ اليه لَا من الادوية فَقَط أَو من الاشربة أَو من الادهان أَو غير ذَلِك مِمَّا أشبهه لكني أقيم عَلَيْهِم من يخدمهم ايضا اذا لم يكن لَهُم خدم واهيىء لَهُم مَعَ ذَلِك ايضا مَا يغتذون بِهِ قَالَ واني وصلت كثيرا من الاطباء باصدقاء كَانُوا لي توجهو فِي عَسَاكِر واطباء أخر ايضا كثير عَددهمْ ضمتهم الى قوم من أهل الْقدر لم آخذ من اُحْدُ مِنْهُم على ذَلِك رشوة اَوْ هَدِيَّة بل كنت اهب لقوم مِنْهُم بعض الآلآت والادوية الَّتِي يَحْتَاجُونَ اليها وَبَعض لم اكن اقْتصر بِهِ على ذَلِك فَقَط لكني كنت أزوده مَا يحْتَاج اليه من النَّفَقَة فِي طَرِيقه
صفة جالينوس واخلاقه
وَقَالَ المبشر بن فاتك ان جالينوس كَانَ اسمر اللَّوْن حسن التخاطيط عريض الاكتاف وَاسع الراحتين طَوِيل الاصابع حسن الشّعْر محبا للأغاني والالحان وَقِرَاءَة الْكتب معتدل المشية ضَاحِك السن كثير الهذر قَلِيل الصمت كثير الْوُقُوع فِي اصحابه كثير الاسفار طيب الرَّائِحَة نقي الثِّيَاب وَكَانَ يحب الرّكُوب والتنزه مداخلا للملوك والرؤساء من غير أَن يتَقَيَّد فِي خدمَة اُحْدُ من الْمُلُوك بل انهم كَانُوا يكرمونه واذا احتاجوا اليه فِي مداواة شَيْء من الامراض الصعبة دفعُوا لَهُ العطايا الْكَثِيرَة من الذَّهَب وَغَيره فِي برئها وَذكر ذَلِك فِي كثير من كتبه وانه كَانَ اذا تطلبه اُحْدُ من الْمُلُوك ان يسْتَمر فِي خدمته سَافر من تِلْكَ الْمَدِينَة الى غَيرهَا لِئَلَّا يشْتَغل بِخِدْمَة الْملك عَمَّا هُوَ بسبيله
وَذكروا ان الاصل كَانَ فِي اسْم جالينوس غالينوس وَمَعْنَاهُ السَّاكِن اَوْ الْهَادِي وَقيل أَن تَرْجَمَة اسْم جالينوس مَعْنَاهُ بالعربي الْفَاضِل
وَقَالَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ فِي كتاب الْحَاوِي انه ينْطَلق فِي اللُّغَة اليونانية ان ينْطق بِالْجِيم غينا وكافا فَيُقَال مثلا جالينوس وغالينوس وكالينوس وكل ذَلِك جَائِز وَقد تجْعَل الالف وَاللَّام لاما مُشَدّدَة فَيكون ذَلِك أصح فِي اليوناينة
أَقُول وَهَذِه فَائِدَة تتَعَلَّق بِهَذَا الْمَعْنى وَهِي حَدثنِي القَاضِي نجم الدّين عمر بن مُحَمَّد بن الكريدي قَالَ حَدثنِي ابناغاثون المطران بشوبك وَكَانَ اعْلَم اهل زَمَانه بِمَعْرِِفَة لُغَة الرّوم الْقَدِيمَة وَهِي اليونانية ان فِي لُغَة اليونان كل مَا كَانَ من الاسماء الْمَوْضُوعَة من اسماء النَّاس وَغَيرهم فآخرها سين مثل جالينوس وديسقوريدس وانكساغورس وارسطوطاليس وديوجانيس واريباسيوس وَغير ذَلِك وَكَذَلِكَ مثل قَوْلهم قاطيغورياس وباريمينياس وَمثل اسطوخودس واناغالس فان السِّين الَّتِي فِي آخر كل كلمة حكمهَا فِي لُغَة اليونانيين مثل التَّنْوِين فِي لُغَة الْعَرَب الَّذِي هُوَ آخر الْكَلِمَة مثل قَوْلك زيد وَعَمْرو وخَالِد وَبكر وَكتاب وَشَجر فَتكون النُّون الَّتِي تتبين فِي آخر التَّنْوِين مثل السِّين فِي لُغَة اولئك(1/129)
أَقُول وَيَقَع لي أَن من الْأَلْفَاظ الَّتِي فِي لُغَة اليونانيين وَهِي قَلَائِل مَا لَا يكون فِي آخِره سين مثل سقراط وأفلاطن وأغاثاذيمون وأغلوقن وتامور وياغات
وَكَذَلِكَ من غير أَسمَاء النَّاس مثل أنالوطيقيا ونيقوماخيا والريطورية وَمثل جند بيدستر وترياق فَإِن هَذِه الْأَسْمَاء تكون فِي لُغَة اليونانيين لَا يجوز عِنْدهم تنوينها فَتكون بِلَا سين
وَذَلِكَ مثل مَا عندنَا فِي لُغَة الْعَرَب أَن من الْأَسْمَاء مَا لَا ينون وَهِي الْأَسْمَاء الَّتِي لَا تَنْصَرِف مثل إِسْمَاعِيل وَإِبْرَاهِيم وَأحمد ومساجد ودنانير فَتكون هَذِه كتلك
وَالله أعلم
وَقد مدح أَبُو الْعَلَاء بن سُلَيْمَان المعري فِي كتاب الاسْتِغْفَار كتب جالينوس ومدوني الطِّبّ فَقَالَ
(سقيا ورعيا لِجَالِينُوسَ من رجل ... ورهط بقراط غاضوا بعد أَو زادوا)
(فَكل مَا اصلوه غير منتقض ... بِهِ اسْتَغَاثَ أولو سقم وعواد)
(كتب لطاف عَلَيْهِم خف محملها ... لَكِنَّهَا فِي شِفَاء الدَّاء أطواد)
وَمن أَلْفَاظ جالينوس وآدابه ونوادره الْحكمِيَّة مِمَّا ذكره حنين ابْن إِسْحَق فِي كتاب نَوَادِر الفلاسفة والحكماء وآداب المعلمين القدماء قَالَ جالينوس
الْهم فنَاء الْقلب وَالْغَم مرض الْقلب
ثمَّ بَين ذَلِك فَقَالَ الْغم بِمَا كَانَ والهم بِمَا يكون
وَفِي مَوضِع آخر الْغم بِمَا فَاتَ والهم بِمَا هُوَ آتٍ فإياك وَالْغَم فَإِن الْغم ذهَاب الْحَيَاة
أَلا ترى أَن الْحَيّ إِذا غم وجبة تلاشى من الْغم
قَالَ فِي صُورَة الْقلب إِن فِي الْقلب تجويفين أَيمن وأيسر
وَفِي التجويف الْأَيْمن من الدَّم أَكثر من الْأَيْسَر
وَفِيهِمَا عرقان يأخذان إِلَى الدِّمَاغ فَإِذا عرض للقلب مَا لَا يُوَافق مزاجه انقبض فانقبض لانقباضه العرقان فتشنج لذَلِك الْوَجْه وألم لَهُ الْجَسَد
وَإِذا عرض لَهُ مَا يُوَافق مزاجه انبسط وانبسط العرقان لانبساطه
قَالَ وَفِي الْقلب عريق صَغِير كالأنبوبة مطل على شغَاف الْقلب وسويدائه فَإِذا عرض للقلب غم انقبض ذَلِك العريق فقطر مِنْهُ دم على سويداء الْقلب وشغافه فيعصر عِنْد ذَلِك من العرقين دم يتغشاه فَيكون ذَلِك عصرا على الْقلب حَتَّى يحس ذَلِك فِي الْقلب وَالروح وَالنَّفس والجسم كَمَا يتغشى بخار الشَّرَاب الدِّمَاغ فَيكون مِنْهُ السكر
وَقيل إِن جالينوس أَرَادَ امتحان ذَلِك فَأخذ حَيَوَانا ذَا حس فغمه أَيَّامًا وَلما ذبحه وجد قلبه(1/130)
ذابلا نحيفا قد تلاشى أَكْثَره
فاستدل بذلك على أَن الْقلب إِذا توالت عَلَيْهِ الغموم وَضَاقَتْ بِهِ الهموم ذبل وَنحل
فحذر حِينَئِذٍ من عواقب الْغم والهم
وَقَالَ لتلاميذه من نصح الْخدمَة نصحت لَهُ المجازاة
وَقَالَ لَهُم لَا ينفع علم من لَا يعقله وَلَا عقل من لَا يَسْتَعْمِلهُ
وَقَالَ فِي كتاب أَخْلَاق النَّفس كَمَا أَنه يعرض للبدن الْمَرَض والقبح فالمرض مثل الصرع والشوصة والقبح مثل الحدب وَتسقط الرَّأْس وقرعه كَذَلِك يعرض للنَّفس مرض وقبح فمرضها كالغضب وقبحها كالجهل
وَقَالَ الْعِلَل تَجِيء على الْإِنْسَان من أَرْبَعَة أَشْيَاء من عِلّة الْعِلَل وَمن سوء السياسة فِي الْغذَاء وَمن الْخَطَايَا وَمن الْعَدو إِبْلِيس وَقَالَ الْمَوْت من أَرْبَعَة أَشْيَاء موت طبيعي وَهُوَ موت الْهَرم وَمَوْت مرض وشهوة مثل من يقتل نَفسه أَو يُقَاد مِنْهُ وَمَوْت الْفجأَة وَهُوَ بَغْتَة
وَقَالَ وَقد ذكر عِنْده الْقَلَم الْقَلَم طَبِيب الْمنطق
وَمن كَلَامه فِي الْعِشْق قَالَ الْعِشْق اسْتِحْسَان ينضاف إِلَيْهِ طمع
وَقَالَ الْعِشْق من فعل النَّفس وَهِي كامنة فِي الدِّمَاغ وَالْقلب والكبد
وَفِي الدِّمَاغ ثَلَاث قوى التخيل وَهُوَ فِي مقدم الرَّأْس والفكر وَهُوَ فِي وَسطه وَالذكر وَهُوَ فِي مؤخره
وَلَيْسَ يكمل أحد اسْم عاشق حَتَّى يكون إِذا فَارق من يعشقه لم يخل من تخيله وفكره وَذكره وَقَلبه وكبده
فَيمْتَنع من الطَّعَام وَالشرَاب باشتغال الكبد وَمن النّوم باشتغال الدِّمَاغ بالتخييل وَالذكر لَهُ والفكر فِيهِ فَيكون جَمِيع مسَاكِن النَّفس قد اشتغلت بِهِ
فَمَتَى لم تشتغل بِهِ وَقت الْفِرَاق لم يكن عَاشِقًا
فَإِذا لقِيه خلت هَذِه المساكن
قَالَ حنين بن إِسْحَق وَكَانَ مَنْقُوشًا على فص خَاتم جالينوس من كتم داءه أعياه شفاؤه
وَمن كَلَام جالينوس مِمَّا ذكره أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فاتك فِي كتاب مُخْتَار الحكم ومحاسن الْكَلم قَالَ جالينوس
لن تنَلْ واحلم تنبل وَلَا تكن معجبا فتمتهن
وَقَالَ العليل الَّذِي يَشْتَهِي أَرْجَى من الصَّحِيح الَّذِي لَا يَشْتَهِي
وَقَالَ لَا يمنعك من فعل الْخَيْر ميل النَّفس إِلَى الشَّرّ
وَقَالَ رَأَيْت كثيرا من الْمُلُوك يزِيدُونَ فِي ثمن الْغُلَام المتأدب بالعلوم والصناعات وَفِي ثمن الدَّوَابّ الفاضلة فِي أجناسها ويغفلون أَمر أنفسهم فِي التأدب حَتَّى لَو عرض على أحدهم غُلَام مثله مَا اشْتَرَاهُ وَلَا قبله
فَكَانَ من أقبح الْأَشْيَاء عِنْدِي أَن يكون الْمَمْلُوك يُسَاوِي الْجُمْلَة من المَال وَالْمَالِك لَا يجد من يقبله مجَّانا(1/131)
وَقَالَ كَانَ الْأَطِبَّاء يُقِيمُونَ أنفسهم مقَام الْأُمَرَاء
والمرضى مقَام المأمورين الَّذين لَا يتعدون مَا حد لَهُم فَكَانَ الطِّبّ فِي أيامهم أنجع فَلَمَّا حَال الْأَمر فِي زَمَاننَا فَصَارَ العليل بِمَنْزِلَة الْأَمِير والطبيب بِمَنْزِلَة الْمَأْمُور وخدم الْأَطِبَّاء رضَا الإعلاء وَتركُوا خدمَة أبدانهم فَقل الِانْتِفَاع بهم
وَقَالَ أَيْضا كَانَ النَّاس قَدِيما يَجْتَمعُونَ على الشَّرَاب والغناء فيتفاضلون فِي ذكر مَا تعمله الْأَشْرِبَة فِي الأمزجة والألحان فِي قُوَّة الْغَضَب وَمَا يرد كل وَاحِد منهامن أَنْوَاعه وهم الْيَوْم إِذا اجْتَمعُوا فَإِنَّمَا يتفاضلون بِعظم الأقداح الَّتِي يشربونها
وَقَالَ من عود من صباه الْقَصْد فِي التَّدْبِير كَانَت حركات شهواته معتدلة فَأَما من اعْتَادَ أَن لَا يمْنَع شهواته مُنْذُ صباه وَلَا يمْنَع نَفسه شَيْئا مِمَّا تَدعُوهُ إِلَيْهِ فَذَلِك يبْقى شَرها
وَذَلِكَ عَن كل شَيْء يكثر الرياضة فِي الْأَعْمَال الَّتِي تخصه يقوى وكل شَيْء يسْتَعْمل السّكُون يضعف
وَقَالَ من كَانَ من الصّبيان شَرها شَدِيد القحة فَلَا يَنْبَغِي أَن يطْمع فِي صَلَاحه الْبَتَّةَ وَمن كَانَ مِنْهُم شَرها وَلم يكن وقحا فَلَا يَنْبَغِي أَن يؤيس من صَلَاحه وَيقدر أَنه إِن تأدب يكون إنْسَانا عفيفا
وَقَالَ الْحيَاء خوف المستحي من نقص يَقع بِهِ عِنْد من هُوَ أفضل مِنْهُ
وَقَالَ يتهيأ للْإنْسَان أَن يصلح أخلاقه إِذا عرف نَفسه فَإِن معرفَة الْإِنْسَان نَفسه هِيَ الْحِكْمَة الْعُظْمَى وَذَلِكَ أَن الْإِنْسَان لإفراط محبته لنَفسِهِ بالطبع يظنّ بهَا من الْجَمِيل مَا لَيست عَلَيْهِ
حَتَّى أَن قوما يظنون بِأَنْفسِهِم أَنهم شجعاء وكرماء وَلَيْسوا كَذَلِك
فَأَما الْعقل فيكاد أَن يكون النَّاس كلهم يظنون بِأَنْفسِهِم التَّقَدُّم فِيهِ وَأقرب النَّاس إِلَى أَن يظنّ ذَلِك بِنَفسِهِ أقلهم عقلا
وَقَالَ الْعَادِل من قدر على أَن يجور فَلم يفعل والعاقل من عرف كل وَاحِد من الْأَشْيَاء الَّتِي فِي طبيعة الْإِنْسَان مَعْرفَتهَا على الْحَقِيقَة
وَقَالَ الْعجب ظن الْإِنْسَان بِنَفسِهِ أَنه على الْحَال الَّتِي تحب نَفسه أَن يكون عَلَيْهَا من غير أَن يكون عَلَيْهَا
وَقَالَ كَمَا أَن من ساءت حَال بدنه من مرض بِهِ وَهُوَ ابْن خمسين سنة لَيْسَ يستسلم وَيتْرك بدنه حَتَّى يفْسد ضيَاعًا بل يلْتَمس أَن يَصح بدنه وَإِن لم يفده صِحَة تَامَّة كَذَلِك يَنْبَغِي لنا أَن لَا نمتنع من أَن نزيد أَنْفُسنَا صِحَة على صِحَّتهَا وفضيلة على فضيلتها وَإِن كُنَّا لَا نقدر أَن نلحقها بفضيلة نفس الْحَكِيم
وَقَالَ يتهيأ للْإنْسَان أَن يسلم من أَن يظنّ بِنَفسِهِ أَنه أَعقل النَّاس إِذا قلد غَيره امتحان كل مَا يَفْعَله فِي كل يَوْم وتعريفه صَوَاب فعله من خطئه ليستعمل الْجَمِيل ويطرح الْقَبِيح
وَرَأى رجلا تعظمه الْمُلُوك لشدَّة جِسْمه فَسَأَلَ عَن أعظم مَا فعله فَقَالُوا أَنه حمل ثورا(1/132)
مذبوحا من وسط الهيكل حَتَّى أخرجه إِلَى خَارج
فَقَالَ لَهُم فقد كَانَت نفس الثور تحمله وَلم تكن لَهَا فِي حمله فَضِيلَة
ونقلت من كَلَام جالينوس أَيْضا من مَوَاضِع أخر قَالَ جالينوس
أَن العليل يتروح بنسيم أرضه كَمَا تتروح الأَرْض الجدبة ببل الْقطر
وَسُئِلَ عَن الشَّهْوَة فَقَالَ بلية تعير لَا بَقَاء لَهَا
وَقيل لَهُ لم تحضر مجَالِس الطَّرب والملاهي قَالَ لأعرف القوى والطبائع فِي كل حَال من منظر ومسمع
وَقيل لَهُ مَتى يَنْبَغِي للْإنْسَان أَن يَمُوت قَالَ إِذا جهل مَا يضرّهُ مِمَّا يَنْفَعهُ
وَمن كَلَامه أَنه سُئِلَ عَن الأخلاط فَقيل لَهُ مَا قَوْلك فِي الدَّم قَالَ عبد مَمْلُوك وَرُبمَا قتل العَبْد مَوْلَاهُ قيل لَهُ فَمَا قَوْلك فِي الصَّفْرَاء فَقَالَ كلب عقور فِي حديقة
قيل لَهُ فَمَا قَوْلك فِي البلغم قَالَ ذَلِك الْملك الرئيس كلما أغلقت عَلَيْهِ بَابا فتح لنَفسِهِ بَابا
قيل لَهُ فَمَا قَوْلك فِي السَّوْدَاء قَالَ هَيْهَات تِلْكَ الأَرْض إِذا تحركت تحرّك مَا عَلَيْهَا
وَمن ذَلِك أَيْضا قَالَ أَنا ممثل لَك مِثَالا فِي الأخلاط الْأَرْبَعَة فَأَقُول إِن مثل الصَّفْرَاء وَهِي الْمرة الْحَمْرَاء كَمثل امْرَأَة سليطة صَالِحَة تقية
فَهِيَ تؤذي بطول لسانها وَسُرْعَة غَضَبهَا إِلَّا أَنَّهَا ترجع سَرِيعا بِلَا غائلة
وَمثل الدَّم كَمثل الْكَلْب الْكَلْب فَإِذا دخل دَارك فعاجله أما بِإِخْرَاجِهِ أَو قَتله
وَمثل البلغم إِذا تحرّك فِي الْبدن مثل ملك دخل بَيْتك وَأَنت تخَاف ظلمه وجوره وَلَيْسَ يُمكن أَن تخرق بِهِ وتؤذيه بل يجب أَن ترفق بِهِ وتخرجه
وَمثل السَّوْدَاء فِي الْجَسَد مثل الْإِنْسَان الحقود الَّذِي لَا يتَوَهَّم فِيهِ بِمَا فِي نَفسه ثمَّ يثب وثبة فَلَا يبْقى مَكْرُوها إِلَّا ويفعله وَلَا يرجع إِلَّا بعد الْجهد الصعب
وَمن تمثيلاته الطريفة أَيْضا قَالَ
الطبيعة كالمدعي وَالْعلَّة كالخصم والعلامات كالشهود والقارورة والنبض كالبينة وَيَوْم البحران كَيَوْم الْقَضَاء والفصل وَالْمَرِيض كالمتوكل والطبيب كَالْقَاضِي
وَقَالَ فِي تَفْسِيره لكتاب أَيْمَان أبقراط وَعَهده كَمَا أَنه لَا يصلح اتِّخَاذ التمثال من كل حجر(1/133)
وَلَا ينْتَفع بِكُل بَاب فِي محاربة السبَاع كَذَلِك أَيْضا لَا نجد كل إِنْسَان يصلح لقبُول صناعَة الطِّبّ
لكنه يَنْبَغِي أَن يكون الْبدن وَالنَّفس مِنْهُ ملائمين لقبولها
مصنفات جالينوس
ولجالينوس من المصنفات كتب كَثِيرَة جدا وَهَذَا ذكر مَا وجدته مِنْهَا منتشرا فِي أَيدي النَّاس مِمَّا قد نَقله حنين بن إِسْحَق الْعَبَّادِيّ وَغَيره إِلَى الْعَرَبِيّ وأغراض جالينوس فِي كل كتاب مِنْهَا
كتاب بينكس وَهُوَ الفهرست وغرضه فِي هَذَا الْكتاب أَن يصف الْكتب الَّتِي وضعفها وَمَا غَرَضه فِي كل وَاحِد مِنْهَا وَمَا دَعَاهُ إِلَى وَضعه وَلمن وَضعه وَفِي أَي حد من سنه
وَهُوَ مقالتان الْمقَالة الأولى ذكر فِيهَا كتبه فِي الطِّبّ وَفِي الْمقَالة الثَّانِيَة كتبه فِي الْمنطق والفلسفة والبلاعة والنحو
كتاب فِي مَرَاتِب قِرَاءَة كتبه مقَالَة وَاحِدَة وغرضه فِيهَا أَن يخبر كَيفَ يَنْبَغِي أَن يرتب كتبه فِي قرَاءَتهَا كتابا بعد كتاب من أَولهَا إِلَى آخرهَا
كتاب الْفرق مقَالَة وَاحِدَة
وَقَالَ جالينوس إِنَّه أول كتاب يقرأه من أَرَادَ تعلم صناعَة الطِّبّ
وغرضه فِيهِ أَن يصف مَا يَقُوله كل وَاحِد من فرقة أَصْحَاب التجربة وَأَصْحَاب الْقيَاس وَأَصْحَاب الْحِيَل فِي تثبيت مَا يَدعِي والاحتجاج لَهُ وَالرَّدّ على من خَالفه وَكَيف الْوَجْه فِي الحكم على الْحق وَالْبَاطِل مِنْهَا
وَكَانَ وضع جالينوس لهَذِهِ الْمقَالة وَهُوَ شَاب من أَبنَاء ثَلَاثِينَ سنة أَو أَكثر قَلِيلا عِنْد دُخُوله رُومِية أول دخلة
كتاب الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة مقَالَة وَاحِدَة
وَقد قَالَ جالينوس فِي أَوله أَنه أثبت فِيهِ جمل مَا قد بَينه على الشَّرْح وَالتَّلْخِيص فِي غَيره من الْكتب
وَأَن مَا فِيهِ بِمَنْزِلَة النتائج لما فِيهَا
كتاب النبض الصَّغِير وَهُوَ أَيْضا مقَالَة وَاحِدَة عنونها جالينوس إِلَى طوثرس وَسَائِر المتعلمين
وغرضه فِيهَا أَن يصف مَا يحْتَاج المتعلمون إِلَى علمه من أَمر النبض ويعدد فِيهِ أَولا أَصْنَاف النبض وَلَيْسَ يذكر فِيهِ جَمِيعهَا لَكِن مَا يقوى المتعلمون على فهمه مِنْهَا
ثمَّ يصف بعد الْأَسْبَاب الَّتِي تغير النبض مَا كَانَ مِنْهَا طبيعيا وَمَا كَانَ مِنْهَا لَيْسَ بطبيعي وَمَا كَانَ خَارِجا من الطبيعية
وَكَانَ وضع جالينوس لهَذِهِ الْمقَالة فِي الْوَقْت الَّذِي وضع فِيهِ كِتَابه فِي الْفرق
كتاب إِلَى أغلوقن فِي التأتي لشفاء الْأَمْرَاض وَمعنى أغلوقن باليونانية الْأَزْرَق وَكَانَ فيلسوفا وعندما رأى من آثَار جالينوس فِي الطِّبّ مَا أعجبه سَأَلَهُ أَن يكْتب لَهُ ذَلِك الْكتاب
وَلما كَانَ لَا يصل المداوي إِلَى مداواة الْأَمْرَاض دون تعرفها قدم قبل مداواتها دلائلها الَّتِي تعرف بهَا وَوصف فِي الْمقَالة الأولى دَلَائِل الحميات ومداواتها
وَلم يذكرهَا كلهَا لكنه اقْتصر مِنْهَا على ذكر مَا يعرض كثيرا
وَهَذِه الْمقَالة تَنْقَسِم قسمَيْنِ ويصف فِي الْقسم الأول من هَذِه الْمقَالة الحميات الَّتِي تَخْلُو من الْأَعْرَاض الغريبة(1/134)
ويصف فِي الْقسم الثَّانِي الحميات الَّتِي مَعهَا أَعْرَاض غَرِيبَة
ويصف فِي الْمقَالة الثَّانِيَة دَلَائِل الأورام ومداواتها
وَكَانَ وضع جالينوس لهَذَا الْكتاب فِي الْوَقْت الَّذِي وضع فِيهِ كتاب الْفرق
كتاب فِي الْعِظَام هَذَا الْكتاب مقَالَة وَاحِدَة وعنونه جالينوس فِي الْعِظَام للمتعلمين وَذَلِكَ أَنه يُرِيد أَن يقدم المتعلم للطب تعلم علم التشريح على جَمِيع فنون الطِّبّ لِأَنَّهُ لَا يُمكن عِنْده دون معرفَة التشريح أَن يتَعَلَّم شَيْئا من الطِّبّ القياسي وغرض جالينوس فِي هَذَا الْكتاب أَن يصف حَال كل وَاحِد من الْعِظَام فِي نَفسه وَكَيف الْحَال فِي اتِّصَاله بِغَيْرِهِ
وَكَانَ وضع جالينوس لَهُ فِي وَقت مَا وضع سَائِر الْكتب إِلَى المتعلمين
كتاب فِي العضل هَذَا الْكتاب مقَالَة وَاحِدَة وَلم يعنونه جالينوس إِلَى المتعلمين لَكِن أهل الْإسْكَنْدَريَّة أدخلوه فِي عداد كتبه إِلَى المتعلمين وَذَلِكَ أَنهم جمعُوا مَعَ هَاتين المقالتين ثَلَاث مقالات أخر كتبهَا جالينوس إِلَى المتعلمين وَاحِدَة فِي تشريح العصب وَوَاحِدَة فِي تشريح الْعُرُوق غير الضوارب
وَوَاحِدَة فِي تشريح الْعُرُوق الضوارب
وجعلوه كَأَنَّمَا دون كتابا وَاحِدًا ذَا خمس مقالات وعنونه فِي التشريح إِلَى المتعلمين وغرض جالينوس فِي كِتَابه هَذَا أَعنِي كِتَابه فِي العضل أَن يصف أَمر جَمِيع العضل الَّذِي فِي كل وَاحِد من الْأَعْضَاء كم هِيَ وَأي العضل هِيَ وَمن أَيْن تبتدئ كل وَاحِدَة مِنْهَا وَمَا فعلهَا بغاية الِاسْتِقْصَاء
كتاب فِي العصب هَذَا الْكتاب أَيْضا مقَالَة كتبهَا إِلَى المتعلمين وغرضه فِيهَا أَن يصف كم زوجا من العصب تنبث من الدِّمَاغ والنخاع وَأي الأعصاب هِيَ وَكَيف وَأَيْنَ تَنْقَسِم كل وَاحِدَة مِنْهَا وَمَا فعلهَا
كتاب فِي الْعُرُوق هَذَا الْكتاب عِنْد جالينوس مقَالَة وَاحِدَة يصف فِيهَا أَمر الْعُرُوق الَّتِي تنبض وَالَّتِي لَا تنبض كتبه للمتعلمين وعنونه إِلَى أنطستانس
فَأَما أهل الْإسْكَنْدَريَّة فقسموه إِلَى مقالتين مقَالَة فِي الْعُرُوق غير الضوارب ومقالة فِي الْعُرُوق الضوارب
وغرضه فِيهِ أَن يصف كم عرقا تنْبت من الكبد وَأي الْعُرُوق هِيَ وَكَيف هِيَ وَأَيْنَ يَنْقَسِم كل وَاحِد مِنْهَا وَكم شريانا تنْبت من الْقلب وَأي الشريانات هِيَ وَكَيف هِيَ وَأَيْنَ تَنْقَسِم
كتاب الاسطقسات على رَأْي أبقراط مقَالَة وَاحِدَة وغرضه فِيهِ أَن يبين أَن جَمِيع الْأَجْسَام الَّتِي تقبل الْكَوْن وَالْفساد وَهِي أبدان الْحَيَوَان والنبات والأجسام الَّتِي تتولد فِي بطن الأَرْض إِنَّمَا تركيبها من الْأَركان الْأَرْبَعَة الَّتِي هِيَ النَّار والهواء وَالْمَاء وَالْأَرْض وَأَن هَذِه هِيَ الْأَركان الأول الْبَعِيدَة لبدن الْإِنْسَان وَأما الْأَركان الثواني الْقَرِيبَة الَّتِي بهَا قوام بدن الْإِنْسَان وَسَائِر مَا لَهُ دم من الْحَيَوَان فَهِيَ الأخلاط الْأَرْبَعَة أَعنِي الدَّم والبلغم والمرتين
كتاب المزاج ثَلَاث مقالات وصف فِي المقالتين الْأَوليين مِنْهُ أَصْنَاف مزاج أبدان الْحَيَوَان
فَبين كم هِيَ وَأي الْأَصْنَاف هِيَ وَوصف الدَّلَائِل الَّتِي تدل على كل وَاحِدَة مِنْهَا
وَذكر فِي الْمقَالة الثَّالِثَة(1/135)
مِنْهُ أَصْنَاف مزاج الْأَدْوِيَة وَبَين كَيفَ تختبر وَكَيف يُمكن تعرفها
كتاب القوى الطبيعية ثَلَاث مقالات وغرضه فِيهِ أَن يبين أَن تَدْبِير الْبدن يكون بِثَلَاث قوى طبيعية وَهِي الْقُوَّة الجابلة وَالْقُوَّة الجابلة المنمية وَالْقُوَّة الغاذية
وَأَن الْقُوَّة الجابلة مركبة من قوتين إِحْدَاهمَا تغير الْمَنِيّ وتحيله حَتَّى تجْعَل مِنْهُ الْأَعْضَاء المتشابهة الْأَجْزَاء وَالْأُخْرَى تركب الْأَعْضَاء المتشابهة الْأَجْزَاء بالهيئة والوضع والمقدار أَو الْعدَد الَّذِي يحْتَاج إِلَيْهِ فِي كل وَاحِد من الْأَعْضَاء المركبة وَأَنه يخْدم الْقُوَّة العادية أَربع قوى وَهِي الْقُوَّة الجاذبة وَالْقُوَّة الممسكة وَالْقُوَّة الْمُغيرَة وَالْقُوَّة الدافعة
كتاب الْعِلَل والأعراض سِتّ مقالات وَهَذَا الْكتاب أَيْضا ألف جالينوس مقالاته مُتَفَرِّقَة وَإِنَّمَا الإسكندريون جمعوها وجعلوها كتابا وَاحِدًا
وعنون جالينوس الْمقَالة الأولى من هَذِه السِّت المقالات فِي أَصْنَاف الْأَمْرَاض وَوصف فِي تِلْكَ الْمقَالة كم أَجنَاس الْأَمْرَاض وَقسم كل وَاحِد من تِلْكَ الْأَجْنَاس إِلَى أَنْوَاعه حَتَّى انْتهى فِي الْقِسْمَة إِلَى أقْصَى أَنْوَاعهَا
وعنون الْمقَالة الثَّانِيَة مِنْهَا فِي أَسبَاب الْأَمْرَاض وغرضه فِيهَا مُوَافق لعنوانها وَذَلِكَ أَنه يصف فِيهَا كم أَسبَاب كل وَاحِد من الْأَمْرَاض وَأي الْأَسْبَاب هِيَ
وَأما الْمقَالة الثَّالِثَة من هَذِه السِّت فعنونها فِي أَصْنَاف الْأَعْرَاض وَوصف فِيهَا كم أَجنَاس الْأَعْرَاض وأنواعها وَأي الْأَعْرَاض هِيَ
وَأما الثَّلَاث المقالات الْبَاقِيَة فعنونها فِي أَسبَاب الْأَعْرَاض وَوصف فِيهَا كم الْأَسْبَاب الفاعلة لكل وَاحِد من الْأَعْرَاض وَأي الْأَسْبَاب هِيَ
كتاب تعرف علل الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة وَيعرف أَيْضا بالمواضع الآلمة سِتّ مقالات
وغرضه فِيهِ أَن يصف دَلَائِل يسْتَدلّ بهَا على أَحْوَال الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة إِذا حدثت بهَا الْأَمْرَاض وعَلى تِلْكَ الْأَمْرَاض الَّتِي تحدث فِيهَا وَأي الْأَمْرَاض هِيَ وَوصف فِي الْمقَالة الأولى وَبعد الثَّانِيَة مِنْهُ السبل العامية الَّتِي تتعرف بهَا الْأَمْرَاض موَاضعهَا
وكشف فِي الْمقَالة الثَّانِيَة خطأ أرخيجانس فِي الطّرق الَّتِي سلكها فِي طلب هَذَا الْغَرَض
ثمَّ أَخذ بَاقِي الْمقَالة الثَّانِيَة وَفِي المقالات الْأَرْبَع التالية لَهَا فِي ذكر الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة وأمراضها عضوا عضوا
وابتدأ من الدِّمَاغ وهلم جرا على الْوَلَاء يصف الدَّلَائِل الَّتِي يسْتَدلّ بهَا على وَاحِد وَاحِد مِنْهَا إِذا اعتل كَيفَ تتعرف علته إِلَى أَن انْتهى إِلَى أقصاها
كتاب النبض الْكَبِير هَذَا الْكتاب جعله جالينوس فِي سِتّ عشرَة مقَالَة وَقسمهَا بأَرْبعَة أَجزَاء فِي كل وَاحِد من الْأَجْزَاء أَربع مقالات
وعنون الْجُزْء الأول مِنْهَا فِي أَصْنَاف النبض
وغرضه فِيهِ أَن يبين كم أَجنَاس النبض الأول وَأي الْأَجْنَاس هِيَ وَكَيف يَنْقَسِم كل وَاحِد مِنْهَا إِلَى أَنْوَاعه إِلَى أَن يَنْتَهِي إِلَى أقصاها
وَعمد فِي الْمقَالة الأولى من هَذَا الْجُزْء إِلَى جملَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من صفة أَجنَاس النبض وأنواعها فَجَمعه فِيهَا عَن آخِره
وأفرد الثَّلَاث المقالات الْبَاقِيَة من ذَلِك الْجُزْء للحجاج والبحث عَن أَجنَاس النبض وأنواعه وَعَن حَده(1/136)
وعنون الْجُزْء الثَّانِي فِي تعرف النبض وغرضه فِيهِ أَن يصف كَيفَ يتعرف كل وَاحِد من أَصْنَاف النبض بمجسة الْعرق
وعنون الْجُزْء الثَّالِث فِي أَسبَاب النبض وغرضه فِيهِ أَن يصف من أَي الْأَسْبَاب يكون كل وَاحِد من أَصْنَاف النبض
وعنون الْجُزْء الرَّابِع فِي تقدمة الْمعرفَة من النبض وغرضه فِيهِ أَن يصف كَيفَ يسْتَخْرج سَابق الْعلم من كل وَاحِد من أَصْنَاف النبض
كتاب أَصْنَاف الحميات مقالتان
وغرضه فِيهِ أَن يصف أَجنَاس الحميات وأنواعها ودلائلها وصف فِي الْمقَالة الأولى مِنْهُ جِنْسَيْنِ من أجناسها أَحدهمَا يكون فِي الرّوح وَالْآخر فِي الْأَعْضَاء الْأَصْلِيَّة
وَوصف فِي الْمقَالة الثَّانِيَة الْجِنْس الثَّالِث مِنْهَا الَّذِي يكون فِي الأخلاط إِذا عفنت
كتاب البحران ثَلَاث مقالات
وغرضه فِيهِ أَن يصف كَيفَ يصل الْإِنْسَان إِلَى أَن يتَقَدَّم فَيعلم هَل يكون البحران أم لَا وَإِن كَانَ يحدث فَمَتَى يحدث وبماذا وَإِلَى أَي شَيْء يؤول أمره كتاب أَيَّام البحران ثَلَاث مقالات وغرضه فِي المقالتين الْأَوليين مِنْهُ أَن يصف اخْتِلَاف الْحَال من الْأَيَّام فِي الْقُوَّة
وأيها يكون فِيهِ البحران وأيها لَا يكَاد يكون فِيهِ وَأي تِلْكَ الَّتِي يكون فِيهَا البحران يكون البحران الْحَادِث فِيهَا مَحْمُودًا وأيها يكون البحران الْحَادِث فِيهَا مذموما وَمَا يتَّصل بذلك
ويصف فِي الْمقَالة الثَّالِثَة الْأَسْبَاب الَّتِي من أجلهَا اخْتلفت الْأَيَّام فِي قواها هَذَا الِاخْتِلَاف
كتاب حِيلَة الْبُرْء أَربع عشرَة مقَالَة
وغرضه فِيهِ أَن يصف كَيفَ يداوي كل وَاحِد من الْأَمْرَاض بطرِيق الْقيَاس
ويقتصر فِيهِ على الْأَعْرَاض العامية الَّتِي يَنْبَغِي أَن يقْصد قَصدهَا فِي ذَلِك ويستخرج مِنْهَا مَا يَنْبَغِي أَن يداوي بِهِ كل مرض من الْأَمْرَاض وَيضْرب لذَلِك مثالات يسيرَة من أَشْيَاء جزئية
وَكَانَ وضع سِتّ مقالات مِنْهُ لرجل يُقَال لَهُ أيارن بَين فِي الْمقَالة الأولى وَالثَّانيَِة مِنْهَا الْأُصُول الصَّحِيحَة الَّتِي عَلَيْهَا يكون مَبْنِيّ الْأَمر فِي هَذَا الْعلم وَفسخ الْأُصُول الْخَطَأ الَّتِي أَصْلهَا أراسطراطس وَأَصْحَابه
ثمَّ وصف فِي المقالات الْأَرْبَع الْبَاقِيَة مداواة تفرق الِاتِّصَال من كل وَاحِد من الْأَعْضَاء
ثمَّ إِن أيارن توفّي فَقطع جالينوس استتمام الْكتاب إِلَى أَن سَأَلَهُ أوجانيوس أَن يتممه فَوضع لَهُ الثماني المقالات الْبَاقِيَة
فوصف فِي السِّت الأولى مِنْهَا مداواة أمراض الْأَعْضَاء المتشابهة الْأَجْزَاء وَفِي المقالتين الْبَاقِيَتَيْنِ مداواة أمراض الْأَعْضَاء المركبة
وَوصف فِي الْمقَالة الأولى من السِّت الأول مداواة أَصْنَاف سوء المزاج كلهَا إِذا كَانَت فِي عُضْو وَاحِد وأجرى أمرهَا على طَرِيق التَّمْثِيل بِمَا يحدث فِي الْمعدة
ثمَّ وصف فِي الْمقَالة الَّتِي بعْدهَا وَهِي الثَّامِنَة من جملَة الْكتاب مداواة أَصْنَاف الْحمى الَّتِي تكون فِي الرّوح وَهِي حمى يَوْم
ثمَّ وصف فِي الْمقَالة الَّتِي تتلوها وَهِي التَّاسِعَة(1/137)
مداواة الْحمى المطبقة
ثمَّ فِي الْعَاشِرَة مداواة الْحمى الَّتِي تكون فِي الْأَعْضَاء الْأَصْلِيَّة وَهِي الدق وَوصف فِيهَا جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَى عمله من أَمر اسْتِعْمَال الْحمام
ثمَّ وصف فِي الْحَادِيَة عشرَة وَالثَّانيَِة عشرَة مداواة الحميات الَّتِي تكون من عفونة الأخلاط
أما فِي الْحَادِيَة عشرَة فَمَا كَانَ مِنْهَا خلوا من أَعْرَاض غَرِيبَة
وَأما فِي الثَّانِيَة عشرَة فَمَا كَانَ مِنْهَا مَعَ أَعْرَاض غَرِيبَة
كتاب علاج التشريح وَهُوَ الَّذِي يعرف بالتشريح الْكَبِير كتبه فِي خمس عشرَة مقَالَة وَذكر أَنه قد جمع فِيهِ كل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أَمر التشريح وَوصف فِي الْمقَالة الأولى مِنْهُ العضل والرباطات فِي الْيَدَيْنِ
وَفِي الثَّانِيَة العضل والرباطات فِي الرجلَيْن
وَفِي الثَّالِثَة العصب وَالْعُرُوق الَّتِي فِي الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ
وَفِي الرَّابِعَة العضل الَّذِي يُحَرك الْخَدين والشفتين والعضل الَّذِي يُحَرك اللحى الْأَسْفَل إِلَى نَاحيَة الرَّأْس وَإِلَى نَاحيَة الرَّقَبَة والكتفين
وَفِي الْخَامِسَة عضل الصَّدْر ومراق الْبَطن والمتنين والصلب
وَوصف فِي السَّادِسَة آلَات الْغذَاء وَهِي الْمعدة والأمعاء والكبد والكليتين والمثانة وَسَائِر مَا أشبه ذَلِك
وَفِي السَّابِعَة وَالثَّامِنَة وصف تشريح آلَات التنفس
أما فِي السَّابِعَة فوصف مَا يظْهر فِي التشريح فِي الْقلب والرئة وَالْعُرُوق الضوارب بعد موت الْحَيَوَان وَمَا دَامَ حَيا
وَأما فِي الثَّامِنَة فوصف مَا يظْهر فِي التشريح فِي جَمِيع الصَّدْر
وأفرد الْمقَالة التَّاسِعَة بأسرها بِصفة تشريح الدِّمَاغ والنخاع
وَوصف فِي الْعَاشِرَة فِي تشريح الْعَينَيْنِ وَاللِّسَان والمرئ وَمَا يتَّصل بِهَذِهِ من الْأَعْضَاء
وَوصف فِي الْحَادِيَة عشرَة الحنجرة والعظم الَّذِي يشبه اللَّام فِي حُرُوف اليونانيين وَمَا يتَّصل بذلك من العصب الَّذِي يَأْتِي هَذِه الْمَوَاضِع
وَوصف فِي الثَّانِيَة عشرَة تشريح أَعْضَاء التوليد
وَفِي الثَّالِثَة عشرَة تشريح الضوارب وَغير الضوارب
وَفِي الرَّابِعَة عشرَة تشريح العصب الَّذِي ينْبت من النخاع
قَالَ جالينوس وَهَذَا الْكتاب الْمُضْطَر إِلَيْهِ من علم التشريح
وَقد وضعت كتبا أخر لست بمضطر إِلَيْهَا لَكِنَّهَا نافعة فِي علم التشريح
اخْتِصَار كتاب مارينس فِي التشريح وَكَانَ مارينس ألف كِتَابه هَذَا فِي عشْرين مقَالَة
وَإِنَّمَا جالينوس اخْتَصَرَهُ فِي أَربع مقالات
اخْتِصَار كتاب لوقس فِي التشريح وَهَذَا الْكتاب أَيْضا أَلفه صَاحبه فِي سبع عشرَة مقَالَة(1/138)
وَقد ذكر جالينوس أَنه اخْتَصَرَهُ فِي مقالتين
كتاب فِيمَا وَقع من الِاخْتِلَاف بَين القدماء فِي التشريح مقالتان وغرضه فِيهِ أَن يبين أَمر الِاخْتِلَاف الَّذِي وَقع فِي كتب التشريح فِيمَا بَين من كَانَ قبله من أَصْحَاب التشريح أَي شَيْء مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ فِي الْكَلَام فَقَط وَأي شَيْء مِنْهُ وَقع فِي الْمَعْنى وَمَا سَبَب ذَلِك
كتاب تشريح الْأَمْوَات مقَالَة وَاحِدَة يصف فِيهَا الْأَشْيَاء الَّتِي تعرف من تشريح الْحَيَوَان الْمَيِّت أَي الْأَشْيَاء هِيَ
كتاب تشريح الْأَحْيَاء مقالتان
وغرضه فِيهِ أَن يبين الْأَشْيَاء الَّتِي تعرف من تشريح الْحَيَوَان الْحَيّ أَي الْأَشْيَاء هِيَ
كتاب فِي علم أبقراط بالتشريح هَذَا الْكتاب جعله جالينوس فِي خمس مقالات وَكتبه لبويثوس فِي حَدَاثَة سنه وغرضه فِيهِ أَن يبين أَن أبقراط كَانَ صَادِقا بِعلم التشريح وأتى على ذَلِك بشواهد من جَمِيع كتبه
كتاب فِي آراء أراسسطراطس بالتشريح هَذَا الْكتاب جعله فِي ثَلَاث مقالات وَكتبه أَيْضا لبويثوس فِي حَدَاثَة من سنه
وغرضه فِيهِ أَن يشْرَح مَا قَالَه أرسسطراطس فِي التشريح فِي جَمِيع كتبه
ثمَّ بَين لَهُ صَوَابه فِيمَا أصَاب وَخَطأَهُ فِيمَا أَخطَأ فِيهِ
كتاب فِيمَا يُعلمهُ لوقس من أَمر التشريح أَربع مقالات
كتاب فِيمَا خَالف فِيهِ لوقس فِي التشريح مقالتان
كتاب فِي تشريح الرَّحِم هَذَا الْكتاب مقَالَة وَاحِدَة صَغِيرَة كتبه لامْرَأَة قَابِلَة فِي حَدَاثَة سنه فِيهِ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من تشريح الرَّحِم وَمَا يتَوَلَّد فِيهَا فِي الْوَقْت الَّذِي للْحَمْل
كتاب فِي مفصل الْفَقْرَة من فقار الرَّقَبَة مقَالَة وَاحِدَة
كتاب فِي اخْتِلَاف الْأَعْضَاء المتشابهة الْأَجْزَاء مقَالَة وَاحِدَة كتاب فِي تشريح آلَات الصَّوْت مقَالَة وَاحِدَة
وَقَالَ حنين إِن هَذَا الْكتاب مفتعل على لِسَان جالينوس وَلَيْسَ هُوَ لِجَالِينُوسَ وَلَا غَيره من القدماء وَلكنه لبَعض الْحَدث جمعه من كتب جالينوس وَكَانَ الْجَامِع لَهُ مَعَ هَذَا أَيْضا ضَعِيفا
كتاب فِي تشريح الْعين هَذَا الْكتاب أَيْضا مقَالَة وَاحِدَة
وَقَالَ حنين إِن عنوانه أَيْضا بَاطِل
لِأَنَّهُ ينْسب إِلَى جالينوس وَلَيْسَ هُوَ لِجَالِينُوسَ
وخليق أَن يكون لروفس أَو لمن دونه
كتاب فِي حَرَكَة الصَّدْر والرئة هَذَا الْكتاب جعله فِي ثَلَاث مقالات وَكَانَ وَضعه فِي حَدَاثَة من سنه بعد عودته الأولى من رُومِية
وَكَانَ حِينَئِذٍ مُقيما بِمَدِينَة سمرنا عِنْد فالقس وَإِنَّمَا كَانَ سَأَلَهُ إِيَّاه بعض من كَانَ يتَعَلَّم مَعَه
وصف فِي المقالتين الْأَوليين مِنْهُ وَفِي أول الثَّالِثَة مَا أَخذه عَن فالقس معلمه فِي ذَلِك الْفَنّ
ثمَّ وصف فِي بَاقِي الْمقَالة الثَّالِثَة مَا كَانَ هُوَ الْمُسْتَخْرج لَهُ
كتاب فِي علل النَّفس هَذَا(1/139)
الْكتاب جعله فِي مقالتين فِي رحلته الأولى إِلَى رُومِية لبوثيوس وغرضه فيهمَا أَن يبين من أَي الْآلَات يكون التنفس عفوا وَمن أَيهَا يكون باستكراه
كتاب فِي الصَّوْت هَذَا الْكتاب جعله فِي أَربع مقالات بعد الْكتاب الَّذِي ذكرته قبله غَرَضه فِيهِ أَن يبين كَيفَ يكون الصَّوْت وَأي شَيْء هُوَ وَمَا مادته وَبِأَيِّ الْآلَات يحدث وَأي الْأَعْضَاء تعين على حُدُوثه وَكَيف تخْتَلف الْأَصْوَات
كتاب فِي حَرَكَة العضل مقالتان وغرضه فِيهِ أَن يبين مَا حَرَكَة العضل وَكَيف هِيَ وَكَيف تكون هَذِه الحركات الْمُخْتَلفَة من العضل وَإِنَّمَا حركته حَرَكَة وَاحِدَة
ويبحث أَيْضا فِيهِ عَن النَّفس هَل هُوَ من الحركات الإرادية أم من الحركات الطبيعية ويفحص فِيهِ عَن أَشْيَاء كَثِيرَة لَطِيفَة من هَذَا الْفَنّ
مقَالَة فِي مناقضة الْخَطَأ الَّذِي اعْتقد فِي تَمْيِيز الْبَوْل من الدَّم مقَالَة فِي الْحَاجة إِلَى النبض
مقَالَة فِي الْحَاجة إِلَى التنفس
مقَالَة فِي الْعُرُوق الضوارب هَل يجْرِي فِيهَا الدَّم بالطبع أم لَا
كتاب فِي قوى الْأَدْوِيَة المسهلة مقَالَة وَاحِدَة
يبين فِيهَا أَن إسهال الْأَدْوِيَة وَمَا يسهل لَيْسَ هُوَ بِأَن كل وَاحِد من الْأَدْوِيَة يحِيل مَا يصادفه فِي الْبدن إِلَى طَبِيعَته ثمَّ ينْدَفع ذَلِك فَيخرج لَكِن كل وَاحِد مِنْهَا يجتذب خلطا مُوَافقا مشاكلا لَهُ
كتاب فِي الْعَادَات مقَالَة وَاحِدَة
وغرضه فِيهِ أَن يبين أَن الْعَادة أحد الْأَعْرَاض الَّتِي يَنْبَغِي أَن ينظر فِيهَا وَيُوجد مُتَّصِلا بِهَذَا الْكتاب ومتحدا مَعَه تَفْسِير مَا أَتَى بِهِ جالينوس فِيهَا من الشَّهَادَات من قَول فلاطن بشرح أيروقليس لَهُ وَتَفْسِير مَا أَتَى بِهِ من قَول أبقراط بشرح جالينوس لَهُ
كتاب فِي آراء أبقراط وفلاطن عشر مقالات
وغرضه فِيهِ أَن يبين أَن أفلاطن فِي أَكثر أقاويله
مُوَافق لبقراط من قبل أَنه عَنهُ أَخذهَا
وَأَن أرسطوطاليس فِيمَا خالفهما فِيهِ قد أَخطَأ
وَيبين فِيهِ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أَمر قُوَّة النَّفس الْمُدبرَة الَّتِي بهَا تكون الفكرة والتوهم وَالذكر وَمن أَمر الْأُصُول الثَّلَاثَة الَّتِي مِنْهَا تنبعث القوى الَّتِي بهَا يكون تَدْبِير الْبدن
وَغير ذَلِك من فنون شَتَّى
كتاب فِي الْحَرَكَة المعتاصة مقَالَة وَاحِدَة
وغرضه فِيهَا أَن يبين أَمر حركات كَانَ قد جهلها هُوَ وَمن كَانَ قبله ثمَّ علمهَا بعد
كتاب فِي آلَة الشم مقَالَة وَاحِدَة
كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء سبع عشرَة مقَالَة بَين فِي الْمقَالة الأولى وَالثَّانيَِة مِنْهُ حِكْمَة الْبَارِي تبَارك وَتَعَالَى فِي إتقان خلقَة الْيَد وَبَين فِي القَوْل الثَّالِث حكمته فِي إتقان الرجل
وَفِي الرَّابِع وَالْخَامِس(1/140)
حكمته فِي آلَات الْغذَاء وَفِي السَّادِس وَالسَّابِع أَمر آلَات التنفس وَفِي الثَّامِن وَالتَّاسِع أَمر مَا فِي الرَّأْس وَفِي الْعَاشِر أَمر الْعَينَيْنِ
وَفِي الْحَادِي عشر سَائِر مَا فِي الْوَجْه وَفِي الثَّانِي عشر الْأَعْضَاء الَّتِي هِيَ مُشَاركَة للرأس والعنق وَفِي الثَّالِث عشر نواحي الصلب والكتفين
ثمَّ وصف فِي المقالتين اللَّتَيْنِ بعد تِلْكَ الْحِكْمَة فِي أَعْضَاء التوليد
ثمَّ فِي السَّادِس عشر من أَمر الْآلَات الْمُشْتَركَة للبدن كُله وَهِي الْعُرُوق الضوارب وَغير الضوارب والأعصاب
ثمَّ وصف فِي الْمقَالة السَّابِعَة عشرَة حَال جَمِيع الْأَعْضَاء ومقاديرها وَبَين مَنَافِع ذَلِك الْكتاب كُله
مقَالَة فِي أفضل هيئات الْبدن وَهَذِه الْمقَالة تتلو المقالتين الْأَوليين من كتاب المزاج
وغرضه فِيهَا بَين من عنوانها
مقَالَة فِي خصب الْبدن وَهِي مقَالَة صَغِيرَة
وَعرضه فِيهَا بَين من عنوانها
مقَالَة فِي سوء المزاح الْمُخْتَلف وغرضه فِيهَا يتَبَيَّن من عنوانها يذكر فِيهِ أَي أَصْنَاف سوء المزاج هُوَ مُسْتَوْفِي الْبدن كُله وَكَيف يكون الْحَال فِيهِ وَأي أَصْنَاف سوء المزاج هُوَ مُخْتَلف فِي أَعْضَاء الْبدن
كتاب الْأَدْوِيَة المفردة هَذَا الْكتاب جعله فِي إِحْدَى عشرَة مقَالَة
كشف فِي المقالتين الأولتين خطأ من اخطأ فِي الطّرق الرَّديئَة الَّتِي سلكت فِي الحكم على قوى الْأَدْوِيَة ثمَّ أصل فِي الْمقَالة الثَّالِثَة أصلا صَحِيحا لجَمِيع الْعلم بالحكم على القوى الأولى من الْأَدْوِيَة
ثمَّ بَين فِي الْمقَالة الرَّابِعَة أَمر القوى الثواني وَهِي الطعوم والروائح وَأخْبر بِمَا يسْتَدلّ عَلَيْهَا مِنْهَا على القوى الأولى من الْأَدْوِيَة
وَوصف فِي الْمقَالة الْخَامِسَة القوى الثوالب من الْأَدْوِيَة وَهِي أفاعيلها فِي الْبدن من الإسخان والتبريد والتجفيف والترطيب
ثمَّ وصف فِي المقالات الثَّلَاث الَّتِي تتلو تِلْكَ قُوَّة دَوَاء دَوَاء من الْأَدْوِيَة الَّتِي هِيَ أَجزَاء من النَّبَات
ثمَّ فِي الْمقَالة التَّاسِعَة قوى الْأَدْوِيَة الَّتِي هِيَ أَجزَاء من الأَرْض أَعنِي أَصْنَاف التُّرَاب والطين وَالْحِجَارَة والمعادن
وَفِي الْعَاشِرَة قوى الْأَدْوِيَة الَّتِي هِيَ مِمَّا يتَوَلَّد فِي أبدان الْحَيَوَان
ثمَّ وصف فِي الْحَادِيَة عشرَة قوى الْأَدْوِيَة الَّتِي هِيَ مِمَّا يتَوَلَّد فِي الْبَحْر وَالْمَاء المالح
مقَالَة فِي دَلَائِل علل الْعين كتبهَا فِي حداثته لغلام كَحال
وَقد لخص فِيهَا الْعِلَل الَّتِي تكون فِي كل وَاحِدَة من طَبَقَات الْعين وَوصف دلائلها
مقَالَة فِي أَوْقَات الْأَمْرَاض وصف فِيهَا أَمر أَوْقَات الْمَرَض الْأَرْبَعَة أَعنِي الِابْتِدَاء والتزيد والانتهاء والانحطاط
كتاب الامتلاء وَيعرف أَيْضا بِكِتَاب الْكَثْرَة وَهُوَ مقَالَة وَاحِدَة يصف فِيهَا أَمر كَثْرَة الأخلاط ويصفها ويصف دَلَائِل كل وَاحِد من أصنافها(1/141)
مقَالَة فِي الأورام ووسمها جالينوس أَصْنَاف الغلظ الْخَارِج عَن الطبيعة
وَوصف فِي هَذِه الْمقَالة جَمِيع أَصْنَاف الأورام ودلائلها
مقَالَة فِي الْأَسْبَاب الْبَادِيَة وَهِي الأورام الَّتِي تحدث من خَارج الْبدن يبين فِي هَذِه الْمقَالة أَن للأسباب الْبَادِيَة عملا فِي الْبدن وَنقص قَول من دفع عَملهَا
مقَالَة فِي الْأَسْبَاب الْمُتَّصِلَة بالأمراض ذكر فِيهَا الْأَسْبَاب الْمُتَّصِلَة بِالْمرضِ الفاعلة لَهُ
مقَالَة فِي الرعشة والنافض والاختلاج والتشنج
مقَالَة فِي أَجزَاء الطِّبّ يقسم فِيهَا الطِّبّ على طرق شَتَّى من الْقسم والتقسيم
كتاب الْمَنِيّ مقالتان
وغرضه فِيهِ أَن يبين أَن الشَّيْء الَّذِي يتَوَلَّد مِنْهُ جَمِيع أَعْضَاء الْبدن لَيْسَ هُوَ الدَّم كَمَا ظن أرسطوطاليس لَكِن تولد جَمِيع الْأَعْضَاء الْأَصْلِيَّة إِنَّمَا هُوَ من الْمَنِيّ وَهِي الْأَعْضَاء الْبيض
وَإِن الَّذِي يتَوَلَّد من دم الطمث إِنَّمَا هُوَ اللَّحْم الْأَحْمَر وَحده
مقَالَة فِي تولد الْجَنِين الْمَوْلُود لسبعة أشهر
مقَالَة فِي الْمرة السَّوْدَاء يصف فِيهَا أَصْنَاف السَّوْدَاء ودلائلها
كتاب أدوار الحميات وتراكيبها
مقَالَة وَاحِدَة يُنَاقض فِيهَا قوما ادعوا الْبَاطِل من أَمر أدوار الحميات وتراكيبها وعنوان هَذَا الْكتاب عِنْد جالينوس مناقضة من تكلم فِي الرسوم
قَالَ حنين وَقد تُوجد مقَالَة أُخْرَى نسبت إِلَى جالينوس فِي هَذَا الْبَاب وَلَيْسَت لَهُ
اخْتِصَار كِتَابه الْمَعْرُوف بالنبض الْكَبِير مقَالَة وَاحِدَة ذكر جالينوس أَنه كمل فِيهَا النبض
قَالَ حنين وَأما أَنا فقد رَأَيْت باليونانية مقَالَة ينحى بهَا هَذَا النَّحْو وَلست أصدق أَن جالينوس الْوَاضِع لتِلْك الْمقَالة لِأَنَّهَا لَا تحيط بِكُل مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من أَمر النبض وَلَيْسَت بحسنة التَّأْلِيف أَيْضا
وَقد يجوز أَن يكون جالينوس قد وعد أَن يضع تِلْكَ الْمقَالة فَلم يتهيأ لَهُ وَضعهَا
فَلَمَّا وجده بعض الْكَذَّابين قد وعد وَلم يَفِ تحرص وضع الْمقَالة وَأثبت ذكرهَا فِي الفهرست كَيْمَا يصدق فِيهَا
وَيجوز أَن يكون جالينوس أَيْضا قد وضع مقَالَة فِي ذَلِك غير تِلْكَ وَقد درست كَمَا درس كثير من كتبه وافتعلت هَذِه الْمقَالة عوضهَا ومكانها
كتاب فِي النبض يُنَاقض فِيهِ أرخيجانس قَالَ جالينوس إِنَّه جعله فِي ثَمَان مقالات
كتاب فِي رداءة التنفس هَذَا الْكتاب جعله فِي ثَلَاث مقالات وغرضه فِيهِ أَن يصف أَصْنَاف النَّفس الرَّدِيء وأسبابه وَمَا يدل عَلَيْهِ وَهُوَ يذكر فِي الْمقَالة الأولى مِنْهُ أَصْنَاف التنفس وأسبابه(1/142)
وَفِي الثَّانِيَة أَصْنَاف سوء التنفس وَمَا يدل عَلَيْهِ كل صنف مِنْهَا وَفِي الْمقَالة الثَّالِثَة يَأْتِي بشواهد من كَلَام أبقراط على صِحَة قَوْله
كتاب نَوَادِر تقدمة الْمعرفَة مقَالَة وَاحِدَة
يحث فِيهَا على تقدمة الْمعرفَة وَيعلم حيلا لَطِيفَة تُؤدِّي إِلَى ذَلِك ويصف أَشْيَاء بديعة تقدم فعلهَا من أَمر المرضى وَخبر بهَا فَعجب مِنْهُ
اخْتِصَار كِتَابه فِي حِيلَة الْبُرْء مقالتان
كتاب الفصد ثَلَاث مقالات قصد فِي الْمقَالة الأولى مِنْهَا المناقضة لأراسسطراطس لِأَنَّهُ كَانَ يمْنَع من الفصد وناقض فِي الثَّانِيَة أَصْحَاب أراسسطراطس الَّذين برومية فِي هَذَا الْمَعْنى بِعَيْنِه وَوصف فِي الثَّالِثَة مَا يرَاهُ هُوَ من العلاج بالفصد
كتاب الذبول مقَالَة وَاحِدَة
وغرضه فِيهِ أَن يبين طبيعة هَذَا الْمَرَض وأصنافه وَالتَّدْبِير الْمُوفق لمن أشرف عَلَيْهِ
مقَالَة فِي صِفَات لصبي يصرع
كتاب قوى الأغذية ثَلَاث مقالات
عدد فِيهِ مَا يتغذى بِهِ من الْأَطْعِمَة والأشربة وَوصف مَا فِي كل وَاحِد مِنْهَا من القوى
كتاب التَّدْبِير الملطف مقَالَة وَاحِدَة
وغرضه مُوَافق لعنوانه
اخْتِصَار هَذَا الْكتاب الَّذِي فِي التَّدْبِير الملطف مقَالَة وَاحِدَة كتاب الكيموس الْجيد والرديء
مقَالَة وَاحِدَة يصف فِيهَا الأغذية وَيذكر أَيهَا تولد كيموسا مَحْمُودًا وأيها تولد كيموسا ردينا
كتاب فِي أفكار أراسسطراطس فِي مداواة الْأَمْرَاض ثَمَان مقالات
اختبر فِيهِ السَّبِيل الَّتِي سلكها أراسسطراطس فِي المداواة وَيبين صوابها من خطئها
كتاب تَدْبِير الْأَمْرَاض الحادة على رَأْي أبقراط مقَالَة وَاحِدَة
كتاب تركيب الْأَدْوِيَة جعله فِي سبع عشرَة مقَالَة أجمل فِي سبع مِنْهَا أَجنَاس الْأَدْوِيَة المركبة فعدد جِنْسا جِنْسا مِنْهَا وَجعل مثل جنس الْأَدْوِيَة الَّتِي تبني اللَّحْم فِي القروح على حِدة وجنس الْأَدْوِيَة الَّتِي تحلل على حِدة وجنس الْأَدْوِيَة الَّتِي تدمل وَسَائِر أَجنَاس الْأَدْوِيَة على هَذَا الْقيَاس وَإِنَّمَا غَرَضه فِيهِ أَن يصف طَرِيق تركيب الْأَدْوِيَة على الْجمل
وَلذَلِك جعل عنوان هَذِه السَّبع المقالات فِي تركيب الْأَدْوِيَة على الْجمل والأجناس وَأما الْعشْر المقالات الْبَاقِيَة فَجعل عنوانها فِي تركيب الْأَدْوِيَة بِحَسب الْمَوَاضِع وَأَرَادَ بذلك أَن وَصفه لتركيب الْأَدْوِيَة فِي تِلْكَ المقالات الْعشْر لَيْسَ يقْصد بهَا إِلَى أَن يخبر أَن صنفا صنفا مِنْهَا يفعل فعل مَا فِي مرض من الْأَمْرَاض مُطلقًا لَكِن بِحَسب الْمَوَاضِع أَعنِي الْعُضْو الَّذِي فِيهِ ذَلِك الْمَرَض وابتدأ فِيهِ من الرَّأْس ثمَّ هَلُمَّ جرا على جَمِيع الْأَعْضَاء إِلَى أَن انْتهى إِلَى أقصاها
أَقُول وَجُمْلَة هَذَا الْكتاب الَّذِي رسمه جالينوس فِي تركيب الْأَدْوِيَة لَا يُوجد فِي هَذَا الْوَقْت إِلَّا وَهُوَ منقسم إِلَى كتابين
وكل وَاحِد مِنْهُمَا على حِدته
وَلَا يبعد أَن الإسكندرانيين لتبصرهم فِي(1/143)
كتب جالينوس صَنَعُوا هَذَا أَو غَيرهم
فَالْأول يعرف بِكِتَاب قاطاجانس ويتضمن السَّبع المقالات الأولى الَّتِي تقدم ذكرهَا
وَالْآخر يعرف بِكِتَاب الميامر
ويحتوي على الْعشْر المقالات الْبَاقِيَة والميامر جمع ميمر وَهُوَ الطَّرِيق وَيُشبه أَن يكون سمي هَذَا الْكتاب بذلك إِذْ هُوَ الطَّرِيق إِلَى اسْتِعْمَال الْأَدْوِيَة المركبة على جِهَة الصَّوَاب
كتاب الْأَدْوِيَة الَّتِي يسهل وجودهَا وَهِي الَّتِي تسمى الْمَوْجُودَة فِي كل مَكَان مقالتان
وَقَالَ حنين أَنه قد أضيف إِلَيْهِ مقَالَة أُخْرَى فِي هَذَا الْفَنّ ونسبت إِلَى جالينوس وَمَا هِيَ لِجَالِينُوسَ لَكِنَّهَا لفلغريوس
وَقَالَ حنين أَيْضا أَنه قد ألحق فِي هَذَا الْكتاب هذيانا كثيرا وصفات بديعة عَجِيبَة وأدوية لم يرهَا جالينوس وَلم يسمع بهَا قطّ
كتاب الْأَدْوِيَة الْمُقَابلَة للأدواء جعله فِي مقالتين وَوصف فِي الْمقَالة الأولى مِنْهُ أَمر الترياق
وَفِي الْمقَالة الثَّانِيَة مِنْهُ أَمر سَائِر المعجونات
كتاب الترياق إِلَى مفيليانوس مقَالَة وَاحِدَة صَغِيرَة
كتاب الترياق إِلَى قَيْصر وَهَذَا الْكتاب أَيْضا مقَالَة وَاحِدَة
كتاب الْحِيلَة لحفظ الصِّحَّة سِتّ مقالات
وغرضه فِيهِ أَن يعلم كَيفَ حفظ الأصحاء على صحتهم من كَانَ مِنْهُم على غَايَة كَمَال الصِّحَّة وَمن كَانَت صِحَّته تقصر عَن غَايَة الْكَمَال وَمن كَانَ مِنْهُم يسير بسيرة الْأَحْرَار وَمن كَانَ مِنْهُم يسير بسيرة العبيد
كتاب إِلَى أسبولوس مقَالَة وَاحِدَة وغرضه فِيهِ أَن يفحص هَل حفظ الأصحاء على صحتهم من صناعَة الطِّبّ أم هُوَ من صناعَة أَصْحَاب الرياضة وَهِي الْمقَالة الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا فِي ابْتِدَاء كتاب تَدْبِير الأصحاء حِين قَالَ أَن الصِّنَاعَة الَّتِي تتلو الْقيام على الْأَبدَان وَاحِدَة كَمَا بيّنت فِي غير هَذَا الْكتاب
كتاب الرياضة بالكرة الصَّغِيرَة هَذَا الْكتاب مقَالَة وَاحِدَة صَغِيرَة يحمد فِيهَا الرياضة بالكرة الصَّغِيرَة واللعب بالصولجان ويقدمه على جَمِيع أَصْنَاف الرياضة
تَفْسِير كتاب عهد أبقراط مقَالَة وَاحِدَة
تَفْسِير كتاب الْفُصُول لأبقراط جعله فِي سبع مقالات
تَفْسِير كتاب الْكسر لأبقراط جعله فِي ثَلَاث مقالات
تَفْسِير كتاب رد الْخلْع لأبقراط جعله فِي أَربع مقالات
تَفْسِير كتاب تقدمة الْمعرفَة لأبقراط جعله فِي ثَلَاث مقالات
تَفْسِير كتاب تَدْبِير الْأَمْرَاض الحادة لأبقراط وَالَّذِي نجده من تَفْسِيره لهَذَا الْكتاب هُوَ ثَلَاث مقالات(1/144)
وَقَالَ جالينوس فِي فينكس كتبه أَنه فسره فِي خمس مقالات وَأَن هَذِه الثَّلَاث مقالات الأولى هِيَ تَفْسِير الْجُزْء الصَّحِيح من هَذَا الْكتاب والمقالتان الباقيتان فيهمَا تَفْسِير الْمَشْكُوك فِيهِ
تَفْسِير كتاب القروح لأبقراط جعله فِي مقَالَة وَاحِدَة
تَفْسِير كتاب جراحات الرَّأْس لأبقراط مقَالَة وَاحِدَة
تَفْسِير كتاب أبيديما لأبقراط فسر الْمقَالة الأولى مِنْهُ فِي ثَلَاث مقالات وَالثَّانيَِة فِي سِتّ مقالات وَالثَّالِثَة فِي ثَلَاث مقالات وَالسَّادِسَة فِي ثَمَان مقالات هَذِه الَّتِي فَسرهَا وَأما الثَّلَاث الْبَاقِيَة وَهِي الرَّابِعَة وَالْخَامِسَة وَالسَّابِعَة فَلم يُفَسِّرهَا لِأَنَّهُ ذكر أَنَّهَا مفتعلة على لِسَان أبقراط
تَفْسِير كتاب الأخلاط لأبقراط جعله فِي ثَلَاث مقالات
تَفْسِير كتاب تقدمة الْإِنْذَار لأبقراط وَهَذَا الْكتاب لم أجد لَهُ نُسْخَة إِلَى هَذِه الْغَايَة
تَفْسِير كتاب قاطيطريون لأبقراط جعله فِي ثَلَاث مقالات
تَفْسِير كتاب الْهَوَاء وَالْمَاء والمساكن لأبقراط جعله أَيْضا فِي ثَلَاث مقالات وَقد وجدنَا بعض النّسخ من هَذَا التَّفْسِير أَيْضا فِي أَربع مقالات إِلَّا أَن الأول هُوَ الْمُعْتَمد عَلَيْهِ
تَفْسِير كتاب الْغذَاء لأبقراط جعله فِي أَربع مقالات
تَفْسِير كتاب طبيعة الْجَنِين لأبقراط قَالَ حنين هَذَا الْكتاب لم نجد لَهُ تَفْسِيرا من قَول جالينوس وَلَا نجد جالينوس ذكر فِي فهرست كتبه أَنه عمل لَهُ تَفْسِيرا
إِلَّا أَنا وَجَدْنَاهُ قد قسم هَذَا الْكتاب بِثَلَاثَة أَجزَاء فِي كِتَابه الَّذِي عمله فِي علم أبقراط فِي التشريح
وَذكر أَن الْجُزْء الأول وَالثَّالِث من هَذَا الْكتاب منحول لَيْسَ هُوَ لأبقراط
وَإِنَّمَا الصَّحِيح مِنْهُ الْجُزْء الثَّانِي
وَقد فسر هَذَا الْجُزْء جاسيوس الإسْكَنْدراني وَقد وجدنَا لجَمِيع الثَّلَاثَة الْأَجْزَاء تفسيرين أَحدهمَا سرياني موسم بِأَنَّهُ لِجَالِينُوسَ قد كَانَ تَرْجمهُ سرجس فَلَمَّا فحصنا عَنهُ علمنَا أَنه لبالبس
وَالْآخر يوناني فَلَمَّا فحصنا عَنهُ وَجَدْنَاهُ لسورانوس الَّذِي من شيعَة المثوذيقون وَترْجم حنين نَص هَذَا الْكتاب إِلَّا قَلِيلا مِنْهُ إِلَى الْعَرَبيَّة فِي خلَافَة المعتز بِاللَّه
تَفْسِير كتاب طبيعة الْإِنْسَان لأبقراط جعله فِي مقالتين
كتاب فِي أَن رَأْي أبقراط فِي كتاب طبيعة الْإِنْسَان وَفِي سَائِر كتبه وَاحِد جعله فِي ثَلَاث مقالات
وَقَالَ جالينوس أَنه أَلفه بعد تَفْسِيره لكتاب طبيعة الْإِنْسَان وَذَلِكَ عِنْدَمَا بلغه أَن قوما يعيبون ذَلِك الْكتاب وَيدعونَ فِيهِ أَنه لَيْسَ لأبقراط(1/145)
كتاب فِي أَن الطَّبِيب الْفَاضِل يجب أَن يكون فيلسوفا مقَالَة وَاحِدَة
كتاب فِي كتب أبقراط الصَّحِيحَة وَغير الصَّحِيحَة مقَالَة وَاحِدَة
كتاب فِي الْبَحْث عَن صَوَاب مَا ثلب بِهِ قوينطس أَصْحَاب أبقراط الَّذين قَالُوا بالكيفيات الْأَرْبَع مقَالَة وَاحِدَة
وَقَالَ حنين إِن هَذَا الْكتاب لَا أعلم بِالْحَقِيقَةِ أَنه لِجَالِينُوسَ أم لَا وَلَا أَحْسبهُ ترْجم
كتاب فِي السبات على رَأْي أبقراط وَقَالَ حنين أَيْضا أَن الْقِصَّة فِي هَذَا مثل الْقِصَّة فِي الْكتاب الَّذِي ذكر قبله
كتاب فِي أَلْفَاظ أبقراط قَالَ حنين هَذَا الْكتاب أَيْضا مقَالَة وَاحِدَة وغرضه فِيهِ أَن يُفَسر غَرِيب أَلْفَاظ أبقراط فِي جَمِيع كتبه وَهُوَ نَافِع لمن يقْرَأ باليونانية فَأَما من يقْرَأ بِغَيْر اليونانية فَلَيْسَ يحْتَاج إِلَيْهِ
وَلَا يُمكن أَيْضا أَن يترجم أصلا
كتاب فِي جَوْهَر النَّفس مَا هِيَ على رَأْي أسقليبيادس مقَالَة وَاحِدَة
كتاب فِي تجربة الطبيعة مقَالَة وَاحِدَة يقْتَصّ فِيهَا حجج أَصْحَاب التجربة وَأَصْحَاب الْقيَاس بَعضهم على بعض
كتاب فِي الْحَث على تَعْمِيم الطِّبّ مقَالَة وَاحِدَة
وَقَالَ حنين إِن كتاب جالينوس هَذَا نسخ فِيهِ كتاب مينودوطس وَهُوَ كتاب حسن نَافِع ظريف
كتاب فِي جمل التجربة مقَالَة وَاحِدَة
كتاب فِي محنة أفضل الْأَطِبَّاء مقَالَة وَاحِدَة
كتاب فِيمَا يَعْتَقِدهُ رَأيا مقَالَة وَاحِدَة يصف فِيهَا مَا علم وَمَا لم يعلم
كتاب فِي الْأَسْمَاء الطبية وغرضه فِيهِ أَن يبين أَمر الْأَسْمَاء الَّتِي استعملها الْأَطِبَّاء على أَي الْمعَانِي استعملوها وَجعله خمس مقالات
وَالَّذِي وَجَدْنَاهُ قد نقل إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة إِنَّمَا هِيَ الْمقَالة الأولى الَّتِي ترجمها حُبَيْش الأعسم
كتاب الْبُرْهَان هَذَا الْكتاب جعله فِي خمس عشرَة مقَالَة وغرضه فِيهِ أَن يبين كَيفَ الطَّرِيق فِي تَبْيِين ضَرُورَة وَذَلِكَ كَانَ غَرَض أرسطوطاليس فِي كِتَابه الرَّابِع من الْمنطق قَالَ حنين وَلم يَقع إِلَى هَذِه الْغَايَة إِلَى أحد من أهل دَهْرنَا لكتاب الْبُرْهَان نُسْخَة تَامَّة باليونانية
على أَن جِبْرَائِيل قد كَانَ عني بِطَلَبِهِ عناية شَدِيدَة وطلبته أَنا أَيْضا بغاية الطّلب وجلت فِي طلبه بِلَاد الجزيرة وَالشَّام كلهَا وفلسطين ومصر إِلَى أَن بلغت إِلَى الْإسْكَنْدَريَّة فَلم أجد مِنْهُ شَيْئا إِلَّا بِدِمَشْق نَحوا من نصفه إِلَّا أَنَّهَا غير مُتَوَالِيَة وَلَا تَامَّة
وَقد كَانَ جِبْرَائِيل أَيْضا وجد مِنْهُ مقالات لَيست كلهَا المقالات الَّتِي(1/146)
وجدت بِأَعْيَانِهَا
وَترْجم لَهُ أَيُّوب مَا وجد مِنْهَا وَأما أَنا فَلم تطب نَفسِي بترجمة شَيْء مِنْهَا إِلَّا باستكمال قرَاءَتهَا لما هِيَ عَلَيْهِ من النُّقْصَان والاختلال وللطمع وَتَشَوُّقِ النَّفس إِلَى وجدان تَمام الْكتاب
ثمَّ إِنِّي ترجمت مَا وجدت مِنْهُ إِلَى السريانية وَهُوَ جُزْء يسير من الْمقَالة الثَّانِيَة وَأكْثر الْمقَالة الثَّالِثَة ونحوا من نصف الْمقَالة الرَّابِعَة من أرائها فَإِنَّهُ سقط وَأما سَائِر المقالات الْأُخَر فَوجدت إِلَى آخر الْكتاب مَا خلا الْمقَالة الْخَامِسَة عشرَة فَإِن فِي آخرهَا نُقْصَانا وَترْجم عِيسَى بن يحيى مَا وجد من الْمقَالة الثَّامِنَة إِلَى الْمقَالة الْحَادِيَة عشرَة وَترْجم إِسْحَق بن حنين من الْمقَالة الثَّانِيَة عشرَة إِلَى الْمقَالة الْخَامِسَة عشرَة إِلَى الْعَرَبيَّة
كتاب فِي القياسات الوضعية مقَالَة وَاحِدَة
كتاب فِي قوام الصناعات قَالَ حنين أَنه لم يجد من هَذَا الْكتاب باليونانية إِلَّا نتفا مِنْهُ
كتاب فِي تعرف الْإِنْسَان عُيُوب نَفسه مقالتان
وَقَالَ حنين إِنَّه لم يجد مِنْهُ باليونانية إِلَّا مقَالَة وَاحِدَة نَاقِصَة
كتاب الْأَخْلَاق أَربع مقالات
وغرضه فِيهِ أَن يصف أَصْنَاف الْأَخْلَاق وأسبابها ودلائلها ومداواتها
مقَالَة فِي صرف الاغتمام
كتبهَا لرجل سَأَلَهُ مَا باله لم يره اغتم قطّ عِنْدَمَا ذهب جَمِيع مَا قد كَانَ تَركه فِي الخزائن الْعُظْمَى لما احترقت برومية فوصف لَهُ السَّبَب فِي ذَلِك وَبَين بِمَاذَا يحب الاغتمام وبماذا لَا يجب
مقَالَة فِي أَن أخيار النَّاس قد يَنْتَفِعُونَ بأعدائهم
كتاب فِيمَا ذكره أفلاطون فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بطيماوس من علم الطِّبّ
أَربع مقالات
كتاب فِي أَن قوى النَّفس تَابِعَة لمزاج الْبدن مقَالَة وَاحِدَة
وغرضه فِيهِ بَين من عنوانه
كتاب جَوَامِع كتب أفلاطون قَالَ حنين وَوجدت من هَذَا الْفَنّ من الْكتب كتابا آخر فِيهِ أَربع مقالات من ثَمَان مقالات لِجَالِينُوسَ فِيهَا جَوَامِع كتب أفلاطن وَهِي كتاب أقراطليس فِي الْأَسْمَاء وَكتاب سوفسطيس فِي الْقِسْمَة وَكتاب بوليطيقوس فِي الْمُدبر وَكتاب برميندس فِي الصُّور وَكتاب أوثيذيمس
وَفِي الْمقَالة الثَّالِثَة جَوَامِع السِّت المقالات الْبَاقِيَة من كتاب السياسة وجوامع الْكتاب الْمَعْرُوف بطيماوس فِي الْعلم الطبيعي
وَفِي الْمقَالة الرَّابِعَة جمل مَعَاني الاثنتي عشرَة مقَالَة الَّتِي فِي السّير لأفلاطن
كتاب فِي أَن المتحرك الأول لَا يَتَحَرَّك مقَالَة وَاحِدَة
كتاب الْمدْخل إِلَى الْمنطق مقَالَة وَاحِدَة يبين فِيهَا الْأَشْيَاء الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا المتعلمون وينتفعون بهَا فِي علم الْبُرْهَان(1/147)
مقَالَة فِي عدد المقاييس
تَفْسِير الْكتاب الثَّانِي من كتب أرسطوطاليس وَهُوَ الَّذِي يُسمى باريمينياس ثَلَاث مقالات وَقَالَ حنين إِنَّه وجد لَهُ نُسْخَة نَاقِصَة
كتاب فِيمَا يلْزم الَّذِي يلحن فِي كَلَامه سبع مقالات
وَقَالَ حنين إِن الَّذِي وجده من هَذَا الْكتاب مقَالَة وَاحِدَة وَلم يترجمها
قَالَ حنين بن إِسْحَق وَقد وجدنَا أَيْضا كتبا أُخْرَى قد وسمت باسم جالينوس وَلَيْسَت لَهُ لَكِن بَعْضهَا نتف اخترعها قوم آخَرُونَ من كَلَامه فألفوا مِنْهَا كتبا وَبَعضهَا قد كَانَ وَضعهَا من كَانَ قبل جالينوس فوسمت بِآخِرهِ باسم جالينوس إِمَّا من قبل أَن الْفَاعِل لذَلِك أحب أَن يكثر بِكَثْرَة مَا عِنْده من كتب جالينوس مِمَّا لَا يُوجد عِنْد غَيره وَإِمَّا من قبل قلَّة تَمْيِيز لَا تزَال تعرض لقوم من الْأَغْنِيَاء حَتَّى إِذا وجدوا فِي الْكتاب الْوَاحِد عدَّة مقالات ووجدوا على أول الْمقَالة الأولى فِيهِ اسْم رجل من النَّاس ظنُّوا أَن سَائِر تِلْكَ المقالات لذَلِك الرجل
وَبِهَذَا السَّبَب نجد كثيرا من مقالات روفس فِي كتب كَثِيرَة موسومة باسم جالينوس مثل مقَالَة فِي اليرقان
قَالَ حنين والمقالات الَّتِي وجدناها موسومة باسم جالينوس من غير أَن تكون فصاحة كَلَامهَا شَبيهَة بِمذهب جالينوس فِي الفصاحة وَلَا قُوَّة مَعَانِيهَا شَبيهَة بِقُوَّة مَعَانِيه هِيَ هَذِه
مقَالَة فِي أَئِمَّة الْفرق
مقَالَة فِي الرسوم الَّتِي رسمها بقراط
مقَالَة موسومة الطَّبِيب لِجَالِينُوسَ وَهَذِه الْمقَالة قد ذكرهَا جالينوس نَفسه فِي أول الفهرست وَأخْبر أَنَّهَا منحولة لَا صَحِيحَة لَهُ
مقَالَة فِي الصِّنَاعَة وَلست أَعنِي تِلْكَ الْمقَالة الموسومة بِهَذَا الرَّسْم الْمَشْهُور بِالصِّحَّةِ لَكِن مقَالَة منحولة إِلَيْهِ كَلَام واضعها كَلَام ضَعِيف مقصر
مقَالَة فِي الْعِظَام وَلَيْسَ أَعنِي تِلْكَ الْمقَالة الصَّحِيحَة فِي هَذَا الْعرض بل مقَالَة أُخْرَى قُوَّة واضعها أَضْعَف كثيرا من هَذِه الطَّبَقَة
مقَالَة فِي الْحُدُود
مقَالَة على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
مقَالَة فِي التنفس صَغِيرَة شَبيهَة بالنتف
مقَالَة فِي الْكَلَام الطبيعي
كتاب فِي الطِّبّ على رَأْي أوميرس مقالتان وَنَصّ كَلَام هَاتين المقالتين شَبيه جدا بِكَلَام جالينوس إِلَّا أَن الْغَرَض الْمَقْصُود إِلَيْهِ فيهمَا ضَعِيف وَفِي آخر الْمقَالة الثَّانِيَة مِنْهُمَا رَأْي أَيْضا بعيد لَا يشه مَذْهَب جالينوس
مقَالَة فِي أَن الكيفيات لَيست أجساما
مقَالَة فِي الأخلاط على رَأْي بقراط
مقَالَة يبْحَث فِيهَا هَل أَعْضَاء الْجَنِين الْمُتَوَلد فِي الرَّحِم تتخلق كلهَا مَعًا أم لَا
مقَالَة يبْحَث فِيهَا هَل الْجَنِين الَّذِي فِي الرَّحِم حَيَوَان أم لَا
مقَالَة فِي أَن النَّفس لَا تَمُوت
مقَالَة فِي اللَّبن
مقَالَة فِي تجفيف اللَّحْم
مقَالَة فِي الرسوم غير تِلْكَ الْمقَالة الصَّحِيحَة ودونها فِي الْقُوَّة
مقَالَة فِي الْبَوْل
مقَالَة فِي الرَّد على أَصْحَاب الْفرْقَة الثَّالِثَة فِي الْموضع الَّذِي يذكر فِيهِ أَسبَاب الْأَمْرَاض عِنْد تركيبها
مقَالَة فِي أَن أبقراط سبق النَّاس جَمِيعًا فِي معرفَة الْأَوْقَات
مقَالَة فِي أَسبَاب الْعِلَل
مقَالَة فِي اليرقان
قَالَ حنين مَا وجد أَن جالينوس قد ذكره فِي كتبه مِمَّا لم يُثبتهُ فِي الفهرست وَلَا وَقعت إِلَيْنَا نسخته مقَالَة فِي الأخلاط على رَأْي بركساغورس
مقَالَة فِيمَن يحْتَاج فِي الرّبيع إِلَى الفصد(1/148)
أَقُول وَهَذَا جملَة مَا تهَيَّأ ذكره من كتب جالينوس الصَّحِيحَة والمنحولة إِلَيْهِ على مَا أثْبته حنين ابْن إِسْحَق فِي كِتَابه مِمَّا قد وجده وَأَنه قد نقل إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة
وَكَانَ ذكره لذَلِك وَقد أَتَى عَلَيْهِ من السنين ثَمَان وَأَرْبَعُونَ سنة وَكَانَت مُدَّة حَيَاته سبعين سنة فبالضرورة أَنه قد وجد أَشْيَاء كَثِيرَة أَيْضا من كتب جالينوس ونقلت إِلَى الْعَرَبيَّة
كَمَا قد وجدنَا كثيرا من كتب جالينوس
وَمِمَّا هُوَ مَنْسُوب إِلَيْهِ بِنَقْل حنين بن إِسْحَق وَغَيره وَلَيْسَ لَهَا ذكر أصلا فِي كتاب حنين الْمُتَقَدّم ذكره
وَمن ذَلِك تَفْسِير كتاب أوجاع النِّسَاء لأبقراط مقَالَة وَاحِدَة
تَفْسِير كتاب الأسابيع لأبقراط مقَالَة وَاحِدَة
تَفْسِير كتاب تدابير الأصحاء لأبقراط مقَالَة وَاحِدَة
كتاب مداواة الأسقام وَيعرف أَيْضا بطب الْمَسَاكِين مقالتان
كتاب فِي الْجَبْر ثَلَاث مقالات
كتاب فِي الْمَوْت السَّرِيع مقَالَة وَاحِدَة
مقَالَة فِي الحقن والقولنج
مقَالَة فِي النّوم واليقظة والضمور
مقَالَة فِي تَحْرِيم الدّفن قبل أَربع وَعشْرين سَاعَة
مقَالَة فِي عناية الْخَالِق عز وَجل بالإنسان رِسَالَة إِلَى فيلافوس الملكة فِي أسرار النِّسَاء
رِسَالَة إِلَى فسطانس القهرمان فِي أسرار الرِّجَال
كتاب فِي الْأَدْوِيَة المكتومة الَّتِي كنى عَنْهَا فِي كتبه ورمزها مقَالَة وَاحِدَة وَقَالَ حنين ابْن إِسْحَق غَرَض جالينوس فِي هَذَا الْكتاب أَن يصف مَا جمعه طول عمره من الْأَدْوِيَة الْخَفِيفَة الْخَواص وجربها مرَارًا كَثِيرَة فَصحت فكتمها عَن أَكثر النَّاس ضنا بهَا عَنْهُم وَلم يطلع عَلَيْهَا إِلَّا الْخَواص من ذَوي الْأَلْبَاب وَصِحَّة التَّمْيِيز من أهل الصِّنَاعَة
وَقد كَانَ غَيْرِي فسر هَذَا الْكتاب فصحف وَزَاد فِيهِ مَا لَيْسَ مِنْهُ وَنقص مِنْهُ مَا لم يفهم تَفْسِيره
فساعدت نَفسِي فِيهِ بِحَسب الْإِمْكَان والطاقة وقابلت بِهِ على التجارب الَّتِي اجْتمعت عِنْدِي وفسرت ذَلِك إِلَى الْعَرَبِيّ لأبي جَعْفَر مُحَمَّد بن مُوسَى
مقَالَة فِي اسْتِخْرَاج مياه الحشائش
مقَالَة فِي إِبْدَال الْأَدْوِيَة
كتاب فِيمَا جمع من الْأَقَاوِيل الَّتِي ذكر فِيهَا فعل الشَّمْس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب
مقَالَة فِي الألوان
جَوَامِع كِتَابه فِي الْبُرْهَان
كتاب الرَّد على الَّذين كتبُوا فِي المماثلات
كتاب طبيعة الْجَنِين
كتاب الرَّد على أرثيجانس فِي النبض
كتاب فِي السبات
اخْتِصَار لكتابه فِي قوى الأغذية
كتاب فِي الأفكار المسفية لأراسطراطس
كتاب مَنَافِع الترياق
مقَالَة فِي الكيموسات
كَلَام فِي الطعوم
رِسَالَة فِي عضة الْكَلْب الْكَلْب
كتاب فِي الْأَسْبَاب الماسكة
تَفْسِير كتاب فولوبس فِي تَدْبِير الأصحاء
تَفْسِير مَا فِي كتاب فلاطن الْمُسَمّى طيماوس من علم الطِّبّ
كتاب فِي الْأَدْوِيَة المنقية
كتاب فِي الأمعاء
كتاب فِي تَحْسِين الْأَصْوَات وَنفي الْآفَات عَنْهَا
أَقُول وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن لِجَالِينُوسَ أَيْضا كتبا أخر كَثِيرَة مِمَّا لم يجده الناقلون مِنْهَا وَمِمَّا قد أندرس على طول الزَّمَان وخصوصا مَا فِي الْمقَالة الثَّانِيَة مِمَّا قد ذكره جالينوس فِي فهرست كتبه الْمُسَمّى فينكس
فَمن كَانَت لَهُ رَغْبَة فِي النّظر إِلَى أسمائها وَفِي أغراضه فِي كل وَاحِد مِنْهَا فَعَلَيهِ بِالنّظرِ فِي ذَلِك الْكتاب(1/149)
الْأَطِبَّاء المشهورون بعد وَفَاة جالينوس
فَأَما الْأَطِبَّاء المشهورون من بعد وَفَاة جالينوس وقريبا مِنْهُ فَمنهمْ إصطفن الإسْكَنْدراني وانقيلاوس الإسْكَنْدراني وجاسيوس الإسْكَنْدراني ومارينوس الإسْكَنْدراني وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة هم مِمَّن فسر كتب جالينوس وَجَمعهَا واختصرها وأوجز القَوْل فِيهَا وطيماوس الطرسوسي وسيمري الملقب بالهلال لِأَنَّهُ كَانَ كثير الْمُلَازمَة لمنزله منغمسا فِي الْعُلُوم والتأليفات فَكَانَ لَا يرَاهُ النَّاس إِلَّا كل مُدَّة فلقب بالهلال من الاستتار ومغنس الإسْكَنْدراني وأريباسيوس صَاحب الكنانيش طَبِيب يليان الْملك ولأريباسيوس من الْكتب كتاب إِلَى ابْنه أسطاث تسع مقالات كتاب مزج الأحشاء مقَالَة كتاب الْأَدْوِيَة المستعملة كتاب السّبْعين مقَالَة كناشه وفولس الأجانيطي وَله من الْكتب كناش الثريا مقَالَة فِي تَدْبِير الصَّبِي وعلاجه وإصطفن الْحَرَّانِي وأريباسيوس القوابلي
ولقب بذلك لِأَنَّهُ كَانَ ماهرا بِمَعْرِِفَة أَحْوَال النِّسَاء ودياسقوريدس الكحال وَيُقَال أَنه أول من انْفَرد واشتهر بصناعة الْكحل وفافالس الأثيني وأفرونيطس الإسْكَنْدراني ونيطس الملقب بالمخبر من الحذاقة ونارسيوس الرُّومِي الَّذِي قدم من الْإسْكَنْدَريَّة فَصَارَ وَاحِدًا مِنْهُم وأريون وزريايل
وَمِمَّنْ كَانَ قَرِيبا من ذَلِك الْوَقْت أَيْضا فيلغريوس وَله من الْكتب كتاب من لَا يحضرهُ طَبِيب وَهُوَ مقَالَة كتاب عَلَامَات الأسقام خمس مقالات ومقالة فِي وجع النقرس مقَالَة فِي الْحَصَاة مقَالَة فِي المَاء الْأَصْفَر مقَالَة فِي وجع الكبد مقَالَة فِي القولنج مقَالَة فِي اليرقان مقَالَة فِي خلق الرَّحِم مقَالَة فِي عرق النِّسَاء مقَالَة فِي السرطان مقَالَة فِي صَنْعَة ترياق الْملح مقَالَة فِي عضة الْكَلْب الْكَلْب مقَالَة فِي القوباء مقَالَة فِيمَا يعرض للثة والأسنان(1/150)
الْبَاب السَّادِس
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الإسكندرانيين وَمن كَانَ فِي أزمنتهم من الْأَطِبَّاء النَّصَارَى وَغَيرهم
قَالَ الْمُخْتَار بن حسن بن بطلَان أَن الإسكندرانيين الَّذين جمعُوا كتب جالينوس السِّتَّة عشر وفسروها كَانُوا سَبْعَة وهم إصطفن وجاسيوس وثاودوسيوس وأكيلاوس وأنقيلاوس وفلاذيوس وَيحيى النَّحْوِيّ وَكَانُوا على مَذْهَب الْمَسِيح
وَقيل إِن أنقيلاوس الإسْكَنْدراني هُوَ كَانَ الْمُقدم على سَائِر الإسكندرانيين وَإنَّهُ هُوَ الَّذِي رتب الْكتب السِّتَّة عشر لِجَالِينُوسَ
وَقَالَ وَكَانَ هَؤُلَاءِ الإسكندرانيون يقتصرون على قِرَاءَة الْكتب السِّتَّة عشر لِجَالِينُوسَ فِي مَوضِع تَعْلِيم الطِّبّ بالإسكندرية
وَكَانُوا يقرأونها على التَّرْتِيب ويجتمعون فِي كل يَوْم على قِرَاءَة شَيْء مِنْهَا وتفهمه
ثمَّ صرفوها إِلَى الْجمل والجوامع ليسهل حفظهم لَهَا ومعرفتهم إِيَّاهَا
ثمَّ انْفَرد كل وَاحِد مِنْهُم بتفسير السِّتَّة عشر
وأجود مَا وجدت من ذَلِك تَفْسِير جاسيوس للستة عشر فَإِنَّهُ أبان فِيهَا عَن فضل ودراية
وَعمر من هَؤُلَاءِ الإسكندرانيين يحيى النَّحْوِيّ الإسْكَنْدراني الإسكلاني حَتَّى لحق أَوَائِل الْإِسْلَام
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق النديم الْبَغْدَادِيّ فِي كتاب الفهرست أَن يحيى النَّحْوِيّ كَانَ تلميذ ساواري
قَالَ وَكَانَ يحيى النَّحْوِيّ فِي أول أمره أسقفا فِي بعض الْكَنَائِس بِمصْر ويعتقد(1/151)
مَذْهَب النَّصَارَى اليعقوبية
ثمَّ رَجَعَ عَمَّا يَعْتَقِدهُ النَّصَارَى من التَّثْلِيث وَاجْتمعت الأساقفة وناظرته فَغَلَبَهُمْ واستعطفته وآنسته وَسَأَلته الرُّجُوع عَمَّا هُوَ عَلَيْهِ وَترك إِظْهَاره
فَأَقَامَ على مَا كَانَ عَلَيْهِ وأبى أَن يرجع فأسقطوه
وَلما فتحت مصر على يَدي عَمْرو بن الْعَاصِ رَضِي الله عَنهُ دخل إِلَيْهِ وأكرمه وَرَأى لَهُ موضعا
ونقلت من تعاليق الشَّيْخ أبي سُلَيْمَان مُحَمَّد بن طَاهِر بن بهْرَام السجسْتانِي قَالَ كَانَ يحيى النَّحْوِيّ فِي أَيَّام عَمْرو بن الْعَاصِ وَدخل إِلَيْهِ وَقَالَ إِن يحيى النَّحْوِيّ كَانَ نَصْرَانِيّا بالإسكندرية وَأَنه قَرَأَ على أميونيس وَقَرَأَ أميونيس على برقلس
قَالَ وَيحيى النَّحْوِيّ يَقُول أَنه أدْرك برقلس وَكَانَ شَيخا كَبِيرا لَا ينْتَفع بِهِ من الْكبر
وَقَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل فِي كتاب مَنَاقِب الْأَطِبَّاء بِأَن يحيى النَّحْوِيّ كَانَ قَوِيا فِي علم النَّحْو والمنطق والفلسفة وَقد فسر كتبا كَثِيرَة من الطبيات
ولقوته فِي الفلسفة ألحق بالفلسفة لِأَنَّهُ أحد الفلاسفة الْمَذْكُورين فِي وقته
قَالَ وَسبب قوته فِي الفلسفة أَنه كَانَ فِي أول أمره ملاحا يعبر النَّاس فِي سفينته وَكَانَ يحب الْعلم كثيرا
فَإِذا عبر مَعَه قوم من دَار الْعلم والمدرس الَّذِي كَانَ يدرس الْعلم بِجَزِيرَة الْإسْكَنْدَريَّة يتحاورون مَا مضى لَهُم من النّظر ويتفاوضونه ويسمعه فتهش نَفسه للْعلم
فَلَمَّا قويت رويته فِي الْعلم فكر فِي أمره وَقَالَ قد بلغت نيفا وَأَرْبَعين سنة من الْعُمر وَمَا أرتضيت بِشَيْء وَمَا عرفت غير صناعَة الملاحة فيكف يمكنني أَن أتعرض إِلَى شَيْء من الْعُلُوم فَبَيْنَمَا هُوَ مفكر إِذْ رأى نملة قد حملت نواة تَمْرَة وَهِي تُرِيدُ أَن تصعد بهَا إِلَى علو وَكلما صعدت بهَا سَقَطت فَلم تزل تُجَاهِد نَفسهَا فِي طُلُوعهَا وَهِي فِي كل مرّة يزِيد ارتفاعها عَن الأولى فَلم تزل نَهَارهَا وَهُوَ ينظر إِلَيْهَا إِلَى أَن بلغت غرضها وأطلعتها إِلَى غايتها
فَلَمَّا رَآهَا يحيى النَّحْوِيّ قَالَ لنَفسِهِ إِذا كَانَ هَذَا الْحَيَوَان الضَّعِيف قد بلغ غَرَضه بالمجاهدة فَأَنا أولى أَن أبلغ غرضي بالمجاهدة
فَخرج من وقته وَبَاعَ سفينته ولازم دَار الْعلم وَبَدَأَ بِعلم النَّحْو واللغة والمنطق فبرع فِي هَذِه الْأُمُور وبرز وَلِأَنَّهُ أول مَا ابْتَدَأَ بالنحو فنسب إِلَيْهِ واشتهر بِهِ وَوضع كتبا كَثِيرَة مِنْهَا تفاسير وَغَيرهَا
وَوجدت فِي بعض تواريخ النَّصَارَى أَن يحيى النَّحْوِيّ كَانَ فِي الْمجمع الرَّابِع الَّذِي اجْتمع فِي مَدِينَة يُقَال لَهَا خلكدونية وَكَانَ فِي هَذَا الْمجمع سِتّمائَة وَثَلَاثُونَ أسقفا على أوتوشيوس وَهُوَ يحيى النَّحْوِيّ(1/152)
وَأَصْحَابه وأوتوشيوس تَفْسِيره بالعربي أَبُو سعيد
وَهَذَا أوتوشيوس كَانَ طَبِيبا حكيما وَأَنَّهُمْ لما أحرموه لم ينفوه كَمَا نفوا المحرومين
وَكَانَ ذَلِك لحاجتهم إِلَى طبه
وَترك فِي مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَلم يزل مُقيما بهَا حَتَّى مَاتَ مرقيان الْملك
وليحيى النَّحْوِيّ هَذَا لقب آخر بالرومي يُقَال لَهُ فيلوبينوس أَي الْمُجْتَهد وَهُوَ وَمن جملَة السَّبْعَة الْحُكَمَاء المصنفين للجوامع السِّتَّة عشر وَغَيرهَا فِي مَدِينَة الْإسْكَنْدَريَّة
وَله مصنفات كَثِيرَة فِي الطِّبّ وَغَيره وَترك فِي مَدِينَة الْقُسْطَنْطِينِيَّة لعلمه وفضله وطبه
وَقَامَ بعد مرقيان الْملك أسطيريوس الْملك فاعتل هَذَا الْملك عِلّة شَدِيدَة صعبة وَذَلِكَ من بعد سنتَيْن من حرم أوتوشيوس الْمَذْكُور
فَدخل على الْملك وعالجه وبرأ من علته فَقَالَ لَهُ الْملك سلني كل حَاجَة لَك فَقَالَ لَهُ أوتوشيوس حَاجَتي إِلَيْك يَا سَيِّدي أَن أَسْقُف ذورلية وَقع بيني وَبَينه شَرّ شَدِيد وبغى عَليّ وقوى عزم أفلابيانوس بطريرك الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَحمله على أَن جمع لي سوندس أَي مجمع وحرمني ظلما وعدوانا
فحاجتي إِلَيْك يَا سَيِّدي أَن تجمع لي جمعا ينظرُونَ فِي أَمْرِي فَقَالَ لَهُ الْملك أَنا أفعل لَك هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
فَأرْسل الْملك إِلَى ديسقوروس صَاحب الْإسْكَنْدَريَّة ويوانيس بطرك أنطاكية فَأَمرهمْ أَن يحضروا عِنْده فَحَضَرَ ديسقوروس وَمَعَهُ ثَلَاثَة عشر أسقفا وَأَبْطَأ صَاحب أنطاكية وَلم يحضر
وَأمر الْملك لديسقوروس أَن ينظر فِي أَمر أوتوشيوس وَأَن يحله من حرمه على أَي الْجِهَات كَانَ
وَقَالَ لَهُ متوعدا إِنَّك أَن حللته من حرمه بررتك بِكُل بر وأحسنت إِلَيْك غَايَة الْإِحْسَان وَإِن لم تفعل ذَلِك قتلتك قتلا رديئا
فَاخْتَارَ لنَفسِهِ الْبر على الْقَتْل
فَعمل لَهُ مَجْلِسا هُوَ وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة عشر أسقفا وَمن حضر مَعَه أَيْضا فحسنوا قصَّته وحلوه من حرمه
وَخرج أَسْقُف ذورالية وَأَصْحَابه وَانْصَرفُوا من الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَقد خالفوا رَأْي الْكَنِيسَة
وَبِهَذَا السَّبَب كَانَ تعصب ديسقوروس لأوتوشيوس الْمَذْكُور الْمَعْرُوف بِيَحْيَى النَّحْوِيّ وَمَات مُخَالفا لمَذْهَب الرّوم المعروفين بالملكية
وَمَات وَهُوَ يعقوبي مُخَالف للروم الْمَذْكُورين
كتب يحيى النَّحْوِيّ
وليحيى النَّحْوِيّ من الْكتب
تَفْسِير كتاب قاطيغورياس لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب أنالوطيقا الأولى لأرسطوطاليس فسر مِنْهَا إِلَى الأشكال الحملية
تَفْسِير كتاب أنالوطقيا الثَّانِيَة لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب طوبيقا لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب السماع الطبيعي لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب الْكَوْن وَالْفساد لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب مايال لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب الْفرق لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب الصِّنَاعَة الصَّغِير لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب النبض الصَّغِير لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب أغلوقن لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب الأسطقسات لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب المزاج لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب(1/153)
القوى الطبيعية لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب التشريع الصَّغِير لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب الْعِلَل والأعراض لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب تعرف علل الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب النبض الْكَبِير لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب الحميات لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب البحران لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير أَيَّام البحران لِجَالِينُوسَ
تفسر كتاب حلية الْبُرْء لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب تَدْبِير الأصحاء لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع كتاب الترياق لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع كتاب الفصد لِجَالِينُوسَ
كتاب الرَّد على برقلس ثَمَان عشرَة مقَالَة
كتاب فِي أَن كل جسم متناه فقوته متناهية
كتاب الرَّد على أرسطوطاليس سِتّ مقالات
مقَالَة يرد فِيهَا على نسطورس
كتاب يرد فِيهِ على قوم لَا يعْرفُونَ مقالتان
مقَالَة أُخْرَى يرد فِيهَا على قوم آخر
مقَالَة فِي النبض
نقضه للثمان عشرَة مَسْأَلَة لديد وخس برقلس الأفلاطوني شرح كتاب أيساغوجي لفرفوريوس
قَالَ أَبُو الْحسن عَليّ بن رضوَان فِي كتاب الْمَنَافِع فِي كَيْفيَّة تَعْلِيم صناعَة الطِّبّ وَإِنَّمَا اقْتصر الإسكندرانيون على الْكتب السِّتَّة عشر من سَائِر كتب جالينوس فِي التَّعْلِيم ليَكُون المشتغل بهَا إِن كَانَت لَهُ قريحة جَيِّدَة وهمة حَسَنَة وحرص على التَّعْلِيم فَإِنَّهُ إِذا نظر فِي هَذِه الْكتب اشتاقت نَفسه بِمَا يرى فِيهَا من عَجِيب حِكْمَة جالينوس فِي الطِّبّ إِلَى أَن ينظر فِي بَاقِي مَا يجد من كتبه
وَكَانَ ترتيبهم لهَذِهِ الْكتب فِي سبع مَرَاتِب
أما الْمرتبَة الأولى فَإِنَّهُم جعلوها بِمَنْزِلَة الْمدْخل إِلَى صناعَة الطِّبّ فَإِن من تحصل لَهُ هَذِه الْمرتبَة يُمكنهُ أَن يتعاطى أَعمال الطِّبّ الْجُزْئِيَّة فَإِن كَانَ مِمَّن لَهُ فرَاغ ودواع تَدعُوهُ إِلَى التَّعْلِيم والازدياد تعلم مَا بعْدهَا وَإِن لم يكن لَهُ ذَلِك لم يكد يخفي عَلَيْهِ مَنَافِعه فِي علاج للأمراض
وَجَمِيع مَا فِي هَذِه الْمرتبَة أَرْبَعَة كتب
أَولهَا كتاب الْفرق وَهُوَ مقَالَة وَاحِدَة يُسْتَفَاد مِنْهُ قوانين العلاج على رَأْي أَصْحَاب التجربة وقوانينه أَيْضا على رَأْي أَصْحَاب الْقيَاس إِذْ كَانَ بالتجربة وَالْقِيَاس يسْتَخْرج النَّاس جَمِيع مَا فِي الصَّنَائِع وَمَا اتفقَا عَلَيْهِ فَهُوَ الْحق وَمَا اخْتلفَا فِيهِ نظر فَإِن كَانَ طَرِيقه الْقيَاس عمل على قوانين الْقيَاس فِيهِ وَإِن كَانَ طَرِيقه التجربة عمل على قوانين التجربة فِيهِ
وَالثَّانِي كتاب الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة مقَالَة وَاحِدَة يُسْتَفَاد مِنْهَا جمل صناعَة الطِّبّ كلهَا النظري مِنْهَا والعملي
وَالثَّالِث كتاب النبض الصَّغِير وَهُوَ أَيْضا مقَالَة وَاحِدَة يُسْتَفَاد مِنْهُ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ المتعلم من الِاسْتِدْلَال بالنبض على مَا ينْتَفع بِهِ فِي الْأَمْرَاض
وَالرَّابِع الْكتاب الْمُسَمّى باغلوقن وَهُوَ مقالتان وَيُسْتَفَاد مِنْهُ كَيْفيَّة التأني فِي شِفَاء الْأَمْرَاض
وَلِأَن من يتعاطى الْأَعْمَال الْجُزْئِيَّة من الطِّبّ يضْطَر إِلَى معرفَة قوى مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الأغذية والأدوية وَإِلَى أَن يُبَاشر بِنَفسِهِ أَعمال الْيَد من صناعَة الطِّبّ لزمَه أَن ينظر فِيمَا تَدعُوهُ إِلَيْهِ الْحَاجة(1/154)
من الْكتب الَّتِي سَمَّاهَا جالينوس فِي آخر الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة أَو يتَعَلَّم مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من ذَلِك تلقينا ومشاهدة
فَصَارَت هَذِه الْأَرْبَعَة كتب الَّتِي فِي الْمرتبَة الأولى مقنعة للمتعلم فِي تَعْلِيم صناعَة الطِّبّ
فَأَما الْكَامِل فَإِنَّهُ يتَذَكَّر بهَا جَمِيع مَا فهمه من الصِّنَاعَة
فَأَما الْمرتبَة الثَّانِيَة فَأَنَّهَا أَيْضا أَرْبَعَة كتب
الأول مِنْهَا كتاب الأسطقسات وَهُوَ مقَالَة وَاحِدَة
يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن بدن الْإِنْسَان وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ سريع التَّغَيُّر قَابل للاستحالة فَمن ذَلِك أسطقسات الْبدن الْقَرِيبَة مِنْهُ وَهِي الْأَعْضَاء المتشابهة الْأَجْزَاء أَعنِي الْعِظَام والأعصاب والشرايين وَالْعُرُوق والأغشية وَاللَّحم والشحم وَغير ذَلِك وأسطقسات هَذِه الْأَعْضَاء الأخلاط أَعنِي الدَّم والصفراء والسوداء والبلغم واستقسات هَذِه الأخلاط النَّار والهواء وَالْمَاء وَالْأَرْض فَإِن مبدأ التكون من هَذِه الْأَرْبَعَة وَأخذ الانحلال إِلَيْهَا
وَإِن هَذِه الأسطقسات قَابِلَة للتغيير والاستحالة
وَهَذَا الْكتاب هُوَ أول كتاب يصلح أَن يبْدَأ بِهِ من أَرَادَ استكمال تَعْلِيم صناعَة الطِّبّ
وَالثَّانِي كتاب المزاج وَهُوَ ثَلَاث مقالات يُسْتَفَاد مِنْهُ معرفَة أَصْنَاف المزاج وَبِمَا يتقوم كل وَاحِد مِنْهَا وبماذا يسْتَدلّ عَلَيْهِ إِذا حدث
وَالثَّالِث كتاب القوى الطبيعية وَهُوَ أَيْضا ثَلَاث مقالات
يُسْتَفَاد مِنْهُ معرفَة القوى الَّتِي تدبر بهَا طبيعة الْبدن وأسبابها والعلامات الَّتِي يسْتَدلّ بهَا عَلَيْهَا
وَالرَّابِع كتاب التشريح الصَّغِير وَهُوَ خمس مقالات وَضعهَا جالينوس مُتَفَرِّقَة وَإِنَّمَا الإسكندرانيون جمعوها وجعلوها كتابا وَاحِدًا
يُسْتَفَاد مِنْهُ معرفَة أَعْضَاء الْبدن المتشابهة وعددها
وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِيهَا
وَهَذِه الْكتب الَّتِي فِي هَذِه الْمرتبَة الثَّانِيَة يُسْتَفَاد من جَمِيعهَا الْأُمُور الطبيعية للبدن أَعنِي الَّتِي قوامه بهَا
وَإِذا نظر فِيهَا محب التَّعْلِيم اشتاق أَيْضا إِلَى النّظر فِي كل مَا يتَعَلَّق بطبيعة الْبدن أما كتاب المزاج فيشوق إِلَى مقَالَته فِي خصب الْبدن ومقالته فِي الْهَيْئَة الفاضلة ومقالته فِي سوء المزاج الْمُخْتَلف وَكتابه فِي الْأَدْوِيَة المفردة وَنَحْو هَذَا
وَأما كتاب القوى الطبيعية فيشوق إِلَى كِتَابه فِي المنى وَكتابه فِي مَنَافِع الْأَعْضَاء وَسَائِر مَا وَضعه جالينوس فِي القوى والأرواح وَالْأَفْعَال
وَأما كتاب التشريح الصَّغِير فيشوق إِلَى كِتَابه فِي عمل التشريح وَنَحْوه
وَأما الْمرتبَة الثَّالِثَة فكتاب وَاحِد فَقَط فِيهِ سِتّ مقالات وَهُوَ كتاب الْعِلَل والأعراض وجالينوس وضع مقالات هَذَا الْكتاب مُتَفَرِّقَة وَإِنَّمَا الإسكندرانيون جمعوها وجعلوها فِي كتاب وَاحِد
يُسْتَفَاد مِنْهُ معرفَة الْأَمْرَاض وأسبابها والأعراض الْحَادِثَة عَن الْأَمْرَاض
وَهَذَا بَاب عَظِيم الْغناء فِي صناعَة الطِّبّ على رَأْي أَصْحَاب الْقيَاس
وَهُوَ أصل عَظِيم إِذا وقف الْإِنْسَان على مَا فِي هَذَا الْكتاب وفهمه لم يخف عَلَيْهِ شَيْء من صناعَة الطِّبّ(1/155)
وَأما الْمرتبَة الرَّابِعَة فكتابان أَحدهمَا
كتاب تعرف علل الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة سِتّ مقالات يُسْتَفَاد مِنْهُ تَعْرِيف كل عِلّة من الْعِلَل الَّتِي تحدث فِي الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة فَإِن هَذِه الْأَعْضَاء لَا تدْرك أمراضها بالعيان لِأَنَّهَا خُفْيَة عَن الْحس
فَيحْتَاج إِلَى أَن يسْتَدلّ عَلَيْهَا بعلامات تقوم كل وَاحِد مِنْهَا فَإِذا ظَهرت العلامات المقومة تَيَقّن أَن الْعُضْو الْفُلَانِيّ عِلّة كَذَا
مِثَاله ذَات الْجنب ورم حَار يحدث فِي الغشاء المستبطن للأضلاع
والعلامة الَّتِي تقومه ضيق النَّفس والوجع الناخس والحمى والسعال
فَإِن هَذِه إِذا اجْتمعت علم أَن فِي الغشاء المستبطن للأضلاع ورما حارا
وَلم يضع جالينوس كتابا فِي تعرف علل الْأَعْضَاء الظَّاهِرَة إِذا كَانَت هَذِه الْعِلَل تقع تَحت العيان فيكتفي فِي تعرفها نظرها بَين يَدي المعلمين عيَانًا فَقَط
وَالثَّانِي كتاب النبض الْكَبِير وَهُوَ يَنْقَسِم إِلَى أَرْبَعَة أَجزَاء كل جُزْء مِنْهُ أَربع مقالات
يُسْتَفَاد من الْجُزْء الأول مِنْهُ معرفَة أَصْنَاف النبض وجزئيات كل صنف مِنْهَا
وَمن الثَّانِي تَعْرِيف أَدْرَاك كل وَاحِد من أَصْنَاف النبض
وَمن الثَّالِث تَعْرِيف أَسبَاب النبض
وَمن الرَّابِع تَعْرِيف مَنَافِع أَصْنَاف النبض
وَهَذَا بَاب عَظِيم النَّفْع فِي الِاسْتِدْلَال على الْأَمْرَاض وَمَعْرِفَة قواها ونسبتها إِلَى قُوَّة الْبدن
وَأما الْمرتبَة الْخَامِسَة فَثَلَاثَة كتب
الأول مِنْهَا كتاب الحميات مقالتان
يُسْتَفَاد مِنْهُ معرفَة طبائع أَصْنَاف الحميات وَمَا يسْتَدلّ بِهِ على كل صنف مِنْهَا
وَالثَّانِي كتاب البحران ثَلَاث مقالات
يُسْتَفَاد مِنْهُ معرفَة أَوْقَات الْمَرَض ليعطي فِي كل وَقت مِنْهَا مَا يُوَافق فِيهِ وَمَعْرِفَة مَا يؤول إِلَيْهِ الْحَال فِي كل وَاحِد من الْأَمْرَاض
هَل يؤول أمره إِلَى السَّلامَة أم لَا وَكَيف يكون وبماذا يكون
وَالثَّالِث كتاب أَيَّام البحران وَهُوَ أَيْضا ثَلَاث مقالات
يُسْتَفَاد مِنْهُ معرفَة أَوْقَات البحران وَمَعْرِفَة الْأَيَّام الَّتِي يكون فِيهَا وَأَسْبَاب ذَلِك وعلاماته
وَأما الْمرتبَة السَّادِسَة فكتاب وَاحِد
وَهُوَ كتاب حِيلَة الْبُرْء أَربع عشرَة مقَالَة
يُسْتَفَاد مِنْهُ قوانين العلاج على رَأْي أَصْحَاب الْقيَاس فِي كل وَاحِد من الْأَمْرَاض
وَهَذَا الْكتاب إِذا نظر فِيهِ الْإِنْسَان اضطره إِلَى أَن ينظر فِي كتاب الْأَدْوِيَة المفردة وَفِي كتب جالينوس فِي الْأَدْوِيَة المركبة أَعنِي قاطاجانس والميامر وَكتاب المعجونات وَنَحْو هَذِه الْكتب
وَأما الْمرتبَة السَّابِعَة فكتاب وَاحِد
وَهُوَ كتاب تَدْبِير الأصحاء سِتّ مقالات
يُسْتَفَاد(1/156)
مِنْهُ حفظ صِحَة كل وَاحِد من الْأَبدَان وَهَذَا الْكتاب إِذا نظر فِيهِ الْإِنْسَان اضطره إِلَى أَن ينظر فِي كتاب الأغذية وَفِي كِتَابه فِي جودة الكيموس ورداءته وَفِي كِتَابه فِي التَّدْبِير الملطف وَفِي شَرَائِط الرياضة
مِثَال ذَلِك مَا فِي كتاب جالينوس فِي الرياضة بالكرة الصَّغِيرَة وَنَحْو هَذَا
فالكتب السِّتَّة عشر الَّتِي اقْتصر الإسكندرانيون على تعليمها تَدْعُو النَّاظر فِيهَا إِلَى النّظر فِي جَمِيع كتب جالينوس الَّتِي اسْتكْمل بهَا صناعَة الطِّبّ
مِثَال ذَلِك أَن النّظر فِي كتاب آلَة الشَّام يتَعَلَّق بِمَا فِي الْمرتبَة الثَّانِيَة
وَالنَّظَر فِي كِتَابه فِي علل التنفس يتَعَلَّق أَيْضا بِهَذِهِ الْمرتبَة
وَالنَّظَر فِي كِتَابه فِي سوء التنفس وَفِي كِتَابه فِي مَنْفَعَة التنفس وَكتابه فِي مَنْفَعَة النبض وَكتابه فِي حَرَكَة الصَّدْر والرئة وَكتابه فِي الصَّوْت وَكتابه فِي الحركات المعتاصة وَكتابه فِي أدوار الحميات وَكتابه فِي أَوْقَات الْأَمْرَاض وَغير ذَلِك من كتبه ومقالاته ورسائله
كل وَاحِد مِنْهَا لَهُ تعلق بِوَاحِدَة من الْمَرَاتِب السَّبع
أَو بِأَكْثَرَ من مرتبَة وَاحِدَة تَدْعُو الضَّرُورَة إِلَى النّظر فِيهِ
فَإِذا مَا فعله الإسكندرانيون فِي ذَلِك حِيلَة حَسَنَة فِي حث المشتغل بهَا على التبحر فِي صناعَة الطِّبّ وَأَن تُؤَدِّيه الْعِنَايَة وَالِاجْتِهَاد إِلَى النّظر فِي سَائِر كتب جالينوس
قَالَ أَبُو الْفرج ابْن هندو فِي كتاب مِفْتَاح الطِّبّ أَن هَذِه الْكتب الَّتِي اتخذها الإسكندرانيون من كتب جالينوس وَعمِلُوا لَهَا جَوَامِع وَزَعَمُوا أَنَّهَا تغني عَن متون كتب جالينوس وتكفي كلفة مَا فِيهَا من التوابع والفصول
قَالَ أَبُو الْخَيْر بن الْخمار وَهُوَ أستاذ أبي الْفرج بن هندو أَنا أَظن أَنهم قد قصروا فِيمَا جَمَعُوهُ من ذَلِك لأَنهم يعوزهم الْكَلَام فِي الأغذية والأهوية والأدوية
قَالَ وَالتَّرْتِيب أَيْضا قصروا فِيهِ لِأَن جالينوس بَدَأَ من الشتريح ثمَّ صَار إِلَى القوى وَالْأَفْعَال ثمَّ إِلَى الأسطقسات
قَالَ أَبُو الْفرج وَأَنا أرى أَن الإسكندرانيين إِنَّمَا اقتصروا على الْكتب السِّتَّة عشر لَا من حَيْثُ هِيَ كَافِيَة فِي الطِّبّ وحاوية للغرض بل من حَيْثُ افْتَقَرت إِلَى الْمعلم واحتاجت إِلَى الْمُفَسّر
وَلم يُمكن أَن يقف المتعلم على أسرارها والمعاني الغامضة فِيهَا من غير مذاكرة ومطارحة وَمن دون مُرَاجعَة ومفاوضة
فَأَما الْكتب الَّتِي ذكرهَا الْأُسْتَاذ أَبُو الْخَيْر بن الْخمار فالطبيب مُضْطَر إِلَى مَعْرفَتهَا وإضافتها إِلَى الْكتب الَّتِي عددناها
غير أَنه يُمكنهُ من نَفسه الْوُقُوف على مَعَانِيهَا واستنباط الْأَغْرَاض مِنْهَا بِالْقُوَّةِ المستفادة من السِّتَّة عشر الَّتِي هِيَ القوانين لما سواهَا والمراقي إِلَى مَا عَداهَا
فَإِن قلت فَمَا حجَّة الإسكندرانيين فِي ترتيبهم لهَذِهِ الْكتب قُلْنَا إِنَّهُم رتبوا بَعْضهَا بِحَسب اسْتِحْقَاقه فِي نَفسه بِمَنْزِلَة(1/157)
كتاب الْفرق فَإِنَّهُ وَجب تَقْدِيمه لتتنقى بِهِ نفس المتعلم من شكوك أَصْحَاب التجربة والمحتالين ومغالطاتهم ويتحقق رَأْي أَصْحَاب الْقيَاس فيقتدي بهم
وبمنزلة الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة فَإِنَّهَا لما كَانَت فِيهَا شرارة من صناعَة الطِّبّ كَانَ الأولى أَن يتبع بهَا كتاب الْفرق وَيجْعَل مدخلًا إِلَى الطِّبّ
ورتبوا بَعْضهَا بِحَسب مَا توجبه إِضَافَته إِلَى غَيره بِمَنْزِلَة الْكتاب الصَّغِير فِي النبض فَإِنَّهُ جعل تَابعا للصناعة الصَّغِيرَة لِأَن جالينوس ذكر فِيهَا النبض عِنْد ذكره لمزاج الْقلب
وَوَجَب أَيْضا تَقْدِيمه على كتاب جالينوس إِلَى أغلوقن لِأَنَّهُ تكلم فِي هَذَا الْكتاب فِي الحميات والنبض وَهُوَ أول شَيْء يعرف مِنْهُ أَمر الحميات
على أَن التَّرْتِيب الَّذِي ذكره الْأُسْتَاذ أَبُو الْخَيْر أَن جالينوس أَشَارَ إِلَيْهِ هُوَ لعمري التَّرْتِيب الصناعي وَذَلِكَ أَنه يجب على كل ذِي صناعَة أَن يتدرج فِي تعليمها من الْأَظْهر إِلَى الأخفى وَمن الْأَخير إِلَى المبدأ
والتشريح هُوَ علم الْبدن وأعضائه وَهَذِه هِيَ أول مَا يظْهر لنا من الْإِنْسَان وَإِن آخر مَا تَفْعَلهُ الطبيعة
فَإِن الطبيعة تَأْخُذ أَولا الأسطقسات ثمَّ تمزجها فَيحصل مِنْهَا الأخلاط ثمَّ تفعل القوى والأعضاء
فَيجب أَن يكون طريقنا فِي التَّعْلِيم بِالْعَكْسِ من طَرِيق الطبيعة فِي التكوين
وَلَكنَّا نَدع هَذَا الِاضْطِرَار وَنرْضى تَرْتِيب الإسكندرانيين لِأَن الْعلم حَاصِل على كل حَال وخرق إِجْمَاع الْحُكَمَاء مَعْدُود من الْخرق
أَقُول وللإسكندرانيين أَيْضا جَوَامِع كَثِيرَة فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة والطب وَلَا سِيمَا لكتب جالينوس وشروحاتها لكتب أبقراط
فَأَما الْأَطِبَّاء المذكورون من النَّصَارَى وَغَيرهم مِمَّن كَانَ معاصرا هَؤُلَاءِ الْأَطِبَّاء الإسكندرانيين وقريبا من أزمنتهم فَمنهمْ
شَمْعُون الراهب الْمَعْرُوف بطيبويه
وأهرن القس صَاحب الكناش وَألف كناشه بالسُّرْيَانيَّة وَنَقله مَا سرجيس إِلَى الْعَرَبِيّ وَهُوَ ثَلَاثُونَ مقَالَة
وَزَاد ماسرجيس مقالتين
ويوحنا بن سرابيون وَجَمِيع مَا ألف سرياني
وَكَانَ وَالِده سرابيون طَبِيبا من أهل باجرمي
وَخرج ولداه طبيبين فاضلين وهما يوحنا وداوود وليوحنا بن سرابيون من الْكتب كناشه الْكَبِير اثْنَتَا عشرَة مقَالَة
كناشه الصَّغِير وَهُوَ الْمَشْهُور سبع مقالات
وَنَقله الحديثي الْكَاتِب لأبي الْحسن بن نَفِيس المتطبب فِي سنة ثَمَان عشرَة وثلاثمائة وَهُوَ أحسن عبارَة من نقل الْحسن بن البهلول الْأَوَانِي الطبرهاني وَنَقله أَيْضا أَبُو الْبشر مَتى(1/158)
وَمِنْهُم أنطيلس وبرطلاوس وسندهشار والقهلمان وَأَبُو جريج الراهب وأوراس وبوينوس الْبَيْرُوتِي وسيورخنا وفلاغوسوس وَعِيسَى بن قسطنطين ويكنى أَبَا مُوسَى وَكَانَ من جملَة أفاضل الْأَطِبَّاء
وَله من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة كتاب فِي البواسير وعللها وعلاجها وأرس وسرجس الرَّأْس عَيْني وَهُوَ أول من نقل كتب اليونانيين على مَا قيل إِلَى لُغَة السريانيين وَكَانَ فَاضلا وَله مصنفات كَثِيرَة فِي الطِّبّ والفلسفة وأطنوس الْآمِدِيّ صَاحب الكناش الْمَعْرُوف ببقوقونا وغريغوريوس صَاحب الكناش
وَأكْثر كتب هَؤُلَاءِ مَوْجُودَة وَقد نقل الرَّازِيّ كثيرا من كَلَامهم فِي كناشه الْكَبِير الْجَامِع الْمَعْرُوف بالحاوي(1/159)
الْبَاب السَّابِع
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا فِي أول ظُهُور الْإِسْلَام من أطباء الْعَرَب وَغَيرهم
الْحَرْث بن كلدة الثَّقَفِيّ كَانَ من الطَّائِف وسافر فِي الْبِلَاد وَتعلم الطِّبّ بِنَاحِيَة فَارس وتمرن هُنَاكَ وَعرف الدَّاء والدواء
وَكَانَ يضْرب بِالْعودِ تعلم ذَلِك أَيْضا بِفَارِس واليمن
وَبَقِي أَيَّام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَيَّام أبي بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي بن أبي طَالب وَمُعَاوِيَة رَضِي الله عَنْهُم
وَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة مَا الطِّبّ يَا حَارِث فَقَالَ الأزم يَعْنِي الْجُوع
ذكر ذَلِك ابْن جلجل
وَقَالَ الْجَوْهَرِي فِي كتاب الصِّحَاح الأزم الْمسك يُقَال أزم الرجل عَن الشَّيْء أمسك عَنهُ
وَقَالَ أَبُو زيد الأزم الَّذِي ضم شَفَتَيْه
وَفِي الحَدِيث أَن عمر رَضِي الله عَنهُ سَأَلَ الْحَرْث بن كلدة مَا الدَّوَاء فَقَالَ الأزم
يَعْنِي الحمية
قَالَ وَكَانَ طَبِيب الْعَرَب
ويروى عَن سعد بن أبي وَقاص رَضِي الله عَنهُ أَنه مرض بِمَكَّة مَرضا فعاده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ أدعوا لَهُ الْحَرْث بن كلدة فَإِنَّهُ رجل يتطبب
فَلَمَّا عَاده الْحَرْث نظر إِلَيْهِ وَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهِ بَأْس اتَّخذُوا لَهُ فريقة بِشَيْء من تمر عَجْوَة وحلبة يطبخان فتحساها فبرئ(1/161)
وَكَانَت للحرث معالجات كَثِيرَة وَمَعْرِفَة بِمَا كَانَت الْعَرَب تعتاده وتحتاج إِلَيْهِ من المداواة
وَله كَلَام مستحسن فِيمَا يتَعَلَّق بالطب وَغَيره
كَلَام الْحَارِث مَعَ كسْرَى
من ذَلِك أَنه لما وَفد على كسْرَى أنو شرْوَان أذن لَهُ بِالدُّخُولِ عَلَيْهِ
فَلَمَّا وقف بَين يَدَيْهِ منتصبا قَالَ لَهُ من أَنْت قَالَ أَنا الْحَرْث بن كلدة الثَّقَفِيّ
قَالَ فَمَا صناعتك قَالَ الطِّبّ
قَالَ أعربي أَنْت قَالَ نعم من صميمها وجبوحة دارها قَالَ فَمَا تصنع الْعَرَب بطبيب مَعَ جهلها وَضعف عقولها وَسُوء أغذيتها قَالَ أَيهَا الْملك إِذا كَانَت هَذِه صفتهَا كَانَت أحْوج إِلَى من يصلح جهلها وَيُقِيم عوجها ويسوس أبدانها ويعدل أمشاجها
فَإِن الْعَاقِل يعرف ذَلِك من نَفسه
ويميز مَوضِع دائه ويحتزر عَن الأدواء كلهَا بِحسن سياسته لنَفسِهِ
قَالَ كسْرَى فَكيف تعرف مَا تورده عَلَيْهَا وَلَو عرفت الْحلم لم تنْسب إِلَى الْجَهْل قَالَ الطِّفْل يناغي فيداوى والحية ترقى فتحاوى
ثمَّ قَالَ أَيهَا الْملك الْعقل من قسم الله تَعَالَى قسمه بَين عباده كقسمة الرزق فيهم
فَكل من قسمته أصَاب وَخص بهَا قوم وَزَاد فَمنهمْ مثر ومعدم وجاهل وعالم وعاجز وحازم وَذَلِكَ تَقْدِير الْعَزِيز الْعَلِيم
فأعجب كسْرَى من كَلَامه ثمَّ قَالَ فَمَا الَّذِي تحمد من أخلاقها ويعجبك من مذاهبها وسجاياها قَالَ الْحَرْث أَيهَا الْملك لَهَا أنفس سخية وَقُلُوب جرية ولغة فصيحة وألسن بليغة وأنساب صَحِيحَة وأحساب شريفة يَمْرُق من أَفْوَاههم الْكَلَام مروق السهْم من نبعة الرام أعذب من هَوَاء الرّبيع وألين من سلسبيل الْمعِين مطعمو الطَّعَام فِي الجدب وضاربو الْهَام فِي الْحَرْب
لَا يرام عزهم وَلَا يضام جارهم وَلَا يستباح حريمهم وَلَا يذل أكْرمهم وَلَا يقرونَ بِفضل للأنام إِلَّا للْملك الْهمام الَّذِي لَا يُقَاس بِهِ أحد وَلَا يوازيه سوقة وَلَا ملك
فَاسْتَوَى كسْرَى جَالِسا وَجرى مَاء رياضة الْحلم فِي وَجهه لما سمع من مُحكم كَلَامه
وَقَالَ لجلسائه إِنِّي وجدته راجحا ولقومه مادحا وبفضيلتهم ناطقا وَبِمَا يُورِدهُ من لَفظه صَادِقا
وَكَذَا(1/162)
الْعَاقِل من أحكمته التجارب
ثمَّ أمره بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ فَقَالَ كَيفَ بَصرك بالطب قَالَ ناهيك قَالَ فَمَا أصل الطِّبّ قَالَ الأزم
قَالَ فَمَا الأزم قَالَ ضبط الشفتين والرفق باليدين قَالَ أصبت وَقَالَ فَمَا الدَّاء الدوي قَالَ إِدْخَال الطَّعَام على الطَّعَام هُوَ الَّذِي يفني الْبَريَّة وَيهْلك السبَاع فِي جَوف الْبَريَّة
قَالَ أصبت وَقَالَ فَمَا الْجَمْرَة الَّتِي تصطلم مِنْهَا الأدواء قَالَ هِيَ التُّخمَة إِن بقيت فِي الْجوف قتلت وَإِن تحللت أسقمت
قَالَ صدقت
وَقَالَ فَمَا تَقول فِي الْحجامَة قَالَ فِي نُقْصَان الْهلَال فِي يَوْم صحو لَا غيم فِيهِ وَالنَّفس طيبَة وَالْعُرُوق سَاكِنة لسرور يفاجئك وهم يباعدك
قَالَ فَمَا تَقول فِي دُخُول الْحمام قَالَ لَا تدخله شبعانا وَلَا تغش أهلك سكرانا وَلَا تقم بِاللَّيْلِ عُريَانا وَلَا تقعد على الطَّعَام غضبانا وارفق بِنَفْسِك يكن أرْخى لبالك وقلل من طَعَامك يكن أهنأ لنومك
قَالَ فَمَا تَقول فِي الدَّوَاء قَالَ مَا لزمتك الصِّحَّة فاجتنبه فَإِن هاج دَاء فاحسمه بِمَا يردعه قبل استحكامه فَإِن الْبدن بِمَنْزِلَة الأَرْض إِن أصلحتها عمرت وَإِن تركتهَا خربَتْ
قَالَ فَمَا تَقول فِي الشَّرَاب قَالَ أطيبه أهنأه وأرقه امرأه وأعذبه إشهاده
لَا تشربه صرفا فيورثك صداعا وتثير عَلَيْك من الأدواء أنواعا
قَالَ فَأَي اللحمان أفضل قَالَ الضَّأْن الفتي
والقديد المالح مهلك للآكل
واجتنب لحم الْجَزُور وَالْبَقر
قَالَ فَمَا تَقول فِي الْفَوَاكِه قَالَ كلهَا فِي إقبالها وَحين أوانها واتركها إِذا أَدْبَرت وَوَلَّتْ وانقضى زمانها
وَأفضل الْفَوَاكِه الرُّمَّان والأترج وَأفضل الرياحين الْورْد والبنفسج وَأفضل الْبُقُول الهندباء والخس
قَالَ فَمَا تَقول فِي شرب المَاء قَالَ هُوَ حَيَاة الْبدن وَبِه قوامه ينفع مَا شرب مِنْهُ بِقدر وشربه بعد النّوم ضَرَر
أفضله امرأه وأرقه أصفاه
وَمن عِظَام أَنهَار الْبَارِد الزلَال لم يخْتَلط بِمَاء الآجام والآكام ينزل من صرادح المسطان ويتسلل عَن الرضراض وَعِظَام الْحَصَى فِي الإيفاع
قَالَ فَمَا طعمه قَالَ لَا يُوهم لَهُ طعم إِلَّا أَنه مُشْتَقّ من الْحَيَاة(1/163)
قَالَ فَمَا لَونه قَالَ اشْتبهَ على الْأَبْصَار لَونه لِأَنَّهُ يَحْكِي لون كل شَيْء يكون فِيهِ
قَالَ أَخْبرنِي عَن أصل الْإِنْسَان مَا هُوَ قَالَ أَصله من حَيْثُ شرب المَاء يَعْنِي رَأسه
قَالَ فَمَا هَذَا النُّور فِي الْعَينَيْنِ مركب من ثَلَاثَة أَشْيَاء فالبياض شَحم والسواد مَاء والناظر ريح
قَالَ فعلى كم جبل وطبع هَذَا الْبدن قَالَ على أَربع طبائع الْمرة السَّوْدَاء وَهِي بَارِدَة يابسة والمرة الصَّفْرَاء وَهِي حارة يابسة وَالدَّم وَهُوَ حَار رطب والبلغم وَهُوَ بَارِد رطب
قَالَ فَلم لم يكن من طبع وَاحِد قَالَ لَو خلق من طبع وَاحِد لم يَأْكُل وَلم يشرب وَلم يمرض وَلم يهْلك
قَالَ فَمن طبيعتين لَو كَانَ اقْتصر عَلَيْهِمَا قَالَ لم يجز لِأَنَّهُمَا ضدان يقتتلان
قَالَ فَمن ثَلَاث قَالَ لم يصلح موافقان ومخالف
فالأربع هُوَ الِاعْتِدَال وَالْقِيَام
قَالَ فأجمل لي الْحَار والبارد فِي أحرف جَامِعَة قَالَ كل حُلْو حَار وكل حامض بَارِد وكل حريف حَار وكل مر معتدل وَفِي المر حَار وبارد
قَالَ فَاضل مَا عولج بِهِ الْمرة الصَّفْرَاء قَالَ كل بَارِد لين قَالَ فالمرة السَّوْدَاء قَالَ لين قَالَ والبلغم قَالَ كل حَار يَابِس قَالَ وَالدَّم قَالَ إِخْرَاجه إِذا زَاد وتطفئته إِذا سخن بالأشياء الْبَارِدَة الْيَابِسَة قَالَ فالرياح قَالَ بالحقن اللينة والأدهان الحارة اللينة
قَالَ افتأمر بالحقنة قَالَ نعم قَرَأت فِي بعض كتب الْحُكَمَاء أَن الحقنة تنقي الْجوف وتكسح الأدواء عَنهُ وَالْعجب لمن احتقن كَيفَ يهرم أَو يعْدم الْوَلَد
وَأَن الْجَهْل كل الْجَهْل من أكل مَا قد عرف مضرته ويؤثر شَهْوَته على رَاحَة بدنه
قَالَ فَمَا الحمية قَالَ الاقتصاد فِي كل شَيْء فَإِن الْأكل فَوق الْمِقْدَار يضيق على الرّوح ساحتها ويسد مسامها
قَالَ فَمَا تَقول فِي النِّسَاء وإتيانهن قَالَ كَثْرَة غشيانهن رَدِيء وَإِيَّاك وإتيان الْمَرْأَة المسنة فَإِنَّهَا كالشن الْبَالِي تجذب قوتك وتسقم بدنك مَاؤُهَا سم قَاتل ونفسها موت عَاجل تَأْخُذ مِنْك الْكل وَلَا تعطيك الْبَعْض
والشابة مَاؤُهَا عذب زلال وعناقها غنج ودلال فوها بَارِد وريقها عذب رِيحهَا طيب وهنها ضيق
تزيدك قُوَّة إِلَى قوتك ونشاطا إِلَى نشاطك
قَالَ فأيهن الْقلب إِلَيْهَا أميل وَالْعين برؤيتها أسر قَالَ إِذا أصبتها المديدة الْقَامَة الْعَظِيمَة الهامة وَاسِعَة الجبين أقناة الْعرنِين كحلاء لعساء صَافِيَة الخد عريضة الصَّدْر مليحة النَّحْر
فِي خدها رقة وَفِي شفتيها لعس
مقرونة الحاجبين ناهدة الثديين لَطِيفَة الخصر والقدمين بَيْضَاء(1/164)
فرغاء جعدة غضة بضة
تخالها فِي الظلمَة بَدْرًا زاهرا تَبَسم عَن أقحوان وَعَن مبسم كالأرجوان كَأَنَّهَا بَيْضَة مكنونة أَلين من الزّبد وَأحلى من الشهد وأنزه من الفردوس والخلد وأزكى ريحًا من الياسمين والورد تفرح بقربها وتسرك الْخلْوَة مَعهَا
قَالَ فاستضحك كسْرَى حَتَّى اختلجت كتفاه وَقَالَ فَفِي أَي الْأَوْقَات إتيانهن أفضل قَالَ عِنْد إدبار اللَّيْل يكون الْجوف أخلى وَالنَّفس أهْدى وَالْقلب أشهى وَالرحم أدفى
فَإِن أردْت الِاسْتِمْتَاع بهَا نَهَارا تسرح عَيْنك فِي جمال وَجههَا ويجتني فوك من ثَمَرَات حسنها ويعي سَمعك من حلاوة لَفظهَا وتسكن الْجَوَارِح كلهَا إِلَيْهَا
قَالَ كسْرَى لله دَرك من إعرابي
لقد أَعْطَيْت علما وخصصت فطنة وفهما
وَأحسن صلته وَأمر بتدوين مَا نطق بِهِ
وَقَالَ الواثق بِاللَّه فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالبستان أَن الْحَرْث بن كلدة مر بِقوم وهم فِي الشَّمْس فَقَالَ عَلَيْكُم بالظل فَإِن الشَّمْس تنهج الثَّوْب وتنقل الرّيح وتشحب اللَّوْن وتهيج الدَّاء الدفين
وَمن كَلَام الْحَرْث البطنة بَيت الدَّاء وَالْحمية رَأس الدَّوَاء وعودوا كل بدن مَا اعْتَادَ
وَقيل هُوَ من كَلَام عبد الْملك بن أبجر
وَقد نسب قوم هَذَا الْكَلَام إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأوله الْمعدة بَيت الدَّاء وَهُوَ أبلغ من لفظ البطنة
وَرُوِيَ عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ من أَرَادَ الْبَقَاء وَلَا بَقَاء فليجود الْغذَاء وليأكل على نقاء وليشرب على ظمأ وَليقل من شرب المَاء ويتمدد بعد الْغَدَاء ويتمشى بعد الْعشَاء
وَلَا يبيت حَتَّى يعرض نَفسه على الْخَلَاء
وَدخُول الْحمام على البطنة من شَرّ الدَّاء ودخلة إِلَى الْحمام فِي الصَّيف خير من عشر فِي الشتَاء
وَأكل القديد الْيَابِس فِي اللَّيْل معِين على الفناء ومجامعة الْعَجُوز تهدم أَعمار الْأَحْيَاء
وَرُوِيَ بعض هَذِه الْكَلِمَات عَن الْحَرْث بن كلدة وفيهَا من سره النِّسَاء وَلَا نسَاء فليكر الْعشَاء وليباكر الْغَدَاء وليخفف الرِّدَاء وَليقل غشيان النِّسَاء
وَمعنى فليكر يُؤَخر وَالْمرَاد بالرداء الدّين وَسمي الدّين رِدَاء لقَولهم هُوَ فِي عنقِي وَفِي ذِمَّتِي فَلَمَّا كَانَت الْعُنُق مَوضِع الرِّدَاء سمي الدّين رِدَاء
وَقد رُوِيَ من طَرِيق آخر وَفِيه
وتعجيل الْعشَاء وَهُوَ أصح
وروى أَبُو عوَانَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ قَالَ الْحَرْث بن كلدة من سره الْبَقَاء وَلَا بَقَاء فليباكر الْغَدَاء وليعجل الْعشَاء وليخفف الرِّدَاء وَليقل الْجِمَاع
وروى حَرْب بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ قَالَ الْحَرْث بن كلدة أَرْبَعَة أَشْيَاء تهدم الْبدن الغشيان على البطنة وَدخُول الْحمام على الامتلاء وَأكل القديد ومجامعة الْعَجُوز(1/165)
وروى دَاوُد بن رشيد عَن عَمْرو بن عَوْف قَالَ لما احْتضرَ الْحَرْث بن كلدة اجْتمع إِلَيْهِ النَّاس فَقَالُوا مرنا بِأَمْر ننتهي إِلَيْهِ من بعْدك
فَقَالَ لَا تتزوجوا من النِّسَاء إِلَّا شَابة وَلَا تَأْكُلُوا الْفَاكِهَة إِلَّا فِي أَوَان نضجها وَلَا يتعالجن أحد مِنْكُم مَا احْتمل بدنه الدَّاء
وَعَلَيْكُم بالنورة فِي كل شهر فَإِنَّهَا مذيبة للبلغم مهلكة للمزة منبتة للحم
وَإِذا تغدى أحدكُم فلينم على إِثْر غدائه وَإِذا تعشى فليخط أَرْبَعِينَ خطْوَة
وَمن كَلَام الْحَرْث أَيْضا قَالَ دَافع بالدواء مَا وجدت مدفعا وَلَا تشربه إِلَّا من ضَرُورَة فَإِنَّهُ لَا يصلح شَيْئا إِلَّا أفسد مثله
وَقَالَ سُلَيْمَان بن جلجل أخبرنَا الْحسن بن الْحُسَيْن قَالَ أخبرنَا سعيد بن الْأمَوِي قَالَ أخبرنَا عمي مُحَمَّد بن سعيد عَن عبد الْملك بن عُمَيْر قَالَ كَانَ أَخَوان من ثَقِيف من بني كنه يتحابان لم ير قطّ أحسن ألفة مِنْهُمَا
فَخرج الْأَكْبَر إِلَى سفر فأوصى الْأَصْغَر بامرأته فَوَقَعت عينه عَلَيْهَا يَوْمًا غير مُعْتَمد لذَلِك فهويها وضني
وَقدم أَخُوهُ فَجَاءَهُ بالأطباء فَلم يعرفوا مَا بِهِ إِلَى أَن جَاءَهُ بالحرث بن كلدة فَقَالَ أرى عينين محتجبتين وَمَا أَدْرِي مَا هَذَا الوجع وسأجرب فاسقوه نبيذا فَلَمَّا عمل النَّبِيذ فِيهِ قَالَ
(أَلا رفقا أَلا رفقا ... قَلِيلا مَا أكوننه)
(ألما بِي إِلَى الأبيات ... بالخيف أزرهنه)
(غزالا مَا رَأَيْت الْيَوْم ... فِي دور بني كنه)
(أسيل الخد مربوب ... وَفِي منْطقَة غنه) الهزج
فَقَالُوا لَهُ أَنْت أطب الْعَرَب
ثمَّ قَالَ رددوا النَّبِيذ عَلَيْهِ
فَلَمَّا عمل فِيهِ قَالَ
(أَيهَا الجيرة أَسْلمُوا ... وقفُوا كي تكلمُوا)
(وتقضوا لبانة ... وتحبوا وتنعموا)
(خرجت مزنة من ... الْبَحْر ريا تحمحم)
(هِيَ ماكنتي وتزعم ... أَنِّي لَهَا حم)(1/166)
قَالَ فَطلقهَا أَخُوهُ ثمَّ قَالَ تزوج بهَا يَا أخي
فَقَالَ وَالله لَا تَزَوَّجتهَا
فَمَاتَ وَمَا تزَوجهَا
وللحرث بن كلدة الثَّقَفِيّ من الْكتب كتاب المحاورة فِي الطِّبّ بَينه وَبَين كسْرَى أنوشروان
النَّضر بن الْحَرْث بن كلدة الثَّقَفِيّ
هُوَ ابْن خَالَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ النَّضر قد سَافر الْبِلَاد أَيْضا كأبيه
وَاجْتمعَ مَعَ الأفاضل وَالْعُلَمَاء بِمَكَّة وَغَيرهَا وعاشر الْأَحْبَار والكهنة
واشتغل وَحصل من الْعُلُوم الْقَدِيمَة أَشْيَاء جليلة الْقدر وأطلع على عُلُوم الفلسفة وأجزاء الْحِكْمَة وَتعلم من أَبِيه أَيْضا مَا كَانَ يُعلمهُ من الطِّبّ وَغَيره
وَكَانَ النَّضر يؤاتي أَبَا سُفْيَان فِي عَدَاوَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لكَونه كَانَ ثقفيا كَمَا قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (قُرَيْش وَالْأَنْصَار حليفان وَبَنُو أُميَّة وَثَقِيف حليفان)
وَكَانَ النَّضر كثير الْأَذَى والحسد للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَيتَكَلَّم فِيهِ بأَشْيَاء كَثِيرَة كَيْمَا يحط من قدره عِنْد أهل مَكَّة وَيبْطل مَا أَتَى بِهِ بِزَعْمِهِ
وَلم يعلم بشقاوته أَن النُّبُوَّة أعظم والسعادة أقدر والعناية الإلهية أجل والأمور الْمقدرَة أثبت
وَإِنَّمَا النَّضر اعْتقد أَن بمعلوماته وفضائله وحكمته يُقَاوم النُّبُوَّة وَأَيْنَ الثرى من الثريا والحضيض من الأوج والشقي من السعيد
وَمَا أحسن مَا وجدت حِكَايَة ذكرهَا أفلاطون فِي كتاب النواميس فِي أَن النَّبِي وَمَا يَأْتِي بِهِ لَا يصل إِلَيْهِ الْحَكِيم بِحِكْمَتِهِ وَلَا الْعَالم بِعِلْمِهِ
قَالَ أفلاطون وَقد كَانَ مارينون ملك اليونانيين الَّذِي يذكرهُ أوميرس الشَّاعِر باسمه وجبروته وَمَا تهَيَّأ لليونانيين فِي سُلْطَانه رمي بشدائد فِي زَمَانه وخوارج فِي سُلْطَانه فَفَزعَ إِلَى فلاسفة عصره
فتأملوا مصَادر أُمُوره ومواردها وَقَالُوا لَهُ قد تأملنا أَمرك فَلم نجد فِيهِ من جهتك شَيْئا يَدْعُو إِلَى مَا لحقك وَإِنَّمَا يعلم الفيلسوف الإفراطات وَسُوء النظام الواقعين فِي الْجُزْء
فَأَما مَا خرج عَنهُ فَلَيْسَ تبحث عَنهُ الفلسفة وَإِنَّمَا يُوقف عَلَيْهِ من جِهَة النُّبُوَّة
وأشاروا عَلَيْهِ أَن يطْلب نَبِي عصره ليجتمع لَهُ مَعَ علمهمْ مَا يُنبئ بِهِ وَقَالُوا إِنَّه لَا يسكن فِي الْبلدَانِ العامرة وَإِنَّمَا يكون بَين أقاصي المقفرة بَين فُقَرَاء ذَلِك الْعَصْر فَسَأَلَهُمْ مَا يجب أَن يكون عَلَيْهِ رسله إِلَيْهِ وَمَا يكوت دَلِيلا لَهُم عَلَيْهِ فَقَالُوا أجعَل رسلك إِلَيْهِ من لانت سجيته وَظَهَرت قناعته وصدقت لهجته وَكَانَ رُجُوعه إِلَى الْحق أحب من ظفره بِهِ فَإِن بَين من استولى عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْف وَبَينه وصلَة تدلهم عَلَيْهِ
وَتقدم إِلَيْهِم فِي الْمَسْأَلَة عَنهُ عِنْد مسْقط رَأسه ومنشئه وَسيرَته فِي هَذِه الْمَوَاضِع فَإنَّك تَجدهُ زاهدا فِي النَّعيم رَاغِبًا فِي الصدْق مؤثرا للخلوة بَعيدا من الْحِيلَة غير حظي من الْمُلُوك
ينسبونه إِلَى تجَاوز حَده وَالْخُرُوج عَمَّا جرى عَلَيْهِ أهل طبقته
تتأمل فِيهِ الْخَوْف وتخال فِيهِ الْغَفْلَة
إِذا تكلم فِي الْأَمر توهمت أَنه عَالم بأصوله وَلَيْسَ يعرف مَا يترقى إِلَيْهِ بِهِ(1/167)
وَإِذا سُئِلَ عَمَّا يصدر عَنهُ ذكر أَنه يلقى على لِسَانه وَفِي خاطره فِي الْيَقَظَة وَبَين النّوم واليقظة مَا لم ير فِيهِ
وَإِذا سُئِلَ عَن شَيْء رَأَيْته كَأَنَّهُ يَقْتَضِي الْجَواب من غَيره وَلَا يفكر فِيهِ تفكير الْقَادِر عَلَيْهِ والمستنبط لَهُ
وَإِذا وجدوه فسيجمع لَهُم إِلَى مَا تقرر من وَصفه أَعَاجِيب تظهر على لِسَانه وَيَده
فَجمع سَبْعَة نفر وأضاف إِلَيْهِم أمثل من وجد من الفلاسفة فَخَرجُوا يلتمسونه
فوجدوه على مَسَافَة خَمْسَة أَيَّام من مُسْتَقر مارينوس فِي قَرْيَة قد خرج أَكثر أَهلهَا عَنْهَا وَسَكنُوا قَرِيبا من مَدِينَة مارينوس لما آثروه من لين جواره وَكَثْرَة الِانْتِفَاع بِهِ
وَلم يبْق فِيهَا إِلَّا نفر من الزهاد قد قعدوا عَن الِاكْتِسَاب ومشايخ وزمنى خَلفهم الْجهد
وَهُوَ بَينهم فِي منزل شعث وحول الْمنزل جمَاعَة من هَؤُلَاءِ الْقَوْم قد شغفهم جواره وألهاهم عَن الحظوظ الَّتِي وصل إِلَيْهَا غَيرهم
فَتَلقاهُمْ أهل الْقرْيَة بالترحيب
وسألوهم عَن سَبَب دُخُولهمْ قريتهم الشعثة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يحبس أمثالهم عَلَيْهِ فَقَالُوا رغبنا فِي لِقَاء هَذَا الرجل ومشاركتكم فِي فَوَائده
وسألوهم عَن وَقت خلوته فَقَالُوا مَا لَهُ شَيْء يشْغلهُ عَنْكُم
فدخلو إِلَيْهِ فوجدوه مختبيا بَين جمَاعَة قد غضوا أَبْصَارهم من هيبته
فَلَمَّا رَآهُ السَّبْعَة نفر سبقتهم الْعبْرَة وغمرتهم الهيبة وَمَعَهُمْ الفيلسوف مُمْسك لنَفسِهِ ومتهم لحسه يُرِيد أَن يستبرئ أمره
فَسَلمُوا عَلَيْهِ فَرد عَلَيْهِم السَّلَام ردا ضَعِيفا وَهُوَ كالناعس المتحير
ثمَّ زَاد نعاسه حَتَّى كَادَت حبوته أَن تنْحَل فَلَمَّا تبين من حوله مَا تغشاه غضوا أَبْصَارهم ووقفوا وقُوف الْمُصَلِّي فَقَالَ يَا رسل الخاطئ الَّذِي ملك جُزْءا من عالمي فَنظر إِلَى صَلَاحه فِي سوق الْخيرَات الجسدية إِلَيْهِ فأفسده بِمَا غمره مِنْهَا
وَكَانَ سَبيله سَبِيل من وكل بِجُزْء من بُسْتَان كثير الزهر وَالثِّمَار فصرف إِلَيْهِ أَكثر من حِصَّته من مَاء ذَلِك الْبُسْتَان وَظن أَنه أصلح لَهُ فَكَانَ مَا زَاده مِنْهُ على صِحَّته نَاقِصا من طعوم ثماره وروائح أزهاره وسببا لجفاف أَشجَار جُزْء جُزْء مِنْهُ وتصويح نبته
فَلَمَّا سمع السَّبْعَة نفر هَذَا لم يملكُوا أنفسهم حَتَّى قَامُوا مَعَ أُولَئِكَ فوقفوا وقُوف الْمُصَلِّين
قَالَ الفيلسوف فَبَقيت جَالِسا خَارِجا عَن جُمْلَتهمْ لاستبرئ أمره وأتقصى عجائبه فصاح بِي أَيهَا الْحسن الظَّن بِنَفسِهِ الَّذِي كَانَ أقْصَى مَا لحقه أَن سلك بفكره بَين المحسوسات الْجُزْئِيَّة والمعقولات الْكُلية واستخلص مِنْهَا علما وقف بِهِ على طبائع المحسوسات وَمَا قرب مِنْهَا فَظن أَنه(1/168)
يبلغ بِهِ كل عِلّة ومعلول
أَنَّك لَا تصل إِلَيّ بِهَذِهِ الطَّرِيق لَكِن بِمن جعلته بيني وَبَين خلقي ونصبته للدلالة على إرادتي
فأصرف أَكثر عنايتك إِلَى الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ
فَإِذا أصبته فاردد إِلَيْهِ مَا فضل عَن معرفتك فقد حَملته من جودي مَا فرقت بِهِ بَينه وَبَين غَيره وَجَعَلته سمة لَهُ يستعرضها إفهام المخلصين للحق
ثمَّ تماسك وَقَوي طرفه فَرجع من حوله إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ وَخرجت من عِنْده
فَلَمَّا كَانَ العشية عدت إِلَيْهِ فَسَمعته يُخَاطب أَصْحَابه والسبعة نفر بِشَيْء من كَلَام الزهاد ينهاهم فِيهِ عَن طَاعَة الْجَسَد
فَلَمَّا انْقَضى كَلَامه قلت لَهُ قد سَمِعت مَا سلف لَك فِي صدر هَذَا الْيَوْم وَأَنا أَسأَلك زِيَادَتي مِنْهُ
فَقَالَ كلما سمعته فَإِنَّمَا هُوَ شَيْء صور فِي نَفسِي وأنطق بِهِ لساني وَلَيْسَ لي فِيهِ إِلَّا التَّبْلِيغ
وَإِن كَانَ مِنْهُ شَيْء ستقف عَلَيْهِ
فأقمت عِنْده ثَلَاثَة أَيَّام أدبر السَّبْعَة نفر على الرُّجُوع إِلَى أوطانهم فيأبون ذَلِك عَليّ فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الرَّابِع دخلت عَلَيْهِ فَمَا تمكنت من مَجْلِسه حَتَّى تغشاه مَا كَانَ غشيه فِي الْيَوْم الَّذِي دَخَلنَا عَلَيْهِ
ثمَّ قَالَ يَا رَسُول الخاطئ المستبطئ نَفسه فِي الرُّجُوع لَهُ
ارْجع إِلَى بلدك فَإنَّك لَا تلْحق صَاحبك وَإِنِّي أنسخه بِمن يعدل ميل الْجُزْء الَّذِي فِي يَده فَخرجت من عِنْده فلحقت بلدي وَقد قضى نحبه
وَتَوَلَّى الْأَمر كهل من أهل بَيت مارينوس فَرد الْمَظَالِم وخلص الْأَرْوَاح مِمَّا غشيها من لبوسات الترفه والبطالة
أَقُول وَلما كَانَ يَوْم بدر والتقى فِيهِ الْمُسلمُونَ ومشركو قُرَيْش كَانَ الْمُقدم على الْمُشْركين أَبُو سُفْيَان وعدتهم مَا بَين التسْعمائَة وَالْألف والمسلمون يَوْمئِذٍ ثلثمِائة وَثَلَاثَة عشر
وأيد الله الْإِسْلَام وَنصر نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَوَقعت الكسرة على الْمُشْركين
وَقتلت فِي جُمْلَتهمْ صَنَادِيد قُرَيْش وَأسر جمَاعَة من الْمُشْركين
فبعضهم استفكوا أنفسهم وَبَعْضهمْ أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَتْلِهِم
وَكَانَ من جملَة المأسورين عقبَة بن أبي معيط وَالنضْر بن الْحَرْث بن كلدة فَقَتَلَهُمَا عَلَيْهِ السَّلَام بعد مُنْصَرفه من بدر
حَدثنِي شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد الْكَاتِب الْبَغْدَادِيّ ابْن الْكَرِيم قَالَ حَدثنَا أَبُو غَالب مُحَمَّد بن الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن الميمون عَن أبي الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن محمويه الشَّافِعِي اليزدي عَن أبي سعد أَحْمد بن عبد الْجَبَّار بن أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الصَّيْرَفِي الْبَغْدَادِيّ عَن أبي غَالب مُحَمَّد بن أَحْمد ابْن سهل بن بَشرَان النَّحْوِيّ الوَاسِطِيّ عَن أبي الْحُسَيْن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن دِينَار الْكَاتِب عَن أبي الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الْكَاتِب الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ قَالَ حَدثنَا ابْن حميد قَالَ حَدثنَا مسلمة عَن مُحَمَّد بن إِسْحَق قَالَ حَدثنِي عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة وَيزِيد بن رُومَان أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قتل يَوْم بدر عقبَة بن أبي معيط صبرا أما عَاصِم بن ثَابت بن أبي الْأَفْلَح الْأنْصَارِيّ فَضرب عُنُقه
ثمَّ أقبل من بدر حَتَّى إِذا كُنَّا بالصفراء قتل النَّضر بن الْحَرْث بن كلدة الثَّقَفِيّ أحد بني عبد الدَّار فقد أَمر عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ أَن يضْرب عُنُقه
فَقَالَت فَتِيلَة بنت الْحَرْث ترثيه(1/169)
(يَا رَاكِبًا إِن الأثيل مَظَنَّة ... من صبح خَامِسَة وَأَنت موفق)
(بلغ بِهِ مَيتا فَإِن تَحِيَّة ... مَا أَن تزَال بهَا الركائب تخنق)
(مني إِلَيْهِ وعبرة مسفوحة ... جَادَتْ بدرتها وَأُخْرَى يخنق)
(فليسمعن النَّضر أَن ناديته ... إِن كَانَ يسمع ميت أَو ينْطق)
(ظلت سيوف بني أَبِيه تنوشه ... لله أَرْحَام هُنَاكَ تمزق)
(صبرا يُقَاد إِلَى الْمنية متعبا ... رسف الْمُقَيد وَهُوَ عان موثق)
(أمحمد ولأنت نسل نجيبة ... فِي قَومهَا والفحل فَحل معرق)
(مَا كَانَ ضرك لَو مننت وَرُبمَا ... من الْفَتى وَهُوَ المغيظ المحنق)
(وَالنضْر أقرب من أخذت بزلة ... وأحقهم إِن كَانَ عتق يعْتق)
(لَو كنت قَابل فديَة لفديته ... بِأَعَز مَا يفْدي بِهِ من ينْفق) الْكَامِل
قَالَ أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فَبَلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ (لَو سَمِعت هَذَا قبل أَن أَقتلهُ مَا قتلته)
فَيُقَال أَن شعرهَا أكْرم شعر موتورة وأعفه وأكفه وأحلمه
أَقُول كَأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أخر قتل النَّضر بن الْحَرْث إِلَى أَن وصل الصَّفْرَاء ليتروى فِيهِ
ثمَّ أَنه رأى الصَّوَاب قَتله فَأمر بقتْله
ويروى أَيْضا فِي قَوْلهَا وَالنضْر أقرب من قتلت قرَابَة تُشِير إِلَى أَنه قرَابَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَكَانَت وقْعَة بدر فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة
وَبدر مَوضِع وَهُوَ اسْم مَاء
قَالَ الشّعبِيّ بدر بِئْر كَانَت لرجل يدعى بَدْرًا وَمِنْه يَوْم بدر
والصفراء من بدر على سَبْعَة عشر ميلًا وَمن الْمَدِينَة على ثَلَاث لَيَال قواصد
ابْن أبي رمثة التَّمِيمِي
كَانَ طَبِيبا على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مزاولا لأعمال الْيَد وصناعة الْجراح
وروى نعيم عَن ابْن أبي عُيَيْنَة عَن ابْن أبجر عَن زِيَاد عَن لَقِيط عَن ابْن أبي رمثة قَالَ أتيت(1/170)
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَيْت بَين كَتفيهِ الْخَاتم فَقلت إِنِّي طَبِيب فَدَعْنِي أعَالجهُ فَقَالَ أَنْت رَفِيق والطبيب الله
قَالَ سُلَيْمَان بن حسان علم رَسُول الله أَنه رَفِيق الْيَد وَلم يكن فائقا فِي الْعلم فَبَان ذَلِك من قَوْله والطبيب الله
عبد الْملك بن أبجر الْكِنَانِي
كَانَ طَبِيبا عَالما ماهرا
وَكَانَ فِي أول أمره مُقيما فِي الْإسْكَنْدَريَّة لِأَنَّهُ كَانَ الْمُتَوَلِي فِي التدريس بهَا من بعد الإسكندرانيين الَّذين تقدم ذكرهم
وَذَلِكَ عِنْدَمَا كَانَت الْبِلَاد فِي ذَلِك الْوَقْت لملوك النَّصَارَى
ثمَّ أَن الْمُسلمين لما استولوا على الْبِلَاد وملكوا الْإسْكَنْدَريَّة أسلم ابْن أبجر على يَد عمر بن عبد الْعَزِيز وَكَانَ حِينَئِذٍ أَمِيرا قبل أَن تصل إِلَيْهِ الْخلَافَة وَصَحبه
فَلَمَّا أفضت الْخلَافَة إِلَى عمر وَذَلِكَ فِي صفر سنة تسع وَتِسْعين لِلْهِجْرَةِ نقل التدريس إِلَى أنطاكية وحران وتفرق فِي الْبِلَاد
وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز يستطب ابْن أبجر ويعتمد عَلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ
روى الْأَعْمَش عَن ابْن أبجر أَنه قَالَ دع الدَّوَاء مَا احْتمل بدنك الدَّاء
وَهَذَا من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (سر بدائك مَا حملك)
وروى سُفْيَان عَن أبن أبجر أَنه قَالَ الْمعدة حَوْض الْجَسَد وَالْعُرُوق تشرع فِيهِ فَمَا ورد فِيهَا بِصِحَّة صدر بِصِحَّة وَمَا ورد فِيهَا بسقم صدر بسقم
ابْن أَثَال
كَانَ طَبِيبا مُتَقَدما من الْأَطِبَّاء المتميزين فِي دمشق نَصْرَانِيّ الْمَذْهَب
وَلما ملك مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان دمشق اصطفاه لنَفسِهِ وَأحسن إِلَيْهِ وَكَانَ كثير الافتقاد لَهُ والاعتقاد فِيهِ والمحادثة مَعَه لَيْلًا وَنَهَارًا
وَكَانَ ابْن أَثَال خَبِيرا بالأدوية المفردة والمركبة وقواها وَمَا مِنْهَا سموم قواتل وَكَانَ مُعَاوِيَة يقربهُ لذَلِك كثيرا
وَمَات فِي أَيَّام مُعَاوِيَة جمَاعَة كَثِيرَة من أكَابِر النَّاس والأمراء من الْمُسلمين بالسم
وَمن ذَلِك حَدثنَا(1/171)
أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد الْكَاتِب الْبَغْدَادِيّ ابْن الْكَرِيم قَالَ حَدثنَا أَبُو غَالب مُحَمَّد بن الْمُبَارك بن مُحَمَّد بن مَيْمُون عَن أبي الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن الْحُسَيْن بن محمويه الشَّافِعِي اليزدي عَن أبي سعد أَحْمد بن عبد الْجَبَّار بن أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الصَّيْرَفِي الْبَغْدَادِيّ عَن أبي غَالب مُحَمَّد بن أَحْمد بن سهل بن بَشرَان النَّحْوِيّ الوَاسِطِيّ عَن أبي الْحُسَيْن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم بن دِينَار الْكَاتِب عَن أبي الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَصْبَهَانِيّ الْكَاتِب قَالَ فِي كِتَابه الْمَعْرُوف بالأغاني الْكَبِير أَخْبرنِي عمي قَالَ حَدثنَا أَحْمد بن الْحَرْث الخزاز قَالَ حَدثنَا الْمَدَائِنِي عَن شيخ أهل الْحجاز عَن زيد بن رَافع مولى الْمُهَاجِرين خَالِد بن الْوَلِيد عَن أبي ذِئْب عَن أبي سُهَيْل أَن مُعَاوِيَة لما أَرَادَ أَن يظْهر العقد ليزِيد قَالَ لأهل الشَّام إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ قد كَبرت سنه ورق جلده ودق عظمه واقترب أَجله يُرِيد أَن يسْتَخْلف عَلَيْكُم فَمن ترَوْنَ فَقَالُوا عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد
فَسكت وأضمرها
ودس ابْن أَثَال النَّصْرَانِي الطَّبِيب إِلَيْهِ فَسَقَاهُ سما فَمَاتَ وَبلغ ابْن أَخِيه خَالِد بن المُهَاجر ابْن خَالِد بن الْوَلِيد خَبره وَهُوَ بِمَكَّة وَكَانَ أَسْوَأ النَّاس رَأيا فِي عَمه لِأَن أَبَاهُ المُهَاجر كَانَ مَعَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ بصفين وَكَانَ عبد الرَّحْمَن بن خَالِد مَعَ مُعَاوِيَة
وَكَانَ خَالِد بن المُهَاجر على رَأْي أَبِيه هاشمي الْمَذْهَب
فَلَمَّا قتل عَمه عبد الرَّحْمَن مر بِهِ عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ لَهُ يَا خَالِد أتدع لِابْنِ أَثَال نقى أوصال عمك بِالشَّام وَأَنت بِمَكَّة مسيل إزارك تجره وتخطر فِيهِ متخائلا فحمي خَالِد ودعى مولى لَهُ يُقَال لَهُ نَافِع فَأعلمهُ الْخَبَر وَقَالَ لَهُ لَا بُد من قتل ابْن أَثَال
وَكَانَ نَافِع جلدا شهما فَخَرَجَا حَتَّى قدما دمشق وَكَانَ ابْن أَثَال يتمسى عِنْد مُعَاوِيَة فَجَلَسَ لَهُ فِي مَسْجِد دمشق إِلَى اسطوانة وَجلسَ غُلَامه إِلَى أُخْرَى حَتَّى خرج
فَقَالَ خَالِد لنافع إياك أَن تعرض لَهُ أَنْت فَإِنِّي أضربه
وَلَكِن احفظ ظَهْري واكفني من ورائي
فَإِن رَأَيْت شَيْئا يُرِيدنِي من ورائي فشأنك
فَلَمَّا حاذاه وثب إِلَيْهِ فَقتله
وثار إِلَيْهِ من كَانَ مَعَه فصاح بهم نَافِع فانفرجوا
وَمضى خَالِد وَنَافِع وتبعهما من كَانَ مَعَه فَلَمَّا غشوهما حملا عَلَيْهِم فَتَفَرَّقُوا حَتَّى دخل خَالِد وَنَافِع زقاقا ضيقا ففاتا النَّاس
وَبلغ مُعَاوِيَة الْخَبَر فَقَالَ هَذَا خَالِد بن المُهَاجر انْظُرُوا الزقاق الَّذِي دخل فِيهِ
ففتش عَلَيْهِ وَأتي بِهِ فَقَالَ لَهُ لَا جَزَاك الله من زائر خيرا قتلت طبيبي فَقَالَ قتلت الْمَأْمُور وَبَقِي الْآمِر
فَقَالَ لَهُ عَلَيْك لعنة الله أما وَالله لَو كَانَ تشهد مرّة وَاحِدَة لقتلتك بِهِ
أَمَعَك نَافِع قَالَ لَا قَالَ بلَى وَالله وَمَا اجترأت إِلَّا بِهِ
ثمَّ أَمر بِطَلَبِهِ فَوجدَ فَأتي بِهِ فَضرب مائَة سَوط وَلم ينح خَالِدا بِشَيْء أَكثر من أَن حَبسه وألزم بني مَخْزُوم دِيَة ابْن أَثَال اثْنَي عشر ألف دِرْهَم أَدخل بَيت المَال مِنْهَا سِتَّة آلَاف وَأخذ سِتَّة آلَاف فَلم يزل ذَلِك يجْرِي فِي دِيَة الْمعَاهد حَتَّى ولي عمر بن عبد الْعَزِيز فَأبْطل الَّذِي يَأْخُذهُ السُّلْطَان لنَفسِهِ وَأثبت الَّذِي يدْخل بَيت المَال
قَالَ لما حبس مُعَاوِيَة خَالِد بن المُهَاجر قَالَ فِي السجْن(1/172)
(إِمَّا خطاي تقاربت ... مشي الْمُقَيد فِي الْحصار)
(فِيمَا أَمْشِي فِي الأباطح ... يقتفي أثري إزَارِي)
(دع ذَا وَلَكِن هَل ترى ... نَارا تشب بِذِي مرار)
(مَا أَن تشب لقرة ... بالمصطلين وَلَا قتار)
(مَا بَال ليلك لَيْسَ ينقص ... طولهَا طول النَّهَار)
(أتقاصر الْأَزْمَان أم ... غَرَض الْأَسير من الإسار) الْكَامِل
قَالَ فبلغت أبياته مُعَاوِيَة فَأَطْلقهُ فَرجع إِلَى مَكَّة
فَلَمَّا قدمهَا لَقِي عُرْوَة بن الزبير فَقَالَ لَهُ أما ابْن أَثَال فقد قتلته
وهذاك ابْن جرموز نقى أوصال الزبير بِالْبَصْرَةِ فاقتله إِن كنت ثائرا
فَشَكَاهُ عُرْوَة إِلَى أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَرْث بن هِشَام فأقسم عَلَيْهِ أَن يمسك عَنهُ فَفعل
أَقُول كَانَ الزبير بن الْعَوام مَعَ عَائِشَة يَوْم الْجمل فَقتله ابْن جرموز وَلذَلِك قَالَ خَالِد بن المُهَاجر لعروة بن الزبير عَن قتل ابْن جرموز لِأَبِيهِ يعيره بذلك
وَمِمَّا يُحَقّق هَذَا أَن عَاتِكَة بنت زيد بن عَمْرو بن نفَيْل زَوْجَة الزبير بن الْعَوام قَالَت ترثيه لما قَتله ابْن جرموز
(غدر ابْن جرموز بِفَارِس بهمة ... يَوْم اللِّقَاء وَكَانَ غير معرد)
(يَا عَمْرو لَو نبهته لوجدته ... لَا طائشا رعش الْجنان وَلَا الْيَد)
(الله رَبك إِن قتلت لمسلما ... وَجَبت عَلَيْك عُقُوبَة الْمُتَعَمد)
(إِن الزبير لذُو بلَاء صَادِق ... سمح سجيته كريم المشهد)
(كم غمرة قد خاضها لم يثنه ... عَنْهَا طرادك يَا ابْن فقع القردد)
(فَاذْهَبْ فَمَا ظَفرت يداك بِمثلِهِ ... فِيمَا مضى مِمَّا يروح وَيَغْتَدِي) الْكَامِل
وَقَالَ أَبُو عبيد الْقَاسِم بن سَلام الْبَغْدَادِيّ فِي كتاب الْأَمْثَال إِن مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان(1/173)
كَانَ خَافَ أَن يمِيل النَّاس إِلَى عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن الْوَلِيد فاشتكى عبد الرَّحْمَن فَسَقَاهُ الطَّبِيب شربة عسل فِيهَا سم فَأَحْرَقتهُ
فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ مُعَاوِيَة لَا جد إِلَّا مَا اقعص عَنْك من تكره
قَالَ وَقَالَ مُعَاوِيَة أَيْضا حِين بلغه أَن الأشتر سقِِي شربة عسل فِيهَا سم فَمَاتَ إِن لله جُنُودا مِنْهَا الْعَسَل
ونقلت من تَارِيخ أبي عبد الله مُحَمَّد بن عمر الْوَاقِدِيّ قَالَ لما كَانَ فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ بعث عَليّ ابْن أبي طَالب رَضِي الله عَنهُ الأشتر واليا على مصر بعد قتل مُحَمَّد بن أبي بكر وَبلغ مُعَاوِيَة مسيره فَدس إِلَى دهقان بالعريش فَقَالَ أَن قتلت الأشتر فلك خراجك عشْرين سنة فلطف لَهُ الدهْقَان فَسَأَلَ أَي الشَّرَاب أحب إِلَيْهِ فَقيل الْعَسَل
فَقَالَ عِنْدِي عسل من عسل برقة فسمه وَأَتَاهُ بِهِ فشربه فَمَاتَ
وَفِي تَارِيخ الطَّبَرِيّ أَن الْحسن بن عَليّ رَضِي الله عَنْهُمَا مَاتَ مسموما فِي أَيَّام مُعَاوِيَة وَكَانَ عِنْد مُعَاوِيَة كَمَا قيل دهاء فَدس إِلَى جعدة بنت الْأَشْعَث بن قيس وَكَانَت زَوْجَة الْحسن رَضِي الله عَنهُ شربة وَقَالَ لَهَا إِن قتلت الْحسن زَوجتك بِيَزِيد
فَلَمَّا توفّي الْحسن بعثت إِلَى مُعَاوِيَة تطلب قَوْله فَقَالَ لَهَا فِي الْجَواب أَنا أضن بِيَزِيد
وَقَالَ كثير يرثي الْحسن رَضِي الله عَنهُ
(يَا جعد أبكيه وَلَا تسأمي ... بكاء حق لَيْسَ بِالْبَاطِلِ)
(أَن تستري الْمَيِّت على مثله ... فِي النَّاس من حاف وَمن ناعل) السَّرِيع
وَقَالَ عوَانَة بن الحكم لما كَانَ قبل موت الْحسن بن عَليّ عَلَيْهِمَا السَّلَام كتب مُعَاوِيَة إِلَى مَرْوَان ابْن الحكم عَامله على الْمَدِينَة إِن أقبل الْمطِي فِيمَا بيني وَبَيْنك بِخَبَر الْحسن بن عَليّ
قَالَ فَلم يلبث إِلَّا يَسِيرا حَتَّى كتب مَرْوَان بِمَوْتِهِ
وَكَانَ ابْن عَبَّاس إِذا دخل على مُعَاوِيَة أجلسه مَعَه على سَرِيره فَأذن مُعَاوِيَة للنَّاس فَأخذُوا مجَالِسهمْ وَجَاء ابْن عَبَّاس فَلم يمهله مُعَاوِيَة أَن يسلم حَتَّى قَالَ يَا ابْن عَبَّاس هَل أَتَاك موت الْحسن بن عَليّ قَالَ لَا قَالَ مُعَاوِيَة فَإِنَّهُ قد أَتَانَا مَوته
فَاسْتَرْجع ابْن عَبَّاس وَقَالَ إِن مَوته يَا مُعَاوِيَة لَا يزِيد فِي عمرك وَلَا يدْخل عمله مَعَك فِي قبرك
وَقد بلينا بأعظم فَقدنَا مِنْهُ جده مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فجبر الله مصابنا وَلم يُهْلِكنَا بعده
فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة اقعد يَا ابْن عَبَّاس فَقَالَ مَا هَذَا بِيَوْم قعُود
وَأظْهر مُعَاوِيَة الشماتة بِمَوْت الْحسن رَضِي الله عَنهُ فَقَالَ قثم ابْن عَبَّاس فِي ذَلِك(1/174)
(أصبح الْيَوْم ابْن هِنْد شامتا ... ظَاهر النخوة أَن مَاتَ حسن)
(رَحْمَة الله عَلَيْهِ أَنه ... طَال مَا أشجى ابْن هِنْد وَأذن)
(وَلَقَد كَانَ عَلَيْهِ عمره ... عدل رضوى وثبير وحضن)
(وَإِذا أقبل حَيا رَافعا ... صَوته والصدر يغلي بالإحن)
(فارتع الْيَوْم ابْن هِنْد آمنا ... إِنَّمَا يغمص بالعير السّمن)
(وَاتَّقِ الله وأحدث تَوْبَة ... إِن مَا كَانَ كشيء لم يكن) الرمل
أَبُو الحكم
كَانَ طَبِيبا نَصْرَانِيّا عَالما بأنواع العلاج والأدوية وَله أَعمال مَذْكُورَة وصفات مَشْهُورَة
وَكَانَ يستطبه مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان ويعتمد عَلَيْهِ فِي تركيبات أدوية لأغراض قَصدهَا مِنْهُ
وَعمر أَبُو الحكم هَذَا عمرا طَويلا حَتَّى تجَاوز الْمِائَة سنة
حدث أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنِي عِيسَى بن حكم الدِّمَشْقِي المتطبب قَالَ حَدثنِي أبي عَن أَبِيه قَالَ ولي الْمَوْسِم فِي أَيَّام مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان يزِيد بن مُعَاوِيَة
فوجهني أَبوهُ مَعَه متطببا لَهُ
وَخرجت مَعَ عبد الصَّمد بن عَليّ بن عبد الله بن الْعَبَّاس إِلَى مَكَّة متطببا لَهُ
وقعدد عبد الصَّمد مثل قعدد يزِيد
وَبَين وفاتهما مائَة ونيف وَعِشْرُونَ سنة
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي عِيسَى بن حكم عَن أَبِيه أَن جده أعلمهُ أَنه كَانَ حمى عبد الْملك ابْن مَرْوَان من شرب المَاء فِي علته الَّتِي توفّي فِيهَا
واعلمه أَنه مَتى شرب المَاء قبل نضج علته توفّي
قَالَ فاحتمى عَن المَاء يَوْمَيْنِ وَبَعض الثَّالِث
قَالَ فَإِنِّي عِنْده لجالس وَعِنْده بَنَاته إِذْ دخل عَلَيْهِ(1/175)
الْوَلِيد ابْنه فَسَأَلَهُ عَن حَاله وَهُوَ يتَبَيَّن فِي وَجه الْوَلِيد السرُور بِمَوْتِهِ فَأَجَابَهُ بِأَن قَالَ
(ومستخبر عَنَّا يُرِيد بِنَا الردى ... ومستخبرات والدموع سواجم) الطَّوِيل
وَكَانَ استفتاحه النّصْف الأول وَهُوَ مواجه للوليد ثمَّ واجه الْبَنَات عِنْد قَوْله النّصْف الثَّانِي ثمَّ دَعَا بِالْمَاءِ فشربه فَقضى من سَاعَته
حكم الدِّمَشْقِي
كَانَ يلْحق بِأَبِيهِ فِي مَعْرفَته بالمداواة والأعمال الطبية وَالصِّفَات البديعة
وَكَانَ مُقيما بِدِمَشْق
وَعمر أَيْضا عمرا طَويلا
قَالَ أَبُو يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي عِيسَى بن حكم أَن وَالِده توفّي وَكَانَ عبد الله بن طَاهِر بِدِمَشْق فِي سنة عشر وَمِائَتَيْنِ وَأَن عبد الله سَأَلَهُ عَن مبلغ عمر أَبِيه فَأعلمهُ أَنه عمره مائَة وَخمْس سِنِين لم يتَغَيَّر عقله وَلم ينقص علمه
فَقَالَ عبد الله عَاشَ حكم نصف التَّارِيخ
قَالَ يُوسُف وحَدثني عِيسَى أَنه ركب مَعَ أَبِيه حكم بِمَدِينَة دمشق إِذْ اجتازوا بحانوت حجام قد وقف عَلَيْهِ بشر كثير فَلَمَّا بصر بِنَا بعض الْوُقُوف قَالَ أفرجوا هَذَا حكم المتطبب وَعِيسَى ابْنه
فأفرج الْقَوْم فَإِذا رجل قد فصده الْحجام فِي الْعرق الباسليق وَقد فصده فصدا وَاسِعًا وَكَانَ الباسليق على الشريان فَلم يحسن الْحجام تَعْلِيق الْعرق فَأصَاب الشريان
وَلم يكن عِنْد الْحجام حِيلَة فِي قطع الدَّم
واستعملنا الْحِيلَة فِي قطعه بالرفائد ونسج العنكبوت والوبر فَلم يَنْقَطِع بذلك
فَسَأَلَنِي وَالِدي عَن حِيلَة فأعلمته أَنه لَا حِيلَة عِنْدِي
فَدَعَا بفستقة فَشَقهَا وَطرح مَا فِيهَا وَأخذ أحد نصفي القشر فَجعله على مَوضِع الفصد ثمَّ أَخذ حَاشِيَة من ثوب كتَّان غليظ فلف بهَا مَوضِع الفصد على قشر الفستقة لفا شَدِيدا حَتَّى كَانَ يستغيث المفتصد من شدته ثمَّ شدّ ذَلِك بعد اللف شدا شَدِيدا وَأمر بِحمْل الرجل إِلَى نهر بردى وَأدْخل يَده فِي المَاء ووطأ لَهُ على شاطئ النَّهر ونومه عَلَيْهِ وَأمر فحسى محات بيض نيمرشت ووكل بِهِ تلميذا من تلامذته وَأمره بِمَنْعه من إِخْرَاج يَده(1/176)
من مَوضِع الفصد من المَاء إِلَّا عِنْد وَقت الصَّلَاة أَو يتخوف عَلَيْهِ الْمَوْت من شدَّة الْبرد
فَإِن تخوف ذَلِك أذن لَهُ فِي إِخْرَاج يَده هنيهة ثمَّ أمره بردهَا فَفعل ذَلِك إِلَى اللَّيْل
ثمَّ أَمر بِحمْلِهِ إِلَى منزله وَنَهَاهُ عَن تَغْطِيَة مَوضِع الفصد وَعَن حل الشد قبل استتمام خَمْسَة أَيَّام فَفعل ذَلِك
إِلَّا أَنه صَار إِلَيْهِ فِي الْيَوْم الثَّالِث وَقد ورم عضده وذراعه ورما شَدِيدا فَنَفْس من الشد شَيْئا يَسِيرا وَقَالَ للرجل الورم أسهل من الْمَوْت
فَلَمَّا كَانَ فِي الْيَوْم الْخَامِس حل الشداد فَوَجَدنَا قشر الفستقة ملتصقا بِلَحْم الرجل
فَقَالَ وَالِدي للرجل بِهَذَا القشر نجوت من الْمَوْت فَإِن خلعت هَذَا القشر قبل انخلاعه وسقوطه من غير فعل مِنْك تلفت نَفسك
قَالَ عِيسَى فَسقط القشر فِي الْيَوْم السَّابِع وَبَقِي فِي مَكَانَهُ دم يَابِس فِي خلقَة الفستقة
فَنَهَاهُ وَالِدي عَن الْعَبَث بِهِ أَو حك مَا حوله أَو فت شَيْء من ذَلِك الدَّم
فَلم يزل الدَّم يتحات حَتَّى انْكَشَفَ مَوضِع الفصد فِي أَكثر من أَرْبَعِينَ لَيْلَة وبرأ الرجل
عِيسَى بن حكم الدِّمَشْقِي
وَهُوَ الْمَشْهُور بمسيح صَاحب الكناش الْكَبِير الَّذِي يعرف بِهِ وينسب إِلَيْهِ
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي عِيسَى بن الحكم أَنه عرض لغضيض أم ولد الرشيد قولنج فاحضرته وأحضرت الْأَبَح والطبري الحاسبين وَسَأَلت عِيسَى عَمَّا يرى معالجتها بِهِ
قَالَ عِيسَى فاعلمتها أَن القولنج قد استحكم بهَا استحكاما إِن لم تبادره بالحقنة لم يُؤمن عَلَيْهَا التّلف
فَقَالَت للأبح والطبري اختارا لي وقتا أتعالج فِيهِ
فَقَالَ لَهَا الْأَبَح علتك هَذِه لَيست من الْعِلَل الَّتِي يُمكن أَن يُؤَخر لَهَا العلاج إِلَى وَقت يحمده المنجمون وَأَنا أرى أَن تبادري بالعلاج قبل أَن تعملي عملا وَكَذَلِكَ يرى عِيسَى بن حكم
فسألتني فاعلمتها أَن الْأَبَح قد صدقهَا
فَسَأَلت الطَّبَرِيّ عَن رَأْيه فَقَالَ أَن الْقَمَر الْيَوْم مَعَ زحل وَهُوَ فِي غَد مَعَ المُشْتَرِي وَأَنا أرى لَك أَن تؤخري العلاج إِلَى مُقَارنَة الْقَمَر المُشْتَرِي
فَقَالَ الْأَبَح أَنا أَخَاف أَن يصير الْقَمَر مَعَ المُشْتَرِي وَقد عمل القولنج عملا لَا يحْتَاج مَعَه إِلَى علاج
فتطيرت من ذَلِك غضيض ولبنتها أم مُحَمَّد وأمرتا بِإِخْرَاجِهِ من الدَّار وَقبلت قَول الطَّبَرِيّ
فَمَاتَتْ غضيض قبل موافات الْقَمَر المُشْتَرِي
فَلَمَّا وافى الْقَمَر المُشْتَرِي قَالَ الْأَبَح لأم مُحَمَّد هَذَا وَقت اخْتِيَار الطَّبَرِيّ للعلاج فَأَيْنَ العليل حَتَّى نعالجه فزادتها رسَالَته غيظا عَلَيْهِ وَلم تزل سَيِّئَة الرَّأْي فِيهِ حَتَّى توفيت(1/177)
قَالَ يُوسُف نزلت على عِيسَى بن حكم فِي منزله بِدِمَشْق سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَبِي نزلة صعبة فَكَانَ يغذوني بأغذية طيبَة ويسقيني الثَّلج فَكنت أنكر ذَلِك واعلمه إِن تِلْكَ الأغذية مضرَّة بالنزلة
فيعتل عَليّ بالهواء وَيَقُول أَنا أعلم بهواء بلدي مِنْك وَهَذِه الْأَشْيَاء الْمضرَّة بالعراق نافعة بِدِمَشْق
فَكنت اغتذي بِمَا يغذوني بِهِ
فَلَمَّا خرجت عَن الْبَلَد خرج مشيعا لي حَتَّى صرنا إِلَى الْموضع الْمَعْرُوف بِالرَّاهِبِ وَهُوَ الْموضع الَّذِي فارقني فِيهِ فَقَالَ لي قد أَعدَدْت لَك طَعَاما يحمل مَعَك يُخَالف الْأَطْعِمَة الَّتِي كنت تأكلها
وَأَنا آمُرك أَن لَا تشرب مَاء بَارِدًا وَلَا تَأْكُل من مثل الأغذية الَّتِي كنت تأكلها فِي منزلي شَيْئا
فلمته على مَا كَانَ يغذوني بِهِ فَقَالَ إِنَّه لَا يحسن بالعاقل أَن يلْزم قوانين الطِّبّ مَعَ ضَيفه فِي منزله
قَالَ يُوسُف وتجاريت وَعِيسَى يَوْمًا بِدِمَشْق ذكر البصل فابترك فِي ذمه وَوصف معايبه
وَكَانَ عِيسَى وسلمويه بن بَيَان يسلكان طَرِيق الرهبان وَلَا يحمدان شَيْئا مِمَّا يزِيد فِي الباه ويذكران أَن ذَلِك مِمَّا يتْلف الْأَبدَان وَيذْهب الْأَنْفس
فَلم استنجد الِاحْتِجَاج عَلَيْهِ بِزِيَادَة البصل فِي الباه
فَقلت لَهُ قد رَأَيْت لَهُ فِي سَفَرِي هَذَا أَعنِي فِيمَا بَين سر من رأى ودمشق مَنْفَعَة
فَسَأَلَ عَنْهَا فاعلمته إِنِّي كنت أَذُوق المَاء فِي بعض المناهل فاصيبه مالحا فَآكل البصل الني ثمَّ أعاود شرب المَاء فأجد ملوحته قد نقصت
وَكَانَ عِيسَى قَلِيل الضحك فاستضحك من قولي ثمَّ رَجَعَ إِلَى إِظْهَار جرح مِنْهُ ثمَّ قَالَ يعز عَليّ أَن يغلط مثلك هَذَا الْغَلَط لِأَنَّك صرت إِلَى أسمج نُكْتَة فِي البصل وأعيب عيب فِيهِ فجعلتها مدحا
ثمَّ قَالَ لي أَلَيْسَ مَتى حدث فِي الدِّمَاغ فَسَاد فَسدتْ الْحَواس حَتَّى ينقص حس الشم والذوق والسمع وَالْبَصَر
فأعلمته أَن الْأَمر كَذَلِك
فَقَالَ لي إِن خاصية البصل إِحْدَاث فَسَاد الدِّمَاغ فَإِنَّمَا قلل حسك بملوحة المَاء مَا أحدث البصل فِي دماغك من الْفساد
قَالَ وَقَالَ لي عِيسَى وَقد شيعني إِلَى الراهب وَهُوَ أخر كَلَام دَار بيني وَبَينه إِن وَالِدي توفّي وَهُوَ ابْن مائَة سنة وَخمْس سِنِين لم يتشنج لَهُ وَجه وَلم ينقص من مَاء وَجهه لِأَشْيَاء كَانَ يَفْعَلهَا وَأَنا الْآن مزودكها فاعمل بهَا وَهِي أَن لَا تذوق القديد وَلَا تغسل يَديك ورجليك عِنْد خُرُوجك من الْحمام أبدا إِلَّا بِمَاء بَارِد أبرد مَا يمكنك والزم ذَلِك فَإِنَّهُ ينفعك
فلزمت مَا أَمرنِي بِهِ من هَذَا الْبَاب إِلَّا إِنِّي رُبمَا مصصت الْقطعَة الصَّغِيرَة من القديد فِي السّنة وَفِي الْأَكْثَر من ذَلِك
ولعيسى بن حكم من الْكتب كناش كتاب مَنَافِع الْحَيَوَان(1/178)
تياذوق
كَانَ طَبِيبا فَاضلا وَله نَوَادِر وألفاظ مستحسنة فِي صناعَة الطِّبّ
وَعمر وَكَانَ فِي أول دولة بني أُميَّة ومشهورا عِنْدهم بالطب
وَصَحب أَيْضا الْحجَّاج بن يُوسُف الثَّقَفِيّ الْمُتَوَلِي من جِهَة عبد الْملك ابْن مَرْوَان وخدمه بصناعة الطِّبّ وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ ويثق بمداواته وَكَانَ لَهُ مِنْهُ الجامكية الوافرة والافتقاد الْكثير
وَمن كَلَام تياذوق للحجاج قَالَ
لَا تنْكح إِلَّا شَابة وَلَا تَأْكُل من اللَّحْم إِلَّا فتيا وَلَا تشرب الدَّوَاء إِلَّا من عِلّة وَلَا تَأْكُل الْفَاكِهَة إِلَّا فِي أَوَان نضجها
وَأَجد مضغ الطَّعَام وَإِذا أكلت نَهَارا فَلَا بَأْس أَن تنام وَإِذا أكلت لَيْلًا فَلَا تنم حَتَّى تمشي وَلَو خمسين خطْوَة
فَقَالَ لَهُ بعض من حضر إِذا كَانَ الْأَمر كَمَا تَقول فَلم هلك بقراط وَلم هلك جالينوس وَغَيرهمَا وَلم يبْق أحد مِنْهُم قَالَ يَا بني قد احتججت فاسمع إِن الْقَوْم دبروا أنفسهم بِمَا يملكُونَ وغلبهم مَا لَا يملكُونَ يَعْنِي الْمَوْت وَمَا يرد من خَارج كَالْحرِّ وَالْبرد والوقوع وَالْغَرق والجراح وَالْغَم وَمَا أشبه ذَلِك
وَأوصى تياذوق أَيْضا الْحجَّاج فَقَالَ لَا تأكلن حَتَّى تجوع
وَلَا تتكارهن على الْجِمَاع
وَلَا تحبس الْبَوْل
وَخذ من الْحمام قبل أَن يَأْخُذ مِنْك
وَقَالَ أَيْضا للحجاج أَرْبَعَة تهدم الْعُمر وَرُبمَا قتلن دُخُول الْحمام على البطنة والمجامعة على الامتلاء وَأكل القديد الجاف وَشرب المَاء الْبَارِد على الرِّيق
وَمَا مجامعة الْعَجُوز ببعيدة مِنْهُنَّ
وَوجد الْحجَّاج فِي رَأسه صداعا فَبعث إِلَى تياذوق وأحضره فَقَالَ اغسل رجليك بِمَاء حَار وأدهنهما
وَخصي للحجاج قَائِم على رَأسه فَقَالَ وَالله مَا رَأَيْت طَبِيبا أقل معرفَة بالطب مِنْك شكى الْأَمِير الصداع فِي رَأسه فتصف لَهُ دَوَاء فِي رجلَيْهِ فَقَالَ لَهُ أما أَن عَلامَة مَا قلت فِيك بَيِّنَة
قَالَ الْخصي وَمَا هِيَ قَالَ نزعت خصيتاك فَذهب شعر لحيتك
فَضَحِك الْحجَّاج وَمن حضر
وشكى الْحجَّاج ضعفا فِي معدته وقصورا فِي الهضم إِلَى تياذوق فَقَالَ يكون الْأَمِير يحضر بَين يَدَيْهِ الفستق الْأَحْمَر القشر البراني ويكسره وَيَأْكُل من لبه فَإِن ذَلِك يُقَوي الْمعدة
فَلَمَّا أَمْسَى الْحجَّاج بعث إِلَى حظاياه وَقَالَ إِن تياذوق وصف لي الفستق
فَبعثت إِلَيْهِ كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ صينية فِيهَا قُلُوب فستق فَأكل من ذَلِك حَتَّى امْتَلَأَ
وأصابته بعقبه هيضة كَادَت تَأتي على نَفسه
فَشكى حَاله إِلَى تياذوق وَقَالَ وصفت لي شَيْئا أضرّ بِي وَذكر لَهُ مَا تنَاول فَقَالَ لَهُ إِنَّمَا(1/179)
قلت لَك أَن تحضر عنْدك الفستق بقشره البراني فتكسر الْوَاحِدَة بعد الْوَاحِدَة وتلوك قشرها البراني وَفِيه العطرية وَالْقَبْض فَيكون بذلك تَقْوِيَة الْمعدة
وَأَنت فقد عملت غير مَا قلت لَك
وداواه مِمَّا عرض لَهُ
قيل وَمن أخباره مَعَ الْحجَّاج أَنه دخل عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ الْحجَّاج أَي شَيْء دَوَاء أكل الطين فَقَالَ عَزِيمَة مثلك أَيهَا الْأَمِير
فَرمى الْحجَّاج بالطين من يَده وَلم يعد إِلَيْهِ أبدا
وَقيل إِن بعض الْمُلُوك لما رأى تياذوق وَقد شاخ وَكبر سنه وخشي أَن يَمُوت وَلَا يعتاض عَنهُ لِأَنَّهُ كَانَ أعلم النَّاس وأحذق الْأمة فِي وقته بالطب
فَقَالَ لَهُ صف لي مَا اعْتمد عَلَيْهِ فأسوس بِهِ نَفسِي وأعمل بِهِ أَيَّام حَياتِي فلست آمن أَن يحدث عَلَيْك حدث الْمَوْت وَلَا أجد مثلك فَقَالَ تياذوق أَيهَا الْملك بالخيرات أَقُول لَك عشرَة أَبْوَاب إِن علمت واجتنبتها لم تعتل مُدَّة حياتك وَهَذِه عشر كَلِمَات
1 - لَا تَأْكُل طَعَاما وَفِي معدتك طَعَام
2 - وَلَا تَأْكُل مَا تضعف أسنانك عَن مضغه فتضعف معدتك عَن هضمه
3 - وَلَا تشرب المَاء على الطَّعَام حَتَّى تفرغ ساعتين فَإِن أصل الدَّاء التُّخمَة وأصل التُّخمَة المَاء على الطَّعَام
4 - وَعَلَيْك بِدُخُول الْحمام فِي كل يَوْمَيْنِ مرّة وَاحِدَة فَأَنَّهُ يخرج من جسدك مَا لَا يصل إِلَيْهِ الدَّوَاء
5 - وَأكْثر الدَّم فِي بدنك تحرص بِهِ نَفسك
6 - وَعَلَيْك فِي كل فصل قيئة ومسهلة
7 - وَلَا تحبس الْبَوْل وَإِن كنت رَاكِبًا
8 - واعرض نَفسك على الْخَلَاء قبل نومك
9 - وَلَا تكْثر الْجِمَاع فَإِنَّهُ يقتبس من نَار الْحَيَاة فليكثر أَو يقل
10 - وَلَا تجامع الْعَجُوز فَإِنَّهُ يُورث الْمَوْت الْفجأَة
فَلَمَّا سمع الْملك ذَلِك أَمر كَاتبه أَن يكْتب هَذِه الْأَلْفَاظ بِالذَّهَب الْأَحْمَر ويضعه فِي صندوق من ذهب مرصع
وَبَقِي ينظر إِلَيْهِ فِي كل يَوْم وَيعْمل بِهِ فَلم يعتل مُدَّة حَيَاته حَتَّى جَاءَهُ الْمَوْت الَّذِي لَا بُد مِنْهُ وَلَا محيص عَنهُ
وَذكر إِبْرَاهِيم بن الْقَاسِم الْكَاتِب قَالَ قَالَ الْحجَّاج لِابْنِهِ مُحَمَّد يَا بني إِن تياذوق الطَّبِيب كَانَ قد أَوْصَانِي فِي تَدْبِير الصِّحَّة بِوَصِيَّة كنت استعملها فَلم أر إِلَّا خيرا
وَلما حَضرته الْوَفَاة دخلت عَلَيْهِ أعوده فَقَالَ الزم مَا كنت وصيتك بِهِ وَمَا نسيت مِنْهَا فَلَا تنس لَا تشربن دَوَاء حَتَّى تحْتَاج إِلَيْهِ وَلَا تأكلن طَعَاما وَفِي جوفك طَعَام وَإِذا أكلت فامش أَرْبَعِينَ خطْوَة
وَإِذا امْتَلَأت من الطَّعَام فنم على جَنْبك الْأَيْسَر
وَلَا تأكلن الْفَاكِهَة وَهِي مولية
وَلَا تأكلن من اللَّحْم إِلَّا فتيا
وَلَا تنكحن عجوزا
وَعَلَيْك بِالسِّوَاكِ
وَلَا تتبعن اللَّحْم اللَّحْم
فَإِن إِدْخَال اللَّحْم على اللَّحْم يقتل الْأسود فِي الفلوات
وَقَالَ أَيْضا إِبْرَاهِيم بن الْقَاسِم الْكَاتِب فِي كتاب أَخْبَار الْحجَّاج أَن الْحجَّاج لما قتل سعيد بن جُبَير رَحمَه الله وَكَانَ من خِيَار التَّابِعين وَجرى بَينهمَا كَلَام كثير وَأمر بِهِ فذبح بَين يَدَيْهِ وَخرج مِنْهُ دم كثير استكثره وهاله
فَقَالَ الْحجَّاج لتياذوق طبيبه مَا هَذَا قَالَ لِاجْتِمَاع نَفسه وَإنَّهُ لم(1/180)
يجزع من الْمَوْت وَلَا هاب مَا فعلته بِهِ
وَغَيره تقتله وَهُوَ مفترق النَّفس فيقل دَمه لذَلِك
وَمَات تياذوق بعد مَا أسن وَكبر وَكَانَت وَفَاته بواسط فِي نَحْو سنة تسعين لِلْهِجْرَةِ
ولتياذوق من الْكتب كناش كَبِير أَلفه لِابْنِهِ
كتاب إيدال الْأَدْوِيَة وَكَيْفِيَّة دقها وإيقاعها وإذابتها وَشَيْء من تَفْسِير أَسمَاء الْأَدْوِيَة
زَيْنَب طبيبة بني أود
كَانَت عارفة بِالْأَعْمَالِ الطبية خبيرة بالعلاج ومداواة آلام الْعين والجراحات مَشْهُورَة بَين الْعَرَب بذلك
قَالَ أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب الأغاني الْكَبِير أخبرنَا مُحَمَّد بن خلف الْمَرْزُبَان قَالَ حَدثنِي حَمَّاد بن إِسْحَق عَن أَبِيه عَن كناسَة عَن أَبِيه عَن جده قَالَ أتيت امْرَأَة من بني أود لتكحلني من رمد كَانَ قد أصابني فكحلتني ثمَّ قَالَت اضْطجع قَلِيلا حَتَّى يَدُور الدَّوَاء فِي عَيْنَيْك فاضطجعت ثمَّ تمثلت قَول الشَّاعِر
(أمخترمي ريب الْمنون وَلم أزر ... طَبِيب بني أود على النأي زينبا) الطَّوِيل
فَضَحكت ثمَّ قَالَت أَتَدْرِي فِيمَن قيل هَذَا الشّعْر قلت لَا قَالَت فِي وَالله قيل وَأَنا زَيْنَب الَّتِي عناها وَأَنا طبيبة بني أود
أفتدري من الشَّاعِر قلت لَا قَالَت عمك أَبُو سماك الْأَسدي(1/181)
الْبَاب الثَّامِن
طَبَقَات الْأَطِبَّاء السريانيين الَّذين كَانُوا فِي ابْتِدَاء ظُهُور دولة بني الْعَبَّاس
ولنبتدئ أَولا بِذكر جورجس وَابْنه بختيشوع والمتميزين من أَوْلَاده على تواليهم
ثمَّ اذكر بعد ذَلِك مَا يَلِيق ذكره من الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا فِي ذَلِك الْوَقْت
جورجيوس بن جِبْرَائِيل
كَانَت لَهُ خبْرَة بصناعة الطِّبّ وَمَعْرِفَة بالمداواة وأنواع العلاج وخدم بصناعة الطِّبّ الْمَنْصُور وَكَانَ حظيا عِنْده رفيع الْمنزلَة ونال من جِهَته أَمْوَالًا جزيلة
وَقد نقل للمنصور كتبا كَثِيرَة من كتب اليونانيين إِلَى الْعَرَبِيّ
قَالَ فثيون الترجمان إِن أول مَا استدعى أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور لجورجس هُوَ أَن الْمَنْصُور فِي سنة مائَة وثمان وَأَرْبَعين سنة لِلْهِجْرَةِ مرض وفسدت معدته وانقطعت شَهْوَته
وَكلما عالجه الْأَطِبَّاء ازْدَادَ مَرضه فَتقدم إِلَى الرّبيع بِأَن يجمع الْأَطِبَّاء لمشاورتهم
فَجَمعهُمْ فَقَالَ لَهُم الْمَنْصُور من تعرفُون من الْأَطِبَّاء فِي سَائِر المدن طَبِيبا ماهرا فَقَالُوا لَيْسَ فِي وقتنا هَذَا أحد يشبه جورجس رَئِيس أطباء جندي سَابُور فَإِنَّهُ ماهر فِي الطِّبّ وَله مصنفات جليلة
فانفذ الْمَنْصُور فِي الْوَقْت من يحضرهُ
فَلَمَّا وصل الرَّسُول إِلَى عَامل الْبَلَد احضر جورجس وخاطبه بِالْخرُوجِ مَعَه فَقَالَ لَهُ عَليّ هَهُنَا أَسبَاب وَلَا بُد أَن تصبر عَليّ أَيَّامًا حَتَّى أخرج مَعَك فَقَالَ لَهُ إِن أَنْت خرجت معي فِي غَد طَوْعًا وَإِلَّا أخرجتك كرها وَامْتنع عَلَيْهِ جورجس فَأمر(1/183)
باعتقاله وَلما اعتقل اجْتمع رُؤَسَاء الْمَدِينَة مَعَ المطران فأشاروا على جورجس بِالْخرُوجِ فَخرج بعد أَن أوصى ابْنه بختيشوع بِأَمْر البيمارستان وأموره الَّتِي تتَعَلَّق بِهِ هُنَاكَ
وَأخذ مَعَه إِبْرَاهِيم تِلْمِيذه وسرجس تِلْمِيذه فَقَالَ لَهُ ابْنه بختيشوع لَا تدع هَهُنَا عِيسَى بن شهلا فَإِنَّهُ يُؤْذِي أهل البيمارستان
فَترك سرجس وَأخذ عِيسَى مَعَه عوضا عَنهُ وَخرج إِلَى مَدِينَة السَّلَام
وَلما ودعه بختيشوع ابْنه قَالَ لَهُ لم لَا تأخذني مَعَك فَقَالَ لَا تعجل يَا بني
فَإنَّك ستخدم الْمُلُوك وتبلغ من الْأَحْوَال أجلهَا
وَلما وصل جورجس إِلَى الحضرة أَمر الْمَنْصُور بإيصاله إِلَيْهِ
وَلما وصل دَعَا إِلَيْهِ بِالْفَارِسِيَّةِ والعربية فتعجب الْخَلِيفَة من حسن منظره ومنطقه فأجلسه قدامه وَسَأَلَهُ عَن أَشْيَاء فَأَجَابَهُ عَنْهَا بِسُكُون فَقَالَ لَهُ قد ظَفرت مِنْك بِمَا كنت أحبه واشتاقه وحدثه بعلته وَكَيف كَانَ ابْتِدَاؤُهَا
فَقَالَ لَهُ جورجس أَنا أدبرك كَمَا تحب
فَأمر الْخَلِيفَة لَهُ فِي الْوَقْت بخلعة جليلة وَقَالَ للربيع أنزلهُ فِي منزل جليل من دُورنَا وأكرمه كَمَا تكرم أخص الْأَهْل
وَلما كَانَ من غَد دخل إِلَيْهِ وَنظر إِلَى نبضه وَإِلَى قَارُورَة المَاء وَوَافَقَهُ على تَخْفيف الْغذَاء وَدبره تدبيرا لطيفا حَتَّى رَجَعَ إِلَى مزاجه الأول
وَفَرح بِهِ الْخَلِيفَة فَرحا شَدِيدا وَأمر أَن يُجَاب إِلَى كل مَا يسْأَل
وَلما كَانَ بعد أَيَّام قَالَ الْخَلِيفَة للربيع أرى هَذَا الرجل قد تغير وَجهه لَا يكون قد منعته مِمَّا يشربه على عَادَته
قَالَ لَهُ الرّبيع لم نَأْذَن لَهُ أَن يدْخل إِلَى هَذِه الدَّار مشروبا فَأَجَابَهُ بقبيح وَقَالَ لَهُ لَا بُد أَن تمْضِي بِنَفْسِك حَتَّى تحضره من المشروب كل مَا يُريدهُ فَمضى الرّبيع إِلَى قطربل وَحمل مِنْهَا إِلَى غَايَة مَا أمكنه من الشَّرَاب الْجيد
وَلما كَانَ بعد سنتَيْن قَالَ الْخَلِيفَة لجورجس أرسل من يحضر ابْنك إِلَيْنَا فقد بَلغنِي إِنَّه مثلك فِي الطِّبّ
فَقَالَ لَهُ جورجس جندي سَابُور إِلَيْهِ محتاجة
وَإِن فَارقهَا إِن فسد أَمر البيمارستان
وَكَانَ أهل الْمَدِينَة إِذا مرضوا سَارُوا إِلَيْهِ
وَهَهُنَا معي تلامذة قد ربيتهم وخرجتهم فِي الصِّنَاعَة حَتَّى أَنهم مثلي
فَأمر الْخَلِيفَة بإحضارهم فِي غَد ذَلِك الْيَوْم ليختبرهم
فَلَمَّا كَانَ من غَد أَخذ مَعَه عِيسَى بن شهلا وأوصله إِلَيْهِ
فَسَأَلَهُ الْخَلِيفَة عَن أَشْيَاء وجده فِيهَا حاد المزاج حاذقا بالصناعة
فَقَالَ الْخَلِيفَة لجورجس مَا أحسن مَا وصفت هَذَا التلميذ وعلمته
قَالَ فثيون وَلما كَانَ فِي سنة إِحْدَى وَخمسين وَمِائَة دخل جورجس إِلَى الْخَلِيفَة فِي يَوْم الميلاد فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة أَي شَيْء آكل الْيَوْم فَقَالَ لَهُ مَا تُرِيدُ
وَخرج من بَين يَدَيْهِ فَلَمَّا بلغ الْبَاب رده وَقَالَ لَهُ من يخدمك هَهُنَا فَقَالَ لَهُ تلامذتي
فَقَالَ لَهُ سَمِعت أَنه لَيست لَك امْرَأَة
فَقَالَ لَهُ لي زَوْجَة كَبِيرَة ضَعِيفَة وَلَا تقدر تنْتَقل إِلَيّ من موضعهَا
وَخرج من حَضرته وَمضى إِلَى(1/184)
الْبيعَة
فَأمر الْخَلِيفَة خادمه سالما أَن يخْتَار من الْجَوَارِي الروميات الحسان ثَلَاثًا ويحملهن إِلَى جورجس مَعَ ثَلَاثَة آلَاف دِينَار فَفعل ذَلِك
وَلما انْصَرف جورجس إِلَى منزله عرفه عِيسَى بن شهلا بِمَا جرى وَأرَاهُ الْجَوَارِي فَأنْكر أمورهن وَقَالَ لعيسى تِلْمِيذه يَا تلميذ الشَّيْطَان لم أدخلت هَؤُلَاءِ منزلي امْضِ ردهن إِلَى صاحبهن ثمَّ ركب جورجس وَعِيسَى وَمَعَهُ الْجَوَارِي إِلَى دَار الْخَلِيفَة وردهن على الْخَادِم
فَلَمَّا اتَّصل الْخَبَر بالمنصور أحضرهُ وَقَالَ لَهُ لم رددت الْجَوَارِي قَالَ لَهُ هَؤُلَاءِ لَا يكونُونَ معي فِي بَيت وَاحِد لأَنا نَحن معشر النَّصَارَى لَا نتزوج بِأَكْثَرَ من امْرَأَة وَاحِدَة
وَمَا دَامَت الْمَرْأَة فِي الْحَيَاة لَا نَأْخُذ غَيرهَا
فَحسن موقعه من الْخَلِيفَة وَأمر فِي وقته أَن يدْخل جورجس إِلَى حظاياه وَحرمه ويخدمهن
وَزَاد مَوْضِعه فِي عينه وَعظم مَحَله
قَالَ فثيون وَلما كَانَ فِي سنة مائَة واثنتين وَخمسين سنة مرض جورجس مَرضا صعبا
وَكَانَ الْخَلِيفَة يُرْسل إِلَيْهِ فِي كل يَوْم الخدم حَتَّى يعرف خَبره
وَلما اشْتَدَّ مرض جورجس أَمر بِهِ الْخَلِيفَة فَحمل على سَرِير إِلَى دَار الْعَامَّة وَخرج إِلَيْهِ الْخَلِيفَة مَاشِيا وَرَاءه وَسَأَلَهُ عَن خَبره
فَبكى جورجس بكاء شَدِيدا وَقَالَ لَهُ إِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ الله بَقَاءَهُ أَن يَأْذَن لي فِي الْمصير إِلَى بلدي لأنظر إِلَى أَهلِي وَوَلَدي وَإِن مت قبرت مَعَ آبَائِي
فَقَالَ الْخَلِيفَة يَا جورجس اتَّقِ الله وَأسلم وَأَنا أضمن لَك الْجنَّة
قَالَ جورجس أَنا على دين آبَائِي أَمُوت وَحَيْثُ يكون آبَائِي أحب أَن أكون
إِمَّا فِي الْجنَّة أَو فِي جَهَنَّم
فَضَحِك الْخَلِيفَة من قَوْله وَقَالَ لَهُ وجدت رَاحَة عَظِيمَة فِي جسمي مُنْذُ رَأَيْتُك وَإِلَى هَذِه الْغَايَة
وَقد تخلصت من الْأَمْرَاض الَّتِي كَانَت تلحقني
قَالَ لَهُ جورجس إِنِّي أخلف بَين يَديك عِيسَى وَهُوَ تربيتي
فَأمر الْخَلِيفَة أَن يخرج جورجس إِلَى بَلَده وَأَن يدْفع إِلَيْهِ عشرَة آلَاف دِينَار
وانفذ مَعَه خَادِمًا وَقَالَ إِن مَاتَ فِي طَرِيقه فاحمله إِلَى منزله ليدفن هُنَاكَ كَمَا آثر
فوصل إِلَى بَلَده حَيا
وَحصل عِيسَى بِي شهلا فِي الْخدمَة وَبسط يَده على المطارنة والأساقفة يَأْخُذ أَمْوَالهم لنَفسِهِ حَتَّى إِنَّه كتب إِلَى مطران نَصِيبين كتابا يلْتَمس مِنْهُ فِيهِ من آلَات الْبيعَة أَشْيَاء جليلة الْمِقْدَار ويتهدده مَتى أَخّرهَا عَنهُ
وَقَالَ فِي كِتَابه إِلَى المطران أَلَسْت تعلم أَن أَمر الْملك بيَدي إِن شِئْت أمرضته وَإِن شِئْت عافيته
فعندما وقف المطران على الْكتاب احتال فِي التَّوَصُّل حَتَّى وافى الرّبيع وَشرح لَهُ صورته واقرأه الْكتاب
فأوصله الرّبيع إِلَى الْخَلِيفَة حَتَّى عرف شرح مَا جرى
فَأمر بِنَفْي عِيسَى بن شهلا بعد أَن أَخذ مِنْهُ جَمِيع مَا ملكه
ثمَّ قَالَ الْخَلِيفَة للربيع سل عَن جورجس فَإِن كَانَ حَيا فانفذ من يحضرهُ وَإِن كَانَ قد مَاتَ فَاحْضُرْ ابْنه
فَكتب الرّبيع إِلَى الْعَامِل بجندي سَابُور فِي ذَلِك وَاتفقَ أَن جورجس سقط فِي تِلْكَ الْأَيَّام من السَّطْح وَضعف ضعفا فَلَمَّا خاطبه أَمِير الْبَلَد قَالَ لَهُ أَنا أنفذ إِلَى الْخَلِيفَة طَبِيبا ماهرا يَخْدمه إِلَى أَن أصلح وأتوجه إِلَيْهِ
واحضر إِبْرَاهِيم تِلْمِيذه وأنفذه إِلَى الْأَمِير مَعَ كتاب شرح فِيهِ حَال جورجس إِلَى الرّبيع
فَلَمَّا وصل(1/185)
إِلَى الرّبيع أوصله إِلَى الْخَلِيفَة وخاطبه الْخَلِيفَة فِي أَشْيَاء فَوَجَدَهُ فِيهَا حاد المزاج جيد الْجَواب فقربه وأكرمه وخلع عَلَيْهِ ووهب لَهُ مَالا واستخلصه لخدمته وَلم يزل فِي الْخدمَة إِلَى أَن مَاتَ الْمَنْصُور
ولجورجس من الْكتب كناشه الْمَشْهُور وَنَقله حنين بن إِسْحَاق من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ
بختيشوع بن جورجس
وَمعنى بختيشوع عبد الْمَسِيح لِأَن فِي اللُّغَة السريانية البخت العَبْد ويشوع عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام
وَكَانَ بختيشوع يلْحق بِأَبِيهِ فِي مَعْرفَته بصناعة الطِّبّ ومزاولته لأعمالها وخدم هرون الرشيد وتميز فِي أَيَّامه
قَالَ فثيون الترجمان لما مرض مُوسَى الْهَادِي أرسل إِلَى جندي سَابُور من يحضر لَهُ بختيشوع فَمَاتَ قبل قدوم بختيشوع وَكَانَ من خَبره أَنه جمع الْأَطِبَّاء وهم أَبُو قُرَيْش عِيسَى وَعبد الله الطيفوري وداؤد بن سرابيون وَقَالَ لَهُم أَنْتُم تأخذون أَمْوَالِي وجوائزي وَفِي وَقت الشدَّة تتقاعدون بِي
فَقَالَ لَهُ أَبُو قُرَيْش علينا الِاجْتِهَاد وَالله يهب السَّلامَة
فاغتاظ من هَذَا فَقَالَ لَهُ الرّبيع قد وصف لنا أَن بنهر صَرْصَر طَبِيبا ماهرا يُقَال لَهُ عبد يشوع بن نصر فَأمر بإحضاره وَبِأَن تضرب أَعْنَاق الْأَطِبَّاء
فَلم يفعل الرّبيع هَذَا لعلمه باختلال عقله من شدَّة الْمَرَض وَلِأَنَّهُ كَانَ آمنا مِنْهُ
وَوجه إِلَى صَرْصَر حَتَّى أحضر الرجل وَلما دخل على مُوسَى قَالَ لَهُ رَأَيْت القارورة قَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَهَا أَنا أصنع لَك دَوَاء تَأْخُذهُ وَإِذا كَانَ على تسع سَاعَات تَبرأ وتتخلص وَخرج من عِنْده وَقَالَ للأطباء
لَا تشْغَلُوا قُلُوبكُمْ فَإِنَّكُم فِي هَذَا الْيَوْم تنصرفون إِلَى بُيُوتكُمْ
وَكَانَ الْهَادِي قد أَمر بِأَن يدْفع إِلَيْهِ عشرَة آلَاف دِرْهَم ليبتاع لَهُ بهَا الدَّوَاء فَأَخذهَا وَوجه بهَا إِلَى بَيته وأحضر أدوية وَجمع الْأَطِبَّاء بِالْقربِ من مَوضِع الْخَلِيفَة وَقَالَ لَهُم دقوا حَتَّى يسمع وتسكن نَفسه فَإِنَّكُم فِي آخر النَّهَار تتخلصون
وَكَانَ كل سَاعَة يَدْعُو بِهِ ويسأله عَن الدَّوَاء فَيَقُول لَهُ هوذا تسمع صَوت الدق فيسكت
وَلما كَانَ بعد تسع سَاعَات مَاتَ وتخلص الْأَطِبَّاء وَهَذَا فِي سنة سبعين وَمِائَة
قَالَ فثيون وَلما كَانَ فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَة مرض هرون الرشيد من صداع لحقه فَقَالَ(1/186)
ليحيى بن خَالِد هَؤُلَاءِ الْأَطِبَّاء لَيْسَ يحسنون شَيْئا فَقَالَ لَهُ يحيى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَبُو قُرَيْش طَبِيب والدك ووالدتك
فَقَالَ لَيْسَ هُوَ بَصيرًا بالطب وَإِنَّمَا كَرَامَتِي لَهُ لقديم حرمته
فَيَنْبَغِي أَن تطلب لي طَبِيبا ماهرا
فَقَالَ لَهُ يحيى بن خَالِد إِنَّه لما مرض أَخُوك مُوسَى أرسل والدك إِلَى جندي سَابُور حَتَّى أحضر رجلا يعرف ببختيشوع
قَالَ لَهُ فَكيف تَركه يمْضِي فَقَالَ لما رأى عِيسَى أَبَا قُرَيْش ووالدتك يحسدانه أذن لَهُ فِي الِانْصِرَاف إِلَى بَلَده فَقَالَ لَهُ أرسل بالبريد حَتَّى يحملوه إِن كَانَ حَيا
وَلما كَانَ بعد مُدَّة مديدة وافى بختيشوع الْكَبِير ابْن جورجس وَوصل إِلَى هرون الرشيد ودعا لَهُ بِالْعَرَبِيَّةِ وبالفارسية
فَضَحِك الْخَلِيفَة وَقَالَ ليحيى بن خَالِد أَنْت منطقي فَتكلم مَعَه حَتَّى اسْمَع كَلَامه
فَقَالَ لَهُ يحيى بل نَدْعُو بالأطباء فدعى بهم وهم أَبُو قُرَيْش عِيسَى وَعبد الله الطيفوري وَدَاوُد بن سرابيون وسرجس
فَلَمَّا رَأَوْا بختيشوع قَالَ أَبُو قُرَيْش يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَيْسَ فِي الْجَمَاعَة من يقدر على الْكَلَام مَعَ هَذَا لِأَنَّهُ كَون الْكَلَام هُوَ وَأَبوهُ وجنسه فلاسفة فَقَالَ الرشيد لبَعض الخدم أحضرهُ مَاء دَابَّة حَتَّى نجربه فَمضى الْخَادِم وأحضره قَارُورَة المَاء
فَلَمَّا رَآهُ قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَيْسَ هَذَا بَوْل إِنْسَان
قَالَ لَهُ أَبُو قُرَيْش كذبت هَذَا مَاء حظية الْخَلِيفَة
فَقَالَ لَهُ بختيشوع لَك أَقُول أَيهَا الشَّيْخ الْكَرِيم لم يبل هَذَا إِنْسَان الْبَتَّةَ
وَإِن كَانَ الْأَمر على مَا قلت فلعلها صَارَت بَهِيمَة
فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة من أَيْن علمت أَنه لَيْسَ ببول إِنْسَان قَالَ لَهُ بختيشوع لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ قوام بَوْل النَّاس وَلَا لَونه وَلَا رِيحه
قَالَ لَهُ الْخَلِيفَة بَين يَدي من قَرَأت قَالَ لَهُ قُدَّام أبي جورجس قَرَأت
قَالَ لَهُ الْأَطِبَّاء أَبوهُ كَانَ اسْمه جورجس وَلم يكن مثله فِي زَمَانه وَكَانَ يُكرمهُ أَبُو جَعْفَر الْمَنْصُور إِكْرَاما شَدِيدا ثمَّ الْتفت الْخَلِيفَة إِلَى بختيشوع فَقَالَ لَهُ مَا ترى أَن نطعم صَاحب هَذَا المَاء فَقَالَ شَعِيرًا جيدا
فَضَحِك الرشيد ضحكا شَدِيدا وَأمر فَخلع عَلَيْهِ خلعة حَسَنَة جليلة ووهب لَهُ مَالا وافرا
وَقَالَ بختيشوع يكون رَئِيس الْأَطِبَّاء كلهم وَله يسمعُونَ ويطيعون
ولبختيشوع بن جورجس من الْكتب كناش مُخْتَصر
كتاب التَّذْكِرَة أَلفه لِابْنِهِ جِبْرَائِيل
جِبْرَائِيل بن بختيشوع بن جورجس
كَانَ مَشْهُورا بِالْفَضْلِ جيد التَّصَرُّف فِي المداواة
عالي الهمة سعيد الْجد حظيا عِنْد الْخُلَفَاء رفيع الْمنزلَة عِنْدهم كثيري الْإِحْسَان إِلَيْهِ
وَحصل من جهتهم من الْأَمْوَال مَا لم يحصله غَيره من الْأَطِبَّاء(1/187)
قَالَ فثيون الترجمان لما كَانَ فِي سنة خمس وَسبعين وَمِائَة مرض جَعْفَر بن يحيى بن خَالِد بن برمك فَتقدم الرشيد إِلَى بختيشوع أَن يتَوَلَّى خدمته ومعالجته
وَلما كَانَ فِي بعض الْأَيَّام قَالَ لَهُ جَعْفَر أُرِيد أَن تخْتَار لي طَبِيبا ماهرا أكْرمه وَأحسن إِلَيْهِ
قَالَ لَهُ بختيشوع ابْني جِبْرَائِيل أمهر مني وَلَيْسَ فِي الْأَطِبَّاء من يشاكله
فَقَالَ لَهُ أحضرنيه
وَلما أحضرهُ عالجه فِي مُدَّة ثَلَاثَة أَيَّام وبرأ فَأَحبهُ جَعْفَر مثل نَفسه
وَكَانَ لَا يصبر عَنهُ سَاعَة وَمَعَهُ يَأْكُل وَيشْرب
وَفِي تِلْكَ الْأَيَّام تمطت حظية الرشيد وَرفعت يَدهَا فَبَقيت منبسطة لَا يُمكنهَا ردهَا
والأطباء يعالجونها بالتمريخ والإدهان وَلَا ينفع ذَلِك شَيْئا
فَقَالَ الرشيد لجَعْفَر بن يحيى قد بقيت هَذِه الصبية بعلتها
قَالَ لَهُ جَعْفَر لي طَبِيب ماهر وَهُوَ ابْن بختيشوع نَدْعُوهُ ونخاطبه فِي معنى هَذَا الْمَرَض فَلَعَلَّ عِنْده حِيلَة فِي علاجه
فَأمر بإحضاره وَلما حضر قَالَ لَهُ الرشيد مَا اسْمك قَالَ جِبْرَائِيل
قَالَ لَهُ أَي شَيْء تعرف من الطِّبّ فَقَالَ أبرد الْحَار وأسخن الْبَارِد وأرطب الْيَابِس وأيبس الرطب الْخَارِج عَن الطَّبْع
فَضَحِك الْخَلِيفَة وَقَالَ هَذَا غَايَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي صناعَة الطِّبّ
ثمَّ شرح لَهُ حَال الصبية فَقَالَ لَهُ جِبْرَائِيل إِن لم يسْخط عَليّ أَمِير الْمُؤمنِينَ فلهَا عِنْدِي حِيلَة
فَقَالَ لَهُ وَمَا هِيَ قَالَ تخرج الْجَارِيَة إِلَى هَهُنَا بِحَضْرَة الْجمع حَتَّى أعمل مَا أريده وتمهل عَليّ وَلَا تعجل بالسخط
فَأمر الرشيد بإحضار الْجَارِيَة فَخرجت
وَحين رَآهَا جِبْرَائِيل عدا إِلَيْهَا ونكس رَأسه ومسك ذيلها كَأَنَّهُ يُرِيد أَن يكشفها فانزعجت الْجَارِيَة وَمن شدَّة الْحيَاء والانزعاج استرسلت أعضاؤها وَبسطت يَديهَا إِلَى أَسْفَل ومسكت ذيلها
فَقَالَ جِبْرَائِيل قد بَرِئت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَقَالَ الرشيد لِلْجَارِيَةِ أبسطي يَديك يمنة ويسرة فَفعلت ذَلِك وَعجب الرشيد وكل من كَانَ بَين يَدَيْهِ
وَأمر الرشيد فِي الْوَقْت لجبرائيل بِخَمْسِمِائَة ألف دِرْهَم وأحبه مثل نَفسه وَجعله رَئِيسا على جَمِيع الْأَطِبَّاء
وَلما سُئِلَ جِبْرَائِيل عَن سَبَب الْعلَّة قَالَ هَذِه الْجَارِيَة انصب إِلَى أعضائها وَقت المجامعة خلط رَقِيق بالحركة وانتشار الْحَرَارَة وَلأَجل أَن سُكُون حَرَكَة الْجَمَاعَة تكون بَغْتَة جمدت الفضلة فِي بطُون جَمِيع الأعصاب وَمَا كَانَ يحلهَا إِلَّا حَرَكَة مثلهَا
فاحتلت حَتَّى انبسطت حَرَارَتهَا وانحلت الفضلة
قَالَ فثيون وَكَانَ مَحل جِبْرَائِيل يقوى فِي كل وَقت حَتَّى أَن الرشيد قَالَ لأَصْحَابه كل من كَانَت لَهُ إِلَيّ حَاجَة فليخاطب بهَا جِبْرَائِيل لِأَنِّي أفعل كل مَا يسألني فِيهِ ويطلبه مني
فَكَانَ القواد يقصدونه فِي كل أُمُورهم وحاله تتزايد
ومنذ يَوْم خدم الرشيد وَإِلَى أَن انْقَضتْ خمس عشرَة سنة لم يمرض الرشيد فحظي عِنْده
وَفِي آخر أَيَّام الرشيد عِنْد حُصُوله بطوس مرض المرضة الَّتِي توفّي فِيهَا
وَلما قوي عَلَيْهِ الْمَرَض قَالَ لجبرائيل لم لَا تبرئني فَقَالَ لَهُ قد كنت أَنهَاك دَائِما عَن التَّخْلِيط(1/188)
وَأَقُول لَك قَدِيما أَن تخفف من الْجِمَاع فَلَا تسمع مني
والآن سَأَلتك أَن ترجع إِلَى بلدك فَأَنَّهُ أوفق لمزاجك فَلم تقبل وَهَذَا مرض شَدِيد وَأَرْجُو أَن يمن الله بعافيتك
فَأمر بحبسه
وَقيل لَهُ إِن بِفَارِس أسقفا يفهم الطِّبّ فَوجه من يحضرهُ إِلَيْهِ وَلما حَضَره وَرَآهُ قَالَ لَهُ
الَّذِي عالجك لم يكن يفهم الطِّبّ
فَزَاد ذَلِك أبعاد جِبْرَائِيل
وَكَانَ الْفضل بَين الرّبيع يحب جِبْرَائِيل وَرَأى أَن الأسقف كَذَّاب يُرِيد إِقَامَة السُّوق فَأحْسن فِيمَا بَينه وَبَين جِبْرَائِيل
وَكَانَ الأسقف يعالج الرشيد ومرضه يزِيد وَهُوَ يَقُول لَهُ أَنْت قريب من الصِّحَّة
ثمَّ قَالَ لَهُ هَذَا الْمَرَض كُله من خطأ جِبْرَائِيل
فَتقدم الرشيد بقتْله فَلم يقبل مِنْهُ الْفضل بن الرّبيع لِأَنَّهُ كَانَ يئس من حَيَاته فاستبقى جِبْرَائِيل
وَلما كَانَ بعد أَيَّام يسيرَة مَاتَ الرشيد وَلحق الْفضل بن الرّبيع فِي تِلْكَ الْأَيَّام قولنج صَعب أيس الْأَطِبَّاء مِنْهُ فعالجه جِبْرَائِيل بألطف علاج وَأحسنه فبرأ الْفضل وازدادت محبته لَهُ وعجبه بِهِ
قَالَ فثيون وَلما تولى مُحَمَّد الْأمين وافى إِلَيْهِ جِبْرَائِيل فَقبله أحسن قبُول وأكرمه
ووهب لَهُ أَمْوَالًا جليلة أَكثر مِمَّا كَانَ أَبوهُ يهب لَهُ
وَكَانَ الْأمين لَا يَأْكُل وَلَا يشرب إِلَّا بِإِذْنِهِ فَلَمَّا كَانَ من الْأمين مَا كَانَ وَملك الْأَمر الْمَأْمُون كتب إِلَى الْحسن بن سهل وَهُوَ يخلفه بالحضرة بِأَن يقبض على جِبْرَائِيل ويحبسه لِأَنَّهُ ترك قصره بعد موت أَبِيه الرشيد وَمضى إِلَى أَخِيه الْأمين
فَفعل الْحسن بن سهل هَذَا
وَلما كَانَ فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَمِائَتَيْنِ مرض الْحسن بن سهل مَرضا شَدِيدا وعالجه الْأَطِبَّاء فَلم ينْتَفع بذلك فَأخْرج جِبْرَائِيل من الْحَبْس حَتَّى عالجه وبرأ فِي أَيَّام يسيرَة فوهب لَهُ سرا مَالا وافرا
وَكتب إِلَى الْمَأْمُون يعرفهُ خبر علته وَكَيف برأَ على يَد جبرئيل ويسأله فِي أمره
فَأَجَابَهُ بالصفح عَنهُ
قَالَ فثيون وَلما دخل الْمَأْمُون الحضرة فِي سنة خمس وَمِائَتَيْنِ أَمر بِأَن يجلس جِبْرَائِيل فِي منزله وَلَا يخْدم وَوجه من أحضر ميخائيل المتطبب وَهُوَ صهر جِبْرَائِيل وَجعله مَكَانَهُ وأكرمه إِكْرَاما وافرا كيادا لجبرائيل
قَالَ وَلما كَانَ فِي سنة عشر وَمِائَتَيْنِ مرض الْمَأْمُون مَرضا صعبا وَكَانَ وُجُوه الْأَطِبَّاء يعالجونه وَلَا يصلح فَقَالَ ليمخائيل الْأَدْوِيَة الَّتِي تُعْطِينِي تزيدني شرا فاجمع الْأَطِبَّاء وشاورهم فِي أَمْرِي
فَقَالَ لَهُ أَخُوهُ أَبُو عِيسَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نحضر جِبْرَائِيل فَإِنَّهُ يعرف مزاجاتنا مُنْذُ الصِّبَا فتغافل(1/189)
عَن كَلَامه
وأحضر أَبُو إِسْحَق أَخُوهُ يوحنا بن ماسويه فثلبه ميخائيل طبيبه وَوَقع فِيهِ وَطعن عَلَيْهِ
فَلَمَّا ضعفت قُوَّة الْمَأْمُون عَن أَخذ الْأَدْوِيَة أذكروه بجبرائيل فَأمر بإحضاره
وَلما حضر غير تَدْبيره كُله فاستقل بعد يَوْم وَبعد ثَلَاثَة أَيَّام صلح
فسر بِهِ الْمَأْمُون سُرُورًا عَظِيما
وَلما كَانَ بعد أَيَّام يسيرَة صلح صلاحا تَاما وَأذن لَهُ جِبْرَائِيل فِي الْأكل وَالشرب فَفعل ذَلِك
وَقَالَ لَهُ أَبُو عِيسَى أَخُوهُ وَهُوَ جَالس مَعَه على الشّرْب مثل هَذَا الرجل الَّذِي لم يكن مثله وَلَا يكون سَبيله أَن يكرم
فَأمر لَهُ الْمَأْمُون بِأَلف ألف دِرْهَم وبألف كرّ حِنْطَة ورد عَلَيْهِ سَائِر مَا قبض مِنْهُ من الْأَمْلَاك والضياع وَصَارَ إِذا خاطبه كناه بِأبي عِيسَى جِبْرَائِيل وأكرمه زِيَادَة على مَا كَانَ أَبوهُ يُكرمهُ
وانْتهى بِهِ الْأَمر فِي الْجَلالَة إِلَى أَن كَانَ كل من تقلد عملا لَا يخرج إِلَى عمله إِلَّا بعد أَن يلقى جِبْرَائِيل ويكرمه
وَكَانَ عِنْد الْمَأْمُون مثل أَبِيه وَنقص مَحل ميخائيل الطَّبِيب صهر جِبْرَائِيل وانحط
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم دخلت على جِبْرَائِيل دَاره الَّتِي بالميدان فِي يَوْم من تموز وَبَين يَدَيْهِ الْمَائِدَة وَعَلَيْهَا فراخ طيور مسرولة كبار وَقد عملت كردناجا بفلفل وَهُوَ يَأْكُل مِنْهَا وطالبني بِأَن آكل مَعَه
فَقلت لَهُ كَيفَ آكل مِنْهَا فِي مثل هَذَا الْوَقْت من السّنة وسني سنّ الشَّبَاب فَقَالَ لي مَا الحمية عنْدك فَقلت تجنب الأغذية الرَّديئَة
فَقَالَ لي غَلطت لَيْسَ مَا ذكرت حمية
ثمَّ قَالَ لَا أعرف أحدا عظم قدره وَلَا صغر يصل إِلَى الْإِمْسَاك عَن غذَاء من الأغذية كل دهره إِلَّا أَن يكون يبغضه وَلَا تتوق نَفسه إِلَيْهِ
لِأَن الْإِنْسَان قد يمسك عَن أكل الشَّيْء بُرْهَة من دهره ثمَّ يضطره إِلَى أكله عدم أَدَم سواهُ لعِلَّة من الْعِلَل أَو مساعدة لعليل يكون عِنْده أَو صديق يحلف عَلَيْهِ أَو شَهْوَة تتجدد لَهُ
فَمَتَى أكله وَقد أمسك عَن أكله مِنْهُ الْمدَّة الطَّوِيلَة لم تقبله طَبِيعَته ونفرت مِنْهُ وأحدث ذَلِك فِي بدن آكله مَرضا كثيرا وَرُبمَا أَتَى على نَفسه
والأصلح للأبدان تمرينها على أكل الأغذية الرَّديئَة حَتَّى تألفها
وَأَن يَأْكُل مِنْهَا فِي كل يَوْم شَيْئا وَاحِدًا وَلَا يجمع أكل شَيْئَيْنِ رديئين فِي يَوْم وَاحِد وَإِذا أكل من بعض هَذِه الْأَشْيَاء فِي يَوْم لم يعاود أكله فِي غَد ذَلِك الْيَوْم
فَإِن الْأَبدَان إِذا مرنت على أكل هَذِه الْأَشْيَاء ثمَّ اضْطر الْإِنْسَان إِلَى الْإِكْثَار من أكل بَعْضهَا لم تنفر الطبيعة مِنْهُ
فقد رَأينَا الْأَدْوِيَة المسهلة إِذا أدمنها مدمن وألفها بدنه قل فعلهَا وَلم تسهل
وَهَؤُلَاء أهل الأندلس إِذا أَرَادَ أحدهم إسهال طَبِيعَته أَخذ من السقمونيا وزن ثَلَاثَة دَرَاهِم حَتَّى تلين طَبِيعَته مِقْدَار مَا يلينها نصف دِرْهَم فِي بلدنا وَإِذا كَانَت(1/190)
الْأَبدَان تألف الْأَدْوِيَة حَتَّى تمنعها من فعلهَا فَهِيَ للأغذية وَإِن كَانَت رَدِيئَة أَشد إلفا
قَالَ يُوسُف فَحدثت بِهَذَا الحَدِيث بختيشوع بن جِبْرَائِيل فَسَأَلَنِي إملاءه عَلَيْهِ وَكتبه عني بِخَطِّهِ
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي سُلَيْمَان الْخَادِم الْخُرَاسَانِي مولى الرشيد إِنَّه كَانَ وَاقِفًا على رَأس الرشيد بِالْحيرَةِ يَوْمًا وَهُوَ يتغدى إِذْ دخل عَلَيْهِ عون الْعَبَّادِيّ الْجَوْهَرِي وَهُوَ حَامِل صَحْفَة فِيهَا سَمَكَة منعوتة بالسمن فوضعها بَين يَدَيْهِ وَمَعَهَا محشي قد اتَّخذهُ لَهَا
فحاول الرشيد أكل شَيْء مِنْهَا فَمَنعه من ذَلِك جِبْرَائِيل وغمز صَاحب الْمَائِدَة بعزلها لَهُ
وفطن الرشيد فَلَمَّا رفعت الْمَائِدَة وَغسل الرشيد يَده خرج جِبْرَائِيل عَن حَضرته
قَالَ سُلَيْمَان فَأمرنِي الرشيد باتباعه وإخفاء شخصي عَنهُ وَأَن اتفقد مَا يعمله وارجع إِلَيْهِ بِخَبَرِهِ فَفعلت مَا أَمرنِي بِهِ وأحسب أَن أَمْرِي لم يسْتَتر عَن جِبْرَائِيل لما تبينت من تحرزه
فَصَارَ إِلَى مَوضِع من دَار عون ودعا بِالطَّعَامِ فأحضر لَهُ وَفِيه السَّمَكَة ودعا بِثَلَاثَة أقداح من فضَّة فَجعل فِي وَاحِد قِطْعَة مِنْهَا وصب عَلَيْهِ خمرًا من خمر طيرناباذ بِغَيْر مَاء وَقَالَ هَذَا أكل جِبْرَائِيل
وَجعل فِي قدح آخر قِطْعَة وصب عَلَيْهَا مَاء بثلج وَقَالَ هَذَا أكل أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن لم يخلط السّمك بِغَيْرِهِ
وَجعل فِي الْقدح الثَّالِث قِطْعَة من السّمك وَمَعَهَا قطعا من اللَّحْم من ألوان مُخْتَلفَة وَمن شواء وحلواء وبوارد وفراريج وَبقول وصب عَلَيْهِ مَاء بثلج وَقَالَ هَذَا طَعَام أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن خلط السّمك بِغَيْرِهِ
وَرفع الثَّلَاثَة الأقداح إِلَى صَاحب الْمَائِدَة وَقَالَ احتفظ بهَا إِلَى أَن ينتبه أَمِير الْمُؤمنِينَ من قائلته
قَالَ سُلَيْمَان الْخَادِم ثمَّ أقبل جِبْرَائِيل على السَّمَكَة فَأكل مِنْهَا حَتَّى تضلع
وَكَانَ كلما عَطش دَعَا بقدح مَعَ الْخمر الصّرْف فشربه ثمَّ نَام
فَلَمَّا انتبه الرشيد من نَومه دَعَاني فَسَأَلَنِي عَمَّا عِنْدِي من خبر جِبْرَائِيل وَهل أكل من السَّمَكَة شَيْئا أم لم يَأْكُل فَأَخْبَرته بالْخبر فَأمر بإحضار الثَّلَاثَة الأقداح فَوجدَ الَّذِي صب عَلَيْهِ الْخمر الصّرْف قد تفتت وَلم يبْق مِنْهُ شَيْء
وَوجد الَّذِي صب عَلَيْهِ المَاء بالثلج قد رَبًّا وَصَارَ على أَكثر من الضعْف مِمَّا كَانَ وَوجد الْقدح الَّذِي السّمك وَاللَّحم فِيهِ قد تَغَيَّرت رَائِحَته وَحدثت لَهُ سهوكة شَدِيدَة
فَأمرنِي الرشيد بِحمْل خَمْسَة آلَاف دِينَار إِلَى جِبْرَائِيل وَقَالَ من يلومني على محبَّة هَذَا الرجل الَّذِي يدبرني هَذَا التَّدْبِير
فأوصلت إِلَيْهِ المَال
وَقَالَ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي فِي كتاب أدب الطَّبِيب عَن عِيسَى بن ماسة أَن يوحنا(1/191)
بن ماسويه أخبرهُ أَن الرشيد قَالَ لجبرائيل بن بختيشوع وَهُوَ حَاج بِمَكَّة يَا جِبْرَائِيل علمت مرتبتك عِنْدِي
قَالَ يَا سَيِّدي وَكَيف لَا أعلم قَالَ لَهُ دَعَوْت لَك وَالله فِي الْموقف دُعَاء كثيرا ثمَّ الْتفت إِلَى بني هَاشم فَقَالَ عَسى أنكرتم قولي لَهُ فَقَالُوا يَا سيدنَا ذمِّي فَقَالَ نعم وَلَكِن صَلَاح بدني وقوامه بِهِ وَصَلَاح الْمُسلمين بِي
فصلاحهم بصلاحه وبقائه
فَقَالُوا صدقت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
ونقلت من بعض التواريخ قَالَ جِبْرَائِيل بن بختيشوع المتطبب اشْتريت ضَيْعَة بسبعماية ألف دِرْهَم فنقدت بعض الثّمن وَتعذر عَليّ بعضه فَدخلت على يحيى بن خَالِد وَعِنْده وَلَده وَأَنا أفكر
فَقَالَ مَالِي أَرَاك مفكرا فَقلت اشْتريت ضَيْعَة بسبعمائة ألف فنقدت بعض الثّمن وَتعذر عَليّ بعضه
قَالَ فَدَعَا بالدواة وَكتب يعْطى جِبْرَائِيل سَبْعمِائة ألف دِرْهَم
ثمَّ دفع إِلَى كل وَاحِد من وَلَده فَوَقع فِيهِ ثلثمِائة ألف
قَالَ فَقلت جعلت فدَاك قد أدّيت عَامَّة الثّمن وَإِنَّمَا بَقِي أَقَله
قَالَ اصرف ذَلِك فِيمَا يَنُوبك ثمَّ صرت إِلَى دَار أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَلَمَّا رَآنِي قَالَ مَا أَبْطَأَ بك قلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كنت عِنْد أَبِيك وأخوتك فَفَعَلُوا بِي كَذَا وَكَذَا وَإِنَّمَا ذَلِك لخدمتي لَك
قَالَ فَمَا حَالي أَنا ثمَّ دَعَا بدابته فَركب إِلَى يحيى فَقَالَ يَا أَبَت أَخْبرنِي جِبْرَائِيل بِمَا كَانَ فَمَا حَالي أَنا من بَين ولدك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مر بِمَا شِئْت يحمل إِلَيْهِ
فَأمر لي بِخَمْسِمِائَة ألف
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم الحاسب الْمَعْرُوف بِابْن الداية كَانَ لأم جَعْفَر بنت أبي الْفضل فِي قصر عِيسَى بن عَليّ الَّذِي كَانَت تسكنه مجْلِس لَا يجلس فِيهِ إِلَّا الْحساب والمتطببون وَكَانَت لَا تَشْتَكِي عِلّة إِلَى متطبب حَتَّى يحضر جَمِيع أهل الصناعتين وَيكون مقامهم فِي ذَلِك الْمجْلس إِلَى وَقت جلوسها فَكَانَت تجْلِس لَهُم فِي أحد موضِعين إِمَّا عِنْد الشباك الَّذِي على الدّكان الْكَبِير المحاذي للشباك وللباب الأول من أَبْوَاب الدَّار أَو عِنْد الْبَاب الصَّغِير المحاذي لمَسْجِد الدَّار
فَكَانَ الْحساب والمتطببون يَجْلِسُونَ من خَارج الْموضع الَّذِي تجْلِس فِيهِ
ثمَّ تَشْتَكِي مَا تَجِد فيتناظر المتطببون فِيمَا بَينهم حَتَّى يجتمعوا على الْعلَّة والعلاج فَإِن كَانَ بَينهم اخْتِلَاف دخل الْحساب بَينهم وَقَالُوا بِتَصْدِيق الْمُصِيب عِنْدهم
ثمَّ تسْأَل الْحساب عَن اخْتِيَار وَقت لذَلِك العلاج
فَإِن اجْتَمعُوا على وَقت وَإِلَّا نظر المتطببون فِيمَا بَين الْحساب وحكموا لألزمهم الْقيَاس فاعتلت عِنْد اجتماعها على الْحَج آخر حجَّة حجتها عِلّة أجمع متطببوها على إِخْرَاج الدَّم من سَاقيهَا بالحجامة وَاخْتَارَ الْحساب لَهَا يَوْمًا تحتجم فِيهِ وَكَانَ ذَلِك فِي شهر رَمَضَان فَلم يُمكن أَن تكون الْحجامَة إِلَّا فِي آخر النَّهَار
فَكَانَ مِمَّن يخْتَلف إِلَيْهَا من الْحساب الْحسن بن مُحَمَّد الطوسي التَّمِيمِي الْمَعْرُوف بالأبح وَعمر بن الفرخان الطَّبَرِيّ وَشُعَيْب الْيَهُودِيّ
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم وَكنت مَتى عرضت للأبح عِلّة أَو عاقه عَن حُضُور دَار أم جَعْفَر عائق حضرت عَنهُ
فَحَضَرت ذَلِك الْمجْلس فِي الْوَقْت الَّذِي وَقع الِاخْتِيَار على حجامة أم جَعْفَر فِيهِ(1/192)
فوافيت ابْنا لداؤد بن سرافيون حَدثا يشبه أَن يكون ابْن أقل من عشْرين سنة قد أمرت أم جَعْفَر بإحضاره مَعَ المتطببين ليتأدب بِحُضُور ذَلِك الْمجْلس وَقد تقدّمت إِلَى جَمِيع من يطِيف بهَا من المتطببين فِي تَعْلِيمه وتوقيفه عناية بِهِ لمَكَان أَبِيه من خدمتها فوافيته وَهُوَ يلاحي متطببا رَاهِبًا أحضر دارها فِي ذَلِك الْيَوْم من أهل الأهواز فِي شرب المَاء للمنتبه من نَومه لَيْلًا
فَقَالَ ابْن داؤد مَا الله خلق بأحمق مِمَّن يشرب مَاء بعد انتباهه من نَومه
ووافى جِبْرَائِيل عِنْدَمَا قَالَ الْغُلَام هَذَا القَوْل بَاب الْبَيْت فَلم يدْخل الْمجْلس إِلَّا وَهُوَ يَقُول أَحمَق وَالله مِنْهُ من تتضرم نَار على كبده فَلم يطفئها
ثمَّ دخل فَقَالَ من صَاحب الْكَلَام الَّذِي سمعته فَقيل لَهُ ابْن داؤد فعنفه على ذَلِك وَقَالَ لَهُ كَانَت لأَبِيك مرتبَة جليلة فِي هَذِه الصِّنَاعَة وتتكلم بِمثل مَا سمعته مِنْك فَقَالَ لَهُ الْغُلَام فكأنك أعزّك الله تطلق شرب المَاء بِاللَّيْلِ عِنْد الانتباه من النّوم فَقَالَ جِبْرَائِيل المحرور الجاف الْمعدة وَمن تعشى وَأكل طَعَاما مالحا فَأَطْلقهُ لَهُ
وَأَنا أمنع مِنْهُ الرطبي الْمعد وَأَصْحَاب البلغم المالح لِأَن فِي مَنعهم من ذَلِك شِفَاء من رطوبات معدهم وَأكل بعض البلغم المالح بَعْضًا
فَسكت عَنهُ جَمِيع من حضر ذَلِك الْمجْلس غَيْرِي فَقلت يَا أَبَا عِيسَى قد بقيت وَاحِدَة
قَالَ وَمَا هِيَ قلت أَن يكون العطشان يفهم من الطِّبّ مثل فهمك فيفهم عطشه من مرار أَو من بلغم مالح
فَضَحِك جِبْرَائِيل ثمَّ قَالَ لي مَتى عطشت لَيْلًا فأبرز رجلك من لحافك وتناوم قَلِيلا فَإِن تزايد عطشك فَهُوَ من حرارة أَو من طَعَام يحْتَاج إِلَى شرب المَاء عَلَيْهِ فَاشْرَبْ
وَأَن نقص من عطشك شَيْء فَأمْسك عَن شرب المَاء فَإِنَّهُ من بلغم مالح
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم وَسَأَلَ أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي جِبْرَائِيل عَن عِلّة الورشكين فَقَالَ هُوَ اسْم ركبته الْفرس من الْكسر والصدر وَاسم الصَّدْر بِالْفَارِسِيَّةِ الفصيحة ور والعامة تسميه بر
وَاسم الْكسر أشكين فَإِذا جمعت اللفظتين كَانَتَا ورشكين أَي هَذِه الْعلَّة من الْعِلَل الَّتِي يجب أَن يكسر عَلَيْهَا الصَّدْر وَهِي عِلّة لَا تستحكم بِإِنْسَان فيكاد ينْهض مِنْهَا
وَإِن من نَهَضَ مِنْهَا لم يُؤمن عَلَيْهِ النكسة سنة إِلَّا أَن يخرج مِنْهُ استفراغ دم كثير تقذفه الطبيعة من الْأنف أَو من أَسْفَل فِي وَقت الْعلَّة أَو بعْدهَا قبل السّنة فَمَتَى حدث ذَلِك سلم مِنْهُ
فَقَالَ أَبُو إِسْحَق كالمتعجب سنة قَالَ نعم جعلني الله فدَاك
وَعلة أُخْرَى يستخف بهَا النَّاس وَهِي الحصبة
فَإِنِّي مَا أمنت على من أَصَابَته من النكسة سنة إِلَّا أَن يُصِيبهُ بعقبها استطلاق بطن يكَاد أَن يَأْتِي على نَفسه أَو يخرج بِهِ خراج كثير فَإِذا أَصَابَهُ أحد هذَيْن أمنت عَلَيْهِ
قَالَ يُوسُف وَدخل جِبْرَائِيل على أبي إِسْحَق يَوْمًا بعقب عِلّة كَانَ فِيهَا وَقد أذن لَهُ فِي أكل اللَّحْم الغليظ فحين جلس وضعت بَين يَدَيْهِ كشكية رطبَة فَأمر برفعها فَسَأَلته عَن السَّبَب(1/193)
فَقَالَ مَا أطلقت لخليفة قطّ حم يَوْمًا وَاحِدًا أكل الكشك سنة كَامِلَة
قَالَ أَبُو إِسْحَق أَي الكشكين أردْت الَّذِي بِلَبن أم الَّذِي بِغَيْر لبن قَالَ الَّذِي بِغَيْر لبن لَا أطلق لَهُ أكله سنة وعَلى قِيَاس مَا يُوجِبهُ الطِّبّ فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يُطلق لَهُ أكل الكشك الْمَعْمُول بِلَبن إِلَّا بعد استكمال ثَلَاث سِنِين
حدث مَيْمُون بن هرون قَالَ حَدثنِي سعيد بن اسحق النَّصْرَانِي قَالَ قَالَ لي جِبْرَائِيل بن بختيشوع كنت مَعَ الرشيد بالرقة وَمَعَهُ الْمَأْمُون وَمُحَمّد الْأمين ولداه وَكَانَ رجلا بادنا كثير الْأكل وَالشرب فَأكل فِي بعض الْأَيَّام أَشْيَاء خلط فِيهَا وَدخل المستراح فَغشيَ عَلَيْهِ وَأخرج فقوي عَلَيْهِ الغشي حَتَّى لم يشك فِي مَوته
وَأرْسل إِلَيّ فَحَضَرت وجسست عرقه فَوَجَدته نبضا خفِيا وَقد كَانَ قبل ذَلِك بأيام يشكو امتلاء وحركة الدَّم فَقلت لَهُم يَمُوت وَالصَّوَاب أَن يحجم السَّاعَة
فَأجَاب الْمَأْمُون إِلَيْهِ وأحضر الْحجام وَتَقَدَّمت بإقعاده فَلَمَّا وضع المحاجم عَلَيْهِ ومصها رَأَيْت الْموضع قد احمر فطابت نَفسِي وَعلمت أَنه حَيّ
فَقلت للحجام اشرط
فَشرط فَخرج الدَّم فسجدت شكرا لله
وَجعل كلما خرج الدَّم يُحَرك رَأسه ويسفر لَونه إِلَى أَن تكلم
وَقَالَ أَيْن أَنا فطيبنا نَفسه وغديناه بصدر دراج وسقيناه شرابًا وَمَا زلنا نشمه الروائح الطّيبَة ونجعل فِي أَنفه الطّيب حَتَّى تراجعت قوته وَأدْخل النَّاس إِلَيْهِ ثمَّ وهب الله عافيته فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام دَعَا صَاحب حرسه فَسَأَلَهُ عَن غَلَّته فِي السّنة فَعرفهُ أَنَّهَا ثلثمِائة ألف دِرْهَم
وَسَأَلَ حَاجِبه عَن غَلَّته فَعرفهُ أَنَّهَا ألف دِرْهَم
فَقَالَ مَا انصفناك حَيْثُ غلات هَؤُلَاءِ وهم يحرسوني من النَّاس على مَا ذكرُوا وَأَنت تحرسني من الْأَمْرَاض والأسقام وَتَكون غلتك مَا ذكرته وَأمر بإقطاعي غلَّة ألف ألف دِرْهَم
فَقلت لَهُ يَا سَيِّدي مَالِي حَاجَة إِلَى الإقطاع وَلَكِن تهب لي مَا اشْترِي بِهِ ضيَاعًا غَلَّتهَا ألف ألف دِرْهَم فَجَمِيع ضياعي أَمْلَاك لَا اقطاع
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَن جِبْرَائِيل لَجأ إِلَيْهِ حِين انتهبت الْعَوام دَاره فِي خلَافَة مُحَمَّد الْأمين فأسكنه مَعَه فِي دَاره وحماه مِمَّن كَانَ يحاول قَتله
قَالَ أَبُو إِسْحَق فَكنت أرى من هلع جِبْرَائِيل وَكَثْرَة أسفه على مَا تلف من مَاله وَشدَّة اغتمامه مَا لم أتوهم أَن أحدا بلغ بِهِ الوجد بِمَالِه مثل الَّذِي بلغ بجبرائيل
قَالَ أَبُو إِسْحَق فَلَمَّا ثارت المبيضة فظهرت العلوية بِالْبَصْرَةِ والأهواز أَتَانِي وَهُوَ مسرور كَأَنَّهُ قد وصل بِمِائَة ألف دِينَار فَقلت لَهُ أرى أَبَا عِيسَى مَسْرُورا فَقَالَ إِنِّي وَالله لمسرور عين السرُور
فَسَأَلته عَن سَبَب سروره فَقَالَ إِنَّه حَاز العلوية ضيَاعًا وضربوا عَلَيْهَا الْمنَار
فَقلت لَهُ مَا أعجب أَمرك انتهبت لَك(1/194)
الْعَوام جُزْءا من مَالك فَخرجت نَفسك من الْجزع إِلَى مَا خرجت إِلَيْهِ وتحوز العلوية جَمِيع مَا تملك فَيظْهر مِنْك من السرُور مثل الَّذِي ظهر فَقَالَ جزعي بِمَا ركبني بِهِ الْعَوام لِأَنِّي أُوتيت فِي مَنَامِي وسلبت فِي عزي وأسلمني من يجب عَلَيْهِ حمايتي
وَلم يتعاظمني مَا كَانَ من العلوية لِأَنَّهُ من أكبر الْمحَال عَيْش مثلي فِي دولتين بِنِعْمَة وَاحِدَة وَلَو لم تفعل العلوية فِي ضياعي مَا فعلوا وَقد كَانَ يجب عَلَيْهِم مَعَ علمهمْ بِصِحَّة طويتي لموَالِي الَّذين أنعم الله عَليّ بنعمتهم الَّتِي ملكونيها أَن يتقدموا فِي حفظ وكلائي والوصاة بضياعي ومزارعي وَإِن يَقُولُوا لم يزل جِبْرَائِيل مائلا إِلَيْنَا فِي أَيَّام دولة أَصْحَابه ومتفضلا علينا من أَمْوَاله وَيُؤَدِّي إِلَيْنَا أَخْبَار سادته
فَكَانَ الْخَبَر مَتى تأدى بذلك إِلَى السُّلْطَان قتلني فسروري بحيازة ضياعي وبسلامة نَفسِي مِمَّا كَانَ هَؤُلَاءِ الْجُهَّال ملكوه مِنْهَا فَلم يهتدوا إِلَيْهِ
قَالَ يُوسُف وحَدثني فرخ الْخَادِم الْمَعْرُوف بِأبي خُرَاسَان مولى صَالح بن الرشيد ووصيه قَالَ كَانَ مولَايَ صَالح بن الرشيد على الْبَصْرَة وَكَانَ عَامله عَلَيْهَا أَبُو الرَّازِيّ
فَلَمَّا أحدث جِبْرَائِيل ابْن بختيشوع عمَارَة دَاره الَّتِي فِي الميدان سَأَلَ مولَايَ أَن يهدي لَهُ خَمْسمِائَة ساجة وَكَانَت الساجة بِثَلَاثَة عشر دِينَارا فَاسْتَكْثر مولَايَ المَال
وَقَالَ لَهُ أما خَمْسمِائَة فَلَا وَلَكِنِّي أكتب إِلَى ابْن الرَّازِيّ فِي حمل مِائَتي ساجة إِلَيْك
وَقَالَ جِبْرَائِيل فَلَيْسَتْ بِي حَاجَة إِلَيْهَا
فال فرخ فَقلت لسيدي أرى جِبْرَائِيل سيدبر عَلَيْك تدبيرا بغيضا
فَقَالَ جِبْرَائِيل أَهْون عَليّ من كل هَين لِأَنِّي لَا أشْرب لَهُ دَوَاء وَلَا أقبل لَهُ علاجا
ثمَّ استزار مولَايَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمَأْمُون فَلَمَّا اسْتَوَى الْمجْلس بالمأمون قَالَ لَهُ جِبْرَائِيل أرى وَجهك متغيرا
ثمَّ قَامَ إِلَيْهِ فجس عرقه وَقَالَ لَهُ يشرب أَمِير الْمُؤمنِينَ شربة سكنجبين وَيُؤَخر الْغَدَاء حَتَّى يفهم الْخَبَر فَفعل الْمَأْمُون مَا أَشَارَ بِهِ وَأَقْبل يجس عرقه فِي الْوَقْت بعد الْوَقْت ثمَّ لم يشْعر بِشَيْء حَتَّى دخل غلْمَان جِبْرَائِيل وَمَعَهُمْ رغيف وَاحِد وَمَعَهُ ألوان قد اتَّخذت من قرع وماش وَمَا أشبه ذَلِك
فَقَالَ إِنِّي أكره لأمير الْمُؤمنِينَ أَن يَأْكُل فِي يَوْمه هَذَا شَيْئا من لُحُوم الْحَيَوَان فَليَأْكُل هَذِه الألوان فَأكل مِنْهَا ونام
فَلَمَّا انتبه من قائلته قَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ رَائِحَة النَّبِيذ تزيد فِي الْحَرَارَة والرأي لَك الِانْصِرَاف
فَانْصَرف الْمَأْمُون وَتَلفت نَفَقَة مولَايَ كلهَا
فَقَالَ لي مولَايَ يَا أَبَا خُرَاسَان التَّمْيِيز بَين مِائَتي ساجة وَخَمْسمِائة ساجة واستزارة الْخَلِيفَة لَا يَجْتَمِعَانِ
قَالَ يُوسُف وحَدثني جورجس بن ميخائيل عَن خَاله جِبْرَائِيل وَكَانَ جِبْرَائِيل لَهُ مكرما لِكَثْرَة علمه لِأَنِّي لم أر فِي أهل هَذَا الْبَيْت بعد جِبْرَائِيل أعلم مِنْهُ على عجب كَانَ فِيهِ شَدِيدا وسخف(1/195)
كثير إِن جِبْرَائِيل أخبرهُ أَنه أنكر من الرشيد قلَّة الرزء للطعام أول الْمحرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة وَأَنه لم يكن يرى فِي مَائه وَلَا فِي مجسة عرقه مَا يدل على عِلّة توجب قلَّة الطَّعَام فَكَانَ يَقُول للرشيد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بدنك صَحِيح سليم بِحَمْد الله من الْعِلَل وَمَا أعرف لتركك اسْتِيفَاء الْغذَاء معنى
فَقَالَ لي لما أكثرت عَلَيْهِ من القَوْل فِي هَذَا الْبَاب قد استوخمت مَدِينَة السَّلَام وَأَنا أكره الاستبعاد عَنْهَا فِي هَذِه الْأَيَّام
أفتعرف مَكَانا بِالْقربِ مِنْهَا صَحِيح الْهَوَاء فَقلت لَهُ الْحيرَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَقَالَ قد نزلنَا الْحيرَة مرَارًا فأجحفنا بعون الْعَبَّادِيّ فِي نزولنا بَلَده وَهِي أَيْضا بعيدَة
فَقلت يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فالأنبار طيبَة وظهرها فاصح هَوَاء من الْحيرَة فَخرج إِلَيْهَا فَلم يَزْدَدْ فِي طَعَامه شَيْئا بل نقص وَصَامَ يَوْم الْخَمِيس قبل قَتله جعفرا بيومين وَلَيْلَة
وأحضر جعفرا عشاءه وَكَانَ أَيْضا صَائِما فَلم يصب الرشيد من الطَّعَام كثير شَيْء
فَقَالَ لَهُ جَعْفَر يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَو استزدت من الطَّعَام فَقَالَ لَو أردْت ذَلِك لقدرت عَلَيْهِ
إِلَّا أَنِّي أَحْبَبْت أَن أَبيت خَفِيف الْمعدة لأصبح وَأَنا أشتهي الطَّعَام وأتغدى مَعَ الْحرم
ثمَّ بكر بالركوب غَدَاة يَوْم الْجُمُعَة متنسما وَركب مَعَه جَعْفَر بن يحيى فرأيته وَقد أَدخل يَده فِي كم جَعْفَر حَتَّى بلغ بدنه فضمه إِلَيْهِ وعانقه وَقبل بَين عَيْنَيْهِ وَسَار يَده فِي يَد جَعْفَر أَكثر من ألف ذِرَاع
ثمَّ رَجَعَ إِلَى مضربه وَقَالَ بحياتي أما اصطبحت فِي يَوْمك هَذَا وَجَعَلته يَوْم سرُور فَإِنِّي مَشْغُول بأهلي
ثمَّ قَالَ لي يَا جِبْرَائِيل أَنا أتغدى مَعَ حرمي فَكُن مَعَ أخي تسر بسروره
فسرت مَعَ جَعْفَر واحضر طَعَامه فتغدينا واحضر أَبَا زكار الْمُغنِي وَلم يحضر مَجْلِسه غَيرنَا وَرَأَيْت الْخَادِم بعد الْخَادِم يدْخل إِلَيْنَا فيساره فيتنفس عِنْد مسارتهم إِيَّاه وَيَقُول وَيحك يَا أبي عِيسَى لم يطعم أَمِير الْمُؤمنِينَ بعد وَأَنا وَالله خَائِف أَن تكون بِهِ عِلّة تَمنعهُ من الْأكل
وَيَأْمُر كلما أَرَادَ أَن يشرب قدحا أَبَا زكار أَن يُغْنِيه
(إِن بني الْمُنْذر حِين انقضوا ... بِحَيْثُ شاد الْبيعَة الراهب)
(أضحوا وَلَا يُرهبهُمْ رَاهِب ... حَقًا وَلَا يرجوهم رَاغِب)
(كَانَت من الْخَزّ لبوساتهم ... لم يجلب الصُّوف لَهُم جالب)
(كَأَنَّمَا جئتهم لعبة ... سَار إِلَى لبن بهَا رَاكب) السَّرِيع
فيغنيه أَبُو زكار هَذَا الصَّوْت وَلَا يقترح عَلَيْهِ غَيره
فَلم تزل هَذِه حَالنَا إِلَى أَن صليت الْعَتَمَة
ثمَّ دخل إِلَيْنَا أَبُو هَاشم مسرور الْكَبِير وَمَعَهُ خَليفَة هرثمة بن أعين وَمَعَهُ جمَاعَة كَثِيرَة من الْجند
فَمد يَده خَليفَة هرثمة إِلَى يَد جَعْفَر ثمَّ قَالَ لَهُ قُم يَا فَاسق قَالَ جِبْرَائِيل وَلم أكلم وَلم يُؤمر فِي بِأَمْر وصرت إِلَى منزلي من سَاعَتِي وَأَنا لَا أَعقل
فَمَا أَقمت فِيهِ إِلَّا أقل من مِقْدَار نصف سَاعَة حَتَّى صَار إِلَيّ رَسُول الرشيد يَأْمُرنِي بالمصير إِلَيْهِ فَدخلت إِلَيْهِ وَرَأس جَعْفَر فِي طشت بَين يَدَيْهِ فَقَالَ(1/196)
لي يَا جِبْرَائِيل أَلَيْسَ كنت تَسْأَلنِي عَن السَّبَب فِي قلَّة رزئي للطعام فَقلت بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فَقَالَ الفكرة فِيمَا ترى أصارتني إِلَى مَا كنت فِيهِ وَأَنا الْيَوْم يَا جِبْرَائِيل عِنْد نَفسِي كالناقة
قدم غذائي حَتَّى ترى من الزِّيَادَة على مَا كنت ترَاهُ عجبا وَإِنَّمَا كنت آكل الشَّيْء بعد الشَّيْء لِئَلَّا يثقل الطَّعَام عَليّ فيمرضني
ثمَّ دَعَا بطعامه فِي ذَلِك الْوَقْت فَأكل أكلا صَالحا من ليلته
قَالَ يُوسُف حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَنه تخلف عَن مجْلِس مُحَمَّد الْأمين أَمِير الْمُؤمنِينَ أَيَّام خِلَافَته عَشِيَّة من العشايا لدواء كَانَ أَخذه وَإِن جِبْرَائِيل بن بختيشوع باكره غَدَاة الْيَوْم الثَّانِي وأبلغه سَلام الْأمين وَسَأَلَهُ عَن حَاله كَيفَ كَانَت فِي دوائه
ثمَّ دنا مِنْهُ فَقَالَ لَهُ أَمر أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي تجهيز عَليّ بن عِيسَى بن ماهان إِلَى خُرَاسَان ليَأْتِيه بالمأمون أَسِيرًا فِي قيد من فضَّة وجبرائيل بَرِيء من دين النَّصْرَانِيَّة إِن لم يغلب الْمَأْمُون مُحَمَّدًا ويقتله ويحوز ملكه فَقلت لَهُ وَيحك وَلم قلت هَذَا القَوْل وَكَيف قلته قَالَ لِأَن هَذَا الْخَلِيفَة الموسوس سكر فِي هَذِه اللَّيْلَة فَدَعَا أَبَا عصمَة الشيعي صَاحب حرسه وَأمر بسواده فَنزع عَنهُ وَألبسهُ ثِيَابِي وزناري وقلنسوتي وألبسني أقبيته وسواده وسيفه ومنطقته وأجلسني فِي مجْلِس صَاحب الحرس إِلَى وَقت طُلُوع الْفجْر وَأَجْلسهُ فِي مجلسي وَقَالَ لكل وَاحِد مني وَمن أبي عصمَة قد قلدتك مَا كَانَ يتقلده صَاحبك
فَقلت إِن الله مغير مَا بِهِ من نعْمَة لتغييره مَا بِنَفسِهِ مِنْهَا
وَأَنه إِذا جعل حراسته إِلَى نَصْرَانِيّ
والنصرانية أذلّ الْأَدْيَان لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عقد دين غَيرهَا التَّسْلِيم لما يُرِيد بِهِ عدوه من الْمَكْرُوه مثل الإذعان لمن سَخَّرَهُ بالسخرة وَأَن يمشي ميلًا أَن يزِيد على ذَلِك ميلًا آخر وَإِن لطم لَهُ خد حول الآخر ليلطم غير ديني
فَقضيت بِأَن عز الرجل زائل وقضيت أَنه حِين أَجْلِس فِي مجْلِس متطببه الْحَافِظ عِنْده لِحَيَاتِهِ والقائم بمصالح بدنه وَالْخَادِم لطبيعته أَبَا عصمَة الَّذِي لَا يفهم من كل ذَلِك قَلِيلا وَلَا كثيرا بِأَنَّهُ لَا عمر لَهُ وَأَن نَفسه تالفة
قَالَ أَبُو إِسْحَق فَكَانَ على مَا تفاءل جِبْرَائِيل بِهِ
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم وَسمعت جِبْرَائِيل بن بختيشوع يحدث أَبَا إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَنه كَانَ عِنْد الْعَبَّاس بن مُحَمَّد إِذْ دخل عَلَيْهِ شَاعِر امتدحه فَلم يزل جِبْرَائِيل يسمع مِنْهُ إِلَى أَن صَار إِلَى هَذَا الْبَيْت وَهُوَ
(لَو قيل للْعَبَّاس يَا ابْن مُحَمَّد ... قل لَا وَأَنت مخلد مَا قَالَهَا) الْكَامِل
قَالَ جِبْرَائِيل فَلَمَّا سَمِعت هَذَا الْبَيْت لم أَصْبِر لعلمي أَن الْعَبَّاس أبخل أهل زَمَانه
فَقلت لَا فَتَبَسَّمَ الْعَبَّاس ثمَّ قَالَ لي اغرب قبح الله وَجهك(1/197)
أَقُول هَذَا الشَّاعِر الَّذِي يشار إِلَيْهِ هُوَ ربيعَة الرقى
قَالَ يُوسُف وَحدث جِبْرَائِيل أَبَا إِسْحَاق فِي هَذَا الْمجْلس أَنه دخل على الْعَبَّاس بعد فطر النَّصَارَى بِيَوْم وَفِي رَأسه فضلَة من نبيذه بالْأَمْس وَذَلِكَ قبل أَن يخْدم جِبْرَائِيل الرشيد
فَقَالَ جِبْرَائِيل للْعَبَّاس كَيفَ أصبح الْأَمِير أعزه الله فَقَالَ الْعَبَّاس أَصبَحت كَمَا تحب
فَقَالَ لَهُ جِبْرَائِيل وَالله مَا أصبح الْأَمِير على مَا أحب وَلَا على مَا يحب الله وَلَا على مَا يحب الشَّيْطَان
فَغَضب الْعَبَّاس من قَوْله ثمَّ قَالَ لَهُ مَا هَذَا الْكَلَام قبحك الله قَالَ جِبْرَائِيل فَقلت عَليّ الْبُرْهَان
فَقَالَ الْعَبَّاس لتَأْتِيني بِهِ وَإِلَّا أَحْسَنت أدبك وَلم تدخل لي دَارا فَقَالَ جِبْرَائِيل الَّذِي كنت أحب أَن تكون أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأَنت كَذَلِك قَالَ الْعَبَّاس لَا
قَالَ جِبْرَائِيل وَالَّذِي يحب الله من عباده الطَّاعَة لَهُ فِيمَا أَمرهم بِهِ ونهاهم عَنهُ
فَأَنت أَيهَا الْملك كَذَلِك فَقَالَ الْعَبَّاس لَا واستغفر الله
قَالَ جِبْرَائِيل وَالَّذِي يحب الشَّيْطَان من الْعباد أَن يكفروا بِاللَّه ويجحدوا ربوبيته فَأَنت كَذَلِك أَيهَا الْأَمِير فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس لَا وَلَا تعد إِلَى مثل هَذَا القَوْل بعد يَوْمك هَذَا
قَالَ فثيون الترجمان وَلما عزم الْمَأْمُون على الْخُرُوج إِلَى بلد الرّوم فِي سنة ثَلَاث عشرَة وَمِائَتَيْنِ مرض جِبْرَائِيل مَرضا شَدِيدا قَوِيا
فَلَمَّا رَآهُ الْمَأْمُون ضَعِيفا التمس مِنْهُ إِنْفَاذ بختيشوع ابْنه مَعَه إِلَى بلد الرّوم
فَأحْضرهُ وَكَانَ مثل أَبِيه فِي الْفَهم وَالْعقل والسرو
وَلما خاطبه الْمَأْمُون وَسمع حسن جَوَابه فَرح بِهِ فَرحا شَدِيدا وأكرمه غَايَة الْإِكْرَام وَرفع مَنْزِلَته وَأخرجه مَعَه إِلَى بلد الرّوم
وَلما خرج الْمَأْمُون طَال مرض جِبْرَائِيل إِلَى أَن بلغ الْمَوْت وَعمل وَصيته إِلَى الْمَأْمُون وَدفعهَا إِلَى ميخائيل صهره وَمَات
فَمضى فِي تجميل مَوته مَا لم يمض لأمثاله بِحَسب اسْتِحْقَاقه بأفعاله الْحَسَنَة وخيريته وَدفن فِي دير مارسرجس بِالْمَدَائِنِ
وَلما عَاد ابْنه بختيشوع من بلد الرّوم جمع للدير رهبانا وأجرى عَلَيْهِم جَمِيع مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ
وَقَالَ فثيون الترجمان إِن جنس جورجس وَولده كَانُوا أجمل أهل زمانهم بِمَا خصهم الله بِهِ من شرف النُّفُوس ونبل الهمم وَمن الْبر وَالْمَعْرُوف والإفضال وَالصَّدقَات وتفقد المرضى من الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين وَالْأَخْذ بأيدي المنكوبين والمرهوقين على مَا يتَجَاوَز الْحَد فِي الصّفة وَالشَّرْح
أَقُول وَكَانَت مُدَّة خدمَة جِبْرَائِيل بن بختيشوع للرشيد مُنْذُ خدمه وَإِلَى أَن توفّي الرشيد ثَلَاثًا وَعشْرين سنة
وَوجد فِي خزانَة بختيشوع بن جِبْرَائِيل مدرج فِيهِ عمل بِخَط كَاتب جِبْرَائِيل بن بختيشوع الْكَبِير واصطلاحات بِخَط جِبْرَائِيل لما صَار إِلَيْهِ فِي خدمته الرشيد يذكر أَن رزقه كَانَ من رسم الْعَامَّة فِي كل شهر من الْوَرق عشرَة آلَاف دِرْهَم يكون فِي السّنة مائَة وَعِشْرُونَ ألف دِرْهَم فِي مُدَّة ثَلَاثَة وَعشْرين سنة ألفا ألف وسِتمِائَة وَسِتُّونَ ألفا ونزله فِي الشَّهْر خَمْسَة آلَاف دِرْهَم يكون فِي السّنة سِتُّونَ ألف دِرْهَم فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة ألف ألف وثلثمائة وَثَمَانُونَ ألف دِرْهَم
وَمن رسم(1/198)
الْخَاصَّة فِي الْمحرم من كل سنة من الْوَرق خَمْسُونَ ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة ألف ألف وَمِائَة وَخَمْسُونَ ألف دِرْهَم
وَمن الثِّيَاب خَمْسُونَ ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة ألف ألف وَمِائَة وَخَمْسُونَ ألف دِرْهَم
تَفْصِيل ذَلِك الْقصب الْخَاص الطرازي عشرُون شقة
الملحم الطرازي عشرُون شقة
الْخَزّ المنصوري عشر شقَاق
الْخَزّ الْمَبْسُوط عشر شقَاق
الوشي الْيَمَانِيّ ثَلَاثَة أَثوَاب
الوشي النصيبي ثَلَاثَة أَثوَاب
الطيالسة ثَلَاثَة طيالس
وَمن السمور والفنك والقماقم والدلق والسنجاب للقبطين
وَكَانَ يدْفع إِلَيْهِ فِي مدْخل صَوْم النَّصَارَى فِي كل سنة من الْوَرق خَمْسُونَ ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين ألف ألف وَمِائَة وَخَمْسُونَ ألف دِرْهَم
وَفِي يَوْم الشعانين من كل سنة ثِيَاب من وشي وقصب وملحم وَغَيره بِقِيمَة عشرَة آلَاف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة مِائَتَا ألف وَثَلَاثُونَ ألفا وَفِي يَوْم الْفطر فِي كل سنة من الْوَرق خَمْسُونَ ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة ألف ألف وَمِائَة وَخَمْسُونَ ألف دِرْهَم وَثيَاب بِقِيمَة عشرَة آلَاف دِرْهَم على الْحِكَايَة يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة مِائَتَا ألف وَثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم
ولفصد الرشيد دفعتين فِي السّنة كل دفْعَة خَمْسُونَ ألف دِرْهَم من الْوَرق مائَة ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة ألفا ألف وثلثمائة ألف دِرْهَم
ولشرب الدَّوَاء دفعتين فِي السّنة كل دفْعَة خَمْسُونَ ألف دِرْهَم مائَة ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة ألفا ألف وثلثمائة ألف دِرْهَم
وَمن أَصْحَاب الرشيد على مَا فصل مِنْهُ مَعَ مَا فِيهِ من قيمَة الْكسْوَة وَثمن الطّيب وَالدَّوَاب وَهُوَ مائَة ألف دِرْهَم من الْوَرق فَيكون أَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة تِسْعَة آلَاف ألف وَمِائَتَا ألف دِرْهَم
تَفْصِيل ذَلِك عِيسَى بن جَعْفَر خَمْسُونَ ألف دِرْهَم زبيدة أم جَعْفَر خَمْسُونَ ألف دِرْهَم العباسة خَمْسُونَ ألف دِرْهَم إِبْرَاهِيم بن عُثْمَان ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم الْفضل بن الرّبيع خَمْسُونَ ألف دِرْهَم فَاطِمَة أم مُحَمَّد سَبْعُونَ ألف دِرْهَم كسْوَة وَطيب ودواب(1/199)
مائَة ألف دِرْهَم
وَمن غلَّة ضيَاعه بجندي سَابُور والسوس وَالْبَصْرَة والسواد فِي كل سنة قِيمَته بعد المقاطعة وَرقا ثَمَانِي مائَة ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث وَعشْرين سنة ثَمَانِيَة عشر ألف ألف وَمِائَة ألف دِرْهَم
وَكَانَ يصير إِلَيْهِ من البرامكة فِي كل سنة من الْوَرق ألفا ألف وَأَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم وتفصيل ذَلِك يحيى بن خَالِد ستماية ألف دِرْهَم جَعْفَر بن يحيى الْوَزير ألف ألف وَمِائَتَا ألف دِرْهَم الْفضل ابْن يحيى ستماية ألف دِرْهَم يكون فِي مُدَّة ثَلَاث عشرَة سنة أحد وَثَلَاثِينَ ألف ألف ومائتي ألف دِرْهَم
يكون جَمِيع ذَلِك مُدَّة أَيَّام خدمته للرشيد وَهِي ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة وخدمته للبرامكة وَهِي ثَلَاث عشرَة سنة سوى الصلات الجسام فَإِنَّهَا لم تذكر فِي هَذَا المدرج من الْوَرق ثَمَانِيَة وَثَمَانِينَ ألف دِرْهَم
وَثَمَانمِائَة ألف دِرْهَم ثَلَاثَة آلَاف ألف وَأَرْبَعمِائَة ألف دِرْهَم
التَّذْكِرَة الْخراج من ذَلِك وَمن الصلات الَّتِي لم تذكر فِي النَّفَقَات وَغَيرهَا على مَا تضمنه المدرج الْمَعْمُول من الْعين تِسْعمائَة ألف دِينَار وَمن الْوَرق تسعون ألف ألف وسِتمِائَة ألف دِرْهَم
تَفْصِيل ذَلِك مَا صرفه فِي نفقاته وَكَانَت فِي السّنة ألفي ألف ومائتي ألف دِرْهَم على التَّقْرِيب
وجملتها فِي السنين الْمَذْكُورَة سَبْعَة وَعِشْرُونَ ألف ألف دِرْهَم وستماية ألف دِرْهَم
ثمن دور وبساتين ومنتزهات ورقيق ودواب والجمازات سَبْعُونَ ألف ألف دِرْهَم ثمن آلَات وَأجر وصناعات وَمَا يجْرِي هَذَا المجرى ثَمَانِيَة آلَاف ألف دِرْهَم
مَا صَار فِي ثمن ضيَاع ابتاعها لخاصته اثْنَا عشر ألف ألف دِرْهَم
ثمن جَوَاهِر وَمَا أعده للذخائر عَن قيمَة خَمْسمِائَة ألف دِينَار خَمْسُونَ ألف ألف دِرْهَم
مَا صرفه فِي الْبر والصلات وَالْمَعْرُوف وَالصَّدقَات وَمَا بذل بِهِ حَظه فِي الكفالات لأَصْحَاب المصادرات فِي هَذِه السنين الْمُقدم ذكرهَا ثَلَاثَة آلَاف ألف دِرْهَم
مَا كابره عَلَيْهِ أَصْحَاب الودائع وجحدوه ثَلَاثَة آلَاف ألف دِرْهَم
ثمَّ وصّى بعد ذَلِك كُله عِنْد وَفَاته إِلَى الْمَأْمُون لِابْنِهِ بختيشوع وَجعل الْمَأْمُون الْوَصِيّ فِيهَا فسلمها إِلَيْهِ وَلم يعْتَرض فِي شَيْء مِنْهَا عَلَيْهِ بتسعماية ألف دِينَار
وجبرائيل بن بختيشوع هُوَ الَّذِي يعنيه أَبُو نواس فِي قَوْله
(سَأَلت أخي أَبَا عِيسَى ... وَجِبْرِيل لَهُ عقل)
(فَقلت الراح تعجبني ... فَقَالَ كثيرها قتل)(1/200)
(فَقلت لَهُ فَقدر لي ... فَقَالَ وَقَوله فصل)
(وجدت طبائع الْإِنْسَان ... أَرْبَعَة هِيَ الأَصْل)
(فَأَرْبَعَة لأربعة ... لكل طبيعة رَطْل) الوافر
وَذكر أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن الْأَصْبَهَانِيّ فِي كتاب الْمُجَرّد فِي الأغاني هَذِه الأبيات
(أَلا قل للَّذي لَيْسَ ... على الْإِسْلَام وَالْملَّة)
(لجبريل أبي عِيسَى ... أخي الأنذال والسفلة)
(أَفِي طبك يَا جِبْرِيل ... مَا يشفي ذَوي الْعلَّة)
(غزال قد سبى عَقْلِي ... بِلَا جرم وَلَا زلَّة) الهزج
قَالَ أَبُو الْفرج وَالشعر لِلْمَأْمُونِ فِي جِبْرَائِيل بن بختيشوع المتطبب
والغناء لمتيم خَفِيف رمل
وَمن كَلَام جِبْرَائِيل بن بختيشوع قَالَ أَرْبَعَة تهدم الْعُمر
إِدْخَال الطَّعَام على الطَّعَام قبل الانهضام
وَالشرب على الرِّيق
وَنِكَاح الْعَجُوز
والتمتع فِي الْحمام
ولجبرائيل بن بختيشوع من الْكتب رِسَالَة إِلَى الْمَأْمُون فِي الْمطعم وَالْمشْرَب
كتاب الْمدْخل إِلَى صناعَة الْمنطق
كتاب فِي الباه
رِسَالَة مختصرة فِي الطِّبّ
كناشه
كتاب فِي صَنْعَة البخور أَلفه لعبد الله الْمَأْمُون
بختيشوع بن جِبْرَائِيل بن بختيشوع
كَانَ سريانيا نبيل الْقدر
وَبلغ من عظم الْمنزلَة وَالْحَال وَكَثْرَة المَال مَا لم يبلغهُ أحد من سَائِر الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا فِي عصره
وَكَانَ يضاهي المتَوَكل فِي اللبَاس والفرش
وَنقل حنين بن إِسْحَق لبختيشوع بن جِبْرَائِيل كتبا كَثِيرَة من كتب جالينوس إِلَى اللُّغَة السريانية والعربية
قَالَ فثيون الترجمان لما ملك الواثق الْأَمر كَانَ مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات وَابْن أبي دَاوُد يعاديان بختيشوع
ويحسدانه على فَضله وبره ومعروفه وصدقاته وَكَمَال مروءته
فَكَانَا يغريان(1/201)
الواثق عَلَيْهِ إِذا خلوا بِهِ
فسخط عَلَيْهِ الواثق وَقبض على أملاكه وضياعه وَأخذ مِنْهُ جملَة طائلة من المَال
ونفاه إِلَى جندي سَابُور وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ
فَلَمَّا اعتل بالاستسقاء وَبلغ الشدَّة فِي مَرضه انفذ من يحضر بختيشوع
وَمَات الواثق قبل أَن يوافي بختيشوع
ثمَّ صلحت حَال بختيشوع بعد ذَلِك فِي أَيَّام المتَوَكل حَتَّى بلغ فِي الْجَلالَة والرفعة وَعظم الْمنزلَة وَحسن الْحَال وَكَثْرَة المَال وَكَمَال الْمُرُوءَة ومباراة الْخلَافَة فِي الزي واللباس وَالطّيب والفرش والصناعات والتفسيح والبذخ فِي النَّفَقَات مبلغا يفوق الْوَصْف فحسده المتَوَكل وَقبض عَلَيْهِ
ونقلت من بعض التواريخ أَن بختيشوع بن جِبْرَائِيل كَانَ عَظِيم الْمنزلَة عِنْد المتَوَكل
ثمَّ إِن بختيشوع أفرط فِي إدلاله عَلَيْهِ فنكبه وَقبض أملاكه وَوجه بِهِ إِلَى مَدِينَة السَّلَام
وَعرض للمتوكل بعد ذَلِك قولنج فَاسْتَحْضرهُ المتَوَكل وَاعْتذر إِلَيْهِ وعالجه وبرأ فانعم عَلَيْهِ وَرَضي عَنهُ وَأعَاد مَا كَانَ لَهُ
ثمَّ جرت على بختيشوع حِيلَة أُخْرَى فنكبه نكبة قبض فِيهَا جَمِيع أملاكه وَوجه بِهِ إِلَى الْبَصْرَة وَكَانَ سَببه الْحِيلَة عَلَيْهِ أَن عبد الله استكتب الْمُنْتَصر أَبَا الْعَبَّاس الحصيني وَكَانَ رديئا فاتفقا على قتل المتَوَكل واستخلاف الْمُنْتَصر
وَقَالَ بختيشوع للوزير كَيفَ استكتبت الْمُنْتَصر الحصيني وَأَنت تعرف رداءته فَظن عبد الله أَن بختيشوع قد وقف على التَّدْبِير
فَعرف الْوَزير مَا قَالَه لَهُ بختيشوع وَقَالَ أَنْتُم تعلمُونَ كَيفَ محبَّة بختيشوع لَهُ واحسب أَنه يبطل التَّدْبِير فَكيف الْحِيلَة فَقَالُوا للمنتصر إِذا سكر الْخَلِيفَة فخرق ثِيَابك ولوثها بِالدَّمِ وادخل إِلَيْهِ
فَإِذا قَالَ مَا هَذَا فَقل بختيشوع ضرب بيني وَبَين أخي فكاد أَن يقتل بَعْضنَا بَعْضًا
وَأَنا أَقُول يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يبعد عَنْهُم
فَإِنَّهُ يَقُول افعلوا
فتنفيه فَإلَى أَن يسْأَل عَنهُ نَكُون قد فَرغْنَا من الْأَمر
فَفعل ذَلِك ونكب وَقتل المتَوَكل
وَلما اسْتخْلف المستعين رد بختيشوع إِلَى الْخدمَة وَأحسن إِلَيْهِ إحسانا كثيرا وَلما ورد الْأَمر إِلَى ابْن عبد الله مُحَمَّد بن الواثق وَهُوَ الْمُهْتَدي جرى على حَال المتَوَكل فِي أنسه بالأطباء وتقديمه إيَّاهُم وإحسانه إِلَيْهِم
وَكَانَ بختيشوع لطيف الْمحل من الْمُهْتَدي بِاللَّه
وشكا بختيشوع إِلَى الْمُهْتَدي مَا أَخذ مِنْهُ فِي أَيَّام المتَوَكل فَأمر بِأَن يدْخل إِلَى سَائِر الخزائن فَكل مَا اعْترف بِهِ فليرد إِلَيْهِ بِغَيْر استثمار وَلَا مُرَاجعَة
فَلم يبْق لَهُ شَيْء إِلَّا أَخذه وَأطلق لَهُ سَائِر مَا فَاتَهُ وحاطه كل الحياطة
وَورد على بختيشوع كتاب من صَاحبه بِمَدِينَة السَّلَام يصف فِيهِ أَن سُلَيْمَان بن عبد الله بن طَاهِر قد(1/202)
تعرض لَهُ لمنازله فَعرض بختيشوع الْكتاب على الْمُهْتَدي بعد صَلَاة الْعَتَمَة فَأمر بإحضار سُلَيْمَان بن وهب فِي ذَلِك الْوَقْت فَحَضَرَ وَتقدم إِلَيْهِ بِأَن يكْتب من حَضرته إِلَى سُلَيْمَان بن عبد الله بالإنكار عَلَيْهِ لما اتَّصل بِهِ من وَكيل بختيشوع وَأَن يتَقَدَّم إِلَيْهِ بإعزاز مَنَازِله وأسبابه بأوكد مَا يكون وانفذ الْكتاب من وقته مَعَ أخص خدمه إِلَى مَدِينَة السَّلَام
وَقَالَ بختيشوع للمهتدي فِي آخر من حضر الدَّار يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا اقتصدت وَلَا شربت الدَّوَاء مُنْذُ أَرْبَعِينَ سنة وَقد حكم المنجمون بِأَنِّي أَمُوت فِي هَذِه السّنة
وَلست أغتم لموتي وَإِنَّمَا غمي لمفارقتكم
فَكَلمهُ الْمُهْتَدي بِكَلَام جميل وَقَالَ قَلما يصدق المنجم
فَلَمَّا انْصَرف كَانَ آخر الْعَهْد بِهِ
وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن عَليّ الحصري فِي كتاب نور الطّرف وَنور الظّرْف أَنه تنَازع إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وبختيشوع الطَّبِيب بَين يَدي أَحْمد ابْن داؤد فِي مجْلِس الحكم فِي عقار بِنَاحِيَة السوَاد فأربى عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم وَأَغْلظ لَهُ فَغَضب لذَلِك أَحْمد بن أبي داؤد وَقَالَ يَا إِبْرَاهِيم إِذا تنازعت فِي مجْلِس الحكم بحضرتنا أمرا فَلْيَكُن قصدك أمما وطريقك نهجا وريحك سَاكِنة وكلامك معتدلا ووف مجَالِس الْخَلِيفَة حُقُوقهَا من التَّوْفِيق والتعظيم والاستطاعة والتوجيه إِلَى الْحق
فَإِن هَذَا أشكل بك وأجمل بمذهبك فِي محتدك وعظيم خطرك
وَلَا تعجلن فَرب العجلة تورث رثيا وَالله يَعْصِمك من الزلل وخطل القَوْل وَالْعَمَل وَيتم نعْمَته عَلَيْك كَمَا أتمهَا على آبَائِك من قبل أَن رَبك عليم حَكِيم
فَقَالَ إِبْرَاهِيم أمرت أصلحك الله بسداد وحضضت على رشاد وَلست بعائد إِلَى مَا يثلم قدري عنْدك ويسقطني من عَيْنك ويخرجني من مِقْدَار الْوَاجِب إِلَى الِاعْتِذَار فها أَنا معتذر إِلَيْك من هَذِه البادرة اعتذار مقرّ بِذَنبِهِ باخع بجرمه لِأَن الْغَضَب لَا يزَال يستفزني بمراده فيردني مثلك بحلمه وَتلك عَادَة الله عنْدك وَعِنْدنَا فِيك وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
وَقد خلعت حظي من هَذَا الْعقار لبختيشوع
فليت ذَلِك يكون وافيا بِأَرْش الْجِنَايَة عَلَيْهِ وَلنْ يتْلف مَال أَفَادَ موعظة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق
حدث أَبُو مُحَمَّد بدر بن أبي الْأصْبع الْكَاتِب قَالَ حَدثنِي جدي قَالَ دخلت إِلَى بختيشوع فِي يَوْم شَدِيد الْحر وَهُوَ جَالس فِي مجْلِس مخيش بعدة طاقات من الخيش طاقان ريح بَينهمَا طاق أسود وَفِي وَسطهَا قبَّة عَلَيْهَا جلال من قصب مظهر بدبيقي قد صبغ بِمَاء الْورْد والكافور والصندل(1/203)
وَعَلِيهِ جُبَّة يماني سعيدي مثقلة ومطرف قد التحف بِهِ فعجبت من زيه
فحين حصلت مَعَه فِي الْقبَّة نالني من الْبرد أَمر عَظِيم فَضَحِك وَأمر لي بجبة ومطرف وَقَالَ يَا غُلَام اكشف جَوَانِب الْقبَّة فَكشفت فَإِذا أَبْوَاب مَفْتُوحَة من جَوَانِب الإيوان إِلَى مَوَاضِع مكبوسة بالثلج وغلمان يروحون ذَلِك الثَّلج فَيخرج مِنْهُ الْبرد الَّذِي لَحِقَنِي
ثمَّ دَعَا بطعامه فَأتي بمائدة فِي غَايَة الْحسن عَلَيْهَا كل شَيْء ظريف
ثمَّ أَتَى بفراريج مشوية فِي نِهَايَة الْحمرَة وَجَاء الطباخ فنفضها كلهَا فانتفضت وَقَالَ هَذِه فراريج تعلف اللوز والبزر قطونا وتسقى مَاء الرُّمَّان وَلما كَانَ فِي صلب الشتَاء دخلت عَلَيْهِ يَوْمًا وَالْبرد شَدِيد وَعَلِيهِ جُبَّة محشوة وَكسَاء وَهُوَ جَالس فِي طارمة فِي الدَّار على بُسْتَان فِي غَايَة الْحسن وَعَلَيْهَا سمور قد ظَهرت بِهِ وفوقه جلال حَرِير مصبغ ولبود مغربية وانطاع أَدَم يَمَانِية
وَبَين يَدَيْهِ كانون فضَّة مَذْهَب مخرق وخادم يُوقد الْعود الْهِنْدِيّ وَعَلِيهِ غلالة قصب فِي نِهَايَة الرّفْعَة
فَلَمَّا حصلت مَعَه فِي الطارمة وجدت من الْحر أمرا عَظِيما فَضَحِك وَأمر لي بغلالة قصب وَتقدم يكْشف جَوَانِب الطارمة فَإِذا مَوَاضِع لَهَا شبابيك خشب بعد شبابيك حَدِيد وكوانين فِيهَا فَحم الغضا وغلمان ينفخون ذَلِك الفحم بالزقاق كَمَا تكون للحدادين
ثمَّ دَعَا بطعامه فأحضروا مَا جرت بِهِ الْعَادة فِي السرو والنظافة فأحضرت فراريج بيض شَدِيدَة الْبيَاض فبشعتها وَخفت أَن تكون غير نضيجة ووافى الطباخ فنفضها فانتفضت فَسَأَلته عَنْهَا فَقَالَ هَذِه تعلف الْجَوْز المقشر وتسقى اللَّبن الحليب
وَكَانَ يختيشوع بن جِبْرَائِيل يهدي البخور فِي درج وَمَعَهُ درج آخر فِيهِ فَحم يتَّخذ لَهُ من قضبان الأترج والصفصاف وشنس الْكَرم المرشوش عَلَيْهِ عِنْد إحراقه مَاء الْورْد الْمَخْلُوط بالمسك والكافور وَمَاء الْخلاف وَالشرَاب الْعَتِيق
وَيَقُول أَنا أكره أَن أهدي بخورا بِغَيْر فَحم فيفسده فَحم الْعَامَّة وَيُقَال هَذَا عمل بختيشوع
وَحدث أَبُو مُحَمَّد بدر بن أبي الْأصْبع عَن أَبِيه عَن أبي عبد الله مُحَمَّد بن الْجراح عَن أَبِيه أَن المتَوَكل قَالَ يَوْمًا لبختيشوع ادعني فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة فَقَالَ أُرِيد أَن يكون ذَلِك غَدا قَالَ نعم وكرامة وَكَانَ الْوَقْت صائفا وحره شَدِيدا فَقَالَ بختيشوع لأعوانه وَأَصْحَابه أمرنَا كُله مُسْتَقِيم إِلَّا الخيش فَإِنَّهُ لَيْسَ لنا مِنْهُ مَا يَكْفِي
فَاحْضُرْ وكلاءه وَأمرهمْ بابتياع كل مَا يُوجد من(1/204)
الخيش بسر من رأى فَفَعَلُوا ذَلِك وأحضروا كل من وجدوه من النجادين والصناع فَقطع لداره كلهَا صونها وحجرها ومجالسها وبيوتها ومستراحاتها خيشا حَتَّى لَا يجتاز الْخَلِيفَة فِي مَوضِع غير مخيش
وَأَنه فكر فِي روائحه الَّتِي لَا تَزُول إِلَّا بعد اسْتِعْمَاله مُدَّة فَأمر بابتياع كل مَا يقدر عَلَيْهِ بسر من رأى من الْبِطِّيخ وأحضر أَكثر حشمه وغلمانه وأجلسهم يدلكون الخيش بذلك الْبِطِّيخ ليلتهم كلهَا وَأصْبح وَقد انْقَطَعت روائحه
فَتقدم إِلَى فراشيه فعلقوا جَمِيعه فِي الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة وَأمر طباخيه بِأَن يعملوا خَمْسَة آلَاف جونة فِي كل جونة بَاب خبز سميد دست رقاق وزن الْجَمِيع عشرُون رطلا وَحمل مشوي وجدي بَارِد وفائقة ودجاجتين مصدرتان وفرخان ومصوصان وَثَلَاثَة ألوان وجام حلواء
فَلَمَّا وافه المتَوَكل رأى كَثْرَة الخيش وجدته فَقَالَ أَي شَيْء ذهب برائحته فَأَعَادَ عَلَيْهِ حَدِيث الْبِطِّيخ فَعجب من ذَلِك وَأكل هُوَ وَبَنُو عَمه وَالْفَتْح بن خاقَان على مائدة وَاحِدَة
وأجلس الْأُمَرَاء والحجاب على سماطين عظيمين لم ير مثلهمَا لَا مِثَاله
وَفرقت الجون على الغلمان والخدم والنقباء والركابية والفراشين والملاحين وَغَيرهم من الْحَاشِيَة لكل وَاحِد جونة وَقَالَ قد أمنت ذمهم لأنني مَا كنت آمن لَو أطعموا على مَوَائِد أَن يرضى هَذَا ويغضب الآخر وَيَقُول وَاحِد شبعت وَيَقُول آخر لم أشْبع فَإِذا أعْطى كل إِنْسَان جونة من هَذِه الجون كفته واستشرف المتَوَكل على الطَّعَام فاستعظمه جدا وَأَرَادَ النّوم فَقَالَ لبختيشوع أُرِيد أَن تنومني فِي مَوضِع مضيء لَا ذُبَاب فِيهِ وَظن أَنه يتعنته بذلك وَقد كَانَ بختيشوع تقدم بِأَن تجْعَل أجاجين السيلان فِي سطوح الدَّار ليجتمع الذُّبَاب عَلَيْهِ فَلم يقرب أسافل الدّور ذُبَابَة وَاحِدَة
ثمَّ أَدخل المتَوَكل إِلَى مربع كَبِير سقفه كُله بكواء فِيهَا جامات يضيء الْبَيْت مِنْهَا وَهُوَ مخيش مظهر بعد الخيش بالدبقي الْمَصْبُوغ بِمَاء الْورْد والصندل والكافور
فَلَمَّا اضْطجع للنوم أقبل يشم رَوَائِح فِي نِهَايَة الطّيب لَا يدْرِي مَا هِيَ لِأَنَّهُ لم ير فِي الْبَيْت شَيْئا من الروائح والفاكهة والأنوار وَلَا خلف الخيش لَا طاقات وَلَا مَوضِع يَجْعَل فِيهِ شَيْء من ذَلِك
فتعجب وَأمر الْفَتْح بن خاقَان أَن يتتبع حَال تِلْكَ الروائح حَتَّى يعرف صورتهَا
فَخرج يطوف فَوجدَ حول الْبَيْت من خَارجه وَمن سَائِر نواحيه وجوانبه أبوابا صغَارًا لطافا كالطاقات محشوة بصنوف الرياحين(1/205)
والفواكه واللخالخ والمشام الَّتِي فِيهَا اللفاح والبطيخ الْمُسْتَخْرج مَا فِيهَا المحشوة بالنمام والحماحم الْيَمَانِيّ الْمَعْمُول بِمَاء الْورْد والخلوق والكافور وَالشرَاب الْعَتِيق والزعفران الشّعْر
وَرَأى الْفَتْح غلمانا قد وكلوا بِتِلْكَ الطاقات مَعَ كل غُلَام مجمرة فِيهَا ند يسجره ويبخر بِهِ
وَالْبَيْت من دَاخله إِزَار من اسفيداج مخرم خروما صغَارًا لَا تبين تخرج مِنْهَا تِلْكَ الروائح الطّيبَة العجيبة إِلَى الْبَيْت
فَلَمَّا عَاد الْفَتْح وَشرح للمتوكل صُورَة مَا شَاهده كثر تعجبه مِنْهُ وحسد بختيشوع على مَا رَآهُ من نعْمَته وَكَمَال مروءته وَانْصَرف من دَاره قبل أَن يستتم يَوْمه
وَادّعى شَيْئا وجده من التياث بدنه وحقد عَلَيْهِ ذَلِك فنكبه بعد أَيَّام يسيرَة وَأخذ لَهُ مَالا كثيرا لَا يقدر
وَوجد لَهُ فِي جملَة كسوته أَرْبَعَة آلَاف سَرَاوِيل دبيقي سيتيزي فِي جَمِيعهَا تكك إبريسم أرميني
وَحضر الْحُسَيْن بن مخلد فختم على خزانته وَحمل إِلَى دَار المتَوَكل مَا صلح مِنْهَا وَبَاعَ شَيْئا كثيرا
وَبَقِي بعد ذَلِك حطب وفحم ونبيذ وتوابل فَاشْتَرَاهُ الْحُسَيْن بن مخلد بِسِتَّة آلَاف دِينَار
وَذكر أَنه بَاعَ من جملَته بمبلغ ثَمَانِيَة آلَاف دِينَار ثمَّ حسده حمدون ووشى إِلَى المتَوَكل
وبذل فِيمَا بَقِي فِي يَده مِمَّا ابتاعه سِتَّة آلَاف دِينَار
فَأُجِيب إِلَى ذَلِك وَسلم إِلَيْهِ فَبَاعَهُ بِأَكْثَرَ من الضعْف
وَكَانَ هَذَا فِي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ
قَالَ فثيون الترجمان كَانَ المعتز بِاللَّه قد اعتل فِي أَيَّام المتَوَكل عِلّة من حرارة امْتنع مَعهَا من أَخذ شَيْء من الْأَدْوِيَة والأغذية
فشق ذَلِك على المتَوَكل كثيرا واغتم بِهِ
وَصَارَ إِلَيْهِ بختيشوع والأطباء عِنْده وَهُوَ على حَاله فِي الِامْتِنَاع فمازحه وحادثه فَأدْخل المعتز يَده فِي كم جُبَّة وشي يمَان مثقله كَانَت على بختيشوع وَقَالَ مَا أحسن هَذَا الثَّوْب فَقَالَ بختيشوع يَا سَيِّدي مَا لَهُ وَالله نَظِير فِي الْحسن وثمنه عَليّ ألف دِينَار فَكل لي تفاحتين وَخذ الْجُبَّة
فَدَعَا بتفاح فَأكل اثْنَتَيْنِ ثمَّ قَالَ لَهُ تحْتَاج يَا سَيِّدي الْجُبَّة إِلَى ثوب يكون مَعهَا وَعِنْدِي ثوب هُوَ أَخ لَهَا فَاشْرَبْ لي شربة سكنجبين وخذه
فَشرب شربة سكنجبين
وَوَافَقَ ذَلِك اندفاع طَبِيعَته فبرأ المعتز وَأخذ الْجُبَّة وَالثَّوْب وَصلح من مَرضه
فَكَانَ المتَوَكل يشْكر هَذَا الْفِعْل أبدا لبختيشوع
وَقَالَ ثَابت بن سِنَان بن ثَابت أَن المتَوَكل اشْتهى فِي بعض الْأَوْقَات الحارة أَن يَأْكُل مَعَ طَعَامه خردلا فَمَنعه الْأَطِبَّاء من ذَلِك لحدة مزاجه وحرارة كبده وغائلة الْخَرْدَل
فَقَالَ بختيشوع أَنا أطعمك إِيَّاه وَإِن ضرك عَليّ فَقَالَ افْعَل
فَأمر بإحضار قرعَة وَجعل عَلَيْهَا طينا وَتركهَا فِي تنور(1/206)
واستخرج ماءها وَأمر بِأَن يقشر الْخَرْدَل وَيضْرب بِمَاء القرع
وَقَالَ إِن الْخَرْدَل فِي الدرجَة الرَّابِعَة من الْحَرَارَة والقرع فِي الدرجَة الرَّابِعَة من الرُّطُوبَة فيعتدلان فَكل شهوتك
وَبَات تِلْكَ اللَّيْلَة وَلم يحس بِشَيْء من الْأَذَى وَأصْبح كَذَلِك
فَأمر بِأَن يحمل إِلَيْهِ ثلثمِائة ألف دِرْهَم وَثَلَاثُونَ تختا من أَصْنَاف الثِّيَاب
وَقَالَ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي عَن عِيسَى بن ماسة قَالَ رَأَيْت بختيشوع بن جِبْرَائِيل وَقد اعتل فَأمر أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل والمعتز أَن يعودهُ وَهُوَ إِذْ ذَاك ولي عهد
فعاده وَمَعَهُ مُحَمَّد بن عبد الله بن طَاهِر ووصيف التركي قَالَ وَأَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْمُدبر أَن المتَوَكل أَمر الْوَزير شفاها وَقَالَ لَهُ اكْتُبْ فِي ضيَاع بختيشوع فَإِنَّهَا ضياعي وملكي فَإِن مَحَله منا مَحل أَرْوَاحنَا من أبداننا
وَقَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل بن عبيد الله بن بختيشوع هَذَا الْمَذْكُور مِمَّا يدل على منزلَة بختيشوع عِنْد المتَوَكل وانبساطه مَعَه قَالَ من ذَلِك مَا حَدثنَا بِهِ بعض شُيُوخنَا أَنه دخل بختيشوع يَوْمًا إِلَى المتَوَكل وَهُوَ جَالس على سدة فِي وسط دَار الْخَاصَّة فَجَلَسَ بختيشوع على عَادَته مَعَه على السدة وَكَانَ عَلَيْهِ دراعة ديباج رومي وَقد انفتق ذيلها قَلِيلا فَجعل المتَوَكل يحادث بختيشوع ويعبث بذلك الفتق حَتَّى بلغ إِلَى حد النيفق
وَدَار بَينهمَا كَلَام اقْتضى أَن سَأَلَ المتَوَكل بختيشوع بِمَاذَا تعلم أَن المشوش يحْتَاج إِلَى الشد والقيادة قَالَ إِذا بلغ فتق دراعة طبيبه إِلَى حد النيفق شددناه
فَضَحِك المتَوَكل حَتَّى اسْتلْقى على ظَهره وَأمر لَهُ فِي الْحَال بخلع سنية وَمَال جزيل
وَقَالَ أَبُو الريحان البيروني فِي كتاب الْجمَاهِر فِي الْجَوَاهِر أَن المتَوَكل جلس يَوْمًا لهدايا النيروز فَقدم إِلَيْهِ كل علق نَفِيس وكل ظريف فاخر
وَإِن طبيبه بختيشوع بن جِبْرَائِيل دخل وَكَانَ يأنس بِهِ فَقَالَ لَهُ مَا ترى فِي هَذَا الْيَوْم فَقَالَ مثل جرياشات الشحاذين إِذْ لَيْسَ قدر وَأَقْبل على مَا معي
ثمَّ أخرج من كمه درج أبنوس مضبب بِالذَّهَب وفتحه عَن حَرِير أَخْضَر انْكَشَفَ عَن ملعقة كَبِيرَة من جَوْهَر لمع مِنْهَا شهَاب ووضعها بَين يَدَيْهِ فَرَأى المتَوَكل مَا لَا عهد لَهُ بِمثلِهِ وَقَالَ(1/207)
من أَيْن لَك هَذَا قَالَ من النَّاس الْكِرَام ثمَّ حدث أَنه صَار إِلَى أبي من أم جَعْفَر زبيدة فِي ثَلَاث مَرَّات ثلثمِائة ألف دِينَار بِثَلَاث شكايات عالجها فِيهَا واحدتها أَنَّهَا شكت عارضا فِي حلقها منذرة بالخناق فَأَشَارَ إِلَيْهَا بالفصد والتطفئة والتغدي بحشو وَصفه فَاحْضُرْ على نسخته فِي غضارة صينية عَجِيبَة الصّفة وفيهَا هَذِه الملعقة فغمزني أبي على رَفعهَا فَفعلت ولففتها فِي طيلساني وجاذبنيها الْخَادِم
فَقَالَت لَهُ لاطفه ومره بردهَا وعوضه مِنْهَا عشرَة آلَاف دِينَار
فامتنعت وَقَالَ أبي يَا ستي إِن ابْني لم يسرق قطّ فَلَا تفضحيه فِي أول كراته لِئَلَّا ينكسر قلبه
فَضَحكت ووهبتها لَهُ
وَسُئِلَ عَن الأخرتين فَقَالَ إِنَّهَا اشتكت إِلَيْهِ النكهة بِإِخْبَار إِحْدَى بطانتها إِيَّاهَا وَذكرت أَن الْمَوْت أسهل عَلَيْهَا من ذَلِك فجوعها إِلَى الْعَصْر وأطعمها سمكًا ممقورا وسقاها دردي نَبِيذ دقل بإكراه فغثت نَفسهَا وقذفت
وَكرر ذَلِك عَلَيْهَا ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ قَالَ لَهَا تنكهي فِي وَجه من أخْبرك بذلك واستخبريه هَل زَالَ وَالثَّالِثَة أَنَّهَا أشرفت على التّلف من فوَاق شَدِيد يسمع من خَارج الْحُجْرَة فَأمر الخدم بإصعاد خوابي إِلَى سطح الصحن وتصفيفها حوله على الشفير وملأها مَاء وَجلسَ خَادِم خلف كل جب حَتَّى إِذا صفق بِيَدِهِ على الْأُخْرَى دفعوها دفْعَة إِلَى وسط الدَّار فَفَعَلُوا وارتفع لذَلِك صَوت شَدِيد أرعبها فَوَثَبت وزايلها الفواق
قَالَ أَبُو عَليّ القياني حَدثنِي أبي قَالَ دخلت يَوْمًا إِلَى بختيشوع وَكَانَ من أَيَّام الصَّيف وَجَلَست فَإِذا هُوَ قد رفع طرفه إِلَى خادمه وَقَالَ لَهُ هَات
فجَاء بقدح فِيهِ نَحْو نصف رَطْل شراب عَتيق وعَلى طرف خلالة ذهب شَيْء أسود فمضغه ثمَّ شرب الشَّرَاب عَلَيْهِ وصبر سَاعَة فَرَأَيْت وَجهه يتقد كالنار
ثمَّ دَعَا بأطباق فِيهَا خوخ جبلي فِي نِهَايَة الْحسن فَأقبل يقطع وَيَأْكُل حَتَّى انْتهى وَسكن تلهبه وَعَاد وَجهه إِلَى حَاله
فَقلت لَهُ حَدثنِي بخبرك فَقَالَ اشْتهيت الخوخ شَهْوَة شَدِيدَة وَخفت ضررها فاستعملت الترياق وَالشرَاب حَتَّى نقرت الْحجر ليجيد الطَّحْن
وَقَالَ أَبُو عَليّ القياني عَن أَبِيه قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن دَاوُد بن الْجراح قَالَ كَانَ بختيشوع الطَّبِيب صديقا لأبي وَكَانَ لنا نديم كثير الْأكل عَظِيم الْخلق فَكَانَ كلما رَآهُ قَالَ لَهُ أُرِيد أَن تركب لي شربة وأبرمه إِلَى أَن وصف لَهُ دَوَاء فِيهِ شَحم الحنظل وسقمونيا وَقَالَ بختيشوع لأبي ملاك الْأَمر كُله أَن يَأْكُل أكلا خَفِيفا ويضبط نَفسه فِيمَا بعد عَن التَّخْلِيط فأطعم يَوْم الحمية فِي دَارنَا وَاقْتصر على اسفيدباج من ثَلَاثَة أَرْطَال خبز فَلَمَّا استوفى ذَلِك طلب زِيَادَة عَلَيْهِ فَمنع واعتقله أبي عِنْده إِلَى آخر الْأَوْقَات وَوجه إِلَى امْرَأَته يوصيها أَن لَا تدع شَيْئا يُؤْكَل فِي دَاره
وَلما علم أَن الْوَقْت قد ضَاقَ عَلَيْهِ أطلقهُ إِلَى منزله
فَطلب من امْرَأَته شَيْئا يَأْكُلهُ فَلم يجد عِنْدهَا شَيْئا
وَكَانَت قد أغفلت برنية فِيهَا فتيت على الرف فَوَجَدَهُ وَأخذ مِنْهُ أرطالا
ثمَّ أصبح وَأخذ الدَّوَاء فتحير وَورد على الْمعدة وَهِي ملأى فَلم يُؤثر وَتَعَالَى النَّهَار فَقَالَ قد خرف بختيشوع
وَعمد إِلَى عشرَة أَرْطَال لحم شرائح فَأكلهَا مَعَ(1/208)
عشرَة أَرْطَال خبز وَشرب دورقا مَاء بَارِدًا
فَلَمَّا مَضَت سَاعَة طلب الدَّوَاء طَرِيقا لِلْخُرُوجِ من فَوق أَو من أَسْفَل فَلم يجد فانتفخت بَطْنه وَعلا نَفسه وَكَاد يتْلف
وصاحت امْرَأَته واستغاثت بِأبي
فَدَعَا بمحمل وَحمل فِيهِ إِلَى بختيشوع وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم حارا جدا
وَكَانَ بختيشوع حِين انْصَرف من دَاره وَهُوَ ضجر
فَسَأَلَ عَن حَاله إِلَى أَن علم شرح أمره
وَكَانَ فِي دَاره أَكثر من مِائَتي طير من الطيطويات والحصانيات والبيضانيات وَمَا يجْرِي مجْراهَا
وَلها مسقاة كَبِيرَة مَمْلُوءَة مَاء وَقد حمي فِي الشَّمْس وذرقت فِيهِ الطُّيُور
فَدَعَا بملح جريش وَأمر بطرحه فِي المسقاة كُله وتذويبه فِي المَاء ودعا بقمع وَسَقَى الرجل كُله وَهُوَ لَا يعقل وَأمر بالتباعد عَنهُ
فَأتى من طَبِيعَته فَوق وأسفل أَمر عَظِيم جدا حَتَّى ضعف
وحفظت قوته بالرائحة الطّيبَة وبماء الدراج
وأفاق بعد أَيَّام وعجبنا من صَلَاحه
وَسَأَلنَا عَنهُ بختيشوع فَقَالَ فَكرت فِي أمره فَرَأَيْت أَنِّي أَن اتَّخذت لَهُ دَوَاء طَال أمره حَتَّى يطْبخ ويسقى فَيَمُوت إِلَى ذَلِك الْوَقْت
وَنحن نعالج أَصْحَاب القولنج الشَّديد بذرق الْحمام وَالْملح
وَكَانَ فِي المسقاة المَاء فِي الشَّمْس وَقد سخن وَاجْتمعَ فِيهِ من ذرق الْحمام مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَكَانَ أسْرع تناولا من غَيره فعالجته بِهِ ونجع بِحَمْد الله
ونقلت من بعض الْكتب أَن بختيشوع كَانَ يَأْمر بالحقن وَالْقَمَر مُتَّصِل بالذنب فَيحل القولنج من سَاعَته وَيَأْمُر بِشرب الدَّوَاء وَالْقَمَر على مناظرة الزهرة فصلح العليل من يَوْمه
وَلما توفّي بختيشوع خلف عبيد الله وَلَده وَخلف مَعَه ثَلَاث بَنَات
وَكَانَ الوزراء والنظار يصادرونهم ويطالبونهم بالأموال
فَتَفَرَّقُوا وَاخْتلفُوا
وَكَانَ مَوته يَوْم الْأَحَد لثمان بَقينَ من صفر سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ
وَمن كَلَام بختيشوع بن جِبْرَائِيل قَالَ
الشّرْب على الْجُوع رَدِيء وَالْأكل على الشِّبَع أردأ
وَقَالَ أكل الْقَلِيل مِمَّا يضر أصلح من أكل الْكثير مِمَّا ينفع
ولبختيشوع بن جِبْرَائِيل من الْكتب كتاب فِي الْحجامَة على طَرِيق المسئلة وَالْجَوَاب
جِبْرَائِيل بن عبيد الله
جِبْرَائِيل بن عبيد الله بن بختيشوع كَانَ فَاضلا عَالما متقنا لصناعة الطِّبّ جيدا فِي أَعمالهَا حسن(1/209)
الدِّرَايَة لَهَا
وَله تصانيف جليلة فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَت أجداده فِي هَذِه الصِّنَاعَة كل مِنْهُم أوحد زَمَانه وعلامة وقته
ونقلت من كتاب عبيد الله ولد هَذَا الْمَذْكُور فِي أخباره عَن أَبِيه جِبْرَائِيل مَا هَذَا مِثَاله
قَالَ أَن جدي عبيد الله بن بختيشوع كَانَ متصرفا وَلما ولي المقتدر رَحْمَة الله عَلَيْهِ الْخلَافَة اسْتَكْتَبَهُ لحضرته وَبَقِي مُدَّة مديدة ثمَّ توفّي
وَخلف وَالِدي جِبْرَائِيل وأختا كَانَت مَعَه صغيرين
وأنفذ المقتدر لَيْلَة مَوته ثَمَانِينَ فراشا حمل الْمَوْجُود من رَحل وأثاث وآنية
وَبعد مواراته فِي الْقَبْر اختفت زَوجته وَكَانَت ابْنة إِنْسَان عَامل من أجلاء الْعمَّال يعرف بالحرسون
فَقبض على والدها بِسَبَبِهَا وَطلب مِنْهُ ودائع بنت بختيشوع وَأخذ مِنْهُ مَالا كثيرا وَمَات عقيب مصادرته
فَخرجت ابْنَته وَمَعَهَا وَلَدهَا جِبْرَائِيل وَأُخْته وهما صغيران إِلَى عكبراء مستترين من السُّلْطَان
وَاتفقَ أَنَّهَا تزوجت بِرَجُل طَبِيب وصرفت وَلَدهَا إِلَى عَم كَانَ لَهُ بدقوقاء وأقامت مُدَّة عِنْد ذَلِك الرجل وَمَاتَتْ وَأخذ مَا كَانَ مَعهَا جَمِيعه وَدفع وَلَدهَا
فَدخل جِبْرَائِيل إِلَى بَغْدَاد وَمَا مَعَه إِلَّا الْيَسِير النزر
وَقصد طَبِيبا كَانَ يعرف بترمرة فلازمه وَقَرَأَ عَلَيْهِ وَكَانَ من أطباء المقتدر وخواصه
وَقَرَأَ على يُوسُف الوَاسِطِيّ الطَّبِيب ولازم البيمارستان وَالْعلم والدرس
وَكَانَ يأوي إِلَى أخوال لَهُ يسكنون بدار الرّوم وَكَانُوا يسيئون عشرتهم عَلَيْهِ ويلومونه على تعرضه للْعلم والصناعة ويمجنون مَعَه وَيَقُولُونَ يُرِيد أَن يكون مثل جده بختيشوع وجبرائيل وَمَا يرضى أَن يكون مثل أَخْوَاله وَهُوَ لَا يلْتَفت إِلَى مثل أَقْوَالهم
وَاتفقَ أَن جَاءَ رَسُول من كرمان إِلَى معز الدولة وَحمل لَهُ الْحمار المخطط وَالرجل الَّذِي كَانَ طوله سَبْعَة أشبار وَالرجل الَّذِي كَانَ طوله شبرين وَاتفقَ أَنه نزل فِي قصر فرخ من الْجَانِب الشَّرْقِي قَرِيبا من الدّكان الَّذِي كَانَ يجلس عَلَيْهِ وَالِدي جِبْرَائِيل وَصَارَ ذَلِك الرَّسُول يجلس عِنْده كثيرا ويحادثه ويباسطه
فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام استدعاه وشاوره بالفصد فَأَشَارَ بِهِ وفصده وَتردد إِلَيْهِ يَوْمَيْنِ فأنفذ لَهُ على رسم الديلم الصينية الَّتِي كَانَت فِيهَا العصائب والطشت والإبريق وَجَمِيع الْآلَة
ثمَّ استدعاه وَقَالَ لَهُ ادخل إِلَى هَؤُلَاءِ الْقَوْم وَانْظُر مَا يصلح لَهُم وَكَانَ مَعَ الرَّسُول جَارِيَة يهواها قد عرض لَهَا نزف الدَّم وَلَا بَقِي بِفَارِس وَلَا بكرمان وَلَا بالعراق طَبِيب مَذْكُور إِلَّا وعالجها وَلم ينجح فِيهَا العلاج فعندما رَآهَا رتب لَهَا تدبيرا وَعمل لَهَا معجونا وسقاها إِيَّاه فَمَا(1/210)
مضى عَلَيْهَا أَرْبَعُونَ يَوْمًا حَتَّى بَرِئت وَصلح جسمها وَفَرح الرَّسُول بذلك فَرحا عَظِيما
فَلَمَّا كَانَ بعد مُدَّة استدعاه وَأَعْطَاهُ ألف دِرْهَم ودراعة سقلاطون وثوبا توثيا وعمامة قصب وَقَالَ لَهُ طالبهم بحقك فَأَعْطَتْهُ الْجَارِيَة ألف دِرْهَم وقطعتين من كل نوع من الثِّيَاب وَحمل على بغله بمركب وَاتبع ذَلِك بمملوك زنجي فَخرج وَهُوَ أحسن حَالا من أحد أَخْوَاله
فَلَمَّا رَأَوْهُ وَثبُوا لَهُ وتلقوه لقيا جميلا فَقَالَ لَهُم للثياب تكرمون لَا لي
فَلَمَّا مضى الرَّسُول انْتَشَر ذكره بِفَارِس وبكرمان بِمَا عمل وَكَانَ ذَلِك سَبَب خُرُوجه من شيراز
فَلَمَّا دخل رفع خَبره إِلَى عضد الدولة وَكَانَ أول تبوئه ولَايَته شيراز واستدعى بِهِ فَحَضَرَ واحضر مَعَه رِسَالَة فِي عصب الْعين تكلم فِيهَا بِكَلَام حسن فَحسن موقعه عِنْده وَقرر لَهُ جَار وجراية كالباقين ثمَّ أَنه عرض لكوكين زوج خَالَة عضد الدولة وَهُوَ وَالِي كورة جورقب مرض واستدعى طَبِيبا فأنفذه عضد الدولة فَلَمَّا وصل أكْرم مَوْضِعه وأجله إجلالا عَظِيما
وَكَانَ بِهِ وجع المفاصل والنقرس وَضعف الأحشاء فَركب لَهُ جوارشن تفاحي وَذَلِكَ فِي سنة سبع وَخمسين وثلثمائة لِلْهِجْرَةِ فَانْتَفع بِهِ مَنْفَعَة بَيِّنَة عَظِيمَة فأجزل لَهُ عطاءه وأكرمه ورده إِلَى شيراز مكرما
ثمَّ أَن عضد الدولة دخل إِلَى بَغْدَاد وَهُوَ مَعَه من خاصته وجدد البيمارستان وَصَارَ يَأْخُذ رزقين وهما برسم خَاص ثلثمِائة دِرْهَم شجاعية وبرسم البيمارستان ثلثمِائة دِرْهَم شجاعية سوى الجراية
وَكَانَت نوبَته فِي الإسبوع يَوْمَيْنِ وليلتين
وَاتفقَ أَن الصاحب بن عباد رَحمَه الله تَعَالَى عرض لَهُ مرض صَعب فِي معدته فكاتب عضد الدولة يلْتَمس طبيا
وَكَانَ عمله وَفعله وفضله مَشْهُورا فَأمر عضد الدولة بِجمع الْأَطِبَّاء البغداديين وَغَيرهم وشاورهم فِيمَن يصلح أَن ينفذ إِلَيْهِ
فَلَمَّا جمعهم واستشارهم
فَأَشَارَ جَمِيع الْأَطِبَّاء على سَبِيل الأبعاد لَهُ من بَينهم وحسدا على تقدمه مَا يصلح أَن يلقى مثل هَذَا الرجل إِلَّا أَبُو عِيسَى جِبْرَائِيل لِأَنَّهُ مُتَكَلم جيد الْحجَّة عَالم باللغة الفارسية
فَوَقع ذَلِك بوفاق عضد الدولة فَأطلق لَهُ مَالا يصلح بِهِ أمره وَحمل إِلَيْهِ مركوب جميل وبغال للْحَمْل وسيره
فَلَمَّا وصل الرّيّ تَلقاهُ الصاحب لِقَاء جميلا وأنزله فِي دَار مزاحة الْعِلَل بفراش وطباخ وخازن ووكيل وبواب وَغَيره
وَلما أَقَامَ عِنْده إسبوعا استدعاه يَوْمًا وَقد أعد عِنْده أهل الْعلم من أَصْنَاف الْعُلُوم
ورتب لمناظرته إنْسَانا من أهل الرّيّ وَقد قَرَأَ طرفا من الطِّبّ
فَسَأَلَهُ عَن أَشْيَاء من أَمر النبض فَعلم هُوَ مَا الْغَرَض فِي ذَلِك
فَبَدَأَ وَشرح أَكثر مِمَّا تحتمله الْمَسْأَلَة
وَعلل تعليلات لم يكن فِي الْجَمَاعَة من سمع بهَا
وَأورد شكوكا ملاحا(1/211)
وحلها فَلم يكن فِي الْحُضُور إِلَّا من أكْرمه وعظمه
وخلع عَلَيْهِ الصاحب خلعا حَسَنَة وَسَأَلَهُ أَن يعْمل لَهُ كناشا يخْتَص بِذكر الْأَمْرَاض الَّتِي تعرض من الرَّأْس إِلَى الْقدَم وَلَا يخلط بهَا غَيرهَا
فَعمل كناشة الصَّغِير وَهُوَ مَقْصُور على ذكر الْأَمْرَاض الْعَارِضَة من الرَّأْس إِلَى الْقدَم حَسْبَمَا أَمر الصاحب بِهِ
وَحمله إِلَيْهِ فَحسن موقعه عِنْده وَوَصله بِشَيْء قِيمَته ألف دِينَار
وَكَانَ دَائِما يَقُول صنفت مِائَتي ورقة أخذت عَنْهَا ألف دِينَار
وَرفع خَبره إِلَى عضد الدولة فأعجب بِهِ وَزَاد مَوْضِعه عِنْده
فَلَمَّا عَاد من الرّيّ دخل إِلَى بَغْدَاد بزِي جميل وَأمر مُطَاع وغلمان وحشم وخدم وصادف من عضد الدولة مَا يسره ويختاره
قَالَ وحَدثني من أَثِق إِلَيْهِ أَنه دخل الْأَطِبَّاء ليهنئوه بوروده وسلامته
فَقَالَ أَبُو الْحُسَيْن بن كشكرايا تلميذ سِنَان يَا أَبَا عِيسَى زرعنا وأكلت وأردناك تبعد فازددت قربا لِأَنَّهُ كَانَ كَمَا تقدم ذكره
فَضَحِك جِبْرَائِيل من قَوْله وَقَالَ لَهُ لَيْسَ الْأُمُور إِلَيْنَا بل لَهَا مُدبر وَصَاحب
وَأقَام بِبَغْدَاد مُدَّة ثَلَاث سِنِين
واعتل خسروشاه بن مبادر ملك الديلم وآلت حَاله إِلَى المراقبة وَنحل جِسْمه وَقَوي استشعاره
وَكَانَ عِنْده اثْنَا عشر طَبِيبا من الرّيّ وَغَيرهَا وَكلما عالجوه ازْدَادَ مَرضه
فأنفذ إِلَى الصاحب يلْتَمس مِنْهُ طَبِيبا
فَقَالَ مَا أعرف من يصلح لهَذَا الْأَمر إِلَّا أَبُو عِيسَى جِبْرَائِيل
فَسَأَلَهُ مُكَاتبَته لما بَينهمَا من الْإِنْس وَكَاتب عضد الدولة يسْأَل إِنْفَاذه ويعلمه أَن حَاله قد آلت إِلَى أَمر لَا يحْتَمل الونية فِي ذَلِك
فأنفذه مكرما
فَلَمَّا وصل إِلَى الديلمي قَالَ لَهُ مَا أعالجك أَو ينْصَرف من حولك من أطباء
فصرف الْأَطِبَّاء مكرمين وَأقَام عِنْده وَسَأَلَهُ أَن يعْمل فِي صُورَة الْمَرَض مقَالَة يقف على حَقِيقَته وتدبير يختاره ويعول عَلَيْهِ فَعمل لَهُ مقَالَة ترجمها فِي ألم الدِّمَاغ بمشاركة فَم الْمعدة والحجاب الْفَاصِل بَين آلَات الْغذَاء وآلات التنفس الْمُسَمّى ذيا فرغما
وَلما اجتاز بالصاحب سَأَلَهُ عَن أفضل استقساط الْبدن فَقَالَ هُوَ الدَّم فَسَأَلَهُ أَن يعْمل لَهُ فِي ذَلِك كتابا يبرهن عَلَيْهِ فِيهِ فَعمل فِي ذَلِك مقَالَة مليحة بَين فِيهَا الْبَرَاهِين الَّتِي تدل على هَذَا وَكَانَ فِي هَذِه الْمدَّة مستعجلا للْعَمَل كناشة الْكَبِير
وَلما عَاد إِلَى بَغْدَاد وَكَانَ عضد الدولة قد مَاتَ فَأَقَامَ بِبَغْدَاد سِنِين مشتغلا بالتصنيف فتمم كناشة الْكَبِير وَسَماهُ بالكافي بلقب الصاحب بن عباد لمحبته لَهُ ووقف مِنْهُ نُسْخَة على دَار الْعلم بِبَغْدَاد
وَعمل كتاب الْمُطَابقَة بَين قَول الْأَنْبِيَاء والفلاسفة وَهُوَ كتاب لم يعْمل فِي الشَّرْع مثله لِكَثْرَة احتوائه على الْأَقَاوِيل وَذكر الْمَوَاضِع الَّتِي استخرجت مِنْهَا وَأكْثر فِيهِ من أَقْوَال الفلاسفة فِي كل معنى لغموضها وَقلة وجودهَا وقلل من الْأَقَاوِيل الشَّرْعِيَّة لظهورها وَكَثْرَة وجودهَا وَفِي هَذِه الْمدَّة عمل مقَالَة فِي الرَّد على الْيَهُود جمع فِيهَا أَشْيَاء مِنْهَا جَوَاز النّسخ من أَقْوَال الْأَنْبِيَاء وَمِنْهَا شَهَادَات على صِحَة(1/212)
مَجِيء الْمَسِيح وَأَنه قد كَانَ وأبطل انتظارهم لَهُ وَمِنْهَا صِحَة القربان بالخبز وَالْخمر وَعمل مقالات أخر كَثِيرَة صغَارًا مِنْهَا لم جعل من الْخمر قرْبَان وَأَصله محرم وَأَبَان علل التَّحْلِيل وَالتَّحْرِيم
وَعرض لَهُ أَن سَافر إِلَى بَيت الْمُقَدّس وَصَامَ بِهِ يَوْمًا وَاحِدًا وَعَاد مِنْهُ إِلَى دمشق واتصل خَبره بالعزيز رَحمَه الله وكوتب من الحضرة بِكِتَاب جميل فاحتج أَن لَهُ بِبَغْدَاد أَشْيَاء يمْضِي وينجزها وَيعود إِلَى الحضرة قَاصِدا ليفوز بِحَق الْقَصْد فحين عَاد إِلَى بَغْدَاد أَقَامَ بهَا وَعدل عَن الْمُضِيّ إِلَى مصر
ثمَّ إِن ملك الديلم أنفذ خَلفه واستدعاه فَعِنْدَ حُصُوله بِالريِّ وقف بهَا نُسْخَة من كناشة الْكَبِير
قَالَ وَبَلغنِي أَن البيمارستان يعْمل بهَا وَأَنه يعرف بِهِ بَين أطبائهم إِذا ذكر أَبُو عِيسَى صَاحب الكناش
وَأقَام عِنْد ملك الديلم مُدَّة ثَلَاث سِنِين وَخرج من عِنْده على سَبِيل الْغَضَب وَكَانَ قد حلف لَهُ بِالطَّلَاق أَنه مَتى اخْتَار الِانْصِرَاف لَا يمنعهُ فَلم يُمكنهُ رده
وَجَاء إِلَى بَغْدَاد وَأقَام بهَا مُدَّة
ثمَّ أَنه استدعي إِلَى الْموصل إِلَى حسام الدولة فعالجه من مرض كَانَ بِهِ
وَجرى لَهُ مَعَه شَيْء استعظمه وَكَانَ أبدا يُعِيدهُ عَنهُ
وَذَلِكَ أَنه كَانَت لَهُ امْرَأَة عليلة بِمَرَض حاد فَأَشَارَ بِحِفْظ القارورة وَاتفقَ أَنه عِنْد حسان الدولة وَقَالَ لَهُ هَذِه الأمرأة تَمُوت فانزعج لذَلِك وَنظرت الْجَارِيَة إِلَى انزعاجه وصرخت وخرقت ثِيَابهَا وَوَلَّتْ فاستدعاها فِي الْحَال وَقَالَ لَهَا جرى فِي أَمر هَذِه الأمرأة شَيْء لَا أعلمهُ فَحَلَفت أَنَّهَا لم تجَاوز التَّدْبِير
فَقَالَ لَعَلَّكُمْ خضبتموها بِالْحِنَّاءِ قَالَت قد كَانَ ذَلِك
فحرد وَقَالَ لِلْجَارِيَةِ أقوالا ثمَّ قَالَ لحسام الدولة أبشر بعد ثَلَاثَة أَيَّام تَبرأ فَكَانَ كَمَا قَالَ فَعظم هَذَا عِنْده وَكَانَ أبدا يُعِيدهُ ويتعجب مِنْهُ
وَلما عَاد إِلَى بَغْدَاد كَانَ العميد لَا يُفَارِقهُ ويلازمه ويبايته فِي دَار الوزارة لأجل الْمَرَض الَّذِي كَانَ بِهِ وحظي لَدَيْهِ
ثمَّ أَن الْأَمِير ممهد الدولة أنفذ إِلَيْهِ ولاطفه حَتَّى أصعد إِلَى ميافارقين فَلَمَّا وصل إِلَيْهِ أكْرمه الْإِكْرَام الْمَشْهُور عِنْد كل من كَانَ يرَاهُ
وَمن لطيف مَا جرى لَهُ مَعَه أَنه أول سنة ورد فِيهَا سقى الْأَمِير دَوَاء مسهلا وَقَالَ لَهُ يجب أَن تَأْخُذ الدَّوَاء سحرًا فَعمد الْأَمِير وَأَخذه أول اللَّيْل فَلَمَّا أصبح ركب إِلَى دَاره وَوصل إِلَيْهِ وَأخذ نبضه وَسَأَلَهُ عَن الدَّوَاء فَقَالَ لَهُ مَا عمل معي شَيْئا امتحانا لَهُ فَقَالَ جِبْرَائِيل النبض يدل على نَفاذ دَوَاء الْأَمِير وَهُوَ أصدق
فَضَحِك ثمَّ قَالَ لَهُ كم ظَنك بالدواء فَقَالَ يعْمل مَعَ الْأَمِير خَمْسَة وَعشْرين مَجْلِسا وَمَعَ غَيره زَائِدا وناقصا
فَقَالَ لَهُ
عمل معي إِلَى الْآن ثَلَاثَة وَعشْرين مَجْلِسا فَقَالَ وَهُوَ يعْمل تَمام مَا قلت لَك
ورتب مَا يَسْتَعْمِلهُ وَخرج من عِنْده مغضبا وَأمر أَن يشد رَحْله وَيصْلح أَسبَاب الِانْصِرَاف
فَبلغ ممهد الدولة ذَلِك وانفذ إِلَيْهِ يستعلم خبر انْصِرَافه
فَقَالَ مثلي لَا يجرب لأنني أشهر من أَن احْتَاجَ إِلَى تجربة
فأرضاه وَحمل إِلَيْهِ بغلة ودراهم لَهَا قدر
وَفِي هَذِه الْمدَّة كَاتبه ملك الديلم بكتب جميلَة يسْأَله فِيهَا الزِّيَارَة وَكَاتب ممهد الدولة يسْأَله فِي ذَلِك
فَمنع من الْمُضِيّ وَأقَام فِي الْخدمَة ثَلَاث سِنِين وَتُوفِّي يَوْم الْجُمُعَة ثامن شهر رَجَب من شهور سنة(1/213)
سِتّ وَتِسْعين وثلثمائة لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ عمره خمْسا وَثَمَانِينَ سنة وَدفن بالمصلى بِظَاهِر ميافارقين
ولجبرائيل بن عبيد الله بن بختيشوع من الْكتب كناشه الْكَبِير الملقب بالكافي خمس مجلدات أَلفه للصاحب بن عباد رِسَالَة فِي عصب الْعين مقَالَة فِي ألم الدِّمَاغ بمشاركة فَم الْمعدة والحجاب الْفَاصِل بَين آلَات الْغذَاء وآلات التنفس الْمُسَمّى ذيافرغما ألفها لخسروشاه بن مبادر ملك الديلم
مقَالَة فِي أَن أفضل استقسات الْبدن هُوَ الدَّم ألفها للصاحب بن عباد كتاب الْمُطَابقَة بَين قَول الْأَنْبِيَاء والفلاسفة مقَالَة فِي الرَّد على الْيَهُود مقَالَة فِي أَنه لم جعل من الْخمر قرْبَان وَأَصله محرم
عبيد الله بن جِبْرَائِيل
هُوَ أَبُو سعيد عبيد الله بن جِبْرَائِيل بن عبد الله بن بختيشوع بن جِبْرَائِيل بن بختيشوع بن جورجس ابْن جِبْرَائِيل
كَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ مَشْهُورا بجودة الْأَعْمَال فِيهَا متقنا لأصولها وفروعها من جملَة المتميزين من أَهلهَا والعريقين من أَرْبَابهَا وَكَانَ جيد الْمعرفَة بِعلم النَّصَارَى ومذاهبهم وَله عناية بَالِغَة بصناعة الطِّبّ وَله تصانيف كَثِيرَة فِيهَا
وَأقَام بميافارقين وَكَانَ معاصر ابْن بطلَان ويجتمع بِهِ ويأنس إِلَيْهِ وَبَينهمَا صُحْبَة
وَتُوفِّي عبيد الله بن جِبْرَائِيل فِي شهور سنة نَيف وَخمسين وأربعماية
ولعبيد الله بن جِبْرَائِيل من الْكتب مقَالَة فِي الِاخْتِلَاف بَين الألبان ألفها لبَعض أصدقائه فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وأربعماية كتاب مَنَاقِب الْأَطِبَّاء ذكر فِيهِ شَيْئا من أَحْوَالهم ومآثرهم وَكَانَ تأليفه لذَلِك فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة كتاب الرَّوْضَة الطبية كتب بِهِ إِلَى الْأُسْتَاذ أبي الْحسن مُحَمَّد بن عَليّ كتاب التواصل إِلَى حفظ التناسل أَلفه فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وأربعماية رِسَالَة إِلَى الْأُسْتَاذ أبي طَاهِر بن عبد الْبَاقِي الْمَعْرُوف بِابْن قطرمين جَوَابا عَن مَسْأَلته فِي الطَّهَارَة ووجوبها
رِسَالَة فِي بَيَان وجوب حَرَكَة النَّفس
كتاب نَوَادِر الْمسَائِل مقتضبة من علم الْأَوَائِل فِي الطِّبّ
كتاب تذكرة الْحَاضِر وَزَاد الْمُسَافِر كتاب الْخَاص فِي علم الْخَواص كتاب طبائع الْحَيَوَان وخواصها وَمَنَافع أعضائها أَلفه للأمير نصير الدولة
خصيب
كَانَ نَصْرَانِيّا من أهل الْبَصْرَة ومقامه بهَا وَكَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ جيد المعالجة
حدث مُحَمَّد بن سَلام الجُمَحِي قَالَ مرض الحكم بن مُحَمَّد بن قنبر الْمَازِني الشَّاعِر بِالْبَصْرَةِ فَأتوهُ بخصيب الطَّبِيب يعالجه فَقَالَ فِيهِ
(وَلَقَد قلت لأهلي ... إِذْ أَتَوْنِي بخصيب)(1/214)
(لَيْسَ وَالله خصيب ... للَّذي بِي بطبيب)
(إِنَّمَا يعرف دأبي ... من بِهِ مثل الَّذِي بِي) الرمل
وَحدث أَيْضا مُحَمَّد بن سَلام قَالَ كَانَ خصيب الطَّبِيب نَصْرَانِيّا نبيلا فسقى مُحَمَّد بن أبي الْعَبَّاس السفاح شربة دَوَاء وَهُوَ على الْبَصْرَة فَمَرض مِنْهَا وَحمل إِلَى بَغْدَاد فَمَاتَ بهَا وَذَلِكَ فِي أول سنة خمسين وَمِائَة
فأتهم خصيب فحبس حَتَّى مَاتَ
فَنظر فِي علته إِلَى مائَة وَكَانَ عَالما فَقَالَ قَالَ جالينوس أَن صَاحب هَذِه الْعلَّة إِذا صَار هَكَذَا مَاؤُهُ لَا يعِيش فَقيل لَهُ إِن جالينوس رُبمَا أَخطَأ فَقَالَ مَا كنت إِلَى خطئه قطّ أحْوج مني إِلَيْهِ فِي هَذَا الْوَقْت وَمَات من علته
عِيسَى الْمَعْرُوف بِأبي قُرَيْش
قَالَ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي فِي كتاب أدب الطَّبِيب عَن عِيسَى ابْن ماسة قَالَ أَخْبرنِي يوحنا بن ماسويه أَن أَبَا قُرَيْش كَانَ صيدلانيا يجلس على مَوضِع نَحْو بَاب قصر الْخَلِيفَة وَكَانَ دينا صَالحا فِي نَفسه وَأَن الخيزران جَارِيَة الْمهْدي وجهت بِمَائِهَا مَعَ جَارِيَة لَهَا إِلَى الطَّبِيب فَخرجت الْجَارِيَة من الْقصر فأرت أَبَا قُرَيْش المَاء فَقَالَ لَهَا هَذَا مَاء امْرَأَة حُبْلَى بِغُلَام فَرَجَعت الْجَارِيَة بالبشارة فَقَالَت لَهَا ارجعي إِلَيْهِ واستقصي الْمَسْأَلَة عَلَيْهِ
فَرَجَعت فَقَالَت لَهَا مَا قلت لَك حق وَلَكِن لي عَلَيْك الْبُشْرَى
فَقَالَت كم تريدين الْبُشْرَى قَالَ جامة فالوذج وخلعة سنية فَقَالَت لَهَا إِن كَانَ هَذَا حَقًا فقد سقت إِلَى نَفسك خير الدُّنْيَا وَنَعِيمهَا
وانصرفت
فَلَمَّا كَانَ بعد أَرْبَعِينَ يَوْمًا أحست الخيزران بِالْحملِ فوجهت ببدرة دَرَاهِم وكتمت الْخَبَر عَن الْمهْدي
فَلَمَّا مَضَت الْأَيَّام ولدت مُوسَى أَخا هرون الرشيد
فَعِنْدَ ذَلِك أعلمت الْمهْدي وَقَالَت لَهُ إِن طَبِيبا على الْبَاب أخبر بِهَذَا مُنْذُ تِسْعَة أشهر
وَبلغ الْخَبَر جورجس بن جِبْرَائِيل فَقَالَ كذب ومخرقة
فَغضِبت لَهُ الخيزران وَأمرت فَاتخذ بَين يَديهَا مائَة خوان فالوذج ووجهت بذلك إِلَيْهِ مَعَ مائَة ثوب وَفرس بسرجه ولجامه
وَمَا مضى بعد ذَلِك إِلَّا قَلِيل حَتَّى حبلت بأَخيه هرون الرشيد
فَقَالَ جورجس للمهدي جرب أَنْت هَذَا الطَّبِيب فَوجه إِلَيْهِ بِالْمَاءِ فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ قَالَ هَذَا مَاء ابْنَتي أم مُوسَى وَهِي حُبْلَى بِغُلَام آخر
فَرَجَعت الرسَالَة بذلك إِلَى الْمهْدي وَأثبت الْيَوْم عِنْده فَلَمَّا مَضَت الْأَيَّام ولدت هرون فَوجه الْمهْدي إِلَى أبي قُرَيْش فَأحْضرهُ وأقيم بَين يَدَيْهِ فَلم يزل يطْرَح عَلَيْهِ الْخلْع ويدر الدَّنَانِير وَالدَّرَاهِم(1/215)
حَتَّى علت رَأسه وسير هرون ومُوسَى فِي حجره وكناه أَبَا قُرَيْش أَي أَبَا الْعَرَب
وَقَالَ لجورجس هَذَا شَيْء أَنا بنفسي جربته
فَصَارَ أَبُو قُرَيْش نَظِير جرجس بن جِبْرَائِيل بل أكبر مِنْهُ حَتَّى تقدمه فِي الْمرتبَة
وَتُوفِّي الْمهْدي واستخلف هرون الرشيد وَتُوفِّي جرجس وَسَار ابْنه تبع أبي قُرَيْش فِي خدمَة الرشيد وَمَات أَبُو قُرَيْش وَخلف اثْنَيْنِ وَعشْرين ألف دِينَار مَعَ نعْمَة سنية
وَقَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي الْعَبَّاس بن عَليّ بن الْمهْدي أَن الرشيد اتخذ مَسْجِدا جَامعا فِي بُسْتَان مُوسَى الْهَادِي وَأمر أخوته وَأهل بَيته بِحُضُورِهِ فِي كل يَوْم جُمُعَة ليتولى الصَّلَاة بهم فِيهِ
قَالَ فَحَضَرَ وَالِدي عَليّ بن الْمهْدي ذَلِك الْمَسْجِد فِي يَوْم حَار وَصلى فِيهِ وَانْصَرف إِلَى دَاره بسوق يحيى
فكسبه حر ذَلِك الْيَوْم صداعا كَاد يذهب ببصره
فأحضر لَهُ جَمِيع متطببي مَدِينَة السَّلَام وَكَانَ آخر من احضر مِنْهُم عِيسَى أَبُو قُرَيْش فوافاهم قد اجْتَمعُوا للمناظرة
فَقَالَ لَيْسَ يتَّفق لجَماعَة رَأْي حَتَّى يذهب بصر هَذَا
ثمَّ دَعَا بدهن بنفسج وَمَاء ورد وخل خمر وثلج فَجعل فِي مضربة من ذَلِك الدّهن بِقدر وزن دِرْهَمَيْنِ وصب عَلَيْهِ شَيْئا من الْخلّ وشيئا من المَاء وفت فِيهِ شَيْئا من الثَّلج وحرك المضربة حَتَّى اخْتَلَط جَمِيع مَا فِيهَا ثمَّ أَمر بتصبير راحه مِنْهُ وسط رَأسه وَالصَّبْر عَلَيْهِ حَتَّى ينشفه الرَّأْس ثمَّ زِيَادَة رَاحَة أُخْرَى
فَلم يزل يفعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات أَو أَربع حَتَّى سكن عَنهُ الصداع وعوفي من الْعلَّة
قَالَ يُوسُف وحدثتني شكْلَة أم إِبْرَاهِيم ابْن الْمهْدي أَن الْمهْدي هتف بهَا وَهِي مَعَه فِي مضربه بالربدة من طَرِيق مَكَّة بِلِسَان متغير أنكرته فَصَارَت إِلَيْهِ وَهُوَ مستلق على الْقَفَا فَأمرهَا بِالْجُلُوسِ
فَلَمَّا جَلَست وثب فعانقها معانقة الْإِنْسَان لمن يسلم عَلَيْهِ ثمَّ عبرها إِلَى صَدره وَزَالَ عَنهُ عقله
فجهد جَمِيع من حضرها بِأَن يخلص يَدَيْهِ من عُنُقهَا فَمَا وصلوا إِلَى ذَلِك
وَحضر المتطببون فَأَجْمعُوا على أَن الَّذِي بِهِ فالج
فَقَالَ عِيسَى أَبُو قُرَيْش الْمهْدي بن الْمَنْصُور بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْعَبَّاس يضْربهُ فالج لَا وَالله لَا يضْرب أحدا من هَؤُلَاءِ وَلَا نسلهم فالج أبدا إِلَّا أَن يبذروا بذورهم فِي الروميات والصقلبيات وَمَا أشبههن فَيعرض الفالج لمن وَلَده الروميات وأشباههن من نسلهم
ثمَّ دَعَا بالحجام فحجمه فوَاللَّه مَا أَن خرج من دَمه إِلَّا محجمة وَاحِدَة حَتَّى رد إِلَيْهِ يَدَيْهِ
ثمَّ تكلم مَعَ المحجمة الثَّانِيَة ثمَّ ثاب إِلَيْهِ عقله قبل فرَاغ الْحجام من حجامته ثمَّ طعم بعد ذَلِك ودعا بِأم أَسمَاء بنت الْمهْدي فواقعها فأحبلها بأسماء
قَالَ يُوسُف وَلما اشتدت بإبراهيم بن الْمهْدي علته الَّتِي توفّي فِيهَا استرخى لحيه وَغلظ لِسَانه فِي فِيهِ فصعب عَلَيْهِ الْكَلَام
وَكَانَ إِذا تكلم توهمه سامعه مفلوجا
فدعاني وَقت صَلَاة الْعَصْر من يَوْم الثُّلَاثَاء لست خلون من شهر رَمَضَان سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ فَقَالَ لي أما تعجب من عرض هَذِه(1/216)
الْعلَّة الَّتِي لم تعرض لأحد من ولد أبي غير إِسْمَاعِيل بن مُوسَى أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمُحَمّد بن صَالح الْمِسْكِين
وَإِنَّمَا عرضت لمُحَمد لِأَن أمه كَانَت رُومِية وَأم أَبِيه كَانَت كَذَلِك
وَكَانَت أم إِسْمَاعِيل رُومِية
وَأَنا فَلم تلدني رُومِية فَمَا الْعلَّة عنْدك فِي عرض هَذِه الْعلَّة لي فَعلمت أَنه كَانَ حفظ عَن أمه قَول عِيسَى أبي قُرَيْش فِي الْمهْدي وَولده أَنه لَا يعرف لعقبة الفالج إِلَّا أَن يبذروا بذورهم فِي الروميات وَأَنه قد أمل أَن يكون الَّذِي بِهِ فالجا لَا عَارض الْمَوْت
فَقلت لَا أعرف لإنكارك هَذِه الْعلَّة معنى إِذْ كَانَت أمك الَّتِي قَامَت عَنْك دنباوندية ودنباوند أَشد بردا من كل أَرض الرّوم فَكَأَنَّهُ تفرج إِلَى قولي وصدقني وَأظْهر السرُور بِمَا سمع مني
ثمَّ توفّي فِي وَقت طُلُوع الْفجْر من يَوْم الْجُمُعَة لتسْع خلون من شهر رَمَضَان
قَالَ يُوسُف وحَدثني إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَن لحم عِيسَى بن جَعْفَر بن الْمَنْصُور كثر عَلَيْهِ حَتَّى كَاد أَن يَأْتِي على نَفسه
وَأَن الرشيد اغتم لذَلِك غما شَدِيدا أضرّ بِهِ فِي بدنه وَمنعه لَذَّة الْمطعم وَالْمشْرَب وَأمر جَمِيع المتطببين بمعالجته
فكلهم دفع أَن يكون عِنْده فِي ذَلِك حِيلَة
فزادوا الرشيد غما إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْهُ
وَأَن عِيسَى الْمَعْرُوف بِأبي قُرَيْش صَار إِلَى الرشيد سرا فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن أَخَاك عِيسَى بن جَعْفَر رزق معدة صَحِيحَة وبدنا قَابلا للغذاء أحسن قبُول وَجَمِيع الْأُمُور جَارِيَة لَهُ بِمَا يحب فَلَيْسَ يتَمَنَّى شَيْئا إِلَّا تمّ لَهُ على أَكثر مِمَّا يُحِبهُ
وَقد وقِي موت أحبته وَدخُول النَّقْص فِي مَاله وَالظُّلم من نَاحيَة سُلْطَانه وَالِاسْتِقْصَاء عَلَيْهِ
والأبدان مَتى لم تختلط على أَصْحَابهَا طبائعهم وأحوالهم فتنالهم الْعِلَل فِي بعض الْأَوْقَات وَالصِّحَّة فِي بَعْضهَا والغموم فِي بَعْضهَا وَالسُّرُور فِي بَعْضهَا ورؤية المكاره فِي بَعْضهَا والمحاب فِي بَعْضهَا وَتدْخلهَا الروعة أَحْيَانًا والفرح أَحْيَانًا لم يُؤمن على صَاحبهَا التّلف
لِأَن لَحْمه يزْدَاد حَتَّى تضعف عَن حمله الْعِظَام وَحَتَّى يغمر فعل النَّفس وَتبطل قوى الدِّمَاغ والكبد
وَمَتى كَانَ هَذَا عدمت الْحَيَاة وأخوك هَذَا إِن لم تظهر موجدة عَلَيْهِ أَو تغير لَهُ أَو تقصده بِمَا ينكي قلبه من حِيَازَة مَال أَو أَخذ عَزِيز عَلَيْهِ من حرمه لم آمن عَلَيْهِ تزايد هَذَا الشَّحْم حَتَّى يتأتي على نَفسه
فَإِن أَحْبَبْت حَيَاته فافعل ذَلِك بِهِ وَإِلَّا فَلَا أَخ لَك
فَقَالَ الرشيد أَنا أعلم أَن الَّذِي ذكرت على مَا قلت
غير أَنه لَا حِيلَة عِنْدِي فِي التَّغَيُّر لَهُ أَو غمه بِشَيْء من الْأَشْيَاء فَإِن تكن عنْدك حِيلَة فِي أمره فاحتل بهَا
فَإِنِّي أكافئك عَنهُ مَتى رَأَيْت لَحْمه قد انحط بِعشْرَة آلَاف دِينَار وآخذ لَك مِنْهُ مثلهَا
فَقَالَ عِيسَى عِنْدِي حِيلَة إِلَّا أَنِّي أَتَخَوَّف أَن يعجل على عِيسَى بِالْقَتْلِ فتتلف نَفسِي
فليوجه معي أَمِير الْمُؤمنِينَ خَادِمًا جَلِيلًا من خدمه وَمَعَهُ جمَاعَة يمنعونه مني إِن أَمر بقتلي
فَفعل ذَلِك بِهِ وَسَار إِلَيْهِ فجسه وأعلمه أَنه يضْطَر إِلَى مجسة عرقه ثَلَاثَة أَيَّام قبل أَن يذكر لَهُ شَيْئا من العلاج
فَأمره عِيسَى بالانصراف وَالْعود إِلَيْهِ
فَفعل ذَلِك وَعَاد فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالثَّالِث
فَلَمَّا فرغ من مجسة عرقه قَالَ لَهُ إِن الْوَصِيَّة مباركة وَهِي غير مُقَدّمَة(1/217)
وَلَا مؤخرة وَأَنا أرى للأمير أَن يعْهَد فَإِن لم يحدث حَادث قبل أَرْبَعِينَ يَوْمًا عالجته فِي ذَلِك بعلاج لَا يمْضِي بِهِ إِلَّا ثَلَاثَة أَيَّام حَتَّى يخرج من علته هَذِه وَيعود بدنه إِلَى أحسن مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ
ونهض من مَجْلِسه وَقد أسكن قلب عِيسَى من الْخَوْف مَا امْتنع لَهُ من أَكثر الْغذَاء وَمنعه من النّوم فَلم يبلغ أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى انحط من منطقته خمس بشيزجات واستتر عِيسَى أَبُو قُرَيْش فِي تِلْكَ الْأَيَّام عَن الرشيد خوفًا من إِعْلَام الرشيد عِيسَى بن جَعْفَر تَدْبِير عِيسَى المتطبب لإسكان الْغم قلبه فَيفْسد عَلَيْهِ تَدْبيره
فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة يَوْم الْأَرْبَعين سَار إِلَى الرشيد وأعلمه أَنه لَا يشك فِي نُقْصَان بدن عِيسَى وَسَأَلَهُ إِحْضَاره مَجْلِسه أَو الرّكُوب إِلَيْهِ فَركب إِلَيْهِ الرشيد فَدخل عَلَيْهِ وَمَعَهُ عِيسَى فَقَالَ لَهُ عِيسَى أطلق لي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قتل هَذَا الْكَافِر فقد قتلني
واحضر منطقته فشدها فِي وَسطه وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نقص هَذَا الْعَدو وَالله من بدني بِمَا ادخل عَليّ من الروع خمس بشيزجات فَسجدَ الرشيد شكرا لله وَقَالَ لَهُ يَا أخي متعت بك بِأبي عِيسَى وَكَانَ الرشيد كثيرا مَا يَقُول لَهُ بِأبي عِيسَى ردَّتْ إِلَيْك بعد الله الْحَيَاة وَنعم الْحِيلَة احتال لَك وَقد أمرت لَهُ بِعشْرَة آلَاف دِينَار فأوصل إِلَيْهِ مثلهَا
فَفعل ذَلِك لَهُ وَانْصَرف المتطبب إِلَى منزله بِالْمَالِ وَلم يرجع إِلَى عِيسَى بن جَعْفَر ذَلِك الشَّحْم إِلَى أَن فَارق الدُّنْيَا
قَالَ يُوسُف وحَدثني إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَنه اعتل بالرقة مَعَ الرشيد عِلّة صعبة فَأمر الرشيد بحدره إِلَى والدته بِمَدِينَة السَّلَام فَكَانَ بختيشوع جد بختيشوع الَّذِي كَانَ فِي دَهْرنَا هَذَا لَا يزايله ويتولى علاجه
ثمَّ قدم الرشيد مَدِينَة السَّلَام وَمَعَهُ عِيسَى أَبُو قُرَيْش فَذكر أَن أَبَا قُرَيْش أَتَاهُ عَائِدًا فَرَأى الْعلَّة قد أذهبت لَحْمه وأذابت شحمه وأسارته إِلَى الْيَأْس من نَفسه وَكَانَ أعظم مَا عَلَيْهِ فِي علته شدَّة الْحمة
قَالَ أَبُو إِسْحَق فَقَالَ لي عِيسَى وَحقّ الْمهْدي لأعالجنك غَدا علاجا يكون بِهِ برؤك قبل خروجي من عنْدك
ثمَّ دَعَا القهرمان بعد خُرُوجه فَقَالَ لَهُ لَا تدع بِمَدِينَة السَّلَام أسمن من ثَلَاثَة فراريج كسكرية تذبحها السَّاعَة وتعلقها فِي ريشها حَتَّى آمُرك فِيهَا بأَمْري غَدَاة غَد
ثمَّ بكر إِلَيّ وَمَعَهُ ثَلَاث بطيخات رمشية قد بردهَا فِي الثَّلج ليلته كلهَا فَلَمَّا دخل عَليّ دَعَا بسكين فَقطع لي من إِحْدَاهُنَّ قِطْعَة ثمَّ قَالَ لي كل هَذِه الْقطعَة فأعلمته أَن بختيشوع كَانَ يحميني من رَائِحَة الْبِطِّيخ فَقَالَ لي لذَلِك طَالَتْ علتك فَكل فَإِنَّهُ لَا بَأْس عَلَيْك
فَأكلت الْقطعَة إلتذاذا مني لَهَا ثمَّ أَمرنِي بِالْأَكْلِ فَلم أزل آكل حَتَّى استوفيت بطيختين
ثمَّ انْتَهَت نَفسِي فَقطع من الثَّالِثَة قِطْعَة وَقَالَ جَمِيع مَا أكلت للذة فَكل هَذِه الْقطعَة للعلاج
فَأَكَلتهَا بتكره
ثمَّ قطع قِطْعَة أُخْرَى وَأَوْمَأَ إِلَى الغلمان بإحضار الطشت وَقَالَ لي كل هَذِه الْقطعَة أَيْضا
فَمَا أكلت ثلثهَا حَتَّى جَاشَتْ نَفسِي وذرعني الْقَيْء فتقيأت أَرْبَعَة أَضْعَاف مَا أكلت من الْبِطِّيخ وكل ذَلِك مرّة صفراء
ثمَّ أُغمي عَليّ بعد ذَلِك الْقَيْء وَغلب عَليّ الْعرق وَالنَّوْم إِلَى بعد صَلَاة الظّهْر فانتبهت وَمَا أَعقل جوعا وَقد كَانَت شَهْوَة الطَّعَام ممتنعة مني فدعوت بِشَيْء آكله فأحضرني الفراريج الثَّلَاثَة وَقد طبخ لي مِنْهَا(1/218)
سكباج وأجادها طهاتها فَأكلت مِنْهَا حَتَّى تضلعت ونمت بعد أكلي إِلَى آخرأوقات الْعَصْر ثمَّ قُمْت وَمَا أجد من الْعلَّة قَلِيلا وَلَا كثيرا واتصل بِي الْبُرْء فَمَا عَادَتْ إِلَيّ تِلْكَ الْعلَّة مُنْذُ ذَلِك الْيَوْم
اللَّجْلَاج
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن أبي سهل بن نوبخت أَن أَبَاهُ أَبَا سهل حَدثهُ أَن الْمَنْصُور لما حج حجَّته الَّتِي توفّي فِيهَا رافق ابْن اللَّجْلَاج متطبب الْمَنْصُور فَكَانَا مَتى نَام الْمَنْصُور تنادما إِلَى أَن سَأَلَ ابْن اللَّجْلَاج وَقد عمل فِيهِ النَّبِيذ أَبَا سهل عَمَّا بَقِي من عمر الْمَنْصُور
قَالَ إِسْمَاعِيل فأعظم ذَلِك وَالِدي وَقطع النَّبِيذ وَجعل على نَفسه أَن لَا ينادمه وهجره ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ اصطلحا بعد ذَلِك فَلَمَّا جلسا على نبيذهما قَالَ ابْن اللَّجْلَاج لأبي سهل سَأَلتك عَن علمك بِبَعْض الْأُمُور فبخلت بِهِ وهجرتني وَلست أبخل عَلَيْك بعلمي فاسمعه ثمَّ قَالَ إِن الْمَنْصُور رجل محرور تزداد يبوسة بدنه كلما أسن وَقد حلق رَأسه بِالْحيرَةِ وَجعل مَكَان الشّعْر الَّذِي حلقه غَالِيَة وَهُوَ فِي هَذَا الْحجاز يداوم الغالية وَمَا يقبل قولي فِي تَركهَا وَلَا أَحْسبهُ يبلغ إِلَى قيد حَتَّى يحدث فِي دماغه من اليبس مَا لَا يكون عِنْدِي وَلَا عِنْد أحد من المتطببين حِيلَة فِي ترطيبه
فَلَيْسَ يبلغ فيد إِن بلغَهَا إِلَّا مَرِيضا وَلَا يبلغ مَكَّة إِن بلغَهَا وَبِه حَيَاة
قَالَ إِسْمَاعِيل قَالَ لي وَالِدي فوَاللَّه مَا بلغ الْمَنْصُور فيد إِلَّا وَهُوَ عليل وَمَا وافى مَكَّة إِلَّا وَهُوَ ميت فَدفن ببئر مَيْمُون
قَالَ يُوسُف فَحدثت إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي بِهَذَا الحَدِيث فَاسْتَحْسَنَهُ وسألني عَن اسْم أبي سهل بن نوبخت فأعلمته بِأَنِّي لَا أعرفهُ
فَقَالَ إِن الْخَبَر فِي اسْمه أطرف من حَدِيثك الَّذِي حَدَّثتنِي عَن ابْنه فاحفظ عني
ثمَّ قَالَ لي حَدثنِي أَبُو سهل بن نوبخت أَنه لما ضعف عَن خدمَة الْمَنْصُور أمره الْمَنْصُور بإحضار وَلَده ليقوم مقَامه قَالَ أَبُو سهل فأدخلت على الْمَنْصُور فَلَمَّا مثلت بَين يَدَيْهِ قَالَ لي تسم لأمير الْمُؤمنِينَ فَقلت خرخشا ذماه طيماذاه ماذرياد خسرو بهمشاذ
فَقَالَ لي كل مَا ذكرت اسْمك قلت نعم فَتَبَسَّمَ ثمَّ قَالَ لي مَا صنع أَبوك شَيْئا فاختر مني خلة من خلتين قلت وَمَا هما قَالَ أما أَن اقْتصر بك من كل مَا ذكرت على طيماذ وَأما أَن أجعَل لَك كنية تقوم مقَام الِاسْم وَهِي أَبُو سهل قَالَ أَبُو سهل قد رضيت بالكنية
فَثَبت كنيته وَبَطل اسْمه
فَحدث بِهَذَا الحَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي سهل فَقَالَ صدق أَبُو إِسْحَق كَذَا حَدثنِي وَالِدي(1/219)
عبد الله الطيفوري
كَانَ حسن الْعقل طيب الحَدِيث على لكنة سوادية كَانَت فِي لِسَانه شَدِيدَة لِأَن مولده كَانَ فِي بعض قرى كسكر كَانَ من أحظى خلق الله عِنْد الْهَادِي
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي الطيفوري أَنه كَانَ متطببا لطيفور الَّذِي كَانَ يَقُول أَنه أَخُو الخيزران وَالنَّاس يَقُولُونَ أَو أَكْثَرهم أَنه مولى الخيزران وَلما وَجه الْمَنْصُور الْمهْدي إِلَى الرّيّ لمحاربة سنقار حمل الْمهْدي الخيزران وَهِي حَامِل بمُوسَى وَخرج طيفور مَعهَا وأخرجني مَعَه وَلم تكن الخيزران علمت بِمَا رزقت من الْحمل
وَكَانَ عِيسَى الْمَعْرُوف بِأبي قُرَيْش صيدلانيا فِي الْعَسْكَر فَلَمَّا تبينت الخيزران ارْتِفَاع الْعلَّة بعثت بِمَائِهَا مَعَ عَجُوز مِمَّن مَعهَا وَقَالَت لَهُ أعرضي هَذَا المَاء على جَمِيع المتطببين الَّذين فِي عَسْكَر الْمهْدي وَجَمِيع من ينظر فِي ذَلِك
فَفعلت الْعَجُوز وَكُنَّا فِي ذَلِك الْوَقْت بهمدان
واجتازت فِي منصرفها بخيمة عِيسَى فرأت جمَاعَة من غلْمَان أهل الْعَسْكَر وقوفا يعرضون عَلَيْهِ قَوَارِير المَاء فَكرِهت أَن تجوزه قبل أَن ينظر إِلَى المَاء فَقَالَ لَهَا عِنْد نظره إِلَى المَاء هَذَا مَاء امْرَأَة وَهِي حَامِل بِغُلَام فأدت الْعَجُوز عَنهُ مَا قَالَ إِلَى الخيزران
فسجدت شكرا لله وأطلقت عدَّة مماليك وسارت إِلَى الْمهْدي فَأَخْبَرته بِمَا قَالَت الْعَجُوز فأظهر من السرُور بذلك أَكثر من سرورها وَأمر بإحضار عِيسَى وَسَأَلَهُ عَمَّا قَالَت الْعَجُوز فَأعلمهُ أَن الْأَمر على مَا ذكرت
فوصله ووصلته الخيزران بِمَال جليل وَأمره بِلُزُوم الْخدمَة وَترك خيمته وَمَا كَانَ فِيهَا من مَتَاع الصيادلة
قَالَ الطيفوري فَأَرَادَ طيفور أَن يَنْفَعنِي فَأرْسل إِلَى خيزران إِن متطببي ماهر بصناعة الطِّبّ فابعثي إِلَيْهِ بِالْمَاءِ حَتَّى يرَاهُ
فَفعلت ذَلِك فِي الْيَوْم الثَّانِي فَقَالَ لي قل مثل قَول عِيسَى فأعلمته أَن المَاء يدل على أَنَّهَا حَامِل فَأَما تَمْيِيز الْغُلَام من الْجَارِيَة فَذَلِك مَا لَا أقوله
فجهد بِي كل الْجهد أَن أُجِيبهُ إِلَى ذَلِك فَلم أفعل صِيَانة لنَفْسي عَن الِاكْتِسَاب بالمخرقة
فَأدى قولي إِلَيْهَا فَأمرت لي بِأَلف دِرْهَم وَاحِد وَأمرت بملازمتها
فَلَمَّا وافت الرّيّ ولدت بهَا الْهَادِي
وَصَحَّ عِنْد الْمهْدي أَن أَبَا قُرَيْش عنين بعد أَن امتحن بِكُل محنة فسر بذلك وأحظاه وَتقدم عِنْده على جَمِيع الخصيان
وَكَانَ ذَلِك من أَسبَاب الصنع لي
فضممت إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ مُوسَى ودعيت متطببه وَهُوَ رَضِيع وفطيم
ثمَّ ولدت هرون الرشيد بِالريِّ أَيْضا فَكَانَ مولده كَانَ شؤما على الْهَادِي لِأَن الحظوة كلهَا أَو أَكْثَرهَا صَارَت لَهُ دونه
فأضر بِي ذَلِك فِي جاهي وَمَا كنت فِيهِ من كَثْرَة الدخل إِلَى أَن ترعرع مُوسَى ففهم الْأَمر
فَكَانَ ذَلِك مِمَّا زَاد فِي جاهي وَجَمِيل رَأْيه فِي
فَكَانَ ينيلني من أفضاله أَكثر مِمَّا كَانَت الخيزران تنيلنيه وَفتح الله على الْمهْدي وَقتل سنقار وطراحته شهريار أَبَا مهرويه وخلد وبسخنز(1/220)
أَبَا الْحَرْث بن بنسخنز والربعين وسبى ذَرَارِيهمْ فَكَانَ من ذَلِك السَّبي مهرويه وخلد وقرابتهما شاهك وَكَانَت على مائدة شهريار وَهِي أم السندي ابْن شاهك وَكَانَ مِنْهُم الْحَرْث بن بسخنز وَجَمِيع هَؤُلَاءِ الموَالِي الرازيين
ثمَّ أدْرك الْهَادِي وأفضت الْخلَافَة إِلَى الْمهْدي فاتصل بِي الْأَمر وَعظم قدري لِأَنِّي صرت متطبب ولي الْعَهْد
ثمَّ ملك الْهَادِي أمة الْعَزِيز فَكَانَت أعز عَلَيْهِ من جلدَة مَا بَين عَيْنَيْهِ وَهِي أم جَعْفَر وَعبد الله وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَق وَعِيسَى الْمَعْرُوف بالجرجاني ومُوسَى الْأَعْمَى وَأم عِيسَى زوج الْمَأْمُون وَأم مُحَمَّد وَعبيد الله ابْنَتَيْهِ
فبناني مُوسَى الْهَادِي جَمِيع وَلَدهَا وَأعلم أمة الْعَزِيز أَنه يتبرك بِي فنلت مها أَكثر من أملي مِمَّا كَانَ من الْهَادِي
ثمَّ دبر الْهَادِي الْبيعَة لِابْنِهِ جَعْفَر ابْن مُوسَى فدعاني قبل الْبيعَة بِيَوْم فَخلع عَليّ وحملني على دَابَّة من دَوَاب رَحْله بسرجه ولجامه وَأمر لي بِمِائَة ألف حملت إِلَى منزلي وَقَالَ لَا تَبْرَح الدَّار بَاقِي يَوْمك وليلتك وَأكْثر نَهَار غدك حَتَّى أبايع لابنك جَعْفَر فتنصرف إِلَى مَنْزِلك وَأَنت أنبل النَّاس لِأَنَّك توليت تربية ابْن خَليفَة صَار ولي الْعَهْد وَولي ولي الْعَهْد الْخلَافَة فربيت ابْنه إِلَى أَن صَار ولي عَهده وَبلغ أمة الْعَزِيز الْخَبَر فَفعلت بِي مثل الَّذِي فعل الْهَادِي من الصِّلَة وحملت إِلَى منزلي ثِيَاب صِحَاح وَلم تحملنِي على دَابَّة وأقمت فِي الدَّار بعيساباذ إِلَى أَن طلعت الشَّمْس من غَد الْيَوْم الَّذِي نلْت فِيهِ مَا نلْت
ثمَّ جلس الْهَادِي وَقد أحضر جَمِيع بني هَاشم فَأخذت عَلَيْهِم الْبيعَة لجَعْفَر وأحلفوا عَلَيْهَا وعَلى خلع الرشيد
ثمَّ آل زَائِدَة فَكَانَ يزِيد بن مزِيد أول من خلع الرشيد وَبَايع جَعْفَر بعده ثمَّ شرَاحِيل بن معن بن زَائِدَة وَأهل بَيته ثمَّ سعيد بن سلم بن قُتَيْبَة بن مُسلم ثمَّ آل مَالك
وَكَانَ أول من بَايع مِنْهُم عبد الله ثمَّ الصَّحَابَة وَسَائِر مَشَايِخ الْعَرَب ثمَّ القواد
فَمَا انتصف النَّهَار إِلَّا وَقد بَايع أَكثر القواد وَكَانَ فِي القواد هرثمة بن أعين ولقبه المشؤوم وَكَانَ الْمَنْصُور قد قوده على خَمْسمِائَة وَلم يكن لَهُ حَرَكَة بعد أَن قَود فَتوفي أَكثر أَصْحَابه وَلم يثبت لَهُ مَكَان من توفّي مِنْهُم فأحضروه وأمروه بالبيعة
فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لمن أبايع فَقَالَ لَهُ لجَعْفَر بن أَمِير الْمُؤمنِينَ
قَالَ إِن يَمِيني مَشْغُولَة ببيعة أَمِير الْمُؤمنِينَ وشمالي مَشْغُولَة ببيعة هرون فأبايع بِمَاذَا فَقَالَ لَهُ تخلع هَارُون وتبايع جعفرا
فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا رجل أدين بنصيحتك ونصيحة الْأَئِمَّة مِنْكُم أهل الْبَيْت وَبِاللَّهِ لَو تخوفت أَن تحرقني على صدقي إياك بالنَّار لما حجزني ذَلِك عَن صدقك
إِن الْبيعَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنَّمَا هِيَ إِيمَان وَقد حَلَفت لهارون بِمثل مَا تستحلفني بِهِ لجَعْفَر
وَإِن خلعت الْيَوْم هَارُون خلعت جَعْفَر فِي غَد وَكَذَلِكَ جَمِيع من حلف لهرون على هَذَا فغدر بِهِ
قَالَ فاستشاط مُوسَى من قَوْله وَأمر بوجء عُنُقه
وتسرعت جمَاعَة من الموَالِي والقواد نَحوه بالجررة والعمد فنهاهم(1/221)
الْهَادِي عَنهُ
ثمَّ عاوده الْأَمر بالبيعة فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قولي هَذَا قولي الأول
فزبره الْهَادِي وَقَالَ لَهُ اخْرُج إِلَى لعنة الله لَا بَايَعت وَلَا بَايع أَصْحَابك ألف سنة
ثمَّ أَمر بِإِخْرَاجِهِ من الدَّار بعيساباذا وَإِسْقَاط قيادته وَقَالَ أَطْلقُوهُ لينفد حَيْثُ أحب لَا صَحبه الله وَلَا كلأه
ثمَّ وجم مِقْدَار نصف سَاعَة لَا يَأْمر وَلَا ينْهَى ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ ليندون خادمه الْحق الْفَاجِر
فَقَالَ لَهُ الْحَقْهُ فأصنع بِهِ مَاذَا فَقَالَ ترده على أَمِير الْمُؤمنِينَ
قَالَ فَلحقه يندون فِيمَا بَين بَاب خُرَاسَان وَبَاب بردَان بِالْقربِ من الْموضع الْمَعْرُوف بِبَاب النقب وَهُوَ يُرِيد منزله على نهر الْمهْدي فَرده
فَلَمَّا دخل قَالَ لَهُ يَا حائك تبَايع أهل بَيت أَمِير الْمُؤمنِينَ فيهم عَم جده وَعم أَبِيه وعمومته وَإِخْوَته وَسَائِر لحْمَته وتبايع وُجُوه الْعَرَب والموالي والقواد وَتمسك أَنْت عَن الْبيعَة فَقَالَ هرثمة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَا حَاجَتك إِلَى بيعَة الحائك بعد بيعَة من ذكرت من أَشْرَاف النَّاس أَلا إِن الْأَمر على مَا حكيت لَك أَنه لَا يخلع الْيَوْم أحد هرون وَيبقى فِي غَد لجَعْفَر
قَالَ الطيفوري فَالْتَفت الْهَادِي إِلَى من حضر مَجْلِسه فَقَالَ لَهُم شَاهَت الْوُجُوه صدق وَالله هرثمة وبر وغدرتم
وَأمر الْهَادِي عِنْد هَذَا الْكَلَام لهرثمة بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم وأقطعه الْموضع الَّذِي لحقه فِيهِ يندون فَسُمي ذَلِك الْموضع عَسْكَر هرثمة إِلَى هَذِه الْغَايَة
وَانْصَرف النَّاس كلهم فِي أَمر عَظِيم من أَمر ذِي قدر قد غمه مَا لقِيه بِهِ الْخَلِيفَة
وَمِمَّا يتوقعه من الْبلَاء إِن حدث بالهادي حَادث لمسارعتهم إِلَى خلع الرشيد وَمن بطانته لجَعْفَر قد كَانُوا أملوا خلَافَة صَاحبهمْ والغنى بِمَا قد قلد مِنْهَا فصاروا يتخوفون على نفس صَاحبهمْ التّلف
وعَلى أنفسهم أَن سلمُوا من الْقَتْل وَالْبَلَاء والفقر
وَدخل مُوسَى الْهَادِي على أمة الْعَزِيز فَقَالَت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أَحسب أحدا عاين وَلَا سمع بِمثل مَا عاينا وَسَمعنَا فَإنَّا أَصْبَحْنَا فِي غَايَة الأمل لهَذَا الْفَتى وأمسينا على غَايَة الْخَوْف عَلَيْهِ
فَقَالَ إِن الْأَمر لعلى مَا ذكرت وَأَزِيدك وَاحِدَة
قَالَت وَمَا هِيَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ أمرت برد هرثمة لأضرب عُنُقه
فَلَمَّا مثل بَين يَدي حيل بيني وَبَينه واضطررت إِلَى أَن وصلته وأقطعته وَأَنا على زِيَادَة وَرفع مرتبته والتنويه باسمه فَبَكَتْ أمة الْعَزِيز فَقَالَ لَهَا أَرْجُو أَن يَسُرك الله
فتوهمت وتوهم جَمِيع من يطِيف بهَا إِنَّه على اغتيال الرشيد بالسم فَلم يُمْهل وَلم تمض بِهِ لَيَال قَلَائِل حَتَّى توفّي الْهَادِي وَولي الْخلَافَة هرون الرشيد فوَاللَّه لقد أحسن غَايَة الْإِحْسَان فِي أَمر جَعْفَر وزاده نعما إِلَى نعمه وزوجه أم مُحَمَّد ابْنَته
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم وحَدثني أَبُو مُسلم عَن حميد الطَّائِي الْمَعْرُوف بالطوسي وَلم يكن حميد طوسيا وَكَانَت كورته فِي الدِّيوَان مرو وَكَذَلِكَ كورة طَاهِر مرو والطاهر ولي بوشنج ومُوسَى بن أبي الْعَبَّاس الشَّاشِي لم تكن كورته الشاش وكورته هراة وَمُحَمّد بن أبي الْفضل الطوسي كورته(1/222)
نسا وَهُوَ مَنْسُوب إِلَى طوس وَالسَّبَب فِي نسب هَؤُلَاءِ وعدة من أَصْحَاب الدولة إِلَى غير كورهم أَن مِنْهُم من كَانَ مخرجه فِي كورة فنسب إِلَى الكورة الَّتِي فِيهَا ضيَاعه وَمِنْهُم من ولي بَلَدا طَالَتْ فِيهِ ولَايَته إِيَّاه فنسب إِلَى ذَلِك الْبَلَد قَالَ أَبُو مُسلم اعتل أَبُو غَانِم يَعْنِي أَبَاهُ عِلّة صعبة فَتَوَلّى علاجه مِنْهَا الطيفوري المتطبب وَكَانَ فِي أبي غَانِم حِدة شَدِيدَة تخرجه إِلَى قذف أَصْحَابه وَإِلَى الْإِقْدَام بالمكروه عَلَيْهِم
فَإِنِّي لواقف على رَأسه وَأَنا غُلَام فِي قبادر زبيرون إِذْ دخل عَلَيْهِ الطيفوري فجس عرقه وَنظر إِلَى مَائه ثمَّ ناجاه بِشَيْء لم أفهمهُ فَقَالَ لَهُ كذبت يَا ماص بظر أمه فَقَالَ لَهُ الطيفوري أعض الله أكذبنا بِكَذَا وَكَذَا من أمه
فَقلت فِي نَفسِي ذهبت وَالله نفس الطيفوري
فَقَالَ أَبُو غَانِم يَا ابْن الْكَافِرَة لقد أقدمت وَيلك كَيفَ اجترأت عَليّ بِهَذَا فَقَالَ لَهُ وَالله مَا احتملت سَيِّدي الْهَادِي قطّ على لقائي بِحرف خشن وَلَقَد كَانَ يقذفني فأرد عَلَيْهِ مثل قَوْله فيكف احْتمل لَك وَأَنت كلب قذفي فَحلف لي أَبُو مُسلم أَنه رأى أَبَاهُ ضَاحِكا باكيا يفهم فِي بعض أسرة وَجهه الضحك وَفِي بَعْضهَا الْبكاء
ثمَّ قَالَ لَهُ وَالله إِنَّك كنت ترد على أَمِير الْمُؤمنِينَ الْهَادِي الْقَذْف الَّذِي كَانَ يقذفك بِهِ فَقَالَ لَهُ الطيفوري اللَّهُمَّ نعم
فَقَالَ لَهُ فأسألك بِاللَّه لما أَحْبَبْت فِي عرض حميد مَا أَحْبَبْت وقذفته بِمَا شِئْت من الْقَذْف مَتى قذفتك ثمَّ بَكَى على الْهَادِي بكاء كثيرا
قَالَ يُوسُف فَسَأَلت الطيفوري عَمَّا حَدثنِي بِهِ أَبُو مُسلم من ذَلِك فَبكى حَتَّى تخوفت عَلَيْهِ الْمَوْت مِمَّا تداخله من الْجزع عِنْد ذكر حميد وَقَالَ وَالله مَا عاشرت بعد الْهَادِي أحر نفسا وَلَا أكْرم طبعا وَلَا أطيب عشرَة وَلَا أَشد إنصافا من حميد إِلَّا أَنه كَانَ صَاحب جَيش فَكَانَ يظْهر مَا يجب على أَصْحَاب الجيوش إِظْهَاره فَإِذا صَار مَعَ إخوانه كَانَ كَأَنَّهُ من المنقطعين إِلَيْهِم لَا من المفضلين عَلَيْهِم
قَالَ يُوسُف وحَدثني الطيفوري أَنه كَانَ مَعَ حميد الطوسي بقصر ابْن هُبَيْرَة أَيَّام تغلب صاحبنا على مَدِينَة السَّلَام وَمَا والاها فَقدمت عَلَيْهِ جمَاعَة من جبل طَيء عَلَيْهِم رَئِيس لَهُم يقدمونه على أنفسهم ويقرون لَهُ بِالْفَضْلِ والسؤدد عَلَيْهِم
فَأذن لَهُ فِي الدُّخُول عَلَيْهِ فِي مجْلِس عَام قد احتشد لإِظْهَار عدده فِيهِ ثمَّ قَالَ لذَلِك الرئيس مَا أقدمك يَا ابْن عَم فَقَالَ لَهُ قدمت مدَدا لَك إِذْ كنت على محاربة هَذَا الدعي لما لَا يجب لَهُ وَلَا يسْتَحقّهُ يَعْنِي صاحبنا
فَقَالَ لَهُ حميد لست أقبل مدَدا إِلَّا من وثقت بصرامته وَقُوَّة قلبه واحتماله لما تصعب على أَكثر النَّاس فِي نصرتي وَلَا بُد من امتحانك فَإِن خرجت على المحنة قبلتك وَإِلَّا رددتك إِلَى أهلك
فَقَالَ لَهُ الطَّائِي فامتحني بِمَا أَحْبَبْت فَأخْرج حميد عمودا من تَحت مُصَلَّاهُ ثمَّ قَالَ لَهُ ابْسُطْ ذراعك
فَبسط ذراعه فَحمل حميد العمود على عَاتِقه ثمَّ هوى بِهِ إِلَى ذِرَاع الطَّائِي
فَلَمَّا قرب العمود من ذراعه رفع يَده فأظهر حميد غَضبا عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ لَهُ رددت يَدي
فترضاه الطَّائِي ثمَّ دَعَاهُ إِلَى معاودة امتحانه
فَأمره حميد بِإِظْهَار ذراعه فَفعل فَرفع حميد العمود ليضْرب بِهِ ذراعه
فَلَمَّا قرب العمود من ذِرَاع(1/223)
الطَّائِي فعل مثل فعله فِي الْمرة الأولى
فَلَمَّا جذب ذراعه وَلم يكن حميدا من ضربهَا بالعمود أَمر بسجنه بعد سحبه فِي مَجْلِسه وَأخذ دوابه ودواب أَصْحَابه وطردهم من مُعَسْكَره
فانصرفوا من عِنْده رجالة بِأَسْوَأ حَال
قَالَ الطيفوري فلمته على مَا كَانَ مِنْهُ
فاستضحك ثمَّ قَالَ لي قد أطلقت لَك الضحك مني والاستهزاء بِي وَقذف عرضي مَتى تَكَلَّمت فِي الطِّبّ بحضرتك بِشَيْء تنكره
فَأَما قيادة الجيوش فَذَلِك مَا لَيْسَ لَك فِيهِ حَظّ فَلَا تنكرن مُخَالفَة رَأْيك رَأْيِي
ثمَّ قَالَ لي أَنا رجل من يمن وَكَانَ الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مضريا والخلافة فِي أَيدي مُضر
فَكَمَا إِنِّي أحب قومِي فَكَذَلِك الْخُلَفَاء تحب قَومهَا وَإِن أظهرت ميلًا إِلَى قومِي فِي بعض الْأَوْقَات وانحرافا عَمَّن هُوَ أمس بهَا رحما مني فَإِنِّي غير شَاك فِي ميلها إِلَيْهِم إِذا حقت الْحَقَائِق
وَمَعِي من أَبنَاء نزار بشر كثير
وَكَانَ فِي استشعاري من قدم عَليّ من قومِي مفْسدَة لقلوب من قد امتحنته وَعرفت بلاءه من النزارية
وَلست أَدْرِي لَعَلَّ كل من أَتَانِي من عشيرتي لَا يُسَاوِي رجلا وَاحِدًا من النزارية فَأَرَدْت بِمَا كَانَ مني استجلاب قُلُوب من معي وَأَن ينْصَرف من أَتَانِي من عشيرتي منذرين لَا مبشرين
لأَنهم مَتى انصرفوا منذرين انْقَطَعت عَنَّا مادتهم وَمَتى انصرفوا مبشرين أَتَانِي مِنْهُم من لَا يَسعهُ مَال مَا فِي أَيْدِينَا من السوَاد
فَعلمت أَنه قد أصَاب التَّدْبِير وَلم يُخطئ فِيمَا بنى عَلَيْهِ أمره
زَكَرِيَّا بن الطيفوري
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي زَكَرِيَّا بن الطيفوري قَالَ كنت مَعَ الأفشين فِي مُعَسْكَره وَهُوَ فِي محاربة بابك فَأمر بإحصاء جَمِيع من فِي عسكره من التُّجَّار وحوانيتهم وصناعة رجل رجل مِنْهُم فَرفع ذَلِك إِلَيْهِ
فَلَمَّا بلغت الْقِرَاءَة بالقارئ إِلَى مَوضِع الصيادلة قَالَ لي يَا زَكَرِيَّا ضبط هَؤُلَاءِ الصيادلة عِنْدِي أولى مَا تقدم فِيهِ فامتحنهم حَتَّى نَعْرِف مِنْهُم الناصح من غَيره وَمن لَهُ دين وَمن لَا دين لَهُ
فَقلت أعز الله الْأَمِير إِن يُوسُف لقُوَّة الكيميائي كَانَ يدْخل على الْمَأْمُون كثيرا وَيعْمل بَين يَدَيْهِ
فَقَالَ لَهُ يَوْمًا وَيحك يَا يُوسُف لَيْسَ فِي الكيمياء شَيْء فَقَالَ لَهُ بلَى يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإِنَّمَا آفَة الكيمياء الصيادلة
قَالَ لَهُ الْمَأْمُون وَيحك وَكَيف ذَلِك فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن الصيدلاني لَا يطْلب مِنْهُ إِنْسَان شَيْئا من الْأَشْيَاء كَانَ عِنْده أَو لم يكن إِلَّا أخبرهُ بِأَنَّهُ عِنْده وَدفع إِلَيْهِ شَيْئا من الْأَشْيَاء الَّتِي عِنْده وَقَالَ هَذَا الَّذِي طلبت
فَإِن رأى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يضع اسْما لَا يعرف وَيُوجه جمَاعَة إِلَى الصيادلة فِي طلبه ليبتاعه فَلْيفْعَل
فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون قد وضعت الِاسْم وَهُوَ سقطيثا وسقطيثا ضَيْعَة تقرب من مَدِينَة السَّلَام
وَوجه(1/224)
الْمَأْمُون جمَاعَة من الرُّسُل يسألهم عَن سقطيثا فكلهم ذكر أَنه عِنْده وَأخذ الثّمن من الرُّسُل وَدفع إِلَيْهِم شَيْئا من حانوته فصاروا إِلَى الْمَأْمُون بأَشْيَاء مُخْتَلفَة
فَمنهمْ من أَتَى بِبَعْض البزور وَمِنْهُم من أَتَى بِقِطْعَة من حجر وَمِنْهُم من أَتَى بوبر
فَاسْتحْسن الْمَأْمُون نصح يُوسُف لقُوَّة عَن نَفسه وأقطعه ضَيْعَة على النَّهر الْمَعْرُوف بنهر الكلبة فَهِيَ فِي أَيدي ورثته وَمِنْهَا معاشهم
فَأن رأى الْأَمِير أَن يمْتَحن هَؤُلَاءِ الصيادلة بِمثل محنة الْمَأْمُون فَلْيفْعَل
فَدَعَا الأفشين بدفتر من دفاتر الأسروشنية فَأخْرج مِنْهَا نَحوا من عشْرين اسْما وَوجه إِلَى الصيادلة من يطْلب مِنْهُم أدوية مُسَمَّاة بِتِلْكَ الْأَسْمَاء فبعضهم أنكرها وَبَعْضهمْ أدعى مَعْرفَتهَا وَأخذ الدَّرَاهِم من الرُّسُل وَدفع إِلَيْهِم شَيْئا من حانوته فَأمر الأفشين بإحضار جَمِيع الصيادلة فَلَمَّا حَضَرُوا كتب لمن أنكر معرفَة تِلْكَ الْأَسْمَاء منشورات أذن لَهُم فِيهَا بالْمقَام فِي عسكره وَنفى البَاقِينَ عَن الْعَسْكَر وَلم يَأْذَن لأحد مِنْهُم فِي الْمقَام ونادى الْمُنَادِي بنفيهم وباباحة دم من وجد مِنْهُم فِي مُعَسْكَره
وَكتب إِلَى المعتصم يسْأَله الْبعْثَة إِلَيْهِ بصيادلة لَهُم أَدْيَان وَمذهب جميل ومتطببين كَذَلِك فَاسْتحْسن المعتصم ذَلِك وَوجه إِلَيْهِ بِمَا سَأَلَ
إِسْرَائِيل بن زَكَرِيَّا الطيفوري
متطبب الْفَتْح بن خاقَان كَانَ مقدما فِي صناعَة الطِّبّ جليل الْقدر عِنْد الْخُلَفَاء والملوك كثيري الاحترام لَهُ
وَكَانَ مُخْتَصًّا بِخِدْمَة الْفَتْح بن خاقَان بصناعة الطِّبّ وَله مِنْهُ الجامكية الْكَثِيرَة والأنعام الوافرة وَكَانَ المتَوَكل بِاللَّه يرى لَهُ كثيرا ويعتمد عَلَيْهِ وَله عِنْد المتَوَكل الْمنزلَة المكينة
وَمن ذَلِك مِمَّا حَكَاهُ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي فِي كتاب أدب الطَّبِيب أَن إِسْرَائِيل بن زَكَرِيَّا ابْن الطيفوري وجد على أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل لما احْتجم بِغَيْر إِذْنه فَافْتدى غَضَبه بِثَلَاثَة آلَاف دِينَار وضيعة تغل لَهُ فِي السّنة خمسين ألف دِرْهَم وَهبهَا لَهُ وسجل لَهُ عَلَيْهَا
وَحكي عَن عِيسَى بن ماسة قَالَ رَأَيْت المتَوَكل وَقد عَاده يَوْمًا وَقد غشي عَلَيْهِ فصير يَده تَحت رَأسه مخدة ثمَّ قَالَ للوزير يَا عبد الله حَياتِي معلقَة بحياته أَن عدمته لَا أعيش
ثمَّ اعتل فَوجه إِلَيْهِ سعيد بن صَالح حَاجِبه ومُوسَى بن عبد الْملك كَاتبه يعودانه
ونقلت من بعض التواريخ أَن الْفَتْح بن خاقَان كَانَ كثير الْعِنَايَة بإسرائيل بن الطيفوري فقدمه عِنْد المتَوَكل وَلم يزل حَتَّى أنس بِهِ المتَوَكل وَجعله فِي مرتبَة بختيشوع وَعظم قدره وَكَانَ مَتى ركب إِلَى دَار المتَوَكل يكون موكبه مثل موكب الْأُمَرَاء وأجلاء القواد وَبَين يَدَيْهِ أَصْحَاب المقارع وأقطعه المتَوَكل قطيعة بسر من رأى وَأمر المتَوَكل صقْلَابٍ وَابْن الْخَيْبَرِيّ بِأَن يركبا مَعَه ويدور جَمِيع سر من رأى حَتَّى يخْتَار الْمَكَان الَّذِي يُريدهُ فركبا حَتَّى اخْتَار من الحيز خمسين ألف ذِرَاع وَضَربا الْمنَار عَلَيْهِ وَدفع إِلَيْهِ ثلثمِائة ألف دِرْهَم للنَّفَقَة عَلَيْهِ(1/225)
يزِيد بن زيد
يزِيد بن زيد بن يوحنا بن أبي خَالِد متطبب الْمَأْمُون كَانَ جيد الْعلم حسن المعالجة مَوْصُوفا بِالْفَضْلِ
وَكَانَ قد خدم الْمَأْمُون بصناعة الطِّبّ وخدم أَيْضا إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي وَكَانَ لَهُ مِنْهُ الْإِحْسَان الْكثير والإنعام الغزير والعناية الْبَالِغَة والجامكية الوافرة
وَكَانَ يُقَال لَهُ أَيْضا يزِيد بور
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي أَن ثُمَامَة الْعَبْسِي القعقاعي وَهُوَ أَبُو عُثْمَان بن ثُمَامَة صَاحب الْجَبَّار اعتل من خلفة تطاولت بِهِ وَكَانَ شَيخا كَبِيرا
قَالَ أَبُو إِسْحَق فَسَأَلَنِي الرشيد عَن علته وَأَيْنَ بلغت بِهِ فأعلمته إِنِّي لَا أعرف لَهُ خَبرا فأظهر إنكارا لقولي ثمَّ قَالَ رجل غَرِيب من أهل الشّرف قد رغب فِي مصاهرة أَهله عبد الْملك بن مَرْوَان وَقد ولدت أُخْته خليفتين الْوَلِيد وَسليمَان ابْني عبد الْملك وَقد رغب أَبوك فِي مصاهرته فَتزَوج أُخْته ورغبت أَنا أَخُوك فِي مثل ذَلِك مِنْهُ فَتزوّجت ابْنَته وَهُوَ مَعَ ذَلِك صَحَابِيّ لجدك وَأَبِيك ولأختك وأخيك فَلَا توجب على نَفسك عيادته ثمَّ أَمرنِي بالمصير إِلَيْهِ لعيادته فَنَهَضت وَأخذت معي متطببي يزِيد وصرت إِلَيْهِ
فَدخلت على رجل توهمت أَنه فِي آخر حشاشة بقيت من نَفسه وَلم أر فِيهِ للمسألة موضعا
فَأمر يزِيد متطببي بإحضار متطببه فَحَضَرَ فَسَأَلَهُ عَن حَاله فَأخْبرهُ أَنه يقوم فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مائَة مجْلِس
وَأَقْبل يزِيد يسْأَل المتطبب عَن بَاب بَاب من الْأَدْوِيَة الَّتِي تشرب وَعَن السفوفات والحقن فَلم يذكر لذَلِك المتطبب شَيْئا إِلَّا أعلمهُ أَنه قد عالجه بِهِ فَلم ينجع فِيهِ
فَوَجَمَ عِنْد ذَلِك يزِيد مِقْدَار سَاعَة ثمَّ رفع رَأسه وَقَالَ قد بَقِي شَيْء وَاحِد أَن عمل بِهِ رَجَوْت أَن ينْتَفع بِهِ وَإِن لم ينجع فِيهِ فَلَا علاج لَهُ
قَالَ أَبُو إِسْحَق فَرَأَيْت ثُمَامَة قد قويت نَفسه عِنْدَمَا سمع من يزِيد مَا سمع ثمَّ قَالَ وَمَا ذَلِك الشَّيْء الَّذِي بَقِي متعت بك قَالَ لَهُ شربة اصطمخيقون
فَقَالَ ثُمَامَة أحب أَن أرى هَذِه الشربة حَتَّى أَشمّ رائحتها
فَأخْرج يزِيد من كمه منديلا فِيهِ أدوية وَفِيه شربة اصطمخيقون
فَأمر بهَا ثُمَامَة فَحلت ثمَّ أَتَى بهَا فَرمى بهَا فِي فِيهِ وابتلعها
فوَاللَّه مَا وصلت إِلَى جَوْفه حَتَّى سَمِعت مِنْهُ أصواتا لم أَشك فِي إِنِّي لم أبلغ بَاب دَاره إِلَّا وَقد مَاتَ
فَنَهَضت ومتطببي معي وَمَا أَعقل غما
وَأمرت خَادِمًا لي كَانَ يحمل معي الاسطرلاب إِذا ركبت بالْمقَام فِي دَاره وتعرف خبر مَا يكون مِنْهُ
فَتخلف فوافاني كتاب الْخَادِم بعد الزَّوَال يعلمني أَنه قَامَ من بعد طُلُوع الشَّمْس إِلَى زَوَالهَا خمسين مرّة فَقلت تلفت وَالله نفس ثُمَامَة
ثمَّ وافى كتاب الْخَادِم بعد غرُوب الشَّمْس أَنه قَامَ(1/226)
مُنْذُ زَوَال الشَّمْس إِلَى غُرُوبهَا عشْرين مَجْلِسا
ثمَّ صَار إِلَى الْغُلَام مَعَ طُلُوع الشَّمْس فَذكر أَنه لم يكن مِنْهُ مُنْذُ غرُوب الشَّمْس إِلَى انتصاف اللَّيْل إِلَّا ثَلَاثَة مجَالِس وَلم يكن مِنْهُ إِلَى وَقت طُلُوع الْفجْر شَيْء
فركبت إِلَيْهِ بعد أَن صليت الْغَدَاة فَوَجَدته نَائِما وَكَانَ لَا ينَام فأنتبه لي فَسَأَلته عَن خَبره فَأَعْلمنِي أَنه لم يزل فِي وجع من جَوْفه مَانع لَهُ النّوم والقرار مُنْذُ أَكثر من أَرْبَعِينَ لَيْلَة حَتَّى أَخذ تِلْكَ الشربة
فَلَمَّا انْقَطع فعل الشربة انْقَطع عَنهُ ذَلِك الوجع وَأَنه لم يشته طَعَاما مُنْذُ ذَلِك الْوَقْت وَأَنه مَا يبصرني فِي وقته من غَلَبَة الْجُوع عَلَيْهِ
وَسَأَلَ الْإِذْن فِي الْأكل فَأذن لَهُ يزِيد فِي أكل أسفيدباجه قد طبخت من فروج كسكري سمين ثمَّ اتباعها زيرباجة فَفعل ذَلِك
وصرت إِلَى الرشيد فَأَخْبَرته بِمَا كَانَ من أَمر ثُمَامَة
فأحضر المتطبب وَقَالَ لَهُ وَيحك كَيفَ أقدمت على إسقائه حب الأصطمخيقون فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا رجل كَانَ فِي جَوْفه كيموس فَاسد فَلم يكن يدْخل فِي جَوْفه دَوَاء وَلَا غذَاء إِلَّا أفْسدهُ ذَلِك الكيموس
وَكَانَ كلما فسد من تِلْكَ الْأَدْوِيَة والأغذية صَار مَادَّة لذَلِك الْفساد فَكَانَت الْعلَّة لهَذَا السَّبَب تزداد
فَعلمت أَنه لَا علاج لَهُ إِلَّا بدواء قوي يقوى على قلع ذَلِك الكيموس
وَكَانَ أقوى الْأَشْيَاء الَّتِي يُمكن أَن يسقاها الأصطمخيقون فَقلت لَهُ فِيهِ الَّذِي قلت
وَلم أقدم أَيْضا على القَوْل أَنه يُبرئهُ لَا محَالة وَإِنَّمَا قلت بَقِي شَيْء وَاحِد فَإِن هُوَ لم يَنْفَعهُ فَلَا علاج لَهُ
وَإِنَّمَا قلت ذَلِك لِأَنِّي رَأَيْت الرجل عليلا قد أضعفته الْعلَّة وأذهبت أَكثر قواه
فَلم آمن عَلَيْهِ التّلف أَن شربه وَكنت أَرْجُو لَهُ الْعَافِيَة بشربه إِيَّاه
وَكنت أعلم أَنه إِن لم يشربه أَيْضا تلف
فَاسْتحْسن الرشيد مَا كَانَ من قَوْله وَوَصله بِعشْرَة آلَاف دِرْهَم
ثمَّ عَاد الرشيد ثُمَامَة وَقَالَ لَهُ لقد أقدمت من شرب ذَلِك الدَّوَاء على أَمر عَظِيم وخاصة إِذْ كَانَ المتطبب لم يُصَرح لَك بِأَن فِي شربه الْعَافِيَة
فَقَالَ ثُمَامَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ كنت قد يئست من نَفسِي وَسمعت المتطبب يَقُول إِن شرب هَذَا الدَّوَاء رَجَوْت أَن يَنْفَعهُ فاخترت الْمقَام على الرَّجَاء وَلَو لَحْظَة على الْيَأْس من الْحَيَاة فَشَربته وَكَانَت فِي ذَلِك خيرة من الله عَظِيمَة
أَقُول وَهَذِه الْحِكَايَة تناسب مَا رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه جَاءَ إِلَيْهِ رجل من الْعَرَب فَقَالَ يَا رَسُول الله إِن أخي قد غلب عَلَيْهِ الْخَوْف وداويناه وَلم يَنْقَطِع عَنهُ بِشَيْء فَقَالَ لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أطْعمهُ عسل النَّحْل)
فراح وأطعمه إِيَّاه فَزَاد الإسهال فَأتى إِلَيْهِ وَقَالَ يَا رَسُول الله كثر الإسهال بِهِ من وَقت أطعمته الْعَسَل فَقَالَ (أطْعمهُ الْعَسَل)
فأطعمه فَزَاد الإسهال أَكثر
فَشَكا ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ (أطْعمهُ أَيْضا الْعَسَل)
فأطعمه أَيْضا فِي الْيَوْم الثَّالِث فتقاصر الإسهال وَانْقطع بِالْكُلِّيَّةِ
فَأخْبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك فَقَالَ (صدق الله وكذبت بطن أَخِيك)
وَإِنَّمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ ذَلِك لكَونه كَانَ قد علم أَن فِي خمل معدة الْمَرِيض رطوبات لزجة غَلِيظَة قد أزلقت معدته فَكلما مر بهَا شَيْء من الْأَدْوِيَة القابضة لم يُؤثر فِيهَا والرطوبات بَاقِيَة على حَالهَا والأطعمة تزلق عَنْهَا فَيبقى الإسهال دَائِما
فَلَمَّا تنَاول الْعَسَل جلا تِلْكَ الرطوبات وأحدرها فَكثر الإسهال أَولا بخروجها وتوالى ذَلِك إِلَى أَن نفدت تِلْكَ الرطوبات بأسرها فَانْقَطع(1/227)
الإسهال وَبرئ الرجل
فَقَوله صدق الله يَعْنِي بِالْعلمِ الَّذِي أوجده الله عز وَجل لنَبيه وعرفه بِهِ وَقَوله وكذبت بطن أَخِيك يَعْنِي مَا كَانَ يظْهر من بَطْنه من الإسهال وكثرته بطرِيق الْعرض وَلَيْسَ هُوَ مرض حَقِيقِيّ فَكَانَت بَطْنه كَاذِبَة فِي ذَلِك
عَبدُوس بن زيد
قَالَ أَبُو عَليّ القباني عَن أَبِيه أَن الْقَاسِم بن عبيد الله مرض فِي حَيَاة أَبِيه مَرضا حادا فِي تموز وَحل بِهِ القولنج الصعب فَانْفَرد بعلاجه عَبدُوس بن زيد وسقاه مَاء أصُول قد طبخ وَطرح فِيهِ أصل الكرفس والرازيانج ودهن الخروع وَجعل فِيهِ شَيْئا من أيارج فيقرا فحين شربه سكن وَجَعه وَأجَاب طبعه مجلسين فأفاق ثمَّ أعطَاهُ من غَد ذَلِك الْيَوْم مَاء شعير فاستظرف هَذَا مِنْهُ
وَقَالَ أَبُو عَليّ القباني أَيْضا أَن أَخَاهُ إِسْحَق بن عَليّ مرض وغلبت الْحَرَارَة على مزاجه والنحول على بدنه حَتَّى أَدَّاهُ إِلَى الضعْف ورد مَا يَأْكُلهُ
فَسَقَاهُ عَبدُوس بن زيد هَذِه الْأُصُول بالأيارج ودهن الخروع فِي حزيران أَرْبَعَة عشر يَوْمًا فَعُوفِيَ وصلحت معدته
وَقَالَ فِي مثل هَذِه الْأَيَّام تحم حمى حادة فَإِن كنت حَيا خلصتك بِإِذن الله وَإِن كنت مَيتا فعلامة عافيتك لَهُ دائر سنة أَن تَنْطَلِق طبيعتك فِي الْيَوْم السَّابِع فَإِن انْطَلَقت عوفيت وَمَعَ هَذَا فقد نقرت معدتك نقرا لَو طرحت فِيهَا الْحِجَارَة لطحنتها فَلَمَّا انْقَضتْ السّنة مرض عَبدُوس وحم أخي كَمَا قَالَ وَكَانَ مرضهما فِي يَوْم وَاحِد
فَمَا زَالَ عَبدُوس يُرَاعِي أخي وَيسْأل عَن خَبره إِلَى أَن قيل لَهُ قد انْطَلَقت طَبِيعَته فَقَالَ قد تخلص وَمَات عَبدُوس فِي الْغَد من ذَلِك الْيَوْم
ولعبدوس بن زيد من الْكتب كتاب التَّذْكِرَة فِي الطِّبّ
سهل الكوسج
كَانَ سهل الكوسج أَبُو سَابُور بن سهل صَاحب الأقراباذين الْمَشْهُور من أهل الأهواز وَكَانَ الحى
وَإِنَّمَا لقب بالكوسج على سَبِيل التضاد
وَكَانَ عَالما فِي الطِّبّ إِلَّا أَنه دون ابْنه فِي الْعلم وَكَانَت فِي لِسَانه لكنه خوزية
وَكَانَ كثير الْهزْل فغلب هزله جده
وَكَانَ مَتى اجْتمع(1/228)
مَعَ يوحنا بن ماسوية وجورجس بن بختيشوع وَعِيسَى بن حكم وَعِيسَى بن أبي خَالِد وزَكَرِيا ابْن الطيفوري وَيَعْقُوب صَاحب البيمارستان وَالْحسن بن قُرَيْش وَعِيسَى الْمُسلم وَسَهل بن جُبَير وَهَذِه الطَّبَقَة من المتطببين قصر عَنْهُم فِي الْعبارَة وَلم يقصر عَنْهُم فِي العلاج
وَكلهمْ كَانَ يخَاف لِسَانه لطول كَانَ فِيهِ وبذاء
وَكَانَت لَهُ السن على جَمَاعَتهمْ
وَكَانَ انْقِطَاعه إِلَى سَلام الأبرش وَكَانَ سَلام لَا يُفَارق هرثمة بن أعين أَيَّام محاصرته مَدِينَة السَّلَام فَكَانَ سهل هَذَا قد خص بهرثمة بن أعين حَتَّى كَانَ يكون مَعَه فِي ليله ونهاره وسمره
وَكَانَ بدعابته الْكَثِيرَة الَّتِي كَانَت فِيهِ طيب الْعشْرَة
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم وَمن دعابات سهل الكوسج أَنه تمارض فِي سنة تسع وَمِائَتَيْنِ وأحضر شُهُودًا يشهدهم على وَصيته وَكتب كتابا أثبت فِيهِ أَسمَاء أَوْلَاده
فَأثْبت أَوَّلهمْ جورجس بن ميخائيل وَأمه مَرْيَم بنت بختيشوع أُخْت جِبْرَائِيل وَالثَّانِي يوحنا بن ماسويه وَالثَّالِث وَالرَّابِع وَالْخَامِس سَابُور ويوحنا وخذاهويه ولد سهل المعروفين
وَذكر أَنه أصَاب أم جورجس وَأم يوحنا بن ماسوية زنا وأحبلهما بجورجس ويوحنا
قَالَ يُوسُف وَمن دعاباته أَنِّي حَضرته عِنْد أعين بن هرثمة بن أعين وَقد دارت بَينه وَبَين جورجس ملاحاة فِي حمى ربع قد كَانَت طَالَتْ بأعين فَعرفهُ بِمثل مَا أشهد بِهِ فِي وَصيته
وَكَانَ فِي جورجس تلفت كثير إِلَى من عَن يَمِينه وشماله من النَّاس وأخرجته الحدة إِلَى زمع أَصَابَهُ فصاح سهل صرى وهك المسيه أخروا فِي أُذُنه آيَة خرسي أَرَادَ صرع وَحقّ الْمَسِيح اقرؤوا فِي أُذُنه آيَة الْكُرْسِيّ
قَالَ يُوسُف وَمن دعاباته أَنه خرج فِي يَوْم الشعانين يُرِيد دير الجاثليق والمواضع الَّتِي تخرج إِلَيْهَا النَّصَارَى فِي يَوْم الشعانين فَرَأى يوحنا بن ماسوية فِي هَيْئَة أحسن من هَيئته وعَلى دَابَّة أفره من دَابَّته وَمَعَهُ غلْمَان لَهُ روقة فحسده على الظَّاهِر من نعْمَته فَصَارَ إِلَى صَاحب مسلحة النَّاحِيَة فَقَالَ لَهُ إِن ابْني يعقني وَقد أَعْجَبته نَفسه وَرُبمَا أخرجه الْعجب بِنَفسِهِ وبنعمته إِلَى جحود أَبَوي وَأَن أَنْت بطحته وضربته عشْرين درة موجعة أَعطيتك عشْرين دِينَارا
ثمَّ أخرج الدَّنَانِير فَدَفعهَا إِلَى رجل وثق بِهِ صَاحب المسلحة ثمَّ اعتزل نَاحيَة إِلَى أَن بلغ يوحنا إِلَى الْموضع الَّذِي هُوَ فِيهِ فقدمه إِلَى صَاحب المسلحة وَقَالَ هَذَا ابْني يعقني ويستخف بِي
فَجحد أَن يكون ابْنه فَلم يكلمهُ صَاحب المسلحة حَتَّى بطح يوحنا وضربه عشْرين درة ضربا وجيعا مبرحا(1/229)
سَابُور بن سهل
كَانَ ملازما لبيمارستان جندي سَابُور ومعالجة المرضى بِهِ وَكَانَ فَاضلا عَالما بقوى الْأَدْوِيَة المفردة وتركيبها وَتقدم عِنْد المتَوَكل وَكَانَ يرى لَهُ وَكَذَلِكَ عِنْد من تولى بعده من الْخُلَفَاء
وَتُوفِّي فِي أَيَّام الْمُهْتَدي بِاللَّه
وَكَانَت وَفَاة سَابُور بن سهل فِي يَوْم الِاثْنَيْنِ لتسْع بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ
ولسابور بن سهل من الْكتب كتاب الأقراباذين الْكَبِير الْمَشْهُور جعله سَبْعَة عشر بَابا وَهُوَ الَّذِي كَانَ من الْمَعْمُول عَلَيْهِ فِي البيمارستان ودكاكين الصيادلة وخصوصا قبل ظُهُور الأقراباذين الَّذِي أَلفه أَمِين الدولة بن التلميذ
كتاب قوى الْأَطْعِمَة ومضارها ومنافعها كتاب الرَّد على حنين فِي كِتَابه فِي الْفرق بَين الْغذَاء والدواء المسهل
القَوْل فِي النّوم واليقظة كتاب إِبْدَال الْأَدْوِيَة
إسرئيل بن سهل
كَانَ مُتَقَدما فِي صناعَة الطِّبّ حسن العلاج خَبِيرا بتركيب الْأَدْوِيَة
وَله كتاب مَشْهُور فِي الترياق وَقد أَجَاد عمله وَبَالغ فِي تأليفه
مُوسَى بن إِسْرَائِيل الْكُوفِي
متطبب إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم كَانَ مُوسَى هَذَا قَلِيل الْعلم بالطب إِذا قيس إِلَى من هُوَ فِي دهره من مَشَايِخ المتطببين إِلَّا أَنه كَانَ أملأ لمجلسه مِنْهُم بخصال اجْتمعت فِيهِ مِنْهَا فصاحة اللهجة وَمَعْرِفَة بالنجوم وَعلم بأيام النَّاس وَرِوَايَة الْأَشْعَار
وَكَانَ مولده فِيمَا ذكر لي سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة ووفاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
فَكَانَ أَبُو إِسْحَق يحْتَملهُ لهَذِهِ الْخلال وَلِأَنَّهُ كَانَ طيب الْعشْرَة جدا يدْخل فِي كل مَا يدْخل فِيهِ منادمو الْمُلُوك
وَكَانَ قد خدم وَهُوَ حدث عِيسَى بن مُوسَى بن مُحَمَّد ولي الْعَهْد
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي مُوسَى بن إِسْرَائِيل قَالَ كَانَ لعيسى بن مُوسَى متطبب يَهُودِيّ يُقَال لَهُ فرات بن شحاثا كَانَ تياذوق المتطبب يقدمهُ على جَمِيع تلامذته وَكَانَ شَيخا كَبِيرا قد خدم الْحجَّاج بن يُوسُف وَهُوَ حدث
قَالَ وَكَانَ عِيسَى يشاور فِي كل أَمر ينوبه هَذَا المتطبب
قَالَ مُوسَى
فَلَمَّا عقد الْمَنْصُور لعيسى على محاربة مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن الْعلوِي وَصَارَ اللِّوَاء فِي دَاره(1/230)
قَالَ للفرات مَا تَقول فِي هَذَا اللِّوَاء
قَالَ لَهُ المتطبب أَقُول إِنَّه لِوَاء الشحناء بَيْنك وَبَين أهلك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
إِلَّا أَنِّي أرى لَك نقل أهلك من الْكُوفَة إِلَى أَي الْبلدَانِ أَحْبَبْت فَإِن الْكُوفَة بلد شيعَة من تحارب فَإِن فللت لم تكن لمن تخلف بهَا من أهلك بقيا وَإِن فللت وأصبت من تتَوَجَّه إِلَيْهِ زَاد ذَلِك فِي أضغانهم عَلَيْك فَإِن سلمت مِنْهُم حياتك لم يسلم مِنْهُم عقبك بعد وفاتك
فَقَالَ لَهُ عِيسَى وَيحك إِن أَمِير الْمُؤمنِينَ غير مفارق للكوفة فَلم أنقل أَهلِي عَنْهَا وهم مَعَه فِي دَار فَقَالَ لَهُ أَن الفيصل فِي مخرجك فَإِن كَانَت الْحَرْب لَك فالخليفة مُقيم بِالْكُوفَةِ وَإِن كَانَت الْحَرْب عَلَيْك لم تكن الْكُوفَة لَهُ بدار وسيهرب عَنْهَا ويخلف حرمه فضلا عَن حَرمك
قَالَ مُوسَى فحاول عِيسَى نقل عِيَاله من الْكُوفَة فَلم يسوغه ذَلِك الْمَنْصُور
قَالَ وَلما فتح الله على عِيسَى وَرجع إِلَى الْكُوفَة وَقتل إِبْرَاهِيم بن عبيد الله انْتقل الْمَنْصُور إِلَى مَدِينَة السَّلَام فَقَالَ لَهُ متطببه بادره بالانتقال مَعَه إِلَى مدينته الَّتِي قد أحدثها وَاسْتَأْذَنَ الْمَنْصُور فِي ذَلِك فَأعلمهُ أَنه لَا سَبِيل إِلَيْهِ وَأَنه قد دبر استخلافه على الْكُوفَة فَأخْبر بذلك عِيسَى متطببه
فَقَالَ لَهُ المتطبب استخلافه إياك على الْكُوفَة قد حل لعقدك عَن الْعَهْد لِأَنَّهُ لَو دبر تَمام الْأَمر لَك لولاك خُرَاسَان بلد شيعتك
فَأَما أَن يجعلك بِالْكُوفَةِ مَعَ أعدائه وأعدائك وَقد قتلت مُحَمَّد بن عبد الله فوَاللَّه مَا دبر فِيك إِلَّا قَتلك وَقتل عقبك
وَمن الْمحَال أَن يوليك خُرَاسَان بعد الظَّاهِر مِنْهُ فِيك
فسله توليتك الجزيرتين أَو الشَّام فَأخْرج إِلَيّ أَي الولايتين ولاك فأوطنها فَقَالَ لَهُ تكره لي ولَايَة الْكُوفَة وَأَهْلهَا من شيعَة بني هَاشم وترغب لي فِي ولَايَة الشَّام أَو الجزيرتين وَأَهْلهَا من شيعَة بني أُميَّة فَقَالَ لَهُ المتطبب أهل الْكُوفَة وَأَن وَسموا أنفسهم بالتشيع لبني هَاشم فلست وَأهْلك من بني هَاشم الَّذِي يتشيعون لَهُم
وَإِنَّمَا تشيعهم لبني أبي طَالب وَقد أصبت من دِمَائِهِمْ مَا قد أكسب أهل الْكُوفَة بغضتك وَأحل لَهُم عِنْد أنفسهم الاقتياد مِنْك
وتشيع أهل الجزيرتين وَالشَّام لَيْسَ على طَرِيق الدّيانَة وَإِنَّمَا ذَلِك على طَرِيق إِحْسَان بني أُميَّة إِلَيْهِم
وَإِن أَنْت أظهرت لَهُم مَوَدَّة مَتى وليتهم فأحسنت إِلَيْهِ كَانُوا لَك شيعَة ويدلك على ذَلِك محاربتهم مَعَ عبد الله بن عَليّ على مَا قد نَالَ من دِمَائِهِمْ لما تألفهم وتضمن لَهُم الْإِحْسَان إِلَيْهِم فهم إِلَيْك لسلامتك من دِمَائِهِمْ أميل
واستعفى عِيسَى من ولَايَة الْكُوفَة وَسَأَلَ تعويضه عَنْهَا فَأعلمهُ الْمَنْصُور أَن الْكُوفَة دَار الْخلَافَة وَإنَّهُ لَا يُمكن أَن تَخْلُو من خَليفَة أَو ولي عهد
ووعد عِيسَى أَن يُقيم بِمَدِينَة السَّلَام سنة وبالكوفة سنة
وَأَنه إِذا صَار إِلَى الْكُوفَة صَار عِيسَى إِلَى مَدِينَة السَّلَام فَأَقَامَ بهَا
قَالَ مُوسَى فَلَمَّا طلب أهل خُرَاسَان عقد الْبيعَة للمهدي قَالَ لمتطببه مَا تَقول يَا فرات فقد دعيت إِلَى تَقْدِيم مُحَمَّد بن أَمِير الْمُؤمنِينَ على نَفسِي فَقَالَ لَهُ فتدفع بِمَاذَا أرى أَن تسمع وتطيع الْيَوْم وَبعد الْيَوْم
فَقَالَ لَهُ وَمَا بعد الْيَوْم قَالَ إِذا دعَاك مُحَمَّد بن أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى خلع نَفسك وَتَسْلِيم الْخلَافَة إِلَى بعض وَلَده أَن تسارع
فَلَيْسَتْ عنْدك مَنْعَة وَلَا يمكنك مُخَالفَة الْقَوْم فِي شَيْء يريدونه مِنْك قَالَ مُوسَى فَمَاتَ المتطبب فِي(1/231)
خلَافَة الْمَنْصُور
فَلَمَّا دعى الْمهْدي عِيسَى إِلَى خلع نَفسه من ولَايَة الْعَهْد وَتَسْلِيم الْأَمر إِلَى الْهَادِي قَالَ عِيسَى بن مُوسَى قَاتلك الله يَا فرات مَا كَانَ أَجود رَأْيك وأعلمك بِمَا تتفوه بِهِ كَأَنَّك كنت شَاهدا ليومنا هَذَا قَالَ مُوسَى بن إِسْرَائِيل وَلما رَأَيْت فعل أبي السَّرَايَا بمنازل العباسيين قلت مثل مَا قَالَ عِيسَى ابْن مُوسَى
وَقَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم لما بلغه وَهُوَ بِمصْر مَا ركب الطالبيون وَأهل الْكُوفَة من العباسيين وَقتل عبد الله بن مُحَمَّد بن دَاوُد مثل مَا قَالَ عِيسَى بن مُوسَى ومُوسَى المتطبب
قَالَ يُوسُف وحَدثني مُوسَى بن إِسْرَائِيل المتطبب أَن عِيسَى بن مُوسَى شكا إِلَى فرات متطببه مَا يُصِيبهُ من النعاس مَعَ مسامريه وَأَنه أَن تعشى مَعَهم ثقلت معدته فَنَامَ وَفَاته السمر وَأصْبح وَمَعَهُ ثقلة تَمنعهُ من الْغذَاء وَإِن لم يتعش مَعَهم أضرت بِهِ الشَّهْوَة الكاذبة فَقَالَ لَهُ شَكَوْت إِلَيّ مثل مَا شكا الْحجَّاج إِلَى أستاذي تياذوق فوصف لَهُ شَيْئا أَرَادَ بِهِ الْخَيْر فَصَارَ شرا
فَقَالَ لَهُ وَمَا هُوَ قَالَ وصف لَهُ الْعَبَث بالفستق فَذكر ذَلِك الْحجَّاج لحظاياه فَلم يبْق لَهُ حظية إِلَّا قشرت لَهُ جَاما من الفستق وَبعثت بِهِ إِلَيْهِ
وَجلسَ مَعَ مَسَامِيرهُ فَأقبل يستف الفستق سفا فأصابته هيضة كَادَت تَأتي على نَفسه فَشَكا ذَلِك إِلَى تياذوق
فَقَالَ إِنَّمَا أَمرتك أَن تعبث بالفستق وَأَرَدْت بذلك الفستق الَّذِي بقشريه جَمِيعًا لتتولى أَنْت كسر الْوَاحِدَة بعد الْوَاحِدَة ومص قشرها المصلح لمعدة مثلك من الشَّبَاب الممرورين وَإِصْلَاح الكبد بِمَا يتَأَدَّى إِلَيْهَا من طعم هَذَا الفستق وَذَهَبت إِلَى أَنَّك إِذا أكلت مَا فِي الفستقة من الثَّمَرَة وحاولت كسر أُخْرَى لم يتم لَك كسرهَا إِلَّا وَقد أسرعت الطبيعة فِي هضم مَا أكلت من ثَمَرَة الفستقة الَّتِي قبلهَا
فَأَما مَا فعلت فَلَيْسَ بعجيب أَن ينالك مَعَه أَكثر مِمَّا أَنْت فِيهِ
وَإِن كنت تَأْخُذ أَيهَا الْأَمِير الفستق على مَا رأى أستاذي أَن يُؤْخَذ انتفعت بِهِ
قَالَ مُوسَى فَلَزِمَ عِيسَى بن مُوسَى أَخذ الفستق أَكثر من عشْرين سنة فَكَانَ يحمده
ماسرجويه متطبب الْبَصْرَة
وَهُوَ الَّذِي نقل كتاب أهرن من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ
وَكَانَ يَهُودِيّ الْمَذْهَب سريانيا وَهُوَ الَّذِي يعنيه أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ فِي كِتَابه الْحَاوِي بقوله قَالَ الْيَهُودِيّ
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل أَن ماسرجويه كَانَ فِي أَيَّام بني أُميَّة
وَأَنه تولى فِي الدولة المروانية تَفْسِير كتاب أهرن بن أعين إِلَى الْعَرَبيَّة الَّذِي وجده عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله فِي خَزَائِن الْكتب فَأمر بِإِخْرَاجِهِ وَوَضعه فِي مُصَلَّاهُ واستخار الله فِي إِخْرَاجه إِلَى الْمُسلمين للإنتفاع بِهِ فَلَمَّا تمّ لَهُ فِي ذَلِك أَرْبَعُونَ صباحا أخرجه إِلَى النَّاس وبثه فِي أَيْديهم
قَالَ سُلَيْمَان بن حسان حَدثنِي أَبُو بكر مُحَمَّد بن عمر بن عبد الْعَزِيز بِهَذِهِ الْحِكَايَة فِي مَسْجِد التِّرْمِذِيّ(1/232)
سنة تسع وَخمسين وثلثمائة
وَقَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم حَدثنِي أَيُّوب بن الحكم الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالكسروي صَاحب مُحَمَّد بن طَاهِر بن الْحُسَيْن وَكَانَ ذَا أدب ومروءة وَعلم بأيام النَّاس وأخبارهم
قَالَ كَانَ أَبُو نواس الْحسن بن هَانِئ يعشق جَارِيَة لامْرَأَة من ثَقِيف تسكن الْموضع الْمَعْرُوف بحكمان من أَرض الْبَصْرَة يُقَال لَهَا جنان وَكَانَ المعروفان بِأبي عُثْمَان وَأبي أُميَّة من ثَقِيف قريبين لمولاة الْجَارِيَة
فَكَانَ أَبُو نواس يخرج فِي كل يَوْم من الْبَصْرَة يتلَقَّى من يقدمهُ من نَاحيَة حكمان فيسائلهم عَن أَخْبَار جنان
قَالَ فَخرج يَوْمًا وَخرجت مَعَه وَكَانَ أول طالع علينا ماسرجويه المتطبب فَقَالَ لَهُ أَبُو نواس كَيفَ خلفت أَبَا عُثْمَان ومية فَقَالَ ماسرجويه جنان صَالِحَة كَمَا تحب
فَأَنْشَأَ أَبُو نواس يَقُول
(أسأَل القادمين من حكمان ... كَيفَ خَلفْتُمْ أَبَا عُثْمَان)
(وَأَبا مية الْمُهَذّب والمأمول ... والمرتجى لريب الزَّمَان)
(فَيَقُولُونَ لي جنان كَمَا ... سرك فِي حَالهَا فسل عَن جنان)
(مَا لَهُم لَا يُبَارك الله فيهم ... كَيفَ لم يغن عَنْهُم كتماني) الْخَفِيف
قَالَ يُوسُف وحَدثني أَيُّوب بن الحكم أَنه كَانَ جَالِسا عِنْد ماسرجويه وَهُوَ ينظر فِي قَوَارِير المَاء إِذْ أَتَاهُ رجل من الخوز فَقَالَ لَهُ إِنِّي بليت بداء لم يبل أحد بِمثلِهِ
فَسَأَلَهُ عَن دائه فَقَالَ أصبح وبصري عَليّ مظلم وَأَنا أجد مثل لحس الْكلاب فِي معدتي فَلَا تزَال هَذِه حَالي حَتَّى أطْعم شَيْئا فَإِذا طعمت سكن عني مَا أجد إِلَى وَقت انتصاف النَّهَار ثمَّ يعاودني مَا كنت فِيهِ فَإِذا عاودت الْأكل سكن مَا بِي إِلَى وَقت صَلَاة الْعَتَمَة ثمَّ يعاودني فَلَا أجد لَهُ دَوَاء إِلَّا معاودة الْأكل فَقَالَ ماسرجويه على هَذَا الدَّاء غضب الله فَإِنَّهُ أَسَاءَ لنَفسِهِ الِاخْتِيَار حِين قرنها بسفلة مثلك ولوددت أَن هَذَا الدَّاء يحول إِلَيّ وَإِلَى صبياني وَكنت أعوضك مِمَّا نزل بك مِنْهُ مثل نصف مَا أملك فَقَالَ لَهُ مَا أفهم عَنْك فَقَالَ لَهُ ماسرجويه هَذِه صِحَة لَا تستحقها أسأَل الله نقلهَا عَنْك إِلَى من هُوَ أَحَق بهَا مِنْك
قَالَ يُوسُف وحَدثني أَيُّوب بن الحكم الكسروي قَالَ شَكَوْت إِلَى ماسرجويه تعذر الطبيعة فَسَأَلَنِي أَي الأنبذة أشْرب فأعلمته أَنِّي أدمن النَّبِيذ الْمَعْمُول من الدوشاب البستاني الْكثير الداذي
فَأمرنِي أَن آكل فِي كل يَوْم من أَيَّام الصَّيف على الرِّيق قثاءه صَغِيرَة من قثاء بِالْبَصْرَةِ يعرف(1/233)
بالخريبي
قَالَ فَكنت أُوتِيَ بالقثاء وَهُوَ قثاء دَقِيق فِي دقة الْأَصَابِع وَطول القثاءة مِنْهُ نَحْو من فتر فَآكل مِنْهُ الْخمس والست والسبع فَكثر عَليّ الإسهال فشكوت ذَلِك إِلَيْهِ فَلم يكلمني حَتَّى حقنني بحقنة كَثِيرَة الشحوم والصموغ والخطمي والأرز الْفَارِسِي وَقَالَ لي كدت تقتل نَفسك بإكثارك من القثاء على الرِّيق لِأَنَّهُ كَانَ يحدر من الصَّفْرَاء مَا يزِيل عَن الأمعاء من الرطوبات اللاصقة بهَا مَا يمْنَع الصَّفْرَاء من سحجها وأحداث الدوسنطاريا فِيهَا
ولماسرجويه من الْكتب كناش كتاب فِي الْغذَاء كتاب فِي الْعين
سلمويه بن بنان متطبب المعتصم
لما اسْتخْلف أَبُو إِسْحَق مُحَمَّد المعتصم بِاللَّه وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ اخْتَار لنَفسِهِ سلمويه الطَّبِيب وأكرمه إِكْرَاما كثيرا يفوق الْوَصْف وَكَانَ يرد إِلَى الدَّوَاوِين توقيعات المعتصم فِي السجلات وَغَيرهَا بِخَط سلمويه وكل مَا كَانَ يرد على الْأُمَرَاء والقواد من خُرُوج أَمر وتوقيع من حَضْرَة أَمِير الْمُؤمنِينَ فبخط سلمويه
وَولى أَخا سلمويه إِبْرَاهِيم بن بنان خزن بيُوت الْأَمْوَال فِي الْبِلَاد وخاتمه مَعَ خَاتم أَمِير الْمُؤمنِينَ
وَلم يكن أحد عِنْده مثل سلمويه وأخيه إِبْرَاهِيم فِي الْمنزلَة
وَكَانَ سلمويه بن بنان نَصْرَانِيّا حسن الِاعْتِقَاد فِي دينه كثير الْخَيْر مَحْمُود السِّيرَة وافر الْعقل جميل الرَّأْي
وَقَالَ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي فِي كتاب أدب الطَّبِيب عَن عِيسَى بن ماسة قَالَ أَخْبرنِي يوحنا بن مساويه عَن المعتصم أَنه قَالَ سلمويه طبيبي أكبر عِنْدِي من قَاضِي الْقُضَاة لِأَن هَذَا يحكم فِي نَفسِي وَنَفْسِي أشرف من مَالِي وملكي وَلما مرض سلمويه الطَّبِيب أَمر المعتصم وَلَده أَن يعودهُ فعاده
ثمَّ قَالَ أَنا أعلم وأتيقن إِنِّي لَا أعيش بعده لِأَنَّهُ كَانَ يُرَاعِي حَياتِي وَيُدبر جسمي وَلم يَعش بعده تَمام السّنة
وَقَالَ إِسْحَق بن حنين عَن أَبِيه أَن سلمويه كَانَ أعلم أهل زَمَانه بصناعة الطِّبّ
وَكَانَ المعتصم يُسَمِّيه أبي
فَلَمَّا اعتل سلمويه عَاده المعتصم وَبكى عِنْده وَقَالَ تُشِير عَليّ بعْدك بِمَا يصلحني فَقَالَ سلمويه يعز عَليّ بك يَا سَيِّدي وَلَكِن عَلَيْك بِهَذَا الْفُضُولِيّ يوحنا بن ماسويه وَإِذا شَكَوْت إِلَيْهِ شَيْئا فقد يصف فِيهِ أوصافا فَإِذا وصف فَخذ أقلهَا أخلاطا
فَلَمَّا مَاتَ سملويه امْتنع المعتصم من أكل الطَّعَام يَوْم مَوته وَأمر بِأَن تحضر جنَازَته الدَّار وَيصلى عَلَيْهِ بالشمع والبخور على زِيّ النَّصَارَى الْكَامِل
فَفعل وَهُوَ بِحَيْثُ يبصرهم ويباهي فِي كرامته وحزن عَلَيْهِ حزنا شَدِيدا
وَكَانَ المعتصم الهضم فِي جِسْمه قوي وَكَانَ سلمويه يفصده فِي السّنة مرَّتَيْنِ ويسقيه بعد كل مرّة دَوَاء مسهلا ويعالجه بالحمية فِي أَوْقَات
فَأَرَادَ يوحنا بن ماسويه(1/234)
أَن يرِيه غير مَا عهد فَسَقَاهُ دَوَاء قبل الفصد وَقَالَ أَخَاف أَن تتحرك عَلَيْهِ الصَّفْرَاء فَعِنْدَ مَا شرب الدَّوَاء حمي دَمه وحم جِسْمه وَمَا زَالَ جِسْمه ينقص والعلل تتزايد إِلَى أَن نحل بدنه وَمَات بعد عشْرين شهرا من وَفَاة سلمويه
وَكَانَت وَفَاة المعتصم فِي شهر ربيع الأول سنة سبع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم قَالَ المعتصم لأبي إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فِي أول مقدمه من بلد الرّوم وَهُوَ خَليفَة يَا عَم أمورك مضطربة عَلَيْك مُنْذُ أول أَيَّام الْفِتْنَة لِأَنَّك بليت فِي أَولهَا مثل مَا شَمل النَّاس ثمَّ خصك بعد ذَلِك من خراب الضّيَاع وتخرم حُدُودهَا لاستتارك سبع سِنِين من الْخَلِيفَة الْمَاضِي مَا لَو لم يتقدمه شَيْء من الْمَكْرُوه لقد كَانَت فِيهِ كِفَايَة ثمَّ ظهر من سوء رَأْي الْمَأْمُون بعد ذَلِك فِيك مَا طم على كل مَا تقدم من الْمَكْرُوه النَّازِل بك فَزَاد ذَلِك فِي أَمرك
وفكرت فِيك فوجدتك تحْتَاج إِلَى أَن يرد عَليّ فِي يَوْم خبرك وَمَا تحْتَاج إِلَيْهِ لمصَالح أمورك
وَرَأَيْت ذَلِك لَا يتم إِلَّا بتقليدي عَن الْقيام بِرَفْع حوايجك إِلَى خَادِم خَاص بِي
وَقد وَقع اخْتِيَاري لَك على خادمين لي يصل كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَيّ فِي مجَالِس جدي وهزلي بل يصل إِلَيّ فِي مرقدي ومتوضئي وهما مسرور سمانه الْخَادِم وسلمويه بن بنان
فاختر أَيهمَا شِئْت وقلده حوايجك فَوَقع اخْتِيَاره على سلمويه وأحضره أَمِير الْمُؤمنِينَ فَأمره أَن يتَوَلَّى إِيصَال رسائله إِلَيْهِ فِي جَمِيع الْأَوْقَات
قَالَ يُوسُف فقربني أَبُو إِسْحَق بسلمويه وَكنت لَا أكاد أفارقه
وَكَانَ خُرُوج أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن مَدِينَة السَّلَام آخر خرجاته عَن غير ذكر تقدم لخُرُوج إِلَى نَاحيَة من النواحي
وَكَانَ النَّاس قد حَضَرُوا الدكة بالشماسية لحلية السُّرُوج فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لسبع عشرَة لَيْلَة خلت من ذِي الْقعدَة سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ
فأخرجت الْخَيل ودعا بالجمازات فركبها وَنحن لَا نشك فِي رُجُوعه من يَوْمه
ثمَّ أَمر الموَالِي والقواد باللحاق بِهِ وَلم يخرج مَعَه من أهل بَيته أحد إِلَّا الْعَبَّاس بن الْمَأْمُون وَعبد الْوَهَّاب ابْن عَليّ
وَخلف المعتصم الواثق بِمَدِينَة السَّلَام إِلَى أَن صلى بِالنَّاسِ يَوْم النَّحْر سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ
ثمَّ أَمر بِالْخرُوجِ إِلَى القاطول فَخرج
فوجهني أَبُو إِسْحَق بحوائج لَهُ إِلَى بَاب أَمِير الْمُؤمنِينَ فتوجهت فَلم يزل سيارة مرّة بالقاطول ومدية القاطول وَمرَّة بدير بني الصَّقْر وَهُوَ الْموضع الَّذِي سمي فِي أَيَّام المعتصم والواثق بالإيتاخية وَفِي أَيَّام المتَوَكل بالمحمدية
ثمَّ صَار المعتصم إِلَى سر من رأى فَضرب مضاربه فِيهَا وَأقَام بهَا فِي الْمضَارب
فَإِنِّي فِي بعض الْأَيَّام على بَاب مضرب المعتصم إِذْ خرج سلمويه بن بنان فَأَخْبرنِي أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أمره بالمضي إِلَى الدّور وَالنَّظَر إِلَى سوار تكين الفرغاني والتقدم إِلَى متطببه فِي معالجته من عِلّة يجدهَا بِمَا يرَاهُ سلمويه صَوَابا
وَحلف عَليّ أَن لَا أفارقه حَتَّى نصير إِلَى الدّور وَنَرْجِع فمضيت مَعَه فَقَالَ لي حَدثنِي فِي غَدَاة يَوْمنَا هَذَا نصر بن مَنْصُور بن بسام أَنه كَانَ يُسَايِر المعتصم بِاللَّه فِي هَذَا الْبَلَد يَعْنِي بلد سر من رأى وَهُوَ أَمِير(1/235)
قَالَ لي سلمويه قَالَ لي نصر أَن المعتصم أَمِير الْمُؤمنِينَ قَالَ لَهُ يَا نصر أسمعت قطّ بِأَعْجَب مِمَّن اتخذ فِي هَذَا الْبَلَد بِنَاء وأوطنه لَيْت شعري مَا أعجب موطنه حزونة أرضه أَو كَثْرَة أخافيفه أم كَثْرَة تلاعه وَشدَّة الْحر فِيهِ إِذا حمي الْحَصَى بالشمس
مَا يَنْبَغِي أَن يكون متوطن هَذَا الْبَلَد إِلَّا مُضْطَرّا مقهورا أوردي التَّمْيِيز
قَالَ لي سلمويه قَالَ لي نصر بن مَنْصُور وَأَنا وَالله خَائِف أَن يوطن أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا الْبَلَد فَإِن سلمويه ليحدثني عَن نصر إِذْ رمى ببصره نَحْو الْمشرق فَرَأى فِي مَوضِع الْجَوْسَقِ الْمَعْرُوف بالمصيب أَكثر من ألف رجل يضعون أساس الْجَوْسَقِ
فَقَالَ لي سلمويه أَحسب ظن نصر بن مَنْصُور قد صَحَّ
وَكَانَ ذَلِك فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
وَصَامَ المعتصم فِي الصَّيف فِي شهر رَمَضَان من هَذِه السّنة
وغدى النَّاس فِيهِ يَوْم الْفطر وَاحْتَجَمَ المعتصم بالقاطول يَوْم سبت وَكَانَ ذَلِك الْيَوْم آخر يَوْم من صِيَام النَّصَارَى فَحَضَرَ غداءه سلمويه بن بنان واستأذنه فِي الْمصير إِلَى الْقَادِسِيَّة ليقيم فِي كنيستها بَاقِي يَوْمه وَلَيْلَته ويتقرب فِيهَا يَوْم الْأَحَد وَيرجع إِلَى القاطول قبل وَقت الْغَدَاء من يَوْم الْأَحَد فَأذن لَهُ فِي ذَلِك وكساه ثيابًا كَثِيرَة ووهب لَهُ مسكا وبخورا كثيرا
فَخرج منكسرا مغموما وعزم عَليّ بالمصير مَعَه إِلَى الْقَادِسِيَّة فأجبته إِلَى ذَلِك
وَكَانَت عادتنا مَتى تسايرنا قطع الطَّرِيق إِمَّا بمناظرة فِي شَيْء من الْآدَاب وَأما بدعابة من دعابات المتأدبين فَلم يجارني شَيْء من الْبَابَيْنِ جَمِيعًا وَأَقْبل على الفكرة وتحريك يَده الْيُمْنَى وشفته تهمس من القَوْل بِمَا لَا يعلنه فَسبق إِلَى وهمي أَنه رأى من أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي أَمر نَفسه شَيْئا أنكرهُ ثمَّ أَزَال ذَلِك الْوَهم عني إقدامه على الاسْتِئْذَان فِي الْمصير إِلَى الْقَادِسِيَّة وَالثيَاب وَالطّيب الَّذِي جِيءَ بِهِ
فَسَأَلته عَن سَبَب قِرَاءَته وفكرته
فَقَالَ لي سَمِعتك تحكي عَن بعض مُلُوك فَارس قولا فِي الْعقل وَأَنه وَجب أَن يكون أَكثر مَا فِي الْإِنْسَان عقله فأعده عَليّ وخبرني باسم ذَلِك الْملك قَالَ لَهُ قَالَ أنوشروان إِذا لم يكن أَكثر مَا فِي الرجل عقله كَانَ أَكثر مَا فِيهِ برديه فَقَالَ قَاتله الله فَمَا أحسن مَا قَالَ ثمَّ قَالَ أميرنا هَذَا يَعْنِي الواثق حفظه لما يقْرَأ وَيقْرَأ عَلَيْهِ من الْكتب أَكثر من عقله وَأَحْسبهُ قد وَقع فِي الَّذِي يكره وَأَنا استدفع الله فِي المكاره عَنهُ
وَبكى
فَسَأَلته عَن السَّبَب فَقَالَ أَشرت على أَمِير الْمُؤمنِينَ بترك الشّرْب فِي عشيه أمس ليباكر الْحجامَة فِي يَوْمنَا هَذَا على نقاء فَجَلَسَ واحضر الْأَمِير هرون وَابْن أبي داؤد وَعبد الْوَهَّاب ليتحدث مَعَهم فَانْدفع هرون فِي عهد أردشير بن بابك وَأَقْبل يسْرد جَمِيع مَا فِيهِ ظَاهرا حَتَّى أَتَى على الْعَهْد كُله فتخوفت عَلَيْهِ حسد أَبِيه لَهُ على جودة الْحِفْظ الَّذِي لم يرْزق مثله وتخوفت عَلَيْهِ إمْسَاك أَبِيه مَا حد أردشير بن بابك فِي عَهده من ترك إِظْهَار الْبيعَة لوَلِيّ عَهده
وتخوفت عَلَيْهِ مَا ذكر أردشير فِي هَذَا الْبَاب من ميل النَّاس نَحْو ولي الْعَهْد مَتى عرفُوا مَكَانَهُ وتخوفت عَلَيْهِ مَا ذكر أردشير من أَنه لَا يُؤمن اضطغان ولي الْعَهْد على أَسبَاب وَالِده مَتى علم أَنه الْملك بعد أَبِيه وَأَنا وَالله عَالم بِأَن أقل مَا(1/236)
يَنَالهُ فِي هَذَا الْبَاب التَّضْيِيق عَلَيْهِ فِي معاشه وَأَنه لَا يظْهر لَهُ بيعَة أبدا فاغتمامي بِهَذَا السَّبَب فَكَانَ جَمِيع مَا تخوف سلمويه عَليّ مَا تخوف
قَالَ يُوسُف واستبطأ المعتصم أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي فِي بعض الْأُمُور واستجفاه
فَكتب إِلَيْهِ كتابا أَمرنِي بقرَاءَته على سلمويه ومناظرته فِيهِ فَإِن استصوب الرَّأْي فِي إيصاله ختمته وأوصلته وَإِن كره ذَلِك رَددته على أبي إِسْحَق
فَقَرَأته على سلمويه فَقَالَ لي قل لَهُ قد جرى لَك الْمِقْدَار مَعَ الْمَأْمُون والمعتصم أعز الله الْبَاقِي ورحم الْمَاضِي بِمَا يُوجب عَلَيْك شكر رَبك وَإِلَّا تنكر عَليّ بالخليفتين تنكرهما فِي وَقت من الْأَوْقَات لِأَنَّك تسميت باسم لم يتسم بِهِ أحد قطّ فكاثر الْأَحْيَاء فَإِن كَانَ الْمِقْدَار استعطف عَلَيْك رَحِمك حَتَّى صرت إِلَى الْأَمْن من الْمَكْرُوه
فَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن تتعجب من تنكر الْخَلِيفَة فِي وَقت من الْأَوْقَات أَن طعن بعض أعدائك عَلَيْك بِمَا كَانَ مِنْك فَيظْهر بالجفاء الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَة أَو نَحْو ذَلِك
ثمَّ يَنْعَطِف عَلَيْك وَيذكر ماسة رَحِمك وشابكتها فيؤول أَمرك إِلَى مَا تحب
وَلَك أَيْضا آفَة يجب عَلَيْك التَّحَرُّز مِنْهَا وَهِي أَنَّك تجْلِس مَعَ الْخَلِيفَة فِي مَجْلِسه وَفِيه جمَاعَة من أَهله وقواده ووجوه موَالِيه فَهُوَ يجب أَن يكون أجل النَّاس فِي عيونهم وَأَمْلَأُ لقُلُوبِهِمْ فَلَا يجْرِي جَار من القَوْل إِلَّا ظَهرت لنَفسك فِيهِ قولا يتَبَيَّن نصرتك فِيهِ عَلَيْهِ فَلَو كنت مثل ابْن أبي داؤد أَو مثل بعض الْكتاب لَكَانَ الْأَمر فِيهِ أسهل عَلَيْهِ
لِأَنَّهُ مَا كَانَ لتِلْك الطَّبَقَة فَهُوَ للخليفة لأَنهم من عبيده وَمَا كَانَ لرجل من أَهله لَهُ السن والقعدد عَلَيْهِ فَهُوَ مُوجب لمن السن والقعدد لَهُ وَذَلِكَ مزر بالخليفة
وَأَنا أرى أَن لَا أوصل هَذَا الْكتاب وَأَن يتغافل أعزه الله حَتَّى يتشوق إِلَيْهِ الْخَلِيفَة
فَإِذا صَار إِلَيْهِ تحرز بِمَا كرهته لَهُ فَفِي ذَلِك غنى عَن العتاب والاستبطاء
قَالَ فَانْصَرَفت إِلَى أبي إِسْحَق بِالْكتاب وَلم أوصله فَوجدت سِيمَا الدِّمَشْقِي عِنْد صاحبنا وَقد أبلغه رِسَالَة المعتصم بِوَصْف شوقه إِلَيْهِ وبالأمر بالركوب إِلَيْهِ
فَأَخْبَرته بِمَا دَار بيني وَبَين سلمويه وَركب فَاسْتعْمل مَا أَشَارَ بِهِ فَلم يُنكر بعد ذَلِك مِنْهُ شَيْئا حَتَّى فرق بَينهمَا الْمَوْت
قَالَ يُوسُف وَجرى بيني وَبَين سلمويه ذكر يوحنا بن ماسويه فأطنبت فِي وَصفه وَذكرت مِنْهُ مَا أعرف من اتساع علمه
فَقَالَ سلمويه يوحنا آفَة من آفَات من اتَّخذهُ لنَفسِهِ واتكل على علاجه وَكَثْرَة حفظه للكتب وَحسن شَرحه وَوَصفه بِمَا يلجم بِهِ الْمَكْرُوه
ثمَّ قَالَ لي أول الطِّبّ معرفَة مِقْدَار الدَّاء حَتَّى يعالج بِمِقْدَار مَا يحْتَاج إِلَيْهِ من العلاج
ويوحنا أَجْهَل خلق الله بِمِقْدَار الدَّاء والدواء جَمِيعًا
فَإِن زَوَال محرور عالجه من الْأَدْوِيَة الْبَارِدَة والأغذية المفرطة الْبرد وَبِمَا يزِيل عَنهُ تِلْكَ الْحَرَارَة ويعقب معدته وبدنه بردا يحْتَاج لَهُ إِلَى المعالجة بالأدوية والأغذية الحارة ثمَّ يفعل فِي ذَلِك كَفِعْلِهِ فِي الْعلَّة الأولى من الإفراط ليزول عَنهُ الْبرد ويعتل من حرارة مفرطة
فصاحبه أبدا عليل إِمَّا من حرارة وَإِمَّا من برودة
والأبدان تضعف عَن احْتِمَال هَذَا التَّدْبِير
وَإِنَّمَا الْغَرَض فِي اتِّخَاذ النَّاس المتطببين لحفظ صحتهم فِي أَيَّام الصِّحَّة ولخدمة طبائعهم فِي أَيَّام الْعلَّة
ويوحنا لجهله بمقادير الْعِلَل والعلاج غير قَائِم بِهَذَيْنِ الْبَابَيْنِ
وَمن لم يقم بهما فَلَيْسَ بمتطبب
قَالَ يُوسُف وأصابت إِبْرَاهِيم بن بنان أَخا سلمويه بن بنان هيضة من خوخ أكله فَأكْثر مِنْهُ فَكَادَتْ(1/237)
تَأتي على نَفسه
فَسَقَاهُ أَخُوهُ سلمويه شهريارانا كثير السقمونيا فأسهله إسهالا كثيرا زَائِدا على الْمِقْدَار الَّذِي يجب أَن يكون مِمَّن شرب مثل مَا شرب إِبْرَاهِيم من الشهرياران
وَانْقطع مَعَ انْقِطَاع فعل الشهرياران فعل الهيضة فَقلت لَهُ أحسبك امتثلت فِيمَا فعلت بأخيك من إسقائه الدَّوَاء المسهل طَريقَة يزِيد بور فِي ثُمَامَة الْعَبْسِي
فَقَالَ مَا اسْتعْملت لَهُ طَريقَة وَلَكِنِّي اسْتعْملت فكري كَمَا اسْتعْمل فكره فنتج لي من الرَّأْي مَا نتج لَهُ
قَالَ يُوسُف وَكنت يَوْمًا عِنْد سلمويه وَقد أجرينا حَدِيث أَيَّام الْفِتْنَة بِمَدِينَة السَّلَام أَيَّام مُحَمَّد الْأمين فَقَالَ لي لقد نفعنا الله فِي تِلْكَ الْأَيَّام بجوار بشر وَبشير ابْني السميدع وَذَلِكَ أَنا كُنَّا مَعَهُمَا فِي كل حمى
ثمَّ قَالَ لي هَل لَك أَن تركب إِلَى بشير فتعوده فقد كنت يئست مِنْهُ أول من أمس ثمَّ أفرق أمس فأجبته إِلَى الرّكُوب مَعَه وركبنا
فَلَمَّا صرنا إِلَى بَاب الدَّرْب الَّذِي كَانَ بشير ينزله طلع علينا بولس بن حنون المتطبب الَّذِي هُوَ الْيَوْم متطبب أهل فلسطين وَهُوَ منصرف من عِنْد بشير
فَسَأَلَهُ عَن خَبره فَأَجَابَهُ بِكَلِمَة بالسُّرْيَانيَّة مَعْنَاهَا بئس
فَقَالَ لَهُ سلمويه ألم تُخبرنِي أمس أَنه قد أفرق فَقَالَ لَهُ بولس قد كَانَ ذَاك إِلَّا أَنه أكل البارحة دماغ جدي فعاوده الإسهال
فعطف سلمويه رَأس دَابَّته وَقَالَ انْصَرف بِنَا فَلَيْسَ يبيت بشير فِي الدُّنْيَا
فَسَأَلته عَن السَّبَب فَذكر أَنه رجل مبطون وَأَن أول آفته كَانَت فِي الْبَطن فَسَاد معدته فتطاولت أَيَّامه فِي الْبَطن بِفساد الْمعدة إِلَى أَن كَانَ ذَلِك سَببا لفساد كبده
وَأَن الدِّمَاغ الَّذِي أكله سيعلق بمعدته ويغري مَا بَين غضونها فَلَا يدخلهَا غذَاء وَلَا دَوَاء إِلَّا زلق
وانصرفنا وَلم يعده سلمويه وَلَا عدته فَمَا بَات حَتَّى توفّي
قَالَ يُوسُف وصحبت بعد وَفَاة أبي إِسْحَق أَبَا دلف
فصحبته وَقد كَانَ مبطونا قبل صحبتي إِيَّاه بِخَمْسَة عشر شهرا
وَكَانَ مجْلِس أبي دلف مجمعا للمتطببين لِأَنَّهُ كَانَ مَعَه من المرتزقة جمَاعَة مِنْهُم يُوسُف بن صليبا وَسليمَان بن داؤد بن بَابَانِ ويوسف الْقصير الْبَصْرِيّ وَلَا أحفظ نسبه وبولس بن حنون متطبب فلسطين وختن كَانَ لَهُ من اللَّجْلَاج وَالْحسن بن صَالح بن بهلة الْهِنْدِيّ
وَكَانَ يحضر مَجْلِسه من المتطببين غير المرتزقين جمَاعَة فَرُبمَا اجْتمع فِي مَجْلِسه مِنْهُم عشرُون رجلا فَكَانُوا على سَبِيل اخْتِلَاف فِي أصل علته فبعضهم كَانَ يرى أَن يسْقِيه الدرياق وَبَعْضهمْ كَانَ يرى أَن يعالجه بالأدوية الَّتِي يَقع فِيهَا الأبيون مثل المتروديطوس وَغَيره
وَكلهمْ كَانَ مجمعا على معالجته بالحمية وبالقيء فِي كل بضع عشرَة لَيْلَة لِأَنَّهُ كَانَ مَتى تقيأ صلحت حَاله ثَلَاثَة أَيَّام أَو نَحْوهَا
فأقمت مَعَه عشرَة أشهر لَا أذكر أَنِّي تشاغلت فِي يَوْم مِنْهَا بِأَمْر من أُمُور الْأَعْمَال الَّتِي أتقلدها
فَسلمت من رَسُول لَهُ يستنهضني للمسير إِلَيْهِ وللنظر فِيمَا بَين المتطببين من الِاخْتِلَاف(1/238)
ثمَّ أَمر المعتصم حيدر بن كاوس بِالْعقدِ لأبي دلف على قزوين وزنجان ونواحيها وَإِبْرَاهِيم ابْن البحتري بتقليده خراج النَّاحِيَة وَمُحَمّد بن عبد الْملك بتقليده ضياعها
فقلد أَبُو دلف ابْنه مَعنا بن الْقَاسِم المعونة وقلدني الْخراج والضياع وأمرنا بِالْخرُوجِ
فَأتيت سلمويه مودعا ومشاورا
فَقَالَ لي انقلاعك من بلدك مَعَ رجل منحل بدنه مُنْذُ خَمْسَة وَعشْرين شهرا وَجَمِيع من يطِيف بِهِ مَعَك لَا يَجْمَعُكَ وإياهم رحم وَإِنَّمَا هم أهل الْجَبَل وأصبهان وَأَكْثَرهم صعاليك
ولعلك قد استقصيت على بَعضهم بالحضرة وَحَيْثُ كنت تأمن على نَفسك بِمَا لَا أحبه لَك لِأَنَّهُ إِن حدث بِالرجلِ حَادث كنت فِي أَرض غربَة أَسِيرًا فِي أَيدي من لَا مجانسة بَيْنك وَبينهمْ
وامتناعك على الرجل بعد أَن أَجَبْته إِلَى أَن تتقدمه تسمج
وَلَكِن استأجله فِي الْخُرُوج بعد سَبْعَة أَيَّام وأشرف فِي هَذِه الْأَيَّام على مطعمه ومشربه حَتَّى لَا يصل إِلَى جَوْفه فِي هَذَا الْأُسْبُوع مَأْكُول ومشروب إِلَّا عرفت مبلغ وَزنه على الْحَقِيقَة
ووكل من يعرف وزن مَا يخرج مِنْهُ فِي هَذَا الْأُسْبُوع من ثقل وَبَوْل وارفع وزن ذَلِك ليَوْم بعد يَوْم إِلَيْك وصر إِلَيّ بعد هَذَا الْأُسْبُوع بمبلغ وزن جَمِيع مَا دخل بَطْنه من الطَّعَام وَالشرَاب وَغير ذَلِك وَوزن مَا يخرج مِنْهُ
فعنيت بذلك غَايَة الْعِنَايَة وتعرفته حَتَّى صَحَّ عِنْدِي
فَوجدت مَا خرج من بدنه قَرِيبا من ضعف مَا دخله من مطعم ومشرب
فأعلمت ذَلِك سلمويه فَقَالَ لي لَو كَانَ خرج مِنْهُ بِوَزْن مَا دخل بدنه لدل ذَلِك على سرعَة تلفه فَكيف ترى الْحَال كائنة وَالْخَارِج مِنْهُ مثل ضعف مَا دخل بدنه الْهَرَب من التلبيس بِأَمْر هَذَا الرجل فَإِن الشوق قد جذبه
فَمَا لبث بعد هَذَا القَوْل إِلَّا بضع عشرَة لَيْلَة حَتَّى توفّي أَبُو دلف
قَالَ أَبُو عَليّ القباني حَدثنِي أبي قَالَ كَانَت بَين جدي الْحُسَيْن بن عبد الله وَبَين سلمويه المتطبب مَوَدَّة فَحَدثني أَنه دخل إِلَيْهِ يَوْمًا إِلَى دَاره وَكَانَ فِي الْحمام ثمَّ خرج وَهُوَ مكمكم والعرق يسيل من جَبينه وجاءه خَادِم بمائدة عَلَيْهَا دراج مشوي وَشَيْء أَخْضَر فِي زبدية وَثَلَاث رقاقات كزمازك وَفِي سكرجة خل
فَأكل الْجَمِيع واستدعى مَا مِقْدَاره دِرْهَمَانِ شرابًا فمزجه وشربه وَغسل يَدَيْهِ بِمَاء
ثمَّ أَخذ فِي تَغْيِير ثِيَابه البخور
فَلَمَّا فرغ أقبل يحادثني فَقلت لَهُ قبل أَن أجيبك إِلَى شَيْء عرفني مَا صنعت
فَقَالَ أَنا أعالج السل مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة لم آكل فِي جَمِيعهَا إِلَّا مَا رَأَيْت وَهُوَ دراج مشوي وهندبا مسلوقة مطجنة بدهن لوز وَهَذَا الْمِقْدَار من الْخبز
وَإِذا خرجت من الْحمام احتجت إِلَى(1/239)
مبادرة الْحَرَارَة بِمَا يسكنهَا كَيْلا تعطف على بدني فتأخذ من رطوبته فأشغلها بالغذاء ليَكُون عطفها عَلَيْهِ ثمَّ أتفرغ لغيره
إِبْرَاهِيم بن فزارون
متطبب غَسَّان بن عباد
وَإِبْرَاهِيم بن فزارون هُوَ شيخ بني فزارون الْكتاب
قَالَ يُوسُف ابْن إِبْرَاهِيم كَانَ إِبْرَاهِيم بن فزارون قد خرج مَعَ غَسَّان عباد إِلَى السَّنَد
فَحَدثني أَن غَسَّان بن عباد مكث بِأَرْض السَّنَد من يَوْم النوروز إِلَى يَوْم المهرجان يَشْتَهِي أَن يَأْكُل قِطْعَة لحم بَارِدَة فَمَا قدر على ذَلِك
فَسَأَلته عَن السَّبَب فَقَالَ كُنَّا نطجنه فَلَا يبرد حَتَّى يروح فَيرمى بِهِ
قَالَ يُوسُف وَأَخْبرنِي إِبْرَاهِيم بن فزارون أَنه مَا أكل بِأَرْض السَّنَد لَحْمًا استطابه إِلَّا لُحُوم الطواويس وَإنَّهُ لم يَأْكُل لَحْمًا قطّ أطيب من لحم طواويس بِلَاد السَّنَد
وحَدثني إِبْرَاهِيم بن عِيسَى بن الْمَنْصُور الْمَعْرُوف بِابْن نزيهة عَن غَسَّان بن عباد فِي لُحُوم الطواويس بِمثل مَا حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن فزارون
قَالَ يُوسُف وحَدثني إِبْرَاهِيم بن فزارون أَنه رفع إِلَى غَسَّان بن عباد أَن فِي النَّهر الْمَعْرُوف بمهران بِأَرْض السَّنَد سَمَكَة تشبه الجدي وَأَنَّهَا تصاد ثمَّ يطين رَأسهَا وَجَمِيع بدنهَا إِلَى مَوضِع مخرج الثّقل مِنْهَا ثمَّ يَجْعَل مَا لم يطين مِنْهَا على الْجَمْر ويمسكها مُمْسك بِيَدِهِ حَتَّى ينشوي مِنْهَا مَا كَانَ مَوْضُوعا على الْجَمْر وينضج ثمَّ يُؤْكَل مَا نضج أَو يرْمى بِهِ وتلقى السَّمَكَة فِي المَاء مَا لم ينكسر الْعظم الَّذِي هُوَ صلب السَّمَكَة فتعيش وينبت على عظمها اللَّحْم
وَأَن غَسَّان أَمر بِحَفر بركَة فِي دَاره وملأها مَاء وَأمر بامتحان مَا بلغه
قَالَ إِبْرَاهِيم فَكُنَّا نؤتي كل يَوْم بعدة من هَذَا السّمك فنشويه على الْحِكَايَة الَّتِي ذكرت لنا ونكسر من بعضه عظم الصلب ونترك بعضه لَا نكسره فَكَانَ مَا يكسر عظمه يَمُوت وَمَا لم يكسر عظمه يسلم وينبت عَلَيْهِ اللَّحْم وَيَسْتَوِي الْجلد
إِلَّا أَن جلدَة تِلْكَ السَّمَكَة تشبه جلد الجدي الْأسود وَمَا قشرناه من لُحُوم السّمك الَّتِي شويناها ورددناها إِلَى المَاء يكون على غير لون الْجلْدَة الأولى لِأَنَّهُ يضْرب إِلَى الْبيَاض
قَالَ يُوسُف وَسَأَلت إِبْرَاهِيم بن فزارون عَن قَول من يزْعم أَن نهر مهْرَان هُوَ نهر النّيل فَقَالَ لي رَأَيْت نهر مهْرَان وَهُوَ يصب فِي الْبَحْر المالح إِلَّا أَن عُلَمَاء الْهِنْد والسند أعلموني أَن مخرج النّيل ومخرج نهر مهْرَان من عين وَاحِدَة عَظِيمَة فنهر مهْرَان يشق أَرض السَّنَد حَتَّى يصب فِي بحرها المالح وَالنّهر(1/240)
الآخر يشق أَرض الْهِنْد وَجَمِيع أَرض السودَان حَتَّى يخرج إِلَى أَرض النّوبَة ثمَّ يصب بَاقِيه فِي أَرض مصر فيرويها ثمَّ يصب بَاقِيه فِي بَحر الرّوم
قَالَ يُوسُف وحَدثني عَنْبَسَة بن إِسْحَق الضَّبِّيّ من أَمر الْعين الَّتِي مِنْهَا يخرج نهر مهْرَان والنيل بِمثل مَا حَدثنِي بِهِ إِبْرَاهِيم وَكَانَ يحدثنا بِحَدِيث السّمك فِي كل وَقت
أَيُّوب الْمَعْرُوف بالأبرش
كَانَ لَهُ نظر فِي صناعَة الطِّبّ وَمَعْرِفَة بِالنَّقْلِ وَقد نقل كتبا من مصنفات اليونانيين إِلَى السرياني وَإِلَى الْعَرَبِيّ وَهُوَ متوسط النَّقْل وَمَا نَقله فِي آخر عمره فَهُوَ أَجود مِمَّا نَقله قبل ذَلِك
إِبْرَاهِيم بن أَيُّوب الأبرش
قَالَ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي فِي كتاب أدب الطَّبِيب حَدثنِي عِيسَى بن ماسة قَالَ رَأَيْت إِبْرَاهِيم بن أَيُّوب الأبرش وَقد عالج إِسْمَاعِيل أَخا المعتز وَبرئ
فكلمت أمه قبيحة المتَوَكل أَن يُجِيزهُ فَقَالَ لَهَا لَا تجيزيه لَيْسَ عنْدك مَا تعطيه حَتَّى أعْطِيه أَنا مثله
وَإِبْرَاهِيم وَاقِف بَين أَيْدِيهِمَا فَأمرت قبيحة فأحضرت بدرة دَرَاهِم لإِبْرَاهِيم وَأمر المتَوَكل بإحضار مثل ذَلِك فأحضرت قبيحة بدرة أُخْرَى فَأمر بإحضار مثلهَا فَلم يَزَالَا يأمران بإحضار بدرة وبدرة حَتَّى أحضرت سِتّ عشرَة بدرة فأومت قبيحة إِلَى جاريتها أَن تمسك فَقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيم سرا لَا تقطعي وَأَنا أرد عَلَيْك
فَقَالَت لَهُ املأ الله عين الآخر
فَقَالَ لَهَا المتَوَكل وَالله لَو أعطيتيه إِلَى الصَّباح لأعطيته مثل ذَلِك
فَحملت الْبَدْر إِلَى منزل إِبْرَاهِيم
وَقَالَ ثَابت بن سِنَان بن ثَابت أَن الْخلَافَة لما تأدت إِلَى المعتز بِاللَّه كَانَ أخص المتطببين عِنْده إِبْرَاهِيم ابْن الأبرش لمكانه من والدته قبيحة
وَكَانَت صلَاته أبدا واصلة إِلَيْهِ
وخلع أَبُو عبد الله المعتز بِاللَّه بسر من رأى وَقبض عَلَيْهِ صَالح بن وصيف يَوْم الِاثْنَيْنِ لثلاث بَقينَ من رَجَب سنة خمس وَخمسين وَمِائَتَيْنِ وحبسه خَمْسَة أَيَّام ثمَّ قتل وَقت الْعَصْر من يَوْم الْجُمُعَة لليلتين خلتا من شعْبَان من السّنة الْمَذْكُورَة وَله ثَلَاث وَعِشْرُونَ سنة
جِبْرَائِيل كَحال الْمَأْمُون
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم كَانَ الْمَأْمُون يستخف يَد جِبْرَائِيل الكحال وَيذكر أَنه مَا رأى أبدا على عين أخف من يَده
وَاتخذ مراود ومكاحل ودستجا وَدفعه إِلَيْهِ فَكَانَ أول من يدْخل(1/241)
إِلَيْهِ فِي كل يَوْم عِنْد تَسْلِيمه فِي صَلَاة الغذاة فَيغسل أجفانه ويكحل عَيْنَيْهِ فَإِذا انتبه من قائلته فعل مثل ذَلِك
وَكَانَ يجْرِي عَلَيْهِ ألف دِرْهَم فِي كل شهر
ثمَّ سَقَطت مَنْزِلَته بعد ذَلِك فَسَأَلته عَن السَّبَب فِي ذَلِك فَأَخْبرنِي أَن الْحُسَيْن الْخَادِم اعتل فَلم يُمكن ياسرا أَخَاهُ عيادته لاشتغاله بِالْخدمَةِ إِلَى أَن وافى يَاسر بَاب الْحُجْرَة الَّتِي كَانَ فِيهَا الْمَأْمُون وَقد خرج جِبْرَائِيل من عِنْده بعد أَن برد أجفانه وكحل عَيْنَيْهِ
فَسَأَلَهُ يَاسر عَن خبر الْمَأْمُون فَأخْبرهُ أَنه أغفى فتغنم يَاسر مَا أخبرهُ بِهِ من نَومه فَصَارَ إِلَى حُسَيْن فعاده
وأنتبه الْمَأْمُون قبل انصراف يَاسر من عِنْد حُسَيْن ثمَّ انْصَرف يَاسر فَسَأَلَهُ الْمَأْمُون عَن سَبَب تخلفه فَقَالَ يَاسر أخْبرت بنوم أَمِير الْمُؤمنِينَ فصرت إِلَى حُسَيْن فعدته
فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون وَمن أخْبرك برقادي فَقَالَ لَهُ يَاسر جِبْرَائِيل الكحال
قَالَ جِبْرَائِيل فأحضرني الْمَأْمُون ثمَّ قَالَ يَا جِبْرَائِيل اتخذتك كحالا لي أَو عَاملا على الْإِخْبَار عني أردد عَليّ مكاحلي وأميالي واخرج عَن دَاري
فأذكرته خدمتي فَقَالَ إِن لَهُ لحُرْمَة فليقتصر لَهُ على إِجْرَاء مائَة وَخمسين درهما فِي كل شهر وَلَا يُؤذن لَهُ فِي الدُّخُول
فَلم يخْدم الْمَأْمُون بعده حَتَّى توفّي
ماسويه أَبُو يوحنا
قَالَ فثيون الترجمان أَن ماسويه كَانَ يعْمل فِي دق الْأَدْوِيَة فِي بيمارستان جندي سَابُور وَهُوَ لَا يقْرَأ حرفا وَاحِدًا بِلِسَان من الْأَلْسِنَة إِلَّا أَنه عرف الْأَمْرَاض وعلاجها وَصَارَ بَصيرًا بانتقاد الْأَدْوِيَة فَأَخذه جِبْرَائِيل بن بختيشوع فَأحْسن إِلَيْهِ وعشق جَارِيَة لداود بن سرابيون فابتاعها جِبْرَائِيل بثمانمائة دِرْهَم ووهبها لماسويه ورزق مِنْهَا ابْنه يوحنا وأخاه ميخائيل
وَقَالَ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي فِي كتاب أدب الطَّبِيب عَن عِيسَى بن ماسة إِن ماسويه أَبَا يوحنا كَانَ تلميذا فِي بيمارستان جندي سَابُور ثَلَاثِينَ سنة فَلَمَّا اتَّصل بِهِ مَحل جِبْرَائِيل من الرشيد قَالَ هَذَا أَبُو عِيسَى قد بلغ السها وَنحن فِي البيمارستان لَا نتجاوزه
فَبلغ ذَلِك جِبْرَائِيل وَكَانَ البيمارستان إِلَيْهِ فَأمر بِإِخْرَاجِهِ مِنْهُ وَقطع رزقه
فَبَقيَ مُنْقَطِعًا بِهِ فَصَارَ إِلَى مَدِينَة السَّلَام ليعتذر إِلَى جِبْرَائِيل ويخضع لَهُ
فَلم يزل على بَابه دهرا طَويلا فَلم يَأْذَن لَهُ
فَكَانَ إِذا ركب دَعَا لَهُ واستعطفه فَلَا يكلمهُ
فَلَمَّا ضَاقَ بِهِ الْأَمر صَار إِلَى دَار الرّوم بالجانب الشَّرْقِي فَقَالَ للقس أكرز لي فِي الْبيعَة لَعَلَّه أَن يَقع لي شَيْء فأنصرف إِلَى بلدي فَإِن أَبَا عِيسَى لَيْسَ يرضى عني وَلَا يكلمني
فَقَالَ لَهُ القس أَنْت فِي البيمارستان مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة وَلَا تحسن شَيْئا من الطِّبّ فَقَالَ بلَى وَالله أطب وأكحل وأعالج الْجِرَاحَات
فَأخْرج لَهُ صندوقا وَأَعْطَاهُ إِيَّاه ليداوي وَأَجْلسهُ بِبَاب الْحرم عِنْد قصر الْفضل بن الرّبيع وَهُوَ وَزِير الرشيد فَلم يزل هُنَاكَ يكْسب الشَّيْء بعد الشَّيْء حَتَّى حسنت حَاله
واشتكت عين خَادِم للفضل بن الرّبيع فنفذ إِلَيْهِ جِبْرَائِيل بكحالين فعالجوه بأصناف العلاج فَلم ينْتَفع بِهِ وَاشْتَدَّ وَجَعه حَتَّى عدم النّوم
فَلَمَّا اشْتَدَّ أرقه وقلقه خرج من الْقصر هائما من الضجر والقلق
فَرَأى ماسويه فَقَالَ لَهُ يَا شيخ مَا تصنع هُنَا إِن كنت تحسن شَيْئا فعالجني(1/242)
وَإِلَّا فَقُمْ من هَهُنَا
فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي أحسن وأجيد
فَقَالَ لَهُ ادخل معي حَتَّى تعالجني
فَدخل مَعَه وقلب جفْنه وكحله وسكب على رَأسه وسعطه
فَنَامَ الْخَادِم وهدأ
فَلَمَّا أصبح أنفذ إِلَى ماسويه جونة فِيهَا خبز سميد وجدي ودجاجة وحلوى ودنانير ودراهم وَقَالَ لَهُ هَذَا لَك فِي كل يَوْم وَالدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير رزقك مني فِي كل شهر
فَبكى ماسويه فَرحا فَتوهم الرَّسُول أَنه قد استقله فَقَالَ لَهُ لَا تغتم فَإِنَّهُ يزيدك وَيحسن إِلَيْك
فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي رضيت مِنْهُ بِهَذَا إِن يدره على الْأَيَّام
فَلَمَّا رَجَعَ عرف الْخَادِم مَا كَانَ مِنْهُ فَعجب مِنْهُ وبرأ الْخَادِم على يَدَيْهِ
وَلم يمض إِلَّا أَيَّام يسرة حَتَّى اشتكت عين الْفضل فنفذ إِلَيْهِ جِبْرَائِيل الكحالين فَلم يزَالُوا يعالجونه فَلم ينْتَفع بهم فَأدْخل الْخَادِم ماسويه إِلَيْهِ لَيْلًا فَلم يزل يكحله إِلَى ثلث اللَّيْل ثمَّ سقَاهُ دَوَاء مسهلا فصلح بِهِ
ثمَّ حضر جِبْرَائِيل فَقَالَ لَهُ الْفضل يَا أَبَا عِيسَى أَن هَهُنَا رجلا يُقَال لَهُ ماسويه من أفره النَّاس وأعرفهم بالكحل فَقَالَ لَهُ وَمن هَذَا لَعَلَّه الَّذِي يجلس بِالْبَابِ فَقَالَ لَهُ نعم
قَالَ جِبْرَائِيل هَذَا كَانَ أكارا لي فَلم يصلح للكروث فطردته وَقد صَار الْآن طَبِيبا وَمَا عالج الطِّبّ قطّ فَإِن شِئْت فَأحْضرهُ وَأَنا حَاضر
وتوهم جِبْرَائِيل أَنه يدْخل وَيقف بَين يَدَيْهِ ويتذلل لَهُ
فَأمر الْفضل بإحضاره فَدخل وَسلم وَجلسَ بحذاء جِبْرَائِيل
فَقَالَ لَهُ جِبْرَائِيل يَا ماسويه أصرت طَبِيبا فَقَالَ لَهُ لم أزل طَبِيبا أَنا أخدم البيمارستان مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة تَقول لي هَذَا القَوْل فَفَزعَ جِبْرَائِيل أَن يزِيد فِي الْمَعْنى فبادر وَانْصَرف فِي الْحَال وَهُوَ خجل
وأجرى الْفضل على ماسويه فِي كل شهر سِتّمائَة دِرْهَم وعلوفة دابتين وَنزل خَمْسَة غلْمَان وَأمره أَن يحمل عِيَاله من جندي سَابُور وَأَعْطَاهُ نَفَقَة وَاسِعَة
فَحمل عِيَاله ويوحنا ابْنه حِينَئِذٍ وَهُوَ صبي
فَمَا مَضَت إِلَّا أَيَّام حَتَّى اشتكت عين الرشيد فَقَالَ لَهُ الْفضل يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ طبيبي ماسويه من أحذق النَّاس بالكحل
وَشرح لَهُ قصَّته وَمَا كَانَ من أَمر خادمه وَأمر نَفسه
فَأمر الرشيد بإحضاره فأحضر ماسويه فَقَالَ لَهُ تحسن شَيْئا من الطِّبّ سوى الْكحل فَقَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَكَيف لَا أحسن وَأَنا قد خدمت المرضى بالبيمارستان مُنْذُ ثَلَاثِينَ سنة فأدناه مِنْهُ وَنظر عَيْنَيْهِ فَقَالَ الْحجام السَّاعَة
فحجمه على سَاقيه وقطر فِي عَيْنَيْهِ فبرأ بعد يَوْمَيْنِ
فَأمر بِأَن يجْرِي عَلَيْهِ ألفا دِرْهَم فِي الشَّهْر ومعونة فِي السّنة عشرُون ألف دِرْهَم وعلوفة وَنزل وألزمه الْخدمَة مَعَ جِبْرَائِيل وَسَائِر من كَانَ فِي الْخدمَة من المتطببين
وَصَارَ نظيرا لجبرائيل بل كَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت يحضر بِحُضُورِهِ ويصل بوصوله ودونه فِي الرزق لِأَن جِبْرَائِيل كَانَ لَهُ فِي الشَّهْر عشرَة آلَاف دِرْهَم ومعونة فِي السّنة مائَة ألف دِرْهَم وصلات دائمة وإقطاعات
ثمَّ أَنه اعتلت بانوا أُخْت الرشيد فَلم يزل جِبْرَائِيل يعالجها بأنواع العلاج فَلم تنْتَفع فَاغْتَمَّ بهَا(1/243)
فَقَالَ الرشيد ذَات يَوْم قد كَانَ ماسويه ذكر أَنه خدم المرضى بالمارستان وَأَنه يعالج الطبائع فَلْيدْخلْ إِلَى عليلتنا لَعَلَّ عِنْده فرجا لَهَا
فأحضر جِبْرَائِيل وماسويه فَقَالَ لَهُ ماسويه عرفني حَالهَا وَجَمِيع مَا دبرتها بِهِ إِلَى وقتنا هَذَا
فَلم يزل جِبْرَائِيل يصف لَهُ مَا عالجها بِهِ فَقَالَ ماسويه التَّدْبِير صَالح والعلاج مُسْتَقِيم وَلَكِن احْتَاجَ إِلَى أَن أَرَاهَا
فَأمر الرشيد أَن يدخلا إِلَيْهَا
فَدخل وتأملها وجس عروقها بِحَضْرَة الرشيد وَخَرجُوا من عِنْده
وَقَالَ ماسويه للرشيد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ يكون لَك طول الْعُمر والبقاء هَذِه تقضي بعد غَد مَا بَين ثَلَاث سَاعَات إِلَى نصف اللَّيْل
فَقَالَ جِبْرَائِيل كذب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنَّهَا تَبرأ وتعيش
فَأمر الرشيد بِحَبْس ماسويه بِبَعْض دوره فِي الْقصر وَقَالَ لأسبرن مَا قَالَه وأنذرنا بِهِ فَمَا رَأينَا بِعلم الشَّيْخ بَأْسا
فَلَمَّا حضر الْوَقْت الَّذِي حَده ماسويه توفيت
فَلم يكن للرشيد همة بعد دَفنهَا إِلَّا أَن أحضر ماسويه فَسَأَلَهُ وأعجب بِكَلَامِهِ
وَكَانَ أعجمي اللِّسَان وَلكنه كَانَ بَصيرًا بالعلاج كثير التجارب فصيره نظيرا لجبرائيل فِي الرزق والنزل والعلوفة والمرتبة وعنى بِابْنِهِ يوحنا ووسع النَّفَقَة عَلَيْهِ فَبلغ الْمرتبَة الْمَشْهُورَة
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم عدت جِبْرَائِيل بن بختيشوع بالعلث فِي سنة خمس عشرَة وَمِائَتَيْنِ وَقد كَانَ خرج مَعَ الْمَأْمُون فِي تِلْكَ السّنة حَتَّى نزل الْمَأْمُون فِي دير النِّسَاء
فَوجدت عِنْده يوحنا ابْن ماسويه وَهُوَ يناظره فِي علته وجبرائيل يستحسن استماعه وإجابته وَوَصفه
فَدَعَا جِبْرَائِيل بتحويل سنته وسألني النّظر فِيهِ وإخباره بِمَا يدل عَلَيْهِ الْحساب
فَنَهَضَ يوحنا عِنْد ابتدائي بِالنّظرِ فِي التَّحْوِيل فَلَمَّا خرج من الحراقة قَالَ لي جِبْرَائِيل لَيست بك حَاجَة إِلَى النّظر فِي التَّحْوِيل لِأَنِّي أحفظ جَمِيع قَوْلك وَقَول غَيْرك فِي هَذِه السّنة وَإِنَّمَا أردْت بدفعي التَّحْوِيل إِلَيْك أَن ينْهض يوحنا فأسألك عَن شَيْء بَلغنِي عَنهُ وَقد نَهَضَ
فأسألك بِحَق الله أهل سَمِعت يوحنا قطّ يَقُول أَنه أعلم من جالينوس بالطب فَحَلَفت لَهُ أَنِّي مَا سمعته قطّ يَدعِي ذَلِك فَمَا انْقَضى كلامنا حَتَّى رَأَيْت الحراقات تنحدر إِلَى مَدِينَة السَّلَام فانحدر الْمَأْمُون فِي ذَلِك الْيَوْم وَكَانَ يَوْم خَمِيس ووافينا مَدِينَة السَّلَام غَدَاة يَوْم السبت وَدخل النَّاس كلهم إِلَى مَدِينَة السَّلَام خلا أبي الْعَبَّاس بن الرشيد فَإِنَّهُ أَقَامَ فِي الْموضع الْمَعْرُوف بالقلائين من الْجَانِب الغربي بِمَدِينَة السَّلَام وَهُوَ بازاء دَار الْفضل بن يحيى بِبَاب الشماسية الَّتِي صَار بَعْضهَا فِي خلَافَة المعتصم لأبي الْعَبَّاس بن الرشيد
فَكنت وَجَمَاعَة مِمَّن يُرِيد الْمصير إِلَى أبي الْعَبَّاس مِمَّن مَنَازِلهمْ فِي قنطرة البردان ونهر الْمهْدي لَا نجشم أَنْفُسنَا الْمصير إِلَى الجسر ثمَّ الْمصير إِلَى القلائين لبعد الشقة فنصير إِلَى قصر الْفضل بن يحيى ونقف بِإِزَاءِ مضرب أبي الْعَبَّاس وَكَانَت الزبيديات توافينا فتعبر بِنَا(1/244)
فاجتمعت ويوحنا بن ماسويه عِنْد أبي الْعَبَّاس بعد موافاة الْمَأْمُون بِمَدِينَة السَّلَام بِثَلَاثَة أَيَّام
وجمعتنا الزبيدية عِنْد انصرافنا فَسَأَلَنِي عَن عهدي بجبرائيل فأعلمته إِنِّي لم أره مُنْذُ اجْتَمَعنَا بالعلث ثمَّ قلت لَهُ قد شنعت عِنْده
فَقَالَ
بِمَاذَا فَقلت لَهُ بلغه أَنَّك تَقول أَنا أعلم من جالينوس
فَقَالَ على من ادّعى عَليّ هَذِه الدعْوَة لَعنه الله وَالله مَا صدق مؤدي هَذَا الْخَبَر وَلَا بر
فسرى ذَلِك من قَوْله مَا كَانَ فِي قلبِي وأعلمته أَنِّي أزيل عَن قلب جِبْرَائِيل مَا تأدى إِلَيْهِ من الْخَبَر الأول
فَقَالَ لي افْعَل نشدتك الله وَقرر عِنْده مَا أَقُول وَهُوَ مَا كنت أقوله فحرف عِنْده
فَسَأَلته عَنهُ فَقَالَ إِنَّمَا قلت لَو أَن بقراط وجالينوس عاشا إِلَى أَن يسمعا قولي فِي الطِّبّ وصفاتي لسألا ربهما أَن يبدلهما بِجَمِيعِ حواسهما من الْبَصَر والشم والذوق واللمس حسا سمعيا يضيفانه إِلَى مَا مَعَهُمَا من حس السّمع ليسمعا حكمي ووصفي
فأسألك بِاللَّه أما أدّيت هَذَا القَوْل عني إِلَيْهِ
فاستعفيته من إِلْقَاء هَذَا الْخَبَر عَنهُ فَلم يعفني
فأديت إِلَى جِبْرَائِيل الْخَبَر وَقد كَانَ أصبح فِي ذَلِك الْيَوْم مفرقا من علته فتداخله من الغيظ والضجر مَا تخوفت عَلَيْهِ مِنْهُ النكسة وَأَقْبل يَدْعُو على نَفسه وَيَقُول هَذَا جَزَاء من وضع الصنيعة فِي غير موضعهَا وَهَذَا جَزَاء من اصْطنع السّفل وَأدْخل فِي مثل هَذِه الصِّنَاعَة الشَّرِيفَة من لَيْسَ من أَهلهَا
ثمَّ قَالَ هَل عرفت السَّبَب فِي يوحنا وَأَبِيهِ فَأَخْبَرته أَنِّي لَا أَعْرفهُمَا
فَقَالَ لي إِن الرشيد أَمرنِي باتخاذ بيمارستان وأحضرت دهشتك رَئِيس بيمارستان جندي سَابُور لتقليده البيمارستان الَّذِي أمرت باتخاذه فَامْتنعَ من ذَلِك
وَذكر أَن السُّلْطَان لَيست لَهُ عَلَيْهِ أرزاق جَارِيَة وَأَنه إِنَّمَا يقوم ببيمارستان جندي سَابُور وميخائيل ابْن أَخِيه حسبَة
وَتحمل عَليّ بطيمانيوس الجاثليق فِي إعفاءه وَابْن أَخِيه فأعفيتهما
فَقَالَ لي أما إِذْ قد أعفيتني فَإِنِّي أهدي إِلَيْك هَدِيَّة ذَات قدر يحسن بك قبُولهَا وتكثر مَنْفَعَتهَا لَك فِي هَذَا البيمارستان
فَسَأَلته عَن الْهَدِيَّة فَقَالَ لي إِن صَبيا كَانَ مِمَّن يدق الْأَدْوِيَة عندنَا مِمَّن لَا يعرف لَهُ أَب وَلَا قرَابَة أَقَامَ فِي البيمارستان أَرْبَعِينَ سنة وَقد بلغ الْخمسين سنة أَو جاوزها وَهُوَ لَا يقْرَأ حرفا وَاحِدًا بِلِسَان من الْأَلْسِنَة إِلَّا أَنه قد عرف الأدواء دَاء دَاء وَمَا يعالج بِهِ كل دَاء
وَهُوَ أعلم خلق الله بانتقاد الْأَدْوِيَة وَاخْتِيَار جيدها وَنفي رديها
فَأَنا أهديه لَك فاضممه إِلَى من أَحْبَبْت من تلامذتك
ثمَّ قلد تلميذك البيمارستان فَإِن أُمُوره تخرج على أحسن من مخرجها لَو قلدتني هَذَا البيمارستان
فأعلمته أَنِّي قد قبلت الْهَدِيَّة وَانْصَرف دهشتك إِلَى بَلَده وأنفذ إِلَيّ الرجل فَأدْخل عَليّ فِي زِيّ الرهبان وكشفته فَوَجَدته على مَا حكى لي عَنهُ
وَسَأَلته عَن اسْمه فَأَخْبرنِي أَن اسْمه ماسويه
وَكنت فِي خدمَة الرشيد وداؤد بن سرابيون مَعَ أم جَعْفَر
وَكَانَ الْمنزل الَّذِي ينزله ماسويه يبعد عَن منزلي وَيقرب من منزل داؤد بن سرابيون
وَكَانَ فِي داؤد دعابة وبطالة وَكَانَ فِي ماسويه ضعف من ضعف السّفل فيستطيبه كل بطال
فَمَا مضى بمساويه إِلَّا يسير حَتَّى صَار إِلَيّ وَقد غير زيه وَلبس الثِّيَاب الْبيض فَسَأَلته عَن خَبره فَأَعْلمنِي أَنه قد عشق جَارِيَة لداؤد بن سرابيون صقلبية يُقَال لَهَا رِسَالَة وسألني ابتياعها لَهُ فابتعتها لَهُ بثمانمائة دِرْهَم ووهبتها لَهُ فأولدها يوحنا وأخاه
ثمَّ رعيت لماسويه ابتياعي لَهُ رِسَالَة وَطَلَبه مِنْهَا النَّسْل وصيرت وَلَده كَأَنَّهُمْ ولد قرَابَة لي وعنيت بِرَفْع أقدارهم وتقديمهم على أَبنَاء أَشْرَاف أهل هَذِه المهنة وعلمائهم ثمَّ رتبت ليوحنا وَهُوَ غُلَام الْمرتبَة الشَّرِيفَة ووليته البيمارستان وَجَعَلته رَئِيس تلامذتي فَكَانَت(1/245)
مثوبتي مِنْهُ هَذِه الدَّعْوَى الَّتِي لَا يسمع بهَا أحد إِلَّا قذف من خرجه ونوه باسمه وَأطلق لِسَانه بِمثل مَا أطلقهُ بِهِ
ولمثل مَا خرج إِلَيْهِ هَذِه السفلة كَانَت الْأَعَاجِم تمنع جَمِيع النَّاس من الِانْتِقَال عَن صناعات آبَائِهِم وتحظر ذَلِك غَايَة الْخطر وَالله الْمُسْتَعَان
يوحنا بن ماسويه
كَانَ طَبِيبا ذكيا فَاضلا خَبِيرا بصناعة الطِّبّ وَله كَلَام حسن وتصانيف مَشْهُورَة وَكَانَ مبجلا حظيا عِنْد الْخُلَفَاء والملوك
قَالَ إِسْحَق بن عَليّ الرهاوي فِي كتاب أدب الطَّبِيب عَن عِيسَى بن ماسه الطَّبِيب قَالَ أَخْبرنِي أَبُو زَكَرِيَّا يوحنا بن ماسويه أَنه اكْتسب من صناعَة الطِّبّ ألف ألف دِرْهَم وعاش بعد قَوْله هَذَا ثَلَاث سِنِين أخر
وَكَانَ الواثق مشغوفا ضنينا بِهِ فَشرب يَوْمًا عِنْده فَسَقَاهُ الساقي شرابًا غير صَاف وَلَا لذيذ على مَا جرت بِهِ الْعَادة وَهَذَا من عَادَة السقاة إِذا قصر فِي برهم
فَلَمَّا شرب الْقدح الأول قَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أما المذاقات فقد عرفتها واعتدتها ومذاقة هَذَا الشَّرَاب فخارجة عَن طبع المذاقات كلهَا فَوجدَ أَمِير الْمُؤمنِينَ على السقاة وَقَالَ يسقون أطبائي وَفِي مجلسي مثل هَذَا الشَّرَاب وَأمر ليوحنا بِهَذَا السَّبَب وَفِي ذَلِك الْوَقْت بِمِائَة ألف دِرْهَم ودعا بسمانة الْخَادِم فَقَالَ لَهُ احْمِلْ إِلَيْهِ المَال السَّاعَة
فَلَمَّا كَانَ وَقت الْعَصْر سَأَلَ سمانة هَل حمل مَال الطَّبِيب أم لَا فَقَالَ لَا بعد فَقَالَ يحمل إِلَيْهِ مِائَتَا ألف دِرْهَم السَّاعَة
فَلَمَّا صلوا الْعشَاء سَأَلَ عَن حمل المَال فَقيل لَهُ لم يحمل بعد فَدَعَا بسمانة وَقَالَ احْمِلْ إِلَيْهِ ثلثمِائة ألف دِرْهَم
فَقَالَ سمانة لخازن بَيت المَال احملوا مَال يوحنا وَإِلَّا لم يبْق فِي بَيت المَال شَيْء
فَحمل إِلَيْهِ من سَاعَته
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان كَانَ يوحنا بن ماسويه مسيحي الْمَذْهَب سريانيا قَلّدهُ الرشيد تَرْجَمَة الْكتب الْقَدِيمَة مِمَّا وجد بأنقره وعمورية وَسَائِر بِلَاد الرّوم حِين سباها الْمُسلمُونَ وَوَضعه أَمينا على التَّرْجَمَة
وخدم هَارُون والأمين والمأمون وَبَقِي على ذَلِك إِلَى أَيَّام المتَوَكل
قَالَ وَكَانَت مُلُوك بني هَاشم لَا يتناولون شَيْئا من أطعمتهم إِلَّا بِحَضْرَتِهِ
وَكَانَ يقف على رؤوسهم وَمَعَهُ البراني بالجوارشنات الهاضمة المسخنة الطابخة المقوية للحرارة الغريزية فِي الشتَاء وَفِي الصَّيف بالأشربة الْبَارِدَة والجوارشنات
وَقَالَ ابْن النديم الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب إِن يوحنا بن ماسويه خدم بصناعة الطِّبّ الْمَأْمُون والمعتصم والواثق والمتوكل(1/346)
وَقَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم كَانَ مجْلِس يوحنا بن ماسويه أعمر مجْلِس كنت أرَاهُ بِمَدِينَة السَّلَام لمتطبب أَو مُتَكَلم أَو متفلسف لِأَنَّهُ كَانَ يجْتَمع فِيهِ كل صنف من أَصْنَاف أهل الْأَدَب
وَكَانَ فِي يوحنا دعابة شَدِيدَة يحضر بعض من يحضر من أجلهَا
وَكَانَ من ضيق الصَّدْر وَشدَّة الحدة على أَكثر مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ جِبْرَائِيل بن يختيشوع
وَكَانَت الحدة تخرج مِنْهُ ألفاظا مضحكة وَكَانَ أطيب مَا يكون مَجْلِسه فِي وَقت نظره فِي قَوَارِير المَاء وَكنت وَابْن حمدون بن عبد الصَّمد بن عَليّ الملقب بِأبي العيرطرد وَإِسْحَق بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الملقب ببيض الْبَغْل قد توكلنا بِهِ بِحِفْظ نوادره وأظهرت لَهُ التلمذة فِي قِرَاءَة كتب الْمنطق عَلَيْهِ وأظهروا لَهُ التلمذة بقراءتهما كتب جالينوس فِي الطِّبّ عَلَيْهِ
قَالَ يُوسُف فمما حفظت من نوادره فِي وَقت نظره أَن امْرَأَة أَتَتْهُ فَقَالَت لَهُ إِن فُلَانَة وفلانة وفلانة يقْرَأن عَلَيْك السَّلَام فَقَالَ لَهَا أَنا بأسماء أهل قسطنطينية وعمورية أعلم مني بأسماء هَؤُلَاءِ الَّذين سميتهن فاظهري بولك حَتَّى أنظر لَك فِيهِ
قَالَ يُوسُف وحفظت عَلَيْهِ أَن رجلا شكى إِلَيْهِ عِلّة كَانَ شفاؤه مِنْهَا الفصد فَأَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ لم أَعْتَد الفصد فَقَالَ لَهُ وَلَا أَحسب أحدا اعتاده فِي بطن أمه
وَكَذَلِكَ لم تَعْتَد الْعلَّة قبل أَن تعتل وَقد حدثت بك فاختر مَا شِئْت من الصَّبْر على مَا أحدثت لَك الطبيعة من الْعلَّة أَو اعتياد الفصد لتسلم مِنْهَا
قَالَ يُوسُف وشكى إِلَيْهِ رجل بحضرتي جربا قد أضرّ بِهِ فَأمره بفصد الأكحل من يَده الْيُمْنَى فَأعلمهُ أَنه قد فعل
فَأمر بفصد الأكحل أَيْضا من يَده الْيُسْرَى فَذكر أَنه قد فعل
فَأمره بِشرب الْمَطْبُوخ فَقَالَ قد فعلت فَأمره بِشرب الأصمخيقون فَأعلمهُ أَنه قد فعل
فَأمره بِشرب مَاء الْجُبْن أسبوعا وَشرب مخيض الْبَقر أسبوعين فَأعلمهُ أَنه قد فعل
فَقَالَ لَهُ لم يبْق شَيْء مِمَّا أَمر بِهِ المتطببون إِلَّا وَقد ذكرت أَنَّك فعلته وَبَقِي شَيْء مِمَّا لم يذكرهُ بقراط وَلَا جالينوس وَقد رَأَيْنَاهُ يعْمل على التجربة كثيرا فَاسْتَعْملهُ فَإِنِّي أَرْجُو أَن ينجح علاجك إِن شَاءَ الله
فَسَأَلَهُ مَا هُوَ فَقَالَ ابتع زَوجي قَرَاطِيس وقطعهما رِقَاعًا صغَارًا واكتب فِي كل رقْعَة رحم الله من دَعَا لمبتلى بالعافية وألق نصفهَا فِي الْمَسْجِد الشَّرْقِي بِمَدِينَة السَّلَام وَالنّصف الآخر فِي الْمَسْجِد الغربي وفرقها فِي الْمجَالِس يَوْم الْجُمُعَة فَأَنِّي أَرْجُو أَن ينفعك الله بِالدُّعَاءِ إِذْ لم ينفعك العلاج
قَالَ يُوسُف وَصَارَ إِلَيْهِ وَأَنا حَاضر قسيس الْكَنِيسَة الَّتِي يتَقرَّب فِيهَا يوحنا وَقَالَ لَهُ قد فَسدتْ عَليّ معدتي
فَقَالَ لَهُ اسْتعْمل جوارشن الخوزبي فَقَالَ قد فعلت
فَقَالَ لَهُ يوحنا فَاسْتعْمل السقمونيا قَالَ قد أكلت مِنْهُ أرطالا فَأمره بِاسْتِعْمَال المقداذيقون فَقَالَ قد شربت(1/247)
مِنْهُ جرة
قَالَ لَهُ فَاسْتعْمل المروسيا فَقَالَ قد فعلت وَأَكْثَرت
فَغَضب وَقَالَ لَهُ إِن أردْت أَن تَبرأ فَأسلم فَإِن الْإِسْلَام يصلح الْمعدة
قَالَ يُوسُف واشتدت على يوحنا عِلّة كَانَ فِيهَا حَتَّى يئس مِنْهُ أَهله وَمن عَادَة النَّصَارَى إِحْضَار من يئس مِنْهُ أَهله جمَاعَة من الرهبان والقسيسين والشمامسة يقرؤون حوله فَفعل مثل ذَلِك بيوحنا
فأفرق والرهبان حوله يقرؤون فَقَالَ لَهُم يَا أَوْلَاد الْفسق مَا تَصْنَعُونَ فِي بَيْتِي فَقَالُوا لَهُ كُنَّا نَدْعُو رَبنَا فِي التفضل عَلَيْك بالعافية
فَقَالَ لَهُم يوحنا قرص ورد أفضل من صلوَات جَمِيع أهل النَّصْرَانِيَّة مُنْذُ كَانَت إِلَى يَوْم الْقِيَامَة اخْرُجُوا من منزلي فَخَرجُوا
قَالَ يُوسُف وشكى بحضرتي إِلَى يوحنا رجل من التُّجَّار جربا بِهِ فِي أَيَّام الشتَاء فَقَالَ لَيست هَذِه من أَيَّام علاج مَا تَجِد وَإِنَّمَا علاج دائك هَذَا فِي أَيَّام الرّبيع فتنكب أكل المعفنات كلهَا وطري السّمك ومالحه صغَار ذَلِك وكباره وكل حريف من الأبزار والبقول وَمَا يخرج من الضَّرع
فَقَالَ لَهُ الرجل هَذِه أَشْيَاء لست أعْطى صبرا على تَركهَا
فَقَالَ لَهُ يوحنا فَإِن كَانَ الْأَمر على مَا ذكرت فأدمن أكلهَا وحك بدنك فَلَو نزل الْمَسِيح لَك خَاصَّة لما انتفعت بدعائه لما تصف بِهِ نَفسك من الشره
قَالَ يُوسُف وعاتبه النَّصَارَى على اتِّخَاذ الْجَوَارِي وَقَالُوا لَهُ خَالَفت ديننَا وَأَنت شماس فَأَما إِن كنت على سنتنا واقتصرت على امْرَأَة وَاحِدَة وَكنت شماسا لنا وَإِمَّا أخرجت نَفسك من الشماسية واتخذت مَا بدا لَك من الْجَوَارِي فَقَالَ إِنَّمَا أمرنَا فِي مَوضِع وَاحِد أَن لَا نتَّخذ امْرَأتَيْنِ وَلَا ثَوْبَيْنِ فَمن جعل الجاثليق العاض بظر أمه أولى أَن يتَّخذ عشْرين ثوبا من يوحنا الشقي فِي اتِّخَاذ أَربع جوَار فَقولُوا لجاثليقكم أَن يلْزم قانون دينه حَتَّى نلزمه مَعَه وَإِن خَالفه خالفناه
قَالَ يُوسُف وَكَانَ بختيشوع بن جِبْرَائِيل يداعب يوحنا كثيرا فَقَالَ لَهُ يَوْمًا فِي مجْلِس أبي إِسْحَق وَنحن فِي عَسْكَر المعتصم بِالْمَدَائِنِ فِي سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ أَنْت يَا أَبَا زَكَرِيَّا أخي لأبي فَقَالَ يوحنا لأبي إِسْحَق أشهد أَيهَا الْأَمِير على إِقْرَاره فوَاللَّه لأقاسمنه مِيرَاثه من أَبِيه فَقَالَ لَهُ بختيشوع أَن أَوْلَاد الزِّنَا لَا يَرِثُونَ وَلَا يورثون وَقد حكم دين الْإِسْلَام للعاهر بِالْحجرِ فَانْقَطع يوحنا وَلم يحر جَوَابا
قَالَ يُوسُف وَكَانَت دَار الطيفوري فِي دَار الرّوم من الْجَانِب الشَّرْقِي بِمَدِينَة السَّلَام لصيقة دَار يوحنا بن ماسويه وَكَانَ للطيفوري ابْن قد علم الطِّبّ علما حسنا يُقَال لَهُ دانيل ثمَّ ترهب بعد ذَلِك فَكَانَ يدْخل مَدِينَة السَّلَام عِنْد تأدي الْخَبَر إِلَيْهِ بعلة وَالِده أَو مَا أشبه ذَلِك
وَكَانَ ليوحنا طَاوُوس كَانَ يقف على الْحَائِط الَّذِي فِيمَا بَين دَاره وَدَار الطيفوري فَقدم دانيل مَدِينَة السَّلَام لَيْلًا فِي(1/248)
الشَّهْر الْمَعْرُوف بآب وَهُوَ شهر شَدِيد الْحر كثير الرمد فَكَانَ الطاووس كلما اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْحر صَاح فأنبه دانيل وَهُوَ فِي ثِيَاب صوف من ثِيَاب الرهبان فطرده مَرَّات فَلم ينفع ذَلِك فِيهِ ثمَّ رفع مرزبته فَضرب بهَا رَأس الطاووس فَوَقع مَيتا
واستتر الْخَبَر عَن يوحنا إِلَى أَن ركب وَرجع فصادف عِنْد مُنْصَرفه طاووسه مَيتا على بَاب دَاره فَأقبل يقذف بالحدود من قَتله
فَخرج إِلَيْهِ دانيل فَقَالَ لَا تَشْتُم من قَتله فَإِنِّي أَنا قتلته وَلَك عَليّ مَكَانَهُ عدَّة طواويس
فَقَالَ لَهُ يوحنا بحضرتي لَيْسَ يُعجبنِي رَاهِب لَهُ سَنَام وَطول ذكر
إِلَّا أَنه قَالَ ذَلِك بفحش
فَقَالَ لَهُ دانيل وَكَذَلِكَ لَيْسَ يُعجبنِي شماس لَهُ عدَّة نسَاء وَاسم رئيسة نِسَائِهِ قَرَاطِيس وَهُوَ اسْم رومي لَا عَرَبِيّ
وَمعنى قَرَاطِيس عِنْد الرّوم القرنانة وَلَيْسَ تكون الْمَرْأَة قرنانة حَتَّى تنْكح غير بَعْلهَا
فَخَجِلَ يوحنا وَدخل منزلَة مَفْعُولا
قَالَ يُوسُف وحَدثني بِمصْر أَحْمد بن هرون الشرابي أَن المتَوَكل على الله حَدثهُ فِي خلَافَة الواثق أَن يوحنا بن ماسويه كَانَ مَعَ الواثق على دكان كَانَ للواثق فِي دجلة وَمَعَ الواثق قَصَبَة فِيهَا شص وَقد أَلْقَاهَا فِي دجلة ليصيد بهَا السّمك فَحرم الصَّيْد فَالْتَفت إِلَى يوحنا وَكَانَ على يَمِينه فَقَالَ قُم يَا مشؤوم عَن يَمِيني
فَقَالَ لَهُ يوحنا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تَتَكَلَّم بمحال يوحنا بن ماسويه الخوزي وَأمه رِسَالَة الصقلبية المبتاعة بثمانمائة دِرْهَم أَقبلت بِهِ السَّعَادَة إِلَى أَن صَار نديم الْخُلَفَاء وسميرهم وعشيرهم وَحَتَّى غمرته الدُّنْيَا فنال مِنْهَا مَا لم يبلغهُ أمله
فَمن أعظم محَال أَن يكون هَذَا مشؤوما وَلَكِن إِن أحب أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن أخبرهُ بالمشؤوم من هُوَ أخْبرته
فَقَالَ وَمن هُوَ فَقَالَ من وَلدته أَربع خلفاء ثمَّ سَاق الله إِلَيْهِ الْخلَافَة فَترك خِلَافَته وقصورها وبساتينها وَقعد فِي دكان مِقْدَار عشْرين ذِرَاعا فِي مثلهَا فِي وسط دجلة لَا يَأْمَن عصف الرّيح عَلَيْهِ فيغرقه
ثمَّ تشبه بأفقر قوم فِي الدُّنْيَا وشرهم وهم صيادو السّمك
قَالَ لي أَحْمد بن هرون قَالَ لي المتَوَكل فَرَأَيْت الْكَلَام قد أنجع فِيهِ إِلَّا أَنه أمسك لمكاني
قَالَ يُوسُف وحَدثني أَحْمد بن هرون أَن الواثق قَالَ فِي هَذَا ليوحنا وَهُوَ على هَذِه الدّكان يَا يوحنا أَلا أعْجبك من خلة قَالَ وَمَا هِيَ قَالَ إِن الصياد ليطلب السّمك مِقْدَار سَاعَة فيصيد من السَّمَكَة مَا تَسَاوِي الدِّينَار أَو مَا أشبه ذَلِك
وَأَنا أقعد مذ غدْوَة إِلَى اللَّيْل فَلَا أصيد مَا يُسَاوِي درهما
فَقَالَ لَهُ يوحنا وضع أَمِير الْمُؤمنِينَ التَّعَجُّب فِي غير مَوْضِعه إِن رزق الصياد من صيد السّمك فرزقه يَأْتِيهِ لِأَنَّهُ قوته وقوت عِيَاله ورزق أَمِير الْمُؤمنِينَ بالخلافة فَهُوَ غَنِي عَن أَن يرْزق بِشَيْء من السّمك وَلَو كَانَ رزقه جعل فِي الصَّيْد لوافاه رزقه مِنْهُ مثل مَا يوافي الصياد
قَالَ يُوسُف وحَدثني إِبْرَاهِيم بن عَليّ متطبب أَحْمد بن طولون أَنه كَانَ فِي دهليز يوحنا بن ماسويه(1/249)
ينْتَظر رُجُوع يوحنا من دَار السُّلْطَان فَانْصَرف وَقد أسلم فِي ذَلِك الْوَقْت عِيسَى بن إِبْرَاهِيم بن نوح بن أبي نوح كَاتب الْفَتْح بن خاقَان
قَالَ إِبْرَاهِيم فَقُمْت إِلَيْهِ وَجَمَاعَة من الرهبان فَقَالَ لنا اخْرُجُوا يَا أَوْلَاد الزِّنَا من دَاري واذهبوا أَسْلمُوا فقد أسلم الْمَسِيح السَّاعَة على يَد المتَوَكل
قَالَ يُوسُف وَقدم جرجة بن زَكَرِيَّا عَظِيم النّوبَة فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ إِلَى سر من رأى وَأهْدى إِلَى المعتصم هَدَايَا فِيهَا قردة
فَإِنِّي عِنْد يوحنا فِي الْيَوْم الثَّانِي من شَوَّال من هَذِه السّنة وَأَنا أعاتبه على تخلفه عَن حُضُور الدَّار فِي ذَلِك الْوَقْت لِأَنِّي رَأَيْت سلمويه وبختيشوع والجريش المتطببين وَقد وصلوا إِذْ دخل علينا غُلَام من الأتراك الْخَاصَّة وَمَعَهُ قرد من القرود الَّتِي أهداها ملك النّوبَة لَا أذكر إِنِّي رَأَيْت أكبر مِنْهُ جثة وَقَالَ لَهُ يَقُول لَك أَمِير الْمُؤمنِينَ زوج هَذَا القرد من حماحم قردتك وَكَانَ ليوحنا قردة يسميها حماحم كَانَ لَا يصبر عَنْهَا سَاعَة
فَوَجَمَ لذَلِك ثمَّ قَالَ للرسول قل لأمير الْمُؤمنِينَ اتخاذي لهَذِهِ القردة غير مَا توهمه أَمِير الْمُؤمنِينَ وَإِنَّمَا دبرت تشريحها وَوضع كتاب على مَا وضع جالينوس فِي التشريح يكون جمال وضعي إِيَّاه لأمير الْمُؤمنِينَ وَكَانَ فِي جسمها قلَّة تكون الْعُرُوق فِيهَا والأوراد والعصب دقاقا فَلم أطمع فِي اتضاح الْأَمر فِيهَا مثل اتضاحه فِيمَا عظم جِسْمه
فتركتها لتكبر ويغلظ جسمها فَأَما إِذْ قد وافى هَذَا القرد فسيعلم أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنِّي سأضع لَهُ كتابا لم يوضع فِي الْإِسْلَام مثله
ثمَّ فعل ذَلِك بالقرد فَظهر لَهُ مِنْهُ كتاب حسن استحسنه أعداؤه فضلا عَن أصدقائه
قَالَ يُوسُف وَدخل يوحنا على مُحَمَّد بن أبي أَيُّوب بن الرشيد وَكَانَت بِهِ حمى مُثَلّثَة وَهِي الَّتِي تَأْخُذ غبا فَنظر إِلَى مَائه وجس عرقه وَسَأَلَهُ عَن خَبره كَيفَ كَانَ فِي أمسه ومبيته وصباحه إِلَى أَن وافاه
فَأخْبرهُ بذلك فَقَالَ يوحنا حماك هَذِه من أسهل الحميات مَا لم يخلط صَاحبهَا لِأَن أقْصَى حَقّهَا سَبْعَة أدوار وَأكْثر ذَلِك يتْرك فِي الدّور الرَّابِع
وَأَن خلط فِيهَا العليل انْتَقَلت فَرُبمَا تطاولت بِهِ الْعلَّة وَرُبمَا تلفت نَفسه
فَقَالَ ابْن أبي أَيُّوب قف بِي على مَا رَأَيْت فَأَنِّي لَا أخالفك
فَأمره أَن يقْتَصر على لباب الْخبز المغسول بِالْمَاءِ الْحَار ثَلَاث غسلات ثمَّ يَأْكُل اللّبَاب إِن كَانَت شَهْوَته للطعام ضَعِيفَة وعَلى المزورات من الطَّعَام مثل الماس والقرع والسرمق وَالْخيَار وَمَا أشبه ذَلِك إِن كَانَت شَهْوَته قَوِيَّة وَإِن يرفع يَده عَن الطَّعَام وَهُوَ يشتهيه
فَقَالَ لَهُ مُحَمَّد فَهَذَا مَا أمرت بِأَكْلِهِ فدلني على مَا لَا آكل
فَقَالَ لَهُ أول مَا أَنهَاك عَن أكله فيوحنا بن ماسويه ثمَّ بغلة الجاثليق فَإِن حَقه على أهل النَّصْرَانِيَّة وَاجِب ثمَّ الزنبريتان وهما السفينتان اللَّتَان فِي الجسر فِي الْجَانِب الشَّرْقِي فَإِن الجسر لَا يصلح إِلَّا بهما
ثمَّ نَهَضَ مغضبا وَهُوَ يَدْعُو عَليّ لِأَنِّي كنت السَّبَب فِي مصيره إِلَى مُحَمَّد بن أبي أَيُّوب(1/250)
قَالَ يُوسُف واعتل مُحَمَّد بن سُلَيْمَان بن الْهَادِي الْمَعْرُوف بِابْن مشغوف عِلّة تطاولت بِهِ وَكَانَ أَبُو الْعَبَّاس بن الرشيد يلْزم يوحنا تعاهده وَكَانَ مُحَمَّد ابْن سُلَيْمَان رُبمَا يزِيد فِي الحَدِيث أَشْيَاء لَا يخيل باطلها على سامعها
فَدخل إِلَيْهِ يَوْمًا وَأَنا عِنْده فَاسْتَشَارَهُ فِيمَا يَأْخُذ
فَقَالَ يوحنا قد كنت أُشير عَلَيْك بِمَا تَأْخُذ فِي كل يَوْم وَأَنا أحسبك تحب الصِّحَّة والعافية فَأَما إِذْ صَحَّ عِنْدِي أَنَّك تكره الْعَافِيَة وتحب الْعلَّة فلست اسْتحلَّ أَن أُشير عَلَيْك بِشَيْء
فَقَالَ لَهُ ابْن مشغوف يَا جَاهِل من يكره الْعَافِيَة وَيُحب الْعلَّة فَقَالَ لَهُ يوحنا أَنْت والبرهان على ذَلِك أَن الْعَافِيَة فِي الْعَالم تشبه الْحق والسقم يشبه الْكَذِب وَأَنت تَتَكَلَّم أَكثر دهرك بِالْكَذِبِ فَيكون كَذبك مَادَّة لسقمك فَمَتَى تَبرأ أَنْت من عِلّة متطاولة وَأَنت تمدها أَكثر دهرك بِالْكَذِبِ الزَّائِد فِيهَا فَالْزَمْ الصدْق ثَلَاثَة أَيَّام وَلَا تكذب فِيهَا فيوحنا بَرِيء من الْمَسِيح إِن لم تخرج من هَذِه الْعلَّة قبل انْقِضَاء هَذِه الثَّلَاثَة أَيَّام
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم وَكَانَ ليوحنا بن ماسويه ابْن يُقَال لَهُ ماسويه أمه بنت الطيفوري جد إِسْرَائِيل متطبب الْفَتْح بن خاقَان
وَكَانَ ماسويه هَذَا أشبه خلق الله بِأَبِيهِ فِي خلقه وَلَفظه وحركاته
إِلَّا أَنه كَانَ بليدا لَا يكَاد يفهم شَيْئا إِلَّا بعد مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ ينسى ذَلِك فِي أسْرع من اللحظ
فَكَانَ يوحنا يظْهر محبَّة ابْنه تقية من أَلْسِنَة الطيفوري وَولده
وَكَانَ أَشد بغضا لَهُ مِنْهُ أسهل الكوسج الَّذِي هتكه بإدعائه أَنه وَضعه فِي فرج أمه
قَالَ يُوسُف واعتل فِي أول سنة سبع عشرَة وَمِائَتَيْنِ صَالح بن شيخ بن عميرَة بن حَيَّان بن سراقَة الْأَسدي عِلّة أشرف مِنْهَا فَأَتَيْته عَائِدًا فَوَجَدته قد أفرق بعض الأفراق فدارت بَيْننَا أَحَادِيث كَانَ مِنْهَا أَن عميرَة جده أُصِيب بِأَخ لَهُ من أَبَوَيْهِ وَلم يخلف ولدا فعظمت عَلَيْهِ الْمُصِيبَة
ثمَّ ظهر حَبل بِجَارِيَة كَانَت لَهُ بعد وَفَاته فَسرِّي عَنهُ بعض مَا دخله من الْغم وحولها إِلَى بَيته وقدمها على حرم نَفسه فَوضعت ابْنة فتبنى بهَا وقدمها على ذُكُور وَلَده وإناثهم
فَلَمَّا ترعرعت رغب لَهَا فِي كُفْء يُزَوّجهَا مِنْهُ
فَكَانَ لَا يخطبها إِلَيْهِ خَاطب إِلَّا فرغ نَفسه للتفتيش عَن حَسبه والتفتيش عَن أخلاقه فَكَانَ بعض من نزع إِلَيْهِ خاطبا لَهَا ابْن عَم لخَالِد بن صَفْوَان بن الْأَهْتَم التَّمِيمِي وَكَانَ عميرَة عَارِفًا بِوَجْه الْفَتى وبنسبه
فَقَالَ يَا بني أما نسبك فلست أحتاج إِلَى التفتيش عَنهُ وَأَنَّك لكفء بابنة أخي من جِهَة الشّرف وَلكنه لَا سَبِيل إِلَى عقد عقدَة النِّكَاح على ابْنَتي دون معرفتي بأخلاق من أعقد الْعقْدَة لَهُ فَإِن سهل عَلَيْك الْمقَام عِنْدِي وَفِي دَاري سنة أكشف فِيهَا أخلاقك كَمَا أكشف أَحْسَاب وأخلاق غَيْرك فأقم فِي الرحب وَالسعَة وَأَن لم يسهل ذَلِك عَلَيْك فَانْصَرف إِلَى أهلك فقد أمرنَا بتجهيزك وَحمل جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ مَعَك إِلَى موافاتك بصرتك
قَالَ صَالح بن شيخ حَدثنِي أبي عَن جدي أَنه كَانَ لَا يبيت لَيْلَة إِلَّا أَتَاهُ عَن ذَلِك الرجل أَخْلَاق متناقضة
فواصف لَهُ بِأَحْسَن الْأُمُور وواصف لَهُ بأسمجها
فأضطره تنَاقض أخباره إِلَى التَّكْذِيب بكلها وَأَن يتْرك الْأَمر على أَن مادحه مايله وَأَن عائبه تحامل عَلَيْهِ(1/251)
فَكتب إِلَى خَالِد أما بعد فَإِن فلَانا قدم علينا خاطبا لابنَة أَخِيك فُلَانَة بنت فلَان فَإِن كَانَت أخلاقه تشاكل حَسبه فَفِيهِ الرَّغْبَة لزوجته والحظ لوَلِيّ عقد نِكَاحه
فَإِن رَأَيْت عَليّ بِمَا ترى الْعَمَل بِهِ فِي ابْن عمك وَابْنَة أَخِيك فَإِن المستشار مؤتمن فعلت إِن شَاءَ الله
فَكتب إِلَيْهِ خَالِد قد فهمت كتابك وَكَانَ أَبُو ابْن عمي هَذَا أحسن أَهلِي خلقا وأسمجهم خلقا وَأَحْسَنهمْ عَمَّن أَسَاءَ بِهِ صفحا وأسخاهم كفا إِلَّا أَنه مبتل بالعهار وسماجة الْخلق
وَكَانَت أمه من أحسن خلق الله وَجها وأعفهم فرجا إِلَّا أَنَّهَا من سوء الْخلق وَالْبخل وَقلة الْعقل على مَا لَا أعرف أحدا على مثله
وَابْن عمي هَذَا فقد تقبل من أَبَوَيْهِ مساويهما وَلم يتَقَبَّل شَيْئا من محاسنهما
فَإِن رغبت فِي تَزْوِيجه على مَا شرحت لَك من خَبره فَأَنت وَذَاكَ
وَأَن كرهته رَجَوْت أَن يُخَيّر الله لابنَة أخينا إِن شَاءَ الله
قَالَ صَالح فَلَمَّا قَرَأَ جدي الْكتاب أَمر بإعداد طَعَام للرجل فَلَمَّا أدْرك حمله على نَاقَة مهرية ووكل بِهِ من أخرجه من الْكُوفَة
فَأَعْجَبَنِي هَذَا الحَدِيث وحفظته
وَكَانَ اخْتِيَاري فِي منصرفي من عِنْد صَالح بن شيخ على دَار هرون بن سُلَيْمَان بن الْمَنْصُور فَدخلت عَلَيْهِ مُسلما وصادفت عِنْده ابْن ماسويه
فَسَأَلَنِي هرون عَن خبري وَعَمن لقِيت
فَحَدَّثته بِمَا كَانَ عِنْد صَالح بن شيخ
فَقَالَ لقد كنت فِي معادن الْأَحَادِيث الطّيبَة الحسان
وسألني هَل حفظت عَنهُ حَدِيثا فَحَدَّثته بِهَذَا الحَدِيث
فَقَالَ يوحنا عَلَيْهِ وَعَلِيهِ أَن لم يكن شبه هَذَا الحَدِيث بحديثي وَحَدِيث ابْني أَكثر من شبه ابْني بِي
بليت بطول الْوَجْه وارتفاع قحف الرَّأْس وَعرض الجبين وزرقة الْعين وَرزقت ذكاء وحفظا لكل مَا يَدُور فِي مسامعي
وَكَانَت بنت الطيفوري أحسن أُنْثَى رَأَيْتهَا أَو سَمِعت بهَا إِلَّا أَنَّهَا كَانَت ورهاء بلهاء لَا تعقل مَا تَقول وَلَا تفهم مَا يُقَال لَهَا
فَتقبل ابْنهَا مسامجنا جَمِيعًا وَلم يرْزق من محاسننا شَيْئا
وَلَوْلَا كَثْرَة فضول السُّلْطَان ودخوله فِيمَا لَا يعنيه لشرحت ابْني هَذَا حَيا مثل مَا كَانَ جالينوس يشْرَح القرود وَالنَّاس
فَكنت أعرف بتشريحه الْأَسْبَاب الَّتِي كَانَت لَهَا بلادته وأريح النَّاس من خلقته وأكسب أَهلهَا بِمَا أَضَع فِي كتابي فِي صفة تركيب بدنه ومجاري عروقه وأوراده وعصبه علما وَلَكِن السُّلْطَان يمْنَع من ذَلِك
وَكَأَنِّي بِأبي الْحُسَيْن يُوسُف قد حدث الطيفوري وَولده بِهَذَا الحَدِيث فَألْقى لنا شرا ومنازعات ليضحك مِمَّا يَقع بَيْننَا فَكَانَ الْأَمر على مَا توهم
واعتل ماسويه بن يوحنا بعد هَذَا بِليَال قَلَائِل وَقد ورد رَسُول المعتصم من دمشق أَيَّام كَانَ بهَا مَعَ الْمَأْمُون فِي إشخاص يوحنا إِلَيْهِ فَرَأى يوحنا فصده وَرَأى الطيفوري وأبناه زَكَرِيَّا ودانيل خلاف مَا رأى يوحنا
ففصده يوحنا وَخرج فِي الْيَوْم الثَّانِي إِلَى الشَّام وَمَات ماسويه فِي الْيَوْم الثَّالِث من مخرجه
فَكَانَ الطيفوري وَولده يحلفُونَ فِي جنازتة أَن يوحنا تعمد قَتله ويحتجون بِمَا حدثتهم بِهِ من كَلَامه الَّذِي كَانَ فِي منزل هرون بن سُلَيْمَان
ونقلت من كتاب الْهَدَايَا والتحف لأبي بكر وَأبي عُثْمَان الخالديين قَالَا حَدثنَا أَبُو يحيى(1/252)
قَالَ افتصد المتَوَكل فَقَالَ لخاصته وندمائه اهدوا إِلَى يَوْم فصدي فاحتفل كل وَاحِد مِنْهُم فِي هديته
وَأهْدى إِلَيْهِ الْفَتْح بن خاقَان جَارِيَة لم ير الراؤون مثلهَا حسنا وظرفا وكمالا فَدخلت إِلَيْهِ وَمَعَهَا جَام ذهب فِي نِهَايَة الْحسن وَدَن بلور لم ير مثله فِيهِ شراب يتَجَاوَز الصِّفَات ورقعة فِيهَا مَكْتُوب
(إِذا خرج الإِمَام من الدَّوَاء ... وأعقب بالسلامة والشفاء)
(فَلَيْسَ لَهُ دَوَاء غير شرب ... بِهَذَا الْجَام من هَذَا الطلاء)
(وفض الْخَاتم المهدى إِلَيْهِ ... فَهَذَا صَالح بعد الدَّوَاء) الوافر
واستظرف المتَوَكل ذَلِك وَاسْتَحْسنهُ وَكَانَ بِحَضْرَتِهِ يوحنا بن ماسويه
فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْفَتْح وَالله أطب مني فَلَا تخَالف مَا أَشَارَ بِهِ
أَقُول وَمن نَوَادِر يوحنا بن ماسويه أَن المتَوَكل على الله قَالَ لَهُ يَوْمًا بِعْت بَيْتِي بقصرين
فَقَالَ لَهُ أخر الْغَدَاء يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَرَادَ المتَوَكل تعشيت فضرني لِأَنَّهُ تصحيفها فَأَجَابَهُ ابْن ماسويه بِمَا تضمن العلاج
وعتب ابْن حمدون النديم ابْن ماسويه بِحَضْرَة المتَوَكل فَقَالَ لَهُ ابْن ماسويه لَو أَن مَكَان مَا فِيك من الْجَهْل عقلا ثمَّ قسم على مائَة خنفساء لكَانَتْ كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ أَعقل من أرسطوطاليس
وَوجدت فِي كتاب جراب الدولة قَالَ دخل ابْن ماسويه المتطبب إِلَى المتَوَكل فَقَالَ المتَوَكل لخادم لَهُ خُذ بَوْل فلَان فِي قَارُورَة وائت بِهِ إِلَى ابْن ماسويه
فَأتى بِهِ فَلَمَّا نظر إِلَيْهِ قَالَ هَذَا بَوْل بغل لَا محَالة
فَقَالَ لَهُ المتَوَكل كَيفَ علمت أَنه بَوْل بغل قَالَ ابْن ماسويه أحضرني صَاحبه حَتَّى أرَاهُ ويتبين كذبي من صدقي
فَقَالَ المتَوَكل هاتوا الْغُلَام
فَلَمَّا مثل بَين يَدَيْهِ قَالَ لَهُ ابْن ماسويه أيش أكلت البارحة قَالَ خبز شعير وَمَاء قراح فَقَالَ ابْن ماسويه هَذَا وَالله طَعَام حماري الْيَوْم
ونقلت من خطّ الْمُخْتَار بن الْحسن بن بطلَان أَن أَبَا عُثْمَان الجاحظ ويوحنا بن ماسويه قَالَ اجْتمعَا بغالب ظَنِّي على مائدة إِسْمَاعِيل بن بلبل الْوَزير
وَكَانَ فِي جملَة مَا قدم مضيرة بعد سمك فَامْتنعَ يوحنا من الْجمع بَينهمَا
قَالَ لَهُ أَبُو عُثْمَان أَيهَا الشَّيْخ لَا يَخْلُو أَن يكون السّمك من طبع اللَّبن أَو مضادا لَهُ فَإِن كَانَ أَحدهمَا ضد الآخر فَهُوَ دَوَاء لَهُ وَإِن كَانَا من طبع وَاحِد فلنحسب أَنا قد أكلنَا من أَحدهمَا إِلَى أَن اكتفينا
فَقَالَ يوحنا وَالله مَالِي خبْرَة بالْكلَام وَلَكِن كل يَا(1/253)
أَبَا عُثْمَان وَانْظُر مَا يكون فِي غَد
فَأكل أَبُو عُثْمَان نصْرَة لدعواه ففلج فِي ليلته فَقَالَ هَذِه وَالله نتيجة الْقيَاس الْمحَال
وَالَّذِي ضلل أَبَا عُثْمَان اعْتِقَاده أَن السّمك من طبع اللَّبن
وَلَو سامحناه فِي أَنَّهُمَا من طبع وَاحِد لَكَانَ لامتزاجهما قُوَّة لَيست لأَحَدهمَا
وَقَالَ الشَّيْخ أَحْمد بن عَليّ ثَابت الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ عَن الْحُسَيْن بن فهم قَالَ قدم علينا مُحَمَّد بن سَلام صَاحب طَبَقَات الشُّعَرَاء وَهُوَ الجُمَحِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ فاعتل عِلّة شَدِيدَة فَمَا تخلف عَنهُ أحد وَأهْدى إِلَيْهِ أجلاء أطبائهم فَكَانَ ابْن ماسويه مِمَّن أهدي إِلَيْهِ فَلَمَّا جسه وَنظر إِلَيْهِ قَالَ مَا أرى من الْعلَّة مَا أرى من الْجزع
فَقَالَ وَالله مَا ذَاك لحرص على الدُّنْيَا مَعَ اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة وَلَكِن الْإِنْسَان فِي غَفلَة حَتَّى يوقظ بعلة وَلَو وقفت بِعَرَفَات وَقْفَة وزرت قبر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زورة وقضيت أَشْيَاء فِي نَفسِي لرأيت مَا اشْتَدَّ عَليّ من هَذَا قد سهل
فَقَالَ لَهُ ابْن ماسويه فَلَا تجزع فقد رَأَيْت فِي عرقك من الْحَرَارَة الغريزية وقوتها مَا أَن سلمك الله من هَذِه الْعَوَارِض بلغك عشر سِنِين أُخْرَى
قَالَ الْحُسَيْن بن فهم فَوَافَقَ كَلَامه قدرا فَعَاشَ عشر سِنِين بعد ذَلِك
وَحدث الصولي فِي كتاب الأوراق قَالَ كَانَ الْمَأْمُون نازلا على البدندون نهر من أَعمال طرسوس فَجَلَسَ يَوْمًا وَأَخُوهُ المعتصم عَلَيْهِ وَجعلا أرجلهما فِيهِ استبرادا لَهُ وَكَانَ أبرد المَاء وأرقه وألذه
فَقَالَ الْمَأْمُون للمتعصم أَحْبَبْت السَّاعَة من أزاذ الْعرَاق آكله وأشرب من هَذَا المَاء الْبَارِد عَلَيْهِ وَسمع صَوت حَلقَة الْبَرِيد وأجراسه فَقيل هَذَا يزِيد بن مقبل بريد الْعرَاق فأحضر طبقًا من فضَّة فِيهِ رطب أزاذ فَعجب من تمنيه وَمَا تمّ لَهُ
فأكلا وشربا من المَاء ونهضا وتودع الْمَأْمُون وَأقَام ثمَّ نَهَضَ محموما وفصد فظهرت فِي رقبته نفخة كَانَت تعتاده ويراعيها الطَّبِيب إِلَى أَن تنضج وتفتح وتبرأ
فَقَالَ المعتصم للطبيب وَهُوَ ابْن ماسويه مَا أطرف مَا نَحن فِيهِ تكون الطَّبِيب الْمُفْرد المتوحد فِي صناعتك وَهَذِه النفخة تعتاد أَمِير الْمُؤمنِينَ فَلَا تزيلها عَنهُ وتتلطف فِي حسم مادتها حَتَّى لَا ترجع إِلَيْهِ وَالله لَئِن عَادَتْ هَذِه الْعلَّة عَلَيْهِ لَأَضرِبَن عُنُقك
فاستطرق ابْن ماسويه لقَوْل المعتصم وَانْصَرف فَحدث بِهِ بعض من يَثِق بِهِ ويأنس إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ تَدْرِي مَا قصد المعتصم قَالَ لَا
قَالَ قد أَمرك بقتْله حَتَّى لَا تعود النفخة إِلَيْهِ وَإِلَّا فَهُوَ يعلم أَن الطَّبِيب لَا يقدر على دفع الْأَمْرَاض عَن الْأَجْسَام وَإِنَّمَا قَالَ لَك لَا تَدعه يعِيش ليعود الْمَرَض عَلَيْهِ
فتعالل ابْن ماسويه وَأمر تلميذا لَهُ بمشاهدة النفخة والتردد إِلَى الْمَأْمُون نِيَابَة عَنهُ والتلميذ يَجِيئهُ كل يَوْم ويعرفه حَال الْمَأْمُون وَمَا تجدّد لَهُ فَأمره بِفَتْح النفخة فَقَالَ لَهُ أُعِيذك بِاللَّه مَا أحمرت وَلَا بلغت إِلَى حد الْجرْح فَقَالَ لَهُ امْضِ وافتحها كَمَا أَقُول لَك وَلَا تراجعني فَمضى وَفتحهَا وَمَات الْمَأْمُون رَحمَه الله
أَقُول إِنَّمَا فعل ابْن ماسويه ذَلِك لكَونه عديما للمروءة وَالدّين وَالْأَمَانَة وَكَانَ على غير مِلَّة(1/254)
الْإِسْلَام وَلَا لَهُ تمسك بِدِينِهِ أَيْضا كَمَا حكى عَنهُ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم فِي أخباره الْمُتَقَدّمَة
وَمن لَيْسَ لَهُ دين يتَمَسَّك بِهِ ويعتقد فِيهِ فَالْوَاجِب أَن لَا يدانيه عَاقل وَلَا يركن إِلَيْهِ حَازِم
وَكَانَت وَفَاة يوحنا بن ماسويه بسر من رأى يَوْم الِاثْنَيْنِ لأَرْبَع خلون من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ فِي خلَافَة المتَوَكل
وَمن كَلَام يوحنا بن ماسويه أَنه سُئِلَ عَن الْخَيْر الَّذِي لَا شَرّ مَعَه فَقَالَ شرب الْقَلِيل من الشَّرَاب الصافي
ثمَّ سُئِلَ عَن الشَّرّ الَّذِي لَا خير مَعَه فَقَالَ نِكَاح الْعَجُوز
وَقَالَ أكل التفاح يرد النَّفس
وَقَالَ عَلَيْك من الطَّعَام بِمَا حدث وَمن الشَّرَاب بِمَا عتق
وليوحنا بن ماسويه من الْكتب كتاب الْبُرْهَان ثَلَاثُونَ بَابا كتاب البصيرة كتاب الْكَمَال والتمام كتاب الحميات مشجر كتاب فِي الأغذية كتاب فِي الْأَشْرِبَة كتاب المنجح فِي الصِّفَات والعلاجات كتاب فِي الفصد والحجامة كتاب فِي الجذام لم يسْبقهُ أحد إِلَى مثله
كتاب الْجَوَاهِر كتاب الرجحان كتاب فِي تركيب الْأَدْوِيَة المسهلة وإصلاحها وخاصة كل دَوَاء مِنْهَا ومنفعته كتاب دفع مضار الأغذية كتاب فِي غير مَا شَيْء مِمَّا عجز عَنهُ غَيره كتاب السِّرّ الْكَامِل كتاب فِي دُخُول الْحمام ومنافعها ومضرتها
كتاب السمُوم وعلاجها كتاب الديباج كتاب الْأَزْمِنَة كتاب الطبيخ كتاب فِي الصداع وَعلله وأوجاعه وَجَمِيع أدويته والسدد والعلل المولدة لكل نوع مِنْهُ وَجَمِيع علاجه أَلفه لعبد الله بن طَاهِر
كتاب الصَّدْر والدوار كتاب لم امْتنع الْأَطِبَّاء من علاج الْحَوَامِل فِي بعض شهور حَملهنَّ كتاب محنة الطَّبِيب كتاب معرفَة محنة الكحالين كتاب دغل الْعين كتاب مجسة الْعُرُوق كتاب الصَّوْت والبحة كتاب مَاء الشّعير كتاب الْمرة السَّوْدَاء كتاب علاج النِّسَاء اللواتي لَا يحبلن حَتَّى يحبلن كتاب الْجَنِين كتاب تَدْبِير الأصحاء كتاب فِي السِّوَاك والسنونات كتاب الْمعدة كتاب القولنج كتاب النَّوَادِر الطبية كتاب التشريح كتاب فِي تَرْتِيب سقِِي الْأَدْوِيَة المسهلة بِحَسب الْأَزْمِنَة وبحسب الأمزجة وَكَيف يَنْبَغِي أَن يسقى وَلمن وَمَتى وَكَيف يعان الدَّوَاء إِذا احْتبسَ وَكَيف يمْنَع الإسهال إِذا أفرط
كتاب تركيب خلق الْإِنْسَان وأجزائه وَعدد أَعْضَائِهِ ومفاصله وعظامه وعروقه وَمَعْرِفَة أَسبَاب الأوجاع أَلفه لِلْمَأْمُونِ
كتاب الأبدال فُصُول كتبهَا لحنين ابْن إِسْحَق بعد أَن سَأَلَهُ الْمَذْكُور ذَلِك
كتاب الماليخوليا وأسبابها وعلاماتها وعلاجها
كتاب جَامع الطِّبّ مِمَّا اجْتمع عَلَيْهِ أطباء فَارس وَالروم كتاب الْحِيلَة للبرء
ميخائيل بن ماسويه
متطبب الْمَأْمُون وميخائيل هَذَا هُوَ أَخُو يوحنا بن ماسويه(1/255)
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم مولى إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي كَانَ هَذَا المتطبب لَا يمتع بِالْحَدِيثِ وَلَا يحْتَج فِي شَيْء يَقُوله بِحجَّة وَلَا يُوَافق أحدا من المتطببين على شَيْء أحدث من مِائَتي سنة فَلم يكن يسْتَعْمل السكنجبين والورد المربى إِلَّا بالعسل وَلَا يسْتَعْمل الْجلاب الْمُتَّخذ بِمَاء الْورْد وَلَا يَتَّخِذهُ إِلَّا من الْورْد المسلوق بِالْمَاءِ الْحَار وَلَا يَتَّخِذهُ بالسكر وَلَا يسْتَعْمل شَيْئا لم يَسْتَعْمِلهُ الْأَوَائِل
وَلَقَد سَأَلته يَوْمًا عَن رَأْيه فِي الموز فَقَالَ لم أر لَهُ ذكرا فِي كتب الْأَوَائِل وَمَا كَانَت هَذِه حَاله لم أقدم على أكله وَلَا على طَعَامه للنَّاس
وَكَانَ الْمَأْمُون بِهِ معجبا وَله على جِبْرَائِيل بن بختيشوع مقدما حَتَّى كَانَ يَدعُوهُ بالكنية أَكثر مِمَّا يَدعُوهُ بِالِاسْمِ
وَكَانَ لَا يشرب الْأَدْوِيَة إِلَّا مِمَّا تولى تركيبه وإصلاحه لَهُ
وَكنت أرى جَمِيع المتطببين بِمَدِينَة السَّلَام يبجلونه تبجيلا لم يَكُونُوا يظهرونه لغيره
قَالَ يُوسُف وَحضر فِي النّصْف من شَوَّال سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ دَار إِبْرَاهِيم بن الْمهْدي مَعَ جمَاعَة من وُجُوه المتطببين وَكَانَت شكْلَة عليلة فَوجه المعتصم المتطببين إِلَيْهَا ليرجعوا إِلَيْهِ بخبرها وَقد كَانُوا صَارُوا إِلَيْهَا قبل ذَلِك الْيَوْم بِيَوْم فنظروا إِلَى مَائِهَا وجسوا عرقها وعاودوا النّظر فِي الْيَوْم الثَّانِي فِي أمرهَا فَقَالُوا كلهم إِنَّهَا أَصبَحت صَالِحَة وَأَنَّهُمْ لَا يَشكونَ فِي إفراقها
فَسبق إِلَى وهمي أَنهم أَو أَكْثَرهم أحب أَن يسر أَبَا إِسْحَق بِمَا ذكرُوا من الْعَافِيَة
فَلَمَّا نهضوا اتبعتهم فَسَأَلت وَاحِدًا وَاحِدًا عَمَّا عِنْده من الْعلم بِحَالِهَا فكلهم قَالَ لي مثل مقَالَته لأبي إِسْحَق إِلَّا سلمويه بن بنان فَإِنَّهُ قَالَ لي هِيَ الْيَوْم أصعب حَالا مِنْهَا أمس
وَقَالَ لي ميخائيل قد ظهر أمس بِالْقربِ من قَلبهَا ورم لم نره فِي يَوْمنَا هَذَا افترى ذَلِك الورم ساخ فِي الأَرْض أَو ارْتَفع إِلَى السَّمَاء انْصَرف فأعد لهَذِهِ الْمَرْأَة جهازها فَلَيْسَتْ تبيت فِي الْأَحْيَاء فَتُوُفِّيَتْ وَقت صَلَاة الْعشَاء الْآخِرَة بعد أَن ألْقى إِلَيّ ميخائيل مَا ألْقى سَاعَات عشرا أَو نَحْوهَا
قَالَ يُوسُف وحَدثني ميخائيل بن ماسويه أَنه لما قدم الْمَأْمُون بَغْدَاد نادم طَاهِر بن الْحُسَيْن فَقَالَ لَهُ يَوْمًا وَبَين أَيْديهم نَبِيذ قطر بلي يَا أَبَا الطّيب هَل رَأَيْت مثل هَذَا الشَّرَاب قَالَ نعم قَالَ مثله فِي اللَّوْن والطعم والرائحة قَالَ نعم
قَالَ أَيْن قَالَ ببوشنج
قَالَ فاحمل إِلَيْنَا مِنْهُ
فَكتب طَاهِر إِلَى وَكيله فَحمل مِنْهُ وَرفع الْخَبَر من النهروان إِلَى الْمَأْمُون أَن لطفا وافى طَاهِرا من بوشنج فَعلم الْخَبَر وتوقع حمل طَاهِر لَهُ فَلم يفعل
فَقَالَ لَهُ الْمَأْمُون بعد أَيَّام يَا أَبَا الطّيب لم يواف النَّبِيذ فِيمَا وافى
فَقَالَ أعيذ أَمِير الْمُؤمنِينَ بِاللَّه من أَن يقيمني مقَام خزي وفضيحة
قَالَ وَلم قَالَ ذكرت لأمير الْمُؤمنِينَ شرابًا شربته وَأَنا صعلوك وَفِي قَرْيَة كنت أَتَمَنَّى أَن أملكهَا فَلَمَّا(1/256)
ملكني الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَكثر مِمَّا كنت أَتَمَنَّى وَحضر ذَلِك الشَّرَاب وجدته فضيحة من الفضائح
قَالَ فاحمل إِلَيْنَا مِنْهُ على كل حَال فَحمل مِنْهُ فَأمر أَن يصير فِي الخزانة وَيكْتب عَلَيْهِ الطاهري ليمازحه بِهِ من إفراط رداءته فَأَقَامَ سنتَيْن وَاحْتَاجَ الْمَأْمُون إِلَى أَن يتقيأ فَقَالُوا يتقيأ بنبيذ رَدِيء فَقَالَ بَعضهم لَا يُوجد فِي الْعرَاق أردأ من الطاهري وَأخرج فَوجدَ مثل الْقطر بلي أَو أَجود وَإِذا هَوَاء الْعرَاق قد أصلحه كَمَا يصلح مَا نبت وعصر فِيهِ
عِيسَى بن ماسة
من الْأَطِبَّاء الْفُضَلَاء فِي وقته وَكَانَ أحد المتميزين من أَرْبَاب هَذِه الصِّنَاعَة لَهُ طَريقَة حَسَنَة فِي علاج المرضى
ولعيسى بن ماسة من الْكتب كتاب قوى الأغذية
كتاب من لَا يحضرهُ طَبِيب
مسَائِل فِي النَّسْل والذرية
كتاب الرُّؤْيَا
يخبر فِيهِ بِالسَّبَبِ الَّذِي امْتنع بِهِ من معالجة الْحَوَامِل وَغير ذَلِك
كتاب فِي طُلُوع الْكَوَاكِب الَّتِي ذكرهَا بقراط
كتاب فِي الفصد والحجامة
رِسَالَة فِي اسْتِعْمَال الْحمام
حنين بن إِسْحَق
هُوَ أَبُو زيد حنين بن إِسْحَق الْعَبَّادِيّ بِفَتْح الْعين وَتَخْفِيف الْبَاء والعباد بِالْفَتْح قبائل شَتَّى من بطُون الْعَرَب اجْتَمعُوا على النَّصْرَانِيَّة بِالْحيرَةِ وَالنِّسْبَة إِلَيْهِم عبَادي قَالَ الشَّاعِر
(يسقيكها من بني الْعباد رشا ... منتسب عيده إِلَى الْأَحَد) المنسرح
وَكَانَ حنين بن إِسْحَق فصيحا لسنا بارعا شَاعِرًا
وَأقَام مُدَّة فِي الْبَصْرَة وَكَانَ شَيْخه فِي الْعَرَبيَّة الْخَلِيل بن أَحْمد
ثمَّ بعد ذَلِك انْتقل إِلَى بَغْدَاد واشتغل بصناعة الطِّبّ
قَالَ يُوسُف بن إِبْرَاهِيم أول مَا حصل لحنين بن إِسْحَق من الِاجْتِهَاد والعناية فِي صناعَة الطِّبّ هُوَ أَن مجْلِس يوحنا بن ماسويه كَانَ من أَعم مجْلِس يكون فِي التصدي لتعليم صناعَة الطِّبّ وَكَانَ يجْتَمع فِيهِ أَصْنَاف أهل الْأَدَب
قَالَ يُوسُف وَذَلِكَ أَنِّي كنت أَعهد حنين بن إِسْحَق الترجمان يقْرَأ على يوحنا ابْن ماسويه كتاب فرق الطِّبّ الموسوم بِاللِّسَانِ الرُّومِي والسرياني بهراسيس وَكَانَ حنين إِذْ ذَاك صَاحب سُؤال وَذَلِكَ يصعب على يوحنا
وَكَانَ يباعده أَيْضا من قلبه أَن حنينا كَانَ من أَبنَاء الصيارفة من(1/257)
أهل الْحيرَة وَأهل جندي سَابُور خَاصَّة ومتطببوها ينحرفون عَن أهل الْحيرَة ويكرهون أَن يدْخل فِي صناعتهم أَبنَاء التُّجَّار
فَسَأَلَهُ حنين فِي بعض الْأَيَّام عَن بعض مَا كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ مَسْأَلَة مستفهم لما يقْرَأ فحرد يوحنا وَقَالَ مَا لأهل الْحيرَة ولتعلم صناعَة الطِّبّ صر إِلَى فلَان قرابتك حَتَّى يهب لَك خمسين درهما تشتري مِنْهَا قفافا صغَارًا بدرهم وزرنيخا بِثَلَاثَة دَرَاهِم واشتر بِالْبَاقِي قلوسا كوفية وقادسية
وزرنخ الْقَادِسِيَّة فِي تِلْكَ القفاف واقعد على الطَّرِيق وَصَحَّ القلوس الْجِيَاد للصدقة وَالنَّفقَة
ربع القلوس فَإِنَّهُ أَعُود عَلَيْك من هَذِه الصِّنَاعَة
ثمَّ أَمر بِهِ فَأخْرج من دَاره فَخرج حنين باكيا مكروبا
وَغَابَ عَنَّا حنين فَلم نره سنتَيْن
وَكَانَ للرشيد جَارِيَة رُومِية يُقَال لَهَا خرشى وَكَانَت ذَات قدر عِنْده محلهَا مِنْهُ مَحل الخوازن
وَكَانَت لَهَا أُخْت أَو بنت أُخْت رُبمَا أَتَت الرشيد بالكسوة أَو بالشَّيْء مِمَّا خرشى خازنة عَلَيْهِ
فافتقدها الرشيد فِي بعض الاوقات وَسَأَلَ خرشي عَنْهَا فأعلمته انها زوجتها من قرَابَة لَهَا فَغَضب من ذَلِك وَقَالَ كَيفَ أقدمت على تَزْوِيج قرَابَة لَك أصل ابتياعك إِيَّاهَا من مَالِي فَهِيَ مَال من مَالِي بِغَيْر أُذُنِي
وَأمر سَلاما الأبرش بتعرف أَمر من تزَوجهَا وبتأديبه
فتعرف سَلام الْخَبَر حَتَّى وَقع على الزَّوْج فَلم يكلمهُ حِين ظفر بِهِ حَتَّى خصاه فبلي بالخصاء بعد أَن علقت الْجَارِيَة مِنْهُ
وَولدت الْجَارِيَة عِنْد مخرج الرشيد إِلَى طوس
وَكَانَت وَفَاة الرشيد بعد ذَلِك فتبنت خرشى ذَلِك الْغُلَام وأدبته بآداب الرّوم وَقِرَاءَة كتبهمْ
فتعلم اللِّسَان اليوناني علما كَانَت لَهُ فِيهِ رياسة
وَهُوَ إِسْحَق الْمَعْرُوف بِابْن الْخصي
فَكُنَّا نَجْتَمِع فِي مجَالِس أهل الْأَدَب كثيرا فَوَجَبَ لذَلِك حَقه وذمامه واعتل إِسْحَق ابْن الْخصي عِلّة فَأَتَيْته عَائِدًا فَإِنِّي لفي منزلَة إِذْ بصرت بِإِنْسَان لَهُ شَعْرَة قد جللته وَقد ستر وَجهه عني بِبَعْضِهَا وَهُوَ يتَرَدَّد وينشد شعرًا بالرومية لأوميرس رَئِيس شعراء الرّوم فشبهت نغمته بنغمة حنين
وَكَانَ الْعَهْد بحنين قبل ذَلِك الْوَقْت بِأَكْثَرَ من سنتَيْن فَقلت لإسحق بن الْخصي هَذَا حنين فَأنْكر ذَلِك إنكارا يشبه الْإِقْرَار فهتفت بحنين فَاسْتَجَاب لي
وَقَالَ ذكر ابْن رِسَالَة الفاعلة أَنه من الْمحَال أَن يتَعَلَّم الطِّبّ عبَادي وَهُوَ بَرِيء من دين النَّصْرَانِيَّة أَنه رَضِي أَن يتَعَلَّم الطِّبّ حَتَّى يحكم اللِّسَان اليوناني إحكاما لَا يكون فِي دهره من يحكمه أَحْكَامه
وَمَا أطلع عَليّ أحد غير أخي هَذَا وَلَو علمت أَنَّك تفهمني لاستترت عَنْك لكني عملت على أَن حيلتي قد تَغَيَّرت فِي عَيْنك وَأَنا أَسأَلك أَن تستر أَمْرِي فَبَقيت أَكثر من ثَلَاث سِنِين وَإِنِّي لأظنها أَرْبعا لم أره
ثمَّ إِنِّي دخلت يَوْمًا على جِبْرَائِيل بن بختيشوع وَقد انحدر من معسكر الْمَأْمُون قبل وَفَاته بِمدَّة يسيرَة فَوجدت عِنْده حنينا وَقد ترْجم لَهُ أقساما قسمهَا بعض الرّوم فِي كتاب من كتب جالينوس(1/258)
فِي التشريح وَهُوَ يخاطبه بالتبجيل وَيَقُول لَهُ يَا ربن حنين وَتَفْسِيره ربن الْمعلم
فأعظمت مَا رَأَيْت وَتبين ذَلِك جِبْرَائِيل فِي فَقَالَ لي لَا تستكثرن مَا ترى من تبجيلي هَذَا الْفَتى فوَاللَّه لَئِن مد لَهُ فِي الْعُمر ليفضحن سرجس وسرجس هَذَا الَّذِي ذكره جِبْرَائِيل هُوَ الرَّأْس عَيْني وَهُوَ أول من نقل شَيْئا من عُلُوم الرّوم إِلَى اللِّسَان السرياني وليفضحن غَيره من المترجمين
وَخرج من عِنْده حنين وأقمت طَويلا ثمَّ خرجت فَوجدت حنينا بِبَابِهِ ينْتَظر خروجي فَسلم عَليّ وَقَالَ لي قد كنت سَأَلتك ستر خبري والآن فَأَنا أَسأَلك إِظْهَاره وَإِظْهَار مَا سَمِعت من أبي عِيسَى وَقَوله فِي
فَقلت لَهُ أَنا مسود وَجه يوحنا بِمَا سَمِعت من مدح أبي عِيسَى لَك فَأخْرج من كمه نُسْخَة مَا كَانَ دَفعه إِلَى جِبْرَائِيل وَقَالَ لي تَمام سَواد وَجه يوحنا يكون بدفعك إِلَيْهِ هَذِه النُّسْخَة وسترك عَنهُ علم من نقلهَا فَإِذا رَأَيْته قد اشْتَدَّ عجبه بهَا أعلمهُ أَنه إخراجي
فَفعلت ذَلِك من يومي وَقبل انتهائي إِلَى منزلي
فَلَمَّا قَرَأَ يوحنا تِلْكَ الْفُصُول وَهِي الَّتِي تسميها اليونانيون الفاعلات كثر تعجبه وَقَالَ أَتَرَى الْمَسِيح أوحى فِي دَهْرنَا هَذَا إِلَى أحد فَقلت لَهُ فِي جَوَاب قَوْله مَا أوحى فِي هَذَا الدَّهْر وَلَا فِي غَيره إِلَى أحد وَلَا كَانَ الْمَسِيح إِلَّا أحد من يُوحى إِلَيْهِ
فَقَالَ لي دَعْنِي من هَذَا القَوْل لَيْسَ هَذَا الْإِخْرَاج إِلَّا إِخْرَاج مؤيد بِروح الْقُدس
فَقلت لَهُ هَذَا إِخْرَاج حنين بن إِسْحَق الَّذِي طردته من مَنْزِلك وأمرته أَن يَشْتَرِي قلوسا
فَحلف بِأَن مَا قلت لَهُ محَال
ثمَّ صدق القَوْل بعد ذَلِك وَأفضل عَلَيْهِ إفضالا كثيرا وَأحسن إِلَيْهِ وَلم يزل مبجلا لَهُ حَتَّى فَارَقت الْعرَاق
فِي سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ
هَذَا جملَة مَا ذكره يُوسُف بن إِبْرَاهِيم
أَقُول ثمَّ أَن حنينا لَازم يوحنا بن ماسويه مُنْذُ ذَلِك الْوَقْت وتتلمذ لَهُ واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ وَنقل حنين لِابْنِ ماسويه كتبا كَثِيرَة وخصوصا من كتب جالينوس بَعْضهَا إِلَى اللُّغَة السريانية وَبَعضهَا إِلَى الْعَرَبيَّة وَكَانَ حنين أعلم أهل زَمَانه باللغة اليونانية والسريانية والفارسية والدراية فيهم مِمَّا لَا يعرفهُ غَيره من النقلَة الَّذين كَانُوا فِي زَمَانه مَعَ مَا دأب أَيْضا فِي إتقان الْعَرَبيَّة والاشتغال بهَا حَتَّى صَار من جملَة المتميزين فِيهَا
وَلما رأى الْمَأْمُون الْمَنَام الَّذِي أخبر بِهِ أَنه رأى فِي مَنَامه كَأَن شَيخا بهي الشكل جَالس على مِنْبَر وَهُوَ يخْطب وَيَقُول أَنا أرسطوطاليس انتبه من مَنَامه وَسَأَلَ عَن أرسطوطاليس فَقيل لَهُ رجل حَكِيم من اليونانيين
فأحضر حنين بن إِسْحَق إِذْ لم يجد من يضاهيه فِي نَقله وَسَأَلَهُ نقل كتب الْحُكَمَاء اليونانيين إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة وبذل لَهُ من الْأَمْوَال والعطايا شَيْئا كثيرا
ونقلت من خطّ الْحسن بن الْعَبَّاس الْمَعْرُوف بالصناديقي رَحمَه الله قَالَ قَالَ أَبُو سُلَيْمَان سَمِعت يحيى بن عدي يَقُول قَالَ الْمَأْمُون رَأَيْت فِيمَا يرى النَّائِم كَانَ رجلا على كرْسِي جَالِسا فِي الْمجْلس الَّذِي أَجْلِس فِيهِ فتعاظمته وتهيبته وَسَأَلت عَنهُ فَقيل هُوَ أرسطوطاليس فَقلت أسأله عَن شَيْء(1/259)
فَسَأَلته فَقلت مَا الْحسن فَقَالَ مَا استحسنته الْعُقُول
فَقلت ثمَّ مَاذَا قَالَ مَا استحسنته الشَّرِيعَة
قلت ثمَّ مَاذَا قَالَ مَا استحسنه الْجُمْهُور
قلت ثمَّ مَاذَا قَالَ ثمَّ لَا ثمَّ
فَكَانَ هَذَا الْمَنَام من أوكد الْأَسْبَاب فِي إِخْرَاج الْكتب فَإِن الْمَأْمُون كَانَ بَينه وَبَين ملك الرّوم مراسلات وَقد استظهر عَلَيْهِ الْمَأْمُون فَكتب إِلَى ملك الرّوم يسْأَله الْإِذْن فِي إِنْفَاذ مَا يخْتَار من الْعُلُوم الْقَدِيمَة المخزونة بِبَلَد الرّوم فَأجَاب إِلَى ذَلِك بعد امْتنَاع
فَأخْرج الْمَأْمُون لذَلِك جمَاعَة مِنْهُم الْحجَّاج ابْن مطر وَابْن البطريق وسلما صَاحب بَيت الْحِكْمَة وَغَيرهم فَأخذُوا مِمَّا وجدوا مَا اخْتَارُوا فَلَمَّا حملوه إِلَيْهِ أَمرهم بنقله فَنقل
وَقد قيل إِن يوحنا بن ماسويه مِمَّن نفذ إِلَى بلد الرّوم
وأحضر الْمَأْمُون أَيْضا حنين ابْن إِسْحَق وَكَانَ فتي السن وَأمره بِنَقْل مَا يقدر عَلَيْهِ من كتب الْحُكَمَاء اليونانيين إِلَى الْعَرَبِيّ وَإِصْلَاح مَا يَنْقُلهُ غَيره فامتثل أمره
وَمِمَّا يحْكى عَنهُ أَن الْمَأْمُون كَانَ يُعْطِيهِ من الذَّهَب زنة مَا يَنْقُلهُ من الْكتب إِلَى الْعَرَبِيّ مثلا بِمثل
وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان المنطقي السجتاني أَن بني شَاكر وهم مُحَمَّد وَأحمد وَالْحسن كَانُوا يرْزقُونَ جمَاعَة من النقلَة مِنْهُم حنين بن إِسْحَق وحبيش بن الْحسن وثابت بن قُرَّة وَغَيرهم فِي الشَّهْر نَحْو خَمْسمِائَة دِينَار للنَّقْل والملازمة
وَقَالَ حنين بن إِسْحَق أَنه سَافر إِلَى بِلَاد كَثِيرَة وَوصل إِلَى أقْصَى بِلَاد الرّوم لطلب الْكتب الَّتِي قصد نقلهَا
وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق النديم فِي كتاب الفهرست سَمِعت إِسْحَق بن شهرام يحدث فِي مجْلِس عَام أَن بِبَلَد الرّوم هيكلا قديم الْبناء عَلَيْهِ بَاب لم ير قطّ أعظم مِنْهُ بمصراعين من حَدِيد كَانَ اليونانيون فِي الْقَدِيم عِنْد عِبَادَتهم الْكَوَاكِب والأصنام يعظمونه وَيدعونَ فِيهِ
قَالَ فَسَأَلت ملك الرّوم أَن يَفْتَحهُ لي فَامْتنعَ من ذَلِك لِأَنَّهُ أغلق مُنْذُ وَقت تنصرت الرّوم
فَلم أزل أراسله وأسأله شفاها عَن حضوري مَجْلِسه فَتقدم بفتحه فَإِذا ذَلِك الْبَيْت من المرمر والصخور الْعِظَام ألوانا وَعَلِيهِ من الكتابات والنقوش مَا لم أسمع بِمثلِهِ كَثْرَة وحسنا
وَفِي هَذَا الهيكل من الْكتب الْقَدِيمَة مَا يحمل على عدَّة أجمال وَكثر ذَلِك حَتَّى قَالَ ألف جمل بعض ذَلِك قد أخلق وَبَعضه على حَاله وَبَعضه قد أَكلته الأرضة
قَالَ وَرَأَيْت فِيهِ من آلَات القرابين من الذَّهَب وَغَيره أَشْيَاء ظريفة
قَالَ وأغلق الْبَاب بعد خروجي وامتن عَليّ بِمَا فعل معي وَذَلِكَ كَانَ فِي أَيَّام سيف الدولة بن حمدَان وَزعم أَن الْبَيْت على ثَلَاثَة أَيَّام من الْقُسْطَنْطِينِيَّة والمجاورون لذَلِك الْبَيْت قوم من الصابئة والكلدانيين وَقد أقرتهم الرّوم على مذاهبهم وَتَأْخُذ مِنْهُم الْجِزْيَة
أَقُول وَكَانَ كَاتب حنين رجل يعرف بالأزرق
وَقد رَأَيْت أَشْيَاء كَثِيرَة من كتب جالينوس وَغَيره بِخَطِّهِ وَبَعضهَا عَلَيْهِ تنكيت بِخَط حنين بن إِسْحَق باليوناني وعَلى تِلْكَ الْكتب عَلامَة الْمَأْمُون(1/260)
وَقَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل بن بختيشوع فِي مَنَاقِب الْأَطِبَّاء أَن حنينا لما قوي أمره وانتشر ذكره بَين الْأَطِبَّاء واتصل خَبره بالخليفة أَمر بإحضاره
فَلَمَّا حضر اقْطَعْ إقطاعات حَسَنَة وَقرر لَهُ جَار جيد وَكَانَ يشعره بزبور الرّوم
وَكَانَ الْخَلِيفَة يسمع بِعِلْمِهِ وَلَا يَأْخُذ بقوله دَوَاء يصفه حَتَّى يشاور فِيهِ غَيره وَأحب امتحانه حَتَّى يَزُول مَا فِي نَفسه عَلَيْهِ ظنا مِنْهُ أَن ملك الرّوم رُبمَا كَانَ عمل شَيْئا من الْحِيلَة بِهِ
فاستدعاه يَوْمًا وَأمر بِأَن يخلع عَلَيْهِ وأحضر توقيعا فِيهِ إقطاع يشْتَمل على خمسين ألف دِرْهَم
فَشكر لَهُ حنين هَذَا الْفِعْل ثمَّ قَالَ بعد أَشْيَاء جرت أُرِيد أَن تصف لي دَوَاء يقتل عدوا نُرِيد قَتله وَلم يُمكن إشهاره ونريده سرا
فَقَالَ حنين يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِنِّي لم أتعلم إِلَّا الْأَدْوِيَة النافعة وَمَا علمت أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ يطْلب مني غَيرهَا فَإِن أحب أَن أمضي وأتعلم فعلت ذَلِك
فَقَالَ هَذَا شَيْء يطول ورغبه وهدده وَهُوَ لَا يزِيد على مَا قَالَه إِلَى أَن أَمر بحبسه فِي بعض القلاع ووكل بِهِ من يُوصل خَبره إِلَيْهِ وقتا بِوَقْت وَيَوْما بِيَوْم
فَمَكثَ سنة فِي حَبسه دأبه النَّقْل وَالتَّفْسِير والتصنيف وَهُوَ غير مكترث بِمَا هُوَ فِيهِ
فَلَمَّا كَانَ بعد سنة أَمر الْخَلِيفَة بإحضاره وإحضار أَمْوَال يرغبه فِيهَا وأحضر سَيْفا ونطعا وَسَائِر آلَات الْعُقُوبَات
فَلَمَّا حضر قَالَ هَذَا شَيْء قد كَانَ وَلَا بُد مِمَّا قلته لَك
فَإِن أَنْت فعلت فقد فزت بِهَذَا المَال وَكَانَ لَك عِنْدِي أضعافه
وَأَن امْتنعت قابلتك بشر مُقَابلَة وقتلتك شَرّ قتلة
فَقَالَ حنين قد قلت لأمير الْمُؤمنِينَ إِنِّي لم أحسن إِلَّا الشَّيْء النافع وَلم أتعلم غَيره
فَقَالَ الْخَلِيفَة فَإِنِّي أَقْتلك
قَالَ حنين لي رب يَأْخُذ بحقي غَدا فِي الْموقف الْأَعْظَم
فَإِن اخْتَار أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن يظلم نَفسه فَلْيفْعَل
فَتَبَسَّمَ الْخَلِيفَة وَقَالَ لَهُ يَا حنين طب نفسا وثق إِلَيْنَا
فَهَذَا الْفِعْل كَانَ منا لامتحانك لأَنا حذرنا من كيد الْمُلُوك وإعجابنا لننتفع بعلمك
فَقبل حنين الأَرْض وشكر لَهُ فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة يَا حنين مَا الَّذِي مَنعك من الْإِجَابَة مَعَ مَا رَأَيْته من صدق عزيمتنا فِي الْحَالين فَقَالَ حنين شَيْئَانِ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
قَالَ وَمَا هما قَالَ الدّين والصناعة
قَالَ فَكيف قَالَ الدّين يَأْمُرنَا بِفعل الْخَيْر والجميل مَعَ أَعْدَائِنَا فَكيف أَصْحَابنَا وأصدقائنا وَيبعد وَيحرم من لم يكن كَذَا
والصناعة تَمْنَعنَا من الْإِضْرَار بأبناء الْجِنْس لِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لنفعهم ومقصورة على مصالحهم
وَمَعَ هَذَا فقد جعل الله فِي رِقَاب الْأَطِبَّاء عهدا مؤكدا بأيمان مُغَلّظَة أَن لَا يُعْطوا دَوَاء قتالا وَلَا مَا يُؤْذِي
فَلم أر أَن أُخَالِف هذَيْن الْأَمريْنِ من الشريعتين
ووطنت نَفسِي على الْقَتْل فَإِن الله مَا كَانَ يضيع من بذل نَفسه فِي طَاعَته وَكَانَ يثيبني
فَقَالَ الْخَلِيفَة إنَّهُمَا لشريعتان جليلتان
وَأمر بِالْخلْعِ فخلعت عَلَيْهِ وَحمل المَال بَين يَدَيْهِ وَخرج من عِنْده وَهُوَ أحسن النَّاس حَالا وجاها
أَقُول وَكَانَ لحنين ولدان داؤد وَإِسْحَق
وصنف لَهما كتبا طبية فِي المبادي والتعليم وَنقل لَهما كتبا كَثِيرَة من كتب جالينوس
فَأَما داؤد فَإِنِّي لم أجد لَهُ شهرة بِنَفسِهِ بَين الْأَطِبَّاء وَلَا يُوجد لَهُ من الْكتب مَا يدل على براعته وَعلمه وَإِن كَانَ الَّذِي يُوجد لَهُ إِنَّمَا هُوَ كناش وَاحِد
وَمَا إِسْحَق فَإِنَّهُ اشْتهر وتميز فِي صناعَة الطِّبّ وَله تصانيف كَثِيرَة
وَنقل إِسْحَق من الْكتب(1/261)
اليونانية إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة كتبا كَثِيرَة إِلَّا أَن جلّ عنايته كَانَت مصروفة إِلَى نقل الْكتب الْحكمِيَّة مثل كتب أرسطوطاليس وَغَيره من الْحُكَمَاء
وَأما حنين أَبوهُ فَكَانَ مهتما بِنَقْل الْكتب الطبية وخصوصا كتب جالينوس حَتَّى أَنه فِي غَالب الْأَمر لَا يُوجد شَيْء من كتب جالينوس إِلَّا وَهِي بِنَقْل حنين أَو بإصلاحه لما نقل غَيره
فَإِن رُؤِيَ شَيْء مِنْهَا وَقد تفرد بنقله غَيره من النقلَة مثل أسطاث وَابْن بكس والبطريق وَأبي سعيد عُثْمَان الدِّمَشْقِي وَغَيرهم فَإِنَّهُ لَا يعتنى بِهِ وَلَا يرغب فِيهِ كَمَا يكون بِنَقْل حنين وإصلاحه
وَإِنَّمَا ذَلِك لفصاحته وبلاغته ولمعرفته أَيْضا بآراء جالينوس ولتمهره فِيهَا
وَوجدت بعض الْكتب السِّت عشرَة لِجَالِينُوسَ وَقد نقلهَا من الرومية إِلَى السريانية سرجس المتطبب ونقلها من السريانية إِلَى الْعَرَبيَّة مُوسَى بن خَالِد الترجمان فَلَمَّا طالعتها وتأملت ألفاظها تبين لي بَين نقلهَا وَبَين السِّت عشرَة الَّتِي هِيَ نقل حنين تبَاين كثير وتفاوت بَين
وَأَيْنَ الألكن من البليغ وَالثَّرَى من الثريا
وَكَانَ حنين أَيْضا ماهرا فِي صناعَة الْكحل وَله تصانيف مَشْهُورَة بالجودة فِيهَا
وحَدثني الشيح شهَاب الدّين عبد الْحق الصّقليّ النَّحْوِيّ أَن حنين بن إِسْحَق كَانَ يشْتَغل فِي الْعَرَبيَّة مَعَ سِيبَوَيْهٍ وَغَيره مِمَّن كَانُوا يشتغلون على الْخَلِيل بن أَحْمد وَهَذَا لَا يبعد فَإِنَّهُمَا كَانَا فِي وَقت وَاحِد على زمَان الْمَأْمُون
وإننا نجد فِي كَلَامه وَفِي نَقله مَا يدل على فَصَاحَته وفضله فِي الْعَرَبيَّة وَعلمه بهَا حَتَّى أَن لَهُ تصانيف فِي ذَلِك
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان أَن حنينا نَهَضَ من بَغْدَاد إِلَى أَرض فَارس وَكَانَ الْخَلِيل بن أَحْمد النَّحْوِيّ بِأَرْض فَارس فَلَزِمَهُ حنين حَتَّى برع فِي لِسَان الْعَرَب وَأدْخل كتاب الْعين بَغْدَاد ثمَّ اختير للتَّرْجَمَة وأؤتمن عَلَيْهَا وَكَانَ المتخير لَهُ المتَوَكل على الله
وَوضع لَهُ كتابا نحارير عَالمين بالترجمة كَانُوا يترجمون ويتصفح مَا ترجموا كاصطفن بن بسيل ومُوسَى بن خَالِد الترجمان
قَالَ وخدم حنين بالطب المتَوَكل على الله وحظي فِي أَيَّامه وَكَانَ يلبس زنارا وَتعلم لِسَان اليونانيين بالإسكندرية وَكَانَ جَلِيلًا فِي تَرْجَمته وَهُوَ الَّذِي أوضح مَعَاني كتب أبقراط وجالينوس ولخصها أحسن تَلْخِيص وكشف مَا استغلق مِنْهَا وأوضح مشكلها
وَله تواليف نافعة مثقفة بارعه
وَعمد إِلَى كتب جالينوس فاحتذى فِيهَا حَذْو الإسكندرانيين وصنعها على سَبِيل الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب فَأحْسن فِي ذَلِك
وَقَالَ حنين بن إِسْحَق عَن نَفسه أَن جَمِيع مَا قد كَانَ يملكهُ من الْكتب ذهب حَتَّى لم يبْق عِنْده مِنْهَا وَلَا كتاب وَاحِد ذكر ذَلِك فِي مقَالَته فِي فهرست كتب جالينوس
وَقَالَ أَبُو عَليّ القباني كَانَ حنين فِي كل يَوْم عِنْد نُزُوله من الرّكُوب يدْخل الْحمام فَيصب عَلَيْهِ المَاء(1/262)
وَيخرج فيلتف بقطيفة وَقد أعد لَهُ هناب من فضَّة فِيهِ رَطْل شراب وكعكة مثرودة فيأكلها وَيشْرب الشَّرَاب ويطرح نَفسه حَتَّى يَسْتَوْفِي عرقه
وَرُبمَا نَام ثمَّ يقوم ويتبخر وَيقدم لَهُ طَعَامه وَهُوَ فروج كَبِير مسمن قد طبخ زيرباجه ورغيف فِيهِ مِائَتَا دِرْهَم فيحسو من المرق ثمَّ يَأْكُل الْفروج وَالْخبْز وينام
فَإِذا انتبه شرب أَرْبَعَة أَرْطَال شرابًا عتيقا وَلم يذقْ غير هَذَا طول عمره
فَإِذا اشْتهى الْفَاكِهَة الرّطبَة أكل التفاح الشَّامي وَالرُّمَّان والسفرجل
وَقَالَ أَحْمد بن الطّيب السَّرخسِيّ فِي كتاب اللَّهْو والملاهي قَالَ حنين المتطبب وافاني فِي بعض اللَّيَالِي أَيَّام المتَوَكل رسل من دَار الْخَلِيفَة يطلبوني وَيَقُولُونَ الْخَلِيفَة يُرِيدُكَ ثمَّ وافت بعدهمْ طَائِفَة ثمَّ وافاني زرافة فَأَخْرجنِي من فِرَاشِي وَمضى بِي ركضا حَتَّى أدخلني إِلَى الْخَلِيفَة
فَقَالَ يَا سَيِّدي هوذا حنين
قَالَ فَقَالَ ادفعوا إِلَى زرافة مَا ضمنا لَهُ
قَالَ فَدفع إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم
ثمَّ أقبل عَليّ فَقَالَ أَنا جَائِع فَمَا ترى فِي الْعشَاء فَقلت لَهُ فِي ذَلِك قولا
فَلَمَّا فرغ من أكله سَأَلت عَن الْخَبَر
فَقيل لي أَن مغنيا غناهُ صَوتا فَسَأَلَهُ لمن هُوَ فَقَالَ لحنين بن بلوع الْعَبَّادِيّ
فَأمر زرافة بإحضار حنين بن بلوع الْعَبَّادِيّ فَقَالَ لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا أعرفهُ
فَقَالَ لَا بُد مِنْهُ وَأَن أحضرته فلك ثَلَاثُونَ ألف دِرْهَم
قَالَ فأحضرني وَنسي المتَوَكل السَّبَب بِمَا كَانَ فِي رَأسه من النَّبِيذ وَحَضَرت وَقد جَاع فأشرت عَلَيْهِ بِأَن يقطع النَّبِيذ ويتعشى وينام فَفعل
أَقُول وَكَانَ مولد حنين فِي سنة مائَة وَأَرْبع وَتِسْعين لِلْهِجْرَةِ وَتُوفِّي فِي زمَان الْمُعْتَمد على الله وَذَلِكَ فِي يَوْم الثُّلَاثَاء أول كانون الأول من سنة ألف وَمِائَة وثمان وَثَمَانِينَ للإسكندر وَهُوَ لست خلون من صفر سنة مِائَتَيْنِ وَأَرْبع وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَت مُدَّة حَيَاته سبعين سنة وَقيل إِنَّه مَاتَ بالذرب
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان الْمَعْرُوف بِابْن جلجل أَن حنين بن إِسْحَق مَاتَ بالغم من ليلته فِي أَيَّام المتَوَكل
قَالَ حَدثنِي بذلك وَزِير أَمِير الْمُؤمنِينَ الحكم الْمُسْتَنْصر بِاللَّه قَالَ قَالَ كنت مَعَ أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُسْتَنْصر فَجرى الحَدِيث فَقَالَ أتعلمون كَيفَ كَانَ موت حنين بن إِسْحَق قُلْنَا لَا يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
قَالَ خرج المتَوَكل على الله يَوْمًا وَبِه خمار فَقعدَ فِي مَقْعَده فَأَخَذته الشَّمْس وَكَانَ بَين يَدَيْهِ الطيفوري النَّصْرَانِي الطَّبِيب وحنين بن إِسْحَق
فَقَالَ لَهُ الطيفوري يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الشَّمْس تضر بالخمار فَقَالَ المتَوَكل لحنين مَا عنْدك فِيمَا قَالَ فَقَالَ حنين يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا تضر بالخمار
فَلَمَّا تناقضا بَين يَدَيْهِ طلب كشفهما عَن صِحَة أحد الْقَوْلَيْنِ
فَقَالَ حنين يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ الْخمار حَال للمخمور وَالشَّمْس لَا تضر بالخمار إِنَّمَا تضر المخمور
فَقَالَ المتَوَكل لقد أحرز من طبائع الْأَلْفَاظ وتحديد الْمعَانِي مَا فاق بِهِ نظراءه
فَوَجَمَ لَهَا الطيفوري فَلَمَّا كَانَ فِي غَد ذَلِك الْيَوْم أخرج حنين من كمه كتابا فِيهِ(1/263)
صُورَة الْمَسِيح مصلوبا وصور نَاس حوله فَقَالَ لَهُ الطيفوري يَا حنين هَؤُلَاءِ صلبوا الْمَسِيح قَالَ نعم فَقَالَ لَهُ ابصق عَلَيْهِم
قَالَ حنين لَا أفعل
قَالَ الطيفوري وَلم قَالَ لأَنهم لَيْسُوا الَّذين صلبوا الْمَسِيح إِنَّمَا هِيَ صور فَاشْتَدَّ ذَلِك على الطيفوري وَرَفعه إِلَى المتَوَكل يسْأَله إِبَاحَة الحكم عَلَيْهِ بديانة النَّصْرَانِيَّة
فَبعث إِلَى الجاثليق والأساقفة وسئلوا عَن ذَلِك فأوجبوا اللَّعْنَة على حنين فلعن سبعين لعنة بِحَضْرَة الْمَلأ من النَّصَارَى وَقطع زناره وَأمر المتَوَكل أَن لَا يصل إِلَيْهِ دَوَاء من قبل حنين حَتَّى يستشرف على عمله الطيفوري
وَانْصَرف حنين إِلَى دَاره فَمَاتَ من ليلته
فَيُقَال مَاتَ غما وأسفا
أَقُول هَذِه حِكَايَة ابْن جلجل وَكَذَلِكَ أَيْضا وجدت أَحْمد بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم قد ذكر فِي رسَالَته فِي الْمُكَافَأَة مَا يُنَاسب هَذِه الْحِكَايَة عَن حنين
وَالأَصَح فِي ذَلِك أَن بختيشوع بن جِبْرَائِيل كَانَ يعادي حنين بن إِسْحَق ويحسده على علمه وفضله وَمَا هُوَ عَلَيْهِ من جودة النَّقْل وعلو الْمنزلَة
فاحتال عَلَيْهِ بخديعة عِنْد المتَوَكل وَتمّ مكره عَلَيْهِ حَتَّى أوقع المتَوَكل بِهِ وحبسه
ثمَّ إِن الله تَعَالَى فرج عَنهُ وَظهر مَا كَانَ احتال بِهِ عَلَيْهِ بختيشوع بن جِبْرَائِيل وَصَارَ حنين حظيا عِنْد المتَوَكل وفضله على بختيشوع وعَلى غَيره من سَائِر المتطببين
وَلم يزل على ذَلِك فِي أَيَّام المتَوَكل إِلَى أَن مرض حنين فِيمَا بعد الْمَرَض الَّذِي توفّي فِيهِ وَذَلِكَ فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ
وَتبين لي جملَة مَا يحْكى عَن حنين من ذَلِك وَصَحَّ عِنْدِي من رِسَالَة وجدت حنين بن إِسْحَق قد ألفها فِيمَا أَصَابَهُ من المحن والشدائد من الَّذين ناصبوه الْعَدَاوَة من أشرار أطباء زَمَانه الْمَشْهُورين
وَهَذَا نَص قَوْله
قَالَ حنين بن إِسْحَق إِنَّه لَحِقَنِي من أعدائي ومضطهدي الْكَافرين بنعمتي الجاحدين لحقي الظَّالِمين لي المتعدين عَليّ من المحن والمصائب والشرور مَا مَنَعَنِي من النّوم وأسهر عَيْني وأشغلني عَن مهماتي
وكل ذَلِك من الْحَسَد لي على علمي وَمَا وهبه الله عز وَجل لي من علو الْمرتبَة على أهل زماني
وَأكْثر أُولَئِكَ أَهلِي وأقربائي فَإِنَّهُم أول شروري وَابْتِدَاء محني
ثمَّ من بعدهمْ الَّذِي عَلَّمْتهمْ وأقرأتهم وأحسنت إِلَيْهِم وأرقدتهم وفضلتهم على جمَاعَة أهل الْبَلَد من أهل الصِّنَاعَة وَقربت إِلَيْهِم عُلُوم الْفَاضِل جالينوس فكافأوني عوض المحاسن مساوئ بِحَسب مَا أوجبته طباعهم
وبلغوا بِي إِلَى أقبح مَا يكون من إذاعة أوحش الْأَخْبَار وكتمان جليل الْأَسْرَار حَتَّى ساءت بِي الظنون وامتدت إِلَيّ الْعُيُون وَوضع عَليّ الرصد حَتَّى أَنه كَانَ يحصي عَليّ ألفاظي وَيكثر إتهامي بِمَا دق مِنْهَا مِمَّا لَيْسَ غرضي فِيهِ مَا أومأوا إِلَيْهِ فأوقعوا بغضتي فِي نفوس سَائِر أهل الْملَل فضلا عَن أهل مذهبي
وعملت لي الْمجَالِس بالتأويلات الرذلة
وَكلما اتَّصل ذَلِك بِي حمدت الله حمدا جَدِيدا وَصَبَرت على مَا قد دفعت إِلَيْهِ
فآلت الْقَضِيَّة بِي إِلَى أَن بقيت بِأَسْوَأ مَا يكون من الْحَال من الْإِضَافَة والضر مَحْبُوسًا مضيقا عَليّ مُدَّة من الزَّمَان لَا تصل يَدي إِلَى شَيْء من ذهب وَلَا فضَّة وَلَا كتاب
وَبِالْجُمْلَةِ وَلَا ورقة انْظُر فِيهَا
ثمَّ إِن الله عز وَجل نظر إِلَيّ بِعَين رَحمته فجدد لي نعمه وردني إِلَى مَا كنت عَارِفًا بِهِ من فَضله
وَكَانَ سَبَب رد نعمتي إِلَيّ بعض من كَانَ قد الْتزم عَدَاوَتِي واختص بهَا
وَمن هَهُنَا صَحَّ مَا قَالَه جالينوس أَن الأخيار من النَّاس قد يَنْتَفِعُونَ بأعدائهم الأشرار فلعمري لقد كَانَ ذَلِك أفضل الْأَعْدَاء
وَأَنا الْآن مبتدئ بِذكر مَا جرى على مِمَّا تقدم ذكره فَأَقُول(1/264)
كَيفَ لَا أبْغض وَيكثر حاسدي وَيكثر ثلبي فِي مجَالِس ذَوي الْمَرَاتِب ويبذل فِي قَتْلِي الْأَمْوَال ويعز من شَتَمَنِي ويهان من أكرمني كل ذَلِك بِغَيْر جرم لي إِلَى وَاحِد مِنْهُم وَلَا جِنَايَة لكِنهمْ لما رأوني فَوْقهم وعاليا عَلَيْهِم بِالْعلمِ وَالْعَمَل ونقلي إِلَيْهِم الْعُلُوم الفاخرة من اللُّغَات الَّتِي لَا يحسنونها وَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهَا وَلَا يعْرفُونَ شَيْئا مِنْهَا فِي نِهَايَة مَا يكون من حسن الْعبارَة والفصاحة وَلَا نقص فِيهَا وَلَا زلل وَلَا ميل لأحد من الْملَل وَلَا استغلاق وَلَا لحن بِاعْتِبَار أَصْحَاب البلاغة من الْعَرَب الَّذين يقومُونَ بِمَعْرِِفَة وُجُوه النَّحْو والغريب وَلَا يعثرون على سَيِّئَة وَلَا شكْلَة وَلَا معنى لَكِن بأعذب مَا يكون عَن اللَّفْظ وأقربه إِلَى الْفَهم
يسمعهُ من لَيْسَ صناعته الطِّبّ وَلَا يعرف شَيْئا من طرقات الفلسفة وَلَا من ينتحل ديانَة النَّصْرَانِيَّة وكل الْملَل فيستحسنه وَيعرف قدره حَتَّى أَنهم قد يغرمون على مَا كَانَ من الَّذِي أنقل الْأَمْوَال الْكَثِيرَة إِذْ كَانُوا يفضلون هَذَا النَّقْل على نقل كل من قبلي
وَأَيْضًا فَأَقُول وَلَا أخطئ أَن سَائِر أهل الْأَدَب وَإِن اخْتلفت مللهم محبون لي ماثلون إِلَيّ مكرمون لي يَأْخُذُونَ مَا أفيدهم بشكر ويجازوني بِكُل مَا يصلونَ إِلَيْهِ من الْجَمِيل
فَأَما هَؤُلَاءِ الْأَطِبَّاء النَّصَارَى الَّذين أَكْثَرهم تعلمُوا بَين يَدي نشأوا قدامي هم الَّذين يرومون سفك دمي على أَنهم لَا بُد لَهُم مني
فَمرَّة يَقُولُونَ من هُوَ حنين إِنَّمَا حنين ناقل لهَذِهِ الْكتب ليَأْخُذ على نَقله الْأُجْرَة كَمَا يَأْخُذ الصناع الْأُجْرَة على صناعتهم وَلَا فرق عندنَا بَينه وَبينهمْ لِأَن الْفَارِس قد يعْمل لَهُ الْحداد السَّيْف فِي الْمثل بِدِينَار وَيَأْخُذ هُوَ من أَجله فِي كل شهر مائَة دِينَار
فَهُوَ خَادِم لأدائنا وَلَيْسَ هُوَ عَامل بهَا
كَمَا أَن الْحداد وَإِن كَانَ يحسن صَنْعَة السَّيْف إِلَّا أَنه لَيْسَ يحسن يعْمل بِهِ فَمَا للحداد وَطلب الفروسية كَذَلِك هَذَا النَّاقِل مَاله وَالْكَلَام فِي صناعَة الطِّبّ وَلم يحكم فِي عللها وأمراضها وَإِنَّمَا قَصده فِي ذَلِك التَّشْبِيه بِنَا ليقال حنين الطَّبِيب وَلَا يُقَال حنين النَّاقِل
والأجود لَهُ لَو أَنه لزم صناعته وَأمْسك عَن ذكر صناعتنا لقد كَانَ يكون أجدى عَلَيْهِ فِيمَا كُنَّا سنوصله إِلَيْهِ من أَمْوَالنَا ونحسن إِلَيْهِ مَا أمكننا وَذَلِكَ يتم لَهُ بترك أَخذ الْمجْلس وَالنَّظَر فِي قَوَارِير المَاء وَوصف الْأَدْوِيَة
وَيَقُولُونَ أَن حنينا مَا يدْخل إِلَى مَوضِع من الدّور الْخَاصَّة والعامة إِلَّا يهزؤون بِهِ ويتضاحكون مِنْهُ عِنْد خُرُوجه
فَكنت كلما سَمِعت شَيْئا من هَذَا ضَاقَ بِهِ صَدْرِي وهممت أَن أقتل نَفسِي من الغيظ والزرد
وَمَا كَانَ لي إِلَيْهِم سَبِيل إِذْ كَانَ الْوَاحِد لَا يَسْتَوِي لَهُ مقاومة الجامعة عِنْد تظافرهم عَلَيْهِ لكني كنت أضمر وَأعلم أَن حسدهم هُوَ الَّذِي يَدعُوهُم إِلَى سَائِر الْأَشْيَاء وَإِن كَانَ لَا يخفى عَلَيْهِم قبحها
فَإِن الْحَسَد لم يزل بَين النَّاس على قديم الْأَيَّام حَتَّى من يعْتَقد الدّيانَة قد يعلم أَن أول حَاسِد كَانَ فِي الأَرْض قابيل فِي قَتله لِأَخِيهِ هابيل لما لم يقبل الله قربانه وَقبل قرْبَان هابيل
وَمَا لم يزل قَدِيما فَلَيْسَ بعجب أَن أكون أَنا أَيْضا أحد من يُؤْذى بِسَبَبِهِ
وَقد يُقَال كفى بالحاسد حسده وَيُقَال إِن الْحَاسِد يقتل نَفسه قبل عدوه وَلَقَد أكثرت الْعَرَب ذكر الْحَسَد فِي الشّعْر ونظموا فِيهِ الأبيات مِنْهَا قَول بَعضهم
(أَن يحسدوني فَإِنِّي غير لائمهم ... قبلي من النَّاس أهل الْفضل قد حسدوا)(1/265)
(فدام لي وَلَهُم مَا بِي وَمَا بهم ... وَمَات أكثرنا غيظا بِمَا يجد)
(أَنا الَّذِي يجدوني فِي صُدُورهمْ ... لَا أرتقي صعدا مِنْهَا وَلَا أرد) الْبَسِيط
وَقد قَالَ قَائِل هَذَا وَغَيره فِي مثل هَذَا مِمَّا يطول ذكره مَعَ قلت الْفَائِدَة فِيهِ وَهَذَا أَيْضا مَعَ أَن أَكْثَرهم إِذا دهمهم الْأَمر فِي مرض صَعب فَإِلَيَّ يصير حَتَّى يتَحَقَّق مَعْرفَته مني وَيَأْخُذ عني لَهُ صفة دوائه وتدبيره ويتبين الصّلاح فِيمَا أَمر بِهِ أَن يعْمل لَا مرّة وَلَا مرَارًا
وَهَذَا الَّذِي يجيئني ويقتدي برأيي هُوَ أَشد النَّاس عَليّ غيظا وَأَكْثَرهم لي ثلبا
وَلَيْسَ أزيدهم على أَن أحكم رب الْكل بيني وَبينهمْ
وَإِنَّمَا سكوتي عَنْهُم لأَنهم لَيْسَ هم وَاحِدًا وَلَا اثْنَيْنِ وَلَا ثَلَاثَة بل هم سِتَّة وَخَمْسُونَ رجلا جُمْلَتهمْ من أهل الْمَذْهَب محتاجون إِلَيّ وَأَنا غير مُحْتَاج إِلَيْهِم
وَأَيْضًا فَإِن إثرتهم مَعَ كثرتهم قَوِيَّة بِخِدْمَة الْخُلَفَاء وهم أَصْحَاب المملكة وَأَنا فأضعف عَنْهُم من وَجْهَيْن أَحدهمَا وَحْدَتي وَالثَّانيَِة أَن الَّذين يعنون بِي من النَّاس محتاجون إِلَى الأَصْل الَّذِي يعْنى بأعدائي الَّذِي هُوَ أَمِير الْمُؤمنِينَ وَمَعَ هَذَا كُله لَا أَشْكُو إِلَى أحد مَا أَنا عَلَيْهِ وَإِن كَانَ عَظِيما بل أبوح بشكرهم فِي المحافل وَعند الرؤساء
فَإِن قيل لي إِنَّهُم يثلبونك وينتقصون بك فِي مجَالِسهمْ ادْفَعْ ذَلِك وَأرى أَنِّي غير مُصدق شَيْء مِمَّا يُقَال لي بل أَقُول أَنا نَحن شَيْء وَاحِد تجمعنا الدّيانَة والبلدة والصناعة
فَمَا أصدق أَن مثلهم يذكر أحدا من النَّاس فضلا عني بِسوء فَإِذا سمعُوا عني مثل هَذَا القَوْل قَالُوا قد جزع وَأعْطى من نَفسه الصمَّة
وَكلما ثلبوني زِدْت فِي الشُّكْر لَهُم
وَأَنا الْآن ذَاكر هَهُنَا آخر الْآبَار الَّتِي حفروها لي سوى مَا كَانَ لي مَعَهم قَدِيما خَاصَّة مَعَ بني مُوسَى والج الينوسيين والبقراطيين فِي أَمر البهت الأول
وَهَذِه قصَّة المحنة الْأَخِيرَة الْقَرِيبَة وَهِي أَن بختيشوع بن جِبْرَائِيل المتطبب عمل على حِيلَة تمت لَهُ عَليّ وأمكنته مني إِرَادَته فِي
وَذَلِكَ أَنه اسْتعْمل قونة عَلَيْهَا صُورَة السيدة مار مَرْيَم وَفِي حجرها سيدنَا الْمَسِيح وَالْمَلَائِكَة قد احتاطوا بهَا وعملها فِي غَايَة مَا يكون من الْحسن وَصِحَّة الصُّورَة بعد أَن غرم عَلَيْهَا من المَال شَيْئا كثيرا
ثمَّ حملهَا إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل وَكَانَ هُوَ الْمُسْتَقْبل لَهَا من يَد الْخَادِم الْحَامِل لَهَا وَهُوَ الَّذِي وَضعهَا بَين يَدي المتَوَكل
فاستحسنها المتَوَكل جدا وَجعل بختيشوع يقبلهَا بَين يَدَيْهِ مرَارًا كَثِيرَة
فَقَالَ لَهُ المتَوَكل لم تقبلهَا فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا إِذا لم أقبل صُورَة سيدة الْعَالمين فَمن أقبل فَقَالَ لَهُ المتَوَكل وكل النَّصَارَى هَكَذَا يَفْعَلُونَ فَقَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأفضل مني لِأَنِّي أَنا قصرت حَيْثُ أَنا بَين يَديك
وَمَعَ تفضيلنا معشر النَّصَارَى فَإِنِّي أعرف رجلا فِي خدمتك وأفضالك وأرزاقك جَارِيَة عَلَيْهِ من النَّصَارَى يتهاون بهَا ويبصق عَلَيْهَا وَهُوَ زنديق ملحد لَا يقر بالوحدانية وَلَا يعرف آخِرَة يسْتَتر بالنصرانية وَهُوَ معطل مكذب بالرسل
فَقَالَ لَهُ المتَوَكل من هَذَا الَّذِي هَذِه صفته فَقَالَ لَهُ حنين المترجم
فَقَالَ المتَوَكل أوجه أحضرهُ فَإِن كَانَ الْأَمر على مَا وصفت نكلت بِهِ(1/266)
وخلدته المطبق مَعَ مَا أتقدم بِهِ فِي أمره من التَّضْيِيق عَلَيْهِ وتجديد الْعَذَاب
فَقَالَ أَنا أحب أَن يُؤَخر مولَايَ أَمِير الْمُؤمنِينَ إِلَى أَن أخرج وأقيم سَاعَة ثمَّ تَأمر بإحضاره
فَقَالَ إِنِّي أفعل ذَلِك
فَخرج بختيشوع من الدَّار وَجَاءَنِي فَقَالَ يَا أَبَا زيد أعزّك الله يَنْبَغِي أَن تعلم أَنه قد أهْدى إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ قونة قد عظم عجبه بهَا وأحسبها من صور الشَّام وَقد استحسنها جدا
وَأَن نَحن تركناها عِنْده ومدحناها بَين يَدَيْهِ تولع بِنَا بهَا فِي كل وَقت
وَقَالَ هَذَا ربكُم وَأمه مصورين
وَقد قَالَ لي أَمِير الْمُؤمنِينَ انْظُر إِلَى هَذِه الصُّورَة مَا أحْسنهَا وأيش تَقول فِيهَا فَقلت لَهُ صُورَة مثلهَا يكون فِي الحمامات وَفِي البيع وَفِي الْمَوَاضِع المصورة
وَهَذَا مِمَّا لَا نبالي بِهِ وَلَا نلتفت إِلَيْهِ
فَقَالَ وَلَيْسَ هِيَ عنْدك شَيْء قلت لَا قَالَ فَإِن تكن صَادِقا فأبصق عَلَيْهَا فبصقت وَخرجت من عِنْده وَهُوَ يضْحك ويعطعط بِي
وَإِنَّمَا فعلت ذَلِك ليرمي بهَا وَلَا يكثر الولع بِنَا بِسَبَبِهَا ويميزنا دَائِما
وَلَا سِيمَا أَن حرد أحد من ذَلِك فَإِن الولع يكون أَزِيد
وَالصَّوَاب أَن دَعَا بك وسألك عَن مثل مَا سَأَلَني أَن تفعل كَمَا فعلت أَنا
فَإِنِّي قد عملت على لِقَاء سَائِر من يدْخل إِلَيْهِ من أَصْحَابنَا وأتقدم إِلَيْهِم أَن يَفْعَلُوا مثل ذَلِك
فَقبلت مَا وصاني بِهِ وَجَازَت عَليّ سخريته وَانْصَرف
فَمَا كَانَ إِلَّا سَاعَة حَتَّى جَاءَنِي رَسُول أَمِير الْمُؤمنِينَ فأخذني إِلَيْهِ
فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ إِذْ القونة مَوْضُوعَة بَين يَدَيْهِ فَقَالَ لي يَا حنين ترى مَا أحسن هَذِه الصُّورَة وأعجبها فَقلت وَالله إِنَّه لَكمَا ذكر أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَقَالَ فأيش تَقول فِيهَا فَقَالَ أَو لَيْسَ هِيَ صُورَة ربكُم وَأمه فَقلت معَاذ الله يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أإن لله تَعَالَى صُورَة أَو يصور وَلَكِن هَذَا مِثَال فِي سَائِر الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا الصُّور
فَقَالَ فَهَذِهِ لَا تَنْفَع وَلَا تضر
فَقلت هُوَ كَذَلِك يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ
فَقَالَ فَإِن كَانَ الْأَمر على مَا ذكرت فأبصق عَلَيْهَا
فبصقت عَلَيْهَا فللوقت أَمر بحبسي
وَوجه إِلَى ثوذسيس الجاثليق فَأحْضرهُ
فَلَمَّا دخل عَلَيْهِ وَرَأى القونة مَوْضُوعَة بَين يَدَيْهِ وَقع عَلَيْهَا قبل أَن يَدْعُو لَهُ فأعتنقها وَلم يزل يقبلهَا ويبكي طَويلا
فَذهب الخدم ليمنعوه فَأمر بِتَرْكِهِ
فَلَمَّا قبلهَا طَويلا على تيك الْحَالة أَخذهَا بِيَدِهِ وَقَامَ قَائِما فَدَعَا لأمير الْمُؤمنِينَ وَأَطْنَبَ فِي دُعَائِهِ فَرد عَلَيْهِ وَأمره بِالْجُلُوسِ
فَجَلَسَ وَترك القونة فِي حجره
فَقَالَ لَهُ المتَوَكل أَي فعل هَذَا تَأْخُذ شَيْئا كَانَ بَين يَدي وتتركه فِي حجرك عَن غير إذني فَقَالَ لَهُ الجاثليق نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ أَنا أَحَق بِهَذِهِ الَّتِي بَين يَديك
وَإِن كَانَ لأمير الْمُؤمنِينَ أَطَالَ الله بَقَاءَهُ أفضل الْحُقُوق غير أَن ديانتي لم تدعني أَن أدع صُورَة ساداتي مرمية على الأَرْض وَفِي مَوضِع لَا يعرف مقدارها بل لَعَلَّه أَن يعرف لَهَا قدره لِأَن هَذِه حَقّهَا أَن تكون فِي مَوضِع يعرف فِيهِ حَقّهَا ويسرج بَين يَديهَا أفضل الأدهان من حَيْثُ لَا تطفأ قناديلها مَعَ مَا يبخر بِهِ بَين يَديهَا من أطابيب البخور فِي أَكثر الْأَوْقَات
فَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ فدعها فِي حجرك الْآن فَقَالَ الجاثليق إِنِّي أسأَل مولَايَ أَمِير الْمُؤمنِينَ أَن(1/267)
يجود بهَا عَليّ وَيعْمل على أَنه قد يقطعني مَا مِقْدَار قِيمَته مائَة ألف دِينَار فِي كل سنة حَتَّى أَقْْضِي من حَقّهَا مَا يجب عَليّ ثمَّ يسألني أَمِير الْمُؤمنِينَ مَا أحب بعد ذَلِك فِيمَا أرسل إِلَيّ بِسَبَبِهِ
فَقَالَ لَهُ قد وهبتها لَك وَأَنا أُرِيد أَن تعرفنِي مَا جَزَاء من بَصق عَلَيْهَا عنْدك فَقَالَ لَهُ الجاثليق إِن كَانَ مُسلما فَلَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يعرف مقدارها لَكِن يعرف ذَلِك ويلام ويوبخ على مُقَدرا مَا فعل حَتَّى لَا يعود إِلَى مثل ذَلِك مرّة أُخْرَى
وَإِن كَانَ نَصْرَانِيّا وَكَانَ جَاهِلا لَا يفهم وَلَا معرفَة عِنْده فيلام ويزجر بَين النَّاس ويتهدد بالجروم الْعَظِيمَة ويعذل حَتَّى يَتُوب وَبِالْجُمْلَةِ أَن هَذَا فعل لَا يقوم عَلَيْهِ إِلَّا جَاهِل لَا يعرف مِقْدَار الدّيانَة
فَإِن كَانَ عَاقِلا وَقد بَصق عَلَيْهَا فقد بَصق على مَرْيَم أم سيدنَا وعَلى سيدنَا الْمَسِيح
فَقَالَ لَهُ أَمِير الْمُؤمنِينَ فَمَا الَّذِي يجب على من فعل ذَلِك عنْدك فَقَالَ مَا عِنْدِي يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِذْ كنت لَا سُلْطَان لي إِن أعاقبه بِسَوْط أَبُو بعصا وَلَا لي حبس ضنك بل أحرمهُ وأمنعه من الدُّخُول إِلَى البيع وَمن القربان وَأَمْنَع النَّصَارَى من ملابسته وَكَلَامه وأضيق عَلَيْهِ وَلَا يزَال مرفوضا عندنَا إِلَى أَن يَتُوب ويقلع عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ وينتقل وَيتَصَدَّق بِبَعْض مَاله على الْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِين مَعَ لُزُوم الصَّوْم وَالصَّلَاة فَحِينَئِذٍ نرْجِع إِلَى مَا قَالَ كتَابنَا وَهُوَ أَن لم تعفوا للخاطئين لم يغْفر لكم خطاياكم فنحل حرم الْجَانِي وَنَرْجِع إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ
ثمَّ أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَمر الجاثليق بِأَن يَأْخُذ القونة وَقَالَ لَهُ افْعَل بهَا مَا تُرِيدُ وَأمر لَهُ مَعهَا ببدرة دَرَاهِم وَقَالَ لَهُ انفق مَا تَأْخُذهُ على قونتك
فَلَمَّا خرج الجاثليق لبث قَلِيلا يتعجب مِنْهُ وَمن محبته لمعبوده وتعظيمه إِيَّاه
ثمَّ قَالَ إِن هَذَا الْأَمر عَجِيب
ثمَّ أَمر بإحضاري فأحضرت إِلَيْهِ وأحضر السَّوْط والحبال وَأمر بِي فشددت مُجَردا بَين يَدَيْهِ وَضربت مائَة سَوط وَأمر باعتقالي والتضييق عَليّ
وَوجه فَحمل جَمِيع مَا كَانَ لي من رَحل وأثاث وَكتب وَمَا شاكل ذَلِك وَأمر بِنَقْض منازلي إِلَى المَاء وأقمت فِي دَاخل دَاره معتقلا سِتَّة أشهر فِي أَسْوَأ مَا يكون من الْحَال حَتَّى صرت رَحْمَة لمن رَآنِي
وَكَانَ أَيْضا فِي كل يسير من الْأَيَّام يُوَجه يضربني ويجدد لي الْعَذَاب
فَلم أزل على مَا شرحته إِلَى أَن أعتل أَمِير الْمُؤمنِينَ وَذَلِكَ فِي الْيَوْم الْخَامِس من الشَّهْر الرَّابِع من يَوْم حبسي وَكَانَت علته صعبة جدا فَأقْعدَ وَلم تمكنه الْحَرَكَة وأيس مِنْهُ وأيس هُوَ أَيْضا من نَفسه
وَمَعَ ذَلِك فَإِن أعدائي الْأَطِبَّاء عِنْده لَيْلًا وَنَهَارًا وَلَا يزايلونه سَاعَة وَاحِدَة وهم يعالجونه ويداوونه ويسألونه فِي كل وَقت فِي أَمْرِي وَيَقُولُونَ لَهُ لَو أراحنا مَوْلَانَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من ذَلِك الزنديق الملحد لأراح مِنْهُ الدُّنْيَا وانكشف عَن الدّين مِنْهُ محنة عَظِيمَة
فَلَمَّا طَالَتْ مسألتهم لَهُ فِي أَمْرِي وَكثر ذكرهم لي بَين يَدَيْهِ بِكُل سوء قَالَ لَهُم فَمَا الَّذِي يسركم أَن أفعل بِهِ قَالُوا تريح الْعَالم مِنْهُ وَكَانَ مَعَ ذَلِك كل من سَأَلَ فِي أَمْرِي وَتشفع فِي من أصدقائي يَقُول بختيشوع يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هَذَا بعض تلاميذه وَهُوَ يعْتَقد اعْتِقَاده فيقل الْمعِين لي وَيكثر المحرك عَليّ وأيست من الْحَيَاة فَقَالَ لَهُم أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقد لجوا عَلَيْهِ فِي السُّؤَال فَإِنِّي أَقتلهُ فِي غَد يَوْمنَا هَذَا وأريحكم مِنْهُ
فسر بذلك الْجَمَاعَة وَانْصَرفُوا على مَا يحبونَ(1/268)
فَجَاءَنِي بعض الخدم وَقَالَ لي أَنه جرى فِي أَمرك الْعَيْش كَذَا وَكَذَا فَسَأَلت الله عز وَجل التفضل بِمَا لم تزل أياديه إِلَيّ بإمثاله مَعَ مَا أَنا فِيهِ من كَثْرَة الاهتمام وشغل الْقلب مِمَّا أَخَاف نُزُوله بِي فِي غَد بِغَيْر جرم أستوجبه وَلَا جِنَايَة جنيتها بل بحيلة من احتال عَليّ وطاعتي من أغتالني
وَقلت اللَّهُمَّ أَنَّك عَالم براءتي فَأَنت أولى بنصرتي
وَطَالَ بِي الْفِكر إِلَى أَن حَملَنِي النّوم فَإِذا بهاتف يحركني وَيَقُول لي قُم فاحمد الله وأثن عَلَيْهِ فقد خلصك من أَيدي أعدائك وَجعل عَافِيَة أَمِير الْمُؤمنِينَ على يَديك فطب نفسا فانتبهت مَرْعُوبًا ثمَّ قلت كلما كثر ذكره فِي الْيَقَظَة لم تنكر رُؤْيَته عِنْد النّوم
فَلم أزل أَحْمد الله وأثني عَلَيْهِ إِلَى أَن جَاءَ وَجه الصُّبْح فَجَاءَنِي الْخَادِم فَفتح عَليّ الْبَاب وَلم يكن وقته الَّذِي كَانَ يجيئني فِيهِ فَقلت هَذَا وَقت مُنكر جَاءَنِي مَا وعدت بِهِ البارحة
وَقد جَاءَ وَقت رِضَاء أعدائي وشماتتهم بِي واستعنت بِاللَّه
فَمَا جلس الْخَادِم إِلَّا هنيهة إِذْ جَاءَ غُلَامه وَمَعَهُ مزين ثمَّ قَالَ تقدم يَا مبارك ليؤخذ من شعرك
فتقدمت فَأخذ من شعري ثمَّ مضى بِي إِلَى الْحمام فَأمر بغسلي وتنظيفي وَالْقِيَام عَليّ بالطيب كَمَا أمره مولَايَ أَمِير الْمُؤمنِينَ
ثمَّ خرجت من الْحمام فَطرح عَليّ ثيابًا فاخرة وردني إِلَى مقصورته إِلَى أَن حضر سَائِر الْأَطِبَّاء عِنْد أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأخذ كل وَاحِد مِنْهُم مَوْضِعه
فدعاني أَمِير الْمُؤمنِينَ وَقَالَ هاتوا حنينا فَلم تشك الْجَمَاعَة أَنه إِنَّمَا دَعَاني لقتلي فأدخلت إِلَيْهِ فَنظر إِلَيّ وَلم يزل يدنيني إِلَى أَن أجلسني بَين يَدَيْهِ وَقَالَ لي قد غفرت لَك ذَنْبك وأجبت السَّائِل فِيك فاحمد الله على حياتك واشر عَليّ بِمَا ترى فقد طَالَتْ علتي
فَأخذت مجسته وأشرت بِأخذ خِيَار شنبر منقى من قصبه وترنجبين لِأَنَّهُ شكا اعتقالا مَعَ مَا كَانَ يُوجِبهُ الصُّورَة من اسْتِعْمَال هَذَا الدَّوَاء
فَقَالَ الْأَطِبَّاء الْأَعْدَاء نَعُوذ بِاللَّه يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ من اسْتِعْمَال هَذَا الدَّوَاء إِذْ كَانَ لَهُ غائلة ردية
فَقَالَ لَهُم أَمْسكُوا فقد أمرت أَن آخذ مَا يصفه لي ثمَّ إِنَّه أَمر بإصلاحه فَأصْلح وَأَخذه لوقته
ثمَّ قَالَ لي يَا حنين اجْعَلنِي من كل مَا فعلته بك فِي حل فشفيعك إِلَيّ قوي فَقلت لَهُ مولَايَ أَمِير الْمُؤمنِينَ فِي حل من دمي فَكيف وَقد من عَليّ بِالْحَيَاةِ
ثمَّ قَالَ تسمع الْجَمَاعَة مَا أقوله فنصتوا إِلَيْهِ فَقَالَ اعلموا أَنكُمْ انصرفتم البارحة مسَاء على أَنِّي أبكر أقتل حنينا كَمَا ضمنت لكم فَلم أزل أقلق إِلَى نصف من اللَّيْل متوجعا فَلَمَّا كَانَ ذَلِك الْوَقْت أغفيت فَرَأَيْت كَأَنِّي جَالس فِي مَوضِع ضيق وَأَنْتُم معشر الْأَطِبَّاء بعيدون عني بعدا كثيرا مَعَ سَائِر خدمي وحاشيتي وَأَنا أَقُول لكم وَيحكم مَا تنْظرُون إِلَيّ فِي أَي مَوضِع أَنا هَذَا يصلح لمثلي وَأَنْتُم سكُوت لَا تُجِيبُونِي عَمَّا أخاطبكم بِهِ
فَإِذا أَنا كَذَلِك حَتَّى أشرق عَليّ فِي ذَلِك الْموضع ضِيَاء عَظِيم مهول حَتَّى رعبت مِنْهُ
وَإِذا أَنا بِرَجُل قد وافى جميل الْوَجْه وَمَعَهُ آخر خَلفه عَلَيْهِ ثِيَاب حَسَنَة فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك
فَرددت عَلَيْهِ
فَقَالَ لي تعرفنِي فَقلت لَا فَقَالَ أَنا الْمَسِيح فقلقت وتزعزعت وَقلت من هَذَا الَّذِي مَعَك فَقَالَ حنين بن إِسْحَق
فَقلت أعذرني فلست أقدر أَن أقوم أصافحك فَقَالَ اعْفُ عَن حنين وأغفر ذَنبه فقد غفر الله لَهُ
وَأَقْبل مَا يُشِير بِهِ عَلَيْك فَإنَّك تَبرأ من علتك
فانتبهت وَأَنا مغموم بِمَا جرى على حنين مني وَمُفَكِّرٌ فِي قُوَّة شفيعه إِلَيّ وَأَن حَقه الْآن عَليّ(1/269)
وَاجِب فانصرفوا ليلزمني كَمَا أمرت وليحمل إِلَيّ كل وَاحِد مِنْكُم عشرَة آلَاف دِرْهَم لتَكون دِيَة من سَأَلَ فِي قَتله
وَهَذَا المَال يلْزم من حضر الْمجْلس البارحة وَسَأَلَ فِي قَتله وَمن لم يكن حَاضرا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَمن لم يحمل مَا أمرت بِحمْلِهِ من هَذَا المَال لَأَضرِبَن عُنُقه
ثمَّ قَالَ لي اجْلِسْ أَنْت والزم رتبتك
وَخرج الْجَمَاعَة فَحمل كل وَاحِد مِنْهُم عشرَة آلَاف دِرْهَم
فَلَمَّا اجْتمع سَائِر مَا حملوه أَمر بِأَن يُضَاف إِلَيْهِ مثله من خزانته فَكَانَ زَائِدا عَن مِائَتي ألف دِرْهَم وَأَن يسلم إِلَيّ فَفعل ذَلِك
فَلَمَّا كَانَ آخر النَّهَار وَقد أَقَامَهُ الدَّوَاء ثَلَاثَة مجَالِس أحس بصلاح وخف مَا كَانَ يجد
فَقَالَ يَا حنين أبشر بِكُل مَا تحب
فقد عظمت رتبتك عِنْدِي وزادت طبقتك أَضْعَاف مَا كنت عَلَيْهِ عِنْدِي فسأعوضك أَضْعَاف مَا كَانَ لَك وأحوج أعداءك إِلَيْك وأرفعك على سَائِر أهل صناعتك
ثمَّ أَنه أَمر بإصلاح ثَلَاث دور من دوره الَّتِي لم أسكن قطّ مُنْذُ نشأت فِي مثلهَا وَلَا رَأَيْت لأحد من أهل صناعتي مثلهَا
وَحمل إِلَيْهَا سَائِر مَا كنت مُحْتَاجا من الْأَوَانِي والفرش والآلة والكتب وَمَا يشاكل ذَلِك بعد أَن أشهد لي بالدور وتوثق لي بشهادات الْعُدُول لِأَنَّهَا كَانَت خطيرة فِي قيمتهَا لِأَنَّهَا تقوم بألوف دَنَانِير فلمحبته لي وميله إِلَيّ أحب أَن تكون لي ولعقبي وَلَا تكون عَليّ حجَّة لمعترض
فَلَمَّا فرغ مِمَّا أَمر بِهِ من الْحمل إِلَى الدّور وَجَمِيع مَا ذكر وتعليقها بأنواع الستور وَلم يبْق غير الْمُضِيّ إِلَيْهَا أَمر بِحمْل المَال الضعْف الْكثير بَين يَدي وحملني على خَمْسَة أرؤس من خِيَار بغلاته الْخَاصَّة بمواكبها
ووهب لي ثَلَاثَة خدم روم وَأمر لي فِي كل شهر بِخَمْسَة عشر ألف دِرْهَم وَأطلق لي الْفَائِت من رِزْقِي فِي وَقت حبسي فَكَانَ شَيْئا كثيرا
وَحمل من جِهَة الخدم وَالْحرم وَسَائِر الْحَاشِيَة والأهل مَا لَا يُمكن أَن يُحْصى من الْأَمْوَال وَالْخلْع والإقطاع
وحصلت وظائفي الَّتِي كنت آخذها خَارج الدَّار من سَائِر النَّاس آخذها من دَاخل الدَّار وصرت الْمُقدم على سَائِر الْأَطِبَّاء من أعواني وَغَيرهم
وَهَذَا تمّ لي لما لحقتني السَّعَادَة التَّامَّة وَهَذَا مَا جرى عَليّ بعداوة الأشرار كَمَا قَالَ جالينوس أَن الأخيار من النَّاس قد يَنْتَفِعُونَ بأعدائهم الأشرار
ولعمري لقد لحق جالينوس محن عَظِيمَة إِلَّا أَنَّهَا لم تكن تبلغ إِلَى مَا بلغت بِي أَنا هَذِه المحن وَإِنِّي لأعْلم مرَارًا كَثِيرَة إِن أول من كَانَ يعدو إِلَى بَاب دَاري فِي حَاجَة تكون لَهُ إِلَى أَمِير الْمُؤمنِينَ أَو أَن يسألني عَن مرض قد حَار فِيهِ أحد أعدائي الَّذين قد عرفتك مَا لَحِقَنِي مِنْهُم
وَكنت وَحقّ معبودي الْعلَّة الأولى أسارع فِي قَضَاء حوائجهم وأخلص لَهُم الْمَوَدَّة وَلم أكافئهم على شَيْء مِمَّا صنعوه بِي وَلَا وَاحِدًا مِنْهُم أَخَذته بذلك
فَكَانَ سَائِر النَّاس يتعجبون من حسن قضائي حوائجهم بعد مَا كَانُوا يسمعونهم يَقُولُونَ فِي عِنْد النَّاس وخاصة عِنْد مولَايَ أَمِير الْمُؤمنِينَ
وصرت انقل لَهُم الْكتب على الرَّسْم بِغَيْر عوض وَلَا جَزَاء وأسارع إِلَى جَمِيع محابهم بعد أَن كنت إِذا نقلت لأَحَدهم كتابا أخذت مِنْهُ وَزنه دَرَاهِم
أَقُول وجدت من هَذِه الْكتب كتبا كَثِيرَة وَكَثِيرًا مِنْهَا أقتنيته وَهِي مَكْتُوبَة مولد الْكُوفِي بِخَط الْأَزْرَق كَاتب حنين وَهِي حُرُوف كبار بِخَط غليظ فِي أسطر مُتَفَرِّقَة وورقها كل ورقة مِنْهَا بغلظ مَا يكون من هَذِه الأوراق المصنوعة يَوْمئِذٍ ثَلَاث وَرَقَات أَو أَربع وَذَلِكَ فِي تقطيع مثل ثلث(1/270)
الْبَغْدَادِيّ
وَكَانَ قصد حنين بذلك تَعْظِيم حجم الْكتاب وتكثير وَزنه لأجل مَا يُقَابل بِهِ من وَزنه دَرَاهِم وَكَانَ ذَلِك الْوَرق يَسْتَعْمِلهُ بِالْقَصْدِ وَلَا جرم أَن لغلظه بَقِي هَذِه السنين المتطاولة من الزَّمَان
قَالَ حنين وَإِنَّمَا ذكرت سَائِر مَا تقدم ذكره ليعلم الْعَاقِل أَن المحن قد تنزل بالعاقل وَالْجَاهِل والشديد والضعيف وَالْكَبِير وَالصَّغِير
وَأَنَّهَا وَإِن كَانَت لَا شكّ وَاقعَة بِهَذِهِ الطَّبَقَات الَّتِي ذكرنَا فَمَا سَبِيل الْعَاقِل أَن ييأس من تفضل الله عَلَيْهِ بالخلاص مِمَّا بلي بِهِ بل يَثِق وَبِحسن ثقته بخالقه وَيزِيد فِي تَعْظِيمه وتمجيده
فَالْحَمْد لله الَّذِي من عَليّ بتجديد الْحَيَاة وأظهرني على أعدائي الظَّالِمين لي وَجَعَلَنِي أفضلهم رُتْبَة وَأَكْثَرهم حَالا حمدا جَدِيدا دَائِما وَهَذَا جملَة قَول حنين بن إِسْحَق بِلَفْظِهِ
وَمن كَلَام حنين قَالَ اللَّيْل نَهَار الأديب
ولحنين بن إِسْحَق من الْكتب كتاب الْمسَائِل وَهُوَ الْمدْخل إِلَى صناعَة الطِّبّ لِأَنَّهُ قد جمع فِيهِ جملا وجوامع تجْرِي مجْرى المبادئ والأوائل لهَذَا الْعلم وَلَيْسَ جَمِيع هَذَا الْكتاب لحنين بل أَن تِلْمِيذه الأعسم حبيشا تممه
وَلِهَذَا قَالَ ابْن أبي صَادِق فِي شَرحه لَهُ أَن حنينا جمع مَعَاني هَذَا الْكتاب فِي طروس ومسودات بيض مِنْهَا الْبَعْض فِي مُدَّة حَيَاته
ثمَّ إِن حُبَيْش بن الْحسن تِلْمِيذه وَابْن أُخْته رتب الْبَاقِي بعده وَزَاد فِيهِ من عِنْده زَوَائِد وألحقها بِمَا أثْبته حنين فِي دستوره
وَلذَلِك يُوجد هَذَا الْكتاب معنونا بِكِتَاب الْمسَائِل لحنين بِزِيَادَات حُبَيْش الأعسم
وَالَّذِي يُوجد فِي النّسخ من هَذَا الْكتاب أَن زيادات حُبَيْش من عِنْد ذكره أَوْقَات الْأَمْرَاض الْأَرْبَعَة إِلَى آخر الْكتاب
وَقَالَ ابْن أبي صَادِق أَن زيادات حُبَيْش إِنَّمَا هِيَ من الْكَلَام فِي الترياق وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِأَنَّهُ قَالَ ثمَّ إِن حنين بن إِسْحَق عمل مقالتين شرح فيهمَا مَا قَالَه جالينوس فِي الترياق
وَلَو كَانَ قَالَه حنين لَكَانَ يَقُول ثمَّ إِنِّي عملت مقالتين شرحت فيهمَا كَذَا وَكَذَا
وَقيل إِن حنينا شرع فِي تأليف هَذَا الْكتاب فِي أَيَّام المتَوَكل وَقد جعله رَئِيس الْأَطِبَّاء بِبَغْدَاد
كتاب الْعشْر مقالات فِي الْعين وَهَذَا الْكتاب يُوجد فِي نُسْخَة اخْتِلَاف كثير وَلَيْسَ مقالاته على وَاحِد
فَإِن بَعْضهَا تُوجد مختصرة موجزة فِي الْمَعْنى الَّذِي هِيَ فِيهِ وَالْبَعْض الآخر قد طول فِيهِ وَزَاد عَمَّا يُوجِبهُ تأليف الْكتاب
وَالسَّبَب فِي ذَلِك أَن كل مقَالَة مِنْهُ كَانَت بمفردها من غير التئام لَهَا مَعَ غَيرهَا
وَذَلِكَ لِأَن حنينا يَقُول فِي الْمقَالة الْأَخِيرَة من هَذَا الْكتاب أَنِّي قد كنت ألفت مُنْذُ نَيف وَثَلَاثِينَ سنة فِي الْعين مقالات مُفْردَة نحوت فِيهَا إِلَى أغراض شَتَّى
سَأَلَني تأليفها قوم بعد قوم قَالَ ثمَّ إِن حبيشا سَأَلَني أَن أجمع لَهُ ذَلِك وَهُوَ تسع مقالات وأجعله كتابا وَاحِدًا وَأَن أضيف لَهُ للتسع مقالات الْمَاضِيَة مقَالَة أُخْرَى أذكر فِيهَا كتبهمْ لعلل الْعين
وَهَذَا ذكر أغراض المقالات الَّتِي يضمها هَذَا الْكتاب
الْمقَالة الأولى يذكر فِيهَا طبيعة الْعين وتركيبها
والمقالة الثَّانِيَة يذكر فِيهَا طبيعية الدِّمَاغ ومنافعه
الْمقَالة الثَّالِثَة يذكر فِيهَا العصب الباصر وَالروح الباصر وَفِي نفس الْأَبْصَار كَيفَ يكون(1/271)
والمقالة الرَّابِعَة فِيهَا جمل الْأَشْيَاء الَّتِي لَا بُد مِنْهَا فِي حفظ الصِّحَّة واختلافها
الْمقَالة الْخَامِسَة يذكر فِيهَا أَسبَاب الْأَعْرَاض الكائنة فِي الْعين
الْمقَالة السَّادِسَة فِي عَلَامَات الْأَمْرَاض الَّتِي تحدث فِي الْعين
الْمقَالة السَّابِعَة يذكر فِيهَا قوى جَمِيع الْأَدْوِيَة عَامَّة
الْمقَالة الثَّامِنَة يذكر فِيهَا أَجنَاس الْأَدْوِيَة للعين خَاصَّة وأنواعها
الْمقَالة التَّاسِعَة يذكر فِيهَا مداواة أمراض الْعين
الْمقَالة الْعَاشِرَة فِي الْأَدْوِيَة المركبة الْمُوَافقَة لعلل الْعين
وَوجدت مقَالَة أُخْرَى حادية عشرَة لحنين مُضَافَة إِلَى هَذَا الْكتاب يذكر فِيهَا علاج الْأَمْرَاض الَّتِي تعرض فِي الْعين بالحديد
كتاب فِي الْعين على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب ثَلَاث مقالات أَلفه لِوَلَدَيْهِ داؤد وَإِسْحَق وَهُوَ مِائَتَان وتسع مسَائِل
اخْتِصَار السِّتَّة عشر كتابا لِجَالِينُوسَ على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب اخْتَصَرَهُ أَيْضا لِوَلَدَيْهِ وَأكْثر مَا أَلفه من الْكتب على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب إِنَّمَا غَرَضه بهَا إِلَى هَذَا الْقَصْد
كتاب الترياق مقالتان
اخْتِصَار كتاب جالينوس فِي الْأَدْوِيَة المفردة إِحْدَى عشرَة مقَالَة اخْتَصَرَهُ بالسرياني وَإِنَّمَا نقل مِنْهُ إِلَى الْعَرَبِيّ الْجُزْء الأول وَهُوَ خمس مقالات نقلهَا لعَلي بن يحيى
مقَالَة فِي ذكر مَا ترْجم من كتب جالينوس وَبَعض مَا لم يترجم كتبهَا إِلَى عَليّ بن يحيى المنجم
مقَالَة فِي ثَبت الْكتب الَّتِي لم يذكرهَا جالينوس فِي فهرست كتبه وصف فِيهَا جَمِيع مَا وجد لِجَالِينُوسَ من الْكتب الَّتِي لَا يشك أَنَّهَا لَهُ وَقَالَ أَن جالينوس يكون صنفها بعد وَضعه الفهرست
مقَالَة فِي اعتذاره لِجَالِينُوسَ فِيمَا قَالَه فِي الْمقَالة السَّابِقَة من كتاب آراء أبقراط وأفلاطن
جمل مقَالَة جالينوس فِي أَصْنَاف الغلظ الْخَارِج عَن الطبيعة على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
جَوَامِع كتاب جالينوس فِي الذبول على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
جَوَامِع كتاب جالينوس فِي أَن الطَّبِيب الْفَاضِل يجب أَن يكون فيلسوفا على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
جَوَامِع كتاب جالينوس فِي كتب أبقراط الصَّحِيحَة وَغير الصَّحِيحَة
جَوَامِع كتاب جالينوس فِي الْحَث على تعلم الطِّبّ على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
جَوَامِع كتاب الْمَنِيّ لِجَالِينُوسَ على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
ثمار تَفْسِير جالينوس لكتاب الْفُصُول لأبقراط على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب سبع مقالات وَكَانَ تأليفه لَهُ بالسرياني وَإِنَّمَا نقل مِنْهُ إِلَى الْعَرَبِيّ الْمقَالة الأولى وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة وَالرَّابِعَة
وَأما الثَّلَاث المقالات الْبَاقِيَة فنقلها إِلَى الْعَرَبِيّ عِيسَى بن سهر بخت
ثمار تَفْسِير جالينوس لكتاب تقدمة الْمعرفَة على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
ثمار تَفْسِير جالينوس لكتاب أبقراط فِي تَدْبِير الْأَمْرَاض الحادة على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
ثمار تَفْسِير جالينوس لكتاب أبقراط فِي جراحات الرَّأْس على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
ثمار السَّبع عشرَة مقَالَة الْمَوْجُودَة من كتاب جالينوس لكتاب أبيذيميا لأبقراط على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
ثمار تَفْسِير جالينوس لكتاب قاطيطريون لأبقراط على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
ثمار تَفْسِير جالينوس لكتاب أبقراط فِي الأهوية والأزمنة والبلدان على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب شرح كتاب الْهَوَاء وَالْمَاء والمساكن لأبقراط لم يتم شرح كتاب الْغذَاء لأبقراط ثمار الْمقَالة الثَّالِثَة من(1/272)
تَفْسِير جالينوس لكتاب طبيعة الْإِنْسَان لأبقراط ثمار كتاب أبقراط فِي المولدين لثمانية أشهر
فُصُول استخرجها من كتاب أبيذيميا
فُصُول استخرجها من كتاب الأهوية والبلدان وَمِمَّا فِي كتاب الْفُصُول من الْكَلَام فِي الأهوية والبلدان بتفسير جالينوس
مقَالَة فِي تَدْبِير الناقهين ألفها لأبي جَعْفَر مُحَمَّد بن مُوسَى
رِسَالَة فِي قرص الْعود رِسَالَة إِلَى الطيفوري فِي قرص الْورْد
كتاب إِلَى الْمُعْتَمد فِيمَا سَأَلَهُ عَنهُ من الْفرق بَين الْغذَاء والدواء المسهل ثَلَاث مقالات كتاب قوى الأغذية ثَلَاث مقالات كتاب فِي كَيْفيَّة إِدْرَاك الدّيانَة مسَائِل فِي الْبَوْل انتزعها من كتاب أبيذيميا لأبقراط
مقَالَة فِي تولد الْفروج بَين فِيهَا أَن تولد الْفروج إِنَّمَا هُوَ من بَيَاض الْبَيْضَة واغتذاؤه من المح الَّذِي فِيهَا
مسَائِل استخرجها من كتب الْمنطق الْأَرْبَعَة
مقَالَة فِي الدَّلَائِل وصف فِيهَا أبوابا من الدَّلَائِل الَّتِي يسْتَدلّ بهَا على معرفَة كل وَاحِد من الْأَمْرَاض
كتاب فِي النبض كتاب فِي الحميات كتاب فِي الْبَوْل مستخرج من كتاب أبقراط وجالينوس كتاب فِي معرفَة أوجاع الْمعدة وعلاجها مقالتان كتاب فِي حالات الْأَعْضَاء
مقَالَة فِي مَاء الْبُقُول
كتاب فِي اليبس كتاب فِي حفظ الْأَسْنَان واللثة كتاب فِيمَن يُولد لثمانية أشهر على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب أَلفه لأم ولد المتَوَكل كتاب فِي امتحان الْأَطِبَّاء كتاب فِي طبائع الأغذية وتدبير الْأَبدَان كتاب فِي أَسمَاء الْأَدْوِيَة المفردة على حُرُوف المعجم كتاب فِي مسَائِله الْعَرَبيَّة كتاب فِي تَسْمِيَة الْأَعْضَاء على مَا رتبها جالينوس كتاب فِي تركيب الْعين
مقَالَة فِي الْمَدّ والجزر كتاب فِي أَفعَال الشَّمْس وَالْقَمَر كتاب فِي تَدْبِير السوداويين كتاب فِي تَدْبِير الأصحاء بالمطعم وَالْمشْرَب
كتاب فِي اللَّبن كتاب فِي تَدْبِير المستسقين كتاب فِي أسرار الْأَدْوِيَة المركبة كتاب فِي أسرار الفلاسفة فِي الباه
جَوَامِع كتاب السَّمَاء والعالم كتاب فِي الْمنطق كتاب فِي النَّحْو
مقَالَة فِي خلق الْإِنْسَان وَإنَّهُ من مصْلحَته والتفضل عَلَيْهِ جعل مُحْتَاجا
كتاب فِيمَا يقْرَأ قبل كتب أفلاطن مقَالَة فِي تولد النَّار بَين الحجرين
كتاب الْفَوَائِد ومقالة فِي الْحمام مقَالَة فِي الْآجَال مقَالَة فِي الدغدغة مقَالَة فِي ضيق النَّفس
كتاب فِي اخْتِلَاف الطعوم
كتاب فِي تشريح آلَات الْغذَاء ثَلَاث مقالات تَفْسِير كتاب النفخ لأبقراط تَفْسِير كتاب حفظ الصِّحَّة لروفس تَفْسِير كتاب الْأَدْوِيَة المكتومة لِجَالِينُوسَ يبين فِيهِ شرح مَا ذكره جالينوس فِي كل وَاحِد من الْأَدْوِيَة
رِسَالَة فِي دلَالَة الْقدر على التَّوْحِيد رِسَالَة إِلَى سلمويه بن بنان عَمَّا سَأَلَهُ من تَرْجَمَة مقَالَة جالينوس فِي الْعَادَات
كتاب فِي أَحْكَام الْإِعْرَاب على مَذْهَب اليونانيين مقالتان مقَالَة فِي السَّبَب الَّذِي من أَجله صَارَت مياه الْبَحْر مالحة مقَالَة فِي الألوان
كتاب قاطيغورياس على رَأْي ثامسطيوس مقَالَة
مقَالَة فِي تولد الْحَصَاة مقَالَة فِي اخْتِيَار الْأَدْوِيَة المحرقة
كتاب فِي مياه الحمامات على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
كتاب نَوَادِر الفلاسفة والحكماء وآداب المعلمين القدماء كناش اخْتَصَرَهُ من كتاب بولس
مقَالَة فِي تقاسيم علل الْعين
كتاب اخْتِيَار أدوية علل الْعين مقَالَة فِي الصراع
كتاب الفلاحة مقَالَة فِي التَّرْكِيب مِمَّا وَافقه عَلَيْهِ الفاضلان أبقراط وجالينوس مقَالَة تتَعَلَّق بِحِفْظ الصِّحَّة وَغَيرهَا كَلَام فِي الأثار العلوية مقَالَة فِي قَوس قزَح
كتاب تَارِيخ الْعَالم والمبدأ والأنبياء والملوك والأمم وَالْخُلَفَاء(1/273)
والملوك فِي الْإِسْلَام وابتدأ فِيهِ من آدم وَمن أَتَى من بعده وَذكر مُلُوك بني إِسْرَائِيل وملوك اليونانيين وَالروم وَذكر ابْتِدَاء الْإِسْلَام وملوك بني أُميَّة وملوك بني هَاشم إِلَى الْوَقْت الَّذِي كَانَ فِيهِ حنين بن إِسْحَق وَهُوَ زمَان المتَوَكل على الله
حل بعض شكوك جاسيوس الإسْكَنْدراني على كتاب الْأَعْضَاء الآلمة لِجَالِينُوسَ رِسَالَة فِيمَا أَصَابَهُ من المحن والشدائد كتاب إِلَى عَليّ بن يحيى جَوَاب كِتَابه فِيمَا دَعَاهُ إِلَيْهِ من دين الْإِسْلَام
جَوَامِع مَا فِي الْمقَالة الأولى وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة من كتاب أبيديميا لأبقراط على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
مقَالَة فِي كَون الْجَنِين جمع من أقاويل جالينوس وبقراط
جَوَامِع تَفْسِير القدماء اليونانيين لكتاب أرسطوطاليس فِي السَّمَاء والعالم مسَائِل مُقَدّمَة لكتاب فرفوريوس الْمَعْرُوف بالمدخل وَيَنْبَغِي أَن يقْرَأ قبل كتاب فرفرويوس شرح كتاب الفراسة لأرسطاطاليس
كتاب دفع مضار الأغذية
كتاب الزِّينَة
كتاب خَواص الْأَحْجَار
كتاب البيطرة
كتاب حفظ الْأَسْنَان
كتاب فِي إِدْرَاك حَقِيقَة الْأَدْيَان
إِسْحَق بن حنين
هُوَ أَبُو يَعْقُوب إِسْحَق بن حنين بن إِسْحَق الْعَبَّادِيّ كَانَ يلْحق بِأَبِيهِ فِي النَّقْل وَفِي مَعْرفَته باللغات وفصاحته فِيهَا إِلَّا أَن نَقله للكتب الطبية قَلِيل جدا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا يُوجد من كَثْرَة نَقله من كتب أرسطوطاليس فِي الْحِكْمَة وشروحها إِلَى لُغَة الْعَرَب
وَكَانَ إِسْحَق قد خدم من خدم أَبوهُ من الْخُلَفَاء والرؤساء
وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى الْقَاسِم بن عبيد الله وخصيصا بِهِ ومتقدما عِنْده يُفْضِي إِلَيْهِ بأسراره
ولإسحق حكايات مستظرفة وأشعار
قَالَ إِسْحَق بن حنين شكا إِلَيّ رجل عِلّة فِي أحشائه فأعطيته معجونا وَقلت لَهُ تنَاوله سحرًا وعرفني خبرك بالْعَشي فَجَاءَنِي غُلَامه برقعة من عِنْده فقرأتها وَإِذا فِيهَا يَا سَيِّدي تناولت الدَّوَاء وَاخْتلفت لَا عدمتك عشرَة مجَالِس أَحْمَر مثل الرِّيق فِي اللزوجة وأخضر مثل السلق فِي البقلية وَوجدت بعده مغسا فِي رَأْسِي وهوسا فِي سرتي فرأيك فِي إِنْكَار ذَلِك على الطبيعة بِمَا ترَاهُ إِن شَاءَ الله
قَالَ فتعجبت مِنْهُ وَقلت لَيْسَ للأحمق إِلَّا جَوَاب يَلِيق بِهِ
وكتبت إِلَيْهِ فهمت رقعتك وَأَنا أتقدم إِلَى الطبيعة بِمَا تحب وأنفذ إِلَيْك الْجَواب إِذا الْتَقَيْنَا وَالسَّلَام
وَلحق إِسْحَق فِي آخر عمره الفالج وَبِه مَاتَ
وَتُوفِّي بِبَغْدَاد فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه وَذَلِكَ فِي شهر(1/274)
ربيع الآخر سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ
وَمن كَلَام إِسْحَق قَالَ قَلِيل الراح صديق الرّوح وكثيرها عَدو الْجِسْم
وَمن شعره
(أَنا ابْن الَّذين استودع الطِّبّ فيهم ... وَسموا بِهِ طِفْل وكهل ويافع)
(يبصرني أرستطاليس بارعا ... يقوم مني منطق لَا يدافع)
(وبقراط فِي تَفْصِيل مَا أثبت الألى ... لنا الضّر والأسقام طب مضارع)
(وَمَا زَالَ جالينوس يشفي صدورنا ... لما اخْتلفت فِيهِ علينا الطبائع)
(وَيحيى بن ماسويه وأهرن قبله ... لَهُم كتب للنَّاس فِيهَا مَنَافِع)
(رأى أَنه فِي الطِّبّ نيلت فَلم يكن ... لنا رَاحَة من حفظهَا وأصابع) الطَّوِيل
ونقلت من خطّ ابْن بطلَان فِي رسَالَته الْمَعْرُوفَة بدعوة الْأَطِبَّاء أَن الْقَاسِم بن عبيد الله وَزِير المعتضد بِاللَّه بلغه أَن أَبَا يَعْقُوب إِسْحَق قد شرب دَوَاء مسهلا فَأحب مداعبته وَكَانَ صديقا لَهُ فَكتب إِلَيْهِ
(أبن لي كَيفَ أمسيت ... وَكم كَانَ من الْحَال)
(وَكم سَارَتْ بك النَّاقة ... نَحْو الْمنزل الْخَالِي) الهزج
فَكتب إِلَيْهِ إِسْحَق بن حنين
(بِخَير كنت مَسْرُورا ... رَضِي الْحَال والبال)
(فَأَما السّير والناقة ... والمرتبع الْخَالِي)
(فإجلالك إنسانيه ... يَا غَايَة آمالي) الهزج
ولإسحق بن حنين من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة
كناش لطيف وَيعرف بكناش الْخُف
كتاب ذكر فِيهِ ابْتِدَاء صناعَة الطِّبّ وَأَسْمَاء جمَاعَة من الْحُكَمَاء والأطباء
كتاب الْأَدْوِيَة الْمَوْجُودَة بِكُل مَكَان كتاب الصّلاح الْأَدْوِيَة المسهلة
اخْتِصَار كتاب أقليدس كتاب المقولات كتاب أيساغوجي وَهُوَ الْمدْخل إِلَى صناعَة الْمنطق
إصْلَاح جَوَامِع الإسكندرانيين لشرح جالينوس لكتاب الْفُصُول لأبقراط
كتاب فِي النبض على جِهَة التَّقْسِيم
مقَالَة فِي الْأَشْيَاء الَّتِي تفِيد الصِّحَّة وَالْحِفْظ وتمنع من النسْيَان ألفها لعبد الله بن شَمْعُون
كتاب فِي الْأَدْوِيَة المفردة
كتاب صَنْعَة العلاج بالحديد
كتاب آدَاب الفلاسفة ونوادرهم
مقَالَة فِي التَّوْحِيد(1/275)
حُبَيْش الأعسم
هُوَ حُبَيْش بن الْحسن الدِّمَشْقِي وَهُوَ ابْن أُخْت حنين بن إِسْحَق وَمِنْه تعلم صناعَة الطِّبّ وَكَانَ يسْلك مَسْلَك حنين فِي نَقله وَفِي كَلَامه وأحواله إِلَّا أَنه كَانَ يقصر عَنهُ
وَقَالَ حنين بن إِسْحَق وَقد ذكره فِي بعض الْمَوَاضِع أَن حبيشا ذكي مطبوع على الْفَهم غير أَنه لَيْسَ لَهُ اجْتِهَاد بِحَسب ذكائه
بل فِيهِ تهاون وَإِن كَانَ ذكاؤه مفرطا وذهنه ثاقبا
وحبيش هُوَ الَّذِي تمم كتاب مسَائِل حنين فِي الطِّبّ الَّذِي وَضعه للمتعلمين وَجعله مدخلًا إِلَى هَذِه الصِّنَاعَة
ولحبيش من الْكتب كتاب إصْلَاح الْأَدْوِيَة المسهلة كتاب الْأَدْوِيَة المفردة كتاب الأغذية
كتاب فِي الاسْتِسْقَاء
مقَالَة فِي النبض على جِهَة التَّقْسِيم
يوحنا بن بختيشوع
كَانَ طَبِيبا متميزا خَبِيرا باللغة اليونانية والسريانية وَنقل من اليوناني إِلَى السرياني كتبا كَثِيرَة وخدم بصناعة الطِّبّ الْمُوفق بِاللَّه طَلْحَة بن جَعْفَر المتَوَكل وَكَانَ يعْتَمد عَلَيْهِ كثيرا ويسميه مفرج كربي
حدث إِبْرَاهِيم بن الْعَبَّاس بن طومار الهامشي قَالَ
كَانَ الْمُوفق إِذا جلس للشراب يقدم بَين يَدَيْهِ صينية ذهب ومغسل ذهب وخرداذى بلور وكوز بلور وَيجْلس يوحنا بن بختيشوع عَن يَمِينه وَيقدم إِلَيْهِ مثل ذَلِك وَكَذَلِكَ بَين يَدي غَالب الطَّبِيب
ثمَّ يقدم إِلَى جَمِيع الجلساء صواني مدهون وقناني زجاج ونارنج قَالَ وسمعته وَقد شكا إِلَى الْمُوفق مَا يجْرِي عَلَيْهِ فِي ضيَاعه فَتقدم الْمُوفق إِلَى صاعد بِأَن يكْتب لَهُ جَمِيع مَا يُرِيد
ثمَّ إِن يوحنا حضر بعد مُدَّة مديدة فعدد على الْمُوفق إحسانه إِلَيْهِ ومعروفة عِنْده وَأَن صاعدا يكدر إحسانه إِلَيْهِ وَيكْتب إِلَى الْعمَّال كتبا فِيمَا يبطل عَلَيْهِ ضيَاعه وأملاكه
فَتقدم إِلَيْهِ الْمُوفق بالإنصراف إِلَى مضربه وأعلمه بكيفية الْفِكر فِي هَذَا
وَوجه الْمُوفق إِلَى صاعد فَأحْضرهُ وَقَالَ لَهُ أَنْت تعلم أَنه لَيْسَ لي فِي هَذِه الدُّنْيَا من استريح إِلَيْهِ وَاعْلَم مَا فِي سويداء قلبِي وَهُوَ مفرج كربي غير يوحنا
وَأَنت دائب الْحِيلَة على تنغيض عيشي بشغل قلبه عَن خدمتي فعل الله بك وَفعل
فَلم يزل صاعد يحلف لَهُ حَتَّى حل سَيْفه ومنطقته وَقَالَ لَهُ امْضِ السَّاعَة مَعَ رَاشد إِلَى مضرب يوحنا وَلَا تدع جهدا فِي أَن تتوصل إِلَى جَمِيع مَا يُحِبهُ وتوثق لَهُ وَخذ خطة بأنك قد بلغت لَهُ كل مَا أَرَادَهُ وأنفذه إِلَيّ مَعَ رَاشد
قَالَ فَمضى وَكنت أَنا أحد من مضى مَعَهُمَا حَتَّى(1/276)
دَخَلنَا إِلَى مضرب يوحنا وَإِذا بِهِ قَاعد على حصر سامان فِي قبَّة لَهُ فَلَمَّا قرب مِنْهُ صاعد قَامَ لَهُ فَسلم عَلَيْهِ وعَلى رَاشد وَعلي وجلسوا وَجَلَست
ثمَّ قَالَ صاعد وَحلف لَهُ فَقَالَ لَهُ وَمَا يَنْفَعنِي وَأَنت تكْتب بضد مَا تظهر
فَأَعَادَ الْيَمين ووثق لَهُ
ثمَّ دَعَا صاعد بمنديل وَجعله فِي حجره وَأخذ القرطاس والقلم وَجعل يكْتب ويخرط الخرائط حَتَّى بلغ مَا أَرَادَهُ يوحنا وأحذ خطه وشهادتي وَمن حضر وأنفذها مَعَ رَاشد إِلَى الْمُوفق بِاللَّه
وَمَا احْتَاجَ يوحنا بعد ذَلِك أَن يستزيد فِي شَيْء من أُمُوره
وليوحنا بن بختيشوع من الْكتب كتاب فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ الطَّبِيب من علم النُّجُوم
بختيشوع بن يوحنا
كَانَ عَالما بصناعة الطِّبّ حظيا من الْخُلَفَاء وَغَيرهم
واختص بِخِدْمَة المقتدر بِاللَّه وَكَانَ لَهُ من المقتدر الْأَنْعَام الْكثير والإقطاعات من الضّيَاع
وخدم بعد ذَلِك الراضي بِاللَّه فَأكْرمه وأجراه على مَا كَانَ باسمه فِي أَيَّام أَبِيه المقتدر
وَمَات بختيشوع بن يوحنا فِي يَوْم الْأَرْبَعَاء لثلاث بَقينَ من ذِي الْحجَّة سنة تسع وَعشْرين وثلثمائة بِبَغْدَاد
عِيسَى بن عَليّ
كَانَ طَبِيبا فَاضلا ومشتغلا بالحكمة وَله تصانيف فِي ذَلِك
وَكَانَ قد قَرَأَ صناعَة الطِّبّ على حنين ابْن إِسْحَق وَهُوَ من أجل تلاميذه
وَكَانَ عِيسَى بن عَليّ يخْدم أَحْمد بن المتَوَكل وَهُوَ الْمُعْتَمد على الله وَكَانَ طبيبه قَدِيما وَلما ولي الْخلَافَة أحسن إِلَيْهِ وشرفه وَحمله عدَّة دفعات على دَوَاب وخلع عَلَيْهِ
ولعيسى بن عَليّ من الْكتب كتاب الْمَنَافِع الَّتِي تستفاد من أَعْضَاء الْحَيَوَان
كتاب السمُوم مقالتان
عِيسَى بن يحيى بن إِبْرَاهِيم
كَانَ أَيْضا من تلامذة حنين بن إِسْحَق واشتغل عَلَيْهِ بصناعة الطِّبّ(1/277)
الحلاجي
وَيعرف بِيَحْيَى بن أبي حَكِيم كَانَ من أطباء المعتضد وَله من الْكتب كتاب تَدْبِير الْأَبدَان النحيفة الَّتِي قد علتها الصَّفْرَاء أَلفه للمعتضد
ابْن صهار بخت
واسْمه عِيسَى من أهل جندي سَابُور وَله من الْكتب كتاب قوى الْأَدْوِيَة المفردة
ابْن ماهان
وَيعرف بِيَعْقُوب السيرافي وَله من الْكتب كتاب السّفر والحضر فِي الطِّبّ
الساهر
اسْمه يُوسُف وَيعرف بِيُوسُف القس
عَارِف بصناعة الطِّبّ وَكَانَ متميزا فِي أَيَّام المكتفي
وَقَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل عَنهُ أَنه كَانَ بِهِ سرطان فِي مقدم رَأسه وَكَانَ يمنعهُ من النّوم فلقب بالساهر من أجل مَرضه
قَالَ وصنف كناشا يذكر فِيهِ أدوية الْأَمْرَاض وَذكر فِي كناشه أَشْيَاء تدل على أَنه كَانَ بِهِ هَذَا الْمَرَض
وللساهر من الْكتب كناشه وَهُوَ الَّذِي يعرف بِهِ وينسب إِلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا استخرجه وَجَربه فِي أَيَّام حَيَاته وَجعله مقسوما إِلَى قسمَيْنِ فالقسم الأول تجْرِي أبوابه على غير تَرْتِيب الْأَعْضَاء وَهِي سِتَّة أَبْوَاب(1/278)
الْبَاب التَّاسِع
طَبَقَات الْأَطِبَّاء النقلَة الَّذين نقلوا كتب الطِّبّ وَغَيره من اللِّسَان اليوناني إِلَى اللِّسَان الْعَرَبِيّ وَذكر الَّذين نقلوا لَهُم
جورجس
وَهُوَ من أول من ابْتَدَأَ فِي نقل الْكتب الطبية إِلَى اللِّسَان الْعَرَبِيّ عِنْدَمَا استدعاه الْمَنْصُور وَكَانَ كثير الْإِحْسَان إِلَيْهِ وَقد ذكرت أَخْبَار جورجس فِيمَا تقدم
حنين بن إِسْحَق
كَانَ عَالما باللغات الْأَرْبَع غريبها ومستعملها الْعَرَبيَّة والسريانية واليونانية والفارسية
وَنَقله فِي غَايَة من الْجَوْدَة
إِسْحَق بن حنين
كَانَ أَيْضا عَالما باللغات الَّتِي يعرفهَا أَبوهُ وَهُوَ يلْحق بِهِ فِي النَّقْل وَكَانَ إِسْحَق عذب الْعبارَة فصيح الْكَلَام وَكَانَ حنين مَعَ ذَلِك أَكثر تصنيفا ونقلا وَقد تقدم ذكر إِسْحَق وَأَبِيهِ
حُبَيْش الأعسم
وَهُوَ ابْن أُخْت حنين بن إِسْحَق وتلميذه
ناقل مجود يلْحق بحنين وَإِسْحَق
وَقد تقدم أَيْضا ذكره
عِيسَى بن يحيى بن إِبْرَاهِيم
كَانَ أَيْضا تلميذا لحنين بن إِسْحَق وَكَانَ فَاضلا
أثنى عَلَيْهِ حنين وَرَضي نَقله وقلده فِيهِ
وَله مصنفات(1/279)
قسطا بن لوقا البعلبكي
كَانَ نَاقِلا خَبِيرا باللغات فَاضلا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَغَيرهَا وَسَيَأْتِي ذكره وأخباره فِيمَا بعد إِن شَاءَ الله
أَيُّوب الْمَعْرُوف بالأبرش
كَانَ قَلِيل النَّقْل متوسطه
وَمَا نَقله فِي آخر عمره يضاهي نقل حنين
ماسرجيس
كَانَ نَاقِلا من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ ومشهورا بالطب
وَله من الْكتب كتاب قوى الْأَطْعِمَة ومنافعها ومضارها
كتاب قوى العقاقير ومنافعها ومضارها
عِيسَى بن ماسرجيس
كَانَ يلْحق بِأَبِيهِ
وَله من الْكتب كتاب الألوان
كتاب الروائح والطعوم
شهدي الْكَرْخِي
من أهل الكرخ وَكَانَ قريب الْحَال فِي التَّرْجَمَة
ابْن شهدي الْكَرْخِي
كَانَ مثل أَبِيه فِي النَّقْل ثمَّ أَنه فِي آخر عمره فاق أَبَاهُ وَلم يزل متوسطا
وَكَانَ ينْقل من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ
وَمن نَقله كتاب الأجنة لأبقراط
الْحجَّاج بن مطر
نقل لِلْمَأْمُونِ
وَمن نَقله كتاب أقليدس ثمَّ أصلح نَقله فِيمَا بعد ثَابت بن قُرَّة الْحَرَّانِي ابْن ناعمة واسْمه عبد الْمَسِيح بن عبد الله الْحِمصِي الناعمي كَانَ متوسط النَّقْل وَهُوَ إِلَى الْجَوْدَة أميل
زروبا بن مانحوه الناعمي الْحِمصِي
كَانَ قريب النَّقْل وَمَا هُوَ فِي دَرَجَة من قبله
هِلَال بن أبي هِلَال الْحِمصِي
كَانَ صَحِيح النَّقْل وَلم يكن عِنْده فصاحة وَلَا بلاغة فِي اللَّفْظ
فثيون الترجمان
وجدت نَقله كثير اللّحن وَلم يكن يعرف علم الْعَرَبيَّة أصلا(1/280)
أَبُو نصر بن نَارِي بن أَيُّوب
كَانَ قَلِيل النَّقْل وَلم يعْتد بنقله كَغَيْرِهِ من النقلَة
بسيل المطران
نقل كتبا كَثِيرَة وَكَانَ نَقله أميل إِلَى الْجَوْدَة
اصطفن بن بسيل
كَانَ يُقَارب حنين بن إِسْحَق فِي النَّقْل إِلَّا أَن عبارَة حنين أفْصح وَأحلى
مُوسَى بن خَالِد الترجمان
وجدت من نَقله كتبا كَثِيرَة من السِّتَّة عشر لِجَالِينُوسَ وَغَيرهَا وَكَانَ لَا يصل إِلَى دَرَجَة حنين أَو يقرب مِنْهَا
أسطاث
كَانَ من النقلَة المتوسطين
حيرون بن رابطة
لَيْسَ لَهُ شهرة بجودة النَّقْل
تدرس السنقل
وجدت لَهُ نقلا فِي الْكتب الْحكمِيَّة لَا بَأْس بِهِ
سرجس الرأسي
من أهل مَدِينَة رَأس الْعين
نقل كتبا كَثِيرَة وَكَانَ متوسطا فِي النَّقْل
وَكَانَ حنين يصلح نَقله فَمَا وجد بإصلاح حنين فَهُوَ الْجيد وَمَا وجد غير مصلح فَهُوَ وسط
أَيُّوب الرهاوي
لَيْسَ هُوَ أَيُّوب الأبرش الْمَذْكُور أَولا ناقل جيد عَالم باللغات إِلَّا أَنه بالسُّرْيَانيَّة خير مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ
يُوسُف النَّاقِل
هُوَ أَبُو يَعْقُوب يُوسُف بن عِيسَى المتطبب النَّاقِل ويلقب بالناعس وَهُوَ تلميذ عِيسَى بن صهربخت وَكَانَ يُوسُف النَّاقِل من خوزستان وَكَانَت فِي عِبَارَته لكنة وَلَيْسَ نَقله بِكَثِير الْجَوْدَة(1/281)
إِبْرَاهِيم بن الصَّلْت
كَانَ متوسطا فِي النَّقْل يلْحق بسرجس الرأسي
ثَابت النَّاقِل
كَانَ أَيْضا متوسطا فِي النَّقْل إِلَّا أَنه يفضل إِبْرَاهِيم بن الصَّلْت
وَكَانَ مقلا من النَّقْل
وَمن نَقله كتاب الكيموسين لِجَالِينُوسَ
أَبُو يُوسُف الْكَاتِب
كَانَ أَيْضا متوسطا فِي النَّقْل وَنقل عدَّة كتب من كتب أبقراط
يوحنا بن بختيشوع
نقل كتبا كَثِيرَة إِلَى السرياني فَأَما إِلَى الْعَرَبِيّ فَمَا عرف بنقله شَيْء مِنْهَا
البطريق
كَانَ فِي أَيَّام الْمَنْصُور وَأمره بِنَقْل أَشْيَاء من الْكتب الْقَدِيمَة
وَله نقل كثير جيد إِلَّا أَنه دون نقل حنين بن إِسْحَق
وَقد وجدت بنقله كتبا كَثِيرَة فِي الطِّبّ كتب أبقراط وجالينوس
يحيى بن البطريق
كَانَ فِي جملَة الْحسن بن سهل وَكَانَ لَا يعرف الْعَرَبيَّة حق مَعْرفَتهَا وَلَا اليونانية وَإِنَّمَا كَانَ لطينيا يعرف لُغَة الرّوم الْيَوْم وكتابتها
وَهِي الْحُرُوف الْمُتَّصِلَة لَا الْمُنْفَصِلَة اليونانية الْقَدِيمَة
قيضا الرهاوي
كَانَ إِذا كثرت على حنين الْكتب وضاق عَلَيْهِ الْوَقْت اسْتَعَانَ بِهِ فِي نقلهَا ثمَّ يصلحها بعد ذَلِك
مَنْصُور بن باناس
طبقته فِي النَّقْل مثل قيضا الرهاوي وَكَانَ بالسُّرْيَانيَّة أقوى مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ
عبد يشوع بن بهريز
مطران الْموصل
كَانَ صديقا لجبرائيل بن بختيشوع وناقلا لَهُ
أَبُو عُثْمَان سعيد بن يَعْقُوب الدِّمَشْقِي
أحد النقلَة المجيدين وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى عَليّ بن عِيسَى(1/282)
أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن بكس
كَانَ من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين وَترْجم كتبا كَثِيرَة إِلَى لُغَة الْعَرَب وَنَقله أَيْضا مَرْغُوب فِيهِ
أَبُو الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن بكس
كَانَ أَيْضا طَبِيبا مَشْهُورا
وَكَانَ مثل أَبِيه فِي النَّقْل
فَأَما الَّذين كَانَ هَؤُلَاءِ النقلَة ينقلون لَهُم خَارِجا عَن الْخُلَفَاء فَمنهمْ
شيرشوع بن قطرب
من أهل جندي سَابُور وَكَانَ لَا يزَال يبر النقلَة وَيهْدِي إِلَيْهِم ويتقرب إِلَى تَحْصِيل الْكتب مِنْهُم بِمَا يُمكنهُ من المَال وَكَانَ يُرِيد السرياني أَكثر من الْعَرَبِيّ وَهُوَ أحد الخوز
مُحَمَّد بن مُوسَى المنجم
وَهُوَ أحد بني مُوسَى بن شَاكر الْحساب الْمَشْهُورين بِالْفَضْلِ وَالْعلم والتصنيف فِي الْعُلُوم الرياضية
وَكَانَ مُحَمَّد هَذَا من أبر النَّاس بحنين بن إِسْحَق وَقد نقل لَهُ حنين كثيرا من الْكتب الطبية
عَليّ بن يحيى الْمَعْرُوف بِابْن المنجم
أحد كتاب الْمَأْمُون وَكَانَ نديما لَهُ وَعِنْده فضل
وَمَال إِلَى الطِّبّ فنقلوا لَهُ كتبا كَثِيرَة
ثادرس الأسقف
كَانَ اسقفا فِي الكرخ بِبَغْدَاد
وَكَانَ حَرِيصًا على طلب الْكتب متقربا إِلَى قُلُوب نقلتها فَحصل مِنْهَا شَيْئا كثيرا وصنف لَهُ قوم من الْأَطِبَّاء النَّصَارَى كتبا لَهَا قدر وجعلوها باسمه
مُحَمَّد بن مُوسَى بن عبد الْملك
نقلت لَهُ كتب طبية وَكَانَ من جملَة الْعلمَاء الْفُضَلَاء يلخص الْكتب وَيعْتَبر جيد الْكَلَام فِيهَا من رديه
عِيسَى بن يُونُس الْكَاتِب الحاسب
من جملَة الْفُضَلَاء بالعراق وَكَانَ كثير الْعِنَايَة بتحصيل الْكتب الْقَدِيمَة والعلوم اليونانية
عَليّ الْمَعْرُوف بالفيوم
اشْتهر باسم الْمَدِينَة الَّتِي كَانَ عاملها وَكَانَت النقلَة يحصلون من جَانِبه ويمتارون من فَضله(1/283)
أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْمُدبر الْكَاتِب
وَكَانَ يصل إِلَى النقلَة من مَاله وأفضاله شَيْء كثير جدا
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن مُوسَى الْكَاتِب
وَكَانَ حَرِيصًا على نقل كتب اليونانيين إِلَى لُغَة الْعَرَب ومشتملا على أهل الْعلم وَالْفضل وعَلى النقلَة خَاصَّة
عبد الله بن إِسْحَق
وَكَانَ أَيْضا حَرِيصًا على نقل الْكتب وتحصيلها
مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات
وَكَانَ يُقَارب عطاؤه للنقلة والنساخ فِي كل شهر ألفي دِينَار وَنقل باسمه كتب عدَّة
وَكَانَ أَيْضا مِمَّن نقلت لَهُ الْكتب اليونانية وترجمت باسمه جمَاعَة من أكَابِر الْأَطِبَّاء مثل يوحنا بن ماسويه وجبرائيل بن بختيشوع وبختيشوع بن جِبْرَائِيل بن بختيشوع وداؤد بن سرابيون وسلمويه بن بنان وَالْيَسع وَإِسْرَائِيل بن زَكَرِيَّا بن الطيفوري وحبيش بن الْحسن(1/284)
الْبَاب الْعَاشِر
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الْعِرَاقِيّين وأطباء الجزيرة وديار بكر
يَعْقُوب بن إِسْحَق الْكِنْدِيّ
فيلسوف الْعَرَب وَأحد أَبنَاء مُلُوكهَا
وَهُوَ أَبُو يُوسُف يَعْقُوب بن إِسْحَق بن الصَّباح بن عمرَان ابْن إِسْمَاعِيل بن مُحَمَّد بن الْأَشْعَث بن قيس بن معدي كرب بن مُعَاوِيَة بن جبلة بن عدي بن ربيعَة ابْن مُعَاوِيَة الْأَكْبَر بن الْحَرْث الْأَصْغَر بن مُعَاوِيَة بن الْحَرْث الْأَكْبَر بن مُعَاوِيَة بن ثَوْر بن مرتع بن كِنْدَة بن عفير بن عدي بن الْحَرْث بن مرّة بن أدد بن زيد بن يشجب بن عريب بن زيد بن كهلان ابْن سبا بن يشجب بن يعرب بن قحطان
وَكَانَ أَبوهُ إِسْحَق بن الصَّباح أَمِيرا على الْكُوفَة للمهدي والرشيد
وَكَانَ الْأَشْعَث بن قيس من أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَ قبل ذَلِك ملكا على جَمِيع كِنْدَة
وَكَانَ أَبوهُ قيس بن معدي كرب ملكا على جَمِيع كِنْدَة أَيْضا عَظِيم الشَّأْن وَهُوَ الَّذِي مدحه الْأَعْشَى أعشى بني قيس بن ثَعْلَبَة بقصائده الْأَرْبَع الطوَال الَّتِي أولَاهُنَّ
لعمرك مَا طول هَذَا الزَّمن
وَالثَّانيَِة رحلت سميَّة غدْوَة أجمالها
وَالثَّالِثَة أأزمعت من آل ليلى ابتكارا
وَالرَّابِعَة أتهجر غانية أم تلم
وَكَانَ أَبوهُ معدي كرب بن مُعَاوِيَة ملكا على بني الْحَرْث الْأَصْغَر بن مُعَاوِيَة فِي حَضرمَوْت وَكَانَ أَبوهُ مُعَاوِيَة بن جبلة ملكا بحضرموت أَيْضا على بني الْحَرْث الْأَصْغَر
وَكَانَ مُعَاوِيَة بن الْحَرْث الْأَكْبَر وَأَبوهُ الْحَرْث الْأَكْبَر وَأَبوهُ ثَوْر ملوكا على معبد بالمشقر واليمامة والبحرين(1/285)
وَكَانَ يَعْقُوب بن إِسْحَق الْكِنْدِيّ عَظِيم الْمنزلَة عِنْد الْمَأْمُون والمعتصم وَعند ابْنه أَحْمد
وَله مصنفات جليلة ورسائل كَثِيرَة جدا فِي جَمِيع الْعُلُوم
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان أَن يَعْقُوب بن إِسْحَق الْكِنْدِيّ شرِيف الأَصْل بَصرِي كَانَ جده ولي الولايات لبني هَاشم وَنزل الْبَصْرَة وضيعته هُنَالك
وانتقل إِلَى بَغْدَاد وَهُنَاكَ تأدب وَكَانَ عَالما بالطب والفلسفة وَعلم الْحساب والمنطق وتأليف اللحون والهندسة وطبائع الْأَعْدَاد وَعلم النُّجُوم
وَلم يكن فِي الْإِسْلَام فيلسوف غَيره احتذى فِي تواليفه حَذْو أرسطوطاليس
وَله تواليف كَثِيرَة فِي فنون من الْعلم وخدم الْمُلُوك فباشرهم بالأدب وَترْجم من كتب الفلسفة الْكثير وأوضح مِنْهَا الْمُشكل ولخص المستصعب وَبسط العويص
وَقَالَ أَبُو معشر فِي كتاب المذكرات لشاذان حذاق التراجمة فِي الْإِسْلَام أَرْبَعَة حنين بن إِسْحَق وَيَعْقُوب بن إِسْحَق الْكِنْدِيّ وثابت بن قُرَّة الْحَرَّانِي وَعمر بن الفرخان الطَّبَرِيّ
وَقَالَ ابْن النديم الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب الْمَعْرُوف بِابْن أبي يَعْقُوب فِي كتاب الفهرست كَانَ أَبُو معشر وَهُوَ جَعْفَر بن مُحَمَّد الْبَلْخِي من أَصْحَاب الحَدِيث أَولا ومنزله فِي الْجَانِب الغربي بِبَاب خُرَاسَان بِبَغْدَاد يضاغن الْكِنْدِيّ ويغري بِهِ الْعَامَّة ويشنع عَلَيْهِ بعلوم الفلاسفة
فَدس عَلَيْهِ الْكِنْدِيّ من حسن لَهُ النّظر فِي علم الْحساب والهندسة فَدخل فِي ذَلِك فَلم يكمل لَهُ فَعدل إِلَى علم أَحْكَام النُّجُوم وَانْقطع شَره عَن الْكِنْدِيّ بنظره فِي هَذَا الْعلم لِأَنَّهُ من جنس عُلُوم الْكِنْدِيّ
وَيُقَال إِنَّه تعلم النُّجُوم بعد سبع وَأَرْبَعين سنة من عمره وَكَانَ فَاضلا حسن الْإِصَابَة وضربه المستعين أسواطا لِأَنَّهُ أصَاب فِي شَيْء خَبره بِكَوْنِهِ قبل وقته فَكَانَ يَقُول أصبت فعوقبت
وَكَانَ مولده بواسط يَوْم الْأَرْبَعَاء لليلتين بَقِيَتَا من شهر رَمَضَان سنة وَتُوفِّي أَبُو معشر وَقد جَاوز الْمِائَة سنة
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم فِي كتاب حسن العقبى حَدثنِي أَبُو كَامِل شُجَاع ابْن أسلم الحاسب قَالَ كَانَ مُحَمَّد وَأحمد ابْنا مُوسَى بن شَاكر فِي أَيَّام المتَوَكل يكيدان كل من ذكر بالتقدم فِي معرفَة
فأشخصا سَنَد بن عَليّ إِلَى مَدِينَة السَّلَام وباعداه عَن المتَوَكل ودبرا على الْكِنْدِيّ حَتَّى ضربه المتَوَكل ووجها إِلَى دَاره فأخذا كتبه بأسرها وأفرداها فِي خزانَة سميت الكندية
وَمكن هَذَا لَهما استهتار المتَوَكل بالآلات المتحركة وَتقدم إِلَيْهِمَا فِي حفر النَّهر الْمَعْرُوف بالجعفري فأسندا أمره إِلَى أَحْمد بن كثير الفرغاني الَّذِي عمل المقياس الْجَدِيد بِمصْر
وَكَانَت مَعْرفَته أوفى من توفيقه لِأَنَّهُ مَا تمّ لَهُ عمل قطّ فغلط فِي فوهة النَّهر الْمَعْرُوف بالجعفري وَجعلهَا أَخفض من سائره فَصَارَ مَا يغمر الفوهة لَا يغمر سَائِر النَّهر
فدافع مُحَمَّد وَأحمد ابْنا مُوسَى فِي أمره واقتضاهما المتَوَكل فسعى بهما إِلَيْهِ فِيهِ فأنفذ مستحثا فِي إِحْضَار سَنَد بن عَليّ من مَدِينَة السَّلَام فَوَافى
فَلَمَّا تحقق مُحَمَّد وَأحمد ابْنا مُوسَى أَن سَنَد بن عَليّ قد شخص أيقنا بالهلكة ويئسا من الْحَيَاة
فَدَعَا المتَوَكل(1/286)
بِسَنَد وَقَالَ مَا ترك هَذَانِ الرديان شَيْئا من سوء القَوْل إِلَّا وَقد ذكراك عِنْدِي بِهِ
وَقد أتلفا جملَة من مَالِي فِي هَذَا النَّهر
فَأخْرج إِلَيْهِ حَتَّى تتأمله وتخبرني بالغلط فِيهِ
فَإِنِّي قد آلَيْت على نَفسِي إِن كَانَ الْأَمر على مَا وصف لي إِنِّي أصلبهما على شاطئه
وكل هَذَا بِعَين مُحَمَّد وَأحمد ابْني مُوسَى وسمعهما فَخرج وهما مَعَه
فَقَالَ مُحَمَّد ابْن مُوسَى لسند يَا أَبَا الطّيب أَن قدرَة الْحر تذْهب حفيظته وَقد فَرغْنَا إِلَيْك فِي أَنْفُسنَا الَّتِي هِيَ أنفس أعلاقنا وَمَا ننكر إِنَّا أسأنا وَالِاعْتِرَاف يهدم الاقتراف فتخلصنا كَيفَ شِئْت
قَالَ لَهما وَالله إنَّكُمَا لتعلمان مَا بيني وَبَين الْكِنْدِيّ من الْعَدَاوَة والمباعدة وَلَكِن الْحق أولى مَا أتبع
أَكَانَ من الْجَمِيل مَا أتيتماه إِلَيْهِ من أَخذ كتبه وَالله لَا ذكرتكما بصالحة حَتَّى تردا عَلَيْهِ كتبه
فَتقدم مُحَمَّد بن مُوسَى فِي حمل الْكتب إِلَيْهِ وَأخذ خطه باستيفائها فوردت رقْعَة الْكِنْدِيّ بتسلمها عَن آخرهَا
فَقَالَ قد وَجب لَكمَا عَليّ ذمام برد كتب هَذَا الرجل ولكما ذمام بالمعرفة الَّتِي لم ترعياها فِي وَالْخَطَأ فِي هَذَا النَّهر يسْتَتر أَرْبَعَة أشهر بِزِيَادَة دجلة وَقد أجمع الْحساب على أَن أَمِير الْمُؤمنِينَ لَا يبلغ هَذَا المدى وَأَنا أخبرهُ السَّاعَة أَنه لم يَقع مِنْكُمَا خطأ فِي هَذَا النَّهر إبْقَاء على أرواحكما فَإِن صدق المنجمون أفلتنا الثَّلَاثَة وَإِن كذبُوا وَجَازَت مدَّته حَتَّى تنقص دجلة وتنصب أوقع بِنَا ثلاثتنا
فَشكر مُحَمَّد وَأحمد هَذَا القَوْل مِنْهُ واسترقهما بِهِ وَدخل على المتَوَكل فَقَالَ لَهُ مَا غَلطا
وزادت دجلة وَجرى المَاء فِي النَّهر فاستتر حَاله
وَقتل المتَوَكل بعد شَهْرَيْن وَسلم مُحَمَّد وَأحمد بعد شدَّة الْخَوْف مِمَّا توقعا
وَقَالَ القَاضِي أَبُو الْقَاسِم صاعد بن أَحْمد بن صاعد فِي كتاب طَبَقَات الْأُمَم عَن الْكِنْدِيّ عِنْدَمَا ذكر تصانيفه وَكتبه قَالَ وَمِنْهَا كتبه فِي علم الْمنطق وَهِي كتب قد نفقت عِنْد النَّاس نفَاقًا عَاما وقلما ينْتَفع بهَا فِي الْعُلُوم لِأَنَّهَا خَالِيَة من صناعَة التَّحْلِيل الَّتِي لَا سَبِيل إِلَى معرفَة الْحق من الْبَاطِل فِي كل مَطْلُوب إِلَّا بهَا
وَأما صناعَة التَّرْكِيب وَهِي الَّتِي قصد يَعْقُوب فِي كتبه هَذِه إِلَيْهَا فَلَا ينْتَفع بهَا إِلَّا من كَانَت عِنْده مُقَدمَات عتيدة فَحِينَئِذٍ يُمكنهُ التَّرْكِيب ومقدمات كل مَطْلُوب لَا تُوجد إِلَّا بصناعة التَّحْلِيل وَلَا أَدْرِي مَا حمل يَعْقُوب على الإضراب عَن هَذِه الصِّنَاعَة الجليلة هَل جهل مقدارها أَو ضن على النَّاس بكشفه وَأي هذَيْن كَانَ
فَهُوَ نقص فِيهِ وَله بعد هَذَا رسائل كَثِيرَة فِي عُلُوم جمة ظَهرت لَهُ فِيهَا آراء فَاسِدَة ومذاهب بعيدَة عَن الْحَقِيقَة
أَقُول هَذَا الَّذِي قد قَالَه القَاضِي صاعد عَن الْكِنْدِيّ فِيهِ تحامل كثير عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِك مِمَّا يحط من علم الْكِنْدِيّ وَلَا مِمَّا يصد النَّاس عَن النّظر فِي كتبه وَالِانْتِفَاع بهَا
وَقَالَ ابْن النديم الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب فِي كتاب الفهرست كَانَ من تلامذة الْكِنْدِيّ ووراقيه حسنويه ونفطويه وسملويه وَآخر على هَذَا الْوَزْن
وَمن تلامذته أَحْمد بن الطّيب وَأخذ عَنهُ أَبُو معشر أَيْضا
قَالَ أَبُو مُحَمَّد عبد الله بن قُتَيْبَة فِي كتاب فرائد الدّرّ قَالَ بَعضهم أنشدت يَعْقُوب بن(1/287)
إِسْحَق الْكِنْدِيّ
(وَفِي أَربع مني حلت مِنْك أَربع ... فَمَا أَنا أدرى أيهأ هاج لي كربي)
(أوجهك فِي عَيْني أم الطّعْم فِي فمي ... أم النُّطْق فِي سَمْعِي أم الْحبّ فِي قلبِي) الطَّوِيل
فَقَالَ وَالله لقد قسمهَا تقسيما فلسفيا
أَقُول وَمن كَلَام الْكِنْدِيّ قَالَ فِي وَصيته وليتق الله تَعَالَى المتطبب وَلَا يخاطر فَلَيْسَ عَن الْأَنْفس عوض
وَقَالَ وكما يجب أَن يُقَال لَهُ أَنه كَانَ سَبَب عَافِيَة العليل وبرئه كَذَلِك فليحذر أَن يُقَال إِنَّه كَانَ سَبَب تلفه وَمَوته وَقَالَ الْعَاقِل يظنّ أَن فَوق علمه علما فَهُوَ أبدا يتواضع لتِلْك الزِّيَادَة وَالْجَاهِل يظنّ أَنه قد تناهى فتمقته النُّفُوس لذَلِك
وَمن كَلَامه مِمَّا أوصى بِهِ لوَلَده أبي الْعَبَّاس نقلت ذَلِك من كتاب الْمُقدمَات لِابْنِ بختويه قَالَ الْكِنْدِيّ يَا بني الْأَب رب وَالْأَخ فخ وَالْعم غم وَالْخَال وبال وَالْولد كمد والأقارب عقارب
وَقَول لَا يصرف البلا وَقَول نعم يزِيل النعم وَسَمَاع الْغناء برسام حاد لِأَن الْإِنْسَان يسمع فيطرب وَينْفق فيسرف فيفتقر فيغتم فيعتل فَيَمُوت
وَالدِّينَار مَحْمُوم فَإِن صرفته مَاتَ وَالدِّرْهَم مَحْبُوس فَإِن أخرجته فر وَالنَّاس سخرة فَخذ شيئهم واحفظ شيئك
وَلَا تقبل مِمَّن قَالَ الْيَمين الْفَاجِرَة فَأَنَّهَا تدع الديار بَلَاقِع
أَقُول وَإِن كَانَت هَذِه من وَصِيَّة الْكِنْدِيّ فقد صدق مَا حَكَاهُ عَنهُ ابْن النديم الْبَغْدَادِيّ فِي كِتَابه فَإِنَّهُ قَالَ إِن الْكِنْدِيّ كَانَ بَخِيلًا
وَمن شعر يَعْقُوب بن إِسْحَق الْكِنْدِيّ قَالَ الشَّيْخ أَبُو أَحْمد الْحسن بن عبد الله بن سعيد العسكري اللّغَوِيّ فِي كتاب الحكم والأمثال أَنْشدني أَحْمد بن جَعْفَر قَالَ أَنْشدني أَحْمد بن الطّيب السَّرخسِيّ قَالَ أَنْشدني يَعْقُوب بن إِسْحَق الْكِنْدِيّ لنَفسِهِ
(أناف الذنابى على الأرؤس ... فغمض جفونك أَو نكس)
(وضائل سوادك واقبض يَديك ... وَفِي قَعْر بَيْتك فاستجلس)
(وَعند مليكك فابغ الْعُلُوّ ... وبالوحدة الْيَوْم فاستأنس)
(فَإِن الْغنى فِي قُلُوب الرِّجَال ... وَإِن التعزز بالأنفس)
(وكائن ترى من أخي عسرة ... غَنِي وَذي ثروة مُفلس)(1/288)
(وَمن قَائِم شخصه ميت ... على أَنه بعد لم يرمس)
(فَإِن تطعم النَّفس مَا تشْتَهي ... تقيك جَمِيع الَّذِي تحتسي) المتقارب
وليعقوب بن إِسْحَق الْكِنْدِيّ من الْكتب كتاب الفلسفة الأولى فِيمَا دون الطبيعيات والتوحيد
كتاب الفلسفة الدَّاخِلَة والمسائل المنطقية والمعتاصة وَمَا وَافق الطبيعيات
رِسَالَة فِي أَنه لَا تنَال الفلسفة إِلَّا بِعلم الرياضيات
كتاب الْحَث على تعلم الفلسفة
رِسَالَة فِي كمية كتب أرسطوطاليس وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي تَحْصِيل علم الفلسفة مِمَّا لَا غنى فِي ذَلِك عَنهُ مِنْهَا وترتيبها وأغراضه فِيهَا
كتاب فِي قصد أرسطوطاليس فِي المقولات إِيَّاهَا قصد والموضوعة لَهَا
رسَالَته الْكُبْرَى فِي مقياسة العلمي
كتاب أَقسَام الْعلم الأنسي كتاب فِي مَاهِيَّة الْعلم وأقسامه
كتاب فِي أَن أَفعَال البارئ كلهَا عدل لَا جور فِيهَا
كتاب فِي مَاهِيَّة الشَّيْء الَّذِي لَا نِهَايَة لَهُ وَبِأَيِّ نوع يُقَال للَّذي لَا نِهَايَة لَهُ
رِسَالَة فِي الْإِبَانَة أَنه لَا يُمكن أَن يكون جرم الْعَالم بِلَا نِهَايَة وَأَن ذَلِك إِنَّمَا هُوَ فِي الْقُوَّة
كتاب فِي الفاعلة والمنفعلة من الطبيعيات الأول
كتاب فِي عِبَارَات الْجَوَامِع الفكرية
كتاب فِي مسَائِل سُئِلَ عَنْهَا فِي مَنْفَعَة الرياضيات
كتاب فِي بحث قَول الْمُدَّعِي أَن الْأَشْيَاء الطبيعية تفعل فعلا وَاحِدًا بِإِيجَاب الْخلقَة رِسَالَة فِي الرِّفْق فِي الصناعات رِسَالَة فِي رسم رقاع إِلَى الْخُلَفَاء والوزراء
رِسَالَة فِي قسْمَة القانون
رِسَالَة فِي مَاهِيَّة الْعقل والإبانة عَنهُ
رِسَالَة فِي الْفَاعِل الْحق الأول التَّام وَالْفَاعِل النَّاقِص الَّذِي هُوَ فِي الْمجَاز
رِسَالَة إِلَى الْمَأْمُون فِي الْعلَّة والمعلول
اخْتِصَار كتاب أيساغوجي لفرفوريوس
مسَائِل كَثِيرَة فِي الْمنطق وَغَيره وحدود الفلسفة
كتاب فِي الْمدْخل المنطقي بِاسْتِيفَاء القَوْل فِيهِ
كتاب فِي الْمدْخل المنطقي بِاخْتِصَار وإيجاز
رِسَالَة فِي المقولات الْعشْر
رِسَالَة فِي الْإِبَانَة عَن قَول بطليموس فِي أول كِتَابه فِي المجسطي عَن قَول أرسطوطاليس فِي أنالوطيقا
رِسَالَة فِي الاحتراس من خدع السوفسطائية
رِسَالَة بإيجاز واختصار فِي الْبُرْهَان المنطقي
رِسَالَة فِي الْأَسْمَاء الْخَمْسَة اللاحقة لكل المقولات
رِسَالَة فِي سمع الكيان
رِسَالَة فِي عمل آلَة مخرجة الْجَوَامِع
رِسَالَة فِي الْمدْخل إِلَى الأرثماطيقي خمس مقالات رِسَالَة إِلَى أَحْمد بن المعتصم فِي كَيْفيَّة اسْتِعْمَال الْحساب الْهِنْدِيّ أَربع مقالات
رِسَالَة فِي الْإِبَانَة عَن الْأَعْدَاد الَّتِي ذكرهَا أفلاطن فِي السياسة
رِسَالَة فِي تأليف الْأَعْدَاد
رِسَالَة فِي التَّوْحِيد من جِهَة الْعدَد
رِسَالَة فِي اسْتِخْرَاج الخبيء وَالضَّمِير
رِسَالَة فِي الزّجر والفأل من جِهَة الْعدَد
رِسَالَة فِي الخطوط وَالضَّرْب بِعَدَد الشّعير
رِسَالَة فِي الكمية المضافة
رِسَالَة فِي النّسَب الزمانية
رِسَالَة فِي الْحِيَل العددية وَعلم أضمارها
رِسَالَة فِي أَن الْعَالم وكل مَا فِيهِ كروي الشكل
رِسَالَة فِي الْإِبَانَة على أَنه لَيْسَ شَيْء من العناصر الأولى والجرم الْأَقْصَى غير كروي
رِسَالَة فِي أَن الكرة أعظم الأشكال الجرمية والدائرة أعظم من جَمِيع الأشكال البسيطة
رِسَالَة فِي الكريات
رِسَالَة فِي عمل السمت على الكرة
رِسَالَة فِي أَن سطح مَاء الْبَحْر كروي
رِسَالَة فِي تسطيح الكرة
رِسَالَة فِي عمل الْحلق السِّت(1/289)
واستعمالها
رسَالَته الْكُبْرَى فِي التَّأْلِيف
رِسَالَة فِي تَرْتِيب النغم الدَّالَّة على طبائع الْأَشْخَاص الْعَالِيَة وتشابه التَّأْلِيف
رِسَالَة فِي الْمدْخل إِلَى صناعَة الموسيقى
رِسَالَة فِي الْإِيقَاع
رِسَالَة فِي خير صناعَة الشُّعَرَاء
رِسَالَة فِي الْأَخْبَار عَن صناعَة الموسيقى
مُخْتَصر الموسيقى فِي تأليف النغم وصنعة الْعود أَلفه لِأَحْمَد ابْن المعتصم
رِسَالَة فِي أَجزَاء جبرية الموسيقى
رِسَالَة فِي أَن رُؤْيَة الْهلَال لَا تضبط بِالْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا القَوْل فِيهَا بالتقريب
رِسَالَة فِي مسَائِل سُئِلَ عَنْهَا من أَحْوَال الْكَوَاكِب
رِسَالَة فِي جَوَاب مسَائِل طبيعية فِي كيفيات نجومية سَأَلَهُ أَبُو معشر عَنْهَا
رِسَالَة فِي الْفَصْلَيْنِ
رِسَالَة فِيمَا ينْسب إِلَيْهِ كل بلد من الْبلدَانِ إِلَى برج من البروج وكوكب من الْكَوَاكِب
رِسَالَة فِيمَا سُئِلَ عَنهُ من شرح مَا عرض لَهُ من الِاخْتِلَاف فِي صور المواليد
رِسَالَة فِيمَا حكى من أَعمار النَّاس فِي الزَّمن الْقَدِيم وخلافها فِي هَذَا الزَّمن
رِسَالَة فِي تَصْحِيح عمل نمو دارات المواليد والهيلاج والكدخداه
رِسَالَة فِي إِيضَاح عِلّة رُجُوع الْكَوَاكِب
رِسَالَة فِي الْإِبَانَة أَن الِاخْتِلَاف الَّذِي فِي الْأَشْخَاص الْعَالِيَة لَيْسَ عِلّة الكيفيات الأول
رِسَالَة فِي سرعَة مَا يرى من حَرَكَة الْكَوَاكِب إِذا كَانَت فِي الْأُفق وإبطائها كلما علت
رِسَالَة فِي الشعاعات
رِسَالَة فِي فصل مَا بَين السّير وَعمل الشعاع
رِسَالَة فِي علل الأوضاع النجومية
رسَالَته المنسوبة إِلَى الْأَشْخَاص الْعَالِيَة الْمُسَمَّاة سَعَادَة ونحاسة
رِسَالَة فِي علل القوى المنسوبة إِلَى الْأَشْخَاص الْعَالِيَة الدَّالَّة على الْمَطَر
رِسَالَة فِي علل أَحْدَاث الجو
رِسَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا يكون بعض الْمَوَاضِع تكَاد لَا تمطر
رِسَالَة إِلَى زرنب تِلْمِيذه فِي أسرار النُّجُوم وَتَعْلِيم مبادئ الْأَعْمَال
رِسَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي ترى من الهالات للشمس وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب والأضواء النيرة أَعنِي النيرين
رِسَالَة فِي اعتذاره فِي مَوته دون كَمَاله لسني الطبيعة الَّتِي هِيَ مائَة وَعِشْرُونَ سنة
كَلَام فِي الجمرات
رِسَالَة فِي النُّجُوم
رِسَالَة فِي أغراض كتب أقليدس
رِسَالَة فِي إصْلَاح كتب أقليدس
رِسَالَة فِي اخْتِلَاف المناظر
رِسَالَة فِي عمل شكل المتوسطين
رِسَالَة فِي تقريب وتر الدائرة
رِسَالَة فِي تقريب وتر التسع
رِسَالَة فِي مساحة إيوَان
رِسَالَة فِي تَقْسِيم المثلث والمربع وعملهما
رِسَالَة فِي كَيْفيَّة عمل دَائِرَة مُسَاوِيَة لسطح إسطوانة مَفْرُوضَة
رِسَالَة فِي شروق الْكَوَاكِب وغروبها بالهندسة
رِسَالَة فِي قسْمَة الدائرة ثَلَاثَة أَقسَام
رِسَالَة فِي إصْلَاح الْمقَالة الرَّابِعَة عشرَة وَالْخَامِسَة عشرَة من كتاب أقليدس
رِسَالَة فِي الْبَرَاهِين المساحية لما يعرض من الحسبانات الفلكية
رِسَالَة فِي تَصْحِيح قَول أبسقلاس فِي الْمطَالع
رِسَالَة فِي اخْتِلَاف مناظر الْمرْآة
رِسَالَة فِي صَنْعَة الاصطرلاب بالهندسة
رِسَالَة فِي اسْتِخْرَاج خطّ نصف النَّهَار وسمت الْقبْلَة بالهندسة
رِسَالَة فِي عمل الرخامة بالهندسة
رِسَالَة فِي أَن عمل السَّاعَات على صفيحة تنصب على السَّطْح الموازي للأفق خير من غَيرهَا
رِسَالَة فِي اسْتِخْرَاج السَّاعَات على نصف كرة بالهندسة
رِسَالَة فِي السوائح
مسَائِل فِي مساحة الْأَنْهَار وَغَيرهَا
رِسَالَة فِي النّسَب الزمانية
كَلَام فِي الْعدَد
كَلَام فِي المرايا الَّتِي تحرق
رِسَالَة فِي امْتنَاع وجود مساحة الْفلك الْأَقْصَى الْمُدبر للأفلاك
رِسَالَة فِي أَن طبيعة الْفلك مُخَالفَة لطبائع العناصر الْأَرْبَعَة وَأَنه طبيعة خَامِسَة
رِسَالَة فِي ظاهريات الْفلك
رِسَالَة فِي الْعَالم الْأَقْصَى
رِسَالَة فِي سُجُود الجرم الْأَقْصَى لباريه
رِسَالَة فِي الرَّد على المنانية فِي الْعشْر مسَائِل فِي مَوْضُوعَات الْفلك(1/290)
رِسَالَة فِي الصُّور
رِسَالَة فِي أَنه لَا يُمكن أَن يكون جرم الْعَالم بِلَا نِهَايَة
رِسَالَة فِي المناظر الفلكية
رِسَالَة فِي امْتنَاع الجرم الْأَقْصَى من الاستحالة
رِسَالَة فِي صناعَة بطلميوس الفلكية
رِسَالَة فِي تناهي جرم الْعَالم
رِسَالَة فِي مَاهِيَّة الْفلك واللون اللَّازِم اللازوردي المحسوس من جِهَة السَّمَاء
رِسَالَة فِي مَاهِيَّة الجرم الْحَامِل بطباعه للألوان من العناصر الْأَرْبَعَة
رِسَالَة فِي الْبُرْهَان على الْجِسْم السائر وماهية الأضواء والإظلام
رِسَالَة فِي المعطيات
رِسَالَة فِي تركيب الأفلاك
رِسَالَة فِي الأجرام الهابطة من الْعُلُوّ وَسبق بَعْضهَا بَعْضًا
رِسَالَة فِي الْعَمَل بالآلة الْمُسَمَّاة الجامعة
رِسَالَة فِي كَيْفيَّة رُجُوع الْكَوَاكِب الْمُتَحَيِّرَة
رِسَالَة فِي الطِّبّ البقراطي
رِسَالَة فِي الْغذَاء والدواء المهلك
رِسَالَة فِي الأبخرة الْمصلحَة للجو من الأوباء
رِسَالَة فِي الْأَدْوِيَة المشفية من الروائح المؤذية
رِسَالَة فِي كَيْفيَّة إسهال الْأَدْوِيَة وانجذاب الأخلاط
رِسَالَة فِي عِلّة نفث الدَّم
رِسَالَة فِي تَدْبِير الأصحاء
رِسَالَة فِي أشفية السمُوم رِسَالَة فِي عِلّة بحارين الْأَمْرَاض الحادة رِسَالَة فِي تَبْيِين الْعُضْو الرئيس من جسم الْإِنْسَان والإبانة عَن الْأَلْبَاب
رِسَالَة فِي كَيْفيَّة الدِّمَاغ رِسَالَة فِي عِلّة الجذام وأشفيته
رِسَالَة فِي عضة الْكَلْب الْكَلْب
رِسَالَة فِي الْأَعْرَاض الْحَادِثَة من البلغم وَعلة موت الْفجأَة رِسَالَة فِي وجع الْمعدة والنقرس
رِسَالَة إِلَى رجل فِي عِلّة شكاها إِلَيْهِ فِي بَطْنه وَيَده رِسَالَة فِي أَقسَام الحميات رِسَالَة فِي علاج الطحال الجاسي من الْأَمْرَاض السوداوية
رِسَالَة فِي أجساد الْحَيَوَان إِذا فَسدتْ
رِسَالَة فِي تَدْبِير الْأَطْعِمَة رِسَالَة فِي صَنْعَة أَطْعِمَة من غير عناصرها رِسَالَة فِي الْحَيَاة
كتاب الْأَدْوِيَة الممتحنة كتاب الأقراباذين
رِسَالَة فِي الْفرق بَين الْجُنُون الْعَارِض من مس الشَّيَاطِين وَبَين مَا يكون من فَسَاد الأخلاط
رِسَالَة فِي الفراسة
رِسَالَة فِي إِيضَاح الْعلَّة فِي السمائم القاتلة السمائية وَهُوَ على الْمقَال الْمُطلق الوباء رِسَالَة فِي الْحِيلَة لدفع الأحزان
جَوَامِع كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِجَالِينُوسَ
رِسَالَة فِي الْإِبَانَة عَن مَنْفَعَة الطِّبّ إِذا كَانَت صناعَة النُّجُوم مقرونة بدلائلها
رِسَالَة فِي اللثغة للأخرس رِسَالَة فِي تقدمة الْمعرفَة بالاستلال بالأشخاص الْعَالِيَة على الْمسَائِل
رِسَالَة فِي مدْخل الْأَحْكَام على الْمسَائِل
رسَالَته الأولى وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة إِلَى صناعَة الْأَحْكَام بتقاسيم رِسَالَة فِي الْأَخْبَار عَن كمية ملك الْعَرَب وَهِي رسَالَته فِي اقتران التحسين فِي برج السرطان رِسَالَة فِي قدر مَنْفَعَة صناعَة الْأَحْكَام وَمن الرجل الْمُسَمّى منجما بِاسْتِحْقَاق رسَالَته المختصرة فِي حُدُود المواليد رِسَالَة فِي تَحْويل سني المواليد
رِسَالَة فِي الِاسْتِدْلَال بالكسوفات على الْحَوَادِث رِسَالَة فِي الرَّد على الثنويه رِسَالَة فِي نقض مسَائِل الْمُلْحِدِينَ
رِسَالَة فِي تثبيت الرُّسُل عَلَيْهِم السَّلَام رِسَالَة فِي الِاسْتِطَاعَة وزمان كَونهَا رِسَالَة فِي الرَّد على من زعم أَن للإجرام فِي هويتها فِي الجو توقفات رِسَالَة فِي بطلَان قَول من زعم أَن بَين الْحَرَكَة الطبيعية والعرضية سُكُون رِسَالَة فِي أَن الْجِسْم فِي أول إبداعه لَا سَاكن وَلَا متحرك ظن بَاطِل
رِسَالَة فِي التَّوْحِيد بتفسيرات رِسَالَة فِي أَوَائِل الْجِسْم
رِسَالَة فِي افْتِرَاق الْملَل فِي التَّوْحِيد وَأَنَّهُمْ مجمعون على التَّوْحِيد وكل قد خَالف صَاحبه
رِسَالَة فِي المتجسد رِسَالَة فِي الْبُرْهَان(1/291)
كَلَام لَهُ مَعَ ابْن الراوندي فِي التَّوْحِيد كَلَام رد بِهِ على بعض الْمُتَكَلِّمين رِسَالَة إِلَى مُحَمَّد بن الجهم فِي الْإِبَانَة عَن وحدانية الله عز وَجل وَعَن تناهي جرم الْكل
رِسَالَة فِي الإكفار والتضليل رِسَالَة فِي أَن النَّفس جَوْهَر بسيط غير داثر مُؤثر فِي الْأَجْسَام رِسَالَة فِي مَا للنَّفس ذكره وَهِي فِي عَالم الْعقل قبل كَونهَا فِي عَالم الْحسن
رِسَالَة فِي خبر اجْتِمَاع الفلاسفة على الرموز العشقية رِسَالَة فِي عِلّة النّوم والرؤيا وَمَا يرمز بِهِ النَّفس
رِسَالَة فِي أَن مَا بالإنسان إِلَيْهِ حَاجَة مُبَاح لَهُ فِي الْعقل قبل أَن يحظر
رسَالَته الْكُبْرَى فِي السياسة رِسَالَة فِي التَّنْبِيه على الْفَضَائِل
رِسَالَة فِي نَوَادِر الفلاسفة رِسَالَة فِي خبر فَضِيلَة سقراط رِسَالَة فِي محاورة جرت بَين سقراط وأرسواس
رِسَالَة فِي خبر موت سقراط رِسَالَة فِيمَا جرى بَين سقراط والحرانيين رِسَالَة عَن الْعلَّة الفاعلة الْقَرِيبَة للكون وَالْفساد فِي الكائنات الفاسدات
رِسَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا قيل أَن النَّار والهواء وَالْمَاء وَالْأَرْض عناصر تجمع الكائنة الْفَاسِدَة وَهِي وَغَيرهَا يَسْتَحِيل بَعْضهَا إِلَى بعض
رِسَالَة فِي اخْتِلَاف الْأَزْمِنَة الَّتِي تظهر فِيهَا قوى الكيفيات الْأَرْبَع الأولى
رِسَالَة فِي خبر الْعقل
رِسَالَة فِي النّسَب الزمانية
رِسَالَة فِي عِلّة اخْتِلَاف أَنْوَاع السّنة
رِسَالَة فِي مَاهِيَّة الزَّمَان وماهية الدَّهْر والحين وَالْوَقْت
رِسَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا يبرد أَعلَى الجو ويسخن مَا قرب من الأَرْض
رِسَالَة فِي الْأَثر الَّذِي يظْهر فِي الجو وَيُسمى كوكبا
رِسَالَة فِي الْكَوْكَب الَّذِي ظهر ورصده أَيَّام حَتَّى اضمحل
رِسَالَة فِي الْكَوْكَب ذِي الذؤابة
رِسَالَة فِي الْعلَّة الْحَادِث بهَا الْبرد فِي آخر الشتَاء فِي الأبان الْمُسَمّى أَيَّام الْعَجُوز
رِسَالَة فِي عِلّة كَون الضباب والأسباب المحدثة لَهُ
رِسَالَة فِيمَا رصد من الْأَثر الْعَظِيم فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ لِلْهِجْرَةِ
رِسَالَة فِي الْآثَار العلوية
رِسَالَة إِلَى ابْنه أَحْمد فِي اخْتِلَاف مَوَاضِع المساكن من كرة الأَرْض وَهَذِه الرسَالَة شرح فِيهَا كتاب المساكن لثاوذوسيوس
رِسَالَة فِي عِلّة حُدُوث الرِّيَاح فِي بَاطِن الأَرْض المحدثة كثير الزلازل والخسوف
رِسَالَة فِي عِلّة اخْتِلَاف الْأَزْمَان فِي السّنة وانتقالها بأَرْبعَة فُصُول مُخْتَلفَة
كَلَام فِي عمل السمت
رِسَالَة فِي أبعاد مسافات الأقاليم
رِسَالَة فِي المساكن
رسَالَته الْكُبْرَى فِي الرّبع المسكون
رِسَالَة فِي أَخْبَار أبعاد الأجرام
رِسَالَة فِي اسْتِخْرَاج بعد مَرْكَز الْقَمَر من الأَرْض
رِسَالَة فِي اسْتِخْرَاج آلَة عَملهَا يسْتَخْرج بهَا أبعاد الأجرام
رِسَالَة فِي عمل آلَة يعرف بهَا بعد المعاينات
رِسَالَة فِي معرفَة أبعاد قلل الْجبَال
رِسَالَة إِلَى أَحْمد بن مُحَمَّد الْخُرَاسَانِي فِيمَا بعد الطبيعة وإيضاح تناهي جرم الْعَالم
رِسَالَة فِي تقدمة الْأَخْبَار
رِسَالَة فِي تقدمة الْمعرفَة بالأحداث
رِسَالَة فِي تقدمة الْخَبَر
رِسَالَة فِي تقدمة الْمعرفَة فِي الِاسْتِدْلَال بالأشخاص السماوية رِسَالَة فِي أَنْوَاع الْجَوَاهِر والأشباه
رِسَالَة فِي نعت الْحِجَارَة والجواهر ومعادنها وجيدها ورديها وأثمانها
رِسَالَة فِي تلويح الزّجاج
رِسَالَة فِيمَا يصْبغ فيعطي لونا
رِسَالَة فِي أَنْوَاع الْحَدِيد وَالسُّيُوف وجيدها ومواضع انتسابها
رِسَالَة إِلَى أَحْمد بن المعتصم بِاللَّه فِيمَا يطْرَح على الْحَدِيد وَالسُّيُوف حَتَّى لَا تنثلم وَلَا تكل
رِسَالَة فِي الطَّائِر الأنسى
رِسَالَة فِي تمريخ الْحمام
رِسَالَة فِي الطرح على الْبيض
رِسَالَة فِي أَنْوَاع النّخل وكرائمه
رِسَالَة فِي عمل القمقم الصياح
رِسَالَة فِي الْعطر وأنواعه
رِسَالَة فِي كيمياء الْعطر
رِسَالَة فِي الْأَسْمَاء المعماة
رِسَالَة فِي التَّنْبِيه على خدع الكيمائيين
رِسَالَة فِي الأثرين المحسوسين فِي المَاء
رِسَالَة فِي الْمَدّ والجزر
رِسَالَة فِي أركاب الْخَيل
رسَالَته الْكَبِيرَة فِي(1/292)
الْأَجْسَام الغائصة فِي المَاء
رِسَالَة فِي الأجرام الهابطة
رِسَالَة فِي شعار الْمرْآة
رِسَالَة فِي اللَّفْظ وَهِي ثَلَاثَة أَجزَاء أول وَثَانِي وثالث
رِسَالَة فِي الحشرات
مُصَور عطاردي
رِسَالَة فِي جَوَاب أَربع عشرَة مَسْأَلَة طبيعيات سَأَلَهُ عَنْهَا بعض إخوانه
رِسَالَة فِي جَوَاب ثَلَاث مسَائِل سُئِلَ عَنْهَا
رِسَالَة فِي قصَّة المتفلسف بِالسُّكُوتِ
رِسَالَة فِي عِلّة الرَّعْد والبرق والثلج وَالْبرد وَالصَّوَاعِق والمطر
رِسَالَة فِي بطلَان دَعْوَى المدعين صَنْعَة الذَّهَب وَالْفِضَّة وخدعهم
رِسَالَة فِي الْإِبَانَة أَن الِاخْتِلَاف الَّذِي فِي الْأَشْخَاص الْعَالِيَة لَيْسَ عِلّة الكيفيات الأولى كَمَا هِيَ عِلّة ذَلِك فِي الَّتِي تَحت الْكَوْن وَالْفساد وَلَكِن عِلّة ذَلِك حِكْمَة مبدع الْكل عز وَجل
رِسَالَة فِي قلع الْآثَار من الثِّيَاب وَغَيرهَا
رِسَالَة إِلَى يوحنا بن ماسويه فِي النَّفس وأفعالها
رِسَالَة فِي ذَات الشعبتين
رِسَالَة فِي علم الْحَواس
رِسَالَة فِي صفة البلاغة
رِسَالَة فِي قدر الْمَنْفَعَة بِأَحْكَام النُّجُوم
كَلَام فِي الْمُبْدع الأول
رِسَالَة فِي صَنْعَة الْأَحْبَار والليق
رِسَالَة إِلَى بعض إخوانه فِي رموز الفلاسفة فِي المجسمات
رِسَالَة فِي عناصر الْأَخْبَار
كتاب فِي الْجَوَاهِر الْخَمْسَة
رِسَالَة إِلَى أَحْمد بن المعتصم فِي تَجْوِيز إِجَابَة الدُّعَاء من الله عز وَجل لمن دَعَا بِهِ
رِسَالَة فِي الْفلك والنجوم وَلم قسمت دَائِرَة فلك البروج على اثْنَي عشر قسما وَفِي تسميتهم السُّعُود والنحوس وبيوتها وأشرافها وحدودها بالبرهان الهندسي
أَحْمد بن الطّيب السَّرخسِيّ
هُوَ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن مَرْوَان السَّرخسِيّ مِمَّن ينتمي إِلَى الْكِنْدِيّ وَعَلِيهِ قَرَأَ وَمِنْه أَخذ
وَكَانَ متفننا فِي عُلُوم كَثِيرَة من عُلُوم القدماء وَالْعرب حسن الْمعرفَة جيد القريحة بليغ اللِّسَان مليح التصنيف والتأليف أوحدا فِي علم النَّحْو وَالشعر
وَكَانَ حسن الْعشْرَة مليح النادرة خليعا ظريفا
وَسمع الحَدِيث أَيْضا وروى شَيْئا مِنْهُ
وَمن ذَلِك روى أَحْمد بن الطّيب السَّرخسِيّ قَالَ حَدثنَا عَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِل قَالَ أخبرنَا سُلَيْمَان بن عبيد الله عَن بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن مُعَاوِيَة بن يحيى عَن عمرَان الْقصير عَن أنس بن مَالك قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (إِذا اكْتفى الرِّجَال بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاء بِالنسَاء فَعَلَيْهِم الدبار)
وروى أَحْمد بن الطّيب أَيْضا عَن أَحْمد بن الْحَرْث عَن أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمَدَائِنِي عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَالم عَن مَكْحُول قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (أَشد النَّاس عذَابا يَوْم الْقِيَامَة من سبّ نَبيا أَو صحابة نَبِي أَو أَئِمَّة الْمُسلمين)
وَتَوَلَّى أَحْمد بن الطّيب فِي أَيَّام المعتضد الْحِسْبَة بِبَغْدَاد
وَكَانَ أَولا معلما للمعتضد ثمَّ نادمه وَخص بِهِ وَكَانَ يُفْضِي إِلَيْهِ بأسراره ويستشيره فِي أُمُور مَمْلَكَته
وَكَانَ الْغَالِب على أَحْمد بن الطّيب علمه لَا(1/293)
عقله
وَكَانَ سَبَب قتل المعتضد إِيَّاه اخْتِصَاصه بِهِ فَإِنَّهُ أفْضى إِلَيْهِ بسر يتَعَلَّق بالقاسم بن عبيد الله وَبدر غُلَام المعتضد فأفشأه وأذاعه بحيلة من الْقَاسِم عَلَيْهِ مَشْهُورَة
فسلمه المعتضد إِلَيْهِمَا فاستصفيا مَاله ثمَّ أودعاه المطامير
فَلَمَّا كَانَ فِي الْوَقْت الَّذِي خرج فِيهِ المعتضد لفتح آمد وقتال أَحْمد بن عِيسَى بن شيخ أفلت من المطامير جمَاعَة من الْخَوَارِج وَغَيرهم والتقطهم مؤنس الْفَحْل وَكَانَ إِلَيْهِ الشرطة وَخِلَافَة المعتضد على الحضرة وَأقَام أَحْمد فِي مَوْضِعه وَرَجا بذلك السَّلامَة فَكَانَ قعوده سَببا لمنيته وَأمر المعتضد الْقَاسِم بِإِثْبَات جمَاعَة مِمَّن يَنْبَغِي أَن يقتلُوا ليستريح من تعلق الْقلب بهم فأثبتهم وَوَقع المعتضد بِقَتْلِهِم فَأدْخل الْقَاسِم اسْم أَحْمد فِي جُمْلَتهمْ فِيمَا بعد فَقتل
وَسَأَلَ عَنهُ المعتضد فَذكر لَهُ الْقَاسِم قَتله وَأخرج إِلَيْهِ الثبت فَلم يُنكره
وَمضى بعد أَن بلغ السَّمَاء رفْعَة فِي سنة وَكَانَ قبض المعتضد على أَحْمد بن الطّيب فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَقَتله فِي الشَّهْر الْمحرم من سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَلأَحْمَد بن الطّيب السَّرخسِيّ من الْكتب اخْتِصَار كتاب أيساغوجي لفرفوريوس اخْتِصَار كتاب قاطيغورياس اخْتِصَار كتاب باريرميناس اخْتِصَار كتاب أنالوطقيا الأولى اخْتِصَار كتاب أنالوطقيا الثَّانِيَة كتاب النَّفس كتاب الأغشاش وصناعة الْحِسْبَة الْكَبِير كتاب غش الصناعات والحسبة الصَّغِير كتاب نزهة النُّفُوس وَلم يخرج باسمه كتاب اللَّهْو والملاهي ونزهة المفكر الساهي فِي الْغناء والمغنين والمنادمة والمجالسة وأنواع الْأَخْبَار وَالْملح صنفه للخليفة وَقَالَ أَحْمد بن الطّيب فِي كِتَابه هَذَا أَنه صنف هَذَا الْكتاب وَقد مر لَهُ من الْعُمر إِحْدَى وَسِتُّونَ سنة كتاب السياسة الصَّغِير كتاب الْمدْخل إِلَى صناعَة النُّجُوم كتاب الموسيقى الْكَبِير مقالتان وَلم يعْمل مثله كتاب الموسيقى الصَّغِير كتاب المسالك والممالك كتاب الأرثماطيقي فِي الْأَعْدَاد والجبر والمقابلة كتاب الْمدْخل إِلَى صناعَة الطِّبّ نقض فِيهِ على حنين بن إِسْحَاق كتاب الْمسَائِل كتاب فَضَائِل بَغْدَاد وأخبارها كتاب الطبيخ أَلفه على الشُّهُور وَالْأَيَّام للمعتضد كتاب زَاد الْمُسَافِر وخدمة الْمُلُوك مقَالَة من كتاب أدب الْمُلُوك كتاب الْمدْخل إِلَى علم الموسيقى كتاب الجلساء والمجالسة رِسَالَة فِي جَوَاب ثَابت بن قُرَّة فِيمَا سَأَلَ عَنهُ مقَالَة فِي البهق والنمش والكلف رِسَالَة فِي السالكين وطرائف اعْتِقَادهم كتاب مَنْفَعَة الْجبَال رِسَالَة فِي وصف مَذَاهِب الصابئين كتاب فِي أَن المبدعات فِي حَال الإبداع لَا متحركة وَلَا سَاكِنة
كتاب فِي مَاهِيَّة النّوم والرؤيا كتاب فِي الْعقل
كتاب فِي وحدانية الله تَعَالَى
كتاب فِي وَصَايَا فيثاغورس كتاب فِي أَلْفَاظ سقراط كتاب فِي الْعِشْق كتاب فِي برد أَيَّام الْعَجُوز كتاب فِي كَون الضباب
كتاب فِي الفأل كتاب فِي الشطرنج الْعَالِيَة كتاب أدب فِي النَّفس إِلَى المعتضد كتاب فِي الْفرق بَين نَحْو الْعَرَب والمنطق كتاب فِي أَن أَرْكَان الفلسفة بَعْضهَا على بعض(1/294)
وَهُوَ كتاب الِاسْتِيفَاء
كتاب فِي أَحْدَاث الجو كتاب الرَّد على جالينوس فِي الْمحل الأول
رِسَالَة إِلَى ابْن ثوابة رِسَالَة فِي الخضابات المسودة للشعر وَغير ذَلِك
كتاب فِي أَن الْجُزْء يَنْقَسِم إِلَى مَا لَا نِهَايَة لَهُ
كتاب فِي أَخْلَاق النَّفس كتاب سيرة الْإِنْسَان كتاب إِلَى بعض إخوانه فِي القوانين الْعَامَّة الأولى فِي الصِّنَاعَة الديالقطيقية أَي الجدلية على مَذْهَب أرسطوطاليس اخْتِصَار كتاب سوفسطيقا لأرسطوطاليس كتاب القيان
أَبُو الْحسن ثَابت بن قُرَّة الْحَرَّانِي
كَانَ من الصابة المقيمين بحران وَيُقَال الصابئون نسبتهم إِلَى صاب وَهُوَ طاط ابْن النَّبِي إِدْرِيس عَلَيْهِ السَّلَام وثابت هَذَا هُوَ ثَابت بن قُرَّة بن مَرْوَان بن ثَابت بن كرايا بن إِبْرَاهِيم بن كرايا بن مارينوس بن سالايونوس
وَكَانَ ثَابت بن قُرَّة صيرفيا بحران ثمَّ استصحبه مُحَمَّد بن مُوسَى لما انْصَرف من بلد الرّوم لِأَنَّهُ رَآهُ فصيحا
وَقيل إِنَّه قَرَأَ على مُحَمَّد بن مُوسَى فتعلم فِي دَاره فَوَجَبَ حَقه عَلَيْهِ
فوصله بالمعتضد وَأدْخلهُ فِي جملَة المنجمين
وَهُوَ أصل مَا تجدّد للصابة من الرِّئَاسَة فِي مَدِينَة السَّلَام وبحضرة الْخُلَفَاء
وَلم يكن فِي زمن ثَابت بن قُرَّة من يماثله فِي صناعَة الطِّبّ وَلَا فِي غَيره من جَمِيع أَجزَاء الفلسفة
وَله تصانيف مَشْهُورَة بالجودة
وَكَذَلِكَ جَاءَ جمَاعَة كَثِيرَة من ذُريَّته وَمن أَهله يقاربونه فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ من حسن التخرج والتمهر فِي الْعُلُوم
ولثابت أرصاد حسان للشمس تولاها بِبَغْدَاد وَجَمعهَا فِي كتاب بَين فِيهِ مذْهبه فِي سنة الشَّمْس وَمَا أدْركهُ بالرصد فِي مَوضِع أوجها وَمِقْدَار سنيها وكمية حركاتها وَصُورَة تعديلها
وَكَانَ جيد النَّقْل إِلَى الْعَرَبِيّ حسن الْعبارَة وَكَانَ قوي الْمعرفَة باللغة السريانية وَغَيرهَا
وَقَالَ ثَابت بن سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة إِن الْمُوفق لما غضب على ابْنه أبي الْعَبَّاس المعتضد بِاللَّه حَبسه فِي دَار إِسْمَاعِيل بن بلبل
وَكَانَ أَحْمد الْحَاجِب موكلا بِهِ
وَتقدم إِسْمَاعِيل بن بلبل إِلَى ثَابت ابْن قُرَّة بِأَن يدْخل إِلَى أبي الْعَبَّاس ويؤنسه
وَكَانَ عبد الله بن أسلم ملازما لأبي الْعَبَّاس فأنس أَبُو الْعَبَّاس بِثَابِت بن قُرَّة أنسا كثيرا
وَكَانَ ثَابت يدْخل إِلَيْهِ إِلَى الْحَبْس فِي كل يَوْم ثَلَاث مَرَّات يحادثه ويسليه ويعرفه أَحْوَال الفلاسفة وَأمر الهندسة والنجوم وَغير ذَلِك
فشغف بِهِ ولطف مِنْهُ مَحَله
فَلَمَّا خرج من حَبسه قَالَ لبدر غُلَامه يَا بدر أَي رجل أفدنا بعْدك فَقَالَ من هُوَ يَا سَيِّدي فَقَالَ ثَابت بن قُرَّة
وَلما تقلد الْخلَافَة اقطعه ضيَاعًا جليلة وَكَانَ يجلسه بَين يَدَيْهِ كثيرا بِحَضْرَة الْخَاص وَالْعَام وَيكون بدر غُلَام الْأَمِير قَائِما والوزيروهو جَالس بَين يَدي الْخَلِيفَة(1/295)
قَالَ أَبُو إِسْحَق الصَّابِئ الْكَاتِب إِن ثَابتا كَانَ يمشي مَعَ المعتضد فِي الفردوس وَهُوَ بُسْتَان فِي دَار الْخَلِيفَة للرياضة وَكَانَ المعتضد قد اتكأ على يَد ثَابت وهما يتماشيان ثمَّ نتر المعتضد يَده من يَد ثَابت بِشدَّة فَفَزعَ ثَابت
فَإِن المعتضد كَانَ مهيبا جدا فَلَمَّا نتر يَده من يَد ثَابت قَالَ لَهُ يَا أَبَا الْحسن وَكَانَ فِي الخلوات يكنيه وَفِي الْمَلأ يُسَمِّيه سَهَوْت وَوضعت يَدي على يدك واستندت عَلَيْهَا وَلَيْسَ هَكَذَا يجب أَن يكون فَإِن الْعلمَاء يعلون وَلَا يعلون
ونقلت من كتاب الْكِنَايَات للْقَاضِي أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الْجِرْجَانِيّ قَالَ حَدثنِي أَبُو الْحسن هِلَال بن المحسن بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنِي جدي أَبُو إِسْحَق الصَّابِئ قَالَ حَدثنِي عمي أَبُو الْحُسَيْن ثَابت بن إِبْرَاهِيم قَالَ حَدثنِي أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن مُوسَى النوبختي قَالَ سَأَلت أَبَا الْحسن ثَابت بن قُرَّة عَن مَسْأَلَة بِحَضْرَة قوم فكره الْإِجَابَة عَنْهَا بمشهدهم وَكنت حَدِيث السن فدافعني عَن الْجَواب
فَقلت متمثلا
(أَلا مَا لِليْل لَا ترى عِنْد مضجعي ... بلَيْل وَلَا يجْرِي بهَا لي طَائِر)
(بلَى إِن عجم الطير تجْرِي إِذا جرت ... بليلي وَلَكِن لَيْسَ للطير زاجر) الطَّوِيل
فَلَمَّا كَانَ من غَد لَقِيَنِي فِي الطَّرِيق وسرت مَعَه فَأَجَابَنِي عَن الْمَسْأَلَة جَوَابا شافيا وَقَالَ زجرت الطير يَا أَبَا مُحَمَّد فأخجلني فاعتذرت إِلَيْهِ وَقلت وَالله يَا سَيِّدي مَا أردتك بالبيتين
وَمن بديع حسن تصرف ثَابت بن قُرَّة فِي المعالجة مَا حَكَاهُ أَبُو الْحسن ثَابت بن سِنَان قَالَ حكى أحد أجدادي عَن جدنا ثَابت بن قُرَّة أَنه اجتاز يَوْمًا مَاضِيا إِلَى دَار الْخَلِيفَة فَسمع صياحا وعويلا فَقَالَ مَاتَ القصاب الَّذِي كَانَ فِي هَذَا الدّكان فَقَالُوا لَهُ أَي وَالله يَا سيدنَا البارحة فَجْأَة
وعجبوا من ذَلِك
فَقَالَ مَا مَاتَ خُذُوا بِنَا إِلَيْهِ
فَعدل النَّاس مَعَه إِلَى الدَّار فَتقدم إِلَى النِّسَاء بالإمساك عَن اللَّطْم والصياح وأمرهن بِأَن يعملن مزورة
وَأَوْمَأَ إِلَى بعض غلمانه بِأَن يضْرب القصاب على كَعبه بالعصا
وَجعل يَده فِي مجسه وَمَا زَالَ ذَلِك يضْرب كَعبه إِلَى أَن قَالَ حَسبك
واستدعى قدحا وَأخرج من شستكة فِي كمه دَوَاء فدافه فِي الْقدح بِقَلِيل مَاء وَفتح فَم القصاب وسقاه إِيَّاه فأساغه
وَوَقعت الصَّيْحَة والزعقة فِي الدَّار والشارع بِأَن الطَّبِيب قد أَحْيَا الْمَيِّت
فَتقدم ثَابت بغلق الْبَاب والاستيثاق مِنْهُ
وَفتح القصاب عينه وأطعمه مزورة وَأَجْلسهُ
وَقعد عِنْده سَاعَة وَإِذا بأصحاب الْخَلِيفَة قد جَاءُوا يَدعُونَهُ فَخرج مَعَهم وَالدُّنْيَا قد انقلبت والعامة حوله يتعادون إِلَى أَن دخل دَار الْخلَافَة
وَلما مثل بَين يَدي الْخَلِيفَة قَالَ لَهُ يَا ثَابت مَا هَذِه المسيحية الَّتِي بلغتنا عَنْك قَالَ يَا مولَايَ كنت اجتاز على هَذَا القصاب وألحظه يشْرَح الكبد ويطرح عَلَيْهَا الْملح ويأكلها
فَكنت أستقذر فعله أَولا ثمَّ أعلم أَن سكتة ستلحقه
فصرت أراعيه وَإِذ علمت عاقبته انصرفت وَركبت للسكتة(1/296)
دَوَاء استصحبته معي فِي كل يَوْم
فَلَمَّا اجتزت الْيَوْم وَسمعت الصياح قلت مَاتَ القصاب قَالُوا نعم مَاتَ فَجْأَة البارحة
فَعلمت أَن السكتة قد لحقته فَدخلت إِلَيْهِ وَلم أجد لَهُ نبضا
فَضربت كَعبه إِلَى أَن عَادَتْ حَرَكَة نبضه وسقيته الدَّوَاء فَفتح عَيْنَيْهِ وَأَطْعَمته مزورة
وَاللَّيْلَة يَأْكُل رغيفا بدراج وَفِي غَد يخرج من بَيته
أَقُول وَكَانَ مولد ثَابت بن قُرَّة فِي سنة إِحْدَى عشرَة وَمِائَتَيْنِ بحران فِي يَوْم الْخَمِيس الْحَادِي وَالْعِشْرين من صفر
وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ وَله من الْعُمر سبع وَسَبْعُونَ سنة
وَقَالَ ثَابت ابْن سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة كَانَت بَين أبي أَحْمد يحيى بن عَليّ بن يحيى بن المنجم النديم وَبَين جدي أبي الْحسن ثَابت بن قُرَّة رَحمَه الله مَوَدَّة أكيدة
وَلما مَاتَ جدي فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ رثاه أَبُو أَحْمد بِأَبْيَات هِيَ هَذِه
(أَلا كل شَيْء مَا خلا الله مائت ... وَمن يغترب يُرْجَى وَمن مَاتَ فَائت)
(أرى من مضى عَنَّا وخيم عندنَا ... كسفر ثووا أَرضًا فَسَار وبائت)
(نعينا الْعُلُوم الفلسفيات كلهَا ... خبا نورها إِذْ قيل قد مَاتَ ثَابت)
(وَأصْبح أهلوها حيارى لفقده ... وَزَالَ بِهِ ركن من الْعلم ثَابت)
(وَكَانُوا إِذا ضلوا هدَاهُم لنهجها ... خَبِير بفصل الحكم للحق ناكت)
(وَلما أَتَاهُ الْمَوْت لم يغن طبه ... وَلَا نَاطِق مِمَّا حواه وصامت)
(وَلَا أمتعته بالغنى بَغْتَة الردى ... أَلا رب رزق قَابل وَهُوَ فَائت)
(فَلَو أَنه يسطاع للْمَوْت مدفع ... لدافعه عَنهُ حماة مصالت)
(ثقاة من الإخوان يصفونَ وده ... وَلَيْسَ لما يقْضِي بِهِ الله لافت)
(أَبَا حسن لَا تبعدن وكلنَا ... لهلكك مفجوع لَهُ الْحزن كابت)
(أآمل أَن تجلى عَن الْحق شُبْهَة ... وشخصك مقبور وصوتك خَافت)
(وَقد كَانَ يسرو حسن تبيينك الْعَمى ... وكل قؤول حِين تنطق سَاكِت)
(كَأَنَّك مسؤولا من الْبَحْر غارف ... ومستبدئا نطقا من الصخر ناحت)
(فَلم يتفقدني من الْعلم وَاحِد ... هراق أناء الْعلم بعْدك كابت)
(وَكم من محب قد أفدت وَأَنه ... لغيرك مِمَّن رام شأوك هافت)
(عجبت لأرض غَيْبَتِك وَلم يكن ... ليثبت فِيهَا مثلك الدَّهْر ثَابت)
(تهذبت حَتَّى لم يكن لَك مبغض ... وَلَا لَك لما اغتالك الْمَوْت شامت)(1/297)
(وبرزت حَتَّى لم يكن لَك دَافع ... عَن الْفضل إِلَّا كَاذِب القَوْل باهت)
(مضى علم الْعلم الَّذِي كَانَ مقنعا ... فَلم يبْق إِلَّا مُخطئ متهافت) الطَّوِيل
وَكَانَ من تلامذة ثَابت بن قُرَّة عِيسَى بن أسيد النَّصْرَانِي وَكَانَ ثَابت يقدمهُ ويفضله وَقد نقل عِيسَى بن أسيد من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ بِحَضْرَة ثَابت وَيُوجد لَهُ كتاب جوابات ثَابت لمسائل عِيسَى ابْن أسيد
وَمن كَلَام ثَابت بن قُرَّة قَالَ لَيْسَ على الشَّيْخ أضرّ من أَن يكون لَهُ طباخ حاذق وَجَارِيَة حسناء
لِأَنَّهُ يستكثر من الطَّعَام فيسقم وَمن الْجِمَاع فيهرم
وَقَالَ رَاحَة الْجِسْم فِي قلَّة الطَّعَام وراحة النَّفس فِي قلَّة الآثام وراحة الْقلب فِي قلَّة الاهتمام وراحة اللِّسَان فِي قلَّة الْكَلَام
وَلأبي الْحسن ثَابت بن قُرَّة الْحَرَّانِي من الْكتب كتاب فِي سَبَب كَون الْجبَال
مسَائِله الطبية
كتاب فِي النبض
كتاب وجع المفاصل والنقرس
جَوَامِع كتاب باريمينياس
جَوَامِع كتاب أنالوطيقا الأولى
اخْتِصَار الْمنطق
نَوَادِر مَحْفُوظَة من طوبيقا
كتاب فِي السَّبَب الَّذِي من أَجله جعلت مياه الْبَحْر مالحة
اخْتِصَار كتاب مَا بعد الطبيعة
مسَائِله المشوقة إِلَى الْعُلُوم
كتاب فِي أغاليط السوفسطائيين
كتاب فِي مَرَاتِب الْعُلُوم
كتاب فِي الرَّد على من قَالَ إِن النَّفس مزاج
جَوَامِع كتاب الْأَدْوِيَة المفردة لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع كتاب الْمرة السَّوْدَاء لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع كتاب سوء المزاج الْمُخْتَلف لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع كتاب الْأَمْرَاض الحادة لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع كتاب الْكَثْرَة لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع كتاب تشريح الرَّحِم لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع كتاب جالينوس فِي المولودين لسبعة أشهر
جَوَامِع مَا قَالَه جالينوس فِي كِتَابه فِي تشريف صناعَة الطِّبّ
كتاب أَصْنَاف الْأَمْرَاض
كتاب تسهيل المجسطي
كتاب الْمدْخل إِلَى المجسطي كتاب كَبِير فِي تسهيل المجسطي لم يتم وَهُوَ أَجود كتبه فِي ذَلِك
كتاب فِي الوقفات الَّتِي فِي السّكُون الَّذِي بَين حركتي الشريان المتضايتن مقالتان صنف هَذَا الْكتاب سريانيا لِأَنَّهُ أَوْمَأ فِيهِ إِلَى الرَّد على الْكِنْدِيّ وَنَقله إِلَى الْعَرَبِيّ تلميذ لَهُ يعرف بِعِيسَى بن أسيد النَّصْرَانِي وَأصْلح ثَابت الْعَرَبِيّ
وَذكر قوم أَن النَّاقِل لهَذَا الْكتاب حُبَيْش بن الْحسن الأعسم وَذَلِكَ غلط
وَقد رد أَبُو أَحْمد الْحُسَيْن بن إِسْحَق بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن كرنيب على ثَابت فِي هَذَا الْكتاب بعد وَفَاة ثَابت بِمَا لَا فَائِدَة فِيهِ وَلَا طائل
وَهَذَا الْكتاب أنفذه لما صنفه إِلَى إِسْحَق بن حنين فَاسْتَحْسَنَهُ اسْتِحْسَانًا عَظِيما وَكتب فِي آخِره بِخَطِّهِ يقرظ أَبَا الْحسن ثَابتا وَيَدْعُو لَهُ ويصفه
جَوَامِع كتاب الفصد لِجَالِينُوسَ
جَوَامِع تَفْسِير جالينوس لكتاب أبقراط فِي الأهوية والمياه والبلدان
كتاب فِي الْعَمَل بالكرة
كتاب فِي الْحَصَى الْمُتَوَلد فِي الكلى والمثانة
كتاب فِي الْبيَاض الَّذِي يظْهر فِي الْبدن
كتاب فِي مساءلة الطَّبِيب للْمَرِيض
كتاب فِي سوء المزاج الْمُخْتَلف
كتاب فِي تَدْبِير الْأَمْرَاض الحادة(1/298)
رِسَالَة فِي الجدري والحصبة
اخْتِصَار كتاب النبض الصَّغِير لِجَالِينُوسَ
كتاب فِي قطع الاسطوانة كتاب فِي الموسيقى
رِسَالَة إِلَى عَليّ بن يحيى المنجم فِيمَا أَمر بإثباته من أَبْوَاب علم الموسيقى
رِسَالَة إِلَى بعض إخوانه فِي جَوَاب مَا سَأَلَهُ عَنهُ من أُمُور الموسيقى كتاب فِي أَعمال ومسائل إِذا وَقع خطّ مُسْتَقِيم على خطين ومقالة أُخْرَى لَهُ فِي ذَلِك
كتاب فِي المثلث الْقَائِم الزوايا
كتاب فِي الْأَعْدَاد المتحابة
كتاب فِي الشكل القطاع
كتاب فِي حَالَة الْفلك
كناشه الْمَعْرُوف بالذخيرة أَلفه لوَلَده سِنَان بن ثَابت جَوَابه لرسالة أَحْمد بن الطّيب إِلَيْهِ
كتاب فِي التَّصَرُّف فِي أشكال الْقيَاس
كتاب فِي تركيب الأفلاك وخلقتها وعددها وَعدد حركات الْجِهَات لَهَا
وَالْكَوَاكِب فِيهَا ومبلغ سَيرهَا والجهات الَّتِي تتحرك إِلَيْهَا
كتاب فِي جَوَامِع المسكونة
كتاب القرسطيون
رِسَالَة فِي مَذْهَب الصابئين ودياناتهم
كتاب فِي قسْمَة الأَرْض
كتاب فِي الْهَيْئَة
كتاب فِي الْأَخْلَاق
كتاب فِي مُقَدمَات أقليدس
كتاب فِي أشكال أقليدس
كتاب فِي أشكال المجسطي
كتاب فِي اسْتِخْرَاج الْمسَائِل الهندسية
كتاب رُؤْيَة الْأَهِلّة بالجنوب
كتاب رُؤْيَة الْأَهِلّة من الجداول
رِسَالَة فِي سنة الشَّمْس
رِسَالَة فِي الْحجَّة المنسوبة إِلَى سقراط
كتاب فِي إبطاء الْحَرَكَة فِي فلك البروج وسرعتها وتوسطها بِحَسب الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ من الْفلك الْخَارِج المركز
جَوَاب مَا سُئِلَ عَنهُ عَن البقراطيين وَكم مبلغ عَددهمْ
مقَالَة فِي عمل شكل مجسم ذِي أَربع عشرَة قَاعِدَة تحيط بِهِ كرة مَعْلُومَة
مقَالَة فِي الصُّفْرَة الْعَارِضَة للبدن وَعدد أصنافها وأسبابها وعلاجها
مقَالَة فِي وجع المفاصل
مقَالَة فِي صفة كَون الْجَنِين
كتاب فِي علم مَا فِي التَّقْوِيم بالممتحن كتاب فِي الأطلال
كتاب فِي وصف القرص
كتاب فِي تَدْبِير الصِّحَّة
كتاب فِي محنة حِسَاب النُّجُوم
كتاب تَفْسِير الْأَرْبَعَة
رِسَالَة فِي اخْتِيَار وَقت لسُقُوط النُّطْفَة
جَوَامِع كتاب النبض الْكَبِير لِجَالِينُوسَ
كتاب الْخَاصَّة فِي تشريف صناعَة الطِّبّ وترتيب أَهلهَا وتعزيز المنقوصين مِنْهُم بالنفوس وَالْأَخْبَار أَن صناعَة الطِّبّ أجل الصناعات كتب بِهِ إِلَى الْوَزير أبي الْقَاسِم عبيد الله بن سُلَيْمَان
رِسَالَة فِي كَيفَ يَنْبَغِي أَن يسْلك إِلَى نيل الْمَطْلُوب من الْمعَانِي الهندسية فِيهَا ذكر آثَار ظَهرت فِي الجو وأحوال كَانَت فِي الْهَوَاء مِمَّا رصد بَنو مُوسَى وَأَبُو الْحسن ثَابت بن قُرَّة
اخْتِصَار كتاب جالينوس فِي قوى الأغذية ثَلَاث مقالات
مسَائِل عِيسَى بن أسيد لِثَابِت بن قُرَّة وأجوبتها الثَّابِت
كتاب الْبَصَر والبصيرة فِي علم الْعين وعللها ومداواتها
الْمدْخل إِلَى كتاب أقليدس وَهُوَ فِي غَايَة الْجَوْدَة
كتاب الْمدْخل إِلَى الْمنطق
اخْتِصَار كتاب حِيلَة الْبُرْء لِجَالِينُوسَ
شرح السماع الطبيعي مَاتَ وَمَا تممه
كتاب فِي المربع وقطره
كتاب فِيمَا يظْهر فِي الْقَمَر من آثَار الْكُسُوف وعلاماته
كتاب فِي عِلّة كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر عمل أَكْثَره وَمَات وَمَا تممه
كتاب إِلَى ابْنه سِنَان فِي الْحَث على تعلم الطِّبّ وَالْحكمَة
جوابان عَن كتابي مُحَمَّد بن مُوسَى بن شَاكر إِلَيْهِ فِي أَمر الزَّمَان
كتاب فِي مساحة الأشكال المسطحة وَسَائِر الْبسط والأشكال
كتاب فِي أَن سَبِيل الأثقال الَّتِي تعلق على عَمُود وَاحِد مُنْفَصِلَة هِيَ سَبِيلهَا إِذا جعلت ثقلا وَاحِدًا مثبوتا فِي جَمِيع العمود على تساو
كتاب فِي طبائع الْكَوَاكِب وتأثيراتها مُخْتَصر فِي الْأُصُول من علم الْأَخْلَاق
كتاب فِي آلَات السَّاعَات الَّتِي تسمى رخامات
كتاب فِي إِيضَاح الْوَجْه الَّذِي ذكر بطليموس أَن بِهِ استخرج من تقدمه مسيرات الْقَمَر(1/299)
الدورية وَهِي المستوية
كتاب فِي صفة اسْتِوَاء الْوَزْن واختلافه وشرائط ذَلِك جَوَامِع كتاب نيقوماخس فِي الأرثماطيقي مقالتان
أشكال لَهُ فِي الْحِيَل
جَوَامِع الْمقَالة الأولى من الْأَرْبَع لبطلميوس
جَوَابه عَن مسَائِل سَأَلَهُ عَنْهَا أَبُو سهل النوبختي
كتاب فِي قطع المخروط المكافي
كتاب فِي مساحة الْأَجْسَام المكافية
كتاب فِي مَرَاتِب قِرَاءَة الْعُلُوم
اخْتِصَار كتاب أَيَّام البحران لِجَالِينُوسَ ثَلَاث مقالات
اخْتِصَار كتاب الأسطقسات لِجَالِينُوسَ
كتاب فِي أشكال الخطوط الَّتِي يمر عَلَيْهَا ظلّ المقياس
مقَالَة فِي الهندسة ألفها لإسماعيل بن بلبل
جَوَامِع كتاب جالينوس فِي الْأَدْوِيَة المنقية
جَوَامِع كتاب الْأَعْضَاء الآلمة لِجَالِينُوسَ
كتاب فِي الْعرُوض
كتاب فِيمَا أغفله ثاون فِي حِسَاب كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر
مقَالَة فِي حِسَاب خُسُوف الشَّمْس وَالْقَمَر
كتاب فِي الأنواء
مَا وجد من كِتَابه فِي النَّفس
مقَالَة فِي النّظر فِي أَمر النَّفس
كتاب فِي الطَّرِيق إِلَى اكْتِسَاب الْفَضِيلَة
كتاب فِي النِّسْبَة الْمُؤَلّفَة
رِسَالَة فِي الْعدَد الوفق
رِسَالَة فِي تولد النَّار بَين حجرين
كتاب فِي الْعَمَل بالممتحن وترجمته مَا استدركه على حُبَيْش فِي الممتحن
كتاب فِي مساحة قطع الخطوط
كتاب فِي آلَة الزمر
كتب عدَّة لَهُ فِي الأرصاد عَرَبِيّ وسرياني
كتاب فِي تشريح بعض الطُّيُور وَأَظنهُ مَالك الحزين
كتاب فِي أَجنَاس مَا تَنْقَسِم إِلَيْهِ الْأَدْوِيَة صنفه بالسرياني
كتاب فِي أَجنَاس مَا توزن بِهِ الْأَدْوِيَة بالسرياني
كتاب فِي هجاء السرياني وَإِعْرَابه
مقَالَة فِي تَصْحِيح مسَائِل الْجَبْر بالبراهين الهندسية
إِصْلَاحه للمقالة الأولى من كتاب أبلونيوس فِي قطع النّسَب المحدودة وَهَذَا الْكتاب مقالتان أصلح ثَابت الأولى إصلاحا جيدا وَشَرحهَا وأوضحها وفسرها وَالثَّانيَِة لم يصلحها وَهِي غير مفهومة
مُخْتَصر فِي علم النُّجُوم مُخْتَصر فِي علم الهندسة
جوابات عَن مسَائِل سَأَلَهُ عَنْهَا المعتضد
كَلَام فِي السياسة
جَوَاب لَهُ عَن سَبَب الْخلاف بَين زيج بطلميوس وَبَين الممتحن
جوابات لَهُ عَن عدَّة مسَائِل سَأَلَ عَنْهَا سَنَد بن عَليّ
رِسَالَة فِي حل رموز كتاب السياسة لأفلاطن
اخْتِصَار القاطيغورياس
وَمِمَّا وجد لِثَابِت بن قُرَّة الْحَرَّانِي الصابي بالسُّرْيَانيَّة فِيمَا يتَعَلَّق بمذهبه رِسَالَة فِي الرسوم والفروض وَالسّنَن
رِسَالَة فِي تكفين الْمَوْتَى ودفنهم
رِسَالَة فِي اعْتِقَاد الصابئين
رِسَالَة فِي الطَّهَارَة والنجاسة
رِسَالَة فِي السَّبَب الَّذِي لأَجله الغز النَّاس فِي كَلَامهم
رِسَالَة فِيمَا يصلح من الْحَيَوَان للضحايا وَمَا لَا يصلح
رِسَالَة فِي أَوْقَات الْعِبَادَات
رِسَالَة فِي تَرْتِيب الْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة
صلوَات الابتهال إِلَى الله عز وَجل
أَبُو سعيد سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة
كَانَ يلْحق بابيه فِي مَعْرفَته بالعلوم واشتغاله بهَا وتمهره فِي صناعَة الطِّبّ
وَله قُوَّة بَالِغَة فِي علم الْهَيْئَة
وَكَانَ فِي خدمَة المقتدر بِاللَّه والقاهر وخدم أَيْضا بصناعة الطِّبّ الراضي بِاللَّه
وَقَالَ ابْن النديم الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب فِي كتاب الفهرست أَن القاهر بِاللَّه أَرَادَ سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة على(1/300)
الْإِسْلَام فهرب ثمَّ أسلم وَخَافَ من القاهر فَمضى إِلَى خُرَاسَان وَعَاد وَتُوفِّي بِبَغْدَاد مُسلما
وَكَانَت وَفَاته بعلة الذرب فِي اللَّيْلَة الَّتِي صبيحتها يَوْم الْجُمُعَة مستهل ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة
وَقَالَ ثَابت بن سِنَان فِي تَارِيخه أذكر وَقد وَقع الْوَزير عَليّ بن عِيسَى بن الْجراح إِلَى وَالِدي سِنَان بن ثَابت فِي أَيَّام تقلده الدَّوَاوِين من قبل المقتدر بِاللَّه وتدبير المملكة فِي أَيَّام وزارة حَامِد بن الْعَبَّاس فِي سنة كثرت فِيهَا الْأَمْرَاض جدا وَكَانَ وَالِدي إِذْ ذَاك يتقلد البيمارستانات بِبَغْدَاد وَغَيرهَا توقيعا يَقُول فِيهِ فَكرت مد الله فِي عمرك فِي أَمر من فِي الحبوس وَأَنه لَا يَخْلُو مَعَ كَثْرَة عَددهمْ وجفاء أماكنهم أَن تنالهم الْأَمْرَاض وهم معوقون عَن التَّصَرُّف فِي منافعهم ولقاء من يشاورونه من الْأَطِبَّاء فِيمَا يعرض لَهُم
فَيَنْبَغِي أَن تفرد لَهُم أطباء يدْخلُونَ إِلَيْهِم فِي كل يَوْم وَتحمل إِلَيْهِم الْأَدْوِيَة والأشربة
ويطوفون فِي سَائِر الحبوس ويعالجون فِيهَا المرضى ويزيحون عللهم فِيمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ من الْأَدْوِيَة والأشربة
ويتقدم بِأَن تُقَام لَهُم المزورات لمن يحْتَاج إِلَيْهَا مِنْهُم
فَفعل وَالِدي ذَلِك طول أَيَّامه
وَورد توقيع آخر إِلَيْهِ فِيهِ فَكرت فِي من فِي السوَاد من أَهله فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو أَن يكون فِيهِ مرضى لَا يشرف عَلَيْهِم متطبب لخلو السوَاد من الْأَطِبَّاء
فَتقدم مد الله فِي عمرك بإنفاذ متطببين وخزانة للأدوية والأشربة يطوفون فِي السوَاد ويقيمون فِي كل صقع مِنْهُ مُدَّة مَا تَدْعُو الْحَاجة إِلَيْهِ
ويعالجون من فِيهِ من المرضى ثمَّ ينتقلون إِلَى غَيره
فَفعل وَالِدي ذَلِك إِلَى أَن انْتهى أَصْحَابه إِلَى سورا وَالْغَالِب على أَهلهَا الْيَهُود
فَكتب إِلَى أبي الْحسن عَليّ بن عِيسَى يعرفهُ وُرُود كِتَابه من أَصْحَابه من السوَاد يذكرُونَ فِيهِ كَثْرَة المرضى وَأَن أَكثر من حول نهر الْملك يهود وَأَنَّهُمْ اسْتَأْذنُوا فِي الْمقَام عَلَيْهِم وعلاجهم وَأَنه لم يعلم مَا يُجِيبهُمْ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يعرف رَأْيه فيهم
وأعلمه أَن رسم البيمارستان أَن يعالج فِيهِ الملي وَالذِّمِّيّ
ويسأله أَن يرسم لَهُ فِي ذَلِك مَا يعْمل عَلَيْهِ
فَوَقع لَهُ توقيعا نسخته فهمت مَا كتبت بِهِ أكرمك الله وَلَيْسَ بَيْننَا خلاف فِي أَن معالجة أهل الذِّمَّة والبهائم صَوَاب
وَلَكِن الَّذِي يجب تَقْدِيمه وَالْعَمَل بِهِ معالجة النَّاس قبل الْبَهَائِم وَالْمُسْلِمين قبل أهل الذِّمَّة
فَإِذا أفضل عَن الْمُسلمين مَا لَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ صرف فِي الطَّبَقَة الَّتِي بعدهمْ
فاعمل أكرمك الله على ذَلِك واكتب إِلَى أَصْحَابك بِهِ
ووصهم بالتنقل فِي الْقرى والمواضع الَّتِي فِيهَا الأوباء الْكَثِيرَة والأمراض الفاشية
وَإِن لم يَجدوا بذرقة توقفوا عَن الْمسير حَتَّى تصلح لَهُم الطَّرِيق وَيصِح السَّبِيل فَإِنَّهُم إِذا فعلوا هَذَا غنوا عَن السُّور إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ ثَابت بن سِنَان وَكَانَت النَّفَقَة عَن البيمارستان الَّذِي لبدر المعتضدي بالمحرم من ارْتِفَاع وقف سجَاح أم المتَوَكل على الله
وَكَانَ الْوَقْف فِي يَد أبي الصَّقْر وهب بن مُحَمَّد الكلوذاني
وَكَانَ قسط من ارْتِفَاع هَذَا الْوَقْف يصرف إِلَى بني هَاشم وقسط مِنْهُ إِلَى نَفَقَة البيمارستان
وَكَانَ أَبُو(1/301)
الصَّقْر يروج على بني هَاشم مَالهم وَيُؤَخر مَا يصرف إِلَى نَفَقَة البيمارستان ويضيقه
فَكتب وَالِدي إِلَى ابْن الْحسن عَليّ بن عِيسَى يشكو إِلَيْهِ هَذِه الْحَال ويعرفه مَا يلْحق المرضى من الضَّرَر بذلك وقصور مَا يُقَام لَهُم من الفحم والمؤن والدثار وَغير ذَلِك عَن مِقْدَار حَاجتهم
فَوَقع على ظهر رقعته إِلَى أبي الصَّقْر توقيعا نسخته أَنْت أكرمك الله تقف على مَا ذكره وَهُوَ غلط جدا وَالْكَلَام فِيهِ مَعَك خَاصَّة فِيمَا يَقع مِنْك يلزمك وَمَا أحسبك تسلم من الْإِثْم فِيهِ
وَقد حكيت عني فِي الهاشميين قولا لست أذكرهُ
وَكَيف تصرفت الْأَحْوَال فِي زِيَادَة المَال أَو نقصانه ووفوره أَو قصوره لَا بُد من تَعْدِيل الْحَال فِيهِ بَين أَن تَأْخُذ مِنْهُ وَتجْعَل للبيمارستان قسطا بل هُوَ أَحَق بالتقديم على غَيره لضعف من يلجأ إِلَيْهِ وعظيم النَّفْع بِهِ
فعرفني أكرمك الله مَا النُّكْتَة فِي قُصُور المَال ونقصانه فِي تخلف نَفَقَة البيمارستان هَذِه الشُّهُور المتتابعة وَفِي هَذَا الْوَقْت خَاصَّة مَعَ الشتَاء واشتداد الْبرد
فاحتل بِكُل حِيلَة لما يُطلق لَهُم ويعجل حَتَّى يدفأ من فِي البيمارستان من المرضى والممرورين بالدثار وَالْكِسْوَة والفحم
ويقام لَهُم الْقُوت ويتصل لَهُم العلاج والخدمة
وأجبني بِمَا يكون مِنْك فِي ذَلِك
وأنفذ لي عملا يدلني على حجتك
وأعن بِأَمْر البيمارستان فضل عناية إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ ثَابت بن سِنَان أَنه لما كَانَ فِي أول يَوْم من الْمحرم سنة سِتّ وثلثمائة فتح وَالِدي سِنَان بن ثَابت بيمارستان السيدة الَّذِي اتَّخذهُ لَهَا بسوق يحيى
وَجلسَ فِيهِ ورتب المتطببين وَقبل المرضى
وَهُوَ كَانَ بناه على دجلة وَكَانَت النَّفَقَة عَلَيْهِ فِي كل شهر سِتّمائَة دِينَار
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة أَيْضا أَشَارَ وَالِدي على المقتدر بِاللَّه بِأَن يتَّخذ بيمارستانا ينْسب إِلَيْهِ
فَأمره باتخاذه فاتخذه لَهُ فِي بَاب الشَّام وَسَماهُ البيمارستان المقتدري
وَأنْفق عَلَيْهِ من مَاله فِي كل شهر مِائَتي دِينَار
قَالَ ثَابت بن سِنَان وَلما كَانَ فِي سنة تسع عشرَة وثلثمائة اتَّصل بالمقتدر أَن غَلطا جرى على رجل من الْعَامَّة من بعض المتطببين فَمَاتَ الرجل
فَأمر إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن بطحا بِمَنْع سَائِر المتطببين من التَّصَرُّف إِلَّا من امتحنه وَالِدي سِنَان بن ثَابت
وَكتب لَهُ رقْعَة بِخَطِّهِ بِمَا يُطلق لَهُ من الصِّنَاعَة
فصاروا إِلَى وَالِدي وأمتحنهم وَأطلق لكل وَاحِد مِنْهُم مَا يصلح أَن يتَصَرَّف فِيهِ
وَبلغ عَددهمْ فِي جَانِبي بَغْدَاد ثَمَانمِائَة رجل ونيفا وَسِتِّينَ رجلا سوى من اسْتغنى عَن محنته باشتهاره بالتقدم فِي صناعته وَسوى من كَانَ فِي خدمَة السُّلْطَان
وَقَالَ أَيْضا ثَابت بن سِنَان لما مَاتَ الراضي بِاللَّه استدعى الْأَمِير أَبُو الْحُسَيْن بِحكم وَالِدي سِنَان ابْن ثَابت وَسَأَلَهُ أَن ينحدر إِلَيْهِ إِلَى وَاسِط
وَلم يكن يطْمع فِي ذَلِك مِنْهُ فِي أَيَّام الراضي بِاللَّه لملازمته بخدمته
فانحدر إِلَيْهِ وَالِدي فَأكْرمه وَوَصله وَقَالَ لَهُ أُرِيد أَن اعْتمد عَلَيْك فِي تَدْبِير بدني وتفقده وَالنَّظَر فِي مَصَالِحه
وَفِي أَمر آخر هُوَ أهم إِلَيّ من أَمر بدني وَهُوَ أَمر أخلاقي لِثِقَتِي بعقلك وفضلك وَدينك ومحبتك
فقد غمني غَلَبَة الْغَضَب والغيظ عَليّ وإفراطهما بِي حَتَّى أخرج إِلَى مَا اندم عَلَيْهِ عِنْد سكونهما من ضرب وَقتل
وَأَنا أَسأَلك أَن تتفقد مَا أعمله
وَإِذا وقفت لي على عيب لم تحتشم أَن تصدقني عَنهُ وتذكره لي وتنبهني عَلَيْهِ ثمَّ ترشدني إِلَى علاجه ليزول عني
فَقَالَ لَهُ وَالِدي السّمع وَالطَّاعَة لما أَمر بِهِ الْأَمِير
أَنا افْعَل ذَلِك وَلَكِن يستمع الْأَمِير مني بالعاجل جملَة علاج مَا أنكرهُ من نَفسه إِلَى أَن يَجِيئهُ التَّفْصِيل فِي أوقاته
إعلم أَيهَا الْأَمِير أَنَّك قد أَصبَحت وَلَيْسَ فَوق(1/302)
يدك يَد لأحد من المخلوقين
وَأَنَّك مَالك لكل مَا تريده قَادر على أَن تَفْعَلهُ أَي وَقت أردته
لَا يتهيأ لأحد من المخلوقين مَنعك مِنْهُ وَلَا لِأَن يحول بَيْنك وَبَين مَا تهواه أَي وَقت أردته
وَأَنَّك مَتى أردْت شَيْئا بلغته أَي وَقت شِئْت لَا يفوتك أَمر تريده
وَاعْلَم أَن الْغَضَب والغيظ والحرد تحدث فِي الْإِنْسَان سكرا أَشد من سكر النَّبِيذ بِكَثِير
فَكَمَا أَن الْإِنْسَان يعْمل فِي وَقت السكر من النَّبِيذ مَا لَا يعقل بِهِ وَلَا يذكرهُ إِذا صَحا ويندم عَلَيْهِ إِذا حدث بِهِ ويستحيي مِنْهُ كَذَلِك يحدث لَهُ وَقت السكر من الحرد والغيظ بل أَشد
فَلَمَّا يَبْتَدِئ بك الْغَضَب وتحس بِأَنَّهُ قد ابْتَدَأَ يسكرك قبل أَن يشْتَد ويقوى ويتفاقم وَيخرج الْأَمر عَن يدك فضع فِي نَفسك أَن تُؤخر الْعقُوبَة عَلَيْهِ إِلَى غَد واثقا بِأَن مَا تُرِيدُ أَن تعمله فِي الْوَقْت لَا يفوتك عمله فِي غَد
وَقد قيل من لم يخف فوتا حلم فَإنَّك إِذا فعلت ذَلِك وَبت ليلتك وسكنت فورة غضبك فَإِنَّهُ لَا بُد لفورة الْغَضَب من أَن تبوخ وتسكن وَأَن تصحو من السكر الَّذِي أحدثه لَك الْغَضَب
وَقد قيل إِن أصح مَا يكون الْإِنْسَان رَأيا إِذا استدبر ليله واستقبل نَهَاره
فَإِذا صحوت من سكرك فَتَأمل الْأَمر الَّذِي أغضبك وَقدم أَمر الله عز وَجل أَولا وَالْخَوْف مِنْهُ وَترك التَّعَرُّض لسخطه وَلَا تشف غيظك بِمَا يؤثمك
فقد قيل مَا شفى غيظه من أَثم بربه
وَاذْكُر قدرَة الله عَلَيْك وَأَنَّك مُحْتَاج إِلَى رَحمته وَإِلَى أَخذه بِيَدِك فِي أَوْقَات شدائدك
وَهُوَ وَقت لَا تملك لنَفسك فِيهِ شرا وَلَا نفعا وَلَا يقدر لَك عَلَيْهِ أحد من المخلوقين وَلَا يكْشف مَا قد أظلك غَيره عز وَجل
وَاعْلَم أَن الْبشر يغلطون ويخطئون
وَأَنَّك مثلهم تغلط وتخطئ
وَإِن كَانَ لَا يَجْسُر أحد على أَن لَا يوافقك على ذَلِك
فَكَمَا تحب أَن يغْفر الله لَك كَذَلِك غَيْرك يؤمل عطفك وعفوك
وفكر بِأَيّ لَيْلَة بَات المذنب قلقا لخوفه مِنْك وَمَا يتوقعه من عُقُوبَتك ويخافه من سطوتك
واعرف مِقْدَار مَا يصل إِلَيْهِ من السرُور وَزَوَال الرعب عَنهُ بعفوك وَمِقْدَار الثَّوَاب الَّذِي يحصل لَك من ذَلِك
وَاذْكُر قَول الله تَعَالَى وليعفوا وليصحفوا أَلا تحبون أَن يغْفر الله لكم وَالله غَفُور رَحِيم
فَإِن كَانَ مَا أغضبك مِمَّا يجوز فِيهِ الْعَفو وَيَكْفِي فِيهِ العتاب والتوبيخ والعذل والتهديد مَتى وَقعت معاودة فَلَا تتجاوز ذَلِك
واعف وَاصْفَحْ فَإِنَّهُ أحسن بك وَأقرب إِلَى الله تَعَالَى
وَالله سُبْحَانَهُ يَقُول وَإِن تعفوا فَهُوَ أقرب للتقوى
وَلَيْسَ يظنّ بك المذنب وَلَا غَيره أَنَّك عجزت عَن التَّقْوِيم والعقوبة وَلَا قصرت بك الْقُدْرَة
وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يحْتَمل الْعَفو عَاقَبت حِينَئِذٍ على قدر الذَّنب وَلم تتجاوزه إِلَى مَا يُوقع الدّين وَيفْسد بِهِ أَمرك ويقبح عِنْد النَّاس ذكرك
فَإِنَّمَا يشْتَد عَلَيْك تكلّف ذَلِك أول دفْعَة وثانية وثالثة
ثمَّ يصير عَادَة لَك وخلقا وسجية ويسهل عَلَيْك
فَاسْتحْسن بِحكم ذَلِك ووعد أَن يَفْعَله
وَمَا زَالَت أخلاقه تصلح ووالدي ينبهه على شَيْء شَيْء مِمَّا يُنكره مِنْهُ من أخلاقه وأفعاله ويرشده إِلَى طَرِيق إِزَالَته إِلَى أَن لانت أخلاقه وكف عَن كثير مِمَّا كَانَ يسْرع إِلَيْهِ من الْقَتْل والعقوبات الغليظة
واستحلى واستطاب
مَا كَانَ يُشِير عَلَيْهِ من اسْتِعْمَال الْعدْل والإنصاف وَرفع الظُّلم والجور ويستصوبه وَيعْمل بِهِ
فَإِنَّهُ كَانَ يبين لَهُ أَن الْعدْل أربح للسُّلْطَان من الظُّلم بِكَثِير وَأَنه يحصل لَهُ بِهِ دنيا وآخرة
وَإِن مواد الظُّلم وَإِن كثرت(1/303)
وتعجلت سريعة الْفساد والفناء والانقطاع ممحوقة لَا يُبَارك فِيهَا وتحدث حوادث تتجرمها ثمَّ تعود بخراب الدُّنْيَا وَفَسَاد الْآخِرَة
ومواد الْعدْل تنمى وتزيد وتدوم وتتصل ويبارك فِيهَا وتعود بصلاح الدُّنْيَا وعمارتها وَحُصُول الْآخِرَة والفوز فِيهَا وَحسن الذّكر مَا بَقِي الدَّهْر
فَتبين ذَلِك وَعرف صِحَّته وابتدأ بِالْعَمَلِ بِهِ
وَعمل بواسط فِي وَقت المجاعة دَار ضِيَافَة وببغداد بيمارستانا يعالج فِيهِ الْفُقَرَاء ويعللون وَأنْفق فِي ذَلِك جملَة
ورفه الرّعية وأرفقها وَعدل فِيهَا وأنصف فِي معاملاتها وَأحسن إِلَيْهَا وَرَأى مَا يجب
إِلَّا أَن مدَّته فِي ذَلِك لم تطل وَقتل عَن قرب وَللَّه أَمر هُوَ بالغه
وَلأبي سعيد سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة من الْكتب وَهُوَ مِمَّا نقل من خطّ أبي عَليّ المحسن بن إِبْرَاهِيم ابْن هِلَال الصَّابِئ رِسَالَة فِي تَارِيخ مُلُوك السريانيين
رِسَالَة فِي الاسْتوَاء
رِسَالَة فِي سُهَيْل
رِسَالَة إِلَى بِحكم
رِسَالَة إِلَى ابْن رايق
رِسَالَة إِلَى أبي الْحسن عَليّ بن عِيسَى رَحمَه الله تَعَالَى
الرسائل السلطانيات والإخوانيات
السِّيرَة وَهِي فِي أَجزَاء تعرف بِكِتَاب النَّاجِي صنفه لعضد الدولة وتاج الْملَّة تشْتَمل على مفاخره ومفاخر الديلم وأنسابهم وَذكر أصولهم وأسلافهم
رِسَالَة فِي النُّجُوم
رِسَالَة فِي شرح مَذْهَب الصابئين
رِسَالَة فِي قسْمَة أَيَّام الْجُمُعَة على الْكَوَاكِب السَّبْعَة كتبهَا إِلَى أبي إِسْحَق إِبْرَاهِيم ابْن هِلَال وَرجل آخر
رِسَالَة فِي الْفرق بَين المترسل والشاعر
رِسَالَة فِي أَخْبَار آبَائِهِ وأجداده وسلفه
وَنقل إِلَى الْعَرَبِيّ نواميس هرمس والسور والصلوات الَّتِي يُصَلِّي بهَا الصابئون
إِصْلَاحه لكتاب فِي الْأُصُول الهندسية
وَزَاد فِي هَذَا الْكتاب شَيْئا كثيرا
مقَالَة أنفذها إِلَى الْملك عضد الدولة فِي الأشكال ذَوَات الخطوط المستقيمة الَّتِي تقع فِي الدائرة وَعَلَيْهَا استخراجه للشَّيْء الْكثير من الْمسَائِل الهندسية
إِصْلَاحه لعبارة أبي سهل الكوهي فِي جَمِيع كتبه لِأَن أَبَا سهل سَأَلَهُ ذَلِك
إِصْلَاحه وتهذيبه لشَيْء نَقله من كتاب يُوسُف القس من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ
من كتاب أرشميدس فِي المثلثات
أَبُو الْحسن ثَابت بن سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة
كَانَ طَبِيبا فَاضلا يلْحق بِأَبِيهِ فِي صناعَة الطِّبّ
وَقَالَ فِي التَّارِيخ الَّذِي عمله وَهَذَا التَّارِيخ ذكر فِيهِ الوقائع والحوادث الَّتِي جرت فِي زَمَانه وَذَلِكَ من أَيَّام المقتدر بِاللَّه إِلَى أَيَّام الْمُطِيع لله أَنه كَانَ وَولده فِي خدمَة الراضي بِاللَّه
وَقَالَ بعد ذَلِك أَيْضا عَن نَفسه أَنه خدم بصناعة الطِّبّ المتقي بن المقتدر بِاللَّه وخدم أَيْضا المستكفي بِاللَّه والمطيع لله
قَالَ وَفِي سنة ثَلَاث(1/304)
عشرَة وثلثمائة قلدني الْوَزير الخاقاني البيمارستان الَّذِي اتَّخذهُ ابْن الْفُرَات بدرب الْمفضل
وَقَالَ أَيْضا فِي تَارِيخه أَنه لما سلم أَبُو عَليّ بن مقلة إِلَى الْوَزير أبي عَليّ عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى من جِهَة الراضي بِاللَّه فِي سنة أَربع وَعشْرين وثلمثائة حمله إِلَى دَاره فِي يَوْم الْخَمِيس لثلاث لَيَال خلون من جُمَادَى الْآخِرَة وَضرب أَبُو عَليّ بن مقلة بالمقارع فِي دَار الْوَزير عبد الرَّحْمَن وَأخذ خطه بِأَلف ألف دِينَار
وَكَانَ الَّذِي تولى ذَلِك مِنْهُ بنان الْكَبِير من الحجرية
ثمَّ سلم إِلَى أبي الْعَبَّاس الحصيني ووكل بِهِ ماكرد وبنان الْكَبِير ورد الحصيني مناظرته إِلَى أبي الْقَاسِم عبيد الله بن عبد الله الإسكافي الْمَعْرُوف بِأبي نعرة ومطالبته إِلَى الدستواني
فجرت عَلَيْهِ مِنْهُ من المكاره وَالتَّعْلِيق وَالضَّرْب والدهق أَمر عَظِيم
وَالَّذِي شاهدت أَنا من أمره أَن أَبَا الْعَبَّاس الحصيني كلفني يَوْمًا الدُّخُول إِلَيْهِ لمعْرِفَة خَبره من شَيْء تشكاه وَقَالَ إِن كَانَ يحْتَاج إِلَى الفصد فَتقدم إِلَى من يفصده بحضرتك
فَدخلت إِلَيْهِ فَوَجَدته مطروحا على حَصِير خلق على بَارِية ومخدة وسخة خليعة تَحت رَأسه وَهُوَ عُرْيَان بسراويل
فَوجدت بدنه من رَأسه إِلَى أَطْرَاف أَصَابِع رجلَيْهِ كلون الباذنجان سَوَاء لَيْسَ مِنْهُ عقد سليم
وَوجدت بِهِ ضيق نفس شَدِيد
لِأَن الدستواني كَانَ قد دهق صَدره فَعرفت الحصيني أَنه شَدِيد الْحَاجة إِلَى الفصد
فَقَالَ لي يحْتَاج أَن يلْحقهُ كد فِي الْمُطَالبَة فَكيف نعمل بِهِ قلت لَا أَدْرِي إِلَّا أَنه أَن ترك وَلم يفصد مَاتَ وَإِن فصد ولحقه مَكْرُوه بعده تلف فَقَالَ لأبي الْقَاسِم بن أبي نعرة الإسكافي ادخل إِلَيْهِ وَقل لَهُ إِن كنت تظن أَنه يلحقك ترفيه إِذا افتصدت فبئس مَا تظن
فافتقصد وضع فِي نَفسك أَن الْمُطَالبَة لابد مِنْهَا ثمَّ قَالَ لي أحب أَن تدخل إِلَيْهِ مَعَه
فاستعفيته من ذَلِك فَلم يعفني فَدخلت مَعَه وَأدّى الرسَالَة بحضرتي
فَقَالَ إِذا كَانَ الْأَمر على هَذَا فلست أُرِيد أَن افتصد وَأَنا بَين يَدي الله فعدنا إِلَيْهِ وعرفناه مَا قَالَ فَقَالَ لي أَي شَيْء عنْدك وَمَا الَّذِي ترى قلت الَّذِي أرى أَن يفصد وَإِن يرفه
فَقَالَ افْعَل
فعدت إِلَيْهِ وفصد بحضرتي ورفه يَوْمه وخف مَا بِهِ ويتوقع الْمَكْرُوه من غَد وَهُوَ برعب طَائِر الْعقل
فاتفق سَبَب للحصيني أحوجه إِلَى الاستتار فِي ذَلِك الْيَوْم
وَبَقِي ابْن مقلة مرفها لَيْسَ أحد يُطَالِبهُ وَكفى أَمر عدوه من حَيْثُ لم يحْتَسب وَرجعت نَفسه إِلَيْهِ
وَحضر ابْن فراية فضمن مَا عَلَيْهِ وتسلمه وَقد كَانَ أدّى قبل ذَلِك إِلَى الحصيني نيفا وَخمسين ألف دِينَار وَأشْهد عَلَيْهِ الْعُدُول بِأَنَّهُ قد بَاعَ جَمِيع ضيَاعه وضياع أَوْلَاده وأسبابه من السُّلْطَان
وَقَالَ فِي مَوضِع آخر من كِتَابه هَذَا أَنه لما قطعت يَد ابْن مقلة استدعاني الراضي بِاللَّه فِي آخر(1/305)
النَّهَار وَأَمرَنِي بِالدُّخُولِ إِلَيْهِ وعلاجه فصرت إِلَيْهِ يَوْم قطع يَده فَوَجَدته مَحْبُوسًا فِي القلاية الَّتِي فِي صحن الشَّجَرَة وَالْبَاب مقفل عَلَيْهِ
فَفتح الْخَادِم الْبَاب عَنهُ وَدخلت إِلَيْهِ فَوَجَدته جَالِسا على قَاعِدَة من بعض أساطين القلاية ولونه كلون الرصاص الَّذِي هُوَ جَالس عَلَيْهِ وَقد ضعف جدا وَهُوَ فِي نِهَايَة القلق من ضَرْبَان ساعده وَرَأَيْت لَهُ فِي القلاية قبَّة خيش نصبت لَهُ وَعَلَيْهَا طاقان من الخيش وَفِيهِمَا مصلى ومخاد طبري وحول الْمصلى أطباق كَثِيرَة بفاكهة حَسَنَة
فَلَمَّا رَآنِي بَكَى وشكى حَاله وَمَا نزل بِهِ وَمَا هُوَ فِيهِ من الضربان
وَوجدت ساعده قد ورم ورما شَدِيدا وعَلى مَوضِع الْقطع خرقَة غَلِيظَة قردواني كحلية مشدودة بخيط قنب فخاطبته بِمَا يحب وسكنت مِنْهُ وحللت الْخَيط ونحيت الْخِرْقَة فَوجدت تحتهَا على مَوضِع الْقطع سرجين الدَّوَابّ فَأمرت بِأَن ينفض عَنهُ فنفض وَإِذا رَأس الساعد أَسْفَل الْقطع مشدود بخيط قنب وَقد غاص فِي ذراعه لشدَّة الورم وَقد ابْتَدَأَ ساعده يسود وعرفته أَن سَبِيل الْخَيط أَن يحل وَأَن يَجْعَل مَوضِع السرجين كافور ويطلى ذراعه بالصندل وَمَاء الْورْد والكافور
فَقَالَ يَا سَيِّدي افْعَل مَا رَأَيْت
فَقَالَ الْخَادِم الَّذِي معي احْتَاجَ أَن اسْتَأْذن مَوْلَانَا فِي ذَلِك
وَدخل ليستأذن وَخرج وَمَعَهُ مخزنة كَبِيرَة مَمْلُوءَة كافورا وَقَالَ قد أذن لَك مَوْلَانَا أَن تعْمل مَا ترى
وَأمر بِأَن ترفق بِهِ وتوفر الْعِنَايَة عَلَيْهِ وَتلْزَمهُ إِلَى أَن يهب الله عافيته
فحللت الْخَيط وفرغت المخزنة فِي مَوضِع الْقطع وطليت ساعده فَعَاشَ واستراح وَسكن الضربان
وَسَأَلته هَل اغتذى فَقَالَ وَكَيف ينساغ لي طَعَام فتقدمت بإحضار طَعَام فأحضر وَامْتنع من الْأكل
فرفقت بِهِ ولقمته بيَدي فَحصل لَهُ نَحْو عشْرين درهما خبْزًا وَمن لحم فروج نَحْو ذَلِك
وَحلف أَنه لَا يقدر أَن يبلع شَيْئا آخر
وَشرب مَاء بَارِدًا وَعَاشَتْ روحه وانصرفت
وقفل الْبَاب عَلَيْهِ وَبَقِي وَحده
ثمَّ أَدخل عَلَيْهِ من غَد خَادِم أسود يَخْدمه وَحبس مَعَه وترددت إِلَيْهِ أَيَّامًا كَثِيرَة وَعرض لَهُ فِي رجله الْيُسْرَى عِلّة النقرس ففصدته وَكَانَ يتألم من يَده الْيُمْنَى الَّتِي قطعت وَمن رجله الْيُسْرَى وَلَا ينَام اللَّيْل من شدَّة الْأَلَم ثمَّ عوفي
وَكنت إِذا دخلت إِلَيْهِ يَبْتَدِئ بِالْمَسْأَلَة عَن خبر ابْنه أبي الْحُسَيْن فَإِذا عَرفته سَلَامَته سكن غَايَة السّكُون ثمَّ ناح على نَفسه وَبكى على يَده وَقَالَ يَد خدمت بهَا الْخلَافَة ثَلَاث دفعات لثَلَاثَة خلفاء وكتبت بهَا الْقُرْآن دفعتين تقطع كَمَا تقطع أَيدي اللُّصُوص تذكر وَأَنت تَقول لي أَنْت فِي آخر نكبة وَأَن الْفرج قريب قلت بلَى
فَقَالَ قد ترى مَا حل بِي فَقلت مَا بَقِي بعد هَذَا شَيْء والآن يَنْبَغِي أَن نتوقع الْفرج فَإِنَّهُ قد عمل بك مَا لَا يعْمل بنظير لَك وَهَذَا انْتِهَاء الْمَكْرُوه
وَلَا يكون بعد الِانْتِهَاء إِلَّا الانحطاط
فَقَالَ لَا تفعل فَإِن المحنة قد تشبثت بِي تشبثا ينقلني من حَال إِلَى حَال إِلَى أَن تؤديني إِلَى التّلف كَمَا تتشبث حمى الدق(1/306)
بالأعضاء فَلَا تفارق صَاحبهَا حَتَّى تُؤَدِّيه إِلَى الْمَوْت
ثمَّ تمثل بِهَذَا الْبَيْت
(إِذا مَا مَاتَ بعضك فأبك بَعْضًا ... فبعض الشَّيْء من بعض قريب) الوافر
فَكَانَ الْأَمر كَمَا قَالَ
وَلما قرب بِحكم من بَغْدَاد نقل ابْن مقلة من ذَلِك الْموضع إِلَى مَوضِع أغمض مِنْهُ فَلم يُوقف لَهُ على خبر وحجبت عَنهُ
ثمَّ قطع لِسَانه وَبَقِي فِي الْحَبْس مُدَّة طَوِيلَة ثمَّ لحقه ذرب وَلم يكن لَهُ من يعالجه وَلَا من يَخْدمه
حَتَّى بَلغنِي أَنه كَانَ يَسْتَسْقِي المَاء لنَفسِهِ بِيَدِهِ يجتذب الْحَبل بِيَدِهِ الْيُسْرَى ويمسكه بفمه
ولحقه شقاء عَظِيم إِلَى أَن مَاتَ
وَكَانَ ثَابت بن سِنَان الْمَذْكُور خَال هِلَال بن المحسن بن إِبْرَاهِيم الصَّابِئ الْكَاتِب البليغ
ولثابت بن سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة من الْكتب كتاب التَّارِيخ ذكر فِيهِ الوقائع والحوادث الَّتِي جرت فِي زَمَانه وَذَلِكَ من سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ إِلَى حِين وَفَاته وَوَجَدته بِخَطِّهِ وَقد أبان فِيهِ عَن فضل
وَكَانَت وَفَاة ثَابت بن سِنَان فِي شهور سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وثلثمائة
أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة
كَانَ كَامِلا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة فَاضلا فِي الصِّنَاعَة الطبية مُتَقَدما فِي زَمَانه حسن الْكِتَابَة وافر الذكاء
مولده فِي سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ
وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الْأَحَد النّصْف من الْمحرم سنة خمس وَثَلَاثِينَ وثلثمائة بِبَغْدَاد
وَكَانَت الْعلَّة الَّتِي مَاتَ فِيهَا ورم فِي كبده
أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن زهرون الْحَرَّانِي
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا وافر الْعلم فِي صناعَة الطِّبّ جيد الْأَعْمَال حسن الْمُعَامَلَة
وَكَانَت وَفَاته فِي لَيْلَة الْخَمِيس لإحدى عشرَة لَيْلَة بقيت من صفر سنة تسع وثلثمائة بِبَغْدَاد
أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي
هُوَ أَبُو الْحسن ثَابت بن إِبْرَاهِيم بن زهرون الْحَرَّانِي كَانَ طَبِيبا فَاضلا كثير الدِّرَايَة وافر الْعلم بارعا فِي الصِّنَاعَة موفقا فِي المعالجة مطلعا على أسرار الطِّبّ
وَكَانَ مَعَ ذَلِك ضنينا بِمَا يحسن
نقلت من خطّ ابْن بطلَان فِي مقَالَته فِي عِلّة نقل الْأَطِبَّاء المهرة تَدْبِير أَكثر الْأَمْرَاض الَّتِي كَانَت(1/307)
تعالج قَدِيما بالأدوية الحارة إِلَى التَّدْبِير الْمبرد قَالَ كَانَ قد أسكت الْوَزير أَبُو طَاهِر بن بقيه فِي دَاره الشاطئة على الجسر بِبَغْدَاد وَقد حضر الْأَمِير معز الدولة بختيار والأطباء مجمعون على أَنه قد مَاتَ
فَتقدم أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي وَكنت أَصْحَبهُ يَوْمئِذٍ فَقَالَ أَيهَا الْأَمِير إِذا كَانَ قد مَاتَ فَلَنْ يضرّهُ الفصاد فَهَل تَأذن فِي فصده قَالَ لَهُ افْعَل يَا أَبَا الْحسن
ففصده فرشح مِنْهُ دم يسير
ثمَّ لم يزل يقوى الرشح إِلَى أَن صَار الدَّم يجْرِي فأفاق الْوَزير
فَلَمَّا خلوت بِهِ سَأَلته عَن الْحَال وَكَانَ ضنينا بِمَا يَقُول فَقَالَ إِن من عَادَة الْوَزير أَن يستفرغ فِي كل ربيع دَمًا كثيرا من عروق الْمعدة وَفِي هَذَا الْفَصْل انْقَطع عَنهُ فَلَمَّا فصدته ثَابت الطبيعة من خناقها
وَقَالَ عبد الله بن جِبْرَائِيل لما دخل عضد الدولة رَحمَه الله إِلَى بَغْدَاد كَانَ أول من لقِيه من الْأَطِبَّاء أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي وَكَانَ شَيخا مسنا وَسنَان وَكَانَ أَصْغَر من أبي الْحسن وَكَانَا عَالمين فاضلين وَكَانَا جمعيا يسعران المرضى ويمضيان إِلَى دَار السُّلْطَان فَحسن ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِمَا
وَلما دخلا إِلَى عضد الدولة قَالَ من هَؤُلَاءِ قَالُوا الْأَطِبَّاء
قَالَ نَحن فِي عَافِيَة وَمَا بِنَا حَاجَة إِلَيْهِم
فانصرفا خجلين
فَلَمَّا خرجا إِلَى الدهليز قَالَ سِنَان لأبي الْحسن يجمل أَن ندخل إِلَى هَذَا الْأسد وَنحن شَيخا بَغْدَاد فيفترسنا قَالَ لَهُ أَبُو الْحسن فَمَا الْحِيلَة قَالَ نرْجِع إِلَيْهِ وَأَنا أَقُول مَا عِنْدِي وَنَنْظُر إيش الْجَواب قَالَ افْعَل
فَاسْتَأْذَنا ودخلا فَقَالَ سِنَان أَطَالَ الله بَقَاء مَوْلَانَا الْملك مَوْضُوع صناعتنا حفظ الصِّحَّة لَا مداواة الْأَمْرَاض
وَالْملك أحْوج النَّاس إِلَيْهِ
فَقَالَ لَهُ عضد الدولة صدقت
وَقرر لَهما الْجَارِي السّني وصارا ينوبان مَعَ أطبائه
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل وَلَهُمَا أَحَادِيث كَثِيرَة حَسَنَة مِنْهَا حَدِيث قلاء الكبود
وَذَلِكَ أَنه كَانَ بِبَاب الأزج إِنْسَان يقلي الكبود فَكَانَا إِذا اجتازا عَلَيْهِ دَعَا لَهما وشكرهما وَقَامَ لَهما حَتَّى ينصرفا عَنهُ
فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام اجتازا فَلم يرياه فظنا أَنه قد شغل عَنْهُمَا
وَمن غَد سَأَلَا عَنهُ فَقيل لَهما أَنه الْآن قد مَاتَ
فعجبا من ذَلِك وَقَالَ أَحدهمَا للْآخر لَهُ علينا حق يُوجب علينا قَصده ومشاهدته
فمضيا جَمِيعًا وشاهداه فَلَمَّا نظرا إِلَيْهِ تشاورا فِي فصده وسألا أَهله أَن يؤخروه سَاعَة وَاحِدَة ليفكروا فِي أمره
فَفَعَلُوا ذَلِك وأحضروا فصادا ففصده فصدة وَاسِعَة فَخرج مِنْهُ دم غليظ
وَكَانَ كلما خرج الدَّم خف عَنهُ حَتَّى تكلم
وسقياه مَا يصلح وانصرفا عَنهُ
وَلما كَانَ فِي الْيَوْم الثَّالِث خرج إِلَى دكانه
فَكَانَ هَذَا من المعجز لَهما
فسئلا عَن ذَلِك فَقَالَا سَببه أَنه كَانَ إِذا قلى الكبود يَأْكُل مِنْهَا وبدنه ممتلىء دَمًا غليظا وَهُوَ لَا يحس حَتَّى فاض من الْعُرُوق إِلَى الأوعية وغمر الْحَرَارَة الغريزية وخنقها كَمَا يخنق الزَّيْت الْكثير الفتيلة الَّتِي تكون فِي السراج
فَلَمَّا بدروه بالفصد نقص الدَّم وخف عَن الْقُوَّة الْحمل الثقيل وانتشرت الْحَرَارَة وَعَاد الْجِسْم إِلَى الصِّحَّة(1/308)
وَهَذَا الامتلاء قد يكون من البلغم أَيْضا
وَقد ذكر أَسبَابه الْفَاضِل جالينوس فِي كِتَابه فِي تَحْرِيم الدّفن قبل أَربع وَعشْرين سَاعَة
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل وَمن أحسن مَا سَمِعت عَن أبي الْحسن الْحَرَّانِي أَنه دخل إِلَى قرَابَة الشريف الْجَلِيل مُحَمَّد بن عمر رَحمَه الله وَكَانَ إنْسَانا نبيل الْقدر قد عَارضه ضيق نفس شَدِيد صَعب
فَأخذ نبضه وَأَشَارَ بِمَا يَسْتَعْمِلهُ فشاوره فِي الفصد فَقَالَ لَهُ لَا أرَاهُ وَإِن كَانَ يُخَفف الْمَرَض تَخْفِيفًا بَينا
وَانْصَرف
وجاءه أَبُو مُوسَى الْمَعْرُوف ببقة الطَّبِيب وَأبْصر نبضه وقارورته وَأَشَارَ بالفصد
فَقَالَ لَهُ الشريف قد كَانَ عِنْدِي أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي السَّاعَة وشاورته فِي الفصد فَذكر أَنه لَا يرَاهُ صَوَابا
فَقَالَ بقة أَبُو الْحسن أعرف
وَانْصَرف فَجَاءَهُ بعض الْأَطِبَّاء الَّذين هم دون هَذِه الطَّبَقَة فَقَالَ يفصد سيدنَا فَإِنَّهُ فِي الْحَال يسكن وقوى عزمه على الفصد وَلم يبرح حَتَّى فصده فعندما فصده خف عَنهُ مَا كَانَ يجده خفا بَينا ونام وَسكن عَنهُ واغتدى وَهُوَ فِي عَافِيَة
فَعَاد إِلَيْهِ أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي آخر النَّهَار فَوَجَدَهُ سَاكِنا قارا فَقَالَ لَهُ لما رَآهُ على تِلْكَ الْحَال قد فصدت فَقيل كَيفَ كنت أفعل مَا لم تَأْمُرنِي بِهِ قَالَ مَا هُوَ هَذَا السّكُون إِلَّا للفصد
فَقَالَ لَهُ الشريف لما علمت بِهَذَا لم لَا تفصدني قَالَ لَهُ أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي إِذْ قد فصد سيدنَا فليبشر بحمى ربع سبعين دورا وَلَو أَن أبقراط وجالينوس عِنْده مَا تخلص إِلَّا بعد انْقِضَائِهَا
واستدعى دَوَاة ودرجا ورتب تَدْبيره لسَبْعين نوبه وَدفعه إِلَيْهِ
وَقَالَ هَذَا تدبيرك فَإِذا انْقَضى ذَلِك جِئْت إِلَيْك
وَانْصَرف
فَمَا مضى أَيَّام حَتَّى جَاءَت الْحمى وَبقيت كَمَا قَالَ فَمَا خَالف تَدْبيره حَتَّى برِئ
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل وَمن أخباره أَنه كَانَ للحاجب الْكَبِير غُلَام وَكَانَ مشغوفا بِهِ وَاتفقَ أَن الْحَاجِب صنع دَعْوَة كَبِيرَة كَانَ فِيهَا أجلاء الدولة
وَلما اشْتغل بِأَمْر الدعْوَة حم الْغُلَام حمى حادة فورد على قلب الْحَاجِب من ذَلِك موردا عَظِيما وقلق قلقا كثيرا
واستدعى أَبَا الْحسن الْحَرَّانِي فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا الْحسن أُرِيد الْغُلَام يخدمني فِي غَدَاة غَد تعْمل كل مَا تقدر عَلَيْهِ وَأَنا أكافئك بِمَا يضاهي فعلك
فَقَالَ لَهُ يَا حَاجِب إِن تركت الْغُلَام يَسْتَوْفِي أَيَّام مَرضه عَاشَ وَإِلَّا فيمكنني من ملازمته أَن يقوم فِي غَد لخدمتك
وَلَكِن إِذا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل فِي مثل هَذَا الْيَوْم يحم حمى حادة وَلَو كَانَ من كَانَ عِنْده من الْأَطِبَّاء لم تنجع فِيهِ مداواته وَيَمُوت إِمَّا فِي البحران الأولى أَو الثَّانِي فَانْظُر أَيهمَا أحب إِلَيْك
فَقَالَ لَهُ الْحَاجِب أُرِيد أَن يخدمني فِي غَدَاة غَد وَإِلَى الْعَام الْمقبل فرج
ظنا مِنْهُ أَن هَذَا القَوْل من الْأَحَادِيث المدفوعة
فلازمه أَبُو الْحسن وَلما كَانَ فِي غَد أَفَاق وَقَامَ فِي الْخدمَة وَأعْطى الْحَاجِب لأبي الْحسن خلعة سنية ومالا كثيرا وَصَارَ يُكرمهُ غَايَة الْإِكْرَام
فَلَمَّا كَانَ فِي الْعَام الْمقبل فِي مثل الْيَوْم الَّذِي حم فِيهِ الْغُلَام عاودته الْحمى فَأَقَامَ محموما سَبْعَة أَيَّام وَمَات
فَعظم فِي نفس الْحَاجِب وَجَمَاعَة من النَّاس قَول أبي الْحسن وَكبر لديهم مَحَله وَكَانَ هَذَا مِنْهُ كالمعجز
وَقَالَ هِلَال بن المحسن بن إِبْرَاهِيم الصَّابِئ الْكَاتِب حَدثنَا أَبُو مُحَمَّد الْحسن بن الْحُسَيْن النوبختي قَالَ حَدثنِي الشريف أَبُو الْحسن مُحَمَّد بن عمر بن يحيى أَنه أَرَادَ ابتياع جَارِيَة عَاقِلَة من دور بني(1/309)
خاقَان بِأحد عشر ألف دِرْهَم وَكَانَ الْوَسِيط فِي ذَلِك أَبُو الْمسيب فَهد بن سُلَيْمَان
فَقَالَ لأبي الْمسيب أحب أَن تستشير لي فِي أمرهَا أَبَا الْحسن الْحَرَّانِي بعد أَن تكلفه مشاهدتها فَمضى إِلَيْهِ وَسَأَلَهُ الرّكُوب مَعَه إِلَى دَار الْقَوْم ليرى الْجَارِيَة وَكَانَت متشكية
وشاهدها أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي وَأخذ مجسها وَتَأمل قارورتها ثمَّ قَالَ لَهُ سرا إِن كَانَت أكلت البارحة من سماقية أَو حصرمية وقثاء أَو خِيَار فاشترها وَإِلَّا فَلَا تعترض لَهَا
فسألنا عَمَّا أَكلته فِي لَيْلَتهَا فَقيل لنا بعض مَا قَالَه أَبُو الْحسن فابتاعها فعجبنا من ذَلِك وَعجب من سمع
وَقَالَ المحسن بن إِبْرَاهِيم كَانَ أَوْلَاد أبي جَعْفَر بن الْقَاسِم بن عبيد الله يشنعون على أبي الْحسن الْحَرَّانِي عمنَا بِأَنَّهُ قتل أباهم فَسَأَلت أَبَا إِسْحَاق إِبْرَاهِيم بن هِلَال وَالِدي عَن ذَلِك فَقَالَ كَانَ أَبُو جَعْفَر عدوا لأبي الْحسن عمي وعازما على قَتله لأمور نقمها عَلَيْهِ وَقد قبض عَلَيْهِ وحبسه
فاتفق أَن اعتل أَبُو جَعْفَر علته الَّتِي مَاتَ فِيهَا فأشير عَلَيْهِ بمشاورة أبي الْحسن وَهُوَ فِي حَبسه فَقَالَ لَا أَثِق بِهِ وَلَا أسكن إِلَيْهِ مَعَ مَا يُعلمهُ من سوء رَأْيِي فِيهِ
وعول على غَيره من الْأَطِبَّاء
فَدخل بعض إخْوَان أبي الْحسن إِلَيْهِ وَشرح لَهُ مَا يدبر بِهِ أَبُو جَعْفَر فِي مَرضه
فَقَالَ أَبُو الْحسن وَكَانَ يأتمنه أَنْت تعرف رَأْي هَذَا الرجل فِي وَمَتى اسْتمرّ على هَذَا التَّدْبِير هلك بِلَا محَالة وكفينا كِفَايَة عاجلة
فَأحب أَن تَمنعهُ مشاورتي وتصوبه على رَأْيه فِي الْعُدُول عني
واشتدت الْعلَّة بِأبي جَعْفَر وَمضى لسبيله بعد قبض القاهر بِاللَّه عَلَيْهِ بِعشْرَة أَيَّام
وَقَالَ المحسن أَيْضا أصابتني حمى حادة كَانَ هجومها عَليّ بَغْتَة فَحَضَرَ أَبُو الْحسن عمنَا وَأخذ مجسي سَاعَة ثمَّ نَهَضَ وَلم يقل شَيْئا
فَقَالَ لَهُ وَالِدي مَا عنْدك يَا عمي فِي هَذِه الْحمى فَقَالَ لَهُ سرا لَا تَسْأَلنِي عَن ذَلِك إِلَى أَن يجوزه خمسين يَوْمًا
فوَاللَّه لقد فارقتني فِي الْيَوْم الثَّالِث وَالْخمسين
وَحكى أَبُو عَليّ بن مكنجا النَّصْرَانِي الْكَاتِب قَالَ لما وافى عضد الدولة فِي سنة أَربع وَسِتِّينَ وثلثمائة إِلَى مَدِينَة السَّلَام استدعاني أَبُو مَنْصُور نصر بن هرون وَكَانَ قد ورد مَعَه إِذْ ذَاك وسألني عَن أطباء بَغْدَاد
فاجتمعت مَعَ عبد يشوع الجاثليق وَسَأَلته عَنْهُم فَقَالَ هَهُنَا جمَاعَة لَا يعول عَلَيْهِم والمنظور إِلَيْهِم مِنْهُم أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي وَهُوَ رجل عَاقل لَا مثل لَهُ فِي صناعته وَهُوَ قَلِيل التَّحْصِيل وَأَبُو الْحسن صديقي وَأَنا أبعثه إِلَى الْخدمَة وأوافقه عَلَيْهَا وأشير عَلَيْهِ بالملازمة لَهَا
وخاطب الجاثليق أَبَا الْحسن على قصد أبي مَنْصُور نصر بن هرون فقصده وَتقدم إِلَيْهِ بِأَن يحضر دَار عضد الدولة ويتأمل حَاله وَمَا يدبر بِهِ أمره
فَتلقى ذَلِك بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَشرط أَن يعرف صورته فِي مأكله ومشربه وبواطن أمره وطالع أَبُو مَنْصُور عضد الدولة بالصورة وَحضر أَبُو الْحسن الدَّار وَعرف جَمِيع مَا سَأَلَ عَنهُ وَتردد أَيَّامًا ثمَّ انْقَطع وَاجْتمعَ مَعَ الجاثليق فَعَاتَبَهُ على انْقِطَاعه وعرفه وُقُوع الْإِنْكَار لَهُ فَقَالَ لَهُ لَا فَائِدَة فِي مضيي وَلست أرَاهُ صَوَابا لنَفْسي وللملك أطباء فضلاء عقلاء عُلَمَاء وَقد عرفُوا من طبعه وتدبيره مَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَن غَيرهم فِي ملازمته وخدمته
فألح(1/310)
الجاثليق عَلَيْهِ وَسَأَلَهُ عَن عِلّة مَا هُوَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفِعْل والاحتجاج فِيهِ بِمثل هَذَا الْعذر فَقَالَ لَهُ هَذَا الْملك مَتى أَقَامَ بالعراق سنة فسد عقله
وَلست أوثر أَن يجْرِي ذَلِك على يَدي وَأَنا مدبره وطبيبه
وَمَتى أنهى الجاثليق هَذَا القَوْل عني جحدته وَحلفت بِاللَّه والبراءة من ديني مَا قلته
وَكَانَ عَلَيْك فِي ذَلِك مَا تعلمه فَأمْسك الجاثليق وكتم هَذَا الحَدِيث
فَلَمَّا عَاد عضد الدولة إِلَى الْعرَاق فِي الدفعة الثَّانِيَة كَانَ الْأَمر على مَا أنذر بِهِ فِيهِ
وَتُوفِّي أَبُو الْحسن الْحَرَّانِي فِي الْحَادِي عشر من ذِي الْقعدَة سنة خمس وَسِتِّينَ وثلثمائة لِلْهِجْرَةِ بِبَغْدَاد
وَكَانَ مولده بالرقة لَيْلَة يَوْم الْخَمِيس لليلتين بَقِيَتَا من ذِي الْقعدَة سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
وَلأبي الْحسن الْحَرَّانِي من الْكتب إصْلَاح مقالات من كناش يوحنا بن سرابيون جوابات مسَائِل سُئِلَ عَنْهَا
ابْن وصيف الصَّابِئ
كَانَ طَبِيبا عَالما بعلاج أمراض الْعين وَلم يكن فِي زَمَانه أعلم مِنْهُ فِي ذَلِك وَلَا أَكثر مزاولة
قَالَ سُلَيْمَان بن حسان
حَدثنِي أَحْمد بن يُونُس الْحَرَّانِي قَالَ حضرت بَين يَدي أَحْمد بن وصيف الصَّابِئ وَقد أحضر سَبْعَة أنفس لقدح أعينهن وَفِي جُمْلَتهمْ رجل من أهل خُرَاسَان أقعده بَين يَدَيْهِ وَنظر إِلَى عَيْنَيْهِ فَرَأى مَاء متهيأ للقدح فسامه على ذَلِك فَطلب إِلَيْهِ فِيهِ وَاتفقَ مَعَه على ثَمَانِينَ درهما وَحلف أَنه لَا يملك غَيرهَا
فَلَمَّا حلف الرجل اطْمَأَن وضمه إِلَى نَفسه وَرفع يَده على عضده فَوجدَ بهَا نطاقا صَغِيرا فِيهِ دَنَانِير فَقَالَ لَهُ ابْن وصيف مَا هَذَا فَتَلَوَّنَ الْخُرَاسَانِي
فَقَالَ ابْن وصيف حَلَفت بِاللَّه حانثا وَأَنت ترجو رُجُوع بَصرك إِلَيْك وَالله لَا عالجتك إِذْ خادعت رَبك
فَطلب إِلَيْهِ فِيهِ فَأبى أَن يقدحه وَصرف إِلَيْهِ الثَّمَانِينَ درهما وَلم يقْدَح عينه
غَالب طَبِيب المعتضد
شهر بِخِدْمَة المعتضد بِاللَّه وَكَانَ أَولا عِنْد الْمُوفق طَلْحَة بن المتَوَكل لِأَنَّهُ خدمه مُنْذُ أَيَّام المتَوَكل واختص بِهِ
وارتضع سَائِر أَبنَاء المتَوَكل من لبن أَوْلَاد غَالب فَكَانَ يسر بهم
فَلَمَّا تمكن الْمُوفق من الْأَمر أقطعه ونوله وأغناه وَكَانَ لَهُ مثل الْوَالِد ينادمه ويغلفه بِيَدِهِ
وعالج الْمُوفق من سهم كَانَ أَصَابَهُ فِي ثندوته وبرأ فَأعْطَاهُ مَالا كثيرا وأقطعه وخلع عَلَيْهِ
وَقَالَ لِغِلْمَانِهِ من أَرَادَ إكرامي فليكرمه وَليصل غَالِبا
فَوجه إِلَيْهِ مسرور بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَمِائَة ثوب وَوجه إِلَيْهِ سَائِر الغلمان مثل ذَلِك وَصَارَ إِلَيْهِ مَال عَظِيم
وَلما قبض على صاعد وعبدون أَخذ لعبدون عدَّة غلْمَان نَصَارَى مماليك فَمن أسلم مِنْهُم أجري لَهُ رزق وَترك وَمن لم يسلم مِنْهُم بَعثه إِلَى غَالب
وَكَانَ(1/311)
عدد من أنفذ إِلَيْهِ سبعين غُلَاما أزمة وَغَيرهَا
فَلَمَّا ورد عَلَيْهِ مَعَهم رَسُول من قبل الْحَاجِب قَالَ غَالب أَي شَيْء أعمل بهؤلاء وَركب من وقته إِلَى الْمُوفق فَقَالَ هَؤُلَاءِ يستغرقون مَال ضيعتي مَعَ رِزْقِي
فَضَحِك الْمُوفق وَتقدم إِلَى إِسْمَاعِيل زِيَادَة فِي إقطاعه الحرسيات وَكَانَت ضيَاعًا جليلة تغل سَبْعَة آلَاف دِينَار وأجرها لَهُ بِخَمْسِينَ ألف دِرْهَم فِي السّنة
وَبعد الْمُوفق طَلْحَة خدم لوَلَده المعتضد بِاللَّه أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَكَانَ مكينا عِنْده حظيا فِي أَيَّامه
وَكَانَ المعتضد يحسن الظَّن بِهِ ويعتمد على مداواته
قَالَ ثَابت بن سِنَان بن ثَابت أَن غَالِبا الطَّبِيب توفّي مَعَ المعتضد بِاللَّه بآمد وَكَانَ كَبِيرا عِنْده
وَكَانَ سعيد بن غَالب مَعَ المعتضد بِاللَّه بآمد وَكَانَ يأنس إِلَيْهِ ويقدمه على جَمِيع المتطببين
واتصل الْخَبَر بوفاة غَالب بالمعتضد قبل وقُوف سعيد ابْنه على ذَلِك فَلَمَّا دخل سعيد عَلَيْهِ ابتدأه المعتضد وَعَزاهُ وَقَالَ لَهُ
يَا سعيد طول الْبَقَاء لَك لما تمّ عَلَيْك
فَانْصَرف سعيد إِلَى مضربه كئيبا حَزينًا
فَأتبعهُ المعتضد بخفيف السَّمرقَنْدِي وبنان الرصاصي وبسرخاب الْكسْوَة وَكَانُوا أجل خدم السُّلْطَان وجلسوا مَعَه طَويلا
وَعرف الْخَبَر فَلم يبْق أحد من أهل الدولة إِلَّا صَار إِلَى سعيد بن غَالب وَعَزاهُ بِأَبِيهِ من الْوَزير الْقَاسِم بن عبيد الله ومؤنس الْخَادِم وَمن بعدهمَا من الأستاذين والأمراء والقواد والأولياء على طبقاتهم
ثمَّ أنفذ إِلَيْهِ المعتضد وَقت الظّهْر بجون طَعَام وَتقدم إِلَيْهِ أَن لَا يبرح أَو يطعمهُ وَيطْعم دانيل كَاتب مؤنس وسعدون كَاتب يانس وَكَانَا صهريه على أختيه فَفعل ذَلِك
وَلم يزل يحضرهُ فِي كل يَوْم ويشاغله بِالْحَدِيثِ ويصرفه ويتبعه بجون الطَّعَام مُدَّة سَبْعَة أَيَّام
ورد إِلَيْهِ مَا كَانَ إِلَى أَبِيه من أَمر الجراية والتلامذة
وَأقر فِي يَده إقطاعاته وضياعه وَلم يزل ذَلِك لَهُ ولولده إِلَى آخر عمره
أَبُو عُثْمَان سعيد بن غَالب
كَانَ طَبِيبا عَارِفًا حسن المداواة مَشْهُورا فِي صناعَة الطِّبّ
خدم المعتضد بِاللَّه وحظي عِنْده وَكَانَ كثير الْإِحْسَان إِلَيْهِ والإنعام عَلَيْهِ
وَتُوفِّي أَبُو عُثْمَان سعيد بن غَالب فِي يَوْم الْأَحَد لست بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وثلثمائة بِبَغْدَاد
عَبدُوس
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا بِبَغْدَاد حسن المعالجة جيد التَّدْبِير وَيعرف كثيرا من الْأَدْوِيَة المركبة
وَله تجارب حميدة وتصرفات بليغة فِي صناعَة الطِّبّ
قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن جرير الطَّبَرِيّ فِي(1/312)
تَارِيخه حُكيَ عَن داؤد بن دَيْلَم وَعَن عَبدُوس المتطببين قَالَ لما غلظت عِلّة المعتضد وَكَانَت من استسقاء وَفَسَاد مزاج من علل يتنقل مِنْهَا وَخَافَ على نَفسه أحضرنا وَجَمِيع الْأَطِبَّاء فَقَالَ لنا أَلَيْسَ تَقولُونَ أَن الْعلَّة إِذا عرفت عرف دواؤها فَإِذا أعطي العليل ذَلِك الدَّوَاء صلح قُلْنَا لَهُ بلَى
قَالَ فعلتي عرفتموها ودواءها أم لم تعرفوها قُلْنَا قد عرفناها
قَالَ فَمَا بالكم تعالجوني وَلست أصلح وظننا أَنه قد عزم على الْإِيقَاع بِنَا فَسَقَطت قوانا فَقَالَ لَهُ عَبدُوس يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نَحن على مَا قُلْنَا فِي هَذَا الْبَاب إِلَّا أَن فِي الْأَمر شَيْء وَهُوَ أَنا لَا نَعْرِف مِقْدَار أَجزَاء الْعلَّة فنقابلها من الدَّوَاء بِمثل أَجْزَائِهَا وَإِنَّمَا نعمل فِي هَذَا على الحدس ونبتدئ بالأقرب فَالْأَقْرَب وَنحن نَنْظُر فِي هَذَا الْبَاب ونقابل الْعلَّة بِمَا ينجع فِيهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
قَالَ فَأمْسك عَنَّا وخلونا فتشاورنا على أَن نرميه بالعابة وَهِي التَّنور فأحميناه لَهُ ورميناه فِيهِ فعرق وخف مَا كَانَ بِهِ لدُخُول الْعلَّة إِلَى بَاطِن جِسْمه ثمَّ ارتقت إِلَى قلبه فَمَاتَ بعد أَيَّام وخلصنا مِمَّا كُنَّا أَشْرَفنَا عَلَيْهِ
وَكَانَت وَفَاة المعتضد لَيْلَة الثُّلَاثَاء لسبع بَقينَ من شهر ربيع الآخر سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ
ولعبدوس من الْكتب كتاب التَّذْكِرَة فِي الطِّبّ
صاعد بن بشر بن عَبدُوس
ويكنى أَبَا مَنْصُور كَانَ فِي أول أمره فاصدا فِي البيمارستان بِبَغْدَاد
ثمَّ إِنَّه بعد ذَلِك اشْتغل فِي صناعَة الطِّبّ وتميز حَتَّى صَار من الأكابر من أَهلهَا والمتعينين من أَرْبَابهَا
نقلت من خطّ الْمُخْتَار ابْن حسن بن بطلَان فِي مقَالَته فِي عِلّة نقل الْأَطِبَّاء المهرة تَدْبِير أَكثر الْأَمْرَاض الَّتِي كَانَت تعالج قَدِيما بالأدوية الحارة إِلَى التَّدْبِير الْمبرد كالفالج واللقوة والاسترخاء وَغَيرهَا ومخالفتهم فِي ذَلِك لمسطور القدماء قَالَ إِن أول من فطن لهَذِهِ الطَّرِيق وَنبهَ عَلَيْهَا بِبَغْدَاد وَأخذ المرضى فِي المداواة بهَا وأطرح مَا سواهَا الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور صاعد بن بشر الطَّبِيب رَحمَه الله فَإِنَّهُ أَخذ المرضى بالفصد والتبريد والترطيب وَمنع المرضى من الْغذَاء فانجح تَدْبيره وَتقدم فِي الزَّمَان بعد إِن كَانَ فاصدا فِي البيمارستان وانتهت الرياسة إِلَيْهِ فعول الْمُلُوك فِي تدبيرهم عَلَيْهِ
فَرفع عَن البيمارستان المعاجين الحارة والأدوية الحادة
وَنقل تَدْبِير المرضى إِلَى مَاء الشّعير ومياه البزور فأظهر فِي المداواة عجائب
من ذَلِك مَا حَكَاهُ لي بميافارقين الرئيس أَبُو يحيى ولد الْوَزير أبي الْقَاسِم المغربي قَالَ عرض للوزير بالأنبار قولنج صَعب أَقَامَ لأَجله فِي الْحمام واحتقن عدَّة حقن وَشرب عدَّة شربات فَلم ير صلاحا فأنفذنا رَسُولا إِلَى صاعد فَلَمَّا جَاءَ وَرَآهُ على تِلْكَ الْحَال وَلسَانه قد قصر من الْعَطش وَشرب المَاء الْحَار وَالسكر وجسمه يتوقد من مُلَازمَة الْحمام ومداومة المعاجين الحارة والحقن(1/313)
الحادة استدعى كوز مَاء مثلوج فَأعْطَاهُ الْوَزير فتوقف عَن شربه
ثمَّ أَنه جمع بَين الشَّهْوَة وَترك الْمُخَالفَة وشربه فَقَوِيت فِي الْحَال نَفسه ثمَّ استدعى فاصدا ففصده وَأخرج لَهُ دَمًا كثير الْمِقْدَار
وسقاه مَاء البزور ولعابا وسكنجبينا وَنَقله من حجرَة الْحمام إِلَى الخيش وَقَالَ لَهُ إِن الْوَزير أدام الله عافيته سينام من بعد الفصد ويعرق وينتبه فَيقوم عدَّة مجَالِس وَقد تفضل الله بعافيته
ثمَّ تقدم بِصَرْف الخدم لينام
فَقَامَ الْوَزير إِلَى مرقده وَقد وجد خفا من بعد الفصد فَنَامَ مِقْدَار خمس سَاعَات وانتبه يَصِيح بالفراش
فَقَالَ صاعد للْفراش إِذا قَامَ من الصَّيْحَة فَقَالَ لَهُ يعاود النّوم حَتَّى لَا يَنْقَطِع الْعرق
فَلَمَّا خرج الْفراش من عِنْده قَالَ وجدت ثِيَابه كَأَنَّهَا قد صبغت بِمَاء الزَّعْفَرَان وَقد قَامَ مَجْلِسا ونام
ثمَّ لَا زَالَ الْوَزير يتَرَدَّد دفعات إِلَى آخر النَّهَار مجَالِس عدَّة وَمن بعْدهَا غذاه بمزورة وسقاه ثَلَاثَة أَيَّام مَاء الشّعير فبرأ برأَ تَاما
فَكَانَ الْوَزير أبدا يَقُول طُوبَى لمن سكن بَغْدَاد دَارا شاطئة وَكَانَ طبيبه أَبُو مَنْصُور وكاتبه أَبُو عَليّ بن موصلايا فَبَلغهُ الله أمانيه فِيمَا طلب
ونقلت أَيْضا من خطّ ابْن بطلَان أَن صاعد الطَّبِيب عالج الْأَجَل المرتضى رَضِي الله عَنهُ من لسب عقرب بِأَن ضمد الْمَكَان بكافور فسكن عَنهُ الْأَلَم فِي الْحَال
ونقلت من خطّ أبي سعيد الْحسن بن أَحْمد بن عَليّ فِي كتاب ورطة الأجلاء من هفوة الْأَطِبَّاء قَالَ كَانَ الْوَزير عَليّ بن بلبل بِبَغْدَاد وَكَانَ لَهُ ابْن أُخْت فلحقته سكتة دموية وخفي حَاله على جَمِيع الْأَطِبَّاء بِبَغْدَاد وَكَانَ بَينهم صاعد بن بشر حَاضرا فَسكت حَتَّى أقرّ جَمِيع الْأَطِبَّاء بِمَوْتِهِ وَوَقع الْيَأْس من حَيَاته وَتقدم الْوَزير فِي تَجْهِيزه وَاجْتمعَ الْخلق فِي العزاء وَالنِّسَاء فِي اللَّطْم والنياح وَلم يبرح صاعد بن بشر من مجْلِس الْوَزير
فَعِنْدَ ذَلِك قَالَ الْوَزير لصاعد بن بشر الطَّبِيب هَل لَك حَاجَة فَقَالَ لَهُ نعم يَا مَوْلَانَا إِن رسمت وَأمرت لي ذكرت ذَلِك
فَقَالَ لَهُ تقدم وَقل مَا يلج فِي صدرك فَقَالَ صاعد هَذِه سكتة دموية وَلَا مضرَّة فِي إرْسَال مبضع وَاحِد وَنَنْظُر فَإِن نجح كَانَ المُرَاد وَإِن تكن الْأُخْرَى فَلَا مضرَّة فِيهِ
ففرح الْوَزير وَتقدم بأبعاد النِّسَاء وأحضر مَا وَجب من التمريخ والنطول والبخور والنشوق وَاسْتعْمل مَا يجب
ثمَّ شدّ عضد الْمَرِيض وَأَقْعَدَهُ فِي حضن بعض الْحَاضِرين وَأرْسل المبضع بعد التَّعْلِيق على الْوَاجِب من حَاله فَخرج الدَّم وَوَقعت البشائر فِي الدَّار
وَلم يزل يخرج الدَّم حَتَّى تمم ثلثمِائة دِرْهَم من الدَّم فانفتحت الْعين وَلم ينْطق بعد فَشد الْيَد الْأُخْرَى ونشقه مَا وَجب تنشيقه
ثمَّ فصده ثَانِيًا وَأخرج مثلهَا من الدَّم وَأكْثر
فَتكلم ثمَّ أَسْقِي وَأطْعم مَا وَجب فبرئ من ذَلِك وَصَحَّ جِسْمه وَركب فِي الرَّابِع إِلَى الْجَامِع وَمِنْه إِلَى ديوَان الْخَلِيفَة ودعا لَهُ ونثر عَلَيْهِ من الدَّرَاهِم(1/314)
وَالدَّنَانِير الْكَثِيرَة
وَحصل لصاعد بن بشر الطَّبِيب مَال عَظِيم وحشمه الْخَلِيفَة والوزير وَقدمه وزكاه وَتقدم على جَمِيع من كَانَ فِي زَمَانه
أَقُول وَوجدت صاعد بن بشر قد ذكر فِي مقَالَته فِي مرض المراقيا مَا عاينه فِي ذَلِك الزَّمَان من أهوال وجدهَا ومخاوف شَاهدهَا مَا هَذَا نَصه
قَالَ وَإنَّهُ عرض لنا من تضايق الزَّمَان علينا والتشاغل بالتماس الْأَمر الضَّرُورِيّ وَلما قد شملنا من الْخَوْف والحذر والفزع وَاخْتِلَاف السلاطين وَمَا قد بلينا بِهِ مَعَ ذَلِك من التنقل فِي الْمَوَاضِع وضياع كتبنَا وسرقتها
وَلما قد أظلنا من الْأُمُور المذعرة المخوفة الَّتِي لَا نرجو فِي كشفها إِلَّا الله تقدس اسْمه
هَذَا مَا ذكره وَمَا كَانَ فِي أَيَّامه إِلَّا اخْتِلَاف مُلُوك الْإِسْلَام بَعضهم مَعَ بعض وَكَانَ النَّاس سَالِمين فِي أنفسهم آمِنين من الْقَتْل والسبي فَكيف لَو شَاهد مَا شَاهَدْنَاهُ وَنظر مَا نظرناه فِي زَمَاننَا من التتار الَّذين أهلكوا الْعباد وأخربوا الْبِلَاد وكونهم إِذا أَتَوا إِلَى مَدِينَة فَمَا لَهُم هم إِلَّا قتل جَمِيع من فِيهَا من الرِّجَال وَسبي الْأَوْلَاد وَالنِّسَاء وَنهب الْأَمْوَال وتخريب القلاع والمدن
لَكَانَ استصغر مَا ذكره واستقل مَا عاينه وحقره
وَلَكِن مَا طامة إِلَّا فَوْقهَا طامة أعظم مِنْهَا وَلَا حَادِثَة إِلَّا وَغَيرهَا تكبر عَنْهَا وَللَّه الْحَمد على السَّلامَة والعافية
ولصاعد بن بشر من الْكتب مقَالَة فِي مرض المراقيا ومداواته ألفها لبَعض إخوانه
دَيْلَم
كَانَ من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين بِبَغْدَاد الْمُتَقَدِّمين فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى الْحسن بن مخلد وَزِير الْمُعْتَمد ويخدمه
وَوجدت فِي بعض التواريخ أَن الْمُعْتَمد على الله وَهُوَ أَحْمد بن المتَوَكل أَرَادَ أَن يفتصد فَقَالَ لِلْحسنِ بن مخلد اكْتُبْ لي جَمِيع من فِي خدمتنا من الْأَطِبَّاء حَتَّى أتقدم بِأَن تصل كل وَاحِد مِنْهُم على قدره
فَكتب الْأَسْمَاء وَأدْخل فِيهَا اسْم دَيْلَم المتطبب
وَكَانَ دَيْلَم يخْدم الْحسن بن مخلد فَوَقع تَحت الْأَسْمَاء بالصلات
فَقَالَ دَيْلَم إِنِّي لجالس فِي منزلي حَتَّى وافى رَسُول بَيت المَال وَمَعَهُ كيس فِيهِ ألف دِينَار فسلمه إِلَيّ وَانْصَرف فَلم أدر مَا السَّبَب فِيهِ فبادرت بالركوب إِلَى الْحسن بن مخلد وَهُوَ حِينَئِذٍ الْوَزير فعرفته ذَلِك
فَقَالَ لي افتصد أَمِير الْمُؤمنِينَ وَأَمرَنِي بِأَن أكتب أَسمَاء الْأَطِبَّاء لِيَتَقَدَّم بصلاتهم فأدخلت اسْمك مَعَهم فَخرج لَك ألف دِينَار
داؤد بن دَيْلَم
كَانَ من الْأَطِبَّاء المتميزين بِبَغْدَاد المجيدين فِي المعالجة وخدم المعتضد بِاللَّه وَخص بِهِ
فَكَانَت(1/315)
التوقيعات تخرج بِخَط ابْن دَيْلَم لمحله مِنْهُ ومكانته
وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى دور المعتضد وَله مِنْهُ الْإِحْسَان الْكثير والأنعام الوافر
وَكَانَت وَفَاة داؤد بن دَيْلَم يَوْم السبت لخمس خلون من الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وثلثمائة بِبَغْدَاد
أَبُو عُثْمَان سعيد بن يَعْقُوب الدِّمَشْقِي
كَانَ من الْأَطِبَّاء الْمَذْكُورين بِبَغْدَاد وَنقل كتبا كَثِيرَة إِلَى الْعَرَبيَّة من كتب الطِّبّ وَغَيره وَكَانَ مُنْقَطِعًا إِلَى عَليّ بن عِيسَى
وَقَالَ ثَابت بن سِنَان المتطبب أَن أَبَا الْحسن عَليّ ين عِيسَى الْوَزير فِي سنة اثْنَتَيْنِ وثلثمائة اتخذ البيمارستان بالحربية وَأنْفق عَلَيْهِ من مَاله وقلده أَبَا عُثْمَان سعيد بن يَعْقُوب الدِّمَشْقِي متطببه مَعَ سَائِر البيمارستانات بِبَغْدَاد وَمَكَّة وَالْمَدينَة
وَمن كَلَام أبي عُثْمَان سعيد بن يَعْقُوب الدِّمَشْقِي قَالَ الصَّبْر قُوَّة من قوى الْعقل وبحسب قُوَّة الْعقل تكون قُوَّة الصَّبْر
وَلأبي عُثْمَان الدِّمَشْقِي من الْكتب مسَائِل جمعهَا من كتاب جالينوس فِي الْأَخْلَاق
مقَالَة فِي النبض مشجرة وَهِي جوامعه لكتاب النبض الصَّغِير لِجَالِينُوسَ
الرقي
هُوَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن الْخَلِيل الرقي كَانَ فَاضلا فِي الصِّنَاعَة الطبية عَارِفًا بأصولها وفروعها جيد التَّعْلِيم حسن المعالجة
وَهُوَ أول من وَجَدْنَاهُ فسر مسَائِل حنين بن إِسْحَق فِي الطِّبّ وَكَانَ تَفْسِيره لهَذَا الْكتاب فِي سنة ثَلَاثِينَ وثلثمائة
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل وَقيل عَنهُ أَنه مَا كَانَ يُفَسر إِلَّا سَكرَان وَكَانَ فِي هَذَا نَادرا
قَالَ وَقد شاهدت إنْسَانا كَانَ يتعاطى الشّعْر وَكَانَ إِذا أَرَادَ عمله احتال فِي تَحْصِيل نَبِيذ فيشربه وَيجْلس فَيعْمل حِينَئِذٍ الشّعْر
وَسبب ذَلِك أَن الدِّمَاغ يكون مائلا إِلَى الْبرد فَإِذا اسخنه ببخار النَّبِيذ تحرّك وَقَوي على الْفِعْل
وللرقي من الْكتب شرح مسَائِل حنين فِي الطِّبّ
قويري
واسْمه إِبْرَاهِيم ويكنى أَبَا إِسْحَق
فَاضل فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَهُوَ مِمَّن أَخذ عَنهُ علم الْمنطق(1/316)
وَكَانَ مُفَسرًا
وَعَلِيهِ قَرَأَ أَبُو بشر مَتى بن يونان
وَكتب قويري مطرحة مجفوة لِأَن عباراته كَانَت عفطية غلقة
ولقويري من الْكتب كتاب تَفْسِير قاطيغورياس مشجر
كتاب باريمينياس مشجر
كتاب أنالوطيقا الأولى مشجر
كتاب أنالوطيقا الثَّانِيَة مشجر
ابْن كرنيب
هُوَ أَبُو أَحْمد الْحُسَيْن بن أبي الْحُسَيْن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن زيد الْكَاتِب وَيعرف بِابْن كرنيب
وَكَانَ من جلة الْمُتَكَلِّمين وَيذْهب مَذْهَب الفلاسفة الطبيعيين
وَكَانَ فِي نِهَايَة الْفضل والمعرفة والاطلاع بالعلوم الطبيعية الْقَدِيمَة
وَلأبي أَحْمد بن كرنيب من الْكتب كتاب الرَّد على أبي الْحسن ثَابت بن قُرَّة فِي نَفْيه وجوب وجود السكونين بَين كل حركتين متساويتين
مقَالَة فِي الْأَجْنَاس والأنواع وَهِي الْأُمُور العامية
كتاب كَيفَ يعلم مَا مضى من النَّهَار من سَاعَة من قبل الِارْتفَاع
أَبُو يحيى الْمروزِي
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا بِمَدِينَة السَّلَام متميزا فِي الْحِكْمَة وَقَرَأَ عَلَيْهِ أَبُو بشر مَتى بن يونان
وَكَانَ فَاضلا وَلكنه كَانَ سريانيا
وَجَمِيع مَا لَهُ من الْكتب فِي الْمنطق وَغَيره بالسُّرْيَانيَّة
مَتى بن يونان
كَانَ أَبُو بشر مَتى بن يونان من أهل ديرقني مِمَّن نَشأ فِي أسكول مرماري
قَرَأَ على قويري وعَلى روفيل وبنيامين وَيحيى الْمروزِي وعَلى أبي أَحْمد بن كرنيب
وَله تَفْسِير من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ وَإِلَيْهِ انْتَهَت رئاسة المنطقيين فِي عصره
وَكَانَ نَصْرَانِيّا
وَتُوفِّي بِبَغْدَاد يَوْم السبت لإحدى عشرَة لَيْلَة خلت من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَعشْرين وثلثمائة
ولمتى من الْكتب مقَالَة فِي مُقَدمَات صدر بهَا كتاب أنالوطيقا
كتاب المقاييس الشّرطِيَّة
شرح كتاب أيساغوجي لفرفوريوس
يحيى بن عدي
وَأَبُو زَكَرِيَّا يحيى بن حميد بن زَكَرِيَّا المنطقي وَإِلَيْهِ انْتَهَت الرِّئَاسَة وَمَعْرِفَة الْعُلُوم الْحكمِيَّة فِي(1/317)
وقته قَرَأَ على أبي بشر مَتى وعَلى أبي نصر الفارابي وعَلى جمَاعَة أخر وَكَانَ أوحد دهره
ومذهبه من مَذَاهِب النَّصَارَى اليعقوبية
وَكَانَ جيد الْمعرفَة بِالنَّقْلِ
وَقد نقل من اللُّغَة السريانية إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة
وَكَانَ كثير الْكِتَابَة وَوجدت بِخَطِّهِ عدَّة كتب
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق النديم الْبَغْدَادِيّ فِي كتاب الفهرست
قَالَ لي يحيى بن عدي يَوْمًا فِي الوراقين وَقد عاتبته على كَثْرَة نسخه فَقَالَ لي من أَي شَيْء تعجب فِي هَذَا الْوَقْت من صبري قد نسخت بخطي نسختين من التَّفْسِير للطبري وحملتهما إِلَى مُلُوك الْأَطْرَاف وَقد كتبت من كتب الْمُتَكَلِّمين مَا لَا يُحْصى ولعهدي بنفسي وَأَنا أكتب فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة مائَة ورقة وَأَقل
وَقَالَ الْأَمِير أَبُو الْوَفَاء المبشر بن فاتك حَدثنِي شَيْخي أَبُو الْحُسَيْن الْمَعْرُوف بِابْن الْآمِدِيّ أَنه سمع من أبي عَليّ إِسْحَق بن زرْعَة يَقُول أَن أَبَا زَكَرِيَّا يحيى بن عدي وصّى إِلَيْهِ أَن يكْتب على قَبره حِين حَضرته الْوَفَاة وَهُوَ فِي بيعَة مرتوما بقطيعة الدَّقِيق هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(رب ميت قد صَار بِالْعلمِ حَيا ... ومبقى قد مَاتَ جهلا وعيا)
(فاقتنوا الْعلم كي تنالوا خلودا ... لَا تعدوا الْحَيَاة فِي الْجَهْل شيا) الْخَفِيف
وليحيى بن عدي من الْكتب رِسَالَة فِي نقض حجج أنفذها الرئيس فِي نصْرَة قَول الْقَائِلين بِأَن الْأَفْعَال خلق لله واكتساب للْعَبد
تَفْسِير كتاب طوبيقا لأرسطوطاليس مقَالَة فِي البحوث الْأَرْبَعَة مقَالَة فِي سياسة النَّفس مقَالَة فِي أهمية صناعَة الْمنطق وماهيتها وأوليتها مقَالَة فِي المطالب الْخَمْسَة للرؤوس الثَّمَانِية
كتاب فِي مَنَافِع الباه ومضاره وجهة اسْتِعْمَاله بِحَسب اقتراح الشريف أبي طَالب نَاصِر بن إِسْمَاعِيل صَاحب السُّلْطَان الْمُقِيم فِي القسطنطينة
أَبُو عَليّ بن زرْعَة
هُوَ أَبُو على عِيسَى بن إِسْحَق بن زرْعَة بن مرقس بن زرْعَة بن يوحنا
أحد الْمُتَقَدِّمين فِي علم الْمنطق وعلوم الفلسفة والنقلة الْمُجْرمين
ومولده بِبَغْدَاد فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وثلثمائة وَنَشَأ بهَا وَكَانَ كثير الصُّحْبَة والملازمة ليحيى بن عدي
نقلت من خطّ الْمُخْتَار بن الْحسن بن بطلَان فِي مقَالَته فِي عِلّة نقل الْأَطِبَّاء المهرة تَدْبِير أَكثر الْأَمْرَاض الَّتِي كَانَت تعالج قَدِيما بالأدوية الحارة إِلَى التَّدْبِير الْمبرد كالفالج واللقوة(1/318)
والاسترخاء وَغَيرهَا ومخالفتهم فِي ذَلِك لمسطور القدماء
قَالَ إِن أول من فطن لهَذِهِ الطَّرِيق وَنبهَ عَلَيْهَا بِبَغْدَاد وَأخذ المرضى فِي المداواة بهَا واطرح مَا سواهَا الشَّيْخ أَبُو مَنْصُور صاعد بن بشر الطَّبِيب رَحمَه الله فإنني سمعته يَقُول أول مَا خطر لي النَّقْل فِي الفالج الَّذِي عرض لشَيْخِنَا أبي عَليّ ابْن زرْعَة رَحمَه الله وَذَلِكَ أَن أَبَا عَليّ كَانَ رجلا منحف الْجِسْم حاد الخاطر محداثا مليح الْمجْلس ملازما للتدريس وَالنَّقْل والتصنيف محبا للبوارد المحرفات والمطجنات ومليح الأسماك وَمَا عمل من البوارد بالخردل
ثمَّ أَنه حرص فِي آخر عمره على عمل مقَالَة فِي بَقَاء النَّفس
فَأَقَامَ نَحوا من سنة يفكر فِيهَا ويسهر لَهَا حرصا على عَملهَا
وَكَانَ أَيْضا مفتونا بِالتِّجَارَة إِلَى بلد الرّوم وَله فِيهَا أضداد من تجار السريان قد سعوا بِهِ دفعات إِلَى السُّلْطَان وصودر على أَمْوَال وَلَحِقتهُ عدَّة نكبات فالتام عَلَيْهِ حرارة المزاج الْأَصْلِيّ وَفَسَاد الأغذية وكد الخاطر بالتصنيف ومداراة السلاطين فعرضت لَهُ مرضة حادة واختلاط أبحر فِيهَا بفالج كَمَا يبحر المرضى بأورام وَنَحْوهَا
وَكَانَ النَّاس يعظمونه للْعلم فَاجْتمع إِلَيْهِ مَشَايِخ الْأَطِبَّاء كَابْن بكس وَابْن كشكرايا وتلميذ سِنَان وَابْن كزورا والحراني فَمَضَوْا فِي تَدْبيره بِحَسب المسطور فِي الكنانيش وَأَنا أَقُول من حَيْثُ لَا قدرَة لي على مجاهرتهم بالمخالفة لتقدمهم فِي الزَّمَان وَالله إِنَّهُم لمخطئون لِأَنَّهُ فالج تَابع لمَرض حاد لشخص حَار المزاج
ثمَّ أَنهم سئموا من تَدْبيره فنقلته إِلَى المرطبات فخف قَلِيلا وشارف الصّلاح وَبعد زمَان مَاتَ فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة من فرط مَا دبر بِهِ من الْحَار الْيَابِس بالجمود الْحَادِث فِي مُؤخر الدِّمَاغ عَن خلط سوداوي
وَلأبي عَليّ بن زرْعَة من الْكتب اخْتِصَار كتاب أرسطوطاليس فِي الْمَعْمُور من الأَرْض
كتاب أغراض كتب أرسطوطاليس المنطقية
مقَالَة فِي مَعَاني كتاب أيساغوجي
مقَالَة فِي مَعَاني قِطْعَة من الْمقَالة الثَّالِثَة من كتاب السَّمَاء
مقَالَة فِي الْعقل
رِسَالَة فِي عِلّة اسْتِنَارَة الْكَوَاكِب مَعَ أَنَّهَا والكرات الحاملة لَهَا من جَوْهَر وَاحِد
بسائط رِسَالَة أَنْشَأَهَا إِلَى بعض أوليائه فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وثلثمائة
أَقُول وَفِي هَذِه الرسَالَة معَان يرد بهَا على الْيَهُود
وَوجدت لبشر بن بيشى الْمَعْرُوف بِابْن عنايا الإسرائيلي رِسَالَة يرد فِيهَا على عِيسَى بن إِسْحَق بن زرْعَة وَقد أجَاب فِيهَا عَن رسَالَته هَذِه
مُوسَى بن سيار
هُوَ أَبُو ماهر مُوسَى بن يُوسُف بن سيار من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين بالحذق وجودة الْمعرفَة بصناعة الطِّبّ
ولموسى بن سيار من الْكتب مقَالَة فِي الفصد
الزِّيَادَة الَّتِي زَادهَا على كناش الْخُف لإسحق بن حنين
عَليّ بن الْعَبَّاس الْمَجُوسِيّ
من الأهواز وَكَانَ طَبِيبا مجيدا متميزا فِي صناعَة الطِّبّ
وَهُوَ الَّذِي صنف الْكتاب الْمَشْهُور الَّذِي(1/319)
يعرف بالملكي صنفه للْملك عضد الدولة فناخسرو بن ركن الدولة أبي عَليّ حسن بن بويه الديلمي وَهُوَ كتاب جليل مُشْتَمل على أَجزَاء الصِّنَاعَة الطبية علمهَا وعملها
وَكَانَ عَليّ بن الْعَبَّاس الْمَجُوسِيّ قد اشْتغل بصناعة الطِّبّ على أبي ماهر مُوسَى بن سيار وتتلمذ لَهُ
ولعلي بن الْعَبَّاس الْمَجُوسِيّ من الْكتب كتاب الملكي فِي الطِّبّ عشرُون مقَالَة
عِيسَى طَبِيب القاهر
كَانَ القاهر بِاللَّه وَهُوَ أَبُو مَنْصُور مُحَمَّد بن المعتضد يعْتَمد على طبيبه هَذَا عِيسَى ويركن إِلَيْهِ ويفضي إِلَيْهِ بأسراره
وَتُوفِّي عِيسَى طَبِيب القاهر بِاللَّه فِي سنة ثَمَان وَخمسين وثلثمائة بِبَغْدَاد
وَكَانَ كف قبل مَوته بِسنتَيْنِ
قَالَ ثَابت بن سِنَان فِي تَارِيخه وأعلمني أَن مولده كَانَ فِي النّصْف من جمادي الأولى سنة إِحْدَى وَسبعين وَمِائَتَيْنِ
دانيال المتطبب
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل كَانَ دانيال المتطبب لطيف الْخلقَة ذميم الْأَعْضَاء متوسط الْعلم لَهُ إنسة بالمعالجة وَكَانَت فِيهِ غَفلَة وتبدد
وَكَانَ قد استخصه معز الدولة لخدمته فَدخل عَلَيْهِ يَوْمًا فَقَالَ لَهُ يَا دانيال فَقَالَ لبيْك أَيهَا الْأَمِير قَالَ أَلَيْسَ عنْدكُمْ أَن السفرجل إِذا أكل قبل الطَّعَام أمسك الطَّبْع وَإِذا أكل بعد الطَّعَام أسهل قَالَ بلَى
قَالَ فَأَنا أَكلته بعد الطَّعَام عصمني
قَالَ لَهُ دانيال لَيْسَ هَذَا الطَّبْع للنَّاس فلكمه معز الدولة بِيَدِهِ فِي صَدره وَقَالَ لَهُ قُم تعلم أدب خدمَة الْمُلُوك وتعال
فَخرج من بَين يَدَيْهِ وَنَفث الدَّم وَلم يزل كَذَلِك مُدَّة مديدة حَتَّى مَاتَ
قَالَ عبيد الله وَهَذِه من غلطات الْعلمَاء الَّتِي تهْلك وَإِلَّا مثل هَذَا لَا يخفى لِأَن هُنَاكَ معدا ضَعِيفَة لَا يُمكنهَا دفع مَا فِيهَا فَإِذا وردهَا السفرجل قواها وأعانها على دفع مَا فِيهَا فتجيب الطبيعة
وَقد شاهدت إنْسَانا إِذا أَرَادَ الْقَيْء شرب الشَّرَاب الْمحلي أَو سكنجبين السفرجل فتقيأ مهما أَرَادَ
قَالَ وَحكى وَالِدي جِبْرَائِيل إِنَّه كَانَ الْأَمِير أَبُو مَنْصُور مهذب الدولة رَحمَه الله إِذا شرب شراب السفرجل أسهله
وَهَذِه أُمُور أَسبَابهَا مَعْرُوفَة وَإِنَّمَا كَانَت غلطة من دانيال حَتَّى هلك(1/320)
إِسْحَق بن شليطا
كَانَ هَذَا طَبِيبا بغداديا لَهُ يَد فِي الطِّبّ تقدم بهَا إِلَى أَن انْتقل إِلَى خدمَة الْمُطِيع لله واختص بِهِ إِلَى أَن مَاتَ فِي حَيَاة الْمُطِيع وَخلف على مَوْضِعه أَبُو الْحُسَيْن عمر بن عبد الله الدحلي
وَقد كَانَ إِسْحَق مشاركا فِي طب الْمُطِيع لِثَابِت بن سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة الْحَرَّانِي الصَّابِئ
أَبُو الْحُسَيْن عمر بن الدحلي
كَانَ متطببا للمطيع لله وَكَانَ شَدِيد التَّمَكُّن مِنْهُ والاختصاص بِهِ
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل حَدثنِي من أَثِق بِهِ إِنَّه كَانَ لَا يحتشمه فِي شَيْء جملَة
وَلما صرف الْمُطِيع لله أَبَا مُحَمَّد الصلحي كَاتبه توَسط أَبُو الْحُسَيْن بن الدحلي لأبي سعيد وهب بن إِبْرَاهِيم حَتَّى تقلد كتبه الْخَلِيفَة وَبَقِي مُدَّة ثمَّ شرع أَبُو الْحُسَيْن صهر أبي بشر البقري فتقلده
وَكَانَ أَبُو سعيد وهب بَقِي إِلَى أَن صَارَت الْخلَافَة إِلَى الطائع وَقبض عَلَيْهِ وَبَقِي فِي الْحَبْس إِلَى أَن دخل بختيار وعضد الدولة إِلَى بَغْدَاد وهرب الْخَلِيفَة وَخرج من الْحَبْس عِنْد كسر أَبْوَاب الحبوس
فنون المتطبب
كَانَ مُتَقَدما يخْتَص بِخِدْمَة بختيار وَكَانَ يُكرمهُ ويعزه أمرا عَظِيما
قَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل وَمن أخباره مَعَه أَنه رمدت عين بختيار فِي بعض الْأَوْقَات فَقَالَ لَهُ يَا أَبَا نصر لَيْسَ وَالله تَبْرَح من عِنْدِي أَو تبرئ عَيْني
وأريدها تَبرأ فِي يَوْم وَاحِد وأبرمه
قَالَ فَسمِعت أَبَا نصر يتحدث أَنه قَالَ لَهُ إِن أردْت أَن تَبرأ فَتقدم إِلَى الفراشين والغلمان أَن يأتمروني دُونك فِي هَذَا الْيَوْم وأخلفك وَمن خالفني فِي أَمْرِي قتلته فَفعل بختيار ذَلِك
فَأمر أَبُو نصر أَن يحضروا أجانة مَمْلُوءَة عسل الطبرزد
فَلَمَّا حضر غمس يَدي بختيار فِي الْعَسَل ثمَّ بَدَأَ يداوي عَيْنَيْهِ بالأشياف الْأَبْيَض الْأَبْيَض وَمَا يصلح الرمد
وَجعل بختيار يَصِيح بالغلمان فَلَا يجِيبه أحد
وَلم يزل كَذَلِك يكحله إِلَى آخر النَّهَار فبرئ
وَكَانَ هُوَ السفير بَين بختيار والخليفة
وَإِذا خرجت الْخلْع فعلى يَدَيْهِ تخرج وَله فِيهَا السهْم الأوفر
أَبُو الْحُسَيْن بن كشكرايا
كَانَ طَبِيبا عَالما مَشْهُورا بِالْفَضْلِ والإتقان لصناعة الطِّبّ وجودة المزاولة لأعمالها
وَكَانَ فِي خدمَة(1/321)
الْأَمِير سيف الدولة بن حمدَان
وَلما بنى عضد الدولة البيمارستان الْمَنْسُوب إِلَيْهِ بِبَغْدَاد استخدمه فِيهِ وَزَاد حَاله
وَكَانَ أَبُو الْحُسَيْن بن كشكرايا كثير الْكَلَام يحب أَن يخجل الْأَطِبَّاء بالمساءلة والتهجم
وَكَانَ لَهُ أَخ رَاهِب وَله حقنة تَنْفَع من قيام الأغراس والمواد الحادة وَيعرف بِصَاحِب الحقنة
وَكَانَ أَبُو الْحُسَيْن بن كشكرايا قد اشْتغل بصناعة الطِّبّ على سِنَان بن ثَابت بن قُرَّة وَكَانَ من أجل تلامذته
وَلأبي الْحُسَيْن بن كشكرايا من الْكتب كناشه الْمَعْرُوف بالحاوي
كناش آخر باسم من وَضعه إِلَيْهِ
أَبُو يَعْقُوب الْأَهْوَازِي
كَانَ مشكورا فِي صناعَة الطِّبّ جميل الطريفة
وَكَانَ من جملَة الْأَطِبَّاء الَّذين جعلهم عضد الدولة فِي البيمارستان الَّذِي أنشأه بِبَغْدَاد وَيعرف بِهِ
وَلأبي يَعْقُوب الْأَهْوَازِي من الْكتب مقَالَة فِي أَن السكنجبين الْبزورِي أحر من الترياق
نظيف القس الرُّومِي
كَانَ خَبِيرا باللغات وَكَانَ ينْقل من اليوناني إِلَى الْعَرَبِيّ وَكَانَ يعد من الْفُضَلَاء فِي صناعَة الطِّبّ واستخدمه عضد الدولة فِي البيمارستان الَّذِي أنشأه بِبَغْدَاد
وَكَانَ عضد الدولة يتطير مِنْهُ وَكَانَ النَّاس يولعون بِهِ إِذا دخل إِلَى مَرِيض
حَتَّى حُكيَ فِي بعض الْأَوْقَات أَن عضد الدولة أنفذه إِلَى بعض القواد فِي مرض كَانَ عرض لَهُ فَلَمَّا خرج من عِنْد الْقَائِد استدعى بِثِقَتِهِ وأنفذه إِلَى حَاجِب عضد الدولة يستعلم مِنْهُ نِيَّة الْملك فِيهِ وَيَقُول إِن كَانَ ثمَّ تغير نِيَّة فليأخذ لَهُ الْأذن فِي الِانْصِرَاف والبعد فقد قلق لما جرى فَسَأَلَ الْحَاجِب عَن ذَلِك وَسَببه
فَقَالَ الْغُلَام مَا أعرف أَكثر من أَنه جَاءَهُ نظيف الطَّبِيب وَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا الْملك أنفذني لعيادتك
فَمضى الْحَاجِب وَأعَاد بِحَضْرَة الْملك عضد الدولة هَذَا الحَدِيث فَضَحِك وَأمره أَن يمْضِي إِلَيْهِ ويعلمه بِحسن نِيَّته فِيهِ وَإِن ذَلِك أشغل قلبه بِهِ فأنفذه إِلَيْهِ ليعوده
وحملت إِلَيْهِ خلع سنية فسكنت بهَا نَفسه وَزَالَ عَنهُ مَا كَانَ أضمره من شغل الْقلب وَكَانَ دَائِما يولع بِهِ بِسَبَبِهَا
أَبُو سعيد اليمامي
كَانَ مَشْهُورا بِالْفَضْلِ والمعرفة متقنا لصناعة الطِّبّ جيدا فِي أُصُولهَا وفروعها حسن التصنيف
وَلأبي سعيد اليمامي من الْكتب شرح مسَائِل حنين مقَالَة فِي امتحان الْأَطِبَّاء وَكَيْفِيَّة التَّمْيِيز بَين طبقاتهم(1/322)
أَبُو الْفرج بن أبي سعيد الْيَمَانِيّ
كَانَ فَاضلا فِي الصِّنَاعَة الطبية متميزا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة
اجْتمع بالشيخ الرئيس ابْن سينا وَجَرت بَينهمَا مسَائِل كَثِيرَة فِي صناعَة الطِّبّ وَغَيرهَا
وَلأبي الْفرج بن أبي سعيد اليمامي من الْكتب رِسَالَة فِي مَسْأَلَة طبية دارت بَينه وَبَين الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا
أَبُو الْفرج يحيى بن سعيد بن يحيى
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا عَالما بصناعة الطِّبّ جيدا فِي أَعمالهَا
نقلت من خطّ ابْن بطلَان فِي مقَالَته فِي عِلّة نقل الْأَطِبَّاء المهرة تَدْبِير أَكثر الْأَمْرَاض الَّتِي كَانَت تعالج قَدِيما بالأدوية الحارة إِلَى التَّدْبِير الْمبرد كالفالج واللقوة والاسترخاء وَغَيرهَا ومخالفتهم فِي ذَلِك لمسطور القدماء قَالَ حَدثنِي الشَّيْخ الْفَاضِل أَبُو الْفرج يحيى بن سعيد بن يحيى الطَّبِيب بأنطاكية قَالَ وَهَذَا السَّيِّد فِي زَمَاننَا علم فِي الْعلم مقدم فِي الدّيانَة والمروءة وَله تصانيف جليلة
قَالَ قَالَ ورد من القسطنطينة غُلَام للْملك رومي شَاب بِهِ سوء مزاج حَار وجسأ فِي طحاله وسحنته حائلة لغلبت الصَّفْرَاء وَكَانَ مَاؤُهُ أَحْمَر فِي أَكثر الْأَوْقَات وَبِه عَطش
فَسَقَاهُ طَبِيب دَوَاء مسهلا ثمَّ فصده وسقاه دَوَاء مقيئا فَسَاءَتْ حَاله وَأدْخلهُ طَبِيب رومي الْحمام ولطخ جَمِيع جِسْمه بالنورة ولطخه بعد ذَلِك بِعَسَل نحل وألزم معدته ضمادا حارا فاحتد مزاجه وَكثر عطشه وَبَطلَت شَهْوَته وَعرض لَهُ فِي الْحَال فالج فِي الشق الْأَيْمن فسقي مَاء الشّعير كثيرا فصلحت حَاله من الاسترخاء فِي تَمام الْأَرْبَعين
ثمَّ وقف طبعه فحقن فَقَامَ دفعات وجاءه دم أسود غليظ فَلم يجد لَهُ نفعا ثمَّ انْقَطَعت شَهْوَته وَاسْتولى عَلَيْهِ الْقيام والسهر فَمَاتَ فِي السِّتين
أَبُو الْفرج بن الطّيب
هُوَ الفيلسوف الإِمَام الْعَالم أَبُو الْفرج عبد الله بن الطّيب وَكَانَ كَاتب الجاثليق ومتميزا فِي النَّصَارَى بِبَغْدَاد وَيقْرَأ صناعَة الطِّبّ فِي البيمارستان العضدي ويعالج المرضى فِيهِ
وَوجدت شَرحه لكتاب جالينوس إِلَى أغلوتن وَقد قرئَ عَلَيْهِ وَعَلِيهِ الْخط بِالْقِرَاءَةِ فِي البيمارستان العضدي فِي يَوْم الْخَمِيس الْحَادِي عشر من شهر رَمَضَان سنة سِتّ وَأَرْبَعمِائَة وَهُوَ من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ عَظِيم الشَّأْن جليل الْمِقْدَار وَاسع الْعلم كثير التصنيف خَبِيرا بالفلسفة كثير الِاشْتِغَال فِيهَا
وَقد شرح كتبا كَثِيرَة من كتب أرسطوطاليس فِي الْحِكْمَة وَشرح أَيْضا كتبا كَثِيرَة من كتب أبقراط وجالينوس فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَت لَهُ مقدرَة قَوِيَّة فِي التصنيف وَأكْثر مَا يُوجد من تصانيفه كَانَت تنقل عَنهُ إملاء من لَفظه
وَكَانَ معاصرا للشَّيْخ الرئيس بن سينا
وَكَانَ الشَّيْخ الرئيس يحمد(1/323)
كَلَامه فِي الطِّبّ
وَأما فِي الْحِكْمَة فَكَانَ يذمه
وَمن ذَلِك قَالَ فِي مقَالَته فِي الرَّد عَلَيْهِ مَا هَذَا نَصه إِنَّه كَانَ يَقع إِلَيْنَا كتب يعملها الشَّيْخ أَبُو الْفرج أَبُو الطّيب فِي الطِّبّ ونجدها صَحِيحَة مرضية خلاف تصانيفه الَّتِي فِي الْمنطق والطبيعيات وَمن يجْرِي مَعهَا
وحَدثني الشَّيْخ موفق الدّين يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن القف النَّصْرَانِي إِن رجلَيْنِ من بِلَاد الْعَجم كَانَا قد قصدا بَغْدَاد للاجتماع بِأبي الْفرج بن الطّيب وَالْقِرَاءَة عَلَيْهِ والاشتغال عِنْده وَلما وصلا دخلا بَغْدَاد وسألا عَن منزل أبي الْفرج فَقيل لَهما أَنه فِي الْكَنِيسَة للصَّلَاة فتوجها نَحوه ودخلا الْكَنِيسَة
فَلَمَّا قيل لَهما إِنَّه ذَلِك الشَّيْخ وَكَانَ ابْن الطّيب فِي ذَلِك الْوَقْت لابسا ثوب صوف وَهُوَ مَكْشُوف الرَّأْس وَبِيَدِهِ مبخرة بسلاسل وفيهَا نَار وبخور وَهُوَ يَدُور بهَا فِي نواحي الْكَنِيسَة ويبخر تأملاه وتحدثا بِالْفَارِسِيَّةِ وبقيا يديمان النّظر إِلَيْهِ ويتعجبان مِنْهُ أَنه على هَذِه الْهَيْئَة وَيفْعل هَذَا الْفِعْل وَهُوَ من أجل الْحُكَمَاء وسمعته فِي أقاصي الْبِلَاد بالفلسفة والطب وَفهم عَنْهُمَا مَا هما فِيهِ
وَلما فرغ وَقت الصَّلَاة وَخرج النَّاس من الْكَنِيسَة خرج أَبُو الْفرج بن الطّيب وَلبس ثِيَابه الْمُعْتَاد لبسهَا وقدمت لَهُ البغلة فَركب والغلمان حوله وتبعاه أُولَئِكَ الْعَجم إِلَى دَاره وعرفاه إنَّهُمَا قاصدان إِلَيْهِ من بِلَاد الْعَجم للاشتغال وَأَن يَكُونَا من جملَة تلامذته
فاستحضرهما فِي مَجْلِسه وسمعا كَلَامه ودروس المشتغلين عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ لَهما كنتما حججتما قطّ قَالَا لَا فماطلهما بِالْقِرَاءَةِ إِلَى أَوَان الْحَج وَكَانَ الْوَقْت قَرِيبا مِنْهُ
فَلَمَّا نُودي لِلْحَجِّ قَالَ لَهما إِن كنتما تريدان أَن تقرآ عَليّ وَأَن أكون شيخكما فحجا وَإِذا جئتما مَعَ السَّلامَة إِن شَاءَ الله يكون كل مَا تريدان مني فِي الِاشْتِغَال عَليّ
فَقبلا أمره وحجا وَلما عَاد الْحَاج جَاءَا إِلَيْهِ من أثر الْحَج وهما أقرعان وَقد غلب الشحوب عَلَيْهِمَا من حر الشَّمْس وَالطَّرِيق فَسَأَلَهُمَا عَن مَنَاسِك الْحَج وَمَا فعلا فِيهَا فذكرا لَهُ سُورَة الْحَال
وَقَالَ لَهما لما رَأَيْتُمَا الْجمار بقيتما عُرَاة موشحين وبأيديكما الْحِجَارَة وأنتما تهرولان وترميان بهَا قَالَا نعم
فَقَالَ هَكَذَا الْوَاجِب أَن الْأُمُور الشَّرْعِيَّة تُؤْخَذ نقلا لَا عقلا
وَمَا كَانَ قَصده بذلك وَأَنه أَمرهمَا بِالْحَجِّ إِلَّا حِين يتَبَيَّن لَهما أَن الْحَال الَّتِي رأياه عَلَيْهَا وتعجبا من فعله أَن ذَلِك رَاجع إِلَى الْأَوَامِر الشَّرْعِيَّة وَهِي فَإِنَّمَا تُؤْخَذ من أَرْبَابهَا متسلمة ممتثلة فِي سَائِر الْملَل
ثمَّ اشتغلا عَلَيْهِ بعد ذَلِك إِلَّا أَن تميزا وَكَانَا من أجل تلاميذه
وَقَالَ أَبُو الْخطاب مُحَمَّد بن مُحَمَّد أبي طَالب فِي كتاب الشَّامِل فِي الطِّبّ أَن أَبَا الْفرج بن الطّيب أَخذ عَن ابْن الْخمار وَخلف من التلاميذ أَبَا الْحسن بن بطلَان وَابْن بدرج والهروي وَبني حيون وَأَبا الْفضل كتيفات وَابْن أثردي وعبدان وَابْن مصوصا وَابْن العليق
قَالَ وَكَانَ فِي عصر أبي الْفرج من الْأَطِبَّاء صاعد بن عَبدُوس وَابْن تفاح وَحسن الطَّبِيب وبنوسنان والنائلي
وَعنهُ أَخذ ابْن سينا وَأَبُو سعيد الْفضل بن عِيسَى اليمامي
وَذكر لي أَنه من تلامذته ابْن سينا وَعِيسَى بن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن هِلَال الْكَاتِب وَأَظنهُ يكنى بكس وَعلي بن عِيسَى الكحال وَأَبُو الْحُسَيْن الْبَصْرِيّ ورجاء الطَّبِيب من أهل خُرَاسَان وزهرون(1/324)
وَلأبي الْفرج بن الطَّبِيب من الْكتب تَفْسِير كتاب قاطيغورياس لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب باريمينياس لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب أنالوطيقا لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب أنالوطيقا الثَّانِيَة لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب طوبيقا لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب سوفسطيقا لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب الخطابة لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب الشّعْر لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب الْحَيَوَان لأرسطوطاليس
تَفْسِير كتاب أبيديميا لأبقراط
تَفْسِير كتاب الْفُصُول لأبقراط
تَفْسِير كتاب طبيعة الْإِنْسَان لأبقراط
تَفْسِير كتاب الأخلاط لأبقراط
تَفْسِير كتاب الْفرق لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب النبض الصَّغِير لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب أغلوتن لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب الأسطقسات لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب المزاج لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب القوى الطبيعية لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب التشريح الصَّغِير لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب الْعِلَل والأعراض لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب تعرف علل الْأَعْضَاء الْبَاطِنَة لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب النبض الْكَبِير لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب الحميات لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب البحران لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب أَيَّام البحران لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب حَملَة الْبُرْء لِجَالِينُوسَ
تَفْسِير كتاب تدابير الأصحاء لِجَالِينُوسَ
ثمار السِّتَّة عشر كتابا لِجَالِينُوسَ
وَهُوَ اخْتِصَار الْجَوَامِع
شرح ثمار مسَائِل حنين بن إِسْحَق أملاه سنة خمس وَأَرْبَعمِائَة
كتاب النكت وَالثِّمَار الطبية والفلسفية
تَفْسِير كتاب أيساغوجي لفرفوريوس
مقَالَة فِي القوى الطبيعية
مقَالَة فِي الْعلَّة لم جعل لكل خلط دَوَاء يستفرغه وَلم لم يَجْعَل للدم دَوَاء يستفرغه مثل سَائِر الأخلاط
تعاليق فِي الْعين
مقَالَة فِي الأحلام وتفصيل الصَّحِيح مِنْهَا من السقيم على مَذْهَب الفلسفة
مقَالَة فِي عراف أخبر بِمَا ضَاعَ وَذكر الدَّلِيل على صِحَّته بِالشَّرْعِ والطب والفلسفة
مقَالَة أملاها فِي جَوَاب مَا سُئِلَ عَنهُ من أبطال الِاعْتِقَاد فِي الْأَجْزَاء الَّتِي لَا تَنْقَسِم وَهَذَا السُّؤَال سَأَلَهُ إِيَّاه ظافر بن جَابر السكرِي
وَوجدت بِخَط ظافر بن جَابر السكرِي على هَذِه الْمقَالة مَا هَذَا مِثَاله قَالَ هَذِه الكراسة بِخَط سيدنَا الْأُسْتَاذ الْأَجَل أبي نصر مُحَمَّد بن عَليّ بن برزج تلميذ الشَّيْخ أبي الْفرج أملاها الشَّيْخ أَبُو الْفرج أَطَالَ الله بَقَاءَهُ ونكب أعداءه عَلَيْهِ بِبَغْدَاد
وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك ظافر بن جَابر بن مَنْصُور السكرِي الطَّبِيب وَهِي الدستور بِعَينهَا
شرح كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء لِجَالِينُوسَ
مقَالَة مختصرة فِي الْمحبَّة شرح الْإِنْجِيل
ابْن بطلَان
هُوَ أَبُو الْحسن الْمُخْتَار بن الْحسن بن عبدون بن سعدون بن بطلَان
نَصْرَانِيّ من أهل بَغْدَاد وَكَانَ قد اشْتغل على أبي الْفرج عبد الله بن الطّيب وتتلمذ لَهُ وأتقن عَلَيْهِ قِرَاءَة كثير من الْكتب الْحكمِيَّة وَغَيرهَا
ولازم أَيْضا أَبَا الْحسن ثَابت بن إِبْرَاهِيم بن زهرون الْحَرَّانِي الطَّبِيب واشتغل عَلَيْهِ وانتفع بِهِ فِي صناعَة الطِّبّ وَفِي مزاولة أَعمالهَا
وَكَانَ ابْن بطلَان معاصرا لعَلي بن رضوَان الطَّبِيب الْمصْرِيّ وَكَانَت بَين ابْن بطلَان وَابْن رضوَان(1/325)
المراسلات العجيبة والكتب البديعة الغريبة وَلم يكن أحد مِنْهُم يؤلف كتابا وَلَا يبتدع رَأيا إِلَّا وَيرد الآخر عَلَيْهِ ويسفه رَأْيه فِيهِ
وَقد رَأَيْت أَشْيَاء من المراسلات الَّتِي كَانَت فِيمَا بَينهم ووقائع بَعضهم فِي بعض
وسافر ابْن بطلَان من بَغْدَاد إِلَى ديار مصر قصدا مِنْهُ إِلَى مُشَاهدَة عَليّ بن رضوَان والاجتماع بِهِ وَكَانَ سَفَره من بَغْدَاد فِي سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَلما وصل فِي طَرِيقه إِلَى حلب أَقَامَ بهَا مُدَّة وَأحسن إِلَيْهِ معز الدولة ثمال بن صَالح بهَا وأكرمه أكراما كثيرا
وَكَانَ دُخُوله الْفسْطَاط فِي مستهل جُمَادَى الْآخِرَة من سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة وَأقَام بهَا ثَلَاث سِنِين وَذَلِكَ فِي دولة الْمُسْتَنْصر بِاللَّه من الْخُلَفَاء المصريين
وَجَرت بَين ابْن بطلَان وَابْن رضوَان وقائع كَثْرَة فِي ذَلِك الْوَقْت ونوادر ظريفة لَا تَخْلُو من فَائِدَة
وَقد تضمن كثيرا من هَذِه الْأَشْيَاء كتاب أَلفه ابْن بطلَان بعد خُرُوجه من ديار مصر واجتماعه بِابْن رضوَان
وَلابْن رضوَان كتاب فِي الرَّد عَلَيْهِ
وَكَانَ ابْن بطلَان أعذب ألفاظا وَأكْثر ظرفا وأميز فِي الْأَدَب وَمَا يتَعَلَّق بِهِ
وَمِمَّا يدل على ذَلِك مَا ذكره فِي رسَالَته الَّتِي وسمها دَعْوَة الْأَطِبَّاء وَكَانَ ابْن رضوَان أطب وَأعلم بالعلوم الْحكمِيَّة وَمَا يتَعَلَّق بهَا
وَكَانَ ابْن رضوَان أسود اللَّوْن وَلم يكن بالجميل الصُّورَة
وَله مقَالَة فِي ذَلِك يرد فِيهَا على من عيره بقبح الْخلقَة
وَقد بَين فِيهَا بِزَعْمِهِ أَن الطَّبِيب الْفَاضِل لَا يجب أَن يكون وَجهه جميلا
وَكَانَ ابْن بطلَان أَكثر مَا يَقع فِي عَليّ بن رضوَان من هَذَا الْقَبِيل وأشباهه وَلذَلِك يَقُول فِيهِ فِي الرسَالَة الَّتِي وسمها دَعْوَة الْأَطِبَّاء
(فَلَمَّا تبدى للقوابل وَجهه ... نكصن على أعقابهن من النَّدَم)
(وقلن وأخفين الْكَلَام تسترا ... أَلا ليتنا كُنَّا تَرَكْنَاهُ فِي الرَّحِم) الطَّوِيل
وَكَانَ يلقبه بتمساح الْجِنّ وسافر ابْن بطلَان من ديار مصر إِلَى الْقُسْطَنْطِينِيَّة وَأقَام بهَا سنة وَعرضت فِي زَمَنه أوباء كَثِيرَة
ونقلت من خطه فِيمَا ذكره من ذَلِك مَا هَذَا مِثَاله قَالَ وَمن مشاهير الأوباء فِي زَمَاننَا الَّذِي عرض عِنْد طُلُوع الْكَوْكَب الأثاري فِي الجوزاء من سنة سِتّ وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة فَإِن فِي تِلْكَ السّنة دفن فِي كَنِيسَة لوقا بعد أَن امْتَلَأت جَمِيع المدافن الَّتِي فِي الْقُسْطَنْطِينِيَّة أَرْبَعَة عشر ألف نسمَة فِي الخريف
فَلَمَّا توَسط الصَّيف فِي سنة سبع وَأَرْبَعين لم يوف النّيل فَمَاتَ فِي الْفسْطَاط وَالشَّام أَكثر أَهلهَا وَجَمِيع الغرباء إِلَّا من شَاءَ الله
وانتقل الوباء إِلَى الْعرَاق فَأتى على أَكثر أَهله وَاسْتولى عَلَيْهِ(1/326)
الخراب بطروق العساكر المتعادية واتصل ذَلِك بهَا إِلَى سنة أَربع وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَعرض للنَّاس فِي أَكثر الْبِلَاد قُرُوح سوداوية وأورام الطحال وَتغَير تَرْتِيب نَوَائِب الحميات واضطرب نظام البحارين فَاخْتلف علم الْقَضَاء فِي تقدمة الْمعرفَة
وَقَالَ أَيْضا بعد ذَلِك وَلِأَن هَذَا الْكَوْكَب الأثاري طلع فِي برج الجوزاء وَهُوَ طالع مصر أوقع الوباء فِي الْفسْطَاط بِنُقْصَان النّيل فِي وَقت ظُهُوره فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
وَصَحَّ إنذار بطليموس الْقَائِل الويل لأهل مصر إِذا طلع أحد ذَوَات الذوائب وأنجهم فِي الجوزاء
وَلما نزل زحل برج السرطان تَكَامل خراب الْعرَاق والموصل والجزيرة واختلت ديار بكر وَرَبِيعَة وَمُضر وَفَارِس وكرمان وبلاد الْمغرب واليمن والفسطاط وَالشَّام واضطربت أَحْوَال مُلُوك الأَرْض وَكَثُرت الحروب والغلاء والوباء وَصَحَّ حكم بطليموس فِي قَوْله إِن زحل والمريخ مَتى اقترنا فِي السرطان زلزل الْعَالم
ونقلت أَيْضا من خطّ بن بطلَان فِيمَا ذكره من الأوباء الْعَظِيمَة الْعَارِضَة للغلم بفقد الْعلمَاء فِي زَمَانه قَالَ مَا عرض فِي مُدَّة بضع عشرَة سنة بوفاة الْأَجَل المرتضى وَالشَّيْخ أبي الْحسن الْبَصْرِيّ والفقيه أبي الْحسن الْقَدُورِيّ وأقضى الْقُضَاة الْمَاوَرْدِيّ وَابْن الطّيب الطَّبَرِيّ على جَمَاعَتهمْ رضوَان الله وَمن أَصْحَاب عُلُوم القدماء أَبُو عَليّ بن الْهَيْثَم وَأَبُو سعيد اليمامي وَأَبُو عَليّ بن السَّمْح وصاعد الطَّبِيب وَأَبُو الْفرج عبد الله بن الطّيب وَمن مُتَقَدِّمي عُلُوم الْأَدَب وَالْكِتَابَة عَليّ ابْن عِيسَى الربعِي وَأَبُو الْفَتْح النَّيْسَابُورِي ومهيار الشَّاعِر وَأَبُو الْعَلَاء بن نزيك وَأَبُو عَليّ ابْن موصلايا والرئيس أَبُو الْحسن الصَّابِئ وَأَبُو الْعَلَاء المعري
فانطفأت سرج الْعلم وَبقيت(1/327)
الْعُقُول بعدهمْ فِي الظلمَة
أَقُول ولأبن بطلَان أشعار كَثِيرَة ونواد ظريفة وَقد ضمن مِنْهَا أَشْيَاء فِي رسَالَته الَّتِي وسمها دَعْوَة الْأَطِبَّاء وَفِي غَيرهَا من كتبه
وَتُوفِّي ابْن بطلَان وَلم يتَّخذ امْرَأَة وَلَا خلف ولدا
وَلذَلِك يَقُول من أَبْيَات
(وَلَا أحد إِن مت يبكي لميتتي ... سوى مجلسي فِي الطِّبّ والكتب باكيا) الطَّوِيل
وَلابْن بطلَان من الْكتب كناش الأديرة والرهبان كتاب شِرَاء العبيد وتقليب المماليك والجواري كتاب تَقْوِيم الصِّحَّة
مقَالَة فِي شرب الدَّوَاء المسهل مقَالَة فِي كَيْفيَّة دُخُول الْغذَاء فِي الْبدن وهضمه وَخُرُوج فضلاته وَسقي الْأَدْوِيَة المسهلة وتركيبها
مقَالَة إِلَى عَليّ بن رضوَان عِنْد وُرُوده الْفسْطَاط فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة جَوَابا عَمَّا كتبه إِلَيْهِ
مقَالَة فِي عِلّة نقل الْأَطِبَّاء المهرة تَدْبِير أَكثر الْأَمْرَاض الَّتِي كَانَت تعالج قَدِيما بالأدوية الحارة إِلَى التَّدْبِير الْمبرد كالفالج واللقوة والاسترخاء وَغَيرهَا ومخالفتهم فِي ذَلِك لمسطور القدماء فِي الكنانيش والأقراباذينات وتدرجهم فِي ذَلِك بالعراق وَمَا والاها على اسْتِقْبَال سنة سبع وَسبعين وثلثمائة وَإِلَى سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وصنف ابْن بطلَان هَذِه الْمقَالة بأنطاكية فِي سنة خمس وَخمسين وَأَرْبَعمِائَة
وَكَانَ فِي ذَلِك الْوَقْت قد أهل لبِنَاء بيمارستان أنطاكية
مقَالَة فِي الِاعْتِرَاض على من قَالَ إِن الفرخ أحر من الْفروج بطرِيق منطقية ألفها بِالْقَاهِرَةِ فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَأَرْبَعمِائَة
كتاب الْمدْخل إِلَى الطِّبّ
كتاب دَعْوَة الْأَطِبَّاء ألفها للأمير نصير الدولة أبي نصر أَحْمد بن مَرْوَان ونقلت من خطّ ابْن بطلَان وَهُوَ يَقُول فِي آخرهَا فرغت من نسخهَا أَنا مصنفها بوانيس الطَّبِيب الْمَعْرُوف بالمختار بن الْحسن بن عبدون بدير الْملك المتيح قسطنطين بِظَاهِر الْقُسْطَنْطِينِيَّة فِي آخر أيلول من سنة خمس وَسِتِّينَ وثلثمائة وَألف
هَذَا قَوْله
وَيكون ذَلِك بالتاريخ الإسلامي من سنة خمسين وَأَرْبَعمِائَة
كتاب دَعْوَة الْأَطِبَّاء
كتاب دَعْوَة القسوس
مقَالَة فِي مداواة صبي عرضت لَهُ حَصَاة
الْفضل بن جرير التكريتي
كَانَ كثير الِاطِّلَاع فِي الْعُلُوم فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ حسن العلاج
وخدم بصناعة الطِّبّ للأمير نصير الدولة بن مَرْوَان
وللفضل بن جرير التكريتي من الْكتب مقَالَة فِي أَسمَاء الْأَمْرَاض واشتقاقاتها كتبهَا إِلَى بعض إخوانه وَهُوَ يوحنا بن عبد الْمَسِيح
أَبُو نصر يحيى بن جرير التكريتي
كَانَ كأخيه فِي الْعلم وَالْفضل وَالتَّمَيُّز فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ مَوْجُودا فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة(1/328)
وليحيى بن جرير التكريتي من الْكتب كتاب الاختبارات فِي علم النُّجُوم كتاب فِي الباه وَمَنَافع الْجِمَاع ومضاره
رِسَالَة كتبهَا لكافي الكفاة أبي نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن جهير فِي مَنَافِع الرياضة وجهة اسْتِعْمَالهَا
ابْن دِينَار
كَانَ بميافارقين فِي أَيَّام الْأَمِير نصير الدولة بن مَرْوَان وَكَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ جيد المداواة خَبِيرا بتأليف الْأَدْوِيَة
وَوجدت لَهُ أقراباذينا بديع التَّأْلِيف بليغ التصنيف حسن الاختبار مرضِي الْأَخْبَار
وَابْن دِينَار هَذَا هُوَ الَّذِي ألف الشَّرَاب الْمَنْسُوب إِلَيْهِ الْمَعْرُوف بشراب الديناري المتداول اسْتِعْمَاله الْمَشْهُور بَين الْأَطِبَّاء وَغَيرهم
وَذَلِكَ مَذْكُور فِي كِتَابه هَذَا يَقُول أَنه الَّذِي أَلفه وَلابْن دِينَار من الْكتب كتاب الأقراباذين
إِبْرَاهِيم بن بكس
كَانَ ماهرا فِي علم الطِّبّ وَنقل كتبا كَثِيرَة إِلَى الْعَرَبِيّ ثمَّ كف بَصَره وَكَانَ مَعَ ذَلِك يحاول صناعَة الطِّبّ ويزاولها بِحَسب مَا هُوَ عَلَيْهِ وَكَانَ يدرس صناعَة الطِّبّ فِي البيمارستان العضدي لما بناه عضد الدولة وَكَانَ لَهُ مِنْهُ مَا يقوم بكفايته
ولإبراهيم بن بكس من الْكتب كناشه كتاب الأقرباذين الملحق بالكناش مقَالَة بِأَن المَاء القراح أبرد من مَاء الشّعير مقَالَة فِي الجدري
عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن بكس
كَانَ طَبِيبا فَاضلا عَالما بصناعة الطِّبّ مَشْهُورا بهَا جيد الْمعرفَة بِالنَّقْلِ وَقد نقل كتبا كَثِيرَة إِلَى الْعَرَبِيّ
قسطا بن لوقا البعلبكي
قَالَ سُلَيْمَان بن حسان أَنه مسيحي النحلة طَبِيب حاذق نبيل فيلسوف منجم عَالم بالهندسة والحساب قَالَ
وَكَانَ فِي أَيَّام المقتدر بِاللَّه
وَقَالَ ابْن النديم الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب أَن قسطا كَانَ بارعا فِي عُلُوم كَثِيرَة مِنْهَا الطِّبّ والفلسفة والهندسة والأعداد والموسيقى لَا مطْعن عَلَيْهِ فصيحا فِي اللُّغَة اليونانية جيد الْعبارَة بِالْعَرَبِيَّةِ وَتُوفِّي بأرمينية عِنْد بعض مُلُوكهَا
وَمن ثمَّ أجَاب أَبَا عِيسَى ابْن المنجم عَن رسَالَته فِي نبوة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَثمّ عمل كتاب الفردوس فِي التَّارِيخ
أَقُول وَنقل قسطا كتبا كَثِيرَة من كتب اليونانيين إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة وَكَانَ جيد النَّقْل فصيحا بِاللِّسَانِ اليوناني والسرياني والعربي وَأصْلح نقولا كَثِيرَة وَأَصله يوناني
وَله رسائل وَكتب كَثِيرَة فِي صناعَة الطِّبّ وَغَيرهَا وَكَانَ حسن الْعبارَة جيد القريحة(1/329)
وَقَالَ عبيد الله بن جِبْرَائِيل أَن قسطا اجتذبه سنحاريب إِلَى أرمينية وَأقَام بهَا وَكَانَ بأرمينية أَبُو الغطريف البطريق من أهل الْعلم وَالْفضل فَعمل لَهُ قسطا كتبا كَثِيرَة جليلة نافعة شريفة الْمعَانِي مختصرة الْأَلْفَاظ فِي أَصْنَاف من الْعُلُوم وَمَات هُنَاكَ فَدفن وَبني عَلَيْهِ قبَّة وَأكْرم قَبره كإكرام قُبُور الْمُلُوك ورؤساء الشَّرَائِع
ولقسطا بن لوقا من الْكتب كتاب فِي أوجاع النقرس كتاب فِي الروائح وعللها
رِسَالَة إِلَى أبي مُحَمَّد الْحسن بن مخلد فِي أَحْوَال الباه وأسبابه على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب كتاب فِي الْأَعْدَاء أَلفه للبطريق فَتى أَمِير الْمُؤمنِينَ
كتاب جَامع فِي الدُّخُول إِلَى علم الطِّبّ إِلَى أبي إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْمُدبر
كتاب فِي النَّبِيذ وشربه فِي الولائم كتاب فِي الأسطقسات
كتاب فِي السهر أَلفه لأبي الغطريف البطريق مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ كتاب فِي الْعَطش أَلفه لأبي الغطريف مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ
كتاب فِي الْقُوَّة والضعف كتاب فِي الأغذية على طَرِيق القوانين الْكُلية أَلفه لبطريق البطارقة أبي غَانِم الْعَبَّاس بن سنباط كتاب فِي النبض وَمَعْرِفَة الحميات وضروب البحرانات كتاب فِي عِلّة الْمَوْت فَجْأَة أَلفه لأبي الْحسن مُحَمَّد بن أَحْمد كَاتب بطرِيق البطارقة كتاب فِي معرفَة الخدر وأنواعه وَعلله وأسبابه وعلاجه أَلفه لقَاضِي الْقُضَاة أبي مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد
كتاب فِي أَيَّام البحران فِي الْأَمْرَاض الحادة كتاب فِي الأخلاط الْأَرْبَعَة وَمَا تشترك فِيهِ
مُخْتَصر كتاب فِي الكبد وخلقتها وَمَا يعرض فِيهَا من الْأَمْرَاض رِسَالَة فِي المروحة وَأَسْبَاب الرّيح
كتاب فِي مَرَاتِب قِرَاءَة الْكتب الطبية كتبه إِلَى أبي الغطريف البطريق كتاب فِي تَدْبِير الْأَبدَان فِي سفر الْحَج أَلفه لأبي مُحَمَّد الْحسن بن مخلد كتاب فِي د فع ضَرَر السمُوم
كتاب فِي الْمدْخل إِلَى علم الهندسة على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب أَلفه لأبي الْحسن عَليّ بن يحيى مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ
كتاب آدَاب الفلاسفة كتاب فِي الْفرق بَين الْحَيَوَان النَّاطِق وَغير النَّاطِق كتاب فِي تولد الشّعْر كتاب فِي الْفرق بَين النَّفس وَالروح كتاب فِي الْحَيَوَان النَّاطِق كتاب فِي الْجُزْء الَّذِي لَا يتَجَزَّأ
كتاب فِي حَرَكَة الشريان كتاب فِي النّوم والرؤيا كتاب فِي الْعُضْو الرئيس من الْبدن كتاب فِي البلغم كتاب فِي الدَّم كتاب فِي الْمرة الصَّفْرَاء
كتاب فِي الْمرة السَّوْدَاء كتاب فِي شكل الكرة والاسطوانة كتاب فِي الْهَيْئَة وتركيب الأفلاك كتاب فِي حِسَاب التلاقي على جِهَة الْجَبْر والمقابلة كتاب فِي تَرْجَمَة ديوفنطس فِي الْجَبْر والمقابلة كتاب فِي الْعَمَل بالكرة الْكَبِيرَة النجومية كتاب فِي الْآلَة الَّتِي ترسم عَلَيْهَا الْجَوَامِع وتعمل مِنْهَا النتائج كتاب فِي الْمُتْعَة كتاب فِي المرايا المحرقة كتاب فِي الأوزان والمكاييل كتاب السياسة ثَلَاث مقالات كتاب الْعلَّة فِي أسوداد الخيش وتغيره من الرش كتاب فِي القرسطون كتاب فِي الِاسْتِدْلَال بِالنّظرِ إِلَى أَصْنَاف الْبَوْل كتاب الْمدْخل إِلَى الْمنطق كتاب مَذْهَب اليونانيين
رِسَالَة فِي الخضاب كتاب فِي شكوك كتاب أقليدس كتاب الفصد وَهُوَ أحد وَتسْعُونَ بَابا أَلفه لأبي إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْمُدبر
كتاب الْمدْخل إِلَى علم النُّجُوم كتاب الْحمام كتاب الفردوس فِي التَّارِيخ
رِسَالَة فِي اسْتِخْرَاج مسَائِل عدديات من الْمقَالة الثَّالِثَة من أقليدس
تَفْسِير ثَلَاث مقالات وَنصف من كتاب برفنطس فِي الْمسَائِل العددية كتاب(1/330)
فِي عبارَة كتب الْمنطق وَهُوَ الْمدْخل إِلَى كتاب أيساغوجي كتاب أيساغوجي كتاب فِي البخار رِسَالَة إِلَى أبي عَليّ بن بنان بن الْحَرْث
مولى أَمِير الْمُؤمنِينَ فِيمَا سَأَلَ عَنهُ من علل اخْتِلَاف النَّاس فِي أَخْلَاقهم وسيرهم وشهواتهم واختياراتهم مسَائِل فِي الْحُدُود على رَأْي الفلاسفة
مسكويه
هُوَ أَبُو فَاضل فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة متميز فِيهَا خَبِير بصناعة الطِّبّ جيد فِي أُصُولهَا وفروعها
ولمسكويه من الْكتب كتاب الْأَشْرِبَة كتاب الطبيخ كتاب تَهْذِيب الْأَخْلَاق
أَحْمد بن أبي الْأَشْعَث
هُوَ أَبُو جَعْفَر أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي الْأَشْعَث كَانَ وافر الْعقل سديد الرَّأْي محبا للخير كثير السكينَة وَالْوَقار متفقها فِي الدّين
وَعمر عمرا طَويلا وَله تلاميذ كَثِيرَة
وَكَانَ فَاضلا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة متميزا فِيهَا وَله تصانيف كَثِيرَة فِي ذَلِك تدل على مَا كَانَ عَلَيْهِ من الْعلم وعلو الْمنزلَة
وَله كتاب فِي الْعلم الإلهي فِي نِهَايَة الْجَوْدَة وَقد رَأَيْته بِخَطِّهِ
رَحمَه الله تَعَالَى
وَكَانَ عَالما بكتب جالينوس خَبِيرا بهَا متطلعا على أسرارها وَقد شرح كثيرا من كتب جالينوس
وَهُوَ الَّذِي فصل كل وَاحِد من الْكتب السِّتَّة عشر الَّتِي لِجَالِينُوسَ إِلَى جمل وأبواب وفصول وَقسمهَا تقسيما لم يسْبقهُ إِلَى ذَلِك أحد غَيره
وَفِي ذَلِك مَعُونَة كَثِيرَة لمن يشْتَغل بكتب الْفَاضِل جالينوس فَإِنَّهُ يسهل عَلَيْهِ كل مَا يلتمسه مِنْهَا وَتبقى لَهُ أَعْلَام تدله على مَا يُرِيد مطالعته من ذَلِك ويتعرف بِهِ كل قسم من أَقسَام الْكتاب وَمَا يشْتَمل عَلَيْهِ وَفِي أَي غَرَض هُوَ
وَفصل أَيْضا كَذَلِك كثيرا من كتب أرسطوطاليس وَغَيره وَجُمْلَة مصنفات أَحْمد بن أبي الْأَشْعَث فِي صناعَة الطِّبّ وَغَيرهَا
كل مِنْهَا تَامّ فِي مَعْنَاهُ لَا يُوجد لَهُ نَظِير فِي الْجَوْدَة
ونقلت من كتاب عبيد الله بن جِبْرَائِيل بن بختيشوع قَالَ ذكر لي من خبر أَحْمد بن أبي الْأَشْعَث رَحمَه الله أَنه لم يكن مُنْذُ ابْتَدَأَ عمره يتظاهر بالطب بل كَانَ متصرفا وصودر وَكَانَ أَصله من فَارس فَخرج من بَلَده هَارِبا وَدخل الْموصل بِحَالَة سَيِّئَة من العري والجوع
وَاتفقَ أَنه كَانَ لناصر الدولة ولد عليل فِي حَالَة من قيام الدَّم والأغراس وَكَانَ كلما عالجته الْأَطِبَّاء ازْدَادَ مَرضه فتوصل إِلَى أَن دخل عَلَيْهِ وَقَالَ لأمه أَنا أعَالجهُ
وَبَدَأَ يريها غلط الْأَطِبَّاء فِي التَّدْبِير فسكنت إِلَيْهِ وعالجه فبرأ وَأعْطِي وَأحسن إِلَيْهِ
وَأقَام بالموصل إِلَى آخر عمره وَاتخذ لَهُ تلاميذ عدَّة إِلَّا أَن الْخَاص بِهِ والمتقدم عِنْده كَانَ أَبُو الْفَلاح
وبرع فِي صناعَة الطِّبّ
أَقُول وَكَانَت وَفَاة أَحْمد بن أبي الْأَشْعَث رَحمَه الله فِي سنة ثلثمِائة ونيف وَسِتِّينَ لِلْهِجْرَةِ(1/331)
وَكَانَ لَهُ عدَّة أَوْلَاد وَالَّذِي وجدته مَشْهُورا مِنْهُم فِي صناعَة الطِّبّ مُحَمَّد
وَلأَحْمَد بن أبي الْأَشْعَث من الْكتب كتاب الْأَدْوِيَة المفردة ثَلَاث مقالات وَكَانَ السَّبَب الْبَاعِث لَهُ على تصنيفه قوم من تلامذته سَأَلُوهُ ذَلِك وَهَذَا نَص كَلَامه فِي صدر الْكتاب قَالَ سَأَلَني أَحْمد بن مُحَمَّد الْبَلَدِي أَن أكتب هَذَا الْكتاب
وقديما كَانَ سَأَلَني مُحَمَّد بن ثَوَاب فتكلمت فِي هَذَا الْكتاب بِحَسب طبقتهما وكتبته إِلَيْهِمَا وبدأت بِهِ فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث وَخمسين وثلثمائة وهما فِي طبقَة من تجَاوز تعلم الطِّبّ ودخلا فِي جملَة من يتفقه فِيمَا علم من هَذِه الصِّنَاعَة ويفرع ويقيس ويستخرج وَإِلَى من فِي طبقتهما من تلامذتي وَمن إئتم بكتبي
فَإِن من أَرَادَ قِرَاءَة كتابي هَذَا وَكَانَ قد تجَاوز حد التَّعْلِيم إِلَى حد التفقه فَهُوَ الَّذِي ينْتَفع بِهِ ويحظى بِعِلْمِهِ وَيقدر أَن يسْتَخْرج مِنْهُ مَا هُوَ فِيهِ بِالْقُوَّةِ مِمَّا لم أذكرهُ وَأَن يفرع على مَا ذكرته ويشيد
وَهَذَا قولي لجمهور النَّاس دون ذَوي القرائح الْأَفْرَاد الَّتِي يُمكنهَا تفهم هَذَا وَمَا فَوْقه بِقُوَّة النَّفس الناطقة فيهم
فَإِن هَؤُلَاءِ تسهل عَلَيْهِم الْمَشَقَّة فِي الْعلم وَيقرب لديهم مَا يطول على غَيرهم
كتاب الْحَيَوَان
كتاب فِي الْعلم الإلهي مقالتان فرغ من تأليفه فِي ذِي الْقعدَة سنة خمس وَخمسين وثلثمائة
كتاب فِي الجدري والحصبة والحميقاء مقالتان
كتاب فِي السرسام والبرسام ومداواتهما ثَلَاث مقالات صنفه لتلميذه مُحَمَّد بن ثَوَاب الْموصِلِي أملاه عَلَيْهِ إملاء من لَفظه وَكتبه عَنهُ بِخَطِّهِ وَذكر تَارِيخ الْإِمْلَاء وَالْكِتَابَة فِي رَجَب سنة خمس وَخمسين وثلثمائة
كتاب فِي القولنج وأصنافه ومداواته والأدوية النافعة مِنْهُ مقالتان
كتاب فِي البرص والبهق ومداواتهما مقالتان
كتاب فِي الصرع وَكتاب آخر فِي الصرع
كتاب فِي الاسْتِسْقَاء
كتاب فِي ظُهُور الدَّم مقالتان
كتاب الماليخوليا
كتاب تركيب الْأَدْوِيَة
مقَالَة فِي النّوم واليقظة
كتبهَا إِلَى أَحْمد بن الْحُسَيْن ابْن زيد بن فضَالة الْبَلَدِي بِحَسب سُؤَاله على لِسَان عزور بن الطّيب الْيَهُودِيّ الْبَلَدِي
كتاب الغاذي والمغتذي مقالتان فرغ من تأليفه بقلعة برقى من أرمينية فِي صفر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وثلثمائة
كتاب أمراض الْمعدة ومداواتها
شرح كتاب الْفرق لِجَالِينُوسَ مقالتان فرغ مِنْهُ فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وثلثمائة شرح كتاب الحميات لِجَالِينُوسَ
مُحَمَّد بن ثَوَاب الْموصِلِي
هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن ثَوَاب بن مُحَمَّد وَيعرف بِابْن الثلاج من أهل الْموصل فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ خَبِير بِالْعلمِ وَالْعَمَل
وَشَيْخه فِي صناعَة الطِّبّ أَحْمد بن أبي الْأَشْعَث لَازمه واشتغل عَلَيْهِ وتميز
وَكتب بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة
أَحْمد بن مُحَمَّد الْبَلَدِي
هُوَ الشَّيْخ أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن يحيى من مَدِينَة بلد
وَكَانَ خَبِيرا بصناعة الطِّبّ حسن(1/332)
العلاج والمداواة وَكَانَ من أجل تلامذة أَحْمد بن أبي الْأَشْعَث
لَازمه مُدَّة سِنِين واشتغل عَلَيْهِ وتميز
وَلأَحْمَد بن مُحَمَّد الْبَلَدِي من الْكتب كتاب تَدْبِير الحبالى والأطفال وَالصبيان وَحفظ صحتهم ومداواة الْأَمْرَاض الْعَارِضَة لَهُم صنفه للوزير أبي الْفرج يَعْقُوب بن يُوسُف الْمَعْرُوف بِابْن كلس وَزِير الْعَزِيز بِاللَّه فِي الديار المصرية
ابْن قوسين
كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا فِي زَمَانه وَله دراية بصناعة الطِّبّ ومقامه بالموصل
وَكَانَ يَهُودِيّا واسلم وَعمل مقَالَة فِي الرَّد على الْيَهُود
وَلابْن قوسين من الْكتب مقَالَة فِي الرَّد على الْيَهُود
عَليّ بن عِيسَى وَقيل عِيسَى بن عَليّ الكحال
كَانَ مَشْهُورا بالحذق فِي صناعَة الْكحل متميزا فِيهَا وبكلامه يقْتَدى فِي أمراض الْعين ومداواتها
وَكتابه الْمَشْهُور بتذكرة الكحالين هُوَ الَّذِي لَا بُد لكل من يعاني صناعَة الْكحل أَن يحفظه وَقد اقْتصر النَّاس عَلَيْهِ دون غَيره من سَائِر الْكتب الَّتِي قد ألفت فِي هَذَا الْفَنّ وَصَارَ ذَلِك مستمرا عِنْدهم وَكَلَام عَليّ بن عِيسَى فِي أَعمال صناعَة الْكحل أَجود من كَلَامه فِيمَا يتَعَلَّق بالأمور العلمية وَكَانَت وَفَاته سنة وَأَرْبَعمِائَة
ولعلي بن عِيسَى من الْكتب كتاب تذكرة الكحالين ثَلَاث مقالات
ابْن الشبل الْبَغْدَادِيّ
هُوَ أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن عبد الله بن يُوسُف بن شبْل مولده ومنشؤه بِبَغْدَاد وَكَانَ حكيما فيلسوفا ومتكلما فَاضلا وأديبا بارعا وشاعرا مجيدا وَكَانَت وَفَاته بِبَغْدَاد سنة أَربع وَسبعين وَأَرْبَعمِائَة
وَمن شعر قَالَه فِي الْحِكْمَة وَهَذِه القصيدة من جيد شعره وَهِي تدل على قُوَّة اطلَاع فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة والأسرار الإلهية وَبَعض النَّاس ينسبها إِلَى ابْن سينا وَلَيْسَت لَهُ وَهِي هَذِه
(بِرَبِّك أَيهَا الْفلك الْمدَار ... اقصد ذَا المير أم اضطرار)
(مدارك قل لنا فِي أَي شَيْء ... فَفِي أفهامنا مِنْك ابتهار)
(وفيك نرى الفضاء وَهل فضاء ... سوى هَذَا الفضاء بِهِ تدار)
(وعندك ترفع الْأَرْوَاح أم هَل ... مَعَ الأجساد يُدْرِكهَا الْبَوَار)
(وموج ذَا المجرة أم فرند ... على لجج الدروع لَهُ أوار)
(وفيك الشَّمْس رَافِعَة شعاعا ... بأجنحة قوادمها قصار)(1/333)
(وطوق فِي النُّجُوم من اللَّيَالِي ... هلالك أم يَد فِيهَا سوار)
(وشهب ذَا الخواطف أم ذبال ... عَلَيْهَا المرخ يقْدَح والعفار)
(وترصيع نجومك أم حباب ... تؤلف بَينه اللجج الغزار)
(تمد رقومها لَيْلًا وتطوي ... نَهَارا مثل مَا طوى الأزار)
(فكم بصقالها صدي البرايا ... وَمَا يصدى لَهَا أبدا غرار)
(تباري ثمَّ تخنس راجعات ... وتكنس مثل ماكنس الصوار)
(فَبينا الشرق يقدمهَا صعُودًا ... تلقاها من الغرب انحدار)
(على ذَا مَا مضى وَعَلِيهِ يمْضِي ... طوال منى وآجال قصار)
(وَأَيَّام تعرفنا مداها ... لَهَا أنفاسنا أبدا شفار)
(ودهر ينثر الْأَعْمَار نثرا ... كَمَا للغصن بالورد انتثار)
(وَدُنْيا كلما وضعت جَنِينا ... غذاه من نوائبها ظؤار)
(هِيَ العشواء مَا خبطت هشيم ... هِيَ العجماء مَا جرحت جَبَّار)
(فَمن يَوْم بِلَا أمس ليَوْم ... بِغَيْر غَد إِلَيْهِ بِنَا يسَار)
(وَمن نفسين فِي أَخذ ورد ... لروع الْمَرْء فِي الْجِسْم انتشار)
(وَكم من بعد مَا ألفت نفوس ... حسوما عَن مجاثمها تطار)
(ألم تَكُ بالجوارح آنسات ... فكم بِالْقربِ عَاد لَهَا نفار)
(فَإِن يَك آدم أَشْقَى بنيه ... بذنب مَاله مِنْهُ اعتذار)
(وَلم يَنْفَعهُ بالأسماء علم ... وَمَا نفع السُّجُود وَلَا الْجوَار)
(فَاخْرُج ثمَّ أهبط ثمَّ أودي ... فترب السافيات لَهُ شعار)
(فأدركه بِعلم الله فِيهِ ... من الْكَلِمَات للذنب اغتفار)
(وَلَكِن بعد غفران وعفو ... يعير مَا تَلا لَيْلًا نَهَار)
(لقد بلغ الْعَدو بِنَا مناه ... وَحل بِآدَم وبنا الصغار)
(وتهنا ضَائِعين كقوم مُوسَى ... وَلَا عجل أضلّ وَلَا خوار)(1/334)
(فيا لَك أَكلَة مَا زَالَ مِنْهَا ... علينا نقمة وَعَلِيهِ عَار)
(تعاقب فِي الظُّهُور وَمَا ولدنَا ... ويذبح فِي حَشا ألام الحوار)
(وننتظر الرزايا والبلايا ... وَبعد فبالوعيد لنا انْتِظَار)
(وَنخرج كارهين كَمَا دَخَلنَا ... خُرُوج الضَّب أحوجه الوجار)
(فَمَاذَا الامتنان على وجود ... لغير الموجدين بِهِ الْخِيَار)
(وَكَانَت أنعما لَو أَن كونا ... نخير قبله أَو نستشار)
(أَهَذا الدَّاء لَيْسَ لَهُ دَوَاء ... وَهَذَا الْكسر لَيْسَ لَهُ انجبار)
(تحير فِيهِ كل دَقِيق فهم ... وَلَيْسَ لعمق جرحهم انسبار)
(إِذا التكوير غال الشَّمْس عَنَّا ... وغال كواكب اللَّيْل انتثار)
(وبدلنا بهذي الأَرْض أَرضًا ... وطوح بالسموات انفطار)
(وأذهلت المراضع عَن بنيها ... لحيرتها وعطلت العشار)
(وغشى الْبَدْر من فرق وذعر خُسُوف للتوعد لَا سرار)
(وسيرت الْجبَال فَكُن كثبا ... مهيلات وسجرت الْبحار)
(فَأَيْنَ ثبات ذِي الْأَلْبَاب منا ... وَأَيْنَ مَعَ الرجوم لنا اصطبار)
(وَأَيْنَ عقول ذِي الأفهام مِمَّا ... يُرَاد بِنَا وَأَيْنَ الِاعْتِبَار)
(وَأَيْنَ يغيب لب كَانَ فِينَا ... ضياؤك من سناه مستعار)
(وَمَا أَرض عصته وَلَا سَمَاء ... فَفِيمَ يغول أنجمها انكدار)
(وَقد وافته طَائِعَة وَكَانَت ... دخانا مَا لقاتره شرار)
(قَضَاهَا سَبْعَة وَالْأَرْض مهدا ... دحاها فَهِيَ للأموات دَار)
(فَمَا لسمو مَا أعلا انْتِهَاء ... وَلَا لسمو مَا أرسى قَرَار)
(وَلَكِن كل ذَا التهويل فِيهِ ... لذِي الْأَلْبَاب وعظ وازدجار) الوافر
وَقَالَ يرثي أَخَاهُ أَحْمد
(غَايَة الْحزن وَالسُّرُور انْقِضَاء ... مَا لحى من بعد ميت بَقَاء)(1/335)
(لَا لبيد باربد مَاتَ حزنا ... وسلت عَن شقيقها الخنساء)
(مثل مَا فِي التُّرَاب يبْلى الْفَتى ... فالحزن يبْلى من بعده والبكاء)
(غير أَن الْأَمْوَات زَالُوا وأبقوا ... غصصا لَا يسيغه الْأَحْيَاء)
(إِنَّمَا نَحن بَين ظفر وناب ... من خطوب أسودهن ضراء)
(نتمنى وَفِي المنى قصر الْعُمر ... فنغذو بِمَا نسر نسَاء)
(صِحَة الْمَرْء للسقام طَرِيق ... وَطَرِيق الفناء هَذَا الْبَقَاء)
(بِالَّذِي نغتذي نموت ونحيا ... أقتل الدَّاء للنفوس الدَّوَاء)
(مَا لَقينَا من غدر دنيا فَلَا كَانَت ... وَلَا كَانَ أَخذهَا وَالعطَاء)
(رَاجع جودها عَلَيْهَا فمهما ... يهب الصُّبْح يسْتَردّ الْمسَاء)
(لَيْت شعري حلما تمر بِنَا الْأَيَّام ... أم لَيْسَ تعقل الْأَشْيَاء)
(من فَسَاد يجنيه للْعَالم الْكَوْن ... فَمَا للنفوس مِنْهُ اتقاء)
(قبح الله لَذَّة لأذانا ... نالها الْأُمَّهَات والآباء)
(نَحن لَوْلَا الْوُجُود لم نألم الْفَقْد ... فإيجادنا علينا بلَاء)
(وقليلا مَا تصْحَب المهجة الْجِسْم ... فَفِيمَ الأسى وفيم العناء)
(وَلَقَد أيد الْإِلَه عقولا ... حجَّة الْعود عِنْدهَا الأبداء)
(غير دَعْوَى قوم على الْمَيِّت شَيْئا ... أنكرته الْجُلُود والأعضاء)
(وَإِذا كَانَ فِي العيان خلاف ... كَيفَ بِالْغَيْبِ يستبين الخفاء)
(مَا دهانا من يَوْم أَحْمد إِلَّا ... ظلمات وَلَا استبان ضِيَاء)
(يَا أخي عَاد بعْدك المَاء سما ... وسموما ذَاك النسيم الرخَاء)
(والدموع الغزار عَادَتْ من الأنفاس ... نَارا تثيرها الصعداء)
(وَأعد الْحَيَاة عذرا وَإِن كَانَت ... حَيَاة يرضى بهَا الْأَعْدَاء)
(أَيْن تِلْكَ الْخلال والخرم أَيْن الْعَزْم ... أَيْن السناء أَيْن الْبَهَاء)
(كَيفَ أودى النَّعيم من ذَلِك الظل ... وشيكا وَزَالَ ذَاك الْغناء)
(أَيْن مَا كنت تنتضي من لِسَان ... فِي مقَام للمواضي انتضاء)
(كَيفَ أَرْجُو شِفَاء مَا بِي وَمَا بِي ... دون سكناي فِي ثراك شِفَاء)
(أَيْن ذَاك الرواء والمنطق المونق ... أَيْن الْحيَاء أَيْن الأباء)
(أَن محا حسنك التُّرَاب فَمَا للدمع ... يَوْمًا من صحن خدي انمحاء)
(أَو تبن لم يبن قديم وداد ... أَو تمت لم يمت عَلَيْك الثَّنَاء)(1/336)
(شطر نَفسِي دفنت والشطر بَاقٍ ... يتَمَنَّى وَمن مناه الفناء)
(إِن تكن قَدمته أبدي المنايا ... فَإلَى السَّابِقين تمْضِي البطاء)
(يدْرك الْمَوْت كل حَيّ وَلَو ... أخفته عَنهُ فِي برجها الجوزاء)
(لَيْت شعري وللبلى كل ذِي ... الْخلق بِمَاذَا تميز الْأَنْبِيَاء)
(موت ذَا الْعَالم الْمفضل بالنطق ... وَذَا السارح البهيم سَوَاء)
(لَا غوي لفقده تَبَسم الأَرْض ... وَلَا للتقي تبْكي السَّمَاء)
(كم مصابيح أوجه أطفأتها ... تَحت أطباق رمسها الْبَيْدَاء)
(كم بدور وَكم شموس وَكم أطواد حلم ... أَمْسَى عَلَيْهَا العفاء)
(كم محا غرَّة الْكَوَاكِب صبح ... ثمَّ حطت ضياءها الظلماء)
(إِنَّمَا النَّاس قادم أثر مَاض ... بَدْء قوم للآخرين انْتِهَاء) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(وكأنما الْإِنْسَان فِيهِ غَيره ... متكونا وَالْحسن فِيهِ معار)
(متصرفا وَله الْقَضَاء مصرف ... ومكلفا وَكَأَنَّهُ مُخْتَار)
(طورا تصوبه الحظوظ وَتارَة ... خطأ تحيل صَوَابه الأقدار)
(تعمى بصيرته ويبصر بَعْدَمَا ... لَا يسْتَردّ الْفَائِت استبصار)
(فتراه يُؤْخَذ قلبه من صَدره ... وَيرد فِيهِ وَقد جرى الْمِقْدَار)
(فيظل يضْرب بالملامة نَفسه ... ندما إِذا لعبت بِهِ الأفكار)
(لَا يعرف الإفراط فِي إِيرَاده ... حَتَّى يُبينهُ لَهُ الإصدار) الوافر
وَقَالَ من أَبْيَات
(إِذا أخنى الزَّمَان على كريم ... أعَار صديقه قلب الْعَدو) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(تلق بِالصبرِ ضيف الْهم ترحله ... إِن الهموم ضيوف أكلهَا المهج)
(فالخطب مَا زَاد إِلَّا وَهُوَ منتقص ... وَالْأَمر مَا ضَاقَ إِلَّا وَهُوَ منفرج)
(فَروح النَّفس بِالتَّعْلِيلِ ترض بِهِ ... عَسى إِلَى سَاعَة من سَاعَة فرج) الْبَسِيط(1/337)
وَقَالَ أَيْضا
(تسل عَن كل شَيْء بِالْحَيَاةِ فقد ... يهون بعد بَقَاء الْجَوْهَر الْعرض)
(يعوض الله مَالا أَنْت متلفه ... وَمَا عَن النَّفس أَن أتلفتها عوض) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(وعَلى قدر عقله فاعتب الْمَرْء ... وحاذر برا يصير عقوقا)
(كم صديق بالعتب صَار عدوا ... وعدو بالحلم صَار صديقا) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(ليكفيكم مَا فِيكُم من جوى نلقى ... فمهلا بِنَا مهلا ورفقا بِنَا رفقا)
(وَحُرْمَة ودي لَا سلوت هواكم ... وَلَا رمت مِنْهُ لَا فكاكا وَلَا عتقا)
(سأزجر قلبا رام فِي الْحبّ سلوة ... وأهجره إِن لم يمت بكم عشقا)
(عذبت الْهوى يَا صَاح حَتَّى ألفته ... فأضناه لي أشفى وأفناه لي أبقى)
(فَلَا الصَّبْر مَوْجُود وَلَا الشوق بارح ... وَلَا أدمعي تطفي اللهيب وَلَا ترقا)
(أَخَاف إِذا مَا اللَّيْل مد سدوله ... على كَبِدِي حرقا وَمن مقلتي غرقا)
(أيجمل أَن أجزى عَن الْوَصْل بالجفا ... وينعم طرفِي والفؤاد بكم يشقى)
(أحظي هَذَا أم كَذَا كل عاشق ... يضام فَلَا يُعْفَى ويظمى فَلَا يسقى)
(سل الدَّهْر عل الدَّهْر يجمع بَيْننَا ... فَلم أر مخلوقا على حَالَة يبْقى) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(إِن تكن تجزع من دمعي ... إِذا فاض فصنه)
(أَو تكن أَبْصرت يَوْمًا ... سيدا يعْفُو فكنه)
(أَنا لَا أَصْبِر عَمَّن ... لَا يحل الصَّبْر عَنهُ)
(كل ذَنْب فِي الْهوى يغْفر ... لي مَا لم أخنه) الرمل(1/338)
وَقَالَ أَيْضا
(ثقلت زجاجات أتتنا فرغا ... حَتَّى إِذا ملئت بِصَرْف الراح)
(خفت فَكَادَتْ أَن تطير بِمَا حوت ... وَكَذَا الجسوم تخف بالأرواح) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(قَالُوا القناعة عز والكفاف غنى ... والذل والعار حرص النَّفس والطمع)
(صَدقْتُمْ من رِضَاهُ سد جوعته ... إِن لم يصبهُ بِمَاذَا عَنهُ يقتنع) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(احفظ لسَانك لَا تبح بِثَلَاثَة ... سر وَمَال مَا اسْتَطَعْت وَمذهب)
(فعلى الثَّلَاثَة تبتلى بِثَلَاثَة ... بمكفر وبحاسد ومكذب) الْكَامِل
وَفِي هَذَا الْمَعْنى قد قَالَ بَعضهم نثرا وَفِيه جناس الرجل يخفي ذهبه ومذهبه وذهابه
وَقَالَ أَيْضا
(قَالُوا وَقد مَاتَ مَحْبُوب فجعت بِهِ ... وبالصبا وَأَرَادُوا عَنهُ سلواني)
(ثَانِيه فِي الْحسن مَوْجُود فَقلت لَهُم ... من أَيْن لي فِي الْهوى الثَّانِي صبا ثَانِي) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(وَفِي الْيَأْس إِحْدَى الراحتين لذِي الْهوى ... على أَن إِحْدَى الراحتين عَذَاب)
(أعف وَبِي وجد وأسلو وَبِي جوى ... وَلَو ذاب مني أعظم وأهاب)
(وآنف أَن تعتاق همي خريدة ... بلحظ وَأَن يروي صداي رضاب)
(فَلَا تنكري عز الْكَرِيم على الْأَذَى ... فحين تجوع الضاربات تهاب) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(بِنَا إِلَى الدَّيْر من درتا صبابات ... فَلَا تلمني فَمَا تغني الملامات)
(لَا تبعدن وَإِن طَال الزَّمَان بِهِ ... أَيَّام لَهو عهدناه وليلات)(1/339)
(فكم قضيت لبانات الشَّبَاب بهَا ... غنما وَكم بقيت عِنْدِي لبانات)
(مَا أمكنت دولة الأفراح مقبلة ... فأنعم ولذ فَإِن الْعَيْش تارات)
(قبل ارتجاع اللَّيَالِي وَهِي عَارِية ... وَإِنَّمَا لَذَّة الدُّنْيَا أعارات)
(قُم فأجل فِي فلك الظلماء شمس ضحى ... بروجها الدَّهْر طاسات وجامات)
(لَعَلَّه إِن دَعَا دَاعِي الْحمام بِنَا ... نقضي وأنفسنا منا رويات)
(بِمَ التعلل لَوْلَا ذَاك من زمن ... أحياؤه باعتياد الْهم أموات)
(دارت تحيي فقابلنا تحيتها ... وَفِي حشاها لفزع المزج روعات)
(عذراء أخْفى لنا بدور صورتهَا ... لم يبْق من روحها إِلَّا حشاشات)
(مدت سرادق برق من أبارقها ... على مقابلها مِنْهَا بلالات)
(فلاح فِي أَذْرع السَّاقَيْن أسورة ... تبرا وَفَوق نحور الشّرْب جامات)
(قد وَقع الدَّهْر سطرا فِي صَحِيفَته ... لَا فَارَقت شَارِب الْخمر المسرات)
(خُذ مَا تعجل واترك مَا وعدت بِهِ ... فعل اللبيب فللتأخيرآفات)
(وللسعادة أَوْقَات ميسرَة ... تُعْطِي السرُور وللأحزان أَوْقَات) الْبَسِيط
ابْن بختويه
هُوَ أَبُو الْحُسَيْن عبد الله بن عِيسَى بن بختويه كَانَ طَبِيبا وخطيبا من أهل وَاسِط لَدَيْهِ معرفَة وَكَلَامه فِي صناعَة الطِّبّ كَلَام مطلع على تصانيف القدماء وَله نظر فِيهَا ودراية لَهَا
وَكَانَ وَالِده أَيْضا طَبِيبا
وَلأبي الْحُسَيْن بن بختويه من الْكتب كتاب الْمُقدمَات وَيعرف أَيْضا بكنز الْأَطِبَّاء أَلفه لوَلَده فِي سنة عشْرين وَأَرْبَعمِائَة كتاب الزّهْد فِي الطِّبّ كتاب الْقَصْد إِلَى معرفَة الفصد
أَبُو الْعَلَاء صاعد بن الْحسن
من الْفُضَلَاء فِي صناعَة الطِّبّ والمتميزين من أَهلهَا وَكَانَ ذكيا بليغا ومقامه بِمَدِينَة الرحبة وَله من الْكتب كتاب التشويق الطبي صنفه بِمَدِينَة الرحبة فِي رَجَب سنة أَربع وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة(1/340)
زاهد الْعلمَاء
هُوَ أَبُو سعيد مَنْصُور بن عِيسَى وَكَانَ نَصْرَانِيّا نسطوريا وَأَخُوهُ مطران نَصِيبين الْمَشْهُور بِالْفَضْلِ وخدم زاهد الْعلمَاء بصناعة الطِّبّ نصير الدولة بن مَرْوَان الَّذِي ألف لَهُ ابْن بطلَان دَعْوَة الْأَطِبَّاء
وَكَانَ نصير الدولة مُحْتَرما لزاهد الْعلمَاء مُعْتَمدًا عَلَيْهِ فِي صناعته محسنا إِلَيْهِ
وزاهد الْعلمَاء هُوَ الَّذِي بنى بيمارستان ميافارقين
وحَدثني الشَّيْخ سديد الدّين بن رقيقَة الطَّبِيب إِن سَبَب بِنَاء بيمارستان ميافارقين هُوَ أَن نصير الدولة بن مَرْوَان لما كَانَ بهَا مَرضت ابْنة لَهُ وَكَانَ يرى لَهَا كثيرا فآلى على نَفسه أَنَّهَا مَتى بَرِئت أَن يتَصَدَّق بوزنها دَرَاهِم
فَلَمَّا عالجها زاهد الْعلمَاء وصلحت أَشَارَ على نصير الدولة أَن يَجْعَل جملَة هَذِه الدَّرَاهِم الَّتِي يتَصَدَّق بهَا تكون فِي بِنَاء بيمارستان ينْتَفع النَّاس بِهِ وَيكون لَهُ بذلك أجر عَظِيم وَسُمْعَة حَسَنَة
قَالَ فَأمره بِبِنَاء البيمارستان وَأنْفق عَلَيْهِ أَمْوَالًا كَثِيرَة وقف لَهُ أملاكا تقوم بكفايته وَجعل فِيهَا من الْآلَات وَجَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ شَيْئا كثيرا جدا فجَاء لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي الْجَوْدَة
ولزاهد الْعلمَاء من الْكتب كتاب البيمارستانات كتاب فِي الْفُصُول والمسائل والجوابات وَهِي جزآن الأول يتَضَمَّن مَا أثْبته الْحسن بن سهل مِمَّا وجده فِي خزانته رقاع وكراريس وأدراج وَغير ذَلِك من الْمسَائِل والجوابات
والجزء الثَّانِي على جِهَة الْفُصُول والمسائل وجوابات أجَاب عَنْهَا فِي مجْلِس الْعلم الْمُقَرّر فِي البيمارستان الفارقي
كتاب فِي المنامات والرؤيا
كتاب فِيمَا يجب على المتعلمين لصناعة الطِّبّ تَقْدِيم علمه كتاب فِي أمراض الْعين ومداواتها
المقبلي
هُوَ أَبُو نصر مُحَمَّد بن يُوسُف المقبلي فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ من المتميزين فِيهَا والأعيان من أَرْبَابهَا
وللمقبلي من الْكتب مقَالَة فِي الشَّرَاب تَلْخِيص كتاب الْمسَائِل لحنين بن إِسْحَق
النيلي
هُوَ أَبُو سهل سعيد بن عبد الْعَزِيز النيلي مَشْهُور بِالْفَضْلِ عَالم بصناعة الطِّبّ جيد التصنيف متفنن فِي الْعُلُوم الأدبية بارع فِي النّظم والنثر وَمن شعره
(يَا مفدى العذار والخد وَالْقد بنفسي ... وَمَا أَرَاهَا كثيرا)(1/341)
(ومعيري من سقم عَيْنَيْهِ سقما ... دمت مضنى بِهِ ودمت معيرا)
(اسْقِنِي الراح تشف لوعة قلب ... بَات مذ بنت للهموم سميرا)
(هِيَ فِي الكاس خمرة فَإِذا مَا ... أفرغت فِي الحشا استخالت سُرُورًا) الْخَفِيف
وللنيلي من الْكتب اخْتِصَار كتاب الْمسَائِل لحنين تَلْخِيص شرح جالينوس لكتاب الْفُصُول مَعَ نكت من شرح الرَّازِيّ
إِسْحَاق بن عَليّ الرهاوي
كَانَ طَبِيبا متميزا عَالما بِكَلَام جالينوس وَله أَعمال جَيِّدَة فِي صناعَة الطِّبّ
ولإسحاق بن عَليّ الرهاوي من الْكتب كتاب أدب الطَّبِيب
كناش جمعه من عشر مقالات لِجَالِينُوسَ الْمَعْرُوفَة بالميامر فِي تركيب الْأَدْوِيَة بِحَسب أمراض الْأَعْضَاء من الرَّأْس إِلَى الْقدَم جَوَامِع جمعهَا من أَرْبَعَة كتب جالينوس الَّتِي رتبها الإسكندرانيون فِي أَوَائِل كتبه وَهِي كتاب الْفرق وَكتاب الصِّنَاعَة الصَّغِيرَة وَكتاب النبض الصَّغِير وَكتابه إِلَى أغلوتن وَجعل هَذِه الْجَوَامِع على طَرِيق الْفُصُول وأوائل فصولها أَعلَى حُرُوف المعجم
سعيد بن هبة الله
هُوَ أَبُو الْحسن سعيد بن هبة الله بن الْحُسَيْن من الْأَطِبَّاء المتميزين فِي صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ أَيْضا فَاضلا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة مشتهرا بهَا
وَكَانَ فِي أَيَّام الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله وخدمه بصناعة الطِّبّ وخدم أَيْضا وَلَده المستظهر بِاللَّه
وَقَالَ أَبُو الْخطاب مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي طَالب فِي كتاب الشَّامِل فِي الطِّبّ أَن الطِّبّ انْتهى فِي عصرنا إِلَى أبي الْحسن سعيد بن هبة الله بن الْحُسَيْن
وَولد فِي لَيْلَة السبت الثَّالِث وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَأَرْبَعمِائَة وَقَرَأَ على أبي الْعَلَاء بن التلميذ وعَلى أبي الْفضل كتيفات وعَلى عَبْدَانِ الْكَاتِب
وَألف كتبا كَثِيرَة طبية ومنطقية وفلسفية وَغير ذَلِك وَمَات لَيْلَة الْأَحَد سادس شهر ربيع الأول سنة خمس وَتِسْعين وَأَرْبَعمِائَة وعاش سِتا وَخمسين سنة وَخلف من التلاميذ جمَاعَة موجودين
وحَدثني الْحَكِيم رشيد الدّين أَبُو سعيد بن يَعْقُوب النَّصْرَانِي أَن أَبَا الْحسن سعيد بن هبة الله كَانَ يتَوَلَّى مداواة المرضى فِي البيمارستان العضدي
وَأَنه كَانَ يَوْمًا فِي البيمارستان وَقد أَتَى إِلَى قاعة الممرورين(1/342)
لتفقد أَحْوَالهم ومعالجتهم وَإِذا بِامْرَأَة قد أَتَت إِلَيْهِ واستفتته فِيمَا تعالج بِهِ ولدا لَهَا فَقَالَ يَنْبَغِي أَن تلازميه بتناول الْأَشْيَاء المبردة المرطبة
فهزأ بِهِ بعض من كَانَ مُقيما فِي تِلْكَ القاعة من الممرورين وَقَالَ هَذِه صفة يصلح أَن تَقُولهَا لأحد تلامذتك مِمَّن يكون قد اشْتغل بالطب وَعرف أَشْيَاء من قوانينه وَأما هَذِه الْمَرْأَة فَأَي شَيْء تَدْرِي مَا هُوَ من الْأَشْيَاء المبردة المرطبة وَإِنَّمَا سَبيله أَن تصف لَهَا شَيْئا معينا تعتمد عَلَيْهِ
ثمَّ قَالَ لَهُ بعد ذَلِك وَلَا ألومك فِي قَوْلك هَذَا فَإنَّك قد فعلت مَا هُوَ أعجب مِنْهُ
فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك فَقَالَ صنفت كتابا مُخْتَصرا وسميته الْمُغنِي فِي الطِّبّ ثمَّ إِنَّك صنفت كتابا آخر فِي الطِّبّ بسيطا يكون على قدر أَضْعَاف كَثِيرَة من ذَلِك الْكتاب الأول وسمتيه الْإِقْنَاع
وَكَانَ الْوَاجِب أَن يكون الْأَمر على خلاف مَا فعلته من التَّسْمِيَة
فاعترف بذلك لمن حَضَره وَقَالَ وَالله لَو أمكنني تَبْدِيل اسْم كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْآخرِ لفَعَلت
وَإِنَّمَا قد تناقل النَّاس الْكِتَابَيْنِ وَعرف كل وَاحِد مِنْهُمَا بِمَا سميته بِهِ
أَقُول وَكَانَ أَبُو الْحسن سعيد بن هبة الله مَوْجُودا فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَأَرْبَعمِائَة لِأَنِّي وجدت خطه فِي ذَلِك التَّارِيخ على كِتَابه التَّلْخِيص النظامي وَقد قَرَأَهُ عَلَيْهِ أَبُو البركات
ولسعيد بن هبة الله من الْكتب كتاب الْمُغنِي فِي الطِّبّ صنفه للمقتدي بِأَمْر الله
مقَالَة فِي صِفَات تراكيب الْأَدْوِيَة الْمحَال عَلَيْهَا فِي كتاب الْمُغنِي
كتاب الْإِقْنَاع
كتاب التخليص النظامي
كتاب خلق الْإِنْسَان
كتاب فِي اليرقان
مقَالَة فِي ذكر الْحُدُود والفروق
مقَالَة فِي تَحْدِيد مبادئ الْأَقَاوِيل الملفوظ بهَا وتعديدها
جوابات عَن مسَائِل طبية سُئِلَ عَنْهَا
ابْن جزلة
هُوَ يحيى بن عِيسَى بن عَليّ بن جزلة وَكَانَ فِي أَيَّام الْمُقْتَدِي بِأَمْر الله وَقد جعل باسمه كثيرا من الْكتب الَّتِي صنفها
وَكَانَ من الْمَشْهُورين فِي علم الطِّبّ وَعَمله وَهُوَ تلميذ أبي الْحسن سعيد بن هبة الله
وَلابْن جزلة أَيْضا نظر فِي علم الْأَدَب
وَكَانَ يكْتب خطا جيدا مَنْسُوبا
وَقد رَأَيْت بِخَطِّهِ عدَّة كتب من تصانيفه وَغَيرهَا تدل على فَضله وتعرب عَن مَعْرفَته
وَكَانَ نَصْرَانِيّا ثمَّ أسلم وَألف رِسَالَة فِي الرَّد على النَّصَارَى وَكتب بهَا إِلَى إليا القس
وَلابْن جزلة من الْكتب كتاب تَقْوِيم الْأَبدَان وصنفه للمقتدي بِأَمْر الله
كتاب منهاج الْبَيَان فِي مَا يَسْتَعْمِلهُ الْإِنْسَان وصنفه أَيْضا للمقتدي بِأَمْر الله
كتاب الْإِشَارَة فِي تَلْخِيص الْعبارَة وَمَا يسْتَعْمل من القوانين الطبية فِي تَدْبِير الصِّحَّة وَحفظ الْبدن لخصه من كتاب تَقْوِيم الْأَبدَان
رِسَالَة فِي مدح الطِّبّ
وموافقته الشَّرْع وَالرَّدّ على من طعن عَلَيْهِ
رِسَالَة كتب بهَا لما أسلم إِلَى إليا القس وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعمِائَة
أَبُو الْخطاب
هُوَ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي طَالب مقَامه بِبَغْدَاد
وَقَرَأَ صناعَة الطِّبّ على أبي الْحسن سعيد بن هبة(1/343)
الله وَكَانَ متميزا فِي الطِّبّ وَعَمله
وَرَأَيْت خطه على كتاب من تصنيفه قد قرئَ عَلَيْهِ وَهُوَ كثير اللّحن يدل على أَنه لم يشْتَغل بِشَيْء من الْعَرَبيَّة
وَكَانَ تَارِيخه لذَلِك فِي تَاسِع شهر رَمَضَان سنة خَمْسمِائَة
وَلأبي الْخطاب من الْكتب كتاب الشَّامِل فِي الطِّبّ جعله على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب فِي الْعلم وَالْعَمَل وَهُوَ يشْتَمل على ثَلَاث وَسِتِّينَ مقَالَة
ابْن الوَاسِطِيّ
كَانَ طَبِيبا للمستظهر بِاللَّه وَكَانَ عِنْده رفيع الْمنزلَة
فاتفق أَن أَبَا سعيد بن المعوج تولى صَاحب ديوَان وَاسْتقر عَلَيْهِ قَرْيَة مبلغها ثَلَاثَة آلَاف دِينَار فوزن مِنْهَا ألفي دِينَار وَبَقِي عَلَيْهِ ألف دِينَار فَسَأَلَ أنظاره بهَا سنة إِلَى أَن يصل المستغل
فَلَمَّا حل الْمبلغ نكبت الْغلَّة وَالثَّمَرَة وَلم يحصل لَهُ من ملكه مَا يصرفهُ فِي ذَلِك
وَكَانَ حَاجِبه وخاصته مظفر بن الدواتي فَأَشَارَ إِلَيْهِ بالمضي إِلَى ابْن الوَاسِطِيّ الطَّبِيب ويقصده فِي دَاره ويسأله أَن يُخَاطب الْخَلِيفَة المستظهر بِاللَّه فِي إنظاره إِلَى سنة أُخْرَى إِلَى أَن تدخل الْغلَّة
فَلَمَّا نَهَضَ من الدِّيوَان أَشَارَ إِلَى أَصْحَابه بِالْعودِ وَأَنه يُريدَان يمْضِي إِلَى دَاره فَلَمَّا عَادوا مضى هُوَ والحاجب مظفر بن الدواتي
فَحَيْثُ وصل اسْتَأْذن عَلَيْهِ فَخرج وَقبل يَده وَقَالَ الله الله يَا مَوْلَانَا وَمن ابْن الوَاسِطِيّ حَتَّى يَجِيء مَوْلَانَا إِلَى دَاره
فَلَمَّا دخل جلس بَين يَدَيْهِ فَأَشَارَ ابْن المعوج إِلَى الْحَاجِب مظفر وَقَالَ لَهُ تصرف الْجَمَاعَة للخلوة وتعود أَنْت بمفردك فَلَمَّا صَارُوا بالدهليز قَالَ لَهُ تصون الْبَاب
فَفعل
فَلَمَّا عَاد قَالَ لَهُ أَتَقول للحكيم فيماذا أَتَيْنَا فَقَالَ لَهُ الْحَاجِب أَن مَوْلَانَا جَاءَ إِلَيْك يعرفك أَنه كَانَ قد اسْتَقر عَلَيْهِ قربَة مبلغها ثَلَاثَة آلَاف دِينَار وَأَنه صَحَّ مِنْهَا ألفا دِينَار وتخلف عَلَيْهِ ألف دِينَار وَكَانَ سَأَلَ الْخَلِيفَة انظاره إِلَى أَوَان الْغلَّة فَلم يتَحَصَّل لَهُ من ملكه فِي هَذِه السّنة شَيْء وَقد أنفذ الدِّيوَان وضايق على ذَلِك
وَقد رهن كتب دَاره على خَمْسمِائَة دِينَار وَهُوَ يَسْأَلك أَن تسْأَل الْخَلِيفَة أَن يُؤَخر إِلَى سنة أُخْرَى بِالْبَاقِي إِلَى حِين أَوَان الْغلَّة
فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة أخدم وأبالغ وَأَقُول مَا يتَعَيَّن
فَنَهَضَ من عِنْده فَلَمَّا كَانَ من الْغَد عَنهُ نهوضه من الدِّيوَان صرف الْحَاشِيَة على الْعَادة وَقَالَ يَا مظفر نمضي إِلَيْهِ فَإِن كَانَ قد خَاطب الْخَلِيفَة سمعنَا الْجَواب وَإِن لم يكن خاطبه فَيكون على سَبِيل الإذكار
فَمضى إِلَيْهِ وَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَأذن لَهُ وَخرج إِلَى الْبَاب وَقبل يَده مثل ذَلِك ودعا لَهُ
فَلَمَّا دخل وَجلسَ أخرج لَهُ خطّ الْخَلِيفَة بوصول الْخَمْسمِائَةِ دِينَار وَقَالَ لَهُ هَذِه كتب الدَّار الَّتِي رَهنهَا مَوْلَانَا يقبلهَا من الْخَادِم وَكَانَ قد استفكها من مَاله
فشكره وَقبض الْكتب والخط وَانْصَرف
فَلَمَّا جَاوز الدهليز صَاح بالحاجب مظفر واخرج لَهُ منشفة فِيهَا جُبَّة خارا وبقيار قصب وقميص(1/344)
تحتاني أنطاكي ولباس دمياطي وَفِيه تكة إبريسم وصرة فِيهَا خَمْسُونَ دِينَارا وَقَالَ لَهُ أُرِيد من أنعام مَوْلَانَا يلبس هَذِه الثِّيَاب وأراها عَلَيْهِ وَهَذِه الْخَمْسُونَ دِينَارا برسم الْحمام وَأعْطى الْحَاجِب جُبَّة عتابي وَعشْرين دِينَارا وَأعْطى الدواتي جُبَّة عتابي وَخَمْسَة دَنَانِير وَأعْطى الركابي دينارين وَقَالَ اسْأَل مَوْلَانَا أَن يشرف الْخَادِم بِقبُول ذَلِك
فَمضى الْحَاجِب بِالْجَمِيعِ إِلَى ابْن المعوج وَشرح لَهُ الْحَال فَقبله مِنْهُ
أَبُو طَاهِر بن البرخشي
هُوَ موفق الدّين أَبُو طَاهِر أَحْمد بن مُحَمَّد بن الْعَبَّاس يعرف بِابْن البرخشي من أهل وَاسِط
فَاضل فِي الصِّنَاعَة الطبية كَامِل فِي الْفُنُون الأدبية
وَقد رَأَيْت من خطه مَا يدل على رزانة عقله وغزارة فَضله وَكَانَ فِي أَيَّام المسترشد بِاللَّه
حَدثنِي شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْكَرِيم الْبَغْدَادِيّ قَالَ حَدثنِي أَحْمد بن بدر الوَاسِطِيّ قَالَ كَانَ الْحَكِيم أَبُو طَاهِر أَحْمد بن مُحَمَّد البرخشي بواسط يعالج مَرِيضا بِهِ أحد أَنْوَاع الاسْتِسْقَاء فطال بِهِ الْمَرَض وَلم ينجع فِيهِ علاج وَعبر حد الحمية فسهل لَهُ فِي اسْتِعْمَال مهما طلبته النَّفس ومالت إِلَيْهِ الطبيعة من المآكل والأغذية
فَأطلق الْمَرِيض يَده ثمَّ أكل مَا تهَيَّأ لَهُ
فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام اجتاز بِهِ إِنْسَان يَبِيع الْجَرَاد المسلوق فِي المَاء وَالْملح
فمالت إِلَيْهِ نفس الْمَرِيض فَطَلَبه ثمَّ اشْترى مِنْهُ وَأكل فَعرض لَهُ من ذَلِك إسهال مفرط وَانْقطع الْحَكِيم عَنهُ لما رأى بِهِ من الإفراط فِي الإسهال
ثمَّ أَفَاق مِنْهُ بعد أَيَّام وَأخذ المزاج فِي الصّلاح وابتدأ بِهِ الْبُرْء وتدرجت حَاله إِلَى كَمَال الصِّحَّة والحكيم قد أيس من صَلَاحه
فَلَمَّا علم الْحَال أَتَاهُ وَسَأَلَهُ عَمَّا اسْتعْمل ومم وجد الْخُف فَقَالَ لَا أعرف إِلَّا أنني مُنْذُ أكلت الْجَرَاد المسلوق شرعت فِي الْعَافِيَة
ففكر الْحَكِيم فِي ذَلِك طَويلا ثمَّ قَالَ لَيْسَ هَذَا من فعل الْجَرَاد وَلَا من خاصته
وَسَأَلَ الْمَرِيض عَن بَائِع الْجَرَاد فَقَالَ لَا أعلم بمكانه وَلَكِنِّي إِن رَأَيْته عَرفته
فشرع الْحَكِيم فِي الْبَحْث وَالسُّؤَال عَن كل من يَبِيع الْجَرَاد وَهُوَ يحضرهُ إِلَى الْمَرِيض وَاحِدًا بعد وَاحِد إِلَّا أَن عرف صَاحبه الَّذِي اشْترى مِنْهُ
فَقَالَ لَهُ الْحَكِيم أتعرف الْموضع الَّذِي صدت مِنْهُ الْجَرَاد الَّذِي أكل مِنْهُ هَذَا الْمَرِيض قَالَ نعم
قَالَ امْضِ بِنَا إِلَيْهِ
فمضيا جَمِيعًا إِلَى الْمَكَان وَإِذا هُنَاكَ حشيشة يرعاها الْجَرَاد
فَأخذ الْحَكِيم من تِلْكَ الحشيشة ثمَّ كَانَ يداوي بهَا من الاسْتِسْقَاء وَأَبْرَأ بهَا جمَاعَة من هَذَا الْمَرَض وَذَلِكَ مَعْرُوف مَشْهُور بواسط
أَقُول وَهَذِه هِيَ حِكَايَة قديمَة قد جرى ذكرهَا وَإِن تِلْكَ الحشيشة الَّتِي كَانَ الْجَرَاد يرعاها هِيَ(1/345)
المازريون وَقد ذكرهَا أَيْضا القَاضِي التنوخي فِي كتاب الْفرج بعد الشدَّة
وَكَانَ أَبُو طَاهِر بن البرخشي حَيا بواسط فِي سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَكَانَ عِنْده أدب بارع وَمَعْرِفَة فِي النّظم والنثر
وَمن شعره قَالَ فِي غُلَام ناول خلالا
(وناولني من كَفه مثل خصره ... وَمثل محب ذاب من طول هجره)
(وَقَالَ خلالي قلت كل حميدة ... سوى قتل صب حَار فِيك بأسره) الطَّوِيل
وَقَالَ فِي إِنْسَان سوء حج من بعض قرى وَاسِط
(لما حججْت استبشرت وَاسِط ... وقولياثا وفتى مرشد)
(وانتقل الويل إِلَى مَكَّة ... وركنها وَالْحجر الْأسود) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا وَقد رأى إنْسَانا يكْتب كتابا إِلَى صديق لَهُ فَكتب فِي صَدره الْعَالم
(لما انمحت سنَن المكارم والعلى ... وَغدا الْأَنَام بِوَجْه جهل قاتم)
(وَرَضوا بأسماء وَلَا معنى لَهَا ... مثل الصّديق تكاتبوا بالعالم) الْكَامِل
وَكتب إِلَيْهِ نجم الدّين أَبُو الْغَنَائِم مُحَمَّد بن عَليّ بن الْمعلم الهرثي الشَّاعِر الوَاسِطِيّ وَقد أبل من مرض وألزمه الحمية وَمنعه الْغذَاء
(صبحت فخرا بالمنى واغتدى ... قدرك فَوق النَّجْم مَرْفُوعا)
(يَا منقذي من حلقات الردى ... حاشاك أَن تقتلني جوعا) السَّرِيع
فَكتب ابْن البرخشي إِلَيْهِ الْجَواب
(تبِعت مرسومك يَا ذَا العلى ... لَا زَالَ مرسومك متبوعا)
(لَكِن إشفاقي على من بِهِ ... أَمْسَى غَرِيب القَوْل مسموعا)
(أوجب تَأْخِيرا الغذا يَوْمنَا ... وَفِي غَد نستدرك الجوعا)
(أَصْبِر فَمَا أقصرها مُدَّة ... وَإِن تلكأت فاسبوعا)
فَأَجَابَهُ هُوَ
(يَا عَالما ايْنَ ثوى ر حلّه ... أجْرى من الْعلم ينابيعا)
(لم عنْدك الْأَعْمَار مَوْصُولَة ... يضحى ويمسي الرزق مَقْطُوعًا)(1/346)
(وَالله إِن بت وَلم يجدني ... شعري يَا ذَا الْفضل منفوعا)
(ليخلعن الْجُوع مني الحيا ... وأوسعن الْعلم تقطيعا)
ابْن صَفِيَّة
هُوَ أَبُو غَالب بن صَفِيَّة وَكَانَ نَصْرَانِيّا
وَقَالَ بعض الْعِرَاقِيّين أَن أَبَا المظفر يُوسُف المستنجد بِاللَّه كَانَ خَليفَة صَارِمًا متيقظا فتاكا وَكَانَ وزيره أَبُو المظفر يحيى بن هُبَيْرَة ثمَّ توفّي فاستوزر شرف الدّين بن الْبَلَدِي وَكَانَ يجْرِي مجْرَاه
وَكَانَ فِي الدولة أُمَرَاء أكَابِر كَانَ مُتَقَدم الْجَمَاعَة قطب الدّين قايماز وَكَانَ أَصله أرمنيا وَقد عظم شَأْنه وَعلا مَكَانَهُ وَاسْتولى على الْبِلَاد وتحكم فِي الدولة وَلم يبْق لَهُ ضد وَلَا مناو وَعمد إِلَى أكَابِر أُمَرَاء الدولة فزوجهم ببناته وَكَانَ بَينه وَبَين الْوَزير مماراة
ثمَّ إِن الْخَلِيفَة مرض وَكَانَ طبيبه ابْن صَفِيَّة أَبُو غَالب النَّصْرَانِي وَكَانَ الْوَزير ابْن الْبَلَدِي يحذر الْخَلِيفَة ويخوفه من استطالة قطب الدّين وَمن يجْرِي مَعَه من الْأُمَرَاء فَاطلع الطَّبِيب على بعض الْأَحْوَال وَأَرَادَ التَّقَرُّب عِنْد الْأَمِير قطب الدّين فَنقل إِلَيْهِ الحَدِيث وَاسْتمرّ الْحَال على ذَلِك
فَلَمَّا مرض الْخَلِيفَة عزم فِي الْقَبْض على قطب الدّين وجماعته واطلع ابْن صَفِيَّة على ذَلِك فَمضى على قطب الدّين وعرفه الْحَال وَقَالَ لَهُ قد جرى من الْوَزير كَذَا وَكَذَا فتغد بِهِ قبل أَن يتعشى بك
فَأخذ قطب الدّين يعْمل فكرته ورأيه فِي التَّدْبِير فِي مكايد الْوَزير وَثقل الْخَلِيفَة فِي الْمَرَض واشتغل عَمَّا كَانَ قد دبره مَعَ الْوَزير فِي الْقَبْض على الْأُمَرَاء
فأجمع قطب الدّين رَأْيه على قتل الْخَلِيفَة ثمَّ يتفرغ لهلاك الْوَزير فأسفر رَأْيه على أَنه قرر مَعَ ابْن صَفِيَّة الطَّبِيب أَن يصف للخليفة الْحمام فَدخل الْحَكِيم إِلَى الْخَلِيفَة وَأَشَارَ بالحمام والخليفة يعلم من نَفسه الضعْف فَأبى ذَلِك
فَدخل قطب الدّين وَبَعض الْجَمَاعَة وَقَالَ يَا مَوْلَانَا الْحَكِيم قد أَشَارَ بالحمام فَقَالَ قد رَأينَا أَن نؤخره فغلبوا على رَأْيه وأدخلوه الْحمام وَقد كَانَ أوقد عَلَيْهِ ثَلَاثَة أَيَّام بلياليهن وردوا عَلَيْهِ بَاب الْحمام سَاعَة فَمَاتَ
وأظهروا الْحزن الْعَظِيم وَأتوا إِلَى وَلَده أبي مُحَمَّد الْحسن فاستخلفوه على مَا أَرَادوا وَبَايَعُوهُ ولقب بالمستضيء بِأَمْر الله وَأقَام مُدَّة وَفِي نَفسه شَيْء مِمَّا فعلوا
وَكَانَ قد استوزر عضد الدّين أَبَا الْفرج ابْن رَئِيس الرؤساء وَكَانَ ابْن صَفِيَّة الطَّبِيب على حَاله ملازم الْخدمَة فشرع الْخَلِيفَة فِي الاستبداد بالأمور مَعَ وزيره وَكَانَ قطب الدّين قايماز وَابْن صَفِيَّة مهما اطلع عَلَيْهِ من الْأَحْوَال نَقله إِلَى قطب الدّين وَهُوَ مُتَرَدّد(1/347)
إِلَى الدَّار وَلَا يمْنَع لكَونه طَبِيب الْخدمَة
فَاسْتَحْضرهُ الْخَلِيفَة لَيْلًا وَقَالَ لَهُ يَا حَكِيم عِنْدِي من أكره رُؤْيَته وَأُرِيد إبعاده بِوَجْه لطيف غير شَفِيع فَقَالَ لَهُ نرتب لَهُ شربة قَوِيَّة بَالِغَة يشْربهَا وَقد حصل الْخَلَاص مِنْهُ كَمَا تُؤثر
فَمضى وَركب شربة كَمَا وصف وأحضرها لَيْلًا وَدخل بهَا إِلَى عِنْد الْخَلِيفَة فَفَتحهَا وَنظر إِلَيْهَا وَقَالَ يَا حَكِيم استف هَذِه الشربة حَتَّى نجرب فعلهَا فتلوى من ذَلِك وَقَالَ الله الله يَا مَوْلَانَا فِي فَقَالَ لَهُ الطَّبِيب مَتى تعدى حَده وَتجَاوز طوره وَقع فِي مثل هَذَا وَلَيْسَ لَك من هَذَا خلاص إِلَّا السَّيْف
فاستف الْحَكِيم الشربة الَّتِي ركبهَا وفر من الْهَلَاك إِلَى الْهَلَاك
ثمَّ خرج من دَار الْخَلِيفَة وَكتب إِلَى الْأَمِير قطب الدّين يشعره بِالْحَال وَيَقُول لَهُ والانتقال من أَمْرِي إِلَى أَمركُم
ثمَّ هلك
وَأما قطب الدّين فعزم أَن يُوقع بالخليفة فَرد الله سُبْحَانَهُ كَيده إِلَيْهِ ونهبت أَمْوَاله وهرب من بَغْدَاد بِنَفسِهِ وَمضى إِلَى الشَّام إِلَى الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين فَلم يقبله
وَعَاد على طَرِيق الْبَريَّة إِلَى الْموصل فَمَرض فِي الطَّرِيق ثمَّ دخل الْموصل فَمَاتَ بهَا
أَقُول وضد هَذِه الْحِكَايَة مَا حَدثنِي بِهِ شمس الدّين مُحَمَّد بن الْحسن بن الْكَرِيم الْبَغْدَادِيّ عَن بعض الْمَشَايِخ بِبَغْدَاد قَالَ
كَانَ السُّلْطَان مُحَمَّد بن مَحْمُود خوارزمشاه قد حضر بَغْدَاد فِي سنة وَخَمْسمِائة فَمَرض وَهُوَ بعسكره ظَاهر الْبَلَد وَمرض الْخَلِيفَة المقتفي أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن المستظهر بِبَغْدَاد فانفذ السُّلْطَان يلْتَمس الرئيس أَمِين الدولة بن التلميذ فَاخْرُج إِلَى ظَاهر الْمَدِينَة فَكَانَ يداويه بِظَاهِر بَغْدَاد ويداوي الْخَلِيفَة بِبَغْدَاد فَقَالَ لَهُ وَزِير السُّلْطَان أَيهَا الرئيس إِنَّنِي قد كنت عِنْد السُّلْطَان وَذكرت لَهُ من فضلك وأدبك ورآستك
وَقد أَمر لَك بِعشْرَة آلَاف دِينَار
فَقَالَ لَهُ يَا مَوْلَانَا قد أَمر لي من بَغْدَاد بأثني عشر ألف دِينَار أفيأذن لي فِي قبُولهَا السُّلْطَان يَا مَوْلَانَا أَنا رجل طَبِيب لَا أتجاوز وظائف الْأَطِبَّاء وَمَا يلْزمهُم وَلَا أعرف إِلَّا مَاء الشّعير والنقوع وشراب البنفسج والنيلوفر وَمَتى أخرجت عَن هَذَا لَا أعرف شَيْئا
وَكَانَ الْوَزير قد عرض لَهُ فِي حَدِيثه بِمَا مَعْنَاهُ أَنه يدبر فِي إِتْلَاف الْخَلِيفَة وَقدر الله سُبْحَانَهُ برْء الْخَلِيفَة وَالسُّلْطَان وَوَقع الصُّلْح بَينهمَا على مَا اقترحه الْخَلِيفَة
وَهَذَا كَانَ من عقل الرئيس أَمِين الدولة وَدينه وأمانته فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول لَا يَنْبَغِي للطبيب أَن يداخل الْمُلُوك فِي أسرارهم وَلَا يتَجَاوَز كَمَا(1/348)
تقدم ذكره مَاء الشّعير والنقوع وَالشرَاب فَمَتَى جَاوز هَذَا تلف وَكَانَ سَبَب هَلَاكه
وَكَانَ ينشد
(وَإِذا أنبت الْمُهَيْمِن للنمل ... جنَاحا أطارها للتردي)
(وَلكُل امْرِئ من النَّاس حد ... وهلاك الْفَتى جَوَاز الْحَد) الْخَفِيف
أَمِين الدولة بن التلميذ
هُوَ الْأَجَل موفق الْملك أَمِين الدولة أَبُو الْحسن هبة الله بن أبي الْعَلَاء صاعد بن إِبْرَاهِيم بن التلميذ أوحد زَمَانه فِي صناعَة الطِّبّ وَفِي مُبَاشرَة أَعمالهَا
وَيدل على ذَلِك مَا هُوَ مَشْهُور من تصانيفه وحواشيه على الْكتب الطبية وَكَثْرَة من رَأَيْنَاهُ مِمَّن قد شَاهده
وَكَانَ ساعور البيمارستان العضدي بِبَغْدَاد إِلَى حِين وَفَاته
وَكَانَ فِي أول أمره قد سَافر إِلَى بِلَاد الْعَجم وَبَقِي بهَا وَهُوَ فِي الْخدمَة سنينا كَثِيرَة
وَكَانَ جيد الْكِتَابَة يكْتب خطا مَنْسُوبا
وَقد رَأَيْت كثيرا من خطه وَهُوَ فِي نِهَايَة الْحسن وَالصِّحَّة
وَكَانَ خَبِيرا بِاللِّسَانِ السرياني والفارسي متبحرا فِي اللُّغَة الْعَرَبيَّة
وَله شعر مستطرف حسن الْمعَانِي إِلَّا أَن أَكثر مَا يُوجد لَهُ البيتان أَو الثَّلَاثَة وَأما القصائد فَلم أجد لَهُ مِنْهَا إِلَّا الْقَلِيل
وَكَانَ أَيْضا يترسل وَله ترسل كثير جيد
وَقد رَأَيْت لَهُ من ذَلِك مجلدا ضخما كُله يحتوي على إنْشَاء ومراسلات وَأكْثر أَهله كتاب
وَكَانَ وَالِد أَمِين الدولة وَهُوَ أَبُو الْعَلَاء صاعد طَبِيبا فَاضلا مَشْهُورا
وَكَانَ أَمِين الدولة وأوحد الزَّمَان أَبُو البركات فِي خدمَة المستضيء بِأَمْر الله
وَكَانَ أَبُو البركات أفضل من ابْن التلميذ فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة وَله فِيهَا كتب جليلة وَلَو لم يكن لَهُ إِلَّا كِتَابه الْمَعْرُوف بالمعتبر لكفى
فَأَما ابْن التلميذ فَكَانَ أَكثر تبصره بصناعة الطِّبّ واشتهر بهَا
وَكَانَ بَينهمَا شنآن وعداوة إِلَّا أَن ابْن التلميذ كَانَ أوفر عقلا وأخير طباعا من أبي البركات
وَمن ذَلِك أَن أوحد الزَّمَان كَانَ قد كتب رقْعَة يذكر فِيهَا عَن ابْن التلميذ أَشْيَاء يبعد جدا أَن تصدر عَن مثله ووهب لبَعض الخدم شَيْئا واستسره أَن يرميها فِي بعض الطّرق الْخَلِيفَة من حَيْثُ لَا يعلم بذلك أحد وَهَذَا مِمَّا يدل على شَرّ عَظِيم
وَأَن الْخَلِيفَة لما وجد تِلْكَ الرقعة صَعب عَلَيْهِ جدا فِي أول أمره وهم أَن يُوقع بأمين الدولة
ثمَّ أَنه بعد ذَلِك رَجَعَ إِلَى رَأْيه وأشير عَلَيْهِ أَن يبْحَث ويستأصل عَن ذَلِك وَأَن يسْتَقرّ من الخدم من يتهمه بِهَذَا الْفِعْل
وَلما فعل ذَلِك انْكَشَفَ لَهُ أَن أوحد الزَّمَان كتبهَا للوقيعة بِابْن التلميذ فحنق عَلَيْهِ حنقا عَظِيما ووهب دَمه وَجَمِيع مَاله وَكتبه لأمين الدولة بن التلميذ
ثمَّ إِن أَمِين الدولة كَانَ عِنْده من كرم الطباع وَكَثْرَة الْخَيْرِيَّة أَنه لم يتَعَرَّض لَهُ بِشَيْء
وَبعد أوحد الزَّمَان بذلك عَن الْخَلِيفَة وانحطت مَنْزِلَته وَمن مطبوع مَا لأمين الدولة فِيهِ قَوْله
(لنا صديق يَهُودِيّ حماقته ... إِذا تكلم تبدو فِيهِ من فِيهِ)(1/349)
(يتيه وَالْكَلب أَعلَى مِنْهُ منزلَة ... كَأَنَّهُ بعد لم يخرج من التيه) الْبَسِيط
ولبعضهم فِي أَمِين الدولة وأوحد الزَّمَان
(أَبُو الْحسن الطَّبِيب ومقتفيه ... أَبُو البركات فِي طرفِي نقيض)
(فَهَذَا بالتواضع فِي الثريا ... وَهَذَا بالتكبر فِي الحضيض) الوافر
ونقلت من خطّ الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف بن يُوسُف الْبَغْدَادِيّ فِيمَا حَكَاهُ عَن الْأَجَل أَمِين الدولة بن التلميذ قَالَ كَانَ أَمِين الدولة حسن الْعشْرَة كريم الْأَخْلَاق عِنْده سخاء ومروءة وأعمال فِي الطِّبّ مَشْهُورَة وحدوس صائبة
مِنْهَا أَنه أحضرت إِلَيْهِ امْرَأَة مَحْمُولَة لَا يعرف أَهلهَا فِي الْحَيَاة هِيَ أم فِي الْمَمَات وَكَانَ الزَّمَان شتاء فَأمر بتجريدها وصب المَاء الْمبرد عَلَيْهَا صبا مُتَتَابِعًا كثيرا
ثمَّ أَمر بنقلها إِلَى مجْلِس دفئ قد بخر بِالْعودِ والند ودثرت بأصناف الْفراء سَاعَة فعطست وتحركت وَقَعَدت وَخرجت مَاشِيَة مَعَ أَهلهَا إِلَى منزلهَا
قَالَ وَدخل إِلَيْهِ رجل منزف يعرق دَمًا فِي زمن الصَّيف فَسَأَلَ تلاميذه وَكَانُوا قدر خمسين نفسا فَلم يعرفوا الْمَرَض فَأمره أَن يَأْكُل خبز شعير مَعَ باذنجان مشوي فَفعل ذَلِك ثَلَاثَة أَيَّام فبرأ
فَسَأَلَهُ أَصْحَابه عَن الْعلَّة فَقَالَ إِن دَمه قد رق ومسامه قد تفتحت وَهَذَا الْغذَاء من شَأْنه تَغْلِيظ الدَّم وتكثيف المسام
قَالَ وَمن مروءته أَن ظهر دَاره كَانَ يَلِي النظامية فَإِذا مرض فَقِيه نَقله إِلَيْهِ وَقَامَ فِي مَرضه عَلَيْهِ فَإِذا أبل وهب لَهُ دينارين وَصَرفه
وَمِمَّا حَكَاهُ أَيْضا عَن أَمِين الدولة بن التلميذ وَكَأَنَّهُ قد تجَاوز فِي هَذِه الْحِكَايَة قَالَ وَكَانَ أَمِين الدولة لَا يقبل عَطِيَّة إِلَّا من خَليفَة أَو سُلْطَان فَعرض لبَعض الْمُلُوك النائية دَاره مرض مزمن فَقيل لَهُ لَيْسَ لَك إِلَّا ابْن التلميذ وَهُوَ لَا يقْصد أحدا فَقَالَ أَنا أتوجه إِلَيْهِ
فَلَمَّا وصل أفرد لَهُ ولغلمانة دورا وأفاض عَلَيْهِ من الجرايات قدر الْكِفَايَة ولبث مُدَّة فبرئ الْملك وَتوجه إِلَى بِلَاده وَأرْسل إِلَيْهِ مَعَ بعض التُّجَّار أَرْبَعَة آلَاف دِينَار وَأَرْبَعَة تخوت عتابي وَأَرْبَعَة مماليك وَأَرْبَعَة أَفْرَاس فَامْتنعَ من قبُولهَا وَقَالَ عَليّ يَمِينا أَن لَا أقبل من أحد شَيْئا فَقَالَ التَّاجِر هَذَا مِقْدَار كثير قَالَ لما حَلَفت مَا استثنيت
وَأقَام شهرا يراوده وَلَا يزْدَاد إِلَّا إباء
فَقَالَ لَهُ عِنْد الْوَدَاع هَا أَنا أسافر وَلَا أرجع إِلَى صَاحِبي واتمتع بِالْمَالِ فتتقلد منته وتفوتك منفعَته وَلَا يعلم أحد بأنك رَددته
فَقَالَ أَلَسْت اعْلَم فِي نَفسِي أَنِّي لم أقبله فنفسي تشرف بذلك علم النَّاس أَو جهلوا
وحَدثني الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ قَالَ حَدثنِي الشَّيْخ موفق الدّين أسعد بن إلْيَاس بن(1/350)
المطران قَالَ حَدثنِي أبي حَدثنِي إِسْمَاعِيل بن رشيد قَالَ حَدثنِي أَبُو الْفرج بن توما وَأَبُو الْفرج المسيحي قَالَا كَانَ الْأَجَل أَمِين الدولة بن التلميذ جَالِسا وَنحن بَين يَدَيْهِ إِذا اسْتَأْذَنت عَلَيْهِ امْرَأَة وَمَعَهَا صبي صَغِير فأدخلت عَلَيْهِ فحين رَآهُ بدرها فَقَالَ إِن صبيك هَذَا بِهِ حرقة الْبَوْل وَهُوَ يَبُول الرمل فَقَالَت نعم قَالَ فيستعمل كَذَا وَكَذَا وانصرفت
قَالَا فَسَأَلْنَاهُ عَن الْعَلامَة الدَّالَّة على أَن بِهِ ذَلِك وَأَنه لَو أَن الآفة فِي الكبد أَو الطحال لَكَانَ اللَّوْن من الِاسْتِدْلَال مطابقا
فَقَالَ حِين دخل رَأَيْته يولع بأحليله ويحكه وَوجدت أنامل يَدَيْهِ مشققة قاحلة فَعلمت أَن الحكة لأجل الرمل وَإِن تِلْكَ الْمَادَّة الحادة الْمُوجبَة للحكة وَالْحَرَكَة رُبمَا لامست أنامله عِنْد ولوعه بالقضيب فتقحل وتشقق فحكمت بذلك وَكَانَ مُوَافقا
وَمن نَوَادِر أَمِين الدولة وَحسن إِشَارَته إِنَّه كَانَ يَوْمًا عِنْد المستضيء بِأَمْر الله وَقد أسن أَمِين الدولة
فَلَمَّا نَهَضَ للْقِيَام توكأ على رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة كَبرت يَا أَمِين الدولة
فَقَالَ نعم يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ وتكسرت قواريري ففكر الْخَلِيفَة فِي قَول أَمِين الدولة وَعلم أَنه لم يقلهُ إِلَّا لِمَعْنى قد قَصده وَسَأَلَ عَن ذَلِك فَقيل لَهُ إِن الإِمَام المستنجد بِاللَّه كَانَ قد وهبه ضَيْعَة تسمى قَوَارِير وَبقيت فِي يَده زَمَانا ثمَّ من مُدَّة ثَلَاث سِنِين حط الْوَزير يَده عَلَيْهَا
فتعجب الْخَلِيفَة من حسن أدب أَمِين الدولة وَأَنه لم ينْه أمرهَا إِلَيْهِ وَلَا عرض بطلبها
ثمَّ أَمر الْخَلِيفَة بِإِعَادَة الضَّيْعَة إِلَى أَمِين الدولة وَأَن لَا يُعَارض فِي شَيْء من ملكه
وَمن نوادره أَن الْخَلِيفَة كَانَ قد فوض إِلَيْهِ رئاسة الطِّبّ بِبَغْدَاد وَلما اجْتمع إِلَيْهِ سَائِر الْأَطِبَّاء ليرى مَا عِنْد كل وَاحِد مِنْهُم من هَذِه الصِّنَاعَة كَانَ من جملَة من حَضَره شيخ لَهُ هَيْئَة ووقار وَعِنْده سكينَة فَأكْرمه أَمِين الدولة وَكَانَت لذَلِك الشَّيْخ دربة مَا بالمعالجة وَلم يكن عِنْده من علم صناعَة الطِّبّ إِلَّا التظاهر بهَا
فَلَمَّا انْتهى الْأَمر إِلَيْهِ قَالَ لَهُ أَمِين الدولة مَا السَّبَب فِي كَون الشَّيْخ لم يُشَارك الْجَمَاعَة فِيمَا يبحثون فِيهِ حَتَّى نعلم مَا عِنْده من هَذِه الصِّنَاعَة فَقَالَ يَا سيدنَا وَهل شَيْء مِمَّا تكلمُوا فِيهِ إِلَّا وَأَنا أعلمهُ وَقد سبق إِلَى فهمي أَضْعَاف ذَلِك مَرَّات كَثِيرَة فَقَالَ لَهُ أَمِين الدولة فعلى من كنت قد قَرَأت هَذِه الصِّنَاعَة فَقَالَ الشَّيْخ يَا سيدنَا إِذا صَار الْإِنْسَان إِلَى هَذِه السن مَا يبْقى يَلِيق بِهِ إِلَّا أَن يسْأَل كم لَهُ من التلاميذ وَمن هُوَ المتميز فيهم
وَأما الْمَشَايِخ الَّذين قَرَأت عَلَيْهِم فقد مَاتُوا من زمَان طَوِيل
فَقَالَ لَهُ أَمِين الدولة يَا شيخ هَذَا شَيْء قد جرت الْعَادة بِهِ وَلَا يضر ذكره وَمَعَ هَذَا فَمَا علينا أَخْبرنِي أَي شَيْء قد قرأته من الْكتب الطبيبة وَكَانَ قصد أَمِين الدولة أَن يتَحَقَّق مَا عِنْده
فَقَالَ سُبْحَانَ الله الْعَظِيم صرنا إِلَى حد مَا يسْأَل عَنهُ الصّبيان وَأي شَيْء قد قرأته من الْكتب يَا سيدنَا لمثلي مَا يُقَال إِلَّا أَي شَيْء صنفته فِي صناعَة الطِّبّ وَكم لَك فِيهَا من الْكتب والمقالات وَلَا بُد أنني أعرفك بنفسي
ثمَّ إِنَّه نَهَضَ إِلَى أَمِين الدولة ودنا مِنْهُ وَقعد عِنْده وَقَالَ(1/351)
لَهُ فِيمَا بَينهمَا يَا سَيِّدي اعْلَم أنني قد شخت وَأَنا أوسم بِهَذِهِ الصِّنَاعَة وَمَا عِنْدِي مِنْهَا إِلَّا معرفَة اصْطِلَاحَات مَشْهُورَة فِي المداواة وعمري كُله أتكسب بهَا وَعِنْدِي عائلة فسألتك بِاللَّه يَا سيدنَا مشي حَالي وَلَا تفضحني بَين هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة
فَقَالَ أَمِين الدولة على شريطة وَهِي أَنَّك لَا تهجم على مَرِيض بِمَا تعلمه وَلَا تُشِير بفصد وَلَا بدواء مسهل إِلَّا لما قرب من الْأَمْرَاض
فَقَالَ الشَّيْخ هَذَا مذهبي مُنْذُ كنت مَا تعديت السكنجبين والجلاب
ثمَّ ان أَمِين الدولة قَالَ لَهُ مُعْلنا وَالْجَمَاعَة تسمع يَا شيخ اعذرنا فإننا مَا كُنَّا نعرفك والآن فقد عرفناك اسْتمرّ فِيمَا أَنْت فِيهِ فَإِن أحدا مَا يعارضك
ثمَّ إِنَّه عَاد بعد ذَلِك فِيمَا هُوَ فِيهِ مَعَ الْجَمَاعَة وَقَالَ لبَعْضهِم على من قَرَأت هَذِه الصِّنَاعَة وَشرع فِي امتحانه فَقَالَ يَا سيدنَا
أَنا من تلامذة هَذَا الشَّيْخ الَّذِي قد عَرفته وَعَلِيهِ كنت قد قَرَأت صناعَة الطِّبّ
فَفطن أَمِين الدولة بِمَا أَرَادَ من التَّعْرِيض بقوله وَتَبَسم ثمَّ امتحنه بعد ذَلِك
وَكَانَ لأمين الدولة بن التلميذ أَصْحَاب وَجَمَاعَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام أُتِي إِلَيْهِ ثَلَاثَة منجم ومهندس وَصَاحب أدب
فسألوا عَن أَمِين الدولة غُلَامه قنبر فَذكر لَهُم أَن سَيّده لَيْسَ فِي الدَّار وَأَنه لم يَأْتِ فِي ذَلِك الْوَقْت
فراحوا ثمَّ إِنَّهُم عَادوا فِي وَقت آخر وسألوه عَنهُ فَذكر لَهُم مثل قَوْله الأول
وَكَانَ لَهُم ذوق من الشّعْر فَتقدم المنجم وَكتب على الْحَائِط عِنْد بَاب الدَّار
(قد بلينا فِي دَار أسعد قوم بمدبر ... )
ثمَّ كتب المهندس بعده
(بقصير مطول ... وطويل مقصر)
ثمَّ تقدم صَاحب الْأَدَب وَكَانَ عِنْده مجون فَكتب
(كم تَقولُونَ قنبرا ... دحرجوا رَأس قنبر) الْخَفِيف
ومضوا
فَلَمَّا جَاءَ أَمِين الدولة قَالَ لَهُ قنبر يَا سَيِّدي جَاءَ ثَلَاثَة إِلَى هَهُنَا يطلبونك وَلما لم يجدوك كتبُوا هَذَا على الْحَائِط
فَلَمَّا قَرَأَهُ أَمِين الدولة قَالَ لمن مَعَه يُوشك أَن يكون هَذَا الْبَيْت الأول خطّ فلَان المنجم وَهَذَا الْبَيْت الثَّانِي خطّ فلَان المهندس وَهَذَا الثَّالِث خطّ فلَان صاحبنا فَإِن كل بَيت يدل على شَيْء مِمَّا يعانيه صَاحبه
وَكَانَ الْأَمر كَمَا حدسه أَمِين الدولة سَوَاء
وَكَانَت دَار أَمِين الدولة هَذِه يسكنهَا بِبَغْدَاد فِي سوق الْعطر مِمَّا يَلِي بَابه المجاور لباب الغربة من دَار الْخلَافَة المعظمة بالمشرعة النَّازِلَة إِلَى شاطئ دجلة
وَقَالَ أَمِين الدولة بن التلميذ فَكرت يَوْمًا فِي أَمر الْمذَاهب فَرَأَيْت هاتفا فِي النّوم وَهُوَ ينشدني
(أعوم فِي بحرك عَليّ أرى ... فِيهِ لما أطلبه قعرا)(1/352)
(فَمَا أرى فِيهِ سوى موجة ... تدفعني عَنْهَا إِلَى أُخْرَى) السَّرِيع
وحَدثني سعد الدّين بن أبي السهل الْبَغْدَادِيّ العواد وَكَانَ قد عمر قَالَ رَأَيْت أَمِين الدولة بن التلميذ وَاجْتمعت بِهِ وَكَانَ شَيخا ربع الْقَامَة عريض اللِّحْيَة حُلْو الشَّمَائِل كثير النادرة
قَالَ وَكَانَ يحب صناعَة الموسيقى وَله ميل إِلَى أَهلهَا
وحَدثني سديد الدّين مَحْمُود بن عَمْرو رَحمَه الله قَالَ حَدثنِي الإِمَام فَخر الدّين مُحَمَّد بن عبد السَّلَام المارديني وَكَانَ صديقا لأمين الدولة وعاشره مُدَّة قَالَ كَانَ الْأَجَل أَمِين الدولة بن التلميذ من المتميزين فِي الْعَرَبيَّة وَكَانَ يحضر مَجْلِسه فِي صناعَة الطِّبّ خلق كثير يقرأون عَلَيْهِ
وَكَانَ اثْنَان من النُّحَاة يلازمان مَجْلِسه وَلَهُمَا مِنْهُ الْأَنْعَام والافتقاد فَكَانَ من يجده من المشتغلين عَلَيْهِ يلحن كثيرا فِي قِرَاءَته أَو هُوَ ألكن يتْرك أحد ذَيْنك النَّحْوِيين يقْرَأ عَنهُ وَهُوَ يسمع
ثمَّ يَأْمر ذَلِك التلميذ أَيْضا بِأَن يُقرر للنحوي شَيْئا يعيطه إِيَّاه عَن قِرَاءَته عَنهُ
وَكَانَ لأمين الدولة ولد وَلم يكن مدْركا لصناعة الطِّبّ وَكَانَ فِي سَائِر أَحْوَاله بَعيدا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ أَمِين الدولة
ولأمين الدولة فِيهِ
(أَشْكُو إِلَى الله صاحبا شكسا ... تسعفه النَّفس وَهُوَ يعسفها)
(فَنحْن كَالشَّمْسِ والهلال مَعًا ... تكسبه النُّور وَهُوَ يكسفها) المنسرح
وَكَانَ أَمِين الدولة يؤنب وَلَده أَيْضا بِهَذَا الْبَيْت
(وَالْوَقْت أنفس مَا عنيت بحفظه ... وَأرَاهُ أسهل مَا عَلَيْك يضيع) الْكَامِل
وحَدثني الشَّيْخ الإِمَام رَضِي الدّين الطَّبِيب الرَّحبِي رَحمَه الله قَالَ اجْتمعت فِي بَغْدَاد بِابْن أَمِين الدولة فَلَمَّا جرى بَيْننَا حَدِيث قَالَ فِي سِيَاقَة كَلَامه أَن فِي السَّمَاء من الْجَانِب الجنوبي مثقبا تطلع فِيهِ الأدخنة وتنزل مِنْهُ الْأَرْوَاح
وبدت مِنْهُ أَشْيَاء كَثِيرَة من هَذَا الْقَبِيل ظهر بهَا أَن لَيْسَ عِنْده شَيْء من تَحْقِيق الْعلم وَلَا لَهُ فطْرَة سليمَة
وحَدثني الشَّيْخ السّني البعلبكي الطَّبِيب قَالَ رَاح من عندنَا من دمشق ثَلَاثَة من أطباء النَّصَارَى إِلَى بَغْدَاد سماهم فَلَمَّا أَقَامُوا بهَا سمعُوا بِابْن أَمِين الدولة فَقَالُوا سمعة وَالِده عَظِيمَة والمصلحة أننا نروح إِلَيْهِ ونسلم عَلَيْهِ ونخدمه ونكون قد اجْتَمَعنَا بِهِ قبل السّفر إِلَى الشَّام
فقصدوا دَاره ودخلوا إِلَيْهِ وسلموا وعرفوه أَنهم نَصَارَى وَأَن قصدهم التشرف بِرُؤْيَتِهِ فأكرمهم وأجلسهم عِنْده
قَالَ السّني فحدثوني أَنه تبين لَهُم سخافة عقل وَضعف رَأْي
وَذَلِكَ أَنه من جملَة مَا(1/353)
حَدثهمْ أَنه قَالَ يَقُولُونَ إِن الشَّام مليح ودمشق طيبَة وَأَنا قد عزمت أَن أبصرهَا إِلَّا أنني أعمل من حَيْثُ الْعلم والهندسة شَيْئا أكون إِذا سَافَرت إِلَيْهَا يكون بسهولة وَلَا أجد كلفة
قَالُوا فَقُلْنَا لَهُ يَا سيدنَا كَيفَ تعْمل فَقَالَ أما تعلمُونَ أَن الشَّام منخفض عَن أقليم بَغْدَاد وَأَنه مُسْتَقل عَنهُ وَذَلِكَ مَذْكُور فِي علم الْهَيْئَة وارتفاع الْمَوَاضِع بَعْضهَا على بعض
فَقُلْنَا نعم يَا سيدنَا
فَقَالَ اسْتعْمل عجلا من الْخشب ببكر كبار وَيكون فَوْقهم دفوف مبسوطة مسمرة وَاجعَل فَوْقهم جَمِيع مَا احْتَاجَ إِلَيْهِ وَإِذا أطلقنا الْعجل تروح بالبكر بِسُرْعَة فِي الانحدار وَلَا نزال كَذَلِك إِلَى أَن نصل إِلَى دمشق بِأَهْوَن سعي
قَالُوا فتعجبنا من غفلته وجهله
ثمَّ قَالَ وَالله مَا تروحون حَتَّى أضيفكم وتأكلون عِنْدِي طَعَاما
وَصَاح بالفراش فأحضر سفرة فاخرة وَمد عَلَيْهَا رقاقا رفيعا أَبيض لَا يكون شَيْء أحسن مِنْهُ كَأَنَّهُ النصافي البغدادية وهنابا فِيهِ خل وهندبا منقاة جعلهَا حواليه ثمَّ قَالَ بِسم الله كلوا
قَالُوا فأكلنا شَيْئا يَسِيرا إِذْ هُوَ على خلاف عادتنا فِي الْأكل
ثمَّ رفع يَدَيْهِ وَقَالَ يَا غُلَام هَات الطست فَاحْضُرْ طستا مفضضا وَقطعَة صابون رقي كَبِيرَة وسكب عَلَيْهِ المَاء وَهُوَ يغسل يَدَيْهِ فأرغى الصابون ثمَّ مسح بِهِ فَمه وَوَجهه ولحيته حَتَّى بقيت عَيناهُ وَوَجهه ملآن من ذَلِك الصابون وَهُوَ أَبيض وَنظر إِلَيْنَا
قَالُوا وَكَانَ منا فلَان لم يَتَمَالَك أَن ضحك وَزَاد عَلَيْهِ وَقَامَ فَخرج من عِنْده
فَقَالَ مَا لهَذَا فَقُلْنَا لَهُ يَا سيدنَا هَذَا فِيهِ خفَّة عقل وَهَذِه عَادَته
فَقَالَ لَو أَقَامَ عندنَا داويناه فتعجبنا مِنْهُ ثمَّ ودعناه وانصرفنا وَنحن نسْأَل الله الْعَافِيَة مِمَّا كَانَ فِيهِ من الْجَهْل
وَحدث بعض الْعِرَاقِيّين إِن أَمِين الدولة مَاتَ لصديق لَهُ ولد وَكَانَ ذَا أدب وَعلم وَلم يعزه أَمِين الدولة
فَلَمَّا اجْتمع بِهِ بعد ذَلِك عتب عَلَيْهِ إِذْ لم يعزه عَن وَلَده للمودة الَّتِي بَينهمَا
فَقَالَ أَمِين الدولة لَا تلمني فِي هَذَا فوَاللَّه أَنا أَحَق بالتعزية مِنْك إِذْ مَاتَ ولدك وَبَقِي مثل وَلَدي
وَوجدت كلَاما لأمين الدولة فِي ضمن رِسَالَة كتبهَا إِلَى وَلَده وَكَانَ يعرف برضي الدولة أبي نصر قَالَ والتفت بذهنك عَن هَذِه الترهات إِلَى تَحْصِيل مَفْهُوم تتَمَيَّز بِهِ
وَخذ نَفسك من الطَّرِيقَة بِمَا كررت تنبيهك عَلَيْهِ وإرشادك إِلَيْهِ واغتنم الْإِمْكَان واعرف قِيمَته
وتشاغل بشكر الله تَعَالَى عَلَيْهِ
وفز بحظ نَفِيس من الْعلم تثق من نَفسك بِأَن عقلته وملكته لاقرأته ورويته فَإِن بَقِيَّة الحظوظ تتبع هَذَا الْحَظ الْمَذْكُور وَتلْزم صَاحبه
وَمن طلبَهَا من دونه فَأَما أَن لَا يجدهَا وَأما إِن لَا يعْتَمد عَلَيْهَا إِذا وجدهَا وَلَا يَثِق بدوامها
وَأَعُوذ بِاللَّه أَن ترْضى لنَفسك إِلَّا بِمَا يَلِيق بمثلك أَن يتسامى إِلَيْهِ بعلو همته وَشدَّة أنفته وغيرته على نَفسه
وَمِمَّا قد كررت عَلَيْك الوصاة بِهِ أَن لَا تحرص على أَن تَقول شَيْئا لَا يكون مهذبا فِي مَعْنَاهُ وَلَفظه وَيتَعَيَّن عَلَيْك إِيرَاده
فَأَما مُعظم حرصك فتصرفه إِلَى أَن تسمع مَا تستفيده لَا مَا يُلْهِيك ويلذ للإغمار وَأهل الْجَهَالَة نزهك الله(1/354)
عَن طبقتهم فَإِن الْأَمر كَمَا قَالَ أفلاطن الْفَضَائِل مرّة الْورْد حلوة الصَّدْر والرذائل حلوة الْورْد مرّة الصَّدْر
وَقد زَاد أرسطوطاليس فِي هَذَا الْمَعْنى فَقَالَ إِن الرذائل لَا تكون حلوة الْورْد عِنْد ذِي فطْرَة فائقة بل يُؤْذِيه تصور قبحها أَذَى يفْسد عَلَيْهِ مَا يستلذه غَيره مِنْهَا
وَكَذَلِكَ يكون صَاحب الطَّبْع الْفَائِق قَادِرًا بِنَفسِهِ على معرفَة مَا يتوخى وَمَا يجْتَنب كالتام الصِّحَّة يَكْفِي حسه فِي تَعْرِيفه النافع والضار
فَلَا ترض لنَفسك حفظك الله إِلَّا بِمَا تعلم أَنه يُنَاسب طبقَة أمثالك
وأغلب خطرات الْهوى بعزمات الرِّجَال الرَّاشِدين واطمح بِنَفْسِك إِلَيْهَا تتركك فِي طَاعَة عقلك
فَإنَّك تسر بِنَفْسِك وتراها فِي كل يَوْم مَعَ اعْتِمَاد ذَلِك فِي رُتْبَة علية ومرقاة من سَمَاء فِي السَّعَادَة
وَكَانَت وَفَاة أَمِين الدولة بِبَغْدَاد فِي الثَّامِن وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة وَله من الْعُمر أَربع وَتسْعُونَ سنة
وَمَات نَصْرَانِيّا وَخلف نعما كَثِيرَة وأموالا جزيلة وكتبا لَا نَظِير لَهَا فِي الْجَوْدَة
فورث جَمِيع ذَلِك وَلَده وَبَقِي مُدَّة ثمَّ إِن ولد أَمِين الدولة خنق فِي دهليز دَاره الثُّلُث الأول من اللَّيْل وَأخذ مَاله ونقلت كتبه على اثْنَي عشر جملا إِلَى دَار الْمجد بن الصاحب
وَكَانَ ابْن أَمِين الدولة قد أسلم قبل مَوته
وَقيل إِنَّه كَانَ شَيخا قد ناهز الثَّمَانِينَ سنة
وَوجدت فِي أثْنَاء كتاب كتبه السَّيِّد النَّقِيب الْكَامِل بن الشريف الْجَلِيل إِلَى أَمِين الدولة بن التلميذ وَهُوَ يمتدحه فِيهِ بِهَذِهِ القصيدة
(أَمِين الدولة أسلم للأيادي ... عَليّ رغم الْمَنَاوِيّ والمعادي)
(وللمعروف تنشره إِذا مَا ... طواه تناوب النوب الشداد)
(فَأَنت الْمَرْء تلفى حِين تدعى ... جوادا بالطريف وبالتلاد)
(وصُولا للخليل على التنائي ... ودودا لَا يحول عَن الوداد)
(سديد الرَّأْي والأقوال تأبى ... نَهَاهُ أَن يمِيل عَن السداد)
(سأشكر مَا صنعت من الأيادي ... إِلَيّ على التداني والبعاد)
(وأثني وَالثنَاء عَلَيْك حق ... بِمَا أوليتني فِي كل نَادِي)
(وَهل شكري على مر اللَّيَالِي ... ينَال مدى ولائي واعتقادي)
(دعوتك وَالزَّمَان بِهِ حران ... فأمسى وهولي سهل القياد)
(أناديه فيسمعني وقدما ... تجانب لي أَصمّ عَن الْمُنَادِي)
(وَكم من منَّة لَك لَا توازي ... بِلَا من لدي وَلَا اعْتِدَاد)
(وَمن بَيْضَاء قد عمرت بقلبي ... محلك مِنْهُ فِي أقْصَى سَواد)
(أرى الأشواق نَحْوك فِي فُؤَادِي ... كَمثل النَّار فِي حجر الزِّنَاد)
(مَتى ولعت بِهِ ذكراك كَادَت ... لحر الوجد تلفظني بلادي)
(تحن ركائبي وأحن شوقا ... إِذا خطر اللِّقَاء على فُؤَادِي)(1/355)
(وأطمع فِي الرقاد رَجَاء زور ... يلم وَأَيْنَ طرفِي والرقاد)
(سأبعثها تثير البيد وخدا ... وتعتسف الظلام بِغَيْر هادي)
(لَو أَن النَّجْم جاراها دَلِيلا ... تحير أَو شكا طول السهاد)
(تلفت بِي إِلَى الزَّوْرَاء زورا ... كَمَا التفتت إِلَى المَاء الصوادي)
(وَلَو أَن الزَّمَان جرى وَمن لي ... بِأَن يجْرِي الزَّمَان على مرادي)
(وأمكنني المزار لما عدتني ... وحقك عَن زيارتك العوادي)
(فَمن لي أَن تسيرني المطايا ... إِلَيْك وَلَو سريت بِغَيْر زَاد)
(أَقُول لصَاحب لم يدر جهلا ... أغيي مَا تحاول أم رشادي)
(إِذا واليت فَانْظُر من توالي ... وَإِن عاديت فَانْظُر من تعادي)
(فَإِن أَحْبَبْت تعرف مَا التناهي ... من الْأَشْيَاء فَانْظُر فِي المبادي)
(وَدعنِي وَالثنَاء على مبر ... عرفت بِهِ صلاحي من فسادي)
(على متوحد فِي الْفضل سَام ... إِلَى أمد العلى مَبْنِيّ الأيادي)
(أخي حكم شواهدها عَلَيْهِ ... بواد فِي الحواضر والبوادي)
(إِذا مَا قيس قصر عَنهُ قس ... وَقس مَا علمنَا فِي أياد)
(وَإِن جاورته جَاوَرت غيثا ... يذوب نداه فِي الْعَام الجماد)
(أَو استنجدته أعداك مِنْهُ ... أَخُو عزم على الْأَيَّام عادي)
(جواد بِالَّذِي تحوي يَدَاهُ ... إِذا نُودي أَلا هَل من جواد)
(يجيبك قبل أَن تَدْعُو نداه ... وَيَكْفِي كل حَادِثَة بنادي)
(أَخُو كرم يقل العتب فِيهِ ... وإفضال تقر بِهِ الأعادي)
(وأخلاق كَمثل الراح شيبت ... بمشمول من الصفو البراد)
(بِأَدْنَى سَعْيه حَاز الْمَعَالِي ... وأخفق غَيره بعد اجْتِهَاد)
(وَفِي الغايات أَن لز المذاكي ... تبين المقرفات من الْجِيَاد)
(أَبَا الْحسن اسْتمع مني ثَنَاء ... حلا فَخَلا من الْمَعْنى الْمعَاد)
(كأنفاس الرياض سرت عَلَيْهَا ... صبا فتعطرت غب العهاد)
(أنادي فِيهِ بِاسْمِك والقوافي ... تؤرج لَا بسعدى أَو سعاد)
(وَقد عرضته لَك مستجيرا ... بعدلك فِيهِ من جور انتقاد)(1/356)
(وَمثلك من رأى قصد القوافي ... إِلَيْهِ وَقَالَ فِيهَا باقتصاد)
(جزيت الصَّالِحَات فَأَنت أهل ... لَهَا وسقيت أنواء الغوادي)
(ودمت على الزَّمَان وكل شَيْء ... على مر الزَّمَان إِلَى نفاد)
وَقَالَ الشريف أَبُو يعلى مُحَمَّد بن الهبارية العباسي من قصيدة يمدح بهَا الْأَجَل أَمِين الدولة بن التلميذ يَقُول فِيهَا
(يَا بني التلميذ لَو وافيتكم ... لم تكن نَفسِي بأهلي شغفه)
(وتسليت بكم عَن صبيتي ... وَغدا وسطي ثقيل المنصفة)
(إِنَّمَا طلقت كرمان بكم ... إِنَّكُم لي عوض مَا أشرفه)
(برئيس الْحُكَمَاء المرتجى ... أَنه لي جنَّة مخترفه)
(عوقتني عَن عميد الْملك ... دنياي ودنياي ظلوم مجحفه)
(لَو رَآنِي هبة الله أَبُو الْحسن ... الأوحد كَانَت متحفه)
(فَهُوَ من نَخْلَة دهري طلعة ... حلوة الطّعْم وكل حشفه)
(غَدَتْ الدُّنْيَا وَمن فِيهَا مَعًا ... لعلاه بالعلى معترفه)
(فأماني الورى كلهم ... من أيادي جوده مغترفه)
(وبأبراد معالي ظله ... من تصاريف الردى ملتحفه)
(شمس مجد لَا ترَاهَا أبدا ... عَن سموات العلى منكسفه)
(جلّ أَن يدْرك وَصفا مجده ... أَنه أكبر من كل صفه)
(فَهُوَ غدر الدَّهْر بل إحسانه ... والبرايا يبسات قشفه)
(لَو تمكنت لكَانَتْ جملتي ... فِي زَوَايَا دَاره مُعْتَكفه)
(سنّ فِي دنيا الْمَعَالِي سننا ... أَصبَحت معجبة مستظرفه)
(فِيهِ تفتخر الدُّنْيَا الَّتِي ... أَصبَحت من غَيره مستنكفه)
(سَيِّدي كم غمَّة جليتها ... فغدت ظلمتها منكشفه)
(وأياد جمة أوليتها ... بيد مَا بَرحت مرتشفه)
(نثرت مِنْك بروق لم تكن ... حِين شمناها بروقا مخلفه)
(وتراءى مِنْك بر شكره ... معجز كل لِسَان وشفه)
(إِنَّمَا أحبو بني التلميذ بالمدح ... إِذْ كلهم ذُو معرفه)
(فَابْن يحيى مِنْهُم محيي الندى ... زَاد فِي الْجُود على من خَلفه)
(وَهُوَ فِي الْفضل لَهُ الْفضل على ... كل من أنكرهُ أَو عرفه)(1/357)
(حقق الكنية من وَالِده ... كرما فِيهِ وطبعا أَلفه)
(وهم من صاعد عَن سادة ... بِأبي مجدهم مَا أنظفه)
(لَا تقسهم بالورى كلهم ... فتقس لَيْث الشرى بالجعدفه)
(فَابْن إِبْرَاهِيم لاهوت العلى ... من دَعَاهُ بشرا مَا أنصفه)
(يَا رَئِيس الْحُكَمَاء استجلها ... من بَنَات الْفِكر بكرا مترفه)
(إِنَّنِي انفذت نخلي قَاصِدا ... أشتكي دهرا قَلِيل النصفه)
(وبأنعامك قد عللتها ... إِنَّه يجلو الخطوب المغدفه)
(فأبق للمجد ثمالا مَا رغت ... لغبا جسرة سَار موجفه)
(كم لكم من نعْمَة تالدة ... تترجى أُخْتهَا المطرفه)
(جددوا إيرادها يَا سادتي ... بأياد مِنْكُم مؤتنفه) الرمل
وَكتب أَبُو إِسْمَاعِيل الطغرائي إِلَى أَمِين الدولة بن التلميذ
(يَا سَيِّدي وَالَّذِي مودته ... عِنْدِي روح يحيا بهَا الْجَسَد)
(من ألم الظّهْر أستغيث وَهل ... يألم ظهر إِلَيْك يسْتَند) المنسرح
وَكَانَ مُحَمَّد بن جكينا قد مرض وزاره أَمِين الدولة فَقَالَ فِيهِ ابْن جكينا
(قصدت ربعي فتعالى بِهِ ... قدري فدتك النَّفس من قَاصد)
(فَمَا رأى الْعَالم من قبلهَا ... بحرا مَشى قطّ إِلَى وَارِد) السَّرِيع
وَكَانَ بعض الشُّعَرَاء بِبَغْدَاد أَتَى إِلَى أَمِين الدولة وشكى حَاله واستوصفه فوصف مَا يصلح للمرض الَّذِي شكاه ثمَّ دفع لَهُ صرة فِيهَا دَنَانِير وَقَالَ لَهُ هَذِه تصلح بهَا مزورة زيرباج فَأَخذهَا وبرأ بعد أَيَّام فَكتب إِلَيْهِ
(أَتَيْته اشتكي وَبِي مرض ... إِلَى التَّدَاوِي والرفد مُحْتَاج)
(فَقلت إِذْ برني وأبراني ... هَذَا طَبِيب عَلَيْهِ زرباج) المنسرح(1/358)
وَمن كَلَام أَمِين الدولة بن التلميذ حَدثنِي سديد الدّين بن رقيقَة قَالَ حَدثنِي فَخر الدّين المارديني قَالَ كَانَ يَقُول لنا أَمِين الدولة لَا تقدروا أَن أَكثر الْأَمْرَاض تحيطون بهَا خبْرَة فَإِن مِنْهَا مَا يأتيكم من طَرِيق السماوة
وَكَانَ يَقُول أَيْضا مَتى رَأَيْت شَوْكَة فِي الْبدن وَنِصْفهَا ظَاهر فَلَا تشْتَرط أَنَّك تقلعها فَإِنَّهَا رُبمَا انْكَسَرت
وَمن كَلَامه قَالَ يَنْبَغِي للعاقل أَن يخْتَار من اللبَاس مَا لَا تحسده عَلَيْهِ الْعَامَّة وَلَا تحقره فِيهِ الْخَاصَّة
وَمن شعر الْأَجَل أَمِين الدولة بن التلميذ وَهُوَ مِمَّا أَنْشدني مهذب الدّين أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْخضر الْحلَبِي مِمَّا سَمعه من وَالِده قَالَ أَنْشدني أَمِين الدولة بن التلميذ لنَفسِهِ
(حبي سعيدا جَوْهَر ثَابت ... وحبه لي عرض زائل)
(بِهِ جهاتي السِّت مَشْغُولَة ... وَهُوَ إِلَى غَيْرِي بهَا مائل) السَّرِيع
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(إِذا وجد الشَّيْخ فِي نَفسه ... نشاطا فَذَلِك موت خَفِي)
(أَلَسْت ترى أَن ضوء السراج ... لَهُ لَهب قبل أَن ينطفي) المتقارب
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(تعس الْقيَاس فللغرام قَضِيَّة ... لَيست على نهج الحجى تنقاد)
(مِنْهَا بَقَاء الشوق وَهُوَ بعرفنا ... عرض وتفنى دونه الأجساد) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ فِي الْوَزير الدركزيني
(قَالُوا فلَان قد وزر ... فَقلت كلا لَا وزر)
(وَالله لَو حكمت فِيهِ ... جعلته يرْعَى الْبَقر) الرجز
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(قَالَ الْأَنَام وَقد رَأَوْهُ ... مَعَ الحداثة قد تصدر)
(من ذَا المجاوز قدره ... قلت الْمُقدم بالمؤخر) الْكَامِل المرفل(1/359)
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(قد قلت للشَّيْخ الْجَلِيل ... الأريحي أبي المظفر)
(ذكر فلَان الدّين بِي ... قَالَ الْمُؤَنَّث لَا يذكر) الْكَامِل المرفل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ لغزا فِي السّمك
(لبسن الجواشن خوف الردى ... وعلين فَوق الرؤوس الخوذ)
(فَلَمَّا أَتَاهَا الردى أهلكت ... بشم نسيم الْهوى المستلذ) المتقارب
وَمن شعر أَمِين الدولة بن التلميذ أَيْضا قَالَ
(سُقْ النَّفس بِالْعلمِ نَحْو الْكَمَال ... تواف السَّعَادَة من بَابهَا)
(وَلَا ترج مَا لم تسبب لَهُ ... فَإِن الْأُمُور بأسبابها) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(لَوْلَا حجاب أَمَام النَّفس يمْنَعهَا ... عَن الْحَقِيقَة فِيمَا كَانَ فِي الْأَزَل)
(لأدركت كل شَيْء عز مطلبه ... حَتَّى الْحَقِيقَة فِي الْمَعْلُول والعلل) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(الْعلم للرجل اللبيب زِيَادَة ... ونقيصة للأحمق الطياش)
(مثل النَّهَار يزِيد أبصار الورى ... نورا ويغشي أعين الخفاش) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(بزجاجتين قطعت عمري ... وَعَلَيْهِمَا عولت دهري)
(بزجاجة ملئت بحبر ... وزجاج ملئت بِخَمْر)
(فبذي أثبت حكمتي ... وبذي أزيل هموم صَدْرِي) الْكَامِل المرفل
وَقَالَ أَيْضا
(تواضع كالبدر استنار لناظر ... على صفحات المَاء وَهُوَ رفيع)
(وَمن دونه يسمو إِلَى الْمجد صاعدا ... سمو دُخان النَّار وَهُوَ وضيع)
وَقَالَ أَيْضا
(إِذا كنت مَحْمُودًا فَإنَّك مرمد ... عُيُون الورى فأكحلهم بالتواضع) الطَّوِيل(1/360)
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تحقرن عدوا لَان جَانِبه ... وَلَو يكون قَلِيل الْبَطْش وَالْجَلد)
(فللذبابة فِي الْجرْح الممد يَد ... تنَال مَا قصرت عَنهُ يَد الْأسد) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(نفس الْكَرِيم الْجواد بَاقِيَة ... فِيهِ وَإِن مس جلده العجف)
(وَالْحر حر وَإِن ألم بِهِ ... الضّر فَفِيهِ العفاف وَالْأنف)
(والنذل لَا يَهْتَدِي لمكرمة ... لِأَن ذَاك المزاج منحرف)
(فالقطر سم إِن احتواه فَم الصل ... ودر أَن ضمه الصدف) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(كَانَت بلهنية الشبيبة سكرة ... فصحوت فاستأنفت سيرة مُجمل)
(وَقَعَدت أرتقب الفناء كراكب ... عرف الْمحل فَبَاتَ دون الْمنزل) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(قَالُوا شباب الْفَتى خؤون ... والشيب واف فَلَيْسَ يرحل)
(فَقلت أبعدتم قِيَاسا ... ذَاك حبيب وَذَا مُوكل) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(وَأرى عُيُوب الْعَالمين وَلَا أرى ... عَيْبا لنَفْسي وَهُوَ مني قريب)
(كالطرف يستجلي الْوُجُوه وَوَجهه ... مِنْهُ قريب وَهُوَ عَنهُ مغيب) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(أجدك إِن من شيم اللَّيَالِي ... العنيفة أَن تجور على اللهيف)
(كَمثل الْخَلْط أغلب مَا ترَاهُ ... يصب أَذَاهُ فِي الْعُضْو الضَّعِيف) الوافر(1/361)
وَقَالَ أَيْضا
(كأس يطفي لَهب الأوام ... ثَان يعين هاضم الطَّعَام)
(وللسرور ثَالِث المدام ... وَالْعقل يَنْفِيه مزِيد جَام) الرجز
وَقَالَ أَيْضا
(يَا من رماني عَن قَوس فرقته ... بِسَهْم هجر غلا تلافيه)
(أَرض لمن غَابَ عَنْك غيبته ... فَذَاك ذَنْب عِقَابه فِيهِ)
(لَو لم ينله من الْعَذَاب سوى ... بعْدك عَنهُ لَكَانَ يَكْفِيهِ) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(عاتبت إِذْ لم يزر خيالك ... وَالنَّوْم بشوقي إِلَيْهِ مسلوب)
(فزارني منعما وعاتبني ... كَمَا يُقَال الْمَنَام مقلوب) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(لسيف جفونك فضل على ... مواضي السيوف الَّتِي فِي الجفون)
(فَتلك مَعَ الْقَتْل لَا تَسْتَطِيع ... رَجَعَ النُّفُوس بِدفع الْمنون)
(وعيناك يقتلني شزرها ... وَأَحْيَا بإيماضها فِي سُكُون) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(تمت محاسنه سوى كلف ... حُلْو المواقع زانه بشر)
(وَسموا بِهِ لألآء غرته ... عمدا ليعلم أَنه بدر) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تحسبن سَواد الْخَال عَن خلل ... من الطبيعة أَو إحداثه غَلطا)
(وَإِنَّمَا قلم التَّصْوِير حِين جرى ... بنُون حَاجِبه فِي خَدّه نقطا) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(أبصره عاذلي عَلَيْهِ ... وَلم يكن قبله رَآهُ)
(فَقَالَ لي لَو عشقت هَذَا ... مَا لامك النَّاس فِي هَوَاهُ)(1/362)
(قل لي إِلَى من عدلت عَنهُ ... وَلَيْسَ أهل الْهوى سواهُ)
(فظل من حَيْثُ لَيْسَ يدْرِي ... يَأْمر بالعشق من نَهَاهُ) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(يَا من لبست عَلَيْهِ أَثوَاب الضنا ... صفرا مشهرة بحمر الأدمع)
(أدْرك بَقِيَّة مهجة لَو لم تذب ... شوقا إِلَيْك نفيتها عَن أضلعي) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(أَنْت شغلي فِي كل حَال فنومي ... بخيال ويقظتي بادكار)
(طَال ليلِي بطول هجرك لَا دَامَ ... وشوقي إِلَى اللَّيَالِي الْقصار) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(براني الْهوى بري المدى فأذابني ... صدودك حَتَّى صرت أنحل من أمس)
(وَلست أرى حَتَّى أَرَاك وَإِنَّمَا ... يبين هباء الذَّر فِي أفق الشَّمْس) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(وغزال فاق الغزالة حسنا ... فاتر الطّرف ذِي جفون مراض)
(قَالَ إِذْ رمته أنالك سخطا ... ليته قَالَهَا بصفحة رَاض) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(لَئِن تعوضت عَن وَصلي بمطرف ... فَلَا تَظنن إِنِّي غير معتاض)
(إِنِّي بعزة نفس أَنْت تعرفها ... لسابق سلوة السالي بإعراض) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(قد كنت اعْتد حينا ... لقياك أنفس ربح)
(فقد بَدَت عَن سلو ... سَمَاء عَقْلِي تصحي)
(مَالِي أهيم بِحسن ... يكون عِلّة قبح) المجتث(1/363)
وَقَالَ أَيْضا
(لَو كَانَ يحسن غضن البان مشيتهَا ... تأودا لمشاها غير محتشم)
(فِي صدرها كوكبا نور أقلهما ... ركنان لم يدنوا من كشف مستلم)
(صانتهما فِي حَرِير من غلائلها ... فَنحْن فِي الْحل والركنان فِي الْحرم) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(عانقتها وظلام اللَّيْل منسدل ... ثمَّ انْتَبَهت بِبرد الْحلِيّ فِي الْغَلَس)
(فَبت أحميه خوفًا أَن ينبهها ... وأتقي أَن أذيب العقد بِالنَّفسِ) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تظني تجنبي لملال ... أَنْت من خوف سلوتي فِي أَمَان)
(رب هجر يكون أدعى إِلَى الْوَصْل ... وَوصل أدعى إِلَى الهجران) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(وَكَانَ عِذَارَيْ عِنْدهَا عذر وَصلهَا ... فشاب فَصَارَ الْعذر فِي صدها عِنْدِي)
(فأعجب بِأَمْر أَمْسَى دَاعِيَة الْهوى ... يحول فيضحي الْيَوْم دَاعِيَة الصد) الطَّوِيل
وَقَالَ لغزا فِي السَّحَاب
(وهاجم لَيْسَ لَهُ من عدوى ... مستبدل بِكُل مثوى مثوى)
(بكاؤه وضحكه فِي معنى ... إِذا بَكَى أضْحك أهل الدُّنْيَا) الرجز
وَقَالَ أَيْضا لغزا فِي الْمِيزَان
(مَا وَاحِد مُخْتَلف الْأَهْوَاء ... يعدل فِي الأَرْض وَفِي السَّمَاء)
(يحكم بِالْقِسْطِ بِلَا رِيَاء ... أعمى يرى الرشاد كل رائي)
(أخرس لَا من عِلّة وداء ... يُغني عَن التَّصْرِيح بالأيماء)
(يُجيب إِن ناداه ذُو امتراء ... بِالرَّفْع والخفض عَن النداء) الرجز(1/364)
وَقَالَ أَيْضا لغزا فِي الدرْع
(وبيضاء لَا للبيض والسمرقدها ... تظاهر فِي تقويمها الْحر وَالْبرد)
(تجلت لنا حبا وَلم تجر فِي رَحا ... وَلَكِن تولاه لَهَا الدق وَالْبرد)
(وقيت بهَا نَفسِي فَكَانَت كَأَنَّهَا ... هِيَ الشَّمْس محبوبا بهَا الْكَوْكَب الْفَرد) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا لغزا فِي الإبرة
(وكاسبة رزقا سواهَا يجوزه ... وَلَيْسَ لَهَا حمد عَلَيْهِ وَلَا أجر)
(مفرقة للشمل وَالْجمع دأبها ... وخادمة للنَّاس تخدمها عشر)
(إِذا خطرت جرت فضول ذيولها ... سجية ذِي كبر وَلَيْسَ بهَا كبر)
(ترى النَّاس طرا يلبسُونَ الَّذِي نضت ... تعمهم جودا وَلَيْسَ لَهَا وفر)
(لَهَا الْبَيْت بعد الْعِزّ غير مدافع ... إِلَى بأسه تعزى المهندة البتر)
(أضرّ بهَا مثلي نحول بجسمها ... وَإِن لم يرعها مثل مَا راعني هجر) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا لغزا فِي الظل
(وَشَيْء من الْأَجْسَام غير مجسم ... لَهُ حركات تَارَة وَسُكُون)
(يتم أواني كَونه وفساده ... وَفِي وَقت محياه المحاق يكون)
(إِذا بَانَتْ الْأَنْوَار بَان لناظر ... وَأما إِذا بَانَتْ فَلَيْسَ يبين) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا مِمَّا يكْتب على حَصِير
(أفرشت خدي للضيوف وَلم يزل ... خلقي التَّوَاضُع للبيب الأكيس)
(فتواضعي أعلا مَكَاني بَينهم ... طورا فصرت أحل صدر الْمجْلس) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا فِي مَعْنَاهُ
(رب وصل شهدته فتمتعت ... عنَاقًا بالعاشقين جَمِيعًا)
(وجداني للود أَهلا وللسر ... مَكَانا وللصديق مُطيعًا) الْخَفِيف(1/365)
وَقَالَ أَيْضا فِي مدخنة النجور
(إِذا الهجر أضرم نَار الْهوى ... فقلبي يضرم للهجر نَارا)
(أبوح بأسراري الْمُضْمرَات ... تبدو سرارا وتبدو جهارا)
(إِذا مَا طوى خبري صَاحب ... أَبى طيب عرفي إِلَّا انتشارا)
وَقَالَ أَيْضا فِيهَا
(كل نَار للشوق تضرم بالهجر ... وناري تشب عِنْد الْوِصَال)
(فَإِذا الصد راعني سكن الوجد ... وَلم يخْطر الغرام ببالي) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا فِيهَا
(يَشكونَ المحبون الجوى ... عِنْد التَّفَرُّق والزيال)
(وَأَشد مَا أصلى بِنَا ... والشوق أَوْقَات الْوِصَال) الْكَامِل المرفل
وَقَالَ أَيْضا فِيهَا
(رب حمى لَا ترام عزته ... أبحته النَّفس غير مَحْجُوب)
(يُبْدِي عياني لمن تأملني ... نَار محب وَنشر مَحْبُوب) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا فِي مغسل الشّرْب
(إِذا مَا خطبت الود بَين معاشر ... فَكُن لَهُم مثلي تعد أَخا صدق)
(إِذا استأثروا من كل كأس بصفوها ... رضيت بِمَا أبقوه من مشرب رنق) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تدع رَبك أَن يعذب عَاشِقًا ... لقبيح صورتهَا بِغَيْر وصالها) الْكَامِل المرفل
وَقَالَ أَيْضا
(أكثرت حسو الْبيض ... كَيْمَا يستديم قيام أيرك)
(مَا لَا يقوم ببيضتيك ... فَلَا يقوم ببيض غَيْرك) الْكَامِل(1/366)
وَقَالَ أَيْضا يهجو إنْسَانا بِالْعينِ
(مدور الْعين فاتخذه ... لتل غرس وثل عرش)
(لَو رمقت عينه الثريا ... أخرجهَا فِي بَنَات نعش) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(يَا دَار لَا تنكري مني الْتِفَات فَتى ... فِرَاق أحبابه أجْرى مدامعه)
(عهِدت فِيك قميرا كَانَ يؤنسني ... حينا فعيناي تستقري مطالعه) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(خَلِيل نأى عني فبدلت بعده ... مُقيم الجوى من صفو عَيْش وطيبه)
(أغار عَلَيْهِ صرف دهر فغاله ... وَعَما قَلِيل سَوف يلحقني بِهِ) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تعجبوا من حنين قلبِي ... إِلَيْهِم واعذروا غرامي)
(فالقوس مَعَ كَونهَا جمادا ... تَئِنُّ من فرقة السِّهَام) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(كَيفَ ألذ الْعَيْش فِي بَلْدَة ... سكان قلبِي غير سكانها)
(لَو أَنَّهَا الْجنَّة قد أزلفت ... أرْضهَا إِلَّا برضوانها) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا يرثي
(كم ذَا الْوُقُوف على غرور أماني ... أأخذت من دنياك عقد أَمَان)
(هَل عيشة بعد الرضى مرضية ... كلا وَلَو كَانَت خُلُود جنان)
(إِن السَّمَاء لفقده لحزينة ... فرياحها نفس الكئيب العاني)
(والغيث أدمعه وَمَا برقتْ بِهِ ... نَار الجوى والرعد للأرنان)(1/368)
(لَو ذاق فقدك من يلوم على البكا ... لزرى على التبسيم والسلوان)
(تبعوك إِذا صلوا عَلَيْك وَلم تزل ... كالنجم تهديهم بِكُل مَكَان)
(كنت الْمُقدم فِي الصُّفُوف لجولة ... الأقران أَو لتلاوة الْقُرْآن)
(لَا تبعدن وَمَا الْبعيد بِمن نأى ... حَيا وَلَكِن الْبعيد الداني)
(وَقَالَ أَيْضا يرثي الْأَمِير سيف الدولة صَدَقَة ... بن مَنْصُور دبيس الْأَسدي لما قتل)
(ليبك ابْن مَنْصُور عفاة نواله ... إِذا عصفت بِالرِّيحِ نكباء حرجف)
(وَيذكرهُمْ من ردهم بعبوسه ... فَتى كَانَ يلقاهم ببشر ويسعف)
(وَلما سما فَوق السَّمَاء بهمة ... يغض لَهَا طرف الحسود ويطرف)
(رمته اللَّيَالِي بل رمتنا برزئه ... كبدر الدجى فِي لَيْلَة التم يخسف)
(عَلَيْك سَلام لَا تزَال قُلُوبنَا ... على حزن مَا هبت الرّيح توقف)
(وَلَا بَرحت عين السَّمَاء بوبلها ... على جدث وأراك تهمي وتذرف) الطَّوِيل
وَقَالَ يهنيء بخلعة
(لَئِن شرفت مناسبها وجلت ... لقد زفت إِلَى كُفْء شرِيف)
(إِلَى من زانها وأزان مِنْهَا ... كسالفة المليحة والشنوف) الوافر
وَكتب إِلَيْهِ الرئيس أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن أَفْلح الْكَاتِب وَقد نقه من مرض كَانَ بِهِ
(أَنا جوعان فانقذني ... من هذي المجاعه)
(فَرجي فِي الكسرة الْخبز ... وَلَو كَانَت قطاعه)
(لَا تقل لي سَاعَة تصبر ... مَالِي صَبر ساعه)
(فخواي الْيَوْم مَا يقبل ... فِي الْخبز شفاعه) الرمل
فَكتب إِلَيْهِ أَمِين الدولة بن التلميذ الْجَواب
(هَكَذَا أضياف مثلي ... يتشكون المجاعه)
(غير أَنِّي لَيْسَ عِنْدِي ... لمضر من شفاعه)(1/368)
(فتعلل بسويق ... فَهُوَ خير من قطاعه)
(بحياتي قل كَمَا ... ترسمه سمعا وطاعه)
وأهدي إِلَى الْوَزير ابْن صدقه كتاب المحاضرات للراغب وَكتب مَعَه
(لما تعذر أَن أكون ملازما ... لجناب مَوْلَانَا الْوَزير الصاحب)
(ورغبت فِي ذكري بِحَضْرَة مجده ... اذكرته بمحاضرات الرَّاغِب) الْكَامِل
وَكَانَ أَبُو الْقَاسِم بن الْفضل قد عتب على أَمِين الدولة بن التلميذ عتبا مريبا فَأَجَابَهُ أَمِين الدولة بِأَن خلع عَلَيْهِ قَمِيصًا مصمتا أسود وَكتب إِلَيْهِ
(أحبك فِي السَّوْدَاء تسحب ذيلها ... خَطِيبًا وَلَكِن لَا بِذكر مثالبي) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(أَتَانِي كتاب لم يزدني بَصِيرَة ... بسؤدد مهديه إِلَيّ وفضله)
(فَقلت وَقد أخجلتني بابتدائه ... أَبى الْفضل إِلَّا أَن يكون لأَهله) الطَّوِيل أأأ
وَكتب إِلَى الْوَزير سعد الْملك نصير الدّين فِي صدر كتاب
(لَا زَالَ جدك بالإقبال مَوْصُولا ... وجد ضدك بالأذلال مغلولا)
(وَلَا عدمت من الرَّحْمَن موهبة ... تعيد ربعك بالعافين مأهولا)
(فَنعم منطلق الْكَفَّيْنِ أَنْت إِذا ... أضحى اللَّئِيم عَن الْمَعْرُوف مغلولا)
(تجود بِالْمَالِ لَا تسْأَل يَدَاهُ وَإِن ... تسْأَل فَصَاحَته بذ الورى قيلا)
(لَا يستريح إِلَى العلات معتذرا ... إِذا الضنين رأى للبخل تَأْوِيلا)
(يُبَادر الْجُود سبقا للسؤال يرى ... تَعْجِيله بعد بذل الْوَجْه تأجيلا)
(لَا غروان كسفت شمس الضُّحَى وبدت ... فَأكْثر النَّاس تبجيلا وتهليلا)
(فَأَنت سيف غياث الدّين أغمده ... صونا وَعَاد على الْأَعْدَاء مسلولا)
(فَلَا خلا الدست من غيث إِذا قَنطُوا ... ظلّ نداه لَدَى الرواد مبذولا)
(فَمَا يَلِيق بِغَيْر السعد مُسْنده ... وَإِن أعاروه إعظاما وتبجيلا)
(فَاسْلَمْ على الدَّهْر فِي نعماء صَافِيَة ... من النوائب مرهوبا ومأمولا) الْبَسِيط(1/369)
وَكتب فِي صدر كتاب إِلَى جمال الرؤساء أبي الْفَتْح هبة الله بن الْفضل بن صاعد جَوَابا
(مَا نشر أنفاس الرياض مَرِيضَة ... عوادها طل الندى وقطار)
(بدميثة ميثاء حلى وَجههَا ... وحبا عَلَيْهَا حنوة وعرار)
(كفلت بثروتها مُؤَبّدَة بهَا ... وَكفى صداها جدول مدرار)
(بَكت السَّمَاء فأضحكتها مثل مَا ... أبْكِي فتضحك بِي الْغَدَاة نوار)
(وَإِذا تعارضها ذكاء تشعشعت ... فتمازج النوار والنوار)
(مشت الصِّبَا بفروعها مختالة ... فصبا المشوق وَغَيره استعبار)
(وَإِذا تغنى الطير فِي أرجائها ... أبدى بلابل صَدره التذْكَار)
(يَوْمًا بأطيب من جوارك شَاهدا ... أَو غَائِبا تَدْنُو بك الْأَخْبَار)
وَكتب إِلَيْهِ جمال الْملك أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن أَفْلح فِي أثْنَاء كتاب
(إِنِّي وحقك مُنْذُ ارتحلت ... نهاري حنين وليلي أَنِين)
(وَمَا كنت أعرف قبلي امْرَءًا ... بجسم يُقيم وقلب يبين)
(يَقُول الخلي إِذا مَا رأى ... ولوعي بذكراك لَا تستكين)
(تسل فَقل دهاك الْفِرَاق ... أَتَدْرِي جوى الْبَين أَنى يكون)
(وَكَيف السَّبِيل إِلَى سلوتي ... وحزني وَفِي وصبري خؤون) المتقارب
فَكتب أَمِين الدولة فِي جَوَابه
(وَإِنِّي وحبك مذ بنت عَنْك ... قلبِي حَزِين ودمعي هتون)
(وأخلف ظَنِّي صَبر معِين ... وَشَاهد شكواي دمع معِين)
(فَللَّه أيامنا الخاليات ... لَو رد سالف دهر حنين)
(وَإِنِّي لأرعى عهود الصفاء ... ويكلؤها لَك ود مصون)
(واحفظ ودك عَن قَادِح ... وود الأكارم علق ثمين)
(وَلم لَا يكون وَنحن اليدان ... أَنْت بِفَضْلِك مِنْهَا الْيَمين)
(إِذا قلت أسلوك قَالُوا الغرام ... هَيْهَات ذَلِك مَا لَا يكون)
(وَهل لي فِي سلوة مطمع ... وصبري خؤون وودي أَمِين)
وَكتب فِي صدر كتاب إِلَى الْعَزِيز أبي نصربن مُحَمَّد بن حَامِد مُسْتَوْفِي الممالك
(لعمر أَبِيك الْخَيْر لَيْسَ لوَاحِد ... من النَّاس إِلَّا حَامِد لِابْنِ حَامِد)(1/370)
(كَأَنَّهُمْ دانوا الْإِلَه بشكرهم ... علاهُ وَلَكِن لَا كشكر ابْن ساعد)
(هم خيروا عَنهُ فاثنوا بِصَالح ... وَعِنْدِي بِمَا اثنيت خير الْمشَاهد) الطَّوِيل
وَكتب إِلَى ابْن أَفْلح
(أَسَأْت بنفسي حِين أزمعت رحْلَة ... فهمي مَجْمُوع بشملي المفرق)
(فَإِن امْرَءًا سر الْمُوفق قربه ... وفارقه طَوْعًا لغير موفق) الطَّوِيل
وَكتب إِلَى موفق الدّين أبي طَاهِر الْحُسَيْن بن مُحَمَّد لما اجتازه بساوة
وَدخل إِلَى دَار كتبهَا الَّتِي وَقفهَا الْمَذْكُور الْمَكْتُوب إِلَيْهِ
(وفقت للخير إِذْ عممت بِهِ ... طلابه يَا موفق الدّين)
(أزلفت للنَّاس جنَّة جمعت ... عُيُون فضل أشهى من الْعين)
(فِيهَا ثمار الْعُقُول دانية ... قطوفها حلوة الأفانين)
(لَا زلت تسمو بِكُل صَالِحَة ... بمسعدي قدرَة وتمكين)
(وَيرْحَم الله كل مستمع ... مشيع دَعْوَتِي بتأمين) المنسرح
ولأمين الدولة بن التلميذ من الْكتب أقراباذينه الْعشْرين بَابا وشهرته وتداول النَّاس لَهُ أَكثر من سَائِر كتبه
أقراباذينه الموجز البيمارستاني وَهُوَ ثَلَاثَة عشر بَابا
الْمقَالة الأمينية فِي الْأَدْوِيَة البيمارستانية
اخْتِيَار كتاب الْحَاوِي للرازي
اخْتِيَار كتاب مسكويه فِي الْأَشْرِبَة
اخْتِصَار شرح جالينوس لكتاب الْفُصُول لأبقراط
اخْتِصَار شرح جالينوس لكتاب تقدمة الْمعرفَة لأبقراط
تَتِمَّة جَوَامِع الإسكندرانيين لكتاب حِيلَة الْبُرْء لِجَالِينُوسَ
شرح مسَائِل حنين بن إِسْحَق على جِهَة التَّعْلِيق
شرح أَحَادِيث نبوية تشْتَمل على طب
كناش
مُخْتَصر الْحَوَاشِي على كتاب القانون للرئيس ابْن سينا
الْحَوَاشِي على كتاب الْمِائَة للمسيحي
التَّعَالِيق على كتاب الْمِنْهَاج وَقيل إِنَّهَا لعَلي بن هبة الله بن أثردي الْبَغْدَادِيّ
مقَالَة فِي الفصد
كتاب يشْتَمل على توقيعات ومراسلات
تعاليق استخرجها من كتاب الْمِائَة للمسيحي
مُخْتَار من كتاب أبدال الْأَدْوِيَة لِجَالِينُوسَ
أَبُو الْفرج يحيى بن التلميذ
هُوَ الْأَجَل الْحَكِيم مُعْتَمد الْملك أَبُو الْفرج يحيى بن صاعد بن يحيى بن التلميذ كَانَ مُتَعَيّنا فِي الْعُلُوم الحكيمة متقنا للصناعة الطبية متحليا بالأدب بَالغا فِيهِ أَعلَى الرتب
وَكَذَلِكَ أَيْضا كَانَ لأمين الدولة بن التلميذ جمَاعَة من الْأَنْسَاب كل مِنْهُم مُتَعَلق بالفضائل والآداب
وَقد رَأَيْت بِخَط الْأَجَل(1/371)
مُعْتَمد الْملك يحيى بن التلميذ مَا يدل على فَضله وعلو قدره ونبله
وَكَانَ من الْمَشَايِخ الْمَشْهُورين فِي صناعَة الطِّبّ وَله تلاميذ عدَّة
وَقَالَ الشريف أَبُو الْعَلَاء مُحَمَّد بن الهبارية العباسي من قصيدة يمدح الْحَكِيم أَبَا الْفرج يحيى بن صاعد ابْن التلميذ وَكَانَ ابْن الهبارية قد أَتَاهُ إِلَى أَصْبَهَان فَحصل لَهُ من الْأُمَرَاء والأكابر مَالا جزيلا يَقُول فِيهَا
(وَجَمِيع مَا حصلته وَجمعته ... مِنْهُم وَكنت لَهُ بشعري كاسبا)
(نعمى أبي الْفرج بن صاعد الَّذِي ... مَا زَالَ عني فِي المكاسب نَائِبا)
(هُوَ لَا عدمت علاهُ حصل كَمَا مَا ... أملته ومري فَكنت الحالبا)
(يحيى بن صاعد بن يحيى لم يزل ... للمكرمات إِلَى جنابي جالبا)
(أَحْيَا مطامعي الَّتِي مَاتَت فَتى ... أَحْيَا الفتوة والمروءة دائبا)
(مَا زَالَ ينعشني نداه حَاضرا ... وينوب عني فِي المطالب غَائِبا)
(فِي بَاب سيف الدولة بن بهائها ... وَكَذَا نصير الدّين كَانَ مُخَاطبا)
(كاتبته بحوائجي وهززته ... فَوَجَدته فِيهَا الحسام القاضبا)
(وكذاك فِي بَاب الْأَغَر وَغَيره ... فِي الْخطب كنت لَهُ بِذَاكَ مُخَاطبا)
(مَا زَالَ يغرسني يَدَاهُ وَلم أزل ... بعلاه مَا بَين الْبَريَّة خاطبا)
وَمِنْهَا
(لَا تحوجن أَخَاك لَا بل عَبدك الْقِنّ ... ابْن عَبدك إِن يروم أجانبا)
(فلأنت أولى بِي لما عودتني ... عَمَّن غَدا لي فِي الْأُصُول مناسبا)
(لَا زلت أثني بِالَّذِي أوليتني ... وعَلى المديح محافظا ومواظبا)
(وَبقيت لي ذخْرا ودمت ممتعا ... بالمجد للأبراد مِنْهُ ساحبا)
(ثِقَة الْخلَافَة سيد الْحُكَمَاء مُعْتَمد ... الْمُلُوك الفيلسوف الكاتبا)
(لم لَا تكاتبني فكتبك نزهة ... حسنا تخال من الْجلَال كتائبا)
(وَمن الملاحة واللطافة رَوْضَة ... وَمن الإفادة فِي الْبَيَان سحائبا)
(مازح وطايب مَا اسْتَطَعْت فَمَا الْفَتى ... من لَا يكون ممازحا ومطايبا)
(وفداك من نوب الزَّمَان وَصَرفه ... قوم يُرِيدُونَ الزَّمَان معايبا) الْكَامِل
وَمن شعر أبي الْفرج يحيى بن التلميذ نقلت من كتاب زِينَة الدَّهْر لعَلي بن يُوسُف بن أبي الْمَعَالِي سعد بن عَليّ الحظيري قَالَ وجدت بِخَط الْأَجَل الْحَكِيم مُعْتَمد الْملك يحيى بن التلميذ لنَفسِهِ لغزا فِي الإبرة
(وفاغرة فَمَا فِي الرجل مِنْهَا ... وَلَكِن لَا تسيغ بِهِ طَعَاما)(1/372)
(ومخطفة الحشا فِي الرَّأْس مِنْهَا ... لِسَان لَا تطِيق بِهِ الكلاما)
(تصول بشوكة تبدو وسم ... وَمَا من ذاقه يرد الحماما)
(تجر وَرَاءَهَا أبدا أَسِيرًا ... كَمَا قادت يَد الْحَادِي الزماما)
(منيعا ذَا قوى لَكِن ترَاهُ ... بقبضتها ذليلا مستضاما)
(فتلقيه بمحبسها مُقيما ... طوال الدَّهْر لَا يَأْبَى المقاما)
(أيا عجبا لَهَا سَوْدَاء خلقا ... تريك خلائقا بيضًا كراما)
(غَدَتْ عُرْيَانَة من كل لبس ... وفاضل ذيلها يكسو الأناما) الوافر
قَالَ وجدت بِخَطِّهِ فِي دَار جَدِيدَة بناها سيف الدولة صَدَقَة وَقعت فِيهَا نَار يَوْم الْفَرَاغ مِنْهَا
(يَا بانيا دَار العلى ملأتها ... لتزيدها شرفا على كيوان)
(علمت بأنك إِنَّمَا شيدتها ... للمجد والأفضال وَالْإِحْسَان)
(فقفت عوائدك الْكِرَام وسابقت ... تسْتَقْبل الأضياف بالنيران) الْكَامِل
وَمن شعر أبي الْفرج يحيى بن التلميذ أَيْضا قَالَ لغزا فِي الْقوس
(وَمَا ذُو قامة ذَات اعوجاج ... تَئِنُّ وتنحني عِنْد الْهياج)
(لَهَا الْمَكْر الْخَفي مَعَ التمطي ... كمكر الراح فِي الْقدح الزّجاج) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(علق الْفُؤَاد على خلو حبها ... علق الذبالة فِي الحشا الْمِصْبَاح)
(لَا يُسْتَطَاع الدَّهْر فرقة بَينهم ... إِلَّا لحين تفرق الأشباح) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(فراقك عِنْدِي فِرَاق الْحَيَاة ... فَلَا تجهزن على مدنف)
(علقتك كالنار فِي شمعها ... فَمَا أَن تفارق أَو تنطفي) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(بدا إِلَيْنَا أرج القادم ... فبرد الْغلَّة من حائم)
(روح عَن قلبِي على نأيه ... وَقد يلذ الطيف للحالم) السَّرِيع(1/373)
وَقَالَ فِي ذمّ مغن
(لنا مغن إِن شدا ... تدفننا ثلوجه)
(فموتنا خُرُوجه ... وبعثنا خُرُوجه) الرجز
أوحد الزَّمَان أَبُو البركات هبة الله بن عَليّ ملكا
الْبَلَدِي لِأَن مولده بِبَلَد ثمَّ أَقَامَ بِبَغْدَاد كَانَ يَهُودِيّا وَأسلم بعد ذَلِك
وَكَانَ فِي خدمَة المستنجد بِاللَّه وتصانيفه فِي نِهَايَة الْجَوْدَة
وَكَانَ لَهُ اهتمام بَالغ فِي الْعُلُوم وفطرة فائقة فِيهَا
وَكَانَ مبدأ تعلمه صناعَة الطِّبّ أَن أَبَا الْحسن سعيد بن هبة الله بن الْحُسَيْن كَانَ من الْمَشَايِخ المتميزين فِي صناعَة الطِّبّ وَكَانَ لَهُ تلاميذ عدَّة يتناوبونه فِي كل يَوْم للْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَلم يكن يقرئ يَهُودِيّا أصلا
وَكَانَ أَبُو البركات يَشْتَهِي أَن يجْتَمع بِهِ وَأَن يتَعَلَّم مِنْهُ وَثقل عَلَيْهِ بِكُل طَرِيق فَلم يقدر على ذَلِك
فَكَانَ يتخادم للبواب الَّذِي لَهُ وَيجْلس فِي دهليز الشَّيْخ بِحَيْثُ يسمع جَمِيع مَا يقْرَأ عَلَيْهِ وَمَا يجْرِي مَعَه من الْبَحْث وَهُوَ كلما سمع شَيْئا تفهمه وعلقه عِنْده
فَلَمَّا كَانَ بعد مُدَّة سنة أَو نَحْوهَا جرت مَسْأَلَة عِنْد الشَّيْخ وَبَحَثُوا فِيهَا فَلم يتَّجه لَهُم عَنْهَا جَوَاب وبقوا متطلعين إِلَى حلهَا
فَلَمَّا تحقق ذَلِك مِنْهُم أَبُو البركات دخل وخدم الشَّيْخ وَقَالَ يَا سيدنَا عَن أَمر مَوْلَانَا أَتكَلّم فِي هَذِه الْمَسْأَلَة فَقَالَ قل إِن كَانَ عنْدك فِيهَا شَيْء
فَأجَاب عَنْهَا بِشَيْء من كَلَام جالينوس وَقَالَ يَا سيدنَا هَذَا جرى فِي الْيَوْم الْفُلَانِيّ من الشَّهْر الْفُلَانِيّ فِي ميعاد فلَان وعلق بخاطري من ذَلِك الْيَوْم
فَبَقيَ الشَّيْخ مُتَعَجِّبا من ذكائه وحرصه واستخبره عَن الْموضع الَّذِي كَانَ يجلس فِيهِ فَأعلمهُ بِهِ
فَقَالَ من يكون بِهَذِهِ المثابة مَا نستحل أَن نمنعه من الْعلم وقربه من ذَلِك الْوَقْت وَصَارَ من أجل تلاميذه
وَمن نَوَادِر أوحد الزَّمَان فِي المداواة أَن مَرِيضا بِبَغْدَاد كَانَ قد عرض لَهُ عِلّة الماليخوليا وَكَانَ يعْتَقد أَن على رَأسه دنا وَأَنه لَا يُفَارِقهُ أبدا
فَكَانَ كلما مَشى يتحايد الْمَوَاضِع الَّتِي سقوفها قَصِيرَة وَيَمْشي بِرِفْق وَلَا يتْرك أحدا يدنو مِنْهُ حَتَّى لَا يمِيل الدن أَو يَقع عَن رَأسه
وَبَقِي بِهَذَا الْمَرَض مُدَّة وَهُوَ فِي شدَّة مِنْهُ
وعالجه جمَاعَة من الْأَطِبَّاء وَلم يحصل بمعالجتهم تَأْثِير ينْتَفع بِهِ
وأنهى أمره إِلَى أوحد الزَّمَان ففكر أَنه مَا بَقِي شَيْء يُمكن أَن يبرأ بِهِ إِلَّا بالأمور الوهمية فَقَالَ لأَهله إِذا كنت فِي الدَّار فأتوني بِهِ
ثمَّ إِن أوحد الزَّمَان أَمر أحد غلمانه بِأَن ذَلِك الْمَرِيض إِذا دخل إِلَيْهِ وَشرع فِي الْكَلَام مَعَه وَأَشَارَ إِلَى الْغُلَام بعلامة بَينهمَا إِنَّه يُسَارع بخشبة كيرة فَيضْرب بهَا فَوق رَأس الْمَرِيض على بعد مِنْهُ كَأَنَّهُ يُرِيد كسر الدن الَّذِي يزْعم أَنه على رَأسه وَأوصى غُلَاما آخر وَكَانَ قد أعد مَعَه دنا فِي أَعلَى السَّطْح أَنه مَتى رأى ذَلِك الْغُلَام قد ضرب فَوق رَأس صَاحب الماليخوليا أَن يَرْمِي الدن الَّذِي عِنْده(1/374)
بِسُرْعَة إِلَى الأَرْض
وَلما كَانَ أوحد الزَّمَان فِي دَاره وَأَتَاهُ الْمَرِيض شرع فِي الْكَلَام مَعَه وحادثه وَأنكر عَلَيْهِ حمله للدن وَأَشَارَ إِلَى الْغُلَام الَّذِي عِنْده من غير علم الْمَرِيض فَأقبل إِلَيْهِ وَقَالَ وَالله لَا بُد لي أَن أكسر هَذَا الدن وأريحك مِنْهُ
ثمَّ أدَار تِلْكَ الْخَشَبَة الَّتِي مَعَه وَضرب بهَا فَوق رَأسه بِنَحْوِ ذِرَاع وَعند ذَلِك رمى الْغُلَام الآخر الدن من أَعلَى السَّطْح فَكَانَت لَهُ جلبة عَظِيمَة وتكسر قطعا كَثِيرَة
فَلَمَّا عاين الْمَرِيض مَا فعل بِهِ وَرَأى الدن المنكسر تأوه لكسرهم إِيَّاه وَلم يشك أَنه الَّذِي كَانَ على رَأسه بِزَعْمِهِ وَأثر فِيهِ الْوَهم أثرا برِئ من علته تِلْكَ
وَهَذَا بَاب عَظِيم فِي المداواة وَقد جرى أَمْثَال ذَلِك لجَماعَة من الْأَطِبَّاء الْمُتَقَدِّمين مثل جالينوس وَغَيره فِي مداواتهم بالأمور الوهمية
وَقد ذكرت كثيرا من ذَلِك فِي غير هَذَا الْكتاب
وحَدثني الشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ قَالَ حَدثنِي موفق الدّين أسعد بن إلْيَاس المطران قَالَ حَدثنِي الأوحد بن التقي قَالَ حَدثنِي أبي قَالَ حَدثنَا عبد الْوَدُود الطَّبِيب قَالَ حَدثنِي أَبُو الْفضل تلميذ أبي البركات الْمَعْرُوف بأوحد الزَّمَان قَالَ كُنَّا فِي خدمَة أوحد الزَّمَان فِي معسكر السُّلْطَان فَفِي يَوْم جَاءَهُ رجل بِهِ داحس إِلَّا أَن الورم كَانَ نَاقِصا وَكَانَ يسيل مِنْهُ صديد قَالَ فحين رأى ذَلِك أوحد الزَّمَان بَادر إِلَى سلامية أُصْبُعه فقطعها قَالَ فَقُلْنَا لَهُ يَا سيدنَا لقد أجحفت فِي المداواة وَكَانَ يُغْنِيك أَن تداويه بِمَا يداوي بِهِ غَيْرك وتبقي عَلَيْهِ إصبعه ولمناه وَهُوَ لَا ينْطق بِحرف
قَالَ وَمضى ذَلِك الْيَوْم وَجَاء فِي الْيَوْم الثَّانِي رجل آخر مثل ذَلِك سَوَاء فَأَوْمأ إِلَيْنَا بمداواته وَقَالَ افعلوا فِي هَذَا مَا تَرَوْنَهُ صَوَابا
قَالَ فداويناه بِمَا يداوي بِهِ الداحس فاتسع الْمَكَان وَذهب الظفر وتعدى الْأَمر إِلَى ذهَاب السلامية الأولى من سلاميات الإصبع
وَمَا تركنَا دَوَاء إِلَّا وداويناه بِهِ وَلَا علاجا إِلَّا وعالجناه وَلَا لطوخا إِلَّا ولطخناه وَلَا مسهلا إِلَّا وسقيناه وَهُوَ مَعَ ذَلِك يزِيد وَيَأْكُل الإصبع أسْرع أكل وَآل أمره إِلَى الْقطع فَعلمنَا أَن فَوق كل ذِي علم عليم
قَالَ وَفَشَا هَذَا الْمَرَض فِي تِلْكَ السّنة وغفل جمَاعَة مِنْهُم عَن الْقطع فتأدى أَمر بَعضهم إِلَى الْيَد وَبَعْضهمْ إِلَى هَلَاك أنفسهم
ونقلت من خطّ الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف الْبَغْدَادِيّ فِيمَا ذكره عَن ابْن الدهان المنجم قَالَ قَالَ كَانَ الشَّيْخ أَبُو البركات قد عمي فِي آخر عمره وَكَانَ يملي على جمال الدّين بن فضلان وعَلى ابْن الدهان المنجم وعَلى يُوسُف وَالِد الشَّيْخ موفق الدّين عبد اللَّطِيف وعَلى الْمُهَذّب بن النقاش كتاب الْمُعْتَبر
وَقيل إِن أوحد الزَّمَان كَانَ سَبَب إِسْلَامه أَنه دخل يَوْمًا إِلَى الْخَلِيفَة فَقَامَ جَمِيع مَا حضر إِلَّا قَاضِي الْقُضَاة فَإِنَّهُ كَانَ حَاضرا وَلم ير أَنه يقوم مَعَ الْجَمَاعَة لكَونه ذِمِّيا
فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ(1/375)
إِن كَانَ القَاضِي لم يُوَافق الْجَمَاعَة لكَونه يرى إِنِّي على غير مِلَّته فَأَنا أسلم بَين يَدي مَوْلَانَا وَلَا أتركه ينتقصني بِهَذَا
وَأسلم
وحَدثني الشَّيْخ سعد الدّين أَبُو سعيد بن أبي السهل الْبَغْدَادِيّ العواد وَكَانَ فِي أول أمره يَهُودِيّا أَنه كَانَ يسكن بِبَغْدَاد فِي محلّة الْيَهُود قَرِيبا من دَار أوحد الزَّمَان وَأَنه لم يحقه كثيرا بل كَانَ وَهُوَ صَغِير يدْخل إِلَى دَاره
وَقَالَ وَكَانَ لأوحد الزَّمَان بَنَات ثَلَاث وَلم يخلف ولدا ذكرا وعاش نَحْو ثَمَانِينَ سنة
وحَدثني القَاضِي نجم الدّين عمر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الكريدي قَالَ كَانَ أوحد الزَّمَان وَأمين الدولة بن التلميذ بَينهمَا معاداة وَكَانَ أوحد الزَّمَان لما أسلم يتنصل كثيرا من الْيَهُود ويلعنهم ويسبهم فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام فِي مجْلِس بعض الْأَعْيَان الأكابر وَعِنْده جمَاعَة وَفِيهِمْ أَمِين الدولة بن التلميذ وَجرى ذكر الْيَهُود فَقَالَ أوحد الزَّمَان لعن الله الْيَهُود
فَقَالَ أَمِين الدولة نعم وَأَبْنَاء الْيَهُود
فَوَجَمَ لَهَا أوحد الزَّمَان وَعرف أَنه عناه بِالْإِشَارَةِ وَلم يتَكَلَّم
وَمن كَلَام أوحد الزَّمَان حَدثنِي بدر الدّين أَبُو الْعِزّ يُوسُف بن مكي قَالَ حَدثنِي مهذب الدّين ابْن هُبل قَالَ سَمِعت أوحد الزَّمَان يَقُول الشَّهَوَات أجر تستخدم بهَا النُّفُوس فِي عمَارَة عَالم الطبيعة لتذهل عَمَّا يلْزمهَا من التَّعَب ويلحقها من الكلال فأعملها فِي ذَلِك أخسها وأزهدها أحسها
ولأوحد الزَّمَان من الْكتب كتاب الْمُعْتَبر وَهُوَ من أجل كتبه وأشهرها فِي الْحِكْمَة
مقَالَة فِي سَبَب ظُهُور الْكَوَاكِب لَيْلًا واختفائها نَهَارا ألفها للسُّلْطَان الْمُعظم غياث الدّين أبي شُجَاع مُحَمَّد بن ملك شاه
اخْتِصَار التشريح اخْتَصَرَهُ من كَلَام جالينوس ولخصه بأوجز عبارَة
كتاب الأقراباذين ثَلَاث مقالات
مقَالَة فِي الدَّوَاء الَّذِي أَلفه الْمُسَمّى برشعثا استقصى فِيهِ صفته وَشرح أدويته مقَالَة فِي معجون آخر أَلفه وَسَماهُ أَمِين الْأَرْوَاح
رِسَالَة فِي الْعقل وماهيته
البديع الأصطرلابي
هُوَ بديع الزَّمَان أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن الْحُسَيْن بن أَحْمد الْبَغْدَادِيّ
من الْحُكَمَاء الْفُضَلَاء والأدباء النبلاء طَبِيب عَالم وفيلسوف مُتَكَلم وغلبت عَلَيْهِ الْحِكْمَة وَعلم الْكَلَام والرياضي وَكَانَ متقنا لعلم النُّجُوم والرصد
وَكَانَ البديع الاصطرلابي صديقا لأمين الدولة بن التلميذ
وَحكي أَنه اجْتمع على أَمِين الدولة بأصبهان فِي سنة عشرَة وَخَمْسمِائة
وحَدثني مهذب الدّين أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن الْخضر الْحلَبِي قَالَ كَانَ البديع الاصطرلابي أوحد زَمَانه فِي علم الاصطرلاب وَعَمله وإتقان صَنعته فَعرف بذلك(1/376)
أَقُول وَكَانَ وَالِد مهذب الدّين أبي نصر من طبرستان وَهُوَ الْمَعْرُوف بالبرهان المنجم
وَكَانَ عَلامَة وقته فِي أَحْكَام النُّجُوم وَله حكايات عَجِيبَة فِي ذَلِك
وَقد ذكرت أَشْيَاء مِنْهَا فِي كتاب إصابات المنجمين
وَكَانَ قد اجْتمع بالبديع الإصطرلابي وَصَاحبه مُدَّة
وللبديع الإصطرلابي نظم جيد حسن الْمعَانِي
وَمن شعر البديع الإصطرلابي وَهُوَ مِمَّا أَنْشدني مهذب الدّين أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْحلَبِي قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني البديع الإصطرلابي لنَفسِهِ
(يَا ابْن الَّذين مضوا على دين الْهدى ... والطاعنين مقاعد الإعدام)
(فوجوههم قبل العلى وأكفهم ... سحب الندى ومنابر الأقلام) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(أهْدى لمجلسك الشريف وَإِنَّمَا ... أهدي لَهُ مَا حزت من نعمائه)
(كالبحر يمطره السَّحَاب وَمَاله ... من عَلَيْهِ لِأَنَّهُ من مَائه) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(قَامَ إِلَى الشَّمْس بآلاته ... لينْظر السعد من النحس)
(فَقلت أَيْن الشَّمْس قَالَ الْفَتى ... فِي الثور قلت الثور فِي الشَّمْس) السَّرِيع
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(قيل لي قد عشقته أَمْرَد الخد ... وَقد قيل إِنَّه نكريش)
(قلت فرخ الطاووس أحسن مَا كَانَ ... إِذا مَا علا عَلَيْهِ الريش) الْخَفِيف
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(هَل عثرت أَقْلَام خطّ العذار ... فِي مشقها فالخال نقط العثار)
(أم اسْتَدَارَ الْخط لما غَدَتْ ... نقطته مَرْكَز ذَاك الْمدَار)
(وريقة الْخمر فَهَل ثغره ... در حباب نظمته الْعقار) السَّرِيع(1/377)
وَقَالَ أَيْضا
(وَذُو هَيْئَة يزهو بخال مهندس ... أَمُوت بِهِ فِي كل وَقت وأبعث)
(مُحِيط بأوصاف الملاحة وَجهه ... كَانَ بِهِ أقليدس يتحدث)
(فعارضه خطّ اسْتِوَاء وخاله ... بِهِ نقطة والخد شكل مثلث) الطَّوِيل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني وَالِدي قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ جَوَابا عَن قصيدة كتبهَا إِلَيْهِ القيسراني أَولهَا
(أعرب الْفضل من بديع الزَّمَان ... عَن معَان عزت على يونان)
(مَا تَلَاهَا لما تَلَاهَا وَلَكِن ... فاتها حائزا خِصَال الرِّهَان) الْخَفِيف
قَالَ مهذب الدّين أَبُو نصر مُحَمَّد فَرد جوابها قصيدة لم يبْق على ذكري مِنْهَا شَيْء سوى هَذِه الأبيات
(أَيهَا السَّيِّد الَّذِي أطراني ... بمديح كَالدَّارِ قد أطغاني)
(وَالَّذِي زَاد فِي محلي وقدري ... وأذل الشاني بتعظيم شاني)
(فتعنفقت أَي بِأَنِّي كَمَا ... قَالَ مُجيب الطباع سهل الْجنان)
(وترشحت للجواب فأعياني ... وانسل هَارِبا شيطاني)
(مجبلا مجبلا يَقُول اتَّقِ الله ... فَمَالِي بِمَا تروم اليدان)
(أتظن الوهاد مثل الروابي ... أم تخال الهجين مل الهجان)
(أم تجاري طرفا يفوت مدى الطّرف ... إِذا مَا تجاريا فِي مَكَان)
(بِحِمَار يفوتهُ الزَّمن المقعد ... إِن أرسلا غَدَاة الرِّهَان)
(فاكتنفني سترا فشعري بخطى ... حِين يَبْدُو لناظر عورتان)
وَمن شعر البديع الإسطرلابي أَيْضا قَالَ فِي غُلَام معذر
(كن كَيفَ شِئْت فإنني ... قد صغت قلبا من حَدِيد)
(وَقَعَدت انْتظر الْكُسُوف ... وَلَيْسَ ذَلِك من بعيد) الْكَامِل المرفل
وَقَالَ أَيْضا
(تقسم قلبِي فِي محبَّة معشر ... بِكُل فَتى مِنْهُم هواي مَنُوط)
(كَانَ فُؤَادِي مَرْكَز وهم لَهُ ... مُحِيط وأهوائي إِلَيْهِ خطوط) الطَّوِيل(1/378)
وَقَالَ أَيْضا
(وشادن فِي حبه سنة ... قد جعلت حبي لَهُ فرضا)
(أرْضى بِأَن أجعَل خدي لَهُ ... إِذا مَشى منتعلا أَرضًا) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(أذاقني خمرة المنايا ... لما اكتسى خضرَة العذار)
(وَقد تبدى السوَاد فِيهِ ... وكارتي بعد فِي الْعيار) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(هجرت النكاريش ثمَّ انثنيت ... اعنف من بَات يهواهم)
(وَمَا زلت فِي المرد ألحاهم ... إِلَى أَن بليت بألحاهم) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(تاه على النَّاس يإغرائه ... أَي فاحذروني إِنَّنِي ملسن)
(إِن كَانَ فِي أَقْوَاله معربا ... فَإِنَّهُ فِي فعله يلحن) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا يهجو
(مستيقظ فَإِذا استضيف ... بِهِ يصير من النيام)
(وتراه فِي عدد الطغام ... إِذا رأى مضغ الطَّعَام)
(تبدو مصائبه الْعِظَام ... أَو أَن تَجْرِيد الْعِظَام) الْكَامِل المرفل
وَقَالَ يهجو فاصدا
(وفاصد مبضعه مشرع ... كَأَنَّهُ جَاءَ إِلَى حَرْب)
(فصد بِلَا نفع فَمَا حَاصِل ... غير دم يخرج من ثقب)
(لَو مر فِي الشَّارِع من خَارج ... لمات من فِي دَاخل الدَّرْب)
(خُذْهُ إِذا جَاشَتْ عَلَيْك العدا ... فوحده يُغْنِيك عَن حَرْب) السَّرِيع(1/379)
وَقَالَ أَيْضا وَقد جَاءَ بالعراق وفر كثير يَعْنِي بالوفر الثَّلج
(يَا صُدُور الزَّمَان لَيْسَ بوفر ... مَا رَأَيْنَاهُ فِي نواحي الْعرَاق)
(إِنَّمَا عَم ظلمكم سَائِر الأَرْض ... فشابت ذوائب الْآفَاق) الْخَفِيف
وَقَالَ فِي مغسل الشَّرَاب وَهُوَ جردان
(إِنِّي إِذا مَا حضرت فِي مَلأ ... عددت من بعض آلَة الْفَرح)
(إِذا تصدرت فِي مجَالِسهمْ ... تنغصوا لي بفاضل الْقدح) المنسرح
وللبديع الإسطرلابي من الْكتب اخْتِصَار ديوَان أبي عبد الله الْحُسَيْن بن الْحجَّاج
زيج سَمَّاهُ المعرب المحمودي أَلفه للسُّلْطَان مَحْمُود أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد
أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن الْفضل
بغدادي المولد والمنشأ وَكَانَ يعاني صناعَة الطِّبّ ويباشر أَعمالهَا ويعد من جملَة الموصوفين بهَا
وَكَانَ أَيْضا يكحل إِلَّا أَن الشّعْر كَانَ أغلب عَلَيْهِ وَكَانَ كثير النَّوَادِر خَبِيث اللِّسَان وَله ديوَان شعر
وَكَانَ بَينه وَبَين الْأَمِير أبي الفوارس سعد بن مُحَمَّد بن الصيفي الشَّاعِر الْمُسَمّى حيص بيص شنآن وتهاتر وَكَانَا قد يصطلحان وقتا ثمَّ يعودان إِلَى مَا كَانَا فِيهِ
وَسبب تَسْمِيَة الحيص بيص بِهَذَا إِنَّه كَانَ الْعَسْكَر بِبَغْدَاد قد هم بِالْخرُوجِ إِلَى السُّلْطَان السلجوقي وَذَلِكَ فِي أَيَّام المقتفي لأمر الله فَكَانَ النَّاس من ذَلِك فِي حَدِيث كثير وحركة زَائِدَة
فَقَالَ مَا لي أرى النَّاس فِي حيص بيص فلقب بذلك وَكَانَ الَّذِي ألصق بِهِ هَذَا النَّعْت أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن الْفضل وَكَانَ الحيص بيص يقْصد فِي كَلَامه أبدا وَفِي رسائله الفصاحة البليغة والألفاظ الغريبة من اللُّغَة
وَمن ذَلِك حَدثنِي بعض الْعِرَاقِيّين أَن الحيص بيص كَانَ قد نقه من مرض عَاده فِيهِ أَبُو الْقَاسِم ابْن الْفضل فوصف لَهُ أكل الدراج فَمضى غُلَامه وَاشْترى دَرَّاجًا واجتاز على بَاب أَمِير وَبِه غلْمَان ترك أصاغر يَلْعَبُونَ فخطف أحدهم الدراج من الْغُلَام وَمضى
فَأتى الْغُلَام إِ ليه فَأخْبرهُ الْخَبَر فَقَالَ لَهُ ائْتِنِي بِدَوَاةٍ وبيضاء فَأَتَاهُ بهما فَكتب لَو كَانَ مبتر دراجه فتخاء كاسر وقف بهَا السغب(1/380)
بَين التدوين والتمطر فَهِيَ تعقى وتسف وَكَانَ بِحَيْثُ تنقب أَخْفَاف الْإِبِل لوَجَبَ الإغذاذ إِلَى نصرته فَكيف وَهُوَ ببحبوحة كرمك وَالسَّلَام
ثمَّ قَالَ لغلامه امْضِ بهَا وَأحسن السفارة فِي وصلتها إِلَى الْأَمِير فَمضى وَدفعهَا لحاجبه فَدَعَا الْأَمِير بكاتبه وناوله الرقعة فقرأها ثمَّ فكر ليعبر لَهُ عَن الْمَعْنى فَقَالَ لَهُ الْأَمِير مَا هُوَ فَقَالَ مَضْمُون الْكَلَام إِن غُلَاما من غلْمَان الْأَمِير أَخذ دَرَّاجًا من غُلَامه فَقَالَ اشْتَرِ لَهُ قفصا مملوءا دَرَّاجًا فاحمله إِلَيْهِ
فَفعل
وحَدثني شَيخنَا الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ رَحمَه الله أَن حيص بيص الشَّاعِر بِبَغْدَاد كَانَ قد كتب إِلَى أَمِين الدولة بن التلميذ ورقة يقْصد فِيهَا أَن ينفذ إِلَيْهِ شياف أبار وَهِي أزكنك أَيهَا الطِّبّ اللب الآسي النطاسي النفيس النقريس أرجنت عنْدك أم خنور وسكعت عَنْك أم هوير إِنِّي مستأخذ أشعر فِي حنادري رطسا لَيْسَ كاسب شبوة وَلَا كنخر المنصحة وَلَا كنكز الحضب بل كسفع الزخيخ فَأَنا من التباشير إِلَى الغباشير لَا أعرف ابْن سمير من ابْن جمير وَلَا أحسن صَفْوَان من همام بل آونة أرجحن شاصيا وفينة أحبنطي مقلوليا وَتارَة أعر نزم وطورا وأسلنقي كل ذَلِك مَعَ أح وَأَخ وحس وتهم قرونتي أَن ارْفَعْ عقيرتي بيعاط عاط إِلَى هياط ومياط وهالي أول وأهون وجبار ودبار ومؤنس وعروبة وشيار وَلَا أحيص وَلَا أكيص وَلَا اغرندي وَلَا أسرندي فتبادرني بشياف الْأَبَّار النافع لعلتي الناقع لغلتي
قَالَ فَلَمَّا قَرَأَ أَمِين الدولة الورقة نَهَضَ لوقته وَأخذ حفْنَة شياف أبار وَقَالَ لبَعض أَصْحَابه أوصله إِيَّاهَا عَاجلا وَلَا نتكلف قِرَاءَة ورقة ثَانِيَة
وَكتب الحيص بيص إِلَى المقتفي لأمر الله سبع رقاع عِنْد طلبه بعقوبا مِنْهُ
الأولى أَنَّهَا لطايا وَلَاء حملت سفر ثَنَاء غرد بهَا حادي رَجَاء والمنزل الفناء
الثَّانِيَة أجري جِيَاد حمد فِي ساحات مجد إِجْرَاء ممطر نهد من غير باعثة وَجهد منتجعا(1/381)
غب الْغَايَة كرماء
الثَّالِثَة جد يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بوفر دثر لَا بكي وَلَا نزر لمفصح شعر يمم لجة بَحر يرتاد عتاد دهر فالقافية سحر وَالسَّامِع حبر وَالعطَاء غمر
الرَّابِعَة أَن الْموصل واليغاران هما اقطاع ملكَيْنِ سلجوقيين وكانتا جائزتين لشاعرين طائيين من إمامين مرضيين أَحدهمَا معتصم بِاللَّه وَالْآخر متوكل على الله وَالْبناء الْأَشْرَف أعظم وعطاؤه أرزم فعلام الحرمان
الْخَامِسَة خَامِسَة من الخدم فِي انتجاع شابيب الْكَرم من الْقُدس الْأَعْظَم حلوان قافية تجْرِي كناجية بمخترق بادية تهدي سفرا وتسهل وعرا والرأي بنجح آمالها أَحْرَى
السَّادِسَة أَن وَرَاء الْحجاب المسدل لَا يهم طود وخضم يم مخرس خطب وَقَاتل جَدب جلّ فبهر وَعز فقهر ونال فغمر صلوَات الله عَلَيْهِ مَا هبت الرّيح وَنبت الشيج
السَّابِعَة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ مائَة بَيت شعر أَو سبع رقاع نثر اتذاد عَن النجح ذياد الحائمات كلا إِن الأعراق لبوية والمكارم عباسية والفطنة لوذعية وَكفى بالمجد محاسبا
(مَاذَا أَقُول إِذا الروَاة ترنموا ... بفصيح شعري فِي الإِمَام الْعَادِل)
(وَاسْتحْسن الفصحاء شَأْن قصيدة ... لأجل ممدوح وأفصح قَائِل)
(وترنحت أعطافهم فَكَأَنَّمَا ... فِي كل قافية سلافة بابل)
(ثمَّ انثنوا غب القريض وَضَمنَهُ ... يتساءلون عَن الندى والنائل)
(هَب يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ بأنني ... قصّ الفصاحة مَا جَوَاب السَّائِل) الْكَامِل
وَكَانَت وَفَاة أبي الْقَاسِم بن الْفضل فِي سنة ثَمَان وَخمسين وَخَمْسمِائة وَمن شعر أبي الْقَاسِم هبة الله أَنْشدني مهذب الدّين أَبُو نصر مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الْحلَبِي قَالَ أَنْشدني بديع الدّين أَبُو الْفَتْح مَنْصُور بن أبي الْقَاسِم بن عبد الله بن عبد الدَّائِم الوَاسِطِيّ الْمَعْرُوف بِابْن سَواد الْعين قَالَ أَنْشدني أَبُو الْقَاسِم هبة الله بن الْفضل لنَفسِهِ
(فِي الْعَسْكَر الْمَنْصُور نَحن عِصَابَة ... مرذولة أخسس بِنَا من معشر)
(خُذ عقلنا من عَقدنَا فِيمَا ترى ... من خسة ورقاعة وتهور)
(تكريت تعجزنا وَنحن بجهلنا ... نمضي لنأخذ ترمذا من سنجر)(1/382)
(أما الحويزي الدعي فَإِنَّهُ ... دلو يشوب تكبرا بتمسخر)
(يكنى أَبَا الْعَبَّاس وَهُوَ بذلة ... حكمت عَلَيْهِ وأسجلت بِمَعْمَر)
(فِي كف وَالِده وَفِي أقدامه ... آثَار نيل لَا يزَال وعصفر)
(يمشي إِلَى حجر القيان بنشطة ... ويدب فِي الْمِحْرَاب نَحْو الْمِنْبَر)
(وَحَدِيثه فِي الْحق أَو فِي بَاطِل ... لم يخله من وَحْشَة وتمهزر)
(وَإِذا رأى البركيل يرعد خيفة ... ذِي الهاشمية أَصْلهَا من خَيْبَر)
(نسب إِلَى الْعَبَّاس لَيْسَ شبيهه ... فِي الضعْف غير الباقلاء الْأَخْضَر)
(والحيص بيص مبارز بقناته ... وَأَنا بشعشعتي طَبِيب الْعَسْكَر)
(هذاك لَا يخْشَى لتقل بعوضة ... وَأَنا فَلَا أَرْجَى لبرء مُدبر)
(أجري بمبضعي الدِّمَاء وسيفه ... فِي الْعمد لم يعرض لظفر الْخِنْصر)
(لقرينه فِي الْحَرْب طول سَلامَة ... وصريع تدبيري بِوَجْه مُدبر) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني البديع أَبُو الْفَتْح الوَاسِطِيّ قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ يمدح سديد الدولة أَبَا عبد الله مُحَمَّد بن الْأَنْبَارِي كَاتب الْإِنْشَاء بِبَغْدَاد
(يَا من هجرت فَمَا تبالي ... هَل ترجع دولة الْوِصَال)
(مَا أطمع يَا عَذَاب قلبِي ... أَن ينعم فِي هَوَاك بالي)
(الطّرف من الصدود باك ... والجسم كَمَا تَرين بالي)
(وَالْقلب كَمَا عهِدت صاب ... باللوعة والغرام صالي)
(والشوق بخاطري مُقيم ... مَا يُؤذن عَنهُ بارتحال)
(يَا من نكأت صميم قلبِي ... بالحزن وَصُورَة الخبال)
(هَيْهَات وَقد سلبت غمضي ... أَن أظفر مِنْك بالخيال)
(لَو شِئْت وقفت عِنْد حد ... لَا يسمح مِنْك فِي الدَّلال)
(مَا ضرك أَن تعلليني ... فِي الْوَصْل بموعد محَال)
(أهواك وَأَنت حَظّ غَيْرِي ... يَا قاتلتي فَمَا احتيالي)
(وَالْقَتْل لظاهري شعار ... أَن أَنْت عززت باختيال)
(ذَا الحكم عَليّ من قُضَاة ... من أرخصني لكل غالي)(1/383)
(أَيَّام عنائي فِيك سود ... مَا أشبههن بالليالي)
(واللوم فِيك يزجروني ... عَن حبك مَا لَهُم وَمَالِي)
(الْعِشْق بِهِ الشغاف أضحى ... عَن ذكر سواك فِي اشْتِغَال)
(وَالنَّار وَإِن خبت لظاها ... فِي الصَّدْر تشب باشتعال)
(يَا ملزمي السلو عَنْهُمَا ... الصب أَنا وَأَنت سالي)
(وَالْقَوْل بِتَرْكِهَا صَوَاب ... مَا أحْسنه لَو اسْتَوَى لي)
(دَعْنِي وتغزلي بخود ... ترنو وتغن عَن غزال)
(حوراء لطرفها سِهَام ... أمضى وأمض من نبال)
(فِي الْقلب لوقعها جراح ... لَا برْء لَهَا من اغتيال)
(فَارْحَمْ قلقا بهَا وقيذا ... واعذره فَمَا العذار خَالِي)
(مَا يجمل أَن تلوم صبا ... إِن هام بربة الْجمال)
(إياك وخلني وويلي ... فِي الوجد مُسلما لحالي)
(إِن كنت تعده صلاحا ... دَعْنِي فهداي فِي ضلالي)
(فِي طاعتها بِلَا اخْتِيَاري ... قد صَحَّ بعشقها اختلالي)
(طلقت تجلدي ثَلَاثًا ... والصبوة بعد فِي حبالي)
(من أَيْن وَكَيف لي بصبر ... عَن حسن بعيدَة الْمِثَال)
(لم أحظ بطائل لَدَيْهَا ... إِلَّا بزخارف الْمحَال)
(كم قد نكلت عقيب عهد ... فالقلب لذاك فِي نكال)
(كَمَا غرني الخداع مِنْهَا ... فِي القاع على ظمأ الزلَال)
(هلا صدقت كأريحي ... من أكْرم معشر وَآل)
(راجية لَدَيْهِ فِي جناب ... بالأنعم سابغ الظلال)
(مَا الْغَيْث يسح من يَدَيْهِ ... كالغيث يسح فِي الفعال)
(من موئله ذرى سديد ... الدولة ذِي الندى المدال)
(لَا تطمع أَن تنَال مِنْهُ ... بالضيم مرادها اللَّيَالِي)
(والغدر لَعَلَّه حمام ... قد رقن لَهُ بِلَا المنذال)
(تسقيه يَد النجاح مِنْهَا ... مَا شَاءَ ببارد زلال)
(فِي ربع مهنأ العطايا ... فِي الأزمة مُسبل العزالي)
(أستصرخ مِنْهُ حِين أَشْقَى ... بالشدة أرْحم الموَالِي)(1/384)
(من جود يَدَيْهِ لي كَفِيل ... فِي الْقَحْط براتب الْعِيَال)
(لَا ينظر فِي سوى صلاحي ... إِن أبصرني بِسوء حَال)
(مَا زَالَ وَلَا يزَال طبعا ... يُعْطي كرما وَلَا يُبَالِي)
(لَا يُعجبهُ ملام ناه ... فِي الذب عَن العلى بِمَال)
(فالسؤدد شَمله جَمِيع ... فِي دَار مفرق النوال)
(من يلق مُحَمَّدًا بمدح ... يحمده بِأَحْسَن الْخلال)
(والوجد بغادة رداح ... فالأعظم مِنْهُ كالخلال)
(والجود بكف ذِي سماح ... من خير مَنَاقِب الرِّجَال)
(مولَايَ نِدَاء مستجير ... يَدْعُوك لدائه العضال)
(يَا أكْرم منعم عَلَيْهِ ... فِي دفع مآربي اتكالي)
(دبر محني لَعَلَّ جرحي ... يجْبرهُ نداك باندمال)
(كم أوقفني غَرِيم سوء ... فِي حَال وُقُوفه حيالي)
(كالمفلس من يهود هطرى ... فِي قَبْضَة عَامل الجوالي)
(مَا صَحَّ لي الْخَلَاص مِنْهُ ... إِلَّا بصحاحك الثقال)
(وَالْعَادَة فِي صَلَاح عدمي ... فِي الْعود لمثلهَا سُؤَالِي)
(تقريظك مَا حييت دأبي ... بالظاء على فرَاغ بالي)
(مَا أكحل بالهجاء لَكِن ... بِالْقَصْدِ لكفك اشتغالي)
(فالعرض أرده سمينا ... والكيس محالف الهزال)
(من دبر هَكَذَا مزاجا ... بالحذق لصورة الْكَمَال)
(فالصبغ إِذا أَتَاهُ عفوا ... وافاه برزقه الْحَلَال)
(يَا خير مُؤَمل إِلَيْهِ ... شددت بمدائحي رحالي)
(لم يقضك خاطري حقوقا ... مذ أصبح ظَاهر الكلال)
(أَن أثن عَلَيْك أبدا عَجزا ... عَن نعت مُعظم الْجلَال)
(أوصافك فِي الفخار جَازَت ... فِي الْكَثْرَة عدَّة الرمال)
(فالخط طوالها قصار ... عَن خطك سَاعَة النزال)
(كم رَاع بك القنا يراع ... فِي كفك وَاسع المجال)
(أقلامك أسْهم قواض ... والنقش لَهُنَّ كالنصال)
(تقضي ثعل لَهَا بفخر ... والقارة سَاعَة النضال)
(لَو شاجرت الرماح كَانَت ... فِي الروع لكفها العوالي)(1/385)
(أَو صافحت الصفاح فَلت ... غربي متشعشع الصقال)
(أَو حبرت المثالث أبدت ... مَا دق وَجل عَن مِثَال)
(تملى فقرا من الْمعَانِي ... سددن مفاقر الْمَعَالِي)
(ينفثن على الصَّباح لَيْلًا ... ناهيك بسحرها الْحَلَال)
(كتب ضمنت بِلَا اشْتِرَاط ... تمزيق كتائب جلال)
(هاروت إِذا أَتَتْهُ ولى ... لَا يخْطر بابلا ببال)
(فِيهَا سبح على لجين ... أَسْنَى قيمًا من اللآلي)
(فِي النشر كأوجه العذارى ... غلفن بفاخر الغوالي)
(ألفاظك للوعول حطت ... مستنزلة من الفلال)
(بالكيد تقتل الأعادي ... فِي السّلم لَهَا بِلَا قتال)
(كم رضت من الورى جموحا ... لِلْعَقْلِ فَعَاد فِي عقال)
(لَا زلت موفق المساعي ... بالجد مُشَفع السُّؤَال)
(تنقاد لَك الْأُمُور طَوْعًا ... يَا خير بَقِيَّة الرِّجَال)
(يَا أكْرم وَالِد لنجل ... يتلوه مهذب الْخلال)
(أكْرم بفتاك من ولي ... للدولة مخلص موَالٍ)
(إِن جاد يخجل الغوادي ... أَو قَالَ أَجَاد فِي الْمقَال)
(يَا شمس علا زهت ببدر ... حاشاه يُقَاس بالهلال)
(لَا زَالَ مشرقا منيرا ... فِي ظلك دَائِم الْكَمَال)
(مَا عادك بالسرور عيد ... ترعاه بِأَحْسَن اشْتِمَال)
(فِي أَسْبغ نعْمَة وعيش ... بالطيبة دَائِم التوالي)
(لَا زَالَ علاك فِي ثبات ... لَا يُسلمهُ إِلَى زوالي)
(عَن أخْلص نِيَّة بِصدق ... فِي طول بقائك ابتهالي)
(مَا يلتبس الصَّحِيح يَوْمًا ... تالله عَلَيْك بالمحال)
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني البديع الوَاسِطِيّ قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(لَا أمدح الْيَأْس وَلكنه ... أروح للقلب من المطمع)
(أَفْلح من أبْصر عشب المنى ... يرْعَى فَلم يرع وَلم يرتع) السَّرِيع(1/387)
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني البديع الوَاسِطِيّ قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(يَا معشر النَّاس النفير النفير ... قد جلس الهردب فَوق السرير)
(وَصَارَ فِينَا آمرا ناهيا ... وَكنت أَرْجُو أَنه لَا يصير)
(فَكلما قلت قذى ينجلي ... وظلمة عَمَّا قَلِيل تنير)
(فتحت عَيْني فَإِذا الدولة ... الدولة وَالشَّيْخ الْوَزير الْوَزير) السَّرِيع
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني البديع الوَاسِطِيّ قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
وَقَالَ فِي الحيص بيص الشَّاعِر وَكَانَت قد نبحت عَلَيْهِ كلبة مجرية فَقتل جروا لَهَا بِالسَّيْفِ
(يَا أَيهَا النَّاس إِن الحيص بيص أَتَى ... بفعلة أورثته الخزي فِي الْبَلَد)
(هُوَ الجبان الَّذِي أبدى شجاعته ... على جري ضَعِيف الْبَطْش وَالْجَلد)
(فأنشدت أمه من بَعْدَمَا احتسبت ... دم الابليق عِنْد الْوَاحِد الصَّمد)
(أَقُول للنَّفس تأساء وتعزية ... إِحْدَى يَدي أصابتني وَلم ترد)
(كِلَاهُمَا خلف من فقد صَاحبه ... هَذَا أخي حِين أَدْعُوهُ وَذَا وَلَدي) الْبَسِيط
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني البديع الوَاسِطِيّ قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ
(يَا ابْن المرخم صرت فِينَا حَاكما ... خرف الزَّمَان ترَاهُ أم جن الْفلك)
(إِن كنت تحكم بالنجوم فَرُبمَا ... أما شَرِيعَة أَحْمد من أَيْن لَك) الْكَامِل
وأنشدني أَيْضا قَالَ أَنْشدني البديع الوَاسِطِيّ قَالَ أَنْشدني الْمَذْكُور لنَفسِهِ يهجو البديع الاصطرلابي
(لَا غرو أَن دهي الحجيج وَإِن ... رموا مِنْهُ بنكبه)
(حج البديع وعرسه ... وفتاه فَانْظُر أَي عصبَة)
(فَثَلَاثَة من منزل ... علق وقواد وقحبة) الْكَامِل المرفل
وَمن شعر أبي الْقَاسِم هبة الله بن الْفضل أَيْضا قَالَ يهجو أَمِين الدولة بن التلميذ
(هَذَا تواضعك الْمَشْهُور عَن ضعة ... قد صرت فِيهِ بِفضل اللؤم مُتَّهم)(1/387)
(قعدت عَن أمل الراجى وَقمت لَهُ ... هَذَا وثوب على القصاد لَا لَهُم) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(غزال قطّ لَا يهوى ... سوى المطبوعة التبر)
(وَلَا يُعجبهُ المطبوع ... من نظمي وَلَا نثري) الهزج
وَقَالَ أَيْضا
(أَحْسَنت يَا عَسْكَر دين الْهدى ... مُنْهَزِمًا فِي خَمْسمِائَة ألف)
(كَأَنَّهُ الحبال فِي سيره ... يزْدَاد إقداما إِلَى خلف) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(أَلا قل ليحيى وَزِير الْأَنَام ... محوت الشَّرِيعَة محو السطور)
(كسرت الصِّحَاح بتصحيحها ... وأصبحت تضربها فِي الجذور)
(وَمَا أَن قصدت لتهذيبها ... وَلَكِن لتهذي بهَا فِي الصُّدُور) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(وَقَالُوا قد تحجب عَنْك مولى ... وَصَارَ لَهُ مَكَان مستخص)
(فَقلت سيفتح الأقفال شعري ... ويدخلها فَإِن الْبرد لص) الوافر
وَقَالَ يمدح الدَّوَاء الْمَعْرُوف ببر شعثا لما ألف تركيبه أوحد الزَّمَان
(تجرعت برشعثا وحالي أَشْعَث ... فَمَا نزلت بِي بعده عِلّة شعثا)
(وَلَو بعد عِيسَى جَازَ إحْيَاء ميت ... لَا صبح يحيا كل ميت ببرشعثا) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(هَذَا يَقُول اسْتَرَحْنَا ... وَذَا يَقُول عصينا)
(ويكذبان ويهذي ... الَّذِي يصدق منا) المجتث
وَقَالَ أَيْضا
(كم ترددت مرَارًا ... وتجرعت مراره)(1/388)
(ثمَّ لما وفْق الله ... وَوَقعت بكاره)
(لم يكن فِيهَا من الْحِنْطَة ... مَا تقْرض فاره) الرمل
وَقَالَ أَيْضا
(أمدحه طورا وأهذي بِهِ ... طورا وَلَا أطمع فِي رفده)
(مثل إِمَام بَين أهل الْقرى ... صلى بهم وَالزَّيْت من عِنْده) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(يَا خَائِف الهجو على نَفسه ... كن فِي أَمَان الله من مَسّه)
(أَنْت بِهَذَا الْعرض بَين الورى ... مثل الخرا يمْنَع من نَفسه) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(كلما قلت قد تبغدد ... قومِي تحمصصوا)
(لَيْسَ إِلَّا ستر يشال ... وَبَاب مجصص)
(والغواشي على الرؤوس ... عَلَيْهَا المقرنص)
(وَأَنا الْكَلْب كل يَوْم ... لقرد أبصبص)
(كلما صفق الزَّمَان ... لَهُم قُمْت أرقص)
(فَمَتَى اسْمَع النداء ... وَقد جَاءَ مخلص) الْخَفِيف
وَلأبي الْقَاسِم هبة الله من الْكتب تعاليق طبية مسَائِل وأجوبتها فِي الطِّبّ ديوَان شعره
العنتري
هُوَ أَبُو الْمُؤَيد مُحَمَّد بن المجلي بن الصَّائِغ الْجَزرِي كَانَ طَبِيبا مَشْهُورا وعالما مَذْكُورا حسن المعالجة جيد التَّدْبِير وافر الْفضل فيلسوفا متميزا فِي علم الْأَدَب
وَله شعر كثير فِي الْحِكْمَة وَغَيرهَا(1/389)
وحَدثني الْحَكِيم سديد الدّين مَحْمُود بن عمر رَحمَه الله أَن العنتري كَانَ فِي أول أمره يكْتب أَحَادِيث عنتر الْعَبْسِي فَصَارَ مَشْهُورا بنسبته إِلَيْهِ
وَمن كَلَامه فِي الْحِكْمَة قَالَ
بني تعلم الْعُلُوم فَلَو لم تنَلْ من الدُّنْيَا إِلَّا الْغنى عَمَّن يستعبدك بِحَق أَو بباطل
وَقَالَ بني أَن الْحِكْمَة الْعَقْلِيَّة تريك الْعَالم يقادون بأزمة الْجَهْل إِلَى الْخَطَأ وَالصَّوَاب
وَقَالَ الْجَاهِل عبد لَا يعْتق رقّه إِلَّا بالمعرفة
وَقَالَ الْحِكْمَة سراج النَّفس فَمَتَى عدمتها عميت النَّفس عَن الْحق
وَقَالَ الْجَاهِل سَكرَان لَا يفِيق إِلَّا بالمعرفة
وَقَالَ الْحِكْمَة غذَاء النَّفس وجمالها وَالْمَال غذَاء الْجَسَد وجماله فَمَتَى اجْتمعَا للمرء زَالَ نَقصه وَتمّ كَمَاله وَنعم باله
وَقَالَ الْحِكْمَة دَوَاء من الْمَوْت الأبدي
وَقَالَ كَون الشَّخْص بِلَا علم كالجسد بِلَا روح
وَقَالَ الْحِكْمَة شرف من لَا شرف لَهُ قديم
وَقَالَ الْأَدَب أزين للمرء من نسبه وَأولى بِالْمَرْءِ من حَسبه وأدفع عَن عرضه من مَاله وَأَرْفَع لذكره من جماله
وَقَالَ من أحب أَن يُنَوّه باسمه فليكثر من الْعِنَايَة بِعِلْمِهِ
وَقَالَ الْعَالم المحروم أشرف من الْجَاهِل المرزوق
وَقَالَ عدم الْحِكْمَة هُوَ العقم الْعَظِيم
وَقَالَ الْجَاهِل يطْلب المَال والعالم يطْلب الْكَمَال
وَقَالَ الْغم ليل الْقلب وَالسُّرُور نَهَاره وَشرب السم أَهْون من معاناة الْهم
وَمن شعر أَبُو الْمُؤَيد مُحَمَّد بن المجلي بن الصَّائِغ الْمَعْرُوف بالعنتري أَنْشدني إِيَّاه الْحَكِيم سديد الدّين مَحْمُود بن عمر بن رقيقَة قَالَ أَنْشدني مؤيد الدّين ولد العنتري قَالَ أَنْشدني وَالِدي لنَفسِهِ
(احفظ بني وصيتي واعمل بهَا ... فالطب مَجْمُوع بِنَصّ كَلَامي)
(قدم على طب الْمَرِيض عناية ... فِي حفظ قوته مَعَ الْأَيَّام)
(بالشبه تحفظ صِحَة مَوْجُودَة ... والضد فِيهِ شِفَاء كل سقام)
(أقلل نكاحك مَا اسْتَطَعْت فَإِنَّهُ ... مَاء الْحَيَاة يراق فِي الْأَرْحَام)
(وَاجعَل طَعَامك كل يَوْم مرّة ... وَاحْذَرْ طَعَاما قبل هضم طَعَام)
(لَا تحقر الْمَرَض الْيَسِير فَإِنَّهُ ... كالنار يصبح وَهِي ذَات ضرام)
(وَإِذا تغير مِنْك حَال خَارج ... فاحتل لرجعة حل عقد نظام)(1/390)
(لَا تهجرن الْقَيْء واهجر كل مَا ... كيموسه سَبَب إِلَى الإسقام)
(إِن الْحمى عون الطبيعة مسعد ... شاف من الْأَمْرَاض والألام)
(لَا تشربن بعقب أكل عَاجلا ... أَو تأكلن بعقب شرب مدام)
(والقيء يقطع وَالْقِيَام كِلَاهُمَا ... بهما وَلَيْسَ بِنَوْع كل قيام)
(وَخذ الدَّوَاء إِذا الطبيعة كررت ... بالاحتلام وَكَثْرَة الأحلام)
(وَإِذا الطبيعة مِنْك نقت بَاطِنا ... فدواء مَا فِي الْجلد بالحمام)
(إياك تلْزم أكل شَيْء وَاحِد ... فتقود طبعك للأذى بزمام)
(وتزيد فِي الأخلاط أَن نقصت بِهِ ... زَادَت فنقص فَضلهَا بقوام)
(والطب جملَته إِذا حققته ... حل وَعقد طبيعة الْأَجْسَام)
(ولعقل تَدْبِير المزاج فَضِيلَة ... يشفى الْمَرِيض بهَا وبالأوهام) الْكَامِل
أَقُول وَهَذِه القصيدة تنْسب أَيْضا إِلَى الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا وتنسب إِلَى الْمُخْتَار بن الْحسن بن بطلَان وَالصَّحِيح أَنَّهَا لمُحَمد بن المجلي لما قَدمته من إنشاد سديد الدّين مَحْمُود بن عمر لي مِمَّا أنْشدهُ مؤيد الدّين بن العنتري لوالده مِمَّا سَمعه مِنْهُ
وَوجدت العنتري أَيْضا ذكرهَا فِي كِتَابه الْمُسَمّى بِالنورِ المجتنى وَقَالَ أَنَّهَا لَهُ وَقَالَ أَيْضا أنشدنيها سديد الدّين
(وجودي بِهِ من كل نوع مركب ... من الْعَالم الْمَعْقُول والمتركب)
(فذهني مشكاة وَنَفْسِي زجاجة ... تضيء بمصباح الحجا المتلهب)
(ونوري من النُّور الإلهي دَائِما ... يصب على ذاتي بِغَيْر تسكب)
(وزيتي من الزيتونة العذب دهنها ... تنزه عَن وصف بشرق ومغرب)
(كَأَنِّي فِي وصفي مَنَارَة رَاهِب ... بقنديلها الشفاف أشرف كَوْكَب) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(إِذا إِن غَدا وَالنَّفس مِنْهُ كجنة ... يغرد فِي أرجائها كل طَائِر)
(تدبرت السَّبع الطباق وَفَارَقت ... على شرف مِنْهَا سجون العناصر) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(كأننا ممتزج لم يزل ... من عَالم النير والمظلم)
(فبعضنا يختارها دَاره ... وبعضنا يرقى إِلَى الأنجم) السَّرِيع(1/391)
وَقَالَ أَيْضا
(الْحق يُنكره الجهول لِأَنَّهُ ... عدم التَّصَوُّر فِيهِ والتصديقا)
(فَهُوَ الْعُدُول لكل مَا هُوَ جَاهِل ... فَإِذا تصَوره يعود صديقا) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(لَو كنت تعلم كل مَا علم الورى ... جمعا لَكُنْت صديق كل الْعَالم)
(لَكِن جهلت فصرت تحسب كل من ... يهوى خلاف هَوَاك لَيْسَ بعالم)
(استحبي أَن الْعقل أصبح ضَاحِكا ... مِمَّا تَقول وَأَنت مثل النَّائِم)
(لَو كنت تسمع مَا سَمِعت وعالما ... مَا قد علمت خجلت خجلة نادم)
(وضع الْإِلَه الْخلف فِي كل الورى ... بالطبع حَتَّى صَار ضَرْبَة لَازم) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(أبلغ الْعَالمين عني بِأَنِّي ... كل علمي تصور وَقِيَاس)
(قد كشفت الْأَشْيَاء بِالْفِعْلِ حَتَّى ... ظَهرت لي وَلَيْسَ فِيهَا التباس)
(وَعرفت الرِّجَال بِالْعلمِ لما ... عرف الْعلم بِالرِّجَالِ النَّاس) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(قَالُوا رضيت وَأَنت اعْلَم ذَا الورى ... بحقائق الْأَشْيَاء عَن باريها)
(تجتاب أَبْوَاب الخمول فَقلت عَن ... كره وَلست بجاهل راضيها)
(لي همة مأسورة لي صادفت ... سَعْدا بِغَيْر عوائق تثنيها)
(ضَاقَ الفضاء بهَا فَلَا يسطيعها ... لعلوها الأفلاك أَن تحويها)
(مَا للمقاصد جمة ومقاصدي ... ناط الْقَضَاء بهَا الفضا والتيها)
(أطوي اللَّيَالِي بالمنى وصروفها ... تنشرنني أَضْعَاف مَا أطويها)
(إِنِّي على نوب الزَّمَان لصابر ... أما سيفنى الْعُمر أَو يفنيها)
(أما الَّذِي يبْقى فقد أحرزته ... والفانيات فَمَا أفكر فِيهَا) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(بني كن حَافِظًا للْعلم مطرحا ... جَمِيع مَا النَّاس فِيهِ تكتسب نسبا)
(فقد يسود الْفَتى من غير سَابِقَة ... للْأَصْل بِالْعلمِ حَتَّى يبلغ الشهبا)
(غذ الْعُلُوم بتذكار تزد أبدا ... فَالنَّار تخمد مهما لم تَجِد حطبا)
(إِنِّي أرى عدم الْإِنْسَان أصلح من ... عمر بِهِ لم ينل علما وَلَا نسبا)(1/392)
(قضى الْحَيَاة فَلَمَّا مَاتَ شيعه ... جهل وفقر فقد قضاهما نصبا) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(كن غَنِيا إِن اسْتَطَعْت وَإِلَّا ... كن حكيما فَمَا عدا ذين غفل)
(إِنَّمَا سؤدد الْفَتى المَال وَالْعلم ... وَمَا سَاد قطّ فقر وَجَهل) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(أقسم الْعُمر ثَلَاثًا واستمع ... يَا بني النصح مني والرشادا)
(فاطلب الْحِكْمَة فِي أَوله ... واحرز الْعلم وَجب فِيهِ البلادا)
(واكسب الْأَمْوَال فِي الثَّانِي وكل ... واشرح الراح وَلَا تَبْغِ الفسادا)
(وترقب آخر الْعُمر فَإِن ... جَاءَك الْمَوْت فقد نلْت المرادا)
(وَإِن إعتاقك فِي إِحْدَاهمَا ... طَارق الْمَوْت فقد حزت الجهادا)
(هَذِه سيرة مَسْعُود بهَا ... نَالَ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْأُخْرَى السدادا) الرمل
وَقَالَ أَيْضا
(بني تعلم حِكْمَة النَّفس أَنَّهَا ... طَرِيق إِلَى رشد الْفَتى وَدَلِيل)
(وَلَا تطلب الدُّنْيَا فَإِن كثيرها ... قَلِيل وَعَما رقدة فتزول)
(فَمن كَانَ فِي الدُّنْيَا حَرِيصًا فَإِنَّهُ ... يظل كئيب الْقلب وَهُوَ ذليل)
(وَمن يتْرك الدُّنْيَا وَأصْبح رَاهِبًا ... فَمَا للأذى يَوْمًا إِلَيْهِ سَبِيل) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(نَفسِي تطالبني بِمَا فِي طبعها ... وَالْعقل يزجرها عَن الشَّهَوَات)
(وَالنَّفس تعلم أَن ذَلِك وَاجِب ... والطبع يجذبها إِلَى الْعَادَات)
(والطبع يقصر عَن مُرَاد كليهمَا ... فكلاهما وقف على الحسرات)
(وَالنَّفس من خمر الْحَيَاة وسكرها ... ستفيق بَين عَسَاكِر الْأَمْوَات) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(لَا تدنين فَتى يودك ظَاهرا ... حبا وضد وداده فِي طبعه)
(واهجر صديقك أَن تنكر وده ... فالعضو يحسم داؤه فِي قطعه) الْكَامِل(1/393)
وَقَالَ أَيْضا
(من لزم الصمت اكتسى هَيْبَة ... تخفي عَن النَّاس مساويه)
(لِسَان من يعقل فِي قلبه ... وقلب من يجهل فِي فِيهِ) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(عدل مزاجك مَا اسْتَطَعْت وَلَا تكن ... كمسوف أودى بِهِ التَّخْلِيط)
(واحفظ عَلَيْك حرارة برطوبة ... تبقى فتركك حفظهَا تَفْرِيط)
(وَاعْلَم بأنك كالسراج بَقَاؤُهُ ... مَا دَامَ فِي طرف الذبال سليط) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(ثقلة الْجِسْم يستمد غذاه ... طلبا مِنْهُ للبقا والدوام)
(هُوَ لما رأى التَّحَلُّل طبعا ... أخلف الْمثل بالغذا وَالطَّعَام) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(ومخطف الخصر زارنا سحرًا ... فِي غنج عَيْنَيْهِ سحر هاروت)
(يحمل تفاحة موردة ... كدرة رصعت بياقوت)
(كَأَنَّهَا النَّجْم فِي توقده ... قَارن بدر السَّمَاء فِي حوت) المنسرح
وَقَالَ أهْدى إِلَيّ بالرحبة بشر بن عبد الله الْكَاتِب طبقًا من تفاح لم أشاهد مثله حمرَة وندا فَكتبت إِلَيْهِ
وَقد كَانَ طلب مني تَشْبِيها فِي التفاح فَقلت لَهُ إِذا حضر عملت فِيهِ تَشْبِيها فنفذ ذَلِك فَكتبت إِلَيْهِ
(هبا فَإِن الديك هَب وصاحا ... جنح الظلام واسقياني الراحا)
(رَاح تريح من الهموم وطبعها ... يَنْفِي السقام وينعش الأرواحا)
(أهدي الرئيس وَفِي نداه سجية ... تهدي النفائس غدْوَة ورواحا)
(طبقًا من التفاح إِنِّي لم أزل ... أَهْوى الثِّمَار وأعشق التفاحا)
(إِن الطبيعة والمزاج تشاركا ... فِي الْكَوْن لما أوجداه سماحا)
(صاغاه كالكافور لَكِن جلده ... قد ألبساه من النجيع وشاحا)
(فَكَأَنَّهُ من لون حبي قابس ... وَكَأَنَّهُ من نشر بشر فاحا) الْكَامِل(1/394)
وَقَالَ فِي النارنج
(سقياني من مخدرات الدنان ... بنت كرم حَمْرَاء كالأرجوان)
(وأدرها فِي مجْلِس ارهجته ... نغمات النايات والعيدان)
(وَكَأن الكؤوس فِيهِ نُجُوم ... أطلعتها أَيدي البدور الحسان)
(وابتدت بعد قطعهَا فلك السعد ... جَمِيعًا تغيب فِي الْأَبدَان)
(وَكَأن النارنج بَين الندامى ... أكرا مثلت من الزَّعْفَرَان) الْخَفِيف
وَقَالَ فِي الرُّمَّان الحامض
(وشادن أَبْلَج كالبدر ... نادمته لَيْلًا إِلَى الْفجْر)
(بَات بِهِ يصرف عَنهُ الْأَذَى ... بنهل كاسات من الْخمر)
(ينْتَقل الرُّمَّان فِي أَثَرهَا ... مَخَافَة من ضَرَر السكر)
(كَأَنَّهُ وَهُوَ خَبِير بِهِ ... يكسر الْيَاقُوت بالدر) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(وبابلي اللحاظ كَالْقَمَرِ ... أصبح فِي الأَرْض فتْنَة الْبشر)
(أولاه فيض الْجمال أجمعه ... وَالْحسن والظرف واهب الصُّور)
(خشيت من عقرب بِهِ قمر ... فَكيف بالعقربين فِي قمر) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(ومفهف يغشى الْعُيُون غريقه ... فِي لج مَاء الْحسن مِنْهُ وموجه)
(قلم الطبيعة خطه وَالْمُشْتَرِي ... يملي عَلَيْهِ عُطَارِد من أوجه) الْكَامِل
وَقَالَ فِي غلْمَان يسبحون بدجلة
(وسرب غيد بشاطئ دجلة خَرجُوا ... عَن الثِّيَاب وألقوا سَائِر الكلف)
(كَأَنَّهُمْ وسط لج المَاء أجمعهم ... در تجرد فِي بَحر عَن الصدف) الْبَسِيط
وَقَالَ فِي غُلَام فِي الْحمام
(جردته الْحمام من كل ثوب ... وأرتني مِنْهُ الَّذِي كَانَ قصدي)
(بدنا كالصباح من تَحت ليل ... حالك اللَّوْن أسود غير جعد)(1/395)
(سكب المَاء فَوق جسم حكى ... الْفضة حَتَّى اكتسى غلالة ورد) الْخَفِيف
وَقَالَ وكتبها إِلَى صديق
(جَاءَ شعْبَان منذرا بالصيام ... فاسقياني رَاحا بِمَاء الْغَمَام)
(خندريسا كَأَنَّهَا الشَّمْس لونا ... وضياء أسفى من الأوهام)
(واسقني من يَمِين أغيد ريم ... من بني التّرْك مثل بدر التَّمام)
(فَكَأَن الصَّهْبَاء فِي الْحسن والساقي ... بهَا والحباب فَوق المدام)
(شمس ظهر فِي كف بدر عَلَيْهَا ... سمط در حكى نُجُوم الظلام)
(سِيمَا وَالربيع بالورد عاف ... يَوْمه يشترى بسبعين عَام) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(كتبت وَبِي من لاعج الشوق والأسى ... إِلَيْك جوى يوهي القوى والقوادما)
(وَلَوْلَا الرجا أَن يجمع الله بَيْننَا ... كأحسن مَا كُنَّا أَتَيْتُك قادما)
(ولكنني أَدْعُو إِلَى الْوَاحِد الَّذِي ... يرى كل شَيْء أَن يردك سالما) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(يَا من تربع جلقا وَغدا ... يدعى من السُّعَدَاء عش أبدا)
(لَا تَطْلُبن بغَيْرهَا بَدَلا ... هِيَ جنَّة الله الَّتِي وَعدا)
(قض الزَّمَان وَلَا تبع طَمَعا ... نَقْدا بوعد ترتجيه غَدا)
(واشرب بهَا صفراء صَافِيَة ... تَنْفِي الهموم وتسلب الكمدا)
(رَاحا إِذا بزلت بانية ... قذفت على حافاتها الزبدا)
(فالعاقل الفطن اللبيب إِذا ... نَالَ المنى فِي منزل قعدا)
(إِنِّي لَا هوى شرب صَافِيَة ... مقطوبة فِي الكأس من بردى)
(من كف من يهوى الْفُؤَاد بهَا ... تسْعَى بهَا وَاللَّيْل قد بردا)
(تَسْقِي ندامي كَالنُّجُومِ غدوا ... بيض الْوُجُوه تخالها بردا)
(مَا نَلْتَقِي إِلَّا حَلِيف حجى ... يلقِي الْعُلُوم وشاديا غردا) الْكَامِل(1/396)
وَقَالَ أَيْضا
(سَلام كأنفاس الرياض بعالج ... يبلغهُ ريح الصِّبَا أَرض جلق)
(إِلَى سَاكن فِيهَا وَفِي الْقلب مثله ... مُقيما بِهِ عقلا إِلَى حِين نَلْتَقِي)
(إِلَى جنَّة الدُّنْيَا جَمِيعًا وليتني ... أنخت بهَا يَوْمًا من الدَّهْر أينقي)
(وَأَنت بهَا فالراح غير لذيذة ... بِغَيْر نديم خَالص الود مُشفق)
(سميع مُطِيع للأخلاء قد صفا ... بِغَيْر قذى صفو الشَّرَاب الْمُعْتق)
(وَإِنِّي ليدعوني الْهوى كل سَاعَة ... إِلَيْك وتغريد الْحمام المطوق)
(سَلام من الشعرى الْيَمَانِيّ دَائِما ... إِلَى تربها الشامية المتألق)
(وَإِن مزق الدَّهْر المعاند شملنا ... فَإِن ودادي لَيْسَ بالمتمزق)
(وبدلني بالصد مِنْك فحالتي ... كحالة مأسور بغربة موثق)
(وَمن نكد الدَّهْر الغشوم وَصَرفه ... يجاور رغما فيلسوف لأحمق) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(يَا حجَّة الدّين سر بِاللَّه معتصما ... وَلَا تكن لفراق حم ذَا أَسف)
(فللكواكب عذر فِي تنقلها ... عَن الْبيُوت لكَي تحتل بالشرف)
(الدّرّ لَوْلَا نحور الغيد مَا خرجت ... بِهِ الْمَقَادِير أَحْيَانًا من الصدف)
(فَأقبل إِلَى ملك مَا نَالَ غَايَته ... وَمَا حواه مُلُوك الأَرْض فِي السّلف)
(هُوَ الهيولى وَأَنت الْجِسْم تقبل ... أَصْنَاف الْمَعَالِي قبولا غير مُخْتَلف) الْبَسِيط
وَقَالَ استدعاني الرِّضَا وَزِير الجزيرة فِي لَيْلَة ممطرة فَكتبت إِلَيْهِ مَعَ الْغُلَام
(قل للوزير أدام الله نعْمَته ... فِي دولة أمرهَا فِي الْحَضَر والبادي)
(بعثت فِي طلبي والغيث منسكب ... والوحل قد كف سير الرَّائِح الغادي)
(وَقد رددت الَّذِي نفذت فِي طلبي ... فَابْعَثْ إِلَيّ بمركوب ولباد) الْبَسِيط
فَبعث إِلَيْهِ مَا أَرَادَ وَقَالَ وَكتبه إِلَى بعض الْكتاب
(دَعْنِي من المطل الَّذِي لَا يَنْقَضِي ... أبدا وسقم الْقلب بِالتَّعْلِيلِ)(1/397)
(قل لي نعم أَو لَا بِغَيْر توقف ... فاليأس أروح لي من التَّطْوِيل)
(لأَكُون من طمعي الكذوب كمن رأى ... أضغاث أَحْلَام بِلَا تَأْوِيل) الْكَامِل
وَقَالَ يهجو عَليّ بن مسْهر الشَّاعِر
(مَا ولدت سعلاء من جن عبقر ... بأقبح شخص من عَليّ بن مسْهر)
(لَهُ هَامة صلعاء من فَوق قامة ... مقوسة حدباء فِي دور خنصر)
(بهَا جعل مَا بَين فَكَّيْهِ كامن يَزُجّ ... الخرا من فِيهِ فِي كل محْضر)
(وَلما شكى دَاء قَدِيما بدبره ... إِلَى وداء من فَم مِنْهُ ابخر)
(فَقلت دَوَاء الدبر طعنه أجرد ... عريض الْقَفَا عُرْيَان أَقرع أَعور)
(تناك بِهِ من بَين فَخذي موسوس ... بِهِ جنَّة كالعير هوج أير)
(وَمَا يشتكي فوك الْخَبيث دواؤه ... بمسواك جعس مجه حجر خيبري)
(وكل من جوارشن الْبُطُون فَإِنَّهُ ... لدائك أشفى من جوارشن قَيْصر)
(ففيك من العاهات مَا لَو تقسمت ... على الْخلق جمعا لم تَجِد غير مُدبر) الطَّوِيل
وَقَالَ فِي الْمَرْأَة
(قد أَقبلت غولة الصبايا ... تنظر عَن معلم النقاب)
(فَقلت من أعظم الرزايا ... قفل على منزل خراب)
(أحسن مَا كنت فِي عباة ... ملفوفة الرَّأْس فِي جراب) الْبَسِيط
وَقَالَ يمتدح فَضِيلَة الشَّرْع
(أَن الشَّرِيعَة ألفت بصلاحها ... للْعَالم المتضادد المتمازج)
(الشَّرْع أصلح كل غاو مارد ... وأمات شرة كل جَان مارج)
(لَوْلَا الشَّرِيعَة مَا تجمع واستوى ... شَمل الورى ومنوا بشر هائج)
(أَن الشَّرِيعَة حِكْمَة وَمَنَافع ... لمداخل ومصالح لمخارج)
(وَالْعقل نور الله إِلَّا أَنه ... للْعَالم المحسوس غير ممازج)
(فَمَتَى اكتفيت بِفعل عقل دَاخل ... فَسدتْ أمورك كلهَا من خَارج)
(الْأَنْبِيَاء كواكب تهدي إِلَى ... سبل الْهدى لِذَوي السرى والدالج) الْكَامِل(1/398)
وَقَالَ حِين ترك الْخمر وَتَابَ عَنهُ وَعَن الْمَدْح بالشعر
(نَار الحميا ونار الْفِكر مذ نهكا ... جسمي تركت الحميا خشيَة النَّار)
(والكاس بالطبع تصدي عقل شاربها ... وَالسكر يسلب مِنْهُ حِكْمَة الْبَارِي) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(صددت عَن الصَّهْبَاء لما وَجدتهَا ... منافرة مني طباعي وأخلاقي)
(وعوضت عَنْهَا النَّفس كاسات حِكْمَة ... تعللتها فازددت شوقا إِلَى الساقي) الطَّوِيل
وللعنتري من الْكتب كتاب النُّور المجتنى من روض الندما وتذكار الْفُضَلَاء الحكما ونزهة الْحَيَاة الدُّنْيَا رُتْبَة على فُصُول السّنة وَضَمنَهُ إشعارا وفوائد حَسَنَة لجَماعَة من الأدباء ولنفسه أَيْضا وَأَبَان فِيهِ عَن فضل
كتاب الجمانة فِي الْعلم الطبيعي والإلهي
كتاب الأقراباذين وَهُوَ أقراباذين كَبِير استقصى فِيهِ ذكر الْأَدْوِيَة المركبة وأجاد فِي تأليفه
رِسَالَة الشعرى اليمانية إِلَى الشعرى الشامية كتبهَا إِلَى عَرَفَة النَّحْوِيّ بِدِمَشْق جَوَابا عَن رِسَالَة كتبهَا إِلَيْهِ من دمشق
رِسَالَة حَرَكَة الْعَالم يهنئ بهَا وزيرا استدعي إِلَى وزارة بلد آخر وَهُوَ حجَّة الدّين مَرْوَان لما وزره أتابك زنكي بن آق سنقر
رِسَالَة الْفِرَاق مَا بَين الدَّهْر وَالزَّمَان وَالْكفْر وَالْإِيمَان
رِسَالَة الْعِشْق الإلهي والطبيعي
أَبُو الْغَنَائِم هبة الله بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن أثردى
من أهل بَغْدَاد متميز فِي الْحِكْمَة فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ مَشْهُور بالجودة فِي الْعلم وَالْعَمَل
وَلأبي الْغَنَائِم هبة الله بن عَليّ بن أثردى من الْكتب تعاليق طبية وفلسفية
مقَالَة فِي أَن اللَّذَّة فِي النّوم فِي أَي وَقت تُوجد مِنْهُ وَألف هَذِه الْمقَالة لأبي نصر التكريتي طَبِيب الْأَمِير ابْن مران
عَليّ بن هبة الله بن أثردى
هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن هبة الله بن عَليّ بن أثردى من أهل بَغْدَاد
طَبِيب فَاضل مَشْهُور بالتقدم فِي صناعَة الطِّبّ وجودة الْمعرفَة لَهَا حسن المعالجة جيد التصنيف
ولعلي بن هبة الله بن أثردى من الْكتب شرح كتاب دَعْوَة الْأَطِبَّاء أَلفه لأبي الْعَلَاء مَحْفُوظ بن المسيحي المتطبب
سعيد بن أثردى
هُوَ أَبُو الْغَنَائِم سعيد بن هبة الله بن أثردى من الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين بِبَغْدَاد وَكَانَ ساعور البيمارستان العضدي ومتقدما فِي أَيَّام المقتفي بِأَمْر الله(1/399)
أَبُو عَليّ الْحسن بن عَليّ بن أثردى
فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ جيد الْأَعْمَال حسن المعالجة وَكَانَ من المشكورين بِبَغْدَاد
جمال الدّين عَليّ بن أثردى
هُوَ جمال الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي الْغَنَائِم سعيد بن هبة الله بن عَليّ بن أثردى فَاضل فِي صناعَة الطِّبّ عَالم بهَا متميز فِي علمهَا وعملها
كَانَ همام الدّين الْعَبْدي الشَّاعِر قد اسْتعَار من جمال الدّين عَليّ بن أثردى كتاب مسَائِل حنين فَقَالَ يمدحه ويشعره بِأَن الْمسَائِل الْعَارِية قد وَقع عَلَيْهَا اخْتِيَاره على سَبِيل الدعابة وَذَلِكَ فِي سنة ثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة
(حياك رقراق الحيا ... عني وخفاف النسيم)
(فلأنت ذُو الْخلق الْكَرِيم ... وَأَنت ذُو الْخلق الوسيم)
(غدق الأنامل بالندى ... لبق الشَّمَائِل بالنعيم)
(مَا افتر إِلَّا فر جَيش ... دجنة اللَّيْل البهيم)
(نضر الفكاهة كالحمام ... جرى على زهر الجميم)
(ويسير أَوْقَات الثراء ... كثير أفراح النديم)
(لَا بالملول وَلَا الْجَدْوَل ... وَلَا الجهول وَلَا المليم)
(بل يشفع القَوْل اللَّطِيف ... بوافر الطول الجسيم)
(نَاد الورى مستصرخا ... هَل من صديق أَو حميم)
(حمال أعباء القرين ... منيع أكناف الْحَرِيم)
(وادع الْكِرَام وَلنْ يُجيب ... سوى أبي الْحسن الْحَكِيم)
(سمعا جمال الدّين قَول ... مصاحب الود السَّلِيم)
(هَل للمسائل رَجْعَة ... يَوْمًا إِلَى الوطن الْقَدِيم)
(هَيْهَات أعوز مَا يروم ... الْفَحْل إلقاح الْعَقِيم)
(بيني وَبَيْنك وصلَة ... الإفضال وَالْفضل العميم)
(والوصلة الْعُظْمَى حميد ... ولَايَة النبأ الْعَظِيم)
(إِنَّا ليجمعنا الْوَلَاء ... على صِرَاط مُسْتَقِيم)
الْكَامِل المرخل وَقَالَ أَيْضا يمدحه
(سل لم جَفا جفني الوسن ... بعد بعاد من ظعن)(1/400)
(وَمن نأى بِالصبرِ لم ... غادر فِي قلبِي الْحزن)
(وَقل لمن خَال الْهوى ... قل لي على الْبعد وَطن)
(لم يبعد الوجد الَّذِي ... خَلفه الْبَين وَلنْ)
(وَلنْ ترى جوانحي ... سَاكِنة بعد سكن)
(يَا من يظنّ الْحبّ من ... أيسر أَحْدَاث الزَّمن)
(الْحبّ مَا صير ثوب ... الْمَرْء للمرء كفن)
(لَا مَا أسَال مدمعا ... أَو جعل السِّرّ علن)
(أما وممشوق القوام ... ناعس الطّرف أغن)
(ينص جيد مطفل ... تنشد خشفا مَا شدن)
(إِنِّي لاشتاق فَتى ... لَا يتبع الْمَنّ منن)
(وَلنْ ترى أحسن من ... شوقي إِلَى أبي الْحسن)
(مفتتن بِهِ فَتى ... لَوْلَا هَوَاهُ مَا افْتتن)
(أحن شوقا وجوى ... فليته اشتاق وحن)
(وَلَا أَزَال سَائِلًا ... عَنهُ فَهَل يسْأَل عَن)
(هَيْهَات أَيْن ذُو خلا ... من ذِي غرام وشجن)
(أَخُو الْهوى لَيْسَ لَهُ ... من أسْهم الوجد جنن)
(تكَاد تجْرِي نَفسه ... لَوْلَا ارتباط بِالْبدنِ)
(وَكَيف لَا أعشق معسول ... الْعَطاء واللسن)
(للمجد مَا جاد بِهِ ... وللسماح مَا خزن)
(فسمحه ذكاؤه ... وللسماحات فطن)
(لَا ثل عرش سعده ... وَلَا وهى وَلَا وَهن)
(أَحْمَده لَا طَالبا ... مِنْهُ على الْحَمد ثمن)
(وَلَا وداد من نأى ... عَن الظباء والضبن)
(فابق لنا مَا سجعت ... حمامة على فنن)
(وامض كَمَا تُؤثر من ... نهج العلى على سنَن)
(وليهنك الْعِيد الَّذِي ... بِهِ العداة لم تهن) الرجز(1/401)
فَخر الدّين المارديني
هُوَ الإِمَام فَخر الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد السَّلَام بن عبد الرَّحْمَن بن عبد السَّاتِر الْأنْصَارِيّ
كَانَ أوحد زَمَانه وعلامة وقته فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة
قوي الذكاء فَاضل النَّفس جيد الْمعرفَة بصناعة الطِّبّ محاولا لأعمالها كثير التَّحْقِيق نزيه النَّفس محبا للخير متقنا للغة متفننا فِي الْعَرَبيَّة
مولده فِي ماردين وأجداده من الْقُدس وَكَانَ أَبوهُ قَاضِيا
وَلما فتح نجم الدّين الْغَازِي بن أرتق الْقُدس بعث جده عبد الرَّحْمَن إِلَى ماردين وقطن بهَا هُوَ وَأَوْلَاده
وَكَانَ شيخ فَخر الدّين المارديني فِي الْحِكْمَة نجم الدّين بن صَلَاح وَهُوَ نجم الدّين أَبُو الْفتُوح أَحْمد بن السّري وَكَانَ عجميا من همذان استدعاه حسام الدّين تمرتاش بن الْغَازِي بن ارتق
وَكَانَ ابْن الصّلاح فَاضلا فِي الْحِكْمَة جيد الْمعرفَة بهَا خَبِيرا بدقائقها وأسرارها
وَله تصانيف فِي الْحِكْمَة وَأقَام فِي آخر عمره بِدِمَشْق وَتُوفِّي رَحمَه الله فِي سنة وَدفن فِي مَقَابِر الصُّوفِيَّة عِنْد نهر بانياس بِظَاهِر دمشق وَقَرَأَ فَخر الدّين المارديني صناعَة الطِّبّ على أَمِين الدولة بن التلميذ
وحَدثني الْحَكِيم سديد الدّين مَحْمُود بن عمر الْمَعْرُوف بِابْن رقيقَة عَن فَخر الدّين المارديني أَنه قَرَأَ كتاب القانون لِابْنِ سينا على أَمِين الدولة بن التلميذ وباحثه فِيهِ وَبَالغ فِي تَصْحِيحه وتحريره مَعَه
وَكَانَ ابْن التلميذ يقْرَأ عَلَيْهِ صناعَة الْمنطق
وَمِمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ فِي ذَلِك كتاب الْمُخْتَصر الْأَوْسَط للجرجاني لِابْنِ سينا
وَأقَام فَخر الدّين بن عبد السَّلَام المارديني فِي مَدِينَة حيني سِنِين كَثِيرَة وَكَانَ فِي خدمَة نجم الدّين بن ارتق
قَالَ سديد الدّين مَحْمُود بن عمر وَكَانَ قد صحب فَخر الدّين المارديني فِي مَدِينَة حيني وَقَرَأَ عَلَيْهِ صناعَة الطِّبّ ولازمه مُدَّة طَوِيلَة وَلم يكن يُفَارِقهُ فِي سَفَره وَلَا حَضَره إِن الشَّيْخ فَخر الدّين المارديني رَحمَه الله وصل إِلَى دمشق وَكنت مَعَه فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة وأقرأ بهَا صناعَة الطِّبّ وَكَانَ لَهُ مجْلِس عَام للتدريس
وَكَانَ من جملَة من اشْتغل عَلَيْهِ ولازمه مُدَّة مقَامه بِدِمَشْق الشَّيْخ مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ وَقَرَأَ عَلَيْهِ الشيح مهذب الدّين بعض كتاب القانون لِابْنِ سينا وَصَححهُ مَعَه
وَلم يزل الشَّيْخ فَخر الدّين المارديني مُقيما بِدِمَشْق إِلَى آخر شهر شعْبَان سنة تسع وَثَمَانِينَ وَخَمْسمِائة فَإِنَّهُ توجه قَاصِدا إِلَى بَلَده وَلما عزم على السّفر أَتَاهُ الشَّيْخ مهذب الدّين وَسَأَلَهُ إِن كَانَ يُمكنهُ أَن يُقيم بِدِمَشْق ليتمم عَلَيْهِ قِرَاءَة كتاب القانون وَأَن يكون يُوصل إِلَى وَكيله برسم النَّفَقَة فِي كل شهر ثلثمِائة دِرْهَم ناصرية فَلم يفعل
وَقَالَ الْعلم لَا يُبَاع أصلا بل من كَانَ معي فإنني اشغله أَيْن كنت
وَلم يُمكن مهذب الدّين التَّوَجُّه مَعَه وَلما سَافر فَخر الدّين المارديني من دمشق(1/402)
وَكَانَ فِي طَرِيقه بحلب نفذ إِلَيْهِ الْملك الظَّاهِر غَازِي بن الْملك النَّاصِر صَلَاح الدّين واستحضره وَأَعْجَبهُ كَلَامه فَطلب أَن يُقيم عِنْده فَاعْتَذر إِلَيْهِ
وَلم يقبل مِنْهُ الْملك الظَّاهِر ذَلِك وَأطلق لَهُ مَالا كثيرا وأنعم عَلَيْهِ وَكَانَ عَظِيم الْمنزلَة عِنْده وَبَقِي فِي خدمته نَحْو سنتَيْن ثمَّ سَافر إِلَى ماردين
أَقُول وَتُوفِّي فَخر الدّين المارديني رَحمَه الله يَوْم السبت الْحَادِي وَالْعِشْرين من ذِي الْحجَّة سنة أَربع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بآمد وَله من الْعُمر اثْنَان وَثَمَانُونَ سنة ووقف جَمِيع كتبه فِي ماردين فِي المشهد الَّذِي وَقفه حسام الدّين بن أرتق وَكَانَ حسام الدّين هَذَا فَاضلا حكيما فيلسوفا وَقد وقف أَيْضا فِي مشهده كتبا حكمِيَّة
والكتب الَّتِي وَقفهَا الشَّيْخ فَخر الدّين هِيَ من أَجود الْكتب وَهِي نسخه الَّتِي كَانَ قد قَرَأَ أَكْثَرهَا على مشايخه وحررها وَقد بَالغ فِي تصحيحها واتقانها
وحَدثني سديد الدّين مَحْمُود بن عمر وَكَانَ حَاضرا عِنْد الشَّيْخ فَخر الدّين المارديني وَقت مَوته قَالَ لم يزل الشَّيْخ فَخر الدّين لما أحس بِالْمَوْتِ يذكر الله تَعَالَى ويمجده وَلم يفتر عَن ذَلِك إِلَى حِين قضى وَكَانَ آخر شَيْء سمعناه مِنْهُ اللَّهُمَّ إِنِّي آمَنت بك وبرسولك صدق صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الله يستحي من عَذَاب الشَّيْخ
ولفخر الدّين المارديني من الْكتب شرح قصيدة الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا الَّتِي أَولهَا
(هَبَطت إِلَيْك من الْمحل الأرفع ... )
وَكَانَ شَرحه لهَذِهِ القصيدة لما سَأَلَهُ الْأَمِير عز الدّين أَبُو الْقَاسِم الْخضر بن أبي غَالب نصر الْأَزْدِيّ الْحِمصِي ذَلِك رِسَالَة فَضَح فِيهَا بعض من اتهمه بالميل إِلَى مَذْهَب معيب
أَبُو نصر بن المسيحي
هُوَ أَبُو نصر سعيد بن أبي الْخَيْر بن عِيسَى بن المسيحي من المتميزين فِي صناعَة الطِّبّ والأفاضل من أَهلهَا والأعيان من أَرْبَابهَا
حَدثنِي شمس الدّين مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْكَرِيم الْبَغْدَادِيّ قَالَ مرض الْخَلِيفَة النَّاصِر لدين الله فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَخَمْسمِائة مَرضا شَدِيدا وَكَانَ الْمَرَض بالرمل وَعرض لَهُ فِي المثانة حَصَاة كَبِيرَة مفرطة فِي الْكبر وَاشْتَدَّ بِهِ الْأَلَم وَطَالَ الْمَرَض
وَكَانَ طبيبه أَبُو الْخَيْر المسيحي وَكَانَ شَيخا حسنا مسنا وَقد خدمه مُدَّة طَوِيلَة وَكَانَ خَبِيرا متقنا للصناعة وَمَات وَقد قَارب الْمِائَة سنة فامتد بِهِ الْمَرَض وضجر من المعالجات فَأَشَارَ بِأَن تشق المثانة لإِخْرَاج الْحَصَاة
فَسَأَلَ عَن حذاق الجرائحين فَأخْبر بِرَجُل مِنْهُم يُقَال لَهُ ابْن عكاشة من سَاكِني الكرخ بِجَانِب بَغْدَاد الغربي فأحضر وَشَاهد الْعُضْو العليل وَأمره ببطه
فَقَالَ أحتاج أَن أشاور مَشَايِخ الْأَطِبَّاء فِي هَذَا
فَقَالَ لَهُ من(1/403)
تعرف بِبَغْدَاد من صالحي هَذِه الصِّنَاعَة فَقَالَ يَا مَوْلَانَا أستاذي وشيخي أَبُو نصر بن المسيحي لَيْسَ فِي الْبِلَاد بأسرها من يماثله
فَقَالَ لَهُ الْخَلِيفَة اذْهَبْ إِلَيْهِ ومره بالحضور
فَلَمَّا حضر خدم وَقبل الأَرْض أمره بِالْجُلُوسِ فَجَلَسَ سَاعَة وَلم يكلمهُ وَلم يَأْمُرهُ بِشَيْء حَتَّى سكن روعه
فَلَمَّا آنس مِنْهُ ذَلِك قَالَ لَهُ يَا أَبَا نصر مثل نَفسك أَنَّك قد دخلت إِلَى بيمارستان وَأَنت تباشر بِهِ مَرِيضا قد ورد من بعض الضّيَاع وَأُرِيد أَن تباشر مداواتي وتعالجني فِي هَذَا الْمَرَض كَمَا تفعل بِمن هَذِه صفته
فَقَالَ السّمع وَالطَّاعَة وَلَكِنِّي احْتَاجَ أَن أعرف من هَذَا الطَّبِيب الْمُتَقَدّم مبادئ الْمَرَض وأحواله وتغيراته وَمَا عالج بِهِ مُنْذُ أول الْمَرَض وَإِلَى الْآن
فَاحْضُرْ الشَّيْخ أَبُو الْخَيْر وَأخذ يذكر لَهُ ابتداءات الْمَرَض وتغيرات أَحْوَاله وَمَا عالج بِهِ فِي أول الْأَمر وَإِلَى آخر وَقت
فَقَالَ التَّدْبِير صَالح والعلاج مُسْتَقِيم
فَقَالَ الْخَلِيفَة هَذَا الشَّيْخ اخطأ وَلَا بُد لي من صلبه
فَقَامَ أَبُو نصر بن المسيحي وَقبل الأَرْض وَقَالَ يَا مَوْلَانَا بِحَق نعْمَة الله عَلَيْك وبمن مضى من أسلافك الطاهرين لَا تسن على الْأَطِبَّاء هَذِه السّنة وَأما الرجل فَلم يُخطئ فِي التَّدْبِير وَلَكِن لسوء حَظه لم ينْتَه الْمَرَض
فَقَالَ قد عَفَوْت عَنهُ وَلَكِن لَا يعود يدْخل عَليّ
فَانْصَرف ثمَّ أَخذ أَبُو نصر فِي مداواته فَسَقَاهُ ودهن الْعُضْو بالإدهان الملينات وَقَالَ لَهُ إِن أمكن نلاطف الْأَمر بِحَيْثُ نخرج هَذِه الْحَصَاة من غير بط فَهُوَ المُرَاد وَإِن لم تخرج فَذَلِك لَا يفوتنا
فَلم يزل كَذَلِك يَوْمَيْنِ وَفِي لَيْلَة الْيَوْم الثَّالِث رمى الْحَصَاة فَقيل إِنَّه كَانَ وَزنهَا سَبْعَة مَثَاقِيل وَقيل خَمْسَة وَقيل إِنَّهَا كَانَت على مِقْدَار أكبر نواة تكون من نوى الزَّيْتُون
وبرأ وتتابع الشِّفَاء وَدخل الْحمام فَأمر أَن يدْخل أَبُو نصر إِلَى دَار الضَّرْب وَيحمل من الذَّهَب مهما قدر أَن يحملهُ فَفعل بِهِ ذَلِك
ثمَّ أَتَتْهُ الْخلْع وَالدَّنَانِير من أم الْخَلِيفَة وَمن ولديه الأميرين مُحَمَّد وَعلي والوزير نصير الدّين أبي الْحسن ابْن مهْدي الْعلوِي الرَّازِيّ وَمن سَائِر كبار الْأُمَرَاء بالدولة
فَأَما أم الْخَلِيفَة وَأَوْلَاده والوزير والشرابي نجاح فَكَانَت الدَّنَانِير من كل وَاحِد مِنْهُم ألف دِينَار وَكَذَلِكَ من أكَابِر الْأُمَرَاء والباقين على قدر أَحْوَالهم
فَأخْبرت أَنه حصل من الْعين الدَّنَانِير عشْرين ألف دِينَار وَمن الثِّيَاب وَالْخلْع جملَة وافرة وألزم الْخدمَة وفرضت لَهُ الجامكية السّنيَّة والراتب وَالْإِقَامَة
وَلم يزل مستمرا فِي الْحِكْمَة إِلَى أَن مَاتَ النَّاصِر
قَالَ وحَدثني بعض الْأَطِبَّاء أَن ابْن عكاشة الجرائحي كَانَ قد نذر عَلَيْهِ أَنه يتَصَدَّق فِي بيعَة سوق الثُّلَاثَاء بِالربعِ مِمَّا يحصل لَهُ وَأَنه حمل إِلَى الْبيعَة مِائَتَيْنِ وَخمسين دِينَارا وَصرف أَبُو الْخَيْر المسيحي من الْخدمَة وَقد كَانَت مَنْزِلَته قبل هَذَا جليلة عِنْده وَمحله مُرْتَفع وَوَصله هبات وصلات عَظِيمَة(1/404)
فَمن جُمْلَتهَا أَنه أعطَاهُ خزانَة كتب الْأَجَل أَمِين الدولة بن التلميذ
وَكَانَ مرض النَّاصِر مرَارًا وبرأ على يَده فَحصل لَهُ فِيهَا جمل وافرة
ثمَّ توفّي الشَّيْخ أَبُو الْخَيْر فِي أَيَّام النَّاصِر فَقيل لَهُ إِنَّه قد توفّي وَترك ولدا مُتَخَلِّفًا وَجُمْلَة عَظِيمَة من المَال
فَقَالَ لَا يعْتَرض وَلَده فِيمَا وَرثهُ من أَبِيه فَمَا خرج عَنَّا لَا يعود إِلَيْنَا
وَلأبي نصر بن المسيحي من الْكتب كتاب الاقتضاب على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب فِي الطِّبّ
كتاب انتخاب الاقتضاب
أَبُو الْفرج
هُوَ صاعد بن هبة الله بن توما نَصْرَانِيّ من أهل بَغْدَاد
وَكَانَ من الْأَطِبَّاء المتميزين والأكابر المتعينين
حَدثنِي شمس الدّين مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْكَرِيم الْبَغْدَادِيّ أَنه كَانَ طَبِيب نجم الدولة أبي الْيمن نجاح الشرابي وارتقت بِهِ الْحَال إِلَى أَن صَار وزيره وكاتبه
ثمَّ دخل إِلَى النَّاصِر وَكَانَ يُشَارك من يحضر من أطبائه فِي أَوْقَات أمراضه
ثمَّ حظي عِنْده الحظوة التَّامَّة وَسلم إِلَيْهِ عدَّة جِهَات يخْدم بهَا وَكَانَ بَين يَدَيْهِ فِيهَا عدَّة دواوين وَكتاب
وَقتل فِي سنة عشْرين وسِتمِائَة وَكَانَ سَببه أَنه أحضر جمَاعَة من الأجناد الَّذين كَانَت مَعَايشهمْ تَحت يَده وَأَنه خاطبهم بِمَا فِيهِ بعض الْمَكْرُوه فكمن لَهُ مِنْهُم اثْنَان لَيْلًا فقتلاه بالسكاكين
واعترضت تركته فَأمر الْخَلِيفَة بِأَن يحمل مَا فِيهَا من المَال إِلَى الخزانة وَيبقى القماش وَالْملك لوَلَده
قَالَ فَأَخْبرنِي بعض البغداديين أَنه حمل من دَاره إِلَى الخزانة من الدَّنَانِير الْعين ثَمَانمِائَة ألف وَثَلَاثَة عشر ألف دِينَار وَبَقِي الأثاث والأملاك بِمَا يُقَارب تَتِمَّة ألف ألف دِينَار فَترك لوَلَده
أَقُول وَوجدت الصاحب جمال الدّين بن القفطي قد حكى من أَحْوَال صاعد بن توما الْمَذْكُور مَا هَذَا نَصه قَالَ كَانَ حكيما طيبا حسن العلاج كثير الْإِصَابَة مَيْمُون المعاناة فِي الْأَكْثَر لَهُ سَعَادَة تَامَّة فِي هَذَا الشَّأْن وَكَانَ من ذَوي المروءات والأمانات
تقدم فِي أَيَّام النَّاصِر إِلَى أَن كَانَ بِمَنْزِلَة الوزراء واستوثقه على حفظ أَمْوَال خواصه وَكَانَ يودعها عِنْده ويرسله فِي أُمُور خُفْيَة إِلَى وزرائه وَيظْهر لَهُ فِي كل وَقت وَكَانَ حسن الوساطة جميل الْمحْضر قضيت على يَدَيْهِ حاجات واستكفيت بوساطته شرور
وسالمته الْأَيَّام مُدَّة طَوِيلَة وَلم ير لَهُ غير شَاكر وناشر
وَكَانَ الإِمَام النَّاصِر فِي آخر أَيَّامه قد ضعف بَصَره وأدركه سَهْو فِي أَكثر أوقاته لأحزان تَوَاتَرَتْ على قلبه وَلما عجز عَن النّظر فِي الْقَصَص والانهاءات استحضر امْرَأَة من النِّسَاء البغداديات تعرف بست نسيم وقربها وَكَانَت تكْتب خطا قَرِيبا من خطه وَجعلهَا بَين يَدَيْهِ تكْتب الْأَجْوِبَة والرقاع وشاركها فِي ذَلِك خَادِم اسْمه تَاج الدّين رَشِيق
ثمَّ تزايد الْأَمر بالناصر فَصَارَت الْمَرْأَة تكْتب الْأَجْوِبَة بِمَا ترَاهُ فَمرَّة تصيب وَمرَّة تخطئ(1/405)
ويشاركها رَشِيق فِي مثل ذَلِك
وَاتفقَ أَن كتب الْوَزير القمي الْمَدْعُو بالمؤيد مطالعة وَحملهَا وَعَاد جوابها وَفِيه اختلال بَين
فتوقف الْوَزير وَأنكر ثمَّ استدعى الْحَكِيم صاعد بن توما وَأسر إِلَيْهِ مَا جرى وَسَأَلَهُ عَن تَفْصِيل الْحَال فَعرفهُ مَا الْخَلِيفَة عَلَيْهِ من عدم الْبَصَر والسهو الطَّارِئ فِي أَكثر الْأَوْقَات وَمَا تعتمده الْمَرْأَة وَالْخَادِم من الْأَجْوِبَة
فتوقف الْوَزير عَن الْعَمَل بِأَكْثَرَ الْأُمُور الْوَارِدَة عَلَيْهِ وَتحقّق الْخَادِم وَالْمَرْأَة ذَلِك وَقد كَانَت لَهما أغراض يُريدَان تمشيتها لأجل الدُّنْيَا واغتنام الفرصة فِي نيلها
فحدسا أَن الْحَكِيم هُوَ الَّذِي دله على ذَلِك فقرر رَشِيق مَعَ رجلَيْنِ من الْجند فِي الْخدمَة أَن يغتالا الْحَكِيم ويقتلاه وهما رجلَانِ يعرفان بولدي قمر الدولة من الأجناد الواسطية وَكَانَ أَحدهمَا فِي الْخدمَة وَالْآخر بطالا
فرصدا الْحَكِيم فِي بعض اللَّيَالِي إِلَى أَن أَتَى إِلَى دَار الْوَزير وَخرج عَنْهَا عَائِدًا إِلَى دَار الْخلَافَة وتبعاه إِلَى أَن وصل بَاب درب الْغلَّة الْمظْلمَة ووثبا عَلَيْهِ بسكينيهما فقتلاه
وَكَانَ بَين يَدَيْهِ مشعل وَغُلَام وَانْهَزَمَ الْحَكِيم لما وَقع إِلَى الأَرْض بحرارة الضَّرْب إِلَى أَن وصل إِلَى بَاب خربة الهراس والقاتلان تابعان لَهُ فبصرهما وَاحِد وَصَاح خذوهم فعادا إِلَيْهِ وقتلاه وجرحا النفاط الَّذِي بَين يَدي الْحَكِيم
وَحمل الْحَكِيم إِلَى منزله مَيتا وَدفن بداره فِي ليلته
وَنفذ من البدرية من حفظ دَاره وَكَذَلِكَ من دَار الْوَزير لأجل الودائع الَّتِي كَانَت عِنْده للحرم والحشم الْخَاص وَبحث عَن القاتلين فَأمر بِالْقَبْضِ عَلَيْهِمَا وَتَوَلَّى الْقَبْض والبحث إِبْرَاهِيم بن جميل بمفرده وحملهما إِلَى منزله
وَلما كَانَ فِي بكرَة تِلْكَ اللَّيْلَة أخرجَا إِلَى مَوضِع الْقَتْل وشق بطناهما وصلبا على بَاب المذبح المحاذي لباب الْغلَّة الَّتِي جرح بهَا الْحَكِيم
وَكَانَ موت الْحَكِيم وَقَتله فِي لَيْلَة الْخَمِيس ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة عشْرين وسِتمِائَة
أَبُو الْحُسَيْن صاعد بن هبة الله بن المؤمل
كَانَ نَصْرَانِيّا وَأَصله من الحظيرة وَنزل إِلَى بَغْدَاد وَكَانَ اسْمه أَيْضا مارى وَهُوَ من أَسمَاء الْكَنِيسَة عِنْد النَّصَارَى فَإِنَّهُم يسمون أَوْلَادهم عِنْد الْولادَة بأسماء فَإِذا عمدوهم سموهم عِنْد المعمودية باسم من أَسمَاء الصَّالِحين مِنْهُم
وَكَانَ أَبُو الْحُسَيْن هَذَا طَبِيبا فَاضلا وخدم بِالدَّار العزيزة الناصرية الإمامية وتقرب قربا كثيرا وَكسب بخدمته وصحبته الْأَمْوَال وَكَانَت لَهُ الْحُرْمَة الوافرة والجاه الْعَظِيم
وَكَانَ قد قَرَأَ الْأَدَب على أبي الْحسن عَليّ بن عبد الرَّحِيم العصار وعَلى أبي مُحَمَّد عبد الله بن أَحْمد بن الخشاب النَّحْوِيّ وعَلى شرف الْكتاب بن حَيا وَغَيرهم
وَله معرفَة تَامَّة بالْمَنْطق والفلسفة وأنواع الْحِكْمَة وَكَانَ فِيهِ كبر وحمق وتيه وعجرفة وينسب إِلَى ظلم مفرط
وَلم يزل على أمره ينْسَخ بِخَطِّهِ كتب الْحِكْمَة ويتصرف فِيمَا هُوَ بصدده من الطِّبّ وعَلى حَالَته فِي الْقرب إِلَى أَن مَاتَ فِي يَوْم الْعشْرين من ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَخَمْسمِائة بِبَغْدَاد وَدفن ببيعة النَّصَارَى بهَا(1/406)
ابْن المارستانية
هُوَ أَبُو بكر عبيد الله بن أبي الْفرج عَليّ بن نصر بن حَمْزَة عرف بِابْن المارستانية
حَدثنِي شمس الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن الْحسن بن مُحَمَّد بن الْكَرِيم الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب أَن ابْن المارستانية كَانَ فَاضلا فِي صناعَة الطِّبّ وأعمالها وَسمع شَيْئا من الحَدِيث وَكَانَ عِنْده تميز وأدب
وَعمل خطبا قَالَ وَكَانَ يعرضهَا على شَيخنَا أبي الْبَقَاء عبد الله بن الْحُسَيْن العكبري وَكَانَ يستجيدها
وَتَوَلَّى النّظر بالبيمارستان العضدي ثمَّ قبض عَلَيْهِ وَحبس بِهِ سنتَيْن ثمَّ أفرج عَنهُ
وَعمل تَارِيخا لمدينة السَّلَام سَمَّاهُ ديوَان الْإِسْلَام الْأَعْظَم وَكتب مِنْهُ كثيرا وَلم يتممه
وَندب من الدِّيوَان فِي صفر سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة للرسالة إِلَى تفليس وخلع عَلَيْهِ خلعة سَوْدَاء وطيلسان وَتوجه إِلَى هُنَاكَ فَأدى الرسَالَة وَعَاد إِلَى بَغْدَاد فَتوفي قبل وُصُوله بِموضع يعرف بجرخ بند فِي لَيْلَة ذِي الْحجَّة سنة تسع وَتِسْعين وَخَمْسمِائة فَدفن هُنَاكَ
ابْن سدير
هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن عبد الله من أهل الْمَدَائِن يعرف بِابْن سدير وسدير لقب لِأَبِيهِ وَكَانَ طَبِيبا عَالما بصناعة الطِّبّ والمداواة وَيَقُول الشّعْر
وَكَانَ فِيهِ دماثة ودعابة وَتُوفِّي بِالْمَدَائِنِ فَجْأَة فِي الْعشْر الْأَخير من رَمَضَان سنة سِتَّة وسِتمِائَة
وَمن شعر ابْن سدير قَالَ الْحَافِظ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد بن يحيى بن الدبيثي الوَاسِطِيّ فِي كِتَابه أَنْشدني ابْن سدير لنَفسِهِ
(أيا منقذي من معشر زَاد لؤمهم ... فأعيا دوائي واستكان لَهُ طبي)
(إِذا اعتل مِنْهُم وَاحِد فَهُوَ صحتي ... وَإِن ظلّ حَيا كدت أَقْْضِي بِهِ نحبي)
(أداويهم إِلَّا من اللؤم إِنَّه ... ليعيي علاق الحاذق الفطن الطِّبّ) الطَّوِيل
مهذب الدّين بن هُبل
هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ بن هُبل الْبَغْدَادِيّ وَيعرف أَيْضا بالخلاطي
كَانَ أوحد وقته وعلامة زَمَانه فِي صناعَة الطِّبّ وَفِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة
متميزا فِي صناعَة الْأَدَب وَله شعر حسن وألفاظ بليغة
وَكَانَ متقنا لحفظ الْقُرْآن
ولد بِبَغْدَاد فِي بَاب الأزج بدرب ثمل فِي ثَالِث وَعشْرين ذِي الْقعدَة(1/407)
من سنة خمس عشرَة وَخَمْسمِائة وَنَشَأ بِبَغْدَاد وَقَرَأَ الْأَدَب والطب وَسمع بهَا من أبي الْقَاسِم إِسْمَاعِيل ابْن أَحْمد بن السَّمرقَنْدِي ثمَّ صَار إِلَى الْموصل واستوطنها إِلَى حِين وَفَاته
وحَدثني عفيف الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن عدنان النَّحْوِيّ الْموصِلِي قَالَ كَانَ الشَّيْخ مهذب الدّين بن هُبل من بَغْدَاد وَأقَام بالموصل ثمَّ بخلاط عِنْد شاه أرمن صَاحب خلاط وَبَقِي عِنْده مُدَّة وَحصل من جِهَته من المَال الْعين مبلغا عَظِيما
وَقبل رحيله من خلاط بعث جملَة مَا لَهُ من المَال الْعين إِلَى الْموصل إِلَى مُجَاهِد الدّين قيماز الزيني وَدِيعَة عِنْده وَكَانَ ذَلِك نَحْو مائَة وَثَلَاثِينَ ألف دِينَار
ثمَّ أَقَامَ ابْن هُبل بماردين عِنْد بدر الدّين لُؤْلُؤ والنظام إِلَى أَن قَتلهمَا نَاصِر الدّين بن أرتق صَاحب ماردين
وَكَانَ بدر الدّين لُؤْلُؤ متزوجا بِأم نَاصِر الدّين وَعمي مهذب الدّين بن هُبل بِمَاء نزل فِي عَيْنَيْهِ عَن ضَرْبَة وَكَانَ عمره إِذْ ذَاك خمْسا وَسبعين سنة
ثمَّ توجه إِلَى الْموصل وحصلت لَهُ زمانة فَلَزِمَ منزله بسكة أبي نجيح
وَكَانَ يجلس على سَرِير ويقصده كل أحد من المشتغلين عَلَيْهِ بالطب وَغَيره
أَقُول وَكَانَ أَيْضا يسمع الحَدِيث وَمن ذَلِك حَدثنِي الْحَكِيم بدر الدّين أَبُو الْعِزّ يُوسُف بن أبي مُحَمَّد ابْن الْمَكِّيّ الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن السنجاري قَالَ حَدثنَا مهذب الدّين أَبُو الْحسن عَليّ بن أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن هُبل الْبَغْدَادِيّ الْمَعْرُوف بالخلاطي أخبرنَا الشَّيْخ الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن عمر ابْن الْأَشْعَث السَّمرقَنْدِي أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْكِنَانِي أخبرنَا أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن عُثْمَان بن أبي نصر وَأَبُو الْقَاسِم تَمام بن مُحَمَّد الرَّازِيّ وَالْقَاضِي مُحَمَّد بن أَحْمد بن هرون الغساني الْمَعْرُوف بِابْن الجندي وَأَبُو الْقَاسِم عبد الرَّحْمَن بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي الْعقب وَأَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عبيد الله بن يحيى الْقطَّان قَالُوا أخبرنَا أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم ابْن أبي الْعقب حَدثنَا أَبُو زرْعَة عبد الرَّحْمَن بن عمر بن عبد الله بن صَفْوَان الْبَصْرِيّ حَدثنَا عَليّ ابْن عَيَّاش حَدثنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْخَيل فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة
وَكَانَ شيخ مهذب الدّين بن هُبل فِي صناعَة الطِّبّ أوحد الزَّمَان وَكَانَ بن هُبل فِي أول أمره قد اجْتمع بِعَبْد الله بن أَحْمد بن أَحْمد بن أَحْمد بن الخشاب النَّحْوِيّ وَقَرَأَ عَلَيْهِ شَيْئا من النَّحْو وَتردد أَيْضا إِلَى النظامية وَقَرَأَ الْفِقْه
ثمَّ اشْتهر بعد ذَلِك بصناعة الطِّبّ وفَاق بهَا أَكثر أهل زَمَانه من الْأَطِبَّاء وَتُوفِّي مهذب الدّين بن هُبل رَحمَه الله بالموصل لَيْلَة الْأَرْبَعَاء ثَالِث عشر محرم سنة عشر وسِتمِائَة وَدفن بظاهرها بِبَاب الميدان بمقبرة الْمعَافى بن عمرَان بِالْقربِ من الْقُرْطُبِيّ
وَمن شعر مهذب الدّين بن هُبل قَالَ
(أيا أَثلَاث بالعراق ألفتها ... عَلَيْك سَلام لَا يزَال يفوح)(1/408)
(لقد كنت جلدا ثاويا بفنائها ... فقد عَاد مَكْتُوم الْفُؤَاد يبوح)
(فَمَا أحسن الْأَيَّام فِي ظلّ أُنْسُهَا ... قبيل طُلُوع الشَّمْس حِين تلوح)
(وَقد غرد الْقمرِي فِي غسق الدجى ... وراعى حمام فِي الْأُصُول ينوح)
(ذكرت لَيَال بالصراط وطيبها ... نطير لَهَا شوقا وَنحن جموح) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(أيا دوحة هام الْفُؤَاد بذكرها ... عَلَيْك سَلام الله يَا دوحة الْإِنْس)
(رمتني النَّوَى بالبعد مِنْك وقربها ... وَقد كنت جارا لاصقا لَك بالْأَمْس)
(فيا لَيْت أَنِّي بعد بعد أحبتي ... نقلت كَرِيمًا راضي النَّفس بالرمس)
(وَألا فليت الدَّهْر يُمكن مِنْهُم ... بقبضي حبال الْوَصْل بالأنمل الْخمس)
(إِذا جال طرفِي فِي الْعرَاق وُجُوه ... كَأَنِّي نظرت الْأُفق من مطلع الشَّمْس)
(تبدل تقليبي اليراع مَعَ القنا ... بتقلب مطبوع بلقب بالفلس)
(واعتضت ثوبا كَانَ للمجد شَامِلًا ... بِثَوْب رجال كَانَ أشبه بالحلس)
(فَمن لَا يرى سوء الْقَضَاء وَقدره ... بعقل رصين لَا يقايس باللمس)
(يَعش تائها فِي الْخلق أعمى مشوها ... بعيد المرامي أليق الْخلق بالنكس) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(لقد سبتني غَدَاة الْخيف غانية ... قد حازت الْحسن فِي دلّ بهَا وصبا)
(قَامَت تميس كخوط البان غازلة ... مَعَ الأصائل ريحي شمأل وصبا)
(يكَاد من دقة خصر تدل بِهِ ... يشكو إِلَى ردفها من ثقله وصبا)
(لَو لم يكن أقحوان الثغر مبسمها ... مَا هام قلبِي بحبيها هوى وصبا)
ولمهذب الدّين بن هُبل من الْكتب كتاب الْمُخْتَار فِي الطِّبّ وَهُوَ كتاب جليل يشْتَمل على علم وَعمل
كتاب الطِّبّ الجمالي صنفه لجمال الدّين مُحَمَّد الْوَزير الْمَعْرُوف بالجواد وَكَانَ تصنيفه للمختار سنة سِتِّينَ وَخَمْسمِائة بالموصل(1/409)
شمس الدّين بن هُبل
هُوَ شمس الدّين أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن مهذب الدّين أبي الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ بن هُبل مولده فِي يَوْم الْجُمُعَة الْعشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَخَمْسمِائة انْشِقَاق الصُّبْح قبل طُلُوع الشَّمْس
وَكَانَ مشتغلا بصناعة الطِّبّ متميزا فِي الْأَدَب وجيها فِي الدولة
وسافر إِلَى بِلَاد الرّوم وأكرمه صَاحب الرّوم الْملك الْغَالِب كيكاوس بن كيخسرو إِكْرَاما كثيرا وَبَقِي عِنْده قَلِيلا وَتُوفِّي هُنَاكَ رَحمَه الله ثمَّ حمل إِلَى الْموصل وَدفن بهَا
وَكَانَ لشمس الدّين بن هُبل ولدان من أَعْيَان الْفُضَلَاء وأكابرهم وهما فِي وقتنا هَذَا مقيمان بِمَدِينَة الْموصل
كَمَال الدّين بن يُونُس
هُوَ كَمَال الدّين أَبُو عمرَان مُوسَى بن يُونُس بن مُحَمَّد بن مَنْعَة عَلامَة زَمَانه وأوحد أَوَانه وقدوة الْعلمَاء وَسيد الْحُكَمَاء
قد اتقن الْحِكْمَة وتميز فِي سَائِر الْعُلُوم
وَكَانَ عَظِيما فِي الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وَالْفِقْه
وَكَانَ مدرسا فِي الْمدرسَة بالموصل وَيقْرَأ الْعُلُوم بأسرها من الفلسفة والطب والتعاليم وَغير ذَلِك
وَله مصنفات فِي نِهَايَة الْجَوْدَة
وَلم يزل مُقيما بِمَدِينَة الْموصل إِلَى أَن توفّي إِلَى رَحْمَة الله
حَدثنِي القَاضِي نجم الدّين عمر بن مُحَمَّد بن الكريدي قَالَ وَكَانَ ورد إِلَى الْموصل كتاب الْإِرْشَاد للعميدي وَهُوَ يشْتَمل على قُوَّة من خلاف علم الجدل وَهُوَ الَّذِي يسمونه الْعَجم جست أَي الشطار
فَلَمَّا احضر إِلَى الشَّيْخ كَمَال الدّين بن يُونُس نظر فِيهِ وَقَالَ علم مليح مَا قصر فِيهِ مُؤَلفه وَبَقِي عِنْده يَوْمَيْنِ حَتَّى حرر جَمِيع مَعَانِيه
ثمَّ أَنه أقرأه الْفُقَهَاء وَشرح لَهُم فِيهِ أَشْيَاء مَا ذكرهَا أحد سواهُ
وَقيل إِن كَمَال الدّين بن يُونُس كَانَ يعرف علم السيمياء من ذَلِك
حَدثنِي أَيْضا القَاضِي نجم الدّين بن الكريدي قَالَ حَدثنِي القَاضِي جلال الدّين الْبَغْدَادِيّ تلميذ كَمَال الدّين بن يُونُس وَكَانَ الْجلَال مُقيما عِنْد ابْن يُونُس فِي الْمدرسَة قَالَ كَانَ قد ورد إِلَى الْملك الرَّحِيم بدر الدّين لُؤْلُؤ صَاحب الْموصل من عِنْد الأنبرور ملك الفرنج وَكَانَ متفننا فِي الْعُلُوم رَسُول وَبِيَدِهِ مسَائِل فِي علم النُّجُوم وَغير ذَلِك وَقصد إِن كَمَال الدّين بن يُونُس يرد أجوبتها
فَبعث صَاحب الْموصل إِلَى ابْن يُونُس يعرفهُ بذلك وَيَقُول لَهُ أَن يتجمل فِي لبسه وزيه وَيجْعَل لَهُ مَجْلِسا بأبهة لأجل(1/410)
الرَّسُول وَذَلِكَ لما يعرفهُ من ابْن يُونُس أَنه كَانَ يلبس ثيابًا رثَّة بِلَا تكلّف وَمَا عِنْده خبر من أَحْوَال الدُّنْيَا فَقَالَ نعم
حكى جلال الدّين قَالَ فَكنت عِنْده وَقد قيل لَهُ هَذَا رَسُول الفرنج قد أَتَى وَقرب من الْمدرسَة فَبعث من الْفُقَهَاء من تَلقاهُ فَلَمَّا حضر عِنْد الشَّيْخ نَظرنَا فَوَجَدنَا الْموضع فِيهِ بسط من أحسن مَا يكون من الْبسط الرومية الفاخرة وَجَمَاعَة مماليك وقُوف بَين يَدَيْهِ وخدام وشارة حَسَنَة
وَدخل الرَّسُول وتلقاه الشَّيْخ وَكتب لَهُ الْأَجْوِبَة عَن تِلْكَ الْمسَائِل بأسرها
وَلما رَاح الرَّسُول غَابَ عَنَّا جَمِيع مَا كُنَّا نرَاهُ فَقلت للشَّيْخ يَا مَوْلَانَا مَا أعجب مَا رَأينَا من سَاعَة من تِلْكَ الأبهة والحشمة فَتَبَسَّمَ وَقَالَ يَا بغدادي هُوَ علم
وَقَالَ جلال الدّين وَكَانَ للشَّيْخ كَمَال الدّين عِنْد بدر الدّين لُؤْلُؤ حَاجَة
فَركب عِنْد الصُّبْح ليلقاه فِيهَا وَكَانَت عَادَة بدر الدّين أَن يركب الْخَيل وَالْبِغَال السريعة الْمَشْي فَلَمَّا قدمُوا فِي السحر فرسا وَركبهُ لم ينبعث فِي الْمَشْي فَنزل عَنهُ وَركب غَيره فَلم يقدر على الْمَشْي خطْوَة فَبَقيَ متحيرا فِي أمره وَإِذا بالشيخ قد وصل إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ عَن حَاجته فقضاها لَهُ ثمَّ قَالَ مَا كَانَ الْفرس امْتنعت من الْمَشْي إِلَّا حَتَّى تقدم فَقَالَ يَا مَوْلَانَا هَذَا من همة الْمَشَايِخ
وَعَاد وَسَار بدر الدّين لُؤْلُؤ وَتَبعهُ الْعَسْكَر
حَدثنِي نجم الدّين حَمْزَة بن عَابِد الصرخدي أَن نجم الدّين القمراوي وَشرف الدّين المتاني وقمراومتان هما قَرْيَتَانِ من قرى صرخد قَالَ كَانَا قد اشتغلا بالعلوم الشَّرْعِيَّة والحكمية وتميزا واشتهر فضلهما وَكَانَا قد سافرا إِلَى الْبِلَاد فِي طلب الْعلم وَلما جَاءَا إِلَى الْموصل قصدا الشَّيْخ كَمَال الدّين ابْن يُونُس وَهُوَ فِي الْمدرسَة يلقِي الدَّرْس فسلما وقعدا مَعَ الْفُقَهَاء
وَلما جرت مسَائِل فقهية تكلما فِي ذَلِك وبحثا فِي الْأُصُول وَبَان فضلهما على أَكثر الْجَمَاعَة فأكرمهما الشَّيْخ وأدناهما
وَلما كَانَ آخر النَّهَار سألاه أَن يريهما كتابا لَهُ كَانَ قد أَلفه فِي الْحِكْمَة وَفِيه لغز فَامْتنعَ وَقَالَ هَذَا كتاب لم أجد أحدا يقدر على حلّه وَأَنا ضنين بِهِ
فَقَالَا لَهُ نَحن قوم غرباء وَقد قصدناك ليحصل لنا الْفَوْز بنظرك وَالْوُقُوف على هَذَا الْكتاب وَنحن بائتون عنْدك فِي الْمدرسَة وَمَا نُرِيد نطالعه سوى هَذِه اللَّيْلَة وبالغداة يَأْخُذهُ مَوْلَانَا وتلطفا لَهُ حَتَّى انْعمْ لَهما وَأخرج الْكتاب فقعدا فِي بَيت من بيُوت الْمدرسَة وَلم يناما أصلا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة بل كل وَاحِد مِنْهُمَا يملي على الآخر وَهُوَ يكْتب حَتَّى فرغا من كِتَابَته وقابلاه ثمَّ كررا النّظر فِيهِ مَرَّات وَلم يتَبَيَّن لَهما حلّه إِلَى آخر وَقت وَقد طلع النَّهَار فَظهر لَهما حل شَيْء مِنْهُ من آخِره واتضح أَولا فأولا حَتَّى انحل لَهما اللغز وعرفاه
فحملا الْكتاب إِلَى الشَّيْخ وَهُوَ فِي الدَّرْس فَجَلَسَا وَقَالا يَا مَوْلَانَا مَا طلبنا إِلَّا كتابك الْكَبِير الَّذِي فِيهِ اللغز الَّذِي يعسر حلّه وَأما هَذَا الْكتاب فَنحْن نَعْرِف مَعَانِيه من زمَان واللغز الَّذِي فِيهِ علمه عندنَا قديم وَإِن شِئْت أوردناه
فَقَالَ قولا حَتَّى اسْمَع فَتقدم النَّجْم القمراوي وَتَبعهُ الآخر وأوردا جَمِيع مَعَانِيه من أول الْكتاب إِلَى آخِره وذكرا حل اللغز بِعِبَارَة حَسَنَة فصيحة
فَعجب مِنْهُمَا وَقَالَ(1/411)
من أَيْن تَكُونَانِ قَالَا من الشَّام
قَالَ من أَي مَوضِع مِنْهُ قَالَا من حوران
فَقَالَ لَا أَشك أَن أَحَدكُمَا النَّجْم القمراوي وَالْآخر الشّرف المتاني
قَالَا نعم
فَقَامَ لَهما الشَّيْخ وأضافهما عِنْده وأكرمهما غَايَة الْإِكْرَام واشتغلا عَلَيْهِ مُدَّة ثمَّ سافرا
أَقُول وَكَانَ عمي رشيد الدّين بن خَليفَة وَهُوَ فِي أول شبيبته قصد السّفر إِلَى الْموصل ليجتمع بالشيخ كَمَال الدّين بن يُونُس ويشتغل عَلَيْهِ لما بلغه من علمه وفضله الَّذِي لم يلْحقهُ فِيهِ أحد وتجهز للسَّفر فَلَمَّا علمت بذلك والدته جدتي بَكت وتضرعت إِلَيْهِ أَن لَا يفارقها وَكَانَ يَأْخُذ بقلبها فَلم يُمكنهُ مخالفتها وأبطل الرواح إِلَيْهِ
ولكمال الدّين بن يُونُس أَوْلَاد بِمَدِينَة الْموصل قد اتقنوا الْفِقْه وَسَائِر الْعُلُوم وهم من سَادَات المدرسين وأفاضل المصنفين
وَمن شعر كَمَال الدّين بن يُونُس قَالَ
(مَا كنت مِمَّن يُطِيع عذالي ... وَلَا جرى هجره على بالي)
(حلت كَمَا حلت غادرا وكما ... أرخصت أرخصت قدرك الغالي) المنسرح
وَقَالَ
(حَتَّى وَمَتى لي وَعدكُم لي زور ... مطل واف ونائل منزور)
(فِي قلبِي حب حبكم مبذور ... زوروا فَعَسَى يُثمر وصلا زوروا) دو بَيت
ولكمال الدّين بن يُونُس من الْكتب بِكِتَاب كشف المشكلات وإيضاح المعضلات فِي تفسر الْقُرْآن
شرح كتاب التَّنْبِيه فِي الْفِقْه مجلدان
كتاب مُفْرَدَات أَلْفَاظ القانون
كتاب فِي الْأُصُول
كتاب عُيُون الْمنطق
كتاب لغز فِي الْحِكْمَة
كتاب الْأَسْرَار السُّلْطَانِيَّة فِي النُّجُوم(1/412)
الْبَاب الْحَادِي عشر
طَبَقَات الْأَطِبَّاء الَّذين ظَهَرُوا فِي بِلَاد الْعَجم
تيادورس
كَانَ نَصْرَانِيّا وَله معرفَة جَيِّدَة بصناعة الطِّبّ ومحاولة لأعمالها وَبنى لَهُ سَابُور ذُو الأكتاف البيع فِي بَلَده وَيُقَال أَن الَّذِي بنى لَهُ البيع بهْرَام جور
ولتيادورس من الْكتب كناش
برزويه
قيل إِنَّه كَانَ عَالما بصناعة الطِّبّ موسوما بهَا متميزا فِي زَمَانه فَاضلا فِي عُلُوم الْفرس والهند
وَأَنه هُوَ الَّذِي جلب كتاب كليلة ودمنة من الْهِنْد إِلَى أنوشروان بن قباذ بن فَيْرُوز ملك الْفرس وترجمه لَهُ من اللُّغَة الْهِنْدِيَّة إِلَى الفارسية ثمَّ تَرْجمهُ فِي الْإِسْلَام عبد الله بن المقفع الْخَطِيب من اللُّغَة الفارسية إِلَى اللُّغَة الْعَرَبيَّة
أَقُول وَهَذَا الْكتاب كَمَا قد عظمت شهرته أَنه فِي إصْلَاح الْأَخْلَاق وتهذيب النُّفُوس لَا نَظِير لَهُ فِي مَعْنَاهُ
وَكَانَ عبد الله بن المقفع الْخَطِيب فارسيا أَيْضا وَكَانَ كَاتب أبي جَعْفَر الْمَنْصُور
وَترْجم أَيْضا من كتب أرسطوطاليس كتاب قاطيغورياس وَكتاب باريمينياس وَكتاب أنالوطيقا وَترْجم مَعَ ذَلِك الْمدْخل إِلَى كتب الْمنطق الْمَعْرُوف بأيساغوجي فرفوريوس الصُّورِي وَعبارَته فِي التَّرْجَمَة عبارَة سهلة قريبَة المأخذ
وَلابْن المقفع أَيْضا تواليف حسان مِنْهَا رسَالَته فِي الْأَدَب والسياسة وَمِنْهَا رسَالَته(1/413)
الْمَعْرُوفَة باليتيمة فِي طَاعَة السُّلْطَان
ربن الطَّبَرِيّ
قَالَ الصاحب جمال الدّين بن القفطي فِي كِتَابه أَن هَذَا ربن الطَّبَرِيّ كَانَ يَهُودِيّا طَبِيبا منجما من أهل طبرستان وَكَانَ متميزا فِي الطِّبّ عَالما بالهندسة وأنواع الرياضة وَحل كتبا حكمِيَّة من لُغَة إِلَى لُغَة أُخْرَى
قَالَ وَكَانَ وَالِده عَليّ بن ربن طَبِيبا مَشْهُورا انْتقل من طبرستان إِلَى الْعرَاق وَسكن سر من رأى
وربن هَذَا كَانَ لَهُ تقدم فِي علم الْيَهُود والربن والربين والراب أَسمَاء لمقدمي شَرِيعَة الْيَهُود
وَسُئِلَ أَبُو معشر عَن مطارح الشعاع فَذكرهَا وسَاق الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ إِن المترجمين لنسخ المجسطي المخرجة من لُغَة يونان مَا ذكرُوا الشعاع وَلَا مطارحه وَلَا يُوجد ذَلِك إِلَّا فِي النُّسْخَة الَّتِي ترجمها ربن المتطبب الطَّبَرِيّ
وَلم يُوجد فِي النّسخ الْقَدِيمَة مطرح شُعَاع بطليموس وَلم يعرفهُ ثَابت وَلَا حنين القلوسي وَلَا الْكِنْدِيّ وَلَا أحد من هَؤُلَاءِ التراجمة الْكِبَار وَلَا أحد من ولد نوبخت
ابْن ربن الطَّبَرِيّ
هُوَ أَبُو الْحسن عَليّ بن سهل بن ربن الطَّبَرِيّ
وَقَالَ ابْن النديم الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب عَليّ بن ربل بِاللَّامِ وَقَالَ عَنهُ أَنه كَانَ يكْتب للمازيار بن قَارن فَلَمَّا أسلم على يَد المعتصم قربه وَظهر فَصله بالحضرة وَأدْخلهُ المتَوَكل فِي جملَة ندمائه
وَكَانَ بِموضع من الْأَدَب وَهُوَ معلم الرَّازِيّ صناعَة الطِّبّ
وَكَانَ مولده ومنشؤه بطبرستان
وَمن كَلَامه قَالَ الطَّبِيب الْجَاهِل مستحث الْمَوْت
وَلابْن ربن الطَّبَرِيّ من الْكتب كتاب فردوس الْحِكْمَة وَجعله سَبْعَة أَنْوَاع والأنواع تحتوي على ثَلَاثِينَ مقَالَة والمقالات تحتوي على ثلثمِائة وَسِتِّينَ بَابا
كتاب أرفاق الْحَيَاة كتاب تحفة الْمُلُوك كتاب كناش الحضرة كتاب مَنَافِع الْأَطْعِمَة والأشربة والعقاقير كتاب حفظ الصِّحَّة كتاب فِي الْحجامَة كتاب فِي تَرْتِيب الأغذية
أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ
مولده ومنشؤه بِالريِّ وسافر إِلَى بَغْدَاد وَأقَام بهَا مُدَّة
وَكَانَ قدومه إِلَى بَغْدَاد وَله من الْعُمر نَيف وَثَلَاثُونَ سنة وَكَانَ من صغره مشتهيا للعلوم الْعَقْلِيَّة مشتغلا بهَا وبعلم الْأَدَب وَيَقُول الشّعْر
وَأما صناعَة الطِّبّ فَإِنَّمَا تعلمهَا وَقد كبر وَكَانَ الْمعلم لَهُ فِي ذَلِك عَليّ بن ربن الطَّبَرِيّ
وَقَالَ أَبُو سعيد زاهد الْعلمَاء فِي كِتَابه فِي البيمارستانات سَبَب تعلم أبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ صناعَة الطِّبّ أَنه(1/414)
عِنْد دُخُوله مَدِينَة السَّلَام بَغْدَاد دخل إِلَى البيمارستان العضدي ليشاهده فاتفق لَهُ أَن ظفر بِرَجُل شيخ صيدلاني البيمارستان فَسَأَلَهُ عَن الْأَدْوِيَة وَمن كَانَ الْمظهر لَهَا فِي البدء فَأَجَابَهُ بِأَن قَالَ إِن أول مَا عرف مِنْهَا كَانَ حَيّ الْعَالم وَكَانَ سَببه أفلولن سليلة أسقليبيوس وَذَلِكَ أَن أفلولن كَانَ بِهِ ورم حَار فِي ذراعه مؤلم ألما شَدِيدا فَلَمَّا أشفي مِنْهُ ارتاحت نَفسه إِلَى الْخُرُوج إِلَى شاطئ نهر فَأمر غلمانه فَحَمَلُوهُ إِلَى شاطئ نهر كَانَ عَلَيْهِ هَذَا النَّبَات وَأَنه وَضعه عَلَيْهِ تبردا بِهِ فخف ألمه بذلك فاستطال وضع يَده عَلَيْهِ وَأصْبح من غَد فعل مثل ذَلِك فبرأ
فَلَمَّا رأى النَّاس سرعَة برئه وَعَلمُوا أَنه إِنَّمَا كَانَ بِهَذَا الدَّوَاء سموهُ حَيَاة الْعَالم وتداولته الألسن وخففته فَسُمي حَيّ الْعَالم
فَلَمَّا سمع الرَّازِيّ ذَلِك أعجب بِهِ
وَدخل تَارَة أُخْرَى إِلَى هَذَا البيمارستان فَرَأى صَبيا مولودا بِوَجْهَيْنِ وَرَأس وَاحِد فَسَأَلَ الْأَطِبَّاء عَن سَبَب ذَلِك فَأخْبر بِهِ فأعجبه مَا سمع
وَلم يزل يسْأَل عَن شَيْء شَيْء وَيُقَال لَهُ وَهُوَ يعلق بِقَلْبِه حَتَّى تصدى لتعلم الصِّنَاعَة وَكَانَ مِنْهُ جالينوس الْعَرَب هَذِه حِكَايَة أبي سعيد
وَقَالَ بَعضهم إِن الرَّازِيّ كَانَ فِي جملَة من اجْتمع على بِنَاء هَذَا البيمارستان العضدي وَأَن عضد الدولة استشاره فِي الْموضع الَّذِي يجب أَن يبْنى فِيهِ المارستان وَأَن الرَّازِيّ أَمر بعض الغلمان أَن يعلق فِي كل نَاحيَة من جَانِبي بَغْدَاد شقة لحم ثمَّ اعْتبر الَّتِي لم يتَغَيَّر وَلم يسهك فِيهَا اللَّحْم بِسُرْعَة فَأَشَارَ بِأَن ببني فِي تِلْكَ النَّاحِيَة وَهُوَ الْموضع الَّذِي بني فِيهِ البيمارستان
وحَدثني كَمَال الدّين أَبُو الْقَاسِم بن أبي تُرَاب الْبَغْدَادِيّ الْكَاتِب أَن عضد الدولة لما بنى البيمارستان العضدي الْمَنْسُوب إِلَيْهِ قصد أَن يكون فِيهِ جمَاعَة من أفاضل الْأَطِبَّاء وأعيانهم فَأمر أَن يحضروا لَهُ ذكر الْأَطِبَّاء الْمَشْهُورين حِينَئِذٍ بِبَغْدَاد وأعمالها فَكَانُوا متوافرين على الْمِائَة فَاخْتَارَ مِنْهُم نَحْو خمسين بِحَسب مَا علم من جودة أَحْوَالهم وتمهرهم فِي صناعَة الطِّبّ فَكَانَ الرَّازِيّ مِنْهُم
ثمَّ إِنَّه اقْتصر من هَؤُلَاءِ أَيْضا على عشرَة فَكَانَ الرَّازِيّ مِنْهُم
ثمَّ اخْتَار من الْعشْرَة ثَلَاثَة فَكَانَ الرَّازِيّ أحدهم
ثمَّ أَنه ميز فِيمَا بَينهم فَبَان لَهُ أَن الرَّازِيّ أفضلهم فَجعله ساعور البيمارستان العضدي
أَقُول وَالَّذِي صَحَّ عِنْدِي أَن الرَّازِيّ كَانَ أقدم زَمَانا من عضد الدولة بن بويه وَإِنَّمَا كَانَ تردده إِلَى البيمارستان من قبل أَن يجدده عضد الدولة
وللرازي كتاب فِي صِفَات البيمارستان وَفِي كل مَا كَانَ يجده من أَحْوَال المرضى الَّذين كَانُوا يعالجون فِيهِ
وَقَالَ عبيد الله بن جبرئيل أَنه لما عمر عضد الدولة البيمارستان الْجَدِيد الَّذِي على طرف الجسر من الْجَانِب الغربي من بَغْدَاد كَانَت الْأَطِبَّاء الَّذين جمعهم فِيهِ من كل مَوضِع وَأمر الرَّاتِب مِنْهُ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ طَبِيبا وَكَانَ من جُمْلَتهمْ أَبُو الْحسن عَليّ بن إِبْرَاهِيم بن بكس وَكَانَ دأبه أَن يدرس فِيهِ الطِّبّ لِأَنَّهُ كَانَ محجوبا وَكَانَ مِنْهُم أَبُو الْحسن بن كشكرايا الْمَعْرُوف بتلميذ سِنَان وَأَبُو يَعْقُوب(1/415)
الْأَهْوَازِي وَأَبُو عِيسَى بَقِيَّة والقس الرُّومِي وَبَنُو حسنون وَجَمَاعَة طبائعيون
قَالَ عبيد الله وَكَانَ وَالِدي جِبْرَائِيل قد أصعد مَعَ عضد الدولة من شيراز ورتب فِي جملَة الطبائعيين فِي البيمارستان وَفِي جملَة الْأَطِبَّاء الْخَواص
قَالَ وَكَانَ فِي البيمارستان مَعَ هَؤُلَاءِ من الكحالين الْفُضَلَاء أَبُو نصر بن الدحلي وَمن الجرائحيين أَبُو الْخَيْر وَأَبُو الْحسن بن تفاح وجماعته وَمن المجبرين الْمشَار إِلَيْهِم أَبُو الصَّلْت
وَقَالَ سُلَيْمَان بن حسان أَن الرَّازِيّ كَانَ مُتَوَلِّيًا لتدبير مارستان الرّيّ زَمَانا قبل مزاولته فِي البيمارستان العضدي وَقَالَ أَن الرَّازِيّ كَانَ فِي ابْتِدَاء نظره يضْرب بِالْعودِ ثمَّ أَنه أكب على النّظر فِي الطِّبّ والفلسفة فبرع فيهمَا براعة الْمُتَقَدِّمين
وَقَالَ القَاضِي صاعد فِي كتاب التَّعْرِيف بطبقات الْأُمَم أَن الرَّازِيّ لم يوغل فِي الْعلم الإلهي وَلَا فهم غَرَضه الْأَقْصَى فاضطرب لذَلِك رَأْيه وتقلد آراء سخيفة وَانْتَحَلَ مَذَاهِب خبيثة وذم أَقْوَامًا لم يفهم عَنْهُم وَلَا اهْتَدَى لسبيلهم
وَقَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق النديم الْمَعْرُوف بِأبي الْفرج بن أبي يَعْقُوب فِي كتاب الفهرست أَن الرَّازِيّ كَانَ ينْتَقل فِي الْبلدَانِ وَبَينه وَبَين مَنْصُور بن إِسْمَاعِيل صداقة
وَألف لَهُ كتاب المنصوري
قَالَ وَأَخْبرنِي مُحَمَّد بن الْحسن الْوراق قَالَ قَالَ لي رجل من أهل الرّيّ شيخ كَبِير سَأَلته عَن الرَّازِيّ فَقَالَ كَانَ شَيخا كَبِير الرَّأْس مسفطه وَكَانَ يجلس فِي مَجْلِسه ودونه التلاميذ ودونهم تلاميذهم ودونهم تلاميذ أخر فَكَانَ يَجِيء الرجل فيصف مَا يجد لأوّل من يلقاه فَإِن كَانَ عِنْدهم علم وَإِلَّا تعداهم إِلَى غَيرهم فَإِن أَصَابُوا وَإِلَّا تكلم الرَّازِيّ فِي ذَلِك
وَكَانَ كَرِيمًا متفضلا بارا بِالنَّاسِ حسن الرأفة بالفقراء والإعلاء حَتَّى كَانَ يجْرِي عَلَيْهِم الجرايات الواسعة ويمرضهم وَلم يكن يُفَارق المدارج والنسخ
مَا دخلت عَلَيْهِ قطّ إِلَّا رَأَيْته ينْسَخ أما يسود أَو يبيض وَكَانَ فِي بَصَره رُطُوبَة لِكَثْرَة أكله الباقلاء وَعمي فِي آخر عمره وَكَانَ يَقُول إِنَّه قَرَأَ الفلسفة على الْبَلْخِي
قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَق النديم وَكَانَ الْبَلْخِي من أهل بَلخ يطوف الْبِلَاد ويجول الأَرْض حسن الْمعرفَة بالفلسفة والعلوم الْقَدِيمَة
وَقد يُقَال إِن الرَّازِيّ ادّعى كتبه فِي ذَلِك وَرَأَيْت بِخَطِّهِ شَيْئا كثيرا فِي عُلُوم كَثِيرَة مسودات ودساتير لم يخرج مِنْهَا إِلَى النَّاس كتاب تَامّ وَقيل إِن بخراسان كتبه مَوْجُودَة
قَالَ وَكَانَ فِي زمَان الرَّازِيّ رجل يعرف بِشَهِيد بن الْحُسَيْن ويكنى أَبَا الْحسن يجْرِي مجْرى فلسفته فِي الْعلم وَلَكِن هَذَا الرجل كتب مصنفة وَبَينه وَبَين الرَّازِيّ مناظرات وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا نقوض على صَاحبه
أَقُول وَكَانَ الرَّازِيّ ذكيا فطنا رؤوفا بالمرضى مُجْتَهدا فِي علاجهم وَفِي برئهم بِكُل وَجه يقدر عَلَيْهِ مواظبا للنَّظَر فِي غوامض صناعَة الطِّبّ والكشف عَن حقائقها وأسرارها وَكَذَلِكَ فِي غَيرهَا من الْعُلُوم بِحَيْثُ أَنه لم يكن لَهُ دأب وَلَا عناية فِي جلّ أوقاته إِلَّا فِي الِاجْتِهَاد والتطلع فِيمَا قد دونه الأفاضل من الْعلمَاء فِي كتبهمْ حَتَّى وجدته يَقُول فِي بعض كتبه إِنَّه كَانَ لي صديق نبيل يسامرني على قِرَاءَة كتب بقراط وجالينوس
وللرازي أَخْبَار كَثِيرَة وفوائد مُتَفَرِّقَة فِيمَا حصل لَهُ من التمهر فِي صناعَة الطِّبّ وَفِيمَا تفرد بِهِ فِي مداواة المرضى وَفِي الِاسْتِدْلَال على أَحْوَالهم من تقدمة الْمعرفَة وَفِيمَا خَبره من الصِّفَات والأدوية الَّتِي لم يصل إِلَى عَملهَا كثير من الْأَطِبَّاء
وَله فِي ذَلِك حكايات كَثِيرَة وَقعت لَهُ قد تضمنها كثير من كتبهَا
وَقد ذكر من ذَلِك جملا فِي بَاب مُفْرد من كِتَابه الْحَاوِي وَفِي كِتَابه(1/416)
فِي سر الطِّبّ
وَمِمَّا حُكيَ عَنهُ من بَدَائِع وَصفه وجودة استدلاله قَالَ القَاضِي أَبُو عَليّ المحسن بن عَليّ بن أبي جهم التنوخي فِي كتاب الْفرج بعد الشدَّة حَدثنِي مُحَمَّد بن عَليّ بن الْخلال الْبَصْرِيّ أَبُو الْحُسَيْن أحد أُمَنَاء الْقُضَاة قَالَ حَدثنِي بعض أهل الطِّبّ الثقاة أَن غُلَاما من بَغْدَاد قدم الرّيّ وَهُوَ ينفث الدَّم وَكَانَ لحقه ذَلِك فِي طَرِيقه فاستدعى أَبَا بكر الرَّازِيّ الطَّبِيب الْمَشْهُور بالحذق صَاحب الْكتب المصنفة فَأرَاهُ مَا ينفث وَوصف مَا يجد
فَأخذ الرَّازِيّ مجسته وَرَأى قارورته واستوصف حَاله مُنْذُ بَدَأَ ذَلِك بِهِ فَلم يقم لَهُ دَلِيل على سل وَلَا قرحَة وَلم يعرف الْعلَّة فاستنظر الرجل ليتفكر فِي الْأَمر فَقَامَتْ على العليل الْقِيَامَة وَقَالَ هَذَا يأس لي من الْحَيَاة لحذق المتطبب وجهله بِالْعِلَّةِ
فازداد مَا بِهِ وَولد الْفِكر للرازي أَن أعَاد عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَن الْمِيَاه الَّتِي شربهَا فِي طَرِيقه فَأخْبرهُ أَنه قد شرب من مستنقعات وصهاريج فَقَامَ فِي نفس أبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ المتطبب الرَّأْي بحدة الخاطر وجودة الذكاء أَن علقَة كَانَت فِي المَاء فحصلت فِي معدته وَأَن ذَلِك النفث الدَّم من فعلهَا
فَقَالَ لَهُ إِذا كَانَ فِي غَد جئْتُك فعالجتك وَلم أنصرف أَو تَبرأ وَلَكِن بِشَرْط تَأمر غلمانك أَن يطيعوني فِيك بِمَا آمُرهُم بِهِ
فَقَالَ نعم
وَانْصَرف الرَّازِيّ فَتقدم فَجمع لَهُ ملْء مركنين كبيرين من طحلب أَخْضَر فأحضرهما من غَد مَعَه وَأرَاهُ إيَّاهُمَا وَقَالَ لَهُ ابلغ جَمِيع مَا فِي هذَيْن المركنين
فَبَلع الرجل شَيْئا يَسِيرا ثمَّ وقف فَقَالَ ابلع
فَقَالَ لَا أَسْتَطِيع فَقَالَ للغلمان خذوه فأنيموه على قَفاهُ
فَفَعَلُوا بِهِ ذَلِك وطرحوه على قَفاهُ وفتحوا فَاه وَأَقْبل الرَّازِيّ يدس الطحلب فِي حلقه ويكبسه كبسا شَدِيدا ويطالبه ببلعه شَاءَ أم أَبى ويتهدده بِالضَّرْبِ إِلَى أَن بلعه كَارِهًا أحد المركنين بأسره وَالرجل يستغيث فَلَا يَنْفَعهُ مَعَ الرَّازِيّ شَيْء إِلَى أَن قَالَ السَّاعَة اقذف
فَزَاد الرَّازِيّ فِيمَا يكبسه فِي حلقه فذرعه الْقَيْء فقذف
وَتَأمل الرَّازِيّ قذفه فَإِذا فِيهِ علقَة وَإِذا هِيَ لما وصل إِلَيْهَا الطحلب قرمت إِلَيْهِ بالطبع وَتركت موضعهَا
والتفت على الطحلب فَلَمَّا قذف الرجل خرجت مَعَ الطحلب ونهض الرجل معافى
قَالَ القَاضِي التنوخي وحَدثني أَبُو بكر مُحَمَّد بن عبد الله بن مُحَمَّد الرَّازِيّ الْمَعْرُوف بِابْن حمدون قَالَ حَدثنِي أَبُو بكر أَحْمد بن عَليّ الرَّازِيّ الْفَقِيه قَالَ سَمِعت أَبَا بكر بن قَارن الرَّازِيّ الطَّبِيب(1/417)
وَكَانَ محذقا فِي الطِّبّ قَالَ أَبُو بكر بن حمدون وَقد رَأَيْت هَذَا الرجل وَكَانَ يحسن علوما كَثِيرَة مِنْهَا الحَدِيث وَيَرْوِيه ويكتبه النَّاس عَنهُ ويوهونه وَلم أسمع هَذَا مِنْهُ قَالَ القَاضِي التنوخي وَلم يتَّفق لي مَعَ كَثْرَة ملاقاة أبي بكر الرَّازِيّ
أَن أسمع هَذَا الْخَبَر مِنْهُ قَالَ ابْن قَارن الرَّازِيّ وَكَانَ تلميذا لأبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب فِي الطِّبّ سَمِعت أَبَا بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الطَّبِيب بعد رُجُوعه من عِنْد أَمِير خُرَاسَان لما استدعاه فعالجه من عِلّة صعبة قَالَ اجتزت فِي طريقي بنيسابور بيقام وَهِي النّصْف من طَرِيق نيسابور إِلَى الرّيّ فأستقبلني رئيسها فأنزلني دَاره وخدمني أتم خدمَة وسألني أَن أَقف على ابْن لَهُ بِهِ استسقاء فَأَدْخلنِي إِلَى دَار قد أفردها لَهُ فشاهدت العليل فَلم أطمع فِي برئه فعللت القَوْل بمشهد من العليل فَلَمَّا انْفَرَدت أَنا بِأَبِيهِ سَأَلَني أَن أصدقه فصدقته وآيسته من حَيَاة ابْنه وَقلت لَهُ مكنه من شهواته فَإِنَّهُ لَا يعِيش وَخرجت من خُرَاسَان وعدت مِنْهَا بعد اثْنَي عشر شهرا فاجتزت بِهِ فأستقبلني الرجل بعد عودتي فَلَمَّا لَقيته استحييت مِنْهُ غَايَة الْحيَاء وَلم أشكك فِي وَفَاة ابْنه وَإِنِّي كنت نعيته إِلَيْهِ وخشيت من تثقله بِي فأنزلني دَاره فَلم أجد عِنْده مَا يدل على ذَلِك
وكرهت مَسْأَلته عَن ابْنه لِئَلَّا أجدد عَلَيْهِ حزنا
فَقَالَ لي يَوْمًا تعرف هَذَا الْفَتى وَأَوْمَأَ إِلَى شَاب حسن الْوَجْه وَالصِّحَّة كثير الدَّم وَالْقُوَّة قَائِم مَعَ الغلمان يخدمنا
فَقلت لَا فَقَالَ هَذَا وَلَدي الَّذِي آيستني مِنْهُ عِنْد مضيك إِلَى خُرَاسَان فتحيرت وَقلت عرفني سَبَب برئه فَقَالَ لي إِنَّه بعد قيامك من عِنْده فطن إِنَّك آيستني مِنْهُ فَقَالَ لي لست أَشك أَن هَذَا الرجل وَهُوَ أوحد فِي الطِّبّ فِي عصره هَذَا قد آيسك مني وَالَّذِي أَسأَلك أَن تمنع هَؤُلَاءِ الغلمان يَعْنِي غلماني الَّذين كنت أخدمه إيَّاهُم فَإِنَّهُم أترابي وَإِذا رَأَيْتهمْ معافين وَقد علمت إِنِّي ميت تجدّد على قلبِي حمى تعجل لي الْمَوْت فأرحني من هَذَا بِأَن لَا أَرَاهُم وأفرد لخدمتي فُلَانُهُ دايتي
فَفعلت مَا سَأَلَ وَكَانَ يحمل إِلَى الداية فِي كل يَوْم مَا تَأْكُله وَإِلَيْهِ مَا يطْلب على غير حمية
فَلَمَّا كَانَ بعد أَيَّام حمل إِلَى الداية مضيرة لتأكل فتركتها بِحَيْثُ يَقع عَلَيْهَا نظر وَلَدي وَمَضَت فِي شغل لَهَا فَذكرت أَنَّهَا لما عَادَتْ وجدت ابْني قد أكل أَكثر مِمَّا كَانَ فِي الغضارة وَبَقِي فِي الغضارة شَيْء يسير مغير اللَّوْن قَالَت الْعَجُوز فَقلت لَهُ مَا هَذَا فَقَالَ لَا تقربي الغضارة وجذبها إِلَيْهِ وَقَالَ رَأَيْت أَفْعَى عَظِيما وَقد خرج من مَوضِع ودب إِلَيْهَا فَأكل مِنْهَا ثمَّ قذف فَصَارَ لَوْنهَا كَمَا تَرين فَقلت أَنا ميت وَلَا أود أَن يلحقني ألم شَدِيد وَمَتى أظفر بِمثل هَذَا وأكلت من الغضارة مَا اسْتَطَعْت لَا موت عَاجلا وأستريح
فَلَمَّا لم استطع زِيَادَة أكل رجعت إِلَى موضعي وَجئْت أَنْت
قَالَت وَرَأَيْت المضيرة على يَده وفمه فَصحت
فَقَالَ لَا تعملي شَيْئا أَو تدفني الغضارة بِمَا فِيهَا(1/418)
لِئَلَّا يأكلها إِنْسَان فَيَمُوت أَو حَيَوَان فيلسع إنْسَانا فيقتله فَفعلت مَا قَالَ
وَخرجت إِلَيّ فَلَمَّا عَرفتنِي ذَلِك ذهب عَليّ أَمْرِي وَدخلت إِلَى ابْني فَوَجَدته نَائِما فَقلت لَا توقظوه حَتَّى نَنْظُر مَا يكون من أمره فانتبه آخر النَّهَار وَقد عرق عرقا شَدِيدا وَهُوَ يطْلب المستحم فأنهض إِلَيْهِ فَانْدفع بَطْنه وَقَامَ من ليلته وَمن غَد أَكثر من مائَة مجْلِس فازداد يأسنا مِنْهُ وَقل الطَّعَام بعد أَن اسْتمرّ أَيَّامًا وَطلب فراريج فَأكل وَلم تزل قوته تثوب إِلَيْهِ وَقد كَانَ بَطْنه الْتَصق بظهره وَقَوي طمعنا فِي عافيته فمنعناه من التَّخْلِيط فتزايدت قوته إِلَى أَن صَار كَمَا ترى
فعجبت من ذَلِك وَذكرت أَن الْأَوَائِل قَالَت أَن المستسقي إِذا أكل من لحم حَيَّة عتيقة مزمنة لَهَا مئون سِنِين برأَ وَلَو قلت لَك إِن هَذَا علاجه لظَنَنْت إِنِّي أدافعك وَمن أَيْن نعلم كم سنوحيه إِذا وجدناها فَسكت عَنْك
أَقُول وللرازي أَمْثَال هَذَا من الحكايات أَشْيَاء كَثِيرَة جدا مِمَّا جرى لَهُ وَقد ذكرت من ذَلِك جملَة وافرة فِي كتاب حكايات الْأَطِبَّاء فِي علاجات الأدواء
وَكَانَ أَكثر مقَام الرَّازِيّ بِبِلَاد الْعَجم وَذَلِكَ لكَونهَا موطنه وموطن أَهله وأخيه وخدم بصناعة الطِّبّ الأكابر من مُلُوك الْعَجم وصنف هُنَالك كتبا كَثِيرَة فِي الطِّبّ وَغَيره وصنف كِتَابه المنصوري للمنصور بن إِسْمَاعِيل بن خاقَان صَاحب خُرَاسَان وَمَا وَرَاء النَّهر وَكَذَلِكَ صنف كِتَابه الَّذِي سَمَّاهُ الملوكي لعَلي ابْن صَاحب طبرستان
وَكَانَ الرَّازِيّ أَيْضا مشتغلا بالعلوم الْحكمِيَّة فائقا فِيهَا
وَله فِي ذَلِك تصانيف كَثِيرَة يسْتَدلّ بهَا على جودة مَعْرفَته وارتفاع مَنْزِلَته
وَكَانَ فِي أول أمره قد عَنى بِعلم السمياء والكمياء وَمَا يتَعَلَّق بِهَذَا الْفَنّ وَله تصانيف أَيْضا فِي ذَلِك
ونقلت من خطّ بلمظفر بن معرف قَالَ كَانَ الرَّازِيّ يَقُول أَنا لَا أسمي فيلسوفا إِلَّا من كَانَ قد علم صَنْعَة الكيمياء لِأَنَّهُ قد اسْتغنى عَن التكسب من أوساخ النَّاس وتنزه عَمَّا فِي أَيْديهم وَلم يحْتَج إِلَيْهِم
وحَدثني بعض الْأَطِبَّاء أَن الرَّازِيّ كَانَ قد بَاعَ لقوم من الرّوم سبائك ذهب وَسَارُوا بهَا إِلَى بِلَادهمْ ثمَّ إِنَّهُم بعد ذَلِك بسنين عدَّة وجدوها وَقد تغير لَوْنهَا بعض التَّغَيُّر وَتبين لَهُم زيفها فَجَاءُوا بهَا إِلَيْهِ وألزم يردهَا
وَقَالَ غَيره أَن الْوَزير كَانَ أَضَافَهُ الرَّازِيّ فَأكل عِنْده أَطْعِمَة لذيذة لَا يُمكن أَن يَأْكُل بأطيب مِنْهَا ثمَّ إِن الْوَزير تحيل بعد ذَلِك حَتَّى اشْترى إِحْدَى الْجَوَارِي الَّتِي تطبخ الْأَطْعِمَة عِنْد الرَّازِيّ ظنا مِنْهُ أَن تطبخ مثل ذَلِك الطَّعَام فَلَمَّا صنعت لَهُ أَطْعِمَة لم يجدهَا كَمَا وجدهَا عِنْد الرَّازِيّ
فَلَمَّا سَأَلَهَا عَن ذَلِك ذكرت لَهُ أَن الطبيخ وَاحِد بل إننا كُنَّا نجد الْقُدُور الَّتِي عِنْد الرَّازِيّ جَمِيعًا ذَهَبا وَفِضة
فَسبق إِلَى وهمه حِينَئِذٍ أَن جودة الْأَطْعِمَة إِنَّمَا هِيَ من ذَلِك وَإِن الرَّازِيّ قد حصلت لَهُ معرفَة الكيمياء
فَاسْتَحْضر الْوَزير الرَّازِيّ وَسَأَلَهُ أَن يعرفهُ مَا قد حصل لَهُ من معرفَة الكيمياء
فَلَمَّا لم يذكر لَهُ الرَّازِيّ شَيْئا من ذَلِك وَأنكر مَعْرفَته خنقه سرا بِوتْر(1/419)
وَقيل إِن الرَّازِيّ كَانَ فِي أول أمره صيرفيا
وَمِمَّا يُحَقّق ذَلِك أنني وجدت نُسْخَة من المنصوري قديمَة قد سقط آخرهَا وَاحْتَرَقَ أَكْثَرهَا من عتقهَا وَهِي مترجمة بذلك الْخط على هَذَا الْمِثَال كناش المنصوري تأليف مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ الصَّيْرَفِي
وَأَخْبرنِي من هِيَ عِنْده أَنَّهَا خطّ الرَّازِيّ
وَكَانَ الرَّازِيّ معاصرا لإسحق بن حنين وَمن كَانَ مَعَه فِي ذَلِك الْوَقْت وَعمي فِي آخر عمره بِمَاء نزل فِي عَيْنَيْهِ فَقيل لَهُ لَو قدحت فَقَالَ لَا قد نظرت من الدُّنْيَا حَتَّى مللت
فَلم يسمح بِعَيْنيهِ للقدح
وَقَالَ أَبُو الْخَيْر الْحسن بن سوار بن بَابا وَكَانَ قريب الْعَهْد مِنْهُ إِن الرَّازِيّ توفّي فِي سنة نَيف وَتِسْعين وَمِائَتَيْنِ أَو ثلثمِائة وَكسر قَالَ وَالشَّكّ مني
ونقلت من خطّ بلمظفر بن معرف أَن الرَّازِيّ توفّي فِي سنة عشْرين وثلثمائة
وَقَالَ عبيد الله بن جبرئيل كَانَ أَبُو بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ لَهُ الْمنزلَة الجليلة بِالريِّ وَسَائِر بِلَاد الْجَبَل
قَالَ وعاش إِلَى أَن لحقه ابْن العميد أستاذ الصاحب بن عباد وَهُوَ كَانَ سَبَب إِظْهَار كِتَابه الْمَعْرُوف بالحاوي لِأَنَّهُ كَانَ حصل بِالريِّ بعد وَفَاته فَطَلَبه من أُخْت أبي بكر وبذل لَهَا دَنَانِير كَثِيرَة حَتَّى أظهرت لَهُ مسودات الْكتاب
فَجمع تلاميذه الْأَطِبَّاء الَّذين كَانُوا بِالريِّ حَتَّى رتبوا الْكتاب وَخرج على مَا هُوَ عَلَيْهِ من الِاضْطِرَاب
وَمن كَلَام أبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ قَالَ
الْحَقِيقَة فِي الطِّبّ غَايَة لَا تدْرك والعلاج بِمَا تنصه الْكتب دون أَعمال الماهر الْحَكِيم بِرَأْيهِ خطر
وَقَالَ الاستكثار من قِرَاءَة كتب الْحُكَمَاء والأشراف على أسرارهم نَافِع لكل حَكِيم عَظِيم الْخطر
وَقَالَ الْعُمر يقصر عَن الْوُقُوف على فعل كل نَبَات فِي الأَرْض فَعَلَيْك بِالْأَشْهرِ مِمَّا اجْمَعْ عَلَيْهِ ودع الشاذ وَاقْتصر على مَا جربت
وَقَالَ من لم يعن بالأمور الطبيعية والعلوم الفلسفية والقوانين المنطقية وَعدل إِلَى اللَّذَّات الدنيائية فاتهمه فِي علمه لَا سِيمَا فِي صناعَة الطِّبّ
وَقَالَ مَتى اجْتمع جالينوس وأرسطوطاليس على معنى فَذَلِك هُوَ الصَّوَاب وَمَتى اخْتلفَا صَعب على الْعُقُول إِدْرَاك صَوَابه جدا
وَقَالَ الْأَمْرَاض الحارة اقْتُل من الْبَارِدَة لسرعة حَرَكَة النَّار
وَقَالَ الناقهون من الْمَرَض إِذا اشتهوا من الطَّعَام مَا يضرهم فَيجب للطبيب أَن يحتال فِي تَدْبِير ذَلِك الطَّعَام وَصَرفه إِلَى كَيْفيَّة مُوَافقَة وَلَا يمنعهُم مَا يشتهون بتة
وَقَالَ يَنْبَغِي للطبيب أَن يُوهم الْمَرِيض أبدا الصِّحَّة ويرجيه بهَا وَإِن كَانَ غير واثق بذلك فمزاج الْجِسْم تَابع لأخلاق النَّفس(1/420)
وَقَالَ الْأَطِبَّاء الأميون والمقلدون والأحداث الَّذين لَا تجربة لَهُم وَمن قلت عنايته وَكَثُرت شهواته قتالون
وَقَالَ يَنْبَغِي للطبيب أَن لَا يدع مساءلة الْمَرِيض عَن كل مَا يُمكن أَن تتولد عَنهُ علته من دَاخل وَمن خَارج ثمَّ يقْضِي بالأقوى
وَقَالَ يَنْبَغِي للْمَرِيض أَن يقْتَصر على وَاحِد مِمَّن يوثق بِهِ من الْأَطِبَّاء فخطؤه فِي جنب صَوَابه يسير جدا
وَقَالَ من تطبب عِنْد كثيرين من الْأَطِبَّاء يُوشك أَن يَقع فِي خطأ كل وَاحِد مِنْهُم
وَقَالَ مَتى كَانَ اقْتِصَار الطَّبِيب على التجارب دون الْقيَاس وَقِرَاءَة الْكتب خذل
وَقَالَ لَا يَنْبَغِي أَن يوثق بالْحسنِ الْعِنَايَة فِي الطِّبّ حَتَّى يبلغ الأشد ويجرب
وَقَالَ يَنْبَغِي أَن تكون حَالَة الطَّبِيب معتدلة لَا مُقبلا على الدُّنْيَا كُلية وَلَا معرضًا عَن الْآخِرَة كُلية فَيكون بَين الرَّغْبَة والرهبة
وَقَالَ بانتقال الْكَوَاكِب الثَّابِتَة فِي الطول وَالْعرض تنْتَقل الْأَخْلَاق والمزاجات
وَقَالَ باخْتلَاف عرُوض الْبلدَانِ تخْتَلف المزاجات والأخلاق والعادات وطباع الْأَدْوِيَة والأغذية حَتَّى يكون مَا فِي الدرجَة الثَّانِيَة من الْأَدْوِيَة فِي الرَّابِعَة وَمَا فِي الرَّابِعَة فِي الثَّانِيَة
وَقَالَ إِن اسْتَطَاعَ الْحَكِيم أَن يعالج بالأغذية دون الْأَدْوِيَة فقد وَافق السَّعَادَة
وَقَالَ مَا اجْتمع الْأَطِبَّاء عَلَيْهِ وَشهد عَلَيْهِ الْقيَاس وعضدته التجربة فَلْيَكُن أمامك وبالضد
وَمن شعر أبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ قَالَ
(لعمري مَا أَدْرِي وَقد آذن البلى ... بعاجل ترحال إِلَى أَيْن ترحالي)
(وَأَيْنَ مَحل الرّوح بعد خُرُوجه ... من الهيكل المنحل والجسد الْبَالِي) الطَّوِيل
وَلأبي بكر مُحَمَّد بن زَكَرِيَّا الرَّازِيّ من الْكتب كتاب الْحَاوِي وَهُوَ أجل كتبه وَأَعْظَمهَا فِي صناعَة الطِّبّ
وَذَلِكَ أَنه جمع فِيهِ كل مَا وجده مُتَفَرقًا فِي ذكر الْأَمْرَاض ومداواتها من سَائِر الْكتب الطبية للْمُتَقَدِّمين وَمن أَتَى بعدهمْ إِلَى زَمَانه
وَنسب كل شَيْء نَقله فِيهِ إِلَى قَائِله هَذَا مَعَ أَن الرَّازِيّ توفّي وَلم يفسح لَهُ فِي الْأَجَل أَن يحرر هَذَا الْكتاب
كتاب الْبُرْهَان مقالتان الأولى سَبْعَة عشر فصلا وَالثَّانيَِة اثْنَا عشر فصلا
كتاب الطِّبّ الروحاني وَيعرف أَيْضا بطب النُّفُوس غَرَضه فِيهِ إصْلَاح أَخْلَاق النَّفس وَهُوَ عشرُون فصلا
كتاب فِي أَن للْإنْسَان خَالِقًا متقنا حكيما وَفِيه دَلَائِل من التشريح وَمَنَافع الْأَعْضَاء تدل على أَن خلق الْإِنْسَان لَا يُمكن أَن يَقع بالِاتِّفَاقِ كتاب سمع(1/421)
الكيان غَرَضه فِيهِ أَن يكون مدخلًا إِلَى الْعلم الطبيعي ومسهلا للمتعلم لُحُوق الْمعَانِي المتفرفة فِي الْكتب الطبيعية
كتاب أيساغوجي وَهُوَ الْمدْخل إِلَى الْمنطق
جمل مَعَاني قاطيغورياس
جمل مَعَاني باريمينياس جمل مَعَاني أنالوطيقا الأولى إِلَى تَمام القياسات الحملية
كتاب هَيْئَة الْعَالم غَرَضه أَن يبين أَن الأَرْض كرية وَأَنَّهَا فِي وسط الْفلك وَهُوَ ذُو قطبين يَدُور عَلَيْهِمَا وَأَن الشَّمْس أعظم من الأَرْض وَالْقَمَر أَصْغَر مِنْهَا وَمَا يتبع ذَلِك من هَذَا الْمَعْنى
كتاب فِيمَن اسْتعْمل تَفْضِيل الهندسة من الموسومين بالهندسة ويوضح فِيهِ مقدارها ومنفعتها وَيرد على من رَفعهَا فَوق قدرهَا
مقَالَة فِي السَّبَب فِي قتل ريح السمُوم لأكْثر الْحَيَوَان
كتاب فِيمَا جرى بَينه وَبَين سيسن المناني يرِيه خطأ مَوْضُوعَاته وَفَسَاد ناموسه فِي سبع مبَاحث
كتاب فِي اللَّذَّة غَرَضه فِيهِ أَن يبين أَنَّهَا دَاخِلَة تَحت الرَّاحَة
مقَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا صَار الخريف ممرضا وَالربيع بالضد على أَن الشَّمْس فِي هذَيْن الزمانين فِي مدَار وَاحِد صنفها لبَعض الْكتاب
كتاب فِي الْفرق بَين الرُّؤْيَا المنذرة وَبَين سَائِر ضروب الرُّؤْيَا
كتاب الشكوك والمناقضات الَّتِي فِي كتب جالينوس
كتاب فِي كَيْفيَّة الْأَبْصَار يبين فِيهِ أَن الْأَبْصَار لَيْسَ يكون بشعاع يخرج من الْعين وينقض فِيهِ أشكالا من كتاب أقليدس فِي المناظر
كتاب فِي الرَّد على الناشيء فِي مسَائِله الْعشْر الَّتِي رام بهَا نقض الطِّبّ
كتاب فِي علل المفاصل والنقرس وعرق النسا وَهُوَ اثْنَان وَعِشْرُونَ فصلا
كتاب آخر صَغِير فِي وجع المفاصل
الاثنا عشر كتابا فِي الصَّنْعَة الأول كتاب الْمدْخل التعليمي الثَّانِي كتاب الْمدْخل البرهاني الثَّالِث كتاب الْإِثْبَات الرَّابِع كتاب التَّدْبِير الْخَامِس كتاب الْحجر السَّادِس كتاب الأكسير عشرَة أَبْوَاب السَّابِع كتاب شرف الصِّنَاعَة وفضلها الثَّامِن كتاب التَّرْتِيب التَّاسِع كتاب التدابير الْعَاشِر كتاب الشواهد ونكت الرموز الْحَادِي عشر كتاب الْمحبَّة الثَّانِي عشر كتاب الْحِيَل
كتاب الْأَحْجَار يبين فِيهِ الْإِيضَاح عَن الشَّيْء الَّذِي يكون فِي هَذَا الْعَمَل
كتاب الْأَسْرَار
كتاب سر الْأَسْرَار
كتاب التَّبْوِيب
كتاب رِسَالَة الْخَاصَّة
كتاب الْحجر الْأَصْفَر
كتاب رسائل الْمُلُوك
كتاب الرَّد على الْكِنْدِيّ فِي إِدْخَاله صناعَة الكيمياء فِي الْمُمْتَنع
كتاب فِي أَن الحمية المفرطة والمبادرة إِلَى الْأَدْوِيَة والتقليل من الأغذية لَا يحفظ الصِّحَّة بل يجلب الْأَمْرَاض
مقَالَة فِي أَن جهال الْأَطِبَّاء يشددون على المرضى فِي مَنعهم من شهواتهم وَإِن لم يكن الْإِنْسَان كثير مرض جهلا وجزافا
كتاب سيرة الْحُكَمَاء
مقَالَة فِي أَن الطين المتنقل بِهِ فِيهِ مَنَافِع ألفها لأبي حَازِم القَاضِي
مقَالَة فِي الجدري والحصبة أَرْبَعَة عشر بَابا
مقَالَة فِي الْحَصَى فِي الْكُلِّي والمثانة
كتاب إِلَى من لَا يحضرهُ طَبِيب وغرضه إِيضَاح الْأَمْرَاض وَتوسع فِي القَوْل وَيذكر فِيهِ عِلّة عِلّة وَأَنه يُمكن أَن يعالج بالأدوية الْمَوْجُودَة وَيعرف أَيْضا بِكِتَاب طب الْفُقَرَاء
كتاب الْأَدْوِيَة الْمَوْجُودَة بِكُل مَكَان يذكر فِيهِ أدوية لَا يحْتَاج الطَّبِيب الحاذق مَعهَا إِلَى غَيرهَا إِذا ضم إِلَيْهَا مَا يُوجد فِي المطابخ والبيوت
كتاب فِي الرَّد على الجاحظ فِي نقض صناعَة الطِّبّ
كتاب فِي تنَاقض قَول الجاحظ فِي كِتَابه فِي فَضِيلَة الْكَلَام وَمَا غلط فِيهِ على الفلاسفة
كتاب التَّقْسِيم والتشجير يذكر فِيهَا تقاسيم الْأَمْرَاض وأسبابها وعلاجها بالشرح وَالْبَيَان على سَبِيل تَقْسِيم وتشجير
كتاب الطِّبّ الملوكي فِي الْعِلَل وعلاج الْأَمْرَاض كلهَا بالأغذية(1/422)
ودس الْأَدْوِيَة فِي الأغذية حَيْثُ لَا بُد مِنْهَا وَمَا لَا يكرههُ العليل
كتاب فِي الفالج
كتاب فِي اللقوة
كتاب فِي هَيْئَة الْعين
كتاب فِي هَيْئَة الكبد كتاب فِي هَيْئَة الْأُنْثَيَيْنِ
كتاب فِي هَيْئَة الْقلب
كتاب فِي هَيْئَة الصماخ
كتاب فِي هَيْئَة المفاصل أقراباذين
كتاب فِي الانتقاد والتحرير على الْمُعْتَزلَة
كتاب فِي الْخِيَار المر
كتاب فِي كَيْفيَّة الاغتذاء وَهُوَ جَوَامِع ذكر الْأَدْوِيَة المعدنية
كتاب فِي أثقال الْأَدْوِيَة المركبة
كتاب فِي خَواص الْأَشْيَاء
كتاب كَبِير فِي الهيولى كتاب فِي سَبَب وقُوف الأَرْض وسط الْفلك على استدارة
كتاب فِي نقض الطِّبّ الروحاني على ابْن الْيَمَان
كتاب فِي أَن الْعَالم لَا يُمكن أَن يكون إِلَّا على مَا نشاهده
كتاب فِي الْحَرَكَة وَأَنَّهَا لَيست مرئية بل مَعْلُومَة
مقَالَة فِي أَن للجسم تحريكا من ذَاته وَأَن الْحَرَكَة مبدأ طبيعي
قصيدة فِي المنطقيات
قصيدة فِي الْعلم الإلهي
قصيدة فِي العظة اليونانية
كتاب الْكرَى ومقادير مُخْتَصره
كتاب فِي إِيضَاح الْعلَّة الَّتِي بهَا تدفع الْهَوَام بالتغذي وَمرَّة بِالتَّدْبِيرِ
كتاب فِي الْجَبْر وَكَيف يسكن ألمه وَمَا علاقَة الْحر فِيهِ وَالْبرد
مقَالَة فِي الْأَسْبَاب المميلة لقلوب أَكثر النَّاس عَن أفاضل الْأَطِبَّاء إِلَى أخسائهم
مقَالَة فِيمَا يَنْبَغِي أَن يقدم من الأغذية والفواكه وَمَا يُؤَخر مِنْهَا
مقَالَة فِي الرَّد على أَحْمد بن الطّيب السَّرخسِيّ فِيمَا رد بِهِ على جالينوس فِي أَمر الطّعْم المر
كتاب فِي الرَّد على المسمعي الْمُتَكَلّم فِي رده على أَصْحَاب الهيولى
كتاب فِي الْمدَّة وَهِي الزَّمَان وَفِي الْخَلَاء وَالْمَلَأ وهما الْمَكَان
مقَالَة أبان فِيهَا خطأ جرير الطَّبِيب فِي إِنْكَاره مشورته على الْأَمِير أَحْمد بن إِسْمَاعِيل فِي تنَاول التوت الشَّامي على أثر الْبِطِّيخ فِي حَاله وإيضاح عذره فِيهَا
كتاب فِي نقض كتاب أنابو إِلَى فرفوريوس فِي شرح مَذَاهِب أرسطوطاليس فِي الْعلم الإلهي
كتاب فِي الْعلم الإلهي
كتاب فِي الهيولى الْمُطلقَة والجزئية
كتاب إِلَى أبي الْقَاسِم الْبَلْخِي وَالزِّيَادَة على جَوَابه وَجَوَاب هَذَا الْجَواب
كتاب فِي الْعلم الإلهي على رَأْي أفلاطون
كتاب فِي الرَّد على أبي الْقَاسِم الْبَلْخِي فِيمَا نَاقض بِهِ فِي الْمقَالة الثَّانِيَة من كِتَابه فِي الْعلم الإلهي
كتاب فِي محنة الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْمِيزَان الطبيعي
كتاب فِي الثُّبُوت فِي الْحِكْمَة
كتاب فِي عذر من اشْتغل بالشطرنج
كتاب فِي حِكْمَة النَّرْد
كتاب فِي حيل النمس
كتاب فِي أَن للْعَالم خَالِقًا حكيما
كتاب فِي الباه يبين فِيهِ الأمزاج وَمَنَافع الباه ومضاره
كتاب الزِّيَادَة الَّتِي زَادهَا فِي الباه
كتاب المنصوري أَلفه للأمير مَنْصُور بن إِسْحَق بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد صَاحب خُرَاسَان وتحرى فِيهِ الِاخْتِصَار والإيجاز مَعَ جمعه لجمل وجوامع ونكت وعيون من صناعَة الطِّبّ علمهَا وعملها وَهُوَ عشر مقالات الْمقَالة الأولى فِي الْمدْخل إِلَى الطِّبّ وَفِي شكل الْأَعْضَاء وخلقها الْمقَالة الثَّانِيَة فِي تعرف مزاج الْأَبدَان وهيئتها والأخلاط الْغَالِبَة عَلَيْهَا واستدلالات وجيزة جَامِعَة من الفراسة الْمقَالة الثَّالِثَة فِي قوى الأغذية والأدوية الْمقَالة الرَّابِعَة فِي حفظ الصِّحَّة الْمقَالة الْخَامِسَة فِي الزِّينَة الْمقَالة السَّادِسَة فِي تَدْبِير الْمُسَافِرين الْمقَالة السَّابِعَة جمل وجوامع فِي صناعَة الْجَبْر والجراحات والقروح الْمقَالة الثَّامِنَة فِي السمُوم والهوام الْمقَالة التَّاسِعَة فِي الْأَمْرَاض الْحَادِثَة من الْقرن إِلَى الْقدَم الْمقَالة الْعَاشِرَة فِي الحميات وَمَا يتبع ذَلِك مِمَّا يحْتَاج إِلَى مَعْرفَته فِي تَحْدِيد علاجها
مقَالَة أضافها إِلَى كتاب المنصوري وَهِي فِي الْأُمُور الطبيعية
كتاب الْجَامِع وَيُسمى حاصر صناعَة الطِّبّ وغرضه فِي هَذَا الْكتاب جمع مَا وَقع إِلَيْهِ وأدركه من(1/423)
كتاب طب قديم أَو مُحدث إِلَى مَوضِع وَاحِد فِي كل بَاب وَهُوَ يَنْقَسِم اثْنَي عشر قسما الْقسم الأول فِي حفظ الصِّحَّة وعلاج الْأَمْرَاض والوثي والجبر والعلاجات الْقسم الثَّانِي فِي قوى الأغذية والأدوية وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من التَّدْبِير فِي الطِّبّ الْقسم الثَّالِث فِي الْأَدْوِيَة المركبة فِيهِ ذكر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهَا على سَبِيل الأقراباذين الْقسم الرَّابِع فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من الطِّبّ فِي سحق الْأَدْوِيَة وإحراقها وتصعيداتها وغسلها واستخراج قواها وحفظها وَمِقْدَار بَقَاء كل دَوَاء مِنْهَا وَمَا أشبه ذَلِك الْقسم الْخَامِس فِي صيدلية الطِّبّ فِيهِ صفة الْأَدْوِيَة وألوانها وطعومها وروائحها ومعادنها وجيدها ورديها وَنَحْو ذَلِك من علل الصيدلة الْقسم السَّادِس فِي الْإِبْدَال يذكر فِيهِ مَا يَنُوب عَن كل دَوَاء أَو غذَاء إِذا لم يُوجد الْقسم السَّابِع فِي تَفْسِير الْأَسْمَاء والأوزان والمكاييل الَّتِي للعقاقير وَتَسْمِيَة الْأَعْضَاء والأدواء باليونانية والسريانية والفارسية والهندية والعربية على سَبِيل الْكتب الْمُسَمَّاة بشقشماهي الْقسم الثَّامِن فِي التشريح وَمَنَافع الْأَعْضَاء الْقسم التَّاسِع فِي الْأَسْبَاب الطبيعية من صناعَة الطِّبّ غَرَضه فِيهِ أَن يبين أَسبَاب الْعِلَل بِالْأَمر الطبيعي الْقسم الْعَاشِر فِي الْمدْخل إِلَى صناعَة الطِّبّ وَهُوَ مقالتان الأولى مِنْهُمَا فِي الْأَشْيَاء الطبيعية وَالثَّانيَِة فِي أَوَائِل الطِّبّ الْقسم الْحَادِي عشر جمل علاجات وصفات وَغير ذَلِك
الْقسم الثَّانِي عشر فِيمَا استدركه من كتب جالينوس وَلم يذكرهَا حنين وَلَا هِيَ فِي فهرست جالينوس
أَقُول هَذَا التَّقْسِيم الْمَذْكُور هَهُنَا لَيْسَ هُوَ لكتابه الْمَعْرُوف بالحاوي وَلَا هُوَ تقسم مرضِي وَيُمكن أَن هَذِه كَانَت مسودات كتاب وجدت للرازي بعد مَوته وَهِي مَجْمُوعَة على هَذَا التَّرْتِيب فحسبت أَنَّهَا كتاب وَاحِد وَإِلَى غايتي هَذِه مَا رَأَيْت نُسْخَة لهَذَا الْكتاب وَلَا وجدت من أخبر أَنه رَآهُ
كتاب الفاخر فِي الطِّبّ
أَقُول وَإِنَّمَا أثبت هَذَا الْكتاب فِي جملَة كتبه لكَونه قد نسب إِلَيْهِ واشتهر أَنه لَهُ وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كتاب جيد قد استوعب فِيهِ مُؤَلفه ذكر الْأَمْرَاض ومداواتها وَاخْتِيَار معالجتها على أتم مَا يكون وأفضله وَجُمْهُور مَا فِيهِ مَنْقُول من كتاب التَّقْسِيم والتشجير للرازي وَمن كناش ابْن مرابيون وكل مَا فِيهِ من كَلَام الرَّازِيّ فأوله قَالَ مُحَمَّد
ولأمين الدولة بن التلميذ حَاشِيَة على هَذَا الْكتاب وَأَنه للرازي قَالَ الَّذِي كثيرا مَا يذكرهُ الرَّازِيّ فِي كتاب الفاخر قَالَ مُحَمَّد هُوَ الْمَعْرُوف بالْحسنِ طَبِيب المقتدر كَانَ طَبِيبا بِبَغْدَاد ماهرا فِي علم الطِّبّ وَكَانَ بَيته بَيت الطِّبّ
وَكَانَ لَهُ ثَلَاث أخوة أحدهم كَحال حاذق يعرف بِسُلَيْمَان وَآخر طَبِيب لَيْسَ فِي رتبته يعرف بهرون وَالثَّالِث صيدلاني كَبِير الصيت بِبَغْدَاد فِي الحرفة
وَله كناش عَجِيب فِي تجاريبه لكنه قَلِيل الْوُجُود إِلَّا بِبَغْدَاد المحروسة كتاب فِي الْعلَّة الَّتِي صَار لَهَا مَتى انْقَطع من الْبدن شَيْء حَتَّى يتبرأ مِنْهُ أَنه لَا يلتصق بِهِ وَإِن كَانَ صَغِيرا ويلصق بِهِ من الْجِرَاحَات الْعَظِيمَة الْقدر غير المتبرئة مِمَّا هُوَ أعظم من ذَلِك كثيرا
رِسَالَة فِي المَاء الْمبرد على الثَّلج والمبرد من غير أَن يطْرَح فِيهِ الثَّلج وَالَّذِي يغلى ثمَّ يبرد فِي الجليد والثلج
كتاب فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا صَار السّمك الطري معطشا
رِسَالَة فِي أَنه لَا يُوجد شراب غير مُسكر يَفِي بِجَمِيعِ أَفعَال الشَّرَاب الْمُسكر الْمَحْمُود فِي الْبدن
كتاب فِي عَلَامَات إقبال الدولة
كتاب فِي فضل الْعين على سَائِر الْحَواس
رِسَالَة فِي أَن غرُوب الشَّمْس وَسَائِر الْكَوَاكِب عَنَّا وطلوعها علينا لَيْسَ من أجل حَرَكَة الأَرْض بل من حَرَكَة الْفلك
كتاب فِي الْمنطق يذكر فِيهِ جَمِيع مَا يحْتَاج إِلَيْهِ مِنْهُ بِأَلْفَاظ متكلمي الْإِسْلَام
كتاب فِي فسخ ظن(1/424)
من يتَوَهَّم أَن الْكَوَاكِب لَيست فِي نِهَايَة الاستدارة وَغير ذَلِك
كتاب فِي أَنه لَا يتَصَوَّر لمن لَا دربة لَهُ بالبرهان إِن الأَرْض كرية وَأَن النَّاس حولهَا
رِسَالَة يبْحَث فِيهَا عَن الأَرْض الطبيعية طين هِيَ أم حجر دَاخل سمع الكيان
كتاب يُوضح فِيهِ أَن التَّرْكِيب نَوْعَانِ وَغير ذَلِك
مقَالَة فِي الْعَادة وَأَنَّهَا تكون طبيعية
مقَالَة فِي الْمَنْفَعَة فِي أَطْرَاف الأجفان دَائِما
مقَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي من أجلهَا تضيق النواظر فِي النُّور وتتسع فِي الظلمَة
مقَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا تزْعم الْجُهَّال أَن الثَّلج يعطش
مقَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا يحرق الثَّلج ويقرح
كتاب أَطْعِمَة المرضى
مقَالَة فِيمَا استدركه من الْفَصْل فِي الْكَلَام فِي الْقَائِلين بحدوث الْأَجْسَام وعَلى الْقَائِلين بقدمها كتاب فِي أَن الْعِلَل الْيَسِيرَة بَعْضهَا أعْسر تعرفا وعلاجا وَغير ذَلِك
كتاب الْعلَّة الَّتِي لَهَا تذم الْعَوام الْأَطِبَّاء الحذاق
رِسَالَة فِي الْعِلَل المشكلة وَعذر الطَّبِيب وَغير ذَلِك
رِسَالَة فِي الْعِلَل القائلة لعظمها والقاتلة لظهورها بَغْتَة مِمَّا لَا يقدر الطَّبِيب على صَلَاحهَا وعذره فِي ذَلِك
كتاب فِي أَن الطَّبِيب الحاذق لَيْسَ هُوَ من قدر على إِبْرَاء جَمِيع الْعِلَل فَإِن ذَلِك لَيْسَ فِي الوسع وَلَا فِي صناعَة أبقراط وَأَنه قد يسْتَحق أَن يشْكر الطَّبِيب ويمدح وَأَن تعظم صناعَة الطِّبّ وتشرف وَإِن هُوَ لم يقدر على ذَلِك بعد أَن يكون مُتَقَدما لأهل بَلَده وعصره
رِسَالَة فِي أَن الصَّانِع المتعرف بصناعته مَعْدُوم فِي جلّ الصناعات لَا فِي الطِّبّ خَاصَّة وَالْعلَّة الَّتِي من أجلهَا صَار ينجح جهال الْأَطِبَّاء والعوام وَالنِّسَاء فِي المدن فِي علاج بعض الْأَمْرَاض أَكثر من الْعلمَاء وَعذر الطَّبِيب فِي ذَلِك
كتاب الممتحن فِي الطِّبّ على سَبِيل كناش
كتاب فِي أَن النَّفس لَيست بجسم
كتاب فِي الْكَوَاكِب السَّبْعَة فِي الْحِكْمَة
رِسَالَة إِلَى الْحسن بن إِسْحَق بن محارس القمي
كتاب فِي النَّفس المغترة
كتاب فِي النَّفس الْكَبِيرَة
مقَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي من أجلهَا يعرض الزُّكَام لأبي زيد الْبَلْخِي فِي فصل الرّبيع عِنْد شمه الْورْد
رِسَالَة فِي محنة الطَّبِيب وَكَيف يَنْبَغِي أَن يكون حَاله فِي نَفسه وبدنه وَسيرَته وأدبه
رِسَالَة فِي مِقْدَار مَا يُمكن أَن يسْتَدرك من أَحْكَام النُّجُوم على رَأْي الفلاسفة الطبيعيين وَمن لم يقل مِنْهُم أَن الْكَوَاكِب أَحيَاء وَمَا يُمكن أَن تستدرك على رَأْي من قَالَ أَنَّهَا أَحيَاء
كتاب فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا صَار يحدث النّوم فِي رُؤُوس بعض النَّاس شَبِيها بالزكام
كتاب فِي الشكوك الَّتِي على برقلس
كتاب فِي تَفْسِير كتاب أفلوطرخس لكتاب طيماوس
رِسَالَة فِي عِلّة خلق السبَاع والهوام
كتاب فِي إتْمَام مَا نَاقض بِهِ الْقَائِلين بالهيولي
كتاب فِي أَن المناقضة الَّتِي بَين أهل الدَّهْر وَأهل التَّوْحِيد فِي سَبَب أَحْدَاث الْعَالم إِنَّمَا جَازَ من نُقْصَان السمة فِي أَسبَاب الْفِعْل بعضه على التمادية وَبَعضه على الْقَائِلين بقدم الْعَالم
كتاب فِي نقضه على عَليّ بن شَهِيد الْبَلْخِي فِيمَا ناقضه بِهِ فِي أَمر اللَّذَّة
كتاب فِي الرياضة
كتاب فِي النَّقْض على الكيال فِي الْإِمَامَة
كتاب فِي إِنَّه لَا يجوز أَن يكون سُكُون وافتراق
كتاب فِي إتْمَام كتاب أفلوطرخس
كتاب فِي نقض كتاب التَّدْبِير
اخْتِصَار كتاب حلية الْبُرْء لِجَالِينُوسَ
اخْتِصَار كتاب النبض الْكَبِير لِجَالِينُوسَ
تَلْخِيص كتاب الْعِلَل والأعراض لِجَالِينُوسَ
تَلْخِيص كتاب الْأَعْضَاء الآلمة لِجَالِينُوسَ
كتاب الانتقاد على أهل الاعتزال
كتاب فِي نقض كتاب الْبَلْخِي لكتاب الْعلم الإلهي وَالرَّدّ عَلَيْهِ
كتاب فِي أَنه يجوز أَن يكون سُكُون واجتماع وَلَا يجوز أَن يكون حَرَكَة واجتماع لم يزل
رِسَالَة(1/425)
فِي أَن قطر المربع لَا يُشَارك الضلع من غير هندسة
كتاب فِي الاشفاق على أهل التَّحْصِيل من الْمُتَكَلِّمين بالفلسفة وغرضه يبين مَذْهَب الفلاسفة فِي الْعلم الإلهي لِمَعْنى الْقَارئ بذلك عَن المتحرك إِلَيْهِم
كتاب فِي السِّيرَة الفاضلة وسيرة أهل الْمَدِينَة الفاضلة
كتاب فِي وجوب الدُّعَاء والدعاوى
كتاب الْحَاصِل وغرضه فِيهِ مَا يحمل من الْعلم الإلهي من طَرِيق الْأَخْذ بالحرص وَطَرِيق الْبُرْهَان
رِسَالَة لَطِيفَة فِي الْعلم الإلهي
كتاب مَنَافِع الأغذية وَدفع مضارها وَهُوَ مقالتان يذكر فِي الأولى مِنْهُمَا مَا يدْفع بِهِ ضَرَر الْأَطْعِمَة فِي كل وَقت ومزاج وَحَال وَفِي الثَّانِيَة قَولَانِ اسْتِعْمَال الأغذية وَدفع التخم ومضارها أَلفه للأمير أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ
كتاب إِلَى عَليّ بن شَهِيد الْبَلْخِي فِي تثبيت الْمعَاد غَرَضه فِيهِ النَّقْد على من أبطل الْمعَاد وَيثبت أَن معادا
كتاب عِلّة جذب حجر المغنطيس للحديد وَفِيه كَلَام كثير فِي الْخَلَاء
كتاب كَبِير فِي النَّفس
كتاب صَغِير فِي النَّفس
كتاب ميزَان الْعقل
كتاب فِي الشَّرَاب الْمُسكر وَهُوَ مقالتان
مقَالَة فِي السكنجبين ومنافعه ومضاره
كتاب فِي القولنج
مقَالَة فِي القولنج الْحَار وَهُوَ الْمَعْرُوف بِكِتَاب القولنج الصَّغِير
كتاب فِي تَفْسِير كتاب جالينوس لفصول أبقراط
كتاب فِي الأبنة وعلاجها وتبيينها
كتاب فِي نقض كتاب الْوُجُود الْمَنْصُور بن طَلْحَة
كتاب فِيمَا يرومه من إِظْهَار مَا يَدعِي من عُيُوب الْأَوْلِيَاء
أَقُول وَهَذَا الْكتاب إِن كَانَ قد ألف وَالله أعلم فَرُبمَا أَن بعض الأشرار المعادين للرازي قد أَلفه وَنسبه إِلَيْهِ ليسيء من يرى ذَلِك الْكتاب أَو يسمع بِهِ الظَّن بالرازي وَإِلَّا فالرازي أجل من أَن يحاول هَذَا الْأَمر وَأَن يصنف فِي هَذَا الْمَعْنى وَحَتَّى إِن بعض من يذم الرَّازِيّ بل يكفره كعلي بن رضوَان الْمصْرِيّ وَغَيره يسمون ذَلِك الْكتاب كتاب الرَّازِيّ فِي مخاريق الْأَنْبِيَاء
كتاب فِي آثَار الإِمَام الْفَاضِل الْمَعْصُوم
كتاب فِي استفراغ المحمومين قبل النضج
كتاب الإِمَام وَالْمَأْمُوم المحقين
كتاب خَواص التلاميذ
كتاب شُرُوط النّظر
كتاب الآراء الطبيعية
كتاب خطأ غَرَض الطَّبِيب
أشعار فِي الْعلم الإلهي
صفة مداد معجون لَا نَظِير لَهُ
نقل كتاب الآس لجَابِر إِلَى الشّعْر
رِسَالَة فِي التَّرْكِيب
رِسَالَة فِي كَيْفيَّة النَّحْو
رِسَالَة فِي الْعَطش وازدياد الْحَرَارَة لذَلِك
كتاب فِي جمل الموسيقى
كتاب فِي الأوهام والحركات النفسانية
كتاب فِي الْعَمَل بالحديد والجبر
كتاب فِيمَا يَعْتَقِدهُ رَأيا
كتاب فِيمَا أغفلته الفلاسفة
كتاب السِّرّ فِي الْحِكْمَة
كتاب مَنَافِع الْأَعْضَاء
كتاب الْكَافِي فِي الطِّبّ
كتاب فِي المتنقل
كتاب الأقراباذين الْمُخْتَصر
كتاب فِي الْبُرْء يُوضح فِيهِ أَن التَّرْكِيب نَوْعَانِ إِمَّا تركيب أجسام مُخْتَلفَة وَإِمَّا تركيب الْأَجْسَام المتشابهة الْأَجْزَاء وَأَنه لَيْسَ وَاحِد على الْحَقِيقَة الْأُخْرَى
كتاب إِلَى أبي الْقَاسِم بن دلف فِي الْحِكْمَة
كتاب إِلَى عَليّ بن وهبان فِيهِ بَاب وَاحِد فِي الشَّمْس
كتاب إِلَى ابْن أبي الساج فِي الْحِكْمَة
كتاب إِلَى الدَّاعِي الأطروش فِي الْحِكْمَة
كتاب سر الْأَسْرَار فِي الْحِكْمَة
كتاب سر الطَّبِيب
كتاب فِي شرف الفصد عِنْد الاستفراغات الامتلائية رداءة وكمية وفضله على سَائِر الاستفراغات والإبانة على أَن الفصد لَا يمنعهُ عِنْد الِاحْتِيَاج إِلَيْهِ شَيْء أَلْبَتَّة أَلفه للأمير أبي عَليّ أَحْمد بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد
كتاب المرشد وَيُسمى كتاب الْفُصُول
رِسَالَة فِي أَن الْعِلَل المستكملة الَّتِي لَا يقدر الإعلاء أَن يعبروا عَنْهَا وَيحْتَاج الطَّبِيب إِلَى لُزُوم العليل وَإِلَى اسْتِعْمَال بعض التجربة لاستخراجها وَالْوُقُوف عَلَيْهَا وتحير الطَّبِيب
كتاب مُخْتَصر فِي اللَّبن(1/426)
كَلَام جرى بَينه وَبَين المَسْعُودِيّ فِي حُدُوث الْعَالم
كتاب الْمدْخل إِلَى الطِّبّ
مقَالَة فِي المذاقات
مقَالَة فِي البهق والبرص
كتاب زِينَة الْكتاب
كتاب برْء سَاعَة أَلفه للوزير أبي الْقَاسِم ابْن عبد الله
مقَالَة فِي البواسير والشقاق فِي المقعدة
كَلَام فِي الفروق بَين الْأَمْرَاض
مقَالَة فِي الحرقة الكائنة فِي الاحليل والمثانة
كتاب طب الْفُقَرَاء
رِسَالَة إِلَى الْوَزير أبي الْحسن عَليّ ابْن عِيسَى بن داؤد بن الْجراح القنائي فِي الأعلال الْحَادِثَة على ظَاهر الْجَسَد
رِسَالَة إِلَى تِلْمِيذه يُوسُف بن يَعْقُوب فِي أدوية الْعين وعلاجها ومداواتها وتركيب الْأَدْوِيَة لما يحْتَاج إِلَيْهِ من ذَلِك
كتاب صيدلة الطِّبّ
كتاب فِي جَوَاهِر الْأَجْسَام
كتاب فِي سيرته
مقَالَة فِي الزُّكَام والنزلة وامتلاء الرَّأْس وَمنع النزلة إِلَى الصَّدْر وَالرِّيح الَّتِي تسد المنخرين وَمنع التنفس بهما
مقَالَة فِي إِبْدَال الْأَدْوِيَة المستعملة فِي الطِّبّ والعلاج وقوانينها وجهة اسْتِعْمَالهَا
كتاب صفة البيمارستان
مقَالَة فِي الأغذية مُخْتَصر مقَالَة فِيمَا سُئِلَ عَنهُ فِي أَنه لم صَار من قل جمَاعَة من الْإِنْسَان طَال عمره ألفها للأمير أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ
مقَالَة فِي الْعلَّة الَّتِي لَهَا إِذا أكلت الْحَيَوَانَات سخنت أبدانها مَا خلا الْإِنْسَان فَإِنَّهُ يجد عِنْد أكله فتورا
مقَالَة فِي الكيفيات رِسَالَة فِي الْحمام ومنافعه ومضاره
كتاب فِي الدَّوَاء المسهل والمقيء
مقَالَة فِي علاج الْعين بالحديد
أَبُو الْحسن أَحْمد بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ
من أهل طبرستان فَاضل عَالم بصناعة الطِّبّ وَكَانَ طَبِيب الْأَمِير ركن الدولة
وَلأَحْمَد بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ من الْكتب الكناش الْمَعْرُوف بالمعالجات البقراطية وَهُوَ من أجل الْكتب وأنفعها وَقد استقصى فِيهِ ذكر الْأَمْرَاض ومداواتها على أتم مَا يكون وَهُوَ يحتوي على مقالات كَثِيرَة
أَبُو سُلَيْمَان السجسْتانِي
هُوَ أَبُو سُلَيْمَان مُحَمَّد بن طَاهِر بن بهْرَام السجسْتانِي المنطقي كَانَ فَاضلا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة متقنا لَهَا مطلعا على دقائقها وَاجْتمعَ بِيَحْيَى بن عدي بِبَغْدَاد وَأخذ عَنهُ وَكَانَ لأبي سُلَيْمَان المنطقي السجسْتانِي أَيْضا نظر فِي الْأَدَب وَالشعر وَمن شعره قَالَ
(لَا تحسدن على تظاهر نعْمَة ... شخصا تبيت لَهُ الْمنون بِمَرْصَد)
(أَو لَيْسَ بعد بُلُوغه آماله ... يُفْضِي إِلَى عدم كَانَ لم يُوجد)
(لَو كنت أحسد مَا تجَاوز خاطري ... حسد النُّجُوم على بَقَاء مرصد) الْكَامِل(1/427)
وَقَالَ أَيْضا
(الْجُوع يدْفع بالرغيف الْيَابِس ... فعلام أَكثر حسرتي ووساوسي)
(وَالْمَوْت أنصف حِين سَاوَى حكمه ... بَين الْخَلِيفَة وَالْفَقِير البائس) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(لَذَّة الْعَيْش فِي بهيمية اللَّذَّة لَا ... مَا يَقُوله الفلسفي)
(حكم كاس الْمنون أَن يتساوى ... فِي حساها الغبي والألمعي)
(وَيحل البليد تَحت ثرى الأَرْض ... كَمَا حل تحتهَا اللوذعي)
(أصبحا رمة تزايل عَنْهَا ... فصلها الْجَوْهَرِي والعرضي)
(وتلاشى كيانها الحيواني ... وأودى تمييزها المنطقي)
(فاسأل الأَرْض عَنْهُمَا أَن أَزَال الشَّك ... والمرية الْجَواب الْخَفي)
(بطلت تلكم الصِّفَات جَمِيعًا ... ومحال أَن يبطل الأزلي) الْخَفِيف
وَلأبي سُلَيْمَان السجسْتانِي من الْكتب مقَالَة فِي مَرَاتِب قوى الْإِنْسَان وَكَيْفِيَّة الإنذارات الَّتِي تنذر بهَا النَّفس فِيمَا يحدث فِي عَالم الْكَوْن
كَلَام فِي الْمنطق
مسَائِل عدَّة سُئِلَ عَنْهَا وجواباته لَهَا
تعاليق حكمِيَّة وملح ونوادر
مقَالَة فِي أَن الأجرام العلوية طبيعتها طبيعة خَامِسَة وَأَنَّهَا ذَات أنفس وَأَن النَّفس الَّتِي لَهَا هِيَ النَّفس الناطقة
أَبُو الْخَيْر الْحسن بن سوار
ابْن بَابا بن بهنام الْمَعْرُوف بِابْن الْخمار وبهنام لَفْظَة فارسية مركبة من كَلِمَتَيْنِ وَهِي بِهِ خير ونام اسْم أَي اسْم الْخَيْر وَكَانَ هَذَا أَبُو الْخَيْر الْحسن نَصْرَانِيّا عَالما بأصول صناعَة الطِّبّ وفروعها خَبِيرا بغوامضها كثير الدِّرَايَة لَهَا ماهرا فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة
وَله مصنفات جليلة فِي صناعَة الطِّبّ وَغَيرهَا
وَكَانَ خَبِيرا بِالنَّقْلِ وَقد نقل كتبا كَثِيرَة من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ
وَوجدت بِخَطِّهِ شَيْئا من ذَلِك وَقد أَجَاد فِيهَا
وَقَرَأَ الْحِكْمَة على يحيى بن عدي
وَكَانَ فِي نِهَايَة الذكاء والفطنة ومولده فِي شهر ربيع الأول سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وثلثمائة
وَقَالَ أَبُو الْخطاب مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أبي طَالب فِي كتاب الشَّامِل فِي الطِّبّ أَن أَبَا الْخَيْر الْحسن ابْن سوار كَانَ مَوْجُودا فِي سنة ثَلَاثِينَ وثلثمائة
وَقد ذكر أَبُو الْحسن عَليّ بن رضوَان عَنهُ فِي كتاب(1/428)
حل شكوك الرَّازِيّ على جالينوس مَا هَذَا نَصه قَالَ كَمَا فعل فِي عصرنا هَذَا الْحسن بن بَابا الْمَعْرُوف بِابْن الْخمار فَإِنَّهُ وصل بالطب إِلَى أَن قيل لَهُ مَحْمُود الْملك للْأَرْض وَكَانَ الْملك مَحْمُود عَظِيما جدا
وَذَلِكَ أَن هَذَا الرجل كَانَ فيلسوفا حسن التعقل حسن الْمعرفَة
وَقَالَ عَنهُ أَنه كَانَ حسن السياسة لفقهاء النَّاس ورؤساء الْعَوام والعظماء والملوك
وَذَلِكَ أَنه كَانَ إِذا دَعَاهُ من أظهر الْعِبَادَة والزهد مَشى إِلَيْهِ رَاجِلا وَقَالَ لَهُ جعلت هَذَا الْمَشْي كَفَّارَة لمروري إِلَى أهل الْفسق والجبابرة
فَإِذا دَعَاهُ السُّلْطَان ركب إِلَيْهِ فِي زِيّ الْمُلُوك والعظماء حَتَّى أَنه رُبمَا حجبه فِي هَذِه الْحَال ثلثمِائة غُلَام تركي بالخيول الْجِيَاد والهيئة البهية
ووفى صناعته حَقّهَا بالتواضع للضعفاء وبالتعاظم على العظماء
وَهَكَذَا كَانَ طَرِيق بقراط وجالينوس وَغَيرهمَا من الْحُكَمَاء
فَمنهمْ من تواضع وَلزِمَ الزّهْد والتصاون وَمِنْهُم من أظهر من حكمته مَا ظَهرت بِهِ محَاسِن الْحِكْمَة
قَالَ أَبُو الْفرج بن هندو فِي كتاب مِفْتَاح الطِّبّ أَنه رأى فِي بِلَاد الْعَجم جمَاعَة كَانُوا ينفون من صناعَة الطِّبّ
قَالَ وَقد كَانَ زعيم الْفرْقَة النافية للطب يعادي أستاذي أَبَا الْخَيْر بن الْخمار الفيلسوف ويغري الْعَامَّة بإيذائه فاشتكى الزعيم رَأسه واستفتى أَبَا الْخَيْر فِي دوائه فَقَالَ يَنْبَغِي أَن يضع تَحت رَأسه كِتَابه الْفُلَانِيّ الَّذِي نفى فِيهِ فعل الطِّبّ ليشفيه الله وَلم يداوه
وَلأبي الْخَيْر الْحسن بن سوار بن بَابا من الْكتب مقَالَة فِي الهيولى
كتاب الْوِفَاق بَين رَأْي الفلاسفة وَالنَّصَارَى ثَلَاث مقالات
كتاب تَفْسِير أيساغوجي مشروح كتاب تَفْسِير أيساغوجي مُخْتَصر
مقَالَة فِي الصّديق والصداقة
مقَالَة فِي سيرة الفيلسوف مقَالَة فِي الأثار المخيلة فِي الجو الْحَادِثَة عَن البخار المائي وَهِي الهالة والقوس والضباب على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب
مقَالَة فِي السَّعَادَة
مقَالَة فِي الإفصاح عَن رَأْي القدماء فِي الْبَارِي تَعَالَى وَفِي الشَّرَائِع ومورديها
مقَالَة فِي امتحان الْأَطِبَّاء صنفها للأمير خوارزمشاه أبي الْعَبَّاس مَأْمُون بن مَأْمُون
كتاب فِي خلق الْإِنْسَان وتركيب أَعْضَائِهِ أَربع مقالات
كتاب تَدْبِير الْمَشَايِخ وَقد ذكر فِي أَوله أَن حنين بن إِسْحَق كَانَ قد ألف ذَلِك بالسرياني وَجمع من كَلَام جالينوس وروفس فِي تَدْبِير الْمَشَايِخ مَا الْحَاجة دَاعِيَة إِلَى مَعْرفَته مَعَ زيادات ذكر أَنه زَادهَا من عِنْده وصير ذَلِك على طَرِيق الْمَسْأَلَة وَالْجَوَاب وَإِن أَبَا الْخَيْر بسط القَوْل وأوضحه من غير مَسْأَلَة وَجَوَاب وَجعله سِتَّة وَعشْرين بَابا
كتاب تصفح مَا جرى بَين أبي زَكَرِيَّا يحيى بن عدي وَبَين أبي إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن بكوس فِي سُورَة النَّار وَتبين فَسَاد مَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو سُلَيْمَان مُحَمَّد بن طَاهِر فِي صور الاسطقسات
مقَالَة فِي الْمَرَض الْمَعْرُوف بالكاهني وَهُوَ الصرع
تقاسيم أيساغوجي وقاطيغورياس لألينوس الإسْكَنْدراني مِمَّا نَقله من السرياني إِلَى الْعَرَبِيّ الْحسن بن سوار بن بَابا وَشَرحه على طَرِيق الْحَوَاشِي
نقلت ذَلِك من الدستور من خطّ الْحسن بن سوار
أَبُو الْفرج بن هندو
هُوَ الْأُسْتَاذ السَّيِّد الْفَاضِل أَبُو الْفرج عَليّ بن الْحُسَيْن بن هندو من الأكابر المتميزين فِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة والأمور الطبية والفنون الأدبية لَهُ الْأَلْفَاظ الرائقة والأشعار الفائقة والتصانيف الْمَشْهُورَة(1/429)
والفضائل الْمَذْكُورَة وَكَانَ أَيْضا كَاتبا مجيدا وخدم بِالْكِتَابَةِ وَتصرف
وَكَانَ اشْتِغَاله بصناعة الطِّبّ والعلوم الْحكمِيَّة على الشَّيْخ أبي الْخَيْر الْحسن بن سوار بن بَابا الْمَعْرُوف بِابْن الْخمار وتتلمذ لَهُ وَكَانَ من أجل تلاميذه وَأفضل المشتغلين عَلَيْهِ
قَالَ أَبُو مَنْصُور الثعالبي فِي كتاب يتيمة الدَّهْر فِي وصف أبي الْفرج بن هندو قَالَ هُوَ مَعَ ضربه فِي الأداب والعلوم بِالسِّهَامِ الفائزة وَملكه رق البلاعة والبراعة فَرد الدَّهْر فِي الشّعْر وأوحد أهل الْفضل فِي صيد الْمعَانِي الشوارد ونظم الفرائد فِي القلائد مَعَ تَهْذِيب الْأَلْفَاظ البليغة وتقريب الْأَغْرَاض الْبَعِيدَة وتذكير الَّذين يسمعُونَ ويرون أفسحر هَذَا أم أَنْتُم لَا تبصرون
قَالَ أَبُو مَنْصُور الثعالبي وَكَانَ قد اتّفق لي معنى بديع لم أقدر أَنِّي سبقت إِلَيْهِ وَهُوَ قولي آخر هَذِه الأبيات
(قلبِي وجدا مشتعل ... على الهموم مُشْتَمل)
(وَقد كستني فِي الْهوى ... ملابس الصب الْغَزل)
(إنسانة فتانة ... بدر الدجى مِنْهَا خجل)
(إِذا زنت عَيْني بهَا ... فبالدموع تَغْتَسِل) الرجز
حَتَّى أَنْشدني لأبي الْفرج بن هندو
(يَقُولُونَ لي مَا بَال عَيْنك مذ رَأَتْ ... محَاسِن هَذَا الظبي أدمعها هطل)
(فَقلت زنت عَيْني بطلعة وَجهه ... فَكَانَ لَهَا من صوب أدمعها غسل) الطَّوِيل
فَعرفت أَن السَّبق لَهُ
وَمن شعر أبي الْفرج بن هندو قَالَ
(قوض خيامك من أَرض تضام بهَا ... وجانب الذل أَن الذل يجْتَنب)
(وأرحل إِذا كَانَت الأوطان منقصة ... فمندل الْهِنْد فِي أوطانه حطب) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(أَطَالَ بَين الْبِلَاد بحوالي ... قُصُور مَالِي وَطول آمالي)
(إِن رحت عَن بَلْدَة غَدَوْت إِلَى ... أُخْرَى فَمَا تَسْتَقِر احمالي)(1/430)
(كأنني فكرة الموسوس لَا ... تبقى مدى لَحْظَة على حَال) المنسرح
وَقَالَ فِي الْحَث على الْحَرَكَة وَالسَّعْي
(خليلي لَيْسَ الرَّأْي مَا تريان ... فشأنكما أَنِّي ذهبت لشاني)
(خليلي لَوْلَا أَن فِي السَّعْي رفْعَة ... لما كَانَ يَوْمًا يدأب القمران) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(وحقك مَا أخرت كتبي عَنْكُم ... لقالة واش أَو كَلَام محرش)
(وَلَكِن دمعي أَن كتبت مشوش ... كتابي وَمَا نفع الْكتاب المشوش) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا فِي النَّهْي عَن اتِّخَاذ الْعِيَال وَالْأَمر بالوحدة
(مَا للمعيل وللمعالي إِنَّمَا ... يسمو إلَيْهِنَّ الوحيد الفارد)
(فالشمس تجتاب السَّمَاء فريدة ... وَأَبُو بَنَات النعش فِيهَا راكد) الطَّوِيل
وَقَالَ فِي الصَّبْر
(تصبر إِذا الْهم أسرى إِلَيْك ... فَلَا الْهم يبْقى وَلَا صَاحبه) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(قَالُوا اشْتغل عَنْهُم يَوْمًا بغيرهم ... وخادع النَّفس أَن النَّفس تنخدع)
(قد صِيغ قلبِي على مِقْدَار حبهم ... فَمَا لحب سواهُم فِيهِ متسع) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا
(عَارض ورد الغصون وجنته ... فاتفقا فِي الْجمال وَاخْتلفَا)
(يزْدَاد بالقطف ورد وجنته ... وَينْقص الْورْد كلما قطفا) المنسرح
وَقَالَ أَيْضا
(قولا لهَذَا الْقَمَر البادي ... مَالك إصلاحي وإفسادي)(1/431)
(زود فؤادا راحلا بقبلة ... لَا بُد للراحل من زَاد) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(تمنيت من أَهْوى فَلَمَّا لَقيته ... بهت فَلم أملك لِسَانا وَلَا طرفا)
(وأطرقت إجلالا لَهُ ومهابة ... وحاولت أَن يخفى الَّذِي بِي فَلم يخفا)
(وَقد كَانَ فِي قلبِي دفاتر عَتبه ... فَلَمَّا الْتَقَيْنَا مَا فهمت وَلَا حرفا) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(عابوه لما التحى فَقُلْنَا ... عبتم وَغِبْتُمْ عَن الْجمال)
(هَذَا غزال وَلَا عجب ... تولد الْمسك فِي الغزال) الْبَسِيط
وَقَالَ أَيْضا فِي العذار
(أوحى لعارضه العذار فَمَا ... أبقى على ورعي وَلَا نسكي)
(فَكَأَن نملا قد دببن بِهِ ... غمست أكارعهن فِي مسك) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(قَالُوا صَحا قلب الْمُحب وَمَا صَحا ... ومحا العذار سنا الحبيب وَمَا محا)
(مَا ضره شعر العذار وَإِنَّمَا ... وافى يسلسل حسنه أَن يبرحا) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا فِي خطّ العذار
(الْآن قد صحت لدي شَهَادَة ... أَن لَيْسَ مثل جماله لمصور)
(خطّ يَكْتُبهُ حوالي خَدّه ... قلم الْإِلَه بنقش مسك أذفر) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(يَا من محياه كاسمه حسن ... إِن نمت عني فَلَيْسَ لي وَسن)
(قد كنت قبل العذار فِي محن ... حَتَّى تبدى فزادت المحن)
(يَا شَعرَات جَمِيعهَا فتن ... يتيه فِي كنه وصفهَا الفطن)(1/432)
(مَا عيروا من عذاره سفها ... قد كَانَ غصنا فأورق الْغُصْن) المنسرح
وَقَالَ فِي ذمّ العذار
(كفى فُؤَادِي عذاره حرقه ... فَكف عينا بدمعها غرقه)
(مَا خطّ حرف من العذار بِهِ ... إِلَّا محا من جماله ورقه) المنسرح
وَقَالَ فِي الشَّرَاب
(أرى الْخمر نَارا والنفوس جواهرا ... فَإِن شربت أبدت طباع الْجَوَاهِر)
(فَلَا تفضحن النَّفس يَوْمًا بشربها ... إِذا لم تثق مِنْهَا بِحسن السرائر) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(أوصى الْفَقِيه العسكري ... بِأَن أكف عَن الشَّرَاب)
(فعصيته أَن الشَّرَاب ... عمَارَة الْبَيْت الخراب) الْكَامِل المرفل
وَقَالَ لبَعض الرؤساء وَقد انصبت الْخمر على كمه فِي مجْلِس الشَّرَاب
(انصبت الْخمر على كمه ... تلثم مِنْهُ كمه خدمه)
(لَو لم ترد خدمته بِالَّتِي ... قد فعلت مَا خصصت كمه) السَّرِيع
وَقَالَ وكتبها على عود
(رَأَيْت الْعود مشتقا ... من الْعود باتقان)
(فَهَذَا طيب آناف ... وَهَذَا طيب آذان) الهزج
وَقَالَ أَيْضا
(ودوحة أنس أَصبَحت ثمراتها ... أغاريد تجنيها ندامى وجلاس)
(تغنى عَلَيْهَا الطير وَهِي رطيبة ... فَلَمَّا عست غنى على عودهَا النَّاس) الطَّوِيل
وَقَالَ فِي الآذريون
(رب روض خلت آذر ... يونه لما توقد)(1/433)
ذَهَبا أشعل مسكا ... فِي كوانين زبرجد) الرمل
وَقَالَ فِي عز الْكَمَال
(فَإِذا رَأَيْت الْفضل فَازَ بِهِ الْفَتى ... فَاعْلَم بِأَن هُنَاكَ نقصا خافيا)
(وَالله أكمل قدرَة من أَن يرى ... لكماله مِمَّن ترَاهُ ثَانِيًا) الْكَامِل
وَقَالَ فِي الشكوى
(ضعت بِأَرْض الرّيّ فِي أَهلهَا ... ضيَاع حرف الرَّاء فِي اللثغه)
(صرت بهَا بعد بُلُوغ المنى ... يُعجبنِي أَن أبلغ البلغه) السَّرِيع
وَقَالَ أَيْضا
(لنا ملك مَا فِيهِ للْملك آلَة ... سوى إِنَّه يَوْم السِّلَاح متوج)
(أقيم لإِصْلَاح الورى وَهُوَ فَاسد ... وَكَيف اسْتِوَاء الظل وَالْعود أَعْوَج) الطَّوِيل
وَقَالَ أَيْضا
(عجبت لقولنج هَذَا الْأَمِير ... وأنى وَمن أَيْن قد جَاءَهُ)
(وَفِي كل يَوْم لَهُ حقنة ... تفرغ بالزب أمعاءه) المتقارب
وَقَالَ فِي مدح الجرب وملح وظرف
(بهيج مسرتي جرب بكفي ... إِذا مَا عد فِي الكرب الْعِظَام)
(تجنبني اللئام لذاك حَتَّى ... كفيت بِهِ مصافحة اللئام) الوافر
وَقَالَ فِي مُرَاجعَة الشّعْر بعد تَركه إِيَّاه
(وَكنت تركت الشّعْر آنف من خنا ... وأكبر عَن مدح وأزهد عَن غزل)
(فَمَا زَالَ بِي حبيك حَتَّى تطلعت ... خواطر شعر كَانَ طالعه أفل)
(تزل القوافي عَن لساني كَأَنَّهَا ... يفاع يزل السَّيْل مِنْهُ على عجل)
(فَأصْبح شعر الأعشيين من العشا ... لَدَيْهِ وَشعر الأخطلين من الخطل) الطَّوِيل(1/434)
وَلأبي الْفرج بن هندو من الْكتب الْمقَالة الموسومة بمفتاح الطِّبّ ألفها لإخوانه من المتعلمين وَهِي عشرَة أَبْوَاب
الْمقَالة المشوقة فِي الْمدْخل إِلَى علم الفلسفة كتاب الْكَلم الروحانية من الحكم اليونانية ديوَان شعره رِسَالَة هزلية مترجمة بالوساطة بَين الزناة واللاطة
الْحسن الْفَسَوِي
كَانَ طَبِيبا مَعْرُوفا من أَرض فَارس من مَدِينَة فسا
متميزا فِي الطِّبّ وَالْقِيَام بِهِ والتقدم بِسَبَبِهِ
خدم الدولة البويهية واختص مِنْهَا بِخِدْمَة الْملك بهاء الدّين بن عضد الدولة وَصَحبه فِي أَسْفَاره وتقدر عِنْده
وَلما مرض أَمِير الْأُمَرَاء أَبُو مَنْصُور بويه بن بهاء الدولة فِي رَجَب سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة مَعَ وَالِده بِالْبَصْرَةِ وعزم بهاء الدولة على التَّوَجُّه من الْبَصْرَة إِلَى تستر للصَّيْد والفرجة وَكَانَ شَدِيد الاشفاق على وَلَده من هَذَا الْمَرَض كثير الاحتراس مِنْهُ خَائفًا من جَانِبه مَانِعا للجند من لِقَائِه وَهُوَ مَعَ أَبِيه كالمحصور يمنعهُ من جمع مُرَاده
وَاتفقَ أَن حم هَذَا الْوَلَد فِي رَجَب حمى أضعفت قوته قبل الْيَوْم الَّذِي أَرَادَ بهاء الدولة أَبوهُ الْمسير فِيهِ
فَقَالَ الْأَثِير لبهاء الدولة أَمِير الْأُمَرَاء مَحْمُوم وَلَا فضل فِيهِ لحركة والرأي تَركه
فَقَالَ لَا يحمل من فوره وَيخرج قولا وَاحِدًا
فَقَالَ لَهُ هُوَ إِذا انزعج هلك وَمُدَّة مقَامه بَعدنَا لَا تطول فَلم يرجع إِلَى مقَال الْأَثِير وَتقدم إِلَى الْحسن الطَّبِيب الْفَسَوِي هَذَا بالمضي إِلَيْهِ وَالْعود بِخَبَرِهِ لِثِقَتِهِ بِمَا يَقُول فَمضى إِلَيْهِ وَشَاهده وَعَاد وَقَالَ الصَّوَاب فِي تَركه وتأخيره فَنزل وأشعر الْملك سرا بخطر مَرضه وعرفه أعراضه وآيسه من حَيَاته
فَحِينَئِذٍ تقدم بِتَرْكِهِ واستمرت عَلَيْهِ الْحمى وَأَشْيَاء أُخْرَى حدثت لَهُ فَتوفي فِي يَوْم الْأَحَد ثَانِي شعْبَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وثلثمائة
أَبُو مَنْصُور الْحسن بن نوح الْقمرِي
كَانَ سيد وقته وأوحد زَمَانه مَشْهُورا بالجودة فِي صناعَة الطِّبّ مَحْمُود الطَّرِيقَة فِي أَعمالهَا فَاضلا فِي أُصُولهَا وفروعها
وَكَانَ رَحمَه الله حسن المعالجة جيد المداواة متميزا عِنْد الْمُلُوك فِي زَمَانه كثيري الاحترام لَهُ
وحَدثني الشَّيْخ الإِمَام شمس الدّين عبد الحميد بن عِيسَى الخسر وشاهي أَن الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا(1/435)
كَانَ قد لحق هَذَا وَهُوَ شيخ كَبِير وَكَانَ يحضر مَجْلِسه ويلازم دروسه وانتفع بِهِ فِي صناعَة الطِّبّ
وَلأبي مَنْصُور الْحسن بن نوح الْقمرِي من الْكتب كتاب غنى وَمنى وَهُوَ كناش حسن وَقد استقصى فِيهِ ذكر الْأَمْرَاض ومداواتها على أفضل مَا يكون ولخص فِيهِ جملا من أَقْوَال المتعينين فِي صناعَة الطِّبّ وخصوصا مَا ذكره الرَّازِيّ مُتَفَرقًا فِي كتبه
كتاب علل الْعِلَل
أَبُو سهل المسيحي
هُوَ أَبُو سهل عِيسَى بن يحيى المسيحي الْجِرْجَانِيّ طَبِيب فَاضل بارع فِي صناعَة الطِّبّ علمهَا وعملها فصيح الْعبارَة جيد التصنيف
وَكَانَ حسن الْخط متقنا للعربية
وَقد رَأَيْت بِخَطِّهِ كِتَابه فِي أظهار حِكْمَة الله تَعَالَى فِي خلق الْإِنْسَان وَهُوَ فِي نِهَايَة الصِّحَّة والإتقان وَالْإِعْرَاب والضبط
وَهَذَا الْكتاب من أجل كتبه وأنفعها فَأَنَّهُ قد أَتَى فِيهِ بجمل مَا ذكره جالينوس وَغَيره فِي مَنَافِع الْأَعْضَاء بأفصح عبارَة وأوضحها مَعَ زيادات نفيسة من قبله تدل على فضل باهر وَعلم غزير وَلذَلِك يَقُول فِي أول كِتَابه هَذَا وَلَيْسَ يعرف فَضِيلَة مَا أوردناه على مَا أوردوا إِلَّا من قَابل بَين كلامنا هَذَا وَكَلَامهم مَعَ دراية وإنصاف مِنْهُ فَإِن من لَا يدْرِي مَا يعتبره لم يصلح للْحكم فِيهِ وَمن لَا إنصاف فِيهِ لم يحكم للأفضل وَلم يؤثره فَمن اعْتبر من يصلح للاعتبار وَهُوَ الْعَالم الْمنصف بعناية واستقصاء مِنْهُ مَا أوردناه وَمَا أوردوا رأى كَيفَ صححنا مَا أوردوه وهذبناه وأتممناه وسهلناه ورتبناه ترتيبا أفضل لجملة الْكَلَام وَلكُل فصل مِنْهُ وأسقطنا من هَذَا الصِّنْف من الْعلم مَا لَيْسَ مِنْهُ
ثمَّ كم زِدْنَا من عندنَا مَعَاني دقيقة عَجِيبَة كَانَت قد خفيت عَلَيْهِم للطفها وجلالة رتبتها وَكَيف جعلنَا البيانات من الْأَشْيَاء الْمُتَقَدّمَة على الْأَشْيَاء الْمُتَأَخِّرَة بِالْعَكْسِ مِمَّا فَعَلُوهُ ليَكُون بَيَانا للشَّيْء بمباديه وأسبابه فَيكون برهانا حَقِيقِيًّا
وَسمعت من الشَّيْخ الإِمَام الْحَكِيم مهذب الدّين عبد الرَّحِيم بن عَليّ رَحمَه الله وَهُوَ يَقُول أنني لم أجد أحدا من الْأَطِبَّاء النَّصَارَى الْمُتَقَدِّمين والمتأخرين أفْصح عبارَة وَلَا أَجود لفظا وَلَا أحسن معنى من كَلَام أبي سهل المسيحي
وَقيل إِن المسيحي هُوَ معلم الشَّيْخ الرئيس صناعَة الطِّبّ وَإِن كَانَ الشَّيْخ الرئيس بعد ذَلِك تميز فِي صناعَة الطِّبّ وَمهر فِيهَا وَفِي الْعُلُوم الْحكمِيَّة حَتَّى صنف كتبا للمسيحي وَجعلهَا باسمه
وَقَالَ عبيد الله بن جبرئيل إِن المسيحي كَانَ بخراسان وَكَانَ مُتَقَدما عِنْد سلطانها وَأَنه مَاتَ وَله من الْعُمر أَرْبَعُونَ سنة
وَمن كَلَام المسيحي قَالَ
نومَة بِالنَّهَارِ بعد أَكلَة خير من شربة دَوَاء نَافِع
وَلأبي سهل المسيحي من الْكتب كتاب الْمِائَة فِي الطِّبّ وَهُوَ من أَجود كتبه وأشهرها ولأمين الدولة بن التلميذ حَاشِيَة عَلَيْهِ قَالَ يجب أَن يعْتَمد على هَذَا الْكتاب فَإِنَّهُ كثير التَّحْقِيق قَلِيل التّكْرَار(1/436)
وَاضح الْعبارَة منتخب العلاج
كتاب إِظْهَار حِكْمَة الله تَعَالَى فِي خلق الْإِنْسَان كتاب فِي الْعلم الطبيعي كتاب الطِّبّ الْكُلِّي مقالتان
مقَالَة فِي الجدري
اخْتِصَار كتاب المجسطي
كتاب تَعْبِير الرُّؤْيَا
كتاب فِي الوباء أَلفه للْملك الْعَادِل خوارزمشاه أبي الْعَبَّاس مَأْمُون بن مَأْمُون
الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا
هُوَ أَبُو عَليّ الْحُسَيْن بن عبد الله بن عَليّ بن سينا وَهُوَ أَن كَانَ أشهر من أَن يذكر وفضائله أظهر من أَن تسطر فَإِنَّهُ قد ذكر من أَحْوَاله وَوصف من سيرته مَا يُغني غَيره عَن وَصفه
وَلذَلِك أننا نقتصر من ذَلِك على مَا قد ذكره هُوَ عَن نَفسه نَقله عَنهُ أَبُو عبيد الجوجزاني قَالَ قَالَ الشَّيْخ الرئيس
إِن أبي كَانَ رجلا من أهل بَلخ وانتقل مِنْهَا إِلَى بُخَارى فِي أَيَّام نوح بن مَنْصُور واشتغل بِالتَّصَرُّفِ وَتَوَلَّى الْعَمَل فِي أثْنَاء أَيَّامه بقرية يُقَال لَهَا خرميثن من ضيَاع بُخَارى وَهِي من أُمَّهَات الْقرى وبقربها قَرْيَة يُقَال لَهَا أفشنة وَتزَوج أبي مِنْهَا بوالدتي وقطن بهَا وَسكن وَولدت مِنْهَا بهَا
ثمَّ ولدت أخي ثمَّ انتقلنا إِلَى بُخَارى
وأحضرت معلم الْقُرْآن ومعلم الْأَدَب وأكملت الْعشْر من الْعُمر وَقد أتيت على الْقُرْآن وعَلى كثير من الْأَدَب حَتَّى كَانَ يقْضى مني الْعجب
وَكَانَ أبي مِمَّن أجَاب دَاعِي المصريين ويعد من الإسماعيلية
وَقد سمع مِنْهُم ذكر النَّفس وَالْعقل على الْوَجْه الَّذِي يَقُولُونَهُ ويعرفونه هم وَكَذَلِكَ أخي
وَكَانُوا رُبمَا تَذَاكَرُوا بَينهم وَأَنا أسمعهم وَأدْركَ مَا يَقُولُونَهُ وَلَا تقبله نَفسِي وابتدأوا يدعونني أَيْضا إِلَيْهِ ويجرون على ألسنتهم ذكر الفلسفة والهندسة وحساب الْهِنْد وَأخذ يوجهني إِلَى رجل كَانَ يَبِيع البقل وَيقوم بِحِسَاب الْهِنْد حَتَّى أتعلمه مِنْهُ
ثمَّ جَاءَ إِلَى بُخَارى أَبُو عبد الله النائلي وَكَانَ يدعى المتفلسف وأنزله أبي دَارنَا رَجَاء تعلمي مِنْهُ
وَقبل قدومه كنت أشتغل بالفقه والتردد فِيهِ إِلَى إِسْمَاعِيل الزَّاهِد وَكنت من أَجود السالكين
وَقد ألفت طرق الْمُطَالبَة ووجوه الِاعْتِرَاض على الْمُجيب على الْوَجْه الَّذِي جرت عَادَة الْقَوْم بِهِ
ثمَّ ابتدأت بِكِتَاب أيساغوجي على النائلي
وَلما ذكر لي حد الْجِنْس أَنه هُوَ الْمَقُول على كثيرين مُخْتَلفين بالنوع فِي جَوَاب مَا هُوَ فَأخذت فِي تَحْقِيق هَذَا الْحَد بِمَا لم يسمع بِمثلِهِ وتعجب مني كل الْعجب وحذر وَالِدي من شغلي بِغَيْر الْمعلم
وَكَانَ أَي مَسْأَلَة قَالَهَا لي أتصورها خيرا مِنْهُ حَتَّى قَرَأت ظواهر الْمنطق عَلَيْهِ
وَأما دقائقه فَلم يكن عِنْده مِنْهَا خبْرَة
ثمَّ أخذت أَقرَأ الْكتب على نَفسِي وأطالع(1/437)
الشُّرُوح حَتَّى أحكمت علم الْمنطق
وَكَذَلِكَ كتاب أقليدس فَقَرَأت من أَوله خَمْسَة أشكال أَو سِتَّة عَلَيْهِ ثمَّ توليت بنفسي حل بَقِيَّة الْكتاب بأسره ثمَّ انْتَقَلت إِلَى المجسطي وَلما فرغت من مقدماته وانتهيت إِلَى الأشكال الهندسية قَالَ لي النائلي تول قرَاءَتهَا وحلها بِنَفْسِك ثمَّ اعرضها عَليّ لأبين لَك صَوَابه من خطئه وَمَا كَانَ الرجل يقوم بِالْكتاب
وَأخذت أحل ذَلِك الْكتاب فكم من شكل مَا عرفه إِلَى وَقت مَا عرضته عَلَيْهِ ومهمته إِيَّاه
ثمَّ فارقني النائلي مُتَوَجها إِلَى كركانج واشتغلت أَنا بتحصيل الْكتب من النُّصُوص والشروح من الطبيعي والإلهي وَصَارَت أَبْوَاب الْعلم تنفتح عَليّ
ثمَّ رغبت فِي علم الطِّبّ وصرت اقْرَأ الْكتب المصنفة فِيهِ وَعلم الطِّبّ لَيْسَ من الْعُلُوم الصعبة
فَلَا جرم أَنِّي برزت فِيهِ فِي أقل مُدَّة حَتَّى بَدَأَ فضلاء الطِّبّ يقرأون عَليّ علم الطِّبّ
وتعهدت المرضى فانفتح عَليّ من أَبْوَاب المعالجات المقتبسة من التجربة مَا لَا يُوصف وَأَنا مَعَ ذَلِك اخْتلف إِلَى الْفِقْه وأناظر فِيهِ وَأَنا فِي هَذَا الْوَقْت من أَبنَاء سِتّ عشرَة سنة
ثمَّ توفرت على الْعلم وَالْقِرَاءَة سنة وَنصفا فَأَعَدْت قِرَاءَة الْمنطق وَجَمِيع أَجزَاء الفلسفة
وَفِي هَذِه الْمدَّة مَا نمت لَيْلَة وَاحِدَة بِطُولِهَا وَلَا اشتغلت النَّهَار بِغَيْرِهِ وجمعت بَين يَدي ظهورا فَكل حجَّة كنت أنظر فِيهَا أثبت مُقَدمَات قياسية ورتبتها فِي تِلْكَ الظُّهُور
ثمَّ نظرت فِيمَا عساها تنْتج وراعيت شُرُوط مقدماته حَتَّى تحقق لي حَقِيقَة الْحق فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَة وَكلما كنت أتحير فِي مَسْأَلَة وَلم أكن أظفر بِالْحَدِّ الْأَوْسَط فِي قِيَاس ترددت إِلَى الْجَامِع وَصليت وابتهلت إِلَى مبدع الْكل حَتَّى فتح لي المنغلق وتيسر المتعسر
وَكنت أرجع بِاللَّيْلِ إِلَى دَاري وَاضع السراج بَين يَدي واشتغل بِالْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَة
فمهما غلبني النّوم أَو شَعرت بِضعْف عدلت إِلَى شرب قدح من الشَّرَاب ريثما تعود إِلَيّ قوتي ثمَّ أرجع إِلَى الْقِرَاءَة
وَمهما أَخَذَنِي أدنى نوم أحلم بِتِلْكَ الْمسَائِل بِأَعْيَانِهَا حَتَّى أَن كثيرا من الْمسَائِل اتَّضَح لي وجوهها فِي الْمَنَام
وَكَذَلِكَ حَتَّى استحكم معي جَمِيع الْعُلُوم ووقفت عَلَيْهَا بِحَسب الْإِمْكَان الإنساني
وكل مَا عَلمته فِي ذَلِك الْوَقْت فَهُوَ كَمَا عَلمته الْآن لم ازدد فِيهِ إِلَى الْيَوْم حَتَّى أحكمت على الْمنطق والطبيعي والرياضي
ثمَّ عدلت إِلَى الإلهي وقرأت كتاب مَا بعد الطبيعة
فَمَا كنت أفهم مَا فِيهِ والتبس عَليّ غَرَض وَاضعه حَتَّى أعدت قِرَاءَته أَرْبَعِينَ مرّة وَصَارَ لي مَحْفُوظًا
وَأَنا مَعَ ذَلِك لَا أفهمهُ وَلَا الْمَقْصُود بِهِ وأيست من نَفسِي وَقلت هَذَا كتاب لَا سَبِيل إِلَى فهمه
وَإِذا أَنا فِي يَوْم من الْأَيَّام حضرت وَقت الْعَصْر فِي الوراقين وبيد دلال مُجَلد يُنَادي عَلَيْهِ
فعرضه عَليّ فرددته رد متبرم مُعْتَقد أَن لَا فَائِدَة من هَذَا الْعلم
فَقَالَ لي اشْتَرِ مني هَذَا فَإِنَّهُ رخيص أبيعكه بِثَلَاث دَرَاهِم وَصَاحبه مُحْتَاج إِلَى ثمنه واشتريته فَإِذا هُوَ كتاب لأبي نصر الفارابي فِي أغراض كتاب مَا بعد الطبيعة وَرجعت إِلَى بَيْتِي وأسرعت قِرَاءَته
فانفتح عَليّ فِي الْوَقْت أغراض ذَلِك الْكتاب بِسَبَب أَنه كَانَ لي مَحْفُوظًا على ظهر الْقلب
وفرحت بذلك وتصدقت فِي ثَانِي يَوْمه بِشَيْء كثير على الْفُقَرَاء شكرا لله تَعَالَى
وَكَانَ سُلْطَان بُخَارى فِي ذَلِك الْوَقْت نوح بن مَنْصُور وَاتفقَ لَهُ مرض أتلج الْأَطِبَّاء فِيهِ(1/438)
وَكَانَ اسْمِي اشْتهر بَينهم بالتوفر على الْقِرَاءَة
فأجروا ذكري بَين يَدَيْهِ وسألوه إحضاري فَحَضَرت وشاركتهم فِي مداواته وتوسمت بخدمته فَسَأَلته يَوْمًا الْإِذْن لي فِي دُخُول دَار كتبهمْ ومطالعتها وَقِرَاءَة مَا فِيهَا من كتب الطِّبّ
فَأذن لي فَدخلت دَارا ذَات بيُوت كَثِيرَة فِي كل بَيت صناديق كتب منضدة بَعْضهَا على بعض فِي بَيت مِنْهَا كتب الْعَرَبيَّة وَالشعر وَفِي آخر الْفِقْه وَكَذَلِكَ فِي كل بَيت كتب علم مُفْرد
فطالعت فهرست كتب الْأَوَائِل وَطلبت مَا احتجب إِلَيْهِ مِنْهَا
وَرَأَيْت من الْكتب مَا لم يَقع اسْمه إِلَى كثير من النَّاس قطّ وَمَا كنت رَأَيْته من قبل وَلَا رَأَيْته أَيْضا من بعد
فَقَرَأت تِلْكَ الْكتب وظفرت بفوائدها وَعرفت مرتبَة كل رجل فِي علمه
فَلَمَّا بلغت ثَمَانِي عشرَة سنة من عمري فرغت من هَذِه الْعُلُوم كلهَا
وَكنت إِذْ ذَاك للْعلم احفظ وَلكنه الْيَوْم معي انضج وَإِلَّا فالعلم وَاحِد لم يَتَجَدَّد لي بعده شَيْء
وَكَانَ فِي جواري رجل يُقَال لَهُ أَبُو الْحُسَيْن الْعَرُوضِي
فَسَأَلَنِي أَن أصنف لَهُ كتابا جَامعا فِي هَذَا الْعلم فصنفت لَهُ الْمَجْمُوع وسميته بِهِ
وأتيت فِيهِ على سَائِر الْعُلُوم سوى الرياضي ولي إِذْ ذَاك إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة من عمري
وَكَانَ فِي جواري أَيْضا رجل يُقَال لَهُ أَبُو بكر البرقي خوارزمي المولد فَقِيه النَّفس متوحد فِي الْفِقْه وَالتَّفْسِير والزهد مائل إِلَى هَذِه الْعُلُوم فَسَأَلَنِي شرح الْكتب لَهُ فصنفت لَهُ كتاب الْحَاصِل والمحصول فِي قريب من عشْرين مجلدة وصنفت لَهُ فِي الْأَخْلَاق كتابا سميته كتاب الْبر وَالْإِثْم
وَهَذَانِ الكتابان لَا يوجدان إِلَّا عِنْده فَلم يعر أحدا ينْسَخ مِنْهُمَا ثمَّ مَاتَ وَالِدي وتصرفت بِي الْأَحْوَال وتقلدت شَيْئا من أَعمال السُّلْطَان ودعتني الضَّرُورَة إِلَى الْإِخْلَال ببخاري والانتقال إِلَى كركانج
وَكَانَ أَبُو الْحُسَيْن السهلي الْمُحب لهَذِهِ الْعُلُوم بهَا وزيرا وقدمت إِلَى الْأَمِير بهَا وَهُوَ عَليّ بن مَأْمُون وَكنت على زِيّ الْفُقَهَاء إِذْ ذَاك بطيلسان وَتَحْت الحنك واثبتوا لي مشاهرة دارة بكفاية مثلي
ثمَّ دعت الضَّرُورَة إِلَى الِانْتِقَال إِلَى نسا وَمِنْهَا إِلَى باورد وَمِنْهَا إِلَى طوس وَمِنْهَا إِلَى شقان وَمِنْهَا إِلَى سمنيقان وَمِنْهَا إِلَى جاجرم رَأس حد خُرَاسَان وَمِنْهَا إِلَى جرجان وَكَانَ قصدي الْأَمِير قَابُوس فاتفق فِي أثْنَاء هَذَا أَخذ قَابُوس وحبسه فِي بعض القلاع وَمَوته هُنَاكَ ثمَّ مضيت إِلَى دهستان ومرضت بهَا مَرضا صعبا وعدت إِلَى جرجان فاتصل أَبُو عبيد الْجوزجَاني بِي وأنشأت فِي حَالي قصيدة فِيهَا بَيت الْقَائِل
(لما عظمت فَلَيْسَ مصر واسعي ... لما غلا ثمني عدمت المُشْتَرِي) الْكَامِل(1/439)
قَالَ أَبُو عبيد الْجوزجَاني صَاحب الشَّيْخ الرئيس فَهَذَا مَا حكى لي الشَّيْخ من لَفظه وَمن هَاهُنَا شاهدت أَنا من أَحْوَاله وَكَانَ بجرجان رجل يُقَال لَهُ أَبُو مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ يحب هَذِه الْعُلُوم وَقد اشْترى للشَّيْخ دَارا فِي جواره وأنزله بهَا وَأَنا اخْتلف إِلَيْهِ فِي كل يَوْم اقْرَأ المجسطي وأستملي الْمنطق
فأملى عَليّ الْمُخْتَصر الْأَوْسَط فِي الْمنطق
وصنف لأبي مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ كتاب المبدأ والمعاد وَكتاب الأرصاد الْكُلية
وصنف هُنَاكَ كتبا كَثِيرَة كأول القانون ومختصر المجسطي وَكَثِيرًا من الرسائل ثمَّ صنف فِي أَرض الْجَبَل بَقِيَّة كتبه
وَهَذَا فهرست كتبه كتاب الْمَجْمُوع مجلدة الْحَاصِل والمحصول عشرُون مجلدة الْإِنْسَان عشرُون مجلدة الْبر وَالْإِثْم مجلدتان الشِّفَاء ثَمَانِي عشرَة مجلدة القانون أَربع عشرَة مجلدة الأرصاد الْكُلية مجلدة كتاب النجَاة ثَلَاث مجلدات الْهِدَايَة مجلدة القولنج مجلدة لِسَان الْعَرَب عشر مجلدات الْأَدْوِيَة القلبية مجلدة الموجز مجلدة بعض الْحِكْمَة المشرقية مجلدة بَيَان ذَوَات الْجِهَة مجلدة كتاب الْمعَاد مجلدة كتاب المبدأ والمعاد مجلدة كتاب المباحثات مجلدة
وَمن رسائله الْقَضَاء وَالْقدر الْآلَة الرصدية غَرَض قاطيغورياس
الْمنطق بالشعر القصائد فِي العظمة وَالْحكمَة فِي الْحُرُوف
تعقب الْمَوَاضِع الجدلية
مُخْتَصر أقليدس
مُخْتَصر فِي النبض بالعجمية
الْحُدُود الأجرام السماوية
الْإِشَارَة إِلَى علم الْمنطق
أَقسَام الْحِكْمَة فِي النِّهَايَة واللانهاية عهد كتبه لنَفسِهِ حَيّ بن يقظان فِي أَن أبعاد الْجِسْم غير ذاتية لَهُ
خطب الْكَلَام فِي الهندبا
فِي أَنه لَا يجوز أَن يكون شَيْء وَاحِد جوهريا وعرضيا
فِي أَن علم زيد غير علم عَمْرو
رسائل لَهُ إخوانية وسلطانية
مسَائِل جرت بَينه وَبَين بعض الْفُضَلَاء
كتاب الْحَوَاشِي على القانون
كتاب عُيُون الْحِكْمَة كتاب الشبكة وَالطير
ثمَّ انْتقل إِلَى الرّيّ واتصل بِخِدْمَة السيدة وَابْنهَا مجد الدولة وعرفوه بِسَبَب كتب وصلت مَعَه تَتَضَمَّن تَعْرِيف قدره
وَكَانَ بمجد الدولة إِذْ ذَاك غَلَبَة السَّوْدَاء فاشتغل بمداواته وصنف هُنَاكَ كتاب الْمعَاد وَأقَام بهَا إِلَى أَن قصد شمس الدولة بعد قتل هِلَال بن بدر بن حسنويه وهزيمة عَسْكَر بَغْدَاد
ثمَّ اتّفقت أَسبَاب أوجبت الضَّرُورَة لَهَا خُرُوجه إِلَى قزوين وَمِنْهَا إِلَى هَمدَان واتصاله بِخِدْمَة كذبانويه وَالنَّظَر فِي أَسبَابهَا
ثمَّ اتّفق معرفَة شمس الدولة وإحضاره مَجْلِسه بِسَبَب قولنج كَانَ قد أَصَابَهُ وعالجه حَتَّى شفَاه الله وفاز من ذَلِك الْمجْلس بخلع كَثِيرَة وَرجع إِلَى دَاره بعد مَا أَقَامَ هُنَاكَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بلياليها وَصَارَ من ندماء الْأَمِير
ثمَّ اتّفق نهوض الْأَمِير إِلَى قرمسين لِحَرْب عناز وَخرج الشَّيْخ فِي خدمته ثمَّ توجه نَحْو هَمدَان مُنْهَزِمًا رَاجعا
ثمَّ سَأَلُوهُ تقلد الوزارة فتقلدها ثمَّ اتّفق تشويش الْعَسْكَر عَلَيْهِ وإشفاقهم مِنْهُ على أنفسهم(1/440)
فكبسوا دَاره وأخذوه إِلَى الْحَبْس وأغاروا على أَسبَابه وَأخذُوا جَمِيع مَا كَانَ يملكهُ
وسألوا الْأَمِير قَتله فَامْتنعَ مِنْهُ وَعدل إِلَى نَفْيه عَن الدولة طلبا لمرضاتهم فتوارى فِي دَار الشَّيْخ أبي سعد ابْن دخدوك أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَعَاد الْأَمِير شمس الدولة القولنج وَطلب الشَّيْخ فَحَضَرَ مَجْلِسه فَاعْتَذر الْأَمِير إِلَيْهِ بِكُل الِاعْتِذَار فاشتغل بمعالجته وَأقَام عِنْده مكرما مبجلا
وأعيدت الوزارة إِلَيْهِ ثَانِيًا ثمَّ سَأَلته أَنا شرح كتب أرسطوطاليس فَذكر أَنه لَا فرَاغ لَهُ إِلَى ذَلِك فِي ذَلِك الْوَقْت
وَلَكِن إِن رضيت مني بتصنيف كتاب أورد فِيهِ مَا صَحَّ عِنْدِي من هَذِه الْعُلُوم بِلَا مناظرة مَعَ الْمُخَالفين وَلَا اشْتِغَال بِالرَّدِّ عَلَيْهِم فعلت ذَلِك فرضيت بِهِ
فابتدأ بالتطبيعيات من كتاب سَمَّاهُ كتاب الشِّفَاء وَكَانَ قد صنف الْكتاب الأول من القانون
وَكَانَ يجْتَمع كل لَيْلَة فِي دَاره طلبة الْعلم وَكنت أَقرَأ من الشِّفَاء
وَكَانَ يقرئ غَيْرِي من القانون نوبَة
فَإِذا فَرغْنَا حضر المغنون على اخْتِلَاف طبقاتهم وهيئ مجْلِس الشَّرَاب بآلاته وَكُنَّا نشتغل بِهِ وَكَانَ التدريس بِاللَّيْلِ لعدم الْفَرَاغ بِالنَّهَارِ خدمَة للأمير فقضينا على ذَلِك زَمنا ثمَّ توجه شمس الدّين إِلَى طارم لِحَرْب الْأَمِير بهَا وعاوده القولنج قرب ذَلِك الْموضع وَاشْتَدَّ عَلَيْهِ وانضاف إِلَى ذَلِك أمراض أخر جلبها سوء تَدْبيره وَقلة الْقبُول من الشَّيْخ فخاف الْعَسْكَر وَفَاته فَرَجَعُوا بِهِ طَالِبين هَمدَان فِي المهد فَتوفي فِي الطَّرِيق فِي المهد
ثمَّ بُويِعَ ابْن شمس الدولة وطلبوا استيزار الشَّيْخ فَأبى عَلَيْهِم وَكَاتب عَلَاء الدولة سرا يطْلب خدمته والمصير إِلَيْهِ والانضمام إِلَى جوانبه
وَأقَام فِي دَار أبي غَالب الْعَطَّار متواريا
وَطلبت مِنْهُ إتْمَام كتاب الشِّفَاء فَاسْتَحْضر أَبَا غَالب وَطلب الكاغد والمحبرة فأحضرهما وَكتب الشَّيْخ فِي قريب من عشْرين جُزْءا على الثّمن بِخَطِّهِ رُؤُوس الْمسَائِل
وَبَقِي فِيهِ يَوْمَيْنِ حَتَّى كتب رُؤُوس الْمسَائِل كلهَا بِلَا كتاب يحضرهُ وَلَا أصل يرجع إِلَيْهِ بل من حفظه وَعَن ظهر قلبه
ثمَّ ترك الشَّيْخ تِلْكَ الْأَجْزَاء بَين يَدَيْهِ وَأخذ الكاغد فَكَانَ ينظر فِي كل مَسْأَلَة وَيكْتب شرحها فَكَانَ يكْتب كل يَوْم خمسين ورقة حَتَّى أَتَى على جَمِيع الطبيعيات والإلهيات مَا خلا كتابي الْحَيَوَان والنبات
وابتدأ بالْمَنْطق وَكتب مِنْهُ جُزْءا
ثمَّ أَتَّهِمهُ تَاج الْملك بمكاتبته عَلَاء الدولة فَأنْكر عَلَيْهِ ذَلِك وحث فِي طلبه فَدلَّ عَلَيْهِ بعض أعدائه فَأَخَذُوهُ وأدوه إِلَى قلعة يُقَال لَهَا فردجان وَأَنْشَأَ هُنَاكَ قصيدة مِنْهَا
(دخولي بِالْيَقِينِ كَمَا ترَاهُ ... وكل الشَّك فِي أَمر الْخُرُوج) الوافر
وَبَقِي فِيهَا أَرْبَعَة أشهر
ثمَّ قصد عَلَاء الدولة هَمدَان وَأَخذهَا وَانْهَزَمَ تَاج الْملك وَمر إِلَى تِلْكَ القلعة بِعَينهَا
ثمَّ رَجَعَ عَلَاء الدولة عَن هَمدَان وَعَاد تَاج الْملك وَابْن شمس الدولة إِلَى هَمدَان وحملوا مَعَهم الشَّيْخ إِلَى هَمدَان وَنزل فِي دَار الْعلوِي واشتغل هُنَاكَ بتصنيف الْمنطق من كتاب الشِّفَاء وَكَانَ قد صنف بالقلعة كتاب الهدايات ورسالة حَيّ بن يقظان وَكتاب القولنج
وَأما الْأَدْوِيَة(1/441)
القلبية فَإِنَّمَا صنفها أول وُرُوده إِلَى هَمدَان وَكَانَ قد تقضى على هَذَا زمَان وتاج الْملك فِي أثْنَاء هَذَا يمنيه بمواعيد جميلَة
ثمَّ عَن للشَّيْخ التَّوَجُّه إِلَى أصفهان فَخرج متنكرا وَأَنا وَأَخُوهُ وغلامان مَعَه فِي زِيّ الصُّوفِيَّة إِلَى أَن وصلنا إِلَى طبران على بَاب أصفهان بعد أَن قاسينا شَدَائِد فِي الطَّرِيق فَاسْتقْبلنَا أصدقاء الشَّيْخ وندماء الْأَمِير عَلَاء الدولة وخواصه وَحمل إِلَيْهِ الثِّيَاب والمراكب الْخَاصَّة وَأنزل فِي محلّة يُقَال لَهَا كونكنبد فِي دَار عبد الله بن بَابي وفيهَا من الْآلَات والفرش مَا يحْتَاج إِلَيْهِ
وَحضر مجْلِس عَلَاء الدولة فصادف فِي مَجْلِسه الْإِكْرَام والإعزاز الَّذِي يسْتَحقّهُ مثله
ثمَّ رسم عَلَاء الدولة ليَالِي الْجُمُعَات مجْلِس النّظر بَين يَدَيْهِ بِحَضْرَة سَائِر الْعلمَاء على اخْتِلَاف طبقاتهم وَالشَّيْخ من جُمْلَتهمْ
فَمَا كَانَ يُطَاق فِي شَيْء من الْعُلُوم
واشتغل بأصفهان فِي تتميم كتاب الشِّفَاء ففرغ من الْمنطق والمجسطي وَكَانَ قد اختصر أوقليدس والأرثماطيقي والموسيقى
وَأورد فِي كل كتاب من الرياضيات زيادات رأى أَن الْحَاجة إِلَيْهَا دَاعِيَة
أما فِي المجسطي فأورد عشرَة أشكال فِي اخْتِلَاف الْقطر وَأورد فِي آخر المجسطي فِي علم الْهَيْئَة أَشْيَاء لم يسْبق إِلَيْهَا وَأورد فِي أوقليدس شبها وَفِي الأرثماطيقي خَواص حَسَنَة وَفِي الموسيقى مسَائِل غفل عَنْهَا الْأَولونَ وَتمّ الْكتاب الْمَعْرُوف بالشفاء مَا خلا كتابي النَّبَات وَالْحَيَوَان فَإِنَّهُ صنفهما فِي السّنة الَّتِي توجه فِيهَا عَلَاء الدولة إِلَى سَابُور خواست فِي الطَّرِيق
وصنف أَيْضا فِي الطَّرِيق كتاب النجَاة واختص بعلاء الدولة وَصَارَ من ندمائه إِلَى أَن عزم عَلَاء الدولة على قصد هَمدَان وَخرج الشَّيْخ فِي الصُّحْبَة فَجرى لَيْلَة بَين يَدي عَلَاء الدولة ذكر الْخلَل الْحَاصِل فِي التقاويم المعمولة بِحَسب الأرصاد الْقَدِيمَة فَأمر الْأَمِير الشَّيْخ الِاشْتِغَال برصد هَذِه الْكَوَاكِب وَأطلق لَهُ من الْأَمْوَال مَا يحْتَاج إِلَيْهِ
وابتدأ الشَّيْخ بِهِ وولاني اتِّخَاذ آلاتها واستخدام صناعها حَتَّى ظهر كثير من الْمسَائِل فَكَانَ يَقع الْخلَل فِي أَمر الرصد لِكَثْرَة الْأَسْفَار وعوائقها
وصنف الشَّيْخ بأصفهان الْكتاب العلائي
وَكَانَ من عجائب أَمر الشَّيْخ إِنِّي صحبته وخدمته خمْسا وَعشْرين سنة فَمَا رَأَيْته إِذا وَقع لَهُ كتاب مُجَدد ينظر فِيهِ على الْوَلَاء بل كَانَ يقْصد الْمَوَاضِع الصعبة مِنْهُ والمسائل المشكلة فَينْظر مَا قَالَه مُصَنفه فِيهَا فيتبين مرتبته فِي الْعلم ودرجته فِي الْفَهم
وَكَانَ الشَّيْخ جَالِسا يَوْمًا من الْأَيَّام بَين يَدي الْأَمِير وَأَبُو مَنْصُور الجبائي حَاضر فجري فِي اللُّغَة مَسْأَلَة تكلم الشَّيْخ فِيهَا بِمَا حَضَره فَالْتَفت أَبُو مَنْصُور إِلَى الشَّيْخ يَقُول أَنَّك فيلسوف وَحَكِيم وَلَكِن لم تقْرَأ من اللُّغَة مَا يُرْضِي كلامك فِيهَا فاستنكف الشَّيْخ من هَذَا الْكَلَام وتوفر على درس كتب اللُّغَة ثَلَاث سِنِين واستهدى كتاب(1/442)
تَهْذِيب اللُّغَة من خُرَاسَان من تصنيف أبي مَنْصُور الْأَزْهَرِي فَبلغ الشَّيْخ فِي اللُّغَة طبقَة قَلما يتَّفق مثلهَا
وَأَنْشَأَ ثَلَاث قصائد ضمنهَا ألفاظا غَرِيبَة من اللُّغَة
وَكتب ثَلَاثَة كتب أَحدهَا على طَريقَة ابْن العميد وَالْآخر على طَريقَة الصابي وَالْآخر على طَريقَة الصاحب وَأمر بتجليدها وأخلاق جلدهَا
ثمَّ أوعز الْأَمِير فَعرض تِلْكَ المجلدة على أبي مَنْصُور الجبائي
وَذكر أَنا ظفرنا بِهَذِهِ المجلدة فِي الصَّحرَاء وَقت الصَّيْد فَيجب أَن تتفقدها وَتقول لنا مَا فِيهَا فَنظر فِيهَا أَبُو مَنْصُور وأشكل عَلَيْهِ كثير مِمَّا فِيهَا
فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ أَن مَا تجهله من هَذَا الْكتاب فَهُوَ مَذْكُور فِي الْموضع الْفُلَانِيّ من كتب اللُّغَة وَذكر لَهُ كثير من الْكتب الْمَعْرُوفَة فِي اللُّغَة كَانَ الشَّيْخ حفظ تِلْكَ الْأَلْفَاظ مِنْهَا وَكَانَ أَبُو مَنْصُور مجزفا فِيمَا يُورِدهُ من اللُّغَة غير ثِقَة فِيهَا فَفطن أَبُو مَنْصُور أَن تِلْكَ الرسائل من تصنيف الشَّيْخ وَأَن الَّذِي حمله عَلَيْهِ مَا جبهه بِهِ فِي ذَلِك الْيَوْم فتنصل وَاعْتذر إِلَيْهِ
ثمَّ صنف الشَّيْخ كتابا فِي اللُّغَة سَمَّاهُ لِسَان الْعَرَب لم يصنف فِي اللُّغَة مثله وَلم يَنْقُلهُ فِي الْبيَاض حَتَّى توفّي فَبَقيَ على مسودته لَا يَهْتَدِي أحد إِلَى ترتيبه
وَكَانَ فد حصل للشَّيْخ تجارب كَثِيرَة فِيمَا بَاشرهُ من المعالجات عزم على تدوينها فِي كتاب القانون وَكَانَ قد علقها على أَجزَاء فَضَاعَت قبل تَمام كتاب القانون
من ذَلِك أَنه صدع يَوْمًا فتصور أَن مَادَّة تُرِيدُ النُّزُول إِلَى حجاب رَأسه وَأَنه لَا يَأْمَن ورما ينزل فِيهِ فَأمر بإحضار ثلج كثير ودقه ولفه فِي خرقَة وتغطية رَأسه بهَا فَفعل ذَلِك حَتَّى قوي الْموضع وَامْتنع عَن قبُول تِلْكَ الْمَادَّة وعوفي
وَمن ذَلِك أَن امْرَأَة مسلولة بخوارزم أمرهَا أَن لَا تتَنَاوَل شَيْئا من الْأَدْوِيَة سوى الجلنجبين السكرِي حَتَّى تناولت على الْأَيَّام مِقْدَار مائَة مِنْهُ وشفيت الْمَرْأَة
وَكَانَ الشَّيْخ قد صنف بجرجان الْمُخْتَصر الْأَصْغَر فِي الْمنطق وَهُوَ الَّذِي وَضعه بعد ذَلِك فِي أول النجَاة وَوَقعت نُسْخَة إِلَى شيراز فَنظر فِيهَا جمَاعَة من أهل الْعلم هُنَاكَ فَوَقَعت لَهُم الشّبَه فِي مسَائِل مِنْهَا فكتبوها على جُزْء
وَكَانَ القَاضِي بشيراز من جملَة الْقَوْم فأنفذ بالجزء إِلَى أبي الْقَاسِم الْكرْمَانِي صَاحب إِبْرَاهِيم من بَابا الديلمي المشتغل بِعلم التناظر وأضاف إِلَيْهِ كتابا إِلَى الشَّيْخ أبي الْقَاسِم وأنفذهما على يَدي ركابي قَاصد وَسَأَلَهُ عرض الْجُزْء على الشَّيْخ واستيجاز أجوبته فِيهِ
وَإِذا الشَّيْخ أبي الْقَاسِم دخل على الشَّيْخ عِنْد اصفرار الشَّمْس فِي يَوْم صَائِف وَعرض عَلَيْهِ الْكتاب والجزء فَقَرَأَ الْكتاب ورده عَلَيْهِ وَترك الْجُزْء بَين يَدَيْهِ وَهُوَ ينظر فِيهِ وَالنَّاس يتحدثون
ثمَّ خرج أَبُو الْقَاسِم وَأَمرَنِي الشَّيْخ بإحضار الْبيَاض وَقطع أَجزَاء مِنْهُ فشددت خَمْسَة أَجزَاء كل وَاحِد مِنْهَا عشرَة أوراق(1/443)
بِالربعِ الفرعوني وصلينا الْعشَاء وَقدم الشمع فَأمر بإحضار الشَّرَاب وأجلسني وأخاه وأمرنا بتناول الشَّرَاب وابتدأ هُوَ بِجَوَاب تِلْكَ الْمسَائِل
وَكَانَ يكْتب وَيشْرب إِلَى نصف اللَّيْل حَتَّى غلبني وأخاه النّوم فَأمر بالانصراف فَعِنْدَ الصَّباح قرع الْبَاب فَإِذا رَسُول الشَّيْخ يستحضرني فحضرته وَهُوَ على الْمصلى وَبَين يَدَيْهِ الْأَجْزَاء الْخَمْسَة فَقَالَ خُذْهَا وصر بهَا إِلَى الشَّيْخ أبي الْقَاسِم الْكرْمَانِي وَقل لَهُ استعجلت فِي الْأَجْوِبَة عَنْهَا لِئَلَّا يتعوق الركابي فَلَمَّا حَملته إِلَيْهِ تعجب كل الْعجب وَصرف الفيج وأعلمهم بِهَذِهِ الْحَالة وَصَارَ هَذَا الحَدِيث تَارِيخا بَين النَّاس
وَوضع فِي حَال الرصد آلَات مَا سبق إِلَيْهَا وصنف فِيهَا رِسَالَة وَبقيت أَنا ثَمَانِي سِنِين مَشْغُولًا بالرصد وَكَانَ غرضي تبين مَا يحكيه بطليموس عَن قصَّته فِي الأرصاد فَتبين لي بَعْضهَا
وصنف الشَّيْخ كتاب الأنصاف وَالْيَوْم الَّذِي قدم فِيهِ السُّلْطَان مَسْعُود إِلَى أصفهان نهب عسكره رَحل الشَّيْخ وَكَانَ الْكتاب فِي جملَته وَمَا وقف لَهُ على أثر
وَكَانَ الشَّيْخ قوي القوى كلهَا وَكَانَت قُوَّة المجامعة من قواه الشهوانية أقوى وأغلب
وَكَانَ كثيرا مَا يشْتَغل بِهِ فأثر فِي مزاجه وَكَانَ الشَّيْخ يعْتَمد على قُوَّة مزاجه حَتَّى صَار أمره فِي السّنة الَّتِي حَارب فِيهَا عَلَاء الدولة تاش فرَاش على بَاب الكرخ إِلَى أَن أَخذ الشَّيْخ قولنج ولحرصه على برئه إشفاقا من هزيمَة يدْفع إِلَيْهَا وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْمسير فِيهَا مَعَ الْمَرَض حقن نَفسه فِي يَوْم وَاحِد ثَمَان كرات فتقرح بعض أمعائه وَظهر بِهِ سحج وأحوج إِلَى الْمسير مَعَ عَلَاء الدولة فَأَسْرعُوا نَحْو ايذج فَظهر بِهِ هُنَاكَ الصرع الَّذِي يتبع عِلّة القولنج وَمَعَ ذَلِك كَانَ يدبر نَفسه ويحقن نَفسه لأجل السحج ولبقية القولنج فَأمر يَوْمًا باتخاذ دانقين من بزر الكرفس فِي جملَة مَا يحتقن بِهِ وخلطه بهَا طلبا لكسر الرِّيَاح فقصد بعض الْأَطِبَّاء الَّذِي كَانَ يتَقَدَّم هواليه بمعالجته وَطرح من بزر الكرفس خَمْسَة دَرَاهِم لست أَدْرِي أعمد فعله أم خطأ لأنني لم أكن مَعَه فازداد السحج بِهِ من حِدة ذَلِك البزر
وَكَانَ يتَنَاوَل المثرود بطوس لأجل الصرع فَقَامَ بعض غلمانه وَطرح شَيْئا كثيرا من الأفيون فِيهِ وناوله فَأَكله وَكَانَ سَبَب ذَلِك خيانتهم فِي مَال كثير من خزانته فتمنوا هَلَاكه ليأمنوا عَاقِبَة أَعْمَالهم
وَنقل الشَّيْخ كَمَا هُوَ إِلَى أصفهان فاشتغل بتدبير نَفسه وَكَانَ من الضعْف بِحَيْثُ لَا يقدر على الْقيام فَلم يزل يعالج نَفسه حَتَّى قدر على الْمَشْي وَحضر مجْلِس عَلَاء الدولة
لكنه مَعَ ذَلِك لَا يتحفظ وَيكثر التَّخْلِيط فِي أَمر المجامعة وَلم يبرأ من الْعلَّة كل الْبُرْء فَكَانَ ينتكس وَيبرأ كل وَقت
ثمَّ قصد عَلَاء الدولة هَمدَان فَسَار مَعَه الشَّيْخ فعاودته فِي الطَّرِيق تِلْكَ الْعلَّة إِلَى أَن وصل إِلَى هَمدَان وَعلم أَن قوته قد سَقَطت وَأَنَّهَا لَا تفي بِدفع الْمَرَض فأهمل مداواة نَفسه وَأخذ يَقُول الْمُدبر الَّذِي كَانَ يدبر بدني قد عجز عَن التَّدْبِير والآن فَلَا تَنْفَع المعالجة
وَبَقِي على هَذَا أَيَّامًا ثمَّ انْتقل إِلَى جوَار ربه(1/444)
وَكَانَ عمره ثَلَاثًا وَخمسين سنة وَكَانَ مَوته فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَأَرْبَعمِائَة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَسبعين وثلثمائة
هَذَا آخر مَا ذكره أَبُو عبيد من أَحْوَال الشَّيْخ الرئيس وقبره تَحت السُّور من جَانب الْقبَّة من هَمدَان وَقيل إِنَّه نقل إِلَى أصفهان وَدفن فِي مَوضِع على بَاب كونكنبد
وَلما مَاتَ ابْن سينا من القولنج الَّذِي عرض لَهُ قَالَ فِيهِ بعض أهل زَمَانه
(رَأَيْت ابْن سينا يعادي الرِّجَال ... وبالحبس مَاتَ أخس الْمَمَات)
(فَلم يشف مَا ناله بالشفا ... وَلم ينج من مَوته بالنجاة) المتقارب
وَقَوله بِالْحَبْسِ يُرِيد انحباس الْبَطن من القولنج الَّذِي أَصَابَهُ والشفاء والنجاة يُرِيد الْكِتَابَيْنِ من تأليفه وَقصد بهما الجناس فِي الشّعْر
وَمن كَلَام الشَّيْخ الرئيس وَصِيَّة أوصى بهَا بعض أصدقائه وَهُوَ أَبُو سعيد ابْن أبي الْخَيْر الصُّوفِي قَالَ ليكن الله تَعَالَى أول فكر لَهُ وَآخره وباطن كل اعْتِبَار وَظَاهره ولتكن عين نَفسه مكحولة بِالنّظرِ إِلَيْهِ وقدمها مَوْقُوفَة على المثول بَين يَدَيْهِ مُسَافِرًا بعقله فِي الملكوت الْأَعْلَى وَمَا فِيهِ من آيَات ربه الْكُبْرَى
وَإِذا انحط إِلَى قراره فلينزه الله تَعَالَى فِي آثاره فَإِنَّهُ بَاطِن ظَاهر تجلى لكل شَيْء بِكُل شَيْء
(فَفِي كل شَيْء لَهُ آيَة ... تدل على أَنه وَاحِد) المتقارب
فَإِذا صَارَت هَذِه الْحَال لَهُ ملكة انطبع فِيهَا نقش الملكوت وتجلى لَهُ قدس اللاهوت فألف الْإِنْس الْأَعْلَى وذاق اللَّذَّة القصوى وَأخذ عَن نَفسه من هُوَ بهَا أولى وفاضت عَلَيْهِ السكنية وحقت عَلَيْهِ الطُّمَأْنِينَة
وتطلع إِلَى الْعَالم الْأَدْنَى اطلَاع رَاحِم لأَهله مستوهن لحيله مستخف لثقله مستحسن بِهِ لعقله مستضل لطرقه وتذكر نَفسه وَهِي بهَا لهجة وببهجتها بهجة فتعجب مِنْهَا وَمِنْهُم تعجبهم مِنْهُ وَقد ودعها وَكَانَ مَعهَا كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعهَا
وليعلم أَن أفضل الحركات الصَّلَاة وأمثل السكنات الصّيام وأنفع الْبر الصَّدَقَة وأزكى السِّرّ الِاحْتِمَال وأبطل السهي المراءاة
وَلنْ تخلص النَّفس عَن الدَّرن مَا التفتت إِلَى قيل وَقَالَ ومناقشة وجدال وانفعلت بِحَال من الْأَحْوَال
وَخير الْعَمَل مَا صدر عَن خَالص نِيَّة وَخير النِّيَّة مَا ينفرج عَن جناب علم وَالْحكمَة أم الْفَضَائِل وَمَعْرِفَة الله أول الْأَوَائِل إِلَيْهِ {إِلَيْهِ يصعد الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح يرفعهُ}
ثمَّ يقبل على هَذِه النَّفس المزينة بكمالها الذاتي فيحرسها عَن التلطخ بِمَا يشينها من الهيئآت الانقيادية للنفوس الموادية الَّتِي إِذا بقيت فِي النُّفُوس المزينة كَانَ حَالهَا عِنْد الِانْفِصَال كحالها عِنْد الِاتِّصَال إِذْ جوهرها غير مشاوب وَلَا مخالط وَإِنَّمَا يدنسها هَيْئَة الانقياد لتِلْك الصواحب بل يفيدها هيآت الِاسْتِيلَاء والسياسة والاستعلاء والرياسة
وَكَذَلِكَ يهجر الْكَذِب قولا وتخيلا حَتَّى تحدث للنَّفس هَيْئَة صدوقة فَتصدق الأحلام والرؤيا
وَأما اللَّذَّات فيستعملها على إصْلَاح الطبيعة وإبقاء الشَّخْص أَو النَّوْع أَو السياسة
أما المشروب فَإِنَّهُ يهجر شربه تلهيا(1/445)
بل تشفيا وتداويا ويعاشر كل فرقة بعادته ورسمه ويسمح بالمقدور وَالتَّقْدِير من المَال ويركب لمساعدة النَّاس كثيرا مِمَّا هُوَ خلاف طبعه
ثمَّ لَا يقصر فِي الأوضاع الشَّرْعِيَّة ويعظم السّنَن الإلهية والمواظبة على التعبدات الْبَدَنِيَّة
وَيكون دوَام عمره إِذا خلا وخلص من المعاشرين تطربه الزِّينَة فِي النَّفس والفكرة فِي الْملك الأول وَملكه وكيس النَّفس عَن عيار النَّاس من حَيْثُ لَا يقف عَلَيْهِ النَّاس عَاهَدَ الله أَنه يسير بِهَذِهِ السِّيرَة ويدين بِهَذِهِ الدّيانَة وَالله ولي الَّذين آمنُوا وَهُوَ حَسبنَا وَنعم الْوَكِيل
وَمن شعر الشَّيْخ الرئيس قَالَ فِي النَّفس وَهِي من أجل قصائده وَأَشْرَفهَا
(هَبَطت إِلَيْك من الْمحل الأرفع ... وَرْقَاء ذَات تعزز وتمنع)
(محجوبة عَن كل مقلة عَارِف ... وَهِي الَّتِي سفرت وَلم تتبرقع)
(وصلت على كره إِلَيْك وَرُبمَا ... كرهت فراقك وَهِي ذَات تفجع)
(أنفت وَمَا أنست فَلَمَّا واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع)
(وأظنها نسيت عهودا بالحمى ... ومنازلا بفراقها لم تقنع)
(حَتَّى إِذا اتَّصَلت بهاء هبوطها ... فِي مِيم مركزها بِذَات الأجرع)
(علقت بهَا ثاء الثقيل فَأَصْبَحت ... بَين المعالم والطلول الخضع)
(تبْكي إِذا ذكرت ديارًا بالحمى ... بمدامع تهمي وَلما تقطع)
(وتظل ساجعة على الدمن الَّتِي ... درست بتكرار الرِّيَاح الْأَرْبَع)
(إِذْ عاقها الشّرك الكثيف وصدها ... قفص عَن الأوج الفسيح الأريع)
(حَتَّى إِذا قرب الْمسير إِلَى الْحمى ... ودنا الرحيل إِلَى الفضاء الأوسع)
(سجعت وَقد كشف الغطاء فَأَبْصَرت ... مَا لَيْسَ يدْرك بالعيون الهجع)
(وغدت مُفَارقَة لكل مخلف ... عَنْهَا حَلِيف الترب غير مشيع)
(وبدت تغرد فَوق ذرْوَة شَاهِق ... سَام إِلَى قَعْر الحضيض الأوضع)
(إِن كَانَ أرسلها الْإِلَه لحكمة ... طويت عَن الفطن اللبيب الأروع)
(فهبوطها إِن كَانَ ضَرْبَة لازب ... لتَكون سامعة بِمَا لم تسمع)
(وتعود عَالِمَة بِكُل خُفْيَة ... فِي الْعَالمين فخرقها لم يرقع)
(وَهِي الَّتِي قطع الزَّمَان طريقها ... حَتَّى لقد غربت بِغَيْر المطلع)
(فَكَأَنَّهُ برق تألق للحمى ... ثمَّ انطوى فَكَأَنَّهُ لم يلمع) الْكَامِل
وَقَالَ فِي الشيب وَالْحكمَة والزهد
(أما أَصبَحت عَن ليل التصابي ... وَقد أَصبَحت عَن ليل الشَّبَاب)
(تنفس فِي عذارك صبح شيب ... وعسعس ليله فكم التصابي)(1/446)
(شبابك كَانَ شَيْطَانا مرِيدا ... فرجم من مشيبك بالشهاب)
(وَأَشْهَب من بزاة الدَّهْر خوى ... على فودي فألمأ بالغراب)
(عَفا رسم الشَّبَاب ورسم دَار ... لَهُم عهدي بهَا مغنى ربَاب)
(فَذَاك أَبيض من قطرات دمعي ... وَذَاكَ أَخْضَر من قطر السَّحَاب)
(فَذا ينعي إِلَيْك النَّفس نعيا ... وذالكم نشور للروابي)
(كَذَا دنياك ترأب لانصداع ... مغالطة وتبني للخراب)
(ويعلق مشمئز النَّفس عَنْهَا ... فَلَمَّا عفتها أغريتها بِي)
(فلولاها لعجلت انسلاخي ... عَن الدُّنْيَا وَإِن كَانَت أهابي)
(عرفت عقوقها فسلوت عَنْهَا ... بأشراك تعوق عَن اضْطِرَاب)
(بليت بعالم يَعْلُو أَذَاهُ ... سوى صبري ويسفل عَن عتابي)
(وسيل للصَّوَاب خلاط قوم ... وَكم كَانَ الصَّوَاب سوى الصَّوَاب)
(أخالطهم وَنَفْسِي فِي مَكَان ... من العلياء عَنْهُم فِي حجاب)
(وَلست بِمن يلطخه خلاط ... مَتى اغبرت أناث عَن تُرَاب)
(إِذا مَا لحت الْأَبْصَار نَالَتْ ... خيالا واشمأزت عَن لباب) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(يَا ربع نكرك الْأَحْدَاث والقدم ... فَصَارَ عَيْنك كالآثار تتهم)
(كَأَنَّمَا رسمك السِّرّ الَّذِي لَهُم ... عِنْدِي ونؤيك صبري الدارس الْهدم)
(كَأَنَّمَا سفعة الأثفي بَاقِيَة ... بَين الرياض كطاجونية جثم)
(أَو حسرة بقيت فِي الْقلب مظْلمَة ... عَن حَاجَة مَا قضوها إِذْ هم أُمَم)
(أَلا بكاه سَحَاب دمعه همع ... بالرعد مزدفر بالبرق مبتسم)
(لم لم تجدها سَحَاب جودها ديم ... من الدُّمُوع الهوامي كُلهنَّ دم)
(لَيْت الطلول أجابت من بِهِ أبدا ... فِي حبهم صِحَة فِي حبهم سقم)
(أَو علها بِلِسَان الْحَال ناطقة ... قد تفهم الْحَال مَا لَا تفهم الْكَلم)(1/447)
(أما ترى شيبتي تنبيك ناطقة ... بِأَن حدي الَّذِي استدلقته ثلم)
(الشيب يوعد والآمال واعدة ... والمرء يغتر وَالْأَيَّام تنصرم)
(مَالِي أرى حكم الْأَفْعَال سَاقِطَة ... وأسمع الدَّهْر قولا كُله حكم)
(مَالِي أرى الْفضل فضلا يستهان بِهِ ... قد أكْرم النَّقْص لما استنقص الْكَرم)
(جولت فِي هَذِه الدُّنْيَا وزخرفها ... عَيْني فألفيت دَارا مَا بهَا أرم)
(كجيفة دودت فالدود منشؤه ... فِيهَا وَمِنْهَا لَهُ الأرزاء والطعم)
(سيان عِنْدِي إِن بروا وَإِن فجروا ... فَلَيْسَ يجْرِي على أمثالهم قلم)
(لَا تحسدنهم إِن جد جدهم ... فالجد يجدي وَلَكِن مَا لَهُ عصم)
(لَيْسُوا وَإِن نعموا عَيْشًا سوى نعم ... وَرُبمَا نعمت فِي عيشها النعم)
(الواجدون غنى العادمون نهى ... لَيْسَ الَّذِي وجدوا مثل الَّذِي عدموا)
(خلقت فيهم وَأَيْضًا قد خلطت بهم ... كرها فَلَيْسَ غنى عَنْهُم وَلَا لَهُم)
(أسكنت بَينهم كالليث فِي أجم ... رَأَيْت ليثا لَهُ من جنسه أجم)
(أَنِّي وَإِن بَان عني من بليت بِهِ ... فِي عينه كمه فِي أُذُنه صمم)
(مُمَيّز من بني الدُّنْيَا يميزني ... أقل مَا فِي لَيْسَ الجل والعظم)
(بِأَيّ مأثرة ينقاس بِي أحد ... بِأَيّ مكرمَة تحكيني الْأُمَم)
(أمثل عنجهة شوكاء يلْحق بِي ... أم مثل شغبر حش عرضه زيم)
(فَذا عَجُوز وَلَكِن بَعْدَمَا قعدت ... وَذَاكَ جود مساع الْملك مُتَّهم)
(إِنِّي وَإِن كَانَت الأقلام تخدمني ... كَذَاك يخْدم كفي الصارم الخذم)
(قد أشهد الروع مرتاحا فأكشفه ... إِذا تناكر عَن تياره البهم)
(الضَّرْب محتدم والطعن مُنْتَظم ... وَالدَّم مرتكم والبأس مغتلم)
(وَالْحق يَافُوخه من نقعهم قتر ... والإفك قسطاسه من سفكهم قتم)
(وَالْبيض والسمر حمر تَحت عثيره ... وَالْمَوْت يحكم والأبطال تختصم)
(وَأَعْدل الْقسم فِي حَرْبِيّ وحربهم ... مِنْهُم لنا غنم منا لَهُم عرم)(1/448)
(أما البلاغة فاسألني الْخَبِير بهَا ... أَنا اللِّسَان قَدِيما وَالزَّمَان فَم)
(لَا يعلم الْعلم غَيْرِي معلما علما ... لأَهله أَنا ذَاك الْمعلم الْعلم)
(كَانَت قناة عُلُوم الْحق عاطلة ... حَتَّى جلاها بشرحي البند وَالْعلم)
(نبيد أَرْوَاحهم بِالرُّعْبِ نقذفه ... فيهم وأجسادهم بالقضب تلتحم)
(مَاتَت أنالة ذَا الدَّهْر اللقَاح على ... عزائمي وأسفت بِي لَهَا الهيم)
(لَو شِئْت كَانَ الَّذِي لَو شِئْت بحت بِهِ ... مَا الْخَوْف أسكت بل أَن تلْزم الحشم)
(وَلَو وجدت طلاع الشَّمْس متسعا ... لحط رَحل عزيمي كنت أعتزم)
(وَلَو بَكت عزماتي دونهَا الحشم ... وَلم يعم سبيلي نَحْوهَا العمم)
(وَكَانَت الْبيض ظلفا للعمود لَهُ ... وَقد تباغل عرض الْخَيل وَالْحكم)
(وَظن أَن لَيْسَ تحجيل سوى شعر ... وَأَن للخيل فِي ميلادها اللجم)
(وغشيت صفحات الأَرْض معدلة ... فالأسد تنفر عَن مرعى بِهِ غتم)
(لَكِنَّهَا بقْعَة حف الشَّقَاء بهَا ... فَكل صاغ إِلَيْهَا صاغر سدم) الْبَسِيط)
وَقَالَ أَيْضا
(هُوَ الشيب لَا بُد من وخطه ... فقرضه وأخضبه أَو غطه)
(أأقلقك الطل من وبله ... وجرعت من الْبَحْر فِي شطه)
(وَكم مِنْك سرك غُصْن الشَّبَاب ... وريقا فَلَا بُد من حطه)
(فَلَا تجزعن لطريق سلكت ... كم أنبت غَيْرك فِي وَسطه)
(وَلَا تجشعن فَمَا أَن ينَال ... من الرزق كل سوى قسطه)
(وَكم حَاجَة بذلت نَفسهَا ... ففوتها الْحِرْص من فرطه)
(إِذا أخصب الْمَرْء من عقله ... نشا فِي الزَّمَان على قحطه)
(وَمن عَاجل الحزم فِي عزمه ... فَإِن الندامة من شَرطه)
(وَكم ملق دونهَا غيلَة ... كَمَا يمرط الشّعْر من مشطه)
(إِذا مَا أحَال أَخُو زلَّة ... على الْغدر فاعجل على بَسطه)
(وَمَا يتعب النَّفس تَمْيِيزه ... فَلَا تعجلن إِلَى خلطه)
(وَوقر أَخا الشيب وألح الشَّبَاب ... إِذا مَا تعسف فِي خبطه)
(وَلَا تَبْغِ فِي العذل واقصد فكم ... كتبت قَدِيما على خطه)(1/449)
(وَكم عاند النصح ذُو شيبَة ... عناد القتاد لَدَى خرطه)
(ترَاهُ سَرِيعا إِلَى مطمع ... كَمَا أنشط الْبكر عَن نشطه)
(وَكم رام ذُو ملل حاشم ... ليغصب حلمي فَلم أعْطه)
(وَذي حسد أسقطته لقى ... فَمَا يأنف الدَّهْر من لقطه)
(يحاول حطي عَن رتبتي ... قد ارْتَفع النَّجْم عَن حطه)
(يظل على دهره ساخطا ... وَكم يضْحك الدَّهْر من سخطه) المتقارب
وَقَالَ أَيْضا
(قفا نجزي معاهدهم قَلِيلا ... نغيث بدمعنا الرّبع المحيلا)
(تخونه العفاة كَمَا ترَاهُ ... فأمسى لَا رسوم وَلَا طلولا)
(لقد عِشْنَا بهَا زَمنا قَصِيرا ... نقاسي بعدهمْ زَمنا طَويلا)
(وَمن يستثبت الدُّنْيَا بِحَال ... يرم من مُسْتَحِيل مستحيلا)
(إِذا مَا استعرض الدُّنْيَا اعْتِبَارا ... تنحى الْحِرْص عَنْهَا مستقيلا)
(خليلي أبلغ العذال أَنِّي ... هجرت تجملي هجرا جميلا)
(وَأَنِّي من أنَاس مَا أحلنا ... على عزم فأعقبنا نزولا)
(مآقينا وأيدينا إِذا مَا ... همين رَأَيْتنَا نعصي العذولا)
(وقفت دموع عَيْني دون سعدي ... على الأطلال مَا وجدت مسيلا)
(على جفني لدمعي فرض دمع ... أَقمت لَهُ بِهِ قلبِي كَفِيلا)
(عقدت لَهَا الْوَفَاء وَإِن عقدي ... هُوَ العقد الَّذِي لن يستحيلا)
(وَكم أُخْت لَهَا خطبت فُؤَادِي ... فَمَا وجدت إِلَى عُذْري سَبِيلا)
(أعاذل لست فِي شَيْء فأسهب ... مدى الملوين أَو أقصر قَلِيلا)
(فَلم ير مثلهَا قلبِي ألوفا ... وَلم تَرَ مثلهَا أُذُنِي ملولا)
(وعذل الشيب أولى لي لَو أَنِّي ... أطقت وَإِن جهدت لَهُ قبولا)
(أجل قد كررت هذي اللَّيَالِي ... على ليلِي زَمَانا لن يزولا)
(أتنكر ذرءة لما علتني ... تزين كزينة الْأَثر النصولا)
(يعيرني ذبولي أَو نحولي ... كُسِيت الذبل والجسد النحيلا)
(كَمَا أَن الخفيش أَبَا وجيم ... يعيرني بَان لست البخيلا)
(يَقُول مبذر ليغض مني ... يعد علو ذِي كرم سفولا)(1/450)
(مَتى وسعت لقصدي الأَرْض حَتَّى ... أبرز أَو أنيل بِهِ جزيلا)
(يَقُول بِهِ انخراق الْكَفّ جدا ... وَكم خرق وَقعت بِهِ منيلا)
(فجل خلل الْأَصَابِع مِنْك واجهد ... عَسى أَن لَا تَطوف وَلَا تنولا)
(بفحش أَن مَالك فَوق مَالِي ... نفائس مَا تصان بِمَا أذيلا)
(حكاك غباء مَا أفناه بذلي ... يُبَاع بِبَعْض مَا تحوي كميلا)
(يحذرك الْأَحِبَّة وَقع كيدي ... فلست بِذَاكَ مذعورا مهولا)
(سَقَطت عَن اعتقادي فِيك سوءا ... فطب نفسا وَلَا تفرق قبيلا)
(فَأَما أَن أرعك بِغَيْر قصدي ... فقد مَا روع الْفِيل الا فيلا) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(أوليتني نعْمَة مذ صرت تلحظني ... كَافِي الكفاة بعيني مُجمل النّظر)
(كَذَا اليواقيت فِيمَا قيل نشأتها ... من حسن تَأْثِير عين الشَّمْس فِي الْقَمَر) الْبَسِيط
وشكا إِلَيْهِ الْوَزير أَبُو طَالب الْعلوِي آثَار بثر بدا على جَبهته ونظم شكواه شعرًا وأنفذه إِلَيْهِ وَهُوَ
(صَنِيعَة الشَّيْخ مَوْلَانَا وَصَاحبه ... وغرس أنعامه بل نشء نعْمَته)
(يشكو إِلَيْهِ أدام الله مدَّته ... آثَار بثر تبدى فَوق جَبهته)
(فَامْنُنْ عَلَيْهِ بحسم الدَّاء مغتنما ... شكر النَّبِي لَهُ مَعَ شكر عترته) الْبَسِيط
فَأجَاب الشَّيْخ الرئيس على أبياته وَوصف فِي جَوَابه مَا كَانَ بِهِ بُرْؤُهُ من ذَلِك فَقَالَ
(الله يشفي وينفي مَا بجبهته ... من الْأَذَى ويعافيه برحمته)
(أما العلاج فاسهال يقدمهُ ... ختمت آخر أبياتي بنسخته)
(وليرسل العلق المصاص يرشف من ... دم القذال ويغني عَن حجامته)
(وَاللَّحم يهجره إِلَّا الْخَفِيف وَلَا ... يدني إِلَيْهِ شرابًا من مدامته)
(وَالْوَجْه يطليه مَاء الْورْد معتصرا ... فِيهِ الْخلاف مدافا وَقت هجعته)
(وَلَا يضيق مِنْهُ الزر مختنقا ... وَلَا يصيحن أَيْضا عِنْد سخطته)
(هَذَا العلاج وَمن يعْمل بِهِ سيرى ... آثَار خير ويكفى أَمر علته)
وَقَالَ أَيْضا
(خير النُّفُوس العارفات ذواتها ... وحقيق كميات ماهياتها)(1/451)
(وَبِمَ الَّذِي حلت ومم تكونت ... أَعْضَاء بنيتها على هيئاتها)
(نفس النَّبَات وَنَفس حس ركبا ... هلا كَذَاك سماته كسماتها)
(يَا للرِّجَال لعظم رزء لم تزل ... مِنْهُ النُّفُوس تخب فِي ظلماتها)
وَقَالَ أَيْضا
(هذب النَّفس بالعلوم لترقى ... وذر الْكل فَهِيَ للْكُلّ بَيت)
(إِنَّمَا النَّفس كالزجاجة وَالْعلم ... سراج وَحِكْمَة الله زَيْت)
(فَإِذا أشرقت فَإنَّك حَيّ ... وَإِذا أظلمت فَإنَّك ميت) الْخَفِيف
وَقَالَ أَيْضا
(صبها فِي الكاس صرفا ... غلبت ضوء السراج)
(ظَنّهَا فِي الكاس نَارا ... فطفاها بالمزاج) الرمل
وَقَالَ أَيْضا
(قُم فاسقنيها قهوة كَدم الطلا ... يَا صَاح بالقدح الملا بَين الملا)
(خمرًا تظل لَهَا النَّصَارَى سجدا ... وَلها بَنو عمرَان أخلصت الولا)
(لَو أَنَّهَا يَوْمًا وَقد ولعت بهم ... قَالَت أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(نزل اللاهوت فِي ناسوتها ... كنزول الشَّمْس فِي أبراج يُوح)
(قَالَ فِيهَا بعض من هام بهَا ... مثل مَا قَالَ النَّصَارَى فِي الْمَسِيح)
(هِيَ والكاس وَمَا مازجها ... كأب مُتحد وَابْن روح) الرمل
وَقَالَ أَيْضا
(شربنا على الصَّوْت الْقَدِيم قديمَة ... لكل قديم أول هِيَ أول)
(وَلَو لم تكن فِي حيّز قلت أَنَّهَا ... هِيَ الْعلَّة الأولى الَّتِي لَا تعلل) الطَّوِيل(1/452)
وَقَالَ أَيْضا
(عجبا لقوم يحسدون فضائلي ... مَا بَين غيابي إِلَى عذالي)
(عتبوا على فضلي وذموا حكمتي ... واستوحشوا من نقصهم وكمالي)
(أَنِّي وكيدهم وَمَا عتبوا بِهِ ... كالطود يحقر نطحة الأوعال)
(وَإِذا الْفَتى عرف الرشاد لنَفسِهِ ... هَانَتْ عَلَيْهِ ملامة الْجُهَّال) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(أساجية الجفون أكل خود ... سجاياها استعرن من الرَّحِيق)
(هِيَ الصَّهْبَاء مخبرها عَدو ... وَإِن كَانَت تناغي عَن صديق) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(أكاد أجن فِيمَا قد أجن ... فَلم ير مَا أرى إنس وجن)
(رميت من الخطوب بمصميات ... نوافذ لَا يقوم بهَا مجن)
(وجاورني أنَاس لَو أريدوا ... على منفت مَا أكلوه ضنوا)
(فَإِن عنت مسَائِل مشكلات ... أجال سِهَامهمْ حدس وَظن)
(وَإِن عرضت خطوب معضلات ... تواروا واستكانوا واستكنوا) الوافر
وَقَالَ أَيْضا
(أَشْكُو إِلَى الله الزَّمَان فَصَرفهُ ... أبلى جَدِيد قواي وَهُوَ جَدِيد)
(محن إِلَيّ تَوَجَّهت فكأنني ... قد صرت مغناطيس وَهِي حَدِيد) الْكَامِل
وَقَالَ أَيْضا
(تنهنه وحاذر أَن ينالك بَغْتَة ... حسام كَلَامي أَو كَلَام حسامي)
وَقَالَ أَيْضا إِن هَذِه الأبيات إِذا قيلت عِنْد رُؤْيَة عُطَارِد وَقت شرفه فَإِنَّهَا تفِيد علما وَخيرا بِإِذن الله تَعَالَى(1/453)
(عُطَارِد قد وَالله طَال ترددي ... مسَاء وصبحا كي أَرَاك فاغنما)
(فها أَنْت فامددني قوى اِدَّرَكَ المنى ... بهَا والعلوم الغامضات تكرما)
(ووقني الْمَحْذُور وَالشَّر كُله ... بِأَمْر مليك خَالق الأَرْض والسما) الطَّوِيل
وَمِمَّا ينْسب إِلَى الشَّيْخ الرئيس ابْن سينا قصيدة فِيمَا يحدث من الْأُمُور وَالْأَحْوَال عِنْد قرَان المُشْتَرِي وزحل فِي برج الجدي بَيت زحل وَهُوَ انحس البروج لكَونه بَيت زحل نحسن الْفلك النحس الْأَكْبَر وَأول القصيدة
(احذر بني من الْقرَان الْعَاشِر ... )
وَجُمْلَة مَا قيل فِي هَذِه القصيدة من أَحْوَال التتر وقتلهم لِلْخلقِ وخرابهم للقلاع جرى وَقد رَأَيْنَاهُ فِي زَمَاننَا
وَمن أعجب مَا أَتَى فِيهَا عَن التتر يفنيهم الْملك المظفر وَكَانَ كَذَلِك أفناهم الْملك المظفر قطز لما وصل من الديار المصرية بعساكر الْإِسْلَام وَكَانَت الكسرة على التتر مِنْهُ فِي وَادي كنعان كَمَا ذكر وَذَلِكَ فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَخمسين وسِتمِائَة
وَكَذَلِكَ أَشْيَاء أخر من ذَلِك كَثِيرَة صحت الْأَحْكَام بهَا فِي هَذِه القصيدة مثل القَوْل عَن خَليفَة بَغْدَاد وَكَذَا الْخَلِيفَة جَعْفَر الْبَيْت وَالْبَيْت الَّذِي يَلِيهِ بعده تمحى خِلَافَته وملكت التتر بَغْدَاد كَمَا ذكر وَكَانَ ذَلِك فِي أول سنة سبع وَخمسين وسِتمِائَة
وَكَانَ الِاعْتِمَاد بِمَا فِي هَذِه القصيدة من كتاب الجفر عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ بن أبي طَالب عَلَيْهِ السَّلَام
وَالله أعلم أَن يكون الشَّيْخ الرئيس قَالَ هَذِه القصيدة أَو غَيره وَقد عَن لي أَن اذكر القصيدة هَهُنَا سَوَاء كَانَت لِابْنِ سينا أَو لغيره وَهِي
(احذر بني من الْقرَان الْعَاشِر ... وانفر بِنَفْسِك قبل نفر النافر)
(لَا تشغلنك لَذَّة تلهو بهَا ... فالموت أولى بالظلوم الْفَاجِر)
(واسكن بلادا بالحجاز وقم بهَا ... واصبر على جور الزَّمَان الجائر)
(لَا تركنن إِلَى الْبِلَاد فَإِنَّهَا ... سيعمها حد الحسام الباتر)
(من فتية فطس الأنوف كَأَنَّهُمْ ... سيل طما أَو كالجراد الناشر)
(خزر الْعُيُون تراهم فِي ذلة ... كم قد أبادوا من مليك قاهر)
(مَا قصدهم إِلَّا الدِّمَاء كَأَنَّمَا ... ثار لَهُم من كل ناه آمُر)
(وخراب مَا شاد الورى حَتَّى ترى ... قفرا عمارتهم برغم العامر)(1/454)
(أما خُرَاسَان تعود منابتا ... للعشب لَيْسَ لأَهْلهَا من جَابر)
(وَكَذَا الخوارزم وبلخ بعْدهَا ... تضحي وَلَيْسَ بربعها من صافر)
(والديلمان جبالها ودحالها ... ورها ستخرب بعد أَخذ نشاور)
(والري يسفك فِيهِ دم عِصَابَة ... من آل أَحْمد لَا بِسيف الْكَافِر)
(وتفر سفاك الدما مِنْهُم كَمَا ... فر الْحمام من الْعقَاب الكاسر)
(فَهُوَ الْخَوَارِزْمِيّ يكسر جَيْشه ... فِي نصف شهر من ربيع الآخر)
(وَيَمُوت من كمد على مَا ناله ... من ملكه فِي لج بَحر زاخر)
(وتذل عترته وتشقى وَلَده ... لظُهُور نجم للذؤابة زَاهِر)
(وَيكون فِي نصف الْقرَان ظُهُوره ... لَكِن سعادته كلمح النَّاظر)
(وتثور أعداه عَلَيْهِ ويلتقي ... وَيعود مُنْهَزِمًا بصفقة خاسر)
(وَيكون آخر عمره فِي آمد ... يسري إِلَيْهِ وَمَا لَهُ من سَائِر)
(وتعود عظم جيوشه مرتدة ... عَنهُ إِلَى الْخصم الألد الْفَاجِر)
(وديار بكر سَوف يقتل بَعضهم ... بِالسَّيْفِ بَين أصاغر وأكابر)
(وَترى بآذربيج بَدو خيامه ... نصبت لجاجا من عَدو كَافِر)
(تفنى عساكره ويفنى جَيْشه ... متمزقا فِي كل قفر واعر)
(وَالْوَيْل مَا تلقى النَّصَارَى مِنْهُم ... بالذل بَين أصاغر وأكابر)
(وَالْوَيْل أَن حلوا ديار ربيعَة ... مَا بَين دجلتها وَبَين الجازر)
(ويدوخون ديار بابل كلهَا ... من شهرزور إِلَى بِلَاد السامر)
(وخلاط ترجع بعد بهجة منظر ... قفرا تداوس باخْتلَاف الْحَافِر)
(هَذَا وتغلق أربل من دونهم ... تسعا وتفتح فِي النَّهَار الْعَاشِر)
(وبطون نينوه وَيُؤْخَذ مَالهَا ... ودوابها من معشر متجاور)(1/455)
(ولربما ظَهرت عَسَاكِر موصل ... تبغي الْأمان من الخؤون الغادر)
(فتراهم نزلا بشاطئ دجلة ... ومضوا إِلَى بلد بِغَيْر تفاتر)
(وَترى إِلَى الثرثار نهبا وَاقعا ... ودما يسيل وهتك ستر سَاتِر)
(وَيكون يَوْم حريق زهرتها الَّتِي ... تأتيهم مطر كبحر زاخر)
(واحسرتاه على الْبِلَاد وَأَهْلهَا ... مَاذَا يكون وَمَا لَهُم من نَاصِر)
(ولربما ظَهرت عَلَيْهِم فتية ... من آل صعصعة كرام عشائر)
(يسقون من مَاء الْفُرَات خيولهم ... من كل ظام فَوق صهوة ضامر)
(تلقاهم حلب بِجَيْش لَو سرى ... فِي الْبَحْر أظلم بالعجاج الثائر)
(وَإِذا مضى حد الْقرَان رَأَيْتهمْ ... يردون جلق وَهِي ذَات عَسَاكِر)
(يفنيهم الْملك المظفر مثل مَا ... فنيت ثَمُود فِي الزَّمَان الغابر)
(ويبيدهم نجل الإِمَام مُحَمَّد ... بحسامه الْمَاضِي الغرار الباتر)
(ولربما أبقى الزَّمَان عِصَابَة ... مِنْهُم فيهلكهم حسام النَّاصِر)
(وَالتّرْك تفني الْفرس لَا يبْقى لَهُم ... أثر كَذَا حكم المليك الْقَادِر)
(فِي أَرض كنعان تظل جسومهم ... مرعى الذئاب وكل نسر طَائِر)
(وتجول عباد الصَّلِيب عَلَيْهِم ... بِالسَّيْفِ ذَات ميامن ومياسر)
(يَا ريع بَغْدَاد لما تحويه من ... جثث محلقة وَرَأس طَائِر)
(وَكَذَا الْخَلِيفَة جَعْفَر سيظل فِي ... أَرض وَلَيْسَ لسبلها من خاطر)
(وَكَذَا الْعرَاق قُصُورهَا وربوعها ... تِلْكَ النواحي والمشيد العامر)
(يفنيهم سيف الْقرَان فيا لَهَا ... من سفرة أودت بِمَال التَّاجِر)
(وَالروم تكسرهم وتكسر بعدهمْ ... عَاما وَلَيْسَ لكسرها من جَابر)
(تمحى خِلَافَته وينسى ذكره ... بَين الْبَريَّة صنع رب قَادر)
(فترى الْحُصُون الشامخات مهدة ... لم يبْق فِيهَا ملْجأ لمسافر)(1/456)
(وَترى قراها والبلاد تبدلت ... بعد الأنيس بِكُل وَحش نافر) الْكَامِل
وأنشدني بعض التُّجَّار من أهل الْعَجم قصيدة لِابْنِ سينا فِي هَذَا الْمَعْنى على قافية الرَّاء الساكنة وأولها
(إِذا شَرق المريخ من أَرض بابل ... واقترن النحسان فالحذر الحذر)
(وَلَا بُد أَن تجْرِي أُمُور عَجِيبَة ... وَلَا بُد أَن تَأتي بِلَادكُمْ التتر) الطَّوِيل
وَلم يكن يحفظ إِلَّا بعض القصيدة على غير الصَّوَاب فَمَا نقلتها عَنهُ
وللشيخ الرئيس من الْكتب كَمَا وَجَدْنَاهُ غير مَا هُوَ مُثبت فِيمَا تقدم من كَلَام أبي عبيد الْجوزجَاني كتاب اللواحق يذكر أَنه شرح الشِّفَاء
كتاب الشِّفَاء
جمع جَمِيع الْعُلُوم الْأَرْبَعَة فِيهِ وصنف طبيعياته وإلهياتها فِي عشْرين يَوْمًا بهمدان
كتاب الْحَاصِل والمحصول صنفه بِبَلَدِهِ للفقيه أبي بكر البرقي فِي أول عمره فِي قريب من عشْرين مجلدة وَلَا يُوجد إِلَّا نُسْخَة الأَصْل
كتاب الْبر وَالْإِثْم صنفه أَيْضا للفقيه أبي بكر البرقي فِي الْأَخْلَاق مجلدتان وَلَا يُوجد إِلَّا عِنْده
كتاب الانصاف عشرُون مجلدة شرح فِيهِ جَمِيع كتب أرسطوطاليس وانصف فِيهِ بَين المشرقيين والمغربيين ضَاعَ فِي نهب السُّلْطَان مَسْعُود
كتاب الْمَجْمُوع وَيعرف بالحكمة العروضية صنفه وَله إِحْدَى وَعِشْرُونَ سنة لأبي الْحسن الْعَرُوضِي من غير الرياضيات
كتاب القانون فِي الطِّبّ صنف بعضه بجرجان وبالرس وتممه بهمدان وعول على أَن يعْمل لَهُ شرحا وتجارب
كتاب الْأَوْسَط الْجِرْجَانِيّ فِي الْمنطق صنفه بجرجان لأبي مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ
كتاب المبدأ والمعاد فِي النَّفس صنفه لَهُ أَيْضا بجرجان وَوجدت فِي أول هَذَا الْكتاب أَنه صنفه للشَّيْخ أبي أَحْمد مُحَمَّد إِبْرَاهِيم الْفَارِسِي
كتاب الارصاد الْكُلية صنفها أَيْضا بجرجان لأبي مُحَمَّد الشِّيرَازِيّ
كتاب الْمعَاد صنفه بِالريِّ للْملك مجد الدولة
كتاب لِسَان الْعَرَب فِي اللُّغَة صنفه بأصفهان وَلم يَنْقُلهُ إِلَى الْبيَاض وَلم يُوجد لَهُ نُسْخَة وَلَا مثله وَوَقع إِلَيّ بعض هَذَا الْكتاب وَهُوَ غَرِيب التصنيف
كتاب دانش مايه العلائي بِالْفَارِسِيَّةِ صنفه لعلاء الدّين بن كاكويه بأصفهان
كتاب النجَاة صنفه فِي طَرِيق سَابُور خواست وَهُوَ فِي خدمَة عَلَاء الدولة
كتاب الإشارات والتنبيهات وَهِي آخر مَا صنف فِي الْحِكْمَة وأجوده وَكَانَ يضن بهَا
كتاب الْهِدَايَة فِي الْحِكْمَة صنفه وَهُوَ مَحْبُوس بقلعة فردجان لِأَخِيهِ عَليّ يشْتَمل على الْحِكْمَة مُخْتَصرا
كتاب القولنج صنفه بِهَذِهِ القلعة أَيْضا وَلَا يُوجد تَاما
رِسَالَة حَيّ بن يقظان صنفها بِهَذِهِ القلعة أَيْضا رمزا عَن الْعقل الفعال
كتاب الْأَدْوِيَة القلبية صنفها بهمدان وَكتب بهَا إِلَى الشريف السعيد أبي الْحُسَيْن عَليّ بن الْحُسَيْن الْحُسَيْنِي
مقَالَة فِي النبض بِالْفَارِسِيَّةِ
مقَالَة فِي مخارج الْحُرُوف وصنفها بأصفهان للجبائي
رِسَالَة إِلَى أبي سهل المسيحي فِي الزاوية صنفها بجرجان
مقَالَة فِي القوى الطبيعية إِلَى أبي سعد اليمامي
رِسَالَة الطبر مرموزة تصنيف فِيمَا يوصله إِلَى علم الْحق
كتاب الْحُدُود
مقَالَة فِي تعرض رِسَالَة الطَّبِيب فِي القوى الطبيعية
كتاب عُيُون الْحِكْمَة يجمع الْعُلُوم الثَّلَاثَة
مقَالَة فِي عكوس ذَوَات الْجِهَة
الْخطب(1/457)